الهادي في تفسير القرآن الكريم المجلد 3

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: مهری، سیدمرتضی، 1324 -

عنوان المؤلف واسمه: الهادي في تفسير القرآن الكريم [کتاب]/ العلّامة سيّد مرتضى المهري.

مشخصات نشر : قم : موسسة المعارف الاسلامیة، 1437ق.= 1395 -

مواصفات المظهر: ج.

فروست : موسسة المعارف الاسلامیة؛ 209، 219، 227.

شابک : دوره 978-600-146-015-9 : ؛ ج.1 978-600-146-016-6 : ؛ ج.3 978-600-146-019-7 : ؛ ج.4 978-600-146-030-2 : ؛ ج.5 978-600-146-031-9 : ؛ ج.6 978-600-146-039-5: ؛ ج.7 978-600-146-057-9 :

حالة الاستماع: فاپا

لسان: العربية.

ملحوظة : ج.3 (چاپ اول: 1394) .

ملحوظة : ج.4 (چاپ اول: 1395) .

ملحوظة : ج.5 (چاپ اول: 1397) (فیپا).

ملحوظة : ج.6 (چاپ اول: 1399).

ملحوظة : ج.7 (چاپ اول: 1401) (فیپا) .

مندرجات : .- ج.3. تفسیر سورة الشوری.- ج.4. تفسیر سورة الاحقاف.- ج.5. تفسیر سورة الذاریات.- ج.6. تفسیر سورة حدید.- تفسیر سورة التحریم

مشكلة : تفسيرات الشيعة -- قرن 14

معرف المضافة: موسسة المعارف الاسلامیة

تصنيف الكونجرس: BP98/م866ھ2 1395

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3483061

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

الهادي في تفسير القرآن الكريم المجلّد الثالث

تأليف

العلامة سيّد مرتضى المهري

ص: 3

سرشناسه : مهری سید مرتضی 1324 کد ملی: 0386545146

عنوان و نام پدیدآور : الهادى فى تفسير قرآن کریم / سید مرتضی مهری

مشخصات نشر: : قم : بنیاد معارف اسلامی ، 1395) -... - 209 - 207 - 206)

مشخصات ظاهری :2ج

ISBN : دوره ای -9-015-146-600-978

ج 1) ج 978-600-146-017-3 ( 978-600-146-016-6 ( 978-600-146-019-7 BE ج 5)

وضعیت فهرست نویسی :فیا

یادداشت :عربی.

یاد داشت :ج 3 (چاپ اول: 1395) (فیا).

موضوع: تفاسیر شیعه - قرن 14

شناسه افزوده :بنیاد معارف اسلامی

رده بندی کنگره : 1393 2 ه_ 866م / BP

رده بندی دیویی :297/179

شماره کتابشناسی ملی: 3483061

هوية الكتاب:

اسم الكتاب : الهادي في تفسير القرآن الكريم ج ٣

المؤلف : العلامة السيد مرتضى المهري

الناشر : مؤسسة المعارف الإسلامية

الطبعة : الأولى ١٤٣٧ ه_ - ق

المطبعة : عترت

العدد : 1000نسخه

رقم الايداع الدولي للدورة : 978 - ٠١٥-١٤٦ - ٦٠٠

رقم الايداع الدولي / ج ٣ : 978 - 900 - 1٧-٠١-٤٦

حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة المعارف الإسلامية

قم المقدسة - تلفون : 09127488298 - 37732009 - فاکس ٣٧٧٤٣٧٠١ ص ب 3718٥/٧٦٨

www.maarefislami.com

E-mail: info@maarefislami.com

ص: 4

تفسير سورة الشورى

اشارة

ص: 5

ص: 6

سورة الشورى (١ - ٦)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حم(1) عَسقّ(2)كَذَلِكَ يُوحَى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَبِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل (6)

سورة الشورى سورة مكية بشهادة السياق المناسب لأجواء مكّة. وقيل: إنّ بعض آياتها مدنية. ويبدو أنّ موضع الاهتمام فيها هو الوحي الرسالي وما يتعلّق به والتأكيد على وحدة الرسالة في جميع الشرائع.

(حم عسق) حروف مقطّعة، فالحرفان الأوّلان تكرّرا في مجموعة من السور تسمى الحواميم و (عسق) لم ترد إلا هنا. وقد مرّ الكلام حول هذه الحروف في تفسير سورة يس ولا حاجة إلى الإعادة. (كذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قال العلامة الطباطبائي رحمه الله في «الميزان»: «الإشارة بقوله: (كذَلِكَ) إلى شخص الوحي بإلقاء

ص: 7

هذه السورة إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم فيكون تعريفاً لمطلق الوحي بتشبيهه بفرد مشار إليه مشهود للمخاطب، فيكون كقولنا في تعريف الإنسان _ مثلاً __ ه_و كزيد»؛(1) أي بمثل الوحي بهذه السورة أوحى الله إليك وإلى من قبلك من الرسل.

ولكن الظاهر أنّ ذلك» إشارة إلى طبيعة الوحي بوجه عام، لا إلى وحي خاصّ، أي مثل ذلك الإيحاء العجيب يوحي الله إليك وإلى سائر الأنبياء عليهم ،السلام فالمشبّه والمشبّه به واحد. ومثل هذا التعبير ،متعارف كقوله تعالى (وكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ)؛(2) إذ ليس في ما قبل هذه الآية شيء يشبّه به إنزال القرآن فالصحيح أنّه تشبيه بنفس هذا الإنزال، ويراد به أنّ هذا الشيء نسيج وحده، فلا يشبهه شيء، وإن أردت أن تشبّهه فلا تجد له مثيلاً فیلزمك أن تشبّهه بنفسه.

والإتيان باسم الإشارة إلى البعيد ذلك للتعظيم، ولولا ذلك لكان المفروض أن يقال: «هكذا». ويمكن أن يكون الوجه في كونها للبعيد أنّ المشار إليه مطلق الإيحاء الشامل لما كان سابقاً أيضاً. وقيل: إنّه إشارة إلى القرآن. وقيل: إلى هذه السورة. وما ذكرناه أولى.

وقيل: إنّه إشارة إلى الحروف المقطّعة، وأن المراد التنبيه على أنّ هذا القرآن وسائر ما يوحى من الله تعالى إلى الرسل مؤلّف من هذه الحروف، ومع ذلك لا يستطيع الإنس والجنّ أن يأتوا بمثله. وهذا أحد الأقوال في تفسير الحروف المقطّعة، ولكنّه لو صحّ في القرآن، فلا يصحّ في سائر ما أوحي؛ إذ لم تكن كلّها بالعربية، ولم تكن على وجه الإعجاز في الألفاظ.

ص: 8


1- الميزان فى تفسير القرآن :18 : 9.
2- طه (20) 113.

ومهما كان فالآية تدلّ على أنّ الوحي أمر مستمرّ طيلة تاريخ الإنسانية، وأنّ الله تعالى لم يترك البشر تائهين، بل أوحى إليهم عن طريق الرسل ما يضمن سعادتهم. وهذا البيان يؤكّد للمؤمنين في عهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ارتباطهم برسالات الأنبياء السابقين علیهم السلام، وبالمؤمنين في الأمم السابقة، لكي لا يشعروا بالوحدة والعزلة في مواجهة المشركين حين كانوا يشكّلون الأكثرية والإتيان بالفعل المضارع مع أنّ الوحي على السابقين قد مضى زمانه للتنبيه على الاستمرار وعلى أنّ هذا الوحي امتداد للوحي على الرسل السابقين - سلام الله عليهم أجمعين. وتوصيفه تعالى بأنّه (الْعَزِيزُ) للتنبيه على أنّه تعالى لا يُغلبِ على أمره، ويوحي ما يشاء إلى من يشاء، ولا يمنعه مانع، فإنّ العزّة بمعنى المنعة والترفّع من أن يؤثّر فيه شيء.

وتوصيفه تعالى بأنه (الحَكِيمُ))؛ لأنّه وإن كان عزيزاً لا يؤثر فيه شيء إلا أنّه لا يصدر منه إلا ما تقتضيه الحكمة، سواء في أصل الإيحاء أم في مضمون الوحي والرسالات. فالحكمة تتجلّى في أصل الإيحاء وعدم إهمال أمر العباد، وكذلك في كلّ ما يوحي إليهم من شرائع ومعارف.

ولعلّ تأخير ذكر الفاعل لكون الغرض من هذه الجملة الإشارة إلى كون الوحي المرسل إلى الرسل جميعاً في سياق واحد، وذكر الفاعل مع الوصفين في مقام التعليل لهذه الوحدة، أي أنّ السياق واحد ؛ لأنّ الرسالات كلّها من قبل الله العزيز الحكيم وحده لا شريك له.

(لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم)، يمكن أن تكون هذه الجملة

ص: 9

في مقام التعليل للإيحاء وتشريع الأحكام، وذلك لأنّ ما في السماوات والأرض كناية عن الكون كلّه، ومعنى الجملة أنّه تعالى هو المالك لكلّ شيء ملكية حقيقية، حيث إنّ الأشياء في كينونتها وكيانها متقوّمة بإرادته تعالى، فمقتضى حكمته تعالى ورحمته أن يفعل ما هو صالح لعباده المملوكين، ومن ذلك الإيحاء بما يصلح شأنهم ويربّيهم ويوصلهم إلى الكمال المنشود. ولعلّ التنبيه على علوّه وعظمته للإشارة إلى ترفّعه وتعاليه عن الحاجة إلى هداية عبيده وأعمالهم وطاعتهم والإتيان بالضمير مع كون الوصف محلّى باللام يدلّ على الحصر، وأنّ العلوّ والعظمة لا تليقان إلا به تعالى وهو واضح.

ولعلّ الوجه في إعادة الموصول في قوله تعالى: (وَمَا في الأرضِ) بخلاف الموارد التي يرد فيها: (مَا فِي السَّمَوَات وَالأَرضِ ) هو الإشارة إلى أنّه تعالى لا تختلف لديه ما في السماوات عمّا في الأرض، فهو ربِّ الكلّ، ونسبة كلّ الأشياء سماوية وأرضية إليه نسبة واحدة، ولا تختلف ربوبيته لما في الأرض عن ربوبيته تعالى لما في السماوات وليس شيء أقرب إليه من شيء، رداً على توهّم المشركين أو بعضهم أنّه تعالى ربّ السماوات ، وللأرض وما فيها أرباب متفرّقون. وأمّا التعبير الآخر فيعتبر الكون كلّه شيئاً واحداً وهو صحيح أيضاً، ولكنّه لا يشتمل على هذا التفصيل، فلا يفيد هذه الفائدة.

(تكادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ»، «تفطّر» أي تصدّع وتشقّق. و«السماوات» يمكن أن يراد بها الأجرام العلوية التي نراها فوقنا. ويمكن أن يراد بها العوالم الغيبية التي ترتبط بها الملائكة، وهذا الاحتمال يناسب ذكر الملائكة بعدها. والظاهر أنّ الوجه في التفطّر الخشية الله تعالى واستشعار عظمته بقرينة ذكره بع_د

ص: 10

التوصيف ب_ (الْعَلِيُّ الْعَظيم) مباشرة ومن دون حرف العطف، فهو نظير قوله تعالى في شأن الحجارة: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله )(1) وقوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ الله )(2) وكون الانفطار من فوقهنّ لعلّه للتنبيه

على استشعار العظمة لإلهيّة من فوق، فإنّ جهة الفوق رمز للعظمة والعلوّ.

وفي تفسير «الميزان»(3) : أنّ المراد أنّها تكاد تنفطر لمرور الوحي فيها، فإنّها معابر الوحي حيث تتداوله الملائكة. وقد عبر القرآن عن السماوات بأنّها طرائق، قال تعالى: (ولَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ)(4) ، وما هي إلا طرائق للوحي. واستدلّ بآية : (لوأنزَلنَا) على أنّ الجبل أيضاً يتأثّر بالوحي والتعبير بكون الانفطار من فوقهنّ من جهة أنّ الوحي ينزل عليها من فوقها أي من الله العلي العظيم. ثمّ إنّه رحمه لله ذكر الاحتمال الذي مرّ ذكره، ولكنّه قال: إنّ توجيه الفوقية على هذا الاحتمال بعيد.

ولكنّ سياق الآيات لا تساعد على إرادة هذا المعنى بملاحظة تعقيب الجملة الملائكة واستغفارهم لمن في الأرض واتّخاذ المشركين أولياء من دون الله تعالى، فالسياق ليس بصدد بيان ما يترتّب على الإيحاء وإن تقدّم ذكره. ثمّ إنّ الفوقية حيث كانت كناية عن كون الاستشعار من جهة العلوّ فالتوجيه مشترك بين الاحتمالين.

وهناك احتمال آخر ذكره جمع من المفسّرين، و هو أنّ المراد تفطّر

ص: 11


1- البقرة (٢) ٧٤
2- الحشر (٥٩) 21
3- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18 10 - 11
4- المؤمنون (23): 17.

السماوات من شرك الناس لقوله تعالى: (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُ الأَرْضُ وَتَخِرُ الْجِبَالُ هَذَا ، أنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَن وَلَدًا،)(1) ولكن لا قرينة ولا شاهد لهذا الاحتمال. وهذه الآية لا تدلّ على أن التفطر هنا أيضاً لنفس السبب المذكور في سورة مريم.

( وَالمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ) الباء في قوله تعالى: (بِحَمدِ رَبِّهِم ) للمصاحبة، أي يسبحّونه تعالى مع حمده، نظير ما نقول_ه ف_ي ذك_ر الركوع والسجود. ومعنى ذلك أن يجمع في إنشاء واحد بين تنزيهه تعالى عمّا لا يليق به وتمجيده بصفاته الحميدة وأسمائه الحسنى والآية تدلّ على أنّ الملائكة هذا شغلهم الشاغل يسبّحون الله ويحمدونه. ونعم ما اشتغلوا به، ولو علم البشر بحقائق الأمور لما اشتغل بغير عبادة الله وتسبيحه إلا بمقدار الضرورة، إذ ليس وراء خلق الكون غاية غير عبادة الله تعالى.

والبشر لجهله بالحقائق يشتغل بالملاهي ويتصوّر أنّها أهمّ الأمور في الحياة، فتجد حتّى المؤمنين بالله يرون أنّ العبادة لها وقتها، وأنّه لا بأس بها إذا فرغ الإنسان من أعماله مع أنّ كلّ ما يشتغل به ويهتمّ به ليس إلا لعباً ولهواً، حتى أموره الاقتصادية والسياسية، فإنّها بأجمعها أمور تافهة لا ينتفع الإنسان منها بشيء، بل تلهيه عن ما ينفعه، فيجب أن يكتفي منها بمقدار الضرورة. ولعلّه لذلك، ولأنّ الملائكة يرون من البشر هذا الجهل يستغفرون لهم.

ويمكن أن يكون المراد بتسبيح الملائكة وتحميدهم اعتقادهم وإدراكهم لهذه الحقائق ومعرفتهم بالله تعالى وكونه منزّهاً عن كلّ ما لا يناسب عظمته

ص: 12


1- مریم (19) 90 - 91

و محموداً متصفاً بكلّ صفات الكمال والجمال وليس هناك إنشاء للتسبيح والتحميد.

ويقول العلامة الطباطبائي رحمه الله: إنّ استغفارهم بمعنى أنّهم يطلبون من الله تعالى ما هو سبب المغفرة بأن يهديهم ويرسل إليهم الرسل والكتب ليهتدوا إلى سبيل الحقّ. (1)

وإنّما اضطرّ إلى هذا التأويل لأنّ الاستغفار لا يصح أن يشمل الكفار، والتعبير ب_ (مَنْ فِي الأَرْضِ ) يشملهم، مضافاً إلى أنّ هذا التأويل للاستغفار يناسب ك_ون السياق متعرّضا للوحي. ولكن قوله تعالى: (مَنْ فِي الأَرْضِ) مجم_ل ق_د بيّن_ه تعالى في موضع آخر حيث قال: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)(2) فالتعبير بقوله: (لمن في الأرض) لعلّه للإشارة إلى أنّهم من علوّهم المعنوي الذي يعبّر عنه بالسماء يشاهدون أهل الأرض، وانشغالهم باللّهو والتجارة وغير ذلك، فيشقّ عليهم، ويستغربون هذا الأمر منهم، فيستغفرون لهم أي لمن يستحقّ الاستغفار منهم وهم المؤمنون.

ولعلّك تقول : إنّ نتيجة ما ذكرت أنّ الأولى بالإنسان أن يترك كلّ أعمال الدنيا ويشتغل بالعبادة، وهذا مخالف لما ورد في الأحاديث من الحثّ على طلب الرزق، بل مخالف لسيرة المعصومين علیهم السلام .

والجواب: أنّ كسب الرزق الحلال بمقدار ما يحتاج إليه الإنسان لنفقته ونفقة عائلته واجب شرعاً، بل التوسعة على العيال أيضاً أمر مستحبّ ومندوب، بل.

ص: 13


1- الميزان فى تفسیر القرآن 18 11
2- غافر (٤٠): ٧

كسب المال من أجل مساعدة الفقراء والصرف في سبيل الله تعالى وإنجاز المشاريع العامة لنفع المسلمين ونشر حقائق الدين وهداية الخلق أمر مطلوب بل قد يكون ببعض مراتبه واجباً كفائياً، وكلّ ذلك لا يخرج عن دائرة العبادة وامتثال أوامر الله تعالى، ولكنّ الغالب من أعمال البشر لا يقصد بها إلا الأهداف

الدنية الدنيوية من قبيل كسب الشهرة والجاه والتوسّع في البذخ والترف.

(أَلا إِنَّ الله هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وهذا إعلان من الله تعالى مبدوّ بكلمة التنبيه، ليعلم البشر أنّ الله تعالى يغفر ويرحم حتّى لو لم تستغفر الملائكة لهم، بل حتّى لو لم يتوبوا إلى الله تعالى، كما قال تعالى: (إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)(1) وقال أيضاً: (إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لَنْ يَشَاءُ)(2). وهذا الغفران ليس للتوبة؛ فإنّ المشرك أيضاً يغفر له بالتوبة، بل ليس هناك غفور ورحيم غيره تعالى، لأنّ الآية تدلّ على الحصر ، قال تعالى: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا الله)(3) والرحمة كلّها منه حتى رحمة العباد بعضهم على بعض، فاستغفار الملائكة أيضاً ناش عن عموم رحمته تعالى وغفرانه، لا أنّ غفرانه تعالى ينشأ عن استغفارهم كما ربّما يتوهّم، ولكن لاستغفارهم ودعائهم أثر لا نعلمه، ولعلّه أيضاً من قبيل ما ذكرناه في التسبيح والتحميد، فيكون من مستلزمات توسطهم بين الله تعالى وبين خلقه، فه_م من جهة ينقلون من الأرض طلب الناس وحاجتهم الذاتية إلى غفرانه تعالى

حتّى ممّن لا يستغفر ، ومن جهته تعالى ينقلون الغفران وآثاره إلى الخلق.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ.) المراد بهم كلّ من كان يتبع

ص: 14


1- الزمر (39) ٥٣
2- النساء (٤): ٤٨
3- آل عمران (3) 135

أحداً غير الله تعالى، فالأولياء هنا بمعنى المتبوعين. والمراد خصوص من يجعل غيره تعالى في مقام الربوبية والألوهية، فليس كلّ متابعة شركاً أو كفراً. وهذا القيد يفهم من قوله تعالى: (مِن دُونِهِ)، أي بدلاً عنه، فيجعل هذا المتبوع في موضع الإله والربّ، ومقتضاه أنّه لا يعترف بولاية الله المطلقة، سواء أنكر وجوده تعالى رأساً أم أنكر ربوبيته أم أشرك معه غيره. وهذا لا يختصّ بالمشركين وعبدة الأصنام، فإنّ كلّ إنسان لا بدّ له من متابعة قانون ونظام، فمن كان يتبع القانون الوضعي الذي وضعه بشر، ولا يتبع شريعة الله في نفس المورد الذي وضع فيه القانون الوضعي مخالفاً لحكمه تعالى، ولا يعتقد وجوب الالتزام بشريعة الله، فقد اتّخذ ولياً من دون الله تعالى، فإنّ الحكم من شؤون الربوبيّة.

وقوله تعالى: (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيهِم ) جملة خبرية. والحفظ» متعلّق بالأعمال، أي أنّه تعالى يحفظ أعمالهم عليهم ، فلو كان الحفظ لهم أفاد أنّه لمصلحتهم، وحيث كان الحفظ عليهم، فمعناه تسجيل أعمالهم وجرائمهم للمحاسبة والجزاء نظير قوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ)(1) وفي هذا تهديد بليغ. وصيغة (حفيظ) تفيد المبالغة في الحفظ، أي إنّه تعالى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها عليهم.

(وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيل)، أي لست مسؤولاً عن أعمالهم ولا عن تسجيلها عليهم. فلست موكّلاً من قبل الله تعالى عليهم في هذا الشأن. وهذا الأمر ممّا تكرّر ذكره في القرآن الكريم بتعابير مختلفة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكيلاً)،(2)(فَإِنْ أعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظٌ إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ )،(3)( لَسْتَ عَلَيْهِمْ

ص: 15


1- الانفطار (82) 10
2- الإسراء (١٧): ٥٤
3- الشورى (٤٢): ٤٨

بِمُصَيْطِر)(1) وغيرها من الآيات والغرض من ذلك تسلية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ورفع المسؤولية عنه بعد بذل الجهد في سبيل تبليغ الدين، فإنّ عدم إيمانهم ليس من جهة قصور فى أداء واجب الرسالة.

ص: 16


1- الغاشة (88) 22

سورة الشوری (7 - 12) 17

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَانَّا عَرَبِيًّا لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّلِمُونَ مَا هُم مِّن وَلِي وَلَا نَصِيرٍ(8)أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ كُيِ الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)

وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(10)فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَمِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ، مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)

(وَكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ امِ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَها)، الإشارة في قوله: (وكَذلِكَ) إلى الإيحاء بالقرآن. وقد مرّ الكلام في هذا النوع من التشبيه في أوّل السورة والقرآن مصدر بمعنى القراءة ويراد به المفعول، أي المقروء، وهو الكتاب ووصفه بكونه عربياً، أي نازلاً بلغة العرب. وقوله: (لِتُنذِر) تعليل لكون القرآن عربياً، ومعناه أنّ اختيار هذه اللغة من جهة أنّ موضع الرسالة بلاد العرب.

وذكر الإنذار كوظيفة للرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم -مع أنّ الرسول بصورة عامة منذر ومبشّر - من جهة أنّ الاهتمام إنّما هو بإنذاره وكأنّه هو الهدف الأساس، لأنّ دور الرسول هو إتمام الحجّة، وهو يتمّ بالإنذار، ولأنّ دفع الضرر أهمّ من جلب المنفعة.

وأُمّ القرى وهي مكّة، كانت تعرف بذلك لدى العرب. وفي «كتاب العين» «اعلم أنّ كلّ شيء يضمّ إليه سائر ما يليه فإنّ العرب تسمّي ذلك الشيء أُمّاً، فمن

ص: 17

ذلك أم الرأس وهو الدماغ»، إلى أن قال:«وأُمّ القرى مكّة وكلّ مدينة هي أمّ ما حولها من القرى».(1) وفي الإسناد تجوز أو تقدير، أي لتنذر أهل أمّ القرى.

وربّما يقال: إنّ الآية تدلّ على أنّ الدعوة خاصّة بالجزيرة العربية - مكّة وما حولها - فما هو الدليل على كونها عامّة للناس؟ وقد أجيب عنه بأنّ كلّ البلدان تعتبر حول مكّة، فهي مركز للكرة الأرضية. واستدلّوا على ذلك بما ورد من أنّ الله تعالى دحا الأرض من تحت مكّة، فهي أصل الأرض، وكلّ البلاد حولها؛

وهذا الجواب غير صحيح أوّلاً : لأنّ البلاد كلّها لا تعتبر عرفاً حول مكّة.

وثانياً: لأنّه لو صح ذلك لصحّ لكلّ بلد، إذ لا أثر لدحو الأرض من تحت الكعبة في صدق كونها حولها وعدمه.

وثالثاً: لأنّ هذا التقرير لو صحّ لصحّ في ما إذا كان التعبير «وما حولها» ليشمل البلاد التي دحيت من تحت الكعبة المشرّفة بناءاً على الرواية، وأمّا (وَمَنْ حَوْلَهَا) لا يشمل البلاد، بل الناس الذين يسكنون حول مكّة.

والجواب الصحيح أنّ الدعوة حين نزول الآية لم تكن عامة لجميع العالم كما أنّها في بدء الأمر كانت خاصّة بالأقربين، قال تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)(2). ثمّ تعمّمت للجزيرة العربية في هذه الآية ونظائرها، كقوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمِّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَها)(3) ومثلها قوله تعالى: ((لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا انْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)،(4) وما يشابهها. ثمّ تعمّمت الدعوة للعالمين

ص: 18


1- كتاب العين ٤٢٦:٨
2- الشعراء (٢٦): ٢١٤.
3- الأنعام (٦): ٩٢.
4- يس (٣٦) ١٦

كقوله تعالى: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجراً إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَينَ)(1) وقوله تعالى في مطلع سورة الفرقان: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)(2) وغيرهما من الآيات وهي كثيرة.

(وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجُمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ ) ، أي تنذر الناس باليوم الذي يُجمعون فيه، وه_و يوم القيامة، حيث يُجمع فيه بين جميع الأجيال البشرية منذ أقدم العصور إلى من تقوم عليهم الساعة. وهو أمر عجيب جدّاً. كما يجمع أيضاً بين مختلف الأديان والمذاهب، وبين الظالم والمظلوم، وبين الأنبياء وأممهم، وهكذا. ولعلّ التعبير بالجمع ليناسب التفريق بين الفريقين في الجملة التالية، فالله تعالى يجمعهم، ثمّ يفرّق بينهم ومثله قوله تعالى: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثم يفتحُ بيننا بالحى وَهُوَ الْفَتاحُ العليم).(3)

وتكرار كلمة الإنذار من جهة أنّه في الأولى ذكر المنذَرين - بفتح الذال - وفي الثانية ذكر مورد الإنذار. وقوله تعالى: (لا ريب فيه ) تأكيد للوعد الإلهي و«الريب»: الشكّ. ولعلّ القصد من مثل هذه التأكيدات المتكرّرة في الكتاب العزيز دفع توهّم أنّ ما يقال في هذا الباب مجرّد تهديد وتخويف. والتعبير بالإنذار دون التبشير ودون الجمع بينهما مع أنّ فريقاً من الناس في الجنّة، لأنّ الاهتمام في الرسالات بتخويف الناس من المستقبل الغامض وم__ن نتائج الأعمال.

(فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير). من لطيف التعبير الجمع بين اجتماع البشر

ص: 19


1- الأنعام (٦): ٩٠.
2- الفرقان (٢٥) ١.
3- سبأ (٣٤): ٢٦

بأجمعهم في ذلك اليوم وافتراقهم في آية واحدة، ففريق يدخل الجنّة وفريق في السعير. و«السعير» النار الملتهبة وهذا التفرّق نتيجة التفرّق في الحياة الدنيا، وهو ما حصل بعد نزول الوحي عليهم، فمن اتّبع الهدى النازل من عند رب_ّه دخ_ل ،الجنة ومن خالفه دخل النار.

(وَلَوْ شَاءَ الله جَعَلَهُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً) تبيّن من الآية السابقة أنّ الوحي هو الذي يفرّق الناس ويصنّفهم إلى فريق الجنة وفريق السعير، فيتّضح به المراد بهذه الآية، وهو أنّ الله تعالى لو شاء أن يجعلهم أمّة واحدة لا تختلف إلى فريقين لم ينزل ،الوحي، فكانوا كلّهم في سياق واحد بمعنى أنّه لا تتمّ الحجة عليهم، فلا يحاسبون على أعمالهم وعقائدهم وإن كان بعضهم يتّبع فطرة التوحيد وبعضهم يتّبع هواه.

(ولَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا هُمْ مِنْ وَليُّ وَلا نَصِير)، أي ولكنّه تعالى لم يشأ جعلهم أمّة واحدة بترك إرسال الحجّة؛ فإنّه منافٍ لحكمة الخلق، بل شاء أن يرسل الحجّة ويبعث الرسول لهداية الخلق، ثمّ يدخل من يشاء في رحمته وهم غير الظالمين بقرينة قوله: (وَالظَّالِمُونَ مَا هُم مِن وَلي وَلا نَصِيرٍ). فمن لم يظلم، أي اتبع الهدى والرسالة يدخله الله في رحمته إن شاء. والظلم وضع الشيء في غير موضعه والمراد بالظالمين هنا من أعرض عن هدايات الله تعالى.

والتعليق بالمشيئة للتنبيه على أنّ الله تعالى لا يُغلب على إرادته، وليس مقهوراً للقوانين والسنن التي وضعها. وهذا من الأمور الأساسية في العقيدة الإلهية، ولذلك يصرّ عليه القرآن ويكرّره في كلّ موضع. وهذا هو حقيقة البداء الذي يعتبره الناس - ممّا تختصّ به الإمامية - جهلاً من بعضهم وعناداً من آخرين. وقد

ص: 20

ورد في رواياتنا أنّه لم يبعث نبي إلا مع الاعتقاد بأنّ الله تعالى يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء.

روى الكليني بسند صحيح عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «ما بعث الله نبياً حتّى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار له بالعبودية، وخلع الأنداد، وأنّ الله يُقدّم

ما يشاء ويُؤخر ما يشاء». (1)

والفرق بين الولي والنصير من جهتين الأول: أنّ الوليّ يتولى أمر المولّى عليه حتّى لو لم يطلب، بل حتّى لو لم يعلم ما هو صالح له، والثاني: أنّ الوليّ يكفيه فلا حاجة إلى أن يقوم هو أيضاً بالدفاع عن نفسه. والنصير بخلاف ذلك في الأمرين، فهو أوّلاً: يجيب استنصاره فقط، وثانياً: لا يكفيه الأمر، بل يساعده.

(أمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)، «أم» منقطعة فتفي_د الإضراب والاستفهام مع_اً، والإضراب لعلّه باعتبار عدم الاهتمام بشأنهم والاستفهام للاستنكار أي اتركهم ولاحظ كيف اتخذوا من دون الله أولياء؟! وحيث ذكر في الآية السابقة أنّ الظالمين ليس لهم ولي ولا نصير، أراد أن يبيّن هنا أنّ ما اتخذوه وليّاً لا ينفعهم أيضاً.

وفي المراد بالولاية في هذه الآية احتمالان:

الأول: المتابعة، فإنّ الأصل في معنى اتخاذ الوليّ: المتابعة، لأنّ الولاية مأخوذة من وليه بمعنى تبعه وأتى بعده. ومن ذلك قوله تعالى: (فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حق عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الله وَتَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).(2)

ص: 21


1- الكافي :١ ١٤٧ ، باب البداء ، ح٣.
2- الأعراف (7): 30

ومتابعة الشياطين بمعنى العمل وفقاً لإلقاءاتهم ووساوسهم وإغراءاتهم.

ومن هذا الباب الولاية التشريعية، حيث يتولّى الإنسان أحداً في تشريع الأحكام، ويتّبعه ويطيعه، ويعتبر إطاعته فرضاً، وهو نوع من الشرك، إذ الحكم ليس إلا لله تعالى. وهذا يحصل بالنسبة إلى الأمراء والملوك ورؤساء القبائل ،والزعماء، والمجالس التشريعية والمنتحلين للخلافة والزعامة الدينية والولاية على الناس، والفقاهة والقضاء ونحو ذلك وما أكثرهم في عصرنا والولاية في هذه الآية إن كانت بهذا المعنى عاد الكلام إلى ما مرّ من قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أولياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيهِم) وهو بعيد. الاحتمال الثاني: _ وهو الأقرب _ أن تكون الولاية هنا بمعنى الاستنصار والاستنجاد وطلب الحاجة، لأنّه يناسب الجملة السابقة: (وَالظَّالِمُونَ مَا هُم مِن وَلِيٍّ ولا نَصِير) وعليه فالمراد بالأولياء خصوص الأصنام أو كلّ ما يعتقدونه أرباباً تؤثّر في الكون باستقلال حسب زعمهم حتّى لو كانوا من البشر. ولا شكّ في جواز الاستنصار بغير الله، وهو تعالى اعتبر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أي بعضهم أنصار بعض. وإنّما لا يجوز أن يتخذ أحد غير الله وليّاً إن كان من دونه تعالى بأن يجعله في موضع الألوهية والربوبية، ويعتقد فيه أنّه مؤثّر بذاته، كما قال تعالى عن إبليس لعنه الله: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)(1)، فهذا الاستبدال هو الكفر ، وهو محلّ الاستنكار هنا.

(فَالله هُوَ الْوَلِيُّ)، أي إن أرادوا اتخاذ وليّ، فالله هو الوليّ حصراً لا وليّ غيره، بمعنى أنّ غيره تعالى لا يضرّ ولا ينفع ولا يقدر على شيء إلا باذن الله، فالولاية

ص: 22


1- الكهف (18) 50

منحصرة فيه تعالى وفي من يعيّنه وليّاً، فتكون ولايته تبعية، والحصر يفه_م م_ن الضمير والألف واللام.

(وَهُوَ يُحْيِي الْمُوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). الظاهر أنّ ذكر إحياء الموتى كمثال واضح على عموم قدرته تعالى المذكورة في الجملة الثانية. كما أنّ الظاهر أنّ الغرض من التأكيد على عموم القدرة هنا للتنبيه على أنّ الذي ينبغي أن يُتخذ ولياً هو القادر على تلبية حاجات المولّى عليه وهو الله فحسب، وك_لّ ق_درة من غيره تعالى تنتهي إليه وتتوقّف على إرادته ، بل إنّ تحقّق الإرادة من غيره أيضاً متوقف على إرادته: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ)(1) وحاصل معنى الآية أنّ الولاية بمعنى أهلية الاستنجاد والاستنصار منحصرة في الله تعالى، لأنّه على كلّ شيء قدير حتى إحياء الموتى الذي هو أغرب الأمور.

وذكر بعض المفسّرين أنّ التوصيف بإحياء الموتى من باب أنّ الإنسان يهتمّ اتّخاذ الوليّ بما سيلاقيه بعد الموت، فهذا من هموم الإنسان، والآية تقول إنّ الله هو الذي يحيي الموتى، فأمر المعاد بيده.

ولكنّه بعيد جدّاً لأمرين:

الأوّل: أنّ الإنسان ليس بذاته مهتمّاً بأمر المعاد.

الثاني: أنّ هذا الوجه إنّما يصحّ لو كان التعبير بأنّ المعاد إليه تعالى وأنّهم إليه يرجعون ونحو ذلك، لا أنّه يحيي الموتى، فالعناية هنا ليس بالرجوع إليه، بل بكونه هو المحيي للموتى.

وأغرب منه ما قيل بأنّ المراد بإحيائه الموتى أنّه هو الذي يدخلكم الجنّة أو

ص: 23


1- التكوير (81) .29

يعذّبكم بالنار، فيكون حجّة على انحصار الولاية فيه تعالى. وهذا ما ورد في تفسير «الميزان» ومن تبعه.

ولكن يبقى السؤال - على هذا القول - عن وجه التعبير عن إدخال الجنّة والنار بإحياء الموتى، مع أنّه لا تلازم بينهما خارجاً، فضلاً عن دلالة اللفظ عليه بالعناية والمجاز!!!

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى الله ). الظاهر أنّ المراد بالاختلاف اختلاف المؤمنين مع المشركين والكفّار في العقيدة، فهو الاختلاف الذي يفهم من سياق الآيات السابقة. والمراد بكون الحكم إلى الله أنّه تعالى هو الذي يحكم بين الفريقين في الدنيا والآخرة ويفصل بينهم ، فهو نظير قوله تعالى: ﴿فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)(1) وكذلك قوله تعالى: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثمّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ)(2) وقوله تعالى: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ)(3) وغير ذلك.

وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله: إنّ هذه الجملة وما قبلها أدلّة على أنّ الولاية الله تعالى، وأنّ المراد بالولاية أعمّ من التكوينية والتشريعية. وأنّ هذه الجملة تتكفّل لبيان أنّ الولاية في التشريع والقضاء أيضاً الله تعالى.(4)

ولكن لا نجد في هذه الجملة استدلالاً على أنّ الولاية التشريعية خاصّة به تعالى وإن كان هو الحقّ. وإنّما تنبّه الآية على أنّ الله تعالى هو الذي يرفع

ص: 24


1- النساء (٤) ١٤١
2- سبأ (٣٤) ٢٦
3- الأعراف (7) 89
4- راجع الميزان في تفسير القرآن :18 22 - 23

الاختلاف، والولاية التشريعية لا تختصّ بموارد الاختلاف، وإلا لكان للناس أن يتفقوا على أمر مخالف لما شرّعه الله، بل مقتضى اختصاص الولاية التشريعية به تعالى أنّه لا يجوز لأحد من البشر أن يحكم على الناس، وإنّما الحكم لله تعالى ولمن جعل الله له الحكم وأوجب طاعته، ولا تجب بل قد لا تجوز إطاعة أحد إلا من فرض الله طاعته .

والحاصل أنّ الآية لا تتعرّض للولاية التشريعية، وإنّما تفيد أنّ الله تعالى سيحكم بين الكافرين والمؤمنين في الدنيا والآخرة، أمّا في الدنيا فبعلوّ الكلمة وقوّة الحجّة، والنصر النهائي بظهور الإمام المهدي - عجّل الله فرجه وسلام الله عليه. وأمّا في الآخرة فبتبين الحقائق للجميع ، ثمّ افتراق الفريقين فريق في الجنّة وفريق في السعير، كما مرّ في الآيات السابقة.

(ذَلِكُمُ الله رَبِّي )؛ أي قُل من كانت هذه صفاته هو الله ربي والإشارة بالاسم الدالّ على البعيد للتعظيم، أي ذلك الذي لا تناله الأوهام ولا تحويه الأفكار و (الله) بدل عن اسم الإشارة و (رَبِّي ) خبره. ولا يصحّ ما قيل: إنّ اسم الجلالة خبر أوّل و (ربي) خبر ثان؛ لأنّ كون هذه الصفات صفات الله تعالى مذكور قبل هذا، فالقصد هذه الجملة إعتزاز الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّ الله هو ربّه في مقابل اتخاذهم غيره أولياء. وهذا اعتزاز وافتخار وتشرّف لا يبلغه أي مجد وفخار والمؤمن لا يعتزّ بشيء كما يعتزّ بربّه.

(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) تقديم (عَلَيْهِ ) لإفادة الحصر؛ أي لا أتوكّل ولا أعتمد على غيره ولا أتولّى أحداً من دونه كما تفعلون.

(وَإِلَيْهِ أنيبُ)، «الإنابة» الرجوع؛ أي لا أرجع في جميع أموري إلا إليه ولا

ص: 25

أرجع إلى غيره؛ إذ كلّ ما أريده يحصل منه ولا يحصل من غيره. أو المعنى أعود إليه كلّما أبعدتني منه شؤون الدنيا. فالمؤمن يجب أن يكون توّاباً أوّاباً، كما وصف الله بهما أنبياءه المرسلين.

والتوبة والإنابة لا يشترط فيهما تقدّم الذنب، فإنّ الأنبياء لا يذنبون ولكنّهم يرجعون إليه تعالى باستمرار، ويرجعون إليه كلّما اشتغلوا بغيره وتوجّهوا إلى أمور الدنيا ،المباحة، وإن كانوا لا يتوجّهون إليها إلا بمقدار الضرورة والفرق بين التوبة والإنابة __ على ما يبدو _ أنّ التوبة بمعنى الرجوع مطلقاً، والإنابة بمعنى معاودة الرجوع مرّة بعد أخرى. وأمّا تفسير التوبة بالرجوع عن الذنب، فغير مستقيم؛ لأنّها تسند إلى الله أيضاً ، كما قال تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). (1)

ولعلّه إنّما عبّر عن التوكّل بالفعل الماضي، والإنابة بالمضارع، لأنّ التوكّل فعل واحد لا يتكرّر ، بل هو سمته العامة الدائمة، والإنابة مستمرّة تتجدّد كلّما توجّه إلى شؤون الدنيا.

(فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) خبر آخر لقوله: (ذَلِكُمُ الله) أو لمبتدأ محذوف، أي هو فاطر السماوات والأرض.. و«الفطر» هو الشقّ. والسماوات والأرض تعبير عن الكون كلّه ، كما ذكرنا مراراً.

والمراد أنّه تعالى هو الذي أوجد الكون من العدم، فكأنّه شقّ العدم واستخرج منه الكون، إذ لم يكن قبل ذلك شيئاً، ولم يوجد من مادّة أو طاقة، وذلك لأنّك كلّما فرضت شيئاً أصلاً وأساساً للكون، فإنّ الكلام يعود إليه وأنّه من أيّ أصل

ص: 26


1- التوبة :(9) 118

انحدر، فلا بد من الوصول إلى شيء لم يكن موجوداً وإنّما الله تعالى أوجده بمجرّد إرادته. والغرض هنا تمجيده تعالى وبيان السرّ في التوكّل عليه، كما ورد في الآية السابقة، فهو خالق الأشياء ومدبّرها.

(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) هذا ممّا يدلّ على التدبير الربوبي. وقوله: (من أنفُسِكُم) أي من جنسكم. و«الأزواج»: القرناء، وكلّ إنسان من ذكر وأنثى قرين لمثله. والزوج والزوجان: المثلان المتقارنان، ولا يطلق إلا إذا كان كلّ منهما مكمّلاً للآخر بوجه،كزوجي الباب والحذاء مثلاً ، ويطلق على الذكر والأنثى معاً من الإنسان والحيوان. فالخطاب في الآية للبشر لا للرجال خاصّة، كما قيل.

وخلق من الأنعام أيضاً أزواجاً، وكذلك من غيرها من الحيوان، وإنّما خصّ الأنعام بالذكر لما فيها من نعمة خاصّة على البشر. وقوله: (يَدْرَؤُكُم فيه ) أي يكثّركم بهذا التدبير، كما يكثّر الأنعام به أيضاً. و«الذرء» في الأصل: الزرع وإلقاء البذر ، وكنّي به عن الخلق والتكثير والضمير في (فيه) يعود إلى الجعل، و«في» للسببية، أي يكثّركم بجعل الأزواج. وفي عملية التزاوج والتناسل في البشر والحيوان من الحكمة والدقة ما يعجز عنه البيان. وهناك تخصّصات متعددة في الشؤون المتعلقة بهذا الأمر.

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وهذه أيضاً من أهمّ أسس التوحيد. وهي أن يعتقد المؤمن أنّ الله تعالى لا يشبهه شيء، فكلّ ما يتصوّره الإنسان ويصفه ب_ه تعالى يجب تنزيهه منه. وكلّ ما نصفه به ممّا وصف به نفسه؛ فإنّما نعرف مفهومه اللفظي وأمّا حقيقته وكنهه فلا تمكننا معرفته. فإذا قلنا بأنّه تعالى عالم، فالعلم معناه ومفهومه

ص: 27

معلوم لدينا، وأمّا حقيقة العلم فلو فرض أنّه حصول صورة الشيء لدى العقل - كما يقال في الفلسفة - فلا ينطبق على علم الباري جلّ وعلا ، كما هو واضح. وإذا قلنا إنّه تعالى سميع بصير، فليس معناه أنّه يسمع بآلة، ويبصر بجارحة. وهكذا سائر الأوصاف. ولقد أخطأ كثير من المؤمنين بالله، فشبّهوه تعالى بخلقه ووقعوا في الكفر وهم لا يعلمون.

والكاف في (كَمِثْلِهِ ) يقال إنها زائدة ، فإنّ المعنى أنّه ليس مثله شيء. وفيه وجه آخر لطيف ذكره الزمخشري في «الكشّاف» وحاصله أنّ هذا من قبيل ما يقال: إنّ مثل فلان لا يعمل كذا ، والمقصود هو بذاته، وإنّما يقال مثله لا يفعل كذا، للتنبيه على أنّ الامتناع منه مقتضى شأنه الذاتي أو الاجتماعي.(1)

أقول: وهذا كقول الإمام الحسين علیه السلام مشيراً إلى يزيد لعنه الله: «مثلي لا يبايع مثله».(2) فالمراد هنا أنّ الله تعالى بما له من الصفات الحسنى لا يمكن أن يشبهه شيء.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) قلنا إن هذه الآية في مقام التعليل للتوكّل عليه تعالى، ومن هنا ورد ذكر هذين الوصفين، فإنّه تعالى سميع يسمع دعوات المتوكّلين وإن أخفتوا في طلبه_م، بل هو بصير بشؤونهم وحوائجهم وإن لم يتلفّظوا بها.

وربّما فسّر بعضهم هذين الوصفين بأنّه تعالى عالم بالمسموعات والمبصرات. ولكنّ الظاهر أنّهما يختلفان مفهوماً عن مفهوم العلم، ويختلفان معاً أيضاً، فمعنى السمع هو الإحساس بالصوت، ومعنى البصر هو الإحساس بالأحجام والألوان.

ص: 28


1- راجع الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤: ٢١٣.
2- بحار الأنوار ٤٤ 32٥

والإحساس عندنا إنّما يكون بآلة، وهو مستحيل على الله تعالى، ولكن حيث إنّ الموجودات كلّها حاضرة عند الله بتمام وجودها، ولا يغيب عنه شيء، فالسمع والإبصار بمفهومهما منطبق عليه تعالى، وإن كانت حقيقتهما تختلف عن السمع والبصر لدينا.

(لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ). «المقاليد» جمع مقلاد أو إقليد بمعنى المفتاح. والظاهر أنّه معرب «كليد» بالفارسية. وفي «العين» أنّه المفتاح بلغة أهل اليمن. ومهما كان فالمعنى أنّ مفاتيح السماوات والأرض الله تعالى. والمراد مفاتيح خزائن الكون والقرآن يذكر للكون خزائن؛ قال تعالى: (وَالله خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)(1) والسماوات والأرض تعبير عن الكون، كما قلنا مراراً، وخزائنهما تعبير عن كلّ ما في الكون ممّا تحتاجه المخلوقات، وكون مفاتيحها الله تعالى بمعنى أنّ أمرها بيده وقيل: إنّ «مقاليد» بمعنى الخزائن نفسها في اللغة. ومهما كان فهذه الجملة مقدّمة للجملة التالية.

(يَبْسُطُ الرِّزْقَ مَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ). «الرزق» هو العطاء والإنعام وبسط الرزق: توسعته والقدر والتقدير التضييق. وقد يطلق الرزق على ما يُرزق ويُعطى وهو ما يحتاجه الإنسان في معيشته في الحياة الدنيا، وإن كان الرزق بعنوانه لا يختصّ بالدنيا ، كما أنّه لا يختصّ بالإنسان والرزق يزيد وينقص بتأثير عوامل طبيعية كما قد تؤثّر فيهما عوامل غيبية، وكلّها بيد الله تعالى، ولا تؤثّر إلا بمشيئته، ومشيئته تتبع الحكمة ، فلا يبسط الرزق على أحد ولا يضيّقه عليه إلا لحكمة. والرزق - كسائر ما يقضي الله ويقدّر _ لا يحتم على الإنسان أمراً بحيث لا يكون

ص: 29


1- المنافقون (٦٣): 7

لنشاطه دخل فيه، ولكن هناك أمور خارجة عن اختيار الإنسان ودخيلة في الرزق والأجل وسائر ما يقضي الله ويقدّر، ولذلك نجد أنّ السعي ربّما لا يفيد، بل ربّما يضرّ أحياناً.

وليس معنى ذلك أن يترك الإنسان نشاطه الطبيعي لبلوغ مآربه، بل لابدّ من متابعة الأسباب الطبيعية للوصول إلى ما يقصده ولتجنّب ما يضرّه، وهو أيضاً جزء من القضاء والقدر، فإذا مارس التجارة وربح ينكشف أنّ المقضيّ هو نجاحه في التجارة، وليس هو حصوله على هذا الربح، سواء عمل بالتجارة أم جلس في البيت وربّما يحصل الإنسان على ربح من دون تعب ، فالمقضيّ هو ذاك. وينبغي التنبّه إلى أنّ القدر المذكور مع القضاء غير القدر المذكور في الآية الذي هو بمعنى التضييق، كما مرّ.

(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، هو عليم بعوامل استحقاق الرزق وعوامل عدمه وبم_ا ه_و الأصلح للإنسان، لأنّه عليم بكلّ شيء. وهو أيضاً عليم بالأسباب المؤثّرة في توسعة الرزق وتضييقه، فيدبّر للإنسان ما يوصله إلى التوسعة أو التضييق كما قدّر من دون أن يشعر. والجملة في مقام التعليل لتعليق البسط والتقدير على مشيئته تعالى، فهو لا يشاء أمراً جزافاً، بل لعلمه بما هو الأصلح. ولعلّ ذكر هذه المجموعة من أوصافه تعالى وأفعاله للتأكيد على أنّه هو الولي فحسب، ومن يتولّ غيره فقد خسر الدنيا والآخرة، كما قال تعالى في مطلع هذه المجموعة: (أم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَالله هُوَ الْوَلِيُّ).

ص: 30

سورة الشورى (١٣ - ١٦) ٣١

* شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَبَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَبٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَلُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ تحاجون في اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ مُجَتُهُمْ دَاحِضَةُ عِندَ رَهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(16)

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى)، (شَرَعَ) أي جعل الشريعة والمنهاج، أو بمعنى «أوضَحَ وبيَّن». والخطاب في قوله: (لَكُم) للمؤمنين. والآية في سياق الحديث عن الوحي من جهة وحدة الشرائع في رسالات الأنبياء. والغرض ليس وحدة الشريعة في كلّ الجزئيات والفروع، بل وحدة الأصول في العقائد والأحكام. أمّا العقائد فواضح؛ لأنّها حقائق لا تتغيّر. وأمّا الأحكام فكلّ الشرائع تدعو إلى الصلاة والصوم والزكاة، وإن اختلفت في كيفياتها، لاختلاف اللغات والشؤون التي تدعو إلى الخصوصية، فالصلاة موجودة حتّى الآن في الطقوس الدينية لليهود والنصارى وسائر الأديان والصوم كان في الأُمم السابقة، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 31

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(1). والحجّ ممّا أذّن به إبراهيم علیه السلام.

والزكاة أيضاً موجودة في دعوات الأنبياء، كما قال عيسى علیه السلام في المهد: (وَأَوْصَانِي بالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً )(2) .

كما أنّ تحريم المحرمّات الأساسية لا تختلف فيه الأديان. وم_ا نج_ده م_ن النصارى من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير من جهة مخالفتهم لشريعتهم لأنّهما محرّمان في التوراة، واليهود ملتزمون بذلك حتّى الآن، والمسيح علیه السلام لم يأت بشريعة ناسخة لكلّ أحكام التوراة، بل كان مصدّقاً لها، وإنّما أحلّ بعض ما حرّم الله عليهم ، كما قال تعالى حكاية علیه السلام:( وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)(3) وهو ما حرّمه الله تعالى على بني إسرائيل البغيهم، فكان ذلك عقوبة لهم. وهذا الأمر - أي الالتزام بأحكام التوراة _ مذكور في الإنجيل الحالي أيضاً، ولذلك يعبّرون عن التوراة بالعهد القديم. وكذلك حكم القصاص موجود في التوراة ، كما قال تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاص)(4). وهكذا تحريم الربا - مثلاً - كما قال تعالى: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ هُوا عَنْهُ)(5) وأمّا تحريم الزنا واللواط فواضح، وقصّة قوم لوط مشهورة.

والحاصل أنّ أصول الأحكام في الشرائع واحدة وإن اختلفت الطقوس. ولعلّه

ص: 32


1- البقرة (2) 183
2- مريم (19) 31
3- عمران (3) 50
4- المائدة (٥): ٤٥
5- النساء (٤): ١٦١

لذلك عبّر عن سائر الشرائع بالذي وصّاهم الله به، وعبّر عمّا في هذه الشريعة بما أوحي إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فإنّ الوصية لا تطلق على كلّ ما أبلغ_وا ب_ه، ب_ل ت_خ_ت_صّ بما يهتمّ به من الأمور وهي أُصول الشرائع المشتركة، فالدين الذي يجب اتّباعه مجموع ما أوحي إلى الرسول من التفاصيل وخصوص ما وصّى به الله تعالى في الشرائع السالفة، لا كلّ ما أوحي إليهم.

وبدأ بذكر نوح علیه السلام، لأنّه أقدم الأنبياء الذين أتوا بشريعة. والغرض من البدء بأقدمهم الإشارة إلى مبدأ هذا الدين، وأنّه متوغّل في أعماق التاريخ البشري. وأمّا قبل نوح علیه السلام، فالظاهر أنّه لم يكن إلا أوامر متفرّقة حيث لم تتشكّل حضارة

بشرية ولا اجتماع بشري يحتاجون إلى قوانين تنظم حياتهم.

ولعلّ تقديم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم على سائر الرسل للتنبيه على كونه أفضلهم كما قدّمه على جميعهم في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)(1). ويتبيّن من الآية أن هؤلاء الخمس هم أصحاب الشرائع، وأنّ سائر الأنبياء كانوا يتّبعون شرائعهم.

(أنْ أقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) . (أنّ) إما مصدرية، والمصدر المأوّل بدل عن قوله: (مَا وَصَّى) وما بعده، وإمّا مفسّرة بلحاظ أنّ قوله : (وَصَّى) و (أوحَيْنَا) بمعنى القول. فالمعنى على الاحتمال الأوّل أنّه تعالى شرع لكم وجوب إقامة الدين وعدم التفرّق فيه، وعلى الاحتمال الثاني شرع لكم ما قاله لك وللأنبياء السابقين من وجوب إقامة الدين وعدم التفرّق فيه.

وربّما يتوهّم التنافي بين ما يفهم من الجملة السابقة من الإشارة إلى وحدة

ص: 33


1- الأحزاب (33): 7

الشرائع في الأصول كما أسلفنا، وبين هذه الجملة حيث تفسّر ما شرعه الله تعالى وأوصى به في الشرائع السابقة وأوحى به إلى الرسول صلى الله عليه و اله وسلم بهذين الأمرين فقط: إقامة الدين وعدم التفرّق فيه، فلا يشمل اُصول الشرائع.

ومن هنا قال في «الكشاف»: «ثمّ فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله: (أنْ أقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) والمراد إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه، وبيوم الجزاء، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلماً، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها، فإنّها مختلفة متفاوتة. قال الله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً )(1)... »(2)

فيبدو من كلامه أنّ الذي اتّحدت فيه شرائع السماء هو العقيدة فقط، بل هذا هو ما يظهر من عبارة بعض آخر أيضاً.

ولكنّ الجملة السابقة واضحة الدلالة على أنّ المراد التنبيه على وحدة الشرائع العملية في أصولها مضافاً إلى وحدة العقيدة، وذلك لأنّ المراد بالدين في قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّين) القوانين والأحكام الشرعية وهو واضح، كما أنّ قوله (وَالَّذِي أوحَيْنَا إِلَيكَ) يشمل كلّ الشريعة ويبعد كل البعد تخصيصه بجملة واحدة.

والصحيح أنّ هذه الجملة لا تنافي دلالة الجملة السابقة على وحدة الشرائع، لأنّها إن كانت بدلاً فهي بدل اشتمال بمعنى أنّ الذي شرعه الله في جميع

ص: 34


1- المائدة (٥): ٤٨
2- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤: ٢١٥

الشرائع يشمل هذا الأمر ، وإن كانت مفسّرة - وهذا الاحتمال أولى - فمعناه أنّ الأمر الصادر من الله تعالى هو هذا الأمر، لأنّه مقول القول حسب الفرض إلا أنّ الجملة السابقة مستخلصة منه. وأمّا قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُم شِرعَةً وَمِنهَاجَاً) فناظر إلى تفاصيل الأحكام التي تختلف فيها الشرائع.

وهذا نظير أن يقال: «فرض الله عليكم الجهاد أن قاتلوا المشركين»، فالأمر هذا القول: «قاتلوا المشركين» بتأويل الفرض إلى القول، وأمّا المفعول وهو الجهاد فهو مستخلص منه. وهنا أيضاً القول الصادر هو(أقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرّقوا فِيهِ ) ويستخلص منه أنّه تعالى شرع على جميع الأمم شريعة واحدة وديناً واحداً من حيث الأصول وإن اختلفت المناهج.

وأمّا كيف يستخلص منه ذلك، فتوضيحه أنّ المراد بإقامة الدين هو إقامة الدين العامّ الذي اشتركت فيه شرائع السماء. ومعنى إقامته العمل بكلّ الأحكام والالتزام بها وحفظها من التحريف والتغيير، لتنتقل سليمة إلى الأجيال الآتية، والمراد بعدم التفرّق فيه - أي في الدين - أن لا يوجب اختلاف الرسل والمناهج تفرّقاً بين الأمم، فالدين ،واحد قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)(1). وقال أيضاً: (قُلْ آمَنَّا بِالله وَمَا أنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ). (2)

فالمراد بعدم التفرّق ليس عدم تفرّق كلّ أُمّة في شريعتها الخاصّة فحسب، بل

ص: 35


1- آل عمران (3): 19
2- آل عمران (3): ٤ - ٨٥

الخطاب لجميع الأمم ، والمراد عدم تفرّقهم عن الدين، الأساس الجامع بين الشرائع. ومعنى ذلك أنّه لا يحقّ لمن يدعي متابعة موسى علیه السلام أن يرفض الانصياع الرسالة عيسى علیه السلام وكذلك كلّ من بقي من أتباع الأديان السابقة لا يجوز لهم

التعصّب لما يختصّون به بعد بعثة نبيّنا صلی الله علیه و آله وسلم. وعليه فمفاد هذه الآية هو بعينه ما صرّح به تعالى في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقُ لَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).(1) والتأكيد الوارد في هذه الآية وأخذ الميثاق والعهد من الرسل إنّما ه_و م_ن أج_ل تنبيه الأجيال الذين يأتون بعدهم ويتبعون ملّتهم، فلا تجوز لهم متابعة الشريعة السابقة بعد بعثة الرسول الجديد، خصوصاً أنّ الرسل السابقين كانوا يبشّرون بالرسالة القادمة، كما قال تعالى في حكاية كلام عيس علیه السلام: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ.)(2)

وضمير (فيه) كما قلنا يرجع إلى الدين. ومعنى ذلك أنّ الوحدة المطلوبة هي الوحدة تحت راية الدين لا مطلق الوحدة ، كما قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)(3)، فالمطلوب الاتحاد مع الاعتصام بحبله تعالى.

والواقع أنّ الدين حدّ فاصل. والحدود لا تكون حدوداً حقيقية إلا إذا كانت مانعة جامعة، فحدود البلد هي التي تشمل جميع أراضيه لا يشذّ منها شيء ولا تتجاوزها إلى حدود بلد آخر. والحدّ في التعريف لا يكون حدّاً صحيحاً إلا إذا

ص: 36


1- آل عمران (3) 81
2- الصف (٦١): ٦.
3- آل عمران (3) 103

شمل جميع أفراد المفهوم المعرّف ولم ينطبق على شيء من أفراد غيره. والدين أيضاً حدّ فاصل فلا يتمّ الالتزام به إلا إذا منع من الاتحاد بغير المتديّن والعداء مع المتديّن. قال تعالى: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)(1) وليس معنى ذلك محاربة الغير، بل عدم موالاتهم.

والنهيّ عن التفرّق - كما أشرنا إليه _ يشمل تفرّق كلّ أُمّة في ما بينهم أيضاً. وهذا تحذير للمسلمين في عهد الرسالة بأن يحافظوا على ما شرع الله لهم من الدين ولا يختلفوا فيه حتّى يسلّموه إلى الأجيال الآتية. وستأتي في كلامه تعالى الإشارة إلى ما حصل للأديان والشرائع السابقة للتنبيه على أنّ هذه الأمة أيضاً ستبتلى بمثل ذلك.

(كَبُرَ عَلَ المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْه) الظاهر أنّ المراد ممّا تدعوهم إليه هو الإيمان بالله تعالى وبرسالات الأنبياء لیهم السلام وما ينتج من هذا الإيمان من ضرورة الإتيان بالواجبات وترك المحرّمات ونحو ذلك من لوازم الشريعة، فهذا هو الذي كبر عليهم وشقّ عليهم ،قبوله، مع أنّه امتداد لكلّ ما دعا إليه الرسل طيلة التاريخ البشري، ومنهم إبراهيم علیه السلام الذي يدّعي هؤلاء الانتماء إليه.

(الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) «الاجتباء» هو الاختيار والاصطفاء. وأصله من الجباية بمعنى الجمع، ومنه جباية الخراج والضريبة. ومن هن_ا ع_دّاه ب_«إلى» أي يجمع إليه من يشاء، أي يختارهم من بين الناس. و«الإنابة»: الرجوع والمراد التوبة.

وفي مرجع الضمير في «إليه» في الجملتين احتمالان:

ص: 37


1- الفتح (٤٨): ٢٩

الاحتمال الأوّل: أنّ يعود إلى اسم الجلالة. وعلى ذلك يحتمل أن يكون المراد اجتباء الرسل، ويكون ردّاً على المشركين وإن لم يشر إلى كلامهم، فإنّهم إنّما كبر عليهم ما دعا إليه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ، لإنّهم رفضوا اختياره رسولاً عليهم بدعوى أنّ فيهم من هو أولى منه، كما قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(1)، فرفضوا رسالته حسداً واستكباراً، وهذه الجملة تردّ عليهم بأنّ الله تعالى يجتبي إليه من يشاء من الرسل نظير قوله تعالى: (الله أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(2) والجملة التالية لبيان أن الله لا يهدي إليه إلا من ينيب، أي يتوب إليه تعالى.

الاحتمال الثاني: أن يعود الضمير في الموضعين إلى (مَا تَدْعُوهُم إِلَيهِ) وهو الدين، أي يجتبي من البشر من يشاء ويسوقه إلى الدين، فيكون الاجتباء مقدّمة للهداية، وتكون الجملة التالية مبيّنة لمورد تعلّق المشيئة، وهو الإنابة إلى الله تعالى، فيكون المعنى أنّه تعالى يختار من يشاء للهداية إلى الحقّ وهو ما تدعوهم إليه ولكنّه لا يختار جزافاً، بل يختار من ينيب إليه.

(وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) يعود السياق إلى الكلام عن الوحي في الرسالات السابقة، حيث مرّت الإشارة إلى أنّ الأمم أمروا أن يقيموا الدين ولا يتفرّقوا فيه، لينقلوه إلى الأجيال التالية بدون تحريف وبدون شكّ في ،مضامينه، ولكنّهم تفرّقوا بعد ما جاءهم العلم عن طريق الرسول، فلم يكونوا معذورين بالجهل. والظاهر أنّ المراد تفرّقهم بعد عهد الرسالة. وكان السبب في

ص: 38


1- الزخرف (٤٣) ٣١
2- الأنعام (٦): ١٢٤.

تفرقهم هو البغي بينهم. والبغي في الأصل الطلب. ويطلق الباغي على من يطلب شيئاً ليس له، فالسبب في تفرّقهم هو اعتداء بعضهم على بعض، وتطاولهم وطلب بعضهم ما ليس له. وهذا يتعلّق بما ورثته الأمّة من رسولها كالخلافة.

ويحتمل أن يكون التفرّق في هذه الآية مختلفاً عنه في الآية السابقة، فإنّ المنع هناك إنّما كان عن التفرّق في أصل الدين المشترك بين الشرائع بمعنى أنّ أتباع كلّ شريعة لا يتعصّبوا لشريعتهم في قبال سائر الشرائع السماوية، والبغي هنا تسبّب في تفرّق الأمّة الواحدة في دينهم وبذلك تشكّلت المذاهب المتفرّقة وكلّ فرقة تفسّر الدين بما يروق لها ويضمن مصالحها. ويحتمل أن يكون التفرّق الممنوع في تلك الآية شاملاً لهذا التفرّق.

(وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) في هذه الجملة احتمالان:

الأوّل: أن يكون المراد بالكلمة ما كتب الله على نفسه من إمهال الناس إلى وقت نزول العذاب في الدنيا أو إلى يوم القيامة، ومعنى سبق الكلمة سبق إرادته تعالى الأزلية. وقوله: (إلَى أَجَلٍ مُسَمّى) متعلّق بمحذوف يفهم من سبق الكلمة، حيث يدلّ على الإمهال، أي لولا كلمة سبقت من الله تعالى بأن يمهلهم إلى أجل مسمّى لقضي بينهم والأجل المسمّى موعد نزول العذاب أو موعد الموت أو يوم القيامة، ومعنى القضاء بينهم الحكم على بعضهم بالعذاب والهلاك وهم الباغون الظالمون، وإنّما يكون ذلك قضاءً وحكماً بينهم، لأنّه ينتهي لمصلحة الفريق الآخر، فيهلك بعض الناس وينجو بعض آخر.

الثاني: أن تكون الكلمة إشارة إلى إرادته تعالى إبقاء الأمور مبهمة غامضة،

ص: 39

ليتمّ الامتحان والابتلاء وقد مرّ في نظيرتها في سورة فصّلت احتمال أن يكون المراد بالقضاء بينهم تبيّن الحقائق، وبالأجل المسمّى يوم القيامة، كما صرّح به في آيات أخرى. فالمعنى أنّ الله تعالى لم يبيّن لهم حقائق الأمور ليتمّ الابتلاء إلى أن يأتي الأجل المسمّى، وهو موعد يوم القيامة، فتظهر الحقائق ويقضي الله بين الناس في ما كانوا فيه يختلفون. وهذا الاحتمال أقرب.

وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله: «إنّ المراد بالكلمة خطاب_ه تع_ال_ى ف_ي ب_دء هبوط الإنسان إلى الأرض ممّا يدلّ على استمرار التمتّع والاستقرار في الدنيا إلى يوم القيامة، وذلك كقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلى حِينٍ)(1) ». (2)

ولكن لا حاجة إلى تقدير خطاب أو آية مذكورة في القرآن، كما يحاوله العلامة وجمع من المفسّرين في أمثال هذه الموارد، فلا مانع من أن تكون «الكلمة» في هذه الموارد كناية عن الإرادة الإلهية.

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) المراد ب_ (الَّذِينَ أُورِثُوا الكِتابَ) الجيل المتأخرّ عن عهد الرسالة حيث ورثوا الكتاب من الجيل الأوّل وهم في شكّ منه، أي من الكتاب. والشك المريب، أي المصاحب للاتّهام. و«الريب»: التهمة. وهذا نتيجة تفرّقهم واختلافهم في العهد الأوّل، فإنّ الأجيال المتأخّرة توارثت الكتاب مع الشكّ، إمّا في أصله من احتمال التحريف في الألفاظ وإمّا في معناه من احتمال التحريف في التفسير، فإنّ كلّ فرقة تحاول تحريف النصّ أو تفسيره ليوافق أهواءها، كما نلاحظه في مذاهب

ص: 40


1- البقرة .(٢) .٣٦
2- راجع الميزان في تفسير القرآن ٣٤٧:٨

ديننا بالنسبة إلى الكتاب والسنّة.

وهذا هو الحاصل في الأمم السابقة. والآية الكريمة تحذّر الأمّة الإسلامية من الوقوع في نفس الخطأ _ وهي فعلاً قد وقعت فيه _ فاختلفوا بعد عهد الرسالة، ب_ل بدأت بوادره في عهدها المجيد، واستمرّ الاختلاف والتفرقة، وأثّر حتّى في الطقوس الدينية التي تتكرّر في اليوم مرّات كالصلاة والوضوء، بل حتّى الذي يعلن في المآذن، فإنّ الاختلاف وقع في الأذان، حتّى في أتباع المذهب الواحد، ناهيك عن الأحكام المهمّة السياسية، كلزوم تعيين الحاكم عن طريق الشورى أو النصب الإلهي، وغير ذلك.

ومثل هذه الآية قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)(1) وقوله تعالى في بني إسرائيل: (وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمر فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثمّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمر فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعُ أهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).(2)

وفي هذا المعنى آيات كثيرة. وأقربها إلى ما نحن فيه من حيث البدء بالتنبيه على وحدة الشرائع آية آل عمران، ومن حيث الأمر بالاستقامة التي جاء هنا أيضاً ما في سورة الجاثية، وأوضح منه قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * وَإِنَّ كُلاً لا ليوفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أعْمَاهُمْ إِنَّهُ بمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ

ص: 41


1- آل عمران (3): 19
2- الجاثية (٤٥) 17 - 18

بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(1). وهذه الآيات في مقام تحذير المسلمين من الوقوع في التفرقة والاختلاف، وقد صرّح به في قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ هُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(2)

(فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) الظاهر أن اللام في قوله: (فَلِذَلِكَ) بمعنى «إلى»، أي فادع إلى الدين الواحد الذي أنزله الله على رسوله، وتقديم الجارّ والمجرور يفيد الحصر، أي لا تدع إلى دين غيره. وهذا إعلام بأنّ ما يدعو إليه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم هو ذلك الدين الموحد وليس أمراً جديداً.

وقيل: إنّ اللام للتعليل، أي حيث حدث هذا الافتراق والاختلاف في الأمم السابقة، أو حيث شرع الله لكم ما شرع للأمم السابقة فادع إلى الدين الإلهي الصحيح. وعلى هذا الاحتمال لا بد من تقدير المفعول للأمر بالدعوة، بخلاف

الاحتمال الأوّل.

وقوله تعالى: (وَاستَقِم كَمَا أُمِرتَ)، أي استقم على نشر هذه الدعوة، كما أمرك الله تعالى أي استقامةً كالاستقامة التي أمرك الله بها، والاستقامة بمعنى الاستواء والاعتدال، والأصل فيه القيام بمعنى الانتصاب، وباب الاستفعال يؤكّده، والانتصاب في العمل يلازم الثبات.

وفي هذا التعبير تنبيه على أنّ هذه الدعوة تستلزم التضحيات، وتستدعي حروباً ومشاكل كثيرة، كما هو المتوقّع في مثل تلك الظروف، وفي مثل هذه الدعوة. فالقصد من هذه الآية الكريمة تقوية عزيمة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والذين آمنوا

ص: 42


1- هود (11) 110 - 112
2- آل عمران (3) 105

معه حتّى لا تباغتهم المشكلات المستعصية، بل يكونوا عل_ى ح_ذر واستعداد لمواجهتها.

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) وذلك لأنّ الأهواء لا تتّبع الحقّ، فكلُّ يهوى ما يستسيغه، وإن كان باطلاً أو أضرّ بالآخرين، كما قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ).(1) وكما أنّ متابعة الأهواء تضرّ في قيادة المجتمع كذلك تضرّ في نشر الدعوة الإلهية، وذلك لأنّ الدين __ كما تبيّن ___ واحد، والرسول يجب أن يدعو إلى هذا الدين الواحد، وهذا لا يتلاءم مع مراعاة أهواء كلّ مجموعة من أتباع الأديان السابقة، لما يوجد بينهم من مشاحنات وعصبيات. ومن هنا نهى الله تعالى رسوله من متابعة أهوائهم في نشر الدعوة.

والظاهر أنّ الضمير يعود إلى أهل الكتاب وبوجه أدقّ إلى الذين أورثوا الكتاب في عهد الرسول صلى الله عليه و له و سلم . وقد ورد النهي عن متابعة أهوائهم في مواضع أخرى أيضاً من الكتاب العزيز، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله وَلا تَتَّبِعُ أهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحق لكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ الله جَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ في مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ الله وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضٍ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ ).(2)

ويلاحظ في سياق الآيتين تشابه شديد بما ورد في هذه الآية، ففي الأولى تصديق هذا الكتاب للكتب السابقة، كما أمر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم هنا بإعلان إيمانه

ص: 43


1- المؤمنون (23): 71
2- المائدة (٥): ٤٨ - ٤٩

بالكتب. وفيها أيضاً الأمر بالحكم بينهم بما أنزل الله تعالى وهو مشابه للأمر بالعدل بينهم، ثمّ كرّر في الآية الثانية الحكم بينهم بالعدل وعدم متابعة أهوائهم للتأكيد على الحكم السابق. ويبدو من ذيل ما نقلناه من الآية أنّ ما كانوا يهوونه، ويحاولون فيه جرّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إلى مكيدتهم هو صرفه عن نقل بعض ما يوحى إليه من القرآن الكريم.

(وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ)، أي أعلن لأهل الكتاب إيمانك بكلّ الكتب السماويّة السابقة، لأنّ مناط الإيمان هو أن يكون الكتاب والدين من قبل الله تعالى، ولا يختلف في ذلك الرسول المنزل عليه. والتعبير بما أنزل الله من كتاب لا بالكتب بوجه عام، لئلا يشمل الكتب المحرّفة.

وإعلان هذا الإيمان من أهمّ الخطوات للنفوذ في قلوب أتباع الديانات السابقة، كما أنّه تصريح رسمي بأنّ هذا الدين وهذه الدعوة امتداد لرسالات الأنبياء السابقين، ليكسب مكانته المناسبة في قلوب العرب، سواء آمنوا أم لم يؤمنوا. وفي نفس الوقت يحثّ المؤمنين على عدم التعصّب الأعمى، وأن لا يكون التفافهم حول هذه الدعوة بدواع قَبَلية أو طائفية، أو على أساس أنّ هذا دين العرب، أو أنّ القرآن نزل بلغتنا، أو نزل على آبائنا وأجدادنا. والحاصل أنّ هذا الإعلان يرفع هذا الدين عن مستوى العلاقات الاجتماعية الضيّقة إلى الدين العامّ الذي يؤمن به جميع المؤمنين بالأديان السماوية طيلة التاريخ البشري، كما يحاول تقريب صفوف المؤمنين برسالات السماء في ذلك العهد في مقابلة المشركين، وبذلك يبعث الرهبة والتهيّب في قلوبهم.

(وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمْ). اختلف في «الام» في قوله: (لأعْدِلَ) وأمثالها كقوله

ص: 44

تعالى: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمينَ)(1)؛ فقيل: زائدة بتقدير «أن»، وقيل: إنّها للتعليل وأنّ المفعول محذوف فيقدر هنا: «وأمرت بالعدل الأعدل بينكم» وقيل غير ذلك، ومهما كان فالملاحاظ من استعمالات القرآن الكريم أنّ هذا اللام التي تأتي بعد الأمر أو الإرادة تفيد معنى «أن» بحيث لو أبدلتها بها لم يختلف المعنى، ويتبيّن ذلك بوضوح بملاحظة قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أنْ يُطْفِئُوا نُورَ الله بأَفْوَاهِهِمْ وَيَأبى الله إلا أن يُتم نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(2) وقوله: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)،(3) وأيضاً قوله تعالى: (فَلا تُعْجِبُكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بها في الخيوةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)،(4) وقوله: (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَاهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ.)(5)

واختلف في المراد بالعدل، فقال بعضهم: إنّ المراد به تحقيق العدالة بين المتخاصمين فيختصّ بمورد القضاء، والمعنى أنّه إذا تخاصمتم إليّ فإنّي أعدل بينكم ولكنّ الظاهر - على فرض كون المراد تحقيق العدالة - أن يكون المراد ما يعمّ العدل في الشؤون الاجتماعية، والتعايش مع الآخرين. والسياق يقتضي أن يكون الخطاب موجّهاً إلى أهل الكتاب إلا أنّ ذلك لا يمنع من أن يكون المراد بضمير الخطاب عامّة الناس، فيكون المعنى أنّ هذا الدين يعدل بينكم يا أهل الكتاب وبينكم وبين غيركم. وهذا الإعلان الرسمي يعلنه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأمر من

ص: 45


1- الأنعام :(٦): 71
2- التوبة (9) 32
3- الصف (٦١): 8
4- التوبة (٩) ٥٥
5- التوبة (٩): ٨٥

الله تعالى، وهو في مكّة تحت الضغط والاضطهاد، ولكنّه برنامج الحكومة والنظام الذي سيفرضه على المجتمع، يعلنه ليكون من يريد اتّباعه عل_ى عل_م بذلك، فيؤمن وهو على بصيرة من أمره.

هذا إذا فرض أنّ المراد تحقيق العدالة في المجتمع، ولكنّ الأنسب أن يكون المراد المساواة في الدعوة، فلا يقدّم قوماً على قوم، فهذه الدعوة وهذا الدين ليس خاصّاً بقوم ولا قبيلة، ولا أهل لسان أو بلد، وليس دين بني هاشم ، ولا دين ،قريش، ولا دين العرب. وهذا ما يناسب وقوعه ضمن الأمر بالدعوة.

(الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) ثلاث جمل يؤمر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أن يردّ بها محاجّة أهل الكتاب في الله تعالى، كما عبّر به في الآية التالية ومعنى محاجّتهم في الله دعواهم الاختصاص به، وأنّهم أحباؤه وأولياؤه دون سائر الناس، كما قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ)(1) وغيرها من الآيات.

واستدلّ على نفي المحاجّة في الله تعالى بأمرين:

الأول: أنّه تعالى كما هو ربّكم كذلك هو ربّنا ومردّ هذا الاستدلال إلى أنّ العلاقة بالله تعالى ابتداءاً علاقة المربوب بربّه، وفي هذه العلاقة لا يختلف البشر فهو ربِّ الجميع، ربِّ المرسلين والمرسل إليهم، ربِّ المتقين والعاصين، ربّ الإنس والجنّ، ربِّ السماوات والأرضين، وربّ الخلق أجمعين، فلا ميزة لأحد من البشر في ذلك، ونسبة الخلائق كلّهم إلى الله تعالى نسبة واحدة.

الثاني: أنّ الاختصاص بالله تعالى إن كان من جهة العمل فلنا أعمالنا ولكم

ص: 46


1- المائدة (٥): 18

أعمالكم، أي لكلّ من الشرائع طريقة خاصّة من الله تعالى كما قال: (لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)(1) وكلّ الشرائع منتسبة إليه تعالى. واختلاف المناهج لا يوجب قرباً ولا بعداً من الله تعالى، وإنّما الذي يؤثّر في ذلك هو التصرّف الشخصي من خلوص النية وعدمه، ومن الالتزام بأوامره تعالى ونواهيه وعدمه.

والجملة الأخيرة، أي قوله تعالى: (لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) كالنتيجة للجملتين الأوليين؛ ومعناها أنّه لا يحقّ لأحد من الفريقين أن يحتجّ على الآخر ويدّعي الاختصاص بالله تعالى، فهو ربّ الجميع وهو مشرّع جميع الشرائع، فنفي الحجّة من البين بمعنى استنكار المحاجّة من قبلهم نظير قوله تعالى: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي الله وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ) (2).

وبهذا يتبين أنّ المراد بجملة: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) في الآيتين ليس هو اختصاص مسؤولية كلّ إنسان بأعماله، ولا عدم التزاحم، كما في «الميزان»،(3) ولا عدم تأثير السيء من الأعمال في مصير الطرف الآخر كما في «روح المعاني»،(4) ولا غير ذلك ممّا ورد في التفاسير؛ بل المراد أنّ اختصاص كلّ أمّة بشريعة ومنهج خاصّ لا يقتضي قربه ولا بعده، فكلّ ذلك من الله تعالى. والدليل على ذلك أنّهم احتجّوا بميزة خاصّة بهم كأمّة لا كأشخاص، ولم يحتجّوا بحسن العمل أو سوئه، فالجواب المناسب لاحتجاجهم هو أنّه ليس لكم ميزة تقرّبكم

ص: 47


1- المائدة (٥): ٤٨
2- البقرة (2) 139
3- راجع الميزان في تفسير القرآن 18: 34
4- راجع: روح المعاني ١٣: ٢٦

إلى الله تعالى كأمّة، لا من حيث أصل الانتساب إلى الله تعالى، لأنّ نسبة الجميع واحدة، وهي نسبة المربوب إلى الربّ، ولا من حيث الشريعة، لأنّها كلّها من الله تعالى.

ويتبيّن أيضاً ضعف ما ورد في التفاسير من أنّه لا بدّ من تأويل ما ورد في الآية الكريمة من نفي الحجّة، لأنّ الحجّة ثابتة للرسول صلی الله علیه و آله وسلم على أهل الكتاب فكيف يمكن نفي وجود الحجّة بين الفريقين ؟! فاضطرّوا إلى القول بأنّ المراد لا محاجّة ولا مخاصمة بيننا وبينكم، فحيث لا مخاصمة فلا وجه لإقامة الحجّة مع أنّ المحاجّة مستمرة بين الفريقين، فلا وجه لهذا التأويل. بل الصحيح أنّ نفي الحجّة بمعنى استنكار احتجاجهم في الله تعالى بدعوى القرب لديه، فإنّ هذا هو الذي يتنافى مع كونه تعالى ربِّ الجميع، ومع استناد الشرائع كلّها إليه، وهذا هو المصرّح به في الآية التي نقلناها من سورة البقرة.

نعم هناك فرق في التعبير بينهما، ففي سورة البقرة يستنكر احتجاجهم في الله، وهنا ينفي وجود الحجّة بين الفريقين، بمعنى أنّه كما لا يصحّ لكم أن تجادلوا في الله وتدّعوا الاختصاص به، كذلك لا يصحّ من قبلنا. وهذا الاختلاف في التعبير لعلّه من جهة موضع النزول، فهذه الآية نزلت في مكّة، ولم تحصل بين الفريقين مواجهة بالفعل، بينما نزلت سورة البقرة في المدينة، مضافاً إلى الفرق بين حالتي المسلمين في الموضعين.

ولا يتوهم أنّ الآية تدلّ على أنّ أعمالنا وأعمالهم صحيحة، وذلك لأنّ أعمال أتباع الشرائع السابقة صحيحة قبل نزول الشريعة المتاخرة الناسخة، وهذا ما صرّح به تعالى في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ

ص: 48

رَسُولٌ مُصَدِّقٌ مَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)،(1) فقوله تعالى: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ)، أي برسالته ومعنى ذلك متابعة شريعته، وليس المراد مجرّد الدعوة إلى النصرة. وهذا التأكيد الوارد في الآية من أخذ الميثاق والإقرار والشهادة ليس إلا لنسخ الشريعة الذي يصعب على الأمم قبوله.

(الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ) هذه الجملة ليست من صلب الاستدلال على نفي المحاجّة، بل هو ردّ لتوهّم آخر، وقد اختلفت الصياغة فيه بين الآيتين، ففي سورة البقرة أضاف إلى استنكار المحاجّة قوله تعالى: (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) وأضاف هنا هذه الجملة، والظاهر أنّ الغرض منهما الردّ على ما يمكن أن يتوهّم بعضهم من اختصاصهم بالفضل لما فيهم من الالتزام بالدين، والإخلاص الله تعالى، فأجاب عنه في سورة البقرة بأنّنا مخلصون له، وأجاب هنا بأنّ مصير الأشخاص منوط بأعمالهم وبنيّاتهم ، وهذا لا يتبيّن في هذه النشأة، فكلّ إنسان يمكنه أن يدّعي صحّة طريقه وخلوصه في العمل، وإنّما يتبيّن ذلك يوم الجمع حيث ينتهي المصير إليه تعالى، فيجمع بين الخلائق كلّهم ليحاسب كلّ أحد، ويجازيه بعمله.

والمراد بضمير التكلّم مع الغير في قوله: «بَينَنا» الفريقان، أي الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ومن تبعه و آمن به، ويقابلهم الذين أورثوا الكتاب في ذلك العهد وهم المناوئون من اليهود والنصارى، والتركيز على الجمع بين الفريقين من جهة أنّ الفضل المزعوم لا يتبيّن صدقه وكذبه إلا بالجمع بينهما للمقايسة والموازنة وهذا الأمر

ص: 49


1- آل عمران (3) 81

يختلف عن مقارنة الشرائع، فإنّ المقارنة بينها ممكنة في هذه النشأة.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاخِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ...). اختلف المفسّرون في تفسير هذه الآية، وفي المراد بالمحاجّة في الله تعالى، وفي خصوص مرجع الضمير في قوله : (اسْتُجِيبَ لَهُ)، وفي المراد بالاستجابة.

ويتبيّن بما ذكرناه في تفسير الآية السابقة أنّ المراد ب_ (الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي الله ) أهل الكتاب ، وقلنا إنّ المراد أنّهم كانوا يدّعون الاختصاص به وأنّهم أبناء الله وأحباؤه، كما قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ)،(1) وأمّا ما ورد في بعض التفاسير من أنّ المراد احتجاجهم في دين الله أو أنّ المراد المشركون؛ لأنّهم يحاجّون في شأن الله وهو الوحدانية أو يحاولون نفي ربوبيته تعالى وإبطال دينه كما في «الميزان»، كلّ ذلك وغيرها خلاف الظاهر وتقدير بلا موجب بل هذا نظير قوله تعالى: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي الله وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ)،(2) أي لِمّ تدعون اختصاصكم بالله وهو ربّ الجميع ؟! وقد مرّ الكلام حول هذه الآية آنفا. ومثله أيضاً قوله تعالى: (يا أهل الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ)،(3) أي لِمّ تزعمون أن إبراهيم علیه السلام كان منكم مع أنّه كان قبل التوراة والإنجيل؟! فالاحتجاج هنا أيضاً بهذا النحو.

والظاهر أنّ المراد بالاستجابة استجابة الناس للدين الجديد، والوجه في خصوصية هذا الظرف وتأثيره في كون حجّتهم داحضة أنّهم كانوا قبل أن يؤمن

ص: 50


1- المائدة (٥): 18
2- البقرة (2) 139 .
3- عمران (3) ٦٥

الناس بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم هم أتباع شريعة السماء فحسب، فكانوا على حق إذا ادّعوا اختصاصهم بمتابعة الحقّ، لأنّهم كانوا في قبال المشركين، وأمّا بع_د استجابة الناس للرسالة الجديدة فليسوا هم أتباع شريعة السماء، بل هم كفّار ناقضون لعهده تعالى، وذلك للآية التي مرّت آنفاً، أي قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ مَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثم جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ مَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ

الشَّاهِدِينَ).(1)

والمراد من قوله تعالى: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) إيمان أتباع الرسل ونصرتهم أيضاً، ولو كان الرسول بنفسه حيّاً لزمه الوفاء بالعهد، كما يلزمه إبلاغ هذا الأمر لأتباعه وقد عملوا بذلك، كما قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)،(2) فهو يصدّق ما مضى ويبشّر بما يأتي لتبقى الرسالات متواصلة بعضها ببعض ولا تتشكل أمم متخالفة في التوحيد، ولكن أهواء الناس ومتابعة الكبراء منعت من تحقّق هذا الأمر طيلة تاريخ الرسالات!!!

والحاصل أنّ المدّعين متابعة الشرائع السابقة لا تصحّ دعواهم بعد نزول الشريعة اللاحقة ولا تقبل منهم دعوى الأولوية بالقرب لدى الله تعالى إذا آمن الناس بالرسالة الجديدة، بل المؤمنون الجدد أولى منهم بالتقرّب إليه تعالى وأولى منهم بمتابعة الرسل، ولذلك قال تعالى: (إنَّ أولَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ

ص: 51


1- آل عمران :(3) 81
2- الصف (٦١): ٦.

وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا).(1)

ومن هنا يتبيّن الوجه فى التقييد باستجابة الناس بدلاً من التعبير بنزول الشريعة الجديدة أو بعث الرسول الجديد ؛ فإنّ استجابة الدعوة من الناس لها خصوصية من حيث تحقّق أُمّة هم أقرب إلى الرسالات ممّن يدّعون الانتماء إليها.

وعلى ما ذكرنا يمكن أن يعود الضمير في (لَهُ) إلى الله تعالى أي من بعد استجابة الناس لدعوته تعالى إلى الدين الجديد عن طريق الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ويمكن أن يعود إلى الرسول وان لم يسبق ذكره ، لأنّه يعلم من قوله: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ) بلحاظ أنّه صلی الله علیه و آله وسلم طرف الاحتجاج، أي الذين یحاجون الرسول فإنّهم لا يحاجّون غيره صلی الله علیه و آله وسلم ولكن ارجاع الضمير إلى اسم الجلالة أولى، كما هو واضح.

و(دَاحِضَةٌ) بمعنى باطلة، و«الدحض في الأصل بمعنى الزلّة والانزلاق فالتعبير يدلّ على عدم الثبات والاستقرار وهو علامة البطلان. وقوله: (عِندَ رَبِّهِم) بمعنى أنّ احتجاجهم وإن لقي قبولاً عند بعض الناس، إلا أنّه عند الله تعالى احتجاج باطل لا أساس له وحيث إنّهم يعلمون بطلان حجّتهم عند الله تعالى، ومع ذلك يحاولون خداع عامة الناس بها، فعليهم غضب من الله تعالى

ولهم عذاب شديد يوم القيامة.

والسرّ في هذا التشديد عليهم - مع أنّ مجرّد بطلان الحجة ودعوى التقرّب إلى الله تعالى لا يستوجب ذلك _ هو ما ذكرناه من أنّ عدم إيمانهم بالرسالة الجديدة نقض لما عاهدوا عليه ربّهم عن طريق الرسل، كما صرّح به في الآية (81) من سورة آل عمران التي مرّ ذكرها.

ص: 52


1- آل عمران (3): ٦٨

سورة الشورى (17 - 20)

اللهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ مَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنْهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَلٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِیُّ الْعَزِيزُ (19)مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصيبٍ (20)

(الله الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالمِيزَانَ). حيث كان الكلام في الآية السابقة حول محاجّتهم في الله تعالى ساق الحديث في هذه الآية عن فعل من أفعاله تعالى يرتبط بالبشر، وبه يمتاز الخبيث منهم عن الطيّب وهو إنزال الكتاب والشريعة. و«الباء» في قوله: (بِالحَقِّ) للمصاحبة، أي أنزل الكتاب مصاحباً للحقّ، والحقّ هو ما يطابق الواقع، فليس في هذا الكتاب كذب أو خطأ، ولا أمور وهمية أو تخيّلات، بل هو مطابق للواقع تماماً. والميزان معطوف على الكتاب، وه_و م_ا توزن به الأشياء. وقد ورد ذكره في سورة الحديد أيضاً، قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) .(1)

ويبدو من التعليل أنّ الميزان وسيلة لإقامة القسط في المجتمع، وهو الدين الذي يحدّد للناس حقوقهم الاجتماعية والحدود الشرعية. وهذه الأحكام ليست كلّها مذكورة في الكتاب، فليس عطفاً للجزء على الكلّ كما قيل، بل كثيراً ما تكون الروايات مستند الأحكام الاجتماعية والحدود الشرعية. وبذلك يتبيّن أن

ص: 53


1- الحديد (٥٧) ٢٥

وجه التسمية بالميزان أنّه مناط تحقيق العدالة في المجتمع. ويمكن أن يراد به مطلق الأحكام الشرعية، لأنّها ميزان الأعمال يوم القيامة، وعلى أساسها تحاسب الأعمال ليجزى الإنسان بها. ويؤيّد هذا الاحتمال الجملة التالية.

(وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)، أي ما يدريك أيّها الإنسان بزمان قيام الساعة التي تحاسب فيها على عملك، وينصب لك الميزان فلعلّه قریب و (مَا) للاستفهام ويفيد الإنكار، أي ليس هناك شيء يدريك عن وقت الساعة. وحكي عن ابن عباس أنّه قال: «كلّ ما في القرآن" ما أدراك" فقد أدراه، وكلّ ما فيه" ما يدريك" فقد طوي عنه».(1)

والفرق من جهة اللفظ أنّ نفي الدراية في الماضي لا ينافي الدراية في المستقبل، ولكنّ نفيها في المستقبل معناه أنّه ليس هناك شيء يدريك أبداً، ومن حيث التطبيق على الموارد أنّه تعالى عقّب قوله: (مَا أدْرَاكَ) في جميع موارده بما يبين حقيقة ذلك الأمر نوعاً مّا، كقوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ)(2) وقوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثمّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَملِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ الله)(3) وقوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ الْفِ شَهْرٍ)(4) وقوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُ رَقَبَةٍ * أو إِطْعَامُ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَة).(5)

ص: 54


1- الجامع لأحكام القرآن ١٩: ٢٤٩
2- المدثر (٧٤): 27 - 29
3- الانفطار (82) 17 - 19.
4- القدر (97) 2-3
5- البلد (90) ١٢ - ١٤.

ولم يبيّن حقيقة الأمر في تعقيب موارد قوله: (مَا يُدرِيكَ) وهي ثلاثة مواضع: اثنتان في تحديد وقت الساعة ولا يعلم به أحد، إحداهما هذا المورد، والأخرى قوله تعالى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً )،(1) وواحدة لا يخاطب فيه_ا النبي صلی الله علیه و آله وسلم، بل من كان يمنعه من التوجّه إلى الفقراء، قال تعالى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)(2) والتزكّي من الغيب، فلا يعلمه أحد.

وقد وقع الكلام في وجه قوله تعالى: (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) حيث لم يقل «قريبة» ليوافق التأنيث في الساعة. وذكرت فيه وجوه عديدة:

منها: تقدير مضاف للساعة، فيكون اسم لعلّ «إتيان الساعة» أو «حلول الساعة» ونحو ذلك.

ومنها: تأويل الساعة بعنوان مذكر كالبعث.

ومنها: أنّ القريب بمعنى ذات ،قرب كما يقال في اللابن والتامر، وغير ذلك من الوجوه البعيدة.

والأمر لا يختصّ بهذه الآية، قال تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(3) ومثله التوصيف بالبعد؛ قال تعالى: (وَازْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ).(4)

وأفضل ما قيل في هذا الباب ما حكي عن الفرّاء من أنّ القرب والبعد إن أتي بهما لبيان القرابة النسبية وانتفائها لوحظ فيهما التذكير والتأنيث، وإن أتي بهما لبيان القرب والبعد المكاني أو الزماني ولو تجوّزاً لم يلاحظ التذكير والتأنيث

ص: 55


1- الأحزاب (٣٣): ٦٣.
2- عبس 3 :(80) .٣
3- الأعراف (٧): ٥٦
4- ق (٥٠): ٣١

للفرق بين المعنيين، ولأن الصفة في الواقع صفة للمكان أو الزمان. وليس معناه تقدير كلمة مكان ليختلّ النظم والتركيب، بل بمعنى أن تذكير الصفة بلحاظ أنّها في الواقع للمكان ولو تجوّزاً.

