الهادي في تفسير القرآن الكريم المجلد 1

هويّة الكتاب

بطاقة تعريف: مهری، سیدمرتضی، 1324 -

عنوان المؤلف واسمه: الهادي في تفسير القرآن الكريم [کتاب]/ العلّامة سيّد مرتضى المهري.

مشخصات نشر : قم : موسسة المعارف الاسلامیة، 1437ق.= 1395 -

مواصفات المظهر: ج.

فروست : موسسة المعارف الاسلامیة؛ 209، 219، 227.

شابک : دوره 978-600-146-015-9 : ؛ ج.1 978-600-146-016-6 : ؛ ج.3 978-600-146-019-7 : ؛ ج.4 978-600-146-030-2 : ؛ ج.5 978-600-146-031-9 : ؛ ج.6 978-600-146-039-5: ؛ ج.7 978-600-146-057-9 :

حالة الاستماع: فاپا

لسان: العربية.

ملحوظة : ج.3 (چاپ اول: 1394) .

ملحوظة : ج.4 (چاپ اول: 1395) .

ملحوظة : ج.5 (چاپ اول: 1397) (فیپا).

ملحوظة : ج.6 (چاپ اول: 1399).

ملحوظة : ج.7 (چاپ اول: 1401) (فیپا) .

مندرجات : .- ج.3. تفسیر سورة الشوری.- ج.4. تفسیر سورة الاحقاف.- ج.5. تفسیر سورة الذاریات.- ج.6. تفسیر سورة حدید.- تفسیر سورة التحریم

مشكلة : تفسيرات الشيعة -- قرن 14

معرف المضافة: موسسة المعارف الاسلامیة

تصنيف الكونجرس: BP98/م866ھ2 1395

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3483061

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

الهادي

في تفسير القرآن الكريم

المجلّد الأوّل

تأليف

العلامة سيّد مرتضى المهري

ص: 3

سرشناسه: مهری، سید مرتضی،1324، کد ملی 0386545146

عنوان و نام پدیدآور: الهادى فى تفسير قرآن كريم، سید مرتضی مهری.

مشخصات نشر: قم، بنیاد معارف اسلامی، 1393 .(206-205)

مشخصات ظاهری: 2ج.

ISBN : دوره ای -9-015-146-600-978

ج1) 978-600-146-016-6 ج2) 978-600-146-017-3

ج3) .... ج4) ....

وضیعت فهرست نویسی : فیپا.

یادداشت : عربی

موضوع: تفاسیر شیعه - قرن 14

شناسه افزوده بنیاد معارف اسلامی

رده بندی کنگره: 1393 2ه_ 866 م/ BP98

رده بندی دیویی: 297 /179

شماره کتابشناسی ملی: 3483061

205

هويّة الكتاب :

اسم الكتاب : ... الهادي في تفسير القرآن الكريم

المؤلف : ... العلّامة السيد مرتضى المُهري

المحرّر: محمدرضا دهقانزاد

الناشر: ... مؤسسة المعارف الإسلاميّة

الطبعة : ... الأولى 1435 ه_ . ق

المطبعة : ... عترت

العدد : 1000 نسخة

رقم الايداع الدولي للدورة: ...978-600-146-015-9

رقم الايداع الدولي / ج 1 : ... 978-600 - 146 - 016 - 6

حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة المعارف الإسلامية

قم المقدسة - تلفون 37732009 - 09127488298 - فاکس 37743701 ص.ب 37185/78

WWW.maarefislami.com

E-mail: info@maarefislami.com

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

محرر: محمد رضا دهقانزاد

ص: 4

مقدمة الناشر

قال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السّلام

«وتعلّموا القرآن، فإنّه أحسن الحديث وتفقّهوا فيه، فإنّه ربيع القلوب واستشفوا بنوره، فإنّه شفاء الصدور وأحسنوا تلاوته، فإنّه أنفع القصص». (1)

ممّا لا شكّ فيه أنّنا ملزمون بمعرفة القرآن والتفقّه فيه ولكن كيف يتسنى لنا ذلك؟

أجل هناك من الرجال من صرفوا جلّ عمرهم في تعليم القرآن وتعلّمه للناس، وهناك من لا يألو جهداً في الغور بعمق داخل بحار كتاب الله فانياً عمره صارفاً وقته في استخراج لثالثه والكشف عن غوامض جواهره. ومنهم سماحة العلامة سيد مرتضى المهري الذي يعتبر بحقّ أحد رواد هذه المدرسة العظيمة عبر بوابتها، بوابة العترة الطاهرة.

إنّه خلال تجربته الطويلة في الأخذ والعطاء، والاستلهام والاستقراء، والتفكير والتدبير، والعلم والعمل استطاع بخبرته وغزارة علمه وبتوفيق من ربّه أن يتفقّه في

ص: 5


1- نهج البلاغة: 164 ، الخطبة 110

كتاب الله وبتدبّر آياته، فشرع في تدريس القرآن شطراً من عمره، ولا زال فقد بدأ تدريس التفسير خلال تدريسه الفقه والأُصول في الحوزة العلمية بقم منذ أكثر من ثلاثين عاماً إلا أنّه لم يكمل مسيرته التفسيرية في قم حيث استقرّ به المقام في موطنه الكويت وبدأ هناك باستكمال بحوثه القيمة في تفسير القرآن الكريم أكثر من خمسة عشر عاماً.

ونحن إذ نبارك له هذه الهمّة العالية والعزم الجادّ نأمل من العلي القدير أن يوفّقه لتحقيق مأربه في تفسير القرآن كلّه إن شاء الله.

وعلى هذا فقد بدأنا مع بعض أفاضل محقّقينا في تحرير ما كتبه سماحته إبتداء لطبعه ونشره، وليستفيد من ثمرة أفكاره، كلّ من لم يوفّق لحضور دروسه في التفسير والتفقّه في القرآن العظيم.

وها هو الجزء الأوّل من التفسير يخرج إلى الوجود تحت عنوان: «الهادي في تفسير القرآن الكريم» سائلين المولى أن يوفّقنا في إتمام طباعة ونشر هذا السفر المبارك وعلى الله التكلان وهو المعين.

مؤسّسة المعارف الإسلاميّة

قم المقدّسة

سنة 1435

ص: 6

مقدمة المؤلّف

مقدمة المؤلّف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب، لطفاً بعباده ورحمة بهم. والصلاة والسلام على خاتم الرسل وسيّد البشر، محمّد الصادع بأمره وأمين وحيه، وآله الطيّبين الطاهرين، الهداة المعصومين. واللعنة الأبدية على أعدائهم ومناوئيهم أجمعين من الأوّلين والآخرين.

لا شكّ في أنّ القرآن الكريم بحر لا يدرك غوره ، وسماء لا يبلغ شأوها، وقد مضى على ظهوره بين أظهرنا أربعة عشر قرناً يُشرَح ويُفسَّر ولم يبلغ أحد كنهه، ولم تنقض عجائبه، ولكن لكلّ أحد أن يرتوي بمقدار سعته من هذا المعين الإلهي.

وإنّي أحمد الله تعالى وأشكره لما أولاني من التوفيق للورود في هذا المورد الرحب، وتسجيل هذه السطور محاولة منّي لفهم بعض ما في هذا الكتاب العظيم من أسرار، وبيانها لغيري، لعلّ ذلك ينفع المستضيء ولو بلمعة، ويروي الظمآن ولو بقطرة.

ص: 7

هذا التفسير ومنهجه

كنت قد ألقيت في ما مضى محاضرات في التفسير في قم، ولكنها حتّى الآن لم تعد قابلة للنشر. وهذا الكتاب قد بدأت فيه بالتفسير من سورة الأحزاب المباركة، نأمل أن يتبعها تفسير سائر السور بعدها، بل التي قبلها أيضاً بتوفيق من الله إنّه سميع مجيب.

وانتُهج في هذا التفسير المنهج العامّ المتعارف من ملاحظة الأقوال أوّلاً، ثم ملاحظة مضمون الآية بمقتضى ظاهر اللفظ، ومراجعة كتب اللغة، وما ألّف في تبيين جذور اللغة العربية، لأنّ القرآن نزل باللغة الفصحى التي لم يطرأ عليها التغيرات المتأخّرة بعد الفتوح، ثمّ ملاحظة سائر الآيات التي ترتبط بالموضوع، ثمّ الروايات الواردة فهي وإن كانت قليلة إلا أنّها كثيراً ما تحلّ المشكلات المعقّدة في الكتاب العزيز. ولا غرو فأهل البيت أدرى بما في البيت، وهم عدل القرآن، وأعلم الخلق بما يشتمل عليه من أسرار.

ومن المؤسف أنّ روايات التفسير بقيت في الغالب مرسلة حيث لم يهتمّ نقلة الحديث بنقل الأسانيد إلا في روايات الأحكام، ولذلك فإنّ الروايات المعتبرة التي يستفاد منها في التفسير ترتبط في الغالب بحكم فقهي استدعى من المحدّثين الاهتمام بنقل أسانيدها. ومع ذلك فالروايات حتّى المرسلة منها خير ما يستند إليه في فهم الكتاب وحلّ معضلاته.

هذا وقد جرت العادة بذكر مقدّمات قبل البدء بالتفسير، فمنهم من أجمل، ومنهم من فصّل. وبعض تلك المقدّمات يأتي ذكرها، والبحث حولها ضمن

ص: 8

تفسير الآيات المرتبطة بها، وبعضها متكرّرة في مقدّمات التفاسير، وبعضها تذكر في كتب خاصّة حول القرآن الكريم، وإعجازه، وتأريخ نزوله، وكيفية كتابته، وتواتر نقله، واختلاف قراءاته وساير ما يعبّر عنه بعلوم القرآن.

ولكن ينبغي أن نشير إلى أمرين مرتبطين بالتفسير:

الأمر الأوّل: الحاجة إلى التفسير

الأمر الأوّل: الحاجة إلى التفسير

ربّما يتساءل: لماذا التفسير ؟ وهل القرآن نزل خطاباً لمجموعة خاصّة أم هو كتاب هداية للجميع؟ فإن كان للجميع فلا بدّ من كونه بحيث يمكن للجميع الاستفادة منه.

وهذا التوهّم هو الذي أوجب لبعض المعجبين بأنفسهم أن يخوضوا في هذا المجال من دون مراجعة للروايات ولا لما كتبه العلماء السابقون. وهذا خطأ فاحش في كلّ المجالات، ومرجعها إلى أنّ كلّ إنسان في دراساته وبحوثه يبدأ من الصفر، ويرجع إلى المربع الأوّل. ولو عمّت هذه السيرة لبقي البشر دائماً في المربع الأوّل، ولم يحصل له هذا التقدّم العلمي في أيّ مجال.

ومع الأسف نجد أنّ بعض هؤلاء المغفّلين تمكّنوا من التأثير في بعض البسطاء وإضلالهم ، حيث إنّ بعض الناس يعجبهم كلّ جديد ومخالف للتيّار من دون تأمّل وفهم لما يحمله هذا الفكر من أخطاء. هذا إن صحّ التعبير عنه بالفكر. وبعض هؤلاء في ما يعبرّ عنه بالدروس لا يراجع حتّى كتب اللغة مع أنّه ليس من أهل اللغة، بل لا يتأمّل في الخط القرآني بدقّة، فتجده يقرأ الكلمة خطأ، ويترجمها خطأ، ويبني عليها فكره الخاطئ المضحك.

ص: 9

ومن باب المثال لا الحصر أُشير إلى جملة تفوّه بها بعضهم ثمّ كتبها في منشوراته، وهو حتّى الآن يدّعي أنّه من أعظم مفاخر البشرية، فقرأ قوله تعالى «وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»،(1) «ولا تقِفْ»، وفسّره بأن الله تعالى يحثّ على كسب العلم في كلّ شيء، ويقول: إذا لم تعلم بالشيء فلا تقف عنده وحاول أن تتعلّم !!! مع أنّ العربيّ لا يفسّره كذلك حتّى لو قرأه هكذا.

ومن هؤلاء من ابتليت به لشدّة قربه منّي، وقد جمع حوله مجموعة من الناس يضلّهم ويغويهم بأخطائه الفادحة، وقد كتبت إليه شطراً منها ولم يستطع الجواب، ولكنّه لم يعد إلى رشده، وهو يدّعي أنّه يفهم من القرآن ما لم يفهمه أحد من دون أن يراجع الروايات أو التفاسير، بل هو لا يعتقد بالروايات مطلقاً.

وأساس خطئه أنّ القرآن فيه تفصيل كلّ شيء، وهو تبيان لكلّ شيء، فلا حاجة إلى رواية، بل لا تصحّ الرواية لبعدنا عن ذلك الزمان، فيكفي لكلّ إنسان أن يراجع القرآن ويتدبّر فيه من دون ملاحظة تدبّر الآخرين، وما وصل إليه العلماء طيلة القرون، وما ورد في الروايات عن الرسول صلّی الله علیه و آله والأئمة المعصومين علیهم السّلام، ويبني على ذلك أسس دينه من العقيدة والأحكام.

ولمّا كتبت إليه: إنّ القرآن أيضاً رواية وإن كانت قطعية، فأنت لم تسمعه من الله تعالى ولا من الرسول صلّی الله علیه و آله مباشرة، وإنّما سمعته رواية جيل عن جيل إلى أن يصل إلى عهد الرسالة المجيدة. والرسول صلّی الله علیه و آله ليس مجرّد حامل للوحي كما يظنّه بعض الجهلة، بل هو المبيّن والمفسّر بصريح القرآن، قال تعالى: «وَأَنْزَلْنَا

ص: 10


1- الإسراء (17): 36

إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»،(1) بل هو الحاكم وله حقّ التشريع. قال تعالى: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»،(2) فالدين يتشكّل من الكتاب والسنّة ولا يجوز الفصل بينهما، لم يحر جواباً، ولكنّه لم يترك طريقه المعوّج.

وقد سبقه إلى ذلك من روّج بين الناس فكرة «حسبنا كتاب الله» ومنع على أساس هذه الفكرة الخاطئة من كتابة الأحاديث الشريفة، واستمرّ ذلك إلى قرن.

ومهما كان فالجواب عن هذا السؤال هو أنّ القرآن كتاب هداية للجميع، وكلّ من من يجيد اللغة العربية يمكنه أن يستضيء بنوره في ظلمات الأرض التي تقتضيها هذه الحياة. وبالطبع فإنّ من يراجع القرآن ويقرأ بنحو من التدبّر وهو يجيد اللغة نوعاً مّا يستفيد من كثير من آياتها، فهي واضحة المضمون إلا أنّه يتوقّف، أو عليه أن يتوقّف، في عدّة موارد نذكر بعضها من دون حصر.

بعض موارد التوقّف في فهم القرآن:

1 - معرفة اللغة الأصلية

قد لا يكون المعنى اللغوي واضحاً، خصوصاً بملاحظة التغيّرات التي وردت على اللغة، فلا يمكن دعوى معرفة اللغة الأصلية لكثير من الألفاظ المستعملة في القرآن، لكونه من النصوص القديمة. فهذه الحاجة يشعر بها من يريد معرفة أيّ من النصوص القديمة، كالأحاديث النبويّة، وأحاديث أئمّة أهل البيت، وخطب «نهج البلاغة»، أو غيرها من الخطب أو الأشعار. بل لا تكفي مراجعة كتب اللغة المتعارفة حيث تنقل الاستعمالات، وإنّما تنفع في هذا المجال الكتب التي تبحث

ص: 11


1- النحل (16): 44
2- الحشر (59): 7

عن جذور اللغة، ك_ «معجم مقاييس اللغة»، و ك_«مفردات الراغب».

وقد لا تتّفق كلمتهم على معنى واحد فيحصل الشكّ، وربّما يمكن للباحث أن يتوصّل إلى معرفة المعنى المراد في القرآن بملاحظة سائر استعمالاته، أو استعمالات أهل اللغة في موارد أُخرى، أو يرجّح أحد المعاني المذكورة في كتب اللغة لبعض الاعتبارات. وهنا يتدخّل عنصر الاجتهاد، وربّما لا تكون القرائن مفيدة للقطع أو الاطمئنان فلا بدّ من التوقّف وعدم الجزم بالمعنى كي لا يكون من التفسير بالرأي.

2 - الألفاظ المشتركة

هناك ألفاظ مشتركة لها أكثر من معنى، ويتوقّف تحديد المعنى المقصود على ملاحظة القرائن الموجودة في اللفظ، أو في مواضع أٌخرى من القرآن الكريم. ومعرفة هذه القرائن تحتاج إلى دراسة وتعمّق في الكتاب، بل قد لا تكون هناك قرينة في اللفظ، وإنّما اعتمد في تعيين المعنى على قرائن حالية حين نزول الآية. ومعرفة تلك القرائن تحتاج إلى دراسة التأريخ، وملاحظة الروايات التي تبيّن شأن نزول الآية، والجوّ السائد آنذاك. وهنا أيضاً يتدخّل عنصر الاجتهاد، ويأتي فيه ما مرّ.

3 - المجازات والكنايات

لا يشذّ القرآن الكريم عن سائر النصوص العربية في التعبير عن كثير من المقاصد بالمجازات والكنايات والاستعارات الأدبية. ومعرفة المراد الواقعي في كلّ ذلك تتوقّف على الاطّلاع على وجوه الكناية والتجوّز في الاستعمالات

ص: 12

العربية، وعلى ذوق رفيع لتطبيق ما يناسب الاستعمال القرآني.

4 - الآيات المشتملة على المسائل الاعتقادية

المسائل الاعتقادية المرتبطة بمعرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته، والتأمّل في نشأة الكون، وعلاقة الكون بخالقه، وشؤون الربوبية، ثمّ المعاد ووجه الحكمة فيه، والدليل على إمكانه وثبوته، ثمّ الرسالة وكيفية ارتباط الإنسان بالسماء، وغير ذلك من مسائل العقيدة، تتوقّف معرفة الآيات المرتبطة بها على كثير من الأبحاث الكلامية والفلسفية، وعلى معرفة الأديان والمذاهب، سواء السماوية .وغيرها. وهنا أيضاً لا بدّ من مراعاة الاحتياط لئلا يكون من التفسير بالرأي.

5 - الحقائق التاريخية

هناك آيات كثيرة تتناول قصص الأنبياء والأُمم السالفة، وبعضها تنظر إلى ما ورد في التوراة والإنجيل، وتصحّح أخطاءها التي عرضت نتيجة التحريف والتبديل، والنسيان، والترجمة المتكرّرة. ولا يمكن التحقّق من معنى الآية في هذه الموارد إلا بالاطّلاع على ما في تلك الكتب، وما كان في خصوص عهد النزول جزءاً من ثقافة ذلك القوم. كما أنّ ما يتعرّض لأحوال الأُمم السالفة ربّما يتوقّف تفسير بعضها على معرفة أماكن تواجدهم، وارتباطها بأماكن أُخرى، وعلى بیئتهم وخصائص مساكنهم.

فمن ذلك مثلاً ما ورد في قوم سبأ من قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ»،(1) حيث لا يمكن

ص: 13


1- سبأ (34): 18

التأكّد من المراد إلا بمعرفة البلد، ومعرفة المراد بالقرى التي بورك فيها، وارتباطهم بها من حيث الطرق المتعارفة في ذلك العصر.

6 - الحقائق الكونية

الآيات الكونية التي تتعرّض لسير الشمس والقمر والنجوم ونحو ذلك لا يمكن تفسيرها من دون الاطّلاع على الحقائق الكونية المكتشفة حالياً، والممكن اكتشافها في ما بعد، وما كان سائداً لدى البشر في عهد النزول.

7 - شأن نزول الآيات

في القرآن آيات كثيرة تتعرّض للوضع الاجتماعي والسياسي في مدينة الرسول صلّی الله علیه و آله وما حولها، والحروب الدائرة بين المسلمين والمشركين، ودور المنافقين في المجتمع الإسلامي، ومكائد المشركين للوقيعة بالدين عاجلاً أو آجلاً، وما يدور بين صحابة الرسول صلّی الله علیه و آله ، وحوادث البيت النبوي الكريم، وشؤون أهل البيت علیهم السّلام ، ونحو ذلك. وتفسير هذه الآيات لا يمكن إلا بالاطّلاع على تأريخ عهد الرسالة الكريمة، وملاحظة الأحاديث الواردة بهذا الشأن. وهو أمر صعب في بعض الحالات حيث يكون تفسير الآية مخالفاً لسياسة السلطة الحاكمة بعد عهد الرسالة، ممّا يمنع المؤرّخين والمحدّثين من بيان الأُمور على واقعها، ويجعل معنى الآيات لغزاً لا يمكن حلّها، كما نلاحظه في سورة التحريم.

هذه الموارد وغيرها يفرض على من يبتغي الاستضاءة من نور القرآن الكريم أن يتوقّف، ولا يكتفي بما يتبادر إلى ذهنه من اللفظ، بل يلاحظ كلّ ما يمكن

ص: 14

أن يساعده في فهم معنى الآية. ومع ذلك لا يحكم بالقطع إلا في الموارد الواضحة البيّنة.

الأمر الثاني: التفسير بالرأي

الأمر الثاني: التفسير بالرأي

هناك مشكلة عويصة تعرض طريق المفسّر تمنعه من المضيّ قدما في البحث عن المعنى المراد إن كان متّقياً يخاف الله تعالى، وهي ما تدلّ عليه الروايات المتعدّدة التي اتّفق الفريقان على نقلها والاهتمام بها، ممّا تمنع من التفسير بالرأي.

ونحن ننقل هنا أوّلاً ما ورد عن طرقنا من روايات أئمّة أهل البيت علیهم السّلام:

روايات الشيعة في التفسير بالرأي

روى في «الوسائل» عن الصدوق رحمه الله في «المجالس» و«التوحيد» و«عيون الأخبار» عن محمّد بن موسى بن المتوكّل، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الريان بن الصلت، عن عليّ بن موسى الرضا، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «قال رسول الله: قال الله جلّ جلاله: ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي، وما عرفني من شبّهني بخلقي، وما على ديني من استعمل القياس في ديني»(1).

السند معتبر ودلالة المتن واضحة على حرمة التفسير بالرأي بصورة مشدّدة حيث ينفي الإيمان عن من يفسّر برأيه.

وهناك روايات ضعيفة السند أو مرسلة بنفس المضمون، منها ما رواه الصدوق رحمه الله في «التوحيد» بسند مجهول، ومتن غريب، في خبر طويل، عن رجل أبدى شكوكه بالنسبة إلى القرآن الكريم لأمير المؤمنين علیه السّلام ومن ضمن ما

ص: 15


1- وسائل الشيعة 27: 45 كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6، الحديث 22

أجاب به الإمام هذه الجملة «إيّاك أن تفسّر القرآن برأيك، حتّى تفقهه عن العلماء، فإنّه ربّ تنزيل يشبه كلام البشر، وهو كلام الله، وتأويله لا يشبه كلام البشر، كما ليس شيء من خلقه يشبهه، كذلك لا يشبه فعله تبارك وتعالى شيئاً من أفعال البشر، ولا يشبه شيء من كلامه كلام البشر، فكلام الله تبارك وتعالى صفته وكلام البشر أفعالهم، فلا تشبه كلام الله بكلام البشر، فتهلك وتضل».(1)

وروى الصدوق أيضاً في «عيون أخبار الرضا علیه السّلام» قوله لعليّ بن محمّد بن الجهم، ضمن خبر طويل، بسند مجهول: «... ولا تتأوّل كتاب الله برأيك فإنّ الله عزّ وجلّ قد قال: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا الله وَالرَّاسِخُونَ»(2) ».(3)

وروى أيضاً في «كمال الدين وتمام النعمة» بسند ضعيف جدّاً عن عبدالرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلّی الله علیه و آله: «لُعن المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبيّاً، ومن جادل في آيات الله فقد كفر ، قال الله عز وجل: «ما يُجَادِلُ فِي آيَاتِ الله إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ»(4) ومن فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب، ومن أفتى الناس بغير علم فلعنته ملائكة السماوات والأرض، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار».(5)

وروى العيّاشي مرسلاً عدّة روايات:

عن زرارة، عن أبي جعفر عیله السّلام قال: «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير

ص: 16


1- التوحيد: 265
2- آل عمران (3): 7
3- عيون أخبار الرضا علیه السّلام 2: 192
4- غافر (40): 4
5- كمال الدين وتمام النعمة 42:1

القرآن، إنّ الآية ينزل أوّلها في شيء وأوسطها في شيء».(1)

وآخرها في شيء». وعن هشام بن سالم عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «من فسّر القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر، وإن أخطأ كان إثمه عليه».(2)

وعن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر علیه السّلام «ما علمتم فقولوا وما لم تعلموا فقولوا الله أعلم، فإنّ الرجل ينزع بالآية فيخر بها أبعد ما بين السماء والأرض». (3)

و روى غير ذلك أيضاً ممّا يدلّ على هذا الأمر في هذا الباب، وفي باب آخر بعنوان النهي عن المراء في القرآن. (4)

ويلاحظ أنّ الخبر مع شهرته لم يذكر في المجاميع الحديثية المعتبرة ولم يصل إلينا بطريق معتبر إلا حديث واحد، وهو الحديث الأوّل. ومن الغريب أنّ الأمر كذلك في كتب العامّة أيضاً، فلم يرد بذلك خبر في الصحيحين مثلاً.

ونذكر هنا بعض ما وجدناه في كتبهم:

روايات العامّة في التفسير بالرأي

في «صحيح الترمذي» باب بعنوان: «باب ما جاء في الذي يفسِّر القرآن برأيه» روى فيه عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلّی الله علیه و آله: « مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّا مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». (5) وقال هذا حديثٌ حسنٌ.

ص: 17


1- تفسير العياشي 1: 17
2- نفس المصدر
3- نفس المصدر
4- راجع: تفسير العياشي 1 : 17 - 18
5- سنن الترمذي 4: 268

ورواه أيضاً النسائي في «سننه». (1)

وروى الترمذي أيضاً عن ابن عبّاس ، عن النّبي صلّی الله علیه و آله ، قال: «اتَّقُوا الحَدِيثَ عَنِّي إِلا مَا عَلِمْتُمْ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِرَايِهِ فَلْيَتَبَوَّا مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».(2) وقال أيضاً: هذا حديث حسن.

وفيه أيضاً عن جندب بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلّی الله علیه و آله: «مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأ». وقال: هذا حديث غريب. (3)

ورواه أيضاً ابن داود في «سننه» وقال الألباني: ضعيف .

وفي «سنن النسائي» باب من قال في القرآن بغير علم روى في ما روى عن ابن عباس، عن النبي صلّی الله علیه و آله قَالَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ ، أَوْ بِمَا لَا يَعْلَمُ فَلْيَتَبَوَّا مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». (4)

ومع ذلك فربّما يحصل الاطمئنان من مجموع ما ذكر وغيرها بصدور هذا المتن من المعصوم.

العمل بظواهر الكتاب

حكم بعض المحدّثين بمقتضى هذه الروايات بأنّه لا يجوز العمل بظواهر الكتاب إلا إذا فسّر بالروايات المأثورة. وقد عقد في «الوسائل» باباً في أبواب صفات القاضي بعنوان: «باب عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر

ص: 18


1- السنن الكبرى، النسائي 5: 30
2- سنن الترمذي: 4: 268
3- نفس المصدر: 269 - 270
4- السنن الكبرى، النسائي 7: 286

القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة علیهم السّلام»، وروى في ذلك 82 حديثاً.

وهذا استنتاج باطل واضح البطلان، فإنّ الأخذ بالظواهر ليس من التفسير حتّى يقال إنّه تفسير بالرأي. والتفسير هو إبانة المعنى. ولا يصدق إلا إذا كان المعنى معقّداً. ولذلك يطلق الفسر على نظر الطبيب إلى بول المريض لمعرفة مرضه، وهو أمر معقّد.

والناس في مواجهة هذا الأمر وقعوا بين مفرط ومفرّط. فهناك من امتنع من الأخذ بظواهر القرآن ولزم منه تعطيل الكتاب، مع أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله والأئمة المعصومين علیهم السّلام أمروا بالرجوع إلى القرآن، بل جعلوا القرآن مناطاً لمعرفة ما يجوز الأخذ به من الرواية، وتمييزه عمّا لا يجوز.

منها ما رواه الكليني في «الكافي» عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «قال رسول الله صلّی الله علیه و آله: إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه».(1)

وروى عن أبان بن عثمان، عن عبدالله بن أبي يعفور قال: وحدّثني الحسين بن أبي العلاء أنّه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبد الله علیه السّلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به، ومنهم من لا نثق به، قال: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله صلّی الله علیه و آله وإلا فالذي جاءكم به أولى به».(2)

وعن أيّوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبد الله علیه السّلام يقول: «كلّ شيء مردود إلى

ص: 19


1- الكافي 1: 69، ح1
2- نفس المصدر ، ح 2

الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف».(1)

وعن هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «خطب النبيّ صلّی الله علیه و آله بمني فقال: أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله». (2)

والروايات في هذا الباب كثيرة جدّاً.

الاستغناء بالكتاب والمنع من نشر السنة

ومن الناس من أفرط في الأخذ بالكتاب العزيز، أو الدعوة إليه والاستغناء عن غيره، بل منع من الأخذ بالسنّة. والغالب في هؤلاء ليس هو المبالغة في تعظيم القرآن الكريم، بل هناك أهواء تدعوهم إلى ذلك، حيث يمكنهم التمسّك بالآيات المتشابهة، كما قال تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أمُّ الْكِتَابِ وَأخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَة مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ».(3)

ولذلك ورد في وصية من أمير المؤمنين علیه السّلام لعبد الله بن العبّاس لمّا بعثه للاحتجاج على الخوارج: «لا تُخَاصِمُهُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهِ تَقُولُ وَيَقُولُونَ ولكن خاصمهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصاً».(4)

ويلاحظ أنّ فكرة الاستغناء بالكتاب عن السنّة بدأت في أواخر حياة

ص: 20


1- نفس المصدر، ح3
2- نفس المصدر، ح 5
3- آل عمران (3): 7
4- نهج البلاغة، صبحي صالح: 401، کتاب 77

الرسول صلّی الله علیه و آله، وفي مواجهة طلبه الدواة والكتف أو نحو ذلك، ليكتب لهم وصيّة لا يختلفوا بعده.

ففي «صحيح البخاري» عَنْ ابْنِ عَبَّاس قَالَ لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صلّى الله عليه و آله وَجَعُهُ قَالَ: «ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ» . قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله و سلم غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ الله حَسْبُنَا، فَاخْتَلَفُوا وَكَثرَ اللَّغَط. قَالَ: «قُومُوا عَنِّي وَلا ينبَغِي عِندِي التَّنَازُعُ»، فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاس يَقُولُ: إِنَّ الرِّزْيَّةَ كُلَّ الرِّزْيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كتابه». (1)

وروى في ذلك روايات أُخرى كما روى غيره ومنهم مسلم في «صحيحه»: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه و آله وفي البيت رجال فيهمْ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لا تَضِلُّونَ بَعْدَهُ». فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنَ، حَسْبُنَا كِتَابُ الله، فَاخْتَلَفَ أهْلُ الْبَيْت فَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرَّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالاخْتَلَاف عَنْدَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا». قَالَ عُبَيْدُ اللَّه فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسِ يَقُولُ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّة مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَن يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ اختلافهمْ وَلَغَطهم. (2)

وبذلك جرت سيرة الخلفاء، ففي «تذكرة الحفاظ»: ومن مراسيل ابن أبي

ص: 21


1- صحيح البخاري 1: 37
2- صحیح مسلم 76:5

مليكة أنّ الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم، فقال: إنكم تحدّثون عن رسول الله صلّی الله علیه و آله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه. (1)

وروي عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطّاب يقول لأبي هريرة: لتتركنّ الحديث عن رسول الله صلّی الله علیه و آله أو لأُلحقنّك بأرض دوس. وقال لكعب: لتتركن الحديث أو لأُلحقنّك بأرض القردة. (2)

وعن يحيى بن جعدة قال: أراد عمر أن يكتب السنّة، ثمّ بدا له أن لا يكتبها، ثمّ كتب في الأمصار: من كان عنده شيء من ذلك فليمحه. (3)

وغير ذلك ممّا ورد في هذا الباب وهو كثير.

بل رووا في ذلك حديثاً يعدّ عندهم صحيحاً عن الرسول صلّی الله علیه و آله ، فرووا عَنْ أبي سعيد الخدريِّ أنّ رسول الله صلّی الله علیه و آله قال: «لا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ - قَالَ هَمَّامٌ: أَحْسَبُهُ قَال مُتَعَمِّدًا - فَلْيَتَبَوَّاْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». (4)

فهذا الحديث وإن كان ينهى عن الكتابة فقط إلا أنّه لا شكّ في أنّ ترك الكتابة يعرّض الأحاديث للتحريف، بل التلف بسبب النسيان وغيره، مع أنّ الحديث مكمّل للشريعة، ومفسّر ومبيّن للقرآن، بل في الأحاديث ما يعدّ

ص: 22


1- تذكرة الحفاظ 1: 2
2- كنز العمّال 10: 291
3- نفس المصدر : 292
4- صحیح مسلم 8: 229

كالقرآن من حيث الانتساب إلى الله تعالى، وإنّما لم يجعل منه لأنّ القرآن فيه ميزة التعبير الخاص الذي جعله معجزاً. فكيف يمكن الاستهانة بحفظ السنّة وجمعها وكتابتها، وصونها من التلف والتحريف؟!

لا شكّ في أن هذا الحديث ممّا صنعته الأيادي المستأجرة التي كانت تخدم السلطات والسلطة كانت تحاول منع انتشار السنّة الشريفة. والمعروف أنّ السنّة لم تكتب عند القوم زهاء قرن. والداعي إلى ذلك ما دلّت عليه الآية الكريمة من اللجوء الى المتشابهات، وما ذكره أمير المؤمنين علیه السّلام العلمية من أنّ القرآن حمّال ذو وجوه.

المراد بالتفسير بالرأي

المراد بالتفسير بالرأي

ومن هنا يمكن أن يقال: إنّ المراد بالتفسير بالرأي الذي منع في الأحاديث هو تأويل المتشابهات من دون الاستناد إلى قرينة واضحة من نفس القرآن الكريم، بحيث يرتفع اللبس وتدخل الآية بذلك في المحكمات، ومن دون الاعتماد على رواية معتبرة تفسّرها.

وينبغي أن نشير هنا إلى بعض موارد التفسير بالرأي:

1 - محاولة تفسير القرآن بالقرآن

ويجب أن يلاحظ أنّه حتّى مع الاعتماد على التفسير بالقرآن أو الرواي-ات ق-د يعتبر من التفسير بالرأي، كما نجده في كثير من التفاسير التي تدعى بالتفسير القرآني للقرآن، حيث يتمسّك بورود نفس الكلمة في مورد آخر من الكتاب العزيز، ويحمل مورد الشبهة على تلك الآية مع عدم وضوح اتّحادهما في المراد

ص: 23

إلا بنحو من التأويل والتحميل. فلا بدّ من التأمّل والاحتياط وعدم الحكم بذلك بصورة جازمة.

وكذلك في الأخذ بالروايات إذا لم تكن واضحة في التفسير أو لم تكن معتبرة من حيث السند والمتن ممّا يوجب الوثوق بالصدور وإلا فلا بدّ أيضاً من الاحتياط.

2 - تأثير المدارس الفلسفية ونحوها

من موارد التفسير بالرأي التي يبتلى بها كثير من المفسّرين أنّهم إذا كانوا يتبعون مدرسة من المدارس الفلسفية أو العلمية يحاولون تطبيق الآيات على ما توصلوا إليه في محور اختصاصهم.

وهذا يبدو نوعاً ما أمراً طبيعياً، لأنّ تأثّر الباحث بالعلم الذي تخصّص فيه أمر طبيعي، فتجد الفيلسوف إذا ورد البحث الفقهي يحاول تطبيق نظرياته الفلسفية في مجال الفقه، وهو ممّا يسبّب البعد عن استنباط حكم الله تعالى عن الكتاب والسنّة الذي هو وظيفة الفقيه، كما أنّه إذا حاول تفسير القرآن الكريم تجد الطابع الفلسفي مسيطراً على أفكاره.

وعليه فلا بدّ للباحث إذا أراد أن يبحث في أيّ مجال أن يتفرّغ من الإطار الذي يفرضه عليه تخصّصه الآخر، أو العلم الذي أعجب به وتوغّل فيه. وهذا قد يكون صعباً في البداية إلا أنّه بالممارسة يسيطر الإنسان على طريقة تفكيره.

وهذا باب مهمّ جدّاً وقلّما نجد مفسّراً يترك ما يملي عليه تخصّصه العلمي في مجال التفسير، سواء كان متّأثراً بالفلسفة القديمة أو الحديثة، أو الكلام بشتّى مدارسه المتناحرة، أو العلوم الطبيعية بشتّى أنواعها، حتّى الطبيب ينظر إلى كثير

ص: 24

من الآيات بمنظار الطبّ، والاجتماعي بمنظاره الخاصّ، وكذلك الفلكي والجيولوجي، وغير ذلك.

ومن هنا نجد كيف تفسّر الآيات التي تتعرّض لذكر السماء والأرض، والنجوم والكواكب والشهب، والليل والنهار، والشمس والقمر، ونحو ذلك، حسبما تتوصل إليه علم الهيئة. ونجد كيف تتحوّل تفسير الآية وتتغيّر كلّما تغيّر العلم. وتوصل الإنسان إلى أخطائه.

ولو تأمّلنا لوجدنا أنّ كلّ تلك التفاسير خاطئة وأن القرآن لا يقصد إلا ما يتراءى للإنسان البسيط الذي يلاحظ السماء، فهو ليس كتاباً علمياً، ولم ينزل ليشرح للإنسان حقائق الكون الطبيعية. ولو كان كذلك لتوصل البشر من أوّل يوم إلى آخر مرحلة من الكشف العلمي، لأنّ كتب السماء نزلت منذ أقدم العصور، فلو أراد الله تعالى أن يشرح للبشر كلّ حقائق الكون لم يبق له مجال للبحث العلمي أصلاً، لأنّ علام الغيوب يفتح له كلّ أبواب الغيب.

3 - التعصّب الأعمى

ومن الأُمور التي توجب الابتلاء بالتفسير بالرأي التعصّب الأعمى للمذهب وللعقيدة التي اتّخذها الإنسان تحت تأثير المجتمع الذي تربّى فيه، والبيئة الدراسية التي صنعت ثقافته، وحدّدت منهج تفكيره، فنجد كثيراً من المفّسرين يحاول تأويل الآية، وحملها على خلاف ظاهرها، لأنّه ينافي ما تأصّل في عقيدته، وتجذّر في فكره، تقليداً للسلف أو للمدرسة. ونجد من يأتي بعده ويردّ عليه يؤوّل الآية أيضاً بما يتناسب مع عقيدته.

ص: 25

ومن باب المثال يلاحظ «تفسير الكشاف» الذي ألفه الزمخشري وهو معتزلي في غاية التعصّب يحاول تصيّد أيّ كلمة أو جملة في القرآن الكريم للانتصار لمذهبه ولو بتأويل، حسب الأسس التي تلقّاها بالقبول. ويأتي بعده ابن منير في «الانتصاف» معلقاً على «الكشّاف»، متعصّباً لأهل السنّة، يهاجم الزمخشري ويكفّره في بعض الموارد.

وربّما يلاحظ المراجع المنصف أنّ كليهما على خطأ، وأنّ الآية لا توافق شيئاً من العقيدتين، بل هي بعيدة عن هذا النوع من التفكير، فإن كثيراً من الأبحاث التي اختلف فيها المعتزلة والأشاعرة أبحاث واهية سخيفة لا تمتّ إلى الدين بصلة، ولا ينظر إليها الكتاب العزيز بنفي أو إثبات ولا تنفع الإنسان في دينه أو دنياه.

4 - محاولة تطبيق القرآن على العلم الحديث

ومن موارد التفسير بالرأي محاولة الكّتاب والمثقّفين الجدد تطبيق الآيات الكريمة على ما توصّل إليه العلم الحديث. وظاهر الأمر أنّ غرضهم من ذلك الإشادة بالقرآن، وأنّه يحمل من الحقائق العلمية ما لا يمكن أن يعلمه البشر في ذلك العصر، ليكون دليلاً واضحاً على إعجازه، وعلى أنّه من وحي ربّ العالمين.

وهذا هدف رفيع، وهناك من الآيات ما تدلّ على ذلك بوضوح، إلا أنّ الإفراط في ذلك، وتأويل العبارات لتطابق هذا الغرض خطأ واضح وخطير، خصوصاً مع تعرّض هذه المعلومات للتخطئة، كما نجده في كثير منها. والقرآن أسمى من أن يقاس بهذه العلوم البشرية، والغرض منه أيضاً أسمى من الأهداف

ص: 26

التي تحاول هذه العلوم الوصول إليها.

فالغرض من القرآن رفع الإنسان من حضيض الإخلاد إلى الأرض ليصعد بإيمانه بالغيب إلى مصافّ ملائكة الله تعالى في السماوات، بل ليبلغ مقاماً أعلى من ذلك بالعلم والمعرفة وأين هذا من العلوم التي تدعو إلى تكريس الإيمان بأُلوهية الإنسان وأصالته، وتحثّ على الإخلاد إلى الأرض، ومحاولة البقاء فيها أكثر فأكثر بأيّ ثمن كان؟!

والحاصل: أنّ محاولة تطبيق الآيات على ما توصّل إليه العلم المختلط بالجهل البشري محاولة خاطئة، وإن كان القصد صائباً. فمثلاً كنّا في ما مضى نسمع كثيراً من الكّتاب والخطباء يذكرون في مقالاتهم وخطبهم أن قوله تعالى: «يَا مَعْشَرَ الجنَّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ»(1)، يراد به التوغّل في الفضاء والصعود إلى الكواكب الأُخرى، وأنّ قوله «إِلا بِسُلْطَانٍ» بمعنى القوّة والقدرة، وأنّ البشر تمكن فعلاً من السير في الفضاء بفضل ما أُوتي من علم وقوّة، وأنّ القرآن قد تنبّأ بذلك قبل أربعة عشر قرناً.

ثمّ لمّا لاحظوا أنّ الله تعالى ينفي القدرة على ذلك في الآية 35 بقوله تعالى: «يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ» خابوا وانتكصوا على أعقابهم، وقام بعض المغرضين والأعداء بالاستهزاء بالكتاب العزيز، وبأنّ البشر قد تحدّى القرآن، وتمكّن من غزو الفضاء.

مع أنّ الصحيح أنّ الآية 33 لا تدلّ على ما ذكروه أساساً، وكنّا نحذّر في ذلك اليوم من هذا التفسير الخاطئ، فإنّ «النفوذ» في الآية لم يتعلّق ب_«أقْطَارِ

ص: 27


1- الرحمن (55): 33

السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» من خلال حرف «في» ليدلّ على التوغّل في الفضاء، بل تعدى ب_ «من» ومعناه الخروج من أقطار السماوات والأرض، أي الخروج من الكون وهو أمر مستحيل. وتفصيل القول في الآية في محلّه إن شاء الله تعالى.

ومن ذلك أيضاً أنّ كثيراً من المفسّرين الجدد يقولون: إنّ الجريان في قوله تعالى «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَر لَهَا»(1) يراد به حركة الشمس مع منظومتها في المجرّة، وذلك لأنّ الشمس لا تجري حول الأرض، بل الأرض تدور حول نفسها ليلاً ونهاراً. وقال بعضهم غير ذلك، فراراً من القول بما يخالف الكشف العلمي.

وقلنا في تفسير الآية إنّ المراد هو هذا الجريان المشهود، وإن لم يكن مطابقاً للواقع، فإنّ الغرض ليس بيان الحقيقة العلمية، بل تنبيه الإنسان على ما رزقه الله تعالى من النعم، ومنها الليل والنهار، وحركة الشمس والقمر، وما يترتّب على ذلك من فوائد للبشر.

وهذا نظير ما نتداوله في محادثاتنا المتعارفة من التعبير بطلوع الشمس وحركة الشمس وارتفاعها وانخفاضها وصفرتها وحمرتها وكسوفها، ولا نقصد بذلك إلا الجري على ما هو الظاهر للعين، فإنّ الغرض يترتّب على هذه الظاهرة مع قطع النظر عن حقيقته في الطبيعة.

5 - التفسير الباطني

ومن موارد التفسير بالرأي حمل الآيات على معان باطنية، استناداً إلى ما ورد في الروايات من أنّ القرآن له ظهور وبطون.

ص: 28


1- يس (36): 38

فمنها ما رواه في «الكافي» عن الإمام الصادق علیه السّلام رسول الله صلّى الله عليه و آله في وصف القرآن: «وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل وهو الفصل ليس بالهزل وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق».(1)

ومنها ما رواه البرقي في «المحاسن» عن فضيل بن يسار، قال: سألت أبا جعفر علیه السّلام عن هذه الرواية: «ما من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن»؟ قال: «ظهره تنزیله، وبطنه تأويله. ومنه ما قد مضى ومنه ما لم يكن يجري كما تجري الشمس والقمر، كلّ ما جاء تأويل شيء (منه) يكون على الأموات، كما يكون على الأحياء. قال الله: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَه إلا الله وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»(2) نحن نعلمه».(3)

وهذه الرواية التي سأل الفضيل الإمام علیه السّلام عن معناها مرويّة في كتب العامّة بطرق مختلفة. ويظهر من تفسير الإمام علیه السّلام أنّ المراد بالبطن تحقّق مصاديق الآية طيلة الأزمنة، فمنه ما قد تحقّق، ومنه ما سيأتي.

وربّما يقال: إنّ هذا لا يختصّ بالقرآن، فكلّ جملة يقولها أحد ممّا يكون الموضوع فيها عامّاً له أفراد تتحقّق تدريجاً، فالجملة تصدق في كلّ تلك الموارد حتّى بعد موت قائلها بقرون، فما هو الموجب لتوصيف المصاديق بالبطن في القرآن الكريم؟

والجواب: أنّ الفرق من جهة أنّ القائل هنا هو الله تعالى، وهو محيط بكلّ مراحل الوجود ، ولا يختلف عنده الحاضر والمستقبل، والشاهد والغائب، بل ليس لديه غياب واستقبال. فإذا قال شيئاً عن موضوع له أفراد في طول الزمان،

ص: 29


1- الكافي 2: 599
2- آل عمران (3): 7
3- وسائل الشيعة 27: 197

فإنّ كلّ تلك الأفراد مقصودة من نفس اللفظ ، وفي سياق واحد لا يختلف شيء منها عن شيء.

ولذلك كان القرآن يجري مجرى الشمس والقمر فبطون القرآن وتأويله ليس بمعنى آخر، بل المراد تحقّق نفس المعنى الظاهر من اللفظ.

والتأويل: إرجاع الشيء. وهو مأخوذ من «الأول» بمعنى الرجوع. فتأويل المعنى تحقّقه خارجاً.

ومن هنا يعلم معنى قوله تعالى: «بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَاوِيلُه»،(1) والضمير يعود إلى القرآن، فالمراد أنّهم يكذّبون به مع عدم إحاطتهم بما فيه من علم، ولم يأتهم بعد تأويل ما أخبر به من الأخبار الغيبية كما يشاهدونه بعد الموت، ويوم القيامة، وقوله: «لمّا» يدلّ على أنّ تأويله سيأتيهم لا محالة، ولكنّه لم يأتهم حتّى الآن.

وكذلك قوله تعالى «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ»،(2) والضمير يعود أيضاً إلى القرآن، وهو صريح في أنّهم سيجدون تأويله. والمراد تأويل ما فيه من الأخبار بالغيب، فهم يجدونه بعد الموت ويوم القيامة.

وقيل في تفسير الظهر والبطن بوجوه أُخر، أحسنها أنّ الآية قد تكون بظاهرها سرداً لقصص الماضين وتأريخهم، وهي في الواقع تنبيه وتحذير.

ومهما كان، فلا وجه لما يحاوله بعض أصحاب البدع والأهواء من حمل

ص: 30


1- يونس (10): 39
2- الأعراف (7): 52

الآيات على معان بعيدة عن المعنى الظاهر، بدعوى أنها هي المقصودة في الباطن.

وهؤلاء على قسمين: فمنهم من كانوا في العهود السابقة يحملون الآيات على معان يدّعون أنّها من العرفان، وهم الصوفية. وتجد كثيراً من ذلك في تفسير «روح المعاني» للآلوسي، كما يُحكي ذلك أيضاً عن الإسماعيلية، ولم أجد كتبهم.

ومنهم من ظهروا أخيراً، وظهر معهم نوع من النفاق، فيقولون إنّ المراد بالقيامة يوم انتفاضة الشعوب على الحكّام الظلمة، وإنّ المراد بالجنّة ونعيمها المجتمع الذي يحكمه النظام الاشتراكي، إلى غير ذلك من الترّهات.

وفي هذا المورد أيضاً نجد الناس بين إفراط وتفريط، فالمفرط في التوغّل في البطون من عرفناهم ، والمفرّط من يحمل اللفظ على ظاهره من دون تأمّل، مع أنّ كثيراً منه يراد به المعنى الكنائي. وهذا أيضاً كثير في تفاسير اتباع السلف. ومن الغريب من يجمع بين الأمرين، كما يلاحظ في «روح المعاني».

فمن غرائب ما نجده في تفاسيرهم حمل ما ورد في القرآن الكريم من نسبة اليد والوجه والعين إلى الله تعالى على معناه الظاهري، فيقولون إنّه لا يجوز التأويل، ولكن نقول إنّ ما ينسب إليه تعالى ليس كما عندنا الأعضاء.

مع أنّ من الواضح أنّ المراد بقوله تعالى: «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي»(1) أي تحت عنايتي الخاصّة، والمراد باليد القدرة، وهو استعمال متعارف فقوله تعالى: «قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ»،(2) ، اي ما تجلّت فيه قدرتي التامّة. وهكذا.

ص: 31


1- طه (20): 39
2- ص (38): 75

وهذا التفريط أخطر من ذلك الإفراط، وإن كان يبدو بظاهره من الاحتياط في التعامل مع كلام الله تعالى. وذلك لأنّه لو تأمّلناه وجدناه يفضي إلى الكفر، فإنّ من ينسب الأعضاء إلى الله تعالى أو يعتقد أنّه تعالى يُرى بالعين يوم القيامة، لقوله تعالى: «إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ»(1) ، فهو من المجسّمة، وإن أبى أن ينسب إليه ذلك، والتجسيم كفر بالله تعالى، أي إنكار له كما تنكره الملاحدة.

وذلك لأنّنا لا نعرف الله تعالى إلا بصفاته، فإذا اعتقد الإنسان أنّ الله تعالى موجود جسماني يجلس على كرسي أو على عرش، ويحكم كما يحكم الملوك، أو يعتقد أنّ له رجلاً يدخله في جهنّم يوم القيامة لتسكن بعد ما أصرّت على المزيد،(2) فهو منكر الله المهيمن المتعالي، والمنّزه عن كونه جسماً ومحدوداً في مكان يمكن أن يشار إليه أو يُرى.

وعلى كلّ حال، فالطريق الصحيح هو الاعتدال، فلا يحمل ما يمكن الأخذ بظاهره على معان بعيدة، حتّى لو كانت معقولة، فضلاً عن مثل ما ارتكبه المنحرفون ممّن نقلنا بعض تحريفهم، ومع ذلك لا يجوز أن يحمل مثل هذه الكلمات على ظاهرها الأوّلي. وليس هذا تأويلاً ولا مخالفة للظاهر، فإنّ الظهور

ص: 32


1- القيامة (75): 23
2- إشارة إلى ما ورد في كتب القوم ومنها الصحيحان وهي عدّة أحاديث ننقل أحدها عن البخاري: «تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ النَّارُ: أَو ثَرْتُ بِالْمُتَكَبَرِينَ وَالْمُتَجَبِرينَ، وَقَالَتْ الجَنَّةُ: فَمَا لي لا يَدْخُلُنِي إِلا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطْهُمْ وَغِرَّتَهُمْ. قَالَ اللَّهُ لِلْجَنَّة: إِنَّمَا أَنْتَ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ منْ عِبَادِي، وَقَالَ للنَّارِ: إِنَّمَا أنت عَذَابِي أَعَذِّبُ بِك مَنْ أَشَاءُ مَنْ عِبَادِي وَلكُلِّ واحدة منكُمَا مُلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارَ فَلا تَمْتَلَى حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَجْلَهُ، تَقُولُ: قَطَ قَط قَطَ، فَهُنَالِكَ تُمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلا يَظْلِمُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةَ، فَإِنَّ اللهَ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا». (صحيح البخاري (6: 48)

يتحدّد بملاحظة مجموع القرائن الحالية والمقالية.

نكتفي إلى هنا وندعو الله سبحانه أن يهدينا إلى الطريق الصحيح في معرفة آياته وأحكامه وتفسير كلامه، وأن يوفّقنا لمعرفة أسرار كتابه العظيم وأن يصون أقلامنا من الانحراف إلى التفسير بالرأي والتقوّل على الله تعالى وعلى رسوله صلّی الله علیه و آله وعلى أوليائه الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين، إنّه سميع مجيب.

مرتضى المهري

25 جمادى الآخرة 1433

2012/5/17

ص: 33

ص: 34

تفسير سورة الأحزاب

تفسير سورة الأحزاب

ص: 1

ص: 2

سورة الأحزاب (1-5)

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)»

سورة الأحزاب سورة مدنية، تشتمل على أحكام خاصّة بالمؤمنين في المدينة، وتبيّن حالة المسلمين بعد غزوة بدر الكبرى، وفيها ذكر لحوادث غزوة الخندق - والتي تسمّى بالأحزاب أيضاً - ومن هنا سمّيت السورة بالأحزاب، وفيها أيضاً إشارة إلى قصّة بني قريظة وتشتمل على أحكام خاصّة بالنبي صلّی الله علیه و آله .

وروى بعض العامّة عن أُبيّ بن كعب أنّ سورة الأحزاب كانت تعادل سورة البقرة أو أكثر ورووا غير ذلك ممّا يدلّ على ضياع جزء كبير منها.

ص: 3

فمنها: ما رواه أحمد في مسنده، عن زرِّ بْنِ حُبَيش، عَنْ أَبِيِّ بْنِ كَعْب قال: كُمْ تَقْرَؤُونَ سُورَةَ الأحْزاب؟ قال: بضعاً وَسَبْعِينَ آيَةً، قَالَ: لَقَدْ قَرَأْتُها مَعَ رَسُول الله صلّی الله علیه و آله مِثْلَ البَقَرَةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا وَإِنَّ فِيهَا آيَةُ الرَّجمِ.

وروى أيضاً عَنْ زر، قالَ: قالَ لِي أَبَيُّ بْنُ كَعْب كَأَيِّنْ تَقرَأَ سُورَة الأَحْزَابِ أَوْ كَأَيْن تَعُدُّها قال: قلت له: ثلاثاً وسبعين آية. فقال: قطُّ لَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَتُعَادِلُ سُورَة البَقرة ولقد قرَأنَا فِيهَا: الشيحُ والشَيْحَة إذا زَنيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَة نكالاً من الله واللهُ عَليمٌ حَكيمٌ(1).

وروى الحاكم في «المستدرك» عن زرّ، عن أبيّ بن كعب رحمه الله قال: كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة وكان فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة.

ثمّ قال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»(2).

وهذه من روايات التحريف وهي كثيرة. وحملها بعضهم على نسخ التلاوة، حيث إنّ الله تعالى نسخ بعض الآيات وحذفها من القرآن وإن بقيت أحكامها.

وهو أمر مردود عندنا، لأنّ النسخ بمعنى تبدّل الرأي غير ممكن بالنسبة إلى الله تعالى، بل النسخ الممكن هو انتهاء أمد الحكم بأن تقتضي المصلحة تغيير الحكم. وأمّا نسخ آيات الكتاب فلا وجه له، فإنّ صفة القرآنية لا تنتزع من الآيات، إذ أنّ القرآن هو الكلام النازل من عند الله تعالى بصورة الإعجاز، وهذا أمر تكويني لا يتبدّل، وليس كالحكم التشريعي الذي يمكن كونه مغيّى بأمد أو شرط.

ص: 4


1- مسند أحمد 5: 132، وروى مثل ذلك النسائي في سننه، (راجع: سنن النسائي 4: 271)
2- المستدرك 2: 415

ومن رواياتهم ما تدلّ على وجود سور محذوفة بكاملها، ومنها ما تدلّ على حذف ثلث القرآن، وأمّا حذف الجمل فحدث ولا حرج.

وورد في رواياتنا أيضاً بعض ما يدلّ على ذلك إجمالاً، والصحيح أنّ هذه الروايات كلّها مكذوبة أو ضعيفة أو مؤوّلة، وللكلام فيها موضع آخر.

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ» هناك تفسير مشهور لهذه الآيات نذكره أوّلاً، ثمّ نتبعه باحتمال آخر لعلّه أقرب. فقد ورد في شأن نزول الآيات، أنّها نزلت في أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور السلمي لمّا قدموا المدينة، ونزلوا على عبد الله بن أُبيّ بعد غزوة أُحد بأمان من رسول الله صلّی الله علیه و آله ثمّ جاؤوا مع بعض المنافقين فدخلوا على رسول الله صلّی الله علیه و آله ، وقالوا: يا محمّد ارفض ذكر آلهتنا وقل إنّ لها شفاعة لمن ،عبدها، وندعك وربّك. فشقّ ذلك عليه صلّی الله علیه و آله، وأمر بإخراجهم، ونزلت الآيات.

وذكر بعض المفسّرين أنّ الأمر بالتقوى في الآية بمعنى عدم الإقدام على قتلهم. وهو غير صحيح، بل من الواضح - على فرض صحّة الرواية - أنّ المراد هو التقوى في عدم الانصياع لاقتراحهم فقوله: «اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِع» أي اتّق الله في إطاعتهم.

واستبعد بعضهم أن يأمر الله تعالى رسوله بالتقوى، وهو صلّی الله علیه و آله سيّد المتّقين، فلا بدّ من كون الخطاب متوجّهاً إلى غيره وإن كان ظاهره متوجّهاً إليه، واعتبر التعليل فى الآية التالية: «إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً» حيث ورد الخطاب للجمع قرينة على ذلك.

ولكنّه غير صحيح، ولا مانع من كون التعليل عامّاً والخطاب خاصّاً، والظاهر

ص: 5

أنّ الخطاب موجّه إليه صلّی الله علیه و آله وأنّه هو المبتلى بالإطاعة، حسب ما ورد في الحديث.

وذهب بعضهم إلى أنّ التقوى ليس لها حدّ، فلا مانع من أمر الرسول بها، فهناك مجال لزيادة التقوى حتّى فيه صلّی الله علیه و آله.

و هو غير صحيح، لأنّ الوارد في الرواية المذكورة أنّه رفض الإطاعة ولم يتردّد في ذلك، فلا بدّ من توجيهٍ آخر للأمر بالتقوى.

والذي يخطر بالبال بناءً على هذا التفسير هو أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله، وإن رفض الانصياع لهم، إلا أنّه كان هناك حوله من لا يعجبه ذلك، ويرى أنّ السياسة تقتضي أن يهادنهم الرسول صلّی الله علیه و آله، ويتنازل - نوعاً مّا - لمقترحاتهم حتّى لا تقوم الحروب في المنطقة، ويهدأ الوضع الاجتماعي. فكان رفض الرسول لمقترحهم بحاجة إلى دعم من الله تعالى ليكون حجّة وعذراً له أمامهم ومبرّراً لموقفه الرافض لكلّ مهادنة تمسّ أصل الرسالة، كما كان ذلك دأبه وديدنه صلّی الله علیه و آله .

فالظاهر : أنّه صلّی الله علیه و آله كان مبتلى - كما نحن مبتلون في هذا العصر - بنوعين من المتطرّفين: قسمٌ يدعو إلى محاربة العدوّ، ومحاربة كلّ من يدعو إلى مصالحته، ويكفّر المسلمين، ويدعو إلى قتل الكفّار حتّى لو كانوا معاهدين ونزلوا عندنا بأمان، وقسمٌ يدعو إلى المهادنة والصلح، ولو على حساب التنازل عن الدين وعن كلّ الشعائر الإسلامية، بل يرفضون كلّ شعار إسلامي إرضاءً لخاطر الكفّار والمنافقين.

فالقسمان كانا موجودين في الصحابة أيضاً، فهناك من سلّ سيفه أمام الرسول صلّی الله علیه و آله واستأذن في قتل أصحاب الاقتراح - وهو عمر بن الخطّاب - على ما

ص: 6

ورد في القصّة، ورفض الرسول صلّی الله علیه و آله ذلك، لأنّهم أتوه بأمان من عنده، وبطبيعة الحال كان بعضهم يفضّل الراحة والصلح والمهادنة.

فالآيات - على ما يبدو - نزلت لتدعم موقف الرسول المعتدل الذي يرفض قتل المعاهد، ولكنّه يرفض - بشدّة - المهادنة والصلح على حساب العقيدة، خصوصاً على أهمّ جزء من العقيدة وهو التوحيد. فإنّ كلّ الشرائع والرسالات، إنّما جاءت لترسيخ التوحيد ونبذ عبادة غير الله سبحانه، فهو أصل الأُصول. ولعلّ هذا الذي ذكرناه هو السرّ في اللهجة الصارمة التي تشتمل عليها الآيات.

«إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً» اضطربت الكلمات في توجيه هذا التعقيب، وتناسبه مع مضمون الآية. والظاهر - على ضوء ما مرّ، وبناءً على هذا التفسير - أنّ الوجه في ذلك الردّ على أصحاب الاقتراح، والمنادين بالصلح والمهادنة بأنّ الرسول صلّی الله علیه و آله لا يحتاج إلى من يعاونه في الرأي، ويشير إليه بما هو الأصلح، فإنّه يتّبع أوامر الله سبحانه، وهو بكلّ شيء عليم، ولا يأمر بشيء إلا على أساس الحكمة والمصلحة.

وإنّما جمع بين الوصفين، لأنّ العمل بالرأي الصائب بحاجة إلى أمرين: «العلم» و«الحكمة». ولا يكفي العلم وحده، فربَّما يكون الإنسان عالماً بما يجب أن يفعل، ولكنّه يتّبع هواه ولا يعمل بمقتضى علمه، فلا بدّ له من حكمة تمنعه من متابعة الهوى. والحكمة هي المنع، تقول: حكمت الدابّة إذا ألجمتها ومنعتها، فالحكيم يمتنع من متابعة الهوى. والله تعالى عليم يعلم ما هو الأصلح، وحكيم لا يعمل إلا ما هو الأصلح، ولا يأمر إلا بما هو الأصلح .

«وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ»، أي إنّك لست بحاجة إلى اقتراح أو رأي من

ص: 7

أحد، وما عليك إلا أن تتّبع ما يوحى إليك من ربّك العليم الحكيم.

«إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً» وهذه الجملة أيضاً تتضمّن تهديداً - والخطاب للمسلمين جميعاً - وهو يحذّرهم من ربّهم، فالإنسان كثيراً ما يغفل عن هذه الحقيقة وهي أنّ هناك عيناً ترصده، وترصد كلّ ما يصدر منه من قول أو فعل، بل كلّ ما يخطر على باله، فيظنّ أنّ بعض ما يصدر منه من هفوات حيث لا يراه أحد، فإنّها تنتهي ولا يحسب لها حساب، ويغفل عن أنّ الله تعالى «لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ».(1) فالآية الكريمة - بناءً على هذا التفسير - تحذّر النبي صلّی الله علیه و آله والمؤمنين من أن يصدر منهم أيّ اقتراب لقبول هذا الاقتراح الفاضح، المخالف لأساس الدين والشريعة.

«وَتَوَكَّلْ عَلَى الله»، هذه الآية تقطع كلّ عذر لقبول الاقتراح، فإنّ غاية ما يمكن أن يعتذر به، هو الخوف من الأعداء وإيذائهم أو عدوانهم.

وحاصل الجواب: أنّ المؤمن في سبيل الدعوة وإعلاء كلمة الله تعالى، يجب أن يتوكّل على الله، ويعتمد على لطفه وعنايته. و «التوكّل» هو إيكال الأمر إليه: «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ».(2)

«وَكَفَى بِالله وَكِيلاً» فمن أوكل أمره إليه وجاهد في سبيله، فليطمئنّ وليسترح ولا يخافنّ شيئاً، فإنّ المتكفّل بشؤونه هو الله العليم الحكيم القادر على كلّ شيء. ولكنّه تعالى لا يتكفّل للمؤمن المتوكّل أن يصل إلى كلّ ما يهواه ويرغب فيه، فربّما لا يكون نافعاً له وهو لا يعلم، وربّما يكون نافعاً لدنياه ومضرّاً بدينه،

ص: 8


1- سبأ (34): 3
2- الطلاق (65): 3

وإنّما يتكفّل بما هو الأصلح والأنفع لحاله.

ثمّ إنّ التوكّل لا يعني أن يترك الإنسان واجبه، ولا يسعى لبلوغ مآربه المشروعة متوكّلاً على الله تعالى، فالسرّ في التوكّل أنّ الإنسان وإن بذل كلّ جهده، وكان خبيراً بما يتطلّبه الأمر، إلا أنّه يبقى عاجزاً عن بعض ذلك أو جاهلاً به. وهناك موانع كثيرة في طريق الوصول إلى الأهداف يجهلها الإنسان، مهما توسّعت خبرته وعظمت قدرته، فإذا توكّل على الله تعالى وكان من مصلحته، كفاه الله ذلك.

«مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» المراد بالقلب، النفس الإنسانية لا القلب الذي هو عضو في الجسم يضخّ الدم. وهذا تعبير كنائي يقصد به أنّ الإنسان لا يمكن أن يكون له عقيدتان متنافيتان، فيكون - بناءً على التفسير السابق - إشارة إلى منع اجتماع الشرك والتوحيد في قلب إنسان واحد، ليؤيس بذلك المشركين، ويمنعهم من محاولة الضغط على الرسول صلّی الله علیه و آله، ليتنازل عن بعض ما أُوحي إليه، بهدف تقارب المذهبين: الشرك والتوحيد. وبذلك تكون هذه الجملة تكملة لما ورد في الآيات السابقة.

ولكن هناك رأي بأنّ هذه الجملة ترتبط بما بعدها، أي اعتبار الزوجة أمّاً بالظهار، وذلك على أساس أنّ هذين اعتباران متنافيان، فإمّا أن يعتبر الرجل المرأة زوجته، فيعاشرها معاشرة الأزواج، وإمّا أن يعتبرها محرّمة كحرمة الأمُّ، فلا تعتبر زوجة وتكون مطلقة ويخلّي سبيلها. والعرب كانت تظلم المرأة بالمظاهرة، فتعتبرها زوجة من جهة، فلا يجوز لها الزواج بغيرها، ولكنّها زوجة تحرم عليه كحرمة الأُمّ.

ص: 9

هذا، ولكنّ الاحتمال الأقرب في تفسير الآيات - وإن لم يذكره المفسّرون - هو أنّها من أوّلها تنظر إلى هذه الأحكام، أي أحكام الظهار والتبنّي، فإنّ التفسير المشهور يوجب إنفصاماً بين الآيات لا موجب له، فلا يبعد أن يكون المراد بأمر الرسول صلّی الله علیه و آله بالتقوى، عدم الخوف من الناس في إبلاغهم الأحكام الشرعية التي تتنافى مع عاداتهم وسننهم الاجتماعية.

ومن الطبيعي أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله ما كان يتهاون في تبليغ أحكام الله تعالى، ولكنّه بطبيعة الحال، كان يلاحظ الوضع الاجتماعي ويحاول تمهيد الوضع، ليتلاءم مع إعلام الحكم، فإنّ المجتمع - بطبيعة الحال - لا تتقبّل بعض الأحكام والقوانين. فمجتمع بدويّ فاسد بجميع المعايير، وغارق في الشرك والوثنية، والمفاسد الاجتماعية الموروثة، والسنن الجاهلية المتجذّرة فيه لا يمكن أن يتبدّل في يوم وليلة إلى مجتمع يسوده التقوى والورع والطهارة.

ولذلك كان ولا بدّ من أن تنزل الأحكام الشرعية الإلهية بالتدريج، لتتلقّى القبول. وكان الحكم في بداية الأمر أنّه يكفي في إسلام المرء أن يقول: «لا إله إلا الله»، فلم يجب آنذاك صلاة ولا زكاة ولا صوم، ولم يحرم عليه المنهيّات الدينية، ثمّ تدرّجت الأحكام والأوامر والنواهي.

وهذا الأمر، أي ملاحظة وضع المجتمع لإعلام القوانين التي تخالف سنتها وعاداتها نوع من التقيّة، فإنّ الزعماء يتّقون الناس في إعلان ما لا يتلاءم مع رواسبهم الفكرية والثقافية. والتقيّة لا تختصّ بموضع الخوف على النفس والعرض والمال من ظالم متسلّط ، بل أكثر الزعماء يتّقون عامّة الناس، ولا يبدون جميع معتقداتهم. ولذلك ورد في بعض رواياتنا أنّ الأئمة علیهم السّلام كانوا يتّقون عوام الشيعة.

ص: 10

والله تعالى يأمر رسوله هنا أن لا يلاحظ هذا الأمر إذا أُمر بتبليغ الحكم، فإنّ الله تعالى هو العالم بحقائق الأُمور، وهو يعلم أنّ الوقت والوضع الاجتماعي مناسب لإعلام ذلك، ولا موجب للخوف والتقيّة.

وعليه فهذه المجموعة من الآيات نظير ما ورد في سورة المائدة حول إعلام ولاية أمير المؤمنين علیه السّلام : «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»(1).

والآية واضحة الدلالة على أنّه صلّی الله علیه و آله كان يلاحظ الوضع الاجتماعي، ويحذر من إعلام الناس في حشد كبير مثل هذا الأمر الخطير ، خوفاً من اتّهامه بمجاملة ابن عمّه وصهره وترجيحه على الآخرين، وإن كان قد أعلنه مراراً في مجالس خاصة من بدو الدعوة حيث نزلت الآية: «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ»(2)، إلى يوم الإعلان العامّ، وبعده أيضاً إلى يوم وفاته صلّی الله علیه و آله ، ولكنّه لم يعلنه في حشد كبير كالذي تجمّع في غدير خمّ، فكان يحذر من ذلك، فنزلت الآية الكريمة تعلن أنّ هذا الأمر يبلغ من الأهميّة درجة تساوي أصل الرسالة، فإن تهاونت في تبليغه للناس، فكأنّك لم تبلّغ الرسالة أصلاً.

ومن الطبيعي أنّ أمراً هذا شأنه لا يمكن أن يكون حكماً فرعيّاً من أحكام الصلاة والصوم، أو الحدود والديات، أو القتال والجزية، ونحو ذلك، وإنّما هو حكم مصيريّ تتوقّف عليه استقامة المسير الرسالي بعد وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله، وبعد التأكيد على درجة أهمية البلاغ طمأن الرسول صلّی الله علیه و آله بأنّ الله تعالى يعصمه من

ص: 11


1- المائدة (5): 67
2- الشعراء (26): 214

الناس، وأنّ الوضع الاجتماعي يناسب تقبّل مثل هذا الأمر، فلا موجب للتقيّة في إبلاغ المجتمع، ذلك لأنّ التقيّة إنّما تحسن مراعاة لوضع الناس وتخوّفاً من ردّ الفعل الاجتماعي تجاه هذا الإعلان، فإذا أمر الله تعالى بالإبلاغ، فلا وجه للتوقّف والانتظار.

وهنا أيضاً نزلت السورة بأحكام شرعية، لها جانب من الخطورة في تقبّل المجتمع، لأنّها تعارض السنن الاجتماعية العريقة في اعتبار الزوجة المظاهرة بمنزلة الأُمّ، واعتبار الولد المتبنّى بمنزلة الابن، وهذه أُمور تتعلّق بشؤون الأُسرة، والعرف الاجتماعي القبليّ يهتمّ بها أكثر من غيرها من الشؤون، ومن الصعب جدّاً عليهم أن يتنازلوا في ذلك، كما هو الحال عليه الآن.

والسورة تشتمل مضافاً إلى ذلك على أحكام خاصّة بالرسول صلّی الله علیه و آله في شؤون الزواج، وهي أيضاً أُمور يصعب عليه إعلانها للمجتمع، حذراً من اتّهامه في ذلك، كما اتّهمته بعض زوجاته - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - ولذلك ورد في هذه السورة قوله تعالى: «وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ»(1) نظير ما ورد في التبليغ بولاية أمير المؤمنين علیه السّلام.

فكلّ ذلك يستلزم تقديم هذه المقدّمة، لتقوية عزيمة الرسول صلّی الله علیه و آله وطمأنته والتأكيد عليه بأنّ الحكم من الله تعالى والنبيّ مبلّغ عنه، وعليه أن يتوكّل على الله تعالى ولا يهتمّ بما يحيك له الكافرون والمنافقون من مؤامرات، ولا يعبأ بالرواسب الاجتماعية لدى الناس. فالدين لم يأت لتأسيس حكومة حتّى إذا توقّف الأمر على مداهنة الناس، يداهنهم حسبما تقتضيه السياسة، بل الدين جاء

ص: 12


1- الأحزاب (33): 37

ليبدّل المعايير والسنن الاجتماعية والثقافة العامّة. فكلّ الآيات السابقة ترتبط بهذا الشأن من الأمر بالتقوى والنهي عن إطاعة الكافرين والمنافقين، ثمّ التوكّل على الله تعالى ومتابعة الوحي، والتحذير من أنّ الله عليم خبير وغير ذلك.

والحاصل: أنّه بناءً على هذا التفسير، تتلاءم الآيات وترتبط بعضها ببعض، بخلاف ما ورد في التفاسير، فإنّه يوجب انفصاماً واضحاً بينها لا نجد له وجهاً. والحمد لله على التوفيق.

وأمّا قوله تعالى: «مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» فلا يبعد أن يكون مقدّمة لما بعده من حكم الظهار، وذلك لأنّ العرف الجاهلي كان يعتبر الزوجة بعد الظهار في عصمة الرجل، ومع ذلك كانوا يمنعونهما من المعاشرة معاشرة الأزواج، كما سيأتي.

والله تعالى لمّا أراد أن يبيّن لهم بطلان ما ذهبوا إليه، وأنّ هذه المرأة لا مانع من معاشرتها، قدّم لذلك مقدّمة لكي تتهيّأ النفوس لقبول الحكم، بعد أن اعتبر العرف هذه المرأة بمنزلة الأُمّ في قبح الاستمتاع منها.

ومن الطبيعي تأثير ذلك في النفرة والاشمئزاز النفسي من مقاربتها، فكان لا بدّ من تقديم ما يهيّئ الأرضية الصالحة نفسيّاً لتقبّل الحكم. وهو أنّ الإنسان لا يمكن أن يكون له اتّجاهان متعاكسان، فإمّا أن تعتبر هذه المرأة أُمّاً له، فليخلّ سبيلها، وإمّا أن تعتبر زوجة له، فليعاشرها كزوجة وبهذا البيان يتمّ الارتباط بين هذه الجملة والحكم الآتي.

«وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الائِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ». كان من عادات العرب في الجاهلية «الظهار»، فإذا كرهوا الزوجة قالوا لها: «أنت علّي كظهر أُمّي»، أي الاستمتاع منك محرّم علّي كما يحرم عليّ الاستمتاع بظهر أُمّي. وكانت النتيجة

ص: 13

-حسب معتقدهم وعادتهم - أنّها تبقى زوجته، فلا يجوز لها أن تتزوّج بغيره، ولكن يحرم عليهما الاستمتاع الجنسي.

وبذلك كانوا يعاقبون المرأة المسكينة فتبقى معلّقة، لا هي ذات زوج ولا خليّة. والإسلام حرّم الظهار، ولكن يترتّب عليه شرعاً أنّه لا يجوز له الاستمتاع حتّى يكفّر عن ظهاره، وتجب عليه الكفّارة.

وقوله تعالى: «وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُم» يبيّن أنّ هذا الأمر الاعتباري الذي كانت العرب في الجاهلية تقبله وتفرضه على المجتمع، مرفوض عند الله. فالله تعالى لا يعتبر الأزواج اللواتي ظاهر هنّ أزواجهنّ أُمّهات لهم، فيحر من عليهم كحرمة الأُمّهات، فاعتبار الرجل زوجته كأُمّه، اعتبارٌ باطلٌ لا أثر له، ولكنّه حيث ارتكب محرّماً، فلا يجوز له الاستمتاع بها إلا بعد الكفّارة، ولا يجوز له أن يتركها، فلا يكفّر حتى يحلّ الاستمتاع ولا يطّلق فتبقى معلّقة، بل يجبره الحاكم الشرعي على اختيار أحد الأمرين. وإذا لم يتمكّن من إجباره، فحسب بعض الآراء الفقهية يطّلقها الحاكم.

وهناك اعتبارات مشابهة في كثير من الأعراف والتقاليد، لا يقرّها الشرع، كعقد الأُخوّة. وربما يعتقد بعض الناس أنّ أحداً إذا عقد الأُخوّة مع امرأة مثلاً أو مع أخيها، حرمت عليه وحلّ له النظر إليها، وكذا سائر أحكام الأُخوّة وهذا كلّه باطل.

ثمّ إنّ الظهار يتعدّى بدون حرف الجرّ كقولك: «ظاهر فلان زوجته»، وإنّما تعدّى هنا ب_(من) لتضمينه معنى الانفصال أو الاجتناب.

«وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ». من السنن الجاهلية أيضاً التبنّي، فكان بعضهم يتبنّى لنفسه ولداً ويعتبره ابناً له، إمّا لأنّه لا ولد له - وكانوا بحاجة إلى الأبناء - أو لميزة يجدونها في من تربّى تحت أيديهم، ويترتّب عليه عندهم كلّ أحكام البنوة.

ص: 14

والنبيّ صلّی الله علیه و آله أيضاً تبنّى زيد بن حارثة، وأصله من اليمن، أُخذ رقيقاً في السبي.

والاسترقاق أيضاً من سنتهم، فكان بعضهم يغير على بعض ويسلبون أموالهم ويسترقون نساءهم وذراريهم، وكان زيد من الرقيق، فاشتراه الرسول صلّی الله علیه و آله وأعتقه ثمّ تبنّاه. ولمّا جاء أهله لتحريره بالفدية وأخذه معهم - كما كان ديدنهم - رفض زيد أن يترك الرسول صلّی الله علیه و آله ، وكان الناس يدعونه زيد بن محمّد صلّی الله علیه و آله .

وكانت العرب تهتمّ بترتيب آثار البنوّة على التبنّي بحيث يأبى الأب أن يتزوّج زوجة ابنه بالتبنّي، وأراد الله تعالى بهذه الآيات البيّنات أن يقتلع هذا الفكر الجاهلي من جذوره، فأمر الرسول صلّى الله عليه و آله أن يتزوّج زوجة زيد بعد أن استمتع بها مدّة من الزمان. ذلك لأنّ السنن والعادات الاجتماعية وخصوصاً في المجتمع البدويّ البعيد عن الثقافات والحضارات، متركّزة في النفوس ويصعب جدّاً اقتلاعها، ولا يكفي في ذلك إنشاء حكم تشريعي يخالفه.

ولذلك أمر الله سبحانه رسوله الكريم صلّی الله علیه و آله أن يباشر بنفسه عملياً مخالفة هذه السنّة الاجتماعية المتجذّرة في النفوس، بحيث يعتبر مخالفتها فضيحة اجتماعية. فقوله تعالى: «وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ»، يشير إلى الحكم التشريعي، مقدّمة للأمر بالمخالفة العملية. و«الأدعياء» جمع دعيّ وهو الذي يدعوه الإنسان ابناً له. والغرض : أنّ الله تعالى لا يرتّب أيّ أثر على هذا الاعتبار الجاهلي، فلا يعتبر الدعيّ ابنا،ً وبالتالي فلا يرث منكم ولا ترثون منه، ولا تجب نفقته إلى غير ذلك من الأحكام.

«ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ»، أي أنّ هذا الاعتبار مجرّد قول وتلفّظ باللسان، وليس له أيّ أثر واقعي. ف_«الزوجة» لا تنقلب أُمّاً و «الدعيّ» لا ينقلب ابناً، لا بحسب

ص: 15

الطبيعة، ولا بحسب الشريعة، فهذا مجرّد تعبير أدبيّ، نظير التعبير بالابن بالنسبة لمن تحبّه ممّن هو بمنزلة الابن، أو التعبير بالأب عمّن تحترمه وتُجلّه ممّن هو أكبر منك سنّاً، وبالأُمّ عن المرأة الكبيرة، ونحو ذلك.

«وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ»، أي إنّكم تقولون حقاًّ وباطلاً، ولكنّ الله لا يقول إلا الحقّ. والأمر هنا وإن كان أمراً اعتبارياً لا يتّصف بكونه حقّاً وباطلاً، إلا أنّ الاعتبار القانوني لا يصحّ إلا من الله تعالى، فكلّ قانون من غيره باطل إلا في المجال الذي يأذن الله تعالى فيه ولمن يأذن له. مضافاً إلى أنّ الاعتبار إن لم يستند إلى مصلحة أو مفسدة واقعية وإنّما استند إلى أوهام وخرافات، صحّ التعبير عنه بأنّه باطل، لأنّه يبتني على باطل.

«وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ»، أي أنّ السبيل الحقّ والصراط المستقيم الذي يؤدّي إلى سعادة الدنيا والآخرة، هو ما يهديكم إليه الله تعالى فقط، فاتّبعوه واتركوا السنن الجاهلية، فكلّ اعتبار عرفي لا تعتبره الشريعة الإلهية ولا تنفّذه، لا أثر له، لأنّ هذا الحكم، والحكم ليس إلا لله تعالى، والمصالح والمفاسد الواقعية لا من يعلمها إلا هو.

«ادْعُوهُمْ ِلآبَاءِهِمْ هُوَ أقْسَطُ عِندَ اللهِ»، أي انسبوا الأدعياء لابائهم، ولا تنسبوهم إلى من تبنّاهم. وتنفيذاً لهذا الحكم منع الرسول الله صلّی الله علیه و آله أن يقال: زيد بن محمّد، بل زيد بن حارثة.

و«القسط» - بالكسر - هو العدل، وأصله النصيب. و - بالفتح - الجور. و«القاسط» الذي يأخذ نصيب الآخرين ويجور، قال تعالى: «وَأمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً»(1) و «المقسط» العادل، كأنّ الهمزة بمعنى رفع القسط، أي الجور، قال

ص: 16


1- الجن (72): 15

تعالى: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ»(1).

فالأدعياء إذا نسبوا إلى آبائهم كان أوفق بالقسط والعدالة عند الله تعالى، فإنّ العدل إعطاء كلّ شيء حقّه، ومن حقّ الولد أن يُنسب إلى أبيه. و«الأقسط» هنا لا يفيد معنى أفعل التفضيل ليدلّ على وجود شيء من القسط في إسناد الأدعياء إلى المتبنّين، وذلك لأنّ العدالة أمر واحد ليس فيه عادل وأعدل. نعم يصحّ ذلك في الأشخاص باعتبار اختلاف الموارد، و أمّا الحكم فإّما أن يكون صحيحاً موافقاً للحقّ فهو العدل، أو لا يكون، فلا عدل فيه أصلاً. فهذا نظير قوله تعالى: «اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»(2).

ولعلّ الوجه في الإتيان بأفعل التفضيل هنا هو أنّ الإسناد إلى الأب في الظاهر قد لا يكون موافقاً للواقع، فليس هو تمام القسط، ولكنّه أقرب إلى القسط من إسناده إلى من تبنّاه، كما أنّ العدل قد لا يكون ملازماً للتقوى، فهناك من الكفّار من يعمل بالعدل ولو في بعض الموارد، كما أنّ المؤمن العادل قد يعمل بالجور أيضاً. فالمراد بكونه أقرب، أنّ التقوى يستوجبه أو يستدعيه، وليس معناه أنّ الجور أيضاً قد يكون من التقوى، وأنّ العدل أقرب منه.

«فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ»، أي فإن لم تعلموهم فهم إخوانكم، وكثيراً ما لا يعلم للدعيّ أب، بل ربّما لا يكون له أب شرعي كالمتولّد من الزنا، حيث إنّ الأُبوّة هنا لا تترتّب عليها كلّ الأحكام.

وهناك اختلاف فقهي في ترتّب أحكام البنوّة والأُبوّة ما عدا الإرث بالنسبة

ص: 17


1- المائدة (5): 42
2- المائدة (5): 8

الولد الزنا، من الحضانة والتربية ووجوب النفقة والولاية، فأقرّها بعض الفقهاء، وذهب بعضهم إلى عدم ترتّبها إلا حرمة الزواج.

ومن تلك الأحكام النسبة بأن يقال: فلان بن فلان، ولذلك لما ألحق معاوية، زياد بن أبيه إلى أبيه واعتبره أخاه، مع أنّ أبا سفيان لم يكن زوج أُمّه، عيب عليه ذلك لكونه مخالفاً للشريعة.

ومهما كان، فالآية تدعو إلى عدم إلحاق الدعيّ في النسبة إلى من تبنّاه، فلا يعتبره ابناً له، بل يعتبره أخاً في الدين، باعتبار أنّه مؤمن ومسلم أو يعتبره مولى. ولذلك بعد نزول الآية، تبدّلت التعابير، فكانوا يقولون قبل الآية مثلاً: سالم بن أبي حذيفة، ثمّ تغيّر الاسم وقالوا: سالم مولى أبي حذيفة. و«الولاء» بمعنى التبعيّة، والشيء يلي شيئاً، أي يأتي بعده، و «الموالاة» أي المتابعة، و«المولى» يطلق على التابع والمتبوع.

«وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أخْطَاتُم بِهِ»، بطبيعة الحال يقتضي التعوّد على التعبير بالابن ومناداته به وقوع الخطأ في موارد كثيرة. وحيث إنّ النهي يستوجب كون ذلك إثماً وعصياناً لله تعالى، فاستدرك حالات الخطأ والنسيان. و«الجناح»: الإثم، وأصله الميل والانحراف وأُطلق على الإثم لأنّه ميل عن الحقّ.

«وَلَكِن مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ»، أي ولكنّ الإثم في ما تعمّدت، أي قصدت قلوبكم إطلاق لفظ الابن. والحكم بالمنع إنّما يشمل الإطلاق الحقيقي على أساس اعتباره ابناً في العرف، وأمّا الإطلاق المجازي - كما يطلق الإنسان كلمة «ولدي» على أيّ شابّ في عمر ابنه لإظهار الودّ والحنان - فلا إشكال فيه قطعاً، ولا يشمله المنع ، لأنّ المراد بتعمّد القلوب ما كان القصد منه متابعة السنّة الجاهلية في التبنّي. ويظهر منه أنّه كان هناك أُناس في المجتمع الإسلامي آنذاك

ص: 18

لا تعجبهم هذه القرارات الصارمة ضدّ الأفكار الجاهلية، وكانوا يحاولون الإبقاء على تلك السنن.

«وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً» . لعلّ التعقيب بالاسمين الكريمين، لتعليل العفو عمّا يصدر من ذلك خطأ، فإنّ العفو عنه ليس أمراً ضروريّاً، وكان من الممكن أن يؤاخذ الإنسان حتّى بخطئه في ذلك. ولذلك ورد في الأدعية القرآنية: «رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أخطانَا»(1).

وهناك كثير من الأخطاء تترتّب عليها أحكام تكليفية شاقّة، كما لو أخطأ المكلّف في طهارته ، فكانت صلاته بلا طهارة من الحدث ستّين سنة مثلاً، فإنّ عليه قضاءها بأجمعها، كما أنّ نسيان الصلاة - مثلاً - يستلزم وجوب القضاء، والقتل خطأ يوجب الكفّارة مضافاً إلى الدية ونحو ذلك.

هذا مضافاً إلى أنّ الخطأ والنسيان ربّما لا يستندان إلى أمر خارج عن الاختيار ، بل إلى التسامح والإهمال، فارتفاع المؤاخذة يوم القيامة عن موارد الخطأ والنسيان إنّما هو من جهة المغفرة والرحمة الإلهية.

ويحتمل أن تكون هذه الجملة إشارة إلى أنّ الله تعالى يغفر هذا الذنب حتّى لو تعمّده الإنسان، نظير ما ورد في الظهار في سورة المجادلة، حيث قال تعالى بعد عدّ الظهار منكراً من القول وزوراً: «وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ»(2) واستفيد منه أنّ الظهار محرّم معفوّ عنه، فيمكن أن يكون الأمر كذلك في مناداة الدعيّ بالابن. والاحتمال الأوّل أظهر.

ص: 19


1- البقرة (2): 286
2- المجادلة (58): 2

سورة الأحزاب (6)

«النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)»

«النَّبِيُّ أوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ»، «أولى» أي أحرى، وأصله من الولاية بمعنى القرب. والجمع في قوله: «بِالْمُؤْمِنِينَ» منحلّ إلى كلّ فرد، فمعنى الجملة أنّه صلّی الله علیه و آله أولى من كلّ أحد من المؤمنين بنفسه.

وقيل: يحتمل كون المراد أنّه صلّی الله علیه و آله أولى بكلّ أحد من غيره من المؤمنين الآخرين، باعتبار أنّ المراد بأنفسهم غير المولّى عليه من سائر المؤمنين، كقوله تعالى خطاباً لبني إسرائيل: «ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ»(1). أي تقتلون الآخرين من أبناء المجتمع، إذ ليس المراد أن يقتل أحد نفسه.

وهذا الاحتمال باطل، لأنّه لا يوجد هنا احتمال ثبوت الولاية للآخرين بتاتاً، ليكون النبي صلّی الله علیه و آله أحرى بها من غيره.

وحيث إنّ الإنسان أقرب إلى نفسه من كلّ شيء، فاعتبار إنسان أولى به وأقرب إليه من نفسه بمعنى وجوب إطاعته في كلّ شيء، حتّى إذا استلزم التضحية بالنفس، كما قال تعالى: «مَا كَانَ لأهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِنَ الأعْرَابِ أن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله وَ لايَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ»(2).

ثمّ إنّ هذه الآية أيضاً تعالج موضوعاً اجتماعياً، ولكنّه لم يكن من السنن

ص: 20


1- البقرة (2): 85
2- التوبة (9): 120

القديمة، بل هو أمر شرّعه الإسلام ابتداءً وهو الإخاء بين المؤمنين. فإنّ النبيّ صلّی الله علیه و آله آخى بين المهاجرين والأنصار في المدينة، حيث كان المهاجرون قد تركوا بيوتهم وأموالهم وأهليهم في مكّة، ووردوا المدينة ضيوفاً فقراء، وأهل المدينة كانوا في - ذلك العهد - في يسر ورخاء نسبيين. والرسول صلّى الله عليه و آله آخي بين كلّ رجل من المهاجرين والذي يناسبه من الأنصار حتّى يأوي إليه، فتحقّقت بينهم أواصر وعلاقات وثيقة جدّاً، بحيث كان كلّ من الأخوين يرث من الآخر، لأنّه كان يعتبره أخاً له، بل أقرب من الأخ الشقيق، لأنّه أخ في الدين، والدين أهمّ للمؤمن من أواصر النسب. بل إنّهم شاطروهم الأموال والأراضي وغير ذلك قبل الإخاء أيضاً.

ولكن بعد تبدّل الحالة الاجتماعية والاقتصادية وكسب المغانم، وتقوّي شوكة الإسلام والمسلمين، صدر الحكم من الله تعالى بأنّ هذه الأخوّة لا توجب التوارث، وهذه الآية نزلت لإبلاغ هذا الحكم.

وبالمناسبة، فإنّ الرسول صلّى الله عليه و آله - على ما يقال - آخى بين أصحابه ولم يجعل لأمير المؤمنين علیه السّلام أخاً، وإنّما قال له: «أنت أخي في الدنيا والآخرة».

روى الترمذي في صحيحه عَن ابْن عُمَرَ قال: آخَى رَسُولُ اللهُ صلّى الله عليه و آله بَيْنَ أصْحَابه، فجَاءَ عَلي تَدْمَعُ عَيْنَاهُ، فقالَ: «يَا رَسُولَ الله آخَيْتَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ وَلَمْ تُؤَاخ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَد». فقالَ لَهُ رَسُولُ الله صلّى الله عليه و آله: « أَنْتَ أخِي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» . (1)

وذلك إشارة إلى أنّه ليس بين الناس من يكون عدلاً له علیه السّلام إلا شخص الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله. ولو لم يكن له علیه السّلام إلا هذه الميزة لكفته، ولكنّ أكثرهم لا يعقلون.

ص: 21


1- صحيح الترمذي 5: 301

وعلى كلّ حال فالآية تنحو نحو منع التوارث على أساس الأُخوّة الدينية، وإن كانت أواصر هذه الأُخوّة أقوى بكثير - خصوصاً في ذلك العهد - من أواصر القرابة النسبية. ومقدّمة لبيان هذا الحكم ذكر أمرين:

الأول: أنّ النبي صلّى الله عليه وآله أولى بالمؤمنين من أنفسهم. ولعلّ السرّ في تقديم ذلك، التنويه على أنّ منع التوارث ليس بمعنى نفي الأُخوّة، فإنّ هذه الأخوة تستند إلى وجود أب مشترك وهو الرسول صلّى الله عليه وآله، كما ورد في الحديث: «أنا وعليّ أبوا هذه الأُمّة»(1) ولكنّه أب معنوي وروحي، وليس أباً بالمعنى المتعارف، كما سيأتي في نفس السورة: «مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ»(2).

وحكي عن بعض الصحابة أنّه قال: كان في الحرف الأوّل: «النَّبِيُّ أَوْلَى بالْمُؤمنين من أنفُسهمْ وهو أب لهم وأزواجه أُمّهاتهم»، ولعلّه من التفسير وبيان المراد، وأنّ الغرض أنّ الأُخوّة باقية، والرسول بمنزلة الأب، وأزواجه بمنزلة الأُمّهات. ومع ذلك فهذه الأُخوّة لا توجب التوارث، فهذه الجملة للتأكيد على بقاء الأُخوّة الدينية.

وأمّا التعبير بالأُبوّة وإسناده إلى الحرف الأوّل فغير صحيح، وهذا من روايات التحريف الساقطة. وأولوية الرسول صلّى الله عليه وآله من كلّ أحد من المؤمنين بنفسه ليس كولاية الأب، فإن الأب وإن كان أولى من الولد بنفسه، إلا أنّه وليّ ما دام الولد صغيراً، وتنقطع ولايته ببلوغ الولد، وأمّا ولاية الرسول فمطلقة دائمة.

ومن جهة أخرى لا يصحّ تصرّف الصغير إلا بإذن الوليّ، وأمّا ولاية الرسول

ص: 22


1- علل الشرائع 1: 127؛ راجع: تفسير الآلوسی 22: 30
2- الأحزاب (33): 40

فلا تمنع من تصرّف المؤمنين في أنفسهم وأموالهم، ولا يتوقّف على إذنه، ولكن إذا أمرهم بشيء أو نهاهم عنه، وجبت إطاعته، سواء كان متعلّقاً بنفسه أو بماله أو بما يتعلّق به، وسواء كان أمراً اجتماعياً أو شخصياً، كما قال تعالى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»(1)، فلا يجوز لأحد مخالفة أمر الرسول صلّى الله عليه وآله، مطلقاً، حتّى لو أمره بقتل نفسه.

بل الأمر أعظم من ذلك، فلا يكون الإنسان مؤمناً إلا إذا لم يشعر بأيّ نفور و اشمئزاز من حكمه صلّى الله عليه وآله، وإن كان مخالفاً لمصالحه ومضرّاً به. قال تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»(2)، فلا يكفي أن يطيع كرهاً، بل عليه أن يطيع راضياً، وهذا هو مناط الإيمان.

