الهادي في تفسير القرآن الكريم المجلد 2

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: مهری، سیدمرتضی، 1324 -

عنوان المؤلف واسمه: الهادي في تفسير القرآن الكريم [کتاب]/ العلّامة سيّد مرتضى المهري.

مشخصات نشر : قم : موسسة المعارف الاسلامیة، 1437ق.= 1395 -

مواصفات المظهر: ج.

فروست : موسسة المعارف الاسلامیة؛ 209، 219، 227.

شابک : دوره 978-600-146-015-9 : ؛ ج.1 978-600-146-016-6 : ؛ ج.3 978-600-146-019-7 : ؛ ج.4 978-600-146-030-2 : ؛ ج.5 978-600-146-031-9 : ؛ ج.6 978-600-146-039-5: ؛ ج.7 978-600-146-057-9 :

حالة الاستماع: فاپا

لسان: العربية.

ملحوظة : ج.3 (چاپ اول: 1394) .

ملحوظة : ج.4 (چاپ اول: 1395) .

ملحوظة : ج.5 (چاپ اول: 1397) (فیپا).

ملحوظة : ج.6 (چاپ اول: 1399).

ملحوظة : ج.7 (چاپ اول: 1401) (فیپا) .

مندرجات : .- ج.3. تفسیر سورة الشوری.- ج.4. تفسیر سورة الاحقاف.- ج.5. تفسیر سورة الذاریات.- ج.6. تفسیر سورة حدید.- تفسیر سورة التحریم

مشكلة : تفسيرات الشيعة -- قرن 14

معرف المضافة: موسسة المعارف الاسلامیة

تصنيف الكونجرس: BP98/م866ھ2 1395

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3483061

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

الهادي في تفسير القرآن الكريم

المجلد الثاني

تأليف

العلّامة سيّد مرتضى المهري

ص: 3

سرشناسه : مهری سید مرتضی ،1324 کد ملی0386545146

عنوان و نام پدیدآور :الهادى فى تفسیر قرآن کریم، سید مرتضی مهری.

مشخصات نشر : قم بنیاد معارف اسلامی 1393 (206- 205)

مشخصات ظاهری: 2 ج.

ISBN : دوره ای 9-015-146-600-978

ج1)978-600-146-016-6 ج 2 )978-600-146-017-3

ج 3)........................... ج 4) .............................

وضیعت فهرست نویسی : فیپا

یادداشت : عربي

موضوع : تفاسیر شیعه - قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد معارف اسلامی

رده بندی کنگره : 1393 2 ه 886 م / 98BP

رئه بندی دیویی : 179: 297

شماره کتابشناسی ملی : 2483061

اسم الكتاب : الهادي في تفسير القرآن الكريم

المؤلف : العلّامة السيد مرتضى المهري

الناشر: مؤسسة المعارف الإسلامية

الطبعة : الأولى 1435 ه- . ق

المطبعة : عترت

العدد : 1000 نسخة

رقم الايداع الدولي للدورة: 978-600-146-015-9

رقم الايداع الدولي / ج 2: 978-600- 146-017-3

حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة المعارف الإسلامية

قم المقدسة - تلفون 37732009 - 09127488298 - فاکس 37743701 ص.ب 168 / 37185

WWW.maarefislami.com

E-mail: info@maarefislami.com

ص: 4

تفسير سورة الصافات

اشارة

ص: 5

ص: 6

سورة الصافّات (1- 5)

بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِیمِ

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)

السورة مكّية بشهادة المضامين والخطابات الخاصّة بالمشركين وتتعرض لإثبات الحشر يوم القيامة، وبيان بعض حوادثه، ثمّ قصص المرسلين (علیهم السلام).

«وَالصَّافَّاتِ صَفاً » ، أقسم في الآيات الثلاثة الأولى بجماعات صافّة، ثمّ جماعات زاجرة، ثمّ جماعات تالية للقرآن. و«صفّاً» مفعول مطلق يفيد التأكيد على الاتصاف بالاصطفاف. وهو بمعني تنظيم شيئين أو أكثر على خط واحد. و«الصافّات» جمع صافّة أي الجماعة الصافة، فالتأنيث باعتبار كون مفردها جماعة. قيل: إنّ المراد بهم جماعات المجاهدين في صفوف القتال، وقيل: جماعات المصلّين.

ولكن الظاهر أن المراد بهم جماعات الملائكة، كما سيتّضح بملاحظة الآيتين التاليتين والعطف بالفاء الدال على الترتيب.

وتوصيف الملائكة بالصّافّة، إمّا بمعنى أنّهم مصطفّون في الصلاة والذكر

ص: 7

والتسبيح، أو بمعنى أنّهم صافون أجنحتهم - وهي تعبير عن القوى - في تنفيذ أوامر الله تعالى منتظرين لما يؤمرون به، أو بمعنى أنّهم مصطفّون تمهيداً لنزول القرآن وعلى كلّ حال فهو كناية عن الاستعداد التامّ.

وقد ورد في نفس السورة حكاية قول الملائكة: « وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ » (1) والأقرب من بين المحتملات أن الاصطفاف - بقرينة ما يليه - هو الاصطفاف لنزول القرآن كما ذكره العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) (2).

« فَالزَّاجِراتِ زَجْراً» «الزجر » هو المنع، أو المنع بصوت، و«الفاء» تدلّ على الترتيب، أي تأتي بعد الجماعات الصافّة، والظاهر أن المراد بهم الجماعات من الملائكة الزاجرة المانعة الرادعة للشياطين من أن يغيّروا أو يبدّلوا أو يسرقوا شيئاً من القرآن. وهذا المعنى قد تكرّر التأكيد عليه في الكتاب العزيز، نظراً إلى أنّ المشركين كانوا يقولون إنّ الشياطين يلقون إلى الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بهذه الكلمات، أو يتساءلون: ما يمنع من أن يدسّ الشياطين فيها؟ ونحو ذلك من الأقاويل.

وقد ردّها القرآن الكريم في موارد شتّى بأنّه ليس ممّا يمكن للشياطين أن تتفوّه به ولا يمكنهم الاندساس في صفوف الملائكة، فمنها قوله تعالى: « وَما تَنزَّلَتْ بِهِ الشَّياطين * وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْع لَمَعْزُولُونَ » (3)، ومنها ما سيأتي من الآيات هنا حول طرد الشياطين بالشهب ، وكذلك في مواضع أخرى. ومنها أيضاً قوله تعالى: « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (4) وغير ذلك.

ص: 8


1- الصافات (37) : 165 - 166 .
2- راجع الميزان في تفسير القرآن:17: 121 .
3- الشعراء (26) : 210 - 212 .
4- الحجر (15) 9 .

وهناك أقوال أخرى في تفسير «الزاجرات»، فمنها: أنّهم الملائكة التي تزجر عن المعاصي، أو تسوق السحاب ومنها أنّهم المؤمنون الناهون عن المنكر وغير ذلك.

« فَالتَّالِياتِ ذِكْراً » وهنا أيضاً الأقرب ما ذكره العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) من أنّها الملائكة الذين يتلون القرآن على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، أو ما يعمّ تلاوة سائر الكتب السماوية على الرسل، أو تلاوة الوحي غير القرآن على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (1) .

ومن هنا يتبيّن الوجه في العطف ب-«الفاء»، فإنّه للدلالة على مراحل إيصال الوحي، فهناك جماعات من الملائكة مصطفّين تمهيداً لنزول الوحي الإلهي على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، و يا له من جلال وعظمة، ثمّ الجماعات الزاجرة الطاردة للشياطين من أن يقربوا الرسول أو الوحي، وبعد ذلك الجماعات التالية للذكر.

وتلاوة الذكر ليست مجرّد قراءة للقرآن حتى يتوهّم أنّها لا تحتاج إلى جماعة فضلاً عن جماعات، بل إيصال للوحي وهو موجود سماوي إلى قلب الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وهذه عملية مهمة صعبة، ولعلّه لذلك كان الرسول(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

يشعر بثقل، بل يثقل جسمه واقعاً - على ما في الروايات - فإذا كان على دابّة لم تتحمّل ثقله، وكان يتصبّب العرق منه حتى في الشتاء، بل كان يغشى عليه من ثقل الوحي، وفي ذلك بحث سيأتي إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: « إِنَّا سَنُلْقي عَلَيْكَ قَوْلاً ثقيلاً » (2).

ثمّ إن ذلك لا ينافي كون الملك النازل بالوحي هو جبرئيل (علیه السلام)، فإنّه هو

ص: 9


1- راجع الميزان في تفسير القرآن :17 121 .
2- المزّمّل (73) : 5 .

الرسول الكريم، « ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاع ثمّ (أي في صفوف الملائكة) أَمِينٍ (على الوحي) » (1) ولكن تحت أمره جنود مجنّدة من الملائكة، فالفعل كما ينسب إليه، ينسب إلى الملائكة الأعوان ، أيضاً، كما قال تعالى: « فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِى سَفَرَةٍ * كرامٍ بَرَرَةٍ » . (2)

« إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ » هذا جواب القسم. والخطاب للبشرية و«الإله» أي المعبود. والبشر إنّما يعبد من يخاف عقابه ويرجو ثوابه. وقد انحرفت الوثنية عن الفطرة الإلهية، فاعتبرت لنفسها آلهة ، آلهة تؤثر في الخير وآلهة تؤثر في الشرور، وعكفت على عبادة هذه الآلهة المزعومة، فبعث الله المرسلين وأرسل الكتب لهداية البشرية وسوقها إلى عبادة الله تعالى. وهذا الخطاب المؤكد بالقسم و بحرف « إنّ » ولام القسم يؤكّد للبشر المخاطب بأنّ المعبود واحد لا يتعدّد، كما زعمت الوثنية بتعدد أسباب الخير والشر، فكلّ ما في الكون مخلوق لله تعالى و تحت تدبيره وربوبيته.

وتبيّن بما ذكر أن المراد ب-«الوحدة» هنا الوحدة بالعدد ونفي التعدد المزعوم. وليس هذا صفة لله تعالى، فهو لا يوصف بالوحدة العددية كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام): « واحد لا بعدد» (3) و إنّما الواحد صفة للإله أي المعبود.

وربما يتساءل: ما فائدة القسم؟ فإنّ من لا يؤمن أنّ الكلام لله تعالى لا يهمه أن يشفع الكلام بقسم أو لا يشفع به، ومن يؤمن به لا يحتاج إلى القسم.

ص: 10


1- التكوير (81) 20 - 21 .
2- عبس (80): 13 - 16 .
3- نهج البلاغة: 269 ، الخطبة 185.

والجواب: أن القسم للتأكيد وتعميق التأثير في نفس السامع، سواء كان مؤمناً أم كافراً، مع أنّ هذه الجملة متعقّبة بالدليل، فليست تحكي عن دعوى مجرّدة، والدليل الآية التالية.

وقلنا غير مرّة إنّ القسم في الأصل إنشاء ربط اعتباري بين كرامة المقسم به وصحّة ما يدّعى إذا كان الحلف لإثبات أمر أو نفيه وربط بين كرامته والالتزام بما يتعهد به الحالف إذا كان الحلف على تعهد. فحينما يقول الإنسان والله كان كذا، فكأنّه يقول: إنّ صدق كلامي منوط ومرتبط بإعظامي لله تعالى، ولذلك يعتبر الحلف كذباً من المعاصي الكبيرة. وحينما يقول الإنسان: والله لأفعلنّ كذا، فكأنّه يقول: إنّ التزامي بهذا الوعد منوط بتعظيمي لله تعالى، ولذلك يعتبر المخالفة إثماً يستلزم الكفّارة.

وأمّا القسم الوارد في كلامه تعالى فقد قيل إنّه لا يفيد نفس المفاد، بل يفيد التأكيد فقط، وذلك لأنّ أكثر ما يقسم به الله ليس ممّا له كرامة خاصّة لديه تعالى .

ولكنّ الظاهر أنّه لا يشدّ عن القسم المتعارف والله تعالى لا يقسم بكلّ شيء و إنّما يقسم بذاته المتعالية وبرسوله الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبكتابه المجيد، وبالملائكة الكرام وبمخلوقاته في الطبيعة، وهي أيضاً من حيث استنادها إليه تعالى كريمة ولذلك ورد فيها غالباً العطف بما يشير إلى جهة جمال أو كمال فيها، كقوله تعالى: « والشَّمْسِ وَضُحَاهَا » (1) وقوله : « واللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهارِ إِذَا تَجَلَّى » (2) ونحو ذلك.

ص: 11


1- الشمس .(91) 1 .
2- اليل (92) 1 - 2 .

ويبدو أن اختيار بعض الأشياء في القسم من جهة التناسب مع المقسم عليه. ويلاحظ أنّه تعالى لم يقسم بأحد من البشر في ما نعلم إلّا بالرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في قوله تعالى: « لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ » (1)

« رَبُّ السَّماواتِ وَالأرضِ وما بَيْنَهُما ) ، « السماوات والأرض وما بينهما» كناية عن كلّ الكون، إمّا بلحاظ أن «السماوات » عبارة عن العوالم العلوية المجرّدة، و«الأرض» عبارة عن عالم الطبيعة ومجموعة الأفلاك وتوابعها، وإمّا بلحاظ أنّ الإنسان لا يجد في ما حوله إلّا السماء والأرض، فيطلق هذا التعبير ويريد كلّ الكون.

وهذه الآية كالدليل على كون الإله واحداً، وذلك لأنّ هذا النظام الكوني يشهد بمقتضى وحدة التدبير والانسجام الموجود في كلّ أجزاء الكون أنّ الرّبّ المدبّر له واحد، وإذا كان للكون ربّ واحد يديره فهو الإله الذي يستحق العبودية، ولا دخل لغيره في تدبير الكون فيتخذ إلهاً.

والآية تنبه على أنّ ربّ السّماء هو ربّ الأرض، وأنّ النظام فيهما نظام واحد، فهناك ارتباط وثيق مشهود بين تدبير السماء وتدبير الأرض، والقسم المذكور أيضاً يتناسب معه، فإنّ دور الملائكة في هذا العرض المتوالي هو دور الربط بين السماوات والأرض.

والمراد بما بين السماوات والأرض يمكن أن يكون الملائكة المأمورين بإيصال الأوامر الإلهية وتنفيذها في عالم الطبيعة، وبغير ذلك من الأعمال الموكولة بهم، بناءً على ما مر من أنّ المراد ب- «السماوات» العوالم العلوية

ص: 12


1- الحجر (15) 72 .

الخارجة عن نطاق الطبيعة و« بالأرض» عالم الطبيعة الشامل للأفلاك كلّها، وأمّا إذا أريد ب-«السماوات» الأجرام العلوية فهناك أجسام كثيرة بينها وبين الكرة الأرضية.

« وَرَبُّ المُشارِقِ » لعلّ الجمع باعتبار أن للشمس في كلّ يوم مشرق على أفق كلّ بلد، ويتغيّر تدريجاً حسب أيّام السنة. والتعرّض لهذا المورد بالخصوص من ما اشتملت عليه السماوات والأرض من مظاهر الربوبية من باب ذكر نموذج من النظام الموحّد في الكون، وهو مثال واضح تتجلّى فيه الدقة المتناهية، فإنّ اختلاف المشارق في كلّ يوم يتبع نظاماً دقيقاً لا يتغير طيلة القرون المتمادية، وهو أيضاً يربط نظم السماء بنظم الأرض، ولكن بمعنى أخر، فهو نظام مترابط بين الكرة الأرضية وجرم من الأجرام السماوية وهو الشمس.

ص: 13

سورة الصّافّات ( 6 -11 )

إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)

« إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةِ الْكَواكِبِ» ، «الدنيا» مؤنث أدنى من الدنو، أي القرب. والظاهر أن المراد بالسماء الدنيا أقرب سماء إلينا، فتدلّ الآية على أنّ كلّ ما نجده من الأجرام العلوية والكواكب والنجوم إنّما هي في آخر سماء بالنسبة إلينا. ويحتمل أن يكون المراد بغيرها من السماوات العوالم العلوية التي ليست من المادة، وليس فيها كوكب ولا نجم والعلو فيها ليس بمعنى العلو الحسي، بل هو علوّ معنوي.

كما يحتمل أن يراد بها الأجرام الفلكية التي لا نراها لبعدها عنّا، فلا يصل إلينا نورها ولا تعتبر زينة لنا، بل لا شك ّفي أنّ بعض ما اكتشفه البشر أيضاً بل أكثره لا يعد زينة حيث لا نراها بالعين المجرّدة، فالواقع أنّ وراء كلّ ما نراها من أجرام نيّرة سماوات ومجرّات وأجرام أخرى كثيرة جدّاً لا يحصيها إلا الله تعالى.

وقوله: « الْكَواكِبِ »، بدل عن الزينة والمراد التنبيه على جانب عظيم من مظاهر الربوبية، وهو الجانب الجمالي في الكون، فإنّ من الواضح أنّ هناك هدفاً مقصوداً وإبداعاً مستهدفاً في تزيين الطبيعة الخلابة، سواء على الأرض أو السماء. ويقال إنّ الكواكب إنّما نجدها زينة على الأرض بفعل المجال الجوي المحيط بنا، فإنّه هو الذي يتسبب في تلألؤ الكواكب، ولا نجد هذا الجمال إذا خرجنا من

ص: 14

المجال الجوّي. فسبحان الله الجميل خالق الجمال ومبدع الزينة الطبيعية البهيجة.

« وَحِفْظاً مِنْ كُلّ شَيْطَانٍ ماردٍ »، أي وحفظناه حفظاً، فيكون مفعولاً مطلقاً لفعل مقدر، أو هو معطوف على قوله (بزينَةٍ) باعتبار المعنى، لأنّه في المعنى مفعول لأجله، فکأنّه قال: « زيّنا السماء الدنيا بالكواكب زينة وحفظاً».

و الشيطان مأخوذ من الشطن بمعنى البعد، لأنّه بعد عن رحمة الله تعالى، أو بعد عن الحقّ أو الخير، أو من شاط يشيط بمعنى احترق، لأنّه مخلوق من النار، قال تعالى: « وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ » (1)، و«المارد» من المرود وهو التجرد، يقال: شابّ أمرد أي لا لحية له، ويقال ذلك لكلّ عاتٍ من الجنّ والإنس، لأنّه تجرد عن الخير.

والظاهر أن المراد جعل الكواكب حفظاً، أي وسيلة للحفظ من كلّ شيطان مارد، كما قال تعالى: « وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابيح وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطينَ »(2) . وسيأتي الكلام حول ذلك إن شاء الله تعالى.

« لا يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأغلى» «یَسَّمَّعُونَ» في الأصل «يتسمّعون»، والتسمّع هو الإصغاء، ولذلك تعدى ب- «إلى» والمراد أنّهم لا يمكنهم الإصغاء مهما حاولوا، في إشارة إلى ردّ ما كان يظنّه العرب من أن الجنّ تأتي بأخبار السماء إلى الكهنة، وبذلك يخبرون عن الغيب. ويظهر من قوله تعالى: « وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً » (3) ، أنّهم كانوا كذلك في زمان، ثمّ منعوا عنه.

ص: 15


1- الرحمن (55): 15 .
2- الملك (67) 5 .
3- الجنّ (72): 9 .

وهناك روايات تدلّ على أنّهم كانوا يتلقّون بعض الأخبار من السماء، ولكن لا يستوعبونها بدقّة، فكانوا يخبرون الكهنة، ولكن يظهر فيها الخطأ من جهة عدم استيعابهم، أو أنّهم كانوا يضيفون عليها من أنفسهم كذباً لخبثهم، أو استنباطاً، كما يصنعه بعض البشر.

روى الطبرسي في «الاحتجاج » عن أبي عبدالله (علیه السلام) - في حديث طويل - « وأمّا أخبار السماء فإنّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك وهي لا تحجب ولا ترجم بالنجوم، و إنّما منعت من استراق السمع لئلّا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء، ويلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله لإثبات الحجة ونفي الشبهة، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء، ويلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن اللهمن خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه فيختطفها، ثمّ يهبط بها إلى الأرض فيقذفها إلى الكاهن، فإذا قد زاد كلمات من عنده فيختلط الحقّ بالباطل، فما أصاب الكاهن من خبر ممّا كان يخبر به فهو ممّا أدّاه إليه شيطانه ممّا سمعه، وما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه، فمذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة». فقال: كيف صعدت الشياطين إلى السماء وهم أمثال الناس في الخلقة والكثافة، وقد كانوا يبنون لسليمان بن داود (علیه السلام) من البناء ما يعجز عنه ولد آدم؟ قال: «غلظوا السليمان لمّا سخّروا، وهم خلق رقيق غذاءهم التنسم ، والدليل على ذلك صعودهم إلى السماء لاستراق السمع، ولا يقدر الجسم الكثيف على الارتقاء إليه إلّا بسلّم أو بسبب »(1).

وعلى كلّ حال، فهذه الآية تدلّ على أنّهم لا يمكنهم الاستماع، وهذه الجملة مستقلة وليست جملة وصفية لكلّ شيطان، كما في الميزان» إذ يكون المعنى

ص: 16


1- الاحتجاج 2: 81 .

حينئذ وحفظنا السماء من كلّ شيطان لا يستمع أو لا يمكنه أن يتسمّع، وأمّا من يمكنه ذلك فلا يمنع منه. وهو غير صحيح.

و«الملأ » يطلق على أكابر القوم وعّليتهم ، لأنّهم يملأون العيون عظمة وبهاء. و « الملأ الأعلى »هم الملائكة، ولعلّ المراد أكابر الملائكة الذين بيدهم رتق الأمور وفتقها، أو المراد عالم الملائكة، لأنّهم كلّهم عظماء في الخلق.

« وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ » جملة معطوفة في مقام التعليل لعدم تسمّعهم. وفاعل القذف الملائكة. و یدلّ ذلك على أنّ الشياطين يستمرون في المحاولة، ويبدو أنّ المحاولة مستمرّة أبداً حيث أتي بالأفعال بصيغة المضارع. و یدلّ هذا الاستمرار على غاية خبثهم، وعلى غبائهم أيضاً، حيث لا يتفطّنون إلى عدم التمكن من ذلك نهائياً، وأنّهم يقاومون القدرة المطلقة التي لا يمكن أن يقاومها شيء، ولعلّ هذا من وجوه كفر الشيطان، مع علمه بأنّ الله هو الخالق البارئ. ومثله بعض جبابرة الإنس.

«دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ »أي ويدحرون دحوراً أي إبعاداً، فيكون مفعولاً مطلقاً، أو يقذفون لأجل الدحور والإبعاد، فيكون مفعولاً لأجله. ومنه يعلم أنّهم يحاولون الدخول والملائكة تطردهم بحيث لا يتمكّنون من الاقتراب وهكذا جنود الشرّ لا تفتؤ تحاول النفوذ في صفوف جنود الحقّ والخير، وعلى جنود الحقّ أن يبعدوهم حتى لا يطمعوا في النفوذ. ويظهر أنّ الشيطان الأكبر حيث أخرج من السماء وأهبط إلى الأرض لم يزل يحاول العود. ومن غرائب الكون أنّ الله تعالى أمهله هذا الإمهال لا بحسب الزمان فقط، بل حتى بحسب مجال العمل وفسحة المطاردة والركض للفساد في الكون.

ص: 17

و«الواصب»: الثابت الدائم. قال تعالى: « وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا » (1) ، فالمراد أنّهم في نفس الوقت معذّبون لا يكاد ينفك عنهم العذاب، أو أنّ لهم عذاباً ثابتاً يوم القيامة، كما قال تعالى: « وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ». (2)

«إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ » «الخطف» هو الاختلاس بسرعة. فمن الشياطين من يبلغ به الغباء أنّه يحاول اختلاس الخبر من السماء ليبلغ به الأرض، فما يكون من الملائكة إلّا أن يقذفوهم بشهاب ثاقب. والشهاب الشعلة الساطعة من من النار، ووصف ب-«الثاقب»، لأنّه يثقب وينفذ في ما يصيبه. وظاهر الآية أن الملائكة ترمي الشياطين المسترقة بالشهب الثاقبة فتهلكها، وأنّ ذلك من نفس هذه الكواكب والنجوم كما مرّ.

وقد أشكل الأمر على المفسّرين حتّى أن بعضهم اكتفى بنقل الأقوال. وذلك لأنّ كون هذه الكواكب والنجوم شهباً ترمى بها الجنّ أمر مخالف لما هو معلوم ومشهود حتى قبل الاكتشافات الحديثة، فذهب بعض المفسّرين إلى لزوم الأخذ بهذا الظاهر وإن كنّا لا نعلم حقيقة الحال.

وهذا لا بأس به في حدّ ذاته، ولا يلزم منه أي محذور، فهناك كثير من الحقائق العلمية لم تكشف بعد للبشر، وربّما لا تنكشف أبداً. والآيات لا تدلّ على أنّ كلّ ما يرى في السماء من أجرام مضيئة فهي رجوم للشياطين، و إنّما تدلّ على أن بعضها تستخدم لرجمها، وهذا لا دليل على بطلانه حتى يستبعد أو يستغرب ونحن لا نعلم حقيقة الشياطين، وأنّها كيف خلقت، وبأي شيء تندحر،

ص: 18


1- النحل .(16) 52 .
2- الملك (67): 5 .

فربّما يكون في هذه الكواكب أشعة ثاقبة تدحرها.

وذهب العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) إلى أنّ هذه التعابير كلّها كناية عن أمر غير محسوس، فهي كألفاظ «العرش» و«الكرسي» و«اللوح » ونحوها، و إنّما تشير إلى حقيقة غير محسوسة، وهي دحر الملائكة الشياطين عن عالم الملكوت الذي ليس هو من العالم المحسوس بوسائل تناسب ذلك العالم والداحر والمدحور(1).

وما ذكره الله غير بعيد، إذ لا شك في أن الملائكة ليسوا من هذا العالم المحسوس، أي الأجسام المتزاحمة، فكذلك الشهب.

و یدلّ على ذلك قوله تعالى: «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا » (2)، فيظهر منه أنّ الشهب حالها حال الحرس ، وكذلك السماء، فليس المراد بها هذه الأجرام العلوية، إذ ليست هي مساكن الملائكة، ولا مهابط الوحي ولا مصادره، و إنّما السماء بمعنى العالم العلوي الخارج عن نطاق الطبيعة هي مسكن الملائكة ومجمعها، فالشياطين تحاول الاقتراب منها، وليس هذا اقتراباً جسمياً ولا صعوداً فلكياً، ولا قطع مسافة حسّية، بل هو نوع خاص من الاتصال.

و«الشهب» أيضاً ليست شعلاً من النار، وليس المقصود هذه الأجرام المضيئة المعروفة التي نعبّر عنها ب-«الشهب». والدليل على ذلك أن هذه الشهب كانت تنزل على الأرض دائماً، فهي صخور سابحة في الفضاء تدخل المجال الجوي وتشتعل بفعل الاصطكاك بالجو، وهذا أمر طبيعي لا علاقة له بالوحي وزمان نزوله، ولم يكن شيئاً حادثاً في عصر الرسالة. ولا شك أنّ هذا ممّا كان يحسّ به

ص: 19


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 17 124-125 .
2- الجنّ (72): 8 .

الناس كلّهم قبل نزول الوحي، فكيف تنزل الآية وتقول: «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا » (1) ممّا یدلّ على أنّه أمر حدث في ذلك العصر ؟!

«فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ » « فَاسْتَفْتِهِمْ » فعل أمر من الاستفتاء، وهو طلب الفتوى أو الفتيا - بضم الفاء - قيل: إنّ الفتوى كلّ خبر جديد. وقيل: إنّها الجواب عن ما يشكل من الأحكام. ولم أجد تعبيراً في كتب اللغة والتفسير في شرح هذه الكلمة بمختلف استعمالاتها.

والذي يظهر من استعمالات القرآن أنّ المراد بها الجواب عن أمر مهم، فورد في تعبير رؤيا الملك في سورة يوسف (2) (علیه السلام)، ولعلّه عبّر عنه بذلك لاهتمامه به شخصياً، وورد في السؤال عن الحكم الشرعي، كقوله تعالى: «وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ »،(3) وورد في سؤال ملكة سبأ عن ما تقتضيه المصلحة في مقابلة

سلیمان (4) (علیه السلام) ، والحاصل أنّها لا تدلّ على كلّ خبر جديد أو أي جواب عن حكم، ولكنّها لا تختص بفتاوى الفقهاء، كما يظهر من أكثر تعابير اللغويين.

ومهما كان، فالمراد هنا أسألهم أهم أشد خلقاً أم من خلقنا؟. و«اللازب»، أي اللاصق. قيل : المراد به الملتصق بعضه ببعض.

والمعروف المتداول بين المفسّرين في تفسير هذه الآية، أنّ المراد ب- « مَنْ خَلَقْنا من » سبق ذكرهم من الخلائق، أي السماوات والكواكب و الملائکة

ص: 20


1- والملائكة الجنّ (72): 9 .
2- راجع يوسف :(12) 43 .
3- النساء (4) 127 .
4- راجع: النمل (27) 32 .

والشياطين والشهب . وبناءً عليه فالتعبيرعن المجموعة ب- (مَنْ) الدالّ على ذوي العقول من باب التغليب. وقال بعضهم: إنّ ذلك نظير قوله تعالى: «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا» (1). قالوا: والاستفهام للتقرير، إذ من الواضح أنّ الإنسان ليس أشدّ خلقاً ممّا ذكر. والمراد بكونها أشد خلقاً صعوبة الخلق، فإنّ سياق الآيات التالية یدلّ على أنّ الغرض ردّ استبعادهم لإحياء الموتى، فالاستفتاء لأخذ الإقرار منهم بأنّ السماوات والملائكة ونحوها أصعب خلقاً منهم، فمن كان قادراً على ذلك لا يعجز عن إعادة خلق البشر.

والغرض من بيان خلق الإنسان من طين لازب - بناءً على هذا الوجه - التنبيه على ضعف الخلقة فيهم، ليكون تعليلاً للجواب المحذوف عن سؤال الاستفتاء، فإنّ الجواب هو النفي طبعاً، فالمعنى أنّهم أضعف خلقاً، لأنّا خلقناهم من طين لازب والطين الملتصق بعضه ببعض ليس خلقاً معقداً. أو المراد - كما قيل - الإشارة إلى أنّ إعادة بناء الطين الملتصق بعضه ببعض أمر يسير فلا وجه لاستبعاد المعاد.

ويلاحظ على هذا التفسير المشهور أوّلاً: أنّ كون السماوات وغيرها أشدّ خلقاً من الإنسان لا يستلزم إمكان الإعادة ولا يرفع الاستبعاد، إذ من الممكن أن يقال: إنّ خلق الشيء وإن كان معقداً أيسر من الإحياء بعد الموت ولا تلازم بين الأمرين.

نعم التلازم معقول بين إمكان الإبداع وأولوية إمكان الإعادة، لأنّ الأوّل خلق من العدم من دون مثال يحتذى بل من دون مواد أولية يصنع منها الشيء.

ص: 21


1- النازعات (79) 27 .

وهذا هو الذي يؤكّد عليه قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثمّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» (1). وقوله تعالى: «لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ » (2). كما أنّه لا يبعد أن يكون المراد بقوله تعالى: «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا » أيضاً هذا المعنى، فالمراد ب-«السماء » الكون ككلّ حيث ابتدع الله الخلق لا من شيء.

وثانياً: أنّ هذا التفسير لم يبيّن الوجه في توصيف الطين باللازب، و إنّما ذكروا وجه التركيز على كون الإنسان مخلوقاً من الطين وهو هشاشة خلقه أو سهولته وعدم تعقده وأمّا توصيفه ب-«اللازب» فاكتفوا فيه بالتفسير بأنّه اللاصق أو الملتصق بعضه ببعض. وهذا يشكّل فجوة في التفسير.

والذي يخطر بالبال أنّ المقارنة في هذه الآية يمكن أن تكون بين خلق الإنسان والملائكة، وهم الذين اهتمّت الآيات السابقة بذكرهم، وبيان أصنافهم، وزجرهم للشياطين، وحفظهم للوحي ، فلا يشاركهم في هذه المقارنة السماوات والشياطين والشهب ولا حاجة بناءً على هذا التفسير أن يوجّه التعبير ب- «من»، فإنّه استعمل لذوي العقول خاصّة.

وعلى هذا، فوجه التطرّق لبيان مبدأ خلق الإنسان واضح، وهو أنّه لا يقاس بخلق الملائكة وهم من أعجب خلق الله تعالى. ولم يذكر في القرآن مبدأ خلقهم، ولا عامّة خصائصهم، بل أشير إلى بعضها وإلى بعض وظائفهم.

ويتبيّن بمراجعة الآيات أنّ خلقهم عظيم جدّاً، ومن خصائصهم التي أشير إليها أنّهم يتمثّلون بأشكال أخرى وأنّهم تمثّلوا بشراً في بعض الموارد، كما في

ص: 22


1- الروم (30): 27 .
2- غافر (40) 57 .

بشارة مريم وضيافة إبراهيم ولوط (علیهم السلام). ومن أعمالهم المذكورة في القرآن إنزال الوحي على الرسل وغيرهم، ومنها: إنزال العذاب على بعض الأمم السالفة، ومنها: نصرهم للمؤمنين في بعض الحروب، ومنها: قبضهم وتسلّمهم للأرواح حين موت الإنسان، وغير ذلك ممّا يقومون به في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى وهو أعظم وأعجب. بل صرّح في القرآن بأنّهم يدبرون الأمور.

وعليه، فالمراد بالأشدّية في الخلق كون خلقهم أعظم وأعجب، لا صعوبة الخلق والمراد بأنّ الإنسان مخلوق من طين لازب تصغير شأنه من حيث أصل الخلقة في مقابل خلق الملائكة وسائر شؤون العالم العلوي، ليردعه من الكبر والخيلاء، فإنّ من دواعي عدم الإيمان هو الكبر وعدم تسليم هذا الإنسان الضعيف في قبال أوامر خالقه ونواهيه. وهذا ما نجده حتى اليوم منتشراً بين البشر ونسمع من كثير منهم ما ينمّ عن الاستكبار وعدم تقبّل أن يؤمر الإنسان بما لا يقتنع به من الأحكام، ونسمع ذلك حتى من بعض المؤمنين إذا لم يكن الحكم لصالحهم.

ولعلّ الوجه في توصيف الطين ب-«اللازب» لصوقه بالأرض وبعالم الطبيعة، فلا يتمكن من السير في العوالم العلوية إلّا إذا جرّد نفسه عن الهوى، وعن الإخلاد إلى الأرض. ويمكن أن يكون بمعنى اللازم كما هو أحد معانيه، بل قيل: إنّ «الباء» مبدل من «الميم»، فالمراد أنّه مخلوق من طين لازم له لا يمكنه الخلاص منه إلا برياضات شاقّة، فكيف يقاس بالملائكة المقرّبين الذين يجتاحون العوالم العلوية، وينقلون أوامر الله التكوينية والتشريعية إلى كلّ أرجاء الكون.

ولو قيل بأنّ المراد ب « من خلقنا » ما يشمل الشياطين أيضاً، لم يكن بعيداً كلّ

ص: 23

البعد، من جهة التأكيد على أنّهم مع كونهم قادرين على الاقتراب من السماء والاستماع إلى أخبار الملائكة، يدحرون ويعذّبون، فكيف بالإنسان المخلوق من الطين اللازب، فالمراد على كلا الوجهين ردع الإنسان من الاستكبار في مواجهة آيات الله تعالى. وقد مرّ التنبيه على مشابهة بعض البشر للشياطين في غبائهم، حيث يحاولون مقاومة القدرة الإلهية المطلقة. ولكنّ الاختصاص بالملائكة هو الأقرب.

ص: 24

سورة الصّافّات (12 - 20)

بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإنّما هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)

« بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ » ، خطاب للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو إضراب عن الاستفتاء، أي لا تستفتهم، فلعلّه إشارة إلى عدم الجدوى منه أو إشارة إلى أنّهم لا يؤمنون بهذا الكلام، و إنّما الذي يعجب من هذا الخلق أنت أيّها الرسول، وأمّا هم، فإنّما يسخرون لسماع هذا الحديث. ويمكن أن يكون المراد تعجب الرسول من تكذيبهم واستهزائهم، نظير قوله تعالى: «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ »(1) . وقوله « وَيَسْخَرُونَ » جملة حالية، أي عجبت في حين أنّهم يسخرون، أي يستهزئون.

وقرئ: «عجبت» - بضم التاء - إمّا بمعنى أنّ الله عجب من هذه الخلائق، وإمّا بمعنى أنّه عجب من سخريتهم. وردّ بأنّ الله تعالى لا يعرض عليه العجب، فإنّه ينشأ من الجهل بالحقائق. ولكن لا مانع من إنشائه إظهاراً لعظمة الخلق، ولا يحكي ذلك عن عروض التعجب، كقوله تعالى: « فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ » (2). بل إنّ الآية المذكورة آنفاً « «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ » تشتمل على إنشاء التعجب منه ،تعالى كما هو مقتضى قوله: «فَعَجَبٌ»

ص: 25


1- الرعد (12) 5 .
2- المؤمنون (23): 14.

« وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ » أي إذا تليت عليهم الآيات التي تذكرهم بما فطروا وجبلوا عليها من الاعتراف بالربوبية لله تعالى لا يذكرون العهد والميثاق الذي أُخِذَ منهم والمشار إليه بقوله تعالى: « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى » (1). أو إذا ذكّروا بأخبار الأمم السالفة، لم يعتبروا ولم يتأثّروا. ونفي الذكر ليس بمعنى أنّهم لا يذكرون واقعاً، بل ينزل عدم تأثرهم واعتبارهم منزلة النسيان وعدم الذكر، إذ لا أثر له، فکأنّهم لم يذكروا والإتيان بالمضارع یدلّ على الاستمرار وأنّ ذلك دأبهم و ديدنهم.

« وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ » كان القوم يطلبون من الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يأتيهم بآية معجزة، كما أتى به النبيون السابقون كعصا موسى (علیه السلام) وشفاء المرضى على يد عيسى (علیه السلام)، بل يطلبون آيات خاصّة كما ورد في قوله تعالى: «وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا *أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا » (2) إلى آخر الآيات والآيات كانت تنزل بمنع ذلك، وأنّهم يكفيهم القرآن وأنّ ذلك يضرهم، لأنّهم سيصرّون على عدم الإيمان، ومن سنن الله تعالى أنّ أيّ قوم طلبوا آية خاصّة فنزلت عليهم ولم يؤمنوا، فإنّه يعذبهم عذاب الاستئصال ،كما حدث لقوم ثمود حين طالبوا بناقة تخرج من الجبل على ما روي، ثمّ عقروها، فأهلكهم الله تعالى.

ومثله قول الحواريين لعيسى (علیه السلام) : « هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ » حيث دعا عيسى ربّه فجاءه الوحي: « إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ

ص: 26


1- الأعراف (7) 172 .
2- الإسراء (17) 90 - 91 .

عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ » (1) ومع ذلك فكان هناك موارد يريهم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) آيات تدلّ على رسالته.

ومن الغريب أنّ بعض الكتّاب ينكر أن يكون للرسول أي معجزة غير القرآن وممّا أراهم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّ الحصى سبّحت بكفّه الشريفة، ومنه: شقّ القمر، ومنه إسراؤه في ليلة واحدة إلى بيت المقدس ورجوعه إلى مکّة، ومنه: إخباره عن الغيب كإخباره بما رآه في بيت المقدس ليلة الإسراء، وبما رآه طريقه من في القافلة، وإخباره عن مجيئهم وحالتهم، ومنه: استدعاؤه الشجرة أن تحضر أمامه، فحضرت بكيفية غريبة، كما ورد في كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) في « نهج البلاغة» (2)، ومنه: شفاء المرضى والاستسقاء بوجهه الكريم في صغره وبعد ،بعثته ومنه ما حدث يوم الغار، ومنه أحاديثه الغيبية، وهي كثيرة جدّاً وغير ذلك ممّا تواترت به الأحاديث. ولكنّ القوم ما كانوا يواجهون كلّ هذه المعجزات إلّا بالسخرية والاستهزاء.

و«الاستسخار » مبالغة في السخرية، ولعلّه يفيد معنى آخر زائداً على أصل السخرية وإن قال في « المجمع»: إنّهما بمعنى واحد (3)، إذ يمكن أن يكون المراد طلب السخرية من الآخرين كما هو مقتضى صيغة الاستفعال، فإنّ السخرية تارة يكون من الفرد نفسه، وتارة يسخر ويحاول إثارة الآخرين للسخرية، كما هو دأب العاجزين من مقابلة المنطق بالمنطق.

«وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ » ،وهذا غاية توجيههم للآيات والمعاجز. « سِحرٌ

ص: 27


1- المائدة (5): 112 - 115.
2- راجع نهج البلاغه: 301 .
3- راجع مجمع البيان في تفسير القرآن 8 :687.

مُبِينٌ » أي سحر واضح، مع أنّ السحر ليس إلا تخييلاً ولا يمكن أن يؤثّر في الواقع ويشفي المرضى مثلاً.

« أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ » استفهام إنكاري. ولعلّ عطف « العظام » باعتبار أنّ بعض العظام ربّما لا تنقلب تراباً أو تبقى مدة طويلة. وهذا استغراب متكرّر من الكفرة طيلة التأريخ البشري وقد تكرر ذكره ورده في القرآن الكريم. و تكرار الاستفهام في قوله: « إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ » لتأكيد الإنكار.

« أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ »، يظهر من عطف الآباء الأولين أن منشأ الاستغراب طول الزمان، لا أصل الإعادة، إذ لو كان لأصل الإعادة لم يكن فرق بين الآباء والأبناء. والخبر محذوف في هذه الجملة التالية، أي أوَ آباؤنا الأولون مبعوثون أيضاً مع بعد عهدهم، ويحتمل أن يكون « آباؤُنَا » عطفاً على اسم «إن» في « إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ » فلا حاجة إلى تقدير الخبر.

« قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ». «دخر»: ذل و«الدخور»: الذلّ. أمر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يجيبهم: نعم تبعثون وأنتم صاغرون أذلاء. ولعلّ هذا التحقير في مقابل ما مر من

الإشارة إلى عجبهم واستكبارهم في قوله تعالى: «فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا ».

« فَإنّما هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ » ،الظاهر أنّ «الفاء» جواب لنهي مقدر، أي لا تستغربوا، فإنّما هي زجرة واحدة والضمير: «هِیَ» يعود إلى البعث أنّث بلحاظ الخبر، وحمل الزجرة على البعث لأنّها سببه، و«الزجر» المنع والطرد والانتهار. وفي (المفردات»: الطرد بصوت (1) والمراد ب-«الزجرة » هنا الصيحة التي تلازم الزجر. « يَنْظُرُونَ» يحتمل أن يكون بمعنى النظر أو الانتظار.و الغرض بيان

ص: 28


1- راجع المفردات في غريب القرآن: 211 .

أنّ البعث لا يحتاج إلى شيء إلا صيحة واحدة، فيجدون أنفسهم بغتة قائمين ينظرون نظرة اندهاش أو ينتظرون مستقبلهم الغارق في الظلام .

والغرض من هذه الآيات تصوير يوم القيامة وبعض ما يحدث فيه من الحوادث والمخاصمات لا الاستدلال على إمكانه.

« وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ» ،هذا حديثهم يدعون بالويل والثبور لحظة القيام ومشاهدة الموقف، حيث يتذكرون ما قاله الرسل، ويعلمون أنّه الحق، وأنّ هذا هو يوم الجزاء. و«الويل» ندبة وتفجّع بحلول الشّرّ. و«الدين» الجزاء.

ص: 29

سورة الصّافّات (21 -26)

هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)

« هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ » ،الظاهر أنّ هذه الجملة ليست معطوفة على سابقتها فتلك كلام الكفّار وهذه خطاب موجّه إليهم من الله تعالى أو من الملائكة بأمره.

وقيل: بل هي معطوفة وذلك لأنّ بعضهم يخاطب بعضاً: هذا يوم الفصل ولكنّ الاحتمال الأوّل أقرب باعتبار الجملة التالية والتي لم تعطف على هذه الجملة ممّا یدلّ على أنّهما متواليتان. ومن الواضح أنّ الجملة التالية ليست من كلام الكفار.

والمراد بالفصل الفصل بين الحقّ والباطل، فلا تختلط الأمور ولا تشتبه، ولا يختلط الناس، ويتميّز أصحاب الحقّ عن أصحاب الباطل، ويفرّق بين المجرمين والمؤمنين، كما قال تعالى: «وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ »(1)، وهو أيضاً يوم القضاء الفصل يحكم الله بين عباده في ما كانوا فيه يختلفون، وينال كلّ إنسان حقّه ونصيبه لا ظلم اليوم، ويقتصّ من كلّ ظالم ما ظلمه.

نعم، هذا يوم الفصل الذي كانوا يكذبون به قولاً أو عملاً، فهناك من الناس من يظهر أنّه مؤمن بيوم الفصل ومؤمن برسالات السماء، ولكنّه بعمله يظهر بوضوح أنّه لا يؤمن به قلباً إلّا إذا سمّينا الاحتمال إيماناً. وهذا يشمل كثيراً من المؤمنين.

ص: 30


1- يس (36) 59 .

وقوله : « كُنتُمْ » یدلّ على الاستمرار ، وأنّ هذا كان دأبهم وديدنهم.

« احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ » أمر من الله تعالى إلى ملائكته والأزواج ،جمع زوج، ويطلق على كلّ من يقرن بغيره، فكلّ قرين زوج.

وفي المراد بالأزواج هنا احتمالات:

منها : أن يكون المراد زوجاتهم اللاتي كنّ على دينهم، بل يساعدنهم في ظلمهم وطغيانهم، وهناك كثير من المظالم التي ارتكبها الرجال يعود سببها إلى إغواء المرأة وإغرائها، حتّى أنّ بعض الحروب الطويلة التي أهلكت الحرث والنسل إذا بحثت عن أصولها الدفينة تجد إنّها كثيراً ما تستند إلى رعونة امرأة فاسدة.

ومنها: أنّ المراد قرناؤهم من الشياطين، ويناسب ما مرّ من ذكر الشياطين واعتماد الكفّار على أخبارهم التي كانوا يحصلون عليها عن طريق الكهنة، وقد تكرّرت الإشارة إلى وجود الشياطين القرناء في الآيات المباركات، كقوله تعالى: « وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِينًا » (1) ، وقوله تعالى: «وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ » (2)، وقوله تعالى: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ *وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ *حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ *وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ » (3).

ومنها: أنّ المراد أقرانهم وأمثالهم الذين هم على شاكلتهم، فيكون إشارة إلى

ص: 31


1- النساء (4): 38 .
2- فصلت .(41) :25 .
3- الزخرف (43): 36 - 39 .

أنّ كلّ مجموعة من الظلمة تحشر مع بعض. ولعلّه أقرب الوجوه ويؤيده ما يأتي من مخاصمة الكبراء والأتباع.

« وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ » ، الظاهر أنّ المراد به الأصنام. وقد تكرّر أيضاً أن الكفّار يحشرون مع أصنامهم وأنّهم معاً وقود النار ، كقوله تعالى: « فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ » (1)، بناءً على أن المراد ب- « الحجارة »الأصنام، وقوله تعالى: «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ » (2).

« فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ »، اختلفت التعابير في تفسير الهداية وأنّه الإرشاد إلى ما فيه الخير، أو الدلالة بلطف وعناية وعلى كلّ تقدير فالتعبير هنا ب-«الهداية» إنّما هو للتهكّم والاستخفاف بهم ، كقوله تعالى: « فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ » (3) و«الجحيم» : النار العظيمة شديدة التأجّج، من الجحمة - بالضم ثمّ السكون - .

« وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ » ،«قِف» فعل أمر من الوقوف، وهو بمعنى الإيقاف، كقول امرئ القيس: «وقوفاً بها صحبي علي مطيّهم».

وظاهر سياق الآيات أنّ المراد من السؤال في هذا الموقف ما ورد في الآية التالية « مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ » أي لا تتناصرون.

وهذا السؤال يشتمل على تأنيب وتعذيب، حيث كانوا يتبجّحون في الدنيا بتناصرهم، وتأييد كلّ واحد منهم صاحبه، وتمسّكهم بمذاهبهم الفاسدة ونصرتهم لآلهتهم وطواغيتهم، وكانوا يتوقّعون من آلهتهم أن ينصروهم في كلّ

ص: 32


1- البقرة (2) 24 .2
2- الأنبياء (21) 98 .
3- آل عمران (3) 21 .

موقف، حتى لو كان هناك موقف أمام الله تعالى، فهذه الآية تذكر الإنسان بما يصيبه من خيبة أمل هناك، حيث يجد أن لا ناصر له ولا معين. وهذا الخطاب يؤنّبهم ويعذبهم نفسياً. وليس لهم جواب عن هذا السؤال، إنّما هم ناكسو رؤوسهم لا يرتدّ إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء. وما عساهم يجيبون؟!

ويحتمل أن يكون المراد السؤال عن الإيمان وعن الأعمال، كما ورد في بعض الأحاديث وفي بعضها أنّهم مسؤولون عن ولاية علي (علیه السلام) (1). ولا شك أنّ ولايته وولاية الأئمة المعصومين (علیهم السلام) من أركان الإيمان، ولا يتمّ الإيمان إلّا بالاعتقاد بها، ومن لا يؤمن بها فإيمانه ناقص نظير من يؤمن بالله ولا يؤمن بالرسالة.

ولكن لا ينحصر ما يسأل الإنسان عنه يوم القيامة في الولاية، و إنّما هي أحد ما يسأل عنه، فالروايات إنّما تركز عليها بالخصوص، لأنّها أمر غفل عنه الناس، بل أنكروه واستخفّوا به، بالرغم من تأكيد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إذا فالمسؤول عنه هو كلّ ما عمله الإنسان، وما اعتقد به وما تركه ممّا يجب عليه، وكلّ ما أسرّ به أوجهر، وكلّ صغيرة وكبيرة.

إلّا أنّ سياق الآيات يأبى عن الحمل على السؤال عن الإيمان والأعمال، فضلاً عن خصوص الولاية، لأنّ موقف السؤال عن الأعمال والإيمان هو قبل الأمر بإلقائهم أو سوقهم إلى النار، فالأولى ما ذكرناه من أن مورد السؤال عدم التناصر .

« َلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ» «بل» للإضراب، أي أنّه لا وجه للتناصر، فإنّ ذلك

ص: 33


1- راجع تفسير نور الثقلين 401:4.

إنّما يصحّ في ما إذا كانت هناك مواجهة مع عدوّ مشترك يمكنهم التجمّع والتناصر ضدّه، و إنّما هم اليوم مستسلمون أمام الإرادة القاهرة الجبارة التي لا يقاومها شيء، ولم يقاومها شيء في الحياة الدنيا ، أيضاً، ولكنّ الله تعالى أمهلهم ليبرز كلّ أحد ما في قلبه، وما يكمن في مكنون ضميره. وأمّا اليوم فهم مستسلمون لما اكتسبوه من جزاء، ولمّا ينتظرهم من مستقبل تعيس والاستسلام طلب للسلامة، والمراد لازمه وهو التسليم والانقياد.

ص: 34

سورالصّافّات (27 -32)

وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)

« وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ » عرض لمخاصمة التابعين والمستضعفين الكبراء والزعماء. وقيل: إنّ المخاصمة المذكورة بين الشياطين وكفّار الإنس. والسياق يأباه. وقد ورد ذكر ذلك في موارد عديدة من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: «إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ » (1)، ولعلّ السبب في هذا التأكيد دفع ما ربّما يتوهّم من أنّ ما يحكى في الكتاب إنّما هو عرض تمثيلي، فهذه الآية الكريمة تؤكد أن ذلك لحقّ.

وطبيعة الحال تقتضي ذلك أيضاً، لأنّ التابع المستضعف الذي كان يعلّق الآمال على ما يلقيه عليه الكبراء، وتؤكّده الدعايات والشعارات، وتلاحقه حتى في عقر داره بكلّ وسائل التبليغ والدعاية صوتاً وصورة، وتتطوّر بشتى الطرق، وفجأة يجد يوم القيامة أنّ كلّ ما كان يسمعه من زعماء السياسة والدين وغيرهما كانت أوهاماً وشعارات زائفة لا حقيقة لها، ويجد أنّ هذا الصنم الهائل الذي كان يقف أمامه خاضعاً متعبداً خر صريعاً في النار، فلا يبقى أمامه سبيل يفرغ غيظه إلا التنديد بهم والتبرّي منهم ، ولا تبقى له حيلة إلّا الاعتراض عليهم: أين هذه الوعود الزائفة ؟!

إذاً، فهذا أمر طبيعي، وخصوصاً إذا كان الزعيم يدّعي أنّه يهدي قومه سبيل

ص: 35


1- ص (38) 64 .

الرشاد، كما قال فرعون: « مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ »(1)، وهذا لا يختصّ بالمشركين وعبدة الأصنام، بل يشمل أصحاب المذاهب الباطلة جميعاً، وسيأتي قوله تعالى: « إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالمُجْرِمِينَ » (2) ممّا یدلّ على التعميم.

وقوله تعالى «يَتَسَاءَلُونَ» أي يسأل بعضهم بعضاً. والسائلون هم الأتباع والمسؤولون هم المتبوعون وليس مضمون السؤال استفهاماً، بل هو احتجاج واستيجاب واستنكار وهذا هو الفرق بين هذه الآية وقوله تعالى: « فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ»، فالتساؤل المنفي هناك هو تفقد كلّ منهم عن الآخر، والسؤال عن حاله حتى في ما بين الأقارب، بل الآباء والأمهات وأولادهم، أو المراد الانتصار وسؤال النصرة.

« قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ » (3) هذا بالطبع ليس أول سؤال موجه إليهم، فهنا حذف وتقدير. وأوّل سؤال بالطبع هو استنكار ما فعلوه من إضلال وستر للحقّ ونشر للباطل.

والجواب: إنّا لم نعمل شيئاً، إنّما دعوناكم فأجبتمونا، فتوجه إليهم الجملة الحاضرة ، وهو في الواقع تهرّب عن المسؤولية الملقاة على عاتق التابعين، وإلقاء لكلِّ الإثم على المتبوعين: « إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ».

ما هو «اليمين»؟ قيل: المراد به جهة الخير ، لأنّ العرب تعبر عن الخير باليمين ومثل ذلك أيضاً قوله تعالى: «أَصْحَابُ الْيَمِينِ»، وفي مقابلهم: «أَصْحَابُ الشِّمَالِ» ، مع أنّ اليمين والشمال لا يختصّان بالخير أو الشر إلّا أنّ العرب كانوا يتفألون

ص: 36


1- غافر (40): 29 .
2- الصافات (37): 34 .
3- المؤمنون (23): 101 .

بالطائر الذي يمرّ على يمينهم ويسمّونه السانح، ويتشاءمون به إذا مرّ على شمالهم ويسمّونه البارح، وعلى ذلك فالمراد أنّكم كنتم تأتوننا من جانب الخير، إمّا باعتبار أنهم كانوا يعدّونهم بالخير، كالأموال والمناصب ونحو ذلك ، وإمّا أنّهم كانوا يدعون بأنّهم لا يريدون لهم إلّا الخير، وأنّ ما ندعو إليه خير لهم ولأمتهم ولوطنهم ونحو ذلك من الدعايات.

وقيل: إنّ المراد ب-«اليمين » جانب القوة والقهر ، وهذا أيضاً تعبير شائع، ومثله قوله تعالى: «فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ »(1)، فإنّ المراد أنّ إبراهيم (علیه السلام) ضرب الأصنام بقوة، ويصحّ التعبير حتى لو ضربها بشماله، فالمراد أنّكم أتيتمونا من جانب القهر والغلبة. واحتمله الزمخشري وقال العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) : إنّ هذا التفسير يناسب ما أجابوا به من قولهم: «وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ » (2) ولكن لو كان هذا هو المراد لكان المناسب أن يقال « باليمين »لا «عن اليمين » بخلاف الاحتمال الأوّل فإنّه يناسب التعبير.

« قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ »، إضراب عن دعواهم أنّهم بإتيانهم عن اليمين منعوهم من متابعة الرسالة. والظاهر أنّ مراد الاتّباع منعهم قهراً أو إغواء من الدخول في صفب المؤمنين ظاهراً، وإضراب المستكبرين يقصدون به أنّهم لم يكونوا مؤمنين بقلوبهم، وأنّ عدم تسجيلهم في قائمة المؤمنين يستند إلى أمر قلبي اعتقادي، وهذا ممّا لا يؤثّر فيه أحد بالإكراه وفرض السلطة.

ويمكن أن يقال: إنّهم أضربوا عن دعواهم الإضلال بأنّنا لم نكن السبب في

ص: 37


1- الصافات (37) 93 .
2- الصافات (37) 30 .

ضلالكم، بل أنتم بذاتكم لم تكونوا مؤمنين، فيكون ناظراً إلى كونهم ممّن يرفض الإيمان بالغيب والتسليم للحق، لمجرّد العناد و التغطرس كما هو شأن البيئة الصحراوية. وقد قلنا في عدّة مواضع إنّ مثل قوله تعالى: « هُدًى لِلْمُتَّقِينَ » (1) أو « ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ» (2) ونحوهما یدلّ على أنّ هناك فرقاً ذاتياً بين من يميل بطبعه إلى الإيمان بالغيب والاستسلام للحق ومن يأبى التسليم إلّا لما يحس به ويشعر. وعليه فالظاهر أن مراد المستكبرين هنا التنبيه على أنّ الأتباع أيضاً لم يكونوا بطبيعتهم ممّن يميل إلى الإيمان.

وقيل: إنّ الفرق نشأ من أنّهم لم يقولوا لم تؤمنوا، بل قالوا: لم تكونوا مؤمنين، وتسليط النفي على الكون مشعر بأنّ الإيمان لم يكن من شأنهم، فإضراب المستكبرين نشأ من هذه الجهة.

ولكنّ الظاهر أنّه لا فرق بين التعبيرين، نعم لو قيل: لم تكونوا لتؤمنوا، أفاد هذا المعنى.

« َمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ » ،«السلطان» مصدر بمعنى السلطة والقهر والقوة. وهذا جواب منطقي واضح جدّاً، وذلك لأنّ الإيمان والكفر من شؤون القلب، ولا يمكن أن يكره الإنسان عليهما، ولذلك قال تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ » (3)، فجواب المستكبرين لأتباعهم بناءً على ما ذكرنا هو أنّكم لم تؤمنوا بقلوبكم، ولو كنتم مؤمنين قلباً ما أمكننا أن نخرج الإيمان من قلوبكم، لأنّ الإنسان لا يسيطر

ص: 38


1- البقرة (2) 2 .
2- الأعراف (7): 2
3- البقرة (2) 256 .

على قلوب الآخرين مهما أوتي من قوة، فلا الجبابرة والطواغيت يمكنهم ذلك ولا العلماء والمثقفون

« بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ » أضربوا عن ذلك أيضاً. ومفاد الإضراب أنّ عدم إيمانكم لم يكن بحاجة إلى فرض السلطة عليكم، لأنّكم كنتم قوماً طاغين. و «الطغيان» هو التجاوز عن الحدّ. والحدود عيّنها الله سبحانه والوجدان البشري يرشد إليها في الغالب، فالذي يسمع آيات الله ويراها ويدرك في قرارة نفسه إنّها حقّ ، ومع ذلك يحجم عن الإيمان بها، لأنّه يمنعه من متابعة شهواته طاغ متجاوز على الحدود الإلهية. والظاهر أنّ توصيفهم ب-«أنّهم قوم طاغون » بدلاً من توصيفهم ب« أنّهم طاغون » من دون توسيط القوم للإشارة إلى أن ذلك من مميّزات قومهم، فالطغيان متأصل في ذواتهم.

والطغيان لا يختصّ بالجبابرة والزعماء، فلا يظننّ أحد أنّه ليس من الطغاة لأنّه فقير أو مستضعف أو من الأتباع، فإنّ أفظع الطغيان، الطغيان على الله تعالى، والطغيان على الضمير الحي الشاعر، والطغيان على الوجدان والفطرة، وهذا ممّا یبتلی به كلّ إنسان وإن كان في مجتمعه ضعيفاً أو مستضعفاً.

« فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ» ، أي فثبت علينا قول ربنا «إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ » (1)، حذف المفعول - أي العذاب - للتهويل والمشهور بين المفسّرين أنّ الضمير المتكلّم يعود إلى مجموع الأتباع والمتبوعين. وعليه ف-«الفاء» یدلّ على أنّ ثبوت العذاب عليهم جميعاً نتيجة الطغيان المشترك. والجملة المذكورة: « إِنَّا لَذَائِقُونَ» تحكي الخطاب بوجه آخر هو نتيجة الخطاب. والمراد أنّ مناط

ص: 39


1- الصافات (37): 38 .

العذاب مشترك بيننا وهو الطغيان وإن كان بعضنا أشد طغياناً. وسيأتي تفسير آخر للآية.

« فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ » ،«الغيّ» هو الضلالة، فمعنى كلامهم أنّنا أضللناكم لأنّنا كنّا ضالّين بأنفسنا. وقوله: « إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ » تعليل لإغوائهم. وهذا أيضاً إشارة إلى أمر طبيعي واضح وهو أن الغاوي لا يمكن أن يبثّ في الناس إلّا الغواية، ولا يتوقّع منه غير ذلك، فمعنى الجملة: إنّكم كنتم ترون أنا على باطل وعلى ضلال ومع ذلك اتبعتمونا، فهل تتوقّعون منّا أن نهديكم ونحن على ضلال؟! والمراد ب«الإغواء»، الدعوة إلى الضلال، فلا ينافي ما مرّ من نفي مسؤوليتهم عن ضلالتهم.

ومن الغريب أنّ أكثر من في الأرض من الأتباع يرون من المتبوعين الكذب والنفاق، ومع ذلك يتّبعونهم لمجرّد أنّهم زعماء أو أمراء أو شيوخ عشيرة أو أثرياء أو علماء المذهب الذي اتبعه الأجداد ونحو ذلك من الاعتبارات الواهية.

والكلام في فاء التفريع التي صدر بها الآية، فإنّها تدلّ على أنّ إغواء الأسياد والمتبوعين لأتباعهم مترتّب على الجملة السابقة التي مضمونها استحقاقهم للعذاب، مع أن استحقاق العذاب متفرع على الغواية كما هو واضح، فكيف انعكس الأمر؟ فقال بعضهم: إن التفريع يعود إلى ما قبل الآية السابقة. كقوله: « َلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ » أو « َلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ». وعلى هذا الجواب يبقى السؤال عن السرّ في التأخير، مع أنّ النظم يقتضي أن تذكر قبل الآية السابقة أو أن تعطف بالواو عليها.

وفي « روح المعاني»: أنّه يتفرع على حقّية الوعيد عليهم، باعتبار أنّ وجوده الخارجي مع كونه متعلّقاً بهم متفرع على ذلك في نفس الأمر لا باعتبار أنّ

ص: 40

إصداره وإيقاعه منهم على المخاطبين كان بملاحظة ذلك، كما تلاحظ العلل الغائية في الأفعال الاختيارية، لأنّ الظاهر أنّ رؤساء الكفر لم يكونوا عالمين في الدنيا حقية الوعيد عليهم (1).

فإن أراد بذلك أنّ الإغواء لا يترتب على نفس استحقاق العذاب، بل على ما استوجب الاستحقاق وهو غوايتهم، فإنّ ذلك يعلم من التعليل بجملة: « إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ » لا من الفاء التي تدلّ على ترتب الإغواء على نفس الاستحقاق. وإن أراد به أنّ السرّ في غواية الغاوين وإغوائهم هو قضاء الله تعالى عليهم باستحقاق العذاب، كما يظهر من بعض عباراتهم، فهو ينافي العدل الإلهي ويستلزم القول بالجبر.

وقال في «الميزان»: «ثم قالوا: « فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ » وهو متفرع على ثبوت كلمة العذاب وآخر الأسباب لهلاكهم، فإنّ الطغيان يستتبع الغواية، ثمّ نار جهنم، - إلى أن قال: - فكأنّه قيل: فلمّا تلبّستم بالطغيان حلّ بكم الغواية بأيدينا من غير سلطان لنا عليكم - إلى أن قال: - وبالجملة إنكم لم تجبروا ولم تسلبوا الاختيار منذ بدأتم في سلوك سبيل الهلاك إلى أن وقعتم في ورطته وهي الغواية، فحق عليكم القول». (2)

ويبدو في عبارته نحو من التناقض، فهو في بدو كلامه يقول: إنّ الغواية متفرّعة على ثبوت كلمة العذاب وفي آخر كلامه يقول وقعتم في الغواية، فحق عليكم القول.

ص: 41


1- راجع روح المعاني في تفسير القرآن العظيم 12: 80 .
2- الميزان في تفسير القرآن 17 :134 .

ويمكن أن يقال - كما حكاه في « روح المعاني » عن بعضهم - : إنّ الفاء لمجرّد التعقيب من دون ترتب وسببية، أي أنّ الإغواء تحقق خارجاً بعد ثبوت كلمة العذاب عليهم بسبب الطغيان، فالفاء في الآية السابقة للسببية وفي الثانية للتعقيب. ومثل ذلك قوله تعالى: « أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا» (1)فإنّ دخول النار ليس بسبب الغرق.

ويمكن أن يعكس فيقال: إنّ الفاء في الآية السابقة للتعقيب وفي اللاحقة للسببية، بناءً على أنّ المراد بضمير المتكلّم في السابقة خصوص المتبوعين لا المجموع، وثبوت كلمة العذاب على المتبوعين لا يترتب على طغيان التابعين.

ويقوّي هذا الاحتمال استبعاد أن يريدوا بضمير المتكلّم أنفسهم وخصومهم معاً ضمن نفس المخاصمة من دون قرينة واضحة، خصوصاً مع اختصاص ضمير المتكلّم في الجملة التالية بهم. وبناءً على ذلك، فمفاد الآيات أنّ المتبوعين يخاطبون الأتباع أنّكم كنتم طاغين وكنّا غاوين، واستقرّت فينا صفة الغواية، فحق علينا العذاب بسبب ذلك، فاتبعتمونا وأغويناكم، لأنّ الغاوي لا يصدر منه إلا الإغواء.

ص: 42


1- نوح (71) 25 .

سورة الصّافّات (33 -39)

فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)

« فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ » «الفاء» للسببية أيضاً، والجملة حكاية كلام الله سبحانه، وأنّ نتيجة ما تقدّم اشتراكهم في العذاب، لاشتراكهم في ما يستوجبه وهو الطغيان، وإن اختلفوا في درجاته حسب اختلاف أعمالهم، كما قال تعالى: «وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.» (1) ولا شك أنّ المضلين أشد عذاباً، كما قال تعالى: «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ » (2) .

ولعلّ الوجه في التذكير بهذه المخاصمات التي تدور يوم القيامة بين الأتباع والمتبوعين هو تذكير الأتباع في الحياة الدنيا بما سيحصل لهم من متابعة الغاوين، وأنّه لا يؤثّر في ذلك كونهم أتباعاً، وأنّ المتبوعين سيرفضونهم هناك ولا ينصرونهم. ومن الغريب أن البشر - حتى المؤمنين منهم - لا يتذكرون بهذا التذكير، ولا يتركون متابعة الزعماء بدون مستند و دليل، فتجد قوماً من المؤمنين يتّبعون طريقة خاصّة ابتدعها بعض من يزعمون أنّهم علماء، ويرفضون حتى التفكير في كون هذه المتابعة صواباً أو خطأ، بل يصرّون على متابعة من يتناسل من متبوعهم وإن كان جاهلاً !!!

ص: 43


1- الأنعام (6): 132
2- العنكبوت (29) 13 .

« إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ » ، «الجرم» هو القطع ، ويقال المجرم لمن اكتسب إثماً وخطيئة، كأنّه قطع لنفسه نصيبه من الحياة عن طريق الإثم، ولكن لا يقال ذلك لمن اكتسب أمراً آخر وإن كان الاعتبار المذكور عامّاًّ هكذا ورد في كتب اللغة.

ويحتمل أن يكون الوجه في التعبير أنّ المجرم يقطع صلته بالمجتمع بارتكابه الخطيئة، ولذلك لا يطلق عرفاً إلّا على من ارتكب إثماً فظيعاً من وجهة نظر المجتمع ويختلف باختلاف الحضارات ولعلّ إطلاقه في القرآن الكريم على خصوص من يرتكب جريمة دينية، لأنّه يقطع صلته بالله تعالى، ولذلك لا يطلق ذلك على كلّ آثم ولكن لا يختصّ بالكفار والمشركين، بل يشمل الطغاة ممّن يدعون الإيمان بالله تعالى. وعلى كلّ حال فالآية تدلّ على أنّ هذه عاقبة المجرمين عامّة.

« إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ » ، تعليل لهذه المعاملة التي يواجهها المجرمون والظاهر: أنّ الآية تحكي عن جملة تقال عنهم في يوم القيامة وتخبر عن حالتهم التي كانوا عليها في الدنيا. ولا تخبر عن حادث عابر بل عن حالة مستقرّة، كما يستفاد من التعبير ب- (كَانُوا). ومعنى الجملة: أنّهم كانوا يرفضون الاعتراف بما تتضمّنه كلمة التوحيد استكباراً منهم وعلوّاً.

والسؤال: أنّهم لماذا كانوا يستكبرون إذا سمعوا كلمة التوحيد ويرفضونها؟ السبب أنّها تتنافى مع أهوائهم، وتتنافى مع ما ورثوه من آبائهم، وتتنافى مع ما درّت عليه معائشهم، ومع ما أُنيطت به علاقاتهم الاجتماعية. قال تعالى حكاية عن إبراهيم (علیه السلام): «وَقَالَ إنّما اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » (1)،

ص: 44


1- العنكبوت (29): 25 .

فالذي يؤمن بالله الواحد يجب أن يتّبع ما ينزل عليه من كتاب، ويخلع عن ذمّته طاعة كلّ أحد إلّا الله تعالى ومن أمر الله بطاعته، ولا يؤمن بقانون إلّا ما أنزله الله سبحانه أو نفّذه من أوكل الله إليه الأمر. وهذا لا يتماشى مع طاعة الطواغيت ونفوذ قوانينهم وسننهم كما لا يتماشى مع حرية الإنسان في متابعة هواه، ولذلك يأنف الذين يتّبعون الشهوات من الخضوع أمام هذه الجملة والتسليم لمحتواها، حتّى لو تلفّظوا به وأعلنوا إيمانهم.

وهذا الاستكبار مشترك بين الكبراء والتابعين . والاستكبار والتكبر سواء ، فالتكبر معناه - حسب صيغة التفعّل - أن يتلبّس بالكبر وهو ليس بكبير، لأنّ الكبرياء خاصّ بالله تعالى، والاستكبار بمعنى طلب الكبر والنتيجة واحدة.

والأجرام إنّما ينشأ من الاستكبار ، لا عدم القناعة النفسية، فربّما لا يؤمن أحد بمضمون كلمة التوحيد لعدم قناعته، فليس هذا هو المجرم، بل المجرم من يحاول إقناع نفسه لئلّا يدخله الإيمان بها، حتّى لو ظهر له الحقّ طريقاً أبلج واضحاً يحيد عنه ليتّبع هواه.

« وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ » عطف على (يَسْتَكْبِرُونَ). وهذا هو السرّ في استكبارهم. ويبدو من التعبير وجه اهتمامهم بالأصنام، وهو أنّها آلهتهم، فالإضافة إليهم هو الذي يضفي عليها القداسة، وهكذا الإنسان المستكبر لا يتعاظم في عينه إلّا ما يتعلّق به ويضاف إليه وإن لم يكن له في حدّ ذاته ما يوجب الاهتمام به، فهذا شيخ عشيرته، وهذا رئيس جمهوره، وهذا إمام مسجده، وهذا نائبه في المجلس التشريعي وهكذا.

وهذا الأمر هو أساس الشرك والوثنية، فإنّ الصنم هو كلّ ما تصنعه بيدك، ثمّ

ص: 45

تضفي عليه القدسية، لمجرّد إضافته إليك، وهذا الأمر يسري في جوانب كثيرة من الحياة، فالذي لم يأمر الله تعالى بإطاعته ويعتقد بعض الناس أنّه وليّ الأمر وتجب إطاعته ليس إلّا صنماً صنعوه بأيديهم، بمعنى أنّ شخصيته إنّما تتقوّم بم-ا يضفى عليه من ألقاب وصفات اعتبارية، لا أساس لها .

إذن، فأساس استكبارهم في قبال كلمة التوحيد ودعوة الرسول هو الالتفاف حول ما يسمّونها آلهتهم، واستيحاشهم من تركها، وترك الاعتقاد بها. وهذا أيضاً أمر طبيعي لأنّه اعتقاد آبائهم، ويصعب على الإنسان أن يترك معتقد آبائه ويحكم ببطلانها، لأنّه يستوجب الاعتقاد بأنّهم على ضلال، والإنسان بطبيعة الحال يرفض الالتزام بذلك بالنسبة لآبائه وأجداده.

والأمر الآخر: أنّهم لا يمكنهم التسليم لقول شاعر مجنون، وهذا من غاية فجورهم وبعدهم عن الإنصاف، فالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عاش بين ظهرانيهم أربعين سنة، لم يقل شعراً، بل لم ينشد لغيره، وكان في غاية الرزانة والحكمة، لم يجد منه الناس أمراً يشينه ويعاب به ولكنّهم حيث لم يتمكّنوا من انتقاصه، لا في نفسه ولا في محتده، رموه بالشعر، ليقولوا: إنّ ما جاء به من القرآن إنّما هو شعر أنشده، أي كلام تخييلي وليس سرداً لحقائق الكون.

ومن غريب أمرهم الجمع بين كونه شاعراً وكونه مجنوناً، فالشاعر لا يكون إلّا عاقلاً ذو شعور حسّاس، وقوة متنامية في التعبير عن ما يعرفه أو يتصوّره، فكيف يكون مجنوناً لا يعقل شيئاً؟! ولكنّه البغض كالحب يعمي ويصمّ.

« بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ » ردّ وإبطال لقولهم، فالقرآن كلّه حقائق ، وليس شعراً وتخييلاً. وليس المراد ب-«الشعر» كلّ كلام منظوم، بل المراد ما يبتني على التخييل والتأثير على الإنسان من طريق التلاعب بمشاعره. والقرآن يدعو

ص: 46

إلى التفكر والتدبّر والتعقّل وشتان بين السبيلين بل القرآن ينبّه الإنسان بالحقائق المرّة التي لا يحبّ أن يسمعها ويحاول التغافل عنها، بالرغم من إدراكه لها بفطرته. يتغافل ليفرغ قلبه وباله لمتابعة شهواته وملذّاته، فإنّ الذي يفكّر في الموت وسكراته وما يتعقّبه من ظلمات كيف تحلو له الحياة؟! وكيف يمكنه أن يتقلّب في خلاعاته ومجونه؟!

وأمّا قوله تعالى « وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ »، فيردّ به علی رميه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالجنون، مع أنّ كلّ ما أتى به إنّما هو على غرار ما أتى به الرسل. وهل يمكن رمي كلّ رسل السماء بالجنون؟! لا شكّ أنّ المنطق السليم يأبى ذلك، وقريش بنفسها كانت تفتخر كذباً إنّها تتبع سنة إبراهيم (علیه السلام) وملاحظة كتب السماء والسؤال عن علماء أهل الكتاب كافٍ لإثبات أنّ ما أتى به الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ليس إلّا إكمالاً لشريعة السماء.

« إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ »، جزاءً لتكذيبكم الرسول واتّهامكم إياه. وصدّر الجملة بكلمة «إنّ» التاكيدية، ثمّ أتى ب«لام القسم »على الخبر، لیدلّ على أنّ هناك قسماً في التقدير. ولعلّ السرّ في هذا التأكيد ونظائره دفع ما ربّما يتوهّم أنّ ما ورد من الوعيد إنّما هو للتهديد، لكي يصلح الناس شأنهم في الدنيا، كما يتوهّمه بعض من يدّعي الدين، أو يحاول إلقاؤه في أذهان الشباب، أو أنّ ما يقال إنّما هو عرض تصويري، وتشبيه للحالة النفسية، وسائر ما يقال في تأويل ما صرّح به في كتب السماء، أو يتوهّم أنّ الله تعالى ربّما يخلف وعده، أو يبدّل رأيه، فهذه التأكيدات تبطل كلّ هذه الأوهام.

« وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » ،يعني أنّ الله تعالى لا يظلم أحداً، و إنّما ت-رون يوم الجزاء نفس أعمالكم التي صدرت منكم في الدنيا بصورتها الواقعية البشعة الفظيعة و تلك هي النار بحقيقتها.

ص: 47

سورة الصّافّات (40- 49)

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44)يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)

« إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ » ، قيل: إنّه استثناء متّصل على أساس أنّ الخطاب في الآية السابقة عامّ للجميع، فاستثني منهم المخلصون ولكنّ الظاهر أنّه خطاب لمن يذوق العذاب الأليم، فلا يشمل المخلصين، فالاستثناء منقطع.

وفيه بعد ذلك احتمالان :

الأوّل: أن يكون استثناءً من الضمير في (تُجزَوْنَ) من الآية السابقة، فإنّ أصحاب النار يجزون ما عملوا أو بما عملوا لا يزيد على ذلك، ولكن عباد الله المخلصين ليسوا كذلك، فإنّ الله تعالى يضاعف حسناتهم أضعافاً مضاعفة. و تدلّ عليه آيات كثيرة، كقوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ *إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ »(1) ، فأصحاب اليمين غير مرهونين بأعمالهم وإن كانت أعمالهم تعرض ويتنعّمون بها ولكن جزاءهم لا ينحصر في ذلك.

الثاني: أن يكون استثناءً من الضمير في « لَذَائِقُوا» ، أي ولكن عباد الله لهم رزق معلوم إلى آخر الآيات. وهذا الاحتمال أقوى بقرينة الآيات التالية التي بينت وجه الاستثناء وأنّ عباد الله يتذوقون النعم بدلاً ممّا يذوقه المخاطبون من العذاب.

ص: 48


1- المدثر (74): 38 - 39 .

و«العباد» على ما في المفردات جمع عابد و «العبيد» جمع عبد بمعنى المسترقّ (1). ولكن الخليل (رحمه الله ) قال: «العبد، الإنسان حراً أو رقيقاً هو عبد الله ويجمع على عباد وعبدين والعبد المملوك، وجمعه عبيد وثلاثة أعبد وهم العباد أيضاً. إنّ العامّة اجتمعوا على تفرقة ما بين عباد الله و العبيد المملوكين». (2) و یدلّ على ما قاله الخليل أنّ العباد أطلق في القرآن على قوم كفار ، كقوله تعالى: « بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا» (3) ومهما كان، فالإضافة هنا إلى الله تعالى للتشريف وإلّا فكلّ الناس عباد له تعالى، كما قال: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا » (4).

والمخلصين - بفتح اللام - ربّما يختلف معناه عن المخلصين - بكسره - ، فالثاني يقال لكلّ من أخلص قلبه وعمله لله تعالى، وأمّا الأول فيمكن أن يختصّ بمن أخلص الله قلبه أو أخلصه لنفسه، وهذا لا يكون إلّا بعناية خاصّة من الله تعالى تستوجب عصمته، ولذلك استثناهم إبليس من الناس الذين يمكنه التأثير فيهم، قال تعالى: «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » (5).

وقد ورد ذكر هذه الكلمة في خمس موارد من هذه السورة هذا أولها، ولا يمكن في بعضها أن يراد بها المعصومون المقرّبون، ومنها هذا المورد فإنّ الظاهر من باقي الآيات أنّ المراد بهم الأبرار ، لا المقربون. وأوضح منه المورد التالى في الآية :74 «فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ »، فإنّ

ص: 49


1- راجع المفردات في غريب القرآن 319 2
2- كتاب العين 2 :48 .
3- الإسراء (17) 5 .
4- مریم (19): 93 .
5- ص :(38) : 82 -83 .

المستثنى هنا الذين آمنوا من بين المنذرين لا خصوص المعصومين لينطبق على المخلصين - بالفتح -.

ومثله أيضاً المورد الثالث في الآية: « فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ *إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ » (1) إذ المستثنى من قوم إلياس (علیه السلام)هم المؤمنون به. وكذا المورد الأخير في الآية: « لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ *لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» (2). نعم في المورد الرابع يمكن أن يراد به المقرّبون حيث يقول في الآية: « سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ *إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ » (3) بدعوى أنّ كلّ ما يوصف به الله تعالى فهو منزّه عنه إلّا ما يقوله المعصومون، وإن كان يمكن إرادة المؤمنين عامّة أيضاً بدعوى أنّهم لا يصفونه إلّا بما وصف به نفسه.

وعليه : فإمّا أن يقال: إنّ المخلصين - بالفتح - بمعنى من أخلص الله قلوبهم للإيمان لا خصوص المعصومين أو يقال: إنّ القراءة الصحيحة هو المخلصين - بالكسر -كما يظهر من بعض التفاسير ك-«مجمع البيان» حيث فسّر هذه الكلمة ب- : «الذين أخلصوا عبادتهم لله تعالى» (4)

« أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ » ،التعبير أبهم رزق العباد المخلصين إشعاراً بعظمته، أو لأنّ الألفاظ لا يمكنها أن تعبر عن ذلك الرزق، كما أبهمه في مواضع أخرى أيضاً ، كقوله تعالى: «لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ » (5)، فلم يذكر ما هو المزيد

ص: 50


1- الصافات (37) 128 .
2- الصافات (37): 169 .
3- الصافات (37): 160 .
4- راجع: مجمع البیان فی تفسیر القرآن:6:519.
5- ق (50): 35 .

وكأنّه لا يمكن أن يذكر، وأغرب منه أنّه فوق ما يشاؤون، فهذا التعبير يشمل كلّ ما يشاؤه الإنسان من نعم وهو غير محدود بحد، وتطّلع الإنسان أيضاً غير محدود، فما هو هذا المزيد الذي لا يشاؤونه؟ الظاهر أنّه ممّا لا تصل إليه أفهامهم وأوهامهم، فهو فوق كلّ التطلعات والأماني. وكقوله تعالى: «فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ » (1)، وغير ذلك ممّا ورد في القرآن الكريم حول هذا الأمر.

ولعلّ المراد به رضوان الله كما قال تعالى: « وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ » (2)، أو لقاؤه والنظر إليه، كما قال تعالى: «إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ » (3)، وليس المراد الرؤية بالبصر، أي الحاسّة، فإنّ الله ليس جسماً ولا يحدّ بحد، و إنّما هو تشرف معنوي لا يدركه إلّا أولياء الله تعالى بما أعلمهم إيَّاه والتعبير هنا يوحي بذلك، فإنّ ظاهره أنّ هذا الرزق معلوم له وليس معلوماً لأحد غيره.

وللقوم في تفسير المعلوم أقوال: قال في «الكشّاف»: «فسّر الرزق المعلوم بالفواكه - إلى أن قال: ويجوز أن يراد رزق معلوم منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر. وقيل معلوم الوقت، كقوله: « وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا» (4) ، وعن قتادة : الرزق المعلوم: الجنّة» (5). وقال بعضهم: «الرزق المعلوم، أي الذي لا يتخلّف عن ميعاده و لا ينتظره أهله».

ص: 51


1- السجدة .(32) 17 .
2- التوبة (9) 72 .
3- القيامة (75): 23 .
4- مريم (19) 62 .
5- الكشاف 4: 42 .

وملاحظة استعمال الكلمة في القرآن الكريم يبيّن أنّ المراد به كونه معيّناً عند الله تعالى ومجهولاً لغيره، قال تعالى: «وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ » (1)، وقال: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ » (2)، وقال أيضاً: «قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ *«لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ » (3).

و«الرزق »هو العطاء و« الإنعام »، وليس فيه معنى الجريان، كما في «المفردات» (4)، كما أنّه لا يختصّ بالعطاء المحدّد بوقت خاص، كما في «مقاييس اللغة» (5)، ولا يختصّ بالأكل، كما ذكره بعض المفسّرين، بل يدخل فيه كلّ ما يحتاجه الإنسان لبلوغه الكمال المطلوب. وسيأتي الكلام حوله في تفسير قوله تعالى:

«وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ...» (6) في سورة الذاريات إن شاء الله تعالى.

« فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ» ، «فَوَاكِهُ» عطف بيان للرزق المعلوم. ولا شكّ أنّ الطعام هناك لا يختصّ بالفواكه، ولعلّ تخصيصها بالذكر للإشارة إلى أنّ كلّ ما يأكله أهل الجنّة إنّما هو للتفكه والتلذّذ، إذ لا يحتاجون إلى طعام لسدّ الجوع أو لكسب الطاقة.

وقوله: « وَهُمْ مُكْرَمُونَ» جملة حالية، أي تقدم لهم الفواكه والحال أنّهم مكرمون عند الله سبحانه، ويا لها من نعمة ولذة تصغر عندها كلّ نعم الجنّة!!

ص: 52


1- الحجر (15) : 4 .
2- الحجر .(15) :21 .
3- الواقعة (56): 49 - 50 .
4- المفردات في غريب القرآن: 194 .
5- مقاييس اللغة 2: 388 .
6- الذاريات (51): 22 .

فكيف بما في هذه الدنيا من لذات يشوبها الخوف والألم وتتعقّبها الأمراض والآفات؟!

« فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» ومن نعم الله تعالى عليهم أنّهم يعيشون في بيئة محبوبة لدى الإنسان بطبعه، وهي الجنّة، أي الشجر الملتف التي تستر الأرض، مأخوذ من جنّ الشيء أي ستره، و«النعيم » بمعنى كثرة النعم، فهي جنّات تكثر فيها النعم.

« عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ » ، ومن إكرامهم جلوسهم على السرر الفاخرة، وأنّ بعضهم يقابل بعضاً في مجلسهم. ولعلّ الغرض من ذكر ذلك بيان الجو الاجتماعي الذي يعيشونه، وهو جوّ الوداد والوئام ، قال تعالى: «وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ » (1)،والتقابل أحسن أنواع الاجتماع للتخاطب .

« ُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ»، أي أنّهم مخدومون يطاف عليهم بالطعام والشراب، وفي مواضع أخرى من القرآن أنّ غلماناً مخلّدين يطوفون عليهم بالكؤوس و«الكأس» - على ما قيل - لا يطلق إلّا على الإناء إن كان فيه خمر وإن كان اسماً للإناء بقول مطلق. وقيل: إنّ المراد به الخمر نفسها، لأنّه أفرده مع أن المطاف عليهم جماعة ، فلو أراد الإناء لقال: «بكؤوس».

و«المعين» العين التي يجري ماؤها على الأرض. وقد ورد في سورة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) « وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» (2) فالخمر التي يشربون منه عين تجري على الأرض، بل عيون وأنهار، كما أنّ العسل واللبن أيضاً أنهار.

ص: 53


1- الحجر (15): 47 .
2- محمد (47) :15 .

« بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» ، قيل: إنّ «بيضاء» صفة للكأس، ولكنّ الكأس مذكّر. والظاهر أنّها صفة للخمر وكذلك ما بعدها. و«اللذة» إن كانت مصدراً، فالإطلاق من باب المبالغة في إيجابها اللذة، وإن كان صفة مشبهة كصعب فیدلّ على أن إيجابها للذة ثابت دائمي.

« لَا فِيهَا غَوْلٌ » ، «الغول» هو الهلاك من حيث لا يشعر. وفي هذا إشعار بأنّ الخمر التي يشربها الناس في الدنيا تهلكهم من حيث لا يشعرون، وتقتلهم تدريجاً وهم لا يعلمون، وليست كذلك خمر الجنّة.

« وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ » ، يقال: نزف الماء إذا نزحه كلّه، ويقال: نزيف الدم أو نزيف الدمع إذا كان صبيباً غزيراً، ويقال: نزف الرجل - بضم النون - إذا سكر، بمعنى أنّه نزع منه عقله كلّه. وخمر الجنّة لا تسكر. والتعدية ب-«عن» باعتبار السببية أي لا ينزفون بسببها.

« وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ » ،«الطرف» هو الجفن. و يعبّر عن النظر بالطرف، لأنّه يستوجب تحريك الجفون، فالمراد بقصر الطرف على الظاهر أنّهنَّ لا ينظرن إلى غير أزواجهنّ، فيقتصرن في النظر على أزواجهنّ، وهذه صفة يحبها الرجل في امرأته.

ويمكن أن يكون المراد أنّهنّ لا ينظرن إلى أحد، وهذه أيضاً صفة ممدوحة في المرأة، إمّا باعتبار أنّ طبيعة المرأة تقتضي أن تكون مطلوبة لا طالبة، أو باعتبار أنّ هذا أمر مطلوب لدى المجتمع العربي، أو بحسب التقاليد الدينية بوجه عامّ، فهي تقتضي أن لا تنظر المرأة هنا وهناك بحثاً عن الرجل. وهذه أيضاً صفة يستحبّها الرجال من النساء إن كانوا ذوي غيرة أو ذوي إيمان لا كرجال العصر.

ص: 54

و«العين» - بالكسر - النساء ذوات العيون الواسعة الجميلة ومفردها العيناء. ومن لطيف التعبير الجمع بين قصر النظر وسعة العين. وقيل: إنّ قصر الطرف إشارة إلى حالة انكسار في الجفون، بحيث تشبه جفن السكران المترنّح وإنّ هذا نوع جمال في العين. ولكنّ الظاهر، أنّ هذا لا يعبّر عنه بقصر الطرف في اللغة العربية.

« كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ » ،هذه الآية أيضاً تمتدحهنّ بعدم البروز للرجال، فهنّ كالبيض الذي يصان عن المسّ، خوفاً من الكسر. و «المكنون» أي المستور. وهذا یدلّ على سترهنّ عن الأنظار، وهذه أيضاً صفة يستحبّها الرجل المؤمن الغيور على امرأته، فيمتدح الله تعالى ما كتبه لهم من الأزواج في الجنّة بأنّهنّ لم يمسّهنّ أحد ولم ينظر إليهنّ أحد.

ص: 55

سورة الصّافّات (50-61)

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)

حديث شيّق يدور بين أهل الجنة لمزيد من التلذّذ بنعيمها، فإن تذاكر النعم وتداول الحديث عنها يزيد في ابتهاج الإنسان بها، وهو أيضاً من نعم الله تعالى عليهم، بل لعلّه من أحسن اللذات حتّى في الحياة الدنيا، مضافاً إلى أنّه شكر لله تعالى على ما أنعم به عليهم.

« فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ»، أي يسأل بعضهم بعضاً عن أمور تخصهم، وبطبيعة الحال لا يتعرّضون لما يكدر صفو العيش بل لعلّهم لا يتذكرونها أصلاً، كما قال تعالى: «وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ » (1).

ومن أحاديثهم تذكّر ما كان عليه الضالّون في الدنيا، وما كانوا يتبجّحون به ويفتخرون، وما كانوا يقولونه لدى مواجهتهم للمؤمنين من تحقير وتسفيه، ثمّ ملاحظة ما آلت إليه عاقبة أمرهم من العذاب والخزي، فإنّ تذكّر ذلك ومقارنته لما غمرتهم من النعم في حدّ ذاته لذة وغبطة عظيمة وشفاء لما في صدورهم من حنق وغيظ، فإنّ أهمّ ما يحزّ في نفوس المؤمنين في هذه الدنيا ما يجدونه من

ص: 56


1- الأعراف (7): 43 .

تنعّم الكفرة والظالمين ، وما يتعقّبه من تبختر وزهو وخيلاء وتفاخر في مقابل أولياء الله تعالى طيلة التأريخ البشري، وإنّ الغليل الذي يحدثه ذلك في صدور المؤمنين لا يشفيه شيء إلّا الانتقام الإلهي في الحياة الآخرة. والتحدّث بذلك في مجتمع أهل الجنة يزيدهم تشفّياً وابتهاجاً.

« قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ »، هذا أحد أحاديثهم يذكره الله سبحانه في هذه الآيات كمثل ونموذج، و إنّما يتعرّض له بالخصوص لما يحتوي عليه من دروس وعبر. و«القرين» من كان يعيش قريباً منه ، فربّما يكون صديقاً أو شريكاً أو أخاً أو زوجاً أو زوجة أو أستاذاً أو تلميذاً أو غير ذلك. ومهما كان فهو شيطان من شياطين الإنس، وأخطأ من توهّم أنّ المراد به الشيطان من الجنّ الذي عبّر عنه في القرآن بالقرين كقوله تعالى: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ » (1)، لأنّ الغرض من التذكير بهذه المحادثة المستقبلية إنّما هو التنبيه على أنّه سيأتي يوم تضحك فيه أيّها المؤمن من الذي كان يضحك منك في الدنيا، نظير ما ورد في الآيات الأخيرة من سورة المطفّفين، وقد صرّح هناك بأنّ هذا شأن الذين أجرموا.

« يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ»، التعبير يحكي عن دهاء القرين في وسوسته للمؤمن، وإدخال الشك في قلبه، فهو يبدأ بعرض سؤال عليه ولم يسأله هل تصدق أم لا، بل اعتبر المصدقين جماعة شاذين، وسأله هل هو منهم أم لا؟ ليثير في نفسه دوافع الإباء. ولم يذكر ما يستنكر منه تصديقه له، وهو مقدر بينه في الجملة التالية، أي أإنّك لمن المصدقين بيوم البعث والجزاء؟!

ص: 57


1- الزخرف (43): 36 .

« أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ»، أي محاسبون. و«الدين» هو الجزاء، فهو يقول: هل تصدق أنّنا ندان ونحاسب بعد أن هلكنا وكنّا تراباً؟! و«التراب» حالة ما بعد كونه عظاماً، فكان ينبغي أن يقول عظاماً وتراباً و إنّما عكس، لأنّ بعض العظام قد لا يتحوّل تراباً أو تبقى مدة طويلة، فالمراد أنّه حتّى لو بقينا عظاماً فإنّ المحاسبة غير معقولة.

« قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ »، يخاطب المؤمن بذلك مجالسيه في الجنّة. و«الاطّلاع» يحصل بالرؤية من فوق، ولعلّ الذي يصحّح التعبير ب-«الاطلاع »هو فوقية أهل الجنّة اعتباراً، وإلّا فهناك بالطبع فاصل بين الفريقين، بل كلّ منهما في عالم غير عالم الآخر، ولكنّ الله تعالى يريهم ما يشاء.

« فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ »،« سواء الجحيم »أي وسطه، ولعلّ المراد به أنّه رآه محاطاً من كلّ جهة بالنار، كما قال تعالى: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ.» (1) و«الجحيم»: النار العظيمة الشديدة التوهج.

« قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ »، يحلف المؤمن بالله حينما شاهد قرينه في سواء الجحيم إنّه كاد أن يغويه فيهلكه والتاء للقسم، ويقال إنّها تفيد معنى التعجب أيضاً، فلعلّ اختيارها من جهة تعجب المؤمن من أنّه كيف نجى من الوقوع في ما وقع فيه صاحبه أو من البعد بين المصيرين.

وإن مخفّفة من المثقلة، فهي للتأكيد. و«الردى» الهلكة. وآخر الكلمة ياء المتكلّم أسقطت تخفيفاً وبقيت الكسرة. ولم يظهر من الآية ما یدلّ على أنّ هذا الخطاب كان بمسمع من الكافر، إذ لا مانع من أن يقول المؤمن ذلك بينه وبين

ص: 58


1- الأعراف (7): 41 .

أصحابه وإن كان بصورة الخطاب الموجّه إلى الكافر ، ولكن لا يبعد سماعه، إذ فيه أيضاً لذّة للمؤمن وتشفّ وانتقام، كما أن فيه عذاباً وتأنيباً للكافر الذي كان يضحك من المؤمن في الحياة الدنيا ويسخر منه.

« وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ »، الناس كلّهم يحضرون يوم القيامة وليس هناك اختيار لأحد إلّا أنّ المؤمن حيث يجد من حين موته أنّه سيرد على رضوان الله تعالى ورحمته، فإنّه يرد المحشر بشوق ولهفة، ومن المؤمنين من لا يحاسب أصلاً، وأمّا الكافر والمعاند فإنّه يساق قسراً وقهراً إلى الحشر والحساب، ليلقى مصيره المحتوم وهو العذاب الأليم. والمراد ب-«نعمة الرب» الهداية الإلهية.

« أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ » ،خطاب من المؤمن لمجالسيه من أهل الجنّة وذكر للنعم، ولكن لا يبعد أنّه بمسمع من الكافر أيضاً. والسؤال هنا ليس استفهاماً، بل هو للتقرير، وذكر ما هو واضح للتلذّذ به، فيقول: إنّ نهاية عذابنا كان هو الموت في الحياة الدنيا، ثمّ لا نجد موتاً ولا عذاباً.

ثمّ إنّه لم يذكر الموت الثاني وهو الموت من عالم البرزخ والانتقال إلى عالم الآخرة، مع أنّ القرآن قد صرّح بأنّ هناك موتين: «قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ » (1)! إمّا لأنّه لم يشعر به كما ورد في الروايات (2) من أنّ أكثر الناس لا يشعرون بالحياة البرزخية، فلا يشعرون بالموت فيها أيضاً، وإمّا لأنّه يقصد بذلك ذكر الموت الذي يوجب العذاب ولم يوجب هذا الموت عذاباً له.

ص: 59


1- غافر :(40) :11 .
2- في الكافي عدّة أحاديث بعضها معتبرة بهذا المضمون: «لا يُسْألُ في القَبْرِ إلّا مَنْ مَحَضَ الإِيمَان مَحْضاً أو مَحَضَ الْكُفْرَ مَحْضاً والآخرون يُلْهَى عَنْهُمْ » راجع الكافي .3 235 .

وكلّ ذلك تعريض بالكافر وما يتعرّض له من العذاب المستمرّ، وأنّه يذوق الموت مرّة بعد مرة، ويأتيه الموت من كلّ مكان وما هو بميت، و إنّما يذكر المؤمن ذلك ويتذاكره مع إخوانه ليسمعه الكافر ويتألّم به، كما تألّم المؤمنون بضحكه واستهزائه في الحياة الدنيا و لم يتمكّنوا من الردّ عليه في أكثر الأحيان، كما قال تعالى: «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ *عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ *هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ »(1).

وهذا أمر طبيعي وردّ فعل من المؤمن بعد ما وجد الحرية هناك، فإنّ المؤمن في هذه الدنيا ملجم - كما ورد في الحديث(2)- أي أنّ على فمه لجاماً لا يستطيع أن يتكلّم بكلّ ما يريد، وهو ملجم من قبل الأعداء غالباً، وملجم من قبل نفسه أيضاً، لأنّه يتورع عن التحدث باللغو وبالإثم، فهو يوم القيامة يفرغ شحنته وغيظه ، ويضحك من الكافر ويشفي بذلك صدره.

« إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ »، «الفوز» هو الظفر بالخير. و«الفوز العظيم »ما يحصل للمؤمن في الآخرة. وأمّا ما يفوز به الإنسان من خير في الدنيا، فهو مشوب دائماً بما ينغصه وعلى أقلّ تقدير هو مهدّد بالزوال.

« لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ »، قال جمع من المفسّرين: إنّ هاتين الآيتين من كلام الله سبحانه كتعقيب واستنتاج من نقل هذه القصة المستقبلية. و إنّما قالوا ذلك، لأنّ الأمر بالعمل لا يصحّ أن يصدر في ذلك اليوم إذ قد مضى وقته.

ولكن لا مانع من أن يكون هذا أيضاً من تتمّة مخاطبة المؤمن لأصحابه

ص: 60


1- المطففين (83): 34 - 36 .
2- الكافي 2 : 249 .

بمسمع من الكافر وأنّه - كما قلنا - تعريض وتأنيب للكافر في مقابل ضحكه عليه في الحياة الدنيا، حيث كان يستهزئ بعمله الشاق وتعبّده وتصدّقه بماله وغير ذلك، فاليوم يؤنّبه المؤمن بأنّ الذي كان يجب عليك أن تعمل له وفي سبيله هو بلوغ هذه الحياة الكريمة السعيدة، لا ما أتعبت عليه نفسك من لذّة زائلة، لا يكاد يعتبر لذّة في قبال هذه النعم الدائمة والسلام الدائم.

ص: 61

سورة الصّافآت(62- 74)

أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63)إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69)فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)

« أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ » ،«ذلك» إشارة إلى ما يقدّم لأهل الجنة من طعام وشراب وغيرهما، و«النزل» ما يقدّم للضيف أوّل نزوله. وفي ذلك إشارة إلى أنّ كلّ ما يتلى على مسامعنا من نعيم الجنّة، مقدمة للنعمة الأصلية، وهي على الظاهر التشرف برضوان الله تعالى وإكرامه والتعبير يوحي بأنّ أهل الجنّة ضيوف لدى ربّهم، كما أنّه يشير إلى أهل النار أيضاً وکأنّهم ضيوف تهكّماً، كما أنّ المقارنة بين نعم أهل الجنّة وعذاب أهل النار، والاستفهام التقريري عن ما هو خير منهما تهكّم أيضاً، إذ لا خير في العذاب نهائياً.

وأمّا «الزقوم» فلم يثبت إطلاقه على شيء في هذه الدنيا وإن قال بعض أهل اللغة إنّه يطلق على شجر له أوراق طعمها مرّ وتخرج منه مادة بيضاء تضرّ بالجسم. وقال بعضهم: زقّم أي ابتلع ، وزقّم بطنه من الشراب، أي ملأه به.

ولكنّه غير ثابت، والظاهر أنّ كلّ ما قيل في معناه حدث بعد نزوله في القرآن، وأنّ العرب لم تسمع به قبل ذلك، بل حكي عن بعض المشركين أنّه كان يستهزئ بهذه الكلمة، ويقول: وما الزّقّوم؟!

ص: 62

وفي مجمع البيان: « روي أنّ قريشاً سمعت هذه الآية، قالت: ما نعرف هذه الشجرة، فقال ابن الزبعري: الزقوم بكلام البربر التمر والزبد، وفي رواية بلغة اليمن . فقال أبو جهل لجاريته يا جارية زقّمينا، فأتته الجارية بتمر وزبد، فقال لأصحابه تزقّموا بهذا الذي يخوّفكم به محمد، فيزعم أنّ النار تنبت الشجرة، والنار تحرق الشجرة فأنزل الله سبحانه: « إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ». (1)

وكيف كان، فلا مانع من أن يكون هذا مصطلحاً أو تسمية قرآنية لطعام أهل النار. ولكنّ الطعام هناك ليس كالطعام هنا، فالحياة هنا لا تستمرّ إلّا بالطعام ، والإنسان وغيره من الأحياء يأكلون للإبقاء على حياتهم، ولكنّ الداعي لأكل أهل الجنّة ليس إلّا التلذّذ كما مرّ ، وأمّا أهل النار فيأكلون لسدّ الجوع، ولكن ما يأكلون لا يسدّ جوعهم، بل ربّما يزيدهم جوعاً.

« إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ»، هذه الآية و ما بعدها تفسّر «الزقوم». و«الفتنة» يمكن أن تكون بمعنى العذاب وأصلها الإحراق بالنار، قال تعالى: « «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثمّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ » (2). وذلك في قصّة أصحاب الأخدود وحرقهم للمؤمنين بالنار.

ويمكن أن تكون الفتنة بمعنى الامتحان والاختبار، وقد استعمل في القران كثيراً بهذا المعنى، وأصله من فتن بمعنى صهر الذهب بالنار لتخليصه من الشوائب، وحيث إنّ الامتحانات والمشاكل تظهر كوامن معادن البشر وتبرز قابلياتهم عبّر عنها بالفتنة. وهنا يقصد به أنّ نفس التعبير عن طعام أهل النار

ص: 63


1- مجمع البيان في تفسير القرآن 8: 696.
2- البروج (85): 10.

بالزقّوم فتنة للظالمين، حيث يثير فيهم السخرية، كما صدر من أبي جهل على ما حكي.

ونظير ذلك قوله تعالى «عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ *وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ » (1) ، حيث كانوا يستغربون هذا العدد في الملائكة الموكلين بالنار. وهنا أيضاً استهزأوا بالزّقّوم وما يعنيه. وهكذا القرآن أنزله الله تعالى رحمة للمؤمنين وهدى للمتّقين، ولا يزيد الظالمين إلّا خساراً.

وفي «مجمع البيان»: «قالوا ولمّا نزلت هذه الآية - «عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ» - قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم أتسمعون ابن أبي كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم الشجعان، أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنّم؟ فقال أبو الأسد الجمحي أنا أكفيكم سبعة عشر، عشرة على ظهري وسبعة على بطني فاكفوني أنتم اثنين، فنزل: « وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً» (2).

« إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ » ، هذا التفسير زاد الأمر غرابة وتعقيداً وفتنة، وقد قيل: إنّها وتاليتها نزلتا بعد استغراب أبي جهل ومن معه فأثار ذلك فيه أسئلة أخرى، فقالوا: كيف تنبت الشجرة من النار وهي تحرق كلّ شيء؟! هذا

ص: 64


1- المدثر (74): 30 - 31 .
2- مجمع البيان في تفسير القرآن 10 :586.

وهم لا يعلمون أنّ هذه النار غير ما يرونه من نار الدنيا، فالبشر المصطلون بها أيضاً لا يموتون، بل هم يعيشون هناك، فإذا كانت النار مقرّاً للبشر، فلا غرو أن ينبت الله من أصلها ومن قاعها لهم شجراً، والله على كلّ شيء قدير.

ولعلّ للنار في الآخرة معنى آخر لا يصل إليه أفهامنا، ولعلّ التعبير به من جهة إنّها أفظع شيء يعذب به الإنسان في هذه النشأة، فأقرب لفظ إلى ذلك العذاب الذي لا نفهم حقيقته هو النار، ولا شك إنّها ليست ناراً كنار الدنيا، فهي تحرق الأرواح قبل الأجسام، قال تعالى: «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ *الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ » (1)، وهي لا تبيد الجسم ولا تفنيه « كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ » (2) .

« طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ» «الطلع» نور الشجر وزهرته، وهو أجمل شيء فيه، فالتعبير يريد أن يقرّب بشاعة هذه الشجرة إلينا، فيقول: إنّ أجمل شيء فيه وهو النور، کأنّه رؤوس الشياطين، ونحن لم نر الشيطان ولا نراه، ولكنّه في أذهان الناس بشع وقبيح ومخيف، كما ورد في شعر امرئ القيس: «ومسنونة زرق كأنياب أغوال» و«الغول» أمر موهوم لا حقيقة له.

« فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ »، الآية تؤكّد المضمون - وهو أنّهم يأكلون منها - بوجوه شتى حرف إنّ، لام القسم ، الإتيان بالخبر بصورة اسم الفاعل. وقد مرّ أنّ أهل الجنة والنار يأكلون، ولكن أهل الجنة يأكلون تفكّهاً، لا الحاجة، وأهل النار يأكلون لسد الجوع ولا ينفعهم الأكل، فالجوع لازم لهم لا يتركهم ولا يقتلهم، بل هو عذاب لهم، والأكل أيضاً عذاب آخر، وهم يأكلون

ص: 65


1- الهمزة (104 ) : 6- 7 .
2- النساء (4): 56 .

ويأكلون حتّى تمتلئ بطونهم ويبقون يتضوّرون جوعاً، وبعد الامتلاء يصيبهم العطش، فيصار بهم إلى الحميم ليشربوا منه.

« ثمّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ »، وهنا أيضاً نفس التأكيدات و«الحميم» الماء شديد الحرارة، كما قال تعالى: « وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا » (1) ، و «المهل»: النحاس أو الصفر المذاب و«الشوب» هو الخليط، أي أنّهم يخلطون ما أكلوا بالحميم، أو أنّهم يخلطون هذا الماء بأشياء كريهة أخرى ورد ذكرها في القران ك«الصديد» و«الغسلين» و«الغساق». والصديد والغساق هو القيح الخارج من الجسم. والغسلين لعلّه غسالة الأجسام.

والغرض: أنّ ما يشربونه شيء مقزز يتنفّر منه الطبع، ومؤذّ ومحرق في نفس الوقت، ومع ذلك فلا بدّ لهم من شربه فراراً من العطش، ولكنّه لا يغنيهم شيئاً.

« ثمّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ» وتكرّرت التأكيدات أيضاً. فيعودون إلى مقرّهم في جهنّم متعبين جائعين عطاشى ممتلئين. وهذا التحرّك و السير يعبّر عنه تعالى في موضع آخر: «هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ *يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ » (2)، ممّا یدلّ على أنّ هذا مسيرهم المستمرّ، يجوعون فيأكلون من الزّقّوم، فيعطشون ويذهبون إلى الحميم وهكذا.

وهذا غاية البراعة والإعجاز في تصوير العذاب الأبدي الخالد الذي لا يتصوّر له نظير في الحياة الدنيا مهما بالغ الجبابرة وجدّوا واجتهدوا في خلق أنواع من العذاب، كما نجده ونجد تطوّره الفظيع بعد التطوّر العلمي الهائل . فمهما تطوّروا،

ص: 66


1- الكهف (18) 29 .
2- الرحمن (55) : 43 - 44 .

لن يمكنهم أن يخلقوا تعذيباً نظير ما يحكيه القرآن الكريم عن تلك الحياة، وهو مجرّد تصوير وإلّا فالأمر أعظم من أن يناله أفهامنا.

« إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ *َهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ » ، «ألفوا» أي وجدوا. وهاتان الآيتان تبيّنان سبب هذا التعذيب الفظيع، وتدلّان على أنّه ليس عذاباً عامّاً لكلّ من يدخل جهنّم، و إنّما هو عذاب من علم أنّ آباءه ضالّون، ومع ذلك يسرع في اقتفاء آثارهم من دون تأمّل ، وهذا لا يشمل كلّ الكفرة، ولكن ربما يشمل بعض المسلمين. ونحن نجد حتّى في أوساطنا ومن بني جلدتنا من يصرّ على متابعة من لا يستحق المتابعة، ويصرّح كبراؤهم وزعماؤهم بأنّا نعلم أنّه لا يستحق المتابعة ولكن لو تركنا ذلك لتفككت البيوت والقبائل ودبّ فينا الاختلاف !!! فهذه الآية تنطبق عليهم تماماً.

و«الآثار» ما يبقى على الأرض من أثر المشي، فهم رأوا أنّ آباءهم ضلّوا الطريق وسلكوا درباً أوصلهم إلى الهاوية، ولكنّهم لمجرّد أنّ هذه آثار أقدام الآباء يتّبعونها ويسرعون المشي في نفس الطريق إلى هذا الحدّ، تصل غباء الإنسان وحمقه وهو الذي وهبه الله العقل وزوّده بالفكر ليبصر طريقه.

و«يهرعون» بمعنى شدة الإسراع، ويؤتى به غالباً مبنياً للمجهول، كأنّ هناك شيئاً يدفع الإنسان إمّا في ذاته أو من خارجها، بل ورد في «العين»: «يهرعون: يساقون» (1). ولعلّه هنا إشارة إلى أنّهم مندفعون نحو هذا الطريق دون وعي، كأنّهم لا اختيار لهم، و کأنّ هناك دافعاً يجبرهم على ذلك. وذلك لأنّهم لا يتفكرون ولا يتدبرون، فالإنسان إذا وقف لحظة وتأمّل في مسيرة حياته لعلّه يغيّرها إلّا أنّه

ص: 67


1- العين 1 :105 .

يسرع في متابعة الشهوات دون ما تأمّل ووقفة، فيكون كالدّابة المجبرة على السير، ولكنّ الجبر هنا ينشأ من الشهوات وبدافع ذاتي.

« وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ »، الضمير يعود إلى مشركي مكّة، كما أنّ الحديث كلّه يدور حولهم. والغرض من هذه الآيات التنديد بمتابعتهم للآباء الضالين من قبلهم، والتنبيه على أنّهم ما كانوا بدعاً من سائر البشر، فأكثر الأمم السابقة كانوا في ضلال، والله تعالى أرسل لهم رسلاً، كما أرسل إلى هؤلاء رسولاً، فكذّب السابقون كما كذب هؤلاء، وأنزل الله تعالى عليهم عذاب الاستئصال وأبادهم، فليتّعظ هؤلاء وليحذروا عاقبة مثل عاقبتهم.

ويترتّب عليه غرض آخر وهو تسلية المؤمنين بأن لا يهابوا كثرة المشركين، ولا يعبأوا بارتفاع أصواتهم، ولا يحزنهم قلة عددهم بالقياس إليهم، كما قال تعالى: «قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ » (1).

وهذا أيضاً ممّا يجب اعتماده في جميع الأزمنة، ونحن في عصرنا أكثر حاجة إليه، فأبواق الدعاية الشيطانية، وصخب الجيوش المعادية للحق، قد ملأ الكون بالصوت والصورة، وبقي صوت الحقّ ضعيفاً لا يكاد يسمع، ولكن الذي يهوّن علينا أنّه بعين الله تعالى وهو الناصر لأوليائه في نهاية المطاف فللحقّ دولة وللباطل جولة.

واللام في «لقد» للقسم، فهناك قسم مقدّر. و«قد» للتحقيق والتأكيد، فالآية تؤكّد أن الضلالة هي ميزة البشرية طيلة التأريخ وغريب أمر هذا البشر فالأكثرية دائماً فى ضلال ، كما هو الحال في زماننا بالرغم من أنّه عهد انتشار

ص: 68


1- المائدة (5): 100.

النور والعلم والمعرفة، وزمان إتمام الحجة على الجميع، بحيث لا تجد على وجه البسيطة أحداً لم يصل إليه خبر السماء، وآيات الله سبحانه وأحاديث الرسل، ومع ذلك تجد أكثر الناس لا يؤمنون بالله تعالى حتّى الذين يزعمون أنّهم مسلمون أو يتّبعون سائر الأديان السماوية، بل تجد أنّ أكثر الذين يؤمنون بالله أيضاً لا يسيرون وفق منهجه الذي أراده لهم، بل تجد أكثر الناس في ضلال مبين حتّى بالمقاييس غير الدينية.

ومن هنا يتبيّن تفاهة الرأي وسفاهته في من يدّعي الحكمة والعلم والثقافة ويتبعه جمع كثير من المؤمنين وهو يقول: إنّ جميع الطرق إلى الله صحيحة، و جميع الصرط مستقيمة، وإنّ أكثر الناس مهتدون، ويستدلّ على رأيه بأنّه لولا ذلك لكان الله تعالى مغلوباً للشيطان، لأنّ الله يريد للناس الهداية والشيطان يريد لهم الضّلال، ولم يتفطّن - مع غاية دهائه أو تجاهل - بأنّه لو كان كذلك لم يتحقّق ضلال أصلاً، إذ لا يمكن أن يغلب الله في ما يريد حتّى جزئياً وأنِ الشيطان إنّما يغوي بأمر وإذن من الله سبحانه.

قال تعالى: «وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا » (1)، وقال أيضاً: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا »(2)، وغيره ممّا يفيد نفس المعنى. فالله تعالى لا يغلب على أمره ولكنّه لم يرد للناس الهداية تكويناً، و إنّما دعاهم إليها و تركهم مختارين.

ص: 69


1- الإسراء (17): 64 .
2- یونس (10) :99 .

« وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ » تأكيد وقسم أيضاً بأنّ الله تعالى أتمّ الحجة على الأقوام السابقة، وأنّ الرسل أتت لكلّ المجتمعات البشرية البائدة. ووصفهم بالمنذرين مع أنّهم مبشرون أيضاً، لأنّ الغرض هنا منحصر في الإنذار.

« فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ » ، خطاب للرسول أو لكلّ من يسمع أو يقرأ. والخطاب يدعو إلى ملاحظة حال الأقوام السابقة بعد أن جاءتهم الرسل بالنذر، فرفضوا متابعتهم، فأنزل الله عليهم عذاب الاستئصال وأباد حضاراتهم وأهلكهم عن آخرهم. وهذه الآيات مقدمة لذكر الشواهد عن الأمم السالفة ليتمّ الاعتبار بعواقبهم.

« إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ » ، الذين آمنوا بالرسل المنذرين فنجاهم الله تعالی وأخرجهم مع الرسل قبل نزول العذاب. والقراءة المشهورة في «المخلصين» بالفتح وقد مرّ بعض الكلام حول هذه الكلمة في تفسير الآية 40، وعلى ما مرّ فإن قرئ بالفتح فينبغي أن يفسّر بمن أخلص الله قلبه للإيمان، لا من أخلصه لنفسه ليختصّ بالرسل، وإلّا لزم أن يكون الاستثناء منقطعاً، إذ ليسوا من المنذرين بالفتح، بل هم منذرون بالكسر ، مضافاً إلى أنّه يستلزم عدم استثناء المؤمنين الناجين وإن قلّوا. وإن قرئ بالكسر فالمعنى واضح.

ص: 70

سورة الصّافآت(75 -82)

وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81)ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)

من هذه الآيات تبدأ الإشارة إلى بعض الأنبياء السابقين وذكر ما جرى عل-ى أممهم من العذاب، وأنّ الله نجى الأنبياء والمؤمنين بهم ليكون مثالاً للآيات السابقة، وابتدأ بذكر نوح (علیه السلام) وهو أول الرسل الذين ورد ذكرهم في الكتاب وأشير نوعاً ما إلى شريعته، وربّما يقال له آدم الثاني باعتبار أنّ البشر الموجودين حالياً كلّهم من نسله، كما صرح به في الآية 77 .

« وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ» ، الظاهر أنّ المراد بالنداء، دعاؤه على الكفرة، وقد ورد في الكتاب العزيز قوله (علیه السلام) «وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا »(1)، وقد غضب الله تعالى لعبده واستجاب دعاءه وأباد الكفرة عن آخرهم، فلم يبق منهم أحد والظاهر أنّه لم يكن على وجه البسيطة في ذلك الزمان بشر غير قومه.

وقد جاهد نوح (علیه السلام) جهاداً عظيماً حيث بقي فيهم ألف سنة إلّا خمسين عامّاً يدعو الناس إلى التوحيد، ومن الصعب جدّاً أن يبقى الإنسان قروناً متمادية يدعو الناس إلى الإيمان بالله ولا يلقى بعد كلّ هذه الجهود إلّا نفراً قليلاً يؤمنون به، كما قال تعالى: « وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» (2)، وأنّه لصبر عظيم انتهى إلى التذمّر بعد

ص: 71


1- نوح (71): 26 .
2- هود (11): 40 .

هذه القرون الطويلة، فدعا عليهم.

و«المجيب» هو الله سبحانه، و إنّما أتى بصيغة الجمع تعبيراً عن العظمة، فإنّ العظماء يؤتى لهم بضمير الجمع، ولعلّه من جهة أنّهم عادة يتكلّمون عن أنفسهم وأعوانهم وقلّما يباشرون عملاً، فاستعير الجمع للدلالة على العظمة. والغرض من هذا التعبير: « فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ » أي استجبنا دعاءه بأحسن إجابة، فإنّه دعا لقومه بالهلاك فأهلكناهم عن آخرهم وأغرقناهم ولم نبق منهم أثراً.

« وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ »، بيان لاستجابة الدعاء، فأولّ ما يذكر تنجيته وتنجية أهله من الكرب العظيم. و«الكرب» كلّ ما يحزن الإنسان ويقلقه، فلعلّ المراد به إيذاء قومه وتهديداتهم، ولعلّه الخوف من شمول العذاب. والمراد به «الأهل» يمكن أن يكون ما يشمل المؤمنين توسّعاً في مدلول الأهل، فإنّ المعنى الحقيقي هو الزوجة والأولاد. وفي الأهل احتمال آخر سيأتي في تفسير الآية التالية.

« وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ» ، الظاهر من الآية أنّ الطوفان أهلك كلّ من كان على وجه الأرض من البشر ولم يبق إلّا ذرية نوح (علیه السلام). ومن هنا يحتمل أن يكون المراد ب-«الأهل» في الآية السابقة ذريته، فإنّ بقاءه زهاء ألف سنة يستوجب عادة ظهور أقوام كثيرة من نسله، ولا يبعد أن يكون المؤمنون به (علیه السلام) كلّهم من ولده.

ولكن هناك آية ربما يستظهر منها ما ينافي ذلك، وهي قوله تعالى: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا » (1) ، حيث تدلّ الآية على أنّ الذين حملوا مع نوح كان لهم ذرية أيضاً، ومن هنا ربما تأوّل بعضهم قوله تعالى: « وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ.

ص: 72


1- الإسراء (17) : 3 .

الْبَاقِينَ» بأنّ المراد: أنّ الله تعالى أبقى فيهم التوحيد والنبوة والكتاب والحقّ و...، كما ورد ذلك في رواية في «تفسير القمي». (1)

وهو تأويل بعيد، وهناك روايات متعددة تدلّ على أنّ البشر كلّهم من ذرية نوح (علیه السلام) . وورد ذلك أيضاً في« التوراة»، ومن المعروف أنّ البشر ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: أولاد سام وحام ويافث، وهم أولاده (علیه السلام) (2) .

ويقوى الإشكال في آية الإسراء من جهة أخرى أيضاً، وهي أنّها وردت بشأن بني إسرائيل حيث قال تعالى: «وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا *ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا » (3) ومن المعلوم حسب التأريخ والروايات والتوراة أنّهم من ذرية نوح (علیه السلام) نفسه لا من حمل معه، فلو فرضنا إمكان تأويل قوله تعالى « وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ » لم يرتفع الإشكال عن الآية.

وهذا الأمر مع أنّه معلوم حسب التوراة والروايات، يمكن الاستدلال عليه يقوله تعالى: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ » (4)، والضمير في قوله: « وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ » يعود إلى نوح لا إلى إبراهيم (علیه السلام)، لأنّه الأقرب، ولأنّ بعض من وصف في الآيات بأنّهم من ذريته ليسوا من ذرية إبراهيم (علیه السلام) بلا ريب وهما لوط وإلياس (علیهما السلام).

وجمع العلامة الطباطبائي (رحمه الله) بين الآيتين باحتمال أن يكون بعض من كان مع

ص: 73


1- راجع تفسیر قمی 2 :223 .
2- في التوراة سفر التكوين الاصحاح التاسع « وَكَانَ بَنُو نُوحٍ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْفُلك سَامًا وَحَامًا وَيَافَتَ. وَحَامٌ هُوَ أَبُو كَنْعَان هؤلاء الثَّلَاثَةُ هُمْ بَنُو نُوحٍ وَمِنْ هَؤُلَاءِ تَشَعَبَتْ كُلُّ الْأَرْضَ».
3- الإسراء (17): 2 - 3 .
4- الانعام (6): 84 .

نوح أولاد بناته، فهم يعتبرون من جهة ذريته ومن جهة أخرى أولاد أصهاره فيصدق أن البشر الباقين بعده كلّهم من ذريته، وفي نفس الوقت هناك من البشر من هم من ذرية من كانوا معه وهم أصهاره (1).

و مقتضى هذا الوجه أن يكون المراد بقوله تعالى: « وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ» ما يشمل أولاد بناته ولكنّه لا ينطبق على بني إسرائيل بناءً على ما يقال في التأريخ والتوراة من أنّهم من ذرّيّة أبناء نوح (علیه السلام) لا بناته. نعم ما ورد في سورة الأنعام لا يقتضي كونهم أبناء أبنائه، لأنّ الذرّيّة تصدق على أولاد البنات أيضاً.

إذن فلا بدّ من وجه آخر يصحح التعبير عن بني إسرائيل بأنّهم ذرية من حملنا مع نوح، بدلاً عن التعبير بأنّهم ذرية نوح (علیه السلام) مضافاً إلى أنّ نفس العدول عن التعبير عنهم بأنّهم ذرّيّة نوح إلى التعبير بكونهم ذرية من حملنا حتّى لو كان باللحاظ المذكور يتوقّف على وجود وجه مصحّح، فإنّ التعبير بكونهم ذرية نوح أولى بلا ريب.

ويمكن أن تكون العناية في التعبير بذلك الإشارة إلى هذه النعمة التي شملتهم، أي بني إسرائيل، كما شملت غيرهم من البشر، وهي أنّ الله تعالى أبقاهم بحمل آبائهم في السفينة، فهم نسل من جماعة معدودة من ذرّيّة نوح (علیه السلام) وهم الذين حملوا معه، فهذا القيد لإخراج الهالكين من ذريته، والظاهر أنّهم كثير، كما هو مقتضى بقائه تلك القرون المتمادية.

وقد مرّ في سورة يس أنّ الله تعالى منّ على البشرية بالإبقاء عليهم بسبب الحمل في السفينة، وأنّ هذا هو المراد من قوله تعالى: «وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ.

ص: 74


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 13: 38 .

الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ » (1)، و كذلك في قوله تعالى: «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ » (2)، ومنّ على النبيين بقوله تعالى: « مِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ » (3) .

وعلى كلّ حال فآية سورة الإسراء ليست نصّاً في وجود بشر غير ذرّيّة نوح في السفينة، فلا تقاوم التصريح الموجود في هذه الآية بأنّ الباقين من قوم نوح لم يكونوا إلّا من ذريته (علیه السلام) خصوصاً بملاحظة الحصر المستفاد من الإتيان بضمير الفصل وكون الخبر - المفعول الثاني - مع لام التعريف. وبناء على ذلك فهذه أيضاً نعمة من الله تعالى على نوح (علیه السلام) حيث جعل البشر الباقي كلّه من نسله. ولذلك يعبّر عنه ب- «آدم الثاني».

وبذلك استجاب الله دعاءه حيث دعا على الكافرين، وأبدى تخوّفه من بقاء نسلهم حيث إنّهم لا يلدون إلّا فاجراً كفّاراً، فأبادهم الله تعالى وأباد نسلهم، ولم يبق على وجه الأرض إلّا نوحاً والمؤمنين من ذريته.

هذا، ولكن يمكن أن يقال: إنّ قوله تعالى: « وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ » ليس صريحاً في عدم بقاء البشر إلّا ذريته (علیه السلام) لاحتمال أن يكون المراد الباقون من قوم نوح (علیه السلام)، لا الباقون من البشر ، ولا دليل على أنّ البشرية كانت منحصرة في قومه كما هو المعروف، بل الاعتبار يقتضي خلافه، فإنّ الفاصل الزمني بين آدم ونوح (علیه السلام) غير معلوم وإن قيل إنّه ألف سنة، وحتّى لو كان كذلك فهو يقتضي حسب العادة انتشار نسل كثير من البشر.

ويبعد جدّاً حسب مقتضيات الحياة البدائية أن يبقى كلّ هذا البشر في منطقة

ص: 75


1- يس (36): 41 .
2- الحاقة (69): 11 .
3- مریم (19) :58 .

واحدة، وطبيعة الحال تقتضي تفرقهم لتأسيس مرافق الحياة بالزراعة والرعي ونحو ذلك.

وممّا يشهد لذلك قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ » (1) . فالظاهر من التعبير بقومه وقومك وقومي أنّهم جمع خاص من البشر، وإلّا لكانت الآية إنّا أرسلنا نوحاً إلى الناس أن أنذرهم ولكان المناسب أن يخاطبهم أيها الناس.

ولكنّ الصحيح أن المراد « الباقون على الأرض» بقرينة قوله تعالى في حكاية دعائه (علیه السلام): « رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا » (2) ، ومن البعيد جدّاً أن يحكي الله تعالى دعاء رسوله إن لم يستجب له.

وربما يقال: إنّ المراد بالأرض في هذه الآية أرض تلك المنطقة فحسب وهو احتمال ضعيف جدّاً من حيث ظاهر اللفظ ومن حيث السياق. فالنتيجة أنّ البشر كلّهم هلكوا إلّا من كان في السفينة. وبموجب الآية السابقة لم يبق منهم إلّا ذرية نوح (علیه السلام).

« وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» ، المراد ب-«الترك » الإبقاء ، أي أبقينا على ذكره في الآخرين، فاعتبر إبقاء الذكر كأنّه إبقاء على الشخص نفسه. والمراد ب-«الآخرين» الأمم المتأخرة عنه وربّما قيل: إنّ هذه الجملة تتعلق بالجملة التالية، أي تركنا عليه هذا القول: « سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ » . وهو بعيد وتكلّف لا حاجة إليه.

هذا، وإبقاء الذكر في الدنيا ليس مهماًّ في حدّ ذاته ولا ينتفع به الإنسان الغابر، فكم من فاجر يثنى عليه على المنابر طيلة القرون وهو معذب بأعماله، وكم من

ص: 76


1- نوح (71) :1 - 2 .
2- نوح (71): 26 .

مؤمن صالح مقرّب عند الله لا يعرفه أحد، فلا ينتفع الأول بالثناء ولا يضرّ الثاني خفاء ذكره ولكنّ الإبقاء على ذكر الأنبياء والمرسلين وكلّ من له هدف صالح في المجتمع البشري فيه أثر حميد له ، لأنّ إبقاء ذكره إبقاء لطريقته وسنته. ومن هنا دعا إبراهيم (علیه السلام) ربّه بقوله: «وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ.» (1).

« سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ» ، هذا إنشاء سلام من الله تعالى عليه، والأصل في السلام دعاء بالسلامة والقصد الجدي فيه إنشاء ما يلازمه من التحية والإكرام.

وقوله: « فِي الْعَالَمِينَ» إمّا بمعنى أنّه موضع إجلال وإكرام في شتّى العوالم عالم الدنيا والبرزخ والآخرة، وفي كلّ أزمنة الحياة الدنيا، وإمّا بمعنى كلّ الناس، فإنّ العالمين يطلق على كلّ البشر باعتبار تقسيمهم بحسب الطوائف والأزمنة والأمكنة إلى عوالم وإن كانت كلمة «عالم» تشمل جميع ما سوى الله تعالى. ولذلك يقال: إنّ «عالمين» ليس جمعاً للعالم، لأنّه أكثر منه شمولاً، بل لا يمكن أن يجمع العالم، إذ لا يمكن أن يكون له أكثر من مصداق، ولكن حيث إنّه باعتبار آخر يطلق على كلّ مجموعة من الأشياء يصحّ الجمع. وعليه، فالمراد أنّ السلام عليه في جميع المجتمعات المختلفة البشرية.

وقيل : المراد عوالم الملائكة والجنّ والإنس.

ولم .. هذا التعبير في غيره، وذلك لأنّه أقدم الأنبياء (علیهم السلام)، فكلّ من اتبع ديناً من الأديان السماوية يقرّ برسالته (علیه السلام).

« إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ » ، تعليل لما مر من النعم التي خصّ الله بها نوحاً (علیه السلام). وليس المراد بالطبع أنّه تعالى يجزي كلّ محسن بكلّ ما جزى به نوحاً، كما هو

ص: 77


1- الشعراء (26): 84.

واضح بل المراد أنّه يجزي كلّ محسن حسب إحسانه. والمراد ب-«المحسنين» إمّا كلّ من أحسن عمله وأتقنها، فكلّ عمل يعمله يأتي به بأحسن وجه، وإمّا كلّ من كثر إحسانه وأعماله الصالحة وإن لم يتقن كلّ عمل. والأنبياء (علیهم السلام) محسنون بكلا المعنيين، فنوح (علیه السلام) صبر أحسن صبر وجاهد أحسن جهاد ودعا إلى الله تعالى بأحسن وجه.

« إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ » ، هذا تعليل لما قبله ولعلّه تعليل لكونه من المحسنين، فهو إشارة إلى أنّ المناط في الإحسان هو العبودية والإيمان، فكلّما كمل هذان الوصفان كمل الإحسان، فإذا رأينا في أنفسنا دعوى العبودية والإيمان ولم نجد الإحسان في أعمالنا فهو دليل على عدم الواقعية في تلك الدعوى، فإنّ العبودية والإيمان يستتبعان الإحسان في العمل.

وهاتان الآيتان تحقّقان الهدف من ذكر قصص الأنبياء (علیهم السلام)، وذلك بتعميم النتائج على كلّ المحسنين وعباد الله المؤمنين، ليتمّ بذلك تسلية الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمؤمنين به ليصبروا على أذى المشركين، ويتمّ بذلك أيضاً تحذير المشركين بأنّ الله تعالى ينصر أنبياءه وأولياءه.

« ثمّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ » ، السبب في تأخير ذكره مع أنّه حدوثاً ليس متأخراً عن كلّ ما سبق - كما هو واضح - بلحاظ أن الأنسب بالسياق أن يذكر ما أنعم الله به على نبيه، ثمّ يذكر نزول العذاب ونحوه لما ذكرنا من أنّ الظاهر أنّ القصد من سرد حكايات الأنبياء هنا بيان ما أنعم الله به عليهم تسلية للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وللمؤمنين به. فالتراخي المستفاد من «ثمّ» إنّما هو في الذكر، لا في ظرف الحدوث. وحيث لم يتقدم في الذكر إلّا نوح (علیه السلام) وأهله وذريته، فالآخرون كلّ من لا يدخل في هذه المجموعة. ويؤيد ذلك ما تقدم من أنّ المؤمنين به كلّهم كانوا من ذريّته.

ص: 78

سورة الصّافّات(83 – 87)

وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85)أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)

« وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ » ، إبراهيم (علیه السلام) يدّعى أبا الأنبياء، لأنّ أنبياء بني إسرائيل وهم معظم من ذكروا في القرآن من ذرّيّته والله تعالى يعتبره من شيعة نوح (علیه السلام) و«الشيعة» هم الذين يشايعون أحداً، أي يتّبعونه.

وفي سرّ هذا التعبير احتمالان :

الأول: أنّ إبراهيم يعتبر ممّن يتبع شريعة نوح (علیه السلام)، وذلك لأنّه لم يكن بينهما شريعة أخرى مع بعد الزمان ويؤيد هذا الاحتمال أنّه اعتبره من شيعته، أي بعض شيعته ولا شك أنّ الذين اتبعوا شريعة نوح في زمانه وبعده إلى عهد إبراهيم (علیه السلام) كثير جدّاً لبعد الزمان.

الثاني: أنّه تبعه في خصوص كونه من العباد المؤمنين الذين بكمالهم في العبودية والإيمان بلغوا درجة الإحسان، فاستحقوا ذلك الجزاء الجزيل من الله تعالى في الدنيا والآخرة. ويشهد لهذا الاحتمال قوله في مقام التعليل أو الظرفية: «إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ »، فتكون المشايعة في هذا الأمر بالخصوص، لا المتابعة في الشريعة التي لا تخص الأنبياء .

وعلى كلّ حال، فهذه الآية تدلّ على سموّ مقام نوح (علیه السلام) ورفعته حيث اعتبر إبراهيم (علیه السلام) جلالة قدره - كما سيتبيّن من الآيات التالية - من جملة أتباعه ويحقّ له ذلك، فإنّه مضافاً إلى تحمّله الشدائد لنشر التوحيد وتبليغ الشريعة، قد

ص: 79

أسدى للبشرية نعمة عظيمة بصنعه السفينة وإبقائه على النسل البشري، بل كان هو السبب في نزول السلامة والبركة من الله تعالى على أجيال البشر بعده حيث خوطب حين نزوله من السفينة: «قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ » (1).

«إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ »، في مجيئه إلى ربّه احتمالان:

الأول: أن يراد به حضوره عند ربّه مع قلب سليم، فتكون «الباء» للمصاحبة. والإنسان يحضر عند ربّه في الدنيا حين عبادته وصلاته وتوجهه إلى ربّه.

والثاني: أن يكون «الباء» للتعدية، فالمعنى أنّه أحضر عند ربّه قلباً سليماً، والأول أوفق بتنكير القلب.

وهناك مورد آخر للحضور بقلب سليم وهو الحضور يوم القيامة، كما ورد عن لسان إبراهيم (علیه السلام): «يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » (2).

وقد ورد في الحديث أنّ القلب السليم هو القلب الذي يلقى الله عزّ وجلّ وليس فيه أحد سواه (3). فإبراهيم (علیه السلام) حضر أمام الله سبحانه وليس في قلبه إلّا الله، لا يحب شيئاً إلّا في الله، ولا يبغض شيئاً إلّا في الله.

ولذلك عقّبه بالاستشهاد بموردين أبرز فيهما إبراهيم تفانيه في الحبّ لربّه، أحدهما في مواجهته لأبيه وقومه دون هوادة، والثاني - وهو أجلّ وأعظم - محاولته ذبح ابنه بيده إطاعة لربّه وهو الولد الذي طالماً دعا ربّه أن يرزقه، فلمّا صار غلاماً يتوقّع منه النفع ورآى منه غاية الإيمان لربّه حيث طالبه بالإسراع في

ص: 80


1- هود (11) :48 .
2- الشعراء :(26) 88-89 .
3- راجع الكافي 2 :16 .