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا ) وذلك حيث كانوا يقولون: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) ونحو ذلك . وهم يستعجلون بها استهزاءاً وتكذيباً. والمراد بهم كلّ من لا يؤمن بالآخرة ومنهم مشركو مكّة والجزيرة العربية، فإنّهم كانوا لا يؤمنون بها، كما ورد التعبير عنهم بذلك في موارد أخرى من الكتاب العزيز.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا). «الإشفاق» هو الخوف والمؤمنون إنّما يشفقون منها خوفاً من نتائج أعمالهم. وحقّ لهم أن يخافوا، فإنّ عذاب الله شديد، والإنسان لا يأمن من عمله، إذ لا يعلم ما يقبل منه وما يردّ، وهو يعلم من نفسه أنّه كثيراً ما أتى بما لا ينبغي، فهو لا يرجو إلا رحمة ربّه، ولا يعلم هل يستحقّها أم لا.

(وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحَقُّ ) لإيمانهم برسالة السماء، وبالكتب النازلة من عند ربّهم، فلا يبقى لهم شكّ في أن الآخرة حقّ. ويتبيّن منه أنّهم لم يشفقوا منها لمجرّد احتمال حدوثها، بل لعلمهم أنّها الحقّ والألف واللام في (الحَقّ) يدلّ على الحصر والمراد الحصر الإضافي.

(أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) المراء والمماراة: المجادلة، والأصل فيها المرية بمعنى الشك، ولعلّ الإطلاق من جهة أنّ المجادل يحاول إلقاء الشكّ في قلب الخصم والضلال البعيد بمعنى أن يضلّ الإنسان عن الطريق الصحيح، ويذهب بعيداً بحيث لا يؤمّل منه أن يهتدي، أو يصعب عليه

ص: 56

الرجوع إلى الجادّة. وإنّما صدق عليه هنا الضلال البعيد، لأنّه لم يكتف بالترديد والشكّ، بل قام يجادل المؤمنين فيها، وهو لا يعلم شيئاً عنها، فالشك وعدم العلم لا يمكن أن يكون منصّة للمجادلة والنقاش ، بل حتّى للإنكار، خصوصاً في ما لا يمكن إدراكه بالطرق الطبيعية والمجادلة ليست بمعنى البحث والنقاش لتكون

وسيلة للمعرفة، بل بمعنى محاولة إلقاء الشك من دون الاستناد إلى طريق علمي.

(الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ )، «اللطف» ل_ه معنيان: الرفق بالشيء، والثاني الدّقة وصنع الأشياء الدقيقة والوصول إلى الأهداف بخفية. ولعلّ من الأوّل قوله تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله وَالْحِكْمَةِ إِنَّ الله كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا)(1) ويحتمل أن يكون من الثاني، كما أنّ منه قوله تعالى حكاية عن سيّدنا يوسف علیه السلام:( يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَب حقاً... إِنَّ رَبِّ لَطِيفٌ مَا يَشَاءُ)،(2) وقوله تعالى في سورة لقمان: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أو فِي السَّمَوَاتِ أو فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ).(3)

وهنا يحتمل الأمران، فإنّه تعالى يرزق الناس رأفة بهم ورحمة عليهم، كما يرزقهم بطرق خفية ودقيقة. ويمكن إرادة المعنيين معاً بأن يكون المراد أنّه تعالى لرفقه بعباده يوصلهم إلى رزقهم ولو خفية وبطريق غير مباشر، فهناك رزق متوقّع يطلبه الإنسان بالطرق العادية المتعارفة ويصل إليه. وهناك من الرزق ما يصل إلى الإنسان من حيث لا يحتسب. ولكن الأنسب من جهة تعدّي اللطف بالباء إرادة الرفق بهم والتوصيف بالوصفين الكريمين: (الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) تعليل لما مرّ من

ص: 57


1- الأحزاب (33): ٣٤
2- يوسف (12) 100
3- لقمان (31) ١٦

التعليق بالمشيئة الإلهية فإنّه تعالى يقوى على ما يريد، ولا يمنعه شيء، وهو معنى العزّة والغلبة.

وتناسب هذه الآية مع سابقتها حيث كان الحديث عن الآخرة من جهة أنّ الرزق يشمل رزق الدنيا ورزق الآخرة، كما يشمل أيضاً الرزق المادي والمعنوي، بل الثاني هو الرزق الواقعي، لأنّه يتعلّق بالحياة الأبدية. وهذه الآية مقدّمة أيضاً للآية التالية، حيث إنّه تعالى يرزق كلّ صنف ما يناسبه.

(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْلِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)، «الحرث» قيل: هو الزرع، وقيل: إلقاء البذر في الأرض، :وقيل: إثارة الأرض للزرع، وقيل: العمل في الأرض زرعاً كان أو غرساً، وقيل: معناه مطلق الكسب والجمع ، وقيل غير ذلك. ولو كان المعنى الزرع ونحوه

فالمراد ما يحصل منه من ثمر ونحوه. وهذا استعارة لما يحصل من عمل الإنسان في الدنيا والآخرة، وتشبيه له بمن يحرث الأرض ليزرع ويحصد.

والعمل - مهما كان - تارة تقصد به الآخرة، وتحصيل رضا الله تعالى وثوابه وتارة تقصد به منافع الدنيا فحسب. فالأوّل: يريد حرث الآخرة، والله تعالى يبارك له فيه ويزيد في حرثه أضعافاً مضاعفة، بل إلى ما لا نهاية له، فإنّه يبلغ إلى مكان له فيها ما يشاء، فيكون الوصول إلى غاية ومقصود لا يحتاج إلا إرادته. والثاني: يريد حرث الدنيا فقط، وهو يصل إلى شيء منه، ولا يصل إلى غايته القصوى أبداً، لأنّ طمع الإنسان لا ينتهي إلى حدّ، فهو يصل نادراً إلى كثي_ر م_ن مآربه. والغالب منهم لا يصل إلا إلى مقدار ضئيل من مقاصده. وأمّا في الآخرة فلا نصيب له بتاتاً، وذلك لأنّه لم يقصد بعمله إلا الدنيا. وأمّا الذي عمل للآخرة

ص: 58

فإنه يحصل على نصيبه من الدنيا، وربّما يكون رزقه في الدنيا واسعاً ايضاً.

وهكذا يتبيّن أنّ الله تعالى كيف يلطف ببعض عباده، فيرزقه رزقاً واسعاً في الدنيا والآخرة. ويتبيّن من الآية أنّ المناط في القسمين هو القصد، فربّما كان الإنسان بكسبه وتجارته يقصد الآخرة، وربّما يقصد بعبادته الدنيا حتّى لو لم يكن مرائياً، فهناك من الناس من يعبد الله تعالى ولا يريد منه إلا أن يزيد في رزقه المادّي، أو يوصله إلى مآربه الدنيوية.

ص: 59

سورة الشورى (٢١ - ٢٦)

أمْ لَهُمْ شُرَكَلُوا شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّين مَا لَمْ يَأْذَنُ بِهِ اللَّهُ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(21) تَرَى الظَّلِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(22)ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ قُل لَّا أَسْتَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَفْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورُ(23)أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَ اللَّهُ تَختِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَنطِلَ وَتُحِقُ الحَقِّ بِكَلِمَتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(24)وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ، وَالْكَفِرُونَ هُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)

(أَمْ هُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا هُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الله ) ، «أم» منقطعة ففيها معنى «بل» للإضراب عن السياق السابق، وهمزة الاستفهام للاستنكار، فالآيات السابقة كانت تبيّن ما شرع الله تعالى لعباده من الدين، وما يترتّب على العمل به من نتائج. وهنا يضرب عنه وينتقل إلى شقّ آخر وهو السؤال عنهم: هل لهم شركاء شرعوا لهم ديناً غير ما شرّعه الله؟ والمراد بهم من يدّعون لهم الشركة في الربوبية، فهم بزعمهم شركاء الله تعالى، وإضافتهم إليهم بهذا الاعتبار. والمراد بالشركاء كلّ من يعتقدون فيه الشركة في الربوبية ومنها تشريع الأحكام وهذا السؤال للاستنكار، إذ لا يحقّ لأحد أن يشرّع قانوناً إلا بإذن الله تعالى، فإنّ الحكم ليس إلا له، وخصوصاً فيما إذا شرّع الله أمراً، فلا يجوز لأحد مهما كان أن يشرّع ما

ص: 60

يخالفه، فالمقصود من هذه الجملة الاستغراب من رفضهم لشريعة الله تعالى اذ ليس لها معادل، فمن لا يلتزم بمتابعة شرع الله بأيّ قانون يلتزم، مع أنّه لا يملك أحد حقّ التشريع ؟!

(وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). المعروف في التفاسير أنّ المراد بالكلمة إمهال الإنسان إلى يوم القيامة، وعدم التعجيل في عذابه، وأنّ المراد بالقضاء بينهم هو تنفيذ الحكم الجزائي عليهم في هذه الحياة. وقد ذكروا مثل ذلك في الآية 14 من هذه السورة، أي قوله تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). ولكن لو صحّ ما ذكروه هناك، فلا يصحّ هنا، لعدم مناسبته للتعبير عن الكلمة بكلمة الفصل. وقلنا في تفسير تلك الآية: إنّ المراد بالكلمة إرادته تعالى المتعلّقة بابتلاء الإنسان، وبقاء الأمر مبهماً إلى يوم القيامة، حيث تتبيّن الحقائق، وينكشف الغطاء، وهو المراد بالقضاء بينهم. وهنا نقول إنّ كلمة الفصل _ على الظاهر - هي ما تُظهر الحقّ يوم القيامة، وتفصل بين الحقّ والباطل، أي ولولا أنّ كلمة الفصل يجب أن تظهر في ذلك اليوم، لقضي بينهم في هذه النشأة، وتبيّن الحقّ من الباطل والضمير في قوله: (بَيْنَهُمْ) يعود إلى البشر.

(وَإِنَّ الظَّالِمينَ هُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وهذا هو الحكم الذي يفصل بين الحقّ والباطل يوم القيامة. والظلم - كما قلنا مراراً _ لا يختصّ بالعدوان على أحد، بل كلّ ما يصدر من الإنسان في غير موضعه يعدّ ظلماً. ومنه إطاعة الطاغوت وكلّ مشرّع بدون إذنه تعالى.

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ ما كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ). الخطاب في قوله: (تَرَى) لكلّ

ص: 61

مخاطب، فهو ترسيم لحالة الظالمين - الذين مرّ ذكرهم آنفاً - يوم القيامة، وهم ينتظرون ما سينزل بهم، وحالتهم حالة الإشفاق والحذر، والإشفاق: الخوف. وهو يقابل بيان حالة المؤمنين في آية سابقة: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِسْفِقُونَ مِنْهَا). فهم كانوا مشفقين في الدنيا وأفادهم ذلك حيث اتقوا ما يستلزم العذاب، وأمّا الظالمون فلم يشفقوا في الدنيا حين كان لهم مجال الحذر والتوقّي، وإنّما أشفقوا ممّا كسبوا، أي من عملهم بسبب العذاب المترتّب عليه حينما كان عملهم أو العذاب واقعاً بهم؛ والظاهر أنّ الوقوع ضُمّن معنى الإحاطة، فتعدّى بالباء، والمراد بالإحاطة قرب تحقّقه، إذ لا معنى للإشفاق بعد الوقوع والجملة حالية، أي تراهم حذرين من العذاب الذي اكتسبوه بعملهم حال كونه واقعاً ومحيطاً بهم ومصيبهم عن قريب، فلا فائدة في الإشفاق والحذر. وهذه الآية ممّا يدلّ بظاهره على تجسّم الأعمال؛ لأنّ الضمير في قوله: (وَهُوَ وَاقِعٌ) يعود إلى ما كسبوا وهو ظاهر في نفس العمل، ويمكن تأويله بالجزاء، فإن الإنسان يكسب الجزاء بعمله.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ هُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ). بعد بيان حال الظالمين وعاقبتهم يذكر حال المؤمنين الذين عملوا الصالحات أي ما يصلحهم لدخول الجنّة والتشرّف بكرامة الله تعالى ليكون حافزاً لعمل الخير بعد بيان ما هو وازع عن الظلم ومتابعة الطاغوت.

و«روضات الجنّات» مكان مميّز منها قيل: إنّ الروضة الأرض المخضرّة،وقيل: إنّها المكان الوسيع، وقيل: المكان المونق الحسن. والجنّة البستان كثير الشجر وملتفها بحيث يستر وجه الأرض، فالإضافة هنا بتقدير «من» أي في روضات من الجنّات والجمع باعتبار الأفراد، فكلّ منهم في روضة. ويظهر من

ص: 62

العبارة أنّه ثواب خاصّ بالذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلعلّه لا يشمل من لم يعمل الصالحات بل ارتكب السيئات، ثمّ تاب إلى الله تعالى وإن قبلت توبته. ويظهر اختصاص آخر أيضاً، وهو أنّهم لهم ما يشاءون، فلعلّ هذه أيضاً ميزة خاصّة وليس عامّاً لكلّ أهل الجنّة. وقد ورد هذا التعبير في موارد عديدة في شأن المتّقين ومن خشي الرحمن بالغيب. وغاية التنعم للإنسان أن يجد كلّ

ما يشاء.

وقوله: (عِندَ رَبِّهِم ) متعلّق بما تعلّق به (هم)، أي لهم عند ربّهم ما يشاءون. و معنى ذلك أنّه تعالى تعهّد لهم أن يهيّء لهم كلّ ما يشاءون، وهناك فرق بين أن تقول: لك ما تشاء وأن تقول: لك عندي ما تشاء. وقيل: هو خبر ثالث، فهم في روضات الجنّات ولهم ما يشاءون، وهم عند ربّهم، كما قال تعالى: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).(1)

(ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) إشارة إلى ما مرّ من الجزاء. و«الفضل» الزيادة. ويطلق على كلّ ما يمنح زيادة على مقدار الاستحقّاق. ولا شكّ في أنّ كلّ ما يعطيه الله تعالى أحداً فهو فضل؛ إذ لا يستحقّ أحد عليه شيئاً. ولكن توصيفه من قبل الله تعالى بكونه فضلاً كبيراً يدلّ على غاية العظمة.

(ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يعود السياق هنا ليؤكّد على قيمة هذا الامتياز الذي منحه الله تعالى بفضله الكبير لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات فأشار إليه باسم الإشارة الخاصّ بالبعيد، إيذاناً بعظمته وعلوّ مكانه. وذكر أنّه بشارة من الله تعالى لعباده في الدنيا، فتكون البشارة بذاتها ثواباً

ص: 63


1- القمر (٥٤) ٥٥

معجَلاً. والتعبير عنهم بالعباد مضافاً إلى الضمير العائد إليه تعالى، يفي_د ن_وع_اً م_ن التشريف والاختصاص. وقوله: (الَّذِي يُبَشِّرُ الله)، أي الذي يبشّر به الله ليعود إلى الموصول. ولعلّ في تكرار التوصيف بالإيمان والعمل الصالح إشارة إلى ما مرّ من كون هذا الثواب ميزة لهم في قبال من دخل الجنّة بالتوبة فحسب.

(قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجراً إِلا الْمُوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، «المودّة» المحبّة. والحبّ أعم مورداً من الودّ، تقول: أحبّ الصلاة ولا تقول أودّها.

و«القربى» مصدر بمعنى القرب، ولكن يستعمل في القرابة في النسب فقط، فقربى الإنسان أقرباؤه في النسب بتقدير ذوي القربى والضمير في قوله: (عَلَيهِ) يعود إلى القرآن أو إلى تبليغ الرسالة. و«في» للظرفية المجازية، أي إظهار المودّة بشأن ذوي القربي.

والظاهر من ذكر الأجر أنّ المراد استثناء أجر واحد للرسالة يطلبها الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأمر من الله تعالى، وهو التودد إلى قرباه. ولا شكّ في أنّ المراد ليس هو الحبّ في القلب، إذ لا أثر له لو صحّ الأمر به، بل المراد إعلان الحبّ والتودّد إليهم. وقد أكّد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم على ذلك في أكثر من موطن وكرّره كثيراً حتّى نقلته الرواة متواتراً، على الرغم من كثرة الدواعي السياسية لإخفائه.

وقد ورد في أحاديث الفريقين أنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم عيّنهم بقوله: «هم عليّ وفاطمة وأبناهما كما في «الكشّاف»(1) وغيره. والروايات في ذلك عن طرقنا كثيرة جدّاً، كما أنّ الروايات المطلقة في وجوب ولايتهم عن طرق القوم أيضاً متواترة قطعاً لا ينكرها إلا معاند ختم الله على قلبه.

ص: 64


1- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل :٤: ٢١٩ - ٢٢٠.

وفيما يلي نذكر بعض الأحاديث الخاصّة بهذه الآية تيّمناً:

روى البرقيّ في «المحاسن» بإسناده عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنّ الرجل يحبّ الرجل ويبغض ولده، فأبى الله عزّ وجلّ إلا أن يجعل حبّنا مفترضاً أخذه من أخذه وتركه من تركه واجباً، فقال: (قُل لا أسألُكُم عَليه أجراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُربى)(1)(2)

و عن سلام بن المستنير، قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: (قُ_ل لا أسألُكُم عَلَيه أجراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى)، فقال: «هي والله فريضة من الله على العباد لمحمد ال في أهل بيته».(3)

وعن حجّاج الخشّاب، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول لأبي جعفر الأحول: «ما يقول من عندكم في قول الله تبارك وتعالى: (قُل لا أسألُكُم عَلَيه أجراً إِلا المَوَدَّةَ في القُربَى؟ فقال: كان الحسن البصري يقول: في أقربائي من العرب، فقال أبو عبد الله علیه السلام:«لكنّي أقول لقريش الذين عندنا: هي لنا خاصّة، فيقولون: هي لنا ولكم عامّة، فأقول: خبّروني عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم إذا نزلت به شديدة من خصّ بها؟ أليس إيّانا خصّ بها، حين أراد أن يلا عن أهل نجران أخذ بيد عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهما السلام ،ويوم بدر قال لعليّ وحمزة وعبيدة بن الحارث؟! قال: فأبوا يقرّون لي أفلكم الحلو ولنا المرّ؟!».(4)

وعن عبد الله بن عجلان قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: (قل

ص: 65


1- الأنعام (٦): 90
2- المحاسن ١ : ١٤٤
3- نفس المصدر.
4- نفس المصدر: ١٤٤ - ١٤٥

لا أسألُكُم عَلَيهِ أجراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُربَى)؟ فقال: «هم الأئمة الذين لا يأكلون الصدقة ولا تحلّ لهم».(1)

وروى الكليني رحمه الله في «الكافي» بسنده عن زرارة، عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر علیه السلام في قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُربى)؟ قال: «هم

الأئمة علیهم السلام».(2)

وروى أيضاً بسنده عن إسماعيل بن عبد الخالق، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول لأبي جعفر الأحول وأنا أسمع: «أتيت البصرة؟» فقال: نعم، قال: «كيف رأي_ت مسارعة الناس إلى هذا الأمر ودخولهم فيه؟ قال: والله إنّهم لقليل ولقد فعلوا وإنّ ذلك لقليل، فقال:«عليك بالأحداث، فإنّهم أسرع إلى كلّ خير»، ثمّ قال: «ما يقول أهل البصرة في هذه الآية ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى؟ قلت: جعلت فداك إنّهم يقولون: إنّها لأقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كذبوا، إنّما نزلت فينا خاصّة، في أهل البيت، في عليّ وفاطمة والحسن والحسين أصحاب الكساء علیهم السلام».(3)

وروى الصدوق رحمه الله في «الأمالي» قصّة ورود سبايا أهل البيت إلى الشام إلى أن قال: «فأقيموا على درج المسجد حيث يقام السبايا، وفيهم عليّ بن الحسين علیهما السلام وهو يومئذ فتىّ شابّ، فأتاهم شيخ من أشياخ أهل الشام، فقال لهم: الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وقطع قرن الفتنة فلم يأل عن شتمهم، فلمّا انقضى كلامه، قال له علي بن الحسين علیهما السلام: «أما قرأت كتاب الله عزّ وجل؟ قال: نعم. قال: «أما قرأت

ص: 66


1- المحاسن ١: ١٤٥
2- الكافي ٢: ٤١٣.
3- الكافي : ٩٣

هذه الآية (قُل لا أسألُكُم عَلَيهِ أجراً إلا المَوَدَّة في القُربَى)؟ قال: بلى، قال: «فنحن أولئك». ثمّ قال: «أما قرأت: (وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ؟ قال: بلى. قال: «فنحن ه_م». قال: «فهل قرأت هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجسَ أَهْلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطْهِيرًا)؟ قال : بلى قال:«فنحن هم» فرفع الشامي يده إلى السماء، ثمّ قال: اللّهمّ إنّي أتوب إليك، ثلاث مرّات، اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمّد، ومن قتلة أهل بيت ،محمّد، لقد قرأت القرآن فما شعرت بهذا قبل اليوم.(1)

وروى الحاكم النيسابوري في «المستدرك» بسنده عن عمر بن عليّ، عن أبيه علي بن الحسين، قال: خطب الحسن بن عليّ الناس حين قتل عليّ علیه السلام، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «لقد قبض في هذه الليلة رجل لا يسبقه الأوّلون بعمل ولا يدركه الآخرون» .... ثمّ قال: «أيّها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن عليّ وأنا ابن النبيّ وأنا ابن الوصيّ... وأنا من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأنا من أهل البيت الذي افترض الله مودّتهم على كلّ مسلم» فقال تبارك وتعالى لتنبيه صلی الله علیه و آله وسلم:(قُلْ لا أَسْتَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفُ حَسَنَةٌ نَزِدْ لَهُ فيها حُسْناً،) فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت».(2)

ورواه الهيثمي باختلاف عن أبي الطفيل، ثمّ قال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وأبو يعلى باختصار، والبزّار بنحوه... ورواه أحمد باختصار كثير. وإسناد أحمد وبعض طرق البزّار والطبراني في الكبير حسان.(3)

ص: 67


1- الأمالي (الصدوق): 230
2- مستدرك الحاكم ٣ :١٧٢ و ١١: ١١٤.
3- مجمع الزوائد ٩ :١٤٦

وروى الطبراني أيضاً بسنده عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس :قال: لمّا نزلت: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)، قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: «عليّ وفاطمة وابناهما»رضي الله

عنهم.(1)

ثم إنّ القرآن الكريم ينقل عن الرسل - صلوات الله عليهم - أيضاً أنّهم خاطبوا أممهم بعدم المطالبة بأجر على الرسالة مطلقاً؛ قال تعالى حكاية عن مجموعة منهم: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ)(2) وهذا هو المتوقّع منهم. وهو أمر طبيعي، فالذي يبلّغ عن الله تعالى لا يطلب أجراً إلا منه. ومن الواضح أنّ الرسل علیهم السلام حتّى من تمكّن منهم من تأسيس دولة وتبعهم الناس كانوا يعيشون عيشة الفقراء، ويبتعدون عن مظاهر البذخ والتجمّل، كما يفعله الملوك والرؤساء. وملك سليمان علیه السلام إنّما كان معجزته من الله تعالى وكانت معيشته

الشخصية معيشة الزهّاد.

والرسل ما كانوا يطلبون لأنفسهم من الناس شيئاً. ولكنّهم كانوا يطالبون ___ بطبيعة الحال ___ من الذين آمنوا بهم أن ينفقوا أموالهم في سبيل الله. وبع_ض ذلك يجب أن يدفع إلى الرسول من حيث إنّه إمام الخلق ووليّ أمرهم، ليصرفه في المصالح العامّة. ولكنّ ذلك لا يعتبر أجراً، لأنّ الرسول لا ينتفع به لنفسه، بل يعود النفع فيه إلى الناس أنفسهم.

والله تعالی امر رسوله صلى الله عليه والله أيضاً بأن يعلن عدم مطالبته لأجر على الرسالة، قال

ص: 68


1- المعجم الكبير ١١ :٣٥١
2- الشعراء (26) 109 ، 127 ، ١٤٥، 1٦٤ ، 180

تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ)(1) ولم يقل له بصيغة النهي: «لا تسألهم أجراً»، بل أمره أن يخبرهم بصيغة النفي؛ لأنّه ما كان يطلب ذلك فعلاً،كما أخبر عنه صلی الله علیه و آله وسلم بقوله تعالى: (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرِ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)(2) ولكنّه هنا طالب بأجر للرسالة، وهو المودّة في القربى، إلا أنّه أوضح في موضع آخر أنّ هذا الأجر يعود نفعه إليهم، وليس أجراً له، فهو نظير ما يأخذه من الأموال لينفقها في المصالح العامّة، قال تعالى: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أجْرِيَ إِلا عَلَى الله)،(3) والوجه في رجوع النفع إلى الناس أنّ الله تعالى جعل ولا يتهم أساساً للوحدة ومانعاً من التفرّق، كما قالت الصدّيقة الطاهرة (عه) في خطبتها العظيمة بعد وفاة أبيها صلی الله علیه و آله وسلم: «فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك... وطاعتنا نظاماً الا للملّة وإمامتنا أماناً من الفرقة».(4)

وذلك لأنّ الوحدة المطلوبة في مقابل التفرّق هي الوحدة في الاعتصام بحبل الله تعالى وإلا فالوحدة في سبيل آخر ليست مطلوبة، بل الواقع أنّ الناس أقرب إلى الوحدة والاتفاق لولا الدين والالتزام به. وقد قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)(5) ويلاحظ أن دعوة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أحدثت الاختلاف في بادئ الأمر في المجتمع المكّي، ثمّ وحدتهم تحت راية الإسلام. ولذلك لم يأمر الله تعالى بالاتّحاد إلامع الاعتصام بحبله، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا

ص: 69


1- ص (٣٨): ٨٦
2- يوسف (١٢): ١٠٤.
3- سبأ (٣٤): ٤٧
4- الاحتجاج ١ :١٣٥
5- البقرة (2): 213

بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(1) وفي رواياتنا أنّ ولا يتهم علیه السلام هي حبل الله المتين، ويدلّ عليه حديث الثقلين أيضاً.

ولعل المراد بقوله تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً)(2) هو الإشارة إلى أنّ هناك أجراً طلبه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم منهم، ولكنّه ليس الصالحه، بل هو سبيل إلى الله تعالى عرّفهم به، فمن شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً، فعليه أن يتمسّك به، وهو المودّة في القربى وإن كان الأقرب في معنى الآية أنّ الاستثناء منقطع، ومعناه: ولكن من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً، فهذا هو السبيل. وبتعبير آخر لا أريد منكم أجراً وإنّما أردت أن آتيكم بسبيل إلى ربِّكم لمن شاء أن يتّخذ سبيلاً اليه.

ومهما كان المعنى في هذه الآية وفي آية سورة سبأ، فإنّ المراد بالآية التي نفسّرها واضح، وهو أنّ الرسالة لها أجر وإن كان الأجر لصالح الأمّة أيضاً، وهو المودّة في القربى، أي قربي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ولعلّ التعبير بالأجر بنوع من المسامحة والتجوّز؛ لعدم صدق الأجر عرفاً على ما لا ينتفع به صاحب العمل منفعة مادية.

ولكنّ القوم أبوا إلا تأويل الآية وصرفها عن ظاهرها، وأصرّوا على إسناد ذلك إلى ابن عباس، لدفع الاتّهام عن أنفسهم، باعتبار أنّه من القربى. روى البخاري، عن ابن عبّاس أنّه سئل عن قوله: (إلا المُوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، فقال سعيد بن جبیر: «قربی آل محمد صلی الله علیه و آله وسلم فقال ابن عباس: عجلت إنّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم لم يكن

ص: 70


1- آل عمران (3): 103
2- الفرقان (٢٥): ٥٧

بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة».(1)

وقد فُسّرت الآية بناءاً على هذا الحديث بأنّ المعنى: إلا أن تكفّوا أذاكم مراعاة للقرابة، وتسمعوا وتلينوا لما أهديكم إليه، فيكون هذا هو الأجر الذي أطلبه منكم. وبناءاً على هذا التفسير، فالخطاب للكفّار مع تقدير عدم قبولهم للرسالة. وهذا غير صحيح قطعاً، إذ لا معنى لطلب الأجر منهم على ذلك، فإنّ المفروض بناءاً على هذا أنّهم يعتبرون دعوى الرسالة جريمة يستحقّ عليها القتل، فهو يندّد بدينهم ودين آبائهم، ويسفّههم ويدعو إلى نبذ آلهتهم. فهل هذا موضع استحقاق الأجر حتّى يقول: إنّي لا أطلب عليه أجراً؟!

ولكن يمكن أن يقال: إنّ الأنبياء كلّهم كانوا يخاطبون بذلك أممهم قبل أن يؤمن بهم أحد منهم، كما يظهر من خطاباتهم المحكية في سورة الشعراء.

والجواب: أنّهم إنّما كانوا يقولون ذلك على تقدير الإيمان، أي إنّي لا أطلب أجراً منكم على رسالتي لو آمنتم بي. ولذلك وقع كلّ ذلك عقيب قولهم: (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)(2)، فالمعنى أنّكم إن أطعتموني وآمنتم بي، فإنّي لا أطلب أجراً لنفسي. وأين هذا من مخاطبة المشركين الذين يعادون النبيّ صلی الله علیه و آله وسلم بأنّي لا أطلب منكم أجراً، وإنّما أطلب أن لا تؤذوني من أجل القرابة ؟! فهذا كلام مضحك.

وربّما يُفسّر الكلام المنسوب إلى ابن عباس بأنّ المراد إلا أن تؤمنوا بي مودّة في القربى. وهذا أيضاً مهزلة أخرى، فالإيمان لا يكون على أساس المودّة والقرابة.

ص: 71


1- صحيح البخاري ٦ ٣٧، باب حم عسق.
2- الشعراء (2٦) 108 ، 110 ، 129 ، 131 ، ١٤٤، ١٥٠، ١٦٣ و ١٧٩.

وربّما يُفسّر بأنّ المراد لا أطلب أجراً إلا إذا دفعتم لي شيئاً لقرابتي منكم وهذا أفظع، فإنّه يطلب مالاً ولكن لا لأجر الرسالة، بل لقرابته منهم. حاشا الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أن يطلب ذلك! فهو لم يطلب منهم قبل الرسالة أيضاً.

وقال بعضهم: إنّ المعنى أنّه لا يطلب منهم أجراً ، إنّما تدفعه المودّة للقربي _ وقد كانت له قرابة بكلّ بطن من بطون قريش _ ليحاول هدايتهم بم_ا مع_ه م_ن الهدى، ويحقّق الخير لهم، إرضاءاً لتلك المودّة التي يحملها لهم، وهذا أجره وكفى. وهذا تنقيص من قدر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّه ما كان يدعوه شيء إلى الدعوة، وتحمّل هذه الأخطار والمشاقّ إلا المودّة في قرباه، وهم مشركون وأعداء ل_ه ولدينه وعقيدته. ثمّ إنّ هذا التفسير ينزل بهذه الدعوة إلى حضيض الديانة القوميّة الضيّقة، وكأنّه لم يبعث إلا إلى قريش حيث توجد له قرابة، مع أنّه صلی الله علیه و آله وسلم كان يدعو في مكّة كلّ من يلقاه.

وقيل في تفسير الآية الكريمة: إنّ المراد المودّة في أقربائكم. وهذا أغرب الوجوه، إذ لا معنى لاعتبار مودة الإنسان لأقربائه أجراً للرسالة التي هي تعب من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

وربّما يقال: إنّ مودّة الإنسان لقرابته حيث كانت من الأعمال الصالحة، فلا يبعد أن تكون أجراً للرسالة من هذه الجهة.

والجواب: أنّ مودّة القرابة ليست دائماً من الأعمال الصالحة، فليس كلّ قريب يصلح للمودّة، خصوصاً إذا كان كافراً، والمؤمنون كانوا في ذلك العهد أقرباء للكفّار، مع أنّه لاخصوصية له من بين الأعمال الصالحة ليكون أجراً للرسالة.

ص: 72

وأغرب منه القول بأنّ المراد حبّ التقرّب إلى الله تعالى. مع أنّ القربى لا تستعمل إلا في النسب على ما في بعض كتب اللغة. والمودّة ليست مرادفة للحبّ، بل تشتمل على نحو من الحنان والرعاية. ثمّ ما معنى هذا الاستثناء؟ هل حبّ التقرّب أجر الرسالة أم أنّ الاستثناء منقطع، فالمعنى: ولكن أريد منكم أن تحبّوا التقرّب إلى الله؟ وما علاقة هذه الجملة بما قبل الاستثناء؟! ثمّ إنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم يطلب منهم نفس التقرّب لا حبّه، مع أنّ المشركين أيضاً ما كان ينقصهم حبّ التقرّب، فكانوا يعتذرون عن عبادتهم للأصنام أنّهم ما يعبدونها إلا لتقرّبهم إلى الله زلفى. وعلى كلّ حال، فحمل هذا التعبير على هذا المعنى غريب جدّاً.

وبعضهم حاول تأويل القربي بحيث لا يختصّ بمن خصّهم بها الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وهم - كما مرّ- أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء وابناهما _ سلام الله عليهم أجمعين ... فقال بعضهم: إنّه كلّ آل عبد المطلب، أو كلّ بني هاشم، أو كلّ

قریش.

كلّ هذه المحاولات من أجل أن لا يعترفوا بفضل لأهل البيت علیهم السلام !!!

ولكنّ بعضهم اعتذر عن ذلك بأنّه لا يمكن حمل الآية على هذا المعنى _ وإن كان ظاهراً فيه _ لعدّة أمور:

الأوّل: أنّه ينافي مقام الرسالة، فإنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لا ينبغي أن يطلب أجراً على،رسالته لا لنفسه ولا لذويه.

والثاني: أنّه يوجب اتّهام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّه يقدّم أقاربه على عامّة الناس.

والثالث: أنّه ينافي قوله تعالى في سورة يوسف: (وَمَا تَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ

ص: 73

أجر)(1)حيث نفى الأجر بقول مطلق.

وقد تبيّن الجواب عن كلّ ذلك ممّا ذكرناه، فإنّ هذا الأجر ليس أجراً عائداً للرسول صلی الله علیه و آله وسلم، بل هو لصالح المجتمع. ولذلك لو قيل: إنّ الاستثناء منقطع لم يكن بعيداً. وأمّا تخصيص ذوي قربي الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بخصائص ماديّة، فهو أمر حاصل في الدين، وبأمر من ربّ العالمين، شاءت الأهواء أم أبت وناهيك في ذلك آية الخمس، وتحريم الزكاة عليهم، وتعليل ذلك من قبل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّها من أوساخ أيدي الناس.

هذا مضافاً إلى أنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لم يأل جهداً في إعلان وجوب المودّة، وحرمة الإيذاء بالنسبة لأمير المؤمنين وفاطمة والحسنين علیهم السلام، ولزوم احترام ذرِّيته صلی الله علیه و آله وسلم بصورة عامة.

وأمّا تقوّل الناس فهو أمر متوقّع. وقد قال الشانئون ما قالوا في هذا الشأن، وفي أحكام النساء الخاصّة بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم، حتّى إنّ عائشة قالت له صلی الله علیه و آله وسلم بعد نزول تلك الآيات: «ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك» والحديث مروي حتّى في الصحيحين.(2)

وفي بعض الروايات أنّه صلی الله علیه و آله وسلم أجابها بقوله: «إنّك إن أطعت الله سارع في هواك».(3)

ولكنّ الله تعالى أعلن الأحكام المذكورة بالرغم من كلّ تلك الأقاويل، وذلك بعد بسط الإسلام سيطرته على جزيرة العرب وسيأتي في الآية التالية الجواب عن التقوّل في هذا المورد بالذات.

ص: 74


1- يوسف (12): ١٠٤ .
2- صحيح البخاري ٦ :٢٤
3- بحار الأنوار :22 181؛ تفسير نور الثقلين ٤ :٢٩٣

ولم أجد في التفاسير وجه ارتباط هذه الجملة بما قبلها، فإنّ فيه خفاءاً، خصوصاً على ما ذكره القوم من المعنى، فإنّ ما قبلها وما بعدها مرتبط بالمؤمنين، فإن كانت هذه الجملة خطاباً للمشركين كان توسيطها بين هذه الجمل غير مناسب.

ولعلّ وجه ارتباطها - بناءاً على المعنى الظاهر الذي ذكرناه وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا - أنّه حيث بيّن مقام المؤمنين الذين عملوا الصالحات وأجرهم العظيم ، كان المتوقّع أن يكون له صلی الله علیه و آله وسلم أجراً في مقابل هذه البشارة العظيمة، فعقّبها فوراً بنفي الأجر ، إلا أنّه أراد حتّهم على العمل الصالح، فاستثنى المودّة في القربى الذي هو من أفضل الأعمال، بل هو أساس لبقاء الدين.

ولكنّه أيضاً ليس وجهاً تستريح إليه النفس، فلعلّ هذا أيضاً من الموارد التي جعلت الجملة في غير موضعها نظير قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَعْتَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا)(1) وقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(2) وقد ذكرنا الوجه في ذلك في تفسير سورة الأحزاب. ويلاحظ أنّ ما يوجب الإخفاء مشترك بين الموارد الثلاثة.

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةٌ نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا)، «الاقتراف»: الاكتساب. وأصله من القرف، أي تقشير الشجر من لحائه. و«القرف» بكسر القاف قشر كلّ شيء. وزيادة الحسنة حسناً من الله تعالى تنميتها، أو إظهارها بوجه أكمل وأجمل أو مضاعفة ثوابها، كما ورد في آيات كثيرة. والمراد بالحسنة كلّ عمل يصلح

ص: 75


1- المائدة (٥): ٣
2- الأحزاب (33): 33

للتقرّب به إلى الله تعالى واقتران الجملة بما قبلها يوحي بأنّ المراد التأكيد على مودّة أهل البيت علیهم السلام باعتبارها من أبرز مصاديق الحسنة.

(إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ ) تعليل لما سبق، فلكونه تعالى غفوراً يقبل العمل الناقص، ويكمله ويزيد فيه حتّى يكون صالحاً لتكامل الإنسان وإدراجه في الصالحين. والسرّ في ذلك أنّ عمل الناس مهما كان لا يخلو عن نقص في الأجزاء أو الشروط أو النية، أو ما يخطر على البال من عجب ورياء، وإن لم يكن بحدّ يخرجه عن التعبّد لله تعالى، ولولا غفرانه وقبوله للأعمال الناقصة لم ينج أحد إلا المعصومين علیهم السلام.

ولابدّ للمؤمن من أعمال صالحة تهيّئ له الأرضية الصالحة، ليتقرّب إلى الله تعالى ويحظى برضوانه. ولذلك ورد في الروايات أنّ الله تعالى أمر بالنوافل، وجعلها ضعف الفرائض، ليكمل بها ما ينقص من الفرائض، وهو لا يقبل من الصلاة _ كما في الحديث - إلا ما كان العبد فيه مقبلاً عليه تعالى. وبجبر النقص بالنوافل ربّما يحصل للمؤمن ما يجعله لائقاً للتقرّب إلى الله تعالى، وهو الهدف والغاية النهائية لخلق الإنسان.

ولكونه تعالى شكوراً يظهر أعمال عباده ويزيّنها، فإنّ الشكر هو إظهار ما يتّصف به المشكور من صفة حميدة، كما أنّ الكفر هو سترها وإنكارها.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا فَإِنْ يَشَا الله يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ)، «أم» منقطعة، أي بل أيقولون ،افترى ويمكن أن يكون منشأ هذا الاتهام هو ما ورد في الآية السابقة من الأمر بالمودّة في القربى والظاهر أنّ ضمير الفاعل يعود إلى مشركي مكّة.

ولكن ورد في بعض الروايات أنّ بعض الأنصار عرضوا على الرسول صلى الله عليه و اله و سلم

ص: 76

مالاً ليستعين به على حوائجه، فنزلت الآية الأولى، ثمّ إنّ بعضهم قال: نعرض عليه المال فيطلب منّا أن ندافع عن قرابات_ه بع_ده!!! فنزلت الآية الثانية.(1) ولكن مقتضى ذلك أن تكون هذه الآيات مدنية، كما قيل بذلك. وهو بعيد.

ومهما كان، فالجواب من الله تعالى أنّه إن شاء الله يختم عل_ى قلب_ك، ف_لا يمكنك أن تنطق بهذا الكلام وبهذه الآيات والسور ، فحيث لم يختم يتبيّن منه أنّه وحيّ من الله تعالى وعليه فمعنى الختم على القلب ،انغلاقه، فلا ينفتح للمعارف والعلوم ولا يتسنى له الإتيان بهذا البيان المعجز. وأساس هذا الاستدلال أنّ الله تعالى لا يُغلب على أمره، فإذا ادّعى أحد النبوّة لا يمكنه أن يظهر معجزاً إن لم يكن محقّاً، وإذا نطق بكتاب وادّعى أنّه من الله تعالى، تبيّن عليه الوضع إن كان كاذباً.

وليس المراد الاستدلال على كون الرسالة حقّاً بمجرّد أنّ الله تعالى لم يعاقبه، وأنّه لو كان مفترياً لعاقبه، فإنّ هذا الاستدلال سقيم ويشبه استدلال المشركين، كما قال تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ اشْرَكُوا لَوْ شَاءَ الله مَا المُتَرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)(2) وهناك كثير من المدّعين للنبوّة والإمامة لا ينزل عليهم العذاب من السماء، فالمراد بالاستدلال أنّه لو كان مفترياً ما أنزل الله عليه هذا البيان المعجز.

وللمفسّرين أقوال أخر أقواها ما قاله الزمخشري، وهو أنّ المعنى: إن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتّى تفتري عليه الكذب، فإنّه لا يجترئ الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم. وهذا الأسلوب مؤدّاه استبعاد الافتراء من مثله، وأنّه في البعد مثل الشرك بالله، والدخول في جملة المختوم

ص: 77


1- مجمع البيان ٩ - ٤٤:١٠
2- الأنعام (٨٤): ١٤٨.

على قلوبهم. ومثال هذا أن يخوّن بعض الأمناء، فيقول: لعلّ الله خذلني، لعلّ الله أعمى قلبي، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب، وإنّما يريد استبعاد أن يخوّن مثله، والتنبيه على أنّه ركب من تخوينه أمر عظيم.(1)

وما ذكره لا بأس به. ولكن ما مرّ ذكره أظهر.

(وَيَمْحُ الله الْبَاطِلَ وَيُحِقُ الحَقِّ بِكَلِمَاتِهِ). الجملة مستأنفة و (يَمْحُ) مرفوع اُسقط عنه الواو تبعاً للتلفّظ تخفيفاً، كما في قوله تعالى: (سَنَدْعُ الزَّبانِيَة)(2) وغيره. والظاهر أنّ الجارّ والمجرور متعلّق بالمحو والإحقاق ،معاً، أي أنّه تعالى بكلماته يمحي الباطل ويحقّ الحقّ والحمراد بالكلمات - على الظاهر- الوحي المنزل. ومعنى محو الباطل بالقرآن بيان بطلانه ويحصل ذلك بإحقاق الحقّ، أي إثباته، فالقرآن حيث يحمل معه الحقّ يبطل الباطل. والإتيان بفعل المضارع يدّل على الاستمرار، وأنّ ذلك سنة الله الجارية، فيمكن أن يكون المراد بهذه الجملة التأكيد على عدم إمكان الافتراء، وأنّه كيف يمكن أن تفتري على الله تعالى وهو الباطل ويحقّ الحق؟! والافتراء ،باطل فلا يبقى بل يمحوه الله تعالى بمعنى أنّه تعالى ينزّل ما يظهر به بطلانه. ويمكن أن يكون المراد بها وعد النبی صلی الله علیه و آله وسلم بأنّ الله تعالى سيبطل أباطيلهم، ويحقّ ما أتيت به أي يثبته فلا تهتمّ باتّهاماتهم وأقاويلهم.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور) أي ما في الصدور من نوايا وأسرار، فلعلّ المراد أنّ_ه يمحي الباطل حتّى لو كان في السرّ، فلا يخفى عليه ما في قلب النبيّ صلی الله علیه و آله وسلم و لا فوته شيء، فيكون تأكيداً على أنّه لا يبقي من الباطل شيئاً. وأنّ ما يقوله

ص: 78


1- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤: ٢٢١ - ٢٢٢.
2- العلق .(٩٦): .18

النبي صلی الله علیه و آله وسلم هو الحق الناصع؛ إذ لو كان باطلاً مفترى لمحقه الله تعالى.

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ). حيث تقدّم في الآيات السابقة الإنذار بالعذاب الشديد ناسب تلطيف الجِوّ بالترغيب إلى التوبة، والتنبيه على أنّ بابها مفتوح دائماً ولجميع الناس.

وفي (الكشاف» أنّ القبول إذا تعدّى ب_ «عن» كان معناه الإبانة، فكأنّه تعالى أخذ التوبة من عباده وتسلّمها.(1) وهذا تأكيد على قبول التوبة، فكأنّها هدية أهدى إليه تعالى وهو يتقبّلها من عباده المذنبين وهذا غاية اللطف والعناية.

و«التوبة» في الأصل الرجوع والمراد بها في مصطلح القرآن الرجوع إلى الله ،تعالى، سواءكان من معصية لأوامره تعالى ونواهيه، أو كان من توجّه إلى غيره تعالى، وانشغال باُمور الدنيا وإن كانت مباحة. ولذلك يوصف الرسل صلی الله علیه و آله وسلم بالتوّابين وهو مبالغة في الرجوع إلى الله تعالى مع أنّهم معصومون، وإنّما وصفوا بذلك لكثرة رجوعهم إليه تعالى في كلّ لحظة يغفلون عنه وعن ذكره ويشتغلون بغيره وإن كان ذلك مباحاً.

والتوبة عن الذنب تتحقّق بالندم على الفعل مع العزم على الترك. ولا تتوقّف على الاستغفار، وإن كانت تكمل به، بل لا يفيد الاستغفار في التوبة إن لم يتحقّق الندم. ويشترط في قبولها أن يصلح ما أفسده، فإن كان عليه قضاء أو كفارة أو دية أو قصاص أو وجوب استرضاء وتحلّل أو ضمان لمال أو وجوب إعادة لما غصب ونحو ذلك من التبعات وجب العمل بها، وإلا لم تقبّل التوبة.

ثمّ إنّ قبول التوبة هنا وإن كان مطلقاً، إلا أنّ له شروطاً ربّما لا نعلم كلّها،

ص: 79


1- راجع: الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤ :٢٢٢

فمن تلك الشروط ما صرّح به في الكتاب العزيز؛ كقوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أعْتَدْنَا هُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).(1)

والمراد بالجهالة ليس هو الجهل بالحكم، بل السفاهة وعدم التعقّل. ويقابله العناد والكبر ونحوهما، كما كان يصدر من المشركين والمنافقين في عهد نزول الآية، وكما هو الحال في كثير من المتعصّبين الذين يرفضون الانصياع للحقّ تعصّباً لمذهب الآباء والأجداد، فإنّ هؤلاء يختم على قلوبهم فلا يتوبون. والظاهر أنّ المراد من التوبة من قريب ما يقابل ما ورد في الآية التالية من تأخير التوبة إلى حضور الموت. وهذا شرط التوبة الذي تعهد الله تعالى بقبولها، فلا يمتنع أن حين يقبل توبة أحد بغير هذه الشروط لسبب آخر من شفاعة ونحوها.

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى الله تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)(2) وهذه الآية تدلّ على أنّ التوبة المقبولة هي التوبة النصوح، أي الخالص. ولعلّ المراد هو صدق النيّة، فإنّ من الناس من يتوب إلى الله تعالى وهو غير عازم على ترك المعصية، فهو غير صادق توبته بل ربّما تكون توبته معصية، كما لو كان عازماً على الإتيان بعد ذلك، فقد ورد في الحديث أنّ هذا يعد استهزاءاً، وهو ذنب ربّما يكون أقبح من ذنبه الذي يتوب منه.

روى الكليني رحمه الله بسنده عن جابر، عن أبي جعفر علیه السلام قال: سمعته يقول: «التائب

ص: 80


1- النساء (2): 17 - 18
2- التحريم (٦٦): ٨

من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ».(1)

وروى عن ياسر ، عن الرضا علیه السلام قال: «مثل الاستغفار مثل ورق على شجرة تحرك فيتناثر، والمستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربّه».(2)

وروى الصدوق رحمه الله فى «الخصال» حديثاً طويلاً فيه وصايا من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لأمير المؤمنين علیه السلام ومنها: «ولا تصر على الذنوب مع الاستغفار، فتكون كالمستهزئ بالله وآياته ورسله».(3)

ومهما كان، فليس للإنسان أن يتحتّم على الله تعالى بقبول توبته، وإنّما يرجو بذلك القبول، فيبقى بين الخوف والرجاء، حتّى في التوبة النصوح، أي الخالص،كما هو ظاهر قوله تعالى في الآية المذكورة: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)، فليس هذا أمراً محتوماً.

(وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَاتِ) . يبدو من العطف أنّ العفو عن السيّئات مغاير لقبول التوبة، فلا يتوقّف عليها، وربّما يعفو الله تعالى عنها بدون التوبة أيضاً، كما ورد في قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)(4)، وهذا العفو ليس لكلّ أحد يجتنب الكبائر، إذ قد يكون اجتنابه خوفاً من الفضيحة أو الجزاء الدنيوي أو لأي سبب آخر، بل هو جزاء لمن يجتنب الكبائر تورّعاً وتقرّباً إلى الله تعالى، وهو بنفسه من أعظم القربات، بل ربّما يكون أكبر وأعظم من كثير من العبادات. وبقرينة المقابلة يعلم أنّ

ص: 81


1- الكافي ٢: ١٠/٤٣٥
2- الكافي ٢ : ٣/٥٠٤
3- الخصال ٥٤٣
4- النساء (٤): ٣١.

المراد بالسيّئات هنا ما لا يعتبر من كبائر المعاصي.

وممّا يدلّ على أن الله تعالى قد يعفو عن السيّئة من دون توبة قوله تعالى: (إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ مَنْ يَشَاءُ)(1) ولا شكّ في أنّ المراد المغفرة بدون التوبة، إذ التوبة توجب الغفران أو تقتضيه على الأقلّ حتّى عن الشركّ أيضاً، فالسبب هنا أمر آخر، فقد يكون عملاً صالحاً أو شفاعة مع عمل يسير.

(وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، أي لا يتوهم أحد منكم أنّ ما يفعله يخفى على الله تعالى، أو أنّ خلوص التوبة يخفى عليه، فهو يعلم بما تفعلون وبحدوده وبم_ا يصاحبه من نيّة.

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) عطف على الجملة السابقة. فقوله: (يَسْتَجِيبُ) عطف على (يَقبَلُ)، أي وهو الذي يستجيب الذين آمنوا «والاستجابة» تتعدّى بنفسها كما هنا، وتتعدّى باللام كقوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ).(2) وقيل: (الَّذِينَ آمَنُوا) فاعل (يَسْتَجِيبُ)، ولكنّه لا يناسب السياق.

و«يستجيب» بمعنى يجيب، والمعنى أنّه تعالى يجيب دعاء الذين آمنوا ويلبّي دعوتهم، فهذا هو بنفسه غاية المطلوب، ولا شيء أغلى للمؤمن من أن يلبّي الله دعوته ويسمع له، ولكنّه تعالى لا يكتفي بذلك، بل يزيدهم من فضله ويعطيهم من نعمه في الدنيا والآخرة.

(وَالْكَافِرُونَ هُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) ويكفيهم عذاباً أنّهم ابتعدوا عن ربّهم، فلم يشملهم بعنايته الخاصّة التي يستجيب بها للمؤمنين ويزيدهم من فضله.

ص: 82


1- النساء (٤): ٤٨ و ١١٦.
2- آل عمران (3): 195

سورة الشورى (27 - 31)

* وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ، لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنزِلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ(27) وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَتَطُوا وَيَشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ ءَايَتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِي وَلَا نَصِيرٍ(31)

(وَلَوْ بَسَط الله الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ). شروع في ذكر آيات الله تعالى الدالّة على قدرته اللامتناهية وحكمته وتدبيره للكون. و«الرزق» العطاء، والمراد به هنا ما يحتاجه الإنسان في معيشته في الحياة الدنيا . و«بسطه) توسعته. و«البغي» هو الطغيان وطلب الإنسان ما ليس ل_ه والاعتداء على الآخرين.

وقوله : (يُنَزِّلُ بِقَدَر)، أي بتقدير ومحاسبة. ومعنى ذلك أنّ كلّ إنسان يحصل على نتيجة عمله حسب قانون الطبيعة والسنّة الإلهية. والتعبير بالتنزيل باعتبار أنّ كلّ حادث إنّما يتحقّق بإذنه تعالى، وليس هناك تنزيل من علوّ، كما هو واضح.

والتعليق بالمشيئة ممّا لا بدّ منه في كلّ أمر يستند إلى عوامل طبيعية أو غيبية لئلا يتوهّم أنّ الاُمور تجري في الكون حسب نظام الطبيعة أو ماوراءها من دون تدبير، بل كلّ حركة وسكون طبيعي أو غير طبيعي مستند إلى إرادته تعالى وتدبيره، فالله ليس صانعاً للكون، كما يصنع الإنسان مصنوعاته، فتبقى وتستمرّ

ص: 83

على حركته حتّى بعد فنائه، لأنّ الإنسان لا يصنع شيئاً من عدم، وإنّما يجمع بين عاملين أو أكثر في الطبيعة فينتج من الجمع شيء آخر، والله تعالى خلق الكون من لا شيء، بل بإرادته فقط، فكلّ أجزاء الكون منتسبة في كينونتها _ لا في حدوثها فحسب - إلى إرادته تعالى ومتعلّقة بها، لا كيان لها نهائياً من دون إرادته

تعالى.

والجملة الأخيرة تعليل لما سبق، وتحديد للقدر الذي على أساسه ينزل الرزق، فهو يتحدّد بمقتضى عوامل طبيعية وغيبية لا يعلمها ولا يعلم مقتضياتها إلا الله تعالى، وهو خبير بشؤون عباده وما يصلحها ويفسدها، وبصير بحاجاتهم وحالاتهم. و«الخبير» يستعمل عادة في العلم بالأمور الدقيقة، و«البصير» في

الأمور المحسوسة.

وفي المراد من الآية احتمالان:

الأوّل: أنّ الله تعالى لم يبسط أسباب الرزق في الأرض، بل جعلها محدودة بمقتضى قانون الطبيعة. ولو غيّر قانون الطبيعة وبسط أسباب الرزق كلّ البسط بحيث ينال الإنسان كلّ مبتغاه في الحياة الدنيا لبغوا وطغوا ولم يعبدوا الله تعالى، فمن حكمته، بل ومن رحمته أيضاً لم ينزل الرزق على الأرض إلا بقدر يناسب الحياة الدنيا، ويتمكّن الإنسان من الاستمرار في الحياة، من دون أن يصيبه الطغيان، ووعده بالرزق التامّ في الجنّة إن اتّبع هداياته.

الثاني: أنّه تعالى لو بسط الرزق لأيّ إنسان ضمن قانون الطبيعة، لبغى في الأرض وطغى، كما قال تعالى:(كَلا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(1)، فهذا

ص: 84


1- العلق (٩٦) : ٦-٧

قانون عام والله تعالى يلطف بعباده، فلا يبسط أسباب الرزق لهم لئلا يصيبهم الطغيان والبغي.

ولكن هناك من البشر أناس بسط الله لهم الرزق، وهم فعلاً يطغون ويعتدون إلا القليل منهم والسبب في ذلك أنّ الله تعالى أراد استدراجهم من حيث لا يعلمون أو أراد امتحانهم وابتلاءهم، أو أراد أن يعذّبهم في الدنيا بالمال وإن يستحقّوا بطغيانهم أشدّ العذاب في الآخرة، كما قال تعالى: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أولادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبْهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)(1). وقال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهَا نُمْلِ هُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا تُعيل همْ لِيَزْدَادُوا إِنَّمَا وَهُمْ نُمْلِي عَذَابٌ مُهِينٌ).(2)

والاحتمال الأوّل أظهر .

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْتَهُ) التعبير بقوله: (وَهُوَ الَّذِي) يدلّ على الحصر وأنّ هذا من رحمته تعالى ومن الرزق الذي ينزّله بقدر، كما في الآية السابقة والغرض منه التركيز على الفاعل وتنبيه المشركين على خطائهم حيث كانوا يسندون المطر إلى الكواكب ويقولون: «مطرنا بنوء كذا..»، بل تنبيه كلّ من يسند الأمور الطبيعية إلى عواملها، من دون أن يذكر الله، مع أنّه تعالى هو المؤثّر في الكون وحده، كما بيّناه آنفاً.

و«الغيث»: المطر. وقيل: يختصّ بما إذا كان نافعاً؛ لأنّه مأخوذ من الإغاثة، فلا ينطبق على المطر الذي يضرّ بالزرع أو بسائر شؤون الحياة، وكذا ما لا يضرّ منه

ص: 85


1- التوبة (٩): ٥٥
2- آل عمران (3): 178

ولا ينفع. وقيل: يختصّ بما إذا كان بعد الجدب، فإنّ الناس يستغيثون ب_ه تعالى فيغيثهم به.

و«القنوط»: اليأس، والمراد به هنا اليأس الحاصل من تتابع سنين الجدب. ولعلّ المراد بنشر الرحمة نفس المطر حيث ينتشر في بقاع مختلفة أو ما يحصل من النفع بعد سقوط المطر من وفور الماء للسقي والزرع وتلطيف الجوّ وغير ذلك.

(وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)، أي هو الذي يتولّى شؤونهم، وهو محمود ف_ي ك_لّ م_ا يفعل في تولّي شؤونهم، حتّى لو كان بحسب الظاهر موجباً لليأس والقنوط كتأخير الغيث، لأنّه لا يفعل ذلك إلا لحكمة. ومن هنا يتبيّن أنّ الوصفين معاً يعتبران وصفاً واحداً في هذا المجال.

(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ). في هذه الجملة احتمالان:

الاحتمال الأوّل: ما فهمه المفسّرون من أنّ المراد كون السماوات والمجرّات بما فيها من النجوم والكواكب والمذنّبات على كثرتها الهائلة وما يحكمها من النظام الدقيق وما بينها من البعد الشاسع، وارتباط بعضها ببعض وعدم تصادمها، وهي تسبح في هذا الفضاء العظيم من آيات الله تعالى، وكذلك الأرض بما فيها من نعم ينتفع بها الإنسان، ومنها اختلاف الليل والنهار والفصول، وبما فيها من الجبال والبحار والأنهار والغابات والبراري وما تشتمل عليه من العجائب من آياته تعالى، فحسن التدبير ووحدة النظام الحاكم على كلّ أجزاء الكون من المجرّات العظيمة إلى جزئيات المادة وذرّاتها دليل واضح على تحكّم الإرادة الإلهية، وأنّ كلّ شيء تحت قدرته وسلطانه تعالى.

الاحتمال الثاني: - ولعلّه الأقوى - أنّ المراد أصل تكوين السماوات والأرض و ابتداعهما من العدم، لا إيجاد الجزئيات التي تشتملان عليها، فهناك فرق في

ص: 86

التعبير عن الآيات بذكر أعيانها، كقوله تعالى: (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا)، وبين هذا التعبير، فلعلّ المراد أنّ نفس الخلق وهو الإحداث من العدم من آياته تعالى، بل ه_و م_ن أكبر الآيات، كما قال تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ)(1) والمراد ابتداع الكون وخلقه من العدم، حيث لم يخلق الكون من شيء وكلّ ما يفرض مادة أوّلية له ينتقل الكلام إليه ولا بدّ من الوصول إلى أمر لم يسبق له وجود ولم يوجد إلا بمحض إرادته تعالى كما قال: (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّها يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(2) وهو معنى الفطر أيضاً، كما مرّ في قوله تعالى:

(فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) الآية ١١ من هذه السورة.

وبناءاً على ذلك، فيمكن أن يكون المراد بالسماوات والأرض هنا الكون المادي فحسب، كما يمكن أن يكون المراد الكون بكامله، أي ما سوى الله تعالى فيشمل ماوراء الطبيعة وإن لم يشعر به الإنسان، فإنّ المفروض أنّ الآية خلق الكون إجمالاً لا نفس الجزئيات، فيمكن أن يكون المراد خلق ما سوى الله، ويمكن إرادة خلق عالم الطبيعة فحسب.

وهذه الآيات ونظائرها تدلّ على أنّ العالم حادث وأنّ الله تعالى كان ولم يكن معه شيء، كما ينسب إلى الحديث، وقد قال أمير المؤمنين علیه السلام : «وَإِنَّ الله سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لا شَيْءَ مَعَهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا بِلا وَقْتٍ وَلا مَكَانٍ وَلا حِينٍ وَلا زَمَانٍ عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الأَجَالُ وَالأوْقَاتُ وَزَالَتِ السِّنُونَ وَالسَّاعَاتُ فَلا شَيْء إِلا الله الواحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَميع الأمور».(3) والمراد أنّ

ص: 87


1- غافر (٤٠): ٥٧
2- البقرة (2): 117
3- نهج البلاغة، الخطبة: ١٨٦.

الأوقات والسنين والساعات والمكان والزمان تتحقّق نتيجة لتحقّق الطبيعة؛ فقبل تكوّنها وبعد فنائها لا يوجد زمان ولا مكان.

وروى الكليني بسند صحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال سمعته يقول: «كان الله عزّ وجلّ ولا شيء غيره ولم يزل عالماً بما يكون فعلمه به قبل کونه کعلمه به بعد کونه». (1)

وروى الصدوق في مكاتبة لعبد الرحيم القصير عن الإمام الصادق علیه السلام حيث قال في الجواب: «كان الله عزّ وجلّ ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول». (2)

وروى الكليني والصدوق عن أبي الحسن الرضا علیه السلام أنّه قال: «لا شيء قبل الله ولا شيء مع الله في بقائه، وبطل قول من زعم أنّه كان قبله أو كان معه شيء، وذلك أنّه لو كان معه شيء في بقائه لم يجز أن يكون خالقاً له؛ لأنّه لم يزل معه، فكيف يكون خالقاً لمن لم يزل معه». (3)

وهناك رأي في الفلسفة الإلهية يقول بأنّ العالم قديم، وذلك لأنّ حاجة العالم إلى العلة بسبب إمكانه لا حدوثه، وقال بعضهم في إثبات قدم العالم عن طريق العقل: «إنّ قدرته تعالى هي مبدئيته للإيجاد، وعلّيته لما سواه، وهي عين الذات المتعالية، ولازم ذلك دوام الفيض واستمرار الرحمة وعدم انقطاع العطية، ولا يلزم من ذلك دوام عالم الطبيعة».(4)

وهذا _ مع أنّه مردود بما مرّ من الآيات والروايات وغيرها وهي كثيرة __ غير

ص: 88


1- الكافي ١: ١٠٧
2- التوحيد: 227
3- الكافي :1: 121؛ التوحيد .188. والغريب أنّ الكليني رواه مرسلاً ورواه الصدوق عنه مسنداً.
4- آخر فصل من نهاية الحكمة .

صحيح في نفسه؛ أمّا استمرار الرحمة وعدم انقطاع العطية فهما من صفات الفعل وينتزعان من عنايته تعالى بما خلق ولا رحمة ولا عطية قبل الخلق ليستدلّ بهما على لزوم الخلق، وأمّا دوام الفيض فلا أثر له في الآثار. وما اشتهر من توصيفه تعالى بالفيّاض لا أساس له ولا يصحّ توصيفه تعالى ب_ه ___ بناءاً على توقيفية الأسماء والصفات - إذ لم يرد في الكتاب والسنّة، مع أنّ معناه في أصل اللغة أيضاً لا يناسب مقام الخالق المتعال ؛ لأنّه بمعنى الإناء الذي يمتلئ فيفيض ويجري منه الماء، وهذا التعبير يوهم أنّ الوجود يسري منه تعالى إلى الخلق بهذه الطريقة، وهذا باطل لا يقول به مؤمن، لأنّه تعالى خالق مختار مريد، ولا يتولّد منه شيء : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)(1)وقد استعمل هذا اللفظ كثير من الأعلام غفل_ة ع_ن معناه الأصلي وأرادوا به كثرة نعمه تعالى، فإنّ الفيضان يستعمل بمعنى الكثرة مجازاً حتّى أنّ بعضهم صرّح بأنّه من أسمائه تعالى وهو خطأ فادح.

(وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ ) ، «الدابة» من الدَبّ بمعنى الحركة الخفيفة، قال في «العين)»: «دَبّ القوم يدبّون دبيباً إلى العدوّ، أي مشوا على هيئتهم ولم يسرعوا ثمّ قال: «وكلّ شيء مما خلق الله يسمّى دابة، والاسم العامّ الدابة لما يركب» ولعلّه يقصد بقوله: «كل شيء مما خلق الله»، أي ممّا يتحرّك. ولذلك يصحّ إطلاق الدابة على كلّ حيوان وعلى الإنسان أيضاً. والتأمّل في الحياة التي تدبّ في الأحياء بأمر إلهي يكشف عن عمق الحكمة والتدبير الحاكمين على الخلق. والحياة من أسرار الكون التي لم تكتشف حتّى الآن.

والكلام هنا في أنّ الضمير في قوله تعالى: (فِيهمَا) يعود إلى السماوات

ص: 89


1- الإخلاص (112): 3

والأرض، و«البثّ»: النشر، فما هو المراد بالدوابّ المنتشرة في السماوات؟

قيل: المراد بها الطير، فهي تدبّ على الأرض وتطير في السماء، كما قال تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ).(1) وهو بعيد؛ لأنّ المراد بالسماوات في هذه الآية إمّا الأجرام الفلكية أو العوالم الغيبية، ويبع_د ج_دّاً إرادة ما يشمل الغلاف الجويّ المحيط بالأرض وإن صحّ التعبير عنه بالسماء مفرداً.

وقيل: المراد بثّ الدوابّ في مجموع السماوات والأرض وإن كان البثّ في الواقع منحصراً في أحدهما وقالوا: إنّ ذلك نظير قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْهُما اللُّؤْلُؤُ وَالمُرْجَانُ)(2)، فإنّ الضمير يعود إلى البحرين الحلو والمالح، مع أنّ اللؤلؤ والمرجان في المالح فقط. ومن هذا القبيل أيضاً قوله تعالى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا)(3) فإنّ الضمير يعود إلى السماوات مع أنّ القمر في واحدة منها.

ولكنّ الظاهر أنّ هناك فرقاً بين الموردين فالقول بأنّ القمر في السماوات إنّما يصحّ باعتبار أنّه في مجموعة السماوات، كما تقول: «زيد في البلد وهو في دار منه، وأمّا في البحرين فإنّه لا موجب لضمّ ما لا يستخرج منه اللؤلؤ إلى ما يستخرج منه وليست هنا مجموعة يسمّى البحران، بل هما أمران مختلفان، ومورد الكلام أيضاً من هذا القبيل، فالضمير في قوله: (فيهِمَا)) لا يعود إلى مجموعة مركبة من السماوات والأرض ، كما في قوله تعالى: (فِيهِنَّ). وسيأتي الكلام حول وجود اللؤلؤ والمرجان في المياه العذبة في تفسير سورة الرحمن إن شاء الله.

ص: 90


1- النحل (١٦): 79
2- الرحمن (٥٥): ٢٢
3- نوح (٧١): ١٦

وقيل: إنّ العرب إذا ذكروا أمرين وتعلّق شيء بأحدهما نسبوه إليهم_ا وم_ن ذلك قوله تعالى: (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُم يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي)(1)؛ فإنّ الرسل كلّهم من البشر.

ولم تثبت نسبة ما ذكر إلى العرب ولو صحّت، فالظاهر أنّه نوع من التسامح، وفي الآية المذكورة توجيه آخر لا يتوقّف على ما ذكر، وه_و ش_م_ول الرسل لكلّ من يأتي بأخبار رسل السماء وإن لم يكن هو بنفسه مرسلاً من قبل الله تعالى. ومن هذا القبيل من ورد ذكرهم في قوله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنَّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلى قَوْمِهِمْ

مُنْذِرِينَ).(2)

وقيل: إنّ المراد بها الملائكة. وردّه العلامة الطباطبائي رحمه الله(3) وغيره بعدم تعارف إطلاق الدابّة عليهم. وهو كذلك في التعبير المتعارف إلا أنّ القرآن لا يحمل على ذلك، فلو صحّ التعبير حسب اللغة، فلا مانع من حمله على هذا المعنى. ويبدو من عبارة «العين» التي نقلناها صدق الدابة على كلّ ما خلق الله تعالى ممّا يتحرّك، بل يعبّر في اللغة عن كلّ ما يسري سرياناً غير محسوس بالدبّ، فيق_ال - مثلاً - دبّ الخوف في نفسي ودبّ السقم في الجسم، فلا مانع من التعبير عن حركة الملائكة بالدبّ. ولعلّ إطلاق الحركة أيضاً على نشاطهم غير مطابق للواقع بدقّة إلا أنّه تعبير أرضي عن أرضي عن ذلك النشاط السماوي المجهول. ويمكن أن تكون في السماوات كواكب يعيش عليها أحياء والدابّة تصدق

ص: 91


1- الأنعام (٦):130
2- الأحقاف (٤٦): ٢٩
3- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 58 .

على كلّ متحرّك حيّ وإن كان غاية في الصغر. وهذا ما لم يستبعده العلم الحديث. والله العالم.

وقد يقال بأنّه لا يمكن تفسير الآية بالملائكة ولا بالموجودات الحيّة في الكواكب؛ لأنّها لا تعتبر من آيات الله تعالى، لأنّ الإنسان لا يشعر بها، فكيف تكون آية له؟!

ويمكن دفع الإشكال بما ذكرناه من أنّ المقصود بالآية هنا الإيجاد من العدم، وهذا يعرفه الإنسان إجمالاً وإن لم يعرف خصوصية الأشياء والدوابّ.

(وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إذا يَشَاءُ قَدِيرٌ)، «الجمع» في مقابل البثّ والنشر. و«إذا» ظرفية وهي قليلاً ما ترد على المضارع كما هنا. والمراد على ما يبدو أنّ هذا البثّ والتفرّق في كلّ أجزاء الكون لا يمنع من جمعهم متى شاء الله تعالى. وعظمة هذا الأمر تظهر إذا لاحظت هذه الكرة الأرضية وما انتشر فيها من دوابّ وحيوان في البرّ والبحر والجبال والجوّ وتحت أعماق الأرض من شتّى أنواع الحيوان كبيرها وصغيرها حتّى ما لا ترى بالعين المجرّدة، فإنّ التمكّن من جمعها بمجرّد الإرادة يدلّ على هيمنة القدرة والتدبير على كلّ شيء من دون تحديد.

وقيل: إنّ الجمع بمعنى الحشر يوم القيامة. ولكنّ الآية لا تدلّ على تحقّق الجمع، بل على إمكانه إذا شاء الله تعالى.

وربّما يستدلّ على ثبوت الحشر للحيوانات بقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثمّ إلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ).(1) ولا يمتنع عقلاً حشر الحيوانات ومحاسبتها أيضاً بمقدار ما آتاها الله تعالى من

ص: 92


1- الأنعام (٦): 38

إدراك، كما ورد في بعض الروايات الضعيفة، ولكن كون هذا الحشر إلى الله تعالى بمعنى إحيائهم يوم القيامة للجزاء ومحاسبة الأعمال، كما يحشر الناس غير واضح فرجوع الأشياء إليه تعالى عامّ يشمل كلّ شيء، ولكن لا يجب أن يكون بهذا المعنى. والله العالم.

(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَيا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير). ظاهر الآية بمقتضى مضمونها أنّها خطاب للبشر بأجمعهم، وليس كما يتوهّم خطاباً لأه_ل ع_ه_د النزول، فضلاً عن الاختصاص بالمشركين كما قيل، وذلك لأنّها تتعرّض لسنّة عامّة من السنن الإلهية في المجتمع البشري ويظهر منها أنّ كلّ ما يصيب الإنسان من مصيبة في الدنيا إنّما هو عقاب من الله تعالى على ذنوبه، وأنّه تعالى يعفو عن كثير من الذنوب، فلا يؤاخذ الإنسان عليها. ولعلّ التعرّض لهذا الأمر هنا بمناسبة نزول المطر بعد القنوط للإشارة إلى التأخير.

وبهذا المضمون قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى)(1) وقوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى).(2)

وما أكثر ما يعفو الله عنه من معاصينا ومخازينا، حتّى بلغ بنا الأمر أن نأمن عقابه ولا نشعر بسخطه من عثراتنا وهفواتنا، كما ورد في بعض الأدعية: «وآمن سخطه عند كلّ شرّ»(3) وفي بعضها «عند كلّ عثرة»،(4) وكنت أستشكل هذا التعبير فيما

ص: 93


1- النحل (١٦): ٦١
2- فاطر (٣٥): ٤٥
3- الإقبال بالأعمال الحسنة ٣: 211
4- الكافي ٤: ٥٥٩

سبق وأراه مخالفاً لقوله تعالى: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ الله فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)(1) ولم أجد من يفسّره بما يرفع الإشكال، ورأيت في «صراط النجاة» جواباً منسوباً إلى السيّد الخوئي قدس سره وهو أنّ الظاهر من الدعاء إرادة العذاب الفعلي، فلا ينافي له الآية الكريمة.

ولكنّ العذاب المتوقّع في بعض المعاصي عذاب فعلي، ولا ينبغي للمؤمن أن يستبعده ولا يتقيه. والواقع أنّ هذا الدعاء لا يدلّ ولا يبتني على أنّ هذا الأمان موقف صحيح في العبد حتّى ينافي الآية، بل المراد تمجيده تعالى في سعة رحمته وعموم عفوه، بحيث وصل العبد إلى هذه الدرجة من الوهم أن يرجو منه تعالى كلّ خير في حين أنّه لا يخاف غضبه عند كلّ عثرة ومعصية، وهذا هو الواقع الذي نشعر به ونلمسه، فنحن لا نواجه عقاباً في كثير من عثراتنا ونشعر بالأمان من كلّ ما نفعله؛ ويلاحظ أنّ الإشكال لو تمّ لشمل الجملة الأولى أيضاً، فلا ينبغي للإنسان أن يتوقّع كلّ ما يراه خيراً ويطلبه من الله تعالى، فرجاء كلّ ما نظنّه خيراً أيضاً ليس ممّا ينبغي، ولكنّنا تعوّدنا ذلك من كثرة ما نراه من الخير من ربّنا، سواء ما طلبناه وما لم نطلبه.

والحاصل أنّ التعبير المذكور الوارد في بعض الأدعية يقصد به تمجيده تعالى لكثرة ما أولانا من النعم، وعفا عنّا من الهفوات. ومثله المقطع الوارد في عدّة من الأدعية المأثورة، منها ما رواه الشيخ الطوسي رحمه الله عن الإمام الكاظم علیه السلام: اللّهمّ إنّ عفوكّ عن ذنبي، وتجاوزك عن خطيئتي، وصفحك عن ظُلمي، وسِترَكَ على قبيح عملي، وحلمَك عن كثير جُرمي، عندما كان من

ص: 94


1- الأعراف (7): 99

خطأي وعمدي، أطمعني في أن أسألك ما لا أستوجِبُه منك الذي رزقتني من رحمتك، وعرّفتني من إجابتك، وأريتني من قُدرتك، فصرت أدعوك آمناً، وأسألك مستأنساً لا خائفاً ولا وجلاً، مُدِلاً عليك فيما قَصدتُ به إليك، فإن أبطأ عنّي عتبتُ بجهلي عليك»(1) وورد قريب منه في دعاء الافتتاح المعروف ومن الواضح أنّ هذا الأمان وعدم الخوف والوجل، بل الإدلال على الله تعالى ليس ممّا ينبغي من العبد فالمراد تمجيده تعالى بأنّ لطفه ورحمته وعفوه وصفحه أدّى إلى حدوث هذه الحالة لدينا.

وقد وقع الإشكال في تفسير الآية بظاهرها من جهة شمولها للمعصومين علیهم السلام، وما أكثر ما ابتلي به المعصومون من المصائب، فكيف يمكن أن يكون السبب ذلك ما كسبت أيديهم؟! وكذلك تشمل الآية ما يصيب الأطفال من في المصائب ولا ذنب لهم.

وقد أجيب عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في تفسير «الميزان» من أنّ الخطاب للمجتمع وليس للأفراد، فالمصائب التي تصيب المجتمعات كالقحط والغلاء والوباء والزلازل إنّما تصيبهم بسبب معاصيهم. وهذا نظير قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(2) وقوله تعالى: (إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(3)

ص: 95


1- تهذيب الأحكام 3: 88
2- الروم (٣٠): ٤١
3- الرعد (13): 11 .راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 59

وما ذكره لا بأس به في حدّ ذاته، ولكن لا دليل في الآية على الاختصاص بالمصائب الاجتماعية، بل يشملها ويشمل المصائب الفردية، بل لعلّ ظاهرها الانحلال إلى خطابات موجّهة إلى كلّ فرد فيكون المعنى أنّ كلّ ما يصيب الإنسان من مصيبة نتيجة عمله.

وفي الروايات الواردة عن الفريقين ما يدلّ على ذلك:

ففي «الكافي» بسند صحيح عن أبي عبد الله علیه السلام: «أما إنّه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب. وذلك قول الله عزّ وجلّ في كتابه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ). ثمّ قال: «وما يعفو الله أكثر ممّا يؤاخذ به».(1)

وفيه بسند صحيح أيضاً عن أبي جعفر علیه السلام.« ما من نكبة تصيب العبد إلا بذنب وما يعفو الله أكثر ممّا يؤاخذ به». (2)

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال:«كان أمير المؤمنين علیه السلام يقول: لا تبدينّ عن واضحة وقد عملت الأعمال الفاضحة، ولا يأمن البيات من عمل السيّئات».(3)

قوله علیه السلام : «لا تبدينّ عن واضحة» أي لا تضحك والواضحة الأسنان التي تبدو عند الضحك. و«البيات» أي أخذ الله تعالى بياتاً والإنسان نائم أو غافل.

وروى أيضاً بسند معتبر عن أبي عبد الله علیه السلام: «إنّ الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وإنّ العمل السيّئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم».(4)

وروى عنه علیه السلام أنّه قال: كان أبي يقول: «إنّ الله قضى قضاءاً حتماً ألا ينعم على العبد

ص: 96


1- الكافي ٢ : ٣/٢٦٩
2- نفس المصدر / ٤.
3- نفس المصدر /٥
4- نفس المصدر: ٢٧٢ / ١٦.

بنعمة فيسلبها إيّاه حتّى يحدث العبد ذنباً يستحقّ بذلك النقمة.(1)

وفي مجمع البيان عن علي علیه السلام أنّه قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «خير آية في كتاب الله هذه الآية. يا عليّ ما من خدش عود ولا نكبة قدم إلا بذنب. وما عفى الله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، وما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني على عبده.(2)

وروته العامة أيضاً عنه صلی الله علیه و آله وسلم بتعابير مختلفة. إلى غير ذلك من الروايات وهي كثيرة جدّاً.

وربّما يعترض على ما ذكره العلامة رحمه الله من أنّ المراد بالمصيبة في الآية الكريمة المصائب التي تصيب المجتمعات، بأنّ المعاصي عامّة بين البشر، فلماذا ينزل العذاب على بعضهم ويترك الآخرون، بل ربّما تترك المجتمعات المتوغلة في المعاصي والمفاسد وهذا الإشكال كثيراً ما يتردّد على الألسنة كلّما حدثت فاجعة طبيعية في بلد من بلاد المسلمين أو المجتمعات الفقيرة، ويقال بأنّ العذاب لماذا تخطّى الكفّار والظلمة ونزل على المسلمين والفقراء؟!

قال العلامة رحمه الله في الجواب عن ذلك: هذه سنّة إلهية في المجتمعات. وربما ترد عليه سنّة إلهية أخرى كسنّة الابتلاء والاستدراج، فلا يعذّبون لا للعفو عنهم، بل لإمهالهم ليستحقّوا عذاباً أكبر، كما قال تعالى: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).(3)

وما ذكره صحيح إلا أنّ هناك ملاحظة على أصل اعتبار البلايا العامّة هی

ص: 97


1- نفس المصدر / ٢٢.
2- مجمع البيان ٩ - ٤٧:١٠.
3- الأعراف (7): 95 .راجع: الميزان في تفسير القرآن :١٨ : ٥٩

المقصودة من الآية، وأنّها عذاب من الله تعالى من جهة أنّ بعض هذه المصائب أمور طبيعية لابدّ منها، وإنّما الخطأ من الإنسان حيث يسكن ويصنع مدن_ه ف_ي مسير السيل أو في الأماكن المعرّضة للزلازل، ولا يهيّئ لنفسه ما يحفظه من الحوادث الطبيعية، ومن الخطأ الفادح اعتبار كلّ هذه الحوادث الكونية عذاباً من الله تعالى كما اشتهر بين الناس وبعض هذه المصائب من آثار الحروب واعتداء الآخرين، وفي هذا القسم يمكن أن لا يكون الإنسان المصاب مخطئاً، فلا يمكن اعتبار ما أصابه مصيبة سماوية، وربّما يكون من خطئه في التقدير وفي مواجهة

العدوّ، فلا يلومنّ إلا نفسه ولا يعتبر ما أصابه عقاباً من الله تعالى على ذنوبه.

الوجه الثاني: ما في تفسير الميزان» أيضاً، ولكن على تقدير انحلال الخطاب إلى خطابات موجهة للجميع ، وأنّ المراد بالمصائب ما يصيب الفرد، فقال: إنّ الآية لا تشمل من لا ذنب له؛ لأنّ المراد بما كسبت الأيدي الذنوب والمعاصي، فهم خارجون من الآية تخصّصاً.(1) وقال بذلك أيضاً العلامة المجلسي رحمه الله في «مرآة العقول».(2)

ولا بأس بهذا الجواب بالنسبة لما يصيب الأطفال خصوصاً غير المميّز منهم لعدم انطباق ما كسبت الأيدي على ما يفعله الطفل أو انصرافه عنه، أمّا بالنسبة إلى المعصومين فتمكن المناقشة فيه بأنّه لا دليل على اختصاص ما كسبته الأيدي بالمعاصي، بل لا يبعد شموله لكلّ فعل لا ينبغي أن يصدر من الإنسان ممّا يترتّب عليه بعض التبعات غير المطلوبة بمقتضى سنن الله تعالى في الكون، ويتبع ذلك مكانة الإنسان وقربه لدى الله تعالى، فما لا ينبغي أن يصدر من الرسول ربّما

ص: 98


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن :١٨ : ٥٩ - ٦٠
2- راجع: مرآة العقول ٤٠٠:٩

يتوقّع من غيره، بل ربما يكون حسناً من غيره، كعباداتنا التي نرجو أن يثيبن_ا الله تعالى عليها؛ فإنّها لو صدرت من نبيّ أو إمام، فإنّه يعتبر ذنباً ل_ه تبعاته. وم_ن هن_ا قيل: «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين»؛ كما أنّ ما يتوقّع من العالم ليس كما يتوقّع من الجاهل، ولا يتسامح من الكهل ما يتسامح فيه من الشابّ، والمتوقّع ممّن يعيش في بيئة مؤمنة ليس كما يتوقّع ممّن يعيش في بلاد الكفر ويتربّى في بيئة كافرة.

والحاصل أنّ الآية تشمل ما يعدّ تركاً للأولى صادراً من معصوم، كما حدث لسيّدنا يونس علیه السلام والمعصوم ليس معصوماً عن كلّ ما لا يتوقّع من المعصوم وإنّما عصم عن الذنوب والمحرّمات.

الوجه الثالث: أنّ مقتضى الجمع بين الآيات الخاصّة بهذا المعنى ه_و خ_روج المعصومين عن هذا الحكم والفرق بين هذا الوجه والوجه السابق، أنّ موضوع الآية حسب الوجه السابق لا يشمل المعصومين؛ لأنّ الموضوع هو أصحاب المعاصي، ولكن حسب هذا الوجه لا يشملهم الحكم وإن شملهم الموضوع فالحاصل من ملاحظة مجموع الآيات أن ما يصيب المعصومين أو بعض ما يصيبهم ليس إلا لرفع درجاتهم وقربهم لدى الله سبحانه. وهذا م_ا دلّت علي_ه بعض الروايات أيضاً.

ففي «الكافي» بسند صحيح عن عليّ بن رئاب، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن قول الله عزّ وجل: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أرأيت ما أصاب عليّاً وأهل بيته علیه السلام من بعده هو بما كسبت أيديهم وهم أهل بيت طهارة معصومون؟ فقال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم كان يتوب إلى الله ويستغفره كلّ يوم وليلة مائة مرّة من غير ذنب، إنّ الله يخصّ أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب».(1) استشهد الإمام علیه السلام في هذا

ص: 99


1- الكافي ٢ : ٤٥٠.

الحديث باستغفار الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لبيان أنّ هذه المصائب لم تكن لذنب، كما أنّ استغفاره لم يكن لذنب أيضاً.

وفيه أيضاً مرفوعاً:«لما حمل عليّ بن الحسين عليهما السلام إلى يزيد بن معاوية فأوقف بين يديه، قال يزيد لعنه الله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، فقال عليّ بن الحسين عليهما السلام: «ليست هذه الآية فينا إنّ فينا قول الله عزّ وجلّ: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ)(1)».(2)

وفي خبر ضريس الكناسي، قال: كنّا عند أبي جعفر علیه السلام جماعة وفينا حمران بن أعين فقال له حمران جعلت فداك قول الله عزّ وجلّ: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أرأيت ما أصاب النبي صلی الله علیه و آله وسلم وأمير المؤمنين علیه السلام وأه__ل بيته علیهم السلام من المصائب بذنب؟ فقال: «يا حمران أصابهم ما أصابهم من المصائب بغير ذنب، ولكن يطول عليهم بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب».(3)

فالحاصل من الروايات أن هذه الآية لا تعمّ الجميع، وهناك كثي_ر م_ن المصائب لها مصالح تعود إلى المصاب. والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ

مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).(4)

ص: 100


1- الحديد :(٥٧): ٢٢
2- الكافي ٢: ٤٥٠
3- مشكاة الأنوار: 509
4- البقرة :(2) 155 - 157

وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ). هناك من البشر من يتوهّم أنّه يتمكّن من الغلبة على إرادة الله تعالى وتخليص نفسه من تبعات أعماله فتردّ عليه هذه الآية بأنّ البشر في الأرض لا يعجز الله الذي بيده ملكوت السماوات والأرض.

وهذا التوهّم يقوى عند البشر بعد ما يجد أنّه قد تغلب على كثير من العوامل الطبيعية، وتمكّن من تغيير بعض المسارات في الطبيعة، ومن علاج كثير من الأمراض المستعصية، والتوغّل في أعماق الفضاء، وتحطيم الذرّة، وغير ذلك ممّا حصل عليه البشر بفضل العلوم الطبيعية والتكنولوجيا، فيتصوّر أنّه ما من شيء في الكون إلا ويمكن إخضاعه للبشر، فليست هناك إرادة غالبة على إرادته، ولو كان هناك إله للكون، فإنّه أيضاً لا يتمكّن من كبح جماح هذا العفريت المارد وهو الإنسان. وهذه الآية تبيّن له أنّه مهما بلغ من العلم، ومهما تغلّب على العوامل وتعرّف على أسرار في الكون، فإنّها كلّها تتحقّق بإرادته تعالى، وأنّه هو الذي سمح له بذلك، ومنحه الحرّيّة وهو لا يتمكّن من إعجاز ربّه متى شاء أن يعاقبه. وقوله تعالى: (في الأرض)، أي في أيّ مكان من الأرض، فلا يفيدكم الهرب من عذاب الله تعالى ولا خصوصية في الأرض، ولكن حيث لم يكن للإنسان أن يهرب إلى مكان آخر خوطب بذلك، وإلا فهو أينما يذهب فلن يخرج عن سلطة خالق الكون تعالى.

(وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ الله مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)، (مِنْ دُونِ الله ) أي بدلاً عن الله تعالى وفي موضع الربوبية. وذلك لأنّ كلّ من ينتصر به فهو أيضاً مخلوق الله تعالى داخل تحت سلطانه. وبما ذكرناه من معنى (مِن دُونِهِ) يتبيّن أنّ ذلك لا ينافي وجود أولياء تحت ولاية الله تعالى، كولاية الأب والرسول والإمام. وقد مرّ في تفسير الآية ٨ بيان الفرق بين الولي والنصير.

ص: 101

سورة الشورى (32 - 39)

وَمِنْ ءَايَتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلَامِ(32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَا يَنتِ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)أَوْ يُوبِقَهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ تُجُدِلُونَ فِي وَايَنتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ(35) فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَعُ الحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَىٰ رَهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ تَجْتَنِبُونَ كَبَلِيرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَيهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْتَهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْى هُمْ يَنتَصِرُونَ (39)

(وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأعلام) عود إلى التذكير بآية من آيات الله تعالى ونعمه على البشرية لتسهيل سبل المعيشة، ولتكون دليلاً على قدرته تعالى وحكمته ورحمته وهي جريان السفن في البحر حيث تحمل الناس والمتاع وتنقلهم عبر البلاد.

و«الجوار» جمع جارية حذف منه الياء للتخفيف وقرئ بالياء أيضاً، وهي صفة للسفينة. والتعبير عن السفن بصفتها، أي الجواري للتنبيه على وجه كونها آي_ة ونعمة وهو جريانها في البحر. و«الأعلام» جمع عَلَم: الأثر الذي يعلم به الشيء، كعلم الطريق وعلم الجيش، ومنه إطلاق العلم على الجبل. والظاهر أنّ المراد بالأعلام هنا الجبال، شبّه بها السفن لارتفاع أشرعتها على سطح الماء.

وجري السفن على الماء بنفسه آية من آيات الله تعالى، حيث جعل النظام السائد في الكون بهذا الوجه، وهيّأ كلّ هذه الظروف الطبيعية المؤثّرة في حركة السفن، مضافاً إلى أنّ أوّل سفينة صنعت على وجه الأرض إنّما صنعت على يد

ص: 102

سيّدنا نوح علیه السلام وكان ذلك بوحي من الله تعالى وعناية خاصّة منه، كما قال تعالى: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)(1) وكان قومه يسخرون منه حيث لم يعلموا ما الذي يريد أن يصنع. ويدلّ على ذلك قوله تعالى: (وَآيَةٌ هُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ المشحُونِ * وَخَلَقْنَا هُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ)(2) بناءاً على ما ذكرنا في تفسير الآية من أنّ المراد بالفلك سفينة نوح علیه السلام فإنّ قوله تعالى: (وَخَلَقْنَا هُمْ مِنْ مِثْلِهِ) يدلّ على أنّ كلّ ما صنع من السفن بعدها خلقت بالمماثلة لها، أي بتقليدها.

(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ)، الضمير في: (فَيَظْلَلْنَ) عائد إلى السفن، و (رَوَاكِدَ) جمع راكدة، وظهر البحر سطحه الظاهر منه. وهذه الجملة تبيّن وجه كون السفن آية، ولذلك أتت الجملة متّصلة من دون عطف، وذلك لأنّ من نعم الله تعالى وآياته إرسال الرياح الموافقة لحركة السفن الشراعية القديمة، فلو شاء أسكن الريح فتظلّ السفن راكدة على ظهر البحر أيّاماً. وهذه كانت من مشاكل الأسفار البحرية سابقاً.

والحاصل أنّ الآية المباركة تنبه الإنسان أنّه وإن تمكّن من استخدام الطبيعة في شؤون حياته إلا أن ذلك لا يتمّ إلا بلطف من الله تعالى ورحمته، فلو شاء ذلك في أيّ مجال من مجالات الحياة، ففي السفن الجارية في البحر يكفي أن يسكن الريح، فلا تتحرّك السفن ويبقى الإنسان حائراً وسط البحر، ولعلّ الغرض من ذلك تنبيهه بوجه عام أن لا يتوهم استقلاله في استخدام الطبيعة

لمنعه من وإن بلغ من العلم ما بلغ.

ص: 103


1- هود (11): 37
2- يس (٣٦): ٤١ - ٤٢

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) يقول جمع من المفسّرين: إنّ المراد بالصبّار الشكور المؤمن؛ لأنّه يصبر على الضرّاء ويشكر على السرّاء، وإنّما اختصّ به؛ لأنّه هو الذي ينتفع بالآيات دون الكافر.

ولكن لا يبعد أن يكون ذلك إشارة إلى أنّ من يبتلى بسكون الريح وتوقّف السفينة في البحر أيّاماً حال السفر، فيصبر على تلك الحالة، ثمّ تدركه الرحمة الإلهية، ويأتي الله بالريح المؤاتية فيشكر ربّه، هو الذي يدرك عظمة هذه الآية الإلهية.

وأتى بصيغة المبالغة فيهما، للإشارة إلى شدّة البلاء ممّا يستدعي أن يكون الإنسان صبّاراً، أي شديد الصبر، ولنفس السبب يكون شكوراً، أي كثير الشكر بعد أن أفرج الله تعالى عنه.

والحاصل أنّه إشارة إلى أنّ أهمية هذا الأمر لا يدركها إلا من ابتلي به.

وفي «الميزان» أنّ الأصل في الصبر الحبس، والأصل في الشكر إظهار نعمة المنعم بقول أو فعل، فالمراد به من حبس نفسه عن التدخّل في ما لا يعنيه واختلى بنفسه يتفكّر في نعمه تعالى فإنّه نوع من الشكر.(1) وهو تأويل في غاية البُعد. ولو فرض صحّة هذا التأويل بقي الكلام في وجه اختيار هذا التعبير.

(أوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا ) عطف على: (يُسْكِنُ الرِّيحَ ) أي إن يشأ يسكن الريح وإن يشأ يوبقهنّ. والضمير يعود إلى الجواري، أي السفن والإيباق: الإهلاك. والمراد إرسال الرياح العاصفة الموجبة لهلاك السفن بالغرق، والمراد هلاك أهلها، وه_ عذاب يستحقّونها بما كسبوا من الجرائم والمعاصي، وهذا تطبيق لما مرّ من قوله

ص: 104


1- راجع الميزان في تفسير القرآن ١٨: ٦١.

تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ).

(وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ) قرئت الكلمة بالواو ويعفو»، فتكون الجملة مستأنفة والمعنى واضح على هذه القراءة، أي يعفو عن كثير من مرتكبي الجرائم، فلا يهلكهم بها، وقد مرّ أنّ الله تعالى يعفو عن كثير من الذنوب، فلا تترتّب عليها التبعات في الدنيا، وإلا لم يترك على ظهر الأرض من دابة، ومن هذا الباب العفو عن كثير من ركّاب السفن.

والمشهور القراءة بالجزم، فالظاهر أنّها معطوفة على: (يُوبِقْهُنَّ) وتعتبر جواباً ثانياً للشرط المقدّر، أي إن يشأ يهلكهم بذنوبهم ويعف عن كثير، فلا يهلكهم. قال في «الكشّاف»: «فإن قلت : فما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جُرْمَ جَزْمَه؟ قلت: معناه أو إن يشأ يهلك ناساً ويُنج ناساً على طريق العفو عنهم».(1) ومراده أنّ الإيباق يتمّ بإرسال العواصف فيهلك بها أناس وينجو منها أناس بالعفو عنهم ، فيكون مورد العفو من أصيب بالعاصفة ونجا منها.

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا هُمْ مِنْ بَحِيصٍ). الظاهر أنّ قوله: (وَيَعْلَمَ) منصوب باللام المقدّرة أي وليعلم. وهو عطف على محذوف يدلّ عليه قوله تعالى في الآية السابقة: (بِمَا كَسَبُوا )؛ أي يوبقهنّ ليجازيهم بما كسبوا، وليعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص . ونظير ذلك كثير في القرآن كقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَليَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ)(2) ولعلّ تقدير المعطوف عليه في هذه الآية «جزاءاً له».

ص: 105


1- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤: ٢٢٧
2- الأنعام (٦): ٧٥

والمحيص اسم مكان أو مصدر من حاص، أي حادّ واجتنب عن الطريق. والمراد به هنا المفرّ والمهرب، أي إنّهم ليس لهم بدّ من الاستمرار على الطريق الذي رسمه القضاء الإلهي مترتّباً على سوء، أعمالهم.

و«المجادلة» و«الجدال»: المنازعة بالكلام بشدّة وقوّة، سواء كان بحقّ أو باطل وأصل الجدل الاستحكام. والمراد به هنا ما يلازم الجدال وهو الرفض وعدم الانصياع والذين يجادلون في الآيات هم الذين يشكّكون فيها من دون دليل ومستند. والمعنى أنّه ممّا يترتّب على معاقبة بعض الناس بالغرق في البحر أن يعلم المشكّكون في آيات الله أنّهم لا مفرّ لهم من عذاب الله في الدنيا أيضاً قبل الآخرة؛ وذلك لأن الإنسان وإن حاول أن يحفظ نفسه من الحوادث، فإنّه لا يمكنه أن يخرج من هذه الطبيعة، وهي بكلّ عواملها تحت إرادة الله تعالى، ومتى شاء أن يعذّب أحداً، فهناك وسائل كثيرة في الطبيعة كفيلة بذلك، والله تعالى بالغ

أمره، والإنسان محصور محبوس في مخالب الطبيعة.

قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُورًا * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَحْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أو يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثم لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً * أم أمِنْتُمْ أنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيح فَيُغْرِقَكُمْ بمَا كَفَرْتُمْ ثم لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا).(1) وقال أيضاً: (أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمَورُ * أم أمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِير).(2)

ص: 106


1- الإسراء (17): ٦٧ - ٦٩
2- الملك (٦٧): ١٦ - ١٧

(فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ). الفاء للتفريع وهذه الحقيقة تتفرّع على كلّ ما مرّ بيانه من ذكر نعم الله تعالى وسعة رزقه والعفو عن كثير من الذنوب التنبيه بعد ذلك على أنّ الذي يجب أن يهتمّ به الإنسان هو السعادة في الآخرة لا الدنيا. والخطاب موجه لعامة الناس. و«ما أوتيتم» مبتدأ ولكنّ الموصول

يتضمّن معنى الشرط فوردت الفاء على الخبر. والتعبير بالمبني للمجهول «أوتيتم» دون إسناده إلى الله تعالى للاستهانة بمتاع الدنيا. وهذا العنوان يعمّ كلّ ما في هذه الحياة حتّى العلم، إلا ما جعل منه وسيلة إلى معرفة الله سبحانه، أو تحصيل ثواب الآخرة.

و«المتاع» ما ينتفع به مدّة طويلة نسبياً، أو ما يتلذّذ به كما قيل. وقد أتى به نكرة في قوله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ)(1) وذلك للدلالة على حقارته بحيث لا يكاد يذكر. وصرّح بقلته مطلقاً في قوله تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ)(2) وبقلّته في مقابل ثواب الآخرة في قوله تعالى: (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلا قَلِيلٌ).(3)

(وَمَا عِنْدَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في المقابل عبّر عن ثواب الآخرة ب_ (مَا عِندَ الله ) للدلالة على أنّ ميزة تلك النعم أنّها عند الله، مع أنّ النعم كلها من الله تعالى، حتّى ما كان من متاع الدنيا، ولكن تلك النعم تمتاز بكونها عنده، فهي كلّها رحمة خالصة، لا يشوبها شيء من الابتلاء والفتنة والمحاسبة. وهي خير النعم، وهي خير من متاع الدنيا، وهي أبقى أيضاً، فمهما تدوم النعمة

ص: 107


1- الرعد (13): ٢٦
2- النساء (٤): ٧٧
3- التوبة (9): 38

في الدنيا فهي أيّام قلائل بمقدار عمر الإنسان على هذا الكوكب، وأين هي من النعمة الأبدية الخالدة التي لا تزول؟!

وقوله تعالى: (لِلَّذِينَ آمَنُوا) متعلق بمحذوف ، أي هو خاصّ بهم. وليس متعلّقاً بقوله: (خَيْرٌ وَأَبْقَى؛ إذ النعمة هناك خاصّة بهم أساساً ولا تشمل غيرهم، لا أنّ كونها أبقى خاصّ بهم.

ومن هنا يبدأ بذكر أوصاف الذين يستحقّون النعيم الأبدي الخالد، وكرامة كونهم عند الله تعالى. فأوّل ذلك الإيمان ثمّ التوكّل، وهو يحكي عن درجة الإيمان بالله الموجب لتوكّله عليه. ثمّ أمران سلبيّان يرتبطان بتخلية النفس من الرذائل، ثمّ خمس أمور إيجابية ترتبط بالتحلّي بالفضائل والمكارم اثنان منها يرتبطان بالشؤون الفردية وثلاثة بالشؤون الاجتماعية.

ولعلّه إنّما قدّم الأمرين السلبيين؛ لأنّ النفس إذا كانت متّصفة بالرذائل وغارقة في المعاصي ، فالأعمال الحسنة وإن كانت صحيحة واجدة للشرائط، ولعلّ الإنسان يثاب عليها أيضاً، ولكنّها لا تصعد به إلى المقامات العالية، ولا تكون لائقة للتقرّب إلى الله تعالى، ومرافقة الأنبياء والأولياء والصالحين. فلا بدّ قبل التحلية بالصفات الحسنة والإتيان بالأعمال الصالحة من تجنّب المساوئ وتزكية النفس بمكارم الأخلاق.

والإيمان هو الشرط الأوّل والأساس لدخول الجنّة. ولم يذكر متعلّق الإيمان، فيمكن أن يكون المراد الإيمان بالله تعالى بقرينة الجملة التالية. ويمكن أن يكون المراد الإيمان بالغيب، فإنّه هو المتبادر من الإيمان بقول مطلق؛ فهناك من الناس من لا يؤمن إلا بما يحسّ به ويشاهده، ومنهم من يؤمن بالغيب إذا قامت عليه

ص: 108

الحجّة، فالمهمّ أن يبلغ الإنسان في تربية النفس إلى مقام لا ينحصر إدراكه في المحسوسات.

والخصلة الثانية التي يمتاز بها أهل الجنّة هي التوكّل على الله تعالى. ولعلّ التعبير بالربّ يشير إلى أنّ التوكّل على الله تعالى باعتبار ربوبيته، وأنّه هو المربّي العباده، فكلّ ما يفعل بعبده هو الأصلح في تربيته، وبلوغه إلى الكمال المنشود. وحيث إنّه قادر على كلّ شيء، ولطيف لما يشاء، فلا يحول دون بلوغه الهدف شيء. وهذا هو السر في التوكل على الله تعالى، فإذا آمن الإنسان بهاتين الركيزتين الربوبية والقدرة، فإنّه يثق بربّه كمال الوثوق ويوكل كلّ أموره إليه وتطمئنّ نفسه وتستقرّ، ولا يخاف شيئاً إلا ما يعود إلى إهماله لوظائفه.

وللتوكّل على الله تعالى مراتب. ويتبع ذلك مرتبة إيمان الإنسان بربّه وبعموم قدرته تعالى ورحمته وربوبيته، فهناك الأنبياء والأولياء المخلصون الذين يوكّلون كلّ أمورهم إلى الله تعالى ولا يعبأون بكلّ ما يحوم حولهم من أخطار ومشاكل. والله تعالى يتولّى أمورهم بلطفه وعنايته الخاصّة. قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أمره قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ).(1) وينبغي التأمّل في أنّ الأنبياء والأولياء ما كانوا يهملون الأمور في مواضع التوكّل على الله تعالى، بل كانوا يأتون بوظائفهم بأحسن وجه، و كانوا يتحمّلون المشاقّ ويتكبّدون الخسائر ويجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فليس معنى التوكّل ترك الأمور وإهمالها، بل معناه أن لا يكون الإنسان متخوّفاً قلقاً ممّا يمكن أن يحدث من الموانع إن لم يكن ذلك باختياره، فهو يأتي بما يجب عليه،

ص: 109


1- الطلاق (٦٥): ٣

ويترك الأمر توكّلاً على الله تعالى واثقاً من أنّ ما يحصل هو الأصلح بحاله.

وقد رأينا في حياتنا من الأجلاء الصالحين من كان بهذه المثابة من الإيمان بالله تعالى والتوكّل عليه، ولذلك كان يهابه الأعداء، وتطمئنّ إلى كلامه نفوس المؤمنين، وهو سيّدنا الإمام الخميني - قدّس الله روحه-.

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ) وهذه هي الخصلة الثالثة لهم. وه_ي اجتنابهم عن الآثام والمعاصي، وتصفية النفس من الرذائل الخُلّقية. وهذا أمر سلبيّ، وهذه الصفة من أهمّ الشروط لبلوغ الكمال، إذ لا يمكن للإنسان الغارق في المعاصي أن يبلغ الكمال المادّيّ فضلاً عن المعنوي.

والله تعالى خالق البشر، وهو أعلم بطاقاته ونوازعه، ويعلم أنّه لا يمكنه ترك أهوائه دائماً ، فأفسح له المجال، ورضي منه بأن يترك الكبائر والفواحش، ب_ل صرّح باستثناء اللمم ، قال تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ هُوَ أعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَاكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُرَكُوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).(1)

و«اللمم» المقاربة وألمّ بالشيء، أي اقترب منه. فالمعنى أنّهم ربما يقتربون من الكبيرة ولكن لا يرتكبونها. وربّما يعبّر به عن ارتكاب الصغائر باعتبار أنّ ارتكابها يقرّب الإنسان من الكبائر. وفي «الكشّاف أنّ: «اللمم ما قلّ وصغر. ومنه اللمم المسّ من الجنون، واللوثة منه، وألمّ بالمكان إذا قلّ فيه لبثه، وألمّ بالطعام قلّ منه أكله».(2) وعليه فإطلاقه على الصغائر من دون عناية.

ص: 110


1- النجم (٥٣) : 32
2- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤ : ٤٢٥

ولكن في روايات أهل البيت علیهم السلام أنّ اللمم ارتكاب الإثم مع التوبة وفي أزمنة متباعدة من دون إصرار وتكرار. وتمام الكلام في تفسير سورة النجم.

وقد علّل في هذه الآية الكريمة استثناء اللمم بأمرين:

الأمر الأوّل: أنّه تعالى واسع المغفرة، فيعفو عن عبيده المخطئين. ولولا أنّ رحمته وسعت كلّ شيء، وأنّ رحمته سبقت غضبه لم تقم للخلق قائمة، وما ترك على ظهرها من دابة.

والأمر الثاني: أنّه تعالى أعلم بخلقه، وأعلم بالنوازع البشرية، وما تقتضيه طبيعته الأرضية، فلا يتوقّع منه ترك الصغائر. ولعلّ قوله تعالى: (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) إشارة إلى ما يقتضيه التوارث والمؤثرات البيئية.

وقال تعالى: (إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)(1) وبقرينة ذكر الكبائر يعلم أنّ المراد بالسيّئات في هذه الآية الصغائر من الذنوب.

ولكنّ الكلام في تحديد الكبائر والصغائر، ففي بعض الكتب الفقهية أنّ الكبيرة ما صُرّح في النصوص بكونها كبيرة؛ كقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)(2) وقوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَاهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا)(3) و نحو ذلك. أو ورد فيها الوعيد بالعقاب عليه ؛ كقوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)،(4) أو عدّ

ص: 111


1- النساء (٤): ٣١
2- البقرة (2): 219
3- النساء (٤): ٢
4- النساء (٤): 93

أكبر من بعض الكبائر؛ كقوله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)(1) وزاد بعضهم أن يعدّ في النصوص كونه مثل بعضها.

ونفى بعضهم تحديد الكبائر والصغائر باعتبار أنّ الكبر والصغر أمران نسبيّان فكلّ كبير صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه ، وكذا العكس. وهناك أمور جانبية ترفع من مستوى الذنب أو تنزله، فربّما يعدّ إثم من أحد كبيراً، لكونه عالماً، أو كبيراً في السنّ، أو قيادياً في المجتمع، ولا يعدّ كبيراً لغيره. وتختلف في ذلك أيضاً المجتمعات والتربية الدينية والأمكنة والأزمنة. وإذا كان اعتداءاً فيختلف باختلاف المعتدى عليه، فقتل المؤمن العادي ليس كقتل الإمام أو النبي والقتل الأشهر الحرم أو في الحرم ليس كغيره. كما أنّ هناك حالات نفسية تغيّر من درجة الإثم، فالذي يرتكب إثماً ويستصغره مع علمه بأنّه عصيان الله تعالى فق_د ارتكب كبيرة، وهذا بخلاف ما لو استعظمه واستشعر في نفسه الخوف ممّا بدر منه. وهناك أيضاً الإصرار على الصغيرة، فإنّه يوجب دخولها في الكبائر. وقد وردت بهذه المضامين كلّها أحاديث في كتب الفريقين.

ولكن ذلك كلّه لا يمنع من التحديد الذي يقتضيه قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) ممّا يدلّ على وجود نوعين من الآثام، وأنّ هناك تحديداً لهما. ولكن يبدو أنّ التحديد غير واضح، فليس هناك حدّ فاصل يميّز الصغائر.

ولعلّ الحكمة فيه أن يجتنب المؤمن كلّ إثم خوفاً من أن يكون موجباً لسخط الباري جلّ وعلا، وفي الحديث عن أمير المؤمنين علیه السلام: «إنّ الله تبارك وتعالى

ص: 112


1- البقرة :(2): 217

أخفى أربعة في أربعة أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرنّ شيئاً من طاعته، فربّما وافق رضاه وأنت لا تعلم وأخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغرنّ شيئاً من معصيته، فربّما وافق سخطه معصيته وأنت لا تعلم وأخفى إجابته في دعوته، فلا تستصغرنّ شيئاً من دعائه، فربّما وافق إجابته وأنت لا تعلم وأخفى وليّه في عباده، فلا تستصغرنّ عبداً من عبيد الله، فربّما يكون وليّه وأنت لا تعلم».(1)

و امّا فاحشة وأما الفواحش، فهي جمع من الفحش، وهو التجاوز عن الحدّ في القبح والشناعة. والظاهر أنّه لا يطلق على كلّ الكبائر، بل على ما عظمت شناعته كالزنا واللواط، وقد عُبّر عنهما في القرآن بالفاحشة.

وسيأتي بعض الكلام في هذا الموضوع في تفسير سورة النجم إن شاء الله تعالى.

(وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) هذه هي الخصلة الرابعة لمن يستحقّ الجنّة. وهذا أيضاً أمر سلبيّ ونوع من الرياضة النفسية، كترك ارتكاب الكبائر. ولعلّه أشقّ في بعض الحالات، وهو العفو والتسامح، بل المغفرة والإغضاء عن اعتداء الآخرين، وذلك في صورة الغضب، وهذا هو المهم، وهو الشرط الذي جعله شاقّاً، فإنّ الإنسان ربّما يتمكّن من كظم غيظه والسيطرة على نفسه إذا تدبّر في الأمر و حاسب الظروف، ولكنّ الرياضة النفسية الصعبة أن يسيطر على نفسه الجموح في لحظة الغضب.

وهذا هو الذي تؤكّده «ما» الزائدة في قوله تعالى: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا) فإنّ مفادها أنّهم بمجرّد أن يغضبوا فإنّهم يغفرون للمخطئ فوراً. وهذا غاية في الحلم وكظم

ص: 113


1- الخصال الصدوق): 31/210

الغيظ والإتيان بالضمير المنفصل يؤكّد ترتّب الجزاء على الشرط. ولكن في «الكشّاف» أنّه يدلّ على الاختصاص بمعنى أنّ هذه الصفة خاصّة بأهل الجنّة.(1)

وهو بعيد لفظاً ومعنىّ، فهناك من الكفّار أيضاً من تظهر منه هذه الصفة بوضوح.

ثمّ إنّ الغفران أكبر من التسامح والعفو، فإنّهما لا يستلزمان الستر على المخطئ بينما يستلزمه الغفران، فإنّ معناه الستر.

(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ) وهذه خامسة الخصال. ومنها تبدأ الأمور الإيجابية التي تجعل النفس الإنسانية لائقة لدخول جنّة الخلد، والتشرّف برضوان الله تعالى وهي الاستجابة للرّبّ. ويبدو من ذكر الربّ أنّ المراد بالاستجابة هو تقبّل النفس لما يصل إليها من التربية الإلهية، فإنّ ربوبيته تعالى من رحمته وهي واسعة تشمل كلّ شيء، إلا أنّ هناك من النفوس ما لا تتقبّل الرحمة والربوبية،

فالنقص والقصور منها. وعليه فالاستجابة بمعنى تقبّل النفس لما يلقى إليها من ربّه ممّا يكملها ويرفعها. ويمكن أن يكون المراد الاستجابة للدعوة الإلهية، كما قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)؛(2) أي فليستجيبوا لدعوتي إلى الدعاء والصلاة والإيمان بربّهم.

وستأتي في هذه السورة الدعوة إلى الاستجابة للربّ سبحانه وتعالى. وتشمل هذه الدعوة كلّ الأوامر والنواهي الشرعية. وذكر الصلاة وغيره_ا في_م_ا بع_د م_ن باب ذكر الخاصّ بعد العامّ للاهتمام به.

ص: 114


1- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤: ٢٢٨.
2- البقرة (٢): ١٨٦.

(وَأَقَامُوا الصَّلوةَ) وهذه سادسة الخصال. ولإقامة الصلاة عدّة معانٍ يمك_ن إرادة بعضها أو كلّها، فقد تكون بمعنى الإتيان بها بجميع حدودها وشروطها وما يدخل في كمالها. ومن أهمّها - بل هو أهمّها على الإطلاق - التوجّه إلى الله تعالى، فإنّه روح الصلاة.

وقد تكون بمعنى إدامتها، فإنّ من معاني الإقامة الإدامة ومنها الإقامة في المكان، أي البقاء فيه.

وقد تكون بمعنى المحافظة على أوقاتها، والاهتمام بها، وجعلها من أهمّ الأولويات، بخلاف الكثير من المصلّين، فإنّ الصلاة عندهم في آخر الأولويات ولا يذكرونها إلا بعد الانتهاء من كلّ ما يهمّهم من شؤون الدنيا، بل ربّما يصرّحون إذا نودوا بالصلاة بأنّهم مشغولون، وكأنّ الصلاة فرضت لملء أوقات الفراغ، مع أنّها أهمّ من كلّ الأمور. وعلى المؤمن أن يفرغ نفسه لها، بل يفرغ باله لها أيضاً، فيتهيّأ ويركّز ويستشعر في نفسه عظمة الخالق، وأنّه سيمثل أمامه، ويخاطبه ويناجيه.

ويمكن أن يكون المراد بإقامة الصلاة الحثّ عليها، ودعوة الناس، وبناء المساجد، وإعلان الأذان، وكلّ ما يؤثّر في نشرها وإعلانها في المجتمع، بحيث يلاحظ المراقبون أنّ هذا مجتمع متعوّد على الصلاة ومهتمّ بها، فالمساهمة في إيجاد هذه الحالة في المجتمع هي من إقامة الصلاة.

(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، وهذه الخصلة السابعة. وهي من الأمور الإيجابية التي تدخل في شروط كمال الإنسان، ومن الشؤون الاجتماعية التي تؤثّر في تربية المجتمع، وممّا يوجب تماسك المجتمع، واهتمام كلّ شخص بمصالح الآخرين.

ص: 115

وربّما تفسّر الجملة بأنّ المراد تشاور الناس فيما بينهم في اُمورهم الخاصّة والشخصية؛ لكنّ الظاهر أنّ المراد بها الشؤون الاجتماعية، وذلك لأنّ عنوان الأمر وإن كان يشمل كلّ شؤون الحياة إلا أنّ الإتيان ب_ه مفرداً ومضافاً إلى الجمع (أمْرُهُمْ) يدلّ على أنّ المراد به أمر الجماعة، وما يخصّ الشؤون الاجتماعية. ويقتضيه أيضاً قوله: (شُورَى بَيْنَهُمْ)، اذ لو كان المراد به التشاور في الأمور الفردية لم يصحّ أن يقال: الأمر شورى بينهم، بل يقال: يتشاورون في أمورهم فالظاهر من الآية توصيف المجتمع المؤمن بأنّ اُمورهم الاجتماعية إنّما تتمّ على أساس الشورى فيما بينهم.

ولم يحدّد الشرع حسب هذه الآية آلية خاصّة للشورى، فهو أمر راجع إلى الناس، وهو ممّا يتغيّر ويتطوّر حسب تطوّر الإنسان في حياته. وقد توصّل الإنسان في العصر الحديث إلى تأسيس المجالس النيابية بشتّى صورها للتشاور وهي آلية تحقّق العدالة نوعاً مّا، وإن كانت لا تخلو من قصور في الأداء، ومعظمه ينتج من تدخل الحكومات، وتقييد طرق الانتخاب. ومع ذلك فهو أفضل طريق في الوقت الحاضر لتحقيق الشورى.

وقد تمسّك بعض مرضى القلوب بهذه الآية للقول بأنّ النظام الاجتماعي وتشكيل الحكومة في الإسلام يستند إلى الشورى في محاولة لإنكار الإمامة. وقد فنّدنا هذه المحاولة في رسالتنا التي لم تكتمل «دفع أباطيل الكاتب» وقلنا بأنّه لو تمّ ذلك لكان مقتضى الآية أن تكون ولاية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أيضاً بالشورى، وأنّه إنّما تجب إطاعته إذا بايعه الناس، كما ربّما يلهج ب_ه بع_ض م_ن ي_دّع_ي الإسلام، ويعتنق الديموقراطية. والله تعالى يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ

ص: 116

بإِذْنِ الله)،(1) فالناس يجب عليهم أن يبايعوا الرسول، ويجب أن يطيعوه، وكذلك الإمام المعصوم، لأنّه المقصود باُولي الأمر في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا الله وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأمر مِنكُمْ).(2) وعليه فالمراد بالأمر فى هذه الآية هو سائر الاُمور الاجتماعية ما عدا إطاعة الإمام المعصوم، نعم يشمل ذلك تعيين الحاكم في زمان الغيبة.

والملفت للنظر أنّ الآية - على ما يبدو - نزلت في مكّة والمؤمنون لم يؤسّسوا حكومة، بل ولا مجتمعاً مستقّلاً ونظاماً خاصّاً بهم، ومع ذلك فإنّ من سماتهم التي يُمدحون بها ويثابون عليها هو أنّ الأمر بينهم .شورى وهذا ممّا يدلّ على أنّه من خصائص الإيمان، وليس سمة من سمات النظام الاجتماعي.

و«الشورى» قيل إنّه مصدر بمعنى التشاور، فيكون الإطلاق من باب المبالغة، أي أمرهم تشاور. وقيل: اسم بمعنى ما يتشاور فيه والمشورة مأخوذة من الشَور بمعنى الأخذ من شار العسل، أي اجتناه باعتبار أنّ المستشير يحاول أخذ الرأي ممّن يستشيره والتشاور والمشاورة محاولة أخذ الرأي من عدّة بعضهم من بعضهم، ومثله المؤامرة. ويمكن أن يكون مأخوذاً من الإشارة، حيث يطلب كلّ منهم أن يشير الآخرون إلى ما هو الصحيح.

(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) وهذه هي الخصلة الثامنة. وهي أنّهم لا يبخلون بأموالهم، بل ينفقونها في سبيل الله لمساعدة الفقراء، أو لبناء المباني التي يحتاجها الناس، أو للدفاع عن الدين والمسلمين، ونحو ذلك من المصالح العامّة.

ص: 117


1- النساء (٤): ٦٤
2- النساء (٤): ٥٩

والإنفاق من أهمّ الأعمال التي يقرّب المؤمن إلى الله تعالى، ويؤثّر في تكامل النفس وترفّعها عن حبّ الدنيا وهو رأس كلّ خطيئة. قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(1) والتعبير عن أموالهم ب_: (مَا رَزَقْنَاهُمْ) للتنبيه على أنّه لا منّة لأحد إذا أنفق ماله في سبيل الله، فإنّه لم يحصل عليه إلا بإعطاء ورزق من الله تعالى.

(وَالَّذِينَ إذا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) وهذه الخصلة الأخيرة. و«البغي» هو الاعتداء، وإن كان في الأصل بمعنى الطلب. وإصابة البغي بمعنى وقوع الاعتداء عليهم. والانتصار طلب النصرة والعون.

والمدح فيه من جهتين:

الأولى: أنّهم يتناصرون، أي ينصر بعضهم بعضاً إذا أصاب بعضهم البغي ممّا يدلّ على التعاضد الاجتماعي.

والثانية: أنّهم يقاومون الظلم ولا يستسلمون له. وهذا في حد ذاته محمود وإن كان العفو أفضل في بعض الموارد، كما ستأتي الإشارة إليه والضمير المنفصل لتأكيد ترتّب الجزاء، كما مرّ في قوله تعالى: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) ولا يدلّ على اختصاص الأمر بالمؤمنين - كما قيل - مع أنّ عدم الاختصاص واضح.

ولا يخفى أنّ ذكر هذه الخصال من باب المثال ولا تقتصر الخصال الحميدة، بل الذي يجب على المؤمن أن يتحلّى بها في هذه المجموعة.

ص: 118


1- الحشر :(٥٩): 9

سورة الشورى (٤٠ - ٤٣)

وَجَزَاؤُا سَيِّئَةِ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ، لَا تُحِبُّ الظَّلِمِينَ (40)وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ، فَأَوْلَتِبِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَوْلَتَبِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(43)

(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) تعليل لانتصار المؤمنين على الباغي، كما ورد في الآية السابقة، فهو نظير قوله تعالى: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)(1) حيث رتّب الأمر بالاعتداء والمعاملة بالمثل على كون الحرمات قصاصاً.

وتسمية الجزاء سيئة إمّا للمجاراة في التعبير كتسميته اعتداء في الآية الثانية وإمّا من جهة أنّه يسوء المعتدي فهو سيّئة بالنسبة إليه وإن لم يكن في حدّ ذاته أمراً سيئاً.

والمراد بالمماثلة عدم تجاوز المتعارف في مثله لا المماثلة التامة، فإنّه غير ميسور غالباً، فالقاتل يقتل ولكن لا يجب أن يكون القتل بنفس الطريقة.

(فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله) الحكم بالمجازاة هو القاعدة الأساسية، وعليه يبتني تحكيم العدل والقانون في المجتمع. ولذلك قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)،(2) فلا بدّ من مجازاة المعتدي لئلا يستشري الظلم

والعدوان.

ص: 119


1- البقرة (٢) ١٩٤
2- البقرة (2): 179

ولكن هناك استثناءات، فربّما يجد وليّ الدم من المعتدي الندم الشديد ويتيقّن منه أنّه لن يعود إلى مثل ذلك، وأنّ العفو عنه لا يجرّى الآخرين على ارتكاب الجريمة بعد أن قبضت عليه العدالة، وأدين بمقتضى القانون، وأطلق ي_د الوليّ ليقتصّ منه، فإنّ العفو والمسامحة في هذا الظرف ترسيخ للأخوّة في الدين، وتقوية لأواصر الحبّ والوداد بين شرائح المجتمع. ولذلك ندب إليه الشرع بأبلغ بيان حيث جعل أجره على الله تعالى، وهو إجمال له من التعظيم ما لا يسعه البيان. ويكفي العبد عزّاً وفخراً أن يضمن الله تعالى أجره. ولعلّ إضافة الإصلاح إلى العفو، للإشارة إلى أنّ العفو ربّما يستتبع إذلالاً وقطيعة، فليس هو الموضوع لهذا الأجر العظيم، بل العفو المستتبع لإصلاح ما فسد بين الفريقين هو موضوع الأجر المضمون.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ)، الظاهر أنّه تعليل للجملة الأولى حيث قيّد مجازاة السيّئة بسيّئة مثلها، بحيث لا يتجاوز عنها كمّاً وكيفاً، فإنّ التجاوز عنها ظلم، وإن كان هو بادئاً بالعدوان. وعليه فذكر حكم العفو جملة معترضة قدمها للتعجيل في التحريض على العفو.

وقيل: إنّه تعليل لما قبله، أي إنّ أجر العافي المصلح على الله تعالى؛ لأنّ الانتقام وإن كان حقّاً له، إلا أنّه ربّما يتجاوز عن المقدار المجاز، فإنّه عرضة ل_ه، خصوصاً مع كونه في حال الغضب، فالعفو أصلح له؛ لأنّ الله لا يحبّ الظالمين. والأول أقرب.

وقيل: إنّه إشارة إلى أنّ الترغيب في العفو ليس للإبقاء على الظالم وتفضّلاً عليه، فإنّ الله لا يحبّ الظالمين، وإنّما هو تفضّل على وليّ الدم، لينال بعفوه

ص: 120

الجزاء. وهذا بعيد جدّاً عن اللفظ.

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلِ»، «اللام» لام الابتداء ويؤكّد مضمون الجملة. و «مَن» شرطية والفاء» للجزاء. وقوله: (ظُلْمِهِ) من إضافة المصدر إلى المفعول أي من انتصر على الظالم بعد وقوع الظلم عليه فلا سبيل عليه أي لا يؤاخذ إذا انتقم من الظالم. و «مِن» زائدة تؤكّد نفي السبيل. وهو في الأصل الطريق، ويكنّى به عن كلّ ما يتوصّل به إلى شيء، والمراد هنا ما يتوصّل به إلى الانتقام. وهذه الجملة للتأكيد على ما ورد في الآيات السابقة من جواز معاملة السيّئة بالسيّئة، والانتصار على الباغي. وأتى بضمير المفرد في «ظلمه»

للرجوع إلى لفظ الموصول، وعبّر بالجمع في جملة الجزاء باعتبار المصاديق.

(إِنَّما السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقَّ)، «إنّما» تفيد الحصر إمّا مطلقاً أو إذا اقتضى المقام، كما هنا لورود هذه الجملة بعد نفي السبيل، أي أنّ الإدانة تختصّ بمن يظلم الناس ابتداءاً ويتجاوز عن حدّه. والجملة التالية عطف تفسير.

و«البغي» في الأصل بمعنى الطلب، إلا أنّه يستعمل غالباً في خصوص ما إذا طلب الإنسان ما لا يحقّ له، وقوله: (بغَيرِالحَقِّ) ليس قيداً، بل هو تأكيد لما يفهم من البغي مطلقاً. ويفهم من قوله (في الأرْضِ) أنّ بغيهم لا يختصّ بقوم ومكان وزمان وظروف خاصّة، فهم يطلبون ما يتمكّنون منه من حقّ الناس في الأرض أينما كان.

(أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الظاهر أنّ المراد به عذاب الآخرة. وهذا غير ما يدانون به من السبيل، والمعاملة بالمثل، والانتقام في الدنيا.

ص: 121

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) تكرار لام الابتداء في هذه الجملة و تصدير الجملة الثانية بحرف (إنّ) للتاكيد. والمضمون في نفسه تكرار لآية العفو السابقة للتأكيد أيضاً. وأضاف هنا الإشارة إلى أنّ العفو لا يكون إلا مع الصبر، فإنّ ترك الانتقام بعد الظفر بالباغي ممّا يشقّ على الإنسان.

ثمّ إنّه أبدل العفو بالغفران تأكيداً على نسيان الأمر والستر عليه. والعزم __ على ما في «مفردات» الراغب - هو عقد القلب على إمضاء الأمر.(1) وعليه فالمعنى أنّ ذلك من الأمور التي تتوقّف على العزم والجدّ.

ص: 122


1- مفردات ألفاظ القرآن: ٥٦٥

سورة الشورى (٤٤ _ ٤٨)

وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِى مِنْ بَعْدِهِ، وَتَرَى الظَّلِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍ مِّن سَبِيلٍ (44) وَتَرَنَهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفِ خَفِي وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ الخَسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّلِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُم مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ (46)أَسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمَ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَلْجَإِ يَوْمَن وَمَا لَكُم مِّن نَكِيرِ(47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَعُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِيهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَينَ كَفُورٌ(48)

(وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) تأتي هذه الآيات في سياق ذكر الفريقين، حيث ذكر صفات المؤمنين الذين يحظّون بالنعم الإلهية في الآخرة، ثمّ أعقبه هنا بذكر الظالمين، الذين أضلّهم الله تعالى نتيجة لعنادهم وكفرهم بعد إتمام الحجّة الواضحة، فإنّ الضلال حينئذ يكون مسجّلاً عليهم بصورة طبيعية، لأنّ معاندة الحقّ والمكابرة في مقابل الدليل الواضح تستلزم البعد عن الهداية والرشاد بعداً لا أمل فيه للرجوع والاستبصار. وهذا هو معنى إضلال الله تعالى، فإنّ كلّ نتيجة طبيعية للعمل مستند إليه تعالى، وإذا تمّ الإضلال منه، فإنّه لا يبقى للإنسان وليّ يأخذ بيده ويخرجه من الظلمات إلى النور ولا يمكن لشيء أن يقاوم إرادة الله تعالى، كما نجده بالعيان في الأمور الطبيعية الحتمية. وقوله: (مِنْ بَعْدِهِ)، أي بعد إضلاله تعالى أو بعد الله بمعنى غيره، لا البعدية الزمانية، فهو كقوله تعالى:

ص: 123

(فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلا الضَّلال).(1)

(وَتَرَى الظَّالِمينَ لمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدُّ مِنْ سَبِيلٍ)، تصوير مرعب لحالۀ الظالمين المتجبّرين يوم القيامة، وبعد مواجهتهم لعذاب الله تعالى، الذي هو نتيجة أعمالهم وطغيانهم في الحياة الدنيا والظلم لا يختصّ بالاعتداء على الغير، بل كلّ عمل في غير موضعه الصحيح ظلم والمراد به هنا الظلم الديني، أي مخالفة أوامر الله تعالى ونواهيه الإلزامية، أو خصوص ما كان مرتبطاً بأصل الايمان. والخطاب في قوله: (وَتَرَى الظَّالِمينَ ) للرسول صلی الله علیه و آله وسلم، أو لكلّ من يسمع أو يتلو القرآن. و«المردّه»: مصدر بمعنى الرجوع، أي يقولون بلهفة وتحسّر ويأس: هل من سبيل ووسيلة نتمكّن بها من الرجوع إلى الدنيا؟

وهذا التحسّر يبدأ من أوّل الموت، ويتكرّر في كلّ موضع، قال تعالى: (حَتَّى إذا جَاءَ أحَدَهُمُ الموتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ)(2) وهذا مجرد أمنيّة تدلّ على شدّة اللهفة وإلا فهو أمر مستحيل، والشيء لا يعود بعد تطوّره وتكامله إلى مرحلة سابقة، فالكهل لا يعود طفلاً، والطفل لا يعود جنيناً، و

الجنين لا يعود نطفة، وهكذا.

(وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ ) الخطاب هنا أيضاً _ كما مرّ في الآية السابقة واُعيد التنبيه على الرؤية - للتأكيد على تحقّق هذه الحالة وأنّها مرئية للجميع ولتهويل ما يحدث. والضمير في (عَلَيْهَا) يعود إلى النار أو جهنّم، وهي المقصودة بالعذاب في الآية السابقة، وبهذا الاعتبار كان الضمير مؤنثاً. و«العرض

ص: 124


1- يونس (10): (32
2- المؤمنون (23): 99 - 100.

على النار» ليس بمعنى نفس تذوّق العذاب كما ربّما يتوهّم، لقوله تعالى: (يَنظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٌّ ) ممّا يدلّ على أنّ ذلك قبل دخولهم النار، بل بمعنى إراءتهم إيّاها؛ فإمّا أن يكون من باب القلب، كقولهم: «عرضت البعير على الماء»، فإن الأصل فيه عرض الماء على البعير، فإنّ الماء لا يشعر بشيء. وإمّا أن يكون بلحاظ اعتبار جهنّم مدركة شاعرة، كما في قوله تعالى: (يَوْمَ نَقُولُ جَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزيد)،(1) فكأنّها تتوعّدهم حين يعرضون عليها. وربّما يكون لها إدراك وشعور واقعاً وإن خفي ذلك علينا. و«الخشوع» هو الإط_راق والانتكاس، وهو قد يكون من حياء أو إجلال. ولكنّه هنا من ذلّ وخزي.

(يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِي)، «الطرف» في الأصل جفن العين، لأنّه طرفها، أي جانبها. ويطلق بالمعنى المصدري على تحريك الجفن، ثمّ أطلق على العين بنفسها بالمناسبة. وهو المقصود هنا على الظاهر، فالمعنى أنّهم لا يفتحون عيونهم للإبصار، بل ينظرون إلى النار باستراق خوفاً ورهبة، كالمحكوم بالإعدام ينظر

إلى المشنقة.

(وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). هذا إعلان يندّد بالظالمين ويكبتهم، فهذا القول وإن لم يتضمّن حكماً جزائياً ولكنّه تشميت وإذلال للظالمين. ولعلّ المراد ب_ «الذين آمنوا الخواصّ منهم، أي الأنبياء والأولياء المخلصون، كما نبّه عليه العلامة الطباطبائي رحمه الله،(2) فإنّهم الذين بيدهم أزمّة الأمور يوم القيامة بإذن الله تعالى. وقد ورد مثل ذلك في قوله تعالى:

ص: 125


1- ق (50): 30
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن ١٠: ٦٦

(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ).(1) وفي الحديث عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال: «أنا ذلك المؤذّن».(2)

وقال بعض ممّن في قلوبهم مرض إنّ ذلك ليس امتيازاً ل_ه علیه السلام حيث يكون مجرّد مؤذّن ومعلن. وقد تغافل عن ما ذكره هو بنفسه في موضع آخر من أنّ النداءات يوم القيامة ليست مجرّد أقوال، بل هي حقائق تظهر، فيعبّر عن ظهورها بذلك. فهذا الأذان في الواقع عبارة عن جعل اللعنة عليهم، وهذا ليس شأن عامّة

المؤمنين، بل هو شأن من بيده الثواب والعقاب بأمر من الله تعالى.

ونظيره أيضاً كلام أصحاب الأعراف الذي ورد بعد الآية السابقة في سورة الأعراف، حيث يخاطبون أصحاب الجنّة، أي المستحقّين لها وهم لم يدخلوها بعد: (ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ).(3)

وهنا أيضاً يعلنون أنّ الخسارة واقعاً هو أن يخسر الإنسان نفسه وأهله القيامة، أي ليست الخسارة أن يموت الإنسان في الدنيا شابّاً أو فقيراً أو يفقد أهله فكلّ ذلك خسارة يمكن جبرها، وأمّا الخسارة يوم القيامة فلا جابر لها. ومن هنا جاءت العبارة بما تفيد الحصر، أي إنّ الخاسر هو هذا لا غيره. والظاهر أنّ المراد بالأهل أهلهم في الدنيا، وخسارتهم بمعنى فقدانهم، فإنّهم في جهنّم لا يجتمعون، ولا يرغب بعضهم في بعض، بل يفرّ كلّ امرئ من أهله، بخلاف أصحاب الجنّة.

وقيل: إنّ المراد ما ادُّخر لهم من الحور والولدان على تقدير إيمانهم، فهم

ص: 126


1- الأعراف (٧): ٤٤
2- معاني الأخبار: ٥٩؛ الكافي ١: ٤٢٦ و راجع: تفسير العيّاشي ٢: ١٧ .
3- الأعراف (٧): ٤٩.

يخسرونهم بكفرهم. وهو بعيد لعدم صدق الأهل عليهم.

(ألا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ)، أي عذاب دائم من الإقامة بمعنى الإدامة، كما مرّ في إقامة الصلاة. والجملة تحتمل أن تكون من تمام الإعلان السابق، فتكون بمنزلة التعليل، وتبيين كون الخاسر منحصراً فيهم، وذلك من جهة خلود العذاب، فهي خسارة لا جبر لها، بخلاف ما يخسره الإنسان في الدنيا، فإنّها خسارة مؤقتة، ويمكن أن يتعقّبها ربح جابر. ويحتمل أن تكون الجملة تعقيباً من الله تعالى.

(وَمَا كَانَ هُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ الله)، أي يجدون أنفسهم ذلك اليوم من دون ناصر ومعين، بل يعلمون أنّه لم يكن لهم نصير من قبل، وإنّما كانوا يتوهّمون نصرة الأصنام وغيرها ممّن كانوا يدعونهم من دون الله تعالى. فهذا الأمر يظهر لهم بوضوح، ويتبيّن أنّه ما من أحد يمكنه أن ينصر أحداً من دون الله في الدنيا ولا في الآخرة. ولذلك عبر عن نفي الأولياء بنفي الكون في الماضي: (وَمَا كَانَ هُم).

والنصرة من دون الله تقابلها النصرة بإذن الله تعالى، فإنّها حاصلة لأوليائه و عباده المخلصين وهي الشفاعة. ومعنى النصرة من دون الله تعالى أن تغنيه عن نصرة الله تعالى. و «من» في قوله: (مِنْ أوْلِيَاءَ) زائدة تفيد التأكيد.

(وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ)، أي لا سبيل له إلى الهداية. و «من» زائدة أيضاً. وهذا تأكيد لما في أوّل هذه المجموعة من الآيات.

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله )، بعد التحذير والإنذار ممّا يصيب الظالمين يوم القيامة وجّه الدعوة إلى كلّ البشر: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) و«الاستجابة إجابة الداعي، أي اقبلوا دعوته إلى الصلاة والصلاح فهو ربّكم

ص: 127

ولا يريد لكم أمراً إلا ما هو دخيل في حسن تربيتكم، وإكمال نفوسكم لتصلحوا لما أراد لكم ربّكم من نعم خالدة، ولا تؤجّلوا الرجوع إلى الله، وإلى امتثال أوامره، ولا يغرّتّكم الإمهال واجتنبوا التسويف، فسيأتي يوم تسدّ فيه أبواب القبول، وهو يوم لا مردّ له من الله.

و «مردّ» مصدر بمعنى الردّ. و «من» متعلقة بمردّ، أي لا ردّ له من الله تعالى. والردّ _ على ما قالوا _ بمعنى المنع، فالمراد أنّه تعالى لا يمنع من تحقّقه. ويمكن أن يكون الردّ بمعنى الرجوع، فالمراد أنّه تعالى لا يرجع عن هذا القرار، فهو قضاء حتم. وهذا الأمر مما تكرّر التأكيد عليه في القرآن الكريم، وهو أنّه أمر حتمي قد قضى الله فيه قضاءاً حتماً، فلا تمنّوا أنفسكم باحتمال أن يتغيّر فيه القضاء. والاحتمال الثاني أقرب.

(مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) جملة مستأنفة تبيّن حال الظالمين يوم القيامة، ففي هذا اليوم لا ملجأ لهم من عذاب الله والملجأ اسم مكان من اللجوء، فالمعنى أنّهم لا يجدون مكاناً يأوون إليه فراراً من العذاب. ويمكن أن يكنّى به عن الناصر، أي ليس لكم ناصر يوم القيامة والنكير مصدر بمعنى الإنكار. أي لا يمكنكم إنكار ما فعلتموه، فإنّ الأفعال والأقوال كلّها حاضرة أمام الله تعالى وبمرأى ومسمع من الجميع.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغ)، أي فإن أعرضوا عن الاستجابة لدعوة ربّهم. وهذا التفات من مخاطبة الناس إلى مخاطبة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لرفع الحرج عنه، لكي لا يشعر بالتقصير في أداء الواجب حيث واج_ه عن_ادهم وكفرهم. وهذا الشعور أمر طبيعي لمن يهتمّ بهداية الناس ويشعر بالمسؤولية،

ص: 128

فإنّه إذا واجه صدود الناس وإعراضهم يحذر من أن يكون السبب تقصيره في الأداء. وجزاء الشرط محذوف، فيمكن أن يقدر: (فلا حرج عليك في ذلك) وما ورد في الجزاء سبب له، أي ليس دورك إلا التبليغ وقد أدّيته بأحسن وجه.

وقد تكرّر التنبيه على هذا الأمر في القرآن الكريم، وبالنسبة لجميع الرسل، فدور الرسول منحصر في التبليغ ، ولم يبعثه الله حفيظاً على العباد، ليكون مسؤولاً عن عدم استجابتهم للدعوة الإلهية. وقد مرّ في تفسير الآية ٦ أنّ الحفيظ إذا تعدّى ب_ «على» كان معناه تسجيل أعمالهم عليهم للمحاسبة والجزاء. وفي ذلك

ب_ تهديد مبطّن، وإعلام بأنّ هناك حفظاء يسجّلون عليهم الأعمال، فليأخذوا حذرهم.

(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ). اختلف في موقع هذه الجملة وتناسبها مع ما تقدمها، ففي «الميزان»: أنّ المراد بالآية حيث كان تسلية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بيّن بهذه الجملة حالة الإنسان واشتغاله بنفسه في الرخاء والشدة، فهو فرح بطرفي الرخاء، وكفور في البلاء، ولا تنفعه موعظة.(1)

وقيل: إنّ التسلية تتمّ بهذه الجملة من جهة التنبيه على أنّ هذا حال الإنسان مع ربّه فكيف بالرسول؟!

والذي يبدو لي أنّ هذه الجملة يقصد بها التنبيه على أنّ الله تعالى لم يكتف بدعوة هذا الإنسان الظلوم ولا بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإقامة الحجج ونصب الأئمّة، بل ذكر الإنسان بربّه عن طريق الرخاء والشدة، والنعمة والنقمة

ص: 129


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن ١٠: ٦٨

لعلّه ينتبه إلى شكر المنعم والتخوف من المنتقم ، ولكنّه أصرّ على الكفران. ولذلك صدّر الجملة بضمير المتكلم: (وإنَّا ) ولم يقل: وإنّ الإنسان إذا أذقناه، تنبيهاً على أنّ مصبّ الكلام هو تكميل الدعوة بهذا التذكير وهو فعله تعالى.

والتعبير بالإذاقة بدلاً عن الإنعام ونحوه ، ينبّه على أنّ الإنسان قد ذاق النعمة وتلذّذ بها، فلم تكن مجرّد نعمة ولو مجهولة. ولكنّه مع ذلك لم يتجاوز عن التلذّذ بالنعمة إلى شكر المنعم والإيمان بلطفه وعنايته، ب_ل ف_رح بالنعمة ذاتها ومكث فيها لا يتجاوزها.

ويلاحظ في تعبير الآية الكريمة أنه تعالى نسب الرحمة إلى نفسه، وأكّد على ذلك بتقديم الضمير مع التأكيد ب_ «إنّ» وكرّر الضمير بقوله: (أذقنَا) وأضاف إليه أن الرحمة منه تعالى أيضاً ، فكرّر ضمير المتكلّم ثلاث مرّات، وكان من الممكن أن يقول «وإذا أذقنا الإنسان رحمة»، ولكنّه في جانب السيّئة نسب الفعل إليها وذكر السبب، وأنّه من فعل الإنسان نفسه وممّا قدّمت يداه، مع أنّ إصابة السيئة أيضاً من فعل الله تعالى. وذلك لأنّ الغرض التنديد بالإنسان وتعامله مع ما يذكّره بالله تعالى، فكان الأنسب أن ينبّه على السبب في إصابة السيئة، وهو ما يرتكبه الإنسان من الآثام، كما مرّ في نفس السورة: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ) إذ لو اكتفي بذكر الإصابة أوهم أنّه ربّما يكون على حقّ في كفران_ه بالنعم بعد أن أصابه البلاء، فلزم التنويه على أنّ ما أصابه من السيّئة إنّما هو نتيجة لما قدمت يداه من الذنوب، ولم يكن مبادرة من نظام الكون، ومع ذلك فإنّه لا يصبر على البلاء، بل يكفر بربّه، وينسى كلّ ما أذاقه من الرحمة، بدلاً من أن

يكون ذلك حافزاً لتنبّهه وتوبته، وإقلاعه عن الذنوب لئلا تصيبه السيئات.

ص: 130

والمراد بالسيّئة ما يسوء الإنسان من مصائب الدنيا وبما قدمت أيديهم المعاصي التي ارتكبوها، فإنّها تتقدّمهم، ويجدونها حاضرة قبل حضورهم ي_وم القيامة. والتعبير بالأيدي باعتبار أنّ أكثر الأعمال المشهودة في الدنيا مستندة إليهما، فيقال: هذا ما كسبته يداه، مع أنّ كثيراً من الأعمال مستندة إلى جوارح اُخرى كالعين واللسان والتعبير بالإنسان بدلاً عن الناس، لعلّه للتنبيه على أنّ من خصائص النوع، ولعلّه لذلك أيضاً كرّر ذكر الإنسان في آخر الجملة بدلاً عن الضمير. ولعلّ في اختيار التعبير بالجمع في الإصابة بالسيّئة للتحذير من عذاب عامّ يشمل الجميع.

ص: 131

سورة الشورى (٤٩ - ٥٠)

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ تَخَلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ(49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَنا وَتَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

(الله مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ،) اختلفوا في بيان وجه التناسب بين هاتين الآيتين وما سبق، فقال بعضهم: إنّ الآية في سياق الكلام عن الرزق في الآية ٢٧ حيث عبّر هنا عن تقدير الأولاد بالهبة، وهذا التعبير يناسب الرزق. وأرى أنّ نفي لزوم التناسب بين الآيات أهون من ذلك.

وقيل: إنّها تناسب الآية السابقة من جهة أنّ الإنعام وإصابة السيّئة ربّما تثير سؤالاً عن الوجه في ذلك، فالآية تجيب بأنّه تعالى يخلق ما يشاء.

ولكن من الواضح أنّ الغرض من هذه الآية ما بعد هذه الجملة من هبة الأولاد، وأنّ هذه الجملة مقدّمة لها، وهبة الأولاد لا علاقة لها بالآية السابقة.

والظاهر أنّه لا موجب للقول بلزوم التناسب بين الآيات دائماً، بل حتّى في الآية الواحدة ربّما يتغيّر موضوع الكلام، كما في بعض الروايات، فإن كان ولابد، فلعلّ الآيتين يعود سياقهما إلى ما مرّ في أوائل السورة من التأكيد على عموم الربوبية، ومن المعروف أنّ دأب القرآن الرجوع في آخر السورة إلى ب_دو الحديث.

ومهما كان، فالجملة الأولى تؤكّد أنّ الملكية الحقيقية في الكون بأجمعه الله ،تعالى، وتقديم الجارّ والمجرور يفيد الحصر، فليس لغيره تعالى ملك في السماوات والأرض. وقد ذكرنا مراراً أنّ السماوت والأرض كناية عن الكون كلّه. و«الملك» بضم الميم، هو التمكّن من التصرّف وغيره تعالى لا يتمكّن من

ص: 132

التصرف إلا في حدود ما أذن له، فالسلطة المطلقة والعامة والذاتية ليست إلا له تعالى، وهو الذي يملك القدرة في كلّ ما يحدث من تغيير، وكلّ ما يستقر من نظام، وعليه فهو يخلق ما يشاء. وكلّ ما يتكوّن في الطبيعة أو خارجها فه_و م_ن صنعه تعالى.

والغرض من التأكيد على المشيئة في الخلق والتدبير، التنبيه على أنّ الأمور وإن كانت تسير وفقاً للقوانين الكونية التي لا تتبدّل إلا أنّ كلّ ذلك يتبع مشيئة الله تعالى وهو لا يشاء جزافاً، بل لحكمة لا يعلمها بالتحديد غيره.

(يَهَبُ مَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَو يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً،) ومن عموم ملكه وسلطانه وربوبيته وخلقه لما يشاء، وفقاً للحكمة في الكون أنّه تعالى يجعل بعض الناس لا يولد له إلا الذكور، وبعضهم لا يولد له إلا الإناث، و بعضهم يولد له الصنفان وبعضهم عقيماً لا يولد له ولد.

وليس المراد أنّ هذه الحالات الطارئة على الإنسان مرتبطة بالغيب وبإرادته تعالى بوجه خاصّ، وأنّها مستثناة من سائر ما في الطبيعة، حيث تخضع للعوامل الطبيعية، بل إنّ كلّ واحدة من هذه الظواهر لها علل و عوامل طبيعية، ويمكن تغييرها طبقاً للسنن الطبيعية أيضاً، ولكنّها في نهاية الأمر من خلق الله تعالى، فإنّه هو واضع السنن، بل هو المسيّر للأمور، فلا يؤثّر عامل أثره إلا بإرادته وهذا الاعتقاد هو أساس الدين، وهو المائز بين الشرك والإيمان، فإنّ المشركين كانوا يعتقدون بخالقيته تعالى، ولكنّهم كانوا يرفضون عموم الربوبية.

والتعبير بالهبة لبيان أنّ الأولاد من الصنفين نعمة يهبها الله تعالى للوالدين، وفي ذلك تعريض بما كان متداولاً بين العرب من تحقير البنات، حتّى نزل فيهم

ص: 133

قوله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءٍ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أم يَدُسُّهُ في التُّرَابِ ألا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)،(1) فالله تعالى اعتبر البنات هبة منه تعالى، بل قدّم ذكرهنّ على البنين. و«التزويج»: القرن بين شيئين متناسبين. و«الزوجان»: المثلان المتقارنان فقوله: (أو يُزَوِّجُهُمْ )، أي يهبهم الزوجين، أي اثنين من كلّ صنف واحداً أو أكثر، فيولد لهم الذكر والأنثى. و«العقيم» من لا يولد له.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ )،عليم بالأسباب فيتوصّل إلى كلّ شيء بسببه، بل هو المسبّب لها. وهو القادر على كلّ شيء بجعل أسبابه. أو أنّه عليم بما يصلح لكلّ أحد وقادر على ذلك.

وهنا يبدو سؤال، وهو أنّ الظاهر من الآية أنّ الإنسان لا يتمكّن من التحكّم في الولد، فإن كان عقيماً فلا سبيل له إلى الإيلاد، وإن كان مئناثاً فلا سبيل له إلى ولد ذكر ، وكذا العكس ، مع أنّ التقدّم العلمي أوصل الإنسان إلى أمنيّته فيمكنه أن يحصل على ما يريده من ولد متى شاء، فكيف توجّه الآية؟

والجواب: أنّ المراد بالآية من يهبه الله إناثاً أو ذكوراً ولو بالواسطة، فلا يختصّ بمن هو كذلك بطبعه، سواء كانت الواسطة طبيعية، كالمعالجة بالعقاقير والأدوية القديمة، أو تناول الأغذية التي تؤثّر حسب التجارب البشرية، أو التوصّل إلى ذلك بطرق العلاج الحديثة، أو غير طبيعية، كما كان يحصل للناس بالتوسل بالدعاء، أو التوسل بأولياء الله تعالى، كما حصل لوالد الشيخ الصدوق رحمه الله. ونحن ننقل القصة هنا عن لسان الشيخ الصدوق نفسه في كتابه القيّم

ص: 134


1- النحل (١٦): ٥٨ - ٥٩.

«كمال الدين وتمام النعمة» تيمّناً وتبرّكاً، قال رحمه الله:

حدّثنا أبو جعفر محمّد بن عليّ الأسود رضی الله عنه، قال: سألني علي بن الحسين بن موسى بن بابويه رضی الله عنه- وهو والد الشيخ الصدوق - بعد موت محمّد بن عثمان العمري رضی الله عنه- النائب الثاني لصاحب الأمر عجّل الله فرجه - أن أسأل أبا القاسم الروحي - أي الحسين بن روح النائب الثالث - أن يسأل مولانا صاحب الزمان علیه السلام أن يدعو الله عزّ وجلّ أن يرزقه ولداً ذكراً. قال: فسألته فأنهى ذلك _ أي فأوصل الرسالة إلى الإمام علیه السلام- ثمّ أخبرني بعد ذلك بثلاثة أيّام أنّه قد دعا لعلي بن الحسين و أنّه سيولد له ولد مبارك ينفع الله به وبعده أولاد.

قال أبو جعفر محمّد بن علي الأسود رضی الله عنه: وسألته في أمر نفسي أن يدعو الله لي أن يرزقني ولداً ذكراً، فلم يجبني إليه. وقال: ليس إلى هذا سبيل. قال: فول_د لعلي بن الحسين رضی الله عنه محمّد بن علي - وهو الشيخ الصدوق - وبعده أولاد ولم يولد لي شيء.

ثمّ قال الصدوق: قال مصنّف هذا الكتاب رضی الله عنه كان أبو جعفر محمّد بن علي الأسود رضی الله عنه كثيراً ما يقول: إذا رآني أختلف إلى مجلس شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضی الله عنه وأرغب في كتب العلم وحفظه، ليس بعجب أن تكون لك هذه الرغبة في العلم وأنت ولدت بدعاء الإمام رضی الله عنه.(1)

والحاصل أنّ المراد بهبة الله تعالى لبعض إناثاً ولبعض ذكوراً وجعل بعض الناس عقيماً، لا يختصّ بمن يكون كذلك بحسب طبعه، أو يكون كذلك بعلاج، فكلّ ذلك يعود أمره إلى الله تعالى، ولا يتحقّق من دون إذنه. والعلاج ليس أمراً

ص: 135


1- كمال الدين وتمام النعمة: ٣١/٥٠٢

مستحدثاً، بل البشر طيلة التأريخ كان يحاول ذلك، ويعالج نوعاً مّا. وهناك موارد كثيرة لا يمكن علاجها، وبعض أنواع الإيلاد لا يعتبر واقعاً إي_لاداً من الرجل نفسه، بل هو تبنّي لولد الغير، كالاستفادة من حويمن رجل آخر وكذلك بالنسبة البويضات المرأة.

وينبغي أن ننبّه هنا على ملاحظة أساسية لمن يريد أن يكتب عن الدين أو يفسّر القرآن والحديث، وهي أنّه لا يصحّ الاعتماد على ما بلغ إليه العلم أو لم يبلغه حتّى الآن في تفسير كلام الله تعالى مع سرعة التغيّرات والمفاجئات العلمية وتبيّن الأخطاء. ونجد في هذا المجال أنّ بعض المفسّرين الجدّد حاول أن يستخلّص معجزة من هذه الآية، حيث إنّها تدلّ على أنّ العقم والإيلاد، وك_ون الرجل مثناثاً أو مذكاراً أمر يختصّ به تعالى وليس للبشر فيه حول ولا قوّة؛ لأنّ العلم بالرغم من كلّ تقدّمه وتطوّره لم يتمكّن من تغيير ذلك.

وهذا قد تبيّن ضعفه بعد مدّة قصيرة من كتابة تفسيره، مع أنّ البشر - كما ذكرنا _ حاول العلاج طيلة التأريخ وتمكّن منه نوعاً مّا.

ص: 136

سورة الشورى (51 - 53)

*وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيا أَوْ مِن وَرَآيِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيُّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَبُ وَلَا الْإِيمَنُ وَلَكن جَعَلْتَهُ نُورًا تَهْدِى بِهِ، مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(52)صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ(53)

(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلا وَحْياً أو مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَو يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ)، يعود سياق السورة في ثلاث آيات من نهايتها إلى ما ابتدأ به من الكلام عن الوحي. وفي هذه الآية يحدد إمكان تلقّي البشر الكلام من الله تعالى في ثلاثة أوجه.

وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ) يدلّ على أنّ البشر لا يتحمّل غير ذلك، وإلا فالأمر ليس مستحيلاً في حدّ ذاته، والله تعالى قادر على كلّ شيء، فالنقص في القابل. ولذلك لم يقل: «ما كان الله أن يكلّم البشر»، كما قال تعالى: (مَا كَانَ الله أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ)،(1) لأنّ ذلك أمر مستحيل في حدّ ذاته. وقوله: (وَحياً) بتقدير «أن يوحي وحياً» كما أنّ قوله: (يُرْسِلَ رَسُولاً) بتقدير «أن».

و«التكليم» هو إلقاء الكلام على أحد مع الوصول إليه، ولا يختصّ بالتحدّث باللسان، وإخراج الصوت من الفم، ومن مقاطع الحروف، بل يصدق أيضاً مع إيجاد الكلام بآلة أو بدونها، مع وصول الصوت إلى المخاطب، بحيث يعلم أنّ مصدر الكلام هو المتكلّم بالذات. وهذا الأمر يتحقّق في زماننا هذا بالأجهزة

ص: 137


1- مريم (19): 35

الالكترونية الحديثة، كالأجهزة المنصوبة على الهواتف تتحدّث إليك إذا اتصلت بالرقم، ويعلمك بما أودع فيه من المعلومات المختلفة. فهذا أيضاً نوع من التكليم، والصوت من الجهاز وليس تسجيلاً لصوت إنسان، ولكن هناك من يتحمّل مسؤولية هذا الكلام، وإن كان ربّما لا يعلم بوصول الكلام إليك بالخصوص.

والحاصل أنّه لا مانع من التعبير عن ما يخلقه الله من صوت ويحدّث به بشراً كموسى علیه السلام بالتكليم، وهو تعبير على الحقيقة لا المجاز، وإن كان التكليم المتعارف لا يحدث بهذا النحو، ولكن الكيفية المتعارفة ليست دخيلة في مفهوم التكليم. ومثله كلّ ما ينسب إلى الله تعالى من صفات تحمل في كيفيتها المتعارفة ما لا يليق به تعالى،كالسمع والبصر والعلم وغير ذلك.

ولا وجه لتأويل تكليم الله تعالى بإلقاء العلم في روع الأنسان، فإنّه ليس من التكليم في شيء، وإلا لم يختصّ الأمر بموسى علیه السلام بل كان كلّ البشر ممّن كلّمه الله تعالى، لأنّ كلّ ما لدينا من علم فإنّما هو منه تعالى شأنه.

والصور الثلاث التي يمكن أن يتحقّق بها تكليم الله تعالى للبشر حسب هذه الآية هي:

١- الوحي، وهو في اللغة الإشارة والكتابة والإلهام، وكلّ إعلام بخفاء. ويبدو أنّ المقصود هنا هو المعنى الأخير، أي الإعلام بخفاء، سواء في اليقظة أو المنام فيشمل ما اُلقي على إبراهيم علیه السلام في الرؤيا من الأمر بذبح ابنه، وكلّ إلقاء في القلب يشعر الإنسان به آنّه من الله تعالى وتطمئنّ له نفسه، ولا يشمل الإلهامات التكوينية أو ما يسمّى بالغريزة، كقوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ

ص: 138

الْجِبَالِ بُيُوتاً)،(1) فإنّ هذا ليس من تكليم الله تعالى. وبذلك يتبيّن أنّ الوحي من الله تعالى أعمّ من تكليمه. والظاهر أنّ منه قوله تعالى بشأن يوسف علیه السلام (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنتتَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)،(2) وقوله تعالى: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ)(3) ونحو ذلك، وهو كثير، كما يمكن أن يكون المراد بالوحي في هذه الموارد محادثة الملك، فيكون التعبير بالإيحاء باعتبار أنّ الملك يوحي إلى الرسول، كما ورد في القسم الثالث.

والاحتمالان يأتيان في قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إلى أم مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ)،(4) فيحتمل أن يكون من قبيل الإلهام ويحتمل أن يكون من قبيل محادثة الملك، كما حدث لمريم علیها السلام. ومهما كان، فلا شكّ في أنّ أم موسى عليها السلام كانت تعلم أنّه من الله جلّ شأنه، ولذلك قال تعالى: (فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ)(5) ممّا يدلّ على أنّها كانت تعتبره وعداً منه تعالى.

ومن هذا القبيل أيضاً ما ورد من المقاولة بين الله تعالى وبعض الرسل، فيحتمل فيها الأمران، كقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمُوْتَى قَالَ أوَلَمْ تُؤْمِنُ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلبِي)(6) وغير ذلك، وهو كثير أيضاً بناءاً على ما سيأتي من اختصاص التكليم المباشر بموسى علیه السلام.

ص: 139


1- النحل (١٦): ٦٨.
2- يوسف (12): ١٥
3- الشعراء (٢٦): ٦٣
4- القصص (28): 7
5- القصص (28): 13
6- البقرة (٢): ٢٦٠

2 - أن يكون من وراء حجاب، أي يكلّمه الله تعالى من وراء حجاب. ومعنى ذلك أنّه يسمع الكلام ولا يجد أحداً، فهذا في الواقع تكليم من الله تعالى مباشرة وليس وحياً وإلقاءاً للعلم في خفاء، ولا يتوسّط بين الرسول وربّ_ه ملك. ومنه خطاب موسى علیه السلام في الطور. ولا أعلم موضعاً صرّح فيه بمثل هذا التكليم غيره.

ويظهر الاختصاص بوضوح من قوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لم نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيماً)،(1) حيث يلاحظ أنّه تعالى عبّر عن رسالة كلّ الأنبياء بالوحي، وأشار إلى مجموعة منهم، وذكر فيهم أولي العزم إلا موسى علیه السلام

فأفرده بالقول: (وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيماً ) ويتبيّن منه أنّ كلّ ما ورد من القول بين الله تعالى وسائر الأنبياء علیهم السلام ليس من التكليم المباشر، كما مرّ.

ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى:(قال يا موسى إني اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ برسالاتي وَبِكَلامي)؛(2) فإنّه يفيد اختصاصه من بين الناس باجتماع الأمرين: الرسالة والكلام، بخلاف غيره من الرسل.

٣- أن يكون بواسطة ملك، وهو المراد بقوله تعالى: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) ولعلّ هذا هو الغالب في إرسال الرسالات والمراد بالرسول الملك. وقوله: (فَيُوحِيَ) فاعله الملك، فالمعنى أنّه تعالى يرسل الملك، وهو

ص: 140


1- النساء (٤): ١٦٣ - ١٦٤.
2- الأعراف (٧): ١٤٤

يوحي إلى الرسول ما يشاء الله إبلاغه به، وذلك بإذن منه تعالى.

والتعبير عن إلقاء الملك بالوحى لعلّه من جهة أنّه أيضاً ليس من قبيل المحادثات بين البشر. ونحن لا نعلم كيفية تلقي الإنسان الرسول ما أوحى الله تعالى من الملك الرسول. والوارد في بعض الروايات أنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كان يعرض عليه شبه الغشوة حين تلقي الوحي، وأنّه كان يثقل حتّى لو كان على دابّة لم تتحمّل ثقله ولصقت بالأرض، وإن لم يثبت ذلك ولم يرد في الروايات المعتبرة.

والعلامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)،(1) قال: «وقد كان ثقله مشهوداً من حال النبي صلی الله علیه و آله وسلم بما كان يأخذه من البُرَحاء وشبه الإغماء على ما وردت به الأخبار المستفيضة».(2) والبُرَحاء: الحمى الشديدة.

ولعلّه يقصد بذلك أحاديث العامة؛ إذ لم يرد في كتبنا المعتبرة، بل في بعض رواياتنا ما ينافي ذلك وإن لم يثبت ذلك أيضاً عن طريق معتبر، وقد ورد في الروايات أنّ الرسول صلى الله عليه و اله و سلم كان يخبر عمّا يأتي به جبرئيل علیه السلام وه_و ف_ي وضع طبيعي ويقول: «هذا جبرئيل يأمرني بكذا وكذا أو يخبرني بكذا وكذا وهو مقبل على الناس يحدّثهم، ولكن لا نعلم كيف كان جبرئيل علیه السلام يخبره صلی الله علیه و آله وسلم فلعلّه أيضاً بالإيحاء، أي الإعلام بخفاء.

منها ما رواه الكليني بسند صحيح عن أبي عبد الله علیه السلام في حديث طوي_ل ع_ن حجّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم وفيه: «فَلَا فَرَغَ مِنْ سَعْيِهِ وَهُوَ عَلَ الْمَرْوَةِ اقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ فَحَمِدَ الله

ص: 141


1- المزمل (73): ٥
2- الميزان في تفسير القرآن ٢٠ ٦٢

وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثمّ قَالَ: «إِنَّ هَذَا جَبْرَئِيلُ - وَأَوْمَا بِيَدِهِ إِلى خَلْفِهِ - يَأْمُرُنِي أنْ آمُرَ مَنْ لَمْ يَسُقُ هَدْياً أنْ يُحِلَّ وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا أَمَرْتُكُمْ».(1)

وهناك موارد تحدّث فيها الملك مع الإنسان مواجهة كما تتحادث البشر بعضها مع بعض، وليس ذلك من الإيحاء، كما ورد في قصة لوط علیه السلام أنّ الملائكة نزلت عليه بصورة إنسان وأنّه اشتبه عليه الأمر، فقال : (هَذا يَومٌ عَصِيبٌ )،(2)حيث خاف عليهم من اعتداء أهل المدينة عليهم وه_م ش_ب_اب ح_س_ان الوجوه. وكذلك نزلوا بأنفسهم قبل ذلك على إبراهيم علیه السلام بصورة ضيوف وأتى إليهم بعجل حينذٍ، بل كلّموا زوجته وبشّروها بإسحاق علیه السلام. وأيضاً تمثّل الملك المريم علیها السلام بشراً سوياً وتحدّث إليها وخافت منه حيث ظنّته بشراً.

ولعلّ الثقل الذي كان يظهر على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم- لو صحّ النقل _ لم يكن من جهة محادثة الملك، بل من جهة ثقل الكلام، كما قال تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)،(3)ولعلّه لذلك أيضاً ما كان الوحي الرسالي ينزل على مسامعه، بل ينزل على قلبه، كما قال تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً الجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ)(4) وقال :تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ). (5)

فلا يبعد القول بأنّ هناك فرقاً بين رسالة السماء التي يبعثها الله تعالى إلى أهل الأرض عن طريق الرسول، وبين ما تتحدّث به الملائكة مع الرسل أو غيرهم في

ص: 142


1- الكافي ٤ : ٢٤٦
2- هود (11): 77
3- المزمّل (73): 5.
4- البقرة (2): 97
5- الشعراء :(٢٦): 193 - ١٩٤

مختلف الأمور، فالأوّل كلام ثقيل لا ينتقل من الملك إلى الرسول إلا عن طريق الإيحاء إلى القلب، والثاني يحدث بصورة محادثة عادية بين الإنسان والملك المتمثّل في صورة إنسان أو غير المتمثّل كقوله صلی الله علیه و آله وسلم: «هذا أخي جبرئيل يخبرني بكذا وكذا».(1)

ومهما كان، فمن الواضح أنّ المراد بالرسول في هذه الآية الملك ومن الغريب ما ورد في تفسير الكشّاف من أنّ المراد به الرسول الإنسان، فيكون عنوان البشر في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله) يشمل من يلقي الرسول عليهم رسالة السماء من الأمّة.(2)

وهذا غير صحيح قطعاً، لأن هذا لا يعتبر تكليماً من الله تعالى وإنّما هو إرسال رسالة وإيصال علم، وليس من قبيل إرسال الملك إلى الرسل، فإنّه رابط غيبي يوصل الوحي من الله تعالى ولذلك كان يحدث بارتباطه مع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ما يحدث حين نزول الوحي - لو صحّ النقل - لأنّ الملك ليس إلا واسطة لانتقال تكلّم الله مع البشر، وليس ناقلاً للكلام، كما ربّما يتوهم.

وقوله تعالى: (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ)، تأكيد على أنّ الملك لا يوحي من قبله شيئاً، وإنّما يوحي ما يشاؤه الله تعالى مشيئة تكوينية وبإذن وعناية خاصّة منه. ولذلك اعتبر هذا الوحي والرسالة تكليماً من الله تعالى.

(إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ). الظاهر أنّه تعليل لما سبق، فالله تعالى لعلوّه ونزاهة ساحته لا يكلّم البشر مباشرة، بمعنى أنّ البشر لا يستطيع أن يتلقّى من ربّه مباشرة في هذه الحياة الدنيا إلا بأحد هذه الوجوه، مهما كان رفيع الدرجة عند ربّه. وهو تعالى

ص: 143


1- راجع: بحار الأنوار 7: 237 و 22: 78.
2- راجع: الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤: ٢٣٣.

لحكمته اختار لكلّ أحد، وفي كلّ موضع ما يناسبه من كيفية الإلقاء وإيصال الرسالة.

(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا). ظاهر لفظ الآية أنّ المراد بالروح القرآن أو الشريعة، وأنّ الإشارة في قوله: (وَكَذَلِكَ) إلى ما مرّ من طرق التكليم، أي وبمثل هذه الطرق أوحينا إليك القرآن والظاهر أنّه إشارة إلى مطلق الطرق المذكورة، لا إلى كلّها كما قيل بناءاً على ما مرّ من أنّ الظاهر أنّ التكلّم من وراء حجاب كان خاصّاً بسيدنا موسى علیه السلام والله العالم.

ولعلّه عبّر عن القرآن بالروح لأنّه منشأ الحياة المعنوية للإنسان، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا الله وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعَاكُمْ لَا يُحْيِيكُمْ)(1) ومثل هذا التعبير ورد في قوله تعالى: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوح مِنْ أمره عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ انْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ)(2) وأيضاً فى قوله تعالى: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أمره عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ).(3) والظاهر أنّ «من» في قوله تعالى: (مِن أمرِنَا) بيانية، أي الأمر الإلهي الذي يبعث بالروح ويحيي الإنسان، فحياته المعنوية تحصل بمتابعة الأوامر الإلهية، ويحتمل أن يراد بالأمر م_ا يع_مّ النهي. وعليه فالمراد بالأمر شريعة السماء. وكذلك قوله تعالى: (مِن أمرِنَا) في سورتي النحل وغافر. وقيل المراد بالأمر قضاؤه تعالى، فالمعنى الروح الذي نشأ من قضائه وإرادته تعالى. وهو بعيد إذ لا يختصّ ذلك بالشريعة.

ص: 144


1- الأنفال (٨): ٢٤
2- النحل (١٦): ٢
3- غافر (٤٠): ١٥

هذا هو الظاهر من الآيات، ولكن هناك اختلاف كثير في تفسير الروح وكونه من الأمر في المواضع الثلاث، ومن المفسّرين من أهمل كلمة الأمر ولم يفسّرها واكتفى بتفسير الروح وأنّه القرآن أو الوحي أو الشريعة أو النبوّة، ومن هؤلاء الشيخ الطوسي رحمه الله في «التبيان»(1) والطبرسي في «مجمع البيان»(2) ومنهم من فسّره يجبرئيل علیه السلام(3) لقوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ)،(4) وهناك روايات تدلّ على أنّه خلق آخر أعظم من جبرئيل وميكائيل،(5) ويظهر منها أنّه ليس من الملائكة.(6)

روى الكليني رحمه الله في باب «الروح التي يسدّد الله بها الأئمّة» عدّة روايات تدلّ على ذلك، ولكن لا يصحّ منها، إلا رواية أبي بصير، وقد رواها بثلاث وجوه وبثلاث طرق كلّها معتبرة، قال في إحداها: سألت أبا عبد الله علیه السلام ع_ن ق_ول الله تبارك وتعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ)، قال: «خلق من خلق الله عزّ وجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يخبره ويسدّده وهو مع الأئمّة من بعده» وأضاف في اُخرى: «وهو من الملكوت» وفي الثالثة: «لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمد صلی الله علیه و آله وسلم وهو مع الأئمّة يسدّدهم، وليس كلّ ما طلب وجد».(7)

ص: 145


1- راجع: التبيان في تفسير القرآن 9 : 178
2- راجع: مجمع البيان في تفسير القرآن ٩ - ١٠: ٥٨
3- راجع: تفسير نور الثقلين ٤: ٥٩٠.
4- الشعراء (٢٦): ١٩٣ - ١٩٤.
5- راجع: بحار الأنوار ١٨: ٢٥٤ تفسير القمي 2: 279
6- راجع: تفسير نور الثقلين ٣: ٢١٥.
7- الكافي 1: 273

وفي «بصائر الدرجات» أكثر من ثلاثين حديثاً كلّها بهذا المضمون.(1)

وظاهر هذه الروايات وغيرها أنّ هذا الروح ليس من الملائكة وإن قورن بجبرئيل وميكائيل، حيث عبّر عنه أنّه خلق من خلق الله، مضافاً إلى أنّه لا يناسب التعبير عن الملك بأنّه أوحي إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، بل صرّح بذلك في بعض الروايات، كما سيأتي وإن لم يصحّ السند.

ويبدو ممّن فسّر «الروح» في الآية الكريمة بالقرآن من علمائنا أنّهم لم يقبلوا هذه الروايات؛ مع أنّها كانت بمرأى منهم.(2) ولعلّ الوجه في ذلك، أنّ هناك بعض الملاحظات عليها ممّا يوجب عدم الوثوق بصدورها وإن صحّ السند:

الملاحظة الأولى: أنّ ظاهر هذه الروايات وصريح بعضها أنّ هذا الروح بقي مع النبي صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة من بعده علیهم السلام، فهذا مقتضى المعية الواردة في كلّ هذه الروايات، وقد صرّح في عدّة من روايات بصائر الدرجات» أنّه لم يصعد إلى السماء منذ هبط إلى الأرض، وهذا الأمر مخالف لقوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)،(3) حيث تدلّ على أنّ الروح ينزل في ليلة القدر كل عام.

ويمكن أن يدفع الإشكال بأنّ الروح في هذه الآية غير الروح في الآيات الثلاث وإن ورد الاستدلال بهذه الآية أيضاً في أنّ الروح غير الملائكة في بعض الروايات، وسيأتي ذكرها إلا أنّها ضعيفة سنداً.

الملاحظة الثانية: ما ورد في النصّ الثالث من الروايات المذكورة عن أبي

ص: 146


1- راجع: بصائر الدرجات: ٤٧٥.
2- كما في تصحيح اعتقادات المفيد ص 80 وتفسير التبيان ومجمع البيان وغيرها.
3- القدر (97): ٤

بصير، وسنده معتبر أيضاً، من أنّ هذا الروح لم يكن لأحد قبل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أنّ ظاهر الآيات أنّه تعالى يلقيه على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق أو ينذر أنّه لا اله إلا هو، ومعنى ذلك أنّ هذا الروح كان مع جميع الرسل علیهم السلام. ولكن هذه الملاحظة تختصّ بهذه الرواية أو بهذا النقل في رواية أبي بصير، بناءاً على أنّ كلّ ما روي عنه في هذا الموضوع بأجمعها رواية واحدة.

الملاحظة الثالثة: أنّ هذه الروايات مخالفة للقرآن الكريم؛ فإنّ صريح الآيات أن القرآن أتى به جبرئيل علیه السلام وهو الذي كان يخبر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بالشريعة وبغيرها، بل عبّر في سورة التكوير أنّ القرآن من قوله كما سيأتي، بل ه_و ال_روح الذي أيّد الله به عيسى علیه السلام أيضاً، كما قال تعالى: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُس)(1)، فإنّ المراد به جبرئيل بقرينة قوله تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُس مِنْ رَبِّكَ بالحقِّ).(2)بضميمة ما دلّ على أنّه هو الذي أنزل القرآن كقوله تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً الجبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله).(3) ولعلّه أيضاً هو الملك الذي وكّل بالرسول صلى الله عليه و اله و سلم منذ صغره على ما ورد في «نهج البلاغة» من قول أمير

المؤمنين علیه السلام في بيان أوصاف الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: « وَلَقَدْ قَرَنَ اللَّهِ بِهِ مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِياً أعْظَمَ مَلَكِ مِنْ مَلائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ المَكَارِمِ وَتَحَاسِنَ أَخْلاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ»،(4) فإِنّ الظاهر أنّ جبرئيل هو أعظم الملائكة، لقوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ

ص: 147


1- البقرة (2): 87
2- النحل (١٦): 102
3- البقرة (2): 97
4- نهج البلاغه (الصبحي صالح): 300

عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينِ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينِ).(1)

ولكن يمكن أن يقال: إنّ هذا الروح شيء آخر كان مع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة علیهم السلام يسدّدهم ويخبرهم، ولعلّ جبرئيل علیه السلام أتى به كما يدلّ عليه قوله

تعالى: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ).(2)

الملاحظة الرابعة: أنّ الروايات تدلّ على أنّ الروح أعظم من جبرئيل وقد مرّ آنفاً أنّه علیه السلام أعظم الملائكة. وهذا إنّما يصحّ لو فرض كون الروح من الملائكة، وقد بيّنا أنّ ظاهر الروايات أنّه ليس منها، فلا مانع من كونه أعظم من جميعهم حتّى جبرئيل لیه السلام وقد صرّح بذلك في بعض الروايات؛ فقد روى الكليني في حديث طويل عن أبي بصير، عن أبي عبدالله علیه السلام قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ الرُّوحُ لَيْسَ هُوَ جَبْرَئِيلَ؟ قَالَ: «الرُّوحُ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ جَبْرَئِيلَ إِنَّ جَبْرَئِيلَ مِنَ الملائِكَةِ وَإنَّ الرُّوحَ هُوَ خَلق أعظمُ مِنَ المَلائِكَةِ، أَلَيْسَ يَقُولُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوح)(3)».(4)

وروى أيضاً عن سعد الإسكاف، قال: أتَى رَجُلٌ أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَیهِ السَلام يَسْأَلُهُ عَن الرُّوحِ أَلَيْسَ هُوَ جَبْرَئِيلَ؟ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَیهِ السَلام «الجَبْرَئِيلُ مِنَ المَلائِكَةِ وَالرُّوحُ غَيْرُ جَبْرَئِيلَ». فَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ قُلْتَ عَظِيماً مِنَ الْقَوْلِ، مَا أَحَدٌ يَزْعُمُ أنَّ الرُّوحَ غَيْرُ جَبْرَئِيلَ. فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَیهِ السَلام: «إِنَّكَ ضَالٌ تَرْوِي عَنْ أهل الضَّلالِ، يَقُولُ الله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلی الله علیه و آله وسلم:(أتى أمْرُ الله فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ

ص: 148


1- التكوير (81): 19 - 21 .
2- النحل (١٦): (٢
3- القدر (٩٧): ٤
4- الكافي ١: ٣٨٧

* يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ)(1) وَالرُّوحُ غَيْرُ المَلائِكَةِ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ).(2)

ولكنّ الاستدلال الوارد في الروايتين ضعيف؛ لأنّ العطف لا يدلّ على التغاير، لإمكان عطف الخاصّ على العامّ لميزة في الخاص، كما أنّ الروح في آية سورة النحل قد يكون بمعنى الوحي أو الشريعة، كما هو محلّ البحث هنا. والروايتان ضعيفتان سنداً.

ويمكن أن يستدلّ بقوله تعالى: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤمِنِينَ وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ).(3) أنّه أعظم موجود من الخلائق يدافع عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم فينا في ما تدلّ عليه الروايات إلا إذا كان المراد بالعظمة أمراً آخر.

الملاحظة الخامسة: أنّ التعبير بالإيحاء لا يناسب أن يكون المراد بالروح حقيقة عينية، كما يظهر من التعبير بكونه أعظم من جبرئيل وميكائيل، وأنّه يسدّد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة من بعده علیهم السلام، بل يخبرهم بالحقائق، فالإيحاء لا يصحّ إلا في المفاهيم والأوامر والنواهي التي تلقى إلى الرسل. والغريب أنّ الروايات وردت في تفسير هذه الآية بالخصوص، وإلا لأمكن القول بأنّ المراد بالروح في هذه الآية يختلف عن المراد به في سورتي النحل وغافر، ولم يعبّر فيهما

بالإيحاء.

وأجاب العلامة عن الإشكال، فقال: «ويمكن أن يوجّه التعبير عن الإنزال بالإيحاء بأنّ أمره تعالى على ما يُعرفه في قوله: (إنَّما أمره إذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ

ص: 149


1- النحل (١٦): ١-٢
2- الكافي ١: ٢٧٤
3- التحريم (٦٦): ٤.

كُنّ)(1) هو كلمته، والروح من أمره، كما قال: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي)(2) فهو كلمته، ويُصدق ذلك قوله في عيسى بن مريم (إِنَّمَا المُسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)،(3) وإنزال الكلمة تكليم، فلا ضير في التعبير عن إنزال الروح بإيحائه، والأنبياء مؤيّدون بالروح في أعمالهم، كما أنّهم يوحى إليهم الشرائع ،به قال تعالى: (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ).(4) .(5)

ولكن لا دليل على كون المراد بالروح في قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوح قُلْ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي)(6) هو نفس المراد بالروح في قوله تعالى: (رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا) فإنّ الروح الذي وقع مورد السؤال من قبل المشركين، هو روح الإنسان قطعاً؛ إذ لا يعلمون للروح معنى غيره والجواب الوارد في الآية لا يطابق السؤال؛ إذ لم يبيّن لهم حقيقة الروح، وإنّما بيّن أنّه مخلوق بأمره تعالى، ولعلّ الجواب الحقيقي هو قوله تعالى بعد ذلك: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً).

وليس معنى قوله تعالى: (مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) أنّه من جنس الأمر، كما قال العلامة رحمه الله في عدّة موارد؛ إذ الأمر ليس إلا قولاً كما قال تعالى: (إِنَّهَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(7) مع أنّه تعالى قال: (إِنَّما أمره إذا أرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)،(8)

ص: 150


1- يس (٣٦): ٨٢
2- الإسراء (17): 85
3- النساء (٤): ١٧١.
4- البقرة (2): 87
5- الميزان في تفسير القرآن ١٨: ٧٦
6- الإسراء (17): 85
7- النحل (١٦): ٤٠
8- يس (٣٦): ٨٢

فالمراد بالأمر هو هذا القول، بل ليس قولاً باللفظ وإنّما هو إرادة، ولعلّه إشارة إلى أنّ خلق الروح لا يمرّ بمراحل طبيعية وإنّما تتكوّن حقيقته بمجرّد الإرادة، كما قال تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).(1) ولهذا عبّر عنه علیه السلام بكلمته التي ألقاها إلى مريم في الآية التي تمسّك بها العلامة وليس هذا من التكليم في شيء ولا يصدق عليه الإيحاء، بل هو مجرّد إرادة. فقوله تعالى: (مِن أمرِ رَبِّي ) بمعنى أنّه نشأ ووجد من الأمر، لا أنّه من جنس الأمر.

وقد ذكرنا في مقدمة هذا التفسير، أنّ من الأخطاء المتداولة في ما يدعى بالتفسير القرآني للقرآن محاولة فهم معنى الآية بملاحظة نفس الكلمة في سائر الموارد من دون الالتفات إلى احتمال الاختلاف في المعنى، وكون اللفظ مشتركاً.

والواقع أنّ هذه الملاحظة على الروايات يصعب الجواب عنها، فلا بدّ من ردّ علمها إليهم علیه السلام على فرض الصدور، ولكن مع ذلك لا يسعنا الجزم بمعنى الروح في الآيات الثلاث إلا أنّ الظاهر منها هو القرآن كما مرّ ذكره وهو المذكور في أكثر التفاسير.

والجدير بالذكر أنّ هذا الإشكال لا يختصّ بالروايات، بل يرد على كلّ من فسّر الروح في الآية الكريمة بجبرئيل علیه السلام، وقد نسبه القرطبي إلى الربيع.(2) وفي تفسير الآلوسي: «وعليه فأوحينا مضمّن معنى أرسلنا، والمعنى أرسلناه بالوحي إليك، لأنّه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله».(3) ولكن هذا التأويل بعيد جدّاً.

ص: 151


1- آل عمران (3): 59 .
2- الجامع لأحكام القرآن ١٦: ٥٥
3- روح المعاني ١٣: ٥٧

وفي تفسير أبي السعود: «ومَعنى إيحائه إليه علیه السلام إرساله إليه بالوحي».(1) وهو أيضاً تأويل بعيد ينزّه عنه تعبير القرآن الكريم إلا أنّ هذا القول نادر لم يذكر عن غير الربيع، بل لم ينقل عنه في سائر الكتب. نعم، ورد في التفسير المنسوب إلى ابن عباس: « أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا))، يَعْنِي جِبريل بالقُرْآن». والنسبة غير ثابتة والمنقول عنه في التفاسير هو تفسيره بالنبوّة.

ويمكن أن يكون ما ورد في الروايات من باطن القرآن، كما ينبئ عنه تكرار المركّب المذكور - أي الروح مع كونه من أمر الله تعالى _ في هذه الموارد ممّا يدلّ على عناية خاصّة به، مع كونه مبهماً يتوقّف معرفته على مراجعة أهل بيت الوحي علیهم السلام ولا ينافي أن يكون المعنى الظاهر مراداً أيضاً. وهذا من عجائب هذا الكتاب العظيم الذي لا تنقضي عجائبه، فكثيراً ما يرد فيه بيان حقيقة بلغة مبهمة يمكن حملها على معنى ظاهري وهو مراد أيضاً، ولكنّ الحقيقة التي تخفى وراء هذا الإبهام والإجمال يبقى لغزاً لا يحلّه إلا أهله.

ولكنّ العلامة الطباطبائي رحمه الله حاول أن يثبت نفس المعنى عن طريق الآيات نفسها بالطريقة التي أشرنا إليها آنفاً، ومن الغريب أنّه هنا تردّد في تأويل التعبير بالإيحاء وتكلّف في ذلك، كما نقلنا بعض كلامه مع أنّ هذه الآية هي مورد الروايات، ولكنّه في تفسير سورة النحل جزم بأنّ الروح هو هذا المعنى، أي المخلوق ،الأمري، بل استشهد بهذه الآية أنّ مقتضى التعبير بالإيحاء هو ذلك، قال : «فتحصّل أنّ الروح كلمة الحياة التي يلقيها الله سبحانه إلى الأشياء فيحييها بمشيئته، ولذلك سمّاه وحياً، وعدّ إلقاءه وإنزاله على نبيّه إيحاء في قوله:

ص: 152


1- تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (38:8.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أمْرِنا)؛(1) فإن الوحي هو الكلام الخفي والتفهيم بطريق الإشارة والإيماء، فيكون إلقاء كلمته تعالى - كلمة الحياة ___ إلى قلب النبي صلی الله علیه و آله وسلم وحياً للروح إليه، فافهم ذلك».(2) وبأدنى تأمل يتبيّن أنّ الروح ليس كلمة الحياة، بل مخلوق بكلمة الحياة.

(مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) خطاب للرسول صلی الله علیه و آله وسلم، أي أنّك كنت جاهلاً قبل الوحي بالكتاب والإيمان، فليست هذه الرسالة من إبداعك ولا من علمك، بل لم تكن تعلم منها شيئاً قبل الوحي الإلهي؛ أمّا عدم علمه بالكتاب فواضح، لأنّه لم يخاطب به بعد ولم ينزل عليه الوحي والرسول صلی الله علیه و آله وسلم كغيره من الخلائق لا يعلم شيئاً إلا ما علّمه الله تعالى.

وأمّا عدم الإيمان، فقد أشكل الأمر على بعضهم أنّه صلی الله علیه و آله وسلم كان مؤمناً قبل الرسالة أيضاً، فلابدّ من تأويل الآية، فذكروا فيها وجوهاً من التأويل، فقيل: إنّ المراد نفي إيمانه بالكتاب. وقيل: ال_م_راد ه_و التصديق والعمل، ولم يكن لديه قبل ذلك برامج عملية. وقيل: المراد الإيمان بالرسالة، ولم يكن قبل ذلك رسولاً. وقيل: المراد الإيمان بالمعارف الاعتقادية التي لا تحصل إلا عن طريق الوحي، كبعض خصوصيات يوم القيامة. وقيل غير ذلك. وأق_وى م_ا ذك_ر هو الأخير.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ المراد أنّه لم يكن يعلم شيئاً من الكتاب ولا الإيمان قبل تعليم الله إيّاه وإلهامه التوحيد، لا قبل نزول القرآن، وهذا الإلهام أيضاً جزء

ص: 153


1- الشورى (٤٢): ٥٢
2- الميزان في تفسير القرآن ١٢: ٢٠٦

من الروح الذي أوحي إليه صلی الله علیه و آله وسلم بناءاً على ما ذكرناه من التفسير، وأمّا بناءاً على الروايات فواضح.