وهذه الولاية ثابتة بعد الرسول لأمير المؤمنين علیه السّلام، لقوله صلّى الله عليه وآله يوم الغدير: «ألست أولى بكم من أنفسكم» فلمّا أجابوا : بلى يا رسول الله، قال: «فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه».(3) و«الفاء» في هذه الجملة بعد الجملة السابقة للتنبيه على أنّ هذه

ص: 23


1- الأحزاب (33): 36
2- النساء (4): 65
3- الحديث متواتر نذكر أحد طرقه من كتب العامّة. روى الحاكم في «المستدرك»، عن زيد بن أرقم رضى الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى انتهينا إلى غدير خم، فأمر بدوح فكسح في يوم ما أتى علينا يوم كان أشدّ حراًّ منه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «يا أيّها الناس، إنّه لم يبعث نبي قطّ إلا ما عاش نصف ما عاش الذي كان قبله، وإنّي أوشك أن أدعى فأُجيب، وإنّي تارك فيكم ما لن تضلّوا بعده، كتاب الله عزّ وجلّ» ثمّ قام فأخذ بيد علي رضى الله عنه، فقال: «يا أيّها الناس، من أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ألست أولى بكم من أنفسكم؟» قالوا: بلى، قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه». قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، أي البخاري ومسلم. (المستدرك 3: 110)

الولاية، هي نفس ولايته صلّی الله علیه و آله، ومثله غيره من الأحاديث التي صرّح فيها بولايته علیه السّلام، وهي أيضاً ثابتة للأئمة المعصومين علیه السّلام بمقتضى روايات كثيرة.

«وَازْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ» الثاني: أنّ أزواجه أُمّهات المؤمنين. ولا شكّ أنّ الأُمومة هنا ليست بمعناها الحقيقي، بل المراد ترتيب بعض الآثار والأحكام الشرعية، وليس كلّ أحكام الأُمومة أيضاً، إذ لا شكّ في أنّه لا يجوز لمؤمن أن ينظر إليهنّ، كما أنّه يجوز التزوّج ببناتهنّ ولا يرثهنّ المؤمنون، ولا يرثن منهم، وغير ذلك من أحكام الأُمّ. وإنّما المراد - على الظاهر - ترتيب أثرين: أحدهما: إكرامهنّ واحترامهنّ، كما يكرم الإنسان أُمّه، والآخر حرمة الزواج بهنّ بعد الرسول صلّی الله علیه و آله .

وللتأكيد على هذه الحرمة، والتشنيع على هذا المنكر، اعتبرهنّ الله تعالى أُمّهات المؤمنين، فالزواج بهنّ كالزواج بالأُمّهات. وهذا يوجب نفور الطبع من هذا الزواج، فضلاً عن الحرمة التشريعية التي صرّح بها في هذه السورة: «وَلا أن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أبداً»(1). والسبب في ذلك هو ما يروى من بعض الصحابة أنّه قال ما معناه: إنّه سيتزوّج بعض نساء النبيّ صلّی الله علیه و آله بعد وفاته.

وقد روي عن عائشة أنّها قالت: عائشة أنها قالت: «أنا أمّ رجالكم». ومعنى ذلك أنّ هذه الأُمومة لا يترتّب عليها إلا حرمة الزواج، فهي خاصّة بالرجال. ولكن روي عن أُمّ سلمة قولها: «أنا أمّ رجالكم ونسائكم». ولعلّها - على افتراض صحّة النسبة - أرادت بذلك التنبيه على أنّ الأُمومة هنا تستلزم الإكرام والاحترام، وهذا لا يختصّ بالرجال واحترام الرسول صلّی الله علیه و آله يستلزم - بالطبع - احترام كلّ ما يتعلّق به، كالأرض والبلد والدار والأولاد والزوجات ونحو ذلك، فالاحترام ليس لخصوصية في هذه

ص: 24


1- الأحزاب (33): 53

الأُمور، بل لذلك الشخص الكريم.

«وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُهَاجِرِينَ» «أُولوا الأرحام» هم الأقرباء المشتركون في رحم، كرحم الأُمّ، أو الجدّة من قبل الأُمّ أو الأب. ويمكن أن يكون الرحم في الأصل بمعنى القرابة، وإطلاقه على رحم المرأة من هذا الباب فالمعنى: وأصحاب القرابات أولى بالميراث وإنّما أتى ب_«الأرحام» جمعاً باعتبار اختلاف أنواع القرابة الموجبة للإرث.

وهذه الجملة تتكفّل بيان حكم التوارث، وأنّه مختصّ بأُولي الأرحام، ولا يشمل الإخوة في الدين، ولا تتعرّض الجملة للأولويات الموجودة بين ذوي الأرحام، حيث إنّ بعضهم أيضاً أولى من بعض آخر. وذلك لأنّه لم يقل بعضهم أولى من بعض، وإنّما تعرّضت لأولوية ذوي الأرحام إجمالاً من سائر المؤمنين. فقوله تعالى: «بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْضٍ»، أي الورثة أولى بالمورثين من المؤمنين.

والمراد ب_«كتاب الله»، الشريعة الإلهية. والكتاب هو المكتوب. وكَتَبَ بمعنى جَمَعَ، فيطلق الكتاب على كلّ مجموعة يجمعها اعتبار واحد، سواء جمعت في مؤلّف بالمعنى المتعارف أم لم تُجمع. والمراد ب_«المؤمنين»، الأنصار بقرينة المقابلة للمهاجرين. ولعلّ وجه التعبير أنّهم غالباً آمنوا قبل المهاجرين.

وقد وردت هذه الجملة في سورة الأنفال أيضاً، قال تعالى: «وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ»(1). وفسّرت في روايات العامة والخاصّة بالأولوية في الإرث.

«إلا أن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَاءَكُم مَعْرُوفاً»، «المعروف» ما يعرف حسنه عامة الناس أو

ص: 25


1- الأنفال (8): 75

خصوص المتشرّعة، كما أن المنكر ما ينكره عامّة الناس أو خصوص المتشرّعة. ولذلك يمكن منع شمول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكلّ واجب وحرام. وللبحث عنه مجال آخر.

والمراد به هنا الإحسان إلى الوليّ، أي الأخ المؤمن بالوصيّة. فهذا استثناء من نفي التوارث على أساس الأُخوّة الإسلامية. والمراد ب_«الوليّ» هنا الأخ في الدين، فلا مانع من أن يوصي أحد لأخيه المؤمن شيئاً من المال. والآية مطلقة إلا أنّ الروايات تقيّدها بأن لا تتجاوز الوصيّة، ثلث التركة، فإن تجاوزه يتوقّف نفوذها على إجازة الورثة.

«كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً» ، الظاهر أنّ «ذلك» إشارة إلى حكم منع التوارث بالأخوّة في الدين. وهذا تأكيد على الحكم بعد أن بيّن ضمن الجملة السابقة أنّ هذا الحكم في كتاب الله، فهذا تأكيد بعد تأكيد لترسيخ الحكم في المجتمع، وتوطين النفوس بأنّه من كتاب الله وشريعته المسجّلة التي لا تقبل التغيير.

ولعلّ السرّ في هذه التأكيدات، هو إقناع المجتمع بتقبّله، حيث إنّ الحكم بالتوارث كان راسخاً في القلوب، بعد جعل الأُخوّة بينهم من قبل الرسول صلّی الله علیه و آله .

ص: 26

سورة الأحزاب (7-8)

«وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا(8)»

«وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ»، «الميثاق»: العقد المؤكّد بيمين أو تعهّد والمواثيق والعهود المذكورة في القرآن بعضها عامّة لجميع الناس، كقوله تعالى: «أَلَمْ أعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِى ءَادَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ»(1) ، وقوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا»(2).

وهناك عهود ومواثيق خاصّة بجمع من الناس كبني إسرائيل، كقوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَ ذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلوةَ وَ ءَاتُوا الزَّكَوةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ»(3) ، وقوله تعالى: «لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ»(4)، وكذلك بالنسبة للمسلمين كقوله تعالى: «وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُور»(5). وهناك عهود ومواثيق

ص: 27


1- يس (36): 60
2- الأعراف (7): 172
3- البقرة (2): 83
4- المائدة (5): 70
5- المائدة (5): 7

بین الله ورسله، ومنها هذه الآية.

والظاهر أنّ المراد بأخذ المواثيق من النبيّين والمرسلين هو ما التزموا به مع رسل الله تعالى، أي الملائكة حين نزول الوحي، ف_«الميثاق» هنا بمعناه الحقيقي. ولا يبعد أن يكون الأمر كذلك في عهود الأُمم، فإنّ الله تعالى أخذ ميثاقهم بواسطة رسلهم، والبيعة التي تتمّ بينهم وبين رسلهم تعتبر بيعة مع الله تعالى، كما قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(1).

ومهما كان فالميثاق - حسب هذه الآية - مأخوذ من النبيّين جميعاً، ولكنّه مأخوذ بصورة خاصّة ومؤكّدة من أصحاب الشرائع، وهم حسب ترتيب الذكر هنا: محمّد صلّی الله علیه و آله ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى علیهم السّلام. والظاهر أنّ تقديم اسم الرسول صلّی الله علیه و آله لكونه أفضل الأنبياء والمرسلين.

«وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِيثَاقاً غَلِيظاً». كرّر ذكر أخذ الميثاق للتأكيد. ووصفه ب_«الغلظة» تشبيهاً بالغلظة المحسوسة، لكونه مؤكّداً. مع أنّ الميثاق بنفسه يشتمل على تأكيد، لكونه مأخوذاً من الوثوق، فهو تأكيد في تأكيد.

والآية الكريمة لم تبيّن موضوع هذا الميثاق. ولكنّه ظاهر لا يحتاج إلى بيان. فإنّ ميثاق الرسل، يتعلّق برسالتهم، أي أنّ الله تعالى أخذ منهم المواثيق المغلّظة بأن لا يألوا جهداً في تبليغ رسالات الله سبحانه.

ولعلّه مقدّمة لما سيأتي من تأنيب بعض المؤمنين، حيث لم يقوموا بواجبهم ودورهم في هذا التبليغ، فلم ينصروا الرسول صلّی الله علیه و آله كما هو مفروض عليهم. والميثاق وإن كان بين الله ورسله، إلا أنّه يشمل المؤمنين بعد أن بايعوا رسولهم.

ص: 28


1- الفتح (48): 10

«ليَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ»، اللام للتعليل. فالمعنى أنّه أخذ الميثاق من النبيّين ليسأل الصادقين عن صدقهم. وهذا يدلّ على ما ذكرناه آنفاً من أنّ هذا الميثاق يسري إلى المؤمنين، إذ لا ينحصر الصادقون في الأنبياء. وفيه وجه آخر سيأتي.

والأصل في «الصدق»، قيل: هو القوة. وقيل: هو مطابقة الواقع. وقيل: الصادق هو الكامل من كلّ شيء. وقيل غير ذلك. ومهما كان، فهو لا يختصّ بالكلام، حتّى إنّهم يعبّرون عن السيف القاطع بالسيف الصادق، أي أنّه يعمل العمل المطلوب منه بصدق. ومنه الصدق في الوعد وهو الوفاء به، والصدق في العهد أي الالتزام به. فإذا كان الإنسان مؤمناً، فليكن صادقاً في إيمانه بأن يطابق عمله عقيدته. وعليه، فالمراد هنا ب_«الصادقين» الذين صدقوا في إيمانهم وهو الذي عاهدوا الله عليه.

وسيأتي في هذه السورة تطبيق ما ورد في هذه الآية على المجاهدين في سبيل الله في قوله تعالى: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَنْ يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ»(1).

ويقع الكلام هنا في أنّه ما هو المراد ب_«السؤال»؟ وأين موضعه؟

يحتمل أن يكون المراد: السؤال في الآخرة، فيكون المراد محاسبتهم على ذلك وجزاؤهم وفقاً لدرجة صدقهم. ويحتمل أن يكون موضعه الدنيا، وأنّ المراد بالسؤال مطالبتهم بأن يبرزوا صدقهم في العمل وعلى أرض الواقع. أو المراد بالسؤال الامتحان وإيجاد الأرضية التي تقتضي أن يبرزوا عليها صدقهم في الإيمان.

ص: 29


1- الأحزاب (33): 23

والظاهر هو الثاني، أي كون موضعه الحياة الدنيا، وأنّ المراد بالسؤال امتحانهم واختبارهم ليظهروا صدقهم، فإنّ المؤمن إنّما يبرز صدق إيمانه في مواجهة الشدائد، كالفقر والحرب ونحو ذلك، فإذا جاد بنفسه وماله في سبيل الله حينما تقع الحاجة الاجتماعية إليهما، فهو صادق في إيمانه، ولا يبرز الصدق في الرخاء غالباً.

وهذا هو معنى الامتحان الإلهي، فإنّ الله تعالى عالم بالغيوب وأسرار النفوس، وإنّما يختبر الإنسان، ليبرز إيمانه على أرض الواقع، فيستحقّ الجزاء وارتفاع الدرجة. ولا يكفي في ذلك أنّه من حيث الإيمان، بالغٌ درجة من القوّة، تمكنّه من أداء ما يُطلب منه، فإنّ الجزاء وعلوّ الدرجة لا يترتّبان على إمكان ذلك، ولا على استعداد النفس، وإنّما يترتبان على بروز الإيمان في مرحلة العمل وفي مواجهة الواقع الخارجي، وهذا هو الصدق.

وبذلك يرتفع الاستغراب عن سؤال الصادقين عن صدقهم، فإنّه ربّما يقال: إنّهم إذا كانوا صادقين حسب الفرض فما معنى السؤال عن صدقهم، وإنّما يسأل غيرهم أنّهم هل صدقوا أم لا؟

وبناءً على ما ذكرنا فالمراد ب_«السؤال» ليس هو الاستفهام، بل المراد إيجاد الجوّ المناسب، والأرضية الصالحة لبروز استعدادهم في الصدق في مرحلة العمل. وإنّما صحّ التعبير بالسؤال، لأنّ مآل هذه التهيئة وإيجاد الأرضية، هو استخبار ما فيهم من صدق، وأنّه إلى أيّ حدّ من الابتلاء يبقى ويقاوم؟

ويمكن أن يكون الوجه في تعليل أخذ ميثاق النبيّين بالسؤال عن الصادقين هو أنّ الميثاق يهيء الأرضية الصالحة لامتحان من يدعي الإيمان ولبروز صدق

ص: 30

الصادقين منهم ولتعيين درجة صدق كلّ واحد منهم أيضاً، وذلك لأنّ صدقهم لا يتبيّن إلا بمتابعة الأنبياء، ويتبيّن درجة الصدق بحدود تبعية المؤمن للأنبياء علیهم السّلام .

ومنه يعلم أنّ من يدّعي الإيمان بالله تعالى عن غير طريق الأنبياء ومتابعتهم كما ربما يتبجح به بعض الفلاسفة ومن يدعون العرفان والمتصوّفة، فإنّ دعواهم باطلة ولا يكون المؤمن صادقاً في إيمانه إلا بمتابعة مواثيق الأنبياء علیهم السّلام.

«وَاعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أليماً»، قيل: إنّ الجملة عطف على قوله تعالى: «أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ». وهو غير ملائم من حيث المعنى. والصحيح أنّه عطف على جملة مقدّرة مترتّبة على الجملة السابقة، أي: «ليسأل الصادقين عن صدقهم، ويجزيهم على ذلك، وأعدّ للكافرين». وإنّما أتى في ذكر جزاء الكافرين بالماضي تأكيداً على أنّه أمر مقضيّ ثابت لا مفرّ منه.

ويعلم من المقابلة أنّ الذي لا يظهر منه الإيمان في موارد الامتحان، فهو كافر في الواقع، وإن أظهر الإيمان، وترتّبت عليه أحكام المؤمن حسب ظاهر الشرع.

ومن هنا يتبيّن أنّ هاتين الآيتين، مقدّمة للتعرّض لحال المسلمين في غزوة الأحزاب، إذ قلّ منهم من كان صادقاً في إيمانه كأمير المؤمنين علیه السّلام، والسبب هو كثرة عدد المهاجمين من مكة، وسائر أنحاء الجزيرة العربية، ومن اليهود، وفيهم من لا يقوى على منازلته أحد، كعمرو بن عبدود الذي قتله الإمام علیه السّلام، وكانوا حوالي عشرة آلاف مقاتل، تجمّعوا حول المدينة، ولم يكن فيها إلا ثلاثة آلاف مقاتل، فلو كانت هذه الحرب تدور دائرتها، لكان فيها خطر عظيم على الإسلام والمسلمين. وسيأتي بيان ذلك في الآيات التالية إن شاء الله تعالى.

ص: 31

ومن الغريب جدّاً ما وقع في التاريخ الإسلامي من الظلم في حقّ المؤمنين الصادقين الذين أبرزوا صدق إيمانهم في مختلف المجالات، كيف ساووهم، بل فضّلوا عليهم من لم يبرز منهم الإيمان في أيّ مجال، و كلّما بعثوا في حرب أو نزال، رجعوا مقهورين، يجبّن بعضهم بعضاً. وما زال التاريخ والأقلام الحاقدة مستمرّة في ظلمها وظلامها.

ص: 32

سورة الأحزاب (9-11)

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)»

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ»، تشير الآية الكريمة إلى غزوة الأحزاب بصورة إجمالية مقدّمة لذكر بعض التفاصيل، كما هو دأب القرآن الكريم. وتبدأ بالتنبيه على ما أنعم الله به على المسلمين في هذه الغزوة، حيث كفاهم القتال بعد ما رأوا شدّة الأهوال المحدقة بهم. وهذا بنفسه تنبيه هامّ تربوي، أن يكون المقصد الأوّل والأهمّ للمؤمن، ذكر نعم الله تعالى وحمده عليها. وقوله تعالى: «إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ» إشارة إجمالية إلى الأحزاب التي تجمّعت حول المدينة، وكانوا - حسب ما يقال - أكثر من عشرة آلاف مقاتل، يقابلهم من المسلمين ثلاثة آلاف.

«فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا» بقي القوم محاصرين للمدينة - على ما يقال - زهاء ثلاثين يوماً، واشتدّ الأمر على المسلمين، فأرسل الله تعالى عليهم ريحاً باردة في ليلة ظلماء باردة، فأخصرتهم، أي آلمت أطرافهم من البرد، وسفت التراب في وجوههم، وقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور ، وماجت الخيل بعضها في بعض وقذف الله في قلوبهم الرعب، فقال طليحة بن خويلد الأسدي: أمّا محمد صلّی الله علیه و آله فقد بدأكم بالسحر، فالنجاء النجاء! فانهزموا. وقال حذيفة رضي الله عنه - وقد ذهب ليأتي رسول الله صلّى الله عليه و آله بخبر القوم -:

ص: 33

خرجت حتّى إذا دنوت من عسكر القوم، وإذا رجل أدهم ضخم يقول: الرحيل الرحيل، لا مقام لكم ... الخبر(1).

وأمّا الجنود التي لم تر ، فالظاهر أن المراد بهم الملائكة ويحتمل أنّهم ما كانوا يعملون عملاً ظاهراً، وإنّما كانوا يؤثرون تأثيراً غيبياً، كتثبيط العزائم، وقذف الرعب. وورد في بعض الروايات أنّهم هم الذين أكفأوا القدور، وقلعوا الأوتاد، وأنّهم كانوا يكبرون في جوانب العسكر. ولكنّ ذلك غير ثابت، بل يظهر من الآيات الواردة في غزوة بدر، والتاريخ المنقول عنها، أنّهم ما كانوا يعملون عملاً ظاهراً، فالمقتولون في غزوة بدر ،معروفون، وقاتلوهم أيضاً معروفون.

قال تعالى: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلائِكَةِ أَنَّى مَعَكُمْ فَثَبتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا سَألْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ»(2). يلاحظ أنّ المأمور به في خطاب الملائكة تثبيت المؤمنين، والضرب فوق الأعناق، وليس ضرباً لها، وأُمروا أيضاً بضرب البنان، أي الأصابع والظاهر أنّ كلّ ذلك كناية عن تثبيط عزائمهم، وقذف الرعب في قلوبهم، حيث لم ينقل عن أحد من المشركين أنّه أحسّ بمن يضرب على يديه في هذه الغزوة.

ويؤكّد ذلك قوله تعالى بعد ذكر نزول الملائكة لنصرة المسلمين يوم بدر: «وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ»(3). وكذلك قوله تعالى في نفس المورد: «وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ

ص: 34


1- روح المعاني 11: 153
2- الأنفال (8): 12
3- آل عمران (3): 126

قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ الله إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(1). فنزول الملائكة لم يكن إلا لطمأنة قلوب المؤمنين.

«وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً» وهذا تنديد بما حدث في صفوف المسلمين من الخوف والنكول عن القتال، بل بروز النفاق من بعضهم. فالآية لسانها لسان التهديد والوعيد، حيث ينبّه الغافلين منهم الذين توهّموا أنّ الله تعالى غافل عن ما يدور بينهم، وما يتغلغل في صدور بعضهم من النفاق، وينبّههم على أنّ الله تعالى كان بصيراً بأعمالهم ونواياهم.

«إِذْ جَاءُوكُم مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ» ، شروع في بيان بعض التفاصيل. وهذه الآية تبيّن أنّ الأحزاب المتجمّعة حاصروا المدينة من جهتين. والمراد ب_«من جاءوا من فوقها»، اليهود القاطنون في القلاع والحصون المحيطة بالمدينة المنوّرة، حيث نقضوا عهدهم مع الرسول صلّی الله علیه و آله، بعد أن عاهدوا أن لا ينصروا أعداءه، ولا يكيدون بالمسلمين مكيدة. والمراد ب_«من جاءوا من أسفلها»، قريش وحلفاؤهم. ويظهر من الأخبار، أنّ اليهود هم الذين أشعلوا نار هذه الحرب. وننقل هنا قصّة الحرب على ما ورد في «مجمع البيان»(2) للطبرسي رحمه الله باختصار طفيف:

كان من حديث الخندق أنّ نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، في جماعة من بني النضير الذين أجلاهم رسول الله صلّی الله علیه و آله ، خرجوا حتۀى قدموا على قريش بمكۀة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّی الله علیه و آله، وقالوا: إنّا سنكون معكم عليهم حتّى نستأصلهم. فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود إنّكم

ص: 35


1- الأنفال (8): 10
2- مجمع البيان 8: 125-136

أهل الكتاب الأوّل، فديننا خير أم دين محمّد؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، فأنتم أولى بالحقّ منه، فأنزل الله فيهم: «ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بالجبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ اهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلاً»(1)، فسرّ قريشاً ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه، فأجمعوا لذلك واستعدّوا له.

ثمّ خرج أُولئك النفر من اليهود حتّى جاؤوا غطفان، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّی الله علیه و آله وأخبروهم أنّهم سيكونون معهم عليه صلّی الله علیه و آله، وأنّ قريشاً قد بايعوهم على ذلك فأجابوهم. فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر في فزارة، والحرث بن عوف في بني مرّة، ومسعر بن جبلة الأشجعي في من تابعه من أشجع، وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد، فأقبل طليحة في من اتّبعه من بني أسد، وهما حليفان (أسد وغطفان). وكتبت قريش إلى رجال من بني سليم، فأقبل أبو الأعور السلمي في من اتّبعه من بني سليم مدداً لقريش. فلمّا علم بذلك رسول الله صلّی الله علیه و آله ضرب الخندق على المدينة، وكان الذي أشار عليه سلمان الفارسة رحمه الله.

وممّا ظهر من دلائل النبوّة في حفر الخندق ما رواه أبو عبد الله الحافظ، بإسناده عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، قال: حدّثني أبي عن أبيه قال: خطّ رسول الله صلّی الله علیه و آله الخندق عام الأحزاب أربعين ذراعاً بين عشرة، فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلاً قوياًّ، فقال الأنصار: سلمان منّا، وقال المهاجرون: سلمان منّا، فقال رسول الله صلّی الله علیه و آله: «سلمان منّا أهل البيت».

ص: 36


1- النساء (4): 51

قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان وحذيفة بن اليمان والنعمان بن مقرن وستّة من الأنصار نقطع أربعين ذراعاً، فحفرنا حتّى إذا بلغنا الثرى، أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدوّرة، فكسرت حديدنا وشقت علينا، فقلنا: يا سلمان! إرق إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله فأخبره عن الصخرة، فإمّا أن نعدل عنها، فإنّ المعدل قريب، وإمّا أن يأمرنا فيه بأمره، فإنّا لا نحبّ أن نجاوز خطّه، فرقى سلمان حتّى أتى رسول الله صلّی الله علیه و آله، وهو مضروب عليه قبّة، فقال: يا رسول الله، خرجت صخرة بيضاء من الخندق مدوّرة، فكسرت حديدنا وشقّت علينا، حتّى ما يحكّ فيها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك.

فهبط رسول الله صلّى الله عليه و آله مع سلمان في الخندق، وأخذ المعول، وضرب به ضربة فلمعت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها - يعني لابتي المدينة -(1) حتّى لكأنّ مصباحاً في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله صلّى الله عليه و آله تكبيرة فتح، فكبّر المسلمون، ثمّ ضرب ضربة أُخرى، فلمعت برقة أُخرى، ثمّ ضرب به الثالثة، فلمعت برقة أخرى، فقال سلمان: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله ما هذا الذي أرى؟ فقال: «أمّا الأُولى فإنّ الله عزّ وجلّ فتح عليّ بها اليمن، وأمّا الثانية فإنّ الله فتح عليّ بها الشام والمغرب، وأمّا الثالثة فإنّ الله فتح علىّ بها المشرق».

فاستبشر المسلمون بذلك، وقالوا: الحمد لله موعد صادق، قال: وطلعت الأحزاب. فقال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وقال المنافقون: ألا تعجبون يحدثكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنّه يبصر

ص: 37


1- لابتا المدينة حَرَّتان تَكْتَنِفانها، قال ابن الأثير: المدينة ما بين حَرَّتَيْن عظيمتين، وقال الأصمعي: هي الأرض التي قد ألبَسَتْها حجارة سُود. (لسان العرب 1: 746، لوب)

في يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنّها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق، ولا تستطيعون أن تبرزوا.

وممّا ظهر فيه أيضاً من آيات النبوّة ما رواه أيمن المخزومي، قال: سمعت جابر بن عبد الله، قال: كنّا يوم الخندق نحفر الخندق، فعرضت فيه كدية وهي الجبل، فقلنا: يا رسول الله إن كدية عرضت فيه، فقال رسول الله صلّی الله علیه و آله: «رشوا عليها ماءاً» ، ثمّ قام فأتاها وبطنه معصوب بحجر من الجوع، فأخذ المعول أو المسحاة، فسمّى ثلاثاً، ثمّ ضرب فعادت كثيباً أهيل. فقلت له: ائذن لي يا رسول الله إلى المنزل، ففعل. فقلت للمرأة: هل عندك من شيء؟ فقالت: عندي صاع من شعير و عناق (1)، فطحنت الشعير وعجنته ، وذبحت العناق وسلختها، وخليت بين المرأة و بین ذلك.

ثمّ أتيت إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله فجلست عنده ساعة، ثمّ قلت: ائذن لي يا رسول الله، ففعل، فأتيت المرأة، فإذا العجين واللحم قد أمكنا، فرجعت إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله : فقلت: إنّ عندنا طعيماً لنا، فقم يا رسول الله أنت ورجلان من أصحابك. فقال: وكم هو ؟ قلت: صاع من شعير وعناق. فقال للمسلمين جميعاً: «قوموا إلى جابر»، فقاموا، فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله. فقلت: جاء بالخلق على صاع شعير وعناق. فدخلت على المرأة وقلت: قد افتضحت جاءك رسول الله صلّی الله علیه و آله بالخلق أجمعين! فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟ قلت: نعم. فقالت: الله ورسوله أعلم قد أخبرناه ما عندنا، فكشفت عنّي غماًّ شديداً.

فدخل رسول الله صلّی الله علیه و آله فقال: «خذي ودعيني من اللحم»، فجعل رسول

ص: 38


1- العناق - بالفتح - الأُنثى من المعز. (لسان العرب 10: 27، عنق)

الله صلّی الله علیه و آله يثرد ويفرّق اللحم، ثمّ يجمّ هذا(1)، ويجم هذا ، فما زال يقرّب إلى الناس حتّى شبعوا أجمعين، ويعود التنّور والقدر أملأ ما كانا. ثمّ قال رسول الله صلّی الله علیه و آله «كلي وأهدي». فلم نزل نأكل ونهدي قومنا أجمع.

وعن أبي الوليد، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البرّاء، قالوا: ولمّا فرغ رسول الله صلّی الله علیه و آله من الخندق، أقبلت قريش حتّى نزلت بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم، ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد، حتّى نزلوا إلى جانب أُحد، وخرج رسول الله صلّی الله علیه و آله والمسلمون حتّى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هناك عسكره، والخندق بينه وبين القوم. وأمر بالذراري والنساء، فرفعوا في الآطام(2).

وخرج عدوّ الله حيي بن أخطب النضيري حتّى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب بني قريظة وكان قد وادع رسول الله صلّی الله علیه و آله على قومه وعاهده على ذلك. فلمّا سمع كعب صوت ابن أخطب أغلق دونه حصنه، فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له، فناداه: يا كعب افتح لي، فقال: ويحك يا حيي إنّك رجل مشؤوم، إنّي قد عاهدت محمّداً ولست بناقض ما بيني وبينه ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً، قال: ويحك افتح لى أُكلّمك قال: ما أنا بفاعل، قال: إن أغلقت دوني إلا على حشيشة تكره أن آكل منها معك، فأحفظ الرجل، ففتح له فقال: ويحك يا كعب، جئتك

ص: 39


1- الجمام: الملْء، يقال: إناءٌ جَمَّان، إذا بلغ جمامَهُ. (معجم مقاييس اللغة / جم) والغرض أنّه صلّی الله علیه و آله كان يملأ الإناء غير مبال بقلّة الطعام
2- آطام: جمع أطُم - بضمّتين - وهي حصون لأهل المدينة. (مجمع البحرين 1: 80)

بعزّ الدهر وببحر طامَ(1)، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، وبغطفان على سادتها وقادتها، قد عاهدوني أن لا يبرحوا حتّى يستأصلوا محمّداً ومن معه! فقال كعب: جئتني والله بذلّ الدهر، بجهام (2) قد هراق ماؤه يرعد ويبرق وليس فيه شيء، فدعني ومحمّداً وما أنا عليه، فلم أر من محمّد إلا صدقاً ووفاءً.

فلم يزل حيي بكعب يقتل منه في الذروة والغارب(3) حتّى سمح له، على أن أعطاه عهداً وميثاقاً: لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمّداً أن أدخل معك في حصنك حتّى يصيبنى ما أصابك، فنقض كعب عهده، وبرئ ممّا كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلّی الله علیه و آله.

فلمّا انتهى الخبر إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله ، بعث سعد بن معاذ وهو يومئذٍ سيّد الأوس، وسعد بن عبادة وهو يومئذ سيّد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة، وخوّات بن جبير، فقال: «انطلقوا حتّى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم، فإن كان حقّاً، فالحنوا لنا لحناً تعرفه ولا تفتّوا أعضاد الناس(4)، وإن كانوا على الوفاء، فاجهروا به للناس».

وخرجوا حتّى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ممّا بلغهم عنهم، قالوا: لا عقد

ص: 40


1- البحر الطامّ: أي الغالب على سائر البحور. (العين : 409، طمم)
2- الجهام - بالفتح - السحاب الذي لا ماء فيه. (لسان العرب 12: 111 جهم)
3- في حديث الزبير : فما زال يقتل في الذرْوَة والغارب حتّى أجابَتْه عائشة إلى الخُروج. الغارب: مُقدَّمُ السنام والذرْوَة أعلاه أراد: أنّه ما زالَ يُخادِعُها ويَتَلطَّفها حتّى أجابَتهُ، والأصل فيه: أنّ الرجل إذا أراد أن يُؤنَّسَ البعيرَ الصعْبَ، ليَزمَّه ويَنْقاد له، جَعَل يُمرُّ يَدَه عليه، ويَمسَحُ غاربَه، ويَفتِلُ وبَرَه حتّى يَسْتأنِسَ، ويَضَعَ فيه الزمام (لسان العرب 1: 644؛ غرب)
4- أي لا تعلنوا أمام الناس فتضعف عزائمهم. وفي لسان العرب: فتت: فتَّ في ساعده، أي أضْعَفه وأوْهَنَه. ويقال: فتَّ فلانٌ في عَضُدي، وهَدَّ رُكْني. (لسان العرب 2: 65، فت)

بيننا وبين محمّد ولا عهد فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه. وقال سعد بن معاذ: دع عنك مشاتمتهم، فإنّ ما بيننا وبينهم أعظم من المشاتمة. ثمّ أقبلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله وقالوا: عضل والقارة (إشارة إلى غدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله خبيب بن عديۀ وأصحابه أصحاب الرجيع) (1)، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين».

وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف وأتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتّى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ، وظهر النفاق من بعض المنافقين، فأقام رسول الله صلّى الله عليه و آله، وأقام المشركون عليه بضعاً وعشرين ليلة، لم يكن بينهم قتال إلا الرمي بالنبال، إلا أنّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبدود أخو بني عامر بن لؤي وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطّاب وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد الله قد تلبّسوا للقتال، وخرجوا على خيولهم، حتّى مرّوا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تَهَيَّؤُوا للحرب يا بني كنانة، فستعلمون اليوم من الفرسان، ثمّ أقبلوا تعنق بهم خيولهم حتّى وقفوا على الخندق، فقالوا: والله إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثمّ تيمّموا مكاناً ضيّقاً من الخندق، فضربوا خيولهم فاقتحموا، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع.

وخرج علي بن أبي طالب علیه السّلام في نفر من المسلمين حتّى أخذ عليهم الثغرة التي منها اقتحموا، وأقبلت الفرسان نحوهم، وكان عمرو بی عبدود فارس قریش

ص: 41


1- عضل والقارة حيان من العرب أتوا النبيّ صلّی الله علیه و آله ليبعث إليهم من يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، فبعث معهم ستّة أو أكثر فغدروا بهم في الرجيع وقتلوهم وهناك اختلاف في قصّتهم راجع كتب التاريخ والسيرة

وكان قد قاتل يوم بدر حتى ارتُثّ(1) وأثخنته الجراح ولم يشهد أحداً، فلمّا كان يوم الخندق خرج مُعلِماً ليُرى مشهدُه، وكان يُعدّ بألف فارس، وكان يسمّى فارس يليل، لأنّه أقبل في ركب من قريش حتّى إذا كانوا بيليل - وهو وادٍ قريب من بدر - عرضت لهم بنو بكر في عدد، فقال لأصحابه: امضوا فمضوا، فقام في وجوه بني بكر حتّى منعهم من أن يصلوا إليه فعرف بذلك، وكان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق المذاد، وكان أوّل من طفره عمرو وأصحابه، فقيل في ذلك: «عمرو بن عبدود كان أوّل فارس، جزع المَذاد وكان فارس يليل».

وذكر ابن إسحاق: أنّ عمرو بن عبدود كان ينادي: من يبارز؟ فقام علي علیه السّلام وهو مقنّع في الحديد، فقال: «أنا له يا نبي الله». فقال: «إنّه عمرو، اجلس». ونادى عمرو: ألا رجل! وهو يؤنبّهم ويقول: أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها ؟ فقام علي علیه السّلام فقال: «أنا له يا رسول الله». ثمّ نادى الثالثة فقال:

ولقد بححت من النداء *** بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجع *** موقف البطل المناجز

إنّ السماحة والشجاعة في *** الفتى خير الغرائز

فقام علي، فقال: «يا رسول الله! أنا».

فقال: «إنّه عمرو». فقال: «وإن كان عمرواً». فاستأذن رسول الله فأذن له صلّی الله علیه و آله.

وفيما رواه لنا السيّد أبو محمّد الحسيني القايني، عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني، بالإسناد عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن جدّه، عن حذيفة قال: فألبسه رسول الله صلّی الله علیه و آله درعه «ذات الفضول» وأعطاه سيفه «ذا الفقار» وعمّمه

ص: 42


1- المُرْتَثُ: الصريعُ الذي يُنخَنُ في الحَرْب ويُحْمَلُ حَيّاً، ثمّ يموت. (لسان العرب / رثث)

عمامته «السحاب» على رأسه تسعة أكوار، ثمّ قال له: تقدّم. فقال لمّا ولّى: «اللّهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه».

قال ابن إسحاق: فمشي إليه وهو يقول:

لا تعجلنّ فقد أتاك *** مجیب صوتك غير عاجز

ذونية وبصيرة *** والصدق منجي كلّ فائز

إنّي لأرجو أن أُقيم *** عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى *** ذكرها عند الهزاهز

قال له عمرو: من أنت؟ قال: «أنا علي». قال: ابن عبد مناف؟ فقال: «أنا علي بن أبي ب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف». فقال: غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسنّ منك، فإنّي أكره أن أهرق دمك. فقال علي علیه السّلام: «لكنّي والله ما أكره أن أهرق دمك». فغضب ونزل وسلّ سيفه كأنّه شعلة نار، ثمّ أقبل نحو علي مغضباً، فاستقبله علي بدرقته، فضربه عمرو بالدرقة فقدّها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجّه، وضربه عليّ على حبل العاتق فسقط.

وفي رواية حذيفة: وتسيّف على رجليه بالسيف من أسفل فوقع على قفاه، وثارت بينهما عجاجة فسمع عليّ يكبر، فقال رسول الله صلّی الله علیه و آله: «قتله والذي نفسي بيده». فكان أوّل من ابتدر العجاج عمر بن الخطّاب، فإذا عليّ يمسح سيفه بدرع عمرو، فكبّر عمر بن الخطاب وقال: يا رسول الله قتله. فحزٌ على رأسه وأقبل نحو رسول الله صلّی الله علیه و آله ووجهه يتهلّل. فقال عمر بن الخطّاب: هلا استلبته درعه، فإنّه ليس للعرب درع خير منها ؟ فقال: «ضربته فاتّقاني بسوأته فاستحييت ابن عمّي أن أستلبه».

قال حذيفة: فقال النبي صلّی الله علیه و آله : «أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل أُمّة محمّد

ص: 43

لرجّح عملك بعملهم، وذلك أنّه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا وقد دخله ومن بقتل عمرو، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا وقد دخله عزّ بقتل عمرو».

وعن الحاكم أبي القاسم أيضاً بالإسناد عن سفيان الثوري، عن زبيد الثاني، عن مرّة، عن عبد الله بن مسعود، قال: كان يقرأ: «وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ».

وخرج أصحابه منهزمين حتّى طفرت خيولهم الخندق وتبادر المسلمون، فوجدوا نوفل بن عبد العزّى جوف الخندق، فجعلوا يرمونه بالحجارة. فقال لهم: قتلة أجمل من هذه ينزل بعضكم أُقاتله، فقتله الزبير بن العوام.

وذكر ابن إسحاق: أنّ علياً علیه السّلام طعنه في ترقوته حتّى أخرجها من مراقه، فمات في الخندق، وبعث المشركون إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله يشترون جيفته بعشرة آلاف، فقال النبي صلّی الله علیه و آله: «هو لكم لا نأكل ثمن الموت»ى.

وذكر علي علیه السّلام أبياتاً منها:

نصر الحجارة من سفاهة رأيه *** و نصرت ربّ محمّد بصواب

فضربته وتركته متجدّلاً *** كالجذع بين دكادك وروابي

وعففت عن أثوابه ولو أنّني *** كنت المقطّر بزني أثوابي

وروى عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري قال: إنّ عليّاً علیه السّلام لمّا قتل عمرو بن عبدود، حمل رأسه فألقاه بين يدي رسول الله صلّی الله علیه و آله ، فقام أبو بكر وعمر فقبّلا رأس علىّ علیه السّلام.

وروي عن أبي بكر بن عيّاش، أنّه قال: ضرب عليّ ضربة ما كان في الإسلام أعزّ منها - يعني ضربة عمرو بن عبدود - وضُرب عليّ ضربة ما كان في الإسلام

ص: 44

ضربة أشأم منها، يعني ضربة ابن ملجم عليه لعائن الله.

قال: وجاء نعيم بن مسعود الأشجعي إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله فقال: يا رسول الله إِنِّي قد أسلمت ولم يعلم بي أحد من قومي، فمرني بأمرك، فقال له رسول الله صلّى الله عليه و آله: «إنّما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنّا ما استطعت، فإنّما الحرب خدعة».

فانطلق نعيم بن مسعود حتّى أتى بني قريظة، فقال لهم: إنّي لكم صديق والله ما أنتم وقريش وغطفان من محمد صلّى الله عليه و آله بمنزلة واحدة، إنّ البلد بلدكم وبه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، وإنّما قريش وغطفان بلادهم غيرها، وإنّما جاؤوا حتّى نزلوا معكم، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ولا طاقة لكم به، فلا تقاتلوا حتّى تأخذوا رهناً من أشرافهم تستوثقون به أن لا يبرحوا حتّى يناجزوا محمّداً. فقالوا له: قد أشرت برأي.

ثمّ ذهب فأتى أبا سفيان وأشراف قريش، فقال: يا معشر قريش! إنّكم قد عرفتم وُدّي إيَّاكم وفراقي محمّداً ودينه، وإنّي قد جئتكم بنصيحة فاكتموا عليّ. فقالوا: نفعل ما أنت عندنا بمتّهم. فقال: تعلمون أنّ بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمّد، فبعثوا إليه أنّه لا يرضيك عنّا إلا أن نأخذ من القوم رهناً من أشرافهم، وندفعهم إليك، فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك عليهم حتّى نخرجهم من بلادك. فقال: بلى، فإن بعثوا إليكم يسألونكم نفراً من رجالكم، فلا تعطوهم رجلاً واحداً واحذروا. ثمّ جاء غطفان وقال: يا معشر غطفان! إنّي رجل منكم، ثمّ قال لهم ما قال لقريش.

فلمّا أصبح أبو سفيان وذلك يوم السبت، في شوّال سنة خمس من الهجرة،

ص: 45

بعث إليهم أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش: إنّ أبا سفيان يقول لكم: يا معشر اليهود! إنّ الكراع والخف(1) قد هلكا، وإنّا لسنا بدار مقام، فاخرجوا إلى محمّد حتّى نناجزه. فبعثوا إليه: أنّ اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتّى تعطونا رهناً من رجالكم نستوثق بهم لا تذهبوا وتدعونا حتّى نناجز محمّداً. فقال أبو سفيان والله قد حذّرنا هذا نعيم. فبعث إليهم أبو سفيان إنّا لا نعطيكم رجلاً واحداً، فإن شئتم أن تخرجوا وتقاتلوا وإن شئتم فاقعدوا. فقالت اليهود: هذا والله الذي قال لنا نعيم. فبعثوا إليهم: إنّا والله لا نقاتل حتّى تعطونا رهناً. وخذل الله بينهم وبعث سبحانه عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد حتّى انصرفوا راجعين.

قال محمّد بن كعب: قال حذيفة بن اليمان: والله لقد رأيتنا يوم الخندق وبنا من الجهد والجوع والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وقام رسول الله صلّی الله علیه و آله فصلّى ما شاء الله من الليل، ثمّ قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم يجعله الله رفيقي في الجنّة؟ قال حذيفة: فوالله ما قام منّا أحد ممّا بنا من الخوف والجهد والجوع. فلمّا لم يقم أحد، دعاني فلم أجد بدّاً من إجابته، قلت: لبّيك، قال: «اذهب فجئني بخبر القوم ولا تحدثنّ شيئاً حتّى ترجع». قال: وأتيت القوم فإذا ريح الله وجنوده يفعل بهم ما يفعل، ما يستمسك لهم بناء، ولا تثبت لهم نار، ولا تطمئنّ لهم قدر، فإنّي لكذلك إذ خرج أبو سفيان من رحله، ثمّ قال: يا معشر قريش! لينظر أحدكم من جليسه. قال حذيفة: فبدأت بالذي عن يميني فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان.

ثمّ عاد أبو سفيان براحلته، فقال: يا معشر قريش! والله ما أنتم بدار مقام، هلك

ص: 46


1- أي الخيل والإبل، والأصل في الكراع قوائم الدوابّ، والخفّ في الإبل كالحافر من الخيل

الخفّ والحافر، وأخلفتنا بنو قريظة، وهذا الريح لا يستمسك لنا معها شي. ثمّ عجّل فركب راحلته وإنّها لمعقولة ما حلّ عقالها إلا بعد ما ركبها، قال: قلت في نفسي لو رميت عدوّ الله فقتلته كنت قد صنعت شيئاً، فوترت قوسي، ثمّ وضعت السهم في كبد القوس وأنا أُريد أن أرميه فأقتله، فذكرت قول رسول الله صلّی الله علیه و آله: «لا تحدثنّ شيئاً حتّى ترجع»، قال: فحططت القوس، ثمّ رجعت إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله فأخبرته.

وروى الحافظ بالإسناد عن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله صلّی الله علیه و آله على الأحزاب فقال: «اللّهمّ أنت منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللّهمّ اهزمهم وزلزلهم».

وعن أبي هريرة أنۀ رسول الله صلّی الله علیه و آله كان يقول: «لا إله إلا الله وحده وحده، أعزّ جنده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده».

وعن سليمان بن صرد قال: قال رسول الله صلّی الله علیه و آله حين أجلى عنه الأحزاب: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا». فكان كما قال صلّی الله علیه و آله فلم تغزهم قريش بعد ذلك، وكان هو يغزوهم حتّى فتح عليهم مكّة(1). انتهى ما نقلناه من «مجمع البيان» باختصار طفيف.

وهكذا يتبيّن أنّ اليهود هم الذين بدأوا نقض العهد مع المسلمين، وبدلاً من أن لا ينصروا أعداء الرسول صلّی الله علیه و آله ألّبوا عليه الأعداء، فكان ما كان من هزيمتهم. ثمّ استأصلهم الرسول صلّی الله علیه و آله في غزوتي بني قريظة وبني النضير، وأخرجهم من جزيرة العرب.

ص: 47


1- مجمع البيان 8: 125 - 136

«وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا»، تصوّر الآية حال المسلمين آنذاك حيث كان عدد مقاتليهم لا يزيد على ثلاثة آلاف، بينهم منافقون ومن في قلوبهم مرض، وفي الجانب الآخر عشرة آلاف مقاتل، قد تعاهدوا على إبادة المسلمين واستئصالهم، وفيهم من الشجعان أمثال عمرو بن عبدود العامري.

و«الزيغ» هو الميل والانحراف، فإذا احتضر الإنسان وحضره الموت مالت عينه إلى أعلى فيقال: زاغ بصره. والآية تصوّر المسلمين وكأنّهم قد حضرهم الموت. والمراد ب_«القلوب» الأرواح ، و «بلوغها الحناجر» أيضاً كناية عن حالة الاحتضار.

وهذا التوصيف يبيّن بوضوح غاية الخوف والهلع الذي أصاب المسلمين، ويبدو ذلك واضحاً حين خاطبهم عمرو مطالباً النزال، بما معناه: أليس تزعمون أنّ الجنّة مصير قتلاكم، فلماذا لا تقدمون لأبعثكم إلى الجنّة؟ وكلّما طلب منهم الرسول صلّی الله علیه و آله أن يبرزوا له، لم يجبه أحد إلا أمير المؤمنين سلام الله عليه.

«وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا» الألف للإطلاق، أُتي به لتعادل القوافي. والمراد أنّهم ظنّوا بالله ظنّ السوء، وبأنّه تعالى تخلّى عنهم وخذلهم. والخطاب للمسلمين، وبالطبع لم يكن كلّهم بهذه المثابة، وسيأتي في الآيات التالية الثناء على بعضهم، حيث أبلوا في هذه المعمعة بلاءً حسناً. ولكنّ المتوقّع من المؤمنين أن لا يتزعزع إيمانهم مهما صعبت الظروف، والله تعالى يبتلي المؤمنين في مثل هذه الظروف العصيبة، ليتبيّن الصادقون في ما عاهدوا الله عليه. وكما قال أمير المؤمنين علیه السّلام «في تقلّب الأحوال علم جواهر الرجال». (1)

وأهون ما حدث لهم من الظنّ السيّئ بالله تعالى هو الخذلان ولعلّ منهم من

ص: 48


1- نهج البلاغه، صبحي الصالح: 207/646

ذهب في ظنّه إلى أبعد من ذلك. وهذا أمر طبيعي، فالإنسان إذا واجه المصاعب والمشاكل، قلّ إيمانه وقلّ من تراه ثابتاً على إيمانه في هذه الظروف. بل إنّ الظنّ بعدم النصرة ربّما عرض للرسل علیهم السّلام، كما قال تعالى: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْاسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ»(1) ولا شكّ أنّ الرسل لا يظنّون بالله ظنّ السوء، فلعلّ المراد بهذه الآية أنّهم ظنّوا أنّ المصلحة ربّما اقتضت أن يتأخّر النصر الإلهي.

«هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ» تقديم اسم الإشارة في هذا المقام يفيد الحصر، فكأنّه هو الابتلاء فحسب، مع أنّ الابتلاء أمر مستمرّ في حياة الإنسان، فكلّ ما يواجهه الإنسان في حياته من خير وشرّ، ونعماء وضرّاء، ابتلاء وامتحان. قال تعالى «وَنَبْلُوكُم بِالشَّرُ وَ الخيرِ فِتْنَةٌ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»(2) ولكن حيث كان هذا الابتلاء عظيماً جدّاً، ولم يثبت من المؤمنين فيه إلا القليل، عبّر عنه القرآن كأنّه هو الابتلاء ولا غیر، كما تقول: زيد هو العالم، فيما إذا كان أعلم من غيره.

«وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً»، «الزلزال» من الزلّة، بمعنى استرسال الرجل من غير قصد، وتكرار اللفظ يدلّ على تكرّر الزلّة، وهو الاضطراب. والمراد إمّا تصوير حالتهم من الرعب، كأنّ فرائصهم ترتعد من الخوف كما قيل، أو المراد شدّة الامتحان حيث ابتُلوا باضطراب نفوسهم وتزلزل إيمانهم، كما قال تعالى: «أمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ مَسْتهُمُ الْبَاسَاء وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ»(3).

ص: 49


1- يوسف (12): 110
2- الأنبياء (21): 35
3- البقرة (2): 214

سورة الأحزاب (12-17)

«وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)»

«وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُوراً» «الغرور»: الخداع والأخذ على غرّة، أي غفلة. وغرضهم من هذا الكلام التشكيك، وإلقاء الشبهة في أصل الدين، ومواعيد الله تعالى ورسوله حول انتصار الإسلام في النهاية، والغلبة على الكفر والشرك، ليصلوا بذلك إلى التشكيك في الوعود الغيبية المتعلّقة بالآخرة.

والتعبير بأنّ الوعد من الله ورسوله إمّا من باب الجري على ظاهر حالهم وهو الإيمان، أو من باب الاستهزاء، أي ما ادُّعي أنّه وعد من الله تعالى، وما قاله المدّعي للرسالة.

ولا غرابة في صدور هذه الجملة الدالّة على الكفر من المنافقين، لأنّهم أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر، فهم كفّار في الواقع. وإنّما جرت عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، والظروف أجبرتهم على إظهار الإيمان، ولذلك فهم يترصّدون الفرص ليبرزوا ما في ضمائرهم.

ص: 50

وأمّا «الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ» فيحتمل أن يكون المراد بهم المنافقون أيضاً، فإنّ النفاق مرض في قلوبهم، فيكون العطف هنا للتفسير. ويؤيّد ذلك قوله تعالى في ذكر بعض أوصافهم: «فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً»(1).

ويحتمل أن يراد بهم قوم من المؤمنين ظاهراً وواقعاً، وليسوا منافقين، ولكن في قلوبهم مرض يزلزل إيمانهم وهو الشكّ، فهم ضعفاء في الإيمان، ويتزلزل إيمانهم في مواقع شدّة البلاء. ونحن نجد في المجتمع المسلم كثيرين من هذا القبيل، حيث يصدر منهم الكفر في مواقع الشدّة وهم في مواقع الرخاء مؤمنون يؤدون واجباتهم.

وكلّ مؤمن يضعف في مجال خاصّ من الامتحان، فهناك من يفقد إيمانه إذا ابتلي بالمال. وهناك من يحتفظ به في هذا المجال مهما اشتدّ البلاء، ولكنّه يضعف في مجال الشهوة. وهناك من يضعف في مجال الرئاسة والسلطة. وهكذا.

والبلاء المذكور هنا من أشدّ ما ابتلي به المؤمنون في المدينة، فلا غرابة إذا صدر الكفر من بعض ضعفاء الإيمان وإن لم يكونوا من المنافقين.

ولعلّ القصد من هذه الآية، تنبيه المؤمنين على أنّ هناك منهم من في قلبه مرض، وأنّ علامة هذا المرض أنّه في مثل هذه الظروف العصيبة، يصدر منه مثل هذه الأقاويل. وهذا التنبيه ينفع المؤمنين عامّة بما فيهم ذوو الأمراض، فإنّ عليهم أن يعالجوا أنفسهم، ويزيلوا الشكّ عن قلوبهم قبل أن تتبيّن أمراضهم لسائر الناس، فإنّ هذه الأمراض لا بدّ من أن تظهر آثارها ولو بعد حين، ولو لم تظهر في هذه الدنيا، فستظهر يوم القيامة.

ص: 51


1- البقرة (2): 10

«وَإِذْ قَالَت طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا» هؤلاء قوم من المنافقين لم يكتفوا بإظهار الكفر ، بل أخذوا يثبّطون عزائم المؤمنين ويخوّفونهم. وممّا قالوه، هذه الجملة: «يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ»، «المقام» إمّا اسم مكان، أي محلّ الإقامة، وإمّا مصدر ميمي بمعنى الإقامة. والمعنى: لا يمكنكم الإقامة في هذا البلد فاخرجوا منه، أو لا يمكنكم الإقامة على هذا الدين، فارجعوا عنه.

و «يثرب» اسم قديم لمدينة الرسول صلّی الله علیه و آله. هجر هذا الاسم بعد أن هاجر إليها الرسول، فقيل لها: «مدينة الرسول»، ثمّ اختصر فقيل لها: «المدينة» وهذا القوم اختاروا الاسم القديم في إشارة إلى الرجوع إلى العهد البائد. وأنّه لم يبق الرسول ولا مدينته. وأنّ كلّ ما وعد به الرسول صلّی الله علیه و آله أصبح لاغياً بهجوم هذا الجيش العرمرم، ومحاصرتهم للمدينة.

«وَيَسْتَئذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ»، هؤلاء طائفة أُخرى من المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، جاءوا إلى النبيّ صلّی الله علیه و آله واستأذنوه في اعتزال الحرب، واعتذروا عن الحضور بأنّ بيوتنا عورة و «العورة» مصدر بمعنى العيب والخلل، ويُطلق على نفس ما به الخلل مبالغة، أو مخفّف من عورة - بكسر الواو - أي بها عوار وخلل. والمراد أنّها غير محصّنة، فيتمكّن منها الأعداء والسرّاق ولا يمكننا تركها، ولعلّهم كانوا خارج المدينة، فأظهروا الخوف على بيوتهم من الكفّار.

«وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلا فِرَاراً» وهكذا ينزل الوحي يفضحهم ويظهر كذبهم، فبيوتهم ليست بذات عورة، وإنّما يريدون الفرار من الحرب، وما أقبح الفرار من الحرب والعدوّ قد أحاط بالبلد!

«وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَاتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيراً»

ص: 52

الضمير في «أقْطَارِهَا» إمّا أن يعود إلى بيوتهم، أي لو دخل الأعداء عليهم من أقطار بيوتهم، أو يعود إلى المدينة، فالمعنى أنّه لو دخل الأعداء المدينة حال كونهم فيها. «ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ»، أي طلب منهم الأعداء الفتنة؛ و«الفتنة» تطلق على الارتداد عن الدين، وربّما يفسّر هنا بالقتال. «لآتَوهَا» أي لأعطوها. وقرأها بعضهم «لأتوها» أي عملوا بها. «وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا إِلا يَسِيراً»، أي يسرعون إلى قبول هذا الطلب ولا يصبرون إلا قليلاً.

وفي المراد بهذه الجملة اختلاف. والذي يقوى في النظر، أنّ المراد بها بيان جبن القوم وضعف إيمانهم، بحيث لو دخل الأعداء عليهم وطلبوا منهم الارتداد عن الدين، لاستسلموا لهم من دون تريّث، فهؤلاء لا يعتمد عليهم في بقاء الإسلام ونصرة الدين. فالغرض هو عدم الاكتراث بمثل هؤلاء، حتّى لا يؤثّر ضعفهم وتخاذلهم في صفوف المسلمين. وفي الآيات التالية ما يؤيّد هذا المعنى.

«وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ» إشارة إلى بيعتهم مع الرسول صلّی الله علیه و آله، فإنّها تعتبر بيعة ومعاهدة مع الله تعالى. ومعنى «البيعة» هو التضحية بالمال والنفس في سبيل الدين، كما قال تعالى: «إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(1). ف_«البيعة» هو البيع والمؤمن ببيعته مع الرسول صلّی الله علیه و آله يبيع الله نفسه وماله في مقابل أن تكون له الجنّة. والبيعة مع الرسول صلّی الله علیه و آله معاهدة مع الله تعالى. و «تولية الدبر» بمعنى الفرار.

ص: 53


1- التوبة (9): 111

«وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئولاً»، فالمعاهدة مع الله تعالى لا يمكن التسامح فيها ونسيانها، والله تعالى يسأل الإنسان عمّا عاهد الله عليه يوم القيامة. وهذه الآية ممّا يؤكّد جبن القوم وفرارهم من الحرب.

«قُل لَنْ يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِنَ المَوْتِ أوِ الْقَتْل وإذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلاً» يأمر الله تعالى رسوله بأن يحذّرهم وينبّههم بأنّ فرارهم من الموت أو القتل لا ينفعهم. وليس المراد: أنّ الإنسان لا ينبغي أن يفرّ من عوامل الموت كالمرض، أو عوامل القتل كبطش العدوّ ، إذ لا شكّ أنّ ذلك يفيد في بقاء الإنسان مدّة أطول. ومن الواضح: أنّ الإنسان يجب عليه عقلاً وشرعاً، أن يحاول الإبقاء على حياته، بل المراد: أنّ الفرار من الموت أو القتل لا ينفعكم طويلاً.

ولذلك عقّبه بقوله: «وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلاً»، أي إنّ تمتّعكم بعد ذلك ليس إلا في الحياة الدنيا، وهو مهما طال، فإنّه قليل إذا قيس بالحياة الآخرة، فلا ينفع ذلك، بل يضرّ، لأنّكم تشترون غضب الله وعذابه، حيث تتركون الواجب من الدفاع عن الدين، بأمر تافه وهو التمتّع بالحياة الدنيا عدّة أيام أو عدّة سنين.

وبذلك يتبيّن ضعف ما في بعض التفاسير، من أنّ المراد بيان أنكم لا يمكنكم المقابلة مع قضاء الله وقدره، فالفرار لا ينفعكم، فإن كان الله تعالى قضى عليكم بالموت، فتموتون حتّى لو تعالجتم عن المرض، وإن قضى عليكم بالقتل، فستقتلون حتّى لو فررتم عن المعركة.

وهذا غير صحيح، وقد حكي عن أمير المؤمنين علیه السّلام أنّه كان جالساً بجانب حائط مائل، فلمّا نُبّه على ذلك، قام وانتقل إلى موضع آخر. فقيل له: يا أميرالمؤمنين هل تفرّ من قضاء الله ؟ قال علیه السّلام: «أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّ وجلّ»(1).

ص: 54


1- بحار الأنوار 5: 97

ومعنى ذلك أنّه لا يريد الفرار من قضاء الله تعالى إلى موضع لا يحكم فيه قضاء الله، فإنّ هذا الموضع أيضاً تابع لحكمه وقضائه، لكن ربمّا لا يكون هناك قضاء حتمي بالموت في هذه الساعة، فلا مبرّر للبقاء في موضع الخطر. ولو بقي الإنسان، فمات بهذا السبب، فالمقضي أنّه يموت بسبب فعله، ويؤاخذ على ذلك عرفاً وشرعاً. فالصحيح في تفسير الآية ما ذكرناه، والله العالم.

«قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةٌ»، هذا بيان آخر لعدم الجدوى في الفرار من الموت، وهو أنّكم إذا فررتم من القتال - خلافاً لأمر الله تعالى - فإلى من تلجؤون إن أراد الله تعالى أن يعاقبكم، فأراد بكم سوءاً، ومن يمكنه أن يعصمكم من عذابه ؟! وكذلك ليس هناك من يمنع الله تعالى من إرسال رحمة إليكم إن أرادها.

والظاهر: أنّ هنا تقديراً، أي من يمنعكم من رحمته إن أراد بكم رحمة، فالمقدّر يدلّ عليه الفعل المذكور: «يَعْصِمُكُمْ»، نظير قوله تعالى: «وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ»(1) أي والبرد.

«وَلا يَجِدُونَ هَم مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلا نَصِيراً»، «مِن دُونِ اللِه»، أي بدلاً عنه، فلا ينافي أن يكون لهم وليّ، عيّنه الله تعالى أو أجاز ولايته. و«الوليّ» هو الذي يقوم بالأمر ويغنيك عن التوسّل بغيره، و«النصير» من يعاونك ويساعدك لبلوغ المقصود. فالمعنى أنّ كلّ من يفرض كونه وليّاً لكم أو نصيراً، فإنّما يعمل بإرادته تعالى وبإذنه، وليس في الكون وليّ أو نصير يستقلّ بإرادته.

ص: 55


1- النحل (16): 81

سورة الأحزاب (18-20)

«قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلً (20)»

«قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ»، «قد» حرف تحقيق وتأكيد، وإن كان الغالب فيه مع الفعل المضارع هو التقليل، ولكنّه قد يأتي للتحقيق أيضاً، ومنه ما في هذه الآية. ولعلّ الإتيان بالفعل المضارع، للإشارة إلى استمرار وجود المعوّقين وعدم اختصاصهم بهذه الفترة. و «المعوّقون» هم المثبّطون عن القتال، والعائق هو المانع، ف_«المعوّق» من يوجد الموانع في طريق الجهاد والمجاهدين. والكلام مسوق للتهديد، وناهيك في التهديد، القول بأنّ الله تعالى يعلمهم.

«وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا»، قيل: المراد ب_«إخوانهم» الذين هم مثلهم من المنافقين والذين في قلوبهم مرض. ويحتمل أن يكون المراد إخوانهم في أصل الدين، أي المؤمنين، فهم إخوان حسب الظاهر، باعتبار أنّ كلّهم داخلون في ربقة الإسلام، فهم يحاولون إعاقة المحاربين من المؤمنين وتثبيطهم عن القتال، وربّما يجدون آذاناً صاغية من ضعفاء النفوس والإيمان. ويؤيّد هذا الاحتمال أنّ الخطاب للمؤمنين وأنّه تعالى اعتبر المعوقين منهم.

وقوله: «هَلُمَّ» اسم فعل يستوي فيه الجمع والمفرد والتأنيث والتذكير عند أهل

ص: 56

الحجاز، كما قيل. وهو بمعنى: تعالوا وأقبلوا إلينا. يحرضونهم بذلك على طلب العافية وترك الجهاد.

«وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلاً» بيان لجبنهم. و«البأس» هو الحرب وأصله الشدّة. والظاهر: أنّ الاستثناء يراد به الموارد القليلة التي كانوا يشاركون فيها في الجهاد، أو أنّهم يشاركون قليلاً من الوقت ويتركون، ولو كانوا يمتنعون عن المشاركة نهائياً، لكان أفضل، فإنّهم بتركهم للجهاد أثناء الحرب، يجبنون الآخرين، وفي القوم سمّاعون لهم. وربّما قيل: إنّ المراد قلّة من يشترك منهم، وهو بعيد عن ظاهر اللفظ.

«أشِحَّةٌ عَلَيْكُمْ» حال من الضمير في «يَأْتُونَ». وهو جمع شحيح. و«الشحّ» المنع، فيحتمل أن يكون المراد به البخل بالمال لبيان مقاطعتهم للمجتمع الإسلامي وعدم اهتمامهم بمصالحه، فإنّ عدم المشاركة في الدعم الاقتصادي الضرورات المجتمع، يعدّ من أفظع أنحاء المقاطعة وعدم الاهتمام. والذي يعيش في المجتمع وينعم بخيراته، يفرض عليه قانون التعايش الاجتماعي، أن يشارك الآخرين همومهم الاجتماعية. وقد بيّن الله سبحانه هذه الحالة في قوله تعالى: «وَإِنَّ مِنكُمْ لمَن لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلُ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَافُونَ فَوْزاً عَظِيماً»(1).

ويحتمل أن يكون المراد به البخل بالنفس، فيكون بياناً لقوله تعالى: «وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلاً» أي يمتنعون من بذل النفس في سبيل الدين أو لمصلحة

ص: 57


1- النساء (4): 72 - 73

المجتمع. ويؤيّد هذا الاحتمال بيان جبنهم في الجملة التالية. ويحتمل إرادة الأمرين معاً، أي البخل بالمال والامتناع من المشاركة في الدفاع عن الدين وعن الوطن.

«فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ»، الآية تتعرّض لبيان حالة الخوف فيهم بأبلغ بيان، وهو أنّهم - حال الخوف من الحرب ومهاجمة الأعداء - كمن حضره الموت، ووصل به الأمر إلى أن غشي عليه، فتراه تدور عيناه لا تستقرّان على حال. وقوله: «يَنظُرُونَ إِلَيْكَ» يُراد به - على الظاهر - أنّك تراهم ينظرون إليك ولكنّهم لا يرونك، لما أصابهم من الذهول، فالخطاب ليس للرسول صلّی الله علیه و آله كما يتوهّم، بل لكلّ مخاطب أو سامع.

«فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِالْسِنَةٍ حِدَادٍ»، أي إذا انتهت الحرب، وذهب ما يستوجب الخوف، استعادوا شجاعتهم، فهم كما قال الشاعر:

أسد عليّ وفي الحروب نعامة

و «السلق» له معان متعدّدة، والمراد به هنا بسط اللسان بالكلام الشديد. و«الحداد» جمع حديد بمعنى الشيء القاطع.

ويروى عن بعضهم حين تقسيم الغنائم، أنّه كان يعترض على الرسول صلّی الله علیه و آله ويطالبه بالعدل بتعبير غاية في الطيش وقلّة الأدب(1). ومن هذا القبيل هذا المغشي

ص: 58


1- في سنن النسائي عَن جَابر قالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ الله صلّى الله عليه و آله بالجعْرَانَة مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنِ، وَفِي ثَوْب بلال فضة وَرَسُولُ الله صلّى الله عليه و آله يقبض منْهَا ويُعطي الناسَ، قال: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلُ قَالَ: «وَيْلكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إذا لَمْ أَعْدل، لقدْ حَبْتَ وَخَسَرْتَ إِنَّ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ» فَقالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ «دَعْنِي أَقتَلُ هَذَا المُنافق». قَالَ: «مَعَاذ الله أنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّي أقتَلُ أصْحَابي، إنَّ هَذا وَأَصْحَابَهُ يَقرَؤُونَ القُرْآن لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَهُمُ مِنَ الرَمِيَةِ». (سنن النسائي 7: 286)

عليه من الموت الذي استعاد شجاعته بمجرد انتهاء الحرب، فهو الآن يطالب بحقّه، لأنّه كان حاضراً في المعركة، وإن كان دوره هو التثبيط والتخويف.

«أشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ» حال من الضمير في «سَلَقُوكُمْ» أي يبسطون إليكم ألسنتهم حال كونهم يبخلون عليكم بالخير. وهكذا يعود إلى بيان صفة الشحّ فيهم فهم هنا يشحّون عليهم بالخير ، لا بأموالهم وأنفسهم. والمراد ب_«الخير» ما غنمه المسلمون بجهادهم وتعبهم، فهو لا يقتصر على منع ماله، بل لا يريد وصول أموال أُخرى إليهم، وإن كان ذلك بفضل جهودهم ،دونه، وهذا غاية البخل والشحّ.

«أَوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أعْمَالَهُمْ»، يبدو أنّ هذه الجملة تبيّن ما هو السبب في هذه المقاطعة مع المجتمع الإسلامي المعطاء الذي ينعم المنافقون في ظلّه؟ السبب في ذلك أنّهم لم يؤمنوا وإنّما أسلموا، أي استسلموا للواقع المفروض عليهم قهراً، وهو غلبة النظام الإسلامي على كيانهم الاجتماعي. وهذا الإسلام لا يستدعي إيمان القلب الباعث على حب ّالخير للإسلام والمسلمين، والتضحية في سبيل الله، فهم كما قال تعالى: «قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ»(1). ف_«الإيمان»، طمأنينة في القلب، و«الإسلام» يتمّ بمجرّد التلفّظ بالشهادتين.

إذن فالمنافقون لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم. و«الحبط» داء يصيب الدابّة فتأكل كثيراً وينتفخ بطنها ولكنّها لا تنتفع به، بل تموت بذلك. وإحباط العمل مأخوذ منه، حيث إنّ المنافق أو الذي في قلبه مرض، ربّما يعمل كثيراً ولكنّه لاينتفع بعمله، لوجود هذا الداء.

ص: 59


1- الحجرات (49): 14

وقد ذكر الله تعالى من الأدواء التي تستوجب الحبط:

الشرك، قال تعالى: «وَلَوْ اشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(1) .

ومنها الكفر بالإيمان: «وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ»(2). ولعلّ المراد به الكفر في مقام العمل بما آمن به ظاهراً، وينطبق على حالة النفاق.

ومنها إرادة الحياة الدنيا وزينتها: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(3) ولعلّ المراد به حصر الهدف في المنافع الدنيوية.

ومنها الارتداد عن الدين: «وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلِئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(4). وهناك عناوين أخرى تتّحد مع ما ذكر، أو تستلزمه.

وحذّر الله سبحانه من الجهر بالقول مع الرسول صلّی الله علیه و آله، لأنّه ربّما يحبط الأعمال. قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضِ أنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ»(5).

وربّما يقال: إنّ المنافق والذي لم يؤمن - كما عبّر به في هذه الآية - ليس له عمل حتّى يحبط عمله. فما هو المراد ؟ بل هناك من الآيات ما تدلّ على إبطال

ص: 60


1- الأنعام (6): 88
2- المائدة (5): 5
3- هود (11): 15- 16
4- البقرة (2): 217
5- الحجرات (49): 2

أعمال الكافرين أيضاً. والصحيح: أنّ الإنسان لا يخلو من عمل، يستحقّ عليه الجزاء الحسن - في حدّ ذاته - وقد وعد الله سبحانه أن يرى الإنسان نتيجة أعماله صغيرة كانت أم كبيرة: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ»(1) وغير ذلك من الآيات، وهي كثيرة. ولكنّ الله تعالى يبطل عمل الكافر والمشرك والمنافق، كما قال عزّ من قائل: «وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءٌ مَنثُوراً»(2). وغير ذلك من الآيات، وهي كثيرة أيضاً.

«وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً»، لا شكّ في أنّ حبط العمل وإبطاله، أمر يخالف طبع العمل، وقد تكرّر التأكيد على هذا الأمر في الكتاب العزيز، وأنّ العمل طائر الإنسان يلازمه ولا يفارقه، والوجدان يحكم بذلك أيضاً، فإنّا نجد من أنفسنا أنّ الإنسان ما لم يفعل الشيء ولم يقل القول، فإن الأمر بيده، فإذا فعل وقال، فإنّه لا يمكنه إعادة الأمر على ما كان عليه، مهما حاول، ومهما أُوتي من حول وقوّة، وفكر ودهاء.

وليس هناك شيء يبطل العمل، وكلّ ما يفعله الإنسان في هذا المجال إنّما هو لإبطال مفعوله السيّئ، كدفع الدية والكفّارة والقضاء والاعتذار والاستغفار وغير ذلك، حتّى القصاص وإجراء الحد، فإنّهما أيضاً من تبعات العمل، ولا يستلزمان زواله كما هو واضح.

ومن هنا عقّب الأمر في هذه الآية، بأنّ ذلك - وإن كان مخالفاً لطبيعة العمل - إلا أنّه على الله يسير وهو ليس أمراً مستحيلاً، في حدّ ذاته، كما أنّ الله تعالى

ص: 61


1- الزلزلة (99): 7-8
2- الفرقان (25): 23

يكفّر سيّئات المؤمنين الذين اجتنبوا الكبائر، فالحبط أمر معاكس للتكفير، وهو على الله يسير.

«يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا»، المشهور بين المفسّرين قديماً وحديثاً أنّ هذه الجملة لبيان غاية جبنهم. وذكروا في وجه دلالتها على ذلك أنّ المراد بيان أنّهم بعد أن ولّى الأحزاب راجعين، كانوا يحسبون أنّهم باقون على مشارف المدينة لغاية خوفهم.

ولكن من الواضح أنّ هذا يدلّ على عدم اطلاعهم لا على جبنهم. وفي قراءة منسوبة إلى ابن مسعود على ما رواه الطبري في «جامع البيان»: «يحسبون الأحزاب قد ذهبوا، فإذا وجدوهم لم يذهبوا ودّوا لو أنّهم بادون في الأعراب»،(1) وهذه القراءة مع أنّها لا يصحّ إسنادها إليه، وهو بعيد عن السياق، إلا أنّها تدلّ على وجود الاختلاف والشكّ في معنى الجملة حتّى في الصدر الأوّل.

وهناك محاولات لحملها على معنى آخر، وهي من البعد بمكان لا نرجّح ذكرها. وحملها بعضهم على أنّ هذا الحسبان منهم من جهة تمنّيهم أن يقضي الأحزاب على المؤمنين، لا من جهة الخوف. وهو أيضاً بعيد.

والظاهر: أنّ ما فهمه الأكثر هو الصحيح، ولكن لا بمعنى جهلهم بواقع الأمر، بل بمعنى أنّهم لخوفهم وجبنهم يتصوّرون الأحزاب باقية حول المدينة، فلا يفارقهم الخوف، وهذه طبيعة الإنسان الجبان، فهو نظير قوله تعالى حول المنافقين أيضاً: «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ»(2) وتشهد لهذا الاحتمال الجملة التالية.

ص: 62


1- جامع البیان 21: 91
2- المنافقون (63): 4

ولكن ربّما يثار سؤال وهو أنّه لماذا هذا الجبن والخوف؟ ولماذا أُصيب به المنافقون؟ وما هي العلاقة بين الجبن والنفاق؟ إذ يبعد أن يكون ذلك من باب الاتفاق. والموسومون بالنفاق لم يسمع عنهم جبن واضح قبل ذلك. ولعلّ بعضهم كان في أيّام شركه شجاعاً أو لم يكن من الجبناء، فما باله جبن بعد نفاقه؟

ولعلّ السرّ في ذلك يعود إلى اضطرابهم النفسي نتيجة التناقض الذي يشعرون به في قرارة أنفسهم بين ما يظهرونه من الولاء والإيمان، وما يبطنونه من الكفر والعداء. وهذا الاضطراب ربّما ينجرّ إلى ازدواج الشخصية في الإنسان، لأنّه يضطرّ إلى التلوّن في كلّ موقف، فهو يدخل المسجد مع المؤمنين ويصلّي مثلهم، وإذا رفعوا شعاراً اضطرّ إلى رفعه مجاراة لهم، وهو في باطنه لا يعتقد بذلك بل يعتقد خلافه، خصوصاً إذا كان المنافق ممّن لا يظهر العداء أبداً، ويتكتّم إلى درجة يجهل حقيقته كلّ المسلمين، بل ربّما تخفى على الرسول صلّى الله عليه و آله لولا الوحي، كما ورد في القرآن الكريم. والواقع أنّ أكثر المنافقين وأخطرهم كانوا من هذا القبيل، وسيأتي بعض الكلام حوله في سورة المنافقين.

هذا، مضافاً إلى أنّ كفرهم في الباطن يشعرهم أنّ التضحية في سبيل هذا الدين إتلاف للنفس في غير موضعه، فلا وجه للمخاطرة بالنفس للدفاع عن مبدأ لا يعتقدون به. وهذا الاعتقاد لا شكّ أنّه يوجب الجبن والحذر، والتخوّف من الورود في أيّ مقام يحتمل فيه الهلاك، فكيف بهم إذا أُحيط ببلدهم من كلّ جانب؟!

«وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ»، هذه

ص: 63

الجملة أيضاً تحكي عن جبنهم وخوفهم والمعنى أنّهم يتمنّون لو تكرّر الغزو، أن لا يكونوا في المدينة، بل يكونوا في البادية، وبين الأعراب يسألون هذا وذاك ممّن يأتي من ناحية المدينة عمّا آل إليه أمر الحرب.

و «بادون» من البدو في مقابل الحضر، يطلق على سكّان البادية، وهو من بدا يبدو بمعنى ظهر، لكون حياتهم في البرّ، فهم ظاهرون لا يتستّرون بالمباني.

«وَلَوْ كَانُواْ فِيكُم مَا قَاتَلُوا إلا قليلاً»، هذه الجملة تقلّل من شأنهم في الحرب، وتبيّن أنّهم لو كانوا فيكم لم يغنوا عنكم شيئاً، لأنهّم لا يقاتلون إلا قليلاً. ولعلّ الاستثناء من جهة وجود بعض منهم كان يقاتل بدواع وطنية أو قومية، حتّى إنّ بعضهم قتل في بعض الغزوات. وكما ذكرنا سابقاً فإنّ هناك جمعاً من الأصحاب نسمع عن وجودهم في كلّ الغزوات أو أكثرها، ولم نسمع بهم قاتلوا أو بارزوا أحداً، أو قتلوا أو جرحوا أو جُرحوا - بضمّ أوّله -، ولا يبعد شمول هذه الآيات لهم.

ص: 64

سورة الأحزاب (21-24)

«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)»

«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، الخطاب للمؤمنين، وفيه تعرّض لبيان حالهم وحثّ لهم على الاقتداء والتأسّي بالرسول صلّی الله علیه و آله بعد الانتهاء من التنديد بالمنافقين ومرضى القلوب.

ثمّ إنّ الجملة مؤكّدة بلام القسم و «قد». ويفهم من التعبير بفعل الماضي: «كَانَ لَكُمْ» توجيه اللوم إلى المؤمنين على عدم التأسّي به صلّی الله علیه و آله ، حيث يفيد هذا التعبير الاستغراب من تناسي ذلك، فإنّ هذا الأمر لا يحتاج إلى أمر ينزل من السماء، بل المؤمن بطبعه يميل إلى التأسّي بالرسول صلّی الله علیه و آله. وهذه الآية من هذه الجهة نظير قوله تعالى: «وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ»(1).

وقوله: «فِي رَسُولِ الله» على ما في «الكشّاف» - : إمّا بمعنى أنّه صلّی الله علیه و آله بنفسه أُسوة، و«الأُسوة» مصدر بمعنى المفعول، أي هو مقتدى حسن لكم. وهو نظير قول القائل: في البيضة منّ من حديد - وهي ما يجعله المحارب على رأسه - مع أنّه هو نفس الحديد، وإمّا بمعنى أنّ فيه خصلة يجب أن يقتدى به، وهي جهاده وتحمّله

ص: 65


1- آل عمران (3): 101

المشاقّ في سبيل الله تعالى. (1) ولكنّ الأوّل هو المتبادر.

«لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً» يظهر من بعض التفاسير أو معظمها أنّ هذه الجملة تقتضي تخصيص التأسّي بالرسول صلّى الله عليه و آله بفرقة خاصۀة من المخاطبين، وهم الواجدون لهذه الصفات، إمّا لأنّ غيرهم لا يتأسّى بالرسول، أو لأنّه لا ينتفع به، نظير قوله تعالى: «إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ»(2) ، مع أنّه ينذر الجميع وهو الواجب عليه، فالتخصيص - كما يقال - من جهة أنّ غيره لا ينتفع بالإنذار. وكذلك التأسّي هنا لا ينفع إلا من كان يرجو الله واليوم الآخر ويذكر الله كثيراً.

ولكنّ الظاهر: أنّ المراد بالآية، ليس تخصيص التأسّي بفريق خاصّ، بل المراد أنّ الرسول أُسوة في طريق حصول هذه الصفات، فمن أراد منكم أن يعمل عملاً برجاء التقرّب إلى الله تعالى، وتحصيل ثواب الآخرة، وأن يكون ممّن يذكر الله تعالى كثيراً، فليتأسّ بالرسول فليس فيه تقييد لكونه أُسوة بفرقة خاصّة. وهو نظير قوله تعالى: «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ»(3) . ولو فرض كونه ظاهراً في التخصيص، فلا يبعد أن يقال: إنّ العنوان يشمل جميع المسلمين المخاطبين، وذلك لوجهين:

الأوّل: أنّ المراد ليس - كما يقوله بعضهم - خصوص من لا يرجو إلا الله، ولا يعمل إلا له، ولا يريد الدنيا، بل يريد الآخرة فحسب، ولا الذي لا يفتؤ يذكر الله سبحانه، حتّى لا ينطبق إلا على الأوحدي من الناس، بل المراد هو من يكون من

ص: 66


1- الكشّاف 3: 248
2- يس (36): 11
3- آل عمران (3): 31

عامّة المؤمنين، فيرجو الله ورحمته، ويعمل متقرّباً إليه، ويصلّي الفرائض. وهذا المقدار يكفي في صدق كونه يذكر الله كثيراً، فقد ورد في الحديث أنّ تسبيحة الزهراء - سلام الله عليها - بعد الصلاة من الذكر الكثير(1).

الثاني: أنّ التعبير مبنيّ على دعوى أنّ المخاطبين كلّهم من هذا القبيل، أي يرجون الله واليوم الآخر ويذكرون الله كثيراً، فيقول لهم: أنتم حيث ترجون الله و ... اعلموا أنّ الطريق للوصول إلى الهدف هو التأسّي بالرسول صلّی الله علیه و آله . وهذه طريقة غاية في اللطف، أن يعتبر المتكلّم مخاطبيه الذين يريد تأديبهم، واجدين لصفة الكمال الذي يدعوهم إليه، بدلاً من أن يعتبرهم فاقديه وأنّه يحاول سوقهم إليه. فهو نظير قوله تعالى نقلاً عن شعيب علیه السّلام: «إِنِّي أريكُمْ بِخَيْرِ»(2).

ومثل ذلك ينبغي أن يلاحظ في البرامج التعليمية، والأفلام التي تحاول إصلاح الوضع الاجتماعي، فإنّ الأفضل هو تمثيل الدور المطلوب، والإيحاء بأنّ الحالة السائدة للمجتمع هي الصلاح، دون ما نجده في أكثر الأفلام من تمثيل الدور الفاشل، والتنديد بالمجتمع بغية إصلاح الوضع الفاسد.

وعلى كلّ حال، فالآية تدل على أنّ النبيّ صلّی الله علیه و آله أُسوة في العمل، من أجل التقرّب إلى الله تعالى، والحصول على أعلى درجات الكمال في اليوم الآخر ويوم يقوم الأشهاد، كما هو أُسوة أيضاً في كونه ذاكراً الله تعالى كثيراً، بل لم يكن يغيب عنه لحظة حتّى في حياته الاعتيادية، وكان ينتهز كلّ فرصة لسوق المجتمع إلى الانصهار في حبّه تعالى، والتفاني في سبيله، والجهاد لإعلاء كلمته.

هذه هي الجهة التي تركز عليه الآية الكريمة من سيرة الرسول صلّی الله علیه و آله. ولكنّ

ص: 67


1- راجع: الكافي: 2: 4/50
2- هود (11): 84

المفسّرين يؤكّدون على جانب شجاعته في الحرب، وتحمّله الشدائد والمشاقّ في مقابلة الأعداء، وخصوصاً ما ظهر منه في غزوة الأحزاب، حيث كان يشارك المسلمين في حفر الخندق بنفسه، بل يعمل أكثر ممّا يعمله الآخرون، وكان يقوي عزائم المجاهدين. وقد برز منه صلّی الله علیه و آله المعجزات في تلك الأيّام، وورد بهذا الشأن روايات كثيرة. ولكنّ الآية - كما ذكرنا - تركز على الجانب الاعتقادي والروحي في سيرة الرسول صلّی الله علیه و آله، فالتأسّي به إنّما هو من حيث كونه داعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً في الطريق إلى الله تعالى.

«وَ لمَّا رَءَا المُؤمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ»، يتعرّض هنا لبيان حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم، وأنّهم لم يتزلزلوا ولم يزعزعهم جيش الكفر عن إيمانهم. والظاهر: أن المراد بهم الخواصّ من المؤمنين، لقوله تعالى بشأن عامّتهم: «وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً». ويمكن أن يكون المراد ب_«الزلزال»، الغربلة وهي الحالة التي تحصل للمجتمع، حين بروز الشدائد، حيث تظهر جواهر النفوس، كما قال أمير المؤمنين علیه السّلام: «في تقلّب الأحوال علم جواهر الرجال».(1)

وعلى كلّ حال، فهؤلاء هم المؤمنون الصادقون. ولعلّ المراد ب_«الوعد» المشار إليه، ما بلغهم بالوحي من السماء أنّ الله سيبتليهم، كما ابتلي من قبلهم، والآيات في ذلك كثيرة جدّاً، كقوله تعالى: «أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ»(2).

وأمّا ما ذكره بعض المفسّرين من الاختلاف بين وعد الله ووعد رسوله

ص: 68


1- نهج البلاغة، صبحي الصالح: 207/646
2- العنكبوت (29): 2-3

وتأويل كلّ منهما بشيء، فبعيد عن ظاهر الآية غاية البعد، بل هو وعد الله الذي بلّغه الرسول صلّی الله علیه و آله ومن غاية تكريم الله رسوله وعبده المخلص أن يعتبر أمره أمره، ونهيه نهيه، ووعده وعده، وطاعته طاعته، وعصيانه عصيانه، وإيذاءه إيذاءه، وهكذا.

والحاصل: أنّ المؤمنين الصادقين في إيمانهم، لا ينزعجون برؤية الأحزاب المتحزّبة والمتجمّعة حول المدينة، يريدون استئصال الإسلام والمسلمين، وذلك لأنّهم لم يؤمنوا طمعاً في الدنيا وحطامها، بل اطمأنّوا بوعد الله ورسوله، وعلموا من دون ريب، أنّهم سيواجهون المشاكل الجسيمة، فكانوا ينتظرون مثل هذا اليوم العصيب، ليقابلوا الموت بصدور رحيبة وقلوب ملؤها العزم والإيمان، ولذلك ما زادتهم رؤية الأحزاب إلا إيماناً وتسليماً لأمر الله وقضائه.

ولا شكّ في أنّ بعض من أسلم آنذاك، قد تفرّس أنّ هذا الدين سيكون له شأن، وأنّه سيجمع العرب تحت راية موحّدة، ولم يدخلوا في الدين إلا طمعاً في الوصول إلى الدنيا، ولذلك لم يشتركوا في حرب من الحروب، بصدق نيّة وقوّة عزيمة، ولم تنلهم الحروب المتتالية بضرب ولا جرح، وهؤلاء هم الذين كانوا يخافون وينزعجون من رؤية الأحزاب على اختلاف مراتبهم وهممهم.

وأمّا الذين آمنوا لينالوا ثواب الله في الدار الآخرة، فيجدون في تحزّب الأحزاب، قرباً لما وعدهم الله ورسوله من الوصول إلى الكمالات المعنوية وتحصيل ثواب الآخرة، فلا يزيدهم إلا إيماناً وتسليماً. والإيمان عقيدة، والتسليم عمل نفسي، وهو أن يسلّم أمره إلى الله تعالى لا يريد لنفسه إلا ما أراده الله لها، وهو ممّا يستتبعه الإيمان إذا بلغ كماله.

ص: 69

«مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ»، بيّن الله سبحانه في هذه الآية حال المؤمنين الصادقين، ليكون أُنموذجاً لغيرهم من أهل ذلك الزمان، ومن يأتي بعدهم، ولتتمّ بهم الحجّة على غيرهم، ولئلا يقول أحد: إنّ التأسّي بالنبيّ صلّی الله علیه و آله غیر میسور لعامّة الناس، فضرب الله لهم المثل من عامّة المؤمنين. فهؤلاء رجال عاهدوا الله، كغيرهم ممّن ذكرهم سابقاً بقوله: «وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ»،(1) إلا أنّ أُولئك لم يفوا بعهدهم، وهؤلاء صدقوا في عهدهم. وفي التعبير ب_«الرجال»، إشارة إلى مروءتهم وشهامتهم.

وفي «الكشّاف»: أن تعدّي الصدق إلى ما عاهدوا عليه، إمّا بحذف الجارّ، أي صدقوا في ما عاهدوا، فيكون المفعول محذوفاً، أي صدقوا الله في ما عاهدوه عليه، أو أنّه مفعوله الصريح مجازاً، كأنّهم قالوا لعهدهم حين إنشائه: «سنفي بك» فصدقوه، يقال: صدقني أخوك وكذبني، إذا قال له الصدق أو الكذب. (2)

ولكنّ الظاهر: أنّ هذا لا يستلزم الوفاء، فإنّ التأويل الأوّل يقتضي أنّهم حينما عاهدوا الله تعالى لم يكذبوا ، بمعنى أنّهم لم يقصدوا عدم الوفاء، وليس هذا هو المراد هنا، وكذلك التأويل الثاني، فإنّه أيضاً بمعنى أنّهم لم يكذبوا حينما قالوا لعهدهم «سنفي بك»، وليس معناه أنّهم وفوا بالفعل.

وفي «معجم مقاييس اللغة»: أنّ الصدق أصل يدلّ على قوّة، يقال: صدقوهم الحرب، ورمح صَدق - بفتح الصاد - أي الصلب أو المستوي، ف_«الصدق» في العهد ليس بمعنى الصدق في القول، بل بمعنى نفس الوفاء به. (3)

ص: 70


1- الأحزاب (33): 15
2- الكشّاف 3: 549
3- معجم مقاييس اللغة 3: 339

والمراد ب_«العهد» إمّا البيعة مع الرسول صلّی الله علیه و آله، ويعتبره الله عهداً معه، كما قال - عزّ من قائل- : «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(1)، وإمّا العهود العامّة التي أودعها الله في فطرة الإنسان أو أبلغهم بواسطة الرسل، كقوله تعالى: «الَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِى ءَادَمَ أن لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ»(2).

وعلى كلّ تقدير، فإنّ هؤلاء المؤمنين صدقوا العهد ودافعوا عن النبيّ صلّی الله علیه و آله وعن الدين الحنيف، وجاهدوا في سبيل الله. ولا شكّ في أنّ أبرز مصاديقه هو بطل الإسلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السّلام.

«فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَنْ يَنتَظِرُ»، «النحب» قيل: إنّه النذر والعهد، فالمراد بالذي قضى نحبه هو الذي وفى بعهده، وثبت في الحرب إلى أن استشهد، إذ لو بقي حيّاً فالعهد باقٍ بحاله. وقيل: إنّ المراد ب_«النحب» هو الموت، يعبّر به عنه، لأنّه آتٍ قطعاً، فكأنّ الإنسان عاهد عليه. والمآل واحد.

وتوصيفهم بالانتظار، يدلّ على أن الشهادة في سبيل الله تعالى كانت غاية لهم، يتطّلعون إليها وينتظرونها.

«وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً»، أي لم يغيّروا عهدهم ، ولم يجعلوا شيئاً موضعه. والإتيان بالمفعول المطلق «تَبْدِيلاً» يؤكّد ثباتهم أو ثبات خصوص المنتظرين منهم بأنّهم لم يبدّلوا أيّ تبديل. وهذه الصفة لا تنطبق على الذين فرّوا في الحروب، ولا على الذين نكثوا البيعة مع أمير المؤمنين علیه السّلام، إمّا بعد الرسول صلّی الله علیه و آله مباشرة بالنسبة لبيعة الغدير وإمّا البيعة بالخلافة بعد مقتل عثمان. فمن الغريب محاولة تطبيقه

ص: 71


1- الفتح (48): 10
2- يس (36): 60

على بعض الناكثين، بل إنّ بعضهم فسّره به خاصّة!.

وليعلم أنّ الثبات وعدم التبديل ليس حسناً دائماً، بل لا بدّ للإنسان من أن يكون متحوّلاً متغيّراً، متقدّماً إلى الأمام في العلم والعمل، ومواكباً لتطوّر الحضارة البشرية، وقد ورد في الحديث: «من استوى يوماه فهو مغبون»(1) وإنّما يحسن به أن لا يغيّر عهد الله تعالى، فإنّه ليس ممّا يعرضه التغيير أو التطوّر.

ثمّ إنّ في الآية تعريضاً بمن لم يثبت على صدقه، وإن كان صادقاً في بعض الأدوار، وينطبق ذلك على من بقي على صدقه في عهد الرسالة، ولكنّه بدّل الصدق والوفاء غدراً وخيانة بعده. وهكذا الإنسان تعرض عليه من أنواع الابتلاء ما لا يستطيع الثبات لديه.

ومن هؤلاء من بقي على العهد حتّى بعد وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله شطراً من الزمان، ولمّا لمسوا عدل أمير المؤمنين علیه السّلام وتسويته بين السابقين واللاحقين، بدّلوا تبديلاً، وعدلوا عن الحقّ، ونكثوا العهد والبيعة، فكان عاقبة أمرهم خسراً.

وهناك روايات وردت في تطبيق الآية:

فقد روى في «مجمع البيان» عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني بالإسناد عن عمرو بن ثابت، عن أبي إسحاق، عن علي علیه السّلام قال: «فينا نزلت «رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ» فأنا والله المنتظر وما بدلت تبديلاً».(2)

وروى الصدوق قدّس سرّه في «الخصال» عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر علیه السّلام، عن

ص: 72


1- بحار الأنوار 68: 173
2- مجمع البيان 8: 145

أمير المؤمنين علیهماالسّلام - في حديث طويل يجيب عن أسئلة يهودي، يقول فيه -: «ولقد كنت عاهدت الله عزّ وجل ورسوله صلّی الله علیه و آله أنا وعمّي حمزة وأخي جعفر وابن عمّي عبيدة على أمر وفينا به الله تعالى عزّ وجلّ ولرسوله، فتقدّمني أصحابي وتخلّفت بعدهم، لمّا أراد الله عزّ وجلّ، فأنزل الله فينا: «منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً»، حمزة وجعفر وعبيدة، وأنا والله المنتظر - يا أخا اليهود - و ما بدّلت تبديلاً».(1)

ولو لم ترد رواية في ذلك، فالتاريخ يثبت بوضوح أنّه علیه السّلام أبرز مصداق للآية الكريمة. ولكنّ القوم رووا عدّة روايات في تفسير الآية وتطبيقها، ولم يرد في شيء منها ذكره علیه السّلام وذكر في «الكشّاف» جماعة ليس فيهم أمير المؤمنين علیه السّلام نذروا أن يثبتوا عند القتال، فنزلت الآية فيهم! (2)

أقول: وغزوة أُحد خير مثال لثبات بعضهم!

«لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» . الظاهر: أنّ هذا تعليل لما يسند إلى الله سبحانه في هذه الحوادث، حيث إنّه هو الذي ابتلي المجتمع الإسلامي آنذاك بهذه البلايا، وأعدّ كلّ هذه العدّة من عوامل داخلية و خارجية ليظهر كلّ إنسان كوامنه فالهدف في ذلك أن يجزي الله الصادقين بصدقهم.

و«الجزاء» وإن كان كلّه تفضّلاً من الله ونعمة ورحمة، وليس لأحد على الله حقّ إلا ما جعله على نفسه، ولكنّه في مقام بيان نتيجة الامتحان، يركّز على أنّ

ص: 73


1- الخصال: 376؛ تفسير نور الثقلين: 4: 258
2- الكشّاف 3: 256

الجزاء يتبع العمل؛ فالصادقون يجزون بصدقهم. و«الباء» للسببية، فالصدق لمجازاتهم بالجنّة.

ثمّ إنّه لم يعلّق ذلك بالمشيئة، كما علّق بها العذاب، مع أنّه أيضاً معلّق عليها، وذلك لعدم اقتضاء المقام، بخلاف عذاب المنافقين، فإنّ المقام يقتضي تعليقه بها ، لحثّهم على التوبة، وبثّ روح الرجاء في النفوس، رحمة منه تعالى بعباده.

وقيل: إنّ في التعبير ب_«التوبة» دون «المغفرة» إشارة إلى أنّه يتوب عليهم إن تابوا. ولكن يحتمل أن يكون المراد، الرجوع عليهم بالمغفرة والرحمة وإن لم يستحقّوا ولم يتوبوا، وقد استبعد ذلك بعض المفسّرين بأنّ الله جعل العذاب جزاءً قطعياً للكافرين، وجعل موضع المنافقين في النار الدرك الأسفل، فهم أسوأ حالاً من الكفّار، فكيف يمكن أن يتوب عليهم من دون توبة؟!