التنفيذ حاول ذبحه بيده تنفيذاً لأمر الربّ. والظّاهر أنّ هذا ممّا لم يبتل الله تعالى به أحداً من المرسلين وغيرهم. ولا يكون ذلك إلّا من يكون قلبه في غاية السلامة، ليس فيه مجال لأحد غير الله سبحانه.

وورد في حديث آخر أنّ المراد السليم من الشكّ (1). والشكّ أمر غريب يتسلّل إلى قلوب المؤمنين المخلصين، ولا يمكن لأحد أن يزعم أنّه سليم منه، وأنّ ما في قلوبنا هو اليقين الكامل ، والله تعالى يقول: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ » (2)، فكلّ ما نجده ونحن نعتقد أنّنا مؤمنون وخاشعون ليس إلّا الظن، والله تعالى لا يريد منّا أكثر من ذلك، لأنّه أعلم بما خلق، ويعلم أنّ السليم من الشك قليل جدّاً، فلا يمكن لأحد أن يقول: «لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً » (3) إلّا أمير المؤمنين ومولى الموحّدين علي بن أبي طالب (علیه السلام).

ولولا السلامة الكاملة من الشكّ في قلب إبراهيم (علیه السلام) لم يقدم على ذبح ابنه بيده لرؤيا رآه، ولو كان غيره لالتمس شتّى المعاذير للتهرّب، حتّى لو لم يكن حلماً، بل كان أمراً صريحاً، فإنّا نجد من أنفسنا ومن غيرنا كيف نتهرّب من التكاليف العامّة حتّى لو كان يتعلّق بدفع المال، فكيف ببذل النفس وأي نفس؟!

«إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ»، هذا هو المشهد الأوّل ممّا یدلّ على سلامة قلبه (علیه السلام)، وقد تكرر ذكر هذا المشهد و مخاطباته مع أبيه وقومه، ولكنّه هنا مختصر يراد به الاستشهاد على سلامة نفسه وقلبه، وأنّه ما كان يهتمّ بالعلاقات

ص: 81


1- راجع : نفس المصدر.
2- البقرة (2) :45 - 46 .
3- غرر الحکم و دررالکلم: 566 .

الاجتماعية، وأواصر الودّ والأخاء والقرابة، فإذا اقتضى الأمر أن يواجه أفكار قومه وعاداتهم ويستنكرها لم يمنعه مانع ولم تأخذه في الله لومة لائم، فتجده بكلّ صلابة يحتقر أهمّ شيء لديهم وهو ما توارثوا احترامه وعبادته والسجود له، فيخاطبهم باستفهام إنكاري: ماذا تعبدون؟ أي ما هذا الشيء الذي تعبدونه؟ وفي هذا اللحن احتقار واضح لأصنامهم.

و «إذ» في أوّل الجملة ظرف لقوله : «جاء» أو لقوله: «سليم» في الآية السابقة، أي أنّ قلبه كان سليماً حيث قابل أباه وقومه بهذه الشدة. ولذلك قلنا: إنّ المراد بهذا، هو الاستشهاد على سلامة نفسه وقلبه. ويمكن أن يكون بدل اشتمال من الجملة السابقة.

هذا ، وقد مرّ في سورة العنكبوت البحث في أنّ ما يعبّر عنه في القرآن ب-«الأب» في قصة إبراهيم (علیه السلام) هل هو والده أم من تربى في حجره وهو عمه أو أبو أُمّه كما يقال ؟ وقلنا: إنّ ما استدلّ به العلامة الطباطبائي (رحمه الله) في نفي كونه والده استدلال لطيف وواضح وهو أنّه (علیه السلام) استغفر لوالديه في أواخر حياته وبعد أنّ بنى الكعبة وأسكن ذرّيّته من إسماعيل (علیه السلام) هناك حيث قال: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ » (1)، ولا يمكن أن يستغفر لأبيه الضالّ حيث قال تعالى: «وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ » (2)، و إنّما استغفر له قبل أن يتبيّن له ذلك، كدعائه المحكي في سورة الشعراء وهو بعد في قومه.

فالحاصل أنّ هذا الرجل ليس والده، و إنّما يعبّر عنه بالأب لأنّه ربّاه وهذا

ص: 82


1- إبراهيم (14): 41 .
2- التوبة (9): 114 .

تعبير شائع، و یدلّ على أنّه كان يحترمه ويحبّه، بل يحتاج إليه في شؤون حياته، ولكن ذلك لم يمنعه من مواجهته واستنكار عمله، وكذلك مع قومه وكبرائهم وهو بحاجة إليهم ومستظهر بهم.

«أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ »، «الإفك » هو الصرف عن الحقّ إلى الباطل، ولذلك يطلق على الكذب وتريدون أي تطلبون و«الإرادة» تتعلق بالأفعال لا بالذوات، فلا بدّ من تقدير فعل وهو الاتّخاذ والمعنى هل تتخذون آلهة بدلاً عن الله كذباً وانصرافاً عن الحقّ إلى الباطل ؟!

وقدّم المفعول لأجله وهو «إفكاً» مع أنّ شأنه التأخير، لأنّ التركيز إنّما هو على ذلك فهو يريد أن يقول: إنّكم لم تختاروا ذلك جهلاً، بل إنّكم تعلمون أنّ هذه الأصنام لا يمكن أن تكون آلهة وهي من صنعكم، و إنّما تتخذونها آلهة إفكاً وزوراً، كما صرّح (علیه السلام) في موضع آخر بأنّ السرّ في التفافكم حول هذه الآلهة ليس إلّا الإبقاء على العلاقات الاجتماعية الزائفة التي أُسِّست على هذه الأوهام: «وَقَالَ إنّما اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.» (1).

وهذا داء عامّ وبلاء عظيم نجده في كلّ هذه التعصبات والتحزّبات الفاسدة بل حتّى الانحياز إلى الأشخاص من دون ما يستوجبه العقل والمنطق، ونجد بعضهم يصرّحون بأنّا لو تركنا فلاناً لاختلفت وتفرقت القبائل والبيوت.

والحاصل: أنّ هؤلاء ما كانوا يعبدون الأصنام جهلاً، و إنّما كانوا يعبدونها إفكاً وحفظاً لتقاليد الآباء التي هي أساس الوحدة في المجتمعات المتخلفة ثقافياً، كما كانوا يقولون في بعض مخاطباتهم له (علیه السلام) «قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ *أَوْ

ص: 83


1- العنكبوت (29) :25 .

يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ *قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ »(1).

« فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ » ، الظاهر أنّ المراد بهذه الجملة أنّكم ما ذا تتوقّعون أن يصنع بكم رب العالمين؟ وعلى هذا، فالجملة تدلّ على أنّهم كانوا يعتقدون بأنّ للعالمين رباً وأنّه هو الذي يجب أن يعبد، ولكنّهم يعبدون الأصنام تمسكاً بتقاليد الآباء، ومعنى ذلك أنّهم كانوا يتوقّعون عذاباً من الله، ولكنّهم يستهينون به كغيرهم من أهل الدنيا والتابعين لشهواتهم وميولهم.

ويشهد لهذا التفسير ما مرّ آنفاً من آيات سورة الشعراء في محادثتهم معه (علیه السلام) «قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ *أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ *قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ » فیدلّ ذلك على أنّهم كانوا يعلمون أنّها لا تسمع ولا تضرّ ولا تنفع ومع ذلك كانوا يعبدونها تبعاً للآباء. وهذه التبعية العمياء مشهودة في كثير من الناس.

ويحتمل أن يكون المراد السؤال عن تصوّرهم لربّ العالمين، يعني كيف تتصوّرون ربّ العالمين حيث جعلتم له أنداداً ، فهو بهذا السؤال يريد أن ينبّههم إلى أنّ جعل الأنداد لله تعالى يبتني على الجهل بمقام رب العالمين وعدم معرفته.

والاحتمال الثالث: أن يكون المراد استنكار أن تعتبر الأصنام ربّاً للعالمين، فتعبد بعد افتراض تسليمهم بأنّ المعبود يجب أن يكون ربّاً للعالمين، فمعنى العبارة هل تظنّون أنّ هذه الأصنام أرباب للعالمين؟! وهذا بعيد عن معتقداتهم. ومهما كان، فالاحتمال الأول هو الأقرب.

ص: 84


1- الشعراء (26) :72 - 74 .

سورة الصّافّات (88 – 98)

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91)مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)

« فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ» ، المنقول هنا قصة إبراهيم (علیه السلام) مع قومه باختصار، وقد فصّل بعض مواضعه في سور أخرى، وهكذا القرآن يركز في كلّ موضع على جهة من جهات القصة فيفصلها، ويهمل جهات أخرى، أو يجملها، والتركيز هنا على قوة إيمان إبراهيم وإحسانه، وأنّه استتبع الجزاء الجميل من الله تعالى، كما هو الحال في سائر ما ينقل هنا من قصص الأنبياء (علیهم السلام).

قيل في تفسير هذه الآيات: إنّ قوم إبراهيم (علیه السلام) كانوا يخافون من أن ينال آلهتهم بسوء، خصوصاً بعد ما هدّدهم بذلك بقوله: «وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ » (1)، وإنّهم كان لهم يوم عيد، فكانوا يخرجون من المدينة لتقاليد خاصّة بذلك اليوم ويتركون الأطعمة ونحوها عند أصنامهم، يعتقدون أنّها تتبرك بهم، ثمّ يتناولونها بعد رجوعهم، ففي ذلك اليوم طلبوا أو توقّعوا من إبراهيم (علیه السلام) أن يخرج معهم، « فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ *فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ » وهكذا اعتذر من الخروج معهم.

ويقال في وجه نظره في النجوم أمران:

ص: 85


1- الأنبياء (21) :57 .

أحدهما أنّه ربما كان لمرضه موعد يعلمه، فنظر إليها لمعرفة الوقت فتبيّن له أنّه موعده.

والثاني: أنّه أراد بذلك إيهامهم أنّه يستوحي من النجوم جرياً على اعتقاداتهم في تأثير الكواكب.

واعترض على هذا التفسير وهو مذكور في التفاسير عامّة أنّه يستلزم نسبة الكذب إلى إبراهيم (علیه السلام) حيث قال: إنّي سقيم ولم يكن مريضاً .

وأجيب تارة بأنّه لعلّه من معاريض الكلام، فيكون قد استخدم التورية، كما لو قصد أنّه سيكون مريضاً في المستقبل، ولكنّه يوهمهم بذلك أنّه مريض فعلاً.

وأجيب أخرى بأنّه لعلّه كان مريضاً والإنسان لا يخلو من مرض وإن لم يكن مرضه مانعاً من خروجه معهم، فالإيهام إنّما هو من هذه الجهة.

ويمكن أن يكون مراده (علیه السلام) أنّه سقيم نفسياً من جهة تأثره البليغ من كفرهم وعنادهم، وهذا ربّما يسبّب في الإنسان مرضاً وسقماً أبلغ ممّا تؤثره العوامل الأخرى.

وقد دار البحث بين المفسّرين حول جواز صدور التورية من الرسول. ووقع مثل هذا الإشكال في قوله (علیه السلام): «قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ » (1)، حيث نسب كسر الأصنام إلى كبيرهم الذي لم يكسره إبراهيم (علیه السلام) ولعلّه تركه ليلقي الإثم عليه ويثير فيهم التساؤل.

ومهما كان فهذا التفسير يبتني على تقدير ما لا دليل عليه في اللفظ، إذ لا بدّ من تقدير أنّ قومه أرادوا الخروج للعيد وطلبوا منه الخروج معهم، فنظر نظرة في

ص: 86


1- الأنبياء (21): 63 .

النجوم وهو بعيد عن ظاهر اللفظ، حيث إنّ ظاهره أنّ نظره إلى النجوم والقول بأنّه سقيم هو المترتّب على ما سبق من اعتراضه على آلهتهم لمكان «الفاء» في أوّل هذه الآية، وهو الباعث على تولّيهم ،مدبرين، لمكان «الفاء» أيضاً على تلك الآية.

وروى الصدوق في معاني الأخبار عن رجل من أصحابنا، عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: قلت له قوله تعالى: «إِنِّي سَقيمٌ» فقال: «ما كان إبراهيم سقيماً وما كذب، إنّما عنى سقيماً في دينه مرتاداً» (1). والظاهر أنّ المراد أنّه كان طالباً وباحثاً عن الحقيقة كالسقيم الذي يبحث عن العلاج.

ويبدو من هذه الرواية أنّ النظر في النجوم إشارة إلى القصة المذكورة في سورة الأنعام من أنّه نظر إلى الكوكب، فقال: «هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ » (2)، ثمّ رأى القمر، ثمّ رأى الشمس.

ويقع السؤال في هذه القصة أنّه (علیه السلام) هل كان متردداً واقعاً أو أنّه كان يظهر نفسه كذلك ليجرّ القوم إلى التفكر والتدبّر في أمر الربوبية والانتهاء إلى ربوبية رب العالمين دون سواه، فاقترح عليهم عبادة الكوكب واعتباره ربّاً، لأنّه أفضل من الصنم وأجمل، وهكذا القمر، ثمّ الشمس، ثمّ انتهى إلى تفنيد كلّ ربوبية إلّا ربوبية الله سبحانه وتعالى؟

الصحيح أنّه لم يكن متردّداً واقعاً بل كان يظهر ذلك ليجرّ قومه إلى الإيمان. وإن لم تصرّح الآيات بهذا الأمر. وعلى كلّ حال فالظاهر حسبما يستفاد

ص: 87


1- معاني الأخبار: 210 .
2- الأنعام (6): 76 .

من هذه الرواية أنّ هذه الآية تشير إلى تلك القصة ولا حاجة إلى تقدير.

«فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ» ، التولّي هو الإعراض و« مُدْبِرِينَ» حال مؤكدة، لأنّ التولّي يقتضي بنفسه الإدبار. فبناءً على تفسير القوم: تولّوا عنه حينما سمعوا اعتذاره وخرجوا من البلد على عادتهم، وبناءً على هذه الرواية: تولّوا عنه حينما دعاهم إلى عبادة الله سبحانه واستدلّ على نفي ربوبية الأصنام بما ذكر. والتعبير يوحي بأنّهم بعدوا عنه جدّاً وتيقّن عدم عودتهم قريباً، فانتهز الفرصة لكسر الأصنام. ولو صحّ تفسير القوم لكان المناسب أن يشار إلى خروجهم عن المدينة ولا يكتفى بتولّيهم وأدبارهم.

«فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ »، «الروغ» و «الروغان» الميل على سبيل الاحتيال، ويطلق على حركة الثعلب للانقضاض على الفريسة والمراد أنّه هجم على الأصنام مسارقة، لئلّا يشعر به أحد فيمنعه. وهذا يتمّ بناءً على الرواية، فإنّه كان بحضور القوم في المدينة، وأمّا بناءً على تفسير القوم، فلا بدّ من افتراض أنّ بعض العبيد والخدم كانوا باقين في البلد ليصحّ التعبير ب-«الروغان».

«فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ » ، يظهر من هذا السؤال أيضاً أنّه كان هناك بعض الناس حاضري الموقف، فأراد أن يهديهم إلى الحقّ وأنّ هذه الأصنام لا تعقل شيئاً ولا تنطق ولا تفهم الخطاب، فكيف تكون آلهة تدبّر الكون؟! فخاطبها أمامهم: « أَلَا تَأْكُلُونَ » .

وقيل: يمكن أن يكون ذلك من قبيل حديث النفس، فإنّ الإنسان - خصوصاً في مثل هذه الظروف العصيبة - يحدث نفسه ويحدث الأشياء، فلعلّه خاطبها بذلك منفرداً ليفرغ شحنته التي كادت تنفجر من سخطه على جهل الناس وغبائهم.

ص: 88

هكذا ورد في التفاسير وإن كان ذلك بعيداً عن إبراهيم (علیه السلام) وهو يعلم أنّ الأصنام جمادات لا روح فيها. والأقرب هو الأول وأنّه (علیه السلام) كان يخاطبها بحضور بعض العبيد والمستضعفين من الناس، طمعاً في هدايتهم، فالأنبياء يميلون إليهم أكثر من كبراء القوم، وهم أيضاً إلى الأنبياء أميل.

« فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ » ،أي مال عليهم، وضمن معنى الضرب، فقوله: « ضَرْباً» مفعول مطلق، أو يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل، أي ضارباً باليمين أي باليد اليمنى والضرب باليمين كناية عن أنّه ضربها بقوة فكسّرها تكسيراً، فإنّ اليد اليمنى رمز للقوة والشدة.

« فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ »، «الزفاف» الإسراع أو الحركة مصاحباً للهجوم، ممّا یدلّ على غضبهم وهياجهم والمراد تصوير حالتهم في مقابلة رجل واحد وهم حشد كبير من الناس في حالة هياج وغضب شديد هجموا عليه منتقمين لآلهتهم، ولكن هذا الواحد أقوى من كلّ من على الأرض، فلو اجتمع عليه أهل الأرض جميعاً ما هابهم، لأنّه مدعوم من جبار السماوات والأرض، فلا يهاب الصعاليك مهما كثر جمعهم، واشتدت قوتهم، وهاجت ضمائرهم.

والقصة مذكورة هنا باختصار وقد ورد بعض التفاصيل في سورة الأنبياء، فمنها أنّه ترك كبيرهم حتّى يوهم الجهّال أنّه هو الذي كسّرهم ليستتبع إنكارهم لذلك وعدم تمكنه من كسرها، فيكون إنكار كبراء القوم لتمكّن كبير الأصنام من الكسر منبهاً للضعفاء والشباب بعدم إمكان ربوبية الأصنام.

ومنها: أنّهم حينما جاؤوا إلى معبدهم أو رجعوا من سفرهم الجماعي على ما ذكره القوم سالوا أو تساءلوا فيما بينهم من فعل هذا بآلهتنا؟ وجاءهم الجواب:

ص: 89

«قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ » (1)، فيحتمل أن يكون هذا الجواب من بعضهم وهم الذين سمعوا منه مقولته الواردة في سورة الأنبياء أيضاً: «وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ » (2)، ويحتمل أن يكون من العبيد والخدم والمستضعفين الباقين في المدينة. ولعلّهم مالوا إليه واستحسنوا فعله، فلم يذكروا ما شاهدوه ولم يصرّحوا به، بل اكتفوا بهذه المقولة خوفاً من الإخفاء التامّ.

« قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ » ، هنا أيضاً يختصر القصّة وفي سورة الأنبياء يتبيّن أنّه لا تمكن في بدو الأمر من تنبيههم وتحريك ضمائرهم المتحجرة: «قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ *قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ *فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ *ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ » (3).

و«النحت » بري الخشب أو الحجر أو نحوهما حتّى يكون بالهيئة التي تريدها، يعني أنّ العبادة يجب أن تكون للربّ الذي يؤثّر في الكون ويرجى منه كلّ الخير ويخاف سطوته وغضبه لا ما تنحتونه بأيديكم، فهذا أمر يحتاج في تكوّنه إليكم، فكيف يتصوّر أن يكون مؤثراً في الكون؟!

وهذا الأمر على غرابته من أدواء البشرية في كلّ عصر، فالإنسان يطيع الشخصية التي هو يصنعها وهو يكبرها ويعظمها، ولولا انتخابه واختياره وتصفيقه لكلامه لم يكن له أيّ ميزة ولم يستحق أي تبجيل. ومع ذلك فهو بعد اختياره يتحوّل إلى صنم يقدس ويطاع وينظر إلى أقواله التافهة، وكأنّها حكم صدرت من حكيم مع أنّه لم يزد على ما كان عليه قبل الاختيار.

ص: 90


1- الأنبياء (21) :60 .
2- الأنبياء (21): 57 .
3- الأنبياء (21): 62 - 65.

« وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ »، يعني أتعبدون الأصنام وتتركون عبادة الله الذي خلقكم وخلق هذه الأصنام التي تصنعونها وتعبدونها. وذلك لأنّ صنع الإنسان ليس إلّا تغييراً في الصورة، وأمّا مادة الصنم فهي من الطبيعة ومخلوقة لله بل الصورة أيضاً مخلوقة له تعالى، فإنّ الإنسان لا يستطيع أن يعمل شيئاً إلّا بإذنه تعالى ولا حول ولا قوة له إلّا به.

وقد صارت هذه الآية مثاراً لجدل طويل بين الأشاعرة والمعتزلة، فالأشاعرة يقولون: إنّ «ما» هنا مصدرية، ومعناه أنّه تعالى خلقكم وخلق أعمالكم، فالإنسان ليس له أي دور في الوجود، بل هو مسير كما أراد الله تعالى، والمعتزلة يقولون: إنّ «ما» موصولة، والمراد أنّه تعالى خلق ما تعملونه أي تصنعونه والمراد به الأصنام، فلا یدلّ على أنّه تعالى خالق لأفعالنا. والصحيح أنّ كلا الوجهين جائز، وأنّه لا یدلّ على شيء من المذهبين كيفما فسّرت كلمة «ما».

« قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ »، هكذا يردّ المتعصّبون الجهلة على المنطق والحجة، وهكذا يواجهون المصلحين والأنبياء. ويظهر من السياق أنّه (علیه السلام) أثر في المجتمع وتوجّهت إليه القلوب، بل يستفاد من سورة الممتحنة أنّ جمعاً آمنوا به واتّبعوه حتّى في شدّته وتصلّبه في مقابلة أعداء الله. قال تعالى: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ » (1) ، وإن كان من المحتمل أنّ ذلك حدث بعد الإعجاز الذي رأوه من أن النّار صارت عليه برداً وسلاماً.

ص: 91


1- الممتحنة (60): 4 .

ومهما كان، فالذي يظهر من الآية أنّ القوم خافوا تأثيره العميق في المجتمع، فأرادوا التهويل وإرعاب القلوب حتّى لا تميل إليه وإلى أفكاره، ولذا لم يكتفوا بقتله، بل أرادوه قتلة فجيعة فظيعة وإلّا لم يكن حاجة إلى بناء بنيان، ثمّ تأجيج نار عظيمة. و«الجحيم» هو النار العظيمة الشديدة التأجّج.

ويشهد لهذا التأثير أنّ القوم حينما سمعوا كلامه في اتّهام كبير الأصنام بكسر الباقين رجعوا إلى أنفسهم وقالوا: إنكم أنتم الظالمون.

« فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ » ،نعم أنّ القوم كادوا بهذا النبيّ العظيم شرّ مكيدة، ولكنّ الله تعالى كان في عون عبده فحفظه من كيدهم. ولإبراهيم (علیه السلام) مكانة عظيمة لدى الله سبحانه، ولذلك حفظه وأفاض عليه النعم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: « وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» (1). ومن جلالة قدره الذي لا يبلغ علاه أنّ الله تعالى اتّخذه خليلاً، وهذا التعبير لم يرد في أحد غيره، وهو تعبير عجيب، فأين الإنسان وأين رب السماوات والأرض؟ وكيف يمكن أن يكون خليلاً له؟ لا يسعنا التفكير في ذلك حتّى نصل إلى جواب!

والآية هنا لم تذكر تفصيل ما حدث، ولكن ورد في سورة الأنبياء: «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ » (2)، ولكن التعبير هنا يوحي بأنّهم لم يتمكّنوا من إلحاق أي أذى به، وهو قوله تعالى: « فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ » فهذا التعبير يصوّرهم فى أسفل قاع من الأرض وكأنّ إبراهيم (علیه السلام) على قمة الجبل لا تصل إليه أيديهم

ص: 92


1- العنكبوت (29): 27 .
2- الأنبياء (21): 69 .

فلعلّه كناية عن عدم تمكّنهم منه نهائياً. وطبيعة الأمر تقتضي ذلك، لأنّ هذه النار العظيمة كان المتوقّع أن لا تبقي من إبراهيم أثراً بعد إلقائه فيها، ولكنّه جلس فيها مطمئناً وفي برد وسلام، ثمّ خرج منها منتصراً، وذلك آية عظيمة ومعجزة باهرة، فمن الطبيعي أن يطأطئ القوم رؤوسهم له ويهابوه ومع ذلك لم يؤمنوا به. وهذا هو الضلال المبين.

ص: 93

سورة الصّافّات(99 – 113)

وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108)سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

« وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ » ، لم يذكر القرآن الكريم كم بقي إبراهيم (علیه السلام) في قومه بعد ذلك، و إنّما ورد أنّه تركهم وهاجر، ففي سورة مريم: «وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» (1) . وهنا: « وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ » ولهذه الهجرة مغزى عميق حيث لم يذكر إبراهيم (علیه السلام) وجهة مقصده، فهو لا يقصد مكاناً خاصاً بعينه، إنّما يهاجر إلى ربِّه، كما ورد في سورة العنكبوت: «وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي» (2)، فالمقصد هو الله، فخرج من عند قومه مهاجراً إلى ربّه، متوكلاً عليه، تاركاً وراءه كلّ ما يعتمد عليه الناس في شؤون حياتهم، وهو واثق من أنّه تعالى لا يهمله، ولذلك يقول برباطة جأش وطمأنينة نفس: « إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ » وهكذا يجب أن يكون المؤمن يكل أمره إلى ربّه وهو يتولّى الصالحين.

ص: 94


1- مريم (19): 48 .
2- العنكبوت (29): 26 .

ومن الطبيعي أنّ مثل هذه الهجرة في ذلك الزمان الذي كان المعوّل في كلّ أمر على القوم والعشيرة صعب وخطير جدّاً، فما كان لشخص بمفرده أن يحافظ على نفسه وكيانه إلّا في ظلّ الاحتماء بالعشيرة، ولم تكن هناك حكومات تضمن حماية المواطنين، ولكن مؤمناً صادقاً كإبراهيم (علیه السلام) لا يهمه شيء ولا يشعر بالوحدة والوحشة ومعه ربّه سيهديه ويحميه وهو حسبه : «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ » (1)، ولذلك لم يتلعثم أو يتردّد إبراهيم (علیه السلام) في الاعتماد على ربّه، بل صرّح في خطابه بكلّ صراحة وصرامة وبلهجة قاطعة « سَيَهْدِينِ » !!! وهذا كلام المؤمن الواثق بربّه وبعنايته.

وأطلق الهداية فهو يتوقّع من ربّه أن يهديه سواء الصراط من كلّ جهة، فلا يسلك سبيلاً إلّا كان فيه خير الدنيا والآخرة. وهكذا وفّق لنيل غاية السعادة في النشأتين.

« رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ » ، ثمّ دعا ربّه وطلب منه ولداً صالحاً. ومن الغريب أنّ القرآن لم ينقل عنه (علیه السلام) في هذه الهجرة دعاءً وحاجة يصرّ عليها إلّا الولد الصالح، ولعلّه (علیه السلام) كان يحزّ في نفسه قلة المؤمنين، فكان يدعو ربّه أن يرزقه أولاداً صالحين يؤمنون بالله ويكملون المسيرة، فلم يكن همّه كثرة الأولاد كغيره ممّن يطلب أولاداً ليكثر نسله، أو يتباهى بهم، أو يتقوّى. ولذلك لم يطلب أولاداً أقوياء أو أصحاء أو ذوي بهاء وجمال، و إنّما طلب أولاداً صالحين يكملون مسيرته في الدعوة إلى الله، فهذا هو هاجس الأنبياء (علیهم السلام)، فإن لم يكونوا صالحين فهو لا يريدهم.

ص: 95


1- الزمر (39) :36 .

والله تعالى وهب له ما طلب ولكن بعد زمن طويل. ولا يعلم وجه الحكمة في هذا التأخير إلّا الله سبحانه، فلم يرزق بولد إلّا بإسماعيل ثمّ إسحاق (علیهما السلام) وذلك بعد كبر سنّه ويأسه من أن يكون له ولد بصورة طبيعية. فإسماعيل (علیه السلام) من هاجر وهي كانت أمة لزوجته سارة وهبتها لزوجها، وإسحاق (علیه السلام) من سارة.

ومهما كان، ففي هذا التأخير والإبطاء في استجابة دعوة الخليل (علیه السلام) درس للمؤمنين أن لا ييأسوا من روح الله تعالى إذا تأخّرت الاستجابة، ولعلّ في التأخير خيراً لهم، بل لعلّ في استعجالهم للاستجابة شراً لهم وهم لا يعلمون «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ » (1). وإبراهيم (علیه السلام) بلغ حداً قريباً من اليأس، ولذلك استغرب التبشير بالولد من الملائكة ولكنّه نفى أن يكون من القانطين كما في سورة الحجر.

« فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ » ،الفاء للترتب، أي حيث دعا ربّه وطلب الولد بشّرناه بغلام حليم، ولم تكن البشارة في نفس الوقت، بل بعده بزمن طويل.

و«الغلام»: الولد الذكر. وقيل إنّه يطلق عليه من أوّل الولادة، ولكن في أكثر كتب اللغة أنّه لا يطلق إلّا في سنّ المراهقة، ويعبّرون عنه بالطارّ الشارب، أي في أوائل نبات الشارب لديه، وهو يناسب معنى الغلمة، أي هيجان الشهوة.

وربّما يستغرب توصيفه بأنّه غلام حليم، فإنّ الغلام لا يناسبه الحلم، بل ميزته التسرّع والهيجان والاندفاع واللعب، و إنّما الحلم صفة الشيوخ والكبار. فهنا قد اجتمع الضدّان الغلمة والحلم. فقيل إنّ المراد أنّه يبقى إلى زمان الحلم، فيكون ذلك جزءاً من البشارة أيضاً.

ص: 96


1- البقرة (2): 216 .

ولعلّ السرّ في هذا التعبير هو توصيفه بالحلم حين كونه غلاماً - كما يقتضيه قوله تعالى « فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ» على ما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى - وهو أمر غريب، بل في غاية الغرابة، وخصوصاً أنّه حلم لم يسبق له مثيل، ولم يخلفه نظير كما سيأتي ذكره

وقد وقع البحث في أنّ هذا الغلام هل هو إسماعيل أو إسحاق (علیهما السلام)، فأكثر أحاديث المسلمين تنصّ على أنّه إسماعيل وهناك دليل واضح من القرآن عليه وهو أنّه في هذه السورة بالذات بعد أن أكمل قصة الغلام الحليم وسلم على إبراهيم، قال سبحانه: « وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ » (1) فيتبيّن منه بوضوح أنّ هذا المبشّر به غير من بشّر به أولاً.

وهناك رواية صحيحة مشهورة عن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : « أنا ابنُ الذبيحينَ»(2) ، فأحدهما أبوه عبدالله والآخر إسماعيل وهو جد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . ولكنّ اليهود يدعون أنّ قصة محاولة الذبح تخصّ جدّهم إسحاق، وهناك روايات مستقاة من اليهود تدلّ على ذلك وهي من الإسرائيليات.

« فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ» ، شروع في قصة أخرى من حياة إبراهيم الخليل (علیه السلام) ممّا أبدى فيه صلابة إيمانه وتوكله على الله، فأيّده الله تعالى بلطف خاصّ وكرامة باهرة، وقد قلنا فيما سبق أنّ الغرض من ذكر الأنبياء في هذه السورة تسليط الضوء على هذا الجانب من حياتهم، ليكون درساً وتذكيراً وتسلية للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وللمؤمنين وباعثاً للطمأنينة في نفوسهم.

ص: 97


1- الصافات (37): 112 .
2- من لا يحضره الفقيه 4 :368 .

والظاهر أنّ المراد ب«بلوغه السعي» أنّه بلغ حداً يمكنه أن يسعى ويبذل جهده

في الحياة ويكتسب المال ويدافع عن نفسه وعن قومه ونحو ذلك من النشاط المتوقع من الشباب وهذا هو الحدّ الذي يتوقع الإنسان أن ينتفع بولده، فأحد الدواعي للاستيلاد هو هذا الانتفاع في الكبر ، ليكون مساعداً له ومعيناً، فهو يخدم الولد قبل بلوغه حدّ السعي لينتفع به بعد ذلك فالغرض من التركيز على ذكر هذا التأريخ أنّه بلغ الحدّ الذي كان إبراهيم يحتاج إليه، فهو قد بلغ الكبر وولده بلغ السعي.

وهناك تأكيد على كون هذا البلوغ معه أي مع إبراهيم فلو كان يبلغ السعي وهو بعيد عنه لكان الأمر أهون، إذ لم يكن في معرض الانتفاع به. فالتأكيد على كلّ هذه الأمور لبيان أنّ القصة وقعت في زمان كان إبراهيم (علیه السلام) في أمسّ الحاجة إلى ولده فهو لم يكن له ولد وقد دعا ربّه أمداً طويلاً، فكان يتلهّف للاستمتاع بوجود ولد صالح بجانبه، وها قد بلغ الكبر ويئس من ذلك بصورة طبيعية.

ثمّ إنّ الله تعالى بشّره بالولد وبشّره بأنّه غلام حليم، فانظر كم كان هذا العبد الصالح متعلّقاً بهذا الولد الذي مدحه الله تعالى؟ ثمّ إنّه بلغ السعي أيضاً وبلغه وهو معه وفي خدمته وهنا أمر بذبحه فيا لها من مصيبة !

«قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ » ، يظهر من الآية تكرر الرؤيا المذكورة، فهو المناسب للتعبير بالفعل المضارع ولو تحقّقت مرة واحدة لقال: «إنّي رأيت» ومن الطبيعي أنّه لا يجوز لأحد أن يذبح ابنه لمجرّد أنّه رأى ذلك في منامه وإن تكرّر ذلك، بل حتّى لو رأى أنّ الله تعالى يأمره بذلك مكرّراً، ولكن رؤيا الأنبياء

ص: 98

تختلف عن رؤيا غيرهم، فهي نوع من الوحي الإلهي، إذ لا يمكن للشيطان أن يؤثّر في رؤياهم وليس له سلطان عليهم.

يبقى السؤال عن السرّ في عدم نزول الوحي بذلك عن طريق الملك على إبراهيم (علیه السلام)، فيمكن أن يكون السرّ فيه أنّ التصريح بمثل هذا الأمر والمواجهة فيه لا يخلو من حزازة، فأراد الله سبحانه أن لا يثقل على خليله، فيأمره بذلك عن طريق الوحي المباشر.

ويمكن أن يكون السرّ هو القصد إلى إبراز صلابة إبراهيم وقوة إيمانه حيث إنّه يطيع ربّه في هذا الأمر الخطير، حتّى لو كان إبلاغه إليه عن طريق الرؤيا، فيكفي لإبراهيم أن يعلم أنّ الله تعالى يريد منه ذلك، بل يكفيه أن يعلم أنّه تعالى يحبّه، فهذا يكفي ليحقّق الداعي في نفسه الشريفة، فلا حاجة إلى إبلاغ الأمر بصرامة وصراحة، فضلاً عن إنشاء حكم جزائي ووعيد بالعقاب على المخالفة. هكذا كان إخلاصه عليه الصلاة والسلام.

ولعلّ أغرب منه هو إخلاص الغلام الحليم إسماعيل (علیه السلام)، فهو في سن المراهقة والأماني والأحلام، واستقبل الذبح بصدر رحب، وقد امتحنه أبوه، فابتدأ كلامه بتعبير مثير للشفقة «يَا بُنَى» والعرب تأتي بالتصغير في مثل هذا الخطاب إيذاناً بالاختصاص. ولا نعلم اللغة واللفظ الدائر في هذا الخطاب بين إبراهيم وإسماعيل (علیهما السلام) إلّا أنّ تعبير القرآن ينمّ عن تعبير في الأصل مثير للشفقة.

ثمّ ذكر له منامه مع أنّه ما كان من المفروض أن يخبره، وهو لا يريد أن يستشيره، بل يريد أن يظهر صلابة إيمان ابنه، كما ظهر صلابة إيمان الأب ،ويريد أن يقبل إسماعيل هذا الأمر برضاه، فلا يكون مرغماً على ذلك.

ص: 99

وهل كان يرى إبراهيم (علیه السلام) أنّه يذبحه؟ ورد في الروايات أنّه كان يرى من يأمره بالذبح، فما ورد من التعبير هنا حكاية لنتيجة المنام.

«فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى» وهكذا استفهمه إبراهيم (علیه السلام) وکأنّه يطلب منه أن يتروّى ولا يستعجل ولكن إسماعيل لم يتروّ ولم يتردّد ولم يستمهل بل....

« قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ»، فهو أيضاً ابتدأ كلامه بخطاب عاطفي: «يا أَبَتِ» ، ثمّ طلب منه أن ينفّذ ما أمر به مهما كان. وهذا التعبير یدلّ على أنّه كان يُلح على أن لا يتهاون أبوه في تنفيذ ما أمر به وتعليق الطلب بالأمر دون أن يطلب منه نفس العمل يفيد أنك لا بدّ لك من العمل بما أمرك به ربّك، لأنّه أمر ربِّك حتّى لو كان بتفجير العالم برمته، فكيف إذا كان الأمر ذبح ابنك؟

« سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ»، فهو واثق من نفسه ومن إيمانه، فيؤكّد لأبيه دون أيّ ارتياب أو ترديد أنّه سيكون من الصابرين، ولكنّه لأدبه أمام ربّه ولإيمانه أن لا حول ولا قوة إلّا بالله يعلق تأكيده هذا على مشيئة الله تعالى. ومثله ما ورد فيما حكى الله سبحانه من كلام شعیب (علیه السلام) بعد أن طلب منه قومه أن يعود إلى ملتهم: « وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ » (1)، فالأنبياء المعصومون إنّما عصمهم الله تعالى بلطفه و لا عصمة لهم بالذات.

ومن أدب إسماعيل أيضاً أنّه لم يقل: «ستجدني صابراً » بل قال: « مِنَ الصَّابِرِينَ» فهو ليس منفرداً بالصبر في طاعة الله تعالى وإن كان صبره غريباً، بل يكاد يكون منحصراً فيه إلّا أنّه لتواضعه يعتبر نفسه من مجموعة العباد الصابرين وهكذا ينبغي أن يكون العبد الصالح في طاعة ربّه. ولذلك أمر الله تعالى

ص: 100


1- الأعراف (7): 89 .

مريم(علیها السلام) أن تركع مع الراكعين: «يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ » (1) ، حتّى لا يشعر الإنسان بأنّ له ميزة عن سائر العباد. ولذلك أيضاً أمرنا الله بحضور الجماعة.

« فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ » ، أي أسلما أمرهما إلى الله تعالى « وَتَلَّهُ »، أي صرع ووضعه على الأرض، كما يوضع الكبش للذبح و«الجبين» طرف الجبهة. ولم يرد في الآية جواب الشرط، و إنّما عطف عليه النداء بإبراهيم أن قد صدّقت الرؤيا، و إنّما حذف الجواب ليذهب ذهن السامع فيه كلّ مذهب.

وهذه شهادة من الله تعالى بأنّهما أسلما، ولو كان في نفسيهما الشريفتين مثقال ذرة من الترديد لم يشهد لهما الله تعالى بذلك، فالإسلام الحقيقي هو التسليم لأمر الله تعالى إلى هذا الحدّ الذي بلغه إبراهيم وإسماعيل (علیهما السلام). وأين هذا ممّا ندّعيه من الإسلام ونحن نحاول أن نتهرّب ممّا أمرنا الله تعالى به من التكاليف التي هي في وسعنا، ولا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها؟!

نعم نطيع الله ما درّت معايشنا وما لم يعارض التكليف مصالحنا، فإذا بلغنا موارد الابتلاء الصعب تجد أكثر المتّقين يبحثون عن مهرب وملجأ وتأويل وبعض ذلك صعب في الواقع، فإذا صرف الشابّ زهرة أيام حياته في سبيل الحصول على تخصص، ثمّ وجد عملاً في ذلك المجال يدرّ عليه مكسباً يعتدّ به ولكن اعترض سبيله الحكم الشرعي بأنّ العمل في هذا المجال محرّم، فمن الصعب جدّاً أن يتّقي ربّه ويبحث عن عمل آخر لا يناسب تخصصه.

ولكن هذا التورّع مهما كان فهو ليس كمن يسلم أمره إلى الله تعالى في

ص: 101


1- آل عمران (3): 43 .

التضحية بنفسه ويواجه أعداء الدين بصدر رحب مستقبلاً الشهادة في سبيل الله. وهذا أيضاً أسهل بكثير من أن يسلم الفتى اليافع أمره إلى الله تعالى ويستقبل بصدر رحب أن يذبحه أبوه كما يذبح الخروف مع كلّ الحب والحنان الذي بينهما.

حقاً أنّه مدهش لا يمكن أن يقارن بما يحكى من التضحيات مهما كانت عظيمة. هذا هو الإسلام الحقيقي.

« فَلَمَّا أَسْلَمَا» أسلم الأب لذبح ابنه، والابن ليذبح على يد أبيه لا لوحي مباشرمن الله تعالى ولا لرسالة جاء بها ملك من السماء، بل لمجرّد رؤيا رآها الأب، فعلما أنّ ذلك هو ما يريده الله تعالى، وهذا يكفي للمسلم أن يسلم أمره إلى الله ويستسلم.

« وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ *قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا » ، لم تذكر الآية ما ورد في بعض الروايات من أنّه أمرّ السكّين على حلقه وأنّه لم يقطع، و إنّما المذكور هو أنّه لم يتردّد في التنفيذ فأرقد ابنه الحبيب على الأرض مستعدّاً للذبح وفجأة جاءه النداء الإلهي أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا، مع أنّه لم يكمل ولم يذبح ولكن ما هو المهم هنا ليس ذات العمل، بل النية الخالصة والإخلاص لله تعالى.

بل الأمر كذلك في سائر الأعمال، فالله تعالى غني عن عبادة الخلق، لا ينظر إلى عبادتهم وصلاتهم وركوعهم وسجودهم، و إنّما ينظر إلى إخلاصهم، ولعلّ صلاة المريض الراقد المومي في الركوع والسجود ينال موقعاً من القرب لدى الله سبحانه لا يناله أكثر العبادات مشقّة وتعباً ونشاطاً.

و إنّما يطلب من العبد الإكثار من العمل لعلّه يحصل على الإخلاص المطلوب

ص: 102

في بعضها. ولذلك ورد في الروايات أنّ الله تعالى قدر النوافل ضعف الفرائض لكي يكمل بها نقص الفرائض، لأنّه تعالى لا يقبل من الصلاة إلّا ما أقبل فيها العبد على ربّه (1). و لعلّ العبد يعمل كلّ ما أمر به ويكرّره مراراً ولا يخاطب بما خوطب به إبراهيم وإسماعيل (علیهما السلام)، فهناك منّا من يحج كلّ عامّ ولا ينادى في ملكوت السماوات أن قد أطعت ربّك. وليس ذلك إلّا لأنّ جوهر العمل هو الإخلاص وهو ما يفقده أعمالنا. وإبراهيم (علیه السلام) خوطب بالنداء مع أنّه لم ينجز العمل، لأنّ الله تعالى علم منه الإخلاص و التسليم.

وهل كان النداء بواسطة ملك أم أنّه تعالى خاطبه بخلق الصوت، فسمعه إبراهيم (علیه السلام)؟ يحتمل الأمران.

« إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»، أي إنّما نحكم بأنّك قد صدّقت الرؤيا قبل تنجيز العمل لأنّك من المحسنين، والمراد إحسان العمل بالإخلاص فيه، لا العمل بالحسنات. وهذه الجملة تفيد أنّ هذا المضمار مفتوح للجميع، وأنّ جزاء الله تعالى لا يختصّ بأحد و إنّما يتبع العمل والإخلاص أينما كان.

« ِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ»، «البلاء» هو الامتحان، و«المبين» الواضح والموضح. وهذا البلاء واضح لم نجد امتحاناً أوضح وأبين منه، وهو موضح يفصح عن إخلاص إبراهيم وإسماعيل (علیهما السلام) وقوة إيمانهما. وفي الجملة تأكيد من وجوه وهي: إنّ ولام القسم وضمير الفصل وكون الخبر محلّى بلام المعرفة المفيد للحصر، أي أنّه ليس هناك بلاء مبين غيره وهذا غاية في التأكيد.

« وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ »، الظاهر أنّ هذه الجملة من تتمّة الخطاب. و«الفدية» ما

ص: 103


1- راجع: الكافي 3: 262.

يدفع عوضاً عن الشيء . وورد في الروايات أنّ الله تعالى أرسل له كبشاً ليذبحه بدلاً من ذبح ولده. و«الذبح» بمعنى المذبوح، سمّى الكبش به لأنّه يذبح.

وربّما يقال: لماذا الفدية فهذا عبد أمره الله بأمر وتبيّن استعداده لإنجازه، فرفع الله التكليف فلماذا الفدية؟

لعلّ السرّ فيه أنّه بقي في نفس إبراهيم (علیه السلام) حزازة وضيق من عدم تمكنه من امتثال أمر الله تعالى ولو من جهة رفع التكليف. وهذا غاية في الإيمان والإخلاص، فإبراهيم يشعر بالضيق، لأنّ الله تعالى رفض منه الاستمرار في التضحية ولم يوفقه للامتثال النهائي. نعم هكذا يكون العبد المحبّ المخلص لله تعالى. والله تعالى أيضاً يحبّ عبده المخلص، فلا يرضى أن يبقى في نفسه حزازة، بل يرفعها عنه بهذه الفدية. وأمّا توصيفه ب-«العظيم» فلعلّه لعظم جنّته، كما يقال أو أنّ ذلك إشارة إلى أنّ كلّ ما يذبح في منى منذ ذلك العهد إنّما هو فداء لإسماعيل (علیه السلام) أوجبه الله تعالى على العالمين تخليداً لذكرى هذا الإيمان والإخلاص العظيمين.

« وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ » ،مرّ تفسير هذه الآية .

« سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ »، هذه الجملة وردت في ذيل كلّ قصة من قصص المرسلين المذكورة في هذه السورة و «السلام »هو السلامة، فكلّ من يسلم على أحد يدعو له بالسلامة. وحيث إنّ السلامة من الله تعالى فإذا كانت الجملة منه كان معناها أنّ السلامة عليه واقعاً وليس بمعنى الدعاء. وإطلاقه يقتضي أن يكون المراد السلامة من كلّ ما يضر بالإنسان ضرراً واقعياً، وهي بصورة كاملة لاتتحقق إلّا في الجنّة، فإنّ الدنيا مليئة بالمضار، ولكنّ السلامة الثابتة للأنبياء

ص: 104

والمعصومين في الدنيا سلامة عن الشرك والآثام وكلّ ما لا يليق بهم.

« كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ» ، مرّ تفسير الآيتين. وقد تكررت الآية الأولى هنا خاصّة دون سائر قصص الأنبياء (علیهم السلام)، حيث ورد ذكرها بعد قوله: « قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا » ولعلّ السرّ فيه الاهتمام بهذا الأمر الذي اختصّ به إبراهيم (علیه السلام) حيث قبل الله منه عزمه على العمل بما أمر به مع أنّه لم يكمله، و إنّما صدرت منه المقدمات، ثمّ كرّر الجملة هنا للإشارة إلى ما أنعم الله عليه من الإنقاذ من النار، ومن كيد الكافرين واستجابة دعائه بالولد الصالح، وغير ذلك.

« وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ » ،هذه البشارة الثانية لاستجابة دعائه بالولد. وإسحاق ولد له من زوجته سارة، وكانت البشارة به حينما نزلت الملائكة عليه يعلمونه بنزول العذاب على قوم لوط (علیه السلام) ولوط (علیه السلام)كان نبياً مرسلاً، ولكنّه لم يكن صاحب شريعة، و إنّما كان يبلغ شريعة إبراهيم فهو من أتباعه (علیهما السلام).

ولم يذكر في القرآن السرّ في نزول الملائكة على إبراهيم بخبر العذاب، مع تكرّر ذكر القصة. ولعلّ السرّ فيه أنّ الملائكة - وبأمر من الله تعالى - ما كانوا لينزلوا العذاب على قوم يعتبرون تبعاً لأمّة الرسول إلّا بعد استئذانه أو إعلامه على الأقلّ، وفي القرآن أنّه أخذ يجادلهم بشأن قوم لوط ويطلب منهم الإمهال، وهذا ينبئ عن غاية لطفه وحنوه على الناس، كما يبدو من آيات أخرى أيضاً، كقوله تعالى: « فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(1) ، ولذلك وصفه الله تعالى في هذا المقام بأنّه أوّاه حليم.

وكأنّ الملائكة قدمت له هدية قبل إخباره بنزول العذاب على قوم لوط وهي

ص: 105


1- إبراهيم .(14) : 36.

البشارة بإسحاق (علیه السلام)، وذلك بعد أن بلغ هو وزوجته الكبر، ولذلك صكّت وجهها وقالت عجوز عقيم «قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ » (1)، وإبراهيم (علیه السلام) استغرب أيضاً ذلك و «قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ *قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ » (2).

وأمّا قوله تعالى: « َبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» فكلّ من النبوة والصلاح حال عن إسحاق (علیه السلام) ولكن لا بدّ من تأويله إذ لم يكن حين البشارة موجوداً حتّى يوصف بالنبوة والصلاح، ولعلّ التقدير: «مقضياً فيه كونه نبيّاً من الصالحين » ولعلّ المراد ب« الصلاح »هنا صلوحه لنيل القرب من الله سبحانه.

« وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ» ، «البركة» بمعنى الثبوت، مأخوذ من برك البعير أي استناخ ومنه البِركة مجمع الماء، فالبَرَكة بمعنى الشيء الثابت، والبركة من الله بمعنى ثبوت الخير واستقراره، وهناك من الخير ما يقوم بأمر زائل نظير ما يفعله الإنسان من أعمال الخير والبركة من الله تعالى خير دائم.

ولعلّ مصداقها في هذه الآية النسل الكثير، أو أنّ الله تعالى جعل من نسلهما كثيراً من الأنبياء، فإنّ أكثر الأنبياء المذكورين في القرآن من بني إسرائيل، أي أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (علیهم السلام) ، أو المراد بها ما يشمل ذلك وسائر ما أنعم الله تعالى به عليهما في الدنيا والآخرة، فإنّ الله تعالى جمع لإبراهيم (علیه السلام) خیر الدنيا والآخرة، قال تعالى: « وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» (3) .

« وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ » ، لعلّ هذا التعقيب لاستدراك ما يمكن أن

ص: 106


1- هود (11) 73 .
2- الحجر (15) 54 - 55 .
3- العنكبوت (29) 27 .

يستوجبه التصريح بالبركة عليهما من إعجاب في النفس بالنسبة لذرّيّتهما كمشركي مكّة، وكما هو المشهود من بني إسرائيل طيلة التأريخ، فهذه الجملة تبيّن أنّهم ليسوا كلّهم سائرين على نفس الدرب، فمنهم محسن، ومنهم ظالم لنفسه، ومنهم من ظلمه بيّن واضح لا يمكن في حقه أيّ توجيه وتأويل، كالمشركين والذين قتلوا النبيين، وأعلنوا الكفر، وتعاونوا مع الظلمة .

وظلم الإنسان لنفسه يشمل كلّ إثم ومعصية، لأنّه بذلك يخسر ثواب الآخرة، بل يوقع نفسه في معرض العقاب الأليم وربما الأبدي.

ص: 107

سورة الصافات (114-122)

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114)وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119)سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120)إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121)إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)

« وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ » ، يذكر الله سبحانه ما أنعم به على موسى وهارون (علیهما السلام) من نعم جليلة تسلية لخاطر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وتقوية لعزائم المسلمين. و «المنّ»: الإحسان والنعمة الثقيلة، وأصله الثقل ومنه المنّ لمقدار خاص من الوزن ويطلق أيضاً على القطع، كقوله تعالى: «وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ» (1). أي غير مقطوع على أحد المحتملات. كما يطلق على ذكر النعم بما يوجب إيذاء للمنعم عليه.

« وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ » ، لعلّ المراد بالكرب العظيم ما أصيبوا به من البلاء على يد فرعون وقومه حيث استعبدوهم وقتلوا رجالهم وأسرّوا نساءهم، قال تعالى في ثلاث مواضع: « وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ » (2) وهو عظيم جدّاً حيث إنّهم كانوا قوماً محترمين فهم أولاد الأنبياء، فأصبحوا يستذلّون ويستعبدون ويستباح أموالهم وأعراضهم. وهو فظيع جدّاً، وقد استمرّ بهم سنين طويلة، والله تعالى نجاهم من هذا البلاء ونصرهم وأغرق عدوّهم من دون أن يقاتلوهم ويبذلوا جهداً في دفعهم، وأورثهم أرضهم وديارهم.

ص: 108


1- القلم (68): 3 .
2- البقرة (2) 49 .

«وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ» ، اعتبروا «غالبين» بالرغم من أنّهم لم يبذلوا جهداً في دفع العدوّ حيث إنّهم صبروا طيلة السنين المتمادية، وتمسكّوا بإيمانهم إلى أن أتاهم النصر من عند الله تعالى. ثمّ إنّ نعمة التنجية والنصرة اعتبرهما للجميع، وأمّا سائر ما ذكر هنا من النعم فهي خاصّة بالرسولين (علیهما السلام)، بل التنجي-ة والنصرة أيضاً لهما، لأنّ المراد هنا بيان ما أنعم الله تعالى به على رسله، وتنجية القوم ونصرتهم نعمة للرسول أيضاً.

«وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ» المراد به التوراة وهو مستبين بمعنى أنّه يشتمل على توضيح كلّ ما يحتاجه الإنسان في ذلك العهد، وفي تلك المرحلة في سبيل الوصول إلى قربى ربّه، وقد مدح الله التوراة في القرآن، وقال إنّ «فِيهَا هُدًى وَنُورٌ» (1)و إنّ فيها حكم الله (2).

«وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم» ، هداية الله تعالى لرسله لا تختص بالخطوط العريضة والأسس ، بل تشمل كلّ حركة أو سكون في سبيل الدعوة، فما من موقف لهم في حرب أو سلم إلّا وهم تحت مظلة الهداية الإلهية. ولذلك، حينما قارب فرعون بجنوده أن يدركهم وخاف قوم موسى وقالوا إنا لمدركون قال موسی(علیه السلام):«كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ» (3) ، فهو واثق من أنّ ربّه لن يتركه.

وهكذا كان ربّه يهديه لما هو الأصلح في جميع مراحل حياته، فلمّا وصل إلى البحر أمره أن يضرب بعصاه البحر، ولما استسقاه قومه أمره أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً. وهكذا سائر النبيين والمرسلين والأئمة الطاهرين (علیهم السلام). وقد مرّ الكلام في بقية الآيات.

ص: 109


1- المائدة (5): 43 .
2- راجع: المائدة (5): 44 .
3- الشعراء (26): 62 .

سورة الصّافّات( 123 – 132)

وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124)أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129)سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131)إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)

« وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ » ، وقع الكلام في التفاسير في أنّ إلياس هل هو إيليا، أحد الرسل الذين أرسلوا إلى الشام أو أنّه الخضر، أو أنّه إدريس، أو غير ذلك، وهذا البحث لا طائل تحته، ولا مستند لهذه الأقاويل، وليست منسوبة إلى معصوم، ويكفينا ما اهتم به القرآن الكريم، فإلياس (علیه السلام) بهذا الاسم رسول بعثه الله تعالى إلى قوم، وهذا هو الفارق بين الرسول والنبي، فالنبيّ كل من أنبئ بالوحي من السماء، والرسول من أرسل إلى قوم، فيتحمّل مسؤولية هدايتهم وإمامتهم.

« إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ» ، يظهر من الآية وما بعدها أنّ قومه كانوا يعبدون الأصنام، وأنّهم كانوا يعتقدون بالله تعالى كمشركي الجزيرة العربية. ولذلك قال لهم: « أَلَا تَتَّقُونَ» . فهذه الجملة لا يخاطب بها من لا يؤمن بالله أساساً، ولكنّ القوم كانوا لا يقولون بأنّ الله هو ربّ العالمين، ولا يعتقدون أنّه يكفي عبده، ويعتقدون أنّ هناك أرباباً يؤثرون في الكون يضرّون وينفعون، فكانوا يعبدونها خوفاً وطمعاً.

« أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ »، قيل : إنّ «بعل» بمعنى الصنم. وقيل: إنّه اسم لصنم خاص. ولذلك استدلّ بعضهم بهذه الآية على أنّ إلياس (علیه السلام) أُرسل إلى

ص: 110

بلدة بعلبك، وأنّ «بك» بمعنى المدينة، و«بعل» اسم لصنمهم. ولكن ليس لما ذكر مستند، فهو محتمل، كما يحتمل أن يكون استنكاراً لعبادة الأصنام من دون التعرّض لصنمهم الخاص، أي أتدعون الأصنام، وتطلبون منها حاجاتكم وتتركون الطلب والدعاء من الله تعالى وهو أحسن الخالقين؟!

وهذا استدلال منه (علیه السلام) على ربوبية الله وحده وألوهيته، لأنّه الخالق للكون بأحسن وجه حيث كانت الوثنية تعترف بأنّ الله هو الخالق للكون. والمهم في الاستدلال أنّ الله تعالى خلق الكون بأحسن وجه، بحيث لا يحتاج الإنسان في التنّعم بنعم الله الطبيعية إلى أي أحد آخر فليس في نعم الله وخليقته نقص يحتاج إلى إكمال من ربِّ آخر.

ولذلك نجد بعض البشر ينكر وجود الله تعالى لأنّه يجد الطبيعة مستغنية عن مدبّر يديرها، وهو وإن كان خطأ فادحاً إلّا أنّه یدلّ على أنّ الكون كامل، وأنّه تعالى أغنى البشر من الرجوع إلى غيره، والبحث عن إله غيره، فالإنسان يمكنه الوصول إلى كلّ ما يحتاجه من الطبيعة نفسها. وهذا استدلال واضح وقوي جدّاً. ولكن هنا سؤالاً حول التعبير بأحسن الخالقين حيث يوهم أنّ هناك خالقاً غيره تعالى وأنّه أحسنهم خلقاً. وهذا ينافي الاعتقاد بوحدة الخالق الربّ جلّ وعلا.

وأجاب بعض المفسّرين أنّ القياس لعلّه إلى ما يصنعه البشر من صور الموجودات، فإنّ البشر لا يخلق شيئاً بمادته، و إنّما يغيّر صور المواد، فالتركيب الحادث بفعله يعدّ مخلوقاً له.

وهذا غير صحيح، فلا يصحّ أن يقاس بالله شيء، ولا يصحّ أن يقال: إنّ الله

ص: 111

خالق والبشر خالق ولكنّ الله أحسن منه خلقاً، بل إنّ ما يصنعه الإنسان أيضاً مخلوق لله تعالى حتّى الصورة المبتدعة، فالإنسان يعدّ ما يكون قابلاً لإفاضة الوجود من الله تعالى عليه، فيوجده الله ولا موجد إلّا هو، بل إنّ العمل الذي يفعله الإنسان أيضاً مخلوق لله تعالى، كما قال تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ» (1) ، ولا يمكن لشيء أن يوجد إلّا بأمره تعالى، بل أنّ الإرادة التي تتحقق في نفس الإنسان حين عمله مخلوق لله تعالى، لأنّه خالق كلّ شيء.

والصحيح أنّ الأفضلية بالقياس إلى أيّ خالق يفرض، والمراد أنّ خلقه أحسن خلق يفرض ، فلا يمكن فرض خليقة أفضل ممّا خلق، فقد خلق الخلق بأحسن وجه، وأحسن تقويم يتصوّر.

ومثله أيضاً قوله تعالى: «خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (2)، فالله تعالى هو الرازق لا رازق سواه، لأنّ الرزق ليس بمعنى أن يأتيك الله بالمال أو الطعام وأنت جالس في عقر دارك لا تحرّك ساكناً، فإنّك إن فعلت ذلك متّ جوعاً ولم يأتك رزقك، و إنّما رازقيته تعالى بأن جعل لكلّ موجود حي بصورة طبيعية رزقاً على هذا الكوكب، وجعل له وسائل يتمكّن بها من تحصيل رزقه، فلكلّ حيوان في الطبيعة طعام يأكله، وله بصورة طبيعية وسيلة للوصول إليه وتناوله.

ولذلك نجد أنّه تعالى جعل بعض الحيوانات طعاماً لبعض آخر، وجعل للآكل وسيلة اصطياده، والله تعالى خير الرازقين، لأنّه جعل لكلّ مسترزق رزقه في متناول يده بصورة طبيعية، وجعله بحيث يمكنه الوصول إليه بنفسه من دون

ص: 112


1- الصافات (37): 96 .
2- المائدة (5): 114.

التوسّل بشيء خارج عن الطبيعة ، فهو خير الرازقين أي خير كلّ من يفرض ويتصوّر كونه رازقاً، أي أنّ رازقيته على أحسن الوجوه المتصوّرة.

« اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ »، هذا استدلال آخر على وحدة الربوبية في الكون، وذلك لأنّ ملاحظة تأريخ البشرية تدلّنا على أنّ رب البشر طيلة القرون المتمادية واحد ، وأنّ إدارة الكون بما فيه البشرية وشؤونها الطبيعية طيلة التأريخ البشري إدارة واحدة متناسقة، لا يتدخلها إرادة ربّ آخر، وإلّا لاختلّ النظام ولتغير الوضع الطبيعي، فأساس الاستدلال ملاحظة شؤون البشر بما أنّهم جزء من الكون، حيث إنّ تأريخهم تتناقله الأجيال ويمكن ملاحظته والتأمّل فيه. ويعبّر تناسق النظم في الكون عن وحدة الربوبية.

وهكذا واجه نبيّ الله إلياس (علیه السلام) قومه بالدليل والمنطق، ولكنّهم قابلوه كغيرهم من المجتمعات البشرية بالتكذيب من دون الاستناد إلى منطق وبرهان.

« فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ *إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ »، «إنّهم محضرون»، أي يؤتى بهم قسراً يوم القيامة ليجازوا على تكذيبهم، ولا يستثنى منهم أحد إلّا عباد الله المخلصين.

والوصف: «المخلصين » إذا قرئ بكسر اللام كما لا يبعد على ما قدّمنا في تفسير الآية 40، فالظاهر أنّ المراد الذين أخلصوا عبادتهم لله تعالى بمعنى لم يشركوا به ولم يعبدوا غيره، وليس بمعنى الإخلاص الكامل الذي لا يكون إلّا عند الأوحدي من المؤمنين، بل ربما لا يكون إلّا عند المعصومين، فإنّ الإنسان له دواع أخرى من عبادة الله تعالى وإن كان ربّما يغفل عنها، أو تكون دواع ثانوية وتبعية.

ص: 113

وإذا قرئ بالفتح - كما هو الموجود في المصحف الحالي - فلا يمكن حمله على من أخلصه الله تعالى لنفسه كما مر هناك أيضاً، إذ المستثنى من الإحضار قسراً يوم القيامة من أمّة إلياس هم من آمنوا به لا المعصومين. وعليه فلا بدّ من حمله على من أخلص الله تعالى قلبه للإيمان، فوفّقه لنبذ الشرك وعبادة الأوثان.

« وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ » ،مرّ الكلام في هذه الآية.

« سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ »، وقع البحث في أنّه لماذا أبدلت الكلمة من «إلياس» إلى «إلياسين»؟ وأجيب عنه بأنّ الكلمة يمكن أن تلفّظ بالوجهين، بل ربما يكون التلفظ في لغتهم مختلفاً عن التلفظ في العربية. وهناك له نظائر كطور سيناء وطور سينين، فيمكن أن يكون إلياسين لغة في إلياس.

ولكن ورد في حديث أنّ القراءة الصحيحة آل ياسين، ويؤيده أنّ الخطّ القرآني في بعض المصاحف فصل بين «آل» و «ياسين». و لكن الخط القرآني لا يمكن الاستناد إليه في مثل ذلك، لأنّه لا يتبع نهج الخط العربي المتداول .

ويبقى الكلام في المراد بآل ياسين، فقيل: إنّه أيضاً لغة في إلياس وهو بعيد. وورد في الحديث أنّ المراد آل محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأنّ «ياسين» اسم من أسمائه وكذلك طه. ولكن هذا الأمر غير ثابت ولعلّ منشأ القول هو الجملة التي تلي هذه الحروف، ففي سورة يس ورد «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ » (1) وفي سورة طه: «مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى »(2) فيوهم ذلك أنّ يس وطه خطاب للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهناك روايات تدلّ على ذلك كالمنقول من خطبة الإمام زين العابدين (علیه السلام): «أنا ابن طه

ص: 114


1- يس (36) :3 .
2- طه (20) :2 .

و«ياسين» (1). ولكن كلّ ذلك لا يصل إلى درجة الدليل المعتبر، والظاهر أنّها من الحروف المقطعة ، كسائر موارد هذه الحروف.

ومن جهة أخرى يستغرب أن يذكر كلّ من ورد ذكره من الرسل هنا بعد الإشارة إلى قصته ويسلّم عليه، ويترك ذكر إلياس وأغرب منه أنّ الضمير في قوله تعالى بعد ذلك: « إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ » يبقى بلا مرجع، إذ لو كان المرجع آل ياسين لزم الإتيان بضمير الجمع. إذن فالظاهر أنّ المراد هو إلياس (علیه السلام) وإلياسين لغة في إلياس.

ص: 115


1- راجع: بحار الأنوار 45: 138.

سورة الصّافآت(133 – 138)

وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133)إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134)إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136)وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)

« وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ »، لوط ممّن آمن بإبراهيم (علیه السلام) في ابتداء رسالته وهو في بلده «أور» على ما في التأريخ. والظاهر أنّه من أقاربه على ما في الروايات، وأنّه ممّن هاجر معه وأرسله الله إلى قوم سدوم، وهي بلدة واقعة بين جزيرة العرب والشام، وكانت باقية إلى عهد الرسالة المجيدة، كما ورد في هذه الآيات ولكنّ الظاهر أنّها غمرها الماء، وكان أهلها مشركين وتفشى فيهم المفاسد الخلقية، كالشذوذ الجنسي واكتفاء الرجال بالرجال، كما صرّح به في القرآن، وفي الروايات أنّ نساءهم أيضاً كنّ يكتفين بالنساء.

و كان لوط (علیه السلام) يواجه مشكلة صعبة في هدايتهم إلى الصراط المستقيم، ونبذ الشرك، والتحلّي بمكارم الأخلاق، كما هو الشأن في كلّ مجتمع يتفشى فيه الانحلال الخلقي، فإنّ التأثير الإيجابي في مثل هذه المجتمعات صعب جدّاً. والنتيجة أنّه لم يؤمن به أحد منهم ، فأنزل الله عليهم العذاب، وأهلكهم وأباد مدينتهم.

« إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ »، أي: اذكر إذ نجّيناه، وقد مرّ أنّ هذه الآيات تشير مع ذكر الرسل إلى بعض ما أنعم الله به عليهم ليكون تسلية للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمؤمنين.

وهنا يشير إلى نعمة إنجائه وأهله من العذاب الأليم الذي أحاط بالبلد بعد أن لم يؤمن به أحد منهم، وقد جاء على لسان الملائكة: «فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ

ص: 116

(

الْمُسْلِمِينَ » (1)، وهو بيت لوط (علیه السلام) وحتّى هذا البيت أيضاً لم يؤمن كلّهم به، فزوجة الرسول وهو أقرب الناس إليه لم تؤمن به، بل ضرب الله بها مثلاً في الكفر «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ » (2) .

ولعلّ الوجه في ذلك أنّ زوجة الرسول التي يفترض أن تكون أوّل من يؤمن به لقربها منه إذا كفرت وأصرّت على الكفر، فهي غاية في التوغّل في الكفر والعناد في مواجهة الحق، فضرب الله بها المثل في الكفر. ولذلك لم يشملها الإنجاء، فاستثنيت من أهل الرسول.

« إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ» ، و«الغابر» من غبر ، أي بقي، ومنه الغبار أي الذي يبقى على الأسطح من التراب. ولكن كيف بقيت المرأة ولم تذهب معهم، فلعلّ لوطا (علیه السلام) لم يخبرها ، فلم تعلم بنبأ الرحيل، أو أنّها رفضت الذهاب لأنّها ما كانت تصدّق ما يهدّدهم به لوط من العذاب، شأنها في ذلك شأن سائر أهل البلد.

« ثمّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ » ، هكذا كانت سنة الله تعالى في الأمم السالفة، « وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا » (3)، حيث إنّ العذاب ما كان ينزل على البلد إلّا بعد إخراج الرسول والمؤمنين منه و«التدمير» هو الإهلاك.

« وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ *وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ » ، الغرض بيان أنّ هذا لا يختصّ بقوم لوط، و إنّما هو نتيجة العناد في مواجهة الحق، فيخاطب أهل مكة وينبّههم بأنّ هذه البلدة غير بعيدة عنكم، بل إنّكم تمرّون عليها مصبحين وبالليل.

ص: 117


1- الذاريات (51): 36 .
2- التحريم (66): 10.
3- الأحزاب (33): 62.

ويبدو منه أنّ البلدة كانت على مقربة من أحد الطرق، ويقال: إنّه طريقهم إلى الشام، فالمراد بالمرور صباحاً ومساءً ليس هو المرور الدائم، بل هو كناية ع-ن كونها بمعرض التردّد المتواصل، حتّى لو كان بعضهم لم يمرّ بها أصلاً، إلّا أنّ ما يكون على طريق كثير التردّد يعلم به الكلّ حتّى من لم يره. ومثل ذلك قوله تعالى: « «وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ » (1) .

« أَفَلَا تَعْقِلُونَ» ، أي ألا يكفي المرور على هذه البلدة التي غضب الله عليها وعذبها وأهلك أهلها أن تكون عبرة لكم، فلا تعاندوا الحقّ بعد معرفته.

ص: 118


1- الحجر (15) :76 .

سورة الصّافّات(139 – 148 )

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ(142)فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)

ورد ذكر يونس (علیه السلام) في أربع موارد من القرآن الكريم: هنا وفي سور يونس والأنبياء والقلم والمعروف في الروايات أنّه يونس بن متى، ويقال: إنّ اسمه في التوراة « يوناه بن امتاي»، وهما متقاربان وعبّر عنه في سورة الأنبياء بذي النون «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ.»(1). و «النون» هو الحوت، و«ذو النون» بمعنى صاحب الحوت وهو التعبير الوارد في سورة القلم، أطلق عليه لأنّه حبس في بطنه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

والمعروف من قصته أنّه أرسل إلى مدينة نينوى وأنّها كانت مدينة عظيمة ويقول عنها القرآن إنّ أهلها مائة ألف أو يزيدون ويعتبر البلد الذي يشتمل على هذا العدد من الناس في تلك العصور بلداً كبيراً. وهناك بقايا مدينة أثرية قريبة من الموصل تدعى نينوى، وقد زرتها بنفسي وفيها من الحضارات القديمة آثار. ويقال: إنّه بقي فيهم أربعين سنة فلم يؤمنوا به، فخرج منهم غاضباً قبل أن يؤمر بذلك ودعا عليهم ونزل عليهم العذاب.

ولمّا رأى الناس العذاب خرجوا من المدينة ومعهم ملكهم وتضرّعوا إلى الله

ص: 119


1- الأنبياء (21): 87 .

تعالى فرفع عنهم العذاب، كما قال تعالى: «فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ» (1).

ويقال: إنّ يونس (علیه السلام) علم بما حدث، ومع ذلك لم يرجع إلى قومه، ولمّا وصل إلى ساحل البحر ركب السفينة، فجاءهم حوت عظيم فخافوا على سفينتهم من الغرق ورأوا أن يقذفوا إليه بأحدهم لينجو الباقون، فاقترعوا فيما بينهم وخرجت القرعة باسم يونس (علیه السلام) ، وألقي إليه فابتلعه الحوت، وأمره الله أمراً تكوينياً أن يحفظه، فلم يؤثّر فيه الجهاز الهضمي، وبقي حيّاً في بطنه، فأخذ يسبّح الله تعالى كما في قوله: « فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» (2) .

واستمرّ في هذا التسبيح إلى أن عفا الله عنه، فأمر الحوت أن يقذفه على الساحل فقذفه كما قال تعالى: « فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ» (3) أي مكان لا نبت فيه ولا شجر، وكان جسمه قد تأثر من البقاء في بطن الحوت، فكان يتأذى من الشمس، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين إلى أن شفي وتمكن من النهوض، فأرسله الله إلى قومه، فذهب إليهم وآمنوا به. هذه خلاصة قصته (علیه السلام) على ما في التفاسير والروايات.

ولكن هل الآيات قابلة للانطباق على ما ذكر ؟ فيه خفاء. فلا بدّ من دراسة الآيات.

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ *إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ » ،«الإباق »هو فرار العبد من

ص: 120


1- يونس (10): 98 .
2- الأنبياء (21) :87 .
3- الصافات (37): 145 .

المولى. والمفسرون يقولون: إنّ إباق يونس (علیه السلام) تحقّق في تركه قومه قبل أن يؤمر بذلك، وأنّ ذلك كان تركاً للأولى ولم يكن محرّماً.

وهذا أمر غريب أن ينزل العذاب على القوم قبل أن يؤمر الرسول بالخروج ويخالف ذلك سنة الله تعالى في سائر الأمم.

وقال بعضهم: إنّ إباقه (علیه السلام) يتمثل في عدم رجوعه إليهم بعد أن علم بتوبتهم ورفع العذاب عنهم.

ولكن إطلاق الإباق على مثل ذلك بعيد جدّاً، إذ غايته أنّه لم يرحم قومه ولیس مرجعه إلى الفرار عن المولى. إذن ففي إطلاق الإباق على ما نسبوه إليه (علیه السلام) خفاء، وسنعود إلى هذه النقطة إن شاء الله تعالى.

و«المشحون» بمعنى الممتلئ، أي أنّ السفينة كانت ممتلئة بالركاب والأمتعة. والرواية المذكورة لا تشتمل على ما يمكن اعتباره سبباً للتركيز على كون السفينة مشحونة، فهذه أيضاً جهة أخرى يضعف احتمال صحّة الرواية المشهورة.

« فَسَاهَمَ فَكَانَ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ، الرواية المشهورة تقول: إنّهم أرادوا إلقاء أحد الركاب، كطعمة للحوت، وهذا أيضاً بعيد، فإنّ الحوت الذي يخاف منه على السفينة ليس ممّا يأكل الإنسان أو الحيوان كالقرش، بل هو أكبر منه وليس مفترساً مثله، مضافاً إلى أنّ قوله تعالى: « فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ یدلّ على أنّه (علیه السلام) كان أحد الذين ألقوا في البحر.

فهاتان النقطتان تمنعان من الأخذ بالرواية، وتؤيدان قصة أخرى مرويّة أيضاً وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى وهي مطابقة لما في التوراة من أنّ السفينة كانت ممتلئة، فشارفت الغرق، وكان من المعتاد عندهم قديماً في هذه الحالات

ص: 121

أنّهم يلقون الأمتعة، ثمّ إذا اضطرّوا ألقوا بعض الركاب لينجو الآخرون. وبذلك يظهر وجه التركيز على كون الفلك مشحوناً، كما يظهر أنّه (علیه السلام) كان أحد الذين ألقوا في البحر، فيوافق الآية الكريمة.

وقوله تعالى: « فَسَاهَمَ » بمعنى أنّه شارك في إلقاء السهم وهو النبل، وكانت العادة في القرعة أنّهم يكتبون الأسماء على أسهم، ثمّ يجمعونها في علبة ويستخرجون منها العدد المطلوب.

والدحض بمعنى الانزلاق والوقوع على الأرض، دحضت رجله أي انزلقت، وهذا كناية عن خروج اسمه في الأسهم المتعلّقة بمن يلقى في البحر. ولعلّ الإتيان بصيغة اسم المفعول إشارة إلى أنّه دحض بفعل فاعل وأنّ القرعة ليست مبنية على الحظ والنصيب، بل هناك من يخرج الأسماء لأسباب لا يعلمها إلّا هو، وهو الله تعالى، وقد ورد في القرعة روايات تدلّ على اعتبارها في الموارد المشكلة. (1)

«فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ »، وهذا الحوت مأمور من قبل الله سبحانه. و«الالتقام »الابتلاع أي ابتلعه الحوت كلقمة. و«المليم» اسم فاعل من ألام أي أتى بما يستحق عليه اللوم، كما يقال: أغرب أي أتى بأمر مستغرب و لعلّ «اللوم» أكبر عقاب من الله تعالى لأحد من رسله وهو أكبر من عذابه في بطن الحوت. و یدلّ ذلك على أنّ ذنبه من حيث كونه رسولاً كان كبيراً، لا ينبغي أن يصدر منه و الأنبياء معصومون من الذنوب التي تعتبر ذنباً في الشريعة العامّة، وليسوا معصومين ممّا يعتبر ذنباً لهم باعتبار كونهم مقربين لدى الله تعالى ،

ص: 122


1- راجع وسائل الشيعة 27 :257، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى الباب 13.

فهناك لهم معايير خاصّة بهم.

«فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ » ،توصيفه بأنّه كان من المسبّحين یدلّ على أنّه استمرّ في التسبيح ليلاً ونهاراً، وقد حكى الله تعالى عنه في سورة الانبياء قوله: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» (1).

«لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ »، اختلف المفسّرون في توجيه هذه الجملة والإجابة على التساؤلات التي تثيرها، هل كان يونس يبقى حياً لولا التسبيح في بطن الحوت؟ وهل كان الحوت أيضاً يبقى حياً إلى يوم القيامة؟ ونحو ذلك. واضطرّ بعضهم إلى القول بأنّ هذا التعبير كناية عن طول الزمان.

هذا، وظاهر الآية أنّه لو لم يكن كذلك لبقي حيّاً في بطن الحوت، فإنّ الميت لا يقال عنه: إنّه بقي في مكان كذا مضافاً إلى أنّ الآية تدلّ على أنّه لو لم يكن كذا لبقي معذباً إلى يوم يبعثون ولا عذاب في الدنيا بعد الموت. واستبعاد بقاء الحوت حيّاً إلى يوم القيامة كاستبعاد أصل القضية لا وجه له، لأنّه من قدرة الله تعالى وهو على كلّ شيء قدير. وإلّا فأصل بقائه حياً ولو لمدة قصيرة في بطن الحوت غير ممكن في الوضع الطبيعي والغرض من بيان هذا المعنى التنبيه على عظم ذنبه عند الله تعالى، بحيث كان يستحق لولا التسبيح أن يبقى معذباً في بطن الحوت إلى يوم القيامة.

«فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ » ، الإلقاء كان فعل الحوت ولكنّ الله تعالى يسنده إلى نفسه إيذاناً بأنّ الأمر كان بعناية خاصّة منه تعالى. و«العراء» الأرض الجرداء الخالية من بناء وشجر. و«هو سقيم »أي مريض. ومن الطبيعي أن يتأذى جسم

ص: 123


1- الأنبياء (21): 87 .

الإنسان بالبقاء في بطن الحوت ولو لبضع ساعات ولا يعلم لعلّه بقي أياماً كما قيل. وبالطبع يؤثّر عليه الحرّ والبرد وأشعة الشمس، فيكون سقيماً.

والله تعالى لم يتركه بهذا الحال في العراء وتحت أشعة الشمس، بل أنبت عليه شجرة من يقطين. وهذا أيضاً أمر غير طبيعي أن ينبت شجر على ساحل البحر وبالقرب من الماء المالح الذي يبيد الأشجار. و« يقطين» يقال: إنّه يطلق على كلّ زرع ليس له ساق، كالخيار والقرع ونحوهما، ويقال: إنّه القرع خاصّة.

و«اليقطين» - على ما قيل - يحفظ من حرارة الشمس ولا يقرب إليه الذباب ومهما كان فالشجرة المذكورة أنبتها الله تعالى ليونس لخاصية فيها تفيده في تلك الحالة و الظاهر أنّ هذه الآية هى المقصود بالذات هنا، بناءً على ما مرّ من أنّ هذه الآيات تهدف إلى تعداد نعم الله تعالى على أنبيائه ورسله.

«وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ » ، «أو» هنا ليس للترديد في الاحتمال قطعاً، إذ لا معنى للترديد من علام الغيوب، فهو بمعنى الواو، أو بمعنى «بل»، أو المعنى أنّ العدد يتراءى للناظر أنّهم مائة ألف أو أكثر، أو أنّ الترديد بلحاظ أنّ عدد سكان المدينة لا يستقرّ على رقم خاص عادة، بل هو يزيد وينقص باستمرار. والنقصان قد يكون في حال الحرب أو الوباء أو حدوث بلاء طبيعي كالزلازل، وإلّا فهو عادة في تزايد والتركيز على العدد المذكور، كما مر لبيان أنّها كانت مدينة كبيرة.

«فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ » ، أي إلى أجل مسمى. وهذا يعني أنّ المجتمع إذا آمنوا برسولهم لا ينزل الله عليهم عذاب الاستئصال بل يبقيهم يتمتّعون بالحياة الدنيا إلى أجل مسمى هو نهاية حياة المجتمع، فإنّ المجتمعات أيضاً كالأفراد لها

ص: 124

آجال وأعمار ، قال تعالى: «مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ»(1).

إنّما الكلام في أنّ هذا الإرسال هل هو الإرسال الأول الذي قيل: إنّ الله تعالى أرسله إلى القوم، فلم يؤمنوا به فخرج عنهم ، أم هو الإرسال الثاني بعد نزول العذاب وتوبتهم؟

قال بعض المفسّرين: إنّ المراد هو الأول، فالمراد من ذكره هنا ليس بيان موضع الإرسال، بل بيان عدد المرسل إليهم، فکأنّه قال: وكان المرسل إليهم سابقاً مائة ألف.

فإذا سئل: لماذا تأخّر ذكر هذا الأمر إلى هذا الموضع ؟ أجاب: أنّ ذكر العدد خارج عن الغرض من سرد القصة، ولذلك لم يكن وجه للتنبيه عليه بينها. ولكن يبقى الإشكال في هذا الاحتمال من جهة أنّ الآية تصرّح أنّهم آمنوا به، مع أنّ القصّة تقول: إنّهم لم يؤمنوا به في الإرسال الأول.

وأكثر المفسّرين ومنهم العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) ذهبوا إلى الاحتمال الثاني وأنّ هذا الإرسال هو الإرسال الثاني المذكور في القصة المعروفة.

ولكن هذا الاحتمال بعيد جدّاً، لأنّ ظاهر الآية أنّه أوّل إرسال، إذ لو كان - كما ذكر - لقال : وأرسلناه إلى قومه ولا وجه لذكر العدد، بل لقال فعاد إلى قومه، إذ لا يناسب الإرسال رجوعه إلى قومه السابقين.

بل بوجه أدقّ، الإرسال ثانية غير صحيح وغير ممكن، لأنّ الإرسال ليس بمعنى الحثّ على الذهاب كإرسال إنسان لغرض خاص، بل المراد به جعل منصب الرسالة والمسؤولية عن الأمة على عاتق الرجل، وهذا الأمر غير قابل

ص: 125


1- الحجر (15): 5 .

للتكرار إلّا إذا عزل عن الرسالة الأولى، فإذا قال تعالى «إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ » (1) ليس معناه أنّه حنّه على الذهاب إليهم، لأنّه كان بينهم وبعث من بين ظهرانيهم، وأكثر الرسل كذلك، فالإرسال بمعنى إعطاء المنصب، ويونس (علیه السلام) كان حسب الفرض رسولاً من بدو الأمر ولم يعزل، فلا معنى لإعادة إرساله. إذن فتطبيق هذه الآية على القصّة مشكل جدّاً.

ومن هنا يقوى الاحتمال الآخر الذي ضعّفه المفسّرون وخصوصاً العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) ، وهو الوارد في التوراة، وهو أنّ الله تعالى اقترح على يونس (علیه السلام) أن يرسله إلى نينوى، فتلكّأ يونس عن قبول الرسالة، وخرج من البلد الذي كان فيه، ولعلّه كان بيت المقدس مهد الرسالات، فخرج منها إلى مكان آخر لعلّه يفقد صلاحية الإرسال بذلك، فيعفيه الله تعالى عن المسؤولية، لأنّه كان يخاف الحكومة القويّة الكافرة التي كانت تحكم المدينة، فالذنب الذي ارتكبه یونس (علیه السلام) هو الفرار عن المسؤولية، وهذا بالنسبة للأنبياء والمقربين ذنب عظيم وإن لم يكن في حدّ ذاته محرّماً، حيث كان يحاول أن يفقد صلاحية المسؤولية قبل أن تلقى على عاتقه.

ونظير ذلك صدر من موسى (علیه السلام) أيضاً حينما أمر بالذهاب إلى فرعون، حيث اعتذر بأنّه قتل منهم نفساً وإنّ هارون أفصح منه وغير ذلك، بل لما قبل الله تعالى اقتراحه وضمّ إليه هارون (علیه السلام) وأمرهما بالذهاب معاً اعتذرا بأنّنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى. والحاصل أنّ اعتذار الأنبياء عن قبول المسؤولية حين عرضها عليهم ليس

ص: 126


1- نوح (71): 1.

أمراً مستغرباً، ولكنّ الذي صدر من يونس (علیه السلام) أنّه تهرب من المسؤولية قبل إلقائها وسافر ليكون بعيداً عن مقرّ المسؤولية لعلّ الله تعالى يعفيه عنها.

وهناك قرينة أخرى تدلّ على أقربية هذا الاحتمال وهو أنّ مدينة نينوى بعيدة عن البحر، فيبعد جدّاً أنّ يونس بخروجه منها توجّه إلى البحر، و إنّما يقرب منها نهر دجلة وهو لا يحتوي على حيتان، ويبعد جدّاً أن يحتاج ركاب سفينة فيه أن يقذفوا ببعضهم إلى البحر خوفاً من الغرق، فالمكان الذي توجّه إليه يونس (علیه السلام) كان بحراً، والبحر يقرب من بيت المقدس، وفي التوراة أنّه ذهب إلى يافا ومن هناك ركب البحر.

فما ارتكبه يونس هو التهرّب، وظنّه أنّ الله تعالى لا يضيّق عليه بأن يأمره بالرجوع من سفره لأداء المسؤولية، وأنّه يبعث غيره ويتركه، وهذا هو معنى قوله تعالى: «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» (1).

ومن الغريب أنّ العلّامة (رحمه الله ) فسّر هذه الآية بعدم القدرة، ولكنّه قال: إنّ يونس لم يظنّ ذلك و إنّما كان بمنزلة من يظنّ ذلك. (2) وهو تأويل غريب جدّاً. وبذلك يظهر أنّ معنى قوله تعالى: «وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ » أنّه بعث للرسالة بعد هذه المحنة.

ثمّ إنّ العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) استدلّ بوجوه لترجيح الاحتمال الأول وردّ هذا الاحتمال :

أحدها: أنّ قوله تعالى: « فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ » یدلّ على أنّهم استحقّوا العذاب

ص: 127


1- الأنبياء (21): 87 .
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 14: 315.

قبل ذلك، وأن إيمانهم بيونس كان السبب في رفع العذاب وتمتيعهم إلى حين.

والثاني: قوله تعالى في سورة الأنبياء: ««وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ » ، والظاهر أنّه استشهد بقوله تعالى: « مُغَاضِبًا » على غضبه من قومه حينما ذهب إلى البحر وركب السفينة، فالقصّة وقعت بعد إرساله إليهم.

والثالث: قوله تعالى في سورة القلم: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ» (1). والظاهر أنّه استشهد بقوله: « مَكْظُومٌ» أنّه كان حين النداء في بطن الحوت كاظماً لغيظه على قومه.

والرابع: قوله تعالى: « إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» (2)، بناءً على أنّ الكشف لا يطلق إلّا في عذاب واقع أو مشرف، فينطبق على القصة المعروفة.

أمّا الوجه الأوّل، ففيه: أنّه لا یدلّ على ما ذكر و إنّما یدلّ على أنّهم لم يؤمنوا به أولاً فاستحقّوا العذاب، ثمّ آمنوا فرفع عنهم.

والجواب عن الوجه الثاني: أنّ المغاضب ليس معناه الغاضب، بل فعل ما يوجب غضب الغير. وهو هنا ينطبق على عمله باعتبار أنّه يغضب ربّه، فهو بمعنى الإباق.

وعن الثالث بأنّ المكظوم معناه أنّه محبوس النفس، وهذا يشير إلى أزمته في بطن الحوت، ومن الواضح أنّ التنفّس هناك في غاية الصعوبة، بل غير ممكن عادة ولا ربط له بكظم الغيظ، مع أنّه بعد أن دخل بطن الحوت جزاء من الله

ص: 128


1- القلم (68): 48 .
2- یونس (10): 98 .

تعالى لا وجه لبقاء غضبه على قومه وكظمه.

وعن الوجهين معاً أنّ القصة لا تناسب معنى الإباق الذي هو كالصريح في أنّه كان آبقاً من سيّده أي ربّه، لا أنّه كان غاضباً على قومه.

وأمّا آية سورة يونس، فتدلّ على أنّهم لم يؤمنوا به حتّى رأوا بوادر العذاب، فانتبهوا وجاروا إلى الله تعالى ولما كانوا صادقين في توبتهم قبل الله منهم. ولكن لا دليل على أنّ ذلك كان قبل قصة الحوت، فلا مانع من أن يكون كلّ ذلك بعد هذه المحنة وبعثه رسولاً.

فالحاصل أنّ القصة المعروفة ملفّقة، والروايات ضعيفة، وبعضها لا تأبى الحمل على ما ذكرناه، وبعضها يحتمل فيه خطأ الراوي في فهم المراد.

ص: 129

سورة الصّافّات ( 149 – 157 )

فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151)وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155)أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156)فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)

« فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ » ، تتعرّض الآيات لنوع من الفكر الوثني الجاهلي حيث كانت عرب الجزيرة تعتقد أنّ الملائكة بنات الله، فهم من جهة يثبتون لله تعالى أولاداً، ومن جهة أخرى يزعمون أنّ الملائكة أناث. وقد ندّد القرآن بالفكرتين في مواضع عديدة، وردّ عليهم هنا بوجوه خمسة، حسبما أعلم وبلغه فهمي القاصر.

الوجه الأوّل : ما تفيده هذه الآية. و «الاستفتاء» طلب الفتوى، أي الرأي. والاستفهام في ذلك تقريري. والتقرير هو أن يسأل المدّعي لأمر سؤالاً إذا أجاب عنه سقطت حجّته، بمعنى أنّه يلزم حسب السؤال بأن يقرّ بأمر ينافي ما يعتقده، فالسؤال هنا مع الجواب يستلزم بطلان العقيدة والضمير يعود إلى المشركين وان لم يذكروا.

والجملة « أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ » مصروفة عن الخطاب الذي هو مورد ،الاستفتاء، فالمفروض أن يقال: أتعتقدون أنّ لله البنات ولكم البنون؟ ما هذه القسمة الظالمة؟ وذلك لأنّ العرب كانت تفرط في الحدّ من كرامة المرأة، قال تعالى: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ»

ص: 130

مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» (1) ، فالله تعالى يقول لهم إذا كانت هذه منزلة البنات عندكم ، فكيف ترضون بهذه القسمة أن يكون لكم البنون ولله البنات؟!

و إنّما صرف عن الخطاب تحقيراً لهم وإهمالاً لأمرهم، حيث يقول: (الرَبِّكَ) ولم يقل لله أو لربّهم إيذاناً بأنّهم لا يستحقّون أن يخاطبوا من قبل الله تعالى، فيخاطب الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ثمّ يخصّص الربوبية به، کأنّه تعالى أهمل تربيتهم، وليس كذلك والله تعالى ربّ العالمين لا يهمل شيئاً، ولكنّ التعبير بما يوهم ذلك ليفيد التحقير والاستهانة.

« أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ »، وهذا هو الوجه الثاني والأساس في هذا الوجه استنكار ما يزعمونه من كون الملائكة إناثاً، مع أنّهم لم يشاهدوهم ولا يمكن أن يشاهدوهم، لأنّهم غائبون عن أعين البشر، فلا يكون حكمهم بذلك إلّا تخرّصاً على الغيب من دون مستند. و«أم» منقطعة تفيد معنى الإضراب والاستفهام، أي بل أشهدوا خلق الملائكة فعلموا أنّهم إناث والإضراب إضراب عن استفتائهم إلى الاستغراب عنهم بما لا يمكنهم أن يدعوه. وجملة: « وَهُمْ شَاهِدُونَ » حالية، أي هل خلقنا الملائكة إناثاً حال كون هؤلاء يشهدون ذلك؟!

« أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ *وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ » وهذا هو الوجه الثالث. و«الإفك » هو صرف الشيء عن واقعه وحقيقته، ومن هنا يطلق الإفك على الكذب، يعني أنّهم بقولهم هذا يبتعدون عن الحقيقة. والجملة مؤكّدة بوجوه: فابتدأها بأداة التنبيه « ألا » إيذاناً بأنّ ما بعده كلام مهم، ثمّ ب- «إنّ» التي تؤكد ما

ص: 131


1- النحل (16) :58 - 59 .

بعدها، ثمّ ب«لام القسم» ، ثمّ أكّد المضمون بتكرار القول مؤكداً أيضاً: «وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ».

وخلاصة القول أنّ هذه الفكرة تستند إلى فكرة خاطئة من الأساس وهو نسبة الولادة إلى الله تعالى والولادة معناها أن ينفصل من الشيء جزء، ثمّ ينمو حتّى يكون مثله بفضل الجينات الناقلة للصفات الوراثية. هذه هي الولادة في الإنسان والحيوان والنبات. وهذا غير ممكن في الله تعالى لأنّه ليس جسماً، وليس له أجزاء لينفصل منه بعضها، وليس له جينات وليس له شبيه ونظير فلا يمكن أن يكون له ولد.

والغرض من الآيات التي تتعرّض لنفي الولد والشريك والندّ ونحو ذلك هو تبديد الأفكار الخاطئة السائدة بين البشر حول معرفة الله تعالى. وهذه مرحلة مهمّة في ترسيخ الإيمان الصحيح والمعرفة الصحيحة عن الله سبحانه، فالخطوة الأولى في هذا المجال هي تبديد الأفكار الجاهلية الخاطئة، سواء في ذلك توهّم أنّ الله تعالى يولد من شيء، أو أنّه يولد شيئاً، أو أنّه ينزل ليلة الجمعة على حمار، أو أنّه جسم كبير جالس على العرش، أو أنّه يوم القيامة يضع رجله في النار لتسكن ولا تطالب بالمزيد، إلى غير ذلك من الأفكار الساذجة في معرفة الله تعالى.

«أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ » ،وهذا هو الوجه الرابع ولكن ذكر المفسرون أنّ هذا تكرار للجملة الأولى تأكيداً لمضمونها. والصحيح أنّهما مختلفتان مضموناً، فالجملة الأولى تندّد بهذه القسمة وبفكرة أن يكون لله البنات، ثمّ بفكرة أن يولد له ولد حقيقة، سواء كان ابناً أم بنتاً. وهذه الجملة تنفي أن يتّخذ

ص: 132

الله الملائكة بنات وإن لم يكن له ولد حقيقة، ولذلك أخّره عن نفي الولد بصورة عامّة.

وهناك محاولة لتوجيه قول النصارى أنّ عيسى ابن الله على أساس أنّ المسيحية لا تقول إنّ لله ولداً حقيقة و إنّما تقول إنّه اتّخذه ولداً. والآيات الكريمة تنفي هذا القول بشدة، وفي مواضع عديدة، قال تعالى: «وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا»(1).

والدليل على ذلك أنّ اتّخاذ الولد ليس إلّا للحاجة، فالإنسان الذي لا يولد له ولد يتّخذ ولداً ويتبنى ليملأ فراغاً، فهو يملأ به فراغ البيت، وفراغه النفسي والعاطفي، وغير ذلك. وبعض الناس يحتاج إليه لمساعدته في شؤون الحياة. والله تعالى لا يحتاج إلى شيء بتاتاً.

فهذه الآيات تقول: إنّه لو فرضنا جدلاً أنّ الله تعالى اتّخذ ولداً، فلماذا يختار البنات؟ أصطفى البنات على البنين ؟ «أصطفى» أي هل اصطفى البنات واختارهنّ على البنين، حيث إنّهم كانوا يعتقدون أنّ الملائكة بنات ولو كان الله متّخذاً ولداً لاصطفى البنين، خصوصاً أنّ الملائكة قد أوكل الله إليهم تدبير الأمور، كما قال تعالى: «فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا »(2).

ومثل هذه الآيات ما ورد في سورة الزخرف ومنها قوله تعالى: «أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ »(3) فاستدلّ على سخافة ترجيح الإناث على الذكور في مثل هذا الموضع بأنّ المرأة تنشأ وتتربى في الزينة، ولا يتبيّن منها إقدام وشجاعة في

ص: 133


1- مریم (19) :92 .
2- النازعات (79): 5 .
3- الزخرف (43) :18 .

الحروب، فكيف يرجّح الله سبحانه اختيارها لو فرض أنّه اتّخذ ولداً؟!

وهذا بالطبع مبني على الجدل، وإلّا فالملائكة ليسوا إناثاً ولا ذكوراً، فهم ليسوا من جنس الإنسان أو الحيوان حتّى يكونوا من أحد النوعين.

« مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ »، أي ما الذي حلّ بكم فتحكمون بما هو خطأ واضح، فالاستفهام الثاني إنكاري معناه أنّ حكمكم باطل بين البطلان.

« أَفَلَا تَذَكَّرُونَ » ، أي هذا الأمر من الوضوح بمكان لا يحتاج إلى تكلّف استدلال ولا مراجعة مصادر، بل ولا تأمّل وتفكير، بل يكفي فيه التذكر والرجوع إلى الوجدان والضمير. ومن الغريب أنّ هناك حالات للإنسان ينسى فيها ضميره ووجدانه، وربما يستمرّ به ذلك إلى آخر حياته إذا ركض وراء الشعارات الجوفاء والصور الخادعة.

« أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ *فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ » ، وهذا هو الوجه الخامس. فبعد التنديد المتكرّر بهذه الفكرة السخيفة التي كانت سائدة بين العرب وغيرهم من أنّ الملائكة إناث، والإشارة في الوجه الثاني إلى أنّ حقيقة الملائكة أمر غيبي لا يصل إليه الفكر البشري، عاد هنا وأكّد على أنّ هذا الأمر لا يمكن أن يصل إليه البشر إلّا عن طريق الوحي، لأنّه من خبر السماء وليس من شؤون الأرض حتّى تحسّونه بأبصاركم أو حواسّكم أو أجهزتكم، فإن كان لكم مستند من الوحي فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين.

و«السلطان» مصدر بمعنى السلطة، والمراد به الحجّة الموجبة لتسلّط صاحبها وغلبته على الخصم من حيث الاستدلال. و«المبين» بمعنى الواضح أو الموضح للحقيقة. ومن المعلوم أنّ العرب ليس لهم كتاب، فالغرض إيقاظ ضمائرهم حتّى لا يتقوّلوا على الغيب بدون استناد إلى الوحي الإلهي.

ص: 134

سورة الصّافّات( 158 – 170)

وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161)مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167)لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)

« وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا » ، الظاهر أنّ هذه الآية تردّ فكراً خاطئاً آخر سائداً بين الوثنيين وغيرهم، وهو أنّ الجنّ لهم ارتباط بعالم الغيب وانتساب إلى الله تعالى. و«النسب» يطلق على أي نوع من الارتباط، وليس بمعنى الانتساب بالولادة خاصّة، كما ربّما يتوهّم قال ابن فارس: «النون والسين كلمة واحدة قياسها اتصال شيء بشيء» وقال: «النسيب الطريق المستقيم لاتصال بعضه من بعض فالظاهر أنّ المراد ب-«النسب» اعتقادهم باتصالهم بالله تعالى وقربهم لديه. وهذا هو المناسب للآية التالية التي تردّ على هذا التوهّم.

والاعتقاد بأنّ للجنّ سلطة غيبية وأنّهم يتصرّفون في الكون أو في مساحات شاسعة منه بلا منازع اعتقاد سائد بين عوام الناس إلى يومنا هذا، بل في كلام الملائكة المحكي في القرآن الكريم أنّ أكثر الناس يعبدون الجن: « بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» (1) .

وكانوا قديماً يراجعون الكهنة للتعرّف على الغيب، وكان الكهنة يدعون أنّهم

ص: 135


1- سبأ (34): 41 .

إنّما تصلهم أخبار الغيب عن طريق الجنّ، كما كانت الجنّة أيضاً تدعي ذلك. بل كان جمع من البشر يعوذون ويلجؤون إلى الجنّ من كلّ شرّ، قال تعالى: «وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا » (1) .ولعلّ هذا هو معنى عبادتهم لهم، حيث إنّهم كانوا يطيعونهم خوفاً من شرّهم وجلباً لمنافعهم، بل نفس الالتجاء وطلب الحاجة منهم يعتبر عبادة وتذللاً.

« وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ » ،هذه الآية تردّ على كلّ هذه الأوهام، فالجنّة تعلّم وتعترف بأنّها مكلّفة كالإنس، وأنّهم محضرون يوم القيامة للمحاسبة والجزاء. ومعنى «محضرون» أنّهم يحضرون قسراً كغيرهم من الإنس والغرض من ذلك بيان أنّهم ليس لهم قرب لدى الله تعالى، ولا يختلفون عن سائر المكلّفين.

ولكن جمعاً من المفسّرين حيث توهّموا أنّ المراد بالنسب ليس إلّا الانتساب بالولادة، وحيث لم يجدوا بين العرب من يقول بأنّ الجنّ أولاد الله أو إخوانه مثلاً، فتشبثوا بوجوه غريبة، فالزمخشري في «الكشّاف »فسّر الجنّ بالملائكة، لأنّ الجنّ بمعنى المستور، فالملائكة صنف من الجنّ.

ثم تساءل: لماذا عبّر عنهم بالجن؟ وأجاب بأنّ ذلك للتحقير. ومثّل لذلك بأنّ أحداً لو قارن بين ملك واحد خواصّه لاعترض عليه بأنّك تقرن بيني وبين عبدي مع أنّه ليس عبداً له و إنّما يعبّر عنه بذلك تحقيراً له. وهنا أيضاً التعبير عن الملائكة بالجنّ إنّما ورد تحقيراً في مقابلة من اعتبرهم بنات لله تعالى. (2)

ص: 136


1- الجنّ (72): 6 .
2- راجع: تفسير الكشاف 4: 64 .

وهذا باطل، لأنّ التعبير بالجنّ إن كان باعتبار أنّ معناه المستور، فليس فيه تحقير لهم، بل هو تعبير موافق للواقع إنّما الكلام في أنّ الله تعالى لا يعبّر عنهم بالجنّ والقرآن مليء بذكر الملائكة في مقابل الجن، ومنها الآية السابقة في سورة سبأ، ومنها قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ » (1).

وقال بعضهم: إنّ من العرب من كانوا يعتقدون أنّ من الجنّ من أولد لله الملائكة، فکأنّهنّ أزواج الله تعالى عمّا يقول الظالمون. ولكن هذا لا دليل عليه ولم يسمع من أحد من العرب، فكيف يسند إلى القوم بصورة عامّة؟!

« سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ *إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ » ، بعد أن نقل عن المشركين أقوالهم في اعتبار الملائكة بنات لله وانتساب الجنّ إليه تعالى، نزّهه عن كلّ ما يصفونه به والظاهر أنّ الاستثناء يعود إلى ضمير الفاعل في «يَصِفُونَ» فالنتيجة أنّه تعالى منزّه عن كلّ ما يصفه به الناس جميعاً إلّا عباد الله المخلصين.

وقد مر أنّ المخلصين - بفتح اللام - وبأحد معنييه، هم من أخلصهم الله تعالى لنفسه بالعصمة والتوفيق، فكلّ ما يوصف به الله سبحانه فهو منزّه عنه، لأنّه نابع من الفهم القاصر لمقامه تعالى، وأمّا ما يصفه به عباده المخلصون الذين لا يصفونه إلّا بما أثنى به على نفسه وأوحى إليهم أو ألهمهم به فهو الوصف الصحيح الذي ينبغي أن يوصف به الربّ تعالى شأنه.

وقيل: إنّ الاستثناء يرتبط بالآية السابقة: « وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ » ،إمَا على تقدير أنّ المراد بالجنّة الملائكة وأنّ الضمير في «إنّهم » يعود إلى

ص: 137


1- الكهف (18) :50 .

المشركين والاستثناء منهم أو أنّه من الجنّة. وهو على كلّ تقدير استثناء منقطع وجملة: «سُبْحانَ الله » معترضة. وكلّ ذلك تكلّف ظاهر.

« فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ *مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ » ،الخطاب للمشركين والضمير في «عليه » يعود إليه تعالى و«الفاء» في أول الجملة لعلّه تفريع على ما مرّ من التنزيه نظراً إلى وضوحه لدى أصحاب الحكمة، فالنتيجة الحاصلة من هذا التنزيه الواضح أنّكم وما تعبدونه من الأصنام وغيرها لا تفتنون الناس ضده تعالى، ولا تفسدون عليه العباد، نظير ما يقال إنّ فلاناً أفسد على فلان ابنه أو خادمه فالاستعلاء هنا بمعنى المضادّة.

ولعلّ الأولى أن تكون «الفاء» لتفريع هذا المضمون على استثناء عباد الله المخلصين، فيكون المعنى أنّ الله تعالى منزّه عمّا يصفه به الناس إلّا عباده المخلصون، فإنّكم لا تتمكّنون من إضلالهم، و إنّما تضلّون من هو صال الجحيم. ومثل ذلك قوله تعالى: « وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ *قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ *إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ »(1).

وينبغي حينئذ أن يكون« المُخْلَصِينَ » بمعنى من أخلص الله قلوبهم للإيمان، فيشمل عامّة المؤمنين، لا خصوص المعصومين، أو يكون المراد ب-«الفتنة» ما يشمل المعاصي ولا يختصّ بالكفر.

وعطف «ما تَعْبُدُونَ» عليهم من جهة أنّ الأصنام وغيرها ممّا يعبده المشركون تجذب إليها أنظار الجهلة بتأثير الدعايات والشعارات، فالآية تنفي تأثير كلّ من الداعين والمدعوّ إليهم في النفوس التي تسير على النهج الذي رسمه الله تعالى .

ص: 138


1- الحجر (15): 39 - 42 .

في فطرتها، و إنّما تؤثر في النفوس المريضة التي تبحث عن كلّ ما يبرّر لها فجورها.

ويمكن أن يكون المراد ب- «ما تَعْبُدُونَ» الجنّ وشياطينهم، وقد مرّ آنفاً الحديث عنهم وعبادة الناس للشيطان بمعنى إطاعته، كما قال تعالى: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إ» (1) . والفتنة أصلها الإحراق بالنار ، وحيث أطلق على إذابة المعادن بالنار لتخليصها من الشوائب اتّخذت معنى كلّ ما يوجب التخليص، ومنها مشاكل الحياة وكلّ ما يؤثّر في إضلال الناس وإفسادهم، لأنّ الناجي من هذه المحن ليس إلّا القويّ صاحب النفس المطمئنة. وبذلك عبّر عن كلّ محاولة لتضليل الناس بالفتنة.

« إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ » ،«الصلي» هو الاحتراق بالنار أو لمس حرارتها المحرقة. و«الجحيم»: النار العظيمة والاستثناء مفرّغ أي لا تفتنون أحداً إلّا من هو صالي الجحيم. وقد تشبّث القائلون بالجبر بهذه الآية للاستدلال على أنّ هناك من الناس من قدر الله له النار، فهو مفتون لا محالة.

وأجاب عنه الآخرون بأنّ المراد من علم الله أنّه ممّن سيصلى النار بسوء اختیاره، لا من قدر الله له النار.

والصحيح أنّ مردّ الكلامين إلى أمر واحد، فتقدير الله هو علمه، إلّا أنّ ذلك لا ينافي أنّه يصلى النار بسوء اختياره، فإنّ التقدير ليس بمعنى أنّ الله تعالى قدر له أن يضلّ، سواء أراد أم لم يرد، بل قدر أنّه سيريد الضلال ويبحث عنه لما فيه

ص: 139


1- يس (36) :60 .

من حب الشرّ والبحث عمّا يسهل له السبيل.

« وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ »، التقدير ما منّا أحد الّا... وهو حكاية لكلام الملائكة ردّاً على المشركين حيث اعتبروا الملائكة بنات الله سبحانه، وهو يستلزم أن يكون لله تعالى جنس وأن تكون الملائكة من جنسه، وكلّ ذلك باطل، فالملائكة يعترفون هنا بأنّهم عبيد الله تعالى خلقهم بإرادته، وجعل لكلّ منهم مقاماً معلوماً ومحدداً لا يتعدّاه ولا يمكنه تجاوزه، وهو یدلّ على أنّ الملائكة ليس لهم تطوّر وتكامل.

وقولهم: «وَمَا مِنَّا » يوحي بالشمول، فلا يشذّ عن هذا الحكم أحد منهم. و إنّما عبّر عن هذه الحقائق بالحكاية عنهم ليكون آكد، فإنّ اعتراف من يدعي فيه الربوبية أو نحوها بالعبودية لله تعالى أعمق تأثيراً في نفوس المدعين.

« وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ *وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ »، مرّ الكلام في أول السورة في معنى الصفّ، فالمراد إمّا أنّهم صافّون أقدامهم في الصلاة والذكر والتسبيح أو صافّون أجنحتهم في تنفيذ أوامر الله تعالى أو أنّهم مصطفون تمهيداً لنزول القرآن. وعلى كلّ حال فهو كناية عن الاستعداد التام للخدمة، وأنّهم دائماً منتظرون لتلقّي الأوامر مستعدّون لتنفيذها لا يعصون الله ما أمرهم.

والإتيان بضمير الفصل مع التأكيد ب-«أنّ» و «لام القسم» یدلّ على انحصار الصافّين بهذا المعنى فيهم، فليس هناك موجود مستعد لأداء الخدمة كالملائكة. وكذلك المسبّحين فهم المسبحون حقاً لا غيرهم، فإنّ تسبيحهم لا يشوبه شيء، ولا يشغلهم عنه شيء. وكونهم هم المسبّحون یدلّ بوضوح على رفضهم لما ينسبون إليهم من بنوّة الله سبحانه وتعالى.

ص: 140

وقيل: إنّ قائل هذا القول هو الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمؤمنون، أي أنّه حكاية لقولهم وأنّه معطوف على قوله: «فَاسْتَفْتِهِمْ» فالتقدير وقل لهم كذا .

وما تقدّم أقرب إلى ظاهر اللفظ.

« وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ *لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ *لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ » ،«إن» مخفّفة من المثقلة بدليل ورود السلام على الخبر. و«اللام» لام القسم، أي والله إنّهم كانوا ليقولون: لو أنّ الله تعالى نزّل علينا كتاباً وذكراً من قبيل ما نزّل على الأولين، أي كالتوراة والإنجيل لكنّا عباد الله المخلصين، ولم نكن نكذب الرسل كما كذب الأوّلون .

هكذا كان مشركو الجزيرة يتبجّحون ومثل ذلك قوله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا» (1). وقوله تعالى: «أَنْ تَقُولُوا إنّما أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ» (2).

« فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ » ،أي فلمّا جاءهم ذكر من قبيل ذكر الأوّلين، بل أسمى وأجلّ كفروا به عناداً وطغياناً، وحسداً على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فسوف يعلمون عاقبة كفرهم وتكذيبهم. وهذا تهديد شديد.

ص: 141


1- فاطر (35) :42 .
2- الأنعام (6) : 156 - 157 .

سورة الصّافّات (171 – 179)

وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176)فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178)وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)

«وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ *إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ *وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ » ، تأكيد على التهديد المبطن في الجملة السابقة: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» وهو ينبئ أنّ التهديد يتحقّق ضمن المواجهة بين عساكر الكفر وجيش المسلمين، وأنّ الله سينصر رسوله عليهم بالرغم من كثرتهم ، وكثرة أموالهم وعتادهم، وذلك لأنّه قد سبق من الله عهد لعباده المرسلين أنّهم إذا حاربوا جيوش الكفر، فإنّهم لهم المنصورون وإنّ جند الله لهم الغالبون.

وقد امتلأ التعبير تأكيداً بتكرار «إنّ» و «اللام» وتقديم اللام في أوّل الجملة مع «قد»، والإتيان ب-«الالف واللام » على الخبر في الجملتين ممّا یدلّ على الحصر، والإتيان بضمير الفصل « لهم». ومعنى «سبق الكلمة» أنّه من التقدير الأزلي.

ومثل هذه الآيات قوله تعالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ » (1) وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ » (2) .

وربما يتوهّم أنّ هذا الوعد لم يتحقّق في بعض الموارد، كانهزام المسلمين في غزوة أحد وبعض الحروب الأخرى.

ص: 142


1- غافر (40) :51 .
2- المجادلة (58): 21 .

والجواب يظهر بالتأمّل في مفاد الآية، فالوعد إنّما هو في نصرة الرسل، لا الأتباع وإن حاربوا باسم الدين ما لم يكن بأمر الرسول. وهو وعد أيضاً بغلبة جند الله، ولم يقل جنود الرسل. وهناك فرق بين العنوانين، فإذا خالف جنود الرسول أمره يبقون جنوده، ولكنّهم لا يعتبرون جنود الله سبحانه، لأنّهم خالفوا أمر رسولهم، كما حدث في أحد ، فلا حاجة إلى توجيه آخر.

ومن يلاحظ تأريخ الرسل وخصوصاً تأريخ الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يجد نصرة الله تعالى له واضحة في جميع حروبه ومواجهاته، بالرغم من قلّة أتباعه وضعفهم عدّة وعُدة، فما حدث في بعض المواجهات له أسباب خاصّة، ويعتبر من موارد ابتلائه تعالى للمؤمنين. هذا مضافاً إلى أنّ النصرة والغلبة في مقام الاحتجاج مستمرّ إلى يوم القيامة للرسل وأتباعهم الحقيقيين.

ومن موارد الابتلاء أيضاً ما حدث لأهل بيت العصمة (علیهم السلام) من الظلم في مواجهة فسقة هذه الأمة وجبابرتها، ففيها ابتلاء لهم، وابتلاء للأمة جميعاً. وهو ابتلاء مستمرّ إلى يومنا هذا، يميّز الله تعالى به صفوف المؤمنين الذين اتّبعوا أمر الله تعالى ووصيّة رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بشأنهم عمّن خالفوهم.

ويمكن أن يقال: إنّ المراد بالآية ونظائرها انتصار الرسل في النهاية على الكفر ولو بعد قرون، فيكون المراد انتصار الهدف الرسالي. وعليه فالآية من الآيات التي تبشر بظهور صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

« فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ» ، تهديد بعد تهديد لتضعيف قوى الكفر وعزيمتهم ولتسلية النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمؤمنين. وهذا متفرّع على الوعد السابق. و«التولي» بمعنى الإعراض، أي أعرض عن إيذائهم وعنادهم لك، وكلّ ما يتحمله المؤمنون في

ص: 143

مكة من الأذى، ولا تهتمّ لهم، فإنّ زمان النصر قريب. وقد تكرّر الأمر بالإعراض عنهم.

وقوله «حتّى حِينٍ» ، أي حتّى يحين موعد النصر عند المواجهة حيث ينصرك الله تعالى عليهم ويخزهم ويشف صدور قوم مؤمنين. و«الحين»: الوقت. والتنكير للتقليل والتحقير، أي أعرض عنهم إلى وقت قليل، فيفيد أنّ النصر قريب. والظاهر أنّ المراد به يوم بدر، ويمكن أن يراد به موعد النصر النهائي بفتح مكة.

« وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ »، «الإبصار» هو التأمّل. ومن لطيف التعبير الجمع بين الإعراض والإبصار، حيث إنّ الإعراض يقتضي صرف الوجه والإبصار يتوقف على التوجه.

وبعض المفسّرين ذهب إلى أنّ المراد إبصارهم يوم الهزيمة، وأنّ الأمر به آنذاك للتعبير عن كونه حتمياً، فکأنّه متحقق حالياً بحيث يمكن إبصاره. ولكنّه لا يناسب التفريع في قوله تعالى: «فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» الدالّ على أنّ إبصارهم للهزيمة يتحقّق في المستقبل. والظاهر أنّ المراد أبصر وضعهم الحالي وشوكتهم وغطرستهم وجبروتهم، ولكن لا تهتمّ لهم وأعرض عنهم، فسوف يبصرون كيف تتلاشى كلّ هذه القوة والعزيمة.

« َفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ » ، قد تكرّر في القرآن الكريم أنّ الأمم السالفة كانوا يطالبون رسلهم بالعذاب الموعود ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين وكذلك تكرّر نقل ذلك عن كفار قريش. وفي كلّ ذلك يأتي الخطاب الإلهي بالتنديد بهذا الاستعجال ، وأنّ الله تعالى يمهلكم لعلّكم تهتدون ولا ينزل عليكم عذاب الاستئصال، كما أنزل على الذين من قبلكم. وهذا من غباء الإنسان أن

ص: 144

لا يعتبر بالعبر ويطالب بما يضيّع عليه كلّ الفرص ومن المعلوم أنّ هذا العذاب إذا نزل لا يبقي مجالاً للتوبة والرجوع.

« فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ »، «الساحة»: المكان الوسيع. والمراد ما يحوم حول البلد، وهو تعبير ينم عن تهديد بهجوم كاسح، كأنّ جيشاً من الأعداء سيهجمون على البلد ويضيقون عليهم الخناق في الساحات المحيطة بهم، فساء صباحهم آنذاك. وذكر «الصباح» كان متعارفاً في مثل ذلك من جهة أنّ الهجوم والغارة كانت تتحقق عادة في الليل.

والتعبير ب-«المنذرين » إشارة إلى أنّ الهجوم كان بسابق إنذار، فالمهاجم هنا لا يخافكم ولا يخاف استعدادكم للمواجهة أو الفرار وينذركم قبل الهجوم. وفي الآية إشارة إلى أنّ العذاب الموعود في هذه الأمة ليس من قبيل العذاب في الأمم السالفة من الصيحة والصاعقة ونحوهما، بل من قبيل هجوم العدوّ.

« وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ *وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» ، تكرار لنفس الجملتين السابقتين يؤكّد الموضوع بذلك. ولعلّ في حذف المفعول به في الأمر بالإبصار هنا حيث لم يقل: «وأبصرهم - كما في الآية السابقة - إشارة إلى أنّ الأمر لا يختصّ بهؤلاء، بل يشمل كلّ أعداء الرسالة.

ولا يبعد أن يكون المراد هنا التهديد بعذاب الآخرة الشامل لجميع الكفّار المعاندين. وقد تكرّر في القرآن التهديد بالنوعين، وأكثر ما يتحقّق من العذاب الموعود إنّما هو في الآخرة، فإنّا نجد أنّ أكثر الظالمين لا ينالون جزاءهم في الدنيا، بل يستمرّون في ظلمهم وطغيانهم وعنادهم، ويعيشون في الدنيا بكلّ هناء ورغد ، و إنّما يتحقّق الوعد الإلهي بالعذاب حتماً في الآخرة.

ص: 145

سورة الصّافّات( 180 -182)

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)

ختام للسورة الكريمة تناسب مضامينها حيث كانت تتعرّض للردّ على ما ينسبه الكفار إلى الله تعالى من الصفات ويجعلون له البنات، كما يناسب ما ورد فيها من ذكر نعم الله تعالى على الرسل، واختتمت كلّ قصة من قصصهم بالسلام على صاحب القصة. وهنا اختتم السورة بالسلام عليهم أجمعين. ثمّ الختم بأنّ الحمد كلّه لله رب العالمين.

« سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ » ، يحتمل أن يكون المراد بالتنزيه في هذه الآية حيث وردت بعد التهديدات السابقة تنزيهه تعالى عمّا يدور في خلد المشركين وغيرهم من الكفّار ، بل حتّى بعض المؤمنين من أنّه تعالى لا يفي بما يعده ويوعده، بل ربّما يتصوّرون أنّه غير قادر على ذلك.

وهذا التوهّم سائد بين الناس حتّى المؤمنين بالله تعالى، فقليلاً ما تجد مثلاً مؤمناً مطمئناً بما وعده الله تعالى على لسان نبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من ظهور المهدي (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) وعجّل الله تعالى فرجه وغلبته على كلّ هذه الطواغيت والفراعنة وما أسّسوا من قوى شيطانية، فكيف بالكفّار ومشركي مکّة وإن كانوا يعترفون بالله، ولكنّهم لا يؤمنون بقدرته الشاملة، فيتصوّرون أنّه لا يقدر عليهم، وأنّ هذه التهديدات لا تتحقّق، فالآية الكريمة تنزّهه تعالى عمّا يصفونه من العجز أو خلف الوعد.

ويؤيّد هذا الاحتمال التعبير الوارد في الآية الكريمة حيث قال: سُبْحَانَ رَبِّكَ

ص: 146

رَبِّ الْعِزَّةِ » ولم يقل: «سبحان الله عما يصفون». فلا يبعد أن يكون التوصيف بربوبيته للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لمناسبتها لما وعده الله من النصر على الأعداء، فذكر ذلك للتأكيد على أنّه تعالى بمقتضى ربوبيته لك ينصرك في ما بعثك من أجله من الرسالة، فإنّ الربوبية من التربية، ومقتضاها أن يوصل الربّ كلّ مربوب إلى كماله، فإذا أرسل رسولاً لابدّ من نصرته وغلبته على الأعداء، فهو تأكيد على قوله تعالى في الآية السابقة: «إِنَّهُمْ هُمُ المَنصُورُونَ». ثمّ التأكيد على كونه رب العزّة بمعنى الغلبة، فهو غالب على أمره لا يمتنع عليه شيء.

« وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ» ، هذه الآية أيضاً وإن كانت مناسبة لمواضيع السورة، ولكنّها تناسب أيضاً هذا التهديد الإلهي، لأنّ السلام من الله تعالى معناه أنّه يسلمهم من كلّ شيء ومن كلّ الأعداء وينصره عليهم، فالسلام عليهم في الدنيا والآخرة.

« وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ »، الحمد كلّه لله من أي أحد صدر، وعلى أي كمال وجمال، فإنّه يعود إلى الله تعالى، لأنّه خالق كلّ خير، وهو ربّ العالمين، فيوصل كلّ أحد إلى كماله ويضعه موضعه اللائق به. ومن هنا فإنّه ينصر رسله، ويعذّب أعداءهم، فهذا أيضاً من خصائص الربوبيّة وبذلك يتبيّن تناسب كلّ هذه الجمل مع هذا الاحتمال والحمد لله أولاً وآخراً.

ص: 147

ص: 148

تفسير سورة ص

اشارة

ص: 149

ص: 150

سورة الصّاد( 1 – 11)

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)

السورة من السور المكية بشهادة مضامينها، حيث تتناول العقائد، وتردّ على المشركين، وتستشهد بما جرى على الأمم السالفة، وغير ذلك ممّا تتميّز بها السور المكّية.

« ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ » ، «ص» من الحروف المقطّعة كسائر ما ورد في مفتتح

ص: 151

مجموعة من السور، وقد مرّ الكلام فيها، فلا نعيد والجملة بعده للقسم وقد مرّ نظيرها في سورة يس و«الذكر» يحتمل فيه إرادة كونه مذكوراً مشهوراً قد ذاع صيته في البلدان وتناقلته الركبان، ويحتمل أن يراد كونه مذكراً للبشر بما لا ينتبه إليه بنفسه - وإن دلّه إليه عقله وفطرته - نتيجة توغّله في شؤون الدنيا وملذّاتها، فالقرآن يذكّر الإنسان بربّه، ويذكّره بمستقبله المجهول المحتوم ويذكره بما يسعده ويشقيه في عالم الخلود.

« بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ » ، «بل» للإضراب. وربّما يستغرب بدواً أنّه إضراب عن أيّ شيء؟ مع أنّ الجملة السابقة لم تتمّ، إذ لم يذكر المضمون الذي أقسم عليه بالقرآن.

والجواب: أنّ هذا من الحذف اعتماداً على القرينة، حيث يعلم المعنى من نفس الإضراب، فيمكن أن يكون المحذوف: «إنّك لمن المنذرين » نظير ما ورد في سورة يس من قوله تعالى: «إِنَّكَ لَنَ الْمُرْسَلِينَ» خصوصاً بملاحظة التأكيد على الإنذار في هذه السورة وتكرّره، ويمكن أن يكون المقدّر ما یدلّ على أنّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على حق في دعواه.

و«بل» هنا يفيد معنى آخر أيضاً، وهو دفع ما ربما يستغرب من توصيف القرآن بأنّه ذو ذكر، بناءً على أنّ المراد أنّه يذكّر الإنسان بربّه، وذلك لأنّه لم يتمكّن من تذكير المشركين في مکّة مع أنّهم عارفون باللغة، فالإضراب يفيد أنّ السبب في عدم تذكّرهم هو الاعتزاز والشقاق، لا لنقص في تذكير القرآن.

والمراد ب- «الَّذِينَ كَفَرُوا » مشركو مکّة. والآية تبيّن السبب في كفرهم وإنكارهم وهو العزّة والشقاق، ف-«العزّة» في الأصل بمعنى الصلابة والشدّة،

ص: 152

والمراد هنا التزمّت وعدم الانصياع للحق والناس في مواجهة الأفكار المطروحة مختلفون، وطبيعة الجفاء والبداوة المتأصّلة في القوم كانت تقتضي التشدّد وعدم المرونة. وقد قال تعالى عن بعض الناس الذين وصفهم بأنّهم ممّن يعجبك قوله وهو ألد الخصام: «وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ » (1)، فهو يعلم أنّ ما يفعله إثم ولكنّه يعتزّ به لمجرّد أنّه منتسب إليه، ولا يعجبه قبول النصح حتّى لو وجد في ذلك ضرراً بليغاً. وهكذا يجرّ الإنسان حمقه وكبره وخيلاؤه إلى الهاوية.

ومثل ذلك من يعتزّ برأيه ويأبى قبول الحقّ من غيره وإن تبيّن له أنّه الحق، كما نجده في أكثر المحاورات. ولذلك قال بعض علماء الأخلاق: إنّه قلّ ما أمكن الوصول بالجدل والحوار إلى نتيجة يتفق عليها الطرفان.

وأمّا «الشقاق»، فهو المخالفة، كأن كلّاً من الطرفين في شقّ غير شقّ الآخر. والإتيان ب- «في» في قوله: « فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ» يفيد أنّهم متوغّلون دائماً في العزّة والشقاق لا يفارقونهما ، کأنّه ظرف محيط بهم والسبب في توغلهم في الاعتزاز هو الكبر الذي عرف به العرب، وأمّا شقاقهم مع الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فمنشؤه التعصب وهو أيضاً ممّا عرفوا به، وهو مأخوذ من العصبة، أي القوم والعشيرة التي تؤوي الإنسان وتساعده. وما أكثر من أهلكته العصبية ونصرة القوم والأقرباء على الباطل. والعصبية تعود في جذورها إلى حب الذات، فإنّ الإنسان يعجبه ما يضاف إليه ويختصّ به.

ويمكن أن يكون ذكر الأمرين «العزّة» و«الشقاق» لاختلاف القوم في ما يمنعهم من الإيمان بالحق، فبعضهم كانت تمنعه العزّة كالأكابر والرؤساء،

ص: 153


1- البقرة (2): 206 .

وبعضهم تمنعه العصبية فقط، كالأتباع والمستضعفين.

«كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ »، الآية تهدّدهم بأنّ السابقين أيضاً منعتهم العزّة والشقاق عن الإيمان وقد أهلكهم الله تعالى بذنوبهم وأنزل عليهم عذاب الاستئصال الذي لا يبقى شيئاً. والقرآن يؤكّد على أنّ البشر متماثلون في سجاياهم وشؤونهم الاجتماعية غالباً، فالعزّة والشقاق داءان موروثان ابتليت بهما المجتمعات البشرية طيلة التأريخ. و «القرن» هنا المجموعة من الناس، ويطلق أيضاً على المجموعة من الزمان.

« فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ» ، المراد ب-«النداء» الاستغاثة، ولعلّ التقدير: نادوا ربّهم أن آمنّا كما هو دأب الإنسان حين نزول البلاء، ولكن لا تنفع الاستغاثة والإيمان بعد نزول العذاب، كما أنّ فرعون لم يقبل منه، وجاءه الخطاب: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ » (1)، كما أنّ التوبة لا تقبل إذا نزل الموت، قال تعالى: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ » (2)، فلا يغترنّ الإنسان بربّه وما أمهل!

« وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ » «لات» حرف نفي بمعنى «ليس» ويعمل عمله، واسمه محذوف، أي ليس هذا الحين حين مناص. ومناص مصدر ميمي من النوص وهو الفوز والنجاة.

« وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ »، «منهم » أي من بني نوعهم. وقد تكرر في القرآن الكريم نقل هذا الاستغراب من الأمم السابقة، وهو أن يكون الرسول من

ص: 154


1- يونس (10): 91 .
2- النساء (4): 18 .

البشر. فهذا أيضاً ممّا تناقلته الأمم ويمكن أن يكون المراد من قومهم.

وهذا أيضاً من غرائب طباع الإنسان أنّه لا يؤمن ببني نوعه، كما أنّ الناس غالباً ما ينقادون لعالم أو مصلح من غير بلدهم، ويميلون إليه أكثر ممّا يميلون إلى عالم أو مصلح من بلدهم. وهذا من جهل الإنسان حيث إنّه يستصغر ابن البلد الذي نشأ بينهم ويحتقره حيث شاهد منه طول حياته بالطبع ما هو مقتضى البشرية من نقائص وعيوب، ولم يشاهد ذلك من الغريب فيتوهّم أنّه مصون من ذلك بينما ينبغي له أن يحذر منه حيث لا يعلم سوابقه.

وهكذا لا يؤمن الإنسان برسول من البشر لما يجد فيه من نقص هو مقتضى البشرية، ويتوقع أن يكون الرسول من الملائكة، ولا يتفطّن أنّ ما يعتبره نقصاً كالأكل والشرب والنكاح هو كمال للإنسان ولا يعاب عليه، كما قال تعالى: «وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ.» (1).

ومن جهة أخرى يجهلون مناط اختيار الله تعالى للرسالة، فيتصوّرون أنّ كلّ ما يتّصف به هذا البشر المختار للرسالة موجود فيهم، بل أكثر منه، وذلك لأنّهم أكثر أموالاً وأولاداً، وأشرف محتداًّ ونحو ذلك من الاعتبارات، وحيث يعلم أنّه بنفسه لا يستحقّ الرسالة، فلا يستحقّه هذا بطريق أولى، و إنّما يجب أن يكون الرسول ملكاً يمكنه أن يرتبط بالسماء.

« وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ » ،وهذه أيضاً تهمة قديمة اتّفق المشركون عليها في مواجهة الرسالات والسبب أنّه مقالة العاجز وهم متماثلون في العجز. واختلف في معنى السحر بالأصل فقيل: إنّه من الخداع باعتبار أنّ الساحر يخدع

ص: 155


1- الفرقان (25): 7 .

الناس بإراءتهم الشيء خلافاً لما هو عليه. وقيل: إنّه من صرف الشيء عن وجهه وإنّ منه قوله تعالى: « فَأَنَّى تُسْحَرُونَ» (1)، أي تصرفون، والساحر يصرف الأمور عن وجهتها الحقيقية. وقيل غير ذلك.

وهناك بحث في أنّ السحر هل هو أمر واقعي أو تخييلي. والذي يظهر من الكتاب العزيز أنّه مجرّد تخييل. قال تعالى: « سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ » (2)، ومعنى ذلك أنّ سحرهم لم يتجاوز الأعين. وأوضح منه قوله تعالى: « فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى » (3)، ولا ينافي ذلك ترتب أمور واقعية على ذلك، كالخوف أو تفرّق الزوجين.

ومهما كان، فإنّ المشركين كانوا يتّهمون الأنبياء بالسحر، إمّا بدعوى أنّ ما يظهرون من المعجزات ليست إلّا من قبيل السحر، كما قال فرعون وأتباعه، وإمّا بدعوى أنّ تأثيرهم في الناس إنّما هو من السحر ولذلك يفرقون بين الأزواج وبين الآباء والأبناء، وهذا ما ادعاه المشركون في مکّة بالنسبة للرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

وقد ورد في التأريخ أنّ المشركين اجتمعوا حول الوليد بن المغيرة وتباحثوا ماذا يسمّون ما جاء به الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ليتمكّنوا من تفريق الناس وتنفيرهم عنه، فقالوا نقول كاهن قال لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا نقول مجنون قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قالوا :نقول : شاعر. قال: ما هو

ص: 156


1- المؤمنون (23) :89 .
2- الأعراف (7): 116 .
3- طه .(20) :66 .

بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كلّه، رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا نقول ساحر. قال: ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم قالوا فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إنّ لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإنّ فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلّا عرف أنّه باطل، وإنّ أقرب القول فيه لأن تقولوا هو ساحر، جاء بما يفرق به بين المرء وأبيه وأخيه وعشيرته. (1)

وروي هذا الكلام بوجوه أخرى.

ومهما كان، فهو یدلّ على أنّ هذه مؤامرة دبرت بليل، ولم يكن الاتّهام بالسحر والجنون نابعاً من قناعة بل ولا من شك وارتياب.

وأمّا الاتّهام بالكذب، فكانوا بأجمعهم يعلمون يقيناً أنّه بعيد عنه كبعد السماء من الأرض بعد أن عاش بين ظهرانيهم أربعين سنة لم يصدر منه ما يعاب عليه حتّى لقبوه بالصادق الأمين.

« أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا »، نعم هذا هو عيبه. و«الجعل »هنا بمعنى الاعتقاد والاعتبار والاستفهام للاستنكار وإنّه لمستنكر في تلك العقلية المتجمدة أن ينكر أحد ألوهية الأصنام الذي دأب على عبادتها الآباء والأجداد، ومستنكر أيضاً أن يكون للكون إله واحد هذا، وهم يعتقدون بالله وأنّه الخالق للكون إلّا أنّ الألوهية أي المعبودية لا تتّبع الخلق، و إنّما تتّبع مخاوف الإنسان ومطامعه، فالذي يمكنه أن يحقّق الأمانيّ ويبعّد عن الإنسان كابوس الشرّ هو ذوات غيبية تمثّلها الأصنام.

ص: 157


1- راجع الدر المنثور في تفسير المأثور 4: 106.

وهكذا يحاول الإنسان الجاهل أن يحقّق آماله ويجتنب محاذيره بأسباب مجهولة بعد أن خابت ظنونه وآماله من الأسباب الطبيعية. ومثله رجوع الناس السذج إلى السحرة والمشعوذين وأصحاب الطلاسم إذا عجز عن علاجهم الأطبّاء. ومهما كان، فهو هنا يستنكر ما يقبله العقل السليم من نفي ألوهية الحجارة والتماثيل ويستغرب منه.

« إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ » و «العجاب» مبالغة في العجب والغرابة. هذا إشارة إلى نفي ألوهية آلهتهم وحصر الألوهية في الإله الواحد.

«وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا »، «الملأ» الجماعة من أشراف القوم وعليتهم، يقال لهم ذلك لأنّهم يملأون عيون العامّة مجداً وعظمة. وهذه العظمة وإن كانت زائفة إلّا أنّها تؤثر في قلوب البسطاء من الناس والمراد: أنّهم ابتعدوا عن المكان الذي اجتمعوا فيه مع الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهم يقولون: امشوا واصبروا.

روی الكليني (رحمه الله ) عن أبي جعفر (علیه السلام) قال : أقبل أبوجهل بن هشام ومعه قوم من قریش فدخلوا على أبي طالب فقالوا: إنّ ابن أخيك قد آذانا و آذی آلهتنا فادعه ومره فليكفّ عن آلهتنا ونكف عن إلهه، قال: فبعث أبو طالب إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فدعاه فلمّا دخل النبي(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم ير في البيت إلّا مشركاً فقال: السلام على من اتبع الهدى ثمّ جلس فأخبره أبو طالب بما جاؤوا له فقال: أوَهل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسّودون بها العرب ويطأون أعناقهم؟ فقال: أبوجهل: نعم وما هذه الكلمة؟ فقال تقولون: لا إله إلّا الله، قال: فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجا هرّاباً وهم يقولون: «ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلّا اختلاق »

ص: 158

فأنزل الله تعالى في قولهم: «ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ » إلى قوله « إِلَّا اخْتِلَاقٌ». (1)

و عليه، فالمراد بالانطلاق خروجهم من المكان المذكور. و«أن» في « أَنِ امْشُوا» تفسيرية تفسّر وتبيّن ما قالوه، ولم يصرّح قبله بما یدلّ على القول، ولكنّ الانطلاق مضمّن ذلك، فالمعنى انطلقوا وهم يقولون امشوا واصبروا والأمر ب-«المشي» كناية عن الإعراض عمّا يقوله الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعدم التأثر به، فکأنّهم خافوا تأثيره على بعضهم وهذا ما كانوا يحذرونه دائماً ويؤرق كبراءهم وخبثاءهم كأبي جهل.

« وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ »، أمر بالتعصّب، ولذا أضافوا الآلهة إليهم، إذ أنّه يعود -كما قلنا - إلى حبّ الذات والتعبير يوحي بأنّهم شعروا بالضعف والتزلزل يدبّ في قلوب بعضهم، فدعوهم إلى الصبر في سبيل الإبقاء على المجد التليد!

« إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ»، الظاهر أنّ «هذا » إشارة إلى الصبر على الآلهة. والمراد: أنّ هذا أمر يريده المجتمع القبلي أو يريده الكبراء أو نريده جميعاً. وهذا أيضاً یدلّ على شعورهم بالضعف والتزلزل وكلّ هذا التأكيد فيما بينهم ينمّ عن ما دبّ في قلوب بعضهم أو جميعهم من الشكّ والتردّد . ويلاحظ أنّ شيطاناً كأبي جهل لو لم يكن بينهم لأمن كثير منهم.

ويمكن أن يكون «هذا »إشارة إلى ما أحدثته الرسالة الإلهية من انقسام في المجتمع .والمراد أنّ هذا أمر يريده الخصم، والغرض التنديد ب-ه والتحذير منه بأنّه يريد بمجتمعنا الشرّ أو أنّه يريد أن يتسلّط علينا، نظير ما ورد في القرآن من حكاية كلام فرعون وملائه: «قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا

ص: 159


1- ص (38): 1 -7.

وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ». (1)

« «مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ» ، الملة : الطريقة والظاهر أنّ المراد ب-«الملة الآخرة» العصر الحديث في ذلك الزمان، فيكون بمعنى أنّ هذا من الأفكار القديمة البائدة ومثل ذلك قولهم: « إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ»(2) . و «الاختلاق»: الكذب.

وقيل: إنّ المراد ب-«الملة الآخرة »آخر الآباء، فيكون من التقيّد بتقاليد الآباء، والحذر من كلّ جديد. ويردّه أنّه لا وجه حينئذ للتركيز على وصف التأخر، بل ينبغي أن يركّز حينئذ على كلّ ما توغّل في القدم.

وقيل: إنّ المراد بها النصارى، فهم آخر ملة من أمم الأنبياء وهم لا يقولون بالتوحيد، بل التثليث ولكن هذا الاحتمال غير صحيح، أولاً: لأنّه لا خصوصية في تأخّرهم وهم يركّزون على الملّة الآخرة. وثانياً: أنّ القائلين لا يقبلون التثليث أيضاً. وثالثاً: أنّ مرادهم باسم الإشارة - كما ذكرنا - هو نفي عبادة الأصنام، فهذا هو الذي يندّدون به ويقولون إنّهم لم يسمعوا به في الملّة الآخرة. فالأولى ما ذكرناه، ولعلّه هو مراد العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) .

«أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا »، استفهام إنكاري ، والإنكار فيه يبتني على احتقار الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهذا أيضاً ممّا كرّرته الأقوام السابقة والجبابرة، فنجد فرعون يستصغر موسى (علیه السلام) ويقول: «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ.»(3).

ص: 160


1- يونس .(10) :78 .
2- الأنعام (6): 25 .
3- الزخرف (43): 52 .

والمشركون أيضاً احتقروا الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أن ينزّل عليه الوحي وهم يظنّون أنّ فيهم من هو أولى بذلك. ولذا قالوا: «وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ »(1)، والعظمة عندهم بالمال والأولاد، والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته وما قالوا ذلك إلّا حسداً على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

وقد ظهر ذلك بوضوح في كلماتهم مثل ما حكي عن أبي جهل أنّه قال: «تنازعنا نحن وبنو عبد مناف في الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتّى إذا تجانبنا على الركب وكنّا كفرسي الرهان قالوا منّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء فمتى تدرك هذه ؟ لا والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدّقه». (2) إذن فالحسد كان هو المانع من إيمانهم لا الشك والتماس الدليل.

وعبّروا عن القرآن ب-« الذكر» جدلاً، بمعنى أنّه لو فرض كونه ذكراً فلماذا لا ينزل على من هو أولى به على ما يظنّون أو عبّروا به استهزاء.

« بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي» ، أضرب عن قولهم السابق حيث استنكروا نزول الذكر على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و بأنّ كفرهم أكثر من ذلك، فهم يرتابون في كلّ ما يذكّر بالله أو ما يسند إلى الله تعالى من ذكر، أي ما يذكّر الإنسان. وهو بمعنى التشكيك في رسالة السماء رأساً.

« بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ» ، «الباء» في (عَذَابِ ) مكسورة لحذف الياء اختصاراً والتوافق أواخر الآيات، فهو في الأصل: «عذابي»، و«لمّا» یدلّ على أنّه واقع لا محالة و إنّما يتأخّر لزمانه المناسب. والظاهر أنّ الإضراب بلحاظ أن شكّهم

ص: 161


1- الزخرف (43): 31.
2- الميزان في تفسير القرآن 13: 125.

لا يستند إلى عدم إدراك للحقائق، بل هو من جهة عنادهم واستكبارهم وعدم تخوفهم من العذاب، وأنّهم سيستمرّون على ذلك إلى أن يذوقوا العذاب وهم ذائقوه لا محالة.

« «أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ» ، «أم» منقطعة، أي بل هل عندهم ،وهو ردّ على استنكارهم نزول الوحي على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأنّ هذا من رحمة ربّك، وبيده خزائن الرحمة، لم يفوّض أمرها إلى أحد، فهل هذه الخزائن تحت تصرّفهم فيقسمونها حيث يشاؤون ويمنعونها من يشاؤون؟! والاستفهام للإنكار.

وهذا نظير قوله تعالى: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » (1)، ف-«الرحمة »كلّها بيده تعالى حتّى الرزق المادّي إنّما يتوزّع حسب إرادة الله تعالى تبعاً للقابليات الموزّعة بين الناس، فكيف بالرسالة التي هو ارتباط الإنسان بالسماء وتلقي الوحي؟! وكيف يمكن أن يفوّض الله تعالى أمر ذلك إلى أحد ؟!

وأضيفت الرحمة إلى الربّ والربّ إلى ضمير الخطاب للإشارة إلى أنّ ذلك مقتضى تربية خاصّة وعناية خاصّة بك، فالله تعالى يختار رسله م-ن بين عباده ويتولى شؤونهم من قبل تكوينهم إلى زمان النبوة، كما قال تعالى خطاباً لموسى (علیه السلام) : « وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي *إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ» (2).

ولعلّ توصيفه تعالى في هذه الجملة ب-«العزيز الوهّاب» لأنّه بعزّته يستحيل أن يؤثّر فيه شيء فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يفوّض أمر الربوبية إلى

ص: 162


1- الزخرف (43): 32.
2- طه (20): 39 - 40 .

أحد، بل لا يمكن ذلك كما قال تعالى: « وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا » (1) ، فإنّ الربوبية لاتقوم إلّا بمن له هذه الصفات العليا ليكون محيطاً بكلّ أجزاء الكون قائماً على كلّ نفس بما كسبت ولكونه تعالى وهّاباً يهب ما يشاء لمن يشاء، فلا غرو إذا وهب النبوّة لمن يحتقره الناس جهلاً بمعدنه.

«أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ». وهذا إضراب آخر وإفكار آخر أي ليس لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما، ولو كان لهم ذلك لتمكنوا من منع نزول الوحي عليك فإنّ ذلك لا يمكن إلّا لمن له الملك والسلطة في الكون يتصرّف فيه كيف يشاء. ومن الواضح أنّهم لا يملكون ذلك.

والارتقاء :الصعود والأسباب جمع سبب أي ما يتوصل به إلى المقصود، والمراد بها هنا طرق السماء والجملة جزاء لشرط مقدر أي إن كان لهم ملك السماوات والأرض فليصعدوا معارج السماء ويمنعوا نزول الوحي، وهو افتراض المستحيل. والأمر بالارتقاء للتعجيز، أو للتهكّم لوضوح عدم تمكّنهم.

و إنّما ذكر السماوات والأرض وما بينهما، لأنّ عملية نزول الوحي من السماء إلى الأرض إنّما تتمّ عبر التصرّف في كلّ الكون، فالوحي من السماء أي خارج نطاق الطبيعة وممّا لا تصل إليه أفهام البشر، فكيف بأيديهم وقدراتهم المادية والرسول على الأرض، والوسائط - وهم الملائكة - بين السماء والأرض.

ولا ينبغي أن يتوهّم أنّ المراد ب-«السماء» الأجرام الكونية التي نشاهدها فوقنا، فيخطئ الوهم في معنى البينية أيضاً، بل السماء فوق عالم الطبيعة فوقية معنوية لا محسوسة، والبينية أيضاً تناسب هذا المعنى.

ص: 163


1- الكهف (18): 26 .

«جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ »، هذا تحقير لهم بعد مطالبتهم بما لا يستطيعون وهو الارتقاء في الأسباب والمعنى أنّهم ليسوا إلّا جنداً حقيراً مهزوماً متفكّكاً تشكل من أحزاب مختلفة جمعتهم معاداة الرسل، كما كان الذين من قبلهم وسيأتي ذكرهم.

وقوله: «جُنْدٌ» خبر مبتدؤه محذوف أي هم جند و «ما» للتحقير والتصغير. و «هُنَالِكَ » إشارة إلى البعيد، وفيه أيضاً معنى بعدهم عن مراكز القدرة والتصرف في الكون، فليسوا في مكانة يمكنهم الارتقاء في الأسباب، ثمّ وصفهم بأنّهم مهزومون قبل أن يحاربوا، فهم مهزومون نفسياً، ومهزومون في المناظرة والجدل، ومهزومون في كلّ ما يحتاج إلى قوة لأنّهم يعادون الله تعالى وهو مصدر كلّ قوّة ، فليس لهم إلّا الهزيمة والهلاك.

ثمّ التعبير بأنّهم من الأحزاب إمّا أنّه إشارة إلى أنّهم ليسوا جماعة واحدة تجمعهم دين أو عقيدة، و إنّما جمعتهم العصبية مع اختلاف أهوائهم ودوافعهم. وأنّهم إنّما تجمعوا لهدف واحد وهو معاداة الرسل والحفاظ على تقاليد الآباء التي يرون فيها مصالحهم المادّية، فليس وراءهم هدف سام يدعوهم إلى المواجهة ، وإمّا أن يكون إشارة إلى أنّهم من الجماعات المعادية للرسل، فيكون الألف واللام للعهد، ويؤيد الثاني الآيتان التاليتان.

ص: 164

سورة الصّاد( 12- 16)

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)

« كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ». يذكر مجموعة من الأحزاب والعصابات القديمة وما لقوا من عذاب الاستئصال نتيجة لتكذيبهم الرسل. وهؤلاء أقوام سمع بهم قريش وعرب الجزيرة وإن كان ذلك خلال الأساطير. والقرآن الكريم يصحّح الأخطاء ويذكر الخبر الصحيح ليكون عبرة لهم ودرساً.

ونوح (علیه السلام) أول الرسل أصحاب الشرائع، وقومه بالطبع أقدم الأقوام، ويأتي بعدهم عاد قوم (علیه السلام) و هم من الأقوام القديمة الذين سكنوا الجزيرة العربية، ولذلك ورد فيهم قوله تعالى: « وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ » (1)، ويأتي بعدهم ثمود قوم صالح (علیه السلام) قال تعالى : «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ » (2)، والغالب في ذكر الأقوام أن يذكر عاد وثمود بالترتيب، ولعلّ ذكر فرعون قبل ثمود لرعاية القوافي.

وقوله « ذُو الْأَوْتَادِ » ورد وصفاً لفرعون هنا وفي سورة الفجر، ويمكن أن يراد بها الأهرام تشبيهاً لها بالوتد، وهو أقرب ممّا قيل من أنّه كان يعذّب بالأوتاد فيسمّرها في أجسام الناس. والمراد بفرعون هنا قومه بحذف المضاف لأنّ الصفة المذكورة صفة شخص فرعون.

ص: 165


1- الأعراف (7) :69 .
2- الأعراف (7): 74 .

« وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ»، «الأيكة»: الشجر الملتف. وأصحاب الأيكة قوم شعیب (علیه السلام) لقوله تعالى: «كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ *إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ »(1).

ثمّ وصفهم بأنّهم هم الأحزاب، أي هم الجماعات المجتمعة على معاداة الرسل وتكذيبهم. والغرض تشبيه حال المشركين بأولئك الأحزاب، فهم قد لقوا مصيرهم المحتوم وهو العذاب الإلهي استأصلهم عن بكرة أبيهم، وهؤلاء أيضاً ينتظرون ذلك. وهذه الجملة تدلّ على أنّ مشركي مکّة من نفس المجموعة، لأنّه قال قبل آيتين إنّهم جند من الأحزاب، ثمّ حدّد في هذه الآية المراد بالأحزاب.

«إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ »، الكسرة في آخر كلمة (عقاب) تدلّ على الياء المحذوف تخفيفاً، و«حقّ» بمعنى ثبت أي ثبت عليهم عقابي بذلك. والحصر يفيد أنّهم لم يكن لهم ذنب يستحقّون به العذاب الإلهي إلّا أنّهم كذبوا الرسل، في إشارة إلى أنّ الله تعالى لا يعذّب الأقوام بأعمالهم إلّا بعد إرسال الرسول وإتمام الحجّة، وأنّ تكذيب الرسل هو السبب التامّ في نزول العذاب، فلا يغرنكم التأخير.

«وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً »، «ينظر» بمعنى ينتظر، وعطف الجملة ب-«الواو» یدلّ على نوع من التبعية والتفريع، فأولئك استحقّوا العذاب بتكذيبهم وهؤلاء ينتظرونه. و إنّما عبّر بالانتظار مع أنّهم لا ينتظرون، بل يكذّبون ویستهزؤون به تنبيهاً على أنّه محقق لا محالة، فکأنّهم في حال الانتظار.

وربّما يكون ذلك على حقيقته، لأنّهم لم يكذّبوا عن علم، بل ربما كانوا يعلمون بصحّة دعوى الرسالة، ولا يمنعهم من الإيمان إلّا الحسد والكبر، فلا

ص: 166


1- الشعراء (26) :176 - 177 .

يبعد أنّهم كانوا يتوقّعون دائماً نزول العذاب عليهم.

والظاهر أنّه تهديد للقوم بعذاب الاستئصال وإن لم يعذّبهم الله إلّا بأيدي المؤمنين. والآيات تدلّ على الاستحقاق لا على الفعلية، فلا ينافي ذلك عدم نزول عذاب الاستئصال عليهم.

وقال أكثر المفسّرين: إنّ المراد ب-«الصيحة» النفخة الأولى، لأنّ العذاب مرفوع عن هذه الأمة. ويردّه قوله تعالى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ » (1)، فالصحيح أنّ التهديد حسب الاستحقاق ولا ينافي ذلك عدم الوقوع لمصلحة أخرى.

هذا، مع أنّ احتمال وقوع العذاب في المستقبل قائم والآيات لم تحدّد زمان وقوعه. ولا ينافيه قوله تعالى: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ » (2)، كما توهّم، فإنّه لا یدلّ إلّا على نفي العذاب حال حضوره (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بين ظهرانيهم ولا يشمل حتّى بعد الهجرة، فكيف بما بعد ذلك.

« مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ »، يقال: إنّ الفواق هو الفاصل الزمني بين حلبتي الناقة فهو إشارة إلى أنّها إذا جاءت لا تمهل.

« «وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ » ،«القطّ»: ما قطع من الشيء، يقال قطّه، أي قطعه عرضاً، ويقابله «القد» وهو القطع طولاً، ويستعار به للنصيب والحظ، كما يستعار أيضاً للصحيفة. وهذا الكلام من المشركين جار مجرى الاستهزاء بما أوعدوا من العذاب في الآخرة أو بما يسلّم إليهم من صحيفة الأعمال يوم القيامة.

ص: 167


1- فصلت (41) : 13 .
2- الأنفال (8): 33 .

سورة الصّاد (17 – 20)

اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)

« اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ »، القرآن زاخر بالتسلية للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمؤمنين الأوائل، وبالأمر بالتصبّر في مواجهة رعونة المشركين واستهزائهم، وبذكر ما جرى على الأنبياء السابقين وصبرهم على الشدائد، وما نزل عليهم من النصر الإلهي، وما أكرمهم الله به من المعاجز، ومنها هذه الآيات، فهي تأمر الرسول بالصبر على أقوال المشركين المليئة بالقذع والسخرية، وقد مرّ في هذه السورة بعضها ومنها الجملة السابقة: «رَبَّنَا عَجِّل لَنَا». وفي الأمر ب-«الصبر» تهديد واضح للمشركين، فمعناه: اصبر واتركهم لي فعليّ مجازاتهم.

وتأمر الآية أيضاً بتذكر مجموعة من الأنبياء، وصبرهم على الشدائد في تبليغ رسالة السماء، وما حصل لهم من النجاح والتوفيق في الدنيا ليكون ذلك تسلية لهم وتطييباً لخاطرهم. وبدأ بذكر أحد الأنبياء المحظوظين في الدنيا قبل الآخرة، وهو داود (علیه السلام). ولعلّ ذلك للإشارة إلى أنّه لا غرابة على الله إذا مهّد لكم سبيل النصر على الأعداء، ومكّن لكم في الأرض، وآتاكم من السلطة والمال مثل ما آتی داود (علیه السلام) فليس كلّ الأنبياء قضوا حياتهم تحت الظلم والاضطهاد، ليكون ذلك حافزاً للأمل في النصر النهائي الذي يتوّق إليه المؤمنون.

ووصف داود (علیه السلام) هنا بثلاثة أوصاف العبودية والقوة وكثرة الأوب. وبدأ بالعبوديّة تنبيهاً على أنّه أشرف ما يتّصف به الإنسان مهما علا قدره، فحيث

ص: 168

كانت الآيات تريد التنبيه على عظمة داود (علیه السلام) مادياً ومعنوياً، قدم التنبيه على اتصافه بالعبودية إيذاناً بأنّ كمال العبودية هو الأصل الذي يبتني عليه سائر الكمالات.

و«الأيد» مخفّف أيدي جمع يد، وهي كناية عن القوّة. وما قيل من أنّه بمعنى النعمة خطأ، فإنّها تطلق على النعمة إذا أضيف إلى المنعم، لا إلى المنعم عليه. وحيث أتي به بصيغة الجمع، فالمراد، أنّه كان مدعوماً بالقوة من جهات شتى، ففيه قوة بارزة في الجسم والعلم والسلطة والإعجاز وتسخير الحيوان، وهو الذي قتل جالوت زعيم العمالقة الأبطال، كما ورد ذكره في سورة البقرة: « وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ» (1) ، ويأتي هنا ذكر بعض معاجزه وخصائصه الغريبة.

ثمّ نبّه بالوصف الثالث أنّه بالرغم من ثمتّعه بأنحاء مختلفة من القوة الموهوبة كان أوّاباً. و«الأوبة» هي الرجوع والمراد الرجوع إلى الله تعالى. وأوّاب مبالغة في الأوبة، فهو بمعنى كثير الرجوع. وفي القرآن آيات كثيرة تمدح الأوّابين والتوّابين وتنعت الرسل بكلّ من الوصفين. وكلاهما بمعنى واحد.

وربّما يخطر سؤال بالبال، وهو أنّ الرسل من أي شيء كانوا يتوبون، بل يكثرون التوبة وهم معصومون من الذنوب؟

والجواب: أنّ التوبة كما قلنا هو الرجوع إلى الله تعالى، والإنسان يشتغل بالدنيا ويغفل عن ذكر ربّه لا محالة، ثمّ يعود إلى ذكره وعبادته. والأوّاب هو الذي يكثر الرجوع بحيث كلّما طرأ عليه غفلة أو تشاغل بغيره سبحانه يتذكر سريعاً فيعود، وهذه ميزة خاصّة بالأنبياء و الأولياء المقربين.

ص: 169


1- البقرة (2): 251 .

والتنبيه هنا على هذا الوصف لبيان أنّ قوته و مميّزاته الدنيوية ما كانت تحول بينه وبين كثرة الرجوع إلى الله تعالى، وهكذا الأنبياء مثل يتأسّى بهم طيلة التأريخ البشري.

وقوله تعالى: «إِنَّهُ أَوَّابٌ » جملة تعليلية للأمر بالذكر، أي اذكر داود (علیه السلام) لأنّه كان أوّابا، للإشارة إلى أنّ كثرة الأوبة هي الميزة التي قصدت في الأمر بالذكر، حيث إنّه مع كثرة قوته وتشعّبها كان أوّاباً. وليس تعليلاً لكونه ذا الأيدي - كما في «الكشاف» - حتّى يقال: إنّ المراد قوته في العبادة فقط، فإنّ كونه ذا الأيدي أتي به بعنوان الوصف وليس أمراً معنياً بذاته فيعلّل.

«إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ »، بيان لأحدى كراماته ومعاجزه، وقد تكرر ذكره في القرآن قال تعالى: « وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ»(1) ، وقال: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ» (2).

والظاهر أنّ قوله : «مَعَهُ» متعلّق بالتسخير لا التسبيح، كما هو واضح من آية سورة الأنبياء، وهذا التقييد لتبيين أنّ التسخير لم يكن له و إنّما كان معه، أي مع تسبيحه، وهو الذي صرّح به في سورة سبأ حيث ورد الأمر التسخيري خطاباً للجبال: « يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ » ومعنى ذلك أنّ الجبال كانت تردّد التسبيح معه إذا سبح الله تعالى.

وليس المراد بالطبع ما يحدث من الصدى في الجبل، فإنّه لا يختصّ به، مع أنّه ليس إعجازاً، بل لا يعدّ تسبيحاً للجبل.

ص: 170


1- الأنبياء (21) :79 .
2- سبأ (34): 10 .

وليس المراد أيضاً التسبيح بلسان الحال أي كونها تدلّ بوجودها على الخالق المنزّه من كلّ نقص ومن كلّ ما يصفه به الناس.

بل المراد التسبيح اللفظي والنطق به كما كان ينطق به داود (علیه السلام). والدليل عليه أنّ التسبيح بلسان الحال لا يختصّ بالوقت الذي يسبّح فيه داود (علیه السلام) ولا بالعشيّ والإشراق ولا يعتبر ميزة له (علیه السلام).

و«العشيّ» هو آخر النهار وأوّل الليل، كما في« معجم مقاييس اللغة»، وفي بعض كتب الفقه أنّه كلّ الليل، وهو بعيد، لأنّه مأخوذ من العشو وهو عدم الوضوح ، لا الظلام الدامس و «الإشراق» هو الوضوح، يقال: شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا أضاء نورها. والظاهر أنّ المراد تسبيحه (علیه السلام) أو صلاته في أوّل النهار وآخره أو أوّل الليل.

« وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً »، أي سخّرنا الطير حال كونها محشورة متجمّعة، وهي أيضاً تسبّح معه وقد ورد ذكر تسبيح الطير في قوله تعالى: «وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ » (1)، ولكنّها هنا تسبّح مع داود (علیه السلام) وتردّد ما يذكر الله به. وليس في ذلك غرابة، فالكون كلّها تسبّح الله كما قال تعالى: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.»(2).

والتسبيح هنا أيضاً يمكن أن لا يراد به الدلالة التكوينية، إذ التسبيح بهذا المعنى يفقهه بعض الناس، و إنّما لا يفقهون التسبيح الاختياري والظاهر أنّ القرآن يثبت نوعاً من الاختيار للسماء والأرض وإن لم يفقهه الإنسان، قال

ص: 171


1- النور (24): 41 .
2- الإسراء (17): 44 .

تعالى: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ »(1).

« كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ» ، اختلفوا في تفسير هذه الجملة، فقيل: إنّ الضمير يعود إلى داود(علیه السلام)، وقيل: يعود إلى الله سبحانه واستبعد الأوّل العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) ، مع أنّه بحسب ظاهر اللفظ أقرب لسبق ذكره قريباً، والله تعالى ذكر بضمير المتكلّم.

وبناءً على الأوّل قيل: إنّ الأوّاب بمعنى ترديد التسبيح وهو بعيد، لأنّ الأوبة بمعنى الرجوع لا الترجيع.

وقيل: إنّه بمعنى التواب، ولكن حيث إنّ التوبة تلازم الذكر والتسبيح عبّر عن التسبيح بالأوبة. وهو أيضاً بعيد إلّا إذا أرجع الضمير إلى الله تعالى ليكون الأوبة إليه، مع أنّه بعيد في نفسه أيضاً لبعد التعبير عن التسبيح بالأوبة بهذه العناية، كما لا يخفى .

ويخطر بالبال أنّ المراد أوبة الطيور إلى داود (علیه السلام) كثيراً، كما هو مقتضى الصيغة، أي أنّها تعود إليه كثيراً لتردّد معه التسبيح.

« وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ»، أي قوّيناه فلم يجرأ أحد من الطواغيت مقابلته.

« وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ م ، فسّرت «الحكمة» بالعلم، وبالنبوة، وبعلم الشرائع، وبالزبور وفسّرها العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) بالمعارف الحقة المتقنة التي تنفع الإنسان وتكمله. والأصل في الحكمة المنع، يقال: حكمت الدابة أي ألجمتها. والحكمة ما يمنع الإنسان من السفاهة وارتكاب ما لا يليق به. وإذا أطلق على بعض العلوم أو كلّها فلأنّها تمنع من ارتكاب ما يقتضيه الجهل، وكذا إطلاقها

ص: 172


1- فصلت (41): 11.

على الكلمات التي تنظم حياة الإنسان عملياً، كما في القرآن الكريم بعد ذكر مجموعة من النصائح: «ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ » (1)،وغير ذلك من الموارد.

وأمّا «فصل الخطاب» فإمّا أن يكون من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الخطاب الفاصل بين الحقّ والباطل، يعني أنّه إذا تحدث تحدث بالحقّ الصراح الذي لا يقاوم، فكلامه الفصل في كلّ موضوع، وإما من إضافة المصدر إلى المفعول والمراد بالخطاب التخاطب والتنازع، أي أنّ كلامه كان يفصل التخاطب ويقطعه وذلك في موارد المقاضاة والمحاكمة، فبحكمه يتوقّف الخطاب، لأنّه الحكم الفاصل.

ص: 173


1- الإسراء (17) :39 .

سورة الصّاد(21 – 26)

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)

ينبغي التنبيه قبل البحث عن معنى الآيات أنّ القرآن الكريم يصحح أخطاء العهدين التوراة والإنجيل في موارد كثيرة بطريق إيجابي، وهو ذكر الكلام الحقّ ونقل الحدث على ما هو عليه من دون الإشارة إلى أخطائهما، وقد قال :تعالى: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحقّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ »(1)، وقال أيضاً: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » (2).

ومن الأخطاء الكبيرة نقلهم لقصص الأنبياء على أساس الأقاويل والقصص المنتشرة. ومن المعلوم أنّ التوراة الأصلية لم تكن إلّا مجموعة من الأحكام

ص: 174


1- المائدة (5): 48 .
2- النمل (27): 76 .

والشرائع وأمّا التواريخ المذكورة فيها فهي من صنع علمائهم أضافوها إلى التوراة. وهذا واضح، لأنّها لا تتعلق بعهد موسى (علیه السلام) ولا من كانوا قبله، بل بالمتأخّرين جدّاً.

وممّا ذكر في هذه الكتب المضافة أنّ داود (علیه السلام) كان ملكاً ولم يكن نبياً، وورد فيها من قصته - على ما في تفسير «الميزان» - ما ملخّصه أنّه هوي امرأة أحد قواد جيشه يسمّى أوريا، فزنى بها وحملت منه، ثمّ بعث إلى أمير الجيش ليجعل ذلك القائد في مقدمة الجيش حتّى يقتل ثمّ تزوّج بامرأته وولدت له سليمان، ثمّ أرسل الله أحد أنبيائه إليه، فقال له : كان في المدينة غنيّ له غنم وبقر كثير، وفقير ليس له إلّا نعجة واحدة فجاء ضيف إلى الرجل الغني فذبح له نعجة الفقير. فقال داود(علیه السلام): يجب أن يقتل الغنيّ ويؤخذ منه أربع نعاج للفقير. فقال له النبي: أنت هو الرجل ثمّ هدّده بعذاب من الله وأشار بذلك إلى ظلم داود (علیه السلام)لأوريا.

والظاهر أنّ اختلاف قبائل بني إسرائيل هو السبب في اختلاق هذه القصص وأمثالها. ومن المخزي أنّ بعض روايات المسلمين أيضاً من هذا القبيل، ولكنّهم خفّفوا من الاتّهام فقالوا: إنّه هوي المرأة فطلب من زوجها وهو من قواده أن يطلقها، ثمّ تزوّجها فأرسل له الله ملكين يتحاكمان إليه بما ورد في هذه الآية لينبهه على عدم إنصافه لقائده الذي لم يكن له إلّا امرأة واحدة وكان لداود (علیه السلام)جمع من النساء والجواري.

وهذا أيضاً كذب وافتراء ينزّه عنه الأنبياء مع أنّ الآيات - كما سيأتي - لا توافق هذا التفسير وإن أصرّ عليه مفسّر و العامّة غالباً، بل عدّ بعضهم التفسير الصحيح من كلام الجهلة. وهذا غاية الجهل.

ص: 175

وأمّا في رواياتنا، فالقصّة هكذا على ما رواه الصدوق (رحمه الله ) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) - في حديث طويل يردّ فيه (علیه السلام) على ما يتّهم به الرسل - إلى أن يقول:

«وأمّا داود (علیه السلام)، فما يقول من قبلكم فيه ؟ »فقال علي بن محمد بن الجهم يقولون: إنّ داود (علیه السلام) كان في محرابه يصلّي فتصوّر له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور، فقطع داود (علیه السلام) صلاته وقام ليأخذ الطير، فخرج الطير إلى الدار، فخرج الطير إلى السطح فصعد في طلبه، فسقط الطير دار أوريا بن حنان، فاطّلع داود في أثر الطير، فإذا بامرأة أوريا تغتسل، فلمّا نظر إليها هواها وقد أخرج أوريا في بعض غزواته، فكتب إلى صاحبه أن قدّم أوريا أمام التابوت، فقدم فظفر أوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود(علیه السلام)، فكتب إليه ثانية أن قدّمه أمام التابوت، فقدّم فقتل أوريا (رحمه الله ) فتزوّج داود بامرأته! قال: فضرب الرضا (علیه السلام) بيده على جبهته وقال: «إِنَّا الله وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ، لقد نسبتم نبياً من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته، حتّى خرج في أثر الطير، ثمّ بالفاحشة ثمّ بالقتل؟ فقال: يا ابن رسول الله فما كان خطيئته ؟

فقال: ويحك إنّ داود (علیه السلام) إنّما ظنّ أنّ ما خلق الله عزّ وجلّ خلقاً هو أعلم منه، فبعث الله عزّ وجلّ إليه الملكين فتسوّرا المحراب، فقالا : « خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ *إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ » فعجّل داود (علیه السلام) على المدعى عليه، فقال: «لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ »ولم يسأل المدعي البيِّنة على ذلك ولم يقبل على المدّعى عليه، فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه، ألا تسمع الله عزّوجل يقول: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ...» إلى آخر الآية.

ص: 176

فقال: يا بن رسول الله فما قصّته مع أوريا؟ فقال الرضا (علیه السلام): «إنّ المرأة في أيّام داود (علیه السلام) كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبداً، وأوّل من أباح الله له أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها كان داود (علیه السلام)، فتزوّج بامرأة أوريا لما قتل وانقضت عدّتها، فذلك الذي شقّ على الناس من قبل أُوريا». (1)

وقد وقع مثل ذلك للرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حيث تزوّج بزينب بنت جحش بعد طلاق زيد إيّاها، مع أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان قد تبنّاه. وقد مرّ في تفسيره أنّ القصد من هذا التشريع إنّما كان محاربة الطقوس والعادات الجاهلية، وهو ترتيب الأثر على التبنّي، فأراد المشرّع الحكيم أن يقتلع تلك العادات من جذورها، فأمر رسوله وهو المعصوم والمشهود له في شبابه وقبل نبوته بالعفاف والتقوى أن يتزوّج زوجة متبنّاه لئلّا يبقى أدنى شبهة في قلوب المؤمنين. وهكذا ينبغي أن تواجه الأخطاء المتأصّلة الاجتماعية التي ضربت بجذورها في أعماق النفوس.

ولكنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم يسلم من اتّهام الوضّاعين وهم هنا لم يتبعوا الإسرائيليات، بل قاموا بدور الإسرائيليين بأنفسهم وهم يدعون الإسلام. وقد مرّ البحث حوله في تفسير سورة الأحزاب.

ومن مثل هذا الحديث الذي نقلناه يظهر دور الأئمة الأطهار - سلام الله عليهم - في الدفاع عن الثقافة الإسلامية الواقعية، وتطهيرها من الأكاذيب الملصّقة، والذبّ عن حريم العصمة والرسالة. وكم له من نظير في التفسير والفقه ممّا يوضح أنّ أحاديث الأئمة (علیهم السلام) مهيمنة على السنة المنقولة عن طرق القوم تماماً كهيمنة كتاب الله العزيز على الكتب السماوية المحرّفة.

ص: 177


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) 1: 193-194.

وفي رواية عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إنّ رضا الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط، ... ألم ينسبوا داود (علیه السلام) إلى أنّه تبع الطير حتّى نظر إلى امراة أوريا فهويها، وأنّه قدم زوجها أمام التابوت حتّى قتل ثمّ تزوج بها »(1).

« وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ »، الخطاب للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، أو لمن يسمع أو يقرأ الآية. والاستفهام للتنبيه، وجلب الاهتمام إلى النبأ. و«الخصم» في الأصل مصدر كالخصومة، ويطلق على من يخاصم غيره مفرداً أو جماعة. و«إذ» ظرف للنبأ و«التسور» الصعود على السور، والمراد هنا سور المحراب، أي جدرانه، كما يقال: التسنّم للصعود على السنام أو كلّ عال مجازاً. و«المحراب» فسّر بالغرفة والمكان العالي في البيت، ولعلّ المراد به مكان العبادة، كما في قوله تعالى: « كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ» (2)، وقوله تعالى:«فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ» (3) .

« إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ »، ظرف ثان للنبأ، و«الفزع »على ما في المفردات انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف، فالمعنى: أنّ الفريقين المتخاصمين تسوّروا المحراب حين ما كان داود (علیه السلام) مشتغلاً بالعبادة ويفترض أن يدخلوا عليه من الباب. ولعلّ الدخول عليه كان ممنوعاً لاشتغاله بالعبادة. ولعلّهم أرادوا بذلك التنبيه على كونهم ممّن لا يمنعهم مانع.

وبما مرّ يتبيّن أنّ هذا الفزع ردّ فعل طبيعي، ولكن يحتمل أنّه فزع خوفاً من أن ينالوه بسوء حيث دخلوا عليه من دون استئذان في وقت لا يسمح لأحد بالدخول.

ص: 178


1- الأمالي الصدوق: 103 .
2- آل عمران (3) :37 .
3- مریم (19): 11.

« قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ» ، «خصمان» خبر لمبتدأ محذوف، أي نحن خصمان وجملة: «بَغَى بَعْضُنَا» وصفية. و«البغي» في الأصل هو الإرادة والقصد، فإذا عدي ب- «على » كان بمعنى الاعتداء وقصد ما لا يحقّ له من غيره. ولا تنافي بين ضمائر الجمع في «تسوّروا»، «دخلوا»، «قالوا » وضمير التثنية في «خصمان»، إذ يمكن أن يكون المراد الفريقين المتخاصمين، فيظهر من العبارة أنّ كلّ فريق أو أحدهما كان يتشكل من أكثر من واحد.

« فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ »، من الملفت للنظر أنّ المتخاصمين كانوا شديدي اللهجة، فأمروا داود (علیه السلام) بأن يحكم بينهم بالحقّ ولا يجور و «الشطط» هو البعد والمراد البعد عن الحقّ. و«سواء الصراط» وسط الطريق، فإنّ الطرق البرية في تلك الأزمنة لم تكن محدّدة، فإذا كان الإنسان يسیر على حافّته احتمل فيه أن يضيع الطريق الأصلي ويقع في متاهة، بخلاف من يسلك وسط الطريق، فإنّه يضمن عدم الضياع، فكني بوسط الطريق عن الموقف الصحيح في كلّ موضوع.

ويمكن أن يكون وسط الطريق إشارة إلى الاعتدال وعدم الانحياز إلى أحد الجانبين في الخصومة.

وهذه الفظاظة في الخطاب مقصودة ولعلّ الهدف منها المزيد من الابتلاء والفتنة، فإنّ مثل ذلك ربّما يكون مهيّجاً لغضب القاضي وحافزاً لتطرفه. ولعلّ الدخول بتلك الكيفية الموجبة للفزع أيضاً يقصد به ذلك، فالحاصل أنّه (علیه السلام) ابتلي بعدّة أمور تستوجب تسرعه في الحكم. وهكذا امتحان الله وتأديبه لأنبيائه(علیهم السلام).

« إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي

ص: 179

الْخِطَابِ

» ، هكذا عرضت القضية على داود (علیه السلام) وقوله « أَكْفِلْنِيهَا » أي اجعلني كفيلاً لها. وهذا كناية عن التمليك لأنّ مالك الحيوان كفيل بحفظه وصيانته.

وقوله « وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ» قيل : أي غلبني في الاحتجاج. ولكن يمكن أن يكون بمعنى التشدّد والصلابة لما مرّ مراراً من أنّ العزّة بمعنى الصلابة. والغرض أنّه أصرّ على ذلك بقوة لئلّا يتوهّم أنّه طلب منه بلطف فإنّ ذلك لا يستدعي المخاصمة.

ويبدو هنا تساؤل، وهو أنّه إذا فرض أنّ المتخاصمين كانوا في الواقع ملائكة فكيف يعبّر بالاخ ولا أخوّة بينهم، والملائكة معصومون من الكذب؟ والمفسرون أوّلوا ذلك بأنّ المراد الأخوّة في الدين ونحوها.

ولكنّ الإشكال أوسع من ذلك، حيث إنّ القصّة كلّها غير واقعية، فلا بدّ من التوجيه بما ورد في التفاسير أيضاً من أنّ ذلك على سبيل الفرض والتقدير، نظير ما يذكر حين عرض مسألة ما على الفقيه رجل كان كذا وكذا...، وبناءً على ذلك فلا حاجة إلى تأويل الأخوّة بما ذكر، لأنّها أيضاً مجرّد فرض.

« قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ » ، بناءً على ما مرّ من تفسير أهل البيت (علیهم السلام) كان هذا الجواب تسرعاً منه (علیه السلام) في الحكم والقضاء، فلم يسأل المدعي البينة على دعواه ولم يستوضح من المدعى عليه ما استوجب طلبه، وهذا هو موضع الفتنة والابتلاء، والدرس الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يلقّنه بطريق عملي لكي يعلم من نفسه موضع الضعف.

وهذا أمر هامّ جدّاً في مجال التربية، فإنّ مجرّد إلقاء التعليمات لا يغني عن ذلك مهما كانت الدراسة عميقة ومفصلة، بل المهمّ في تربية القضاة وغيرهم

ص: 180

التدريب العملي. ومن وضع القاضى فى حالة حرجة يستوجب إبرازه لحالته الطبيعية التي لا يتكلّف فيها، فإنّ هذا هو موضع الضعف في الإنسان، وأنت تجد الرجل مؤدباً ومتقيّداً بالسنن الاجتماعية وما يستلزمه منصبه وموقعه الاجتماعي إلّا في الحالات الحرجة التي تبعث الإنسان على إبراز كوامنه فيتبيّن طبعه الأصلي

والله تعالى يريد أن يؤدب نبيه ليكون مثلاً في القضاء العادل، ولا يكفي في ذلك تعليمه وإنزال الوحي بما يجب أن يفعل ويترك، بل لا بدّ من تنبيهه على موضع ضعفه، ليكون على بصيرة ممّا يجب أن يفعله في الموارد الحرجة، وما يمكن أن يصدر منه في هذه الحالات عن غير قصد.

« وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ »، هذا حكم عامّ. والظاهر أنّه من تتمة كلامه (علیه السلام) أراد به التنبيه على أنّ ما صدر من خصمك غالباً ما يحدث في موارد الاختلاط، نظير ما يحدث بين الزوجين والأخوين والشريكين والصديقين.

« إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ » ، لم يكتف بالإيمان، فليس الإيمان بنفسه وازعاً عن البغي خصوصاً في موارد الاختلاط، بل لا بدّ من ملكة قوية تمنعه ، وهي لا تحصل إلّا بالإيمان والعمل الصالح وهي ما نسمّيه بالعدالة. ثمّ بيّن أنّهم قليل جدّاً. و «ما» هنا زائدة تفيد التأكيد على القلّة.

« وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ» ، «الخرور» هو السقوط مع صوت، ومنه خرير الماء. وأمّا «الركوع» فقيل: إنّه بمعنى السجود وهو ما يقتضيه التعبير بالخرور. وقيل إنّه مجاز عن الصلاة لأنّها تشتمل عليه، والإنابة هي الرجوع إلى الله تعالى.

ص: 181

و«الفتنة» الامتحان. ويقال: إنّ المراد ب-«الظنّ» هنا العلم، لأنّه علم بذلك بعد أن تبيّن له أنّ الخصمين إنّما كانوا من الملائكة. ولعلّه علم بذلك بعد غيابهم عن بصره فوراً، كما قيل .

ولكنّ الظاهر أنّ الظن بمعناه، وليس معنى الظن الاحتمال الراجح، بل الاعتقاد الحاصل من الشواهد من دون استناد إلى حسّ أو دليل قطعي. وإن أوجب الاطمئنان ويقابله العلم المستند إلى الحسّ أو الدليل القطعي وهنا أيضاً إنّما تبيّن الأمر له (علیه السلام) بملاحظة الشواهد والقرائن فهو ظنّ وإن لم يحتمل فيه الخلاف مع أنّ احتماله أيضاً غير بعيد إلّا أنّه احتمال ضعيف جدّاً لا يعتنى به. بل حتّى لو كان احتمالاً قوياً في ذاته، فإنّ الظن بمثل ذلك يكفي لنبيّ كداود (علیه السلام) أن ينبهه ويستوجب الاستغفار.

وينبغي أن نراجع هنا أنفسنا ونعتبر من هذا الدرس ونلاحظ أنّنا نرى الشواهد القويّة القطعية على مفاسد أعمالنا وتبعاتها، حيث إنّ الله تعالى بلطفه وهدايته ينبّهنا على ذلك، مع ذلك نغمض العين عن كلّ تلك الشواهد القطعية ونتشبث بأقلّ من الحشيش لكي لا نحمل أنفسنا عناء المجاهدة وترك الملذّات.

وأمّا داود (علیه السلام) فما أن تبيّن له حتّى استغفر ربِّه وخرّ راكعاً وأناب، استغفر ربّه لا من ذنب، بل لأنّه لم يقم بما هو الصحيح في القضاء بين الناس، لا ما ذكره مفسّر والعامّة أنّه افتتن بامرأة أوريا، حاشاه.

و یدلّ على ذلك قوله تعالى بعد ذلك: « يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» من دون أن يفصل بين هذه الجملة والجملة السابقة ممّا یدلّ على أنّ ذلك إنّما ورد كنتيجة للامتحان المذكور، فلا بدّ من كونه أمراً

ص: 182

مناسباً له، ولو كان الأمر كما قالوا لخوطب بالنهي عن متابعة الشهوات.

« فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ » ، «الغفران» لا يستوجب كون ما أتى به محرّماً، بل يكفي أن يكون غير مناسب لمقامه، ولما ينبغي أن يكون عليه الأنبياء ، فإنّ حسنات الأبرار سيّئات المقربين. و«الغفران» هو الستر، ومنع ترتّب الآثار السيّئة على العمل، حتّى لو كان العمل واجباً شرعياً وترتّب عليه أثر سيّئ في الدنيا، كما قام به موسى (علیه السلام).

ولذلك عقّبه بكلّ تأكيد أنّ له قرباً وزلفى لدى الله تعالى. فقد أكّده ب- (إنّ) ولام القسم. وتنكير «الزلفى» للتعظيم ممّا یدلّ على عظم منزلته (علیه السلام) وقربه لدى الله تعالى. و«المآب» المرجع، أي أنّه يرجع إلى الله تعالى يوم القيامة بأحسن وجه. ويمكن أن يكون المراد ب«المآب» المأوى الذي يرجع إليها أي الجنّة.

« يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ » ، لعلّ جملة الخطاب هنا بتقدير: «وقلنا له.. » أو أنّه حكاية لما خوطب به في ذلك المقام. وقد مرّ أنّه يحكي عن نتيجة الامتحان. ويتبيّن منه أنّ الفتنة إنّما كانت في طريقة حكمه بين المتخاصمين.

ومن الواضح أنّ المراد ب-«الخلافة » خلافة الله ولا وجه لحمله على خلافة الأنبياء السابقين. ولعلّ الداعي إلى هذا التأويل استغراب كون الخلافة لله تعالى، لأنّه على وجه الحقيقة غير ممكن، إذ يتوقّف على زوال المستخلف أو بعده عن الموقف، والله تعالى على كلّ شيء رقيب وحفيظ.

والجواب: أنّ الخلافة لله تعالى ورد في الكتاب العزيز للإنسان بوجه عامّ ، قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (1) وقال أيضاً: «وَهُوَ الَّذِي.

ص: 183


1- البقرة (2) :30 .

جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ » (1)على أحد الاحتمالين، وغير ذلك.

ولعلّ التعبير بالخلافة في الإنسان من جهة ما أوتي من عقل واختيار، فهو يفعل في الأرض ما يشاء في أطار العوامل الطبيعية، فهو اختيار محدود ولكنّه اختيار على كلّ حال. ولعلّه لذلك استنبط الملائكة أنّه يفسد في الأرض ويسفك الدماء.

وأمّا خلافة داود (علیه السلام)، فالظاهر بقرينة التفريع الآتي أنّه في الحكومة والقضاء بين الناس ومنه يعلم أهمية هذا المنصب بذاته، وأنّه منصب إلهي لا يقوم به إلّا نبيّ أو وصي نبيّ أو من أوكلوا إليه ذلك كما في الحديث، بل هو في الأصل لله تعالى «ِإِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ » (2)، فمن هنا اعتبر داود (علیه السلام) خليفة له تعالى.

«فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ »، أي بالأمر الثابت وهو شريعة السماء وحقوق الإنسان حسب ما نزل به الوحي. والحكم بين الناس هو القضاء أو الولاية العامّة.

«وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ »، الظاهر منه اتّباع القاضي والحاكم هواه في الحكم بين الناس ويبعد حمله على اتّباع هوى الآخرين. قالوا: إنّ الخطاب ليس متوجهاً إليه، لأنّه نبيّ معصوم لا يّتبع الهوى، والمراد نهي غيره ممّن يتصدّى للقضاء.

وقال بعضهم: إنّ متابعة الهوى في مثله تتحقّق بمثل ما حصل له في الامتحان السابق وهو التسرّع في الحكم ممّا لا ينبغي أن يصدر منه، وفي غيره ربّما تتحقّق

ص: 184


1- الأنعام (6): 165.
2- الأنعام (6): 57.

بالحكم بالجور والميل إلى أحد الطرفين.

والصحيح أنّ العصمة لا تنافي أن يخاطب بالنهي عن المحرمات والأمر بالواجبات، بل لا معنى للعصمة لولا الخطاب، إذ لولاه لم يكن معنى للمخالفة والذنب، المفروض عصمته منه، وقد خوطب الرسول ، بل كلّ الرسل بأشدّ منه، قال تعالى: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ »(1)والآية لا تقبل أيّ تأويل.

ثمّ علّل الحكم بأنّ متابعة الهوى يضلّ الإنسان عن سبيل الله. وليس بالطبع كلّ ما يهواه الإنسان منافياً للسير في سبيل الله تعالى، ولكنّ المراد أنّ متابعة الهوى خصوصاً في القضاء بين الناس يستدرج الإنسان إلى الضلال، فإنّ القاضي عليه أن يتّبع الحق، سواء وافق هواه أم خالفه، وسبيل الله هو الحق، كما قال تعالى: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ »(2).

إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ » ،«ما» مصدرية، أي بنسيانهم يوم الحساب والمعنى أنّ الضلال عن سبيل الله يجرّ الإنسان إلى العذاب الأبدي وذلك بسبب نسيانه ليوم الحساب والمراد ب-«النسيان» لازمه وهو عدم الاهتمام به، لا النسيان حقيقة.

وهذه الجملة تعلّل ضرورة تجنّب الضلال عن سبيل الله بإرجاعه إلى وازع ذاتي وهو استلزامه للعذاب الشديد، وهو العلّة الذاتية التي تدعو الإنسان إلى طاعة الله تعالى، فإنّ وجوب كلّ طاعة يستند إلى وجوب إطاعة الله، ووجوب

ص: 185


1- الزمر (39) :65 .
2- الحج (22): 62 .

إطاعته تعالى يستند إلى علّة ذاتية، ولذلك يعتبر كلّ أمر بوجوب إطاعته إرشادياً.

وفي الآية الكريمة إشكال، وهو أنّ مقتضى الآية الملازمة بين الضلال ونسيان يوم الحساب، وأنّ الضلال لا يتحقّق إلّا بذلك، و أنّ سبب العذاب هو نسيان يوم الحساب لمكان «الباء»، ولازم ذلك أنّ الذي يكون معتقداً لذلك اليوم وحذراً منه ومتنبّهاً له لا يضلّ السبيل ولا يستحقّ العذاب، مع أنّا نجد في الناس من يعتقد بالآخرة ويتّقي ربّه ويحذر العذاب الأبدي، ولكنّه لم يهتد إلى دين الحقّ أو المذهب الصحيح و ضلّ عن سبيل الله بمعناه الواقعي.

وربّما يقال: إنّ سبيل الله عامّ يشمل كلّ هذه السبل. وهذا ممّا يصرّ عليه بعض المثقفين الذين يدعون التعمّق في الدين ولكنّه كلام باطل، فإنّ القرآن زاخر بما یدلّ على أنّ سبيل الله واحد ،كقوله تعالى: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ » (1).

والجواب عن الإشكال: أنّ مورد الآية الذين يضلّون عن سبيل الله تعالى بمتابعة الهوى، وهو لا يكون إلّا بنسيان يوم الحساب، أي عدم الاهتمام به، ولا ينطبق على من ضلّ السبيل لعدم تمامية الحجّة عليه لنقص في عقله أو لأمور أخرى، كتأثير المجتمع والتربية والدعايات المضادة. وليعلم أنّ الغالب في دافع من يتّبعون المذاهب الفاسدة هو متابعة الأهواء، إمّا ابتداءً أو بقاء.

ص: 186


1- الأنعام (6): 153 .

سورة الصّاد(27 – 29)

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)

« وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا »، تعقيباً على ذكر يوم الحساب في الآية السابقة يتعرض هنا لإثبات المعاد ترسيخاً للحكم السابق، فأتى عليه بدليلين:

الأوّل: ما بيّنه في هذه الآية من أنّه لو لم يكن هناك معاد لكان خلق السماء والأرض وما بينهما باطلاً، و«الباطل» هو الأمر الزائل الذي لا ثبات له، ويقابله الحقّ وهو الأمر الثابت والمراد به هنا العبث واللهو واللعب، أي ما ليس له غاية وحكمة. وقد تكرّر في القرآن نفي كون الخلق لعباً وعبثاً ولهواً.

قال تعالى: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ *لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ » (1) ، وقال أيضاً: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ *مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ »(2) ، وقال أيضاً: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ»(3).

والعبث واللهو واللعب كلّ ما ليس له غرض وغاية إلّا نفسه، فالذي يلعب ليروّض جسمه، أو لينشّط روحه له غاية وحكمة، ولكنّ الذي يلعب لمجرّد أن يكون مشغولاً ملتهياً ليس له غرض خارج عن نطاق العمل كلعب الأطفال، فهو

ص: 187


1- الأنبياء (21): 16 .
2- الدخان (44): 38 - 39 .
3- المؤمنون (23): 115 .

لهو محض. وهذا بالطبع لا يصدر من الحكيم، فلو لم يكن وراء هذا الكون الزائل غاية وغرض ثابت دائم، والمفروض أنّ هذا الكون بنفسه ليس ثابتاً، فالغرض منه ليس إلّا هذه التغيّرات التي ليست إلّا كتغيّر أدوات اللعب، لا فائدة منها ولا هدف وراءها. واللعب مستحيل على الحكيم.

« ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا » ، «الظن» هو كلّ عقيدة لا يستند إلى منطق ودليل. و«الكفر» هو الستر، ويطلق على الإنكار ، فالمراد ب- « الَّذِينَ كَفَرُوا »هنا قد يكون الذين أنكروا وجود الخالق، فأنكروا بالطبع وجود حكمة وتدبير وراء هذا الكون، أو الذين أنكروا حكمة الباري وأنكروا أنّ ما صنعه لا بدّ من أن يكون لحكمة، أو الذين أنكروا المعاد، كما كان ينكره المشركون في مکّة وجزيرة العرب والظاهر أنّهم هم المقصودون دائماً أو غالباً بهذا التعبير: الَّذِينَ كَفَرُوا» في القرآن الكريم. وعليه فالمراد أنّهم بإنكارهم المعاد ينكرون الحكمة في الخلق وإن لم ينتبهوا لهذه الملازمة.

« فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ » ، أي أنّ النار معدّة لمن يكفر بالله، أو يكفر بحكمته وينكرها، فالويل لهم يوم يرونها وهم لم يحسبوا له حساباً. وإعادة عنوان « الَّذِينَ كَفَرُوا » بدلاً عن الضمير للتنبيه على السبب فهم يستحقّون النار لكفرهم.

« أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار »، هذا هو الدليل الثاني. وتوضيحه أنّا نجد أنّ المؤمنين الصالحين في الدنيا يساوون الكافرين والفجار في أنّ رغد العيش وضيقه لديهم يتبع العوامل الطبيعية المتوفّرة، والنشاط الفكري والجسمي، وحسن الحظّ في كثير من الموارد ولم يخصّ الله المؤمنين الأخيار بوسيلة إعجازية خارقة للعادة تخصّ

ص: 188

بهم وتدرّ عليهم المال، أو وسائل العيش، أو تدفع عنهم البلاء، أو تشفّيهم من الأمراض، وغير ذلك من حاجات الإنسان في الدنيا.

وهذا بالطبع هو مقتضى الحكمة، فإنّ الدنيا دار الابتلاء والامتحان والفتنة، فلو كان الله تعالى يخصّ المؤمنين بشيء من ذلك لآمن من في الأرض جميعاً، ولكنّهم ما كانوا يؤمنون طلباً للآخرة وإيماناً بالغيب، كما هو المقصود، بل للوصول إلى الهدف المنشود وهو رغد العيش في الدنيا من أقرب طريق وأسهله. بل نجد في الغالب أنّ وسائل العيش متاحة بوجه أوسع وأرغد للكفار والظلمة والطغاة. والسبب فيه يعود إلى عدم تورّعهم من كسب المال بأيّ طريقة تمكّنوا منها، بخلاف المؤمنين المتّقين. وهذا الأمر أي مساواة المتّقين للفجّار، بل تأخّرهم في موارد العيش في الدنيا، بل وقوعهم غالباً تحت سطوة الطغاة وظلمهم، لا يليق أيضاً بحكمة الباري ورحمته، فلا بدّ من وجود عالم ينال فيه كلّ أحد حقّه.

و إنّما قابل بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض، ولم يذكر في مقابلهم الكفّار كما هو الغالب في موارد المقابلة، ليكون الاستشهاد بالمورد الواضح الذي لا يتصوّر مساواته للمؤمن في المقياس الإلهي ولو ذكر الكافر لأمكن أن يقال بأنّ الكفر بنفسه لا يستلزم التفريق بين الفريقين في الحياة الدنيا، أمّا الذي يفسد في الأرض فلزوم التفريق بينه وبين المؤمن الصالح واضح يعترف به الخصم.

ولذلك أيضاً قيّد الإيمان بالعمل الصالح، إذ مجرّد كونه مؤمناً لا يقتضي وضوح الفرق، وكم من الطغاة الأشرار يعتبرون في عداد المؤمنين حسب الظاهر.

ص: 189

ثمّ أبدل التعبير بالمقابلة بين المتّقين والفجّار، فالمتّقون من أكمل الناس إيماناً واعتقاداً وعملاً. والتقوى يمنع من جميع المعاصي. و«الفجّار» جمع فاجر من الفجر بمعنى الشقّ، ومنه الفجر الذي يشقّ الظلام، ويطلق على الفاسق، لأنّه يشقّ ستر الديانة، كما في «المفردات». أو بمعنى التفتّح ويطلق على الفجر لتفتح الضياء فيه، ويطلق على من تفتّح في المعاصي وارتكب الكبائر والموبقات، كما في «معجم مقاييس اللغة». ثمّ أطلق على كلّ ميل عن الحقّ توسعاً في الاستعمال.

وعليه، فالمقابلة أيضاً بين من هو واضح الاستحقاق للإكرام وهم المتّقون ومن هو واضح الاستحقاق للعذاب وهم الفجّار، بناءً على المعنى الأصلي للفجور حسب المعجم.

ولعلّ تغيير المقابلة إلى التعبير الثاني من جهة أنّ عنوان المفسدين في الأرض يختصّ بمن يعتدي على الناس أو ينشر المفاسد بينهم، وأمّا الفجّار فيشمل من يرتكب الموبقات الشخصية أيضاً.

« كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ » ، أي هذا كتاب، و«الكتاب » هو المكتوب، أي المجموع، فلا يعتبر أن يكون النازل بصورة كتابة بالمعنى المعروف، و إنّما هو مجموعة من الآيات.

و «مبارك» من «البركة» وهي الخير الكثير، وتأتي الكلمة دائماً مبنيّاً للمجهول لأنّ فاعله هو الله تعالى وفي هذا الكتاب خير كثير للبشر لا غنى لهم عنه، بل كلّ الخير فيه، لأنّه يحذر الإنسان من الخطر المحدق به في حياته الدائمة الأبدية، ويعلمه ما يجب فعله وتركه ليفوز بالخير الدائم فلا يعتبر ما عداه من الخير في هذه الدنيا خيراً إن لم يكن معه .

ص: 190

وقوله: « لِيَدَّبَّرُوا» في الأصل: «يتدبّروا» وهو تعليل للإنزال، فهذا الكتاب أنزل لا للقراءة فحسب، بل ليتدبّر الناس آياته و«التدبّر » مأخوذ من الدبر أي مؤخرة الشيء، والمراد عاقبته ونهايته. ومعنى «التدبّر» في الآيات النظر في غاية ما يقصد بها من معان دقيقة وعدم الاكتفاء بمعرفة الظاهر.

« وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ» ، «التذكر» لا يطلق إلّا في ما كان الإنسان يعلمه فنسيه، ولكنّ القرآن يطلقه على ما هو مرتكز في فطرته، فتناساه لتوغّله في الدنيا ومتابعته للأهواء. و«الألباب » جمع لب، وهو الخالص من كلّ شيء، والمراد به هنا العقل ولكن لا بمعنى الإدراك والفهم، بل بمعنى تحكيم العقل والعمل وفق مقتضياته، وهو الذي يوجب التذكر لما تقتضيه الفطرة من الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر.

قال العلّامة الطباطبائي (رحمه الله):« والمقابلة بين « لِيَدَّبَّرُوا» و« لِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ» تفيد أنّ المراد بضمير الجمع الناس عامّة والمعنى هذا كتاب أنزلناه إليك كثير الخيرات والبركات للعامّة والخاصّة ليتدبّره الناس فيهتدوا به أو تتمّ لهم الحجة وليتذكّر به أولوا الألباب فيهتدوا إلى الحقّ باستحضار حجته وتلقّيها من بيانه»(1).

والأولى أن يقال: إنّ معنى ذلك أنّ التدبّر متوقّع من عامّة الناس، لأنّ التدبّر والتعمّق شأن الجميع، ولكن التذكّر شأن أولي الألباب خاصّة وليس المراد منهم العلماء، كما يوهمه التعبير بالخاصّة في عبارة العلّامة، بل المراد كما ذكرنا من يحكم عقله ولا يتّبع هواه، سواء كان من العلماء المعبّر عنهم بالخاصّة أو من عامّة الناس.

ص: 191


1- الميزان في تفسير القرآن 17: 197.

سورة الصّاد( 30 – 40)

وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثمّ أَنَابَ (34)قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)

« وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ » ، الآية تكرم سليمان النبيّ (علیه السلام) وتمجده، خلافاً لما في التوراة من نسبة العدوان والظلم ومتابعة الهوى والشهوات بل الكفر إليه. وقد مرّ أنّ القرآن مهيمن على الكتب السماوية المحرّفة ومبيّن لأخطائها. ومن هنا يصرّ القرآن الكريم على تمجيد أنبياء الله وتنزيه ساحتهم عمّا نسب إليهم ممّا لا يليق بهم.

والآية تمدحه بأنّه نعم العبد بعد الامتنان على داود (علیه السلام) بأنّ الله تعالى وهبه هذه النعمة. و«العبودية» غاية كمال الإنسان لأنّه الهدف الاسمى من خلقه، قال تعالى:« «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (1).

ثمّ علّل المدح بكونه أوّاباً. و«الأواب» مبالغة في الأوبة أي الرجوع ،والمراد الرجوع إلى الله تعالى. وقد مرّ أنّ المراد كثرة رجوعه بمجرّد اشتغاله بغير ذكر

ص: 192


1- الذاريات (51) :56 .

الله تعالى، فليس كثرة التوبة والأوبة في الأنبياء لكثرة الذنوب، إذ ليس ذلك مدحاً، بل ربّما لا تقبل التوبة إذا تكرّر الذنب، لأنّها تعتبر - كما في الحديث - استهزاء، و إنّما كثرتها فيهم لاعتبارهم كلّ توجّه إلى غيره ابتعاداً عن الله والتفاتاً عنه إلى غيره، وهو في ذلك المقام السامي من القرب يعدّ ذنباً.

وتوجيهه: أنّ الإنسان إذا بلغ هذه المرتبة فإنّه يشعر بحضوره تعالى دائماً وباستمرار، فکأنّه دائماً في صلاة وتوجّه، فإذا التفت إلى غيره تعالى كان كمن التفت في صلاته وهو ذنب، فهذا يعتبر للواصلين إلى هذه المرتبة ذنباً لا بدّ فيه من التوبة والأوبة ولكنّه ليس من المحرمات في الشريعة، والأنبياء معصومون من المحرمات الشرعية لا من ذنوب المقرّبين.

« إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ »، الآيات تذكر موضعين من أوبته (علیه السلام) كمثال لما مرّ من أنّه كغيره من الأنبياء كان يتوب لمجرّد غفلة عن ذكر الله تعالى، فالموضع الأول على ما يبدو من الآية أنّه (علیه السلام) حينما عرض عليه خيل جياد اشتغل بها وغفل عن ذكر الله تعالى.

و«الجياد» جمع جواد يطلق على الفرس الممتاز في العدو، ولعلّه باعتبار أنّه يجود بما لديه من قوة، إمّا لإرضاء صاحبه، أو لأيّ غاية لا نعلم بها، فعالم الحيوانات مغيب علينا.

و« الصَّافِنَات » من الصفن يقال ذلك للخيل إذا وقفت على ثلاث قوائم ورفعت إحدى يديها وأبقتها على حافرها استعداداً للعدو، فهذا مدح لها في حال الوقوف، كما أنّ الجياد مدح في حال الركض.

و«العشيّ» آخر النهار أو أوّل الليل أو كلاهما والاعتبار يقضي بأن يكون

ص: 193

المراد هنا آخر النهار ، إذ يبعد عرض الجياد ليلاً. وهو مأخوذ من العشو، وهو عدم الوضوح، وهذا أيضاً يناسب آخر النهار لا الليل.

و«إذ» ظرف لبيان مورد من موارد الأوبة، فيتعلّق بقوله أوّاب والظاهر أنّ مشاهدة الخيل بتلك الحال ألهته عن ذكر ربّه في آخر النهار وهو أحد أوقات الذكر، قال تعالى: « وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ» (1) .

« فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ »، «حبّ الخير» مفعول مطلق لبيان نوع الفعل، أي الحب. والمراد ب-«الخير» هنا الخيل، إمّا لأنّه مال ثمين ويعبّر عن المال بالخير ، قال تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ » (2) ، أو لأن العرب تعبّر عن الخيل بالخير، كما قيل.

وضمّن الحبّ هنا معنى الإعراض، فالمعنى: إنّي أحببت حب الخير وأعرضت بسببه عن ذكر ربّي، أو ضمن معنى الالتهاء، أي التهيت بها عن ذكر ربي، حتّى توارت بالحجاب.

قيل: إنّ ضمير الفاعل في «توارت» يعود إلى الشمس المدلول عليها بالعشي، حيث كان المفروض أن يذكر ربّه قبل الغروب، فالتهى بالخيل حتّى غربت الشمس، وهو بعيد عن اللفظ وإن كان قريباً من حيث المعنى والاعتبار. وذلك لبعد دلالة العشي على الشمس وغرابة التعبير عن الغروب بالتواري بالحجاب.

فالأقرب من حيث اللفظ أن يكون مرجع الضمير الخيل والمعنى أنّه استمرّ ملتهياً بها حتّى توارت بالحجاب، أي حجبت عنه بدخولها الاصطبل

ص: 194


1- ق (50): 39 .
2- البقرة (2) :180 .

مثلاً، فلم يمنعه شيء من مشاهدتها إلّا الاختفاء عن العين وهذا غاية الالتهاء بالشيء .

فالأوبة هنا هو تنبّهه لما حصل. ولعلّ هنا محذوفاً تدلّ عليه الجملة المذكورة، وهو أنّه (علیه السلام) قضى ما عليه من الذكر ، ثمّ عاد إلى الخيل وطلب أن يردّوها عليه، وأخذ يمسح سوقها وأعناقها عناية بها. ولعلّ الوجه في هذه العناية أنّها تساعده في جهاده في سبيل الدعوة، فحبّها أيضاً كان لله تعالى.

وهنا احتمال آخر لعلّه أقرب، وهو أن يكون المراد بقوله تعالى: « فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ» تنبهه لذلك أثناء العرض وأنّه أعرض عنها واشتغل بذكر ربّه، ويكون قوله تعالى: « حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » من كلام الله سبحانه ويكون غاية لما يفهم من الجملة السابقة أي إعراضه عنها وذكره لربّه، فالمعنى: أنّه اشتغل بذكر ربّه حتّى توارت بالحجاب، فلمّا فرغ عن ذكره قال: « رُدُّوهَا عَلَيَّ »، وعليه فيكون تنبهه للغفلة عن ذكر ربّه أثناء العرض لا بعد تواريها في الحجاب.

هذا ما يمكن أن تحمل عليه الآيات المذكورة دون مساس بعصمة النبيّ و کرامته، ودون تأويل بارد، أو منافاة بين الجمل أو أخذ بالإسرائيليات التي تبدو عليها - كما ذكرنا - عداء هذه المجموعة من اليهود، أي التي وضعت هذه الروايات لداود وسليمان (علیهما السلام). وإذا راجعت كتب التفسير فستجد أنّ أفضل موقف اتّخذه بعضهم هو الامتناع عن تفسير الآية حتّى بظاهرها لتجنّب متابعة الروايات الواردة بهذا الشأن البعيدة عن الصواب.

وأمّا الذين فسّروها تبعاً للروايات، فممّا قالوه إنّه (علیه السلام) غفل عن صلاة العصر حتّى توارت الشمس، أي غربت فقال: « إِنِّي أَحْبَبْتُ » ثمّ طلب من الملائكة أن

ص: 195

يردّوا عليه الشمس، فقام للصلاة، وأنّ وضوءهم كان يشتمل على المسح بالسوق، والأعناق، وأنّ الجمع باعتبار الجماعة حيث توضأ هو وأصحابه.

ومن الغريب أنّ العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) استقرب ذلك إن ساعده لفظ الآية. مع أنّه بعيد عن العبارة وفي نفسه أيضاً، إذ ليس في الآية ذكر للشمس، والنبيّ لا يطلب من الملائكة ذلك، بل كان عليه أن يدعو ربّه، فالملائكة لا ينفذون إلّا أمر ربّهم. وأمّا حمل المسح المذكور على الوضوء فغريب جدّاً، حتّى لو فرض كون وضوئهم كذلك، إذ المسح حسب الآية من سليمان الله(علیه السلام) فهل كان عليه أن يوضئ أصحابه ؟!

وممّا قالوه أنّ المسح كناية عن تسبيلها في سبيل الله جازى بذلك نفسه حيث غفل بها عن الصلاة. وفيه مضافاً إلى استهجان نسبة الغفلة عن الصلاة إلى النبيّ ، أنّ هذه الكناية لا مصحّح لها من حيث اللفظ والاعتبارات الأدبية، مضافاً إلى ما مرّ من بعد عود الضمير إلى الشمس.

ومن ذلك أيضاً أنّ المراد بالمسح ضربها وعقرها وقتلها بذلك. وهو أغرب ما قيل، إذ لا مبرّر له وهو إتلاف للمال والخيل ممّا يحتاجه الجيش، وكان (علیه السلام) من المجاهدين في سبيل الله. ثمّ ما ذنب الخيل إن كان هو الغافل عن ذكر ربّه؟!

ولعلّ أفضل ما قيل أنّ المراد بقوله: » عَنْ ذِكْرِ رَبِّي » أنّ حبّه للخيل ناتج عن ذكر ربّه، فليس في الآية أيّ غفلة عن ذكر الله تعالى. ولكنّه بعيد عن لفظ الآية جدّاً كما هو واضح، مضافاً إلى أنّ الآيات بصدد بيان مواقع أوبته إلى الله تعالى بعد صدور غفلة منه إلّا ولا مناسبة في ما ذكر للأوبة.

« وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثمّ أَنَابَ »، «الكرسي » ما يجلس عليه

ص: 196

وأصله من الكرس أي التلبد والاجتماع كأنّ الجالس عليه يجمع نفسه و«الإنابة » الرجوع والظاهر أنّ هذه الآية تشير إلى مورد آخر من موارد إنابة سليمان (علیه السلام) وأوبته إلى ربّه بعد صدور ما لا يناسب مقامه وقربه لدى الله سبحانه ولكنّ الآية مجملة جدّاً، وهناك روايات تفسّر ذلك، أقربها إلى القبول أنّها تزوّج عدّة نساء، وكان يأمل أن يكون له نسل كثير من الذكور يجاهدون في سبيل الله تعالى، ولم يطلب ذلك من الله، أو لم يقل في كلامه: «إن شاء الله»، فلم يرزق بولد بالرغم من كثرة أزواجه، بل ألقي على كرسيه جسد بلا روح، و«الجسد» لا يطلق على غير الإنسان ولا على جسم الإنسان الحي، فانتبه لما صدر منه وعلم أنّه لا سبيل إلى كثرة نسله مهما تعددت الأزواج ومهما أوتي من قوة، فأناب إلى ربّه وطلب المغفرة وأن يعوّضه الله عن ذلك بملك يختصّ به.

وقد ذكرنا سابقاً أنّ الأنبياء معصومون من الذنوب التي تعتبر ذنباً حسب التكاليف العامّة، وليسوا معصومين ممّا لا يناسب مقامهم وقربهم، وأنّ ذلك يضرّهم وينزل من مقامهم لولا إنابتهم وتوبتهم ومغفرة الله لهم. وهذه الأمور ربما تكون بالنسبة لغيرهم حسنة، وهي لهم سيئة، كأكثر صلواتنا وعباداتنا، فإنّها حسنات لنا، ولكن إذا صلّى نبيّ بهذه الغفلة والتوجّه إلى الغير التي هي سمة صلواتنا عادة فإنّها تعتبر له سيّئة توجب تنزّله عن مقام قربه.

وأمّا الروايات في هذا الباب، فقد تجاوزت الحدّ في نسبة السوء إلى النبيّ بل اشتمل بعضها على خرافات من قبيل قصص ألف ليلة وليلة.

فمنها: أنّه ولد له ولد فخاف عليه من مردة الجنّ ، فأمر به أن يحفظ و يرضع في السحاب، فألقاه الله جثّة هامدة على كرسيّه.

ص: 197

ومنها ما ورد في روايات كثيرة عن طرق العامّة بوجوه مختلفة أنّ ملكه كان بسبب خاتمه فاحتال أحد الشياطين وأخذه منه، فانتقل ملكه إلى الشيطان وتسلّط الشيطان على ملكه أياماً إلى أن أعاد الله الخاتم إليه، وأن المراد بالجسد هو ذلك الشيطان. و في هذه الروايات أكاذيب وخرافات كثيرة، فليراجع كتبهم، وفي بعضها يتصل السند إلى كعب الأحبار اليهودي ممّا یدلّ على المصدر الأساس لها.

« قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ»، تبيّن ممّا مرّ أنّ هذا الدعاء إنّما دعا به سليمان (علیه السلام) بعد الفتنة والإنابة، وتبيّن أنّ الأنبياء بالاستغفار يزيلون أثر ما صدر منهم من خطأ بلحاظ مقامهم السامي. ثمّ دعا لنفسه بأن يهبه الله ملكاً لا ينبغي لأحد ينبغي لأحد من بعده.

قالوا : المراد بقوله: « مِنْ بَعْدِي »، أي غيري، كقوله تعالى: « فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ» (1) .

وعلّل (علیه السلام) طلبه بأنّ الله تعالى وهّاب أي كثير الهبات، و«الهبة» هو العطاء من دون عوض، وكلّ ما في الكون من خير عطاء من الله تعالى وكلّه بلا عوض فإنّ كلّ عوض أيضاً منه تعالى وتقدّس.

وربّما يتساءل: لماذا طلب الاختصاص ونفيه عن غيره؟ أليس هذا بخلاً ينبغي أن يجلّ عنه ساحة الأنبياء؟

وأجيب بوجوه بعضها ضعيفة لا نتعرّض لها وبعضها لا بأس بها. جدّاً.

منها جواب العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) وهو أنّه سأل ملكاً يختصّ به ولم يطلب منع

ص: 198


1- يونس (10): 32 .

غيره وحرمانه، وهناك فرق بين أن يسأل ملكاً اختصاصياً، وأن يسال الاختصاص بملك أوتيه (1) .

والإنصاف أنّه لا فرق بينهما، ومجرّد هذا التفكيك لا يحلّ المشكل، فإنّ سؤال ملك يختصّ به يعود إلى طلب أمرين ملكاً واختصاصاً، والإشكال في الثاني.

وقيل: إنّ هذا التعبير كناية عن كون هذا الملك أمراً عظيماً وممتازاً ولا يقصد به الاختصاص، نظير ما يقال إنّ فلاناً أوتي من الحكمة ما لم يؤت أحد مثله.

ولعلّ أفضل ما قيل في الباب هو أنّه طلب معجزاً من الله تعالى يكون آية لنبوته، والإعجاز لكلّ نبيّ بما يناسب شأنه، فمعجز موسی (علیه السلام) ما جاری به سحر السحرة وغلبهم، ومعجز عيسى (علیه السلام) جارى به الأطباء حيث كثروا في زمانه، فأبرأ الأكمه والأبرص، ومعجز نبينا (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الجارى به الأدباء والشعراء وهكذا.

وحيث كان سليمان (علیه السلام) وارثاً لملك أبيه وكان يجاري الملوك والجبابرة، طلب من الله ملكاً يشتمل على إعجاز، لتكون آية لنبوّته، فعدم جوازه لغيره من جهة كونه آية وإعجازاً، فسخّر الله له الريح والجنّ وعلّمه منطق الطير.

ويشهد له أنّه (علیه السلام) لم يطلب اختصاصاً ولا ملكاً يختصّ به، بل ملكاً لا ينبغي فی حدّ ذاته أن يتكرّر، وهذه صفة تعود إلى الملك في حدّ ذاته وهو كذلك، فإنّ سلطته على الريح والجنّ والطير لا يمكن أن تتحقّق لأحد بصورة طبيعية، فالمراد ليس عدم موهبة الله لغيره، بل عدم امكانه لغيره بصورة طبيعية، وهو معنى الإعجاز.

ص: 199


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 17: 205 .

ويمكن أن يقال: إنّ طلب الاختصاص والامتياز من الله تعالى ليس مذموماً، بل هو ممدوح، و یدلّ ذلك على غاية قربه لدى الله سبحانه، فكلّ مقرب يحاول أن يحصل على امتياز یدلّ على مكانته لديه تعالى، فهو لم ينظر إلى الملك بما أنّه أمر دنيوي، بل بما أنّه موهبة خاصّة من الله سبحانه تدلّ على اختصاصه بمنزلة من الزلفى لديه تعالى. وهذه المنزلة لا ينالها الإنسان إلّا بحبّه وتفانيه وإخلاصه لله تعالى، وكلّما زاد حبّه زاد لديه قرباً ومنزلة، وهذا الحب هو النعمة الكبرى الذي من أوتيه لا يهمّه أن يؤتى شيئاً غيره، ولا يفهمه ويدرك عظمته إلّا من ذاقه. ومجرّد الإطراء والتوصيف لا یدلّ على التذوّق، فربّما يعلم الإنسان مميّزات فاكهة ولكنّه لم يذقه، فليس شأن من يعلم ذلك كشأن من ذاقه وإن لم يعلم خصائصه.

« فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ »، هذا بيان لاستجابة دعائه (علیه السلام) وما آتاه الله سبحانه من ملك لا يتكرّر لغيره، فأحدها تسخير الريح له تجري بأمره حيث يشاء. وقوله: «أصابَ»، أي قصد. وذلك من دون شدّة تؤذيه، بل تجري رخاء. والريح الرخاء : اللينة السريعة، كما في «العين». وهي في نفس الوقت قويّة وسريعة وعاصفة، كما قال تعالى: «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا » (1).

وبذلك يندفع ما يتراءى من التنافي، فإنّ العاصفة هي الريح الشديدة وهي تنافي الرخوة المذكورة هنا ويرتفع التنافي بأنّها قويّة عاصفة ولكنّها لا تؤذي سليمان (علیه السلام) ومن معه.

ص: 200


1- الأنبياء (21): 81 .

و يمكن رفع التنافي أيضاً بأنّ الرخاء بمعنى كونها سهلة مطيعة، كما یدلّ على ذلك قوله تعالى: « تَجْرِي بِأَمْرِهِ » ، فلا ينافي السرعة . وجريانه بأمره معنى آخر غير التسخير له.

كما يمكن الرفع أيضاً باختلاف موارده، فقد تكون عاصفة وقد تكون ليّنة. ويؤيده أنّ «الرخاء» هنا مذكور في كلّ جهة قصدها، و«العاصفة» إنّما ذكرت في سفره إلى بيت المقدس، كما في سورة الأنبياء، فإنّه هو المقصود بالأرض التي بارك الله فيها. ولعلّ السرعة كانت مطلوبة لديه في تلك الأسفار خاصّة.

هذا، ولكنّ الوارد في سورة سبأ هو السرعة مطلقاً، قال تعالى: «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ »(1) ، أي كانت تسير في الصباح مسيرة شهر وفي المساء أيضاً تعود مسيرة شهر، وعليه فالتوجيه الأوّل أولى وبعده الثاني.

« وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ »، أي وسخّرنا له الشياطين و«الشيطان» مأخوذ من الشطن، أي البعد لبعد الشيطان عن رحمة الله تعالى نتيجة كونه شرّيراً، أو لبعده عن الحقّ . ويطلق على شرار الإنس والجن، أو ماخوذ من شاط ، أي ذهب وبطل يقال: أشاط السلطان دم فلان أي جعله هدراً، ولذلك يطلق على ما احترق أنّه شاط. ولعلّ إطلاقه على الجنّ لكونهم مخلوقين من النار. والأول أقرب.

وعلى كلّ حال، فالمراد بهم هنا مردة الجنّ سخّرهم الله تعالى له يعملون بأمره، ثمّ بيّن أنّهم ثلاثة أقسام، فذكر في هذه الآية قسمين منهم، فمنهم البنّاؤون الذين بنوا له القصور والمعابد وغيرها، ومنهم الغوّاصون الذين كانوا يستخرجون له اللؤلؤ والمرجان وغير ذلك.

ص: 201


1- سيأ (34): 12 .

« وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ» ومنهم محبوسون مقيّدون في الأغلال. والظاهر أنّهم أيضاً كانوا يعملون ولكن لكثرة شرّهم قيّدوا بالأغلال. و«الأصفاد» جمع صفد وهو القيد أو خصوص الجامعة، أي ما تغلّ به الأيدي و تربط بالعنق. ومهما كان، فالمراد بها هنا ما يناسب الشياطين، سواء كانوا أجساماً أو أرواحاً. و«القَرن» هو الجمع، قرن الشيء بالشيء، أي جمع بينهما، والتشديد يفيد الكثرة أو شدّة التقييد.

وقد ورد ذكرهم في سورة الأنبياء أيضاً، قال تعالى: «وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ » (1) ، فتدلّ الآية على أنّ التسخير كان لبعض الشياطين لا كلّهم لمكان من التبعيضية، وأنّهم جميعاً كانوا تحت الحفظ وإن لم يكونوا كلّهم مقرّنين بالأصفاد، فمعنى حفظهم منعهم من التهرّب وعصيان أوامره (علیه السلام).

ومثلها في المفاد قوله تعالى: «وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ *يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ » (2).

« هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ »، «هذا» إشارة إلى ما آتاه الله تعالى من الملك. والظاهر أنّ الآية في مقام بيان نعمة أخرى ممّا أنعم الله به عليه، وهو كثرة أمواله، فكان يعطي منها ما يشاء لمن يشاء.

و تخييره بين المنّة - أي العطاء - والإمساك كناية عن هذه الكثرة، وليس

ص: 202


1- الأنبياء (21): 82 .
2- سبأ (34): 12-13 .

لبيان أنّه مخيّر شرعاً، كما يتوهّم.

وقوله: « بِغَيْرِ حِسَابٍ » أيضاً يحتمل ذلك، فالمعنى: أنّك من كثرة المال بحيث يمكنك العطاء الكثير من دون محاسبة. ويبعد جدّاً كونه متعلّقاً لأوّل الجملة، أي أنّ هذا عطاؤنا بغير حساب.

وأبعد منه القول بأنّ المراد عدم المحاسبة في الآخرة على إعطائه وإمساكه.

« وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ »، في آخر المطاف يردّ على كلّ المحاولات الأثيمة للتنقيص من كرامة الأنبياء (علیهم السلام)، سواء في الكتب المحرّفة أو في الروايات الموضوعة التي تشتمل على أنّ ملك سليمان (علیه السلام) ينزّل من مقامه عند الله، وأنّه

(علیه السلام) يحاسب يوم القيامة، وأنّه (علیه السلام) آخر الأنبياء دخولاً إلى الجنّة، ناهيك عن ما ورد من إلصاق التهم الشنيعة التي لا تليق بمؤمن، فضلاً عن المعصوم. فيردّ على كلّ ذلك بالتأكيد والقسم على أنّ له عند الله تعالى زلفى، أي درجة وقرباً - والتنكير للتعظيم - وأنّه يرجع إليه بأحسن وجه. والمآب مصدر ميمي من الأوبة، أي الرجوع.

وقد مرّ أنّ ملكه (علیه السلام) كان معجزة نبوته وقد ورد في الروايات أنّ حياته الشخصية كانت حياة زهد وتقشف وأنّه كان يكتسب لمؤونته الشخصية بكدّ يمينه ولا يأكل من بيت المال و إنّما كانت تلك القصور ومظاهر البذخ لمواجهة الملوك والأمراء.

ص: 203

سورة الصّاد( 41 – 44)

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)

« وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ »، تذكّر الآيات بمقام نبيّ آخر من أنبياء الله السابقين، ليكون مثلاً وقدوة في الصبر وتحمّل الأذى والتوكل على الله، وهو أيوب (علیه السلام) الذي اشتهر بصبره على البلاء. ولكنّ الآيات لا تصرّح بنوعية البلاء وما أصابه متاعب الحياة الدنيا، فإنّ الاهتمام ليس بذلك، و إنّما هو بصبره على ما ابتلي به وتوجّهه إلى ربّه بخلوص وحبّ وتذلّل، ممّا استوجب نزول الرحمة عليه.

وقد ورد ذكر أيوب (علیه السلام) في سورة الأنعام والنساء ضمن مجموعة من الأنبياء، للدلالة على نبوّته، خلافاً لما يحكى عن «التوراة». والتعبير هنا يصف النبيّ الكريم بأحسن وصف وهو العبودية لله تعالى، وهذه شهادة من الله لعبوديته، بل هذا النوع من التعبير یدلّ على اختصاص في هذا المضمار، حيث يضيف العبد إلى نفسه فهو عبد له مقام خاصّ ومنزلة خاصّة في العبودية.

«إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ » ، قوله « إِذْ نَادَى » ظرف للذكر، أي اذكره حين نادى ربّه، فهو زمان مناجاته وتوسّله واسترحامه، حيث بلغ مرتبة من التذلّل استوجب نزول الرحمة وزوال البلاء. ولم يقل: «إذ نادانا»، مع أنّه الأنسب بقوله: « عَبْدَنَا» بل قال « نَادَى رَبَّهُ »للتأكيد على أنّ ما حصل له من البلاء والدعاء واستجابته كان دخيلاً في تربيته ليبلغ مرتبة الكمال المتوقع له.

ثم التعبير ب-«النداء» بدلاً عن الدعاء یدلّ على غاية الضيق والحرج عليه ولم

ص: 204

يعبّر أيوب في دعائه أنّه قد ضاق ذرعاً بالعذاب ولم ينسبه إلى الله تعالى تأدّباً، مع أنّ كلّ شيء منه، بل نسبه إلى الشيطان لكونه سبباً. و«مسّني» بمعنى أصابني.

و«النصب»: التعب والانزعاج، وقد قيل إنّه مرض مرضاً شديداً وطال به المرض سنين. وورد في بعض الروايات أنّ جسمه أنتن من القروح واضطرّ إلى الخروج من البلد أو أُخرج منه. ولا دليل على صحّة شيء من ذلك، بل ورد في بعض الروايات نفيه أيضاً. وهو في حدّ ذاته مستبعد، مع أنّ ابتلاء الأنبياء بما يوجب تنفّر الناس عنهم مستبعد جدّاً ومردود حسب بعض الروايات.

والآيات لا تدلّ على شيء من ذلك، فكأنّ الإخفاء مقصود، وكذلك أجملت قصته (علیه السلام) في سورة الأنبياء، قال تعالى: «وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ *فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ » (1).

ومهما كان، فإنّه (علیه السلام) ضاق ذرعاً بما أصابه، فدعا بهذا الدعاء، ومن الملفت أنّه تعالى ذكر الجواب من دون فصل حتّى بكلمة «قلنا» أو «أوحينا»، للدلالة على سرعة استجابة دعائه، ممّا یدلّ على أنّ طول مرضه إنّما كان بسبب صبره وعدم إعلان تذمّره وانزعاجه حتّى بلغ غايته. ولا نعلم ما الذي حصل حتّى استوجب منه التوسّل والدعاء، ولعلّ الآيات التالية تكشف عنه نوعاً ما.

« ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ »، «الركض» هو الضرب بالرجل. ومن هنا أطلق على العدو والمشي السريع، فالظاهر أنّ الله تعالى أمره بأن يضرب برجله الأرض ليخرج منه الماء، فيغتسل به ويبرد نفسه ويشرب منه، ففيه الشفاء

ص: 205


1- الأنبياء (21): 83 - 84 .

بأمر من الله سبحانه و«المغتسل» بمعنى الماء الذي يغتسل به والتعبير ب-«البرد» ربّما یدلّ على أنّ جسمه كان مقروحاً، فكان بحاجة إلى ما يبرد جسمه.

وهذا أيضاً ممّا يشهد على أنّ الله تعالى لا يستجيب دعوات أنبيائه وأوليائه إلّا بعمل منهم، فمع أنّه كان بالإمكان أن يشفيه الله تعالى بدون سبب إلّا أنّه أمره أن يعمل شيئاً ليصل إلى بغيته، فيركض برجله ليستخرج الماء الذي أودعه الله تعالى في ذلك المكان فيستشفي به، وكان إيصاله إليه من دون ذلك ممكناً أيضاً، كما أمر نوحاً (علیه السلام) أن يصنع الفلك، وأمر مريم (علیها السلام)أن تهزّ بجذع النخلة، وأمر موسى (علیه السلام) أن يلقي عصاه أو يضرب به البحر.

« وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ» .الآية تدلّ على أنّه حرم من رؤية أهله، ولعلّ هذا هو الموجب لبلوغه غاية التأذي حتّى شكى إلى ربّه حاله. وقد قيل: إنّ أهله تركوه لمرضه، فلو صح ذلك كان أبلغ في تذمّره. والمنقول عن «التوراة» - كما في الروايات - أنّه كان كثير الأموال والأولاد، ومن الطبيعي أنّ الإنسان إذا عاش في مثل هذه البيئة، ثمّ فقد أهله وأمواله جميعاً ورأى نفسه وحيداً مبتلى بنفسه، فإنّه يصل إلى غاية التذمّر بالحياة، فلولا صبره العجيب وركونه إلى ربّه وإيكال أمره إليه ورضاه بما ابتلاه به لكان كغيره من البشر يتمنّى الموت بل ربما يستقبله بالانتحار.

والله تعالى جازاه بصبره في الدنيا قبل الآخرة ليكون مثلاً وقدوة فآتاه ما أخذ منه وزاده مثل ذلك بأن ولد له أولاد وأحفاد، فتضاعف عددهم. كلّ ذلك رحمة منه تعالى حيث استحقّها بصبره وليكون ذكرى لأولي الألباب، فيعلمون أنّ هذا جزاء من صبر لله سبحانه.

وقيل: إنّ أهله ماتوا فأحياهم الله تعالى وزاده مثلهم. وورد ذلك في بعض

ص: 206

الله

الروايات الضعيفة التي لا معوّل عليها، وليس في الآية ما يشير إلى ذلك.

« وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ »، ظاهر الآية أنّه كان قد حلف أن يضرب أحداً عدداً من الضربات، ثمّ ندم على حلفه، ولعلّه لتبين عدم الاستحقاق، ولا شكّ أنّ هذا الحلف باطل لا أثر له، ولكنّه لمقام نبوّته كان يصعب عليه أن يحنث حلفه، فأجاز الله تعالى له أن يأخذ ضغتاً أي مجموعة من الأعواد مربوطة بعضها ببعض ويضرب بها مرة واحدة ولا يحنث، مع أنّه لو فرض صحّة الحلف فإنّ هذا لا يعتبر عملاً به ولكنّ الله تعالى قبل منه ذلك، وهذا كلّه إرفاق به ويظهر من الآية مكانة الحلف بالله تعالى، وأنّه لا ينبغي للمؤمن أن يحنث به حتّى لو لم يكن العمل به واجباً كما يظهر منها شدة عنايته تعالى بعباده المخلصين، حيث قبل منه ذلك رعاية لتحرّجه نفسياً من الحنث بالقسم.

« إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ » ، ما أجمل هذا المديح والثناء، وما أجمل هذا الشكر من الله المنعم، وماذا يبتغي المؤمن جزاءً أفضل من هذا؟! فلو ابتلي الإنسان بأعظم بلاء في الدنيا، ثمّ تعقّبه مثل هذا الاطراء من الربّ الجليل، لكان كلّ ذلك البلاء حسناً جميلاً، ولانقلب كلّ تلك المصائب نعماً يعجز الإنسان عن الشكر عليها. وفي الروايات أنّه رأى من امرأته ما استوجب هذا الحلف، ثمّ تبيّن

له عدم استحقاقها ذلك.

والآية في مقام التعليل للحكم السابق، وهو قبوله تعالى للضرب بالضغث بدلاً من الضرب بالعدد المقسوم به. وقوله: « وَجَدْنَاهُ صَابِرًا » أي تبيّن بهذا الابتلاء أنّه صابر، والله تعالى لا يضيع أجر الصابرين. ومنه يعلم عظم مقام الصبر لديه تعالى.

والظاهر أنّ قوله تعالى « نِعْمَ الْعَبْدُ » من ضمن التعليل وهو أيضاً معلّل بالجملة التالية. ويمكن أن يكون ذلك إنشاء لمدحه. ومهما كان فقد علّل التمجيد بكونه أواباً، أي كثير الأوبة والرجوع إلى الله تعالى، وقد مر بعض الكلام فيه.

ص: 207

سورة الصّاد( 45 – 48)

وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)

« وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ »، تذكر الآيات ستّة من أنبياء الله الكرام وتأمر بذكرهم تنبيهاً على الاقتداء بهم. والظاهر أنّ الآيات تصنفهم صنفين فثلاثة منهم نالوا في حياتهم مكانة اجتماعية مرموقة وبقي لهم بعد وفاتهم ذكر خالد وأتباع يفتخرون بهم، ويذكرونهم ويتّبعونهم، أو يدعون أنّهم اتباعهم، وثلاثة منهم لم يبلغوا هذه المنزلة في الدنيا، بل ربّما لم يكن لهم ذكر في المجامع والجوامع، ولكنّهم كلّهم من الأخيار، فيجب ذكرهم وذكر مآثرهم والاقتداء بهم، فالمقبولية لدى الناس وعدمها لا يؤثّران في مقام الأنبياء والرسل. وكذلك كلّ من نال منصباً إلهياً، كالأئمة المعصومين(علیهم السلام) .

كما أنّ من سبق ذكرهم هنا وهم داود وسليمان وأيوب (علیهم السلام) يجمعهم ما نالوه في هذه الحياة من ملك وجاه ومال والحاصل أنّ المذكورين من الأنبياء في هذه السورة ثلاثة أصناف، ذكر من كلّ صنف ثلاثة، تنبيهاً على عدم الفرق من جهة لزوم الاتباع بين من ملك وحكم، ومن كان وجيهاً في الدنيا، ومن لم يكن كذلك.

ونظيره ما ورد من الاختلاف في قوله تعالى بعد ذكر سيدنا إبراهيم (علیه السلام): «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ *وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى

ص: 208

الْعَالَمِينَ » (1).فإنّ الستة المذكورين أوّلاً ممّن ملكوا وحكموا، وأربعة بعدهم ممن اتبعهم الناس وأشادوا بذكرهم، وأربعة لم ينالوا ذلك أيضاً.

« أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ»، المراد على الظاهر أنّ لهم بصيرة في الأمور، وأنّهم أقوياء في ما يريدون، فيكون ذلك إشارة إلى قدرتهم الذاتية، أو إلى مكانتهم الاجتماعية التي جعلتهم كذلك، فإنّ الزعماء إنّما يقوون بأتباعهم، فالأتباع بمنزلة الأيدي والأبصار.

« إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ». المعروف بين المفسّرين أنّ المراد بقوله تعالى: « أَخْلَصْنَاهُمْ» جعلناهم خالصين، وأنّه إشارة إلى عصمتهم، والباء في « بِخَالِصَةٍ » للسببية، أي بسبب خصلة فيهم خالصة، وخلوصها إمّا بمعنى كونها خاصّة بهم، أو لكونها خالصة من الشوائب. وقوله: « ذِكْرَى الدَّارِ» بدل عن الخالصة، أي تلك الصفة الخالصة هي ذكرى الدار ، والمراد بها الدار الآخرة، وحاصل المعنى إنّا أخلصناهم وعصمناهم لخصلة خالصة فيهم، وهو أنّهم كانوا دائماً متذكرين للآخرة.

والتكلّف واضح في هذا التفسير وإن أصرّ عليه أكثر المفسّرين من جهة جعل الباء للسببية، مع أنّ الصفة أتي بها نكرة ولم تضف إليهم، وكان ينبغي أن يقال: إنّا أخلصناهم بصفة خالصة فيهم، ومع يستبعد اعتبار هذه الصفة سبباً لإخلاصهم خصوصاً إذا فسّرناه بالعصمة، ومن جهة أخرى يستبعد أيضاً اعتبار ذكرى الدار خاصّة بهم أو كونها خالصة من الشوائب، كما يستبعد أيضاً حمل الدار على الآخرة من دون قرينة. ولم يأت في القرآن بهذا المعنى مطلقاً، بل مضافاً إلى الآخرة.

ص: 209


1- الأنعام (6) :84 - 86 .

ويحتمل - كما قيل - أن يكون المراد به أنّ الله تعالى جعل لهم خاصّة هذا الذكر الجميل في الناس فالمراد ب-«الدار» دار الدنيا، والإخلاص بخالصة بمعنى أنّ هذا الشأن ممّا يخصهم من بين الأنبياء السابقين، فإنّ الإخلاص بمعنى الإصفاء، لأنّ الخلوص هو الصفاء فيفيد التخصيص، كما يفيده الإصفاء في قوله تعالى: «أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ » (1) ، و«الخالصة» بمعنى كونه خاصّاً بهم أيضاً، كما قال تعالى: « قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (2)، وقوله تعالى: «قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ » (3) ، فالتعبير ب-«الخالصة» يؤكّد الاختصاص بهم والمعنى أنّا خصّصناهم بأمر خاصّ بهم من دون سائر الأنبياء، وهو ذكرى الدار ، أي الذكر الجميل في الدنيا.

ونحن نجد اليوم أنّهم مكرمون لدى كافة أتباع الأديان السماوية من اليهود والنصارى والمسلمين، كما قال تعالى في شأن إبراهيم وإسحاق ويعقوب (علیهم السلام) : « وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا » (4)، فإنّ الظاهر أنّ المراد ب- «لسان الصدق» هو الذكر الجميل الذي يختصّ به إبراهيم وإسحاق ويعقوب (علیهم السلام) ، وقد دعا به إبراهيم (علیه السلام) لنفسه حيث قال: «وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» (5).

ويحتمل أيضاً أن يكون المراد بذكرى الدار ذكرى دارهم، أي البيئة التي عاشوها والسنّة التي تركوها، وينطبق أيضاً على ما كني عنه بلسان الصدق

ص: 210


1- الإسراء (17): 40 .
2- الأعراف (7): 32 .
3- البقرة (2): 94 .
4- مريم (19): 50.
5- الشعراء (26): 84 .

واللسان العليّ من بقاء ذكرهم الخالد ومجدهم التليد.

والجملة بكاملها - كيفما فسّرت - تعليل لبعض ما سبق، فقيل: إنّه تعليل لقوله: « أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ» ، واختاره العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) ، وذلك لأنّهم حيث تمعنوا في ذكرى الدار الآخرة أصبحوا أولي الأيدي والأبصار. وقيل: تعليل لقوله: « عِبَادَنَا.» وهو بعيد جدّاً.

والصحيح أنّه تعليل لقوله: « وَاذْكُرْ عِبَادَنَا »، أي اذكرهم لهذا السبب، وذلك لأنّه هو الموضوع الأساس، فينبغي أن يعلّل. والتعليل بناء عليه يعود إلى أنّ التذكير يجب أن يتركّز على هذه الجهة فکأنّه قال أذكر ما خصّصنا به عبادنا حيث أخلصناهم بخالصة. ويتّضح ذلك أكثر بملاحظة الجملة التالية: « وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ» ، إذ لا معنى لتعليل ما ذكر بها و إنّما يعلّل بها التذكير بالتقريب الذي ذكرناه أي واذكرهم فإنّهم من المصطفين الأخيار.

«وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ »، أي أنّهم مع كونهم ذوي ذكر رفيع وجميل في التأريخ، يعتبرون عندنا من المصطفين الأخيار، وأكّد على ذلك بحرف التأكيد «إنّ» وبلام القسم.

و«المصطفى »من اختاره الله تعالى من بين عباده للرسالة أو الإمامة. و«الأخيار» جمع خير، وفيه أربعة وجوه، ولا يمتنع جمعها في الإرادة من اللفظ:

1 - أن يكون بمعنى أفضل، كقوله تعالى: « فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى » (1)، فهؤلاء الرسل من الأفضلين.

2 - أن يكون بمعنى المختار، فيكون بنفس معنى المصطفين.

ص: 211


1- البقرة (2): 197 .

3- أن يكون صفة مشبهة مخفّفة عن خيّر - بالتشديد - أي من يصدر منه الخير، و«الخيّر» كلّ ما هو مطلوب ومرغوب لجميع العقلاء، فهذا توصيف لهم بملاحظة أعمالهم.

4 - أن يكون في مقابل الشرّ، ويكون إطلاقه على الإنسان من باب المبالغة، فحيث لا يصدر منهم إلّا الخير ، فکأنّهم هم الخير بنفسه. وهذا أقرب المعاني.

« وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ » ، تبيّن وجه إفرادهم بالذكر. وإسماعيل هو ابن إبراهيم (علیهما السلام)، والذبيح الذي مرّ ذكره والإشادة بمقامه في سورة الصافات، وهو جدّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وجدّ كثير من العرب.

واليسع ورد اسمه في سورة الأنعام عند ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم وتقسيمهم إلى ثلاثة أقسام، كما ذكرناه آنفاً. قال تعالى: «وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ » (1)، ولا نعلم عنه شيئاً غير ذلك. واختلف في أنّه هل هو يوشع بن نون أو أنّه اليشع الوارد في «التوراة» أو غيرهما ممّا لا يؤثّر في الهدف القرآني.

وذو الكفل أيضاً ورد اسمه في موضع آخر قال تعالى: «وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ » (2) ، ومن الواضح أنّ هذا الاسم ليس هو الاسم العبري له، فهذا اسم عربي ولعلّه صفته أو كنيته.

و «الكفل » بمعنى النصيب والكفالة والضعف من الأجر أو الوزر وما يشابهها. واختلفوا أيضاً في تحديد هويته وتمسك كلّ بما لا دليل على حجيته، وهناك

ص: 212


1- الأنعام (6): 86 .
2- الأنبياء (21): 85 .

قرية باسمه في أواسط العراق بين الكوفة والحلّة، وفيه قبر قديم له منارة غريبة، ويقال: إنّه قبره (علیه السلام) وقد دخلت حرمه قبل حوالي أربعين سنة ولعلّه كان في سنة 1385 هجرية قمرية، ورأيت في زواياه كتباً قديمة بالعبرية، قيل لنا: إنّه-ا ممّا تركته اليهود بعد هجرتهم إلى فلسطين المغتصبة، ولا أدري لعلّها باقية حتّى الآن، وهذا یدلّ على أنّهم كانوا يعتقدون أنّ هذا القبر لأحد عظماء بني إسرائيل.

ومهما كان، فإنّ الله تعالى يمدح هذه المجموعة من الأنبياء أيضاً بأنّهم من الأخيار بأحد المعاني المذكورة أو كلّها، كما مرّت الإشارة إليه. والغرض كما أسلفنا التنبيه على أنّه لا يختلف الأنبياء في لزوم متابعتهم والإشادة بهم بين من وفّق لتأسيس حكومة نبوية كموسى وهارون (علیهما السلام)، أو ملكية كداود وسليمان (علیهما السلام)، أو ملك الأرض وكانت له سلطة وإن لم يكن ملكاً كيوسف وأيوب (علیهما السلام) ، أو لم يملك ولكن كان له صيت في المجتمع وذكر خالد وأتباع يشيدون به كإبراهيم وإسحاق ويعقوب (علیهم السلام)، أو كانوا خاملي الذكر، سواء من عرف ببعض مآثره كإسماعيل ويونس ولوط (علیهم السلام)، أو لم يعرف عنه شيء كإدريس واليسع وذا الكفل (علیهم السلام) .

هذا هو الذي توحيه إلينا الآيات المشار إليها في سورة الأنعام وهنا. والحمد لله رب العالمين.

ص: 213

سورة الصّاد ( 49 – 54)

هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)

« هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ » ، أي ما مرّ من الإشارة إلى سيرة الأنبياء ذكر للناس يذكرهم بلزوم متابعتهم والعمل بسنّتهم. ثمّ بيّن أنّ المتّقين - وهم الذين يتّبعون الأنبياء ويقتدون بهم - يرجعون إلى الله تعالى يوم القيامة رجوعاً حسناً لهم فيه كلّ الخير. و«المآب» المرجع، وهو مصدر. ويمكن أن يكون بمعنى المسكن. ويعبّر عن المسكن بالمآب، لأنّ الإنسان يرجع إليه أينما ذهب، ومثله المأوى

ويحتمل أن تكون الإشارة ب- «هذا » إلى القرآن الكريم، لا خصوص ما مرّ من الآيات، فتكون الجملة منفصلة عمّا سبق تماماً وإن ارتبطت به في المعنى والغرض.

وقيل: المراد أنّ ما مرّ من الكلام ذكر للأنبياء وإشادة بهم. واختاره العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) . (1) وهو بعيد لعدم الفائدة في التنبيه عليه.

وقيل : إنّ جملة « هَذَا ذِكْرٌ » بمنزلة إعلام الانتهاء من موضوع والورود في موضوع آخر، كما هو ديدن المؤلّفين، فيقولون: هذا باب أو فصل وأمّا كذا... وهذا أبعد ما قيل.

« جَنَّاتِ عَدْنٍ » بدل عن حسن مآب أو عطف بيان فالمراد أنّ مرجعهم

ص: 214


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 17: 217 .

الحسن هو جنات عدن و«العدن» بمعنى الثبات والاستقرار، كما يقال معدن ذهب مثلاً، أي أنّه مستقرّ فيه وثابت لا كالموضع الذي يوضع فيه وينقل وكما يقال: إنّ فلاناً معدن العلم، أي أنّه ثابت فيه بالتعلّم والدراسة، وليس كمن يتلقّن أمراً عابراً. فالمراد أنّ هذه الجنّات مكان استقرار وثبات، وليست كجنات الدنيا يتنعّم الإنسان فيها أياماً، ثمّ ينتقل عنها إلى غيرها ثمّ إلى مثواه الأخير.

« مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ »، حال من الجنّات والالف واللام بدل عن الضمير، أي مفتحة لهم أبوابها ، و «الأبواب » نائب الفاعل مرفوع ب-«مفتحة». وهذا كناية عن الترحيب بهم ، ولا يقصد المعنى الحقيقي، إذ لا يمكن الدخول إلّا من أبواب مفتوحة، فلا حاجة إلى ذكره، فالمعنى: أنّ الدخول مع ترحيب وإكرام و یدلّ على ذلك إتيان الفعل من باب التفعيل الدالّ على التأكيد ولا وجه لتأكيد الفتح بالمعنى الحقيقي. وكذلك تخصيص الفتح بأنّه لهم، فليست الأبواب مفتوحة بالإطلاق و إنّما هي مفتّحة لهم خاصّة ممّا یدلّ على أنّه كناية عن أمر آخر وهو الترحيب بهم وإكرامهم.

« مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرَابٍ » ، بيان لحالهم هناك ورغد عيشهم، وأنّهم مخدومون، فهم لا يبذلون جهداً في الوصول إلى لذّاتهم، بل يصلون إليها وهم متّكتون على أرائكهم، ويدعون ما يشاؤون وليس ما يتناولونه من طعام لدفع الجوع، بل للتّفكّه والتلذّذ. ولعلّ قوله: « شَرَابٍ » إشارة إلى خمر الجنّة. وهم لا يشربون لرفع العطش، إذ لا عطش هناك ولا جوع و إنّما يشربون للتلذّذ.

ووصف الفاكهة بالكثرة والتنوّع وهو حال الأبرار. وأمّا المقرّبون فلهم فيها من كلّ فاكهة زوجان، كما في سورة الرحمن وغيرها. وهذا يؤيّد ما قلناه من أنّ

ص: 215

المراد بالمتّقين أتباع الأنبياء، ولا يناسب ما ذكره بعضهم من أنّ المراد بهم الأنبياء (علیهم السلام) حيث سبق ذكرهم.

« وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ »، وصف لأزواجهم من الحور العين. وقد مرّ في سورة الصافّات أنّ «الطرف» هو الجفن، ويعبّر عن النظر بالطرف لأنّه يستوجب تحريك الجفون، فالمراد بقصر الطرف على الظاهر أنّهنّ لا ينظرن إلى غير أزواجهنّ، فيقتصرن في النظر عليهم. وهذه صفة يحبّها الرجل في امرأته. ويمكن أن يكون المراد أنّهنّ لا ينظرن إلى أحد، وهذه أيضاً صفة ممدوحة في المرأة: إمّا باعتبار أنّ طبيعة المرأة تقتضي أن تكون مطلوبة لا طالبة أو باعتبار أنّ هذا أمر مطلوب لدى المجتمع العربي أو بحسب التقاليد الدينية بوجه عامّ، فهي تقتضي أن لا تنظر المرأة هنا وهناك بحثاً عن الرجل وهذه أيضاً صفة يستحبّه الرجال الغيارى من النساء.

و«الأتراب» جمع ترب بكسر التاء، وأصله بمعنى التساوي بين شيئين، كما في «معجم المقاييس» ، فالمراد أنّهن متساويات في السن وفي ما يبدو عليهنّ منه.

وقد اختلف كلام المفسّرين في تحديد الغرض من الإشارة إلى ذلك مع تكرر ذكره في الكتاب العزيز. والظاهر أنّه إشارة إلى عدم عروض التغيّر والشيبة عليهنّ، فإنّ ما يكدّر صفو العيش هنا حينما يلاحظ الرجل زوجته الشابّة الجميلة هو العلم بأنّه لا يستمرّ وأنّه ليس إلّا سنين حتّى تتغيّر، هذا إن لم يحدث حادث يعجل التغيّر. فالأتراب يشير إلى أنّ كلّ نساء الجنّة في سنّ واحد، فلا تغيّر هناك ولا تقادم في السنّ.

« هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ» ، إشارة إلى النعم المذكورة. والخطاب موجّه

ص: 216

إلى المتّقين، والمناسب للسياق أن يقال: هذا ما يوعدون. ولعلّ الوجه في مخاطبتهم مزيد العناية بهم وإكرامهم وتشريفهم بخطاب ربّهم. ولعلّ الغرض من هذه الآية التنبيه على تعيين موعد جزاء المتّقين لئلّا يتوهّم من الآيات السابقة أنّ حسن المآب لهم في هذه الدار الفانية.

« إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ » ، «النفاد»: الفناء. فهو وعد بالخلود والأبدية، وهو ما يتوق إليه الإنسان. وما من نعمة في هذه الدنيا إلّا وينغّص لذّتها العلم بزوالها بعد حين، ولا يعلم الإنسان ذلك الحين، فلعلّه قريب منه وهو غافل عنه، فكم من متنعّم في لذّاته باغته الموت؟! وكم من حفلات عرس تبدّلت إلى عزاء وهي في قمّة التنعّم واللذة؟! وأمّا النعيم هناك فلا ينغصّه شيء ولا يخاف المؤمن أن تنفد نعمه، فهي رزق الله الذي لا ينفد.

ويحتمل في الآية أن يكون عدم النفاد صفة لهذا الرزق الخاصّ، فالمعنى: أنّ هذا رزق لا ينفد وليس كرزق الدنيا. ويحتمل أن يكون المراد أنّ هذا هو رزق الله الواقعي، ولذلك فهو لا ينفد كما قال تعالى: «مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ » (1)، ومعنى ذلك أنّ ما في هذه الدنيا لا يعتبر رزقاً بالقياس إلى ما هناك و إنّما هو متاع، كما لا يعتبر الحياة الدنيا حياة، قال تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ » (2)، بل هي لهو ولعب، كما قال تعالى: «وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ.» (3).

ص: 217


1- النحل (16) :96 .
2- الرعد (13): 26 .
3- العنكبوت (29): 64 .

سورة الصّاد(55 – 64)

هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56)هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)

« هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ »، «هذا» إشارة إلى ما للمتّقين من نعيم أي هذا كائن. ثمّ يتعرّض لما يقابله من حال الطاغين على الله تعالى والذين لم يتبعوا أنبياءه وأولياءه المعصومين ، فإنّهم لهم شرّ مآب ومرجع، أي شرّ دار ومنزل. وهذا الوصف أي الطغيان لا يختصّ بالكفّار، كما يظنّه المفسّرون، بل يشمل كلّ من طغى على ربّه وعصى أمره. وليس المراد كلّ عاص يتبع شهوته ونزوته، ثمّ يندم على ما صدر منه، بل الذي يرفض الانصياع لأوامر الله سبحانه ويلتمس لنفسه المعاذير. ولا يختصّ بأهل الملاهي والمنكرات، فربّما يكون من الذين يطلقون اللّحى ويقصرون الثياب ويتظاهرون بالزهد والتقوى وأيديهم ملطّخة بدماء الأزكياء، أو ألسنتهم وأقلامهم تحرّض على النصب والعداء لأولياء الله تعالى، لا لشيء إلّا لأنّهم اتّبعوا مذهباً يملي عليهم ذلك، فلا يعيرون اهتماماً لأوامر الله تعالى ونواهيه إذا لم يوافق أهواءهم وبدعهم وتزمّتهم وتعنّتهم.

وهكذا يتبيّن صحّة ما ورد في بعض الروايات من انطباق هذه الآيات على أعداء أهل البيت (علیهم السلام) وأعداء شيعتهم، كما يظهر الاختصاص بهم من قوله تعالى:

ص: 218

«وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ» على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ومن الطريف أنّ المتّقين في المجموعة السابقة من الآيات أطلق على الذين يتّبعون الأنبياء من دون تفريق بين من أقاموا حكماً أو ملكاً أو لم يحالفهم الحظّ في الدنيا، وتبيّن بما قلنا أنّ الغرض تنبيه المؤمنين على أنّ متابعة من نصبه الله ولياًّ وإماماً لا تنحصر في من تمكّن من تأسيس دولة وتبعه الناس وبايعوه، بل يشمل من زجّ به في السجن أو أبعد عن المجتمع. وهذا هو شأن شيعة أهل البيت (علیهم السلام)، حيث لا يناط عندهم وجوب الطاعة بمن تولّى الأمر ولو بالسيف أو الحيلة، ولا أثر عندهم لبيعة الغوغاء خصوصاً إذا عارضت الولاية الإلهية، بل يتّبعون الإمام المنصوب من قبل الله سبحانه ويعتبرون إطاعته هي الواجبة المفروضة من الله تعالى وإن زجّ به في السجن أو أبعد عن الناس أو غيّبه الله تعالى عن أنظارهم بسوء سلوكهم.

« جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ »، عطف بيان أو بدل لقوله: «لِشَّرِّ مَآبٍ» و «يَصْلَوْتها» أي تمسّهم نارها بل لهم منها مهاد وغواش فهي محيطة بهم. والتعبير ب-«المهاد» فيه استهزاء وتحقير، فإنّ المهاد موضع الاستراحة والرقاد، وجهنّم نار عظيمة التأجّج، فكيف يرتاحون ويرقدون عليها؟!

« هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ »، يقابل بذلك الفاكهة والشراب للمتّقين وفي إعراب الآية وجوه، لعلّ أحسنها أنّ الحميم و الغساق خبر هذا، وجملة: «فَلْيَذُوقُوهُ» معترضة. و«الحميم»: الماء شديد الحرارة، و«الغساق»، قيل: إنّه القيح الخارج من القروح ومثله غسلين. ويحتمل أن تكون هذه الألفاظ مصطلحاً خاصّاً بالقرآن للحكاية عن معان غير مأنوسة للبشر، ولذلك فلا يوجد في لغتهم

ص: 219

ما يحكي عنها فاخترع لها ألفاظ مناسبة كالزقّوم وغسلين وسجّين وغيرها.

« وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ »، من شكله أي من مثله. ومن زائدة، أي وعذاب آخر مثله. و«أزواج» صفة لآخر أو خبر لمبتدأ محذوف، أي وهو أزواج، أي أصناف، فلا تحديد في عذابه تعالى.

وقد مرّ مراراً أنّ ما ورد من بيان أنواع النعم وأنواع العذاب ليس إلّا تقريباً للذهن، وإلّا فما هناك يختلف عمّا هنا اختلافاً جوهرياً، فلا يمكننا معرفة ذلك النعيم والعذاب معرفة تامة، بل ولا ناقصة إلّا ما توحيه هذه الآيات من غاية التلذّذ بالنعيم وغاية التألّم من العذاب بحيث لا يتصوّر فوق ذلك تلذّذ أو تألّم. ومهما كان فالأزواج إشارة إلى أنّ العذاب هناك أصناف، كما أنّ النعيم أصناف.

« هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ »، تكرار اسم الإشارة في هذه الآيات والتركيز عليه يجعلنا أمام مشهد حيّ زاخر بالمشهودات التي يشار إليها. والفوج الجماعة. والاقتحام الورود من غير رويّة وتأمّل والظاهر أنّ المراد بقوله «معكم » أنّهم بعد الاقتحام والورود يبقون معهم وفي نفس الموضع وهذه الجملة في ما يبدو من مخاطبة بعض أهل النار لبعض آخر، ويتبيّن ممّا بعدها أنّ الفريقين من المتبوعين. ويحتمل أن يكون خطاباً من الخزنة، ولكنّ الأوّل أوفق بالسياق ویكون كلّ ما يدور هنا من تخاصم أهل النار.

والحاصل : أنّه بينما يكون أئمة الضلال مشغولين بأنفسهم وبما يقاسونه من العذاب، إذاً بفوج من الأتباع يدخلون عليهم، فيخاطب بعضهم بعضاً: «هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ» أي جماعة يقتحمون مكانكم ويبقون معكم.

وهذا التعبير يحكي عن كيفية ورود أهل النار لها، فهم يدخلونها جماعات، ويدخلونها من غير رويّة وانتظام فيفاجؤون بما يرون هناك من العذاب ومن

ص: 220

الناس. وهنا يحكي مفاجأتهم برؤية أسيادهم في الدنيا وبما يقابلونهم من استنكارهم لهم، كما في الآية التالية.

«لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ »، هذا جواب الأسياد المستكبرين عن الخبر المعلن: «هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ» ، فهم لا يرحبون بأتباعهم هناك وقد ساد الموقف تباغض وتناكر. و«الباء» بمعنى اللام أي لا مرحباً لهم. و «مرحب» مصدر من الرحب بمعنى السعة، ومرحباً بك أو لك يقال للزائر إكراماً له والأصل فيه التوسعة له في المكان احتراماً، ولكن يكنّى به عن الابتهاج والفرح بقدومه وإن لم يكن حاجة إلى توسعة المكان. وإذا أريد الشتم والتنديد بالزائر نفي ذلك، فيقال: لا مرحباً بك والجملة الثانية تعليل لعدم الترحيب بهم، أي إنّا لا نرحب بهم لأنّهم سيصلون النار مثلنا، فکأنّهم يريدون بذلك التبرّي منهم ، وأنّهم يستحقّون النار بأعمالهم لا بسببنا.

«قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ»، وهذا جواب تقتضيه طبيعة الحال. والمراد أنّكم أولى بعدم الترحيب وبالرفض والاستنكار منّا، لأنّكم أنتم قدّمتم لنا هذا العذاب حيث أضللتمونا عن صراط الحق، فحقّت علينا كلمة العذاب بسببكم. نعم هكذا يكون موقف الناس المغرر بهم تجاه أئمة الضلال الذين يزجّون بهم في طرق الغواية بشتّى سبلها. ثمّ يتحسّرون ويتأسّفون على ما نالهم من عذاب دائم بقولهم: « فَبِئْسَ الْقَرَارُ» أي أنّ ما قدمتموه لنا ليس عذاباً عابراً، بل هو أبدي مستقرّ ولا خلاص لنا منه.

« قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ » ، دعاء من الأتباع يوم لا ينفع الدعاء حيث طلبوا من ربّهم أن يزيد عذاب الأسياد ويجعله مضاعفاً، لأنّ عليهم

ص: 221

إثم إغواء الآخرين أيضاً، وهو طلب منطقي والله تعالى وعد بذلك حيث قال: «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ» (1).

وهذا الدعاء منقول أيضاً في موضع آخر، قال تعالى: « كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ» (2) ، ولعلّ الوجه في قوله تعالى: « لِكُلٍ ضِعفٌ » أنّ الأسياد وإن استحقّوا الضعف بملاحظة إغوائهم لجمع كثير من الناس، إلّا أنّ الأتباع أيضاً يستحقّون الضعف ولا يختصّ عذابهم بما ارتكبوه من الجرائم وبكفرهم وعنادهم، بل عليهم إثم تقوية الظلمة والمستكبرين، فلولا متابعة الجنود والملأ من القوم، أي الأشراف لم يتمكّن الطغاة من رقاب الناس و من الطغيان على ربّهم.

« وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ » ، هذه الجملة تدلّ على أنّ هذه المجموعة من التابعين والمتبوعين كانوا في الدنيا يعتبرون المؤمنين أشراراً، وأنفسهم أخياراً، فهم ممّن يتظاهرون بالدين والإيمان، بل ربّما يعتبرون أنفسهم أقرب إلى الإيمان من غيرهم، بل يعتبرون الآخرين مشركين وكفّاراً، ويستحلّون بذلك دماءهم وليسوا من الكفار كما يتوهّم، وذلك لأنّهم يبدون تعجبّهم من أنّهم لا يجدون في النار أناساً كانوا يعدّونهم من الأشرار ممّا یدلّ على أنّهم كانوا يتوقّعون دخول المؤمنين النار، وليس هذا شأن الكفّار، إذ أنّهم ما كانوا يعتقدون بالقيامة نهائياً، فلا وجه لتعجّبهم يوم القيامة.

ص: 222


1- العنكبوت (29) :13 .
2- الأعراف (7) :38 .

ولذلك ورد في أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) تفسير هذه الآية بالشيعة. وقد ورد ذلك في عدّة روايات بعضها معتبرة سنداً نكتفي منها بحديث: ففي « الكافي» الشريف بسند معتبر عند الأصحاب، عن ميسر - والظاهر: أنّه ابن عبد العزيز وهو ثقة جليل وممّن وردت في مدحه الروايات - قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فقال: «كيف أصحابك؟» فقلت: جعلت فداك لنحن عندهم أشرّ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا قال: وكان متّكئاً فاستوى جالساً، ثمّ قال: «كيف قلت؟ قلت: والله لنحن عندهم أشرّ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا. فقال: «أما والله لا يدخل النار منكم اثنان لا والله ولا واحد، والله إنّكم الذين قال الله عزّ وجلّ: « وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ *أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ *إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ »، ثمّ قال:

«طلبوكم والله في النار فما وجدوا منكم أحداً». (1)

« أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ »، «السخري» مصدر من سخر منه، أي استهزأ به و« اتّخاذهم سخرياً » أي مورداً للاستهزاء والزيغ: الانحراف، والمشهور قراءة أتّخذناهم بهمزة الاستفهام، وقرئ بدونها، والمعنى علية أوضح حيث تكون الجملة وصفية كالجملة السابقة: «كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَار» وتكون ما بعدها عدلاً لقوله «مَا لَنَا لَا نَرَى» والمعنى أنّهم هل دخلوا الجنّة فلا نراهم مع أنّا كنّا نعدّهم من الأشرار ونسخر منهم أم أنّهم معنا ولكن لا نراهم، فقد زاغت عنهم الأبصار، أي انحرفت.

وأمّا على القراءة المشهورة، فالمعنى - والله العالم - أنّهم يستغربون لماذا لم

ص: 223


1- الروضة من الكافي: 78 .

يسمعوا كلامهم في الدنيا ولم يتأثّروا بهم وبما لديهم من الحقّ، هل ذلك من جهة أنّهم اتّخذوهم سخرياً واستهزؤوا بهم أم لأنّهم احتقروهم، فانحرفت عنهم أبصارهم، کأنّهم لم يكونوا بين أظهرهم.

والاستهزاء آفة اجتماعية يمنع من إبصار الحقّ وهي حربة أعداء الأنبياء (علیهم السلام) لمنع كلامهم من التأثير في قلوب العامّة وخصوصاً الشباب، وكذلك الاحتقار.

وهذا ما نجده من أعداء أهل البيت (علیهم السلام) وأنّهم طيلة التأريخ لا يعيّرون اهتماماً لوجود الشيعة ويحاولون تجاهلهم، بل نجد حتّى في مجال العلم والثقافة أنّ علماءهم لا يهتمّون بأقوال علماء الشيعة، لا في الفقه ولا في التفسير ولا في أصول العقائد، بل حتّى في العلوم العقلية والأدبية التي لا ترتبط بالمذهب، فيتجنبون الاستناد إلى تحقيقاتهم حتّى فيما لا يتعلق بالدين، وإذا اضطرّ أحدهم إلى نقل جملة من أحدهم، فإنّ الامتعاض والتحقير يبدوان على كلامه!

وقد وجدنا أنّ بعض المتثقّفين منهم يستغربون حيث زاروا إيران فرأوا أنّ مكتبات الشيعة في قم وغيرها مليئة بكتب السنّة حتّى ما يزخر منها بسب الشيعة والنيل منهم، ومن يلاحظ مكتبات من يدعون بأهل السنّة خاصّة وعامّة كتاباً للشيعة، إلّا إذا احتفظ به أحدهم في الخفاء بغية أن يجد فيه عشرة وزلّة فيتهجّم بسببه على كلّ علماء المذهب. وهذا أمر غريب جدّاً.

« إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّار» ، وقد تكرّر في القرآن الكريم نقل تخاصمهم واحتجاج المستكبرين منهم والمستضعفين. وهذه الآية تؤكّد على أنّ هذا الذي تكرّر نقله ليس تمثيلاً، بل هو نقل لأمر واقع سيحدث يوم القيامة قطعاً وجزماً. وقوله «تَخاصُمُ»، يمكن أن يكون خبراً لمحذوف، أي وهو تخاصم أهل النار ويمكن أن يكون بدلاً عن اسم الإشارة.

ص: 224

سورة الصّاد(65 – 66)

قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)

« قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ » ، شروع في الفصل الأخير من السورة، وفيه تذكير بالتوحيد والرسالة، وذكر قصة الإنسانية الأولى، وسبب نزول الإنسان إلى هذا الكوكب وابتلائه وامتحانه، ويبدأ بإبلاغ الناس عن دور الرسول وأنّه ليس إلّا منذراً بالخطر المحدق بالإنسان وما سيواجهه من أخطار يصغر عندها كلّ ما يتصوّره ويحذره من أهوال الدنيا.

وهذه الجملة التي تحصر وظيفة الرسول في الإنذار - بناء على دلالة «إنّما» على الحصر - تستبطن تخلّيه عن كلّ مسؤولية تجاه تغافل المخاطبين عن إنذاره ورسالته، وهو بدوره يستبطن تهديداً بأنّ ما يخاف منه واقع لا محالة. ويتبيّن بذلك أن هذا التخلّي عن المسؤولية وقصر دور الرسول في الرسالة كناية عن هذا التهديد، وهو تعبير متعارف في مثل هذه الموارد، ومنها قول هود (علیه السلام): «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ»(1) فإنّ إبلاغه واضح و إنّما أراد بذلك تهديد القوم بما يستتبعه هذا الإبلاغ. وهكذا غيره ممّا تكرّر في القرآن الكريم، فلا ينافي ذلك وجود وظائف أخرى للرسول.

« وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ» ، هذه الجملة تؤكّد على أنّ الألوهية واستحقاق العبادة خاصّ بالله تعالى و«الإله» هو المعبود. فذكر الأوصاف الشريفة كالاستدلال على انحصار الألوهية فيه

ص: 225


1- هود (11) :57 .

تعالى وعدم جواز عبادة غيره، وذلك بعد الاعتراف بوجوده وخالقيته وثبوت هذه الصفات له تعالى.

فهو أولاً واحد لا شبيه له ولا شريك في أيّ صفة من صفاته تعالى. والوحدة هنا ليست بمعنى الوحدة العددية، كما قال أمير المؤمنين ( علیه السلام) «واحد لا بعدد »! (1) وقال (علیه السلام): «الأحد بلا تأويل عدد» (2) وهو واضح، فإنّ الواحد بهذا المعنى يصدق على كلّ شيء لوحده ولا يختصّ به سبحانه، فالله تعالى واحد بمعنى أنّه بسيط ليس له جزء خارجي، لأنّ الكلّ يحتاج في تقوّمه إلى أجزائه، ولا يتركّب أيضاً من ماهية ووجود وما كان كذلك فليس له جنس ونوع، وليست هناك ماهية ذاتية تنطبق عليه وعلى غيره فلا يشابهه شيء ولا يشاركه.

وهذه الصفة تدلّ على أنّه ليس هناك شيء يشارك الله في صفة من صفاته وأنّ كلّ صفة مشتركة إنّما تطلق عليه وعلى غيره بلحاظ وحدة المفهوم من اللفظ، وليس بلحاظ وحدة الحقيقة في الواقع الخارجي، فالعالم مثلاً يطلق على الله وعلى الإنسان، ولكن بمعنى من يعلم شيئاً، وأمّا حقيقة العلم الإلهي لا تشابه ما في الإنسان ولا يمكن للإنسان درك تلك الحقيقة، فكيف بتوصيفها؟! ومن هذا الباب الصفات التي تقتضي الألوهية، أي استحقاق العبادة، فإنّها أيضاً مختصة به تعالى، فهو المدبّر للكون، ومنه كلّ خير وشرّ ونفع وضرر، فهو وحده الذي يخاف ويرجى والعبادة لا يستحقها إلّا من كان كذلك.

وثانياً هو القهّار لكلّ شيء، بمعنى أنّ كلّ شيء خاضع لإرادته، لأنّ الخلق

ص: 226


1- نهج البلاغة: 269 .
2- نفس المصدر : 212 .

والأمر بيده، وإليه يرجع الأمر كلّه، فلو كان هناك شيء يؤثّر في الكون مستقلاً غيره تعالى لم تصدّق قهاريته على الجميع. والألوهية لا تكون إلّا لمن يؤثّر في الكون مستقلاً ولا يؤثّر غيره إلّا بإذنه، فيعبد طلباً للخير ودفعاً للشرّ.

وثالثاً هو رب السماوات والأرض وما بينهما، و«الربّ» هو الذي يربّي ويدير ويدبّر. والسماوات والأرض وما بينهما عبارة عن كلّ الكون، فما من شيء إلّا وهو مربوب له تعالى، فلا يمكن أن يفرض شيء إلهاً ومعبوداً غيره، لأنّ كلّ ما يفرض إلهاً فهو محتاج إليه ومفتقر في تربيته ورشده وتكامله إلى تدبيره تعالى، فكيف يمكن أن يكون إلها؟! ثمّ إنّ وحدة النظام الكوني وانسجامه دليل واضح على وحدة الربّ والمدبّر.

ورابعاً هو العزيز الغفّار. واللام وضمير الفصل یدلّان على حصر الصفتين بكمالهما فيه تعالى، فلا عزيز غيره، ولا عزة إلّا به، و«العزّة» هي الصلابة وعدم التأثّر، فالله تعالى لا يؤثّر فيه شيء، بل هو المؤثّر في كلّ شيء. وما من أثر إلّا به وبإرادته، وكلّ شيء ذليل لديه، ولذلك فهو الذي يجب أن يحذر منه ويتقى ويعبد، ومن لاذ به وعبده حق العبودية، فلا يخاف شيئاً ولا يهاب أحداً ولا يحزنه شيء.

وهو تعالى في نفس الوقت غفّار للذنوب، أي يستر على عباده نواقصهم وأخطاءهم. و«الغفّار» صيغة المبالغة، ولعلّه باعتبار سعة غفرانه وشموله لكلّ أحد ولكلّ ذنب إلّا ما استثني. ولولا غفاريته لم يبق أحداً ولم ينج من عذابه أحد، فالكلّ مقصرون في أداء حقه كما هو.

ثمّ إنّ الوصفين معاً بمنزلة دليل واحد على ألوهيته تعالى، لأنّه بعزّته يهاب ويتّقى، وبغفّاريته يرجى ثوابه، والعبادة تتّبع الأمرين.

ص: 227

سورة الصّاد (67 – 74)

قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73)إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)

« قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ *أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ » ،اختلف المفسرون في مرجع الضمير «هو» وأنّه هل هو الأمر السابق، أي التوحيد أم القرآن أم القيامة أم الرسالة؟ والظاهر أنّه هو القرآن ويشهد عليه قوله تعالى في آخر السورة: « إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ *وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ » (1) . فالقرآن هو النبأ العظيم الذي أعرض عنه قريش وعرب الجزيرة، وليعلمنّ نبأه بعد حين. وهذه الآيات تؤكد على أنّه حق وأنّه يحمل في طياته أنباءً عظيمة. وينبّه هنا على أحدها وهو نبأ تكوّن البشر الأوّل وكيفية نزوله على هذا الكوكب.

« مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ» ، أي لولا الوحي لم أكن أعلم بما جرى في العالم العلوي، وقبل نزول البشر إلى الأرض، بل قبل تكوّنه، و إنّما أخبرت به عن طريق الوحي، وهذا الإخبار ليس إلّا للإنذار وليس مجرّد سرد للحوادث، فالقرآن ليس كتاب تأريخ أو قصص.

والمراد ب-«الملا الأعلى» عالم الملائكة. ونحن لا نعلم عنه شيئاً إلّا ما أخبرنا به القرآن الكريم. و«العلوّ» هنا ليس العلوّ الحسّي، بل المراد تنزّهه وترفّعه عن

ص: 228


1- ص :(38): 88-87 .

الطبيعة وخصائصها. و«الملأ» كلّ تجمّع يملأ العين عظمة وإجلالاً، فالتعبير عن الملائكة بذلك إمّا لكثرتهم أو لعظمة مكانهم وقربهم لدى الله سبحانه والمراد ب«الاختصام» التقاول ومبادلة الحديث حيث يحصل ذلك عند المخاصمة، فعبّر عنه بالاختصام.

وربّما يقال: إنّ التقاول لم يكن إلّا بين الله تعالى والملائكة، وبينه تعالى وإبليس لعنه الله، ولا يمكن أن يعتبر الباري سبحانه من الملأ.

والجواب: أنّ هذا إنّما يتمّ على تقدير أنّ الاختصام هو ما ورد ذكره في هذه الآيات ونحوها، ولكن يمكن أن يكون المراد الإشارة إلى ما وقع بين الملائكة، أو بينهم وبين إبليس من التقاول، وكذلك بينهم وبين آدم (علیه السلام)، وقد ورد ذكر بعضها في الروايات، بل ورد ذكر بعضها في القرآن حيث قال تعالى: « فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ »(1).

« إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ » ،يمكن أن يكون «أن» في قوله: «أنّما» في محل الرفع على أنّه نائب الفاعل، وليس المراد ظاهره من قصر الوحي في ذلك كما هو واضح، بل المراد قصر دور الرسول على الإنذار، وهذا أيضاً من باب المبالغة، إذ لا شك أنّ دوره حتّى في مقام التعليم أكبر من ذلك، إلّا أنّ خطورة ما ينذر به وهو المستقبل المظلم للبشرية تصحّح هذه المبالغة، فكأنّ دوره مقتصر على الإنذار بما يحيط بالإنسان من الخطر، فالغرض تعظيم هذا الدور وإكباره.

ويمكن أن تكون (أن) في محلّ الجرّ باللام المقدّرة، بمعنى أنّ هذا الأمر - أي نبأ يوم القيامة - إنّما أوحى إليه(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأنّه نذير مبين، فيكون المراد : أنّ

ص: 229


1- البقرة (2): 33 .

الغرض من ذكر هذا الأمر والتنبيه عليه ليس سرداً لحادث وبياناً لتأريخ، بل هو إنذار للبشر ليعلم ما يطلب منه، ويتنبه لموقعه من الكون، و إنّما أوحي به إلى الرسول لكي ينذر به.

« إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ »، هذه الآيات ونظائرها ممّا ورد في مبدأ خلق الإنسان تردّ على فرضية النشوء والتطوّر التي يتبنّاها بعض من يسمّون علماء العصر، ويتباهون بها، ويحاولون إثباتها. ولا وجه لمحاولة بعض كتاب العصر من المسلمين تطبيق الآيات على هذه الفرضية، فإنّها محاولة فاشلة والآيات صريحة في أنّ الإنسان خلق من طين، وأنّه أصل برأسه وأنّه يختلف عن سائر الموجودات الحيّة اختلافاً جوهرياً بالروح الإنسانية أو بالأحرى الروح الإلهية التي نفخها فيه ربّه تكريماً وتشريفاً.

ولا يغرنّك التعبير عنها بالنظرية العلمية، أو ما تسمعه من أنّ العلم يدعم هذه الفرضية، وأنّه لا سبيل لإنكارها، فإنّها لا تتعدّى فرضية واحتمالاً في تفسير الكائنات الحيّة واختلاف أنواعها، إلّا أنّه احتمال تدعمه الملاحظات العلمية في كثير من الموارد. وهذا لا يبرّر التعبير عنها بالنظرية، وذلك لأنّها لا تتعدّى حدساً وتخميناً، بل هو تخرص على الغيب، وأمّا بالنسبة لخلق الإنسان لا يصحّ تبنّي هذه الفرضيّة قطعاً.

وقوله تعالى: « إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ» ظرف متعلق ب- «أذكر » أو بدل عن قوله: « إِذْ يَخْتَصِمُونَ »، فهو يبين ما وقع في ظرف الاختصام ومهما كان فقد ورد ذكر هذه القضية في موارد عديدة من القرآن الكريم، ولعلّ التعبير ب- «رَبِّكَ» إشارة إلى ما لهذه القصة من الدور في تربية الإنسان لأنّها تحكي عن مرحلة من مراحل

ص: 230

نشوئه وتطوّره، بل تحكي عن عالم آخر كان الإنسان موجوداً فيه، وكان حسب ما ورد في سورة طه منعماً بعيداً عن المضايقات الحاصلة على ظهر هذا الكوكب، قال تعالى: «إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى *وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى » (1).

ويظهر من قوله تعالى: « فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا» (2) أنّ البشر قبل هبوطه إلى الأرض لم يكن يشعر بالحاجة الجنسية أيضاً، فالبشر في ذلك العالم كان مغايراً في صفاته للبشر بعد الهبوط، ومع ذلك كان مخلوقاً من مادة أرضية من الطين؛ من صلصال من حمأ مسنون.

والبشر - بفتحتين - مأخوذ من البشر - بكسر الباء - وهو على ما في «معجم مقاييس اللغة»: ظهور الشيء في حسن وجمال ومنه البشارة والاستبشار، ولعلّ تسمية هذا الموجود به ممّا یدلّ على كونه ظاهراً، في مقابل الجنّ المتستر، وفي مقابل سائر أنواع الحيوان حيث إنّه أحسنها وأجملها، قال تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»(3).

و«الطين »هو التراب الممتزج بالماء في إشارة إلى مبدأ تكوّن الإنسان في الطبيعة، حيث كان الخطاب للملائكة والجنّ ، فأراد الله تعالى أن يبيّن لهم وجه اختلافه معهم في تكوّنه. وهذه الآيات تشير إلى أنّ الإنسان ذو جانبين، جانب أرضي يشار إليه بخلقه من الطين، وجانب علوي يشار إليه بنفخ الروح، وهو بذلك يواجه الملائكة ويسابقهم.

ص: 231


1- طه (20): 118 - 119 .
2- طه (20): 121 .
3- التين (95): 4 .

« فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ » ،أخبر الله سبحانه ملائكته أنّه سيخلق بشراً من طين، وأمرهم أن يسجدوا له بعد تسوية خلقه ونفخ الروح فيه. والمراد ب-«التسوية» على ما يبدو إكمال خلقه وصنع جميع أعضائه، ولعلّها لا تتمّ إلّا بالحياة، فهي تغاير نفخ الروح والظاهر أنّ المراد بنفخ الروح خلق النفس البشرية التي تميّزت من بين الخلائق بالإرادة والاختيار، وهو خلق آخر للإنسان وتطوّر له، كما قال تعالى: «ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» (1) . ولذلك أضاف الروح إلى نفسه تشريفاً، وأمّا الروح بمعنى ما به الحياة، فليس لها كرامة خاصّة ولا تختص بالإنسان.

ويظهر من التعبير بالوقوع للسجدة لزوم فوريّته. ولعلّه إشارة إلى عدم انتظار أمر آخر من بروز صفة خاصّة كالعلم والتقوى، فيستفاد منه أنّ السجود لنفس صفة البشرية ونفخ الروح لا لأمر آخر. ولا شك أنّ المراد ليس هو السجود بالمعنى الذي نعرفه، بل هو مطلق التذلّل والخضوع، فهو نظير قوله تعالى: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ» (2) ، وقوله تعالى: « وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا» (3) إذ لا يمكن الدخول في حال السجدة؟! فلا بدّ من حمله على مطلق التذلّل والخضوع. وربّما يستغرب الأمر بالسجود لغير الله تعالى، خصوصاً إذا كان ذلك من

ص: 232


1- المؤمنون (23): 14.
2- النحل (16): 49 .
3- البقرة (2): 58 .

الملائكة وهم أشرف الخلق كما يقال، فهل كان هذا السجود من جهة أنّ آدم (علیه السلام) نبيّ وأراد الله تعالى بذلك إعلاء شأن الأنبياء من البشر؟

أم كان رمزاً لخضوع الملائكة أمام الجنس البشري لا خصوص آدم (علیه السلام) وذلك لأنّ من ذرّيّته من هو أشرف الخلق وهم محمد وأهل بيته الطاهرون - سلام الله عليهم أجمعين - كما ورد في بعض الأحاديث؟

أم كان رمزاً لما أراده الله تعالى من إعطاء القدرة والاختيار للإنسان، فلا بدّ من أن تطاوعه القوى الحاكمة في الوجود، كما لا بدّ من مطاوعة القوى الطبيعية له، والملائكة هي القوى الحاكمة في الكون والمدبّرة لأموره بأمر الله تعالى، كما قال سبحانه: « «فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا» (1) بل يحتمل أن يكون الأمر بالسجود كناية عن الأمر بهذه المطاوعة؟

أم إنّ له سراً آخر لا تبلغه أفهامنا؟

لا نتعدّى سرد الاحتمالات في مثل هذه الأمور الغيبية وإن كان يقوى في النفس أن يكون الأمر هنا كناية عن الأمر بالمطاوعة وأن المسجود له جنس الإنسان، ويشهد له إطلاق الأمر بالسجود لمجرّد تكوّنه بشراً سوياً ونفخ الروح الإلهية فيه، فلا يتوقّف السجود على كونه نبيّاً أو غير ذلك.

ويشهد لكون المسجود هو جنس الإنسان قوله تعالى: « «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» (2) وذلك لأنّ المفروض في هذه الآية أنّ الأمر بالسجود صدر بعد خلق البشر كلّهم وتصويرهم فتدلّ الآية على تقدّم خلق جمعي للإنسان، ثمّ تصوير لهم بكيفية مجهولة لنا في آدم (علیه السلام) ويمكن أن يكون

ص: 233


1- النازعات (79): 5 .
2- الأعراف (7): 11 .

المراد أنّه كان يمثّل البشرية، وهذا يفسّر أو يقرّب لنا قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا.» (1).

« فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ » ، لعلّ المراد بالتأكيد الأول: «كُلُّهُمْ» أنّه لم يشذّ منهم أحد، كما هو مقتضى عصمتهم، وبالثاني: «أَجْمَعُونَ» أنّهم سجدوا مجتمعين، فلعلّ فيه إشارة إلى أنّ انقياد القوى الحاكمة التي تدبّر الكون للإنسان انقياد متناسق، فالكلّ يعمل باختياره بمنزلة أداة واحدة وجهاز واحد بأمر الخالق القهّار جلّ وعلا.

ويحتمل أن يكون المراد التأكيد على عدم استثناء أحد منهم، والسبب في ذلك أنّ استثناء إبليس ربّما يوهم احتمال وجود استثناء آخر، فأراد بالتأكيد بيان أنّه لم يشذّ منهم أحد نهائياً.

« إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ » ، شذّ من المخاطبين بالحكم إبليس لعنه الله، وكان في مجموعة الملائكة ومأموراً بأمرهم وإن لم يكن منهم، بل كان من الجن، قال تعالى: « فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ » (2). وحيث إنّه لم يعتصم بعصمة الله سبحانه واعتمد على نفسه وما يوحيه إليه اجتهاده حتّى في مواجهة الأوامر الإلهية، ولم يدرك بالمحاسبة والقياس وجه الحكمة في هذا السجود، فاستكبر وأبى أن يطيع ربّه ويتعبّد بأمره، وأعلن العصيان وكفر بذلك، وخرج عن ربقة الإيمان، كما نجده في كثير من البشر حتّى بعض المؤمنين، فإنّهم إذا لم يجدوا في حكم من أحكام الله تعالى حكمة تقنعهم لا يخضعون له ولا

ص: 234


1- الأعراف (7): 172 .
2- الكهف (18): 50 .

يعملون به. وهذا هو الاستكبار، وأصله طلب الكبر ، وهو كناية عن الإعجاب بالنفس والترفّع على الآخرين، وأقبحه الترفّع على الله تعالى ورفض الانصياع لأوامره.

ويلاحظ هنا أنّ الكفر ليس مساوقاً لإنكار الربوبية كما يتوهّم، فإنّ إبليس كان يعترف بالربّ، بل يعبده ويطيعه، ولكنّه في هذا المقام استكبر وطغى وعصى أمر ربّه نتيجة مقارنته بين ما يمتاز به من معدن الخليقة ومعدن الإنسان، حيث وجد نفسه أشرف منه، لأنّه مخلوق من النار وهي في رأيه أشرف من الطين، خصوصاً إذا كان منبته « مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» (1) و«الصلصال» قيل: إنّه طين منتن، وقيل: إنّه يابس له صوت و« الحمأ »«الطين المنتن» و«المسنون» المتغيّر كقوله تعالى: « فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ » (2).

وهكذا أصبح إبليس يقود العصاة المستكبرين في الكون، وأصبح مثلاً للاستكبار والطغيان بوجه الحقّ. ومن هنا يتبيّن أنّ البشر الذي يقيس أحكام الله تعالى بعقله، وإذا لم يجد فيها الحكمة المنشودة رفض الانصياع أمامها يتبع إبليس بتمام معنى الكلمة.

و«إبليس» مأخوذ من الإبلاس وهو اليأس على ما قالوا، وفيه كلام سيأتي إن شاء الله تعالى. وورد في الحديث: «أن يأس إبليس من رحمة الله أعظم من عصيانه واستكباره » (3)، والسرّ واضح لأنّ يأسه هو السبب في استمراره على الطغيان واقتياده أكبر عدد ممكن من الخلق نحو معصية الباري جلّ وعلا. وهذا منبّه آخر للإنسان أن لا ييأس من رحمة الله إذا عصى وطغى.

ص: 235


1- الحجر :(15): 33 .
2- البقرة (2): 259 .
3- راجع: أوصاف الأشراف: 56.

سورة الصّاد( 75- 85)

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)

« قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ »، مخاطبة واستجواب بين الربّ الجليل والمخلوق العاصي الحقير. ولا نعلم كيف تمّت هذه المحادثات؟

هل أسمع الله تعالى إبليس كلاماً كما كلّم موسى (علیه السلام)، أم أرسل إليه ملكاً يبادله الحديث، أم أوحى إليه كما أوحى إلى أم موسى (علیهما السلام) ، أم أنّ هذا مجرّد تجسيد وعرض الحقيقة كونيّة يمثلها هذا التخاطب؟ وربّما يرجّح ذلك الاختلاف الجوهري في العرض حسب الموارد المختلفة في الكتاب العزيز أم له وجه آخر لا نفهمه؟

ومهما كان فالخطاب الوارد في بدو الاستجواب « يا إبليس » ولو صحّ ما قالوه من أنّه من الإبلاس بمعنى اليأس، فكيف خوطب به وهو بعد لم ييأس، إذ لم يؤمر بالخروج ؟!

وهذا يرجّح احتمال أن يكون بمعنى آخر، فقد قيل: إنّ الإبلاس بمعنى السكوت والوجوم والتحيّر والانكسار. وكلّ هذا ينطبق عليه بعد ما تجرأ وخالف الأمر الإلهي.

ص: 236

ثمّ، إنّ الخطاب هنا يتضمّن الاعتراض على عدم سجود إبليس مع أنّ آدم خلقه الله تعالى بيديه فهو خلق عظيم يستدعي أن يسجد له ولكنّ الخطاب في سورة الأعراف، لا يتضمّن ذلك، بل يتضمّن الاعتراض على عدم الإطاعة حيث قال تعالى: « «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ»(1) ، ولعلّ الخطاب في الأصل كان شاملاً للأمرين، فاختير في كلّ مورد من النقل والحكاية بعضه حسب ما يناسب المقام.

والظاهر أنّ المراد بقوله تعالى: « لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ »الإشارة إلى عظمة خلقة الإنسان وشرافته. ولعلّه عبّر عنه آدم (علیه السلام) ب- «ما خلقت» للإشارة إلى أنّه إنّما يستحقّ السجود لأنّ الله تعالى خلقه بيديه وهذا كناية عن مزيد الاهتمام والعناية به، كما في قوله تعالى خطاباً لموسى (علیه السلام) «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي » (2)، مع أنّ كلّ مخلوق يصنع على عينه وبأمره وإرادته تعالى إلّا أنّ هذا الخطاب یدلّ على مزيد العناية به.

والكناية هنا بلحاظ أنّ الإنسان إذا اهتمّ بشأن ما يصنعه أو يصلحه استعمل يديه معاً، فأصبح التعبير باستعمال اليدين كناية عن مزيد الاهتمام بالشيء.

ويمكن أن يكون كناية عن تركب خلقه من إنشاءين، كما قال تعالى: « ُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ» (3) ، وهو إشارة - على ما يبدو - إلى نفخ الروح المضافة إلى الله تعالى تشريفاً وتكريماً ممّا یدلّ على أنّه خلق في مرحلتين: مرحلة التكوّن الطبيعي وهو الخلق من الطين، ومرحلة نفخ الروح الكريمة المتعالية، وهو في

ص: 237


1- الأعراف (7): 12 .
2- طه (20): 39 .
3- المؤمنون (23): 14.

هذه المرحلة أشرف من حيث الخلق والذات من غيره، كما قال تعالى: « «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»(1).

فيكون هذا البيان في الاستجواب ردّاً على ما سيجيب به إبليس قبل أن يجيب باعتبار أنّ نفخ الروح الإلهية هو الذي استوجب كونه أشرف من غيره وإن كان خلقه من طين، فلا وجه لمقايسة الطين بالنار.

ثمّ إنّ التعبير بضمير المتكلّم المفرد يتضمّن الإشارة إلى عناية أخرى، فکأنّه تعالى بنفسه باشر الخلقة في هذا المخلوق من دون واسطة، وأكّد ذلك بإضافة اليدين أيضاً إليه سبحانه، بخلاف قوله تعالى:«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا » (2)، فإنّ ضمير الجمع ربّما يحكي عن أنّ الخلق تمّ في إطار العوامل الطبيعية، وأمّا خلق روح الإنسان فكان من الله تعالى مباشرة.

هذا، وقد ذهب السلفية إلى أنّ اليدين بمعناه المتعارف، وأن الله له يد ورجل وسمع وبصر، ولكنّها تختلف عن ما في الخلق! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

« أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ» السؤال والترديد في هذه الجملة للكشف عن الدافع لترك السجود، وأنّه هل هو الاستكبار أو كونه من العالين. ولا شك أنّ المراد ليس كونه عالياً في الواقع بل المراد الترفّع وادّعاء العلوّ، وهو عبارة أخرى عن الاستعلاء، كما قال تعالى: « مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ» (3) وقال: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ» (4). ، ويبدو من أوّل ملاحظة أنّ الاستكبار والاستعلاء أمر

ص: 238


1- التين (95): 4 .
2- يس (36): 71 .
3- الدخان (44): 31 .
4- القصص (28): 4.

واحد. وهناك محاولات في التفاسير لإبداء الفرق بينهما.

والصحيح أنّ استكباره أمر مفروغ عنه وقد صرّح به في الآية السابقة، حيث قال تعالى: «إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ» والظاهر أنّ المراد به هو الترفع عن إطاعة الله تعالى، فإنّ الواجب على العبد أن يطيع ربّه من دون تريث، ومن دون بحث عن حكمة الأمر أو النهي، فإذا عصى العبد بداع من الشهوة أو الغضب أو الطمع أو الحاجة أو نحو ذلك فلا يعدّ استكباراً أمّا إذا عصى ترفّعاً من الإطاعة مع عدم معرفة الحكمة في الأمر فهو الاستكبار.

وعليه فالترديد بينه وبين ادعاء العلوّ في هذه الجملة لأخذ الاعتراف منه أنّ هناك أمراً آخر وراء الاستكبار وهو أخطر منه وأقبح وهو ادعاء أنّ هذا الأمر فاقد للحكمة، وأنّ الحكمة تقتضي خلاف ذلك لأنّه من العالين أي أعلى وأرفع مقاماً من آدم (علیه السلام) فلا ينبغي أن يسجد له، فهو مضافاً إلى ترفّعه من الإطاعة ينسب الحكم الإلهي إلى عدم موافقته للحكمة، وهذا هو الذي اعترف به اللعين في الآية التالية بكلّ وقاحة.

« قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» ومعنى ذلك أنّ الحكمة تقتضي أن لا تأمرني بالسجود، فأنا خير منه ذاتاً، والنتيجة أنّه لم يكتف بالعصيان والطغيان، بل ادّعى أنّه أعلم من الله تعالى بوجه الحكمة.

وهذه السخافة والحمق وإن لم يصرّح بها البشر العصاة إلّا أنّ كثيراً منهم يدعونه في قرارة أنفسهم وإلّا فما هو السبب في استنكارهم للأحكام الثابتة في الشرع، والمصرّح بها في الكتاب العزيز، واستنكافهم من تطبيقها لولا أنّهم يدعون في قرارة أنفسهم أنّها لا توافق الحكمة، وأن الله تعالى لم يحكم على

ص: 239

أساس الحكمة والعلم، وأنّهم أعلم بوجه الحكمة منه تعالى؟!

ثمّ إنّ خلق الشيطان من النار ورد في عدّة مواضع من القرآن الكريم ولكن كيفية خلقه منها مجهولة لنا، وكذلك خلق آدم من طين ومن صلصال من حمأ مسنون.

« قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ» وهكذا صدر الخطاب العلوي. ولعلّه خطاب تكويني حسم مصير الاستكبار ومزاعم العلم والدهاء إلى أبد الآبدين.

و«الفاء» في قوله: «فَاخْرُج» یدلّ على أنّ هذا الحكم مترتّب على ما أبداه ابليس من الاستكبار والطغيان، وادعاء كونه أعلم بوجه الحكمة من ربّه، ممّا یدلّ على أنّ الإخراج مترتّب على هذا الأمر كعقوبة حتمية وأثر طبيعي، ولا يختصّ بإبليس .

واختلفوا في مرجع الضمير في قوله: «منها » هل هو رحمة الله تعالى أم الجنّة أم السماء أم غيرها؟

والظاهر : أنّ المراد هو السماء، أي العالم العلوي، لقوله تعالى: «قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ » (1)، فإنّها تدلّ على أنّ سبب الإخراج أنّه لا يمكنه أن يتكبّر في السماء، فلا يصحّ عود الضمير إلى الرحمة، وأمّا الجنّة فلم يسبق القول بأنّ إبليس دخلها، مضافاً إلى أنّ التعبير بالهبوط يناسب هذا الاحتمال دون غيره.

و«الرجيم» بمعنى المرجوم بالحجارة، كناية عن الطرد والإخراج بصغار وذلّة. « وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ» ، «اللعنة» هي الإبعاد والطرد. ويبدو من بعض

ص: 240


1- الأعراف (7): 13 .

كتب اللغة أنّها خاصّة بالطرد من الله أو من رحمته تعالى. وعليه فإذا أسند إلى غيره فهو دعاء بالإبعاد.

ويبقى السؤال عن وجه التحديد إلى يوم الدين، مع أنّ اللعن لا ينتهي بذلك. والجواب: أنّ المراد استمرار اللعن إلى يوم الدين وفيه أيضاً. ويوم الدين لا أمد له فالنتيجة أنّ عليه اللعنة الأبدية.

« قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ »، لجأ اللعين إلى الاسترحام والاستعطاف بقوله: (رَبِّ) بعد أن طغى على ربّه واستكبر، وذلك لأنّه ينظر إلى هذا الأمر وهو الإمهال من زاوية هدفه وغايته، وهو إشباع غريزته من الحقد والحسد الدفين على بني آدم فحيث كان هذا الأمر يخصّه بزعمه تشبّث بالاسترحام وطلب من الله سبحانه أن يمهله إلى يوم القيامة، ليخدع بني آدم ويغرّهم ويوردهم موارد الهلكة، كما هلك هو بسببهم .

ولكنّ الواقع أنّ الله تعالى أراد ذلك تكويناً، ولذلك أمره بقوله عز من قائل: «وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ » (1)، فالشيطان جزء من نظام الخليقة ولابدّ منه في السير التكاملي للإنسان، ولولا الدعوة إلى الشرّ لم يكن في اختيار طريق الخير فضل لأحد، ولولا الإغراء والإغواء لم يتحقّق الامتحان والابتلاء الذي هو الهدف الأسمى لنزول الإنسان على الأرض، بل هو الهدف من خلقه، فإن الله تعالى خاطب الملائكة بقوله: « إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»(2) ، ولكنّه بعد خلقه وإسجاد الملائكة

ص: 241


1- الإسراء (17): 64 .
2- البقرة (2): 30 .

له أسكنه جنّته ونهاه عن الشجرة، وسلّط عليه الشيطان مع تحذيره منه، فكانت النتيجة أنّ الإنسان نزل إلى الأرض بسوء اختياره.

وهذا من عجيب حكمة الله تعالى في خلقه، فإنّه برحمته الواسعة لا يريد بأحد هبوطاً ونزولاً عن مقامه إلّا بسوء اختياره، وينطبق ذلك أيضاً على لعن إبليس وطرده، ثمّ إبقائه لنشر الطغيان والعصيان ليتعاظم جزاء معصيته وطغيانه واستكباره الذي هو أوّل طغيان على الله سبحانه، وهو مصدر كلّ طغيان وعصيان، وليكون هذا التعاظم أيضاً نتيجة عمله وسوء اختياره، فتركه يطلب الأنظار والإمهال لتتحقّق أمنيته التي تهوي به في الهاوية، وينال جزاءه المناسب لعظم ذنبه وطغيانه وليجرّ معه كلّ من يستحقّ الهاوية بسوء عمله، واختياره متابعة الشيطان على إطاعة الرحمن.

« قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ *إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ »، تكرّرت هذه الآيات في سورة الحجر أيضاً. ويبدو من تغيير عبارة الجواب عمّا طلبه أنّه لم يمهل إلى يوم الدين الذي هو يوم الجزاء، فهل المراد من الوقت المعلوم يوم النفخة الأولى، حيث قال فيه تعالى: « فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ » (1)، أو بينه وبين النفخة الثانية التي قال فيها سبحانه: « ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ » (2)؟

ورد هذا الاحتمال في بعض روايات السنّة والشيعة. ولا يبعد ذلك.

« قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ »، أقسم اللعين بعزة الباري جلّ وعلا تأكيداً على تعزّزه وتعصّبه وتصلّبه، فالقسم لابد أن يناسب المقسم به، فعلى الإنسان أن ينتبه

ص: 242


1- الزمر (39): 68 .
2- الزمر (39): 68 .

في

أن الشيطان لا يألو جهداً في إغوائه وجرّه إلى النار ، فقد أقسم بعزة ربّه أمام ربّه فی ذلك العهد السحيق. وأكّد الجملة بنون التأكيد، وبقوله: أجمعين. وقد وهبه الله تعالى قوة على ذلك، وأمره بأن يجرّ جيشه الجرّار على كلّ من يتبعه « وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ» (1) وهو يعمل عمله دون أن يشعر به الإنسان: «إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ »(2).

« إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » استثنى اللعين من كلّ العباد من يختصّ بالله تعالى، فأضافهم إلى الله ووصفهم بالمخلصين - بفتح اللام -، أي الذين أخلصهم الله تعالى لنفسه وعصمهم من الشيطان، وهم المعصومون من الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام).

وقد مرّ في تفسير سورة الصافات أنّ المخلصين - بفتح اللام - غير المخلصين - بالكسر - فالأوّل خاصّ بمن أخلصهم الله تعالى إلّا أنّه كما يمكن اختصاص هذا العنوان بالمعصومين، يمكن تعميمه للمؤمنين باعتبار أنّ الله تعالى أخلص قلوبهم للإيمان وأبعدهم عن الشرك، ولكنّ الظاهر أنّ المراد بالعنوان في هذه الآية خصوص المعصومين (علیهم السلام) ، لاختصاصهم بالعصمة عن إغواء الشيطان.

« قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ *لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ »، «الفاء» في أوّل الجملة للسببية والتفريع، فإنّ إبليس تعزّز أمام ربّه وهدّد بأنّه سيغوي بني آدم . وهذا الجواب بمعنى أنّ ذلك لا يهمّني ولا يضرّ نظام الخلق، فإنّ المصير المعدّ لك ولاتّباعك هو جهنّم.

والحقّ الأول مقسم به بتأويل: «الحقّ قسمي»، وقرئ بالنصب، فيكون منصوباً

ص: 243


1- الإسراء (17): 64 .
2- الأعراف (7): 27 .

بنزع الخافض وهو حرف القسم، والمقسم عليه قوله تعالى: « لَأَمْلَأَنَّ». وقوله: « وَالْحَقَّ أَقُولُ » جملة معترضة للتأكيد. ويفهم من تقديم المفعول الحصر، أي أنّ الله تعالى لا يقول إلّا الحقّ.

وممّا يلفت النظر كثرة التأكيد في هذا العهد الأزلي، ففيه القسم بالحقّ، ثمّ التأكيد بأنّ الله تعالى لا يقول إلّا الحقّ، ثمّ لام القسم في « لَأَمْلَأَنَّ» ، ثمّ نون التأكيد الثقيلة، ثمّ التأكيد بقوله «أَجْمَعينَ» لئلّا يبقى أيّ احتمال للتخلّف عن هذا العهد، فيمنّي الظالمون أنفسهم بالأماني الكاذبة.

وقال المفسرون: إنّ المراد بقوله تعالى: «مِنْكَ» أي من قبيلك وذرّيّتك. ولعلّ الوجه في تأكيدهم على ذلك أنّ الآية لم تتعرّض لشياطين الجنّ وكفرتهم، ولا بدّ من شمول العهد لهم، فأوّلوا ضمير الخطاب بذلك.

ولكنّ الظاهر أنّه لا حاجة إلى هذا التأويل، لأنّ مورد الكلام هو إبليس ومن يتبعه من البشر، وليس هذا عهداً عامّاً ، فلا ضير إن لم يشمل بعض من يستحقّون العذاب.

كما أنّ الآية اعتبرت مناط دخول النار متابعة إبليس، مع أنّ المناط هو عصيان الربّ، لا متابعة إبليس، ولكن حيث كان الكلام في إغواء إبليس لبني آدم وحتّهم على العصيان كان المناسب للتهديد أن يختصّ العذاب بهذا العنوان.

ص: 244

سورة الصّاد(86 – 88)

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87)وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

« قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ »أي على تبليغ الرسالة. وهذا آخر فصل في السورة يشير إلى ما تكرّر التأكيد عليه في القرآن وعلى لسان الرسل أجمعين، وهو أنّ الرسالة ليست للوصول إلى هدف مادّي، وهذا هو المائز الحقيقي الواضح والصريح بين الرسالات الحقيقية والمدّعين الذين يتشبّثون بالسحر ونحوه لإغفال العامّة، فإنّهم يبتغون من وراء ذلك الوصول إلى أهداف وأغراض مادية، وهو واضح من تصرفاتهم، ولكنّ الرسل لا يطلبون هدفاً مادياً، بل يضحّون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الدعوة.

« وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ».أمر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن ينفي عن نفسه التكلّف، كدليل آخر على صدقه في دعواه و«التكلّف» هو انتحال الإنسان صفة ليست له وهذا من طباع بعض الناس. فالمتكلّف إذا كان بين من يتظاهرون بقوة الجسم تراه ينتحل لنفسه البطولات الكاذبة، وإذا كان بين المتدينين الصالحين تجده يتلبّس لباسهم بأشدّ ما يمكن ويتطرّف في اقتراحاته الدينية ويبالغ في تقواه وتورّعه وهو كاذب منافق، وإذا توسّط أهل العلم والفضل تظاهر بثقافته الوسيعة وحبّه للعلم والعلماء، وهكذا.

فالتكلّف طبيعة لبعض الناس أينما حلّوا وأيّ بيئة نزلوا، والرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان بين ظهرانيهم أربعين سنة قبل أن يبعث للرسالة، وهم يجدونه إنساناً صريحاً واضحاً لا يتصنّع ولا ينتحلّ ما ليس له، وهذا أيضاً طبيعة واضحة من بعض الناس

ص: 245

يعرفهم بها من يعاشرهم، ومثل هذا الإنسان لا يتّهم في مجتمعه إذا ادّعى لنفسه أمراً، خصوصاً مثل هذا الأمر العظيم وهو رسالة السماء.

« إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ »أي إنّ ما جاء به الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو القرآن الكريم ليس إلّا ذكراً للعالمين. والحصر إضافي أي أنّه ليس كما يزعمه المبطلون سحراً أو شعراً أو أساطير، بل هو ذكر للعالمين، ولا يخصّ قوماً دون قوم، ولا زماناً دون زمان ،ولا مكاناً دون مكان ، بل هو يجري مجرى الشمس والقمر.

وهكذا يحدّد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) رسالته بعد إثبات كونه على حقّ، وهو أنّها ليست إلّا لتذكير الناس بفطرتهم التي فطرهم الله عليها، فإنّا لم آتكم بأمر غريب عليكم، ولا أدعوكم إلى أمر تمجّه الأنفس وتعافه الأذواق، بل هو أمر يدعوكم إليه الطبع والعقل السليمان، وهو ترك عبادة ما تخلقونه بأيديكم وتصنعونه من الأصنام والشخصيات، وعدم الخضوع لشيء إلّا للخالق الواحد القهّار.

وهذا أمر يتقبّله كلّ العالمين بفطرتهم، و إنّما يغفلون عنه ويتباعدون منه نتيجة الدعايات الكاذبة والأماني المختلقة التي يبثّها أصحاب الأهواء والمصالح المادّية الذين يريدون بذلك السلطة على الناس وسلبهم أموالهم، وما جئت به يذكركم بما تملي عليكم الفطرة السليمة.

« وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ » ،وفي نهاية المطاف تهديد مؤكّد بلام القسم ونون التأكيد للمكابرين الذين يلفّقون الأعذار لتجاهل هذه الفطرة السليمة، تمادياً في الغيّ وركضاً وراء الأهواء والشهوات بأنّكم ستجدون ما أنبّئكم به من حقائق مذهلة ومخيفة على أرض الواقع يوم لا ينفعكم الندم ولا يفيدكم الإيمان. وذلك ليس بعيداً، بل هو بعد حين. و«الحين» القطعة من الزمان، فالمراد إمّا حين الموت حيث تظهر الحقائق واضحة عارية، أو يوم القيامة. والحمد لله رب العالمين.

ص: 246

تفسير سورة الزمر

اشارة

ص: 247

ص: 248

سورة الزمر(1 – 4)

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)

السورة مكية تتناول مسائل العقيدة الأساسية من التوحيد والمعاد. وهذه ميزة السور المكية.

« تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ » يمكن أن يكون «تنزيل» مبتدأ خبره « مِنَ اللَّهِ »ويمكن أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف أي هذا تنزيل الكتاب، وعليه فالجار والمجرور قد يكون متعلقاً بقوله « تَنْزِيلُ الْكِتَابِ » وقد يكون خبراً ثانياً. و«الكتاب» أي المكتوب، بمعنى المجموع ، فإنّ «كتب» بمعنى جمع، ويطلق على كلّ مجموعة من الألفاظ أو المعاني والمراد التأكيد على أنّ هذا الكتاب

ص: 249

منزل من الله تعالى وليس من إنشاء الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كما يتوهّمه بعض الكفرة قديماً وحديثاً.

و توصيفه تعالى ب-«العزيز» لعلّه إشارة إلى أنّ مقتضى عزّته وغلبته المطلقة أن لا يؤثّر في هذا الكتاب شيء آخر رداً على توهّم بعض المشركين من احتمال تدخّل الشياطين في ذلك، كما صرّح به في قوله تعالى: «وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ *«وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ » (1).

ووصف الحكمة لعلّه للردّ على أنحاء الشبهات التي ترد على الرسالة من اختيار اللغة والزمان والشخص الكريم وغير ذلك. وهذه شبهات متكرّرة طيلة التأريخ إلى يومنا هذا ولكلّ منها جواب، ولكنّ الأفضل هو الردّ العامّ، إذ لا انتهاء لهذه التساؤلات والردّ العامّ يتلخّص في هذا التوصيف، فإنّ مقتضى حكمة الباري هو هذا الانتخاب. والبشر لا يمكنه أن يدرك وجه الحكمة في كلّ ما خلقه الله تعالى ودبّره.

ونظير ذلك يقال في الردّ على الشبهات والتساؤلات حول الأحكام الشرعية المختلفة، فهناك موارد كثيرة للتساؤل في الأحكام والجواب العامّ واحد وهو أنّ الأحكام تعبدية لا يعلم وجه الحكمة فيها إلّا الله تعالى ولو علم أيضاً فالتسليم لها ليس من جهة وجه الحكمة، وإلّا لم يكن تعبّداً، بل هو من باب وجوب التسليم لأمره تعالى.

« إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ» الإنزال والتنزيل بمعنى واحد ، ولا دليل على الفرق، وملاحظة موارد استعمالهما في الكتاب العزيز

ص: 250


1- الشعراء (26) :210 - 211 .

وغيره تقتضي عدم الفرق بما قيل من أنّ الإنزال يطلق على الإنزال التدريجي والتنزيل على الدفعي أو الأعم، فقد ورد الإنزال والتنزيل في ماء المطر وهو لا ينزل إلّا تدريجاً وورد التنزيل في مورد النزول الدفعي بصراحة في قوله تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً »(1) ، وغير ذلك.

ومهما كان فالغرض هنا التأكيد على أنّ الإنزال إنّما كان بالحقّ، أي أنّ الكتاب نزل بالحقائق الناصعة والأحكام الثابتة، وفرع عليه الأمر بالعبادة بإخلاص: « فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ» والتفريع لعلّه من جهة كونه شكراً على هذه النعمة التي ليس فوقها نعمة.

والمطلوب في الأمر المذكور هو الإخلاص في العبادة تنويهاً على أنّ العبادة من دون إخلاص ليست مقبولة لدى الله سبحانه، لأنّ العبادة لا تليق إلّا به وهذا من جهة تقديس لعبادة الله تعالى من أن يشرك فيها أحد، ومن جهة أخرى تكريم للإنسان أن لا يعبد إلّا الله تعالى ويترفّع عن الخضوع لغيره. و المراد ب-«الدين »في الآية الكريمة العبادة، ويقال إنّ الأصل في الدين هو التذلل والطاعة، ولعلّ الدين - بالفتح - منه أيضاً لاستيجابه المذلّة.

« أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ» إعلام عامّ بعد الأمر الخاصّ، وتعليل للحكم في نفس الوقت، فلا يقبل الله تعالى إلّا العبادة الخالصة. وقد صدر الحكم العامّ بأداة التنبيه: «ألا» ليعلم أنّ العبادة إن لم تكن خالصة لوجهه الكريم وأشرك فيها غرض آخر ، فلا يقع لله منه شيء وهو مرفوضة تماماً، بل تعتبر إثماً كبيراً يستوجب العقاب.

ص: 251


1- الفرقان (25) :32 .

« وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ » ،تتعرّض الآية لحال من يعبدون غيره تعالى ممّن توهّموا فيهم الولاية وتصدّي التدبير في العالم كالملائكة والقديسين من البشر، ثم اتّخذوا لهم تماثيل وأصناماً وعبدوهم من دون الله تعالى.

ومعنى من دونه أنّهم اعتبروهم أولياء بدلاً من الله تعالى والسبب في ذلك أنّهم كانوا يتوهّمون أنّ الخلق من الله والتدبير من هذه الخلائق، وأنّهم مستقلّون في التدبير وإلّا فالتدبير والتأثير بإذن الله سبحانه وفي حدود خاصّة ثابت لكلّ أحد، فكلّ إنسان يدبّر أمور نفسه وعائلته، بل أكثر من ذلك أحياناً، وكلّ شيء يؤثّر في أمور أخرى.

والملائكة وصفهم الله تعالى بالمدبّرات أمراً، وهم شفعاء ووسطاء بين الله وخلقه، ولكنّهم لا يشفعون إلّا باذنه تعالى: « وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى» (1) ، والمراد بالشفاعة هنا التوسط في الخلق والتدبير. فشأن الملائكة وغيرهم ليس إلّا التوسّط، وكيفية هذا التوسط بين الله وخلقه مجهولة لنا. وكذلك العوامل الطبيعية التكوينية تؤثر وتتوسّط، ولكن لا أثر لأيّ شيء في الكون إلّا إذا أراد الله تعالى. إذن فلا شيء يستحق العبادة غيره.

«مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى» قد تفطّن المشركون أو بعضهم إلى أنّ غير الله تعالى لا يستحق العبادة بذاته، فاختلقوا مبرراً لهذه العادة الموروثة، وقالوا: إنّهم لا يعبدونهم إلّا ليتقربوا بذلك إلى الله تعالى، فزادوا بهذا الافتراء إثماً على إثم، إذ ليس لهم دليل على أنّ ذلك مقرّب إلى الله سبحانه و«زلفى» مصدر

ص: 252


1- النجم (53) :26 .

بمعنى القربى، فهو مفعول مطلق من غير لفظ الفعل.

وربّما يتمسّك بهذه الآية الكريمة ردّاً على كلّ توسل بأولياء الله سبحانه. والجواب ما ذكرناه مراراً من أنّ التوسّل بهم من التوسّل بالله وكالتوسّل بالوسائل الطبيعية، وليس من اتّخاذ وليّ من دون الله سبحانه، وأنّ الفرق هو اعتقاد الاستقلال في هذه المؤثّرات، وهذا ربّما يحصل بصورة خفية لبعض الجهلة من المؤمنين سواء بالنسبة لأولياء الله تعالى أو بالنسبة للوسائل الطبيعية، فتجد كثيراً من الناس يظنّ أنّ المريض ربّما يشفى بالدواء ومعالجة الطبيب، وربّما يشفى بإرادة الله سبحانه، ويتوهّم أنّ تأثير الله تعالى مقتصر في ما إذا شفي بسبب غيبي، أو يتوهّم أنّ الإنسان ربّما يموت بإرادة الله وربّما يموت بإرادة البشر.

وقد ورد في القرآن الكريم قصة الملك الكافر ولعلّ اسمه نمرود مع إبراهيم (علیه السلام): « إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ » (1)، ومن الغريب أنّك تجد بعض المؤمنين بالله يقولون ذلك أو يعتقدون به في قرارة أنفسهم. ولذلك قال تعالى: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ » (2)، ولذلك أيضاً ورد في الحديث ما معناه أنّ الشرك أخفى من دبيب النمل على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء. (3)

وهذا الشرك الخفيّ لا يوجب حرمة التوسّل بالأولياء، كما لا يوجب حرمة التوسّل بالوسائل الطبيعية، ولكن يجب التنبّه وتنبيه الآخرين على أنّ كلّ هذه

ص: 253


1- البقرة .(2) :.258 .
2- يوسف (12): 106 .
3- راجع: الوافي 8: 1084 .

الوسائل لا تؤثر شيئاً إلّا إذا أراد الله تعالى، بل لا تشفع ولا تحاول فكلّ حركة وسكون بأمره وإذنه.

والحاصل أنّ التوسّل بأولياء الله تعالى مع الاعتقاد بأنّهم لا يعملون شيئاً ولا يقدرون على شيء إلّا بإذنه ليس من الشرك في شيء، بل هو عين الإيمان به ويعتبر إطاعة وامتثالاً لأوامره التي صدرت في شأنهم.

ومن هنا وجبت إطاعة الرسول وأولي الأمر المعصومين بأمر الله تعالى مع أنّ الإطاعة عبادة أيضاً، وبها فسّر قوله تعالى: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ »(1)، فإنّ البشر بصورة عامّة لا يعبدون الشيطان و إنّما يطيعونه ويتّبعون غواياته فالإطاعة عبادة، ولكنّ إطاعة اولياء الله عبادة لله تعالى وامتثال لأمره، وكذلك التوسّل بهم إطاعة لأمره تعالى حيث قال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ »(2)، وتواترت الأحاديث بالتوسّل والاستشفاع بالرسول وأهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

« إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»، الجملة خبر لقوله: « وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا» وهناك بحث واختلاف في مرجع الضمائر في هذه الجملة، فيحتمل عودها إلى المشركين كما هو ظاهر اللفظ ، لأنّهم يختلفون في وجوه الشرك فكلّ مجموعة يعبد صنماً أو قدّيساً، كما يختلفون أيضاً في حدود الربوبية المزعومة.

ويحتمل عودها إلى المشركين والمؤمنين وإن لم يسبق لهم ذكر لدلالة الحال عليهم. وأمّا عودها إلى المشركين والمعبودين - كما قيل - فبعيد عن اللفظ والمعنى.

ص: 254


1- يس (36): 60 .
2- المائده (5): 35 .

ولعلّ معنى حكم الله بينهم أنّه يدخل الكافرين النار والمؤمنين الجنّة، وهو حكم وقضاء بين الفريقين أو أنّه يظهر الحقّ عياناً يوم القيامة فيرتفع الاختلاف بينهم كغيره من موارد الخلاف بين الناس.

وعلى كلّ حال، ففي الآية إشارة إلى أنّ هذا الأمر ممّا لا يرتفع فيه الاختلاف إلّا يوم القيامة حيث يظهر الحق، إمّا من جهة خفاء بعض موارده كما أشرنا إليه، وإمّا من جهة أنّ المشركين يرفضون الانصياع للحق لتشدّدهم فيما توارثوه من أفكار وعقائد.

« إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ » ، لعلّ في هذه الجملة إشارة إلى نوع من التعليل لما تشير إليه الجملة السابقة من بقاء الاختلاف إلى يوم القيامة، لاستمرار عناد الكفرة والمشركين والعلّة أنّ الله لا يهدي من هو كاذب كفّار ، ومن يضلل الله فما له من هاد.

والظاهر: أنّ المراد بالكاذب الذي يكذب على نفسه ويحاول مخادعتها. وفي هذا التعبير مغزى عميق، فإنّ الكفر والإنكار للحق ربّما ينشأ من الجهل وعدم التمكن من إدراك الحقائق ومثل هذا يمكن أن يهديه الله سبحانه، وربّما ينشأ من محاولة الفرار عن وجه الحقّ والتشبث بالأعذار الواهية، والتشكيك في الأمور الواضحة، ليجد الإنسان مفرّاً من التسليم للحق، لأنّه يستتبع أموراً لا يرغب فيها من ترك الملذّات والانصياع لأوامر الدين ونواهيه، فهذا الإنسان يضلّ نفسه ويكذب عليها ويخدعها.

وهناك كثير من البشر يخدعون أنفسهم في ما إذا وجدوا حزازة في قبول الحقّ وترك ما اعتادوه، ولنضرب له مثالاً واضحاً وهو المعتاد على التدخين، فإنّه

ص: 255

يعلم إذا جرّد نفسه عن هواها أنّ ذلك أمر ضارّ لصحته ولماله، وأنّه لا ينبغي لعاقل أن يرتكبه، ولكنّه يخدع نفسه ويشكّك في تحذيرات الأطباء أنّها ناشئة من منافسة الشركات التجارية، وأنّها محاولة لتخسير بعضها اقتصادياً، وأن فلاناً عاش عمراً طويلاً ولم يصب بشيء مع كونه مدخناً وغير ذلك. وهكذا غيره من الذين يستهويهم عادة مضرّة أو عمل محرّم حتّى اللصوص وقطّاع الطرق والمجرمون القتلة يحاولون تبرير عملهم في أنفسهم.

والحاصل أنّ الكاذب هنا في ما يبدو هو الذي يكذب على نفسه ويبرر لها الكفر، ومثل هذا الإنسان لا يهديه الله تعالى ولا وجه هنا للبحوث المتعارفة بين الأشاعرة والمعتزلة بأنّ ذلك هل يستوجب الجبر أو لا يستلزمه، كما لا مجال للقول بأنّ الله تعالى لا يضلّ أحداً، بل يهدي الجميع ونحو ذلك من الأحاديث، فإنّ عدم الهداية هنا أمر طبيعي. والمراد أنّه لا يهتدي بطبيعة الحال إلى الحقّ كما في نظائره ممّن أشرنا إليهم، وكلّ أمر طبيعي فهو من صنع الله سبحانه.

ووصفه أيضاً بالكفار وهي صيغة المبالغة من الكفر. وهذا أيضاً إشارة إلى صفة أخرى يستوجب عدم الهداية بالطبع، وهو الإفراط في الإنكار والابتعاد عن القبول، فإنّ الناس مختلفون في مواجهة ما يسمعونه من حقائق وما يلقى عليهم من مطالب، فمنهم من يصدّق كلّ ما يحكى له، ومنهم من ينكر ويصرّ على إنكاره، بل ربّما يستغشي ثوبه حتّى لا يسمع، ومنهم أناس متوسطون. وهؤلاء يمكن هدايتهم، أمّا المعاند والمصرّ على الإنكار من دون أن يتبيّن له وجه الحق، فلا تمكن فيه الهداية. وهناك آيات كثيرة تدلّ على أنّ الله تعالى لا يهدي من يعاند الحقّ وهذا أيضاً أمر طبيعي. قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا

ص: 256

بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ » (1).

« لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ »هذا ردّ على بعض المذكورين سابقاً، وهم الذين يعتقدون أنّ الله تعالى اتّخذ له ولداً، فمنهم من يرى أنّ الملائكة بنات الله سبحانه، ومنهم من يرى أنّ عيسى (علیه السلام) ابن الله، أو يقول عزير (علیه السلام) ابن الله.

وهناك فرق بين كونه ذا ولد وبين اتّخاذه الولد، فالأول واضح البطلان، لأنّ الولد جزء من الوالد ينفصل عنه، ثمّ ينمو حتّى يكون مثله، والله تعالى ليس له جزء وإلّا لاحتاج إلى أجزائه في وجوده وتقوم بها، وهو ينافي الغني المطلق ولأنّه ليس له شبيه ونظير ومثيل والولد مثل الوالد وقال الله تعالى «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ » (2).

وأمّا الثاني، أي اتّخاذ الولد فهو أيضاً إنّما يصحّ في من يتصوّر فيه أن يكون له ولد، ولكنّه لم يحصل لنقص فيه، فيتّخذ ولداً لنفسه اعتباراً ليرفع ب-ه بعض حاجته إلى الولد وهو في نفس الوقت يشارك والده في الشؤون الاعتبارية ولذلك اعتبر هؤلاء الملائكة والقديسين أرباباً وكلّ ذلك مستحيل في حقه تعالى، فهو لا يمكن أن يكون له ولد ولا حاجة له إلى اتّخاذ ولد، ولا يشاركه في شؤونه أحد.

وقد ورد الردّ على هذه المقولة الفاسدة في الكتاب العزيز بتعابير مختلفة، منها قوله تعالى: «وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ »(3) ،

ص: 257


1- الأنعام (6) :110 .
2- الإخلاص (112): 3-4 .
3- البقرة (2): 116 .

ومنها قوله تعالى: «قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ »(1) . و أساس الجواب في هاتين الآيتين أنّ نسبة الأشياء في السماوات والأرض إلى الله تعالى نسبة واحدة، وكلّها ملك له ومتقوّم بإرادته فلا يمكن أن يكون شيء منها ولداً له، مضافاً إلى أنّه الغنيّ المطلق فلا حاجة له إلى اتّخاذ الولد.

ومنها قوله تعالى: «وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا *إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا »(2) ومعنى ذلك أنّ ما تدعونه من أولاد له تعالى في السماوات وهم الملائكة، أو في الأرض كعيسى (علیه السلام) كلّهم عبيد الله تعالى، لا فرق بينهم وبين غيرهم من هذه الجهة.

ومثله أيضاً قوله تعالى: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ*لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ »(3) والمراد بهم الملائكة.

واختلف التعبير في هذه السورة عن غيرها واختلف المفسرون في معناه، والظاهر أنّ المراد أنّه لو فرض أنّ الله تعالى يريد أن يتّخذ ولداً لاصطفى واختار من خلقه ما يشاء ليكون ولداً له، ولكن هذا مستحيل في حقه تعالى لأنّه الله الواحد القهّار.

وقد مرّ في تفسير سورة ص أنّ المراد بالوحدة البساطة وعدم التركب من الأجزاء الخارجية والذاتية، وليس المراد الوحدة بالعدد، فإنّها ليست ميزة للذات الإلهية، فكلّ شخص واحد لا يشمل غيره، بل هي في حدّ ذاتها يستحيل أن

ص: 258


1- يونس (10): 68 .
2- مریم(19):92 -93 .
3- الانبياء .(21): 26 - 27 .

تكون وصفاً له تعالى، لأنّها تستلزم أن يكون له تعالى جنس ونوع إلّا أنّه واحد في نوعه وجنسه، مع أنّه تعالى ليس له جنس ولا نوع ولا يتركّب من ماهية ووجود.

وبذلك يتبيّن أنّه لا يمكن أن يكون له ولد فلا معنى لاتّخاذ الولد أيضاً، لما مرّ من أنّ ذلك إنّما يصحّ في من يمكن أن يكون له ولد، ولكنّه فاقد له لنقص فيه، وهو تعالى واحد أيضاً في أوصافه وشؤونه، لا يشاركه فيها أحد، فلا يمكن أن يتّخذ ولداً، لأنّ الولد الاتِّخاذي يشارك الوالد في شؤونه الاعتبارية. ثمّ إنّه تعالى قهّار، وكلّ شيء خاضع لإرادته، فلا حاجة له إلى ولد، أو اتّخاذ ولد، و إنّما يتخذه من يشعر بالحاجة إليه، وهو تعالى لا يريد شيئاً إلّا وهو كائن لا محالة بمحض إرادته، كما قال تعالى: «مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.»(1).

ص: 259


1- مريم (19) :35 .

سورة الزمر(5 – 6)

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)

يعود السياق إلى منع عبادة غير الله تعالى على أساس أنّ العبادة إنّما يستحقّها الربّ المدبّر المنعم على الإنسان. وفي هاتين الآيتين إشارة إلى بعض وجوه تدبيره تعالى في الخلق، ويفرع عليه أنّ من يكون كذلك هو الربّ وهو المعبود، ويشير إلى أنّ خلقه تعالى للكون مستمرّ والتدبير أيضاً منه لأنّه يتبع الخلق.

ويردّ بذلك على التفكير السائد لدى الوثنية من أنّ الله تعالى خالق الكون ولكنّه ليس هو الربّ المدبّر ، بل لكلّ شأن من شؤون الكون ربّ يدبّره. وهذا التفكير الشركي موجود لدى كثير من جهلة الموحدين أيضاً كما ذكرنا وإن لم يصرّحوا به بل صرّحوا بخلافه. والقرآن يريد أن يزيل كلّ أثر من آثار الشرك، فلا يخاف الإنسان شيئاً إلّا ربّه، ولا يرجو إلّا ربّه، ولا يعبد إلّا ربّه، وهو الله الواحد القهّار.

« خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ »، الظاهر أنّ السماوات والأرض عبارة عن كلّ الكون، إمّا بلحاظ أنّ السماوات تعبير عن العالم العلوي أي ماوراء الطبيعة. والأرض عبارة عن العالم السفلي بجميع أدواره وطبقاته وعوالمه. وإمّا بلحاظ أنّه تعبير كنائي باعتبار أنّ الإنسان لا يرى حوله إلّا سماء فوقه وأرضاً تحته. والمراد

ص: 260

بقوله : « بِالْحَقِّ »أنّه تعالى خلق الكون لغاية ولم يخلقه باطلاً، كما قال تعالى: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» (1) ، وهذا مقتضى حكمته تعالى فهو لا يخلق عبثاً ولعباً، كما قال تعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا »(2) ، وقال أيضاً: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ»(3).

وهذا یدلّ على أنّ الخالق هو المدبّر وهو الربّ، فإنّ القول بأنّ الخالق لا يدبّر الكون يستلزم أن يكون الخلق عبثاً ومن دون تدبير وغاية وهدف، ولذلك نسبه إلى ظنّ الذين كفروا في سورة ص.

وهذا التوهّم لا يختصّ بعبّاد الأوثان، بل نجد في هذا العصر المبهورين بالعلوم والاكتشافات البشرية يظنّون مثلاً أنّ نظرية التطوّر بديلة للقول والاعتقاد بأنّ للعالم خالق ذكي، فيردّ عليهم بعض المعتقدين بالله بعدم المنافاة لإمكان أن يكون الله خالقاً للكون على أساس قانون التطوّر، وربّما يخطر بالبال لدى بعضهم أنّ الله تعالى خلق الكون وأوكل أمر إدارته إلى النظم والقوانين الكونية، وأنّه لا يتدخّل فيها، بل ربّما نسمع من بعض الناس ما یدلّ على الاعتقاد بعجزه تعالى عن التدخّل، بل لا يبعد أن يكون ذلك دفيناً في قرارة نفوس كثير من المؤمنين بالله تعالى: «مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ »(4).

والقرآن يؤكّد ويركز على أنّ الله الخالق للكون هو الربّ المدبّر لكلّ شؤونه. والدليل عليه هو ما أشارت إليه هذه الآية من أنّ خلقه للكون ليس عبثاً

ص: 261


1- ص (38) :27 .
2- المؤمنون (23) :115 .
3- الأنبياء (21): 16 .
4- الحج (22): 74 .

ومن دون هدف وغاية وهذا مقتضى حكمته، فلو لم يكن مدبّراً للكون، ومراقباً لما يفعله الإنسان، وما يدور في خلده وتنطوي عليه نفسه، ليوصله إلى غايته في الحياة الأخرى، وليضعه موضعه الصحيح، ومرتبته الواقعية لكان الخلق عبثاً وبلا غاية، وهكذا يتبيّن بوضوح أنّ الله الخالق هو المدبّر.

« يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ». هذا بيان لبعض التدبير الربوبي الناشئ من الخلق، فيكون دليلاً على أنّ الخالق هو المدبّر، فقد خلق الأرض والشمس بكيفيّة ينشأ منها الليل والنهار، ويتبادلان المكان والزمان فاستمرار تكوّن الليل والنهار واختلافهما - وهو من شؤون التدبير والربوبية - يتبع الخلق.

وعبّرعن خلق الكون بفعل الماضي، وعن التكوير بالمضارع، لأنّه مستمرّ في الحدوث والتبدّل. ولذلك أيضاً عاد فعبّر بصيغة الماضي عن تسخير الشمس والقمر.

وقد عبّر الله سبحانه عن هذه النعمة وهذا التدبير في موضع آخر بقوله تعالى: « ُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا »(1) ، وفي مواضع باختلاف الليل والنهار وفي سورة يس بانسلاخ النهار من الليل.

والتعبير هنا ربّما يفهم منه الإشارة إلى كروية الأرض، فإنّ التكوير بمعنى الإدارة واللفّ والليّ يقال: كار العمامة على رأسه وكوّرها، أي لقّها على رأسه فكأنّ التعبير هنا يشير إلى منظر الليل والنهار لمن يشاهدهما خارج الكرة الأرضية، وهما يلفّان عليها ويتبادلان المكان، ولذلك أوّل المفسّرون القدامى

ص: 262


1- الأعراف (7) :54 .

هذا التعبير ليناسب تصوّرهم للأرض.

ومثله قوله تعالى: « يَطْلُبُهُ حَثِيثًا »، أي سريعاً، فإنّه لا يتحقّق إلّا على فرض الكروية حيث يجد الملاحظ أنّ الليل يتعقّب النهار يطلبه مسرعاً ولا يصل إليه ولا تنتهي الملاحقة.

ويجب أن ننبّه على أنّ القرآن ليس كتاباً علمياً يوضح هذه الحقائق ولم ينزل بهذا الهدف وإلّا لذكر الحقائق كاملة ولم يبق للبشر مجال للتطوّر والتقدّم العلمي. و إنّما يتبيّن من هذه الملاحظات أنّ هذا الكتاب ليس من صنع البشر و إنّما هو كتاب الله تعالى خالق الكون.

« وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» ربّما يكون المراد من التسخير خلقهما مسخّرين، أي منضبطين تحت القوانين الكونية بإرادة الله، كما قال تعالى: « وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ»(1) ، ويمكن أن يكون المراد تسخيرهما للإنسان، كما قال تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ »(2)، والمراد تسخيرهما لصالح الإنسان، إذ ليس أمرهما بيده كما هو واضح.

وعلى كلّ حال فتسخير الشمس والقمر وجريهما بانتظام يحقق منافع عظيمة للإنسان الذي أراد الله تعالى له أن يعيش على هذا الكوكب ويبلغ هنا كماله المتوخّى له بالعبادة وإطاعة أوامر الله سبحانه.

وقوله تعالى: « كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» يمكن أن يكون إشارة إلى هذا النظام الذي لا يمكن أن يتجاوزه الكون بمعنى أنّ جريهما في كلّ حالة وفي كلّ مدار

ص: 263


1- الأعراف (7) :54 .
2- إبراهيم (14) : 33 .

محدود بأجل وغاية زمنية خاصّة. ويمكن أن يكون إشارة إلى زوال هذا النظام بأمره تعالى، فالمراد بالأجل نهاية الكون، وأنّه ليس أمراً أبدياً، كما لم يكن أزلياً. وهذا ممّا يصرّ الكتاب العزيز على التنبيه عليه كلّما تعرّض لبيان الأمور الكونية. والتعبير بأنّه مسمّى للدلالة على أنّ أجله معيّن معلوم عند الله سبحانه لا يتجاوزه قيد أنملة.

وقد مرّ سابقاً أنّ هذا التعبير ربّما يتوهّم منه المنافاة لما وصل إليه العلم البشري من أنّ ما نشاهده من حدوث الليل والنهار وتغيّر الفصول ليس نتيجة لجري الشمس والقمر بل هو نتيجة لحركة الأرض ودورانها حول نفسها. ولذلك حاول بعضهم أن يرفع المنافاة بتأويل أنّ الآيات تشير إلى حركة الشمس وجريانها مع كواكبها في مدار آخر، لا دورانها حول الأرض.

ولكنّ الصحيح أنّ الآيات تشير إلى نفس هذا الجري الذي يتكوّن منه الليل والنهار والفصول، وذلك ظاهر واضح من آيات كثيرة ولا حاجة إلى التأويل. وذلك لأنّ المقصود ليس بيان حقيقة كونية، والقرآن لا يهدف إلى ذلك نهائياً، فهو كسائر الكتب السماوية ليس كتاباً علمياً، وليس من أهداف الدين وغاياته مساعدة الإنسان في المجال العلمي، بل هذا مجال متروك له لينتزع لقمة عيشه ومقوّمات بقائه من بين الشوك والحجر على هذا الكوكب الغامض، وفي ظلّ هذه القوانين المستعصية، و إنّما شأن الدين أن يهدي الإنسان لما لا يمكنه الوصول إليه مهما سبر أغوار العلم وبلغ القمّة فيه، وهو ما يهيّء له الحياة السعيدة الأبدية في النشأة الأخرى.

وعليه فما يرد في القرآن وغيره من كتب السماء من التعابير يجري على ما هو

ص: 264

المعروف والمحسوس من أنّ الشمس تجري حول الأرض، كما أنّنا في تعابيرنا المتعارفة نعبّر بطلوع الشمس وغروبها وارتفاعها وغير ذلك، ولا يختلف في هذا التعبير العلماء وغيرهم، مع أنّ الجميع يعلمون أنّه غير واقعي، ولكنّ التعبير يتبع الحالة المحسوسة.

« أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ».اختلف المفسّرون في وجه تذييل الآية بهذين الوصفين، خصوصاً مع تقديم أداة التنبيه ممّا یدلّ على اهتمام بالتنبيه عليهما في هذا الموضع.

وقد تبيّن بما ذكرناه أنّ من مقدمات الاستدلال المذكور في الآية على ربوبيته وألوهيته تعالى بعد فرض كونه خالقاً هو عدم كون الخلق عبثاً، وأنّه لا بدّ من وجود غاية له، وأنّه تعالى يراقب أعمال الإنسان وأفكاره ليضعه موضعه وهذا هو الهدف. فلزم من ذلك التنبيه على أمرين:

الأول: أنّه تعالى عزيز وغالب على أمره وقهّار لكلّ شيء، فلا يمنع من تحقيق هدفه شيء، ردّاً على احتمال عدم ترتّب الغاية على الخلق.

والثاني: أنّه تعالى غفّار لعباده، فالحساب وإن كان دقيقاً إلّا أنّ رحمته وغفرانه يشملان الجميع، حسبما قال تعالى: « إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا» (1) وقال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ »(2) وقال أيضاً: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ » (3) وغير ذلك من الآيات.

ويمكن أن يكون الوصف الأول إشارة إلى أنّه تعالى بعيد عن تناول الأفهام

ص: 265


1- الزمر (39): 53 .
2- النساء (4): 48 .
3- النساء (4) :31 .

وإدراك الأوهام، فإنّ العزّة بمعنى عدم الوصول إليه أيضاً، ولذلك يقال لكلّ شيء نادر الوجود أنّه عزيز، ومنه قوله تعالى: «وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ »(1) ، فحيث كان الكلام في معرفة الله وعموم ربوبيته لكلّ شؤون الكون وهو أمر صعب التناول على أكثر الناس، أشار إلى ذلك بقوله « أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ »، فلا يدرك معرفته أحد، ولكنّه غفّار في نفس الوقت فيقبل من كلّ إنسان ما توصل إليه من المعرفة، ويغفر له قصوره وتقصيره في ذلك.

« خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا » ردّ واضح على فرضية التطوّر في خصوص الإنسان على الأقلّ. وقد مرّ سابقاً أنّ هذه الفرضيّات حتّى لو فرض دعمها بشواهد كثيرة لا تعدو بالنسبة إلى تفسير الحوادث الكونية احتمالاً وحدساً وتخرصاً على الغيب، والإنسان مهما تعمّق في حقائق الكون، فإنّه لا يؤتى من العلم إلّا قليلاً، قال تعالى: « وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا » (2)، ولذلك نجد العلم في كلّ يوم يكشف عن أخطاء سابقة للعلماء حتّى فيما تتناوله التجربة، فكيف إذا كان حدساً وتخميناً وتخرصاً على الغيب في الماضي السحيق. هذا مع أنّ الشواهد حتّى الآن لم تساعد هذه الفرضية التي مضى عليها أكثر من قرن.

ومهما كان، فالآية تشير إلى أنّ البشر بمختلف أقوامه وأممه ينتهي أصله إلى إنسان واحد وهو آدم (علیه السلام)، وتدلّ أيضاً أنّ الله تعالى خلق زوجه منه. وتأنيث الضمير باعتبار النفس. ولعلّ المراد من كونها منه أنّها من نفس النوع والجنس، فخلقها ابتداءً كخلق آدم، أو أنّه تعالى خلقها من فاضل طينته، كما في بعض الروايات.

ص: 266


1- إبراهيم (14): 20 .
2- الإسراء (17): 85 .

وأمّا خلقها من أقصر ضلع من ضلوع آدم اليسرى فإنّما ورد في عدّة روايات لدى العامّة والخاصّة، وهي تشتمل على ما لا يطابق الواقع الخارجي، فإن عدد الأضلاع واحد في الرجل والمرأة، وهذه الروايات تقول إنّ الرجل ينقص عن المرأة في عدد أضلاعه اليسرى، وقد ورد ذلك في التوراة أيضاً ممّا یدلّ على مصدر الوضع في هذه الروايات. وفي رواياتنا ما يردّ على ذلك ويكذّبه ويصرّح بأنّ المراد في هذه الآية ونظائرها أنّ حوّاء خلقت من فاضل طينة آدم (علیه السلام).

و أمّا التعبير ب-«ثمّ » الدالّ على التراخي ممّا يقتضي أن يكون خلق حوّاء بعد خلق الناس فقد ذكروا في تأويله احتمال أن يكون ذلك للتراخي في البيان. وهو كثير في التعابير المتعارفة.

ويمكن أن يكون إشارة إلى أنّ بني آدم مرّوا بمرحلة من الخلق بمجرّد خلق أبيهم آدم وهذا قد يكون حقيقة كونية مجهولة ربّما تتناوله الدراسات المتعلّقة بالجينات أو غيرها.

وقد يكون إشارة إلى مرحلة من مراحل الخلق خارج نطاق الطبيعة. وهذا ليس مستغرباً وإن صعب على بعض الباحثين التسليم له، فقد قال تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ » (1)، وهذا یدلّ على أنّ مرحلة من الخلق، بل التصوير لكلّ البشر قد سبق تواجده على هذا الكوكب. والتصوير هو تكوين الهيئة الخاصّة، فالظاهر أنّه تجاوز مرحلة الخلق المندمج في صلب الأب إلى ظهوره بهيئة خاصّة لا يعلمها إلّا الله تعالى. ولعلّها هي المشار اليها في قوله

ص: 267


1- الأعراف (7): 11 .

تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ»(1).

« وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ » بيان لتدبير شأن من شؤون الحياة البشرية على الأرض، وهو خلق الأنعام ليستفيد الإنسان من لبنها ولحومها وجلودها وأصوافها وأشعارها وأوبارها وركوب بعضها وغير ذلك، وهي الإبل والبقر والضأن والماعز.

والزوج : المثلان المتقارنان يقال لهما زوج وزوجان. وحيث إنّ الزوج يطلق على كلّ واحد من المثلين المتقارنين فكلّ ذكر من الأصناف الأربعة زوج وكلّ أنثى أيضاً زوج، والمجموع ثمانية.

والتعبير ب-«الإنزال» باعتبار أنّها نعمة من الله تعالى فإسناد تحققها إلى الله تعالى يقتضي التعبير بالإنزال وكلّ نعمة من الله سبحانه نازلة من السماء. وليس المراد بها مكاناً فوق الأرض، كما يتوهّم، بل المراد جهة العلوّ المقامي.

« يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ » .الظاهر أنّ تأخير ذكره عن إنزال الأنعام ليشمل ضمير الخطاب كلّاً من الإنسان والحيوان لأنّ هذه الكيفية من الخلق تشملهما. والحيوان وإن لم يكن مورداً للخطاب إلّا أنّ شمول الخطاب له من باب تغليب جانب ذوي العقول.

ومن اللطيف أنّه ذكر أوّلاً خلق الإنسان بصيغة فعل الماضي، ثمّ أتى بفعل المضارع «خَلَقَكُم ... يَخْلُقُكُمْ » ولعلّه لبيان أنّ هناك مرحلتين من الخلق للإنسان: مرحلة سابقة خاصّة به عبّر عنها بفعل الماضي، ومرحلة مستمرّة في الأجيال بصورة طبيعية يشارك فيها الحيوانات، عبّر عنها بالفعل المضارع الذي یدلّ على الاستمرار.

ص: 268


1- الأعراف (7): 172.

« خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ». إشارة إلى مراحل تكوّن الجنين وأن تحوّله من كلّ مرحلة إلى أخرى خلق جديد، فهو خلق مستمرّ، والجنين لا يتحوّل طفرة من حالة إلى حالة، بل يتدرّج ببطء. وتسمية بعض الحالات كالعلقة والمضغة لا يعني أنّها حالات يتوقف عندها التطوّر، و إنّما هو مجرّد إشارة إلى توارد الحالات المختلفة على الجنين نظير تسمية حالات الإنسان كالصبا والمراهقة والغلمة والشباب والكهولة والهرم والشيخوخة.

ومن الغريب اعتراض بعض الملحدين على هذا التعبير بأنّ مراحل تكوّن الجنين لا تنحصر في ذلك، وأنّه يتحوّل تدريجاً. وهذا واضح ولكنّ التدرّج محسوس في كلّ تحول وتطوّر، ولا ينافي ذلك وضع أسماء لبعض حالات التطوّر كالتمر مثلاً، فيسمى تارةً بلحاً وأخرى رطباً وثالثة تمراً ونحو ذلك.

« فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ »، الظاهر أنّ المراد ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة. ولعلّه إشارة إلى أنّ كلّ هذه التطوّرات الغريبة تتمّ بعيداً عن أنظاركم وفي ظلمات ثلاث، لا يمكنكم بصورة طبيعية تجاوزها ورؤيتها فضلاً عن التدخل فيها .

« ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ» ، الإشارة إلى البعيد للإجلال والإعظام، والبعد عن تناول الأوهام. وهذا هو نتيجة التأمّل في خلق الله للسماوات والأرض، وخلق البشر والأنعام بصورة مستمرّة، وكذلك في بدو خلق الإنسان قديماً من طين، فهو الذي ربّاكم وأوصلكم إلى هذه المرحلة من الخلق، وأنعم عليكم بكلّ مقومات الحياة.

« َهُ الْمُلْكُ» تقديم الظرف يفيد الحصر، أي أنّه هو المالك للتصرّف في الكون

ص: 269

لا يمكن لأحد أن يتصرف فيه إلّا بإذنه.

« لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ » وإذا كان هو الربّ الذي يدير شؤون الخلق وهو المليك عليهم والمنعم عليهم، فهو الإله الذي يجب أن يعبد شكراً لإفضاله وإنعامه، واستنزالاً لرحمته، وتوقياً من عذابه وسخطه ولا إله غيره، إذ لا ربّ غيره.

« فَأَنَّى تُصْرَفُونَ » وإلى عبادة من تتوجهون ؟! «أنّى» استفهام يفيد معنى «كيف» و«اين» ، أي إلى أين يذهب بكم وكيف يذهب بكم. والتعبير بالفعل المبني للمجهول لعلّه كناية عن أنّ ذلك يتمّ بدون تفكر ورويّة، و إنّما هو اندفاع وراء العادات والتقاليد البالية، فكأنّ هناك من يدفعكم إلى ذلك وأنتم لا تشعرون.

ص: 270

سورة الزمر(7 – 10)

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)

« إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ». لمّا بيّن أنّ العبادة لا تجوز لغيره وأنّ ذلك مقتضى ربوبيّته وإنعامه تبيّن منه أنّ ترك عبادته واللجوء إلى عبادة غيره كفران لنعمه، وكفران المنعم ممّا يستنكره العقل والفطرة، إلّا أنّه تعالى لا يمنع عباده عن الكفر لحاجة منه إلى شكرهم، وهو لا ينعم على أحد طلباً لشكره أو لأيّ شيء آخر، لأنّه الغنيّ بالذات لا يفتقر إلى شيء، فشكر العباد ينفعهم و وكفرهم يضرهم ولا يضر الله شيئاً.

« وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ » .هذه الجملة تردّ على سؤال ينشأ من الجملة السابقة وهو أنّ الكفر إذا كان لا يضر الله شيئاً فلماذا ينهى العباد عنه؟ والجواب أنّه إنّما ينهاهم عن الكفر ويدعوهم إلى عبادته وشكره لأنّ الكفر إثم ممقوت لا يرضى به الله تعالى فإنّه أراد لهذا الإنسان أن يبذل كلّ جهده ليصل إلى أعلى مراقي

ص: 271

الكمال وهو لا يصل إليه إلّا بعبادته وحده ونبذ كلّ شرك وكفر.

ولذلك أبدل التعبير عنهم بضمير الخطاب، كما كان في الجملة السابقة إلى التعبير عنهم ب-«عباده » ممّا یدلّ على نوع من العناية والاهتمام بهم ولا يراد بهم عباده المؤمنون خاصّة، بل كلّ الخلق، كما هو واضح.

وبذلك يتبيّن الجواب عن سؤال ملحّ طالماً توسوس به الشياطين في القلوب، وهو أنّ الله تعالى لماذا يطالب الإنسان بعبادته وهو غنيّ عنها؟ بل ربّما نجد بعض الناس لا ينتظر الجواب ويكفيه الاستبعاد فلا يلتزم بشيء من أوامر الدين ونواهيه رغم اعترافه بالله تعالى واحترامه لشعائر الدين، وذلك باعتقاد أنّ الله غنيّ عن عبادتنا ولا تضرّه معاصينا. ولكنّه لم ينتبه إلى أنّ هذا التوهّم يستلزم أن لا يكون هناك حكمة وهدف سام وراء هذا الخلق، وبهذه الدقّة وأن يكون الخلق عبثاً لا غاية له.

« وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ »، لأنّه هو الطريق الصحيح لبلوغ الكمال وهو ردّ الفعل الطبيعي لمن أنعم عليكم بكلّ هذه النعم العظيمة. ومعنى رضاه تعالى وحبّه لعمل من أعمالنا علمه بكونه صالحاً للإنسان ونافعاً له، فإنّه تعالى لا ينتفع بشيء. ولكنّ المعروف تأويل الرضا والحبّ والبغض ونحو ذلك من المفاهيم إذا أسندت إلى الله تعالى بلوازمها فالرضا يؤوّل إلى الإثابة والجزاء، والبغض والغضب إلى العقاب، وهكذا. والداعي إلى هذا التأويل تنزيهه تعالى من أن يكون محلاً للعوارض والحالات فإنّ الرضا والغضب والحبّ والبغض ونحو ذلك عوارض تطرأ على الإنسان ولا يمكن أن يطرأ شيء عليه تعالى.

وبما ذكرنا يتبيّن أنّه لا داعي لهذه التأويلات البعيدة.

ويبقى هنا سؤال وهو أنّه تعالى إذا كان لا يرضى بالكفر، فكيف يتحقّق ولا

ص: 272

يمكن أن يوجد شيء إلّا بإذنه؟ ومن هنا صارت هذه الآية من مواضع النقاش الحادّ بين الأشاعرة والمعتزلة حيث تشبّث بها المعتزلة بأنّها صريحة في أنّه تعالى لا يرضى بالكفر مع أنّه خصلة أكثر الناس، وحاول الأشاعرة التهرّب من الإشكال بالتوسّل بكلّ تأويل حتّى أنّ بعضهم قال: إنّ المراد بالعباد هنا العباد المخلصون، أي الأنبياء المعصومون وهو تأويل مضحك.

والجواب عن السؤال المذكور واضح عندنا، فإنّ عدم الرضا بفعل تشريعاً لا ينافي إذنه تكويناً، وهذا الإذن لا يستلزم الرضا بما يحدث، فإنّ حكمته تعالى اقتضت أن يكون الإنسان حراً مختاراً قادراً على ما يريد، وإذنه تعالى ليس بمعنى أنّه يوجد الفعل على يده شاء أم أبى، بل يعني أنّه يمدّه بالقدرة وهو يعلم أنّه يستخدمها في هذا السبيل، وأنّه يهيّء له كلّ فرص العمل حسبما يقتضيه نظام العلّة والمعلول، فإنّ هذا الكون يسير على هذا المنهاج بإرادته تعالى ومشيئته، وأنّه لا يمنع تأثير العلل والأسباب بإعجاز وخرق للقوانين الكونية حتّى في نصرة رسله إلّا في موارد نادرة.

ولذلك قال الإمام الحسين (علیه السلام) في خطبته يوم عاشوراء مخاطباً أصحابه: «إنّ الله قد أذِّنَ في قتلكم فعليكم بالصبر»(1) ولا شك أنّه تعالى لا يأذن في ذلك تشريعاً، بل هو من أكبر الآثام وأعظم الجرائم، و إنّما أذن فيه تكويناً حسبما يقتضيه نظام العلّة والمعلول ، أي أنّ دوافع قيام القوم بالجريمة الكبرى قد بلغت حداً لا يمانعه شيء، والله تعالى لا يمنعهم بقهر تكويني، وهذا هو معنى اذنه تعالى.

« وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى »، «الوزر»: الثقل. ويعبّر به عن الإثم لأنّه يثقل كاهل

ص: 273


1- بحار الأنوار 45 :86 .

الإنسان، و«الوازرة» : النفس، لأنّها تتحمّل المسؤوليات. وهذه جملة متكرّرة في القرآن الكريم ومضمون يقبله العقل والفطرة السليمة. ومعنى العبارة أنّ كلّ نفس وازرة، أي تحمل ثقلها وإعبائها ومسؤولياتها، ولا تحمّل في نظام العدل الإلهي ثقل غيره ومسؤولية غيره وإثم غيرها، وإن كان ربّما يتحمّل الإنسان مسؤولية تجاه الغير، كما لو كان مسؤولاً عن تربيته أو كان هو السبب في ضلاله، ولكن هذا ثقله ومسؤوليته الشخصية وإن ارتبطت بغيره. والتنبيه على هذا الأمر هنا لعلّه لدفع توهّم تأثير كفر الكافر على المؤمن بالقرابة أو الجوار ونحو ذلك.

« ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ». وفي آخر المطاف لا بدّ من التنبه أنّ كلّ ما يصدر منكم أو يدور في خلدكم فهو مسجّل عليكم وتحاسبون عليه يوم ترجعون إلى ربّكم، فيخبركم ويبيّن لكم بوضوح حقيقة أعمالكم التي كنتم تجهلونها، وتجدون ظاهراً مغرياً منها.

شيء

ولعلّ المراد ب- «الإنباء» في ذلك اليوم هو كشف الغطاء، فيتبيّن الحقّ في كلّ شیء عارياً لا غشاء عليه: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ »(1).

« إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»، «ذات» بمعنى صاحبة، أي الأعمال التي تصاحب الصدور، والمراد بالصدور النفوس، أي الأمور المختبئة في النفوس، ويشمل حتّى ما لا يلتفت إليه الإنسان تفصيلاً و إنّما يكون في ارتكازه ولا شعوره ومنه يتبيّن أنّ الأمر لا يقتصر على الأعمال الظاهرة والتي تصدر من الجوارح، بل يشمل النوايا القلبية.

ص: 274


1- ق (50) :22 .

وربّما يستغرب ذلك من جهة أنّ الإنسان إذا كان مؤاخذاً بنواياه فلا ينجو أحد من عذاب الله تعالى.

والجواب: أنّ ملاحظة ذات الصدور يمكن أن لا يكون لأجل المؤاخذة، بل ربّما يكون لأحد أمرين:

الأول: صبغة العمل الخارجي، إذ أنّ من الواضح أنّ الصلاة وسائر العبادات لا تصحّ إلّا بالنية الصحيحة وبقصد التذلّل لدى الله تعالى، بل يعتبر ما كان بقصد إرضاء الغير شركاً وعملاً محرّماً يعاقب عليه أشدّ العقاب. وهذا الفرق الجوهري بين العملين لا يتبيّن إلّا بملاحظة ذوات الصدور، وأمّا ظاهر العملين فواحد، بل ربّما يكون عمل المرائي أحسن في الظاهر، كما هو الغالب.

الثاني: تأثير النوايا في كمال الإنسان وتعيين درجته ومقامه حتّى لو لم يعمل العمل في الظاهر ، فالإنسان إذا قصد المعصية ولكنّه لم يرتكبها لعدم توفّر الوسائل، فإنّه لا يعاقب ولكن تحسب عليه سريرة سيّئة تنزله في المرتبة، وإذا لم يرتكبها تورّعاً تحسب له مرتبة.

ثمّ إنّ الأعمال وإن كانت صحيحة وقصد بها القربة إلّا أنّ درجات القربة تختلف، وبها تختلف مراتب الإنسان، بل يتغيّر جوهر العمل، فربّما يقصد العابد بعمله أن يتقرّب إلى الله تعالى ليحصل على رزق منه في الدنيا، وربّما يكون التقرّب ليحصل على رزق في الآخرة، وربّما يكون لبلوغ مرتبة راقية من القرب لدى الله تعالى، وربّما يكون لمجرّد تحصيل رضاه. وهذه كلّها وغيرها مراتب تختلف بها مقامات العابد، مع أنّ العمل في كلّها صحيح ومتحد الشكل.

بل ربّما يتجاوز كلّ ذلك فيعبد الإنسان ربّه تعظيماً لمقامه، ولا يقصد تحصيل

ص: 275

شيء حتّى التقرّب، وهذا لا يحصل إلّا لمن بلغ غاية الكمال في معرفة ربّه، فرأى ربّه ببصيرته وبعين قلبه، وأدرك ذلك الجمال الباهر بكلّ وجوده، فخضعت له جوارحه. وهذا ما تفيده العبارة المعروفة المنقولة عن أمير المؤمنين وسيّد العارفين - سلام الله عليه : «الهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(1).

وربّما يستنكر ذلك، كما نجده في كلام من يدعون اتّباع السلف، بل ينسبون هذا الأمر إلى الصوفية وأهل البدع، ويستندون إلى قوله تعالى في امتداح أنبيائه: « وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا » (2)، ولكنّهم غفلوا عن أنّ ذلك لا یدلّ على عدم صحّة هذا النوع من العبادة أو على نقص فيه، وقد قال تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى»(3) ، ولم يقل خاف عذاب ربّه. وقال: «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ » (4).

وينبغي التنبّه على أنّ هذه الآية في سورة الرحمن تخصّ المقربين، وتختلف جنّتهم عن جنّة الأبرار، كما يختلف مقامهم ، ويظهر ذلك أيضاً بملاحظة ما ورد بهذا الشأن في سورة الواقعة والدهر والمطفّفين.

وينبغي التنبه أيضاً على أنّ عبادة الملائكة من هذا القبيل وهم أيضاً يخشون الله تعالى: «يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ» (5) ،ولكن هذا خشية من

ص: 276


1- عوالي اللئالي :1: 20؛ بحار الأنوار 67: 186.
2- الأنبياء (21) :90 .
3- النازعات (79): 40 .
4- الرحمن (55): 46 .
5- النحل (16) :50 .

مقامه، لا من عذابه، لأنّهم معصومون: « لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ»(1).

« وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ» لمّا كان الحديث عن وجوب شكر المنعم وقبح كفران نعمه والتنديد بالكفر والشرك، بيّن سبحانه وتعالى مورداً متكرّراً من كفران الإنسان لربّه ليحذر البشر منه وهو مضمون متكرّر في عدّة مواضع من الكتاب العزيز، ومنها في نفس هذه السورة: « فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ »(2).

والغرض بيان حالة الإنسان بصورة عامّة، فهو يتوجّه إلى ربّه ويدعوه وحده لكشف الضرّ ، ثمّ ينسى ربّه إذا بلغ غايته على ما يظنّ. وهذه طبيعة الإنسان عموماً حتّى المؤمنين إلّا المتّقين الصادقين. والغالب على طبيعة البشر هو نكران الجميل وكفران نعمة الربّ جل وعلا، ثمّ الرجوع إليه إذا تفاقمت الأمور واستعصت عليه السبل. ولذلك جعل الموضوع في الآية الإنسان، ولكنّ الآية تحذر من أنّه ربّما ينتهي الأمر به إلى الكفر.

و «الضرّ» كلّ ما فيه ضرر ومس الضرّ بمعنى إصابته. ولعلّ التعبير به للدلالة على أنّه يدعو ربّه بأقلّ ضرّ يصيبه لأنّ المسّ في الأصل هو اللمس باليد. و«الإنابة»: الرجوع. ومقتضى التعبير بالرجوع أنّ الإنسان المفروض في الآية مؤمن بربّه، و إنّما يغفل عنه نتيجة توغّله في الدنيا، ويمكن أن يكون الرجوع باعتبار أنّه بفطرته مؤمن بربّه وإن عبد غيره بتأثير من عادات المجتمع.

ص: 277


1- التحريم (66): 6 .
2- الزمر (39) :49 .

ومهما كان فإنّ الإنسان حتّى لو كان كافراً يتوجّه إلى ربّه بخالص النية إذا اضطرّ وانسدّت عليه السبل، فإنّ السبيل الوحيد الذي يبقى مبعثاً للرجاء هو التضرع إلى الله تعالى، ولكنّه بعد أن ينال بغيته ينسى ربّه.

« ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ »، «التخويل» هو الإعطاء. والأصل فيه أن يعهد إلى أحد القيام بشؤون شيء ما، لأنّ ما بأيدينا من متاع الدنيا إنّما نحن مخوّلون عليها ننتفع بها لمدة قصيرة. والمراد بما كان يدعو إليه من قبل الضرّ السابق، لأنّه هو الذي كان يدعو ربّه أن ينجيه منه. و یدلّ عليه قوله تعالى: «وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ »(1).

« وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ». من هنا يبدأ ببيان النتيجة الحاصلة لبعض البشر في هذا المقام وهو الكفر بالله تعالى أو الشرك به. و«الأنداد» الأمثال والمراد أنّه يشرك بربّه فيجعل غيره مماثلاً له تعالى في التأثير في الكون.

واللام في قوله: «لِيُضِلَّ » للغاية، يعني أنّ ذلك يفضي بالنتيجة إلى كونه مضلاًّ للآخرين وصاداًّ عن سبيل الله فضلاً عن كفره بنفسه، فانظر إلى أين يتمادى الإنسان في كفران نعمة ربّه.

« قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ » ويأتيه الخطاب الموجه تبليغه إلى الرسول: « تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا » وفيه الإشارة إلى أنّه يكفر ليتمتّع بكفره، لا أنّه يكفر لعدم وضوح الأمر له، والكفر من موجبات التمتّع، لأنّ الإيمان يقيّد الإنسان ويكبح جماحه ويمنعه من كثير من شهواته وملذّاته. ومهما كان فإنّ هذا التمتّع

ص: 278


1- يونس (10) :12 .

قليل حتّى لو دام مئات السنين، فإنّه زائل وينتهي به إلى النار فتحرق كلّ ملذاته.

« أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا »، أي أهذا الكافر المضلّ الذي انتهى أمره إلى النار خير بدواً وعاقبة أم من هو قانت آناء الليل؟ والاستفهام إنكاري، أي هما لا يتساويان، كما دلّ عليه قوله: « قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ».

و«القنوت»: الخضوع. و«آناء» جمع إنى - بكسر الهمزة وفتحها - بمعنى الساعة. وخص الحكم بالقنوت في الليل لبعده عن الرياء، ولتفرد الإنسان واختلائه بربّه، ولأنّه إذا كان يعبد ربّه في زمان الراحة والنوم، فهو يعبد في النهار أيضاً بطريق أولى. و «السجود» و «القيام» للدلالة على الصلاة.

« يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ» يبيّن هنا حالته النفسية، وهي كونه بين الخوف والرجاء، فهو يحذر الآخرة وأهوالها وعالمها المجهول، ولكنّه يرجو رحمة ربّه أن تشمله وإن قصرت أعماله. وهكذا يجب أن يكون المؤمن، فهذا إنسان تعمّق في الكون، وتجاوزت بصيرته وإيمانه ظواهره، وبلغت العالم الغيبي فهو العالم حقيقة لا الذي توقف علمه في ظواهر هذا الكون وإن تعمّق فيها وسبر أغوارها، كما قال تعالى: «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(1).

«قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ »، الاستفهام إنكاري أيضاً، أي لا يستويان. وهذه قضية عامّة لا تختصّ بالمورد، ولذلك لم يذكر للعلم متعلّق فالعلم بكلّ شيء ليس كالجهل به. ولا يستوي العالمون والجاهلون في أيّ مجال. ولكنّ الغرض تطبيقها في المقام وهو الفرق الواضح بين هذا الإنسان

ص: 279


1- الروم (30): 7.

المؤمن الذي علم حقيقة الكون وآمن بها وعلم أنّه عائد إلى ربّه ومسؤول عن أعماله، ومن يتّبع هواه جاهلاً أو متجاهلاً لهذه الحقيقة.

« إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ »، «اللبّ» هو العقل وما يدرك به حقائق الأمور. والأصل فيه الخالص من الشيء الذي انفصل عن القشور والزوائد. والتعبير بالتذكر يشير إلى أنّ الإنسان مسبوق بمعرفة هذه الحقائق ولكنّه ينساها، فإن ذكّر بها وكان ذو لبّ تذكر وكان من الذين يعلمون، وإن كان طائش اللبّ أصرّعلى جهله وتغافله.

والجملة في مقام التعليل لبروز هذا الاختلاف بين أفراد الإنسان، فهناك من يعلم الحقائق، وهناك الجاهل الغافل والسبب فيه أنّ الإنسان يغفل عن ما هو مرتكز في فطرته ولا ينتبه بالتذكر إلّا من كان ذو لبّ. وليس معناه أنّ الآخر معذور لأنّه لا عقل له، بل المراد أنّه لا يتّبع مقتضى عقله وإدراكه، و إنّما يتّبع هواه.

« قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ» يتحوّل عن مخاطبة الكافرين والمشركين والتنديد بأفكارهم إلى مخاطبة المؤمنين وتحذيرهم من أنّ الإيمان وحده لا يكفي إن لم يؤثّر في الحياة العملية ، فأمر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يبلغهم خطابه، ووجه الخطاب إلى المؤمنين بأنفسهم تشريفاً وتكريماً لهم وحثاً لهم على إصلاح النفس في مقام العمل.

وبدأ الخطاب بتوصيفهم بالعباد والكسرة تدلّ على ياء المتكلّم أي يا عبادي، وأضافهم إليه زيادة في التشريف والتكريم. ووصفهم أيضاً بأنّهم الذين آمنوا للإشارة إلى أنّ مقتضى الإيمان التقوى، فالذي يؤمن بربّ العالمين وعموم رحمته وقدرته وحكمته يتّقيه لا محالة، و إنّما يعصي الإنسان نتيجة لضعف إيمانه. ثمّ إنّ التعبير ب-«الربّ» إيذان بأنّ التربية تقتضي أن تتقيّدوا وتلتزموا

ص: 280

بأحكامه وأوامره ونواهيه، فلا يغرنّكم الإيمان ولا تظنوا أنّ لكم على الله عهداً خاصّاً، فلا فوز إلّا بالتقوى.

« لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ» المشهور بين المفسّرين أنّ الجارّ والمجرور « فِي هَذِهِ الدُّنْيَا » متعلّق بقوله: « أَحْسَنُوا » وأنّ الحسنة وهي الجزاء مطلق يشمل الدنيا والآخرة، فالمعنى بناءً عليه أنّ الذين أحسنوا في هذه الدنيا لهم جزاء حسن في الدنيا والآخرة. ولكنّ الصحيح أنّ الجار والمجرور متعلق بقوله: « حَسَنَةٌ » فالمعنى أنّ الذين أحسنوا أعمالهم لهم جزاء حسن في الدنيا. وذلك لأنّه على الاحتمال الأوّل يبقى الجارّ والمجرور قيداً زائداً، إذ ليس هناك مجال آخر للإحسان حتّى يكون احترازاً.

ويؤيده قوله تعالى: «وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ »(1) ، فإنّ قولهم: « وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ » یدلّ على أنّ الحسنة المذكورة سابقاً خاصّة بالدنيا.

ويبقى السؤال في الغرض من هذه الجملة مع أنّ القرآن يستهدف الاستهانة بشؤون الدنيا والظاهر أنّ الغرض - كما يبدو من السياق - حثّ المؤمنين الذين يلقون مضايقات من الكفّار في أوطانهم على الهجرة وترك الأوطان، فقدّم على ذلك الوعد بأنّهم إذا أحسنوا في أعمالهم فإنّ لهم في هذه الدنيا أيضاً حسنة، ولا يختصّ الجزاء بالآخرة، حيث إنّ الباعث لهم على البقاء هو الخوف من مضائق الحياة الدنيا إذا اغتربوا عن أوطانهم، فهذه الجملة تبيّن لهم أنّ ذلك يتبع التقوى والإحسان وهو وعد إلهي بالجزاء الحسن في الدنيا للمتّقين المحسنين بأن

ص: 281


1- النحل (16) :30 .

يوفقهم في اكتساب الخير ويرزقهم من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون، ويهيّء لهم أسباب السعادة أينما كانوا.

» وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ » وهذا حثّ للمؤمنين بأن يفرّوا بدينهم إذا لم يتمكّنوا من إحياء شعائرهم في أوطانهم، أو في محلّ إقامتهم، وهو بالطبع مقيد بما إذا كانت الأرض بالنسبة له واسعة وكان بإمكانه الهجرة، فلا يشمل السجّين والمحكوم عليه بالبقاء، أو من يعلم أنّ المكان الذي يمكنه الهجرة إليه أكثر ضيقاً. ومن الدواهي في عصرنا أنّ المؤمنين اضطرّوا إلى الهجرة من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر، ليجدوا فيها الرحب والسعة و تمكّنوا هناك من معرفة أحكام دينهم والعمل بها، بعد أن منعوا عنها في بلدهم مهد العلم والدين، كما حصل ذلك لأهل العراق في عهد الطاغية صدام حسين.

«إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ » ، هذه الجملة تكمل إيجاد الرغبة في نفوسهم إلى الهجرة بأنّها لا تخلو من صعوبات في المعيشة خصوصاً في تلك العهود، ولكن إذا كان التمسّك بالدين يتوقّف على ذلك، فلا بدّ من التضحية في سبيله بتحمّل بعض المشكلات والصبر عليها، ووعدهم إن هم صبروا عليها واختاروا الهجرة أن يوفّيهم أجرهم بغير حساب و «التوفية »هو الإيصال الكامل. والله لا يبخس أحداً حقه أحداً ،حقه، فهو الذي جعل له الحقّ، وإلّا فلا يستحق أحد على الله شيئاً.

وقوله: « بِغَيْرِ حِسَابٍ »إمّا بمعنى عدم محاسبته على معاصيه، فيعتبر صبره هذا مكفّراً عن سيّئاته، أو بمعنى أنّ الجزاء يزداد مع الصبر أضعافاً مضاعفة، فلا يحسب أعماله ليجازى بحسبها ومردّ ذلك إلى أنّ الصبر يرفع شأن العمل وإن کان فی نفسه حقيراً. والظاهر أنّ الصبر هنا يشمل أنواعه المختلفة من الصبر على الطاعة أو المعصية ، فإن الاغتراب عن الوطن ربّما يستتبع كلّ ذلك.

ص: 282

سورة الزمر(11 – 16)

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)

« قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ »، تعقيباً على ما مضى أمر الله تعالى رسوله أن يحدّد مساره، ويؤيس المشركين من المداهنة معهم على حساب العقيدة، فأمره أن يبلغ القوم بأنّه مأمور بعبادة الله وحده مع الإخلاص له لا يشرك في عبادته أحداً. و«الدين»: الطاعة. وإخلاص الطاعة إمّا بمعنى تخليصها من شوب الرياء والشرك، وإمّا بمعنى اجتناب المعاصي والآية تشير إلى ما بدئت به السورة حيث قال تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ».

« وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ». الظاهر أنّ هذا أمر آخر، ولذلك كرّر الأمر. والمراد ب-«المسلمين» الذين أسلموا أمرهم إلى الله تعالى لا الذين استسلموا للشريعة أو للنظام الإسلامي. والإسلام - بمعنى التسليم لأمر الله تعالى في تشريعه وتكوينه - هو غاية الكمال البشري، وهو قمّة ما يدعو إليه الرسل ، وهم لا يأمرون الناس بشيء ويخالفونهم فيه، كما قال تعالى في حكاية كلام شعيب (علیه السلام): « وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ»(1) ، وقد ندّد الله تعالى بما يصنعه علماء بني

ص: 283


1- هود (11): 88 .

إسرائيل فقال: « أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ»(1).

وبناءً على ذلك لا حاجة إلى تأويل الأولية في الآية، فالمراد بها هو السبق، والرسول مأمور بأن يسبق الجميع إلى التسليم لله تعالى. وأمّا إذا فسّر الإسلام بالتدين بهذا الدين، فالأولية حاصلة بالطبع، لأنّه الصادع بها، فاحتيج إلى تأويل الأولية بكونه أقوى الناس في التمسك بالدين.

«قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ».ثمّ أمره أن يعلن أنّه لا يمكن أن يعصي الله تعالى، فلا قرابة لأحد مع الله تعالى، ولا كرامة لأحد إلّا بالتقوى، والرسول كغيره يجب أن يخاف عذاب ربّه إن عصاه، وقد أنذره الله تعالى كما أنذر من قبله من المرسلين، كما يأتي في هذه السورة: « وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ»(2). وهذا ينذر بخطر عظيم على الآخرين، فلا يغرّن أحد قرابته من الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فكيف بغيره، ولا ينفع أحداً يوم القيامة إلّا تقواه.

« قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ».هذا ليس تكراراً لما مرّ، فإنّ مضمون الآية السابقة أنّه مأمور بعبادة الله مخلصاً، وهنا يعلن أنّه فعلاً، قد أطاع ربّه، ولا يعبد إلّا إياه مخلصاً له دينه وتقديم المفعول یدلّ على الحصر، وأنّه لا يعبد غيره تعالى.

« فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ » المعروف أنّ هذا الأمر للتهديد والأساس في مثله أنّ الأمر يخلّي بين المأمور والفعل، ولا يمنعه حتّى إذا فعل ما يريد قابله بالعذاب. ولكن لا يبعد أن يكون المراد إعلام البراءة عنهم وعن دينهم، كما هو

ص: 284


1- البقرة (2) :44 .
2- الزمر (39): 65 .

مفاد سورة الجحد، فتكون هذه الجملة مقابلة للجملة السابقة ومكمFلة لها، والمعنى أنا لا أعبد إلّا الله مخلصاً له الدين وأنتم تعبدون غيره، « «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ»(1).

«قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أمر آخر للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يحدّد للمشركين حقيقة الربح والخسارة، بهذا التعبير الذي يحصر الخسران في خسارة يوم القيامة حيث أتى باسم إنّ معرفاً، فالخاسر في الحقيقة ليس من قصرت أيّام عمره في الدنيا، أو ضاقت به السبل واستعصت عليه الأمور في هذه النشأة، بل الخاسر الذي يخسر نفسه وأهله يوم القيامة حيث الحياة الأبدية. أمّا خسران نفسه، فلأنّه يعيش أبداً بين الحياة والموت، يأتيه الموت من كلّ مكان وما هو بميت ويعيش معذبا أبداً، وأمّا خسران أهله، ، فلأنّهم إن كانوا مؤمنين فهم بعيدون عنه يتنعّمون في الجنّة، وإن كانوا مثله، فهو أيضاً لا يجدهم، أو يجدهم مثله معذّبين.

وقيل: إنّ المراد أهله يوم القيامة، أي الذين ينبغي أن يكونوا أهله لو كان مؤمناً، والمراد بهم الحور العين فهو يخسرهنّ، وقد عبّر عنهنّ القرآن بالأهل كما في قوله تعالى: «وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا » (2)، وأمّا أهله في الدنيا فلا يبقون أهلاً له، لقوله تعالى: فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ »(3).

ولكنّه خلاف الظاهر، وإطلاق الأهل على من كانوا في الدنيا أهله بلحاظ

ص: 285


1- الكافرون (109): 6 .
2- الانشقاق (84): 9 .
3- المؤمنون (23): 101 .

وقت الخطاب، وأمّا الحور العين فلم يرد التعبير عنهم بالأهل، والمراد بقوله تعالى: «وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا » رجوعه إلى من كانوا أهله في الدنيا، فإنّ الله يجمع بينهم إن كانوا مؤمنين، كما قال تعالى: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» (1) وقال أيضاً: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ »(2).

«أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ » مرّة أخرى يؤكّد على الحصر المذكور، ويقدّم عليه حرف التنبيه: «ألا» ليستعدّوا لإعلان خبر مهم، وهو أنّ ذلك خسارة واضحة وأنّه لا خسارة غيرها، ولذلك أتى بضمير الفصل مع تعريف الخبر لیدلّ على الحصر. كلّ ذلك لغرض الوعظ لعلّهم يحذرون وينتبهون للخطر المحدق بهم.

« لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ »، التعبير يصوّر حالتهم في النار، وكونهم محاطين بها من كلّ جانب، وتسميتها ظللاً نوع من التهكّم، فإنّ الإنسان في ذلك الجو الملتهب يبحث عن ظلّ يستريح تحته، ولا ظلّ له إلّا النار، ومن باب المشاكلة عبّر عن فرشهم أيضاً بالظللّ وهو أيضاً من النار. و«الظلل» جمع وهي كلّ شيء يظلّ كالصفة والسحابة وغيرهما. والإتيان بصيغة الجمع ظلة یدلّ على أنّ النار فوقهم وتحتهم طبقات.

« ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ». يظهر من الآية أنّ التعبير المذكور لا يحدّد الواقع كما هو و إنّما هو تعبير عن شدة العذاب وخطورة الموقف، يراد به تخويف الناس من مخالفة أحكام الله تعالى، وذلك لأنّه لم يقل ذلك يخوّف الله

ص: 286


1- الرعد (13) :23 .
2- الطور (52) :21 .

منه عباده، بل قال يخوّف به عباده، فاسم الإشارة في هذه الجملة يشير إلى هذا التعبير لا إلى النار، فإنّ النار ممّا يخوّف الله عباده منها لا بها، فيظهر منه أنّ الذي يخاف منه أمر آخر غير ما يظهر من التعبير.

وهذا الأمر تفطّن له بعض أتباع الهوى ولكنّه فسّره بما يلائم هواه، فقال: إنّه ليس هناك جنّة ولا نار، وإنّ الله تعالى أراد منّا أن نعمل الحسنات ونترك المساوئ ، فخوّفنا بالنار وأطمعنا في الجنّة.

مع أنّ القرآن يؤكّد أنّ الله تعالى لا يخلف الميعاد. والصحيح أنّ المستفاد من الآية وغيرها أنّ العذاب فوق ما نتصوّره، ولكنّه بالطبع ليس من قبيل عذاب الدنيا، كما أنّ نعيم الجنّة ليس من هذا القبيل، فما ورد من التعابير لتقريب تلك الحقائق الغريبة علينا إلى أذهاننا، ولذلك نجد أنّ النار هناك لا تحمل صفات النار في الدنيا، فهي تطّلع على الأفئدة، أي تحرق الأرواح قبل الأجسام، وهي تحرق ولا تبيد. وكذلك فواكه الجنّة ليست لها هذه الخصائص وإلّا لم تكن نعمة كاملة.

والحاصل: أنّ التعبير بالنار وإن لم يطابق الواقع كاملاً لبعده عن أذهان السامعين إلّا أنّ الواقع أشدّ وأدهى، لا كما توهّمه أصحاب الهوى.

ثمّ رتّب على التخويف ما قدّمه من الخطاب لعباده المؤمنين « يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ» بحذف الياء في الكلمتين أي يا عبادي فاتقوني. و«الفاء» تفريع، يعني حيث كان الأمر كذلك فاتّقوني حتّى لا تصيبكم هذه النار. والمراد بالعباد هنا كلّ البشر.

ص: 287

سورة الزمر (17 – 20)

وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)

« وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى » الطاغوت مصدر بمعنى الطغيان يفيد المبالغة كالملكوت والرحموت ويطلق على كلّ من طغا وتجبر على الله تعالى مبالغة في الطغيان كالشيطان وجبابرة البشر ومن ادّعى الألوهية قولاً أو فعلاً، ولا يشمل الأصنام، إذ ليس لها شعور حتّى تكون طاغية. وقوله: « أَنْ يَعْبُدُوهَا » بدل من الطاغوت. وفي هذا التعبير بدلاً من أن يقول:« والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت» تأكيد على ابتعادهم عن الطاغوت بذاته فضلاً عن عبادته. ولعلّ الإتيان بالضمير المؤنث في قوله « يَعْبُدُوهَا » باعتبار أنّ المراد به الجماعة و«العبادة» تشمل الإطاعة ، بل هي من أوضحها وقد نهى الله تعالى عن عبادة الشيطان «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ » (1) والإنسان لا يسجد للشيطان و إنّما يطيعه.

ثمّ إنّه لا يكفي ترك عبادة الطاغوت، إذ ربّما يكون لأمر غير إلهي، بل لا بدّ من الإنابة إلى الله تعالى حتّى يستحقّ البشرى منه. و «الإنابة» هي الرجوع. وقوله: « لَهُمُ الْبُشْرَى » خبر لقوله: « وَالَّذِينَ» وهذه الجملة إنشاء للبشرى وليس خبراً

ص: 288


1- يس (36): 60 .

يحكي عن البشارات التي بشّر بها أو يبشِّر بها.

« فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ». ثمّ أمر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأن يبلغهم البشارة، ولكنّه أبدل الضمير إلى عنوان آخر للتأكيد على الصفة التي استوجب وصولهم إلى هذه السعادة، فلم يقل: فبشّرهم، بل قال: فبشّر عبادي فهم استحقّوا البشرى لعبوديتهم لربّهم، وفي الإضافة إلى ضمير المفرد المتكلّم من التشريف ما لا يخفى .

ثمّ وصفهم بأنّهم لا يتعصّبون لما أخذوه من آبائهم وأجدادهم، أو تلقّوه بالقبول في صغرهم، أو تبعوا بذلك تقاليد مجتمعهم، ولا يقلّدون أحداً في اعتقادهم، ولا يبحثون في الاعتقاد والقول عمّا يلائم أهواءهم، بل يبحثون عن الحقّ، ولا يمتنعون من الاستماع إلى كلّ قول يحتمل فيه أن يكون حقاً، أو يحتمل أن يكون أحسن ممّا اتّبعوه، ثمّ إذا وجدوه حقاًّ تبنوه برحابة صدر.

وهذه الآية حجّة على المتطرفين المتعصّبين الذين لا يستمعون غير كلام أسيادهم ومشايخهم ، وإذا سمعوا يرفضون الانصياع لكلّ حق لا يلائم ما تبنوه من أفكار، تقليداً للسلف الجاهل.

« أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ » ، الآية تحصر المهديين بل ذوي العقول في هؤلاء، فالذي يرفض الاستماع إلى حديث غيره ليس مهتدياً حتّى لو كان يتّبع المذهب الحقّ ، وليس من ذوي الألباب، وذلك لأنّه لا يخلو مذهب من كلام صحيح وإصابة للحقّ ، فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يتعصّب، بل عليه أن يسمع في كلّ مسألة وكلّ موضوع مختلف الأقوال، وينتخب منها ما هو الحق.

« أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ» استفهام إنكاري و« الفاء» فاء التفريع، أي أنّ ما بعده يترتب على ما مرّ والجملة الثانية تكرّر فيها الاستفهام

ص: 289

والفاء للتأكيد. وهذه الجملة في الواقع بدل عن الجواب في الجملة الأولى. والأصل في الجملة: «أفمن حق عليه كلمة العذاب أنت تنقذه» و إنّما أبدل الضمير بقوله تعالى: « مَنْ فِي النَّارِ» للإعلام بالسبب وهو أنّه في النار فعلاً فانتهى كلّ شيء، فكيف تنقذه؟ والمفروض أنّه في الدنيا وليس في النار ، ولكنّ الغرض التأكيد على أنّ استحقاقه للعذاب بلغ إلى درجة الفعلية بحيث لا يمكن التخلّف، فکأنّه الآن فيها.

والمراد بكلمة «العذاب »ما توعّد به الله تعالى عباده الطغاة عبدة الطاغوت، فلا حاجة إلى البحث عن جملة خاصّة لتكون هى المراد بالكلمة.

والآية تأتي في سياق الآيات الكثيرة التي تسلّي الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حيث كان يتجرّع الغصص ممّا يشاهده من إصرار قومه على الشرك والكفر، والآيات تؤكّد على الاستهانة بهم، وعلى أنّهم لا يؤمنون أبداً، وأنّهم قد استوجبوا العذاب، وأنّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لا يمكنه أن يهدي أحداً كرهاً، و إنّما دوره دور الإبلاغ والتبيين، وأمّا الهداية التكوينية فهي من الله تعالى.

« لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ» . يعود إلى ذكر ثواب المؤمنين ليكون تسلية لقلب الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ولكنّ الجزاء ليس لكلّ المؤمنين، بل الذين اتّقوا ربّهم والجزاء يطابق ما ذكر في عذاب المعاندين للحقّ ، فهناك ظلل وطبقات من النار، وهنا طبقات وغرفات في الجنّة.

والغرفة من البيت ما يبنى في طبقة عليا، ويبدو من الآيات أنّ كلّ بيوت الجنّة غرف، قال تعالى: «أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا » (1)، وقال أيضاً: «وَالَّذِينَ آمَنُوا

ص: 290


1- الفرقان (25) :75 .

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ » (1)، وهنا أيضاً أخبر أنّ لهم غرفاً ومن فوقها غرف، فليس هناك طبقة أرضية، بل كلّها غرف فوق غرف، ولعلّ ذلك إشارة إلى علوّ مقامهم وعلو المنزلة التي يتبوّؤونها.

وأمّا التوصيف بأنّها مبنيّة فقد قيل إنّه للتأكيد على أنّها بالفعل موجودة ومبنية وليست ممّا سيبنى لهم ولكن لا دليل على ذلك من اللفظ، إذ يمكن أن يكون التوصيف بلحاظ الحال في ذلك اليوم، مع أنّ هذا الأمر ليس دخيلاً في الترغيب، ولا يختلف الحال للإنسان أن تكون الجنّة مبنيّة ومخلوقة أو ستخلق في ما بعد.

ويمكن أن يكون ذلك للتنبيه على أنّ هذا التعبير ليس تعبيراً مجازياً، كما هو الحال في التعبير بالظلل عن النار في الآية السابقة، بل هو يعبّر عن حقيقة قائمة.

«تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ » توصيف الغرف بذلك هنا وفي سورة العنكبوت يمكن أن يكون بلحاظ أنّ هذه الغرف في جنّة تجري من تحتها - أي تحت أشجارها - الأنهار، أو أنّ الغرف بنفسها مطلّة على الأنهار.

«وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ »، «وعد الله » مفعول مطلق، وفعله مقدّر، أي وعد الله بذلك وعداً، فأضيف المصدر إلى الفاعل وفي إضافة الوعد إلى الله تعالى إشارة إلى أنّه وعد محقق، لأنّه من الله القادر المتعال. وجملة: «لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ» تبيّن ما أجمل في الإضافة المذكورة. والله تعالى لا يخلف وعده، إذ لا يخلفه أحد إلّا لجهل أو عجز تعالى الله عن ذلك، فالإنسان ربّما يعد بما لا يمكن أن يتحقّق لجهله بالظروف الطارئة، أو يعد بما لا يقدر عليه في ظرفه والله تعالى لا يمكن فيه الجهل والعجز.

ص: 291


1- العنكبوت (29): 58 .

سورة الزمر( 21 – 22)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)

« أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ » . يعود إلى التذكير بآيات الربوبية لإثبات أنّ الربّ هو الخالق لا غيره، لأنّه خلق الكون بكيفية تنشأ منها كلّ مظاهر الربوبية، فيثير في الإنسان التوجّه إلى ظاهرة المطر والنبات وهي سلسلة من الحياة تبدأ وتنتهي وتعود تبدأ من جديد، فمن هو المدبّر لها غير خالقها الذي خلق الماء على هذا الكوكب ، ومعها عوامل ومؤثرات كثيرة خلقها الله تعالى وقدّرها ودبّرها بحيث تهيّء الفرصة لتبخر الماء وتكثّفه على هيئة غيوم، ثمّ تقاطره على الأرض مطراً؟

ثمّ سلك الماء العذب في الأرض، وخلق قشرة الأرض بحيث لا يجري كلّ هذا الماء فتعود إلى البحر، ولو كان كلّه صخراً صلداً لم ينتفع البشر من هذا الماء، ولم ينبت زرع على الأرض، ثمّ لم يجعل كلّ طبقات الأرض قابلة لتسرّب الماء، وإلّا لامتصت كلّ هذا الماء ولم ينتفع به أيضاً، بل جعلها طبقات مختلفة فجرى الماء على بعضها فصار أنهاراً، وتسرّب في بعضها وانتهى إلى بعض طبقاتها القريبة فخرج الماء من العيون، وذهب بعضه إلى طبقات سفلى وتوقّف أيضاً ليتمكّن الإنسان من استخراجه بحفر الآبار على اختلاف أعماقها.

وقوله تعالى: « أَلَمْ تَرَ »خطاب للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو لكلّ من يقرأ القرآن أو يسمعه.

ص: 292

و «السلوك» قد يأتي بمعنى الدخول، كقوله تعالى: « فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا » (1)، وقد يكون بمعنى الإدخال كقوله تعالى: «مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ »(2) وهنا أيضاً بهذا المعنى، أي وأدخله في ينابيع الأرض، فالينابيع منصوب بنزع الخافض. والينبوع العين التي يخرج منها الماء. أو تكون «ينابيع» حالاً من الماء، أي سلكه في الأرض ينابيع. والتسمية حينئذ بلحاظ حاله في المستقبل، أي حال كونها ينابيع في المستقبل.

« ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ » وهذا الماء يحيي الأرض بالإنبات، فيخرج الله به منها زرعاً مختلفاً ألوانه وأشكاله وأنواعه ويمكن أن يراد باللون كلّ ذلك. والإتيان بلفظة «ثمّ» للدلالة على التراخي، فإنّ الزرع لا يتبع المطر مباشرة، وأتى بفعل المضارع للدلالة على الاستمرار، وأنّ خروج الزرع مستمرّ بعد نزول المطر بطرق أخرى، كالسقي بمياه الأنهار والقنوات والعيون، وهي كلّها من المطر. والزرع: مصدر يراد به المزروع أي النبات.

« ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا »، قيل هيجان النبات قيل إنّه بمعنى الصفرة. وفي « معجم مقاييس اللغة» أنّه بمعنى اليبس، وهو الصحيح، لأنّ الاصفرار جاء مترتّباً على الهياج. والظاهر أنّ هذا المعنى لا يرتبط بالهياج بمعنى الحركة أو الثوران، ويبعد كونهما من أصل واحد، فإنّ اليبس والاصفرار لا يناسبان هذا المعنى، إذ يتحقّقان تدريجاً.

ومهما كان، فالمراد بهذا التعبير الإشارة إلى الفناء الذي يحصل للنبات ضمن مراحل، فييبس أولاً فتنتهي حياته وتكامله، ثمّ تراه مصفراً قد زال عنه آخر آثار

ص: 293


1- النحل (16) :69 .
2- المدثر (74): 42 .

الحياة وهو اللون الأخضر البهيج، ثمّ يجعله حطاماً وهو فتات النبات اليابس تنتشر بفعل الرياح، ثمّ تبدأ حياة الأرض من جديد. وهكذا يستمرّ هذا المسلسل ليذكر الإنسان بربّه خالق الكون ومدبّره، ولو لم يشأ الله الحياة على هذه الأرض لم تتحقق كلّ هذه السلسلة البديعة.

« إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ». نعم لا يتذكّر من كلّ هذه الآيات المتكرّرة والتي تملأ العالم طولاً وعرضاً إلّا أولوا الألباب أي العقول، والمراد بهم الذين يتّبعون عقولهم ولا يتّبعون أهواءهم، فهناك كثير من الناس لا ينقصهم العقل والإدراك، بل ربّما كانوا من النوابغ في علوم الدنيا، ولكنّهم أخلدوا إلى الأرض وأبهتهم زينتها وبهرجتها، فلم يصغوا لنداء عقولهم وفطرتهم. ومن هنا فإنّ كثيراً ممن يعتبرون في مصطلح الناس من العلماء لا يعتبرهم القرآن من أولي الألباب وذوي العقول.

وقد مرّ أنّ التعبير بالذكرى والتذكّر يشير إلى أنّ الإيمان بالله تعالى وبربوبيته ممّا جبل عليه فطرة الإنسان، ولكنّه ينساه أو يتناساه فيحتاج إلى ما يذكره.

« أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ » الهمزة للاستفهام الإنكاري ،أي هل من شرح الله صدره كمن قسى قلبه؟ من الواضح أنّهما لا يتساويان. وهناك فرق بين الاستفهام الإنكاري والإنكار رأساً، فالاستفهام باق على معناه الأصلي وهو طلب الجواب، إلّا أنّ الغرض منه هو تنبيه المخاطب على أمر هو ينكره، وإن لم ينتبّه إلى إنكاره تفصيلاً، فهو في الواقع يدعوه إلى التصريح بالإنكار.

و«الفاء» للتفريع على ما أشير إليه في الجملة السابقة، وهو انحصار التذكر من آيات الله تعالى بأولي الألباب، فهذه الآية تبيّن سبب هذا الاختصاص وهو شرح الصدر. والشرح هو البسط والتوسعة. وانشراح الصدر سعة النفس لتلقّي المفاهيم

ص: 294

والحقائق، ويقابله ضيق الصدر الناشئ من التعصب والتطرّف، والركون إلى تقاليد المجتمع، أو ما تلقاه من الآباء والأجداد أو المشايخ والأسياد، قال تعالى: « «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ»(1) .

وهذه الآية تبيّن بوضوح أنّ الله تعالى لا يضيّق صدر أحد ابتداء، بل إنّما يجعل الرجس على الذين لا يؤمنون، ولم يقل لم يؤمنوا، بل الذين يستمرّون على عدم الإيمان. وهذا هو التعصب الأعمى وعدم الاستسلام للحقّ ، فهذه الحالة توجب مرضاً نفسياً وانطواء يعبّر عنه القرآن بضيق الصدر.

ونلاحظ أنّ الناس في مواجهة الحقائق التي تلقى عليهم مختلفون، فهناك الساذج البسيط الذي يقبل كلّ ما سمعه وإن رفضه المنطق السليم، وهناك المعاند الذي يتأبّى عن قبول كلّ ما يخالف ما دأب عليه واعتاده، وهناك من يسبر الأمور وينظر بنظرة الناقد البصير بعيداً عن الأهواء والتقاليد، وينصاع للحقّ ويرفض الباطل. وهؤلاء هم المهتدون بنور الله تعالى، فهو على نور من ربّه.

وهذا النور أيضاً لا يحصل بدون سبب، فالإنسان إذا أحبّ أن يتّبع الحقّ ولم يتّبع شهواته وأهوائه حصل له هذا النور بالطبع. وكلّ ما بالطبع فهو من الله جل وعلا. وقوله: «عَلَى نُورٍ» تعبير يصوّر حالة الإنسان، كما تقول على بصيرة أو على يقين أو على شكّ أو على هدى وليس بمعنى ركوب النور استعارة كما في «الميزان» وغيره.

« فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» هذه الجملة تدلّ على معادل الجملة السابقة،

ص: 295


1- الأنعام (6): 125 .

أي أفمن شرح الله صدره كالقاسية قلوبهم، فويل للقاسية قلوبهم، فحذف الأول لدلالة الثاني.

والويل بمعنى حلول الشرّ أو القبح، وهو دعاء عليهم أو تقبيح لحالتهم. و«من »في قوله تعالى: « مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» للتعليل، أي بسبب ذكر الله، فيمكن أن يكون تعليلاً للقساوة، والمعنى حينئذ ويل لمن يقسو قلبه إذا ذكر الله تعالى عنده.

ويمكن أن يكون تعليلاً للويل، والمعنى أنّ قلوبهم قاسية بسبب آخر، كالانغماس في الشهوات ولكنّ الويل لهم إذا ذكر الله عندهم حيث إنّ ذكر الله تعالى يزيد في قساوة قلوبهم. وقد انعكست فيهم المؤثرات، فهو نظير قوله تعالى: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا »(1) ، وقوله تعالى «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا»(2).

وهذا من خصائص التعصّب والتزمّت فيبلغ به الأمر إلى أنّ ما يلين القلب ويجعله خاشعاً يزيد في قساوته بل تشمئزّ منه نفسه، كما سيأتي في هذه السورة:« وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» (3).

« أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ » إشارة إلى القاسية قلوبهم. والتعبير يوحي أنّهم منغمسون في الضلال وقد أحاط بهم من كلّ جانب، فلا يمكنهم الخروج منه وهو في نفس الوقت ضلال مبين أي واضح. وأيّ ضلال أوضح من هذا، حيث يصل الإنسان إلى مرحلة من البعد عن الله تعالى يقسو قلبه بذكره؟!

ص: 296


1- الإسراء (17) :82 .
2- الفرقان (25): 60 .
3- الزمر (39): 45 .

سورة الزمر (23 – 26)

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)

« اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ »، عدل عن الجملة الفعلية فلم يقل: نزّل الله أحسن الحديث، بل قدّم الاسم الجليل تأكيداً وتركيزاً على أنّ الكتاب منه، وليس من صنع البشر وليس منه تنظيمه ولا ترتيب كلماته، كما يظنّ بعض الناس. فهناك فرق بين أن تقول: فعل زيد كذا، وأن تقول زيد فعل كذا، حيث إنّ التعبير الثاني يركز على شخص الفاعل ممّا یدلّ على أنّ الغرض التأكيد على أنّه الفاعل لا غيره. و إنّما يؤتى بهذا التأكيد إذا أريد التعريض بمن يعتقد أنّ الفاعل غيره، فهو ردّ على من ينسبه إلى الرسول(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قديماً وحديثاً.

و«الحديث» كلّ شيء جديد. ومن هنا أطلق على الكلام، لأنّه يتجدّد ويحدث شيئاً فشيئاً. وفي التعبير بالحديث ردّ على من ينسب الألفاظ إلى الرسول لا بدعوى أنّ ما كان يوحى إليه هو المعاني، وأنّه صاغها بهذه الألفاظ، فهذه الآية ردّ واضح على هذه الدعوى.

والقرآن أحسن حديث على الإطلاق، لأنّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولأنّه كلام رب العالمين، ولأنّ فيه تبيان كلّ شيء وتفصيل كلّ شيء،

ص: 297

ممّا يتوقف عليه سعادة الإنسان في الحياة الأبدية، وفيه هدى ورحمة للمؤمنين، وشفاء لما في الصدور، ونور وبصيرة تنفذ إلى أعماق الغيب.

وقوله: « كِتَابًا » بدل عن أحسن الحديث، أي مكتوباً ومجموعاً، فإمّا أن يكون المراد أنّه قد نزل مجموعاً مرّة واحدة وإن نزل متفرّقاً أيضاً كما قيل، أو أنّ جمعه بعد نزوله متفرّقاً كان بأمر الله سبحانه، كما یدلّ عليه قوله تعالى: « «إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ» (1)، على قول أيضاً.

ولكنّ الأقرب أن يقال: إنّ المراد بالجمع المدلول عليه بالكتاب جمع المطالب في الألفاظ للتأكيد على أنّ ما نزل لم يكن معاني متفرقة جمعها الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وصاغها بهذه الصياغة، كما يتقوّله بعض الكتاب المتفلسفين، وهو المراد أيضاً من آية سورة القيامة.

وقوله « مُتَشَابِهًا »أي يشبه بعضه بعضاً من حيث التعبير والتأثير والأسلوب والقوة في الأداء، فلا تجد في آياته تمايزاً بيّناً من هذه الجهات ومن جهات أخرى أيضاً، كما قال تعالى: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا »(2).

و «المثاني » جمع مثني، أي المعطوف والثني هو العطف. ووصف به الكتاب مع أنّه مفرد بتأويل الاشتمال، أي يشتمل على مثاني، وهي صفة للمضامين أو الآيات بمعنى أنّ آياتها ينعطف بعضها على بعض، ويفسّر بعضها بعضاً، أو بمعنى أنّ كثيراً منها تتكرّر ولا يوجب ذلك ملالاً على القارئ أو السامع، فإنّ التثنية

ص: 298


1- القيامة (75): 17 .
2- النساء (4): 82 .

بمعنى التكرير، كقوله تعالى: «ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ »(1)، أو أنّها تتكرّر قراءتها ليلاً ونهاراً دون ملل، بل يشعر الإنسان في كلّ قراءة وسماع أنّ ما يقرأه أو يسمعه شيء جديد.

« تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» القشعريرة - بالضم فالفتح فالسكون - الرعدة. واقشعرّ جلده أي تقبض، وربّما يراد بها وقوف الشعر وتنسب القشعريرة إلى الجلد لأنّها تحدث فوقه أو لأنّ الجلد أيضاً يتأثّر بها. فالذي يخشى ربّه من الطبيعي أن يشعر بالقشعريرة إذا تليت عليه كلماته، وكلّما زادت معرفته بربّه زادت خشيته وتأثره.

والقشعريرة نتيجة طبيعية لخشوع القلب وخوفه واستعظامه للأمر، فهذا ربّه خالق الكون يدعوه لما فيه خيره وينذره بشر عظيم إذا خالف أوامره، فيا ترى هل يوفّق لامتثال أمر مولاه؟ وهذا الهاجس يخيفه فيقشعرّ له جلده، ثمّ يذكر رحمة ربّه وأنّه يقبل منه القليل ويجازيه بالكثير، فيلين قلبه ويطمئنّ ويتبعه جسمه، فيلين جلده أيضاً، ويشعر بالراحة والأمان. وهكذا المؤمن طيلة حياته يعيش بين الخوف والرجاء.

وعليه فيمكن أن يكون المراد بذكر الله الذكر القلبي، أي أنّه يتذكّر رحمة ربّه وعموم عفوه فيطمئنّ ويستريح، ويمكن أن يكون المراد الذكر اللفظي، لأنّ التلفظ له تأثير عظيم في النفس، ولذلك يطلب من المريض أن لا يكتفي باستشعار الأمل في الشفاء، بل يلقّن نفسه بصوت عال أنّه مشافي، وأنّ شفاءه قريب وقطعي، ليؤثّر ذلك في روحه ويتبعها الجسم، فيكون المعنى أنّه إذا سمع

ص: 299


1- الملك (67) :4 .

آيات الأمر والنهي أو العذاب والإنذار اقشعرّ جلده، فإذا بلغ موضع أسماء الله الحسنى بما فيه كونه غفّاراً وقابل التوب ورحيماً ورؤوفاً ونحو ذلك اطمأنّ قلبه ولان جلده

« ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ» يمكن أن تكون ذلك إشارة إلى نفس هذه الحالة التي تحصل للمؤمن، حيث يقشعرّ جلده من خشية الله بسماع كلامه و آياته، ثمّ يلين قلبه وجلده لذكر ربّه، فهذه الحالة لا تحصل للإنسان إلّا بهداية من الله تعالى. ويمكن أن يكون إشارة إلى الكتاب، فإنّه موجب للهداية. وقد عبّر عنه بالهدى في قوله تعالى: «ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ »(1).

« يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ »، «الهداية» كأيّ حادث آخر لا تتحقّق إلّا بإرادته تعالى ومشيئته، ولكنّه لا يشاء بدون سبب فمشيئته لحكمة، ولابدّ للهداية من أرضية صالحة. والله تعالى يبعث بهداياته ابتداءً للجميع : «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» (2) ، فإن لم يعاند الإنسان ولم تمنعه شهواته من قبول الحق، ولم يتعصّب للباطل استحقّ الهداية التامّة والتوفيق من الله، وإن تعصّب لأهوائه وتقاليده و تمادى في الغيّ فإنّ الله يضلّه، بمعنى أنّه بصورة طبيعية تحدث له حالة نفسية تأبى من قبول الحقّ والانصياع له وكلّ ما هو طبيعي فهو من فعل الله سبحانه.

« وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ » ، وهذا أمر واضح، إذ يستحيل أن يتحقّق في الكون إلّا ما يريده الله تعالى ولا يمكن أن يقاوم إرادته شيء، ولا حول ولا قوة إلّا به، فمن أراد الله تعالى إضلاله، فلا يمكن أن تؤثّر فيه الهدايات لأنّ مردّ

ص: 300


1- البقرة (2): 2 .
2- الإنسان (76): 3.

ذلك - كما قلنا - إلى تأبيه ذاتاً عن قبولها ، فلا يمكن أن يهتدي بعد ذلك ولا تؤثّر فيه محاولات الرسل وسائر المصلحين والدعاة.

« أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » ، «الفاء» للتفريع. والهمزة للاستفهام الإنكاري كما مرّ في نظيرتها آنفاً. وهنا أيضاً حذف المعادل لدلالة السياق عليه، أي هل هما سيّان، إنسان يعذّب يوم القيامة ولا يمكنه يقي نفسه من العذاب إلّا بوجهه، وإنسان آمن من العذاب يعيش في سلام ونعيم؟!

والمضمون تفريع على ذكر الضلال والهدى، ومقارنة بين عاقبة المؤمن المهتدي والذي ضلّ الطريق وظلم نفسه وغيره، فهو يتّقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة. و«الاتّقاء» عادة يكون باليد والوجه أهمّ ما يحفظ ويصان، ولكنّه حيث غلّت يداه إلى عنقه، فهو يلقى بوجهه في النار، وهو لا يتّقي عنها بشيء إلّا أنّه حيث يكون وجهه أوّل ما يلقى النار، كما قال تعالى: « فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ » (1) عبّر عن ذلك بالاتّقاء بوجهه. فيكون التجوّز في التعبير عن الإلقاء بالاتّقاء نظير ما يقال فلان استقبل السهام بصدره، فإنّه لا يستقبلها ولكنّها تصيب صدره، فعبّر عن ذلك بالاستقبال كناية عن تحمّله لإصابتها.

ويمكن أن يكون كناية عن أنّه لا يملك ما يقي به نفسه، فهو يتّقي العذاب بوجهه، مع أنّ الوجه هو أوّل مايصان ويحفظ، فلا يعدّ واقياً، نظير التعبير عن نار جهنم بالمهاد وبالظلل ونحو ذلك.

و«سوء العذاب» يمكن أن يكون إضافة بيانية، أي يحاول أن يقي نفسه سوءاً هو العذاب، ويمكن أن يكون من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي يتّقي أسوأ

ص: 301


1- النمل (27) :90 .

العذاب. وهو مفعول يتقي أو منصوب بنزع الخافض، أي من سوء العذاب.

« وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ » ، أي كان ذلك حينما قيل للظالمين، فلا بدّ من تقدير «قد» لتكون الجملة حالية، ويمكن أن يكون بتقدير «يوم» مستغنياً عنه بقوله: « يَوْمَ الْقِيَامَةِ » ، أي يوم قيل للظالمين، وأتى بالفعل الماضي، لأنّه مستقبل محقق الوقوع فکأنّه كان والغرض بيان أنّ هذا العذاب السيّء ليس إلّا حصاد عمله ونتاج كسبه.

وهذا القول - كسائر الموارد التي ينقل فيها القول يوم القيامة - يمكن أن يكون قول الملائكة يخاطبون به الكفار لمزيد من العذاب، ويمكن أن لا يكون قولاً لفظياً، بل يعبّر بالقول عن بروز الحقائق في ذلك اليوم، فإنّ القول دوره دور الإبراز، وذلك اليوم لا يخفى شيء، فكلّ شيء ينطق ويقول ويبرز ما في مكنونه كما قال تعالى: «وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ» (1).

هذا الخطاب یدلّ على تجسّم الأعمال، وأنّ ما يذوقونه هو عين ما كانوا يكسبون قد برز بصورته الحقيقية. ثمّ إنّ الخطاب لا يختصّ بالمشركين أو الكفّار ، بل مطلق الظالمين الذين ظلموا أنفسهم أو غيرهم.

« كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ» يعود إلى التعرّض لحال المشركين في مکّة والجزيرة العربية، ويحذّرهم عن تكذيب الرسالة الإلهية. فالضمير في قوله: « مِنْ قَبْلِهِمْ » يعود إلى مشركي مکّة، ويحذّرهم أنّ الأمم السالفة كذّبت رسلها فأتاهم العذاب. وفاء التفريع یدلّ على أنّ التكذيب بنفسه كاف في استنزال العذاب.

ص: 302


1- فصلت (41): 21 .

وينتقل من الحديث عن عذاب الآخرة إلى عذاب الدنيا، ويخوّفهم من عواقبها، لأنّ البشر غالباً لا تخيفه أهوال يوم القيامة حتّى لو آمن بها، ولعلّه لضعف إيمانه أو لأنّ البشر غالباً لا ينظر إلى العواقب البعيدة حتّى بالنسبة لعواقب الدنيا، ولذلك فإنّ عدم الاهتمام بالآخرة لا يختصّ بالكافر، بل يشمل المؤمنين، حيث نجد أكثرهم يهتمّون بزكاة الفطرة والصدقة المستحبة أكثر من زكاة المال الواجبة أو الخمس، لأنّ أهل الدعوة والتبليغ نشروا بين الناس أنّ زكاة الفطرة تفيد في الدنيا، وأنّ الصدقة تدفع البلاء فتجد من لا يصلي ولا يصوم أيضاً يهتمّ بهما، ومن هنا فإنّ القرآن يحذّرهم عذاب الدنيا لعلّهم يتّقون.

والآية تشير إلى عواقب الأمم السالفة، وكانت العرب تتداول أخبارها وتعلم بها، وتحذّرهم من العذاب الذي يأتي من حيث لا يتوقّعه الإنسان، فإنّه آلم وأشدّ حيث يؤخذ على غرّة ولا يمهل ولأنّهم ربّما يتصوّرون أنّ ما عذب به قوم فلان وفلان لا مجال له بالنسبة إليهم، كمن هو بعيد عن مناطق الزلزال أو أمواج المحيطات «تسونامي»، فيظنّ أنّ العذاب لا يأتيه، ولا يعلم أنّ العذاب ربّما يأتيه عن طريق حكومة جائرة، فهذا أيضاً من عذاب الله وإن كان بالنسبة للحاكم جريمة وإثماً. قال تعالى لبني إسرائيل: «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ»(1) .

والظاهر أنّ المراد بهم جيش نبوخذ نصر وهو كافر ظالم، ولكنّ الله تعالى يعبّر عن هجومه العدواني على الشعب المؤمن آنذاك وهم بنو إسرائيل بأنّه تعالى بعثهم على ذلك، بمعنى أنّه أوجد في نفوسهم الباعث والمحرّك والحاصل أنّ

ص: 303


1- الإسراء (17): 5 .

عذاب الله تعالى له وجوه مختلفة. وهكذا كان عذاب مشركي مکّة حيث سلّط الله تعالى عليهم المؤمنين فقتلوهم في بدر وغيرها من الغزوات، ثمّ بدّد الله كيانهم بأيدي المؤمنين في فتح مکّة.

« فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» يعبّر الله سبحانه عن عذاب الاستئصال الذي نزل على الأمم السالفة بعذاب الخزي لأنّه - مضافاً إلى العذاب الجسماني حيث يستأصل كيانهم ويبيد القابليات التي لم تر النور في الأطفال والشباب - يخزيهم بين الأقوام ويذلّهم، إذ يتبيّن بالأمارات أنّ الذي أصابهم لم يكن حادثاً طبيعياً، بل عذاب من الله تعالى لسوء أعمالهم.

« وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ » تأكيد بالقسم واللام بأنّ العذاب في النشأة الآخرة أكبر وأشدّ، لا من جهة كونه أبدياً فحسب، بل لأنّه نوع من العذاب الجسمي والروحي لا يعرفه الإنسان ولا يمكنه أن يعرفه، فلا يشبهه شيء فی هذه الحياة، وعذاب الدنيا مهما كان ليس شيئاً يقاس بعذاب الآخرة من الجهتين، أمّا العذاب الجسماني فواضح، لأنّهم - مضافاً إلى شدة العذاب - يشعرون بالموت ويحسّون مرارته ولا يموتون فيستريحوا، وأمّا من جهة الخزي، فلأنّهم يرون بأعينهم أنّ أعمالهم وسيئاتهم تعرض أمام الخلائق أجمعين، فهناك الفضيحة الكبرى.

و«لو» إمّا للتمني، أي ليتهم كانوا يعلمون، أو شرطية جوابها محذوف، أي لو كانوا يعلمون لغيّروا نهجهم وطريقتهم في الحياة، ولاهتمّوا بشأن الآخرة أكثر ممّا يهتمّون بشؤون الدنيا، ولاتّقوا عذاب الآخرة أكثر من اتّقائهم مصائب الدنيا.

ص: 304

سورة الزمر (27 – 31)

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

« وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ »، «المثل» هو ما يشابه الشيء، ومن هنا يطلق التمثيل على التشبيه الذي يقرّب الحقائق إلى الأذهان بوجه غير مباشر. وقد ضرب الله في القرآن أمثالاً كثيرة لتقريب الحقائق البعيدة عن أذهان الناس. والأمثال تؤثّر في نفوس عامّة الناس أكثر من سرد الحقائق بصراحة.