وقد ورد في رواية الإشارة إلى ذلك، فقد روى الكليني رحمه الله بسند ضعيف فيه محمّد بن الفضيل وهو الأزدي الصيرفي - الذي ضعّفه الشيخ و وقال يرمى بالغلو - عن أبي حمزة، قال: سألت أبا عبدالله علیه السلام عن العلم أهو علم يتعلّمه العالم من أفواه الرجال أم في الكتاب عندكم تقرأونه فتعلمون منه؟ قال: «الأمر أعظم من ذلك وأوجب، أما سمعت قول الله عزّ وجلّ: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ

تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمان)) ثمّ قال : ( أي شيء يقول أصحابكم في هذه الآية، أيقرّون أنّه كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان؟ فقلت لا أدري _ جعلت فداك __ م_ا

يقولون. فقال: «بلى قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان حتّى بعث الله تعالى الروح التي ذكر في الكتاب، فلمّا أوحاها إليه، علم بها العلم والفهم وهي الروح التي يعطيها الله تعالى من شاء، فإذا أعطاها عبداً علّمه «الفهم».(1)

فالآية نظير قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ صَالاً فَهَدَى)(2) والرسول صلى الله عليه واله و سلم لم يكن ضالاً في يوم من الأيام ولكن حيث كانت هدايته بتأييد وإلهام من الله تعالى فهو ضالّ لولا هدايته تعالى. وفي «نهج البلاغة»: «وَلَقَدْ قَرَنَ الله بِهِ صلی الله علیه و آله وسلم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِياً أعْظَمَ مَلَكِ مِنْ مَلائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ المَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ) .(3)

(وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً تَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)، أي ليس القرآن من إبداعك

ص: 154


1- الكافي ١: ٢٧٣
2- الضحى (93): 7
3- نهج البلاغه لصبحي صالح: 300

وعلمك، بل أرسلناه إليك وجعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا. وهناك من الناس من يسمع القرآن أو يقرأه ولا يستضيء بنوره ولا يهتدي به، بل يزيده القرآن ضلالاً وعتوّاً، كما قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمينَ إِلا خَسَارًا )،(1) والسبب أنّ عدم إيمانه ليس لشكّ فيه، بل لمكابرته الحقّ وعناده. وكلّما تكرّرت مواجهة الآيات الواضحة والبراهين الساطعة تضاعفت عليه الحجّة، وهو مصرّ على عناده، فيزيده ذلك خسراناً.

و قد تكرّر في الكتاب العزيز تعليق الهداية على المشيئة الإلهية، وقلنا: إنّ ذلك لا يعني أنّ الإنسان مسيّر في ضلاله وهدايته، وأنّه ليس له أن ينتخب المسير، بل معناه أنّ الإنسان بسوء اختياره يسلك طريق الضلال ويصرّ عليه ويعاند الحقّ، فتحقّ عليه كلمة الضلال ويختم الله على قلبه، فلا يمكنه العود. وهذا الختم والطبع والإضلال نتيجة طبيعية لمعاندة الحقّ بعد وضوحه، وكلّ ما هو نتيجة طبيعية فهو مستند إلى الله تعالى، كما قال: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).(2)

(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) من لطيف التعبير أنّه تعالى جمع في آية واحدة نفي الهداية والعلم من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وأثبت له بكلّ تأكيد أنّه يهدي إلى صراط مستقيم فالمراد أنّه لا يتمّ ذلك إلا بفضل من الله تعالى حيث جعل الإنسان الأمّي الذي لا يقرأ ولا يكتب ولم يكن حاملاً لعلم، ولم يظهر منه نبوغ ومعرفة ولم يقل شعراً ولم يخطب خطابة طيلة أربعين عامّاً، جعله في لحظة

ص: 155


1- الإسراء (17): 82
2- الأنعام (٦): ١١٠.

واحدة هادياً لجميع البشر إلى صراط مستقيم.

و«الصراط»: الطريق الواضح وأصله السراط وإنّما أبدلت السين صاداً في التلفّظ لتناسب الطاء وتجوز القراءة بالوجهين، والسراط في أصل اللغة الابتلاع واُطلق على الطريق باعتبار أنّ المسافر يغيب فيه، فكأنّه ابتلعه.

والمراد باستقامة الصراط، أنّه طريق لا ينحرف عن الحقّ وليس بمعنى كونه خطّاً مستقيماً في مقابل الخطوط المنحنية. وهذا تعبير متعارف يق_ص_د ب_ه ع_دم الانحراف إلى الأهواء والآراء الفاسدة. ومثله قول أمير المؤمنين علیه السلام: «الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ مَضَلَّةٌ وَالطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ»،(1) فكلّ ما عدا الصراط المستقيم منحرف عن الطريق الحقّ وينتهي بالإنسان إلى الضلال والهلكة.

ولكن ورد في «الميزان» في تفسير قوله تعالى في سورة الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) معنى آخر للاستقامة، قال رحمه الله: «إنّ الله سبحانه قرّر في كلامه لنوع الإنسان، بل لجميع من سواه سبيلاً يسلكون به إليه سبحانه، فقال تعالى: (يا أيُّها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (الانشقاق:6) وقال تعالى: (وَإِلَيْهِ المَصِيرُ) (التغابن:3) وقال: (ألا إلى الله تَصِيرُ الأُمُورُ) (الشورى: ٥٣)، إلى غير ذلك من الآيات وهي واضحة الدلالة على أنّ الجميع سالكو سبيل، وأنّهم سائرون إلى الله سبحانه. ثمّ بيّن أنّ السبيل ليس سبيلاً واحداً ذا نعت واحد، بل هو منشعب إل_ى شعبتين منقسم إلى طريقين، فقال: (الَم أَعْهَدُ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يس: ٦٠ - ٦١)، فهناك طريق مستقيم وطريق آخر وراءه، وقال تعالى: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعَانِ

ص: 156


1- نهج البلاغه الصبحي صالح: 58.

فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: ١٨٦)، وقال تعالى: (ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:٦٠)، فبيّن تعالى أنّه قريب من عباده وأنّ الطريق الأقرب إليه تعالى طريق عبادته ودعائه، ثمّ قال تعالى في وصف الذين لا يؤمنون: (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (فصّلت: ٤٤) ، فبيّن أنّ غاية الذين لا يؤمنون في مسيرهم وسبيلهم بعيدة. فتبيّن أنّ السبيل إلى الله سبيلان: سبيل قريب وهو سبيل المؤمنين، وسبيل بعيد وهو سبيل غيرهم».(1)

وحاصل ما ذكره أنّ الصراط المستقيم أقرب الطرق إلى الله تعالى وس_ائر الطرق بعيدة ولكنّها بأجمعها تنتهي إليه تعالى، وكلّ الناس بل كلّ المخلوقات سائرة إليه، فالصراط المستقيم هو الصراط القريب في مسير البشر إلى الله، والآخرون يتعبون أنفسهم في سلوك الطرق البعيدة المنحنية. واستدلّ على سير عامة البشر إلى الله سبحانه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الإنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ)، حيث إنّ الخطاب لنوع الإنسان وليس للمؤمنين خاصّة.

ولكنّ الصحيح أنّ الآية لا تنظر إلى سلوك السبل إلى الله تعالى، بل المراد أنّ الإنسان مهما كان وفي أيّ طريق، فإنّه سينتهي إلى الله تعالى ويحاسبه على أعماله، كما فصّل بعد ذلك بقوله: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)،(2) فاللقاء يتمّ قسراً وقهراً وليس بسلوك الإنسان في سبيل ينتهي إليه، فالمراد بالسبيل الذي ينتهي إليه تعالى الصراط المستقيم بالذات، والمراد بانتهائه إلى الله الانتهاء إلى تحصيل

ص: 157


1- الميزان في تفسير القرآن 1: 28
2- الانشقاق (٨٤): 7

رضاه والتقرّب لديه تعالى، وليس هذا سبيل غير المؤمنين، كما يبدو من عبارته رحمه الله.

وقد ذكر هو بنفسه في تفسير الآية في سورة الانشقاق: «أنّ المراد بملاقاته انتهاؤه إلى حيث لا حكم إلا حكمه، من غير أن يحجبه عن ربّه حاجب».(1) وهذا ينافي ما يبدو من كلامه في سورة الفاتحة من أنّ سير الإنسان إلى الله كسير سائر المخلوقات، كما أنّ استدلاله على سير سائر المخلوقات إلى الله بقوله تعالى: (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ينافي ما ذكره بنفسه في تفسيره من أنّ المراد به البعث وهو خاصّ بالإنسان. وأمّا قوله تعالى: (الا إلى الله تَصِيرُ الأمُورُ) فليس بمعنى السير إلى الله كما سيأتي البحث عنه إن شاء الله تعالى.

وأمّا قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، حيث استدلّ به على قربه تعالى من عباده إذا توجّهوا إلي_ه بال_دعاء، فيك_ون ه_و الطريق الأقرب، فيردّه أنّه لا شكّ في أنّ القرب في هذه الآية ليس بمعنى قرب الطريق من جهة الإنسان، ليدلّ على أنّ الدعاء أقرب الطرق، بل بمعنى أنّه محيط بكلّ شيء وقريب إلى كلّ شيء، فيسمع كلّ دعاء ويجيب كلّ داع، حتّى لو لم يكن في الصراط المستقيم، فهذا القرب من جهته تعالى وليس من جهة الإنسان، والخطاب فيه عامّ لكلّ العباد.

وأغرب من كلّ ذلك استدلاله على بعد سبيل الكافرين بقوله تعالى: (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيد) وقد قال رحمه الله في تفسير الآية: «أي فلا يسمعون الصوت ولا يرون الشخص، وهو تمثيل لحالهم حيث لا يقبلون العظة ولا يعقلون

ص: 158


1- الميزان في تفسير القرآن ٢٤٣:٢٠

الحجّة»؛(1) وأين هذا من قرب الطريق إلى الله وبعده؟!!!

فالحاصل أنّ ما صدر منه في تفسير الصراط المستقيم ليس دقيقاً ومناسباً لعل_وّ مقامه العلمي رحمه الله. والله العاصم.

(صِرَاطِ الله ) بدل عن الصراط المستقيم ، أي إنّ الصراط المستقيم الذي تهدي إليه ليس أمراً من إبداعك وإنشائك، بل هو صراط الله، فأنت الهادي إلى صراطه تعالى وإضافة الصراط إليه تعالى باعتبار أنّه ينتهي إليه، أي إلى معرفته وتحصيل مرضاته، أو باعتبار أنّه هو الطريق الذي رسمه الله لعباده. وصراط الله هو كلّ ما يشتمل عليه الكتاب والسنّة من العقائد والأحكام والمعارف.

(الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، (مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) تعبير عن الكون بكامله، فالكون كلّه له، أي مضاف إليه تعالى، وملك له ملكية حقيقية بمعنى أنّه في كيانه ووجوده مفتقر ومستند إليه تعالى.

ولعلّ هذا التوصيف في هذا المقام للإشارة إلى أنّ الأحكام والأوامر والنواهي التي هي عبارة عن الصراط والطريق الحقّ، حيث كانت صادرة من الله الذي له ملك السماوات والأرض، فالواجب امتثالها والالتزام بها وإن لم يعلم الإنسان وجه الحكمة فيها، بل حتّى لو وجدها منافية للحكمة حسب ظنّه، فإنّ الذي أمره بها هو المالك له ولكلّ شيء، ولا يحقّ لأحد أن يعترض على أمره أو يسأل عن وجه الحكمة في أوامره، ليتوقّف الامتثال على فهمها والاعتراف بها، بل يجب عقلاً على كلّ أحد أن يتعبّد بأوامره تعالى ونواهيه لا لشيء إلا لأنّه المالك لكلّ شيء.

ص: 159


1- الميزان في تفسير القرآن ١٧: ٤٠٠

ولذلك قلنا في أصول الفقه: إنّ وجوب إطاعته تعالى عقلاً في الأحكام المولوية لا يتوقف على وجوب دفع الضرر وهو العقاب، بل هو واجب حتّى لو لم يشتمل الحكم المولوي على حكم جزائي وإن كان الداعي النفسي للإطاعة لا يتحقّق في الإنسان غالباً من دون خوف من العقاب أو طمع في الثواب

(ألا إلى الله تَصِيرُ الأُمُورُ)،«ألا» أداة تنبيه تتقدّم الجملة التي يهتمّ بها. وتقديم الجارّ والمجرور (إلى الله)، على الفعل لإفادة الحصر أي لا تنتهي الأمور إلا إليه، بمعنى أنّ الأمور كلّها صائرة إليه تعالى باستمرار، فتدلّ الجملة الأولى، أي (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) على أنّه مبدأ كلّ شيء، والثانية على أنّه المنتهى. والثانية بمنزلة النتيجة للأولى؛ لأنّه إذا كان كلّ شيء ملكه ومفتقراً إليه في كيانه، فأمره فى النهاية أيضاً بيده.

توضيح ذلك: أنّ الشيء إذا كان علّة لوجود شيء فقط ولم يستند إليه في البقاء، فليس نهايته مرتبطة به؛ أمّا الكون بتمامه، حيث إنّه مفتقر حدوثاً وبقاءاً وبكلّ كيانه إليه ،تعالى فنهايته أيضاً بيده فيكون مفاد الجملة الثانية نتيجة الأولى والله العالم. والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، ونسأل الله التوفيق في الاستمرار.

ص: 160

تفسير سورة الزخرف

اشارة

ص: 161

ص: 162

سورة الزخرف (1-8)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حم(1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْتَهُ قُرْءَ نا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيُّ حَكِيمُ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّتِي فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبي إلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِهُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ(8)

سورة الزخرف سورة مكّية تتناول بعض أوهام المشركين وتردّ عليهم وتن_دّد بهم، وتذكر بعض الأنبياء السابقين، وما جرى بينهم وبين قومهم وتنتهي بذكر بعض أوصاف القيامة والجنّة والنار.

(حم) من الحروف المقطّعة وقد مرّ الكلام حولها في تفسير سورة يس.

( وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَيل حَكِيمٌ). المراد بالكتاب القرآن الكريم وقد أقسم تعالى بالقرآن على أنّه جعله بمستوى فهم العامّة، والحال أنّه في أمّ الكتاب أسمى من تناول الناس. والكتاب مصدر بمعنى المفعول، أي المكتوب وهو بمعنى المجموع قال في «معجم مقاييس اللغة»: «كتب أصل صحيح واحد يدلّ على جمع شيء إلى

ص: 163

شيء»(1)؛ فالمراد هذه المجموعة من الألفاظ والمعاني، سواء كتبت في مصحف أم لا.

و«المبين» من الإبانة، بمعنى الإظهار وله معنيان: الموضّح لغيره والأمر الواضح بنفسه، والقرآن مبين بمعنى أنّه أبان الحقّ من الباطل في المعارف الإلهية وهي أهمّ ما يعرفه الإنسان؛ لأنّها ترتبط بخالقه ووظائفه تجاهه وبمستقبله الدائم وأظهر للإنسان الحقائق المخفية عليه، التي لا يصل إليها إلا عن طريق الوحي ما تتعلّق بالأمور الغيبية، كصفات الله تعالى وأخبار الملائكة وحوادث يوم القيامة وأحكام الله تعالى في ما يتعلّق بأعمال الإنسان. وهو مبين أيضاً بمعنى أنّه واضح لا لبس فيه، وإن كان التعمّق والتدبّر فيه، بحيث يفتح آفاقاً جديدة بحاجة إلى علم غزير ودقّة وتأمّل وتوفيق من الله تعالى. وهو مجال مفتوح لا ينتهي الإنسان من الخوض فيه ولا يبلغ عمقه مهما أوتي من علم ودقّة.

ويلاحظ تناسب المقسم به والمقسم عليه، حيث أقسم بالقرآن على عظمته وكونه هادياً وموجباً لتعقل الإنسان والقسم بنفسه أيضاً يدل على عظمته، لأنّ القسم في الأخبار ربط اعتباري بين كرامة المقسم به وصحّة الخبر، وما يقسم ب_ه الله تعالى لا يشدّ عن ذلك إلا أنّه تعالى لا يقسم لإثبات دعوى، ليقال كي_ف يقسم بالشيء نفسه على عظمته، وإنّما يقسم للتأكيد على المضمون فحسب.

و«القرآن» مصدر، بمعنى اسم المفعول أي المقروء، والأصل في القراءة أيضاً الجمع - على ما قاله كثير من اللغويين - ؛ فإطلاقه على التلاوة من جهة ضمّ الحروف والكلمات بعضها إلى بعض قال الراغب:«ولذلك لا تطلق القراءة على

ص: 164


1- معجم مقاييس اللغة ٥: ١٥٨

التلفظ بحرف واحد».(1) والظاهر أنّ المراد بقوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) الجعل المركّب، وذلك بلحاظ أنّ قوله تعالى في الآية التالية: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ )جملة حالية، فالمراد أنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون، والحال أنّه في أصل الكتاب ممّا لا تناله الأفهام.

وفي هذا تنبيه على النعمة التي خصّ الله تعالى بها العرب، حيث أنزل هذا الكتاب العظيم بلغتهم واهتمّ بهم ليكونوا هم المبلّغين عن دينه في آفاق الأرض، وحمّلهم هذه المسؤولية الخطيرة. ولكنّ بعضهم - مع الأسف - لم يحترموا هذه النعمة ولم يؤدّوا واجبهم تجاهها ، ولم يقوموا بما كُلّفوا به، بل إنّ بعضهم حاول تحريف الدين من أساسه واتبع كثير منهم السلطة الغاشمة الجاهلية، واختلقوا الأحاديث لصدّ الناس عن الدين القويم.

ولعلّ قائلاً يقول: ولماذا خصّ العرب بذلك، وما هي ميّزتهم على سائر الشعوب؟

والجواب: أنّ وجه الحكمة لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكن لو لاحظنا الأمر، لرأينا في العرب من العناصر المفضّلة ما لا يعرف قدره إلا الله تعالى وهم محمّد وآل محمّد _ صلوات الله عليهم أجمعين - ولوجودهم في هذه الأمّة قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله )(2) ولولاهم، لم تنطبق الآية على هذه الأمّة، فإنّ كثيراً من هذه الأمّة ومن تسلّطوا عليها، ومن صَفَّق لهم لم يصدر منهم إلا الأمر بالمنكر وإشاعته والنهي عن المعروف وإبادته.

ص: 165


1- راجع: مفردات ألفاظ القرآن: ٦٦٨
2- آل عمران (3): 110

وقوله تعالى: (لَعَلَّكُم تَعْقِلُون) ليس للترجّي. كما يقال حتّى يبحث عن وجه نسبة الترجّي إلى الله تعالى، بل معناه أنّ كون الكتاب بِلُغَتكم يهيَء الأرضية الصالحة لتعقّلكم وإدراككم للحقائق، ولكنّ الموانع، ربّما تمنع من حصول ذلك، والعقل هو المنع والحبس. ويطلق على إدراك المفاهيم والمعاني باعتبار أنّ

الإنسان يحفظ هذه المفاهيم في ذهنه ويحبسها.

و«أمّ الكتاب» أصل الكتب السماوية، فإنّ الأمّ بمعنى الأصل، أي المنشأ، والمراد بالكتاب جنسه؛ فيشمل كلّ ما نزل من السماء ومنشأ كلّ الكتب السماوية وكلّ ما يوحيه الله تعالى إلى أنبيائه ليبلّغوه إلى الخلائق من حقائق عالم الغيب والأحكام الشرعية، هو ما في علمه تعالى من هذه الحقائق، وقد ورد التعبير عنه باُمّ الكتاب في قوله تعالى: (يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمِ الْكِتَابِ)(1) وليس هناك شيء آخر وراء علمه إلا أنّ المراد ليس هو العلم بنفسه، ب_ل الم_راد مجموعة من الحقائق لا يعلمها إلا الله تعالى.

وقوله: (لَدَينَا) صفة لأمّ الكتاب، أي أصل الكتب الذي هو لدينا. وهذا الوصف توضيح وليس احترازاً، إذ ليس للكتب أصل غيره ويطابق قوله تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحفُوظ)،(2) وكذا قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ)(3) و «المكنون»: المستور، أي محفوظ ومكنون عند الله تعالى.

وقوله تعالى: (في أم الكِتَابِ) ظرف لقوله: (لَعَلَّ حَكِيمٌ) وليس خبراً كما

ص: 166


1- الرعد (13): 39
2- البروج (85): 21 - 22.
3- الواقعة :(٥٦): 7-78

قيل، وقوله: (لَعَلِيُّ حَكِيمٌ) خبر إن، فليس المعنى أنه في اُمّ الكتاب وأنّه أيضاً عليّ حكيم، بل هو عليّ حكيم في أمّ الكتاب والدليل عليه ورود ال_لام عل_ى الوصفين فقط.

والظاهر أنّ المراد بكونه علياً في ذلك المقام، أنّه أعلى من أن تناله الأفهام وبكونه حكيماً، أنّه منيع لا يصل إليه إدراك الناس، فإنّ الحكمة بمعنى المنع وبذلك يتبّين تناسب ذكر ذلك، مع التنبيه على كونه منزلاً في هذه النشأة بلغة عربية ليعقله الناس، ويتبيّن أيضاً أنّ الواو في هذه الجملة حالية، كما ذكرنا، أي جعلناه لكم قرآناً عربياً لتعقلوا معانيه، والحال أنّه في أصل الكتاب ممّا لا

تناله الأفهام.

و النتيجة أنّ هذين الوصفين هنا يخصّان بذلك الوجه من القرآن الذي هو مكنون ومحفوظ، ولا ينافي أن يكون هذا القرآن المنزل والمصحف الكريم الذي بأيدينا عليّاً وحكيماً، بالمعنى الذي ذكره المفسّرون، وهو أنّ المراد بالعليّ علو رتبته بين الكتب السماوية، لإعجازه واشتماله على الأسرار، وأنّ المراد بالحكيم، أنّه مشتمل على الحِكَم أو أنّه محكم لا ينسخه كتاب غيره.

وللعلامة الطباطبائي رحمه الله في «الميزان» رأي حول المراد من الوجه المكنون للقرآن وهو - باختصار - أنّ له وجوداً بسيطاً لا تفصيل فيه ولا أجزاء، وأنّه بهذا الوجود، هو الذي نزل في ليلة القدر نزولاً دفعياً قبل النزول التدريجي قبلية رتبية لا زمانية، وأنّ هذه الآيات والسور تفصيل لذلك الوجود الذي ليس هو من قبيل

المفاهيم والمعاني.(1)

ص: 167


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن ١٨: ٨٤

وقد تبيّن بما مرّ أنّه لا حاجة إلى هذا التأويل الذي لا دليل عليه، لا من لفظ الكتاب ولا من الروايات. وسيأتي بعض الكلام حوله في تفسير سورة الدخان إن شاء الله تعالى.

وقال أيضاً في معنى الحكمة هنا، إنّه بمعنى كونه غير مفصّل ولا مجزّاً إلى سور وآيات وكلمات،(1) واستفاد ذلك من قوله تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير)(2) ولم أجد أساساً لتفسير الحكمة بهذا المعنى من حيث اللفظ وجذوره في اللغة. ولعلّ معنى الآية أنّ آياته محكمات من باب توصيف الشيء ء بصفة ،معظّمة، فإنّ منها الآيات المتشابهات، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ هُنَّ أم الْكِتَابِ وَأَخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ).(3)والإحكام - كما قلنا - بمعنى المنع والمراد منعها من احتمال إرادة خلاف الظاهر، فيكون بمعنى المبيّن والواضح ويقابله المتشابه، كما ورد في سورة آل عمران. وأمّا «ثُمَّ» فيمكن أن لا يكون للتراخي الزماني أو الرتبي، بل التراخي في الذكر، كما تقول زيد عالم ثمّ إنّه عادل أيضاً.

وربّما يقال: لعلّ المراد بالإحكام، منعه من التجزئة والفصل بين الأجزاء، فيكون بمعنى الأمر الموحد المندمج فيه المعاني من دون تفصيل ويكون الإحكام بمعنى المنع. ولكن هذا لا يصحّ لأنّه لو كان القرآن في مرحلة من وجوده ممنوعاً من ورود التفصيل، فلا معنى لقوله تعالى: (ثُمَّ فُصِّلَت) وهذا

تناقض واضح.

ص: 168


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن ١٨ : ٨٤
2- هود (11): 1.
3- آل عمران (3): 7

أفَتَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ)، «الضرب» هنا كناية عن الصرف، اُخذ من ضرب الحيوان ونحوه ، لصرفه عن فعله أو عن سيره في اتّجاه خاصّ، ومنه قولهم: «ضرب الغرائب عن الحوض»، أي صرف الإبل الغريبة عن حوضه، فحيث كان الصرف هناك يتحقّق بالضرب، جعل الضرب كناية عن الصرف والمراد بالذكر معناه اللغوي لا خصوص القرآن و«الصفح» جانب الوجه. أي أنّصرف وجه الذكر عنكم؟ فصرف الوجه عن أحدٍ، معناه الإعراض عنه وعدم الاهتمام به، وصرف وجه الذكر عن أحدٍ، معناه عدم الاهتمام به في تذكيره بما يحتاج إليه.

وقوله: (أنْ كُنتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) تعليل للصرف والإعراض بتقدير اللام، أي «لأن كنتم» أي لكونكم، والخطاب موجّه إلى مشركي مكّة. و«الإسراف» التجاوز عن الحدّ. والمعنى أنّ إسرافكم وتجاوز كم الحدّ في الظلم والعتوّ والطغيان أو في تكذيب الآيات، هل يستوجب الإعراض عن تذكيركم أو عن الاستمرار في تذكيركم بالآيات؟! والإتيان بكلمة (قوماً)، لعلّه للإشارة إلى أنّ الإسراف أصبح ميّزة لمجتمعكم وليس صفة فردية.

و«الفاء» في قوله تعالى: (افَنَضْرِبُ)، يحتمل أن تكون لتفريع هذا السؤال على الآية السابقة، ويحتمل التفريع على جملة مقدّرة أي أفنهملكم فنعرض عنكم؟! والاستفهام للإنكار الإبطالي، فيقتضي نفي ما بعده، أي أنّه تعالى أرسل لكم القرآن تذكيراً لكم، وإسرافكم لا يستوجب الإعراض عن تذكيركم. وهذا غاية اللطف والرحمة بالعباد، حيث إنّهم مهما توغّلوا في الكفر وأسرفوا على أنفسهم أو أصرّوا على الإنكار والتكذيب، فإن الله تعالى لا يمنعهم عنايته بالتذكير.

ص: 169

وقيل: إنّ الاستفهام للتهديد والمعنى إن أسرفتم في التكذيب وأصررتم على الكفر، فسنصرف الذكر عنكم ولكنّه بعيد، خصوصاً بملاحظة الآية التالية، ب_ل الظاهر أنّ الغرض من الآية، الإشارة إلى أنّ القوم يتوقّعون أن لا يرسل الله إليهم رسولاً منذراً؛ فيعكّر صفو حياتهم ويمنعهم من بعض ما يشتهون كما ورد في كلام مؤمن آل فرعون حيث قال: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مَا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً).(1)

وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)، «كم» اسم استفهام يفيد التعجيب من الكثرة، أي ما أكثر الأنبياء الذين أرسلناهم في الأولين؟! أي في الأقوام السابقين. وقوله: (وَمَا يَأْتِيهِم) في مقام الحال، فالتعجيب من جهة كثرة المرسلين، مع أنّ الأقوام المرسل إليهم كانوا يستهزئون بهم، هو الحال في هذه الأمّة. وفي ذلك تسلية للرسول صلی الله علیه و آله وسلم وتشجيع على الصبر وتحمّل الأذى، وهو في نفس الوقت شاهد على ما مرّ في الآية السابقة، فإن_ّه ل_و كانت سنّة الله تعالى جارية على صرف الذكر عن الناس إذا كانوا مسرفين، لم يبعث الله رسولاً ،قطّ، فكم أرسل رسلاً وأنبياء في الأقوام السابقة وهم يستهزئون بهم، بل كان هذا دأبهم في مواجهة كلّ نبي ورسول ومع ذلك استمرّت الرسالات.

(فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً)، «البطش» هو الأخذ بشدّة وعنف والضمير في قوله: (مِنهُم) يرجع إلى كفّار قريش، أي أهلكنا المستهزئين من الأمم السابقة وهم كانوا أشدّ من هؤلاء بطشاً. وكان مقتضى السياق أن يقال: فأهلكناهم، أي

ص: 170


1- غافر :(٤٠): ٣٤

الأمم السابقة، وإنّما عدل عن ذكر الضمير إلى ذكر الوصف، ليكون تهديداً لكفّار قريش. ومع أنّ الخطاب كان متوجهاً إليهم في قوله تعالى: (أَفَنَضْرِبُ عَنكُمْ الذِّكْرَ صَفْحاً) إلا أنّه عدل عن مخاطبتهم وخاطب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم تحقيراً لهم ولا يصحّ عود الضمير في (مِنهُم) إلى الأوّلين، إذ الهلاك شملهم جميعاً، لا خصوص من كان أشدّ منهم بطشاً، مع أنّه لو اُريد ذلك لقيل: «الأشدّ بطشاً منهم».

(وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ ) . المعروف بين المفسّرين في تفسير هذه الجملة أنّها للتنبيه على أنّ ذكر الأوّلين وما جرى عليهم من العذاب الإلهي قد مضى في آيات نزلت سابقاً من القرآن الكريم. ولكنّه تفسير بعي_د غ_اي_ة البعد، إذ لا فائدة في هذا التنبيه، مع أنّه أمر واضح ولا يناسب سياق الآيات، مضافاً إلى أنّ التعبير عن حديثهم بالمثل بحاجة إلى تأويل بعيد، وقد قالوا إنّ الوجه في ذلك أنّ قصّتهم ينبغي أن تُتَخذ مثلاً يعتبر بها.

والذي يبدو لي أنّ المراد بالمثل ما يمثّلهم ويذكّر بهم، فإنّ المثل مأخوذ من المثول وهو الانتصاب، ولذلك يطلق على كلّ ما ينصب علامة لشيء. والمراد بالمضيّ هلاكهم، أي هلك وزال كلّ ما يمثّلهم حيث لم يبق لهم أثر ولا نسل إلا بقية من الآثار التي تحكي عن هلاكهم الجماعي، فيكون الغرض منه التنبيه على أنّهم بادوا وباد نسلهم وبادت حضارتهم وثقافتهم، حيث نزل عليهم العذاب الإلهي الذي لا يبقي شيئاً، كما قال تعالى: (فَاصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا)،(1) أي كأن لم يكونوا مقيمين فيها. وقال أيضاً: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى هُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ) .(2)

ص: 171


1- هود (11): ٩٤ - ٩٥
2- الحاقة (19): 7 - 8

سورة الزخرف (9-14)

وَلَبِن سَأَلْتَهُم مِّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مِّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَيمِ مَا تَرَكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِهِ، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَنَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ(13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ(14) .

(وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)، السلام في قوله: (وَلَئِنْ) لام موطّئة وهي التي تدلّ على قسم مقدّر وذلك لتأكيد المضمون وكذلك لام الجواب في قوله: (لَيَقُولُنَّ) ون_ون التأكيد. والضمير يعود إل_ى مشركي مكّة، كما قلنا في الآية السابقة. ولعلّ الغرض من هذه الآية التنبيه على أنّهم وإن كذّبوا الرسل واستكبروا عن عبادة الله تعالى وتنزلّوا إلى عبادة الأصنام إلا أنّهم في قرارة أنفسهم يقرّون بأنّ خالق الكون هو الله تعالى ولكنّهم بحاجة إلى من ينبههم ويكفي في ذلك أن تسألهم من خلق السماوات والأرض؟ ولعلّه إنّما أتى بكلّ هذه المؤكّدات في الجملة، لغرابة مضمونها خصوصاً بملاحظة الجملة الآتية :أي: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً)(1) ولمخالفة هذا الإقرار لظاهر حالهم وأعمالهم. وهذا المضمون قد تكرّر في القرآن الكريم، حيث نسب إليهم الإعتراف بأنّ الله تعالى هو الخالق للكون وهكذا عقيدة الوثنية وإن كانوا لا يعتقدون بعموم ربوبيته تعالى.

ص: 172


1- الزخرف :(٤٣) : ١٥

والجمل الآتية في الآيات التالية التي تذكر بعض نعم الله تعالى، ليست من تتمّة كلامهم قطعاً، وإنّما وردت تعقيباً لكلامهم وكأنّها قطعة منه، تنبيهاً على أنّ من تعتقدون بخالقيته، هو الذي خلقها على هذا الوجه ممّا يدلّ على أنّه هو ربّ الكون الذي هيّأ كلّ الوسائل لتنظيمه. ونظيره كثير في الكتاب العزيز.

ولكن هل الوصفان المذكوران هنا (العَزِيزُ العَلِيمُ) من تتمّة كلامهم، كما هو ظاهر اللفظ، أم أنّهما أيضاً من الله تعالى، بمعنى أنّه أبدل تعبيرهم إلى ذلك، فهم يقولون في الجواب: «خلقهنّ الله»، ولكنّه في مقام النقل بدلّ العبارة إلى ذكر الوصفين الجليلين تنبيهاً على أنّ من تعتقدون فيه أنّه الخالق هو العزيز العليم؟ فيه اختلاف بين المفسرين.

والظاهر هو الثاني، لأنّ العرب لم يكونوا يعرفون الله بهذه الصفات، ولم نجد كلامهم وشعرهم ما ينبئ عن معرفتهم لهذه المفاهيم واعتبارها من صفات الله تعالى. خصوصاً بملاحظة وجه التوصيف هنا، حيث إنّ توصيفه تعالى بالعزّة والغلبة من جهة أنّه لا يمنعه مانع من خلق ما يشاء، وليس هناك غيره من يتمكّن من خلق ما يشاء، إذ الموانع الطبيعية وغيرها تحول دون بلوغ المراد وتوصيفه بالعلم من جهة أنّ الخلق بهذا النظام الدقيق ينبئ عن علم شامل أزلي أبدي، ولذلك أتى به بنحو الصفّة المشبهة الدالّة على الثبات والذاتية.

ويشهد لهذا الوجه التعبير المنقول عنهم في الموارد المشابهة، كقوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ الله... وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله)،(1) وقوله تعالى:

ص: 173


1- العنكبوت (29) : ٦١ - ٦٣ .

(وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله).(1) وسيأتي في هذه السورة الآية 87 قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ).

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). الموصول صفة للعزيز العليم. ومن هنا يبدأ في التنبيه على النعم الإلهية التي تدلّ على عموم ربوبيته تعالى، والتي تستوجب شكر المنعم، وهو بدوره يقتضي وجوب معرفته. و«المهد» و«المهاد»: المكان المهيّأ ،والموطّأ، فالمعنى أنّ الله تعالى هيّأ الأرض لمعيشة الإنسان وجعلها موضعاً لراحته واستقراره، وأعدّ له كلّ ما يحتاج إليه من طعام وشراب وهواء وغير ذلك.

والمراد من «السبل»، الطرق الطبيعية الموجودة على وجه الأرض بين الجبال ونحوها فيحتمل أن يكون المراد من الاهتداء الوصول إلى الأماكن المقصودة، ويحتمل أن يكون المراد الاهتداء إلى الله تعالى وأنّه مترتّب على الأمرين: جعل الأرض مهداً وجعل السبل فيها. والظاهر هو الأوّل، بدليل تكرّر الاهتداء بعد ذكر السبل، كما في قوله تعالى: (وَالْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَميدَ بِكُمْ وَالمهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ).(2) ويلاحظ الاهتداء في الآية الثانية وهو يتعلّق بالطرق بلا ريب. وكذلك قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَميدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).(3)والعلامة الطباطبائي رحمه الله مع أنّه استظهر من الاهتداء في هذا المورد وغيره الهداية إلى الله تعالى،(4) ولكنّه في سورة الأنبياء

ص: 174


1- لقمان :((31) (25؛ الزمر (39): 38
2- النحل(16):15-16.
3- الأنبياء (21): 31
4- راجع: الميزان في تفسير القرآن ١٨: ٨٦

جزم أنّه بمعنى الاهتداء إلى المقاصد،(1) ولعلّه من جهة أنّ تعليل خلق الرواسي بعدم الميد يرجّح أن يكون وضع السبل لغرض الوصول إلى المقاصد. ولكن يلاحظ عليه أنّ ذلك يصحّ أن يكون قرينة على أنّ الاهتداء في كلّ مورد يعقب جعل السبل بهذا المعنى.

وتكرار قوله: (لَكُمُ) في الجملتين للمنّة على الإنسان والتركيز على أنّ الخلق بهذه الكيفية التي توجب انتفاع الإنسان بالطبيعة مقصود في التدبير الربوبي.

(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ، صفة أخرى للعزيز العليم وبيان لنعمة عظيمة أخرى تتوقّف عليها الحياة وهي المطر. و«الق_در» م_ص_در بمعنى التقدير. قيل: إنّ المراد به أنّ نزول المطر لا يتمّ إلا بإرادته تعالى. ولكنّه ،بعيد، لأنّ كونه مراداً معلوم من إسناده إليه تعالى فيكون تكراراً، مضافاً إلى أنّ التقييد بالإرادة لا يختصّ بنزول المطر. والظاهر أنّ المراد تحديد مقداره فلا ينزل كثيراً مضرّاً ولا قليلاً غير نافع، فيكون هذا التوصيف للتأكيد على كونه نعمة مقصودة.

وربّما يقال: إنّ المطر قد ينزل كثيراً مضرّاً وقد يقلّ فلا ينفع. وأجيب بأنّ المراد هو الغالب، وأنّه لا ينافي وجود بعض الاستثناءات. ويمكن الجواب بأنّ المراد ليس بيان أنّ كلّ ما ينزل من المطر نافع حتّى يرد الإشكال، بل المراد أنّه إذا نزّله بقدر يحيي به الأرض الميتة، وأمّا إذا أنزله غزيراً موجباً لانحدار السيل؛ فإنّه لغرض ،آخر ، فالذي يعتبر نعمة يُمنَ بها على الإنسان هو ما ينزّله بقدر. وليس المراد تقدير القطرة من المطر أو كمية القطرات، بل تقدير العوامل

ص: 175


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن ١٤: ٢٧٩

الموجبة لنزوله بحيث ينزل المقدار المفيد.

و«الإنشار»: الإحياء، وأصل النشر البسط، وحيث إنّ منح الحياة يوجب بسط القدرة والحركة استخدم بمعنى الإحياء. و«الميّت» مخفف الميّت ويطلق على الأرض الهامدة التي لا نبت فيها. ويلاحظ الالتفات من الضمير الغائب في قوله: (نَزَّلَ) إلى المتكلّم في قوله: (فَأَنشَرنَا). وقيل في ذلك بأنّه للتأكيد على

اختصاص إحياء الموتى به تعالى.

وهذا الالتفات متكرّر في موارد مشابهة، كقوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى)،(1) وقوله تعالى: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ).(2) فهل يصحّ هذا الوجه في كلّ ذلك؟! وربّما يأتي الالتفات في أصل إنزال الماء، كقوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)،(3) مع أنّ ما قبله أولى بالاختصاص، وخصوصاً خلق السماوات. فلعلّ الأولى أن يقال: إنّه للتفنّن في التعبير. والله العالم.

(كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)، أي كما يحيي الله تعالى الأرض الميتة، كذلك يخرجكم من الأرض أحياء يوم النشور ، وقد تكرّر في القرآن الكريم التنبيه على أنّ من أحيا الأرض الميتة قادر على إحياء الموتى، ولعلّ الوجه في تشبيه إحياء الموتى بإحياء الأرض، أنّ موت البشر ليس فناء ،وزوالاً، كما يتصوّره بعض الناس، فإنّ

ص: 176


1- طه (20): 53
2- النمل (٢٧) ٦٠
3- لقمان (31): 10.

حقيقة الإنسان روحه التي لا يعرضها الموت، وإنّما يموت جسمه، فموته كموت الأرض، حيث تكمن فيها الحياة، ويتوقّف إحياؤها على المطر.

(وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا)، عطف على ما سبق من أوصافه تعالى. و«الزوج» ما يقرن بالشيء إذا كان مثله، ف_ «الأزواج»: الأمثال المتقارنة، و«الزوجان: المثلان المتقارنان، ومنه الزوجان بالمعنى المعروف. وقيل: إنّه هنا بمعنى الصنف، أي خلق جميع الأصناف من كلّ شيء. ولكنّ الظاهر أنّ المراد ب_ه، المعنى الأوّل، ولاحاجة إلى تأويله بالأصناف، إذ الغرض على ما يبدو ه_و بي_ان النعم، فالمراد الذكر والأنثى من أصناف النبات والحيوان ممّا يستخدمه الإنسان في شؤونه. ووجود الصنفين ظاهرة عامة في النبات والحيوان.

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ)، «الفلك»: السفن، يطلق على المفرد والجمع. والسفينة وإن صنعها الإنسان إلا أنّ مادّتها وهي الخشب موجودة في الطبيعة، والله تعالى هو الذي جعل فيها هذه الخاصية حيث تبقى على سطح الماء وتتحرّك بالرياح والأشرعة. وهناك نظم وقوانين كونية عديدة ممّا خلقها الله تعالى وعليها تبتني هذه النعمة، وهو الذي ألهم الإنسان صنع ما يصنع، بل منحه العقل والدقّة في التفكير، بل في خصوص السفينة أوحى الله تعالى إلى نوح علیه السلام أن يصنعها وعلّمه طريقته، كما قال تعالى: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)(1) والظاهر أنّها أوّل سفينة صنعت على وجه الأرض.

و«الأنعام» تطلق على الإبل والبقر والغنم سمّيت بها، لأنّها نعمة عظيمة. والمراد بالأنعام هنا الإبل خاصّة، لأنّها التي تركب منها فحسب. وقوله تعالى:

ص: 177


1- هود (11): 37

تَركَبُونَ) بتقدير الضمير وهو العائد على «ما» ، أي ما تركبونه وقالوا: إنّ الركوب يتعدّى إلى الأنعام بنفسه، وإلى السفينة بحرف «في» وإنّما اكتفي بذكر المتعدّي بنفسه تغليباً له على المتعدّي بالحرف ولكنّ الظاهر صحّة التعبير بركوب السفينة من دون تقدير حرف، كما ورد في روايات كثيرة وفي النصوص العربية.

(لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)، «اللام» بمعنى «كي» ولبيان الغرض أو النتيجة، أي جعل لكم الفلك والأنعام لتركبوها و«الاستواء» في الأصل، تعادل أجزاء الشيء، وإذا عدي ب_ «على» كان بمعنى الاستيلاء والاستقرار والضمير في الاستيلاء والاستقرار والضمير في (ظُهُورِهِ) يعود إلى «ما» الموصولة في الآية السابقة. وحينئذٍ، فالتعبير بالظهور من باب التغليب؛ إذ ركوب السفينة لا يقتضيه، كما أن الضمير في (اسْتَوَيْتُمْ) يعود إلى الموصول أيضاً لا إلى الظهور.

وفي بعض التفاسير أنّ ذكر النعمة، بمعنى أن يتذكّرها قلباً، ثمّ يحمده تعالى ويشكره عليها، ثمّ يقول: (سُبْحَانَ الَّذِي). ولكن لا يبعد أن يكون القول المذكور بياناً لذكر النعمة، فيكون قوله : (وَتَقُولُوا) تفسيراً لما قبله، أي تذكّروا النعمة بهذا القول. وفي «الميزان» أنّ ذكر النعمة لا يكون إلا بشكرها.(1) وهذا القول لا يشتمل على الشكر ، بل هو تسبيح الله تعالى. ولكن لا دليل على اختصاص ذكر النعمة بالشكر، فالتسبيح المذكور حيث اشتمل على ذكر النعمة يكفي في الذكر، ب_ل يعتبر شكراً عليها أيضاً؛ لأنّه يشتمل على استعظامها.

وقوله: (مُقْرِنِينَ) بمعنى: مطيقين. وأصله من جعل الشيء قريناً لغيره وحيث إنّ

ص: 178


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18 : 88

الضعيف لا يقدر على الحيوان المستعصي، يقال: لا تقرن الضعيف بالصعبة، أي الدابّة الصعبة، فاستعير معنى الإقران للإطاقة والقدرة على المركوب أو مطلقاً. فالمراد أنّ هذه الدوابّ ما كانت مسخّرة لنا لولا أن الله تعالى سخّرها لنا مع عظم أجسامها وقوّتها، فتجد البعير الضخم، بل مجموعة كبيرة من الإبل أو البقر منقادة لولد لم يبلغ الحلم. وكذلك تسخير الفلك وغيرها من وسائل النقل الحديثة. ولعلّ اختيار التسبيح لإظهار التعجب من هذا التسخير، وفيه استعظام

للنعمة، كما مرّ.

(وَإِنَّا إِلى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ)، «الانقلاب»: الرجوع. وهذا من تتمّة التسبيح المذكور، ولعلّ الغرض منه التنبيه على أنّ الإنسان ينبغي أن يتذكّر في كلّ حال خصوصاً في حال السفر، أنّ النعم الدنيوية ليست باقية، وأنّ مصيرنا إلى الله سبحانه وتعالى، ففي نفس الوقت الذي يتنعم الإنسان فيه بنعمة الله تعالى ويشكره عليها، يجب أن يكون متذكّراً أنّ هذه النعمة كغيرها زائلة، وأنّه سينقلب إلى ربّه، فيحاسب على كيفية تعامله مع ما أنعم الله به عليه.

ص: 179

سورة الزخرف (15-19)

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَن لَكَفُورٌ مُّبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا تَخلُقُ بَنَاتِ وَأَصْفَلكُم بِالْبَنِينَ (16)وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَهُوَ كَظِيمُ (17) أَوَمَن يُنَشِّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَدُ الرَّحْمَنِ إِنَا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَدَهُمْ وَيُسْتَلُونَ (19)

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا). الجملة تتّبع قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَالتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ)، أي إنّهم مع اعترافهم بأنّ الله تعالى هو خالق الكون جعلوا له من عباده جزءاً، حيث قالوا بأنّ الملائكة بنات الله سبحانه، وعلى هذا الأساس كانوا يعبدونهم ويصنعون الأصنام لتمثيلهم للعبادة، والآي_ات ت_ردّ عل_ى هذا التوهّم. والغرض من هذه الآيات تثقيف العرب بثقافة الدين، ليتسنّى لهم معرفة الله سبحانه بقدر الإمكان.

وأساس الردّ فى الآية الأولى، أنّ الولد لا يكون إلا جزءاً من الوالد ينفصل عنه ويتربّى إلى أن يكمل ويكون كوالده. والله تعالى لا جزء له؛ إذ المركّب من أجزاء يفتقر في كينونته إلى الأجزاء. والله تعالى غني عن كلّ شيء. ثمّ إنّ هؤلاء الذين جعلتموهم جزءاً لله تعالى عباد ،له والعبودية هنا بمعنى الذلة المطلقة فكيف يكون العبد جزءاً وولداً؟!

(إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ)، «الكفور» مبالغة في الكفر ، والمراد به كفران النعم وقد مرّ في الآيات السابقة ذكر بعض نعم الله سبحانه وكفرانه هنا يتجلّى في إنكاره أنّ النعم من الله تعالى، وإسنادها إلى بعض عباده وهم الملائكة.

ص: 180

و«المبين» إمّا بمعنى أنّ كفره واضح أو أنّه يظهر كفره ويعلنه من دون حياء. وفي الجملة إشارة إلى أنّ الإنسان بطبعه كفور للنعم، فكأنّه جُبل عليه، ولا يختصّ ذلك بكفره بنعم الله تعالى، بل هذه صفة مشهودة للإنسان، فهو يحاول التهرّب من الاعتراف بالجميل حتّى من إنسان آخر، لئلا يطالب بمقابلة الجميل بالجميل.

(أمِ اتَّخَذَ ما يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ)، «أم» منقطعة، ففيها معنى الاستفهام والإضراب والاستفهام للإنكار. والإضراب بمعنى أنّه على افتراض أنّهم لا يقولون بكون الملائكة أولاداً حقيقيين له تعالى حتّى يقال: إنّه كيف يكون له جزء ؟! بل يقولون بأنّه تعالى اتخذهم أولاداً، واتخاذ الولد ليس بمعنى كونه ذا ولد، بل هو أمر اعتباري، فالإنسان أيضاً ربّما يتّخذ ولداً لمصالح، كما لو لم يكن له ولد أو كان الولد ممّن له ميزة تؤهله للاتخاذ وقد حكى الله سبحانه عن عزيز مصر قوله: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَو نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)(1)، وعن امرأة فرعون قولها: (وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنَا أو نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)(2) فيمكن أن يتوهّم أنّ الله تعالى وإن لم يكن له ولد ولكن لا مانع من أن يتّخذ أولاداً له.

وهذا التوهّم باطل من دون ريب، لأنّ اتخاذ الولد أيضاً لا يكون إلا لرفع حاجة. والله تعالى منزّه عن الفقر والحاجة، قال تعالى: (قَالُوا اتَّخَذَ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ).(3) وفي هذه الآية يردّ عليهم هذا التوهّم من جهة اُخرى، وهي أنّهم

ص: 181


1- يوسف (12): 21
2- القصص (28): 9
3- يونس (10): 28

ينسبون إليه تعالى اتخاذ البنات حيث كانوا يزعمون أنّ الملائكة إناث!! فلو فرض - وهو فرض محال - أنّه تعالى اتخذ ولداً ممّا يخلق، فلماذا اختار البنات كما تزعمون، والحال أنّه أصفاكم بالبنين، بمعنى أنّه جعل البنين لكم خاصّة وأنتم تعتقدون أنّ البنين أشرف من البنات؟! ولعلّه أتى بالفعل المضارع، أي (يَخلُقُ)) لإفادة الاستمرار في الخلق، وهو يستوجب مزيداً من الاستغراب من قولهم؛ لأنّه تعالى مستمرّ في خلق الذكور والأناث، ومع ذلك يتخذ البنات لنفسه ويصفيهم بالبنين باستمرار!!

(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ) المراد بما ضرب للرحمن مثلاً البنات. وإنّما عبّر عنهنّ بذلك تنديداً بهم، حيث يجعلون الله البنات وهم يستاءون إلى هذه الدرجة إذا ولدت لهم .بنت. والمثل __ بفتحتين _ بمعنى المثل _ بكسر الميم - أي إذا بشّر أحدهم بالأنثى، ظلّ وجهه مسودّاً، ومع ذلك فهو يجعلها مثلاً لله تعالى، فإنّ القول بأنّ الملائكة بنات الله يستلزم القول بأنّهم مثله، لأنّ الولد لا يكون إلا من جنس الوالد ومثلاً له. واسوداد الوجه كناية عن الخجل والاستحياء، كأنّه قد اقترف ذنباً لا يغفر أو كناية عن شدّة الكآبة والغمّ لما أصابه.

و (ظَلَّ) فيه معنى الصيرورة والبقاء، فكأنّه قال صار مسودّاً واستمرّ كذلك. و«الكظم» الحبس، ولكن لا بقول مطلق، فيقال لمن حبس نفسه: إنّه كظيم، ولمن تجرّع الغصّة: إنّه كظيم، كقوله تعالى (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)،(1) ولمن حبس غيظه أنه كاظم له، قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ

ص: 182


1- يوسف :(١٢): ٨٤

الْغَيْظَ»،(1) و«الكظوم» إمساك البعير عن الجرّة. وقد ورد تفسير الكلمة في «معجم مقاييس اللغة» بالحبس(2) وهو أولى من تفسيرها بامتلاء الباطن غيظاً، كما في سائر المعاجم وإن كانا متلازمين عادة إلا أنّ حبس الغيظ هو الصفة الممدوحة لا امتلاء الباطن منه.

ومهما كان، فالمراد هنا أنّه مملوء غيظاً وحابس نفسه عليه. وهكذا كان حالهم في الجاهلية، بل بعدها أيضاً، فكانوا يستاء ون إلى هذه الدرجة من أن تولّد لهم بنت، وذلك ازدراءاً لها واحتقاراً، فالآية تؤنّبهم بأنّكم إذا كنتم تحتقرون الاُنثى إلى هذه الدرجة، فكيف ترضون بنسبة البنات إلى الله تعالى، ثمّ تجعلونها له مثلاً لما مرّ من مماثلة الوالد والولد؟!

وقد ورد نظير ذلك في قوله تعالى: (وَيَجْعَلُونَ الله الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ يُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أم يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ إِلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).(3)

(أوَمَنْ يُنشأ في الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ). «الهمزة» للاستفهام الإنكاري والمراد بمن ينشّأ في الحلية الإناث. والتذكير بلحاظ كلمة «من» لا المصداق. والتعبير بالتنشئة دون النشوء، من جهة أنّه ليس أمراً طبيعياً وذاتياً، بل يستند إلى العادات والتربية، حيث يهتمّ الأولياء بتزيين البنات منذ الصغر، فهي تُنشأ في الحلية لا تَنشَأ فيها بذاتها. «والواو» يعطف الإنكار على الإنكار في قوله تعالى:

ص: 183


1- آل عمران (3): 1٣٤
2- معجم مقاييس اللغة ٥: ١٨٤ - ١٨٥.
3- النحل :(١٦): ٥٧ - ٥٩

(أمْ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ ) كما قيل، أو يعطف الإنكار على التعجيب المذكور في الآية السابقة، أي أوَ تجعلون لله المثل من الصنف الذي يُنشَأ في الحلية؟!

وذكر هنا خصلتين من خصال النساء، ممّا يستلزم ضعفهنّ وبعدهنّ عن كلّ ما يحتاج إلى القدرة والدقّة إحداهما: أنّ أنوثة المرأة وحبّها الشديد لإظهار جمالها وفتنتها يحبّب إليها التزيّن بحيث تهيم به ويعتبر شغلهنّ الشاغل؛ لأنّهنّ نشأن في الحلية وتربّين عليها منذ الصغر.

والأخرى: أنّ شدّة تأثّرهنّ بالعواطف يمنعهنّ من التركيز في مقام المحاجّة والمخاصمة، فقلّما تجد امرأة تتمكّن من إبانة مرادها وفرضه على الآخرين بقوّة الاحتجاج، ولذلك يتمسّكن في الغالب بالبكاء وتحريك المشاعر والأحاسيس. وهذا بالطبع ليس كلّياً وإنّما هو الصبغة العامة للنساء، ومنهنّ من تتعالى على أقوى الرجال حجّة وبياناً، كما ظهر من سيدة النساء علیها السلام في خطبتها في المسجد، وكذا من ابنتها زينب علیها السلام أمام الملأ في الكوفة وأمام الطاغوتين يزيد وابن زياد- عليهما اللعنة -. والآية تشمل الخصام في الحرب أيضاً وعدم إبانتها هناك

أوضح.

وليس القصد من ذلك التقليل من شأن المرأة، فهذا أمر طبيعي من صنعه تعالى، وليس في صنعه إلا الحسن، كما قال: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)(1) وإنّما القصد التنديد بمقالة المشركين، وأنّه ينشأ من ضعف تعقّلهم وإدراكهم، حيث إنّهم ينسبون إلى الله اتّخاذ الولد ولا يكتفون بذلك، بل ينسبون إليه اتخاذ الجنس الأضعف ولداً.

ص: 184


1- السجدة (32): 7

(وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً). هذا ردّ على بُعد آخر من معتقدهم الفاسد، فإنّ اعتقادهم بكون الملائكة بنات الله يشتمل على جهتين، من الجهل والكفر تعرضت الآيات السابقة لإحداهما وهي إسناد الولادة إلى الله تعالى، وهذه الآية تتعرّض لجهة أخرى، وهي اعتبار الملائكة إناثاً؛ فإنّه مقتضى قولهم إنّهم بنات الله تعالى.

ومعنى الجعل هنا التسمية، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ المَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى)(1) أو الاعتبار والحكم، أي اعتبروا الملائكة إناثاً أو حكموا عليهم بالأنوثة، ومن الغريب أنّ هذا التصوّر سائد في مجتمعات كثيرة حتّى اليوم، فإذا أرادوا تصوير الملائكة صوّروهم إناثاً، والعرب وغيرهم يسمّون بناتهم ملاكاً أو ما يرادفه في لغتهم!!!

والله تعالى يردّ على هذا التوهّم في مواضع عديدة من القرآن، وهنا يصفهم بأنّهم عباد الرحمن. ولعلّ في ذلك إشارة إلى أنّ العبد لا يطلق على الأنثى وليس المراد أنّهم ،ذكور، فإنّهم منزّهون عن الذكورة والاُنوثة، ويمكن أن يكون الردّ بلحاظ أنّهم عباد مختصّون بالله تعالى ووسائط لرحمته، فكيف يوصفون بالاُنوثة؟! وهذا يستفاد من التعبير بالرحمن. وقد قرئت الكلمة: «الذين هم الرحمن»، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)،(2) ومثله قوله تعالى: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ)،(3) ممّا يدلّ على غاية قربهم إلى الله تعالى واختصاصهم

ص: 185


1- النجم (٥٣): ٢٧
2- الأعراف (٧): ٢٠٦
3- الأنبياء (21): 19

به فيكون الردّ عليهم من هذا الباب.

(اشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ) الاستفهام إنكاري، أي أنّ هذا أمر لا يمكن الاستدلال عليه بالعقل؛ فإمّا أن يكون لهم علم بالغيب وليس لهم ذلك بالطبع، وإمّا أن يستندوا إلى وحي أو رسالة أو كتاب سماوي، وهم أبعد ما يكون عن هذه الوسائل، فلم يبق لهم إلا أن يدّعوا أنّهم شهدوا خلقهم، ولا يمكن ذلك أيضاً، كما هو واضح. ولكنّهم من دون أيّ مستند لهم يشهدون بذلك!!!

(سَتَكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) وكلّ قول بغير علم شهادة زور، ويسجل على الإنسان، كما يسجل كلّ أعماله وأقواله، ثمّ يسأل يوم القيامة عن مستنده، وحيث لا يهتدي إلى مستند فيؤاخذ به، خصوصاً إذا كان ممّا يتعلّق بالمقدسات. وهذا التحذير لا يختصّ بهم، فلا يجوز لأحد أن يتخرّص في الحقائق الغيبية مطلقاً من

دون مستند وثيق.

ص: 186

سورة الزخرف (20-28)

وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدَنَهُم مَّا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (20) أَمْ ءاتَيْتَهُمْ كِتَبًا مِن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا وَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى وَاثَرِهِم مُهْتَدُونَ (22)وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى وَاثَرِهِم مُقْتَدُونَ (23) * قَبْلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَفِرُونَ (24) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِة إِنَّى بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِى فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةٌ بَاقِيَةً فِي عَقِيهِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)

(وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ)، أي وقال المشركون، وأمّا الضمير في قوله (مَا عَبَدْنَاهُمْ)، فالظاهر أنّه يعود إلى كلّ من يعتبرونهم أرباباً وإن لم يسبق لهم ذكر ؛ لأنّ السياق يدلّ عليهم. وأمّا احتمال أن يعود إلى الملائكة لسبق ذكرهم فيبعد من جهة أنّهم ما كانوا يعبدونهم، أو ما كانوا يعلمون ذلك، وما كانوا منتبهين لفكرة تمثيل الأصنام للملائكة، كما هو المعروف ولو عاد الضمير إليهم فلابدّ من عدم اعتباره مقولاً لهم، بل نقلاً لكلامهم بالمعنى؛ لأنّ المفروض أنّهم يعتبرونهم إناثاً، بل لابدّ من ذلك على كلّ حال؛ لأنّ المشركين ما كانوا يعترفون باسم الرحمن، قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ هُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ).(1)

ومهما كان، فالغرض بيان نوع من التفكير الخاطئ السائد بين المشركين، بل عامّة الناس وهو أنّ الله تعالى لو شاء أن يمنعنا من عبادة الأصنام وارتكاب ما يعدّ

ص: 187


1- الفرقان (٢٥): ٦٠

إثماً لمنعنا تكويناً من ذلك، وهو قادر على ما يريد وعالم بما نعمل، فيستنتجون ذلك أنّه تعالى راض بعملنا، بل ربّما يقولون إنّه أمر بها، كما قال تعالى: (وَإِذَا من فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى

الله ما لا تَعْلَمُونَ).(1)

وهناك من عامّة الناس من يظنّ أنّ إمهال الطغاة من قبل الله تعالى ليس إلا لأنّه يؤيّدهم ويعزّهم، بل يظنّون أنّهم - وبنفس الدليل ___ على حقّ في كلّ ما يعملونه من ظلم و فساد وحاصل استدلالهم أنّ الله تعالى راض بعملنا، إذ لو لم يرض به لم يخيّرنا تكويناً، بل منعنا عنه وهو قادر على ما يريد.

وبالمناسبة فإنّ بعض المعجبين بأنفسهم كان يطرح أفكاراً شاذّة مضحكة في تفسير القرآن وغيره من معارف الدين ولم يكن من حملة العلم، ويستدلّ على صحة آرائه بأنّه طلب من الله تعالى أن يعلّمه التفسير، وأنّ استجابة هذا الدعاء لا يضرّ أحداً، فلا بدّ من أن يكون الله تعالى قد استجاب دعاءه وقلت له: إنّ هذا الدعاء يدعوه كلّ أحد، فلو صحّ هذا الاستدلال لاقتضى صحّة كلّ هذه الأقوال المتعارضة، فلم يحر جواباً ولكنّه استمرّ في طريقه.

(مَا هُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ) والجواب أنّ هذا تخرّص على الغيب، فه_و ن_ظي_ر شهادتهم على أنوثة الملائكة ستكتب ويسألون. والقرآن يشدّد كثيراً على الافتراء على الله تعالى وإسناد ما لم يقل إليه سبحانه وهو المناط في حرمة البدعة وحاصل الجواب أن استكشاف رضا الله تعالى بعملهم من عدم منعه تكويناً لا يستند إلى علم، وأنّى لهم أن يعلموا برضاه؟! وعدم المنع تكويناً لا

ص: 188


1- الأعراف (7): 28

يدلّ على ذلك؛ إذ لعلّه لمصلحة اُخرى وهو إبقاؤهم أحراراً مختارين ليمتحنهم ويحاسبهم.

(إنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ)، أي ليس هذا منهم إلا تخرّصاً على الغيب «والخِرص» في اللغة الحزر في العدد والكيل، ويطلق غالباً على حزر الثمرة على الشجر، أي الأخذ بالظنّ والتخمين. وكلّ قول بغير علم خرص، سواء كان مطابقاً للواقع أو مخالفاً.

وقد حكى الله تعالى عنهم هذا القول في مواضع اُخرى بوجوه اُخر، منها قوله تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ اشْرَكُوا لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُم إلا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلله الْحَجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ).(1) وهذه الآية تردّ عليهم أيضاً بالتخرّص على الغيب، وتضيف إليه أنّه تعالى لو كان يجبركم على ما يريده تشريعاً، فيشاؤه تكويناً لشاء هدايتكم جميعاً؛ إذ لا شك أنّ هذا هو الأصلح لجميع البشر ، ولا شكّ أنّهم ليسوا جميعاً مهتدين وإلا لم يختلفوا فيما بينهم فالنتيجة أنّه تعالى لا يشاء تكويناً إجبار البشر على اتخاذ طريقة مّا، فلا يمكن الاستدلال بعدم ممانعته تكويناً على رضاه تشريعاً بالأمر، وهذه هي الحجّة البالغة.

(أمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ) إضراب عن عدم علمهم واستفهام إنكاري، أي إن لم يكن هذا تخرصاً على الغيب، فلا بدّ من أن يستندوا فيه إلى ،دلیل وليس هناك دليل على ما قاله الله تعالى وأذن فيه أو أمر به إلا كتبه ورسله،

ص: 189


1- الأنعام (٦): ١٤٨ - ١٤٩.

والعرب لم ينزل عليهم كتاب قبل القرآن ليتمسّكوا به في إسناد القول إلى الله تعالى و «مِن» زائدة للتأكيد، والضمير في (قَبلِهِ) يعود إلى القرآن من دون ذكر صريح، لكونه مفهوماً من السياق، والاستمساك والتمسّك بمعنى الاعتصام، والأصل في الاستفعال الطلب والتحرّي، فكأنّ المعتصم بالشيء يتحرّى ويحاول تشديد إمساكه به أو إمساكه من كلّ جانب.

(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ). هذا هو أساس الضلال فيهم وفي كثير من الناس والإضراب في قوله: (بَل) إبطال للتمسّك بأيّ حجّة بمعنى أنّهم لا يستندون في ذلك إلى حجّة؛ لا عقلية ولا نقلية وإنّما حجّتهم تقليد الآباء. و«الأمّة»، الدين كما في «العين».(1) والتعبير بالجملة الاسمية للدلالة على أنّهم مستمرّون ومصرّون على متابعة آثارهم. و«الأثر» ما يبقى على الأرض من رسم الأرجل والحوافر حين المشي، والمراد أنّهم لا يتخطّون طريقتهم أصلاً. وهكذا عامّة الناس يتبعون أسلافهم من دون تفكير، بل يفتخر بعضهم بأنّهم سلفيون. والسلفية ليست إلا متابعة الآباء والأجداد متابعة عمياء، ولو كانوا يتبعون الحقّ لقالوا: إنّ ما نتبعه هو ما يقتضيه العقل أو يأمر به الكتاب والسنّة.

ومن المؤسف، أنّا نجد متابعة الآباء سارية حتّى في انتخاب المرجعية لدينا، فإذا اتّبع أبو الأسرة مرجعاً من المراجع لما ثبت له من كونه جامعاً للشرائط مثلاً اتّبعته الأسرة، بل يبحثون عن خليفة المرجع إذا توفّي؛ لأنّ أسرتهم تقلد هذا الخط من المرجعية، وكأنّ هذا هو العذر المقبول لدى الله تعالى إذا سئلوا عن دينهم ممّن أخذوه.

ص: 190


1- كتاب العين ٤٢٧:٨.

(وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، أي وكما يقول هؤلاء قالت الأمم السابقة بأسرها، فهذا ليس غريباً ولا بدعاً من الأمر، بل هذا ديدن المترفين. وهذه الآية تصرّح بالشمول للجميع، حيث نفى أن يكون قد أرسل رسول إلى قوم لم يواجه هذا الكلام. والتعبير بقوله تعالى: (أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ) لتسلية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّ ما تجده من قومك ليس جديداً وخاصّاً بهم، بل هو شيمة البشر وسيرتهم في مواجهة الرسالات. و «من» في قوله: (مِنْ نَذِيرٍ) زائدة للتأكيد على الشمول. كما أنّ قوله: (فِي قَرْيَةٍ) أيضاً يؤكّد الشمول وهو معلوم من دونه. و«القرية» بمعنى المجتمع وتطلق على البشر وعلى المكان الذي يجمعهم. وأصله من قرى يقري، أي جمع.

وتفيد الآية أنّ هذا شأن التَرَف وهو التنعّم والطغيان فيه، فالمُترَفون الذين لا يألون جهداً في التوسَع في الشهوات والملذّات لا ينصاعون لما يأتي به رسل الله تعالى، حيث إنّ الشرائع والأديان كلّها تفرض قيوداً على الحرّيات، وليست لدى المترفين حجّة في مواجهة الرسل، وإنّما يتشبثون بتقاليد الآباء. وهنا عبّر بالاقتداء بدلاً عن الاهتداء في الآية السابقة للإشارة إلى أنّهم لا تهمّهم الهداية، فليس هناك هدف منشود ليحاولوا الاهتداء إليه، وإنّما يقتدون بآبائهم في طريقتهم مهما آلت إليه الطرق.

(قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأهْدَى مَا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)، أي قال النذير: هل تبقون على متابعة الآباء وإن كان ما جئتكم به أهدى؟! فالاستفهام للانكار ،التوبيخي، أي كيف يصحّ متابعة الآباء في هذا الفرض؟! «والواو» في قوله: (أوَلَوْ) للعطف على مقدّر وهو - كما قلنا - البقاء على متابعة الآباء. والنذير

ص: 191

وهو الرسول لحسن أدبه، لا يصرّح بأنّ ما أخذوه من آبائهم ضلال محض، بل يقول باحتمال أن يكون ما جاءهم به أهدى ممّا كانوا عليه، أي أقرب إلى الهداية حتّى لو فرض في طريقتهم نوع من الهداية.

والمترفون لم يردّوا على هذه المبادرة الجميلة بأيّ حجّة أو منطق يِبرّر موقفهم، بل ردّوا على الرسل بكلّ عناد ولجاج: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) أي منكرون. هكذا وبكلّ صراحة ووقاحة إنّا نكفر به مهما كان، ولا يهمّنا أن يكون أهدى أو هو الصحيح فقط . والإتيان بضمير الجمع في قوله: (أرْسِلْتُمْ) باعتبار تعدّد الرسل والأمم.

(فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ)، هذه نتيجة موقف المعاندين للرسل وهي واضحة بالطبع، فإنّ قوماً هذا شأنهم لا يستحقّون إلا العذاب والانتقام الإلهي ، فإنّهم مجرمون، ولا جريمة أكبر من مواجهة المنطق والهداية الإلهية بالاستكبار والعناد. و «الانتقام»: المعاقبة. و«النقم» في الأصل، بمعنى المبالغة في الإنكار وينطبق على المعاقبة، فإنّها غاية الإنكار. ثمّ تأمر الآية الرسول أو كلّ مخاطب وسامع أن ينظر كيف كانت عاقبتهم، حي_ث كذّبوا الرسل، فيعتبر المشركون بها ويتسلّى المؤمنون.

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّني بَرَاءٌ لَما تَعْبُدُونَ)، «إذ» ظرفية. أي واذكر الزمان الذي قال فيه إبراهيم ذلك لأبيه وقومه والتنبيه على هذا الموقف الذي اتخذه إبراهيم علیه السلام تجاه قومه وأبيه يأتي في سياق الردّ على ما حكي عن القوم في الآيات السابقة من تقليد الآباء والأسلافة، فالآية الكريمة تردّ عليهم بالاستشهاد بموقف إبراهيم علیه السلام من جهتين:

ص: 192

الأولى: أنّه ينبغي لمشركي مكّة التأسّي به، وهو جدهم الذي يفتخرون ب_ه ويدّعون أنّهم أتباعه، حيث خالف أباه وقومه، ولم يكتف بعدم المتابعة، ب_ل جابههم بكلّ شدّة وصرامة، وأعلن براءته منهم ومن سننهم الباطلة، بل كسر أصنامهم، وأين هذا من متابعة الآباء القدامى والأسلاف البعداء؟

والثانية: أنّه لو صحّ متابعة الآباء والأسلاف، فليتبعوا أباهم إبراهيم علیه السلام، وهو شيخ الأنبياء، فلماذا يختارون من بين أسلافهم المشركين الجهلة؟

هذا، وقد مرّ في تفسير سورة الصافات وغيرها، أنّ المراد بأبيه هو الذي ربّاه، وأنّه لم يكن والده، كما يظهر من دعائه في أواخر حياته: (رَبَّنَا اغْفِرْ لي وَلِوَالِدَيَّ)،(1) مع أنّه امتنع من الاستغفار له بعد أنّ علم أنّه عدو الله، كم_ا ق_ال تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ الله تَبَرَّاً مِنْهُ).(2)

ومهما كان، فقد واجههم إبراهيم علیه السلام وقال لهم : (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ). و «براء» مصدر يطلق على المتبري من باب المبالغة في التبرّي، وهو الابتعاد عمّا يكره.

(إلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ). المشهور بين المفسّرين إنّ الاستثناء منقطع؛ لأنّ قومه ما كانوا يعبدون الله تعالى، ولكن يحتمل أن يكون متصلاً، فلعلّ قومه كانوا يجمعون بين عبادة الله وعبادة الأصنام. وإذا قلنا إنّ العبادة تشمل الدعاء __ كما هی كذلك -، فإنّ مشركي الجزيرة أيضاً كانوا يدعون الله تعالى. وكلمة «اللهمّ» ليست مستحدثة في الإسلام، وكانت صحيفة قريش في مقاطعة النبي صلی الله علیه و آله وسلم مبدوّه

ص: 193


1- إبراهيم (١٤): ٤١
2- التوبة (٩): ١١٤.

بجملة: «باسمك اللهمّ»، بل كانوا يستغفرون الله تعالى،كما قال سبحانه: (وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)؛(1) فإنّ مقتضى السياق أنّ الضمير يعود إلى المشركين، وما كانوا ينكرون الله تعالى ولا ينكرون تأثيره في الكون، وإنّما كانوا يشركون بالله ويعتقدون لغيره أيضاً تأثيراً بالاستقلال.

وفي هذا التوصيف استدلال على التوحيد، فإنّ «الفط» هو الشقّ، ويعبّر عن الخلق بالفطر، إذا كان بالإيجاد من العدم، وهذا خاصّ بالله تعالى، فإنّ غيره وإن أمكن أنّ يخلق شيئاً بإذنه تعالى إلا أنّه يغيّر صور الأشياء، ولا يمكن لأحد أن يوجد شيئاً من العدم، وإنّما يصدق الفاطر على الله تعالى، حيث أبدع السماوات والأرض، والتعبير عنه بالفطر تشبيه كأنّه شقّ العدم وأخرج منه الوجود. ولكن يقع السؤال عن خلق الإنسان كيف يعبّر عنه بالفطر، مع أنّه يتكوّن في أحضان الطبيعة ويولد من أمّه وأبيه ؟ فيه احتمالان:

الأول: أنّه يعبّر عنه بذلك باعتبار أنّه جزء من الكون الذي خلقه الله من العدم، فيصدق ذلك على الإنسان باعتبار أنّه جزء من الكون، فكان هناك زمان لم يكن الإنسان موجوداً، حيث لم تكن الطبيعة موجودة، والله تعالى فط_ر الإنسان بخلق النواة الأولى للطبيعة، واستمرار قائمة العلل والمعاليل. وهذا وجه قوي وعامّ.

الثاني - وهو خاصّ بالإنسان - : أنّ جسم الإنسان الذي تربّى في الطبيعة ليس هو حقيقة الإنسان، بل حقيقته هي الروح الذي نفخه الله فيه، كما قال تعالى في خلق آدم علیه السلام: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)،(2)

ص: 194


1- الأنفال (8): 33
2- الحجر (1٥): 29

بل قال في خلق عامّة البشر : (وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ * ثمّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ)،(1) فإنّ الظاهر أنّ المراد بنفخ الروح في هذه الآية كلّ إنسان وإن احتمل رجوع الضمير إلى آدم علیه السلام كما أنّه هو المقصود ظاهراً بقوله تعالى: (ثُمَّ انْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ)(2) فهو إنشاء وإبداع لخلق جديد، ويظهر منه أنّ هذا الروح ليس جزءاً من الطبيعة، ب_ل هو ممّا أبدعه الله تعالى.

ومهما كان، فإنّ ابراهيم علیه السلام يستدلّ بفاطريته تعالى على أنّه هو الربّ وهو المعبود والإله؛ لأنّه خلقني من العدم وجعل لي من البدو هذه القابليات والغرائز التي بها أتكامل، وأصل إلى غاية الكمال المنشود لي كأيّ شيء آخر، فإذا كانت هذه القابليات من بدو الخلقة ومن صنع المبدع، فهو الذي يسير بالأشياء

في هذا المسار الطويل إلى غاياتها، فهو هاديها والمربّي لها. والربّ هو الذي يجب أن يُعبَد، لأنّه هو الضارّ النافع وليس غيره من ينفع أو يضرّ إلا بإذنه، فهو الذي يُخاف ،ويُرجى والإنسان إنّما يعبد ما يعبد دفعاً للمضرّة وجلباً للمنفعة، فإذا ثبت أنّ النافع الضارّ بالذات هو الله تعالى، ولا ينفع غيره ولا يضرّ إلا بإذنه، فالإله المعبود منحصر في ذاته المتعالية.

وعقّب التوصيف بالفطرة بأنّه تعالى هو الهادي. و«الفاء» للتفريع، فتدلّ على أنّ هدايته تعالى تتّبع كونه هو الفاطر؛ لأنّه _ كما مرّ __ م_ن ش_ؤون الربوبية، كما قال تعالى حكاية لكلام موسى علیه السلام (رَبُّنَا الَّذِي أعْطَى كُلِّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثم هَدَى)،(3)

ص: 195


1- السجدة (32): 7-9
2- المؤمنون (23): ١٤ .
3- طه (٢٠): ٥٠

ولكلام إبراهيم علیه السلام:(إِنِّي ذَاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ)؛(1) فالهداية مترتّبة على الربوبية، والظاهر أنّ مراده علیه السلام الهداية في جميع شؤون الدنيا والآخرة، وهذا القول إنّما قاله حين خروجه من عند قومه، كما قال عنه تعالى: (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(2) ولكنّه لم يشعر بالوحدة والوحشة، ولم يخف شيئاً من حوادث الدهر، لوثوقه بعناية ربّه وأنّه سيهديه إلى الطريق الصحيح في كلّ شؤونه، ومثله قال موسى علیه السلام حين خروجه من مصر، كما قال تعالى: (وَلا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ

عَسَى رَبِّ أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ).(3)

وقد ورد مثل هذا البيان بصورة أكثر تفصيلاً في قوله تعالى: (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثم يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ).(4) ومن سياق هذه الآيات يتبيّن بوضوح أنّ المراد بالهداية ليس خصوص الهداية الدينية إلى الصراط المستقيم كما في «الميزان»(5) وغيره، بل مطلق الهداية، ولذلك عطف عليه الإطعام والسقي والشفاء ممّا تتوقّف عليه الحياة المادّية.

وقد أشكل الأمر على بعض المفسّرين من جهة التعبير بسين الاستقبال، ممّا يقتضي عدم الهداية في الحال، فقال بعضهم: إنّ الجمع بين القول في هذه الآية

ص: 196


1- الصافات (37): (99
2- العنكبوت (٢٩): ٢٦
3- القصص (28): 22
4- الشعراء (٢٦): 75 - 82
5- راجع: الميزان في تفسير القرآن ١٥: ٢٨٠

وقوله تعالى: (فَهُوَ يَهْدِينِ) في سورة الشعراء يقتضي أنّ الهداية موجودة في الحال ومستمرة؛ لأنّهما يحكيان عن قضية واحدة، والصحيح أنّ مفاد الجملتين أمر واحد، وهو ترتّب الهداية على الفطرة ،والخلق، وأنّ الخالق تعالى لا يمكن أن يترك مخلوقه من دون هداية، ولعلّ الاستقبال بلحاظ حال الخلق، أي أنّه تعالى يهدي بعد الخلق لا محالة.

(وَجَعَلَهَا كَلِمَةٌ بَاقِيَةٌ فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، «العقب» مؤخر الرجل ويعبّر به عن الأولاد والنسل، والظاهر أنّ فاعل الجعل هو إبراهيم علیه السلام وضمير المفعول المؤنث يعود إلى الجملة السابقة ومفادها التوحيد، فجعلها كلمة باقية مستمرة في نسله وذريّته وذلك بالوصية، كما حكى الله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)،(1) فهو علیه السلام ليس كأهل الدنيا همهم في حياتهم المال، وإذا أوصوا أيضاً جلّ اهتمامهم معيشة أولادهم وكيفية

تقسيم أموالهم، بل هو لا يهتمّ إلا بدينهم، فيوصيهم بأن لا يموتوا إلا مسلمين.

وكذلك كان علیه السلام يختلف في دعائه عن الناس، فنحن إذا دعونا لأولادنا، فإنّ غاية ما نطلبه المال والعافية وطول العمر وإبراهيم علیه اسلام يدعو ربّه: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ)،(2) ومن دعائه: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلوةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي).(3)ولما جعله الله تعالى للناس إماماً، قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)،(4) فهو يدعو أن تكون ذريّته مقيمين للصلاة وأئمّة يهدون المجتمع ويدعونهم إلى الهدى والصلاح.

ص: 197


1- البقرة (2): 132
2- إبراهيم (1٤): 35
3- إبراهيم (١٤): ٤٠
4- البقرة (٢): ١٢٤

وهو علیه السلام البنفسه نشر التوحيد وتحمّل في سبيله المصاعب وترك قومه وعشيرته وهاجر إلى ربّه يدعو الناس إلى التوحيد، ولم يكتف بذلك، بل طلب من أولاده وذرّيّته إلى يوم القيامة أن يتّبعوا طريقه، وكان كما أراد، فإنّ الأنبياء المذكورين في القرآن أكثرهم من ذريّتّه، ولذلك يدعى أبا التوحيد، ولذلك أيضاً جازاه الله تعالى في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ مَنَ الصَّالِحِينَ)،(1) (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)،(2) (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).(3) ولعلّ من أجره فى الدنيا أن جعل من ذريّتّه الرسل والأنبياء والأئمّة والصالحين.

والضمير في قوله: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، يعود إلى عقبه، وإنّما أتى بضمير الجمع باعتبار أنّ المراد به الأقوام الذين يأتون بعده من نسله، والمراد بقوله: (يَرْجِعُونَ) الرجوع إلى الله تعالى، حيث إنّ التوجهّ إلى ملذّات الدنيا ونعيمها بطبيعة الحال يبعد الإنسان عن ربّه، فأراد ابراهيم علیه السلام أن يرجع ذريّتّه إلى الله تعالى وإلى

عبادته، كلّما استهوتهم الدنيا ولذائذها وأبعدتهم عنه، فجعل لهم كلمة التوحيد مناراً وملاذاً يرجعون إليها كلّما توغّلوا في شؤون الدنيا.

وقيل : إنّ ضمير الفاعل في: (جَعَلَهَا ) يعود إلى الله تعالى واختاره العلامة الطباطبائي رحمه الله،(4) ولكنّ السياق يأبى ذلك، وإنّما ألجأهم إلى هذا التكلّف القول بأنّ ذلك ليس من فعل إبراهيم علیه السلام فإنّه لا يؤثّر بعد موته، فكيف جعله_ا

ص: 198


1- البقرة (2): 130
2- النحل (١٦): 122
3- العنكبوت (29): 27
4- راجع: الميزان فى تفسير القرآن ١٠ : ٩٦

كلمة بعده؟! وقالوا الوصية لا تستلزم الجعل.

والجواب: أنّ الوصية وإن كانت لا تستلزم ذلك ولا توجبه بصورة طبيعية، فلا يصدق الجعل التكويني بمجرّد الإيصاء، ولكنّ مصحح هذا التعبير أنّه بوصيته وإصراره على ترسيخ هذا الأمر في المجتمع، وباعتبار كونه عنصراً مؤثّراً في المجتمع بنفسه وبأولاده تسبّب في بقاء هذه الكلمة فيما بعده، فالجعل هنا باعتبار

جعله للسبب.

ص: 199

سورة الزخرف (29-35)

بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَءَابَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَفِرُونَ (30)وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ(31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مِّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَنتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُحْرِيًّا وَرَحمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34)وَزُخْرُفًا وَإِن كُل ذَلِكَ لَمّا مَتَنعُ الحَياةِ الدُّنْيَا ٢ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

(بَلْ مَتَعْتُ هَؤُلاء وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقِّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ)، (هَؤلاء) إشارة إلى أهل مكّة ومشركي الجزيرة العربية والظاهر أنّ الجملة إضراب عن قوله: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) حيث إن الجملة السابقة تشملهم، فإنّهم من ذريّة إبراهيم علیه السلام ولكنّهم لم يرجعوا كما أراد وكما كان مرجوّاً ومتوقعاً منهم، بل متّعهم الله تعالى فاشتغلوا بما متّعهم به، كما متّع آباءهم أيضاً، فالتعبير بالتمتيع إشارة إلى لازمه وهو الاشتغال بمتاع الحياة الدنيا عمّا أراده لهم جدّهم إبراهيم علیه السلام وظلّوا على التهائهم بالدنيا إلى أن جاءهم الحقّ، فكان المتوقّع أن لا يتوانوا عن قبوله ولكنّهم كفروا به والمراد بالحقّ القرآن أو الرسالة.

وجاءهم أيضاً رسول مبين «والمبين» من الإبانة، أي الإيضاح، فهو يوضح لهم حقائق الدين، أو من الوضوح، فإنّ رسالته واضحة بمعجزاته وبما كانوا يعلمون منه قبل ذلك من الصدق والأمانة، ومن أنّه لم يكتب ولم يقرأ قبل ذلك

ص: 200

ولم يسبق منه كلام يدلّ على علم أو نبوغ أو حكمة، ولم يقل قبل ذلك شعراً ولا كلاماً منسّقاً أدبياً، كلّ ذلك ممّا يبيّن كونه رسولاً يوحى إليه من الغيب، فهو رسول ،مبين أي واضح معالم رسالته وارتباطه بالغيب.

ولعلّ ذكر تمتيع الآباء لإكمال الردّ على مقولة تقليد الآباء، بأنّهم أيضاً كانوا من عقب إبراهيم علیه السلام وكان المفروض أنّ يتأثّروا بكلمته التي أورثها لهم وأوصاهم بها ، ولكنّهم أيضاً اشتغلوا بمتاع الدنيا وملاهيها، فانظروا من تقلّدون وبأيّ آبائكم تقتدون؟! (وَلا جَاءَهُمُ الحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ). نعم لمّا جاءهم الحقّ لم يؤمنوا به، بل عاندوه وقالوا هو سحر ولم يقولوا ذلك جهلاً منهم بالحقّ ولا بالسحر، بل كانوا يعلمون أنّه ليس سحراً، وإنّما كانوا يطلبون المعاذير حتّى لا يؤمنوا بالحقّ، ولإغواء الناس وإبعادهم عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، يدلّ على ذلك قصّة الوليد بن المغيرة، فقد روي أنّ الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنّه رقّ له فبلغ ذلك أبا جهل، فقال: يا عمّ إنّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً فيعطوكه، فإنّك أتيت محمداً لتصيب ممّا عنده، قال: قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنّك منكر له وأنّك كاره له؛ قال: وماذا أقول، فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر منّي لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجنّ والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إنّ لقوله الذي يقوله حلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنّه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنّه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتّى تقول فيه. قال: دعني حتّى أفكّر ، فلمّا فكّر ، قال ما هو إلا سحر يؤثر ، فعجبوا بذلك، وفيه نزلت آيات

ص: 201

سورة المدَثر: (إِنَّهُ) فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ)(1) ورويت القصّة بوجوه أخرى. وقولهم: (إِنَّا بِهِ كَافِرُونَ) يدلّ على تماديهم واستمرارهم على الكفر، حيث أتوا به جملة اسمية مؤكّدة ب_ «إنّ». و«الكفر»: الإنكار.

(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظيم) حكي عنهم القول بأنّه لو أراد الله أن ينزّل القرآن من عنده على بشر، فلا بدّ أن يختار رجلاً عظيماً من إحدى القريتين العظيمتين في المنطقة مكّة والطائف. و «لولا» في الأصل للحثّ والتحضيض، والقصد منها هنا التعجيب من عدم تنزيل القرآن على رجل بهذا

الوصف، وتنزيله على من ليست له هذه الصفة ليتوصّل بذلك إلى إنكار رسالة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

وقيل: إنّهم سمّوا الرجلين المقترح إنزال الكتاب عليهما وإنّ أحدهما الوليد بن المغيرة والآخر عروة بن مسعود الثقفي، وقيل غير ذلك ولا يهمّنا التعيين، فمهما كان، فإنّهم قصدوا بالعظمة المال والجاه، شأنهم في ذلك شأن عامّة الناس في كلّ المجتمعات، فإنّ مقياس العظمة عندهم غالباً _ إن لم يكن دائماً - هو المال والجاه، وهؤلاء لجهلهم بالمقاييس الإلهية يتصورّون أنّ الوحي أيضاً يجب أن ينزل على من له مال وجاه وبنون. وفي الآيات التالية يهدم الله تعالى بنيانهم في القيّم التي بنوا عليها المجد والفخار ويبيّن لهم تفاهة قيمهم وسفاهة آرائهم.

(أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ). الجواب واضح ، فالرسالة رحمة من الله تعالى، رحمة للرسول ورحمة للمرسل إليهم وهو العليم بمن يستحقّها، كما قال في

ص: 202


1- المدثر (٧٤): 18 - 19

موضع آخر(الله أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)،(1) ومن غاية الكبر والخيلاء أن يتوهّم الإنسان أنّ له حقّ التدخل في شؤون الربوبية. وهذا الأمر لا يختصّ بهم، فهو مشهود في عصرنا أيضاً. والاستفهام للإنكار وتقديم الضمير المنفصل لأنّ التركيز في الإنكار أن يكون تقسيم الرحمة إليهم. وفي إضافة الرحمة إلى الربّ المضاف إلى شخص المخاطب وهو النبي صلی الله علیه و آله وسلم إشارة إلى أنّ إرسال هذه الرسالة اليك خاصّة من بينهم يتبع التربية الخاصّة بك، فالله تعالى ربّاك من أجل الرسالة، كما قال لموسى علیه السلام: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ).(2)

(نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) تقديم الضمير المنفصل هنا للتركيز على الفاعل، أي أنّ تقسيم المعائش والأرزاق بينهم من فعله تعالى ولا يمكّنهم التحكّم فيه، فكيف بالرسالة وهي أمر يرتبط بشريعة السماء، وليس للناس إلا الاستجابة لها والإيمان بها ؟! فهذا جواب واضح على اقتراحهم من جهة أنّ الأمور الدنيوية التي لهم فيها حدّ من الاختيار بإذنه تعالى، ليست تحت اختيارهم تماماً، فالرزق وكلّ ما تتقوّم المعيشة به في الحياة الدنيا، وإن كان الإنسان يتحكّم فيه نوعاً مّا بإذن الله تعالى إلا أنّ هناك كثيراً من الأمور الدخيلة في ذلك لا يمكنه التحكّم فيها، ولذلك يختلف الناس في معائشهم، وليست ك_لّ الاختلافات تنشأ من أمور اختيارية، بل أكثرها لا يتبع الاختيار كالقدرة الجسمية والنفسية والعقلية والبيئة المناسبة والنظام الاجتماعي والتوارث وغير ذلك من الشؤون التي تغيّر مسار الحياة وتؤثر تأثيراً مباشراً في الغنى والفقر

ص: 203


1- الأنعام (٦): ١٢٤.
2- طه (٢٠): ٤١

وغيرهما وهي خارجة عن الاختيار.

وهذا هو المراد بتقسيم المعائش ورازقية الله تعالى، فانّه قلّما يبعث رزقاً محدداً لأحد على وجه الإعجاز ، كما حدث للسيدة مريم علیها السلام، فالرازقية بوجه عامّ بمعنى تهيئة وسائل المعيشة لكلّ حي، كما قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى الله رِزْقُهَا )(1) فهو برازقيته جعل لكلّ حيوان صائد وسائل صيده، وهيّأ له في موضع معيشته الفريسة المناسبة، كما هيّأ لكلّ حيوان آكل للعشب ما يحتاج إليه من الكلأ حتّى أنّ أسنان الحيوانات تختلف حسب حاجاتها، وهناك في هذا الباب عجائب وغرائب في الطبيعة. وبما ذكرنا يتبيّن ضعف ما يقال من أنّ إطلاق المعايش يقتضي الشمول للحلال والحرام، فالصحيح أنّ القسمة ليست

بمعنى إيصال المعيشة كما تبيّن.

(وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً)، «السخري» يأتي مصدراً بمعنى التسخير، ويأتي نعتاً بمعنى المسخَّر، وهناك اختلاف في كتب اللغة، فقيل: إنّ سخرياً _ بضم السين - بمعنى المسخّر، و _ بكسر السين __ بمعنى من يُستهزأ به والمشهور بينهم أنّهما بالوجهين يستعملان في المعنيين، بل في«معجم مقاييس اللغة»(2) أنّ سخر أصل مطّرد مستقيم يدلّ على احتقار واستذلال، فالمعنى واحد عامّ يشمل المعنيين. والمقصود هنا هو التسخير لا الاستهزاء. واختلفوا أيضاً في معنى التسخير، فالمعروف أنّه بالنسبة للإنسان، إلزامه بعمل من دون مقابل وهو الظاهر من عبارة «معجم المقاييس» و «المفردات» وغيرهما،

ص: 204


1- هود (11): ٦
2- راجع: معجم مقاييس اللغة ٣: 144.

ولكنّ المنقول عن بعض آخر من القدماء، أنّه يشمل الأجير، وهو الظاهر من الآية الكريمة.

والمراد برفع الدرجات اختلاف الناس في معايشهم، وهذا أمر لابدّ منه، فأيّ نظام اجتماعي واقتصادي يُتّبع لا يمكن أن يمنع من اختلاف طبقات الناس في المعيشة، وإنّما ينبغي أن يحاول تقليل الاختلاف أو وصول كلّ أحد إلى الحدّ الأدنى من مستلزمات المعيشة وإلا فالاختلاف يتبع في الغالب، اختلاف الناس في مواهبهم ومؤهلاتهم، ومن أكبر الأخطاء الاقتصادية، منع الناس من استخدام مواهبهم بغية توحيد الطبقات.

واللام في قوله تعالى: (ليَتَّخِذَ)، يمكن أن تكون للغاية والنتيجة، بمعنى أنّ الله تعالى وهبهم طاقات مختلفة، وهذا الأمر ينتهي بالطبع إلى أن يسخّر بعضهم بعضاً لحاجاته وإن لم يكن هذا التسخير مقصوداً بالذات. وهذا هو المتعيّن إن كان معنى التسخير إلزام الإنسان وقهره لغيره، كي يعمل ما هو المطلوب بلا مقابل وأمّا إن كان يشمل القهر الطبيعي الحاصل من احتياج الإنسان إلى العمل، فيؤجر نفسه من أجل الحصول على الأجرة، فاللام لام الغرض ويبيّن المقصود من اختلاف المواهب، وذلك لأنّ تسخير الناس بعضهم لبعض بهذا المعنى هو أساس التعايش الاجتماعي، حيث إنّ كلّ واحد من الناس له مواهب خاصّة به، فيخدم المجتمع بمواهبه والآخر يخدم بمواهبه الأخرى وكلّ مسخّر لبعض آخر، فالعامل مسخّر لصاحب المعمل، وصاحب المعمل أيضاً مسخر للأيدي العاملة، وإنّما ينشأ الظلم والاستغلال المقيت من كثرة الأيدي العاملة وإلا فليس أص_ل التسخير موجباً للاستغلال.

ص: 205

(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ ما يَجْمَعُونَ). لمّا آل الكلام إلى المقارنة بين معائش الحياة الدنيا ورسالة السماء، التي عبّر عنه سبحانه بأنّه رحمة ربّك، اقتضى المقام أن يزيل الوهم عن تساويهما عند الله تعالى، وهذه الجملة كفيلة بذلك، فالرسالة خير من كلّ ما يجمعونه من مال ويحصلون عليه من جاه وسلطة والخيرية هنا لیست بمعنى أنّ ما يجمعون فيه خير والرسالة أكثر خيراً، بل يصدق الخيرية حتّى مع عدم وجود خير في ما يجمعون، بل مع كونه شرّاً محضاً، فهو كقوله :تعالى: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أم مَنْ يَأْتِي أَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(1) ونظائره كثيرة.