والجواب: أنّه تعالى يقول: «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ»(1)، ولا شكّ أنّ هذا من دون توبة، وأمّا معها، فيغفر للمشرك أيضاً، فلا يبعد أن يكون للمنافق أعمال، يغفر الله له بها ويتوب عليه، حتّى لو لم يتب من نفاقه، وليس النفاق كالشرك إن لم يكن المنافق في الباطن مشركاً. وهذا لا ينافي أنّ موضع المنافق في النار أسفل من المشرك. ويؤيّد ذلك أنّ التعليل لم يقع بكونه تعالى توّاباً، بل بكونه غفوراً رحيماً، ولو كان المراد قبول التوبة لكان هو الأنسب.

ص: 74


1- النساء (4): 48

سورة الأحزاب (25-27)

«وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)»

«وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً» بعد الانتهاء من بيان الاثار المعنوية المترتّبة على غزوة الأحزاب، وتفكيك الفصائل المختلفة في المجتمع الإسلامي آنذاك، على أساس الإيمان والنفاق، والصدق والغدر، تعرّض الكتاب العزيز لبيان النتائج المترتّبة على الصعيد الاجتماعي والعسكري، وركّز في نفس الوقت على أنّ كلّ ذلك إنّما كان من الله سبحانه. فهو الذي ردّ الذين كفروا بغيظهم، أي مع غيظهم، أو حال كونهم مغتاظين.

و«الغيظ» فسّر بالغضب الشديد، وبالكرب يلحق بالإنسان. فهم قد رجعوا بحنقهم وغضبهم لم يستطيعوا إفراغه. وكذلك بكرب عظيم لحق بهم جرّاء عدم وصولهم إلى بغيتهم، بالرغم من أنّهم أعدّوا غاية ما يقدرون عليه، وساعدهم على ذلك كلّ من توقّعوا منه المساعدة، فتألّبت كلّ قوى الكفر ضدّ الإسلام ونظامه اليافع، وكلّهم يأمل أن تكون هذه هي النهاية، فردّهم الله صُفر اليدين. وأيّ كرب أعظم من هذا؟!

وقوله تعالى: «لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً» إمّا بيان لما أوجب الغيظ أو حال بعد حال. والأوّل أقرب. ولبعض المفسّرين كلام في تأويل الخير، نظراً إلى أنّ ما أرادوه كان محض الشرّ، وقد عبّر عنه بالخير. وهذا من غريب الكلام، إذ من الواضح أنّ

ص: 75

الخير والشرّ أمران نسبيان، فما أرادوه كان خيراً لهم وشرّاً للمسلمين ، فلا حاجة إلى تأويل.

«وَكَفَى الله المُؤمِنِينَ الْقِتَالَ» أكّد على أنّ الأمر لم يكن بسبب جهودكم، حتّى في الظاهر. والقرآن يركّز على أنّ الأُمور كلّها بيد الله سبحانه، حتّى لو كان للإنسان دورٌ في الظاهر، كما قال تعالى: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى»(1). ولكنّه في هذه الآية، ينفي كلّ دور للناس، حيث يقول: «وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ».

والسبب: أنّ هذه الغزوة مع أنّها تعدّ من الناحية العسكرية، أهمّ الغزوات، حيث إنّ المشركين واليهود وسائر المتربّصين بالإسلام، انكسرت شوكتهم، ونفدت عزائمهم، وخارت قواهم وأصبح المسلمون بعدها يهاجمون الأعداء، بعد أن كانوا معرّضين لهجومهم. كما قال رسول الله صلّی الله علیه و آله- على ما روي وقد مرّ ذكره - : «الآن نغزوهم ولا يغزوننا»(2) ، ولكن كلّ ذلك إنّما حصل بالريح التي أرسلها الله تعالى عليهم والملائكة، ولم يقاتل أحدٌ من المسلمين في هذه الغزوة، إلا ما بدر من أمير المؤمنين علیه السّلام في قتاله لفارس العرب - عمرو بن عبدود - وقد دخل الذلّ والانكسار بقتله في بيوت الكفر وقلوب المشركين.

ولذلك قال الرسول صلّی الله علیه و آله على ما في «مستدرك الحاكم»: «لمبارزة عليّ بن أبي طالب لعمرو بن عبدود يوم الخندق أفضل من أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة»(3) وفي نقل آخر

ص: 76


1- الأنفال (8): 17
2- بحار الأنوار 20: 209؛ مسند أحمد 4: 262
3- المستدرك (الحاكم النيسابورى 3: 32

«لضربة عليّ أفضل من عبادة الثقلين».(1) وقال حينما برز الإمام إليه: «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه». (2) وقال: «أبشر يا عليّ فلو وزن اليوم عملك بعمل أُمّة محمّد لرجح عملك على عملهم، وذلك أنّه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا وقد دخله ومن بقتل عمرو، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا وقد دخله عزّ بقتل عمرو».(3) ووردت هذه الآية في مصحف ابن مسعود هكذا: «وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ».

«وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً»، «كان» لا تدلّ على المضي إذا أُسند إلى الله تعالى، فالمعنى أنّه تعالى قويّ وقادر على كلّ شيء. وعزيز لا يغلب على أمره، ولا يمنع من نفوذ إرادته شيء.

«وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم منْ أهْلِ الْكِتَابِ مِن صَیَاصِيهِمْ». نزل جمع من اليهود في قديم الزمان أرض يثرب، لما وجدوا في كتبهم من أنّ آخر الرسل يُبعث في هذه المنطقة، وسيكون مقرّ حكومته ما بين عير وأُحد، وكانوا - على ما يقال - ثلاث فرق، وكانوا إذا وقع بينهم وبين المشركين حرب، يهدّدونهم بأنّه سيظهر في هذه الأرض من ينصرنا عليكم، ولا تستطيعون مقاومته.

قال تعالى: «وَلمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لَما مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ»(4).

وكان اليهود يتوقّعون أن يكون الرسول المنتظر منهم، لظنّهم أنّ النبوّة لا تكون إلا في بني إسرائيل، ولمّا وجدوا أنّ الصفات التي رأوها في كتبهم،

ص: 77


1- كنز العمّال 6: 158
2- عوالي اللثالي 4: 88؛ بحار الأنوار 20: 215
3- بحار الأنوار 20: 205؛ مجمع البیان 8: 132
4- البقرة (2): 89

مجتمعة في الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله، أبوا أن يؤمنوا له أنفة من خروج النبوّة منهم.

وهكذا فتنة الله تعالى لعباده، يبتلي الإنسان بموضع ضعفه، وبنو إسرائيل فيهم داء العنصرية قديماً وحديثاً. قال تعالى: «وَمِنْ أهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا في الأميِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»(1) . والمراد ب_«الأُميّين»، غير أهل الكتاب، لأنّهم كانوا يجدون أنّهم أهل العلم، فغيرهم أُمّيون لا يعلمون من الكتاب شيئاً. وهم حتّى يومنا هذا يعتقدون أنّهم شعب الله المختار.

والحاصل: أنّ اليهود نزلوا هذه الأرض، وبنوا فيها القلاع والحصون، وقويت . شوكتهم وكانوا ثلاث فرق: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. ولمّا هاجر النبي صلّى الله عليه و آله إلى المدينة، دعاهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا فعاهدهم، ولكن بني قينقاع نقضوا العهد في غزوة بدر، وكانوا أشجع اليهود، فحاصرهم النبيّ صلّى الله عليه و آله، ثمّ نزلوا على حكمه، وأصرّ عبد الله بن أُبيّ - وكانوا حلفاءه - على النبيّ صلّى الله عليه و آله فوهبهم له وقبض أموالهم.

وأمّا بنو النضير فأرادوا أن يغتالوا النبيّ صلّى الله عليه و آله ، فأخبره الله تعالى بمكيدتهم، وأخرجهم إلى خيبر - في قصّة طويلة - ولم يتوقّفوا عن كيدهم، فأتى رئيسهم حييّ بن أخطب إلى بني قريظة، وحرّضهم على التحزّب مع قريش - في غزوة الأحزاب - وكان بنو قريظة هم الباقون من اليهود حول المدينة، فتحزّبوا مع الأحزاب ونقضوا عهدهم مع الرسول صلّى الله عليه و آله دون مبرّر، وكان في هذا الغدر أسوأ الأثر في قلوب المسلمين، بحيث إنّ الرسول لمّا بعث بعض الصحابة لاستخبار الأمر

ص: 78


1- آل عمران (3): 75

أمرهم أن لا يعلنوا ذلك إذا صحّ الخبر، فعادوا وأخبروا الرسول صلّى الله عليه و آله بسريّة تامّة.

و بطردهم من المدينة، قويت شوكة المسلمين وهابهم الناس واستسلموا لسلطانهم، حيث إنّ الرسول صلّى الله عليه و آله لا حاصر بني قريظة في حصونهم خمسة وعشرين يوماً، وعرض عليهم الإسلام، وأشار إليهم بالقبول كعب بن أسد وهو زعيمهم، وقال لهم: قد علمتم أنّه نبيّ مرسل، فأبوا وقالوا: نموت على دين اليهود!

ولمّا طال الحصار، طلبوا أن يأتيهم أبو لبابة، ليستشيروه في النزول على حكم الرسول صلّى الله عليه و آله، فذهب إليهم وسألوه هل ننزل على حكمه؟ فقال: نعم ولكنّه ترحّم على حال الأطفال والنساء، فأشار إلى حلقومه، يُفهمهم أنّه القتل لا غير.

ولمّا خرج من عندهم، لم يذهب إلى الرسول صلّى الله عليه و آله، ولأنّه علم أنّ ذلك كان منه خيانة، فذهب إلى المسجد وربط نفسه بالأسطوانة المعروفة باسمه، حتّى نزل الوحي بقبول توبته.

ولمّا طال الحصار قبلوا ما يحكم به سعد بن معاذ - وكان سيّد الأوس - وهم حلفاء بني قريظة في الجاهلية، وكان سعد رحمه الله قد أُصيب في غزوة الأحزاب بسهم، فجيء به محمولاً، وحثّه قومه أن يحكم بعفوهم، فقال: لقد آن أن لا تأخذني في الله لومة لائم. فحكم بقتل رجالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، وتقسيم أموالهم. فأيّد الرسول صلّى الله عليه و آله حكمه وعمل به. وكانوا يستحقّونه، لخلفهم العهد، ورفضهم النزول على حكم الرسول صلّى الله عليه و آله، مع أنّه ورد في التوراة التي لديهم أنّ هذا حكم كلّ من غلب في الحرب، فأخذوا بما دانوا به، بل أدانوا به الآخرين، وهم اليوم يعملون بهذا القانون مهما أمكن.

فالمراد ب_«الذين ظاهروا المشركين» هم يهود بنو قريظة، والمظاهرة المعاونة. وتوصيفهم بمظاهرة المشركين للإشارة إلى أنّ سبب المناجزة هو مظاهرتهم

ص: 79

لهم. و«الصياصي»: جمع صيصية، وهي الحصن قال في معجم المقاييس»: الصاد والياء كلمة واحدة مُطابقة، وهي كلُّ شيء يُتَحَصَنُ به. من ذلك تسميتُهم الحصونَ صَيَاصِيَ، ثمَّ شُبِّه بذلك ما يُحارب ويتَحصَّن به الديك وسُمِّي صيصِيَة، وكذلك قَرن الثور يسمَّى بذلك؛ لأنّه يتحصَّن ويُحارِب به. (1)

«وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأسِرُونَ فَرِيقاً»، يتبيّن من الآية أنّه تعالى جعلهم يخافون من دون أن يجدوا أمراً يثير الرعب بطبيعته، وإنّما هو قذف غيبي من الله تعالى في قلوبهم. والمراد ب_«الفريق» الذي قتلهم المسلمون رجالهم، وبالذين أسروا النساء والذراري. ولعلّ وجه تقديم المفعول وتأخيره، التفنّن في التعبير.

«وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً»، «الإرث» انتقال مال بدون سبب ناقل، ومنه الإرث من الميّت. وحيث إنّ المسلمين تسلّطوا على أراضي اليهود من دون تمليك، عبّر عنها الله تعالى بأنّه إيراث منه.

واختلف المفسّرون في المراد ب_«الأرض الذي لم يطأها المسلمون»، فقيل: أرض خيبر ، التي استولوا عليها بعد ذلك. وقيل: أرض فارس والروم. وقيل: كلّ أرض أخذها المسلمون بعد ذلك.

ولكن الظاهر أنّ المراد هو أرض بني قريظة، لأنّ السياق يقتضي أنّ ما ذكر متفرّع على هذا الحادث ومن نتائجه. وإنّما كرّر ذكرها للتأكيد على أنّها أرض ورثوها من دون أن يطؤوا عليها بخيل أو ركاب، أي صارت لهم من دون حرب، بإرادة الله التي لا تقهر، حيث ألقى الرعب في قلوبهم، وأنزلهم من حصونهم من دون قتال. ولذلك عقّبه بقوله تعالى: «وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً».

ص: 80


1- معجم مقاييس اللغة 3: 279/ صي

سورة الأحزاب (28-29)

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)»

«يا أيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعَكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً» مجموعة من الآيات تتعرضّ لأحكام خاصّة بنساء النبي صلّی الله علیه و آله ويبدو من هاتين الآيتين أنّ بعض نساءه طلبن منه أشياء من زخارف الدنيا. ووروده في سياق الآيات السابقة ربّما يدلّ على أنّ ذلك كان بعد استيلاء الرسول صلّی الله علیه و آله على أموال اليهود، ومن الطبيعي أن تتوقّع نساؤه أن يكون لهنّ حظّ من الغنائم، لأنّهنّ أزواج زعيم الجيش القاهر، وكان ذلك يبدو طبيعياً حسب الفكر الاجتماعي آنذاك.

وقد ورد في الروايات ذكر بعض نساء النبيّ اللاتي طلبن منه ذلك. ونحن لا نعتمد على هذه الأخبار، إذ ربّما يتعمّد ذكر بعض أو حذف بعض، تبعاً للأهواء والميول، ونتّبع النصّ القرآني الذي يشير إلى الموضوع بصورة عامّة، حيث إنّ الهدف تكريم بيت النبوّة، وتقديسه من دنس الحياة الدنيا، والتنبيه على الفرق الكبير بين اغتنام الرسل واغتنام الملوك وزعماء القبائل.

ومع أنّه لا شك في لا شكّ فى أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله - بطبيعته ونفسه الأبية عن الميل إلى هذه الزخارف، وترفّعه عن دنس حبّ الدنيا كما هو واضح - رفض هذا الاقتراح واستاء منه، ولكنّ نزول الآية يؤكّد على أنّ هذا الأمر ليس مجرّد ردّ فعل من الرسول صلّی الله علیه و آله ناشئ من طبيعته الميّالة إلى الزهد في الحياة الدنيا، بل هو قانون إلهي لا يجوز التخطّي عنه، ولعلّه لا يختصّ بالبيت النبويّ الكريم، بل يشمل

ص: 81

كحكم شرعيّ كلّ بيت ينتمي إلى من يجلس هذا المجلس، ويتولّى أُمور المسلمين، فهذا هو حكمة نزول الآيات، مضافاً إلى إقناع نسائه صلّی الله علیه و آله لئلا يكون في قلوبهنّ حرج ممّا صنعه الرسول، ويعلمن أنّ ذلك أمر من السماء.

ومن غاية اللطف أن الله تعالى أمر نبيّه صلّی الله علیه و آله بتخيير النساء بين الأمرين، ولم يرغمهنّ على اختيار حياة التقشّف مع الرسول صلّی الله علیه و آله، وهذا تأديب لرجال المجتمع ، فإذا وجد أحدهم من زوجته كرهاً للحياة معه، ينبغي له أن لا يرغمها لقبول ظروفه الخاصۀة والتسليم للقدر. بل فوق ذلك، أمر الرسول صلّی الله علیه و آله أن لا يطلقهنّ إلا بعد أن يدفع لهنّ شيئاً من متاع الدنيا إذا اخترنه. وأين هذا من غالب الرجال الذين يطالبون ببذل مال من المرأة حتّى تحظى بالطلاق؟!

بل وفوق ذلك، أمره أن لا يبدي أيّ امتعاض من تطليقهنّ، بل يسرّحهنّ سراحاً جميلاً، لا يشتمل على أيّ كراهية وحقد، حتّى لا يحملن معهنّ بعد الفراق ذكريات مرّة من العيش معه صلّی الله علیه و آله .

و«الأزواج» جمع زوج ويطلق على كلّ من الزوجين، بل الزوج أفصح من الزوجة، والقرآن الكريم لم يعبّر بالزوجة مطلقاً .

و «تعال» أصله بمعنى طلب العلوّ، وذلك في ما إذا كان القائل في علوّ، فيطلب من المخاطب أن يصعد إليه. ولكنّ العرب تستعمله في طلب المجيء مطلقاً، ولعلّ الوجه فيه اقتضاء الأمر كونه في علوّ معنوي.

وقوله: «أمَتِّعْكُنَّ» مجزوم، لأنّه جواب الأمر، أي إن أقبلتنّ أُمتّعكنّ، أي أمنحكنّ ما ينفعكنّ لمدّة طويلة، والمتاع كلّ ما ينتفع به لمدّة طويلة. و«التسريح» إخلاء السبيل والإرسال، ولذلك كنّي به عن الطلاق. و«السراح الجميل» ما لا يكون عن عداء، ولا يستتبع حنقاً وكيداً.

ص: 82

«وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً» . ركّز النصّ القرآني على الجانب التربوي والإيماني، وأراد أن يعلمهنّ أنّ اختيار الحياة الدنيا ليس في مقابله الحياة مع الرسول صلّی الله علیه و آله كرجل وزوج، وإن كان ذلك عظيماً، حتّى بالنظر إلى الجهات المادّية في الحياة الدنيا، لما كان يتمتّع به الرسول صلّی الله علیه و آله من مكانة اجتماعية، وخصوصاً بعد هذه الغلبة الساحقة على الأعداء، و بعد استسلام كثير من ذوي النفوذ من زعماء العرب، بل يقابله اختيار الله ورسوله والدار الآخرة.

وهكذا يصنّف الله سبحانه الناس بين مريد للدنيا ومريد للآخرة، فلا يجتمع حبّ الدنيا وترجيحها على الآخرة، مع حبّ الله ورسوله وتحصيل السعادة في الآخرة. ولا يختصّ ذلك بنساء النبيّ صلّی الله علیه و آله، بل ورد هذا الفصل والتفريق في آيات عديدة. قال تعالى: «مِنكُمْ مَن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ»(1). وقال تعالى في حكم حاسم: «مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(2).

وقال أيضاً: «مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَيهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْتِهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلِئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَشْكُوراً»(3). وفي موضع آخر : «مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ»(4).

ص: 83


1- آل عمران (3): 152
2- هود (11): 15 - 16
3- الإسراء (17): 18 - 19
4- الشورى (42): 20

والجمع بين هذه الآيات وآيات أُخرى يقتضي أن يقال: إنّ المراد من يرجّح الدنيا على الآخرة في موارد التعارض، وليست هذه الموارد بعزيزة، وليس المراد من يقتصر في الدنيا على الموارد المحلّلة وإن كانت من زينتها، قال تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (1) وقال أيضاً: «فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةٌ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(2).

ومن موارد تعارض السبيلين، مورد ابتلاء نساء النبيّ صلّی الله علیه و آله حيث كان الأمر دائراً بين اختيار الدنيا وزينتها، واختيار خدمة النبيّ صلّی الله علیه و آله، فإذا كانت إحداهنّ ترجّح الحياة الدنيا، كان معناه أنّها لا تريد رضا الله ورسوله والسعادة الأُخروية، وترجّح على ذلك نعيم الدنيا الزائل.

هذا، واتّفقت كلمة نسائه صلّی الله علیه و آله على اختيار الله ورسوله. ومع ذلك، فإنّ الآية الكريمة لم تنزل بالوعد القاطع على الثواب، بل قيّد ذلك للمحسنات منهنّ، إيذاناً بأنّ هذا القبول ربّما لا تكون حسنة، وهو واضح، إذ من الممكن أن لا يكون القصد منه ثواب الله تعالى، والله لا يخدع في جنّته، وقد حذّرنا بقوله: «وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ»(3). ولكنّه وعدهنّ بأنّه أعدّ للمحسنات منهنّ أجراً عظيماً. ثمّ أكّد ذلك في آية تالية بمضاعفة أجرهنّ، لتحمّلهنّ التقشّف الذي تقتضيه الحياة في بيت النبوّة.

ص: 84


1- الأعراف (7): 32
2- البقرة (2): 200 - 201
3- البقرة (2): 235

سورة الأحزاب (30-31)

«يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)»

«يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ»، تبدّل لحن الخطاب في الآيتين، فبينما كان الخطاب فيما سبق متوجّهاً إلى النبيّ صلّی الله علیه و آله، وجّه الخطاب هنا إلى نسائه. والسبب واضح؛ فإنّ التخيير هناك كان شأن الرسول صلّی الله علیه و آله، ولم يؤمر هنا بتوجيه هذا الخطاب إليهنّ تأكيداً على مضمون الخطاب، حيث كان من قبل الله سبحانه إليهنّ رأساً.

و«الفاحشة» كلّ ما تجاوز الحدّ من الفعل الشنيع. والظاهر أنّه لا يطلق على كلّ معصية، ولذلك عطف عليه المنكر في القرآن في غير مورد، وإن كان لا يبعد أن لا يشمل عنوان المنكر أيضاً كلّ معصية، بل ما ينكره العرف منها، ولكن الفاحشة والفحشاء ما جاوز الحدّ.

ثمّ إنّ توصيفها ب_«المبيّنة» إمّا أن يكون بمعنى الواضحة ليخصّ الحكم ما كان قبحه واضحاً لدى عامّة الناس، إذ ربّما يكون الشيء في حدّ نفسه معصية كبيرة جدّاً عند الله، ولكن لا يكون قبحه واضحاً لدى العرف، وإمّا أن يكون بمعنى الظاهرة، فلا يشمل الحكم ما أخفاه الإنسان ولم يظهر لعامّة الناس، إذ لا يؤثّر حينئذٍ تأثيراً سلبيّاً في المجتمع.

ومن هنا يتبيّن أنّ مضاعفة العذاب ليس من أجل أنّهنّ لمكان قربهنّ من الوحي، قد تمّت الحجّة عليهنّ، فلا وجه لما قيل من أنّ هذا الحكم من قبيل ما

ص: 85

ورد في الحديث: «أنّ الله تعالى يغفر للجاهل سبعين ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنباً واحداً»(1)، إذ لو كان كذلك، لم يكن دخل لكونه فاحشة مبيّنة. فالذي يفهم من القيود، أنّ السرّ في ذلك هو أنّ الفاحشة منهنّ، تمسّ كرامة النبوّة، ويشين بقدسية الرسول الأعظم صلّی الله علیه و آله .

ونستنتج من ذلك تعميم الحكم، فإنّ الحكم - بناءً على ما ذكرنا - يشمل كلّ من كانت له قرابة وثيقة بالرسول صلّی الله علیه و آله ولذلك ورد في حديث عن الإمام زين العابدين علیه السّلام أنّ رجلاً قال له: إنّكم أهل بيت مغفور لكم! فغضب سلام الله عليه، وقال: «نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النبيّ من أن نكون كما تقول. إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، ولمسيئنا ضعفين من العذاب ثمّ قرأ الآيتين».(2)

وقد وقع الكلام في التفاسير، في المراد بالفاحشة، وأصرّ بعضهم على أنّه لا يقصد بها الزنا - والعياذ بالله - لأنّ الله عصم زوجات الأنبياء عن ذلك. فالمراد عصيان الرسول صلّی الله علیه و آله وإيذاؤه ونحو ذلك من الكبائر، ممّا يناسبهنّ. ولكنّ الظاهر - كما ذكره بعض آخر - أنّها تشمل كلّ عمل شنيع. وصون الله تعالى لهنّ عن الزنا لا ينافي ذلك.

نعم، الحكم لا يخصّه، بل يشمل كلّ ما تجاوز الحدّ من شنيع الأعمال، وممّا يستقبحه العرف ولا يختصّ بما يصدر في عهد الرسول صلّی الله علیه و آله، فيشمل مقابلة الإمام ومقاتلته، وإشعال نار الحرب بين المسلمين، وشقّ عصاهم، والتسبّب في قتل الُألوف منهم على وجه الباطل، بل هو من أبرز المصاديق.

ص: 86


1- خاتمة المستدرك 5: 247؛ ميزان الاعتدال (الذهبي) 3: 447
2- بحار الأنوار 22: 175؛ مجمع البیان 8: 153

والمراد ب_«المضاعفة» ليس هو المرّتين على الظاهر ولا الثلاث أو الأربع - كما قاله بعضهم - فإنّ العذاب يوم القيامة ليس ممّا يكال ويوزن، ولا من قبيل الحدود الشرعية. نعم، لو عمّم الحكم للحدود أمكن القول بأنّ الحدّ الجاري عليهنّ، ضعف الآخرين، ولكنّ الظاهر من الآية، أنّها تنظر إلى عذاب الآخرة.

ومضاعفة العذاب - كمضاعفة الثواب - لا يقصد بها إلا الزيادة. وهو نظير قوله تعالى: «فَاتَتْ أكُلَهَا ضِعْفَيْنِ»(1) إذ قد لا يكون مقدار الزيادة في الثمر مرّتين، بل أكثر أو أقلّ، وهكذا التعبير بالضعف في آيات عديدة بالنسبة للعذاب أو الثواب.

«وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً» ذكر المفسّرون أنّ الغرض من هذه الجملة التنبيه على أنّ قربكنّ إلى الرسول صلّی الله علیه و آله، لا يمنعه من ذلك، كما ربّما يتوهم. وهذا لا بأس به.

ويمكن أن يكون تنبيهاً على أنّ مضاعفة العذاب وإن كان مخالفاً لطبيعة الجزاء، حيث إنّ الله تعالى صرّح في موارد كثيرة أنّ العذاب بمقدار العمل، أو أنّه نفس العمل يتجسّد بصورة العذاب، وأنّ حقيقة هذا العمل هو هذا العذاب، وإن كان الإنسان لا يشعر به. قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً»(2).

ومن هنا فقد يستبعد أن يكون عذاب زوجات النبي، ضعف عذاب الآخرين، مع أنّ العمل نفس العمل، فيردّ الله تعالى على هذا التوهّم بأنّ ذلك - أي مضاعفة العذاب - على الله يسير ، فإنّ العمل وإن كان بظاهره مشابهاً لعمل الآخرين، إلا أنّ

ص: 87


1- البقرة (2): 265
2- النساء (4): 10

استناده إلى من بهذه المكانة من الرسول صلّی الله علیه و آله، يجعله مختلفاً عن سائر الأعمال المشابهة.

«وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لله وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ»، بيّن في هذه الآية حكم المحسنات منهنّ. وأتى بالفعل الأوّل، مذكّراً بلحاظ لفظ «من»، والثاني مؤنّثاً بلحاظ مصداقه. وعلّق الحكم على أمرين: القنوت لله ورسوله، والآخر العمل الصالح. و«القنوت» هو الطاعة - كما قيل - ولكنّ الظاهر، بحسب الموارد أنّه لا يطلق إلا على الطاعة في خضوع.

ويلاحظ أنّ الطاعة للرسول صلّى الله عليه و آله لم تعتبر بعنوان كونه زوجاً لهنّ، بل بعنوان كونه رسول الله. فالمراد إطاعة الأوامر الرسالية، وعليه فالقيد الثاني معطوف عطف تفسير، وتأكيد على أنّ الجزاء يتبع العمل، لقطع الآمال والأماني الكاذبة التي تراود الإنسان في هذه الحالات، فيتصوّر أنّ لقربه من الرسول صلّى الله عليه و آله، منزلة عند الله تعالى، حتّى لو لم يعمل عملاً صالحاً.

ولم أجد من تعرّض لسبب تضاعف الأجر لهنّ. ولعلّ السبب مقابلة مضاعفة العذاب، فإنّ الذي يعرّض نفسه لمضاعفة العذاب على عمله السيّء وخطائه بقبول منصب أو وظيفة يستحقّ مضاعفة الأجر على عمله الحسن. وهكذا من لم يتعرّض باختياره، ولكنّ الله تعالى عرّضه لذلك كذرّية الرسول صلّى الله عليه و آله على ما دلّ عليه حديث الإمام السجّاد علیه السّلام الذي مرّ ذكره.

«وَاعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً» لعلّ البشارة بإعداد الرزق الكريم في الآخرة مقابلة لقبولهنّ حياة التقشّف في بيت النبوّة، وتطييب لخاطرهنّ بعد ترجيحهن ّالحياة مع الرسول صلّى الله عليه وآله على زينة الدنيا، و«الكريم» كلّ شيء ثمين قيّم.

ص: 88

سورة الأحزاب (32-34)

«يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)»

الآيات الثلاث تخاطب نساء النبي صلّی الله علیه و آله ، وتحدّد لهنّ حدوداً تليق بمقامهنّ وكرامتهنّ.

«يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ» إشارة إلى الوجه في التأكيد على ذكرهنّ مع أنّ الأحكام المذكورة لا تختصّ بهنّ، وذلك لأنّهنّ لسن كسائر النساء. و«أحد» - على ما قيل - يستوي فيه المذكّر والمؤنّث، والمفرد والجمع. والمراد - كما هو الظاهر - أنّكنّ لستنّ كسائر النساء، لمكانتكنّ من رسول الله صلّى الله عليه وآله، فيشينه ما يشينكنّ. ولكنّه أكدّ مرّة أُخرى أنّ الخصيصة تتوقّف على التقوى، فاشترط التقوى في كونهنّ ممتازات من بين النساء. وأمّا من دون التقوى، فهنّ سواء، بل هنّ أسوأ حالاً كما صرّح به في المقطع السابق.

«فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ»، «الخضوع» في الأصل التذلّل، والمراد بالخضوع في القول يمكن أن يكون في اللحن، حيث إنّ النساء كثيراً ما تنقلب صوتهنّ إلى صوت رخيم ليّن، إذا تكلّمن مع الرجال الأجانب. ولعلّ هذا أمر طبيعي ليس فيه تعمّد، ولكنّ المرأة المسلمة يجب أن لا تستسلم لما تدعو إليه الغريزة وتقابله بإيمانها. ويمكن أن يكون المراد الخضوع في الكلام،

ص: 89

فالممنوع أن تتكلّم المرأة بما تثير شهوة الرجل. ويحتمل أن يشملهما معاً.

والمراد ب_«المرض» ضعف الوازع الديني، أو الإفراط في الميول الجنسية، فإنّ من الناس من لا يتحفّظ من إبراز الشبق لمجرّد توهّم ميل من الجانب الآخر من دون تورّع ولا وقار.

«وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً»، أي متعارفاً مناسباً لما يدور بين الرجل والمرأة الأجنبيين، فلا يكون بينهما حديث يجرّ إلى الحرام وينافي الحشمة كالمزاح فضلاً عن أحاديث الحبّ والغرام. ويلاحظ في هذا المنع، حرص الدين على منع ما يمكن أن يجرّ إلى الحرام من لين الصوت والكلام ، حتّى لا يطمع الطامعون في أكثر من ذلك من الاختلاط المشتمل على الحرام بذاته وأين هذا ممّا تعارف عليه أبناء المجتمع الإسلامي في هذا العصر، وأقرّهم عليه أولياؤهم، من الانحلال الخلقي واستباحة محارم الله سبحانه؟!

«وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ» ، أمرهنّ بالقرار في البيوت، تأكيداً على العفاف اللازم للمرأة. فالدين وإن لم يمنع من خروج المرأة متحجّبة، إلا أنّ الأفضل لها الاستقرار في البيت وخصوصاً بالنسبة لزوجات النبيّ صلّی الله علیه و آله، فإنّ الخروج يجعلهنّ عرضة للنظر المريب، ومفاسد أُخرى تمسّ كرامة الرسول صلّی الله علیه و آله. وهذا الحكم سارٍ بعد حياته أيضاً. وقد سجل التاريخ كيف انتهز المفسدون فرصة خروج بعض أُمّهات المؤمنين من بيتها فأشعلوا باسمها وتحت رايتها حرب الجمل التي راح ضحيّتها الآلاف من المسلمين، وهيّأت الأرضية للفتن التي تلتها. ويا له من اجتهاد مقيت كما يزعمه أعداء أمير المؤمنين علیه السّلام لتبرير هذا الموقف المشين، والمخالفة الصريحة لحكم ربّ العالمين، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.

«وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى»، «التبرّج» هو البروز والظهور، ويقال للمباني

ص: 90

العالية أبراج لظهورها من بُعد. و «الجاهلية الأُولى» ما قبل الإسلام، وفيه إشارة إلى جاهلية أُخرى ستظهر. كما روي عن الإمام الصادق علیه السّلام دلالة الآية عليه. (1) ولعمري لقد ظهرت بعد وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله، حيث لم يؤخذ بوصاياه، واستمرّت الجاهلية الجديدة تحصد الإسلام حصداً، حتّى نزا بنو أُميّة وبنو مروان على منبر الرسول صلّی الله علیه و آله، وعاثوا في الأرض فساداً.

وأغرب بعض المفسّرين في تفسير الجاهلية الأُولى بما كان بين آدم ونوح، أو ما كان بعد إبراهيم علیه السّلام، أو ما بين عهد عيسى علیه السّلام ومحمّد صلّی الله علیه و آله، وغير ذلك من الوجوه ليكون ما يقابلها، الجاهلية قبيل الإسلام، لاستغرابهم أن يكون هناك جاهلية بعد الإسلام. وبعض التفاسير الحديثة حصر الجاهلية الثانية بما في عصرنا هذا. ولعمري إنّ الجاهلية الجهلاء ما كان في تلك العصور أعاذنا الله منها.

وعلى كلّ حال فالآية الكريمة تمنع نساء النبي صلّی الله علیه و آله من البروز أمام الناس بروز أهل الجاهلية، حيث كانت المرأة تخرج وتحرّض الرجال على الحرب، بل تمسك بزمام الأُمور، ومنهنّ من أصبحت ملكة تأمر الرجال وتنهى. وكأنّ القرآن يخبر عن ملحمة ستقع تحت إمرة إحدى نساء النبيّ صلّی الله علیه و آله.

وهكذا صرّح الرسول صلّى الله عليه و آله بقوله خطاباً لنسائه: «أَيْتُكُنَّ صَاحِبَةُ الجَمَلِ الأدْبَب، تخْرُجُ فَتَتْبَحُهَا كِلابُ الْحُوَّبِ، يُقْتَلُ عَنْ يَمِينِهَا وَشِمَالِهَا قَتْلَي كَثِيرٌ، ثُمَّ تَنْجُو بَعْدَ مَا قَدْ كَادَتْ»(2) ، وهذا حديث روته العامّة والخاصّة. وسنده صحيح صحّحه الألباني وغيره. (3) وفي

ص: 91


1- راجع بحار الأنوار 22: 189
2- راجع: مجمع الزوائد للهيثمي 3: 287 ، وقال : رواه البزّار ورجاله ثقات
3- راجع: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 1: 473، قال عن الحديث: قد ثبت عنه صلّى الله عليه و آله بالسند الصحيح في عدّة مصادر من كتب السنّة المعروفة عند أهل العلم

بعض الروايات أنّه صلّى الله عليه و آله وجّه خطابه بعد ذلك لعائشة قائلاً: «إيّاك أن تكونيها يا حميراء!» (1) أو نحو ذلك.

«وَأَقِمْنَ الصَّلوةَ وَءَاتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ» أمرهنّ بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهما عمودان للدين، أحدهما بين العبد وربّه، والآخر بين الإنسان ومجتمعه. وكلّ منهما يربّي الإنسان تربية صالحة. فالإنسان بعبوديته لله، يرقى إلى الكمال المعنوي، ويجول في أعماق السماء، وبمدافعته لشحّ النفس، يتكامل روحاً ويقوى على مغالبة النفس. قال تعالى: «وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ»(2) ثمّ أمرهنّ بإطاعة الله ورسوله أي اتّباع كلّ ما أنزل الله تعالى، وبلّغه رسوله صلّى الله عليه و آله، من باب ذكر العامّ بعد الخاصّ.

«إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» ظاهر السياق يقتضي أن يكون الخطاب لنساء النبيّ صلّى الله عليه و آله، فإمّا أن يخصّهنّ أو يعمّهنّ، كما أنّ ظاهر السياق يقتضي أن تكون هذه الجملة، تعليلاً للأحكام السابقة، فيكون المعنى أنّ الله تعالى لم يأمركنّ بذلك لمصلحة تعود إليه، بل ليذهب عنكنّ الرجس، نظير قوله تعالى في سورة المائدة، بعد ذكر حكم الوضوء والتيمّم: «مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(3) وغير ذلك من الموارد.

ولكن لم يقل أحد من الأقدمين بالاختصاص إلا ما نسبوه إلى عكرمة مولى ابن عبّاس. كما أنّه لم ينقل في التاريخ أحد من نساء النبيّ صلّی الله علیه و آله دعوى أنّها

ص: 92


1- شرح نهج البلاغه، ابن أبي الحديد 6: 218
2- الحشر (59): 9
3- المائدة (5): 6

من أهل البيت، وأنّها من الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

والروايات في تخصيص أهل البيت بأصحاب الكساء: النبيّ وبضعته الزهراء وزوجها وابناها - سلام الله عليهم - تجاوزت حدّ التواتر، بحيث لا يستطيع أبغضهم لأهل البيت، إنكارها ولذلك نجد سيّد قطب يمرّ على هذه المسألة مرّ الكرام ويمتدح أهل البيت رغماً على أنفه، ولا يصرّح بالمقصود منهم!

ونجد الطبري في «جامع البيان» ينقل اختلاف المفّسرين في المراد بأهل البيت، ثمّ ينقل روايات كثيرة تصرّح بحديث الكساء أو ما بمعناه، ويتبعها بحديث واحد عن عكرمة يقول فيه: إن المراد أزواج النبي صلّی الله علیه و آله مع أنه لا يسنده إلى الرسول أو أحد الصحابة! (1) وهذه الروايات منقولة في أكثر كتب الحديث والتفسير.

وهناك بعض المناوئين يقول: إنّ هذه الروايات الكثيرة لا تدلّ على الحصر! فلننقل عن الطبري بعض ما يدلّ على الحصر فقط. قال في حديثه عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلّی الله علیه و آله: «نزلت هذه الآية في خمسة: فيّ وفي عليّ وحسن وحسين وفاطمة «إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تطهيراً».(2)

وفي رواية عن أُمّ سلمة - رضي الله عنها - قالت: لمّا نزلت هذه الآية «إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» دعا رسول الله صلّی الله علیه و آله عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فجلّل عليهم كساءً خيبرياً، فقال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي

ص: 93


1- راجع: جامع البیان 22: 8
2- جامع البيان 22: 6

اللّهم أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً». قالت أُمّ سلمة: ألست منهم؟ قال: «أنتِ إلى خير».(1)

ومثلها روايات أُخرى عنها وعن غيرها، وفي كثير منها ذكر الكساء، وأنّ الرسول صلّی الله علیه و آله جمعهم تحتها، ثمّ تلا الآية. والظاهر أنّه أراد بجمعهم تحت الكساء تحديد أهل البيت بالمذكورين، بحيث يمنع من ورود غيرهم تحت هذا العنوان.

والحاصل: أنّ ملاحظة الروايات لا تبقى شكّاً للمنصف، أنّ المراد بأهل البيت هم النبيّ وابنته وبعلها وابناها - صلوات الله عليهم - ولكن يبقى السؤال في أنّه كيف يمكن ذلك بملاحظة السياق، مع أنّ ظاهر الجملة هو التعليل، فلا بدّ من أن يكون المراد خصوص الأزواج أو ما يعمّهنّ؟

ولا يضرّ بذلك اختلاف السياق، حيث إنّ الجمل السابقة تشتمل على الضمير المؤنّث، والضمير في هذه الجملة للمذكّر ، وذلك لأنّ التذكير يمكن أن يكون بلحاظ كلمة الأهل، أو باعتبار اشتمال المجموعة على رجل ولا أقلّ من النبي صلّی الله علیه و آله، ولذلك ورد نفس التعبير في خطاب الملائكة لزوجة إبراهيم علیه السّلام «قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ إِنَّهُ حَميدٌ مَجيدٌ»(2).

وربّما يجاب عن السؤال بأنّ هناك موارد عديدة في القرآن، ينتقل السياق من موضوع إلى موضوع آخر دون ارتباط، فترى صدر الآية في موضوع وذيلها في موضوع آخر، ولكلّ جملة شأن للنزول. وهذا الكلام صحيح، إلا أنّه ربّما يستبعد ذلك في المقام، من جهة ظهور الجملة في التعليل ممّا يدلّ على الارتباط.

ص: 94


1- نفس المصدر
2- هود (11): 73

ولكن لا يبعد القول بأنّ الجملة ليست ظاهرة في التعليل، لعدم تناسب المضمون لأن يكون علّة للأحكام السابقة، خصوصاً بملاحظة أنّ الأوامر لم تنته إلى هذه الجملة، والآية التالية أيضاً تتضمّن أمراً متوجّهاً إليهنّ. والسياق يقتضي أن يذكر التعليل في آخر الأوامر والنواهي. وعلى كلّ حال، فبملاحظة الروايات القطعية والمتواترة لا يبقى شكّ في عدم ارتباط الجملة بما قبلها.

وأمّا السبب في ذكر الجملة في هذا المكان مع عدم ارتباطها بما قبلها، فيمكن أن يقال فيه أمران:

الأمر الأوّل: أنّ وضع مثل هذه الجملة في هذا الموضع، إمّا أنّه صدر ممّن جمعوا القرآن بعد الرسول صلّی الله علیه و آله لغرض في نفوسهم، وإمّا أنّه بأمر من الرسول صلّی الله علیه و آله بغية الحفاظ على هذه الجمل التي لا تعجب المتسلّطين.

ونظير ذلك تماماً قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ وَالْمُنخَنِقَةُ وَالْمُوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَان تَسْتَقْسِمُواْ بِالأزْلام ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ ِلإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»(1) ، فإنّ قوله تعالى: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ» مع ما يشتمل عليه من مفهوم واضح لا يناسب الجملة التي اشتملت عليها سابقاً ولاحقاً. ومن الغريب أن يسبقها جزء من حكم تحريم الميتة وأخواتها، ويلحقها جزء آخر.

وعبثاً يحاول بعض الكتّاب والمفسّرين ربط هذه الجملة بالحكم المذكور،

ص: 95


1- المائدة (5): 3

فإنّ تحريم هذه الأُمور وتحليلها في حال الاضطرار، لا يوجب يأس الذين كفروا، ولا يوجب إتمام النعمة، مضافاً إلى أنّ هذا الحكم، ورد في الكتاب العزيز في ثلاث موارد قبل نزول هذه الآية: مرّتين في مكّة في سورتي الأنعام والنحل، ومرّة في أوائل الهجرة في سورة البقرة. وسورة المائدة من أواخر السور نزولاً.

فلا يبقى شكّ للباحث أنّ الذي أوجب يأس الذين كفروا، وإكمال الدين وإتمام النعمة، وتثبيت الإسلام كدين للأُمّة، هو أمر في غاية الأهميّة، ولا بدّ من أن يكون ذلك موجباً لامتداد هدف الرسالة بعد وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله، حيث إنّ الكفّار والمنافقين، والذين في قلوبهم مرض، والذين كانوا يكيدون لجوهر الإسلام وأساسه المكائد تلو المكائد، كانوا يتربّصون وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله لينالوا بغيتهم، وقد ورد التصريح بذلك في الكتاب العزيز، قال تعالى: «افَإِنْ مُتَّ فَهُمُ الخالِدُونَ»(1)، وقال تعالى: «أمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ»(2).

فالذي يوجب يأسهم، هو نصب من يتولّى نشر الرسالة وحفظ الشريعة بعده، كما ورد في روايات كثيرة جدّاً، أنّ الجملة نزلت يوم الغدير حيث نصب الرسول علياً - سلام الله عليه - إماماً للناس، وبيّن أنّه المولى لمن كان الرسول صلّی الله علیه و آله مولاه، ودعا ربّه أن يوالي وليّه ويعادي عدوّه.

ولا يمنع استعلاء الآخرين على منبر الرسول صلّی الله علیه و آله، من الاستمرار في أداء الرسالة، كما أنّ أكثر الأنبياء والرسل، إنّما باشروا عملهم وأدّوا رسالتهم، بالرغم

ص: 96


1- الأنبياء (21): 34
2- الطور (52): 30

من مطاردة الطغاة والجبابرة إيّاهم، بل قتل كثير منهم وتشريد الآخرين، فإنّ هذه الرسالة ليست رسالة حكومة أو قيادة سياسية، وإنّما هي رسالة إلهيّة، لم يقصد بها إلا إتمام الحجّة على البشر ، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيى من حي عن بيّنة.

وقد أدّى أمير المؤمنين وأبناؤه المعصومون - صلوات الله عليهم أجمعين - رسالتهم بأحسن وجه، وصانوا أصل الشريعة والدين من أن تناله أيدي التحريف وأورثوه شيعتهم من بعدهم، وحفظوا أيضاً ظاهر الإسلام من الزوال والسقوط، كما كان هو الهدف الأقصى لورثة الجاهلية، وقد صرّح بعضهم بأنّ اللازم هو دفن الاسم الذي يتلى على المنائر خمس مرّات كلّ يوم.

وقد حاولوا ذلك بأساليبهم الشيطانية تارة بدعوى تحريف القرآن، وتارة بدعوى أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله كان يتأثّر بإلقاء الشياطين(1) كما تفوّه به آباؤهم في الجاهلية، وتارة بمنع السنّة من الكتابة والنشر بدعوى أنّ في الكتاب ما يكفي الأُمّة وأنّ الناس يشتغلون بالسنّة ويتركون الكتاب، وتارة بمنع العترة الطاهرة من نشر الحقائق وردّ الشبهات، وتارة بقتل أبناء رسول الله صلّی الله علیه و آله وتشريدهم، وتارة بمحاولة إخفاء آثار النبوّة والرسالة، وتارة بنشر الملاهي والمفاسد الخلقية في المجتمع الإسلامي حتّى صارت مدينة الرسول صلّی الله علیه و آله مركزاً لنشر الأغاني والملاهي، وقام خليفة المسلمين بشرب الخمر في الملأ العامّ، وأرسل جاريته لتصلّي بالناس فريضة الصبح، وجاء الخليفة الأُموي في حال السكر يؤمّ

ص: 97


1- يكفي في ذلك قصّة الغرانيق العلى وهي مذكورة في عدة من المجاميع الحديثية والتفاسير. (راجع: المعجم الكبير للطبراني 7: 414). وقد ردّ على ذلك جمع من المتأخّرين وألف الألباني كتاباً في ردّ هذه القصّة ولكنّ الكلام في أصل المحاولة

المسلمين، وغير ذلك من الفضائح والفجائع.

كلّ ذلك محاولة لطمس آثار النبوّة ومحق الدين من أساسه، والعلماء من سائر المذاهب لا يزيدون مع كلّ ذلك إلا ترويجاً لسلطانهم، ودعوة للزوم متابعتهم واطاعتهم بما لفّقوه من روايات كاذبة ونسبوه إلى الرسول صلّى الله عليه وآله من لزوم إطاعة وليۀ الأمر وإن كان فاسقاً ظالماً.

ولم يكن في المسلمين صوت يدعو إلى الخلاف، ويحاول حفظ أساس الدين وظواهره، إلا أئمّة أهل البيت علیهم السّلام فلم يألوا جهداً في الحفاظ على هذا الظاهر الذي بأيدينا، وبذلوا في سبيل ذلك أرواحهم الطاهرة. والعالم الإسلامي يشهد تضحية سيّد الشهداء الإمام الحسين علیه السّلام في هذا السبيل.

ولنعد إلى ما كنّا عليه من بيان السبب في ذكر الجملة في هذا المكان، فهذا هو الأمر الأوّل. ويبتني على دعوى عدم الارتباط نهائيّاً، كما أنّ جملة إكمال الدين لا ترتبط بما قبلها وما بعدها نهائيّاً، فإن كان النبيّ صلّی الله علیه و آله هو الذي أمر بوضعها هنا - كما هو مقتضى تواتر النقل - فلعلّه لغرض الحفاظ على الجملة من أيدي التحريف والحذف. وتشترك آية التطهير مع آية الإكمال في السبب الذي يدعو إلى إخفائها والحفاظ عليها، كما لا يخفى.

الأمر الثاني: هناك ارتباط بين هذه الجملة والتي قبلها، وإن لم يشمل عنوان أهل البيت للنساء، وذلك لأنّ الغرض من هذه الجملة حثّ الزوجات على امتثال أوامر الله تعالى لأنّهنّ ينتسبن إلى بيت أراد الله لأهله الطهارة، وأذهب الرجس عنهم وهذا لا بأس به في نفسه، إلا أنّ الجملة تأبى الحمل على ذلك، إذ يتوقّف على تقدير من دون قرينة، فإنّ السياق لا يشتمل على ما يفيد هذا المعنى.

ص: 98

نعم، يمكن أن يقال: إنّ مجرّد ذكر هذه الجملة في ذيل هذه الأوامر، مع العلم بأنّها لا ترتبط بالنساء، يوهم أنّ الله تعالى أراد هذه الطهارة، لكلّ من يسكن هذا البيت ولو نسبيّاً، وهذا يكفي في الحثّ المذكور والله العالم.

هذا، وقد استدلّ الشيعة الإمامية بهذه الآية على عصمة أصحاب الكساء - سلام الله عليهم - بل عصمة الأئمّة الطاهرين علیهم السّلام بأجمعهم.

وتوضيح الاستدلال: أنّ الإرادة من الله تعالى قد تكون تكوينية، وقد تكون تشريعية. فالإرادة التكوينية هي أن يريد الله لشيء أن يكون. وهذه الإرادة من الله تعالى لا يمكن أن تتخلّف عن المراد. قال سبحانه: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ»(1) فهذا الأمر، أي قوله: «كُن» يحكي عن إرادة تكوينية، ويتعقّبها تحقّق الشيء المراد لا محالة.

وأمّا الإرادة التشريعية، فهي أن يريد الله تعالى ويطلب من أحد أن يعمل عملاً أو يترك أمراً باختياره، وهنا يمكن أن يطيعه المأمور ويمكن أن لا يطيع، كما هو الحال في جميع الأوامر والنواهي الشرعية.

والإرادة في الآية الكريمة، لا يمكن أن تُحمل على الإرادة التشريعية، فإنّ طلب اجتناب الرجس لا يختصّ بأهل البيت، بل الله تعالى يريد لكلّ الناس اجتنابه، إرادة تشريعية. والآية تدلّ على أنّ هذا الأمر خاصّ بأهل البيت، لمكان قوله «إنّما» الدالّ على الحصر. والمراد حصر الإرادة في ذلك، مضافاً إلى وضوح أنّ الآية في مقام المدح، ولا مدح في ذلك كما لا يخفى، فتعيّن أنّ المراد، إرادة إذهاب الرجس عنهم تكويناً الدالّ على العصمة.

ص: 99


1- يس (36): 82

هكذا قالوا، ولكن لا حاجة إلى دعوى إفادة «إنّما» للحصر، فإنّه محلّ كلام في الأدب العربي، ولا يبعد القول بأنّها لا تدلّ على ذلك إلا بملاحظة القرائن المكتنفة بها، مضافاً إلى أنّ حصر الإرادة بقول مطلق في إذهاب الرجس غير معقول، فلا بدّ من كونه حصراً إضافياً وهو أيضاً لا يفيد إلا التأكيد، فيكفي في دعوى الحصر، الوجه الثاني، وهو وضوح أنّ الآية في مقام امتداح أهل البيت وبیان امتیاز خاصّ بهم، خصوصاً بملاحظة الروايات المذكورة التي تصرّح بعدم الشمول حتّى لزوجات النبيّ صلّی الله علیه و آله.

هذا مضافاً إلى أنّ الإرادة هنا، متعلّقة بفعل الله تعالى وهو إذهاب الرجس، فحملها على الإرادة التشريعية، لا يتمّ إلا إذا كان تعليلاً للأحكام السابقة، فتكون هذه الجملة نظير قوله تعالى: «مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(1) في ذيل بيان حكم الوضوء والتيمّم. وأمّا إذا تبيّن - بفضل الروايات المتواترة - أنّ الجملة لا ترتبط بهذه الأحكام، وأنّها جملة مستقلّة مستأنفة، فلا يمكن حملها على الإرادة التشريعية قطعاً.

و«الرجس» هو القذارة، والمراد القذارة المعنوية كما لا يخفى. ويشمل ذلك كلّ ما يوجب بعداً عن الله تعالى، أو خسّة ودناءة في النفس، فيشمل كلّ المعاصي والصفات الرذيلة. وليس في الآية ما يقيّده، فتدلّ على عصمة أهل البيت علیهم السّلام بوضوح، وأكّد ذلك بقوله: «وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» ف_«الطهارة» أيضاً بمعنى النزاهة، والبعد عن ما يلوث الروح الإنسانية السامية.

ثم إنّه ربّما يتوهّم أنّ حمل الإرادة على الإرادة التكوينية، يستلزم الإلجاء

ص: 100


1- المائدة (5): 6

والقسر وهو ينافي الاختيار، ولا تبقى فضيلة للعصمة، على هذا الفرض.

والجواب عنه: أنّ كلّ شيء لا يكون إلا بإرادته تعالى، إلا أنّه يكون كما أراد، فإن أراد، أن يتحقّق الفعل عن الفاعل باختياره ، يصدر باختياره. وإن أراد أن يصدر عنه مجبوراً، فهو يصدر عنه كذلك ؛ والله تعالى إنّما أراد إذهاب الرجس عن المعصومين، بسبب ما أودع فيهم من علم وتقوى وخشية منه، وهذه عوامل توجب صدور الفعل والترك عن اختيار ، فلا يكون إلا كما أراد الله سبحانه.

وأمّا تعميم العصمة للأئمّة الطاهرين علیهم السّلام عن طريق هذه الآية، فإنّما يتمّ ببعض الروايات الواردة عن طرقنا، حيث ورد في ذيل حديث أُمّ سلمة قوله صلّی الله علیه و آله: «أنت على خير إنّما أُنزلت فيّ وفي أخي وفي ابنتي وفي ابنيّ وفي تسعة من ولد ابني الحسين خاصّة ليس معنا أحد غيرنا»(1). وللعصمة وتعميمها أدلّة أُخرى من الكتاب والسنّة تطلب من محالها.

«وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله وَالحِكْمَةِ» يعود إلى مخاطبة نساء النبي صلّی الله علیه و آل ، وتذكيرهنّ بوظائفهنّ. وهذه آخر ما ذكر في هذه الآيات. ويركّز على لزوم التذكّر، وعدم نسيان ما يتلى في بيوتهنّ. وذكر هذا العنوان للتأكيد على أنّه لا ينبغي لهنّ النسيان، لأنّ الآيات تتلى في بيوتهنّ، فلسن كسائر الناس يسمعون الآيات في مناسبة، أو دعوة يدعو بها النبيّ صلّی الله علیه و آله، أو خطبة يخطب بها في المسجد، ونحو ذلك، بل تنزل أوّل ما تنزل في بيوتهنّ، فهنّ أجدر أن لا ينسينها أبداً.

واختلف في المراد ب_«الحكمة»، فقيل: إنّ المراد بها السنّة، حيث قوبل بها

ص: 101


1- تفسير الصافي 4: 189، و 6: 43

آیات الله ولكنّ الصحيح ما ورد في بعض التفاسير من أنّ المراد منهما آيات القرآن عبّر عنها بالتعبيرين، لأنّها مجمع الوصفين.

«إِنَّ اللهَ كَانَ لَطيفاً خَبِيراً» تعليل لنزول الكتاب وتلاوته في بيوتهنّ، فمن لطفه تعالى يهيّئ الأرضية الصالحة لهداية من هو أهل لها، ومنها نزول الكتاب، وهي في نفس الوقت إتمام للحجّة على من ليس أهلاً للهداية. وهو خبير بما يصلح للأمرين.

ص: 102

سورة الأحزاب (35)

«إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)»

ورد في شأن نزول الآية أن أُمّ سلمة أو أسماء بنت عميس أو غيرهما شكت إلى النبيّ صلّی الله علیه و آله اختصاص الوعود بالأجر والثواب بالرجال، وعدم ورود آية بشأن النساء فنزلت. ومن المحتمل بقرينة موضع الآية أن الغرض منها تعميم الوعود الباعثة إلى الخير ، ليشمل سائر نساء المؤمنين، لئلا يتوهّم اختصاص الوعد بالثواب بنساء النبيّ صلّی الله علیه و آله والتأكيد على ذكر الذكور والإناث في كلّ صفة يوحي بعدم الفرق بين الرجال والنساء عند الله تعالى، وأنّ المناط للثواب هو العمل الصالح.

واختلف المفسّرون في أنّ الإسلام والإيمان هل هما بمعنى واحد أم يختلفان، كما هو ظاهر العطف. والذي يظهر بملاحظة الآيات أنّ الإسلام له معنيان، فهو بأحدهما أعمّ من الإيمان مورداً، وبالمعنى الآخر أخصّ منه.

أمّا الأعمّ فمنه قوله تعالى: «قَالَتِ الأعْرَابُ ءَامَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلمَّا يَدْخُل الإيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ»(1)، فيظهر من هذه الآية أنّ الإيمان هو الاعتقاد القلبي، والإسلام هو التسليم ظاهراً ، فكلّ مؤمن مسلم دون العكس.

ص: 103


1- الحجرات (49): 14

و من الإسلام بالمعنى الأخصّ قوله تعالى: «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًا وَلا نَصْرَانِياً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً»(1) ، وقوله تعالى في حكاية قول إبراهيم وإسماعيل علیهماالسّلام: «رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ»(2) وغير ذلك. والإسلام بهذا المعنى يراد به التسليم لأمر الله تعالى، وبالمعنى الأوّل هو الانخراط في المجتمع الإسلامي.

ويلاحظ أنّ الإسلام بالمعنى الثاني يرد في كثير من الموارد مع التقييد بكونه لله تعالى كالآية السابقة «مُسْلِمَيْنِ لَكَ»، وقوله تعالى: «إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمينَ»(3) ، وقوله تعالى: «فَإِنْ حَاجُوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ الله وَمَنِ اتَّبَعَنِ»(4) وقوله عزّ من قائل: «وَأُمِرْتُ أنْ أسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمينَ»(5)، وغير ذلك.

هذا، والظاهر أنّ المراد بالإسلام في هذه الآية هو المعنى الأخصّ، لأنّه هو مناط الثواب. وأمّا الإسلام بالمعنى الأعمّ فهو مناط الأحكام الظاهرية من الطهارة والزواج وسائر حقوق المسلم، إذ أنّه بهذا المعنى يجتمع مع النفاق. ثمّ إنّ التسليم لأمر الله تعالى له مراتب كثيرة، وكلّما زاد المؤمن إيماناً زاد تسليماً حتّى يبلغ مرتبة الرضا.

و«القنوت» هو الإطاعة في خضوع. و«الصدق» يشمل الصدق في الاعتقاد والقول والعمل. و «الصبر» يشمل الصبر على الطاعة، وترك المعصية، وتحمّل المصائب والمشاقّ. و«الخشوع»: التذلّل. و«التصدّق» هو إنفاق المال مطلقاً.

ص: 104


1- آل عمران (3): 67
2- البقرة (2): 128
3- البقرة (2): 131
4- آل عمران (3): 20
5- غافر (40): 66

ويقال: إنّ أصل الصدق يدلّ على أمر فيه قوّة، فلعلّ التصدّق إنّما أُطلق على الإنفاق، لأنّه يدلّ على قوّة في النفس حيث يسمح بالمال من دون مقابل.

و «حفظ الفرج» كناية عن تجنّب كلّ تلذّذ جنسي على وجه محرم، وحذفت كلمة فروجهنّ لدلالة قوله «فُرُوجَهُمْ» عليها.

و«الذكر» يشمل القلبي واللساني. والمراد بكثرة الذكر القلبي أن لا ينسى المؤمن ربّه في المواطن المقتضية للذكر ، كما لو كان في موضع ربّما ينجرّ إلى معصية، أو في موقف يستدعي منه طاعة، أو يتطلب منه الصبر والمقاومة. وأمّا اللساني فقد ورد في الحديث أن تسبيحة الزهراء علیهاالسّلام عقيب كلّ صلاة من الذكر الكثير(1). وحذف المتعلّق في الذاكرات أيضاً كالفقرة السابقة.

ص: 105


1- راجع: الكافي 2: 4/50

سورة الأحزاب (36-40)

« وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولً (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)»

مجموعة آيات تتعلق بقصّة تزويج الرسول صلّی الله علیه و آله زينب بنت جحش لزيد بن حارثة - رضي الله عنهما - وهي بنت عمّته أُميمة بنت عبد المطّلب، ثمّ طلقها من قبل زید و تزوّجه صلّی الله علیه و آله بها، مع أنّه كان قد تبنّى زيداً، فيكون بذلك خالف السنن الجاهلية مرّتين.

وقد ورد في شأن نزول الآيات روايات كثيرة متضاربة، ولكنّ المشهور منها أنّه صلّی الله علیه و آله خطب زينب لزيد، فأبت وأبى أخوها عبد الله، لأنّها أشرف حسباً ونسباً، فنزلت الآية، فرضيت زينب ورضي أخوها، فزوّجها الرسول صلّى الله عليه و آله زيداً، ودفع المهر عنه. وبذلك كسر الرسول صلّی الله علیه و آله حاجزاً اجتماعياً عظيماً في زواج المؤمنين والمؤمنات، بأن لا يعيروا اهتماماً بالشرف القبلي، فها هي زينب بنت عمّة

ص: 106

الرسول صلّی الله علیه و آله من أشرف بيوت العرب، تتزوّج عبداً محرّراً.

«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ هُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»، «القضاء» هو الحكم. و «الخيرة» الاختيار. و «من أمرهم» يشمل كلّ أمر يتعلّق بشأن من شؤون الإنسان. والمعنى أنّه لا يحقّ للمؤمن أن يختار لنفسه أمراً بخلاف ما حكم به الله تعالى، أو حكم به الرسول صلّی الله علیه و آله .

وقوله تعالى: «وَمَا كَانَ» يدلّ على أنّ هذا ممّا لا ينبغي أن يصدر من المؤمن والمؤمنة من أوّل ما آمن، فليس هذا حكماً جديداً ، بل هو مقتضى الإيمان بالله تعالى وبالرسول بما أنّه رسول، فإنّ معارضة حكم الله تعالى يعني عدم الإيمان به، إذ المؤمن به لا يسعه إلا أن يسلّم أمره إليه ويطيعه، فكيف يمكن أن يرى لنفسه الخيرة في مقابل حكمه ؟! فإنّ هذا لا يجتمع مع الإيمان بالله ورسوله، وإن اجتمع الإيمان مع المعصية الناشئة عن طغيان الشهوة أو الغضب أو الطمع وحبّ الدنيا وحبِ الذات.

ولذلك قال تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً ممَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»(1)، وقال أيضاً: «إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأطَعْنَا وأولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(2).

ومن هنا يتبيّن أنّ المراد بقضاء الرسول في هذه الآية ليس ما يبلّغه عن الله تعالى، بل ما يقضيه من أحكام في باب القضاء كمورد آية النساء، أو أيّ أمر يصدره لأحد في شأن من شؤونه كما ورد في شأن نزول الآية، أو ما يشرّعه من

ص: 107


1- النساء (4): 65
2- النور (24): 51

أحكام حسب ما فوّضه الله تعالى إليه، وهي التي تدعى بالسنّة الواجبة. وتفصيل القول فيه لا يسعه المقام.

ومع أنّ هذا قضاء من الرسول صلّی الله علیه و آله ابتداء، وربّما لا يكون بأمر أو وحي من الله، إلا أنّه تعالى نسب قضاءه إليه أيضاً، لما مرّ سابقاً من أنّ هذا غاية التشريف أنّ الله سبحانه يعتبر أمر الرسول أمره، وبيعته بيعته، وإيذاءه إيذاءه، ومعاداته معاداته، وهكذا.

ومن لطيف التعبير ما في آية سورة النور الآنفة الذكر حيث اعتبر الدعوة إلى الله والرسول، ثمّ عبّر بقوله ليحكم بينهم أي الرسول، فالدعوة إلى الرسول، والحكم من الرسول، ولكنّ الله تعالى يعتبره دعوة إليه أيضاً.

وأمّا قضاء الله فالمراد به القضاء التشريعي وإنشاء الأحكام، ومن الواضح أنّ الهدف من أكثرها هو امتحان الإنسان ليتبيّن المطيع من العاصي. والفوز في هذا الامتحان لا يناط إلا بدرجة العبودية والانقياد وأمّا القضاء التكويني فلا تمكن مخالفته ولا يتعلّق بها النهي.

«وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً» تأكيد على ما تضمّنه صدر الآية من حكم، وأنّ عصيان الله ورسوله ضلال واضح عن الطريق الحقّ. ومرّة أُخرى يؤكّد على أنّ عصيان الرسول صلّی الله علیه و آله عصيان الله تعالى.

«وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ» هذه الآية أيضاً ترتبط بزيد بن حارثة، وقد صرّح باسمه، وهو الذي أنعم الله عليه بالهداية إلى الإسلام، وإلى خدمة الرسول صلّی الله علیه و آله وهي نعمة عظيمة حقّاً، وأنعم عليه الرسول صلّی الله علیه و آله بكلّ ما أنعم به على غيره من المؤمنين، مضافاً إلى العتق،

ص: 108

والحبّ الذي أبداه له، ولعلّ المقصود خصوص تزويجه بزينب مع الفارق الكبير بين الأُسرتين.

وقد ورد في الروايات أنّ زيداً شكا زينب إلى الرسول صلّی الله علیه و آله، وأبدى له رغبته في طلاقها، وقيل: إنّها كانت تتكبّر عليه لشرفها ونسبها، وأنّها كان فيها حدّة. والله أعلم بصحّة ما قيل، فهناك دواع للوضع في هذا المجال.

ومهما كان، فيظهر من الآية أنّه أراد أن يطلّقها لسبب ما، فأظهر ذلك للرسول صلّی الله علیه و آله فقال له : أمسك عليك زوجك واتّق الله فيها. ويظهر من هذا البيان أنّ في الطلاق من دون مبرّر مخالفة لتقوى الله سبحانه. و«الإمساك» القبض على الشيء، وهو كناية عن الحبس والحفظ. ولعلّ التعدية ب_«على» لتضمين الإمساك ما يفيد كون الزوجة ثقلاً على الرجل، لوجوب النفقة وحسن المعاشرة. ولعلّه يفيد أن إبقاء زيد لها كان تكلّفاً.

«وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ». وقع الكلام بين المفسّرين في ما أخفاه الرسول صلّی الله علیه و آله في نفسه، فرووا في ذلك أنّه صلّی الله علیه و آله دخل على زينب لأمر مّا، فرآها بدون حجاب حاسرة عن رأسها، فأعجب بها وقال: سبحان الله تبارك الله أحسن الخالقين ، فلمّا رجع زيد أخبرته بذلك، فذهب إلى النبيّ صلّی الله علیه و آله، وأظهر إرادته للطلاق، فنهاه النبيّ وهو في قلبه يحبّ أن يطلّقها ليتزوّجها، فهذا هو الذي أخفاه في نفسه.

وهذا كذب واضح وبهتان عظيم. والرسول صلّی الله علیه و آله معصوم بفضل الله تعالى، وهو في ذاته أجلّ من أن ينظر إلى امرأة متزوّجة نظرة سوء، بل يتمنّى أن يطّلقها الرجل ليتزوّجها. فهذا ممّا يأنف منه أيّ إنسان كريم، فكيف بالرسول

ص: 109

المعصوم؟! وقد تشبّث أعداء الإسلام بهذه الروايات للتنديد بالدين والرسالة. ولعمري إنّ استهجان ذلك واضح في كلّ القيم الأخلاقية، ولكن واضعي الأحاديث لمصلحة السلطات الآثمة لا يتورّعون عن اتهام الرسول صلّی الله علیه و آله بما يشينه ويزري به، تبريراً لما يسود قصور الخلفاء من فسق وفجور.

ومن الغريب جدّاً تلقي كثير من المحدّثين ذلك بالقبول، وسراية ذلك حتّى لبعض كتبنا، مع أنّه مرفوض على أُصولنا قطعاً. ومن الكتب التي وردت فيها هذه الرواية التفسير المنسوب إلى عليّ بن إبراهيم، ووجود مثل هذا الحديث في الكتاب يعزّز نفي انتسابه إلى عليّ بن إبراهيم.

والذي يفهم من نفس الآية والروايات، أنّ الذي أخفاه هو أنّه مأمور بالزواج معها بعد طلاق زيد، وأنّه يعلم أنّ زيداً سيطلقها لا محالة، ويفهم من ذلك ومن إصرار الرسول صلّی الله علیه و آله في بادئ الأمر أن يتزوّجها زيد، هو أنّ الأمر كلّه كانت خطّة مقصودة، أراد الله سبحانه بها القضاء على السنن الجاهلية. فأصل هذا الزواج كان مخالفاً لسنتهم لعدم تناسب الزوجين - حسب العرف القبلي السائد - ثمّ زواج الرسول صلّى الله عليه و آله وهي زوجة متبناه بعد طلاقه، كان غريباً جدّاً على عاداتهم وعرفهم وسننهم.

ولم يخف الرسول صلّی الله علیه و آله زواجه، كعادة الناس في مثل هذه الأُمور، بل أعلنه وأولم لزواجه منها ما لم يولم لسائر أزواجه كما روي، بل الأغرب أنّه جعل زيداً رسوله إليها ليخطبها له. يقول زيد حسب ما روي: فلمّا رأيتها عظمت في صدري. فقلت لها: يا زينب أبشري، أرسلني رسول الله صلّی الله علیه و آله يذكرك ... الحديث.

كلّ هذا ممّا ترفضه السنن الموروثة من الجاهلية، وليس الهدف محاربة نفس

ص: 110

هذه السنن حتّى يقال بأنها ليست من الأهميّة بمكان يضحّي الرسول صلّی الله علیه و آله بمكانته في القلوب، ويفتح ألسنة القالة عليه من أجل محاربتها، بل الهدف محاربة كلّ السنن الجاهلية، والتأكيد على أنّ الدين هو الذي يجب أن يُتّبع، دون السنن الموروثة.

وهذا من أهمّ الأُمور في الدين، ومن دعائم الرسالة. والشاهد عليه التأكيد في آخر الآية بأنّ ذلك أمر من الله ويجب أن يتحقّق، «وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً» ثمّ التأكيد على أنّ ذلك سنّة الله تعالى مع الأنبياء جميعاً، ثمّ العود مرّة أُخرى إلى أمر الله: «وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَقْدُوراً». فكلّ هذا يدلّ على أنّ الأمر كانت خطّة إلهية لهدف عظيم، وأنّه من سنن الله تعالى في جميع الشرائع.

وربّما يتوهّم أنّ ما ذكرناه ينافي قوله تعالى: «وَأمُرُ بِالْعُرْفِ»(1) بناٌء على أنّ المراد ب_«العرف» ما تعارف عليه الناس. ولكن الصحيح أنّ المراد ب_«العرف» في هذه الآية ما هو مستحسن في العرف البشري بوجه عامٌ، بمعنى أنّ العقل الاجتماعي لدى كلّ المجتمعات البشرية يستحسنه. وهذا ما يقال له الحسن والقبح العقليان، فإنّ الحاكم في هذا الباب ليس هو العقل، بل العقلاء بمختلف أعرافهم.

وهذه الأُمور هي التي ربّما يدّعي فيها أنّها من الفطريات، وأنّ الله تعالى أودعها في فطرة الإنسان، وإن كان هذا غير ثابت بدليل علمي. وأمّا ما نجده من إرجاع الفقهاء بعض الأُمور إلى العرف، فإنّما هو في تحديد الموضوعات، والمفاهيم الملقاة من قبل الشارع، حيث إنّ المخاطب بخطابات الشارع هو

ص: 111


1- الأعراف (7): 199

العرف العامّ، فلا بدّ من مراجعة العرف لمعرفة حدود تلك المفاهيم. والمعتبر في ذلك عرف المجتمع الذي تلقّى الخطاب.

ثمّ إنّ الدليل من نفس الآية الكريمة على أنّ الذي أخفاه هو ما ذكرناه دون ما يقوله المتقوّلون، هو قوله تعالى: «وَتُخفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ»، فإنّ الذي أبداه الله تعالى هو ما أعلنه بقوله: «فَلَمّا قَضَى زَيْدُ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا».

«وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ»، «الخشية»: الخوف والجملة حالية، أي أنّك تخفي في نفسك أمراً خوفاً من الناس، ولا ينبغي أن تخافهم، وإنّما الخشية من الله تعالى. وهذا عتاب منه تعالى لرسوله على شدّة محافظته صلّی الله علیه و آله على استقرار المجتمع وعدم إثارته، فهذا هو المراد بخشية الناس، وهو خشية منهم وعليهم لا على نفسه، نظير خيفة موسى علیه السّلام من سحر السحرة، حيث قال تعالى: «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى»(1) فإنّه إنّما خاف تأثير ذلك في إضلال الناس. ولذلك جاءه الخطاب الإلهي: «قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى»(2).

وهكذا الرسول صلّی الله علیه و آله خاف من تأثير هذه الحادثة في ضلال الناس، فخوطب بقوله تعالى: «وَ اللهُ أَحَقُّ أن تَخْشَاهُ» وذلك لطمأنته بأنّ الله تعالى إذا أمر بشيء فإنّه يخطّط له كلّ مستلزماته.

ونظير ذلك خوفه صلّی الله علیه و آله من إعلان إمامة أمير المؤمنين علیه السّلام، لئلا تثور ثائرة الحاقدين، ويتۀهموه بالانحياز إلى ابن عمۀه وصهره، فطمأنه الله سبحانه بقوله: «وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» بعد أن عاتبه بقوله: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ

ص: 112


1- طه (20): 67
2- طه (20): 98

وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ»(1) وحتّى في هذا المورد أيضاً لا يبعد أن يكون الخوف في النهاية على الناس من وقوعهم في الضلالة.

ومجمل القول في هذه المعاتبات وما يتبعها من بثّ الطمأنينة وتسكين الروع أنّ الهدف منه يمكن أن يكون أمرين:

1 - تعديل الحالة النفسية للرسول صلّی الله علیه و آله، فإنّ هذا القرآن هو الذي أدّب الله به رسوله وكوّن شخصيته الممتازة، والله تعالى قد أودع فيه إلى حدّ كبير الرحمة والشفقة بالناس، كما قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُم»(2). والتنكير للتعظيم، أي رحمة عظيمة. وقال تعالى: «وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ»(3) حيث عبّر عنه صلّی الله علیه و آله بالرحمة، فكأنّه رحمة متجسّدة، وقال تعالى: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ»(4). فهذا غاية الرأفة والرحمة قد منّ الله تعالى بهما على المؤمنين.

ولكن لا بدّ من تعديل ذلك لئلا يسبب الإفراط فيه تسويفاً في تبليغ ما يخاف منه عليهم، كما في خطة الغدير، أو تأخيراً في ما أمر الله به من كسر السنن الذي لا يقلّ أهميّة من كسر الأصنام، بل هو هو بوجه، كما في خطّة زواجه صلّی الله علیه و آله بزينب بعد زيد. ومثل ذلك ما حدث في قضية إذنه صلّی الله علیه و آله لمن تقاعس عن الحرب، فعاتبه الله تعالى بقوله: «عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ»(5).

ص: 113


1- المائدة (5): 67
2- آل عمران (3): 159
3- الأنبياء (21): 107
4- التوبة (9): 128
5- التوبة (9): 43

2- التمهيد وتهيئة الحالة الاجتماعية، ليتمكّن الرسول صلّی الله علیه و آله من القيام بواجبه، فكلّ هذه المعاتبات، تهيّئ الوضع الاجتماعي لتقبّل ما أراد النبيّ صلّی الله علیه و آله، من إعلان أمر الإمامة، وكسر السنن الجاهلية، والامتناع عن الإذن للمتقاعسين عن الجهاد في المستقبل.

و لا شكّ أنّه صلّی الله علیه و آله لم يتوان في تنفيذ ما أمره الله تعالى به، ولكن حيث لم يكن المأمور به مؤقّتاً، كان صلّی الله علیه و آله يؤخّر التنفيذ رحمة بالناس، سواء في قصّة زيد أو إعلام الإمامة، فكان هذا العتاب مبيّناً له أنّ الوقت قد حان، وأنّه لا ينبغي أن تخشى الناس، والله أحقّ أن تخشاه، فلا تؤخّر التنفيذ، فإنّه تعالى إذا أمر بشيء، هيّأ له أسبابه وقلوب الناس بیده، فالمراد ب_«خشية الله» هنا عدم تأخير العمل بأوامره، والحدّ من الشفقة بالناس.

وممّا يثير التساؤل التعبير عن زيد في الآية الكريمة ب_«الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه»، بدلاً عن التصريح باسمه، كما صرّح به بعد ذلك، فلعلّ السرّ فيه التنبيه على أنّه لم يقصد بهذه الخطّة إضراراً بزيد، ولم يكن للرسول صلّى الله عليه و آله طمع في امرأته حاشاه!! فهو محفوف بنعم الله ورسوله. وهذا تعبير يشعر بغاية الإرفاق واللطف به.

«فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَاهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً»، «الوطر» هو الحاجة المهمّة. ومعنى قضائها انتهاؤها. فيكون معنى الجملة أنّ التزويج لم يتحقّق إلا بعد أن عافت نفس زيد عنها، ولم يبق له إليها حاجة. ولعلّه من جهة كراهته لها لأيّ سبب كان.

وربّما تفسّر الحاجة بالمقاربة، وأن المراد بقضائها تحقّقها، وذلك للتأكيد على

ص: 114

محاربة السنّة الجاهلية من جهة أن المرأة لم تكن مجرّد حليلة لزيد، بل قضى منها حاجته الجنسية، فيكون أكد في المنع، حسب سنتهم.

ويمكن أن يؤيّد هذا الوجه بقوله تعالى في التعليل: «إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً»، إذ لو حمل على الكراهة كان معناه أنّه لا حرج على المؤمنين في التزوّج بأزواج أدعيائهم إذا كرهوهنّ وعافتهنّ أنفسهم، مع أنّ جواز النكاح لا يشترط فيه ذلك.

ولكنّ هذا لا يوجب وهناً في الوجه الأوّل، إذ لا يبعد أن يكون القصد التنبيه على أنّه لا ينبغي للرجل أن يتزوّج حليلة متبنّاه أو غيره، إلا بعد أن تعافها نفسه ويكره إبقاءها على ذمّته، فلا يحاول أن يحرّض صديقه أو أيّ أحد آخر أن ينزل له عن امرأته، كما كانوا يفعلونه في العصر الأوّل.

والحاصل: أنّ الأوفق بالسياق وبظاهر اللفظ أن يكون المراد من قضاء الوطر كراهة زيد لها لأي ّسبب كان، وعزمه على عدم إبقائها على ذمّته.

وتبيّن من قوله تعالى: «لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ» أنّ الهدف من كلّ هذا الزواج ثمّ الطلاق ثمّ زواج الرسول بها، لم يكن إلا رفع الحرج عن المؤمنين، ليتحرّروا عن القيود الجاهلية في الزواج وغيره، ولا يتّبعوا إلا أوامر الله تعالى.

«وَ كَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً»، يحتمل فيه بدواً أن يكون المراد الأمر التكويني، فيكون المعنى أنّه يتحقّق لا محالة، ولكن تناسب المقام يقتضي أن يكون المراد، الأمر التشريعي، إذ الكلام حول الأوامر الصادرة بزواج زيد من زينب، ثمّ تطليقها، ثمّ زواج النبيّ منها، فالمراد أنّه يجب أن يعمل به ولا يجوز التواني فيه.

«مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ»، «ما كان» أي لا يمكن أن يكون. و«من» في «من حرج» زائدة تفيد التأكيد على عدم وجود أقلّ شيء من الحرج

ص: 115

عليه. والمراد ب_«ما فرض له» هو ما قدر له، والفرض هو التقدير. وقد قدّر له أن يكسر السنن الجاهلية عملياً بالزواج من حليلة متبنّاه، فلا حرج عليه في عليه في ذلك.

وفي بعض التفاسير أنّ المراد به ما أباح الله له من أزواج، وأنّ هذه سنّة الله في الأنبياء السابقين، وعدّوا لهم أزواجاً كثيرة، استناداً إلى روايات أشبه بالأساطير. ولكن توصيف الأنبياء بعد ذلك بأنّهم يخشون الله في سبيل التبليغ ولا يخشون غيره لا يبقي مجالاً للشكّ في أنّ المراد بالذي فرض للرسول صلّی الله علیه و آله هو ما قدّر له من مجال العمل وإبلاغ الرسالة، ومواجهة الثقافات البائدة، والسنن الجاهلية، لا ما أُبيح له من أزواج أو غيرها. والفرض هو التقدير، لا الإسهام كما قالوا.

«سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ»، «السنّة» اسم مصدر وقع موقع المصدر، وهو مفعول مطلق، أي سنّ الله تعالى ذلك سنّته في الذين خلوا من قبل، والمراد بهم الأنبياء السابقون بدليل التوصيف الآتي. و «خلوا» بمعنى مضوا، كأنّ الزمان خلا عنهم ، فأسند الخلوّ إليهم مجازاً. وليست السنّة، الزواج بحليلة المتبنّى، ولا كثرة الزواج - كما قيل - بل كسر السنن الجاهلية، وترسيخ دعائم الشريعة، واستبدال العادات بها.

«وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَقْدُوراً»، المراد ب_«الأمر»، الأمر التشريعي، ومنه ما تعلّق بزواجه صلّی الله علیه و آله بزينب. و «القدر» مصدر بمعنى المحاسبة، وهو بمعنى اسم المفعول، أي مقدوراً، وهو والمقدّر واحد، فالمقدور بعده تأكيد، كقوله تعالى: «نَسْياً مَنسِيّاً»(1) . والمراد أن ّأمره تعالى ليس جزافاً كأحكام البشر، ينتظرون النتائج ليتحقّقوا من صحّة تشريعهم، فإذا أمر الله بشيء، فقد قدّر كلّ ما يستلزمه

ص: 116


1- مريم (19): 23

ويستتبعه، وكلّ شيء بيده، وهو علام الغيوب.

«الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ» صفة للذين خلوا من قبل ليتبيّن أنّ المراد بهم الرسل - سلام الله عليهم -، ولعلّه أتى بالرسالات جمعاً باعتبار اختلاف الشرائع في بعض الجزئيات، ويمكن أن يكون ذلك باعتبار أنّ كلّ واحد منهم يبلّغ رسالات الله، فالتعدّد بلحاظ تعدّد الأحكام والمعارف الإلهية. ولعلّ الإتيان بالمضارع للتنبيه على استمرار الرسالات، فيشمل الرسول صلّی الله علیه و آله .

«وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا الله»، «الخشية» الخوف. وإنّما كانوا يخشون الله تعالى في أيّ توان وتقاعس عن تبليغ الرسالات، ولا يخشون غيره، فلا يهمّهم ما يترتّب على أعمالهم، مادام الأمر من الله تعالى.

وربّما يقال: إنّ في هذا تعريضاً بالرسول صلّی الله علیه و آله حيث أنّه خشي الناس بدلاً من أن يخشى الله، بخلاف الأنبياء السابقين. وهذا غريب جدّاً ممّن يعترف بأنّه صلّی الله علیه و آله أفضل الخلق !

والصحيح - كما مرّ - أنّ الآية تشمل الرسول صلّی الله علیه و آله، وإلا لم يكن وجه للإتيان بالفعل المضارع الدالّ على الاستمرار، خصوصاً مع كونه وصفاً للذين خلوا من قبل. وقد بيّنا المراد بقوله تعالى: «وَتَخْشَى النَّاسَ» بما لا يوجب أدنى مسّ لكرامة الرسول صلّی الله علیه و آله، بل الصحيح أنّه لم يرتكب ترك الأولى أيضاً، وإنّما أخّر قبول اقتراح زيد، رفقاً بالناس، فأنبئ من قبل الله سبحانه، بأن لا يكرّر ذلك، فقد آن الأوان لإنجاز الخطّة. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ أَحَقُّ أن تَخْشَاهُ» لا يفيد أنّه لم يخش الله كما هو واضح.

«وَكَفَى بِالله حَسِيباً»، «الباء» زائدة، أي كفى الله حسيباً. و«الحسيب» فعيل بمعنى

ص: 117

الفاعل من الحساب أي العدّ، كقوله تعالى: «كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً»(1). ومثل هذه الآية قوله تعالى: «وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ»(2) ويأتي الحسيب بمعنى الكافي، ولا يناسب هذا المقام. والظاهر: أنّ الجملة تعليل لخشيتهم من الله تعالى وعدم خشيتهم من غيره. وذلك لأنّه هو الذي يخاف من حسابه فحسب.

«مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِن رجَالِكُمْ»، الغرض من هذه الجملة التأكيد على أنّ المتبنّى لا يترتّب عليه حكم الابن. وللتأكيد على ذلك، نفى أُبوّة الرسول صلّی الله علیه و آله لكلّ الرجال الموجودين في ذلك العهد، ولذلك أضاف الرجال إليهم. والمراد بالضمير، في (رجالكم) المجتمع الحاضر آنذاك، فلا ينافي كونه صلّی الله علیه و آله أباً للقاسم والطيّب والطاهر وإبراهيم. وقيل: إنّ الطيّب والطاهر لقبان للقاسم. ومهما كان فهؤلاء كلّهم ماتوا قبل البلوغ. فلم يكونوا من الرجال. والحسن والحسين علیهماالسّلام لم يبلغا حين نزول الآية.

ولا يصحّ ما يقال من أنّ الأب لا يشمل الجدّ، لأنّ الرسول صلّی الله علیه و آله أكّد غير مرّة أنهما ولداه، ولأنّ الحكم المتوهّم في المقام، وهو حرمة التزوّج بحليلة الولد يشمل الحفيد .

«وَلَكِن رَسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ»، أي ولكن كان رسول الله. والغرض حصر علاقته صلّی الله علیه و آله بالمجتمع في الرسالة والنبوّة، بعد نفي علاقة الأبوة بوجه مطلق. والرسول من يحمل رسالة من الله تعالى إلى قوم، وهو فعول بمعنى المرسل، أو اسم مصدر بمعنى الرسالة، ويكون حمل المصدر على الذات إمّا للمبالغة، أو

ص: 118


1- الإسراء (17): 14
2- الأنبياء (21): 47

بتقدير ذا الرسالة. و«النبيّ» من ينبئه الله بوحيه فعيل من النبأ بمعنى الخبر، فكلّ رسول نبيّ، وليس كلّ نبيّ رسولاً.

والرسول صلّی الله علیه و آله كان خاتم الرسل وخاتم النبيّين أيضاً، فانقطع بعده الوحي التشريعي، وانتهت الشريعة، فقوله تعالى: «وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ»، ينفي وجود رسول بعده أيضاً، إذ لا رسالة إلا بنبوّة، والخاتم - بفتح الميم - ما يختم به، كالقالب ما يقلب به، و بکسره اسم فاعل أي الذي ختم النبيّين، ويفيد نفس المعنى.

«وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» لعلّه إشارة إلى أنّ الله تعالى بعلمه لما يصلح شأن البشرية، ختم النبوّة بمحمّد صلّی الله علیه و آله و فشريعته أكمل الشرائع، والبشرية في عهده وما بعده من العهود تصل إلى مرحلة من الكمال، بفضل متاعب الأنبياء علیهم السّلام، طيلة التاريخ البشري، بحيث يكفيه ما لديه من آثار وما يستنتجه بعقله، حجّة عليه ومناراً يسترشد به في ظلمات الجهل.

ص: 119

سورة الأحزاب (41-44)

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)»

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً» ، «الذكر» يقابل النسيان فيشمل اللساني والقلبي، كما ذكرناه في آية: «إِنَّ المُسْلِمِينَ»، كما أنّ التسبيح يمكن أن يكون في القلب والاعتقاد أيضاً، إلا أنّ الظاهر منه هو التسبيح باللسان، فيمكن أن يكون قرينة على أنّ المراد هنا بالذكر، خصوص اللساني أيضاً. والذكر مهما كان يستلزم أن يكون العبد مستحضراً ربّه ويراه مهيمناً عليه. وهذا لو كان يحصل بصورة دائمة، لكان العبد مراقباً كلّ حركاته وسكونه، ولأوصله ذلك إلى مرتبة العصمة، أو ما يقرب منها، ولكنّه لا يستطيع ذلك ، فأمره الله تعالى أن يكثر من ذكره.

«وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً»، ثمّ أمر بتسبيحه كلّ صباح ومساء. و«الأصيل» هو العشاء كما في «مفردات الراغب»(1). وقيل: ما بعد العصر إلى المغرب. ومثل ذلك قوله تعالى: «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ»(2) وقد ورد في الأحاديث التأكيد على تكرار القول ب_«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت ويميت ويحيي وهو حيّ لا يموت بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير عشر مرّات قبيل الطلوع، وعشراً قبيل الغروب.

ص: 120


1- المفردات في غريب القرآن: 19
2- ق (50): 39

ويمكن أن يكون المراد بالتسبيح بكرة وأصيلاً، الاستمرار عليه مهما أمكن، وفي كافّة الأوقات، كقوله تعالى: «يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ»(1) حيث يصف بذلك ملائكته والملائكة ليس لهم ليل ونهار، بل يسبّحونه تعالى دائماً.

«هُوَ الَّذِي يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلاكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ». سياق الآيات وتصدير هذه الآية بالضمير، يوحي بأنّ هذه الآية والآية التالية في مقام ذكر النتيجة والجزاء للذكر الكثير. وبتعبير آخر في مقام بيان سبب التشريع. والحاصل: أنّ الذكر الكثير يوجب العطف الإلهي والرحمة الخاصّة بالمؤمنين، بحيث يخرجهم من ظلمات الغفلة والجهل إلى نور الإيمان والعبودية والتشرّف بذكر الله لهم، كما قال تعالى: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ»(2).

و «الصلاة» يقال: إنّها في أصل اللغة بمعنى العطف أو الميل. ولا يبعد أن يكون المعنى في أصل اللغة هو هذه العبادة الخاصّة على اختلاف مصاديقها، حسب الشرايع. وقد ذكرنا في مبحث الحقيقة الشرعية من المباحث الأُصولية أنّ الصلاة من أعرق المفاهيم البشرية، وأنّها كانت مع الإنسان منذ بدء خلقته، فلا وجه لمحاولة كشف معنى لغوي، يكون هو الأصل في هذه الكلمة، ثمّ البحث عن زمان تحقّق الحقيقة الشرعية.

وعليه فالصحيح في هذا المقام أنّ المعنى الأوّل للصلاة، وإن كان هو العبادة الخاصّة، إلا أنّها بهذه المناسبة تستعمل لإفادة معنى مطلق العطف والميل مجازاً، وهي بهذا المعنى تختلف حسب الموارد. فالصلاة من الله رحمة ربوبية، والصلاة

ص: 121


1- الأنبياء (21): 20
2- البقرة (2): 152

من العبد عبادة وتذلّل، ومن الملائكة دعاء بالرحمة - كما هو المشهور - ويشهد له ما ورد في القرآن من دعائهم كما في أوائل سورة غافر، ولا يبعد أن يكون من صلاتهم وعطفهم التوسّط والشفاعة، فإنّهم وسائط نزول الرحمة، كما لعلّه هو المراد هنا، فالله تعالى يبعث ملائكته ليخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور.

«وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً»، لعلّ الإتيان بالفعل الماضي للإشارة إلى أنّ ذكر المؤمنين الذي كان السبب في هذه الرحمة الخاصّة الممتازة المعبّر عنها بالصلاة، إنّما كان بنفسه أيضاً برحمة مسبقة من الله تعالى نظير قوله تعالى: «ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليَتُوبُواْ»(1) فهناك توبة مسبقة من الله، أي رجوع عليهم بالعطف والرحمة ليتوبوا، ثمّ توبة بعد توبتهم تتمثّل في قبول التوبة منهم.

ولعلّك تقول: إنّ مقتضى السياق أن يقال: وكان بكم رحيماً. لاستمرار الخطاب في هذه الجملة فلماذا أتى بالاسم الظاهر؟ وممّا ذكرناه آنفاً يمكن الجواب بأنّ الإتيان بالاسم الظاهر لعلّه للإيذان بأنّ كثرة ذكرهم التي هي السبب في هذه الرحمة الخاصّة المعبّر عنها بالصلاة كان برحمة مسبقة من بسبب إيمانهم.

وهذا أولى ممّا قاله العلامة الطباطبائي رحمه الله من أنّه إنّما أتى بالاسم الظاهر بدلاً عن الضمير للإيذان بأنّ سبب الرحمة الخاصّة، هو الإيمان، وذلك لمنافاته مع ما ذكر أنّ ظاهر الآية من أنّ سبب هذه الرحمة الخاصّة هو الذكر الكثير لا مطلق الإيمان.

«تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ» ما مرّ في الآية السابقة نتيجة الذكر الكثير في الدنيا، وأمّا يوم القيامة - وهو يوم يلقون الله تعالى - فجزاؤهم أن يحيَّوا من قبل الله تعالى

ص: 122


1- التوبة (9): 118

وملائكته بالسلام، كما ورد في آيات أُخرى منها قوله تعالى: «وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم»(1).

ويمكن أن يكون المراد بيوم اللقاء، يوم الموت والتوفّي، فإنّ المؤمن يلقى ربّه ذلك اليوم، وقد قال تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ»(2) و«اللقاء» بمعنى الإدراك المباشر الذي ربّما يعبّر عنه بالرؤية، مع أنّه إدراك أق-وى بكثير من الرؤية البصرية، فالبصر قد يخطئ في الألوان وفي الحركات وغيرها، كما هو واضح محسوس، ولكنّ الإدراك المباشر بالذات والروح لا يمكن أن يخطئ.

والمثال الواضح له في هذه الحياة هو إدراك الإنسان لنفسه، فإنّه لا يمكن أن يكون خاطئاً، وهو أقوى إدراك محسوس وشامل. ومثل هذا الإدراك يحصل للإنسان بموته حيث ينكشف عنه الغطاء ويخرج من قيود المادّة، وهناك يلقى ربّه ويحظى بلقائه السعيد الذي هو غاية المنى.

والسلام الذي يحيّون به حكم وعمل، لا مجرّد كلام أو دعاء، كما أنّ اللعنة هناك إبعاد عن الرحمة في الواقع الخارجي لا دعاء به. فالمراد بالسلام - والله العالم - الأمن والسلامة المطلقة، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والتعبير مع ذلك مفعم بالإكرام والاحترام.

«وَاعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً» ومن إكرامهم أنّ الله تعالى هيّأ لهم من قبل أجراً لا يقدّر بقدر، ويكفي في عظمته أنّ الله، خالق الكرامة، يعبّر عنه بالكريم. و«الكريم» بمعنى الثمين والقيّم، فذلك الأجر في مقياس الله تعالى قيّم، مع أنّه لا يرى لهذه الحياة الدنيا بكلّ ما فيها من زينة وبهاء، أيّ قيمة.

ص: 123


1- الرعد (13): 23 - 24
2- النحل (16): 32

سورة الأحزاب (45-48)

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)»

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً» أبلغ مدحة من خالق الكون وربّه لنبيّه الكريم صلّی الله علیه و آله حيث وصفه بأوصاف خمسة:

1- الشاهد. والشهادة هنا تحتمل ثلاثة معان:

أ- شهادة قائد المجتمع وإمام الناس لأعمالهم، ممّا تنّبئ عن خبايا أسرارهم واتجاهاتهم، وإيمانهم به وبرسالته، أو كفرهم أو نفاقهم. والحاصل أنّه يرى من أعمال كلّ أحد وجهة تأثيره الاجتماعي. والشهادة بهذا المعنى تتحقّق لكلّ قائد اجتماعي، وربّما يحمل قوله تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ»(1) على ذلك، بقرينة أنّ رؤية المؤمنين ليس إلا على هذا الوجه.