وقوله تعالى: « مِنْ كُلِّ مَثَلٍ » مبنيّ على المبالغة، إذ ليس فيه كلّ الأمثال، أو المراد أنّه ضرب الأمثال لكلّ أمر يحتاج إليه الإنسان في طريقه إلى طلب مرضاة الله تعالى والوصول إلى أعلى درجات الكمال فهو نظير قوله تعالى في ملكة سبأ: « وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» (1) ، أي ممّا يحتاج اليه الملك لبسط السلطة والقدرة.

« لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»، أي إنّما ضربنا الأمثال من أجل تذكيرهم بتلك الحقائق المودعة في فطرتهم، فالتذكر يتعلّق بما يعلمه الإنسان ثمّ ينساه، والقرآن ينبّه في أكثر من موضع على هذه الحقيقة، وهي أنّ فطرة الإنسان تدعوه إلى الإيمان بالله تعالى وتوحيده إلّا أنّه يغفل عنه بالتوغّل في الشهوات. وقد مر أنّ «لعلّ» ليس للترجي كما يقال، بل للتنبيه على الأرضية الصالحة.

« قُرْآنًا عَرَبِيًّا »، «قرآناً» حال مؤكّدة فإنّه حال للقرآن في الجملة السابقة، وذلك

ص: 305


1- النمل (27): 23 .

كقولهم جاءني زيد رجلاً صالحاً و«عربياً» حال أيضاً يبيّن صفته. وهذه صفة واضحة لا حاجة إلى بيانها، و إنّما ذكرت للتنبيه على وجود عناية بكونه عربياً دفعاً لكلّ عذر منهم ، حيث كانوا يتأبّون الانصياع إلى ما يلقى إليهم بلسان غير عربي تعصباً وجموداً.

« غَيْرَ ذِي عِوَجٍ»، أي لا يشتمل على كذب أو باطل أو خطأ. وذكر علماء العربية أنّ العوج بكسر العين يختصّ بالمعاني وبفتحه يشمل الألفاظ، فالتركيز هنا ليس على فصاحة اللفظ ، بل على صحّة المعاني. ولعلّه إنّما لم يقل غير معوج للتأكيد على النفي، أي ليس فيه شيء من الإعوجاج، وهو أبلغ أيضاً من المستقيم، إذ ربّما يوصف كتاب بالاستقامة وإن اشتمل على أخطاء يسيرة والكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

« لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ»، فالهدف منه إيجاد الأرضية الصالحة للتقوى في نفوسهم، وذلك من جهة إتمام الحجّة عليهم بأنّه كتاب من عند الله تعالى، لما يشاهدونه فيه من الاستقامة في كلّ النواحي وعدم اشتماله على أيّ باطل. وهذا ممّا لا يمكن أن يتصف به نتاج الفكر البشري.

« ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ» ، هذا المثل ضربه الله تعالى للمشرك والمؤمن أو لأصل عقيدة الشرك والإيمان.

فالمشرك يشبه عبداً يملكه عدّة أشخاص بينهم مشاكسة وتنازع فكلّ منهم يطلب منه أمراً غير ما يطلبه الآخرون، بل ربّما ينهاه عمّا يأمر به غيره فهو حائر بينهم، ومن جهة أخرى لا يدري إلى أيّهم يرجع في طلب رزقه، فكلّ منهم يحيله إلى غيره، وهكذا المشرك الذي يعتقد أنّ هناك أرباباً متفرقين لهذا الكون

ص: 306

فهو لا يستقرّ على جهة، ولا يعلم وجهة مسيره ، فتتفرّق به الأهواء، وتتجاذبه الميول والنزعات.

وأمّا المؤمن فيشبه عبداً ملكاً خاصّاً لرجل فهو سلم له، أي مسلم أمره إليه أو السلم بمعنى الخالص - كما قيل - فوجهة سيره واضحة، ولا يطيع غيره ولا يطلب رزقه وحاجته إلّا منه.

« هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا» « مَثَلًا» تمييز، أي هل يستوي هذان العبدان في كونهما مَثَلين؟! أي من كان يشبه الأوّل كمن يشبه الثاني؟ والاستفهام إنكاري، أي إنّهما لا يستويان فكذلك لا يستوي المشرك والمؤمن في مآل أمرهما وفي منهج حياتهما.

« الْحَمْدُ لِلَّهِ» الألف واللام للجنس، أي كلّ الثناء لله تعالى الذي هو المدبّر للكون الواحد ذو النظام الواحد المتناسق، «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(1) ، ولاختلّ النظام الكوني ولم يشاهد فيه هذا التناسق البديع.

« بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»، إضراب عن بيان عدم الاستواء إلى أنّه مع كمال وضوحه لا يعلمه أكثرهم. أي إنّ أكثر المشركين لا يعلمون أنّ تدبيرهم من الواحد الأحد، فيعبدون غيره جهلاً بحقيقة الأمر، و إنّما قال أكثرهم لأنّ منهم من يعلم ذلك ولكنّه لا يجد من مصلحته أن يسلم أمره إلى الإله الواحد.

« إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»، أي إن مآل جميعكم الموت، وهذه حقيقة واضحة ينبه عليها القرآن الكريم ردّاً لأقوال المشركين، حيث كانوا يتربّصون بالرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الموت، ويستبشرون به وبخلاصهم بعده، فيردّ عليهم مخاطباً

ص: 307


1- الأنبياء (21) :22 .

الرسول تسلية له وتقوية لعزمه: « إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» كما قال تعالى في موضع آخر: «وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ» (1) ، فالموت للجميع ولا أحد يبقى على وجه الأرض، ولكنّ الموت ليس النهاية، ولو كان كذلك كان الفائز دائماً هو الظالم المستبدّ.

«ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ»، أي إنّ ما بعد الموت يوم ومرحلة من الحياة تقومون فيه أمام ربكم الذي ربّاكم ليوصلكم إلى غاية كمالكم، وهناك في ما بين الأقوام والأفراد مخاصمة ومحاكمة، وهناك تتجلّى الحقائق فيلقى كلّ أحد وكلّ قوم مصيره المحتوم. فالخطاب في قوله تعالى: « تَخْتَصِمُونَ» عامّ في ذاته ويشمل جميع البشر وإن كان الغرض هنا التطبيق على فريقي المؤمنين والمشركين في عهد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

ص: 308


1- الأنبياء (21): 34 .

سورة الزمر (32 – 35)

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)

« فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ » هذا تفصيل للتخاصم المذكور في الآية السابقة. ونتيجة المخاصمة واضحة، فأحد الطرفين كذب على الله تعالى، ونسب إليه الولد، وجعل له شركاء، وشرع من عنده أحكاماً ونسبها إلى الله، ولمّا أتى بالأعمال السيّئة قال: إنّ الله أمره بها، ولمّا جاءه الصدق أي كتاب الله ورسالته التي بعث بها نبيه فأجأه بالتكذيب. والصدق هو النبأ الصادق، والتعبير عن الكتاب بالصدق للتأكيد على أنّ علامة صدقه واضحة.

والمفاجأة تتبيّن من قوله « إِذْ جَاءَهُ » ، أي في ظرف المجيء، فلم ينتظر حتّى يتبيّن له الحقّ من الباطل، بل كذب به منذ أن سمعه على استعجال، لأنّه لا يلائم هواه، وهكذا شأن متبعي الأهواء في كلّ مجال.

فمن أظلم ممن كان كذلك؟ سؤال على نحو التقرير، يعني ليس هناك من هو أظلم .منه. وقد قلنا سابقاً إنّ الظلم لا يتوقف صدقه على وجود من يقع الظلم عليه، فلا حاجة إلى القول إنّه ظالم لنفسه، إذ لا يصحّ ما اشتهر من أنّه ظلم على الله، لأنّ الله تعالى لا يقع عليه الظلم، كما قال تعالى: « وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (1) فالظلم هو وضع الشيء في غير موضعه خلافاً للعدل، وهذا

ص: 309


1- البقرة (2): 57 .

الكاذب على الله المكذب لرسالة السماء أظلم البشر.

بل هو أظلم للمجتمع أيضاً، لأنّ تسرّعه في تكذيب الرسالة يرّض الآخرين على التكذيب، وهو بذلك يصدّ عن سبيل الله، وهذا الظلم أدهى من قتل الناس، قال تعالى:« «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» (1).

« أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ »، هذا جزاء أحد المتخاصمين لدى المحاكمة. وهو أيضاً استفهام تقريري، ومعناه أنّ هذا هو جزاؤه. والاستفهام التقريري محاولة لأخذ الإقرار من المخاطب، ومعناه أنّه من الوضوح بمكان لا يسع المخاطب إنكاره و «المثوى» اسم مكان من الثواء، أي الإقامة والاستقرار. و«جهنّم» علم للنار التي أعدّها الله تعالى للظالمين.

وما أدراك ما جهنّم؟ نحن لا نعلم حقيقتها ولكنّها مهما كانت فإنّها تكفي جزاء لكلّ من ظلم مهما اتّسعت دائرة ظلمه وطغيانه، إنّ الله تعالى يقول: « فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ» (2). إنّها تكفي عذاباً لكلّ ظالم، فلا يعلم أحد ما تشتمل عليه إلّا الله تعالى.

« وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ»، الخصم الآخر جاء بالصدق من عند ربّه، أي بالحقّ وهو القرآن الكريم، فإمّا أن يكون المراد به الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو كلّ من جاء بالصدق من الرسل . وأمّا احتمال إرادة كلّ الدعاة إلى الله - كما قيل - فبعيد، لأنّ التعبير بالمجيء بالصدق ظاهر في أول إعلان به، لا كلّ من تلاه.

وفي المراد بمن صدّق به احتمالان :

ص: 310


1- البقرة (2): 217 .
2- البقرة (2) :206 .

الأول: أنّه هو نفس من جاء بالصدق، أي الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، لأنّه بنفسه أوّل من يصدق بما جاء به، ولأنّ ظاهر وحدة الموصول أنّ المجيء بالصدق والتصديق به صلتان للموصول تعبران عن شخص واحد اجتمع فيه الوصفان.

والاحتمال الثاني: أنّ المراد بالموصول الفريق الذي جاء بعضهم بالصدق وهو الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وصدّق به بعضهم وهم المؤمنون الصادقون، ولا يختصّ بالصحابة، بل يشمل كلّ من صدق بالرسالة في جميع الأعصار. وهذا الاحتمال هو الصحيح، وذلك لأنّه إذا كان المراد بهما النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم يصحّ التعقيب بقوله تعالى: « لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا » وكذلك لا يمكن حمله على سائر الأنبياء لنفس السبب.

وفي بعض الروايات أنّ المراد بمن صدّق به أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو مروي في كتب الخاصّة والعامّة. (1) والظاهر أنّه من باب أوضح المصاديق، لأنّه أول من آمن، وأفضل من صدّق، وجدّ في تصديقه، ودافع عنه، وضحّى في سبيله. ولا يصحّ عندنا حمله على التعيّن لنفس القرينة السابقة وهي أنّ آية التكفير تدلّ على عدم عصمة المصداق وأمير المؤمنين (علیه السلام) معصوم بحكم آية التطهير وغيرها.

« أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ »، أي أنّ التقوى هي التي ساقتهم إلى الصدق والتصديق، ليس لهم دافع آخر من حب أو تعصب والجملة لاشتمالها على ضمير الفصل تدلّ على الحصر وأنّ المتّقي لا ينطبق على غيرهم، لأنّ من لا يصدق بالصدق ليس إلّا كذّاباً بعيداً عن التقوى.

ص: 311


1- ورد ذلك في «مجمع البيان » نقلاً عن أئمة أهل البيت (علیهم السلام) وفي« تفسير القمي» ورواه أيضاً في« الدر المنثور »عن ابن مردويه عن أبي هريرة.

« لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ »، هذه الآية تبيّن جزاءهم وفي قوله تعالى: « عِنْدَ رَبِّهِمْ » احتمالان، الأوّل: أن يكون قيداً لقوله: « لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ » والمعنى أنّ الذي تعهّد بأن يؤتيهم كلّ ما يشاؤون هو ربّهم وهو الله خالق الكون وفائدة هذا القيد التأكيد على تحقق هذا الجزاء، لأنّ الله تعالى هو المتعهد به.

والاحتمال الثاني: أن يكون حالاً عنهم، والمعنى لهم ما يشاؤون حال كونهم عند ربّهم، فهم أولاً عند ربّهم، كما قال تعالى: ««فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» (1) ، وهذا غاية المنى وغاية الثواب والتعبير ب-«الربّ» يفيد أنّ ذلك مقتضى تربيتهم، فقد ربّاهم ربّهم إلى أن بلغوا غاية الكمال البشري كلّ منهم حسب طاقته ومقوّماته، والغاية القصوى هو الكون عند الربّ بالمعنى الذي لا يبلغه عقولنا القاصرة.

وثانياً لهم ما يشاؤون في تلك النشأة، والظاهر أنّ المراد بما يشاؤون هو النعيم وأنحاء النعم المادية. وأمّا الدرجة والقرب لدى الله سبحانه فلا يشمله بقرينة قوله تعالى: «لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ » (2)، وحيث إنّ رغبة الإنسان في النعيم وتوسّعه فيه لا حدّ له، فالظاهر أنّ المراد بالمزيد ما لا يعلمون حقيقته ليرغبوا فيه ويشاؤوه، وهو الدرجة الرفيعة والمقام القريب عند الله تعالى، وهو أفضل الجزاء على الإطلاق، بل هو أصل النعيم ولا نعيم بدونه.

وبذلك لا يبقى مجال للسؤال بأنّه إذا أراد بعضهم بلوغ درجة الأنبياء مثلاً فكيف يستجاب له؟! وذلك لأنّ الذي يؤتون منه كما يشاؤون من دون تحديد

ص: 312


1- القمر (54): 55 .
2- ق (50): 35 .

ليس درجة القرب لدى الله تعالى والكمال البشري، بل النعم المادية.

ولا حاجة إلى الجواب بأنّهم لا يشاؤون ذلك، لأنّهم لا يحملون في طياتهم حسداً وطمعاً كما قيل، بل لا يصحّ ذلك، لأنّ مشيئة ذلك قد لا ينشأ من الحسد.

«ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ » لم يقل: ذلك جزاؤهم، بل أبدله بالاسم الظاهر تنبيهاً على السبب في تعيين الجزاء. والمراد أنّ هذا جزاءهم بسبب إحسانهم، ولعلّه لذلك أتى بهذه الجملة مستقلة من دون العطف على الجملة السابقة لیدلّ على أنّ مضمونها حكم آخر و«المحسن » الذي أحسن عمله، ففيه إشارة إلى عدم كفاية الإيمان والتصديق قولاً، وبذلك يكون هذا التعبير مخصّصاً أيضاً. وإحسان العمل بالإخلاص في النيّة.

«لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا» اللام للتعليل، والظاهر أنّه متعلق بما قبله، أي إنّما جعل الله جزاء المحسنين ذلك ليكفّر عنهم أسوأ ما عملوا، فإنّ تكفير السيِّئات ممّا يشاؤونه. وقيل فيه بوجوه أخرى ضعيفة. وإذا كان الله يكفّر عنهم أسوأ ما عملوا فيكفّر غيره بطريق أولى. ولعلّ فيه إشارة إلى أنّ أسوأ ما يعملون إنّما هو من الصغائر التي يشملها التكفير ، كما قال تعالى: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ» (1).

ويمكن أن يكون الأسوأ منسلخاً عنه معنى الأفضلية، فيكون بمعنى السيّء، أي ليكفّر الله عنهم سيئات ما عملوا.

«وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ »، قيل : معناه أنّ الله تعالى يجزي كلّ أعمالهم بجزاء أحسنها، فيجعل ذلك مقياساً لثواب كلّ عمل.

ص: 313


1- النساء (4): 31 .

ويحتمل أن يكون من باب الإضافة إلى غير الجنس، أي بجزاء أحسن ممّا كانوا يعملون كما قال تعالى: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ »(1) .

ويمكن أن يكون الجزاء مبيّناً لدرجة قربهم وهو الجزاء الأوفى، أي أنّه تعالى يجعل درجة قربهم لديه على أساس أحسن ما كانوا يعملون، فهو مقياس تعيين درجة كلّ واحد منهم .

ص: 314


1- النمل (27): 89 .

سورة الزمر (36 - 40)

أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)

«أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.» يظهر من الآية الكريمة - كما ورد في الروايات أيضاً - أنّ المشركين كانوا يحذرون الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مغبّة تعرّضه لأصنامهم، ويقولون نخاف أن يصيبك خبال من قبلها، كما كان السابقون يعتقدون ذلك أيضاً حيث قالوا خطاباً لهود (علیه السلام): «إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ »(1) ، ومثل هذه العقائد يعتقده كثير من بسطاء العامّة بالنسبة إلى كثير من الأشياء، فتجدهم يعتقدون بشجرة قديمة أو قبر لا يعلم صاحبه، خصوصاً إذا تعرّض له أحد بسوء، ثمّ ابتلي صدفة بأيّ مرض أو حادث، وهكذا كان شأن عرب الجاهلية، كما هو شأن كلّ جاهلية.

والقرآن يردّ عليهم: « أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ» . المراد ب-«عبده» الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأنّه هو المهدّد في تخويفهم. وفي التعبير عنه بذلك مزيد تشريف وتخصيص. وفيه إشارة إلى أنّه تعالى لا يسلم عبده لأعدائه. وأمّا احتمال كون المراد به جنس

ص: 315


1- هود (11): 54 .

العبد فيشمل كلّ عباده، فهو بعيد وإن تأيّد ذلك بقراءة الجمع.

والاستفهام للإنكار والنتيجة التأكيد على أنّه يكفيه. وسيأتي الدليل عليه. فالمؤمن لا يخاف أحداً مهما كان، لأنّه من دون الله، والأمر كلّه بيده، فلا نفع ولا ضرر إلّا بإذنه، فبماذا تخوفون عبدالله ورسوله؟! وليعلم أنّ المراد ليس هو عدم التخوّف من العوامل الطبيعية التي تضرّ الإنسان فإنّها تعمل بإرادته تعالى. و إنّما المراد نفي التخوّف من أيّ شيء يدّعى فيه أنّه يؤثّر من دون الله تعالى أي في قبال إرادته وربوبيته.

« وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ »، لكنّ المعاندين قد أعمت أبصارهم العصبية وضلوا وأضلوا. « وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ». ومن يستطيع أن يهدي من أضلّه الله؟! والله تعالى لا يضلّ أحداً إلّا إذا استحق الضلالة. ولا يستحقها إلّا بسوء سريرته وعناده للحق إذ جاءه. ومن يعاند الحقّ لا يستطيع أن يراه، فإنّ الحقّ في هذه المفاهيم ليس أمراً محسوساً ومشهوداً، و إنّما هو أمر غيبي لا يصل إليه الإنسان إلّا بصفاء القلب، فإذا تكدّر قلبه بالعصبية ومتابعة الأهواء فيستحيل عليه الهداية.

وهذا يؤيس الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) منهم ويؤيسهم منه ، فلا هو يمكنه هدايتهم، ولا هم يستطيعون إخافته من أصنامهم.

«وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ» ، كذلك إذا أراد الله هداية أحد لاستحقاقه وللأرضية الصالحة التي أوجدها بحبّه للحقّ وقبوله وتسليمه لآيات الله تعالى فإنّه لن يضلّ مهما حاول شياطين الجنّ والإنس إغواءه، لأنّ الله تعالى أراد هدايته، وهو العزيز الغالب على أمره لا يمنع تحقق مراده شيء،

ص: 316

ومنه الهداية والإضلال لمن يستحقّهما.

و«الانتقام» إنزال العقوبة. وهو ذو انتقام أي أنّه لا يترك من يستحق العقوبة. وهذا هو الذي نجده في الطبيعة، والطبيعة فعل الله تعالى، فإنّ العقوبة الطبيعية تترتب على الفعل كنتيجة حتمية، فمن شرب السمّ يموت، وقلّما لا يؤثّر العامل الطبيعي بأمر خارق للعادة. والغرض أنّ المعاند عقوبته الطبيعية هو الضلال، فلا بدّ له منه، ولا يمكن أن يهتدي إلى الطريق، لأنّه النتيجة الطبيعية للعناد.

«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ»، الوثنيّون يعترفون بأنّ خالق السماوات والأرض هو الله سبحانه. وهذا واضح، لأنّ من يدعون لهم الربوبية لا يمكن أن يدّعى فيهم الخلق، فهم بذاتهم مخلوقون والمراد بالسماوات والأرض الكون كلّه كما ذكرناه مراراً. وهذه الجملة مقدمة للجملة الآتية التي وقع فيها الاستدلال على منع تأثير الأصنام في ضرّ أو نفع، ليكون جواباً على تخويفهم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) منها .

«قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ »، القصد من هذه الجملة التنبيه على وضوح عدم تأثير الأصنام في خير أو شر، والاستدلال فيها يبتني وفقاً للجملة السابقة على أنّ كلّ ما يضر الإنسان أو ينفعه هو بذاته أيضاً من المخلوقات، فلا شيء في الكون إلّا وهو داخل فى مظلّة السماوات والأرض، والكلّ مخلوق له تعالى ولا شك أنّ ما أراد الله تعالى خلقه لا يمنعه شيء، إذ ليس هناك قوة تقابله، فإذا أراد بأحد ضرّاً أو نفعاً فلا يمنع من تحقّق مراده شيء. و إنّما تؤثر العوامل الطبيعية أو غيرها في الكون وفقاً للنظام الكوني الذي يديره الله تعالى ويدبّره.

ص: 317

وقوله: «أَفَرَأَيْتُمْ » أي أظننتم وحسبتم ، فهو استفهام استنكاري، لأنّ معنى تخويفهم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من الأصنام هو هذا الحسبان الخاطئ. و«الفاء» فيه للتفريع، لأنّ نفي هذا الحسبان يتفرّع على اعترافهم بأنّه تعالى خالق الكون. والتعبير بضمير المؤنّث عن الأصنام من جهة أنّهم كانوا يسمّون أصنامهم بالأسماء المؤنّثة. و«الضر» كلّ ما يضرّ. وكشفه إزالته وإمساك الرحمة منعها.

«قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ»، «حسب» مصدر بمعنى الكفاية، ويقصد به اسم الفاعل مبالغة. أي يكفيني الله من كلّ شيء، ومن يؤمن بالله فهو حسبه، و إنّما يتشبّث الناس بغيره لعدم إيمانهم. وليس معنى ذلك عدم التوسّل بالأسباب الطبيعية، فإنّ هذا لا ينافي التوكّل على الله والاكتفاء به، و إنّما ينافيه إذا اعتقد أحد أنّها تؤثر من دون تدبير من الله تعالى.

«عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ »، أي أنّ من يتوكّل على أحد فإنّما يتوكّل عليه تعالى، وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، فالناس لا يتوكّلون إلّا عليه. والسرّ في هذا الحصر أنّ من لا يعتقد بالله أو لا يؤمن بقدرته وربوبيته لا يتوكّل على أحد و إنّما يعتمد على الأسباب الطبيعية. و لذلك فهو لا يركن إلى ركن شديد، وتتقاذفه أمواج الطبيعة، وربّما يصيبه اليأس فينتحر ، لأنّه لا يجد وراء هذا الكون يداً قادرة وتدبيراً وحكمة بخلاف المؤمن، فإنّه واثق ومطمئنّ إلى ربّه، ويعلم أنّ الأسباب إنّما تؤثّر بأمر خالقها وربّها. ويمكن أن يراد بالحصر أنّه لا ينبغي التوكّل على غيره.

« قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ». في الخطاب نوع إشفاق وعطف، فهو يخاطبهم: «قومي» استمالة لقلوبهم، مع أنّه خطاب فصل يقطع كلّ الروابط بعد ما

ص: 318

أصرّوا على عنادهم: « اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ »وهذا نظير قوله: «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ»(1) ، وقوله: « لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ»(2)

والمكانة من المكان، ولكن يستعمل في الأمور المعنوية، فالمراد بها المنزلة والحالة، أي اعملوا كما يقتضيه حالكم وعقائدكم. وهذا أمر للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأن يواجه قومه على أساس اليأس منهم ومن إيمانهم.

وقوله: « إِنِّي عَامِلٌ »، أي إنّي أيضاً أعمل على مكانتي. حذف الجار والمجرور للاستغناء بما مرّ، نظير قوله: «نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض»، أي نحن بما عندنا راضون. وهذه الجملة لا يناسهم من نفسه، وأنّه لا يمكنه الرجوع عن رسالته.

« فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ » تهديد ووعيد، والعذاب المخزي عذاب الدنيا، و«المقيم» عذاب الآخرة، أي عذاب دائم. وفرّق بينهما حيث عبّر عن الأول بالإتيان وعن الثاني بالحلول لتناسبه مع الإقامة والدوام والمراد بعذاب الدنيا ما حلّ بهم يوم بدر، ثمّ نهاية مكرهم يوم الفتح.

ص: 319


1- الكافرون (109) :6 .
2- الشورى (42): 15 .

سورة الزمر( 41 – 42)

إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)

« إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ.» أمر رسوله في الآية السابقة أن يتبرّأ من القوم ومن أعمالهم، ويفصل بين مسيره ومسيرهم. وفي هذه الآية يعود فيذكرهم بأنّ طريق الهداية مفتوح للجميع، ولله الحجّة البالغة. وهذا الكتاب المنزل المصاحب للحقّ بما يشتمل عليه من حقائق غيبية وشرائع وأحكام إنّما أنزله الله تعالى على رسوله للناس، أي ليهتدي به الناس.

« فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا »، أي أنّ هذا الكتاب نور لمن أراد الاستنارة، ولا تنفع الله هدايتهم ولا يضرّه ضلالهم. فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه، أي أنّ في ذلك مصلحته. وأكّد الأمر في الضلال بتكراره وتقديم «إنّما »المفيد للحصر على ما قيل، حتّى لا يتصوّر أنّ لضلالهم ضرر على أحد غيرهم.

« وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ »، أي لست موكلاً عليهم ومسؤولاً عنهم وعن هدايتهم، إنّما عليك البلاغ. وقد تكرّر التركيز على هذا الأمر في الكتاب العزيز تسلية للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حتّی يشعر بتقصير في أداء الرسالة إن هم لم يؤمنوا، ومن جهة أخرى يؤيسه منهم لئلّا يحاول المستحيل لهدايتهم، فهو ليس مسؤولاً ولا مسيطراً عليهم وعلى قلوبهم، إنّما الأمر بيد الله تعالى.

« اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا». الجملة مبدوّة باسم الجلالة، لأنّ التركيز هنا على

ص: 320

بيان ربوبيته تعالى وتدبيره للكون، ليكون حافزاً للقوم يبعثهم إلى عبادته تعالى وترك عبادة الأصنام. ويتعرّض بهذا الصدد لموضوع يخصّ الإنسان ويتجدد كلّ يوم وهو مفارقة النفس للجسم في حال النوم. وقد ورد مثله في قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى»(1).

و«التوفّي» هو الأخذ الكامل ومثله الاستيفاء. و«النفس» قيل: إنّها هي الروح، ولكن يظهر من الروايات اختلافهما، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وعلى كلّ حال فالنفس في أصل اللغة بمعنى ما به الحياة على الظاهر، ولذلك يطلق على الدم ولعلّه الأصل فيه، ولكنّه يطلق أيضاً على حقيقة الشيء وذاته. و كلّ ما ورد في القرآن بهذا المعنى، وعليه فالمراد هنا هو الذات البشرية التي يشير إليها كلّ أحد بضمير المتكلّم: «أنا» ويضيف إليه كلّ أعضائه وجوارحه.

و«توفّي النفس» نسب في القرآن تارة إلى ملك الموت، وتارة إلى ملائكة الموت أو إلى رسلنا، وهنا نسب إلى الله تعالى. وفي الروايات أنّ هناك ملكاً من الملائكة المقربين بيده أمر هذه المهمّة، أي قبض أرواح البشر ويسمّى عزرائيل. وتحت إدارته مجموعة من الملائكة، والكلّ بأمر الله تعالى. ومن باب التشريف والتكريم ينسبه الله سبحانه هنا إلى نفسه رأساً.

وتوفّي النفس أو ما يدّعى بقبض الروح ليس هو الموت، كما يتوهّمه الناس، وملك الموت ليس مأموراً بالإماتة، بل الموت يحصل بأسبابه الطبيعية، ولكنّ ملك الموت مأمور بقبض روحه حين موته. وهذا بذاته تكريم للإنسان وللروح الإلهي الذي نفخ فيه.

ص: 321


1- الأنعام (6) : 60 .

« وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى »، أي يتوفّى في حال النوم النفوس التي لم تمت، فإذا قضى عليها الموت يمسكها، فلا تعود إلى الجسم، ويرسل ما لم يقض عليه بالموت، أي يتركها لتعود إلى الجسم، وينعم الإنسان و يتمتّع بحياته إلى أجل مسمّى ومحدود، أي إلى الزمان الذي قدّر فيه أن يموت.

وهذه الآية صريحة في أنّ حقيقة الإنسان ليست بجسمه الذي يموت ويفني بل حقيقته المعبّر عنها بالنفس على ما أسلفنا هي ذلك العنصر الذي يتوفّاه الله تعالى، أي يأخذه كاملاً حين الموت بل حين النوم أيضاً، والجسم إنّما هو ركب له ويتعلّق به نحو تعلّق لا نعلم كيفيته. ويتبيّن من الآية أنّ ذلك العنصر ينفصل عن الجسم في الموت، بل والنوم أيضاً، ثمّ يعود إذا لم يقض عليه بالموت.

و«النوم» من غرائب هذه الحياة. ومهما كان سببه الطبيعي فإنّ ما يحصل عنده حسب هذه الآية هو انفصال النفس عن الجسم ويبقى في الجسم ما تتقوّم به الحياة ما لم يقض عليه بالموت، وهذا غير ما هو نفسه وحقيقته، فهذا أمر يشاركه فيه كلّ حيوان، كما أنّ النوم أيضاً لا يختصّ به. فالإنسان النائم كالإنسان الميّت من حيث انفصاله عن الجسم وإن كانت الروح التي بها قوام الحياة باقية فتجده يتنفّس ويتحرّك وتعمل كلّ أعضائه وقواه الداخلية إلّا أنّه لا يشعر بما يدور حوله ولا يسمع ولا يبصر. نعم ربّما يتأثّر بصوت ونحوه فينهض وحينئذ تعود العلاقة بينه وبين الجسم.

وهذا ما صرّح به في بعض الروايات، كما في «مجمع البيان »عن العياشي

ص: 322

بسنده عن الإمام الباقر (علیه السلام): «ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء وبقيت روحه في بدنه وصار بينهما سبب كشعاع الشمس، فإن أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس ،وإن أذن الله في ردّ الروح أجابت النفس الروح، وهو قوله سبحانه « اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا» فمهما رأت في ملكوت السماوات والأرض فهو ممّا له تأويل، وما رأت في ما بين السماء والأرض فهو ممّا يخيّله الشيطان ولا تأويل له». (1)وهذه الأمور ممّا يدعو الإنسان إلى التفكّر فى أمر النوم والموت، وأنّ شؤون الإنسان تحت تدبير رب حكيم.

« إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» تبيّن بعض ما في ذلك من الآيات التي تدلّ على ربوبيته تعالى. ومنها الرؤيا الصادقة كما أشار إليه الإمام الباقر (علیه السلام) في الرواية المذكورة. وما يجده الإنسان في المنام من أنشطة الروح. ويقال: إنّ الإنسان بمجرّد أن يغلبه النوم يرى الأحلام، وهي في الغالب أماني الإنسان ومخاوفه تتجسّم له وهو يتأثّر بها من حيث لا يشعر، ولكنّه لا يتذكّر شيئاً ممّا يرى، و إنّما يتذكّر ما يجده في آخر لحظة حيث يكون بين النوم واليقظة، أي تكون نفسه في حال الارتباط الضعيف بالجسم، وأمّا ما يراه في حالة الانقطاع الكامل، أي توفّي النفس فلا يتذكّر منه شيئاً وغالباً ما يؤثّر في الرؤيا ما يحدث حول الإنسان النائم، والسبب فيه هو ما ذكرنا من أنّه بين اليقظة والمنام.

ومهما كان فالمنام في بعض موارده نافذة إلى الغيب يجد الإنسان فيه ما يتحقّق بعد ذلك بمدة قليلة أو كثيرة، فربّما يجده بصورته الواقعية، وربّما يجده بصورة أخرى، ولكنّه نفس الحقيقة تتجسّم له بصورة غير صورته الأصلية. وهذا، أي تبديل الصور أيضاً من غرائب أنشطة النفس البشرية.

ص: 323


1- مجمع البیان 8 :781.

وهناك في القرآن موارد من الرؤيا الصادقة كالرؤيا التي رآها الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، قال تعالى:« وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» (1) ، وورد في الروايات أنّه رأى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة. وقال تعالى: «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْر » (2)، وفي موضع آخر: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ »(3) .

وكذلك رؤيا سيدنا ابراهيم (علیه السلام) حيث أمر بذبح ابنه، ورؤيا يوسف (علیه السلام): «إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ » (4)، ثمّ كان تأويله ما ورد في قوله تعالى: « وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا» (5) ورؤيا ملك مصر الذي فسّره يوسف (علیه السلام)، ورؤيا صاحبي يوسف في السجن.

وكلّ منّا يعلم موارد من الرؤيا الصادقة رآها هو أو سمعها من أصحابه. ومن الغريب أنّ كلّ ما تجده من الرؤيا الذي ربّما يستغرق ساعة أو أكثر تجده كلّه في لحظة واحدة. وقد مرّ في حديث الإمام الباقر (علیه السلام)السرّ في الفرق بين الرؤيا الصادقة وغيرها.

ص: 324


1- الإسراء (17): 60 .
2- الانفال (8): 43 .
3- الفتح (48): 27.
4- يوسف (12): 4 .
5- يوسف (12) :100 .

سورة الزمر(43 – 45)

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)

« أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ »، «أم» منقطعة، أي بمعنى بل، وهمزة الاستفهام للاستنكار ، أي بل اتّخذوا من دون الله شفعاء و«بل» للإضراب عن حثّهم على عبادة الله تعالى والاستفهام لاستنكار اتّخاذ شفعاء من دونه و المراد بهم أصنامهم التي قالوا إنّها تقرّبهم إلى الله زلفى كما مرّ في أول السورة، ومعنى اتّخاذهم لها من دون الله، أي رجعوا إلى الشفعاء وتركوا الرجوع إلى الله تعالى فاعتبروها أرباباً وآلهة بدلاً عن الله تعالى.

« قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ »، يعني هل تتخذونها شفعاء حتّى لو كانت لا تعقل ولا تملك شيئاً؟! وهذا غاية الجهل، فالأصنام لا تملك شيئاً، لأنّها جماد مصنوع بأيديهم لا حول لها ولا قوة، وهي لا تعقل أيضاً، فكيف تسمع كلامهم؟! ولو سمعت كيف لها أن تستجيب وهي لا تملك شيئاً؟! ومن الأشياء التي لا تملكها هي الشفاعة .

ولم يخاطبهم بهذا الاستنكار مباشرة ، استهانة بهم، بل أمر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يقول لهم ذلك.

« قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا »، «الشفاعة» ضمّ شيء إلى شيء. و«الشفع »ركعتان في قبال الوتر. وإذا طلبت من أحد أن يتوسّط لك عند مدير أو أمير فإنّك شفعت

ص: 325

طلبك بما لهذا الرجل من مكانة عنده. وشفاعة الرسول والأئمة - عليهم جميعاً سلام الله - بمعنى ضمّ موالاتهم ومتابعتهم إلى عملك، ولا شكّ أنّ الشفاعة مقبولة يوم القيامة والروايات في ذلك أكثر من أن تحصى. ولعلّ المراد بها ما ذكرناه آنفاً ولا تختصّ الشفاعة بالتوسط ومحاولة إرضاء أحد ليرضى عن آخر كما هو المتعارف في حياتنا.

ومهما كان، فانّ الشفاعة عند الله لا تتمّ إلّا إذا أراد الله تعالى وأذن فيه. والملائكة شفعاء بمعنى أنّهم يتوسّطون بين الله وخلقه في إنزال أوامر الله التكوينية والتشريعية. وقد وصفهم الله تعالى بالمدبّرات أمراً، ولكن ليس لهم أيّ استقلال حتّى في الشفاعة، و إنّما يطيعون أمر الله تعالى في كلّ شيء، قال تعالى«وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى » (1)، فالآية تقرّر أنّهم شفعاء ولكن لا تغني شفاعتهم إلّا بعد إذنه، فلا استقلال لها حتّى في الشفاعة. والنتيجة أنّ الشفاعة كلّها لله تعالى أي أمرها بیده

« لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ». هذه الجملة بمنزلة التعليل للجملة السابقة، فحيث إنّ ملك السماوات والأرض - أي الكون بأكمله - له تعالى فلا يملك أحد حتّى الشفاعة، لأنّها أيضاً داخلة تحت هذا العنوان.

« ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». تقديم الجار والمجرور لافادة الحصر، أي أنّ المرجع ليس إلّا إليه تعالى والظاهر أنّ ذكر هذه الجملة من جهة أنّ المخاطبين إنّما كانوا يستشفعون بالأصنام أو غيرها لحاجاتهم في الدنيا، فنبّههم الله تعالى أنّ الحاجة

ص: 326


1- النجم (53): 26 .

الملحّة إنّما هي في الآخرة، ومرجعكم إليه، فلا تنفعكم شفاعة الشافعين.

« وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ » ، المراد بهم المشركون و«الاشمئزاز» هو التنفّر الشديد الذي يلازم ظهوره في الوجه، ومنشأ اشمئزازهم ليس هو اسم الله جل جلاله، بل ذكره وحده من دون ذكر آلهتهم، فکأنّهم يرفضون ذكر الله تعالى إلّا مع ذكر أصنامهم.

وذكر المشركين بعنوان من لا يؤمن بالآخرة لعلّه للإشارة إلى السبب في تنفّرهم من ذكر الله وحده واستبشارهم بذكر الأصنام، وهو أنّهم وإن اعترفوا بالله تعالى خالقاً للكون إلّا أنّهم حيث لا يعترفون بالآخرة ولا يرون الله تعالى تأثيراً في حياتهم في الدنيا، بل يرون أنّ المؤثّر سلباً وإيجاباً هو الارواح التي تمثّلها الأصنام، فانعقدت في قلوبهم علاقة شديدة بها، وظهرت في قسمات وجوههم.

« وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ »، المراد ب-«الذين من دونه » الذين يدعون من دونه، أي بدلاً عنه لكشف المهمّات وهم في مورد المخاطبين الأصنام. فإذا ذكرت الأصنام وحدها استبشروا و «الاستبشار»: الفرح الشديد الذي يظهر أثره على أسارير الوجه. فانظر إلى أين يصل انحطاط الفكر البشري وتأثيره على عواطفه ومشاعره، فيشمئزّ من ذكر خالق السماوات والأرض، ويستبشر بذكر جمادات صنعها بيده.

وقوله تعالى: « إِذَا هُمْ» يفيد أنّهم فجأة تنفرج أساريرهم ويعلو وجوههم الاستبشار !! هكذا كان المشركون آنذاك. ومثلهم كثير من عباد الله إذا سمعوا الحقّ المخالف لمذهبهم ضاقت صدورهم وبدا السوء في وجوههم، وإذا تليت أباطيلهم فرحوا واستبشروا.

ص: 327

سورة الزمر( 46 – 48)

قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)

« قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » الظاهر أنّ هذه مناجاة أمر بها الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كردّ فعل لاستبشار المشركين واشمئزاز هم المقزّز لنفسه الطاهرة. ولعلّه أمر بأن يقولها أمامهم ليكون فيه إعراض عنهم، فهم لا يستحقّون الخطاب بعد هذا الكفر الواضح و إن كان الموضوع ممّا تكرّر الإعلان عنه.

وقدّم الوصفين، لأنّ كونه فاطر الكون ممّا يعترف به الخصم، وهو الدليل، كما مرّ في الآيات السابقة على ربوبيته، وهو أيضاً الدليل على حكمته التي تقتضي أن لا يكون الخلق عبثاً، فلا بدّ من يوم تظهر فيه الحقائق ويرتفع فيه الاختلاف، ويتبيّن به الحقّ ناصعاً واضحاً، ومن ذلك اختلافه معهم في العقيدة. والله عالم الغيب والشهادة يعلم مكنونات الضمائر، فهو الحكم العدل بين العباد يوم القيامة. وقد مرّ أنّ الحكم بين العباد إنّما هو بظهور الحقائق علناً.

« وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . حيث أشار في المناجاة السابقة إلى يوم القيامة تعرض هنا لحال المشركين هناك وعمّم الحكم لكلّ الظالمين، وهو عنوان يشملهم، لما مرّ من أنّ الذي يكذب على الله ويكذّب بالحقّ هو أظلم الناس، فهو يوم القيامة يرى من فظاعة العذاب ما لو كان يملك كلّ ما في الأرض لافتدى به.

ص: 328

والغرض بيان أنّ الإنسان هنا وفي هذه الحياة يستخفّ بالآخرة ويستخفّ بعذابها، ويرجّح التنعّم بملذّات الدنيا على اتّقاء ذلك العذاب، وتعجبه بهرجة هذه الحياة ونعمها من مال وولد وجاه ومنصب وألقاب وغير ذلك، فإذا رأى فظاعة العذاب هناك هانت عليه كلّ ما في الدنيا من نعيم وهناء، وهو مستعدّ لأن يفتدي بكلّ تلك النعم، حتّى لو كان يملك ضعف ما في الأرض ليتخلّص من هذا العذاب، ولكنّه تنبّه بعد فوات الأوان فليته كان في الدنيا يتنبّه لذلك قليلاً ويقتصر من نعيم الدنيا على حلاله على الأقلّ إن لم يتزهّد حتّى في بعض الحلال ويقتصر على مقدار الضرورة، كما كانت سيرة الأنبياء والأولياء والقرآن ينبّه البشر على هذه الحقيقة التي ستنكشف له بعد حين، حتّى لا يحتجّ بأنّه كان غافلاً عنها.

« وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ »، أي ظهر لهم من عذاب الله ونقمته ما لم يحسبوا له حساباً، وما كانوا يظنّون أنّ الله تعالى يفعل بهم ذلك. نعم الذي يراه الإنسان هناك ويبدو له من عذاب الله فوق تصوّره وتقديره، كما أنّ نعيم الجنّة أيضاً ليس كما نتوهّم، قال تعالى: «فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ » (1).

ويمكن أن يكون منشأ عدم الاحتساب أنّ الإنسان يمني نفسه في هذه الدنيا برحمته تعالى واستغنائه عن تعذيب عباده. وهذا ما نسمعه مكرّراً من أبناء الدنيا واللاهين بنعيمها، فإنّهم يستبعدون محاسبة الله تعالى لهم على هذه الدقائق الموجودة في الشرع، بل يستبعدون أن يعذّب الله تعالى أحداً بالنار، وربّما يستهزؤون بما يردّ في النصوص من التهويل بعذاب جهنّم وبسائر أنحاء العذاب المصرّح به في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، ونسمع ذلك حتّى ممّن يدعون الإسلام ممّن استهوتهم العلمانية وارتدوا في بواطنهم عن

ص: 329


1- السجدة (32): 17 .

الدين وإن لم يتجرّؤوا على التصريح.

« وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا » وهذا ممّا يزيد في فظاعة العذاب، فإنّ الأفجع للإنسان أن يعلم أنّ ما صنعه هو نفس العذاب وأنّ عذابه صنيعة يده، ولكنّه في هذه الحياة يرى وجهاً آخر من عمله فلا يرى فيه قبحاً ولا فظاعة، بل هو وجه جميل يتلذّذ من منظره، أو هو أكلة لذيذة، أو تمتّع، أو فخفخة في الألقاب، أو بناء عظيم، أو كرسي في البرلمان أو تقلّد لوزارة أو غير ذلك، ولكن وجهه القبيح يظهر في تلك النشأة، فالإنسان يرى نفس عمله ويتمنّى لو كان بينه وبينه أمداً بعيداً: «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ *فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ »(1).

وأفظع من ذلك إذا كان يتصوّر في هذه الحياة أنّ ما يصنعه جميل حتّى في تلك النشأة، وربّما يتعب نفسه أو ينفق ماله، بل ربّما يضحي بنفسه ليعمل عملاً يراه جميلاً ويتعبّد الله به وهو من أكبر الجرائم، فهذا يخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا » (2).

«وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ» ، « حَاق بهم » أي نزل بهم من حاق يحيق، أي نزل به عاقبة فعله أو مكره، قال تعالى: «وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» (3)، وقيل بمعنى أحاط به. وعليه فلعلّه مأخوذ من الحوق، وهو بمعنى الإحاطة، فقلب ياءاً والذي استهزؤوا به هو عذاب جهنّم - أعاذنا الله منها.

ص: 330


1- الزلزلة (99): 6 - 8 .
2- الكهف (18): 103 - 104.
3- فاطر (35): 43.

سورة الزمر ( 49 – 52)

فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

« فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ» ، «الفاء» للعطف والظاهر أنّه عطف على مجموع ما مرّ من بيان حال المشركين والضر: سوء الحال من فقر ومرض ونحوهما. ومسّ الضر: إصابته والتعبير بالمسّ کأنّه للإشارة إلى أنّه يدعو ربّه بأقلّ إصابة للضرّ. وتخويل النعمة اعطاؤها من دون استحقاق. والمعنى أنّهم يشركون بالله بحيث تشمئزّ نفوسهم من ذكره وحده، ثمّ إذا مسّهم الضرّ لم يبتهلوا إلّا إليه. و إنّما عدل عن الضمير إلى ذكر الإنسان للتنبيه على أنّ هذه سجيّة البشر، لا خصوص هؤلاء.

وهذه السجيّة مرّ ذكرها في الآية 8 ولكنّ هناك فرق بينهما، فالمقارنة هناك بين ابتهاله إلى الله تعالى لدى الضرّ ونسيانه ضرّه إذا صار متنعّماً، ولكنّه هنا يركز على ظاهرة أخرى تبدو من الإنسان إذا أصبح مستغنياً وهو أنّه ينسب النعمة إلى غير ربّه.

ونظيره ما ورد في سورة الأنعام: «قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ *قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ » (1) وفي سورة النحل: «وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ

ص: 331


1- الأنعام (6): 63-64 .

تَجْأَرُونَ *ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ »(1) وفي سورة الروم «وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ »(2).

وهنا أيضاً ينسب النعمة إلى نفسه وإلى العوامل الخارجية التي وصل إليها بعلمه، وينكر أن يكون ما حصل عليه من نعم ربّه عليه. فقوله « قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ » بمعنى أنّه حصل عليه بسبب علمه بطرق كسب المال.

وقد وقع الكلام في وجه تذكير الضمير مع أنّه يعود إلى النعمة، فقالوا إنّه بتأويل المال أو الشيء، ولكن ليس في كلامهم وجه مقنع في سرّ هذا التأويل إلّا ما ذكره العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) وهو أنّ الوجه فيه إنكاره لكونه نعمة من الله تعالى. ومثل ذلك ما حكاه عن قارون حيث قال في جواب قومه « قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي» (3).

وهكذا طبيعة الإنسان إذا انسدت عليه الطرق وضاقت به السبل ولم يجد ملجأ إلّا الله تضرّع واستغاث به، وتجده من أخشع القانتين، فإذا زال الكرب والهمّ عاد إلى غيّه واعتمد على الأسباب، ونسي ربّه الذي بأمره تؤثّر الأسباب كلّها. وهذا هو المراد بالشرك هنا، وهذا لا يختصّ بعباد الأصنام، بل كثير من المؤمنين أيضاً كذلك.

« بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ » ، أي ليس كما توهّمت أنّك حصلت على بغيتك بعلم من عندك، بل هو من الله تعالى منحك إيّاه فتنة وامتحاناً. وكلّ ما في هذه الحياة فتنة

ص: 332


1- النحل (16): 53 – 54.
2- الروم (30): 33 .
3- القصص (28): 78 .

وامتحان، سواء كان خيراً أم شراً، قال تعالى: « وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» (1) ، والامتحان ليس لكي يعلم الله منّا ما لم يعلم فهو علام الغيوب، و إنّما يمتحن الله خلقه لتبرز القابليات، فإنّ الدرجة والثواب لا يدفع لمجرّد الاستعداد و القابلية حتّى فى امتحانات البشر، و إنّما يدفعان لبروز العلم والفن وغيرهما.

بل هناك أمر آخر أيضاً، وهو أنّ الإنسان لا يتكامل نفسه إلّا بمواجهة الفتن والامتحانات، فهي تصقل نفسه وتنمي قدراته، كما أنّ جسمه أيضاً لا ينمو ولا يتكامل إلّا بمواجهة الحوادث والمشاكل، وكلّما كثرت المواجهات قويت النفس البشرية، وكلّما لانت الحياة وكثرت النعم وانتشر البذخ والترف خارت القوى وضعفت العزائم، سواء على الصعيد الفردي أو الاجتماعي.

و«الفتنة» أصله الإحراق بالنار، ثمّ أطلقت على صهر المعادن بها. وحيث إنّه يوجب خلوصها من الشوائب أطلقت على المشاكل التي بها تتبيّن جواهر الرجال، بل بها تخلّص جواهرها من الشوائب.

« وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ »، أي لا يعلمون أنّ ما أنعم الله تعالى عليهم فتنة وامتحان. وكلّ ما على الأرض فتنة، قال تعالى: «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » (2)، وقليل أولئك الذين ينتبهون لهذه الحقائق وأكثر الناس لا يعلمون، ولكنّ القرآن ينشرها لتتمّ الحجّة على البشر. وهذه الحقائق من معجزات هذا الكتاب العظيم.

« قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ »، أي قال السابقون أيضاً نفس المقالة. والقرآن يركّز

ص: 333


1- الأنبياء (21) :35 .
2- الكهف (7): 7 .

كثيراً على تشابه الأمم في مواجهة الرسالات، بل ينقل عن كلّ قوم نفس العبارة التي قالها من قبلهم ويسأل تعجيباً : «أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ » (1)، فكأن كلّ قوم أوصى لمن بعده أن يتداولوا نفس القول. وقد حكى الله تعالى مقالة قارون وهي قول هؤلاء بعينه: « إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي »(2).

« فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ » کأنّهم كانوا يتوقّعون أن تفيدهم أموالهم وقدرتهم وجيوشهم إذا أراد الله بهم سوءاً، ولكن كلّ ذلك لم تغن عنهم، أي لم تكفهم ولم تدفع عنهم البلاء والمراد بما كانوا يكسبون ما كانوا يحصلون عليه من مال وجاه وقوّة وسلطة. والغرض تنبيه المشركين: لماذا لا تعتبرون بما أصاب السابقين نتيجة غيّهم وشركهم؟! وفي خسف قارون بما كان يملكه من مال عبرة للمعتبر حيث لم يغن عنه ماله ولا عصبته، وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردّ له.

« فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا» ، «الفاء» للتفريع، أي حيث لم يغن عنهم أموالهم وقدرتهم أصابهم العذاب ولم يعذّبهم الله تعالى إلّا بسيّئات عملهم، فما أصابهم كان نتيجة عملهم السيّء والمراد بما كسبوا هنا طغيانهم على ربّهم وظلمهم. ويختلف هذا عن ما كانوا يكسبون في الآية السابقة، فإنّ التعبير بأنّهم كانوا يكسبون یدلّ على ما هم مستمرّون عليه من شؤون معاشهم.

« وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ»، «هؤلاء» إشارة إلى مشركي مکّة والعرب والمعنى واضح وهذا نتيجة ملاحظة شؤون السابقين وعاقبة أمرهم، فالظالمون من هؤلاء أيضاً سينالون جزاء سيّئاتهم في

ص: 334


1- الذاريات (51) :53 .
2- القصص (28): 78 .

الدنيا قبل الآخرة، ولا مردّ له والله تعالى لا يعجزه شيء. و مثل هذا الخطاب ورد في قصة قارون أيضاً: « أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا» (1)

« أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ »، هذا ردّ لما توهّموه من أنّ ما جمعوه من مال إنّما هو حصيلة عملهم، وجهلوا أو تجاهلوا أنّ الكون وإن كان يسير وفق نظام معيّن، ومن تفطّن للأسباب تمكّن من الوصول إلى ما يبتغيه ولكن هناك إرادة حكيمة تدير الكون ولا تؤثّر الأسباب إلّا بإرادته وهو الذي هيّأ أسباب الرزق على اختلاف مواردها، وجعل لكلّ موجود حيّ وسيلة للارتزاق، ومنح لبعض الناس فطنة ودهاء، أو هيأّ لهم الوسائل الطبيعية وضيّق على آخرين وفق ما تقتضيه الحكمة البالغة، وهو الذي يوفّق من أراد ويهديه للأسباب، وليس كلّ الأسباب متاحة لكلّ أحد.

ولذلك نجد كثيراً من أهل الفكر والدهاء يحاولون ويبذلون جهدهم ولا يتمكّنون من الوصول إلى مبتغاهم في الحياة الدنيا. وكثيراً ما نجد أناساً يتهيّأ لهم الفرص من دون تعب وجهد، ومن دون تميّز في الفطنة والدهاء. فهناك وراء الأسباب الظاهرية إرادة تدير الكون حسب معايير لا نعلمها.

هذا هو المراد ببسط الرزق وتقديره و«التقدير» الضيق.

« إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ »، نعم في ذلك آيات متعددة بتعدد الموارد التي يلاحظ فيها البسط والضيق بعوامل خارجة عن إرادة الإنسان، ولكن هذه الملاحظة تختص بمن يؤمن بالله تعالى ويؤمن بالغيب، ولا يحاول تفسير كلّ ظاهرة بعواملها الطبيعية ويقتصر عليها.

ص: 335


1- القصص (28) :78 .

سورة الزمر( 53 – 61)

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)

« قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ »، أمر الله تعالى رسوله الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يبلغ الناس هذا الخطاب المفعم بالرحمة والعناية، والموجّه من قبله تعالى إلى الناس جميعاً مخاطباً إياهم: « يَا عِبَادِيَ » ومن الواضح أنّ السياق يقتضي أن يكون الخطاب شاملاً للمشركين والكفّار أيضاً، سواء بملاحظة ما قبلها من الآيات التي تخصّ المشركين ، أو بملاحظة ما بعدها حيث يأتي الخطاب في نفس السياق: «بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا ».

ومع ذلك فالخطاب يفيض رحمة ورفقاً بالعباد المذنبين والعاصين والمكذبين والمستكبرين على سواء، ويدعوهم ويناديهم: « يَا عِبَادِيَ » ويصفهم بأنّهم أسرفوا على أنفسهم، فلم يعبّر بالإجرام والذنب والإثم، فضلاً عن الكفر والشرك، بل

ص: 336

اعتبرهم جميعاً ممن تجاوز الحدّ في الإضرار بنفسه، ف«الإسراف» هو التجاوزعن الحدّ في أي شيء، وتعدّي الاسراف ب«على» يفيد أنّ التجاوز إنّما كان في الإضرار بأنفسهم.

ثم النهي عن القنوط من رحمة الله يبعث الأمل في قلوب الجميع و«القنوط » هو اليأس. ولعلّ التعبير باسم الجلالة بدلاً عن الضمير للإيذان بأنّ مقتضى كونه هو الله المستجمع لجميع صفات الكمال أن يكون رحيماً بعباده وخلقه.

« إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا». علل شمول الرحمة بأنّه تعالى يغفر الذنوب جميعاً. وهذا يشمل كلّ ذنب حتّى الشرك، فلا وجه لتقييده بما عداه. نعم، هذا الخطاب خاصّ بمن يتوب إلى الله تعالى، و إنّما لا يغفر للشرك بدون التوبة، لقوله تعالى: « «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ » (1)، فهذه الآية تدلّ على أنّ الله تعالى يمكن أن يغفر غير الشرك من دون توبة، وأمّا الشرك فلا يغفر إلّا بها.

ويشهد على أن ّالحكم هنا مقيد بالتوبة، الآية التالية حيث تأمر بالإنابة والتوبة ممّا يظهر منه أنّه هنا أيضاً يدعو إلى التوبة إلى الله تعالى لتشملهم رحمته الواسعة.

« إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». علل عموم الغفران بأنّ ذلك مقتضى كونه هو الغفور الرحيم. والصيغتان من الصفات المشبّهة التي تدلّ على الثبات والدوام. وضمير الفصل مع الألف واللام یدلّان على الحصر، وأنّه ليس هناك غفور ورحيم غيره تعالى. و«الغفران» في الأصل الستر، والمراد أنّه تعالى يستر الذنوب بالتوبة، وليس عفوه مجرّد ترك للعقوبة. و«الرحمة» في غير الله تعالى فسّرت بأنّها رقّة في

ص: 337


1- النساء (4) :48 .

القلب تقتضي الإحسان، قيل: وهي فيه تعالى بمعنى نفس الإحسان، ولكنّ الظاهر أنّها غيره، فإنّ الإحسان نفس فعله تعالى، والرحمة من صفاته تعالى وإن كانت منتزعة من الفعل فهي صفة تقتضي اللطف والإحسان بالنسبة للمخلوقات.

« وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ » ، «الانابة»: الرجوع كما مرّ. والتعبير بالربّ للإيذان بأنّ رجوعكم إليه يؤثّر في تربيتكم وبلوغكم الدرجة المطلوبة في الكمال. و«الإسلام» هو التسليم لأمر الله تعالى في التكوين والتشريع، أمّا في التكوين فإذا قضى الله أمراً لا مردّ له لا يجزع منه، بل يرضى بقضائه تعالى كما في دعاء كميل: «وَتَجْعَلَني بِقَسْمِكَ راضياً قانعاً » وفي زيارة أمين الله: «اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك راضية بقضائك». وأمّا في التشريع فإذا حكم بحكم استسلم له وانقاد خاضعاً حتّى لو لم يتبيّن له وجه الحكمة فيه أو كان منافياً لميوله ونزعاته.

وفي قوله: « مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ » تهديد واستعجال، وإيماء إلى أنّ الوقت قليل، وربّما يباغتكم العذاب فلا تسوّفوا التوبة، وأمّا العذاب فيمكن أن يكون المراد به عذاب الاستئصال في الدنيا، ويمكن أن يريد عذاب الآخرة. والاستعجال بناءً على الاحتمال الثاني من جهة أنّ المهلة تنتهي بالموت، « ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ » أي بعد نزول العذاب أو حلول الموت تنتفي النصرة انتفاء تامّاً، إذ لا ناصر من عذاب الله تعالى، ولا شفيع يشفع بدون إذنه قال تعالى: « مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ»(1) .

« وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ». اختلف القوم في تفسير ما هو الأحسن

ص: 338


1- غافر (40): 18 .

ممّا نزل من السماء، والغالب يصرّون على أنّ ذلك بعض القرآن فهل هو آيات الأحكام أو ما يشتمل على التكاليف الإلزامية أو ما عدا القصص وعبر التاريخ أو ما يدعو إلى صفاء النفس وكمال الروح؟ إلى غير ذلك ممّا قالوه من دون دليل أو قرينة.

والذي يرفضونه هو الصحيح وهو القرآن كما قال تعالى قبل بضع آية : «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» (1) وسائر الكتب من الحديث، فالقرآن أحسن ما نزل من الكتب السماوية وهو أمر طبيعي، فمع تطوّر البشر وتكامله الثقافي يستحقّ مثل هذا الكتاب، بينما كانت الكتب السابقة بسيطة كبساطة البشر آنذاك وتدنّي ثقافتها العامّة.

و إنّما استبعدوا هذا الوجه، لأنّ سائر الكتب لم ينزل على المخاطبين، وهم عرب الجزيرة أو أهل مکّة، ولكن هذا غفلة عن سياق الآية، فإنّ الخطاب فيها موجه إلى عموم البشر، ولا يخص قوماً دون قوم أو زماناً دون زمان.

« مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ » كرّر التهديد والاستعجال، مع التصريح بأنّ العذاب ربّما يأتيكم بغتة حال كونكم مشغولين بأمور معاشكم ولا تشعرون به. وهذا - كما ذكرنا - يحتمل أن يكون عذاب الدنيا ويحتمل عذاب الآخرة، بل يحتمل المجموع أيضاً.

« أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ » ، أي مخافة أن تقول...، وهذا تعليل لما ورد من التهديد والاستعجال المذكور، أي نخبركم بهذه الحقائق ونحذّركم ونستعجلكم مخافة أن تقول .... وهذا الذي يخاف منه واقع لا محالة،

ص: 339


1- الزمر (39) :23 .

لأنّ أكثرهم لا يستجيبون للنداء الإلهي إلى أن يأتيهم يوم الحسرة والندامة.

وقوله: « یَا حَسْرَتَا» اصله «يا حسرتي»، والأصل في مثل هذا النداء يا قوم هذه حسرتي، ونظيره: «يا ويلتا»، و«الحسرة»: الندامة بعد فوات الفرصة، و إنّما يقال له الحسرة، لأنّها تحصل حين يحسر الغطاء ويكشف الواقع. و«الحسر»: الازالة.

و«التفريط»: التقصير. و «جنب الله» أي الجانب المتعلق بالله تعالى في شؤون الحياة، فالإنسان الغافل والمشغول بالزخارف الدنيوية التي لا تنتهي ولا ينتهي ميل الإنسان إليها لا يعير اهتماماً بما يتعلق بالله تعالى من وظائف دينية ومعارف إلهية، وأخلاق وسيرة مرضيّة لديه تعالى، وكلّ هذا تقصير، فضلاً عن أن يكفر به أو يشرك به، ويجعل له أنداداً من خلقه.

« وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ »، (إن) مخفّفة من المثقلة، واسمها ضمير الشأن. واللام في «لمن» لام القسم ، أي والله أنّ الشأن إنّي كنت من الساخرين. والإنسان يزيد حسرة إذا لم يكن تفريطه لجهل وعدم اطلاع، و إنّما كان يسخر من آيات الله ويستهزئ بها. وهذا إثم عظيم، فإنّ الذي يعارض المعارف الإلهية بمنطق واستدلال يقابل بمثله، ومنطق الدين أقوى منطق، وحجّته أقوى حجّة: « فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ »(1) إلّا أنّ الذي يسخر ويستهزئ بآيات الله فلا يمكن مقابلته بشيء. وهذا ما كان يعيق نشاط الأنبياء والأولياء - سلام الله عليهم أجمعين. ومن هنا نجد أنّ الآيات الكريمة مليئة بالتنديد والتهديد للمستهزئين و هذا التحسّر إنّما يصدر من الكافر حينما يرى مشهد يوم القيامة، كما قال تعالى في سورة الأنعام « حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا »

ص: 340


1- الأنعام (6): 149 .

جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا » (1).

« أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» وهذا التمنّي إنّما يبرزه كلّ من لم يتّق الله في الدنيا حينما يجد المتّقين تغمرهم السعادة ويؤمر بهم إلى الجنّة، ولكنّه مع ذلك لا يقوله بصيغة التمني، بل بصيغة يحمل اعتراضاً على الله تعالى، فهو ينسب ضلاله إلى عدم هداية الله تعالى له، ولذلك يأتيه الجواب كما سيأتي.

« أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» ، «الكرة»: الرجعة. وهذا قد يكون مجرّد تمنّ وحسرة حيث يتمنّى الإنسان يوم القيامة أن يعود إلى الدنيا ويكون من المحسنين، وقد يكون دعاء يدعو الإنسان به ربّه يوم القيامة. وقد ورد كلاهما في القرآن كما في سورة الأنعام: «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » (2) فهذا مجرّد تمنّ منهم، ومثله في سورة الشعراء «فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»(3) وهذا ممّا يقولونه وهم في النار. و في سورة المؤمنون «رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ »(4) وهذا دعاء يدعون به وهم في النار.

ومهما كان فهذا دعاء مردود وتمنّ باطل، كما قال تعالى في سورة المؤمنون رداً عليهم: «قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ»(5)، بل ورد في آيات أخرى أنّ ذلك لا يفيدهم ففي سورة الأنعام ردّاً على نفس التمني، كما مرَ: «بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ

ص: 341


1- الأنعام (6): 31.
2- الأنعام (6): 27.
3- الشعراء (26): 102 .
4- المؤمنون (23) :107.
5- المؤمنون (23) :108.

مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»(1) .

ولعلّ الوجه فى ذلك أنّ الله تعالى لا يريد منهم الإيمان إلّا بالغيب، ولذلك لا يقبل الإيمان يوم القيامة ولا حين نزول العذاب الدنيوي، فإذا أعادهم إلى الدنيا لا بدّ من أن ينسيهم ما رأوه من مشاهد الآخرة، فيعودون إلى حالتهم الأولى وهو التكذيب، ولعلّهم لو تذكّروا أيضاً قالوا: إنّ هذا سحر سحرنا به.

« َلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ » ، هذا جواب عن القول الثاني حيث اعترض بأنّ الله لم يهده إلى الصراط المستقيم وإلّا لكان من المتّقين. والجملة المصدّرة بكلمة «بلى» لا تقع جواباً إلّا على الجملة المنفية، كقوله تعالى: « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى » (2) ، وتفيد الإثبات أي «أنت ربنا». وهنا وإن لم تكن الجملة منفيّة إلّا أنّه بمعنى النفي، لأنّ قوله: « لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي» يفيد أن الله لم يهده.

والجواب واضح فإنّ هداية الله بمعنى إراءة الطريق متاحة للجميع: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» (3)، فيخاطبه الله تعالى: « قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ». وعطف الاستكبار على التكذيب يفيد أنّ تكذيبه لم يكن عن جهل، بل إنّما كان عن تعنّت واستكبار وكفر بأنعم الله تعالى.

وقد تبيّن بما مرّ أنّ الوجه في الجواب عن هذا التمنّي دون ما قبله وما بعده هو أنّه في هذه الجملة اعترض على أنّه لم يتلقّ هداية من الله تعالى. وهو كذب واضح.

ص: 342


1- الأنعام (6): 28 .
2- الأعراف (7): 172 .
3- الدهر (76) :3 .

وهنا يثار سؤال: لماذا لم يؤخّر التمنّي الثاني ليكون قبيل الجواب بلا فصل؟ قيل: إنّ السرّ فيه هو مراعاة الترتيب الحاصل هناك حسب مواقف القيامة، فإنّه يقول القول الأول بمجرّد مشاهدة يوم القيامة، والثاني حين يرى المتّقين يدخلون الجنّة، والثالث حين يرى العذاب ويقف على النار.

وقيل: في الترتيب وجه آخر أيضاً وهو أنّه في الأوّل يتحسّر على عدم إيمانه، وفي الثاني يعلّله بعدم هداية الله له، وفي الثالث يتمنى الرجوع إلى الدنيا.

« وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ»، يعود ليذكر حال الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق، فيقول بأنّك ترى وجوههم يوم القيامة مسودّة. والخطاب للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو لكلّ من يقرأ ويسمع الآية. وسواد الوجه كناية عن الخزي والمذلّة، كما قال تعالى: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ»(1).

وهذا السواد يحصل للكافرين يوم القيامة ويقابله البياض للمؤمنين، وهو أيضاً كناية عن الفوز والفلاح والفرح والسعادة، قال تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ *وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ » (2) .والمراد ب «الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ »الذين نسبوا إليه الولد أو جعلوا له شركاء أو ابتدعوا في الدين ونسبوه إلى الله تعالى.

« أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ » ، الظاهر أنّه تعليل السواد وجوههم، أي

ص: 343


1- النحل (16) :58 .
2- آل عمران (3): 106-107 .

وكيف لا يخزون ولا تسودّ وجوههم؟! أليس في جهنّم مثواهم؟! فمن جعل مثواه جهنّم كفاه ذلك سواداً للوجه وخزياً ومذلّة. و«المثوى» هو المقام والمستقرّ. ومقتضى السياق أن يقول: أليس في جهنّم مثواهم؟ ولكنّه أبدله إلى الاسم الظاهر ووصفهم بالمتكبرين للتنبيه على سبب إسوداد الوجه والمذلة وهو التكبر في الدنيا. وهكذا يجزي الله على كلّ إثم بما يناسبه. وذكر هذا الوصف ينبّه أيضاً على أنّ السبب في شركهم وكفرهم هو التكبر ، كما كان هو السبب في أوّل معصية وهي معصية الشيطان.

« وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» ويقابل المتكبّرين، الذين اتّقوا ربّهم، فينجيهم الله من العذاب ومن كلّ أهوال يوم القيامة. والظاهر أنّ «الباء» في « بِمَفَازَتِهِمْ » للسببية، أي بسبب أنّهم فازوا ونجحوا في الامتحان و«المفازة »مصدر ميمي من الفوز، ويحتمل أن يكون «الباء» للمصاحبة والمراد ب-«الفوز» أنّهم فازوا بالجنّة، فيكون المعنى أنّهم نجوا من النار وفازوا بالجنة. والجملة التالية حالية، أي حال كونهم لا يمسّهم سوء من الخارج ولا هم يحزنون في أنفسهم. والشقاء في هذه الحياة يحصل إمّا بسوء يمسّ الإنسان من الخارج أو باضطراب وقلق نفسي يحزنه، وهناك لا يمس المتّقي سوء ولا يحزنه شيء.

ص: 344

سورة الزمر (62 – 66)

اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)

« اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ »يعود إلى التأكيد على توحيد الربوبية والتوحيد في العبادة من زاوية وظيفة الرسول في مواجهة ضغوط المشركين. فيبدأ بالتأكيد على أنّ الربوبية تتبع الخالقية، فإذا كان خالق الكون هو الله تعالى - كما يعترف به الخصم وتنادي به الفطرة والمنطق السليم - فالربّ أيضاً هو الله تعالى، لأنّ الخالق هو الذي يوكل إليه أمر المخلوق، ولا معنى لإيكال الأمر إلى غيره إلّا إذا كان في الخالق ضعف، وهو مناقض لخالقيته وقدرته المطلقة التي تبدو بوضوح من الدقّة في الكون. فالله تعالى الذي هو خالق كلّ شيء، هو وليّ كلّ شيء أيضاً، وإليه يعود أمره.

و«الوكيل» فعيل بمعنى المفعول، أي الموكول والله تعالى وكيل على كلّ شيء بمعنى أنّ أمر كلّ شيء موكول إليه. وهذه الصيغة لا تعني أنّ هناك موكل أوكل الأمر إليه، بل الأمور موكولة إليه بالذات، لأنّه هو الذي خلقها.

والسرّ يكمن في معنى خلقه تعالى للكون ، فإذا قيس خلقه تعالى إلى ما يبدعه الإنسان جال في الذهن هذا التوهّم أنّ بالإمكان أن يكون الخالق والموجد لشيء غير الحافظ له والمدير لأموره، فإنّا نجد أنّ الإنسان لا يلى كلّ شؤون مبتدعاته،

ص: 345

بل لا يمكنه ذلك، فإنّها ربّما تبقى بعد موت الإنسان. ولكن الخلق والإيجاد من الله تعالى ليس بهذا المعنى، بل بمعنى تقوّم الأشياء في وجودها وكيانها بإرادته تعالى، فهي لا تستغني عن تدبيره لحظة، بل لا تنفصل عنه لحظة. وبذلك يتبيّن أنّ التدبير من شؤون الخالقية بل هو الخلق بالذات وليس تابعاً له أو متفرّعاً منه.

« لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ »، «المقاليد» جمع مقلاد، وهو معرب كليد بالفارسية، أي المفتاح و يعرب إلى إقليد أيضاً. وهذه الجملة بمنزلة التعليل للجملة السابقة، ولذلك تعقبه بدون عطف، أي أنّ مفاتيح الأمور كلّها بيده، فهو يتولى تدبير أمور كلّ شيء، والسماوات و الأرض كناية عن كلّ الكون كما أسلفنا.

« وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ». هذه نتيجة الجملة السابقة، فإذا كانت مقاليد الأمور بيده تعالى، فالذين يعرضون عن عبادته، ويدعون غيره ويرجون الخير من غيره هم الخاسرون وهم الكافرون بآيات الله حيث لم يتنبّهوا إلى مدلول الآيات التي تقودهم إلى معرفته وإلى انحصار الربوبية فيه. والجملة تدلّ على الانحصار، فلا خاسر غيرهم وذلك إذا قيست خسارتهم بالخسارات المادّية الزائلة.

« قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ »، يبدو من الآية الكريمة أنّ المشركين كانوا يضغطون بشتّى الوسائل على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يعبد أصنامهم أو يميل إليها، فأمر الله رسوله أن يردّ عليهم و «غير الله» مفعول أعبد، أي افتأمرونّي أن أعبد غیر الله، فهذا یدلّ على جهلكم بالله وبالرسول وبالإنسان. فالله هو المؤثر في الكون لا يؤثّر معه غيره، فالعبادة خاصّة به، والرسول لا يمكن أن يخالف أوامر

ص: 346

ربّه، والإنسان أشرف من أن يسجد لغير الله مهما كان شأنه، فضلاً عن أن يسجد لجماد لا يعقل ولا يقدر على شيء.

« وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ » إنّما وجّه هذا الخطاب الشديد لكي ييأس المشركون من تنازل الرسول(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ولرغبتهم وجهلهم، فهذا وحي خطير، وإنذار بليغ لا يختصّ بهذا الرسول، بل أرسل إلى جميع الرسل السابقين: « لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ». فالشرك من الرسول يستتبع حبط الأعمال، ويتبعه أعظم الخسران في الدنيا والآخرة.

و«الحبط »مرض في الدابّة يتسبّب في أنّها تأكل وتنتفخ ولكن لا تستفيد من الأكل، بل تموت. ويستعار لعمل يكون في الظاهر جليلاً وعظيماً وكبيراً، ولكنّه في الواقع ليس غير مفيد فحسب، بل هو ضارّ وموجب للهلاك، و هذا كعمل المرائي، فإنّ له ظاهراً مغرياً، ولكنّه ليس في الواقع إلّا إثماً عظيماً يستحق عليه العذاب.

والفظيع هنا أنّ العمل الذي يحبط هو عمل الرسول، و هو أعظم الأعمال، ولكنّه سيفقد حسنه وبهاءه، بل يتحوّل إلى قبيح إذا أشرك بربّه والعياذ بالله.

ويقع السؤال هنا أنّه هل يمكن أن يشرك الرسول؟ فأين العصمة؟ وإن كان مستحيلاً منه، فلماذا هذا الاهتمام بأمر مستحيل بحيث ينذر الله سبحانه بذلك كلّ رسله؟

قال بعضهم: إنّ هذا الخطاب من قبيل إيّاك أعني واسمعي يا جارة، فالخطاب متوجه إلى الأمة وإن وجّه ظاهراً إلى الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

ص: 347

وهذا بعيد جدّاً عن سياق الآية، فالخطاب هنا إنّما ورد وذكر به ليكون ردّاً على اقتراح المشركين أن يتنازل الرسول إلى رغبتهم ويعبد أصنامهم، ولا يناسب أن يكون الخطاب لغيره.

والجواب الصحيح : أنّ صدور الشرك من الرسول غير مستحيل ولكنّه غير واقع والسرّ في كونه غير واقع هو علم الرسول ولا يمكن أن يصدر الشرك من عالم، وقد مرّ توصيف المشركين بأنّهم جاهلون، والعصمة لا تقتضي استحالة صدور الشرك أو المعصية، وإلّا لم يكن معنى للتكليف.

والحاصل: أنّ العصمة ليس بمعنى عدم إمكان صدور الفعل لعدم قدرة المعصوم، بل إنّما لا يصدر لعلمه بقبح المعصية، بل لرؤيته وجه المعصية الواقعي بالعيان ومثل هذا الوحي من مقوّمات تحقق العلم للرسول، أي أنّه إنّما يعلم فظاعة الشرك بوحي من الله تعالى. وهذه الآية لا تخبر عن وحي عامّ كسائر آيات القرآن، فلعلّه وحي خاص بالرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كما أوحي إلى سائر الرسل له.

وأمّا الاهتمام بذكره مع أنّه غير واقع فلعلّه للإيذان بأهمية الموضوع، وليعلم سائر الناس أنّ الحكم إذا كان كذلك بالنسبة إلى الرسل فكيف بغيرهم؟ أو ليكون جواباً حاسماً للمشركين الذين يضغطون على رسلهم بالتنازل قليلاً لرغباتهم واحترام أصنامهم.

ويمكن أن يكون المراد ب-«الشرك» كلّ مراحله حتّى الشرك الخفي الذي لا يخلو منه المؤمنون، فالرسول لقربه لدى الله تعالى يجب أن يكون عمله خالصاً من كلّ شائبة من الشرك. ويؤيّد هذا الاحتمال تكرّر الأمر في هذه السورة بالإخلاص في الخطاب للرسول، كقوله تعالى: « «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ»

ص: 348

« بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ»، أي لا تعبد غير الله، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين في عبادتك. وفي الحديث عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: كان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عند عائشية ليلتها، فقالت يا رسول الله لم تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «يا عائشة ألا أكون عبداً شكوراً؟!» (1) و روي بوجوه ، بوجوه أخرى. والعبادة بنفسها من وجوه الشكر ، وعلى الرسول أن يشكر ربّه لما أنعم عليه من وجوه النعم، وقد قال تعالى: « إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا» (2)

ويمكن أن يكون المراد: «فاعبد واشكر» حيث وفّقك الله تعالى للعبادة، لئلّا يتوهّم الإنسان أنّ عبادته لله أمر يعود نفعه إلى الله، بل يعود إليك، فاشكر ربك على هذه النعمة والأمر بأن يكون من الشاكرين للحثّ على التواضع واستصغار الإنسان لعمله حتّى لو كان رسولاً، فيعتبر شکره کشکر سائر الخلق ممّن يشكر الله تعالى.

ص: 349


1- تفسیر نور الثقلين 3: 137 .
2- الإسراء (17): 87 .

سورة الزمز(67 – 70)

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)

« وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ »، «القدر» و «التقدير» محاسبة الشيء حجماً أو وزناً ونحو ذلك. ويستعار أيضاً لمعرفة المنزلة والمكانة و « حَقَّ قَدْرِهِ » بمنزلة المفعول المطلق المبيّن للنوع، والإضافة من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف أي ما قدروا الله قدره الحقّ. وقدره الحقّ أن لا يشبّه بخلقه، وأمّا معرفته حقّ المعرفة فلا يتيسّر للإنسان. فالمراد التنديد بشركهم وتصوّرهم أنّ الله تعالى يشبه خلقه، كما يتوهّمه بعض الموحدين أيضاً.

« وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ »، الجملة حالية، أي لم يعرفوا الله حق المعرفة والحال أن الأرض جميعاً قبضته. والقبضة مصدر بمعنى اسم المفعول أطلق عليه للمبالغة أي الأرض جميعاً مقبوضة له، أي تحت قبضته.

وقالوا: المراد بقوله «جميعاً» جميع الأرضين بناءً على أنّها كالسماوات سبع أرضين. وفي الميزان أنّ المراد جميع أجزاء الأرض بكلّ عللها ومعلولاتها، ولا يبعد.

ويمكن أن تكون الأرض بمعنى كلّ العالم السفلي أي عالم الطبيعة بناء على

ص: 350

أنّ الأرض كناية عن ذلك، كما أنّ السماء كناية عن العالم العلوي. وقد ورد في نهج البلاغة وغيره أنّ السماوات مساكن الملائكة.

والمعروف أنّ كون الأرض في قبضته تعالى والسماوات مطويّات بيمينه كناية عن السلطة والقدرة التامة، فالأرض كلّها بالنسبة إلى قدرته تعالى يوم القيامة كمن أخذ شيئاً في قبضته. وكذلك طيّ السماوات باليمين كناية عن القدرة والسلطة عليها، ويكنّى باليمين عن القدرة لأنّ الإنسان غالباً يستعمل يمينه في الأعمال الصعبة.

ورجّح في «الميزان» أن يكون هذا التعبير كناية عن انحصار السلطة والقدرة فيه تعالى قال: فهو كقوله تعالى « وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ »(1). أي باعتبار أنّ هذه الآية تدلّ على الحصر. ومثلها كثير .

وما ذكره (رحمه الله ) أقرب ممّا ذكره غيره فإنّ القبض على الشيء بتمام الكف يقتضي منع غيره من التحكم فيه فیدلّ على الانحصار. والغرض نفي كلّ تأثير في ذلك اليوم من غيره تعالى.

ولكن يبقى السؤال عن وجه التخصيص بيوم القيامة، ومن الواضح أنّ كون السماوات والأرض بقبضته تعالى لا يختصّ بتلك النشأة.

وفي الميزان أنّ السرّ في التقييد بيوم القيامة مع أنّ القدرة لا تختصّ بذلك اليوم هو ظهور تلك القدرة العامّة للجميع في ذلك اليوم، فهو نظير قوله تعالى: « لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ» (2)، مع أنّ الملك له وحده دائماً وأبداً.

ص: 351


1- الانفطار (82): 19 .
2- غافر (40): 16 .

ولكنّ الظاهر أنّ السرّ في مثل هذه الآية وآية الملك وغيرهما أنّه لا يوجد في ذلك اليوم ملك أو قدرة لأحد إلّا من يأذن الله تعالى له إذناً خاصّاً، بمعنى أنّه ليس في تلك النشأة إذن عامّ ولا اختيار لأحد، فالنظام في تلك النشأة ليس نظام الاختيار والإنس والجنّ مسيّرون مقهورون.

ويظهر ذلك بوضوح من قوله تعالى« «يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ »(1)، فإنّ التكلّم كغيره من الأفعال لا يمكن في أيّ نشأة إلّا بإذنه تعالى، إلّا أنّ الله منح الاختيار والإذن العامّ في هذه النشأة لكلّ البشر. وهناك لا يتكلّم أحد إلّا بإذن خاصّ.

ولكن يظهر من بعض التعابير الواردة في تفسير الميزان أمر آخر جدير بالتأمّل، حيث قال في موضع من تفسير الآية «انقطاع كلّ سبب دونه يوم القيامة» وفي موضع آخر «أيّ الأرض بما فيها من الأجزاء والأسباب الفعالة بعضها في بعض» وفي موضع آخر «تقطّع الأسباب الأرضية والسماوية وسقوطها».

ومعنى ذلك أنّ الذي يحصل في تلك النشأة زوال تأثير الأسباب الطبيعية، بل حتّى الغيبية والسماوية. وما يريده الله تعالى يحقّقه من دون واسطة.

وقد صرّح العلّامة (رحمه الله ) بذلك في تفسير قوله تعالى «تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ » (2)، حيث قال: إنّ المراد بعروج الملائكة والروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط، وتقطّع الأسباب، وارتفاع الروابط بينها وبين مسبّباتها والملائكة

ص: 352


1- هود (11) :105 .
2- المعارج (70): 4.

وسائط موكّلة على أمور العالم وحوادث الكون، فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها، وزيّل الله بينهم، ورجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه، رجعوا إليه، وعرجوا معارجهم.

ولكنّ القرآن الكريم يصرّح بأن الملائكة هم القائمون بالأعمال يوم الحساب، وأنّ كلّ نفس تأتي معها سائق وشهيد، وهما ملكان والملائكة هم الذين يلقون أهل النار في النار«أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ » (1)، وهم خزنة النار، ويتحدّثون مع أهل النار من أوّل ورودهم إليها وبعد ذلك، وهم يتلقّون المؤمنين في الجنّة، ويدخلون عليهم من كلّ باب بالسلام. إلى غير ذلك من المواقف.

بل لا ينتفي حتّى توسّط غير الملائكة، قال تعالى «وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ »(2) فهذا المؤذن وسيط لهذا الإعلام والروايات تدلّ على أنّه أمير المؤمنين (علیه السلام)، بل القرآن يصرّح بوجود رجال يوم القيامة ينفذون أوامر الله تعالى كما قال: « وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ» (3). مضافاً إلى أنّ نفس الجنّة والنار واسطتان للثواب والعقاب. والصحيح أنّه لا يمكن أن تسقط الوسائط بين الله وخلقه في أي نشأة من النشئات.

ويبدو من عبارته (رحمه الله ) أنّه استند في تفسيره الى قوله تعالى « وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ» وقوله « فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ»

ص: 353


1- ق (50): 24 .
2- الأعراف (7): 44 .
3- الأعراف (7): 46 .

أمّا الجملة الأولى فوردت في قوله تعالى «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ»(1). قال العلّامة في تفسير هذه الجملة: «فلم يبق تأثير لشيء دون الله».

ولكنّ الظاهر أن الجملة لا علاقة لها بالوسائط، ليكون المعنى زوالها في ذلك اليوم، بل المعنى أنّ ما كانوا يعقدون عليه الآمال من الأسباب والوسائط تقطّعت عنهم، أو تقطّعت دونهم فبقوا حيارى. والدليل على ذلك أنّ هذه الظاهرة خاصّة بالمشركين التابعين، وليس أمراً من مميّزات ذلك اليوم وتلك النشأة كما هو المدّعى.

وأمّا الجملة الثانية فقد وردت في قوله تعالى «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ »(2)، ويكفينا هنا أن ننقل ما ذكره العلّامة نفسه في تفسير الآية، ليتبيّن عدم ارتباطها بهذا الأمر.

قال (رحمه الله ) : «قطعنا الرابطة التي كانت تربطهم بشركائهم، وهي رابطة الوهم والحسبان التي يتّصلون بسببها بشركائهم، فانقطعوا عن شركائهم وانقطع شركاؤهم عنهم ، فبان أنّ عبادتهم لم تقع عليهم ولم تتعلّق بهم، لأنّهم إنّما عبدوا الشركاء وهم ليسوا بشركاء».

« سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» تنزيه لله سبحانه عما يشركون به، حيث يجعلون له أنداداً في التأثير في الكون، ومن ثمّ يعبدونهم فيشركون عقيدة وعملاً.

ص: 354


1- البقرة (2): 166 .
2- یونس (10) :28 .

« وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ » الصور: قرن الثور، كانوا ينفخون فيه قديماً لإعلان الحرب ونحوه. وقد تكرّر في القرآن الكريم التعبير بنفخ الصور عن يوم الحشر وإحياء الموتى، وبنفس المعنى ما ورد من النقر في الناقور في سورة المدّثّر (1)، كما ورد التعبير بالصيحة في سورة ق (2)، ونحو ذلك. ولعلّها كنايات عن أنّ إحياء الموتى لا يحتاج إلى شيء أكثر من إرادة إلهية سريعة كلمح بالبصر أو هو أقرب.

ولكنّ الوارد في هذه الآية نفختان فالنفخة الأولى تتسبّب في إبادة الحياة على هذا الكوكب وعلى غيره، والنفخة الثانية تحقّق الإحياء. وعليه فإبادة الحياة أيضاً لا تحتاج إلّا إلى أمر تكويني من الله تعالى فتتحقق فجأة والتعبير عنه بالصيحة والنفخة ليتناسب مع صعقة كلّ من في السماوات والأرض.

و«الصعقة» تطلق على الموت وعلى الغشية، لأنّ أصله بمعنى الصوت الشديد ومنه الصاعقة، و إنّما يطلق على الموت والغشية من باب إطلاق اسم السبب على المسبّب.

والظاهر أنّ هذه الصيحة أو النفخة تتسبّب في موت من بقي من أهل الأرض، كما يظهر من الآية أنّ أهل السماوات أيضاً يموتون بذلك، لعلّ المراد بهم الملائكة، ولعلّ هذه النفخة هي التي تهدم نظام الكون.

والاستثناء يمكن أن يكون للإشارة إلى أنّه تعالى قادر على أن لا يعمّم الهلاك من دون أن يراد وجود من لم يشملهم ذلك، كقوله تعالى «وَأَمَّا الَّذِينَ

ص: 355


1- راجع: المدثر (74): 8 .
2- راجع: ق (50): 42 .

سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ »(1)، ويمكن أن يكون هناك من لا يشملهم هذا الموت العامّ واختلف في أنّهم هل هم الملائكة المقربون أو هم مع الشهداء أو الارواح؟ والله العالم.

«ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ »، أي نفخ في الصور نفخة أخرى، فكما ماتوا بنفخة أو صيحة كذلك قاموا أحياء بنفخة أخرى.

والأمر أسرع من ذلك، قال تعالى « وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »(2)، بل لا فاصل بين ارادته تعالى وتحقق المراد.

ولعلّ التعبير بالنفخ للإشارة إلى توجيه الأمر الإلهي إلى الأجساد البالية ليقوموا. وتوجيه الأمر إليها كتوجيه الأمر بكلمة «كن» إلى ما لم يوجد بعد كما قال تعالى «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(3) .

و «قيام» جمع قائم، والظاهر أنّ المراد بكونهم قائمين ينظرون تصوير حالتهم، وهو مشهد رهيب تجد فيه البشر بمختلف قومياتهم وطوائفهم، وكلّ من عاشوا طيلة قرون متمادية قائمين ينظرون، فهم كانوا قبل لحظة موتى والآن أحياء ينظرون، أي يبصرون. ولعلّ المراد بالنظر أنّهم ينظرون مبهوتين.

ولا ينافي ذلك أنّهم ينسلون إلى ربّهم، كما في سورة يس (4)، وأنّهم يخرجون من الأجداث سراعاً كما في سورة المعارج(5) ، فإنّ ذلك يحصل في مرحلة أخرى.

ص: 356


1- هود (11) 108.
2- النحل (16): 77 .
3- يس (36) :82 .
4- راجع: يس (36) :51.
5- راجع: المعارج (70): 43.

«وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا»، «أشرقت »أي أضاءت واستنارت. والمراد بالأرض أرض المحشر لا هذه الكرة الأرضية، فإنّها تتبدّل إلى غيرها. وقد اختلفت الكلمات في معنى الجملة، والظاهر أنّها كناية عن ظهور الربّ لأهل المحشر لا يحجب جماله شيء، وذلك لأنّ الحجب ترتفع في تلك النشأة، فيدرك الإنسان كلّ الحقائق بتمام وجوده. وهذا الإدراك أقوى من الرؤية البصرية، كما قال تعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ »(1).

ولا يشبه هذا الإدراك علم في هذه النشأة إلّا علم الإنسان بنفسه، لأنّه علم حضوري، فالإنسان يدرك نفسه بكلّ وجوده لا بالرؤية ولا بالسمع ولا باللمسّ ولا بتوسّط أي حاسّة، و إنّما هو اتّحاد المدرِك والمدرَك ويوم القيامة ترتفع الحجب، فيدرك الإنسان بكلّ وجوده كلّ الحقائق. وبذلك ترتفع الفواصل الأباعد. ولو صحّ ما روي من أحاديث الرؤية، فهذا هو المقصود لا الرؤية البصرية، إذ هي مستحيلة في غير الأجسام.

وياله من تعبير تصوّر تلك الحقيقة التي لا يدرك كنهها الإنسان مهما بلغ من علم ومعرفة ومهما لطف شعوره ورقّت أحاسيسه.

وتجتمع

«وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا» لا يكاد الإنسان يشبع من التأمّل في هذه الجملة وتكرارها.

يا ترى ماذا يحدث في تلك النشأة؟ كلّ الجمال وكلّ البهاء وكلّ العظمة تتجلى في هذا الإشراق.

ص: 357


1- ق (50): 22 .

ولا يمكن أن يتصوّر الإنسان أو يتخيّل جمالاً وبهاءً فوق ذلك. ولو أدرك الإنسان هذا الجمال وأشرق قلبه بهذا النور لم يطلب شيئاً وراءه.

وما وراءه؟

وما فوقه ؟

لا مجال لتكامل وتطوّر بعد ذلك ولا تتطّلع النفس إلى جمال وعظمة وبهاء بعده. «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا».

واشوقاه إلى ذلك الافق المضيء المشرق، الذي أشرق بنور الله جلّت عظمته، وتعالى شأنه، مهما شقّ الطريق، وبعدت الشقّة، وتهيّبت الأهوال في ذلك اليوم فإنّ كلّ ذلك لا يزيد الإنسان إلى رؤية ذلك النور إلّا شوقاً ولهفة.

اللهم نوّر قلوبنا بالإيمان، وعجّل لنا الاستضاءة بنورك في هذه النشأة.

اللهمّ أحبب لقاءنا، وحبّب إلينا لقاءك.

«وَوُضِعَ الْكِتَابُ »، «الكتاب» بمعنى المكتوب والأصل فيه الجمع، فكلّ مجموعة من الألفاظ أو المعاني ونحوها كتاب. والظاهر أنّ المراد به هنا ما يحكي عن كلّ ما عمله الإنسان وملابساته وظروفه لتكون المحاكمة عادلة حتّى في نظره أُنظر إلى أيّ مدى يكرّم الله الإنسان وحرّيته وهذا الكتاب هو الذي يضيق الخناق على المجرمين، قال تعالى: «وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»(1)، فيبدو من الآيات أنّ الكتاب لا تعطي تسجيلاً أو صورة، بل هو شيء تظهر فيه نفس الأعمال بوضوح. قال تعالى: «هَذَا كِتَابُنَا

ص: 358


1- الكهف (18): 49 .

يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ »(1).

«وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ»، أمّا النبيون فلكي يسألوا عن تبليغهم، قال تعالى: «فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ»(2). وأمّا الشهداء فلكي يشهدوا على ما رأوا.

والقرآن الكريم يذكر شهداء على الإنسان غير البشر:

منها :الأرض: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا »(3).

ومنها: أعضاء الإنسان، قال تعالى: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.»(4) وقال: «حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ »(5).

ومنها: الملائكة: «وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ »(6)، وقال تعالى: «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ »(7)، وقال أيضاً: «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ.»(8).

وهناك أقرب الشهود من المشهود عليه وهو نفس الأعمال، وهناك أقوى

ص: 359


1- الجانية (45): 29 .
2- الأعراف (7): 6 .
3- الزلزلة (99): 4 .
4- یس (36) :65.
5- فصلت (41): 20 -21 .
6- ق .(50) :21 .
7- ق (50) :18 .
8- الزخرف (43): 80 .

الشهود وهو الله سبحانه: «وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا»(1) .وهكذا تكون المحاكمة العادلة.

هذا إذا أريد بالشهداء الذين شهدوا الحوادث ويمكن أن يكون المراد من تتمّ بهم الحجّة على الخلق، فيشمل الأنبياء والأئمة والصالحين وم-ن قتل ف-ي سبيل الله. وشهادتهم بمعنى أنّ حضورهم يقطع كلّ عذر ، فلا يمكن للإنسان أن يعتذر بعدم إمكان الحفاظ على الدين وسائر ما نجده أو نسمعه من المعتدّين على حقوق الناس أو المتهاونين بأمر دينهم من أعذار.

«وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ »، «القضاء بينهم بالحقّ » يتمّ بظهور الحقّ عياناً للجميع، فيرتفع الاختلاف، وهم لا يظلمون، بل يصل كلّ إنسان إلى حقه، ويوضع في موضعه، وينال مرتبته التي تليق به.

«وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ »، أي أعطي كلّ إنسان عمله كاملاً لا ينقص منه شيء ولا يجازى بجزاء وضعي، بل هو نفس عمله يستوفيه بوجهه الواقعي من دون تزيين، فالأعمال في هذه النشأة مزيّنة، وهناك يسقط المكياج وتبدو الأعمال على طبيعتها الأصلية، كما قال تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » (2)، والإنسان يفرّ من عمله إذا رآه بوجهه الحقيقي، كما قال تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا »(3).

ونظيره في هذه النشأة محكمة الوجدان والضمير الحيّ، وهو الذي يعبّر عنه

ص: 360


1- النساء (4): 79 .
2- الزلزلة :(99) :7 -8 .
3- آل عمران (3) :30 .

القرآن بالنفس اللوامة: «لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ »(1).

«وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ » ولا يعلم مقاييس الأعمال إلّا الله تعالى. والمحاسبة دقيقة لا يمكن أن تترك شيئاً من مقومات العمل، فربّما يكون عمل في ظرف خاص وحالة نفسية خاصّة له قيمة خاصّة، فكلّ ذلك يدخل في الحساب، بل حتّى ما لا ينتبّه له الإنسان في الدنيا من الدواعي الخفية تدخل أيضاً.

والتعبير بكونه تعالى «أعلم» يمكن أن لا يكون من باب التفضيل، كما هو كذلك في سائر الموارد المشابهة، ويمكن أن يكون بالقياس إلى الإنسان نفسه وهو عالم بنفسه، كما قال تعالى: «بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ »(2)، ولكن ربّما يكون في المقام ما لا ينتبّه إليه الإنسان أو يخدع نفسه فيه، والله تعالى أعلم بها منه، لأنّه أقرب إليه من حبل الوريد.

ص: 361


1- القيامة (75): 1-2 .
2- القيامة (75): 14 .

سورة الزمر( 71 – 72)

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)

« وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا » بعد أن أتمّ تصوير مشهد المحكمة العادلة بأحسن تصوير تحوّل إلى تنفيذ الأحكام، وابتدأ ببيان حكم المجرمين الذين حكم عليهم بدخول النار و«جهنّم» اسم لتلك النار العظيمة والتعبير یدلّ على أنّ المساقون هنا هم المكذبون المعاندون، فالآيات تهتم ببيان حالهم حيث كانوا هم المخاطبين في معظم هذه السورة.

و«السوق» هو الحثّ على السير. وقيل: إنّه الحثّ بزجر وإهانة، ولم يثبت الاختصاص. و«الزمر» جمع زمرة أي جماعة، وقيل: الجماعة القليلة، وقيل: الجماعات بعضها تلو بعض، ولم يثبت الاختصاص أيضاً. والمعنى: أنّهم يساقون في جماعات مختلفة. ولعلّ الوجه في تقسيمهم إلى جماعات اختلاف مواضعهم في الكفر والعناد واختلاف جرائمهم.

« حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا »وقال لهم خزنتها يظهر أنّها كالسجن أبوابها موصدة لا تفتح إلّا بأمر ، ويؤمر به حين مجيئهم. وفي التعبير إشارة إلى مفاجأتهم بفتح أبواب العذاب بمجرّد وصولهم إلى جهنّم. ويستقبلهم خزنة جهنم، وهم من الملائكة، الموكلون بها عبّر عنهم بالخزنة تشبيهاً لهم بخزنة الأموال. ويسألونهم سؤال تقرير، وهو ما يلقى لأخذ الإقرار:

ص: 362

« أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا» . يقال: إنّ هذا السؤال لمزيد من التعذيب والتنكيل. ويمكن أن يكون لأخذ الاعتراف منهم مرّة أخرى وفي آخر منزل قبل دخول النار لتتمّ الحجة، ويكون تنفيذ حكم المحكمة أيضاً مصحوباً بقبول من المجرم وتسليم باستحقاقه للعذاب.

ومن جهة أخرى يتبيّن من الآية أنّ موضوعها هم الذين تمّت عليهم الحجة بإرسال الرسول إليهم، وكون الرسول منهم، وكونه مبعوثاً من بينهم، ويتلو عليهم آيات الله وينذرهم لقاء يوم القيامة، أي لقاءهم ربّهم في ذلك اليوم. ولعلّ المراد يكون الرسول منهم كونه بشراً مثلهم فيكون في ذلك ردّ على تصورهم عدم إمكان الاحتجاج برسالة البشر.

ويبعد أن يكون المراد كونه من قومهم إذ يبتني هذا الاحتمال على كون الآية خاصّة بمناوئي الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من مشركي مکّة، مع أنّ الآية عامّة تشمل كلّ من تمّت عليه الحجّة من الكفّار، وإن لم يكونوا في بلد الرسول، بل في عهده أيضاً، فيصدق على أهل زماننا أنّهم أتتهم رسل من جنسهم، وتلوا عليهم آيات ربّهم بحيث بلغتهم بالواسطة.

« قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ». وهكذا يبادر المحكوم عليهم بالاعتراف بلى قد جاءنا الرسول منّا وأنذرنا ولم يبق لنا أيّ عذر إلّا أن كلمة العذاب حقّت علينا. ولم يذكر الضمير، بل ذكر الكافرين إيذاناً بأنّهم إنّما استحقّوا العذاب بكفرهم. والمراد ب-«الكلمة» ما حذّر به الله سبحانه من وقوع العذاب على الكافرين والجواب في الواقع هو: «ولكن كفرنا بالرسالة ولم نصدق الإنذار » والنتيجة أنّ كلمة العذاب حقّت أي ثبتت علينا بكفرنا.

ص: 363

« قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا» وهذا جواب الخزنة أو غيرهم ممّن يتلو عليهم الحكم النهائي، وهو دخول جهنّم من أبواب متفرقة حسب اختلاف درجاتهم، ثمّ الخلود فيها.

« فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.» وهذه الجملة تذكرهم بأنّ السبب في كفر كم كان هو التكبر والاستعلاء على الحقّ.

ص: 364

سورة الزمر(73 – 75)

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)

« وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا»، «السوق» بذاته لا يقتضي الإهانة، فلا مانع من التعبير به عن حث المتّقين للذهاب إلى الجنّة أو هدايتهم إليها، ويبدو من الآيات شمولية السوق في يوم الحشر سواء كان إلى الجنّة أم إلى النار، قال تعالى: «وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ»(1). ولو صحّ ما قيل من أنّ السوق خاص بموارد الزجر والإهانة، فيمكن توجيهه هنا أنّه من باب المشاكلة للسوق في الفريق الأول.

وقيل : إنّ المراد سوق مراكبهم. وهو بعيد عن السياق.

والتعبير ب-«التقوى» يفيد أنّ المقابل للكافرين هنا ليس كلّ المؤمنين، بل المتّقين منهم، وهم أيضاً جماعات تختلف مراتبهم اختلافاً فاحشاً.

« حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا » لم يقل : فتحت أبوابها، «بحذف الواو» كما قال في أصحاب النار، قيل: لأنّ الأبواب كانت مفتوحة قبل أن يأتوا احتراماً لهم. ولو صحّ ذلك لكان المناسب أن يقال: حتّى إذا فتحت أبوابها وجاؤوها.

ويمكن أن يكون الوجه فيه حذف جملة الجزاء، ولذلك عطف قول الخزنة

ص: 365


1- ق (50): 21 .

أيضاً على الشرط. ولعلّ حذفها للإشارة إلى أنّ الجزاء أكبر من أن يتصوّر أو يذكر بلفظ.

ويحتمل أن يكون لفتح باب الجنّة شرط آخر لا بدّ من تحقّقه فلا يكفي الإيمان والعمل الصالح. وهذا الشرط هو ما وردت الإشارة إليه في سورة الأعراف حيث قال تعالى:

«وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ *وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ *أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» (1).

وأصحاب الأعراف هم محمّد وآل محمّد صلّى الله عليهم.

روى الكليني في الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «جاء ابن الكواء إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال يا أمير المؤمنين ! «وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ »؟ فقال: نحن على الأعراف، نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الذي لا يعرف الله عزّ وجلّ إلّا بسبيل معرفتنا، ونحن الأعراف يعرّفنا الله عزّ وجلّ يوم القيامة على الصراط، فلا يدخل الجنة إلّا من عرِفَنا وعرفناه، ولا يدخل النار إلّا من أنكرنا وأنكرناه. إنّ الله تبارك وتعالى لو شاء لعرّف العباد نفسه، ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله والوجه الذي يؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضّل علينا غيرنا، فإنّهم عن الصراط لناكبون، فلا سواء من اعتصم الناس به ولا سواء حيث ذهب الناس إلى عيون كدرة يفرغ بعضها في بعض، وذهب من ذهب إلينا إلى

ص: 366


1- الأعراف (7): 46 – 49.

عيون صافية تجري بأمر ربّها، لا نفاد لها ولا انقطاع». (1) ورواه مختصراً في «البحار» عن أبي القاسم الحسكاني من العامّة، عن الأصبغ بن نباتة(2).

وروى الصفار في« بصائر الدرجات » بسند معتبر عن بريد العجلي، قال سئلت أبا جعفر (علیه السلام) عن قول الله: «وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ »، قال أنزلت في هذه الأمة، والرجال هم الأئمة من آل محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قلت: فالأعراف؟ قال: «صراط بين الجنّة والنار، فمن شفع له الأئمة منّا في المؤمنين المذنبين نجا ومن لم يشفعوا له هوى». (3)

والروايات في ذلك كثيرة. وعليه فمعنى الآية - والله العالم - إذا جاءوها وأذن أصحاب الأعراف ففتحت الأبواب.

ولا ينافي ذلك كون الجزاء محذوفاً ليذهب فيه السامع أيّ مذهب.

«وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ »، يمكن أن يكون هذا ترحيباً لفظياً احتراماً واكراماً لهم، ويمكن أن يكون «القول» بمعنى فعل ما يستوجب احاطتهم بالسلام الكامل من كلّ جهة، كما قال تعالى: «وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *سَلَامٌ عَلَيْكُمْ »(4)، فلعلّ المعنى - والله العالم - أنّ السلامة عليهم من كلّ باب ومن كلّ جهة.

«طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ »، «الفاء» یدلّ على أنّ الدخول والخلود في الجنّة جزاء للطيبة الموجودة فيهم، فلا يدخل الجنّة إلّا من كان طّيباً. و«الطيّب» هو الطهارة والنزاهة، ويقابله الخبث وهو في الأمور المعنوية ما يمجّه العقل والفطرة،

ص: 367


1- الكافى 1: 184.
2- بحار الأنوار 8: 332 .
3- بصائر الدرجات: 516 .
4- الرعد (13): 23- 24 .

ويستقبحه الشرع من الصفات النفسية والأفعال، فمن يجد في نفسه أي خبث معنوي فليبذل جهده في إزالتها ليستحق دخول الجنّة والخلود فيها.

وقيل «طِبْتُمْ » دعاء لهم بأن يعيشوا هناك بالطيب. وقيل: إنّه تعليل للسلام. وعليهما لا يناسب الإتيان بالفاء.

«وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ» ، يحمد المتقّون ربّهم حيث صدقهم الوعد وأدخلهم الجنّة، والوعد قد تكرّر في الكتب السماوية. ويبدو من الآية أنّ الحمد أوّل جملة يقولونها في الجنّة، فإذا شفعناه بقوله تعالى: «وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ »(1) ، تبيّن أنّ الحمد هو شغلهم الشاغل في الجنّة.

«وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ»، المراد ب-«الأرض» ما استقرّوا عليه ولا شك أنّه غير هذه الأرض. واختلف المفسّرون في المراد بإيراث الأرض، فقيل: إنّه تشبيه بحال الوارث حيث يتصرف في الإرث كيف يشاء.

وقيل: إنّ الإرث يصدق على كلّ ما يحصل عليه الإنسان من دون تعب والمتّقون وإن تعبوا ولكنّ الجزاء أكبر من عملهم بكثير.

وقيل: إنّ لكلّ أحد مكاناً في الجنّة، فإن لم يعمل ما يستحقّه أعطي لغيره، فهو وارثه

ويمكن أن يكون المراد أنّهم هم الباقون على قيد الحياة يتمتعّون من نعم الله دون غيرهم، حيث إنّ أهل النار يذوقون الموت وإن لم يموتوا وهم كانوا متمتّعين في الحياة الدنيا، وكلّ من يخلف قوماً على النعم فهو الوارث، فالتعبير مبني على أنّه لولا هذا الاختلاف في نتيجة الأعمال لكان الكلّ متنعّماً على وتيرة

ص: 368


1- يونس (10) :10 .

واحدة كما كانوا في الدنيا، ولكان ذلك ينغص الحياة على أهل التقوى، كما أنّه ممّا يحزّ في النفس بشدة ما نجده في هذه النشأة من التساوي بين الصالحين والفاسدين، بل بالعكس نجد الصالحين مقهورين ومظلومين، والفاسدون هم الذين يتولّون الزعامات ويتنعّمون بأحلى النعم الظاهرية، فالذي يحمد المتّقون عليه ربّهم هنا هو أنّه أورثهم الأرض، ولم يشركهم في ذلك الكافرين والظالمين، وحقاًّ إنّه لنعمة كبرى تقرّ بها أعين أولياء الله و يشفي الله بها صدورهم وينتقم بها ممن ظلمهم.

« نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ»، «التبوّء» التمكن من المكان. وأشكل التفسير أيضاً على بعض المفسّرين من جهة استلزام اللفظ لعدم تقيّد أهل الجنّة بموضعهم ولا بدرجتهم، إذ تدلّ الآية على أنّ لكلّ أحد الحرّية المطلقة في الاستقرار في أيّ مكان شاء، مع أنّ الجنّة درجات ومراتب، فقال بعضهم: إنّ المراد أنّ لكلّ منهم الحرّية المطلقة في جنّته، ولا يتجاوز إلى جنّة غيره ولكلّ منهم من المكان ما يصدق عليه أنّه يتبوّأ من الجنّة حيث يشاء، أي أنّ السعة بمقدار ما يشاء.

ولكن لا يبعد أن تكون الجنّة مكاناً عامّاً واسعاً، يجتمع فيه المتّقون، فلا تزاحم هناك بينهم، وأمّا الدرجات والمراتب فلعلّها ليست في الجنّة وأنحاء النعم، و إنّما هي في أمور أخرى معنوية هي أهمّ من النعيم المادي.

« فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ » . الظاهر أنّه تتمّة كلام أهل الجنّة، إذ يبعد دخول «الفاء» على تعقيب كلامهم بكلام من الله سبحانه وهذا أيضاً من دواعي سرور أهل الجنّة أنّهم يشعرون بأنّ النعيم إنّما استحقّوها لعملهم، وإن كانت النعمة أضعافاً مضاعفة بفضل الله سبحانه، إلّا أنّه لا يستحقّها غير العاملين.

ص: 369

والتنبيه على ذلك في الآية ضروري لحثّ الناس على العمل في سبيل الله، وترك التكاسل والاعتماد على الأماني الكاذبة، كما حكاه الله تعالى عن اليهود والنصارى في هذه الآيات: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ»(1) : «وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ:»(2) «وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»(3) وغيرها من الآيات الكريمة، ونحن نجد اليوم أن المسيحيين يرتكبون أكبر الآثام دون خوف من الله حتّى الذين يعتقدون منهم بالآخرة، لأنّهم يرون أنّ المسيح (علیه السلام) بعثه الله فداءً لهم، فقتل حتّى يغفر الله لهم كلّ ما يفعلون من آثام تباً لهذا الاعتقاد الفاسد

« وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ» ، الآية ترسم مشهد الانتهاء من الحساب ووصول كلّ أحد إلى موضعه المخصّص له، فيخاطب الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو كلّ من يقرأ القرآن أو يسمعه أنّك ترى الملائكة وقد أحدقوا وأحاطوا بالعرش

وقد مرّ مراراً أنّ العرش كناية عن السلطة والحاكمية، والجهة التي تصدر الأوامر. وهو تعبير شائع. فالمراد - والله العالم - أنّهم ينتظرون صدور الأوامر لتنفيذها وهذا دأبهم دائماً إلّا أنّ الذي يحدث يومذاك أنّ الإنسان يجد هذا المشهد العظيم، والملائكة لا يحصي عددهم إلّا الله تعالى، وهم ينتظرون الأوامر الصادرة ينفذونها. و قد تبيّن أنّ الرؤية قد لا تكون بمعنى الإبصار بل

ص: 370


1- المائده (5): 18 .
2- البقرة (2) :80 .
3- البقرة (2) :111 .

يمكن أن يكون بمعنى تبيّن الحقائق على ما هي عليها بوجه آخر.

« يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» و «الباء» في « بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» للمصاحبة، أي يسبّحون ربّهم مصاحباً لحمده، فهم ينزّهونه عن كلّ ما لا يليق به ويثنون عليه بكلّ صفاته الحسنى.

« وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» لا يمكن أن يعود الضمير إلى الملائكة - كما توهّمه بعضهم - إذ لا اختلاف بينهم ولا اعتداء، وكلّ منهم في موضعه الحقّ دائماً، بل الضمير يعود إلى الناس خاصّة أو إلى الجنّ والإنس. وهذه الجملة وإن سبقت في آية سابقة إلّا أنّ الغرض هناك ترسيم مشهد المحاسبة، وأنّ القضاء والمحاكمة عدل مطلق وأنّه لا ظلم اليوم، والغرض هنا ترسيم مشهد الانتهاء، ووصول كلّ مكلّف إلى غايته ووضعه في موضعه الحق.

« وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ »، وهكذا ينتهي المشهد الرائع بقول: « الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ » وهذه كلمة الكلّ، ولذلك أتى بالقول مبنياً للمجهول، فليس له قائل خاص، وليست هي الكلمة اللفظية فحسب، بل يتجلّى هذا المعنى للجميع ويعرفه الجميع، ويعترف به الجميع، وهو أنّ كلّ ثناء من كلّ أحد إنّما هو لله رب العالمين الذي خلقهم وربّاهم وأوصلهم إلى الغاية التي كتبها لهم. ونحن نقول أيضاً دائماً: الحمد لله رب العالمين.

ص: 371

ص: 372

تفسير سورة غافر

اشارة

ص: 373

ص: 374

سورة غافر(1 – 3)

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)

السورة من السور المكية. وكذلك سائر الحواميم كما سمّيت بذلك، وسمّيت أيضاً ب«آل حم »وب«ذوات حم»، لأنّها تبدأ ب- «حم». وهي سبع سور أولها في ترتيب المصحف هذه السورة، وهي تتعرّض كسائر السور المكية لأصول العقيدة.

وتسمى هذه ب«سورة غافر » لذكر هذه الصفة في أولها، وب«سورة المؤمن» أيضاً لأنّها تمتاز بذكر قصة مؤمن آل فرعون فيها، ونقل مقتطفات من کلامه و شرح موضعه القويّ في الإيمان والعقيدة بالرغم من احتفاظه بأواصر العلاقة بقومه.

ولعلّ الغرض من ذكر قصّته وكلامه ترغيب أكابر المؤمنين ممّن لهم صلة بالكفّار ويمكنهم حماية الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بذلك نظير أبي طالب (علیه السلام) في ذلك الظرف العصيب في مکّة على الاقتداء به، ولذلك ورد في روايات أهل البيت (علیهم السلام) أنّ

ص: 375

مثل أبي طالب كمثل مؤمن آل فرعون.

« حم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ»، «حم» من الحروف المقطّعة. وقد مرّ الكلام فيها في تفسير سورة يس كما مرّ في تفسير سورة الزمر بيان إعراب قوله تعالى «تنزيل الكتاب» والسرّ في توصيفه تعالى بالعزيز.

ويمكن أن يكون العليم هنا بمنزلة الحكيم هناك، و إنّما استبدل به تفنّناً كما قيل، وقلنا هناك أنّ اختيار صفة الحكيم يناسب الردّ على الأسئلة التي تحاك حول الكتاب من السبب في انتخاب الرسول والزمان والمكان، واللغة، وغير ذلك، فإنّ الجواب عن كلّ ذلك واحد وهو أنّ ذلك مقتضى حكمته تعالى ولا يعرف وجه الحكمة فيه إلّا هو. ولعلّ اختيار العليم هنا باعتبار أنّه يعلم ما يحتاج إليه الإنسان للوصول إلى الغاية التي خلق من أجلها فينزل الكتاب على هذا الأساس.

وفي «الميزان» أنّ السورة لما كانت تتكلّم حول جحد الجاحدين ومجادلتهم في آيات الله بالباطل، ففي الوصفين إشارة إلى أنّ هذا الكتاب النازل عليهم تنزيل ممّن هو عزيز على الإطلاق لا يغلبه غالب حتّى يخاف على ما نزله من استعلائهم واستكبارهم بحسب أوهامهم، عليم على الإطلاق لا يدخل علمه جهل وضلال فلا يقاوم جدالهم بالباطل ما نزله من الحقّ وبينه بحججه الباهرة.

والصحيح أنّ الوجه لا يتحدّد في هذا أو ذاك. وما يقال إنّما هو وجه من وجوه الحكمة في انتخاب هذا الوصف وكذلك ما يقال في غيره من موارد وجه الحكمة في هذا الكتاب العظيم، فلا أحد يمكنه أن يحيط بكلّ أسراره والحكم الكامنة فيه.

ص: 376

« غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ » أربع صفات من صفات الله الحسنى، لعلّ الوجه في ذكرها تناسبها لما تشتمل عليه السورة كما قيل، ويمكن أن يكون الوجه هو ذكر مقدّمة مناسبة للتنديد بما يعمله المشركون من عبادتهم لغير الله تعالى، فيكون ذكر هذه الصفات كالمقدمة للتعقيب بقوله تعالى لا إله إلّا هو، وهي الجملة الفاصلة بين الرسالة التي جاء بها الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ومعتقدات المشركين.

وذكر هذه الصفات يجعل الإنسان بين الخوف والرجاء من ربّه، ويحقق الداعي في نفسه لعبادته وحده، ومن جهة أخرى يفيد معرفة المعبود نوعاً ما ليكون العابد والمتوسّل إلى ربّه على بصيرة من أمره، فيعلم أنّ معبوده يغفر الذنب فلا يتمادى في البعد عنه إذا أذنب والإنسان لا يخلو من ذنب، ويعلم أيضاً أنّه يقبل التوبة فيعود إليه كلّما بعد عنه لانجذابه إلى تيّارات أخرى، ويعلم أيضاً أنّه شديد العقاب فلا يستهين بأوامره ونواهيه، وأنّه ذو الطول ونعمه مستمرّة عليه عصى أم أطاع ، فلا يتصوّر أنّ استمرار النعمة دليل على رضا ربّه بعمله كما ظنّ المشركون.

وهذا بخلاف من يعبد إلهاً لا علم له ولا حكمة، ولا يمكنه التعبير عن ما يرضيه وما يسخطه، فإنّ العابد والمتوسل إلى مثل هذه الآلهة المزعومة يبقى حائراً في تصرّفه تجاهها.

ولعلّ الوجه في العطف بين الوصفين غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ دون غيرهما هو أنّهما معاً يشكلان جهة واحدة من أوصافه تعالى، وهي تعامله مع المذنبين. وفي الجمع بينهما تنبيه على أنّه قد يغفر الذنوب حتّى بدون توبة. والغفران يعمّ

ص: 377

الدنيا والآخرة فربّما يغفر الله الذنب في الدنيا فلا يتعقّبه ما يستحقّه من العذاب، كما قال تعالى: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ»(1).

وقد أُضيف «غافر» إلى الذنب بقول مطلق فهو يغفر كلّ ذنب، إلّا أنّه أهمل موجبات الغفران فلعلّ من الذنوب ما يغفرها لعمل يعمله الإنسان حتّى لو لم يكن متقرباً به إليه، ومنها ما يغفره بشفاعة شافع، ومنها ما لا يغفر إلّا بالتوبة كالشرك.

والتوب يمكن أن يكون مصدراً، ويمكن أن يكون جمعاً. وهذا أيضاً عامّ. ويظهر من قوله تعالى « إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا» (2)، أنّ التوبة تقبل في جميع الذنوب من دون استثناء. ولكن ذلك لا ينافي اشتراط القبول بأمور، فالذنب إذا تعلّق بأموال الناس أو حقوقهم لا تصحّ التوبة منه إلّا بأدائها أو استرضائهم مع الإمكان، وإذا تعلّق بما يترتب عليه قضاء أو كفّارة أو نحوهما فلا تتمّ التوبة إلّا به مع الإمكان.

وللتوبة مقومات مذكورة في الفقه وحقيقتها الندم وهو أمر قلبي ولا يتمّ ذلك إلّا بترك الذنب، فلا تصحّ التوبة من دون إقلاع عنه. وفي الحديث أنّ من يتوب وهو مستمرّ على ذنبه فهو مستهزئ وليس تائباً (3). ويعتبر فيها أو في ترتّب الأثر عليها العزم على ترك العود إليها، ويعتبر - على رأي - إصلاح ما أفسده مهما أمكن ، واعتبر بعضهم فيه أن يتوب لفظاً بالاستغفار ونحوه ولا يكتفي بالندم القلبي ولم يعتبره المحققون. ولكن لا شكّ أنّه لا يكفي الاستغفار اللفظي وحده.

ص: 378


1- الشوري (42): 30 .
2- الزمر (39): 53 .
3- عن أبي جعفر (علیه السلام): « التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ». الوسائل (16: 74 )

وهناك روايات اعتبر فيها أمور أخرى في التوبة منها ما في «نهج البلاغة»: قال (علیه السلام) لقائل قَالَ بحَضرَته أسْتَغْفِرُ الله: «تَكِلَتْكَ أُمُّكَ، أَتَدْرِي مَا الاِسْتِغْفَارُ، الاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ العِليِّينَ، وَهُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى، وَالثَّانِي الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إليه أبداً، وَالثَّالِثُ أنْ تُؤَدِّيَ إلى المُخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حتّى تَلْقَى الله أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ، وَالرَّابِعُ أنْ تَعْمِدَ إلى كلّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا، وَالْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إلى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالأَحْزَانِ حتّى تُلْصِقَ الْجِلْدَ بِالْعَظمِ وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمُ جَدِيدٌ، وَالسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الجِسْم أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلَاوَةَ الْمُعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ الله »(1).

ولكنّ الظاهر أنّ الأخيرين من شروط الكمال. ومعنى ذلك أنّ الإنسان إذا اكتفى بأن يغفر له الذنب ولا يعاقب عليه فلا حاجة إلى مثل هذه الأمور، وأمّا إذا أهمّه ما لحقه من الخسارة المعنوية بذنبه، وأراد أن يعود إلى موضع يمكنه أن يرقى في مدارج الكمال، ويحصل على القرب المعنوي من ربّه قدر المستطاع فلا يكفيه الندم أو الاستغفار باللفظ، بل لا بدّ من مراعاة كلّ ما ورد من شروط الكمال.

ثمّ إنّ التوبة ليست دائماً عن ذنب وإثم بالمعنى المعروف، فإنّ الأنبياء والأولياء يتوبون أكثر من غيرهم، ولا يتوبون عن ذنب، بل توبتهم هو الرجوع إلى الله تعالى بعد أيّ توجّه إلى غيره. وربّما يعدّ بعض الأمور ذنباً للمقرّبين وهو لغيرهم ليس ذنباً، بل ربّما يعدّ من الحسنات، كما هو الحال في عباداتنا، فإنّ هذه الصلاة بالنسبة لنا حسنة، ولو فرض أنّ المعصوم مع ما أنعم الله عليه يصلّي بمثل

ص: 379


1- نهج البلاغة 550 - 551 .

هذه الصلاة لاعتبر ذلك ذنباً له.

وبعد توصيفه تعالى بالمغفرة والتوبة ممّا يبعث الأمل والرجاء في نفوس العباد المذنبين اتبعه بكونه شديد العقاب، لئلّا يغترّوا بذلك، وليعلموا أنّ الذنب له تبعاته. والعقاب ما يأتي في عقب الشيء أي بعده، فيشمل كلّ جزاء حتّى الثواب، ولكنّه اختصّ في الاستعمال بالعذاب، ومثله العقوبة والمعاقبة.

وقد أكّد في القرآن الكريم على أنّ الله تعالى شديد العقاب، ولا يختصّ ذلك بعقاب الآخرة، بل عقابه في الدنيا أيضاً شديد كما قال تعالى: « كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(1) . والشدة تقابل الخفّة، وهما أمران نسبيّان. وفي معنى الشدّة احتمالان :

الأول: أن يكون المراد شدّته بالقياس إلى العقوبات التي يخترعها البشر. والوجه في ذلك واضح، فإنّ الله تعالى يعلم طبيعة الإنسان وخصائص كلّ فرد ويعلم أشد ما يؤذيه. وأمّا غيره فيعذب بما يعتبره إيذاء وربّما لا يكون بالنسبة إليه إيذاء شديدا.

وعذاب الله في الدنيا إذا كان عذاب استئصال فشدّته واضحة، لأنّه لا يبقي أحداً، وربّما لا يبقى إلّا آثاراً للاعتبار. وكذا العقوبات الفردية التي تنزل على الأفراد ليس كالعقاب البشري، فالله تعالى خسف بقارون وبداره الأرض، وأغرق فرعون وجنوده في اليمّ، ونحن نجد في حياتنا شدة عذابه تعالى.

وأمّا في الآخرة فلا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد. وقد ذكرنا مراراً أنّ النار ليس إلّا تعبيراً لتقريب ذلك العذاب العظيم، وإلّا فهي ليست كنار الدنيا،

ص: 380


1- آل عمران (3) :11 .

فإنّها تحرق الأرواح قبل الأجسام، قال تعالى: «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ *الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ »(1)، وعذاب الإنسان ربّما يقوي الروح بدلاً من تعذيبه.

والاحتمال الثاني: أن يكون المراد شدة العقاب في نفسه، أي بالقياس إلى تحمّل الإنسان، فيكون الغرض من التنبيه أن لا يغتر الإنسان برحمة الله ورأفته ولا يحدث نفسه بأنّ الله تعالى لا حاجة له إلى معاقبة المخلوق، وأنّه ليس كالإنسان يحمل حقداً فينتقم شفاءً لما في صدره من ضغينة كما نسمعه من الناس، فإنّ الله تعالى وإن كان كذلك إلّا أنّه مع ذلك شديد العقاب، أي إنّ عقابه لا يتحمّله البشر، و إنّما جعل العقاب لحكمة مع أنّ عقابه ربّما يكون ردّ فعل طبيعي، أو انعكاساً لنفس العمل، فلا ينافي الرحمة والرأفة.

والوصف الرابع ذو الطول والطول هو الفضل والعطاء والغنى والقدرة. فإن أريد به الفضل والعطاء، فالظاهر أنّه لا يطلق على كلّ نعمة، بل على النعمة المستمرّة، وهي المناسبة للتعبير بالطول، حيث إنّ هذه المادة تدلّ على كلّ ما فيه طول وامتداد، وعليه فالمراد أنّ نعمه مستمرّة على الخلق، كما ورد في بعض التفاسير.

وإن أريد به القدرة فالمناسب لهذا اللفظ القدرة المطلقة. وهذا المعنى أنسب بقوله تعالى «شَديدُ الْعِقابِ»، حيث یدلّ على أنّ له القدرة المطلقة في إنزال أشدّ العقاب على المجرمين، فتكون الآية كقوله تعالى «أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ » (2).

ص: 381


1- الهمزة (104): 6 - 7 .
2- الزخرف (43): 42.

« لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» الإله : المعبود. والمعبود بالحقّ ليس إلّا الله تعالى ولا تجوز العبادة لغيره، فليس المراد نفي تعبّد الإنسان إلّا له تعالى، بل نفي استحقاق العبادة عن غيره، وذلك لأنّ الإنسان لا يعبد إلّا لرجاء أو خوف، والمؤثر في الكون ليس إلّا الله تعالى، فالحقّ الذي لا يجوز التجاوز عنه أن لا يُخاف إلّا غضبه ولا يُرجى إلّا رحمته. فإذا عبد الإنسان غيره تعالى فقد أخطأ الطريق. وهذه الجملة كالنتيجة لما سبق كما مرّ.

« إِلَيْهِ الْمَصِيرُ » المصير: المنتهى ونهاية الخلق هي الرجوع إليه تعالى. والغرض من ذكر هذه الجملة تنبيه الإنسان بمنتهى أمره لكي لا تغرّه هذه الحياة الدنيا، وما يتمتع فيها عاجلاً، ولا يغرّنّه تأخير العقوبة على آثامه وجرائمه، فهو لا ينافي كونه شديد العقاب « إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ » (1)، وكذلك لا ييأس المؤمنون من إنزال الله العقوبة على الظالمين كما سيأتي في الآية التالية.

ص: 382


1- إبراهيم (14) : 42 .

سورة غافر (4 – 6)

مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)

« مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» الجدال : المناظرة والمخاصمة، وأصله من جدل الحبل، أي فتله وأحكمه، فكأنّ الوجه فيه أنّ كلّاً من المتجادلين يحاول تحكيم ما ارتآه، أو أنّ الكلام بينهما كالحبل بين شخصين يفتلانه ويشدّان فتله. ومهما كان فالمجادلة في الغالب تشتمل على الاعتراض وعدم القبول .

وهنا يقصد بها ذلك، فالمراد أنّه لا يشكّك في آيات الله إلّا الذين كفروا فدلالة الآيات على القدرة والحكمة واضحة لكلّ عاقل، ولا يشكّك فيها إلّا الذين يعجبهم الكفر وإنكار الربّ الذي إليه مصيرهم، لأنّ الإيمان به يمنعهم من متابعة أهوائهم بحريّة. ولا شكّ أنّ الاعتراف بالربّ وبأنّ المصير إليه يستتبع أموراً لا يعجب الذين يتّبعون الشهوات فلا غرو إن أنكره بعض الناس، بل العجب من قبول بعض آخر وعودهم إليه كلّما عادوا إلى فطرتهم فليس ذلك إلّا لقوّة ما تدعو إليه الفطرة.

والمراد بآيات الله القرآن الكريم حيث مرّ ذكره في أول السورة والجملة تدلّ على حصر المجادلين في الذين كفروا فيبدو منه القصد إلى الاستهانة به إمّا باعتبار أنّهم لا يشكلون الغالبية، فإنّ الكافرين المجادلين كانوا قلة وهم الكبراء، والغالب على عامّة الناس التبعية لهم ، فإذا تبيّنت الحجة بوضوح آمن أكثر الناس.

ص: 383

وإمّا باعتبار كفرهم بالله تعالى بمعنى أنّهم إنّما يجادلون في الكتاب والرسالة لكفرهم بالله لا لشكّهم في رسالة الرسول ومن هنا عقبه بالاستشهاد بكفر الأمم السابقة فهم بأجمعهم من سنخ واحد ويجمعهم الكفر بالله تعالى فتكون الآية كقوله تعالى «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ *وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا » (1).

ولعلّ السبب في الاستهانة بالكافرين المجادلين من حيث العدد أنّ هذا يؤثّر في قلوب الناس غالباً، فإذا رأوا قلّة الأتباع ضعفوا وخارت قواهم وعزائمهم، وعلى العكس كلّما زاد عدد الاتباع نشطوا وقويت عزائمهم. وهذه طبيعة الناس وإن كان الصحيح أن لا يهتمّ الإنسان بقلّة العدد ولا بكثرته، كما قال تعالى: «قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ» (2)، وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله »(3) ولكنّ الناس غالباً يهتمّون بذلك، فالآية المباركة توحي بأنّ المجادلة في آيات الله تعالى ليس إلّا من شأن الذين يصرّون على الكفر وهم قلّة، وسائر الناس حسب فطرتهم لا يجادلون في ذلك.

« فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ » الغرور: الخداع. والخطاب للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو لكلّ من يتلو الآية أو تتلى عليه أي إذا رأيتهم يتقلبون في البلاد، وينتقلون من بلد إلى بلد في التجارة وغيرها، لا يمنعهم مانع، ولا يزجرهم عقاب من الله، فلا يغرنّك ذلك، ولا تنخدع فتتوهّم أنّ الله تعالى تاركهم، فإنّ شدة عقابه لا يختصّ

ص: 384


1- الأنعام (6): 33 - 34 .
2- المائدة (5): 100 .
3- نهج البلاغة: 319 .

بزمان أو مكان، و إنّما الحكمة تدعو إلى الإمهال.

و هذا من الأمور التي أكّد عليها القرآن في موارد عديدة منها قوله تعالى: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ»(1).

« كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ» ، أي لا تهتمّ بتكذيبهم للرسالة فهذا دأب من كان قبلهم من الأمم. وبدأ بقوم نوح مع أنّهم أيضاً من الأحزاب - كما سيأتي - لأنّهم أوّل مجتمع بشري أرسل الله إليهم رسولاً كما يظهر بوضوح من ملاحظة الآيات التي تنقل وقائع الأنبياء ورسلهم فكأنّ سائر الأمم استلهموا منهم التعامل مع الرسل.

والأحزاب هم المذكورون في قوله تعالى «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ *وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ » (2)، فالجملة الأخيرة تعرفهم، ويعلم منها أنّ المراد بالأحزاب في القرآن هذه الأقوام، وهم الذين يذكر الله قصصهم مكرّراً. وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب (علیه السلام) والحزب الجماعة من الناس.

« وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ »، أي لم يكتفوا بتكذيب الرسل، بل همّوا بقتلهم. والأخذ :الامساك وهو هنا كناية عن القتل. ولم تكن مؤامرة القتل فرديّة، بل همّت كلّ أُمّة برسولهم ليقتلوه فكانت هذه جريمة المجتمع بأسره، ومن الطبيعي أنّ الذي يباشر القتل أو محاولة القتل بعض منهم، ولكن ينسب العمل

ص: 385


1- آل عمران (3) :178 .
2- ص (38): 12- 13 .

إلى المجتمع بأسره لرضاهم به وعدم المنع أو الاعتراض على المجرمين.

« وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ »أي حاولوا الصدّ عن سبيل الله، ومنع الناس من الإيمان بالرسول عن طريق الدعايات الكاذبة، فأتوا بكلّ ما يمكنهم من الكلام الباطل ليدحضوا، أي يزيلوا به الحق.

والباطل لا يمكن أن يغلب الحقّ إلّا أنّه يموّه على الناس، وهم لبساطتهم، أو لمتابعتهم الأهواء وعدم اهتمامهم بشؤون الدين لعدم ملاءمتها مع الشهوات يتأثّرون بالباطل، أو يصفقون له تقليداً. وهكذا كانت الأمم السالفة واللاحقة، فالبشر كلّهم على وتيرة واحدة.

« فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ » أخذهم الله تعالى بكفرهم وعدوانهم فأهلكهم واستأصلهم، فانظر كيف كان عقابه تعالى لتجد أنّه شديد العقاب. والكسرة في باء «عقاب» بدل عن الياء، أي عقابي وفي إضافته إلى الياء تأكيد على كونه عقاباً خاصاً.

« وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ »، أي ومثلما حقّت عليهم كلمة العقاب في الدنيا، حقّت عليهم أيضاً كلمة العذاب في الآخرة. وقوله تعالى « أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ » بدل من الكلمة وتفسير لها، أي ثبت عليهم هذا الحكم وهو أنّهم أصحاب النار. وعليه فالمراد بالذين كفروا مطلق الكفار من الأولين والآخرين، كما في «الميزان». (1)

وقيل: المراد بالذين كفروا كفار مکّة وعليه فمعنى الآية أنّه كما حقّت كلمة العذاب على الأقوام السابقة كذلك حقّت على كفّار مكّة. ولكن يبقى القول في

ص: 386


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 17: 306 .

قوله « أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ » فإنّه إن كان بدلاً فالمعنى أنّه كما أنّ عذاب الدنيا نزل على اولئك حقّ على هؤلاء أن يكونوا في النار، ولا وجه لهذا التشبيه وإن كان تعليلاً بتقدير اللام كما قال بعضهم، فالمعنى أنّه كما استحقّ اولئك عذاب الدنيا كذلك هؤلاء لأنّهم أصحاب النار، ولا وجه لهذا التعليل، بل استحقاقهم للعذابين معلّل بعلة واحدة وهي الكفر.

والصحيح أنّ تعميم الحكم ليشمل المشركين في عهد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إنّما يفهم من تبديل الضمير إلى الاسم الظاهر، حيث لم يقل عليهم بل قال « عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا » تنبيهاً على السبب وهو كفرهم، فيشمل كلّ كافر في كلّ عهد.

ص: 387

سورة غافر(7 – 9)

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

« الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ » أشرنا في ما سبق أنّ المؤمنين في مکّة كانوا يعانون من العزلة والقلّة، وكان ذلك يؤثّر على ضعاف النفوس منهم نفسياً. وربّما يشعر بعضهم بأنّ الصحيح هو متابعة الأكثرية كما يظنّه كثير من الناس، فالقرآن يسلّيهم ويقوي عزيمتهم أولاًّ بأنّ الذين يجادلون في آيات الله قليل، وهم رؤوس الكفر. وأمّا السواد الأعظم فيتّبعون الفطرة، وهنا يقوي عزيمتهم بوجه آخر، وهو أنّ ملائكة الله وبالأخص حملة العرش ومن حوله يشاركونكم في التسبيح والتحميد والإيمان ويستغفرون لكم.

وذكرنا غير مرّة أنّ العرش يمكن أن يكون كناية عن الحاكمية وتدبير الكون. وقد مرّ في تفسير آخر آية من سورة الزمر أن المراد بالذين حول العرش على ما يبدو - هم الملائكة الذين ينتظرون صدور الأوامر الإلهية ليتلقّوها ولينفّذوها. ولعلّ الحملة هم أقرب إلى مصدر الأوامر، وهم الواسطة بين الله تعالى وسائر الملائكة، وهم يصدرون الأوامر إليهم. والله العالم.