والحاصل أنّه لا تمكن المقارنة بين الرسالة وما يجمعونه من مال خصوصاً أنّ أكثره من الحرام، وإنّما يقال: إنّه خير حسب توهمهم الخير في متاع الدنيا. ولا شك أنّ الرسالة خير في المقاييس الإلهية لا تقاس بشيء، فإنّها أكرم مقام يمنحه الله تعالى لبشر وأعظم نعمة على الناس أجمعين.

(وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا مَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُونِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِثُونَ * وَزُخْرُفاً)، تعقيباً على التقليل من شأن الدنيا في ذيل الآية السابقة، جاءت هذه الآية لتبين بوضوح تفاهة ما يهتمّ به البشر من زينة الحياة الدنيا، وليندّد بتفاخرهم بكثرة المال والولد، وتكالبهم على الجاه والسلطة، واعتبارهم كلّ ذلك من القيم التي يشتاقون إليها، ويجعلونها نصب أعينهم وغاية لكلّ حركة ونشاط، كما نجده بوضوح في من حولنا من دون استثناء إلا نادراً لا يذكر، وليس القصد منه المنع من التزيّن، بل القصد أوّلاً: عدم اعتباره قيمة أساسية، وثانياً: ال_ح_دّ من_ه وع_دم

ص: 206


1- فصلت (٤١): ٤٠

الإفراط فيه خصوصاً بملاحظة أنّه ما من ثراء مفرط وإسراف في التزيّن إلا وبجانبه حقّ مضيّع وفقر مدقع.

وظاهر التعبير أنّه لولا أنّ الناس ينبغي أن يكونوا أمّة واحدة لجعلنا كذا وكذا للكفّار. ولكنّ المفسرين قالوا: إنّ التقدير هنا لولا كراهة أو مخافة أن يجتمع الناس على الكفر ، فيكونوا أمّة واحدة لما يرون من سعة الرزق على الكافر لجعلنا لهم كذا وكذا. وما ذكروه وربّما اتفقوا عليه غير صحيح؛ إذ لا وجه للتعبير عن هذا المعنى بكونهم أمّة واحدة، كأنّ الأمر الذي لا ينبغي هو الوحدة، مع أنّ المقصود حسب هذا التفسير هو الكفر، فكان ينبغي أن يقال: ولولا أن يكفر الناس جميعاً... ولا وجه للعدول عنه إلى التعبير بالوحدة.

والصحيح ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله من أنّ المراد أن يكونوا كلّهم يتّبعون النظام الكوني وقانون العلّة والمعلول، فيكون لكلّ أحد من المتاع بمقدار جهده ومواهبه، ولا يخصّص الله تعالى قوماً بمتاع من أجل كفرهم أو إيمانهم ولولا أنّ الله تعالى أراد أن يكون الناس أمّة واحدة بهذا المعنى، لخصّص الكافرين بهذا المتاع الباذخ والزينة الفاخرة دون المؤمنين، والغرض من بيان ذلك، التنبيه على مهانة الحياة الدنيا ومتاعها عند الله سبحانه، بحيث لا يليق إلا بالكافرين.(1)

وعليه فلا حاجة إلى تقدير المخافة والكراهة، بل تبقى الآية على ظاهرها من أنّ الذي يدعو إلى عدم هذا الجعل هو أن يكون الناس أمّة واحدة من جهة الوصول إلى الأهداف والأغراض الدنيوية.

ص: 207


1- راجع: الميزان فى تفسير القرآن 10 :100

ولعلّ التعبير بالرحمن للإشارة إلى أنّهم يكفرون بمن يستشعرون سعة رحمۀ ويسعدون بنعمه. و«الرحمن» مبالغة من الرحمة وتدلّ على السعة والشمول، فيشمل الرحمة على الكافر. وقوله: (لِبُيُوتِهم)، بدل من: (مَن يَكْفُرُ). و«المعارج»: المصاعد. ويظهرون أي يصعدون، كما قال تعالى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ)(1) و«الزخرف»: الذهب أو الزينة، فقد اختلف أهل اللغة أنّه في الأصل بمعنى الزينة أو أنّه بمعنى الذهب، واُطلق بهذه المناسبة على كلّ زينة، ولعلّه يتأيّد بالتعبير عن كلّ شيء مموّه بالذهب بأنّه مزخرف ومهما كان، فقد ورد بمعنى الزينة في قوله تعالى: (حَتَّى إذا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ)،(2) وورد بمعنى الذهب في قوله تعالى: (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتُ مِنْ زُخْرُفٍ).(3) وهنا يحتمل الأمرين، أي جعلنا لبيوتهم زينة أو جعلنا لها ذهباً.

ثمّ إنّ المعارج والأبواب والسرر يحتمل أن يراد بها كونها من فضة وذهب، كما هو مقتضى كونه عطفاً على «من فضّة»، ويحتمل أن يراد أصل جعلها، فإنّ ذلك أيضاً في تلك الأزمنة كان من البذخ والترف، ولم تكن البيوت ذوات طوابق ومعارج، وحتّى الأبواب لم تكن إلا لبيوت الأثرياء. ويمكن أن يكون المراد بالأبواب، أنّا نجعل لكلّ بيت من بيوتهم أبواباً متعددة، فيدلّ على فخامة البيت وسعته. وتوصيف السرر بأنّهم يتّكئون عليها، للإشارة إلى أنّهم لغاية الشراء والترف لا يعملون عملاً ولا يتعبّون أنفسهم، فكلّ حاجاتهم حاضرة لديهم كأنّهم أصحاب الجنّة.

ص: 208


1- الكهف (18): 97
2- يونس (١٠): ٢٤ .
3- الإسراء (17): 93

وبعض ما ذكر في هذه الآية وإن كان في عصرنا هذا أمراً متعارفاً حتّى للمؤمنين، بل حتّى في العصور القديمة، كان هناك كثير من البشر يبنون القصور الفخمة، ولكنّ الكلام هنا أنّ الله تعالى يجزي الكفّار أجمعين بذلك، فلولا أن يكون الناس أُمّة واحدة لجعل الله جزاء الكفر سعة الثراء والبذخ وذلك استهانة بالدنيا لا تقديراً للكفر.

(وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ، (إن) نافية. و «لمّا» بمعنى «إلا»، أي كلّ ذلك ليس إلا متاعاً في هذه الحياة الدنيئة أو القريبة. و«المتاع» يطلق على كلّ ما يستمتع به الإنسان، ولكنّه لا يفيد شيئاً وليس له تأثير عميق في تكوين ذاته وشخصيته ولا يوجب كمالاً له، مضافاً إلى أنّه ليس دائماً، بل هو زائل، إمّا في هذه الحياة أو بزوال هذه الحياة وانتقال الإنسان إلى العالم الآخر. وهكذا يقرّر القرآن قاعدة أساسية ممّا يدعو إليه الدين، وهي الزهد في الدنيا وعدم الاهتمام بشؤونها إلا بمقدار الضرورة والحاجة، وهكذا علّمنا الأنبياء والأئمّة علیهم السلام بسيرتهم في الحياة الدنيا، ولكنّ الغالب من الناس لا يعمل إلا للدنيا حتّى الكثير ممّن تقمّص لباس الدين. ومن يعمل للآخرة تجده زاهداً فيها، فيكتفي بأقلّ الواجب في هذا المجال، بل يحاول الفرار حتّى من أقلّ الواجب بما يسمّى بالحيل الشرعية، خصوصاً إذا تعلق الأمر بالمال، بل يصرّح بعضهم بأنّه يكفينا في تلك

الحياة أن لا ندخل النار ولا تسمع تشوّقاً إلى مقامات المقربين إلا نادراً جدّاً.

(وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)، أي والحياة الآخرة عند الله تعالى خاصّة بالمتقين. ويفهم - بقرينة السياق وذكر النعم والملذّات الدنيوية قبلها _ أنّ المراد اختصاص السعادة والنعمة في الحياة الآخرة بهم، وقوله: (عِنْدَ رَبِّكَ) يدلّ على تشريف

ص: 209

خاصّ وله نظائر في القرآن كقوله تعالى: (وَمَا عِنْدَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا)(1) وهو هنا نعت لنعيم الآخرة.

وقيل: المراد بالمتقين الذين اتقوا الشرك والكفر ، ليشمل فسّاق المسلمين وهو خلاف الظاهر؛ إذ لا دليل على التقييد بالشرك، بل المراد الذين اتقوا ربّهم مطلقاً، ولكن درجات التنعّم والقرب مختلفة باختلاف درجات التقوى وم_ن فسّاق المسلمين من هو في أسفل دركات الجحيم وقد قال تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أهل الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيّاً وَلا نَصِيراً).(2) وإنّما لجأ بعضهم إلى هذا التأويل نتيجة لهذه الأماني الكاذبة.

ص: 210


1- الشورى (٤٢): ٣٦
2- النساء (٤): 123

سورة الزخرف (٣٦ - ٤٥)

وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّض لَهُ شَيْطَئًا فَهُوَ لَهُ، قَرينٌ(36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّوهُمْ عَن السَّبِيلِ وَتَحْسَبُونَ أَنهُم مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَنلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ (39)مُشْتَرِكُونَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمّى وَمَن كَانَ فِي ضَلَلٍ مُّبِينٍ

(40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكَ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرُ لكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْتَلُونَ (44) وَسْئَلَ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ وَالِهَةً يُعْبَدُونَ(45)

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُفَيْضُ لَهُ شَيْطَانَاً فَهُوَ لَهُ قَرِين). عشا يعشو: ساء بصره أو عمي. والأصل فيه الظلمة ومنه العشاء، أي آخر النهار وأوّل الليل، فم_ن ه_ذا الباب اُطلق على الظلمة في الإبصار، وبعض اللغويين خصّه بالإبصار بالليل، وبعضهم عمّمه للنهار أيضاً. والمراد هنا الإعراض والتعامي عن ذكر الرحمن. و«الذكر» إمّا أن يراد به الكتاب السماوي كالقرآن فيكون من الإضافة إلى الفاعل، وإمّا أن يراد به كلّ ما يُذكّر بالله تعالى فيكون من الإضافة إلى المفعول. والأوّل أقرب بقرينة قوله تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) وما بعده. ولعلّ التخصيص باسم الرحمن للتأكيد على أنّ ما أنزله الله إنّما هو رحمة للعالمين.

وأمّا تقييض الشيطان، فقد مرّ الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: (وَقَيَّضْنَا هُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا هُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)(1) وقلنا لا يبعد أن يكون مأخوذاً م_ن ق_اض

ص: 211


1- فصّلت (٤١): ٢٥

الشيء بالشيء أي مثّله به والقَيضان المثلان ومنه المقايضة بمعنى المبادلة والمعاوضة، فمعنى (نُقَيِّضَ لَهُ) نجعل له مماثلاً، ولعلّ المراد هو خلق المماثل. واحتملنا أن يكون بالنسبة للشيطان الجنّي خلقاً لذاته، فنحن لا نعلم حقيقة الجنّ، ولعلّ بعض شياطين الجنّ يوجد ببعض أفعالنا، وبالنسبة للشيطان الإنسي لا يبعد أن يكون المراد تكوين شخصيته، فإنّ الإنسان يؤثّر في تكوين شخصية أصدقائه. والقرناء كلّ منهم يؤثّر في الآخر، فإن كان القرين فاسداً يغويه ويحرضه عل_ى الأعمال الأجرامية، كما هو مشهود بوضوح.

وأمّا ما ذكره المفسّرون من أنّه من القيض وهو قشر البيضة الأعلى، وأنّه بهذه المناسبة يطلق على التسليط، فقد قلنا: إنّ التقييض لم يستعمل بهذا المعنى، مع انّه غير مناسب لما اُخذ منه، ومضافاً إلى أنّه لو كان بهذا المعنى لكان المناسب أن

يقال: «نقيض عليه» لا «نقيض له». وقوله: (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) يدلّ على أنّه يبقى قرينه بصورة مستمرة يغويه ويوسوس في صدره ويزيّن له أعماله، كما بيّن في الآية التالية، و«الفاء» تدلّ على الترتّب، وهذه أيضاً قرينة اُخرى على ما ذكرناه في معنى التقييض؛ إذ لو كان بمعنى التسليط لم يترتّب عليه كونه قريناً له، فإنّ المقارنة لا تناسب السلطة وإنّما تناسب المماثلة. فالمعنى أنّ الذي يعرض عن ذكر الله تعالى ويتعامى عنه، نجعل له مثيلاً من الشيطان، فيكون قرينه إلى آخر عمره.

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) الضمير في: (إِنَّهُمْ) يعود إلى الشيطان، وإنّما أتى بضمير الجمع لتعدّد المصاديق بتعدد العاشين عن الذكر. وسائر الضمائر للعاشين. وهذه الآية تبيّن دور القرناء الشياطين، فإنّهم وبكلّ

ص: 212

تأكيد _ والتأكيد يفهم من حرف إنّ ولام القسم - يمنعونهم من سلوك السبيل الصحيح والصراط المستقيم. و«الصدّ» هو المنع والتعبير بفعل المضارع يدلّ على أنّ هذا الصدّ والمنع مستمرّ.

وإنّما يصدّونهم بتزيين أعمالهم، فيحسب المساكين أنّهم مهتدون وهذا أمر طبيعي، فإنّ الإنسان إذا لم يجد في عمله نقصاً أو خطأ استمرّ عليه، بل ربّما يجد الخطأ في خلافه، نتيجة لتزيين شياطين الجنّ والإنس، كما نلاحظه في ما حولنا، فرسل الشيطان قد ملأوا الصحف والمجلات والإذاعات وكلّ وسائل الأعلام المتكثّرة المنتشرة بتزيين ما حرمه الله تعالى، بحيث يجد الإنسان المغت_رّ أن_ّه ه_و الصحيح وإنّ الخطأ هو ما يخالفه، كما ورد في الحديث أنّ المنكر يعدّ معروفاً والمعروف منكراً. وقال تعالى: (قُلْ هَلْ تُنبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)(1) وهذا غاية الشقاء، فيقضي الإنسان حياته في ضلال وهو يبتعد عن الحقّ أكثر كلّما أسرع في مشيه، ولا يلتفت إلى من حوله من السائرين على الدرب، بل ربّما يتأسّف على ضلالهم وابتعادهم عمّا هو الصحيح. وهكذا ينتهي الأمر بمن يتعامى عن ذكر الله حتّى يحسب الهداية في عدم متابعة طريق الله تعالى.

(حَتَّى إذا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المُشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ)، قوله: (حَتَّى) يدلّ أيضاً على أنّ هذا التزيين مستمر للإنسان المسكين الذي ألقى قياده بيد الشياطين إلى أن يفاجئه الموت، فيحضر أمام ربّه وينكشف له الحقّ فجأة، ويرفع عنه الغطاء الذي كان يمنعه من رؤية الحقّ والباطل بوجههما الواقعيين كما قال

ص: 213


1- الكهف (١٨) : ١٠٣ - ١٠٤ .

تعالى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)،(1) فينظر إلى قرينه الذي لم يتركه لحظة ويخاطبه : (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المُشْرِقَيْنِ). والمراد بهما المشرق والمغرب من كلّ اُفق، ويطلق عليهما المشرقان من باب التغليب،

كما يقال للشمس والقمر: القمران ولصلاتي المغرب والعشاء: العشاءان. والمراد ببعدهما تباعدهما، أي البعد الذي بينهما، وهذا غاية التباعد المحسوس على الأرض. والظاهر أنّ قوله: (فَبِئْسَ الْقَرينُ) تتمّة كلامه، وقال بعضهم: إنّه من تعقيب القرآن، وهو بعيد.

وإنّما يتبرأ منه هناك، بعد أن انكشف له الحقّ. وفي سورة «ق» ما يدلّ على أنّ كلاً منهما يتبرأ من الآخر : قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ)،(2) نعم لو لم تأت الكتب السماوية والرسالات بالإنذار الكافي، أمكن أن يعتذّر الإنسان بأنّه أعمي عن مشاهدة الحقّ، ولكنّ الله تعالى أتمّ الحجّة وأنذر الإنسان بأنّه سيبتلى بهذه القرناء إذا تعامى عن ذكر الرحمن، فلا تقبل منه الأعذار وهو يتعامى عنه باختياره.

ثمّ إنّ هذا التمنّي وإن كان بحسب الظاهر يعود إلى الماضي، أي أنّه يتمنّى لو كان بينهما في الدنيا هذا البعد، كما أنّ ظاهر قوله: (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) يعود إلى مقارنتهما في الدنيا أيضاً. ولكن بعض المفسّرين حمله على تمنّي البعد في الآخرة، وأنّهما متقارنان هناك حتّى قال بعضهم: إنّهما يربطان بسلسلة واحدة؛ ويمكن أن تكون في الآية التالية قرينة على ذلك.

ص: 214


1- ق (٥٠): ٢٢
2- ق(50): 27 - 28

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ). قيل في تفسير الآية وإعرابها : إنّ فاعل (يَنْفَعَكُم) قوله: (أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ) و (إِذْ ظَلَمْتُمْ) في مقام التعليل، أي حيث إنّكم كلّكم ظالمون سواء الشياطين المسؤلون أم الغاوون العاشون - فإنّهم أيضاً ظلموا حيث عشوا عن ذكر الرحمن ممّا تسبب في تقييض الشيطان لهم - فلا ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب، فإنّ الاشتراك في العذاب ربّما يفيد في الدنيا، حيث يتسلّى الإنسان بغيره، وقد قيل «المصيبة إذا عمّت طابت» وهذا أمر طبيعي، فالإنسان يتأذّى بالمصيبة الخاصّة أكثر ممّا يتأذّى بالمصاب الجماعي، ولكنّ الاشتراك يوم القيامة لا يفيد حتّى في تخفيف الشعور بالعذاب وذلك لدوامه وعظمه.

وقيل: إنّ فاعل (يَنْفَعَكُم) ضمير يعود إلى التمنّي المذكور أو التأسف والندم على ما استوجب الاقتران، ويكون 0أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ) بتقدير لام التعليل، فالمعنى لا ينفعكم تمنّي البعد ولا التأسّف على متابعة الشياطين، فإنّكم مشتركون في العذاب، أي أنّ هذا الندم والتأسّف قد مضى وقته ولات حين ندم.

ويمكن أن يكون التمنّي _ كما مرّ _ متعلقاً بالابتعاد في تلك النشأة، حيث يقترنون بمن تسبّب في شقائهم، كما يتمنّى الإنسان بعده عن عمله اللاصق ب_ه، قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أمَداً بَعِيداً)،(1) فيأتيهم الخطاب أنّ هذا التمنّي لن ينفعكم اليوم، إذ لا ينفع الابتعاد هناك، وإنّما كان ينفع الابتعاد في الحياة الدنيا، وأمّا هنا فالعذاب يشملكم معاً، فإنّ كلاً من الغاوين والمغوين يستحقّون العذاب مستقلاً، فالابتعاد عنهم لا

ص: 215


1- آل عمران (3): 30

يبعدكم عن العذاب. ويؤيّد هذا الاحتمال قراءة «إِنَّكُم» بالكسر، حيث يكون ظاهراً في التعليل.

ولكن يبقى السؤال على هذا الفرض في قوله: (إِذْ ظَلَمْتُمْ)، حيث إنّه أيضاً تعليل لعدم النفع والجواب: أنّ الاشتراك في العذاب علّة لعدم النفع، وظلمهم علّة للاشتراك في العذاب، فإنّه هو المناط له وهو موجود في الفريقين، وحاصل المعنى: أنّ تمني التباعد لا ينفع اليوم؛ لأنّكم معاً معذّبون، سواء إن تباعدتم أم اقترنتم، والسبب أنّكم كلّكم ظالمون، إمّا بالإغواء أو بالتعامي والإعراض ع_ن ذكر الله تعالى.

وربّما يتوهّم التنافي بين التأبيد المستفاد من «لن» والتقييد باليوم الدالّ على الوقت الحاضر. وهذا غفلة عن أنّ المراد باليوم ليس يوماً واحداً، بل المراد النشأة الآخرة التي لا انتهاء لها.

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أو تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). يعود السياق إلى مخاطبة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وتسليته عمّا كان يشعر به من أذى نتيجة عدم انصياع قومه لدعوته إلى الله تعالى. وقد تكرّر هذا المعنى في القرآن ، كقوله تعالى: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المؤتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)،(1) و«الفاء» لتفريع عدم الفائدة في دعوتهم على ما مرّ من تسلّط الشياطين عليهم نتيجة تعاميهم عن ذكر الله تعالى. و«الهمزة» هنا للاستفهام الإنكاري، أي لا تحاول إسماعهم، فإنّك لا تُسمع الصمّ، وهو جمع الأصمّ. ولا تهدي العمي بإراءة الطريق من دون أخذ اليد، وهو لا يكون إلا في ظروف خاصّة وبإذن خاصّ من الله تعالى، فإنّ الوظيفة العامّة

ص: 216


1- النمل (27): 80

للرسول إراءة الطريق فحسب.

وقوله: (وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) عطف تفسير للصمّ والعمي، ويدلّ على أنّهم إنّما عمّوا وصمّوا لعنادهم وإصرارهم على الضلال المبين، حيث إنّ توصيفه بالمبين يدلّ على وضوح ضلالة من يعبد الأصنام التي يصنعها بيده، فبقاؤهم على هذا الضلال الواضح ليس إلا للعناد، وهو يجرّ الإنسان إلى العمى والصمم. وليس القصد من هذه الآية نهي الرسول صلی الله علیه و آله وسلم عن الاستمرار في الدعوة حتّى مع إصرارهم على الضلال، بل المراد تسلية خاطره وإيناسه من إيمانهم.

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنتَقِمُونَ * أو نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ)، (إمّا ) مركّب من ((إن)) الشرطية ) و ( ما ) الزائدة التي تفيد التأكيد، أي تأكيد الربط بين الشرط والجزاء. والظاهر أنّ المراد بالذهاب به صلی الله علیه و آله وسلم الوفاة، كما في قوله تعالى: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أو نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ)(1) وغيرها من الآيات. ومن هنا يتبيّن أنّه لا يصحّ ما ورد في بعض التفاسير من أنّ المراد به الهجرة من مكّة إلى المدينة، مضافاً إلى أنّ التعبير بالذهاب به لا يناسب الهجرة؛ لأنّه عمل اختياري ولا قرينة على إرادة هذا المعنى.

والمراد بالانتقام ما يعمّ العذاب في الآخرة بقرينة الآية المذكورة، حيث يختصّ التهديد بما بعد الرجوع إليه تعالى، وكذلك في قوله: (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أو نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّهَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ)،(2) وقوله: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أو نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)،(3) بل ظاهر الآيات دالّة على خصوص عذاب

ص: 217


1- يونس (١٠): ٤٦
2- الرعد (13): ٤٠
3- غافر (٤٠):77.

الآخرة. والمراد بالذي وعدهم الله تعالى عذاب الدنيا والقصد من قوله: (أو نُرِيَنَّكَ ) وقوع عذاب الدنيا عليهم في حياته صلی الله علیه و آله وسلم وقد حدث في يوم بدر.

ولكنّ السؤال هنا أنّه ما علاقة الانتقام منهم بوفاته صلی الله علیه و آله وسلم وما علاق_ة الاق_ت_دار عليهم بإراءته ما وعدهم الله تعالى؟ والجواب: أنّ الغرض تهديد المشركين وتسلية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّ الانتقام والعقوبة آتيهم لا محالة؛ إمّا في الدنيا وفي حياة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أو في الآخرة بالعذاب الدائم والترديد في مثل هذه الموارد يبقي المخاطب مهدّداً بعذاب الدنيا _ والناس يخافون منه أكثر من عذاب الآخرة، لجهلهم بحقائقها ولاستعجالهم بنتائج الأعمال - وفي نفس الوقت يبقي لاحتمال الإمهال مجالاً لئلا يصيبه اليأس، فيترك إصلاح نفسه.

وعليه فالجزاء في الجملتين ليس جزاءاً واقعياً ولذلك أتى به في الآيات الثلاث جزاءاً واحداً في الفرضين، وهو الرجوع إلى الله تعالى أو أنّ عليه الحساب ممّا يدلّ على أنّهم يجازون يوم القيامة بأعمالهم، فالمعنى أنّه سواء نزل عليهم العذاب في الدنيا في حياتك أو بعد مماتك أو لم ينزل أصلاً، فإنّ موعد الانتقام يوم القيامة، فالجزاء الواقعي أنّهم لا يتركون، سواء عُذّبوا في الدنيا باستعجال أو بإمهال أم لم يعذّبوا أصلاً. ويشهد لذلك أنّ قوله تعالى: (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ) لا يمكن أن يكون جواباً أساساً، وإنّما هو دليل على إمكان تحقّق الإراءة.

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، بعد التنديد بأع_داء الرسول صلی الله علیه و آله وسلم و تهديدهم ، يعود السياق ليؤكّد عليه استقامة طريقه لئلا يصيبه ترديد أو ضعف من عناد قومه الكفرة الطواغيت و«الفاء» للتفريع على ما قبله

ص: 218

وهو قوله تعالى: (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ)، أي حيث إنّ الله تعالى قادر عليهم _ وهو واضح - فلا تحذر ،مكائدهم ولا تتوان في التمسّك بطريقتك.

والاستمساك والتمسّك بالشيء الاعتصام به كما مرّ في تفسير الآية ٢١. وجملة: (إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) تعليل لوجوب الاستمساك. والرسول كان عالماً بأنّه على صراط مستقيم ومصرّاً على تمسّكه بالوحي، ولم يصبّه شكّ ولم يتردّد لحظة، ولكن هذه التأكيدات تقوّي عزمه وتسلّيه؛ لأنّها من ربه تعالى، مضافاً إلى أنها تبرّر أمام الناس تصلّبه ورفضه لأيّ تنازل عن الحقّ؛ إذ أنّ هناك المتظاهرين بالإسلام من تدعوه ميوعته وضعفه إلى الإصرار على ترك التشدّد في الدين، كما نراه ونسمعه في عصرنا، بل نجده يزداد يوماً فيوماً، بل يُستنكر التشدّد والتصلّب في الدين ويُعتبر عيباً وعاراً وهو من صلب الإيمان.

ومن الواضح أنّا نقصد التشدّد والتصلّب في الأفكار الخاصّة بمذهب متطرّف يدعو إلى نبذ الآخرين حتّى من يشاركونه في أصل الدين والعقيدة الأساسية، بل القصد التأكيد على أصول الدين، وخصوصاً أصل الأصول وهو التوحيد.

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ). الضمير يرجع إلى قوله تعالى: (مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ)، أي إنّ القرآن الكريم ذكر لك ولقومك وإنّكم جميعاً ستسألون يوم القيامة عن موقفكم اتّجاهه.

واختلف المفسّرون في المراد بكونه ذكراً ، هل هو ما ورد في سائر الموارد من أنّه يُذكر الإنسان بربّه وبمعاده وبما يجب عليه أم أنّه بمعنى كونه شرفاً له ولقومه، حيث إنّه يرفع ذكرهم وصيتّهم في الدنيا؟ وأكثر المفسّرين اختاروا المعنى الثاني، نظراً إلى أنّه هو الذي يختصّ به وبقومه دون المعنى الأوّل.

ولكنّه بعيد بالنسبة إلى السياق، وإن ورد الذكر بهذا المعنى في قوله تعالى:

ص: 219

(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)،(1) ولكن التعبير بأنّه ذكر لك ولقومك غير ظاهر في هذا المعنى، كما أنّه ليس مناطاً للسؤال يوم القيامة، فلا يناسبه التعقيب بالسؤال، وإنّما المناط ما يُذكّرهم بربّهم وبوظائفهم، فرفع الذكر في الدنيا وإن كان نعمة يمنّ الله بها عليهم ولكنّه ليس ممّا يناط به السؤال.

هذا، مع أنّ الآية غير ظاهرة في اختصاص كونه ذكراً بهم، ولا تنافي كونه ذكراً للبشرية جمعاء. ولئن خصّ أهل اللغة بالخطاب، فلأنّهم أولى بأن يؤثّر فيهم الذكر، وهم أوّل من ذُكّر به، ولذلك يسألون قبل غيرهم.

وقد اختلفوا في المراد بالقوم هنا، فقيل: إنّ المراد الأمة الإسلامية في جميع الأعصار. وقيل العرب خاصّة. وقيل: قبيلة قريش. ولا يبعد أن يكون المراد عرب الجزيرة آنذاك وهم المخاطبون أو العارفون باللغة عامّة، كما أشرنا إليه. وقد ورد في رواياتنا أنّ المراد أهل بيته علیهم السلام. وقيل في توجيهها: إنّهم أكمل المخاطبين وأعرفهم بمقاصد الكتاب. وعليه فالروايات تبيّن أوضح المصاديق ولا تحدّد المراد.

ولكنّ الظاهر منها _ لو لم يكن الصريح - هو التحديد، فلنلاحظ الروايات:

روى الكليني رحمه الله بسند فيه ضعف عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر علیه السلام في قول الله عزّوجلّ: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ):(2) «قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: الذكر أنا والأئمّة أهل الذكر»، وقول الله عزّ وجلّ: (وَإِنَّهُ لَذِكْرُ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) قال أبو جعفر علیه السلام: «نحن قومه ونحن المسؤولون».(3)

ص: 220


1- الشرح (٩٤): ٤.
2- النحل (١٦): ٤٣ الأنبياء (21): 7
3- الكافي ١: ١/٢١٠

وروى بسند ضعيف جدّاً عن عبدالرحمن بن كثير وهو ضعيف أيضاً، قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قال: «الذكر محمّد صلی الله علیه و آله وسلم ونحن أهله المسؤولون» قال قلت قوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) قال: «إيّانا عنى ونحن أهل الذكر ونحن المسؤولون».(1)

وروی بسند صحيح عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام في قول الله عزّ وجلّ: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، «فرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الذكر وأهل بيته المسؤولون وهم أهل الذكر». (2)

وبسند صحيح أيضاً عن الفضيل عن أبي عبد الله علیه السلام في قول الله تبارك وتعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) قال: «الذكر القرآن ونحن قوم_ه ون_ح_ن المسؤولون».(3)

وروى الصفار عدّة روايات كلّها بهذا المضمون أو أصرح في الحصر،(4) ومنها ما رواه عن أبي بصير، قال: سألت أبا جعفر علیهالسلام عن شهادة ولد الزنا تجوز؟ قال: (لا) فقلت: إنّ الحكم بن عتيبة يزعم أنّها تجوز. فقال: «اللهمّ لا تغفر له ذنب_ه م_ا ق_ال الله للحكم: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) فليذهب الحكم يميناً وشمالاً فوالله لا يوجد العلم إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل علیه السلام».(5) ورواها الكليني أيضاً بسند ضعيف.

ص: 221


1- الكافي ١: ٢/٢١٠ ٢.
2- الكافي ١: ٤/٢١١.
3- الكافي ١: ٢١١/ ٥
4- راجع: بصائر الدرجات: ٥٧.
5- بصائر الدرجات: ٣٠

وعلّق السيّد الخوئي رحمه الله على حديث أبي بصير في مقدمة «معجم رجال الحديث»: «ولتفنيد القول بقطعية روايات الكافي بقوله : لو كان المراد بالذكر في الآية المباركة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فمن المخاطب ؟! ومن المراد من الضمير في قوله :تعالى: (لَكَ وَلِقَوْمِكَ) ؟! وكيف يمكن الالتزام بصدور مثل هذا الكلام من المعصوم علیه السلام فضلاً عن دعوى القطع بصدوره؟!».(1)

ولكنّ الظاهر من الجواب في الصحيحة: أنّ السؤال كان عن آية: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) فهناك خطأ في النقل ويتأيّد ذلك بالروايتين الأوليين وإن كانتا ضعيفتين، ويحتمل أن يكون السؤال وقع فيها عن الآيتين، كما ورد في الأوليين، فسقط قسم من الحديث ولكنّه غير معلوم ، ومهما كان، فلا يمكن الاعتماد على رواية أبي بصير في تفسير هذه الآية، لاحتمال كون السؤال عن آية (فَاسْأَلُوا)، كما هو مقتضى الجواب، ولأنّه لو كان موردها هذه الآية، فلا ينطبق عليها الجواب، كما قال السيّد الخوئي رحمه الله والروايتان الأوليان لا يمكن الاعتماد عليهما أيضاً لضعف السند.

وأمّا صحيحة الفضيل، فلا تخلو من شبهة أيضاً، لأنّ قوله علیه السلام:«الذكر القرآن» لا يناسب هذه الآية، بل يناسب آية (فَاسْأَلُوا)، لأنّ الذكر في هذه الآية خبر وليس مورداً للكلام والسؤال. والضمير في: (وَإِنَّهُ) يرجع إلى القرآن بلا خلاف. وإنّما الكلام فى المراد بالذكر في آية: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)، حيث إنّ المخالفين فسّروا الذكر بالتوراة، وأهله بعلماء اليهود، ورواياتنا تردّ عليهم بأنّهم لو سئلوا لأرشدوهم إلى دين اليهود، وأنّ الصحيح تفسير الذكر بالقرآن وأنّ

ص: 222


1- معجم رجال الحديث ١: ٣٦

الأئمّة هم أهل الذكر، فيظهر من الخطأ في نقل الرواة للآية الكريمة في كثير من الروايات، منها ما رواه الصفّار بسنده عن عمرو بن يزيد، قال: قال أبو جعفر علیه السلام: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) قال: «رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأهل بيته أهل الذكر وهم المسؤولون» ، فإنّ التعبير بأنّهم علیه السلام أهل الذكر يناسب قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) ويقوي احتمال الخطأ في نقل الرواة للآية الكريمة. ومثله رواية عبدالرحمن بن كثير في «الكافي».

وفي الروايات التي وردت في تفسير هذه الآية إشكال آخر، وهو أنّ القرآن لا شكّ أنّه ذكر للعالمين جميعاً، كما صرّح به الكتاب العزيز ولا يختصّ بقوم دون قوم وليس في تخصيصه بهم علیه السلام من حيث كونه ذكراً وفضيلة ومزية، نعم التعبير بأنّهم أهل الذكر فيه خصوصية وفضيلة، كما أنّ قوله تعالى: (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) لا يشتمل على مزيّة وفضيلة، بناءاً على ما هو الظاهر منه وهو أنّهم يسألون عن موقفهم اتّجاهه، فالسؤال لا يختصّ بقوم، بل كلّ من بلغه يقع مورداً للسؤال وليس فيه مزيّة، ولذلك أوّل المجلسي رحمه الله في «البحار»(1) أنّ المراد بالسؤال أنّ الناس يسألونهم عن تفسيره وهو تأويل بعيد، ولا يناسب كونه ذكراً. وإنّما المزيّة والفضيلة في تطبيق آية (فَاسْأَلُوا) عليهم وكونهم المسؤولين فيها؛ ومنه يظهر بوضوح وقوع الخلط والخطأ في نقل الروّاة للآية مورد السؤال.

والحاصل أنّ حصول الوثوق بتفسير هذه الآية بالأئمّة علیهم السلام من الروايات مع كثرتها في مقابل ظهور الآية بذاتها مشكل جدّاً. والله العالم.

(وَاسْأَلُ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ المَةٌ يُعْبَدُونَ)، خطاب

ص: 223


1- راجع: بحار الأنوار 2: 92

للرسول صلی الله علیه و آله وسلم وقوله : (أجَعَلْنَا ) جملة استئنافية تبيّن السؤال المأمور به بتعبير آخر؛ لأنّ صيغة السؤال يجب أن تكون عن جعل الله تعالى والمعنى واضح ولاکن حيث ورد الأمر بالسؤال من الرسل، مع عدم كونهم معاصرين للرسول صلی الله علیه و آله وسلم ولا يمكن ذلك على حقيقته، فاختلف المفسّرون في توجيهه، فذهب بعضهم تبعاً للروايات الواردة عن الفريقين إلى أنّ المراد السؤال عنهم ليلة المعراج حيث التقى بهم في عالم آخر. وهذا الأمر وإن لم يكن تحقّقه بعيداً إلا أنّ إرادته من الآية بعيد، حيث إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشكّ في الأمر حتّى قبل نزول الوحي، فإنّه لم يشرك بالله طرفة عين، فالسؤال عن الرسل ليس إلا لإقناع الآخرين وهو لا يتحقّق بالسؤال في المعراج.

وقال بعضهم: إنّ المراد السؤال عن أهل الكتاب بما أنّهم يحكون ما في كتب المرسلين أو باعتبار أنّهم من اُمم الرسل فيتبيّن به أنّ الرسالات كلّها كانت تدعو إلى التوحيد.

وقال آخرون إنّه تعبير أدبي، كما يقال: سل الديار أو اسأل التأريخ، فالمراد التوجيه إلى ملاحظة ما أرسل إلى الرسل. وهذا أولى وأظهر ممّا قبله.

ولعلّ التعبير بالرحمن في الآية للتنبيه على أنّ الأمر أو الموافقة مع الشرك ينافي الرحمانية؛ لأنّ ذلك يضرّ بالكمال البشري. ويظهر من الآية أنّ المشركين كانوا يقترحون على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أن يتنازل عن تشدّده في نفي الآلهة، ويقبل بهم ولو جزئياً، فيكون ذلك أساس التصالح بين الفريقين. والآية ترجعهم إلى الرسالات السابقة وأنّ هذا أمر مرفوض في جميع الرسالات وليست هذه الرسالة أمراً مبتدعاً، بل هي أيضاً تسير على ذلك النهج القويم.

ص: 224

وفيها أيضاً ردّ على قولهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) بأنّ خير من يقتدى به الرسل، وفيهم أيضاً من يعتبرون من آبائهم، ولم يكن في شرائعهم ذكر لآلهة تعبد من دون الله تعالى. والآية تنفي جعل أحد إلهاً يعبد جعلاً تشريعياً، وهذا ليس ردّاً على من يعتقد أنّ هناك أرباباً في الكون تجب عبادتهم، وإنّما يردّ على من يدّعي أنّه يعبد الأصنام ليقرّبوه إلى الله زلفى، وأساس الردّ أنّه تعالى لم يأذن بذلك، فكيف يحصل التقرّب إليه بما لم يأذن فيه ؟! ولعلّ مشركي قريش كلّهم أو جلّهم كانوا من هذا القبيل.

ص: 225

سورة الزخرف (4٦ - 50)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِنَايَتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِ، فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(46) فَلَمَّا جَاءَهُم بِنَايَتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (47)وَمَا نُرِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ إِلَّا هِيَ اَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَنهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَتَأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُتُونَ (50)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَيْهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ). حيث كان الحديث عن قول المشركين: هذا سحر وأن_ا ب_ه كافرون، ثمّ استبعادهم نزول رسالة السماء على إنسان فقير، وأنّه ينبغي أن ينزّل على رجل من القريتين عظيم، وبعد الردّ على ذلك بالآيات السابقة، انتقل السياق إلى الاستشهاد برسالة موسى علیه السلام كما استشهد بقصة إبراهيم علیه السلام للردّ على تمسّكهم بسنّة آبائهم.

والتشابه بين قصّة موسی علیه السلام وما دار من الحديث هنا أنّ فرعون وقومه أيضاً وصفوا الآيات المرسلة إليهم بواسطته علیه السلام بأنّها سحر، وذكر فرعون نفس الاستبعاد المذكور، وأنّ موسى فقير وليس له أسورة من ذهب وأنّه هو صاحب الثراء والسلطان، كأنّه يريد أن يقول: لو كانت هناك رسالة من السماء تنزل على بشر لكانت تنزل عليّ!!

والمراد بالآيات المعاجز الواضحة التي كانت معه علیه السلام بقرينة قوله تعالى بع_د ذلك: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) وهي تسع كما قال تعالى: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجُ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْع آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ)،(1) وقد اختلف المفسّرون في

ص: 226


1- النمل (27): 12

تطبيقها. فقيل _ كما في «الميزان»(1) وغيره - هي العصا واليد البيضاء والسنين، أي الجدب، ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.

أمّا العصا واليد البيضاء فهما الآيتان الأوليان اللتان بعث بهما إلى فرعون كما ورد في قوله تعالى: (فَالْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ للنَّاظِرِينَ)،(2) وذكر خمسة منها في قوله تعالى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلات).(3)

وورد ذكر السنين قبل هذه الخمس، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)،(4) والمراد بها السنين التي لم تنزل فيها المطر، فأصيب الناس بالقحط والغلاء. ويبدو من سياق الآيات أنّ هذا الجدب كان قبل هذه الخمس.

ولكن الكلام في التاسع، فذكر بعضهم النقص في الثمرات، واعتبره مغايراً للسنين. وذكر بعضهم فلق البحر باعتبار أنّ نقص الثمرات عط_ف تفسير وهو نفس المجاعة، والظاهر أنّه هو الصحيح. والمراد بكون «العصا» آية تبدّلها إلى ثعبان لا كلّ ما صدر من الآيات بسببها ليشمل فلق البحر. ولعلّ أعظم الآيات هو فلق البحر وكانت آخر آية شاهدها فرعون وملؤه وما اعتبروا بها، فما أغباك يا أيّها الإنسان؟!

و«الملأ» هم أعيان القوم الذين يملأون أعين الناس بمالهم وجاههم. وإنّما

ص: 227


1- الميزان في تفسير القرآن :18: 109
2- الشعراء (٢٦): 32 - 33
3- الأعراف (7): 133.
4- الأعراف (7): 130

خاطب فرعون وملأه خاصّة؛ لأنّه علیه السلام كانت له رسالة خاصّة إليهم غير الرسالة العامّه وهو يرتبط بإرسال بني إسرائيل. واختصر بيان رسالته، فقال: (إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمينَ) وكفى أن يكون الرسول مرسلاً من قبل ربّ العالمين في وجوب إطاعته وامتثال أوامره. والآية لم تذكر جواب القوم ، ولكنّه يعلم من الجملة التالية: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا ) فتدلّ على أنّهم طلبوا منه آية ودليلاً على رسالته.

(فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إذا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ)، «إذا» فجائية. ووجه الإتيان بها أنّه غير متوقّع؛ فإنّهم بأنفسهم طلبوا منه دليلاً، ولا يمكن للرسول أن يأتي بدليل على ارتباطه بالغيب إلا بإتيان المعجز، وكانت حجّته باهرة فقد ألقى عصاه وانقلب ثعباناً مبيناً ارتاع منه فرعون، وعلم أنّه أمام رسالة حقيقية، وأنّ الله تعالى يؤيّده بالمعاجز، فما كان منه إلا الاستكبار والعناد. ثمّ إنّهم لم يأتوا في قبال معجزه الواضح بدليل مقنع أو وجه منطقي للشكّ، وإنّما ضحكوا واستهزأوا به. فجاءتهم الآيات متتالية، كما مرّ ذكرها، فكانت تنزل عذاباً لهم من جهة وحجة دامغة من جهة أخرى.

(وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) أي وما كنّا نريهم، وربّما يستغرب هذا التعبير من جهة أنّه كيف تكون كلّ آية أكبر من الأخرى؛ إذ النتيجة أنّ الأخرى أيضاً أكبر من هذه الآية، وهذا تناقض واضح. وأجيب بأنّ هذا تعبير متداول، والمقصود أنّ كلّ واحدة منها بالغة غاية الوضوح في الإعجاز فكلّ منها كبيرة غاية الكبر، فإذا لاحظت كلاً منها في نفسها، تجدها أكبر من أخواتها، وحينما تلاحظ الأخرى تجدّها أيضاً كذلك، بخلاف ما إذا لاحظتها جميعاً مع بعض بملاحظة واحدة، فترى وجوه الفرق. ومثل هذا التعبير يق_ال ف_ي ل_غ_ات اُخ_رى

ص: 228

أيضاً. ولكن يمكن أن يكون المراد من اُختها، أي التي قبلها خاصّة، فكانت كلّ آية أعظم وأوضح دلالة من التي قبلها.

(وَاخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، أي لم يكن القصد من العذاب الانتقام وإلا لاستأصلهم عن بكرة أبيهم. وقد مرّ مراراً أنّ «لعلّ» ليست للترجّي كما اشتهر بل لبيان أنّه أمر متوقّع، فالعذاب إنّما أتاهم لتكون الأرضية صالحة لرجوعهم عن معاندة الحقّ.

(وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا مُهْتَدُونَ) طلبوا منه علیه السلام أن يدعو ربّه ليكشف عنهم العذاب، وتعهّدوا بأنّهم سيهتدون إذا رفع عنهم العذاب. والغرض من «الاهتداء» الإيمان بما جاء به موسى علیه السلام وليس فيه اعترافاً بالضلال، هذا هو الظاهر من العبارة الحاكية لخطابهم، ولكن ربّما يبدو بعض التنافي بين التعبير بالساحر، وفيه تهكّم واستخفاف؛ ثمّ التعبير بربّك دون «ربنا» أو «الله» مثلاً، ثمّ قولهم: (بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) دون ما «وعدنا» مثلاً أو نحو ذلك ممّا يكون حافزاً لاستجابة الطلب، فهناك نوع تنافٍ بين هذه التعبيرات وبين طلب رفع العذاب، وهناك تنافٍ آخر بين ما ورد في هذه الآية وما ورد في سورة الأعراف في نفس الموضوع، حيث قال تعالى: (وَلا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائيل)(1) فلم يرد هناك التعبير بالساحر.

وحاول المفسّرون رفع التنافي، فقال بعضهم: إنّ الساحر عالم ومحترم عندهم، فليس التعبير به تهكّماً واستخفافاً. ولكنّ هذا غير صحيح حتّى لو كان الساحر

ص: 229


1- الأعراف (٧): (١٣٤

محترماً عندهم، فإنّ توصيف من يدّعي رسالة السماء بأنّه عالم أو شاعر أو إنسان عبقري وذكي وغير ذلك من الأوصاف التي تعتبر في حدّ ذاتها أوصافاً جميلة ليس إلا تكذيباً لرسالته، ومن هنا فإنّ من المؤسف أنّ بعض المسلمين يعجبه تعبير بعض المستشرقين عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بمثل هذه التعابير، مع أنّ ذلك ليس إلا خبثاً ومكراً، فهم يكذبون الرسالة بهذه الطريقة المستحسنة.

وقال بعضهم: إنّ التعبير بالساحر لم يرد في كلامهم بقرينة آية سورة الأعراف، ولكنّ الله تعالى نسب إليهم هذا التعبير بمناسبة المقام، نظير ما ورد في قوله تعالى: (إِنَّا قَتَلْنَا المُسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ الله)(1) وهم لا يعترفون برسالته. وهذا أيضاً غير صحيح، لإنّ التعقيب هناك من الله تعالى إمّا باعتبار أنّهم في قرارة أنفسهم يعلمون ذلك أو أنّه تمّت الحجّة عليهم أو لوجه آخر، ولكنّه على كلّ حال، توصيف حسب الواقع ولكنّ التعبير هنا على خلاف الواقع، فإن لم يكن صادراً عنهم فلا وجه له.

وأمّا ما ورد في سورة الأعراف، فلا يدلّ على عدم ورود التعبير بالساحر لاحتمال تعدّد الواقعة، بل لعلّه الظاهر من سياق آيات سورة الأعراف حيث قال تعالى: (وَما وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ... فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إلى أجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إذا هُمْ يَنْكُتُونَ)،(2) فإذا لاحظنا تعدّد وقوع الرجز عليهم، فالظاهر أنّه كلّما وقع عليهم طلبوا منه كشفه، فلمّا كشفه عنهم نكثوا العهد، فلعلهم في بعض ذلك عبّروا بالساحر وفي بعضه بموسى.

ص: 230


1- النساء (٤): ١٥٧
2- الأعراف (٧): ١٣٤ - ١٣٥.

ولو فرضت وحدة الواقعة فيحتمل صدور هذا التعبير عن بعض دون بعض ولو فرضت وحدة التعبير، فالظاهر أنّهم عبّروا بالساحر ، ولكنّ الله تعالى لم يعبّر به في سورة الأعراف؛ لعدم الحاجة إلى التركيز على ذلك في عبارتهم ولا وجه للعكس كما مرّ بيانه.

ومهما كان، فالظاهر أنّ تعبيرهم بالساحر هنا وسائر م_ا م_رّ إنّما يدلّ على تعنّتهم واستكبارهم حتّى في هذا الحال. وبالطبع فإنّهم لم يكونوا يلجأون إلى الاستدعاء وإظهار الحاجة إلا بعد استنفاد كلّ الوسائل، وبعد الاضطرار والضيق الشديد واليأس من كلّ السبل الطبيعية؛ وفي هذا الحال أيضاً كان الكبر والغرور بادياً على وجوههم ونطقهم - وهذا دأب المستكبرين في الدنيا - فهم حتّى إذا دعوا ربّهم في أشدّ الضيق يستنكفون من التذلّل وإظهار العبودي_ة. والغ_رض م_ن التركيز على بيان ذلك، تسلية المؤمنين بأنّ ما يشاهدونه من تعنّت طواغيت العرب ليس بدعاً من الأمر وأنّ الله تعالى يمهلهم، كما أمهل السابقين فقوم فرعون بالرغم من هذا الطغيان الواضح استجاب موسى طلبهم ودع__ا ربّه واستجاب الله دعاءه وكشف عنهم الرجز، وهم مع ذلك عادوا إلى كفرهم ونكثوا ما عاهدوا الله عليه.

والظاهر أنّ المراد بقوله : (بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بالكيفية التي عهد عندك الدعاء. و«العهد» بهذا المعنى يتعدّى ب_ «إلى» أيضاً، كقوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ)(1) وأصله بمعنى إلقاء العهد إليه وإيصائه بحفظه والالتزام به. وفي «الميزان» وغيره أنّ المراد عهده بأنّه يكشف العذاب إذا آمنوا، وهو بعيد، فإنّه

ص: 231


1- يس (٣٦): ٦٠

على ذلك لا حاجة إلى الدعاء.

(فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إذا هُمْ يَنْكُثُونَ)، «النكث» هو النقض أي نقضوا عهدهم المذكور في الآية السابقة، فلم يؤمنوا بموسى علیه السلام ولم يرسلوا بن_ي إسرائيل وعادوا إلى طغيانهم، وهذا من عجيب أمر الإنسان وإصراره وعن_اده للحقّ. وقد مرّ وجه التعبير ب_ «إذا» الفجائية، فإنّ الغرض - على الظاهر - هو أنّهم على خلاف ما يتوقّع من الإنسان العاقل نكثوا العهد بعد ذلك الضيق والشدّة التي ألجأتهم إلى ذلك التعهّد والالتزام. ويزيد الأمر غرابة واستهجاناً ما يظه_ر م_ن سورة الأعراف - كما مرّ بيانه - من تكرّر هذا التعهد، ثمّ النكث في كلّ مرحلة من مراحل العذاب أو في بعضها.

وربّما تستغرب استجابة موسى علیه السلام لدعائهم بعد النكث المتكرّر منهم، ولكن لا غرابة فيها، فإنّ هذا الأمر من الله تعالى، وهو خبير بهم وبنكثهم من أوّل الأمر، وإنّما يستجيب الدعاء والتوبة؛ لأنّ رحمته سبقت غضبه، ولإتمام الحجّة وليرجع

من يرجع وإن كان نادراً، وهكذا يفعل الله التوّاب الرحيم بكلّ عباده.

ص: 232

سورة الزخرف (٥١-56)

وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَنقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَرُ تَجْرِى مِن تَحْتى أَفَلَا تُبْصِرُونَ(51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبين (52)فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَبِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَسِقِينَ (54) فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْتَهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْتَهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (55)

(وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لي مُلْكُ مِصْرَ) هذه المجموعة من الآيات تبيّن موضع الشاهد من قصّة فرعون بالنسبة لقول المشركين: (لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) فإنّ فرعون أيضاً نادى بنفس المقاييس واعتبر نفسه فوق الجميع لملكه وثرائه، ورفض رسالة موسى بحجّة أنّه فقير لا يملك مالاً ولا سلطة.

والظاهر من التعبير بالنداء، أنّ المراد من قومه جمع من شعبه وهم الملأ لا كلّهم، حيث كانوا يجتمعون به، فنادى فيهم بهذه الكلمات، ولا يمكن أن ينادي جميع الشعب، وقيل المراد شعب مصر جميعاً، فيحمل النداء على إبلاغ كلامه إليهم عن طريق المنادين ويبعد هذا الاحتمال من جهة أنّ مقتضى سياق الآيات أنّ هذا القوم الذين سمعوا النداء هم الذين اتّبعوه وأنّهم أغرقوا أجمعين، وسيأتي أنّ المغرَقين هم فرعون وجنوده، لا كلّ الناس فالنتيجة أنّ المراد بقومه في هذه الآية بعض منهم وهم الملأ.

ويبدو من التعبير بالنداء أيضاً أنّه كان في لحظة غضب وانفعال وأنّه لم يملك السيطرة على نفسه كما يبدو ذلك من ألفاظه أيضاً، فلعلّ السبب أنّه أراد بهذا

ص: 233

الكلام والنداء إخفاء شعوره بالهزيمة أمام موسى علیه السلام حيث اضطرّ إلى طلب الدعاء منه أن يرفع عنهم العذاب أو أنّه أراد به تضليلهم ومنعهم من أن يؤمنوا به علیه السلام برسالته، فالخوف والضعف باديان على كلامه والاستفهام في قوله:

(اليس لي ) تقريري.

(وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) عطف على: (لي مُلْكُ مِصْرَ)، أي أليست هذه الأنهار تجري من تحتي، أو عطف على: (مُلْكُ مِصْرَ)، أي أليست لي هذه الأنهار التي تجري من تحتي فتكون جملة: (تَجرِي) وصفية. قيل: ومعنى (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)، أي من تحت قصري إمّا حقيقة، فلعلّه كان في قصره أنهار أو بلحاظ كون القصر مشرفاً عليها. ويمكن أن يكون المراد تجري في ملكي وتحت سلطتي، والمراد بها الأنهار المتشعبّة من النيل.

وقوله: (أَفَلا تُبْصِرُونَ) تأكيد للاستفهام التقريري الأول، ويبدو منه بوضوح تخوّفه من تأثّر عامة الناس من شعبه بمعاجز موسى علیه السلام وكراماته الباهرة، فيلتمس منهم الأبصار والتأمّل في حدود ملكه وسلطانه يقصد بذلك التهويل وتعظيم شأنه والتقليل من شأن موسى علیه السلام.

(أمْ أنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) الظاهر أنّ «أم» منقطعة، أي بل ألست خيراً من هذا؟! ولعلّ الإضراب باعتبار أنّه يقول: حتّى لو فرضنا لم يكن لي هذا الملك العظيم ولكن لا مجال للمقارنة مع هذا، ويشير به إلى موسى علیه السلام. وقيل: إنّه_ا متّصلة بالجملة السابقة والمعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون أنّي أنا خير. فقوله: (أنا خَيْرٌ) وضع موضع المسبب بدعوى أنّ كونه خيراً سبب الأبصارهم بنظره، فإنّه يرى أنّهم لو كانوا يبصرون لعلموا أنّه خير منه و (مَهِينٌ) فعيل من المهانة بمعنى

ص: 234

الحقارة ولم يذكره علیه السلام باسمه الشريف احتقاراً.

(وَلا يَكَادُ يُبينُ )، «الإبانة»: الإظهار أي لا يستطيع أن يبين نفسه لضعفه، ولأنّه ليس له أعوان ينصرونه، ولذلك عقّبه باستنكار عدم وجود الملائكة معه لنصرته. وهذا أولى ممّا قيل من أنّه لا يبين مقاصده لضعفه في الكلام، فإنّه لم يكن ضعيفاً - كما يتبيّن من منطقه الأوّل في المجادلة مع اللعين، ولا وجه للإشارة ب_ه إل_ى ضعفه السابق - فإنّه بعد أن دعا ربّه بقوله: (وَاحْلُلْ عُقْدَةٌ مِنْ لِسَانِي)(1) استجاب الله دعاءه وقال: (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى).(2)

(فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ)، «الفاء» للتفريع، أي حيث كان مهيناً فلا يمكن أن يكون رسولاً ، فلولا ألقي عليه الذهب لتقوية جانبه. والأصل في «لولا» الحثّ والتحضيض، ويقصد بها هنا التعجيب من عدم إلقاء الذهب عليه، ليتوصّل بذلك إلى إنكار رسالته علیه السلام و«الأسورة» جمع سوار وهو من حلي المرأة ما يزين به المعصم وهو معرّب «دستواره» بالفارسية. والمراد بإلقاء الأسورة من ذهب إيتاؤه أموال الطائلة بذلك أو أنّه كناية - كما قالوا - عن إيتائه الملك، لأنّهم كانوا يلقون الأسورة على من نصبوه ملكاً. «والملقي» على هذا الفرض هو الناس، وعلى الأوّل يمكن أن يراد به الله سبحانه أو الملائكة. ومهما كان فالمراد نفي إيتاء الأموال أو الملك من قبل الله تعالى، كدليل على رسالته علیه السلام.

(أَوْ جَاءَ مَعَهُ المُلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) يمكن أن يكون قوله: (مَعَهُ) متعلقاً ب_ (مُقْتَرِنِينَ) أي جاء الملائكة مقترنين معه، ويمكن أن يتعلّق بالمجيء ويكون قوله:

ص: 235


1- طه (20): 27
2- طه (20): ٣٦

(مُقْتَرِنِينَ) حالاً من الملائكة، بمعنى أنّهم مقترنون مع بعض فيشكلون جموعاً كثيرة ليكونوا له أعضاداً وتقوى بهم شوكته أو يؤيدون مقالته، كما قال غيره: (لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا)(1) وقد تكرّر حكاية هذا الكلام من الكفّار، حيث يطلبون أن يكون الرسول ملكاً أو يكون معه ملك. والغرض على كلّ تقدير أنّه لو كان رسولاً لكان رجلاً عظيماً له أموال طائلة وملك عظيم وأعوان وأعضاد، فلو أراد الله أن يبعث رسولاً لبعثني وأنا الملك العظيم، ولا يعقل أن ينتخب من بين الناس للرسالة أفقرهم وأبعدهم عن الملك والرئاسة وهذا هو بعينه ما نادى به كفّار قريش، حيث قالوا: (لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عظيم).(2)

(فَاسْتَخَفْ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)، أي استخفّ عقولهم وأحلامهم واعتبرهم حمقى وسفهاء تنطلي عليهم هذه الأكاذيب والسفاهات، ومع ذلك اتبعوه وأطاعوه. وهكذا شأن الجموع الجاهلة أتباع كلّ ناعق، فإن استخفّهم الكبراء والأمراء وخدعوهم بالأمور التافهة انخدعوا بها واتّبعوهم وأطاعوهم، ولذلك نجد الحكومات والطغاة في زماننا يحاولون نشر المفاسد

والملاهي بحجّة الترفيه وإبقاء الابتسامة على شفاه المواطنين، والهدف انتهاز سفاهتهم ليتسلّطوا على رقابهم وأموالهم.

ثمّ علّل إطاعتهم بفسقهم وخروجهم عن طاعة الله سبحانه وذلك لأنّ المؤمن المطيع الله لا يطيع غيره إلا بأمر منه، فعبودية الله تعالى تستلزم التحرّر عن كلّ

ص: 236


1- الفرقان (٢٥): 7
2- الزخرف (٤٣): ٣١

العبوديات. لا أقول إنّ عبادة الله تعالى مطلوبة لذلك، بل أنّ هذه ميزة تحصل للمؤمنين بالله تعالى والإيمان والتعبّد لله تعالى والتقرّب إليه مطلوب لذاته.

(فَلَا أَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)، «الأسف» يطلق على الحزن وعلى الغضب، فالمعنى أنّهم أغضبونا واستوجب عملهم غضب الله عليهم وذلك لتكرّر طلبهم من موسى علیه السلام أن يطلب من ربّه رفع العذاب ليؤمنوا به ويرسلوا بني إسرائيل، ثمّ عودهم إلى طغيانهم وكفرهم فاستحقّوا النقمة والعذاب الإلهي و«الانتقام»

المعاقبة.

وإسناد الغضب والرضا إلى الله تعالى كثير في القرآن والحديث، وقد أوّله بعضهم بأنّ المراد إرادة العقاب والثواب، كما في «الميزان»(1) وغيره، وهو بعيد؛ لأنّ الله تعالى اعتبر رضوانه أعظم من كلّ ما في الجنّة من ثواب قال تعالى: (وَعَدَ الله المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةٌ فِي جَنَّاتٍ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)،(2) فرضوانه تعالى غير الثواب، كما أنّ سخطه ربّما يتجلّى في غير العقوبة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ هُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ الله وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)،(3) فعدم التكلّم وعدم النظر إليهم غير العذاب، وهذا ما يحكي عن سخطه تعالى عليهم.

ولعلّ الرضا تعبير عن نوع من العلاقة بین الله تعالى وعباده لا ندركها في هذه الحياة، والسخط سلب تلك العلاقة. ويدلّنا على ذلك أيضاً ما ورد في دعاء كميل

ص: 237


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 111
2- التوبة (9): 72
3- آل عمران (3): 77

من قول أمير المؤمنين علیه السلام: «فهبني صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك، وهبني صبرت على حرّ نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك» وهذا بالطبع صورة خفيفة من السخط يعبّر عنه بالفراق والنظر إلى كرامة الله تعالى يخصّ بها أولياءه ويشقى من يحرم عنها.

وفي بعض الروايات أنّ محل الرضا والغضب نفوس مطهّرة أنزل الله تعالى حبّها وبغضها ورضاها وغضبها منزلة حبّه وبغضه ورضاه وغضبه. وتأويل الآيات بذلك مستبعد جداً، والله العالم.

(فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) بيان للانتقام. والمراد بهم فرعون وجنوده فأغرقهم الله جميعاً ولم ينج منهم أحد، كما أنّه نجا موسى ومن معه جميعاً. والظاهر أنّ فرعون خرج بكلّ ملائه وكبراء قومه، وأنّ ذلك كان نهاية ملكهم وسلطانهم. بل صريح بعض الآيات أنّ الله تعالى أباد قصورهم وبيوتهم، فلعله عذاب آخ_ر ن_زل على مدينتهم بعد ذلك، قال تعالى: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ).(1)

(فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ)، «السلف» كلّ أمر متقدم، فالمعنى أنّ ذلك كان نهاية قوم فرعون بأجمعهم لم يبق منهم أحد ولم يبق لهم شيء إلا ذكرهم على الألسن وفي القصص والتواريخ. والظاهر أنّ المراد بهم الملأ منه الملأ منهم وجنود فرعون، إذ لم يخرج أهل المدينة بقضّهم وقضيضهم معه، وقد ورد في الآي_ات أنّ الله تعالى أغرق فرعون وجنوده.

وقيل: إنّ المراد بكونهم سلفاً، كونهم أئمة يدعون إلى النار، كما قال تعالى

ص: 238


1- الأعراف (7): 137

بشأنهم: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ)(1) ولا دلالة في كونهم سلفاً على ذلك.

وأمّا كونهم (مثلاً فبمعنى كونهم عبرة للآخرين، ومثلاً يضرب به لقوم قاوموا الحقّ وصارعوه بعد الظهور والوضوح إلى نهايتهم المؤسفة.

و«الآخرين» - بكسر الخاء - أي الذين يأتون بعدهم وليس بمعنى آخر من يأتي مماثلاً لهم كما قيل، بل كلّ من يأتي بعدهم من الناس.

ص: 239


1- القصص (٢٨): ٤١

سورة الزخرف (57-65)

* وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُواْ وَأَلِهَتُنَا خَيْرُ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلَةٌ بَلْ هُمْ قَوْمُ خَصِمُونَ(58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدُ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْتَهُ مَثَلاً لَّبَنِي إِسْرَاءِيلَ (59)وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَتَبِكَةً فِي الْأَرْضِ تَخَلَفُونَ

(60)وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٍ (61)وَلَا يَصُدَّ نَكُمُ الشَّيْطَنُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَتِ قَالَ قَدْ جنتكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيْنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)

(وَلا ضُربَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ). سياق الآيات يشهد بأنّ الاستشهاد بما حدث للأنبياء السابقين في مواجهتهم للطغاة من قومهم إنّما هو لغرض تشبيه حالة المشركين في مكّة بحال الأمم السالفة والتنبيه على أنّ هذا مقتضى طبيعة البشر، وأنّ عليهم أن ينتظروا مثل ما جرى على أولئك من العذاب والعواقب السيّئة، فإنّ سنة الله لا تتبدّل. ومن هنا تعرّض في هذه الآيات لمواجهة عيسى علیه السلام لبني إسرائيل، وابتدأ بالتعليق على نوع من تعامل المشركين مع قصة عیسی علیه السلام مقدمة لذكر ما جرى بينه وبين قومه.

واختلف المفسّرون في تفسير هذه المجموعة من الآيات، ومن الواضح أنّها نازلة بشأن حادثة خاصّة، والمشهور في تفسيرها أنّها نزلت بشأن مجادلة أبداها عبدالله بن الزبَعْرَى، وملخصها أنّ رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم لمّا تلا على أهل مكّة قوله

ص: 240

تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)(1) اعترض عليه عبد الله بن الزبعرى بأنّ عيسى علیه السلام أيضاً يجب أن يكون في النار، فضجّت قريش فرحاً لهذا النقض الواضح، فنزل قوله تعالى: (إِنّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ انْفُسُهُمْ خَالِدُونَ)(2) ويقال في التفسير: إنّ هذه الآيات تشير إلى تلك القصة وأنّ (يَصِدُّونَ) بمعنى يضجّون ضحكاً وفرحاً.

وهذه القصّة مروية في كتب العامّة، وليس لها سند معتبر حتّى ع_ن_دهم. وق_د حكيت بوجوه اُخر منها: ما في «تفسير القمي» حيث قال في تفسير قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَمَا وَارِدُونَ): في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر علیه السلام قال: «لما نزلت هذه الآية وجد منها أهل مكّة وجداً شديداً، فدخل عليهم عبد الله بن الزبعرى وكفّار قريش يخوضون في هذه الآية، فقال ابن الزبعرى: أمحمّد تكلّم بهذه الآية؟ قالوا: نعم، قال ابن الزبعرى: إن اعترف بها لأخصمنه، فجمع بينهما فقال: يا محمّد أرأيت الآية التي قرأت آنفاً أفينا وفي الهتنا أم في الاُمم الماضية وآلهتهم؟ قال صلی الله علیه و آله وسلم: بل فيكم وفي الهتكم وفي الاُمم الماضية إلا من استثنى الله. فقال ابن الزبعرى: خاصمتك والله الست تثني على عيسى خيراً وقد عرفت أنّ النصارى يعبدون عيسى وأمّه، وإنّ طائفة من الناس يعبدون الملائكة أفليس هؤلاء مع الآلهة في النار ؟ فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: لا. فضحكت قريش وضحك وقالت قريش: خصمك ابن الزبعرى، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: قلتم الباطل، أما قلت إلا من استثنى الله ؟!».(3)

ص: 241


1- الأنبياء (21): 98
2- الأنبياء (21): 101 - 102.
3- تفسير القمي ٢ : ٧٦ .

وهذه أيضاً ليس لها سند، ولكنّها أسلم من رواية العامة، لأنّها لا تخلط بین الآيتين ولا تنافي ما يقال ما يقال من أنّ سورة الزخرف مقدمة ترتيباً على سورة الأنبياء، فلا يمكن أن تكون هذه الآية ناظرة إلى تلك الآية، مضافاً إلى استبعاد نزول آيتين في قضية واحدة كلّ منهما جزء لسورة مع اختلاف تاريخ النزول بالطبع. والحاصل أنّ القصّة حتّى لو ثبتت، فلا ترتبط من حيث شأن النزول بهذه الآيات، وإنّما ترتبط بآيات سورة الأنبياء لو صحّ النقل.

وقيل: إنّ هذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُراب)،(1) فالذي ضرب المثل هو الله تعالى ومعنى (يَصدُّون) أي يعرضون عنه.

وهذا الوجه باطل قطعاً؛ لأنّ سورة آل عمران مدنية وهذه السورة مكية، ولأنّ الله تعالى ضرب لعيسى علیه السلام مثلاً وهو آدم علیه السلام، ولم يضرب عيسى مثلاً. ولم يقل في الآية «عنه يصدون» حتى يفسّر بالإعراض، بل منه «يصدون». ولو فرض

لمشركي قريش ردّ فعل في هذا التمثيل، فهو الاعتراض لا الإعراض عنه.

وقيل : معناه أنّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم لمّا مدح المسيح وأمّه علیه السلام وأنّه كآدم في الخاصية، قالوا: إنّ محمداً يريد أن نعبده، كما عبدت النصارى عيسى حكاه في «مجمع البيان» عن قتادة.(2)

وهو كلام غريب في حدّ ذاته وتطبيق الآية عليه أغرب.

وذكر في «مجمع البيان» وجهاً رابعاً نسبه إلى رواية سادة أهل البيت، عن علي - عليهم الصلاة والسلام - حيث قال _ على ما في «المجمع» _ «جئت إلى رسول

ص: 242


1- آل عمران (3): 59
2- مجمع البيان في تفسير القرآن 9 - 10: 80 .

الله صلی الله علیه و آله وسلم يوماً فوجدته في ملأ من قريش، فنظر إليّ، ثمّ قال: يا عليّ إنّما مثلك في هذه الأمّة كمثل عيسى بن مريم، أحبّه قوم فأفرطوا في حبّه فهلكوا، وأبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا، واقتصد في_ه ق_وم فنجوا، فعظم ذلك عليهم، فضحكوا وقالوا يشبهه بالأنبياء والرسل، «فنزلت الآية». (1)

وورد هذا الحديث بطرق متعدّدة وبوجوه مختلفة، ولكنها بأجمعها ضعيفة السند، بل في كثير منها مناكير لا يقبلها العقل ولا يوافق القرآن الكريم، وعلى فرض صحّة الحديث ولو ببعض وجوهه، فهو أشبه بأن يكون تطبيقاً للآية وليس شأناً للنزول.

ويمكن أن يكون المراد بالآية الكريمة أنّ بعضهم ضرب به علیه السلام المثل في عبادة غير الله تعالى لتبرير موقف المشركين، وأنّه ليس بدعاً من الأمر، فهناك من أتباع الديانات السابقة والعريقة من يعبد بشراً، وعليه يكون «الصد» أيضاً بمعنى الضجة فرحاً وابتهاجاً، ولعلّ هذا الوجه أقرب الوجوه مع قطع النظر عن القصّه، وخصوصاً بالنظر إلى الآية التالية.

(وَقَالُوا الفِتْنَا خَيْرٌ أم هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)، معنى الآية بناءاً على القصّة المعروفة أنّهم احتجّوا بأنّ عيسى علیه السلام _ بناءاً على ما تقولون _ خير من ،آلهتنا، فإن كان هو حصب جهنّم، فلتكن آلهتنا أيضاً كذلك. فالاستفهام

تقريري، والقصد منه أخذ الإقرار من الخصم أنّ عيسى علیه السلام خير من آلهتهم.

والآية تردّ عليهم بأنّهم ما احتجّوا وما ضربوا به مثلاً إلا للمجادلة والمراء، وقوله تعالى: (جَدَلاً) مفعول لأجله، أي ما ضربوا به المثل إلا لأجل المجادلة،

ص: 243


1- مجمع البیان 9 - 10: 80 - 81

ومقارعة الحقّ بالباطل، فهم يعلمون أنّهم على خطأ ويعلمون أنّ قوله تعالى: (وَمَا تَعْبُدُونَ) لا يشمل ذوي العقول وأنّه خطاب للمشركين ولا يشمل النصارى، مضافاً إلى أنّ عيسى علیه السلام - حسب تقرير القرآن الكريم - أمرهم بعبادة الله وحده ونهاهم عن عبادة غيره، ولا يمكن أن يؤخذ بذنب غيره، خصوصاً أنّهم لم يتّخذوه إلهاً في حياته، وإنّما هو شيء أحدثوه بعد تغيّب_ه م_ن ب_ي_ن ظهرانيهم، فالاستشهاد به ليس إلا مماراة للحقّ بعد وضوحه.

وقوله تعالى: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) إضراب عن كون هذا المراء أمراً طارئاً حصل في هذه المجادلة، وبيان أنّ هذا ليس بدعاً من أمرهم، بل هم بطبيعتهم أهل مراء وعصبية ولا ينصاعون للحقّ الواضح و«الخَصِم» - بالفتح ثمّ الكسر - صفة مشبّهة تدلّ على الثبات والاستقرار فتعني أنّ المخاصمة والمراء من صفاتهم العريقة.

وأمّا بناءاً على ما ذكرنا من الاحتمال فالمعنى _ والله العالم __ أنّ آلهتن_ا خي_ر منه وأقرب إلى أن يكونوا معبودين بعكس ما ورد في الوجه السابق. وذلك على أساس أنّ الأصنام عندهم تمثّل الملائكة، فهم يعبدونها، لأنّها تمثّلهم وهم مقرَّبون لدى الله تعالى.

والجواب: أنّهم ما ضربوا به المثل إلا جدلاً، وإلا فهم يعلمون أنّ أساس التوحيد نفي الألوهية عن غير الله مطلقاً وأنّه لا مبرر لأحد أن يدّعي الألوهية لعيسى علیه السلام أو لغيره من الرسل أو الملائكة، فالاستشهاد بألوهية عيسى لا وجه له أساساً، ولكنّهم قوم خصمون والجدال والمراء جزء من طبيعتهم.

وبما ذكرنا يتبيّن أنّ الوجه الذي ذكرناه أقرب من الوجه المشهور؛ لأنّه بناءاً عليه يجب تأويل هذه الآية بأنّ عيسى علیه السلام عندكم أفضل من آلهتنا، وهذا خلاف

ص: 244

ظاهر اللفظ، حيث إنّ ظاهر الاستفهام التقريري التأكيد على أنّ مضمونه مقبول لديهم، وهو بناءاً على ما ذكرنا أنّ معبودهم في الواقع هم الملائكة وهم أفضل من عيسى علیه السلام عندهم وعند بعض المسلمين أيضاً.

(إنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ) هذه الآية بناءاً على وجهي التفسير تكمل الردّ عليهم وتبيّن حقيقة أمر عيسى علیه السلام وأنّه لم يكن إلا عبداً الله تعالى أنعم عليه بما أنعم به على سائر الأنبياء المرسلين من نزول الوحي والإمداد بالمعاجز والعصمة الإلهية. والتأكيد على كلمة «عبد» لنفي الألوهية المزعومة.

(وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ). «المَثَل» في الأصل مأخوذ من المثول، أي القيام و الانتصاب، فيطلق على كلّ ما ينصب علامة لشيء أو لطريق أو يكون موضع اهتمام وتوجّه لعامّة الناس. وعليه فيمكن أن يكون المراد بكونه علیه السلام مثلاً كونه موضع الإعجاب من جهة الآيات والمعاجز التي ظهرت على يدي_ه م_ن إب_راء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، مضافاً إلى أصل كونه آية، حيث خلقه الله تعالى من دون أب كما قال تعالى في شأن أمّه : (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ)(1) كلّ ذلك يجعله مثلاً يضرب به ويسير به الركبان إعجاباً واستعظاماً.

ويمكن أن يكون المراد: أنّ الله تعالى جعله مثلاً وقدوة لبني إسرائيل، فالمثل بمعنى من يقتدى به. والغرض بيان أنّه لم يكن وجه لاعتباره إلهاً إلا أنّهم أخطأوا حين رأوه ممتازاً من بين البشر بهذه الصفات العجيبة، فبدلاً من الاقتداء به _ كما أمر به الله - اعتبروه إلهاً فعبدوه، وفي نفس الوقت تشير الآية إلى أنّ السبب في افتتانهم هو هذه الصفات التي اختصّه الله تعالى بها.

ص: 245


1- الأنبياء (21): 91

والحاصل - بناءاً على ما ذكرنا _ أنّ كفار قريش كانوا يضربون المثل بعیسی علیه السلام الليبرّروا موقفهم، فيقولوا إنّ آلهتنا تمثل الملائكة وهم أفضل من عيسى، حيث إنّه بشر ومع ذلك عبده النصارى واتّخذوه إلهاً وهم أصحاب ديانة سماوية محترمة عندكم. والجواب: أن اعتباره إلهاً شرك وكفر، بل هو عبد أنعم

الله عليه

(وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةٌ فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ ) المعروف في تفسيرها أنّ «من» في قوله: (مِنكُمْ) للبدلية، فالمعنى أنّه تعالى لو شاء لأفناكم وجاء بالملائكة بدلاً منكم يخلفونكم ويعيشون في الأرض. وعلى هذا فيقع السؤال في الغرض من بيان ذلك، فقيل: إنّه للتهديد والتحذير، نظير قوله تعالى: (إنْ يَشَأْ يُذهِبكُمْ أيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً)(1) واستبعده بعضهم لعدم استلزام المقام تهديداً.

وقيل: إنّ الغرض إبطال قول المشركين ببنوّة الملائكة الله تعالى بمناسبة تعرّض السياق لنفي بنوّة عيسى علیه السلام ووجه الردّ على قوله بهذه الآية أنّه تعالى جعلهم سكنة السماوات، وبإمكانه أن يجعلهم سكنة الأرض، فمجرّد كونهم في السماء لا يبرّر القول ببنوّتهم له تعالى ويردّ هذا الاحتمال أنّ السياق لم يتعرّض لبنوّة عيسى علیه السلام بل لألوهيته، مضافاً إلى أنّ مجرّد إمكان خلق الملائكة في الأرض لا ينفى البنوّة.

والصحيح ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله وهو - بتقريب منّا _ أنّ هذه الآية متّصلة بما قبلها والغرض بيان رفع الاستبعاد عن أنّ الله تعالى خلق بشراً من دون

ص: 246


1- النساء (٤): 133

أب، وأنّ ذلك لا يبرّر اتخاذه إلهاً، ولو شاء الله لجعل من البشر، أي بعضهم ملائكة وهم حسبما تعتقدون أفضل الخلائق، ومع ذلك يجعلهم خلفاء في الأرض، كما أنتم عليه وكما كان عيسى علیه السلام، بمعنى أنّ بعضهم يخلف بعضاً وهذا الوصف خاصّ بالبشر، فالغرض بيان أنّهم يبقون بشراً في الظاهر وهم يملكون خصائص الملائكة أيضاً، وهذا التركيب أعجب من خلق بشر بدون أب، فالله تعالى قادر على كلّ شيء وكلّ هذا من آيات حكمته وقدرته. وبناءاً على هذا فقوله: (مِنكُمْ)، أي من أنفسكم أو من جنسكم، والمراد بقوله تعالى: (يَخلُفُونَ)، أي يخلف بعضهم بعضاً.(1)

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَتَرُنَّ بِهَا). المعروف بين المفسّرين أنّ الضمير في (إنّهُ) يعود إلى عيسى علیه السلام وكونه علماً للساعة، بمعنى أنّ نزوله يوجب العلم بها؛ لأنّه ينزل قبيل قيام الساعة، فيكون من علاماته. وقيل: إنّه قرئ بفتحتين، أي «لَعَلَم» وهو أوضح دلالة على هذا المعنى. ولكن تفريع النهي عن الامتراء على ذلك لا يخلو من تكلّف وغرابة، ولذلك عدل عنه العلامة الطباطبائي رحمه الله إلى القول الآخر وهو أنّه علیه السلام بتكوّنه علم للساعة، باعتبار أنّه خلق من غير أب، فهو دليل على إمكان أن يخلق الله البشر مرّة أخرى بعد فناء أجسامهم.(2) وهو أيضاً بعيد والتكلّف فيه أوضح.

وحكي عن الحسن وقتادة وابن جبير وأبي مسلم، أنّ الضمير يعود إلى القرآن وكونه علماً بمعنى أنّه يوجب العلم بما ورد فيه من أدلّة وبراهين على

ص: 247


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 117
2- راجع: الميزان فى تفسير القرآن 18: 118

إمكانه. وأرى أنّ هذا القول أقرب من غيره. واعترض عليه بأنّه لم يرد ذكر القرآن وأنّه مخالف للسياق.

والجواب: أنّه لا يبعد أن تكون الجملة عطفاً على قوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وما بينهما جمل اعتراضية، ويلاحظ أنّ القرآن هو محور الكلام في السورة من بدوها، مضافاً إلى أنّ هذه الجملة بمنزلة الاستنتاج ممّا مرّ من التعليق على تعامل القوم مع القرآن الكريم، وما ورد فيه من ذكر الأنبياء والرسل، وبيان قصص الأقوام السابقين، والتحذير من الوقوع في نفس المحاذير، فالنتيجة أنّ هذا القرآن يحذّركم بأسوأ ممّا حدث لهم في الدنيا وه_و ع_ذاب الآخرة، فلا تمترّن بها ولا تتّبعوا تسويلات الشيطان. والتحذير من الساعة هو الهدف الأساس في القرآن دائماً. ومهما كان فالامتراء إمّا بمعنى الشكّ، أي لا تشكّوا فيها، أي في الساعة، وإمّا بمعنى المجادلة، أي لا تجادلوا فيها.

(وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) فيه احتمالان؛ إذ لا يصحّ التعبير بمتابعة الله تعالى، فإمّا أن يكون المقدّر: اتبعوا آياتي وهداي، أو يكون حكاية لكلام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أو لما يجب أن يقوله لهم. «وهذا» إشارة إلى اتّباعه صلی الله علیه و آله وسلم أو إلى الطريق الذي يسلكه، فالمعنى حينئذٍ اسلكوا طريقي، فإنّه صراط مستقيم. ولعلّ التنكير بلحاظ تعدد الطرق بتعدد الرسالات وإن كانت اُصول الشريعة واحدة، فيدلّ على أنّ الأمر بالاتباع بلحاظ السنن والأحكام الخاصّة بهذه الشريعة.

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)، «الصدّه» هو المنع، أي لا يمنعكم الشيطان من الإيمان بالساعة، فإنّه أساس السعادة البشرية والذي لا يؤمن بيوم القيامة يجد الكون تافهاً وبلا هدف، والحياة عنده لا معنى لها إلا الأكل والشرب واللذة كالحيوان، وهذا هو الذي يريده الشيطان للإنسان؛ لأنّه يريد أن يسلبه ما

ص: 248

يسعد به في الحياة الأبدية، بل مطلقاً وهو الإيمان بالله واليوم الآخر، وقد أكّد الله تعالى في كتابه العزيز على العداء القديم الذي يكنّه الشيطان للبشر، حيث إنّ الله تعالى أمره بالسجود لآدم علیه السلام فأبى وأخرجه الله تعالى من الجنّة فآلى على نفسه أن يغوي ذرّيّة آدم إلى يوم القيامة.

(وَلا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ)، المراد بالبينات الأدلّة الواضحة والمعجزات التي اثبتت ،نبوته، فالقصد من هذا التقييد أنّه لم يأت بدعوى فارغة، فيكون الاختلاف الذي حدث بينهم نتيجة عدم وضوح الرسالة، بل اختلفوا بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم،كما قال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)(1) وكغيرها من الآيات، والمراد بالحكمة الشريعة التي أتى بها أو الكتاب المشتمل على الأحكام وهو الإنجيل. والحكمة ما يمنع الإنسان من السفاهة والجهل وشرائع السماء تشتمل على أبلغ الحكم.

(وَلا بَيْنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ). طبيعة الحال تقتضي الاختلاف بعد الرسول بين أتباعه لا يشذّ من ذلك قوم، فكان هناك بين بني إسرائيل اختلاف عقائدي، فمنهم من ينكر الآخرة مثلاً ومنهم من يثبتها، واختلاف في الأحكام والشريعة واختلاف في المنهج، فبعض يدعو إلى التقشف والزهد، وبعض يدعو إلى التمتّع بالحياة الدنيا، واختلاف بين القبائل والطوائف وغير ذلك من أنحاء الاختلاف. وأنزل إلى السيّد المسيح علیه السلام من الكتاب ما يبّين لهم الحقّ في بعض موارد الاختلاف. ولعلّ المراد مجال العقيدة والشرع، وأمّا الاختلافات القبلية

ص: 249


1- آل عمران (3): 19

ونحوها فلا يمكن رفعها بالكتاب والشرع، وربّما لا يمكن رفع بعضها مطلقاً.ولذلك قيد البيان ببعض موارد الاختلاف.

(فَاتَّقُوا الله وَأَطِيعُونِ)، وصية من عامّة الأنبياء يحدّد الإيمان العملي، فالإيمان في مرحلة العمل له جانبان: تقوى الله تعالى في جميع الحالات، وإطاعة الرسول. ولا يتمّ الإيمان إن لم يطع الرسول في جميع ما أمر به ونهى عنه وليس مورد الإطاعة ما ينقله من أحكام الله تعالى الواصلة إليه عن طريق الوحي، فإنّ_ه م_ن التصديق لا الإطاعة وعدم تصديق الرسول ولو في بعض ما أتى به كفر وخروج عن ربقة الإسلام. بل مورد الإطاعة كلّ ما يأمر به من أوامر خاصّة أو عامّة حسب المصالح المتغيّرة، وكلّ ما يطبقه من عناوين موضوعة لحكم إلهي، وكلّ حكم قضائي يحكم به بين العباد؛ بل هناك مجال آخ_ر خ_اصّ بالرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم من بين ولاة الشرع وهو تشريع السنن الواجبة. وتفصيله في مباحث الأصول.

ومن هنا يتبيّن أهمية أحاديث الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وسخافة القول بالاكتفاء بكتاب الله تعالى وأنّ هذا ينتهي إلى إبعاد الناس عن دينهم الحقّ، فالدين لا يستقيم إلا بهذين العمودين: تقوى الله وإطاعة الرسول، وكذب من زعم أنّه يتقي الله ولا يطيع الرسول. وقد قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله ).(1)

(إنَّ الله هُوَ رَبِّ وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ). يركز القرآن على نقل هذه العبارة منه علیه السلام هنا وفي سورتي آل عمران ومريم ، حيث يؤكّد على أنّ الله تعالى ربّه وربّ الناس جميعاً، وليس لهم ربّ غيره - كما يظهر من ضمير الفصل _

ص: 250


1- النساء (٤): ٦٤

وأنّه ليس إلا رسولاً يوصي الناس بعبادة الله تعالى، وأنّ عبادته هي الصراط المستقيم الذي يؤدّي إلى السعادة، وينهى عن عبادة غيره، فإنّها تؤدي إلى الشقاء في الدنيا والآخرة، وهو بذلك يشير إلى أنّ ما سيؤول إليه أمر أتباعه من الغلو فيه واعتباره إلهاً يعبد أو اعتباره أحد أقانيم الألوهية ونحو ذلك إنّما هو انحراف عن الصراط المستقيم الذي رسمه بأمر من الله تعالى لأتباعه.

(فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ) يبدو من العبارة أنّهم تحزّبوا قبل أن يختلفوا، فلم يكن أساس التحزّب الاختلاف في العقيدة وفي تفسير ما جاء به المسيح اعلیه السلام. ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بالحقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)(1) حيث يدلّ على أنّهم إنّما اختلفوا في الكتاب بغياً بينهم، وهى آية عامّة تشمل أتباع كلّ الرسالات.

ومثلها قوله تعالى: (إنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسَابِ)(2) وقوله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)،(3) وقوله تعالى حول بني إسرائيل: (وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمر فما اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).(4)

ص: 251


1- البقرة (2): 213
2- آل عمران (3): 19
3- الشورى (٤٢): ١٤
4- الجاثية (٤٥): ١٧

فهذه الآيات تدلّ على أنّ منشأ الاختلاف هو الأمور المادية من المال والجاه والزعامة والخلافة وإنّما ينّبه القرآن بذلك هذه الأمّة ليكونوا حذرين ممّا سيصيبهم من الاختلاف وأنّه أيضاً ينشأ من البغي والعدوان وطلب بعضهم ما ليس له، وقد أشير في مواضع من القرآن وفي الأحاديث الشريفة أنّ ما أصاب السابقين سيصيب

هذه الأمّة.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ). طبيعة الحال تقتضي أن يكون م_ن ب_ي_ن الذين اختلفوا من هو على الحقّ، ولذلك لم يعمّهم بالعذاب، بل خصّ ذلك بالذين ظلموا وهم في ما اختلفوا فيه من العقائد من اشركوا بالله وجعلوه أحد الأقانيم أو اعتبروا عيسى علیه السلام إلهاً أو ابناً لله تعالى ونحو ذلك العقائد الفاسدة، وفي مورد البغي الذي هو أساس الاختلاف هم الذين طلبوا ما ليس لهم من الزعامة والولاية والإمامة وغير ذلك من الشؤون التي يتقاتل عليها الناس.

ص: 252

سورة الزخرف (٦٦ - ٧٣)

هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)الْأَخِلَّاءُ

يَوْمَبِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ(67) يَنعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِفَايَتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ(69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحبَرُونَ(70) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَلِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(72) لَكُمْ فِيهَا فَيكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ(73)

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةٌ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)، الظاهر أنّ الكلام حول كفّار قريش لا الذين ظلموا من قوم عيسى علیه السلام المذكورين قبله، فإنّ ذكرهم إنّما كان في جملة معترضة، ردّاً على استشهاد قریش به علیه السلام وبقومه.

(هَلْ يَنْظُرُونَ)، أي هل ينتظرون، والاستفهام إنكاري، أي لا ينتظرون إلا الساعة - وهم بالطبع لا ينتظرون الساعة - فضلاً عن انحصار انتظارهم فيها، فالمراد بيان حالتهم الواقعية التي هم غافلون عنها، أي أنّ القيامة هي مستقبلهم الأكيد، فكأنّهم لا يترقّبون أمراً إلا قيام الساعة.

و «الساعة» جزء من الزمان وتطلق على جزء قليل منه، كقوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ أجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةٌ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(1) وإطلاقها على يوم القيامة باعتبار تحقّقه فوراً وفي لحظة، ولذلك يعبّر عن سبب تحقّقه بالنفخ في الصور أو النقر في الناقور. وهناك يومان يطلق عليهما الساعة وكلّ منهما يتحقّق بسرعة: ي_وم ف_ن_اء العالم ويوم قيام الناس لربّهم، ولا يعلم ما بينهما إلا الله. قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي

ص: 253


1- الأعراف (٧): ٣٤

الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ الله ثم نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ)(1) فأيّ اليومين يقصد بالساعة هنا؟

الظاهر أنّ المراد بها هنا يوم فناء العالم، فإنّه اليوم الذي يتوقّعه الناس وتبغتهم وتأتيهم فجأة وهم لا يشعرون، كما قال تعالى: (مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخصُمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةٌ وَلا إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ)(2) وأمّا ما تعقّبه من خصائص يوم القيامة، فلا يستوجب ذكرها أن يكون هو المراد وإنّما ذكرت هنا بلحاظ أنّ الإنسان لا يشعر بالفصل بين اليومين، بل حتّى بالفصل بين يوم موته ويوم القيامة، وقد ورد في آيات عديدة أنّ الناس لا يشعرون به كقوله تعالى (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ).(3)

وقوله (أنْ تَأْتِيَهُمْ) بدل من الساعة، أي ينتظرون أن تأتيهم الساعة والمراد بقوله : (لا يَشْعُرُونَ) أنّهم غافلون عنها غير متهيّئين لها. والمباغتة لا تستلزم الغفلة، فليس تكراراً؛ إذ ربّما يأتي الموت فجأة، ولكنّ الإنسان متهيّء له، والآية تنبّه الإنسان ليكون متهيّئاً لقيام الساعة التي لا يعلم وقتها ولساعة الموت أيضاً؛ لأنّ الإنسان إذا مات فقد قامت قيامته كما في الحديث.(4)

(الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ)، «الأخلاء»:

جمع خليل من الخلّة - بالضمّ - أي الحبيب والصديق، فالمتصادقون والمتحابّون في الدنيا يتعادّون في الآخرة مهما توسعت خُلّتهم وتعمّقت، حتّى أنّ أحبّ الناس إلى الإنسان يفرّ منه،

ص: 254


1- الزمر (39): ٦٨
2- يس (٣٦): ٤٩ -٥٠.
3- يونس (١٠): ٤٥
4- راجع: بحار الأنوار ٧:٥٨

قال تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ).(1) والسرّ فيه أنّ كلاً كان يساعد الآخر في ضلاله وفجوره وعصيانه، ولكن جهلهم بواقع الحال كان موجباً لعدم انتباههم بأنّه يسعى في ضلاله وإنزال أكبر الضرر عليه. وهذا نظير من يقدّم لصديقه المخدّر أو المسكر أو الدخان، فإنّه يعتبره مع الجهل حبّاً ووداً وصداقة، فإذا تبيّن له مدى الإضرار اللاحق به علم أنّه لم يكن صديقاً، ب_ل كان من أعدى أعدائه. وهكذا يظهر للإنسان يوم القيامة _ حين تظهر حقائق الأشياء عارية - أنّ كلّ من كان يساعده على ضلاله وفجوره أو يسكت عنه فإنّما كان عدوّاً له وإن كان أباه أو أمّه.

و من هنا يتبيّن السرّ في استثناء المتّقين، فإنّهم لا يسكتون على المنكر من أحد، خصوصاً إذا كانوا يحبّونه، فربّما يمتعض الولد من تشدّد والديه في سوقه إلى الصلاة وتجنيبه ما يهواه من الشرور، وربّما يكنّ لهما حنقاً وبغضاً لذلك، ولكنّه حينما تبدو الحقائق يعلم أنّهما أرادا به كلّ الخير، فيحبّهما أكثر ممّا كان يحبّهما في الدنيا. والله سبحانه للطفه بهم يزيل عن قلوبهم الأحقاد لتمتلئ حبّاً وودّاً وصفاءاً، قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلْ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).(2)

(يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)، خطاب من الله جلّ جلاله يوجّه إلى المتقين تكريماً لهم ، وأيّ تكريم أعظم من إضافة العباد إلى نفسه تعالى شأنه، وأيّ نعمة أعظم من هذا الوعد الجميل: (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ). «اليوم» هو يوم الخوف المطلق و الحزن الدائم، أمّا عباد الله تعالى فهم

ص: 255


1- عبس (80): ٣٤ - ٣٦
2- الحجر (١٥): ٤٧

بعيدون عنهما. و«الخوف» يتعلّق بالمكروه المحتمل والحزن على مكروه لا مفرّ منه، ولا يصحّ ما يقال: إنّ الأوّل يتعلّق بالمستقبل والحزن بالماضي، فإنّ الإنسان ربّما يخاف من أمر في الحال الحاضر ، ولكنّه غير معلوم وهو يحذر من وجوده واقعاً، وربّما يحزن من أمر لم يحصل بعد، ولكنّه يحصل قطعاً والناس _ إلا من عصمه الله - في خوف ذلك اليوم وحزن خوف من عذاب يستقبلهم وحزن على ما فاتهم.

(الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ) وصفهم بالإيمان والإسلام، والمراد بالإسلام هنا التسليم لأمر الله تعالى الذي هو مرحلة أعلى من الإيمان، لا الإسلام بمعنى التشهد بالشهادتين الذي هو مناط ترتّب الأحكام والحقوق الخاصّة بالمسلمين، ويصدق حتّى على المنافق، والذي ورد في قوله تعالى: (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَم تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)(1) والتعبير بأنّهم كانوا مسلمين يدلّ على الاستمرار، أي ليست ميزتهم أنّهم أسلموا أمرهم إلى الله تعالى في موقف واحد، بل كان هذا دأبهم وديدنهم وميزتهم المستمرّة في كلّ موطن وموقف.

ولعلّ الوجه في تعليق الإيمان بالآيات أنّهم لم يؤمنوا بالله فحسب، بل آمنوا بكلّ آياته، ومنها الرسل والكتب والأحكام، فيكون ذكر الآيات للدلالة على أنّ إيمانهم بالله أمر مفروغ عنه. وهذا أمر دقيق، فالإيمان بالله تعالى وحده لا يكفي في انتفاء الحزن والخوف يوم القيامة، بل لابد من الإيمان بكلّ ما جاءت به الرسل من آيات وأحكام، ثمّ يكون الإنسان مسلماً نفسه في العمل بها والرضا

ص: 256


1- الحجرات (٤٩): ١٤

والقناعة بمضمونها، وهذا ليس أمراً يسيراً، فإنّا نجد كثيراً من المؤمنين إذا ابتلي بتكليف من الله تعالى يتعلّق بالتضحية في سبيله بالنفس والنفيس، لا يؤمن به ويحاول التكذيب والإنكار فإنّ لم يمكن واضطرّ إلى التصديق؛ فإنّه يكذبه في مرحلة العمل ولا يسلم نفسه لأمر الله تعالى.

(ادْخُلُوا الجنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)، «تحبرون» من الحَبرة - بالفتح - والحُبور أي النعمة، فالمعنى: تُنعمون وتُكرمون أو بمعنى السرور، أي تُسَرّون، بالبناء على المجهول. وقيل: إنّه من الحبار - بالفتح أو الكسر - أي الأثر والمعنى أنّ أثر النعمة بادية على وجوههم، كما قال تعالى: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)(1) ولكنّه بعيد ؛ لأنّ الحبار ليس بمعنى أثر النعمة خاصّة، بل مطلق الأثر ومنه الحبر المستعمل في الكتابة، فالأوّل هو الصحيح.

والمراد بالأزواج نساؤهم المؤمنات في الدنيا، وكذلك الأزواج المؤمنون، فإن خطاب: (يَا عِبَادِ) لا يختصّ بالرجال. وهذه الآية من الآيات التي تشير إلى الجمع بين المؤمنين وأزواجهم في الجنّة والوعد بلمّ الشمل ممّا تكرّر ذكره في الكتاب العزيز، قال تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ)(2) وقال تعالى نقلاً عن الملائكة: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ)(3) وغير ذلك. وقد مرّ الكلام حول هذه الآيات في تفسير سورة غافر، وأنّها تدلّ على نوع من الشفاعة.

وقيل: إنّ المراد بالأزواج الحور العين. وهو بعيد؛ لأنّهنّ في الجنّ_ة ف_لا

ص: 257


1- المطففين (83): ٢٤.
2- الرعد (13): 23
3- غافر (٤٠): ٨

يُؤمرنَّ بالدخول ولا يُبشّرن بالحبور.

(يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ). بيان لتكريمهم في الجنّة فيعامل معاملة الضيوف المكرمين طيلة حياتهم الخالدة، فهم على سرر متّكئين متقابلين ويطاف عليهم بالمأكول والمشروب و«الصحاف»جمع صحفة وهي إناء واسع يؤكل منه، وقيل: إنّه يشبع خمسة رجال وحيث تورّعوا عن آنية الذهب والفضة في الدنيا اكرمهم الله تعالى في الآخرة فقدم لهم الاكل في أوان من الذهب. والاكواب جمع كوب وهو إبريق لا عروة له ولا خرطوم ويتداول في محافل الشاربين استعماله لإدارة الخمر وملء الكؤوس منه.

(وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ)، أي تلذّه أو تلذّ به الأعين وهي فاعل «تلذ» وإسناد اللذّة إلى العين تجوّز ، فإنّ التلذّذ صفة الإنسان بواسطة العين. قال الطبرسي رحمه الله: «الواجتمع الخلائق كلّهم على أن يصفوا ما في الجنّة من أنواع النعيم لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان الصفتان»(1)، والسبب أنّه لم يترك شيئاً ممّا يمكن أن يتلذّذ به الإنسان أو تشتهيه نفسه.

ولكن يقع السؤال في الفرق بين ما تشتهيه الأنفس وما تلذّ به الأعين، فهل هذا من ذكر الخاصّ بعد العامّ أم أنّ هناك فرقاً بينهما؟

الظاهر أنّ هناك فرقاً، فما تشتهيه الأنفس لا بدّ فيه من إحساس سابق، وعلم به ولو إجمالاً عن طريق الإحساس بما يشابهه في الدنيا،كالمأكولات والمشروبات ونحوها؛ إذ لا يشتهي الإنسان ما لم يذقه ولم يعلم خصائصه. وأمّا ما يتلذّذ ب_ه الأعين، فإنّه يشمل ما يمكن أن لا يكون له نظير في الدنيا من مظاهر الجمال

ص: 258


1- مجمع البيان في تفسير القرآن 9 - 10: 85

والزينة التي تبعث بالبهجة في النفوس.

ثمّ إنّ ما تشتهيه الأنفس يشمل كلب ما يطلبه الإنسان. ولكن يختلج في الخواطر، بل يسجّل في الصحف وحتّى التفاسير سؤال، وهو أنّه ربّما يطلب الإنسان شيئاً ممّا تتوق إليه نفسه في الدنيا وهو أمر سخيف، بل ربّما يكون من المحرّمات ومن المخازي الذي لا ينبغي للمؤمن أن يطلبه، أو أنّه ينافي الطهارة التي هي من صفات أهل الجنّة، فهل يتحقّق كلّ ما يطلبه أهل الجنّة حتّى مثل ذلك؟!

وقد ورد في بعض الروايات ذكر من يسأل: هل هناك جمل في الجنّة؟ وم_ن يسأل: هل للمؤمنين أولاد؟ فإنّ هذا أيضاً ممّا يشتهيه الإنسان، خصوصاً م_ن ل_م يولد له في الدنيا. وقد ورد في الجواب أنّ كلّ ما يطلبه يحصل عليه وأنّ الولد يتكوّن لمن أراده دون حمل وولادة ونحو ذلك. كما أنّ هناك أسئلة تدور على الألسن حول هذا الأمر، ومنها أنّ الله تعالى لم يذكر أمراً خاصّاً بالنساء، كما ذكر الحور العين وبشّر الرجال بهنّ ونحو ذلك من الطلبات. وهذا الأمر لا يتوقّف عند حدّ، فلسائل أن يسأل: أنّ أحبّ شيء لديّ هو الانتقام ممّن ظلمني ، حتّى لو تاب وآمن وعمل صالحاً، فهل يحصل هذا المؤمن على ما يطلبه؟ والجواب طبعاً أنّ ذلك لا يكون ، والسبب أنّ الله تعالى يقول: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلْ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)،(1) فحبّ الانتقام يزول عن قلبه بإرادة من الله تعالى وتصفو القلوب وتطمئنّ النفوس.

ومثل هذا يقال في سائر الموارد، فإنّ الإنسان بعد تكامله وبلوغه أعلى مراتب

ص: 259


1- الحجر (١٥): ٤٧

الكمال والتقرّب لدى الله تعالى تتغيّر مشتهياته وتتغيّر نظرته إلى الكون، فلا يشتهي هذه الأمور التافهة. بل لا يبعد أن يكون ذكر الفواكه ونحوها لتقريب المعنى إلى الذهن، وأنّ النعمة هناك تختلف عمّا هنا في أصولها وحقائقها ولا تشبه شيئاً ممّا هنا.

ولذلك يفرّق بين المقرّبين والأبرار في كلّ شيء حتّى الفواكه، ففي سورة الرحمن مثلاً : (وَلَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَتَّتَانِ... فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)،(1) ثمّ يقول: (وَمِنْ دُونِهَا جَتَّانِ... فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)،(2) وهذا ينافي ما ورد هنا من أنّ فيها ما تشتهيه الأنفس. وهل يمكن أن يمنع الله تعالى في الجنّة عباده المؤمنين م_ن فواكه لم يمنعهم عنها في الدنيا ؟! لا شكّ أنّه ليس كذلك، فلا يبعد أن يكون ما ذكر إشارة إلى أمور أخرى لا بدّ فيها من التفريق بين المؤمنين حسب مقاماتهم وقربهم لدى الله تعالى، فمن الظلم الذي ينزه عنه الله سبحانه التسوية بين الأنبياء

والأئمة المعصومين علیهم السلام وبين عامّة المؤمنين مهما بلغوا من الكمال والتقوى.

والحاصل أنّه لا يبعد أن يكون المراد بذكر الفواكه في بعض الموارد على الأقلُ أمور أخرى تخصّ تلك الحياة ومتطلباتها، ولا تصل إليها أفكارنا فيعبر عنها بذلك تقريباً لها إلى الأذهان.

وتغيّر المتطلبات بتغيّر مراحل الكمال أمر مشهود حتّى في هذه الحياة؛ فالإنسان في صغره وصباه تتوق نفسه إلى الألعاب والصور المتحرّكة ونحوها ممّا يثير تخيّله ويذهب بأفكاره إلى آفاق بعيدة يتمنّاها ولا يصل إليها، فإذا تنامي

ص: 260


1- الرحمن (٥٥): ٤٦ - ٥٢. .
2- الرحمن (٥٥): 62 - 68.

عقله وفكره واصطدم بالحقائق المرّة والحلوة في الحياة تغيّرت نظرته إليها و تغيّرت متطلّباته وكلّما تكامل فكره تغيّرت آماله و تكاملت كما أنّها تتغيّر أيضاً بكبر سنّه واختلاف حالاته، وتكامل مجتمعه ثقافياً ومالياً، فلا شكّ أنّ السائل الذي ورد ذكره في الروايات أنّه سأل عن حصوله على جمل في الجنّة، لو كان يبقى إلى عصرنا هذا كان يسأل عن حصوله على أحدث سيّارة أو طائرة ونحو ذلك. وهكذا سائر البشر. فالنتيجة أنّ الجنّة تشتمل على كلّ ما تشتهيه الأنفس آنذاك وفي تلك الحياة وبعد تكامل النفوس واختلاف الأنظار والمتطلبات.

(وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وهذا أعظم شيء ممّا يشتهيه الإنسان، ولا يحصل له إلا في تلك الحياة، فإنّ الإنسان ربّما يتمكّن في هذه الحياة من بلوغ كلّ مآربه ومقاصده ومشتهياته في حدود نظرته القصيرة والقاصرة إلى الكون وإلى الكمال البشري، وهناك من المغفلين من يتصوّر أنّه بلغ الذروة في تحقيق المآرب كما مرّ في هذه السورة من تبجّح فرعون بما أوتي من مال وسلطة، حتّى انجرّ به الأمر إلى دعوى الألوهية، وهناك في عصرنا أيضاً من يتصوّر أنّه بلغ الغاية في تحقيق ما يهواه ويطلبه. والبشر حريص على ذلك غاية الحرص حتّى أنّه يحاول تحقيق ذلك ولو في تخيّله وأوهامه، ولذلك يلجأ إلى المسكرات والمخدّرات لينسى فقدانه لما يهواه. ولكنّ الأمر الوحيد الذي يقضّ مضجع الإنسان مهما بلغ من السلطة والثراء هو الموت، وهذه الجملة التي يخاطب بها المؤمنون تبشير من تعالى بأنّهم خالدون في النعمة، فلا يخافون زوالها أبداً .

(وَتِلْكَ الجنّة التي أورتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)»، «تلك»، اسم إشارة للبعيد وإنّما أتي

ص: 261

به هنا تنبيهاً على عظمة الجنّة، وهذا تعبير متعارف حيث يعبّر عن المخاطب بمثل ذلك أيضاً إذا كان رفيع المقام عظيم الشأن والغرض من الخطاب التنبيه على أنّ الجنّة لا يستحقّها إلا العاملون وإن كان الجزاء رحمة من الله تعالى والإنسان لا يستحقّ شيئاً على ربّه مهما حسنت أعماله إلا أنّه يستحقّها بوعد منه تعالى، فإنّه لا يخلف الميعاد.

وقد مرّ الكلام في معنى وراثة الجنّة في تفسير قوله تعالى: (وَقَالُوا الحَمْدُ الله الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ)(1) ورجّحنا أن يكون معنى الوراثة اختصاصهم بالجنّة، وأنّهم هم الباقون على قيد الحياة يتمتّعون من نعم الله دون غيرهم، حيث إنّ أهل النار يذوقون الموت وإن لم يموتوا وهم كانوا متمتّعين بالنعم في الحياة الدنيا وزالت عنهم، وكلّ من يخلف قوماً على النعم فهو الوارث، فالتعبير مبنيّ على أنّه لولا هذا الاختلاف في نتيجة الأعمال لكان الكلّ متنعّماً على وتيرة واحدة، كما كانوا في الدنيا.

(لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ). لعلّ السرّ في التعبير عن مأكولات الجنّة بالفاكهة أنها ليست من مقوّمات الحياة كطعام الدنيا، فكلّ ما يؤكل هناك إنّما يؤكل للتفكّه والتلذّذ فحسب، فليس هناك جوع يراد سدّه بالطعام. ولعلّ قوله: (مِنْهَا تَأْكُلُونَ) إشارة إلى أنّكم مهما تأكلون منها، فإنّها لا نهاية لها وكلّ ما

تأكلون إنّما هو جزء منها، فهو تأكيد على الكثرة المصرّحة بها.

ص: 262


1- الزمر (39): ٧٤

سورة الزخرف (74-80)

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَلِدُونَ (74) لَا يُفَتَرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)وَمَا ظَلَمْتَهُمْ وَلَيَكن كَانُوا هُمُ الظَّلِمِينَ (76)وَنَادَوْا يَمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مِّنكُثُونَ (77) لَقَدْ جِفْتَتكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَرِهُونَ(78) أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)أَمْ تَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَنهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ(80)

(إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ). يقابل ذلك الخلود بالخلود في العذاب وهذا جزاء المجرمين. وأصل الجَرم القطع. وقال بعض أهل اللغة: ومنه أخذ الجُرم بمعنى الكسب، وأنّ الجريمة التي هي بمعنى الجناية، والذنب مأخوذة منه أيضاً باعتبار أنّ المجرم يكتسب إثماً بذلك. ولكن لو صحّ ذلك لاقتضى إطلاقه على من يكتسب ثواباً أيضاً.

ولا يبعد أن يكون إطلاق الجريمة على الجناية باعتبار أنّ المجرم يقاطع المجتمع ويقطع علاقته به، ولذلك لا يطلق على الذنوب الشخصية إذا لم يكن لها تأثير سيّء في المجتمع. والظاهر أنّ المراد بالمجرم في لسان الشرع من قطع العلاقة بربّه وهو الكافر ومن نُزِّل منزلته، كقاتل المؤمن عمداً.

ومهما كان، فالمجرم هو الجاني ولا يختص بالكفّار، كما يقول بعض المفسّرين معوّلاً على مقابلته بالمؤمنين، ومستدلاً بأنّ المؤمن لا يخلد في النار. والجواب: أنّ المقابل لهم المتّقون الذين آمنوا بآيات الله وأسلموا الأمر له، وليس كلّ من تشهّد الشهادتين - كما مرّ _ وأمّا الخلود في النار، فلا يختصّ

ص: 263

بالكافر، قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فيهَا)(1) ولكنّ الإجرام لا يشمل كلّ ذنب، كما قلنا.

( لا يُفَتَرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) يكرّر القرآن ويؤكّد على أنّ ذلك العذاب وتلك النار لا يقاسان بما يجده الإنسان في هذه الدنيا من العذاب، حيث إنّه يتحوّل تدريجاً وتخفّ وطأته، كما أنّ الإنسان يتعوّد عليه ويتحمّله، وعذاب الآخرة ليس كذلك فهو لا يفتّر. و«الفتور» - كما قال الراغب _ سكون بعد حدّة، ولين بعد شدّة، وضعف بعد قوّة.(2) و«الإبلاس» _ على ما يبدو من كتب اللغة _ هو اليأس، (3) قيل : ومنه اشتقّ إبليس، حيث يئس من رحمة الله تعالى. ويقال لمن سكت واجماً: أبلس، فهو أيضاً من اليأس الشديد والحزن العميق.

والحاصل أنّ المجرمين آيسون هناك من الخلاص، فهم يعلمون أنّهم لا نجاة لهم من النار، وهذا عذاب نفسي أشدّ من نفس النار التي يفترض أن تكون عذاباً جسمياً، وإن كان الظاهر أنّها عذاب لهما كما قال تعالى: (نَارُ الله الموقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ).(4)

(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ). هذه الآية تردّ على سؤال واستغراب يخطر بالبال حول هذه الشدّة في العذاب، وأنّها لا تناسب الجريمة، وهو ظلم عليهم، ولكلّ جرم عذاب يناسبه، فإذا حكم القانون مثلاً على السارق بالإعدام

ص: 264


1- النساء (٤): 93
2- مفردات ألفاظ القرآن: ٦٢٣
3- راجع: مجمع البيان 7-8: 465: المعجم في فقه القرآن وسرّ بلاغته ١: ١٦١.
4- الهمزة (١٠٤): ٦ - ٧ .

فإنّه يعتبر ظلماً ومغالاة في الجزاء، فكيف بهذا العذاب الأبدي واليأس والخلود وعدم الفتور لحظة.

والجواب: أنّ العذاب هناك نتيجة طبيعية للعمل وليس مجازاة للعامل لكي يتأدّب وليكون عبرة للآخرين، كما هو الشأن في الجزاء والغرامة في القوانين الوضعية، فالذي يواجه عذاب الآخرة إنّما يواجه نتيجة أعماله في الدنيا، فهو الذي ظلم نفسه، ولو رفع الغطاء عن عينه في هذه الحياة لرأى ما يصنع هو بنفسه. والنتائج الطبيعية للعمل كثيراً ما تكون غير مناسبة له بنظر العرف الاجتماعي إلا أنها ممّا لا مناص منها، فالإنسان ربّما يخطئ خطأ صغيراً في سياقة السيّارة مثلاً، ولكنّه يفضي إلى هلاكه وهلاك من معه.

وقوله تعالى: (كَانُوا هُمُ الظَّالِمينَ ) يحصر الظالم فيهم بضمير الفصل وبالألف واللام في كلمة: (الظَّالمينَ) حتّى لا يتوهّم أنّ الظلم في هذا العذاب الشديد يسند إليهم وإلى غيرهم، بل هم الظالمون لا غيرهم.

ثمّ إنّ التعبير بالظلم في المقام مبني على تصوّر البشر أنّ لهم حقّاً وأنّ هذا اعتداء عليه، وإلا فالواقع أنّه ليس لأحد حقّ على الله تعالى وكلّ ما يفعله بعبده لا يمكن أن يكون ظلماً واعتداءاً، فإنّ الخلائق كلّها ملك له تعالى والملكية هنا حقيقية وليست بالاعتبار، فكلّ شيء في أصل كيانه ووجوده مفتقر إلي_ه تعالى ومرتبط بإرادته ، بل ليس هو شيئاً مفتقراً، وإنّما هو عين الفقر والحاجة، فلا مجال لتصوّر الظلم أساساً حتّى ينفى أو يثبت.

(وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ )،«مالك» اسم للملك الموكّل بالنار، كما يقتضيه النداء في الآية وكما ورد في الأثر، ولم يرد ذكره في الكتاب العزيز إلا

ص: 265

هنا، وإنّما ورد التعبير بخزنة جهنّم في موضع آخر. وقد طلبوا في هذا الخطاب أن يقضي الله تعالى عليهم بمعنى إهلاكهم وإفنائهم، وليس بمعنى الموت، حتّى يقال بأنّهم جربّوا الموت وعلموا أنّه لا يوجب الخلاص.

وربّما يستغرب أنّهم لماذا طلبوا ذلك من الملك ولم يطلبوه من الله تعالى مباشرة؟ وأجاب عنه العلامة الطباطبائي رحمه الله(1) بأنّهم محجوبون عن ربّهم، كما قال تعالى: (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ مَحْجُوبُونَ)،(2) بل منعوا من الكلام والخطاب لربّهم قال تعالى:

(قَالَ اخْسَنُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُون).(3)

أقول: ويؤيّد ذلك أنّ هذا الخطاب، أي قوله تعالى: (احْسَنُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونَ) وُجّه إليهم قبل اليأس، فإنّه جواب عن طلبهم الإخراج من النار، حيث قالوا: (رَبَّنَا أخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالُونَ)؛(4) وهذا الاستدعاء المذكور هنا حصل بعد اليأس لقوله تعالى: (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) والظاهر أنّ قولهم: (رَبُّكَ ) يحكي أيضاً عن هذا المنع والإبعاد، فلذلك لم يقولوا: «ربّنا» مثلاً.

(قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)، «المكث» - كما في المفردات _ ثبات مع انتظار وقريب منه، في معجم مقاييس اللغة. والمراد أنّكم لا تموتون، بل ماكثون في النار ولكنّكم تنتظرون الفرج، فأبقوا منتظرين؛ فهذا إمّا استهزاء بهم - كما قيل - أو أنّه تنكيل من جهة إبقائهم على حالة الانتظار لما لا يكون أبداً، كما دلت عليه

آيات كثيرة.

ص: 266


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 18: 123
2- المطففين (83): ١٥
3- المؤمنون (23): 108
4- المؤمنون (23): 107

(لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بالحقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) يحتمل أن يكون هذا تتمة كلام «مالك» خازن النار، فالإتيان بضمير المتكلّم باعتبار ك_ون_ه م_ن الملائكة، وه_م الذين حملوا الوحي وأنزلوه إلى البشر، وعليه فهذا ردّ على طلبهم وبيان لسبب خلودهم في النار وهو كراهة الحقّ ومواجهته بالإنكار والاستنكار. وهذا الخطاب يسدّ عليهم باب الاعتذار ؛ فقد أتمّ الله تعالى الحجّة على الناس وأرسل إليهم الرسل والكتب وجاءهم بالحقّ الذي لو اتّبعوه لكانوا من المفلحين. ولكنّ الإشكال فيهم أعمق من الجهل بالحقائق وهو كراهتهم للحقّ، ولو لم يكونوا كارهين له لكفاهم العقل والوجدان السليم والضمير الحيّ.

وبناءاً عليه، فالخطاب للمجرمين ونسبة الكراهة إلى الأكثر باعتبار أنّ بعضهم لا يعرفون الحقّ وإنّما يقلّدون الكبراء جهلاً وسفاهة، وإنّما يعتبرون من المجرمين ، لأنّهم ليس لهم في تقليدهم عذر مقبول.

ويحتمل قوياً أن يكون من كلامه تعالى والخطاب للبشر عامّة، فالمراد أنّ أكثر البشر يكرهون الحقّ بوجه عامّ، فإنّهم لا يتّبعون إلا أهواءهم ومصالحهم الشخصية العاجلة؛ فالمراد بالحقّ الذي يكرهونه ليس هو خصوص ما أوحي إلى الرسل، بل هم يكرهون كلّ حقّ وإن هداهم إليه العقل والوجدان. ويؤيّد هذا الاحتمال الآيات التالية، فإنّ السياق فيها يعود إلى بيان حال المشركين ومكائدهم ضدّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

ويحتمل أيضاً أن يكون الخطاب في هذه الآية لأهل مكّة أو عرب الجزيرة. (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ)، «أم» منقطعة فتفيد إضراباً واستفهاماً. والاستفهام للإنكار والتوبيخ و «الإبرام» هو الإحكام أي هل أبرموا كيداً ضدّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم

ص: 267

و«الفاء» للترتب، أي إن كانوا أبرموا أمراً ضدّ الرسالة، فإنّا مبرمون كيداً ضدّهم.

ونظيره قوله تعالى: (أمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ المكيدُونَ)،(1) والإضراب فيها لعلّه من جهة أنّهم لم يكتفوا بكراهة الحقّ وعدم الانصياع له، كما أشير إليه في الآية السابقة، بل أحكموا المكيدة ضدّه، وحيث إنّهم أحكموا مكيدة ضد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم فإنّا أيضاً نُحكم أمراً ضدّهم. وما يكيدونه سيكون مآله الخيبة والخسران، كما قال تعالى: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ الله مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ منه الجبال).(2)

(أمْ يَحْسَبُونَ أَنا لا تَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ)، «أم» منقطعة أيضاً، والاستفهام إنكاري أيضاً، أي يستنكر منهم هذا الحسبان. و «السرّ» ما يخفيه الإنسان في نفسه و«النجوى» ما يبوح الإنسان به من السرّ لآخر متخفياً عن غيره، فهم كانوا يجتمعون ويتناجون فيما بينهم ويكيدون المكائد، ويظنّون أنّ الله تعالى لا يعلم ما يتناجون به، ففي «الدرّ المنثور»: «أخرج ابن جرير، عن محمّد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي، فقال واحد منهم ترون الله . كلامنا، فقال واحد: إذا جهرتم سمع وإذا أسررتم لم يسمع، فنزلت:0أمْ يَحْسَبُونَ أَنا لا تَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجَواهُمْ) الآية).(3)

ويحتمل أن يكون المراد أنّ حالهم كحال من يظنّ أنّ الله لا يسمع سرّهم ونجواهم من جهة عدم اهتمامهم بذلك.

ص: 268


1- الطور (٥٢): ٤٢
2- إبراهيم (١٤): ٤٦
3- الدرّ المنثور ٦: ٢٣.

(بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)، «بلی» جواب للنفي المذكور في حسبانهم ويفيد الإثبات، ومعناه: أنّا نسمع سرّهم ونجواهم، بل ومضافاً إلى ذلك لديهم رسلنا وهم الملائكة - يكتبون ما يعملون وما يقولون، كما قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(1)و«الكتابة» أصله الجمع، فالرسل يجمعون ويحفظون أقوالهم وأفعالهم، وليس المراد الكتابة في قرطاس ونحوه، كما يتوهّم، بل هو أدقّ من ذلك، فهم يأتون يوم القيامة بنفس الأقوال والأفعال، كما قال تعالى: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا).(2)

ص: 269


1- ق (50): 18
2- الكهف (١٨): ٤٩

سورة الزخرف (81-89)

قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَبِدِينَ(81) سُبْحَنَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَنَّهُ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهُ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَبِن سَأَلْتَهُم مِّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ، يَرَتِ إِنْ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)فَأَصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(89)

(قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ). يأمر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأن يخاطب مشركي مكّة والجزيرة العربية بهذه الجملة الشرطية. فإنّ السورة بوجه عامّ تندّد بأفكارهم الخاطئة، وخصوصاً نسبة الولد إلى الله تعالى وأنّ الملائكة بناته. ومفاد هذه الآية أنّه لو كان الله تعالى ولد - كما تزعمون - لكنت أوّل من يعبده أي .الولد. ولعلّ التعبير بالعبودية باعتبار أنّ الإله لو كان له ولد، لكان مثله إلهاً، أو باعتبار أنّ العبادة تشمل الخضوع والطاعة بالمعنى العامّ الذي لا يختصّ بالإله. والتوجيه الأوّل أولى.

وإنّما عبّر بحرف «إن» مع أنّ الأنسب التعبير بحرف «لو» الدالّ على الامتناع، مماشاة للخصم وعدم مجابهته بما يدلّ على امتناع ما يدّعيه.

وهناك وجوه أخرى في تفسير الآية، منها ما عن الخليل بن أحمد رحمه الله حيث :قال: «العبد: الأنفة والحمية من قول يستحى منه ويستنكف، ومنه: (فَأَنَا أَوَّلُ

ص: 270

العَابِدِينَ)، أي الآنفين من هذا القول - إلى أن قال _ ويروى عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال: «عَبِدْتُ فَصَمَتُ»؛ أي أنفت فسكتّ».(1)

ولم أجد مصدراً لهذا الحديث إلا في كتب اللغة، ولو صحّ فمعناه أنّه علیه السلام ابتلي بما يرفضه فأخذته الأنفة، أي الحمية والغيرة، ولكنّه صمت وسكت ولم يطالب بحقّه، وكأنّه يشير إلى حادثة الخلافة. وفي «معجم مقاييس اللغة» أنّ أصله من العَبَدة، أي القوّة والصلابة.(2)

ولعلّ تكرار اسم «الرحمن» في السور المكّية للردّ على كفّار مكّة، حيث كانوا يستنكرون هذا الاسم، كما قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ هُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ مَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا).(3)

(سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) تنزيه الله تعالى عمّا يدّعيه المشركون من نسبة الولد إليه ، وقوله : (عَمَّا يَصِفُونَ)، أي عمّا يصفون الله به وهو كونه والداً. وتوصيفه تعالى بربوبية السماوات والأرض للاستدلال على ذلك، فإنّ المراد بالسماوات والأرض الكون كلّه بناءاً على أنّ السماوات تعبير عن العوالم التي وراء الطبيعة، والأرض تعبير عن عالم الطبيعة بأجمعه، والله تعالى هو مدبّر الكون كلّه، فكلّ من هو دونه مربوب له، فلا يمكن أن يكون نداً له وكفأ ، والولد كفء للوالد.

و«العرش» تعبير عن الحاكمية في الكون، وتوصيفه تعالى بربّ العرش لعلّه بمعنى أنّه صاحب العرش - والربّ يأتي بمعنى الصاحب أيضاً، كما في «معجم

ص: 271


1- كتاب العين 2: 50.
2- معجم مقاييس اللغة ٤ : 20٦
3- الفرقان (٢٥): 60.

المقاييس»(1)- فله الحاكمية المطلقة في الكون. وفي ذكر العرش إشارة إلى أنّ الكون ليس سائراً على قانون ونظام فحسب، بل هناك إله يحكمه ويضع ك_لّ شيء موضعه حتّى في الحياة الدنيا إلا ما أفسده الإنسان بسوء اختياره، حيث منحه الله تعالى هذا الاختيار وأعطاه القدرة على التصرّف نوعاً مّا في الطبيعة.

ولعلّ تكرار كلمة «الربّ» من أجل الاختلاف في المعنى، فكونه تعالى ربّ الكون بمعنى أنّه مدبّرها، وكونه ربّ العرش بمعنى أنّه صاحب المالكية المطلقة.

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)؛ «درهم» أي اتركهم. وهذا وإن كان ظاهره الأمر بتركهم وعدم التعرّض لهم، ولكنّ المراد تهديدهم واحتقارهم والاستخفاف بشأنهم، فلا وجه لما قيل من أنها منسوخة بآية السيف، إذ لا تنافي بينهما . و«الخوض»: الولوج في الماء واقتحامه بحيث يغمره الماء. قال تعالى: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ)(2) ويعبّر بالخوض عن الاشتغال بالملاهي والكلام الباطل.

وفي هذا التعبير إشارة إلى أنّ ما يعتقدونه من نسبة الولد إلى الله تعالى لا يستند إلى تفكير وبرهان، وإنّما هو خوض في الباطل الذي توارثوه؛ لأنّهم مشغولون باللهو واللعب، وليسوا أهل تفكّر وتدبّر، فليس اعتقادهم الباطل ناشئاً خطأ في الفهم، وإنّما نشأ عن اشتغالهم باللهو واللعب عن بذل الجهد في معرفة الحقائق في ما ينسبونه إلى الله تعالى.

والمراد باليوم الموعود يوم القيامة، حيث يلاقون جزاء اشتغالهم باللهو

ص: 272


1- معجم مقاييس اللغة 2 : 381
2- المؤمنون (٢٣): ٥٤.

واللعب. وقيل: إنّه يوم بدر باعتبار أنّه يوم عذاب الدنيا. وهو بعيد؛ إذ لا يوجد وعد مؤكّد بالنسبة لعذاب الدنيا. وقيل: يوم الموت ولكنّه ليس يوماً موعوداً، بل هو مصير محتوم للجميع.

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهُ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهُ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) هذه الآية تؤكّد على وحدة الإله في الكون في قبال التصور السائد في بعض المجتمعات البشرية من أنّ لكلّ مجموعة في الكون إلهاً وأنّ إله الأرض يختلف عن إله السماء. و«الإله» بمعنى المعبود؛ فأهل السماء يعبدون إلها يشعرون به ويحسّونه، وأهل الأرض لا بدّ لهم من آلهة يشعرون بها. ولذلك عمدوا إلى تأليه الأصنام وغيرها؛ والآية تردّ عليهم بأنّ الإله واحد في جميع الكون وفي السماء والأرض وهو الله سبحانه؛ لأنّه هو الربّ وهو الضارّ النافع، فلا يعبد إلا إيّاه. والتعبير يفيد الحصر، فليس إلا هو من يتّصف بكونه إلها في السماء وإلهاً في الأرض ؛ ثمّ وصفه بالحكمة والعلم تنبيهاً على أنّ الألوهية لا تليق إلا بالربّ الذي يحكم بالحكمة والمصلحة، والذي يعلم موضع كلّ شيء فيجعل كلّ شيء في موضعه اللائق به.

( وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُما ) . «البركة» بمعنى الخير الكثير الثابت المستقرّ وصيغة «تفاعل» لإفادة أنّ البركة إنّما منه تعالى فهو اتّخذ لنفسه البركة وهي الخير الكثير الدائم المستقرّ، ولا يصحّ إسناد التبارك والتقدّس والتعالي والتكبّر إلا إليه ،تعالى، وأمّا غيره فربما يكون مباركاً أو مقدّساً إذا أراد الله سبحانه. وأخطأ من عبّر عنه تعالى بالمبارك والمقدّس. وقد مرّ بعض الكلام حوله في تفسير سورة غافر الآية ٦٤.

والغرض من هذه الآية الثناء عليه تعالى والإشارة إلى أنّ الألوهية لا تليق إلا

ص: 273

به؛ لأنّ البركة وهي الخير المستقرّ في الكون ليس إلا منه تعالى، وهذا التعبي_ر حثّ على عبادته حبّاً له وتعظيماً لا خوفاً ورهبة.

ثمّ وصفه تعالى بأنّ السماوات والأرض وما بينهما _ وهو تعبير عن الكون كلّه - ملك له. ولعلّ المراد بما بينهما الملائكة الكرام الذين ينتقلون بين السماء والأرض لحمل الوحي وغيره ومالكية الباري للأشياء بمعنى تعلّقها بكلّ كيانها بأمره وإرادته، وهذه الصفة أيضاً تقتضي انحصار الألوهية في ذاته المتقدّسة؛ لأنّ كلّ ما يفرض من شيء في الوجود، فلا كيان له إلا الفقر والتعلقّ بإرادته تعالى، فلا يمكن أن يكون إلهاً.

(وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) تقديم الظرف لإفادة الحصر، وأنّ العلم بالوقت الموعود خاصّ به تعالى لم يُعلِم أحداً به. والمراد بالساعة يوم القيامة، عبّر عنه بذلك الحدوثه بغتة ومن دون تدرّج كما في حوادث الطبيعة والساعة جزء من الزمان. وحيث لا أحد في الكون يعلم مصيره ونهايته، فلا أحد يمكن أن يكون إلهاً يعبد

ويخاف ويرجى وهو فقير محتاج في أهمّ الأمور وهو مستقبله وعاقبته.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وهنا أيضاً تقديم الجارّ والمجرور، لإفادة الحصر، وأنّ مرجع الجميع إليه تعالى فيُحضرون عنده يوم القيامة قهراً ورغماً على إرادتهم، كما يقتضيه الفعل المبني للمجهول؛ وهذا أيضاً ممّا يقتضي بالطبع أن لا يعبد إلا إيّاه؛ لأنّ المستقبل الدائم الأبدي هو أهمّ ما يجب أن يلاحظ في كلّ ما يخاف ويرجى، فكلّ شيء زائل إلا ما عنده تعالى ومع أنّ كلّ ما في الكون منه ولكن ربّما يتوهّم الإنسان أنّ هناك عوامل وأسباب طبيعية تغنيه من الرجوع إلى الله تعالى في شؤون الدنيا، ولكنّ لا مجال لأيّ توهّم في المآل يوم القيامة، فلا

ص: 274

يرجى إلا فضله ولا يخاف إلا عدله، مع أنّ العاقل الفطن يعلم أنّ كلّ ما يصل إليه عن طريق الأسباب أيضاً منه تعالى.

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الآية الكريمة تنفي الشفاعة عن كلّ من يدعونهم من دون الله تعالى، وتثبتها لمن شهد بالحقّ والمراد بالدعاء طلب الحاجة. والمشركون أو بعضهم كانوا يطلبونها من الأصنام بدعوى أنّها تشفع لهم عند الله تعالى ويقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إلى الله زُلْفَى)(1) والقرآن ينفي ذلك في آيات كثيرة ويبيّن أنّ الشفاعة لدى الله تعالى ليست إلا بإذنه، وحتّى الملائكة لا يشفعون إلا بإذنه تعالى كما قال: (وَكَمْ مِنْ مَلَك فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ الله مَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)(2) وهذه الآية أيضاً في هذا السياق، فإذا أريد من الذين يدعون خصوص الأصنام باعتبار أنّ الخطاب لمشركي مكّة، فاستثناء من شهد بالحقّ استثناء منقطع، وإن اُري_د ب_ه كلّ من يدعى من دون الله تعالى فالاستثناء متّصل.

والمراد ب_ (مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ الذي يشهد بكلّ ما هو حقّ، و تخصيصه بالتوحي_د - كما في بعض التفاسير - لا دليل عليه وإن كان هو أهمّ ما يقصد به. والتقييد بالجملة الحالية: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) للتأكيد على علو مرتبة الشفعاء، فهم يشهدون بالحقّ كلّه، ويعلمون الحقّ كلّه، وبالطبع لا يكون ذلك إلا بتعليم من الله تعالى، فالشفعاء هم المقرّبون عند الله الحائزون على مرتبتي العلم بالحقّ والشهادة به. ولعلّ المراد بالشهادة إبرازهم للحقّ ومجاهدتهم دونه، لأنّ الشهادة به بصورة

ص: 275


1- الزمر (39): 3
2- النجم (٥٣): ٢٦

مطلقة وفي كلّ موطن تستتبع ذلك، ولا ينطبق هذا إلا على الأنبياء والمرسلين والأئمة المعصومين _ عليهم جميعاً سلام الله.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله). هذه من الآيات الكثيرة التي تشتمل على الإشارة إلى أنّ المشركين يعتقدون بأنّ الخالق للكون هو الله تعالى أو أنّهم يرجعون إلى ضمائرهم في بعض الحالات، ومنها حالة السؤال وهذا أمر طبيعي ونحن نجد كثيراً من الناس يظهرون أموراً غير واقعية، فإذا سئلوا عن حقيقة الأمر اعترفوا بخلافه، كأنّ السؤال يحرّك ضمائرهم اللاشعورية، خصوصاً إذا كان السؤال من شخصية قوية كالرسول صلی الله علیه و آله وسلم بناءاً على ما هو ظاهر الخطاب وإن احتمل أن يكون خطاباً لكلّ قارئ أو سامع.

(فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) تعقيب واستغراب، فإن كان الخالق هو الله تعالى فلماذا يعبدون غيره ؟! و «أنّى» قيل: بمعنى أين وكيف فمعناه هنا أين يصرفون وكيف يصرفون إلى غيره. و «الإفك»: قلب الشيء وصرفه عن جهته الطبيعية، ولذلك يقال للكذب: الإفك. والتعبير بصيغة المبني للمجهول لعلّه للإشارة إلى أنّهم يصرفون عكس ما تدعو إليه فطرتهم، فكأنّهم يساقون عنوة ودون إرادة. (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ»، «قيل» مصدر بمعنى القول، قال تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً)(1) والضمير يعود على الظاهر إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بقرينة السياق، والجملة تحكي تضرّعاً وشكوى من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إلى ربّه، ويأساً من إيمان القوم.

ونسب إلى ابن مسعود أنّه قرأ: «وقال الرسول وقرئ «قيله» بالجرّ وهو

ص: 276


1- النساء (٤): ١٢٢.

المشهور، وبالنصب والرفع، واختلف المفسّرون والأدباء في تركيب الآية وفي ما عطف عليه القيل على اختلاف قراءاته، فقال بعضهم: إنّه ___ بناءاً على الجرّ _ عطف على الساعة، أي وعنده علم قيله، فالمراد التهديد بأنّ الله تعالى يعلم بقول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم الدالّ على يأسه منهم. وقال الزمخشري: «إنّ الواو للقسم وإنّ المقول «يارب» والجملة التي بعده هو المقسم به».(1) وهو بعيد غاية البعد.

وعلى قراءة الرفع لا يبعد أن يكون استينافاً، فهو مبتدأ وخبره الجملة التي بعده. وعلى قراءة النصب يمكن تقدير: «وقال» أي وقال قوله كذا، وعلى الجرّ يمكن تقدير: «واسمع إليّ»، فالمهم أنّ الآية تدلّ على أنّ الرسول بلغ إلى حدّ اليأس من إيمان القوم. (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، «الصفح» هو الإعراض بالوجه مأخوذ من الصفحة، أي صفحة الوجه، والمراد الأمر بتركهم وعدم الاهتمام بشأنهم، كما مرّ في قوله تعالى: (فَذَرْهُمْ)، وأما قوله: (وَقُلْ سَلامٌ) فليس بمعنى التسليم عليهم واقعاً، بل هو نظير قوله تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ).(2) ولكنّه على أيّ تقدير يدلّ على المتاركة وعدم المحاربة في الوقت الحاضر، وذلك لأنّه سيحين موعد المواجهة ونزول العذاب بأيدي المؤمنين عليهم، وهذا هو ما يستبطنه التهديد بعد ذلك بقوله تعالى: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) والله العالم. وله الحمد أوّلاً وآخراً والصلاة على نبيّه الكريم وآله الطاهرين.

ص: 277


1- راجع: روح المعاني ١٣: 107
2- الفرقان (٢٥): ٦٣

ص: 278

تفسير سورة الدخان

اشارة

ص: 279

ص: 280

سورة الدخان (1-8)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حمَ(1)وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْتَهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تُحْيِ ، وَيُمِيتُ رَبِّكُمْ وَرَبُّ ءَابَايِكُمُ الأَولِينَ (8)

سورة الدخان من السور المكّية، وتتناول على قصرها الإشارة إلى تأريخ نزول القرآن الكريم وتقدير أمور البشر، ثمّ الإنذار بعذاب الدنيا والاستشهاد ببعض الأمم السالفة، ثمّ الإنذار العامّ بيوم القيامة والبشارة للمؤمنين، ثمّ العود إلى التذكير بنعمة إنزال القرآن.

(حم) من الحروف المقطّعة، وقد مرّ الكلام فيها بشيء من التفصيل في تفسير سورة يس

(وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) قسم بالكتاب وهو القرآن الكريم، وقد مرّ بعض الكلام في مثل هذه الآية في بداية تفسير سورة الزخرف. ومن

ص: 281

اللطيف أنّه أقسم بالقرآن على أنّ نزوله في ليلة مباركة، أي التي بارك فيها الله تعالى وهي ليلة القدر. و«البركة»: الخير الكثير الدائم، فالمعنى أنّ الله تعالى جعل في هذه الليلة خيراً كثيراً ثابتاً مستمرّاً. ومن هذا الخير الكثير نزول القرآن الكريم فيها وهو أفضل خير وبركة.

(إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) تعليل لأصل إنزال القرآن المشتمل على إنذار البشر بيوم القيامة لا زمان إنزاله. وحيث إنّ الإنذار أهمّ من التبشير اعتبر الكتاب منذراً فحسب، والتعليل يفيد أنّ الإنذار من شؤون الربوبية وأنّه أمر مستمرّ ومستقرّ، كما تفيده لفظة «كنا» حيث تدلّ على أنّ الله تعالى أنذر الأقوام السابقة أيضاً باستمرار عن طريق الرسل والكتب، وبذلك يردّ على توهّم المشركين أنّه تعالى لا يرسل رسولاً ولا ينزل كتاباً، قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إذ قَالُوا مَا أَنْزَلَ الله عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ).(1)

والدليل على أنّ المراد بالليلة المباركة ليلة القدر قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)،(2) وليلة القدر عند الإمامية مردّدة بين ليلتين من شهر رمضان الحادية والعشرين، والثالثة والعشرين، وذلك لأنّ الروايات تدلّ على أنّها إحداهما، وأمّا ليلة التاسع عشر فالظاهر أنّها ليست من ليالي القدر. وسيأتي ذكر الروايات إن شاء الله تعالى. وقيل: إنّها ليلة النصف من شعبان وهو غير صحيح؛ لقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)(3)حيث يدلّ - بضميمة ما مرّ من الآيات _ على

ص: 282


1- الأنعام (٦): ٩١.
2- القدر (97): 1
3- البقرة (٢): ١٨٥.

أنّ ليلة القدر في شهر رمضان.

وربّما يستظهر من الآيات والروايات أنّ ليلة القدر ليلة واحدة في جميع البلاد، ولكنّ الصحيح أنّها تختلف حسب الآفاق بناءاً عل_ى م_ا ه_و الصحيح من اختلاف بداية الشهر العربي باختلاف الأفق، فلا تكفي رؤية الهلال في بلد لسائر البلاد، بل حتّى لو قلنا بكفاية رؤيته في بلد لما يشترك معه في الليل أو في معظمه - كما قيل - فإنّه أيضاً يستوجب الاختلاف إجمالاً.

وأمّا الاختلاف في الرؤية وفي ثبوتها واختلاف الأنظار الفقهية في مناطات ثبوت الهلال، فلا يوجب الاختلاف في واقعها، فعلى من يحاول أن يدرك الأعمال المستحبّة فيها أن يعمل في ليلتين، بل أربع وقد ورد ذلك في بعض الروايات.

روى الكليني بسنده عن علي بن أبي حمزة الثمالي(1) قال: كنت عند أبي عبد الله علیه السلام فقال له أبو بصير: جعلت فداك الليلة التي يرجى فيها ما يرجى؟ فقال: «في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين»؛ قال: فإن لم أقو على كلتيهما؟ فقال: «ما أيسر

ليلتين فيها تطلب»؛ قلت فربّما رأينا الهلال عندنا وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك من أرض أخرى، فقال: «ما أيسر أربع ليال تطلبها فيها» الحديث.(2)

إنّما الإشكال في أنّه كيف يوفّق بين نزول القرآن في ليلة واحدة _ كما صرّحت به الآيات - وبين الواقع التاريخي الواضح وهو أنّ القرآن نزل في غضون ثلاث وعشرين سنة ؟

ص: 283


1- وفي بعض النسخ علي بن أبي حمزة البطائني والظاهر أنّه الصحيح.
2- الكافي ٤: ٢/١٥٦

وقد حاول العلماء الجمع بينهما بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ المراد بالآيات تحديد موعد نزول أوّل آية من القرآن، فليلة القدر تاريخ بدء النزول التدريجي الذي استمرّ ثلاثاً وعشرين سنة. وهذا قول كثير من المفسّرين ولا بأس به في حدّ ذاته إلا أنّه يعارض ما اتفقت عليه الإمامية من أنّ البعثة كانت في السابع والعشرين من شهر رجب وإن لم نجد له دليلاً واضحاً، فالروايات التي تشتمل على ذلك كلّها ضعيفة، ولكن قد يكفي فيه هذا الاتفاق وعلى تقدير الثبوت يمكن أن يكون هذا اليوم، أي السابع والعشرين من شهر رجب هو اليوم الذي أوتي الرسول صلی الله علیه و آله وسلم فيه النبوّة، كما أنّه كانت له ارهاصات طيلة حياته، فلا ينافي أن تكون ليلة القدر موعد نزول أوّل مجموعة من آيات القرآن الكريم وهي مطلع سورة العلق على المشهور، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله.

الوجه الثاني: ما ذكره جمع قديماً وحديثاً تبعاً لبعض الروايات من أنّ القرآن نزل جملة واحدة إلى البيت المعمور في شهر رمضان وهو بيت في السماء محاذ للكعبة المشرّفة - كما في الحديث - ثمّ نزل تدريجاً في غضون ثلاث وعشرين سنة.

روى الكليني عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله علیهالسلام قال: سألته عن قول الله عزّ وجل: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وإنّما اُنزل في عشرين سنة بين أوّله وآخره؟ فقال أبو عبد الله علیه لسلام:«نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثمّ نزل في طول عشرين سنة»، ثمّ قال: قال النبي صلی الله علیه و آله وسلم: نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من شهر رمضان، واُنزلت التوراة لستُّ مضين من شهر رمضان، واُنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، واُنزل الزبور لثمان عشر خلون من شهر رمضان،

ص: 284

وأنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان».(1) ورواه الصدوق عنه أيضاً،(2) والسند فيهما ضعيف.

وربّما يعترض على هذا الوجه باستغراب تفسير البيت المعمور ببيت في السماء باعتبار أنّ المراد به في قوله تعالى: (وَالْبَيْتِ المُعمُورِ)(3) الكعبة المعظَمة. ولكن هذا التفسير وارد في روايات كثيرة في كتب الفريقين،(4) والاستغراب لا وجه له؛ إذ لا يبعد أن يكون له معنيان بل يمكن أن يكون المراد بالآية في سورة الطور أيضاً ذلك، ولعلّ المراد بالبيت الذي في السماء غير ما هو المتفاهم من اللفظ لدينا.

واعترض عليه أيضاً بأنّه لا فائدة في نزول القرآن على البيت المعمور أو أي موضع آخر في السماوات، وهذا الاعتراض بهذا البيان ضعيف جدّاً؛ إذ مجرَد عدم فهمنا للفائدة لا يدلّ على عدم الفائدة، ونحن نجهل كثيراً من وجوه الحكمة في التكوين والتشريع، بل أكثرها.

نعم يمكن أن يقال: إنّ اعتبار ليلة القدر مبدأ لتاريخ نزول القرآن يكون بلحاظ تأثير له في المجتمع البشري حتّى يعتبر ممّا م_نّ الله به علين_ا م_ن بركات ليلة القدر، ولا نعلم للنزول في البيت المعمور تأثيراً، بل هو أمر لا نشعر به لو كان أمراً واقعياً.

ويمكن الاستدلال بقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ

ص: 285


1- الكافي ٢ : ٦/٦٢٨
2- الأمالي ( الصدوق): 119
3- الطور (٥٢): ٤.
4- منها صحيحة زرارة، راجع: الكافي ٣: ١/٣٠٢

وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(1) على أنّ المراد بالنزول في ليلة القدر يجب أن يكون بمعنى يؤثّر في المجتمع البشري، وذلك لأنّ النزول هنا اعتبر وصفاً للشهر ورتّب عليه وجوب الصيام فيه بقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، فيظهر منه أنّ السبب في وجوب الصوم في هذا الشهر هو نزول القرآن فيه؛ فكأنّه شكر على هذه النعمة الجليلة، بل تدلّ على أنّ النزول فيه كان معلوماً لدى عامّة المسلمين في ذلك العصر؛ إذ لم يرد بصورة الإخبار به بل بصورة التوصيف ممّا يدل على أنّهم كانوا يعرفونه بهذا الوصف.

ولذلك عمد بعضهم إلى تفسير البيت المعمور بقلب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، كما في المقدمة التاسعة من «تفسير الصافي».(2) ولكنّه لا دليل عليه، والروايات صريحة في أنّه بيت في السماء، فإن لم نعتمد الروايات فلا حاجة إلى هذا التأويل أساساً.

نعم، لو لم يقصد بذلك تأويل الروايات، بل تفسير الآيات ابتداءاً بأنّ النزول الدفعي كان على قلب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في ليلة القدر، ثمّ نزل تدريجاً طيلة السنين كان له وجه، وسيأتي بعض الكلام فيه.

وعبارة الشيخ الصدوق رحمه الله غير واضحة في أنّه يقصد تفسير الروايات أو الآية بذلك، حيث قال: «اعتقادنا في ذلك أنّ القرآن نزل في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور، ثمّ نزل من البيت المعمور في مدّة عشرين سنة، وأنّ الله عزّ وجل أعطى نبيّه صلی الله علیه و آله وسلم العلم جملة وقال له: (وَلا تَعْجَلْ

ص: 286


1- البقرة (٢): ١٨٥
2- راجع: تفسير الصافي ١: ٦٥

بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْصَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(1) وقال تعالى: (لا تُحَرُكَ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِه).(2)

فبملاحظة أنّ ما بين المعقوفتين ورد في بعض النسخ ومع حذفه يحتمل أنّه أراد بإعطاء النبي صلی الله علیه و آله وسلم العلم جملة واحدة تفسير البيت المعمور بقلبه صلی الله علیه و آله وسلم وأمّا مع هذه النسخة فيبدو أنّ إعطاء العلم أمر آخر.

ولكن هنا إشكال آخر يأتي في هذا الوجه، سواء قيل بنزوله في البيت المعمور أو على قلب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وهو أنّ القرآن المنزل تدريجاً لا يمكن جمعه في زمان قبل ذلك مطلقاً، قال الشيخ المفيد رحمه الله: «الذي ذهب إليه أبو جعفر - أي الشيخ الصدوق - في هذا الباب أصله حديث واحد لا يوجب علماً ولا عملاً ونزول القرآن على الأسباب الحادثة حالاً بحال يدلّ على خلاف ما تضمّنه الحديث، وذلك أنّه قد تضمن حكم ما حدث وذكر ما جرى على وجهه، وذلك لا يكون على الحقيقة إلا بحدوثه عند السبب، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَقَوْهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ)،(3) وقوله: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا هُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ)،(4) وهذا خبر عن ماض، ولا يجوز أن يتقدّم مخبره، فيكون حينئذ جزاءاً (خبراً) عن ماضٍ وهو لم يقع، بل هو في المستقبل. وأمثال ذلك في القرآن كثيرة. وقد جاء الخبر بذكر الظهار وسببه، وأنّها لما جادلت

ص: 287


1- طه (٢٠): ١١٤
2- القيامة (٧٥): ١٦ - الاعتقادات: 82
3- النساء (٤): ١٥٥
4- الزخرف (٤٣): 20

النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الظهار أنزل الله تعالى: (قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا)(1) وهذه قصة كانت بالمدينة، فكيف ينزل الله تعالى الوحي بها بمكّة قبل الهجرة، فيخبر بها أنّها قد كانت ولم تكن ؟!».(2)

وحاصل ما ذكره أنّ الجمل الواقعة في ما بأيدينا من الكتاب ممّا يحكي قضية ماضية بلحاظ زمان النزول - كالتي نزلت بعد غزوة بدر وغزوة اُحد وغ_ي_ر من الحوادث - لا يمكن أن تكون نازلة قبل الحدوث بلفظ الماضي. وأضاف بعضهم في شرح كلامه أنّ في القرآن ناسخاً ومنسوخاً، فكيف يمكن نزولهما مع بعض؟!

وأضاف إليه السيّد المرتضى رحمه الله وجوهاً اُخرى من الاستبعاد، منها: أنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كان يتوقّف عند حدوث حوادث، كالظهار وغيره على نزول ما ينزل إليه من القرآن، ويقول: «ما اُنزل إليّ في هذا شيء»، ولو كان القرآن أنزل جملة واحدة لما جرى ذلك.(3)

والجواب عنه: أنّ الله تعالى علام الغيوب وكلّ مستقبل في علمه بمنزلة الماضي، ولا يزيد علمه بتحقّق الأمور المستقبلية. والماضي والمستقبل حاضر لديه تعالى، فلا مانع من أن ينزّل القرآن بصيغة الماضي بلحاظ زمان التلاوة. والرسول صلی الله علیه و آله وسلم لم يكن مأموراً بالتلاوة آنذاك. ونظيره في القرآن ما يخبر ب_ه ع_ن ما يقع يوم القيامة بلفظ الماضي وهي كثيرة أيضاً، فكما يقال هناك: إنّ الإتيان

ص: 288


1- المجادلة (٥٨): ١.
2- تصحيح اعتقادات الإمامية: 123
3- رسائل الشريف المرتضى ١: ٤٠٣

بلفظ الماضي باعتبار أنّه محقّق الوقوع، كذلك في غيره؛ لأنّ كلّ ما يخبر به الله تعالى محقّق الوقوع وهو لا تختلف عنده الأزمنة.

وأمّا وجود الناسخ والمنسوخ في الآيات، فهو أيضاً لا يمنع من نزولهما معاً على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم مع افتراض أنّه غير مأمور بالإبلاغ، فتبقى الآيات معلّقة إلى زمان الأمر به وإنّما تضرّ معرفة الناس بالناسخ قبل زمان النسخ، ولا تضرّ معرفة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم به ، بل نحن نعتقد أنّ الله تعالى يُعلمه بمثل ذلك من علم الغيب، بل هناك في نفس الآيات المنسوخة ما تدلّ على أنّها ستنسخ كقوله تعالى: (وَاللاتي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةٌ مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أو يَجْعَلَ الله طَنَّ سَبِيلاً)،(1) فإنّ السبيل - على ما قيل ___ إشارة إلى ما سينزل من نسخ الحكم بآية الجلد.

وأمّا ما ذكره الشريف المرتضى رحمه الله من أنّه صلی الله علیه و آله وسلم كان يجيب في بعض موارد السؤال عنه: أنّه لم ينزل عليه وحي في ذلك، وهذا لا يصدق مع افتراض النزول جملة واحدة، فعلى فرض ثبوت ذلك بنقل معتبر يحتمل أن يكون بلحاظ أنّه غير مأمور بإبلاغه واعتباره حكماً شرعياً، فهو ينتظر زمان الأمر به.

والحاصل أنّ نفي هذا الوجه كإثباته لا يستند إلى دليل قطعي. الوجه الثالث: ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله وهو في الواقع تعديل للوجه الثاني بحيث لا يرد عليه الإشكال. قال في «الميزان» في تفسير قوله تعالى: (شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرآنِ) ما ملخصه:

«إنّ الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنّما عبّرت

ص: 289


1- النساء (٤): ١٥

عن ذلك بلفظ الإنزال الدالّ على الدفعة دون التنزيل، كقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)(1) وقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)(2) وقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(3) واعتبار الدفعة إمّا بلحاظ اعتبار الكتاب أو البعض النازل منه مجموعة واحدة، ولذلك عبّر عنه بالإنزال دون التنزيل، وإمّا لكون الكتاب ذا حقيقة اُخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الذي يقضى فيه بالتفرّق والتفصيل والانبساط والتدريج هو المصحّح لكونه واحداً غير تدريجي ونازلاً بالإنزال دون التنزيل.

وهذا هو اللائح من الآيات الكريمة، كقوله تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثمّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)(4) فإنّ هذا الإحكام مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعل_ه فصلاً فصلاً وقطعة قطعة، فالإحكام كونه بحيث لا يتفصّل فيه جزء من جزء ولا يتميّز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه، والآية ناطقة بأنّ هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنّما طرأ عليه بعد كونه محكماً غي_ر مفصل.

وأوضح منه قوله تعالى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابِ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق)(5) وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ الله وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي

ص: 290


1- البقرة (٢): ١٨٥
2- الدخان (٤٤): ٣.
3- القدر (97): 1
4- هود (11): 1.
5- الأعراف (٧): ٥٢ - ٥٣

بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(1) فإنّ الآيات الشريفة وخاصّة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على أنّ التفصيل أمر طارٍ على الكتاب، فنفس الكتاب شيء والتفصيل الذي يعرضه شيء آخر.

وأوضح منه قوله تعالى: (حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أم الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيُّ حَكِيمٌ)،(2) فإنّه ظاهر في أنّ هناك كتاباً مبيناً عرض عليه، جعله مقروّاً عربياً، وإنّما ألبس لباس القراءة والعربية ليعقله الناس وإلا فإنّه - وهو في أمّ الكتاب - عند الله، «عليّ» لا يصعد إليه العقول، «حكيم» لا يوجد فيه فصل وفصل، وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنّه أصل القرآن العربي المبين.

وفي هذا المساق أيضاً قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)،(3) فإنّه ظاهر في أنّ للقرآن موقعاً هو في الكتاب المكنون لا يمسّه هناك أحد إلا المطهرون من عباد الله وأنّ التنزيل بعده، وأمّا قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار، وهو الذي عبّر عنه في آيات الزخرف، بأمّ الكتاب وفي سورة البروج باللوح المحفوظ، حيث قال تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ تَحْفُوظٍ)(4) وهذا اللوح إنّما كان محفوظاً لحفظ_ه م_ن ورود التغيّر ع_لي_ه، وم_ن المعلوم أنّ القرآن المنزل تدريجاً لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ، وعن التدريج

ص: 291


1- يونس (10) 37 .
2- الزخرف (٤٣): ١ - ٤.
3- الواقعة (٥٦): 75 - 80
4- البروج (٨٥): ٢١ - ٢٢.

الذي هو نحو من التبدّل، فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن ومحكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل، وإنّما هذا بمنزله اللباس لذاك.

ثمّ إنّ هذا المعنى أعني كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين - ونحن نسمّيه بحقيقة الكتاب - بمنزلة اللباس من المتلبّس وبمنزلة المثال من الحقيقة وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحّح، لأن يطلق القرآن أحياناً على أصل الكتاب، كما في قوله تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ محفُوظٍ)(1) إلى غير ذلك. وهذا الذي ذكرنا هو الموجب لأن يحمل قوله: (شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)، وقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)، وقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ، على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إلى قلب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم دفعة، كما أنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجاً في مدّة الدعوة النبوية.

وهذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْل أنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)(2) وقوله تعالى: (لا تُحَرُكَ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأَنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثم إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)(3) فإنّ الآيات ظاهرة في أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له علم بما سينزل عليه، فنهي عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي».(4)

ولنا ملاحظتان على ما ذكره رحمه الله :

الملاحظة الأولى: أنّ ما ذكره تبعاً لما في «مفردات الراغب»(5) من أنّ الإنزال

ص: 292


1- البروج (85): 21 - 22
2- طه (20): ١١٤
3- القيامة (75): 19 - 19
4- راجع: الميزان في تفسير القرآن ٢: ١٦ - ١٨.
5- راجع: مفردات ألفاظ القرآن: 799

يدلّ على كونه دفعياً، والتنزيل على كونه تدريجياً، وأنّ الآيات التي تضمّنت النزول في ليلة القدر أو في شهر رمضان أو في ليلة مباركة كلّها بصيغة الإنزال مما يدلّ على كونه دفعياً، وما ورد بصيغة التنزيل ورد في النزول التدريجي لا أساس له في اللغة ولا في استعمالات القرآن الكريم، ففي قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ كَذَلِكَ لِتُثْبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً)،(1) صرّح بالتنزيل مع إرادة النزول الدفعي لقوله: (جُمْلَةً وَاحِدَةً)، ومثله قوله تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ)(2) وقوله تعالى: (لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً).(3)

وإذا لاحظنا موارد التعبير بالإنزال الظاهر في نفس هذا القرآن الذي بأيدينا حصل القطع ببطلان هذا التفصيل، كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ)،(4) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)،(5) (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ)(6) وغيرها من الآيات وهي كثيرة جدّاً، وكذلك ما ورد في إنزال الماء من السماء كقوله تعالى: (وَمَا أَنْزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)(7) وهي أيضاً كثيرة. والمطر لا ينزل دفعة، كما هو واضح.

وأمّا ما ذكره في توجيه من أنّه في المطر وسائر الموارد يلاحظ

ص: 293


1- الفرقان (٢٥): ٣٢
2- الأنعام (٦): ٧.
3- الإسراء (17): 95
4- البقرة (٢): ٤.
5- المائدة (٥): ٤٤
6- البقرة (٢): ١٧٤
7- البقرة (٢): ١٦٤

المجموع شيئاً واحداً، فلا يصحح استعمال اللفظ في غي_ر م_ورده؛ إذ يمكن دعوى ذلك في جميع الموارد، فمن أين يستكشف أنّ الاستعمال اللغوي يفرق بين الموردين بعد افتراض إمكان استعمال كلّ منهما في المورد الآخر بمجرّد اختلاف اللحاظ؟!

الملاحظة الثانية: أنّ ما استفاده رحمه لله من التعبير بالإحكام في مقابل التفصيل في قوله تعالى: (كِتَابٌ أَحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثم فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير)(1) ومن قوله تعالى في سورة الزخرف: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أم الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلى حَكِيمٌ)(2) وكذا سائر الآيات التي استند إليها، قد مرّ بعض الكلام فيه في تفسير سورة الزخرف.

وحاصل ما ذكرنا هناك أنّ الإحكام ليس في مقابل التفصيل، ب_ل الق_رآن محكم وفي نفس الوقت مفصّل، و«ثمّ» ليس للتراخي الزماني، ب_ل التراخي ف_ي الذكر، ومثله كثير تقول مثلاً : زيد عالم، ثمّ هو عادل أيضاً، والإحكام لا يعني الاندماج والإبهام والإجمال ونحو ذلك ممّا رامه؛ إذ ليس لهذا التفسير في كتب اللغة أيّ ،أثر، بل أصله في اللغة المنع ، ولعلّه هنا بمعنى منعه من ورود التشابه لمقابلتهما في قوله تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ هُنَّ أم الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)(3) ولعل أمّ الكتاب هنا بمعنى معظمه، كما عن الخليل.(4)

وأمّا جعله قرآناً عربياً جعلاً مركباً، فيمكن أن يكون المراد بالمجعول تلك

ص: 294


1- هود (11): 1
2- الزخرف (٤٣) : ٣ - ٤
3- ال عمران (3): 7
4- راجع: كتاب العين ١: ٣٤٢

المعاني والحقائق التي صيغت في هذا اللفظ، وأمّا أنّه في أمّ الكتاب عليّ حكيم، فلعلّ المراد بأمّ الكتاب هنا أصله، وهو ما في علم الله من الحقائق والمعاني التي شكلت القرآن والعلو باعتبار ترفّعه عن وصول الأفهام إليه قبل أن يلبس لباس اللفظ، ومعنى ذلك أنّها معارف لا يمكن للبشر أن يصل إليها لو لم ينزل الوحي. وحكمته أيضاً بمعنى امتناعه من أن يصل إليه أحد أو تمنّعه من ورود الخطأ والسهو فيه. ومهما كان، فإنّ التدبّر لا يوصلنا إلى ما أراد، والأدلّة ضعيفة جدّاً، ولكنّنا لا نمنع ذلك أساساً، فكلّ من الإثبات والنفي بحاجة إلى حجّة مفقودة.

الوجه الرابع: ما ذكره سيّدنا العلامة أيضاً، حيث إنّه بعد التأكيد في الجزء الثاني من «الميزان» على الوجه المذكور ورفضه احتمال النزول جملة على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، عدل في تفسير سورة الدخان وفي ذيل قوله تعالى: (فِيهَا يَفْرَقُ كُلَّ أمْرٍ حَكِيمٍ)، فقال: «ولعلّ الله سبحانه أطلع نبيّه على جزئيات الحوادث التي ستقع في زمان دعوته وما يقارن منها نزول آية أو آيات أو سورة من كتابه، فيستدعي نزولها وأطلعه على ما ينزل منها، فيكون القرآن نازلاً عليه دفعة وجملة قبل نزوله تدريجاً ومفرّقاً، ومآل هذا الوجه اطلاع النبي صلی الله علیه و آله وسلم على القرآن في مر مرحلة نزوله إلى القضاء التفصيلي قبل نزوله على الأرض واستقراره في مرحلة العين، وعلى هذا الوجه لا حاجة إلى تفريق المرّتين بالإجمال والتفصيل، كما تقدم في الوجه الأوّل».(1) ومراده بالوجه الأوّل ما نقلناه منه آنفاً.

وعلى ذلك فيكون هذا توجيهاً آخر، وهو أنّ القرآن نزل عليه صلی الله علیه و آله وسلم تفصيلاً لا إجمالاً ودمجاً، ولكن في ضمن إعلام الله تعالى له بتفاصيل ما سوف يقضي ب_ه

ص: 295


1- الميزان: فى تفسير القرآن 18: 132

من حوادث تستتبع نزول الآيات، فيكون بذلك قد اطّلع على الآيات ضمناً. وهذا الوجه مذكور في كلام جماعة من العلماء، ولا بأس به أيضاً.

وعليه فكلّ من الوجوه الأربعة محتملة في المقام، وبكلّ منها يمكن توجيه الآيات المذكورة ورفع التنافي بينها وبين النزول التدريجي والحمد الله. ولكنّ الوجه الأوّل أقرب.

(فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)، (فِيهَا) أي في ليلة القدر. و«الفرق»: الفصل، فيمكن أن يكون المراد هنا الحكم الفصل بمعنى تثبيت الأمور وقضائها قضاءاً حتمياً قطعيا ويمكن أن يكون المراد تفصيل الأمور المجملة والمبهمة بمعنى بيان تفاصيل المقضيّات والمقدّرات. وتوصيف الأمر بالحكيم بلحاظ أنّه مقتضى الحكمة أو لأنّه منيع لا يعرضه التغيير والتبديل فهو قضاء حتم. والجملة تعليل لإنزال القرآن في ليلة القدر بلحاظ أنّها ليلة الحكم الفصل وإنجاز الأمور المهمة والحكيمة.

وللعلامة الطباطبائي رحمه الله رأي يستند إلى تفسيره السابق للحكمة، وهو أنّها حيث قوبلت بالتفريق، فمعناها ما لا يتميّز بعض أجزائه من بعض والتفريق فصل الشيء عن الشيء بحيث يتمايزان، وقال: «إنّ للأمور بحسب القضاء الإلهي مرحلتين؛ مرحلة الإجمال والإبهام ومرحلة التفصيل».(1) ويتبّين بما ذكرناه سابقاً أنّ تفسير الحكمة بهذا المعنى لا أساس له.

وقد ورد في فضل ليلة القدر وأنّها الليلة التي تقدّر فيها الأمور روايات كثيرة في كتب الفريقين، وهناك اختلاف بينهما في تحديد الليلة، فالعامّة غالباً يعتبرون

ص: 296


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 132

الليلة السابعة والعشرين ليلة القدر، وعند الشيعة مردّدة بين التاسعة عشر والحادية والعشرين والثالثة والعشرين. ولكنّ الظاهر أنّ التاسعة عشر ليست من ليالي القدر، وإنّما يدور الأمر بين الأخريين؛ وهناك روايات تدلّ على أنّها إحدى ليالي العشر الأواخر من دون تحديد.

ويبدو من الروايات أنّ هناك تعمّداً من قبل المعصومين علیهم السلام بإخفائها في العشر الأواخر ، وذلك حتّاً للناس على أن يبتهلوا إلى الله تعالى في كلّ هذه الليالي واهتمّ أئمّة أهل البيت علیهم السلام بالترديد بين الحادية والثالثة منها. ونذكر هنا بعض ما صحّ من الروايات عن طرقنا:

روى الصدوق بسنده _ وهو صحيح _ عن زرارة، عن أبي جعفر علیه السلام: «أنّ النبيّ صلی الله علیه و آله وسلم لمّا انصرف من عرفات وسار إلى منى دخل المسجد، فاجتمع إليه الناس يسألونه عن ليلة القدر، فقام خطيباً فقال بعد الثناء على الله عزّ وجلّ : أمّا بعد فإنّكم سألتموني عن ليلة القدر ولم أطوها عنكم، لأنّي لم أكن بها عالماً، اعلموا أيّها الناس أنّه من ورد عليه شهر رمضان وهو صحيح سوي فصام نهاره وقام ورداً من ليله وواظب على صلاته وهجر إلى جمعته وغدا إلى عيده، فقد أدرك ليلة القدر وفاز بجائزة الربّ عزّ وجلّ».(1) وقال ابو عبد الله لیه السلام: «فازوا والله بجوائز ليست كجوائز العباد»؛(2) أي أنّها ليست من نعم الدنيا.

وهذا الحديث يدلّ بوضوح على أنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لم يبيّن موعد ليلة القدر لكي يهتمّ الناس بشهر رمضان وبالتعبّد فيه إلى يوم العيد، وأخفاها في كلّ الشهر ولم يحدّدها بالعشر الأواخر منه. ويلاحظ أنّه صلی الله علیه و آله وسلم أضاف إلى الصوم وأعمال الليالي حضور الجمعة والعيد.

ص: 297


1- الفقيه ٢: ٩٧ / ١٨٣٤
2- الفقيه 2: 98 / 1835

وروى الكليني بسند صحيح عن حسان بن مهران عن أبي عبد الله

علیه السلام :قال سالته عن ليلة القدر، فقال: «التمسها في ليلة إحدى وعشرين أو ليلة ثلاث وعشرين».(1)

وروى بسند صحيح أيضاً عن الفضيل وزرارة ومحمّد بن مسلم، عن حمران أنّه سأل أبا جعفر علیه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: (إنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) قال: «نعم ليلة القدر وهي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر، قال الله عزّ وجلّ: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال: يقدّر في ليلة القدر كلّ شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل خير وشرّ وطاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق، فما قدّر في تلك السنة وقضى فهو المحتوم والله عزّوجلّ فيه المشيئة» قال: قلت: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ الفِ شَهْرٍ﴾ أيّ شيء عنى بذلك ؟ فقال: «العمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، ولولا ما يضاعف الله تبارك وتعالى للمؤمنين ما بلغوا، ولكنّ الله يضاعف لهم الحسنات بحبّنا».(2)

قال العلامة الطباطبائي رحمه الله: «قوله علیه السلام «فهو المحتوم والله عزّوجل فيه المشيّة»؛ أي أنّه محتوم من جهة الأسباب والشرائط، فلا شيء يمنع من تحقّقه إلا أن يشاء الله

ذلك».(3)

نعم استثناء المشيئة لا ينافي الحتمية، فالله تعالى في كتابه العزيز يستثني خلود أهل النار والجنّة فيهما بالمشيئة أيضاً، قال تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ).(4)

ص: 298


1- الكافي :٤ ١/١٥٦
2- الكافي ٤: ١٥٧ / ٦.
3- الميزان في تفسير القرآن ١٨: ١٣٤
4- هود (11): 107 و 108

والتقدير لا ينافي الاختيار أيضاً، فإنّه جزء من الأسباب، ولم يقدّر الله تعالى أن هذا الأمر يقع حتّى لو لم يتحقّق السبب، بل قدّر أنّه يتحقّق السبب، فيتحقّق الأمر، ومن السبب إرادة الإنسان واختياره.

وروى الشيخ بسند موثّق عن زرارة، عن أبي جعفر علیه السلام، قال: سألته عن ليلة القدر، قال: «هي ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين». قلت: أليس إنّما هي ليلة؟ قال: «بلی». قلت: فأخبرني بها فقال: «وما عليك أن تفعل خيراً في ليلتين».(1)

ويلاحظ من مجموع الروايات محاولة إخفائها، ولكنّها مختلفة في ذلك، ففي مجموعة من الروايات أُخفيت بين ليلتين: الحادية والثالثة بعد العشرين، وفي صحيحة حمران أخفاها الإمام علیه السلام في العشر الأواخر، وفي صحيحة زرارة الأولى أخفاها الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في كلّ الشهر، بل اشترط بلوغ ثوابها بحضور الجمعة والعيد، بل ورد إخفاؤها في كلّ السنة في صحيحة الحلبي، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «إذا كان الرجل على عمل، فليدم عليه سنة، ثمّ يتحوّل عنه إن شاء إلى غيره» وذلك أنّ ليلة القدر يكون فيها في عامه ذلك ما شاء الله أن يكون».(2)

ولعلّ المستفاد من هذه الصحيحة أنّ ليلة القدر ربّما تتغيّر من سنة إلى سنة وأنّها غير متعيّن في الواقع، بمعنى أنّ تعيين الليلة التي يقدّر فيها الأمور يعود إليه ،تعالى ولكن احتمال مصادفتها للحادية والعشرين والثالثة والعشرين من شهر رمضان وخصوصاً الثانية أقوى منه بالنسبة إلى سائر الأيّام، كما أنّ احتمال وقوعها في العشر الأواخر منه أقوى من غيره وللبحث تتمه سيأتي إن شاء الله

ص: 299


1- التهذيب ٣: ٣/٥٨
2- الكافي ٢: ٣/٨٢ .

في تفسير سورة القدر، والله العالم.

(أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) يحتمل أن يكون حالاً من الضمير في (أَنْزَلْنَاهُ)، أي أنزلنا القرآن حال كونه أمراً من عندنا إلى الخلق أو المعنى: أنزلناه بأمر من عندنا. ويحتمل أن يكون حالاً من الأمر في الآية السابقة، فالمعنى: أنّ كلّ أمر حكيم يفرق ويفصل حال كونه أمراً من عندنا، والتنكير للتفخيم، أي أمراً عظيماً وكونه من عنده تعالى يزيده عظمة وفخامة وهذا يشمل إنزال القرآن أيضاً لما مرّ من أنّ الآية السابقة تعليل له.

وقوله: (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) تعليل لإنزال القرآن أيضاً. وقوله: (كُنا) يدلّ على أنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب من شؤون ربوبيته تعالى، كما يأتي ذكره في الآية التالية. ولذلك لم تخل أُمّة من نذير أرسله إليهم. ويلاحظ أنّ هذا التعليل يناسب أن يكون قوله: (أمْراً) حالاً من القرآن. وأمّا إذا أريد به كلّ أمر حكيم ليشمل

،القرآن فلا يناسب التعليل.

(رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)؛ قيل يمكن أن تكون (رَحْمَةً) مفعولاً للإرسال ولكنّه بعيد؛ لأنّ الأوفق بالسياق حينئذٍ أن يقول: «رحمة منا»، فالظاهر أنّه مفعول لأجله لإنزال الكتب وإرسال الرسل. وإضافة الربّ إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم المزيد العناية به، حيث إنّه هو المرسل وعليه أنزل الكتاب، فهو طريق نزول الرحمة إلى العالمين من ربّهم. والتعليل بأنّه تعالى هو السميع العليم المفيد للحصر من جهة أنّه الذي يسمع دعوات الناس وطلبهم لمعرفة الحقائق المغيبة عنهم وهو العليم بحاجاتهم الواقعية وإن لم يسألوها، وأنّ أهمّها معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وكتبه وآياته وأحكامه، ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب.

ص: 300

(رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ). توصيفه تعالى بأنّه ربّ الكون كلّه لئلا يتوهم متوهّم أنّه ربّ للرسول صلی الله علیه و آله وسلم فحسب، كما ورد في الآية السابقة، حيث إنّ الوثنيين يعتبرون لكلّ مجموعة في الكون ربّاً، فالآية تؤكّد لهم مرّة أخرى أنّه ربّ الكون كلّه. ولعلّ المراد بالسماوات ماوراء الطبيعة، و بالأرض عالم الطبيعة، وبما بينهما الملائكة التي تنتقل بينهما لتدبير الأمور ولرفع الأعمال وإنزال الوحى وأوامر الله التكوينية.

والربّ صفة مشبهة من ربب وربّى والتربية _ كما في «المفردات»(1) - إنشاء شيء حالاً فحالاً إلى التمام وفسّر في «معجم المقاييس» وغيره بإصلاح أمر الشيء، فالربّ هو المصلح وهو القائم بالأمور ، وحيث إنّه تعالى ربّ كلّ شيء، فكلّ الخير والشرّ بيده، ولا مؤثّر في الكون غيره.

وأمّا الشرط: (إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ ) فمعناه أنّ ملاحظة السماوات والأرض والنظام الساري فيها يكفي لكي تؤمنوا به إن كنتم من الموقنين؛ أي الذين يحصل لهم اليقين والوثوق من مجاريها الطبيعية المتعارفة في مقابل أهل الوسوسة والاضطراب النفسي، الذين لا يحصل لهم اليقين حتّى بالرؤية والإحساس المباشر.

(لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) لعلّ موقع هذه الجملة التي تنفي الألوهية عن غيره تعالى أنّها نتيجة قطعية لكونه ربِّ السماوات والأرض ، أي الكون كلّه، فإن الربِّ - كما قلنا هو الذي يربّي الشيء وبيده الخير والشرّ. و«الإله» هو المعبود. والتأله: التنسّك والعبادة. وكانت العرب تسمّي الشمس إلاهة حيث عبدوها. والإنسان لا يعبد

ص: 301


1- مفردات ألفاظ القرآن: ٣٣٦

بمقتضى طبيعته إلا لجلب الخير ودفع الشرّ، ومن هنا كانوا يعبدون ما يظنّون أنّه يجلب لهم المطر والرزق، أو أنّه يتسبّب في نزول الشرّ، كالحروب والبلايا والأمراض، فكانوا يعبدون بعض الأصنام أو الكواكب دفعاً لشرّها، فإذا ثبت أنّ الله تعالى هو ربّ السماوات والأرض لا ربّ غيره في الكون وبيده الخير والشرّ والنفع والضرر، فهو الإله وحده لا إله إلا هو.

(يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ) توصيفه تعالى بأنّه هو المحيي والمميت، تأكيد على معنى الربوبية والإتيان بالفعل المضارع يدلّ على استمرار الإحياء والإماتة. والحياة والموت حالتان متكرّرتان في الطبيعة في مختلف المجالات، فالأرض تحيا وتموت والأشجار تحيا وتموت والحيوان يحي_ا ويموت،وكلّ خلية من جسمه أيضاً تحيا وتموت، والمجتمعات البشرية تحيا

وتموت، والثقافات تحيا وتموت، وهكذا... ويبقى الله تعالى هو الحيّ الذي لا يموت، وبيده الحياة والموت والحياة من أسرار الكون التي لم يستطع أحد حتّى الآن فكّ طلاسمها ومعرفة رموزها، وكلّ ما يصنعه الإنسان إعداد للبيئة المناسبة للحياة، وليس إلا تصرّفاً في الكون وفقاً للقوانين المتحكّمة فيه.

ثمّ التوصيف بأنّه تعالى ربّكم وربّ آبائكم الأوّلين لردعهم عن متابعة الآباء الوثنيين، فإنّهم لم يعبدوا ربّهم الذي كان الواجب عليهم أن يعبدوه.

ص: 302

سورة الدخان (٩- ١٦)

بَلْ هُمْ فِي شَكٍ يَلْعَبُونَ(9)فَأَرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ(10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13)ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّم مَجنُونُ(14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَابِدُونَ(15) يَوْمَ تَبْطِسُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16)

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ»، «بل» إضراب عمّا سبق من حتّهم على الإيمان بربّهم وربّ آبائهم، وأن يكونوا من الموقنين، وإعلان عن حالهم بأنّهم في شك وليسوا من الموقنين. والتنكير للتعظيم، أي هم في شك عميق لا يزول عن قلوبهم. والضمير يعود إلى مشركي مكّة والمراد شكّهم في رسالة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والكتاب الذي أتى به.

وقوله: (يَلْعَبُونَ) خبر بعد خبر أو حال عنهم. وفيه إشارة إلى أنّ الشكّ ينبغي أن يوجب لهم الخوف، فإنّ احتمال الضرر العظيم يوجب الخوف والحذر، ولكنّهم لغبائهم مشغولون باللعب ويمكن أنّ يكون إشارة إلى أنّ منشأ شكّهم هو اشتغالهم باللعب، فلا يتفكّرون في الأمر، وليسوا كمن يحاول المعرفة فلا يصل إليها.

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِين)،الارتقاب والترقّب مأخوذ من الرقبة، وهو توقّع أمر قريب بحيث يمدّ الإنسان عنقه ليرى حدوثه. والخطاب للرسول صلی الله علیه و آله وسلم تسلية له وتهديداً للمشركين. و (يَوْمَ ) مفعول للارتقاب، أي انتظر وتوقّع قريباً ذلك اليوم الذي ينزل فيه من السماء دخان واضح يراه الناس جميعاً، ولا يدلّ

ص: 303

التعبير أنّه واقع حتماً، بل هو متوقّع ولو باعتبار تحقّق المقتضي. وسيأتي الكلام حول المراد بهذا الدخان بعد الانتهاء من تفسير هذه الآيات.

(يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)، أي يغطّيهم الدخان ويحيط بهم. وهذا توصيف للدخان المفروض، ولا يدلّ على تحقّقه حتماً. وقوله: (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) إِمّا من كلام الناس كالجملة التي بعده أو من كلام الله تعالى أو الملائكة، ويحتمل أن يكون من لسان الحال والمقام.

(رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، أي يقول الناس ربّنا... و«كشف العذاب» إزالته وقولهم : (إنّا مُؤْمِنُونَ) يحتمل أن يكون وعداً بأنّهم سيؤمنون بعد الكشف. ويحتمل أن يكون إعلاناً لإيمانهم بالفعل بعد أن رأوا العذاب.

(أَنَّى هُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثم تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ تَجَنُونٌ).

هذا جواب عن قولهم: (إِنَّا مُؤْمِنُونَ). و «أنّى» اسم استفهام عن المكان، أي من أين؟ وهو تعبير مجازي عن السبب. و«الذكرى» اسم يأتي بمعنى الذكر كما هنا، وبمعنى التذكير، والمراد تذكّر ما هو الواجب عليهم، أي كيف يتذّكرون؟ وبأيّ سبب حادث يؤمنون؟ والاستفهام للإنكار، أي لا يوجد سبب للتذكّر.

وقوله : (وَقَدْ جَاءَهُمْ) جملة حالية تفيد التعليل أي كيف يمكن أن يتذكّروا بعد نزول العذاب، مع أنّهم قد جاءهم قبل ذلك رسول مبين، ومع ذلك تولوا عنه وقالوا معلِّم مجنون؟! و«المبين» أي الواضح أي أنّهم كفروا وكذّبوا بالرسول الذي أتاهم برسالة واضحة وبراهين واضحة، وهم كانوا يعلمون في قرارة أنفسهم أنّه رسول حقّاً لما رأوه من الآيات والمعجزات، ولأنّه كان طيلة حياته في غاية الطهارة والصدق وفي سلامة كاملة في عقله ونفسياته، وقد لبث فيهم

ص: 304

عمراً من قبله، فعدم إيمانهم ورميهم له بالجنون لم يكن لضعف في الدليل وإنّما كان لكبر وحسد وطغيان في أنفسهم ولمتابعتهم الأهواء، وهذه العلّة باقي_ة ب_ع_د زوال العذاب فسيعودون كما كانوا.

وقوله: (تَوَلَّوا عَنْهُ)، أي ابتعدوا معرضين وقالوا إنّه معلَّم يعلمه غلام رومي، كما ورد في قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبٍ مُبِينٌ).(1)

وقالوا: إنّه مجنون وإنّ ما يتلوه من آيات إنّما ينشأ من جنونه. ومن الواضح لكلّ إنسان له أدنى إدراك أنّ ما يتلوه عليهم من أقوى الكلام وممّا لا يمكن لكلّ الناس أن يأتوا بمثله حتّى لو اجتمعوا بأجمعهم، بل حتّى لو اجتمعت الجنّ والإنس وكان بعضهم لبعض ظهيراً، وكان هذا معترفاً به لديهم، ولذلك ل_م يحاولوا مجاراته بالرغم من تكرر التحدّي في القرآن الكريم، وبالرغم من غرورهم وتبجّحهم في الشعر والفصاحة والبلاغة.

وفي هذا المعنى آيات كثيرة، بل في بعضها أنّ الكافرين حتّى بعد الحشر يوم القيامة ورؤيتهم أهوالها بأعينهم، بل مباشرتهم لها بكلّ كيانهم ووجودهم لو أعيدوا إلى الدنيا لعادوا إلى كفرهم قال تعالى: (بَلْ بَدَا هُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)،(2) بل لا يبعد أن يقولوا بعد الرجوع المفترض: إنّ ما رأوه وعاينوه إنّما هو سحر ،مبين، كما قال تعالى: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُوا فِيهِ يَعْرُجُونَ *

ص: 305


1- النحل (١٦): 103 .
2- الأنعام (٦): ٢٨ - ٢٩ .

لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ).(1)

(إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ). المعروف في تفسير هذه الآية أنّه_ا جواب عن طلبهم كشف العذاب، فهو وعد من الله تعالى بكشفه قليلاً إتماماً للحجّة. وقوله : (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) بمعنى أنّهم يعودون بعد الكشف إلى عنادهم وإنكارهم.

وفيها احتمال آخر، وهو أنّ المراد بالعذاب معنى عامّ يشمل عذاب الآخرة، والمراد بكشفه عن الناس عدم ابتلائهم به كما قال تعالى: (إِلا قَوْمَ يُونُسَ ما آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا)(2) ولم يكن العذاب نازلاً عليهم. فالتعبير في هذه الآية بالكشف باعتبار أنّهم يستحقّونه وأنّه ينتظرهم في الحال الحاضر، أو باعتبار أنّه محيط بهم وهم في الدنيا وإن لم يشعروا به، كما قال تعالى: (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ مُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)(3) وقال أيضاً: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)،(4) فهذه النار التي يأكلونها غير السعير الذي سيصلونها، ولكنّهم لا يشعرون أنّ ما يأكلونه نار، وإنّما يظهر لهم ذلك يوم القيامة ولا نعلم كيف يظهر؟ وبأيّ صورة؟ ولعلّ المراد بكونه ناراً عذاب الضمير الذي لا يشعر به الإنسان في الدنيا.

والحاصل أنّ العذاب محيط بمن يستحقّه وهو في الدنيا، ولكنّه لا يشعر ب_ه وهذا هو معنى كشف العذاب عنهم.

ص: 306


1- الحجر (١٥): ١٤ - ١٥.
2- يونس (10):98.
3- العنكبوت (٢٩): ٥٤
4- النساء (٤): ١٠.

وقوله تعالى: (قليلاً)، أي بمقدار بقائكم في الدنيا، أي نمهلكم في هذه الحياة ونترككم تخوضون وتلعبون ونفسح لكم المجال، ولا ننزّل عليكم عذاب الاستئصال ولا نضيّع عليكم الفرص، ولكنّكم ستعودون إلينا وتذوقون ما تستحقّونه من العذاب.

وقوله تعالى: (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) بمنزلة التعليل للجملة السابقة، فإنّ معناه أنّ هذا الكشف والإمهال لا ينقذكم من براثن العذاب الإلهي، فإنّكم عائدون إليه ومحضرون لديه، والعذاب الذي هو نتيجة أعمالكم بانتظاركم، فهذا الكشف الموقّت لا ينافي الحكمة التي تستدعي عذابكم.

(يَوْمَ تَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ)، «البطش» أخذ الشيء بقهر وغلبة وقوّة. و«يوم» ظرف لما قبله أي عائدون إلينا يوم نبطش البطشة الكبرى؛ أي يوم القيامة. وأمّا بناءاً على التفسير المعروف، فاليوم ليس ظرفاً لقوله: (عَائِدُونَ)، ب_ل لكلمة «ننتقم» مقدّرة تدلّ عليها الجملة التالية.

وبناءاً على ما ذكرنا، فقوله: (إنا مُنتَقِمُونَ) تعليل للجملة السابقة، والمراد أنّ الانتقام من شؤون الربوبية، كما قال تعالى: (وَالله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ»(1) و«الانتقام» من النقمة وهي في الأصل بمعنى الإنكار ، وهو قد يكون باللسان وقد يكون بالعقوبة.

والوجه في كون الانتقام من شؤون الربوبية أنّه مقتضى العدالة والحكمة، فالكون لو كان مطلقاً لا يحكمه نظام يبتني على أساس العدالة ووضع كلّ شيء في محلّه الواقعي لم ينتقم الله من أحد ؛ لأنّ الانتقام بالمعنى الذي يتعارف بيننا مستحيل عليه تعالى؛ فإنّه بمعنى التشفّي وهو تعالى لا يتأثّر بشيء ليتشفّى منه،

ص: 307


1- آل عمران (3): ٤

ولكنّه حكيم، وبنى الكون على أساس القسط والعدل والحكمة، وذلك يقتضي أن يوضع كلّ شيء موضعه الحقيقي، ومن هنا يستحيل أن يترك الإنسان سدى ولا يجد نتيجة عمله، وهذا هو معنى انتقامه تعالى.

وقد وقع الكلام في أنّ الدخان والعذاب المشار إليه في هذه الآيات هل حدث فعلاً أو أنّه سيحدث في الدنيا أو يوم القيامة؟ فيه أقوال:

القول الأول: ما ذكره كثير من المفسّرين من أنّ المراد به ما حدث لأهل مكّة من المجاعة، بحيث كانوا يرون بينهم وبين السماء دخاناً من شدة الجوع. وعليه فهو تعبير مجازي.