ب - أنّ الملائكة تعرض أعمال العباد على الرسول صلّی الله علیه و آله ، وكذلك على الأئمّة من بعده، فهو شاهد على خبايا أعمالهم، وليس على ظواهرها وتأثيراتها الاجتماعية فحسب.

وبهذا المعنى وردت روايات تدلّ بعضها على أنّ الأعمال تعرض على الرسول صلّی الله علیه و آله حتّى بعد وفاته، وبعضها على أنّها تعرض بعده على الإمام، وأنّ المراد بالمؤمنين في الآية الكريمة الآنفة الذكر هو أمير المؤمنين علیه السّلام، أو الأئمّة كلّهم علیهم السّلام.

ص: 124


1- التوبة (9): 105

ولا شكّ أنّ كيفية العرض غير مفهومة لنا، ولا نعلم أنّ الأعمال هل تعرض بكلّ تفاصيلها، أم أنّ هناك نوعاً خاّصاً من العرض لا تبلغه أفهامنا؟ وهل كلّ الأعمال تعرض، أم أنّ قسماً خاصّاً منها تعرض عليهم؟ وقد ورد ذكر الشهادة في آيات كثيرة. والبحث عنها يستدعي موضعاً آخر.

ج - الشهادة بمعنى كونه مثلاً يحتذى به، ومقياساً للصلاح والعبودية، فالرسول أو الإمام بعمله وسيرته شاهد في الدنيا يقتدى به، وفي الآخرة يقاس به الأعمال، قال تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسِ بِإمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً»(1) فالتفريع في قوله: «فَمَنْ أُوتِيَ» يدلۀ على أنۀ دعوة الإمام لتمييز من يؤتى كتابه بيمينه. وهناك شواهد أُخرى على ذلك أيضاً.

و «شاهداً» حال، فيدلۀ على أن الرسالة ملازمة للشهادة، وهو كذلك بأيۀ معنى من المعاني المذكورة. ولا وجه لما قيل من أنّها حال مقدّرة، أي إنّا أرسلناك مقدّراً أن تكون شاهداً في المستقبل، فإنّ الشهادة متحقّقة من بدء الرسالة.

2 و3 - المبشّر والنذير. يبشِّر المتّقين والصالحين بأنّ لهم أجراً حسناً، وينذر من اتّبع هواه بما تستتبعه أعماله من العذاب الأبدي. ولعلّ الفرق بين البشارة والإنذار حيث أتى بالأوّل بصيغة اسم الفاعل والثاني بصيغة المبالغة، من جهة كون الإنذار أهمّ في رسالة الرسل. وكثيراً ما يأتي الإنذار فقط من دون بشارة كأنّ دور الرسول منحصر فيه، بل يأتي ضمن صياغة تفيد الحصر، كقوله تعالى: «إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ»(2) وقوله تعالى: «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ»(3) وذلك من جهة أنّ دفع الضرر

ص: 125


1- الإسراء (17): 71
2- هود (11): 12
3- الرعد (13): 7

أهمّ، ومن جهة أنّ أكثر الناس معرّضون للعذاب، «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ» (1).

4 - الداعي إلى الله بإذنه. أي داعياً إلى الإيمان بالله وبوحدانيته، وتقواه، ومتابعة دينه وشريعته، وحبّه والانقياد له. والدعوة إنّما هي إلى الله تعالى لا إلى إصلاح اجتماعي، أو ثورة على وضع قائم، أو أيّ هدف إنساني آخر، فكلّ ذلك مهما كان لها من أهميّة، فهي تصغر أمام هذا الهدف العظيم. وهو يشمل في النهاية كلّ الأهداف السامية، لأنّ السير إلى الله تعالى، في طريقه الذي رسمه للبشرية، يوصله إلى الخير المطلق في الدنيا والآخرة.

وأمّا التقييد بكون الدعوة بإذنه تعالى فإنّه يفيد أنّه مبعوث من قبل الله تعالى، فليس داعياً منبعثاً من نفسه. ولعلّ الوجه في تقييده بالإذن دون غيره، أنّ ذكر اسمه تعالى في هذا الوصف ربّما يوهم أنّه يدعو إليه تعالى بدافع ذاتي، فالإتيان بهذا القيد لدفع التوهّم.

وقيل: إنّ الوجه فيه هو استثقال أمر الدعوة، فالتعبير بالإذن يراد به التيسير، أي أنّه يدعو إلى الله تعالى بتيسير منه، وإلا لم يتمكّن، بل كان يحجم عن الأمر، كما أنّه أحجم عنه في بدء البعثة، حتّى أنزل الله تعالى: «يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرُ»(2) .

وهذا الاحتمال ضعيف، لأنّ شهادته صلّی الله علیه و آله إن لم تكن أهمّ وأصعب، فلا تقلّ عن الدعوة. ولذلك ذهب بعضهم إلى أنّ القيد يعود إلى كلّ ما سبق. ولكنّه بعيد، إذ لا وجه لإخراج كونه سراجاً منيراً من التقييد.

5 - السراج المنير. فهو لا يكتفي بالدعوة إلى الله وإراءة الطريق، بل ينير

ص: 126


1- سبأ (34): 13
2- المدثر (74): 1 - 2

الدرب بأقواله وأفعاله وأخلاقه وسيرته، فإنّه إمام الموحّدين. والإمام هو المثال الحيّ للسائرين على الدرب يقتدون بهداه. وهكذا ينير الطريق في الظلمات الكالحة، ظلمات الجهل والشهوة، والأفكار الخاطئة، والتقاليد البالية، والسنن الجاهلية.

والسراج يطلق على الشيء المنير بذاته الذي لا يكتسب نوره من غيره، ولذلك ورد التعبير في القرآن عن الشمس بالسراج دون القمر. وهذا يدلّ على العظمة الذاتية للنبيّ صلّی الله علیه و آله، وأنّه في جوهره وذاته وكيانه يختلف عن سائر البشر.

«وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ الله فَضْلاً كَبِيراً»، الظاهر أنّ هذه الجملة عطف على جملة مقدّرة تفهم من سياق الآيتين السابقتين، فإنّهما وإن كانتا في مقام المدح والثناء للرسول الكريم صلّی الله علیه و آله ، إلا أنّهما يحملان أمراً إليه أيضاً، فإنّ المراد بهما نصبه صلّی الله علیه و آله لهذه المقامات، ممّا يستدعي لزوم مباشرة العمل وفقاً لها، فإنّ الملك إذا نصب أحداً وزيراً، فإنّ معناه الأمر بالعمل وفق مقتضيات الوزارة، فمعنى الآيتين الأمر بمباشرة الشهادة والبشارة والإنذار والدعوة والإنارة. وهذه الجملة - أي تبشير المؤمنين - عطف على الأمر السابق.

و «الفضل» بمعنى الزيادة. ويطلق على ما يمنحه أحد لغيره من دون استحقاق. وكلّ ما يعطيه الله تعالى، فهو فضل، لأنّ المخلوق لا يستحقّ شيئاً على خالقه، وكلّ ما يقال من حقّ أحد حتّى الأنبياء والأولياء، فهو حقّ جعله الله على نفسه. وحيث إنّ الفضل في الدنيا لا يختصّ بالمؤمنين؛ خصّهم في الآية بالفضل الكبير. وقد وردت الإشارة إلى هذا الفضل في قوله تعالى: «وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ

ص: 127

الصَّالِحَتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ»(1).

والكبير أمر نسبي، فهو كبير بالنسبة إلى ما فضّل به على غير المؤمنين من نعم الدنيا، فإنّ الحياة الدنيا ليست في الآخرة إلا متاع. وهناك فضل أكبر بكثير، وهو فضله تعالى على النبيّ صلّی الله علیه و آله قال تعالى: «إِلا رَحْمَةً مِنْ رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً»(2)، فهذا كبير بالنسبة إلى كلّ فضل أّوتي به غيره صلّی الله علیه و آله.

«وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً» عطف على الآية السابقة، فهناك أمر بتبشير المؤمنين، وهنا بمواجهة الكفّار والمنافقين. وسياق الآيات يأبى النزول في مكّة كما ادّعي. ولا موجب لذلك، فإنّ النبيّ صلّی الله علیه و آله كان محاطاً بمؤامرات الكفّار والمنافقين في المدينة أكثر بكثير ممّا كان في مكّة، وكما كانت المؤامرات تحاول الإطاحة به صلّی الله علیه و آله كانت تحاول أيضاً كسب بعض الامتياز للكفّار أو لآلهتهم أو للمنافقين.

وقد ورد نفس هذا النهي في أوّل السورة وقلنا: إنّه صلّی الله علیه و آله لم يكن يهادن الكفّار، وإنّما ورد هذا النهي ليكون حجّة له صلّی الله علیه و آله في مواجهة فريقين من المسلمين فريق يدعو إلى التشدّد، وفريق يدعو إلى الهدنة.

ثمّ إن الإطاعة هو اللين، وبالطبع فإنّ المنع منه يستلزم ممارسة الخشونة معهم، وهي تستتبع مواجهتهم، وربّما تستتبع حرباً بل حروباً، ولكنّ الله تعالى يستصغر کیدهم ويعتبره مجرّد إيذاء، إذ لا يستطيعون أن يعملوا شيئاً إلا ما أراده الله تعالى. ثمّ قلّل من شأنه كإيذاء أيضاً، وأمر رسوله صلّی الله علیه و آله أن يتركه ولا يهتمۀ به

ص: 128


1- الشورى (42): 22
2- الإسراء (17): 87

ويتوكّل على الله، ويكل أمرهم إليه وكفى به وكيلاً.

وليس معنى ذلك عدم اتخاذ المواقف اللازمة في كلّ موضع يقومون فيه بعمل عدواني ضدّ الإسلام والمسلمين، ولذلك لم يتوقّف الرسول صلّی الله علیه و آله عن محاربتهم ومقابلة كيدهم بالسياسة الحكيمة، بل المراد عدم الاهتمام، لأنّ الله تعالى لهم بالمرصاد، إلا أنّه لا يبرز المعجزات في مثل ذلك، وإنّما يعالج الموقف بالأسباب الطبيعية، ومنها هذه المواقف الحكيمة التي كان النبيّ صلّی الله علیه و آله يتّخذها في مواجهتهم. وقد مرّ بعض الكلام في التوكّل في بداية السورة المباركة.

وبناءً على ذلك، فالمراد بقوله تعالى: «وَدَعْ أذاهُمْ» عدم الاهتمام بما يكيدون وما يمارسونه من أعمال إيذائية، فالأذى مصدر مضاف إلى الفاعل. والأمر بالترك وهو معنى «دع» كناية عن عدم الاهتمام.

وقيل: إنّ المراد النهي عن إيذائهم، فالأذى مضاف إلى المفعول، و«دع» بمعناه الحقيقي. وهو بعيد في حدّ ذاته، لأنّه صلّی الله علیه و آله ما كان يؤذي أحداً، وإنّما كان يدفع أذى المشركين والمنافقين إذا تجاوز الحدّ، بل كان يتحمّل أذاهم قبل الهجرة وبعدها، وحتّى بعد استقرار حكومته وخضوع الرقاب له صلّی الله علیه و آله ، فما كانت المؤامرات تتوقّف، والإيذاء كان مستمرّاً حتّى في آخر لحظات حياته صلّی الله علیه و آله، فالنهي عن الإيذاء لا يناسب خلقه الرفيع، مضافاً إلى أنّه لا يناسب الأمر بالتوكّل، وإنّما يناسبه عدم الاعتناء بهم وبإيذائهم.

ص: 129

سورة الأحزاب (49-52)

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)»

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتَّعُوهُنَّ وَسَرْحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً» مجموعة آيات تتعرّض البعض أحكام النكاح والطلاق. والآية الأُولى عامّة للمؤمنين، وما بعدها خاصّة بالنبيّ صلّی الله علیه و آله. ولعلّ هذا هو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها وما بعدها.

ومهما كان فالمراد بالنكاح العقد، حيث فرض عدم المساس بعده، وهو كناية عن المواقعة. والآية تذكر حكم المطلّقة قبل المواقعة وأنّها لا عدّة عليها، فيجوز لها أن تتزوّج بعد الطلاق مباشرة. وقد ذكر حكمها في سورة البقرة بالفرق بين

ص: 130

التي فرض لها فريضة أي قدّر لها مهر، فتستحقّ نصفه والتي لم يفرض لها ذلك فتستحقّ الإمتاع.

قال تعالى: «لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمَفْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ مَنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَن يَعْفُونَ أو يَعْفُواْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَان تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(1).

والذي لم يذكر في سورة البقرة من حكمها هو عدم وجوب العدّة عليها وذكر في هذه الآية، والتعبير يوهم أنّ العدّة حقّ للرجل على المرأة، حيث قال تعالى: «فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا» فالعدّة للرجل على المرأة وهو الذي يعتدّها، ولذلك قال المفسّرون في توجيه ذلك: إنّ العدّة إنما شرعت لحفظ الأنساب، والرجل هو صاحب النسب والذي ينسب إليه الولد فله الحقّ في منع المرأة من الزواج في العدّة، لحفظ نسبه، فإذا لم يتحقّق بينهما مساس فلا حقّ له.

وربّما يستبعد كون الاعتداد حقّاً للرجل من جهة أنّه غير قابل للإسقاط من قبله. وأجاب بعضهم: إنّ عدم جواز الإسقاط لا ينافي كونه حقّاً له، فإن بعض الحقوق ، لا يصحّ إسقاطه كحقّ الورثة في تركة الميّت، وحقّ الفقراء في الزكاة.

أقول: أمّا الورثة فيملكون التركة وليس هذا حقاًّ، وأمّا الزكاة فصاحب الحقّ أو المالك هو عنوان الفقير، لا مجموع الفقراء وليس هناك من نقض، فكلّ حق قابل للإسقاط إلا إذا كان في نفس الوقت يشتمل على حقّ آخر كحقّ الحضانة،

ص: 131


1- البقرة (2): 236 -237

فإنّه لا يصح إسقاطها لأنّه حقّ للوالدين وللطفل أيضاً، أو لأنّه حقّ وحكم شرعي بلزوم حضانة الطفل.

ومهما كان فالإشكال في المقام، ليس من جهة جواز الإسقاط، بل من جهة أنّ العدّة حكم شرعي واجب على المرأة، حتّى لو ارتدّ زوجها السابق، أو كانا كافرين وأسلمت الزوجة. والذي أوهم الجماعة هو الضمير المذكّر في الخطاب؛ وغاب عنهم أنّ هذا خطاب للمجتمع الإسلامي، والقرآن يعبّر عن كلّ القوانين الاجتماعية بمثل ذلك، فيخاطب المجتمع بإجراء الحدّ كقوله تعالى: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيهُمَا»(1) وقوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ منْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ»(2) ونحو ذلك.

ويشهد له قوله تعالى: ف_«تَعْتَدُّونَها» فإنهّ بمعنى الامتناع من الزواج بها، وهو لا يشمل الزوج السابق، إذ ليس عليها عدّة بالنسبة له، وإنّما الخطاب هنا لسائر الرجال.

وقد وقع النقاش بين المفسّرين وكذلك الفقهاء في كيفية التعامل مع الآيتين، حيث إنّ ظاهر هذه الآية وجوب الإمتاع لكلّ مطلّقة قبل المساس، سواء فرض لها فريضة أم لا. وظاهر الآية التي في سورة البقرة التفصيل، واختصاص الإمتاع بمن لم يفرض لها مهر حين العقد، وفقهاؤنا يقيّدون إطلاق هذه الآية، بما ورد في سورة البقرة، فيحملون هذه الآية على خصوص من لم تفرض لها فريضة.

وذهب بعض الفقهاء إلى استحباب الإمتاع للكلّ، فحمل الأمر هنا على

ص: 132


1- المائدة (5): 38
2- النور (24): 2

الاستحباب ولم يحمل المطلق على المقيّد، وفي كلّ ذلك مخالفة للظاهر. وفسّر بعض المفسّرين الإمتاع بما يشمل دفع نصف المهر وهو أبعد من الكلّ، ويقرب في الذهن أنّ حمل الأمر على الاستحباب، هو الأولى.

وهناك أمر آخر تختلف فيه الآيتان، وهو تنصيف المهر بالطلاق قبل الدخول كما ورد في سورة البقرة، ولم يرد هنا إلا أن هذه الآية ساكتة عن حكم المهر، فلا تنافي بينهما من هذه الجهة.

و«التسريح»: الإرسال، وأصله تسريح الإبل في المرعى. والمراد بالسراح الجميل أن لا تكون المفارقة بحقد وتشهير، كما هو الحال في أكثر الموارد، فهناك كثير من الأذواق والأخلاق لا تتلائم ، ولكن لا ينبغي أن يحدث بينهما بغض وكراهية وشنآن، فليتفارقا بمسالمة وتفاهم، ويغني الله كلاً من سعته.

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللآتِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ» تبيّن الآية حكم زواج النبي صلّی الله علیه و آله و ما خصّه الله تعالى به في هذا المجال، فإنّ الله تعالى حرّم على الرجال، الزواج بأكثر من أربع، وأوجب على من كان له أكثر من ذلك - قبل نزول الحكم - أن يختار منهنّ أربعاً، ولكنّه أحلّ للرسول صلّی الله علیه و آله ما كان له من أزواج حين نزول الآية، بشرط أن يكون قد آتاهنّ مهورهنّ، وهي المراد بالأُجور، وهذا الشرط كان حاصلاً حيث قيل: إنّه صلّی الله علیه و آله لم يؤخّر مهر امرأة، فالنتيجة أنّ الله تعالى أحلّ له الإبقاء على كلّ زوجاته.

هذا هو ما يبدو ابتداءً من الآية الكريمة، ولكن سيأتي في صحيحة الحلبي ما يظهر منه أنّ المراد بهذا العنوان ليس هو خصوص أزواجه اللاتي كانت له صلّی الله علیه و آله حين نزول الآية، بل المراد أنّه يحلّ له من النساء ما شاء من دون تحديد في العدد.

ص: 133

«وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَآءَ اللهُ عَلَيْكَ» وهذا هو القسم الثاني من النساء اللاتي أحلّ الله لرسوله صلّی الله علیه و آله، وهنّ الإماء المملوكات له، بشرط أن تكون الجارية ممّا أفاء الله عليه بسبي وغنيمة أو بإهداء من كافر، فإنّه غنيمة وفيء أيضاً، فيشمل هذا القسم مارية القبطية. وظاهره المنع من شراء الجواري، ولكنّ الظاهر أنّه لا يحرّم عليه ما كان لديه من جوار ممّا اشتراهنّ لو فرض ذلك.

ويقع الكلام هنا بالمناسبة عن جواز الاسترقاق في الشريعة مع أنّه أمر يرفضه المنطق والعقل السليم. وأنّه ما هو ميزة إنسان على آخر حتّى يملكه؟! وأنّه كيف يمكن أن يعتبر الإنسان سلعة يشترى؟! ونحو ذلك ممّا يقال.

وقد أجابوا عن ذلك بأنّ الإسلام إنّما أحلّ الاسترقاق في الحرب، فالذي يحارب المسلمين ويعتدي عليهم يستحقّ القتل، فأولى له أن يُبقى عليه ويُسترقّ، مضافاً إلى أنّ في ذلك مصلحة له وللمجتمع، فإنّه سيبقى بذلك في المجتمع الإسلامي، ويتعلم ويعود عضواً مفيداً في المجتمع البشري. وهناك عدّة من علماء المسلمين في مختلف العلوم هم في الأصل من الرقيق.

ولكنّ هذا الجواب ضعيف للغاية، فمجرّد ترتّب أثر مطلوب عليه لا يبرّره، كما أنّا نجد أنّ الساسة الدهاة ينتهزون الفرص، ويستفيدون من الحروب الطاحنة، والأعمال الإرهابية لمصلحة شخصهم أو مجتمعهم، ولكن ذلك لا يبرّر الحرب والإجرام، ومن المعلوم أنّ الاسترقاق ما كان يختصّ بالسبي في الحروب، والسبي أيضاً ما كان يختصّ بالرجال المحاربين، ومن ذلك مورد الآية الكريمة أي الجواري، فإنّهنّ ما كنّ يشاركن في حرب، بل ربّما كان بعضهنّ مغلوباً على أمرها. ولو خيّرت لاختارت الخروج من المجتمع الذي تعيش فيه،

ص: 134

ولكن لا خيار للضعفاء، خصوصاً في تلك العصور، فما هو المبرّر لاسترقاقهنّ؟ وأغرب من ذلك استرقاق الأطفال، فإنّه أيضاً مجاز في الشريعة، وما ذكر من التعليل العليل لا يشملهم من دون ريب.

وأمّا ما يقال من أن الإسلام عالج المسألة بالحكم بالعتق في الكفّارات وغيرها فهذا أضعف، فإنّا نجد على أرض الواقع أنّ المشكلة ازدادت تفاقماً، واتّسعت دائرة الرقيق يوماً فيوماً، ولم نجد حتّى من أئمّتنا الأطهار علیهم السّلام شجباً واستنكاراً لذلك، بل بالعكس كانوا يشترون الرقيق من سوق المسلمين، ويعاملونهم معاملة الرقيق المسبيّ من دون فرق.

والصحيح في الجواب إجمالاً هو ما نجيب به عن كلّ مناقشة واعتراض على الحكم الشرعي، وهو أنّ الحكم لله تعالى وعلينا السمع والطاعة، سواء علمنا للحكم مصلحة أم لم نعلم. بل حتّى لو علمنا أنّه مخالف للمصلحة، وقد حكم الله على بني إسرائيل بأن يقتلوا أنفسهم ليتوب عليهم بعد عبادتهم العجل. فما هو المصلحة في قتل النفس؟! فلو كان الله يجيز بيع الأولاد أو قتلهم لجاز من دون تردید.

ونحن لم نعلّق إيماننا بالله وبالإسلام والقرآن والرسالة بأنّنا وجدنا أحكام هذه الشريعة موافقة للعقل والمنطق، وإنّما آمنّا بالله بدليل العقل والفطرة، وآمنّا بالرسالة للمعجزات التي أظهرها الله تعالى على يد النبيّ الكريم صلّی الله علیه و آله وأعظمها القرآن الكريم. وما علينا بعد ذلك إلا التسليم والطاعة العمياء.

وكيف يمكن للإنسان أن يعترض على ربّه وخالقه؟! وماذا يمكنه أن يصنع إن لم يسلّم لحكم ربّه ؟! وهل من الممكن أن يقاوم الإنسان قوانين الطبيعة التي

ص: 135

جعلها الله تعالى تكويناً؟! فكما لا يمكنه ذلك لأنه مفروض عليه فرضاً، كذلك ما يحكم به الله تعالى تشريعاً.

وبنظرة واقعية أعمق نتساءل: ما هو الدليل على استنكار الاسترقاق سوى أنّه لا يوافق أذواقنا بعد ما نادت الجوامع البشرية بالحرّية؟! وهل تملّك الحيوان ثمّ ذبحه وأكله، أوفق مع العقل من استرقاق الإنسان؟! حقّاً أنّه لأمر غريب أن يستسيغ الملاحدة والمنكرون للأُلوهية ذبح الحيوانات وأكلها واستخدامها، فهنا يقع نفس السؤال. فإنّ الحيوان أيضاً ذو حياة يسعد بها ويحبّها ويدافع عنها وله علائق في الحياة كالأولاد والبيت، ولعلّ هناك غير ذلك ممّا لا نعلمه من العلائق، فنحن لا نعلم من حياة الحيوان إلا القليل، فما هو المبرّر لحرمانه من كلّ ذلك، لسبب واحد وهو أنّا نريد استخدامها وذبحها وأكلها ونقدر على ذلك؟!

لا أعتقد أن أحداً يمكنه أن يذكر وجهاً مقنعاً إلا أنّ الله تعالى - وهو خالق الكون وله كلّ ما في السماوات والأرض - قد أجاز لنا ذلك وسخّر لنا الحيوان. وهذا المنطق يبرّر الاسترقاق حتّى بالنسبة للأطفال أيضاً.

ويشهد لذلك أنّ البشرية كانت منسجمة مع نظام الاسترقاق طيلة التاريخ البشري، وإنّما كانت ترفض الظلم والقسوة مع العبيد، وهو مرفوض في جميع الشرائع والقوانين. ولست أقصد بذلك تبرير نظام الاستعباد ككلّ، فإنّ هذا النظام بني من أصله على الظلم، ولكن أقول: إنّ تشريع أصل هذا النظام، بشروط وقوانين معقولة، ليس أمراً مستنكراً في حدّ ذاته، ولكنّه كأيّ حكم آخر لا يجوز لأحد تشريعه، وإنّما ذلك الله تعالى، وله الحمد والمجد.

«وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَماتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللآتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ» وهذا

ص: 136

قسم آخر من النساء أحلّ الله تعالى لرسوله صلّی الله علیه و آله الزواج بهنّ، ولا شكّ أنّ المراد ليس الزواج بكلّ هذه النسوة، ولا إبقاء من كان منهنّ في عصمته لما مرّ من ذكرهنّ في الجملة الأولى، فالمراد أنّه يجوز له أن يتزوّج بهنّ ما شاء، بشرط أن يكنّ قد هاجرن معه.

وهذا القيد ربّما يمنع من الزواج بكثير من المذكورات، فإنّهنّ لم يهاجرن معه صلّی الله علیه و آله إلا أن يراد بذلك الهجرة إلى نفس المكان وبنفس الهدف وإن لم يكن في نفس الوقت. وهو غير بعيد.

ونظير ذلك قوله تعالى: «وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ»(1) في عدّة مواضع من القرآن الكريم، فالمعيّة لا يراد بها المعيّة الزمانية، بل وحدة الهدف والطريق، او بمعنى المتابعة.

وقد وقع الكلام في المراد بهن، فقيل إنّهنّ القرشيات، فكلّهنّ بنات عمّه أو عمّاته، ونساء بني زهرة، فإنّهنّ بنات أخواله وخالاته، وذلك للتوسّع في إطلاق هذه العناوين في لغة العرب، ليشمل كلّ المتقرّبات بالأب والأُمّ.

وقيل: إنّها على حقيقتها وإنّه كان له صلّی الله علیه و آله عدّة من الأرحام يمكنه التزوّج بهنّ. ولكنّ الظاهر أنّه لم يتزوّج حتّى بواحدة منهنّ إلا زينب بنت جحش. والظاهر أنّ ذلك أيضاً كان قبل نزول الآية.

وهناك بحث طويل في سرّ إفراد العمّ والخال، والجمع في العمّة والخالة. و أفضل ما قيل فيه: إنّ ابن العمّ وابن الخال اسم جنس في لغة العرب، فيطلق على كلّ قريب من جهة الأب وأمّا ابن العمّة والخالة فلا يطلق إلا على ابن

ص: 137


1- البقرة (2): 214 و 249؛ التوبة (9): 88؛ هود (11): 58

عمّة بعينها، وخالة بعينها.

«وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أنْ يَسْتَنكِحَهَا» قسم آخر من الزواج أحلّه الله تعالى لرسوله خاصّة، وهو أن تهب المرأة نفسها له، فإذا أراد النبيّ أن يستنكحها، جاز له ذلك. وهذا أيضاً ممّا لم يعمل به الرسول صلّی الله علیه و آله، وإن نُقل في الأحاديث أنّ امرأة وهبت نفسها للنبيّ صلّی الله علیه و آله فلم يتزوّجها، وتزوّجها عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وهي خولة بنت حكيم.

وقد روى البخاري في باب «تُرْجِى مَن تَشَاءُ» عن عائشة قالت: كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللاتي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لرَسُول الله صلّی الله علیه و آله وَأقُولُ أَتَهَبُ المَرْأةُ نَفْسَهَا، فَلَمَّا أَنْزَلَ الله تَعَالَى: «تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُئوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ» قُلْتُ مَا أرَى رَبَّكَ إِلا يُسَارِعُ في هَوَاكَ. (1)

ورواه في موضع آخر (2)، عن هشام عن أبيه قال: كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهنّ للنبيّ فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلمّا نزلت «تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ» قلت يا رسول الله ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك. ورواهما مسلم وغيرهما من أصحاب الصحاح والمسانيد(3) وقد صحّح الألباني الحديث. وفي «مجمع البيان» أنّ الرسول صلّى الله عليه و آله قال لها بعد ذلك: «إنّك إن أطعت الله سارع في هواك».(4)

ولو لم ينقل الحديث في الصحاح لكان مرفوضاً، لأنّ التعبير المنقول لا

ص: 138


1- صحيح البخاري 6: 24
2- نفس المصدر : 128
3- راجع مسند أحمد 6: 261؛ فتح الباري 8: 405
4- مجمع البيان 8: 171

يناسب من يؤمن بالرسول صلّی الله علیه و آله، بل إنّ كلمة «ربّك» بدلاً عن التعبير باسم الجلالة لا تناسب الإيمان بالله أيضاً، ثمّ إنّ قولها للمرأة: «أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل» يحكي عن أنّها لم تفرّق بين الرسول صلّی الله علیه و آله وغيره من الرجال، إذ من الواضح أنّ المرأة المذكورة لإيمانها بالرسول صلّی الله علیه و آله وهبت نفسها له، لا لأنّه رجل.

«خَالِصَةٌ لَكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ» اعتبر بعض المفسّرين هذا القيد قيداً للحكم الأخير فقط، أي هبة المرأة نفسها له، ولكنّ الظاهر أنّه قيد لكل ما ورد قبله، فإنّها كلّها خاصة به صلّی الله علیه و آله. ولذلك عقّبه بقوله تعالى: «قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ»، فالمعنى أنّ هذه الأحكام خالصة لك، وللمؤمنين أحكام أُخرى في الزواج وملك اليمين.

والذي يتحصلّ من الآية تحليل الزواج له صلّی الله علیه و آله بأيّ عدد شاء، ومن أيّ نوع من النساء إلا ما حرّمه الله تعالى على الجميع بقوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ»(1) ولكن كلّ ذلك بالشروط العامّة والخاصّة، فهناك شروط في أصل الزواج كعدم كونها في عصمة الغير، وهناك شروط خاصّة للنبيّ صلّی الله علیه و آله وذلك في غیر زوجاته اللاتي كنّ على عصمته وقت نزول الآية.

ولا يصحّ ما قيل ونسب إلى ابن عبّاس من أنّه حرّم عليه الزواج بغير المهاجرات، لأنّ قوله تعالى: «وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إِن وَهَبَتْ»، يشمل كلّ المؤمنات. ولكن اشترط في غير المذكورات قبل ذلك، أن تكون المرأة هي التي تظهر رغبتها في الزواج وأن لا يكون بطلب المهر. وهذا شرط خاصّ في زواجه صلّی الله علیه و آله بغير المهاجرات من أقاربه.

ص: 139


1- النساء (4): 23

والحاصل: أنّ هذه الآية تفتح المجال أمام الرسول صلّى الله عليه و آله في أمر الزواج لمصلحة سياسية، وتحدّده أيضاً في نفس الوقت لمصلحة أُخرى سنشير إليها. وهذا التعميم في التحليل هو المستفاد من روايات أهل البيت علیهم السّلام. وسيأتي ذكرها وبعض الكلام حولها إن شاء الله تعالى، ونسأله التوفيق.

«لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً» أي أنّ هذه الأحكام الخاصّة إنّما شرّعت لك، لئلا يكون عليك حرج فيما تريده من أمر الزواج. وأمّا التعقيب بالغفران والرحمة، فالظاهر أنّه بلحاظ أصل الترخيص، كما ورد ذلك في عدّة موارد، وليس بمعنى غفران الذنب، فإنّ التحليل والترخيص ينشأ من الغفران والرحمة. أمّا «الرحمة» فواضح، وأمّا «الغفران» أي الستر باعتبار أنّه تعالى في مقام التشريع لا يلاحظ ما يقتضي التشديد وفرض الأحكام الإلزامية، فهو أيضاً نوع من الستر والغفران.

وقد تشبّث أعداء الرسول صلّى الله عليه و آله بكثرة أزواجه، وبهذه الأحكام التي خصّه الله تعالى بها للوقيعة في كرامته واتّهامه بما لا يليق، مع أنّ من الواضح أنّه كان أبعد ما يكون عن متابعة الشهوات، فقد بقي إلى سنّ الخامسة والعشرين لم يتزوّج، مع سهولة الزواج في ذلك العصر، وكونه في غاية العزّ لدى العشيرة وفي قريش بأكمله، ولم يسمع أحد منه بزلّة طيلة شبابه، وإلا لأوصموه بها بعد ما كان يقبّح عاداتهم وسننهم، بل يحتقر آلهتهم.

ثم إنّه تزوّج وهو في عنفوان شبابه بامرأة تكبره بخمسة عشر عاماً، وهي السيّدة خديجة - سلام الله عليها -، وبقيت زوجته الوحيدة إلى أن توفّيت ولم يتزوّج بعدها إلى أن انتقل إلى المدينة، فتزوجّ كلّ أزواجه هناك، وبقي إلى آخر

ص: 140

العمر يذكر خديجة ويتأسّف عليها، ممّا أثار حفيظة عائشة وقد روت بنفسها ذلك على ما في كتب أحاديث العامّة. ونحن ننقل عن مسند أحمد، فقد روي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه و آله إِذَا ذَكَرَ خَديجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ التَّنَاء، قَالَتْ ماً فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشَّدْقَ قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بها خَيْراً مِنْهَا قَالَ: «مَا أَبْدَلَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَني النَّاسُ وَوَاسَتْني بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ»(1) وروي بوجوه أُخر. (2) ويلاحظ أيضاً أنّ كلّ نسائه صلّى الله عليه و آله ثيّبات إلا عائشة.

وكلّ هذه المناكح إنّما حدثت بعد أن تجاوز الثالثة والخمسين، فهل يمكن أن ينسب ذلك إلى اتّباع الشهوات؟! والذي ثبت تاريخياً أنّه صلّى الله عليه و آله كان يتزوّج النساء من قبائل مختلفة، ليحقّق المصاهرة بينه وبين قبائل العرب، وكانت العرب - ولا زالت - تهتمّ بهذا الأمر، وتدافع عن أصهارها. وكانت المصاهرة الطريق السهل لسدّ باب الحرب بين القبيلتين، بل كانوا يرغمون قبيلة القاتل أن يزوّجوا فتاتهم لرجل من قبيلة المقتول لحقن الدماء. والحاصل: أنّ المصاهرة كانت وسيلة للتحابّ والتوادد وكانت سياسة الرسول صلّى الله عليه و آله قائمة على ذلك.

وقد رووا أنّ هناك موارد خطب فيهم الرسول صلّى الله عليه و آله، وأرجأ الأمر، فكانوا يكتفون بذلك يتباهون به في المجتمع العربي. وربّما كان بعض مناكحه لوجوه أُخرى، كزواجه بزينب، على ما مرّ ذكره. وذكر وجوه أُخرى في سائر الموارد. كلّ ذلك يبيّن الأمر بوضوح، ويعلم وجه الحكمة في هذا التشريع، وأنّ الله تعالى

ص: 141


1- مسند أحمد 6: 118
2- راجع: مجمع الزوائد للهيثمي 9: 224

لأيّ سبب، سهّل أمر الزواج على الرسول صلّى الله عليه و آله، ورفع الحرج عنه، والحمد لله على التوفيق.

هذا: ويصحّ أن نعتبر الآية بوجه محدّداً لمناكح الرسول صلّى الله عليه و آله، أو هكذا يبدو لأوّل نظرة. ولعلّ الوجه في ذلك أنّه صلّى الله عليه و آله كان يقع في حرج في مواجهة توقّعات الناس في أن يتزوّج منهم ، فحدّد الله مناكحه ليكون له العذر في ردّ من يتقدّم إليه بهذا الطلب.

وبهذا يتبيّن السرّ في اهتمام الوحي بهذه المسألة التي ربّما يعد الاهتمام به غريباً بالنظر إلى شخصية الرسول صلّى الله عليه و آله وعظمة الرسالة الإلهية. ويتبيّن أنّ مسألة مناكح النبيّ صلّى الله عليه و آله كانت موضع اهتمام العرب آنذاك، وأنّها كانت تحرج الرسول صلّى الله عليه و آله والله العالم.

«تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُنوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ»، «الإرجاء» هو التأخير، و«الإيواء» هو الإسكان، وهو كناية عن القبول والضمّ. وقد وقع الكلام في أنّ هذه الجملة هل تعود إلى أزواجه صلّى الله عليه و آله، أو إلى خصوص المذكورات في آخر الآية السابقة، أي اللاتي وهبن أنفسهنّ، أو إلى كلّ الأصناف المذكورة، فيجوز له قبول من أرادها وردّ من لم يردها، ثمّ هو بالخيار بعد ذلك أيضاً في قبول من ردّها.

وبناءً على الأوّل، فالمراد بیان حکم خاصّ به صلّى الله عليه و آله أيضاً ، وهو أنّ حقّ القسم بین النساء في البيتوتة، لا يحدّد حياته الزوجية، فله أن يقدّم من يشاء ويؤخّر من يشاء منهنّ. والنتيجة أنّه كان بإمكانه أن يتزوّج ويترك زوجته لا يقسم لها شيئاً من لياليه، وكان بإمكانه أن يعود إليها إن أراد.

ولم يذكر في التاريخ أنّه ترك بعضهنّ كذلك، بل كان صلّى الله عليه و آله مثلاً في العدل

ص: 142

بينهنّ، كما هو مثل في كلّ الأخلاق السامية. فلعلّ هذا الحكم أيضاً له سرّ يرتبط بما ذكرناه آنفاً من تحرّج الرسول صلّى الله عليه و آله في ردّ بعض التوقّعات، وذلك لأنّ جعل النبيّ صلّى الله عليه و آله بالخيار في ذلك، يقلّل من رغبة النساء في المناكحة.

ومهما كان، فهذا الحكم أيضاً من خصائصه صلّى الله عليه و آله، فلا حرج عليه أن لا يقسم بین نسائه، بل يترك بعضهنّ نهائياً وله أن يعود إليها متى شاء.

وهذا المعنى وإن كان هو الأنسب بسياق الآية، إلا أنّ المصرّح به في صحيحة الحلبي الآتية أنّ «من آوى فقد نكح ومن أرجأ فلم ينكح»(1) وهو ينطبق على أحد الاحتمالين الآخرين. فالواهبة نفسها يمكن أن يؤخّر الرسول صلّى الله عليه و آله قبولها أو ردّها، فعليها الانتظار، وكذا سائر الأصناف إذا أظهر الرسول صلّى الله عليه و آله تمايله للزواج، وقد روي أنّه إذا خطب وجب الانتظار. وسيأتي توجيه ما ينافي هذا الاحتمال في الجمل التالية.

«وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ»، «الجناح»: الإثم، وأصله الميل والانحراف. وبناءً على الاحتمال الأوّل، فالمراد - كما مرّ - جواز الإيواء بعد الإرجاء، أي ومن قصدت الرجوع إليها في القسم بعد أن تركتها فلا إثم عليك، فيكون العزل بمعنى الإرجاء وهو بعيد. وهذا ممّا يبعّد هذا الاحتمال.

وأمّا بناءً على الاحتمالين الآخرين، فلا يجب أن تكون هذه الجملة مرتبطة بالإيواء والإرجاء، بل يحتمل أن يكون مورد هذه الجملة هو القسم، فيكون العزل بمعناه الحقيقي، وتفيد الجملة حينئذٍ جواز العزل في القسم ثمّ العود. والنتيجة أنّ الجملة السابقة تبيّن حكم جواز التأخير والقبول في عرض الزواج

ص: 143


1- الكافي 5: 1/388

عليه صلّی الله علیه و آله، وهذه الجملة تبيّن حكماً آخر، وهو جواز عزل بعض الزوجات في القسم ثمّ العود إليها.

«ذَلِكَ أدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنَهُنَّ وَلا تَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ». الظاهر أنّه إشارة إلى خصوص الحكم الأخير، وهو جواز الابتغاء بعد الاعتزال، وبذلك يكون ترتّب الرضا وعدم الحزن واضحاً، فمن لم تعزل راضية من البدو، ومن عزلت ثمّ ابتغيت ترضى بعد ذلك.

وأمّا على ما ذكروه من كونه إشارة إلى كلّ ما سبقه، بناءً على أنّ الإرجاء بمعنى العزل، فيحتاج إلى تأويل، لأنّ التي ترجأ لا ترضى بل تحزن فقالوا: إنّها إذا علمت أنّ ذلك حكم عامّ لجميع زوجات الرسول صلّی الله علیه و آله، أو أنّه من الله تعالى فسترضی .

وضعف ذلك واضح، فإنّ الرضا بقضاء الله لا ينافي الحزن، كما أنّ التعبير بقرّة العين لمجرّد ذلك بعيد جدّاً.

«وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً» إشارة إلى أنّ أحكامه تعالى إنّما يلاحظ فيها - مضافاً إلى المصالح العامّة - ما تتطلّبه الجهات النفسية، وما ينطوي عليه القلوب من حبّ وبغض وتوادّ وتحاسد وغيرة ونحو ذلك، والله يعلم ما يصلح شؤونكم، وهو حليم لا يستعجل بلوغ المقاصد. وهذه نقطة مهمّة، فإنّ كلّ مشرّع غيره تعالى، حتّى لو علم بالمصالح وبما يحقّقها، إلا أنّ استعجاله في بلوغ المآرب، يجعله يشرّع قانوناً يفيد من جهة ويضرّ من جهات، ولذلك وبعد التجربة يضطرّ إلى إلغائه. ولكنّ الله تعالى لحلمه وعدم استعجاله في تحقّق الأهداف، يشرّع قانوناً يضمن الوصول إليها دون إضرار.

ص: 144

«لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ» المعروف في تفسير الآية أنّ الله تعالى حرّم على رسوله أن يتزوّج امرأة غير ما عنده من النساء حين نزول الآية أي التسع. ولكي لا يُتوهّم أنّ مراعاة العدد أي التسع هو المقصود، صرّح بحرمة التبديل، بأن يترك واحدة ويتزوّج غيرها. وعليه فالمراد بقوله: «مِن بَعْدُ» أي بعد نزول هذه الأحكام.

ولكنّ هذا التفسير بالرغم من كونه هو الظاهر بدواً، إلا أنّه ينافي بوضوح قوله تعالى: «إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ» إذ لا يبقى للتحليل مورد أصلاً، ولا يمكن القول بالنسخ لوضوح تعاقب الآيات، ولم يقل بهذا النسخ أحد.

وكنت أتبّنى هذا التفسير سابقاً وأصرّ عليه، ولكن هناك روايات من أئمّة أهل البيت علیهم السّلام تصرّ على عدم صحّته، وأنّ الله لم يحرّم على رسوله ما أحلّه على غيره. ومن الغريب أنّ بعض مفسّري الشيعة أيضاً حاولوا التهرّب من الرضوخ لمفاد هذه الروايات بحجّة أنّها مخالفة للكتاب، وإن كان بعضها صحيحة سنداً.

وقد راجعتها، وتأمّلتها بدقّة، وتأثّرت عميقاً بمضامينها العالية، وتوقّفت كيف أجمع بينها وبين الآية الكريمة، إلى أن هداني الله تعالى حيث أصررت على أن لا أُفرّق بين الكتاب والعترة الطاهرة، والحمد الله، وهو الهادي.

وأنقل هنا نصّ الأحاديث الشريفة تباعاً وتماماً، تيمّناً وتبرّكاً:

1 - روى الكليني في «الكافي» عن علي بن إبراهيم عن أبيه ومحمّد بن يحيی، عن أحمد بن محمّد جميعاً، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي، عن أبى عبد الله علیه السّلام قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ» قلت: كم أحلّ له من النساء؟ قال: «ما شاء من شيء». قلت: قوله: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ

ص: 145

مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِ» فقال: «لرسول الله صلّی الله علیه و آله أن ينكح ما شاء من بنات عمّه وبنات عمّاته وبنات خاله وبنات خالاته، وأزواجه اللاتي هاجرن معه، وأحلّ له أن ينكح من عرض المؤمنين بغير مهر ، وهي الهبة، ولا تحلّ الهبة إلا لرسول الله صلّی الله علیه و آله، فأمّا لغير رسول الله صلّی الله علیه و آله فلا يصلح نكاح إلا بمهر. وذلك معنى قوله تعالى: «وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ»». قلت: أرأيت قوله: «تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُئْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ»؟ قال: «من آوى فقد نكح، ومن أرجاً فلم ينكح». قلت: قوله: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ»؟ قال: «إنّما عنى به النساء اللاتي حرّم عليه في هذه الآية: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ...» إلى آخر الآية. ولو كان الأمر كما يقولون كان قد أحلّ لكم ما لم يحلّ له، إنّ أحدكم يستبدل كلّما أراد، ولكن ليس الأمر كما يقولون، إنّ الله عزّ وجلّ أحلّ لنبيّه صلّی الله علیه و آله ما أراد من النساء إلا ما حرّم عليه في هذه الآية التي في النساء».(1)

2- وروى أيضاً عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد، عن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله علیه السّلام عن قول الله عزّ وجلّ: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ»، فقال: «أراكم وأنتم تزعمون أنّه يحلّ لكم ما لم يحلّ لرسول الله صلّی الله علیه و آله، وقد أحلّ الله تعالى لرسوله أن يتزوّج من النساء ما شاء، إنّما قال: لا يحلّ لك النساء من بعد الذي حرّم عليك قوله: «حُرُمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ»».(2)

3 - وروى أيضاً عن الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن الحسن بن علي الوشّاء، عن جميل بن درّاج و محمّد بن حمران، عن أبي عبد الله علیه السّلام قالا:

ص: 146


1- الكافى 5: 387/1
2- نفس المصدر : 2/388

سألنا أبا عبدالله علیه السّلام كم أحلّ لرسول الله صلّى الله عليه و آله من النساء؟ قال: «ما شاء - يقول بيده هكذا - وهي له حلال - يعني يقبض يده-».(1)

4- وروى أيضاً عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نجران، عن عبدالكريم بن عمرو، عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي جعفر علیه السّلام في قول الله عزّ وجلّ لنبيّه «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ» كم أحل له من النساء؟ قال: «ما شاء من شيء». قلت: قوله عزّ وجلّ: «وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ». فقال: «لا تحلّ الهبة إلا لرسول الله صلّى الله عليه و آله وأمّا لغير رسول الله فلا يصلح نكاح إلا بمهر»، قلت: أرأيت قول الله عزّ وجل: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ»، فقال: «إنّما عنى به لا يحلّ لك النساء التي حرّم الله في هذه الآية: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَاخَوَاتُكُمْ وَعَماتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ...» ولو كان الأمر كما تقولون كان قد أحلّ لكم ما لم يحلّ له، لأنّ أحدكم يستبدل كلّما أراد، ولكن ليس الأمر كما يقولون، إنّ الله عزّ وجلّ أحلّ لنبيّه صلّى الله عليه و آله أن ينكح من النساء ما أراد، إلا ما حرّم عليه في هذه الآية في سورة النساء». (2)

5 - وروى أيضاً عن أحمد بن محمّد العاصمي، عن علي بن الحسن بن فضّال، عن علي بن أسباط، عن عمّه يعقوب بن سالم، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: قلت له: أرأيت قول الله عزّ وجلّ: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ...»؟ فقال: «إنّما لم يحلّ له النساء التي حرّم الله عليه في هذه الآية: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وبَنَاتُكُمْ...» في هذه الآية كلّها، ولو كان الأمر كما يقولون لكان قد أحلّ لكم ما لم يحلّ له هو، لأنّ أحدكم يستبدل كلّما أراد، ولكن ليس الأمر كما يقولون. أحاديث آل محمّد صلّى الله عليه و آله خلاف

ص: 147


1- نفس المصدر : 3/389
2- نفس المصدر: 4/389

أحاديث الناس، إنّ الله عزّ وجلّ أحل لنبيّه صلّى الله عليه و آله أن ينكح من النساء ما أراد، إلا ما حرّم عليه في سورة النساء في هذه الآية».(1)

والصحيح سنداً من هذه الأحاديث هو الأوّل فقط، وهو أهمّها متناً أيضاً، لاشتماله على نقاط مهمّة في تفسير هذه الآيات الكريمة، ورفع الإبهام عنها، فنكتفي بملاحظتها:

1- في الجواب عن السؤال الأوّل بيّن الإمام علیه السّلام أنّ المراد بالعنوان الأوّل في الآية الكريمة ليس هو خصوص الأزواج اللاتي كنّ في عصمته صلّى الله عليه و آله حين نزول الآية، بل المراد جواز زواجه بأيّ عدد شاء من النساء.

2 - وفي الجواب عن السؤال الثاني بيّن علیه السّلام أنّ ذكر بنات العمّ والخال ليس إلا من قبيل ذكر الخاصّ قبل العامّ، لأنّه أحلّ له أيّ امرأة من عرض المؤمنين إذا وهبت نفسها له صلّى الله عليه و آله بشرط أن يرغب فيها، والهبة بمعنى أنّها لا تطلب منه مهراً.

وهذا من خصوصياته صلّى الله عليه و آله، فليس هناك تقييد في نوع النساء اللاتي يمكن للرسول الله صلّى الله عليه و آله الزواج بهنّ، ولكن إذا كانت من غير بنات العمّ والخال يشترط فيها أن تهب نفسها له، ولا تطالب مهراً.

3- وفي الجواب عن السؤال الثالث تعرّض الإمام علیه السّلام لمعنى الإرجاء والإيواء، وأنّ المراد بالأوّل رفضه النكاح، وبالثاني قبوله، ولذلك قويّنا احتمال أن لا تكون هذه الجملة مرتبطة بالقسم بين النساء كما يبدو.

4- وأمّا في الجواب عن السؤال الرابع حيث عيّن الإمام علیه السّلام ما حرّمه الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه و آله في المحارم الأصلية، فالظاهر أنه علیه السّلام يريد بذلك أنّه بعد أن تبيّن

ص: 148


1- نفس المصدر: 8/391

أنّ ما أحلّه الله تعالى عليه يشمل جميع المؤمنات، وإن كان هناك شروط عامّة وخاصّة، ولم يحدّد له صلّى الله عليه و آله عدداً، فلا يبقى تحت العنوان المحرّم إلا المحارم.

والحاصل: أنّ الأحاديث الشريفة المذكورة تؤكّد وتركّز بكلّ حماس على أمرين: أحدهما: عدم حصر العدد في تسع فضلاً عن انحصار الزواج في تلك الزوجات اللاتي كنّ على ذمّته صلّى الله عليه و آله حين نزول الآية، كما هو المعروف.

والثاني: أنّه ليس هناك عنوان محرّم على الرسول صلّى الله عليه و آله خاصّة ومحلّل على غيره، وإن كان هناك شرط في زواجه بغير بنات العمّ والخال، كما أنّ الزواج بهنّ أيضاً يشترط فيه الهجرة، ولعلّه بذلك تخرج منهنّ من بقيت في مكّة إلى زمان الفتح.

فمعنى الآية الكريمة على ضوء الأحاديث الشريفة أنّه لا يحلّ لك النساء بعد ما أحللنا لك في الآية السابقة، إلا ضمن الشروط المذكورة هناك، من دون تحديد بعدد ولا بعناوين خاصّة، كما لا يحلّ لك أن تطلّق ما تزوّجت من هذه الأصناف بشروطها، لتتزوّج بغيرها، من دون منع عن أصل الطلاق، ولا عن أصل الزواج بالغير ضمن الشروط.

وقوله تعالى: «وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ» يؤكّد هذا المنع. و«لو» هنا شرطية وجزاؤه محذوف، أي لو أعجبك حسنهنّ لا يجوز أيضاً، ويفيد التأكيد على المضمون السابق.

وربّما يستشكل على هذه الأحاديث بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ تحريم هذه النساء معلوم مسبقاً، فلا موجب لتكراره .

والجواب أوّلاً: أنّ التكرار ليس بعزيز في القرآن الكريم.

ص: 149

وثانياً: أنّه حسب التوجيه الذي أشرنا إليه ليس المراد تفسير كلمة النساء الواردة في الآية بذلك، بل المراد أنّه لا يبقى تحت العنوان المحرّم غير المذكورات. ولعلّ هناك قصد في الإبهام وإيهام التحريم، كما أشرنا إليه ليكون وازعاً من كثرة التوقّعات المحرجة للنبيّ الحبيب صلّى الله عليه و آله .

الوجه الثاني: أنّ هذا التفسير ينافي قوله تعالى: «وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِ» لأنّ التبديل إنّما يتصوّر في الزوجات بالفعل، بأن يطلّق إحداهنّ ويستبدلها بغيرها. وأمّا النساء اللاتي يجوز له الزواج بهنّ فلا معنى للتبديل في حقّهنّ.

والجواب: أنّ هذا الإشكال يرد أيضاً في تفسير الآية بأنّ المراد النساء المحللات في قوله تعالى: «إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ» وهو المنقول عن كثير من السابقين، بل مرجع القولين واحد، وإنّما الاختلاف في تفسير الموارد المحلّلة في تلك الآية. وتبيّن أنّ ما ورد في الحديث الشريف هو الصحيح الموافق للتأمّل في الآية الكريمة.

والحلّ أنّ المراد بالتبديل تطليق من تزوّج بها من المذكورات في آية التحليل بقصد الزواج بغيرها، فلا يختصّ الحكم بالزوجات بالفعل.

وأمّا ما قيل في التوجيه: من أنّ التبديل كناية عن أصل التطليق، لأنّ المتعارف أنّ الرجل يطلّق ليتزوّج بغيرها فلا وجه له، ولا موجب لتكلّف هذه الكناية، مع أنّ ما ذكر من التعارف ممنوع، خصوصاً في من تعدّدت زوجاته، مضافاً إلى أنّ تحريم الطلاق على الرسول صلّى الله عليه و آله بوجه مطلق موجب لأشدّ الحرج، وهو بعيد جدّاً.

الوجه الثالث: أنّ استثناء ملك اليمين ينافي ذلك، إذ لا يستقيم الاستثناء إلا إذا

ص: 150

قلنا بعدم جواز الزواج بغير التسع مطلقاً، ولا تبديل بعضهنّ بغيرهنّ إلا ملك اليمين فلا محدودية فيه. وأمّا إذا قلنا بأنّه لا محدودية على زواجه صلّى الله عليه و آله إلا في المحرّمات الأصلية العامّة، فمعنى الاستثناء أنّه يجوز له النكاح مع المحارم - والعياذ بالله - بملك اليمين. وهو باطل قطعاً.

وهذا الإشكال لا يرد على من فسّر الآية بغير من أحلّ الله في الآية السابقة، لأنّه يبقى على هذا التفسير موارد يمنع من النكاح فيها إلا بملك اليمين.

ولعلّ هذا الإشكال أقوى ما يمكن أن يورد على الأحاديث، ولكنّك إذا لاحظت تفسيرنا للأحاديث المذكورة تبيّن لك ضعفه أيضاً، فإنّ مفادها ليس إلا منع التحديد بالعدد فضلاً عن خصوص التسعة المذكورة، ومنع تحريم عناوين خاصّة عليه صلّى الله عليه و آله، وإن كانت هناك محدودية من حيث الشروط، وهذه المحدودية لا تشمل ملك اليمين. بل الواقع أنّ استثناء ملك اليمين استثناء منقطع، لأنّه ليس من الزواج، فلا يفيد إلا التأكيد على التقيّد بالشروط المذكورة في الزوجات.

«وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً» لعلّ التعقيب بالرقابة الإلهية لإفادة أمرين:

أحدهما: التأكيد على الأحكام المذكورة ولزوم العمل بها وتقوى الله فيها.

والثاني: التنبيه على أن الأحكام إنّما تنشأ بملاحظة جميع الجهات الدخيلة في المصالح والمفاسد، فإنّ الله تعالى يراقب كلّ الأُمور الدخيلة في الحكم.

ص: 151

سورة الأحزاب (53-53)

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)»

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلا أن يُؤذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا» الآية تنبّه المجتمع الإسلامي آنذاك ببعض الآداب الاجتماعية التي كانت غريبة على المجتمع العربي البدوي، فإنّهم ما كانوا يستأذنون على من يدخلون بيته، ولا يهتمّون بشؤون صاحب البيت، حيث إنّه ربّما كان يثقل عليه بقاؤهم في داره بلا داع يدعو إليه، كما أنّهم كانوا لا يتورّعون من الاختلاط بنساء صاحب البيت، وكانوا يتعاملون بنفس الطريقة مع الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله، وكان يستحيي من مصارحتهم بتأذيه من ذلك، وإنّما كان يكتفي بتعليمهم الآداب عملياً، فيستأذن للدخول على أيّ أحد حتّى على ابنته، ومع ذلك فإنّهم لم يتأدّبوا، وربّما كانوا يحسبون أنّ بيت الرسول الله صلّی الله علیه و آله يعد بيت جميع المسلمين، فلا مانع من الدخول بدون استئذان، ولا من الجلوس هناك

ص: 152

قبل نضج الطعام بانتظار بلوغه النضج، ولا من الجلوس بعده للحديث.

وكان ذلك يؤذي النبيّ صلّی الله علیه و آله فيستحيي من مصارحتهم، فأنزل الله المنع عن ذلك، والآداب المذكورة في هذه الآية الكريمة عامّة ظاهراً، وإن كان موردها الرسول صلّی الله علیه و آله.

كما أنزل آية الاستئذان للعموم أيضاً، فقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَانِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُواْ فَارْجِعُوا هُوَ ازْكَى لَكُمْ»(1).

وقوله: «إِلَى طَعَامٍ» متعلّق بقوله: «يُؤذَنَ»، والإذن يتعدّى ب_«في» وإنّما تعدّى هنا ب_«إلى» بتضمين معنى الدعوة، أي لا تدخلوا بيوت النبيّ صلّی الله علیه و آله حتّى تدعون إلى الطعام، ويؤذن لكم في الدخول أيضاً. وقوله: «غَيْرَ نَاظِرِينَ» حال من «لا تَدْخُلُواْ» أي لا تدخلوا إلا حين يؤذن لكم، وحال كونكم غير ناظرین بمعنی منتظرين و «إنَاهُ» بمعنى النضج والبلوغ. فالآية الكريمة تمنع جلوسهم قبل وقت الطعام بانتظار نضجه.

ثمّ أكّده بقوله: «وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا». ومعنى «طَعِمْتُمْ» أي تناولتم الطعام، والمراد بالانتشار الخروج من البيت، وإنّما عبّر به تأدّباً، لأنّ الأمر بالخروج لا يناسب الكرماء، وحيث إنّ الخروج مقدّمة للانتشار بمعنى ذهاب كلّ أحد إلى سبيله، کنی به عن الخروج.

«وَلا مُسْتَأْنِسِينَ حَدِيثٍ» عطف على ناظرين، أي لا تدخلوا مستأنسين لحديث.

ص: 153


1- النور (24): 27 - 28

ويمكن أن يكون العامل فيه فعل مقدّر أي: ولا تمكثوا مستأنسين لحديث، لأنّ بعضهم - على ما ورد في بعض الروايات - كان يجلس في البيت بعد تناول الطعام. ومثل ذلك هو ما يطلق عليه الثقل ويطلق على من تعوده الثقيل. وقد كتب الأُدباء قديماً مقالات وكتباً عن الثقلاء. وحكي عن بعضهم أنّه قال حسبك في الثقلاء أنّ الوحي أيضاً لم يتحمّلهم.

«إِنْ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْیى مِنَ الحَقِّ»، «الأذى» هو الضرر ، فمعنى الآية أن عملهم ذلك كان يضرّ به صلّی الله علیه و آله إمّا في علاقاته الاجتماعية، أو علاقاته الخاصّة في البيت، أو في شؤون نبوّته، ولكنّه صلّی الله علیه و آله لدمائة أخلاقه ولين جانبه كان يستحيي من إظهار التذمّر منهم، فضلاً عن الأمر بالخروج. ومعنى ذلك أنّ ما كانوا يرتكبونه كان محرّماً شرعاً وفي غاية القبح والحرمة، لأنّ فيه ايذاءً للرسول صلّی الله علیه و آله، مع أنّ إيذاء كلّ مسلم حرام، ولكنّه صلّی الله علیه و آله كان يعفو عنهم، وكان ذلك من حقّه، فلا يترتّب عليه معصية، ولا يجب عليه صلّی الله علیه و آله النهي عنه.

ومن هنا يتبيّن أنّه ليس في قوله تعالى: «وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ» تعريض بالرسول صلّی الله علیه و آله، وأنّه لا ينبغي أن يستحيي من الحقّ - كما توهّم - فإنّه صلّی الله علیه و آله إنّما كان يستحيي فيما يعود إليه، ويحقّ له العفو عنه، ولا يمتنع من القول في غير ذلك، كما هو معروف عنه.

و «الاستحياء» انقباض في النفس من العمل بما لا يليق بالإنسان، ويقابله الوقاحة وعدم الاكتراث بما يهدر كرامة الإنسان أمام غيره. وهذا المعنى مستحيل على الله تعالى، فإسناد ذلك إليه من باب المشاكلة، أو بنحو من التوسّع. ومعناه أنّه تعالى لا يتأبّى من بيان الحقّ وإن صعب على الناس سماعه. ومن

ص: 154

الواضح أنّه تعالى لا يتأثّر بشيء، ولا يمنع من إرادته شيء، ولا يخاف شيئاً. فقوله تعالى: «لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ» يقصد به التأكيد على أنّ هذا الأمر حقّ تجب متابعته، وليس معناه أنّه تعالى يستحيي من قول الباطل، بل يستحيل عليه أن يقول إلا الحقّ، كما قال تعالى: «وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ»(1) لأنّ الباطل لا يقوله إلا الضعيف أو الجاهل.

«وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْتَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ». منع الناس من استعارة متاع من بيوت النبي صلّی الله علیه و آله إلا من وراء حجاب أي ستار. والضمير يعود إلى زوجات النبي صلّی الله علیه و آله وإن لم يسبق ذكرهنّ ، لدلالة كلمة البيوت، فإنها تكنّى بها عن النساء ربّات البيوت. والمتاع كلّ ما ينتفع به انتفاعاً طويل الأمد، فلا يطلق على ما لا يفيد إلا في مدّة قصيرة، فمن ذلك ما ينتفع به في البيت من الأواني والفرش ونحوها.

«ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» المراد بالطهارة عفّة النفس. والقلوب تتمايل نحو الشهوات بطبيعتها، فلا بدّ من إبعاد كلّ ما يهيّج الشهوة في غير الحلال، إذا اقتضى الأمر تحرّي ما هو الأطهر للنفوس. ويتبيّن من الآية - على الأقلّ – رجحان ترك الاختلاط حتّى مع الحجاب، فإنّ المراد بالحجاب هنا هو الستار، لا الملابس المحتشمة لمكان قوله: «مِن وَرَاءِ».

وإنّما قلنا بالرجحان، لاحتمال اختصاص الحكم بزوجات الرسول صلّى الله عليه و آله تحفّظاً على كرامتهنّ، ومكانتهنّ في بيت النبوّة، ولقوله تعالى: «ذَلِكُمْ أَطْهَرُ»، الظاهر في أنهّ أبعد من احتمال النظر المحرّم والريبة، ولا شكّ في عدم وجوب تحرّي ما هو

ص: 155


1- الأحزاب (33): 4

أبعد في ذلك، وإنّما يجب اجتناب ما ينافي أصل الطهارة من الدنس.

«وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلا أَن تَنكِحُوا ازْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً». قلنا: إنّ الأذى هو الإضرار بالشخص في نفسه أو عرضه أو من يتعلّق به. ولا شكّ أنّ إيذاء الرسول صلّى الله عليه و آله من أقبح المعاصي وأكبرها، قال تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(1) ولذلك لم يمنعه بصورة النهي، بل بالنفي «وَمَا كَانَ لَكُمْ»، ليدلّ على أنّ هذا الأمر ينافي الإيمان بالرسالة، ومن هنا عبّر عنه صلّی الله علیه و آله بالرسول، بخلاف الموارد السابقة حيث عبّر عنه بالنبيّ.

وهناك فرق بين العنوانين، فالرسول وإن كان أخصّ مصداقاً ومفهوماً، فكلّ رسول نبيّ، وليس كلّ نبيّ رسولاً، والنبيّ مأخوذ من النبأ، وأصله النبيء، أي من يخبره الله تعالى عن الغيب، والرسول من أرسله الله تعالى ليكون رابطاً بينه وبين الناس. فلعلّ التعبير عنه صلّی الله علیه و آله في هذه الجملة بالرسول، للإشارة إلى وجه الاستقباح في إيذائه فإنّ كونه صلّی الله علیه و آله وسيطاً بينهم وبين ربّهم جهة خاصّة بهم يستوجب إكرامه وإعظامه.

ولكنّ الظاهر: أنّ المراد بالإيذاء هنا إيذاء خاصّ، وهو ما ذكر بعد ذلك من التهديد بالزواج بنسائه بعده. وفي ذلك هتك لكرامة الرسول صلّی الله علیه و آله، ومحاولة للوصول إلى أسراره العائلية. وقد مرّ في صدر السورة المباركة أنّ الله سبحانه إنّما عدّ زوجات الرسول صلّی الله علیه و آله أُمّهات المؤمنين تشنيعاً بالزواج بهنّ.

وقد روى السيوطي في «الدرّ المنثور» عدّة روايات في من أظهر ذلك من دون ذكر الاسم، ثمّ روى عدّة روايات فيها ذكر طلحة بن عبيد الله فقال:

ص: 156


1- التوبة (9): 61

أخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه قال: بلغنا أنّ طلحة بن عبيد الله قال: أيحجبنا محمّد عن بنات عمّنا ويتزوّج نساءنا من بعدنا؟! لئن حدث به حدث لنتزوّجن نساءه من بعده، فنزلت هذه الآية.

قال: وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه قال: قال طلحة بن عبيد الله لو قبض النبيّ صلّی الله علیه و آله تزوّجت عائشة رضي الله عنها، فنزلت: «وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ» الآية .

وقال: وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم في قوله «وَمَا كَانَ لَكُمْ أن تُؤْذُواْ رَسُولَ اللهِ» قال: نزلت في طلحة بن عبيد الله، لأنّه قال: إذا توفّي رسول الله صلّى الله عليه و آله تزوّجت عائشة رضي الله عنها. (1)

وكأنّ بعض المفسّرين لم ير هذه الروايات فقال في تفسيره: إنّ بعض المنافقين قال ذلك!!!

وقيل: إنّ طلحة بن عبيد الله مشترك بين قائل هذا القول وهو أيضاً من الصحابة، وبين طلحة بن عبيد الله المعروف.

وهو بعيد جدّاً، ومحاولة لدفع الشبهة عن أحد المبشّرين بالجنّة، كما ادّعاه القوم، ورووا فيه الحديث. ووجه البعد أنّ هذا الاسم يتبادر منه الرجل المعروف به، فلو أُريد غيره وجب التصريح به، خصوصاً في ما إذا أُريد إسناد أمر إليه يستوجب حطّاً من كرامته هذا مع أنّ طلحة الثاني لم يرد له ذكر في أيّ موضع آخر، وإنّما اختلقت شخصيته لدفع هذه الشبهة.

«إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ الله عَظِيماً» إشارة إلى نفس العمل، أي التزوّج بهنّ، لا القول

ص: 157


1- الدرّ المنثور 5: 214

الذي قاله بعضهم، وإن كان الإيذاء حصل بنفس القول، فالإثم العظيم هو نفس الزواج بهنّ حتّى لو لم يوجب إيذاءاً للرسول صلّى الله عليه و آله .

ولعلّ السبب فيه - مضافاً إلى ما مرّ - هو خطورة أن يتستّر بعض الناس بذلك، ويبرزوا أُمّهات المؤمنين، ويستخدموهنّ في الوصول إلى مآرب غير مشروعة. وقد تمكّنوا من ذلك فعلاً من دون زواج، فكيف لو كان أحدهم يتزوّج بعضهنّ! ويمكن أن يعتبر الزواج إيذاءً للرسول صلّى الله عليه و آله حتّى بعد وفاته، لأنّه يعلم بما يجري على أُمّته، فكيف بما يحدث في بيته.

«إن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» تهديد شديد لمن كان يخفي هذه النوايا السيّئة في نفسه، ولمن كان يظهر ذلك ويتبجح به. ولعلّ بعضهم كان يخطّط لها أيضاً، أو أنّ بعضهم أظهر ما في قلبه وبعضهم أخفاه. ولكن لم نجد نسبة هذا القول صريحاً إلى غير طلحة. ومن الغريب التعبير المحكىّ عنه حيث عبّر عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله بالاسم.

وكان التعبير المتوقّع أن يقول: «فإنّ الله كان به عليماً» ليعود إلى الشيء المذكور في الشرط، ولعلّ وجه العدول عنه التنبيه على أنّه تعالى لا يختلف لديه الظاهر والباطن، فليس أعلم بالظاهر من الباطن بل نسبة كلّ الأشياء إليه تعالى نسبة واحدة.

«لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي ءَابَآئِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ» استثناء عن وجوب تستّر نساء النبيّ صلّى الله عليه و آله مضافاً إلى الحجاب. وهذا التستّر لم يذكر في الآية السابقة صريحاً، وإنّما أُمر به الرجال، ولكنّه يفهم بالملازمة من أمرهم بذلك.

ص: 158

ولم يذكر من المحارم العمّ والخال ، فقال بعضهم: إن الآباء يشملهم، وهو غير صحيح. ولا شكّ أنّه لا يشمل الأخوال على الأقلّ.

وقيل : إنّ حكمهما يعلم من حكم أبناء الإخوان والأخوات لوحدة المناط. وفيه أنّ المناط غير واضح.

وقيل: لم يذكرهما لأنّهما ربّما يصفانهنّ لأبنائهما، ومعنى هذا القول التسليم لعدم الجواز، ومهما كان فالتعليل عليل.

ولكن أصل عدم الجواز لا يبعد صحّته في خصوص المقام أي أزواج النبيّ صلّی الله علیه و آله، فلا مانع من اختصاص هذا الحكم بهنّ وإن كان العمّ والخال محرمين في سائر الموارد.

ولعلّ المراد ب_«نسائهنّ» النساء المؤمنات، فيحرم عليهنّ البروز أمام الكافرات، ولعلّ التعليل المذكور في العمّ والخال يصح هنا. ويمكن أن يكون المراد كلّ النساء، والإضافة إليهنّ ليس للتقييد، بل لأنّ من يأتيهنّ من النساء لهنّ علاقة خاصّة بهنّ.

وأمّا ملك «اليمين» فهو شامل للجنسين ولا مانع منه، وليس معناه أنّ العبيد محارم للمرأة المالكة، فإنّ الكلام هنا ليس في الحجاب، بل في البقاء خلف الستر وعدم البروز حتّى مع الحجاب.

«وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً» التفات من الحديث عن الغائب إلى مخاطبتهنّ بالتقوى اهتماماً بالأمر. والمراد التقوى في تطبيق التستّر المطلوب بدقّة، الحفظ كرامة الرسول صلّی الله علیه و آله وفي التعليل بأنّه تعالى شهيد على كلّ شيء تهديد لهنّ، لأنّ مخالفة مثل هذا الأمر ربّما تحدث في خفاء شديد، فلا يخاف في ذلك الخفاء إلا الله تعالى، فإنّه ليس لديه غيب وشهود، بل كلّ شيء حاضر لديه.

ص: 159

سورة الأحزاب (56)

«إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)»

«إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» مرّ الكلام حول الصلاة، ورجّحنا أن يكون معناها الحقيقي هو نفس هذه الشعيرة المعروفة، واستعمل في غيرها من موارد التوجّه والعطف بالمناسبة. ومهما كان، فالمراد بصلاة الله سبحانه هو العط والرحمة، ومن الملائكة هو الدعاء والاستغفار، والتوسّط في إنزال رحمة الله. وقد ذكر الفعل المنسوب إلى الله تعالى وملائكته بصيغة المضارع إيذاناً بأنّه دائمي ومستمرّ.

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلَّمُوا تَسْلِيماً» من غاية اللطف أنّه سبحانه قدم على الأمر بالصلاة على الرسول صلّی الله علیه و آله أنّه تعالى وملائكته يصلّون عليه، ليؤكّد للمؤمن أنّك بصلاتك عليه ستكون في صفّ الملائكة، بل تتبع في ذلك ربّك. وأيّ شرف للإنسان أعظم من هذا أن يكون بعمله تابعاً ربّه، كأنّه يعمل عمله. ولذلك يصحّ أن يقال إنّ أفضل الأعمال الصلاة على محمّد وآل محمّد، إذ لا يوجد في الأعمال ما يكون بهذه المثابة.

ثمّ إنّ الصلاة من المؤمنين دعاء بالصلاة من الله عليه صلّی الله علیه و آله وهنا مثار سؤال، وهو أنّه إذا كان الله تعالى يصلّي عليه بصورة مستمرّة، فلا حاجة إلى دعاء الناس، فلماذا يؤمرون به؟

ويمكن الجواب بوجهين:

الأوّل: أنّ الدعاء ربما يحمل معنى آخر كسلام التحيّة، فإنّك حينما تسلّم على صاحبك تدعو له بالسلامة، إلا أنّه يحمل في طيّاته أمرين: أحدهما التحيّة والآخر

ص: 160

إعلان الصلح وعدم الشنآن فيما إذا كانت هناك شبهة ذلك. كما أنّ اللعن وهو دعاء على الغير يحمل في طيّه إعلاناً بالعداء، ورفعاً لشعار المخالفة، وتنديداً بما صدر من الملعون من ظلم ونحوه.

وكذلك سائر الأدعية، فإذا دعا المؤمنون بالفرج لصاحب الأمر - سلام الله عليه - فإنّه ربّما لا يغيّر الواقع، إلا أنّه رفع شعار الولاء له، وتوجّه إلى الله تعالى بالشكوى من الوضع الحاضر، وغير ذلك من المعاني. وكذلك الدعاء له بطول العمر ونحوه فالهدف من كلّ ذلك إظهار الولاء، وهكذا سائر الموارد. فالصلاة على النبيّ صلّی الله علیه و آله رفع الشعار الولاء له، وشكر له على ما قدّم للبشرية من رحمة ونعمة، ولا يلزم أن يكون فيها نفع له، كما أن صلاتنا الله تعالى لا تنفعه وإنّما تنفعنا.

الثاني: أنّ الدعاء للنبيّ صلّی الله علیه و آله والصلاة عليه لا يبعد أن يكون له، نفع واقعي له فالرحمة من الله تعالى ليس لها حدّ ولا نهاية. والإنسان مهما كان، فإنّه بحاجة متواصلة إلى رحمة الله تعالى.

وللدعاء أثر غريب مجهول لدينا، فإنّ القرآن ينقل دعوات الملائكة للمؤمنين بتعبير يوحي بأنّ ذلك من وظائفهم الدائمية، قال تعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(1).

ص: 161


1- غافر (40): 7-9

ولا ريب أنّ لهذه الدعوات تأثيراً واقعياً غامضاً لا نعرف سرّه ومداه. وقد قال تعالى: «قُلْ مَا يَعْبُواْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَاً»(1).

وأمّا كيفية الصلاة على النبيّ صلّی الله علیه و آله فقد ورد في روايات كثيرة من طرق العامّة والخاصّة أنّ الصلاة يجب أن تكون على النبيّ وآله. وورد النهي عن الصلاة البتراء. وفسّره صلّی الله علیه و آله بترك ذكر الآل.

قال ابن حجر - على تعصّبه المقيت - في «الصواعق المحرقة»: ويروى «لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء»، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: «تَقولُونَ: اللَّهُمَّ صلّ على مُحَمَّد وتمسكون. بل قولوا: اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وآل مُحَمَّد»(2).

وروى السيوطي في «الدرّ المنثور» في ذيل هذه الآية روايات كثيرة جدّاً وعن مصادر مختلفة، كلّها تتضمّن أنّ الصلاة على النبيّ صلّی الله علیه و آله يجب أن يكون مع ذكر الآل، ومنها ما رواه عن مجموعة كبيرة من المصادر ومنها الصحاح الستّ حيث قال: وأخرج عبدالرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن مردويه عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : قال رجل: يا رسول الله أمّا السلام عليك فقد علمناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قل: اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد».(3)

و لصلاة على النبيّ صلّی الله علیه و آله واجبة في تشهّد الصلاة عندنا وعند بعض فقهاء

ص: 162


1- الفرقان (25): 77
2- الصواعق المحرقة 2: 430، فصل في الآيات الواردة فيهم
3- الدرّ المنثوره: 216-217

العامّة، واكتفى بعضهم بالسلام على النبيّ صلّی الله علیه و آله - وقد وقع البحث في الفقه عن وجوب الصلاة على النبيّ صلّی الله علیه و آله عند ذكر اسمه الشريف، حيث ورد في أحاديث كثيرة التنديد بمن لم يصلّ عليه عند ذكره والمشهور استحبابه المؤكّد، وقيل بالوجوب.

وقد ورد في الحديث الحثّ على رفع الصوت بالصلاة على النبيّ وآله، لأنّ ذلك يذهب بالنفاق. ولعلّ المراد بالنفاق هذه الحالة المشهودة لدى بعض أعداء أهل البيت علیهم السّلام، حيث لا يجرؤون على إظهار بغضهم حذراً من لصوق ما ورد في أحاديث الرسول صلّی الله علیه و آله بهم ، ولكنّه يبرز لا شعورياً في فلتات لسانهم، وفي بعض تصرفاتهم.

ولعمري إنّ إظهار الحبّ والولاء لأعداء أهل البيت، أكبر شاهد على البغض الدفين، فتجد كثيراً من الناس لا يعظّمون من الصحابة إلا من ثبت عداؤه لأهل البيت علیهم السّلام، بل من قاتلهم وقتلهم.

ولا يختصّ الأمر ببعض من عرفوا بالصحابة، بل تجدهم يعظّمون أعداءهم حتّى لو كان من الظلمة المعروفين، إذ لا يختلف اثنان ممّن لهم أدنى خبرة بالتاريخ على أن الحجّاج بن يوسف الثقفي من أقسى الطغاة الظالمين، ولكنّهم يسمّون شوارعهم باسمه تيمّناً وتبرّكاً، لأنّه قائد إسلامي! قتل الناس على حبّ أمير المؤمنين علیه السّلام، بل كان يقتل من يأبى عن السبّ والشتم!

ومن هذه الفلتات ما ذكره صاحب «الكشّاف» - لا غفر الله له - في هذا المقام من كراهة الصلاة على أحد من أهل البيت منفرداً، لئلا يتّهم الإنسان بالرفض، لأنّ الرسول صلّی الله علیه و آله نهى أن يجعل الإنسان نفسه في موضع الاتهام. ولا أدري لماذا

ص: 163

لم يطّبق النهي المذكور في ما يوجب اتهامه بالنصب؟!

وأمّا التسليم، فقد ورد في بعض الأحاديث أنّ المراد به هو التسليم لأمره، وهو المراد قطعاً في قوله تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»(1) والقرينة واضحة.

والظاهر: أنّه هنا بمعنى السلام والتحيّة، ولذلك نضيف السلام إلى الصلاة عليه وآله. والتعبير عن ذلك بالتسليم وارد في القرآن أيضاً. قال تعالى: «فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةٌ»(2).

ص: 164


1- النساء (4): 65
2- النور (24): 61

سورة الأحزاب (21-24)

«إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)»

«إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ». لا شكّ أنّ الله تعالى لا يتأذّى من شيء، ولا يؤثّر فيه شيء، فلا وجه لما في بعض التفاسير من أنّ المراد من إيذاء الله، المعاصي والشرك، بل نقلوا فيه حديثاً قدسيّاً يشكو الله فيه خلقه وإيذاء هم له. وهذا مضحك حقّاً.

والصحيح أنّ الله تعالى إنّما يعتبر إيذاء الرسول صلّی الله علیه و آله إيذاء ًله كما أسلفنا مراراً. والسرّ فيه أنّ الذي يؤذي النبى صلّی الله علیه و آله فإنّما يؤذيه لأنّه نبي مرسل من الله تعالى، ولم يكن للناس عداء معه قبل رسالته، بل كان في الناس عزيزاً مكرّماً لمكانة قومه، ومكانته في قومه، ولصدقه وأمانته، وإنّما عادوه حينما أبلغهم رسالة ربّهم، وسفّه أحلامهم، وقبّح سننهم، واحتقر ،آلهتهم، فهم إنّما كانوا يعادون الله سبحانه.

قال تعالى: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ»(1) ولم يكن الإيذاء خاصّاً بالمشركين، بل هناك من أسلم ولكنّه حمل معه إلى المدينة عداء الجاهلية، واستمر الخطّ الجاهلي يعمل ضد خطّ

ص: 165


1- الأنعام (6): 33

الرسالة حتّى بعد وفاة النبي صلّی الله علیه و آله .

ثمّ إنّ إيذاء الرسول صلّی الله علیه و آله لا يختصّ بحال حياته، حيث إنّه صلّی الله علیه و آله لا يقل عن الذين قتلوا في سبيل الله ، وقد وصفهم الله تعالى بأنّهم أحياء عند ربّهم يرزقون، وأنّهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، فهو بطريق أولى يستبشر بالخير، ويتأذّى من أيّ شرّ يلحق بدينه، أو بالقرآن، أو بأهل البيت عليهم السّلام.

وبذلك يُعلم أنّ مصداق هذه الآية بعد وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله أكثر من الذين كانوا في حياته. وقد صرّح الرسول صلّی الله علیه و آله باستمرار تأذّيه فيما بعده بقوله فيما تواتر عنه بوجوه كثيرة: «فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها».(1)

وممّا يدعو إلى التأمّل أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله ما كان يؤكّد على هذا الأمر في مواطن عديدة، ويخاطب بذلك أصحابه ولم يتدبّروا ويفكّروا في مغزى كلامه صلّی الله علیه و آله وغرضه من هذه التنبيهات المتكرّرة.

وهل كانت فاطمة - سلام الله عليها - في معرض الإيذاء؟ ولم تكن المرأة إذ ذاك تتدخل في الشؤون الاجتماعية حتّى يعاديها الرجال، فتكون بحاجة إلى الإيصاء. ولكنّ الرسول صلّی الله علیه و آله كان يعلم بما سيحدث بعده. وكأنّ هذه الآية أيضاً تنظر إلى تلك الوقائع.

وقد جعل الله سبحانه جزاء المؤذّي رسوله، لعنته في الدنيا والآخرة. فاللعنة في الدنيا - وهي في الأصل الإبعاد والطرد - تتحقّق بعدم الهداية والتوفيق. ولا يغرّن أعداء الله ما يحصلون عليه من مال وزعامة، فإنّ ذلك من إملائه تعالى، وليس شيئاً يفرح به المؤمن، وإنّما يفرح به الكافر، وقد أعطى الله أضعاف ما

ص: 166


1- صحیح مسلم 7: 141؛ راجع: مسند أحمد 4: 326؛ صحيح البخاري 4: 210

أعطوا هؤلاء للفراعنة والطغاة الكفرة ، وقال تعالى: «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً».(1)

وتظهر اللعنة في الآخرة بوضوح، فإنّ الطرد والإبعاد عن الرحمة الإلهية في الدنيا لا يتجلّى للجميع لعموم ظواهر الرحمة للمؤمن والكافر، وأمّا في الآخرة فيتبيّن من تشمله ،الرحمة، ومن يطرد من رحمته تعالى. وقد عبّر عنه في القرآن بقوله تعالى: «وَلا يُكَلِّمُهُمُ الله وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2).

«وَأعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً» لحن صارخ بالتهديد حيث يعلن أنّ العذاب معدّ لهم من قبل وينتظرهم، وذلك مضافاً إلى اللعن والطرد من رحمته تعالى، وحيث إنّ إيذاءهم إنّما نشأ من استكبارهم على الرسول صلّی الله علیه و آله، فقابله الله تعالى بالهوان والمذلّة، مرّة بالطرد وأُخرى بعذاب مهين.

«وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً» لا شكّ في أنّ إيذاء المؤمن وهو الإضرار به بأيّ نحو كان محرّم شرعاً وموجب لسخط الله تعالى، كما دلّت عليه الأحاديث الكثيرة، إلا ما كان بموجب حكم شرعي كإجراء الحدود والقصاص. ولكنّ الآية الكريمة تنظر إلى إيذاء خاصّ ربّما يحتقره كثير من الناس حتّى المؤمنين، وهو الإيذاء باللسان وبإسناد أمر إلى المؤمن لم يرتكبه، لمجرّد سماع الخبر من هنا وهناك، بل ربّما يتعمّد بعضهم اختلاق الكذب وإسناده إلى مؤمن تشفّياً وانتقاماً، أو لأيّ سبب آخر.

والقرينة على ذلك في الآية الكريمة قوله تعالى: «فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً» فيتعيّن

ص: 167


1- آل عمران (3): 178
2- آل عمران (3): 77

بذلك أن يكون المراد من الإيذاء اتّهام المؤمن أو المؤمنة بأمر لم يرتكبه.

وقال بعض المفسّرين: إنّ تقييد الإيذاء بغير ما اكتسبوا لإخراج ما لو كان الإيذاء في مقابل عمل يستوجبه كموارد القصاص والحدود. ومعنى ذلك أنّ المراد بالإيذاء ليس هو الإيذاء باللسان أو لا يختصّ به. وهذا ينافي الحكم عليهم بأنّهم يحتملون بهتاناً، فما هي مناسبة البهتان للإيذاء العملي؟ فقال بعضهم: إنّ الذي يؤذي بريئاً لا يمكنه أن يؤذيه إلا أن يتّهمه بأمر ليبرّر موقفه.

وهذا تأويل غريب، فإنّ الظاهر من الآية أنّ نفس هذا الإيذاء بهتان، فيختصّ الإيذاء باتهام المؤمن بأمر لم يفعله وهو بريء منه. ويصحّ أن يجعل ذلك تضميناً، بمعنى أنّ الإيذاء يضمّن معنى الاتهام والبهت، ولا موجب لتعميم المراد بالإيذاء. وعلى ذلك فقوله: «بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ» يتعلّق بالاتهام الذي يتضمّنه الإيذاء، وهو بنفسه الإثم المبين، أي الواضح. والمقصود التنبيه على كونه إثماً مبيناً، وأمّا كونه بهتاناً فهو واضح، ولا يختصّ بالمؤمن والمؤمنة.

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً»، الآية من الآيات التي تأمر بتستّر النساء والتزامهنّ بالحجاب. و«الجلباب» ثوب واسع أكبر من الخمار وأصغر من الرداء. وإدناؤه كناية عن التستّر بالصاقه بثيابها ووجهها، حيث كانت المرأة المتهتّكة تتركه مفتوحاً، فتظهر بعض مفاتنها، فأمرهنّ الله تعالى بالمبالغة في الستر. وأين هذا من محاولة نفي وجوب الحجاب من أصله، كما يسمع من بعض المنتحلين للفقه في هذا الزمان؟

ومناسبة الآية لما سبق، أن الآية السابقة تعرّضت للمنع من إيذاء المؤمنين

ص: 168

والمؤمنات واتهامهم، وهذه الآية تأمرهم بما يبعدهم عن مواضع الاتهام. وابتدأ بالأمر نساء النبي وبناته ليكون أبلغ في التأثير، ولا يتوهم التشديد على عامّة الناس فحسب.

ولعلّ توسيط النبيّ صلّى الله عليه و آله في إبلاغ الأمر إليهنّ، خصوصاً مع تقديم نسائه وبناته، والتعبير عن المؤمنات بنساء المؤمنين، للإشارة إلى أنّ ذلك ليس من التشريعات الأساسية العامّة، بل هو من شؤون العائلة يقصد به المحافظة على تماسكها، وإبعادها عن مواضع الاتهام، فيكون أشبه بالنصيحة العائلية، ولذلك يؤمر النبي صلّى الله عليه و آله بأن يقول ذلك لأسرته، ثمّ لنساء المؤمنين، ولا يبعد أن يستظهر منه توسيط المؤمنين بإبلاغ ذلك إلى نسائهم وإلا لقال: «والنساء المؤمنات».

ولا ينافي ذلك وجوب أمر الحجاب كما هو المستفاد من آيات أُخرى أيضاً، فإنّ الموضوع هنا المبالغة في التستّر.

«ذَلِكَ أدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ» تعليل للحكم المذكور. و «أدنى» أي أقرب. وتعليل الحكم بأنّ في ذلك مصلحة لهنّ أيضاً ممّا يؤكّد ما مرّ من عدم اعتباره حكماً أساسياً. ويحتمل في معنى التعليل المذكور أمران:

الأوّل: أنّ الذين في قلوبهم مرض وأهل الفسق والفجور كانوا يتحرّشون بالنساء إذا خرجن ليلاً لحاجة، ولم يكونوا يجرؤون التحرّش بالحرائر وإنّما بالإماء، فإذا كانت الحرّة غير محتشمة تحّرشوا بها، إمّا جهلاً بكونها حرّة، أو لإمكان الاعتذار بعدم معرفتها، فعلّل الله سبحانه هذا الحكم بأنّ الاحتشام أقرب إلى أن يعرفن بأنهنّ حرائر، فلا يؤذين خوفاً من المؤاخذة.

والثاني: أنّ المؤمنة إذا لم تحتشم يظنّ المفسدون أنّها مبتذلة، فيتحرّشون بها.

ص: 169

فالاحتشام أقرب إلى معرفة أنّها مؤمنة بعيدة عن أهوائهم، فلا يقتربون منها.

«وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً» لعلّ التعقيب ب_«الغفران» و«الرحمة» إيذان بأنّ الأمر موسع نوعاً ما، فلا يحتاج إلى دقّة ووسوسة، بل يكفي منه ما يحقّق الغرض، وذلك لأنّ التحجّب والاحتشام أمر ذو مراتب. ولو لم يعقّبه بذلك لأوهم أنّه يجب - من باب الاحتياط - المبالغة في ذلك إلى أقصى الحدود. وهذا التعقيب يفسح المجال لمنع الوسوسة، ويدلّ أيضاً على ما ذكرناه من عدم كونه من التشريعات الأساسية.

ص: 170

سورة الأحزاب (60-62)

«لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)»

«لئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أَخِذُوا وَقَتْلُوا تَقْتِيلاً» هذه الآيات تشرّع قانوناً اجتماعياً صارماً لاستتباب الأمن في المدينة، ويعلنه في صورة تهديد بليغ لمنع المفسدين من الاستمرار في الفساد. وكانوا ثلاثة رهط:

المنافقون، والظاهر أنّهم رأس الفساد فكانوا - مضافاً إلى ما يرتكبونه من جرائم - يحرّضون ذوي القلوب المريضة، وهم الرهط الثاني، لمزاولة أنحاء الفساد الخلقي والاجتماعي من التحرّش بالنساء أو السرقة وغير ذلك ممّا يهدّد أمن المجتمع، بعد ما استقرّ الوضع، وقويت شوكة المسلمين، وأجلوا اليهود، وأرغموا أُنوف المشركين، وتبعهم في ذلك أُناس يتداولون الأكاذيب ويشيعونها في البلد، لزعزعة أمنه وإرعاب أهله، وهم الرهط الثالث، أي المرجفون، حيث إن ّأكاذيبهم كانت تزلزل استقرار المجتمع، فعبّر عنه بالإرجاف، و«الرجف»: الاضطراب الشديد.

والقانون يقضى بإبعادهم عن البلد، إن استمرّوا على مؤامراتهم، والحكم عليهم بالقتل الذريع أينما أُلقي القبض عليهم و «الإغراء» هو التحريض، ولم يذكر متعلّق الإغراء، وهو الإبعاد ويعلم ذلك من قوله تعالى: «ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ

ص: 171

فيهَا» والمراد بقوله تعالى: «إلا قليلاً»أي بمقدار ما يستعدون للخروج.

ويمكن أن يكون الحكم في الواقع هو القتل لا الإبعاد، وعليه فالمراد بخروجهم من المدينة لجوءهم إلى الفرار. ولعلّ المراد بقوله تعالى: «مَلْعُونِينَ» أي مطرودين من كلّ مكان لا يستقرّ لهم قرار، كما سلبوا البلد استقراره وأمنه. وقوله تعالى: «قُتُلُواْ تَقتِيلاً» مبالغة في القتل، للتأكيد على قطع جذور الفتنة وعدم الإبقاء عليهم.

والظاهر: أنّ التهديد كان كافياً واستتبَ الأمن في المدينة المنوّرة، إذ لم ينقل في كتب السيرة والتاريخ العمل بذلك في حقّ أحد.

«سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ» مرّ بعض الكلام حول هذه الجملة في تفسير الآية (38) والمراد بها هنا التأكيد بأنّ هذا الحكم ليس غريباً في التشريع الإلهي، لئلا يُتّهم الرسول صلّی الله علیه و آله بأنّ حكمه بذلك ناشئ من غرور النصر ونشوة الظفر بالأعداء، بل هو سنّة قديمة إلهية.

والمراد بالذين خلوا ومضوا يمكن أن يكون الأُمم السالفة، ويمكن أن يكون المشركين واليهود في تعامل الرسول صلّی الله علیه و آله معهم. والأوّل أقرب إلى ظاهر اللفظ.

«وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً» بهذه الجملة قطع الله تعالى آمال المفسدين، وبيّن لهم أنّ هذا ليس قانوناً وضعياً وضعه البشر، وتناله يد التغيير والتبديل، بل هو سنّة إلهية والله تعالى لا يبدّل سننه، وإنّما يبدّل الإنسان سننه وقوانينه، لما يبدو له من خلل فيها لم يعلمه حين التشريع، والله تعالى عليم بكلّ شيء لا يخفى عليه أمر، فلا يبدّل سننه وقوانينه التشريعية والتكوينية.

ص: 172

وإنّما يحصل بعض التغيير في التشريعات لتبدّل الأوضاع الاجتماعية، وتطوّر الحياة البشرية، وتكامل الإنسان في عقله وجسمه، وليس ذلك ناشئاً عن تغيير جذري في أُصول القوانين الشرعية. ولذلك قال تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ»(1).

ص: 173


1- الشورى (42): 13

سورة الأحزاب (63-68)

«يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)»

«يَسْئَلْكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ»، «الساعة» جزء من أجزاء الزمان أي اللحظة. ويختلف المراد بها في القرآن الكريم حسب اختلاف موارد استعمالها، فربّما يراد بها لحظة الموت، أو لحظة انعدام هذا النظام الكوني، أو لحظة قيام الناس وبعثهم. وفي الغالب يراد بها أحد الأخيرين. ومن الطبيعي أن يسأل الناس عن موعدهما وخصوصاً الثانية، ولذلك أتى بالفعل المضارع الدالّ على الاستمرار. والسؤال ربّما كان للتشكيك والاسِتبعاد، أو للاستهزاء والتعجيز، أو للمعرفة، إذ لا يختصّ السؤال بالكفّار.

«قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قريباً» مهما كان السؤال فالجواب واحد ، وهو أنّ العلم بها ممّا استأثر به الله تعالى فلم يعلمها أحداً، بناءً على أن «إنّما» يفيد الحصر. ولعلّ خطاب الرسول صلّی الله علیه و آله بقوله تعالى: «وَمَا يُدْرِيكَ» لئلا يتوهّم أنّه صلّی الله علیه و آله يعلمها من دون الناس، فأراد أن يبيّن أنّ الجميع في عدم معرفته سواء.

وأشار بهذه الجملة إلى وجه إخفائها، وهو أن يبقى الإنسان ينتظره في كلّ لحظة «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً» فيستعدّ لذلك اليوم العظيم وأهواله،

ص: 174

ولكنّ الإنسان يمرّ على كلّ هذا التهويل غافلاً، ويعتبره بعيداً. بعيداً في الاحتمال، أو بعيداً في الموعد. وما ينفعه البعد الزماني؟!

ثمّ إنّه يكفيه الاحتمال لكون المحتمل في غاية الأهميّة؟! ونحن في شؤون حياتنا نعمل ونبني ونهدم للاحتمال. ومن يعلم أّنه سيبقى في الدنيا طويلاً؟! ومع ذلك فنحن نسعى ونسعى ونبذل كلّ الجهد ونتعب أنفسنا ونسهر الليالي لنحصل على شهادة، فنحيا بضع سنين بعد ذلك في بلهنية من العيش، ومن لا يفعل ذلك نستنكر منه الكسل ونؤنّبه بعدم الإعداد لمستقبله مع أنّه مستقبل غير قطعي.

وكم نجد حوالينا من أتعب نفسه في بناء دار لم يسكنه، بل لم يسكنه أولاده أيضاً، فلماذا لا نهتمّ بالمستقبل الطويل الذي لا ينتهي حتّى لو كان ذلك محتملاً، وحتّى لو كان الاحتمال ضعيفاً، فإنّ أهميّة المحتمل تكفي في كونه حافزاً قويّاً جدّاً؟!