ومهما كان فحملة العرش هنا هم الملائكة. وأمّا يوم القيامة فقد قال الله

ص: 388

تعالى « وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ». (1)

وفي حديث صحيح في «الكافي» الشريف عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «حملة العرش – والعرش: العلم - ثمانية: أربعة منا وأربعة ممّن شاء الله». (2)

وفي حديث آخر« إذا كان يوم القيامة كان على عرش الرحمن أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين فأمّا الأربعة الذين هم من الأولين فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى (علیهم السلام) وأمّا الأربعة من الآخرين فمحمد وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم ». (3)

وفي «تفسير القمي»: «حملة العرش ثمانية: أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين. فأمّا الأربعة من الأولين فنوح وإبراهيم وموسى و عيسى، والأربعة من الآخرين محمّد وعلي والحسن والحسين (علیهم السلام) ، و معنى يحملون العرش يعني العلم». (4)

وقال الصدوق (رحمه الله ) : «وأمّا العرش الذي هو العلم فحملته أربعة من الأولين، وأربعة من الآخرين، فأمّا الأربعة من الأولين فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وأمّا الأربعة من الآخرين فمحمد وعلي والحسن والحسين صلى الله عليهم. هكذا روي بالأسانيد الصحيحة عن الأئمة (علیهم السلام) في العرش وحملته». (5)

ولعلّ معنى كونهم حملة العرش أنّهم يصدرون الأوامر يوم القيامة بإذن من الله تعالى ويؤيد ذلك آيات أخرى مفسرة بهم وروايات كثيرة في أبواب متفرقة.

ص: 389


1- الحاقة (69) :17 .
2- الكافي 1: 132.
3- الكافي 4: 585.
4- تفسير القمي في تفسير قوله تعالى: « وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ».
5- الاعتقادات: 46 .

هذا وقد مرّ الكلام في آخر سورة الزمر حول قوله تعالى «يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِم».

وربّما يستغرب ذكر الإيمان مع التسبيح والتحميد، فإنّ ذكرهما يغني عن ذكره.

قال في «الميزان» «ففي ذكر الغرش ونسبة التنزيه والتحميد والإيمان إلى الملائكة ردّ للمشركين حيث يعدّون الملائكة المقربين شركاء الله في ربوبيته وألوهيته ويتّخذونهم أرباباً آلهة يعبدونهم». (1)

وقيل : إنّ الوجه في ذلك إظهار فضيلة الإيمان وإبراز شرف أهله والإشعار بعلّة استغفارهم للمؤمنين، فإنّ المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات وأتمّها.

وقيل: الإخبار عنهم بأنّهم يسبّحون الله ويؤمنون به توطئة وتمهيد للإخبار عنهم بأنّهم يستغفرون للذين آمنوا فذلك هو المقصود من الخبر، فقدم له ما فيه تحقيق استجابة استغفارهم لصدوره ممّن دأبهم التسبيح وصفتهم الإيمان.

ولكنّ الكلام ينبغي أن يكون في أصل نسبة الإيمان إلى الملائكة، والظاهر أنّه لم يرد إلّا في هذا الموضع والملائكة رسل الله تعالى وشفعاء الخلق ووسطاء بينهم وبين الله تعالى فما هو وجه التعبير بالإيمان في حقّهم، والإيمان لا يصدق إلّا بما هو غائب؟ ثمّ ما هو وجه التنبيه على إيمانهم بالله وهذا ممّا لا يشك فيه أحد؟ ولماذا أخّر إيمانهم عن تسبيحهم في الترتيب مع أنّ السياق يقتضي العكس؟

والواقع أنّ الملائكة أيضاً يؤمنون بالله تعالى إيماناً بالغيب كإيمان البشر، فالله تعالى رفيع الدرجات بعيد المنال، حتّى للملائكة. وإلى هذا المعنى يشير قوله

ص: 390


1- الميزان في تفسير القرآن 17: 308 .

تعالى ««تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» (1)، وسيأتي إن شاء الله تعالى أنّ هذا اليوم ليس يوم القيامة كما قالوا بل هو تعبير عن مرحلة من التكامل يحتاج إليها الملائكة مع سيّدهم جبرئيل (علیه السلام) للعروج إلى الله تعالى وتلك المرحلة لو قيست بالمقاييس الدنيوية لكان معادلاً لمسير خمسين ألف سنة.

وأمّا وجه التنبيه على إيمانهم فيمكن أن يكون لدفع توهّم أنّ حملة العرش يقتربون منه تعالى قرباً جسمانياً فيرونه كما يرى بعضنا بعضاً، وهذا التوهّم ربّما يستوجبه التعبير بالعرش والحمل ونحو ذلك، فيتوهّم الإنسان الساذج أنّهم يحملون الله جلّت عظمته، فالتعبير بالإيمان يبعد هذا التوهّم لأنّه لا يعبّر به إلّا لمن يؤمن بالغيب.

ويمكن أن يكون ذكره لتنبيه المؤمنين أنّهم مثلكم يؤمنون بالله تعالى. وذلك لغرض تقوية عزائمهم، ورفع الضيق عنهم بأنّكم لستم وحدكم، فالكون كلّه معكم، وملائكة الله تعالى أيضاً معكم، بل هم يستغفرون لكم.

ويمكن أن يكون لدفع توهّم أنّ تسبيحهم وحمدهم إجباري أو تكويني فالتأكيد على إيمانهم یدلّ على أنّهم يسبّحونه تعالى لإيمانهم به.

وهذا الوجه الأخير يصحّ تعليلاً لتأخير الإيمان عن التسبيح والتحميد أيضاً.

وما ذكر من الوجوه لا يتنافى بعضها مع بعض فيمكن الجمع.

«وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا» هذا الدعاء من الملائكة يعكس لنا أهمية دور الدعاء وطلب الحاجة وتأثيره في الكون، وقد قال تعالى: ««قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ »(2)، فيتبيّن من هذه الآية أنّ للدعاء أثراً واقعياً، وليس مجرّد طقوس

ص: 391


1- المعارج (70): 4.
2- الفرقان (25): 77 .

و آداب، أو أنّه يسبب صفاء النفس واستعدادها لنزول الرحمة، فإنّ شيئاً ممّا يقال من هذا القبيل لا ينطبق على دعاء الملائكة، فهم حسب هذه الآية من وظائفهم الاستغفار للذين آمنوا. وقد ورد في سورة الشورى «وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» (1) والمراد بهم المؤمنون خاصّة.

«رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا» هذا على ما يبدو نصّ الدعاء. وابتدؤوا الدعاء بقولهم « رَبَّنَا » كما هو الوارد في سائر الأدعية المنقولة عن الأنبياء وغيرهم في القرآن الكريم، الأمر الذي یدلّ على أنّ الأفضل في كلّ دعاء هو البدء بهذا النداء. ولعلّ الوجه فيه هو أنّ الداعي يحاول استنزال الرحمة والاستعطاف على أساس أنّ إجابة الدعاء وقضاء الحاجة من مقتضيات الربوبية. ولم يرد «اللّهم» في القرآن للدعاء بهذا المعنى، إلّا في مورد واحد تعقبه النداء ب- « رَبَّنَا » أيضاً وهو قول عیسی (علیه السلام)« اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ » (2).

وأمّا قوله تعالى «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ » (3)، وقوله «قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ »(4) فليسا في مورد طلب الحاجة.

وقوله تعالى « وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا» بمعنى أنّ رحمتك وعلمك شملا كلّ شيء. والرحمة والعلم تمييز. قال الشريف الرضي (رحمه الله ) في شرح الآية:

«هذه استعارة لأنّ حقيقة السعة إنّما توصف بها الأوعية والظروف التي هي

ص: 392


1- الشورى (42) :5 .
2- المائدة (5) : 114 .
3- آل عمران (3): 26 .
4- الزمر (39): 46 .

أجسام، ولها أقدار ومساحات، والله سبحانه يتعالى عن ذلك. والمراد - والله أعلم - أنّ رحمتك وعلمك وسعا كلّ شيء، فنقل الفعل إلى الموصوف على جهة المبالغة كقولهم (طبت بهذا الأمر نفسا) (وضقت به ذرعا ) أي طابت نفسي، وضاق ذرعي، وجعل العلم موضع المعلوم، كما جاء قوله سبحانه « وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ» أي بشئ من معلومه». (1)

وذكر هذا الثناء مقدمة لاستنزال الرحمة باعتبار أنّ رحمته وسعت كلّ شيء، فلتشمل الذين آمنوا وهذا يعلّمنا التأدّب والتواضع في الدعاء، فلا نتصوّر أنّ لنا على الله حقاً، ونتوقّع أنّ يستجيب الله دعاءنا فوراً، كأنّ لنا التطوّل عليه سبحانه.

ولذلك ورد في تعقيب الصلاة «اللهم إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فرحمتك أهل أن تبلغني وتسعني لأنّها وسعت كلّ شيء » فلا يقول الداعي إنّي مؤمن، ومن حقّ المؤمن أن يغفر الله له أو يستجيب دعاءه كما يتوهّم بعض المؤمنين. بل يقول: إنّا شيء، وهذا يصدق على كلّ مخلوق، فلست تدعي أنّك إنسان فضلاً عن أنّك مؤمن، بل تقول: إنّك شيء، وهذا المقدار يكفي لشمول الرحمة، لأنّها تشمل كلّ ما يصدق عليه أنّه شيء.

ولعلّ الملائكة ذكروا سعة العلم أيضاً إيذاناً بأنّه تعالى لشمول علمه يعلم ما يصلح لكلّ شيء، ولرحمته لا يمنع شيئاً ما يصلحه، فما يطلبونه ليس إلّا شيئاً يقتضيه العلم والرحمة وهو الغفران للمؤمنين، فليس لهم دور إلّا دور الشفيع الذي يشفع بإذن الله تعالى. ولا نعلم كيفية تأثير الشفاعة ودورها فالعلم عند الله تعالى.

ص: 393


1- تلخيص البيان في مجازات القرآن: 289 .

« فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ» الفاء للتفريع، فالمعنى أنّه حيث شملت رحمتك وعلمك كلّ شيء، وهذا يقتضي الشمول للمؤمنين فاغفر لهم. والتوبة هي الرجوع إلى الله تعالى، ولا تختصّ بالمذنب، مع أنّ الإنسان لا يخلو من ذنب، فالصفة الأولى للمؤمنين هي التوبة والرجوع إلى الله تعالى، والثانية اتّباع سبيله، وهو المنهج والشرع الذي رسمه لعباده وأمرهم أن يسيروا عليه.

« وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ» «قِ» فعل أمر من الوقاية بمعنى الحفظ، أي واحفظهم من عذاب الجحيم. و «عذاب» منصوب بنزع الخافض والجحيم النار شديدة التأجّج. والداعون هم الملائكة، وهم أعلم الخلق بعظمة النار وشدة عذابه.

« رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ» «عدن» بمعنى الاستقرار والإقامة، أي جنّات استقرار وخلود. وهنا أيضاً يظهر بوضوح أنّهم يشفعون في أمر لا بدّ من تحققه، فإنّهم يذكرون أنّك وعدتهم دخول الجنّات، ولا شكّ في أنّ الله تعالى لا يخلف الميعاد. ويمكن أن يكون ذلك استئذاناً لتحقيق الشفاعة التكوينية في تحقّق ما يجب أن يتحقّق، فإنّ تحقيق ذلك موكول إليهم.

« وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» عطف على الضمير في « وَأَدْخِلْهُمْ »، أي وأدخل أيضاً من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. والمراد صلوحهم لدخول الجنة. ويظهر من السياق أنّ الآباء والأزواج والذريّات لا يستحقّون الجنّة بأنفسهم، ولا يشملهم الوعد الإلهي، إذ لو كان كذلك لم يكن وجه للإلحاق فالظاهر أنّ هؤلاء لهم ذنوب يستحقّون بها النار إلّا أنّهم مؤمنون ويصلحون لدخول الجنّة بالشفاعة، فالمطلوب في دعاء الملائكة قبولهم تكريماً للمؤمنين الذين شملهم الوعد.

ص: 394

وهذا أيضاً من موارد الشفاعة، فالله تعالى يقبل شفاعة المؤمنين في آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. ويظهر أيضاً أنّ الشفاعة - في هذا المورد على الأقلّ - ليست بالتوسط حسبما هو متعارف بيننا، و إنّما تتحقّق بضمّ صلوحهم لدخول الجنّة إلى الانتساب الذي بينهم وبين المؤمن الذي شمله الوعد. ولا بدّ من كون هؤلاء المنتمين باقين على موالاتهم لذلك المؤمن، أمّا إذا صاروا أعداء له فلا تشملهم الشفاعة.

ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة الرعد «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ »(1) وكذلك قوله تعالى في سورة الطور «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ»(2) وليس المراد مجرّد تجمّعهم كما يتوهّم، إذ لو كان كذلك لم يكن مورداً لتوهّم ورود النقص على عمل الآباء ليعقبه بقوله « وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » فهذا الذيل یدلّ على أنّ المقصود دخولهم الجنّة تكريماً للآباء.

« إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ »لعلّ التوسّل بالاسمين الشريفين من جهة أنّ المطلوب هنا غير ما وعد الله تعالى به، بل لعلّهم يشملهم الوعيد بالنار، إلّا أنّ الله تعالى لا يغلبه شيء حتّى سننه فهو العزيز الغالب يعمل وفق حكمته، فإذا اقتضت الحكمة قبول الشفاعة وقبول دعاء الملائكة فلا غرو إن دخل من يستحقّ النار جنّات عدن.

« وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ »، أي احفظهم وجنّبهم السيّئات والظاهر أنّ المراد بالسيّئات

ص: 395


1- الرعد (13): 23 .
2- الطور (52) :21 .

غير العذاب ممّا يحدث يوم القيامة ويسوء الإنسان كالفضيحة. ويبدو أنّ بعضاً من ذلك يمكن أن يصيب المؤمنين المستحقّين للجنّة أيضاً، فالملائكة يدعون ربّهم ويطلبون حفظهم ووقايتهم من ذلك، وان كانوا استحقّوها بأعمالهم. ويمكن أن يكون مرجع الضمير خصوص الآباء والأزواج والذريّات الذين استحقّوا العذاب.

وأمّا ما يقال من أنّ المراد من السيّئات المعاصي، وأنّ الظرف «يومئذ » في الجملة التالية إشارة إلى الحياة الدنيا فبعيد عن السياق.

« وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ» تتمّة دعاء الملائكة. ولكنّ التعرض لذكره هنا تنبيه للإنسان في هذه الحياة أنّ الذي يجب أن يهتمّ به هو التوقّي من السيّئات ذلك اليوم، لأنّ الرحمة الكاملة في تلك الوقاية لا بالحفظ من شرور هذه الدنيا ومصائبها.

ولكنّ الإنسان غافل عن هذا الأمر، و إنّما يهمّه التجنّب عن أقلّ شيء يمكن أن يتضرّر منه صحّياً أو مادياً في هذه الحياة، فلو كان يهتمّ بتلك الحياة بقدر ما تهمّه شؤون الدنيا لترك كثيراً ممّا يشتهيه إذا احتمل ترتّب ضرر عليه في تلك النشأة وإن لم يتيقّن.

« وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » الفوز هو الظفر بما يتمنّاه الإنسان من الخير والنجاة ممّا يتجنّبه من الشرّ، وحيث إنّ خير الدنيا وشرّها زائل، وأمدهما قصير جدّاً إذا قورنا بخير الآخرة وشرّها، فالفوز العظيم هو الظفر بخير الآخرة والنجاة من شرّها، مضافاً إلى البون الشاسع بينهما في الكيفية والمقدار.

ص: 396

سورة غافر (10 - 12)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)

« إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ »الظاهر أنّ هذا نداء من قبل الملائكة أو غيرهم بإذن الله تعالى يوم القيامة. ومعنى النداء أنّه إعلان بذلك وليس مجرّد خطاب. وفيه تأكيد بتقدير القسم، حيث یدلّ عليه اللام في قوله « لَمَقْتُ اللَّهِ » والمقت: شدة البغض. ويظهر منه أنّه ردّ فعل لما أبدوه من مقتهم لأنفسهم ذلك اليوم، إمّا بمعنى أنّ كلّ أحد منهم مقت نفسه حيث يدعون بالويل والثبور، ويندمون على ما قدموا من أعمال، أو بمعنى أنّ ضعفاءهم يمقتون المستكبرين وكذلك العكس، بل كلّ منهم يمقت الآخر كما قال تعالى: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ». (1)

والسبب واضح، فإنّ الناس في هذه الدنيا أيضاً كذلك، و إنّما الأقنعة تخفي البغضاء والشحناء، بل حتّى الذين يحبّون بعضهم بعضاً كالآباء والأمهات بالنسبة لأولادهم وبالعكس إنّما يحبّونهم لعدم الاطّلاع على ما يدور في خلدهم، وما تنطوي عليه ضمائرهم. وهذا من لطفه تعالى بعباده وجزيل نعمه حيث ستر العيوب، ولو كان كلّ أحد يعلم ما في ضمير الآخر لم يحبّ أحد أحداً. وأمّا هناك فتسقط الأقنعة، وتبلى السرائر، وتنكشف الضمائر ، فيبرز العداء، ويبغض

ص: 397


1- الزخرف (43): 67 .

كلّ منهم أحبّ أصدقائه وألصق أقربائه إلّا المتّقين حيث ينزع الله ما في قلوبهم من غلّ إخواناً على سرر متقابلين.

وهذه الحقيقة أيضاً ممّا أكّد عليها القرآن في مواضع شتّى وبصور مختلفة، كقوله تعالى: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » (1).

ومهما كان فهناك إعلان ونداء يوم القيامة بأنّ مقت الله تعالى للكافرين أكبر من المقت الذي بينهم، أو مقت كلّ واحد نفسه. وهذا من أدهى الدواهي، فإنّ الله أرحم الراحمين وهو رؤوف بعباده، فإذا اشتدّ مقته على أحد وكان أشدّ المقت فليس هناك عذاب أشدّ منه.

وهذا المقت يبرزه الله تعالى يوم القيامة بوجوه شتّى، كما قال تعالى بالنسبة لمن يكتمون الحقّ الذي علموه من الله، واشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً في سورة البقرة: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ »(2) وفي سورة آل عمران فيهم أيضاً: «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ »(3).

فالإعراض المعبّر عنه بعدم التكليم وعدم النظر من وجوه إبراز مقته تعالى.

« إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ » قيل: إنّ هذه الجملة تعليل لشدّة مقته تعالى لهم.

ص: 398


1- عبس (80): 34 - 37 .
2- البقرة (2) :174 .
3- آل عمران (3): 77 .

ولكنّه خلاف الظاهر، إذ لو كان تعليلاً لكان الأنسب أن يقول إذ كنتم تدعون لأنّ المفروض أنّ هذا إعلان ينشر يوم القيامة، وهم لا يدعون هناك إلى الإيمان. والظاهر أنّه ظرف لشدّة مقته تعالى اياهم ومعناه أنّ الله تعالى مقتهم حين دعوا إلى الإيمان فكفروا بربّهم وأتى بفعل المضارع للدلالة على استمرارهم على الكفر مع استمرار الدعوة.

« قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ » يظهر من ابتداء الكلام بدون حرف العطف أنّ هذا جواب أو ردّ فعل للنداء السابق. وهذا القول سواء كان قولاً واقعياً أو أيّ نحو من إبراز الضمائر محاولة يائسة للخروج من المأزق العظيم الذي صنعه الإنسان بعمله، فهم يستغيثون ربّهم بأن يخرجهم من النار.

وهو يحتمل أمرين:

الأمر الأول: أنّهم يطلبون الرجوع إلى الدنيا. وهذه المحاولة والتمنّي ممّا تكرّر في القرآن الكريم. منها قوله تعالى: «أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ »(1) ومنها قوله تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ »(2).

وفي هذه الآية شبه آخر بما نحن فيه، حيث إنّهم يفرعون طلب الإرجاع على انكشاف الأمر لهم فيقولون: « رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا». وهنا أيضاً يفرعون طلب الخروج على تكرّر الإماتة والإحياء ممّا يوجب إدراكهم بإمكان البعث،

ص: 399


1- الزمر (39): 58 .
2- السجدة (32): 12 .

والإحياء بعد الموت الأمر الذي كانوا ينكرونه، وتبعاً لهذا الإنكار كانوا لا يعترفون بذنب. والآن بعد تكرّر الإماتة والإحياء آمنوا بذلك، فإذا رجعوا إلى الدنيا لن يعودوا إلى الذنوب.

ويمكن أن يكون تقديم قولهم « رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ» لبيان أنّ تكرّر الإماتة والإحياء يعطينا الأمل في إمكان الإعادة إلى الحياة الدنيا لنكرّر الامتحان.

الأمر الثاني: النجاة من العذاب ولو لمدة محدودة، نظير ما يأتي في نفس هذه السورة في الآية 49 حيث يقول سبحانه: « وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ». وبناءً على هذا الاحتمال فتقديم قولهم « رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ» لتفريع الاعتراف بالذنب على ما ذكرنا في الوجه السابق، ليكون وسيلة لطلب الخروج .

والظاهر أنّ المراد بالإماتة مرّتين والإحياء مرّتين إماتتهم من الحياة الدنيا وإضفاء الحياة البرزخية عليهم، ثمّ إماتتهم من تلك الحياة وبعثهم بحياة أخرى يوم القيامة، قال تعالى: «وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»(1).

وقيل: إنّ المراد الموت قبل الحياة حيث كان الإنسان جنيناً لم تلجه الروح، ثمّ إحياؤه في الدنيا، ثمّ إماتته من الدنيا وإحياؤه يوم القيامة. وقالوا إنّ التعبير بالإماتة عن الموت قبل الحياة بمعنى إيجاده ميتاً. ولكنّه على فرض صحّة التعبير عنه بالإماتة وهو بعيد جدّاً - لا يلائم ما قصدوه في الدعاء من ذكر هذه المقدّمة، فإنّ الظاهر أنّ ذكرها مقدمة لتفريع الاعتراف بالذنب، ثمّ طلب العود إلى الحياة الدنيا أو الخروج من النار،

ص: 400


1- المؤمنون (23): 100.

والاعتراف بالذنب إنّما يترتب على ما يشعر به الإنسان من توارد الإماتة والإحياء مرّتين بعد حياته في الدنيا، وأمّا الموت الأصلي أي حالة ما قبل ولوج الروح فلا دخل له في ذلك.

ومن هنا يتبيّن أنّ هذه الآية لا تقاس بقوله تعالى في سورة البقرة: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ »(1) ، حيث يقصد بذلك بيان آياته تعالى وعموم رحمته ونعمته.

ثمّ إنّ تنكير الخروج والسبيل یدلّ على غاية الاستئصال واستبعاد الخروج، فهم يتمنّون أيّ سبيل لأيّ كيفية من الخروج مهما استلزم من فداء وتضحية، كما قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2).

« ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا» الظاهر أنّ قوله «ذلكم» إشارة إلى الحالة التي أصابتهم حيث يتمنّون الخروج ولا خروج، فالخطاب يؤنّبهم بأنّ السبب شرككم، واستهواؤكم للشرك بحيث إذا دعي الله وحده كفرتم وأنكرتم، و إنّما كنتم تؤمنون بدعوة فيها شرك، فهذا نظير قوله تعالى « «وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» (3).

والآية تدلّ على أنّ كفرهم ليس لعدم قناعتهم بالحجج والبيّنات، و إنّما يعادون كلّ ما فيه سمة التوحيد، وتنشرح صدورهم بالشرك لمتابعتهم الهوى،

ص: 401


1- البقرة (2): 28 .
2- الزمر (39): 47 .
3- الزمر (39): 45 .

كما تدلّ على أنّ ذلك منهم سجيّة مستمرّة، ولذلك أتى بفعل المضارع. وفي هذا إعلان لمعاداة الله تعالى فحيث كنتم كذلك فجزاؤكم اليوم الخلود في النار وعدم الخروج منها.

« فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ» أي حيث كانت سجيّتكم في الدنيا إعلان المعاداة لله تعالى فجزاؤكم الخلود في النار ولا مردّ له، لأنّه حكم الله فيكم، والحكم لله لا لغيره فهذه الجملة علّة للجزاء الواقعي المقدّر. وذكر الوصفين للإشارة إلى السبب، فإنّ علوّه وكبرياءه يقتضيان اختصاص الحكم به، وأن لا حاكم في الكون غيره. فالمعنى أنّ مجازاتكم بالخلود في النار حكم من الله العلي الكبير، ولا مردّ له لأنّه هو العلي الكبير. ومرجع العلوّ والكبر إلى صفة ثبوتية واحدة، لأنّ العلوّ والكبر ليسا بالمعنى المادي، بل بمعنى أنّه تعالى أعلى وأكبر من أن تناله الأوهام.

ص: 402

سورة غافر (13 – 20)

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) (

« هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ »يعود السياق يذكر الإنسان بآيات ربّه ليخاف مصيره يوم القيامة. والظاهر أنّ المراد بالآيات، الآيات الكونية التي تدلّ على حكمة الله سبحانه وقدرته وربوبيته والكون مليء بآياته الباهرة ولكنّ الناس يمرّون عليها غافلين، وإذا توجّهوا وتعمّقوا فلا يتجاوزون ظاهر ما يجدون فيها من دقّة وحكمة، ولا يتعمّقون فيها ليجدوا فيها الدلالة على الخالق القدير الحكيم.

« وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ» يمكن أن يراد به خصوص المطر بقرينة قوله تعالى: « وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا» (1)، يقول بعض المفسّرين إنّ تسمية المطر بالرزق من جهة أنّه سبب للرزق. وليس كذلك، فإنّ المطر بنفسه من أعظم الرزق، ولولاه لم يبق إنسان أو حيوان حياً على وجه الأرض.

ويمكن أن يراد به كلّ ما يرزق الله به الإنسان، ويراد بالسماء عالم الغيب، أو

ص: 403


1- الجاثية (45): 5 .

عالم الأمر. وكلّ ما في الأرض من نعمة فهي نازلة من السماء بهذا المعنى، كما قال تعالى: « وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ»(1).

« وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ » الإنابة :الرجوع . والمراد بهذه الجملة أنّ الآيات الكونية بما فيها الرزق من السماء تعيد الإنسان إلى فطرته وتذكّره بربّه، ولكن هناك من البشر من لا يحبّ العود والرجوع إلى ربّه، فقد اتّخذ إلهه هواه، وهو معجب بشأنه مع أهوائه وشهواته، فلا يتأثّر بهذه الآيات، ولا يتذكّر ما تمليه عليه الفطرة. ونحن نجد كثيراً من البشر يتعمّقون في الكون، ويرون من آيات الحكمة والقدرة ما لا يراه غيرهم، ولكنّهم يزيدون بهذا التعمّق بعداً عن الله تعالى. وليس ذلك إلّا لإخلادهم إلى الأرض، وعدم إنابتهم، ورجوعهم إلى الفطرة المستقيمة التي تدعو إلى الله تعالى.

وهذا هو المراد بالآية الكريمة، فالتذكّر خاصّ بالمنيبين الذين يرجعون إلى فطرتهم، كلّما توغّلوا في شؤون الدنيا، ولا يستمرّون في الطريق الذي ترسمه لهم أهواؤهم، وحبّهم لملذّات الحياة الزائلة.

« فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» الآيات للجميع، كما أنّ الرزق للجميع أيضاً، ولكنّ المتذكر المنيب هو المخاطب بهذا الأمر، فإذا رأيتم آيات الله وما رزقكم من السماء فادعوا الله مخلصين له الدين.

والدين كما أسلفنا في تفسير سورة الزمر هو العبادة، وأصلها التذلّل، فالمعنى لا تتذلّلوا لغيره، ولا تعبدوا غيره، فالإنسان أكرم على الله من أن يعبد غير الله تعالى. ولا شكّ أنّ هذا التوحيد والإخلاص لا يعجب الكافرين بالله المنكرين

ص: 404


1- الزمر (39): 6 .

لنعمه، ولكن لا تهتمّوا بهم ولا تداهنوهم في هذا الأمر، فالمداهنة والمجاملة لا مجال لهما في العقيدة والتوحيد.

« رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ » ، أي هو رفيع الدرجات. والضمير يعود إلى الله تعالى، أي درجاته رفيعة. وهو كقوله تعالى: «مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ.»(1).

والظاهر أنّ هذا التعبير كناية عن علوّ مقامه، وعظمة شأنه، وبعده

عن أن تناله الأوهام، وهو مع ذلك قريب من كلّ شيء، ومحيط بكلّ شيء، فالبعد هنا من جانب واحد، فإنّ الإنسان لا يمكنه أن يرتقي هذه الدرجات، ويصل إليه تعالى وصول معرفة وعلم إلّا بالتقوى واتّباع شريعة السماء. كما أنّه تعالى محتجب عن خلقه، والحجاب أيضاً من جانب واحد ولا يخرق هذه الحجب في الحياة الدنيا إلّا التقوى. فلعلّ معنى رفيع الدرجات - والله العالم - أنّ سلّم الارتقاء إليه تعالی درجاته رفيعة أرفع من أن يرتقي بها الإنسان بطبعه، وهو مع ذلك ممكن للمخلصين من عباده كما هو حاصل للملائكة المقربين.

والله تعالى للطفه بالإنسان يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده، فيكون هو الوسيط بينه وبين خلقه، وبه يرتفع بعض الحجب فيصل الإنسان إلى معدن العظمة. كما أنّه ينذرهم يوم التلاق، وهو اليوم الذي ترتفع فيه الحجب ويلاقي الإنسان ربّه.

هذا وقد مرّ الكلام حول العرش، وأنّ المراد به - على الظاهر - جهة الحاكميّة في الكون. ولكن يمكن أن يكون هنا بمعنى العظمة وعلو المقام ورفعته من أن تناله الأوهام.

ص: 405


1- المعارج (70): 3 .

« يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ » المراد به الوحي، كما قال تعالى: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ »(1) ، وقال أيضاً: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا »(2) ، والتعبير عنه بالروح لعلّه من جهة أنّ به الحياة المعنوية للإنسان كما قال تعالى: «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا »(3)، وقال أيضاً: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ»(4).

ومن في قوله « مِنْ أَمْرِهِ » بيانية فالنتيجة أنّ ما به الحياة هو نفس الأوامر الإلهية والشرائع التي توحى إلى الرسل (علیهم السلام).

« عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» فهو بمشيئته يختار الرسل، ولكن مشيئته تتّبع حكمته فهو لا ينتخبهم جزافاً، بل يختارهم من بين أكرم الأصول وأفضل البشر خلقاً وخلقاً، ويرعاهم بعينه ويؤدّبهم بتأديبه وعنايته الخاصّة. قال تعالى خطابا لموسى (علیه السلام): « وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» وقال: «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» (5).

« لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ» أي لينذر الرسول أو لينذر الله بواسطته. والتلاق مخفّف التلاقي. ويوم التلاقي هو يوم القيامة، حيث ترتفع الحجب ويتلاقى البشر كلّهم مع بعض لا يمنع ذلك كثرتهم، وتتلاقى كلّ الأجيال، ويتلاقى الظالم والمظلوم ويتلاقى الرسل وأممهم، والأئمة والمأمومين وأمّا لقاء الله تعالى فلا ينبغي أن

ص: 406


1- النحل (16): 2.
2- الشورى (42): 52 .
3- الأنعام (6): 122.
4- الأنفال (8): 24 .
5- طه (20) :39 - 41 .

يكون مقصوداً به لأنّ التلاقي إنّما يكون بين اثنين كلّ منهما يلاقي الآخر ولا يصدق على لقائه تعالى، وكذلك لقاء الإنسان أعماله.

« يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ»أي يوم تبرز فيه كلّ الحقائق، وتظهر كلّ ما يخفيه الإنسان، وكلّ ما يستخفي منه، وكلّ ما ينطوي عليه ضميره الحاضر والغائب.

والله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، سواء في تلك النشأة أو قبلها، ولكنّ البشر يرون أنفسهم مستخفين من الله، قال تعالى: «وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ *وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ »(1) . وفي ذلك اليوم يجدون أنفسهم عراة بتمام معنى الكلمة، لا يحجبهم شيء حتّى عن سائر البشر فكيف بالله تعالى والحاصل أنّ الذي يظهر ذلك اليوم للإنسان هو لا يمكنه التخفي من الله تعالى.

«لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ » هنالك ينادى «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ » ؟ والجواب: « لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ » من ينادي ومن يجيب؟ هل هو نداء الملك الواحد القهّار سؤالاً وجواباً؟ أم هناك ملائكة يسألون كما قيل فيجيبهم أهل المحشر جميعاً؟ أم ليس هناك سائل ومجيب، و إنّما هذا سؤال يطرح نفسه في ذلك الجوّ الرهيب، وقد انقشعت الأغشية وبدا كلّ شيء على حقيقته. و الجواب أيضاً يعرفه الكلّ، و يعترف به الكلّ، لا ملك اليوم لأحد إلّا لله.

والملك دائماً وأبداً ليس إلّا له وحده لا يشاركه أحد، إلّا أنّه أعار الإنسان

ص: 407


1- فصلت (41) : 22 - 23 .

ملكاً في هذه النشأة ليختبره، وهناك لا يملك أحد شيئاً إلّا الله الواحد القهّار. والتوصيف بالواحد ليس بمعنى وحدة العدد، بل بمعنى أنّه تعالى واحد في جميع شؤونه لا يشاركه أحد، ولا يماثله شيء، وهو القهّار لكلّ شيء، فكلّ شيء مقهور ذليل لأمره، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد تعالى قدره، وعظم شأنه.

« الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ» تقديم كلمة «الْيَوْمَ» يفيد أنّ هذه ميزة هذا اليوم فحسب، فلا يلقى أيّ إنسان جزاء عمله الحسن والسيّء وفاقاً، وكما هو حقه في أي مرحلة من مراحل الكون غير هذه المرحلة، كما لا يلقاه في أيّ مجتمع بشري وإن اتّسم بالعدل، بل قلّ ما يعتبر الحسن في المجتمع حسناً والسيّء سيئاً، فما أكثر ما يعتبره الناس حسناً ويفتخرون به ويعتزّون ملء أفواههم وهو من أقبح القبائح ؟!

ألا ترى كيف تفتخر الشعوب والأمم بما بقي من آثار الملوك وأبنيتها، ويدعون الناس لمشاهدة عظمة ملوكها القدماء عن طريق زيارة بقايا قصورهم ، مع أنّ ذلك إنّما يحكي عن ظلمهم وعدوانهم على الشعوب؟! فهذا مثل واضح والأمثال كثيرة.

ولكنّ الواقع ينجلي بوضوح في ذلك اليوم، وتجزى كلّ نفس بما كسبت. والجزاء هناك ليس وضعياً حتّى يشعر أحد بالظلم، بل هو نفس عمل الإنسان وكسبه.

ولا يستبعد الخلود في العذاب، فإنّ ما كسبه الإنسان يبقى ويدوم حتّى في هذه الحياة، فالذي يقتل نفساً وإن ارتكب ذلك في لحظة واحدة إلّا أنّ الجريمة

ص: 408

تستمرّ، والجرح لا يندمل، حتّى لو قوبل بعقوبة أو تعويض، لا عند المظلوم فحسب، بل حتّى عند الظالم، فإنّ المجرم إذا رجع إلى وجدانه وضميره الحيّ، وجد الجريمة حيّة مستمرّة، ولذلك تجده يتهرّب من تصوّرها، لأنّ الصورة تؤذيه وتعذّبه، حتّى أنّه ربّما بلغ به الأمر إلى الانتحار، فكيف به إذا وجد الجريمة بنفسها حيّة متجددة، وليست صورة أو فلما أو تصوّراً في النفس، بل هي بعينها ما كسبت يداه الآثمتان؟!

فيصدق ذلك اليوم، وذلك اليوم فقط:

« لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ » فالظلم لا مجال له في هذا الجو المضيء، فإنّ الظلم من الظلام، وذلك اليوم تشرق الأرض بنور ربّها، فلا يبقى شيء إلّا وهو مشرق بنور ربّه، وواضح للجميع .

« إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ » لعلّ الوجه في هذا التعليل أنّ بطء الحساب يستوجب نوعاً من الظلم، وهو بقاء الإنسان حائراً لا يدري ما هو مصيره. وهذا ظلم مستمرّ في المحاكم العرفية في مجتمعاتنا، وهو ظلم على المدعي والمنكر معاً، وظلم على المجرم والبريء، وظلم على الفرد والمجتمع. و لكن في ذلك اليوم ما أن يحضر الإنسان محكمة العدل الإلهية حتّى يجد عمله حاضراً، وهو بنفسه جزاؤه فيا له من سرعة في الحساب، ويا له من الحساب ويا له من سرعة في الجزاء، فالتعليل بذلك لعلّه للإشارة إلى أنّ الظلم لا يتحقّق حتّى بالتأخير في المحاسبة.

وهو في نفس الوقت يردّ بذلك على بعض توهّمات من يوسوس لهم شياطين الجنّ والانس بأنّ الله تعالى كيف يحاسب هذه الأجيال البشرية المتلاحقة يوم يجمعهم؟! فالجواب: إنّ الله سريع الحساب، فعمل كلّ أحد حاضر « وَوَجَدُوا مَا

ص: 409

عَمِلُوا حَاضِرًا»(1) ، وشهود كلّ أحد معه «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(2) ، وجزاء كلّ أحد معه « إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (3).

« وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ» يوم الآزفة أي يوم القيامة. من أزف أزفاً وأزوفاً أي قرب، قال تعالى: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ»(4).

والمعروف بين المفسّرين أنّ الآزفة في هذه الآية صفة لمحذوف، أي يوم الساعة الآزفة أي القريبة. والقرب قد يكون بمعنى قطعية الوقوع، وقد يكون من جهة أنّه قريب بالمقاييس الإلهية، أو من جهة أنّ الزمان إنّما نلاحظه نحن حسب الإطار الذي نعيشه فإذا خرجنا من إطار الطبيعة فلا زمان ولا مكان.

ويمكن أن تكون مصدراً نظير العافية والعاقبة، فهو مثل قوله تعالى: «يوم الحسرة» ، و«يوم التلاق»، و«يوم التناد»، و «يوم التغابن»، و«يوم الجمع»، و«يوم الفصل » ، و «يوم الدين». فلعلّ المراد هنا أنّه يوم القرب، إمّا بمعنى تقارب الناس واجتماعهم، أو قربهم إلى كلّ شيء من حيث الإدراك، أو إلى الجزاء، أو إلى النار. ويمكن أن يكون بمعنى الضيق، فإنّه أيضاً من معاني الأزوف، وأصله واحد لأنّ الضيق ملازم للتقارب. وقيل إنّه توصيف ليوم الموت، وهو لا يناسب الجملة التالية.

« ِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ» بيان لميزة من ميزات ذلك اليوم، وهو الخوف والاضطراب الشديد وتوصيف الاضطراب ببلوغ القلوب إلى الحناجر کأنّها

ص: 410


1- الكهف (18): 49 .
2- النور (24): 24 .
3- الطور (52): 16 .
4- الأنبياء (21): 1.

تريد الخروج ورد أيضاً في قوله تعالى: « وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ » (1)، في بيان خوف المسلمين يوم الأحزاب. وهو كناية عن شدة الخوف والهلع.

والكظم في الأصل هو الإمساك والحبس، ومنه كظم الغيظ، والمراد هنا بيان حالهم في مواجهة مخاوف يوم القيامة، وهو أنّهم حابسون أنفاسهم خوفاً، أو أنّهم يحبسون القلوب التي بلغت الحناجر لئلّا تخرج. وقيل إنّهم يحبسون الهمّ والغمّ في نفوسهم.

« مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ» الحميم هو القريب أو الصديق المشفق، أخذ من الحمم بمعنى الحرارة، وكثيراً ما يستعار بالحرارة لبيان شدة العطف والحبّ. والمراد أنّ الظالمين يفقدون يوم القيامة كلّ العلاقات الأسرية، والصداقات التي كانت بينهم في الحياة الدنيا قال تعالى: « فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ»،(2) وقال: « «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ»(3) ، فلا أحد يفكر في مصير ابنه أو أبيه أو أمه أو أخيه، قال تعالى: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » (4) ، بل لو استطاع أيّ واحد منهم أن يضحي بكلّ أعزائه الذين كان يضحي بنفسه من أجلهم لهان عليه ذلك، قال تعالى: «وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا *يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ *وَفَصِيلَتِهِ

ص: 411


1- الأحزاب (33): 10.
2- المؤمنون (23): 101.
3- الزخرف (43): 67.
4- عبس (80): 34 - 37 .

الَّتِي تُؤْوِيهِ *وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ »(1).

وهذا من أغرب التغيرات في ذلك العالم، حيث یدلّ على أنّ الأهوال هناك أعظم بكثير من الموت، فالإنسان في هذه الحياة يضحي بنفسه وماله في سبيل أولاده وعرضه وقومه. وهناك يضحي بكلّ هؤلاء، بل كلّ ما في الأرض في سبيل إنقاذ نفسه من تلك الأهوال، وليس هذا من أنانيته هناك، بل إنّ عذاب الله شدید .

« وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ » ليس معناه أنّ لهم شفيعاً لا يطاع، إذ لا يؤذن لشفعائهم وأوليائهم بالشفاعة فلا شفعاء لهم أصلاً، فالمراد نفي الصفة والموصوف وفائدة الوصف نفي كلّ توهّم وأمنيّة، لأنّ الظالمين ربّما يمنّون أنفسهم بشفعائهم، فيقال جدلاً أنّه لو فرض وجود شفعاء فإنّهم لا يطاعون، أي لا يسمع قولهم ولا تقبل شفاعتهم. وقد ورد نفي قبول الشفاعة في عدّة موارد مع أنّ أصل الشفاعة منتفية بذاتها. والآية نظير قوله تعالى «فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ *وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ »(2).

« يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ» الخائنة صفة لموصوف مقدّر أي يعلم النظرات الخائنة من الأعين ، أو هي مصدر كالعافية، أي يعلم خيانة الأعين. والمراد النظرات المسترقة ممّا يخفيه الناظر عن الناس سواء كان إلى المحرمات أو غيرها، أو ما يشار بالأعين والحواجب بحيث لا يراه الآخرون.

وفي «الدرّ المنثور» في ذيل الآية أخرج أبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد رضي الله عنه قال لمّا كان يوم فتح مکّة أمن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الناس إلّا أربعة

ص: 412


1- المعارج (70): 10 - 14.
2- الشعراء (26): 100 - 101.

نفر وامرأتين وقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة منهم عبدالله بن سعد بن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلمّا دعا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الناس إلى البيعة جاء به فقال يا رسول الله بايع عبدالله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كلّ ذلك يأبى يبايعه، ثمّ بايعه، ثمّ أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله » فقالوا ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أو مات إلينا بعينك؟ قال: «إنّه لا ينبغي لنبيّ أن يكون له خائنة الأعين»(1).

والآية تعود إلى ذكر صفات الله تعالى في قوله «رَفيعُ الدَّرَجَاتِ» وما توسّط بينهما جملات معترضة بمناسبة ذكر يوم التلاق، فالمعنى: ادعوا الله مخلصين له الدين فهو رفيع الدرجات... وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فاحذروه ولا تحذروا غيره في جميع الأحوال، واحذروه في كلّ حركة، وكلّ لمحة عين، وكلّ ما تخفيه صدوركم من دوافع وأماني، وما تشركون به في أعمالكم واعتقادكم ، فإنّه لا يقبل إلّا من المخلصين.

« وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» القضاء هو الحكم. فيمكن أن يكون المراد به الحكم التكويني، أي إنّه بقضائه تعالى قامت السماوات والأرض، وقضاؤه الحقّ والحقّ : الأمر الثابت فالكون مبني على السنن الإلهيّة الثابتة التي لا تتغيّر ولا يطرأ عليها البطلان وأمّا الذين تدعون من دونه فلا حول لهم ولا قوة إلّا ما آتاهم الله تعالى فلا تدعوا أحداً غيره، فيكون تعليلاً للزوم الإخلاص في الدعاء. والجملة الأخيرة أيضاً تعليل له

ص: 413


1- الدر المنثور 5: 349 .

لأنّه يسمع كلّ دعوة، ويبصر كلّ ما يحتاج إليه الداعي.

ويمكن أن يراد به القضاء يوم القيامة، فيكون تعليلاً للزوم الإخلاص أيضاً، حيث إنّ الحكم ليس إلّا له، وهو يقضي بالحقّ والذين تدعون من دونه حتّى لو كانوا عقلاء كالملائكة والبشر، فإنّهم لا يقضون بشيء، وذلك لأنّ القضاء بالحقّ لا يمكن إلّا للسميع البصير، ولا أحد يسمع كلّ صوت ويرى كلّ شيء إلّا الله تعالى.

والظاهر أنّ هناك أموراً تصدر من الإنسان تخفى حتّى على الملائكة الموكّلين به، كما ورد في دعاء كميل من قول أمير المؤمنين (علیه السلام): « وكنت أنت الرقيب عليّ من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم » ، ولذلك أتى بما يفيد الحصر «هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».

ص: 414

سورة غافر(21 – 22)

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)

« أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ» مقدمة لبيان قصة مؤمن آل فرعون وربطها بالخطاب الموجّه إلى مشركي مکّة، فبعد بيان آيات التوحيد والمعاد ودعوتهم إلى الإيمان، حذرهم من مغبة الكفر والعناد والكيد برسل الله تعالى، وذلك بدعوتهم إلى ملاحظة حال الأقوام السابقة، والاعتبار بما جرى عليهم من العذاب نتيجة كفرهم بالرسالات، مع أنّهم كانوا أقوى من هؤلاء وأكثر آثاراً في الأرض. و یدلّ على حالهم وقوّتهم وحضارتهم الآثار الباقية منهم، وكانت في ذلك العهد كثيرة وقريبة من الطرق التي كانوا يجتازونها في أسفارهم.

وقوله « وَآثَارًا »، أي «وأكثر آثاراً » ففيه تقدير استغني عنه بقوله « أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً» نظير قول الشاعر « متقلّداً سيفاً ورمحاً» ، أي وحاملاً رمحاً.

ومهما كان فالقرآن يدعوهم إلى السير في الأرض لا للتنزّه والتفرّج والتمتّع بمشاهدة الحضارات البائدة كما هو السائد في عصرنا، بل للاعتبار بها ومقارنة حالهم بحال الأمّة الحاضرة، والتنبّه لما يقرّبهم إلى الله في ذلك، فإنّ يد القدرة مشهودة بارزة في ما بقي من الآثار خصوصاً في ذلك العهد.

« فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ» . أخذهم أي أهلكهم. و« وَاقٍ» مخفّف «واقي» من الوقاية أي الحفظ. و «من» زائدة أي ما كان لهم أيّ شيء

ص: 415

يحفظهم من بأس الله تعالى. والتركيز على الذنب بعنوانه العامّ مخيف جدّاً، فهناك من الأقوام من دمّر الله عليهم بيوتهم لارتكابهم الآثام كقوم لوط (علیه السلام). وعلى كلّ حال فإنّ الله تعالى إذا أراد بقوم سوءاً فلا مردّ له، وليس هناك شيء في الكون يحفظ الإنسان ويقيه من بأس الله تعالى، لأنّ كلّ ما يلوذ به ويعوذ مخلوق له ومربوب ومطيع لأمره.

«ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا» ، ذلك إشارة إلى الأخذ والعذاب، والمعنى أنّ السبب في استحقاقهم لعذاب الاستئصال أنّهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا بالرسالات، فلو كان قوم لم يبعث فيهم رسول لا يعذّبهم الله عذاب الاستئصال، و إنّما يعذّبهم بعد بعث الرسول و تكذيبه، قال تعالى: « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا». (1) والغرض من ذلك التنبيه على أنّ السنة الإلهية واحدة ، والقانون واحد فاحذروا ربّكم.

ثم إنّ الرسل لم يكتفوا بمجرّد تبليغ الرسالة، بل أتوهم بالبيّنات ولم تكن بيّنة واحدة. والبينة هي الأمر الواضح والموضح، والتبيّن هو الوضوح والانكشاف فالأمر كان مكشوفاً لدى الأقوام ليس فيه لبس، و إنّما منعهم من الإيمان بالله ورسالاته كبرهم وطغيانهم وركونهم إلى الدنيا وملذّاته.

« فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ» التعليل يرفع عن العيون كلّ غشاوة، ويبطل الأماني الكاذبة، فالله تعالى يقوى على كلّ ما يريد. يشهد على ذلك الآيات الكونية التي لا تحصى، وهو شديد العقاب. وقد مرّ بعض الكلام في توضيحه في أول السورة.

ص: 416


1- الإسراء (17): 15 .

سورة غافر (23 - 27)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)

هذا تنبيه وتذكير بقصة من قصص الأقوام السابقة، وهم من أقوى الأمم التي كان المخاطبون يعرفونهم، كما كانوا يعرفون أخبارهم، ويرون حضارتهم وقوّتهم، وهم قوم فرعون، أي القبط، فكانوا أقوى شاهد على الموضوع، الذي تعرّضت له الآيات السابقة.

مضافاً إلى أنّه تعالى في هذا الموضع إنّما روى القصة من جانب خاصّ لم يرد ذكره في سائر الموارد وهو الموقف الذي وقفه مؤمن آل فرعون، وفي ذلك عبر كثيرة كما سيأتي ذكرها، ولعلّ منها تحريض بعض كبراء المؤمنين كأبي طالب (علیه السلام)على التستر والتقيّة.

« وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ » الظاهر أنّ المراد بالآيات: المعجزات كالعصا، واليد البيضاء، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، والسنين، أي المجاعة. والمراد بالسلطان - على الظاهر - الحجّة البالغة والمنطق القوي، كما يحكيه تعالى من مناظرته لفرعون في سورة الشعراء وغيرها.

والسلطان في الأصل مصدر بمعنى السلطة، وقد استعمل في الحجة والبرهان

ص: 417

في عدّة موارد من كلامه تعالى، كقوله: «مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا »(1) ، وقوله تعالى «هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ »(2).والموارد كثيرة.

وفي «تفسير الميزان» أنّ المراد به السلطة الإلهية القاهرة التي أُيّد بها فمنعت فرعون أن يقتله ويطفئ نوره. وإطلاق السلطان على هذا المعنى في حدّ ذاته غير بعيد. ويؤيده قوله تعالى « وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا »(3) ، إلّا أنّه في المقام يجب أن يكون ممّا يدعو إلى إيمانهم به، وهو الإعجاز والحجّة، مضافاً إلى أنّ توصيفه بالمبين ينافي هذا المعنى لأنّه كان أمراً غيبيّاً غير بيّن.

« إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ» هامان على ما يبدو من الآيات وزير فرعون، والرجل الثاني في حكومته، حيث إنّه اعتبر الجنود جنوداً لهما « إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ» (4) . وأمّا قارون فقد كان من قوم موسى فبغى عليهم كما في سورة القصص، وكان ثريّا من أكثر الناس أموالا فأصبح يضرب به المثل. وتخصيص هذه الثلاثة لعلّه من جهة أنّ الأوّل يمثّل طغيان السلطة والكبر، والثاني يمثّل طغيان السياسة والدهاء والكيد، إذ لولا ذلك لم ينتخبه فرعون، والثالث يمثّل طغيان المال والثراء.

ويظهر من الآية أنّ قارون لم يؤمن بموسى (علیه السلام) من أول الأمر خلافاً لما في بعض الروايات، بل هو أيضاً قال فيه: إنّه ساحر كذّاب. ولا ينافي ذلك أنّه خرج

ص: 418


1- النساء (4): 144 .
2- الكهف (18): 15 .
3- القصص (28): 35 .
4- القصص (28): 8 .

مع موسى (علیه السلام) في قومه حين خروجهم من مصر، وليس كلّ من خرجوا معه كانوا مؤمنين به، ولعلّه كان منافقاً. والسحر إنّما اتّهموه به في قبال ما أبداه من معجزات والكذب في قبال حجّته ومنطقه فلم يكن لهم ردّ على مقالاته إلّا المكابرة والاتّهام بالكذب في دعوى الرسالة.

« فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ » يظهر من الآية أنّ هذا موقف آخر غير موقفهم في مقابل دعوى النبوّة والرسالة التي واجهوها باتّهامه بالكذب والسحر، فلعلّ المراد بما جاء به من الحق: المعارف والأحكام الالهية التي جاء بها.

ولم يكن دعواه (علیه السلام) أمام فرعون منحصراً في أنّه مرسل من ربّه، وأنّه يدعو إلى التوحيد، ويطالب بإطلاق سراح بني إسرائيل، بل كان يتلو عليهم آيات من الله تعالى تشتمل على معارف إلهية وأحكام شرعية.

و یدلّ على ذلك قوله تعالى «قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ »(1)، فالظاهر أنّ قوله « هَؤُلَاءِ » إشارة إلى أوامر وأحكام كان يتلوها عليهم، فلمّا رأوا أنّه يأمر وينهى بحجة أنّه رسول من الله تعالى اشتاطوا غضباً وكادوا له ولمن آمن به من قومه، وهم قليل كما في قوله تعالى «فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ »(2).

« قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ »الاستحياء بمعنى إبقائهنّ أحياء. والغرض من ذلك ابقاؤهنّ للخدمة. وهذا كيد قديم، فقد أمر فرعون بقتل الأبناء واستحياء النساء في قوم بني إسرائيل أجمعين قبل ولادة موسى (علیه السلام) بأمل

ص: 419


1- الإسراء (17): 102 .
2- يونس (10) :83 .

أن يقضي عليه لما بلغه - على ما في الروايات - من أنّه سيقوّض سلطانه ويهدم كيانه

ولكنّه هنا خصّ الحكم بمن آمن معه ليكون عامل ضغط عليهم فيتركوه ويبتعدّوا عنه. ولعلّ ضمير الجمع لا يعود إلى قارون، فالمراد به على هذا الاحتمال فرعون وهامان وملؤهما وان كان اشتراكه في المؤامرة أيضاً غير بعيد.

« وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ » ، أي في ضياع، بمعنى أنّ كيدهم ومؤامرتهم لا تحقّق هدفهم، حيث كان في مواجهة إرادة الله تعالى. وليس معنى ذلك أنّ كلّ ما يكيده الكافر ضائع لا يحقّق ما أراد، بل كلّ ما يكيده من جهة كفره. ولذلك لم يقل وما كيدهم للإشارة إلى السبب. والحاصل أنّ مكائد الكفّار في مواجهة الحقّ لا تنتهي إلى مقاصدهم، لأنّ العاقبة للمتّقين، ولأنّه تعالى سينصر رسله في نهاية المطاف.

« وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ » يخاطب فرعون حاشيته بذلك. قيل: يبدو منه أنّهم منعوه من قتله (علیه السلام)، ولعلّ ذلك من جهة خوفهم من ثورة عارمة، أو من أن يقدّس بعد مقتله فتكبر الفتنة ويتوسّع الخرق، أو من أن ينزل عليهم عذاب، حيث إنّه تكرّر نزول العذاب عليهم ، وفي كلّ مرّة يطلبون منه (علیه السلام) أن يدعو لهم برفع العذاب فيدعو ويرتفع، ثمّ يعودون إلى ظلمهم وكفرهم كما ورد في سورتي الأعراف والزخرف.

هذا ولكنّ الظاهر أنّ قومه كانوا يحرّضونه على القتل، وهو الذي كان يمتنع منه ويحذر، بدليل قوله تعالى «وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي

ص: 420

الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ »(1).

وأمّا ما حكي عنه هنا فإنّما یدلّ على خوفه وجبنه من الإقدام على قتله فقوله: « ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ » ليس طلباً من قومه أن لا يتوسّطوا له ولا يمنعوه من قتله، بل إنّما يشجع بذلك نفسه، فقد كان يحذر من أن ينزل الله عليه العذاب، وكان يعلم أنّ موسى (علیه السلام) صادق في دعوته، و إنّما كان يحاول إخفاء الحقيقة عن قومه وشعبه، ليبقى متسلّطاً عليهم كما تدلّ عليه الآية السابقة: «قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ». وقوله: « وَلْيَدْعُ رَبَّهُ » أيضاً ممّا يشجع به نفسه حيث يظهر أنّه لا يخاف من ربّه.

ويحتمل أن يكون من باب التهديد نظير قوله تعالى: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا » (2)؛ فإنّ هذا التعبير يقال في مقابل من يمنع من مؤاخذة الغير، ثمّ استعمل في التهديد كأنّ هناك من يمنعه.

« إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ » وهكذا برّر قتله بأنّه يخاف منه في أمرين من شؤون المجتمع

الأول: أن يبدل دينهم، ويهدم تقاليدهم التي هي مناط وحدتهم وتماسكهم، فإنّهم كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، كما تبيّن من آية الأعراف المذكورة آنفاً.

والثاني: أن يظهر في الأرض الفساد، لأنّه ساحر يدعو إلى نفسه، ويريد أن يتسلّط عليهم ويخرجهم من أرضهم، كما قاله في موضع آخر في أول مواجهة له مع موسى وهارون (علیهما السلام): «قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى»(3) . وفي

ص: 421


1- الأعراف (7): 127 .
2- المدثر (74): 11 .
3- طه (20) :57 .

موضع آخر ينقل القرآن عنه وعن ملئه «قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ»(1).

وفرعون كان يعلم أنّ موسى (علیه السلام) لا يدعو إلّا إلى خير، ولا يريد أن يتسلّط على الناس، بل هو الذي يريد التسلّط عليهم ظلماً وطغياناً، ولكنّها مكيدة الطواغيت في مواجهة الأنبياء والأئمة والمصلحين، فيتظاهرون أمام الناس بأنّهم لا يريدون لهم إلّا الخير، وأنّ هذا الذي يدعو إلى الصلاح والحرّيّة إنّما يريد أن يفرّق جمعهم ويتأمّر عليهم.

وما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه أقوال الناس في الأمم المختلفة والأجيال المتلاحقة، سواء في ذلك الطواغيت والكبراء، أو العامّة والدهماء.

« وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ » أنظر إلى مقابلة الرسول لهذا الطاغية، وهو هنا يخاطب الجماهير أو يخاطب قومه فقط. ويحتمل أن تكون المخاطبات المنقولة هنا حدثت في تجمع بين موسى (علیه السلام) مع فرعون وحاشيته، فإنّه كان يستمرّ في الدعوة ولا يألو جهداً في إتمام الحجة عليهم.

وهو هنا يتعوّذ بربّه وربّهم، ويردّ بذلك على قول فرعون « وَلْيَدْعُ رَبَّهُ » ويقصم ظهرهم بذلك، وفرعون كان يعلم أنّ من يتعوّذ به موسى هو المعاذ لا غيره، وأنّه القادر على كلّ شيء، وأنّ هذا مرسل من عنده، فترتعد فرائصه من هذا التعوّذ، و إنّما كان يتصنّع الجرأة والشجاعة. ويا له من حمق وجهل وسفاهة أن يقاوم الإنسان الضعيف جبار السماوات والأرض.

ص: 422


1- يونس (10) :78 .

ثم إنّه (علیه السلام) ذكر في تعوّذه صفتين للإنسان الذي يتوقع منه الشر الأولى: التكبّر فإن المتكبر يترفّع على الناس، ويستعلي عليهم ويحتقرهم، ولا يهمّه أن يضرّهم جميعاً في سبيل الإبقاء على سلطته وجبروته، ولذلك نجد أنّ أكثر ما أصاب الناس من شرّ إنّما هو من الطواغيت المتجبّرين.

والثانية: عدم الإيمان بيوم الحساب فإنّ العائق الوحيد الذي يمنع الإنسان المتسلّط من الظلم والعدوان هو الخوف من المساءلة، وحيث إنّ الطاغوت لا يخاف المساءلة في الدنيا، فإن لم يعتقد بالآخرة فإنّه يشعر بحريّة مطلقة، فلا يألو جهداً في استعباد الناس، ونشر الفساد والظلم.

ص: 423

سورة غافر(28 – 35)

وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)

« وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ » كون الرجل من آل فرعون يبيّن ما كان له مكانة اجتماعية مرموقة، فهو لم يكن مجرّد رجل من الحاشية والمقربّين إلى فرعون بل كان من أهله وخاصّته. والظاهر أنّه الوحيد الذي آمن من هذا القوم، وكان يكتم إيمانه إمّا خوفاً منهم أو ليتمكّن من الدفاع عن موسى (علیه السلام) كما يتبيّن من كلامه المحكي هنا، فهو لا يظهر لهم ولاءه للرسول، ولا يظهر استخفافاً بهم، ويحاول إقناعهم بعدم التصدّي لقتله.

وهكذا يلطف الله سبحانه لما يشاء، فيبعث من قصر فرعون من يدافع عن

ص: 424

موسى. ولا غرابة فقد بعث قبل ذلك امرأته للإبقاء عليه وهو طفل رضيع.

« أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ » بدأ المؤمن كلامه باستنكار القتل لرجل يقول ربي الله والاستفهام أنكاري و « أَنْ يَقُولَ »مجرور بلام التعليل أي أتقتلونه بسبب هذا القول؟! والظاهر من السياق أنّه يخاطب بذلك فرعون نفسه حيث حكاه الله تعالى بعد تهديد فرعون بقتل موسى (علیه السلام) ولعلّه خاطبه بذلك في نفس المجلس، كما أن استعادته (علیه السلام) أيضاً يحتمل ذلك كما مرّ.

والظاهر أنّه بهذا الاستنكار يبدأ بإظهار إيمانه تدريجاً فهو يعترّض أولاً، على محاولة قتله (علیه السلام) بأنّ هذه الدعوى أي ربوبية الله تعالى لا تبرّر القتل حتّى لو كانت خاطئة بنظركم وثانياً، أنّها دعوى مدعومة بالبينات والأدلة القاطعة فيجب أن تؤمنوا به.

وربّما يكون مبنى الاستنكار أنّهم كانوا يعتقدون بالله تعالى، وإن كانوا كسائر الوثنيين يعبدون الأصنام ونحوها ، فلعلّهم لم يكونوا يعتقدون أنّ الله هو ربّ العالمين، ولكنّهم يرون أنّه خالق السماوات والأرض وربّ الأرباب.

وهو لا يركّز على الجانب السلبي من دعوة موسى (علیه السلام) وهو نفي سائر الأرباب لئلّا يثير حفيظتهم ، و إنّما يركّز على الجانب الإيجابي، وهو أنّ الربّ هو الله تعالى، وهو ربّ عند الوثنية - كما هو المفروض - إلّا أنّهم يعتقدون أنّ الربّ المؤثر في كل جانب من جوانب الكون ربّ آخر، فلا مانع من أن يعتقد أحد أنّ ربّه بالخصوص هو الله تعالى. ولذلك أتى بضمير المتكلّم المفرد « رَبِّيَ اللَّهُ ».

وهذا لا ينافي أنّهم ما كانوا يعتقدون الوهية الله تعالى كما قال فرعون « لَعَلِّي

ص: 425

أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ »(1)بل يرون الألوهية لأصنامهم كما قالوا الفرعون « وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ » فإنّ الألوهية بمعنى استحقاق العبادة تختصّ بمن يؤثّر في الكون والأرباب المتفرّقون هم المؤثرون في الكون حسب معتقد الوثنية.

« وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ » جملة حالية تبيّن مدى فظاعة محاولة القتل، لأنّ الرجل قد جاءكم بالبينات، والأدلّة الواضحة، والحجج الدامغة، فإن كان مبطلاً فردّوا أدلته، ولكنّهم لا يستطيعون لأنّها بيّنات، أي واضحات أو موضحات للحقائق. وأكّد أنّها بيّنات من قبل ربّكم. وهذا من لطيف المحاولة في التأثير التدريجي فاعتبر الله تعالى ربّ موسى أولاً، ثمّ لمّا مهّد السبيل عبّر عنه بأنّه ربِّكم، وأن ما جاء به من البينات إنّما هو من قبل ربّكم، فهو مؤثّر في تربيتكم وبلوغكم الكمال المنشود، وبذلك اعترف برسالته تلويحاً.

« وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ » استدلال جدلي للمنع من التعرّض لقتله (علیه السلام)، وهو أنّ الرجل يدّعي أنّه مرسل من ربّه، وأنّ الله يرسل عليكم أشدّ العذاب إن لم تستجيبوا لطلبه، وأقلّه الإفراج عن بني إسرائيل ليتمكّنوا من مواصلة مسيرة الرسالة الإلهيّة على الأرض، وبث معارف السماء، وإتمام الحجّة على الخلق، فالخطر - على أقل تقدير - محتمل، وهو خطر عظيم، وكيف يمكن للبشر أن يقاوم العذاب الإلهي؟!

فإن كان الرجل كاذباً فاستجابة دعوته لا تضرّكم شيئاً، بل هو الذي يتضرّر بكذبه ، فإنّ الكذب - مهما كان - ينجلي عنه الغموض ويفتضح أمر الكاذب في النهاية، أو أنّه يتضرّر من جهة أنّ الله تعالى لا يهديه إلى سبل النجاح، كما

ص: 426


1- القصص (28) :38 .

سيأتي بيانه. وأمّا الاحتمال الآخر فهو ينذر بخطر كبير لا يمكن الاستهانة به، وأقلّ ما فيه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم من عذاب الله تعالى أن لم يصبكم كلّه، وبعضه أيضاً لا يمكن تحمّله.

« إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ » ختم جملته بكلام ينبئ عن إيمانه العميق بالله تعالى، وأنّه هو الهادي وهو المضلّ، وأنّه لا يهدي إلى الطريق الصحيح من هو مسرف كذّاب.

ولعلّ المراد به من يسرف ويتجاوز الحدّ في الكذب فيكذب على الله تعالى فالمسرف الكذّاب مجموعاً صفة واحدة أي من يسرف في كذبه، فإنّ الكذب على الله تعالى أعظم الكذب. وهو على هذا الاحتمال تعليل لقوله «وان يك كاذبا فعليه كذبه » والمراد أنّه إذا كذب في دعوى الرسالة فقد كذب على الله تعالى، وهو يستتبع غضبه فيمنعه الله الهداية. ولعلّ المراد بها الهداية المطلقة في جميع سبل الحياة، فيحرم من الوصول إلى أهدافه الدنيوية أيضاً.

ويمكن أن يكون تعليلاً للجملة الثانية، أي إنّ عذاب الله تعالى يصيبكم على تقدير صدقه، لأنّه تعالى لا يهدي من هو مسرف كذاب. وعليه فلعلّ المراد بالمسرف من تجاوز الحدّ في الإنكار ، فأنكر الحقّ مع وجود البيّنة بل البيّنات وبالكذّاب من يكذب على الله تعالى في جعل شركاء له في الربوبية.

« یَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا » في مرحلة أخرى من كلامه قام المؤمن بإنذارهم وتحذيرهم من مغبّة موقفهم الخاطئ من الرسول، وهو يعبّر بما يظهر منه شعوره بالانتماء إليهم، وأنّه منهم وفيهم يضرّه ما يضرّهم ويزعجه ما يزعجهم.

ص: 427

وابتدأ بقوله « یَا قَوْمِ » - أي يا قومي - استعطافاً لهم وتحبّباً إليهم. و « ظَاهِرِينَ » أي غالبين والظهور الغلبة. وهو بهذا نبّههم على تنعّمهم بالملك والغلبة لكي يشدّهم إلى ذلك فيؤثّر تهديده بأنّ هذه النعمة ربّما تسلب عنكم إذا قتلتم الرسول.

ويتبيّن من السياق أنّهم كانوا على علم بأنّ بأس الله لا يطاق، وأنّه يكفيهم التذكير. ولا غرو فإنّ أحاديث الأمم السالفة كانت معروفة لديهم كما يتبيّن من الآيات التالية. ومن الملفت في عبارته المحكية أنّه لم يشرك نفسه معه حينما بيّن من له الملك، بل أتى بضمير الخطاب، لأنّ الهدف منه بيان اختصاصهم بهذه النعمة، وأشرك نفسه معهم في التهديد بالخطر فقال: « فَمَنْ يَنْصُرُنَا » ليشعرهم بأنّه منهم يصيبه ما يصيبهم.

« قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ » يتّضح من السياق أنّ فرعون لم يتمكّن من ردّ الحجج القوية التي أقامها المؤمن المتكتّم، بل تأثّر بها وخاف مصيره ومصير ملكه وسلطانه، فلم يحر جواباً إلّا هذا الجواب المبهم المجمل الذي ينمّ عن عجز واستئصال ، وأنّ ما قاله غاية ما وصل إليه، وأنّه لا يعلم أكثر من ذلك « مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى» وهو في نفس الوقت يحاول استمالة قومه واستعطافهم ممّا یدلّ على خوفه من خذلانهم له وارتيابهم فيه.

ويمكن أيضاً أن يقصد بهذه الجملة أنّه لا يخونهم ولا يظهر لهم ما يبطن خلافه. ثمّ تبجّح بما يتبجّح به كلّ الطغاة والمردة من أنّه يهدي المجتمع إلى سبيل الرشاد وأنّه لا يريد بهم إلّا الخير. هكذا من دون أن يأتي على ذلك بدليل أو شاهد.

ص: 428

« وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ » لمّا أصرّ فرعون على اقتراحه بقتل موسى وزعم أنّه سبيل الرشاد عاد الرجل المؤمن إلى تأنيبهم وتخويفهم من مغبة ذلك مستخدماً طريقة أخرى، وهي تذكيرهم بتأريخ الأقوام السابقة، وما جرى عليهم جراء كفرهم وتكذيبهم للأنبياء (علیهم السلام). ويتبيّن من ذلك أنّهم كانوا على علم بأخبار الماضين فحذرهم من أن ينالهم عذاب مثل ما نزل بهم.

وقوله « يَوْمِ الْأَحْزَابِ » يريد به جنس اليوم، إذ لم يكن لهم يوم واحد فهو نظير ما تقول يوم المجاعة أو يوم الحرب وتقصد كلّ يوم يحدث فيه ذلك. وقد عُدّ قوم فرعون من الأحزاب في سورة ص فالمراد بهم هنا من قبلهم من الأحزاب. و إنّما سمّاهم بالأحزاب لتحربهم وتجمعهم على محاربة الحقّ والصدّ عن سبيل الله وتعصّبهم وتشدّدهم في ذلك. والتحزّب في الأصل بمعنى التشدّد. والكفّار لم يكونوا كلّهم متشدّدين في مخالفة الأنبياء فكان منهم من لا يؤمن ولكن لا يحارب النبيّ ولا يمنعه من نشر دعوته ولا يمنع الناس من التجمع حوله.

« مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» ، الدأب والدؤوب هو الملازمة والاستمرار في الشيء، ولذلك يقال للعادة دأب. والمراد به هنا ما دأب عليه القوم واستمرّوا من التكذيب والكفر حتّى استتبع العذاب الإلهي. فيمكن أن يكون التحذير من نفس الاستمرار على العناد لأنّه يستتبع العذاب كما يتبيّن بملاحظة حال الأقوام السالفة، ويمكن أن يكون بتقدير مضاف أي مثل جزاء دأبهم.

« وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ »، أي إنّ العذاب لم ينزل على الأقوام السابقة إلّا بسوء

ص: 429

اختيارهم والله لا يظلم أحداً، بل لا يريد ظلماً لعباده. وتنكير الظلم لنفي أيّ ظلم من الله تعالى وتقدّس فلو لم يعاندوا الحقّ ولم يدأبوا على الكفر ولم يتشدّدوا ويتحرّبوا لم ينزل عليهم العذاب حتّى لو لم يؤمنوا بالرسالات.

والغرض التنبيه على إنّكم إن لم تؤمنوا بموسى (علیه السلام) فلا تسرفوا ولا تتجاوزوا الحدّ في الكفر بقتل الرسول ومنع المؤمنين من متابعة مسيرتهم. اتركوهم يسيروا في أرض الله بحرّية وينشروا ما يريدون نشره من معارف فالثقافة لا تقابل إلّا بثقافة، وليس من المنطق أن تقابل الدعوة بالسيف.

« وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ» التناد هو التنادي حذف ياؤه اختصاراً، ولرعاية أواخر الآيات وهو تفاعل من النداء. وهو اسم ليوم القيامة، قيل في وجه التسمية: إنّ المراد نداء أصحاب النار لأصحاب الجنّة وبالعكس، وقيل: نداء الملائكة للظالمين وبالعكس وقيل ما يدور بين المستضعفين والمستكبرين من أقوال.

وظاهر المادة يقتضي أن يكون من ينادى ينادي أيضاً من يناديه، وهو تعبير يصوّر يوم هرج ومرج ، واشتغال كلّ نفس بما يعنيه ويهمّه، وعدم الاهتمام بمن حوله، وعدم محاولة إنقاذ المستغيثين. وهذا لا يحصل إلّا في اليوم الذي يفرّ فيه المرء من أخيه وأمّه وأبيه، فاحتمال إرادة يوم نزول العذاب في الدنيا كما قيل بعيد جدّاً، كما أنّ تسمية يوم القيامة بيوم التناد لمجرّد وقوع بعض النداءات فيه كما يبدو من بعض التفاسير بعيد، وإلّا لكان كلّ أيام الدنيا يوم تناد والله العالم.

«يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ » ولّى أي أتبع الشيء بالشيء فقد يذكّر أو يقدّر أنّه أتبعه وجهه فيكون بمعنى الإقبال كقوله تعالى «فَوَلِّ وَجْهَكَ

ص: 430

شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» (1)، وقد يذكر أو يقدر أنّه أتبعه دبره، أي خلفه فيكون بمعنى الإعراض أو الفرار. وهنا يصوّر مؤمن آل فرعون فزعهم واضطرابهم ومحاولتهم الفرار يوم لا مفرّ من العذاب كما قال تعالى: «يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ»(2)، ما لهم في ذلك اليوم عاصم يحفظهم من عذاب الله. ومن يعصمهم من الله وكلّ شيء ء بأمره فلا ملجأ منه إلّا إليه ؟!

« وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ» الظاهر أنّ المراد به أنّ من أضلّه الله في الدنيا فلا هادي له، هناك تأكيداً على أنّه لا عاصم من أمر الله، وذلك لأنّ النظام الكوني يتغيّر في ذلك اليوم ويرتفع الاختيار، فلا يمكن التشبث بالوسائل، ولا حرّية لأحد في اختيار الطريق، و إنّما كان على الإنسان أن يسلك طريقاً في الحياة الدنيا يوصله إلى النجاة هناك، فالصراط مستقيم لا التواء فيه ولا تعاريج ولا فروع.

ولا يمكن لأحد أن يسلك طريق النجاة هناك إلّا إذا اتّخذه طريقاً له في الحياة الدنيا، ومن ضلّ الطريق في الدنيا فما له من هاد هناك. ومن يضلل الله فما له من هاد.

ويحتمل بعيداً وإن كان هو ظاهر التفاسير أن يكون بياناً لحالهم في الدنيا، فهو بعد تخويفهم وتحذيرهم من مغبّة الكفر ذكر هذه الجملة تسلية لنفسه إذا لم يتقبّلوا منه إنذاره، وذلك لأنّهم إذا أراد الله أن يضلّهم فلا أثر لكلامه، والله لا يضلّ من يبتغي الهداية فإنّه لا يريد ظلماً للعباد كما مرّ في الآية السابقة، و إنّما يضلّ من عاند الحقّ بعد تمام الحجة عليه، ومثل هذا يستحيل أن يهتدي، فلا هادي له.

ص: 431


1- البقرة (2): 144 .
2- القيامة (75): 10 .

« وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ» انتقل المؤمن إلى سياق آخر في تحذيره للقوم، وهو تذكيرهم بتأريخ آبائهم في مواجهة رسالة السماء، وحيث إنّ القوم باقون على دين آبائهم ويمجدون أفعالهم، نسب الفعل إليهم مع بعد زمانهم.

ولا يصحّ القول بأنّ فرعون موسى (علیه السلام) هو نفسه الملك الذي واجهه يوسف (علیه السلام)، كما يبعد جدّاً أن يكون المراد بيوسف نبياً آخر غير يوسف بن يعقوب (علیهما السلام)، إذ لم يرد ذكره في القرآن فإطلاق كلمة يوسف في الكتاب العزيز ينصرف إليه، حتّى لو فرض وجود نبيّ بهذا الاسم غيره. والذي ألجأ بعضهم إلى هذه التكلّفات هو ظاهر الخطاب، والصحيح ما مرّ ذكره.

ويتبيّن من الآية أنّ يوسف (علیه السلام) كان رسولاً إلى قوم مصر، وهذا لم يصرّح به في سائر الآيات، وأمّا أصل النبوة فقد صرّح به في سورة الأنعام عند ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم (علیه السلام)، (1) ثمّ صرّح بنبوّتهم في قوله تعالى: « «أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ » (2) ، فلا وجه لما قيل من أنّه لم يصرّح بنبوته إلّا هنا.

ومهما كان فالمؤمن ذكرهم بأنّ يوسف (علیه السلام) جاء كم قبل موسى برسالة السماء مشفوعاً بآيات بينات من الله تعالى تدلّ على رسالته، ومع ذلك بقيتم في شكّ منها ومن المعارف الإلهية التي جاءكم بها.

والإنسان ليس معذوراً إذا بقي في شك مع وجود الآيات البيّنات، ولا يصحّ له أن يعتذر أمام ربّه بأنّه لم يحصل له العلم فإنّ السبب في ذلك مع وجود الأدلة

ص: 432


1- الأنعام (6): 84 .
2- الأنعام (6): 89.

الواضحة والموضحة ليس إلّا متابعة الأهواء، والتوغّل في الشهوات، والتشكيك والوسوسة في المعارف الغيبية التي لا يشعر بها الإنسان عن حسّ . والمطلوب منه لدى الله تعالى أن يؤمن بالغيب، أي بما لا يشعر به عن حسّ . إذن فنفس الشكّ في الرسالة بعد مواجهة الأدلة الواضحة جريمة عند الله تعالى، بل جريمة عظيمة كما سيأتي. والشكّ بذاته وإن كان خارجاً عن إرادة الإنسان إلّا أنّ مقدماته التي أشرنا إليها اختيارية.

« حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا » يتبيّن من هذا الكلام أنّهم مع عدم إيمانهم بيوسف (علیه السلام) إلّا أنّهم كانوا في حرج وضيق من بقائه بين أظهرهم، ويتخوّفون من عدم إيمانهم به، ولعلّهم كانوا يحذرون نزول العذاب.

ويظهر منه أيضاً أنّهم لم يتعصّبوا ضدّه، ولم يتشدّدوا في مواجهته، ولذلك لم يعبّر عن عدم إيمانهم بالجحود والاستنكار، بل بقوا على شكّهم، كما أنّهم لم يتعرّضوا له بقتل أو إبعاد، و إنّما كانوا في ضيق من وجوده بينهم إلى أن توفاه الله تعالى ففرحوا بذلك، وظنّوا أنّ رسالة السماء إليهم انتهت بموته، وأنّهم لا يراد منهم بعد ذلك أن يؤمنوا بالغيب، وأن يلتزموا بأوامر ونواه من الله تعالى ممّا يكدر صفو عيشهم، ويحرمهم من كثير من أهوائهم وشهواتهم. وهكذا أبدوا فرحهم بذلك، وقالوا لن يبعث الله من بعده رسولاً.

وهذا كلّه ضلال في ضلال كما هو واضح فرسالة السماء مستمرّة لا تنتهي بموت الرسول، والغيب حقيقة لا بدّ من الإيمان به، سواء جاء الرسل أم لم يأتوا إلينا برسالة، و إنّما الرسل نعم من الله تعالى أنعم بهم على البشرية.

« كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ »، «ذلك» اشارة إلى ضلالهم وعدم

ص: 433

إيمانهم بما جاء به يوسف (علیه السلام) وكذا بما أتاهم بعده، أي بمثل هذا الإضلال يضلّ كلّ مسرف مرتاب في إشارة إلى سبب الإضلال وأنّه ليس إضلالاً ابتداء، بل هو جزاء عملهم.

ولعلّ الوصفين هنا أيضاً صفة واحدة نظير ما مرّ في الآية 28 في تفسير قوله تعالى « مُسْرِفٌ كَذَّابٌ »، أي يضلّ من يسرف في ارتيابه، فإنّ الإنسان ربّما يرتاب ويشكّ ويشكّك أيضاً في ما لا سبيل إلى العلم به من الحقائق، وأمّا بعد مواجهة الأدلّة القاطعة والبيّنة فالارتياب ليس إلّا إسرافاً وتجاوزاً عن الحدّ، لأنّه ارتياب في مقابل ما يستلزم العلم فهو كالشبهة في مقابل البديهة وأهل التشكيك يمكنهم إتيان الشبهات حتّى في الأمور المحسوسة القطعية والبديهيات العقلية.

وهذا الإصرار على مواجهة الحقّ بالباطل يستوجب استحالة الهداية والطبع على القلب، وهو المراد بإضلال الله تعالى، وهو جزاء لإسرافهم، بل هو نتيجة طبيعية. وكلّ ما هو طبيعي فهو من صنعه تعالى.

« الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ» السلطان مصدر كالسلطة، والمراد به الحجة والدليل. والجملة صفة للمسرف في ارتيابه المذكور في الآية السابقة، و إنّما أتى به بصيغة الجمع باعتبار المصاديق، فالمسرفون في ارتيابهم يجادلون، ويشكّكون في آيات الله الكونية، وفي دلالتها على قدرته وعلمه وحكمته، ويشكّكون في الآيات والمعجزات التي يرسلها تأييدا لرسله ويسمّونها سحرا، ويشكّكون في الآيات المنزلة على الرسل ليتلونها على الناس، ويقولون إنّهم لو شاؤوا لقالوا مثل هذا.

وهم لا يشكّكون على أساس علمي ومنطقي، فليس لهم سلطة علمية، و إنّما

ص: 434

یشكّكون جدلاً، وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً. وهذا الجدال المستمرّ بين المؤمنين والمرتابين لا يتمخّض عنه إلّا إصرار الكفرة على كفرهم والمؤمنين على إيمانهم، ويزيدهم بعداً عنهم وبغضاً لهم.

« كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا » المقت هو البغض الشديد. و « مَقْتًا » منصوب على التمييز. وفاعل «كَبُرَ»، ضمير عائد إلى الجدال المعلوم من قوله «يُجَادِلُونَ»، أي كبر هذا الجدال مقتاً وبغضاً عند الله وعند المؤمنين، فالله تعالى لا يرضى لعباده الكفر ، فكيف بالتشكيك الموجب لإضلال الناس، وهو بغيض عند المؤمنين أيضاً لأنّه محاولة لزعزعة إيمانهم، وهم يعلمون أنّ الإيمان أعظم نعمة حصلوا عليها على الإطلاق، فكلّ من يحاول سلبها منهم فهو من أبغض خلق الله إليهم.

« كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ » ، «ذلك» إشارة إلى طبع قلوبهم، حيث لم يؤمنوا وبمثل ذلك يطبع الله على كلّ قلب متكبر جبار. وفيه إشارة إلى سبب الطبع على القلب وهو التكبر والجبروت فليس هذا من الجبر على الكفر والضلال، بل هو نتيجة طبيعية لعمله وخلقه الفاسد والطبع على القلب أمر طبيعي يحصل من معاندة الحقّ بعد معرفته ومعناه أنّه لا يتقبّل الحقّ بعد ذلك كأنّ قلبه ختم عليه فلا ينفتح لقبول ما يلقى عليه والطبع: الختم. قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ»(1).

والتكبّر أي التلبّس بالكبرياء. و إنّما وصف به المعاند لأنّ السبب الأساس في رفضه للإيمان بآيات الله ليس هو عدم اقتناعه بالأدلة والآيات، و إنّما هو الكبر

ص: 435


1- الأنعام (6): 110.

والإعجاب بالنفس فهو يرى نفسه أولى من الرسول بالمتابعة، ويعتقد أنّ الله تعالى لو كان باعثاً رسولاً لابتعثه. بل ربّما يظنّ بنفسه أنّه أولى بأن يشرّع القوانين، وأنّه ليس لأحد عليه سلطة وولاية كما يظنّه الإنسان المتحضّر في عصرنا عصر الجاهلية الحديثة، ولذلك يرفض تشريع السماء مطلقاً.

والجبّار مبالغة في الجبر ، أي قهر الآخرين وإجبارهم على ما يريد، في إشارة إلى أنّ هذا المسرف لا يكتفي بعدم إيمانه، بل يحاول إرغام الآخرين على الكفر. وهذا الإرغام ربّما يكون عن طريق سلطة عدوانية على الخلائق كما هو الحال في أكثر البلاد أو كلّها في العهود القديمة، وكثير منها في العصر الحاضر، وفي ذلك تعريض بفرعون، وربّما يكون عن طريق الدسّ والاحتيال والسيطرة على مراكز التربية والإعلام، حيث يؤثّر بعمق في نفوس الناشئة والشباب، ويسيطر على أفكارهم، وينتزع منهم القدرة على التفكير.

وقد وصل غسل الأدمغة إلى حدّ خارق للعادة في عصرنا الذي يدّعى عصر النور والمعرفة، فيسيطر الجبّار على عقل الشابّ المتحمّس لينتحر ويقتل في آن واحد أطفالاً أبرياء ويتقرّب بذلك إلى الله تعالى. وهذا غاية الجبروت البشري في مهاوي التضليل والإغواء.

وربّما يقال: إنّ الجبّار مأخوذ من الجبر، بمعنى الإصلاح لا القهر والإكراه، وأنّه يوصف به المتكبر لأنّه يحاول جبر شعوره بالنقص بالترفّع والتعالي على الآخرين. وهو بعيد والأوّل أنسب كما لا يخفى.

وقد وقع الكلام في قوله تعالى « كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ » حيث إنّ كلمة «كلّ» تدلّ على التعميم في مدخولها وهو القلب مع أنّ المقصود التعميم على أفراد

ص: 436

المتكبر الجبّار لا أفراد القلب ومن هنا ورد في القراءات عن ابن مسعود أنّه قرأ الآية هكذا قلب كلّ متكبّر جبّار»، ولعلّه أراد بذلك بيان أنّهما بمعنى واحد كما قاله بعض المفسّرين القدماء منهم الطبري

ولهذا أيضاً قرأ بعضهم « كُلِّ قَلْبٍ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ » بتنوين القلب ليكون المتكبر الجبار وصفاً له ووجّهه بعضهم بأنّه كقوله تعالى «فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ»، مع أنّ الإثم ليس من القلب، بل من الإنسان ككلّ. وقال الزمخشري إنّ هنا تقديراً وهو «كلّ ذي قلب» والظاهر أنّه لا حاجة إلى شيء من ذلك، فالمراد بالقلب النفس البشرية وهي التي تأثم وتتّصف بالصفات الحسنة والقبيحة، إنّما الكلام في أنّ هذه القراءة شاذة والمشهور قرؤوا بالإضافة.

وقال بعضهم إنّ التقدير «كلّ قلب كلّ متكبّر» فالتعميم من الجهتين وحذف «كلّ» الثانية لدلالة الأولى عليها. ولكن هذا غير صحيح لعدم دلالة الأولى عليها، فكلّ منهما تقتضي تعميماً في مدخولها.

وفي بعض التفاسير أنّ التعميم بلحاظ أجزاء القلب، فالمراد أنّ المتكبر الجبّار يطبع على قلبه من كلّ جهة طبعاً كاملاً بحيث لا تبقى فيه نافذة لقبول الهداية. ولكن كلّ المضافة إلى النكرة لا تفيد هذا المعنى بل تفيد كلّ أفراد القلب المضاف إلى أيّ متكبّر جبّار، وحيث إنّه ليس هناك لكلّ إنسان إلّا قلب واحد و نفس واحدة فالتعميم يكون بلحاظ أفراد المتكبر فقط. مضافاً إلى أنّ هذا التقرير يستلزم أنّ الحكم لا يشمل كلّ متكبر جبار، بل فرداً واحداً منهم.

فالصحيح هو ما ذكره بعض قدماء المفسّرين من أنّه لا يختلف التعبير من حيث المعنى بين أن يقال «قلب كلّ متكبّر» أو «كلّ قلب متكبّر».

ص: 437

سورة غافر(36 – 46)

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)

«وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا »الصرح : البناء العالي الذي لا تستره أبنية البلد فيبقى ظاهراً وإن بعد عنك. والصراحة :الظهور والوضوح والأسباب جمع سبب : كلّ ما يوصلك إلى مقصود. فمراده أن يطّلع على طرق السماء بحثاً عمّن يدّعي موسى أنّه إله، وبهذه المناسبة أضاف الإله إليه وهو بذلك يوهم السامعين أنّ موسى (علیه السلام) يدّعي أنّ إلهه في السماء بمعنى الأجرام العلوية، وإن كان لم يصدر منه كلام

ص: 438

یدلّ على ذلك. ولعلّ الوجه في تمكّنه من هذا الإيهام هو ما تستدعيه حالة الطلب والدعاء من رفع اليد إلى السماء، أو الإشارة إليها حين التعبير عن الله عزّ وجلّ، فانتهز فرعون هذه النقطة لإيهام ذلك.

وربّما يستغرب من قوله « وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ » من جهة أنّ المتوقّع منه أن يؤكّد على ذلك ولا يعبّر بالظنّ. ولكن ذلك أيضاً مكيدة منه، فهو لم يبتدئ بالحكم عليه بصورة قطعية حتّى يوهم أنّه بصدد البحث واقعاً، وأنّه لا يحكم إلّا بالحقّ الواضح الصريح.

ويبدو أنّ هذا القول صدر منه بعد انصرافه عن قتل موسى (علیه السلام)، ففيه نوع تراجع عن موقفه السابق حيث عزم على قتله، فهو هنا يظهر أنّه يريد مواجهته (علیه السلام) بنوع من المنطق، وإن كان منطقاً فرعونياً.

وقد ورد هذا المعنى في سورة القصص أيضاً «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ »(1) ولم يكن فرعون جاهلاً كما ربّما يتوهّم بل كان يعلم أنّ موسی (علیه السلام) على حقّ لقوله تعالى في سورة الإسراء «قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ »(2).

ويبعد أيضاً أن يكون ذلك للتمويه على السامعين وهم الملأ من قومه، فإنّهم كانوا يعلمون أنّ من يعنيه موسى (علیه السلام) ليس موجوداً محصوراً في مكان من السماء، وكانوا يعلمون أخبار الأمم السالفة وأقوال أنبيائهم، ولا أقلّ من أنّهم

ص: 439


1- القصص (28) :38 .
2- الإسراء (17) :102 .

كانوا يعلمون أنّ الصرح مهما علا وارتفع فإنّه لا يبلغ الجبال فكان بإمكانه الاستغناء بها.

ولذلك قال بعض المفسّرين : لعلّه أمر ببناء رصد ليرصد الأفلاك والنجوم و هو بعيد جدّاً وإن مال إليه العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) .

والظاهر أنّ هذا الكلام لم يكن إلّا استهزاءً منه برسالة السماء، وزيادة منه في الطغيان والتمرّد. ولذلك اقتصر القرآن في الردّ عليه أنّه قد زُيّن له سوء عمله وصُدَّ عن السبيل، ولكنّه في نفس الوقت يمكن أن يقصد به التمويه على السذج البسطاء من الناس، ونحن نجد إلى يومنا هذا أنّ الطغاة كثيراً ما يردّون على منطق المعارضة، ويفسّرون ويؤوّلون جرائمهم وأعمالهم الفاسدة بوجوه لا يقبلها العقل، ولا يصدقها أكثر الناس، ولكنّهم لضعف منطقهم وعدم تمكّنهم من الإتيان بوجه منطقي واضح يكتفون بذلك مكابرة حتّى لو لم يصدقهم أحد.

« َكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ» هذه الجملة تبيّن أنّ ما فعله فرعون كغيره ممّا يصدر من البشر تحت السيطرة والتقدير والتدبير، فكلّ ما يعتبر طغياناً على الله تعالى إنّما هو طغيان بلحاظ قصد الإنسان وسوء سريرته، وإلّا فلا يمكن لشيء أن يخرج عن سلطانه، وأن يعمل خارج نطاق إرادته تعالى. فما فعله فرعون كان بتزيين من الله، سواء أسند التزيين إليه تعالى أو إلى الشيطان، فإنّه أيضاً من الله لأنّه بإذنه تعالى. وقد نسب التزيين والتسويل - وهما واحد - في القرآن بصورة عامّة تارة إلى الله تعالى وأخرى إلى الشيطان وثالثة إلى نفس الإنسان.

ولكنّ الشأن فى أنّ هذا التزيين من الله تعالى أو بإذنه إنّما هو جزاء لطغيان الإنسان وإصراره على مجابهة الحقّ بالباطل، وليس جزاءً وضعياً، و إنّما هو أمر

ص: 440

طبيعي، فإنّ الإنسان إذا أصرّ على مجابهة الحقّ بالباطل ليتمّ له متابعة الأهواء والشهوات، لا يتمّ له ذلك إلّا بمحاولة التعتيم على نفسه وخداعها، فأوّل من يسوّل له هو نفسه الأمارة. وهكذا يستمرّ في ذلك حتّى يطبع على قلبه ويختم نتيجة إصراره، فلا يتقبّل إلّا الباطل الذي زُيّن له. وبذلك يتمّ أيضاً صدّه ومنعه عن سبيل الحق، وهو الذي سدّ على نفسه الطريق بسوء اختياره.

وهكذا كان فرعون فلم يستطع لكثرة ما حاك حول نفسه من حبائل الشيطان إن يرجع إلى صوابه ويسلك سبيل الحقّ مع أنّه كان يعرفه حق المعرفة.

« وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ »التباب : الخسران والكيد : المكر. ويظهر منه أنّ محاولة فرعون المذكورة إنّما كان يقصد بها المكيدة بالحقّ وأهله بغياً وعدواناً. وهذا من حمق الإنسان حيث يقابل ربّه ويبرز عضلاته أمام جبّار السماوات والأرض، ولكن كلّ كيد من هذا القبيل مصيره الخسران في الدنيا والآخرة.

« وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ» يبدو من كلام هذا الرجل العظيم أنّ خطابه بالأمر بالمتابعة موجّه إلى سائر القوم ولم يخاطب فرعون إذ يستبعد أن يأمره بالمتابعة، والسبب في ذلك أنّه يئس من التأثير في قلبه، كما يظهر ذلك أيضاً من تكراره نفس التعبير الذي عبّر به فرعون في خطاب قومه من أنّه يهديهم سبيل الرشاد، فالظاهر أنّه وجه الخطاب إلى الملأ من قومه فحسب.

ولعلّه كان يعلم أنّه لا يظهر هذا الكفر والعناد إلّا مع العلم بما هو الحقّ فعلم أنّه يواجه شيطاناً مكابراً فأعرض عنه، ووجه خطابه إلى القوم لعلّ فيهم من بقي فيه بصيص أمل للنجاة والاهتداء، ولم يكتف بذلك بل أمرهم بالإعراض عن فرعون، وهذا هو معنى قوله اتّبعون، أي لا تتبعوا فرعون بل اتبعوني. وحيث قال فرعون فيما سبق: « وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ » ردّ عليه المؤمن بأن ّسبيل الرشاد

ص: 441

هو ما أتّبعه وهو سبيل الأنبياء والمرسلين، لا سبيل الفراعنة والطواغيت.

« يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ» فصّل المؤمن بيان سبيل الرشاد، وهو الاهتمام بالآخرة، وأن لا ينظر الإنسان إلى الدنيا إلّا باعتبار كونها متاعاً مؤقتاً وممرّاً وطريقاً إلى الآخرة، وأنّ مستقرّ الإنسان هو حياته الأبدية في تلك النشأة والمتاع ما ينتفع به الإنسان لمدّة محدودة.

وأوضح أنّ ميزة الحياة هناك هي الجزاء على ما عمله الإنسان في الدنيا، فعليه أن لا يخصّص حياته للتمتّع بما في هذه الحياة، بل لا يتمتّع منها إلّا بمقدار الضرورة، ويكون غاية اهتمامه بما يترتّب على عمله من النتائج في الآخرة.

فمثل البشر في هذه الحياة كمثل قافلة نزلوا في مكان للراحة وأخذ الزاد للاستمرار في المسير، فينادي فيهم المنادي أن لا تشغلوا أنفسكم بالتلذّذ بمباهج هذه الروضة الخضراء، ولا تهتمّوا بما حولكم من المغريات، بل اجعلوا همّكم في جمع أكبر مقدار ممكن من الزاد والماء، ولكن أكثر القوم لا يجلب اهتمامهم إلّا المناظر الخلابة والتمتّع بمباهج الحياة، ولا ينتبّهون إلّا على صوت المنادي بالرحيل فيحاولون أن يجمعوا لهذا السفر الشاقّ الطويل زادً وماءً، وأنّى لهم ذلك فالركب لا ينتظرونهم.

وهكذا الحياة الدنيا بالنسبة إلى الآخرة ليست إلّا متاعاً، ولكنّها في نفس الوقت مكان العمل لتلك الحياة الأبدية التي هي المستقرّ.

« مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ» بيان لنتيجة عمل الدنيا في الآخرة، وأنّ جزاء السيّئة سيّئة مثلها فلا يضاعف جزاء العمل السيئّ، وأمّا العمل الصالح فلا حدّ ولا حصر لجزائه.

ص: 442

وقوله « بِغَيْرِ حِسَابٍ»» يمكن أن يكون متعلقا ب- «يُرْزَقُونَ» فالمعنى أنّ جزاءهم في الجنة غير محدود، في مقابل مجازاة السيّئة بمثلها.

ويمكن أن يكون متعلّقا بقوله «يَدْخُلُونَ» والمراد أنّهم لا يتحمّلون أذى المحاسبة، بل يدخلون الجنة بغير محاسبة لأعمالهم. والأول أقرب.

ونبّه بقوله « مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى »على أمر غريب في ذلك المجتمع، بل حتّى في مجتمع نزول القرآن بل في كثير من المجتمعات المتخلّفة المعاصرة حتّى الذين يدعون الإسلام، حيث نجد أكبر الظلم على المرأة. وأمّا رسالة السماء منذ البدو فلم تفرّق بين الرجل والمرأة في كسب المنزلة والثواب لدى الله تعالى والقرآن يصرّح ويؤكّد على هذا الأمر في موارد كثيرة.

ويبقى هنا سؤال وهو أنّه ما المراد بكون جزاء السيّئة مثلها؟ والسيّئة ربّما تكون عملاً قبيحاً، وربّما يكون اعتقاداً كالشرك، أو قولاً بغير علم، فكيف يكون الجزاء مثل ما عمل والحال أنّ الجزاء هناك نار حامية وأمثالها وليس مثلاً للعمل ؟! ومن جهة أخرى فالعذاب هناك خالد أبدي ولا يشبه العمل الذي أتى به الإنسان في لحظة.

والجواب أنّ الأمور تنكشف هناك وتتجلّى على حقيقتها، فالعمل يبدو هناك على ما هو عليه في الواقع من الفظاعة والقبح. والجزاء إنّما يكون مثله على واقعه الفظيع الذي يبدو هناك، وليس مثله على ما هو عليه في الدنيا، فإنّه ربّما لا يستقبحه الإنسان، بل ربّما يستحسنه ويتباهى به .

فمثلاً القول بأنّ الله تعالى له ولد ليس فى الدنيا إلّا قولاً عابراً، وربّما يعتقد القائل حينما يعلن ذلك أنّه يدعو إلى حقيقة دينية، وأنّه يباشر عملاً رسالياً جليلاً، فيتقرّب به إلى الله تعالى مع أنّه في واقع الأمر فظيع جدّاً. والله تعالى يقول:

ص: 443

«وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا *لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا *تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا »(1).

« وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ » يبدو من هذا المقطع أنّه يئس من قومه أيضاً، ويبدو أنّهم بدلاً من أن يقبلوا كلامه ونصحه ردّوا عليه بدعوته إلى التمسك بعقائد الآباء ونحو ذلك ممّا تشتمل عليه الشعارات الزائفة، فأراد أن يتمّ الحجّة عليهم ويتركهم في ضلالهم يعمهون.

ومع ذلك لم يترك خطابه الأول حيث ناداهم مرّة أخرى بأنّهم قومه: ياقوم أي «يا قومي» مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار؟ فهو يريد أن يوبّخهم لأنّهم يدعونه إلى طريق مظلم لا نهاية له إلّا الهلاك والخسران، ولكنّه لا يبدأ كلامه بذلك بل يعبّر عن ذلك بما يستوجب التأنيب ويثير الاستغراب.

أليس غريباً أن يدعوهم إلى النجاة وهم يدعونه إلى النار ؟ وهم بالطبع لم يدعوه إلى النار ولكنّه حيث ينتهى إلى النار فکأنّها دعوة إليها.

« َدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ »بيان للجملة السابقة، فإنّها مجملة لم يتبيّن منها ما هو الموجب للنجاة، وما هو الموجب للوقوع في النار. واعتبر الدعوة إلى عبادة غير الله تعالى كفراً لأنّ عبادة غيره لا معنى له إلّا اعتبار ربّ غيره تعالى ومقتضى ذلك أن تنسب بعض النعم إلى غيره تعالى، وهذا كفران بنعمه. وأمّا الشرك فاكتفى في بيان بطلانه أنّه اعتقاد بالألوهية من دون مستند. ولا حاجة إلى دليل لبطلانه، مع أنّ الدليل عليه واضح.

« وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ » وشتان بين الدعوتين !! ولعلّ ذكر الاسمين

ص: 444


1- مریم (19) :88- 91 .

الكريمين للتنويه على أنّه تعالى عزيز وغالب على أمره، فهو ليس بحاجة إلى عبادتكم ولكنّه في نفس الوقت غفّار للذنوب، فإن عدتم إلى رشدكم وتركتم عبادة غيره وتوجّهتم إليه تاب عليكم.

« لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ »، «« لَا جَرَمَ »تركيب يفيد أنّ ما بعده أمر قطعي لا شكّ فيه. واختلف في جذور هذا التركيب، وأحسن ما قيل: إنّ «لا» تفيد نفي ما سبق أو نفي كلّ ما يتوهّم مخالفاً لما بعدها، ومثلها «لا أقسم». ثمّ الجرم بمعنى أنّه قطعي لأنّه في أصل اللغة بمعنى القطع.

ومهما كان فمراد الرجل المؤمن من هذه الجملة واضح ، وهو أنّه لا شك ولا ريب في أنّ ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة. قيل: المعنى أنّه لا يدعو إلى نفسه لأنّه جماد وهذا خاصّ بالأصنام. وقيل: المراد أنّه ليس هناك رسول يدعو إليه. ويمكن أن يكون المراد أنّه لا ينبغي أن يدّعى لأمر الدنيا ولا لأمر الآخرة، فالمراد أنّه لا يستجيب دعوة أحد لأمر من أمور الدنيا ولا الآخرة.

« وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ » بعد أن نفي أيّ فائدة تعود إلى الإنسان في متابعة من يدعون إليه بيّن أنّ السعادة إنّما هي في تأمين الحياة الأخرى الأبدية، والتي هي عاقبة أمر الإنسان ومستقبله المحتوم. وحيث إنّ مردّنا ومرجعنا إلى الله تعالى فلابدّ من امتثال أوامره لنحظى بالحياة السعيدة لديه.

«وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ » لعلّ التعبير بالإسراف باعتبار أنّ الذي يدعو إلى غير الله تعالى، ويعتبره شريكاً له في الربوبية قد أسرف وتجاوز عن الحدّ في التوجه إلى غير الله حتّى اعتبره شريكاً له في الربوبية.

والجملة بمقتضى ضمير الفصل تدلّ على انحصار أصحاب النار في من

ص: 445

تجاوز الحدّ، والوجه في ذلك، إمّا أنّ كلّ ما يوجب دخول النار تجاوز عن حدّ العبودية وعصيان لأمر الله تعالى، أو لأنّ أصحاب النار هم الخالدون، فيها فلا يشمل العصاة من المؤمنين.

« فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ » في الجملة تهديد وإنذار واضح بأنّهم سيلقون ما يشير إليه من عذاب الله في الحياة الأخرى، ويتذكّرون نصحه ووعظه، ولكن بعد فوات الأوان.

ثمّ أعلن بقوله « وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ »أنّه لا يخاف تهديدهم وبطشهم لأنّه يفوّض أمره إلى الله تعالى، وهو يضمن له السعادة، فإن كانت سعادته في استشهاده بأيديهم فإنّه مستعدّ للتضحية، وإن أراد الله إنجاءه من أيديهم فإنّه قادر على ذلك.

والتفويض مرحلة من الإيمان بالله تعالى تفوق التوكّل فکأنّه ترك الأمر لا يهتمّ به، وهو واثق أنّ ما يحصل له هو الخير كلّه، وليس معنى ذلك أنّه لا يعمل بما يجب عليه من حفظ النفس ودفع الضرر، كما أنّ المتوكل أيضاً يفعل ذلك، و إنّما لا يهتمّ ولا يحزن بالنسبة إلى ما لا دخل لإرادته فيه ولا يمكنه عمل تجاهه. ثمّ علّل تفويضه ذلك بأنّه واثق من أنّ الله تعالى بصير بالعباد وبما يحتاجون إليه وبما يصلح شأنهم، وهم عباده فلا يريد لهم الشرّ، فلا حاجة إلى أيّ محاولة بعد تفويض الأمر اليه.

« َوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا » يتبيّن من الآية أنّ القوم أرادوا به شراً، وهو ما يبدو أيضاً من تفويضه الأمر إلى الله تعالى والفاء في أوّل الجملة تفيد التفريع، وأنّ ذلك كان نتيجة تفويضه أمره إلى الله تعالى فوقاه الله شرّ ما أرادوا به من سوء. بل يبدو

ص: 446

أنّهم أرادوا به وجوهاً من العذاب، حيث أتى بلفظ الجمع « سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا».

روى الصدوق (رحمه الله ) بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام)«عجبت لمن فزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع... وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع...« وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ » فإنّي سمعت الله جل وتقدّس يقول بعقبها: « فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا» ». (1)

ولكن ورد في بعض الروايات تفسير آخر للوقاية. فقد روى الكليني في «الكافي » بسنده عن أيوب بن الحرّ، عن أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله عزّ وجل: « فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا» فقال: «أمّا لقد بسطوا عليه وقتلوه ولكن أتدرون ما وقاه؟ وقاه أن يفتنوه في دينه». (2)

وروى مثله البرقي في «المحاسن». وفيه «لقد سطوا عليه». (3) وفي التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم وقوله: « فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا» یعنی مؤمن آل فرعون فقال أبو عبد الله (علیه السلام) «والله لقد قطّعوه إربا إرباً ولكن وقاه الله أن يفتنوه في دينه»

وربّما يستفاد ذلك أيضاً من تعبير الآية، حيث إنّ مفادها أنّه تعالى وقاه سيّئات مكرهم ومكائدهم لا كلّ ما مكروا به فتدلّ الآية على أنّهم تفنّنوا في تعذيبه بوجوه من العذاب، وكان غرضهم الأوّل أن يفتنوه عن دينه فوقاه الله ذلك. والله العالم.

« وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ» وفي المقابل حاق بآل فرعون ومنهم هو نفسه ء العذاب. وحاق يحيق أي نزل به عاقبة فعله أو مكره، قال تعالى: « وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ»(4) .وقيل: بمعنى أحاط به وعليه. فلعلّه - بناء على ذلك -

ص: 447


1- الفقيه 4: 392 .
2- الكافي 2 :215 .
3- المحاسن 5: 260 .
4- فاطر (35) :43 .

مأخوذ من الحوق وهو بمعنى الإحاطة فقلب ياءاً. وسوء العذاب بمعنى أنّه أسوأ ما يكون منه ثمّ بيّن ذلك في الآية التالية.

« النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا» الألف واللام للعهد، أي النار المعهودة وهي جهنّم، وهي مأواهم يوم القيامة، ولكن يعرضون عليها عدواً وعشيّاً لمزيد من التنكيل والنكاية، جزاءً لإصرارهم على الكفر بعد أن أتمّ الله عليهم الحجّة بوجوه عديدة، ومنها كلام صاحبهم هذا وهو منهم.

والعرض بمعنى إظهار شيء لأحد ليراه إمّا لشراء، أو زواج، أو أيّ غرض آخر. والغرض هنا إراءة الجزاء والمقرّ النهائي، والتعبير من باب القلب فإنّ النار تعرّض عليهم ليروها دون العكس. ولعلّ الوجه فيه تصوير جهنّم وکأنّها موجود شاعر تطلب الكفّار وتتوعّدهم نظير قوله تعالى: «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ »(1).

والآية ممّا تدلّ بوضوح على مرحلة من التكوين هي عالم البرزخ، كما ورد في قوله تعالى: « وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»(2). وهناك آيات كثيرة تدلّ على ذلك بالنسبة للأخيار والأشرار، فمن الأول قوله تعالى: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ »(3)، ومن الثاني هذه الآية بقرينة مقابلة العرض على النار لما يحدث يوم القيامة من الأمر بإدخالهم أشدّ العذاب ممّا یدلّ على أنّ العرض قبله.

ص: 448


1- ق (50): 30 .
2- المؤمنون (23): 100 .
3- آل عمران (3): 169 .

ولعلّ المراد بقوله « غُدُوًّا وَعَشِيًّا» الاستمرار والتكرار لا خصوص الصباح والمساء، فإنّهما من شؤون هذه الحياة. ولكن ورد في بعض الروايات أنّ ذلك إنّما يعذبون به في الحياة الدنيا، فلو صحّ كان المراد بالغدوّ والعشيّ الصباح والمساء حقيقة. ولكنّ الرواية مرسلة، ووردت في «تفسير علي بن إبراهيم». واستناد الكتاب إليه غير ثابت.

ومهما كان فالعرض على النار نوع من العذاب. ويبدو من مجموع الآيات أنّ عذاب البرزخ ليس لكلّ الناس، بل خاصّ بأمثال آل فرعون حيث يعرضون على النار. وأمّا عامّة الناس فيرون أنّهم إنّما بقوا بين الموت والحشر مدّة قليلة كما تدلّ عليه آيات كثيرة كقوله تعالى «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا»(1).

وورد في «الكافي » عدّة أحاديث بعضها معتبرة سنداً بهذا المضمون «لا يُسْأَلُ في الْقَبْر إلّا مَنْ مَحَضَ الإيمان مَحْضاً أو مَحَضَ الْكُفْرَ مَحْضاً والآخَرُونَ يُلْهَى عنهم»(2)

« وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ»، أي يقال: « أَدْخِلُوا » والقول هناك كما قلنا مراراً بمعنى الفعل. وفرعون داخل بنفسه في الآل. ويبدو من التعبير أنّ عذابه وعذاب من كانوا معه من أشدّ العذاب يوم القيامة، فالأشدّية على ما يبدو بالقياس إلى سائر أنحاء العذاب في ذلك اليوم لا بالقياس إلى عذاب الدنيا أو البرزخ.

ص: 449


1- النازعات (79): 46 .
2- الكافي 3: 235.

سورة غافر ( 47 – 55)

وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)

« وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ». «تبع» مصدر في الأصل ويطلق بمعنى التابع. ولذلك يستوي فيه المفرد والجمع. والنصيب : الحظّ والجزء المحدد من الشيء والنصب : الإقامة والتحديد. والمراد هنا تحمّلهم جزءاً معيناً من العذاب.

واختلف المفسّرون في أنّ الضمير في قوله « يَتَحَاجُّونَ » هل يعود إلى آل فرعون خاصّة لأنّهم ذكروا قبله أو أنّه عامّ؟ ولا جدوى في هذا البحث إذ لا شكّ في أن الحكم عامّ، وقد تكرّر في القرآن الكريم احتجاج المستكبرين والمستضعفين من أهل النار، ومنهم فرعون وقومه بلا ريب.

ومهما كان فإنّ الأتباع يريدون أن يخفّفوا شيئاً من وطأة العذاب عليهم، أو يريدون إلقاء اللوم والعتاب على أسيادهم فممّا يقولون لهم أنّنا كنّا أتباعاً لكم

ص: 450

في الحياة الدنيا، وكنتم تعدّوننا بأنّكم ستنصروننا وتدافعون عنّا، وتؤكّدون أنّه لا شيء هناك يهدّدكم، ولا احتمال لوجود عالم آخر وراء الحياة الدنيا، أو أنّ لكم عند الله كرامة، وغير ذلك ممّا يعدّ به الأسياد أتباعهم ليبتزّوا أموالهم، أو ليحظّوا بمتابعتهم وإطاعتهم، فيطالبونهم يوم القيامة بأن يتحمّلوا شيئاً من عذابهم تنفيذاً لوعودهم.

« قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا » وهكذا يأتيهم جواب المستكبرين ممّا يحكي عن ذلّهم وانكسار جبروتهم « إِنَّا كُلٌّ فِيهَا » أي إنّنا هنا متساوون في العجز والضعف والعذاب. وليس معنى ذلك عدم اختلافهم في دركات الجحيم، إلّا أنّ الجميع تجمعهم النار والذلّ والانكسار فليس هنا مستكبر ومستضعف.

« إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ »، أي جعل كلّ إنسان في موضعه الحقيقي، و إنّما كنّا ندّعي ما ندّعي حين كان الأمر مستوراً على البشر، فإنّ الشؤون غير معلومة في عالم الدنيا وأمّا في الآخرة فتبدو الحقائق كما هي، وربّما كان الإنسان في الدنيا يبدو قوياً مستعلياً وهو في واقع الأمر في غاية الذلّ والهوان والضعف، وربّما يكون بالعكس. وهكذا في سائر الجهات.

« وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ» يتبيّن من الآية يأس الذين في النار عن النجاة منها، فتوسّلوا بالملائكة الموكّلين بالنار وطلبوا منهم أن يدعوا الله تعالى أن يخفّف عنهم العذاب يوماً ما. والمراد باليوم قطعة من الزمان، إذ ليس هناك يوم بالمعنى المعهود هنا ولم يطلبوا إيقافه نهائياً، بل تخفيفه في يوم مّا، وهذا غاية القناعة، فالمراد بالآية بيان أنّ أهل النار لا يخفّف عنهم العذاب حتّى يوماً واحداً كما صرّح به في عدّة من الآيات كقوله

ص: 451

تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا»(1).

ومقتضى السياق أن يقال وقال الذين في النار لخزنتها، ولكن عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر، وأبدل الاسم من النار إلى جهنم لمزيد من التهويل.

« قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى» يبدو أنّ الغرض من هذه المقدمة في الجواب بيان الوجه في عدم استجابة الدعاء، وهو إتمام الحجّة عليهم بإرسال الرسل، وأنّهم قاموا بواجب أداء الرسالة بأحسن وجه، فأتوهم بالأدلة البينة الواضحة، والمعجزات الباهرة التي لا تبقى عذراً للانسان فسألوهم استفهام تقرير: أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات؟

والواو في « أَوَلَمْ » للعطف، أي عطف كلام الملائكة على كلام الكفّار، ومعناه أنّه كان ينبغي لكم أن تذكروا في دعائكم هذه النقطة التي تدلّ على إتمام الحجّة ، ولكن لم تذكروها لأنّها تمنع من استجابة الدعاء.

وفي قولهم: « تَكُ تَأْتِيكُمْ » بدلاً من «تأتكم» إشارة إلى استمرار الرسالات وتعاقبها، فإنّ « تَكُ »مخفّفة من تكن ومعناه أن الرسالات كانت تأتي باستمرار لا أنّها أتت وانتهت.

و « بَلَى» كلمة جواب تأتي بعد النفي وتفيد الإثبات فهم يعترفون هناك بإتمام الحجّة عليهم، إذ لا مجال اليوم للإنكار فهم أنكروا في الدنيا وكفروا بالرغم من وجود الأدلّة الواضحة طغياناً وعلوّاً.

« قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ » قيل: إنّ الملائكة طلبوا منهم أن يدعوا بأنفسهم، لأنّ الملائكة لا يدعون في مثل هذا الحال، ولكنّ الظاهر من

ص: 452


1- فاطر (35): 36 .

الجواب الإشارة إلى نفس الدعاء الذي تقدّموا به بواسطة الملائكة، أي اطلبوا تخفيف العذاب كما طلبتم ، فإنّه غير مقبول بعد إتمام الحجة من الله تعالى.

والمراد بدعاء الكافرين ليس هذا الدعاء فحسب بل مطلق دعائهم. والظاهر أنّ المراد بالضلال أنّهم لا يعلمون ماذا يدعون ومتى يدعون، فإذا سنحت لهم فرص الإجابة لا يدعون بالهداية والمغفرة والنجاة من النار، و إنّما يدعون بالمال والجاه، وما يفيدهم في الدنيا ويضرّ آخرتهم و إنّما ينتبّهون للدعاء بالمغفرة يوم لا يقبل الدعاء.

« إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ» الجملة مؤكدة ب-«إنّ» ولام القسم. وهي نظيرة ما ورد في قوله تعالى «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ *إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ *وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ »(1) . ولكنّ الآية هنا تصرّح بأنّ الله تعالى ينصر رسله في الدنيا، بل ينصر الذين آمنوا في الدنيا أيضاً. ولا شكّ في أنّه ليس المراد نصرة كلّ فرد من المؤمنين يواجه كافراً في حرب ولو شخصية. ولو كان الله ينصر كلّ مؤمن على عدوّه في كلّ مواجهة لكانت هذه ميزة واضحة للمؤمنين ولآمن الناس جميعاً ولارتفع الامتحان والابتلاء. وكذلك نصرته للرسل ليست نصرة شخصية في أي مواجهة.

وعليه فيمكن تحقّق مصداق النصرة بوجوه:

منها: نصرة الرسالة والإيمان في مقام الاحتجاج والاستدلال بالبراهين الساطعة والآيات الواضحة.

ومنها: الانتقام للرسل والمؤمنين من أعدائهم الظالمين والمعتدين بإنزال

ص: 453


1- الصافات (37): 171 - 173 .

العذاب عليهم من السماء إن لم يتحقّق بأيدي المؤمنين. والله تعالى يعتبر ذلك أيضاً نصرة لهم. كما قال تعالى في قوم موسى وهارون (علیهما السلام) «وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ » (1)، مع أنّهم لم يغلبوا فرعون وجنوده في حرب.

ومنها: نصرة الرسل والمؤمنين في النهاية والعاقبة على جنود الكفر. وهذا قد تحقّق في عدّة مواطن، ولكنّ النصرة الكاملة لكلّ الرسالات تحصل بظهور صاحب الأمر - عجل الله تعالى فرجه الشريف -.

ويمكن أن يقال: إنّ المراد من النصرة ما يعمّ انتصار الهدف، فالذي يقتل في سبيل الله تعالى كسيد الشهداء الإمام الحسين - عليه أفضل الصلاة والسلام - غير مهزوم، لأنّ هدفه هو الغالب في النهاية حتّى لو تمكّن الظالمون من قتله وقتل أهل بيته وأصحابه (علیه السلام) ، بل إنّه بلغ هدفه من نهضته من أول الأمر، حيث كان يقصد بها منع بني أمية من هدم أساس الدين، وكان هذا أمنيتهم وبغيتهم.

ومهما كان فالآية على ما يبدو تشير إلى نصرة الله لمؤمن آل فرعون ولموسى (علیه السلام)وبني إسرائيل.

وقد عبّر في هذه الآية عن يوم القيامة بيوم قيام الأشهاد، وهو جمع شاهد ولعلّ المراد بهم الرسل والأئمة ، إمّا بمعنى أنّهم يشهدون على أعمال الأمّة حيث تعرّض عليهم كما في الروايات أو لأنّ الله تعالى يحتجّ على العباد بسيرتهم وأعمالهم فتكون سيرة الرسول والإمام كالشاخص والأنموذج تقاس به أعمال الناس. وعلى ذلك ربّما يدخل في هذا المعنى كلّ من يحتجّ به على سائر الناس من عباد الله الصالحين والشهداء.

ص: 454


1- الصافات (37): 116 .

« يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ » بيان ليوم قيام الأشهاد، حيث إنّه بقيامهم تثبت الحجّة التامّة عليهم فلا يقبل منهم اعتذار. ولا ينافي ذلك قوله تعالى «وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ » (1)، بل هما في سياق واحد فلا حاجة إلى تأويل، إذ يمكن أن يقال: إنّ عدم الإذن لهم من جهة إتمام الحجّة عليهم وعدم الجدوى لاعتذارهم.

« وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» .« اللَّعْنَةُ » هى البعد عن رحمة الله تعالى. و « سُوءُ الدَّارِ» من إضافة الصفة إلى الموصوف، والسوء مصدر يقصد به الصفة، فالمعنى لهم الدار السيّئة وهي جهنّم نعوذ بالله منها.

ويتبيّن من هذه الآية أنّ المراد بنصرة الرسل والذين آمنوا يوم القيامة هو التنكيل بأعدائهم، بدواً من رفض أي اعتذار، وتثنية باللعنة الأبدية، وانتهاءً باستقرارهم في دار السوء، أي دار ليس فيها إلّا ما يسيء لساكنها. ويمكن بالتناسب أن يفهم منه أنّ النصرة في الدنيا أيضاً من هذا القبيل، وهو إنزال العذاب الأليم على أعدائهم في النهاية.

« وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ » بيان لمورد من موارد النصرة الإلهية لرسله ليكون شاهداً على ذلك، وهو الإنعام على موسى (علیه السلام) بالهداية المستمرّة في كلّ موقف من مواقفه مع فرعون أو مع قومه المعاندين، مضافاً إلى الكتاب الذي زوّده الله تعالى به، وهو التوراة. وأورثه بني إسرائيل يتوارثونه جيلاً بعد جيل.

« هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ » حالان من الكتاب أي أورثناهم التوراة، وهي مشتملة على ما يحتاجونه من تشريعات إلهية لجميع شؤون حياتهم. وهي إلى

ص: 455


1- المرسلات (77): 36 .

الآن وبالرغم ممّا طرأ عليها من تحريف وتغيير لا تخلو من الأحكام الإلهية الصحيحة، وإن كان قسم كبير منها منسوخاً بشريعة سيّد المرسلين (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومع ذلك فالخطوط الأصلية الواضحة تبقى هادية ومذكرة لأولي الألباب.

و«اللبّ»: العقل، فهي تهدي من يتّبع عقله السليم وفطرته السليمة إلى ما لا يصل إليه من حقائق غيبية، وتذكّره بما تدلّه إليه فطرته، وإن تناساها لمتابعة الأهواء وتشكيك المضلّين. وذكر هذا الشاهد بعد تعميم النصرة للرسل يؤيّد أنّ المراد بالنصرة ما يشمل الهداية وقوة الاستدلال والحجّة.

« فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» تصدير الفاء یدلّ على أنّ ما بعده كالنتيجة لما قبله فإذا كان وعد الله لنصرة رسله شاملاً وعامّاً، وقد نصرهم الله فعلاً في كلّ المواطن، فاصبر على ما تلقّاه من الأذى والعناد من الأعداء، فإنّ وعد الله بالنصر حقّ لا ريب فيه كما يشهد له نصره تعالى لموسى (علیه السلام) والمؤمنين من بني إسرائيل. والصبر بمعنى الثبات والمقاومة هو الشرط الأساس لتحقق النصر الإلهي.

« وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» وهذا هو الشرط الثاني. والحكم عامّ يشمل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وغيره، فمن أراد النصر عليه أن يستغفر من ذنوبه. والنبيّ معصوم لا ذنب له، إلّا أنّه يمكن أن يكون المراد به ما يكون ذنباً بالنسبة لمقام قربه، فالذي يعصم الله عنه رسله وحججه إنّما هو الذنب الذي يبتلى به عامّة الناس، وهو المحرّم في الشريعة، وأمّا ما يعتبر بحسب مقام قربهم ومكانتهم لدى الله سبحانه ذنباً فليسوا معصومين عنه، ولذلك تختلف مراتبهم ومقاماتهم حسب ابتعادهم وتنزههم عن الذنب بهذا المعنى، وهو يحصل بأدنى توجّه إلى النفس وميوله حتّى لو كانت

ص: 456

مباحة، بل ربّما يكون الأمر مستحبّاً ومطلوباً لسائر الناس، وذنباً للمقرّبين. ولذلك قيل حسنات الأبرار سيّئات المقربين فصلاتنا مثلاً حسنة لنا، ولا شك في أنّ الرسول والإمام إذا صلّيا مثل هذه الصلاة الفاقدة للمعرفة وللتوجّه إلى الله سبحانه لا تقبل منهم، بل يعدّ من سيّئاتهم التي يجب الاستغفار منها.

هذا ويمكن أن يكون المراد بالذنب هنا خاصّة استبطاء النصر الإلهي فهذا الأمر كان يحصل للرسل قال تعالى: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا»(1) ، وقال تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ »(2) ، وهذا أيضاً أمر طبيعي يدور في خلد الرسل بما أنّهم بشر، ولا يقولون أكثر ممّا ورد في الآية « مَتَى نَصْرُ اللَّهِ» ولكنّه يعدّ بالنسبة لهم ذنباً.

وعلى هذا الاحتمال فلا ضرورة في أن يعدّ الاستغفار هنا أحد شروط النصر، فإنّ مناسبة الأمر به هنا هي التنبيه على أنّه لا ينبغي للنبيّ أن يستبطئ نصرة الله سبحانه.

« وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ»على تقدير كون الاستغفار شرطاً للنصر، فهذا أيضاً شرط ثالث، وعلى الفرض الأخير يعتبر مكملاً للاستغفار، فعلى المؤمن أن يتحلّى بتسبيح الله تعالى وتحميده بعد تخلّيه عن الآثام والذنوب و آثارها.

والتسبيح تنزيه الله سبحانه عن كلّ ما لا يليق به من الصفات. والباء

ص: 457


1- يوسف (12): 110 .
2- البقرة (2): 214 .

للمصاحبة، أي يجب أن يكون التنزيه مصاحباً للثناء عليه تعالى بالصفات الحميدة التي أثنى بها الله على نفسه والعشيّ هو أوّل الظلام، والإبكار أوّل الصباح، فيمكن أن يكون إشارة إلى ما ورد في قوله تعالى «فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ » (1) ، وورد الحثّ في الروايات على أن يقال في هذين الوقتين «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، ويميت ويحيي، وهو حي لا يموت بيده الخير، وهو على كلّ شيء قدير» عشر مرات، بل ورد الأمر بقضائه مع النسيان وحكي عن بعض الفقهاء القول بالوجوب لمكان الأمر. ويمكن أن يكون المراد بالعشيّ والإبكار الاستمرار على ذلك، فيكون كناية عن الدوام فإنّ المؤمن يجب أن لا ينسى ربّه أبداً ويذكره دائماً.

ص: 458


1- ق (50): 39 .

سورة غافر( 56 – 59)

إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)

هذه الآيات تتّبع ما سبقها، فإنّ السياق يؤكّد على نصرة الله لرسله وللمؤمنين. وقلنا إن النصرة الواضحة هي نصرتهم في أعلاء كلمتهم بالحجة والبرهان ولا ينحصر النصر في المواجهة المسلّحة، بل بملاحظة هدف الدين وهو الإرشاد والهداية يتبيّن بوضوح أنّ النصر فيه ينحصر في قوة الحجة والبرهان، والغلبة بذلك على الإفكار المعادية ليتسنّى للإنسان انتخاب طريق الدين، والإيمان بالله وبالرسالات بحُرِّيَّة، إذ لا إكراه في الدين ولا يمكن فيه الإكراه، ولا ينفع.

وعلى ذلك وردت الآية الأولى من هذه الآيات ليطمئنّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمؤمنون بأنّ المعادين للرسالة الذين يجادلون في آيات الله تعالى ويرفضون الانصياع لها - والمفروض أنّ الآيات هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة الله ومعرفة صفاته ورسالاته _ لا يملكون في ذلك حجّة وبرهاناً، وليس رفضهم لعدم اقتناعهم بها، و إنّما يرفضون ويجادلون لما تمكّن في نفوسهم من الكبر والخيلاء. فإنّ هذا الإنسان الصغير الحقير إذا نظر في عطفه وأعجبته نفسه تصاغر في عينه كلّ الكون على عظمته.

ص: 459

« إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ» ، المجادلة والجدال هو المنازعة بالكلام بشدّة وقوّة سواء كان بحقّ أو بباطل وأصل الجدل الاستحكام والمراد به هنا ما يلازم الجدال وهو الرفض وعدم الانصياع والمراد بالسلطان الحجّة والبرهان لأنّه هو الموجب لتسلّط من له الحجّة على الموقف. وقوله « أَتَاهُمْ» وصف للسلطان، أي لم يؤتهم الله تعالى سلطاناً وحجّة، فهو إشارة إلى أنّهم يقابلون من له سلطان وهداية من الله تعالى، ولا شكّ في أنّ الذي يقابل من هداه الله تعالى لا يملك رصيداً يعزّز موقفه في الاحتجاج.

« إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ »، الكبر من الصفات النفسية وموضعه النفس. ولكن يعبّر عنها في العرف بالقلب لما يجدونه من تأثّر القلب - أي العضو الخاصّ - بالأمور النفسية المحزنة والمفرّحة وغيرهما. وحيث إنّ القلب موضعه الصدر يعبّر به عن النفس أيضاً. فالمراد أنّهم يجدون في أنفسهم كبراً ما هم ببالغيه والظاهر أنّه وصف للكبر ، أي أنّهم يشعرون بكبر لم يبلغوه ولن يبلغوه أبداً كما هو مفاد قوله « مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ ».

وهناك فرق كبير بين أن يستشعر الإنسان لنفسه صفة من صفات الكبراء لم يبلغها ولكنّه مؤهل لبلوغها، وبين أن يجد في نفسه كبراً لن يبلغه أبداً. وهذا هو صفة من يستكبر عن قبول الحقّ ويترفع عن عبودية ربّه وإطاعته، فهو نظير إبليس في خيلائه واستكباره عن طاعة الله جلّ وعلا. ولذلك أمر الله نبيّ أن يستعيذ بربّه منه كما يستعيذ به من الشيطان الرجيم.

والتعليل بالوصفين الكريمين السميع والبصير لعلّه من جهة أنّ خطر المتكبّر على المجتمع ينشأ من أفعاله وأقواله والله السميع لأقواله والبصير بأفعاله له

ص: 460

بالمرصاد في ما يفعله ويقوله. وضمير الفصل مع الألف واللام يقتضي الحصر، فلا سميع ولا بصير بقول مطلق إلّا الله تعالى والاستعاذة لا تصحّ إلّا بمن يسمع كلّ صوت ويرى كلّ شيء.

« لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ »في هذه الجملة احتمالان :

الأول: أن يكون المراد بها تنبيه الإنسان على ما يوجب استصغاره لنفسه، فإنّ الإنسان إذا لاحظ عظمة الكون وكبره ، وهو المراد بالسماوات والأرض يستصغر نفسه، ويحتقرها ويخضع لعظمة خالق الكون ربّ السماوات والأرض وما بينهما. ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون ذلك، والمراد أنّهم لا ينتبّهون لحقارتهم قبال عظمة الكون فيعجبهم شأنهم.

والثاني: أنّ المراد الاستدلال على بعض ما يجادل فيه المستكبرون وهو المعاد. وهو أهمّ شيء عقائدي كان الوثنيون في جزيرة العرب ينكرونه. وإنكاره يستوجب أكثر المفاسد، حيث لا يجد الإنسان من نفسه وازعاً عن ارتكاب المآثم.

وأساس الاستدلال ردّ استغرابهم وإنكارهم لإعادة الحياة بعد الموت بأنّ خلق السماوات والأرض - أي الكون بأجمعه - وإبداعه من أول الأمر أهمّ وأصعب من خلق الناس ثانية وإعادة حياتهم وتكوينهم. كما قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ»(1).

والسرّ في كون خلق السماوات والأرض أهمّ وأصعب من المعاد أنّه بدء

ص: 461


1- الروم (30): 27 .

للخليقة من العدم، ولا شكّ أنّ إيجاد شيء من العدم - أي من دون سبق أنموذج أو مادة - أعظم وأهمّ وأصعب بالقياس إلى أذهاننا من إعادة شيء إلى حالته السابقة. ولا يراد بذلك الصعوبة والهوان عند الله تعالى، فإنّه لا تختلف لديه الأمور وقدرته تعالى لا تتحدّد بشيء.

وهذا الاحتمال أقرب من الاحتمال الأوّل، وعدم معرفة الناس وجهلهم بذلك أوضح.

« وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ »، لا يبعد أن يكون هذا تشبيهاً للمتكبّر المعجب بنفسه بالأعمى، والمؤمن العارف لقدره بالبصير، فإنّ المتكبّر أعمى القلب لا يرى صغر نفسه وحقارتها، ولا عظمة ما سواه من الكون كالأعمى الذي لا يمكنه تحديد موضعه، ولا يرى جسمه بخلاف المؤمن فإنّه بصير بنفسه وبغيره. وهما لا يستويان إذ لا شكّ أن نتيجة العمى والجهل هو الكبر والخيلاء، ونتيجة البصيرة أن يعرف الإنسان قدره فيتواضع.

« وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ » ، أي لا يستوي المؤمن والمسيء. و إنّما أعاد كلمة النفي لطول الصفة الأولى والظاهر أنّ ذكر الفريقين لتطبيق عنوان الأعمى والبصير عليهما. وذكر العمل الصالح يفيد أنّ مجرّد الإيمان لا يوجب البصيرة الكافية، و إنّما يوجبها إذا بلغ حدّاً يبعث الإنسان على العمل الصالح ويبعده عن التوغّل في المعاصي. والمسيء في مقابل المحسن، أي من يأتي بالأعمال السيئة.

« قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ » فالمذكّرات والمنبّهات ليست قليلة، ولكنّ الإنسان المتذكّر لما تمليه عليه الفطرة السليمة قليل. و ما زائدة تفيد التأكيد في القلّة، أي

ص: 462

تتذكرون قليلاً. والخطاب لنوع الإنسان.

والتذكر في مقابل النسيان فلعلّ المراد أن الغالب في البشر نسيان أصله وما خلق منه، ونسيان جهله وضعفه وفقره قبل أن يعلّمه الله ويقويه ويغنيه، ونسيان نعم الله تعالى عليه، ونسيان العهد الذي أخذه الله تعالى في الأزل وأودعه فطرته :فقال: ألست بربكم قالوا بلى. و إنّما يتذكر المؤمن البصير الذي يعمل الصالحات.

« إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا» المراد ب- «السَّاعَةَ» مرحلة فناء هذا النظام الكوني أو مرحلة قيام النظام الجديد والساعة قطعة من الزمان. والظاهر أنّها تطلق على الزمان القصير الذي يمرّ مسرعاً فاطلق بهذا الاعتبار على يوم الفناء أو القيام لسرعة حدوثه كما قال تعالى «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ »(1).وقد أكّد الآية المباركة ظهور الساعة بحرف إنّ ثمّ بلام القسم، ثمّ بقوله تعالى لا رَيْبَ فِيهَا .

والريب: الشكّ. أي لا ينبغي الريب فيها لوضوح أدلّتها وقيام البراهين عليها في القرآن الكريم، فلا ينافي ذلك وجود الشكّ في قلوب الناس ويمكن أن يكون المراد أنّها حين تقع واضحة بينة لا يشكّ فيها أحد، بل لا يبقى مجال للشك آنذاك فى سائر الحقائق.

« وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ »استدراك عن نفي الشكّ في قيام الساعة بناءً على المعنى الأول في قوله « لَا رَيْبَ فِيهَا». ومعنى ذلك أنّ الأمر مع وضوحه، ومع أنّه لا ينبغي الريب فيه ولكنّ أكثر الناس لا يؤمنون به لأنّه لا يلائم أهواءهم وأمّا بناءً على المعنى الثاني فهو استدراك عن الجملة السابقة، أي قوله «« إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ».

ص: 463


1- القمر (54): 50 .

ومهما كان فالجملة تنديد بعدم إيمان الناس بالمعاد، ولو آمنوا به لكفاهم وازعاً عن ارتكاب المآثم ودافعاً إلى الّتقوى. و إنّما لا يؤمن أكثرهم لأنّ الإيمان به يستتبع ترك كثير من الشهوات والملذّات، فيحاول الإنسان تجاهله وعدم الاهتمام به، والتركيز عليه فلا يطمئنّ به قلبه، والإيمان أمر اختياري.