وربّما قيل: إنّ العرب تسمّي الشرّ الغالب دخاناً. ورووا في ذلك حديثاً رواه أحمد والبخاري وغيرهما. ففي صحيح البخاري: «عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ يُحَدَّثُ فِي عِنْدَةَ فَقَالَ: يَجِيءُ دُخَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِأسْمَاعِ الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزَّكَامِ فَفَزِعْنَا فَأَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ وَكَانَ مُتَّكِناً فَغَضِبَ فَجَلَسَ ، فَقَالَ: مَنْ عَلِمَ فَلْيَقُلْ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ الله أعْلَمُ، فَإِنَّ مِنْ الْعِلْم أن يَقُولُ لِمَا لا يَعْلَمُ لا أَعْلَمُ فَإِنَّ الله قَالَ لِنَبِيِّهِ صلی الله علیه و آله وسلم: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ المُتكَلِّفِينَ) وَإِن قُرَيْشاً أَبْطَلُوا عَنْ الإِسْلامِ فَدَعَا عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله وسلم، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعِ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا وَأَكَلُوا الْمُتَةَ وَالْعِظَامَ وَيَرَى الرَّجُلُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ»، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا محمّد جِئْتَ تَأْمُرُنَا بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ الله، فَقَرَأَ - أي ابن مسعود -: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ - إلى قَوْلِهِ - عَائِدُونَ)؛ أفَيُكْشَفُ عَنْهُمْ

ص: 308

عَذَابُ الآخِرَةِ إِذا جَاءَ ثمّ عَادُوا إلى كُفْرِهِمْ...»(1) الحديث.

وفي ذلك روايات أخرى أيضاً ولم أجد ذلك عن طرقنا إلا ما رواه مرسلاً ابن شهر آشوب في المناقب كمعجزة للرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

وهذا الاحتمال بعيد جدّاً من جهة أنّ الآية صريحة في أنّه دخان تأتي به السماء، وأنّه دخان ،مبين أي واضح، فحمله على هذا المعنى المجازي تأويل بعيد جدّاً.

القول الثاني: ما ذهب إليه جمع آخر من أنّ ذلك من أشراط الساعة، وفي ذلك أيضاً عدة روايات من الفريقين، فقد روى الشيخ الطوسي رحمه الله في كتاب «الغيبة» بسنده عن عامر بن واثلة عن أمير المؤمنين علیه السلام قال: قال رسول صلی الله علیه و آله وسلم عشر قبل الساعة لا بدّ منها : السفياني والدجال والدخان والدابّة وخروج القائم علیه السلام وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى علیه السلام وخسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر».(2)

وروت العامّة عدّة أحاديث بمضمون مقارب مع اختلاف في عدّ الأشراط وبعضها عن أبي الطفيل وهو عامر بن واثلة المذكور، ولكنّه عندهم يروي الحديث عن حذيفة بن أسيد. وعلى هذا الاحتمال يبقى الدخان بمعناه الحقيقي.

القول الثالث: أنّه إشارة إلى عذاب يوم القيامة، والدخان يبقى على هذا الاحتمال أيضاً بمعناه الحقيقي.

ويردّ هذين القولين قوله تعالى: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَاب)؛ فإنّ عذاب يوم

ص: 309


1- تفسير البغوي ٤: 17٥؛ صحيح البخاري، باب فلا يربو عند الله،ح4401.
2- الغيبة (الطوسي): ٤٣٦

القيامة وكذا ما يتقدّمه من الأشراط لا يكشف عن الناس، كما حكى ذلك ع_ن عبدالله بن مسعود في حديث البخاري الآنف الذكر.

مضافاً إلى أنّ ظاهر الآية، بل صريحها أنّ هذا العذاب يصيب مشركي مكّة خصوصاً بملاحظة قوله تعالى: (أَنَّى هُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ)،(1) وهذا لا يشمل من تقوم عليهم الساعة، فلا يمكن أن يكون من أشراطها.

والذي يخطر بالبال احتمال أن يكون المقصود من الآيات تصوير حالتهم إذا نزل عليهم ،العذاب وأنّهم كيف يتعاملون معه؟ وكيف يلجأون إلى الله تعالى، ويدعون بكشف العذاب عنهم ويعدون بالإيمان؟ ثمّ يؤكّد أنّهم لا يمكن أن يتذكّروا ويؤمنوا حتّى بعد رؤية العذاب؛ لأنّ عدم إيمانهم بالرسالة لم يكن بسبب قصور في الحجّة، وإنّما قابلوها بالتكذيب لمرض في قلوبهم، فلو كشف العذاب عنهم لعادوا إلى شركهم.

والحاصل أنّ الآيات وإن أوهمت تحقّق العذاب إلا أنّه يحتمل فيها أن يكون المقصود التهديد باحتمال تحقّقه باعتبار أنّهم يستحقّونه. فقوله تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تأتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) يمكن أن يكون المراد به توقّع ذلك وليس وعداً بتحقّقه جزماً.

ومثل ذلك يمكن أن يقال في موارد أخرى من الآيات المتضمّنة لعذاب الدنيا ونزوله على مشركي مكّة، كقوله تعالى: (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ *

ص: 310


1- الدخان (٤٤): ١٣ - ١٤ .

أفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثمّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَا مُنْذِرُونَ).(1) فالمتبادر من هذه الآيات أيضاً أنّهم سيرون العذاب الأليم، وأنّه ينزل عليهم بغتة وهم لا يشعرون، وأنّهم يطالبون بالإمهال أيضاً. وقد فُسّرت الآيات بما نزل عليهم يوم بدر وهو غير صحيح؛ لأنّه لم يكن مفاجئاً، فلا ينطبق عليه قوله تعالى: (فَيَأْتِيهِمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

وقيل: إنّ ضربهم بالسيف مفاجأة وهو كلام غريب، فإنّ المقاتل يوطن نفسه على القتل حينما يدخل المعركة، فليس فيه مفاجأة. وأوضح منه أنّهم حسب هذه الآية لا يشعرون به قبل نزوله، ومن الواضح أنّه لا يصدق على الحرب التي تهيّأوا لها.

فلا يبعد أن يكون المراد بهذه الآيات استحقاقهم لعذاب الاستئصال واحتمال نزوله عليهم لوجود المقتضي من دون أن يشير إلى وجود المانع ليبقى الخوف والحذر. وليس في سياق الآيات تصريح بوقوع العذاب.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخْرْنَا إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ تُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبع الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ).(2)

وقد حمله القوم على عذاب يوم القيامة لسبق ذكره، مع أنّ السياق مختلف. وهذا إنذار بعذاب الاستئصال كما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله والدليل عليه

ص: 311


1- الشعراء (٢٦): ٢٠١ - ٢٠٨
2- إبراهيم (١٤): ٤٤ - ٤٥

طلبهم تأخير العذاب إلى أجل قريب وهم لا يطلبون ذلك يوم القيامة - كما هو واضح - وإنّما يطلبون هناك الرجوع إلى الدنيا، كما في آيات عديدة، وإنّما حملوه على عذاب يوم القيامة؛ لأنّ الظاهر من الآيات الإنذار بعذاب مؤكّد مع أنّه لم يقع، وحيث تبين أنّه لا يصحّ حمله على ما ذكروه، فلا بدّ من حمله على ما ذكرناه من أنّه تهديد بالوقوع، وبأنّهم يستحقّونه وتصوير لحالتهم إذا وقع، ومن أجل هذا التصوير يفرض العذاب واقعاً وليست صريحة في الوقوع.

وكذا قوله تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَتَاكِبُونَ * وَلَوْ رَحْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إذا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ).(1)

فهذه الآيات تدلّ على أنّ هناك عذاباً نازلاً عليهم من قبل ولكنّهم لم ينتبهوا. ولعلّ المراد به الجدب المذكور في الأخبار، ولكنّه يهددهم بعذاب شديد يبلسون فيه، أي ييأسون. وظاهر الآية أنّه سينزل، ولكنّه لم ينزل على أهل مكّة المعاندين، والسياق واضح في أنّهم هم المراد بالآيات، كما أنّه هددهم بقوله تعالى: (فَإِنْ أعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةٌ مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)،(2) ولكنّ الصاعقة ما أتتهم مع أنّهم أعرضوا ، ولقد صرّح بعدم الإنزال في قوله تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)؛(3) فإنّ الظاهر أنّ المراد بالعذاب الأكبر عذاب الاستئصال، كما ذكره العلامة رحمه الله.

وممّا هو كالصريح فيما ذكرنا قوله تعالى: (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوب

ص: 312


1- المؤمنون (23): ٧٤ - ٧٧
2- فصلت (٤١): ١٣.
3- السجدة (32): 21

أصْحَابهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)،(1) فإنّ الآيتين ورد تا بعد ذكر ما نزل بالأمم السالفة من العذاب، والمراد بالذين ظلموا مشركو مكّة.

و«الذنوب»: النصيب والآية تصرّح بأنّ لهم نصيباً من العذاب كنصيب أصحابهم ، والمراد بهم الأمم السالفة، بل يصرّح في الآية التالية بأنّ لهم يوماً موعوداً وويل لهم من ذلك اليوم. والمفسرون حملوه على ما لحق بهم يوم بدر، ولكنّه ليس كذنوب أصحابهم ولم يعمّ العذاب كلّ الظالمين منهم، فلا يبعد في كلّ ذلك وغيرها أن يقال: إنّ الظاهر غير مراد، وإنّما اُريد التهديد بالعذاب لاستحقاقهم ذلك.

والحاصل أنّ ما ورد بشأن نزول العذاب على مشركي مكّة من الآيات بعضها خاصّ بعذاب الآخرة وبعضها يمكن حمله على ما أصابهم يوم بدر، وبعضها لا يمكن حمله على شيء منهما، بل يبدو أنّ المراد بها عذاب الاستئصال، فإن لم يمكن حمل الآيات على إرادة قوم آخرين غير مشركي مكّة _ كما حاول بعض

المفسّرين - فلا بدّ من حملها على ما ذكرناه

ص: 313


1- الذاريات :(٥١): ٥٩ - ٦٠ .

سورة الدخان (17-24)

* وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمُ(17) أَنْ أَذُوا إِلَى عِبَادَ اللهِ إِنّى لَكُمْ رَسُولُ أَمِينٌ(18) وَأَن لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِني وَاتِيكُم بِسُلْطَنٍ مُّبِينٍ(19)وَإِنِّي عُذْتُ بِرَتِي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ(20) وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ(21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ(22) فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ (23)وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ(24)

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) الآيات مستمرّة في مخاطبة طواغيت قريش، وهنا يستشهد بقوم طغاة قبلهم لم يؤمنوا أيضاً برسولهم، بالرغم من وضوح آياته وبراهينه ففوّض الله كيانهم وهدم بنيانهم، وإنّما يستشهد بهم ليعتبر المخاطبون بهم. ولعلّ وجه اختيار فرعون وقومه أنّ المخاطبين كانوا على علم بقصّتهم لكثرة علماء بني إسرائيل بين ظهرانيهم، وأنّ قوم فرعون كانوا أقوى منهم بكثير وأطغى، ومع ذلك أهلكهم الله تعالى، فلا يغترّ هؤلاء بكثرتهم وقوّتهم.

و«الفتنة» أصلها الإحراق _ على ما حكي عن الخليل رحمه الله(1) _ وقد استعملت بهذا المعنى في قوله تعالى: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)،(2) ثمّ استعملت في إذابة الذهب بالنار لتخليصه من الشوائب أو لمعرفة جودته. وبمناسبة هذا المعنى استعملت في ما يمتحن به الإنسان، فيظهر به جوهره وقابلياته أو يخلص ممّا لا ينبغي أن يتّصف به. وقيل: إنّها في الأصل بمعنى إذابة الذهب، ثمّ استعملت في الإحراق.

ومهما كان فالمراد بها هنا امتحان الإنسان وابتلاؤه ليظهر جوهره ولتتكوّن

ص: 314


1- راجع: معجم مقاييس اللغة ٤: ٤٧٣.
2- الذاريات (٥١): ١٣

شخصيته وكلّ ما في هذه الحياة من عسر ويسر يفتتن به الإنسان ويبتلى، كما قال :تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةٌ)(1) وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً هَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)(2) وقد ابتلي قوم فرعون وهم أقباط مصر بالأمرين، فق_د آتاهم الله من النعم والقوّة والمال ما تمكّنوا بها من بسط سلطتهم على أقوام آخرين واستعبادهم ومنهم بنو إسرائيل، ومن جهة اُخرى ابتلاهم الله بعد أن بعث إليهم موسى علیه السلام بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، فكان كلّ منها عذاباً مريراً ولكنّهم لم يتنبهوا بها.

(وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ)، أي موسى علیه السلام و «الكريم» كلّ ما شرف من الإنسان وغيره، فيقال: حجر كريم ونبات كريم، قال تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ).(3)

وموسى علیه السلام كان شريفاً بالذات في قومه، ثمّ تربّى وترعرع في قصر فرعون، ثمّ أظهر قوّته وشكيمته ومروءته في الدفاع عن قومه بالبطش بالعدو القبطي فقتله، ثمّ تسنّم إلى أعلى ما يمكن أن يصل إليه البشر، حيث اختاره الله للرسالة وأظهر على يده أعجب المعجزات، فكان الجدير بالقوم أن يؤمنوا به ويطيعوه، ولكن فرعون الذي يدّعي الربوبية والألوهية استنكف أن يتنازل عن عرشه لمن تربّى تحت يده وجرت عليه نعمته، ثمّ هو من قوم استعبدهم!! وحيث لا يمكن أن ينصاع فرعون لرسالته، مع أنّه كان عالماً بصدقه في دعواه لقوله تعالى: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً)(4)

ص: 315


1- الأنبياء (21): 35
2- الكهف (18): 7
3- لقمان (31): 10.
4- الإسراء :(17): 102

بادر إلى تضليل ،قومه كما هو شأن سائر الطواغيت.

( أنْ أدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ الله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أمِينٌ)، «أن» تفسيرية وتفسّر الرسالة التي دلّ عليها قوله: (رَسُولٌ كَرِيمٌ). و«الأداء» دفع الحقّ، كأداء الأمانة. وفي هذه الجملة احتمالان:

الأوّل: أنّ عباد الله مفعول أدّوا، أي اتركوهم معي لأذهب بهم حيث يشاؤون. والمراد بهم بنو إسرائيل، والتعبير عنهم بعباد الله ردّ على مزاعمهم أنّهم عبيد لهم.

والثاني: أنّ عباد الله ،منادى، أي يا عباد الله أدوا إليّ الحقّ الذي يجب أن يؤدى إلى الرسل من الإيمان والطاعة والمتابعة والأوّل أقرب.

والجملة التالية تعليلية على الاحتمالين أي اتركوا عباد الله، لأنّ هذا أمر من الله تعالى وأنا رسوله إليكم وأنا أمين في أداء الرسالة، والتعليل على الاحتمال الثاني واضح.

(وَأنْ لا تَعْلُوا عَلَى الله إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) تأكيد على أنّ الأمر من الله تعالى وأنه مجرّد رسول يبلغهم رسالة السماء، فلا تترفّعوا على أمر الله تعالى وأطيعوه. والجملة التالية تتضمّن تهديداً واضحاً، فإنّ المراد بالسلطان البرهان والدليل الواضح الموجب لتسلّط صاحبه على غيره، وهو الثعبان وإخراج اليد بيضاء وما تعقبهما من الآيات التي أوقعتهم في حرج شديد.

والحاصل أنّه هدّدهم بأنّهم إذا لم يطيعوا أمر ربّهم، فسينزل عليهم أنواع من العذاب وقوله : (آتِيكُمْ) إمّا فعل مضارع أو اسم فاعل من أتى.

(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أنْ تَرْجُمُونِ) الظاهر أنبه إنشاء للاستعاذة، أي إنّي أعوذ

ص: 316

بربّي وربّكم أن ترجمون؛ والتأكيد على أنّ الذي يعوذ ب_ه ه_و ربّه وربّهم أيضاً يشتمل على ترغيب وترهيب، فهو يعوذ به لأنّه ربّه، ومن شأن الربّ أن يحفظ المربوب خصوصاً إذا كان رسولاً له. وأيضاً يعوذ به لأنّه ربّهم ومن شأنه أن يعاقبهم إذا ارتكبوا ما لا يرضى به.

و«الرجم» هو الرمي بالحجارة، وهو ممّا كانوا يفعلونه بمن يريدون طرده باحتقار، ولذلك ربّما يطلق على نفس الطرد، وبهذا المعنى اُطلق الرجيم على الشيطان.

والعلامة الطباطبائي رحمه الله فسّر الاستعاذة هنا بأنّه إخبار عن استعاذته سابقاً وإعلام لهم بأنّ الله تعالى أعاذه من شرّهم،(1) حيث جاءه الخطاب: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)؛(2) ولعلّه إنّما قال ذلك؛ لأنّه فعل ماض ولأنه لا ينبغي له أن يستعيذ بعد أن أعاده الله.

ولكنّ الفعل الماضي يستعمل في الإنشاء كما قلنا، والاستعاذة يمكن أن تكون من أجلهم لا من أجله، فمعنى كلامه علیه السلام أنّه يستعيذ بالله من أن يرتكبوا ذلك، فينالهم عذابه وغضبه. (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لي (فَاعْتَزِلُونِ) وهذا يؤيّد ما ذكرناه أنّه في الجملة السابقة يخاف عليهم من أن يرجموه ، وهنا يحذّرهم من أن ينالوا منه فينالهم سخط من الله، فيطلب منهم أن يعتزلوه إن لم يؤمنوا له ولم يصدّقوه إرفاقاً بهم، كما هو شأن الرسل علیه السلام. والكسرة في النون في قوله: (فَاعْتَزِلُونِ) للدلالة على الياء المحذوفة؛ أي فاعتزلوني.

ص: 317


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18 :139
2- طه (٢٠): ٤٦

و«الإيمان بمعنى التصديق، وهو يتعدى بالباء تارة وباللام أخرى، والظاهر أنّه إذا تعدّى بالباء فمعناه التصديق بوجوده أو بمقامه كالإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر، فهو تصديق بوجود الله و بربوبيته وبرسالة الرسول وبوجود اليوم الآخر، وإذا تعدّى باللام فهو بمعنى تصديق كلامه، فمعنى قوله: (إنْ لَمْ تُؤْمِنُوالي)، أي إن لم تصدّقوا كلامي وما أدّعيه.

ويدلّ على ما مرّ من الفرق قوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)،(1) فإيمانه صلی الله علیه و آله وسلم بالله تعالى تصديق بذاته وصفاته وربوبيته. وإيمانه للمؤمنين بمعنى تصديقه لكلامهم. ومن هنا قالوا له: إنّه أذن، أي يصدق كلّ ما يقال له في قصّة معروفة بينه صلی الله علیه و آله وسلم وبين بعض المنافقين.

(فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ)، الفاء تدلّ على تقدير جزء من القصّة يناسب ترتّب الدعاء عليه، إذ لا يترتّب على ما حكي عنه علیه السلام في الآيات السابقة والمقدّر أنّهم أجرموا واستمرّوا في استعبادهم للمؤمنين وقتل أولادهم واستحياء نسائهم، وكأنّ ما وجدوه من صبر موسى علیه السلام في مواجهة طغيانهم هو الذي دعاهم إلى التمادي في إجرامهم، حتّى أنّهم كلّما نزل عليهم العذاب جاءوا إليه وطلبوا منه أن يدعو ربّه ليكشف عنهم العذاب، فكان يدعو ويكشف عنهم العذاب، ثمّ يعودون إلى كفرهم وعنادهم. وأخيراً طفح الكيل وانتهى صبر موسى علیه السلام فدعا عليهم.

قوله: (أنّ هؤلاء) مأوّل بالمصدر، فلا بدّ من تقدير حرف الباء ليتعلّق بقوله

ص: 318


1- التوبة (٩): ٦١

«دعا»، والمعنى فدعا ربّه عليهم بأنّ هؤلاء قوم مجرمون، أي دعا بهذا الدعاء. ومثله قوله تعالى: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ).(1) ولم يذكر ما دعا به عليهم وكأنه علیه السلام اكتفى بالقول إنّهم مجرمون، وهو السبب في الدعاء عليهم، والظاهر أنّ المطلوب أن ينالوا جزاء المجرمين. وقد ذكرنا مراراً أنّ الإجرام بمعنى القطع وأنّ الإجرام في المجتمع لا يطلق على كلّ عمل مخالف للقانون أو العرف، وإنّما يطلق على الأعمال الفظيعة التي تستوجب قطع أواصر العلاقة بالمجتمع كالقتل، وإذا اعتبر الإنسان في الدين مجرماً فلعلّه من جهة قطع علاقة العبودية والربوبية بينه وبين الله تعالى. ولا شكّ أنّ جزاءه عذاب شديد.

(فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ). التعبير كلّه مبني علي الاختصار، فحذف ك_لّ ما يدلّ عليه الكلام وما يقتضيه المقام. والمقدّر هنا: «قلنا فأسر...» والفاء للتفريع؛ أي إن كان كذلك فأسر. و «الإسراء» السير ليلاً، فقوله: (لَيْلاً) للتأكيد على أن لا يخرجوا نهاراً. وعباد الله بنو إسرائيل، وعلّله بأنّهم متّبعون، فليكن السير ليلاً حتّى تكون لهم فرصة الفرار، وأمّا النهار فلا يمكن فيه خروج جمع عظيم من البلد بدون موافقة الحكّام.

(وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ) اختلف اللغويون وأهل التفسير في معنى الرهو، فقيل: إنّه بمعنى الساكن والمراد اتركه كما هو ولا تضربه بعصاك ليعود كما كان. وقيل: إنّ السكون صفة لموسى علیه السلام بالنسبة إلى البحر، أي لا تحدث حركة، بل اتركه بحاله. وقيل: إنّه بمعنى الطريق المنفرج. وقيل: كلّ منخفض بين مرتفعين. وقيل: الطريق الواسع ومهما كان فالمراد واضح وهو نهيه عن تغيير حالة البحر.

ص: 319


1- القمر (٥٤): 10

واختصر الكلام هنا، فلم يذكر قصّة ذهابهم وتحيّرهم أمام البحر، وقول موسی علیه السلام (الكَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)،(1) ونزول الوحي عليه أن اضرب بعصاك البحر وانفلاقه بحيث كان كلّ فرق كالطود العظيم وتجاوزهم ووصولهم إلى الساحل. واكتفى هنا بالإشارة إلى أنّه وجد أمامه طريقاً في البحر يبساً، فسلكه وبعد اختصار كلّ ذلك ذكر الأمر النازل عليه بما معناه: «واترك البحر خلفك ساكناً أو منفرجاً» ليغرق فرعون وقومه. ولم يرد ذكر هذا الأمر في غير هذا المورد من موارد نقل قصته علیه السلام.

(إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) تعليل للحكم السابق بأنّ البحر يجب أن يبقى بحاله ليدخله فرعون وقومه؛ لأنّهم جند مغرقون أي أراد الله تعالى إغراقهم. وتوصيفهم بأنّهم جند للإشارة إلى أنّهم بأجمعهم مغرقون.

ص: 320


1- الشعراء (٢٦): ٦٢.

سورة الدخان (٢٥- ٣٣)

كُمْ تَرَكُوا مِن جَنَّتٍ وَعُيُونٍ(25)وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(26)وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَيكِهِينَ(27)كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ(28)فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ(29) وَلَقَدْ نَجَيْنَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ(30)مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ(31)وَلَقَدِ اخْتَرْتَهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَاتَيْنتهُم مِّنَ الاَيَتِ مَا فِيهِ بَلَتَوا مُّبِين(33)

(كُمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ)، «كم استفهام للتعجيب من الكثرة، أي ما أكثر ما تركوا وراءهم من جنّات وعيون وزروع. وفي الكلام اختصار عن كلّ ما حدث، فإنّ التعبير بأنّهم تركوا يدلّ على أنّهم أغرقوا وماتوا وبقي ما كانوا يتنعّمون به. وفي بيان كثرة ما ترك_وا م_ن ن_ع_م مزيد من الاعتبار، وتنبيه للمخاطبين بأنّ من سبقكم كانوا في أحسن عيش وأوفر نعمة وسلبت منهم لكفرهم وطغيانهم، فلا يغرّنّكم بأسكم وأموالكم.

و«المقام»: موضع الإقامة، أي المسكن. والمقام الكريم، أي الممتاز الذي له شرف ورفعة من بين المساكن، فبلادهم كانت من أحسن البلدان وبيوتهم كانت من أحسن البيوت، وكانوا يقيمون في بلاد متحضّرة وقصور فخمة وفي رفاهية من العيش. ويمكن إرادة المقام المعنوي بمعنى كونهم موضع احترام وتقدير بين سائر المجتمعات البشرية في ذلك العصر.

و «النعمة» - بالفتح - مصدر بمعنى التنعّم - وبالكسر _ م_ا يت_نعّم ب_ه. والإتيان بالمصدر أبلغ في بيان وفور النعمة. والتعبير بأنّهم كانوا فيها للدلالة على كونهم مغمورين بالنعمة محاطين بها.

ص: 321

و«فاكهين» أي ناعمين متلذّذين بالنعمة معجبين بها.

(كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ)، «كذلك»، أي كان الأمر كذلك. وهذا التعبير يؤتى به للتأكيد على أنّ ما ذكر هو الواقع، ولعلّ الغالب فيه ما يستغرب وقوعه؛ فيؤكد بمثل هذا التعبير.

وأورثنا تلك النعم قوماً آخرين وهم بنو إسرائيل، لقوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزِ وَمَقَام كَرِيم كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيل)(1) والإرث كلّ ما يصل إليك من غيرك من غير معاملة - كما في «المفردات»(2) _ أو كلّ ما يصل إلى قوم من قوم سابقين من مال ومجد.

ولا شكّ أنّ المراد ليس رجوع بني إسرائيل في نفس الوقت إلى مصر واستيلائهم على موروث الفراعنة، فإنّ ذلك مخالف لقوله تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ هُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهَا كَمَا هُمْ آلِةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(3) وكذا ما يتبيّن من ملاحظة سائر الآيات الواردة في قصة بني إسرائيل، كما أنّ التأريخ وما ورد في التوراة أيضاً يخالفه.

وقال بعضهم: إنّ مخالفة الظاهر تختصّ بآية الشعراء، ولا بدّ من تأويلها، وأمّا هذه الآية، فالمراد بالقوم الآخرين ملك القبط الذي استولى على العرش بعد فرعون وهو بعيد؛ لأنّ انتقال الممتلكات إلى الورثة أمر طبيعي لا موجب للتنبيه عليه، كأمر يدعو إلى الاعتبار وإنّما العبرة بانتقالها إلى المستضعفين في ذلك العصر، وهو ما وعد الله به بني إسرائيل في قوله تعالى: (وَنُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ

ص: 322


1- الشعراء (٢٦): ٥٧ - ٥٩
2- مفردات ألفاظ القرآن: ٨٦٣
3- الأعراف (7): 138

اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).(1) وقال تعالى في الوفاء بوعده: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ).(2)

ويمكن أن يقال: إنّ المراد تسلّطهم على تلك المناطق ولو بعد زمان طويل، حيث تسلّط عليها سليمان علیه السلام وإيراث الأرض في التعبير القرآني لا يعني أنّ نفس القوم بأعيانهم يرثون تلك الأرض، بل حتّى لو ورثتهم الأجيال المتأخّرة منهم يطلق عليها أنّهم ورثوه. ولا شكّ أنّ بني إسرائيل ما كانوا مؤهلين في تلك الحقبة لوراثة الأرض، بل كان لا بدّ من تربيتهم ليتأهّلوا لحمل الرسالة الإلهية، ولنشر العدل وسلطة الشريعة والرسالة على البشر، فهم كانوا مستعبدين في مصر قروناً ولم يمتلكوا نفسيات مساعدة تؤهلهم لهذا الأمر الخطير، ولذلك أخذهم موسی علیه السلام إلى أماكن بعيدة عن مواطن تلك الذكريات المرة ليستعيدوا مقتضيات الفطرة البشرية من طلب الحرّية والاستقلال إلى أن بلغوا في أجيال متأخّرة ما أراد الله تعالى لهم من وراثة مشارق الأرض ومغاربها بما صبروا.

(فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ ) إكمال لتنبيه القوم كي يعتبروا ب_م_ا م_رّ عل_ى فرعون وملئه، حيث إنّهم على كلّ ما وصلوا إليه من تقدّم حضاري وسلطة وقوّة، أهلكهم الله تعالى فلم تبكهم السماء ولا الأرض، وعدم بكاء السماء والأرض كناية عن أنّهم هلكوا كهلاك غيرهم من الأقوام، فلم يتأثّر الكون من هلاكهم

ص: 323


1- القصص (28): ٥
2- الأعراف (7): 137.

ولا أخلّ ذلك بنظام المجتمع البشري، وهذا احتقار لهم بعد تلك العظمة، كقوله تعالى: (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا تَخَافُ عُقْبَاهَا)(1) ومن الملفت للنظر أنّ الله تعالى أبقى على رفات فرعون ليكون آية لمن خلفه وعبرة لمن يعتبر، وليعلم الناس أنّه لو كان إلهاً - كما زعموا - لم يذق هذا الذلّ والهوان.

(وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)؛ «الإنظار»: الإمهال . أي لم يمهلهم الله تعالى بعد أن قضى عليهم بالهلاك، فغشيهم العذاب فجأة، مع أنّه أمهلهم قبل ذلك زماناً طويلاً وكرّر عليهم الآيات. وفي الآية إشارة إلى إظهار فرعون للإيمان بعد أن أحسّ بالنهاية المؤلمة حين الغرق، فلم يمهله الله تعالى كما قال (حَتَّى إذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ).(2)

(وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) تسلية وتطييب خاطر للرسول صلی الله علیه و آله وسلم وللمؤمنين، مع أنّهم لم يصابوا بمثل ما أصاب بني إسرائيل من العذاب المهين، حيث كان فرعون وقومه يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم، كما قال تعالى: (وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءُ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(3) ومع أنّ طواغيت مكّة لم يبلغوا تلك السلطة التي بلغها فرعون، حيث قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)،(4) فإذا لم يمهل الله فرعون وقومه، ونجّا بني إسرائيل على غاية ضعفهم وهوانهم، حيث كانوا عبيداً للأقباط، فالأمر بالنسبة للمؤمنين في مكّة أهون

ص: 324


1- الشمس (91): ١٤ - ١٥
2- یونس (10): 90 - 91
3- البقرة (٢) :٤٩
4- النازعات (٧٩): ٢٤

وهكذا أراد الله تعالى أن يبعث فيهم الطمأنينة.

والمراد بكون فرعون عالياً أنّه كان متعالياً ومتكبّراً يستعبد الناس ويذلّهم، كما قال تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا في الأَرْضِ)(1) وكان من المسرفين، أي الذين تجاوزوا الحدّ المتعارف من الطغيان، فالطغاة كثيرون ولكن هناك حدّ لا يتجاوزونه غالباً، وتجاوزه فرعون كما تجاوزه بعض فراعنة عصرنا إلى أن سلّط الله عليه أولياءه فأذلّوه وأذاقوه الهوان والحمد لله ربّ العالمين.

(وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ). الضمير يعود لبني إسرائيل، والله تعالى اختارهم على العالمين في ذلك العهد، حيث ولاهم السلطة والقدرة وتمكّنوا من السيطرة على مناطق من الأرض إلى أن تجبّروا وطغوا، فأهلكهم الله تعالى على

يد بعض عباده، كما ورد في سورة الإسراء، ويقال: إنّه يدعى «نبوخذ نصر».

أو اختارهم على العالمين جميعاً، حيث جعل منهم الأنبياء وأرسلهم إلى شتّى بقاع الأرض، وهذه نعمة عظيمة، بل هو أعظم النعم اختصّ الله به هذا القوم لما كان فيهم من خصال حميدة، فإنّ النبوة والرسالة لا تكون إلا في أرضية صالحة لمقام العصمة، وهي نادرة جدّاً. وفي هذا القوم كثرت هذه الأرضية الخصبة الجلالة قدر أجدادهم يعقوب وإسحاق وإبراهيم علیه السلام.

وقوله تعالى: (عَلَى عِلْمٍ)، أي لم يكن الاختيار جزافاً _ تعالى الله عن ذالک _ وإنّما اختارهم لعلمه تعالى بصلاحيتهم لذلك، وهكذا كلّ ما يختاره الله تعالى. وليس معنى ذلك أنّ كلّ من يتسنّم عرش السلطة، فقد اختاره الله كما يتوهّم _ تعالى الله عن ذلك أيضاً - بل من يختاره الله تعالى للنبوة والإمامة، فإنّما يختار

ص: 325


1- القصص (٢٨): ٤.

لعلمه بكونه صالحاً لتحمل المسؤولية الكبرى.

وهناك من يقول: إنّ كثرة الأنبياء فيهم لا تدلّ على ميزة وصلاحية، بل السبب فيه شيوع المفاسد فيهم فاحتيج إلى كثرة الأنبياء.

وهذا كلام فاسد؛ فإنّ الأنبياء لا يبعثهم الله تعالى إلا مع العصمة، ولا بدّ من صلاحية البشر لذلك. وفي القرآن آيات كثيرة تدلّ على أنّ الله فضّلهم على العالمين، ولا ينافي ذلك وجود جماعة كبيرة منهم يفسدون في الأرض ويقتلون النبيّين.

(وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءُ مُبِينٌ). من الواضح أنّ الله تعالى ميّز هذا القوم بكثرة ما ظهر بينهم من المعجزات والآيات وفي ذلك بلاء مبين وامتحان واضح، فإنّ كثرة الآيات يقطع العذر ويكمل الحجّة عليهم، فكثرة الآيات _ من جهة _ نعمة عظيمة يزيد في إيمان الناس، ولكنّها من جهة أخرى بلاء وامتحان، كما أنّ كلّ النعم الإلهية بلاء وامتحان، وكثر في بني إسرائيل من لم يخرج من الامتحان فائزاً فسلط الله عليهم من أذاقهم الذلّ مرّة أخرى.

ص: 326

سورة الدخان (٣٤ - ٤٢)

إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ(34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ (35)فَأْتُوا بِمَابَابِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (36)أَهُمْ خَيْرُ أَمْ قَوْمُ تُبْعِ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَعِبِينَ(38) مَا خَلَقْتَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَوْلَى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (41)إِلَّا مَن رّحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)

(إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ)، يعود السياق إلى الحديث السابق عن مشركي قريش، فالإشارة في قوله: (هَؤُلاء) إلى المشركين والتعبير عنهم بذلك لا يخلو من احتقار.

و«هي» ضمير القصة» أي لا يواجهنا في نهاية هذه الحياة إلا موتة واحدة وليس بعدها حياة.

و«الإنشار» بمعنى النشر، وهو في الأصل بمعنى البسط، ويكنّى به عن إحياء الموتى. والغرض التنديد بإنكارهم ليوم المعاد، فإنّ الوثنية لا تعترف بعالم آخر بعد هذه الحياة، كما هو الحال في كفرة هذا العصر. وهذا منهم مجرّد استبعاد؛ إذ لا يملك أحد دليلاً على نفيه.

وقد وقع الكلام في التعبير الوارد في هذه الآية إذ ربّما يقال: إنّ الأنسب أن يقولوا: إن هي إلا حياتنا الأولى أو الدنيا، كما في موضع آخر، وأمّا موتتن_ا الأولى، فإنّه لا يناسب للردّ على من يدّعي حياة اُخرى.

وذكروا وجوهاً في توجيه العبارة، والأقرب ما ذكره ابن منير في حاشية

ص: 327

«الكشّاف» أنّ التوصيف بالأولى في مقابل الحياة الأخرى لا في مقابل الموتة الثانية، ومعنى ذلك أنّهم ينكرون أن يكون بعد هذه الموتة أيّ شيء من الحياة أو الموت، ولكن حيث وُعدوا على لسان الرسل أنّ بعد الموت حياة، فهنا أمران: أمر قطعي محسوس وهو الموت، وأمر موعود يعتبر عندهم موهوماً ومرفوضاً وهو الحياة بعد الموت، فيقولون هنا لا يوجد شيء إلا الأمر الأوّل وهو الموت، فتوصيف الموتة بالأولى باعتبار أنّ الحياة الموعودة أمر ثانٍ.(1)

(فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ). هذه حجّة متكرّرة طالما تمسّك بها المنكرون للمعاد، وهي المطالبة بالآباء السابقين، وأنّه لو كانت هناك حياة بعد الموت، فلماذا لا يرجعون؟! ومنهم من يستبعد إحياء كلّ هذه الملايين الغابرة والاحتفاظ بهم في عالم آخر، فأين هم الآن؟! وكيف يعودون؟! وكيف تدبّ الحياة في هذه العظام النخرة التي أصبحت تراباً، بل عادت وأصبحت بشراً أو حيواناً أو نباتاً، ثمّ عادت تراباً وهكذا الدائرة غير المنتهية ؟! والجواب عن كلّ ذلك أنّ الله على كلّ شيء قدير، وهو الذي خلقهم أوّل مرّة، والإعادة أهون في حدّ ذاتها.

(أَهُمْ خَيْرٌ أم قَوْمُ تُبعِ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) الآية الكريمة تهوّن من شأنهم في أعينهم، فإنّهم كانوا يتصوّرون أنّ لهم شأناً بين الناس، فكذلك أمام الله تعالى فلا ينزل عليهم العذاب. والآية تنبّههم أنّ الله تعالى أهلك من هو أعظم منهم شأناً حتّى في أعينهم، وهم قوم تبّع، حيث يقال: إنّهم فتحوا البلاد العظيمة وتسلّطوا على كلّ المنطقة، وكذا من كان قبلهم من الأقوام الذين

ص: 328


1- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤: ٢٧٩

بنوا حضارات وأسّسوا دولاً، وقد أهلكهم الله جميعاً وأبادهم ولم يبق منهم إلا اسم في التأريخ، وآثار من مساكنهم ليعتبر من بعدهم. وقوله تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) بيان لسبب الإهلاك. فمن أجرم فلينتظر نفس العاقبة. وقد مرّ الكلام في معنى الإجرام في تفسير الآية (فَدَعَا رَبَّهُ أَنْ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ).(1)

و«تُبَّع» من ملوك اليمن ويسمّون التبابعة، والظاهر أن المراد به ملك خاصّ من بينهم ، ولعلّه من ذكر في التأريخ باسم أسعد أو سعد أبو كرب، وقد ورد ذكره في روايات كثيرة،(2) وأنّه ممّن بشِّر أهل المدينة في عصره بظهور الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بينهم، وأنّه أمرهم وأمر أولاده بمتابعته ونصرته، وحكي عنه أنّه تمنّى أن يكون في عصره ليخدمه، وروي عنه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه نهى عن سبه؛ لأنّه أسلم، وروي أنّه أوّل من كسى الكعبة المشرّفة. ولعلّه لذلك لم يرد في الآية تُبع وقومه، بل قوم تُبع وورد ذكرهم في سورة «ق» أيضاً هكذا.

والآية توسّطت بين إنكار المشركين للمعاد والجواب عنه، ولكن لا ترتبط بنفس الموضوع والظاهر أنّ الغرض منها التعجيل في التنديد بالمكابرة التي أعلنوا عنها بطلبهم إحياء الآباء وتهديدهم بعذاب الاستئصال الذي أصاب المجرمين قبلهم.

(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) المراد بالسماوات _ كما قلنا مراراً _ عالم ماوراء الطبيعة، وبالأرض عالم الطبيعة، ولعلّه لذلك اعتبرهما شيئين، فأتى بضمير التثنية لما بينهما مع أنّ السماوات جمع، ولا حاجة إلى تأويل

ص: 329


1- تقدّم في الصفحة 321
2- راجع: بحار الأنوار ١٤: ٥١٣ ، الباب 33

أنّ المراد جنس السماوات، بل هو غير صحيح، ولا أظنّ القائل مقتنعاً به، ومهما كان فالمراد بالتعبير الكون كلّه وحتّى لا يشذّ شيء ذكر ما بينهما، ولعلّ المراد الملائكة كما مرّ في نظيره.

والذي يلاحظ الكون بكلّ أجزائه الصغيرة والكبيرة يجد نظاماً عجيباً متناسقاً، فهذا يدلّ بوضوح أنّ له صانعاً حكيماً وأنّ أجزاء الكون لم تترابط بالصدفة وم_ن دون تنسيق، ويتبيّن بوضوح أيضاً أنّ الصانع الحكيم لم يخلق هذا النظام عبثاً ولعباً، بل هناك هدف وغرض تسير نحوه كلّ أجزاء الكون متناسقة متكاتفة. ومن الطبيعي أنّه يجب في مثل هذا النظام المتكامل أن يقع كلّ شيء موقعه، ونجد أنّ كلّ شيء في الطبيعة واقع موقعه إلا ما دخلت في_ه ي_د الإنسان الذي جعله الله حرّاً طليقاً، فأفسد في الأرض، كما قالت الملائكة قبل خلق البشر: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)(1) وكما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس ).(2)

والإنسان بنفسه لم يوضع موضعه، فهناك كثير من المجرمين يصعدون مدارج الحكم ويتسلّطون على رقاب الناس ويهلكون الحرث والنسل، بل يبقى الفساد بعدهم وبسببهم سنّة جارية مئات السنين، ويحرّفون الدين وينشرون البدع ويميتون السنّة، ومع ذلك تجد أكثر الناس يقتدون بهم ويتّخذونهم أئمة، وفي المقابل نجد أنّ أكثر الأنبياء والأئمّة والمصلحين والأتقياء يقتلون ويسجنون

ويشرّدون، بل تهان ،کرامتهم، وينال منهم في وسائل الإعلام إلى غير ذلك من

ص: 330


1- البقرة (٢): ٣٠
2- الروم (٣٠): ٤١

المظالم المنتشرة في بقاع الأرض وطيلة التأريخ البشري، فلا بدّ من أن يكون هناك عالم آخر ينال كلّ إنسان جزاءه ويقع كلّ إنسان موقعه وإلا لما كان لخلق الإنسان ولخلق هذا الكون الذي خلق لأجله حكمة وغاية.

(مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أعاد ضمير التثنية مرّة أخرى إلى مجموع السماوات والأرض وهذا يؤكّد ما ذكرناه. و«الباء» في قوله (بِالحَقِّ) للملابسة، أي ما خلقناهما إلا ملابساً للحقّ بمعنى أنّ الكون يتحكم فيه الحقّ، وهو النظام الإلهي المبتني على الحكمة. و«الحقّ» هو الأمر الثابت، وليس هناك شيء في الطبيعة أشدّ ثباتاً من النظام الكوني. ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون ذلك، ويتصوّرون أنّ الكون لا يحكمه نظام عادل، ولعلّهم إنّما يتوهّمون ذلك لما يجدونه من الظلم المتفشّي بين البشر أو ما يجدونه في الطبيعة ولا يعلمون ل_ه حكمة.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) حيث كان الأساس في الدليل السابق تفشّي الظلم في الأرض وفي خصوص المجتمع البشري أكّدت الآية بأنّ الحكمة إنّما تتمّ بتحقيق العدالة في يوم ما وهو يوم الفصل، أي اليوم الذي يفصل فيه الحقّ عن الباطل، وتتبيّن فيه حدود الحقّ واضحة، لا غبار عليها، وينال كلّ إنسان رتبته، ويفصل بين أهل الحقّ وأهل الباطل، ويفصل بين كلّ ظالم ومن ظلمه، ويفصل أعمال الخير وأعمال الشرّ، فربّما نرى في هذه الحياة عملاً في غاية الحسن بحيث يحسد عليه صاحبه، ثمّ نجده يوم القيامة من أسوأ الأعمال وكذلك العكس، فربّما نستصغر عملاً من أحد أو حتّى من أنفسنا، ثمّ نجد أنّه هو الذي

ينقذنا من العذاب، فإنّ مقاييس محاسبة الأعمال دقيقة لا تصل إليها أفهامنا

ص: 331

والحاصل أنّ ذلك اليوم يوم الفصل وتبيّن الحقائق، فلا غبار ولا ضبابية، ولا يولج الليل في النهار ولا النهار في الليل، ولا يدمج الحقّ بالباطل، كما في هذه النشأة.

والتعبير باليوم بمعنى أنّه مرحلة من مراحل الكون، وليس بمعنى اليوم بالمعنى المعروف كما هو واضح . و«الميقات» أي الموعد المحدّد، وأصله من الوقت، وهو بمعنى تحديد الشيء من حيث الزمان أو المكان أو غيرهما، ولا يختصّ بالزمان، كما يوهم اللفظ، ومنه مواقيت الإحرام وهي أن أمكنة. قال في «معجم المقاييس»: «أصل يدلّ على حدّ شيء وكنهه في زمان وغيره»(1) والظاهر أنّ منه _ في غير الزمان والمكان - الموقوت في قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلوةَ كَانَتْ عَلَى المؤْمِنِينَ كِتاباً موقوتاً).(2)

(يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلى عَنْ مَوْلَى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)، «يوم» بدل عن يوم الفصل. والمولى الأوّل هو المتبوع، والثاني هو التابع، وكلمة «مولى» يتّحد فيها اسم الفاعل والمفعول، وأصلها من «ولي»، أي أتى الشيء بعد الشيء تباعاً من دون فاصل. وقيل: إنّ الأصل فيها هو القرب، ولذلك تطلق على الأقارب.

والمعنى في الآية واضح وهو أنّ الأسياد في الدنيا لا يغنون شيئاً يوم الحاجة الملحّة، وهو يوم القيامة. والحكم عامّ لكلّ البشر ولا يختصّ بالمشركين، كما يتوهم، كما أنّ ضمير «هم» في قوله: (وَلا هُمْ) يعود إلى جميع البشر. وهم المقصودون بالضمير في الآية السابقة أيضاً.

ومثل هذه الآية قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تجري نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا

ص: 332


1- معجم مقاييس اللغة ٦: ١٣١
2- النساء (٤): ١٠٣

شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(1) وقوله تعالى: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ الله)(2) وغير ذلك.

وقيل: الفرق بين النصرة والإغناء أنّ النصرة بمعنى المساعدة، فلا يستقلّ بها المولى، وأمّا الإغناء بمعنى أنّه يقوم به مستقلاً. وبناءاً عليه فهذا الفرق يظهر يوم القيامة في الشفاعة، فإن لم يكن للمشفوع عمل يستحقّ به دخول الجنّة أو النجاة من النار، فالمنفي هو الإغناء، إذ لو كان الشفيع يفيده لكان مغنياً له عن العمل. وإن كان له عمل فالمنفي هو النصرة ، فيكون المعنى أنّ عمله غير كافٍ فهو بحاجة إلى من ينصره ويقويه، والشفيع لا ينصره إلا من رحم الله. ولكن فيه احتمال آخر سيأتي إن شاء الله تعالى. وعلى كلّ حال، ففي ذلك اليوم لكلّ امرئ منهم شأن يغنيه، فلا يقوم بالنصرة والإغناء أحد ولو قام لم يؤثّر شيئاً؛ إذ يسقط في ذلك اليوم تأثير الأسباب الطبيعية، كما قال تعالى: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب).(3)

(إِلا مَنْ رَحِمَ الله إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) ؛ قيل : إنّه استثناء عن الضمير في: (وَلا هُمْ يُنصَرُونَ)، أي لا ينصر منهم أحد إلا من رحمه الله تعالى. وقد يقال: إنّه استثناء منقطع؛ لأنّ من رحمه الله تعالى لا يحتاج إلى نصرة أحد، فالمعنى: ولكن من رحمه الله تعالى هو الذي ينجو من العذاب.

وقيل: إنّه استثناء عن المولى الأوّل الذي هو فاعل الإغناء، ويفيد أنّ من رحمه الله يمكنه أن يغني عن مواليه بالشفاعة.

ص: 333


1- البقرة (٢): ٤٨
2- الانفطار (82): 19
3- البقرة (٢): ١٦٦

واعترض عليه العلامة الطباطبائي رحمه الله بأن الإغناء - بناءاً على ما ذكر _ يتحقّق في ما إذا لم يكن للمشفوع أيّ عمل يفيده يوم القيامة، فتكون الشفاعة كافية ل_ه وهذا غير ممكن؛ لأنّ الشفاعة لا تكون إلا لمن له على الأقلّ دين مرضىّ وعليه فلا بدّ من إرجاع الاستثناء إلى النصرة فقط.(1)

ولكن في رواية زيد الشحّام أنّه استثناء من المولى الأوّل، قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام ونحن في الطريق في ليلة الجمعة: «اقرأ _ فإنها ليلة الجمعة _ قرآناً» فقرأت: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلَى عَنْ مَوْلَى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلا مَنْ رَحِمَ الله فقال أبو عبد الله علیه السلام: «نحن والله الذي رَحِمَ الله ونحن والله الذي استثنى الله لكنّا نغني عنهم».(2)

وفي نسخة «فكنا نغني عنهم»، وعليها فالمعنى واضح، وأمّا على نسخة «لكنّا نغني عنهم»، فليس استدراكاً عن الآية، بل المراد أنّ معنى الآية مع الاستثناء: «لا يغني مولى لكنا نغني». وعليه فالشفاعة بمعنى الإغناء ثابتة بناءاً على هذه الرواية. ولكنّ السند ضعيف.

والصحيح أنّ الفرق بين «الإغناء» و«النصرة» بالوجه الذي ذكره المفسّرون غير صحيح؛ لأنّ الإغناء ليس بمعنى أنّه يكفيه كلّ شيء، بل بمعنى أنّه يكفيه ما يحتاجه، فإن كان له دِين وعمل صالح ، ولكن كان عليه مؤاخذة لبعض المعاصي أو لنقص في عمله، فالشفاعة تغنيه عن مقدار حاجته وهي التي تحتاج إلى استثناء، وأمّا النصرة فهي لا تكون إلا في مقابل من يعاديه ويريد ب_ه ش_رّاً، وه_ذا

ص: 334


1- الميزان في تفسير القرآن 18 : ١٤٧ - ١٤٨
2- الكافي ١: ٤٢٣.

غير ممكن في المقام بدون استثناء؛ إذ ليس في مقابل إرادة الله أيّ شيء يفيده أو ينصره.

فما ذكروه من أنّ الاستثناء يكون من النصرة ليس صحيحاً، بل هو استثناء من المولى الأوّل كما فى الرواية. ويمكن أيضاً أن يكون استثناءاً من المولى الثاني ولكنّه على كلّ حال استثناء عن الإغناء، والاستثناء متصل على الفرضين؛ لأنّ مورد الآية _ كما قلنا - جميع البشر .

والحاصل - بناءاً على ما ذكرنا في معنى الآية - أنّه لا ينفع شفيع ذلك اليوم إلا من رحمه الله من الشفعاء أو من المشفوع لهم، ولا ينصر أحد أحداً ب_دون استثناء.

وقوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) جملة تعليلية. والإتيان بصفة «العزيز» يناسب نفي تأثير الشفاعة في من لا يأذن له الله تعالى، فهو عزيز لا يقهر إرادته شيء، وصفة «الرحيم» تناسب تأثير الشفاعة بإذنه تعالى.

ص: 335

سورة الدخان (43 - 50)

إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِي الْبُطُونِ (45)كَغَلّى الْحَمِيمِ (46)خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ(47) ثُمَّ صُبُوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ(48) ذُق إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ(49) إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ (50)

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ * طَعَامُ الأَثيم). مرّ بعض الكلام في شجرة الزقّوم في سورة الصافات الآية ٦٢ وقلنا: إنّه لم يثبت إطلاق الزقّوم على شيء في هذه الدنيا وإن قال بعض أهل اللغة: إنّه يطلق على شجر له أوراق طعمها مرّ وتخرج منه مادة بيضاء تضرّ بالجسم. وقال بعضهم: زقم، أي ابتلع وزقم بطنه من الشراب، أي

ملأه به ولكنّه غير ثابت.

والظاهر أنّ كلّ ما قيل في معناه حدث بعد نزوله في القرآن، وأنّ العرب لم تسمع به قبل ذلك، بل حكي عن بعض المشركين أنّه كان يستهزئ بهذه الكلمة ويقول: وما الزقّوم؟! وكيف كان فلا مانع من أن يكون هذا مصطلحاً أو تسمية قرآنية لطعام أهل النار.

و«الأثيم» صفة مشبّهة تفيد معنى الثبوت والاستقرار، فالمراد من كان الإثم صفته الثابتة ويحصل ذلك بالإكثار من المعاصي.

هذا، وقد مرّ في تفسير سورة الصافات احتمال أن يكون المراد بالنار وما فيها من العذاب معنى آخر لا يصل إليه عقولنا، فالنار هناك ينبت فيها الشجر، أي شجرة الزقّوم والبشر المحترقون فيها لا يموتون، وهي تحرق الأرواح قبل الأجسام، ولا تبيد الجسم ولا تفنيه، فلعلّها إشارة إلى حقيقة اُخرى لا نفهمها.

ص: 336

وإنّما اختير هذا التعبير لأنّ النار أفظع شيء يعذّب به الإنسان في هذه الحياة، فاللفظ الدالّ عليها أقرب لفظ يفيد ذلك المعنى الذي ليس له لفظ يحكي عنه، والألفاظ إنّما تحكي عمّا اعتاده البشر في معيشته.

(كَالمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَعَل الحَمِيمِ)، «المُهل»: دُردِي الزيت، وهو ما يبقى في أسفله أو النحاس والصفر المذاب. و«الحميم»: الماء شديد الحرارة. وقوله: (كَالْمُهْلِ) و (يَغْيلي) خبران ثان وثالث لقوله: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ)، أو أنّهما خبران لمبتدأ محذوف، أي وهو كالمهل يغلي.

و(كَغَلَيِ الْحَمِيم) صفة لمفعول مطلق أي غلياً كغلي الحميم . وهذا أمر غريب أن يكون الطعام كالنحاس المذاب في البطن وهو يغلي لا كغلي النحاس، بل كغلي الماء الحار. وهذا غاية في الحرارة. وأغرب منه أنّ الجسم لا يحترق به أو يحترق ولكنّه يعود كما كان.

(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إلى سَوَاءِ الجَحِيمِ)، «العتل» هو الجذب أو الدفع العنيف والإلقاء. و«سواء»: وسط الشيء، حيث يستوي إليه نسبة كلّ من الحدود، والمراد مركزه حيث تكون النار أشدّ. وهذا أمر من الله سبحانه إلى ملائكة العذاب.

(ثمَّ صُبُوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحَمِيم) عذاب بعد عذاب، والإضافة في عذاب الحميم إضافة بيانية.

(ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَتَرُونَ). يمكن أن يكون خطاباً يوجّه إليه ليكون مزيداً من العذاب وهو عذاب نفسي، حيث يحتقر ويهان، ثمّ يذكّر بما كان يتوهّمه، بل ربّما يصرّح به وهو أنّه عزيز كريم. والمراد أنّك كنت العزيز في قومك والكريم عندهم، أو كنت تتوهّم أنّك كذا وكذا، ولكنّك غفلت

ص: 337

عن هذه العاقبة وهذا اليوم حيث انقلبت عزّتك وكرامتك ذلاً وهواناً، فهذا الخطاب استهزاء وتحقير.

يقال: إنّ أباجهل كان يقول: «إنّي أنا العزيز الكريم»، ويقال: إنّه خاطب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بما معناه: «لا تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئاً إنّي أعزّ أهل هذا الوادي وأكرمها»؛(1) ويقال: إنّ الآية نزلت فيه والامتراء هو الشكّ.

ص: 338


1- راجع: تفسير القمي 2: 293

سورة الدخان ( ٥١ - ٥٩)

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينِ (51)فِي جَنَّتٍ وَعُيُون(52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُس وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَبِلِينَ(53) كَذَلِكَ وَزَوِّجْتَهُم يحُورٍ عِينٍ(54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَكَهَةٍ وَامِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَنهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ(56) فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ (59)

(إنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَام أمِينِ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ). من دأب القرآن الكريم أنّه إذا تعرّض لذكر عذاب المجرمين ذكر ثواب المتّقين أيضاً، ليجمع بين الإنذار والتبشير. و«المقام»: موضع الإقامة. و«الأمين» بمعنى أنّه ذو أمن والأمان هناك أمان مطلق، فالمقيم فيه آمن من كلّ جهة لا يصيبه مكروه أبداً . وقوله: (في جَنَّاتٍ ) إمّا بدل عن: (فِي مَقامٍ)، فيكون المراد بالمقام الجنّات، أو ظرف للمقام، أي موضع إقامتهم في جنّات.

وجمع «الجنّات» باعتبار أنّ لكلّ واحد من المتقين جنّة، فالمجموع جنّات أو أنّ لكلّ واحد جنّات.

و«العيون» عطف على الجنّات والظرفية بالنسبة للعيون باعتبار اشتمال الجنّات عليها أو بلحاظ المجاورة، كما يقال في أشجار وورود.

(يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ)، «السندس»: الحرير الرقيق الناعم. «والاستبرق» الحرير الغليظ، وهو معرّب ستبر بالفارسية بمعنى الغليظ.

وهنا سؤال يخطر بالبال، وهو أنّه لماذا الاختلاف في ملابس أهل الجنّة،فليس هناك حرّ وبرد حتّى يختلف اللباس باختلاف الفصل.

ص: 339

والجواب: أنّ هذا لعلّه كاختلاف الأطعمة لاختلاف الأذواق أو أنّهم يلبسون على أجسامهم الحرير الناعم وعليها الحرير الغليظ للإناقة.

وكونهم متقابلين إشارة إلى التوادد بينهم، حيث ينزع الله ما في صدورهم من غلّ، فيكونون إخواناً متقابلين على أسرتهم. والتقابل أحسن هيئة في جلسات الأحباب.

0كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِين)، كذلك أي يكون الأمر كذلك

وهو تأكيد للمضمون السابق ورفع للاستبعاد، كما مرّ في تفسير الآية ٢٨.

و«التزويج بالحور العين» يمكن أن يكون المراد بهالاقتران، فيشمل الرجال والنساء ولذلك عدي بالباء، فإنّ التزويج بمعنى النكاح يتعدّى بنفسه.

واختلف اللغويون في معنى الحور، وهو مأخوذ من الحَوَر، قال الخليل في «العين»: «إنّه شدّة بياض العين وشدّة سوادها ولا يقال: امرأة حوراء إلا لبيضاء مع حَوَرها».(1)

وقال الراغب: «قيل: إنّه ظهور قليل من البياض في العين من بين السواد»، قال: «وذلك نهاية الحسن في العين».(2)

وقيل: إنّ الحَوَر هو البياض.(3) وحوّرت الثياب، أي بيّضتها،(4) وعليه فالحور بمعنى النساء البيض. وقيل غير ذلك.

و«العين» جمع عيناء، أي المرأة حسنة العين أو ذات العين الواسعة.

ص: 340


1- كتاب العين : 288
2- المفردات فى غريب القرآن: ٢٦٢.
3- راجع: تاج العروس ٦: ٣١٤
4- معجم مقاييس اللغة ٢: ١١٦ ..

(يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ)، أي يطلبون أيّاً ما شاءوا من الفاكهة، فيجاب طلبهم. و«الفاكهة» ما يؤكل للتلذّذ. وهكذا طعام الجنّة؛ إذ لا جوع هناك ولا اجة إلى طعام.

و«آمنين» حال منهم والمراد بقرينة الفاكهة أمنهم من ضررها، كما ربّما يحصل من أكلها في الدنيا أو أمنهم من نفادها.

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلا الْمُوْتَةَ الأولى)، «الموت» أدهى ما يخافه الإنسان في حياته. والنعمة لا ينغّصها شيء كذكر الموت. وقديماً حاول الإنسان أن ينقذ نفسه منه، وكلّما بحث عن حلّ لأحد موجباته ظهرت له عوامل أخرى. وهو الشيء الوحيد الذي تأبى على الإنسان أن يقضي عليه، بل وصل الحدّ إلى اليأس عنه، فلا يفكّر فيه أبداً، وإنّما يحاول أن يمحي عن ذاكرته فكرة الموت حتّى لا تنغّص لذات حياته بذكره، ولكن شبح الموت لا يتركه ويجده في كلّ تغيّر مفاجئ في جسمه، وفي كلّ تحوّل خطير في الطبيعة، وفي أمراضه وأسفاره وحروبه وغيرها ممّا يصعب إحصاؤها.

ومن هنا فإنّ عين الحياة هي الأمنيّة التي تعقبها الإنسان طيلة القرون ولفّق حولها القصص والأساطير، والله تعالى يناديه ويدعوه إلى عين الحياة الأبدية التي لا تنضب ولا يقلّ ماؤها، ولا حاجة للوصول إليها إلى تكلّف الأسفار والمخاطرة

بالنفس، بل طريقه سهل التناول لا يحتاج إلا إلى الإيمان بالله ورسله وكتبه وتقواه والعمل بما أمر به وترك ما نهى عنه فيصل بعد الموت عن هذه الدار المشحونة بالمكاره إلى دار لا يذوق فيها الموت أبداً، وهذا غاية أمانيه.

واستثناء الموتة الأولى ليس على حقيقته، فهو استثناء منقطع؛ لأنّ هذه الموتة

ص: 341

قد ذاقها في هذه الحياة، فهذا الاستثناء للتأكيد على أنّه ليس هناك موتة أبداً، نظير ما يقال: «جاء القوم إلا حماراً» والحمار ليس من القوم، فمعناه أنّه لم يشذّ منهم أحد، فلو كان الحمار منهم لأتى أيضاً.

وأمّا توصيفها بالأولى فيمكن أن يكون في مقابل الموت الذي يذوقه الكفّار دون أن يفارقوا الحياة؛ فإنّ هذا هو الذي يقابل نعمة أهل الجنّة، قال تعالى: (وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّت).(1)

ومن هنا يتبيّن الجواب عن سؤال آخر وهو أنّه لماذا اختصّ أهل الجنّة بذلك، مع أنّ الكفّار أيضاً لا يموتون؟ فالجواب: أنّهم يذوقون الموت ولا يموتون، ب_ل الموت لهم أمنية وعدمه عذاب، ولذلك يطلبون من مالك الجحيم: (لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ).(2)

وهنا سؤال آخر وهو أنّ مقتضى قوله تعالى: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)(3) أنّهم قد ذاقوا موتة أخرى من الحياة البرزخي_ة إل_ى ي_وم القيامة، فلماذا اختصّ الاستثناء بالموتة الأولى؟

ويمكن أن يجاب عنه بوجهين:

الأوّل: أنّ الموت من الحياة البرزخية والانتقال إلى الحياة الآخرة ليس كالموت في الدنيا وليس عذاباً ولا فيه حرمان من لذّة، والتعبير عنه بالموت في تلك الآية لمجرّد بيان أنّه انتقال من حياة إلى حياة لأنّهم إنّما ذكروا ذلك مقدمة

ص: 342


1- إبراهيم (١٤): ١٧
2- الزخرف (٤٣): ٧٧
3- غافر (٤٠): ١١

لطلبهم الانتقال مرّة أخرى إلى الحياة الدنيا أو حياة كتلك الحياة يمكنهم فيها إبراز قابلياتهم.

الثاني: أنّه لعلّ الموت من الحياة البرزخية لا يشمل كلّ أحد، ولعلّ المتقين والصالحين يستمرّون في حياتهم إلى يوم القيامة. والله العالم.

(وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجَحِيمِ) تطمين لهم بأنّ عذاب الجحيم _ الذي إلتهم ملايين الملايين من البشر - لا يقربهم أبداً، فهم مخلّدون في النعيم.

(فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) حال من النعم المذكورة أو مفعول لأجله. والفضل هو الزيادة. والمراد به هنا ما يزيد على الاستحقاق، وحيث لا يستحقّ أحد على الله شيئاً، فكلّ ما يمنحه لعباده فضل منه تعالى. وقوله: (مِنْ رَبِّكَ) تشريف عظيم للرسول صلی الله علیه و آله وسلم ولا يخلو من إيماء إلى أنّه الواسطة والسبب في نزول هذه الرحمة والنعمة على العباد.

ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، «الفوز»: النجاة والظفر بالأمنيّة والخير. والفوز العظيم هو أن ينال الإنسان من فضل ربّه، سواء في الدنيا أم في الآخرة، فليس المراد أنّ ذلك النعيم هو الفوز العظيم، بل شمول فضل الله لهم هو الفوز العظيم. وغاية الغايات فيما يفوز به الإنسان من أمنيّة وخير هو أن تغمره رحمة ربّه، قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ ما يَجْمَعُونَ).(1)

(فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ختام يعيد السياق إلى ما ابتدأ به السورة من تكريم القرآن والحثّ على التذكّر به، وعلى الارتقاب أيضاً، حيث قال تعالى في أوائلها: (وَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ)، و«الفاء» لتفريع هذه الفذلكة على كلّ

ص: 343


1- يونس (10): 58

ما ورد في السورة المباركة.

و«التيسير» التسهيل، أي سهّلنا فهمه لعامة الناس. وضُمِّن التيسير معنى الجعل، أي وجعلناه بلسانك، أي لغتك وهي لغة القوم، وإنّما أضافه اليه صلی الله علیه و آله وسلم تكريماً له. وإنّما يسّر فهمه لعامّة الناس لعلّهم يتذكّرون عهدهم مع ربّهم الذي تنادي به

الفطرة.

ومن الواضح أنّ القرآن مع كونه في غاية الدّقة ومفاهيمه في غاية العلوّ والرفعة، وبعيد عن متناول العامّة والخاصّة إلا أنّ كلّ أحد يجيّد اللغة العربية أو يعرفها نوعاً مّا يمكنه الاعتراف من معينه ويستفيد منه في حياته الدنيا ليجعله_ا وسيلة لنيل السعادة الأبدية في الحياة الأخرى.

(فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ)، «الارتقاب» مأخوذ من الرقبة، وحيث إنّ الانتظار والتوقّع يكون عادة مع مدّ العنق يعبّر عنه بالارتقاب. والمراد هنا انتظار النصر الكاسح أو انتظار نزول العذاب عليهم. و «الفاء» للتفريع على الجملة السابقة من جهة أنّهم لا يؤمنون به مع هذا التسهيل وتمكنّهم من معرفة الحقّ الواضح.

وقوله :(إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) تعليل لارتقابه وانتظاره صلی الله علیه و آله وسلم باعتبار أنّ هذا الانتظار ليس مستبعداً، فإنّهم أيضاً مترقبون ومتوقّعون لنزول العذاب، وذلك إشارة إلى أنّهم مع عنادهم يعلمون أنّ ما يقوله الرسول حقّ وأنّ ما يتوعّدهم من العذاب آتٍ لا محالة، فهم يتوقّعون دائماً أن ينزل عليهم عذاب الله تعالى، ومثله في القرآن كثير ، وبذلك يتبيّن أنّ التعبير بارتقابهم وتوقّعهم ليس تهكّماً كما قيل، بل هو أمر واقعي.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على رسوله الأمين وآله الطاهرين.

ص: 344

تفسير سورة الجاثية

اشارة

ص: 345

ص: 346

سورة الجاثية (1-6)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حمَ(1) تَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ وَايَتْ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)وَاخْتِلَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيحِ وَايَتْ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ ايَتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَمَايَتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)

الجاثية سورة مكّية، كما هو واضح من مضامينها، حيث تشتمل على التذكير بآيات الله الكونية، والدعوة إلى الإيمان بالله وبآياته التي أنزلها على رسوله لهدايتهم، والتنديد بموقف المشركين اتّجاه الرسالة والدعوة والإشارة إلى عاقبة الإيمان والكفر يوم الحساب وسميت بهذا الاسم لاختصاصها من بين السور بورود هذه الكلمة فيها.

(حم) من الحروف المقطّعة وقد مرّ بعض الكلام حولها في تفسير

سورة يس.

ص: 347

(تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) مرّ الكلام في نظيرة الآية في ابتداء سورة الزمر ، ومجمل القول أن (تَنْزِيلُ الْكِتَاب) مبتدأ وخبره (مِنَ اللهِ) أو خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا ،تنزيل، والكتاب أي المكتوب بمعنى المجموع، ويطلق على كلّ مجموعة من الألفاظ أو المعاني والمراد التأكيد على أنّ هذا الكتاب منزل من الله تعالى وليس من إنشاء البشر.

و«العزيز» بقول مطلق الغالب الذي لا يؤثّر فيه شيء، ولعلّه إشارة إلى أنّ مقتضى عزّته المطلقة أن لا تتمكّن الشياطين من التدخّل في هذا الوحي، كما ظنّه المشركون. ووصف «الحكمة» لعلّه للردّ على أنحاء الشبهات التي ترد على الرسالة من اختيار شخص الرسول واللغة والزمان وغير ذلك. فالجواب العامّ أنّ ذلك مقتضى حكمته تعالى والبشر لا يمكنه أن يدرك وجه الحكمة في كلّ ما

خلقه الله ودبّره.

(إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) يمكن أن يكون المراد بالسماوات والأرض الكون كلّه بما فيه الملائكة والعوالم الغيبية، كما هو الحال في سائر موارد هذا التعبير، ويمكن أن يكون المراد خصوص العالم المحسوس باعتبار أنّه هو الذي يمكن أن يكون آية للناس. و«الآية»: العلامة. فكلّ أجزاء العالم المشهود علامات على وجود الخالق القادر الحكيم، فهي تدلّ على الله تعالى من جهة إمكانها وحاجتها في كينونتها وبقائها إلى سبب ومن جهة النظام المستقرّ فيها، ومن جهة بديع تركيبها وجمالها، ومن جهة الهدف والغرض المشهود من الدقّة في أجزائها وغير ذلك، فأينما تدور بعينك في الكون تجد الآيات واضحة بيّنة. فالنظام المستقرّ في الأجرام الفلكية التي تدور ملايين السنين دونما أيّ تغيّر

ص: 348

وانحراف، ودون أي خطر يهدّد كيانها آية عظيمة من آياته تعالى ونظام المجموعة الشمسية التي نحن فيها بالذات وما فيه من خصائص تساعد على تكوّن الحياة على هذا الكوكب آية أخرى، وما نجده في كلّ ذرّة من ذرّات الكون من النظام الحاكم في أجزائها والموجب لتكوّنها وتكوّن الأجسام منها آية أيضاً، ثمّ إذا لاحظنا كلّ مجموعة من المخلوقات على الأرض وما فيه_ا م_ن نظام، ثمّ ما بينها من تناسب وتناسق لتبقى دائرة الحياة على هذا الكوكب مستديمة لكان فيها ما يكفي لمن يتدبّر ولا يعاند.

ولا يمكن عدّ آياته تعالى في الكون: (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله ).(1) ومن العجيب أنّ المتعمّقين في أجزاء هذا الكون وفي نظامه المتكامل كلّما زادوا تعمّقاً وغوراً زادوا بعداً عن الله تعالى وكفراً به، وقلّ من تجده مؤمناً منهم. ويحاولون تفسير الكون بما لا يبقى معه مجال لفرض وجود خالق ،مدبّر، فكأنّهم إذا اكتشفوا النظام الموجود في الكون وعلموا سبب ترابط الأجزاء المبعثرة تراجعت فكرة وجود الخالق وكأنّ الاعتقاد بوجود المدبّر الحكيم يبتني على عدم وجود قانون في الطبيعة، وكأنّه تعالى يدير الكون من غير نظام بينما العكس هو الصحيح. وأنّ النظام الموحد المتكامل الذي يحقّق ترابط الأشياء صغيرها وكبيرها لهو أقوى دليل على وجود الصانع ووحدته وحكمته وتدبيره.

ويلاحظ أنّ هؤلاء يصفون المؤمنين بأنّهم سُدّج وبسطاء، ولكنّ الواقع أنّ المؤمنين من أفطن الناس وأذكاهم، فلهم عقلية تحاول كسر الحواجز والوصول

ص: 349


1- لقمان (31): 27

إلى ما وراء هذه الظواهر، وهؤلاء هم الذين إذا رأوا الآيات رأوا فيها اليد الصانعة، وشعروا بما وراءه من حكمة ،وتدبير وليسوا كهؤلاء السذّج الذين يتعمّقون في هذا الظاهر ولا يتجاوزونه، فهم كما قال الله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ).(1)

ومن غريب ما نسمعه من ملاحدة العصر أنّهم يقولون: لماذا نبحث عن حقيقة لا يمكننا الوصول إليها وهي غير محسوسة ولا مرئية حتّى بالأجهزة؟! وم_ا ه_و الداعي لتكلّف الإيمان به مادام الوضع المادي لا يتغيّر عمّا ه_و ع_ل_ي_ه، فسواء عرفناه أم لم نعرفه، فالأسباب الطبيعية هي التي توصلنا إلى أهدافنا؟! فما لنا نبحث عن أنّه هل هناك خلف هذه الأسباب من يديرها أم ليس وراءها أحد؟ فحسبنا أن نعرف الأسباب و نتمسّك بها!

ويقال لهم: لو سلّمنا أنّه لا فائدة تعود علينا في هذه الدنيا من معرفة الخالق الحكيم، ولو سلّمنا أنّه لا يجب علينا عقلاً ومنطقاً أن نشكر المنعم، ولو سلّمنا أيضاً أنّنا لا نستوحش من تصوّر العالم يسير بلا إدارة وبلا حكمة، وكأنّه جهاز لا يحكمه إلا زرّ التشغيل، ولكن ما الذي يؤمّننا من العذاب المحتمل الذي وعد به الأنبياء والرسل ونزلت به كتب السماء ؟! ونحن نعلم أنّ الأنبياء ما كانوا أناساً كذّابين أو دجّالين أو يبحثون عن مصالحهم، بل نعلم عنهم أنّهم زهّاد في الدنيا، جاهدوا في سبيل تعليم الناس وتزكيتهم وإعلان الخطر المحدق بهم وتحمّلوا في سبيل ذلك أصعب المشاقّ وبذلوا النفس والنفيس وقُتّلوا وشُرِّدوا ولم يتركوا جهادهم، فهم ليسوا ممّن يحاول أن ينتفع بسذاجة الناس، بل كانوا هم أوّل من

ص: 350


1- الروم (30): 7

يلتزم بالطريقة التي يبلغون عنها؛ اذن فاحتمال صدقهم في ما يدعونه احتمال قويّ يبعث الإنسان العاقل على الاهتمام به والبحث عن الحقيقة من أجله.

وربّما يسأل عن وجه التقييد في الآية بالمؤمنين، فإنّ المفروض أنّ هذه الآيات طريق للإيمان، فالذي يحتاج إليها هو الذي لم يؤمن حتّى الآن لا المؤمن؟

والجواب أوّلاً: أنّ المؤمن أيضاً يحتاج إلى ما يقوّي إيمانه حتّى لا يتأثّر بالأعلام المعادي؛ وثانياً: أنّه لعل المراد بالمؤمنين من يمتلك الأرضية الصالحة للإيمان، فلا يعاند الحقّ مع وجود الأدلّة والبراهين الواضحة، ولا يخالف نداء الفطرة، ولا يعادي الله تعالى ولا يكون ممّن لا يؤمن إلا بما يراه، بل ربّما يشكك حتّى فيما يراه ويشعر به أيضاً.

(وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). الآية السابقة تلفت الأنظار إلى الآيات في الكون بكامله وهذه الآية تعيد بالإنسان إلى نفسه وإلى ما يماثله من بين الأشياء، أي الحيوان. انظر وتدبّر في كلّ جارحة وعضو في جسمك تجد عجباً. ويكفي الإنسان في معرفة ربه وحسن تدبيره أن يلاحظ ما آتاه الله من أعضاء داخلية وخارجية، وما آتاه من قوى وغرائز، سواء كمل علمه بمعرفة وظائف الأعضاء وأدوارها وتطوّرها وارتباط بعضها ببعض، وكيفية تغذيها ومقاومتها لما يهجم عليها من جراثيم، أم كانت له معرفة بدائية لا يعلم من العين إلا أنّها تبصر ومن الأذن إلا أنّها تسمع، فكلُّ حسب معرفت_ه ي_شع_ر بع_ظ_م_ة م_ن أودع فيه هذه الأعضاء ونظمها على هذا الترتيب الأنيق الجميل بحيث يعمل كلّ عضو عمله ولا يزاحم الآخر ، ومع ذلك فهي زينة لصاحبها وجمال لمظهره.

ص: 351

والبحث في وظائف الأعضاء أعظم من أن يسجّل في مقال أو كتاب، ب_ل أعظم من أن يختصّ بها شخص واحد، فلكلّ عضو، ب_ل لكلّ جزء م_ن ع_ض_و خبير متخصص، وهم مع ذلك يعترفون بأنّهم لم يبلغوا غايته ولن يبلغوا بالطبع، وكلّ ما فتح لهم باب علموا أنّ هناك مجاهيل كثيرة. ولقد قرأت قبل سنين في مجلة لا تعترف بالله وتحاول تفسير الكون بما لا يكون فيه مجال للاعتراف بالله تعالى، قرأت فيها تقريراً لسلسلة الأعصاب التي تشتمل عليها العين، والكاتب المتخصّص يحاول أن يقول: إنّها من صنع الطبيعة ومع الطبيعة ومع ذلك لمّا خاض في شرح

ارتباط هذه الأعصاب لم يتمالك نفسه فكتب الله أكبر!

وأعجب من جسم الإنسان الذي هو _ فيما يبدو ___ أشدّ تعقيداً م_ن ك_لّ مخلوق على الأرض روحه الذي لم يصل إلى فهم خباياه وزواياه العلم مهما توسعت دائرته، بل لم يكشف العلم حتّى الآن وجوده، ومن يدّعون بالعلماء ينكرون حقيقة وراء جسم الإنسان تختصّ به، ولكنّ الله تعالى الذي خلقه أخبر عن هذه الحقيقة، فقال: (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِه)(1) وقال أيضاً: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثمّ انْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخالِقين)(2) وهو الذي يتوفّاه الله تعالى حين موت الإنسان، بل حين نومه أيضاً، كما قال تعالى: (الله يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمتُ في مَنامِها).(3)

ثمّ انظر إلى ما حولك من الحيوان - والدابة كلّ ما يدبّ على الأرض -

ص: 352


1- السجدة (32): 9
2- المؤمنون (23) : ١٤ .
3- الزمر (٣٩): ٤٢

وتدبّر في صغيرها وكبيرها واسأل نفسك: من نظّم أمورها وتكفّل رزقها وجعل لكلّ واحد منها ما يحتاجه من الأعضاء المناسبة لكيفية أكله وشربه وتكاثر نسله وجعل بعضها غذاءاً لبعض آخر؟ ومن نظم هذه الحلقة المستديرة في طبيعة الحيوان بحيث لولا ذلك لاختل نظام البيئة؟

وأخيراً عرف الإنسان الجاني على نفسه وغيره أنّه أضرّ بنفسه أيضاً وأضرّ بالبيئة التي يسكنها ، حيث تسبّب في إزالة بعض هذه الحلقة من الوجود وهو الآن يحاول أن يصحّح أخطاءه، ولكن لا يعود إلى نفسه فيتفكّر في من دبر هذا الكون وكلّ أجزائه، وهل الطبيعة العمياء تحمل هذا الذكاء البارع فتكون نفسها؟!

و«البث: النشر والتفريق والفعل المضارع يدلّ على الاستمرار و (مَا يَبُثُ) عطف على (خَلْقِكُمْ)، أي وفيما يبثّ وينشر من دابة آيات والمراد إيجادها بمختلف أنواع الإيجاد، فمنها ما يخلق بالولادة ومنها ما يوجد بالتبييض ومنها ما يوجد بأسباب أخرى، فالحياة والدبّ والحركة لا تختصّ بما نسميّه حيواناً في المصطلح العرفي. والحياة سرّ لم ينكشف حتّى الآن، ولعلّها تبقى إلى الأبد سرّاً غامضاً.

نعم في كلّ ذلك آيات لقوم يوقنون، أي من ليس مضطرباً في التفكير، كأهل الوسوسة حيث لا يحصل لهم يقين بشيء حتّى ما يجدونه برأي العين. وليس معنى اليقين ما ذكره المفسّرون من أنّه زيادة في الإيمان وبلوغ مرحلة اليقين ونحو ذلك ممّا قالوه في وجه اختلاف التعبير في الآيات، بل المراد أنّ هذه الآيات تفيد من له نفس مطمئنة سليمة يمكنه أن يحصل على اليقين إذا تأمّل وتفكّر، ولا يختصّ يقينه بما يراه ويشعر به ولذلك أتى به بصيغة المضارع ليدلّ

ص: 353

على الاستمرار، بخلاف الآية السابقة حيث جعل الآية للمؤمنين؛ لأنّها توجب حصول الإيمان الثابت؛ ومن هنا لزم إقحام كلمة «القوم» ليتأتى الإتيان بالمضارع.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) ، أي «وفي اختلاف»، فالحرف هنا مقدّر. وهذه الآي__ة تنبّه الإنسان بما حوله من ظواهر الطبيعة التي ألفناها، فلم نعد نشعر بإعجازها وغرابتها، ودلالتها على الخالق الحكيم الرحيم، فمنها اختلاف الليل والنهار. ول__ه معنيان:

أحدهما: الاختلاف بمعنى التعاقب، فالليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، ولو استمرّ الليل أو النهار لاختل النظام وكم من مفاسد تترتّب ومصالح تفوت بذلك ممّا يطول شرحها.

والثاني: اختلافهما طولاً وقصراً وهذا أيضاً أحد معنيي قوله تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)(1) وهذا الاختلاف الذي ينشأ من انحراف مدار الأرض هو الذي يتسبّب في حدوث الفصول المختلفة وما يترتّب على ذلك من آثار عظيمة على هذا الكوكب.

(وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) عطف على (اخْتِلافِ اللَّيْلِ) مع تقدير حرف الجرّ، أي «و في ما أنزل».

والمراد بالرزق النازل من السماء المطر. قيل: عبّر عنه بالرزق، لأنه سببه، فبالمطر يحصل الإنسان على ما يريده من نبات الأرض. ولكنّ الصحيح أنّ المطر هو بنفسه أعظم رزق للإنسان والحيوان والنبات، وعليه تتوقّف الحياة لكلّ الأحياء.

ص: 354


1- الحجّ (22) : ٦١ لقمان (31): (29؛ فاطر :(35) 13؛ الحديد (٥٧): ٦

فانظر كيف دبّر الله تعالى الكون لإنجاز هذه المهمّة وكيف سخّر له الشمس والرياح والبحار وغير ذلك. ولولا نزول المطر لم يكن على وجه الأرض ماء عذب، فكلّ الأنهار والعيون ونحوها مخازن للأمطار. والأرض تموت بانقطاع المطر بمعنى أنّها لا تنبض بالحركة والإنبات فإذا أنزل الله ماء السماء اهتزّت وربت وانبتت من كلّ زوج بهيج. ويعبّر عن هذه الحركة والنشاط الحادث في الأرض بعد موتها، بالحياة.

(وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ)، أي «وفي تصريف الرياح» والمراد به تغيير مسار الرياح، وله آثار عظيمة في الحياة على الأرض، فبهذا التصريف ينتقل الهواء البارد إلى الأماكن الحارّة، فتتلطّف الجوّ، وبه أيضاً تنتقل الغيوم إلى ما شاء الله أن ينزل عليها رزقه وبه تتنقل الأدخنة والغبار والروائح الكريهة.

(آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في كلّ ذلك آيات لمن يعقل. وليس معن_ى ذل_ك م_ا ذكروه من أنّه مرحلة أعلى من الإيمان واليقين أو أنّه بمعنى التفكّر في خلق الله، بل المراد أنّ الذي يتأثّر من مشاهدة هذه الآيات فتدلّه إلى الله تعالى، هم الذين يعقلون. والعقل في الأصل هو الحبس، ومنه عقال البعير، والعاقل من يحبس

نفسه ممّا يعمله السفهاء والعقل ما به تدرك الحقائق وتكتسب العلوم ، ووجهه أنّ العاقل يحبس في ذهنه ما يدركه من الجزئيات، ثمّ يستنتج منها علماً ولذلك قال تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)،(1) ومعناه أنّ عدم التعقّل يترتّب على الصمّ والبكم والعمى، فمن لا يتمكّن من إدراك الجزئيات لفقدانه الحواس لا يتمكّن حبس الجزئيات، فلا يعقل شيئاً ولا يكسب علماً، ومثل هذا لا يتأثّر بمشاهدة

ص: 355


1- البقرة (2): 171

الآيات ولا ينتقل منها إلى معرفة ربّه.

واختلاف التعبير في هذه الآيات لا يدلّ على خصوصية في كلّ منها، فتختصّ الأولى بالمؤمنين والثانية بأهل اليقين والثالثة بأهل العقل كما قيل، بل المراد أنّ هذه الآيات مع أنّها واضحة بيّنة إلا أنّها لا تفيد إلا من تكون له هذه الخصال الثلاث:

أولاً: الاستعداد للإيمان بالغيب، فلا ينحصر فهمه بالمحسوسات ولا يعاند،وهذه نفسيّة خاصّة تساعد على الإيمان؛ ونحن نعلم أنّ كثيراً من الكافرين يحملون نفوساً عنيدة، فلا يقبلون ولا يستسلمون للحقّ حتّى لو كان واضحاً ونعلم أنّ هناك من الناس من طبعه العناد والمكابرة.

ثانياً: إمكان الوصول إلى اليقين، فلا يكون مضطرب النفس لا يستقرّ ذهنه على شيء، فمثل هذا لا يؤمن، وإن وجدت مؤمناً مضطرباً فاعلم أنّ إيمانه وراثي وليس بالتفكّر والتدبّر.

ثالثاً: أن يكون من أهل التعقّل، أي يكون مدركاً للحقائق، فالذين لا يعقلون ولا يشعرون وهم كثير من الناس، بل هم الأكثر لا يؤمنون بالله تعالى وبآياته الدالّة على حكمته وتدبيره وربوبيته، كما قال تعالى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).(1)

ولكنّ المفسّرين ذكروا وجوهاً في سرّ الاختلاف لا تخلو من ضعف، نذكر وجهين منها لعلّهما أقوى ما ذكر، ففي «الميزان» (2)ما ملخّصه أنّ آية السماوات

ص: 356


1- يوسف (12): 103
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن ١٨: ١٥٧

والأرض تدلّ بدلالة بسيطة ساذجة على أنّها لم توجد نفسها بنفسها، بل لها موجد، فاعتبر ذلك آية للمؤمنين بوجه عامّ، وأمّا أنّه خلق الإنسان والحيوان الذي له شعور، فكونه آية الله إنّما هو بلحاظ أنّ نفوسها من عالم وراء عالم المادة وهو الملكوت، وقد قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ)(1) فتختصّ الدلالة بأهل اليقين، وأمّا آية الحوادث الكونية فتحتاج إلى مزيد من التعقّل والتفكّر ولا تنال بالفهم البسيط، فاختصّت بهم.

وذكر بعضهم أنّ الوجه في الاختلاف أنّ الإنسان يمرّ بمراحل ثلاث في معرفة الله تعالى، فالأوّل هو التفكّر، ثمّ اليقين، ثمّ الإيمان، ولكنّه ذكرها بالعكس الشرافة الإيمان، ثمّ اليقين، ثمّ التفكر.

وأظنّ أنّ التكلّف الواضح فيهما وفي غيرهما يغنينا عن التعرّض لما فيهما من الضعف، مع أنّهما أوضح ما قيل في الباب، وما ذكرناه لعله أوضح، والحمد لله أولاً وآخراً.

(تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحقِّ). الإشارة يمكن أن تكون إلى الآيات الكونية، ومعنى تلاوتها بيانها، كقوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا اتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)(2) ويمكن أن تكون إشارة إلى آيات الكتاب التي تتضمّن الإشارة إلى آيات الكون والتلاوة واضحة فيها. والتلاوة «بالحقّ» قد تكون بتقدير التلبّس، أي نتلوها متلبّسة بالحقّ، بمعنى كون آيات الكتاب مطابقة للواقع.

ويمكن أن يكون «بالحقّ» قيداً للتلاوة، نظير قوله تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ

ص: 357


1- الأنعام (٦) : ٧٥
2- الأنعام (٦): ١٥١.

يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ)،(1) و«التلاوة بالحق» هي التي لا تزيد ولا تنقص، فيكون المراد أنّ القرآن ينزل من عند الله تعالى مأموناً من تدخّل الشياطين، وعليه فتكون الآي_ة حاكية عن لسان الملائكة من دون إسناد إليهم وله نظائر في القرآن، كقوله تعالى: (وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ)(2) وقوله تعالى: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ).(3)

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)، أي إن لم يؤمنوا بهذا الحديث مع أنّه من الله تعالى، فبأيّ حديث يؤمنون؟! والاستفهام للإنكار، أي إنّهم لا يؤمنون بأيّ حديث آخر إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث، ومعنى ذلك أنّهم ممّن لا يحصل لهم الإيمان بشيء وهو ما يدلّ عليه تقييد الآيات بالمؤمنين على ما أوضحناه.

وربّما يتصوّر إشكال في هذا التعبير، مع أنّه متكرّر في القرآن وغيره من جهة أنّ الله تعالى ليس له قبل ولا بعد، ومن جهة أنّه ليس حديثاً، فما هو المصحّح لهذا التعبير؟

قال في «الكشّاف»: «أي بعد آيات الله ، كقولهم: أعجبني زيد وكرمه، يريدون أعجبني كرم زيد. ويجوز أن يراد «بعد حديث الله» وهو كتابه وقرآنه، كقوله تعالى: (الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيث)(4)».(5)

والتوجيه الأوّل أحسن، وإنّما يقال مثل ذلك في ما إذا كان التركيز على

ص: 358


1- البقرة (2): 121
2- الصافات (37): ١٦٤-١٦٦
3- مريم (١٩): ٦٤
4- الزمر (39): 23
5- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤: ٢٨٥ .

المضاف إليه والمقام من هذا القبيل، فالاهتمام بالآيات والاستغراب من عدم الإيمان بها من جهة أنّها مضافة إلى الله تعالى.

ولكن هناك احتمال آخر لم يذكروه، وهو أنّ المراد بالله في الآية الحديث المتعلّق به تعالى، لا حديثه بمعنى اضافته إلى الفاعل، فمعنى الآية أنّهم إذا لم يؤمنوا بالله تعالى وبآياته الكونية فبماذا يؤمنون؟! والغرض من ذلك بيان وضوح الأمر، فهو كقوله تعالى: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أفي الله شَكٍّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ).(1)

ص: 359


1- إبراهيم (١٤): ١٠

سورة الجاثية (7-13)

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَاكِ أَثِيم(7) يَسْمَعُ وَايَتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَتِنَا شَيْئًا أَغْخَذَهَا هُرُوا أَوْلَئِبِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(9) مِّن وَرَآبِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمُ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِنَايَتِ رَبهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِجْزِ أَلِيمُ (11)*اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِى الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَا يَنتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(13)

(وَيْلٌ لِكُلِّ أنَّاكِ أنيم)، «الويل» كلمة تقال للتنديد بأحد، وقيل: إنّ معناها قبحاً له. وأمّا ما يقال: إنّه مكان في جهنم، فليس تفسيراً للكلمة في اللغة، ولا دليل عليه في اصطلاح الشرع. والظاهر أنّ معناها تختلف حسب اختلاف الموارد، ولعلّها هنا تفيد التهديد بالعذاب.

و«الأفاك» مبالغة من الإفك وهو الكذب. و«الأثيم» مبالغة تدلّ على ثبات الوصف، فهو بمعنى من يكثر منه الإثم، فكأنّه صفة ملاصقة به.

وذكر هذه الجملة بعد استغراب عدم إيمانهم بالله وآياته للتنبيه على أنّ من لم يؤمن بالله مع وضوح آياته، فإنّما هو أفّاك أثيم، بمعنى أنّه يكذب في دعواه أنّه غير مقتنع بالآيات، وأنّها لا تدلّ على الصانع الحكيم، وهو أثيم بمعنى أنّ شدّة لصوقه بالآثام تمنعه من التفكير في وجود الصانع؛ لأنّ النتيجة المتوقّعة من هذا التفكير تقضّ مضجعه وتقلق باله، فهو يبحث في هذه الحياة عن الحرّية المطلقة ويتهرّب من كلّ ما يقيّده ويمنعه من التوسّع في لذائذه وشهواته.

ولعلّ التعبير عنه بالأفّاك أي بصيغة المبالغة من جهة أنّه يكذب حتّى على

ص: 360

نفسه ويحاول التهرّب من الحقائق التي لا تعجبه فهو يظهر للناس أنّه غير مقتنع بالآيات وهو يكذب في ما يدّعيه، بل هو يرى الحقيقة ويحاول أن لا يراها ويتغاضى عنها عمداً.

(يَسْمَعُ آيَاتِ الله تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) وهكذا يتجلّى العناد بأبشع صوره، وذلك في مقابلة الحقّ الواضح، وهو أوضح الحقّ وأعظمه وأهمّه، وهو تلاوة آيات الله تعالى، أي القرآن الكريم، فإذا سمع الآيات عاند وأصرّ على كفره حال كونه مستكبراً، أي الذي يدعوه إلى معاندة الحقّ هو الاستكبار، فهو يرى نفسه أكبر من أن يصغي إلى هذه الكلمات.

ويلاحظ هذا الاستكبار بين الناس بصور ودرجات مختلفة، فنجد مثلاً في طغاة المسلمين نفس هذه الصفة في مقابل آيات الله تعالى، وهم يدّعون الإسلام، بل قيادة المسلمين، بل هناك من عامّة الناس من يستعلي على الله ويستنكف من أن يخاطب بآية من القرآن، وهناك من إذا قلت له: إنّ الله حرّم هذا، يضحك من كلامك. وهناك من يكتب في الصحف ويعلن أنّنا غير ملتزمين بما ورد في الدين، بل ملتزمون بالقانون الوضعي. كلّ هذا استكبار على الحقّ واستنكاف عن متابعة كتاب الله تعالى وآياته.

وفعل المضارع في قوله: (يَسْمَعُ ) و (يُصِرُّ) يدلّ على الاستمرار والتكرّر، وهو ما يجعله أفاكاً مبالغاً في الكذب على نفسه وعلى الناس، وأثيماً ملازماً للإثم والاستكبار. وقوله تعالى: (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا ) أي «كأنّه» وقال في موضع آخر: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً)(1) وهم يعترفون ب_ه عل_ى م_ا

ص: 361


1- لقمان (31): 7

حكاه الله تعالى عنهم، كما قال: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقَرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ).(1)

والتعبير بالبشارة بالنسبة للعذاب تهكّم واستهزاء يستحقه المستكبر على الله تعالى.

(وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ هُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) هذه مرحلة اُخرى للمستكبر المذكور لا يسعه أن يولي، كأنّه لا يسمع حيث إنّه يسمع الآية، فيعلمها ويدرك معناها، ولكنّه يواجهها بالسخرية والاستهزاء والهُزُو والهُزء مصدر بمعنى السخرية، وهو هنا بمعنى المفعول به، فهو يتخذّ آيات الله مهزوءاً بها، أي يستهزئ بها. ويفهم من العبارة أنّه يسمع من الآيات شيئاً ويستهزئ بجميعها، كما يظهر من الضمير المؤنث حيث يعود إلى (آياتِنَا) . والسرّ فيه أنّه لا يهمه المعنى والمضمون وإنّما يستهزئ بها جميعاً؛ لأنّها بأجمعها تدعوه إلى الإيمان بالله وملازمة التقوى، وهذا هو الذي يستفزّه ويبعثه للمعاندة. ومثل هذا يستحقّ عذاباً مهيناً يذلّه بين الناس جزاءاً على استكباره واستهزائه.

والاستهزاء أقبح ما يتعامل به بعض المعاندين للحقّ، كما نجده في القرآن كثير منهم في الأمم السالفة، وذلك لأنّه بالرغم من تأثيره الوسيع والعميق في المجتمع لا تمكّن مواجهته من قبل الأنبياء والعلماء والمصلحين؛ إذ يعتمد على منطق ليواجه بالمنطق والبرهان وهم أرفع قدراً من أن يواجهوه نقلاً عن بمثله.

ويلاحظ أنّ الكفرة المعاندين في هذا العصر أيضاً يتّبعون نفس الأسلوب في

ص: 362


1- فصّلت (٤١): ٥

مواجهة الأديان عامّة والإسلام بالخصوص، وقد ملأوا صحفهم بالصور المشينة ويصرّون على تكريرها وتكثيرها.

(مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ)، «جهنّم» اسم للنار التي خلقها الله تعالى للعصاة ال_م_ردة، والظاهر أنّها في الأصل كلمة عبرية. وقوله تعالى: (مِنْ وَرَائِهِمْ) أي عاقبة أمرهم جهنّم، فكونها وراءهم باعتبار أنّها هي العاقبة.

وقيل: إنّ قوله تعالى: (مِنْ وَرَائِهِمْ)، أي من أمامهم وأنّ الوراء يشمل الأمام، فإنّه مأخوذ من المواراة، فكلّ شيء يواريه الجسم فهو وراءه، سواء كان أمامه أو خلفه. وهو تأويل بعيد ويُفقد التعبير لطفه.

ويمكن أن يقال: إنّ اعتبارها وراءهم بلحاظ أنّها تتعقّبهم وتطلبهم، فكأنّها حيوان مفترس تحاول الهجوم عليهم من ورائهم، ونظير هذا التعبير متعارف لدى الناس يقال: إنّ وراءنا عمل أو دراسة ونحو ذلك، والمقصود أنّ العمل والدرس يطلبان منّا الاستعداد لهما.

(وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله أَوْلِيَاءَ وَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، الإغناء: الكفاية. وأغنى عنه أي كفاه «وشيئاً» مفعول «يغني» والمراد شيئاً من العذاب أو شيئاً من الإغناء، أي لا أثر له نهائياً، فوجوده كعدمه. والمراد بما كسبوا يمكن أن يكون المال، فإنّ الأثرياء يظنّون أنّ كلّ مشكل يمكن حلّه بالمال. وهذا وإن لم ينطق به بعضهم فهو مستقرّ في نفوسهم حيث يجدون أنّ كلّ ما حلّ بهم من أمر أمكنهم أن ينقذوا أنفسهم ببذل المال، فيظنّون أنّه سينفعهم يوم القيامة أيضاً والله تعالى يقول: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ)(1) ويقال: إنّه

ص: 363


1- الشعراء (٢٦): ٨٨

كان هناك في العصور القديمة من يأمر بأن يدفن القديمة من يأمر بأن يدفن معه المال لينتفع به في الحياة الأخرى.

ويمكن أن يكون المراد بما كسبوا أعمالهم التي تصوّروا أنّها تنفعهم وهي لا تنفع لكفرهم حتّى لو كانت في ذاتها صالحة، كالإحسان إلى المحتاجين وبناء المدارس والمستشفيات، ولعلّ كثيراً من الطغاة والمفسدين الذين يعملون بعض هذه الأعمال يظنّون أنّه لو كانت هناك حياة أخرى فستنفعهم، والله تعالى يقول: (وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلِ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْشُورًا)؛(1) لأنّهم لم يعملوا هذه الأعمال تقرّباً إلى الله تعالى، فلا يحقّ لهم أن يتوقّعوا جزاءاً منه، وإنّما عملوه لإرضاء الناس، فليتوقّعوا منهم الأجر والثواب.

وكذلك لا تنفعهم ولايتهم لمن اتخذوهم أولياء من دون الله تعالى، والولي هنا بمعنى المتبوع ولا يختصّ بالأصنام - كما قيل - بل كلّ ما اعتبر ولي_اً م_ن دون الله تعالى، فإنّه لا ينفع شيئاً يوم القيامة؛ فإن الله هو الولي.

ومعنى اتخاذ وليّ من دون الله تعالى أن يعتبره مؤثّراً باستقلال، فيجعله ولياً له بدلاً من ولاية الله تعالى أي يعتقد فيه الربوبية، وهذا هو الكفر أو الشرك، سواء كان ذلك صنماً أو ملكاً أو بشراً، كما يعتقد النصارى في السيّد المسيح علیه السلام وهذا لا يشمل من يوالي أولياءه تعالى من جهة أنّهم أولياؤه، فإنّه ليس من اتخاذ الولي من دونه، بل ولايتهم تتّبع ولاية الله تعالى شأنه.

(هَذَا هُدى) إشارة إلى القرآن الكريم «والهُدى» مصدر وحمله على القرآن من باب المبالغة، كأنّه هو الهداية نفسها.

ص: 364


1- الفرقان (٢٥): ٢٣

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ هُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزِ أَلِيمٌ)، يمكن أن يراد بالآيات ما يشمل القرآن وغيره من كتب السماء والآيات الكونية. ويمكن أن يراد خصوص القرآن كما هو ظاهر السياق. وإنّما ذكرت الآيات للإشارة إلى العلّة، فهؤلاء يستحقّون هذا العذاب؛ لأنّ تكذيبهم للقرآن كفر بآياته تعالى.

و«الرجز» يقال: إنّه إبدال من الرجس، وهو القذارة، أي عذاب أليم من القذارات. وفيه تحقير وإذلال و«الأليم» مبالغة في إيجاب الألم، وعلى هذا الاحتمال ينبغي أن يكون مرفوعاً وصفاً للعذاب، كم_ا ه_و ف_ي المصحف الموجود.

وقيل: إنّ أصل الرجز الاضطراب، فيمكن أن يراد أصله أيضاً، فإنّ عذاب الاضطراب في الدنيا من أشدّ العذاب وهو بالفعل عذاب من يكفر بآيات الله تعالى؛ لأنّه لا يمكنه الإنكار على حقيقته، فإذا لم يؤمن بقي حائراً مضطرباً. و«أليم» على هذا الاحتمال مرفوع أيضاً.

وقيل: إنّ الرجز هو العذاب مطلقاً، فلا بدّ من أن تكون «من» بيانية، ولا يناسب رفع كلمة «أليم»، بل يناسب الجرّ، كما هو قراءة الأكثر على ما قالوا، لتكون صفة للرجز، ويصحّ كونه بياناً للعذاب المطلق، ولكنّه في المصحف الموجود بأيدينا مرفوع.

(الله اللَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) بعد التنديد بمن يكفر بآيات الله ينبّه الإنسان على نعمه تعالى المحيطة ،به ليتبيّن له فظاعة الكفر بآياته وأنّه يستحقّ عليه العذاب، ولذلك لم يوجهه _هه إلى الآيات البعيدة، بل إلى النعم القريبة منه والمحيطة به وتقديم اسم الجلالة وهو

ص: 365

مسند إليه يفيد الحصر، وأنّ هذه النعم ليست إلا منه تعالى؛ وللتنبيه على أنّ محلّ الاهتمام في الكلام المسوق لذكر النعم هو التعريف بالمنعم الذي يجب شكره.

ولعلّ اختيار البحر من بين النعم من جهة عظمته وضخامته وقوّته وخوف الإنسان من أهواله، فيبيّن الله تعالى له أنّك على ضعفك أمام هذه القوّة الجبارة؛ انظر كيف سخّره الله تعالى لك وجعله طريقاً سهلاً للسفن التي تشقّ عبابه بأحجامها المختلفة وتنقل البشر وأحماله حيثما يشاء. كلّ ذلك بأمر منه تعالى، وهو الأمر التكويني الذي جعل البحر بطبيعته مستجيباً لطلب الإنسان استخدامه للتحرّك فيه حسب النظام الذي أعدّه الله تعالى فإذا كانت سفينة شراعية فإنّها تسير حسب الرياح المسخرة بأمره تعالى، وإن كانت تسير بأجهزة، فتسير حسب القوة التي أودعها الله فيها وفي وقودها.

و«الابتغاء»: الطلب. و«الفضل»: الزيادة. وكلّ ما ينعم الله تعالى به على عباده فضل منه تعالى وزيادة؛ إذ لا يستحقّ أحد عليه شيئاً. والمراد بالفضل هنا رزقه تعالى، فقوله: (وَلْتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ولتطلبوا من رزقه بالسفر بحراً إلى أماكن بعيدة للتجارة، فإنّ كلّ ما يحصل عليه الإنسان بكدّ يمينه ليس إلا رزقاً من الله تعالى وهو الذي هيّأ له الأسباب.

واللام في قوله: (سَخَّرَ لَكُمْ) تحتمل التعدية بمعنى كون البحر بذاته مسخّراً ومذللاً لإرادة الإنسان يتصرّف فيه كما يشاء حسبما أوتي من قدرة ودهاء، ويحتمل التعليل بمعنى كونه مسخّراً لمصلحة الإنسان، نظير تسخير الشمس والقمر، كما قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ)،(1) فإنّ الإنسان لا يمكنه

ص: 366


1- إبراهيم (١٤) : ٣٣

التصرّف فيهما ولكنّهما مسخّران بإرادته تعالى لمصلحة الإنسان.

وذكر لهذا التسخير ثلاث غايات: جريان الفلك في البحر، وطلب الرزق، والغاية القصوى لكلّ نعمة هو إيجاد الأرضية الصالحة لشكر المنعم. وقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ ) يفيد هذا المعنى، أي خلق الأرضية الصالحة للشكر، ولم يقل «ولتشكروا»؛ إذ قد لا يشكرون، وقد قال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).(1) ويلاحظ الاهتمام على الإضافة إلى الله تعالى في كلّ جملة، فجريان الفلك بأمره وطلب الرزق من فضله وأخيراً تشكرونه على نعمه.

(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) تعميم بعد ذكر الخاصّ، فالتسخير لا يختصّ بالبحر ، بل كلّ ما في السماوات وما في الأرض مسخّر لكم. وقوله تعالى: (جَميعاً) يؤكّد أنّه لا يشذّ عن ذلك شيء. وليس معنى التسخير هنا أنّ الإنسان له القدرة في التصرّف في كلّ ذلك، بل بمعنى أنّها مسخرة لمصلحة الإنسان، فكلّ حركة الأفلاك والنجوم والمجرات الهائلة تصب في مصلحة الإنسان، فضلاً عن كلّ ما على وجه الأرض وما في باطنها، ولعلّه يستغرب أن تكون للمجرّات البعيدة تأثير على الحياة البشرية ولكن لا يبعد أن يكون لكلّ منها تأثير في حركة النجوم والكواكب والنظام الكوني، وبالتالي تؤثّر على نظام حركة الأرض وما نجده من الليل والنهار وغير ذلك.

ويمكن أن يقال: إنّ معنى التسخير أنّ الله تعالى جعل له الحقّ والاختيار في أن يتصرّف في الكون كيف ما يستطيع، فالمجال مفتوح أمامه وإن كانت قدراته محدودة، ولعلّ في ذلك حتّاً على محاولة التوسّع في القدرات.

ص: 367


1- سبأ (٣٤): ١٣

هذا بناءاً على أنّ المراد بالسماوات هنا الأجرام العلوية، والمراد بالأرض الكرة الأرضية ، ولكن لا يبعد أن يراد المعنى الذي ذكرناه مراراً، في__راد بالسماوات العوالم العلوية التي هي مسكن ملائكة الله تعالى، ويراد بالأرض عالم الطبيعة بأجمعها، وذلك لأن الملائكة أمرت أن تسجد لآدم علیه السلام وهو رمز البشرية، قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثم قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا)،(1) وهذا ربّما يدلّ على أنّ البشر هو المسجود للملائكة، واحتملنا في موضعه أن يكون المراد بالسجدة نوعاً من التسخير، فإنّ كلّ حركة وسكون في الطبيعة لا يكون إلا بأمر من ورائها والملائكة هم الذين يدبّرون أمور الطبيعة، كما قال تعالى: (فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا)(2) وهم الذين ينزلون بأوامر الله تعالى إل_ى ك_لّ

شيء في الكون، فلعلّ الأمر بالسجود بمعنى أنّ الله تعالى جعل لهذا الكائن الاختيار في ما يريد أن يفعل ، وأمر ملائكته بتنفيذ أوامره، ولولا ذلك لم يكن للإنسان أن يختار.

وأمّا قوله تعالى: (مِنْهُ) فيدلّ على أنّ كلّ هذا الاختيار من الله تعالى. ولع_لّ ذلك التنبيه على أنّ هذا التسخير ليس بمعنى التفويض، وليس للإنسان أن يتصرّف في شيء إلا بإرادته تعالى، والله لا يفوّض أمر الربوبية إلى أحد حتّى فيما يخصه، كما قال: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أحَداً)(3) ولا يبعد أن يكون حرف الجرّ مع متعلّقه حالاً للتسخير، أي سخّر لكم حال كون التسخير حاصلاً

الغرض من

ص: 368


1- الأعراف (7): 11
2- النازعات (79): 5.
3- الكهف (١٨): ٢٦

من إرادته تعالى المستمرة، فإن لم يشأ التسخير انتفى فوراً، فلا يبقى مجال لاختيار الإنسان، بل يكون كغيره حينئذٍ مسيّراً ضمن النظام العامّ.

وللقوم محاولات في بيان التركيب النحوي لهذه الكلمة وأحسن ما قيل: إنّه حال ممّا في السماوات والأرض ، أي سخّرها حال كونها مبتدأة منه تعالى؛ لأنّه هو الموجد لها. وما ذكرناه أدقّ وأنسب للعبارة.

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)؛ في الكون آيات كثيرة لا تحصى ولك_ن لمن يتفكّر ويتدبّر النظام الكوني المتماسك، وأين موقع اختيار الإنسان منه؟ وكيف يتناسق الاختيار البشري مع جبرية النظام؟ وكيف سخّر الله الكون لهذا الكائن؟ ولماذا؟ وكيف تؤثّر إرادته في ملكوت السماوات وبدونه يستحيل

الاختيار ؟

ص: 369

سورة الجاثية ( 14 - 17)

قُل لِلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَلِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ وَآتَيْنَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ الْكِتَبَ والحكم والنبوة وَرَزَقْتَهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْتَهُمْ عَلَى الْعَلَمِينَ(16)وَآتَيْنَهُم بَيِّنَتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(17)

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ الله) الآية تحرّض المؤمنين على التسامح مع المشركين وتحمّل استكبارهم و استهزائهم. وتوصيفهم بأنّهم لا برجون أيّام الله بمنزلة التعليل للحكم، أي اصفحوا عنهم؛ لأنّهم لا يرجون يوماً للقاء الله تعالى ولا يوماً يجدون فيه ثوابه ولا يرجون اليوم الآخر ولا يوماً يمنّ الله عليهم بالنصر على الأعداء، وهذه كلّها أيّام الله تعالى يرجوها المؤمن، أي يتوقّعها، بينما الكافر لا ينتظر من المستقبل إلا الموت، وبه ينتهي كلّ شيء حسبما يراه، كما قال تعالى: (إنْ تَكُونُوا تَأْلُونَ فَإِنَّهُمْ يَألُونَ كَمَا تَأْلُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لا يَرْجُونَ)،(1) فالآية في مقام الاستعطاف على هذا البشر الجاهل، فتطلب من المؤمنين المترفّعين عليهم واقعاً _ وإن كانوا بحسب الظاهر أدنى منهم في المراتب الاجتماعية الكاذبة - أن يغفروا لهم جهلهم وسفاهتهم وطيشهم وكبرياءهم، ولا يحزنوا إذا لم يتمكّنوا من مجازاتهم، فإنّ الله تعالى لهم بالمرصاد ويكفيهم الجزاء يوم القيامة.

ص: 370


1- النساء (٤): ١٠٤

وليس المراد العفو عنهم واقعاً فهم لا يستحقّون العفو، وإنّما المراد الإعراض عنهم وعدم مشاكستهم في الوضع الحالي، فهو نظير قوله تعالى: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(1) وقوله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أهل الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ هُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بأَمْرِهِ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(2) وغيرهما من الآيات.

ثمّ إنّه لم يأمر بذلك ابتداءاً وإنّما أمر رسوله أن يقول ذلك للمؤمنين، فلعلّ السرّ فيه أنّه نوع من الأوامر الحكومية التي تتّبع المصالح المؤقتة وليس من أصل الشريعة، ولذلك قيل: إنّه نسخ بآية القتال.

والمعروف في إعراب قوله: (يَغْفِرُوا) أَنَّه جواب شرط مقدّر، فإنّه ليس هو المقول، بل المقول: «اغفروا»، والتقدير: قل لهم اغفروا، فإن تقل لهم يغفروا، ومثله قوله تعالى: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا كَما رَزَقْنَاهُمْ سِراً وَعَلانية)(3) ولكنّه بعيد، إذ لا ملازمة بين الأمر والطاعة، ولذلك اضطرّ بعضهم إلى

توجيه ذلك بأنّه من جهة حسن الظنّ بالمؤمنين، ولكن هذا التعبير لا يختصّ بهذه الموارد، ولعلّ الأولى ما قاله بعض آخر: إنّه بتقدير لام الأمر، أي «قل لهم ليغفروا».

والمراد بأيّام الله الأيام التي تظهر فيها آيات خاصّة ل_ه تعالى، كما قال: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِي

ص: 371


1- الزخرف :(٤٣): 89
2- البقرة (2): 109 .
3- إبراهيم (١٤): 31.

ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)،(1) والمراد في هذه الآية الأيّام التي منّ الله فيها على بني إسرائيل وأهلك أعداءهم، ولذلك جاء في الآية التي بعدها: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّه عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).(2)

والظاهر أنّ المراد بها في المقام ما يشمل أيّام النصر الإلهي في الدنيا وأيّام الجزاء في الآخرة.

(لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). اللام لتعليل الغفران، أي اغفروا لهم ليجزيهم الله، وهو في الواقع علّة لأمر آخر مترتّب على الغفران، وهو توقّع الجزاء و انتظاره فالمعنى اغفروا لهم وانتظروا جزاءه تعالى، والظاهر أنّ تنكير القوم ليشمل الطرفين، أي يجزي كلّ قوم ، فالمعنى اغفروا لهم وانتظروا يوماً يجازى فيه كلّ أحد بما عمل، فلا تستعجلوا لهم العذاب ولأنفسكم ،النصر، فإنّ يوم الانتقام الحقيقي والنصر الحقيقي هو يوم القيامة. ويدلّ على ذلك الآية التالية، حيث ذكر حكم الفريقين.

ولعلّ القصد من التنبيه على أنّ موعد جزاءهم الواقعي يوم القيامة هو أنّ كثيراً من الناس حتّى المؤمنين لا يهمّهم جزاء الآخرة، ويشعرون بالكآبة والحرمان إذا لم ينتقم الله تعالى لهم في الدنيا، والله تعالى يشير إلى ذلك في بعض المواضع، كقوله تعالى: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)،(3) ففي ذلك

ص: 372


1- إبراهيم (١٤) : ٥
2- إبراهيم (١٤): ٦- ٧
3- الصف (٦١): ١٣.

إشارة إلى أنّ المهمّ هو الجزاء في الآخرة، ولكنّكم تحبون النصر الدنيوي، وهو جهل من الإنسان وضعف في إيمانه.

واختلف المفسّرون ، فمنهم من فسّر «القوم» بالمؤمنين واعتبر التنكير للتعظيم، مع أنّه ليس من موارده ولا يناسب السياق ،تعظيمهم، مضافاً إلى أنّه لو فرض لكان المناسب أن يقال: ليجزي الله قوماً بغفرانهم، لا بما كانوا يكسبون. ومنهم من فسّره بالكفّار، واعتبر التنكير للتحقير. ولا نجد فيه تحقيراً لهم، والتعميم أولى وأوفق بالسياق.

ويمكن أن تكون اللام تعليلاً لقوله: (يَرْجُونَ) والمراد بأيّام الله أيّام الجزاء في القيامة، أي اغفروا للذين لا يتوقّعون الجزاء أيّام الجزاء، لأنّهم لا يؤمنون بالآخرة، فيكون الجزاء في الآية منفياً بنفي الرجاء، وهذا وجه بديع لم أجده في التفاسير وهو أنسب بالتعميم في القوم.

والحاصل أنّ الآية تدعو إلى نوع من التسامح الديني وهو عدم اللجوء إلى العنف ما لم يضطرّ إليه الإنسان، وأمّا نفي العنف والتسامح مع كلّ ما يريده الإنسان ويعتقده من شرك وكفر والسماح لكلّ المبتدعين والمنحرفين والداعين إلى الفساد والفسق أن يظهروا أمرهم ويفسدوا المجتمع، فليس أمراً يقبل_ه دي_ن الله، فإنّ الدين أتى لهداية الناس، فإذا تمكّن الدين من بسط قوّته و هيمنته وتولّى إدارة المجتمع، فلا يجوز أن يسمح للأصنام أن تبقى ولا للباطل أن ينشر.

وما يقال في أبواق الأعلام الفاسد من الدعوة إلى عدم الدعوة إلى عدم العنف مطلقاً، فهو هراء وليس أمراً عملياً، بل الداعون إليه يرتكبون أشدّ العنف ضد شعوب أخرى بكاملها. وما ينسب إلى غاندي أنّه قال: «مبدأ العين بالعين يجعل العالم كلّه

ص: 373

أعمى كلام باطل؛ فإنّ مبدأ القصاص يمنع من تكرار القتل والاعتداء، كما قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ)(1) وقالت العرب: «القتل أنف_ى للقتل» وهو ما يؤكّده التجربة أيضاً، والعالم الإسلامي طبّق قانون العين بالعين قروناً ولم يتحوّل المجتمع إلى مجتمع أعمى، كما قاله غاندي لو صحت النسبة.

والدعوة إلى التسامح الديني المطلق إنّما تصحّ على مبادئ المادية الإلحادية التي لا تؤمن بحياة أخرى، فغاية الغايات في هذه الحياة عندهم هو الاقتصار على هذه الحياة، فلا بدّ من السعي لإبقائها بأيّ ثمن ولا بدّ من السعي لإسعاد البشر في هذه الحياة، فإنّه إذا مات فقد انتهى أمره. وأمّا على مبادئ الدين الإلهي فالغاية في هذه الحياة كسب السعادة في حياة أخرى، فالتسامح مع الأفكار المخالفة لهذا المبدأ وتركها تنتشر بين الناس إغراء وإغواء وتضليل، ولذلك فهو أشدّ من القتل، كما قال تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)(2) وفي موضع آخر: (وَالْفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)(3) والمراد بالفتنة إضلال الناس عن دينهم.

ولكن ليس معنى ذلك أن يمنع من كان بيده القدرة كلّ فكر يخالف فكره ويمنع من البحث والمناظرة وبسط الأفكار بحجّة أنّها منحرفة وباطلة، وربّما يسمّون كلّ فكر مخالف لفكرهم شركاً وبدعة وانحرافاً وفساداً ليتاح لهم منعه، بل قتل من يعتنقه، كما نجده متداولاً لدى المتشدّدين والمتعصبّين. فالصحيح أن يسمح لكلّ صاحب عقيدة أن يظهر عقيدته ويردّ عليه من يخالفه بالبحث والمناظرة، فإنّ الحقّ ليس أبلج واضحاً دائماً.

ص: 374


1- البقرة (2): 179
2- البقرة (2): 191
3- البقرة (2): 217

والبحث العلمي هو الذي يوصلنا إلى الحقّ، وربّما يكون الحقّ في مسألة من المسائل مع المذهب المخالف، وربّما يكون الحقّ في جهة أخرى غير ما نعتقده ويعتقدونه، وربّما يكون بعض الحقّ معنا وبعضه معهم، فلا ينبغي أن يحكم بشيء قبل البحث الجادّ الموضوعي.

(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) ، تفصيل لما أجمل في الجملة السابقة من مجازاة كلّ قوم بما كسبوا فإن كان العمل صالحاً، أي يصلح للتقرّب إلى الله تعالى ونيل رضاه وثوابه انتفع به العامل؛ و (صالحاً) صفة للمفعول المقدّر، أي عملاً صالحاً، والتنكير يفيد أنّ العمل مهما كان لا يترك بل يجازى عليه، كما قال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)، ولا يكون العمل صالحاً إلا بالنية الصالحة، وهي قصد القربة وامتثال الأمر الإلهي وطلب رضاه، ولا يفوز بذلك إلا المؤمنون المخلصون. وأمّا من أساء فمن الطبيعي أنّ سوء عمله يعود عليه بالضرر يوم تظهر الأعمال بصورتها الواقعية.

(ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)، «ثمۀ» للتراخي، أي بعد أن عملتم في هذا العالم أعمالكم الصالحة والسيئة ترجعون إلى ربّكم للمحاسبة الدقيقة وأتى بالفعل مبنياً للمجهول؛ لأنّ الرجوع ليس بالاختيار وإنّما يُرجع الإنسان إلى ربّه قهراً وقسراً.

والتعبير بالرجوع يوحي أنّكم منه وإليه، وليس معناه أنّ الإنسان كان بين المبدأ والمعاد بعيداً عن ربّه وخارجاً عن سلطانه تعالى، ولكنّه حيث منح الاختيار توهّم الاستقلال، ثمّ ارتفع الغشاء وانكشف الغطاء فرأى نفسه أمام ربّه ومعه أعماله.

ص: 375

(وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ينتقل السياق إلى تحذير المسلمين ممّا لحق بالأديان والشرائع السابقة من الاختلاف الموجب لفقدهم سلطتهم وقيادتهم التي وهبهم الله في تلك الفترة، وضرب المثل ببني إسرائيل لوضوح أمرهم ولقربهم للعرب، ولأنّهم شكّلوا حكومة على أساس الدين، وإلا فالأمر لا يختصّ بهم، كما قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةٌ وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)(1) ومهما كان، فإنّ الله تعالى منّ على بني إسرائيل بأن آتاهم الكتاب والحكم والنبوّة.

والمراد بالكتاب جنسه الشامل للتوراة والإنجيل والزبور. وقيل: المراد به خصوص التوراة، لأنّها الكتاب المشتمل على الشريعة، والأوّل أولى. والمراد بالحكم الحكومة؛ لأنّ الله تعالى جعل منهم ملوكاً وحتّى الأنبياء منهم كانوا يحكمون المجتمع، والحكم متفرّع على نزول الكتاب عليهم، قال تعالى: (إِنَّا انْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ اسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأخبار بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ)(2)، ومن فضل الله عليهم كثرة الأنبياء فيهم .ومنهم. قيل : إنّ منهم أربعة آلاف من الأنبياء، والله تعالى يعد جمعاً كبيراً منهم في القرآن ويشير إلى آخرين.

(وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ). لعلّه إشارة إلى أنّ الله تعالى جعل لهم الأرض المقدّسة وكتبها لهم موطناً، وهي أرض مليئة بالخيرات والبركات، ويمكن أن

ص: 376


1- البقرة (2): 213
2- المائدة (٥): ٤٤

يراد بالطيّبات المنّ والسلوى حيث اختصّهم الله تعالى بهما في سفرهم مع موسى علیه السلام والطيّبات كلّ ما يستلذّه الإنسان ويستسيغه من النعم.

(وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)، ورد هذا التعبير في عدّة موارد والمراد تفضيلهم بكثرة وجود الأنبياء فيهم ومنهم، أو المراد تفضيلهم على العالمين في عصرهم، حيث جعل الله لهم القيادة والحكم والنبوّة.

(وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ) إشارة إلى المعجزات والآيات الواضحة التي منّ الله بها عليهم، ولا شكّ في أنّ نزولها في المجتمع نعمة عظيمة توجب الوثوق والإيمان وإن كانت في نفس الوقت حجّة على الإنسان وفتنة له، وكذلك هي إشارة إلى البراهين والأدلة الواضحة التي وردت في الكتاب أو على ألسنة النبييّن. ومن وظائف النبي أن يبيّن للناس الحقائق والمعارف الإلهية ويأتي بالأدلّة القاطعة المقنعة.

والحاصل أنّ من ارتدّ أو شكّ منهم لم يكن عن عذر ونقص في البيّنات، فالأمر كان واضحاً، وإنّما كان ذلك لسبب آخر، كما سياتي.

والمراد بالأمر في الآية أمر الدين بوجه عام، و «من» تفيد معنى «في» على ما قالوا.

(فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)، «الفاء» للتفريع، أي نتيجة للبيّنات التي آتيناهم كانوا عالمين بما هو الحقّ ومن له الحقّ، ولكنّهم إنّما اختلفوا في ما بينهم لعدوان بعضهم على بعض طلباً لما لا يستحقّونه.

و«البغي» في الأصل هو الطلب، ويغلب إطلاقه على طلب ما ليس بحقّ و«ابغياً» مفعول لأجله، أي اختلفوا طلباً للباطل.

ص: 377

والمراد بالاختلاف ما يسبّب تمزّق المجتمع وصيرورته مذاهب وفرقاً مختلفة، كما حصل في المجتمع الإسلامي أيضاً، فالآي_ة كنظائرها تحذّر المسلمين من وقوع هذا التمزّق والاختلاف نتيجة للبغي وطلب بعضهم ما ليس لهم بحقّ، وهو الذي حصل بالفعل بعد عهد الرسالة المجيدة واستمرّ إلى يومنا هذا. وهذا من إخبار القرآن بالغيب.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) تهديد من الله سبحانه له_م ولنا بأنّ القضاء وهو الحكم الفصل سيكون من الله تعالى يوم القيامة، وذلك بتبيّن الحقائق وكشف الغطاء ووضوح الحقّ ومجازاة المجرمين.

والتعبير بربّك يشير إلى أنّ ذلك حاصل في المجتمع الذي يخصّك وأنت متكفّل بتربيته، حيث إنّهم سيختلفون بعدك، وربّك هو الذي يقضي بالحقّ ي_وم القيامة؛ لأنّه ربّك وعليه إكمال المسيرة التي ابتدأتها برسالتك، وحرّف الباغون مسارها، وهم الذين عبّر عنهم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بالفئة الباغية.

و فی ذلك وعد للمظلومين في هذه المواجهة بأنّ الله سيأخذ حقّهم، ولكن يجب على المؤمن أن يوطّن نفسه أنّ النصر الحقيقي والانتقام الحقيقي إنّما يحصل يوم القيامة. وهذا لا ينافي ظهور الإمام المهدي علیه السلام فإنّه المصلح على وجه الأرض، ولكنّه لا يمكن أن ينتقم من كلّ الباغين، حيث لا مجال لإعادة

التأريخ.

ص: 378

سورة الجاثية (18 - 23)

ثُمَّ جَعَلْتَكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ(18)إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّلِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)هَذَا بَصَبِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن تَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ سَوَاءٌ تَحْيَاهُمْ وَمَمَاهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَئيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَنهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ، غِشَوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(23)

(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ) ، «الشريعة» هي الطريق الموصل إلى الماء،وهنا كناية عن الطريق الموصل إلى المطلوب، وهو رضا الله سبحانه.

والمراد بالأمر أمر الدين و«ثمّ» للتراخي الزماني، أي بعد أن انتهت مدّة قيادة بني إسرائيل للمجتمع الديني بسبب اختلافهم وتمزّقهم اختارك الله تعالى لتقود البشرية إلى الطريق الصحيح الموصل إلى رضوان الله تعالى، وجعل لك الشريعة الحقّة النهائية المناسبة للإنسان إلى الأبد.

(فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) هذا هو الحكم الفصل، فالمقياس هو الشريعة ومتابعتها وكلّ من يخالف الشريعة ويرى رأياً يخالفها، فهو جاهل الأمور وجاهل بالمصالح والمفاسد، وإنّما يتكلّم على هواه فلا يجوز اتّباعه. وهكذا يتحدّد واجب كلّ إنسان وهو متابعة الشريعة فقط.

إنّما الكلام في معرفة الشريعة بعد أن لعبت الأهواء دورها وقلّبت المقاييس

ص: 379

وبغى الباغون وأزالوا الشريعة عن مسارها الأصلي وغيّروا حتّى معالمها الأساسية، فاللازم في هذا الحال معرفة الشريعة الواقعية ومتابعتها وربّما يكون ذلك صعباً بعد أن اختلطت الطرق، وتمكنت السلطة من أخفاء معالم الطريق الصحيح. والأمر وإن كان متوجّهاً إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إلا أنّ الحكم عامّ.

ويبدو أنّ الآية نزلت في مواجهة الاقتراحات المتكرّرة التي كان المشركون یقترحونها على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ليتنازل عن بعض ما يدعو إليه ممّا لا ويخالف أهواءهم، كشرط لإتمام الصلح بينهم وبينه. وما كان الرسول صلی الله علیه و آله وسلم يتنازل قيد أنملة، ولكنّ الآيات الكريمة تدعمه وتقوّي جانبه وتبعث في نفسه الطمأنينة، وكذا في نفوس المؤمنين، مضافاً إلى أنّه يقدّم له ولهم ذريعة وحجّة في مقابل أصحاب الاقتراح، حيث إنّ رفضهم للاقتراح يستند إلى أمر من الله تعالى لا تجوز لهم ،مخالفته، ومن جهة أخرى تؤيس المشركين حتّى لا يستمرّوا في إبداء المقترحات الفاسدة.

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ الله شَيْئاً) كلام واضح لا غبار عليه، ومن يغني أحداً من الله تعالى؟! ومعنى «الإغناء» الكفاية، فالكفاية من الله تعالى بمعنى أنّ أحداً يقوم بالأمر الذي يقوم به الله تعالى. وهذا واضح الاستحالة، فإنّ كلّ من يعمل شيئاً ويؤثّر أثراً في الكون مهما عظم شأنه فإنّما هو يعمل بإذن من الله تعالى؛ إذ لو ل_م يأذن لم يؤثّر أيّ شيء أثره، فلا النار تحرق ولا الماء يبرد، فكيف يمكن أن يغني أحد أو شيء من الله تعالى شيئاً؟!

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالله وَليُّ المُتَّقِينَ)، الآية تزيد من تمسّك الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والمؤمنين بدينهم وتقوّي عزيمتهم وتزيل تخوّفهم من الظالمين

ص: 380

وعدوانهم وتهديداتهم، حتّى لا يهتموا بما يقترحونه كأساس للصلح، ويظلّوا صامدين في تمسّكهم بما أنزل الله تعالى من الشريعة، وذلك لأنّ الله يتولّى أمر المتّقين وينصرهم ويهديهم لما يجب أن يعملوه أو يتركوه وه_و الع_ال_م بحقائق الأمور، وهو لا يتولّى أمر الظالمين ولا ينصرهم، وإنّما يتولّى بعضهم بعضاً وهم لا يغنون ولا ينفعون شيئاً، فأين هذه الولاية من تلك؟!

ولم يعبّر بالمؤمنين والكافرين بل بالظالمين والمتّقين، ومعنى ذلك أنّ الله لا يتولّى أمر كلّ من أسلم ظاهراً ولم يتّق الله في شؤونه، وفي هذا تحذير للمسلمين أن لا يغترّوا بأنفسهم ولا ينسبوا كلّ ما يحصلون علي_ه م_ن ف_ت_ح ظاهري وبسط للسلطة إلى ولاية الله تعالى وتوفيقه، فإنّهم ربّما يدخلون في الفريق الآخر وهم الظالمون، فيكون ما حصلوا عليه نتيجة تعاون الظالمين بعضهم مع بعض. ونجد اليوم أنّ كثيراً من المسلمين يتولّون الكفّار ويأتمرون بأوامرهم ويركنون إليهم، فهم جميعاً ظالمون وبعضهم يتولّى بعضاً.

(هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ)، «هذا» إشارة إلى القرآن الكريم، و«البصائر» جمع بصيرة و معناه العقل والفطنة وما يسمّى برؤية القلب، أي الإدراك لا عن طريق الحواس الظاهرية. وإطلاق ذلك على القرآن باعتبار اشتماله على ما يوجب بصيرة الإنسان ورؤيته لحقائق من المعارف الإلهية ما كان يمكنه إدراكها لولا إخبارالوحی بها- وأتى بالخبر جمعاً باعتبار أنّ القرآن يشتمل على حقائق كثيرة متنوعة توجب البصيرة.

(وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، «الهدی» مصدر، فحمله على القرآن من جهة أنّه يوجب الهداية فهو من باب المبالغة. وهو رحمة، أي سبب لنزول الرحمة من الله

ص: 381

تعالى على من يعمل بما فيه، أو أنّه نزل عليهم رحمة بمعنى أنّه نشأ من رحمته تعالى على الناس.

و«الرحمة» في الأصل رقّة وعطف، ولكنّه حيث ينشأ منه الإحسان أطلق على نفس الإحسان. قيل: وبهذا الاعتبار يسند إلى الله تعالى؛ إذ لا يصحّ إسناد المعنى الحقيقي وهو رقّة القلب. وهذا هو المشهور في توجيه إسناد بعض الصفات إليه تعالى كالرضا والغضب. ولكنّا ذكرنا مراراً أنّ الظاهر أنّ ما يسند من الأوصاف لا يمكن تفسيرها ،بلوازمها، فإنّ رضوان الله تعالى لا يقاس بسائر نعم الجنّة، كما أنّ غضبه وانتقامه وسخطه لا يقاس بالنار وعذابها والرحمة من الله تعالى نوع عطف و توجّه وعناية وهي السبب في الإحسان إلى الخلق.

والظاهر أنّ قوله تعالى: (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) متعلّق بالهدى والرحمة، فالقرآن بصائر للناس جميعاً، ولكن إنّما يهتدي به الذين يوقنون، فتكون رحمة عليهم وقلنا سابقاً إنّه لا يبعد أن يكون المراد بمثل هذا التعبير الذين يحصل لهم اليقين بمشاهدة آيات الله تعالى، لا خصوص من حصل لهم اليقين بالفعل فإنّ من يكون مضطرب النفس لا يحصل له اليقين بالغيب، فلا يؤمن ولا يهتدي بهذا

القرآن.

والقرآن إنّما هو كتاب رحمة لمن يهتدي به، وأمّا بالنسبة إلى غيره فليس رحمة، أي سبباً للرحمة، بل هو يزيدهم خساراً، كما قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَاراً).(1) والسبب أنّه يتمّ الحجّة عليهم وحيث لا يؤمنون به فيزيدهم خسراناً، بل من جهة أخرى يزيدهم طغياناً

ص: 382


1- الإسراء (17): 82

وكفراً وحسداً، كما حدث ذلك بالنسبة إلى النبيّ صلی الله علیه و آله وسلم، فإنّ ال_ق_وم م_ا كانوا يعادونه لولا نزول القرآن والوحي عليه، وكلّ ما أظهروه من عداوة، خسارة ووبال عليهم. فالنتيجة أنّه ليس هدى ورحمة إلا لقوم يوقنون.

(أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءٌ تَحْيَاهُمْ وَتَماتُهُمْ )، «أم» منقطعة والاستفهام فيها للاستنكار، وتقدير «بل» للإضراب عن الحديث السابق، حيث خصّ الهداية والرحمة بقوم يوقنون أو الحديث عن الفرق بين الظالمين والمتّقين، أي ولكن حسب الذين اجترحوا... والاستنكار يدلّ على بطلان هذا الحسبان.

و«الاجتراح» افتعال من الجرح وهو بمعناه والظاهر من كلام اللغويين أنّ للجرح معنيين في أصل اللغة، أحدهما: الاكتساب خيراً كان أو شرّاً. والثاني: شقّ الجلد. ولكن لا يبعد أن لا يكون له معنيان؛ لأنّ الظاهر من موارد الاستعمال أنّه لا يستعمل إلا في موارد كسب الشرّ، فلا يبعد أن يكون أيضاً من الجرح بالمعنى الثاني، والإطلاق بلحاظ أنّ الذي يكتسب الشرّ كأنّه بعمله يجرح ويخدش الضمير الاجتماعي والوجدان البشري، ومن ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ).(1) واجتراح السيئات لا يختصّ بالكفار، بل قد اُطلقت السيّئات في القرآن على صغار المعاصي فضلاً عن الكبائر، قال تعالى: (إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)(2)؛ وأطلقت على بعض الكبائر، كقوله تعالى في قوم لوط علیه السلام

ص: 383


1- الأنعام (٦): ٦٠
2- النساء (4):31.

(وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ)،(1) ولكن سياق الآية يقتضي الاختصاص بالكافر، فإنّ الذي يعتقد أنّه لا فرق بين المؤمن وغيره في المحيا والممات، وخصوصاً في الممات لا يكون مؤمناً ، ولا أقلّ من إنكاره للمعاد، ويؤيّده أيضاً الآيات التالية، فتكون الآية من جهة هذا التعبير مشابهة لقوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)،(2) بناءاً على أنّ المراد بهم المشركون، ومع فإنّ اختيار هذا التعبير لا يبعد أن يكون للدلالة على تعميم الحكم للظلمة الطغاة ممّن يدّعون الإيمان بالله تعالى، حيث يدلّ عملهم على إنكارهم المعاد قلباً.

وقوله تعالى: (أَنْ نَجْعَلَهُمْ) يقتضي أن يكونوا مؤمنين بالله تعالى وبأنّه خالق الكون، بل ربِّ العالمين؛ لأنّ هذا الأمر من شؤون الربوبية. ولكن يمكن توجيه هذا التعبير بأنّه ليس جزءاً من حسبانهم، وإنّما هم يحسبون وحدة العاقبة والنتيجة من دون أن يسندوها إلى الله تعالى إلا أنّه حيث كان على تقدير صحّة الحسبان من شؤون الربوبية أعتبروا كأنّهم ينسبون ذلك إلى الله تعالى.

وقوله: (سَوَاءٌ)، أي متساوية محياهم ومماتهم. وهذا جزء من الحسبان الباطل، أي إنّ الذين اجترحوا السيّئات يحسبون أنّ محياهم كمحي_ا المؤمنين ومماتهم كمماتهم. والمحيا والممات يمكن أن يكونا مصدرين، فالمراد أنّه لا تتساوى حياتهم ولا موتهم، ويمكن أن يكونا اسمي زمان، أي لا يتساوون في زماني

حياتهم وموتهم، والنتيجة واحدة.

وربّما يقال: إنّ محياهم متساو بالفعل، بل لعلّ المفسدين والفاسقين أحسن

ص: 384


1- هود (11): 78
2- العنكبوت (29): ٤

حالاً في الحياة من جهة عدم المبالاة في كسب المال وفي بلوغ الأماني والشهوات، فالفاسق يشعر بالحرّية في كلّ أفعاله وأقواله، والمؤمن ملجم وكالقابض على الجمر، ولذلك أوّل بعضهم المحيا تارةً بأنّ المراد به الحياة في الآخرة، وتارةً بأنّ المراد نفي المجموع، لا كلّ واحد بمعنى أنّهم إذا تساووا في الحياة، فهل نجعلهم يتساوون في الممات أيضاً؟!

ولكن يجب أن يلاحظ أنّ الكفّار والمنكرين للمعاد والظالمين الذين يرتكبون أفظع الجرائم دون أيّ مبالاة وخوف وتوقّع للحساب والجزاء، ماذا يحسبون وكيف يتصوّرون، ليتبيّن المراد بالآية الكريمة؟ والملاحظ أنّهم يرون أن لا ميزة للإيمان والعمل الصالح، لا في الحياة ولا في الممات، أي في ما بعد الموت، أمّا في الحياة فهم يرون أنّ السعادة والشقاء يدوران مدار عم_ل الإنسان وجهده، فلا فرق بين الكافر والمؤمن، ونجد من كلّ فرقة أناساً سعداء في الحياة الدنيا وأناساً يعيشون حياة البؤس والشقاء، وأمّا في ما بعد الموت فهم ينكرون حياة بعده، فلا فرق أيضاً بين الفريقين، وهذا كما يصرّح به الكافر، ويعتقد ب_ه الظالم الذي لا يعبأ بما يفعل وما يرتكب من الجرائم وإن كان يظهر الإيمان بالله واليوم الآخر.

فهذا هو الأمر الذي نجده ممّا يحتسبه المنكرون للمعاد، وهذه الآية ترد عليهم بأنّ هذا حسبان باطل وسيء، وأنّ الله تعالى لا يجعل الفريقين متساويين في الحياة ولا في الممات. أمّا بعد الموت، فالأمر واضح لمن يعتقد بالآخرة، وأمّا فی هذه الحياة فالمؤمن الذي يعمل الصالحات ويتقرّب بها إلى ربِّه يشعر بأجنحة

الرحمة ترفرف عليه فيسعد بها وتطمئنّ نفسه، ويحسّ برضا الربّ، حيث إنّه

ص: 385

راض عن ربّه، فإنّ المقياس - كما في الروايات - أنّ المؤمن إذا رضي بما آتاه ربّه، فالله راضٍ عنه، ولا شكّ أنّ الشعور برضا الربّ يجعل الحياة الدنيا كجنّة الخلد؛ لأنّه أعظم نعمة في الجنّة.

وأمّا الذي يعرض عن ذكر ربّه، فهو كما قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً)،(1) أي له في الدنيا معيشة ضيّقة؛ والذي يجترح السيّئات إمّا كافر معرض عن ذكر ربّه أو هو كالكافر أو أسوأ حالاً منه، ولا يسعد بالشعور برضاه تعالى: فيصعب عليه تحمّل مشاكل الحياة وتضيق به الدنيا على رُحبها، وربّما يلجأ إلى الانتحار نتيجة للضيق الذي يشعر به، وهو لا يرجو من موته إلا الفناء والدمار، ومع ذلك يلجأ إليه فراراً من مضائق الدنيا، فتفاجئه مضائق أشدّ وأهوال أعظم، فهو شقيّ في الحالتين. (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)، «ما» مصدرية، أي حكمهم بتساوي المؤمنين الصالحين والفسّاق الفجّار حكم سيّء، فالفارق بين الفريقين كبير وعظيم، ويظهر من الجملة أنّ الأمر لم يكن مجرّد حسبان في نفوسهم، بل كانوا يحكم_ون ب_ه ويتبجّحون.

(وَخَلَقَ الله السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ) جملة استينافية تفيد معن__ى الح_ال للاستنكار السابق فكأنّه قال: كيف تحكمون بذلك وقد خلق الله السماوات والأرض بالحقّ؟! أي لم يخلق الكون عبثاً ولعباً. فهذه الآية بمنزلة الدليل للآية السابقة، وذلك لأنّ التساوي بين المفسد والمصلح إنّما يصحّ لو لم يكن لخلق السماوات والأرض هدف وغاية، فلا يختلف أن يكون الإنسان مؤمناً صالحاً أو

ص: 386


1- طه (٢٠): ١٢٤.

فاجراً طالحاً، ولا يهمّه شيء إلا أن يقضي عمره في سعادة ورفاهية، ولكن إذا كان هناك هدف منشود لخلق الكون وهو أن يصل الإنسان إلى غاية كماله وأن يتقرّب إلى ربّه فلا بدّ من التفريق بين فريق يسعى للوصول إلى تلك الغاية، وفريق يبتعد عنها مسرعاً في سيره المعاكس.

(وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)، الواو لعطف الجملة على قوله: (بالحقِّ) أي خلق الله السماوات والأرض بالحقّ، وخلقها لتجزى كلّ نفس، فهذا هو بيان للغاية المنشودة من خلق الكون والإنسان.

وربّما يظهر من الآيات أنّ جزاء الإنسان هو نفس عمله وليس جزاءاً وضعياً يناسب العمل، وعليه فتكون الباء للتعدية. أمّا إذا كان الجزاء أمراً آخر، فالباء للسببية. والآيات التي تدلّ بظاهرها على تجسّم الأعمال وأنّها بنفسها تقع جزاءاً للإنسان كثيرة. ولعلّه لذلك عقّبه بقوله: (وَهُمْ لا يَظْلِمُونَ)؛ إذ لو كان الجزاء أمراً آخر أمكن أن يقال: إنّه غير متناسب مع عمله، ولكنّه نفس عمله يتجلّى بصورته الواقعية، فليس ظلماً.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، الفاء للتفريع، والظاهر أنّ الآيات السابقة لمّا كانت في سياق تقسيم الناس إلى الفريقين، فهذه الآية تبيّن الوجه في إصرار الضالّين على ضلالهم، بحيث لا تنفعهم البصائر التي نزلت للهداية والرحمة وقوله: (اتَّخَذَ) من الأفعال الملحقة بأفعال القلوب، والتي تدخل على المبتدأ والخبر

فتجعلهما مفعولين.

وقيل في الاستفهام في مثل هذا المورد إنّه للتعجيب، أي لإيجاد التعجّب في المخاطب، فكأنّه يقول: انظر إلى هذا كيف اتخذ إلهه هواه؟! مع أنّ الاستفهام

ص: 387

مثله للتعجب إلا أنّهم لم يعبّروا به، لعدم جواز إسناد التعجّب إلى الله تعالى؛ ولكنّ الصحيح أنّه لا مانع من إسناد إنشاء التعجّب إلى الله وإن لم يمكن إسناد التعجّب إليه تعالى حقيقة؛ لأنّ إنشاءه لا يدلّ على تحقّق صفة التعجّب له تعالى، بل هو إنشاء بداعي تفهيم أمر آخر، كالاستفهام الإنكاري.

ومهما كان، فكون الاستفهام هنا للتعجّب أو التعجيب يبتني على تقسيم الآية إلى شقّين منفصلين في المعنى، فالشقّ الأوّل: تعجيب من هذا الإنسان أو تعجّب منه، والشقّ الثاني: قوله: (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله ). ولكنّ الأنسب أن تكون الجملتان بصدد معنى واحد، فتكون هذه الجملة مع ما بعدها من الجمل لتحديد الموضوع ليرتب عليه قوله: (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله) ومثل هذا يقال في قوله تعالى: (قَالَ أرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ)(1) وقوله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُ الْيَتِيمَ)(2) ونظائرهما.

وقد وقع الخلاف في أنّ الترتيب في الآية على أصله، فيكون «إلهه» مفعولاً أوّلاً أم بالعكس، فعلى الأوّل يكون المعنى أنّه ينتخب إلهه على هواه، ولا يعب_د من يستحقّ العبادة، بل من يجد في عبادته ما يهواه، ومن هنا فسّرها بعض المفسّرين القدامى بمن كان يتّخذ له إلها من حجر ، فإذا رأى ما هو أحسن منه مظهراً أبدله به، فقد روى الطبري عن بعضهم أنّه قال: «كانت قريش تعبد العزّى وهو حجر أبيض حيناً من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأوّل وعبدوا الآخر، فأنزل الله: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهُ هَواه».(3)

ص: 388


1- الكهف (18): ٦٣
2- الماعون (107): 1 - 2.
3- جامع البيان في تفسير القرآن 25: 91

ولكن هذا التفسير يتوقّف على تقدير، كأن يقدّر «اتّخذ إلهه موافقاً لهواه» أو ما يفيد ذلك.

وقال في «الميزان»: «المراد بقوله: (اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَواهُ) حيث قدّم «إلهَهُ» على (هَواهُ) أنّه يعلم أنّ له إلهاً يجب أن يعبده _ وهو الله سبحانه _ لكنّه يبدّله من هواه ويجعل هواه مكانه فيعبده، فهو كافر بالله سبحانه على علم منه، ولذلك عقّبه بقوله: (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ)، أي أنّه ضالّ عن السبيل وهو يعلم».(1)

وبناءاً عليه لا يجب التقدير إلا أن ما ذكره الله لا يفهم من الآية. وأمّا إذا قلنا بأنّ «إلهه» مفعول ثانٍ مقدّم فالمعنى: «من جعل هواه إلهاً له»، أي معبوداً بمعنى أنّه يطيع هواه طاعة عمياء، وهو حقّ العبادة؛ والوجه في تقديم المفعول الثاني هو إفادة الحصر، فالمعنى: أنّه لا يعبد إلا ه_واه، وعليه فالآية لا تشمل كلّ من يتّبع هواه ولو جزئياً، بل من يكون معبوده منحصراً في الهوى، وقد يكون بظاهره مسلماً يعبد الله تعالى، ولكنّه منافق لا يعبد إلا هواه، فإذا رأى أنّ الأنسب لما يقتضيه الهوى هو الدخول في سلك المؤمنين، دخل وتبعهم في طقوسهم. وهذا المعنى هو الأنسب. ومثل هذه الآية في كلّ ما ذكرنا قوله تعالى:

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً).(2)

(وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلمٍ) «على علم» أي مع كونه عالماً وغريب أمر هذا الإنسان يضلّ الطريق وهو يعلم، فلا يضلّ عن جهل، وها نحن نجد كثيراً م_ن الناس يرتكب ما لا ينفعه بل يضرّه أشدّ الضرر، وهو ضرر محسوس في الدنيا،

ص: 389


1- الميزان فى تفسير القرآن 18: 172.
2- الفرقان (٢٥): ٤٣.

ولكنّه يتّبع هواه، فلا يمكنه الإقلاع عنه، كالمدخّن والمتعاطي للمخدرات ،وغيرهم، ولا مبالغة إن قلنا: إنّ هذه صفة أكثر الناس. وكذلك بالنسبة للعقاب الأخروي، فهو أمر متوقّع على الأقلّ وهو خطر عظيم يكفي فيه أقلّ احتمال ولكنّ المتّبع للهوى حتّى لو علم به لا يترك ما يهواه، فقد أضله الله على علم.

ولكن بعض المفسّرين اعتبر العلم من الله تعالى أي إنّ الله يعلم أنّه لا يهتدي ،فأضله، وفسّر بعضهم الإضلال بإهماله وعدم اللطف به وعدم هدايته، فه_و ي_ض_لّ من نفسه؛ ولكنّ الصحيح أنّ الله تعالىّ يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، ولكنّه لا يضلّ إلا القوم الفاسقين، فهناك إصرار من الإنسان على عدم الإيمان بالله أو عدم امتثال أوامره، فيستحقّ الإنسان أن يضلّه الله، وفي ما بعدها من الجمل يبيّن كيفية الإضلال.

(وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةٌ). ورد التعبير بالختم والطبع على السمع والقلب في موارد من القرآن ومعناه أنّه مغلق، وعلى الأغلاق ختم، فلا يمكن فتحه. والختم من الله تعالى فمن يفتحه غيره؟! والمراد بالختم على السمع أنّه لا يتأثّر بما يسمعه ولا يعيه ولا يحفظه ولا يفهمه، وما أكثر من نجدهم بهذه

الصفة.

والمراد بالقلب القوّة الشاعرة وقوّة الإحساس، فربّما يفهم الإنسان شيئاً ويعلم به علم اليقين ولكنّه بقلبه لا يدركه ولا يحسّ به، ولا يتنافى العلم مع عدم الإحساس بالقلب، ولذلك تجد كثيراً من الناس لا يؤمن بالله، مع أنّه رجل عالم، بل ربّما يكون عالم دين أيضاً، والإيمان لا يلازم العلم، ولذلك نجد أكثر الناس يخافون الميّت ولا يبيتون عنده، ويخافون الظلام، ويخافون الدخول في

ص: 390

المقابر ليلاً لما حيك حولها من أساطير، وهو يعلم أنّها أكاذيب، ولكنّه لا يؤمن ولا يطمئنّ قلبه، وكذلك العكس، فهناك من لا يعلم الأدلّة والبراهين ولكنّه يؤمن أقوى الإيمان بالله تعالى، وكان منهم من قال عنه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: «هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان».(1) وأمّا الغشاوة على البصر، فإنّا نجد من يرى آيات الله تعالى ويرى العواقب السيّئة للمفسدين ويرى الموت يحصد من حوله أمثاله ولا يتّعظ، فعلی بصره غشاوة، كأنّه لا يرى شيئاً. والغشاوة: الغطاء.

(فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله )؛ هذا الضلال نتيجة طبيعية حتمية لعناده، حيث إنّه لم يؤمن بآيات الله تعالى، مع أنّه علم بها، قال تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)،(2) فإذا أصرّ على كفره وعناده في أوّل رؤية للحقّ رؤية واضحة عاقبه الله تعالى بقلب القلب، فهو لا يفهم بعد ذلك ولا يشعر حتّى لو علم علم اليقين، بل هو لا يبصر من الآيات إلا ظاهرها.

ص: 391


1- روى الكليني بسند معتبر عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال: «إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم صلّي بالناس الصبح، فنظر إلى شابّ في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفراً ،لونه، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول الله موقناً،فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وقال: إنّ لكلّ يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟ فقال: إنّ يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري، فعرفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتّى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة، يتنعمون في الجنّة ويتعارفون وعلى الأرائك متّكنون، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذّبون ،مصطرخون، وكأنّي الآن أسمع زفير النار، يدور في مسامعي، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لأصحابه : هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان، ثمّ قال له: ألزم ما أنت عليه، فقال الشابّ: ادع الله لي يا رسول الله أن أرزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر» (الكافي ٢ ٥٣)
2- الأنعام (٦): ١١٠.

وإذا أراد الله شيئاً فلا يقاوم إرادته شيء، فمن يهديه بعد أن أراد الله إضلاله؟! وإذا ختم الله على غلق فمن يفتح قفله؟!

وقوله: (مِنْ بَعْدِ الله) بمعنى من بعد إضلال ،الله، فالبعدية زمانية، أو من دون الله تعالى أي غيره، فليست البعدية زمانية.

(أَفَلا تَذَكَّرُون) التذكّر بعد النسيان، والمراد هنا التنبّه بعد الغفلة، أي أنتم تشاهدون حولكم كثيراً من هذه النماذج، أفلا يكفي ذلك لتنبّهكم واجتنابكم الآثام وإنابتكم إلى الله خوفاً من أن ينجرّ الأمر إلى الختم على أسماعكم وقلوبكم؟!

ص: 392

سورة الجاثية (٢٤ - ٢٦)

وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَتَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا هُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ(24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَتُنَا بَيْنَتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا أَنْتُوا بِمَابَابِنَا إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ تُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)

(وَقَالُوا مَا هِيَ إلاحياتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيا). الضمير يعود لمشركي العرب وهم وثنيون يعترفون بأنّ الله تعالى خالق الكون ولكن لا يعترفون بربوبيته المطلقة ولا بالمعاد.

وقيل: القائل بهذا الكلام الدهريون المنكرون للخالق، وذلك لأنّ قولهم: (وَمَا يُهْلِكُنا إلا الدَّهْرُ) ليس من كلام المعترفين بأنّ الله هو الخالق للكون. وسيأتي البحث عنه.

ومهما كان، فضمير «هي» يعود إلى الحياة وهي معلومة من السياق، أي ليست الحياة إلا حياتنا الدنيا وليست هناك حياة أخرى بعد الموت. وأما قولهم: (نَمُوتُ وَنَحْيَا)، فالظاهر أنّ المراد به موت جيل ونشأة جيل آخر، وليس فيه اعتراف بالحياة بعد الموت كما يتوهم، مع أنّ مجرد ذكر الحياة بعد الموت لا دلالة فيه على الترتيب الزمني، فلا يختلف في التعبير عن تعاقب الحالتين في المجتمع البشري بين تقديم أيّ منهما، فالمهمّ بيان هذا التعاقب للدلالة على أنّه ليس وراءهما حياة أخرى، ولعلّ اختيار هذا التعبير لتناسب القافية مع الدنيا.

(وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ)، «الدهر» - كما في العين __ هو الأبد الممدود.(1) وفي

ص: 393


1- كتاب العين ٤ :٢٣

المفردات،(1) مدّة وجود العالم من ابتدائه إلى انقضائه، وهو في الواقع تفسير لما في العين.

وإسناد الإهلاك إلى الزمان المستمرّ مجازي، كإسناد أمور أخرى إليه في الشعر ونحوه، مع أنّها مستندة في الظاهر إلى عواملها الطبيعية، فمعنى كلامهم إسناد الموت إلى العوامل الطبيعية وإنكار إسناده إلى الإله المدبّر للكون المحيي المميت، ولذلك سيأتي جوابهم بأنّ الله تعالى هو المحيي ،والمميت ولا يلازم ذلك إنكار وجوده تعالى أو إنكار خالقيته، ليصحّ القول بأنّ المراد بالقائلين الملحدون، وإنّما يلازم إنكار ربوبيته المطلقة.

(وَمَا هُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ)، من الطبيعي أنّ المنكر للمعاد وه_و الهدف الأساس من قولهم المذكور لا يمكن أن يستند إلى دليل علمي؛ لأنّ غاية ما يصل إليه علم الإنسان في هذا المجال هو عدم العلم بشيء، ولا يمكنه نفي ما وراء هذه الحياة، فالمنكرون إنّما يستندون إلى أنّهم لم يجدوا دليلاً مقنعاً، وأوّل جواب عنهم أنّه يكفي للإنسان أن يحتمل ذلك، فهو احتمال خطير يبعث العاقل إلى الاحتياط واجتناب الخطر. والمراد بالظنّ الاعتقاد الذي لا يستند إلى دليل علمي ولا إلى رؤية وإحساس مباشر.

(وَإِذَا تُتْلَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي إذا تليت عليهم آيات القرآن المشتملة على الأدلّة الواضحة البيّنة المثبتة للمعاد، لم يكن لهم في المقابل حجّة لإنكاره إلا المطالبة بإحياء الآباء السابقين الذين أصبحوا تراباً في الأرض، أو تبدّلوا إلى أشياء أخرى، وهذه حجّة متكرّرة

ص: 394


1- راجع: المفردات فی غریب القرآن: 319

من منكري المعاد وهي ليست بحجّة - كما هو واضح - بل هو كلام باطل؛ إذ لا يُغيّر الله سنّة الكون ليثبت لهم إمكان المعاد، مع وجود البراهين الواضحة.

وتوصيف كلامهم الباطل بالحجّة للتأكيد على نفي أيّ حجّة لهم، أي ليس لهم حجّة إلا هذا الكلام الذي ليس بحجّة، كما تقول: فلان ليس له ذنب إلا حبّ أهل البيت عليهم السلام. وقولهم : (انتّوا) خطاب للمؤمنين؛ لأنّهم كانوا يذكرون هذا المضمون في مختلف المحادثات الاحتجاجية التي تحدث بين الفريقين.

(قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) وهذه حجّة واضحة على أنّ الله تعالى قادر على إعادة الخلق، وذلك لأنّه هو الذي أحياكم أوّل مرّة وخلق الحياة من مادّة ميّتة، فهو قادر على إعادتها في مرحلة أخ_رى م_ن

التطوّر.

و«الإحياء» عملية مستمرّة في الطبيعة، ولذلك أتى بالفعل المضارع، فالخطاب للمجموع لا لكلّ فرد ثمّ هو الذي يميتكم وليس الدهر، وذلك لأنّ الموت بفعل العوامل الطبيعية وهي كلّها طوع إرادته، فهو يحييكم مرّة أخرى ويجمعكم إلى يوم القيامة، أي يجمع كلّ الأجيال البشرية إليه.

قالوا: إنّ «إلى» بمعنى «في». ولكنّ الظاهر أنّ التعبير به لمناسبة معنى الجمع وتضمينه معنى الانتهاء؛ إذ يدلّ ذلك على أنّهم متفرّقون، فهو يجمعهم وينتهي بهم إلى مجمع واحد يوم القيامة. وقوله: (لا رَيْبَ فِيهِ) تأكيد منه تعالى حتّى لا يتوهّم أحد أنّه من الوعيد والتهديد بأمر يمكن أن لا يقع أو يحدث فيه تغيير والسبب في حتميته، كما ورد

ص: 395

في آيات أخرى أنّه ممّا تقتضيه العدل والحكمة؛ أمّا العدل فلِكَي ينال كلّ أحد جزاءه ويوضع موضعه، وأمّا الحكمة؛ لأنّه لولا ذلك لم يكن لخلق الإنسان، بل الكون أيّ هدف وغاية.

(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)، أي يجهلون هذه الأدلّة والبراهين ولا يعلمون أنّ الإعادة يوم القيامة مقتضى العدل والحكمة وأكثر الناس حتّى المؤمنين لا ،يعلمون، فالإيمان بالآخرة ضعيف فينا، وإلا لعملنا لها أكثر ممّا نعمل لدنيانا، وقلّ من نوّر الله قلبه للإيمان فهو يرى أهل الجنّة في نعيمهم وأهل النار في عذابهم،

كما مرّ في الرواية المعتبرة.(1)

ص: 396


1- راجع: الصفحة ٣٩١

سورة الجاثية (٢٧ - 37)

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَبِذٍ تَحْسَرُ الْمُبْطِلُونَ(27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَبِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(28) هَذَا كِتَبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(29) فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ(30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكَبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنَّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ(32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (33)وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَنكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَنَكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَصِرِينَ (34) ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَايَتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا تُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

(وَالله مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ). هذه الجملة دليل آخر على إمكان المعاد، وذلك لأنّ السماوات والأرض أي الكون كلّه ملك الله تعالى، وهذه ملكية حقيقية وليست اعتبارية بمعنى أنّ كيان الكون ووجوده متقوّم بإرادته تعالى، فبدونها لا يبقى شيء، فهو المتصرّف فيه كيف يشاء لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون ولا يحاسب على فعله.

وهذا الدليل يختلف عمّا سبق، حيث استند الاستدلال هناك على حكمته تعالى وعدله، وهنا يستند على عموم ملكه وسلطانه، بمعنى أنّه لو فرض أنّ

ص: 397

الحكمة والعدل لا يقتضيان ذلك، فلا أحد يحقّ له أن يقاضي الله تعالى في ما يفعل ولا يتمكّن منه أحد، فكلّ ما تتصوّر غيره فهو مخلوق ل_ه وت_ابع لإرادته ومتقوّم به، فلا يتوقّف الاستدلال على أنّ قيام القيامة موافق للعدل والحكمة، بل يكفي أنّ الله تعالى أراد ذلك والكون كلّه له يفعل فيه ما يشاء.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ). هذه الجملة أيضاً تؤكّد كون المعاد أمراً واقعاً لا محالة، والإنسان لا يمكنه أن يشعر بهذا اليوم، فإثباته ونفي_ه خ_ارج عن حيطة فهمه وإدراكه؛ لأنّه مرتبط بعالم آخر وليس له طريق إلى معرفته إلا الإيمان والتصديق بالغيب.

و (يَوْمَئِذٍ ) بدل عن قوله: (يَوْمَ تَقُومُ) ، ويؤكّد أنّ الظرف الحقيقي للخسارة هو هذا اليوم.

و«المبطلون أي الذين يعتقدون الباطل، ويشير بذلك إلى الذين كذّبوا بيوم القيامة من دون علم، وخسارتهم أعظم خسارة؛ لأنّهم يخسرون أنفسهم وأهليهم، كما في الآية الكريمة: (قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الا ذَلِكَ هُوَ الخَسْرَانُ المُبِينُ)،(1) أي ليس الخاسر غيره ؛ لأنّ كلّ خسارة في الدنيا يمكن جبرها ولو لم يمكن أيضاً يمكن تحمّلها والصبر عليها؛ لأنّ أيّام الدنيا قصيرة وإنّما الخسارة الواقعية من يخسر نفسه يوم القيامة، مضافاً إلى أنّه يخسر أهله، فإن كانوا صالحين فهم في الجنّة وهو في النار، وإن كانوا مثله فلا علاقة بي_ن_ه_م، ب_ل ل_ي_س بينهم إلا العِداء، كما قال تعالى: (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلا المُتَّقِينَ).(2)

ص: 398


1- الزمر (39): ١٥
2- الزخرف (٤٣): ٦٧.

وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ)، يعرض القرآن هنا مشهداً من مشاهد القيامة لم يذكر في موضع آخر.

و «الأمّة» كلّ مجموعة من الناس يج_ مجموعة من الناس يجمعهم هدف واحد وعقيدة واحدة، وهذا المعنى له توسّع كثير ، فربّما يطلق اللفظ على المجموعة من الناس الذين بعث لهم رسول ،واحد وتارةً يطلق على خصوص من اتبعوه، والمراد هنا أخصّ من ذلك بكثير، فالأمّة الإسلامية ربّما تطلق في عرفنا على مجموعة يكفّر بعضهم بعضاً، بل لا شكّ أنّ بعضهم يعتبر خارجاً عن ربقة الإسلام، وأما هناك حيث لا تطلق الألفاظ إلا على حقائقها الواقعية، فهذه الأمّة تنقسم إلى مجموعات كثيرة، أكثر بكثير من المذاهب التي نقسّم المسلمين إليها، فإنّ أتباع كلّ مذهب أيضاً لا يتّفقون حتّى في الأصول، بل لعلّه أخصّ من أتباع المذهب، كما يتبيّن من الجملة التالية المتضمّنة لوحدة صحيفة الأعمال، فهذا الأمر يقتضي وحدة أخصّ من ذلك ترتبط بعملهم.

و «جاثية» اسم فاعل من الجُتُوّ وهو الجلوس على الركبتين، وفي ذلك تذلّل وتسليم واستعداد لما يورد عليهم من الجزاء. وقيل: «إنّ جاثية» بمعنى مجتمعة، ونسب ذلك إلى ابن عباس، ولكن لا يبعد أنّه أراد بذلك دلالة الجملة على اجتماع كلّ أمّة مع بعض، وهذا يستفاد من كلمة «أمّة»؛ فالمعنى أنّك ترى كلّ مجموعة متحدة في أهدافها وعقائدها مجتمعة بعضها مع بعض، وكلّها جاثية على الركب مستعدّة لما يتلى عليها من حكم الله تعالى.

والخطاب في قوله: (تَرَى) للرسول صلى الله عليه و اله وسلم أو لكلّ سامع وقارئ.

(كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إلى كتابها). يظهر من الآية أنّ هناك كتباً لأعمال المجتمع غير

ص: 399

الكتب التي تحفظ أعمال الأفراد وليس المراد بالكتاب المعنى المعهود منه، وإنّما المراد التنبيه على أنّ محاسبة المجتمعات تختلف عن محاسبة الأفراد، وبذلك يتبيّن أنّ الإنسان مسؤول هناك عن أعماله الاجتماعية، كما هو مسؤول عن أعماله الشخصية، فتارةً يحاسب وحده، وتارةً يحاسب مع الجمع الذي كان فيهم، ويمكن أن لا يكون له دور إلا الوقوف على حافّة الشارع والمشاهدة، وربّما بعض الهتاف ممّا يستفاد منه الرضا والتأييد لما يعمله المجتمع أو السكوت عنه.

ومن هنا يجب أن ينتبه الإنسان إلى أنّه مسؤول عمّا يجري في مجتمعه، فإن أمكنه أن يغيّر المفاسد ويمنعها وجب ذلك، وإن لم يتمكّن فليعترض بلسانه، وإن لم يتمكّن فليخرج من بينهم إن أمكنه ذلك.

ولكن بعض المفسّرين أوّل الآية بأنّ المراد بالكتاب جنسه، فالمراد بكتاب الأمّة كتب أفرادها. وهو بعيد مع أنّه لا يناسب اجتماع الأمّة جاثية تنتظر حساب الجمع.

(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، الآية واضحة الدلالة على أنّ الجزاء هناك هو نفس العمل يتجلّى بصورته الواقعية، فيكون على الإنسان عذاباً .ونكالاً.

(هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) الظاهر أنّه إشارة إلى كتاب الأعمال وإضافته إلى الله تعالى؛ لأنّه من صنعه وتدبيره. والتعبير بالنطق باعتبار أنّ هذا الكتاب يعكس نفس الأعمال بحقيقتها، فليست هناك ألفاظ وكلمات، وإنّما ينطق بإتيان نفس الموضوع وهو أقرب النطق إلى الواقع فإنّ النطق باللسان يراد ب_ه ن_ق_ل المعنى إلى ذهن المخاطب بذكر كلمة أو صوت يدلّ عليه ويوجب تبادره إلى ذهنه، ولا شك أنّه كثيراً ما يشتبه على السامع لاشتراك الألفاظ أو تقارب لفظ

ص: 400

الكلمات أو تقارب المعاني، وأمّا إذا تمكّن الشخص من إتيان نفس الشيء فهو أوضح النطق. وهو لا ينطق بالباطل ولا يغيّر الأشياء عمّا هي عليه، بل ينط_ق بالحقّ؛ لأنّه يأتي بنفس الفعل تماماً كما كان، فلا يمكن التشكيك فيه.

وقيل: إنّ المراد بالكتاب القرآن، ولكنّه لا يناسب الجملة التالية وتعدّي النطق ب_«على» لا يفيد كونه ضدّ المخاطبين، كما ربّما يتوهّم، بل هو باعتبار أنّ النطق يستلزم إلقاء مضمون على مسامعهم ولو بعناية.

(إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). اختلف في معنى النسخ، فقيل: هو إزالة شيء وإثبات غيره مكانه، كقولهم: نسخت الشمس الظلّ، ومنه نسخ الحكم بالحكم.

وقيل: هو تحويل شيء إلى شيء. وهذا الثاني يعمّ الأوّل وغيره، كنسخ الكتاب، فإنّه لا يستلزم إزالة الأوّل، بل نقل ألفاظه إلى كتاب آخر، ومهما كان فالمراد هنا بالنسخ نقل الأعمال بنحو من الأنحاء.

ولكن لماذا عبّر بالاستنساخ، أي بصيغة الاستفعال؟

قال بعضهم: إنّ الاستنساخ طلب النسخ، وحيث إنّه من كلام الله فالمراد أنّه تعالى يأمر الملائكة بالنسخ.

وقال بعضهم: إنّه من كلام الملائكة، ومعناه إنّا كنّا نطلب النسخ من اللوح المحفوظ. ووردت في ذلك روايات عن طرق الخاصّة والعامّة؛ وفي بعضها أنّ النسخ لا يكون إلا من أصل فلا بدّ من أن تكون الأعمال مكتوبة في كتاب آخر وينسخ منه في صحيفة الأعمال. وكلّ ذلك بعيد عن اللفظ وعن سائر الآيات التي تعبّر بالكتابة لا النسخ، كقوله تعالى: (وَتَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ).(1)

ص: 401


1- يس (٣٦): ١٢

والظاهر أنّ المراد بالاستنساخ هو النسخ بذاته بلحاظ أنّه طلب لنسخة من الشيء، فصيغة الاستفعال لا تغيّر المعنى والنسخ بمعنى نقل العمل إلى صورة دائمة أبدية لا تفنى فيؤتى به يوم عرض الأعمال ولا حاجة إلى هذه التكلّفات.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ المُبِينُ)، تفصيل لما يؤدّي إليه استنساخ الأعمال، فإذا كان العمل صالحاً والعامل مؤمناً فهناك النجاح الواضح، فلا يكون الفوز والنجاح إلا بالإيمان والعمل الصالح معاً، ولا ينفع عمل بدون إيمان ولا إيمان بدون عمل، ولكن هناك الأكثر الذين يخلطون الصالح بالسيّء، وقد ورد حكمهم في قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيْناً عَسَى الله أن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ).(1)

والإدخال في الرحمة إمّا بمعنى موضع الرحمة، أي الجنّة، أو بمعنى أنّ الرحمة تغمرهم من كلّ جانب، وفي التعبير بأنّ ربّهم يدخلهم، إشارة إلى أنّ ذلك مقتضى تربيتهم التربية الصالحة حتّى استعدّوا لدخول رحمته.

و(الْفَوْزُ المُبِينُ)، أي الظفر الواضح حيث يظفرون بأغلى الأماني ومنتهى المقاصد والسعادة الدائمة.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ)؛ الفاء في قوله: (أَفَلَمْ) فاء الجزاء بتقدير «يقال»، أي فيقال لهم، والاستفهام للتقرير، أي لأخذ الإقرار منهم بالذنب. وهذه الجملة ممّا يخاطبون به فعلاً أو تقديراً، وفيه_ا

لوم وتنديد.

وتقديم هذا الخطاب على العذاب لأنّه أوّل نتيجة تحصل بعد إراءة أعمالهم،

ص: 402


1- التوبة (9): 102

فالخطاب يبيّن لهم أن لا عذر لهم في كفرهم، حيث إنّ الآيات كانت تتلى عليهم فيقابلونها بالاستكبار والإجرام؛ وأيّ جرم أفظع من الاستكبار في مقابلة الحكم الإلهي ودعوة الرسل إلى إصلاح النفس، لتليق بالدخول في الرحمة الإلهية؟! مع أنّهم أجرموا فوق ذلك جرائم ضد الرسل وضدّ المؤمنين. وللتأكي_د على فظاعة استكبارهم أتى بضمير المفرد المتكلّم للتنبيه على أنّ الآيات التي تليت عليكم لم يكن من نبي أو ملك، بل كانت منّي بالذات.

وتوهّم بعض المفسّرين أنّ السياق اقتصر على ذكر هذا اللوم والعتاب في بيان ،مجازاتهم فقال: إنّه أشدّ من العذاب.

والصحيح أنّ الآية التالية متّصلة بهذه الآية في بيان الخطاب الموجّه إليهم، ثمّ يأتي بعد ذلك بيان عقابهم وأنّه هو نفس العمل، ثمّ مأواهم النار.

والآية لا تختصّ بمن كان في عهد الرسالة ونزول الآيات وسماعها من الرسول، بل تشمل كلّ من سمعها ولو بعد قرون، بل الظاهر أنّ الحكم يشمل من بلغه خبر الرسالة وخبر نزول الآيات فلم يهتمّ بها ولم يسأل عنها استكباراً عن متابعة الرسل أو عن الاهتمام بالدين بوجه عامّ، كما نشاهده اليوم في كثير من الناس.

نعم، الآية لا تشمل من كان عدم إيمانه ناشئاً من ضعف في الفهم، فأصبح تابعاً لأسياده المستكبرين.

(وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ). الجملة عطف على الجملة السابقة التي ورد عليها الاستفهام، أي ألم تكونوا بحيث إذا قيل لكم: إنّ وعد الله حقّ... قلت..... والحقّ هو الشيء

ص: 403

الثابت، فالمراد إمّا التأكيد على أنّ الله تعالى وعد بقيام القيامة ودار الجزاء، فهو حقّ بمعنى أنّه _ أي نفس الوعد - أمر واقع وإمّا التأكيد على أنّ ما وعد به الله تعالى فهو حقّ سيقع لا محالة؛ لأنّه قادر على كلّ شيء وعالم بكلّ شيء، فإذا وعد لا يمكن أن يخلف وعده، فإنّ الخلف لا يكون إلا لجهل بالمستقبل أو

لعدم القدرة على الوفاء.

وقوله تعالى: (وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا ) عطف تفسيري على جملة: (إنّ وَعْدَ الله حَقُّ)؛ فإنّ المراد بوعده تعالى هو الوعد بقيام الساعة، فيترتّب على كون الوعد حقّاً أنّ الساعة لا ريب فيها؛ لأنّها من وعده تعالى، وقولهم: (مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) استهزاء واحتقار يقصد به الإنكار، لا إظهار الجهل واقعاً، وإنّما قالوا ذلك استكباراً وعتوّاً، فهم يعلمون المراد بالساعة، ولذلك صحّ الجمع بين قولهم: (ما نَدْرِي) والظنّ به فقولهم: (إنْ نَظُنُّ إلا ظَنّاً) تعبير آخر عن الإنكار أيضاً. و(إنب) نافية، أي لا نظنّ إلا ظنّاً.

وربّما يستغرب هذا التعبير حيث إنّه استثنى الظنّ من نفسه. وقد أجابوا عنه بوجوه، وأحسن ما قيل وجهان: أحدهما أنّ التقدير أن نظنّ إلا ظنّاً ضعيفاً، والثاني - وهو أولى - أنّ المراد بالظنّ الأوّل الاعتقاد مطلقاً، فالجملة تعود إلى معنى: «ما نعتقد إلا ظنّاً»، وأوضحوا في الجملة التالية المراد بالظنّ بأنّه لا يبلغ حدّ اليقين، فمعناه أنّهم يحتملون ذلك ولكنّهم لا يعلمون فهم متردّدون.

و«الاستيقان» بمعنى اليقين، وفي «العين» ما معناه: أنّ «يقن» و«أيقن» و«تيقّن» و«استيقن» كلّه واحد.(1)

ص: 404


1- كتاب العين ٥: 220

والجواب الواضح عن مقالتهم هو أنّه يكفي الاحتمال لأهمّية المحتمل مع أنّ قيام القيامة لمن تأمّل الكون ووجد فيه غاية الدقّة في النظام ممّا لا ريب فيه.

(وَبَدَا هُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) هذا عطف على الجواب في: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا )، أي أنّهم يقال لهم ذلك، ثمّ يبدو لهم سيّئات أعمالهم.

والإتيان بفعل الماضي من جهة أنّه أمر محقّق جزماً. وإضافة السيّئات بتقدير (من) أي بدت لهم السيّئات من أعمالهم ويظهر منه أنّه لا يعتدّ بغير السيّئات من أعمالهم؛ وذلك لقوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْشُورًا)،(1) فلا يبقى لهم إلا السيّئات وهي لا تحتاج إلى عرض أو تبيين، بل يكفي أن تبدو لهم كما هي، فهي بنفسها عذاب أليم وهي عذاب في الدنيا أيضاً، فلو قُدَّر لأحد أن يرى بالعيان كلّ أعماله السابقة وما ارتكبه من ظلم وعدوان وقبائح وكفر وعناد الحق، للاقى من ذلك شرّ العذاب إن كان له ضمير حيّ ووجدان بشري صادق.

(وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)، «حاق» أي نزل به عاقبة فعله أو مكره، قال تعالى: (وَلا يَحِيقُ المكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ)،(2) وفي «المفردات»: «قيل وأصله حقّ فقلب، نحو زلّ وزال»؛(3) وعليه فهو بمعنى الثبوت.

والمراد ب_ (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِبُونَ) عذاب القيامة أو النار.

(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ، القائل هو الله تعالى ولم يذكر القائل احتقاراً لهم، حيث لا يستحقّون أن يخاطبهم الله جلّ جلاله.

ص: 405


1- الفرقان (٢٥): ٢٣
2- فاطر (٣٥): ٤٣
3- المفردات في غريب القرآن: ٢٦٦

والمراد بالنسيان عدم الاستجابة لتضرّعهم ودعواتهم. وقيل: إنّه كناية عن الإهمال والإعراض والترك. ولكنّه غير صحيح؛ لأنّهم لا يهملون ولا يتركون. وهذا تعبير متكرّر في القرآن.

والكاف في قوله تعالى: (كَمَا نَسِيتُمْ ) تشبيه يفيد التعليل، كقوله تعالى: (وَقُلْ ربِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).(1)

والمراد بنسيانهم لقاء اليوم، أي اللقاء المتحقّق في هذا اليوم وهو لقاء الله تعالى ولقاء الجنّة أو النار، ولقاء الناس بعضهم لبعض، ولقاء الحساب.

ومعنى نسيانهم أنّهم أهملوه ولم يهتمّوا به. وهذا يشمل حتّى من آمن به إيماناً ظاهرياً ولكنّه لم يهتمّ به في عمله؛ وأمّا الذي يؤمن به إيماناً واقعياً، فلا يمكن أن يهمله.

(وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ)، «المأوى»: المكان الذي يأوي إليه الإنسان ويلجأ من الحرّ والبرد وغير ذلك، فهو في الواقع محلّ استراحته. والتعبير عن نار جهنم بالمأوى من باب التهكّم ومن باب التأكيد على أنّهم لا مأوى لهم ولا ملجأ من العذاب إلا العذاب، وهو ليس بملجأ طبعاً، فمعناه نفي المأوى مؤكداً.

(وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ). ربّما يتصوّر أنّ الأولى أن يكون المنفى مفرداً؛ لأنّ نفي الجمع لا ينافي إثبات المفرد، فنفي وجود ناصرين لهم لا يثبت أنّه لا ناصر لهم أصلاً، مع أنّه هو المقصود ولكن يمكن أن يكون الجمع بلحاظ تعدّد المخاطبين، أي ليس لأيّ واحد منكم ناصر ينصره.

وقد تكرّر نفي وجود الناصر يوم القيامة ممّا يدلّ على أنّ القوم كانوا يتوقّعون

ص: 406


1- الإسراء (١٧): ٢٤

النصرة من قبيلتهم أو أسيادهم أو أصنامهم. والمشكل الأساس في الإنسان أنّه لا يتمكّن من تصور عالم ليس فيه خصائص هذا العالم، فكلّ ما يقال له عن يوم القيامة والحضور أمام الله تعالى والسؤال والمحاكمة يتصوّر محكمة من المحاكم الدائرة في الدنيا، وأنّه واقف أمام قاضٍ يقاضيه، وعنده أنصاره وأهله وذووه؛ وهذا الخطأ الفادح في تصوّر ذلك العالم وما يجري فيه أدى إلى هذه الأوهام الخاطئة.

(ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا)، «الهُزُو» و«الهُزء» مصدر بمعنى السخرية، وهو هنا بمعنى المفعول به، أي اتخذتم آيات الله مهزوءاً بها، أي استهزأتم بها، فهذا العذاب والتحقير تستحقّونهما، لأنّكم استصغرتم شأن آيات الله واستكبرتم عليها واستهزأتم بها.

والاستهزاء أقبح شيء يقوم به الناس؛ إذ لا يمكن للرسل والأئمّة والمصلحين والعلماء أن يواجهوها بحزم وتدبير، فلو كان المخالف يأتي بدليل أمكن مواجهته بدليل ولو كان يحارب أمكنت محاربته، وأمّا الاستهزاء فلا يقابل بشيء، وهو في نفس الوقت يؤثّر سلبياً على المجتمع تأثيراً قوياً، ويفرق العامّة عن الرسل والمصلحين، ولا يسمح للعامّة أن يتدبّروا في أمرهم، فإنّ هذه مصيبة المجتمع الذي يراد إصلاحه، ولذلك قابله الله تعالى بالاستهزاء والتحقير وتشديد العذاب.

(وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، «التغرير»: الخداع. وفي هذه الجملة يحدّد الخطاب السرّ في عدم إيمانهم ومعاندتهم للحقّ، وهو الاغترار بالدنيا وما فيها من زينة وبهرجة، فلم يكن عدم إيمانهم لنقص في الحجّة عليهم ولا لعدم إدراكهم، بل

ص: 407

لأنّ الإيمان بدعوة الرسل كان يستوجب تركهم لكثير من الملذّات والشهوات، فلم تطاوعهم نفوسهم المغترّة بالدنيا.

(فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا) التفات من الخطاب إلى الغيبة، ولعلّه بعد التصريح باستهزائهم لآيات الله لا يليقون بالمخاطبة فتصرف عنهم احتقاراً لهم، والضمير في قوله: (مِنْهَا) يعود إلى النار.

(وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ). الأصل في العتب الموجدة والغضب. و«العت_اب» ه_و إظهار الغضب، فإذا وجدت في نفسك شيئاً على أحد تحبّه أو لا تتوقّع منه ذلك، أظهرت له موجدتك وهذا هو العتاب ولكن حيث إنّ هذا الإظهار يوجب زوال الموجدة عبّر عن الرضا أيضاً بالعتبى، فقولك: «لك العتبى» بمعنى ل_ك ما ترضى به، وأعتبه أعطاه العتبى، فالاستعتاب بمعنى طلب العتبى والرضا فقوله تعالى: (وَلا هُمْ يُسْتَعْتُبُونَ)، أي لا يُطلب منهم أن يحاولوا إرضاء ربّهم لفوات أوان الاسترضاء. والطلب هنا بمعنى السماح ، أي لا يفسح لهم المجال للاسترضاء.

(فَلله الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، أي ليس الحمد إلا له تعالى، وهذا الحصر مستفاد من تقديم الجارّ والمجرور.

و«الفاء» لتفريع الحمد على ما مرّ من حشر الناس يوم القيامة ليصل كلّ أحد إلى غايته وينال جزاءه ويوضع في مرتبته التي تليق به وهذا هو شأن الربوبية؛ إذ مقتضاها أن يوصل المربوب إلى غايته ، فله كلّ الحمد على ربوبيته، ومثله قوله تعالى: (وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحق وقيل الحَمْدُ الله رَبِّ الْعَالَمينَ).(1)

ص: 408


1- الزمر :(39): 75

ولذلك وصفه تعالى بكونه ربِّ السماوات والأرض، فكما أنّ مقتضى ربوبيته للأرض إعداد كلّ وسائل الحياة والتنعّم على هذا الكوكب، كذلك مقتضى ربوبيته لكلّ الكون أن يكمل مسيرة الإنسان ليصل إلى غايته في جميع المراحل وفي جميع العوالم؛ ولعلّ المراد بالسماوات العوالم العلوية بما في ذلك عالم

الآخرة.

ولعله لذلك كرّر لفظ «الربّ» للإشارة إلى اختلاف مقتضى الربوبية في عالم السماوات عن مقتضاها في عالم الأرض والطبيعة. ثمّ وصفه بربّ العالمين ولم يعطفه بالواو، لأنّه ليس بمعنى ربوبية أخرى وفي عالم آخر، بل هو ربّ جميع العوالم، فكأنّه إجمال بعد تفصيل. هذا إذا أريد بالعالمين جمع العالم، وإذا قلنا إنّه لا يشمل إلا ذوي العقول فقط ، فالمراد التركيز على كونه ربِّ الإنس والجنّ جميعاً في جميع العوالم ويعود إلى نفس المفاد.

وقيل: إنّ الغرض من تكرار «الربّ» أنّه ليس إلهاً للمجموع فقط، فيكون لكلّ عالم أيضاً إله، بل هو إله كلّ عالم أيضاً ولا إله غيره. ثمّ أبدله بربّ العالمين ليكون تصريحاً بشمول الربوبية. وما ذكرناه لعلّه أوفق بالسياق وأدقّ.

(وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، «الكبرياء»: العظمة. وفيه نوع من المبالغة في الكبر، وقيل: إنّه يختصّ بالعظمة في الأمور غير الحسية، بل قيل: إنّه يختصّ بالله تعالى ولا يطلق على غيره؛ ويردهما قوله تعالى في سورة يونس حكاية ل_م_ا قاله قوم فرعون لموسى وهارون علیهما السلام: (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ).(1)

ومهما كان فالمراد بالآية أنّ العظمة المطلقة ليست إلا له، ولذلك قدّم الجارّ

ص: 409


1- يونس (10): 78

والمجرور وكلّ ما يطلق عليه العظمة فليس بشيء إلا عظمته تعالى والمراد بالسماوات والأرض الكون كلبه. ولعلّ مناسبة هذه الجملة لهذا المقام هو ظهور تلك العظمة في ذلك اليوم، فهو نظير قوله تعالى: (مَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ اللهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)،(1) مع أنّ الملك له دائماً وأبداً، ولكن في ذلك اليوم يظهر للجميع أن لا أحد يملك شيئاً حتّى نفسه.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، «العزيز» هو الذي لا يقهر ولا يغلب على أمره،كما قال تعالى: (إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِه)(2) فهو تعالى عزيز لا يقهر وحكيم لا يعمل شيئاً إلا ما تقتضيه الحكمة البالغة، وكلّ ذلك للإشارة إلى أنّ قيام القيامة وتأسيسها ممّا لا ريب فيه؛ لأنّ الله تعالى أراد ذلك وهو العزيز القهّار، وليس ذلك إلا لحكمته البالغة التي تقتضي أن لا يكون خلق السماوات والأرض باطلاً، وأن يكون لهذا الكون هدف، فعزّته تعالى وغلبته لا يستوجبان أن يفعل بعباده ما لا تقتضيه الحكمة البالغة.

ولله الحمد أوّلاً وآخراً وصلى الله على رسوله محمّد المصطفى وآله الطيّبين الطاهرين.

ص: 410


1- غافر (٤٠): ١٦
2- الطلاق (٦٥): ٣

فهرس المطالب

تفسیر سوره شوری

سورة الشورى (١-٦) .............................7

سورة الشورى (7- 12) ..........................17

سورة الشورى (١٣-١٦) .........................31

سورة الشورى (17- 20) .........................53

سورة الشورى (٢١-٢٦) .........................60

سورة الشورى (27- 31) .........................83

سورة الشورى (32- 39) ........................102

سورة الشورى (40 -43) ........................119

سورة الشورى (٤٤ - ٤٨) .......................123

سورة الشورى (٤٩ -٥٠).........................132

تفسیر سوره الزخرف

سورة الزخرف (1 - 8) ...........................163

سورة الزخرف (٩ -14) ..........................172

سورة الزخرف (١٥ - ١٩) .........................180

سورة الزخرف (20 -28)...........................187

ص: 411

سورة الزخرف (29 - 35) ......................... 200

سورة الزخرف (٣٦- ٤٥) .......................... 211

سورة الزخرف (٤٦-٥٠) ............................226

سورة الزخرف (٥١ - ٥٦) ......................... 233

سورة الزخرف (٥٧ - ٦٥) ......................... 240

سورة الزخرف (٦٦ - ٧٣) ......................... 253

سورة الزخرف (٧٤ - ٨٠) ......................... 263

سورة الزخرف (81-89) ............................270

تفسیر سورة الدخان

سورة الدخان (1 - 8) ..............................281

سورة الدخان (٩-١٦) ..............................303

سورة الدخان (١٧- ٢٤) ............................314

سورة الدخان ( ٢٥ - ٣٣) ..........................321

سورة الدخان (٣٤ - ٤٢) ...........................327

سورة الدخان (٤٣ - ٥٠) ...........................336

سورة الدخان (٥١- ٥٩) ...........................339

تفسير سورة الجاثية

سورة الجاثية (١ - ٦) .............................347

سورة الجاثية (13-7) ............................ 360

سورة الجاثية (١٤ - ١٧) ..........................370

سورة الجاثية (18 - 23) ..........................379

سورة الجاثية (٢٤ - ٢٦) ......................... 393

سورة الجاثية (27- 37) ..........................397

ص: 412

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.