ولكنّ الإنسان لا يستطيع أن يقاوم شهواته وأهواءه، ولا يصغي إلى ما يهديه إليه العقل والحكمة، فيحاول أن يقلّل من أهميّة كلّ ما يعترض طريق الشهوات وإن أدّى ذلك إلى شقائه الأبدي، فهو لا يرى إلا أمتاراً من الطريق أمامه. إن هم إلا كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاً.

«إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً»، «اللعن»: الطرد، و«السعير»: النار المشتعلة. يبيّن الله سبحانه في هذا المقطع نتيجة الكفر في الحياة الآخرة ممّا يكفي للإنسان أن يحسب حسابه، ولا يغرّه بعد موعد الساعة كما يظنّ. ويكفي الكافر أنّ الله لعنه وأبعده عن رحمته التي وسعت كلّ شيء، وتجلت اللعنة في السعير المحرق.

ولا يختصّ الكافر بمن نعتبره في هذه الدنيا كافراً، فإنّ التقسيم إلى مسلم

ص: 175

وكافر - حسب اصطلاحنا - إنّما نقصد به موضوع الأحكام الظاهرية هنا من أنواع التعامل معهم، وأمّا يوم ينكشف الغطاء، ويحصّل ما في الصدور، وتبلى السرائر، فإنّ الكفر لا يختصّ بالجحود ، بل تارك الصلاة كافر - كما في الحديث - وتارك الحجّ كافر، كما في قوله تعالى: «وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(1) بل هناك كفرة بين المسلمين لا يُعرف كفرهم، كمن ينكر ممّا بلغه الرسول صلّى الله عليه و آله ما لا يعجبه، سواء كان ذلك متعلّقاً بالعبادات، أو بالشؤون الاجتماعية، كبعض القوانين التي لا تعجب من لا ينتفع به، أو بالإمامة ومودّة أهل البيت علیهم السّلام ، أو غير ذلك.

«خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً»، الخلود مكتوب للبشر، لأنّه بحقيقته ليس جسماً كالجماد والحيوان، ينتفي بانتفاء الجسم وتحلّله في التراب، بل هو روح ارتبطت بهذا الجسم زماناً، ثمّ عادت إلى أصلها قال تعالى: «اللهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا»(2)، فالخلود ممّا لا بدّ منه، سواء كان في نعيم صنعه بعمله، أو في شقاء نتيجة ظلمه لنفسه وغيره. و«أبداً» تأكيد للخلود لئلا يتوهم أنّ المراد به البقاء مدّة طويلة، كما يعبّر به عن ذلك في في هذه الحياة.

«لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً»، لا يجدون وليّاً يوكّلون إليه الأمر فيستريحوا، ولا نصيراً يساعدهم فيما هم فيه، إذ يتبيّن له هناك أنّ من كان يزعم فيه الولاية والنصرة، ليس إلا عبداً ذليلاً لا يستطيع إنقاذ نفسه، سواء في ذلك الآلهة المزعومة أو البشر.

ويلاحظ أنّ الإنسان عاد اليوم إلى عبادة البشر، فالفلسفة الاجتماعية اليوم التي

ص: 176


1- آل عمران (3): 97
2- الزمر (39): 42

هي وراء كلّ هذه المفاسد الرسمية والقانونية تبني أساسها على أصالة الإنسان، وأن ليس وراءه شيء يستمد منه المبادئ، فالحقّ ما يخدم مصالح الإنسان، والباطل ما عداه مهما كان. وهكذا أصبح الإنسان إلهاً يُعبد، وسيجد عبّاد البشر يوم القيامة أنّ الإنسان لا يغني عنهم شيئاً، فلا وليّ لهم ولا نصير.

«يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ»، «يوم» ظرف لفعل محذوف، أي اذكر. ويمكن أن يكون ظرفاً ل_«يقولون». والقرآن الكريم يصوّر فظاعة النار بوجوه عديدة، فتارة يقول: «كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ»(1)، وتارة: «وَيَأْتِيهِ الموتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيْتٍ»(2) ، وأُخرى: «لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ»(3)، وفي موضع آخر: «سَرَابِيلُهُم مِن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ»(4)، وفي آخر: «تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ»(5)، وفي موضع: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ»(6) وغير ذلك.

ومنها ما في هذه الآية «يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّار»، فكأنّه لحم يراد شواؤه يقلّب من ناحية إلى أخرى، أو المراد تقلّب من حال إلى حال، ومن لون إلى لون.

«يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا» ، «يا ليتنا» أصله يا قوم ليتنا. ثمّ نزعت

ص: 177


1- النساء (4): 56
2- إبراهيم (14): 17
3- الأعراف (7): 41
4- إبراهيم (14): 50
5- المؤمنون (23): 104
6- القمر (54): 48

عنه الدلالة على النداء، وإنّما هو حرف تنبيه. وهذا من تمنيّات أهل النار، وهي من الحقائق التي يكشف عنها القرآن، ليتمّ الحجّة على الإنسان يوم القيامة، وكم يروي من تمنّياته: «يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً»(1)، «يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي»(2)، «يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا»(3)، «يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ»(4) وغير ذلك. ومنها هذه الآية. فهو يتمنّى لو أطاع الله والرسول ولم يطع سادته وكبراءه.

«وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا»، لعلّ المراد ب_«السادة» و«الكبراء»، الشخصيات الاجتماعية المرموقة من الساسة وشيوخ العشائر وأصحاب المال والسلطة.

ويمكن أن يكون المراد بالكبراء الكبار في السنّ، فإنّ البشر يتّبع - في الغالب - أباه وشيوخ قومه دون أن يتدبّر الأُمور وينظر فيها بعقله الذي وهبه الله له، وبذلك يضلّ السبيل برفقة قومه، ويشعر الإنسان في الغالب أنّه ليس في طريق الصحيح، إلا أنّه فرح بمسيره مع الجماعة مهما كانت النتيجة! وهو ينتبه إلى خطئه يوم القيامة يوم لا ينفعه الانتباه.

«رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً»، ضعفين بمعنى مرّتين، فلا يختلف معناه عن قوله تعالى: «رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ»(5). ومهما كان فهم يدعون ربهّم أن يضاعف على السادة والكبراء العذاب، ويلعنهم لعناً

ص: 178


1- الفرقان (25): 27 – 28
2- الفجر (89): 24
3- النبأ (78): 40
4- الحاقة (69): 27
5- الأعراف (7): 38

كبيراً، أكبر من لعن عامة الكافرين، لأنّهم الأصل في هذا الضلال، ولأنّهم اعتبروا أنفسهم كبراء، فلا بدّ من كون اللعنة عليهم مناسبة لحجم مدّعاهم، وإلّا فاللعن بذاته لا يوصف بالكبر.

ويأتيهم الجواب على ما في آية سورة الأعراف الآنفة الذكر: «قَالَ لِكُلِّ ضِعْفٌ وَلَكِن لا تَعْلَمُونَ» لكلّ فريق ضعف من العذاب، إمّا لأنّ التابعين أيضاً سبب في ضلال المتبوعين بإشادتهم لمواقفهم والتصفيق لهم، ولولا ذلك لم يتمكّن الكبراء من الظلم والطغيان، وهل يكبر الكبراء إلا بشعارات الغوغاء والتابعين؟! أو لأنّ التابعين، هم بدورهم متبوعون لجيل آخر وقوم آخرين، أو لأنّ العذاب لا يقدّر حجمه بأوهام الناس، فهو ضعف ما يتصوّرونه على كلّ حال.

ص: 179

سورة الأحزاب (69-71)

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِ_حْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)»

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّاهُ اللهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً» الآية الكريمة تنهى المؤمنين وتحذّرهم من أن يؤذوا الرسول صلّی الله علیه و آله، كما كان بنو إسرائيل يؤذون رسولهم موسى علیه السّلام والمراد بإيذائه اتّهامه بما لا يليق بمقام الرسالة، وليس مطلق الإيذاء، وإن كانوا يؤذونه بشتّى الوجوه، كالمطالبة برؤية الله جهرة، وأن يجعل لهم إلهاً، وغير ذلك، إلا أنّ المراد هنا هو الاتّهام والكذب عليه، بقرينة قوله تعالى: «فَبَرَّاهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا»، حيث يدلّ على أنّ الإيذاء كان تهمة الصقوها به، فأظهر الله سبحانه كذبهم، وبرّأه من التهمة.

ويظهر من سياق الآية أنّ بعض الصحابة اتّهموا الرسول صلّی الله علیه و آله في أحد المواقف التي مرّ ذكرها في هذه السورة بما لا يليق بكرامته. ولعلّ أوضح ما يستوجب الكلام الباطل، هو زواجه صلّی الله علیه و آله بزينب، ولا يبعد أنّ بعضهم لم يرقه هذا الزواج، لكونه مخالفاً لعاداتهم وتقاليدهم ، فأخذوا يتحدّثون بما لا يليق بمقام الرسالة وكرامتها.

بل وضع بعض الناس في ذلك أحاديث واضحة الفساد، إمّا في ذلك العهد أو بعد ذلك، ولعلّ ما ورد في الحديث الموضوع في هذه القصّة كان ممّا تلوك به الألسنة في ذلك العهد. فنهاهم الله سبحانه وحذّرهم من أن يكونوا كبني إسرائيل، حيث كانوا يؤذون موسى علیه السّلام ويتّهمونه بما لا يليق، فأظهر الله كذبهم

ص: 180

وبرأه، أي أظهر براءته ممّا وصموه به، وذلك لوجاهته عند الله، فلم يرض بأن يمسّ الناس كرامته. وهكذا الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله فإنّه أوجه الخلق عند الله تعالى.

وقد وردت روايات بشأن ما اتّهم به موسى علیه السّلام ممّا لا يخلو من غرابة، فمنها ما ورد من أنّه كان حیيّاً، لا يظهر جسمه أمام الناس فقالوا: إنّه لا يفعل ذلك إلا لعيب فيه، فذهب يغتسل ووضع ثوبه على حجر، فأمر الله الحجر فسار بثوبه، فركض خلفه موسی بعصاه وهو يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! فبلغ به بين الناس فنظروا إليه عرياناً، وبذلك برأه الله ممّا قالوا!

وقد ورد هذا الحديث في صحاح العامّة كالبخاري وفي «تفسير علي بن إبراهيم» من كتبنا وغيرهما وإن كان استناد التفسير إليه غير ثابت. ومن الغريب قبول بعض علمائنا لذلك كالعلامة الطباطبائي رحمه الله. وما أدري ألم يكن هناك طريق آخر لتبرئته ؟! ألم يكن الأجدر به أن يكشف عن ثوبه ما عدا العورة؟! وهل هکذا يصنع الله تعالى الله تعالى شأنه بالوجهاء عنده ؟! عفوك اللّهمّ!

وروي غير ذلك من الروايات ممّا لا يصح سنداً ولا متناً. والأولى أن لا نبحث عنه، فلا دخل له في فهم معنى الآية ولا يترتّب عليه أثر.

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُوا اللهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً»، الآية الكريمة وما تليها أيضاً في نفس السياق السابق، وهو إيذاء الرسول صلّی الله علیه و آله بالصاق التهم الباطلة، فيأمرهم الله سبحانه بتقوى الله، وفي ذلك تهديد بأنّ ما تحتقرونه من الكلام، ينطوي على خطر شديد وأنّه يثير سخط الله تعالى ويستتبع عذابه في الدنيا والآخرة.

ثمّ يأمرهم بأن يجتنبوا القول الذي لا يستند إلى دليل، ولا يقولوا إلا القول السديد، وهو مأخوذ من السدّ المانع من تسرّب الماء أو أيّ شيء آخر. فالقول

ص: 181

الذي يستند إلى دليل محكم سديد يمنع تسرّب الباطل والكذب إليه. والقول بدون مستند، يتسرّب إليه الكذب لا محالة. وهذه عبارة أُخرى عن المنع عن القول بغير علم قال تعالى: «وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»(1).

«يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» جزاء الأمر، أي إن تتّقوا الله وتقولوا القول السديد يصلح لكم أعمالكم ومنه يعلم أنّ كون العمل صالحاً صبغة إلهية، لا يكفي فيه محاولة الإنسان، فلا يغترنّ العاملون بأعمالهم الطويلة العريضة.

و«الصلوح» كما أسلفنا يختلف حسب اختلاف الموارد. والمراد هنا إمّا الصلوح لدخول الجنّة، أو لنيل مرضاته تعالى، وهي الجنّة الحقيقية. ولولا ذلك لم يكن فرق بين الجنّة والنار، وإنّ أهل مرضاته ينعمون بالجنّة في هذه الدنيا، وإن كانوا في ظلم المطامير.

والآية تدلّ على أهميّة الصدق في القول، وتحرّي الحقيقة في التحدّث عن الناس، في ما يجوز البتّة لا في موارد الغيبة، وأنّه يترتّب عليه صلوح الأعمال وغفران الذنوب، وذلك بلطف من الله تعالى. وليس في ذلك سببية طبيعية كما حاول إثباته السيّد الطباطبائي رحمه الله، مدّعياً أنّ الالتزام بالصدق وترك اللغو من الكلام، يجرّ الإنسان إلى الأعمال الصالحة. مع أنّ هناك من الكفّار والفسّاق من لم يعهد منهم الكذب في القول.

ويظهر من الآية أهمية الكلام سيّئة وحسنة فلا يستخفنّ الإنسان بما يخرج من شدقيه. وقد بيّن الله تعالى ما يترتّب على بعض الكلام ممّا يثير الدهشة، قال تعالى: «وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِذاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَقَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُ

ص: 182


1- الإسراء (17): 36

الأرْضُ وَ تَخِرُّ الجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً»(1) وجعل الله تعالى أجر المؤمنين تثبيت قولهم، حيث قال: «يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفي الآخِرَةِ»(2).

«وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً»، «الفوز»: الظفر بالخير. وممۀا يشغل فكر الإنسان وهمّه في هذه الحياة، هو السباق مع الآخرين والتقدّم عليهم. والإنسان غالباً يهتمّ بتقدّمه على الأقران في المجالات المختلفة، أكثر ممّا يهتمّ بكسب النفع في نفسه. وهو مجبول على حبّ التفوّق على الأقران. ويعتبر حبّ التفوّق من الغرائز الطبيعية، وهو الأساس في تقدّم الإنسان في علمه وثقافته وحضارته وسائر جوانب الحياة الماديّة.

والله تعالى في هذه الآية الكريمة يخبر الإنسان أنّ الفوز والنجاح العظيم للذي يطيع الله ورسوله، فليتسابقوا في هذا المجال، فكلّ من كان أطوع لهما وأبعد من المعصية فقد فاز بالقدح المعلّى. ويتبيّن ذلك يوم تتبيّن الحقائق وينكشف الغطاء.

ص: 183


1- مریم (19): 88-91
2- إبراهيم (14): 27

سورة الأحزاب (72-73)

«إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)»

«إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً» كثر الكلام حول هذه الآية وأنّه ما هو المراد من الأمانة، ومن العرض، ومن السماوات والأرض ، ومن الإنسان، ومن الحمل ومن التعليل بالظلوم والجهول، بحيث يطول بنا الحديث لو أردنا استعراضها، فننقل المهمّ منها:

قال العلامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير الميزان ما معناه: إنّ المراد ب_«الأمانة» الولاية الإلهية، وكمال صفة العبودية، والاستكمال بحقائق الدين الحقّ علماً وعملاً. وقال: إنّ المراد بالعرض اعتبارها مقيسة إلى هذه الأشياء، وأنّ الإباء عن الحمل والإشفاق بمعنى عدم قابليتها للحمل. والمراد بحمل الإنسان، صلاحيته الذاتية. وإنّ التعليل بكونه ظلوماً جهولاً باعتبار أنّه قابل لما يقابلهما، وهو العلم والعدل. (1)

وقال بعضهم: إنّ المراد ب_«الأمانة» التكليف. وإنّما عدل عنه العلامة الطباطبائي بدعوى أنّ الهدف الأساس للتكليف، هو بلوغ هذا الحدّ من الكمال . (2)

ص: 184


1- الميزان في تفسير القرآن 16: 348
2- راجع: نفس المصدر

وقال الزمخشري: إنّ المراد ب_«الحمل» الخيانة، وهي التي أبى عنها كلّ الموجودات إلا الإنسان، واستشهد ببعض استعمالات العرب وأنّه يطلق الحمل على الخيانة. (1) ولم يقبل منه ذلك من تأخّر عنه.

وقال بعضهم: إنّ المراد ب_«العرض» معناه الظاهر والمتبادر ، وأنّ الله تعالى خلق في هذه الأشياء دركاً ومعرفة، فخاطبها وعرض عليها التكليف.

وقيل: إنّ المراد ب_«الأمانة» العقل ... إلى آخر ما تفنّن القائلون في بيانه.

ومن الواضح: أنّ المراد ب_«الأمانة» أمر تحمّله الإنسان بطبعه، ورفضته سائر الموجودات بطباعها. فالآية ليست بصدد بيان حادثة في الكون، بل هو بيان لأمر طبيعي مستمرّ على الطريقة القرآنية التي تنسب كلّ المقدّرات الطبيعية إلى إرادة الله تعالى، ونظير ذلك الآية التي تبيّن إنطواء الفطرة الإنسانية على التسليم للربّ، والاعتراف به المعروفة بآية الذرّ. وكذلك الآيات التي تذكر قصّة مبدأ خلق الإنسان، ودخوله الجنّة، وسجود الملائكة، ورفض إبليس، وإخراج الإنسان من الجنّة، ونزوله على هذا الكوكب، فهذه كلّها من هذا القبيل.

وهذه الآية تذكّر الإنسان بأنّه يختلف ذاتاً عن سائر الموجودات فهو الذي حمل الأمانة الإلهية، وهي إمّا نفس التكليف والمسؤولية الشرعية، أو مناط التكليف وهو العقل والإرادة والاختيار. وإليه يرجع القول بأنّ المراد بها خلافة الله في الأرض، فإنّ مناطها هو الإرادة والاختيار. وأمّا ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله فلا يخلو عن تكلّف.

وإنّما يبقى السؤال عن تعليل ذلك بكونه ظلوماً جهولاً، وفي ما ذكره العلامة

ص: 185


1- الكشّاف 277:3

هنا أيضاً تكلّف واضح، ولو كان الأمر كما ذكره، لكان الأولى، بل الصحيح أن يعلّل بكونه عادلاً عليماً فما الموجب للعدول ؟! وإرجاع ذلك إلى القابلية للأمرين لا يصحّح التعليل بهذين الوصفين.

والذي يخطر بالبال أنّ التعليل مبنيّ على الاعتبار الأدبي المصحّح لنفس الافتراض، فالمفروض أنّه ليس هناك في الواقع عرض ورفض وإشفاق وتحمّل، وإنّما كلّ ذلك تعبير عن الحالة الطبيعية التي تفصل الإنسان، وتميّزه عن غيره من الموجودات، رغم كبرها وضخامتها، فالمراد بالعرض هو وجود هذه المقارنة على أرض الواقع، بمعنى أنّه إذا لوحظ التكليف والإرادة والاختيار، وافترض أن تعتبر السماوات والأرض والجبال على ضخامتها موضعاً لهذه المزايا لأبَين من ذلك وأشفقن منها، أي خفن وشقّ عليهنّ تحمّل ذلك.

ويلاحظ الإتيان بنون النسوة كأنّ هذه الأشياء ذوات عقل وليس ذلك إلا لمجرّد التصوير والافتراض الأدبي. وفي هذا الافتراض الأدبي يصحّ تعليل قبول الإنسان للأمانة، بأنّه ناش عن ظلمه وجهالته.

أمّا «الظلم» فبمعنى ظلمه لنفسه حيث يحمّل نفسه ما لا طاقة لها به أو بمعنى الرمي في الظلام - كما أسلفنا مراراً - ، فالإنسان جسور قليل المبالاة بالعواقب، يرمي في الظلام ولا يعلم نتيجة عمله.

وأمّا «الجهالة» فليست بمعنى الجهل، بل بمعنى السفاهة، فكأنّه يريد أن يقول: إن الذي يدعو الإنسان إلى قبول المسؤولية، سفاهته وعدم تدبّره، ولو كان بمعنى الجهل، فالمراد جهله بعواقب الأُمور.

ومهما كان، فالله تعالى لا يريد تغيير الإنسان على قبوله المسؤولية وأنّه إنّما

ص: 186

قبل ذلك لظلمه وجهله، بل هذا تعبير أدبي عن ضخامة المسؤولية وعدم تمكّن الإنسان - في الغالب - من أدائها، بالرغم من طاقاته ومواهبه، بحيث لو كان الإنسان مختاراً في قبول هذه المسؤولية ورفضها، ومع ذلك كان يقبلها ويلتزم بمضمونها، لكان ذلك ناشئاً من سفاهته ومن ظلمه لنفسه. فالغرض هو الإشارة إلى ضخامة الأمر، وتنبيه الإنسان أنّه قد حمّل أمانة عظيمة لا يتحمّلها الكون بأجمعه.

«ليُعَذِّبَ الله المُنافِقِينَ وَالمُنَافِقَتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ الله عَلَى المُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً»، قيل : إنّ اللام لبيان العاقبة وأنّ عاقبة أمر الإنسان آلت إلى انقسامه إلى هذه الأقسام، ولكنّ الظاهر أنّها للعلّية وأنّ الجملة علّة للعرض وتحميل المسؤولية، ليميّز الله الخبيث من الطيّب. وقدّم تعذيب المنافقين لأنّهم في الدرك الأسفل من النار ، ولأنّ النفاق جريمة مضاعفة، فالمنافق مشرك في الواقع ويظهر الإيمان.

وتوبته على المؤمنين بمعنى رجوعه عليهم بالرحمة وتوبة المؤمن مسبوقة بتوبة ربّه، كما قال تعالى: «ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ»(1).

ثمّ عقّب الآية بغفرانه ورحمته إيذاناً بأنّ المؤمن أيضاً مهما بلغ من إيمانه، فإنّه لا يبلغ المقصود إلا برحمة من الله وفضل وغفران لذنوبه وتكميل لنقصه.

وهكذا يتبيّن أنّ الإنسان كم كان جاهلاً بعواقب الأُمور لو فرض قبوله للمسؤولية، فإنّه لم ينج منه إلا القليل وذلك بغفران من الله تعالى ورحمة.

ص: 187


1- التوبة (9): 118

وهكذا ينبّه الله تعالى عباده بخطورة الموقف، ويبعث فيه الرجاء فيالوقت برحمته وغفرانه.

ومن لطيف التعبير بمناسبة بعض آيات السورة عطف النساء على الرجال في الأصناف الثلاثة، تنبيهاً على وحدة المناط في الحكم، وعدم الفرق بين الرجال والنساء من حيث الآثار المترتّبة على اختيار الصفات المذكورة. والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 188

تفسير سورة سبأ

تفسير سورة سبأ

ص: 189

ص: 190

سورة سبأ (1-2)

«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)»

السورة كسائر السور المكّية تتعرّض لاُصول العقيدة الإسلامية. وتمهيداً للتأكيد على المعاد تشير الآيتان إلى إمكانه ، لأنّ إعادة الحياة تتوقّف على أمرين: عموم قدرة الله تعالى وعموم علمه والآيتان تتضمّنان الأمرين.

«الْحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرضِ»، أي أنّ الحمد مهما كان، ومن أيّ أحد، ولأيّ أحد، فهو لله تعالى. والحمد هو الثناء على الجميل الاختياري.

وكلّ من يُحمد بأيّ محمدة فهو وما له من صفات وما يصدر منه من الأفعال التي يستحقّ عليها الحمد ملك لله تعالى ومستند إليه، فإنّ له ما في السماوات وما في الأرض. وليست هذه الملكية ملكية اعتبارية من قبيل ما نعتبره بالنسبة لأموالنا حفاظاً على شؤوننا الاجتماعية، بل هي ملكية واقعية أساسها تقوّم كلّ شيء في كيانه ووجوده بإرادته تعالى وقدرته.

وما في السماوات وما في الأرض عبارة عن كلّ الكون، بناءً على أنّ المراد

ص: 191

بالأرض هنا كلّ العوالم الطبيعية، وبالسماوات كلّ ما وراء الطبيعة، بل حتّى لو لم نقل ذلك فإنّ هذا التعبير لا يبعد أن يكون كناية عن كلّ الكون، ومصحّح هذه الكناية هو أنّ الإنسان إذا فتح عينه لا يجد أمامه من الكون إلا السماء والأرض.

وحيث إنّ الكون سيتبدّل إلى كون آخر من سماواته وأرضه كما قال تعالى: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَيَرَزُوا الله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ»(1)، أضاف إليه قوله «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ».

«وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ»، قد أغرب جمع من المفسّرين في تفسير هذه الجملة، فذكروا وجوهاً لتأويل الحمد في الآخرة، وذلك لأنّ الحمد في الدنيا واجب له تعالى، وفي الآخرة ليس واجباً، إذ لا تكليف هناك.

وكأنّهم توهّموا أنّ المراد بالحمد في الموضعين ما يصدر من الناس من حمد وثناء، مع أنّ المراد أنّ الحمد في حدّ ذاته يختصّ به تعالى، أين ما كان، ومتى كان، ومن أيّ أحد، وفي أيّ مرحلة من مراحل الكون، وفي أيّ عالم من العوالم ، فلا حاجة إلى تأويل. مع أنّ أهل الجنّة أيضاً يحمدون الله تعالى كما قال عنهم: «وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»(2)، وقال تعالى «وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ»(3). وذكر الحمد في الآخرة تمهيد لما سيأتي من الكلام حول المعاد والحياة الآخرة. ولعلّ توصيفه ب_«الحكيم» أيضاً تمهيد له باعتبار أنّ حكمته تعالى تقتضي أن يكون هناك عالم آخر يحاسب فيه الأعمال وإلا لكان خلق هذه النشأة عبثاً

ص: 192


1- إبراهيم (14): 48
2- يونس (10): 10
3- الزمر (39): 75

ومنافياً للحكمة، قال تعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنّما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ»(1) . والتوصيف ب_«الخبير» تمهيد لبيان قدرته على إعادة الإنسان مهما تكاثر عدده وتشتّتت أجزاؤه، فإن الخبير مأخوذ من الخبرة، أي العلم بدقائق الأُمور وجزئياتهاوتفاصيلها وخباياها.

«يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فى الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا» ، لا شكّ أنّ كثيراً من الأجسام الموجودة على ظاهر الأرض تتحوّل بمرور الزمان إلى أن يتمّ امتصاص الأرض لها وتتغيّر هناك، وتتحلّل، وتخرج منها بصورة جسم آخر. وهذا هو المراد بالولوج والخروج من الأرض، فهذه عملية مستمرّة لتجديد الحياة على هذا الكوكب، كما تدخل فيها المعادن لتحتفظ بخصائصها طيلة القرون، ويدخل فيها الماء وتخرج مصفّى وغير ذلك.

ولعلّ هذه الجملة تفصيل مفاد الوصف الثاني أي «الخبير»، وهو في نفس الوقت بيان لعموم علمه تعالى بما يتوقّف عليه إيجاد النشأة الآخرة. والتعبير في هذه الجملة جامع لجميع الجزئيات الموجودة على كوكب الأرض، مع ملاحظة التغيّر والتحوّل الطارئ عليها بتشتّت الأجزاء، وامتصاص الأرض لها، ثمّ تحوّلها في باطنها إلى موادّ أُخرى، أو تغيّر حالتها وخروجها منها، فهو يعلم بها حين الولوج، وحين الخروج وقد تغيّرت ماهيتها وتبدلت صورته.

وهذا هو أساس ما يتوقّف عليه إحياء الموتى وبه يدفع إشكال المنكرين أنّه كيف يمكن إعادة الإنسان وقد تفرّقت أجزاؤه ومزّق كل ممزّق - كما في هذه السورة - وضلّ في الأرض كما حكاه تعالى عنهم في قوله: «وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي

ص: 193


1- المؤمنون (23): 115

الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ»(1) ؟!

والحاصل أنّ ظاهر التعبير هنا وتخصيص العلم بما يلج وما يخرج لدفع هذا التوهّم، لا لمجرّد بيان كمّ هائل من المعلومات بعبارة مختصرة، كما في بعض التفاسير حيث قال: «إنّ التعبير يشمل كلّ إنسان وحيوان يموت وكلّ نبت وكلّ مادّة تدفن في الأرض، وكلّ ما يدخل فيها من سوائل وأشعة وفضولات، وما يخرج منها من نبت وإنسان وحيوان، فكلّ هذه الأمور تنطبق عليها العبارة»(2) واعتبر ذلك من معجزات التعابير القرآنية!! مع أنّ ذكر عنوان عامّ يشمل كمّاً هائلاً من الموجودات ليس من الإعجاز في شيء.

«وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا»، قيل هنا أيضاً بأنّه عنوان يشمل مجموعة أُخرى من حقائق الكون، فإنّ منها ما تنزّل من العلوّ كالمطر والأشعة، ومنها ما تصعد كالأبخرة.

ولكنّ الظاهر أنّه إشارة إلى علمه تعالى بما ينزل من السماء من أحكام، وما يعرج إليها من أعمال. وهكذا يتمّ العلم الذي لا بدّ منه لإنشاء تلك المحكمة الكبرى.

«وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ»، لعلّ التعقيب بالوصفين أيضاً يناسب المعنى المذكور آنفاً، باعتبار أنّ علمه تعالى بتفاصيل الأعمال وبكلّ صغيرة وكبيرة منها يشتمل على نوع من التهديد، فأراد سبحانه تلطيف الجوّ وبعث الرجاء في النفوس بالتركيز على صفتي «الغفران» و«الرحمة».

ص: 194


1- السجدة (32): 10
2- راجع: إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن: 433؛ أطيب البيان في تفسير القرآن 10: 540

سورة سبأ (3-6)

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)»

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تأتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ»، الظاهر أنّ عنوان «الَّذِينَ كَفَرُوا» مصطلح قرآني يراد به مشركو مكّة. وكانت عرب الجزيرة بوجه عامّ تنكر المعاد مع اعترافهم بالله تعالى وبكونه خالق الكون، لأنّ الاعتراف بالمعاد يستدعي التقوى، وكانوا يأبون ذلك.

يختلف معنى الساعة حسب اختلاف الموارد - في القرآن فقد يقصد بها لحظة انتهاء الكون وقد يقصد يوم القيامة. وهي في الأصل بمعنى الجزء الصغير من الزمان، ولعلّها تطلق على ذلك اليوم، لتحقّقه بسرعة خاطفة، كما قال تعالى «وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحِ بِالْبَصَرِ»(1) . والمراد بها هنا یوم القيامة والبعث، فإنّه هو الذي ينكره المشركون.

وفى جواب إنكارهم أمر الله تعالى رسوله بأن يقول لهم: «بَلَى وَرَبِّي لَتَايَنَّكُمْ».

وكلمة (بلى) تقال تارة في جواب سؤال منفي فيكون الجواب مثبتاً لذلك

ص: 195


1- القمر (54): 50

المورد كقوله تعالى: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى»،(1) فهذا الجواب يثبت الربوبية التي ورد السؤال عن نفيها وتقال تارة أُخرى لإثبات ما أنكر كما في هذه الآية حيث تثبت المعاد بعد الجحود المنقول من الذين كفروا.

والحلف بالربِّ لتناسب الربوبية مع المعاد، إذ مقتضى ربوبيته تعالى أن يوصل الإنسان المربّى إلى نتيجة أعماله. والتوصيف بأنّه عالم الغيب وما تلاه من تأكيد، لردّ شبهة المشركين في إنكارهم للمعاد، فإنّهم كانوا يستغربون ذلك من جهة أنّ الإنسان بعد موته تتفرّق أجزاؤه فلا يمكن جمعها.

والجواب واضح ، فإنّ الأجزاء المتفرّقة من الغيب، والله تعالى يعلم الغيب. والمراد به ما هو غائب عن أعين الناس ولا سبيل لمشاهدته في الطبيعة، وإلا فليس هناك أمر غائب عن الله تعالى.

«لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلا فِى الأرض»، أي لا يبعد ولا يغيب عنه مثقال ذرة، فكلّ شيء حاضر عنده وعلم الله بالأشياء ليس بالتصوّر - كما عندنا - بل كلّ شيء حاضر بكلّ خباياه وزواياه عنده، وهو محيط به. و«المثقال» من الثقل بمعنى الوزن. و«الذرّة» تطلق على النمل الصغير، وعلى الهباء المنثور الذي يرى في ضوء الشمس حين تدخل من نافذة صغيرة. والغرض التأكيد على إحاطته تعالى بكلّ شيء، وأنّ الأشياء حاضرة عنده لا تغيب عنه، فهو يعلم وزن الذرّة على صغر حجمها بحيث لا تكاد ترى.

«وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» ، جملة مستقلّة. و«الكتاب» بمعنى المكتوب، أي المجموع. وكلّ مجموعة من المعلومات كتاب. و«المبين» بمعنى

ص: 196


1- الأعراف (7): 172

الواضح أو بمعنى الموضح، فيمكن أن يكون الكتاب كناية عن علمه تعالى، ويمكن أن يكون إشارة إلى نفس الحقائق الكونية، فإنّها الكتاب التكويني التي تشكل أحرفه مجموعة الحقائق بنفسها وهي واضحة وموضحة، لأنّها تريك نفس الحقائق لا صورها ولا أسماءها ولكنّ لا يطّلع عليها بكاملها إلا الله تعالى. ويوم القيامة يظهر لكلّ إنسان حقائق أعماله بعينها، فيقول: «مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا».(1)

«لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» بيان لحكمة إنشاء النشأة الآخرة، وعلّتها الغائية، وهي أن يلقى الإنسان نتيجة عمله، فالذين آمنوا بالله وبرسله وكتبه وشريعته، وعملوا الصالحات أي الأعمال التي تصلح لأن تدخل صاحبها في رضوان الله، يرون منه تعالى مغفرة لذنوبهم التي لا يخلو منها إنسان إلا من عصمه الله تعالى. و «المغفرة» الستر، أي يستر ذنوبهم وعيوبهم ونقائصهم. ولا بدّ من المغفرة حتّى يستحقّ الإنسان الرزق الكريم، وهو الجنّة. و «الكريم» كلّ شيء قيّم، كما يقال: الأحجار الكريمة، أي الثمينة.

«وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي أَيَّاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزِ أَلِيمٌ» «السعي» هو الركض أو المشي السريع. و«المعاجزة» محاولة التعجيز، أو محاولة إظهار عجز الآخر، فالمراد أنّهم يبذلون جهدهم لإظهار عجز الله تعالى في آياته. وهو كناية عن مبالغتهم في إنكار الآيات، ودلالتها على الحكمة والقدرة. و«الرجز» هو الرجس والقذارة، أو الاضطراب وعدم الاستقرار. وكلاهما يناسب جريمتهم، فالقذارة تناسب تكبرهم واستعلاء هم على الحقّ، فيجزون بها احتقاراً لهم.

ص: 197


1- الكهف (18): 49

والاضطراب تناسب سرعة مشيهم في معاجزة الله تعالى. وهو في نفس الوقت أليم، وهو مبالغة في الإيلام، أي مؤلم لا يتحمّل ألمه.

«وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الحَقِّ» «يرى» مأخوذ من الرأي، بمعنى العلم والإذعان. و «الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» لا يخصّ علماء أهل الكتاب كما يقوله بعض المفسّرين، إذ لا دليل على التخصيص، فالمراد أنّ هذه حقيقة علمية يسلم له كلّ من آتاه الله نصيباً من العلم. ولعلّ الغرض الإشارة إلى أنّ من لا يرى ذلك ولا يعتقده فهو جاهل. والمراد ب_«الَّذِي أُنْزِلَ»، القرآن الكريم. والظاهر أنّ هذه الجملة في مقابل قول الذين كفروا لا تأتينا الساعة، فهم جهلة لم يؤتوا نصيباً من العلم.

وحيث كانت الآية في ضمن الإجابة على إنكار المعاد، فهي تجعل مقابلة بين الإيمان بالقرآن، وبين إنكار المعاد، في إشارة إلى أنّ المعاد حقيقة لا يوصل إليها إلا عن طريق الوحي، فإنّه من الغيب الذي لا يصل إليه البشر بنفسه. وقوله تعالى «هُوَ الحَقِّ» يدلّ على انحصار الحقّ فيه، حيث أتى بالضمير والخبر المعرفة، فكلّ ما يقال بشأن المعاد باطل، إلا ما ورد عن طريق الوحي.

«وَيَهْدِى إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» وهو الصراط الذي لابدّ من سلوكه، إذا أُريد الوصول إلى السعادة في تلك النشأة. والتعبير «بالعزيز»، لأنّه الغالب الذي لا يغلب على أمره، فيتحقّق ما أراده مهما كان، ولكنّه في نفس الوقت حميد، لا يصدر منه إلا ما يستوجب الحمد والثناء وليست الغلبة لديه مدّعاة للظلم على أحد.

ص: 198

سورة سبأ (7-9)

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)»

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيد» وفي لهجة ساخرة يقول مشركو مكّة لمن يلقونه، ويحاولون إغفاله، بالدعاية ضد النبي صلّی الله علیه و آله: «هل ندلّكم على رجل...» أو يقولون ذلك في ما بينهم. والتعبير يفترض مسبقاً أنّ الأمر مخالف للعقل وغير قابل للتصديق، وأنّ السامع مسلم لهذا الرفض، وأنّه إذا سمع ذلك يحلو له أن يجد هذا الإنسان الغريب، الذي يصدر منه هذا الكلام، فلا يحتاج إلا إلى الدلالة عليه ليراه مستغرباً. و«التمزيق» هو تفريق الأجزاء. و«الممزّق» مصدر ميمي، أي مزّقتم كلّ تمزيق، أي تمزيقاً كاملاً بحيث لا يبقى جزء منكم قابلاً للتجزئة.

«أَفْتَرَى عَلَى الله كَذِباً أمْ بِهِ جِنَّةٌ» أفترى أي أإفترى، فحذفت الهمزة الثانية، لأنّها همزة وصل. و «افترى» أي اقتطع. والمراد هنا اختلاق الحديث. وكذباً مفعول به أي اختلق حديثاً كاذباً. وهنا يردّد المشركون حال النبي صلّی الله علیه و آله بين أمرين، لغرابة ما يقول: فهو إمّا أن يكون قد أُصيب بالجنون، لأنّ هذا الكلام لا يصدر من عاقل، أو يكون من الذين يفترون على الله الكذب، لأنّه ينسب ذلك إلى الله. وتراهم يتحمّسون هنا لله سبحانه كأنّهم أنصاره تعالى.

ص: 199

«بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ» ويأتيهم الردّ من الله تعالى من دون خطاب، إذ لا يستحقّونه، فلا يقول: «بل أنتم في العذاب»، بل لا يأتي أيضاً بالضمير الغائب فيقول: «بل هم في العذاب»، بل يركز على الوصف «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ» تنبيهاً على العلّة، فهم في العذاب والضلال البعيد، لأنّهم لا يؤمنون بالآخرة. والجواب مصدر ب_«بل»، أي ليس كما قالوا، فليس به جنّة ولم يفتر على الله تعالى، بل إنّ مناوئيه هم الذين في العذاب والضلال البعيد.

وربّما يتساءل أنّهم حين ما قالوا هذا الكلام وحين ما كانوا غير مؤمنين بالآخرة، لم يكونوا في عذاب، فما هو المراد من التعبير الذي يؤكّد كونهم في العذاب بالفعل؟ والجواب أنّ في العبارة احتمالين:

1 - أنّ المراد ب_«العذاب» عذاب الآخرة، بدعوى أنّهم الآن محاطون بالعذاب وإن لم يشعروا به، نظير قوله تعالى : «وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ»(1) بناءً على ما قيل من أنّه يدلّ على الإحاطة الفعلية وكذا قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً».(2) ومهما كان فهذا تعبير أدبي يكنى به عن الحتمية والقطعية أو أنّه كما قيل إشارة إلى حقائق في باطن العالم لا يدركها الناس بحواسهم ومشاعرهم الاعتيادية فإذا وهب الله أحداً نظرة ثاقبة تنفذ إلى ملكوت هذه النشاة، لرأى أنّ كثيراً ممّن نجدهم أناساً يعيشون كسائر بني آدم إنّما هم حيوانات مفترسة أو أنعام سائمة.

2 - أنّ المراد به العذاب النفسي والقلق والاضطراب فإنّ الإنسان محاط في

ص: 200


1- التوبة (9): 49
2- النساء (4): 10

هذه الحياة بالمكاره ومهدّد بالمخاطر فإذا آمن بالآخرة فإنّه يمنّي نفسه بحياة ينبسط فيها العدل والسلام والأمان، ويبلغ كلّ إنسان فيها ما يستحقّه ويجازي بعمله، وبذلك يشعر بالسعادة.

وحيث يجد أنّ ما يعمله في هذه الحياة منشأ لسعادته الأبدية، فهو واثق من نفسه وهدفه وأمّا الذي لا يؤمن بالآخرة فإنّه يعيش في اضطراب وقلق مستمرّ، لا يجد لهذه الحياة هدفاً ولا لعمله نتيجة. قال تعالى : «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً».(1)

وهو مضافاً إلى ذلك في الضلال البعيد، أي البعيد عن الحقّ. والإنسان الذي يضلّ الطريق تارة يكون قريباً من الجادّة، فهناك أمل أن يهتدي إليها، وتارة يتوغّل في البعد عن الجادّة بحيث لا يؤمّل منه الرجوع إليها. ويقابله العبد المنيب الذي يكثر من الرجوع إلى الله تعالى، فلا يتوغّل في الإخلاد إلى الأرض والبعد عن الله تعالى.

«أَفَلَمْ يَرَوْا إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرض إِنْ نَشَأْ نَخْسِفُ بِهِمُ الأرض أو نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ» الظاهر أنّ هذه الآية تهديد ووعيد للمستكبرين المعاندين للرسالات وتنبيه للإنسان بوجه عامّ بأنّه محصور ومحاط بالخطر من فوق رأسه ومن تحته، فأين ما يذهب الإنسان، فالسماء فوقه والأرض تحته، ألا يخاف أن يسقط عليه ربّه من السماء، أي من جهة العلوّ وممّا فوقه، كسفاً، أي قطعاً من الصواعق المحرقة أو الشهب وغيرها، أو يأمر الأرض فتخسف به، كما خسف من قبل بأقوام وحضارات وأشخاص؟!

ص: 201


1- طه (20): 124

والظاهر أنّ الضمير يعود للمشركين المنكرين للمعاد والمستهزئين بالرسول صلّی الله علیه و آله، فيسأل منهم سؤال استنكار : «أَفَلَمْ يَرَوْا» ومعنى ذلك أنّه يكفي في الأمر أن يشاهدوا ما حولهم، فيروا الخطر بأم أعينهم، فالأمر لا يحتاج إلى تفكّر وتدبّر، فإنّ الإنسان يرى فوقه سماءً كم سقط منه على الخلق صواعق وحجارة، ويجد حوله أرضاً كم ابتلعت أُناساً، بل قرىً ومدناً وحضارات، فهذا تهديد للمشركين وللبشر عامّة بأن لا يأمنوا عذاب الله ولا يتمادّوا في غيّهم.

ولكن يقع السؤال بناءً على هذا التفسير عن وجه التعبير عن السماء والأرض بما بين أيديهم وما خلفهم، حيث إنّ «مِنَ» في قوله تعالى: «مِنَ السَّمَاءِ وَالأرض» بيانية مع أنّ السماء فوقنا والأرض تحتنا، فقيل: إنّ المراد هو الإحاطة من كلّ جانب، فكأنّه قال: «وعن أيمانهم وعن شمائلهم»، ثمّ حذف الباقي.

ويحتمل أن يكون المراد من «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» ما يرونه بالعين من حوادث السماء والأرض. و من «مَا خَلْفَهُمْ» ما لم يروه ولكنّهم سمعوه بحيث كان ذلك كالرؤية. وهذا أقرب ممّا قاله المفسّرون والحمد لله.

وقيل: إنّ المراد بالآية ليس تهديد المشركين، بل حثّهم على النظر في السماء والأرض ليتبيّن لهم أنّ الله الذي خلق الكون من العدم، وأنشأ هذا النظام الكوني الدقيق قادر على إعادة الحياة، فهو أسهل بكثير من خلق الكون العظيم. وأمّا جملة «إنْ نَشَأْ نَخْسِف بهم الأرض...» (1) فهي جملة معترضة جيء بها للتهديد والتحذير.

ص: 202


1- سبأ (34): 9

ولكن الاحتمال الأوّل أقرب لئلا يلزم كون هذه الجملة معترضة لا تناسب السياق .

«إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةٌ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» أي كفى بالنظر في السماء والأرض وتذكّر المخاطر آية تبعث في الإنسان تقوى الله تعالى وعدم تكذيب رسله في أخبارهم عن المعاد، ولكنّها إنّما تكون آية كافية لكلّ عبد ينيب إلى ربّه، ولا يبعد عنه بالتوغّل في شؤون الحياة الدنيا وشهواتها.

والإنابة هي الرجوع والعودة. فالذي ينجي الإنسان من القلق، وينقذه من الهلع والإضطراب، ويبعث فيه الأمل، هو الرجوع إلى ربّه وإيكال الأمر إليه، فبرجاء رحمته تحلو الحياة، وبذكره تطمئنّ القلوب.

ص: 203

سورة سبأ (10-14)

«وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)»

مجموعة آيات تذكر نعم الله تعالى على بعض عباده، وتحثّ العباد على الشكر، وتدافع عن بعض أنبيائه في قبال ما أُلصق بهم من تهم في الكتب المحرّفة عن كتب السماء، وتؤكّد على عدم اللجوء إلى الجنّ، ومن يدّعي علم الغيب من أتباعهم.

ولعلّ وجه مناسبتها لما سبق - كسائر الموارد التي يذكر فيها أقوال المشركين والمناوئين للرسول صلّی الله علیه و آله - هو ذكر بعض الأمثلة الواضحة من تأييده تعالى لرسله السابقين، ليكون تسلية له صلّی الله علیه و آله وللمؤمنين، وتخويفاً وتحذيراً للمشركين. وكذلك عرض المجموعة التالية من الآيات لما حدث من سلب النعمة عن قوم سبأ، ففي كلّ ذلك عبرة للمخاطبين من الفريقين.

«وَلَقَدْ آتَيْنا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً» «الفضل»: الزيادة. والمراد كلّ ما يعطى لأحد ممّا لا يستحقّه على المعطي. وكلّ ما يعطيه الله تعالى أحداً فهو فضل منه تعالى، إذ لا

ص: 204

يستحقّ عليه أحد شيئاً ويمكن أن يكون المراد بالفضل هنا فضله علیه السّلام على سائر الناس، أي آتيناه نعمة زائدة على ما أنعمنا به على غيره.

وقوله: «مِنَّا» تشريف وتكريم زائد يدلّ على عناية خاصۀة به علیه السّلام وذلك لأنّ كلّ شيء منه تعالى، سواء كان خيراً أو شرّاً، حقيراً أو جليلاً، مع أنّ قوله «آتَيْنا» يغني عنه لو لم يكن يقصد به إظهار عناية خاصّة.

«يا جِبالُ أَوِّبى مَعَهُ وَالطَّيْرَ» هذا بيان لذلك الفضل الذي أنعم الله تعالى به على داود علیه السّلام بحكاية الخطاب التكويني الذي حقق تلك النعمة، وهي قوله تعالى: «يا جِبالُ أَوبي مَعَهُ وَالطَّيْرَ». فالجبال والطير أُمرت تكويناً أن تردّد تسبيح داود ومناجاته لله تعالى. وداود مشهور بمزاميره ودعواته وزبوره.

قال تعالى: «وَسَخَّرْنا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ»(1) فالظاهر أنّ الجبال كانت تردد تسبيحه، وكذلك الطير. والتأويب هو الترجيع. والواو للمعيّة والمصاحبة، أي الجبال مع الطير تسبّح مع تسبيح داود علیه السّلام. وأوضح منه قوله تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِي وَالإِشْراقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلَّ لَهُ أَوَّابٌ».(2)

«وَأَلَنَّا لَهُ الْحَديدَ» نعمة أُخرى هي إلانة الحديد له، ولم يذكر أنّه كان بصورة الإعجاز أم بوجه آخر، فينطبق على ذلك، كما ينطبق على تعليمه كيفية الانة الحديد بالنار بصورة طبيعية. ولكن قوله تعالى: «وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ»(3)، يؤيّد المعنى الثاني فإن حثّ الأجيال المتأخّرة على

ص: 205


1- الأنبياء (21): 79
2- ص (38): 17 - 19
3- الأنبياء (21): 80

الشكر على هذه النعمة لا يناسب إلا إذا كانت الصنعة في عصرهم على غرار الصنعة التي علّمها الله داود علیه السّلام كما أنّ قوله تعالى: «لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ» يقتضي ذلك أيضاً.

«أنِ اعْمَل سابغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالحاً إِنِّى بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» الظاهر أنّها مفسّرة للإلانة، ولكنّ بتضمين معنى القول، كأنّه قال: «النّا له وقلنا» فكانت الإلانة بمثابة أمره بعمل الدروع. وكان المحارب قبل ذلك يلبس من الحديد أو نحوه صفحة ثقيلة، فعلّم الله تعالى داود علیه السّلام كيف يصنع الدرع، فيخفّ حمله ويقي المحارب من الضربة. وذلك بعد أن ألان له الحديد؛ إمّا بالإعجاز أو بالتعليم .

ثمّ إنّ ما حكاه تعالى في هذه الآية ليس تعليم صناعة الدرع بوجه خاصّ، بل هي أُمور عامّة لابدّ من مراعاتها في كلّ عمل و«السابغات» صفة للدروع المقدّرة، أي اعمل دروعاً سابغات، أي كاملات تامّات. وقيل «واسعات». و «السرد» نسيج الدرع ، أي حلقاته. ويقال له الزرد أيضاً.

و «التقدير» يمكن أن يكون بمعنى التضييق بأن تكون الحلقات متراصّة ليكون الدرع قويّاً متيناً أو لئلا ينفذ فيه الرمح والنبل ويمكن أن يكون «التقدير» بمعنى مراعاة التناسب بين الحلقات ومهما كان فهو أمر بالاتقان في العمل وفي حديث مشهور: «رحم الله أمرأ عمل عملاً فأتقنه»(1) ولم أجد له مصدراً معتمداً.

ثمّ عقّبه بحكم عامّ في نفس السياق «وَاعْمَلُوا صالحاً» وهو خطاب لآل داود أو لأُمّته. وليس المراد ب_«الصالح» الأعمال الصالحة كما فسر به، بل الصالح بمناسبة

ص: 206


1- تفسير القرطبي 13: 244

المقام هو ما يصلح للاستعمال، فهو حكم عام بالإتقان في الصنع. ومن الملفت للنظر أنّه تعالى هدّد العاملين بقوله «إِنِّى بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». أي لو فرض أنّ صاحب العمل والمستأجر لم ينتبه لخيانة الأجير في عمله، فإنّ الله تعالى بصير بذلك، ويحاسبه يوم القيامة.

«وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» لعلّ التقدير: «وسخّرنا لسليمان الريح». والظاهر أنّه علیه السّلام كان يستخدم الريح للانتقال من مكان إلى مكان، أو لنقل الأشياء وكان مسيرها في الصباح بمقدار مسيرة شهر، وفي المساء أيضاً مسيرة شهر بالوسائل العادية في ذلك العهد والتعبير بمسيرة شهر تعبير متعارف ومعناه واضح لدى عرف المخاطبين.

والحاصل أنّ الريح كانت تحمله وينقل أمتعته صباحاً وتعود به مساءً، أمّا أنّه كيف كان الحمل يتحقّق هل كان يجلس على بساطه وتحمله الريح، أو كان يركب في سفينة والريح تذهب به حيث يشاء وبتلك السرعة الهائلة، أو كان بطريق آخر لا نعلم ذلك ولم يرد في خبر معتبر، فالأُولى السكوت عنه والاكتفاء بما دلّت عليه الآيات.

وقد فسّره بعض المفسّرين بأنّ الريح كانت تذهب به شهراً وتعود به شهراً. وهذا غريب، لأنّه ليس أمراً يمنّ به عليه خاصّة.

وقد ورد ذكر هذه النعمة في قوله تعالى: «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةٌ تَجْرِى بِأَمْرِهِ إلى الأرض الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا..» (1) ، فهذه الآية تحدّد المقصد بأنّه بيت المقدس أو مطلق بلاد الشام كما قيل. ولكنّه تعالى عمّمه في قوله، «فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءٌ

ص: 207


1- الأنبياء (21): 81

حَيْثُ أَصَابَ»(1) ولعلّ المراد بالآية الأُولى المقصد الذي تذهب إليه الريح ليبدأ سليمان علیه السّلام منه سفره؛ لأنّه كان يقيم في الأرض المباركة.

«وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ» «القطر» هو النحاس. و«أسلنا» من الإسالة، أي جعل الشيء سائلاً. وهنا أيضاً يمكن أن يكون الإنعام عليه بصورة الإعجاز، بأن أوجد له عيناً تنبع بالنحاس المذاب، أو بصورة طبيعية كما لو أخرج النحاس من فوهة بركان. ويمكن أن يكون المراد أنّه تعالى علّمه كيف يذيب النحاس، وإن كان التعبير بالعين يناسب المعنى الأوّل بأحد وجهيه.

«وَمِنَ الجنّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ ربّه» وهذه نعمة أُخرى خاّصة به علیه السّلام وهي تسخير الجنّ، وهو على ما يعلم من القرآن موجود ذو شعور ومكلّف، ولكنّه غائب عن أنظارنا، لا يمكننا رؤيته. قال تعالى: «إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ»(2)، ويظهر من الآيات أيضاً أنّ له من القدرة ما لا يقدر عليه الإنسان، كما يظهر من هذه الآيات. وفي سورة النمل إنّ عفريتاً من الجنّ أبدى استعداده لنقل العرش من سبأ قبل أن يقوم سليمان علیه السّلام من مقامه . (3)

ولا يبعد أن يكون بعض غرائب المباني الباقية من العهود البائدة التي لا يمكن إنجازها حتّى بالوسائل الحديثة من صنع هذا الكائن الغريب. ومهما كان فقد سخّر الله تعالى لسليمان من الجنّ من يعمل بين يديه أي أمامه وبمشهد منه، وإنّما كانوا مسخّرين له بإذن من الله تعالى وليس باستقلال من سليمان علیه السّلام. وهذا

ص: 208


1- ص (38): 36
2- الأعراف (7): 27
3- راجع النمل (27): 39

التقييد لابد منه في كلّ مورد يتوهّم منه الاستقلال.

«وَمَنْ يَرْغَ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعير»: «الزيغ»: الميل عن الاستقامة، كما في المفردات. ويظهر من الآية أنّ الله تعالى وكّل بهم من يعذّبهم إذا تخلّفوا عن أمره، ولكنّه تعالى نسب الأمر إلى نفسه حيث كانوا مأمورين بالعمل بما يأمره سليمان علیه السّلام، فأمره تعالى هو اطاعة أمر سليمان علیه السّلام ويظهر من الآية ونظائرها أنّ منهم من كان يحاول ذلك فينزل عليه العذاب. و«السعير»: النار الملتهبة. والظاهر أنّ المراد به العذاب في هذه الدنيا، ولا وجه لما قيل بأنّه في الآخرة، إذ ليس ذلك وازعاً لهم في هذه الحياة.

ويظهر من موضع آخر أنّ بعضهم كانوا مكبلين قال تعالى: «وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ»، (1) و«الأصفاد»: الأغلال. والظاهر أنّه المراد أيضاً بقوله تعالى «وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ»(2). والمذكور هنا من أعمالهم ما يتعلّق بالبناء، وصنع التماثيل، والأواني الضخمة التي تناسب الملوك والعظماء، وأُضيف إلى ذلك في سورتي «ص» و«الأنبياء» الغوص، قال تعالى: «وَالشَّيَاطِينَ كُلّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصِ»(3)، «وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ...» (4).

وهناك فرق آخر بين التعبير هنا وما ورد في سورتي «ص» و«الأنبياء»، فهنا عبّر عنهم بالجنّ وفيهما عبّر عنهم بالشياطين، وهم أشرار الجنّ. ومنه يعلم الوجه في تعذيبهم وحبسهم في الأغلال، ولا يعلم المراد بالأغلال، إذ يبعد أن يكون

ص: 209


1- ص (38): 38
2- الأنبياء (21): 82
3- ص (38): 37
4- الأنبياء (21): 82

المراد ما نفهمه منها، فلا بدّ أن يكون ذلك شيئاً يقيدهم وتسلب حرّيتهم، يقيّد الإنسان بالأغلال.

«يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالجَوابِ وَقُدُورٍ راِسياتٍ»، «المحاريب» جمع محراب، قيل: إنّ المراد بها آلات الحرب، لأنّ المفعال اسم الآلة. ويرى أكثر المفسّرين أنّ المراد بها المساجد أو محاريب المساجد، وهو أشرف موضع منه، أي موضع الإمام، أو المراد بها الغرف، كما استعمل في ذلك في بعض الأشعار، ولعلّ قوله تعالى: «إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ»(1) من ذلك، إذ التسوّر بمعنى الصعود واجتياز السور.

وقيل: إنّ المحراب صدر البيت. واختلفوا في أنّه هل هو الأصل ، وسمّي محراب المسجد باسمه. للمناسبة، كما في معجم مقاييس اللغة، (2) أو أنّ العكس هو الصحيح، كما رجّحه الراغب في «المفردات». (3)

و«التمثال» يطلق على تماثيل الحيوان وغيره، قالوا إنّ المراد بها تماثيل الإنسان والحيوان وإنّها لم تحرم في تلك الشريعة، ولكن ورد في بعض رواياتنا أنّها لم تكن تماثيل الحيوان والإنسان، بل تماثيل الشجر ونحوه.

و«الجفان» جمع جفنة: وعاء للطعام. و«الجوابي» جمع جابية بمعنى الحوض، لأنّه مجمع الماء، «وجبى» بمعنى جمع، فالمراد أنّهم كانوا يصنعون له أوعية طعام كبيرة كالأحواض. «قدور راسيات»، أي ثابتات لكبرها وضخامتها.

وقد يثار سؤال حول حياة سليمان علیه السّلام حيث إنّه وإن كان ملكاً إلا أنّه نبيّ في

ص: 210


1- ص (38): 21
2- معجم مقاييس اللغة 2: 48
3- راجع: المفردات في غريب القرآن: 112

نفس الوقت فكان جديراً به أن يتزهّد في الدنيا وزخارفها، فلماذا اهتمّ بصنع التماثيل والمباني الضخمة والصرح الممرّد من قوارير؟ ولماذا سخّر الجنّ وأكرههم على أن يعملوا له ما يشاء؟ أليس هذا مشابهاً لما يعمله جبابرة الملوك مع الأُنس؟

والجواب أنّ كلّ ذلك كان من الله تعالى فهو الذي سخّر له الجنّ أو شياطينهم خاصّة ولعلّ ذلك كان جزاءً لهم على أعمالهم وشرورهم. والظاهر أنّ كلّ ما بدا منهم من أعمال في البناء ونحوه كانت آيات رسالة سليمان علیه السّلام فإنّ الله تعالى يجعل معجزة كلّ رسول ما يناسب زمانه وحضارة البشر في عهده وفي بيثته.

وحيث كان إبداع البشر في ذلك الزمان والمكان في هذه الشؤون جعل الله معجزة رسوله أن صنع من ذلك ما لا يمكنهم صنعه من دون أن يستخدم البشر، كما كانوا يفعلون، فيكون علامة واضحة على أن ما صنع لم يتمّ له الا بأمر من الله تعالى إعلاماً لرسالته.

«اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً» قيل: إنّ المراد «اعملوا الشكر»، فيكون مفعولاً به، والمعنى اشكروا يا آل داود. ولكنّ الظاهر أنّ شكراً مفعول لأجله، والمعنى: «اعملوا يا آل داود ما هو مطلوب منكم شرعاً من عمل عبادي أو اجتماعي بداعي الشكر لله تعالى»، حيث أنعم عليكم بهذه النعم الجسيمة.

ويفهم من العبارة أمران: الأوّل: أن لا يكون العمل بداع غير داعي الشكر لله تعالى، والأمر الآخر أنّ الشكر يجب أن يكون عملياً ولا يكتفى بالشكر العملى اللساني، كما هو الغالب، وكلّما عظمت النعمة عظم الشكر العملي المناسب لها.

«وَقَليلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ»، هذا التعقيب يؤكّد على الأمر الثاني في الجملة السابقة، فإنّ الشكور صيغة المبالغة وهي تناسب أن يكون الشكر عملياً، فالمراد

ص: 211

بهذه الجملة أنّ الغالب في الشاكرين من العباد هو الشكر اللساني، وأمّا الشكر العملي فقليل. وهو المطلوب من آل داود علیه السّلام.

«فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ المُوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرض تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ» المراد بدابَة الأرض الأَرَضَةُ وهي - بالتحريك - دودة بيضاء شبه النملة تأكل الخشب، وهناك نوع منها تأكل غيره أيضاً على ما قيل .

و«المنسأة»: العصا، سمّيت بها لأنّها تستعمل لتأخير الأشياء عن مواضعها. و«النسء»: التأخير.

تذكّر الآية قصّة موت سليمان علیه السّلام وهو واقف أو جالس على شرفة أو ما يشابهها، والجنّ يعملون بين يديه ولم ينتبهوا لموته، فاستمرّوا في عملهم الشاقّ الذي عبّر عنه بالعذاب المهين، وبقي سليمان علیه السّلام على حاله إلى أن جاءت الأرضَة وأكلت عصاه، فوقع على الأرض، فعلموا بموته.

«فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن أنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ المُهين» لمّا سقط سليمان علیه السّلام تبيّنت الجنّ، أي علمت من نفسها أنّها كانت تخطئ في معرفة نفسها وأنّها ما كانت تعلم الغيب وإلا لم تلبث في العذاب المهين والعمل الشاقّ بعد موته، أو أنّ الجنّ تبيّن أمرهم وانكشف للناس الذين كانوا يظنّون أنّهم يعلمون الغيب. و«أن» تفسيرية تفسّر التبيّن أي تبينوا من هذه الجهة، وهي أنهم لا يعلمون الغيب، خلافاً لما يظنّ الناس وما زالوا يظنّون.

والآية تنبّه على أمر مهمّ يمكن به تفنيد دعوى علم الغيب من كلّ من يدّعيه عن غير طريق الله تعالى، فإنّك تجد أنّ هذا المدّعي تحيط بداره الشرطة ويقبض عليه ويلقى في السجن. ولو كان يعلم الغيب كما يدعي أو يدّعى له لعلم بهم قبل أن يصلوا إلى داره، فهو يخبر الناس البسطاء عن أعماق بيوتهم، وقلوبهم،

ص: 212

وما كان منهم في الماضي البعيد، وما سيكون في المستقبل، وهو لا يعلم بما يهدّده من خطر على بضعة أمتار. وهكذا الكلام في المدّعين للسحر الذين يزيلون الجبال بسحرهم حسب دعواهم، ولكنّهم لا يتمكّنون من الآفلات من قبضة شرطي مسلّح!.

ثمّ أنّه ورد في بعض الأحاديث أنّه علیه السّلام بقي متّكئاً على عصاه سنة كاملة. وقيل: شهراً، وقيل غير ذلك. وهذا أمر مستغرب، إذ كيف لم يعلم الناس والحاشية بموته، وكيف صدّقت الجنّ بقاءه هذه المدّة الطويلة. ولكنّ الذي يظهر من الآية أنّه بقي وقتاً طويلاً، إذ يستبعد أكل الأرَضَة للمنسأة في يوم واحد أو أقلّ، كما أنّ لبث الجنّ في العذاب ظاهر في كونه مدّة طويلة نسبياً.

ولا استغراب في ذلك فلعلّه علیه السّلام كان جالساً على كرسيه ومتّكئاً على عصاه. كما أنّه لا وجه لاستغراب أنّ الحاشية والجنّ كيف كانوا يفسّرون بقاءه مدّة طويلة دون حراك ودون أكل واستراحة وذلك، لأنّهم كانوا يشاهدون منه الغرائب والمعاجز ما لا يمكن صدوره من غيره، فلعلّهم كانوا يحملون ذلك أيضاً على هذا المحمل ويعتبرونه من معاجزه. ونستخلص من الآيات أنّ داود وسليمان علیهما السّلام كانا نبيّين أنعم الله عليهما من النعم ما لم ينعم به على إنسان آخر، وقد أكّد القرآن على نزاهتهما وطهارتهما، وعلمهما الغزير، وتعبّدهما، وتقواهما. كلّ ذلك ردّاً على ما ورد في التوراة المحرّفة من رميهما بالفسق والكفر والتجبّر.

والقرآن مهيمن على الكتب السماوية قال تعالى: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ...» (1). وهذا مما يفنّد دعوى القائلين أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله استقى معلوماته في تنظيم القرآن من التوراة.

ص: 213


1- المائدة (5): 48

سورة سبأ (15-19)

« لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)»

«لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينِ وَشِمال» ذكر قصّة سبأ بعد قصّة سليمان علیه السّلام يأتي في سياق بيان آثار الشكر والكفران، فبينما كان آل داود من الشاكرين لربّهم، كان هناك قوم غير بعيدين عنهم لم يشكروا ربّهم، بل طغوا وكفروا، فيذكر قصّتهم ليعتبر المعتبرون.

واختلف في سبأ أنّه اسم لرجل أو لقوم أو لبلد. ولا يبعد إطلاقه على كلّ ذلك وفي رواية عن الرسول صلّی الله علیه و آله أنّه «رجل من العرب ولد عشرة. تيامن منهم ستّة وتشأم منهم أربعة، فأمّا الذين تيامنوا فالأزد وكندة ومذحج والأشعرون والأنمار وحمير ... وأمّا الذين تشأموا فعاملة وجذام ولحم وغسّان».(1) فعلى فرض صحّة الحديث - وهو بعيد - يكون سبأ أباً لقبائل عربية بعضهم في اليمن وبعضهم في الشام، وبالطبع ينتقل الاسم إلى القبيلة، ثمّ إلى البلد.

والظاهر أنّ المنقول هنا من قصّتهم حدث بعد إسلام ملكة سبأ على يد

ص: 214


1- تفسير الصافي 4: 215

سليمان علیه السّلام، ولعله يكون متأخّراً جداً، حيث إنّ الظاهر انتشار الإسلام فيهم على يد الملكة. وبعد دهر من الزمان تحوّلوا إلى الكفر نتيجة للبطر والتنعّم وعدم الشكر، كما هو الغالب في الأقوام.

وهذا هو الهدف الأساس من التذكير بحالهم، ليعتبر الأقوام المتنعّمة من البشر، ويعلموا أنّ النعمة إذا لم يقم الإنسان بواجبه تجاهها، فستكون بنفسها نقمة عليه، فإنّها توجب في الأجيال المتأخّرة التي لم تذق الفقر ولم تتعب في سبيل إنشاء الحضارة ترهلاً وكسلاً يجرانها في النهاية إلى الضعف، ثمّ الدمار.

وقوم سبأ كانوا يعيشون في جنوب اليمن. ويقال إنّ آثار الخصب باقية حتّى الآن. ولكن الآية تذكّر بنعمة عظيمة منّ الله بها عليهم نتيجة لبناء السدّ المعروف بسدّ مأرب، ويعتبر ذلك من رموز الحضارة البشرية القديمة، ولكنّه على كلّ حال من نعم الله تعالى عليهم ، فالحضارات - وإن صنعتها أيدي البشر - نعمة من الله تعالى، وكلّ شيء فيها من العناصر الطبيعية من الله تعالى، وحتّى العقل البشري الخلّاق، والقدرة البشرية، وغير ذلك كلّها من نعم الله تعالى، فلا يغرنّ الناس تقدّمهم وتمدّنهم، ولا يكن ذلك مدّعاة لنسيان المنعم.

والظاهر أنّ المراد بالجنّتين إحاطة الجنان بالبلد يميناً وشمالاً، لا خصوص الجنّتين بالعدد والمراد بالمسكن البلد.

ويحتمل أن يكون المراد بالآية في الآية الكريمة ما أنعم الله به عليهم من بناء السدّ العظيم الذي منعوا به مياه السيول الغزيرة الهدّامة، وجعلوا له منافذ فانشئت به الجنان عن يمين البلد وشماله. وبذلك تحوّلت النقمة إلى نعمة. وربّما يكون هذا هو ظاهر الآية الكريمة، بلحاظ أنّ قوله تعالى «جنّتان» بدل عن قوله «آية».

ص: 215

ويحتمل أن لا يكون المراد ب_«الآية» الجنّتين، بل ما تعقّب ذلك من دمار و خراب نتيجة كفرهم وإعراضهم. والسبب في هذا العدول عن ظاهر الآية أنّ وجود جنّتين لا تعدّ آية فهناك في سائر البلاد جنان كثيرة.

بل يمكن أن لا يكون في ذلك مخالفة للظاهر باعتبار أنّ الآية تحقّقت في مجموع ما حدث لهم من حدوث الجنتّين ثمّ زوالهما. والآية: العلامة فكما أنّ الجنان علامات على رحمته تعالى كذلك أبدالها بما لا ينفعهم علامة على قدرته وحكمته وعزّته وحسن تدبيره في تربية الإنسان وسوقه إلى الكمال.

ولا ينافي ذلك ما هو الظاهر البدوي من الآية الكريمة حيث جعل الجنّتين فيها بدلاً عن قوله (آية) فإنّه من قبيل قوله تعالى «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ...» (1) فإنّ التمثيل - كما يبدو ابتداءَ - إنمّا هو بنفس الماء، مع أنّ الحياة الدنيا لا يشبه الماء، وليس هو المقصود ، بل التمثيل إنّما هو بمجموع ما ذكر.

«كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبِّ غَفُورٌ» الظاهر أنّ هذا ليس خطاباً لفظياً أُوحي إلى نبيّ لهم، وإن لم يستبعد وجود نبيّ بينهم، كما قيل، بل المراد - والله العالم - أنّهم مخاطبون بذلك حسب الخطابات العامّة للبشر، فهو تطبيق للخطابات العامّة، كما يمكن تحقّقه في زماننا هذا أيضاً، فهذا ممّا يخاطب به كلّ من أنعم الله عليه.

وقوله: «بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ» بيان للنعمة، فالبلد طيّب بترابه ومائه وهوائه وثمراته وكلّ مستلزمات الحياة البشرية، والربّ يغفر لكم قصوركم وتقصيركم. ولولا مغفرته

ص: 216


1- الكهف (18): 45

لم ينعم عليكم بذلك. وهذا يدلّنا على حقيقة قرآنية مهمّة وهي أنّ كلّ ما يصيبنا فهو من نتائج أعمالنا ويعفو الله عن كثير ، قال تعالى: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير»،(1) فإذا أنعم علينا فربّما يكون لمغفرته وعفوه.

ولكن ليس كلّ نعمة كذلك، فربّما يكون الإنعام للاستدراج. والفارق والعلامة - كما في الحديث(2) - أنّ الإنسان إذا وفّق للحمد والشكر لم يكن استدراجاً، ولذلك يأمرهم الله تعالى بالشكر لتبقى المغفرة، وإلا فيمكن أن تتبدّل النعمة عذاباً، ويمكن أن تتبدّل استدراجاً، فلا يغرنّ الإنسان استمرار النعم وليكن دائماً على حذر.

«فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ»، أي أعرضوا عن ذكر ربّهم وشكر نعمه. والشكر - كما مرّ في قصّة آل داود - ينبغي أن يكون بالعمل ليكون الإنسان شكوراً مبالغاً في الشكر. وأمّا قوم سبأ فأعرضوا ولم يشكروا، بل كفروا بنعمة الله قولاً وعملاً، فسلبهم الله نعمته، وأرسل عليهم سيل العرم.

واختلف في معنى كلمة «العرم»، هل هو كلمة «العرم»، هل هو السدّ بنفسه، أو الحجارة، أو الجرذ؟ فالأوّل بمعنى أنّ السيل جاءهم من نفس السدّ بعد انهدامه وهو بالطبع سيل عظيم جدّاً، والثاني بمعنى أنّ الأمطار الغزيرة استنزلت الحجارة، فانهدّ السدّ، والثالث بمعنى أنّ الله تعالى سلّط جرذاناً على السدّ، ففتحوا طريق الماء. وهذا أشبه بالأساطير.

وفي «معجم مقاييس اللغة»: «العرم أصلٌ صحيح واحد، يدلّ على شِدّة

ص: 217


1- الشورى (42): 30
2- الكافي 2: 97

وحِدّة» وقال: «وأمّا سيل العَرِم فيقال: العَرِمَةُ: السِّكْر، وجمعها عَرِم. وهذا صحيح، لأنّ الماء إذا سُكِرَ كان له عُرَامٌ من كثرته»(1) والسِّكر هو السدّ. فالمعنى أنّ الله تعالى أرسل عليهم السيل من السدّ، والتقييد به لبيان أنّ السيل لم يكن بفعل الأمطار الغزيرة، بل بماء السدّ نفسه. والغرض أنّ الله تعالى بدّل نعمتهم بالذات نقمة عليهم ، وأصبح السدّ الذي يمنعهم من السيول مثاراً لسيل عظيم. وقيل: العرم بمعنى الصعب الشديد، فيكون من إضافة الموصوف إلى الصفة.

«وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَیْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُل خَمْطٍ وَأَثْلِ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَليل» جرف السيل تلك الجنان التي غيّرت مجرى حياتهم، وتبدّلت الأراضي الخصبة إلى صحراء قاحلة ليس فيها إلا بعض الأشجار البريّة. والتعبير يوحي بفقر شديد أبدلوا به. وتسمية الأشجار البريّة جنّتين من باب التهكّم و المقابلة.

قيل: إنّ المراد بالخمط نوع من شجر الأراكِ له حَمْل يؤْكل، والأصل فيه معناه الملاسة، فيطلق على كلّ ما لا شوك له. وقيل غير ذلك. ولكن الظاهر أنّه يطلق أيضاً على كلّ ثمر مرّ أو حامض شديد الحموضة وهو هنا بهذا المعنى، لأنّ الكلمة جاءت وصفاً للأُكُل. والأُكُل: المأكول. وأُكُل الشجر ثمرها. نعم إذا قرئت بالإضافة: «أُكُلِ خمط» فهو بمعنى الشجر المذكور. و «الأثل» شجر غير مثمر يستفاد من خشبه. و «السدر» معروف، وهو شجر مفيد بأغصانه وأوراقه وثمره وظلّه، ولكنّه ليس كأشجار الفواكه الأُخرى، مضافاً إلى أنّه أيضاً لم يكن متوفّراً، بل بقي لهم منه شيء قليل. وقوله تعالى: «قَليلٍ» صفة لشيء، أي شيء قليل من السدر.

«ذلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِما كَفَرُوا» «ذلك» إشارة إلى تبديل الجنان المحدقة بيمين البلد

ص: 218


1- معجم مقاييس اللغة 4: 293

وشماله إلى ما يشبه جنّتين لا تشتملان على شجر مفيد إلا قليلاً. فهذا التبديل كان جزاء كفرانهم للنعم الإلهية . و «ما» مصدرية، أي بكفرهم.

«وَهَلْ نُجازي إلا الْكَفُورَ» استفهام إنكاري، أي لا نجازي إلا الكفور. قيل: إنّ المجازاة لا يعبّر بها إلا في مورد العذاب ولكنّ الظاهر هو العموم، وإنّما يستفاد من القرائن أنّ المراد بالمجازاة هنا العقاب، أي هل نجازي بالعذاب في الدنيا إلا الكفور. و«الكفور» صيغة المبالغة، فلعلّه من جهة أنّهم تركوا الشكر العملي والقولي، فأنكروا أن تكون النعم من الله تعالى وأفسدوا في الأرض أيضاً.

وربّما يستغرب الحصر مع أنّ العذاب في الدنيا يشمل المؤمن أيضاً، كما قال تعالى: «وَمَا أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ..»، (1) ولكنّ الظاهر أنّ ذلك ليس من المجازاة والعقاب، وإنّما هو نتيجة طبيعية لبعض الأعمال. و«الكفور» ربّما يشمل المؤمن أيضاً، فإنّ المراد به كفران النعم، فالمراد بالآية أنّه تعالى لا يعاقب في الدنيا إلا من كان مبالغاً في الكفران.

«وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتي بارَكْنا فيها قُرى ظَاهِرَةُ» الظاهر أنّ هذا بيان لنوع آخر من كفران النعمة فالمذكور في الآيات السابقة أنّهم لم يشكروا ربّهم وأعرضوا عن ذكره، ولعلّه من جهة أنّهم اعتبروا كلّ ذلك نتيجة لتعبهم، وتقدّمهم في الحضارة البشرية، شأنهم شأن غيرهم من أصحاب الحضارات المتقدّمة، فهذا في الواقع نكران للمنعم. والمذكور هنا عدم اعترافهم بالنعمة, واعتبارهم النعمة أمراً يوجب السأم والملالة. والنعمة هنا من أهّم النعم وهي الأمان، ولكن الإنسان يغفل عنه إلا بعد أن يفقده والمراد بجعل القرى توفيق

ص: 219


1- الشورى (42): 30

الأسباب وتهيئتها بحيث تحقّقت تلك القرى بفعل الناس، بل لا مانع من إسناد فعل الناس إليه تعالى أيضاً.

واختلفوا في المراد ب_«القرى التي بورك فيها»، فقيل : هي بلاد الشام بقرينة قوله تعالى «بارَكْنا فيها» الظاهر في أنّ المراد بها بيت المقدس وما حولها، وهي الأرض المقدّسة والمباركة. وقيل: المراد مكّة ونواحيها. وقيل: صنعاء وما حولها من القرى. وقيل غير ذلك.

وربّما يستظهر الأوّل بقرينة سائر الموارد، التي يعبّر فيها بالبركة، إلا أنّ المسافة بين جنوب اليمن وهو موضع سبأ إلى بلاد الشام طويلة جدّاً يبعد كونها مليئة بالقرى الظاهرة المتلاصقة بحيث يسير بينها الناس ليلاً ونهاراً، خصوصاً بملاحظة قلّة عدد النفوس في تلك الأزمنة، فلعلّ المراد بالقرى التي بارك الله فيها منطقة أُخرى مباركة، بمعنى أنّها كثيرة الخيرات، فكان قوم سبأ ينتفعون بالمبادلات التجارية معها.

واختلفوا أيضاً في المراد ب_«الظاهرة»، هل هي المتقاربة بحيث تظهر الأُخرى حين خروجك من إحداها، أو أنّها على مرتفع من الأرض فهي ظاهرة من بعد، أو غير ذلك؟ والظاهر هو الأوّل بقرينة أنّ المراد بيان كون السير بينها آمناً.

«وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سيروا فيها لَيالي وَأياماً آمِنينَ» لعلّ المراد ب_«التقدير» التضييق، بمعنى تقليل المسافة، وهو بذاته موجب لأمن الطريق. ويمكن أن يكون المراد التقدير بمعنى القضاء، أي قدّرنا استمرار حركة السير بينها ممّا يوجب استتباب الأمن في الطريق. والأمر بعده «سيرُوا...» كالأمر في: «كلوا من رزق ربكم» ليس خطاباً موجّهاً، كما ربّما يتوهّم، بل المراد بيان أنّه كان بمقدورهم أن

ص: 220

يسیروا فيها ليالي وأيّاماً ،آمنين فهذا خطاب فرضي ومجرّد تعبير عن تلك الحالة. والمراد ب_«السير في الليالي والأيّام» أنّه لا يختلف الأمر ، فكما كان يمكنهم السير في النهار آمنين، كذلك كان السير ليلاً أيضاً، وهذا غاية في الأمان وخصوصاً في ذلك العهد، ولكنّهم استخفّوا بهذا الأمر وطلبوا من الله تعالى أن يباعد بين أسفارهم.

«فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا» لا شكّ أنّ هذا دعاء ينمّ عن حمق وغباء، ولذلك نجد المفسّرين يحاولون أن يجدوا وجهاً وسبباً لذلك، فقال بعضهم: إنّهم طلبوا تطويل المسافة في الأسفار ، لكي لا يتمكّن الفقراء من السفر ويختصّ ذلك بالأغنياء.

وهذا بعيد جدّاً في نفسه، مضافاً إلى أنّه لو كان كذلك لكان تعييرهم بنفس هذه النيّة الخبيثة باعتباره ظلماً للفقراء، لا لأنّهم ظلموا أنفسهم وطلبوا سلب النعمة.

وقيل: إنّهم ملوا العافية وطيب العيش لبطرهم وغاية تنعّمهم، كما طلبت بنو إسرائيل البصل والعدس بدلاً عن المنّ والسلوى.

وهذا لا يبعد في حدّ ذاته إلا أن تشبيههم ببني إسرائيل ليس على ما ينبغي، فإنّ بني إسرائيل كان المطلوب منهم أن يصبروا على الطعام الواحد ليتمكّنوا من الاستمرار في مواجهة الأعداء، فكان ذلك جزءاً من جهادهم، ولذلك ورد التعبير حكاية عنهم: «لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ..»، (1) فالمفروض عليهم هو الصبر، وإن كان إطعامهم بالمنّ والسلوى نعمة قيّمة منّ الله بها عليهم إلا أنّ الإنسان يملّ من تكرار الطعام بالطبع.

ص: 221


1- البقرة (2): 61

ولعلّ جواب موسى علیه السّلام «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ»(1) لا يقصد به نوع الطعام، بل المراد بالخير العزّة والاستقلال وتأسيس حضارة دينية كتبها الله تعالى لهم.

والظاهر - كما ذكرنا - أنّ قوم سبأ استخفّوا بنعمة الأمان ولم يهتمّوا بها، فلم يعتبروها نعمة وطلبوا أن تكون أسفارهم متباعدة فاقدة للأمان. وهكذا الإنسان يستخفّ بالنعمة إذا أُحيط بها. ولا يجب أن يكون هذا الدعاء قولاً صادراً منهم، فلعلّ هذه العبارة تحكي الحالة النفسية لهم، إذ يبعد جدّاً أن يدعو أحد ربّه بهذا الدعاء.

والتعبير يوحي بأنّ هذا الكفران لم يكن على أساس إنكار المنعم، بل مع الاعتراف به. ويفهم ذلك من قول «رَبَّنا» إذ لا قرينة على كونه استهزاءً، فالكفران هنا على أساس إنكار كون النعمة نعمة، وكم هناك من نعم يغفل عنها الإنسان حتّى إذا فقدها تنبّه وأنّى له الذكرى؟!

«وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أحاديث وَمَزَّقْناهُمْ كل مُمَزَّق»، في «الميزان»(2) أنّهم ظلموا أنفسهم بالمعاصي، ولكنّ الظاهر أنّه عطف تفسير على هذا الدعاء، فهم بذلك ظلموا أنفسهم حيث طالبوا بإزالة النعمة عنهم. وعاقبهم الله تعالى فجعلهم أحاديث وهي جمع أُحدوثة، أي ما يتحدّث به، بمعنى أنّه أهلكهم أو فرّق جمعهم، فلم يبق من تلك الحضارة المتقدّمة إلا ما يتحدّث به الناس.

ولعلّ العقوبة كانت بصورة طبيعية، بمعنى أنّ السيل لما جرف جنّاتهم، تفرّقوا

ص: 222


1- البقرة (2): 61
2- الميزان في تفسير القرآن 16: 362

في البلاد، فبادت تلك الحضارة المزدهرة. ومن هنا نشأ المثل العربي: «تفرّقوا أيادي سبأ» أي كأيادي سبأ. و«الممزّق» مصدر ميمي، أي مزّقناهم كلّ تمزيق. وهو تعبير آكد للتفرّق.

«إِنَّ في ذلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» «الصبّار» و«الشكور» من صيغ المبالغة، فالمراد من هو كثير الصبر على البلاء وكثير الشكر على النعم. ولعلّ وجه التقييد بالوصفين أنّ من يعيش الضيق والفقر وأنواع البلاء، ولكنّه يصبر على ذلك ويشكر على ما أُوتي من نعمة قليلة هو الذي يعتبر بهذه الحوادث، ويظهر له بوضوح أن ليس كلّ ما يتنعّم به الإنسان نعمة واقعية، فلعلّه استدراج يجرّه إلى البلاء العظيم.

ص: 223

سورة سبأ (20-21)

«وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)»

«وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»، هذا استخلاص من القضايا السابقة وبيان لحال الإنسان بوجه عامّ. والمراد ب_«تصديق الظنّ» مطابقته لواقعهم، بمعنى أنّ إبليس كان يظنّ بأنّ بني آدم جميعاً سيتبّعونه حيث خاطب ربّه: «لأغوِيَنَّهُم أجمعين»(1)، فهم قد أثبتوا عملياً أنّهم يتّبعونه، وقلّ من لا يتّبعه بحيث عبّر عنهم في الآية الكريمة بأنّهم فريق من المؤمنين. وبذلك جعل إبليس ما ظنّه فيهم صادقاً، أي مطابقاً للواقع.

ويمكن أن يكون «من» في «مِنَ المُؤْمِنينَ» بيانية، أي إلا فريقاً هم المؤمنون قاطبة، ويمكن أن تكون تبعيضية، فالمعنى أنّ المؤمنين أيضاً لم يسلّموا بأجمعهم من متابعته، وهذا هو الواقع، فالاحتمال الثاني أقوى.

«وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا في شَكٍّ»، «السلطان» مصدر بمعنى السلطة. ويظهر من العبارة بوضوح أنّ الله تعالى لم يجعل للشيطان على الإنسان سلطة مطلقة بحيث لا يستطيع المخالفة، وإنّما جعل الله له السلطان بمقدار ما يظهر منه المؤمن بالآخرة من الشاك ّفيها، فالشيطان وسيلة لامتحان الناس وبروز خباياهم. وبذلك أيضاً يظهر الحكمة من خلقه على بني آدم.

ومن تسليطه

ص: 224


1- الحجر (15): 39

والمراد بقوله : «لِنَعْلَمَ» أي ليظهر ظهوراً عينياً، وإلا فلا شيء يعزب عن علمه تعالى إلا أنّ العلم بأنّه سيؤمن أو لا يؤمن، لا يترتّب عليه أثر، وإنّما يترتّب على إيمانه وعدم إيمانه في الواقع، بل لا يترتّب على الإيمان الخفي أو الكفر الخفي حتّى لو كان واقعياً، بل على البروز والظهور العيني، فيتعلّق علم الله به بهذا العنوان، وهو مناط الثواب والعقاب.

ويظهر من الآية أنّ الشكّ في أدنى مراتبه أيضاً له أثر في هذا الامتحان، وذلك لمكان التنكير «شَكّ». وقد قلنا مراراً إنّ اليقين التامّ بالآخرة لا يحصل إلا للأوحدي من الناس، فالمراد هنا ليس ذكر مناط الثواب والعقاب فحسب، بل تصنيف الناس حسب مراتب شكّهم ويقينهم بالآخرة، فإنّ ذلك يؤثّر في تعيين مراتب القرب لدى الله سبحانه والبعد عن رحمته.

والإيمان بالآخرة من الإيمان بالغيب الذي هو المناط في تكامل الإنسان، قال تعالى: «هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ وبهمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ»(1). فاعتبر أوّل شرط للهداية والفلاح هو الإيمان بالغيب.

والإيمان بالآخرة أخصّ من الإيمان بالله تعالى فإنّ الوثنيين كمشركي مكّة والجزيرة العربية كانوا يؤمنون بالله تعالى ويؤمنون بأنّه الخالق والرازق ولكن لم يؤمنوا بالآخرة. ولذلك يؤكّد القرآن على الإيمان بها ولا يكتفي بالإيمان بالله تعالى. ولذلك أيضاً يعبر القرآن عن المشركين بالذين لا يؤمنون بالآخرة. والإيمان بالآخرة.

أبعد عن الشهود وأقرب إلى الغيب من الإيمان بالله، لأنّه

ص: 225


1- البقره (2): 2 - 5

تعالى وإن كان غيباً لا يشعر به الحواس إلا أنّ آياته تعالى كثيرة والإنسان يشعر بوجوده تعالى وهيمنته على الكون من خلالها، كما يشعر بانجذابه إليه تعالى وحاجته إلى لطفه العميم بوجدانه وضميره. ولكنّه لا يشعر بالآخرة فلا يؤمن بها إلا من خلال الإيمان بالرسالات وبما تضمّنته كتب السماء ونزل به الوحي الإلهي ولذلك يقلّ الإيمان بها، بل يضعف حتّى عند المؤمنين.

«وَرَبُّكَ عَلى كلّ شَيْءٍ حَفِيظٌ»، «حفيظ» مبالغة في الحفظ، ويدلّ على ثبوت الصفة ودوامها. والمراد أنّه تعالى يعلم كلّ المراتب الباطنية، وأسرار الناس، و حدود شكّهم وعلمهم، ويحفظها عليهم ليأتي اليوم الذي يوضع فيه كلّ أحد في مكانه اللائق به. والتركيز على كلمة «الربّ»، لأنّ ذلك مقتضى تربيتهم وإيصالهم إلى غاية كمالهم. وأضاف الربّ إلى ضمير الخطاب والمخاطب هو الرسول صلّی الله علیه و آله لأنّه هو المصداق الأكمل لمن ربّاه الله تعالى وأوصله إلى أعلى مراتب الإيمان ولم يضف إليهم استهانة بهم.

ص: 226

سورة سبأ (22-23)

«قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)»

تبدأ من هنا مجموعة آيات تتصدّر جملاتها بالأمر بالقول وتشتمل على المحاجّة مع المشركين.

«قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ الله»، لم يذكر المفعول الثاني للزعم، لأنّه معلوم من الأمر بالدعوة. والمفعول الأوّل ضمير يعود إلى الموصول، وحيث إنّهم يدعون الأصنام ويعتبرونهم آلهة وأرباباً من دون الله، فهذا هو المفعول الثاني المقدّر. والمعنى: قل ادعوا الذين زعمتم أنّهم آلهة من دون الله تعالى. و الغرض من الأمر بالدعاء بيان أنّهم لا يستجيبون دعاءكم، لأنّ الاستجابة تتوقّف على أحد الأُمور التالية المذكورة في الآية وكلّها مفقودة فيهم:

«لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرض»، هذا هو الأمر الأوّل الذي تتوقّف عليه الاستجابة، وهو أن يملك الإله أو الربّ الذي يدعى لجلب منفعة أو دفع ضرر شيئاً في هذا العالم ولو صغيراً وحقيراً، فيطلب منه ذلك الشيء وهؤلاء لا يملكون أدنى شيء، حتّى بمقدار وزن ذرّة من الهباء، لا في السماوات ولا في الارض. وقد مرّ القول في معنى المثقال والذرّة في الآية (3) من هذه السورة. (1)

وهذا النفي المطلق بالنسبة للأصنام واضح، لعدم تملكها لأيّ شيء، وعدم

ص: 227


1- راجع: الصفحة 196

اعتبار ملكيتها حتّى في تلك المجتمعات التي تقدّسها. وإن أُريد من الموصول ما يشمل الإنسان أو الملائكة، ونحو ذلك فالنفي صحيح أيضاً باعتبار نفي الملكية الحقيقية عن كلّ شيء. وإنّما الأشياء كلّها ملك لله تعالى: «لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فى الأرْضِ»(1) والملكية الاعتبارية لا دخل لها في ترتيب آثار الألوهية والربوبية.

«وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْك» وهذا هو الأمر الثاني وهو أن يكونوا شركاء الله تعالى في المالكية لما في السماوات وما في الأرض. وهذا أيضاً منفيّ باعتراف المشركين، إذ إنّهم لا يقولون باشتراكهم في خلق السماوات والأرض، فكيف يشاركون الله تعالى في المالكية، بل المالكية الحقيقية أمر وراء موضوع الخلق، فإنّ معناه تقوّم الأشياء في كينونتها واستمرارها بإرادته تعالى.

«وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ» وهذا الأمر الثالث وهو أن يكونوا أعواناً لله تعالى في ربوبيته. وهذا أيضاً باطل قطعاً، لأنّه يستلزم حاجة الله تعالى إلى من يعينه، وهو يستلزم الضعف والنقص تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. و«الظهير»: المعين مأخوذ من الظهر ، لأنّ المعين يحفظ الإنسان من خلفه في الحروب، فسمّي ذلك مظاهرة، أي تقوية للظهر. والضمير في قوله «لَهُ» يعود إلى الله تعالى، وفي قوله «مِنْهُمْ» الى الذين يدعونهم ويعتبرونهم آلهة. و «مِنْ» في قوله «مِنْ ظَهيرٍ» زائدة تدلّ على تأكيد النفي، أي لا ينصره ولا يظاهره أيّ أحد منهم.

«وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لَمِنْ أذِنَ لَهُ» والأمر الرابع أن يكونوا شفعاء لكم عند الله تعالى، وهذا هو الذي كان المشركون يزعمونه لآلهتهم، وهذه الآية تردّ عليهم، وقد تكرّر هذا المعنى في عدّة مواضع، وهو أنّ الشفاعة لدى الله تعالى

ص: 228


1- سبأ (34): 1

تختلف عن الشفاعة عند غيره، والبشر كثيراً ما يقيس الحقائق الإلهية بما يجده في هذا العالم، لوحدة التعبير، ومنها الشفاعة وهي الوساطة، وحيث إنّ الوسطاء هنا مستقلّون في وساطتهم، فيمكن لصاحب الحاجة أن يترك من يريد منه قضاء حاجته ويتوسّل بالواسطة، ولكنّ الوساطة لدى الله تعالى ليس كذلك، فإنّ الشفعاء في الخليقة وهم الملائكة لا يمكنهم التوسّط في إيصال الأوامر الإلهية إلا بإذنه تعالى، وكذلك الشفعاء في الطبيعة، فإنّ العلل والمؤثّرات الطبيعية أيضاً لا تؤثّر أثرها إلا بإذنه تعالى.

واختلفوا في الموصول في قوله تعالي «لِمَنْ أذِنَ لَهُ» هل المراد به الشافع أو المشفّع له، فاللام في «لَهُ» على الأوّل لتعدية الإذن، وعلى الثاني للتعليل، أي من أجل المشفع له. وربّما يرجّح الاحتمال الأوّل، باعتبار أنّ محور الكلام نفي الشفعاء، فالمناسب أن يبيّن أنّ الشفيع لا يكون شفيعاً إلا بإذنه تعالى.

ولكنّ الظاهر أنّ الثاني هو الصحيح، وذلك لأنّ المنفيّ في الآية نفي الشفاعة عن من لم يؤذن له والمنتفع بها هو المشفوع له. فالمعنى لا تنفع الشفاعة لأحد لا أن يأذن الله تعالى. ومهما كان، فالآية تنفي الشفاعة من دون إذنه تعالى، فلو فرض جدلاً أنّ للأصنام الشفاعة أو أنّ المشرك يعبد الملائكة، لأنّهم شفعاء، فهذه الشفاعة لا تستوجب العبادة، لأنّهم لا يستقلّون بها، وإنّما يشفعون لمن يأذن الله له، فالعبادة لا تصحّ إلا له تعالى.

«حتّى إذا فُرعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحقِّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ»، «فزّع» أي أُزيل الفزع عن قلوبهم، كالتمريض بمعنى إزالة المرض، والإزالة أحد معاني باب التفعيل. واختلف المفسّرون في تفسير هذه الجملة اختلافاً كثيراً، قديماً

ص: 229

وحديثاً. والمهمّ من الأقوال فيها اثنان:

الأوّل: أنّه بيان لمشهد طلب الإذن للشفاعة يوم القيامة، وأنّ الجميع لابئون في الانتظار وهم في فزع وهلع، حتّى إذا جاءهم الإذن وأُزيل عن قلوبهم الفزع، قال بعضهم لبعض : «مَاذَا قَالَ رَبُّكُم...».