والظاهر أنّ أكثر الناس لا يختصّ بالكافرين فالمؤمنون بالله أيضاً ليسوا كلّهم مؤمنين بالآخرة إيماناً كاملاً، بل أكثرهم إنّما يظنّون ظناً، ويكفي ذلك لاتّقاء المآثم الكبيرة، ولكن لا يكفي للتورّع في كثير من الموارد والابتلاءات الصعبة.

ويمكن لكلّ مؤمن أن يمتحن مدى إيمانه بالآخرة، فإن كان اهتمامنا بتلك الحياة ضعيفاً جدّاً بالنسبة لاهتمامنا بشؤون هذه الحياة فهذا يكشف عن ضعف إيماننا بالآخرة ولوكنّا مؤمنين بها إيماناً كاملاً لتغير وجه الحياة لدينا، ولكان هاجسنا دائماً ما نخسره أو نربحه في تلك الحياة، بينما نجد في أنفسنا زهداً بليغاً في ما وعده الله سبحانه من النعيم هناك، مع أنّا نعلم أنّ وعده حقّ، ولكن لا نشعر بشوق ولهفة إلى ذلك النعيم الخالد الذي لا يشوبه تعب ولا مرض ولا حرج، كما نشعر بالشوق واللّهفة إلى اللذّة الزائلة المؤقتة الممزوجة بشتّى أنحاء المنغّصات في هذه الحياة، ونهلك أنفسنا ونخاطر بها في مختلف المخاطر لبلوغ هذه اللذّات التافهة، ولا نعير اهتماماً بذلك النعيم، بل نكتفي - على أحسن تقدير -بأقل ما يمكن الحصول عليه من الثواب.

ولذلك تجدنا غالباً ما نكتفي بالفرائض والواجبات، بل نكتفي فيها أيضاً بأقلّ الميسور. وكلّ ذلك يختصّ بالطبع بما لا يزاحم ملذّاتنا الدنيوية، ولا يوقعنا في خسارة مادية فادحة فضلاً عن التضحية بالروح. فهل هذا الشعور يناسب الإيمان بالآخرة؟!

ص: 464

سورة غافر (60 - 65)

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) (

« وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ »هذا قول أزلي يخاطب الله به كلّ الخلائق من البشر وغيرهم، ولا يختصّ بهذه الأمّة كما زعم بعضهم، وجعلوه ممّا خصّ الله به هذه الأمة من مزايا .والتعبير ب- « رَبُّكُمُ » یدلّ على أنّ الدعاء من المخلوق والاستجابة من الله تعالى دخيل في تربيته وبلوغه إلى الكمال المنشود. والاستجابة والإجابة بمعنى واحد.

ويخطر بالبال لكلِّ من يلاحظ الآية إشكال، وهو أنّ كثيراً من الأدعية بل أكثرها لا تستجاب. وقد حاول المفسّرون قديماً وحديثاً الإجابة عن ذلك، فروي عن ابن عبّاس وتبعه بعض المفسّرين أنّ المراد بالدعاء العبادة، وبالاستجابة الثواب.

وهذا تأويل بعيد وغريب، ويبعد صدوره عن مثل ابن عباس، فالدعاء وإن كان نوعاً من العبادة ولكن ليس بمعناها. وأبعد منه تأويل الاستجابة بالإثابة.

ص: 465

والمعنى الظاهر هو الصحيح. والجواب عن الإشكال أنّ الاستجابة ليست دائماً بالعمل وفق ما يطلبه الداعي، بل الدعاء أيضاً ليس دائماً لطلب الحاجة كما يتوهّم، فالدعاء هو النداء سواء كان لطلب حاجة أم لأمر آخر، والاستجابة بمعنى تلبية الطلب وعدم الرفض، ولا يلازم ذلك قضاء الحاجة.

ونظير ذلك قوله تعالى «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.»(1). وهنا قرينة يتّضح منها المراد بالإجابة، فإنّ الظاهر أنّ قوله تعالى « أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ » تفسير وتوضيح لقربه تعالى، فهو قريب بحيث يسمع أيّ دعاء ويجيبها مهما كان الصوت خافتاً، بل حتّى لو كان بلا صوت، بل من دون أيّ إظهار وإبراز، فالغرض دفع توهّم الإنسان الساذج أنّ الله تعالى بعيد عنه لعظمته فلا يسمع نداءه.

وهذا التوهّم هو منشأ الشرك والتوسّل بالأصنام، والملائكة، والأنبياء، والأولياء، وغيرهم ليقرّبوهم إلى الله زلفى. وهو خطأ فادح، فمن كان يتوسّل بغیر الله تعالى بهذا الوهم فهو مخطئ. وهذا لا ينافي الاستشفاع بالرسل والأولياء مع الاعتقاد بأنّ الله هو السميع البصير، وهو الذي يقبل الشفاعة أو يردّها. ويظهر منه أنّ الإجابة بمعنى سماع الدعوة والتلبية لأنّه هو المناسب للقرب لا بمعنى قضاء الحاجة.

هذا مع أنّ كثيراً ممّا يطلبه الإنسان ليس قابلاً للقضاء، فهناك أدعية متناقضة من البشر لا يمكن قضاء كلّها، فبعضهم لا يصلح حاله إلّا بالمطر مثلاً وبعضهم يضرّه، وبعضهم يريد الحرّ، وآخرون يريدون البرد ولو كان المفروض أن

ص: 466


1- البقرة (2): 186 .

تقضى حاجة كلّ أحد، بل كلّ مؤمن لفسد العالم. كما قال تعالى: « «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ» (1). وهناك ما يطلبه الإنسان وليس صالحاً له وهو لا يعلم، وربّما يعلمه بعد حين.

وكثيراً ما نجد ذلك من أنفسنا حيث ندعو فلا تقضى حاجتنا، ثمّ نعلم بعد حين أنّ عدمها هو الأصلح بحالنا، وربّما تكون الحاجة أصلح لدنيا الإنسان، ولكنّه غير صالح له في الحياة الأخرى، وسيعلم آنذاك أنّ رحمة الله تعالى شملته حيث لم يقض حاجته، وأنّ ما يحصل عليه هناك أفضل بكثير ممّا طلبه هنا، ولكنّ الإنسان في هذه الحياة لا يهمّه إلّا زينة الدنيا وبهرجتها كما قال تعالى: « تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ »(2)، فمثل الإنسان كالطفل يطلب من أبيه ما يضرّه ولا ينفعه، وربّما يبغض أباه إذا منعه من أكل الحلوى التي تضرّه.

ثمّ إنّ هناك كثيراً ممّا نطلبه يستحيل تحقّقه واقعاً وإن لم يكن من المحال العقلي لكنّه يستلزم المحال، وحيث إنّا لا نعلم جميع الظروف المحيطة به نظنّ أنّه أمر ممكن، ولو علمنا استحالته لم نطلبه، إذ ليس من المعقول طلب المستحيل.

« إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» هذه الجملة بقرينة الجملة السابقة تدلّ على أنّ الدعاء من العبادة. وصرّح بذلك في الروايات. فالدعاء كيفما فسّر نوع من العبادة، والمعنى أنّ الذين يستنكفون عن الدعاء وهو عبادة الله تعالى، ويظنّون أنّهم ليسوا بحاجة إليه، فسيدخلون جهنم داخرين، أي أذلّاء. فجزاء الاستكبار في الدنيا هو المذلّة والهوان في الآخرة. وأيّ استكبار

ص: 467


1- المؤمنون (23): 71 .
2- الأنفال (8): 67 .

هذا؟! إنّه متابعة لإبليس الذي استكبر على ربّه.

وغريب أنّ الإنسان يبلغ به الغباء والحمق إلى هذا الحدّ، فيستنكف عن عبادة الله العظيم، وهو يعبد البشر والبقر والحجارة والذهب والفضة.

« اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا» بعد التنديد بالاستكبار على الله تعالى لزم التنبيه على نعمه المستمرّة المتوالية، ليشعر الإنسان بفداحة ذنبه، إذ يستكبر عن عبادة ربّه مع كثرة نعمه عليه.

ومن جهة أخرى حيث أمره بأن يدعو ربّه أراد في هذه الآيات تعريف الإنسان بربّه ليكون على بصيرة في دعائه، فإنّ أحد موجبات عدم استجابة الدعاء - كما في الأثر - هو أنّ الإنسان يدعو من لا يعرفه، فهذه الآيات تعرف الإنسان بربّه إذ أنّه تعالى يُعرَف بآثاره ونعمه.

وفي هذا الصدد تشير الآية الكريمة إلى نعمتين متواليتين مستمرّتين وهما ظلام الليل المناسب للسكون والراحة والاستقرار وضياء النهار المناسب للحركة والتجوال وطلب الرزق. وهما من أهمّ النعم، ولكن استمرارهما ودوامهما استوجب الاستخفاف بهما ونسيانهما والتعبير بكون النهار مبصراً من باب المبالغة، مع أنّه السبب في الإبصار فکأنّه هو المبصر.

« إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ » الفضل بمعنى الزيادة. والفضل على أحد بمعنى إعطائه ما لا يستحقّه عليه وكلّ ما ينعم الله تعالى به على الناس فهو فضل إذ لا يستحقّ أحد على الله شيئاً. والتنكير هنا للتعظيم، أي أنّه لذو فضل عظيم على الناس كما قال تعالى: « وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا » (1).

ص: 468


1- إبراهيم (14): 34 .

« وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ » ، أي لا يشكرون بالمرّة، بل لا يعترفون بالنعمة، بل ولا بالمنعم. وأمّا الشكر المناسب لحجم النعمة فلا يقوى عليه أحد.

« ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ »الإشارة إلى البعيد للتعظيم، فإنّه تعالى بعيد عن متناول الأبصار بل الأفهام، وهو ربّكم الذي يربيكم في إطار القوانين الطبيعية وهي السنن الإلهية، وبما يرسله إليكم من هدايات ويبعث لكم من رسل وحجج، وهو خالق كلّ شيء. وهذا يشمل أصغر الأشياء وأحقرها كما يشمل أعظمها وأكبرها ، فلا يتصوّر أنّ هناك خالق غيره. وكلّ ما يصنعه الإنسان، بل كلّ ما يعمله، بل ينقدح في نفسه وضميره فهو شيء، وينطبق عليه أنّه مخلوق لله تعالى، فليس في الوجود شيء يوجد من دون أن يريده الله سبحانه.

والنتيجة أنّه لا إله غيره، لأنّ الألوهية والعبادة لا تصلح إلّا لمن يخاف ويُرجى، فإن كان كلّ شيء مخلوقاً لله تعالى، فهو الذي يخاف ويرجي فحسب. وكلّ شيء بأمره وبيده، فلا معبود سواه لأنّ الإنسان إنّما يعبد الآلهة طلباً لمحبوب أو دفعاً لمكروه.

«فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ »، أي تصرفون والتعبير بالمجهول يوحي بأنّ هناك ما يدفعكم ويصرفكم عن ربّكم، وإلّا فالأمر بطبيعته لا يدعو إلى ذلك، والإنسان بفطرته مشدود إلى ربّه لا يعبد سواه، و إنّما يصرفه عنه متابعته للشهوات، وخلوده إلى الأرض، وانجذابه إلى ما خلق الله تعالى على هذا الكوكب من زينة ليبتلي الإنسان بها، كما قال تعالى: « «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»(1).

ص: 469


1- الكهف (18): 7 .

« كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» في هذه الآية الكريمة يحدّد من يصرف عن عبادة ربّهم وعن الشكر لأنعمه. وهم الذين يجحدون آيات الله تعالى. والجحود هو الإنكار عن علم، فالذين يرون آيات الله وهي كلّ ما في الكون، ويعلمون أنّها تدلّ على عظمة الخالق وحكمته، ومع ذلك ينكرون الربوبية، ويتناسون هذا الجانب من العلم، وإن كانوا ربّما يتعّمقون في سائر الجوانب هم الذين يصرفون عن عبادة الله واطاعته، فإنّ ذلك هو النتيجة الطبيعية للجحود إذ لا ينشأ ذلك إلّا من الاستكبار والطغيان ومتابعة الأهواء.

وقوله « كَانُوا »یدلّ على استمرار جحودهم وأنّ هذا دأبهم وديدنهم كلّما لاحظوا آية من آيات الله كما قال تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ »(1).

« اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً » استمرار في السياق السابق لتنبيه الإنسان وإلفات نظره إلى نعم الله تعالى على عباده المكتنفة بهم من كلّ صوب، فالأرض من تحتهم موضع استقرار وسكون قد هيّأ الله تعالى عليها كلّ وسائل الحياة، والسماء فوقهم - ولعلّ المراد به الجوّ المحيط بالكرة الأرضية - سقف مرفوع يحفظهم من الأشعة الضارة، ويحفظ لهم الأبخرة المتصاعدة، ويحوّلها إلى غيوم تمطرهم بالماء الطهور، فمنه يستقون، ومنه يزرعون، ويحفظ لهم ما يحتاجون إليه من الاوكسيجين للتنفّس، وغير ذلك ممّا يترتب على هذا الغلاف الجوّي.

« وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ »يعود السياق إلى أنفسهم فالإنسان خلقه الله تعالى

ص: 470


1- يوسف (12): 105 .

على أحسن صورة وأجمل هيئة، وكم في هذا التصوير من أسرار وآيات؟! فلكلّ إنسان هويته البارزة في ملامح وجهه لا يشاركه فيها أحد، ولكلّ أحد هويته الخاصّة به أيضاً في خطوط بنانه، ناهيك عن أسرار كلّ عضو داخلي وخارجي، ووظائفه الغريبة، فكلّ ذلك من عظمة التصوير، إذ المادة مشتركة بينه وبين غيره من الأرضيات.

وكلّ ما في الإنسان من خصائص إنّما هي من صورته الإنسانية، بل خصائص كلّ إنسان من صورته الخاصّة به، فإنّ الصورة هي التي تحكي عن الكيان الشخصي، والمادة هي الأمر المشترك.

« وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ »ينبّه على كلّ ما حول الإنسان من نعم طيّبة يتلذّذ بها، ويقيم بها شؤون حياته من مطعم ومشرب ومسكن وملبس وغير ذلك، ممّا تستطيبه النفس وتستسيغه وتستلذّه. وكلّ ما خلقه الله تعالى للتنعم بحسب طبيعتها طيّبة، وربّما يعتريه الخبث بفعل الإنسان.

«ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ »فكلّ ما أنعم به عليكم يدخل في شؤون التربية، والله تعالى يربّيكم بهذه النعم، يربّي أجسامكم تربية طبيعية، ويربّي أرواحكم ونفوسكم حيث يبتليكم بها لينظر ما أنتم صانعون، وفي أيّ مجال تستخدمونها، وهل تشكرون ربّكم وتطيعونه في ما أمركم به تجاه هذه النعم، أم تكفرون ويجذبكم ظاهر النعم ويبعدكم عن عبادة ربّكم وشكره كما قال تعالى: « وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.» (1).

« فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ » البركة أصلها من البروك بمعنى الثبوت والاستقرار ،

ص: 471


1- الأنبياء (21): 35 .

يقال برك البعير إذا استقرّ على الأرض، ومنه البركة لمجمع الماء، واستعير للخير الكثير الثابت والمستقرّ. وصيغة «تفاعل كتعاظم وتعالى»، وكذلك «تفعّل» كتكبّر وتقمّص وتلبّس بمعنى اتّخاذ الصفة ونحوها، فالتقمّص والتلبّس ونظائرهما بمعنى اتّخاذ لباس خاص، والتكبّر بمعنى اتّخاذ الكبر صفة له، وهو مذموم من غير الله تعالى لأنّ معناه أنّه يتّخذ لنفسه كبراً ليس له، ويعتقد لنفسه موضعاً ومقاماً فوق حده.

وأمّا الله تعالى فهو أكبر من أن تناله الأوهام، فهو الكبير المطلق، و إنّما يصحّ التعبير عنه بالمتكبّر، كما هو أحد الأسماء الحسنى، لأنّ كبره تعالى ليس عطاءً من أحد، بل هو منه فكلّ ما يفرض كبيراً ولو نسبياً إنّما كبر بما منحه الله تعالى ،وأمّا الله سبحانه فهو كبير بنفسه. ومثل ذلك التعالي والتعاظم والتقدّس ونحوها.

وعلى هذا الأساس فنسبة التبارك إليه تعالى بمعنى أنّه اتّخذ لنفسه البركة وهي الخير الكثير الثابت والمستقرّ، فهو منشأ كلّ خير وموجده. ولذلك لا يصحّ هذا التعبير لغيره، ولم يرد في غيره تعالى في لغة العرب ولا في تعابير الشرع والمتشرعة فلا يصحّ أن تقول تبارك الرسول أو تبارك القرآن، لأنّ البركة لكلّ شيء من الله تعالى وأمّا منشأية الخير فيه تعالى فهو منه ولا يمكن أن يكون منحة من أحد. ولذلك لا يصحّ أيضاً التعبير عنه تعالى بالمبارك بفتح الراء. وأخطأ من عبّر عنه بذلك من الكتاب الذين لا يجيدون العربية.

وتوصيفه تعالى في الآية بربّ العالمين تأكيد على أنّ ما ذكر من النعم المحيطة بالإنسان يأتي في سياق ربوبيته العامّة لجميع العالمين، فإنّ مقتضاه إعطاء كلّ مخلوق ما يستحقّه وما يحتاج إليه لبلوغه غاية كماله.

ص: 472

« هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ » الحي من الصفات الإلهية الحسنى، وممّا يعبّر عنها بصفات الذات، وتقابلها صفات الفعل التي تنتزع من أفعاله تعالى وأصول صفات الذات - على ما قالوا - ثلاثة: العلم والقدرة والحياة، فكلّ ما يذكر من الصفات الثبوتية له تعالى يعود إلى هذه الأصول. والله أعلم.

ولعلّ ذكره هنا لدفع توهّم من يظنّ أنّ الله تعالى ليس فاعلاً مختاراً، وأنّ ما يصدر منه إنّما هو مقتضى ذاته، كما هو ظاهر بعض عبارات المتفلسفين، فالذي يظنّ ذلك لا يختلف عن من ينفي وجوده تعالى، ويظنّ أنّ الخلق إنّما وجد بفعل الطبيعة.

ثم إنّ التعبير یدلّ على أن الوصف خاصّ به تعالى ومنحصر فيه كما هو مقتضى الألف واللام في الوصف، وذلك لأنّ الحياة الحقيقية ليست إلّا له، فالحياة التي تثبت لغيره تعالى يشوبها الموت والفناء، ومن جهة أخرى كلّ حيّ غيره إنّما يتّصف بالحياة لما أضفي عليه من الحياة من قبله تعالى، فالحياة بالذات ليست إلّا له تعالى شأنه.

ولذلك عقّبه بقوله تعالى « لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ » أي حيث لا حيّ إلّا هو فلا إله إلّا هو، فالألوهية والمعبودية لا تليق إلّا بمن هو حيّ أبداً ودائماً وبالذات. ولا ينبغي لأحد أن يعبد موجوداً يعتريه الفناء والزوال، كما قال تعالى في حكاية كلام إبراهيم (علیه السلام): «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» (1)، وكذلك لا ينبغي أن يعبد ما يستمدّ حياته من غيره، بل إنّما يجب أن يعبد الحيّ بالذات وهو الله جلّ وعلا.

ص: 473


1- الأنعام (6): 76.

وكما لا تنبغي العبادة إلّا له لا ينبغي أن يحبّ الإنسان غيره، فإنّ العبادة الحقيقية مرحلة متقدمة من الحبّ والإعجاب، وأمّا العبادة لبلوغ المآرب سواء في الدنيا أم في الآخرة فليس إلّا عمل أجير يطلب عليه الأجر والحبّ والتعلّق بالذوات الزائلة والجمال الزائل من أخطاء الإنسان واشتباه الأمور عليه، فهو إنّما يطلب الجمال والكمال المطلق، ولكنّه لا يدركه ولا يصل إليه لتفانيه في هذه الظواهر والمظاهر وبريقها الكاذب، وغفلته عن الجمال والكمال المطلق الدائم الذي لا يزول. ولو تجلّى له الجمال المطلق لم يحبّ غيره.

« فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ » الفاء تفيد التفريع، أي حيث إنّه هو الحيّ المطلق ولا حيّ على الإطلاق غيره تعالى فادعوه والدعاء - كما مرّ - نوع من العبادة. والمراد بالدين العبادة والطاعة. والأصل فيه التذلّل. ومنه الدين - بالفتح - لأنّه يوجب المذلّة فمعنى الآية أدعوه عابدين ومخلصين له في العبادة ومعنى الإخلاص أن لا تشرك معه أحداً في العبادة.

والإخلاص التامّ من أهمّ الأمور وأصعبها. والذي نحاول الوصول إليه غالباً إنّما هو خلوص النيّة من الرياء والعجب لا الإخلاص الكامل. وهذا الإخلاص النسبي أيضاً صعب علينا، بل ربّما لا يبلغه إلّا الأوحدي من الناس، فإذا حاول أحدنا أن يعتزل المجتمع ويعبد في السرّ ليتمكّن من الابتعاد عن الرياء يصيبه الإعجاب بنفسه فيهلك من حيث حاول النجاة.

والطريق الصحيح هو محاولة تخليص النيّة من الشوائب مع ترك الاعتزال فإنّ الحضور في الجماعة يوحي للإنسان أنّه من المجموعة وأنّه أحد العابدين وليس

ص: 474

فرداً ممتازاً بينهم. وبذلك أمرت مريم (علیها السلام) في قوله تعالى « وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ»(1).

وأمّا الإخلاص التامّ فهو أن لا تعبده تعالى لبلوغ هدف أو مقام حتّى لو كان أخروياً، بل حتّى لو كان معنوياً كما حكي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله: «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(2) وهذا لا يحصل إلّا لمن بلغ المرتبة الكاملة من المعرفة، فإنّ السجود لذاته تعالى، ولدرك عظمته لا لأمر آخر لا يمكن إلّا مع إدراك تلك العظمة، ورؤية ذلك الجمال المطلق بعين البصيرة.

والحاصل أنّ الآية المباركة تدعو إلى محاولة الإخلاص التامّ، فكلّ ما تهيّأ للإنسان أن يبلغه من مراتب الإخلاص فقد فاز بحظّه من الجنّة الحقيقية والرضوان الأكبر.

« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ » يبدو أنّ هذه الجملة إنشاء لحمده تعالى والثناء عليه اختتم بها العرض السابق لنعمه تعالى وبعض صفاته الحسنى، والاستنتاج منها بلزوم الإخلاص له في العبادة. ومفادها كما مّر مراراً أن الحمد كلّه لله فمهما حمد شيء بحسن في خلقه أو خُلقه، بل حتّى في أفعاله وأعماله وصنائعه فهذا الحمد يعود إلى الله تعالى، لأنّه خالقه وخالق صفاته وخصائصه، وخالق كلّ شيء بما في ذلك أعمال الإنسان وصفاته.

والتوصيف ب- « رَبِّ الْعَالَمِينَ » يناسب الأمر بالدعاء مع الإخلاص لأنّ مقتضى ربوبيته تعالى أن يعطي كلّ شيء ما يناسبه ويؤثّر في تربيته وتكامله.

ص: 475


1- آل عمران (3): 43 .
2- لم أجد له مستنداً.

سورة غافر(66 – 68)

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

« قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ »أمر الله تعالى رسوله أن يعلن للمشركين أنّ الله تعالى قد رسم له طريقة حياته، وبعث إليه بالأدلّة البيّنة الواضحة ما لا يبقى مجالاً للشكّ، وأنّه تعالى قد نهاه عن عبادة الأصنام وغيرها ممّا يعبده المشركون، ليؤيسهم ويقطع طمعهم في عدوله عن تبليغ رسالته، وتهاونه في مقاومة الأعداء.

وقوله تعالى « لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ » يمكن أن يكون ظرفاً للنهي فالمعنى أنّ النهي عن عبادة الآلهة المزيفة ورد حين نزول البينات والبراهين الواضحة، وأن يكون ظرفاً للعبادة، فالمعنى أنّه نهي عن عبادتها بعد مجيء البينة بمعنى أنّ الإنسان يمكن أن يكون معذوراً في شركه قبل ذلك ولا يعذر بعده ويمكن أن يكون تعليلاً للنهي، أي أنّ السبب فيه هو الأدلة الواضحة التي تبيّن للإنسان أن الربّ هو الله تعالى فلا وجه لعبادة غيره.

ثمّ إنّ النهي إن كان من الله تعالى فهو منبّه لما يحكم به العقل من قبح العبادة لغيره بعد ثبوت أنّ الربّ هو الله تعالى، وأنّه لا حياة لغيره حياة ثابتة مستقرّة مستقلة فضلاً عن التأثير المستقل والتدبير الأزلي والأبدي ويمكن أن يكون النهي من العقل.

ص: 476

ثمّ إنّ النهي لا يختصّ بالأصنام وإن كان الخطاب لعبادها، وذلك بمقتضى اسم الموصول الخاصّ بذوي العقول « الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» فلا بدّ من شموله لبعض ذوي العقول أيضاً. وكثير من البشر يعبدون بشراً أو يعبدون الجنّ والملائكة وغيرهم.

ولم يقل «تعبدون من دون الله»، بل « تَدْعُونَ »أي «تدعونهم» والمراد بالدعاء طلب الحاجة منهم. والعبادة أيضاً إنّما كانت وسيلة لطلب الحاجة ولا شكّ أنّ الإنسان يطلب الحاجة من غير الله من الوسائط الطبيعية وغيرها، ولا يلام عليه و إنّما يلام على طلب الحاجة من غير الله باعتباره ربّاً يؤثّر في الكون باستقلال فهذا هو الشرك. وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى « مِنْ دُونِ اللَّهِ» أي بدلاً عنه.

« وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ» مع النهي عن عبادة غير الله تعالى أمر بالإسلام لرب العالمين. والإسلام بحقيقته هو تسليم الأمر إليه تعالى. وليس المراد أن لا يحاول الإنسان تغيير ما حوله، فإنّ ذلك ينافي سنّة الله في خلقه كما قال تعالى: « إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (1) ، بل المراد أنّ الإنسان يطمئنّ ويثق بأنّ كلّ ما يعرض عليه إنّما هو بعين الله تعالى وبإرادته، فإذا لم يكن هو سبباً في ذلك فلا يجزع ولا يحزن ، فإنّ ذلك شيء أراده الله وهو خير له ممّا يريده إمّا في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فحسب.

وفي الدعاء المنسوب إلى الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) « اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك... ومن اليقين ما يهون علينا به مصيبات الدنيا » والتوصيف بربّ العالمين للدلالة على علّة الحكم بمعنى أنّه إنّما أمر بالتسليم لأنّ كلّ ما يصدر منه تعالى

ص: 477


1- الرعد (13): 11 .

فهو مقتضی ربوبيته وتربيته للعالمين فليحسن العبد ظنّه بربّه.

« هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ » بيان لبعض ما اقتضته الربوبية بشأن الإنسان وخلقته. وقوله تعالى « مِنْ تُرَابٍ » لعلّه إشارة إلى أنّه - كسائر ما على الأرض - مخلوق من العناصر الأرضية الموجودة في التراب.

ويمكن أن يكون إشارة إلى خلق آدم (علیه السلام) من الطين، وأن خلق نسله من حويمن الرجل وبويضة المرأة كما قال تعالى: «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ »(1).

« ُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ »، «ثُمَّ» تدلّ على التراخي للدلالة على فاصل طويل ومراحل كثيرة بين المرحلة الترابية وتكوّن النطفة. والنطفة الماء القليل. ومن هنا تبدأ الإشارة إلى مبدأ خلق الجنين. والمراد بالنطفة حويمن الرجل الموجود في المنيّ.

ويمكن أن تكون «ثمّ» إشارة إلى ما مرّ آنفاً من أنّ نسل آدم (علیه السلام) خلقوا من نطفة، فالتراخي من جهة اختلاف مبدأ الخلق بينه وبين سلالته .

« ُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» العلقة هی القطعة هي من الدم. وهي مرحلة أخرى من مراحل تكوّن الجنين. وقد ورد في آيات أخرى ذكر مراحل أخرى من تكوّنه وهي المضغة، أي القطعة من اللحم، ومرحلة اكتساء العظم باللحم و مرحلة الخلق الآخر الذي يحتمل أن يكون إشارة إلى خلق النفس والروح البشرية. ولم يذكر تلك المراحل هنا، و إنّما انتقل إلى ذكر مراحل التطوّر بعد الولادة، واكتفى بالإشارة إلى وجود تلك المراحل بقوله تعالى « ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا».

ص: 478


1- السجدة (32) :7 -8 .

والطفل يطلق على المفرد والجمع ، أي يخرجكم أطفالاً كقوله تعالى « أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ». (1) واختلفوا في أصل معناه فقيل إنّ الطفولة بمعنى النعومة وأنّ الطفل يطلق على الولد مادام ناعماً، ومن هنا يقال للمرأة «طفلة»، وقيل إنّه في الأصل بمعنى الولد الصغير وأنّ إطلاقه على المرأة تشبيه لها بالطفل في النعومة.

« ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ » اللام في « لِتَبْلُغُوا » للتعليل، ولم يذكر متعلّقه فهو مقدر، وهو المعطوف على الجملة السابقة ب-«ثُمَّ » فيمكن أن يكون التقدير «ثمّطوّركم لتبلغوا أشدكم» أو ما يفيد معناه.

واختلف اللغويون في «أشُدّ» فقيل جمع لا مفرد له، وقيل جمع شَدّ، وقيل جمع شِدّة، وقيل غير ذلك. ومهما كان فهو جمع ما يفيد معنى الصلابة والوثوق أي القُوى. وعلى ذلك فالمراد ببلوغ الأشدّ بلوغ مرحلة استكمال القوى. ويختلف معناه باختلاف الموارد، كما يختلف بلوغه حسب الأعمار، فقد يبلغ الإنسان استكمال قواه قبل الثامنة عشر، وقد يبلغ في سنين متأخرة جدّاً، ولا يمكن أن يحدّد له عمر. والتحديد بالسنّ الخاصّ في القانون لضرورة التحديد في القوانين الاجتماعية، وعدم إحالة ذلك إلى التشخيص الفردي لئلّا يدخل في تعيينه الأهواء والمصالح الخاصّة.

و المراد بالأشدّ في هذه الآية قوى الجسم في مقابل النعومة التي يختصّ بها الطفل، كما أنّ المراد بقوله تعالى « «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ » (2)، بمعنى استكمال الرشد في الشؤون المالية خاصّة، مضافاً إلى البلوغ

ص: 479


1- النور (24) :31 .
2- الأنعام (6): 152.

الجنسي الذي ربّما يكون هو المناط في التكليف الشرعي لقوله تعالى «وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ » (1)، فإنّ هذه الآية المدنية تفسّر المراد ببلوغ الأشد في سورتي الأنعام والإسراء المكيتين، وتبيّن أنّ المراد بلوغ النكاح واستيناس الرشد.

ولا ينافي ذلك الاختصاص ببلوغ الأربعين في قوله تعالى « حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ »(2)، على فرض كون الواو للتفسير، إذ يمكن أن يكون المراد هنا الكمال العقلي والجسمي، مضافاً إلى اكتساب الخبرة والتجربة، وتحصيل العلوم والمعارف الدينية، ليتحقّق منه هذا التوجه إلى الله تعالى، كما أنّه بمعنى آخر في قوله تعالى «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا»(3) ، ممّا يناسب الحكم والعلم والنبوة.

« ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا » وهنا أيضاً تقدير نظير ما مرّ في الفقرة السابقة فيمكن أن يقدر« ثمّ أبقاكم وعمّركم »والشيخ هو الإنسان الكبير في السن.

« وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ »، أي لا يبلغ حدّ الشيخوخة أو حتّى حدّ بلوغ الأشدّ.

« وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى »، أي وهكذا تنتقلون من مرحلة إلى مرحلة وتصارعون الحوادث حتّى تبلغوا الأجل الذي سمّي لكم أي قدّر لكم فلكلّ إنسان أجل قدّر له. واللام هنا لبلوغ الغاية وليس لبيان الغرض.

« وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » أي أنّ كلّ ذلك إنّما يحدث لكم في الحياة الدنيا لعلّكم تعقلون. فالتعقل هو الهدف النهائي والغاية المنشودة للإنسان. وتقديم «لعلّ»

ص: 480


1- النساء (4): 6 .
2- الأحقاف (46): 15 .
3- يوسف (12): 22.

للدلالة على أنّ ذلك ربّما يترتّب وقد لا يترتّب كما هو الغالب. ولعلّ المراد بالتعقل هنا إدراك عظمة الخالق بإدراك عظمة الكون، فإنّه الغاية القصوى من نزول الإنسان على هذا الكوكب ومروره بهذه المراحل الطبيعية للتكوين.

هذه هي مراحل تكوين الإنسان من بدو الخلقة إلى الموت وبلوغه أجله، وهكذا سائر الأحياء من الحيوان والنبات فلكلّ منها مراحل حتّى نهاية الأجل. وقد اعترض بعض الجهلة على القرآن الكريم بأنّ الجنين لا ينتقل من مرحلة إلى مرحلة، و إنّما يتطوّر تدريجياً بحيث لو تنظر إليه كلّ يوم لا تجد فيه تغييراً كلّياً عن يومه السابق، فليس هناك مراحل أربعة أو خمسة، بل آلاف المراحل لا يمكن تحديدها بهذه العناوين. وقال: إنّ ذكر هذه العناوين یدلّ على سذاجة القائل وعدم اطلاعه على واقع الأمر إلى آخر ترّهاته المضحكة المخزية.

ومن الواضح أنّ الإنسان وغيره من الحيوان والنبات لا يمرّ بمراحل تكوينه من مرحلة إلى أخرى بالطفرة، بل ينتقل تدريجاً، ولكن ليس لكلّ مرحلة منها اسم، و إنّما يجعل الأسماء لبعضها ممّا له أثر خاص أو حالة خاصّة تظهر للعيان، فيقال مثلاً إنّ التمر يمرّ بمرحلة يقال لها البسر ثمّ الرطب ثمّ التمر مع أنّه يمرّ بها تدريجاً. والإنسان بعد ولادته يمرّ بمرحلة الطفولة ثمّ الصبا ثمّ الشباب ثمّ الكهولة ثمّ الشيخوخة، ومن الواضح لدى كلّ أحد من دون دراسة وتعلم أنّه لا يمر بالطفرة بل بالتدريج، ولكن التسمية إنّما تكون لهذه المراحل فقط، وربّما يذكر غيرها أيضاً، وربّما يحذف بعضها كما في هذه الآية الكريمة. وهكذا سائر التطوّرات في الحيوان والنبات وغيرهما، فالغرض من ذكر هذه المراحل ليس هو تحديد التطوّر بها، بل الغرض هو الإشارة إلى نفس التطوّر.

ص: 481

« هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» الجملة تدلّ على الحصر فليس غيره من يحيي ويميت، بل هو الخالق لكلّ حركة وسكون في الطبيعة. ولكن التركيز على خصوص الحياة والموت للتنبيه على كونهما من غرائب ما يحدث في الطبيعة، ولذلك لم يكتشف العلم سرّ هذا التحوّل بالرغم من الاكتشافات الهائلة التي حصل عليها في الطبيعة، وإن كان كلّ ذلك بالنسبة إلى كلّ ما في الكون من أسرار ليس إلّا قليلاً من العلم.

فالتحوّل من كائن فاقد للحياة والحركة والحسّ إلى موجود حيّ شاعر متحرّك، ثمّ فقدانه لكلّ ذلك وعوده موجوداً ميتاً جماداً من أغرب التطوّرات في الطبيعة، وهو في نفس الوقت من أكثرها بروزاً وتكرراً على الساحة وكلّ ذلك دليل واضح على أنّ للكون ربّاً حكيماً مدبّراً. ولا ينافي ذلك كون هذه التطوّرات خاضعة لقوانين طبيعية.

والخطأ الفادح الذي يرتكبه بعض الباحثين أنّهم إذا اكتشفوا القوانين الحاكمة في الطبيعة ظنّوا أنّ ذلك دليل ينفي وجود الربّ المدبّر للكون، وکأنّهم يفرضون مسبقاً أنّ وجود مدبّر يدير الكون ملازم للفوضى وعدم الانتظام تحت قانون واحد، بينما الأمر بالعكس وإنّ أقوى دليل على وحدة الربّ المدبّر هو وحدة النظام وانسجام القوانين الحاكمة في الطبيعة.

ثمّ إنّ الإتيان بالفعل المضارع لیدلّ على أنّهما عملیتان متواليتان مستمرّتان فلا ينفكّ الكون عن تكرّر الإحياء والإماتة في كلّ مستويات الحياة في النبات والحيوان، وفي كلّ خلية من خلايا كلّ منهما. فهناك نباتات تموت وبموتها تحيا نباتات أخرى، وهناك حيوان وبشر يأكل بعضها البعض أو يقتله أو يموت البعض حتف أنفه، والنظام الكوني بأمر من الله تعالى يحيي نسلاً وجيلاً آخر. وفي كلّ

ص: 482

جسم من أجسام الأحياء تتبدل بسرعة فائقة خلايا ميتة ويأخذ مكانها خلايا أخرى حيّة، وهكذا تستمر عملية الإحياء والإماتة دون توقف.

« فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » ، القضاء : الحكم والمراد أنّه إذا أراد أن يحقّق أمراً أي شيئاً فإنّما يتوقّف وجوده على إرادته تعالى فقط والفاء للشرح وتوضيح كيفية تأثيره تعالى في الإحياء والإماتة، ولدفع استغراب السامع استناد كلّ هذه العمليات المتكرّرة إلى إرادة واحدة فإّن الاستغراب ينشأ من عدم تعقل تلك الإرادة وكيفية تأثيرها في الكون والإنسان غالباً ما يقيس المفاهيم الإلهية بما يجده في نفسه ونظرائه. والسبب أنّ الألفاظ لا تتمكن من التعبير عن تلك المفاهيم الغريبة لدى الذهن البشري الذي صنع الألفاظ، فيعبّر عنها بنفس تلك الألفاظ المتداولة ويلتبس الأمر على الإنسان المسكين.

فالفاعلية هناك واستناد الأفعال والخلق إلى الله تعالى ليس مشابهاً لاستناد الأفعال إلينا، ولذلك لا يتنافى أن يستند الفعل إليه وإلى غيره وتأثير إرادته تعالى في الكون ليس كما نتصوّر بل هو فوق تصوّرنا وفهمنا، والألفاظ قاصرة عن أداء تلك المعاني، بل الأذهان أيضاً قاصرة عن دركها فغاية ما يمكن أن يقال فيها هو هذا التعبير المعجز الذي عبّر به الله سبحانه لإيصال هذه المعلومة « فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »، فلا يحتاج إلى التوسّل بسبب، فإنّ السبب أيضاً لا يوجد إلّا بإرادته ولا يتسبّب إلّا بإرادته، فالإرادة هناك هي السبب الوحيد.

والتعبير عن العملية بقول كلمة «كُنْ» أيضاً تعبير أدبي، وإلّا فليس هناك تلفّظ وخطاب، إذ المفروض أنّ الشيء غير موجود فكيف يوجّه إليه خطاب؟! و إنّما هو تعبير عن تأثير الإرادة بدون واسطة. وقد مرّ بعض الكلام حوله في تفسير سورة يس الآية: 82 .

ص: 483

سورة غافر(69 – 78)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)

« أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ »خطاب للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، أو لكلّ مخاطب والاستفهام للتعجيب وكناية عن الاستغراب. نعم وإنّه لغريب أمر المجادلة في آيات الله تعالى بعد كلّ ما يجده الإنسان منها في الكون وفي كتب السماء ومعجزات الرسل. وقد مرّ أنّ المجادلة في الواقع هي المنازعة على أمر وهي مأخوذة من الجدل، وهو في الأصل الاستحكام والشدة، فكأن كلّا من المتجادلين يشدّ من جهته والمراد به هنا لازمه وهو الرفض والإنكار والتعصب له كما هو شأن المتجادلين.

والرؤية لا تتعدى ب- «الى»، بل بنفسها تقول رايته ولا تقول رايت إليه ولكنّها هنا ضُمّنت معنى النظر وهو يتعدى ب-«الى»، فالمعنى ألم تنظر إليهم لتراهم. وقوله

ص: 484

تعالى « أَنَّى يُصْرَفُونَ »، أي كيف يجانبون الحقّ ويتحوّلون عنه إلى الباطل؟! و إنّما أتى بلفظ المبني للمجهول «يُصْرَفُونَ» للإشارة إلى أنّ انصرافهم وتحوّلهم ليس لانبعاث ذاتي، بل هو أمر يخالف فطرتهم، وهناك ما يصرفهم قسراً إلى الباطل وهو اتّباع الهوى.

وقد تكرّر في هذه السورة الحديث عن المجادلة في آيات الله، وهذا هو الموضع الرابع الذي ذكر فيه المجادلون في آياته تعالى. ويظهر من بدو السورة أنّ هذا الأمر هو موضع الاهتمام فيها، حيث ورد في الآية الرابعة من السورة المباركة «مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا » وفي هذا الموضع ينبّه على ما يؤول إليه أمرهم يوم القيامة وما يجازون به.

« الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا » توصيف للمجادلين في عهد الرسالة بأنّهم لا يكذبون برسالتك فقط، بل هم يكذبون بكلّ الكتب السماوية وبكلّ رسالات السماء، فإنّ تكذيب هذه الرسالة ليس على أساس عدم القناعة بمعجزاتها وبكتابها، بل هو على أساس إنكار أصل الرسالة. ولذلك لم يقل «وبرسلنا»، بل قال بما أرسلنا به رسلنا، فهم يكذبون بالرسالة أياً كان الرسول وفي أيّ عهد.

والغرض من ذلك بيان أنّ القوم إنّما يعادون الله تعالى وينكرون آياته، وليس لهم ضغينة للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لولا الرسالة، كما قال تعالى: « «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» (1). والدليل على ذلك أنّهم ما كانوا يكذبون الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ولا يناجزونه في أي شيء قبل ذلك و إنّما انقلبوا

ص: 485


1- الأنعام (6): 33 .

أعداءً حينما أرسله الله تعالى إليهم.

« فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» هذا تهديد منه تعالى بمجازاتهم وعذابهم بما لا يعلمونه ،الآن بل لا يتصوّرونه، فهو عذاب لا يعرفه الإنسان ولا يشبه ما يجده في الدنيا. ولكن متى يحدث ذلك؟ الآيتان التاليتان تبيّنانه.

« إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ »، ظرف لقوله «يَعْلَمُونَ». ويقال: إنّ « إذ » يؤتى به لظرف الفعل الماضي، ويقال في المستقبل «إذا» و إنّما أتى بالظرف الخاصّ بالماضي للدلالة على أنّه محقق الوقوع فکأنّه قد وقع.

والتعبير يصوّر إذلالهم حيث توضع الأغلال والسلاسل في أعناقهم والأغلال جمع غُلَ - بالضمّ - وهو الطوق يوضع فيه عنق الأسير والمحبوس للإذلال والإيذاء. والسلاسل جمع سلسلة، وهي مجموع حلقات طولية يربط بها الأسير والمحبوس والسلاسل هنا معطوف على الأغلال أي توضع الأغلال والسلاسل في أعناقهم. و « يُسْحَبُونَ »حال من الضمير في « أَعْنَاقِهِمْ »، أي يسحبون بهذه الحالة.

« فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ »الحميم: الماء شديد الحرارة. وقد يطلق على نفس الحرارة الشديدة كما يظهر من موارد الاستعمال المنقولة في لسان العرب. وأكثر المفسّرين ذكروا أنّ قوله « فِي الْحَمِيمِ »متعلق ب- « يُسْحَبُونَ »وهو بعيد إذا أريد بالحميم الماء شديد الحرارة، نعم يقرب هذا المعنى إذا أريد به نفس الحرارة الشديدة ولكنّهم لم يفسّروه بها. وبناءً عليه فيختصّ الإسجار بالنار. والإسجار له معان متعدّدة منها الإيقاد ، حيث إنّ السجور بمعنى الحطب - على ما

ص: 486

في العين - فلعلّ المعنى حينئذ أنّهم يجعلون وقوداً للنار كما قال تعالى: « فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ » (1)، وذكر هذا الاحتمال الطبرسي في «مجمع البيان ».

ويحتمل أن يتعلّق « فِي الْحَمِيمِ » ب- « يُسْجَرُونَ » فهم يسجرون أولاً في الحميم ثمّ في النار، كما قال تعالى «يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ »(2)، أي بين جهنّم والحميم. ويقرّب هذا المعنى إذا أريد بالإسجار الملء، وبالحميم الماء شديد الحرارة، فيكون المعنى أنّهم يملؤون من الحميم ثمّ من النار ، ومعنى ملئهم من النار أنّها تدخل في أعماق نفوسهم وأرواحهم وتحرقها كما قال تعالى «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ *الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ » (3).

« ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ » الظاهر أنّ « ثُمَّ » للترتيب كما هو الأصل فيه ولا ضرورة لدعوى أنّها للتراخي الرتبي بقرينة خطابهم بعد ذلك « ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ» إذ لا دليل من اللفظ على كون هذا الخطاب متأخراً. وأمّا الإتيان بالفعل الماضي «قيل» فللدلالة على كونه محقق الوقوع كما مرّ نظيره. وهذا إذلال بالقول وتبكيت لهم فيسألون أين الأصنام التي عبدتموها من دون الله وظننتم أنّها شفعاء لكم عند الله أو أنّها ستنفعكم يوم الحاجة؟

وهنا يبدو سؤال وهو أنّه ما معنى الشرك من دون الله مع أنّهم يشركون الأصنام في التدبير والتأثير مع الله تعالى لا من دونه؟

والجواب أنّ كلمة الشرك ضمنت معنى العبادة باعتبار أنّها مظهر واضح

ص: 487


1- البقرة (2): 24 .
2- الرحمن (55): 44 .
3- الهمزة (104): 6-7 .

للشرك، فالمعنى أين ما كنتم تعبدونهم من دون الله تعالی مشرکین به؟ إنّهم كانوا لا يعبدون الله تعالى و إنّما يعبدون الأصنام فحسب.

« قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا» ، أي ضاعوا فلم نجدهم أصلاً. ولعلّ المراد أنّهم لم يجدوا منهم نفعاً فکأنّهم لم يجدوهم وإلّا فالأصنام تحشر يوم القيامة مع المشركين كما في آيات أخرى، بل يدخلون معهم في جهنّم ويشاركونهم في كونهم وقوداً لها، بناءً على أنّ الحجارة في قوله تعالى: « وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ » يراد بها الأصنام.

« بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا» وهذا اعتراف منهم بأنّهم ظنّوا أنّها أشياء تؤثر وتضرّ وتنفع، فإذا هي ليست شيئاً أي ليس لها أثر فکأنّها ليست موجودة. ويمكن أن يكون هذا الإنكار منهم كذباً كما قال تعالى: «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ *انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ »(1). وقال عن المنافقين: «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ.»(2) وقوله تعالى: « كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ »إشارة إلى ما ورد قبل ذلك في الآية: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»(3).

ولا غرابة في كذب المشرك والمنافق يوم القيامة، فإنّهم دأبوا عليه في الدنيا. والوضع المتأزّم هناك لا يبقي لهم مجالاً غيره. ولا ينافي ذلك قوله تعالى « وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا»، (4) إذ يمكن ان يكون المراد به أنّهم لا يستطيعون الكتمان في

ص: 488


1- الأنعام (6): 23 - 24 .
2- المجادلة (58): 18 .
3- المجادلة (58) :14 .
4- النساء (4): 42.

النهاية حيث تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم، كما قال تعالى: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ »(1).والختم على الأفواه ربّما يكون بعد الكذب.

هذا مع إمكان أن يقال: إنّهم بعد وضوح الحقائق هناك ووضوح سخافة الاعتقاد بقدرة هذه الجمادات أمام تلك العظمة اللامتناهية لا يصدقون على أنفسهم أنّهم كانوا يعتقدون بألوهية هذه الجمادات وربوبيتها وتأثيرها في تدبير الكون، فيكذبون على أنفسهم استبعاداً لهذا الاعتقاد في الدنيا.

وربّما يستفاد ذلك من قوله تعالى في آية سورة الأنعام الآنفة الذكر: « وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ »، فإنّ الظاهر أنّه معطوف على قوله « كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ» فيكون كالمفسّر له والمبيّن لوجهه وعلّته والمعنى أنّ ما كانوا يفترونه من اعتقاد بربوبية هذه الجمادات يضلّ عنهم فلا يبقى في ذهنهم، ولا يكادون يصدقون على أنفسهم ذلك.

« كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ »، أي بمثل هذا الضلال يضلّ الله الكافرين، فيمكن أن يكون المراد بهذا الضلال ما مرّ في قوله تعالى في سورة الأنعام « وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ »، فيكون المراد أنّهم يتيهون ويتحيّرون ولا يصدّقون على أنفسهم ما اعتقدوه وبنوا عليه دينهم وأساس حياتهم في الدنيا. وعلى هذا فالمراد إضلالهم يوم القيامة.

ويمكن أن يكون المراد به الإضلال في الدنيا، والتعبير عنهم بصفة الكفر للدلالة على السبب، أي إنّهم حيث كفروا وستروا الحقّ - والكفر هو الستر -

ص: 489


1- يس (36) :65 .

حقّت عليهم كلمة الضلالة، فلم يهتدوا إلى الطريق واعتقدوا هذا الاعتقاد السخيف، حتّى انتهى بهم الأمر إلى هذه الفضيحة والكذب على أنفسهم يوم لا ينفعهم شيئاً.

«ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» لعلّ هذه الآية تشير إلى السبب في إصرارهم على الكفر الذي أدّى بهم إلى استحقاق هذا الضلال والسبب هو الفرح بغير الحق، فالفرح مبغوض في حدّ ذاته إلّا بالحقّ قال تعالى: «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ»(1) . وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر فمعناه أنّه لا ينبغي الفرح إلّا بفضل الله وبرحمته.

وهناك آيات كثيرة تندّد بالفرح منها قوله تعالى في قصة قارون: «إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» (2)، والله تعالى لم يعقّب على هذا الكلام منهم بشيء ينافيه، وحيث كان فرح قارون بماله الذي يظنّ أنّه حصل عليها بما أوتي من العلم فقد وقع النهي في محلّه.

ومنها قوله تعالى: ««لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (3). وفي هذه الآية تصريح بأنّ الفرح يوجب العذاب الأليم، إلّا أنّه خاصّ بمن يفرح بعمله. والظاهر أنّ المراد به الإعجاب بالنفس .

ومهما كان فالآيات صريحة في أنّ الفرح مذموم إلّا بالحقّ أي بفضل الله وبرحمته فإذا أُوتي الإنسان نعمة من الله تعالى ففرح بها بما أنّها نعمة من الله

ص: 490


1- يونس (10): 58 .
2- القصص (28) :76 .
3- آل عمران (3): 188 .

فهو حسن، أمّا إذا فرح بها لذاتها فهو فرح بالحياة الدنيا وهو مذموم، قال تعالى في صفات من ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه: «وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ »(1) ، فلا ينبغي للمؤمن أن يفرح بما يعتبر من زينة الحياة الدنيا إلّا باعتبار أنّه فضل من الله ورحمة. وبالطبع فإنّ ذلك لا يشمل ما يحصل عليه عن طريق غير مشروع، ولا يشمل كلّ ما يوجب البعد عن الله سبحانه من زينة الدنيا وزخارفها.

وينبغي أن يقال إنّ الفرح المنهي لا بدّ من أن يكون أمراً اختيارياً وفعلاً من الإنسان وهو إظهار الفرح والاستبشار ، وأمّا حالة الفرح التي تحصل للإنسان من دون اختياره فلا يصحّ أن يكون مورداً للنهي، وإن صحّ الذم عليه إن لم يكن الأمر ينبغي أن يوجب الفرح من جهة دلالته على خبث السريرة، فإنّ فرح الإنسان وحزنه وإن كان من غير اختياره یدلّان على انتماءاته وتوجهاته وميوله. وكلّ إنسان يميل قلباً وروحاً إلى من يناسبه وما يناسبه.

«وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ » المرح: شدة الفرح. وفي «معجم مقاييس اللغة»: یدلّ على مسرّة لا يكاد يستقر معها طرباً. ويبدو أنّ الأصل فيه هو شدّة التحرّك وعدم الاستقرار والمرح مذموم مطلقاً، ولذلك لم يقيّده بما قيد به الفرح. قال تعالى: «وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا »(2)، وقال أيضاً «وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ»(3).

والحاصل أنّ السبب في كفرهم وسترهم للحقائق هو فرحهم بالحياة الدنيا،

ص: 491


1- الرعد (13): 26 .
2- الاسراء (17) :37 .
3- لقمان (31): 18 .

بل مرحهم وإخلادهم إلى الأرض وما فيها، فإنّ شدّة التعلّق بالدنيا والإعجاب بزخارفها يبعد الإنسان عن الله تعالى وهداياته. ولذلك ورد في الحديث الشريف «رأس كلّ خطيئة حب الدنيا»(1).

«ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ » وهكذا ينزل عليهم الخطاب الأخير ليقرّر مصيرهم النهائي الذي لا خلاص لهم منه. والأمر بدخول الأبواب بمعنى أنّ كلّ مجموعة تدخل من باب يناسبها، فجهنّم دركات كما أن الجنّة درجات فهم مختلفون في مراتب كفرهم وعنادهم، ولا يدخلون من باب واحد ، ولكن يجمعهم أنّهم جميعاً متكبرون حيث ترفّعوا واستعلوا عن قبول الحقّ والمثوى اسم مكان من الثواء أي الإقامة.

«فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» وردت هذه الجملة في الآية 51 من هذه السورة بعد وعده تعالى بنصرة الرسل «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ». ويختلف الأمر هنا عمّا هناك فهناك أمره بالصبر لينزل عليه النصر الموعود في الحياة الدنيا، وهنا أمره بالصبر بعد ذكر عاقبة المجادلين والمعاندين والمتكبرين يوم القيامة ليرتّب عليه أنّهم إمّا ينتقم الله منهم في حياتك فيشفي صدرك، أو يتوفّاك قبل ذلك، فلا تهتمّ بالأمر فإنّ مرجعهم إليه، ولا يفوته عقابهم، واعلم أنّ وعد الله حق.

«فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ »الفاء للتفريع و«فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ » جملة شرطية حذف جوابها. و«إمّا »أصله «إن » الشرطية و«ما» الزائدة، وتفيد تأكيد معنى الشرط أي إن أريناك بعض الذي نعدهم من عذاب الدنيا فقد

ص: 492


1- الكافي 2 :315 .

شفي صدرك، وإن توفّيناك فإنّهم لا يفوتوننا، بل يرجعون إلينا فنعذّبهم. فقوله «فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ » جواب الشرطية الثانية. ثمّ إنّ جعل الرجوع جزاء لتوفيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يشتمل على تهديد بالعذاب، کأنّه يقول فسنعذّبهم يوم القيامة، وهو جزاء الشرط في التقدير.

والله تعالى لا يتردّد بين أمرين بل هو علّام الغيوب و إنّما يردّد في مثل هذه الموارد ليبهم الأمر على المخاطبين وغيرهم. والمقصود هنا إبهام الأمر على المشركين والمؤمنين.

أمّا على المشركين فليكونوا على حذر وخوف من نزول عذاب الاستئصال عليهم، فإن أكثر الناس لا يهمّهم التحذير من عذاب الآخرة، ولكنّهم يخافون سطوة الله في الدنيا. ولذلك تجد أكثرهم حتّى من آمن بالله واليوم الآخر يعصون الله بأكبر المعاصي ولا يخافونه ، فإذا ابتلي أحدهم بالظلم على من يظنّ حسب معتقده أنّه يضرّه في الدنيا كبعض الأولياء، فإنّه يحجم عن ذلك اتّقاء غضبه تعالى في الدنيا.

ولذلك أيضاً تجد أكثر الناس لا يدفعون خمس أموالهم ولا زكاتها، ولكنّهم يتصدّقون لأنّها - كما في الحديث - تدفع بلاء الدنيا. ويدفعون زكاة الفطرة لما سمعوه من أنّها تؤثر في بقائهم إلى السنة التالية. والحاصل أنّ الترديد يبهم على المشركين ليخوّفهم من احتمال العذاب في الدنيا لاستحقاقهم ذلك.

وأمّا الإبهام على المؤمنين ليبقي فيهم الأمل والرجاء في الانتقام، فإنّ العامّة من الناس لا يشفي صدورهم من الثأر إلّا الانتقام في الدنيا، ولا يشفيها عقاب الآخرة، مع أنّه أشدّ وأدوم. وهذا بالطبع يعود إلى استعجالهم وجهلهم بحقائق الأمور.

ص: 493

ومن هذا الباب أيضاً قوله تعالى خطاباً للمؤمنين بعد البشارة بما أعدّ الله لهم من الجزاء في الآخرة «وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ»(1).

«وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ »الغرض من هذه الآية الردّ على المشركين حيث طالبوا بنزول آية واضحة على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . وقد تكرّرت حكاية هذا الاقتراح من الكفّار في القرآن الكريم:

فمن ذلك ما ورد من حكاية قول المشركين في قوله تعالى «وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا *أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا *أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا *أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا» (2).

وكذلك وردت الحكاية فيه عن الأمم السابقة بالنسبة لرسلهم كقول فرعون «فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ »(3).

وقد ردّ الله تعالى على هذا الاقتراح بوجوه:

منها: أنّهم لا يؤمنون مهما ننزل عليهم من الآيات كما قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ »(4) وقال أيضاً «وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ *لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا

ص: 494


1- الصف (61) : 13 .
2- الإسراء (17): 90 - 93 .
3- الزخرف (43) : 53 .
4- الأنعام (6): 111.

بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ»(1) وورد هذا المضمون في آيات أخرى أيضاً.

ومنها: أنّ نزول الآية لا يكون إلّا بإذن الله تعالى وليس من اختصاص الرسول. وهذا أيضاً ورد في عدّة من الآيات كالآية التي نحن فيها وكقوله تعالى« وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ »(2).

ومنها: أنّ ما نزل من الآيات تكفي للحجّة كقوله تعالى «وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى»(3)، والمراد بالبينة القرآن الكريم.

ومنها: أنّ الله تعالى لا ينزل الآيات المقترحة رحمة بهم لأنّها إذا نزلت لا يمهلون كقوله تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ »(4).

ولذلك لمّا طلب ثمود من نبيّهم صالح (علیه السلام) أن يخرج لهم من الجبل ناقة ليؤمنوا به فأخرج الله لهم ذلك فكذّبوه وقتلوا الناقة لم يمهلهم الله تعالى إلّا ثلاثاً فأبادهم جميعاً. ولذلك أيضاً لمّا طلب الحواريون من عيسى (علیه السلام) أن ينزّل عليهم من السماء مائدة جاءهم الخطاب « إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ»(5).

ومنها أنّ تكذيب البشر للآيات من موجبات انقطاع نزولها كما قال تعالى:

ص: 495


1- الحجر (15): 14- 15.
2- الرعد (13): 38 .
3- طه (20) :133 .
4- الأنعام (6): 158.
5- المائدة (5): 115 .

«وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ »(1).

ولعلّ الباحث يجد وجوهاً أخرى أيضاً.

ومهما كان ففي هذه الآية المباركة يردّ على الاقتراح المذكور من دون ذكره بأنّ الله تعالى قد أرسل قبلك جمعاً كبيراً من الرسل، منهم من قصّ حديثهم عليك في القرآن ومنهم من لم يذكر قصّته فيه ولا أوحى إليك بقصّتهم خارج المجموعة القرآنية، ولم يبعث مع هؤلاء الرسل ما طالبت به أممهم من الآيات إلّا نادراً.

« وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ»هذا استشهاد بسيرته تعالى مع الرسل السابقين ليتبيّن للمشركين أنّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ليس بدعاً من الرسل. والتعبير بقوله تعالى « مَا كَانَ »يفيد أنّ ذلك غير ممكن للرسل. وهذا هو الوجه الثاني ممّا مرّ من الوجوه كما أشرنا إليه.

« فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ » المراد بأمره تعالى أمره بإنزال العذاب، حيث إنّهم كانوا يطالبون به أيضاً كآية من آيات الله کأنّهم يتّحدون غضبه تعالى كما قال سبحانه: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ »(2)، وكقولهم « مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» وقد تكرّر في القرآن حكاية ذلك عنهم، وقلنا إنّ المراد في بعض مواردها قيام الساعة، وفي بعضها نزول العذاب. ولكنّ أمر الله تعالى لا يأتي إلّا في وقته وأجله المحدّد والمبطلون الذين يقولون الكذب ويدّعون الباطل.

ص: 496


1- الإسراء (17): 59 .
2- الحج (22): 47.

ويمكن أن يكون المراد أمره تعالى بنزول الآية المقترحة، فإذا نزلت الآية قضي بالحقّ. والحقّ في هذا الحال هو أنّ القوم إذا لم يؤمنوا بعد نزول الآية المطلوبة ينزل عليهم العذاب كما مرّ آنفاً من حكمه تعالى على الحواريين في سورة المائدة: 115. وعليه فتكون هذه الجملة مكمّلة لما تهدف إليه الآية، وهو تحذير القوم من مطالبة الآيات.

ويمكن أن يكون المراد من الأمر أمره تعالى بالقضاء بالحقّ بقرينة قوله « قُضِيَ بِالْحَقِّ» وإذا جاء أمره بأن يقضى بالحقّ فلا يبقى مجال للباطل ولا يمهل المبطلون والقضاء بمعنى الحكم. والحقّ هو الأمر الثابت ومآل ذلك إلى أن يوضع كلّ شيء موضعه الصحيح، وينال كلّ إنسان جزاؤه من خير أو شرّ. وهذا لا يتحقّق في الدنيا إلّا في مواضع خاصّة كما قال تعالى: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ»(1).

و إنّما يقضي بالحقّ ويوضع كلّ شيء موضعه يوم القيامة كما قال «وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ »(2).

وإذا قضي بين الناس بالحقّ في هذه الحياة فالذين كذّبوا بآيات الله تعالى لا يستحقّون إلّا عذاب الاستئصال. وهذا هو حقّهم الذي يطالبون به والنتيجة هي خسارتهم التامّة، حيث يخسرون أنفسهم وأهليهم وحضارتهم وكلّما بنوا من عمارة الدنيا، والأهمّ من ذلك أنّهم يخسرون الفرصة والمهلة للتوبة والرجوع

ص: 497


1- الشورى (42): 30 .
2- الزمر (39): 75 .

إلى الله تعالى ولإصلاح أخطائهم السابقة، وبذلك يخسرون السعادة الأبدية في الآخرة أيضاً.

وصريح الآية أنّ هناك رسلاً لم يذكروا في القرآن قبلها، والظاهر أنّ هناك من لم يذكر أصلاً لقوله تعالى « «وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ»(1). وقد قيل إنّه لم يرد ذكر لرسول جديد الذكر بعد نزول سورة النساء، والله العالم.

ولا شكّ أنّ الرسل أكثر ممّا ورد ذكرهم في القرآن بكثير لقوله تعالى « وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ » (2)، وقد ورد في الروايات أنّ عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرين ألفاً، وفي بعضها مائة وعشرين ألفاً، وفي بعضها غير ذلك، وفي بعضها أنّ عدد الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً (3)، وقد ورد في الأحاديث ذكر لرسل لم يرد ذكرهم في القرآن كما في رواية عن أمير المؤمنين (علیه السلام)«بعث الله نبيا أسود لم يقصّ علينا قصّته». (4)

وربّما يلاحظ بقايا طقوس دينية في أقوام من البشر بعيدين عن أجواء الرسل المعروفين، وتبدو أنّها من بقايا شرايع الرسل القديمة نالتها أيدي التحريف.

ص: 498


1- النساء (4): 164 .
2- فاطر (35): 24 .
3- راجع الكافي 1: 224 كامل الزيارات: 234؛ خصال، الصدوق: 640 - 641 وغيرهما من كتب الخاصّة والعامّة.
4- رواها في المجمع والظاهر أنّها عاميّة لم ترد عن طرقنا.

سورة غافر (79 – 81)

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)

« اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ» إشارة إلى بعض نعمه تعالى التي هي من آياته التي تدلّ على حكمته ورحمته وربوبيته الشاملة كنموذج من الآيات الكونية بعد أن رفض إرسال الآيات المقترحة رحمة بهم كما مرّ فکأنّه تعالى ينبّههم على أنّ ما في الكون من الآيات يكفي لمن كان له قلب ولم يتّبع هواه.

ثم إن قوله « اللَّهُ الَّذِي » يفيد الحصر، أي إنّ الذي جعل لكم الأنعام هو الله تعالى لا غيره وذلك للردّ على أوهام المشركين ، حيث ينسبون شطراً من الربوبية إلى الأصنام أو غيرها والاستدلال يبتني على تسليمهم بأنّ الله تعالى هو الخالق للأشياء لا غيره كما هو معتقد الوثنية. قال تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ » (1)، وحيث إنّ هذا الخلق يكشف عن هدف وحكمة للخالق يتبيّن منه أنّه هو الربّ الذي ينعم على الخلق، ومنهم البشر بما يحتاجونه في معيشتهم على هذا الكوكب.

والمراد بجعل الأنعام إمّا هو الجعل البسيط بمعنى أنّه خلقها لهذا الغرض، أو الجعل المركب بمعنى أنّه جعلها بعد الخلق مسخّرة لكم. وعلى الاحتمال الثاني لا یدلّ على أنّ أصل خلقها كان لذلك، ولكنّها كانت مستعدّة

ص: 499


1- لقمان (31) :25 .

لهذا الغرض فسخّرها الله تعالى له.

والأنعام جمع لا مفرد له. وهو مأخوذ من النعمة، يطلق في الأصل على الإبل لكثرة فوائدها لدى العرب، حيث كانوا يعيشون في الصحراء. ثمّ أطلق على الإبل والبقر والغنم فان أريد بها هنا خصوص الإبل فالمعنى واضح لأنّها تستخدم في الأكل والركوب، وإن أريد بها الأعمّ، فالمراد أنّ منها ما يركب ومنها ما يؤكل. و«من» على كلا التقديرين تبعيضية.

« وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ» إشارة إلى ما ينتفع به من جلودها وأشعارها وأوبارها وألبانها وغير ذلك، فإنّ الأنعام يستفاد من كلّ أجزائها. وتشمل المنافع المتاجرة بها وزيادة الإنتاج والركوب للزينة ونحو ذلك.

« وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ » لعلّ المراد بالحاجة الانتقال إلى بلد أو مكان آخر، وكذلك نقل الأثقال ولا يشمل هذا سائر المنافع لقوله « عَلَيْهَا ». فقوله « لِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا »يفيد أنّ الركوب عليها والمشي بها يوصلكم إلى حاجة في صدوركم، فالمراد الأماكن البعيدة التي يصعب الوصول إليها بالسير على الأقدام.

« وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ » تكرارالحمل بالنسبة للأنعام بعد ذكر الركوب وبلوغ الحاجة للتشريك بينها وبين الفلك، فالإبل للحمل في البرّ والفلك للحمل في البحر. والفلك أيضاً من النعم الطبيعية وإن كان من صنع البشر، من جهة أنّ الله تعالى جعل هذه القوانين التي على أساسها يمكن استخدام الفلك في البحر، ومن جهة تأثير الرياح في حركة السفن سابقاً. مضافاً إلى أنّ الظاهر أنّ أوّل من صنع السفينة هو النبيّ نوح (علیه السلام) بوحي وتعليم من الله تعالى كما قال: «وَاصْنَعِ

ص: 500

الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا » (1).

« وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ »، أي وهكذا يريكم الله بهذا الكلام آياته في كلّ مخلوق فإنّ الخلائق كلّها آيات لله تعالى تدلّ على عظمة الخالق وحكمته وتدبيره. ولعلّ المراد بالإراءة التنبيه على كونها آيات، فإنّ الإنسان يرى الأشياء بل يغور فيها وفي عجائبها وغرائبها، ولكنّه لا ينتبّه إلى كونها آية تدلّ على حكمة الخالق وقدرته وأنعامه وربوبيته فينبّهه الله تعالى على ذلك، ويمكن أن يكون المراد بالإراءة نفس إيجادها وتكوينها.

« فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ » استفهام إنكاري، واستنكار لمن ينكر آيات الله الواضحة الباهرة والإنسان بفطرته لا يكاد ينكر آيات الله تعالى وإن أنكرها بلسانه فهو معترف بها بقلبه، إلّا أنّ الذي يدعوه إلى الإنكار هو اتّباع الهوى أو متابعة الآباء والأجداد والتقاليد البالية. وإضافة الآيات إلى اسم الجلالة دون الضمير للتأكيد على سخافة الإنكار والتنديد به ، لأنّه إنكار لآيات الله تعالى. وهل يمكن لعاقل أن ينكرها؟!

ص: 501


1- هود (11): 37 .

سورة غافر(82 – 85)

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)

« أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ » بهذا المقطع تنتهي السورة المباركة. وفيه يعود السياق إلى ما ورد في أوائلها من الحثّ على السير في الأرض للنظر والاعتبار في عاقبة الذين كفروا من قبل من الأمم السابقة، حيث أرسل الله إليهم الرسل فكذّبوهم واستهزأوا بهم، فأنزل الله عليهم عذاب الاستئصال ودمّر مبانيهم العظيمة، وأباد حضارتهم، ولم يبق منهم أحداً ولا أثراً إلّا ما يكون عبرة لمعتبر، مع أنّهم كانوا أكثر من مشركي مکّة عدداً، وأشدّ منهم قوّة في الجسم، وأكثر آثاراً في الأرض.

ولعلّ المراد بالآثار المباني العظيمة والغريبة التي حيرت عقول الخبراء حتّى بعد هذا التقدّم المذهل في العلوم. ولكنّهم مع هذه الآثار والقوّة والكثرة أبادهم الله تعالى عن بكرة أبيهم بعد أن كذّبوا الرسل. ولم تغن عنهم قوّتهم وشوكتهم وكثرتهم شيئاً. وهذا بنفسه أمر واضح لا يحتاج إلى تنبيه، لأنّ الإنسان مهما تمكن من مقاومة الطبيعة وقوانينها وسخّر ما أمكنه منها لصالحه إلّا أنّ هناك

ص: 502

كثيراً من القوانين لا يمكنه أن يواجهها إلّا بالتسليم. ولو فرضت له القدرة على كلّ متطلّبات الطبيعة، ولكن لا شكّ أنّه لا يمكن أن يقاوم إرادة الله تعالى الذي خلق الطبيعة وأسّس قوانينها .

وهذا مع أنّه واضح لا يحتاج إلى بيان إلّا أنّ البشر الجاهل المسكين كثيراً ما تنتابه آفة العجب والخيلاء، فإذا وجد نفسه مقتدراً على بعض العباد العاجزين نظر في عطفه، وتخيّل أنّه قادر على كلّ شيء. وهكذا يزداد عجباً وخيالاً إلى أن يدّعي الألوهية، أو يدّعي أنّ بإمكانه مقارعة الخالق المتعال. وقد وجد كثير من الطغاة الجبابرة يتشدّقون بذلك. وكثير منهم يبدي تواضعاً لله تعالى وخضوعاً للتمويه على الناس، وهو في قرارة نفسه لا يختلف عن الفراعنة والذين ادّعوا الألوهية ونحوها.

« فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» الغنى الكفاية. أي لم يكفهم في مواجهة غضب الله تعالى وعذابه كلّ ما بنوه من قصور ومباني، وكلّ ما تحصّنوا خلفه من قلاع وحصون، وكلّ ما جمعوه من جنود وعتاد، وكلّ ما ملأوا به الخزائن من ذهب وفضة، وكلّ ما أظهروه من سطوة وقوّة، وأخافوا به العباد، وتسلّطوا به على البلاد، وكلّ ما حقّقوا من علاقات دبلوماسية وصداقات مع سائر الجبابرة، وغير ذلك ممّا يفرح به الإنسان ويظنّ أنّه يكفيه يوم الشدّة، ولكنّه يجهل أو يغفل أنّ شيئاً من ذلك لا ينفعه في مواجهة الإرادة القاهرة الإلهية.

« فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ» أبى الله تعالى لرحمته بعباده التي غلبت غضبه ونقمته أن يعذّب قوماً في الحياة الدنيا عذاب الاستئصال، إلّا بعد أن يبعث فيهم رسولاً يدعوهم إلى الخضوع أمام الربّ تعالى، وعدم الطغيان على أوامره

ص: 503

ونواهيه. وعذاب الدنيا وإن لم يكن شيئاً يذكر إذا قيس بعذاب الآخرة إلّا أنّ عذاب الاستئصال يفقد الإنسان كلّ الفرص المتاحة للنجاة والتوبة والعود إلى رشده، كما أنّه يقضي على كلّ القابليات التي لم تصل إلى مرحلة النضج كالأطفال والشباب.

ولذلك لا يعجّل الله عذاب الأقوام الكافرة، والتي تشيّع فيها المنكرات والظلم والفساد حتّى يبعث فيهم الرسل، ويأتيهم الرسل بالآيات والأدلة الواضحة، والمعجزات التي لا يمكنهم تفسيرها بما أوتوا من العلم، وهي التي عبّر عنها في هذه الآية بالبينات.

« فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ »، أي اغترّوا بما وصلوا إليه من العلم والثقافة والحضارة، ولم يعجبهم ما أخبر به الرسل من أخبار الغيب عن المعاد وما بعد الموت، وما طالبوا به من ترك العادات والتقاليد البالية والتدين بما أمر به الله سبحانه، فتلقّوا كلامهم بالسخرية اللاذعة، واعتبروه تخلّفاً، وبعداً عن العلم والحضارة، كما نجده ونسمعه اليوم من المدّعين للعلم الذين يظنّون أنّ العلم منحصر في ما اكتشفوه من حقائق الطبيعة، مع أنّهم لا يعلمون إلّا ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.

وهكذا واجهوا رسالات السماء بالاغترار بما لديهم من علم الدنيا الذي به تمكّنوا من تشييد المباني وبناء المدن واستهزؤوا بالرسل، وما كان يبدو على مظاهرهم من الفقر والضعف وبساطة العيش، واستهزؤوا بما يحذّرونهم منه من العذاب الإلهي، كما نسمعه اليوم أيضاً. بل طالبوا بالعذاب واستعجلوا به، كما هو الحال في عصرنا وما أشبه الليلة بالبارحة.

ص: 504

والتعبير عن علمهم بأنّه جاءهم لا يعني أنّه إلهام أو وحي من الله تعالى، و إنّما هوعلم اكتسبوه، وكلّ ما يكتسبه الإنسان فهو من الله تعالى.

« وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ »لمّا تمادوا في الغيّ وانتهت مدة الإمهال التي لا يعلمها إلّا الله تعالى حاق بهم، أي نزل بهم أو أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به عند سماع التهديد به من الرسل. وقد مرّ الكلام في معنى «حَاقَ » في تفسير الآية 45 .

وللمفسّرين أقوال غريبة في معنى قوله تعالى: « فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ » لا حاجة إلى نقلها. وكأنّ بعضهم استبعد أن يعبّر عن ما كان لديهم بالعلم. مع أنّ العلم يصدق عليه بوضوح وقد قال تعالى: «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا »(1)، وقال تعالى نقلاً عن قارون في مواجهة ما وعظه به المؤمنون من قومه: «قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي»(2) . ولعلّ بعضهم استغرب التعبير عن ذلك ب- «ما عِنْدَهُمْ» واستظهر منه أنّ المراد رسالات السماء مع أنّ كلّ ما لدينا فهو من الله تعالى، ولا حاجة إلى تأويل.

« فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ» البأس: الشدّة. والمراد به هنا العذاب الإلهي. والآية تنقل توبة الأقوام الكافرة والمعاندة للرسل بعد نزول العذاب، وأنّهم يعلنون إيمانهم بالله تعالى وحده لا شريك له في آخر لحظة من حياتهم، ويعلنون كفرهم بما أشركوا به. وهكذا الإنسان لا يرجع عن غيّه، ويستمرّ في مقارعة الحقّ، ولا يترك سبيل الباطل والشهوات، حتّى يواجه الحقيقة المرّة.

ص: 505


1- الروم (30): 7 .
2- القصص (28): 78 .

والإنسان أسير المغامرات يتلذّذ بركوبها، ويخيّل إليه دائماً أنّ المجال مفتوح لتصحيح الأخطاء، مع أنّه يجد أنّ كثيراً من الأخطاء لا يترك مجالاً للتفادي فالسائق المسرع في مغامراته يتصوّر أنّه ماهر في إيقاف العربة متى أراد. ومع أنّه يجد في كلّ يوم حوادث مؤسفة كلّها أو جلّها ناتجة عن هذا التصوّر الخاطئ، ولكنّه مع ذلك يغامر ويخاطر بنفسه ونفوس الآخرين. وفي لحظة الحادث ربّما لا يجد مجالاً حتّى لإظهار الندم.

وهكذا البشر في مواجهة وعيد الرسل بالعذاب الإلهي، فإنّ البشر كثيراً ما يخاطر ويغامر ، بل ربّما يطلب العذاب ويستعجل به ،وهو يظنّ أنّه إذا رأى بوادر العذاب سيؤمن ويخلّص نفسه، ولكنّ العذاب ربّما لا يمهل ولو أمهل فإنّ الإيمان في ذلك الوقت لا ينفع. وقد ورد التصريح بذلك في عدّة من الآيات الكريمة، ومنها هذا المقام .

« فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا» والسرّ في ذلك أنّ الإيمان المطلوب من البشر والمفيد له في رفع درجاته ومقامه هو الإيمان بالغيب، كما صرّح به في موارد عديدة أيضاً. وإذا تبيّن العذاب وشاهده الإنسان خرج عن كونه غيباً، فلا يفيده الإيمان حينئذ.

وغريب غباء الإنسان في مقابل إمهال ربّه، كما حدث لفرعون حيث قابل كلّ ما رآه من الآيات والمعجزات البيّنة الواضحة بالعناد أملا في أن يمهله الله تعالى أكثر فأكثر. وبلغ به الغباء غايته حينما رأى البحر قد فتح الطريق لموسى ومن معه ليفّروا من بأسه، فغامر بنفسه وجيشه أملا في أن يمهله الله حتّى يخرج من الجهة الأخرى، ويعيد بني إسرائيل إلى عبوديته، فأغرقه الله تعالى. وآنذاك قال: « آمَنْتُ

ص: 506

أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ » وجاءه الخطاب: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ »(1)، ولم يقبل الله تعالى منه إيمانه.

وهنا أيضاً يحكي الله سبحانه عن الأمم المتحضّرة السابقة كيف يواجهون العذاب الإلهي، ويعلنون إيمانهم بالله وحده، ورفضهم لما أشركوا به من قبل، وكفرهم بالآلهة المزيفة، ولكن لا ينتفعون بذلك.

« «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ » نعم! هذه سنة من سنن الله في جميع المجتمعات البشرية، ولن تجد لسنة الله تبديلاً والسنة: الطريقة، والأصل فيه السير بسهولة كما في «معجم المقاييس». و «خلت» أي مضت وسنّة الله تعالى لا تتغيّر لأنّ الذي يغيّر سنّته إنّما يغيّرها لخطأ جهل به في ما سبق، وهو محال على الله تعالى

« وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ» النتيجة هى الخسارة المطلقة لمن كفر بربّه وعاند الحقّ واستمرّ في التسويف والتأخير، فإنّه يخسر فرصة العودة والرجوع إلى الله تعالى فيخسر نفسه وأهله. نسأل الله تعالى أن يوفقنا للتنبه قبل فوت الأوان إنّه سميع قريب. والحمد لله أوّلاً وآخراً والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين الهداة المنتجبين.

ص: 507


1- يونس (10): 90 - 91 .

ص: 508

تفسير سورة فصلت

اشارة

ص: 509

ص: 510

سورة فصّلت(1 – 8)

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)

«فُصِّلَتْ » سورة مكية، وذلك واضح من سياقها وخطاباتها الموجهة إلى المشركين. ويقال: إنّها من أقدم السور المكية. و یدلّ على ذلك الحديث التالي المرويّ في «بحار الأنوار»، نقلاً عن كتاب «إعلام الورى بأعلام الهدى». ونحن ننقله من هذا المصدر، وإن روي في مصادر أخرى أيضاً من كتب العامّة والخاصّة بألفاظ مختلفة:

كان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لا يكفّ عن عيب آلهة المشركين ويقرأ عليهم القرآن فيقولون: هذا شعر محمد ويقول بعضهم هو كهانة. ويقول بعضهم: هو خطب.

ص: 511

وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً، وكان من حكّام العرب يتحاكمون إليه... وكان من المستهزئين برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وكان عمّ أبي جهل بن هشام فقال له: يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد أسحر ، أم كهانة، أم خطب؟ فقال: دعوني أسمع كلامه.

فدنا من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو جالس في الحجر فقال: يا محمد أنشدني من شعرك. قال: ما هو بشعر ، ولكنّه كلام الله الذي بعث به انبیاءه ورسله فقال: أتل عليّ منه فقرأ عليه: «بسم الله الرحمن الرحيم» فلمّا سمع الرحمن استهزأ فقال: أتدعو إلى رجل باليمامة يسمّى الرحمن قال: لا ولكنّي أدعو إلى الله، وهو الرحمن الرحيم.

ثم افتتح سورة حم السجدة، فلمّا بلغ إلى قوله « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ » (1) وسمعه اقشعرّ جلده، وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته، ثمّ قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش. فقالت قريش لأبي جهل: يا أبا الحكم ! صبا أبو عبد شمس إلى دين محمد، أما تراه لم يرجع إلينا، وقد قبل قوله ومضى إلى منزله، فاغتمّت قريش من ذلك غمّاً شديداً.

وغداً عليه أبو جهل، فقال: يا عمّ نكست برؤوسنا وفضحتنا. قال: وما ذاك يابن أخ؟ قال: صبوت إلى دين محمد قال: ما صبوت وإني على دين قومي وآبائي، ولكنّي سمعت كلاماً صعباً تقشعرّ منه الجلود. قال أبو جهل: أشعر هو؟ قال: ما هو بشعر. قال: فخطب هي؟ قال : لا ، إنّ الخطب كلام متصل وهذا كلام منشور، ولا يشبه بعضه بعضاً له طلاوة. قال: فكهانة هي؟ قال: لا. قال: فما هو ؟ قال: دعني

ص: 512


1- فصّلت (41): 13 .

افكّر فيه فلمّا كان من الغد قالوا يا أبا عبد شمس ما تقول؟ قال: قولوا هو سحر فإنّه آخذ بقلوب الناس فأنزل الله تعالى فيه : «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا... عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ »(1). (2)

«حم» من الحروف المقطعة، وربّما يقال إنّه اسم للسورة. وقد مرّ بعض الكلام حول هذه الحروف في تفسير سورة يس المباركة.

« تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» أي هذا القرآن تنزيل والتنزيل مصدر بمعنى اسم المفعول، أي منزل من الرحمن الرحيم.

والتعبير بالتنزيل ليس بمعنى أنّه أنزل من مكان مرتفع بل باعتبار العلو المعنوي، حيث إنّه أرسل إلى البشر من عند ربّ العالمين، أو بلحاظ أنّ مضامين هذا الكتاب معان عالية جدّاً لا يبلغها عقول البشر ، فنزلها الله تعالى إلى مستوى فهم الإنسان وإدراكه.

و « الرَّحْمَنِ » صفة مشبهة تدلّ على المبالغة في الرحمة من جهة الشمول والسعة. فهي تشمل الرحمة على الكافرين أيضاً ولكن في الدنيا. والرحيم أيضاً صفة مشبهة ولكنّها تدلّ على الثبات واللزوم، فهي تختص بالمؤمنين، حيث إنّ الرحمة لازمة لهم لا تنفكّ عنهم وتشملهم حتّى في الآخرة.

وفي حديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) في تفسير البسملة قال الله (عزَّ و جلَّ) «والله إله كلّ شيء، الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصّة». (3)

وعليه فالتركيز على الاسمين الكريمين لعلّه للدلالة على أنّ القرآن الكريم

ص: 513


1- المدثر (74) : 11 - 30 .
2- بحار الأنوار 17: 211 .
3- الكافي 1: 114.

يفيد البشر فى الدنيا والآخرة، لأنّه منزّل من الرحمن، الاسم الذي يشير إلى الرحمة العامّة والرحيم الذي يشير إلى الرحمة الخاصّة. أو يفيد الكافر والمؤمن، أمّا الكافر فبهدايته إلى الإسلام والإيمان، وأمّا المؤمن فبتثبيت إيمانه، وإنارة طريقه إلى رضا الله تعالى.

والرحمة في الأصل رقّة في القلب تستدعي لطفاً وعناية. ولكن ذلك مستحيل على الله تعالى، فاذا نسبت إليه كانت بمعنى نفس اللطف والعناية.

« كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ » خبر بعد خبر. والمراد بالتفصيل التوضيح والتبيين ومنه أيضاً قوله تعالى في نفس هذه السورة في الآية 44 « وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ » ، فالتفصيل هنا في مقابل العجمة، حيث يكون المعنى مجهولاً لدى العربي.

والمقصود أنّ آيات هذا الكتاب واضحة المعاني وليست معقّدة، وإن لها بواطن ربّما لا يعلمها أحد إلّا بتبيين من الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ولكن لها معان ظاهرة وواضحة تكفي لإيصال الإنسان إلى الهدف المنشود.

ويمكن أن يكون التفصيل باعتبار أنّ هذا الكتاب يفيد كلّ أحد يرجع إليه ممّن يعرف اللغة على اختلاف المستويات الثقافية، وعلى اختلاف المذاهب والأديان، وعلى اختلاف الأذواق والأفكار، وعلى اختلاف المشاكل والحاجات، فالقرآن يمدّ كلّ أحد بما يناسبه.

« قُرْآنًا عَرَبِيًّا» حال من الكتاب، أي فصّلت حال كونه قرآناً عربياً. والقرآن مصدر من قرأ بمعنى جمع أي هو مجموعة من المطالب باللغة العربية الفصحى. ويمكن أن يكون مصدراً بمعنى القراءة، أي التلاوة، وإن كان الأصل فيها أيضاً

ص: 514

الجمع، فالمراد على ذلك أنّه مقروّ ومتلوّ، أي سهل القراءة ينتفع به الجميع.

« لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» متعلّق بقوله «فُصِّلَتْ» ولعلّ المراد الذين يعلمون اللغة العربية. ويمكن إرادة العلم بمعنى مطلق في مقابل من ليس له رصيد علمي أصلاً، فلا ينتفع بشيء منه، أو بمعنى من له قابلية العلم نظير قوله تعالى «هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ »(1) أي من له قابلية اليقين، في مقابل المعاند.

« بَشِيرًا وَنَذِيرًا »حالان أيضاً من الكتاب لبيان الهدف من التنزيل، وهو تبشير المؤمنين بما يستقبلهم من رغد العيش في الحياة الآخرة، وإنذار لمن سمعه فأعرض عنه بما أعدّ له من العذاب في تلك الحياة الأبدية.

« فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ »استغراب من مقابلة كفار قريش لهذا الكتاب الذي أنزل بلغتهم ، وفُصّلت آياته وهو يبشّرهم ويحذّرهم وينذرهم بمستقبل خطير، ومع ذلك أعرضوا عنه ولم يهتمّوا به، کأنّهم لا يسمعون شيئاً. وكان المفروض ممّن يعقل أن يهتمّ بمستقبله ويسمع لأيّ تحذير. ولذلك نُزِّل عدم اهتمامهم بمنزلة عدم السماع إذ لا يعقل من الإنسان العاقل أن لا يهتمّ بمثل هذا الإنذار .

والأغرب من ذلك أنّ هؤلاء يشكّلون الأكثرية في هذا المجتمع. وهذا من الموارد التي يتبيّن منها ضعف أداء الأكثرية، وبطلان اللجوء إلى رأيها والاستناد إليها.

والظاهر أنّ الضمير في «أكْثَرُهُمْ» يعود إلى قوله تعالى « لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» أي العرب العالمين باللغة، أو من لهم شيء من العلم، أو قابلية العلم. ومهما كان

ص: 515


1- الجاثية (45) :20 .

فالمراد بالأكثر كفار مکّة، وربّما يقال: إنّ أهل مکّة أسلموا بعد ذلك فلماذا نسب الكفر والجحود إلى أكثرهم؟

والجواب أنّ الأكثرية قد يكون بلحاظ زمان نزول الآية، أو باعتبار أنّ أكثرهم ماتوا على الكفر ، أو باعتبار أنّ أكثر من أسلم منهم إنّما أسلم بعد الفتح كرهاً ونفاقاً.

«وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ »، «الأَكِنَّةٍ » جمع کنان كالأغطية جمع غطاء، وهو بمعنى الغطاء أيضاً. والمراد بالقلوب العقول، وكونها فی غطاء كناية عن عدم تأثرها بما يلقى عليهم من المعلومات، أي أنّهم لا يفهمون معنى ما يقوله الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وما يدعو إليه من حقائق كما قال قوم شعیب (علیه السلام): « مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ »(1).

والوقر في الأصل الثقل، فيطلق على الثقل في الحمل، وعلى الثقل في السمع، وهو الصمم. والمقصود أنّا لا نسمع كلامك، فضلاً عن فهم معانيها.

« وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ »، «مِنْ» زائدة، أي بيننا وبينك حجاب، والظاهر أنّها تؤكد البينية فتفيد أنّ الحجاب خاصّ بيننا وبينك وليس حجاباً عامّاً. والحجاب كلّ ما يستر شيئاً عن شيء والمراد به هنا ما يمنع الرؤية، فالمعنى أنّا لا نراك أصلاً، فضلاً عن السماع. وبذلك أرادوا أن يؤيسوا الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من إيمانهم لعلّه يتركهم وشأنهم.

وهم صادقون في ما قالوا، فهذا الحجاب والوقر والأكنّة أمور طبيعية، تحصل من عناد الإنسان في مواجهة الحق. وقد أخبر بها الله تعالى في موارد عديدة من

ص: 516


1- هود (11) :91 .

کلامه العزيز منها قوله تعالى «وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا *وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًاً»(1).

« فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ» قيل : إنّ المراد أُتركنا واعمل بما تراه صحيحاً، ونحن أيضاً نعمل بما نراه ولكن هذا لا يناسب غطرسة القوم ، بل هو الذي كان يطالب به الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأمر من الله، قال تعالى: «وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ »(2) وكانوا يرفضون هذه الفكرة.

والظاهر أنّ المراد به التهديد أي اعمل ضدّنا كما تشاء، وائتنا بما تعدنا، إنّا عاملون ضدّك بما نستطيع، أو إنّا ماضون على طريقتنا. ويؤيّده الجواب الذي يأتي في الآية التالية.

« قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ» أمر الله تعالى رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يرد على كلامهم بأنّه ليس إلّا بشراً مثلهم والعذاب إنّما يأتي به الله تعالى إذا أراد فهذا جواب على قولهم « فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ» وهو كما ذكرنا يؤيد التفسير المتقدم لهذه الجملة.

والآية تنبّه على أنّ الفرق بين الرسول وغيره من الناس أمر واحد، وهو أنّه يوحى إليه. ولعلّ بعض الناس يتوهّم أنّ هذا ينزل من شأن الرسول، وأنّ كلّ ما يقال في إكرام الرسل وأنّهم فوق مرتبة سائر الناس إنّما هو غلوّ في حقّهم، لأنّ الله تعالى يقول: إنّ الرسول بشر مثلكم، و إنّما هو بشر يوحى إليه.

ولكنّ الواقع أنّ هذا الفرق كبير جدّاً كالفرق بين السماء والأرض، فأين البشر

ص: 517


1- الإسراء (17): 45-46 .
2- الشورى (42): 15 .

المتوغّل فى الأمور المادية أو المهتّم بها، فضلاً عن الذي يجد بينه وبين الرسول حجاباً، والذي لا يسمع صوته، من البشر الذي يرتبط بالسماء، وتنزّل عليه الملائكة، ويوحي إليه ربّه ؟!

إنّ هذا الفرق الكبير أعظم من أن تناله أوهامنا وتصل إليه أفكارنا نعم! الرسول بشر مثلنا في جسمه، وما يتبعه من أوصاف نفسية بشرية، كالغضب والرضا، والحبّ والبغض، ولكنّه بشر انتخبه الله تعالى واصطفاه ليؤدّي رسالة السماء، وأمر الناس جميعاً بإطاعته، لأنّه معصوم لا يمكن أن يأمر بما يهواه ما لم ينزّل به الوحي الإلهي.

«أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ» يبدو من الجملة انحصار الوحي في توحيد العبادة، وذلك لأنّه في مقام بيان الفارق بينه وبين سائر البشر، وأنّ الفرق ليس إلّا الوحي ثم حدّد متعلّق الوحي بالتوحيد فالسياق يقتضي الانحصار.

وليس هذا من المبالغة، بل هذا هو أساس كلّ ما يوحى إلى الرسل في جميع الشرائع: «لا تعبدوا إلّا الله » وهو أساس الوحدة الاجتماعية في البشر ««وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا» (1)والبشر لولا الدين لاتحدّوا على الباطل، و إنّما تفرّقهم الأهواء «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ»(2) فالذي تدعو إليه الأديان وشرائع السماء هو الالتفاف حول كلمة التوحيد، ونبذ التفرّق على هذا الأساس.

قال تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ

ص: 518


1- آل عمران (3): 103 .
2- البقرة (2) :213 .

إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»(1) فهذا هو روح الشرائع.

والإله هو المعبود، فالمطلوب من الإنسان أن لا يعبد إلّا الله تعالى، وهذا يشمل عبادة الأصنام والبشر والمال والشيطان والهوى ونحوها وكلّ سعادة الإنسان تكمن في ذلك، فإنّ الإطاعة العمياء عبادة، فإذا لم يطع الإنسان بشراً ممّن لم يأمر الله تعالى بإطاعته، ولم يطع ما يلقيه إليه شياطين الجنّ والإنس، ولم يطع هواه، فإنّه يقرب من أن يكون معصوماً.

« فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ » تفريع على التوحيد والاستقامة هو الاعتدال، وعدم الانحراف يميناً أو شمالاً، وهو السير على الصراط المستقيم، ويفيد معنى الثبات أيضاً. وحيث ضُمّنت الاستقامة معنى التوجّه عُدّيت ب- «إلى» أي استقيموا في توجّهكم إليه. ومعنى ذلك أنّ مجرّد التوجه إلى الله تعالى غير کاف، بل لا بدّ من الاستقامة فيه ومتابعة الطريق الذي رسمه الله تعالى عن طريق الوحي وبواسطة رسله والثبات والعزم في الاستمرار عليه.

« وَاسْتَغْفِرُوهُ »لا بدّ للبشر من الاستغفار، إذ لا يخلو إنسان من الانحراف قليلاً يميناً أو شمالاً، فلا بدّ من الرجوع والاستغفار هو طلب المغفرة، أي الستر عمّا بدر من الإنسان المخطئ.

«وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» الويل دعاء بحلول الشر. وإذا صدر من الله تعالى فهو إحلال للشرّ. وقيل: كلمة يقال عندما يراد تقبيح فعل أو صفة. وهذا نتيجة لما سلف من أنّ المطلوب هو التوحيد، فمن أشرك بالله فقد حلّ عليه الشرّ.

« الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ» المراد بالزكاة مطلق الإنفاق في

ص: 519


1- الشورى (42) :13 .

سبيل الله فلا وجه لاستغراب بعضهم من جهة أنّ وجوب الزكاة إنّما شُرّع في المدينة، وهذه السورة مكّية، بل من أوائل ما نزل بمکّة.

والوجه في التعبير بالزكاة عن الإنفاق، تخصيصه بما يكون موجباً لتزكية النفس وتنميتها معنوياً، ولا يكون ذلك إلّا إذا قصد به التقرّب إلى الله تعالى فالإنفاق وإن كان في حدّ ذاته من مكارم الصفات، وقد قال الله تعالى « وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(1) إلّا أنّه ليس بنفسه زكاة. وقد كان الجود صفة معروفة لكثير من المشركين، ولكنّ الذي كانوا يفقدونه هو ميزة التقرّب إلى الله تعالى. ولذلك لم يكن في جودهم تزكية للنفس.

ولعلّ السرّ في الاهتمام بهذا الأمر هنا هو تنبيه المشركين بأنّ ما ينفقونه من مال لا ينفعهم، بل يكون وبالاً عليهم قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً»(2).

ثمّ وصفهم بإنكار الآخرة، حيث إنّ مشركي الجزيرة كانوا ينكرونها، مع اعترافهم بالله تعالى. وهذه مفارقة غريبة. وتكرار الضمير للتأكيد على أنّ هذه صفتهم خاصّة، کأنّهم وحدهم من ينكرها مع أنّه ليس كذلك ولكن للتنبيه على غرابة هذا الإنكار أكّد على ذلك.

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» حيث طال الحديث عن المشركين وأقوالهم وما يؤول إليه أمرهم تعرّض لحال من هم بخلافهم من المؤمنين لئلّا يخلو من تبشير، كما هو الحال في موارد عديدة من الكتاب العزيز.

ص: 520


1- الحشر (59): 9 .
2- الأنفال (8): 36 .

و « مَمْنُونٍ» بمعنى مقطوع. وهو الأصل في معنى هذه الكلمة. والمراد أنّ أجرهم، أي الجنّة لا تقطع عنهم فهم خالدون فيها، كما قال تعالى: « «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ »(1) والمجذوذ أيضاً بمعنى المقطوع.

وقيل: إنّه بمعنى نفي المنّة عليهم، وأنّه بهذا الاعتبار سمّاه الله تعالى أجراً فکأنّهم نالوه عن استحقاق، ونفس هذا الأمر، أي عدم المنّ عليهم تفضّل من الله تعالى

ولكنّه غير صحيح فإنّه تعالى يمنّ على عباده بما أنعم عليهم، ويعد نعمه على أنبيائه أيضاً، والمنّ قبيح من غيره، وقد قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى»(2) وأمّا عدّ النعم والمنّة منه تعالى فزيادة إحسان وفضل.

ص: 521


1- هود (11) :108 .
2- البقرة (2): 264 .

سورة فصّلت(9 – 12)

قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)

«قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ» أمر رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يوجّه إلى المشركين هذا الخطاب الذي يستنكر فيه كفرهم. وفيه إشارة إلى أنّهم لا يستحقّون خطاب الله تعالى، مع صدور هذا الأمر المستنكر منهم. ثمّ صدّر الجملة بالاستفهام، وبالتأكيد بحرف «إنّ» وبلام القسم من جهة استبعاد الأمر، مثلما تقول لمن يدّعى أمراً غريباً حقّاً تعتقد ذلك؟!

ثمّ إنّ الكفر بمعنى الإنكار، مع أنّهم لم ينكروا وجود الله سبحانه، من جهة أنّ شركهم واعتقادهم بأنّ لله تعالى أنداداً وهي الأصنام، وأنّها تتصرّف في الأمور كما يتصرّف الله سبحانه ليس إلّا إنكاراً لربّ العالمين، فإنّ الله تعالى إنّما يعرف بصفاته، فمن يعتقد بأنّ الله تعالى جسم جالس على كرسي ليس معتقداً بالله بل هو منكر له فإنّه ينكر الإله المحيط بكلّ الكون المدبّر لها، والقيّوم على كلّ شيء، لأنّه يعتقد بإله محدود مجسّم، والله تعالى لا يعرف بذاته المتعالية، و إنّما يعرف بالصفات الحسني التي ذكرها لنفسه.

ووصفه تعالى هنا بالخلق والتدبير لإثبات أنّ الخالق هو الربّ، لأنّه خلق

ص: 522

الكون بهذا النظم البديع الذي يوصله إلى الغرض الذي تقتضيه الحكمة.

فأوّل أمر نبّه عليه خلق الأرض، لأنّه أقرب إلى الإنسان فقال: « خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ» ولا شكّ في أنّ المراد باليوم ليس هذا المعنى المعروف، لأنّه ينتج عن دوران الأرض حول نفسها، فلا معنى لفرضه قبل خلق الأرض.

ومن المضحك ما ورد في بعض الروايات الإسرائيليات تبعاً للتوراة من تسمية أيام خلق السماوات والأرض بأسماء أيام الأسبوع، وأنّه بدأ الخلق في يوم الأحد، وانتهى منه في يوم الجمعة، واستراح يوم السبت. ولذلك جعل اليهود يوم السبت يوم عطلة !!!

وربّما يقال: إنّ المراد باليوم قطعة من الزمان لا نعلم مقياسها، فاليوم يختلف في كلّ كوكب من الكواكب، وحيث لا نعلم المقياس الذي به حدّد اليوم قبل خلق الأرض، فيمكن أن ينطبق على ملايين السنين التي يقال إنهّا مرّت على الأرض، حتّى أصبحت بالوضع الحالي حيث تمكن الحياة عليها.

ولكنّ هذا أيضاً غير صحيح، لأنّه لا يبقى وجه لتثنية اليوم. فما هو أساس التعدد ؟!

والظاهر أنّ المراد باليوم مرحلة من مراحل التكوين، كما يقال يوم القيامة، ولا یراد به قطعة من الزمان بل مرحلة من مراحل الكون، فالمراد باليومين هنا أنّ الأرض مرّت بمرحلتين من التكوّن حتّى أصبحت بهذا الوضع، ولا يشير إلى قطعة من الزمان أيّاً كان مقياسه. وسيأتي الإشكال في هذا التعداد الذي لا ينحلّ إلّا بما ذكر. ولعلّ المراد بالمرحلتين مرحلة كونها غازاً أو تبدل الغاز إلى سائل ثمّ تصلبها وتجمّدها كما يقال أو غير ذلك.

ص: 523

ويبدو هنا سؤال، وهو أنّه ما هو الهدف من ذكر اليومين أو الأربعة أو السنّة، مع عدم وضوح المراد منها؟

ولعلّ السرّ هو الإشارة إلى أمور لا يصل إليها علم البشر في ذلك العصر، حتّى إذا بلغها علمه تبيّن له أنّ هذه الآيات إنّما نزلت من لدن حكيم خبير والقرآن ليس كتاباً علمياً يبحث عن حقائق الكون والطبيعة، حتّى يبيّن هذه الأمور بوضوح، ولو كان يبيّنها كذلك ما كان المخاطبون يفهمونها ولا يذعنون لها، بل ربّما كان ذلك مثاراً للسخرية والاستهزاء لديهم.

« وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا »الندّ هو المثل. والجملة عطف تفسير يفسّر المراد بكفرهم كما أشرنا إليه. ولا يختصّ الندّ بالأصنام، بل يشمل كلّ ما يجعل ندّا لله تعالى وكثيراً ما يشتبه الأمر على بعض المؤمنين بالله، فيتصوّر أنّ المخلوق يمكنه أن يستقلّ بالتأثير في الكون، فهذا يجعله ندّاً لله تعالى جهلاً بحقيقة الأمر.

« ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ »أشار إليه تعالى بأداة الإشارة للبعيد «ذَلِكَ» للتنويه على بعده عن هذا التصور الخاطئ، أو بعده تعالى عن متناول الأفهام، أو للإشارة إلى عظمته تعالى فإنّ العرب يشيرون إلى العظماء بإشارة البعيد.

وبهذه الجملة يردّ عليهم بأنّ الله الذي خلق الأرض، وجعل فيها كلّ مقوّمات الحياة للعالمين هو ربّهم، وليس له ندّ ولا شريك. وهذا هو التدبير الذي لا ينفكّ عن الخلق، فالخالق هو المدبّر، وهو الربّ لا ربّ غيره.

و « الْعَالَمِينَ »ليس جمعاً للعالم، إذ لا يمكن للعالم - وهو ما سوى الله تعالى - أن يتكرّر، فكلّ ما تفرضه عالماً آخر أو من عالم آخر ينطبق عليه أنّه ممّا سوى الله تعالى فيكون جزءاً من هذا العالم. ولذلك يقال: إنّ « الْعَالَمِينَ »ملحق بالجمع.

ص: 524

ويمكن أن يكون جمعاً باعتبار أنّ العالم يراد به مجموعة من المخلوقات، كما يقال عالم الإنسان وعالم الحيوان ونحو ذلك.

« وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا »، « مِنْ فَوْقِهَا »أَي على سطحها. وهذه الآية تشير إلى ثلاث مراحل من التحولات التي حدثت على الأرض بعد تكوّنها لتصبح قابلة لمعيشة الإنسان والحيوان:

الأولى مرحلة تكوّن الجبال، وسمّاها الرواسي بمعنى الثوابت وللجبال دور عظيم في حفظ خزائن الأرض، وأهمّها المياه العذبة التي تنزل من السماء، فإنّ الجبال هي التي تحتفظ بها بصورة مياه جوفية أو ثلوج، ثمّ تنتشر على الأرض من خلال الأنهار والعيون والقنوات والآبار تدريجاً. ولولا الجبال لامتصّت الأرض كلّ مياه الأمطار، ولم ينبت عشب، ولم يبق على وجه الأرض حياة. إلى غير ذلک من الفوائد العظيمة للجبال، ومنها ما أشير إليه في آيات أخرى من أنّها سبب التوازن الأرض ، ومنعها من الميدان والانحراف.

والثانية مرحلة البركة، وهي الخير الكثير الثابت من برك البعير إذا استقرّ على الأرض. ولعلّها إشارة إلى ما أوجده الله تعالى في الأرض من عناصر مختلفة يحتاج إليها الإنسان والحيوان للاستمرار في الحياة. وقد جعل الله تعالى لها نظاماً يقضي ببقائها أمداً طويلاً، حيث جعل في الأرض قابلية التغيير والتحويل.

والثالثة: تقدير الأقوات، وهذا أيضاً من غرائب التدبير، فقد جعل الله لكلّ موجود حيّ ما يقتات به، ويتناسب مع جهازه الهضمي، وجعل حوله البيئة التي تساعد على تكوّن القوت، وهيّأ له من الأسباب ما يمكنه من قوته فتجد بعض

ص: 525

الحيوان يأكل بعضاً آخر، فجعل للمفترس ما يحتاج إليه من أنياب ومخالب وغيرها، وتجد بعضه يأكل الأعشاب فجعل لها من الأسنان والجهاز الهضمي ما يساعد على ذلك وهكذا.

ويلاحظ مثلاً الإبل حيث يعيش في الصحراء، خلق الله تعالى له شوكاً لا يحتاج في بقائه إلى ماء كثير، فينبت في فصل المطر، ويبقى طوال الصيف، وهو له غذاء وماء، بل ودواء أيضاً حيث إنّه يحتوي على مادة تنظف المجاري البولية من الرسوبات التي تنشأ من قلّة السوائل في الجسم، وقد اكتشفها الإنسان منذ أمد بعيد، وأخذ يستخرجها من هذا الشوك ويتداوى بها.

ومن غباء الإنسان أن يتوهّم أنّ كلّ هذا التدبير الدقيق لا یدلّ على حكمة الخالق المدبّر ، وأنّها تكوّنت صدفة واتفاقاً.

وقوله تعالى « وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا» أي أوجد الأقوات لكلّ حيّ بما يتناسب مع جسمه وحاجاته. والقوت ما يمسك الرمق من الرزق. ولعلّ المراد خصوص الأقوات النباتية باعتبار أنّ الحيوان البدائي ما كان يقتات إلّا عليه، وأكل الحيوان للحيوان حدث بعد التطوّرات الحاصلة فيه، والكلام مسوق لبيان أصل خلقة الأرض، وإعدادها لمعيشة الإنسان والحيوان ويمكن إرادة ما يقتات به من الحيوان أيضاً باعتبار أنّه من الأقوات ولو بعد التطوّر.

« فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ » مرّ الكلام في معنى الأيّام، وأنّها أربعة مراحل، وسيأتي الكلام حولها. وقوله تعالى «« فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ » يمكن أن يكون قيداً لكلّ ما سبق ذكره بمعنى أنّ هذه التحولات الثلاثة حدثت في أربعة مراحل. ويمكن أن يكون قيداً لخصوص تقدير الأقوات، ولا نعلم شيئاً حتّى الآن من

ص: 526

هذه المراحل الأربعة في شيء ممّا ذكر .

وقوله تعالى «سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ »حال من الأقوات والظاهر أنّه يشير بذلك إلى تقدير الأقوات المختلفة حسب اختلاف الحيوان كما مرّ و « سَوَاءً » بمعنى متساوية ومتعادلة لكلّ سائل ومحتاج حسبما يحتاج إليه. فالسؤال ليس بمعنى الطلب اللفظي ونحوه، بل بالمعنى الذي يشمل الطلب الطبيعي، وإن لم يلتفت إليه السائل. وارتبك بعض المفسّرين في تأويل الآية حيث اعتبر السؤال استفهاماً. وبناءً على ما ذكرنا من كونه حالاً للأقوات فيمكن أن يكون ذلك قرينة على أنّ قوله « فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ »أيضاً قيد للأقوات لا لجميع ما مرّ لئلّا يلزم الفصل بين الحال وذي الحال بأجنبي. وهذا وإن كان موجباً لترجيح هذا الاحتمال ولكنّه لا يمنع من كون المراحل الأربعة عامّة لكلّ ما ذكر فيكون تأخير قوله «سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ » للمحافظة على أواخر الآيات.

وذهب بعضهم إلى أنّه حال للأيام فالمعنى أنّها أيام متساوية. وذلك على توهّم أنّ المراد بالأيام أيام الأسبوع. وأنّ يوماً منها للراحة!! تبعاً لما في التوراة. وقالوا إنّ المراد بالسائلين الطالبون للمعرفة، فلا يتعلّق بقوله « سَوَاءً».

ومهما كان فهنا يبدو إشكال: وهو أنّ الله تعالى ذكر في سبعة موارد من القرآن الكريم أنّه خلق السماوات والأرض في ستّة أيام، وهنا ذكر أنّ الأرض خلقت في يومين، وقدّر أقواتها في أربعة وخلق السماوات أيضاً في يومين فالمجموع ثمانية لاستّة.

ومن أغرب ما رأيت في هذا الباب أنّ بعض مواقع المُعادين للإسلام كان ينشر بياناً يستهزئ فيه بالقرآن، ويقول: إنّ مؤلّفه كان يجهل أبسط القواعد الرياضية وهو الجمع، فكان يجهل أنّ 2+2+4=8!!!

ص: 527

وهذا الكلام من السخف بحيث لا يستحقّ النقد، إذ كيف يمكن أن يقال في حقّ من أتى بهذا الكتاب العظيم - مع كلّ ما فيه من حقائق يخضع لها العلماء طيلة القرون - أن يجهل هذا الأمر البسيط ؟!

ودفعاً لهذا الإشكال ذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ المراد بقوله تعالى «« فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ » أنّه أكمل كلّ ذلك في أربعة أيام، فيكون خلق الأرض في يومين، وتقدير الاقوات في يومين. وذكروا في توجيه ذلك أدبياً وجوهاً لا تخلو كلّها من غرابة وتكلّف. ولو لم يكن هذا الإشكال لكان من الواضح أنّ المراد من العبارة إيجاد هذه الأمور في أربعة أيام.

وذهب العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) إلى أنّ المراد كونها ظرفاً لتقدير الأقوات فقط، وأنّ المراد بها الفصول الأربعة المؤثرة في تكوّن الأقوات، أي النباتات المختلفة، وليس ظرفاً لخلقها، كما أنّه جعل السماوات سبعاً في يومين، وليس ظرفاً لأصل الخلقة. ولا ينافي ذلك كون مجموع الخلق في ستة أيام.

ولكنّ هذا الجواب لا يمكننا الاعتراف به لأمرين:

1- أنّ تأويل الأيام الأربعة بالفصول بعيد جدّاً، إذ هذا التقسيم ليس أمراً واقعياً تكوينياً، بل هو أمر اعتباري، ويمكنك التقسيم إلى أكثر من ذلك أو أقلّ، فالفارق الطبيعي هو تغير المناخ من الحرّ والبرد وتصاعدهما وتنازلهما، وهذا الأمر يحصل بالتدريج، ولا يرتبط بالفصول. وهناك مناطق ليس فيه-ا هذه الفصول، بل لا يختلف الجوّ طول السنة إلّا يسيراً.

2- أنّه لا دخل للفصول في تقدير الأقوات، و إنّما تختلف النباتات باختلافها. نعم لو كان ظرفاً للقوت لا للتقدير صحّ، فيكون المعنى وقدّر أقواتها للفصول

ص: 528

الأربعة. ولكن ذلك لا يتمّ في التعبير الموجود حتّى لو كانت الأيام بمعنى الفصول، و إنّما يتمّ لو كان التعبير هكذا «في الأيام الأربعة».

والذي أراه أنّ الإشكال غير وارد أساساً، لما أشرنا إليه من احتمال أن لا يكون المراد قطعة من الزمان كما فرضوه بل مرحلة من مراحل التكوين فالأيام الأربعة على هذا الاحتمال مراحل أربعة من التطوّرات الحاصلة في الأرض، تسبّبت في تكوّن الجبال والعناصر الأرضية المختلفة، وتكون النبات الذي هو قوت الحيوان على اختلاف الحيوانات في القوت.

وعلى هذا الاحتمال فلا مانع من أن يكون تكوّن مجموع السماوات والأرض مر بستة مراحل وحالات كما ورد في سبعة موارد في الكتاب العزيز، وتكونت الأرض بخصوصياتها في مرحلتين، وليستا هما من - من تلك المراحل الستة، لأنّ المرحلة هنا حالة خاصّة بالأرض في تطوّرها وليس جزءاً من الزمان، وتكوّن ما على الأرض من وسائل المعيشة في أربعة مراحل، ثمّ تكوّنت السماوات السبع أيضاً بخصوصياتها في مرحلتين وهما أيضاً ليستا من المراحل الستة كما هو واضح.

«ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ » « ثُمَّ » للتراخي في البيان، وليس للتراخي الزماني، بحيث يكون خلق السماء بعد خلق الأرض وخلق ما فيها من جبال وإنزال البركة وخلق الأقوات، وذلك لمنافاته مع قوله تعالى «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا *رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا *وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا *وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا *أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا *وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا » (1) فإنّ قوله «بعد ذلك» أظهر في

ص: 529


1- النازعات (79): 27 - 32 .

التراخي الزماني من « ثمّ» وإن احتمل أيضاً التراخي في الذكر، كقوله تعالى «عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ »(1) وعليه فالآيات ظاهرة بوضوح ف-ي كون إعداد الأرض لسكنى البشر بعد خلق السماء.

وإذا قلنا بأنّ قوله تعالى: « فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا »يحكي خطاب تكوين السماء والأرض كما سيأتي فهو یدلّ أيضاً على أنّهما لم تخلقا بعد.

وأمّا قوله « اسْتَوَى »فقد قيل: إنّه إذا عدي ب- «على» كان بمعنى استولى، وإذا عدي ب- «إلى» كان بمعنى قصد وتوجّه. وقد مرّ في بعض ما ذكرناه من التفسير أنّ هذه الكلمة وإن ضُمنت معنى الاستيلاء في ما إذا تعدّت ب- «على» إلّا أنّ انتخاب هذا التعبير لعلّه للتدليل على استواء نسبة الأشياء إليه تعالى وإلى قدرته فلا شيء أقرب إليه من شيء، ولا أهون عليه من شيء. وكذلك نقول في ما اذا تعدّى ب- «إلى» فيفيد معنى أنّه قصد السماء مع استواء نسبة كلّ جزء منه إليه، فإنّ الله تعالى لا يشغله شيء عن شيء.

ولكنّ الزمخشري في الكشاف فسّر الاستواء إذا عدي ب- «إلى» بأنّه يفيد معنى التوجّه إلى المكان توجهاً لا يلوي على شيء، وهو من الاستواء ضدّ الاعوجاج ، ومنه قوله تعالى « فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ». والمعنى ثمّ دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك.

وما ذكرناه هو الصحيح فإنّ ما ذكره يفيد العكس، وهو أنّ خلق السماء أشغله عن غيره. وهذا ممّا لا يجوز إسناده إلى الله تعالى.

ولعلّ المراد بالسماء هنا المادة التي تشكّلت منها الكواكب والأنجم، وإن

ص: 530


1- القلم (68): 13 .

كان السماء يقصد بها في القرآن تارة جهة العلوّ كموضع السحب، وتارة أخرى العالم العلوي الذي هو خارج عن الطبيعة وليس من الأجسام.

وقوله « وَهِيَ دُخَانٌ» جملة حالية. ولعلّ المراد أنّه حينما أراد الله تعالى خلق النجوم والكواكب كانت دخاناً، ولعلّه إشارة إلى مرحلة كونها غازاً، كما يقال في بعض الفرضيات الحديثة.

وربما يظهر من قوله تعالى « ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ» أنّهما كانتا كتلة واحدة آنذاك، كما ورد في قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا »(1) فقوله للكتلة الواحدة « ائْتِيَا »اي لتنفتق هذه الكتلة وتتحقّق السماء والأرض. ويوافق ذلك أيضاً بعض الفرضيات الحديثة .

ويحتمل أن يكون المراد ب-«السماء »عالم الملائكة وب«الأرض »عالم الطبيعة. وعلى هذا الاحتمال لا سبيل لنا إلى تفسير الدخان.

ولكنّ نفس الاحتمال بعيد عن سياق الآيات باعتبار أنّه تعالى اعتبر احدى هذه السماوات على الأقلّ سماء الكواكب والأنجم، وأيضاً باعتبار أنّ الظاهر من تقدير الأقوات اختصاص الأرض بهذا الكوكب.

« فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ »الظاهر أنّ هذا الخطاب ليس على حقيقته و إنّما هو تعبير عن إرادته تعالى المتعلقة بإيجاد الأشياء وتكوينها، فهو نظير خطاب «كن »في قوله تعالى للشيء إذا أراد أن يكون، إذ لا يمكن توجيه الخطاب للشيء قبل وجوده ، فالمراد بهذا التعبير الإشارة إلى أنّ

ص: 531


1- الأنبياء (21): 30 .

إيجاد الشيء لا يتوقّف على أمر أكثر من إرادته تعالى، وأنّ الكون طوع إرادته لا يتأبّى عليه شيء.

والخطاب هنا وإن كان موجّهاً في الظاهر إلى السماء والأرض إلّا أنّهما غير موجودين على حقيقتهما إلّا كمادة أوّليّة عبّر عنها بالدخان. ولعلّ المراد الحالة الغازيّة.

وقوله تعالى « طَوْعًا أَوْ كَرْهًا » لعلّه لإفادة أنّ إرادته تعالى تقهر كلّ شيء، ولا يقاوم إرادته أمر مهما كان.

وقوله تعالى « قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ » يفيد أنّ الأشياء طوع إرادته، لا تحاول أيّ مقاومة. فالمقاومة وإن كانت لا تجدي أمام إرادته القاهرة، ولكنّ الأشياء لا تقاوم إرادته، بل تطيعه تعالى. ولعلّ هذا هو المراد بسجود الأشياء في بعض الآيات.

والتعبير بالصيغة الخاصّة بذوي العقول «طَائِعِينَ» قد يكون بلحاظ التناسب مع إسناد القول إليهما وإن كان مجازاً، وقد يكون بلحاظ أنّ الأشياء تعقل في إطاعتها لله تعالى. وهذا الأمر ممّا يستفاد من عدّة مواضع في القرآن الكريم، وإن كانت عقولنا لا تدركه.

منها قوله تعالى: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ »(1) وقوله تعالى «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ »(2) وغير ذلك.

ص: 532


1- الإسراء (17): 44 .
2- النور (24): 41.

ولعلّ إتيان الخبر بصيغة الجمع المذكر « طَائِعِينَ » مع أنّ الخطاب موجّه إلى السماء والأرض، من جهة أنّ الجواب يصدر من كلّ جزء من أجزاء الكون والخطاب أيضاً موجّه إلى الكون بأسره، والسماء والأرض تعبير عن كلّ الكون.

« فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ » القضاء بمعنى فصل الأمر. ويقصد به هنا الإيجاد والتكوين أي أوجدهنّ سبعاً. ومرجع الضمير في قوله «فَقَضَاهُنَّ» السماء باعتبار المعنى وإن كان اللفظ مفرداً. ومثل هذه الآية قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » (1).

وهنا سؤالان: ما هي السماوات السبع ؟ وهل هي سبع واقعاً أم أنّه تعبير عن الكثرة؟

أمّا عن السؤال الأوّل فيحتمل أن يكون المراد بها بأجمعها الأجرام الفلكية، ويحتمل أن يكون المراد بها ما يشمل عالم الملائكة، وهي عوالم غيبية لا نعلم عنها شيئاً إلّا أنّها ليست أجساماً فوق هذه الأفلاك.

وهذه العوالم مساكن الملائكة الكرام كما في تعبير أمير المؤمنين (علیه السلام) و في «نهج البلاغة». وقد قال تعالى: «وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى » (2) ولكن لا نعلم كيفية تعلقّهم بها.

وأمّا احتمال اختصاصها بالعوالم الغيبية ليكون المراد بالأرض كلّ عالم

ص: 533


1- البقرة (2) :29 .
2- النجم (53): 26 .

الطبيعة كما احتملناه في بعض الموارد من الكتاب العزيز فهو بعيد عن سياق الآيات كما مرّ آنفاً.

ولا بدّ من ملاحظة ما يمكن به ترجيح أحد الاحتمالين وهو أمران:

الأول: أن السماوات السبع - كما يبدو من الآية الكريمة - كلّها أجسام مخلوقة من المادة الغازية التي عبّر عنها بالدخان، فإنّ قوله « فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ» تكميل لقوله « ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ» فلا يراد بها ما يشمل العوالم الغيبية، وبذلك يتأيّد الاحتمال الأول. إلّا أنّ معنى الدخان غير واضح لنا، فلا يمكن الاعتماد على هذه القرينة بصورة قطعية ومع ذلك فهو الاحتمال الأقوى.

الثاني: قوله تعالى بعد ذلك « وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ» وكذلك قوله تعالى «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ »(1) وقوله «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ »(2) حيث يظهر من هذه الآيات أنّ كلّ ما نجده من أجرام فلكية نيّرة أو مستنيرة واقعة في السماء الدنيا، أي أقرب سماء إلينا، فيكون المراد بالستّ الأخرى العوالم الغيبية. وبذلك يتأيّد الاحتمال الثاني.

ولكنّ الصحيح أنّ هذه الآيات اعتبرت ما في السماء الدنيا زينة لها ولنا، فهي لا تنفي وجود أجرام فلكية وراء ما نشاهده من نجوم وكواكب ولا يصل إلينا نورها، فلا تعتبر زينة لنا، بل لا شكّ في أنّ بعض ما اكتشفه البشر أيضاً، بل أكثره لا يعدّ زينة حيث لا نراها بالعين المجرّدة. فقوله تعالى « وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا

ص: 534


1- الصافات (37): 6 .
2- الملك (67): 5 .

بِمَصَابِيحَ». لا یدلّ على أنّ كلّ الأجرام الفلكية من السماء الدنيا، بل الواقع أنّ وراء كلّ ما نراها من أجرام نيّرة سماوات ومجرّات وأجرام أخرى كثيرة جدّاً جداً لا يحصيها إلّا الله تعالى.

والحاصل أنّ حصر السماوات السبع في الأجرام الفلكية ممّا نرى وما لا نرى أمر محتمل كما أنّه يحتمل أن يكون المراد بالسماوات ما يشمل العوالم الغيبية التي ليست من الأجسام وهي مسكن الملائكة، ولكنّ الاحتمال الأوّل أظهر.

وأمّا عن السؤال الثاني فالظاهر من التحديد بالسبع في مثل هذا المقام هو التحديد الواقعي، فلا يكون كناية عن الكثرة، وإن احتمل ذلك في غير هذا المقام والدليل عليه أنّه اعتبر ذلك قضاءً وفصلاً، مضافاً إلى التأكيد على أنّها سبعة في مواضع متعدّدة من القرآن ممّا یدلّ على العناية بهذا العدد.

ولكن يبقى السؤال في وجه التحديد بالسبع، فإن قلنا بأنّ المراد بها مجموع العوالم الكونية من الطبيعية وغيرها غير كوكب الأرض، فيمكن أن يكون المراد بواحدة منها كلّ ما في هذا الكون الهائل من المجرّات، والمراد بالستّ الأخرى العوالم الغيبية.

وإن قلنا بأنّ المراد بها الأجرام الفلكية فحسب، فيمكن أن يكون بلحاظ تقسيم كلّ هذه المجرّات إلى سبعة ولا نعلم حتّى الآن وجه هذا التقسيم. ولعلّ الإنسان يصل في المستقبل إلى السرّ في ذلك، فيجد مثلاً أنّ هذه المجرات وما تحتوي عليها من أجرام تنقسم إلى سبع طبقات مختلفة.

وأمّا اليومان فقد مرّ أنّ المراد بهما مرحلتان من الخلق والتكوين، وعليه فإن كان المراد بالسماوات الأجرام الفلكية والمجرّات، فيمكن أن يكون المراد

ص: 535

باليومين مرحلة تبدل الغاز إلى سائل ومرحلة التصلب، كما مرّ في تكوّن الأرض أو غير ذلك. وإن كان المراد بالسماوات ما يشمل حقائق أخرى غير مادية فلعلّ المراد بالمرحلتين مرحلة تكوّن سماء الدنيا ومرحلة تكوّن العوالم العلوية المجرّدة.

كلّ ذلك على سبيل الاحتمال والله تعالى هو العالم بحقائق الأمور.

« َأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا» ذكر المفسّرون أنّ المراد بالأمر في الآية ما يختصّ بكلّ سماء من قوانين ونظم ، وهذا يناسب التعبير بالوحي. وأمّا ما نقل عن بعضهم من خلق ما تقتضيه الحكمة في كلّ منها فهو لا يصحّ إلّا بتأويل الوحي بأن يكون المراد به الإيجاد والخلق، وهو بعيد.

ولكنّ العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) فسّر الآية بأنّ المراد بالأمر ما يرسله الله تعالى إلى الأرض من أوامر تكوينية، حيث إنّها تتنزل من بين السماء كما قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ»(1) وقال أيضاً «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ»(2) فالسماوات التي هي مساكن الملائكة طرق نزول الأوامر الإلهية، وللأمر نسبة إلى كلّ سماء باعتبار الملائكة الساكنين فيها.

وما ذكره (رحمه الله ) بعيد عن لفظ الآية، فإنّ الظاهر أنّ الأمر الموحى في كلّ سماء أمر مختص بتلك السماء وليس من الأمر النازل إلى الأرض. فالظاهر أنّ القول الأول هو الصحيح.

« وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا» يبدو من هذه الجملة - كما مرّ - أنّ كلّ ما

ص: 536


1- الطلاق (65) :12 .
2- السجدة (32) :5 .

نراه من الكواكب والأنجم من مخلوقات السماء الدنيا، أي الأقرب إلينا معاشر أهل الأرض. ولكن ذلك لا ينافي وجود أجرام أخرى في السماء بعيدة عنّا لا نراها ولا نستضيء بها ولا تكون لنا زينة.

وعبّر عن النجوم بالمصابيح لإضاءتها لأهل الأرض، سواء ما كانت منها نيّرة بذاتها وما استنارت بغيرها. والتعبير یدلّ على أنّ تزيين الطبيعة أمر مقصود في أصل الخلق، وأنّ الله تعالى خلق الكواكب والأنجم لتزيين الطبيعة.

ويقال: إنّ رؤية الكواكب بهذه الصورة الجميلة التي نراها إنّما هي بسبب المجال الجوّي المحيط بالأرض ممّا یدلّ على أنّ الله تعالى هيّأ الوسائل الكفيلة بتحقّق هذا التزيين وإضفاء هذه الصورة الجميلة للكون.

وقوله «وَحِفْظاً» يمكن أن يكون مفعولاً مطلقاً لفعل مقدر أي وحفظناها حفظاً، أو بتضمين قوله «زَيَّنَّا» معنى جعلنا أي وجعلناها حفظاً. وقد مرّ بعض الكلام حول كون النجوم حفظاً للسماء من الشياطين في سورة الصافّات.

« ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ » فهو الذي قدّر وقضى هذا الكون بما فيه. وهو عزيز لا يغلب على أمره، وعليم بالأسباب والمسبّبات والمصالح والمفاسد وما ينبغي أن يكون وما لا ينبغي.

ص: 537

سورة فصّلت(13 – 18)

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)

« فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ » الفاء للتفريع، أي بعد هذا البيان للحجج الدامغة والبراهين الواضحة من آيات الله تعالى في السماوات والأرض إذا أعرضوا عن قبول الحقّ والإيمان به ، فأنذرهم بالعذاب الذي حلّ بالسابقين من الأمم. ولعلّه أتى بصيغة فعل الماضي « أَنْذَرْتُكُمْ »لأنّه إنشاء للإنذار كقولك بعت وانكحت.

والصاعقة على ما في «مفردات الراغب»: «الصوت الشديد من الجوّ». وفي «معجم مقاييس اللغة»: «الصاد والعين والقاف أصل واحد یدلّ على صَلْقَة وشدّة صَوت من ذلك الصعق، وهو الصَّوت الشَّديد. يقال حمارٌ صَعق الصوت، إذا كان شديده. ومنه الصاعقة، وهي الوقع الشديدُ من الرَّعْد. ويقال إنَّ الصَّعاقِ الصوت الشديد. ومنه قولهم صعق اذا مات کأنّه أصابته صاعقة».

فالصاعقة كلّ ما يحدث صوتاً شديداً. وتطلق على البرق إذا أصاب شيئاً على

ص: 538

الأرض، كما تطلق على كلّ ما يوجب الهلاك. ولعلّها أطلقت هنا بهذا المعنى، إذ يصرّح فيما بعد أنّ التي أصابت قوم عاد ريح شديدة أو باردة، كما ورد ذلك في موارد أخرى منها سورة الحاقّة.

وأمّا ثمود ففي بعض الآيات وصف عذابهم بالرجفة كما في سورة الأعراف(1) وفي بعضها الصيحة كما في سورة هود (2) وهنا وصف بالصاعقة. فالصيحة والرجفة متلازمان والصاعقة يمكن أن تكون بمعنى ما يوجب الهلاك مطلقاً، ويمكن أن يكون العذاب مشتملاً على عدّة أمور.

وعاد وثمود قومان من الأمم القديمة، بقيت آثارهم إلى أيّام الرسالة المجيدة، فكان العرب يعرفون أخبارهم ويرون آثارهم. ولذلك اهتمّ بهم القرآن الكريم، ونبّه العرب على لزوم الاعتبار بشأنهم، فقوم عاد كانوا يعيشون في الأحقاف، وهي منطقة - على ما يقال - في حضرموت اليمن وأمّا ثمود فكانوا يعيشون في منطقة بين المدينة والشام على ما يقال وربّما يكون هي ما سمّي ب-«الحجر» في سورة الحجّ. وهل هي جزء من منطقة وادي القرى أم لا؟ فيه خلاف بين المؤرّخين وعلماء الآثار. والله العالم.

« إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ » ظرف لمجيء الصاعقة على عاد وثمود والإتيان بصيغة الجمع «الرُّسُلُ» لعلّه من جهة أنّ كلّ من جاء من الرسل قبلهم وبلغهم خبره فهو مرسل إليهم. ولذلك قال تعالى «كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ »(3) وهكذا ورد التعبير عن سائر الأمم في سورة الشعراء فإنّ

ص: 539


1- راجع: الأعراف (7): 88 .
2- راجع هود (31): 67.
3- الشعراء (26): 123 .

تكذيبهم لرسولهم تكذيب لجميع الرسل فکأنّهم بأجمعهم أتوا لجميع البشر.

والدعوة العامّة التي أتى بها جميع الرسل هي « أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» فالظاهر أنّ «أن» مفسّرة لقوله « جَاءَتْهُمُ » الذي يتضمّن معنى الدعوة وأساس الدعوة التوحيد، يعرفه كلّ من يسمع برسالات السماء ولكن الملفت أنّ التعبير لم يركّز على الجانب الإيجابي من الدعوة، وهو عبادة الله تعالى، بل ركّز على الجانب السلبي، وهو ترك عبادة غيره، واستثنى عبادة الله تعالى. ولعلّ الوجه في ذلك أنّ الواجب أولاً هو تخلية القلب من الركون إلى غيره تعالى، ثمّ تحليته وتزيينه بعبادته، وأنّه لا تفيد عبادة الله تعالى مع عبادة غيره، سواء كان ذلك الغير صنماً، أو كوكباً، أو بشراً ، أو شيطاناً، أو هوى متبعاً، أو مالاً، أو تعصباً لقبيلة، أو طائفة إلى غير ذلك.

وقوله « مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ» لعلّه بمعنى أنّهم أتوهم بمختلف الوسائل، وفي مختلف الأوقات والحالات، وفي كلّ محفل ومجمع، فکأنّهم حاصروهم بالبلاغات والأدلّة. ويمكن أن يكون إشارة إلى الرسالات التي سبقت وهي التي من خلفهم، والرسالات المعاصرة في مختلف بقاع الأرض التي كانوا يسمعون بها، وهي التي بين أيديهم أي كانت حاضرة أمامهم وفي عصرهم.

« قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً » هذا هو الجواب المتكرّر في الأمم السالفة، ومن لحقهم ويبتني على أساس استصغار الإنسان من أن ينزل عليه الوحي من الله تعالى. وعبّروا عن الله بالربوبية إيذاناً بأنّ ذلك مقتضى ربوبيته لنا، فإنّه إذا أراد أن يهدينا إلى هذا الصراط لأرسل ملائكة إلينا، لكي يقطع العذر ويتمّ الحجّة.

وقد ردّ هذا البيان بوجوه مختلفة في القرآن الكريم :

ص: 540

منها قوله تعالى: «وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ»(1) ولعلّ المراد بذلك أنّ نزول الملك على الناس - لو فرض إمكانه - فإنّه يقطع العذر، ولا يبقى مجالاً للإمهال والله تعالى يعلم أنّ عدم إيمان القوم ليس لعدم قناعتهم بالآيات، بل لعنادهم وإصرارهم على متابعة الآباء والأجداد فإرسال الرسول البشري يبقي لهم مجالاً للتشكيك ، فيُمهلون ريثما يعودوا إلى رشدهم ويتركوا العناد، وأمّا إذا عاندوا مع وضوح الحقّ بنزول آية من السماء واضحة - وهو المتوقع منهم كما سيأتي - فإنّ الإمهال لا مجال له بعد ذلك، فيعجلون بالعذاب، والله تعالى لرحمته بعباده يريد إمهالهم.

ويحتمل قويّاً أن يكون المراد أنّ الملائكة لا ينزلون إلّا ويجعلون كلّ شيء في موضعه، ومقتضى ذلك أن لا يمهل الكفار والمعاندون، كما قال تعالى: «مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ »(2) فقوله تعالى « بِالْحَقِّ » یدلّ على أنّ الملائكة إذا نزلوا إنّما ينزلون بكلّ الحقّ من دون مداهنة ومسامحة، فيوضع كلّ شيء في موضعه الحق.

ومنها قوله تعالى «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ »(3) والمعنى أنّ إنزال الملك لا يفيد البشر ، ولا يكون حجّة عليهم، ولا يمكنه التفاهم معهم، ولا يكون أسوة لهم، فإذا أردنا أن نرسل ملكاً لزم أن يكون بصورة رجل لكي يتمكّن من الارتباط بالناس والتكلّم معهم، فالملك بصورته الأصلية ليس جسماً، ولا يمكن أن يرتبط بالناس، وإذا ألبس صورة الإنسان رجع الإشكال

ص: 541


1- الأنعام (6): 8 .
2- الحجر (15): 8 .
3- الأنعام (6): 9 .

واللبس، فإنّهم لا يعلمون أنّه ملك، حيث يرونه بشراً فسيقولون لا نؤمن حتّى يبعث الله لنا ملكاً. وهذا معنى قوله « وَلَلَبَسْنَا » واللبس: الخلط.

وإلى هذا المعنى أيضاً يشير قوله تعالى «قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا »(1).

ومنها قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ »(2) ومعنى ذلك أنّه لا ينفعهم إنزال الملائكة فإنّ عدم إيمانهم ليس لعدم قناعتهم، ولا لقصور في الحجج والآيات، و إنّما هو لعنادهم قبال الحقّ، فهم لا يؤمنون حتّى لو نزل إليهم الملائكة أو كلّمهم الموتى، لأنّهم سيقولون إنّا مسحورون، كما قال تعالى «وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ *لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ » (3).

« فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ » الفاء للتفريع، أي حيث لم يرسل الله ملكاً إلينا فإنّا لا نصدّق رسالتكم. وليس المراد بقولهم هذا تصديقهم لأصل الرسالة وكفرهم بمضمونها، بل إنّما يعبّرون عنه بما أرسلوا به تهكّماً واستهزاء بدعوى الرسالة، نظير قول فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ »(4).

« فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ » بيان تفصيلي لما واجهوا به الرسل وما لحقهم من العذاب بعد ما مرّ من الإجمال والاستكبار في الأرض يراد به

ص: 542


1- الإسراء (17): 95.
2- الأنعام (6): 111.
3- الحجر (15): 14 - 15 .
4- الشعراء (26): 27 .

الاستكبار على الناس والطغيان عليهم. وقوله «بغَيْرِ الحَقِّ» قيد توضيحي. إذ الاستكبار كلّه بغير الحق، فهو نظير قوله تعالى « وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ»(1).

ويمكن أن يكون المراد بالاستكبار ،لازمه وهو استعباد الناس وفتح البلاد لتولّي شؤون الناس قهراً، كما كان يصنعه الملوك الجبابرة، فيكون بغير الحقّ بمعنى أنّ الله تعالى لم يجعل لهم ولاية على الناس، فمحاولتهم للتصدّي لشؤون الولاية كان على غير وجه الحقّ.

«وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً »هذه الجملة تبيّن أساس استكبارهم، فهم كانوا يرون أنفسهم أقوى الناس، حيث إنّهم كانوا - كما قيل - رجالاً أقوياء لهم بأس شديد وحضارة متقدّمة في ذلك العصر ومال كثير. وهكذا الإنسان الحقير يطغى إذا رأى في نفسه القوّة والمنعة. والله تعالى يرد عليهم:

« أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً »والتعبير بالرؤية یدلّ على أنّه وإن لم يكن أمراً محسوساً ومبصراً بالعين إلّا أنّه من الوضوح بمنزلة الشيء الذي تراه فخالق القوّة والقدرة أقوى وأقدر ، فلا يجوز للإنسان أن يطغى على ربّه الذي خلقه، وبالنتيجة لا يجوز أن يطغى على عبيده الآخرين الذين خلقهم الله مختلفين في القوة والضعف، فالاستكبار على الخلق استكبار على الله تعالى وطغيان عليه، ورفض للتسليم أمام أوامره ونواهيه.

« وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ »عطف على قوله فاستكبروا. وما بينهما تعليل للاستكبار كما قلنا. وهذا الجحود أيضاً ينشأ من الاستكبار، فهم مضافاً إلى استكبارهم في الأرض وعلى الناس جحدوا آيات الله ومعنى الجحود أنّهم

ص: 543


1- البقرة (2) :61 .

أنكروها بالرغم من علمهم بالحقّ، وبأنّها آيات الله تعالى. وقوله تعالى «کَانُوا» یدلّ على استمرارهم في الجحود.

«فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ» هذا جزاء طغيانهم وجحودهم وتكذيبهم للرسل بعد أن أرسل الله إليهم هوداً (علیه السلام) فكذّبوه واستكبروا عليه، فأهلكهم الله بعواصف شديدة لم تبق شيئاً من مبانيهم وقصورهم المشيدة التي كانوا يتباهون بها على الأمم. وقد حدّد الله مدة هذه العواصف في قوله تعالى «وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ *سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ *فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ »(1).

والصرصر إمّا بمعنى شدة الصوت أو شدة البرد والنحسات جمع نحس في مقابل السعد، والمراد نحوسة الأيام عليهم، كما قيل. ولكن هناك من يقول إنّها أيام نحسة مشؤومة في نفسها، وأنّ الأيام منها نحس ومنها سعد. وهناك روايات تدلّ على ذلك إجمالاً، وروايات تنفي ذلك. ولكنّ الملفت للنظر تكرّر التأكيد على نحوسة أيّام العذاب على قوم عاد من دون تعرّض لذلك في غيرهم من الأمم السابقة، قال تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ »(2) .

وهذا یدلّ على أن النحوسة ليست من خصوصية تلك الأيام وإلّا لكانت نحساً على جميع الناس. وليس هناك دليل قاطع على اقتضاء بعض الأيام نحوسة بذاتها، بل هو بعيد في حدّ ذاته وان لم يكن مستحيلاً.

«ِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» الخزي الذلّ والهوان والفضيحة. ولعلّ

ص: 544


1- الحاقة (69): 6-8 .
2- القمر (54): 19 .

إضافة العذاب إلى الخزي باعتبار أنّه موجب له، فهو مضافاً إلى أنّه أبادهم وأهلكهم، أخزاهم وأذلّهم في الدنيا، وأصبحوا عبرة للآخرين، إذ يختلف أن يموت إنسان أو قوم بأجمعهم نتيجة حادث طبيعي يستجلب استرحام الناس لهم، وأن ينزل عذاب الاستئصال على قوم من السماء لكفرهم وطغيانهم فيبيدهم بأجمعهم في خزي وعار.

«وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ » نعم الأخرى والأوجب للمذلة من عذاب الاستئصال في الدنيا، عذاب الآخرة، فهناك ذلّة مستمرّة وصغار لا ينتهي، والإنسان حيّ يشعر به، وهو على مرأى ومسمع من الخلائق أجمعين، مضافاً إلى أنّه ليس هناك من ينصره، فلو كان في الدنيا من يودّ أن ينصر الأمّة المعذّبة وإن لم يقدر عليه، فهناك ليس من محاولة للتناصر ، بل لكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.

«وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» ثمود ، قوم صالح (علیه السلام) وكانوا يعيشون في الجزيرة العربية أيضاً. وقد طلبوا من نبيّهم صالح آية تثبت رسالته. والظاهر أنّهم حدّدوها، وهي أن تخرج من الجبل ناقة خلقها الله من دون ولادة، فأخرج الله لهم ذلك، وكانت ناقة عظيمة تشرب ماء القوم في يوم واحد فأخبرهم الرسول بذلك «قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ »(1) فأزعجهم ذلك وأجمعوا على قتلها.

وكانت هذه محادّة صريحة وعلنية لإرادة الله تعالى. ومن الناس من يعجبه أن يبرز جرأته وشجاعته وتهوّره أمام أقوى قوّة يجدها أمامه، وإن كان في ذلك هلاكه، أو هلاك خلق كثير ، أو كان ذلك أمراً عظيماً لدى عامّة الناس. ولذلك

ص: 545


1- الشعراء (26) :155 .

تجد بعض الناس يعجبه أن يباهي بقتل الأنبياء والأئمة والملوك وكبار الشخصيات، أو من يتأبّى الإنسان من قتله كالنساء والأطفال.

وهكذا أبرز عضلاته أشقى القوم متحدياً إرادة الله تعالى لجهله وغبائه، وعقر الناقة المعجزة، فنزل الوحي أنّ لهم ثلاثة أيّام، ذلك وعد غير مكذوب، ثمّ نزل عليهم العذاب وأبادهم جميعاً، مع أنّ المستهتر كان واحداً إلّا أنّهم جميعاً ارتضوا فعله فشملهم العذاب.

وحيث إنّهم استكبروا، واحتقروا الرسول والرسالة، واستصغروا التهديد الإلهي بالعذاب وصف الله سبحانه عذابهم بصاعقة العذاب الهون. وقد مرّ الكلام حول الصاعقة وما تعنيه هذه الكلمة والهون بمعنى المذلّة. وهو مصدر وصف به العذاب من باب المبالغة فكأنّ عذابهم هو بنفسه الذلّ والهوان و إنّما أوجب العذاب لهم المذلّة والخزي لأنّه كان بادياً عليه أنّه من عذاب السماء ومن غضب الله عليهم ، ولم يشبه الحوادث الطبيعية. وهكذا يهين الله تعالى ويخزي من يستهين برسله ورسالاته.

ويبقى السؤال في هذه الآية ما هو المراد بالهداية في قوله فهديناهم؟

الظاهر في تفسيرها - كما هو المشهور - أنّ المراد بها إراءة الطريق. وبالطبع فإنّ ما ذكر هنا من الهداية لا يختصّ بقوم ثمود، كما أنّ ما ذكر في قوم عاد أيضاً لا يختصّ بهم. ولكنّ بعض المفسّرين ذكر أنّ المراد بها إيمانهم بعد ظهور الناقة فيكون أمراً خاصّاً بهم، حيث إنّهم بوجه عامّ آمنوا بالرسالة وبالآية الإلهية، ثم استحبّوا العمى على الهدى.

ولكن يبعد هذا الاحتمال أنّ الآيات التي وردت بشأن هذا القوم لا تشير إلى

ص: 546

ذلك نهائياً، ومن البعيد إغفال هذا الأمر في سرد قصّتهم، كما أنّ من البعيد أن يهتدي قوم بهداية الله تعالى، بمعنى الوصول إلى المطلوب ثمّ يرتدّ جميعهم.

فالصحيح هو ما ذكره الأكثر من أنّ المراد أنّ الله تعالى بعث إليهم الرسول، فتلا عليهم آياته، وأراهم سبيلي الحقّ والباطل، وخصّهم بمعجزة عظيمة لا يمكن إنكار كونها معجزة إلهية، ولكنّهم قدموا الباطل على الحق، واستحبّوا العمى على الهدى وورد التعبير بالهداية في القرآن عن إراءة الطريق مكرّراً منها قوله تعالى: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا »(1) وقال أيضاً: «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ »(2).

«وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ » لعلّ هذه الجملة ترتبط بكلتا القصّتين، لأنّ هذه سنة الله تعالى في الأمم، فلا يُنزل العذاب الشامل الموجب للاستئصال إلّا بعد أن يأمر الرسول والذين آمنوا بالخروج من المجتمع الفاسد لئلّا يشملهم العذاب.

ولكنّ الآية تؤكّد أنّ الناجين لم يكونوا ممّن أظهروا الإيمان فقط، بل كانوا يتّقون الله تعالى فكان الإيمان قد خالط قلوبهم وضمائرهم، وسيطر على أعمالهم ونيّاتهم. وكان یدلّ على الاستمرار، وأنّ التقوى كانت لهم شيمة وخلقاً.

ص: 547


1- الدهر (76): 3 .
2- البلد (90): 10 .

سورة فصّلت(19 – 24)

وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حتّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَهُمْ

« وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ »أي واذكر يوم. والحشر بمعنى الجمع، أي أنّهم يُجمعون ويُذهب بهم مجتمعين إلى النار. والمراد بأعداء الله الكافرون المعادون لرسالة السماء.

وقد ورد التعبير بالعداء لله تعالى في موارد عديدة من القرآن الكريم. قال تعالى: «مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ »(1)وقال: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ » (2) وقال تعالى: «وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ »(3) وقال تعالى عن كفّار مکّة و مشركي العرب «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ»(4).

ص: 548


1- البقرة (2) :98 .
2- الأنفال (8): 60 .
3- التوبة (9): 114.
4- الممتحنة (60): 1 .

ومن المعلوم أنّ المذكورين ما كانوا ينكرون وجود الله تعالى، بل يعتقدون أنّه خالق السماوات والأرض، وأنّه الرازق، ولكنّهم كانوا يعادون رسالة السماء والشريعة التي أرسلها الله إليهم، فاعتبرهم الله أعداء له.

وهذا أمر يدعو إلى التأمّل لمعرفة حدود هذه العداوة، وأنّها ربّما تشمل بعض المجرمين من الذين يزعمون أنّهم آمنوا بالله تعالى، ولكنّهم لا ينصاعون لشريعته التي أرسلها إليهم على أيدي رسله ،بل ربّما ينكرون لزوم متابعة الشريعة ويصرحون بها في مقالاتهم.

والعداء في الأصل بمعنى التجاوز. والمراد هنا التجاوز عن الحدّ المعقول في التنافر، فإنّه إلى حدّ ما ربّما يكون طبيعياً في ما لا يلائم مشتهيات الإنسان أو ذوقه، ولكن إذا تجاوز الحدّ بحيث يسعى كلّ منهما إلى إبادة الآخر سمّي عداءً وعداوة.

والعداوة بالنسبة إلى الله تعالى يتجلّى في معاداة رسالته وشريعته، وربّما يفرط الكافر في عدائه لله تعالى حتّى أنّه يشمئزّ من ذكره تعالى ذكره كما قال سبحانه: «وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ »(1).

« فَهُمْ يُوزَعُونَ »اي يُمنعون. والمراد أنّه يمنع أوائلهم من التقدّم ليلحق بهم الأواخر، وهو كناية عن الجمع ومثله قوله تعالى «وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ»(2). والحشر بذاته يفيد معنى الجمع. و إنّما يراد بهذه

ص: 549


1- الزمر (39): 45 .
2- النمل (27): 17 .

الجملة أنّهم يُجمعون بحيث لا يشذّ منهم أحد.

« حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ » « حَتَّى »لانتهاء الغاية، أي يوزعون ويجمعون إلى أن يصلوا إلى النار، فتشهد عليهم أعضاؤهم. و «ما» في « مَا جَاءُوهَا »زائدة وتفيد معنى التأكيد. والظاهر أنّ المراد التأكيد على أنّ الشهادة تتحقّق بمجرّد وصولهم إلى النار.

ولكن بعض المفسّرين ذكروا أنّ هنا تقديراً، وهو أنّهم لما وصلوا إلى النار سألهم خزنتها عمّا ارتكبوا فأنكروا فشهد عليهم سمعهم وأبصارهم. والظاهر أنّه لا حاجة إلى تقدير بناءً على ما سيأتي من تفسير الشهادة.

والظاهر أنّ ذكر هذه الأعضاء من باب المثال لقوله تعالى «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ »(1) وقوله تعالى «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ »(2) بل الأمر لا يختصّ بالأعضاء، فالأرض أيضاً تشهد كما قال تعالى: «وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا *يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا »(3).

والظاهر أيضاً أنّ كلّ عضو يشهد على الإنسان بما اقترفه بواسطته، أو ما كانت الجريمة ترتبط بوظيفته، فالسمع يشهد بما استمع إليه ممّا حرم الله الاستماع إليه، ويشهد على أنّه سمع دعوة الرسول ولم يجبه، أو سمع استغاثة المظلوم قادراً على رفع الظلم فلم يغثه، أو سمع استعانة الفقير المسكين فلم يساعده.

والبصر أيضاً يشهد على ما نظر إليه ممّا حرم الله تعالى النظر إليه، وكذلك يشهد عليه أنّه رأى آيات الله فأعرض عنها ، ورأى المنكر فلم يغيّره بيد ولا

ص: 550


1- يس (36): 65 .
2- النور (24): 24.
3- الزلزلة : (99): 3 -4 .

بلسان، ورأى الظلم فلم يشارك في رفعه، بل ربّما شارك في الظلم بنحو من الأنحاء. وهكذا سائر الأعضاء.

والجلود أشمل الأعضاء في تحمّل الشهادة، فإنّها مع كلّ هذه الأعضاء ومع غيرها. ولعلّه لذلك ذكر بعضهم أنّها كناية عن الفروج، كما ورد في بعض الروايات أيضاً. وهو أمر محتمل بملاحظة أدب القرآن في التعبير، وبملاحظة أنّ الفروج ممّا يصدر منها كثير من الجرائم التي يخفيها الإنسان. ولكنّه خلاف ظاهر اللفظ، ولا موجب للحمل عليه.

ومهما كان فالكلام في كيفية شهادة الأعضاء، فقال بعضهم إنّ الله تعالى يخلق فيها النطق كما خلق في الشجرة حيث نادى موسى (علیه السلام). ولكن هذا يفقدها صفة الشهادة التي تتوقف على تحمّل الواقعة عن علم ثمّ أدائها، فإنّ هذا التأويل يبتني على عدم علم الأعضاء بالحوادث، وعدم تأثرها بها و إنّما تنطق بإرادة قاهرة من الله تعالى، فالتعبير بالشهادة يبتني على نوع من التسامح.

وقال بعضهم إنّ الله تعالى يخلق فيها العلم والإدراك ذلك اليوم فتشهد عن علم ودراية.

وهذا أيضاً كسابقه من حيث عدم كون الشهادة عن تحمّل للواقعة مع إدراكها حين التحمّل. وقيل غير ذلك.

وكلّ هذه التأويلات من جهة أنّهم التزموا بحمل النطق على المعنى المتعارف.

ولا يبعد أن لا يكون المراد النطق بالمعنى المتعارف، بل بمعنى إراءة نفس الحوادث، وهذه أقوى شهادة. وهذا هو ما يظهر من الآيات التي تدلّ على تجسّم

ص: 551

الأعمال، وأنّ الذي يظهر في ذلك الموقف للعيان هو نفس الأعمال بوجه آخر. ولا موجب لحمل النطق على المعنى المعروف لدينا - وهو التكلّم باللسان - حتّى يحتاج إلى تأويل خلق الكلام، فإنّ حقيقة النطق هو إبراز الحقائق، فإذا أمكن للشيء أن يبرز ما في ضميره بصورة حيّة يراه ويشعر به كلّ أحد فهو أقوى النطق، فإنّ الكلام ربّما يكون كذباً لا يحكي عن الواقع، وربّما يشتمل على مبالغة أو مجاز.

وحيث إنّ يوم القيامة يوم انكشاف الغطاء وبروز الحقائق، فينبغي أن يكون نقل الحقائق والاعتراف بها أيضاً على أساس إراءة نفس الحقيقة بوجه يشعر به كلّ ملاحظ شعوراً أقوى من الرؤية، ويلمس الحقيقة بكلّ وجوده.

بل لا يبعد أن يكون التعبير بالنطق والشهادة ونحو ذلك تعبيراً كنائياً معاكساً لما يحدث باعتبار أنّ النتيجة واحدة فالذي يحدث في تلك النشأة هو انكشاف الغطاء عن الإنسان بسبب تحرّره عن قيد الجسم والمادة، ويلازمه بروز الحقائق، فالتعبير بالنطق والشهادة تعبير عكسي يحكي عما هو ملازم لما يحدث واقعاً، ولعلّ السبب أنّ هذا التعبير أقرب إلى فهم المخاطبين.

ونظير ذلك التعبير عن صعود الإنسان إلى مرتبة يمكنه فيها محادثة الملائكة ورؤيتهم بعبارة تنزيل الملائكة، قال تعالى: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا »(1)، وكذلك قوله تعالى: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا *فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا *لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا » (2) إذ الظاهر أنّ نسف الجبال وجعل الأرض

ص: 552


1- الفرقان (25) :25 .
2- طه : (20) :105 - 107 .

قاعاً صفصفاً ليس فيها التواءات وتعاريج كناية عن انكشاف الحقائق أيضاً.

وممّا يشهد على ما ذكرنا من معنى النطق قوله تعالى: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ » (1) مع التصريح بأنّ الألسنة أيضاً تشهد عليهم، قال تعالى «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ »(2) فكيف يجمع بين ختم الأفواه وشهادة الألسن؟!

و إنّما يتمّ الجمع بينهما بما مرّ من أنّ شهادة الأعضاء ليس بمعنى التكلّم والنطق المتعارف فختم الأفواه بمعنى أنّهم لا ينطقون ولا يتكلّمون، و إنّما تتكلّم ألسنتهم بمعنى أنّها تظهر الحقائق بأنفسها، لا أنّها تنطق كما تنطق في هذه الحياة، فإنّها هنا تعبّر عمّا في ضمير صاحبها بخلافها هناك حيث تحكي الواقع.

« وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا » يستنكر الإنسان من أعضائه أن تشهد عليه وهي جزء منه، فهذا سؤال إستنكاري. ولعلّ ذكر الجلود خاصّة ليس لخصوصية فيها، بل للاستغناء بذكرها عن ذكر سائر الأعضاء، فالتقدير وقالوا لجلودهم وسمعهم وأبصارهم كقوله تعالى « وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ » (3) أي والبرد. ولعلّ تخصيص الجلود من جهة أنّها موجودة مع سائر الأعضاء أيضاً.

« قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ » تعتذر الأعضاء بأنّها لم تنطق برغبة منها، بل إنّ الله تعالى الذي أنطق كلّ شيء هو الذي أنطقها، أي جعلها تنطق من غير اختيار. وقد مرّ أنّ المراد على ما يبدو هو إبراز الحقائق، لا النطق بالمعنى

ص: 553


1- يس (36) :65 .
2- النور (24): 24.
3- النحل (16): 81 .

المعروف، فإنّه أيضاً نوع من الإبراز، إلّا أنّ ما يحدث هناك هو أقوى إبراز للواقع، حيث إنّه يبدو بكلّ وجوده، ويشعر به الناس المخاطبون بكلّ وجودهم، وليس لفظاً يحتمل الصدق والكذب. وبهذا المعنى جعل الله النطق في كلّ شيء، وإن كنّا نحن في هذه الحياة لا نشعر به، فالحقائق الدفينة في الأشياء لا تصل إليها أفهامنا، ولا يعلم نطقها إلّا الله تعالى ومن أطلعه الله عليه.

وعليه فقوله تعالى « الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ »عامّ لكلّ الأشياء، ومطلق يشمل هذه النشأة أيضاً كما هو ظاهر اللفظ، وإن احتمل أن يكون المراد أنّه تعالى يُنطق كلّ شيء يوم القيامة.

ويمكن أن يكون السؤال « لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا ») والجواب المذكور لسان الحال فحال الإنسان في ذلك اليوم حال مستغرب ومستنكر لشهادة أعضائه عليه، وحال الأعضاء يكشف للجميع أنّها تنطق وتبرز الحقائق قسراً وقهراً، فكما أنّ نفس حكايتها للوقائع كشف عنها لا نطق بالمعنى المعروف، كذلك اعتذارها كشف عن حقيقة حالها.

وقيل: إنّ المراد أنّه تعالى أنطق كلّ ناطق. وهذا تأويل بعيد جدّاً ولا موجب لهذا التخصيص، بل هو عامّ ومطلق كما قلنا. ومن هنا نقول إنّ قوله تعالى (أَنْطَقَ كُلِّ شَيْءٍ) قرينة على ما مرّ من توجيه معنى النطق، فإنّه هو النطق العامّ في كلّ شيء.

وربّما يتساءل: إذا كان النطق بإجبار من الله تعالى فكيف يكون حجة عليهم؟!

والجواب واضح على ما ذكرناه من أنّ النطق ليس بمعنى التحدث، بل هو

ص: 554

بمعنى إبراز الحقائق بعينها، فكأنّ الأعضاء تحمل شريطاً في ذاتها، وتكرّر ما حدث منها أو عليها على شاشة، فحجية الشهادة ليست من جهة كون الشاهد عادلاً صادقاً مختاراً، بل من جهة بروز الحقيقة للجميع بلا حجاب، أو بالأحرى من جهة انكشاف الغطاء عن الإنسان.

« وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » الظاهر من السياق أنّه تتمّة لقول الأعضاء فی ذلك الموقف، ويحتمل أن يكون تعقيباً من الله سبحانه. ولعلّ الوجه في بيان ذلك - بناء على كونه من الأعضاء - رفع الاستبعاد من نطقها وشهادتها على صاحبها بأنّها من عطاء الله لكم ، وليس أمرها إلّا بيده، لأنّه هو الذي خلقكم أوّل مرّة، أي في الحياة الدنيا، فهو الذي أعطاكم إياها، ووهبها لكم.

« وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » أي هو الذي يحاسبكم عليها، ويجازيكم حسب تعاملكم معها، فإنّها أمانات منه تعالى لديكم، وقد حدّد لكم وجوه استخدامها. ومعنى كون المرجع إليه تعالى هو الحضور أمامه بمسؤولية، ولذلك لم يعبّر عنه بالرجوع بل بالإرجاع، فالإنسان يُرجع إليه تعالى قهراً وقسراً.

وهناك تساؤل في هذه الجملة عن وجه الإتيان بالفعل المضارع « تُرْجَعُونَ » مع أنّه - بناءً على هذا الاحتمال - كلام أو نطق صادر يوم القيامة، وبعد رجوع الخلق إلى الله تعالى؟

والجواب واضح بناءً على ما ذكرنا من أنّ المراد بالإرجاع المحاسبة لا نفس الإحياء بعد الموت والكلام صادر حين المحاسبة لا بعدها.

وأمّا بناءً على كونه تعقيباً من الله تعالى في الكتاب الكريم، وبعد حكاية ما سيحدث في ذلك الموقف فلا مجال لهذا التساؤل، إلّا أنّ الذي يبعّد هذا

ص: 555

الاحتمال تقييد الخلق بكونه أوّل مرة ممّا يشعر بكون الجملة صادرة في وقت الخلق الجديد.

«وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ» يحتمل في هذه الآية أيضاً أن تكون من نطق الأعضاء على ما مرّ في تفسير النطق، وأن تكون تعقيباً من الله سبحانه.

وفي معناها احتمالان :

الأول: أنّكم كنتم تستترون في معاصيكم وقبائحكم، ولكن ما كنتم تستترون مخافة أن يشهد عليكم سمعكم أو أبصاركم أو جلودكم، و إنّما كنتم تستترون بتوهّم أنّ الله تعالى لا يراكم إذا استترتم ولا يعلم بأعمالكم.

الثاني: أنّكم ما كنتم تستخفّون من أعضائكم، أي ما كان لكم أن تستخفّوا منها، لأنّها كانت معكم، وكنتم تعملون بواسطتها، ولكنّ الذي هوّن عليكم المعاصي، أنّكم ظننتم أن الله تعالى لا يعلم ما تعملون ولم تحسبوا لرقابة الأعضاء عليكم حساباً. وعليه فالتقدير في الآية « ما كنتم تستترون من أن يشهد».

والاحتمال الثاني أقرب لأنّ الأول لا يتعرّض لما يناسب المقام، وهو الاهتمام بشهادة الأعضاء بل يقلّل من شأنها، والثاني يقتضي الاهتمام بها، وأنّها من طرق الرقابة على أعمال الإنسان. وأهميتها ليست من جهة التأثير في انكشاف الأمر، فإنّ الله تعالى محيط بكلّ شيء، و إنّما تكمن أهميّتها في إحساس الإنسان بوجود رقيب عليه من نفسه.

ولعلّه قال « كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ » لأنّ مورد الكلام من يعتقد بالله وبصفاته التي منها العلم ومع ذلك يظنّ هذا الظن بربّه. ويمكن أن لا يكون المراد بالظنّ الاعتقاد

ص: 556

التفصيلي الذي يلتفت إليه الإنسان، فإنّ الظنّ يطلق على ما في الارتكاز واللاشعور أيضاً. ولا يبعد أن يحصل هذا الظنّ بصورة خفية لكثير من المؤمنين بل أكثرهم ، ولولا ذلك لكثر المتّقون الخاشعون.

« وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ » « أَرْدَاكُمْ » أي أهلككم. وقوله « ظَنُّكُمُ » بدل عن اسم الإشارة، أي هذا الظنّ الذي ظننتموه بالله هو الذي أهلككم فخسرتم الخسارة العظمى قال تعالى « قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ» (1).

ومن هنا يتعيّن على الإنسان أن يحاول معرفة ربّه أكثر فأكثر، ولا يقتصر بما تمليه عليه الأفكار السائدة والتقاليد البالية، فإنّ معرفة الله مفتاح كلّ خير والجهل به وبصفاته الحسنى مفتاح الشرور والغرور والشيطان يزيد الإنسان غروراً بربّه، كما قال تعالى: « وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ » (2)، أي الشيطان.

« فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ » أي فلا ينفعهم الصبر. يا للغرابة! حتّى الصبر الذي يعد وسيلة للفلاح والنجاح لا ينفع هناك، فإنّ النار مثوى لهم صبروا أم لم يصبروا. والمثوى هو محل الاستقرار والمعنى أنّه ليس هناك أمل في أن ينتج لهم الصبر نفعاً، فإنّ النار يبقى مثوى نهائياً لهم كما قال تعالى: «اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ »(3).

والسرّ في ذلك أنّ الصبر إنّما يفيد في عالم الدنيا، حيث إنّه عالم الاختيار والتربية والتكامل فالصبر وتحمل الشدائد وعدم الجزع منها يقوّي النفس

ص: 557


1- الزمر (39): 15 .
2- الحديد (57) :14 .
3- الطور (52): 16 .

ويمنحها سعة وسلطة، وأمّا يوم القيامة فهو يوم حصول النتائج ولا أثر للصبر والتحمّل.

وجملة « فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ» سادّة مسدّ الجزاء. والتقدير: فلا ينفعه الصبر لأنّ النار تبقى مثوى لهم لا يتخلّصون منها.

« وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» الاستعتاب طلب العتاب والعتاب في الأصل: إظهار الموجدة، فإذا وجدت في نفسك شيئاً على أحد تحبّه ولا تتوقّع منه ذلك أظهرت له موجدتك. ولكن حيث إنّ هذا الإظهار يوجب زوال الموجدة عبّر عن الرضا أيضاً بالعتبى، فقولك «لك العتبى» بمعنى لك ما ترضى به.

والآية تحتمل المعنيين العتاب والرضا. فعلى الأوّل بمعنى أنّهم يطلبون العتاب فلا يعاتبون، إذ العتاب يختصّ بمن لا يتوقّع منه ما صدر منه، وهو دليل على الحبّ والتعلّق، كما أنّه يوجب زوال السخط والموجدة.

وعلى الثاني بمعنى أنّهم يطلبون الرضا، أي يحاولون استرضاء ربّهم، ولكنّهم لا يعطون ذلك، ولا يرضى عنهم ربّهم، إذ قد فات أوان الاسترضاء.

ص: 558

سورة فصّلت(25 – 29)

وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)

« وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ » التقييض - على ما يبدو من موارد استعمال اللفظ - هو جعل شيء مثيلاً لآخر، ومنه المقايضة بمعنى المعاوضة، فإنّ العوض يجعل في الاعتبار مثيلاً للمعوض.

وفي «تفسير الميزان» أن التقييض بمعنى التبديل، وأن الآية إشارة إلى أنّهم لو آمنوا واتقوا لأيدهم الله بمن يسددهم ويهديهم، لكنهم كفروا وفسقوا فبدل الله لهم قرناء من الشياطين.

ولكن التقييض ليس بمعنى التبديل، بل بمعنى جعل شيء مثيلاً لآخر. و یدلّ على عدم صحّة هذا التفسير قوله تعالى «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ »(1)، إذ لا يصحّ جعل التبديل هنا بدلاً عن التقييض كما هو واضح.

مضافاً إلى أنّ التقييض في الآية وقع على القرناء، حيث جعل مفعولاً به فلو كان معناه التبديل كان معنى الآية أنّ القرناء هم الذين بدّلهم الله تعالى وليسوا

ص: 559


1- الزخرف (43): 36 .

مبدلاً إليه ومقتضى ذلك أن يكون لهم قرناء قبل ذلك فبدّلهم الله تعالى إلى غيرهم. وهذا خلاف الفرض، مع أنّه لو أريد ذلك كان اللازم أن يقال قرناءهم مع أنّه في الآية نكرة.

وبعضهم فسّره بالسلطة، أي نسلّط عليه القرناء، باعتبار أنّ القيض هو القشر الأعلى من البيض. ولم يرد في اللغة استعمال التقييض بهذا المعنى، مع أنّه لا يناسب التعدّي باللام.

والصحيح أنّ المراد جعلنا لهم قرناء يماثلونهم في الصفات، وهم لكونهم شياطين يريدون الشرّ يزينون لهم أعمالهم الفاسدة.

ويبدو من الآية - بناءً على ما ذكر - أنّ هذا الشيطان نتاج عمل الإنسان وصفاته النفسية، ولعلّه ليس مخلوقاً من ذي قبل، و إنّما يخلقه الله تعالى بسبب عمل الإنسان أو أنّه نتيجة طبيعية لعمله يخلق ويوجد في دخيلة نفسه يزيّن له عمله .

وتزيين القبائح أمر مشهود في الإنسان، ولذلك نجده إذا تمادى في غيّه وعناده، وأصرّ على ضلاله يصل إلى مرحلة يرى ما يعمله من المنكر معروفاً، بل ربّما يجده واجباً، وأنّه يستحقّ عليه التبجيل والاحترام.

وأغرب منه أنّ المجتمع أيضاً يتحوّل تدريجاً، وينزل إلى هذا الحضيض إذا كثرت فيه المفاسد والمنكرات، كما ورد في الحديث المشهور عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

روى الكليني (رحمه الله ) عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: قال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر ، فقيل له ويكون ذلك يا رسول الله ؟ فقال : نعم وشرّ من ذلك. كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف، فقيل

ص: 560

له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال: نعم، وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً»(1).

ثمّ إنّ هذا القرين الذي يغوي الإنسان ويقيّضه الله له شيطان شرِّير فربّما يكون من الإنس، وربّما يكون من الجنّ. وقد ورد في الكتاب العزيز «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ »(2) وقال تعالى: «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ *مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ » .

وكلاهما صنيعة يده، أمّا الجنّ فلعلّه - كما قلنا - يُخلق نتيجة عمله، وهو في دخيلة ذاته. وأمّا الإنس فإنّ أصدقاء الإنسان يتأثّرون بأخلاقه وصفاته، والإنسان الفاسد يُفسد من حوله، فتكون النتيجة أنّهم أيضاً يتبدّلون إلى أمثال له، وكأنّ كلّا منهم نسخة منه ، وهم جميعاً قرناء، وكلّ منهم يُغوي الآخر، ويحرضه على الجرائم والآثام، ويزيّن له القبائح، ويشجعه على ارتكاب العظائم.

وهكذا نجد أنّ المجرمين إذا تجمّعوا وتحزّبوا يشكّلون خطراً عظيماً على المجتمع، ويقومون بجرائم لا يقوم بها المجرمون الآحاد.

وقوله تعالى «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ » يحتمل العموم أيضاً، وكذلك يحتمله ما بعده، قال تعالى: «وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ *حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ *وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ » (3) .

فكلّ هذه الآيات تنطبق على قرناء الإنس والجنّ معاً. و یدلّ على إرادة العموم

ص: 561


1- الكافي 5: 59 .
2- الأنعام(6): 112.
3- الزخرف (43): 37 – 39.

هنا للصنفين قوله تعالى بعد ذلك في حكاية استغاثة الكافرين يوم القيامة «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ».

ومن هنا فإنّ من الضروري أن يراقب الإنسان قرينه فلا يصادق الفاسدين والذين لا يهتمّون بارتكاب الآثام، كما يجب على الآباء أن يراقبوا أصدقاء أولادهم، فكم من مؤمن تربّى في بيئة صالحة وأفسده الأخلّاء الفاسدون.

« فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » وقع الكلام في المراد بما بين أيديهم وما خلفهم. يحتمل أن يكون المراد التنبيه على إحاطة الشيطان أو القرين السوء بهم من كلّ جانب، فإنّ ما بين الأيدي كناية عن الإمام فهم محاطون من الإمام والخلف، وهو بدوره كناية عن عدم تمكنهم من الفرار عما نسجوه حول أنفسهم بسوء فعلهم.

ويحتمل أن يكون المراد ممّا بين أيديهم نفس العمل فإنّه أمامهم، وبما خلفهم النتائج المترتّبة عليه، سواء في الدنيا أو في الآخرة. وهذا ممّا يكثر التسويل فيه من قبل قرناء السوء من الجنّ والإنس، حيث إنّهم يزيلون الخوف من المغفّلين إذا استعظموا الجريمة، ولم يقتربوا منها خوفاً من العقوبات أو الفضائح، بوسوستهم أنّه لا ضير في ذلك، أو أنّه غير معلوم، أو أنّ اللذة لا تكون إلّا للجسور، ونحو ذلك.

« وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ » الظاهر أنّ المراد بالقول هو الجملة الأخيرة « إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ » فالخسارة بالحقيقة هي ما يخسره هؤلاء، لا الذي خسر ماله في الدنيا، كما قال تعالى: «قُلْ

ص: 562

إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ» (1).

وهؤلاء يدخلون ضمن أمم وجماعات كثيرة من الجنّ والإنس قد خلت من قبلهم، أي ماتوا قبل هذه الجماعة فهؤلاء يلحقون بهم.

والغرض من هذه الجملة بيان أنّ أكثر الجنّ والإنس خاسرون، فلا يغرنّكم ولا يخيفنّكم كثرة الفاسدين والمفسدين، وقلة الاتقياء والأخيار.

وتدلّ الآية كما نبّه عليه العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) أنّ الجنّ أيضاً يموتون.

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ». المراد بهم كفار قريش، حيث كانوا يأمرون جُهّالهم وشبابهم بأن لا يكتفوا بعدم الاستماع إلى الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حين يتلو القرآن على الناس، بل يصيحوا أثناء قراءته بكلام لغو لا معنى له أو لا فائدة فيه حتّى لا يسمع الناس تلاوته، فتكون لهم الغلبة عليه في المجال الاعلامي.

وهذا دأب العجزة حيث لا يمكنهم مقارعة الحجّة بالحجة، ولا مقاومة تأثير الكلام الحقّ في المجتمع، فإذا لم يقدروا على إخماد أنفاس الدعاة إلى الحقّ وقتلهم أو حبسهم حاولوا منع تأثيره بإيجاد كلّ ما من شأنه أن يجلب انتباه الناس إليه حتّى يضيع الحقّ ويضلّ الناس عنه ويتركوه.

ونجد في عصرنا هذا أنواعاً مستحدثة من هذه المكيدة الشيطانية، كلّها تحاول صد المجتمع عن سبيل الله، فهناك الإعلانات والدعايات الفاسدة، وهناك الأغاني والموسيقي الصاخبة التي لا تبقي للشباب مجالاً للتفكير. وهناك مجامع اللهو والطرب، وهناك ميادين الرياضة، والمسابقات الفاقدة لأيّ هدف معقول

ص: 563


1- الزمر (39): 15 .

إلّا ملء كلّ أوقات الفراغ، حتّى لا يجتمع الناس حول ما يفيد دنياهم وآخرتهم إلى غير ذلك.

«فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ» يبدو من تعليق الحكم على عنوان الَّذِينَ كَفَرُوا أنّ العذاب الشديد جزاء كفرهم و عنادهم ومقارعتهم الحقّ بالباطل. والعذاب الشديد يمكن أن يكون في الدنيا أو في الآخرة. ولعلّ المراد به ما أصابهم يوم بدر وأمّا جزاء أسوأ أعمالهم، بل كلّها فإنّما هو في الآخرة.

وأمّا التعبير بأنّه يجزيهم بأسوأ أعمالهم فلا يعني أنّهم لا يجزون بما دون ذلك، بل يمكن أن يكون ذلك إشارة إلى عملهم المذكور في الآية السابقة، وهو الصدّ عن سبيل الله، فيكون الغرض التنبيه على أنّ ذلك أسوأ أعمالهم، لأنّهم يحملون بذلك أوزار من يضلّ بفعلهم إلى يوم القيامة.

ويمكن أن يكون المراد أنّ مقياس موضعهم ودركتهم في النار هو أسوأ أعمالهم، نظير ما مرّ بيانه في قوله تعالى «وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ»(1).

«ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ» مرّ الكلام حول التعبير بأعداء الله في قوله تعالى «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ »(2)، وأنّ المراد بهم المعادون لشريعة السماء، وإن اعترفوا بالله تعالى ولم يصرّحوا بعداء له. وقوله « النَّارُ» بدل عن الجزاء أو عطف بيان .

ص: 564


1- الزمر (39) :35 .
2- فصلت (41): 19 .

« لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ» أي لكلّ منهم في النار دار يخلد فيه لا يخرج منه أبداً. والدار كلّ ما يدور حول الإنسان فليس في التعبير مسامحة أو تجوز.

« جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ » « جَزَاءً » مصدر بمعنى المكافأة، وهو إمّا مفعول لأجله، أي يخلدون في النار ليجازون بجحودهم، أو مفعول مطلق لفعل محذوف كما قالوا أي يجزون جزاء. والأوّل أولى.

و «ما » مصدرية أي جزاءً بجحودهم. وقوله تعالى « كَانُوا » یدلّ على استمرارهم في الجحود، فلم يكن ذلك منهم حالة عابرة، بل كان دأبهم وديدنهم كلّما واجهوا آية من آيات الله تعالى سواء الآيات الكونية والمعجزات والآيات النازلة من الكتاب العزيز.

والجحود هو الإنكار على علم، فهم كانوا يعلمون أنّ ما أتاهم به الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو الحقّ الصراح لا ريب فيه، ولكنّهم يكابرون ويعاندون بغياً منهم وحسداً واستكباراً، ولم يكتفوا بالجحود بل صدّوا عن السبيل، ومنعوا الناس من الوصول إلى الحقّ، فحقّت عليهم كلمة العذاب.

« وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ »، أي ويقول الذين كفروا و إنّما أتى بصيغة الماضي، لأنّه أمر قطعي فکأنّه وقع. والمراد ب- « الَّذِينَ كَفَرُوا » هنا الأتباع الذين غرّر بهم القرناء من الصنفين والتثنية بلحاظ الصنف.

والمستفاد من آيات كثيرة أنّ أهل النار يتعارفون فيما بينهم، والأتباع يعرفون من أضلّهم، ويخاصمونهم، ويتبرّؤون منهم. وقد ورد في القرآن الكريم ذكر مواقف عديدة من تخاصمهم، فلعلّ طلب الإراءة هنا ليس على حقيقته، وليس

ص: 565

دعاءً ولا أُمنية، و إنّما هو إعلان للبراءة عنهم، والمعاداة لهم وتحقيرهم بأنّ أتباعهم الذين نفّذوا أوامرهم - ومنها ما ورد في الآية السابقة من اللغو عند قراءة القرآن - يجعلونهم اليوم تحت أقدامهم و يريدون لهم أن يكونوا من الأسفلين بعد أن جعلوهم من الأعلين.

و هكذا تدور الدائرة عليهم. ومن يستعلي على الناس هنا ويتجبّر ويتكبّر يصبح في تلك النشأة محتقراً حتّى لدى الأتباع والأشياع.

ص: 566

سورة فصّلت(30 – 32)

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)

«إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا » يتعرّض السياق لذكر المؤمنين الصادقين بعد ذكر الكافرين الجاحدين، ليكون حثّاً وتشويقاً لسلوك طريق الحقّ بعد التخويف من متابعة الكفر والباطل، وهذا من سنن الله تعالى في كتابه الكريم.

والمراد بقول « رَبُّنَا اللَّهُ » ليس هو اللفظ فقط كما هو واضح بل الإيمان الكامل باللسان والقلب والعمل، فإنّ مجرّد القول يصدر من المنافق أيضاً فضلاً عن ضعاف الإيمان والاستقامة: الاعتدال. وهي كناية عن الثبات وعدم الانحراف عن الطريق المستقيم، وعن مقتضى الإيمان بالله تعالى في مواجهة الظروف العصيبة التي قلّما يبقى الإنسان فيها محافظاً على دينه وإيمانه.

ويختلف الناس في المواضع التي توجب زلّة القدم من المال والجاه والجنس والخوف وغير ذلك. والمطلوب هو الثبات في جميع المواطن التي يبتلي الله فيها عباده. وكم نجد في التأريخ وفي الحياة المعاصرة من له صحيفة بيضاء طيلة عمره، ثمّ تزل قدمه في آخر أيامه فيضيع إيمانه ويبطل كلّ أعماله.

وفي «مجمع البيان» روي عن أنس قال قرأ علينا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هذه الآية ثمّ قال قد قالها ناس ثمّ كفر أكثرهم ، فمن قالها حتّى يموت فهو ممّن استقام عليها.

فمفاد هذا الحديث الاستمرار في الإيمان بالله وبدينه طيلة الحياة.

وفي «نهج البلاغة »عن أمير المؤمنين (علیه السلام): قال الله تعالى: « إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ

ص: 567

ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » وقد قلتم ربّنا الله فاستقيموا على كتابه وعلى منهاج أمره، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته. ثمّ لا تمرقوا منها، ولا تبتدعوا فيها ولا تخالفوا عنها »(1).

والآية تدلّ على أنّ الجزاء المذكور فيها يترتب على الاعتقاد بانحصار الربوبية في الله تعالى، وذلك لتقديم الخبر على المبتدأ. ونتيجة ذلك أن يكون الإنسان واثقاً من أنّ كلّ ما يأتيه من ربّه في التكوين والتشريع هو مقتضى ربوبيته، فهو مؤثر في تربيته بما يصلح شأنه، فيسلّم أمره إلى الله تعالى. وهذا هو أساس السعادة في الدنيا والآخرة، وهو الذي يصعب الثبات عليه، فإنّ الغالب على الإنسان أنّه إذا واجه في حياته ما لا يلائم طبعه ولا يوافق هواه سخط على الكون وقوانينه، وإذا رأى من أحكام الله تعالى ما يضرّ بشؤونه المادية رفضه وتشبّث في ردّه بشتّى الأعذار والاستقامة والثبات في الاعتقاد بربوبية الله جلّ شأنه في جميع مراحل الحياة، توجب تسليم الإنسان لربّه ورضاه بقضائه في التكوين والتشريع.

وفي «بصائر الدرجات » عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عز وجل « إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » قال : هم الأئمة من آل محمد (علیهم السلام). (2)

ولعلّ هذا الحصر لبيان أكمل الأفراد في الاستقامة والثبات على الإيمان. ولذلك ورد في بعض الأحاديث أنّ الآية تصدق على الشيعة.

ص: 568


1- نهج البلاغة: 253 ، الخطبة 176 .
2- بصائر الدرجات: 113 .

ففي «الكافي» عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن قول الله عزّ وجل: « إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا » فقال أبو عبد الله (علیه السلام): «استقاموا على الأئمة واحد بعد واحد تتنزّل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنّة التي كنتم توعدون »(1).

وفي «مجمع البيان » في ذيل هذه الآية روى محمد بن الفضيل، قال سألت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) عن الاستقامة فقال: «هي والله ما أنتم عليه».

والخطاب فيه للشيعة والغرض بيان أحد مصاديق الاستقامة، فإنّ الإيمان بالله لا يكمل إلّا بالإيمان برسله وكتبه، والإيمان بالرسول لا يكمل إلّا بالإيمان بكلّ ما أتى به، كما قال تعالى: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا »(2). وممّا أتى به الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ولاية أهل البيت (علیهم السلام) والاقتداء بالأئمة من بعده، فمن لم يتبع مذهب أهل البيت لم يكن مستقيماً على إيمانه بالله ورسوله.

وهذا نظير ما ورد في الحديث في قوله تعالى: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى »(3) أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال مخاطباً أمير المؤمنين (علیه السلام): «يعني إلى ولايتك». (4)

وفي «الكافي» في حديث عن الإمام الباقر(علیه السلام) أنّه تلا هذه الآية، ثمّ أشار إلى صدره وقال: «إلى ولايتنا»(5).

ص: 569


1- الكافي 1 :220 .
2- النساء (4): 65.
3- طه (20) :82 .
4- الأمالي، الصدوق: 584.
5- الكافي 1: 393 .

وروى الصدوق (رحمه الله ) بسنده عن داود بن كثير الرقي قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) ، فقلت له: جعلت فداك قوله تعالى «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى » فما هذا الهدى بعد التوبة والايمان والعمل الصالح؟ فقال: «معرفة الأئمّة والله». (1)

إلى غير ذلك من الأحاديث عن أئمة أهل البيت (علیهم السلام).

والمراد على الظاهر أنّ ما في الآية الكريمة - وهو قانون إلهي عامّ - ينطبق في هذه الأمة على ولاية أهل البيت (علیهم السلام)، فإنّها هي التي تبقى من دعائم الإيمان بعد التوبة والإيمان بالله ورسوله والعمل الصالح، كما أنّه في أُمة موسى (علیهم السلام) ينطبق على متابعة هارون (علیهم السلام) ولذلك وقعت الآية مقدّمة لبيان قصة رجوع موسى إلى قومه بعد تفرّقهم عن هارون (علیهم السلام).

فمعنى الآية بناءً على ذلك أنّ الله تعالى يغفر لمن تاب عن الشرك، وآمن بالله ورسوله، وعمل عملاً صالحاً، ثمّ بعد وفاة الرسول أو غيابه اهتدى إلى متابعة خليفته. وهذا الخطاب لموسى (علیه السلام) يحدّد قبول الإيمان من بني إسرائيل بمتابعة هارون (علیه السلام). وفي ذلك إشارة إلى عدم قبول إيمان من خالفوا أمره بمتابعة السامريّ. وبذلك يرتفع الاستغراب من تأخّر الهداية عن الأمور المذكورة، ويندفع إشكال بعض المفسّرين من العامّة على هذه الأحاديث من جهة أنّ مورد الآية بنو إسرائيل، وأنّها لا تنطبق على هذه الأمة.

«تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » التنزّل على ما في لسان العرب - هو النزول على مهلة وعليه فهو يقتضي تعدّد

ص: 570


1- فضائل الشيعة :26 .

دفعات النزول، لأنّ الفعل أسند إلى الجمع، فإن كان نزولهم جميعاً على مهلة اقتضى التكرّر .

قيل: إنّ هذا الخطاب يتلقونه من الملائكة حين الموت، أو حينه وفي القبر وحين البعث وورد ذلك في بعض الروايات، وفي بعضها ما ينافيه ولا يصحّ شيء من القسمين سنداً. ولا يمتنع لفظ الآية أن يكون الخطاب في الدنيا، بل هو أوفق بقولهم بعد ذلك: «نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ».

ويبعد أن يكون المراد - كما في بعض التفاسير - إنا كنّا أولياؤكم في الدنيا، إذ لا يؤثّر ذلك في رفع الحزن والخوف، وظاهرها أنّ هذا القول إنّما يقال لهم لبعث الاطمئنان في نفوسهم. والمؤمن الراسخ في دينه يشعر بهذه الطمأنينة التي تلقّيها الملائكة في روعه وإن لم يشعر أنّها من إلقائهم.

و إنّما ذكروا ذلك لاستبعاد نزول الملائكة على المؤمنين في الدنيا وليس له وجه صحيح، و إنّما توقّف نزول الوحي الرسالي بوفاة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، مع أنّه لا دلالة في الآية على أنّ الملائكة يواجهون المؤمنين ويكلّمونهم، فلعلّهم يلقون مضمون الآية في قلوبهم ، نظير ما كانوا يعملونه في بدر قال تعالى ««إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا». (1)

ويؤيّد ذلك التعبير الوارد في الآية فإنّ فعل المضارع یدلّ على استمرار النزول، ومقتضاه أنّ هذا الإلقاء مستمرّ، بل صيغة التنزل كما مرّ تقتضي ذلك أيضاً، بل نفس النزول أيضاً يقتضي الاختصاص بالدنيا، فعلى القول الآخر لا بدّ من تخصيصه بوقت الموت، لأنّ الملائكة في الآخرة محيطون بالبشر صالحهم

ص: 571


1- الأنفال (8): 12 .

وطالحهم ويرتفع الحجاب فلا يصدق النزول.

وقيل: إنّ ممّا يقتضي الاختصاص بيوم القيامة أو حين الموت قولهم «كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» الظاهر في انقضاء وقت الوعد ولكن لا ظهور في ذلك فهذا التعبير يرد في استمرار الحالة أيضاً كقوله تعالى« إن كُنتُمْ صَادِقِينَ» و«إنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ» وأمثال ذلك في موارد عديدة.

والخوف هو القلق من مكروه متوقع حالاً أو مستقبلاً، والحزن هو التأسف على أمر لا يمكن تداركه. ومن الطبيعي أن يخاف الإنسان ممّا يلاقيه في النشأة الأخرى، فإنّه مجهول تماماً، كما أنّه من الطبيعي أن يحزن على ما فاته من الفرص والملائكة يبشّرون المؤمنين الثابتين على إيمانهم أن لا داعي للخوف من ترتّب عقاب، ولا موجب للحزن على ما فات، بل استبشروا بالجنّة التي وعدكم الله على لسان أنبيائه ورسله والإبشار بمعنى السرور والفرح.

«نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ» أي لا تهتمّوا بكثرة الأعداء وقلّة الأصحاب، فإنّا أولياؤكم في الدنيا والآخرة والولاية - في الاصل - تتابع شيئين، ويطلق الولي على التابع والمتبوع والناصر والمنصور، ونحو ذلك.

والمراد هنا بالأولياء الذين يلون أمورهم بأمر من الله تعالى، حيث إنّهم وسائط الرحمة، والله تعالى هو الذي يتولّى الصالحين، وهو وليّ الذين آمنوا وولايتهم الخاصّة بالمؤمنين في الدنيا تتمثّل في التسديد والتثبيت على الحقّ ونحو ذلك، كما مرّ في سورة الأنفال، وفي الآخرة تتمثّل في إنالتهم الثواب والسلام والتكريم ونحوها، كما قال تعالى « وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *سَلَامٌ عَلَيْكُمْ »

ص: 572

سَلَامٌ عَلَيْكُمْ »(1) وقال « حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ»(2) .

« وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ » تتمّة البشرى والضمير يعود إلى الجنّة المذكورة في الآية السابقة. واشتهاء النفس نزوعها إلى الشيء وحبّها له. والادّعاء افتعال من الدعوة أي الطلب، ويفيد تأكيده، ولعلّه لذلك فسّر بالتمنّي، فإنّه طلب ما لا يرجى فيتأكّد فيه الطلب، أي يطلب بإصرار. وعليه فالفرق بين ما تشتهيه الأنفس وما يدّعون أنّ الأوّل طلب ما يأملونه ويعرفونه من الملذّات، والثاني طلب ما لم يألفوه و إنّما يتمنّونه. وما أكثر أماني الإنسان، بل يحصل على ما لا يعرفه ولم يخطر بباله. وهذا غاية سعادة الإنسان فلا يتصوّر سعادة فوقه.

ولكن كيف يصل الإنسان إلى كلّ مشتهياته، مع أنّ الاستزادة جزء من طبيعته؟! ونحن نجد أنّ الإنسان في هذه الدنيا لا يقتنع بما يصل إليه، حتّى لو أعطي كلّ ما على وجه الأرض، فما الذي يحصل هناك؟ وما هو الشيء الذي يملأ النفس المستزيدة البشرية فلا يبتغي أمراً وراءه؟

كما أنّا نجد الإنسان في هذه النشأة يملّ كيفية خاصّة ونمطاً خاصّاً من الحياة، ويطلب دوما التجديد والتغيير، فما الذي يجده في الجنّة حيث تهدأ نفسه ويرضى به ولا يطلب غيره، كما قال تعالى: « لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا »؟(3)

الذي يملأ كلّ فراغ في قلب الإنسان، ولا يدع له أُمنية وراءه هو رضا الله

ص: 573


1- الرعد (13) : 23 - 24 .
2- الزمر (39) :73 .
3- الكهف (18): 108.

تعالى، فإذا بلغه الإنسان استراح واطمأنّ، فهذا هو غاية مطلوبه التي كان يبحث عنه فلا يجده، وهو ضالّته المنشودة التي كان يطلبها في الملذّات المادّية وغيرها.

« نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ » يضاف إلى كلّ ما يعطون في الجنّة إكرامهم بأنّ كلّ ذلك استضافة من الله تعالى لهم. وهذا غاية الإكرام من ربّ العالمين لعبيده الأتقياء والنزل : ما يقدّمه المضيف لضيفه.

ولعلّ وصفه تعالى بالغفور الرحيم للتنبيه على أنّ هذا الإكرام لم يكن ليتمّ لولا غفرانه ورحمته، إذ لا يخلو الإنسان من تقصير في أداء الحقّ تجاه ما أنعم الله عليه فلا يستحقّ أحد هذا الإكرام لولا غفران الله ورحمته .

ص: 574

سورة فصلت (33 – 36)

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)

« وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا » لعلّ مناسبة الآيات لما سبق، التنديد بالذين كفروا حيث أمروا جهّالهم بأن يلغوا حين تلاوة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) للقرآن، وهو يدعو إلى الله تعالى والجملة استفهام في معنى الإنكار أي لا أحد أحسن قولاً.

ومهما كان فالآية تحثّ على الدعوة إلى الله تعالى مع العمل الصالح، لأنّ الدعوة إليه تعالى هو أحسن القول، وأحسن ما يصدر من الكلام، وهو وظيفة الأنبياء والرسل والسبب في كونه أحسن القول واضح، لأنّه مضافاً إلى كونه عبادة لله تعالى بذاته يتسبّب في هداية الناس وإيصالهم إلى السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة بالإيمان بالله تعالى.

والقول هو ما ينطق به الإنسان لإبراز ما في ضميره، وبه ينشر البشر علومه و معارفه و به امتاز البشر على ما عداه من الحيوان وهو الموجب لتكامله وتطوّره، ولولاه لبقي كلّ إنسان يعيش تجاربه، وجاء من بعده ليبدأ من نقطة الانطلاق، فما كان لهذا الركب أن يصل إلى ما وصل إليه. وحيث إنّ أهمّ المعارف والعلوم وأشرفها وأوجبها هو معرفة الله سبحانه، فالقول المشتمل على الدعوة إليه هو أحسن الأقوال، وأبلغها فائدة، إذ لا سعادة للبشرية إلّا باللجوء إلى

ص: 575

الإيمان بالله تعالى وطلب مرضاته.

ولكن هذه الدعوة إنّما تفيد وتؤثر إذا كان الداعي بنفسه مؤمناً بمحتواها إيماناً عميقاً يتجلّى فى عمله، وإلّا لكان تأثيره سلبياً، ومنفّراً للناس عن الدين كما نجده بوضوح في حياتنا. ولذلك عطف عليه قوله تعالى « وَعَمِلَ صَالِحًا » فالدعوة إلى الله إنّما يكون أحسن القول إذا انضمّ إليه العمل الصالح.

« وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ » قيل: إنّ المراد ليس هو القول باللفظ بل الاعتقاد، وإطلاق القول على الاعتقاد شائع. وقيل: إنّ المراد أن يكون مسلماً أمرَه لله تعالى فیدلّ على لزوم كونه مخلصاً في دعوته حتّى يكون قوله أحسن القول.

ولكن يبقى في الآية التركيز على قول خاصّ، وهو إعلان أنّه من المسلمين، فليس مفاده مجرّد كونه مسلماً، سواء بالقول أو الاعتقاد.

والذي يبدو لي أنّ المراد التواضع واعتبار الداعي نفسه أحد المسلمين لا يمتاز عليهم بشيء، وهذا أمر هامّ جدّاً لتأثير الدعوة في المجتمع. والأنبياء كانوا يتحلّون بهذه الصفة الحميدة، فلم يعتبروا أنفسهم أفضل من الناس لأنّهم داعون إلى الله تعالى، بل كانوا يتواضعون للجهّال من الناس فضلاً عن فضلائهم.

وناهيك في ذلك تواضع الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأخلاقه الحميدة، وعمق تأثيرها في قلوب الأعداء وكفار قريش فضلاً عن المؤمنين.

والآية وإن قيل باختصاصها بالرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلّا أنّ من الواضح أنّ الحكم فيه عامّ لجميع الدعاة، وفي مقدّمتهم الأنبياء والرسل والأئمة (علیهم السلام) ومن بعدهم العلماء والمصلحون.

« وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ »، «لا» الثانية زائدة للتأكيد، والمعنى واضح.

ص: 576

والغرض الحثّ على حسن التعامل مع الآخرين. والخطاب وإن كان للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ولكنّ الحكم عامّ يشمل الناس جميعاً، وفي جميع مجالات الحياة، ويتأكّد الأمر بالنسبة للدعاة بصورة عامّة، حيث إنّ الآية وردت ضمن بيان الدعوة إلى الله تعالى، وأنّه أحسن القول فلزم بيان كيفية المواجهة مع أعداء الدعوة.

والمراد بالحسنة والسيّئة هنا ما يحدّده العرف في مجال التعامل مع الآخرين، ويختلف باختلاف الحضارات والأزمنة والأمكنة، فكلّ ما يستحسنه الطبع السليم في هذا المجال حسن ما لم يمنع عنه الشرع، وكلّ ما يستاء منه الطبع السليم سيّء إذا لم ينطبق عليه عنوان آخر يوجب حسنه. وللمفسرين أقوال شتّى في تحدیدهما بما لا دليل عليه.

« ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» أي إذا لقيت ما لا يرضيك في مواجهتك مع الآخرين فادفعه بالتي هي أحسن.

وفيه ثلاثة احتمالات :

الأول: أن تلاحظ ما يمكن أن تفعله كردّ فعل في مقابل عمل الخصم فتختار منها أحسنها، فإنّ تردّد الأمر مثلاً بين أن تقول له «شكراً» وإن تدفع له مالاً فادفع له المال.

والثاني: أن لا يكون ردّ فعلك إساءة إليه بدلاً عن إساءته، بل عامله بما يكون أحسن من عمله، فيكفي الإعراض وعدم التعرّض له.

والثالث: أن يكون المراد بالأحسن ما فيه حُسن لا الأحسن من غيره.

والظاهر هو الأول، إذ التعبير بالأحسن لا يناسب إذا أريد كلّ ما يقابل

ص: 577

الإساءة، إذ الإساءة لا حسن فيها ليكون هذا أحسن منها. وأمّا الثالث فهو خلاف ظاهر الصيغة.

وعليه فالمطلوب هو مقابلة الإساءة بالإحسان لتحصل المفاجأة غير المترقبة « فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ » والولي هو الصديق. والحميم مأخوذ من الحُمّة بمعنى الحرارة كناية عن غاية قربه وإشفاقه. ولكنّه لم يقل إنّ العدو ينقلب صديقاً حميماً، بل يعاملك معاملة الصديق الحميم، حيث أتى بحرف التشبيه «كأنّ» والتشبيه يقتضي التغاير.

وهذا أمر غالبيّ، وهناك قلّة من الناس لا ينفع معهم إلّا المقابلة بالمثل، بل الأسوأ. ولذلك لمّا عفا الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن كفار قريش في فتح مکّة وقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء استثنى بعض الطغاة وأمر بقتلهم أينما وجدوا.

«وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» الضمير يعود إلى ما سبق، أي مقابلة الإساءة بالإحسان والغرض أنّ هذا أمر صعب على الإنسان، ويتوقّف على صبر وكظم للغيظ، وحطّ عظيم من الخلق الرفيع. ولا يبعد أن يكون المراد بما ورد في الآية الكريمة الإشارة إلى عاملين مؤثرين في تحقق هذه الحالة للإنسان:

أحدهما ترويض النفس بالصبر، و كبح جماحها عند الغضب. وهذا من أصعب الأمور كما هو واضح، فالاتصاف بالسجايا الحميدة كلّها يحتاج إلى رياضة نفسية شاقة ومريرة، ولكنّ السيطرة على النفس عند الغضب والمفاجئات من أصعبها، بل لعلّه أصعبها على الإطلاق. ولا يحصل ذلك إلّا بتوفيق وتسديد من الله تعالى.

ولذلك عبّر عنه بالتلقي، وأتى بالفعل مبنياً للمجهول، وفاعل التلقية هو الله تعالى.

ص: 578

وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنّ هذه الصفة نعمة يتلقّاها الإنسان من الله تعالى.

الثاني: العوامل الوراثية والتربوية. فإنّها تؤثر بعمق في تكوّن النفس الإنسانية، وتخلّقها بالخصال الثابتة. وعبّر عن ذلك في الآية الكريمة بالحظّ العظيم، نظراً إلى أنّها أمور خارجة عن اختياره ، ولكنّها تؤثّر في تكوين شخصيته.

والحظّ: النصيب المقسوم وهو ما يحصل عليه الإنسان بتقدير من الله تعالى من دون أن يتعب نفسه. ومن الواضح أنّ هذا أيضاً لا يحصل إلّا بتوفيق من الله تعالى، ولذلك عبّر عنه أيضاً بالتلقي، وأتى بالفعل مبنياً للمجهول.

وليس معنى ذلك أنّ الإنسان مغلوب على أمره ، وليس له دور في الاتصاف بالسجايا الحميدة أو الخبيثة، بل هو قادر على التغلّب على كلّ هذه العوامل وعلى تكوين شخصيته وفق مراده، ولكنّه أصعب عليه بالقياس إلى من ساعدته الظروف الوراثية والتربوية، سواء في البيت أو المدرسة أو المجتمع.

« وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ » الاستعاذة من العوذ وهو اللجوء. ومعناه أن يلجأ إلى الله تعالى ويلوذ به بالدعاء وطلب الإعاذة.

وقد اختلف في معنى النزغ. ويبدو من موارد الاستعمال أنّ النزغ هنا بمعنى التسويل والوسوسة. وأمّا الدخول للإفساد بين القوم كما فسّر به فلا يناسب المقام، و إنّما يناسب مثل قوله تعالى «وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ»(1) وقوله تعالى « مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي» (2)حيث إنّ النزع فيهما تعلّق بما بين شخصين أو أشخاص بخلافه في ما نحن فيه.

ص: 579


1- الإسراء (17) : 53 .
2- يوسف (12): 100.

والعلّامة الطباطبائي (رحمه الله) رجّح تفسيره هنا بالنخس وتقليب الأمور بالوسوسة في قلوب الكافرين حتّى لا تنجح محاولة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، نظراً لعدم إمكان تفسيره بالوسوسة، إذ ليس للشيطان عليه سلطة.

ولكنّه غير صحيح، إذ ليس النخس بمعنى الإضرار وتقليب الأمور، فلو كان الخطاب للرسول فالنخس أيضاً تأثير من الشيطان في نفسه الشريفة.

والصحيح كما أشرنا إليه أنّ الخطاب عامّ لكلّ مخاطب وقارئ أو هو خاص ويقصد به غيره أو يقصد العموم. و شموله له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ولا ضير فيه إذ لا يوجب سلطاناً عليه، لأنّ الشيطان يلقي في أمنيته - كما في الآية - وينسخ الله ما يلقي الشيطان، فعدم سلطانه من جهة نسخه تعالى إلقاءاته لا من جهة عدم وسوسته

ومهما كان فالظاهر أنّ المراد بوسوسة الشيطان في الآية تحريضه على مقابلة السيّئة بالمثل بل ربّما الأسوأ. ومثل هذا التعبير یدلّ أيضاً على أنّ ما يشعر به الإنسان في مثل هذا الحال من الميل إلى المقابلة بالسوء إنّما هو من وساوس الشيطان ونزغاته.

والآية تعالج ذلك بالاستعاذة بالله تعالى والدعاء والابتهال. ولا شكّ في أنّه أمر يهدّئ الأعصاب، ويفسح المجال للحكمة والتفكير الهادئ. وذكر الله تعالى يكفي للاستقرار والهدوء « أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ » فالعلاج ناجع بإذن الله تعالى حتماً، إن كان الدعاء عن صدق نيّة وتوجّه. ولذلك ورد في الحديث النبوي قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لرجل اشتدّ غضبه على غيره: «إنّي لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». فقال له الرجل: أمجنوناً تراني، فتلا

ص: 580

الرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عليه الآية:« وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ». (1)

« إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » تعليل للأمر بالاستعاذة بأنّه تعالى هو السميع فيسمع استعاذتك، و هو العليم فيعلم بصدق نيّتك، فيمنعك من تأثير إلقائاته، أو يعلم حالك وما ينفعك في هذا المجال.

والتعبير یدلّ على حصر الوصفين فيه تعالى لمكان الألف واللام وضمير الفصل، والوجه فيه واضح، فإنّه تعالى هو السميع العليم على الإطلاق وبالذات فحسب، وأمّا غيره فيسمع ويعلم جزئياً وهو غير مستقلّ في ذلك، بل يسمع ويعلم بإذنه تعالى.

ص: 581


1- الدرّ المنثور 5 :365 .

سورة فصّلت(37 – 39)

وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

« وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ » يعود السياق إلى التنبيه على وحدة الإله والتوحيد في العبادة، فالواو للاستيناف، والضمير يعود إلى الله سبحانه. والتذكير بالآيات الكونية ممّا تكرّر في القرآن بكثرة، ومنها الليل والنهار والشمس والقمر. ذوذلك لأنّ تكرّر عروض هذه الآيات وتجدّدها اليومي، وأنس الإنسان بها يوجب غفلته عن عظمتها، وعن أهمّية دورها في الحياة على هذا الكوكب ، مع أنّها من أهمّ نعم الله تعالى، بل لولاها ولولا تعاقبها لم يمكن تكوّن الحياة واستمرارها عليه، فلو كان الليل مستمرّاً لتجمّد وجه البسيطة، ولو كان النهار مستمرّاً لذابت عناصر الحياة بالحرارة، إلى غير ذلك من الآثار والنعم الإلهية التي تحصل بأصل وجود هذه الآيات وبتعاقبها ونظامها الخاصّ.

« لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ» قيل: إنّ بعض عرب الجزيرة كانوا يسجدون للشمس والقمر يظنّون أنّ فيه تقرّباً إلى الله تعالى باعتبار أنّهما من آياته الكبرى بنظرهم. ولكنّه غير ثابت. ويبعد أن يكون خطاباً للصابئة وأمثالهم ممّن قيل إنّهم يعبدون الشمس أو الكواكب.

ولا يبعد أن لا يكون الخطاب لفئة بعينها، وأن يكون المراد بالسجود مطلق

ص: 582

الخضوع والتعظيم، ولذلك أبدله بالتسبيح في الآية التالية. والظاهر أنّ ذكر الشمس والقمر من باب المثال لما يجلب انتباه الإنسان من مخلوقات الله تعالى ومن الأسباب الظاهرية.

والغرض أنّ الإنسان يجب أن لا يخضع لهذه الوسائط التي هي مخلوقات الله تعالى، بل يخضع ويسجد لله وحده الذي خلقها وبيده أمرها، وهي خاضعة لإرادته تعالى، بل هو الذي سخّر هذا الكون لمصلحة الإنسان، كما قال تعالى «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ»(1) فلا ينبغي للإنسان أن يخضع إلّا لربّه.

« وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» أي إن كنتم تعبدون الله تعالى فلا تشركوا معه في العبادة أحداً من خلقه.

« فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ » لا يسأمون أي لا يملّون والجملة الجزائية هنا بدل عن الجزاء الواقعي، أي فإن استكبر القوم عن عبادة الله تعالى والسجود له وحده فلا يحزنك ذلك، أو فإنّ ذلك لا يؤثّر في الكون، فإنّ الذين عند ربّك يسبّحون له دائماً ولا يملّون.

والظاهر أنّ المراد بالذين عند الله تعالى الملائكة الكرام (علیهم السلام). والتعبير بذلك عنهم للإشارة إلى قرب منزلتهم لديه تعالى ومثله قوله تعالى: « وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ *يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ »(2) وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ » (3).

ص: 583


1- النحل (16): 12 .
2- الأنبياء (21) :19 - 20 .
3- الأعراف (7): 206 .

وقيل: يشمل غيرهم من المقربين لديه من البشر أيضاً، ولكنّ التعبير بكونهم عند ربك يوحي بالاختصاص بالملائكة الكرام.

وكون التسبيح في الليل والنهار إشارة إلى استمراره ودوامه وعدم انقطاعه فلا ينافي عدم وجود ليل ونهار عندهم. وهذا أيضاً قرينة على الاختصاص بالملائكة إذ غيرهم من المقرّبين يشتغلون بأمور أخرى. وكذلك قوله تعالى « لَا يَسْأَمُونَ »أي لا يملّون ولا يتعبون، فإنّه أيضاً من خصائصهم.

وليس المراد أنّ استكبار المشركين لا يضرّ الله تعالى لوجود من يسبّح له ليلاً ونهاراً ، فإنّ غناه تعالى ليس من هذه الجهة بل هو مستغن عن الجميع، فلا حاجة له إلى تسبيح الملائكة أيضاً، بل تسبيح الإنسان أهمّ من تسبيحهم. ولذلك لمّا اعترض الملائكة بأنّ هذا الموجود يفسد في الأرض ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك أتاهم الجواب من ربِّ العزّة « قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ »(1). فإنّ فيه إشارة إلى الحكمة في خلق البشر وهي العبادة الاختيارية وفي ظرف وجود ما يجرّه إلى ملذّاته وشهواته التي تنافي العبادة.

فيقع السؤال حينئذ عن الغرض من التنبيه على هذا الأمر؟

يمكن أن يكون الغرض في هذه الآية الإشارة إلى أنّ المشركين بتركهم السجود الله تعالى يخالفون نظام الكون ويشذّون عن الخلائق وفي مقدمتهم الملائكة.

ويمكن أن يكون الغرض الإشارة إلى أنّ تركهم للسجود لا يضرّ بالهدف من النظام الكوني فإنّ عبادة الإنسان وإن كانت مهمة من جهة كونها اختيارية ،

ص: 584


1- البقرة (2) :30 .

وكونه في معرض وسوسة الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، إلّا أنّ العبادة في كلّ النظام الكوني لا تختصّ بعبادة الإنسان وتسبيحه، فكلّ الكون يسبّح الله تعالى كما قال « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ » (1) ومن الخلائق الملائكة وهم يسبّحون دائماً ولا يسأمون.

ولعلّ كلّ ما ورد في القرآن من عمومية التسبيح والسجود لله تعالى يقصد بها التنبيه على هذا المعنى، وتقلّل من أهمية عبادة الإنسان في النظام الكوني وهي آيات كثيرة.

وفي كلّ ذلك تسلية للمؤمنين أيضاً، حيث يجدون أنّ أكثر البشر لا ينتهجون منهجهم، ولا يعبدون الله تعالى، فيحزنون لذلك، فهذه الآية وأمثالها تبيّن لهم أنّكم لستم وحدكم في هذا الكون تعبدون الله تعالى، بل أكثر من في الكون وأقوى من فيه - وهم الملائكة - يعبدونه ليلاً ونهاراً لا يفترون ولا يسأمون.

« وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ» هذه أيضاً من الآيات المتكرّرة التي يمرّ عليها الإنسان غافلاً عن دلالاتها. والمراد بخشوع الأرض موتها وجفافها وعدم تحركها. فإذا نزل عليها المطر اهتزّت أي تحركّت، وربت أي ارتفعت. وهذا يقابل الخشوع وبذلك تكون الأرض نشيطة تنبض بالحياة.

والغرض أنّ الحياة بعد الموت - وهو مستمرّ في هذا الكون ومشهود للجميع - من آيات الله الباهرة التي تدلّ على حكمته وقدرته ومن مظاهرها حياة الأرض بعد موتها.

ص: 585


1- الإسراء (17): 44 .

« إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » أي الذي أحيى الأرض وهو الله تعالى سيحيي الموتى متى شاء. والحياة التي تعطي للإنسان وإن كانت تختلف عن هذه الحياة إلّا أنّ هذه الظاهرة المتكرّرة تدلّ على عموم قدرته تعالى فيشمل إحياء الإنسان بعد الموت.

والحاصل أنّ إحياء الأرض من الآيات التي تدلّ بوضوح على أنّه تعالى قادر على كلّ شيء ومنه إحياء الموتى. وعليه فقوله « إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » تعليل للجملة السابقة.

ص: 586

سورة فصّلت(40 – 43)

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)

« إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا » الإلحاد هو الميل والانحراف. ومنه اللحد وهو حفرة مائلة في القبر. والظاهر أنّ المراد بالآيات ما ورد ذكره في الآيات السابقة من الآيات الكونية. ولعلّ المراد بالإلحاد الانحراف عن دلالتها على ربوبية الخالق، كما كان شأن المشركين، حيث كانوا يعتقدون بأنّ الله تعالى هو الخالق، ولكنّهم يعبدون غيره، ويرون أنّ للكون أرباباً غير الله تعالى شأنه.

ويحتمل أن يراد بها آيات القرآن الكريم، أو جميع الكتب السماوية، أو كلّ آياته تعالى فتشمل الآيات الكونية وآيات الكتاب والمراد بالإلحاد في آيات الكتاب التكذيب أو التحريف، أو التأويل بما يناسب أهواءهم، أو اللغو حين تلاوتها لئلّا يسمعها الناس، كما مرّ في صدر السورة، فيشمل كلّ ما يقابل الاستقامة في التعامل معها فكلّ ذلك انحراف وإلحاد.

وقوله « لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا » تهديد، ويأتي في سياق الآيات السابقة التي تؤكّد على أنّ هلاك الإنسان يأتي من جهة ظنّه بأن الله تعالى لا يعلم كثيراً ممّا يعمل.

« أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ » هذا تصريح بما عرض به من التهديد في الجملة السابقة، ولكن بطريقة السؤال الذي ينتظر جواباً من

ص: 587

المخاطب والجواب واضح. وعبّر عن دخوله النار بإلقائه فيها تحقيراً وازدراءً به، کأنّه لا يعدّ إنساناً هناك، و إنّما هو حجر أو شيء مثله يلقى به.

ويقابله التعبير في الجانب الآخر وهو أنّه يأتي باختياره آمنا، ولم يعبّر بأنّ له الجنّة، بل هو آمن من كلّ شرّ، لأنّ الأمان هو أكبر نعمة في تلك النشأة، حيث يواجه الإنسان نتيجة أعماله ، وهي لا تخلو من شرّ أو نقص.

« اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» تهديد مرة أخرى، وإيذان بأنّهم أحرار تكويناً في هذه الحياة، لأنّ الله تعالى لا يخاف الفوت، ولا مفرّ منه لأحد، فهو يتركهم هنا يسرحون ويمرحون ثمّ يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ولذلك علّل هذه الحرّيّة بأنّه بما تعملون بصير. وهذا يستبطن أمراً آخر، وهو أنّه تعالى قد أعدّ لكلّ ما تعملون جزاء وفاقاً.

« إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ » المراد بهم مشركوا مکّة. والظاهر أنّه استيناف يتعرّض فيه لمواجهة المشركين للقرآن الكريم. وليس بدلاً عن الجملة السابقة كما قيل .

والمراد بالذكر القرآن لأنّه يُذكّر الإنسان الغافل الناسي بما تدعوه إليه فطرته من التوحيد والتوجّه إلى الله تعالى. ولم يذكر الجواب في الآية ليذهب المخاطب فيه كلّ مذهب، فإنّ الذي يكفر بمثل ذلك يستحقّ أشدّ العقوبات وأعنف اللوم والتقريع، فاكتفي عن ذكر الجزاء بتكريم الكتاب وبيان علوّ شأنه، فإنّه أبلغ بياناً في التنديد بهذا الكفر.

وقوله تعالى « لَمَّا جَاءَهُمْ » یدلّ على أنّهم كفروا به بمجرّد أن جاءهم من دون تأمّل ومن دون تحقيق، فلم يكن كفرهم ناشئاً عن خطأ في فهم المعنى، ولا عن

ص: 588

تدبّر في آياته، بل عناداً واستكباراً، وتعصّباً مقيتاً لما ألفوه من سنّة الآباء.

والحكم وإن ورد بشأن مشركي مکّة ككثير من الآيات الكريمة إلّا أنّ المضمون عامّ يشمل كلّ من اتّصف بصفاتهم. كما أنّ ما ورد من الخطاب للمؤمنين بالتكاليف والأحكام لا يختصّ بأهل ذلك العصر.

« وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ» العزّة ليست بمعنى عدم المثيل كما في «الميزان»، بل بمعنى الصلابة، و إنّما يطلق على ما هو نادر الوجود لأنّه صعب المنال، ولا يطلق على عديم المثيل. والعزّة هنا لعلّها بمعنى الجملة التالية « لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ »لأنّ معنى ذلك أنّه غير قابل للنفوذ، فلا يدخل فيه الباطل ويمكن أن تكون بمعنى الغلبة لأنّه أيضاً مقتضى الصلابة، وعدم قبول النفوذ. وغلبة القرآن على خصومه إنّما هو بقوة بيانه ونفوذ حجّته.

« لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ » اختلفت كلماتهم في تفسير هذه الجملة والذي يقوى في النظر أنّ المراد بإتيان الباطل إليه وقوع الكلام الباطل فيه. وقوله من بين يديه، أي من أمامه، ولعلّ وجه التعبير عن الاشتمال على الباطل بكونه من الأمام، باعتبار أنّ الكلام ينشأ من فكر قبله، فإن كان الفكر باطلاً كان الكلام باطلاً، والقرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد، فلا يشتمل إلّا على الحقّ الصراح.

وأمّا إتيان الباطل من خلفه فلعلّه بمعنى أن يقع الخطأ في النقل، أو التحريف والدسيسة فيه، فربّما يفكّر الإنسان فكراً صحيحاً ، و يصل إلى نتيجة صحيحة، ثمّ حين النقل إلى غيره بالكلام ينسى أو يخطئ، أو يتعمّد التحريف، أو يتدّخل فيه المبطلون حين التداول، فيكون الكلام باطلاً، وإن كان الفكر في الأصل صحيحاً.

ص: 589

والقرآن مصون ومحفوظ من هذه الجهة أيضاً، لأنّ الله تعالى حفظه من

تدخّل المبطلين، وحفظ رسوله الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من النسيان والخطأ، وعصمه من تعمّد التحريف كما عصمه من كل ذنب. ومن هنا فهذا الكتاب لا يأتيه الباطل من حيث المنشأ والمبدأ، ولا من حيث الوصول والنتيجة.

والآية في هذا المعنى تشبه قوله تعالى «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ »(1) ومن هنا ذكروا أنّ الآية تدلّ على عدم وقوع التحريف في نسخ القرآن كالآية المذكورة. ولكنّ الصحيح أنّه لا دلالة في شيء منهما على ذلك.

ومجمل القول أنّ الآيتين إنّما تدلان على أنّ الله تعالى يحفظ القرآن إلى حين نزوله على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أن يدسّ فيه الشياطين كما كان المشركون يظنّون أو يدّعون.

وقد تكرّر في القرآن الكريم الردّ على هذا التصوّر الخاطئ، كقوله تعالى

«وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ *وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ *إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ » (2) وقوله تعالى «وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ *وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ *إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ » (3) في سياق آية «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ » وقوله تعالى ««لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» (4)وغير ذلك، وهي كثيرة. ومن سذاجة الإنسان قديماً وحديثاً أنّه يتصوّر أنّ الشياطين لهم حول وقوة في قبال سلطان الله تعالى، وأنّهم يحاربون الله فربّما يغلبون وربّما يُغلبون، مع أنّهم

ص: 590


1- الحجر (15): 9 .
2- الشعراء (26): 210 - 212 .
3- الحجر (15): 16 - 18.
4- الواقعة (56): 79 .

ليسوا إلّا جزءاً من مجموعة الكون الذي هو بكامله تسير بتدبيره تعالى.

ومن السخافة أنّ بعض من يدّعي العلم كان يكتب في مقالاته أنّ كلّ الطرق إلى الله مستقيمة، وأنّه لو كانت كلّ هذه الديانات باطلة لكان إبليس غالباً على الإرادة الإلهية المتعلّقة بهداية البشر!!!

وهذا من غريب الكلام فإنّ إرادة الله التكوينية لم تتعلّق بهداية البشر، ولو تعلّقت لم يمكن التخلّف عنها، كما قال تعالى «وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ»(1) .

والحاصل أنّ مشركي مکّة أيضاً كانوا يتوهّمون أنّ الشياطين بإمكانها أن تتغلّب على الملائكة، وعلى إرادة الله تعالى فتدسّ في الوحي ما ليس منه، أو هكذا كانوا يلقون الشكوك في قلوب الناس، وهذه الآيات تردّ على هذا التوهّم، وتعلن أنّ الله تعالى يحفظ الوحي من تدخّل الشياطين.

كما أنّ هناك آيات تدلّ على أنّه تعالى يحفظ الرسول من النسيان والخطأ، وهو معصوم طبعاً من أن يزيد فيه أو ينقص عمداً، قال تعالى: «سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى»(2).

وأمّا عدم وقوع التحريف في المستقبل من قبل الناس فلا يمكن أن تتعرّض له الآيتان، ولا يمكن الاستدلال عليه بأيّ آية من القرآن الكريم.

أمّا عدم دلالة الآيتين فواضح ، لأنّ الضمير في قوله تعالى «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ» وفي قوله «وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» يعود إلى القرآن المنزل على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، لا إلى ما بأيدينا من المصاحف. فالذي لا يقع فيه التحريف هو ما نزل على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

ص: 591


1- النحل (16): 9 .
2- الأعلى (87): 6.

وتلاه على الناس، وأمّا كلّ ما يكتبه أو يطبعه أحد طيلة التأريخ ويوزعه على الناس فلا يشمله الحفظ.

هذا مضافاً إلى أنّ محاولات التحريف لا شكّ في أنّها حدثت، بل هناك اتّهامات بوجود مصاحف محرّفة حتّى الآن. وناهيك في ذلك إحراق عثمان لجميع المصاحف عدا واحداً، فلو كانت المصاحف كلّها متّحدة فما هو الوجه في الإحراق؟!

وأمّا عدم إمكان الاستدلال بأيّ آية من القرآن على عدم التحريف فلأنّه يقع السؤال حينئذ عن نفس هذه الآية، والدليل على كونها واقعية غير مدسوسة فالاستدلال بالمصحف الموجود على صحّة نفسه استدلال دوري باطل.

وقد يقال: إنّ الاستدلال ليس دوريّاً، لأنّ هذه الآيات مجمع على صحتها و إنّما الاختلاف في آيات أخرى من القرآن .

ولكنّ الاستدلال بالإجماع لا يغني شيئاً إذ لا دليل على حجية الإجماع ومجرّد أنّ طرفي النزاع لا يختلفان في ذلك لا يوجب صحّة الدليل، فنحن بحاجة إلى دليل يثبت عدم التحريف لكلّ من يلاحظ تأريخ نزول القرآن وانتشاره، وهو قد لا يعترف بالإجماع.

وربما يقال بأنّ هذا الإشكال يرد أيضاً على ما ذكرت من تفسير الآيتين بأنّ المراد بهما الحفظ من تدخّل الشياطين، إذ قد يقال: كيف نثبت أنّ هاتين الآيتين سلمتا من تدخّلهم.

ولكنّنا لا نستدلّ بهاتين الآيتين على سلامة القرآن من تدخّل الشياطين، بل لا يمكن الاستدلال على ذلك بأي شيء، إذ ليس لنا طريق إلى معرفة الشياطين

ص: 592

وكيفية تدخّلهم في مثل ذلك، وطرق مواجهتهم مع الملائكة، فهذه أمور غيبية لا تصل إليها أفهامنا، والآية إنّما تردّ على المشركين في ذلك الزمان، وهم يسمعون القرآن من الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فيلقون هذه الشبهات بعد تسلّم كون القرآن نازلاً من عند الله تعالى، فيردّ عليهم القرآن بأنّ الشياطين لا يمكنهم التدخّل في ما ينزل من عند الله تعالى ولا يمكن الردّ عليهم بغير ذلك.

والصحيح أنّ الدليل على عدم التحريف، وأنّ هذا المصحف بكامله هو ما نزل على الرسول وجوه أخرى، كتواتر النقل والسيرة المستمرّة إلى زمان المعصوم القائمة على الاستناد إلى نفس هذا المصحف الذي بأيدينا في مختلف المسائل، والأمر بقراءته على ما هو عليه في الروايات المعتبرة، ونحو ذلك.

ويكفي في ذلك الروايات الكثيرة الواردة في عرض الروايات على القرآن وأنّ ما خالفه يطرح، ولا شكّ أنّ المراد به هو هذا القرآن الموجود بين أيدي الناس. فمنها ما رواه الكليني في «الكافي» عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:« قال رسول الله : إنّ على كلّ حق حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه».

وروى عن أبان بن عثمان، عن عبد الله بن أبي يعفور قال وحّدثني الحسين بن أبي العلاء أنّه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به قال: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وإلّا فالذي جاءكم به أولى به».

وعن أيوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنة وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف».

ص: 593

وعن هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «خطب النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بمنى فقال: أيها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله »(1).

وغيرها من الروايات وهي كثيرة جدّاً.

«تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» خبر بعد خبر. ولعلّه في مقام التعليل لما سبق من أنّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكونه حكيماً على الإطلاق وفي جميع ما يصدر منه يقتضي بالضرورة أن لا يشتمل كلامه على الباطل تعالى شأنه.

وكونه حميداً بمعنى أنّه يستحقّ الحمد والثناء على جميع أفعاله، ومنها تنزيله الكتاب يقتضي أن يحفظه من تدخّل الشياطين، وإلّا لم يكن في التنزيل فائدة، وإن كان أصل الكلام حقّا، والمفروض أنّه قادر على كلّ شيء. ولعلّه لذلك أتى بالوصفين قيداً للتنزيل، لا لنفس إنشاء الكلام.

«مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ » يبدو أنّ الجملة في سياق التعرّض لما كان كفار قريش يقولونه في مواجهة الآيات الكريمة التي تتلى عليهم ، كقولهم لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ونحو ذلك، فالمراد ما يقول لك المشركون والكفّار من قومك إلّا ما قد قال الكافرون في الأمم السابقة لرسلهم.

والغرض تسلية الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأنّ ما يعانيه من سوء تعاملهم لا يختصّ به، بل يشاركه في ذلك الرسل طيلة التأريخ.

وعليه فالظاهر أنّ المراد بالجملة التالية «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ» أيضاً

ص: 594


1- الكافي 1: 69.

تقوية عزيمة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأن لا يحزنه ما يراه من طيش الجاهلين، فإنّ الله تعالى وإن كان ذو مغفرة ولكنّه ذو عقاب أليم.

وقيل: إنّ المراد بالجملة الأولى أنّه ما يقال لك من قبل الله تعالى إلّا ما قد قيل للرسل من قبلك، والجملة التالية هي مقول القول والغرض بيان أنّ رسالات السماء كلّها تحاول أن تحفظ الموازنة في قلوب المؤمنين، فيبقى الإنسان المؤمن بين الخوف والرجاء، خوف من عقاب الله على سوء أعماله أو سوء نيته، ورجاء أكيد ووثيق برحمته ومغفرته.

والاحتمال الأوّل أقرب إذ على الاحتمال الثاني تكون هذه الجملة هي خلاصة الوحي الإلهي في جميع الشرائع، أو أنّها أهمّ ما تحمله الشرائع، أو أنّها أنسب شيء لما يتعرّض له السياق، ونحو ذلك. و ذلك لمكان الحصر «مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا » ولا نجد أيّ خصوصية في الجملة تستوجب ذكرها كأمر اتّفقت عليه الشرائع، فضلاً عن حصرها فيه.

وممّا يؤيّد الاحتمال الأوّل أنّه لم يركّز على المغفرة ولم يعمّمها أو يؤكّدها كما فعل في سائر الموارد كقوله تعالى «نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ »(1) بل اكتفى بذكر المغفرة نكرة وهذا يؤيد ما قلناه في وجه تعقيب الجملة على هذا الاحتمال وهو أنّ الله تعالى وإن كان ذو مغفرة إلّا أنّه ذو عقاب أليم.

هذا مضافاً إلى أنّ الاحتمال الثاني يوجب عدم ارتباط الآية بما قبلها وما بعدها.

ص: 595


1- الحجر :(15): 49 - 50 .

سورة فصّلت(44 – 46)

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)

« وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ » يستمرّ السياق في التنديد بمواجهة المشركين للقرآن الكريم، حيث كانوا يعاندون ويلتمسون الأعذار لرفضه، بالرغم من اقتناعهم بأنّه من كلام الله تعالى.

قيل: إنّ هذه الآية جاءت ردّاً على اعتراض المشركين بأنّه لماذا نزل القرآن باللغة العربية؟! وکأنّه كان يضايقهم بفصاحته وبلاغته وإعجازه فيتمنّون أن يكون بلغة أخرى. ولعلّهم كانوا يشعرون بالضيق من جهة إتمام الحجة عليهم فيودّون لو كان بلغة أخرى لا يجيدونها فيكونوا معذورين في عدم الإيمان به، فجاءت هذه الآية ردّاً عليهم.

ولكن هذا التفسير لا أساس له إذ لا دليل على إسناد ما ذكر فيه إلى المشركين ويحتمل أن لا يكون في مقابلة كلام أو تمنّ منهم، بل لبيان غاية معاندتهم، فهم لمّا رأوه عربيّاً زعموا أنّه سحر. ولو كان أعجمياً لقالوا لولا فُصّلت آياته فهو نظير قوله تعالى «وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ *فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ » (1) ممّا یدلّ على تعصّبهم وعنادهم ورفضهم للرسول الأعجمي والغرض

ص: 596


1- الشعراء (26) :198 -199.

أنّه لم يبق لكم عذر في هذه المواجهة، فالرسول عربي ومن أعرق القبائل وأشرفها.

وكذلك في هذه الآية، فإنّ الكلام لو كان غير عربي أو غير فصيح لاستنكفوا من قبوله والانصياع له ولكنّ هذا الكلام في غاية الفصاحة والبلاغة فليس لهم عذر حتّى على منطقهم الفاسد والعجمة في مقابل الفصاحة والإبانة. ومنه التعبير عن غير العرب بالعجم، لأنّ غير العرب لا يفهم كلامهم فاعتبروه کأنّه لا يقدر على الإبانة، أي النطق.

وقولهم « لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ» التفصيل بمعنى فصل كلّ آية مرتبطة بموضوع عما ترتبط بموضوع آخر، وهذا بالطبع يستلزم الإبانة والإيضاح، لأنّ بيان حكم كلّ جزئي منفصلاً عن غيره يستلزم الوضوح، وبذلك عبّر عن الإيضاح بالتفصيل، فالمعنى أنّ القرآن لو كان بلغة غيرعربية لم يكن واضحاً لهم فكان من حقّهم أن يطلبوا الإيضاح

« أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ » استفهام إنكاري، وفي الجملة احتمالان :

1 - استنكار أن يأتي النبيّ العربيّ بكلام أعجميّ، بناءً على أنّ المراد بالعربي الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

2 - استنكار أن يخاطب العرب بلغة غير لغتهم، فالمراد بالعربي جنسه لا فرد خاصّ.

« قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ» هذا ليس جواباً عن قولهم المفترض « لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ» ، إذ لم يكن القرآن أعجميّاً ليقولوا ذلك. بل هو ردّ على عنادهم ومحاولاتهم المختلفة للتشكيك في القرآن وعدم تجاوبهم معه، فالله تعالى أمر

ص: 597

رسوله بأن يردّ عليهم. و إنّما أعرض عن مخاطبتهم تحقيراً لهم.

نعم ! إنّ القرآن لمن يؤمن به مصباح هداية ينير الدرب للوصول إلى الحقّ، وإلى ما فيه السعادة الأبدية، وهو شفاء للأمراض النفسية والروحية، يبعث في نفوسهم الطمأنينة، ويشدّهم إلى الله خالق الكون ومدبّره الذي لا تجري الأمور إلّا بأمره.

ولم يقل للذين آمنوا به كما أنّه قابلهم بالذين لا يؤمنون من دون ذكر المتعلّق، ولعلّ السرّ أنّ الفارق بين القبيلين يعود إلى النفوس، فهناك نفوس مطمئنّة تؤمن بالغيب، وقلوب تنفتح إذا رأت الآيات الواضحة، وهناك نفوس مغلقة لا تؤمن إلّا بما تحسّ به، وتحاول التشكيك في كلّ ما يتعلّق بالغيب.

«وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ » وهذا مجاراة لما قالوه وورد في صدر السورة

««وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ ». والوقر هو الثقل، أي إنّهم لا يسمعون ما يتلى عليهم من القرآن وهذا بالرغم من أنّهم يسمعون، ولكن إصرارهم على عدم الاستجابة يثقل أسماعهم، بمعنى أنّ عقولهم لا تتقبّل ما ينتقل إليها عن طريق السمع من القرآن والدعوة إلى الله تعالى .

«وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» عمي عليه الأمر أي لم يفهمه، فمعاني الآيات لا تدخل أفهامهم المغلقة. والضمير إمّا أن يكون ضمير الشأن، أي الشأن أنّ عليهم عمى، أي لا يعقلون شيئاً، وإمّا أن يعود إلى القرآن، والمعنى أنّه يزيدهم عمى وجهلاً، كما قال تعالى: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا » (1).

ص: 598


1- الإسراء (17): 82 .

وقال أيضاً «وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ *وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ»(1).

ومن الغريب أنّ القرآن الذي هو مصباح الهدى ينقلب عليهم عمى وضلالاً، ويزيدهم رجساً وخساراً. والسبب أنّهم لمّا واجهوا القرآن بالعناد والاستكبار انقلبت قلوبهم وعقولهم ونفوسهم. وهكذا كلّما زاد الإنسان عناداً مع الحقّ اشتدّ مرضه وتعقّد أكثر فأكثر.

«أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ» يشبه تعاملهم مع الدعوة وعنادهم ورفضهم بمن ينادى من مكان بعيد فلا يسمع الصوت، أو لا يميّز الألفاظ فضلاً عن درك المعاني.

«وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ» تسلية للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأنّ تكذيب الناس للكتاب السماوي ليس أمراً جديداً، فقد آتينا موسى الكتاب وهو التوراة، فاختلف الناس فيه، أي قبله بعضهم ورفضه بعض آخر. فهذا اختلاف عريق له جذور في النفس البشرية والتأريخ البشري.

«وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ » قالوا: أي لولا أنّ الله تعالى قضى وقدّر أن يكون البشر أحراراً في ما يختارون في هذه الحياة وأن يمهلهم إلى يوم يلقونه لقضي بينهم في اختلافهم في القبول والرفض، والقضاء بالحقّ يقضي في مثل ذلك بأن يجازى المكذّبون في هذه الدنيا، ولا يساوى بين الفريقين. ولكن حيث سبقت من الله تعالى تلك الكلمة والقضاء الحتم بأن يمهل البشر في الدنيا أخّر القضاء بينهم إلى يوم القيامة.

ص: 599


1- التوبة (9): 124 - 125 .

ويحتمل أن يكون المراد أنّه لولا أنّ الله تعالى شاء أن يمتحن الناس ويبتليهم ، بأن يبقي مجالاً للشكّ ، ولا ينزل الآيات واضحة باهرة، كما قال تعالى: «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ»(1) لولا ذلك لقضي بينهم بأن ينزل ما لا يبقي مجالاً للشكّ.

فالمراد من الكلمة التي سبقت إرادته تعالى المتعلقة بامتحان البشر وابتلائهم، وبأن لا يكون الحقّ محسوساً وملموساً لأنّ المطلوب منهم الإيمان بالغيب. وذلك لأنّه هو الإيمان الذي يوجب سعة النفس وقدرتها، ويبعدها عن الإخلاد إلى الأرض، وإلى الأمور الماديّة، ويرفع عنها الأغلال والقيود التي حبستها في الدنيا، ويمنحها قابلية الصعود في مراقي الكمال و الانضمام إلى صفوف المقربين.

والمراد من القضاء بينهم وضوح الحقّ، وانكشاف الغطاء المادّي المانع من رؤيته، والإحساس به فيتّفقون جميعاً على الانصياع له، ويحسم النزاع.

ويؤيّد هذا الاحتمال الجملة التالية «وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» فإنّ مقتضى السياق أن يكون المراد بهم قوم موسى (علیه السلام) لا كفّار مکّة كما قيل، وبناءً على الاحتمال الأوّل يبعد ذلك، إذ لا يبقى وجه لتعقيب الجملة بهذا المضمون، بخلاف ما إذا قلنا بالاحتمال الثاني فإنّ المعنى أنّ الله تعالى لو أراد لأنزل عليهم كتاباً واضحاً أو آية واضحة ملموسة لا يختلف فيه اثنان، ولكنّه لم يفعل ذلك، ولذلك فإنّهم بقوا في شكّ مريب.

ويحتمل أيضاً أن يكون عامّاً يشمل جميع الكافرين، كما يمكن التعميم في الجملة السابقة «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ » فإنّه لا يختصّ بقوم دون قوم.

ص: 600


1- الشعراء (26): 4.

ومهما كان فالشكّ المريب هو ما يكون مع اتّهام، ولم يبيّن من كان المتّهم عند بني إسرائيل؟ هل اتّهموا موسى (علیه السلام) بالافتراء والكذب، أم اتّهموا الله تعالى بأنّه لم يرسل الكتاب لصالحهم مثلاً، فإنّ اليهود حتّى المؤمنون منهم كانوا يسيؤون الظنّ بالله تعالى، قال سبحانه «لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ»(1)، و إنّما قالوا ذلك حيث أمروا بالإنفاق في سبيل الله تعالى.

وقال تعالى: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ»(2) . وقال أيضاً نقلاً عن اليهود حيث خاطبوا موسى (علیه السلام)عندما أمروا بدخول بيت المقدس «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ»(3).

وهذا الأمر لا يختصّ بهم، بل هناك من سائر المؤمنين من يختلج في نفسه هذه الأوهام، وربّما يصرّح به بعضهم، فهناك من يمنّ على الله تعالى بإيمانه، فإنّ المنّ على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) منّ على الله تعالى. وقد قال سبحانه: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»(4) فكأنّ هذا الإنسان الذي آمن ظاهراً يتوهّم أنّ الله تعالى بحاجة إلى إيمانه، وأنّه ينتفع به.

وربّما يسمع من بعض الناس من يقول: نحن نعم العبيد لله تعالى أو أنّه من أين سيأتي بمن يعبده مثلنا؟ ونحو ذلك من التعابير الحاكية عن اتّهامهم لله تعالى

ص: 601


1- آل عمران (3): 181 .
2- المائدة (5): 64 .
3- المائدة (5): 24 .
4- الحجرات (49): 17 .

ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأنّ الدعوة إلى الإيمان دعوة إلى مصلحة شخصية. وهناك من لا يقول بلسانه، ولكنّه ممّا تنطوي عليه سريرته.

وهناك فى هذه الأمّة أيضاً من يبخل بماله إذا أمره الله تعالى بالإنفاق ظنّاً منه أنّ الله تعالى بحاجة إلى ماله، قال تعالى: «وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ *إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (1) فالآية تدلّ على أنّ من المؤمنين من يحمل الضغينة والحقد في نفسه من تشريع الإنفاق. وعلى من الضغينة؟ إنّها على الله تعالى وعلى شريعته المقدسة.

وفي آيات القتال أيضاً شواهد من ذلك منها قوله تعالى «وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ» (2).

والحاصل أنّ اتّهام الشريعة وسوء الظنّ بالله تعالى في الأحكام التي لا تعجب الإنسان ويصعب عليه العمل بها أمر شائع بين المؤمنين فضلاً عن المنافقين والكافرين.

«مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا» قانون عامّ يبيّن للناس استغناء الله تعالى عنهم وعن عبادتهم وإيمانهم، فمن عمل صالحاً فإنّما ينفع نفسه، والله غني عنه. ومن أساء فيضرّ نفسه، ويعرض نفسه للجزاء الإلهي، ولا يضرّ الله شيئاً، وإن كان لا يرضى لعباده الكفر، كما قال تعالى: ««إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ»(3) .

ولعلّ وجه ارتباط الآية بالآيات السابقة التنبيه على أنّ عدم إيمانهم بالكتاب

ص: 602


1- محمّد (47): 36 - 37 .
2- النساء (4) :77 .
3- الزمر (39) :7 .

لا يضرّ الله تعالى، و إنّما يضرّون بذلك أنفسهم، والله غنيّ عن إيمانهم. ويقوى في النظر ارتباط الآية بالجملة الأخيرة على التوضيح الذي ذكرناه في الشكّ المريب، كما ورد التعقيب بذلك في موارد أخرى ممّا ينقل سوء الظنّ به تعالى وبأحكامه وبشريعته.

منها قوله تعالى «إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ *هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ »(1) وفي الجواب عن كونهم يمنّون بإيمانهم قال تعالى: «بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ »(2) .

«وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ » ومن الظلم أن يُمنع أحد من أن ينال نتيجة عمله الصالح، أو يجازى أحد بسوء لم يعمل ما يوجبه ومن يظلم فإنّما يظلم لضعفه، وعدم قدرته على الوصول إلى مآربه، فيجبر نقصه بالظلم على الآخرين والله جلّ شأنه لا يحتاج إلى الظلم. وظلّام صيغة المبالغة، أي كثير الظلم.

وربّما يستغرب هذا التعبير لأنّ الله تعالى لا يظلم أحداً كما قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ» (3). والجواب أنّ هذا الظلم لو تحقق فهو ظلم عامّ يشمل كلّ عبيده فيكون المرتكب له ظلّاماً، فنفاه الله تعالى على عظمه وشموله.

ص: 603


1- محمّد (47): 37- 38 .
2- الحجرات (49): 17.
3- النساء (4): 40.

سورة فصّلت(47 – 51)

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)

« إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ » حيث كان الكلام في الآية السابقة عن العدل الإلهي يوم القيامة جاءت هذه الجملة ردّاً على سؤال متوقع عن توقيت هذا اليوم والساعة هي الجزء من الوقت، وهنا كناية عن الوقت الخاصّ أي يوم يقوم الناس لربّ العالمين، سُمّي بذلك لأنّه يتمّ بسرعة، كما عبّر عنه بنفخ الصور ونحوه.

والمراد بردّ علمه إليه تعالى أنّ كلّ من يُسأل عن الساعة ووقتها يرجع علمه إليه تعالى بأن يقول «الله العالم »لأنّه لا يعلمه، ولا يعلمه إلّا الله تعالى فهذا علم استأثر به الله ولم يعلمها رسله ولا ملائكته.

ولعلّ السرّ فيه أن يستمرّ المكلّفون في العمل بوظائفهم، وإمرار معاشهم، ولو علموا بموعدهم لاختلّ نظام المعاش.

« وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ » «الأكمام» جمع كمّ - بكسر الكاف - وهو غلاف الثمرة. و «ما» نافية وليس مبتدأ كما في

ص: 604

«الميزان » التعقيبه ب«الا» و «من» في قوله « مِنْ ثَمَرَاتٍ» و « مِنْ أُنْثَى »زائدة لتأكيد الشمول.

وذكر هذه الأمور - خروج الثمرة والحمل والوضع - من باب المثال فلا يمكن أن يحدث شيء في الكون إلّا بعلمه تعالى، ولعلّ الغرض من هذه الجملة بيان شمول العلم الإلهي لجميع الحوادث من جهة أنّه ممّا يتوقف عليه تحقيق العدالة المشار إليها في الآية السابقة.

وقيل: إنّ الغرض ذكر أمور مشهودة للإنسان، وهو لا يعلم بها وبحقيقتها، ليكون جواباً عن السؤال عن موعد الساعة الذي يقصد به الإنكار. فهذه الآية تبيّن للإنسان أنّه لا يعلم بهذه الأمور، فهل يجوز له إنكارها؟! ولكنّ الآية لم تنف علم الإنسان، ولم تحصر العلم بهذه الأمور في الله تعالى، و إنّما ورد في الآية أنّ هذه الأمور لا تتحقق إلّا بعلمه تعالى.

« وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي» أي واذكر يوم يناديهم. والضمير يعود إلى المشركين والتعبير ب « شُرَكَائِي» تهكّم واستهزاء بهم، حيث كانوا يجعلون لله تعالى شركاء، ومثله قوله تعالى «وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ »(1) والمراد بهم الأصنام أو مطلق ما كانوا يعبدون من دون الله كبعض البشر. وقوله « أَيْنَ شُرَكَائِي» بتقدير القول كما ورد في سورة القصص.

وهؤلاء وإن كانوا موجودين في الساحة وهم يرونهم، بل يتخاطبون كما في آيات أخرى، ولكن السؤال وقع عن وجودهم بصفة الشراكة، فالأصنام هناك في النار، وكذلك الفراعنة وسائر من ادّعوا الألوهية أو مارسوها من طواغيت البشر.

ص: 605


1- القصص (28): 62 .

فالسؤال في الواقع عن مصير هذه الشراكة المزعومة .

والتعبير بالنداء وتوجيهه إلى الجمع يوحي بأنّ الخطاب يكون علناً وموجهاً إلى جميع القوم. والحساب هناك كما يكون فردياً قد يكون اجتماعياً، فالمجتمع بصفته الخاصّة عليه مسؤولياته الخاصّة به. وكما يحاسب الإنسان بأعماله الشخصية يحاسب بأعمال المجتمع وبما يصدر منه من موافقة، أو مخالفة، أو سكوت.

قال تعالى: «وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ *وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ »(1) .

يلاحظ في هذه القصة أنّ الله تعالى عذّب جميع القوم بما فيهم التاركون للنهي عن المنكر وإن لم يرتكبوه، بل اعتبرهم من الذين ظلموا مع أنّهم لم يوافقوهم أيضاً، ولكنّهم لم يعلنوا مخالفتهم.

ويلاحظ أيضاً أنّه تعالى اعتبر النهي عن المنكر معذرة إلى الله تعالى، ومعناه أنّهم بذلك يعتذرون إليه تعالى من بقائهم في هذا المجتمع الفاسد، ممّا یدلّ على أنّ الانسان مسؤول عن أعمال المجتمع، أي الأعمال التي تنتشر في المجتمع وتبتني عليها ثقافتهم، وليس المراد كلّ عمل فرديّ يقوم به بعض أفراد المجتمع.

ص: 606


1- الأعراف (7): 163 - 165 .

« قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» آذنّاك أي أعلمناك. وهذا إنشاء للأعلام وليس إخباراً عن إعلام سابق ،أي نعلمك أنّه ليس منا من يشهد على وجود شركاء لك. ونفي شهادتهم على الشراكة بمعنى عدولهم عن كلّ ما كانوا يزعمونه، أو بمعنى أنّهم لا يشاهدون شيئاً يعتبر شريكاً لله تعالى.

« وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ» ، « وَضَلَّ » في الأصل بمعنى ضاع، فالمراد أنّها غابت عن أعينهم، فلم يجدوهم في موضع الحاجة، وقد عقدوا الآمال عليهم في الدنيا، أو ضلّت عن أذهانهم حيث انكشف لهم الحقّ فعلموا بطلان أوهامهم، حينما كانوا يدعون الأصنام ويتوقّعون منها الشفاعة.

« وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ » المحيص اسم مكان أو مصدر من «حاص»، أي مال عن الشيء، فالمعنى ما لنا من طريق يميل بنا ويعدلنا عن العذاب الإلهي وهم هناك لا يظنّون، بل يعلمون أنّهم لا محيص لهم من العذاب، فليس المراد بالظنّ الاعتقاد الراجح، بل المراد كلّ اعتقاد يستند إلى أمارة كما في «مفردات» الراغب، ولعلّهم يحتملون أن تشملهم الرحمة الإلهية ولو بعد حين.

ووجه ارتباط هذه الجمل بأوّل الآية أنّه حيث ذكر شواهد ربوبيته تعالى، وأنّه لا يعلم وقت الساعة إلّا هو، ولا يحدث شيء إلّا بعلمه عقّبه بما يثير العجب من إشراك القوم غيره تعالى في الربوبية، وأشار إلى أنّهم سينتبهون إلى خطئهم يوم لا يفيدهم ذلك.

ومثله قوله تعالى «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ *إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ

ص: 607

بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ »(1).

« لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ » هذه الآيات تكشف عن حال الإنسان الكافر بدليل الآية التالية، و إنّما عبّر بالإنسان إيذاناً بأنّ هذا طبعه وصفته الأصلية لولم يؤمن بالله واليوم الآخر وشريعة السماء، فالذي يغيّره ويضفي عليه الكمال هو الإيمان.

وربّما تشمل الآية بعض من هو ضعيف في إيمانه، فالمؤمنون يختلفون في درجات إيمانهم ، وبعضهم أقرب إلى الكفر من الإيمان، وإن وصف بالمؤمن، كما قال تعالى عن المنافقين « هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ » (2) وحسب هذا الاختلاف يختلف حالهم في ما يذكر من صفات الكافرين.

وتذكّر هذه الآيات ثلاث خصال للإنسان الكافر:

الأولى : ما في هذه الآية، وهي أنّه لا يملّ من طلب الخير، والمراد به المال وما يستطيبه من الملذّات. والمراد بالدعاء الطلب، والعمل في سبيل الوصول إليها، فهو لا يشبع منها ولا يتعب بل كلّما بالغ في جمع الأموال زادت نهمته، كما أنّ الأكول كلّما زاد في الأكل اتّسعت معدته وطلب المزيد.

وأمّا إذا مسّه الشرّ فإنّه ييأس ويقنط والشر كلّ أمر سيّئ لا يرغب فيه أحد. والمراد به هنا ما لا سبيل إلى دفعه، وأمّا المشاكل التي يمكن حلّها، سواء في جسمه أو ماله، أو غير ذلك فهو داخل في العنوان الأول، وهو طلب الخير.

فإذا ابتلي الكافر بما لا حلّ له ولا بدّ له من التسليم فإنّه ييأس ويقنط، لأنّه لا

ص: 608


1- فاطر (35): 13-14 .
2- آل عمران (3) :167 .

أمل له في حياة اخرى ولا في ثواب من الله تعالى فلا يجد بديلاً لما يفقده من ملذّات الدنيا التي هام بها وعشقها، وصرف في جمعها حياته، وبذل في سبيلها كلّ جهده، فحقّ له أن ييأس ويقنط والظاهر أنّهما بمعنى واحد جيء بهما معاً للتأكيد .

ومثله قوله تعالى «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ». (1)

وبما ذكرناه في توضيح معنى الآية الكريمة يندفع ما يقال من أنّ الكفّار أيضاً لا ييأسون لمجرّد أن يمسّهم الشرّ. فإنّ الكفّار ييأسون حينما لا يبقى أيّ أمل للحلّ، وخصوصاً إذا تعلّق الأمر بالحياة. وهناك من المؤمنين أيضاً من ييأس بذلك لضعف إيمانه كما ذكرنا.

«وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي». الصفة الثانية: أنّه إذا أوتى الخير والرخاء والنعمة تكبّر وطغى، ونظر في عطفه، ونسب كلّ ذلك إلى نفسه، ورأى نفسه فوق الآخرين.

والآية تردّ عليه من بدو بيان حاله قبل أن يعقب عليه، فقوله تعالى «وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا » يردّ على تصوّره الخاطئ بأنّ ما لقيته من نعمة إنّما هو رحمة من الله تعالى أذاقك فكان ينبغي لك أن تشكر ربّك، لا أن تطغى وتشمخ بأنفك.

والتعبير بالأذاقة لعلّه من جهة أنّ هذه النعم الدنيوية مهما عظمت في عين الإنسان فإنّها ليست في جنب رحمته الواسعة إلّا كطعم يذوقه. والضرّاء كلّ ما يضرّ الإنسان. وتقييد الرحمة بكونها بعد الضرّاء، لأنّها هي التي تلفت انتباه الإنسان واهتمامه، وأمّا النعم المستمرّة فيغفل عنها. ولم ينسب الضرّاء إلى نفسه

ص: 609


1- هود (11): 9 .

مع أنّه أيضاً منه تعالى لأنّه إنّما مسّته بسوء عمله، قال تعالى: ««وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ» (1) .

وقوله « لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي» يحتمل أن يكون المراد أنّه كسبه بعلمه وقوّته وحصافة رأيه، وغرضه أن ينكر أنّه نعمة من الله تعالى عليه، فيتعلّق به حقّ شرعيّ، ويطلب منه أن ينفق منه على الفقراء وفي سبيل الله. و مثله قول قارون « إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي »(2). ويحتمل أن يكون المراد أنّه باق له لا يؤخذ منه، ولا تزول نعمته. وهذا الاحتمال أقرب لما يأتي من مجاراة الآية لآية سورة الكهف وفيها قوله « مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا».

« وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً » ينكر الآخرة ليبقى حرّاً في تصرفه لا يخاف عقوبة وراءه. ومعنى هذه العبارة أنّ احتمال قيام الساعة ضعيف، لأنّه لا ينفي الاحتمال و إنّما ينفي الظنّ. وهذا ممّا يؤخذ به على الإنسان، فإنّه لا يمكنه الإنكار بالمّرة، لعدم دليل على امتناعها، وحيث إنّ المحتمل في غاية الأهمّية فالمفروض عقلاً أن يحتاط الإنسان.

« وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى»، أي لو فرض قيام القيامة والمحاسبة، فإنّ لي أمام ربّي أحسن مقام وأرفع درجة. والحسنى أفعل تفضيل من الحسن وهي وصف لموصوف مقدّر كالدرجة الحسنى.

وهذا مجرّد فرض، فهو لا يعتقد بالآخرة، ولكنّه لاغتراره بنفسه يظنّ أنّه لو كانت هناك قيامة وحساب فإنّ الله تعالى ينعم عليه أيضاً كما أنعم عليه في

ص: 610


1- الشورى (42): 30 .
2- القصص (28): 78 .

الدنيا، فإنّ هذه النعمة والرخاء إن كان من الله فإنّما أعطاه لاستحقاقه وكرامته فهو يستحقّها هناك أيضاً.

ونظيره ما في سورة الكهف من حوار الصاحبين حيث يقول عن الغنيّ الكافر المغترّ بنعمته «وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا *وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا»(1). ومثله أيضاً قوله تعالى «وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ.» (2).

والإنسان يقع في هذا التصوّر الخاطئ نتيجة إعجابه بنفسه. وقد رأينا من الطغاة شواهد كثيرة له في التأريخ وفي حياتنا، وناهيك في ذلك خطاب السيدة زینب سلام الله عليها ليزيد لعنه الله: « أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة؟! وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده ؟! فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك». (3)

« فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا » الفاء للتفريع، فإنّ ما يلقاه هناك متفرع وناتج من هذا التصوّر الخاطئ. والجملة مؤكدة بقسم محذوف، یدلّ عليه لام القسم وبالنون المؤكّدة.

ومعنى إنبائه يوم القيامة بعمله أنّه يرفع عنه الحجاب، فيكون بصره حديداً ونافذاً يصل إلى أعماق العمل، وإلى الأهداف التي تكمن وراءه. كما قال تعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ »(4)، وحينئذ يظهر عمله

ص: 611


1- الكهف (18): 35 - 36 .
2- هود (11) :10 .
3- بحار الأنوار 45: 133 .
4- ق ( 50) :22 .

بذلك الوجه الكالح القبيح المنفّر ، ولو فرض أنّه أتى ببعض الأعمال الحسنة كمساعدة الفقراء وبناء المصالح العامّة، فإنّ سوء نيته يبين حقيقة عمله.

وهذا يصلح ردّاً على تصوّراته الخاطئة المتتالية، فإنّ سلسلة أخطائه تبتني على جهله بسوء عمله، كما قال تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا »(1) فإذا تبيّن له حقيقة عمله أنهار كلّ ما بنى عليه من التصورات الخاطئة.

« وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ » وهذا يصلح ردّاً على تصوّره أنّ له عند الله أرفع مقام ودرجة، بل يذيقه الله العذاب الغليظ، أي الشديد جزاءً لسيّئ أعماله.

«وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ». وهذه هي الصفة الثالثة التي تخصّ الكافر ومن بحكمه من المؤمنين في الظاهر، فهو في حال النعمة والرخاء ينسى ربّه، ولا يعترف به، بل يعرض عنه. و إنّما يذكره حينما تنسدّ أبواب الأمل في وجهه، ويجد نفسه مضطرّاً للجوء إليه فإنّه آخر أمل له.

والنأي: البعد فإمّا أن يكون المراد أنّه ينأى بنفسه فإنّ الجانب يكنّى به عن الشخص، أو المراد التكبر والإعراض ، فالجانب بمعنى الجنب. وهذه حالة من لا يعير اهتماماً بالشيء نظير الإعراض بالوجه والمراد بالدعاء العريض الإكثار منه، أو شدّة التضرّع.

وقد تكرّر في القرآن الكريم الإشارة إلى هذه الحالة في الإنسان. فمنها قوله تعالى «وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ

ص: 612


1- الكهف (18): 103 - 104 .

يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ »(1).

وقوله تعالى: «فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ» (2) وغير ذلك.

وهكذا الإنسان يتضرّع إلى ربّه في العسر وينساه في الرخاء، إلّا المؤمنين فإنّهم لا ينسون ربّهم أبداً، ولكنّ الحال يختلف باختلاف درجات الإيمان، فالصادقون منهم لا يختلف حالهم في هذا المجال في الشدّة والرخاء، بل ربّما ينتهزون فرصة الرخاء لبذل جهد أكبر في العبادة والدعوة إلى الله تعالى ويوكّلون أمرهم في الشدة إليه أيضاً، وينعمون براحة البال. وسائر المؤمنين يختلف حالهم في الشدّة والرخاء، ويزيد تضرّعهم وتوجّههم إلى الله تعالى في حال الشدّة، وهم مختلفون في هذا الاختلاف حسب درجات إيمانهم.

وربّما يتوهّم التنافي بين هذه الآية وقوله تعالى قبل آيتين « وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ » فإنّ كونه يؤوساً ينافي الدعاء المتوقّف على الرجاء. وأصرح في التنافي قوله تعالى «وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا »(3). لوحدة الجملة الأولى فيهما الأمر الذي يقتضي وحدة الموضوع في الآيتين.

والعلّامة الطباطبائي (رحمه الله) لدفع الإشكال في تفسير الآية الأولى من هذه الآيات بأنّ المراد من يأسه وقنوطه يأسه من الأسباب والوسائل، ولا ينافي ذلك تعلّق رجائه بالله تعالى.

ص: 613


1- يونس (10): 12 .
2- العنكبوت (29): 65 .
3- الاسراء (17) :83 .

وهذا جواب غريب فإنّ ما ذكره إنّما هو من صفات المؤمنين الصادقين حيث لا يعلّقون الآمال إلّا بالله تعالى ولا علاقة له بهذه الحالة التي تندّد بها الآيات المذكورة. هذا مضافاً إلى أنّ هذا الجواب لا يصحّ في قوله تعالى «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ » (1) فقد جمع هنا بين اليأس والكفر.

ولكنّ الإشكال غير وارد على ما ذكرنا من أنّ المراد بالشر في الآية الأولى ونظائرها ما لا سبيل إلى دفعه كالمرض الذي لا علاج له قطعاً، فيحصل له اليأس والقنوط والكفران ، لأنّه لا ينتظر ثواباً من الله تعالى، ولا يسند الأمور إليه، بخلاف المؤمن. وأمّا الموارد التي يتوسّل فيها بالدعاء، ويتوجّه إلى ربّه فهي التي لم يقطع أمله من وجود طريق للحلّ فيها، ولكنّه بعيد المنال عادة كمسألة الغرق في البحر، وبعض حالات المرض. فهذه قرينة أخرى على ما ذكرناه من اختصاص الشرّ في الآية الأولى بما لا سبيل إلى دفعه.

ص: 614


1- هود (11) :9 .

سورة فصّلت(52 – 54)

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)

« قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ » ، « أَرَأَيْتُمْ » بمعنى «أخبروني» ويؤتى بهذا التعبير للتنبيه على إعلام أمر هامّ في صورة سؤال. واسم كان ضمير يعود إلى القرآن.

ومعنى الجملة انتبهوا إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هذا القرآن يحتمل أن يكون من عند الله تعالى، فإن كان من عنده واقعاً، ثمّ كفرتم به وأصررتم على العناد والمخالفة الشديدة، فمن أضلّ منكم حينئذ؟! وذلك لأنّ القوم كفروا بالقرآن من دون دليل وحجّة، ولم يكن ذلك عن إيمان بهدفهم وطريقتهم، و إنّما كفروا به عناداً وحسداً للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فهذه الآية تحذّرهم من مغبّة ذلك، فإنّ احتمال الصحّة كاف في لزوم الاحتياط والتأمّل وعدم الإصرار على الكفر والعناد.

والشقاق البعيد كناية عن الاختلاف الشديد والإصرار على الإنكار، فإنّ الشقاق مفاعلة من الشقّ بمعنى المشاقّة، وهي أن يكون كلّ من الطرفين في شقّ وقسم غير شقّ الآخر، فإذا بعد الشقّان كانت المخالفة أشدّ.

ولم يقل «من أضلّ منكم »كما يقتضيه السياق، لكي يذكر السبب الموجب لصدق كونهم أضلّ من الجميع، وأنّه لا يوجد أضلّ منهم، وهو كونهم في شقاق بعيد ومخالفة شديدة، مع كونه من عند الله تعالى، والمفروض أن يحتاطوا

ص: 615

لاحتمال ذلك، ولا يتّخذوا هذا الموقف الشديد. و إنّما دعاهم إلى ذلك العناد والحسد.

« سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» في الآية محتملات حسب التفاسير نذكر بعضها:

الاحتمال الأول - و هو المعروف بينهم - : أنّ المراد بالضمير في « أَنَّهُ الْحَقُّ» يعود إلى القرآن الكريم، وأنّ المراد بالآيات في الآفاق والأنفس ظهور الإسلام وغلبته على المشركين وغيرهم في الجزيرة العربية وما حولها من البلدان على يد المسلمين في عهد الرسالة وبعدها. فآيات الآفاق بالنسبة لما عدا مکّة من مناطق الجزيرة العربية وغيرها. والأنفس بالنسبة لمشركي قريش. وهذا الظهور والغلبة حيث إنّها تحكي عن نصر الله تعالى لهذا الدين فيتبيّن أنّه الحق، فالكتاب الذي جاء به حق كلّه.

وحيث إنّ مجرّد الظفر والغلبة لا یدلّ على كون الدين حقاً، ولا تعتبر هذه الغلبة معجزة - كما يقول بعضهم - عدل العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) عن هذا البيان إلى القول بأنّ هذه الفتوحات وإن لم تكن بنفسها آية، إلّا أنّها حيث جاءت مصدّقة لما أخبر به القرآن الكريم من غلبة هذا الدين، ومن أنّ كفار قريش سيعذّبهم الله تعالى بأيدي المؤمنين، فبذلك يكون تحقّق ما أخبر به آية تدلّ على كونه حقاً.

ويؤيّد هذا الاحتمال أنّه المناسب لسياق الآيات التي تندّد بتكذيب كفّار قريش للقرآن الكريم.

الاحتمال الثاني: أنّ المراد بالآيات في الآفاق، الآيات الكونية الدالّة على

ص: 616

التوحيد وعلى حكمة الباري وقدرته والمراد بآيات الأنفس ما يشتمل عليه الجسم والروح البشرية من آيات الحكمة والقدرة والضمير في « أَنَّهُ الْحَقُّ » يعود إلى الله سبحانه. قالوا: والتسويف المدلول عليه بالسين في « سَنُرِيهِمْ » لا ينافي وجود الآيات دائماً، لأنّ المراد أنّ الله تعالى سيكشف لهم يوماً بعد يوم ع-ن آيات أخرى، فكلّما تقدّم العلم البشري وتوسّع برزت له آيات جديدة في هذا المجال.

ويُبعد هذا الاحتمال أولاً : أنّه لا يناسب السياق الخاصّ بتنديد مكذّبي القرآن.

وثانياً أنّه لا يناسب التسويف، فإنّ ظاهر العبارة أنّ الإراءة ستتمّ في المستقبل لا استمرارها، ولا إراءة آيات جديدة، فظاهر الآية أنّ إراءة الآيات لم تتمّ بعد. وهذا لا يصحّ بالنسبة للآيات الكونية.

وثالثاً أنّ تغيير ضمير المتكلّم في « آيَاتِنَا » إلى الغائب في « أَنَّهُ الْحَقُّ » یدلّ على اختلاف المرجع، فلا يصحّ أن يكون المراد بالثاني هو الله تعالى.

وأيّد بعضهم هذا الاحتمال في التفسير بوجوه ثلاثة :

الأول: أنّ الآيات يعبّر بها غالباً في مقام الدلالة على التوحيد.

ويردّه أنّ الآيات كلّ ما یدلّ على حكمة الله تعالى وقدرته، فما ورد في الاحتمال الأوّل أيضاً من الآيات ولا خصوصية لما یدلّ على التوحيد.

الثاني: أنّ التعبير بالآفاق والأنفس يناسب آيات التوحيد.

والجواب أنّ هذا التناسب إنّما حصل بعد تفسير هذه الآية بما ذكر، وبعد اشتهار هذا التفسير في كتب الفلسفة والعقائد، وإلّا فأصل التعبير بآيات الآفاق والأنفس لا يختصّ بآيات التوحيد.

ص: 617

الثالث: أنّ الجملة التالية «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ» إشارة إلى التوحيد أيضاً، وأنّ الآية التالية حول المعاد، فتناسب أن يكون المراد بهذه الآية ما يخصّ التوحيد.

وسيأتي بيان المناسبة بين الاحتمال الأول وتفسير الجملة التالية والآية التالية إن شاء الله تعالى .

الاحتمال الثالث: أنّ المراد ما يراه الإنسان لحظة وفاته من الآيات التي لا تبقي له شكاًّ في أنّ دعوة الأنبياء حقّ، وهذه الآيات كونية ونفسية، والضمير في « أَنَّهُ الْحَقُّ» يعود إلى القرآن أو الدين.

ولكنّ قوله تعالى «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» يقتضي أن يكون المقصود من إراءة الآيات إتمام الحجة عليهم حتّى يؤمنوا، ولا ينفع إيمانهم آنذاك.

الاحتمال الرابع: أنّ المراد ما يظهر من الآيات عند ظهور الإمام المهدي (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف). وهي أيضاً آيات آفاقية وأنفسيّة. ويمكن إعادة الضمير إلى الدين أو القرآن أيضاً. ولكنّ الروايات الواردة تدلّ على أنّ الضمير يعود إليه القوّة أو إلى ظهوره.

فالصحيح الاحتمال الأول والرابع والأول أقرب.

« أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » الباء زائدة. و « بِرَبِّكَ »فاعل « يَكْفِ »وقوله « أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » ، بدل عن قوله «ربّك». أي أو لم يكفهم ربُّك أنّه على كلّ شيء شهيد. فالتقدير أولم يكفهم أنّ ربَّك على كلّ شيء شهيد. والجملة في مقام رفع الاستبعاد عن إخبارهم بالغيب في الجملة السابقة بكفاية أنّ المخبر هو الله تعالى، وهو شاهد على كلّ شيء، فلا يختلف عنده الغيب والشهود، وكلّ شيء مشهود له تعالى.

وبما ذكرناه يتبيّن أنّ هذه الجملة أيضاً تناسب الاحتمال الأول. ولكن العلّامة

ص: 618

الطباطبائي (رحمه الله ) حيث فسّر الشهيد بالمشهود، وفسّر الجملة بأنّه يكفي في الدلالة على الله تعالى أنّ كلّ شيء لافتقاره إليه يشهد عليه، أشكل عليه الأمر في ربط الجملتين. وما ذكره لا يصحّ لأنّ الشهيد لو كان بمعنى «مشهود» لزم أن يقال: إنّه لكلّ شيء شهيد.

« أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ » المرية هي الشكّ، أي إنّهم لا يؤمنون بالآخرة، فإنّ لقاء الله تعالى يحصل في تلك النشأة والذي يحصل هناك هو حقيقة اللقاء. بوجه آكد وأقوى من لقاء الجسمين والشخصين في هذه النشأة، فإنّ الخطأ حتّى في الإحساس بالرؤية واللمس أمر محتمل.

ولكن ما يحصل هناك من اللقاء لا يدخل فيه أدنى شكّ، ولا يشبهه شيء في هذه النشأة إلّا إدراك الإنسان لنفسه، فإنّه هو الذي لا يمكن الشكّ فيه، وهو وصوله إلى نفس الحقيقة من دون واسطة، وأمّا سائر موارد الإدراك فتتوسّطها الصور العلمية التي تحكي عن المعلومات، ولا تلاقي النفس البشرية ذات الحقائق. وحيث يكشف الغطاء هناك عن الإنسان، فلا يمنعه مانع من الوصول إلى الحقائق بذاتها من دون توسّط الصور.

وهذا المعنى هو المراد ممّا ورد من التعبير بالرؤية والنظر واللقاء، وإلّا فالرؤية البصرية بالمعنى الدنيوي لا تمكن بالنسبة إلى الله تعالى في أيّ نشأة، إذ يستلزم التحديد والجسمية، و إنّما يشعر الإنسان بوجوده أمام ربّه، يشعر ذلك بكلّ وجوده لا بحاسّة من الحواسّ.

والمشركون في جزيرة العرب كانوا ينكرون الآخرة مع اعترافهم بوجود الله تعالى، وأنّه الخالق للكون. و إنّما نسب إليهم الشكّ هنا دون الإنكار، مع أنّه ينسب

ص: 619

إليهم الإنكار في غير موضع لأنّ مواجهة القرآن كانت تحدث الشكّ فيهم. وارتباط الآية بما قبلها من جهة أنّ إنكارهم ليوم القيامة، والحياة بعد الموت إنّما ينشأ من عدم اعتقادهم بأنّ الله على كلّ شيء شهيد، حيث كانوا يقولون كيف يحيي الله هذه العظام والرفات بعد مرور الآلاف والملايين من السنين، وبعد أن ضلّت اجزاؤهم وتفرّقت. ولو كانوا يعترفون بأنّه على كلّ شيء شهيد ما كانوا ينكرون القيامة ولقاء ربّهم. ولذلك عقّبه بقوله تعالى « أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ » وهو في معنى كونه على كلّ شيء شهيد.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

ص: 620

فهرس المطالب

تفسير سورة الصافات

سورة الصافات (1-5) ...7

سورة الصافات (6-11) ...14

سورة الصافات (12 – 20)...25

سورة الصافات (21 -26) ...30

سورة الصافات (27 – 32)...35

سورة الصافات (33_39)...43

سورة الصافات ( 40 -49) ...48

سورة الصافات (50-.61) ...56

سورة الصافات (62-74) ...62

سورة الصافات (75 -82)...71

سورة الصافات (83 – 87)...79

سورة الصافات (88 – 98) ...85

سورة الصافات (99 – 113) ...94

سورة الصافات (114- 122). ..108

سورة الصافات (123- 132)...110

سورة الصافات (133 – 138)...116

ص: 621

سورة الصافات (139 – 148)...119

سورة الصافات (149-157). ..130

سورة الصافات (158- 170) ...142

سورة الصافات(171 – 179)...142

سورة الصافات (180 -182)...146

تفسير سورة ص

سورة ص (1 -11) ...151

سورة ص (12-16)...165

سورة ص (17 -20) ...168

سورة ص (21 - 26). ..174

سورة ص (27- 29)...187

سورة ص ( 30-40 ) ...192

سورة ص (41-44) ...204

سورة ص ( 45 - 48) ...208

سورة ص (49 - 54) ...214

سورة ص (55-64). ...218

سورة ص (65 - 66). ..225

سورة ص (67-74). ..228

سورة ص (75-85) ...236

سورة ص (86 - 88 ) ...245

تفسير سورة الزمر

سورة الزمر (1-4) ...249

سورة الزمر (5 - 6) ...260

سورة الزمر (7 – 10) ...271

سورة الزمر (11 - 16).. .283

ص: 622

سورة الزمر (17 -20)...288

سورة الزمر (21-22). ..292

سورة الزمر (23 - 26). ..297

سورة الزمر (27 -31) ...305

سورة الزمر (32-35). ..309

سورة الزمر ( 36-40) ...315

سورة الزمر ( 41-42) ...320

سورة الزمر (43-45) ...325

سورة الزمر ( 46 - 48). ..328

سورة الزمر (49-52) ...331

سورة الزمر (53-61)... 336

سورة الزمر ( 62 - 66). ..345

سورة الزمر ( 67-70). ..350

سورة الزمر (71- 72) ...362

سورة الزمر (73-75)...365

تفسیر سورة غافر

سورة غافر (1 -3) ...375

سورة غافر (4-6) ...383

سورة غافر (7 – 9) ...388

سورة غافر (10- 12)...397

سورة غافر (13- 20)...403

سورة غافر (21 – 22)...415

سورة غافر (23 – 27)...417

سورة غافر (28 - 35) ...424

سورة غافر (36 - 46) ...438

ص: 623

سورة غافر (47 - 55) ...450

سورة غافر (56 - 59) ...459

سورة غافر ( 60- 65) ...465

سورة غافر (66- 68) ...476

سورة غافر (69-78) ...484

سورة غافر (79- 81) ...499

سورة غافر (82 – 85) ...502

تفسير سورة فصلت

سورة فصلت (1- 8) ...511

سورة فصلت (9 -12) ...522

سورة فصلت (13 -18) ...538

سورة فصلت (19 - 24) ...548

سورة فصلت ( 25 - 29) ...559

سورة فصلت (30 -32) ...567

سورة فصلت (33 - 36) ...575

سورة فصلت (39-37) ...582

سورة فصلت ( 40 - 43) ...587

سورة فصلت (44 - 46) ...596

سورة فصلت (47 - 51) ...604

سورة فصلت (52-54) ...615

ص: 624

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.