الثاني: ما في «الميزان» من أنّه حكاية حال الملائكة في وساطتهم في تدبير الكون، حيث إنّهم في فزع وخشية من الله تعالى ينتظرون الأوامر، ولا يذهب منهم الفزع إلا بعد صدور الأمر فيقول بعضهم لبعض : «مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ...» (1) وقال: إنّ الآية نظير قوله تعالى: «وَ لله يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض مِنْ دَابَّةٍ وَالمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * یَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ»، (2) فالفزع هنا كالخوف في تلك الآية. (3)

وأوّل ذلك بقوله: إنّ المراد بفزعهم حتّى يُفزّع عنهم أنّ التذلّل غشي قلوبهم، وهو تذلّلهم من حيث إنّهم أسباب وشفعاء في نفوذ الأوامر الإلهية ووقوعه على ما صدر، وكما أُريد، وكشف هذا التذلّل هو تلقّيهم الأمر الإلهي واشتغالهم بالعمل، كأنّهم بحيث لا يظهر من وجودهم إلا فعلهم وطاعتهم لله في ما أمرهم به وأنّه لا واسطة بين الله سبحانه وبين الفعل إلا أمره. وهذا هو الصحيح ويردّ القول الأوّل أمران:

الأوّل: أنّ الكلام ليس في يوم القيامة، والآية إنّما تردّ عليهم دعواهم شفاعة الأصنام أو الملائكة في الأُمور التكوينية لا في الحساب والجزاء يوم

ص: 230


1- سبأ (34): 23
2- النحل (16): 49-50
3- راجع: الميزان في تفسير القرآن 16: 371-372

القيامة، لأنّهم لا يعتقدون بيوم القيامة ويبتني الردّ على أساس أنّ الشفاعة والتوسّط في الأُمور التكوينية لا تكون إلا بإذنه تعالى، فالملائكة وإن كانوا مدبّرين لأُمور العالم كما قال تعالى «فالمدبّرات أمراً»،(1) بناءً على أنّ المراد بهم الملائكة كما هو الظاهر ، إلا أنّهم لا يستقلّون حتّى في توسّطهم، بل لا يفعلون إلا ما به يؤمرون.

والثاني: أنّه على هذا الاحتمال لا تظهر فائدة في هذه الجملة، وإنّما تكون مجرّد حكاية لأمر يقع في المستقبل، لا يرتبط بما قبله بشيء، ولكن وجه الارتباط واضح على التفسير الثاني، فهو بيان لغاية الملائكة، وأنّهم لا يبتدئون بشيء، فلا تبدأ الشفاعة إلا بعد صدور الأمر من الله تعالى، وهم قبل ذلك ليس منهم إلا الانتظار والفزع.

وحقّاً أنّه أمر مفزع أنّ مخلوقاً يتلقّى أمراً متعلّقاً بتدبير الخلق من ذي الجلال. فالآية تشبه قوله تعالى: «وَلا يَشْفَعُونَ إِلا مَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ»(2) فإنّ الظاهر أنّ قوله «وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ» جملة حالية تبيّن حال الملائكة قبل الشفاعة و«الإذن» - وهو نفس الحال الذي جعل مغيّى في هذه الآية بإزالة الفزع - ممّا يدلّ على أنّهم في فزع قبل ذلك.

وأمّا المحاورة المنقولة في الآية الكريمة بين الملائكة، فقد أوّلها العلامة رحمه الله بأنّ ذلك من جهة أنّ الملائكة لهم مراتب، فمنهم المطاع ومنهم المطيع، قال تعالى: «وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ»(3) وقال أيضاً «ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاع

ص: 231


1- النازعات (79): 5
2- الأنبياء (21) : 28
3- الصافّات (37): 164

ثَمَّ أمِينٍ»(1) ولا طاعة إلا لله تعالى وإنّما شأن المطاع إيصال الأمر إلى المطيع، فلذلك يسأل المطيع منهم المطاع: «مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحقِّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ». (2)

ولكن ينبغي على هذا التوجيه أن يقول المطيع: «ماذا قال ربّنا» حيث إنّه يسأل عن الأمر المتوجّه إليه.

والذي يخطر بالبال، أنّ هذه المحاورة ونظائرها لا تحكي عن محاورة واقعية دائرة بينهم وليس هناك فريقان سائل ومجيب، بل هي تعبير عن الحالة القائمة فيهم، ولذلك لم يقل: «قال بعضهم»، فالظاهر أنّ المراد أنّ هذا شعور قائم فيهم، بحيث لو سئل أحدهم: «ماذا قال ربكم»، لأجابوا بأجمعهم: «الحقّ» فكلامه الحقّ المطلق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

«وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ»، لا تصلّ إلى علاه وعظمته الأوهام. وهذا تسبيح له من أن يصدر منه غير الحقّ، أو من أن يشفع أحد من دون أمره وإذنه.

والحاصل: أنّ هذه الجملة تبيّن أنّ الشفعاء لا يستأذنون الله تعالى، وإنّما ينتظرون فزعين بماذا سيأمرهم، فيشفعون بعد ذلك. وبناءً على ذلك، فلا وجه المراجعة الشفعاء ابتداءً.

وليعلم أنّ هذا يختلف عن التوسّل بالأولياء المقرّبين لدى الله تعالى لطلب الحاجة منه، فإنّ دور الملائكة هو التوسّط في إيصال أوامر الله تعالى إلى الخلق، فلا يجوز توسيطهم لطلب الحاجة، وأمّا الأولياء فهم وسطاء بين الخلق وربّهم، فلا مانع من التوسّل بهم لطلب الحاجة من الله تعالى.

ص: 232


1- التكوير (81): 20-21
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 16: 372

سورة سبأ (24-27)

«قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)»

«قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض قُلِ الله»، هذه محاجّة أُخرى مع المشركين واستدلال على الربوبية والأُلوهية بالرزق والمراد به إعداد وسائل الارتزاق وهي كلهّا مخلوقات لله تعالى، حتّى حسب العقيدة الوثنية، إذ هو خالق الكون لا يشاركه فيه أحد.

وأسباب الرزق بعضها سماوية وبعضها أرضية، ولذلك قال: «مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض»، فكلّ هذه الأسباب من مخلوقات الله سبحانه، سواء فسّرنا «السماوات» بالعوالم الغيبية، أو بالأجرام الفلكية وكلّ ما يعلو الأرض من هواء وفضاء وسحاب ،وغيرها، فللشمس والقمر والغلاف الجوّي والسحب وغيرها تأثير على ما نرتزق به من محاصيل الأرض.

وحيث إنّ المشركين يعترفون بأنّ الخلق كلّه من الله تعالى، وهذا يستلزم ما ذكر من أنّ الرزق منه، فكأنّه أيضاً أمر يعترفون به في قلوبهم وإن كانوا لا يصرّحون به، فيأمر الله تعالى رسوله صلّی الله علیه و آله أن يبادر بالجواب: «قُلِ الله» ولا تنتظر جوابهم. وهذه طريقة لطيفة في المحاجّة وهو تلقين الخصم ما يعترف به قلباً ويأبى من التصريح به.

«وَإِنَّا أو إيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أو في ضَلالٍ مُبِين»، أروع مثال لإنصاف الخصم وأحسن

ص: 233

تعبير عن احترام الرأي الآخر مهما كان محتواه فيأمر الله تعالى رسوله أن يقول: إنّ أحدنا على هدى والآخر في ضلال مبين. ولعلّ المبين وصف لهما معاً.

وعبّر عن الهداية بأنّ المهتدي على الهدى وعن الضالّ بأنّه فيه، ولعلّه لأنّ المهتدي على الطريق الصحيح أو الجادّة، وأمّا الضالّ فهو متوغّل في الصحراء لا يهتدي إلى الجادّة، فهو محاط بالضلال من كلّ جهة.

«قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا تُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ»، تعبير أوضح عن إنصاف الخصم حيث عبّر عمّا فعله بالإجرام - وحاشاه - وعبّر عما صنعه الأعداء بالعمل، وكلّ إنسان مسؤول عن عمله، وكلّ مجتمع أيضاً مسؤول عن ما اتّفقوا عليه، فهناك مسؤوليات شخصية وهناك مسؤوليات على عاتق المجتمع، ولا يتحمّل مجتمع مسؤولية مجتمع آخر. ويوم القيامة تجد لكلّ إنسان كتاباً ولكلّ مجتمع كتاباً، قال تعالى: «وَتَرَى كلّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ كُلّ أُمَّةٍ تُدْعَى إلى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».(1)

و«الإجرام» في الأصل القطع. قيل: ويطلق على ما يكتسبه الإنسان، كأنه يقتطع لنفسه شيئاً ولكن لا يستعمل إلا في اكتساب الإثم. (2) وقلنا مراراً إنّ السبب في تسميته بالإجرام لعلّه ليس هو كونه اكتساباً - كما قيل -، بل لأنّه يوجب قطع علاقة الإنسان بالمجتمع، ولذلك لا يطلق على كلّ إثم أو كلّ مخالفة للسنن والقوانين الوضعية، بل على ما يستعظمه عامّة الناس، كالقتل والسلب.

«قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثمّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ»، الآية تنبئ عن الحقيقة

ص: 234


1- الجاثية (45): 28
2- المجادلة (58): 21

الكبرى في مستقبل البشرية يوم يجمع الله كلّ الأجيال وكلّ المجتمعات، ويا له من جمع، ثمّ يحكم الله بينهم وهو خير الحاكمين، ويفصل بينهم وهو خير الفاصلين، ويفتح بينهم وهو الفتّاح العليم.

وهو «الفتاح» في كلّ مراحل الكون. والفتّاح مبالغة في الفتح، لأنّ الكون قائم على أساس الرتق والفتق والجمع والفتح، فالله تعالى يفصل بين الحقائق المندمجة ويفتحها وتتولّد بذلك حقائق أُخرى. وعلى هذا الأساس بني التولّد والتكاثر ، فكلّ ذلك يرجع إلى جمع ثمّ فصل، وهو عليم بمقوّمات كلّ حقيقة يفصلها عن غيرها في المجموعة المندمجة.

وكما هو الفتّاح العليم في هذه المرحلة من الكون، كذلك في المرحلة الأخيرة حيث يجمع بين الأُمم والأفراد، ثمّ يفصل بينهم، ويضع كلّ أحد وكلّ مجموعة في مرتبته ومقامه اللائق به، وهو عليم بما يليق بكل أحد وبكلّ أُمّة.

ويمكن أن يكون المراد الجمع في الدنيا، أي في ميادين الصراع الجسمي والعقلي، فربّما يكون للباطل جولة يغلب فيها على الحقّ أو يشتبه به، كما هو الحال في كثير من المجالات، ولكنّه يفصل بينهما في النهاية، حيث يتميّز الحقّ عن الباطل وتكون الغلبة في النهاية للحقّ. قال تعالى: «كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي»،(1) وقال أيضاً: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا هُمُ الْغَالِبُونَ».(2)

ص: 235


1- المجادلة (58): 21
2- الصافات (37): 171 - 173

«قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ»، ازدراء واحتقار للأصنام وكلّ ما يعبد من دون الله تعالى، فكأنّه يقول : لا أرى شيئاً! أين هؤلاء الذين تدعون أنّهم شركاء لله ؟! وحقّاً أنّها دعوى غريبة! الله خالق الكون بيده ملكوت كلّ شيء، هل يمكن أن يقارن به شيء وكلّ شيء مخلوق له؟! حتّى لو فرضنا أنّ هناك شيئاً عظيماً يملأ العين، ولكن أين هو من خالق الكون وخالق العظمة؟ فكيف بهذا الجماد الذي لا يعقل والذي صنعه الإنسان بيده؟! عجيب أمر هذا الإنسان إلى أيّ حدّ ينحط في التفكير والذوق ؟!

وقيل: إنّ المراد بهذه الجملة طلب الإراءة واقعاً، لكي يلاحظ هل في الأصنام ما يبرّر دعوى الربوبية؟ وهل فيها الصفات المعتبرة في الإله المدبّر للكون؟

وهذا غير صحيح، لأنّه صلّی الله علیه و آله كان يراهم وهم بالمرأى العامّ، مضافاً إلى أنّ هذا التقدير لا دليل عليه من اللفظ ولا السياق، فالظاهر أنّ المعنى: أروني ما تزعمون أنّهم شركاء لله تعالى خالق الكون، فإنّي لا أكاد أراهم لحقارتهم.

«كَلا بَلْ هُوَ الله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»، وهكذا يأمر رسوله أن لا ينتظر جوابهم، بل ينفي وجود شيء يلحق به شريكاً مهما كان. «كلا»! أي ليس له شريك، «بَلْ هُوَ الله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». فهو عزيز غالب لا يغلبه شيء فلا يمكن أن يكون هناك شيء لا يملكه ولو كان له شريك في ملكه كان مغلوباً على أمره في مورد الشركة.

وهو «الحَكِيمُ» لا يتّخذ شريكاً، وهذا ردّ لتوهّم آخر، وهو أنّ هؤلاء الشركاء

ص: 236

هم بأنفسهم ملك لله وإنّما اتّخذهم الله شركاء له، وقد كانوا يقولون في تلبية الحجّ: «لبّيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك»(1) فهذه الآية تردّ على ذلك بأنّ هذا منافٍ للحكمة وهل ينقصه شيء حتّى يكمله باتّخاذ شريك ؟!

قال تعالى: «مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً»،(2) أي لا يمكن أن يشرك في حكمه أحداً، فالربوبية ليست أمراً يحال إلى مخلوق لأنّه محدود. والربوبية تتوقّف على السعة والإحاطة بكلّ شيء.

ص: 237


1- تفسیر مجمع البيان 5: 25
2- الكهف (18): 26

سورة سبأ (28-30)

«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين (29) َ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)»

«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً»، المشهور في معنى الآية أنّها لبيان عموم رسالته صلّی الله علیه و آله باعتبار أنّ «كافّة» حال من الناس بمعنى «جميعاً» وكافّة مأخوذ من الكفّ بمعنى المنع. وإنّما أُطلق على هذا المعنى بلحاظ أنّ الحكم يشمل الجميع لا يشذّ منهم أحد، فكأنّ هناك ما يمنع من سقوط أحد منهم. ويقال بأنّ هذا المعنى ورد في روايات كثيرة، ولكنّا لم نجد في رواياتنا إلا رواية ضعيفة جدّاً سنداً ومتناً، نعم هناك روايات كثيرة تدلّ على أصل عمومية الرسالة من دون التعرّض لتفسير الآية الكريمة.

وهناك بعض المناقشات الأدبية في هذا التفسير ، وقد أُجيب عنها، كالقول بأنّ «كافّة» حال تقدّم على ذي الحال المجرور، وهو غير صحيح عند النحاة، وبأنّ «اللام» لا تستعمل بمعنى «إلى».

ولكن أقوى ما يرد على هذا التفسير هو الحصر المستفاد من النفي والاستثناء، إذ لا يظهر وجه لهذا الحصر، ولو أُريد بيان عموم الرسالة لاكتفى بالإثبات أي: وأرسلناك للناس كافّة، ولم أجد من القوم توجيهاً لذلك إلا تأويله بأنّ المستثنى مقدّر وهو: ما أرسلناك لشيء من الأشياء إلا للناس كافّة، ولا أظنّ أنّ هذا ممّا يحمل عليه أفصح الكلام، كما أنّه لا يظهر وجه واضح لتعقيب هذه الجملة بأنّ أكثر الناس لا يعلمون. ومن الغريب بعد ذلك ما يدّعى من أنّ هذا المعنى هو المتبادر من الآية.

ص: 238

والظاهر من الآيات أنها تردّ على توقّع الناس أن يكون الرسول عالماً بموعد القيامة أو بموعد عذاب الاستئصال، كما هو وارد في موارد عديدة من الكتاب العزيز كقوله تعالى: «قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ»،(1) و«الكفّ» هو المنع، و«التاء» للمبالغة، فالمعنى: إنّا ما أرسلناك إلا كافّة ومانعاً للناس عن التجاوز والعدوان، فإنّ الدين وازع قويّ عن الانحلال الخلقي والمفاسد الاجتماعية والظلم والعدوان.

والرسول دوره دور تبليغ الدين وتحكيمه في المجتمع، وقوله: «بَشِيراً وَنَذِيراً» يفسّر طريقة كفّه ومنعه، فهو لا يمنع بقوّة قاهرة وإنّما يمنع ب_«التبشير والإنذار». «ولكنّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» أي لا يعلمون دور الرسول في توجيه المجتمع، وأنّه بشير ونذير فحسب، لا يبلّغ إلا ما حُمّل فيسألونه عن موعد يوم القيامة أو عن موعد نزول العذاب، «وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ».

وردت هذه الجملة في خمس مواضع من الكتاب العزيز. والظاهر في سائر الموارد هو الإشارة إلى ما كان المؤمنون يتوعّدونهم به تبعاً للوحي من نزول العذاب الدنيوي، أو ما يشمل وصول موعد انهدام هذا الكون، أي النفخة الأُولى.

قال تعالى: «وأمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أو نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَ اللهِ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فإذا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلَا نَفْعاً إلا مَا شَاءَ الله لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إذا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةٌ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بياتاً أو نهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المُجْرِمُونَ * أثم إذا مَا وَقَعَ أَمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنتُمْ بِهِ

ص: 239


1- الأحقاف (46) : 9

تَسْتَعْجِلُون».(1) فيظهر بوضوح في هذا المورد بملاحظة الآيات السابقة واللاحقة أنّ المراد بالمشار إليه في هذه الجملة العذاب في الدنيا.

وقال تعالى: «خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * وَلَقَدِ اسْتَهْزِئَ بِرُسُلِ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ»(2) والآية التالية لهذه الجملة وإن كانت ظاهرة في عذاب جهنّم إلا أنّ ما قبلها وما بعد هذه الآية لا ترتبط إلا بعذاب الدنيا.

وهكذا الكلام في سورة النمل حيث عقّبها بقوله تعالى: «قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ».(3)

نعم ما ورد في سورة يس ظاهر في يوم الانهدام حيث جاء بعدها: «مَا يَنْظُرُونَ إلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَحْضُمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةٌ وَلا إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ»،(4) وإن كان يحتمل أيضاً عذاب الاستئصال إلا أنّ قوله تعالى بعد ذلك: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فإذا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ»(5) يقوي الاحتمال الأوّل. وما في سورة الملك أيضاً ظاهر في عذاب الدنيا إذا تأمّلت في ما بعدها من الآيات.

وما هنا أيضاً أقرب إلى احتمال عذاب الاستئصال أو ما يوجب زوال الأُمّة

ص: 240


1- يونس (10): 46-51
2- الأنبياء (21): 37-41
3- النمل (27): 72
4- يس (36): 49 - 50
5- يس (36): 51

وإن كان تدريجياً، فإنّ هذا هو الظاهر من جعل الميعاد لهم بحيث لا يستقدمون ولا يستأخرون، نظير ما مرّ في سورة يونس، فالمراد آجال الأُمم لا يوم القيامة كما ورد في التفاسير. ثمّ إنّ التعبير بفعل المضارع يدلّ على أنّ هذه مقالتهم المستمرّة وليس قولاً في ظرف خاصّ.

«قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْم لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَة وَلا تَسْتَقْدِمُون» «الميعاد» اسم زمان أُضيف إلى «اليوم» إضافة بيانية، أي لكم موعد وهو يوم... ويمكن أن يكون مصدراً، أي وعد يوم.

و «لا تَسْتَأْخِرُونَ...» صفة ليوم وباب الاستفعال هنا للمبالغة كما قيل، أي لا تتأخّرون عنه ولا تتقدّمون مؤكّداً. ويمكن أن يكون بمعنى الطلب كما هو الأصل في باب الاستفعال، أي لا تطلبون تأخراً عنه ولا تقدّماً عليه، مع أنّهم لو علموا به لطلبوا تأخره إلا أنّ عدم الطلب كناية عن عدم الإمكان، إذ لا يطلب الإنسان أمراً مستحيلاً. والساعة الجزء من الزمان والمراد بها هنا أقلّ جزء منه. وقد وقع الكلام في المراد بهذا اليوم وعامّة المفسّرين يفسّرونه بيوم القيامة.

ويبعّده كما أشرنا إليه أنّ عدم تقدّمه وتأخره بالنسبة لهم يدلّ على كونه أمراً خاصّاً بهم، ويؤكّد ذلك تقديم قوله: «لَكُمْ» ممّا يدلّ بوضوح على أنّه موعد خاصّ بهم، ولا ينطبق على يوم القيامة. ويبعّد جدّاً أن يكون المراد يوم موت كلّ واحد منهم، فلا بدّ من حمله على يوم نزول العذاب في الدنيا، أو موعد زوال الأُمّة وفناء المجتمع ولو تدريجاً. ويؤيّد ذلك قوله تعالى في سورة يونس، كما مرّ آنفاً: «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةٌ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ».(1)

ص: 241


1- يونس (10): 49

وفي الآية مورد لسؤال وهو أنّه كيف يكون ما ذكر جواباً لسؤالهم عن موعد العذاب ولم يحدّد في الجواب موعداً؟ والجواب بوجهين:

الأوّل أنّ السؤال ليس استفهاماً حقيقياً، بل هو استهزاء، حيث إنّهم ما كانوا يعترفون بصدق الوعد، فيسألون عن موعده واقعاً. وحيث كان السؤال استهزاءً ناسبهم الجواب بالتهديد.

والثاني أنّ الجواب يذكرهم بحقيقة مهمّة وهي أنّه لا فائدة في معرفة الوقت وإنّما المهمّ أنّه موعد حتمي لا يتأخّر ولا يتقدّم.

ص: 242

سورة سبأ (31-33)

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)»

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» المراد ب_«الذين كفروا» في مصطلح القرآن مشركو مكّة والجزيرة العربية، ولا وجه لما قيل من أنّ المراد بهم أهل الكتاب بل لا يصحّ ذلك لأنّهم يؤمنون ببعض ما بين يديه. وكلامهم هذا يدلّ على غاية تماديهم في الضلال، حيث نفوا الإيمان بنفي الأبد بالقرآن وما قبله من كتب السماء، فمعنى ذلك أنّه لا يؤثّر في عزمهم هذا شيء أبداً.

ومن الطبيعي أنّ المعاند لا يفيد معه البحث ولا النصح، فهذه الآية بمنزلة قوله تعالى خطاباً لنوح علیه السّلام «وَأوحى إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ...»، (1) وبذلك يؤيس الله تعالى رسوله صلّی الله علیه و آله من إيمانهم .

وربّما يقال: إنّ المراد بالذي بين يديه يوم القيامة. وهو تفسير غريب. والتعبير عن الكتب السماوية السابقة بالذي بين يديه متكرّر في القرآن، كقوله تعالى:

ص: 243


1- هود (11): 36

«نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ».(1) وهو واضح. وكأنّ الذي أوقعهم في الوهم هو استغراب أن ينفوا الإيمان بالكتب السابقة ولم يكن هو المطلوب منهم. ولذلك عمد بعضهم إلى توجيه آخر وهو أنّ المشركين سألوا أهل الكتاب عمّا يجدونه في كتبهم حول الرسول صلّی الله علیه و آله ولمّا أخبروهم بالبشارات الموجودة فيها أنفوا من ذلك وقالوا هذه الجملة.

وهذا في حدّ ذاته غير مستبعد، ولكنّ الآية لا تنظر إلى ذلك، بل الغرض بيان كفرهم بجميع الكتب السماوية وما تشتمل عليه من معارف إلهية، فإنّهم كانوا ينكرون كلّ ذلك، قال تعالى : «فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلِّ كَافِرُونَ». (2)

«وَلَوْ تَرَى إذ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» وهكذا يأتي التنديد والتهديد من الله تعالى بعد نقل كلامهم مباشرة ، ولا يذكرهم بضمير عائد إليهم، كما هو المتعارف، بل يصفهم ب_«الظالمين» تنبيهاً على أنّ هذا الكلام وهذا العناد ظلم منهم، وهو ظلم على أنفسهم حيث يعرضون أنفسهم لهذا الموقف المشين أمام ربّهم، وظلم لمجتمعهم، وظلم مطلق لما قلنا من أنّ الظلم لا يجب أن يكون له مظلوم.

و «لو» للتمنّي، أي ليتك ترى موقفهم عند ربّهم حال كونهم موقوفين، أي ليسوا واقفين بأنفسهم، فهم لا يملكون الحركة حينئذٍ. وهم يتبادلون الاعتراض والردّ فيما بينهم أمام ربّهم الذي ربّاهم ليبلغوا غاية كمالهم وقد رجعوا إليه في

ص: 244


1- آل عمران (3): 3
2- القصص (28): 48

نهاية المطاف عاصين له، معاندین لرسالاته.

«يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضِ الْقَوْلَ ...»، أي كلّ جمع منهم يرجع بالقول إلى الآخر بمعنى أنّه يلقي اللوم على الآخر، أو أنّهم يتحاورون ويتبادلون الكلام.

«يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ»، هكذا يبدأ بحكاية تبادلهم للنقد والاعتراض والتقاول، وقد ورد ذلك بصو بصور مختلفة وفي مواقف مختلفة من يوم القيامة في الكتاب العزيز وهنا ينقل مكالمتهم حين الحساب وقبل أن يؤمر بهم إلى النار.

ويصنّفهم الله تعالى إلى مستضعفين ومستكبرين، وهذه طبيعة الجوامع البشرية حيث تنقسم طبقات المجتمع بصورة طبيعية إلى أُناس يتطاولون على الآخرين بما أُوتوا من مال أو قوّة أو دهاء أو مكانة اجتماعية، وأُناس لا يملكون تلك المقوّمات، فتبخس حقوقهم ويعتدى عليهم ويساقون إلى ما تهواه ميول الكبراء. و من الملفت تكرير التعبير بالمستكبرين والمستضعفين من دون إرجاع الضمير إليهم، كما هو المتعارف، ولعلّ السرّ فيه التأكيد على العنوانين.

و«المستكبرون» أي الذين يطلبون لأنفسهم الكبر وهم ليسوا كبراء في الواقع وليست لهم أيّ ميزة عن الآخرين، والطبقة الأُخرى ليسوا ضعفاء في الواقع، فهم لهم فهم وإدراك كما للآخرين، ولهم قدرة جسمية كما للآخرين، ولكنّهم يستضعفون بمعنى أنّ المستكبرين يطلبون لهم الضعف أو يعتبرونهم ضعفاء.

وهناك أمام الربّ حيث تتبدّد غيوم الجهل وتظهر كلّ الأمور على ما هي عليه يتبيّن أن ليس هناك كبر وصغر، بل ربّما يكون هذا المستكبر حقيراً في نفسه لا يعرفه الناس، ولو علموا منه ما لم يعلموا لم يخضعوا له. وهناك كثير من

ص: 245

حقائق الناس تتبيّن يوم القيامة، فيندم أبناء المجتمع ممّا صدر منهم تجاه هؤلاء من حسن أو سوء.

وبعد تبيّن الحال يقول المستضعفون للمستكبرين: «لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ»، فالإيمان هو مقتضى الفطرة والطبيعة، والإنسان بطبعه ينصاع للحقّ ولا يكابره، إلا أنّ هناك أهواءً تمنع وتصدّ الإنسان عن قبول الحقّ. والمستضعف يحاول أن يلقي الذنب على المستكبر وأنّ هواه هو الذي منعه.

«قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ» وهكذا يدافع المستكبر عن نفسه ويلقي بدوره اللوم على المستضعف: «أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى...» وهذا أمر غريب، فهم قد صدّوا ومنعوا الناس عن الهدى الذي جاءهم، ولكنّهم هنا ينسون ما اقترفوه وينفون ذلك.

ويأتي هنا إشكال وهو أنّهم كيف يكذبون أمام الله تعالى، مع أنّ الحقائق بيّنة يوم القيامة ولا يؤذن للإنسان أن يتكلّم بما يريد؟!

والجواب أنّهم لا يكذبون كلّ الكذب، فهناك أمر آخر في نفوس المستضعفين يدعوهم إلى ترك الهدى والانصياع لدعوة المستكبرين، إذ لم يكن منهم إكراه وإجبار، فهم ينفون الصدّ العملي بمعنى الإكراه والإجبار باعتبار أنّه غير ممكن في العقيدة، فإنّه أمر نفسي، فيردّون عليهم أنّ هناك دافع آخر يدعوكم إلى الكفر وهو أنّكم كنتم مجرمين، فالإجرام والإثم ومتابعة الأهواء هو الذي دعاكم إلى ترجيح التصفيق للمستكبرين على التعبّد بأوامر الله تعالى التي تمنعكم من كثير ممّا تشتهيه أنفسكم.

ص: 246

وربّما يفسّر قوله تعالى: «بَعْدَ إذ جَاءَكُمْ» بأنّ المراد بعد أن عزمتم على الدخول في الإيمان وصحّت نيّاتكم في اختياره. وبذلك يتفادى من الإشكال بأنّهم كيف يكذبون وينكرون صدّهم وقد صدّوهم فعلاً. ولكن هذا خلاف الظاهر.

وهناك من يتفادى الإشكال بأنّهم فعلاً يكذبون، لأنّ الكذب أصبح جزءاً من طبيعتهم الثانوية، فلا يستطيعون التخلّي عنه حتّى أمام الله تعالى وما ذكرناه أولى.

«وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً» فالمستضعفون لا يستسلمون لجواب المستكبرين، ويدّعون أنّ أكبر الإثم كان عليهم، وذلك لأنّهم كانوا يكرّرون أقاويلهم في الكفر والشرك ليلاً ونهاراً بحيث لا يتركون لهم مجالاً للتفكير ، مضافاً إلى استعلائهم عليهم بالأمر بالكفر.

و«المكر» هو المحاولة للوصول إلى الأهداف بطرق ملتوية، فالمراد أنّكم كنتم تحتالون علينا ليلاً ونهاراً لكي نبقى على الشرك والكفر، وحيث كنتم كبراءنا ورؤساءنا فتأمروننا مستعلين علينا ولا نستطيع المقاومة والردّ عليكم.

وهنا سؤال وهو أنّه كيف جمعت الآية بين الأمر بالكفر والأمر بجعل الأنداد، والكفر إنكار لأصل وجود الباري؟

والجواب أنّ الكفر بالله يجمع بين كلّ أنحاء الشرك، وإنكار الذات المتعالية، وإنكار الصفات الكمالية، وإثبات صفات ينزه الله تعالى منها. وذلك لأنّ الإيمان بالله هو الإيمان بالذات الواجد لتلك الصفات والمنزّه عن غيرها، ونحن لا نعرف الله إلا بصفاته، فالذي يقبل وجود الله تعالى ولكن يثبت له الجسمية مثلاً كافر بالله، وإنّما يثبت موجوداً وهمياً ويدّعي أنّه هو الله تعالى الله عمّا يصفون.

ص: 247

«وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمّا رَأَوُا الْعَذَابَ»، ربّما يقال: كيف يمكن الإسرار والإخفاء في حين تبلى السرائر وتنكشف الحقائق وتتجلى الخبايا والكوامن؟

وأجاب بعضهم أنّ المراد به الإظهار، وقال: إنّ الإسرار من الأضداد. وهذا بعيد، ولا حاجة إليه، فإنّ محاولة الإخفاء لا ينافي عدم الخفاء، فهم حينما يرون العذاب معدّاً لهم يسرون في أنفسهم الندامة عمّا اقترفوا، وهذا ردّ فعل طبيعي ولا ينافي أنّ الندامة لا تخفى على الآخرين، كما أنّها ربّما لا تخفى في الدنيا أيضاً، فتتبيّن في وجنات النادم وذلك لا ينافي محاولته الإخفاء. وإنّما يخفون الندامة تفادياً لشماتة الأعداء.

«وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»، يصل بعد تبادل الكلام دور الجزاء، فتوضع الأغلال في أعناقهم. وصرّح بالعنوان «الَّذِينَ كَفَرُوا» دون الضمير، لئلا يتوهّم الاختصاص بفرقة منهم دون فرقة، ولكي يشير إلى السبب، فإنّ الإغلال نتيجة للكفر. ثمّ صرّح بأنّ ذلك نفس أعمالهم يجازون بها وهذه العبارة «هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»، وإن احتملت التقدير، أي جزاء ما كانوا يعملون إلا أنّ تكرار الجملة في القرآن ربّما يدلّ على عناية خاصّة، وأنّه ليس هناك حذف وتقدير.

فلا يبعد أن يكون الغرض بيان أنّ هذه الأغلال هي نفس أعمالهم تتعلّق بهم، وهذا أمر طبيعي جدّاً، فإنّ عمل الإنسان متعلّق به لا يفارقه حتّى في هذه الحياة، فإن كان له ضمير حيّ، فإنّه سيؤنّبه. كلّما تذكّر عمله. وهذا هو العقاب الخالد. وفي تلك الحياة تبدو الأعمال بواقع فظاعتها وقبحها، فيكون أشدّ على العامل وأبلغ في التعذيب.

ص: 248

سورة سبأ (34-39)

«وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)»

«وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ» يعود إلى بيان حال المستكبرين في الدنيا، ويفنّد بعض أوهامهم، ويقدّم على ذلك ذكر ما يسلّي الرسول صلّى الله عليه و آله حتّى لا يهتمّ بشأن المستكبرين والمترفين وعدم إيمانهم، قول وهو أنّ هذا دأبهم في مواجهة جميع الرسالات.

والتعبير يوحي بالشمول التامّ لا يشذّ عن المجتمعات شيء في ذلك حيث أتى بالنفي والاستثناء المفيد للحصر بصراحة «وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلا ...». والقرية بمعنى المجتمع، وعبّر عن الرسول ب_«النذير»؛ لأنّ الوظيفة الأساسية للرسل هي الإنذار بعالم غائب عن العيون والأفكار لا تصل إليه الأبحاث البشرية مهما تعمّقت وتوسّعت. وعبّر عن المستكبرين بالمترفين، لانّ الترف هو السبب الأساس في الاستكبار: «إنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَآهُ اسْتَعْنَى». (1)

والمترف: اسم مفعول من الإتراف، وهو المبالغة في الإنعام، فإذا قدّم الأهل

ص: 249


1- العلق (96): 6

لولدهم كلّ ما يشتهيه من طعام ونحوه يقال: أترفه أهله. والمراد هنا الذي أترفه الله بقرينة قوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا».(1) وهذا الإنعام من الله تعالى عذاب ونقمة قال تعالى: «فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أوْلَادُهُمْ إنّما يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبْهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ»،(2) وهذا عذاب من عدّة جهات:

منها : بعد المترفين عن الله تعالى، فيعيشون معيشة ضنكاً ولا يرون للحياة هدفاً.

ومنها أنّهم يعذّبون في ضميرهم ووجدانهم، حيث يجدون حولهم الفقراء والمساكين يموتون جوعاً ومرضاً، وهم يملكون أضعاف ما يحتاج إليه الفقراء، ولكنّهم لا يتمتّعون بالسخاء فلا يساعدونهم. ومهما حاول الإنسان أنّ لا يهتمّ بصوت ضميره؛ فإنّه يبقى يؤنبه وهو يتعذّب بذلك ولو في بعض الوقت.

ومنها: طغيانهم واستكبارهم الذي يؤدي في النهاية إلى هلاكهم حتّى في هذه الحياة، لأن ّالمجتمع الذي يفرط في التنعم يكسل ويترهل.

ومنها: أنّه يوجب الاغترار بالنفس فيتوهم المستغني بأن له على الله كرامة، وهكذا يتم استدراجه وهلاكه من حيث لا يشعر قال تعالى «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأَهْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ».(3) وسيأتي بعض الكلام في هذا الوجه.

ومنها أنّه يمنع من الإيمان بالرسالات، لأنّ المستكبر يرى في الرسالات الدعوة إلى التواضع والمساواة والتضحية والجهاد والزكاة والإنفاق في سبيل الله

ص: 250


1- المؤمنون (23): 33
2- التوبة (9): 55
3- القلم (68): 44-45

ونحو ذلك، وكلّ هذا لا يلائم طبعه الطاغي. ولذلك نجد أنّ أكثر المؤمنين بالأنبياء هم من الفقراء والعبيد.

قال تعالى حكاية عن قوم نوح: «قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ»(1)، فالمقياس عند هؤلاء أن يكونوا في صف الطغاة المترفين، والسبب في عدم إيمانهم بنوح علیه السّلام أنّ الفقراء هم الذين اتبعوه فحسب. وقال تعالى حكاية عن قوم فرعون: «فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِيَشرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ». (2)

والحاصل أنّ الإتراف ليس نعمة كما يتوهّم. وقد روي عن أمير المؤمنين علیه السّلام: «من وُسّع عليه دنياه ولم يعلم أنّه مُكر به فهو مخدوع عن عقله».(3)

ثمّ إنّ الآية لا تنقل عن المترفين ارتياباً في صدق المرسلين وإنّما تركّز على عدم إيمانهم بما أُرسلوا به تأكيداً على كفرهم برسالة السماء بقول مطلق.

«وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذِّبِينَ» وهكذا يتفاخرون بكثرة الأموال والأولاد، ويتظاهرون بأنّهم واثقون من أنّ الله تعالى لا يعذّبهم. وهذا يمكن أن يكون بمعنى نفي العذاب في الدنيا، كما حكى عنهم في كثير من الآيات ومنها ما مرّ من قولهم: «مَتى هَذَا الوَعدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»(4) والمراد نفي تحقّق ما يتوعّدهم به الأنبياء من عذاب الاستئصال.

ويمكن أن يكون بمعنى نفي العذاب في الآخرة، وهذا أظهر. وليس ذلك بمعنى نفي الآخرة وإن كانوا ينكرونها، بل بمعنى أنّه على فرض وجود حياة

ص: 251


1- الشعراء (26): 111
2- المؤمنون (23): 47
3- بحار الأنوار 72: 286
4- يونس (10): 48

أُخرى يحاسب الله فيه عباده، فإنّه لا يحاسبنا ولا يعاقبنا، بدليل أنّه خصّنا بكثرة الأموال والأولاد وليس ذلك إلا لكرامة منّا عليه، أو أنّه يحترمنا لكثرة أموالنا وأولادنا، كما يحترمنا الناس. وهذا أظهر بقرينة قوله تعالى: «وَمَا أموَالُكُمْ وَلا أولادُكُم بِالَّتِي تقرّبكم عِندَنا زُلفَى».(1) بل إنّ بعضهم ينكر الربّ ولكنّه يعتقد بهذا الوهم افتراضاً، أي لو كان هناك ربّ فإنّه يحترمنا ويكرمنا لكثرة الأموال والأولاد.

وقد ورد ذكر هذا الوهم في عدة مواضع من القرآن، منها قوله تعالى: «وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً»(2) وقوله تعالى: «وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إلى رَبِّي إِنَّ لِى عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى».(3)

وإلى هذا المعنى أشارت السيّدة زينب - سلام الله عليها - في خطابها ليزيد لعنه الله: «أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض وضيّقت علينا آفاق السماء... أنّ بنا من الله هواناً، وعليك منه كرامة وامتناناً، وأنّ ذلك لعظم خطرك، وجلالة قدرك، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطف... فمهلاً مهلاً، لا تطش جهلاً، أنسيت قول الله: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِنَّمَا وَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ»(4)».(5)

وهذا الوهم يسري في المجتمع أيضاً وقد سمعنا بعض جهّال العاّمة يصرّحون

ص: 252


1- سبأ (34): 37
2- الكهف (18): 36
3- فصلت (41): 50
4- آل عمران (3): 178
5- بحار الأنوار 45: 157 - 158

بذلك ويتوهّمون أن أصحاب الملك والمال لهم عند الله كرامة، بل إنّي سمعت بعض المتلبّسين بلباس أهل العلم يقولون ذلك. وهذا أمر غريب. والله تعالى يردّ هذا التوهّم بوجهين بالآية التالية سيأتي.

«قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ» «البسط» بمعنى التوسعة، و«التقدير» التضييق. ومردّ هذا الجواب أنّ توسعة الرزق وتضييقه لا يدلان على ميزة لصاحبه وإنّما يتبع ذلك مشيئة الله سبحانه، ومشيئته تتبع المصالح الكونية العامّة، فالله تعالى وإن كان يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولكنّه حكيم، لا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة.

«ولكن أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» في المراد بعدم علمهم احتمالان

الأوّل: أنّهم يظنّون أنّهم بعلمهم ودهائهم اكتسبوا ما اكتسبوا، كما قال قارون: «إنَّها أُوتِيتُهُ عَلَى عِلم عِندِى»(1) ويرد عليه في القرآن: «أَوَلَمْ يَعلَمُ أَنَّ الله قَد أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَن هُوَ أشَدُّ مِنهُ قُوَّةً وَأكثَرُ جمعاً»(2) فلولا أنّ الله تعالى أراد له ذلك لم يكن بمقدوره أن يجمع هذا الثراء العظيم. وكم من داهية قبله وبعده حاول أن يبلغ ما بلغ فلم يستطع.

الثاني: أنّهم لا يعلمون أنّ البسط والضيق ليس إكراماً وإهانة قال تعالى: «فَأَمَّا الإنسان إذا مَا ابْتَلاهُ رَبِّه فَأَكْرَمَهُ وَنَعْمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وأمّا إذا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَمَانَنِ * كَلا»(3) ، ليس البسط للإكرام، ولا التضييق للإهانة، بل كلّه للابتلاء والامتحان والابتلاء بالتضييق أسهل، والنجاح فيه أيسر، فلا يحتاج إلا

ص: 253


1- القصص (28): 78
2- القصص (28): 78
3- الفجر (89): 15-17

إلى صبر وعدم انزعاج، وعدم اعتداء على الآخرين، بخلاف الابتلاء بالتوسعة، فإنّ الإنسان مسؤول عمّا أنعم الله به عليه، وفي كلّ نعمة حقوق وفي كلّ غلّة وربح زكاة، ولكنّ الإنسان لكونه ظلوماً جهولاً - كما مرّ في آخر السورة السابقة - يتلهف شوقاً إلى السعة والثراء أكثر وأكثر.

«وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى» وهذا ردّ على توهم المستكبرين أنّ الله تعالى يحترمهم لأنّ لهم أموالاً وأولاداً كما مرّ بيانه. و«الزلفى»، أي القربى، فهو مفعول مطلق. ولو كان للمال والأولاد شأن عند الله لأوسع على أنبيائه فيهما، ولكان الرسول صلّی الله علیه و آله أبعد خلق الله منه، مع أنّه أقرب الخلق إليه تعالى. بل الأموال والأولاد فتنة ووسيلة للامتحان والاختبار، فالإنسان بذلك يتحمّل مسؤولية أكبر، وكلّما اتسعت الرقعة كبرت المسؤولية، واشتدّ البلاء والامتحان، وقلّ الناجحون. قال تعالى: «إنّما أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ».(1)

«إلا مَنْ أَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضَّعْفِ بِمَا عَمِلُوا» يمكن أن يكون الاستثناء منقطعاً، فالمعنى أنّ المناط في القرب لدى الله الإيمان والعمل الصالح، لا الأموال والأولاد، ويمكن أن يكون متصلاً بمعنى أنّ الأموال والأولاد لا تقرّب أحداً إلى الله تعالى إلا المؤمن الذي يعمل في أمواله وأولاده ما هو صالح للتقرّب إلى الله تعالى، فإنّ الإنسان إذا كان مؤمناً بربّه ومعتقداً بأنّ هذه الأموال والأولاد إنّما هي منه نعمة وابتلاء، وعمل بما يمليه عليه الواجب الشرعي تجاهها، من تربية الاولاد تربية صالحة، وإنفاق المال في سبيل

ص: 254


1- التغابن (64): 15

الله تعالى فإنّ له جزاء الضعف بما عمل.

وفي كون الجزاء ضعفاً احتمالان:

الأوّل: أنّ عمله يتضاعف، فيتضاعف جزاؤه، وذلك لأنّه إذا أحسن بماله وأنفق في سبيل الله كثرت الأدعية بحقّه، بل كان شريكاً في كلّ ما يترتّب على عمله من عمل حسن، وإذا ربّى ولده تربية صالحة فهو شريك في كلّ ما يعمله من عمل صالح، وبذلك يتضاعف جزاؤه.

الثاني: أنّ جزاءه ضعف عمله حتّى لو لم يتضاعف العمل، وليس الضعف بمعنى التثنية بل الزيادة، قال الخليل رحمه الله: (أضعفت الشيء إضعافاً، وضاعفته مضاعفة وضعّفته تضعيفاً، وهو إذا زاد على أصله فجعله مثلين أو أكثر) وقد قال تعالى «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا».(1)

ومعنى كونه ضعفاً أنّه ضعف ما يتصوّر من الجزاء، فإنّ الجزاء هناك لا يقاس بما نجده هنا من نعم، بل المثلية أيضاً ليست كما نتصوّر، فقوله تعالى (عشر أمثالها) لبيان أنّه لا يقاس بعمله، وليس بمعنى أنّه إذا تصدّق بدرهم أعطاه الله تعالى عشر دراهم.

والاحتمال الثاني هو الأقرب كما لا يخفى.

«وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ أَمِنُونَ» آمنون من كلّ ما يعكر صفو الحياة من خوف أو مرض أو عدوان أو عذاب، أو أيّ شيء يتصوّر ممّا يخاف منه، وهم يعيشون في الغرفات، أي الحجرات العليا، مشرفون على غيرهم ومترّفعون عن كل ّدناءة واحتقار. وكونهم في الغرفات أُشير به في غير هذا الموضع أيضاً، قال تعالى:

ص: 255


1- الأنعام (6): 160

«أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا».(1)

«وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ» يقابل هؤلاء، المستكبرون الذين يسعون في آيات الله. و«السعي»: الركض والمشي السريع. والمراد به هنا بذل غاية الجهد. و«المعاجزة» بمعنى محاولة التعجيز ، فالمعنى أنّهم يبذلون غاية جهدهم، لتعجيز الله تعالى في آياته والتعجيز قد يكون بمعنى مقاومة ما يجدونه من آيات الله تعالى بعدم الانصياع لما تقتضيه من الإيمان، فكأنّهم يسابقون الله تعالى ويسابقون سطوته وعذابه، قال تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ»(2) وقال تعالى: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ»،(3) وقد يكون بمعنى إظهار الاستخفاف بالآيات بالرغم من تيقّنهم بأنّها آيات الحكمة والعظمة الإلهية، كما قال تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً». (4)

«أُولَئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ» الحضور معناه واضح لا يكاد يفسّر بأوضح منه. والإحضار بمعنى الحضور قسراً. وهو يفيد معنى الملازمة للعذاب وعدم الخلاص منه، كقوله تعالى «وأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشحَّ»،(5) ومعناه أنّ الشحّ طبيعة ملازمة للإنسان. وفاعل الإحضار في الموضعين هو الله تعالى.

«قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ» يعود إلى التأكيد على أنّ

ص: 256


1- الفرقان (25): 75
2- الأنفال (8): 59
3- العنكبوت (29) : 4
4- النمل (27): 14
5- النساء (4): 128

الرزق من الله تعالى يبسط لمن يشاء ويقدر له. وزاد في التعبير هنا كلمة العباد مضافة إلى الله تعالى، ليتبيّن أنّه من شؤون الربوبية، وليس في التقدير والضيق عداء لأحد، ولا في البسط والسعة حبّ وإكرام. ولكنّ الجملة هنا مقدّمة للترغيب في الإنفاق بخلافها في المورد السابق حيث كانت للردّ على توهم المستكبرين.

«وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» المراد ب_«الإنفاق» الذي يخلفه الله هو الإنفاق في سبيله. والإخلاف أن يعطيه الله من المال ما يسدّ مسدّه. والظاهر أنّ الإخلاف في الآخرة وإن كان الغالب في الدنيا أيضاً أنّ الله تعالى يبارك في المال المزكّى، إلا أنّ البركة الحقيقية ليست في التكاثر كما يظنّ، بل البركة في أن يصرف المال في مورده الصحيح ويكسب الإنسان به رضا ربّه.

ولعلّ قوله تعالى: «خَيْرُ الرَّازِقِينَ» بمعنى أنّه لا يتصوّر رازق خيراً منه فهو خیر رازق مع أنّه لا رازق غيره تعالى ويظهر من عبارات المفسّرين وغيرهم أنّه خير بالقياس إلى سائر الرازقين كالسلطان لرعيته والسيّد لعبده، والرجل لعائلته.

وهو بعيد، فإنّ القياس بين رازقيته تعالى ورازقية غيره لا معنى له، فليس في الكون من يمكن أن يكون رازقاً غيره تعالى. والوسائط في الرزق ليسوا رازقين. وهذا نظير قوله تعالى: «أَحْسَنُ الخَالِقِينَ»، (1) وليس في الكون خالق غيره إلا بضرب من التجوّز. وعلى كلّ حال فما ذكرناه أولى.

ص: 257


1- المؤمنون (23): 14

سورة سبأ (40-42)

«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)»

«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثمّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ»، أي واذكر يوم يحشر الله العابدين والمعبودين جميعاً، ثمّ يسأل الملائكة تقريراً ليكون جوابهم تقريعاً للمشركين: أهؤلاء - وهو إشارة إلى المشركين - إيّاكم كانوا يعبدون؟

والوثنية تعبد الأصنام باعتقاد أنّها مثل للأرواح الطيبة العلوية التي هي عندهم مناشئ الخير في العالم، وهم مع ذلك يعتقدون أنّ تلك الأرواح لقربها إلى الله تعالى تشفع لهم يوم القيامة، وبذلك يستغنون عن عبادة الله تعالى وإطاعته ومتابعة شريعته. والغرض من تذكير هذا المشهد من مشاهد يوم القيامة تنبيههم في الدنيا على خطأهم، وبيان أن الملائكة يتبرّأون من أعمالهم وعبادتهم.

«قَالُوا سُبْحَانَكَ» ، أي أنت منزّه عمّا ينسبون إليك من شريك في استحقاق العبودية، فإنّ هذا الاستحقاق يتبع كون أحد غيرك منشأ لخير أو شرّ ونفع أو ضرّ، وأنت منزّه عن شريك في التأثير في العالم.

ويمكن أن يكون ذلك لإظهار التعجّب، كقوله تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَتَتْهَا أنفُسُهُمْ ظُلماً وعُلُوّاً»(1) .

«أَنتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ»، وبهذا ينفون أيّ ولاء بينهم وبين المشركين وأنّهم لا

ص: 258


1- النور (24): 16

يرتبطون بأحد إلا بالله تعالى والعبادة ارتباط شعوري بين العابد والمعبود فإن كان المعبود لا يشعر بها فهو يكشف أنّهم لا يعبدون إلا ما يتوهّمونه ملائكة. والسبب واضح، فإنّهم لا يرون الملائكة وإنّما يعبدون أصناماً تصوّروا أنّها تمثّل الملائكة، ولا يبعد أنّ الملائكة لا يعلمون بذلك إلا من كان موكّلاً بأعمالهم أو أخبره الله تعالى بذلك. وعلى كلّ حال فالنفي صحيح، ولا حاجة إلى التأويل، كما ارتكبه بعضهم.

«بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ»، لعلّ المراد به عبادتهم للشيطان المتمثّلة في إطاعتهم له، كما قال تعالى: «ألم أعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ» (1)، فإنّ المراد به النهي عن الإطاعة، ويمكن أن يكون المراد اعتقادهم بالجنّ وبالكهنة الذين كانوا يخبرون عن الغيب بدعوى الارتباط مع الجنّ، وهذا أمر معروف من سيرة العرب في الجاهلية، فيكون المراد بالعبادة أيضاً اطاعتهم لما يأمر به الكهنة بدعوى تلقّيهم الأوامر والإرشادات من الجنّ.

«فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَراً»، ينتقل الكلام من الحديث عن الغائب إلى الخطاب، وصدّر الكلام ب_«الفاء»، لأنّه لبيان النتيجة، ويريد بذلك منع كلّ رجاء للانتفاع بشفاعة أحد، فإذا كانت الملائكة مع قربها لدى الله سبحانه لا تملك لهم نفعاً فكيف بغيرهم؟!

وكما لا نفع هناك إلا ما أمر الله به، كذلك لا يضرّكم أحد ولا يضرّ بعضكم بعضاً، فالله هو الضارٌ النافع والمراد نفي أن يكون هناك اختيار للنفع والضرر، كما كان في الدنيا، وإلا فالنفع والضرّ في هذه الحياة أيضاً ليس إلا منه، إلا أنّ

ص: 259


1- النمل (27): 14

هناك من يضرّ وينفع في هذه الدنيا بإذنه تعالى. ويرتفع الإذن العامّ هناك، ولابدّ من إذن خاصّ لكلّ حركة. والظاهر أنّ هذا هو المراد بقوله تعالى: «يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلا بِإِذْنِهِ»،(1) وما بمعناه من الآيات، فإنّ التكلّم هنا أيضاً بإذنه، إلا أنّ الإذن موجود هنا للعموم ومرفوع هناك إلا في موارد خاصّة.

«وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ»، الظاهر أنّه ليس كلاماً موجّهاً إليهم فالله تعالى لا يكلّمهم يوم القيامة، وإنّما هو خطاب تكويني يستتبع تحقّق ذوق العذاب تكويناً.

والمراد ب_«الذين ظلموا» المشركون المنكرون ليوم المعاد، واعتبرهم ظالمين، لأنّهم ظلموا أنفسهم وأهليهم ومجتمعهم، أو كما قلنا سابقاً ظلموا، بمعنى أنّهم اعتدوا على الحقّ حيث إنّهم نفوا ما ليس لهم به علم. والظلم مأخوذ من الظلمة. ولعلّه من جهة أنّ الظالم كمن يرمي في الظلام، فهو لا يعلم إلى أيّ حدّ سيصل عدوانه.

ص: 260


1- هود (11): 105

سورة سبأ (43-45)

«وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)»

«وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ»، «الآيات» تتعرّض لدعاوي المشركين الفارغة في مواجهة آيات اللهِ البيّنات، أي القرآن الكريم. ويصفها ب_«البيّنات» إعلاماً بإفراطهم في الكفر والغواية، فإنّهم يواجهون حجّة واضحة لا تبقي لهم عذراً، ومع ذلك يكفرون به، ثمّ إنّه ينقل حججهم الواهية وكلامهم الباطل في ثلاث جمل:

«قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ أَبَاؤُكُمْ»، يحاولون بهذا الكلام إغراء الجهال المغفلين من عامة الناس المتعصّبين لسنن آبائهم بأنّ هذا - وهو إشارة إلى الرسول الكريم صلّی الله علیه و آله - رجل يريد أن يمنعكم من متابعة سنن الآباء والأجداد، وبهذا الشعار الفارغ يحاولون الصدّ عن سبيل الله تعالى، وبهذا التعبير المهين يقلّلون من شأن الرسول صلّی الله علیه و آله، كما زعموا «مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ»، فعبّروا عنه باسم الإشارة ثمّ برجل، وأتوا بلفظ النكرة، كأنّهم لا يعرفون أصله ومحتده، مع أنّهم يعلمون أنّه أفضل الناس أباً وجدّاً وعشيرة وخَلقاً وخُلقاً وكرامة وعزّة.

وبهذا الكلام السخيف يريدون أن يطفؤوا نور الله تعالى، كمن يحاول إطفاء

ص: 261

الشمس بالنفخ. ثمّ إنّهم مبالغة في الإغراء أضافوا الآباء إلى المخاطبين لا إلى أنفسهم، كما هو المعتاد.

«وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى»، وهذه هي الجملة الثانية. و«هذا» إشارة إلى القرآن الكريم، وأرادوا بذلك تكذيب الوحي والتأكيد عليه، فقالوا: إنّه إفك مفترى، مع أنّ الإفك هو بنفسه الحديث المكذوب، فأكّدوه بأنّه مفترى على الله تعالى، وذكروا ذلك بصيغة تفيد الحصر «مَا هَذَا إلا» كأنّه لا صفة له إلا ذلك. ولا يستندون في هذا التكذيب إلى أيّ دليل، بل هم يشعرون أنّها آيات بيّنات، ولكنّ الكبر والحسد والمصالح المادّية تدعوهم إلى ذلك.

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ»، وهكذا كانوا يتهّمون النبي صلّی الله علیه و آله بأنّه ساحر وأنّ ما جاء به سحر. وبذلك علّلوا قوّة تأثيره في القلوب وأخذه بمجامعها. وأكّدوا اتهامهم بأنّ كونه سحراً أمر واضح، فهو سحر مبين، أي واضح لا يرتاب فيه أحد، مع أنّهم يعلمون أنّه الحقّ جاءهم من ربّهم. وأتى بالفاعل اسماً ظاهراً بدلاً عن الضمير للإشارة إلى السبب، فهم لكفرهم وعنادهم يواجهون الحقّ بذلك، وليس منشأ هذه الدعوى شبهة حصلت لهم، فتوهّموا الإعجاز سحراً.

«وَمَا أَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبِ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ»، «الدرس» هو تكرار قراءة الكتاب كثيراً، وإنّما يعبّر عنه بالدرس لأنّه يوجب اندراس الكتاب. والآية ترد مزاعمهم بأنّهم لا يملكون رصيداً علمياً يستندون إليه في تكذيبهم، فلو كانوا أهل كتاب وزعموا أنّ ما أتى به النبي صلّی الله علیه و آله لا يوافق ما وجدوه في كتبهم لهان الأمر ولكنّهم يكذبون بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله.

ص: 262

كما أنّهم لم يسبق لهم رسالة قبل هذا من السماء، وما أتاهم نذير، أي رسولّ فليسوا على معرفة مسبقة ليقيسوا ما أتاهم به الرسول صلّی الله علیه و آله بما لديهم من معارف سابقة عن السماء.

«وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا أَتَيْنَاهُمْ»، ثمّ يأتيهم التهديد بعذاب الله ، وأنّهم أضعف من الأُمم السابقة التي أهلكها الله تعالى، فلم يبلغ هؤلاء عشر ما بلغوا أُولئك من علم ودهاء ومال وقوة.

و«المعشار» العشر. فالأُمم التي يضرب الله تعالى بها المثل أُمم متحضّرة كقوم فرعون وثمود وعاد، والعرب الجاهلي كانوا في غاية التخلّف. والله تعالى أهلك تلك الأُمم مع أنّهم كانوا أُولي بأس شديد، فكيف بكم وأنتم لم تبلغوا عشر ما كان لديهم من قوّة، وقوّة البشر مهما بلغت، فإنّها لا تقاوم إرادة الله سبحانه، ولكنّ الغرض من هذا البيان والمقايسة تنبيه القوم على عدم الركون إلى قوّتهم وشوكتهم وأموالهم وأولادهم كما كانوا يظنّون.

«فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِير»، «الفاء» لتفصيل ما أجمله في الجملة الأُولى، والتأكيد على أنّ الأُمم السابقة كذّبوا رسل الله تعالى. وتنبيهاً لعظمة الرسل وفظاعة تكذيبهم، أضافهم إلى نفسه بضمير المتكلّم المفرد الذي يظهر منه الاختصاص.

ثمّ فرّع عليه التنبيه على فظاعة الجزاء الذي لاقوه إنكاراً من الله تعالى لتكذيبهم الرسل. والاستفهام هنا للتعظيم والتعجيب. أي انظروا كيف كان إنكار الله تعالى لكفرهم وتكذيبهم. والنكير: الإنكار. والمراد الإنكار الذي تمثّل في عذاب الاستئصال. والكسرة في «نكير» للدلالة على ياء المتكلّم، وفيه أيضاً تهديد بليغ حيث أضاف إلى الضمير العائد إليه تعالى بالذات.

ص: 263

سورة سبأ (46-50)

«قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)»

«قُلْ إنّما أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للَّهَ مَثْنَى وَفُرَادَى ثمّ تَتَفَكَّرُوا» خمس آيات أتت تباعاً كلّها مبدوّة بالأمر بالقول، فكأنّه هجوم ثقافي يقذف بالحقّ على الباطل ليدمغه، وهو في أوّلها يدعو القوم إلى التفكّر والتدبّر. وهكذا المنطق القويّ والدين الإلهي لا يحذر من تثقيف الناس وتفهّم المجتمع، خلافاً للمتسلّطين الذين لا يريدون إلا مصالحهم، فهم يمنعون تدوين الحديث ونشر الكتب والثقافات بحجّة أنّها مضلّلة أو مضادّة للمصالح الاجتماعية، ونحو ذلك. ولكن منطق القرآن يدعو ويكرّر الدعوة: «أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ»(1)، «أَفَلا تَعْقِلُونَ»(2)، «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ»(3)، ونحو ذلك.

وهنا يأتي البيان مبدوّاً بكلمة (إنّما) المفيدة للحصر، كما يقال، أو التأكيد على الأقلّ فبناءً على الحصر يفيد أنّ الإيمان بهذه الرسالة لا يحتاج إلى شيء

ص: 264


1- الأنعام (6): 50
2- البقرة (2): 44
3- النساء (4): 82

أكثر من التفكير الصحيح. وأكّد ذلك بقوله: «أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ»، وهذا تصريح بالحصر المذكور. ثمّ اعتبر هذا الأمر موعظة ونصحاً؛ لأنّ النتيجة ستكون لصالحكم؛ فإنّ الأمر خطير، والاحتمال حتّى لو كان ضعيفاً لديكم فإنّ أهمّية المحتمل يستوجب الاهتمام البليغ.

ثمّ إنّ مجموع هذه الجملة «إنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ» بمنزلة تنبيه للسامع وتحضير له لينتظر أمراً مهمّاً، فلم يبدأ كلامه بالأمر بالتفكير، بل بهذه الموعظة ليثير في السامع سؤالاً : ما هي الموعظة الوحيدة التي تنفعني ولا ينفعني شيء لو لم تنفعني هذه؟ فيأتيه الجواب: «أنْ تَقُومُوا الله» فيأمر بدواً بالقيام والنهوض، فهذا أمر يستدعي قياماً جماعياً ونهضة فكرية. والقيام يعبّر به عن كلّ أمر يعمله الإنسان مهتمّاً به باعتبار أنّه يكون أكثر تسلّطاً عليه حال القيام، فيقال إنّه قام بتأليف الكتاب، مع أنّه يعمله جالساً في الغالب، فالقيام كناية عن الاهتمام بالأمر.

ثمّ ليكن قيامكم لله تعالى، أي لوجهه الكريم، فالنّية الخالصة هو الشرط الأساس لبلوغ الهدف السامي، في إشارة إلى أنّه لو كانت النيّة هي التوسّل بالأعذار للتهرّب من قبول الحقّ المرّ، فلن توفّقوا لمعرفة الحقّ، وإن كان ناصعاً واضحاً، فلا بدّ من إخلاص النيّة لله تعالى ونبذ ما يمنع من التبصّر كالكبر والحسد، ومعاندة الحقّ، وتقليد سنن الآباء والأجداد، ونحو ذلك.

وكثيراً ما يحاول الإنسان بفكره أن يصل إلى نتيجة صحيحة، فيخطئ بسبب أنّه لم يقصد بذلك مرّ الحقّ حتّى لو كان بخلاف ما ارتآه، بل هو يتّخذ موقفاً مسبقاً ويحاول إثباته مهما كان. وهناك كثير من الناس يرون من اللازم أن يحاول الإنسان الدفاع عن خطئه حتّى وإن كان بسبق اللسان، وهذا بذاته خطأ كبير يمنع

ص: 265

من وصول الإنسان إلى الحقّ، فالآية الكريمة تحثّ بدواً أن يكون القيام لله؛ لأنّ الله تعالى لا يريد إلا الحقّ ولا يدعو إلا إلى الحقّ، ولا يقول إلا الحقّ.

ثمّ طلب منهم أن يكون قيامهم بوجهين: مثنى وفرادى؛ ومثنى بمعنى اثنين اثنين كما أنّ فرادى بمعنى فرداً فرداً، أي بأحد الوجهين؛ تارة بتبادل الفكر آخره وأُخرى بالتفكير منفرداً. ولهذا التقييد جهة إيجابية وجهة سلبية. أمّا الإيجابية يأمر بأن يكون القيام إمّا منفرداً أو بمشاركة شخص آخر ومن الجهة السلبية يمنع من الانحياز إلى التفكير الجماعي. أمّا الإيجابية منهما فهي أن يتفكّر الإنسان مع نفسه أو مع غيره، وذلك لاختلاف الناس فمنهم من لا يمكنه التعمّق إلا بانفراد، ولكن الغالب هو أنّ الإنسان لا ينتبه لخطئه مهما دقّق النظر إلا إذا بيّن الأمر لغيره، حتّى لو لم يشاركه في التفكير، فإنّ مجرّد البيان له ينّبه صاحب الفكرة على مواضع الضعف في فكرته، وإذا شاركه في التفكير ودخل معه في نقاش، فيكون الأمر أجلى وأبين. ولذلك قدّم قوله: «مَثْنَى».

وأمّا الجهة السلبية فهي عدم اللجوء إلى التفكّر الجماعي المبتني على الخطابات الظنيّة، والشعر، والدعايات، والشعارات، والأوهام، فإنّ هذا من شأنه أن يلبّس الأمر على الإنسان ويدخله في متاهة لا خروج عنها. وهذا أمر واضح نشاهده يومياً في تجاربنا، فإنّ التجمّعات العامّة لا يبتني التفكير فيها على أساس سليم غالباً، بل دائماً إلا إذا كان تحت قيادة نزيهة.

«ما بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَى عَذَابٍ شَدِيدٍ» ، ثمّ طلب منهم أن يجعلوا محور التفكّر أنّ صاحبهم ليس به جنّة. وعبّر عنه بأنّه صاحبكم، في إشارة إلى طول مصاحبته صلّی الله علیه و آله لهم قبل البعثة، الأمر الذي يوجب لهم الوثوق

ص: 266

بسوابقه وبحالاته النفسية وبعقله ودرايته. ومن الواضح تاريخياً أنّه صلّی الله علیه و آله كان معروفاً لديهم برجاحة العقل، ونزاهة الضمير، وقوّة المنطق، وسلامة التفكير والأمانة، والصدق، لا يختلف في ذلك اثنان وحيث إنّ طغاة قريش وكبراءهم كانوا يتّهمون الرسول صلّى الله عليه و آله بالجنون لإبعاد الناس عنه، وذلك لأنّه كان معروفاً بالصدق والأمانة، فكان اتهامه بالكذب لا يروّج بين الناس، فجعل الله سبحانه محور التفكّر نفي الجنون.

وهنا وجه آخر وهو أنّ القوم و عدوّه صلّی الله علیه و آله بكلّ ما يتمنّاه إنسان بين قومه من مال وجاه ومصاهرة على أن يترك دعوته، فأبى إلا إصراراً عليها، وهذا بذاته يجعل الأمر دائراً بين أمرين: أمّا أنّه رسول حقّ يبلّغ عن الله تعالى، فلا يسعه أن يرفع يده عن الدعوة أو أنّه أُصيب بالجنون، حيث يرفض كلّ الاقتراحات المغرية فإذا وصلت نتيجة التفكّر إلى نفي الجنون عنه صلّی الله علیه و آله بقي الشقّ الأوّل من الاحتمال.

ولذلك عقّبه بقوله: «إنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَى عَذَابٍ شَدِيدٍ». فهو معذور في رفضه كلّ هذه الإغراءات؛ لأنّه يرى ما لا ترون، وهو العذاب الشديد الذي ينتظر الظالمين.

وقوله تعالى «بَيْنَ يَدَيْ»، أي أمامه. والتعبير يوحي بأنّ العذاب قريب، فكأنّ الدعوة مقرونة بالقيامة تتعقّبها بلا فصل كما ورد ذلك في بعض الروايات، وكما ورد في الكتاب العزيز «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً».(1)

«قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» في هذه الجملة احتمالان:

ص: 267


1- المعارج (70): 6-7

الأوّل: أنّ المراد التأكيد على نفي المطالبة بأيّ أجر على الرسالة، فهذا التعبير يؤكّد أنّه يتخلّى عن كلّ أجر طلبه منهم، ولا يطالب به، وهو لم يطلب شيئاً، ولكنّه مجرّد فرض يقصد به نفي المطالبة رأساً.

الثاني: الإشارة إلى ما طلبه من أجر الرسالة بأمره تعالى حيث قال: «قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلا المُوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(1)، فيؤكّد في هذه الآية أنّ ما طلبه من أجر في تلك الآية إنّما يعود نفعه إليهم، فليس هذا الطلب لمصلحة ذوي القربى، بل المصلحة الأُمّة، فإنّ الله تعالى جعل الإمامة فيهم وجعلهم أُسوة للناس، وعلى الأُمّة أن يقتدوا بهم ليهتدوا.

والاحتمال الثاني أولى؛ لأنّه يشتمل على فائدة الاحتمال الأوّل أيضاً، فإنّ مقتضاه نفي كلّ أجر يعود بالمصلحة على الرسول صلّی الله علیه و آله .

وربما يستبعد الاحتمال الثاني نظراً إلى أنّ الخطاب للمشركين، ولا معنى لطلب الرسول صلّی الله علیه و آله أجراً على رسالته منهم، فإنّه لم ينفعهم برسالته حسب زعمهم، بل ندّد بهم وبآلهتهم، وأبطل معتقداتهم.

ولو تمّ هذا النقد فإنهّ يبعّد الاحتمال الأوّل أيضاً، بل يوجب الإشكال في كلّ ما ورد في الكتاب العزيز من نفي الرسل طلب الأجر من الناس، وخطابهم دائماً للمشركين ولأعداء الرسالات، وذلك لأنّ نفي الأجر أيضاً إنّما يصحّ في ما إذا كان متوقّعاً، فلا معنى لمخاطبة من تلحق به ضرراً وتنفي طلب أجر على الإضرار به.

والصحيح أنّ هذا الخطاب وإن كان موجّهاً للمشركين إلا أنّ معناه نفى الأجر

ص: 268


1- الشورى (42): 23

على فرض الإيمان والهدف منه تبيين أنّ هذه الدعوة لا تتضمّن فائدة مادّية للداعي، وإنّما الفائدة فيها ترجع إلى المخاطبين، فلو فرض فيه طلب أجر يعود نفعه إليهم كما في آية المودّة فهو أيضاً في فرض الإيمان، فينتفي الإشكال في الآيات.

جميع وللكلام تتمّة تأتي في تفسير آية المودّة إن شاء الله تعالى.

«إِنْ أَجْرِى إلا عَلَى الله وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» حيث إنّ نفي الأجر يثير السؤال عن الباعث على هذا التفاني والتضحية في سبيل الدعوة أجاب تعالى عنه بقوله: إ«ِنْ أَجْرِيَ إلا عَلَى الله» فهو يطلب أجراً بعمله ولكنّه لا يطلبه منكم، وقد وعده الله الأجر الجزيل في الآخرة وهذا خير باعث وداع للإنسان، ولا يخاف أن يهضم حقّه من الأجر أو ينسى شيء من عمله العظيم، لأنّ الله على كلّ شيء شهيد.

«قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ» المراد بالحقّ ما يطابق الواقع من قول وفكر، والباطل ما يخالفه. ومقتضى الربوبية أن يصحح الله مسير الإنسان كلّما أوغل في الباطل والخطأ، فيقذف بالحقّ، أي يرميه على الباطل فيزهقه ويهلكه، وهذا تعبير أدبي يراد به أدبي يراد به سرعة انهيار الباطل أمام الحقّ إذا كان واضحاً صريحاً، والله تعالى علام الغيوب، فيعلم مواضع الباطل من القول والفكر، فيرميه بالحقّ فيصيب مقتله. وهذه سنة الله تعالى في خلقه ولذلك جاء بالفعل المضارع لبيان الاستمرار.

«قُلْ جَاءَ الحقِّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ»، «الإبداء» هو الإنشاء والخلق، ومن صفاته تعالى المبدئ. وهذه الآية تخبر عن وقوع ما مرّ في الآية السابقة، ولذلك جاء بالفعل الماضي وأخبر أن الحقّ جاء بمجيء القرآن الكريم، وترتّب عليه

ص: 269

زهوق الباطل، أي الشرك والأفكار الجاهلية، فهي هالكة لا تبدئ أي لا تأتي بشيء جديد، ولا تعيد ما أهلكه الحقّ فالباطل ميّت لاحياة له فلا أثر له.

والواقع أنّ القرآن أبطل الفكر الجاهلي وأهلكه، وإن جاء الإنسان بأفكار خاطئة أُخرى، وإذا أراد الله تعالى بعث بحقّ آخر ليبطلها.

وبذلك يظهر أنّه ليس المراد هلاك دولة الباطل، كما ذكره بعض المفسّرين وحاول الإجابة عن الإشكال بما لا يفيد، بل المراد هلاك الفكر ووضوح الأمر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فالحقّ واضح بعد نزول القرآن، والباطل هالك لا يرتئيه عاقل.

«قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإنّما أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي» المعروف في تفسير الآية الكريمة أن ضلالي لا يضرّكم وإنّما يضرّني، فإن كنت - كما تزعمون - ضالاً فلا يضرّكم ذلك وإن اهتديت فإنّما أهتدي بوحي ربّي. وفي بعض التفاسير أنّ مفادها كمفاد قوله تعالى: «فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا».(1)

وانتبه القائلون إلى أنّ هذا التفسير وإن كان موافقاً لظاهر قوله تعالى: «عَلَى نَفْسِى» إلا أنّه لا يخلو من إشكال من جهة المقابلة بين كون الضلال على نفسه صلّی الله علیه و آله، أي مضرّاً به دون غيره وبين كون الاهتداء بسبب الوحي. وكان المفروض أن يكون التقابل إمّا بين السببين بأن يقول: إن ضللت فإنّما أضلّ بنفسي، أي بسببها، وإن اهتديت فبهدايات ربّي، وإمّا بين كون الاهتداء لمصلحتها والضلال مضرّاً بها.

ص: 270


1- الزمر (39):41

قال في «الكشّاف»: فإن قلت: أين التقابل بين قوله: «فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِى» وقوله: «فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي» وإنّما كان يستقيم أن يقال: فإنّما أضلّ على نفسي، وإن اهتديت فإنّما أهتدي لها، كقوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها»(1)، «فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا»(2) أو يقال: فإنّما أضلّ بنفسي. قلت: هما متقابلان من جهة المعنى، لأنّ النفس كلّ ما عليها فهو بها، أعني أنّ كلّ ما هو وبال عليها وضارّ لها فهو بها وبسببها، لأنّها الأمّارة بالسوء، وما لها ممّا ينفعها فبهداية ربّها وتوفيقه (3).

وتبعه في ذلك بعض آخر وإن اختلفوا في التفاصيل.

ولكنّ الظاهر أن الآية ليست من قبيل قوله تعالى: «فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا» فإنّ مفاد هذه الآية أنّ ضلال الإنسان لا يضرّ الله تعالى وهدايته لا ينفعه، وإنّما المستفيد والمتضرّر هو الإنسان نفسه. والمقام لا يناسب ذلك، وإنّما يناسب أن يكون المراد أنّ ضلالي لا يضرّكم، بل هو أمر يخصّني، كما ورد في أكثر التفاسير.

ولكنّه لا يصحّ في مورد الرسول صلّی الله علیه و آله، وكذا غيره من الدعاة. وإنّما يصحّ في من لا يتبعه أحد، وأّما من يقود المجتمع فإنّ ضلاله يضرّ بمن يتبعه أيضاً.

هذا، مع أنّ إشكال المقابلة لا ينحلّ بما قيل، إذ يبقى الكلام في وجه الإتيان بما يدلّ على كون الضلال مضرّاً به خاّصة، بينما كان المفروض أن يقول: فإنَّما أضلّ بنفسي.

ص: 271


1- فصّلت (41): 46
2- الزمر (39): 41
3- الكشّاف 3: 295

فالظاهر بقرينة المقابلة أنّ المراد بهذه الآية بيان أنّ الإنسان لو تُرك ونفسه ضلّ حتّى لو كان مثل الرسول صلّی الله علیه و آله في رجاحة عقله وقوّة تفكيره، وأنّ الإنسان لا بدّ له من هدايات الله تعالى ووحيه، وإلا لم يهتد إلى الصراط المستقيم، فلا يغترنّ إنسان بعقله وعلمه وخبرته.

ولعلّه لم يقل: «أضلّ بنفسي» لأنّ النفس لا تضلّ بنفسها، بل بعوامل خارجيّة، وهذا الضلال مستند إلى الله تعالى أيضاً، فالذي يقابل الاهتداء بالوحي هو الضلال لو ترك ونفسه، ولو بسبب العوامل الأُخرى التي تؤثر بأمره تعالى.

وليس المراد الإشارة إلى سبب الضلال ولا كونه مضرّاً به خاصّة، بل المراد أنّ الضلال يصيبه لولا الهداية الإلهية. ولعلّ «عَلَى نَفْسِى» في مكان الحال، أي حال كوني قد خلّيت ونفسي والله العالم.

وأغرب ما رأيت في هذا الباب ما ورد في تفسير بعض المنحرفين حيث قال: «قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي» من خلال ما قد أخطئ فيه من وعي الوحي، فكرة و تطبيقاً، وليس ذلك من الوحي نفسه، فهو الحقّ الذي لا يقترب منه الباطل.

وهذا تصريح بعدم عصمة الرسول صلّی الله علیه و آله حتّى في عقيدته لقوله: «فكرة وتطبيقاً» إلا في ما يحكي لنا من الوحي بذاته. ولعمري أنّ هذه العقيدة تنافي الإسلام فضلاً عن التشيّع، والرجل يدّعى فيه أنّه من علماء المذهب.

«إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» لعلّه للتنبيه على أنّ الله تعالى لسمعه دعاءه بالهداية وقربه منه لا يتركه في ضلال أبداً، بل يوحي إليه ما يحتاجه من هداية دَوماً، فهو معصوم من الضلال، ولكن بفضل الله تعالى وبرحمته الخاصّة.

ص: 272

سورة سبأ (51-54)

«وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)»

أربع آيات تذكر حال الكفّار ومنكري الآخرة والرسالات الإلهية حين نزول العذاب في الدنيا بشهادة قوله تعالى: «كَمَا فَعَلَ بِأشْيَاعِهِم مِن قَبْلُ» وهو واضح. وقيل: حين الموت، وقيل: يوم القيامة. والغرض من هذه الآيات التنبيه على أنّ الإنسان يؤمن في وقت لا ينفعه إيمانه.

«وَلَوْ تَرَى إِذ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ» خطاب للنبيّ صلّی الله علیه و آله أو لكلّ من يتلو أو يسمع. والجواب محذوف، أي لرأيت أمراً فظيعاً، والمفعول محذوف أيضاً، أي لو تراهم، والضمير يعود إلى المشركين المناوئين للرسول صلّی الله علیه و آله. و«إذ» ظرفية زمانية، أي حينما يفزعون من العذاب الذي أحاط بهم فلا يستطيعون فراراً ولا يفوتون من أخذ ربّك.

ثمّ عبّر عن سرعة الأخذ بأنّه من مكان قريب وهذا تأكيد على عدم إمكان الفوت، والإنسان يمنّي نفسه بإمكان الفرار من بطش الله تعالى، أو إمكان التوبة إذا شاهد الإنسان علامات الموت أو العذاب، وهذه الآيات ونظائرها تفنّد هذه الأماني، فالبطش يكون من مكان قريب لا يمهل الإنسان، وليس هناك ق-رب وبعد بالنسبة إلى الله، وليس هناك موضع خارج عن سلطان الله سبحانه ؟! وإنّما هذا تعبير عن سرعة الأخذ.

ص: 273

«وَقَالُوا أَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى هُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيد»، في هذه الآية يبيّن المحاولة اليائسة للرجوع «وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ»، أي بالله تعالى، أو بالقرآن، أو بالرسول، أو بالرسالة، أو باليوم الآخر ، أو بالعذاب، أيّاً كان فهو إيمان بعد نزول العذاب ومشاهدته ، بل إحاطته بهم نظير إيمان فرعون بعد الغرق.

عجيب أمر هذا الإنسان العنود وتسويفه ومجابهته للحقّ! ولو آمن فرعون حين رأى البحر قد انفلق لموسى وشعبه - وهي آخر آية شاهدها ولعلّه أعظم آية وأبعدها من التهم - لنفعه إيمانه، ولكنّه حاول أن يجرّب حظّه التعيس مرّة أُخرى، فلقي ما لقي، فقال حين أحاطت به الأمواج بأمر باريها وأدركه الغرق: «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسرائيل وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ»(1) فأتاه الجواب: «الآن وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ».(2)

وهنا أيضاً يأتي الجواب: «وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيد»، و«التناوش» هو التناول والأخذ. والمراد أنّهم لا يصلون إلى الإيمان، فقد بعدوا عنه، لأنّ مكان الإيمان هو الدنيا. وذلك لأنّ الإيمان الذي ينفع هو الإيمان بالغيب وقبل أن ينكشف الغطاء، وأمّا بعد ذلك فلا يعدّ إيماناً وإنّما هو درك للواقع وتسليم له، والمطلوب من الإنسان أن يؤمن بالغيب حتّى يصل إلى الكمال البشري.

والتعبير مضافاً إلى ما يشتمل عليه من الدقّة، كما أشرنا إليه يشتمل على الطباق والجناس، فآيتان ختمتا بكلمة «قَريب» وبعدهما آيتان ختمتا بكلمة

ص: 274


1- يونس (10): 90
2- یونس (10): 91

«بعيد» والآيات الثلاث ختمت بلفظ «مَكَانٍ قَرِيبٍ» و «مَكَانٍ بَعِيدٍ» بالرغم من الاختلاف في المراد.

«وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيد» جملة حالية، أي أنّهم لا يمكنهم الإيمان ذلك اليوم والحال أنّهم فوّتوا على أنفسهم الإيمان في موضعه حيث كفروا بالله وباليوم الآخر وبالرسالة قبل أن ينزّل عليهم العذاب، فهو نظير قوله تعالى: «وَيُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خاشِعَةً أَبصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ». (1)

وقوله تعالى: «وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ» عطف على «كَفَرُوا» وأتى بالمضارع للدلالة على الاستمرار، فقد أصبح ذلك عادتهم وديدنهم. و«يَقْذِفُونَ»، أي يرمون ويرجمون بما لا يعلمون عنه شيئاً، فينكرون ما هو غائب عنهم، ولا تصل إليه أفهامهم وحواسهم ولا يدركونه بأيّ نحو من الإدراك، ومضافاً إلى ذلك يرمون بالغيب من مكان بعيد وهو الدنيا، قال تعالى: «بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه»(2) فلو كانوا يسكتون عمّا لا يعلمون لهان الأمر ولكنّهم يكذبّون وينكرون من دون علم.

«وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ» وهذا هو غاية العذاب لعشّاق الدنيا وبهرجتها، حيث إنّهم لا يرون للحياة معنى إلا مزاولة الشهوات ومتابعتها والركض وراءها، ولا يبذلون جهداً في الحياة إلا في سبيلها، وحين ما يحين الموت أو ينزل العذاب ينتهي في لحظة واحدة كلّ شيء وكلّ ما عقدوا الآمال عليها.

ص: 275


1- القلم (68): 42 - 43
2- يونس (10): 39

ما أعظم هذا التعبير وأدقه لبيان حال الإنسان المنكر للآخرة «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ» وهذا لا يختصّ بالمشركين المناوئين للرسول صلّی الله علیه و آله، فهذا عذاب كلّ من يسير على هذا السبيل ولا يجد للحياة معنى إلا متابعة الشهوات.

«كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ» و«الأشياع» أي الأشباه، قال تعالى: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»(1)، والمراد بهم الأقوام السابقة، فإنّ الخطاب لمشركي مكّة. و «المشايعة» المتابعة، وكما يصدق ذلك على الاتباع يصدق على المتبوعين وعلى المشتركين في التبعية عن مبدأ واحد وهذه الجملة كما مرّ تدلّ على أنّ المراد بالعذاب في هذه الآيات العذاب الدنيوي الذي أحاط بالأقوام السابقة.

«إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ» «الريب»: الشكّ، و«الشكّ المريب» مبالغة في الشكّ، كأنّه شكّ يستوجب شكّاً، فالمعنى أنّهم كانوا في تردّد وشكّ مزعج كما يقال: ليل أليل وشعر شاعر.

هذا وقد ورد في عدّة روايات عن الفريقين أنّ الآية تشير إلى جيش السفياني الذي يظهر في آخر الزمان ويخسف الله بجيشه في البيداء. ولعلّ هذا من باب ذكر بعض مصاديق الآيات والله العالم. والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 276


1- القمر (54): 51

تفسير سورة فاطر

تفسير سورة فاطر

ص: 277

ص: 278

سورة فاطر (1-4)

«الْحَمْدُ لله فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ» السورة مكّية، لشهادة مضامين الآيات، حيث تدعو - كغيرها من السور المكيّة - إلى توحيد الربّ، ونفي الشرك، والإيمان بالرسالة وباليوم الآخر. وهي من السور القليلة التي بدئت بالحمد لله تعالى، ومفاد قوله تعالى «الحَمْدُ لله» - كما ذكرنا سابقاً - أنّ الحمد لا يليق إلا به، فكلّ حمد يعود إليه، إذ هو خالق الخير، وخالق كلّ محمدة.

و «الفطر» بمعنى الشقّ، والمراد أنّه ابتدأ خلق السماوات والأرض، أي الكون

ص: 279

بكامله من غير موادّ سابقة، ومن غير مثال، فكأنّه شقّ العدم وأوجد الخلق، لأنّ السماوات والأرض عبارة عن ما سوى الله تعالى، بناءً على أنّ السماوات تعبير عن العوالم العلوية الخارجة عن الطبيعة، والأرض عبارة عن العالم المادّي بكلّ أفلاكه .

ويمكن أن يكون المصحّح لهذا التعبير أنّ الإنسان إذا لاحظ الكون بطبيعته الأصلية لا يجد حوله إلا سماءً تظلّه وأرضاً تقلّه، وحيث يجهل ما تخفيه السماء, يعبّر عنها بالسماوات أي أعالي الكون ، فإذا أراد أن يعبّر عن كلّ العالم كان هذا أقرب تعبير إلى ذهنه. ومهما كان، فالمراد بالآية واضح، وهو حمد الله تعالى على ابتداعه الخليقة من غير مثال وإيجادها من العدم بمحض إرادته.

«جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ» يمكن أن يكون المراد بالجعل، الجعل البسيط أي الخلق، و «رسلاً» حال، فالمعنى أنه تعالى خلق الملائكة حال كونهم رسلاً، بمعنى أنهم رسل من بدء الخلق. وذكر خلقهم بعد خلق السماوات والأرض من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ.

ويمكن أن يكون المراد بالجعل، الجعل المركّب، فالمعنى أنّه تعالى جعل لهم صفة الرسالة، وإن كان ذلك من بدء خلقهم. والأوّل أقرب.

و«الرسالة» أعمّ من الرسالة التكوينية والتشريعية، فكما أنّ الملائكة رسل الوحي، ينزلون بأخبار السماء على الأنبياء، كذلك هم وسائط الخلق بينهم وبين الله تعالى، إذ بيدهم تدبير الأُمور. قال تعالى: «فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً».(1)

وما من حركة أو سكون إلا وينزّل أمره من السماء بواسطة الملك. وعليه فلا

ص: 280


1- النازعات (79): 5

وجه لتخصيص الرسالة هنا بالوحي، بل المراد جميع رسائل السماء وأوامر الله تعالى التكوينية والتشريعية. ولذلك جعل الوصف لجميع الملائكة دون ملائكة الوحي، ولذلك أيضاً وصفهم بكثرة الأجنحة، فإنّ التدبير هو الذي يقتضي ذلك.

وقوله تعالى «مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ» أي اثنين اثنين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً. أي أنّ جمعاً منهم ذو جناحين وجمعاً ذو ثلاث وجمعاً ذو أربع.

وقد وقع الكلام بين المفسّرين في المراد ب_«الأجنحة»، فأبقاه بعضهم على ما يتبادر إلى الذهن من أجنحة الطير، وفسّر بذلك أيضاً الروايات الواردة في توصيف جبرئيل علیه السّلام من أنّ له ستّمائة جناح، ونحو ذلك من الروايات. وتوقّف بعضهم وقال: إنّا نبقيه على إجماله، كما أراد الله تعالى ولا نتكلّم في الكيفية.

وبعضهم حملها على أنّ المراد بها الأجهزة التي يتوقّف عليها العمل بما أمروا به، بناءً على أنّ التعبير بالمعدّات والقدرات بالجناح تعبير متعارف.

وبعضهم حملها على القوّة التي بها يتنقلون، كما هو الظاهر من الجناح، بناءً على أنّ المراد بالجناح هو ما يطار به كما في الطائر. ولا خصوصية لكيفية الجناح في صدق العنوان، ولذلك يطلق حقيقة على جناح الطائرة، فالمراد بالجناح آلة الانتقال.

والاحتمال الأخير وإن لم يكن بعيداً، إلا أنّه يحتمل أيضاً أن يكون المراد الإشارة إلى اختلافهم في سرعة الانتقال، فيكون جواباً عن سؤال يفرض نفسه بعد بيان أنّ الملائكة رسل السماء، وتأتي بالأوامر الإلهية إلى كلّ ذرة من ذرّات الكون.

والسؤال هو أنّ الأُمور تختلف؛ فمنها ما يتحمّل التأخير إلى أن ينزّل الأمر،

ص: 281

ومنها ما لا يحتمل ذلك، فكيف يمكن أن تتوقّف كلّها على نزول الملائكة؟

والجواب المحتمل أنّ الملائكة قد تختلف في سرعتها، ولعلّ اختلاف عدد الأجنحة يرمز إلى اختلاف السرعة. ويمكن أن يكون الاختلاف ناشئاً من اختلاف الرسالات، فهناك من الرسالات ما لا تحتمل التأخير نهائياً فتصل فوراً.

ولعلّ هناك من يرفض هذا الاحتمال بحجة أن مجال عمل الملائكة خارج عن الزمان والمكان فلا معنى هناك للسرعة كما أنه لا معنى للانتقال المكاني.

ولكن يمكن أن يقال إن السرعة لا تنافي ذلك فإن عملهم اذا انتقل الى هذا العالم لا بد من اصطباغه بصبغة الزمان والمكان. ويلاحظ أن الملائكة الكرام لما أرادوا تنفيذ الحكم بعذاب قوم لوط عليه السلام نزلوا ابتداءا بصورة ضيوف من البشر على ابراهيم عليه السلام وأخبروه بذلك، ثم وردوا على لوط عليه السلام وبعد محادثات بينهم وبينه وخروجه مع اسرته نفّذوا العذاب. وهذا بالطبع يستلزم زمانا وتأخيرا. والله العالم.

«يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» لعلّه إشارة إلى أنّ زيادة الأجنحة لا تنحصر في ذلك، ولا تتوقّف عند حد. والظاهر أنّه قانون عامّ ينطبق في المقام وغيره ولا ينحصر به فالكون كلّه في زيادة، سواء في ذلك عالم المادّة والعوالم الغيبية. وليس هذا غريباً على الله سبحانه، فإنّه على كلّ شيء قدير، ولعلّه لم يكتف بذكر الضمير، بل أعاد ذكر الاسم الجليل تنبيهاً على أنّ عموم القدرة من شؤون الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال.

وأمّا القول بأن الملائكة لها أجنحة كأجنحة الطير تطير بها في الأجواء العليا، فكلام سخيف، وتصوّر ساذج عن حقائق الكون، وفهم خاطئ لكلام الله سبحانه، نظير ما يقال في العرش والكرسي، والنظر إلى الله، ولقاء الله، ووجه الله، ويد

ص: 282

الله، وغير ذلك من الكنايات والإشارات والرموز التي امتاز بها هذا الكتاب العظيم.

ومن المضحك ما في تفسير «الكشّاف» من البحث عن موضع الجناح الثالث في الملائكة الذين لهم ثلاث أجنحة.

فهذا النوع من التفسير يبتني على سدّ باب الكنايات، كما أنّ هناك ما يقابله وهو الإفراط في التأويل الذي يستوجب حمل كلّ كلام على خلاف ظاهره، بل صريحه، كما ذهب بعض الناس إلى تفسير الآيات الواردة في يوم القيامة إلى يوم قيام الناس بوجه الظلم والطغيان إلى آخر ما يستتبعه هذا التأويل. وهذا باطل قطعاً كالأوّل.

«مَا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهّا» كأنّ الآية الأولى مقدّمة لهذه، فالله تعالى فاطر السماوات والأرض، وهو الذي جعل الملائكة وسائط رحمته، وهو يزيد في خلقهم كخلق غيرهم كما يشاء، فكلّ أمر بيده، وكلّ خير منه، وكلّ ضرر منه أيضاً، ولا أحد يستطيع منع وصول خيره أو ضرره، وهذه الآية تبعث في نفس الإنسان الطمأنينة والسكون إلى الحياة، وتؤيسه من الركون إلى غير الله سبحانه والتعبير ب_«الفتح» يقرّب الرحمة أكثر فأكثر ، فإنّ مفاده أنّ خزائن الرحمة مليئة، وإنّما يتوقّف الأمر على فتح الباب فحسب. وعبّر بالناس لأنّ الرحمة لا تخصّ المؤمنين بالله تعالى، بل إنّه يفتح أبواب رحمته للناس جميعاً.

«وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» التعبير ب_«الإمساك» باعتبار أنّ الفتح يستلزم الإرسال، ويقابله الإمساك والمنع والضمير في «له» يعود إلى «ما».

وربما يستغرب التعبير بقوله ( من بعده) بناءا على رجوع الضمير الى الله تعالى

ص: 283

اذ ليس له تعالى قبل ولا بعد. والصحيح أن الضمير يعود الى الامساك اي من بعد امساكه، ويمكن أن يكون المعنى فلا مرسل له غيره، كقوله تعالى «فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ»،(1) اي غير الحق.

وقوله «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» يفيد انه بالرغم من تمنّعه من ان يغلبه ويؤثر في ارادته شيء كما هو مقتضى عزته ، الا ان الفتح أو الامساك لا يكون الا لحكمة تقتضي أحدهما.

و «ما» في الجملتين شرطية تفيد معنى الموصول أيضاً ولذلك صدر الجواب بالفاء.

ثمّ إنّ هذه الآية ونظائرها لا تمنع من التوسّل بالأسباب، سواء كانت طبيعية أم غيرها كما يتصوّر، بل المراد تنبيه الإنسان إلى أنّ كلّ شيء يعود إليه سبحانه، وإن كان عن طريق الأسباب والسنن التي جعلها الله وسائل للوصول إلى الأهداف، فلا يظنّنّ أحد أنّ هذه الآية وأمثالها تدعو إلى نقض السنن الإلهية، بل الصحيح أنّ الأسباب سواء كانت طبيعية أم غيرها كالتوسّل بأوليائه سبحانه هي أبواب رحمته التي فتحها للناس، فمن ترك التوسل بها لم يصل إلى هدفه وغايته.

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهُ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرض لا إِلَهَ إِلا هُوَ» خطاب للبشرية بأن لا يحيدوا عن عبادة الله تعالى شكرا له على ما أنعم به عليهم. فقد رزقهم كل ما يحتاجون اليه وتتوقف عليه حياتهم على هذا الكوكب. والسؤال الوارد في الآية للانكار اي ليس هناك خالق غيره تعالى يرزقكم.

ص: 284


1- يونس: 32

وجملة «يَرْزُقُكُمْ» وصفية، ويشير بذلك إلى أنّ الرزق من شؤون الخلق بمعنى أنّه تعالى خلقكم وخلق الكون بحيث ينال كلّ أحد وكلّ موجود حيّ رزقه من الطبيعة، والرزق هو كلّ ما يحتاج إليه من ماء وغذاء وهواء وعلم ومعرفة وغير ذلك، فالمراد تنظيم وسائل الارتزاق والتعيش في الكون لكلّ موجود حيّ حسب ما يناسبه ويناسب بيئته. وليس المراد بالرزق إيصال الطعام والشراب كما يتوهم.

وهذه الآية بمنزلة النتيجة لما سبق من أنّ الله تعالى فاطر السماوات والارض، وجاعل الوسائط بينه وبين خلقه، فكلّ تدبير منه، ولا أحد يمكنه أن يسدّ باباً فتحه، ولا يفتح باباً سدّه، فهو الخالق، وهو الرازق، وكلّ نعمة منه تعالى، فأين تذهبون؟ ومن تعبدون؟ ومن تطيعون؟ وحدوا كلمتكم في عبادته وطاعته فلا منعم غيره.

والناس يذكرون النعم ويعرفون قسماً كبيراً منها، ولكنّ الذي يجهلونه أو يتجاهلونه هو أنّها من الله تعالى. والمخاطبون - وهم مشركو العرب - يعترفون بأنّ خالق الكون هو الله، ولكنّهم يظنّون أنّ الرزق من غيره، فيعبدون الأصنام طلباً للرزق، وخوفاً من بطش الأرواح الخبيثة. والآية تدعوهم إلى تذكّر نعم الله سبحانه، وتذكّرهم بأنّ الرزق من شؤون الخلق وحيث لا خالق غير الله تعالى فلا رازق غيره والأمر لا يختصّ بالمشركين، فهناك بيننا من يعتبر مجاري الرزق رازقين، ويطيع غير الله سبحانه ويعبده، لأنّه يرى رزقه بيده.

وأمّا قوله تعالى: «مِنَ السَّمَاءِ وَالأرض»، فيمكن أن يريد به الرزق النازل من جهة العلوّ كالمطر، والرزق الحاصل في الأرض كالنبات والحيوان. وإذا كان الرزق كلّه منه فلا معبود سواه «لا إِلَهَ إلا هُوَ»، فهذه الجملة كالنتيجة للمضمون السابق.

ص: 285

«فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ»، «الإفك» هو الصرف. والتعبير بالمبني للمجهول يوحي بأنّ الإنسان بفطرته لا ينحرف عن ربّه، وإنّما هناك موجبات تصرّفه عنه من شهوات، ووساوس شيطانية، ودعايات معادية.

«وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ» الآية الكريمة تسلّى الرسول صلّى الله عليه و آله بأن لا يهتمّ بتكذيب قومه إيَّاه، فليس هو أوّل رسول يكذبه قومه، مع أن الأُمور كلّها ترجع إلى الله تعالى وهو الحكم العدل، ولا يخاف الفوت فيجازي كلّ عامل بعمله.

وأتى بالفعل المضارع «يُكَذِّبُوكَ»؛ لأنّ تكذيبهم مستمرّ. والأُمور بمعنى الشؤون. والإتيان بالمبني للمجهول «تُرْجَعُ» للتنبيه على أن اللازم في كلّ حال هو إرجاع الأُمور إلى الله تعالى. وفي ذلك مضافاً إلى تسلية الرسول صلّى الله عليه و آله تهديد للمكذّبين.

ص: 286

سورة فاطر (5-8)

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)»

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ الله حق فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بالله الْغَرُورُ» هذا تنبيه وإخطار عام للبشر «إِنَّ وَعْدَ الله حقّ». وإنّ من أخطر ما يغترّ به الإنسان احتمال أن لا يفي الله تعالى بوعده ووعيده، والوعد عامّ يشملهما. وقد وعد الله الإنسان بحياة أُخرى يعيشها بعد الانتقال من هذه الحياة ليرى أعماله ونتائجها، ومن أوفى بعهده من الله، وإنّما لا يفي بوعده العاجز أو الجاهل، أمّا العاجز ،فواضح، وأمّا الجاهل فلأنّه يعد ما لا يستطيع الوفاء به وهو جاهل بذلك. والله تعالى عالم الغيب وقادر على كلّ شيء، فوعده حقّ بلا ريب.

والذي يوجب اغترار الإنسان بهذه الأفكار الخاطئة أمران:

أحدهما من نفسه، وهو تعلّقه بملذات الدنيا وشهواتها، فيمني نفسه بأنّ هذه لذّة حاضرة، ولا وجه لرفع اليد عنها توقّعاً للذّة موعودة. والآية الكريمة تحذره من ذلك «فَلا تَغُرَنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا» .

والآخر من الشيطان، حيث يوسوس في نفسه، ويهمس في أُذُنه، ويلقي في روعه، ما يجعله يشكّ في إنجاز الله ما وعده. وهو المراد بالغرور - بفتح الغين - أي الذي يغرّ الإنسان ويخدعه. وقوله «بِالله» بمعنى أنّه يخدعه برحمة الله وعفوه وكرمه، أو باستبعاد أن يفي الله بهذه الوعود، أو بأنّها مبالغات لا يراد بها ظاهرها،

ص: 287

ونحو ذلك. ولذلك يقول الله تعالى عن ذلك اليوم: «وَبَدَا لَهُمْ مِنَ الله مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ».(1)

«إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً» الشيطان هو الروح الشرير الذي يبعث في الإنسان دواعي الشرّ، وهو بالطبع عدوّ للإنسان، وقد أبرز عداءه حينما أبعده الله تعالى من السماء لعدم سجوده للإنسان وخضوعه له، بدعوى أنّه أشرف منه، ومع ذلك فإنّ الإنسان بالرغم من معرفته به يتّخذه صديقاً، بل سيداً مطاعاً، فيعبده ويطيعه ويستسلم له ويسلم له قياده يذهب به أينما شاء، وهو كالبهيمة السائمة لا يهتمّ إلا بعلفه. والله تعالى نبّه الإنسان بخطره منذ أقدم العهود، وهو هنا أيضاً یطلب منه أن يتّخذ الشيطان عدوّاً كما هو كذلك، واتّخاذه عدوّاً بمعنى المعاداة له، وهي تتنافى مع الإطاعة والمتابعة.

«إنّما يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أصحاب السَّعِير» هذا تعليل لوجوب المعاداة، و«الحزب»: الجماعة من الناس يجمعهم رأي واحد أو هدف واحد، والمراد بهم هنا من يتبّعون الشيطان وإلقاءاته، و«السعير»: النار المشتعلة.

والسبب في دعوته لهم إلى النار أنّه يعلم أنّ هذا مصيره بعد أن امتنع من إطاعة الله تعالى، فيريد أن يحشد حوله أكبر عدد ممكن من أصحاب الضلال، فهو في الظاهر وإن كان يدعوهم إلى الشهوات والملذات، ولكن حيث كانت العاقبة هي النار، فكأنّه يدعوهم إليها. ومثله كثير من البشر ممّن لا يكتفي بضلالة نفسه، واتّباعه للشهوات المنحطة، والقذارات الخلقية، والمفاسد الاجتماعية، بل يحاول أن يجرّ معه أكبر عدد ممكن من الشباب المغفل. والإنسان إذ يلاحظ

ص: 288


1- الزمر (39): 47

وسائل الأعلام المتكثّرة والمتزايدة يوماً بعد يوم يستغرب من إصرار بعض البشر أن يبثّوا سمّاً في المجتمع لا ينفعهم، وإنّما يضرّ الآخرين، لا لشيء إلا لمجرّد أن يزيدوا من عدد الضالّين المنحرفين مهما أمكن.

«الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ هُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» تتعرّض الآية لبيان حال الفريقين: حزب الشيطان، وحزب الله، ولبيان مناط الانقسام أيضاً، فقسم كفروا بنعم ربّهم أو كفروا به أساساً، فلهم عذاب شديد. و تنكير العذاب لعلّه للإشارة إلى شدّته، مضافاً إلى أنّه مختلف باختلاف درجات الكفر وباختلاف الأعمال، فالتنكير أنسب وقسم آمنوا بربّهم وعملوا الصالحات، ولا أثر لإيمان لا يستتبع عملاً، فالله يفيض عليهم مغفرته ورضوانه، و يجازيهم بأعمالهم أجراً كبيراً. والتنكير هنا أيضاً لبيان عظمة الجزاء، واختلاف مراتبه.

«أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَهُ حَسَنًا فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» تشير الآية الكريمة إلى أخطر ما يمكن أن يبتلى به الإنسان فرداً ومجتمعاً، وهو أن لا يميز بين الحسن والسيّء، بل يرى العمل القبيح والسيّء حسناً، قال تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا»(1). والسبب في كونه أخطر شيء وأنّ صاحبه أخسر عملاً هو أنّه لا يمكنه إصلاح نفسه، لأنّه لا يحتمل في عمله الخطأ والسهو، ولا في نفسه الجهل والنسيان والاشتباه، فلا يراجع نفسه، ولا يتردّد في مسيره، ولا يسأل أحداً، ولا يسمع النصح والإرشاد من أحد، بل يرى كلّ النصائح والإرشادات متوجّهة إلى غيره.

وهذه المشكلة لا تختصّ بالأُمور الدينية، وما يحتاجه الإنسان لمسيرته الأبدية

.1

ص: 289


1- الكهف (18) : 103-104

التي تنتهي به إلى عالم الآخرة، بل يشمل كلّ جوانب الحياة في هذه الدنيا، فالإنسان المعجب بنفسه وعقله وسياسته ودهائه وذكائه وعلمه لا يخطو خطوة إلى الإمام، ولا يحاول تصحيح مساره، لأنّه يجد نفسه في الخطّ الصحيح، وأنّه يسير بالسرعة المطلوبة، بل فوقها بكثير. ومثل هذا لا يؤثّر فيه أيّ نداء وتحذير.

وكما هو الحال في الفرد كذلك في المجتمع ، فإنّ المجتمع الذي يجد نفسه بالغاً أعلى مراتب الكمال البشري، وأنّه لا يخطئ المسار الصحيح، وأنّه لا ينقصه شيء، فهو لا يحاول مواكبة التطوّر البشري، ويبقى في مكانه أو يعود القهقرى. وأمّا إذا كان المجتمع يرى في نفسه النقص والتخلّف عن ركب الحضارة، فإنّه يحاول ويجهد للتقدّم، وهذه المحاولة والجهد أوّل ما يحتاجه كلّ مجتمع للتقدّم والتطوّر.

والآية الكريمة ترتبط بما قبلها، حيث حذّر في الآيات السابقة من خداع الشيطان وتغريره. وقسّم الناس إلى كافر ومؤمن، فبيّن في هذه الآية أنّ أقوى سبب في ضلال الإنسان هو غروره بنفسه وبعمله.

وجاء ب_«التزيين» مبنياً على المجهول، إذ لا تختلف النتيجة باختلاف الفاعل، فهذا التزيين ربّما يكون من نفسه، وربّما يكون من الشيطان، وربّما يكون من أُناس حوله، كالحاشية التي يحيطون بالأُمراء والملوك، ويحاولون طمأنته بأنّ كلّ ما يعمله هو الصحيح، ليستدرّوا منه ما يطمعون، وهم ألدّ أعدائه، لأنّهم يزينون له سوء عمله، حتّى أنّهم يسترون عنه الحقائق في الوضع الاجتماعي، فيتصوّر أنّ الشعب كلّه يحبّونه ويسلمون الأمر إليه، والأمر بخلافه في الواقع.

والتأريخ يرينا من هذا الأمر العجب العجاب قديماً وحديثاً. وأغرب ما في هذا الباب عدم تنبّه المتأخّرين بما أصاب المتقدّمين. وعلى كلّ حال فالتزيين

ص: 290

كيفما حدث ومن أيّ أحد، فإنّ النتيجة وهي أنّه يرى عمله حسناً هو الموجب للهلاك.

ثمّ إن الآية لم تذكر الخبر ليذهب السامع فيه كلّ مذهب : «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ» كمن لم يزيّن له ذلك؟ أو يهتدي إلى الطريق الصحيح؟ أو نحو ذلك... وقيل: إنّ الخبر تذهب نفسك عليه حسرات؟ وهو بعيد. ولعلّ الأصحّ أن يكون التقدير يهتدي إلى الطريق الصحيح، أو تتوقّع له الهداية، ونحو ذلك ممّا يفيد معناه.

والجواب طبعاً هو النفي وقوله تعالى: «فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» بمنزلة التعليل له، فهذا لا يتوقّع له الهداية، لأنّ الله تعالى أضله «وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ»(1) والهداية والضلال بيد الله.

ولكن ذلك لا يختصّ بالهداية والضلال، فكلّ أمر بيده، وإليه يرجع الأمر كلّه، فما هو المقصود من هذه العبارة؟

الظاهر أنّ المراد بيان أنّ الضلالة والهداية كأيّ أمر طبيعي آخر يتبعان عللهما وأسبابهما ، فإذا تمّت أسباب الضلال المطلق فلا مجال للهداية، وإنّما على الرسول البلاغ ومحاولة إيجاد عامل من عوامل الهداية، فإن كان المحلّ غير قابل لها، فإنّه لن يهتدي أبداً مهما حاول الرسول. وهذا معنى أنّ الله يضلّ من يشاء، وأنّ من أضلّه الله فلا هادي له، لأنّه أمر طبيعي يتبع عوامله المستلزمة له بالطبع. وإسناده إلى مشيئة الله تعالى من جهة أنّ كلّ أمر طبيعي مستند إلى مشيئته

ص: 291


1- الغافر (49): 33

محضاً، لا تتدخّل فيه إرادة أُخرى. وهكذا الكلام في الهداية.

وهنا يثار سؤال آخر وهو أنّه إذا كان ذلك يتبع مشيئة الله محضاً، فما هو ذنب الضالّ، وبماذا يعتزّ المهتدي؟

ويتبيّن الجواب بالتأمّل فيما ذكرناه، فإنّ بعض العوامل المستتبعة للضلال المطلق الذي يوجب الطبع والختم على القلب، فلا ينفذ فيه نور الهداية أبداً، أمر اختياري وهو العناد مع الحقّ، ورفض الإيمان بعد اتضاحه له استكباراً أو حسداً أو متابعة للشهوات. وهذا هو مراد من يقول، إنّ الإضلال هنا من باب المجازاة، وليس إضلالاً ابتدائياً.

«فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ» حيث إنّ الإضلال والهداية من الله تعالى، ولا يمكن رفعهما ومنعهما ، «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ» أي لا تهلك نفسك حسرة على عدم هدايتهم، أي من أجل التحسّر والتأسّف على ذلك. وهذه الجملة تبرز غاية اهتمام الرسول صلّی الله علیه و آله - كسائر الرسل بهداية الناس، لأنّهم يرون ما لا يراه الناس من عظم الخطر المحدق بالإنسان، وهو غافل في مرتعه كالبهيمة المربوطة همّها علفها.

وفي هذه الجملة غاية التسلّي للرسول صلّی الله علیه و آله وسائر الدعاة المخلصين بأن لا یهتمّوا إلا بواجبهم وهو الدعوة، ولا يحزنهم عدم استجابة الناس لها، وإنّما جمع «الحسرة»، لأنّ دواعي الأسف على الناس متعدّدة، وخسائرهم في حالة الضلال لا تحصى.

وقوله تعالى «إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ» لبيان أنّه تعالى يعلم من يستحقّ الهداية ومن يستحقّ الضلال بما صنعته يداه. وقيل: إنّه لتهديد الكافرين وما يستحقّونه من عذاب، نتيجة ما يصنعون، فيكون تسلية أُخرى للرسول صلّی الله علیه و آله .

ص: 292

سورة فاطر (9- 11)

«وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِ_حُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)»

«وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرض بَعْدَ مَوْتِهَا» الآية تنبّه الإنسان على نعمة من الله مستمرة، وآية واضحة، وتستنتج منها إمكان البعث والحياة الأُخرى، فالله هو الذي يرسل الرياح التي تثير السحاب والإثارة: التهييج وإيجاد الحركة السريعة في الشيء.

وعليه فيمكن أن يكون المراد بإثارة السحاب إثارة البخار وتكوين السحاب، كما ذكره بعضهم باعتبار أنّ الرياح الحارة تثير الأبخرة والرياح الباردة تكثفها فتكون سحاباً ويكون السوق إلى البلد الميّت بفعل رياح أُخرى.

ويمكن أن يكون المراد بها تحريك السحاب بعد تكونها، فلا تكون في الآية إشارة إلى كيفية تكوّن السحاب، وتكون جملة «فَسُقْنَاهُ» تفريعاً على الإثارة والتحريك. ولعلّ هذا أقرب إلى لفظ الآية، لأنّ الإثارة وردت في الآية على السحاب، لا على البحار باعتبار إثارته مقدمة لتكوين السحاب.

ومهما كان فالمراد أنّ الله تعالى هو الذي يسوق السحاب بفعل الرياح إلى بلد ميّت، وأرض ميّتة ليس فيها زرع بعد أن أذبل أعشابها حرّ الصيف والجفاف،

ص: 293

فيحيي به الأرض والنبات الذي يخرج منها. والمراد ب_«إحياء الأرض» اهتزازها وتحرّكها وإنباتها، قال تعالى: «فإذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِیجٍ».(1)

«كَذَلِكَ النُّشُورُ» أي ومثل هذه الإماتة والإحياء المستمرّ بعث الناس وإحياؤهم يوم القيامة. ولعلّ الوجه في هذا التشبيه أنّ موت البشر ليس إلا كموت الأرض، حيث تكمن فيها الحياة، ولا يتوقّف إنعاشها إلا على المطر، وكذلك موت الإنسان، لأنّه لا يوجب فناءه؛ فإنّ حقيقة الإنسان روحه التي لا يعرضها الموت وإنّما يموت جسمه.

«مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَللّه الْعِزَّةُ جَمِيعاً» «العزّة»، هي المنعة - بفتح الأوّلين - وهي في الإنسان أن يكون في معقل وحصن لا يمسّه أحد بسوء. و«العزّ» في الأصل بمعنى الشدّة والصلابة. يقال: «أرض عزاز» للأرض الصلبة، ويستعار لمعان أُخر، كندرة الوجود، كأنّه ممتنع من الوصول إليه، وكشدّة التعلّق والحبّ، فيقال: إنّه عزيز عليه، كأنّه لا يمكن أن يحول بينهما شيء، وكالتعصّب وعدم الانصياع للحقّ، كما قال تعالى: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ»(2) ، وكقوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ»(3) ، وكالغلبة على الخصم، واستعماله كثير، كقوله تعالى: «وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ»(4)، ونحو ذلك.

وقوله تعالى: «فَللّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً» جملة تعليلية جاءت بدلاً عن الجواب، وهو

ص: 294


1- الحجّ (22) : 5
2- ص (38): 2
3- البقرة (2) : 206
4- ص (38): 23

«فليطلبها من الله» أو نحو ذلك، فإذا كانت العزّة كّلها لله تعالى، فمن كان يريدها فليطلبها منه تعالى.

والآية الكريمة ترد على توهم المشركين في اعتزازهم بآلهتهم قال تعالى: «وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ الله ءَالِهَةٌ لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضدّاً»(1) وأساس التوهّم هو خرافة الاعتقاد بأنّ الأصنام تمثّل أرواحاً علوية هي التي تدير الكون، وتدبّر الأمور. والجواب أنّ العزّة والمنعة ليست إلا من الله تعالى، كغيرها ممّا يرغب فيه الإنسان أو يحذر منه.

ومن قبلهم اعتّز سحرة فرعون به وقالوا: «بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ»(2) ولمّا انكشف لهم الحقّ ألقوا بأنفسهم ساجدين. وقوله «جَميعاً» لردّ توهّم أنّ العزّة تكون به وبغيره، وهذا هو الشرك، فلا عزّة إلا به ومنه وهو الذي أعزّ رسوله والمؤمنين، قال تعالى : «وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ».(3) والآية تقع في سياق الآيات التي تدعو إلى توحيد الربّ ونبذ الاعتماد على غير الله سبحانه.

«إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ»، هذه الجملة تشير إلى طريقة الاعتزاز بالله تعالى، وهي إنشاء الكلم الطيّب. و«الكلم» جمع كلمة يذكر ويؤنث، قالوا: كلّ جمع ليس بينه وبين مفرده إلا الهاء يجوز فيه التأنيث والتذكير. و«الكلمة» تطلق على الكلمة المفردة، كما تطلق على الجملة وهي المراد هنا، فالذي يصعد إلى الله تعالى وينال شرف التقرّب إليه والقبول لديه الأقوال الطيّبة.

ص: 295


1- مریم (19): 81 - 82
2- الشعراء (26): 44
3- المنافقون (63): 8

وطيب القول إنّما هو بطيب مضمونه ومعناه، ولا يكون طيّباً إلا إذا وافق الاعتقاد، وإلا كان نفاقاً ومكراً، فينطبق على الاعتقادات الحقّة التي يعلنها الإنسان، ويطلقها في ضمن كلمات طيّبة، وهي التي أُشير إليها في قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أَكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا».(1) وفي قوله تعالى: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ».(2)

وهذا الاعتقاد الحقّ مع إعلانه، والدفاع عنه، والجهاد في سبيله، والاعتزاز به، هو الذي يمكّن الإنسان من العزّة الأبدية الخالدة التي لا تحصل إلا بالإيمان بالله وحده لا شريك له. ولذلك ورد في الحديث القدسي: «لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي» (3) و «الحصن» هو الذي يمنع الإنسان من أن يغلب على أمره، وأوّل عدوّ يدفعه عنه ويمنعه منه هو نفسه التي هي أعدى أعدائه، كما في الحديث. (4)

والسبب واضح، لأنّ الذي آمن بالله وحده لا يتّخذ إلهاً غيره، فلا ينطبق عليه قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ».(5) وإذا غلب هواه وتمنع منه، لم يحن ظهره لأيّ جبّار إلا جبّار السماوات والأرض، ولا يقهره أحد فيما يرومه. ولا يضرّه أن يقتل أو يسجن أو يعذّب، فكلّ ذلك لا ينال من عزّته ولا

ص: 296


1- إبراهيم (14) : 24-25
2- إبراهيم (14): 27
3- عيون أخبار الرضا علیه السّلام: 2: 135
4- راجع: عوالي اللئالي 4: 118
5- الجاثية (45): 23

يذلّه حتّى في الدنيا، مع أنّ العزّة الأبدية لا تكون إلا في الحياة الأبدية، وهي خاصّة ظاهراً وباطناً بالمؤمنين بالله تعالى.

فتبيّن أنّ المراد بالصعود إليه هو القبول لديه، والمراد ب_«الكلم الطيّب» الاعتقاد الصحيح المعلن عنه، وأمّا قوله تعالى: «وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ» ففيه احتمالان مقبولان:

الأوّل: أنّ فاعل «يَرفَعُهُ» هو الله تعالى، فيكون المعنى أنّ الموجب للاعتزاز بالله أمران: «الكلم الطيّب» و«العمل الصالح»، والمراد بقوله: «يَرفَعُهُ» أي يقبله. والفرق بين التعبيرين حيث عدّ الكلم الطيّب صاعداً بنفسه والعمل الصالح مرفوعاً، من جهة أنّ طيب الاعتقاد هو عين المقبولية لديه، فالاعتقاد لا يكون طيباً إلا إذا كان مقبولاً لدى الله تعالى، وأمّا العمل الصالح فمعناه أنّه يصلح للقبول، فمعنى «يَرفَعُهُ» أنّه يقبله بالفعل.

الثاني: أنّ فاعل «يَرفَعُهُ» هو العمل الصالح، والضمير المنصوب في «يَرفَعُهُ» يعود إلى الكلم، فالكلام الطيّب المنبئ عن الاعتقاد الصحيح لا يرفع ولا يقبل لدى الله تعالى إلا إذا سانده عمل صالح، ولا يكفي الاعتقاد إلا إذا كان معه العمل. ولذلك يتعقّب الإيمان في الآيات الكريمة غالباً العمل الصالح: «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ».(1) وهذا الاحتمال أقرب.

«وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ»، الجملة السابقة تبيّن حال أصحاب الكلم الطيّب والعمل الصالح الذين يعتزّون بعزّته تعالى في الدنيا والآخرة، ويقابلهم أصحاب المكر السيّئ. و«المكر» - كما في «مفردات الراغب» - هو

ص: 297


1- البقرة (2) 25

صرف الغير عن ما يقصده باحتيال وخداع، وهو قد يكون مذموماً وقد يكون ممدوحاً، كما قال تعالى: «وَاللهُ خَيرُ المَاكِرِينَ».(1) والمراد ب_«السيّئات» المكرات السيّئات، فهذه صفة تنوب عن الموصوف.

قيل: والمراد بهم كفّار قريش بقرينة قوله تعالى: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ» (2) ولكنّ الآية هنا مطلقة، وإن انطبقت على أصحاب تلك المكيدة أيضاً. وإنّما قوبل الإيمان والعمل الصالح بالمكر السيّئ بملاحظة اعتزاز المؤمن بالله تعالى، حيث إنّه يوكّل أمره إليه، ولكنّه يواجه مكراً سيّئاً من أعدائه، فالله تعالى يسليه بأنّ هؤلاء لهم عذاب شديد يوم القيامة، فلا ينفعهم مكرهم إلا قليلاً حتّى لو ظفروا بشيء في هذه الدنيا.

«وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ»، «البوار»: الكساد إلى حدّ الفساد. واستعير به للهلاك، كما قال تعالى «وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ».(3) ويلاحظ أنّه تعالى قدم نتيجة المكر السيّء في الآخرة على النتيجة العاجلة، للتأكيد على أنّ المهمّ هو العاقبة، وأهمّ العواقب تلك العاقبة الدائمة، لا الفوز بمال أو جاه في هذه الحياة الزائلة. ثمّ إنّ قوله تعالى «هُوَ يَبُورُ» جملة خبرية، مبتدؤه: «وَمَكْرُ أُولَئِكَ».

قيل: وجيء بالضمير «هُوَ» للتأكيد على أنّ البائر هو مكرهم لا مكرنا. ولكن فيه احتمال آخر لعلّه أوضح ، وهو أنّ المراد التأكيد على اضمحلال مكرهم بنفسه، فلا يحتاج إلى إبادة وإهلاك، بل هو يبور في ذاته، إمّا لأنّه خاصّ بالدنيا،

ص: 298


1- آل عمران (3): 54
2- الأنفال (8): 30
3- إبراهيم (14): 28

فيبور ببوارها، أو لأنّه حتّى في هذه الحياة لا يبقى طويلاً، إذ ليست له جذور في المجتمع البشري والفكر البشري والمنطق العقلاني الصحيح.

«وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ»، الآية الكريمة تؤكّد على سعة علم الله تعالى وإحاطته بكلّ شيء ليكون الإنسان على حذر، ويذكّر الإنسان بأصله، وكيف تطوّر بفضل الله تعالى وإرادته، فمبدأ خلق الإنسان من التراب، إمّا بمعنى أنّ أبا البشر خلقه الله تعالى من صلصال من حمأ مسنون، فالإنسان مبدأ خلقه من التراب، وإمّا بمعنى أنّ الإنسان كأيّ مخلوق أرضي آخر مبدأ خلقه من التراب، فإنّ النطفة تتكوّن ممّا يتغذّى به الإنسان من موادّ حيوانية أو نباتية والحيوان يعود إلى النبات أيضاً، والنبات من التراب.

«ثمّ مِنْ نُطْفَةٍ»، أي أنّ المرحلة التالية من المراحل المحسوسة للبشر في ذلك الزمان هي مرحلة تكوّن النطفة. حلة تكوّن النطفة. وهي الماء القليل، والمراد مني الرجل أو يشمل بويضة المرأة أيضاً. ولا نصرّ على كونه إشارة إلى ذلك، فإنّ القرآن ليس كتاباً علمياً يبحث عن الحياة وأسرارها ومراحلها وإلا لكان أدقّ كتاب فيه وأكمله، وإنّما هو كتاب يذكّر الإنسان بما لا يبلغ إليه علمه مهما أُوتي من دقّة وذكاء وأدوات ومجاهر.

والحاصل أنّه لا يبعد كون النطفة إشارة إلى مني الرجل فقط وإن كان الإنسان مخلوقاً من المادّتين، فإنّ الهدف ليس هو بيان ما تولّد منه الإنسان بالنظر العلمي، بل الهدف تذكير الإنسان حسب فهمه بما كان منه أصله وما آل إليه أمره، وأنّ كلّ ذلك بأمر من الله تعالى وعناية.

وهناك مراحل من التكوّن بين التراب والنطفة لم يتعرّض لها القرآن، فلعلّ

ص: 299

ذلك من جهة أنّ هذه أوّل مراحل الحياة وإن كان ذلك مجهولاً للبشر آنذاك كما قيل أو من جهة أنّ تلك المراحل لا يتنبّه لها الإنسان غالباً. وليس الهدف ذكر المراحل الواقعية، بل ما يعلمه الإنسان فيكون منبّهاً له للوصول إلى ربوبية الله تعالى.

«ثمّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً»، «الزوج» ما يقرن بالشيء إذا كان مثله، فالأزواج الأمثال المتقارنة، والزوجان المثلان المتقارنان، ومنه الزوجان بالمعنى المعروف. والظاهر أنّ المراد هنا جعلكم ذكراً وأُنثى، عبرّ عن ذلك بالأزواج لما يؤول إليه أمرهم عادة من الزواج، كما قال تعالى: «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى»(1)، وقيل : إنّ الزوج بمعنى الصنف. ولكن لم نجد له أصلاً في اللغة.

فالمرحلة التالية التي تذكّرنا الآية بها هي مرحلة تكوّن الصنفين الذكر والأُنثى. وبين هذه المرحلة ومرحلة النطفة مراحل أيضاً تعرّضت لبعضها آيات أُخرى، كالعلقة والمضغة، وأغفل عنها في هذه الآيات لعلّه من جهة أنّ الهدف هنا ليس ذكر مراحل الخلقة، بل الهدف الإشارة إلى أنّ الاختلاف بين أفراد البشر من جهة الذكورة والأُنوثة ومن جهات أُخرى، كلّ ذلك مودعة في النطفة الصغيرة، بل في جزء صغير منها. وكلّ ذلك بعلم من الله تعالى، بل وبيده وإرادته.

«وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إلا بِعِلْمِهِ»، تتعرّض الآية للعلم الإلهي الشامل لكلّ مراحل الحمل والوضع، و «مِنْ» في قوله تعالى: «وَمَا تَحْمِلُ مِن أُنثَيَ» زائدة تفيد تأكيد النفي. و«الباء» في قوله: «بِعِلْمِه» للمصاحبة، كما في «الميزان»(2). والمعنى:

ص: 300


1- القيامة (75): 39
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 17: 25

أنّ الحمل والوضع في أيّ أُنثى - لا خصوص أُنثى الإنسان - مصاحب لعلمه تعالى به، فلا يعزب ذلك عن علمه، كما لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض.

«وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ» المراد ب_«المعمَّر» من يزاد في عمره، فمعناه وما من أحد يزاد في عمره أو ينقص إلا في كتاب. فالتعبير عنه بالمعمَّر باعتبار ما يؤول إليه، كقولهم: من قتل قتيلاً فله سلبه. ثمّ إنّ ورود الزيادة والنقصان على واحد ليس فيه تناقض - كما في «الميزان»(1) وغيره - لأنّ موجبات الزيادة والنقصان قد تجتمع في واحد فيزاد في عمره لسبب، ثمّ ينقص لسبب آخر.

و تدلّ الآية على أنّ هناك أُموراً توجب زيادة العمر وهناك ما يوجب نقصانها، وهذه الأُمور ربّما تكون مؤثّرات طبيعية في زيادة العمر، وربّما تكون غي-ر طبيعية، فمن القسم الأوّل الوقاية الصحيّة، والتغذية السليمة، ونظافة البيئة، والسكون، والطمأنينة، والرياضة، والمعالجات الطبّية، والابتعاد عن الضوضاء، والعادات السيّئة، كالتدخين والمخدّرات والمسكرات، ونحو ذلك. ومن القسم الثاني الصدقة، وصلة الرحم، والإحسان إلى الوالدين، والدعاء، والتوسّل بأولياء الله تعالى، ونحو ذلك. ويقابل القسمين ما يوجب نقصان العمر، كما لا يخفى .

ولكن ربّما يثار هنا سؤال، وهو أنّه كيف تؤثّر هذه الأمور في زيادة العمر أو نقصانه، والأعمار - كما هو معروف - بيد الله سبحانه، بل أنّه تعالى صرّح

ص: 301


1- راجع نفس المصدر: 26

في كتابه الكريم ما يردّ ذلك كقوله تعالى: «وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أجَلُهَا».(1)

والجواب: أنّ الأعمار - كغيرها من الأُمور - بيد الله تعالى، ولا خصوصية في الأعمار، والله تعالى قد قدّر كلّ شيء، وجعل لكل شيء قدراً، ولكنّ القضاء والقدر ليس بمعنى تقدير المعلولات، سواء وجد العلل أم لم توجد بل بمعنى تقدير المعلولات عن طريق العلل، فكلّ هذا الكون كجهاز يستتبع كلّ حركة منه حركة أُخرى، فإذا تناول أحد طعاماً فاسداً فسوف يمرض، والتقدير أنّه سيأكل ويمرض، لا أنّه سوف يمرض، سواء أكل أم لم يأكل، فإذا راجع الطبيب وعالج نفسه وشفي، فإنّ التقدير هو أنّه سيعالج ويشفى، وهكذا.

ولكنّ النتيجة النهائية التي تحصل بتتابع العلل لا يعلمها إلا الله سبحانه، لأنّه هو الذي يعلم كلّ ما سيحدث من علل ، فمن الممكن أن يخبر طبيب حاذق بأنّ مريضاً ما سيموت في موعد محدّد، ولكن هناك مؤثّرات لا يعلمها الطبيب، أو لا يعلم تحقّقها فيما بعد، فتؤثّر في التأخير أو التقديم، فالأجل النهائي لا يعلمه إلا الله تعالى.

وهذا هو المراد بقوله تعالى: «يَمْحُواْ اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» . (2) ف_«أمّ الكتاب» هو العلم بالنتيجة النهائية التي لا تتبدّل ولا تتغيّر، ويعبّر عنه ب_«القضاء المحتوم»، وما يمحيه ويثبت هو ما قضي بملاحظة بعض العوامل المؤثّرة.

ص: 302


1- المنافقون (63): 11
2- الرعد (13): 39

فقوله تعالى: «وَمَا يُعَمَّرُ» يعني أنّ كلّ ما يوجب زيادة العمر أو نقصانه، بعلم الله تعالى، وهو مكتوب، بمعنى أنّه مقدّر عند الله العالم بكلّ المؤثّرات، بل هي تؤثّر إلا بأمره وإرادته. و«الكتاب» هو المكتوب أي المحفوظ والمسجّل.

«إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ»، أي ميسور وهو من اليسر، أي سهل منقاد، حيث إنّ الإنسان يستغرب أن تكون كلّ هذه الأمور مسجّلة ومعلومة ومقدّرة بالنسبة لكلّ أحد طيلة القرون المتمادية، لجهله بأنّ الله تعالى لا يحدّ قدرته وعلمه شيء.

ص: 303

سورة فاطر (12-14)

«وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)»

«وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ»، الآية تبيّن جانباً من نعم الله التي لا تحصى، وهو تنوّع الماء على سطح الأرض. ولكلّ منهما فوائد انكشف للإنسان بعضها، وهما لا يستويان في ذلك وعبّر عنهما ب_«البحر»، إمّا من باب التغليب كالقمران يطلق على الشمس والقمر، أو من باب أنّ الأنهار أيضاً يعبّر عنها في اللغة بالبحر، فإنّه بمعنى السعة.

و«الفرات»: العذب، أو الذي يكسر العطش. و«السائغ»: المريء الذي يسهل انحداره. و «شراب» مصدر ، وهو فاعل «سَائِغٌ» ، أي أنّ شربه يسوغ ويمضي بسهولة.

والآخر «ملح»، وهذه الكلمة تطلق على نفس المادّة المعروفة، كما تطلق على الماء المالح، والعرب قلّ ما يقولون مالح، و«الأجاج» بمعنى شديد الملوحة، ، ولعلّه مأخوذ من الأجيج بمعنى التهاب النار، أو أنّه بمعنى الشدّة، سواء في النار أو في الملوحة، كما قيل.

ص: 304

وقد ذكر جمع من المفسّرين أنّ الآية تشبّه المؤمن والكافر بهما. وإنّما ذكروا ذلك فراراً من اعتبار كون الماء المالح نعمة. وقد انكشف اليوم أنّ ملوحة مياه البحار والمحيطات هي التي حافظت على سلامة البيئة، بالرغم من التلوّث الذي يحدّثه الإنسان والحيوان طيلة القرون المتمادية. وله فوائد أُخرى أيضاً. ومهما كان، فما ذكره المفسّرون لا دليل له من الآية المباركة، بل السياق يقتضي سرد النعم فحسب، كما هو واضح بملاحظة نفس الآية وسابقتها ولاحقتها.

«وَمِنْ كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً»، ثمّ تطرقّت الآية لذكر ثلاثة من النعم المتاحة للإنسان في البحار والأنهار، أُولاها لحوم الأسماك الطازجة، ولعلّ التعبير ب_«الطريّ» من جهة لطافة لحم السمك ونعومته، أو من جهة أنّه يستحسن أن لا يؤكل إلا طريّاً. ولا يبعد أن تكون الكلمة معربة من كلمة «تر» الفارسية، بمعنى «رطب» كما أنّ «طازج» معرب «تازه»، وهما يستعملان معاً في الفارسية فيقال: «ترو تازه»، أي «رطباً جديداً».

والواقع أنّ هذه نعمة عظيمة ، فكم يا ترى من القرون مضت على الإنسان، والبحر يمدهّ بهذا اللحم اللذيذ الطازج، بدون تعليف ورعاية.

«وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» وثانيتها ما يستخرج من البحار من اللؤلؤ والمرجان، يتحلّى به الإنسان ويلبسه. وربّما اعترض بأنّ الأنهار لا تشتمل على اللئالئ، مع أنّ ظاهر التعبير أنّها تستخرج منها أيضاً. والصحيح أنّ الماء العذب لا يختصّ بالأنهار، فهناك بحيرات من الماء العذب تشتمل على الأصداف وغيرها. و«المرجان» نبات أو حيوان بحري تستخرج من بعض أجزائه مادّة حمراء ويعمل منه الحلّي، ويظنّ الناس أنّها من الأحجار الكريمة.

ص: 305

«وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»، وثالثتها الانتفاع بها، کطرق سهلة للوصول إلى البلدان البعيدة، وحمل البضائع الثقيلة، سواء في هذا العصر حيث صنعت السفن الكبيرة الهائلة، وتشكل أرخص وأسهل وسيلة لحمل البضائع والناس، أو في العصور السابقة حيث كانت الوسيلة الأُخرى هي الدوابّ. و «المخر» هو الشقّ، عبّر به عن سير السفن لشقّها الأمواج. وقوله: «تَرَى...» خطاب لمن يسمع القرآن أو يقرأ.

ثمّ بيّن أنّ الفائدة والنتيجة من ذلك أمران مادّي ومعنوي، فالأوّل هو ابتغاء الرزق عن هذا الطريق، وعبّر عنه بابتغاء فضل الله تعالى تمهيداً للنتيجة الأُخرى، وهي الأهمّ، بل هي المقصودة بالذات، وهي الشكر للخالق على نعمه. والتعبير بكلمة «لعلّ» ليس بمعنى الترجّي ليبحث عن توجيه له، بل هو بمعنى كون الشيء متوقّعاً والأرضية صالحة.

«يُولِجُ اللَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى اللَّيْلِ»، من آيات الله تعالى، ومن نعمه على الإنسان ولوج الليل في النهار ، وولوج النهار في الليل. وقد ذكر لهما معنيان:

الأوّل: الانتقال التدريجي من كلّ منهما إلى الآخر في طرفي النهار والليل، حيث لا تحدّث الظلمة أو الضياء فجأة، بل ينتقل شيئاً فشيئاً، وكذلك من حيث الحرارة والبرودة، وهو مهمّ جدّاً لسلامة الإنسان، ولسائر شؤون حياته، فلا يدخل الظلام الدامس فجأة، ولا يبهره النور الساطع بغتة، وكذلك لا يحرقه لهيب الشمس من بدء طلوعها، ولا يلفحه البرد القارس بمجرّد غيابها. وإنّما يحدث ذلك تدريجياً بفعل المجال الجوّي المحيط بالكرة الأرضية.

وقد شبّه القرآن هذه الظاهرة بدخول كلّ منهما في الآخر، حيث تحدث حالة

ص: 306

متوسّطة بينهما في كلا الجانبين.

والمعنى الآخر النقصان التدريجي في كلّ منهما بالزيادة في الآخر، بحسب تغيّر الفصول طول السنة بمحاسبة دقيقة، وانتظام لا يختلّ طيلة القرون المتمادية. ولا يبعد إرادة كلا المعنيين.

«وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كلّ تَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً»، ومن آياته تعالى تسخير الشمس والقمر، والمراد تسخيرهما لصالح البشر لا للبشر ، فهما يدأبان على العمل بانتظام واستمرار، بما يهيّئ للإنسان على هذا الكوكب الحياة السعيدة، والعيش الرغيد في نعم الله التي لا تحصى. وكلّ منهما يجري لأجل مسمّى.

وهنا أيضاً معنيان:

أحدهما: أنّ لهما عمراً ينتهيان بانتهائه، فتنطمس الشمس، ويزول القمر كما يزول كلّ هذا النظام الكوني.

والآخر: أنّ لجريانهما وقتاً وأمداً ونظاماً دقيقاً لا يتعدّيانه أبداً. والمراد بناءً على هذا المعنى أنّ كلاً منهما يجري على الأُفق المشهود للإنسان لأجل محدّد، ثمّ يغيب، ثمّ يخرج بعد فترة ويعود إلى الجريان، ويتغيّر هذا الأجل كما سمّي له وأعدّ، بكلّ دقّة وانتظام.

ولعلّ الذي استبعد المعنى الثاني نظر إلى أنّ الجريان لا ينقطع إلا عن النظر الساذج لمن يجهل أنّ الأرض كروية، وأنّهما يجريان ليل نهار، وأنّ الليل والنهار أيضاً متزامنان، لا يفنى أحدهما ويوجد الآخر، بل أنّ إسناد الجريان إلى الشمس لا بدّ أن يحمل على الجريان في المجرة، أو مع المجرة، حسبما اكتشفه العلم الحديث. وأمّا ما نشاهده من الجريان فهو مجرّد خطأ في الأبصار، حيث إنّ

ص: 307

الأرض هي التي تدور حول نفسها، فيخيّل إلينا أنّ الشمس تدور حولنا.

وقد أشرنا قبل آيتين إلى أنّ القرآن لا يتحدث عن الأُمور الكونية على ما هي عليه في الواقع، فهو ليس كتاباً علمياً، بل هو كتاب سماوي ينتقل بالإنسان إلى ما وراء الكون، وإذا جال به فى الكون، فإنّما يجول به ليبصر بما فيه ما وراءه، لا ليبصر حقائقه على ما هي علیه.

ونعم ما قال أمير المؤمنين علیه السّلام في توصيف الدنيا: «ومن أبصر بها بصّرته ومن أبصر إليها أعمته».(1)

ومن هنا نجد أنّ أكثر المتعمّقين في حقائق الكون لا يتجاوزونها وإن سبروها سبراً، وإنّما يتجاوزها من يجد في هذا النظام وهذه النعم يداً خفية تدير الأُمور وتدبّرها. فإذا تحدّث القرآن عن جريان الشمس والقمر فهو يريد هذا الذي نشعر به ونتنعّم به، ونجعله مقياساً لمحاسبة الأيّام والسنين مهما كان الواقع.

«ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ المُلكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير»، أي ذلك الذي دبّر الكون بحيث تنعمون بما أراد لكم من النعم السماوية والأرضية هو الله، وهو ربّكم الذي يربّيكم ويسير بكم إلى ما تستحقّونه من رفعة أو ضعة. وله الملك ملك السماوات والأرض، فكلّ ما في الكون تحت سلطته وإرادته، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد.

وأمّا الذين تدعون من دونه، فلا يملكون أقلّ شيء في الكون، حتّى لو لم يكن مالاً في العرف كالقطمير، وهو الجلدة الرقيقة التي تلتف حول نواة التمر. والمراد «بالَّذِينَ يَدعُونَ مِن دَونِ الله» الأصنام وأمثالهم من الجماد، كما يدلّ عليه

ص: 308


1- نهج البلاغة، صبحي الصالح، الخطبة 81

نفي الملكية المطلقة، وأنّهم لا يسمعون شيئاً، نظير ما ورد في سورة الأعراف:

«يُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إلى الهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَم أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أم هُمْ أَيْد يَبْطِشُونَ بِهَا أم لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بها أم لَهُمْ أَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثمّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إلى الهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ»(1).

ولو أُريد به مطلق ما يعبد من دون الله ليشمل الملائكة والجنّ والبشر، فلا بدّ من حمل الملكية المنفية على الملكية الحقيقية التي تختصّ بالله تعالى.

«إنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ» ثمّ بيّن أن هذه الأصنام التي تدعونهم لجلب خير أو دفع شرّ لا يسمعون دعاءكم، لأنّهم جماد لهم آذان لا يسمعون بها، ولو سمعوا على سبيل الفرض ما استجابوا لكم ، لأنّهم لا يقدرون على شيء. ولو فرض أنّ المراد ما يعمّ ذوي العقول، فإنّهم لا يقدرون أيضاً على الاستجابة إلا فيما أذن الله به، فيكون المراد نفي استجابة ما لم يأذن به الله. ولكنّه بعيد عن ظاهر اللفظ.

«وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» ولما يبعث هؤلاء يوم القيامة ويواجهون الأصنام التي طالما عبدوها رجاء شفاعتها يرونها تنكر ذلك، كما قال تعالى في

ص: 309


1- الأعراف (7): 191- 198

سورة مريم: «كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً» (1) وقال تعالى: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ الله مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ* وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ».(2)

ولعلّك تسأل: كيف تنكر الأصنام ذلك وهم قد عبدوهم في الدنيا؟

ويأتيك الجواب في قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثمّ تَقُولُ لِلذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ»(3)، فالأصنام حيث لا تشعر في هذه الحياة بأنّها معبودة ، تنكر ذلك يوم القيامة.

والملفت للنظر أنّ الآية تعتبر الدعاء شركاً، كما اعتبره في مواضع ُ عبادة، قال تعالى: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ».(4) مع أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الدعاء لا يعتبر عبادة ب-ق-ول مطلق، فإنّ الإنسان يدعو أُناساً لحاجته، وهو غير منهيّ عنه، فالمراد نوع خاصّ من الدعاء وهو الذي أُشير إليه في هذه الآية بقوله: «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ» ف_«الدعاء» من دونه» ليس كمطلق الدعاء، لأنّ من دونه يعني أن تعتبر شيئاً بدلاً عن شيء. والدعاء إذا كان باعتقاد كون الشيء مؤثّراً باستقلاله هو العبادة، إذ هذا يختصّ بالله سبحانه وليس شيء غيره مؤثّراً في الكون إلا بإرادته تعالى وإذنه.

ومن هنا يتبيّن فشل محاولة من يتمسّك بهذه الآيات للحكم بشرك من يتوسّل

ص: 310


1- مریم (19): 82
2- الأحقاف (46): 65
3- يونس (10): 28-29
4- غافر (40): 60

بأولياء الله تعالى، لأنّ الذي يدعوهم ويتوسّل بهم لا يدعوهم بدلاً عن الله سبحانه، بل يعتبرهم عباداً صالحين مقرّبين، فالتوسل بهم عين التوسّل بالله سبحانه.

«وَلا يُنتكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» حيث إنّ هذا الأمر - أي إنكار الأصنام يوم القيامة - ربّما يصعب قبولها عند عبدة الأوثان، بل غيرهم أيضاً، يؤكّد الله - سبحانه - ذلك بأنّ هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وهو الخبير بما سيحدث، فلا تستغربوا إن أخبركم عمّا لا سبيل إلى العلم به من قبلكم. وتأويل الجملة: ولا ينبّئك أحد مثل ما ينبّئك خبير بحقائق الأُمور. ومعناها أنّي حيث أُخبرك بذلك خبير عالم بالغيب، ولا يخبرك أحد مثل إخباري. وهو خطاب لكلّ سامع، ومثل عامّ ينطبق على هذا المورد.

ص: 311

سورة فاطر (15-18)

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)»

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إلى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»، الظاهر أنّ الآيات في مقام ردّ ما يتوهّمه الإنسان حينما يجد أنّ الله تعالى يدعوه إلى الإيمان به وعبادته ويهتمّ بذلك، فيبعث الرسل وينزل الكتب ويرسل المعاجز والآيات، فيظنّ الإنسان أنّ الله تعالى بحاجة إلى عبادته وأنّ ذلك ينفعه، وربّما يمنّ بإيمانه وإسلامه على الله تعالى ورسوله كما قال تعالى: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمَنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمان إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ».(1)

وهذا أمر مشهود من الناس حتّى أنّك لتجد بعض الناس إذا لم يستجب دعاءه ولم يقض حاجته يستغرب ذلك، وكأن له حقاً عليه تعالى لم يؤدّه إليه. وإذا عمل عملاً أو عبد عبادة، فإنّه يتوقّع أن يبرز الله تعالى له حبّه ويشكره على ذلك. وهكذا.

بل هناك من الناس من يتوهّم أنّ الله تعالى حيث يطلب من الإنسان أن ينفق من ماله على الفقراء أو في سبيل الله فالله فقير وهو غنيّ !! قال تعالى: «لَقَدْ سَمِعَ الله

ص: 312


1- الحجرات (49): 17

قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا».(1) فالآية تقول: إنّك مخطئ أيّها الإنسان، فالله تعالى لا يحتاج إلى عبادتك ولا ينتفع به، ولست على الله بعزيز إذا أراد أن يبيدك ويهلكك ومن في الأرض جميعاً، فإن ذلك لا يهمّه، قال تعالى: «قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرضِ جَميعاً»(2)، ولا يتوقّف ذلك إلا على إرادة منه تعالى.

ويفهم الحصر من قوله «أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ» حيث كان المبتدأ والخبر معرفة فيفيد أنّ الفقر منحصر في الناس. وقد وقع الكلام بين المفسّرين في وجه هذا الحصر، مع أن الكون كلّه فقير إلى الله تعالى.

والذي غفل عنه في هذا المقام هو أنّ المراد بالفقر والغنى في الآية الكريمة ليس الفقر والحاجة في الوجود، حتّى يقال بأنّه لا يختصّ بالإنسان، بل المراد الفقر في مقابل الغنى بالمال، وهو بالطبع خاصّ بالإنسان إذ لا يعتبر غيره من الحيوان أو غيره فقيراً بهذا المعنى ولا غنيّاً وإنّما اشتبه الأمر على المفسّرين حيث تدخل الفلاسفة في تفسير الآيات، فأفرغوها عن المعنى المتفاهم العرفي، ومن الواضح أنّ المراد بالفقر هنا هو ما يقابل الغنى الذي يتوهّمه الإنسان لنفسه في مقابل الله تعالى، بل يعتبر الله تعالى فقيراً، كما في آية آل عمران الآنفة الذكر، والجملة المذكورة فيها من كلام اليهود وهم مؤمنون بالله.

إذن فالمراد غنى الله عن عبادتهم وحمدهم وثنائهم وإنفاقهم ونصرتهم وأمثال ذلك ممّا يتوهّم الإنسان أنّ الله تعالى يطلبها منه لفقره إليها، سبحان الله عمّا يصفون !!

ص: 313


1- آل عمران (3): 181
2- المائدة (5): 17

والحصر مضافاً إلى ذلك حصر إضافي لا يدلّ على نفي الفقر من غير الإنسان، والمعنى أنّ الفقير أنتم الذين تدعون الغنى، لا الله سبحانه، فإنّه غني بالذات. فبناءً على ذلك حتّى لو فرض إرادة الفقر والغنى في الوجود يصحّ الحصر.

وأمّا توصيفه تعالى بعد حصر الغنى فيه بأنّه هو «الحميد» بمعنى المحمود، فليس بمعنى أنّ الناس يحمدونه - كما في بعض التفاسير - بل بمعنى أنّه هو الحميد في ذاته لا حميد سواه، يعني أنّ الحمد لا يليق إلا به وبصفاته الحسنى وأفعاله الكريمة، فكلّ حمد يعود إليه حتّى لو تعلّق ظاهراً بغيره، إذ كلّ ما يستحقّ عليه الحمد والثناء فهو فعله، وإن تسبّب غيره في تحقّقه، فإنّما يتحقّق ذلك بأمره وإرادته تعالى.

والغرض دفع توهّم الإنسان أنّ الله تعالى بحاجة إلى حمده، فالآية تقول: إنّ الله غنيّ عن حمدك وثنائك، وهو الحميد بالذات الذي لا حمد إلا له، ولا يؤثّر حمدك وثناؤك شيئاً في هذا المجال، كما لا يضرّه أن يكفر به وبنعمائه الإنس والجنّ.

«إنْ يَشَايُذْهِبْكُمْ وَيَاتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ»، أي إذا أراد الله اذهابكم - أي هلاككم - يهلككم ويأت بخلق جديد، أي بمخلوقات جديدة. والخلق مصدر بمعنى المفعول. وهذا تأكيد على ما مرّ من الغنى والمراد أنّه لو فرضت حاجة إلى خلائق من البشر يعبدون الله تعالى، فإنّه لا حاجة إلى إبقائكم، بل بكلّ بساطة يمكن أن يهلككم ولا يبقي لكم أثراً ويأتي بخلق جديد، مع أنّه تعالى غنيّ عن كلّ شيء لا يحتاج إلى عبادة أحد.

ص: 314

ومن هنا يتبيّن أنّ مضمون هذه الآية يختلف عن قوله تعالى: «وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ».(1) وكذلك قوله تعالى: «هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِى سَبِيلِ الله فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثمّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ».(2)

والفرق أنّ الخطاب في هاتين الآيتين إلى البشر الموجودين في عهد النزول، فالأولى خطاب لكفّار مكّة، والثانية للمسلمين في المدينة، بينما الآية التي نبحث حولها خطاب للبشرية لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ».

والمراد بآية الأنعام التهديد بإنزال عذاب الاستئصال بحيث يبيد كلّ المشركين ويأتي بجيل جديد، لا بخلق جديد كما هنا، وشبهّ ذلك بإنشائهم من ذرّية قوم آخرين.

والمراد بالثانية الامتنان على جيل الصحابة بتوفيقهم لوجود الحاجة إلى بذل المال والنفس لإعلاء كلمة الله، وأنّهم إن لم ينتهزوا هذه الفرصة، فسيأتي قوم آخرون وإن كانوا من غير العرب وفي عصر آخر، ويكلّفهم الله بهذه التكاليف، وسوف لا يكونون أمثالكم متقاعسين عن امتثال أوامره، نظير قوله تعالى: «إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا»(3) ، وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلَا یَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ الله

ص: 315


1- الأنعام (6): 133
2- محمّد (47): 38
3- التوبة (9): 39

يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ».(1) والحاصل أنّ بين المفهومين فرق واضح، فلا وجه لتشبيه بعض التفاسير هذه الآية بتلك الآيتين.

«وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزِ»، أي ليس صعب المنال. والغرض تنبيه القوم على أنّ ذلك أمر متوقّع، فلا يغفلوا عنه.

«وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» ذكر جمع من المفسّرين أنّ هذه الجملة ترتبط بالآية السابقة، حيث وقع التهديد فيها بالإذهاب والإهلاك، فيكون مثاراً للسؤال عن ذنب المؤمنين والصالحين، فأُجيب أن لا وزر إلا على صاحبه.

وهذا خطأ واضح، فإنّ مورد هذه الآية يوم القيامة، ولا ترتبط بالعذاب الدنيوي المذكور في الآية السابقة والذي يأخذ المذنب وغيره، بل حتّى الأطفال والمجانين، كما قال تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةٌ لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةٌ».(2)

و«الوزر»: الثقل والحمل، ومنه الوزير حيث يشارك الزعيم في حمل ثقل المسؤولية، ومنه أيضاً المؤازرة بمعنى المساعدة. والمراد به هنا الإثم وقد أكّد القرآن في مواضع كثيرة أنّ الإنسان لا يتحمّل وزر غيره، فالمسؤولية هناك فردية ولا يؤخذ الإنسان بذنب من يرتبط به ولا بما يقترفه أبناء المجتمع. نعم، ربّما يتحمّل مسؤولية السكوت عن الحقّ فضلاً عن مسؤولية إغواء الآخرين. وهذا وزره واثمه الشخصي وبذلك يتبيّن معنى قوله تعالى: «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ».(3) والحاصل أنّ المراد بهذه الجملة أنّ الله تعالى لا يحمّل إنساناً ذنوب غيره.

ص: 316


1- المائدة (5): 54
2- الأنفال (8): 25
3- العنكبوت (29): 13

«وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى»، والمثقلة صفة لموصوف مقدّر أي نفس مثقّلة. ومعناها النفس التي أثقلتها الذنوب والآثام. والحمل - بكسر الحاء – المحمول. ومعنى دعوة النفس المثقلة إلى حملها طلبها المساعدة في حمل أثقالها. المقصود بهذه الجملة بيان شدّة الهول يوم القيامة بحيث لا يساعد الإنسان أحداً في حمل أثقاله حتّى لو كان ذا قربى. وقد وصف الله سبحانه هذا الأمر في مواضع شتّى من كتابه العزيز، كقوله تعالى: «يَوْمَ يَفِرُّ المُرْهُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَيْهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَانٌ يُغْنِيهِ»(1)، وقوله تعالى: «وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابٍ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِى الأرض جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ». (2)

وهذا أمر غريب، فنحن لا نجد في هذه الدنيا شيئاً أحلى من الحياة، ومع ذلك فإنّ الإنسان غالباً يفتدي بنيه بحياته، فكيف ينقلب الأمر هناك ويفتدي نفسه بكلّ ما هو عزيز عليه، بل بكلّ من في الأرض، بل لا يسأل حميم حميماً، بل يفرّ من كلّ أُعزائه، وكلّ مشغول بنفسه ؟! ماذا يحدث في تلك المرحلة من الحياة وكيف تنقلب المعايير ؟!

إنّ الإنسان ينكشف له الحقائق ذلك اليوم، فتنقلب المعايير لديه حيث يجد أنّ هناك شيئاً كان يجهله هنا وهو أهمّ من الحياة الزائلة في الدنيا.

وعلى كلّ حال، فالآية تصوّر حالة الإنسان الذي أثقلت الذنوب ظهره يدعو وينادي من يساعده على حمل ثقله، فلا يستجيب له أحد حتّى أقاربه، بل أقرب أقاربه. وهو تصوير فريد للمذنب يوم القيامة، فكأنّه إنسان عاجز أعياه حمل ثقيل

ص: 317


1- عبس (80): 34-37
2- المعارج (70): 10-14

قصم ظهره يستنجد بكلّ من يراه فلا يجد من يساعده. وليس هناك دعوة واقعاً ورفض، لأنّ عمل كلّ إنسان لا يفارقه سواء في الدنيا أم الآخرة، وإنّما المنقول هنا تمنيّات الإنسان، نظير قوله تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً» (1)، فالآية بصدد بيان هذه الحقيقة أنّ المساعدة في حمل هذا الثقل غير ممكنة.

«إنّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ»، ربّما تدلّ الآية على الحصر وأنّ الإنذار لا ينفع غير الذين يخشون ربّهم. وقد استغرب بعضهم أنّ الإنذار كيف يختصّ بهؤلاء مع أنّهم إنمّا خشوا ربّهم وأقاموا الصلاة نتيجة الإنذار؟! فأوّلوا الآية وأمثالها بأنّ المراد من يخشى مستقبلاً ونحو ذلك من التأويلات.

والاستغراب بذاته غريب، وكأنّ الإنذار يختصّ بالكافر، وأنّ المؤمن لا يجب أن ينذر ولا يتحقّق فيه الخوف من التخويف، مع أنّ من الواضح أنّ الخوف لا يحصل إلا بعد الإيمان!. ثمّ أنّ المراد بالإنذار التخويف المؤثّر وإلا فالرسول ينذر كلّ الناس.

ومن هم الذين يخشون ربّهم بالغيب؟ فيه احتمالان:

1- الذين يخشون ربّهم حين لا يراهم أحد من الناس، فهناك كثير يخشون الله أو يظهرون ذلك أمام الناس، لأنّ ذلك يصب في صالحهم، فإذا اختلوا بأنفسهم قلّت خشيتهم أو انعدمت.

2- الذين يخشونه من دون أن يروا الآيات والمعجزات الظاهرة الواضحة تشبيهاً لمن رأى الآيات بمن رأى الربّ بنفسه، فالذي لم ير الآيات غائب عن

ص: 318


1- آل عمران (3): 30

الربّ ويخشاه لما يجده من الآيات الكونية، وما يجذبه إليه من الدوافع النفسية والفطرية، وهذا هو الموجب لكمال الإنسان، أمّا الذي لا يتأثرّ بكلّ ما يجده من آيات، ولا يؤمن إلا حين يرى العذاب علانية كفرعون، فلا يقبل منه إيمانه وخشيته. قال تعالى: «حَتَّى إذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسرائيل وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ». (1)

وصفة أُخرى للذين يتأثّرون بالإنذار، وهي إقامة الصلاة وليست الصلاة بنفسها، فالتعبير يوحي بتشبيه الصلاة بخيمة لا تقوم إلا على عمود، والأثر يترتّب على هذه الإقامة، وعمود الصلاة هو روحها وحقيقتها وهو التوجّه والانعطاف والتذلّل واستشعار الخضوع.

«وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله المَصِيرُ» يعود إلى التأكيد على أنّ التزكّي وطهارة النفس لا ينفع الله شيئاً وإنّما ينفعكم. وهو ينفع في الدنيا والآخرة. والآية تدلّ على أنّ خشية الله تعالى وإقامة الصلاة من مقوّمات تزكية النفس وطهارتها. و «الزكاة» الطهارة والبركة. وأخيراً فإنّ المصير إلى الله تعالى. وهناك يرى الإنسان نتيجة اتعابه في التزكية. وهذا تنبيه ضروري، لأنّ الإنسان ربّما يشعر بالخسارة والضرر والتخلّف عن الركب، حيث ضيّق على نفسه في الحياة لكي يتزكّى ويبقى نظيفاً طاهراً مع وجود كلّ المغريات حوله، وهو لا يجد في هذه الحياة ميزة يمتاز بها في هذا المجال، خصوصاً بالنسبة للشباب الذين لا يهتمّون بالميزات الاجتماعية، فلا بدّ من إشعاره بأنّ المصير إلى الله، وفي تلك الحياة تتبيّن الحقائق ويجد الإنسان نتيجة عمله واضحة ممتازة.

ص: 319


1- يونس (10): 90-91

سورة فاطر (19-23)

«وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)»

«وَمَا يَسْتَوِى الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ» تشبيهات للمؤمن والكافر، والذي يتأثّر بالإنذار ومن لا تؤثّر فيه الآيات والنذر. فالأوّل «بصير» أي ذو بصيرة يمكنه أن يرى الحقائق التي لا ترى بالعين، والثاني «أعمى» وإن كان له بصر. وقد تكرّر التعبير فقدان البصيرة بالعمى، قال تعالى: «وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى عن وَأَضَلُّ سَبِيلاً».(1)

«ولا الظُّلُمَاتُ ولا النُّورُ» تشبيه آخر، فالذي لا يؤثّر فيه الإنذار يعيش في ظلمات، والمؤمن له نور. قال تعالى: «أَوَمَنْ كَانَ مَيْناً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا».(2)

وهناك من الكفر ما تتراكم فيه الظلمات، فهو لا يرى فيه حتّى يده، قال تعالى: «أَوْ کَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ».(3) ويلاحظ أنّ المشبه هنا هو الإيمان والكفر ، لا المؤمن والكافر ، كما في التشبيه السابق. وتكرار أداة النفي للتأكيد وكذا في الجملتين التاليتين.

ص: 320


1- الإسراء (17): 72
2- الأنعام (6): 122
3- النور (24): 40

«وَلا الظُّلُ وَلا الخَرُورُ»، وهذا تمثيل آخر للإيمان والكفر، فالإيمان ظلّ يستظلّ به المؤمن ويستريح من مشاكل الحياة وهمومها. وأمّا الكفر فهو حرور. وهي ريح حارّة تؤذي وتضرّ، فكأنّ الكافر في صحراء قاحلة ليس له ظلّ يأوي إليه، والريح الحارّة تمنعه من الاستقرار.

«وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ»، وهنا يشبه المؤمنين بالأحياء، والكفار بالأموات. وهذا التشبيه من جهة أنّ الكافر لا يتأثّر بسماع الآيات والنذر وإن كان يسمع ، فكأنّه لا يسمع، بل كأنّه ميّت ليس فيه حياة، فإنّ الأصمّ أيضاً ربّما يتأثّر برؤية الرسول والداعي، وما يبديه من حركة الفمّ وما يبدو عليه من تأثّر حين الإنذار، أمّا الميّت فهو جماد لا يمكن أن يتأثّر بشيء من هذا القبيل.

«إِنَّ الله يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِى الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلا نَذِيرٌ»، كلّ هذه التمثيلات تأتي في إطار تسلية الرسول صلّی الله علیه و آله، وإيئاسه عن إيمان أهل الجحود المتغطرسين، فهؤلاء أموات مقبورون لا يمكنك إسماعهم، فلا تبتئس بعدم استجابتهم، وما دورك إلا دور الإبلاغ والإنذار، والله يسمع من يشاء، ولا يشاء إلا إسماع من كملت فيه شرائط الإيمان، فلكلّ قبول ورفض عوامل عريقة في النفس الإنسانية، وهناك دواع كثيرة لعدم الاستجابة ومشيئة الله بمعنى اكتمال عوامل القبول حيث يتبعها بالطبع الإيمان والتسليم.

ولعلّك تسأل: كيف يمكن التوفيق بين هذه الآية وما ورد من أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله خاطب أجساد صناديد قريش بعد مقتلهم يوم بدر، وقد روي بوجوه متعدّدة، وفي بعضها أنّه صلّی الله علیه و آله قال لهم في ما قال: «أليس قد وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً»، وأنّ بعض الصحابة قال: كيف تخاطبهم وهم جيف؟ فقال الرسول صلّی الله علیه و آله: «والذي نفسي

ص: 321

بيده ما أنتم بأسمع منهم ولكنّهم لا يطيقون الجواب».(1) وكذلك ما ورد من تلقين الميّت بعد الدفن وما ورد من زيارة أهل القبور وخطابهم بالسلام وغير ذلك.

والجواب: أنّ التعبير في الآية الكريمة تعبير أدبي، ويلاحظ فيه تشبيه الكفّار بالأموات وتشبيه عدم تأثّرهم من الإنذار بعدم السماع والتعبير الأدبي لا يبتني على كون الصفة في المشبّه به واقعياً، بل يبتني على تأثّر السامع به نفسياً، فحينما تقول: «زيد كالأسد» تشبّه زيداً بالأسد في الشجاعة، ومن الممكن أن يكون زيد أشجع منه بكثير، ولكنّ نفس السامع متأثّرة بشجاعة الأسد، وربّما يشبه وجه إنسان وسيم بالقمر والقمر في واقعه تراب وحجر ليس فيه جمال خلاب، ولكنّ التشبيه على أساس ما يتأثر به الإنسان من نوره في الليالي الظلماء. وهكذا سائر الموارد.

ولذلك تختلف الحضارات في التشبيه، فالمجتمع الذي نعيشه الآن لا يشبّه بالحمار إلا من كان غبياًّ، فكأنّ الغباء هو الميزة الواضحة لهذا الحيوان، بينما كانت العرب قديماً تشبه الرجل الصبور والذي يتحمّل أقسى الشدائد في الحرب وغيره بالحمار، لما يمتاز به هذا الحيوان من تحمّل الأذى والمشقّة، ولذلك سمّي آخر خلفاء بني أُميّة ب_«مروان الحمار». والتشبيه هنا أيضاً على أساس ما يشعر به السامع ويقتنع به من كون الميّت جماداً لا يتأثّر بما حوله، فيقول الله سبحانه: إنّ هؤلاء كالموتى لا يسمعون ولا يشعرون، ولا يعني ذلك أنّ الموتى لا يسمعون في الواقع الخارجي، بل في شعور السامع.

ص: 322


1- راجع: صحيح البخاري 2: 101؛ الميزان في تفسير القرآن 17: 39

سورة فاطر (24-26)

«إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)»

«إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً»، تأتي هذه المجموعة في سياق الآيات السابقة لتسلية الرسول صلّی الله علیه و آله، والتحذير الظالمين المكذّبين. وقوله: «بِالحَقّ» متعلّق بالإرسال. و«الباء» للمصاحبة، أي مصاحباً للحقّ، والمراد به القرآن الكريم، أو الآيات والمعجزات، أو الدين الصحيح. ويمكن أن يتعلّق ب_«البشير والنذير»، أي إنّك تبشر بالوعد الحقّ وتنذر بالوعيد الحقّ. والغرض إكمال التنبيه السابق - حيث حصر الوظيفة الرسالية في الإنذار - بالتأكيد على أنّ إنذارك مشفوع بالبشارة للمؤمنين، وأنّ إنذارك وتبشيرك إنّما هو برسالتنا وأنّه بالحقّ لا يشوبه كذب أو مبالغة.

«وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ»، «خلا» أي معنى. وهذا تأكيد على أنّ الإنذار لا يختصّ بهذه الأُمّة، فما من أُمّة - أي مجموعة من البشر - إلا سبق لهم الإنذار. و«الأُمّة» - كما في «مفردات الراغب» - كلّ جماعة يجمعهم أمر ما، إمّا دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد.

وهنا يبدو سؤال، وهو أنّ هناك كثيراً من المجتمعات البشرية لم يأتهم رسول ومنهم عرب الجزيرة، قال تعالى: «لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ».(1) وقد تكرّر ذكر ذلك في القرآن الكريم، فكيف نجمع بين الآيتين؟

ص: 323


1- القصص (28): 46

وأجاب عنه في «الميزان» بأنّه لم يقل: «إلا خلا منها نذير»، بل قال: «خلا فيها»، فلا ينافي أن يكون النذير أتاها من غيرها. (1) ولكن هذا الجواب لا يحسم الإشكال، لأنّ العرب في الجزيرة وغيرها لم يأتهم نذير، لا منهم ولا من غيرهم. ولعله رحمه الله أراد بذلك الإشارة إلى الرسالات القديمة، كما سيأتي.

ويمكن أن نقول: إنّ النذير إذا قصد به الرسول، فلا بدّ من التوسّع في معنى الأُمّة ليشمل كلّ مجموعة بلغتها الرسالة ولو قبل قرون. وهذا غير بعيد، فإنّ المجتمع البشري في العصر الحاضر يصدق عليه أنّه جاءه النذير، أي الرسول صلّی الله علیه و آله مع تأخّره عنه بقرون، ويصدق عنوان الأُمّة الواحدة على هذه المجموعة من البشر التي لا يجمعها الزمان.

وعليه فيصحّ أن يقال: إنّ عرب الجزيرة - مثلاً - وإن لم يبعث فيهم ومنهم رسول، ولكنّهم امتداد لمجموعة قديمة خلا فيهم رسول، بل رسل، كإبراهيم وإسماعيل علیهماالسّلام .

ويمكن أن يقصد ب_«الرسول» كلّ من يبلغ الإنذار ولو بالواسطة، فلا حاجة إلى هذا التوسّع في معنى الأُمّة. وعليه فيصحّ أن يقال: إنّ عرب الجزيرة - مثلاً - خلا فيها نذير، أُبلّغهم رسالات السماء القديمة ولو بالواسطة، سواء في منطقتهم أو في المناطق النائية.

ويقال: إنّه كان من العرب أوصياء لعيسى علیه السّلام وإنّ منهم عبد المطّلب وأبا طالب علیهماالسّلام، كما أنّ هناك حكماء في العرب يظهر من كلماتهم وأشعارهم أنّهم كانوا على علم بالرسالات القديمة، بل كانوا يؤمنون بها ويسمّون هؤلاء بالأحناف.

ص: 324


1- الميزان في تفسير القرآن 17: 27

كما أنّ من الممكن أن يعتبر «النذير» بمعنى ما ينذر لا من ينذر، فيكفي بلوغ الخبر. وهذا التعبير شائع أيضاً ووارد في الكتاب العزيز، قال تعالى: «هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذْرِ الأُولَى».(1) وعليه فيصحّ أن يقال: إنّ عرب الجزيرة - مثلاً - وإن لم يأتهم نذير بمعنى الرسول إلا أنّهم خلت فيهم النذر، ببلوغ رسالات السماء إلى أسماعهم.

«وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ المُنِيرِ»، هذا الموضوع ممّا كرّر القرآن التأكيد عليه، وهو مشابهة الأُمم في مواجهة الرسالات، وإن أكثرهم كذّبوا الرسل، مع أنّهم أيضاً جاؤوهم بالبيّنات، أي المعجزات الواضحات التي تظهر بوضوح انتماءهم إلى السماء، وأنّ الله تعالى هو الذي بعثهم، وجاؤوهم أيضاً بالزبر وبالكتاب المنير.

وقد اختلف المفسّرون في الفرق بين «الزبر» و«الكتاب»، حيث إنّ الزبر جمع زبور وهو بمعنى الكتاب، فقال بعضهم: إنّ الزبور هو الكتاب الذي غلظت كتابته، لأنّ في الزبر معنى الشدّة والغلظة، وقال بعضهم: إنّ الزبور هو الكتاب الذي يشتمل على الأخلاق والأدعية دون الأحكام والشرائع، ولذلك عبّر عن كتاب داود - وهو مجموعة من الأدعية - بالزبور، وقال بعضهم: إنّ الكتاب المنير یراد به خصوص التوراة، ويراد بالزبر لسائر الكتب.

ولكنّ الظاهر أنّ «الزبر» يراد بها النواهي والأحكام، فإنّ الزير - بفتح الزاء - هو المنع والردع، عبّر به عنها لما فيها من الغلظة والشدّة حيث يمنع الإنسان من بلوغ مآربه وما يهواه. و «الكتاب المنير» ما يشتمل على الحجج والأدلّة، ولا يدلّ التعبير على تعدّد الكتاب، فالكتاب الواحد قد يشتمل على حجج وبراهين، وعلى

ص: 325


1- النجم (53): 56

عظات وإنذارات. فالغرض - والله العالم - أنّهم بالرغم من أنّه بلغهم من الله تعالى معجزات و آيات، وبلغهم أيضاً عظات وزواجر ، وبلغهم أيضاً أدلّة وبراهين قولية، تثبت دعاوى المرسلين، فلم يبق لهم أيّ عذر ، ومع ذلك كذّبوا رسلهم، فأخذهم الله بعذابه الشديد.

«ثمّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِير»، «ثمّ» يدلّ على التراخي، فلم يستعقب التكذيب نزول العذاب فوراً، بل أمهلهم الله تعالى وأتمّ عليهم الحجة، فلمّا تمادوا في الغيّ أخذهم. والتعبير ب_«الأخذ» ينبئ عن عذاب عظيم أتى عليهم بأكملهم، فلم يبق منهم أحد. وللتهويل بما أصابهم اكتفى بالسؤال، ليعترف السامع بهول العذاب : «فَكَيْفَ كَانَ نَكِير» ؟!

و «النكير» مصدر بمعنى الإنكار ، ولكنّه إنكار عملي وأيّما إنكار؟! إنكار بعذاب أليم ساحق لا يبقي الحرث ولا النسل، فتدفن كلّ القابليات التي لم تحن أوان بروزها وتسقط كلّ الزهور والورود والبراعم. والله تعالى لا يبالي بالتبعات، فكلّ ذلك خلقه وله في خلقه شؤون، وله الحمد على كلّ حال.

ص: 326

سورة فاطر(27-30)

«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)»

«ألَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا»، تشير الآية والتي بعدها إلى جانب من جوانب الحكمة والتدبير في الكون، وهو الجانب الجمالي في مختلف أنحاء الطبيعة. وإدراك هذا الأمر لا يحتاج إلى تدبّر ودقّة، بل تكفي الرؤية. ولذلك قال: «أَلَمْ تَرَ» ، فإنّ جمال الطبيعة يدركه الإنسان بمجرّد ملاحظة جوانب الكون المحيطة به.

واختلاف ألوان الثمرات أمر بهيج حقّاً، فتجد من كلّ نوع من أنواع كلّ ثمرة ألواناً مختلفة، وكلّها تبهر العين وتبثّ في النفس البهجة والانشراح. كلّ هذه الألوان الجميلة والطعوم المختلفة تخرج من أرض واحدة وبماء واحد. وليس معنی ذلك أنّه إعجاز خارق للطبيعة، بل هو مقتضى العوامل الطبيعية، إنّما الكلام في أنّ هذا الاقتضاء أمر مقصود، وهناك يد فنانة تضفي على الطبيعة هذا الجمال الخلاب.

ولئن تمكّن المبطلون تفسير كلّ ظاهرة طبيعية بعيداً عن تدبير مقصود، فإنّهم يعجزون عن تفسير جمال الطبيعة إلا بما يدلّ على تلك اليد الخلاقة المبدعة.

ص: 327

«وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ»، ثمّ يضيف إلى ذلك جمال الجبال والصخور الملوّنة، وهي «جدد» جمع جُدّة أي الجادّة والطريق، إمّا بمعنى أنّ في الجبال طرق، أو أنّ سلاسل الجبال بأنفسها مخطّطة، كأنّها طرائق، وهو الأقرب. أي وخلق من الجبال طرائق مختلفة والاهتمام هنا باختلاف الألوان، فمنها الجبال البيض، ومنها ،الحمر ، ومنها السود، ومنها غير ذلك.

و «غرابيب» جمع غربيب - بكسر أوّله - أي الأسود تشبيهاً له بالغراب، فليس بمعنى شدّة السواد - كما قيل - حتّى يقال: إنّ المناسب أن يقال: سود غرابيب، ونبحث عن وجه للتقليب، بل كلتا الكلمتين تدلان على السواد. ثمّ إنّ قوله: «مُختلِفٌ أَلْوَانُها» يشير إلى اختلاف أنواع البياض والحمرة.

«وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُختلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ»، عطف على ما سبق. وهنا ينبّه على اختلاف ألوان الإنسان والحيوان.

و«الدوابّ» جمع دابّة تشمل كلّ ما يتحرّك على الأرض. و«الأنعام» وهي الحيوانات الأليفة للبشر - الإبل والبقر والغنم - أنواع وألوان أيضاً ذكرها بالخصوص بعد شمول الدوابّ لها لقربها من الإنسان. والإنسان أيضاً ألوان مختلفة.

والضمير المفرد في «أَلْوَانُهُ» يعود إلى كلّ نوع برأسه، ولو قال: «ألوانها» لكان المعنى اختلاف ألوان المجموعة. والمقصود اختلاف كلّ نوع في ألوانه، ولذلك صدّر ذكرها ب_«من»، أي وكلّ من الناس.

«إنّما يَخْشَى اللَّه مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماء»، عقّب هذا التجوال في الألوان الطبيعية الزاهية

ص: 328

كرمز لجمال الطبيعة بالتنبيه على ما يقتضيه التدبّر في الكون بعد التنعم بمشاهدة المناظر الخلابة، وهو الخشية من خالقها العظيم ومدبّرها القادر على كلّ شيء، خلافاً لما عليه عامّة الناس من الافتتان بسحر الطبيعة والغفلة عن الطبيعة والغفلة عن الخالق، بل الانشغال بكلّ ما يلهي ويطرب من اللعب والغناء والرقص في إحضان الطبيعة وحين التمتّع بمناظرها البهيجة، فيلوّثون بيئتها البريئة بطربهم الآثم، ولا يتنبّهون إلى أنّ الله سبحانه إنّما جعل ما على الأرض زينة لها ليبلوهم أيّهم أحسن عملاً.

وإنّما ينتقل من هذه الآيات والمناظر إلى خالق الجمال والجلال العلماء العارفون بالله، فيزيدهم النظر إليها خشية وخشوعاً واستشعاراً لعظمته وجلاله وجماله، وكلّما زاد الإنسان معرفة بربّه زاد خشوعاً وخشية. و«الخشية» هي الخوف.

ومن لطيف البيان وإعجازه أن تنتقل الآية بنا من الألوان الطبيعية الزاهية إلى الخوف والخشية، إذ لا ينبغي أن يأخذ بمجامع قلب الإنسان العارف إلا عظمة الخالق، والخشية من سطواته حتّى في تلك اللحظات الجميلة التي نعيشها في إحضان الطبيعة، فكلّ ما يلهي الإنسان عن ربّه ورقّة خاسرة ينبغي الابتعاد عنه، وإنّما الرابح من ينتقل من كلّ هذه المظاهر إلى ربّه وخالقه، ويتنعّم بحبّه ورضوانه .

ثمّ إنّ الجملة لا شكّ أنّها تفيد الحصر، حتّى لو لم نقل بأنّ كلمة «إنّما» تفيده، وذلك من جهة تقديم الجار والمجرور «مِنْ عِبَادِهِ» بل نفس الإتيان به يفيده أيضاً، إذ معناه أنّ بعض عباده وهم العلماء يخشونه، فينفي الخشية عن غيرهم، كما أنّ تقديم اسم الجلالة يفيده أيضاً، فلو لم يكن في الجملة «إنّما» ولا الجار

ص: 329

والمجرور، لأفاد الحصر أيضاً، لأنّ طبيعة الجملة أن تقول: «ويخشى العلماء الله»، فلو قلت: «ويخشى الله العلماء» أفاد الحصر.

هذا مضافاً إلى أنّ هذا التقديم يفيد أنّ الحصر المستفاد من «إنّما» يتعلّق بخشية العلماء دون غيرهم، بخلاف ما لو أخّر الاسم، فإنّه يفيد حصر خشيتهم في الله، فلو قال: «إنّما يخشى العلماء من الله» أفاد أنّهم لا يخشون غيره والآية الكريمة تفيد أنّ خشية الله منحصرة فيهم.

والحاصل أنّ حصر الخشية من الله في العلماء يستفاد من وجوه أربعة: كلمة «إنّما»، الجار والمجرور المفيد لمعنى التبعيض، تقديم الجار والمجرور، وأخيراً تقديم اسم الجلالة.

وقد ذكر بعض الكتّاب الإسلاميين الجدّد بأنّ المراد من العلماء في الآية المختصّون بالعلوم الطبيعية، وذلك لأنّ ذكرهم ورد عقيب التنبيه على ملاحظة الطبيعة ودقائقها فلا بدّ من حمل عنوان العلماء على ما يناسب ذلك.

وهذا غير صحيح وهو خلاف ما نشاهده في واقع الأمر، فإنّ علماء الطبيعة في الغالب لا يؤمنون بالله تعالى، ومن الغريب أنّهم كلّما توغّلوا في شؤون الطبيعة ومعرفة أسرارها زادوا كفراً و عناداً، والسرّ في ذلك أنّ الإيمان لا يحصل بمجرّد التأمّل في الكون ، وقد قال تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ»،(1) وليس المراد أنّهم يعرضون عن نفس الآية بالذات، بل ربّما يتأّملونها أدقّ تأمّل، ولكنّهم يغفلون عن اعتبارها آية، فيحاولون بشتى الطرق وبتأويلات بعيدة وغير منطقية أن يعتبروا كلّ ذلك نتيجة الصدفة، وأنّها ليست

ص: 330


1- يوسف (12): 105

أُموراً مقصودة لمدبّر حكيم. فالمراد بالعلماء، العارفون بالله تعالى. والعلم في الشرع ليس إلا معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وكتبه وأوليائه وأحكامه وشرائعه ممّا يوصلنا إلى رضوانه تعالى.

ففي الحديث: «دخل رسول الله صلّى الله عليه و آله المسجد، فإذاً جماعة قد أطافوا برجل، فقال: «ما هذا؟» فقيل: علامة، فقال: «وما العلامة؟» فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها، وأيّام الجاهلية، والأشعار العربية، قال: فقال النبيّ صلّی الله علیه و آله: «ذاك علم لا يضرّ من جهله، ولا ينفع من علمه»، ثمّ قال النبيّ صلّی الله علیه و آله: «إنّما العلم ثلاثة آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهنّ فهو فضل». (1)

«إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ»، ذكر المفسّرون وجوهاً في سرّ تعقيب الآية بهذه الجملة وكلّها تعود إلى وجه خشيتهم من الله تعالى، فقالوا: إنّهم يخشون الله لأنّه عزيز لا يغلبه شيء. وارتبكوا في الغفران، فاعتبره بعضهم وجهاً لحبّهم إيّاه مع أنّهم يخشونه، وبعضهم جعله تذكيراً بأنّ الله تعالى يغفر لمن لا يخشاه.

ويخطر في البال أنّ الجملة ينبغي أن تكون تعليلاً للحصر ولغفلة الناس عامّة، لأنّهما المقصود من الجملة السابقة، فالمراد - والله العالم - أنّ الخشية إنّما انحصرت في العلماء، لأنّه تعالى عزيز ، أي صعب المنال، فقليل أُولئك الذين ينتقلون من كلّ هذه المظاهر إلى الخالق العظيم نُقلة توجب خشيتهم منه تعالى.

ومن جهة أُخرى لأنّه غفور يستر على الإنسان تماديه في الغيّ والطرب والاشتغال بمباهج الحياة، فلا يكدّر عليهم صفو العيش عاجلاً، ولو كانت سنّته تعالى أن يأخذ كلّ إنسان بتماديه في الطرب لكثر الهالكون، ولكنّه تعالى غفور

ص: 331


1- الكافي 1: 32

حليم لا يعاجل بالعقوبة ويترك الإنسان يلهو ويطرب، ويقبل منه توبته وإن تأخّر، فيا له من ربّ رحيم ودود كريم، ويا لنا من عبيد طغاة مردة. اللّهمّ اغفر لنا طيشنا وجهلنا وإسرافنا في أمرنا.

«إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراً وَعَلانِيَةً»، يبدو من السياق أنّ المراد ب_«الذين يتلون» في هذه الآية العلماء الذين يخشون الله، وأنّ الآيات تبيّن التدرّج في حصول الإيمان وتأثيره، فمنشأ الإيمان بالله هو التأمّل في الكون و آيات حكمته تعالى فيه، ثمّ التجاوز عن ذلك بمعرفة الله قدر الإمكان، ثمّ استشعار الخشية، ثمّ التأمّل في الكتاب المنزل وتلاوته، ثمّ إقامة الصلاة والإنفاق في سبيله، وهذا مرحلة العمل.

ومقتضى ذلك أنّ هذه التلاوة ليست مجرّد التوالي في التلفّظ بالكلام المنزل، فإنّه ليس متأثّراً من الخشية ولا مؤثّراً فى الصلاة والزكاة، بل المراد التلاوة بتدبّر وإمعان. وفي التعبير بكتاب الله ما يستدعي المزيد من الخشية والخشوع.

ثمّ إن هذه التلاوة تتعقّبها صلاة وزكاة. وقد مرّ الكلام في إقامة الصلاة وأنّ المراد إقامتها على عمودها كالخيمة المتقوّمة به. وعمودها التوجّه إلى الله تعالى وقيل إنّه المعنى الجذري لكلمة الصلاة، ولم يثبت ذلك. ولكن ورد في الحديث: «إنّما لك من صلاتك ما أقبلت عليه منها»(1).

وأمّا الزكاة فقد عبّر عنها بالإنفاق ممّا رزق الله تنبيهاً على أنّه ليس فيه منّة من المنفق، فهو فاقد في ذاته لكلّ شيء، وإنّما حصل على المال برزق من الله تعالى، فعليه أن يعمل بما أمره به فيه.

ص: 332


1- الكافي 3: 363

وقد ذكر المفسّرون في وجه التأكيد على الإنفاق في السرّ والعلانية أنّ إنفاق السرّ لدفع الرياء، وإنفاق العلانية لترغيب الآخرين. و ليس هذا أمراً خاصّاً بالإنفاق، فإنّ كلّ عمل حسن بالعلن يفيد ذلك، وهو مطلوب من هذه الجهة، ولذلك تأكّد حضور الجماعة والمساجد وسائر المجامع الدينية، فهناك صلاة تصلّيها في عقر دارك وهي النافلة غالباً، وصلاة ينبغي أن تصلّيها في المسجد وفي الجمع معلناً بها.

ويجب أن لا يهتمّ المؤمن بوسوسة الشيطان وإلقائه في روعه بأنّ هذا يوجب الرياء، وهناك كثير من الناس لا يحضرون الجماعة خوفاً من الرياء، وهذه إحدى سبل الشيطان، لإبعاد المؤمن عمّا أمر به الله تعالى. فينبغي أن ننتبه إلى أنّ ظهور المؤمن بالمظهر الديني اللائق مطلوب شرعاً، وليس هذا من الرياء المذموم.

ومن جهة أُخرى فإن الابتعاد عن مواطن الإغراء تجنّباً من الوقوع في الذنب ليست هي الطريقة الصحيحة في إكمال النفس، بل المطلوب أن يعيش المؤمن بين ظهراني المجتمع ويحفظ دينه، وأمّا الهرب بالدين إلى الكهوف والصوامع فهو شأن الرهبانية المسيحية وليس ممّا يدعو إليه الإسلام الحنيف.

وهناك وجه آخر لتنويع الإنفاق إلى السرّ والعلن، وهو أنّ الإنفاق في العلن لمن يعلن فقره وحاجته ويسأل الناس والإنفاق في السّر لمن لا يبدو عليه آثار الفقر: «يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا»(1).

وقد ورد في الحديث المستفيض، بل لعلّه متواتر ونقله الفريقان: «صدقة السرّ

ص: 333


1- البقرة (2): 273

تطفئ غضب الربّ تبارك وتعالى»،(1) وعلى المؤمن أن يبحث عن هؤلاء الفقراء، بل يتجشّم مؤونة السفر للوصول إليهم، ويعطيهم بحيث لا يعرفونه، ولا يتوقّع منهم شكراً وجزاءً، يبتغي بذلك رضوان الله تعالى وإطفاء غضبه.

«يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ»، الظاهر أنّها جملة حالية تقيّد الموضوع، فالحكم يختصّ بمن يفعل ذلك رجاء التجارة الرابحة قطعاً. و«البوار» هو الكساد والخسارة. وحيث إنّ المشتري في هذه التجارة هو الله تعالى، فلا يمكن أن تبور، قال تعالى: «إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنّةَ».(2)

والحاصل أنّ الذي يفوز في هذا المضمار هو الذي يقصد بعمله التجارة مع ربّه وتحصيل رضاه، فهنالك من يصلّي ويزكّي للوصول إلى أغراض دنيوية حتّى لو كان بتوقّع رحمة من ربّه، ويا له من غبن فاحش أن يقتنع بالدنيا بدلاً عن الآخرة.

ثمّ إنّ بعض المفسّرين اعتبر جملة «يَرْجُونَ تِجَارَةً» خبر «إنّ»، وهو من حيث اللفظ أقرب، ولكن من حيث المعنى بعيد، فإنّ المناسب للخبر ذكر ما يترتّب عليه واقعاً من جزاء، لا بيان حالتهم النفسية التي ربّما يتعقّبه الجزاء وربّما لا يتعقّبه، فالأولى أن يكون الخبر ما يدلّ عليه قوله تعالى: «ليوّفيهم أُجورهم»، أي يفعلون ذلك ليوفّيهم أُجورهم. واللام للغاية لا للغرض، فلا يعود الإشكال.

«لِيُوَفِّيَهُمْ أجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ»، «توفية الأجر» هو دفعه كاملاً، وأمّا الزيادة من فضله ففيها احتمالان:

ص: 334


1- الكافي 4: 8
2- التوبة (9): 111

1- أن تكون من جنس نفس الأجر ولكنّها زائدة على المتوقّع أو الموعود.

2- أن تكون أمراً لا يتوقّعه الإنسان ولا يصل إليه فهمه.

والظاهر أنّ المراد هو الثاني، فإنّ الأجر مهما كان فهو من فضله تعالى، فإنّ أحداً لا يستحقّ على الله شيئاً، فليس هناك أمر يزيد على شيء متوقّع، وليس هناك وعد محدّد، فلا بدّ من أن يكون المراد بالزيادة أمر لا تصل إليه أفهامنا، وهو النعيم الحقيقي الذي عبّر عنه تعالى بالرضوان، ووصفه بأنّه أكبر من سائر نعم الجنّة في قوله: «وَعَدَ الله المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةٌ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(1) وهو المراد أيضاً بقوله تعالى «لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ»(2) حيث إنّه يدلّ على أنّ هناك شيئاً من الأجر لا يشاؤونه لأنّهم لا يعلمونه.

والواقع أنّ الفاصل الحقيقي بين نعيم الجنّة وغيره من النعم هو هذا الأمر وإلا فالنعم المادّية وإن كانت حقيقتها هناك تختلف عمّا هنا اختلافاً جوهرياً إلا أنّها ليست الفارق الأساس، وإنّما الفارق هو رضوان الله تعالى يحيط بالإنسان، فيشعر بالسعادة الأبدية الخالدة التي لا تضاهيها سعادة مهما كانت متطوّرة ومتكاملة.

وهناك من البشر من سعد بذلك في هذه الحياة أيضاً، قال تعالى: «أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * هُمُ الْبُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».(3)

ص: 335


1- التوبة (9): 72
2- ق (50): 35
3- يونس (10): 62 - 64

«إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ»، هذا التعقيب إيذان بأنّه ليس هناك استحقاق، بل هناك قصور من الكلّ حتّى الأنبياء والأولياء، ولكنّ الله غفور فيغفر الهفوات، قال تعالى: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ»(1) وهو فوق ذلك شكور لما يعمله العبد من الصالحات وإن كان لا يستحقّ على الله شيئاً، بل إنّ ما يعمله فرض واجب عليه وهو لا يعمل إلا لمصلحته، ولا يعود إلى الله من أحد نفع، وهو غنيّ عن عباده إلا أنّه تعالى شكور له من فضله. وشكره تعالى يتجلّى في جزائه. و «الشكور» صيغة المبالغة، فهو يشكر عباده كثيراً.

ص: 336


1- النساء (4): 31

سورة فاطر (31- 35)

«وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)»

«وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ»، حيث ذكر سبحانه من مقدّمات موجبات الفوز والنجاح تلاوة كتاب الله وهو معنى عامّ، أكّد في هذه الآية أنّ الكتاب الذي يجب أن يتلى في هذه المرحلة من الشرائع والنبوّات هو القرآن الكريم. وقوله: «هُوَ الحقّ» يفيد الحصر لمكان الألف واللام أي لا حقّ غيره .

وفيه إشارة إلى الخلل والتحريف الذي أصاب الكتب السماوية السابقة، ولكنّه في نفس الوقت امتداد لتلك الرسالات ولا يمكن أن يحيد عنها، بل هو مصدّق لما بين يديه، أي ما نزل قبله. وقد تكرّر هذا التعبير في توصيف القرآن وكذلك الإنجيل وذلك تأكيداً على وحدة الهدف والغرض الاسمي من الكتب السماوية، وهو سمة وعلامة على كون الكتاب حقّاً ونازلاً من عند الله تعالى.

«إِنَّ الله بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ» لعلّه إشارة إلى سرّ اختلاف الكتب السماوية في

ص: 337

أحكامها وبعض شرائعها بالرغم من أنّها كلّها تدعو إلى هدف واحد، وصراط واحد. والسرّ هو اختلاف مقتضيات الزمان والمكان، والله خبير بصير بعباده وبحاجاتهم المتغيّرة، ومصالحهم المتطوّرة.

وقيل: إنّها تعليل لإيحاء الكتاب إلى الرسول صلّى الله عليه و آله بأنّه خبير بأهليتك للوحي وبصير بشؤونك.

والفرق بين «الخبير» و«البصير» على التفسيرين أنّ الأوّل يتعلّق بالشؤون النفسية والباطنية، والثاني بالشؤون المرتبطة بالظاهر المحسوس.

«ثُمَّ أوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخيراتِ بِإِذْنِ اللهِ»، اختلف المفسّرون في تفسير الآية وفي بعض مفرداتها إلى أقوال كثيرة لا جدوى من التعرّض لذكرها. أمّا قوله «ثمّ» فيمكن أن يقال: إنّه للتراخي في الذكر، أي ذكر جملة بعد جملة، وهو كثير التداول، ولكن الظاهر أنها لتراخي إيراث الكتاب عن الإيحاء المذكور في الآية السابقة. أي تأخّر إيراث الكتاب عن الإيحاء به زماناً وهو واضح. والمراد ب_«الكتاب» القران الكريم بقرينة ذكره سابقاً، فيكون اللام للعهد، بل لعلّه واضح من السياق. وما ذكر من تأويله بالإيمان بالكتب السابقة إنّما ذكر للفرار من بعض ما يجدونه من صعوبة في تفسير الآية.

إنّما الكلام في معرفة المراد بالذين اصطفاهم الله تعالى لوراثة الكتاب، وأنّ ذلك هل يقتضي كونهم جميعاً من الأبرار أو المقرّبين عند الله تعالى، ثمّ توجيه ما ورد في الآية من كون بعضهم ظالماً لنفسه، وتوجيه ما يتوهّم من الآية التالية من كونهم جميعاً في الجنّة.

ص: 338

وأسخف ما قيل في المقام: إنّ المراد بهم الأُمّة المحمدية، وإنّهم جميعاً يدخلون الجنّة.

وقال بعضهم: إنّ الآية لا تدلّ على أنّهم لا يدخلون النار، فلا تنافي ما يقتضيه المعاصي. ولكن لم ينتبه إلى أنّ من المعاصي ما وعد الله عليه الخلود في النار، كقتل المؤمن عمداً، وكيف يمكن أن يدخل الجنّة طغاة الأُمّة وفراعنتها الذين سوّدوا صفحات التأريخ بظلمهم، وبدّلوا نعمة الله كفراً، وصدّوا عن سبيل الله، وقتلوا الأئمّة الطاهرين، ومنعوا حدود الله، وملأوا الأرض فساداً وجوراً؟!

لا أظنّ أن يصدر هذا الكلام ممّن له أدنى دراية بحكمة الله تعالى، وأدنى معرفة بالمعايير التي وضعها الله تعالى وقد صرّح في كتابه الكريم: «لَيْسَ بِأَمَانِيُكُمْ وَلا أَمَانِى أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيّاً وَلا نَصِيراً»(1)، والحاصل أنّ بطلان هذا الكلام غنيّ عن البيان.

والذي ينبغي أن يقال: إنّ إيراث الكتاب لا يدلّ على فضيلة وكرامة، قال تعالى: «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ»(2)، ولكنّ الاصطفاء ربّما يقتضي ذلك، لأنّه ليس اختياراً مطلقاً، بل هو اختيار للصفوة وهم الخلّص، ولذلك لم يرد في الكتاب العزيز إلا في الأنبياء ومن يتلوهم في الفضل أو يكتسب منهم الشرف، قال تعالى في سورة «إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ»(3).

ص: 339


1- النساء (4): 123
2- الشورى (42): 14
3- آل عمران (3): 33

وأمّا كلمة «عبادنا» فلا يدلّ على تشريف خاصّ، فإن الله عبّر به عن قوم طغاة كفرة، قال تعالى: «بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيد»(1) والمراد بهم جيش نبوخذ نصر وهم كفّار ظلمة. فيا ترى من هم الذين اصطفاهم الله تعالى من بين العباد وأورثهم الكتاب؟

يمكن أن يقال: إنّ الاصطفاء هنا لا يدلّ على ميزة شخصية للمصطفين، وذلك لأنّه متعلّق بالمجتمع لا بالفرد، وهناك فرق واضح بين الأمرين فمعنى الآية أنّ الله تعالى اختار لايراث القرآن الكريم وتحمل الأمانة وإيصالها سليمة من التحريف والتغيير إلى الأجيال المتأخّرة المجتمع المدني في عصر الرسالة المجيدة ومن بعدهم إلى زمان انتشار القرآن انتشاراً واسعاً بحيث يأمن من التحريف.

ولكن الاصطفاء ليس بمعنى أنّ المجتمع بجميع أفراده كانوا صالحين، بل كان فيهم منافقون يتربّصون بالإسلام والقرآن الدوائر ولعلّ منهم من حاول التحريف والزيادة والنقصان فلم يوفّق، وإنّما المراد بالآية صلوح المجتمع ككلّ لأداء هذه المهمّة. ومثله قوله تعالى «هُوَ اجْتَبَاكُمْ»(2) خطاباً للمجتمع المؤمن.

ولعلّ السرّ في تعقيب هذا الاصطفاء بالتنبيه على انقسامهم إلى ظالم ومقتصد وسابق، مع أنّه انقسام متوقّع في كلّ مجتمع هو دفع هذا التوهّم من التعبير بالاصطفاء، ولكنّ التوهّم بقي - مع الأسف - بالرغم من هذا التنبيه، وتسرّب إلى التفاسير .

ص: 340


1- الإسراء (17) : 5
2- الحجّ (22): 78

هذا وقد ورد في روايات كثيرة عن طرقنا أنّ المراد بالمصطفين ذرّية فاطمة علیهاالسّلام، وورد في بعضها أنّ المراد بهم الأئمّة علیه السّلام، واختاره الطبرسي رحمه الله، وأيّده الآلوسي بالحديث المتواتر بين الفريقين «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض» ولكنّه اختار أن يكون المراد علماء الأُمّة وعلى رأسهم أئمّة أهل البيت.

ولكن تفسير المصطفين بالأئمّة علیهم السّلام يواجه اشكالين أحدهما التقسيم الآتي، فإنّ ظاهره انقسام المصطفين إليها والآخر اختصاص الإيراث بهم علیهم السّلام مع أنّ الكتاب العزيز كان منتشراً بين المسلمين عن غير طريقهم، وهم علیهم السّلام أقرّوا بصحّة ما في أيدي الناس وأُمروا بتلاوتها كما في أيديهم واستدلّوا في أحاديثهم الشريفة بآياتها حسب ما هو متداول عند الناس.

وقد أجاب السيّد المرتضى رضوان الله عليه عن الإشكال الأوّل بأنّ الضمير يعود إلى «عِبَادِنَا» لا إلى «مَنِ اصْطَفَيْنَا». وربما يؤيّد ذلك بأنّه أقرب لفظاً، والضمير يعود إلى ما هو الأقرب. ولكن يبقى السؤال عن وجه المناسبة بين هذا التقسيم للعباد وإيراث الكتاب للمصطفين.

ويرد الشريف رحمه الله على هذا السؤال بأنّ المراد التعليل وبيان وجه الاصطفاء، وهو أنّ العباد فيهم الظالم والمقتصد والسابق، وليس للكلّ أهلية الوراثة فاصطفى الله السابق بالخيرات لوراثة الكتاب.

قال رحمه الله: والذي أعتمده وأعول عليه، أن يكون «فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ» من صفة «عِبَادِنَا» أي أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، ومن عبادنا ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات، أي فليس كلّ عبادنا ظالماً لنفسه، ولا

ص: 341

كلّهم مقتصداً ولا كلّهم سابقاً ،بالخيرات، فكان الذين أورثوا الكتاب السابقون بالخيرات دونهما. (1)

ولكن هذا بعيد عن اللفظ إذ كان ينبغي أن يقول فإنّ منهم كذا وكذا... ليفيد التعليل وأمّا بدونه فالفاء يفيد التفريع.

ولدفع الإشكال الثاني يمكن حمل إيراث الكتاب على أحد معنيين:

1- إيراث النسخة الصحيحة من موارد اختلاف القراءات، فإنّ ما يقال من أنّ كلّ هذه القراءات متواترة غير صحيح على مذهب أهل البيت علیهم السّلام، حيث ورد في حديثهم: «إنّ القرآن نزل على حرف واحد من عند الواحد». (2)

2- إيراث معنى الآيات، فإنّ تفسير الآيات التي اختلف فيها أهمّ من اختلاف القراءات.

وأما الروايات فلا بد من ملاحظتها، وفي ما يلي بعضها:

1- في «الكافي» عن الحسين عن معلّى عن الوشّاء عن عبدالكريم عن سليمان بن خالد عن أبي عبدالله علیه السّلام قال: سألته عن قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا»(3) فقال: «أيّ شيء تقولون أنتم؟» قلت: نقول: إنّها في الفاطميين؟ قال: «ليس حيث تذهب ليس يدخل في هذا من أشار بسيفه ودعا الناس إلى خلاف»، فقلت: فأيّ شيء الظالم لنفسه؟ قال: «الجالس في بيته لا يعرف حقّ الإمام، والمقتصد: العارف

ص: 342


1- رسائل الشريف المرتضى 3: 102
2- صحيحة فضيل بن يسار، قال: قلت لأبي عبد الله علیه السّلام: إنّ الناس يقولون: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، فقال: «كذبوا أعداء الله ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد». (الكافي 2: 630)
3- فاطر (35): 32

بحقّ الإمام، والسابق بالخيرات: الإمام». (1)

في هذا الحديث لم ينف الإمام علیه السّلام ما قاله الراوي من أنّ المراد الفاطميون ولكنّه نفاه عمّن ادّعى منهم الإمامة بغير حقّ، وسؤال الراوي عن معنى الظالم لنفسه أراد به النقض وأنّ الاصطفاء لا ينافي كونه ظالماً فأجاب الإمام علیه السّلام بأنّ المراد من الظالم ليس المدّعي للإمامة، بل الجالس في بيته. ويتبيّن منه أنّ الظالم منهم أيضاً مقصود ضمن المصطفين الذين أورثوا الكتاب.

ومهما كان فسند الرواية ضعيف بمعلّى بن محمّد ولم يوثق بل قال فيه النجاشي أنّه مضطرب الحديث والمذهب. وفي عبد الكريم كلام. والملفت أنّ الراوي عن الإمام علیه السّلام هو سليمان بن خالد وقيل فيه أنّه كان يقاتل مع زيد بن عليّ وأنّه لم يكن معه من أصحاب الإمام الصادق علیه السّلام غيره وأنّه قطعت يده في الحرب ثمّ أفلت وقيل إنّه تاب بعد ذلك.

ولعلّ قوله في هذا الحديث أنّ المراد بالمصطفين الفاطميون من عقيدته الزيدية ويدلّ على ذلك أيضاً أنّ الإمام علیه السّلام لمّا سأله عن الآية قال له «أيّ شيء تقولون أنتم؟» ويقصد بضمير الجمع من هم على مذهبه مثل قولهم علیه السّلام لمن يسألهم من العامّة.

ومن هنا يمكن أن يقال: إنّ الجواب في الحديث - على فرض صحّته - إنّما كان مبنيّاً على صحّة ما افترضه الراوي، وليس في كلام الإمام علیه السّلام تفسير صريح للمصطفين.

ولعلّ الوجه في تخصيص الظالم بمن ذكر أنّ من دعا إلى نفسه وأشار بسيفه

ص: 343


1- الكافي 1: 214 - 215، الحدیث 2

ظالم لغيره، لا لنفسه فحسب. ولكنّه بعيد جدّاً لأنّ الجالس في بيته والمتقاعس عن نصرة الإمام ظالم للنّاس أيضاً. فالظاهر أنّ الإمام علیه السّلام لم يقصد بذلك إلا التعريض بمذهب السائل وعقيدته، ولم يذكر الإمام المراد بالمصطفين وإنّما فسّر الأقسام الثلاثة.

وفي تفسيره علیه السّلام لهذه الأقسام أيضاً تعريض، حيث إنّ الظالم لنفسه لا يختصّ بمن ذكر ، بل يشمله ويشمل غيره، فتخصيص العنوان بمن لا يعرف الإمام قد يكون للتعريض بمن ينتمي إلى سائر المذاهب وإن كان المذهب منتمياً إلى الفاطميّين.

هذا مضافاً إلى ما سيأتي من الإشكال في هذا التفسير من الأساس.

2 - وفيه أيضاً عن الحسين بن محمّد عن معلّی بن محمّد عن الحسن عن أحمد بن عمر قال: سألت أبا الحسن الرضا علیه السّلام عن قول الله عزّ وجلّ: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا» ، قال: فقال: «ولد فاطمة علیهاالسّلام، والسابق بالخيرات: الإمام، والمقتصد: العارف بالإمام، والظالم لنفسه: الذي لا يعرف الإمام».(1)

وهذا الحديث واضح في تفسير المصطفين بالفاطميين ولكنّه ضعيف أيضاً بمعلّى مضافاً إلى ما سيأتي من الإشكال العامّ.

3- وفي «بصائر الدرجات» عن سورة بن كليب عن أبي جعفر علیه السّلام أنّه قال في هذه الآية «ثُمَّ أوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا»، قال: «السابق بالخيرات الإمام فهي في ولد عليّ وفاطمة عليهماالسّلام»(2).

وسند هذا الحديث لا بأس به، وكذا ما يليه لو ثبتت صحّة نسخة «بصائر

ص: 344


1- الكافي 1: 215، الحديث 3
2- بصائر الدرجات: 64

الدرجات» المطبوعة، وهو غير واضح.

5- وفيه أيضاً عن عمّار الساباطي عن أبي عبد الله علیه السّلام: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا» قال: قال: «هم آل محمّد والسابق بالخيرات هو الإمام». (1)

ويظهر من الحديث أنّ المراد بآل محمّد صلّی الله علیه و آله ما يشمل غير الأئمّة علیهم السّلام.

6- وفي «معاني الأخبار» عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر علیهماالسّلام قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ» فقال: «الظالم منّا من لا يعرف حقّ الإمام، والمقتصد العارف بحقّ الإمام، والسابق بالخيرات بإذن الله هو الإمام «جَنَّاتِ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا» يعني السابق والمقتصد». (2)

7- وفي «الاحتجاج» عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله علیه السّلام عن هذه الآية: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا» قال: «أي ّشئ تقول؟» قلت: إنّي أقول إنّها خاصّة لولد فاطمة علیهاالسّلام . فقال علیه السّلام: «أما من سلّ سيفه ودعا الناس إلى نفسه إلى الضلال من ولد فاطمة وغيرهم، فليس بداخل في الآية»، قلت : من يدخل فيها قال: «الظالم لنفسه الذي لا يدعو الناس إلى ضلال ولا هدى والمقتصد منّا أهل البيت هو العارف حقّ الإمام والسابق بالخيرات هو الإمام».(3)

وهذا كالحديث الأوّل والسند ضعيف أيضاً.

وهناك روايات أُخرى بنفس المعاني أو قريبة منها لا يصحّ منها شيء.

ثمّ إنّ هنا إشكالاً آخر وهو أنّ وراثة الكتاب - بناءً على هذا التفسير - خاصّة

ص: 345


1- نفس المصدر
2- معاني الأخبار: 104
3- الاحتجاج 2: 138

بالأئمّة علیهم السّلام، وأمّا غيرهم من ولد فاطمة علیهاالسّلام فلا يختلفون عن سائر الناس، بل لعلّ في أصحاب الأئمّة علیهم السّلام من هم أولى بعلم الكتاب من بعض الأشراف، بل إنّ في ذرّية فاطمة علیهاالسّلام من شرك في دم الامام كما ورد في شأن عليّ أو محمّد بن إسماعيل حفيد الإمام الصادق بالنسبة لعمّه الإمام الكاظم عليهماالسّلام، ومنهم الطواغيت والفراعنة.

ولو فرض شمول الحكم لمن هم في عهدنا فإنّ منهم من ارتدّ عن الدين، وهناك أسرّ من السادة في لبنان وغيرها تنصروا، ومن السادة من أعلن عداءه لأهل البيت علیهم السّلام.

وأجاب عن ذلك العلامة الطباطبائي رحمه الله بأنّه لا مانع من إسناد الإيراث إلى مجموعة، مع أنّ الذي يختصّ بحفظ الكتاب جمع خاصّ منهم، كما أنّ بني إسرائيل أورثوا التوراة حسبما صرّح به في القرآن، مع أنّ حفظة الكتاب جمع قليل منهم. (1)

ولكن هناك فرق بين الموردين، فإنّ إسناد إيراث التوراة إلى بني إسرائيل باعتبار أنّ منهم الأنبياء والأحبار له وجه وجيه، وذلك لأنّ هذا الاختصاص شرف اختصّ به بنو إسرائيل في مقابل بقية الأُمم، ولم يرد فيه التعبير بالاصطفاء وأمّا فاطمة اصطفاء بني سلام الله عليها من بين الأُمّة بوراثة الكتاب مع أنّ المصطفين في الواقع والذين أورث إليهم هم الأئمّة فقط، فهو كضمّ الحجر إلى الإنسان، ولا يناسبه التعبير بالاصطفاء.

ويحتمل أن تكون هذه الروايات أو بعضها قد حُرّفت عن المعنى المقصود

ص: 346


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 17: 44

وأنّها في أصل الصدور إنّما حصرت السابق بالخيرات في الأئمّة علیهم السّلام ، ولم تتعرّض لبيان المصطفين كما هو صريح أكثر ما ورد في هذا الباب.

ويلاحظ أيضاً اختلاف روايات سورة بن كليب في «بصائر الدرجات» حتّى أنّ حديثين منها متّحدان في السند تماماً ومختلفان من حيث إضافة «فهي في ولد عليّ وفاطمة علیهماالسّلام» ممّا يدلّ على أنّ الإضافة قد تكون من بعض الرواة.

ومع قطع النظر عن الروايات فالظاهر كما مرّ أنّ المراد بالمصطفين العلماء والقرّاء وحملة الكتاب من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والمراد بالاصطفاء اختيارهم لحمل الكتاب وتسليمه لمن يأتي بعدهم وهو شرف لهم وميزة، إلا أنّهم ليسوا في مرتبة واحدة ، فمنهم ظالم لنفسه لم يعرف حقّ الإمام، فلم يفده حمله للكتاب، إذ لم يتمسّك بالثقل الآخر وهو العترة الطاهرة، فلا يقبل منه عمل. و منهم المقتصد الذي عرف حقّ الإمام، فهو يقصد الخير بمتابعته، ولكنّه غير معصوم، فربّما تصدر منه زلّة فهو متوسّط، والاقتصاد هو التوسّط، ومنهم الإمام وهو السابق بالخيرات.

والمراد بالسبق التقدّم الرتبي لا الزماني، فالمعصوم أفضل عملاً من غيره وإن كان متأخراً زماناً، مع أنّه مقدّم زماناً أيضاً على أهل زمانه في الخيرات لا في الولادة، لأنّه الإمام، والصالحون يتبعون أثره والمتقدّم عليه مارق.

و«الخيرات» الأعمال الصالحة، قال تعالى: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ».(1) ولا ريب في أنّ كلّ شيء لا يكون إلا بإذن الله تعالى، ولكن في سبق المعصومين بالخيرات عناية خاصّة، فإنّ ما أنعم الله عليهم من العلم والعصمة هو الذي جعلهم السابقين

ص: 347


1- البقرة (2): 148

إلى الخيرات، وهم المقرّبون السابقون السابقون(1)، كما في سورة الواقعة، فالثلة من الأوّلين هم الأنبياء علیهم السّلام والقليل من الآخرين هم محمد و آله صلّی الله علیه و آله . (2)

«ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ»، الظاهر أنّ «ذلك» إشارة إلى السبق بالخيرات، فالمراد أنّ سبقهم إلى الخيرات بفضل من الله تعالى، كما أنّه بإذنه أيضاً. ولعلّ المراد ب_«الفضل» ما منحهم الله تعالى من العصمة. والفضل في ذلك من الله تعالى عليهم وعلى الناس أيضاً، كما قال يوسف علیه السّلام في ما حكي عنه في قوله تعالى: «وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ أَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ تُشْرِكَ بِاللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ ولكن أكثَرَ النَّاس لا يَشْكُرُونَ». (3)

فإنّ قولهعلیه السّلام: «ما كان لنا أن نشرك» يدلّ على أنّ ذلك لا يمكن أن يصدر منهم، وليس ذلك إلا للعصمة الإلهية. ثمّ أوضح أنّ عصمتنا فضل من الله علينا وهو واضح، وهو فضل على الناس أيضاً، حيث جعل الله لهم أئمّة معصومين يقتدون بهم ومثلاً للفضيلة والإيمان يتّبعون أثرهم.

و «الفضل» الزيادة بمعنى أنّه زائد على ما يقتضيه الامتحان الإلهي وما وعده الله تعالى في بدء الخليقة من إرسال الهدايات قال تعالى: «قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى»،(4) فالله تعالى لفضله ولطفه بالناس لم يكتف بذلك، بل زاد عليه بنصب أئمّة معصومين

ص: 348


1- الصحيح في تفسير الآية أنّ التكرار للتأكيد بمعنى أنّهم سبقوا الآخرين سبقاً كثيراً لا يمكن اللحاق بهم
2- عن أبي جعفر الباقر علیه السّلام: «ونحن السابقون ونحن الآخرون». (كمال الدين وتمام النعمة 1: 206)
3- يوسف (12): 38
4- طه (20): 123

من الأنبياء والأوصياء والأمر بالاقتداء بهم. وهذا هو الفضل الكبير.

«جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ» هذه الجملة مستأنفة لبيان جزاء السابقين بالخيرات أو مع المقتصدين. والظاهر أنّه مبتدأ والجملة التي بعده خبره والمعنى يدخلون جنّات عدن. ويؤيّد ذلك القراءة بالنصب في «جنّات» فيكون قوله: «يدخلونها» مفسّراً للفعل المقدّر يدخلون. و«العدن» بمعنى الاستقرار والثبات، أي أنّها جنّات خلود.

وقوله: «يُحلّون» اي يُلبسون الحلّي وهي الزينة. و«من» في «من أساور» زائدة، وورد بحذفها في قوله تعالى: «وَحُلُوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ». (1) ويمكن أن تكون بيانية لبيان الحلّية المبهمة المفهومة من السياق، أي يحلّون حلية من أساور.

والأساور جمع سوار وهو ما يُزيّن به المعصم. قيل إنّه معرب «دستواره» وهي فارسية. وقوله «ولؤلؤاً» عطف على محلّ «من أساور» أي يحلّون فيها لؤلؤاً.

والمراد بيان تنعّمهم في الجنّة بالنعم المادّية مضافاً إلى النعمة المعنوية الكبرى التي لا يعادلها شيء وهي رضوان الله تعالى. والنعم المادّية هناك أيضاً لا يعادلها شيء في هذه الحياة فليست المأكولات والمشروبات هناك كما هي هنا، والفرق بينهما فرق جوهري كما أنّ النار هناك ليست كالنار هنا، ولكنّ القرآن يستعمل المفاهيم التي نعرفها، إذ لا يمكن التعبير عن تلك المفاهيم بحيث يعلمه البشر إلا بما يدلّ على المفاهيم المألوفة له.

وقيل : إنّ «جنّات» بيان للفضل الكبير أو بدل عنه.

ولكن مقتضى ذلك أن تكون الإشارة في قوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ»

ص: 349


1- الإنسان (76): 21

إلى نفس الخيرات لتتّحد مع الجنّات، فيكون المراد بالسبق السبق إلى سببها أي الأعمال الصالحة، وهو يحتاج إلى تأويل، إذ لا يشار إلى الخيرات ب_«ذلك» فإنّه للإشارة إلى المفرد المذكر.

والظاهر أنّ «ذلك» إشارة إلى نفس السبق كما مرّ آنفاً، إذن فاعتبار «جنّات» بياناً للفضل لا يلائم السياق.

«وَقَالُوا الحَمْدُ للهَ الَّذِى اذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ»، تشير الآية إلى حالة الرضا والبهجة لأهل الجنّة وهم يحمدون الله تعالى الذي أذهب عنهم الحزن. والكلام هنا في المراد ب_«الحزن» الذي أذهبه الله تعالى عنهم، فيحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى تخوّفهم في الحياة الدنيا ممّا سيستقبلهم في الآخرة، أو حزنهم ممّا يجري على المؤمنين، بل على البشرية جميعاً في الحياة الأرضية من ظلم واضطهاد، وصدّ عن سبيل الله، وضلال، واتباع للشهوات، وغفلة عمّا يستقبلهم من مخاوف ومخاطر، أو حزنهم على ما كانوا يلقونه في الدنيا من ظلم وهتك وإساءة. وعلى كلّ حال، فالدنيا مليئة بما يستوجب الحزن للجميع.

ولكن التعليل ب_«الغفران» و«الشكر» يوحي بأنّ المراد بالحزن تخوّفهم من مستقبل أمرهم في الآخرة، فيحمدون الله تعالى على غفرانه لتقصيرهم وشكره لأعمالهم الصالحة.

ولا ينافي ذلك ما مرّ من احتمال أن يكون المراد خصوص السابقين وهم المعصومون المقرّبون، فإنّ العصمة لا تنافي الخوف من المستقبل والإنسان كلّما زاد قرباً وخصّه الله تعالى بفضل ورحمة ونعمة، فإنّه يزداد مسؤولية وتكليفاً، كما هو الحال في الشؤون الدنيوية، فيختلف خوفنا عن خوفهم. نحن نخاف مغبّة

ص: 350

سوء أعمالنا، حيث نعلم أنّها ربّما تستوجب النار، وهم يخافون نقصاً في الدرجة وكلّ إنسان همّه بقدر همّته، مضافاً إلى أنّ استحقاق الجنّة يشمل المقتصدين أيضاً.

«الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ»، «أحلّنا» أي أنزلنا. و «المقامة» مصدر بمعنى الإقامة. والمراد بها الخلود. وقوله «مِنْ فَضْلِهِ» بمعنى أنّه ليس من استحقاق، فلا يستحقّ أحد على الله شيئاً مهما عظم قدره، وكلّ ما ينعم به على الخلق فضل منه تعالى.

«لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبُ»، يصفون حالهم بأنّهم لا يصيبهم في الجنّة نصب وهو التعب، ولا لغوب، وقد فسّر بالتعب أيضاً، ولكن فى «الكشّاف» أنّه الملل الذي يحصل من التعب، (1) وظاهر الآية يقتضي التغاير. ويمكن أن يكون المراد ب_«اللغوب» الملل الحاصل من البقاء في الجنّة، فإنّ الإنسان بطبعه يملّ من البقاء في مكان واحد ويحبّ التغيير ، ولكنّه في الجنّة لا يحبّ ذلك، كما قال تعالى: «خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً».(2)

ص: 351


1- راجع: الكشّاف 3: 614
2- الكهف (18): 108

سورة فاطر (36-37)

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)»

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخفِّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا» توهّم بعض المفسّرين أن المقابلة بين هاتين الآيتين والآيات السابقة تدلّ على أن أهل الجنّة هم كلّ المؤمنين وهم الذين أورثوا الكتاب. مع أنّ هذه المقابلة متكرّرة في القرآن الكريم ولا تدلّ على أنّ كلّ من آمن يدخل الجنّة، بل قد صرّح القرآن بأنّ من قتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها، وبأنّ هناك ما يوجب حبط الأعمال والخطاب للمؤمنين، بل للصحابة، وغير ذلك من الآيات التي تدلّ على أنّ المؤمن أيضاً ربّما يدخل النار، بل يخلد فيها.

هذا ، مع أنّ الإيمان والكفر عند الله تعالى لهما مقاييس تختلف عمّا نبني عليه حكم الإسلام والإيمان الظاهريين في هذه الحياة الدنيا، فربّما نعتبر أحداً مؤمناً وهو عند الله كافر، كتارك الصلاة وتارك الحجّ، فضلاً عن من ينكر أصلاً من ضروريات الدين. وهذا أيضاً مضافاً إلى التعميم الوارد في الجملة الأخيرة من الآية، فإنّ الكفور يشمل كثيراً من الذين آمنوا بظاهر القول.

وعلى كلّ حال، فإنّ مصير الكافرين نار جهنّم، ومن غريب أمرها أنّهم لا يموتون فيها وإنّما يعذّبون، ولذلك قلنا: إنّ نار الآخرة ليست كنار الدنيا. وقد عبّر القرآن عن هذه الحالة بوجه آخر فقال تعالى: «وَيَأْتِيهِ الموتُ مِنْ كلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ

ص: 352

بِمَيِّتٍ».(1) وأوضحه في موضع آخر: «كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ».(2)

والذي يركز عليه هنا أنّهم لا يموتون ولا يخفّف عنهم العذاب، ولعلّ ذلك من جهة أنّهم لا يعتادون العذاب، فإنّ الإنسان في هذه الدنيا إذا استمرّ عليه نوع واحد من التعذيب، يتعوّد عليه جسمه نوعاً ما، فيخفّ عليه العذاب، ولكنّه في نار جهنّم لا يموت فيستريح، ولا يتأقلم معه، بل يتجدّد عليه العذاب مستمرّاً.

«كَذَلِكَ نَجْزِي كلّ كَفُور»، حيث إنّ التعبير ب_«الذين كفروا» ظاهر في المشركين في جزيرة العرب، حسب مصطلح القرآن الكريم عمّم الحكم بهذه الجملة، ليشمل غيرهم من الذين يكفرون بنعم ربّهم. و«الكفور» مبالغة في الكفر.

«وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ»، وهنا ينقل قولهم في مقابل قول المؤمنين وحمدهم على ما أنعم الله عليهم، فهؤلاء يصطرخون فيها. و «يصطرخون» تأكيد في الصراخ والعويل. وما يقولونه مجرّد تمنّيات، لا يمكن أن تتحقّق وقد تكرّر في القرآن حكاية ذلك عنهم والردّ عليهم بالنفي أو بعدم الجدوى وأنّهم لا يفون بوعدهم.

قال تعالى: «رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ الْحَسَنُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ»(3) وقال تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ

ص: 353


1- إبراهيم (14): 17
2- النساء (4): 56
3- المؤمنون (23): 107 - 108

مِنَ المُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»(1).

أمّا النفي والردّ، فلأنّ هذا طلب للمستحيل، والفعلية لا تعود إلى القابلية، والجنين لا يعود نطفة، والحياة الأُخرى الأبدية لا تعود إلى الدنيا، فإنّ الحياة الأُخرى هي المرحلة المتطوّرة والمتكاملة من الحياة.

وأمّا عدم الجدوى، وأنّهم يعودون لما نهوا عنه، فلأنّ العود إلى هذه الحياة يقتضي العود إلى الامتحان والابتلاء، وهو يتوقّف على نسيان الماضي حتّى يعود الإنسان إلى ما كان عليه من غرائز وشهوات، وفتن، وإدراكات عقلية، وهدايات و رسالات و.... ولا شكّ أنّ هذا الإنسان العاصي المتجبّر سيعود إلى نفس الحالة ونفس العصيان، إذ لو كان يهتدي لاهتدى في التجربة الأُولى، فالمفروض أنّ الظروف لا تختلف عمّا كان عليه آنذاك.

ثمّ إنّ قولهم: «غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ» مع أنّ قولهم «نَعْمَلْ صَالِحاً» كافٍ في إفادة المعنى ، لعلّه إشارة إلى أنهّم كانوا في الحياة الدنيا يرون عملهم صالحاً، فيؤكّدون في هذا الوعد أنّهم يعملون صالحاً غير ما رأوه صالحاً قبل هذا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَهُم يَحسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحسِنُونَ صُنعاً».(2)

«أَوَلَمْ نُعَمِّرُكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ»، وهكذا يأتيهم الردّ الحاسم، وهو استفهام تقريري. و «ما» مصدرية ظرفية، أي عمّرناكم مدّة تكفي للتذّكر وجاءكم النذير. ويستفاد من الآية أنّ الاحتجاج يخصّ من عمّره الله تعالى في

ص: 354


1- الأنعام (6): 27 - 28
2- الكهف 18: 104

الدنيا بمقدار يتذكّر فيه من تذكّر، فلا يشمل من يموت في ريعان شبابه، و يخصّ أيضاً من جاءه النذير، أي أتمّ الله عليه الحجّة.

وقد ورد في بعض الروايات أنّ الذي بلغ ثمانية عشر سنة، فقد أُعذر وتشمله الآية الكريمة. (1) ولكن في بعضها أنّ الذي بلغ الستّين تمّ إعذاره. (2) ولعلّ الموارد تختلف، فهناك بعض المعاصي يقبل فيها عذر الشابّ ولا يقبل عذر الشيخ، وهناك منها ما لا يقبل فيها عذر الشابّ أيضاً.

ثمّ إنّ قوله «يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ» حيث جاء في الصلة بالفعل الماضي، يدلّ على أنّ هناك من تذكّر فعلاً بهذا المقدار من العمر. وهكذا يحتجّ الله ببعض عبيده على بعض

وقد مرّ القول في أنّ النذير إن أُريد به الرسول، فيكفي مجيئه في العصور السابقة وبقاء كتابه وعلمه، وإن أُريد به مطلق النذير فيشمل الأئمّة والعلماء، بل مطلق من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وقلنا أيضاً: إنّه يحتمل أن يكون المراد بالنذير نفس النذر.

«فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِير»، أي فذوقوا العذاب، وحيث كان الخطاب خاصّاً بمن تمّت عليه الحجّة، فهو من الظالمين، وليس له من نصير. ومن ينصره من الله إن أراد به العذاب؟! وقد قلنا أيضاً: إنّ الظلم لا يحتاج إلى من يقع عليه الظلم، فلا حاجة إلى تفسيره بمن ظلم نفسه. وإنّما أتى بالاسم الظاهر: «الظالمين» بدلاً عن الضمير للإشارة إلى السبب، فالنصرة هناك لا تكون إلا لمن له الحقّ.

ص: 355


1- راجع: مجمع البيان في تفسير القرآن 8: 641
2- راجع: نفس المصدر

سورة فاطر (38-39)

«إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)»

«إِنَّ الله عالمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالأرض»، «الغيب» يقابل الشهود وهما أمران نسبيان، فكلّ غيب لأحد ربّما يكون شهوداً لآخر. ولكن إذا لاحظنا هاتين الصفتين في الحال الحاضر، فإنّ الغيب المطلق هو المستقبل، فهو غيب للجميع. وإذا أُضيف الغيب إلى السماوات والأرض، كان المعنى مستقبل الكون، فيكون المعنى أنّه لا يعلم مستقبل الكون بأكمله إلا الله تعالى.

«إِنَّهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»، «الذات» مؤنّث «ذو» بمعنى الصاحب، والمراد ب_«الصدور» القلوب تسمية للحال - وهو القلب - باسم المحلّ، والقلب كناية عن الروح البشرية والنفس الإنسانية. والمراد ب_«ذات الصدور» الأسرار الكامنة في النفس المصاحبة لها وهو كناية عن عدم تسرّبها إلى الخارج.

هذا، وقد وقع الكلام في أنّ هاتين الجملتين أيّهما علّة للأُخرى وما هو الأمر الذي علّل بهما؟

فقال بعضهم: إنّ الثانية علّة للأُولى، كما هو ظاهر الترتيب، وذلك لأنّ الذي يعلم ما في الصدور وهو أخفى شيء في الكون، فهو يعلم كلّ غيب في السماوات والأرض. ولكنّه غير صحيح، إذ هناك من الغيب ما هو الغيب ما هو أخفى وهو المستقبل، فإنّ ما في الصدور ربّما يستكشف بما يظهر على فلتات اللسان وغيرها.

ص: 356

وقيل بالعكس وهو خلاف ظاهر الترتيب بهذا التعبير، إذ لو كان كذلك، لقال: فهو عليم بذات الصدور، ليدلّ على ترتّب العلم الثاني على الأوّل.

ولا يبعد أن لا يكون بينهما علاقة عليّة، فكلّ منهما علّة لأمر ممّا سبق ذكره، وحيث تعدّد المعلّل لم يأت بالواو بينهما. وحينئذٍ فلعلّ الجملة الأُولى تعليل لما أخبر به من حوادث يوم القيامة، والثانية تعليل لما يفهم من الجواب في قوله تعالى: «أوَلَم نُعَمِّركُم» وهو المصرّح به في غيرها من عدم الجدوى في إرجاعكم، إذ عمّرتم ما يكفي للتذكّر، فلم تتذكّروا، والله العليم بذات الصدور، يعلم أنّكم لا تؤمنون بالله لو عدتم إلى الدنيا مرّة أُخرى.

«هُوَ الَّذى جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِى الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» تهديد للإنسان الذي لا يهتمّ بنكران ربّه وتنديد بالكفر. وتبدأ الآية بالتنبيه على أمر طبيعي في المجتمع الإنساني ويعتبر نعمة إلهية، وهو في نفس الوقت يتضمّن تهديداً وتنبيهاً على عدم استقرار هذه الحياة. و«الخلائف» جمع خليف، والخلفاء جمع خليفة.

والمراد بالخلافة هنا أحد أمرين أو كلاهم:

الأوّل: أنّ الإنسان يتمتّع بالخلافة الإلهية، قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً»(1)، فالإنسان خليفة الله في الأرض. وفي المراد بالخلافة احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أنّ هذه السمة وسام خاصّ بالمخلصين من عباد الله تعالى من الأنبياء والأولياء، باعتبار أنّ الله تعالى استخلفهم أولياء على خلقه، وإنّما يوصف به الإنسان بوجه عامّ باعتبار أنّه مستعدّ للتكامل في الصفات الحسنة إلى أن يصل

ص: 357


1- البقرة (2): 30

إلى مرحلة يستحقّ فيها هذه الكرامة.

الاحتمال الثاني: أنّ الخلافة صفة للإنسان بقول مطلق باعتبار أنّه يملك الإرادة ويتمتّع بقوّة الاختيار ممّا يجعله حرّاً نوعاً ما في اتّخاذ ما يبتغيه من موقف، فهو من هذه الجهة يخلف الله في الأرض، بمعنى أنّ الله تعالى حيث جعل له هذه الحرّية والقدرة، فكأنّه استخلفه وفوّض إليه بعض الشأن، وإن كان التفويض الكامل مستحيلاً. ولذلك كان الاختيار أمراً بين الأمرين، فلا جبر مطلق ولا تفويض مطلق.

ويبدو من الآية المذكورة في سورة البقرة أنّ المعنى الثاني أقرب وأصحّ، بقرينة أنّ الملائكة فهموا من التعبير بالخلافة أنّ هذا الموجود سيفسد في الأرض ويسفك الدماء، بخلاف غيره من الموجودات، حيث إنّها ليست مختارة كالإنسان، فالاختيار هو الذي يجرّه إلى الفساد. هذا، مضافاً إلى أنّ الخلافة في الآية التي هي مورد الكلام لا بدّ من حملها على هذا المعنى، إذ المعنى الأوّل لا يشمل جميع المخاطبين، فلا يتمّ الخطاب العامّ.

الثاني: أنّ كلّ جيل من البشر يخلف من قبله من الأجيال، وهو إمّا أن يكون خطاباً لمن كانوا في ذلك العهد، أو يكون خطاباً للبشرية وأنّ طبيعة الحياة على هذا الكوكب تقتضي أن يخلف جيل جيلاً.

وعلى الوجهين فالمراد تنبيه المخاطبين أو الجيل الحاضر على هذه النعمة، وأنّ الدور قد وصل إليكم لتستمتعوا بهذه الحياة وتتزوّدوا منها. والتنبيه في نفس الوقت على المسؤولية الملقاة على عاتقهم كأيّ جيل آخر من أجيال البشرية، والتنبيه ثالثة على أنّ هذه الحياة لا تدوم لكم، كما لم تدم لمن كان قبلكم، فأنتم

ص: 358

خلفاء لقوم وسلف لآخرين يخلّفونكم.

وبعد ذلك تندّد الآية بالكفر وتهدد من يستخفّ به. ونحن نجد في عصرنا هذا أنّ الاعتقاد السائد في الثقافة العامّة العالمية تنحو نحو الاستخفاف بأصل الفكرة، والاهتمام بشؤون الحياة الدنيا، والاستمتاع بها، وبذل الجهد في الوصول إلى أعلى مراحل التمتّع بالحياة وزخارفها وبهرجتها، واللجوء إلى مختلف أنحاء الملهيات لدفع كلّ الهموم التي يحملها الإنسان لو ترك وشأنه، سواء الهموم الشخصية والاجتماعية والبشرية، وسواء الهموم المعاصرة وهموم المستقبل وسواء المستقبل القريب في هذه الحياة وهموم الحياة الأُخرى المجهولة للإنسان.

وتحاول الثقافة المعاصرة التقليل من أهميّة التفكير في إله الكون وبشاعة الكفر به على أنّه المنعم، بدعوى أنّه فكر متافيزيقي لا يصل إليه أفهامنا، ولا ينفعنا نفعاً عاجلاً.

والآية تشدّد النكير على الكفر، وتنبّه الإنسان أنّ ضرر الكفر يعود إليه، وأنّه أكبر من كلّ ما يخافه ويحذره من مخاوف وأخطار، وأنّه الخسارة الكبرى. ويكفيه باعثاً للتفكّر في هذا الشأن احتمال وجود هذا الخطر العظيم. ف_«مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ».(1) وفي نفس الوقت ينبّه الإنسان على استغناء الله سبحانه من إيمانه وعدم تضرّره بكفره، بل أنّ كفره لا يضرّ غيره من الموجودات أيضاً إلا إذا أراد الله شيئاً. ف_«مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ»، والضرر المباشر إنّما هو على نفسه.

«وَلا يَزيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسارا» بيان

ص: 359


1- الروم (30): 44

لتضرّر الإنسان من كفره، وقوله: «عِنْدَ رَبِّهِمْ» متعلّق ب_«المقت»، أي لا يزيدهم إلا مقتاً عند ربّهم و «المقت» هو شدّة البغض. وأيّ ضرر أكبر على الإنسان من أن يفقد الإنسان عناية ربّه ؟! «الربّ» من يتصدّي لتربية الإنسان حتّى يبلغ الكمال المطلوب، فإن أبغضه وأهمل أمره فمن يربّيه؟! ومن يتولّى شؤونه في هذا العالم المجهول أكنافه وغياهبه، تحيط به الأسرار والأخطار ، وأنت سائر من دون اختيار إلى مستقبل مظلم؟!

ولا شكّ أنّ إسناد المقت والبغض والحبّ والغضب والرضا ونحوها إلى الله تعالى ليس بمعنى طروّ هذه الحالات عليه سبحانه، إذ لا يمكن ذلك والله ليس محلاً للعوارض. ولذلك فسّرها بعضهم بالثواب والعقاب، فإن أفاض الله تعالى على عبده الثواب عبّر عنه بالرحمة والحبّ والرضا، وإذا عاقبه وعذّبه عبّر عنه بالبغض والغضب.

ولكنّ الظاهر أنّ هناك فرقاً بين التعبير بالغضب والرضا والتعبير بالعقاب والثواب، ويبدو أنّ هذه التعابير تحكي عن نوع من العلاقة بين الله تعالى وعبيده، لا ندركها نحن بهذه العقول التي لم تأنس بالمفاهيم الإلهية، فبغضه تعالى وغضبه يبدو يوم القيامة من عدم تكليمه وعدم النظر إليه، كما في قوله تعالى: «وَلا يُكَلِّمُهُمُ الله وَلا يَنظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ»(1)، وكذا قوله تعالى: «قالَ اخْسَؤُا فيها وَلا تُكَلِّمُونِ».(2)

وهذا أشدّ على العبد يوم القیامةمن عذاب النار، كما أنّ حبّه ورضاه يظهران

ص: 360


1- آل عمران (3): 7
2- المؤمنون (23): 108

للعبد بما يفيض عليه من أُمور لا نعرفها يشعر الإنسان منها برضا ربّه، فيكون ألذّ لديه من كلّ نعم الجنّة. والأولياء المخلصون يتنعّمون بذلك في هذه الحياة أيضاً.

ثمّ إنّ الجملة تدلّ على أنّ الإنسان المذكور ممقوت قبل الكفر أيضاً، وإنّما يزيده الكفر مقتاً. ولعلّ ذلك من جهة ما تقترفه يداه من أعمال، فإن آمن فلعلّ الله تعالى يتوب عليه، وأمّا إذا كفر فإنّه يزداد عند الله مقتاً.

كما أنّه يزداد خساراً، فإنّ الإنسان بطبيعة حاله خاسر، قال تعالى: «وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ»(1) وذلك لأنّه يخسر عمره وأيّامه التي هي رأس ماله في هذه الحياة، يخسرها ، لأنّه لا يتزوّد من هذه الحياة الفانية لحياته الباقية التي هي الحياة الواقعية، وهو هنا مسافر قد نودي له بالرحيل، وهو غافل في مرتعه لا يحبّ أن يسمع صوت النداء بالرحيل، فهو خاسر لا محالة وفي جميع الأحوال، لأنّ الذين يعملون أيضاً لا يمنحون حياتهم الأبدية ذلك الاهتمام الذي يمنحونه لزخارف هذه الحياة.

وقليل جدّاً جدّاً من يهتمّ بتلك الحياة أكثر من هذه الحياة الزائفة الوهمية، ولذلك عمّم الله سبحانه تأسّف الإنسان يوم القيامة ونسبه إلى نوع الإنسان: «يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وَأَنِّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ حَيَاتِي»(2) فالكلّ خاسر لا محالة، ولكنّ الكافر يزيد خسراناً لأنّه لا يعمل أي عمل ينفعه هناك.

ص: 361


1- العصر (103): 1-2
2- الفجر (89): 23-24

سورة فاطر (40-41)

«قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)»

«قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَ كُمُ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله»، الآية الكريمة تؤكّد على توحيد الربوبية، وأنّ الله الذي خلق السماوات والأرض هو ربّها وربّ كلّ شيء، فاعبدوه ولا تعبدوا غيره. ويخاطب المشركين الذين يتوهّمون أنّ الأصنام بما أنّها مثل للأرواح العليا، فهي الربّ وهي المعبود وهي شركاء الله في ربوبية الكون.

والاستدلال في الآية يبتني على أنّ الربّ هو الخالق، لأنّ الربوبية من التربية، فهي ليست إلا تربية المخلوق، وتنميته، وتكميل خلقه، وتطويره، فهو في حدّ ذاته مرحلة من الخلق وإكمال له، فيسأل المشركين أرأيتم شركاء كم؟ وهذا التعبير تمهيد وتوطئة لتوجيه السؤال المتعلّق بالشركاء، كقوله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ الَّذى تَوَلَّى * وَأعْطى قليلاً وَأَكْدى * أعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى»(1) ومثله كثير. وإضافة الشركاء إليهم باعتبار أنّهم يعتقدون مشاركتهم لله تعالى في الربوبية، وتكفي في الإضافة أيّ نوع من الارتباط.

ثمّ إنّه وصف الشركاء بأنّهم يدعونهم من دون الله تعالى، وهذا من غرائب أمرهم، فهم يدّعون مشاركة هذه الأصنام لله تعالى في الربوبية، ولكنّهم حين

ص: 362


1- النجم (53): 33-35

الدعاء والتضرّع والعبادة يدعونهم من دون الله، أي لا يدعون الله وإنّما يدعون أصنامهم، لأنّهم يزعمون أنّ الخير والشرّ بيدهم.

«أَرُونى ما ذا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أم لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ»، السؤال الموجّه إليهم له ثلاث مراتب: ففي المرتبة الأُولى يسألهم: «أرُونِي مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ الأرض؟» والظاهر أنّ تقديم «أروني» في هذه المرحلة من جهة أنّه سؤال عن أمر محسوس، فلو كان لهم مخلوق في الأرض لرأوه، ولو رأوه لأمكنهم إراءته لغيرهم. ولا يبعد أن يكون المراد ب_«الأرض» العالم المادي بأجمعه لا خصوص الكرة الأرضية وما عليها.

وفي المرتبة الثانية يسألهم: «أم لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماوَاتِ؟» و «أم» هنا منقطعة، فهو إضراب واستفهام، أي إن لم يخلقوا شيئاً من الأرض، فهل لهم شرك في السماوات؟ ولا يبعد أن يكون المراد بها عالم الأمر وما وراء الطبيعة. وبذلك يكون هذا السؤال مرحلة متقدّمة بالنسبة للأُولى. ولم يعبّر هنا بالخلق، لأنّه في مرحلة الأمر والتدبير العلوي، وليس المراد أنّهم خلقوا شيئاً من السماوات بل ألهم أيّ مشاركة في عالم الأمر والتدبير؟ ولذلك أتى بالنكرة: «شرك»، أي أدنى مشاركة.

والسؤال في هاتين المرتبتين يبتني على أنّهم يعلمون شيئاً من ذلك، فيمكنهم إراءة شيء من المخلوقات في الطبيعة يمكن إسناد خلقه إلى الأصنام، أو إلى ما تمثّله الأصنام من عالم آخر، كما يزعمون.

«أم آتَيْنَاهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ»، يأتي بعد ذلك السؤال في المرتبة الثالثة، وهو أنّه إذا لم يكن لكم علم بذلك، فهل نزل عليكم كتاب من عند الله تعالى يخبركم بشيء من ذلك، فأنتم على بيّنة منه؟ وقوله: «مِنْهُ» للتعليل، أي فهم على بيّنة من أمرهم بسبب ذلك الكتاب.

ص: 363

و«البيّنة» صفة لموصوف محذوف، أي حجّة بيّنة وواضحة أو جادّة بيّنة وطريق بيّن، وكونهم على حجّة بمعنى أنهّم يمشون في طريقهم مستندين عليها، وكونهم على طريق بيّن بمعنى أنّ طريقتهم واضحة لا شبهة فيها. والآية تدلّ على أنّ الأُمور الاعتقادية التي ترتبط بالربوبية لا يمكن أن يستند فيها إلى الظنون، بل لا بدّ من كون الحجّة بيّنة واضحة.

«بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إلا غُرُوراً»، «بَل» للإضراب، ونفي ما سبق، أي لا يمكنهم إراءة شيء مخلوق للأصنام أو ما تمثلّه الأصنام، ولا يمكنهم القول بأنّهم يشاركون الله تعالى في خلق الكون وتدبيره، ولم يأتهم كتاب من الله تعالى، إذن فما يتواعدون به من شفاعة الأصنام، وأنّ الخير بأيديهم ليس إلا غروراً وخداعاً. وهذه طبيعة البشر إذا لم يصلّ إلى الحقيقة أو لم تعجبه، تشبّث بالأماني والآمال الكاذبة، فتجده يخدع بها نفسه وغيره، ومن هنا تنشأ العقائد والمذاهب الفاسدة.

ولعلّ المراد ب_«البعض» الذي يعد الكبراء والرؤساء، وبالموعودين العامّة. ويمكن أن يراد بهما الجميع بمعنى أنّ كلّ واحد منهم يعد الآخر، باعتبار أنّ هذا من عقائدهم التي يتوارثونها ويتداولونها ويدافعون بأجمعهم عنها.

«إنَّ الله يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالأَرض أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ»، يحتمل - كما في «الميزان»(1) - أن تكون الآية الكريمة احتجاجاً على توحيد الربّ والإله، بدليل احتياج العالم إلى الخالق في بقائه، حيث إنّ الوثني يقبل وحدة الخالق وأنّه الله تعالى، والكون كما يحتاج في حدوثه إلى الواجب

ص: 364


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 17: 55

المبدع، كذلك يحتاج في بقائه إلى إيجاد بعد إيجاد و«الإمساك» بناءً على هذا بمعنى الحفظ.

والمراد بقوله تعالى: «أَنْ تَزُولا»، أي كراهة أن تزولا، ويمكن أن يكون الإمساك بمعنى المنع - كما قيل - فالتقدير يمنعهما عن أن تزولا، والمراد ب_«الزوال» الفناء والانعدام. وبناءً على هذا الاحتمال، فالمراد بقوله تعالى: «وَلَئِنْ زَالَتا» الإشراف على الزوال، إذ لا معنى للإمساك بعد الزوال.

ويحتمل أن تكون الآية احتجاجاً على توحيد الربّ بصيانة السماوات والأرض من الانحراف وتغيير المسار، فكلّ كوكب يسير وفق المنهج المخطّط له، وفي الفلك الذي حدّد له، ولا شكّ أنّ الزوال عن هذا المسار المحدّد يسبّب الكارثة النهائية للكون، فالله تعالى هو الذي حفظ الكون بالإمساك على كلّ كوكب في مساره المحدّد، وكثيراً ما تنبأ المنجّمون بارتطام كوكب أو صخرة فضائية بالأرض تحدث به نهاية الحياة على هذا الكوكب، ولكن لم يحدث ما تنبأوا به بفضل الله ورحمته.

وبناءً على هذا الاحتمال لا حاجة إلى تأويل قوله تعالى: «وَلَئِنْ زالَتا»، بل يبقى على ظاهره فالمراد: أنّ السماوات والأرض إذا زالتا وانحرفتا عن مسارهما، فلا أحد يمسكهما ويعيدهما إلى المسار الصحيح. وهو استدلال على ربوبية الكون بأن الخالق هو الذي يقدر على ذلك لا غيره، فهو ربّ الكون الحافظ له. وهو استدلال واضح.

ويؤيّد هذا الاحتمال قوله تعالى: «وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرض إلا بِإِذْنِهِ».(1)

ص: 365


1- الحجّ (22): 65

فإنّ المصرّح به هنا إمساك السماء عن السقوط على الأرض.

و«السماوات» وإن كان في بعض الموارد يراد بها ما وراء الطبيعة، ولكن لا يبعد أن يراد بها هنا الكواكب الأُخرى غير الأرض، وإن كان الحمل على المعنى الأوّل أيضاً لا ينافي ما ذكر ، باعتبار أنّ العوالم الأُخرى أيضاً لها مسار محدّد نحو الكمال، والله تعالى يحفظها من الانحراف.

و «من» في قوله تعالى: «مِنْ أَحَدٍ» زائدة تفيد تأكيد شمول النفي، فليس هناك أحد يتمكّن من حفظ السماوات والأرض إلا ربّ العالمين. والظاهر أنّ الضمير في قوله: «مِنْ بَعْدِهِ» يعود إليه تعالى. وليس المراد البعدية الزمانية فيستغرب التعبير، بل هو بمعنى «غير»، كقوله تعالى: «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ»،(1) وقوله تعالى: «فَمَاذَا بَعْدَ الحق إلا الضَّلالُ».(2)

«إِنَّهُ كانَ حَليماً غَفُوراً»، ظاهر الجملة التعليل، فلا بدّ من كونه تعليلاً لبعض ما ذكر في الجملة السابقة، والظاهر أنّه هو نفس إمساك السماوات والأرض، فالمعنى: أنّ أعمال العباد وإن اقتضت أن لا يمسكهما الله تعالى، كما قال سبحانه: «تكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُ الأرض وَتَخِرُ الْجِبَالُ هَدَاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً»(3) إلا أنّه لحلمه وتأخيره العقوبة وغفرانه للعباد يمسكهما، ويؤخّرهم إلى أجل مسمّى، فيكون بذلك مطابقاً لآخر آية في هذه السورة المباركة، ومثله قوله تعالى: «وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرض إلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ».(4)

ص: 366


1- الجاثية (45): 6
2- یونس (10): 32
3- مريم (19): 90 - 91
4- الحجّ (22): 65

سورة فاطر (42-43)

«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)»

«وَأَقْسَمُوا بِالله جَهْدَ أَیْمانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ اهْدَى مِنْ إحْدَى الأُمَمِ»، أي أقسم المشركون. «وجَهْدَ أَيْمَانِهِمْ» مصدر أُضيف إلى المفعول وأُقيم مقام الفعل، فهو في الأصل: يجهدون جهد أيمانهم، أي جاهدين في أيمانهم، فالمصدر هنا وضع موضع الحال، أي أقسموا جاهدين، فالمعنى أنّهم أتوا بأغلظ الأيمان تأكيداً على هذه الدعوى.

والآية تدلّ على أن مشركي العرب لمّا سمعوا تعنّت الأُمم السابقة، ورفضهم لرسالات السماء، وسوء معاملتهم لأنبيائهم، بل قتل بعضهم حتّى نزل العذاب، كما كان مشهوراً ومتداولاً في الألسن، تبجّحوا بهذه الدعوى الفارغة، وأقسموا بها أغلظ الأيمان، وهي أنّه إذا جاءهم رسول من الله تعالى - وهو المراد بالنذير - فسيؤمنون به ويكونون أهدى من إحدى الأُمم السابقة. والمراد تلك الأُمّة التي آذت نبيّها، فيكون ذلك تعريضاً بهم، وقيل: إنّهم بنو إسرائيل. والجملة ليست منقولة بالقول، وإلا لقال: «لئن جاءنا»، بل قولهم منقول بالمعنى.

«فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إلا نُفُوراً»، لمراد ب_«النذير» هو الرسول صلّی الله علیه و آله، فلم يزدهم إنذاره هداية وتقوى من الله تعالى، بل زادهم نفوراً عن الحقّ. ومعنى ذلك أنّهم نافرون بذاتهم ورافضون للحقّ، كما هو مقتضى الجاهلية، ولذلك لم

ص: 367

يؤمنوا بالرسالات السابقة أيضاً. والنذير زاد في نفورهم وتمسكهم بباطلهم وتعاضدهم على ذلك، كما هو مقتضى التعصّب الجاهلي. والتعصّب له جذور صحيحة في الروح الاجتماعية للبشر، ولكن بعض الجوامع أو أكثرها تفرط فيه، فتجانب الحقّ.

والتعصّب الممدوح هو تماسك الأُمّة وتجمعها على محور الزعامة اللائقة حين تحوّل الأحوال، كهجوم جيش أجنبي. والتعصّب المذموم هو الانحياز إلى الباطل في مواجهة الحقّ تمشياً مع العصبة والقوم، ومنه التعصّب للعقائد الفاسدة، والثقافة البائدة التي تربّوا عليها في مقابل كلّ جديد، وإن كان حقّاً ناصعاً يدعمه البرهان والوجدان، وهو ما ابتلي به عرب الجزيرة. والسبب في ذلك ما تبيّنه الآية التالية

«اسْتِكْباراً فى الأرض وَمَكْرَ السَّیِّئِ»، الظاهر أنهّما مفعول لأجله وهما سيبان للنفور، وليس بدلاً عنه، فالسبب في زيادة نفورهم عن الحقّ بعد مواجهة رسالة السماء أمران: الاستكبار في الأرض والمكر السيّئ. والاستكبار في الأرض لعلّه يقابل الاستكبار في النفس، قال تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائِكَةُ أو نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوا كَبِيراً».(1)

والمراد ب_«الاستكبار» في النفس أن يكون الإنسان معجباً بنفسه، فالذي يطلب نزول الملائكة عليه ورؤية ربّه، مضافاً إلى سذاجة عقله وإدراكه، معجب بنفسه غاية الإعجاب حيث يجد نفسه لائقاً لذلك.

ولعلّ المراد ب_«الاستكبار في الأرض» الفساد في المجتمع والظلم على الناس

ص: 368


1- الفرقان (25): 21

والطغيان، قال تعالى: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ».(1)

وأقبح الاستكبار، الاستكبار في السماء، قال تعالى خطاباً لإبليس: «قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا».(2) ولعلّ المراد ب_«التكبر في السماء» التكبّر أمام الأمر الإلهي الصريح المتوجّه إليه. فإن كان هذا هو المناط، فما أكثر مصاديقه في البشر! والحاصل: أنّ طلب الفساد في الأرض وعدم التقيّد بأحكام الدين وأوامر السماء المانعة من الاستكبار من دواعي طواغيت قريش في النفور عن الحقّ.

والأمر الآخر المكر السيّئ. وقوله تعالى: «وَمَكْرَ السَّيِّي» من إضافة الموصوف إلى الصفة، ولذلك عبّر عنه بعد ذلك ب_«اللام»: «وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّىِّئُ». و«المكر» هو الحيلة والخداع، و «المكر السيّئ» ما يقصد به الشرّ. وبعبارة أُخرى سياسة الشرّ. ولعلّ المراد بمكرهم أنّهم كانوا يعلمون أنّ ما جاء به الرسول صلّی الله علیه و آله حقّ، وإنّما لم يؤمنوا مكراً بالناس ، لكي يصرفوهم عن الهداية لمصالح سياسية واقتصادية تخصّهم.

وقيل : المراد مكرهم بالرسول صلّی الله علیه و آله وبالمؤمنين ، ولكن ذلك لا يناسب كونه علّة للنفور عن الحقّ وعدم الإيمان، بناءً على ما قلنا أنّه مفعول لأجله وبيان لسبب النفور، وذلك لأنّ هذا المكر تحقّق بعد النفور فلا يكون علّة له.

ولكن بعضهم اعتبر الاستكبار والمكر بدلاً عن النفور لا علّة. وهو أبعد، وذلك لأنّ معنى الآية يكون هكذا: الرسالة لم تزدهم إلا نفوراً واستكباراً ومكراً،

ص: 369


1- القصص (28): 4
2- الأعراف (7): 13

ومقتضاه أنّهم كانوا قبل ذلك أيضاً يمكرون بالرسول صلّی الله علیه و آله والمؤمنين، وزادوا في ذلك بعد الإنذار، وهذا خلاف الواقع وإنّما زاولوا المكر السيّئ بعد الرسالة.

«وَلا يَحيقُ المَكْرُ السَّيِّئ إلا بِأهْلِهِ»، اختلف اللغويون في تفسير «الحيق»، فقال بعضهم: إنّه بمعنى الإحاطة. وقيل: إنّه بمعنى النزول بالشيء. وكلاهما يناسب المقام، والمعنى: أنّ المكر السيّئ لا ينزل إلا بمن حاكه، أو أنّه لا يحيط إلا به. وهذا تعقيب على مكر المشركين، وأنّ سنّة الله تعالى في الأرض أن لا ينزل أو لا يحيط المكر السيّئ إلا بأهله.

وهذا يمكن أن يكون مبنياً على المبالغة ، كقولهم: «من حفر بئراً لأخيه وقع فيه»(1) مع أنّه ربّما يقع الأخ فيه أيضاً، بل ربّما لا يصيب الحافر في العاجل شيء إلا أنّه غالباً لن يفلت. و«المكر السيّئ» وإن أضرّ بالممكور به إلا أنّه يصيب الماكر في النهاية، والغالب في السياسات الشريرة أنّها تهدم أساس الظلم في النهاية، ولكن حصر إحاطة المكر بأهله، كأنّه لا يصيب الممكور شيء مبنيّ على المبالغة.

ويمكن أن يكون بلحاظ أنّ الشرّ الحقيقي هو الذي يحيط بالإنسان من نتائج عمله السيّئ، وهو غضب الله تعالى وعقابه، وهو لا يحيط إلا بالماكر، فهو الخاسر والمتضرّر حقيقة دون الممكور به. وهذا هو الأُولى في تفسير الآية الكريمة، خصوصاً إذا لوحظ العقاب الدنيوي، فإنّه يصيبه عاجلاً أيضاً وإن تأخّر بعض الزمان، والآية تركز على هذا الأمر وتهدّدهم بأنّ ذلك سنّة الله في السابقين، فبهذا اللحاظ يكون نتيجة المكر في الواقع محيطة به في الحياة الدنيا أيضاً.

ص: 370


1- تحف العقول: 88

«فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأوَّلينَ»، أي هل ينتظرون ويتوقعون إلا سنّة الله في الأوّلين، وهو إنزال العذاب على المكذّبين الذين رفضوا الانصياع إلى رسالات السماء، ف_«الفاء» هنا فاء تفريع بمعنى أنّهم حيث استكبروا ومكروا المكر السيئ، وحيث إنّ المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، فماذا يتوقّعون إلا أن يحيق بهم ما حاق بمن قبلهم. وإضافة «السنّة» إلى «الأوّلين» باعتبار أنّهم موضعها.

«فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تحويلاً« «الفاء» هنا تعليل للجواب المقدّر ، أي أنّهم يجب أن لا يتوقّعوا إلا سنّة الأوّلين ، لأنّ سنّة الله لا تتغيّر، وذلك لأنّ القوم ربّما توهّموا أنّهم لا يستحقّون ذلك، لمكانة لهم عند الله تعالى، أو أنّ الله لا يفعل ذلك بهم، لميزة فيهم، فكلّ إنسان يجد لنفسه ما يميزه عن لنفسه ما يميزه عن الآخرين، وربّما يجد له ولقومه قوّة لم يبلغها الآخرون.

فالجواب عن ذلك، أنّ سنة الله تعالى لا يتبدّل من قوم إلى قوم، فإن كانت سنّته إنزال العذاب على المكذّبين، فلا فرق بين قوم وقوم، وليس لهؤلاء المشركين أيّ ميزة، بل العكس هو الصحيح حسب معاييرهم، فالذين كانوا قبلهم كانوا أشدّ قوّة، مع أنّ هذا أيضاً لا يوجب امتيازاً، إذ أنّ الله تعالى لا يعجزه شيء، ونسبة كلّ الأشياء إليه واحدة وليس هناك قويّ وضعيف، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله.

والتعبير يركز على الموضوع وهو سنّة الله تعالى ولذلك يكرّر قوله : «لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله» ومن هنا لا يبعد القول بأنّ التبديل والتحويل واحد، وإنّما كرّر للتأكيد. وقد ورد كلّ منهما في القرآن على حدة، قال تعالى: «وَلا تَجِدُ لِسُتَّتِنَا تَحْوِيلاً»(1)

ص: 371


1- الإسراء (17): 77

وقال: «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً».(1)

وقال العلامة في «الميزان»: «تبديل السنّة أن توضع العافية والنعمة موضع العذاب، وتحويلها أن ينقل العذاب من قوم يستحقّونه إلى غيرهم».(2)

وهو بعيد في حدّ ذاته لبعد توهّم التحويل بهذا المعنى حتّى يحتاج إلى تأكيد القرآن لنفيه، مضافاً إلى أنّه ليس من تحويل السنّة، بل تحويل للعذاب.

وقيل: إنّ المراد تغيير حالات العذاب من الشدّة إلى الضعف.

وهو أيضاً بعيد لما ذكر ، فإنّ هذا من تحويل العذاب لا تحويل السنّة. فالظاهر أنّهما بمعنى واحد كرّر للتأكيد.

ص: 372


1- الأحزاب (33): 62
2- الميزان في تفسير القرآن 17: 58

سورة فاطر (44-45)

«أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)»

«أَوَلَمْ يَسيرُوا فِي الأرض فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ»، استفهام تقريري، أي أنّه يطالبهم بذلك الإقرار بأنّهم قد ساروا في الأرض ورأوا آثار الذين كانوا من قبلهم، وعلموا بعاقبة كفرهم وعنادهم ، وما نزل عليهم من العذاب. وهم فعلاً قد ساروا ورأوا ذلك وسمعوا قصصهم وتأريخهم. والغرض من ذلك، الاعتبار بما يجدون في هذا السير، وأنّ عليهم أن يطبقّوا القانون على أنفسهم، إذ لا تبديل لسنّة الله تعالى ولا يختلف عنده قوم عن قوم.

«وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً»، أي ربما يتوهّمون في أنفسهم أنّهم أقوياء ويعجبون بقوّتهم، كما هو عادة البشر، وهذا الإعجاب هو أساس هلاك الناس، وهلاك الأقوام، وسقوط الأنظمة، واهتزاز العروش، فإن توهّموا ذلك، فليعلموا أنّ الطغاة السابقين الذين دمّرهم العذاب الإلهي، كفرعون ونمرود وقوم عاد وثمود، كانوا أشدّ قوّة وأكثر أموالاً وأولاداً، كما تشهد به آثارهم وحضارتهم.

«وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِى الأرض»، أي لا يختلف بالقياس إلى قوّة الله وبطشه قويّ أو ضعيف، ولا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض أي في الكون كلّه، إذ هو مصدر كلّ قوّة، فلا قوّة لأحد إلا به ومنه، فلا معنى للإعجاب بالقوّة، ولا بمقايسة قوّتهم إلى من سبقهم.

ص: 373

«إِنَّهُ كانَ عَليماً قديراً»، تعليل لعدم العجز، فهو عليم بكلّ شيء وبما يصلحه ويفسده، وقدير على كلّ شيء، فكيف يعجزه شيء؟! و «العجز» ينشأ إمّا من نقص في العلم أو في القدرة، فربّما يعلم الإنسان ما يجب أن يفعله، ولكن لا يملك الأجهزة اللازمة، فيعجز عنه، وربّما يملك الأجهزة ولكنّه لا يعلم كيف يستخدمها، فيعجز عن معالجة الموقف، ولكنّ الله تعالى عليم بكلّ شيء، قدير على كلّ ما يريد، لا حدّ ولا نهاية لعلمه وقدرته، فلا يعجزه شيء.

«وَلَوْ يُؤاخِذُ الله النَّاسَ بما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّة» يبدو أنّ الآية تردّ على سؤال يفرضه الموقف، وهو أنّ النتيجة المحتومة ممّا سبق، أنّ الله تعالى يعذّب الجميع على ذنوبهم، مع أنّا نجد كثيراً من الأقوام أفسدوا في الأرض، وظلموا، وأشركوا بالله تعالى، وكفروا به، وأهلكوا الحرث والنسل، ولم ينزل عليهم العذاب!!

فالجواب: أنّ الله تعالى جعل لكلّ فرد ولكلّ مجتمع أجلاً لا يتقدّمونه ولا يتأخّرون منه، ويدخل في ضمن مقوّمات هذا الأجل والعوامل المؤثّرة في تحديده، أعمالهم وجرائمهم. والله تعالى لا يستعجل في عذاب الناس، ولو كان يؤاخذ كلّ إنسان أو كلّ مجتمع بذنبه ، لم يبق على الأرض إنسان، بل ولا حيوان.

ومثله قوله تعالى: «وَلَوْ يُؤاخِذُ الله النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلى أجَلٍ مُسَمّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُون»(1) وبيّن في آية أُخرى أنّ ما يصيب الناس إنّما هو نتيجة أعمالهم، ولكنّ الله يعفو عن كثير: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثير».(2)

ص: 374


1- النحل (16): 61
2- الشورى (42): 30

والضمير في قوله: «عَلَى ظَهْرِهَا» يعود إلى الأرض المعلوم من سياق الكلام، والمراد ب_«الدابّة» كلّ ما يدبّ أي يتحرّك على الأرض، فيشمل الحيوان، ولذلك وقع السؤال عن سبب الشمول، مع أنّ الحيوان لا ذنب له، بل ليس كلّ البشر مذنبين، ففيهم الأطفال والقاصرون، وفيهم الأنبياء والمعصومون!

ولذلك قيل: إنّ المراد بالدابّة خصوص الإنسان، كما في تفسير «الميزان». (1)

ويردّه: أنّه لا موجب لهذا التعبير، مع أنّ الإشكال باق، كما تبيّن بما ذكرناه.

والظاهر أنّ السبب في التعميم هو أنّ العذاب النازل لا يبقى أثراً للحياة، وليس عذاباً على خصوص الظلمة، كما هو الشأن في ما نزل من العذاب على الأقوام السالفة، فإنّه كان يشمل الأطفال والحيوانات، وقد قال تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةٌ لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ»،(2) فإنّ ظاهرها أنّ الفتنة - وهي العذاب أو سبب العذاب - ربّما لا تختصّ بالظالمين، بل يعمّ غيرهم، كما هو مشهود ومنقول. ولكنّ مع ذلك يبقى عموم الآية هنا لمثل المعصومين، مبنيّاً على التغليب. وهو واضح.

«ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمّى». «الأجل»: الوقت المحدّد في الدين وغيره، ومنه مدّة حياة الإنسان وحياة المجتمع. «والمسمّى» أي المحدّد والمعيّن. والمراد به هنا على ما يبدو معنى يشمل يوم القيامة، كما يشمل الأجل الذي تعيّن بالقضاء والقدر الإلهي حسب الظروف والعوامل التي تستوجب نزول العذاب، فليس كلّ عمل وفي كلّ ظرف يستوجبه. ولذلك نجد في زماننا هذا كثيراً من

ص: 375


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 17: 59
2- الأنفال (8): 25

الذنوب التي استتبعت عذاب الله في الأُمم السالفة، تفشو في المجتمع ولا يستنكر، والله تعالى يمهلهم ولا يعذّبهم.

ويستفاد من الآيات الكريمة أنّ من شروط عذاب الاستئصال هو مجيء الرسول، قال تعالى: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فإذا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ»(1) وقال أيضاً: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا). (2)

ويمكن أن يكون المراد ب_«الأجل المسمّى» الموت، فيكون المعنى: أنّ الله تعالى لا يعجل بإفناء الناس بسبب ظلمهم، بل يؤخّر كلّ واحد إلى أجله المعيّن، أي الذي تعيّنه سلسلة الأسباب والمسبّبات التي تنتهي إلى موته. ومثل ذلك قوله تعالى في حكاية كلام نوح علیه السّلام: «أنِ اعْبُدُوا الله وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُسَمّى»،(3) فهو وعد بعدم نزول عذاب الاستئصال.

«فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كانَ بِعِبادِهِ بَصيراً» الجواب محذوف، إمّا لوضوحه أو ليذهب السامع فيه كلّ مذهب، فيفيد التهويل، فالجواب المقدّر يمكن أن يكون «يجازون بما عملوا» أو «لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون» أو نحو ذلك.

والجملة المذكورة، أي قوله تعالى : «فَإِنَّ الله كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً» جملة تعليلية سادة مسدّ الجزاء. ومثله كثير في القرآن وغيره. فإذا كانت الجملة الجزائية المقدّرة: «يجازون بما عملوا». فالتعليل يفيد أنّ الله تعالى يعلم بما عملوا وما يناسبه من الجزاء، لأنّه بصير بهم وبأعمالهم. والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 376


1- يونس (10): 47
2- الإسراء (17): 15
3- نوح (71): 3-4

تفسير سورة يس

تفسير سورة يس

ص: 377

ص: 378

سورة یس (1-12)

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)»

سورة يس مكّية بشهادة المضامين المناسبة للمجتمع المكّي. وقد ورد عن طرق الخاصّة والعامة في فضلها وعظم شأنها، أحاديث كثيرة ومنها توصيفها بأنّها قلب القرآن، ولكن لم يظهر لي وجهه. وما ذكر في بعض التفاسير ك_«روح المعاني» من الوجوه، لا تطمئنّ إليها النفس، لعدم اختصاص ما ذكر من الوجوه

ص: 379

بمضامين هذه السورة المباركة، فالأولى أن نردّ علم ذلك إلى أهله، مع أنّ الحديث لم يرد بطريق صحيح عندنا.

«يس»، كثر الكلام حول الحروف المقطّعة وما ذكر فيها وجوه عديدة.

منها : أنّ هذه الحروف لتنبيه السامعين وجلب انتباههم لسماع آيات الله تعالى فهي مثل تصدير الكلام ب_«ألا» ونحوه من أدوات التنبيه. وربّما يقال في توجيهه أنّ المشركين كانوا يرفعون أصواتهم باللغط والصياح لئلا يستمع أحد إلى الرسول صلّی الله علیه و آله ، فكان البدء بهذه الحروف تسكتهم لأنّه لم يكن معهوداً لديهم.

ولكن هذا الوجه لا يمكن أن يبرر به ذكر خصوص هذه الحروف وتكرّرها مع عدم التعارف باستعمالها في التنبيه، كما أنّه يبقى السؤال عن وجه تخصيص هذه السور بها. مضافاً إلى أنّ التوجيه المذكور لا يصحّ أساساً في سورتي البقرة و آل عمران المدنيتين.

ومنها : ما ذكره بعضهم من أنّ ذلك إشارة إلى أنّ القرآن الكريم متكوّن من نفس هذه الحروف، التي يتكوّن منها كلّ كلام متعارف كالطاء والسين والميم والألف واللام ونحوها، ومع ذلك فليس بإمكان البشر أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. واستشهدوا على ذلك بما يرد غالباً بعد ذكر هذه الحروف من الإشارة إلى القرآن الكريم كقوله تعالى في مطلع سورة القصص «طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ المُبِينِ» وكذا سورة الشعراء والنمل وغيرهما.

وهذا القول منسوب إلى الإمام العسكري علیه السّلام، كما ورد في التفسير المنسوب إليه علیه السّلام ولكن لا تصح ّالنسبة وبمراجعته يحصل القطع بعدم صحّة الإسناد، ورواه أيضاً عنه علیه السّلام الصدوق في «معاني الأخبار» ولكن السند ضعيف جدّاً لا يعبأ به.

ص: 380

وهذا الوجه أيضاً لا يبرر ذكر خصوص هذه الحروف مع الإصرار على تكرارها في أكثر من سورة ممّا يستفاد منه نوع علاقة بين سورة ما أو مجموعة من السور، وهذه الحروف الخاصّة لا مطلق حروف الهجاء. وأمّا ما استشهد به فمنقوض بأنّ هذه الإشارة لم تأت في كثير من الموارد كهذه السورة وسورة الروم وغيرهما.

ومنها: أنّ هذه الحروف أسماء السور فنقول سورة يس وسورة طه ونحو ذلك.

ولكن هذه التسمية إنّما حدثت بعد ورود هذه الحروف وبسببها، والكلام هنا في سببها ومفادها فسورة البقرة مثلاً سمّيت بها لورود هذه الكلمة فيها ولكن لا يمكن أن يقال إنّ السبب في ذكرها هو التسمية.

ومنها: أن ّهذه الحروف ممّا يستدلّ بها على أنّ القرآن ليس من إبداع الرسول صلّی الله علیه و آله لأنّه كان أُمّياً، فكان حسب الظاهر لا يعرف أسماء الحروف فالأمّي يتلفّظ بالألف، ولكنّه لا يعلم أنّ اسمه ألف، وهكذا سائر الحروف.

وهذا كلام سخيف فالأُمّيون يعرفون أسماء الحروف، فإنّ أسماء الحروف ليست إلا كأسماء سائر الأشياء، أو على الأقلّ يعرفه بعضهم فلا تلازم بين الأُمّية وعدم معرفتها. مع أنّه أيضاً لا يبرر التركيز على خصوص هذه الحروف وتكرارها. ومضافاً إلى أنّ ذلك لا يدلّ إلا على أنّه من صنع رجل غير أُمّي، أو صنع بمساعدته، ولا يدلّ على أنّ القرآن من عند الله تعالى، وهو المقصود.

ومنها : ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله، وهو أنّ كلّ حرف من هذه الحروف إشارة إلى موضوع من المواضيع التي تعالجها السورة ، واستشهد على ذلك بأنّه إذا اجتمع في مطلع سورة مجموعتان من الحروف ورد كلّ منهما في مطلع

ص: 381

سورة أُخرى، فيلاحظ أنّ هذه السورة تشتمل على مواضيع السورتين بحسب النوع طبعاً؛ فمثلاً سورة الأعراف المبدوّة ب_«المص» تشتمل على مواضيع سورة البقرة وسورة ص، وليس معنى ذلك أنّ كل تلك المواضيع مذكورة في هذه السورة بذلك التفصيل، بل على الإجمال، فلو كان الألف مثلاً إشارة إلى الأحكام الشرعية فلا بدّ أن تكون كلّ سورة يبدأ فيها بالألف مشتملة على بعض الأحكام.

وهذا الاحتمال ليس ببعيد في حدّ ذاته إلا أنّه يتوقّف على دراسة وبحث أعمق.

ومن الشواهد على صحّة هذا الاحتمال مجموعة الطواسين، أي سورة الشعراء، والنمل، والقصص، حيث ورد في مطلع كلّ منها حرف الطاء وتتعرّض كلّها لقصّة موسى علیه السّلام من إحدى جوانبها ويلاحظ أنّ في كلّ منها إشارة إلى لقائه علیه السّلام على جبل طور سيناء، ووردت الإشارة إليه أيضاً في سورة طه المبدوّة بالطاء أيضاً ممّا يقوي احتمال كون الطاء في كلّ هذه السور إشارة إلى الطور، ولم يرد حرف الطاء في فواتح السور إلا في هذه السور الأربع، كما أنّ الإشارة إلى هذا الموضوع لم ترد في سورة أُخرى إلا إشارة عابرة في سورة النازعات. ولعلّ حرف السين فيها إشارة أيضاً إلى سيّدنا موسى علیه السّلام.

ومع ذلك يبقى السؤال عن سرّ الإتيان بها بهذا النحو مع عدم التوضيح.

وهناك وجوه أُخرى بعيدة يراجع بشأنها الكتب المفصلة.

وقيل: إنّ هناك سرّا آخر في هذه الحروف يكشف عن وجه غريب من وجوه الإعجاز ، وهو أنّه لو جمعت هذه الحروف في المجموعة من السور التي صدّر فيها بها كانت أكثر نسيبياً منها في سائر السبور، وهذا أمر لا يمكن كشفه إلا

ص: 382

بواسطة جهاز الحاسوب الآلي، فكيف بالتقيّد به في الحديث طيلة ثلاث وعشرين سنة.

ولكنّ الحكم بثبوت هذا الأمر أو نفيه بحاجة إلى تأمّل ودقّة، وقد شكّك في ذلك بعض الباحثين وذكر نقوضاً على هذه الفكرة من الأساس.

والغريب من أمر هذه الحروف أنّه لم يذكر في الأحاديث والتواريخ أنّ المناوئين استغربوا ذلك، ولم يرد استفسار مؤكّد ومتابعة وبحث من قبل الصحابة، ولا إيضاح ابتداءً من قبل الرسول صلّى الله عليه وآله أو الأئمّة الطاهرين عليهم السّلام، وكأنّ الكلّ كانوا متّفقين على أنّها رموز يجب السكوت عنها، والمسلمون طيلة التأريخ لم يستغربوا أمرها وإنّما كانوا يتلونها كما أُمروا به من دون إصرار على السؤال عن مغزاها.

نعم ورد بشأنها بعض الروايات وأكثرها ضعيفة:

منها: ما رواه الصدوق في «معاني الأخبار» قال: حدّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني - رضي الله عنه - قال: حدّثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن يحيى بن أبي عمران، عن يونس بن عبدالرحمن، عن سعدان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: « «الم» هو حرف من حروف اسم الله الأعظم، المقطّع في القرآن، الذي يؤلّفه النبيّ صلّی الله علیه و آله والإمام فإذا دعا به أُجيب».(1)

وروی بسند صحيح عن محمّد بن قيس قال: سمعت أبا جعفر علیه السّلام يحدث «أنّ حُیيّاً وأبا ياسر ابني أخطب ونفراً من يهود أهل نجران أتوا رسول الله صلّی الله علیه و آله فقالوا له: أليس فيما تذكّر فيما أنزل الله عليك «ألم»؟ قال: «بلى». قالوا: أتاك بها جبرئيل من عند الله تعالى؟ قال: «نعم». قالوا: لقد بعثت أنبياء قبلك وما نعلم نبيّاً منهم أخبرنا مدّة ملكه وما أجل أُمّته

ص: 383


1- معاني الأخبار: 23

غيرك قال: «فأقبل حيي بن أخطب على أصحابه فقال لهم: الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، فعجب ممّن يدخل في دين مدّة ملكه وأجل أُمته إحدى وسبعون سنة ! قال: ثم أقبل على رسول الله صلّى الله عليه و آله فقال له : يا محمّد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال هاته قال: «المص» قال : هذه أثقل وأطول، الألف واحد ، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه مائة وإحدى وستّون سنة. ثمّ قال الرسول الله صلّی الله علیه و آله : فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال هاته. قال صلّی الله علیه و آله: «الر» قال : هذه أثقل وأطول، الألف واحد واللام ثلاثون، والراء مائتان ثمّ قال لرسول الله صلّی الله علیه و آله: فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال: هاته . قال : «المر» قال : هذه أثقل وأطول. الألف واحد ، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان. ثمّ قال له: هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قالوا قد التبس علينا أمرك فما ندري ما أعطيت! ثمّ قاموا عنه، ثمّ قال أبو ياسر للحيي أخيه ما يدريك ؟! لعلّ محمّداً قد جمع له هذا كلّه وأكثر منه».

قال: فذكر أبو جعفر علیه السّلام: «أّن هذه الآيات أنزلت فيهم: «مِنْهُ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ هُنْ أُمُّ الْكِتَابِ وَأَخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ» (1)»، قال : وهي تجري في وجه آخر على غير تأويل حُيّي وأبي ياسر وأصحابهما».(2)

وهذا الخبر مرويّ في كتب العامّة أيضاً. ويظهر منه أنّه كانت هناك بعض المحاولات لمعرفة هذا السرّ ولكن بأفكار ساذجة ولم ينبّه الرسول صلّی الله علیه و آله على خطئهم ولا على ما هو الصحيح.

ولكنّ الحكم بثبوت هذا الأمر أو نفيه بحاجة إلى تأمّل ودقّة.

وعلى كلّ حال ففي خصوص هذين الحرفين، ذُكرت وجوه أُخرى:

ص: 384


1- آل عمران (3): 7
2- معاني الأخبار: 24

منها: أنّ ياسين اسم من أسماء الرسول صلّی الله علیه و آله، وقد ورد ذلك في بعض رواياتنا عن الإمام الصادق علیه السّلام، واستدلّ بالخطاب الوارد بعده «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ».(1) وورد التعبير عنه صلّی الله علیه و آله بذلك في بعض الزيارات والأدعية والأشعار. ومنها الأشعار القديمة كالشعر المنسوب إلى السيّد الحميري على ما في «روح المعاني»:

يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة *** على المودّة إلا آل ياسينا(2)

وورد في بعض الروايات في قوله تعالى: «سَلامٌ عَلَى إِل يَاسِينَ»(3) أنّ الصحيح: «آل ياسين»(4)، وأنّ المراد بهم آل محمد صلّی الله علیه و آله وهو غريب، إذ الوارد قبلها ذكر الأنبياء علیهم السّلام مع التعقيب في كلّ واحد بالسلام عليه، وهذه الآية وردت بعد ذكر إلياس علیه السّلام ولا موجب لاستثنائه من السلام.

وقد ورد مثل ذلك في «طه» وأنّه أيضاً من أسمائه صلّی الله علیه و آله حيث ورد الخطاب بعده: «مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى»(5) وورد التعبير عنه صلّی الله علیه و آله به في الأدعية والزيارات والأشعار أيضاً. ولكن كلّ ذلك لا يوجب الوثوق. ويبقى هذان الحرفان كغيرهما من الحروف المقطعة سرّاً كامناً.

وقال بعضهم: إنّ «السين» اسم للإنسان و«يا» حرف نداء. ووجّهه بعضهم بأنّ «سين» أصله انيسين مصغّر الإنسان ثمّ خفّف، كقولهم: «م الله» تخفيفاً لجملة «أيمن الله».

ص: 385


1- راجع: تفسیر القمی 211: 2
2- روح المعانى في تفسير القرآن العظيم 11: 384
3- الصافات (37): 130
4- راجع: تحف العقول: 425
5- طه (20): 2

وهذا احتمال ضعيف لا يدعمه دليل.

ومثله القول بأنّ الحرفين مقسم بهما ، وحذف حرف القسم.

«وَالْقُرْآنِ الْحَكيمِ» قسم بالكتاب العزيز. والله تعالى يقسم في مواضع كثيرة بمخلوقاته أيضاً. وحقيقة القسم إنشاء ربط اعتباري بين ما يراد بيانه، وبين عزّة ما يقسم به وكرامته، وهذا واضح من الأقسام العرفية، حيث يقسم الإنسان بحياة ابنه أو أبيه أو نفسه ونحو ذلك، وأقسام الله تعالى أيضاً لا يشذّ عن هذا الأمر، إلا أنّ كرامة بعض الأشياء غريبة علينا. وهنا يقسم الله بالقرآن لبيان أنّ محمّداً صلّی الله علیه و آله من المرسلين.

وأمّا توصيفه بالحكيم فقد قيل: إنّه مجاز باعتبار اشتماله على آيات من الحكمة، أو باعتبار أنّه كلام الحكيم جلّ وعلا، وقيل: إنّه توصيف للقرآن مجازاً كأنّه اعتبر حيّاً.

وهذه المحاولات تبتني على أن يكون الوصف خاصّاً بحقيقته للحيّ، فيكون إطلاقه على غيره بنوع من التجوّز، ولكّن الصحيح أنّ «الحكيم» مأخوذ من الحكمة وهو المنع ، والحكيم ذو المنعة، ويقال للإنسان: إنّه حكيم، إذا كان له من العقل ما يمنعه من السفاهة والجهل، والقرآن ذو منعة على حقيقته، إذ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

«إِنَّكَ لَنَ المُرْسَلِينَ» هذه هي الجملة المقسم لها، وبتعبير القوم جواب للقسم. ولا يخفى التناسب اللطيف بين المقسم به وهو القرآن، مع توصيفه بالحكمة المقتضية لإعجازه، وبين الجملة المقسم لها وهي كون من أتى به مرسلاً من ربِّه، فهذا القسم في الواقع إشارة إلى الدليل والبرهان الواضح على رسالته، وليس من قبيل حلف الحالفين لإثبات موضوع مختلف فيه، فيستغرب بأنّ القسم لا يثبت

ص: 386

الرسالة المدّعاة. والتعبير حيث أتى بصيغة الجمع ووصف الرسول صلّی الله علیه و آله بأنّه من كوكبة المرسلين للردّ على استبعاد بعض المخاطبين إرسال بشر رسولاً، كما تكرّر نقله في القرآن ومنها ما سيأتي في هذه السورة.

«عَلى صِراطٍ مُسْتَقيم» خبر بعد خبر، أو متعلّق بالمرسلين، وهو أنسب؛ فالمعنى: إنّك مرسل على صراط مستقيم تدعو إلى ربّك. والتعبير يصوّر الرسول صلّی الله علیه و آله واقفاً على مبدأ طريق منير عام،ّ يدعو الناس إلى سلوكه، والنهاية البيّنة من بدوّه رضا الربّ والخلود في رحمته، والطريق مستقيم واضح أبلج، لا اعوجاج فيه ولا التواء، يناسب الفطرة السليمة والعقل الراجح.

وهذا أيضاً دليل آخر على الرسالة الإلهية، فإنّ الداعين إلى أنفسهم الذين يبتغون بذلك الوصول إلى أهداف مادّية، ترى في سلوكهم الإعوجاج الواضح، ويتجلّى من ملامحهم وطلباتهم النهم والجشع ، وأمّا الرسل فالتأريخ يشهد لهم بالنقاء والطهارة، ونكران الذات والتضحية في سبيل الدعوة.

ولعله لذلك أتى ب_«الصراط» نكرة، فإنّ التنكير - كما يقولون - للتفخيم، والتفخيم هنا لا يبعد أن يكون من جهة وضوح استقامته، بحيث يعرفه عامّة الناس لا يحتاج إلى دقّة علمية وبحث ومناظرة، فإنّ الرسالات نزلت لعامّة الناس لا لخواصّهم، وإن كان الخواصّ يعلمون من ميزاتها وخصائصها ما لا يبلغها العامّة.

وأمّا ما ذكره بعض المفسّرين من أنّه تفخيم لهذا الصراط من بين الصرط المستقيمة - ويقصد بها سائر الشرائع - فيصعب قبوله، لأنّ الصراط الذي يدعو إليه الرسل، صراط واحد وإن اختلفت المناهج، حسب ما يدعو إليه اختلاف

ص: 387

مراحل التطوّر في نضج العقل البشري. قال تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فيه».(1)

وأمّا أُحدوثة الصرط المستقيمة التي يدعو إليها بعض أنصار العلمانية من الكتّاب المسلمين، فهو مخالف لصريح القرآن في مواضع عديدة، لعلّ أبرزها قوله تعالى: «وَأَنْ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ». (2)

«تَنْزِيلَ الْعَزيزِ الرَّحيمِ» مفعول مطلق لفعل مقدر، أي نزّل تنزيل العزيز، ويعود الضمير إلى القرآن الحكيم، وقرئ بالرفع، أي هو تنزيل، والمصدر حينئذٍ بمعنى المفعول، ومضاف إلى الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى. والتوصيف ب_«العزّة» و «الرحمة» إشارة إلى غناه تعالى عن هداية الناس وإيمانهم، وقبولهم لما أنزله إليهم من هدايات لعزّته ومنعته، ولكنّه في نفس الوقت رحيم بعباده. ومقتضى رحمته الواسعة أن ينزّل عليهم ما يهديهم إلى سعادتهم الأبدية.

«لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ»، تعليل لإنزال القرآن، وجملة «ما أُنذر» وصف للقوم . والظاهر أنّ «ما» نافية، والمراد آباؤهم الأقربون لا الأباعد، إذ كان في العرب القدماء رسل وكانوا يفتخرون بانتمائهم إلى إسماعيل علیه السّلام، وقوله «فَهُمْ غافِلُونَ» تفريع على عدم الإنذار، أي أنّ عدم الإنذار تسبّب في غفلتهم ومتعلّق الغفلة حينئذٍ ما تدعوهم إليه الفطرة من الإيمان بالله تعالى وتوحيده، فإنّ القرآن كغيره من الكتب السماوية، يذكّر الإنسان بفطرته.

ص: 388


1- الشورى (42): 13
2- الأنعام (6): 153

ويمكن أن تكون «ما» موصولة، والمعنى: لتنذرهم بما أُنذر به آباؤهم. و«الفاء» تعليل لإنذارهم، يعني أنّهم لطول الأمد بينهم وبين الإنذار الذي أنذر به آباؤهم، غفلوا عنه، فلزم أن نبعث من ينذرهم ويذكّرهم.

«لَقَدْ حقِّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ»، «حقّ القول»، أي ثبت القول على أكثرهم. قالوا: إنّ المراد ب_«القول ما ورد في قوله تعالى مخاطباً لإبليس لعنه الله: «قَالَ فَالحَقُ وَالحَقِّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّنْ تَبعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ».(1)

وحينئذٍ يقع السؤال عن قوله تعالى: «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» حيث يدلّ على أنّ عدم إيمانهم متفرّع على ثبوت هذا القول فيهم ، والخطاب المذكور إذا انطبق عليهم فهو مترتّب على عدم الإيمان دون العكس، ولم ينتبه بعضهم إلى هذه المفارقة.

ولكنّ السيد الطباطبائي رحمه الله حاول أنّ يوجه ذلك بأنّ المراد بالتبعية، إطاعة إبليس إطاعة راسخة في النفس، وأنّ لازمه الطغيان، ولازم الطغيان الانكباب على الدنيا والإعراض عن الآخرة، ومن آثاره أن يطبع الله على قلوبهم، فهم لا يؤمنون. واستدلّ في كلّ هذه المراحل بآيات من القرآن الكريم. (2)

ولكنّ السؤال يبقى على حاله، لأنّ هذا ينتج - على تقدير صحّته - أنّ تبعيّة إبليس يستتبع عدم الإيمان، وليس مقول القول إنّ هؤلاء يتبعون إبليس ليتفرّع عليه كلّ ما ذكر، بل مقول القول إنّ من تبع إبليس يدخل جهنّم، ولا يتفرّع على ذلك عدم الإيمان.

والصحيح أنّه قد تكرّر التعبير ب_«القول» الذي حقّ، و«الكلمة» التي حقّت على

ص: 389


1- ص (38): 4-85
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 17: 64

بعض الناس، والمراد بكلّ منهما في كلّ مورد منها ما يناسب المقام من القول والكلمة التكوينية أو التشريعية من الله سبحانه، ولا يجب أن يكون ذلك مذكوراً بصراحة في آية من الآيات، والمناسب هنا هو القول بأنّ من عاند الحقّ على علم فإنّه يطبع على قلبه، فلا يؤمن أبداً.

قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ». (1) وغير ذلك من الآيات التي تدلّ على أنّ الطبع والختم وما يمنع من الإيمان إنّما هو نتيجة العناد مع الحقّ بعد تبيّنه.

ثمّ إنّ الآية تحكم على أكثر القوم بأنّهم لا يؤمنون. وربّما يستغرب بأنّ أكثر العرب آمنوا، بل لم يبق إلا القليل، ثمّ يجاب بأنّ المراد الأكثر من طواغيت قريش وهم لم يؤمنوا إلا قليلاً. وهذا بعيد عن سياق الآية، إذ الضمير يعود إلى القوم الذين لم ينذر آباؤهم وهم عرب الجزيرة، أو أهل مكّة.

ولعلّ الأقرب أن يقال: إنّ أكثرهم لم يؤمنوا حقّ الإيمان، بل إنّ أكثر أهل مكّة أسلموا قهراً وفي الظاهر بعد الفتح ولذلك كانوا كثيراً ما يعترضون على أوامر الرسول صلّی الله علیه و آله، ويرفض بعضهم الانصياع لبعضها، كمتعة الحجّ، ويرميه بعضهم بعدم العدل في تقسيم الغنائم، ويرفض بعضهم امتثال أمره بحجّة أنّه صلّی الله علیه و آله مريض وأنّه - والعياذ بالله - يهجر ويسكت الآخرون، ويقرّونه على ذلك، مع أنّهم كانوا يتلون قوله تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»(2) وتبيّن قلّة المؤمنين بعد وفاته صلّی الله علیه و آله

ص: 390


1- الأنعام (6): 110
2- النساء (4) : 65

بوضوح، حيث رفضوا إمرة الإمام الذي نصبه ولياًّ عليهم، مع تقدم بيعتهم له.

«إِنَّا جَعَلْنا فى أعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ»، «الأغلال» جمع غلّ - بضمّ الغين - بمعنى الصفّد الذي يربط به الأسير والمحبوس. وأمّا بالكسر فبمعنى الحقد. و«الإقماح» رفع الرأس إلى أعلى. والآية الكريمة تصوّر الكفّار المعاندين للحقّ، كأنّهم طوّقت أعناقهم بالأغلال، وأنّ الأغلال كثيرة عريضة بلغت أذقانهم، فبقيت رؤوسهم مرفوعة، ورفع الرأس حالة من يتأبّى عن قبول الحّق.

تعبير وتشبيه عجيبان فالقوم يرفضون الانصياع للحقّ مع علمهم به، فهم كمن يرفع رأسه لإعلان إبائه ورفضه من دون دليل. ومع ذلك فإنّ رفع الرأس له عوامل وأسباب، وهي هنا الأغلال التي بلغت الأذقان واضطرّتهم لرفع رؤوسهم كأنّهم مكرهون على ذلك.

وهذه الأغلال كناية عن ما يمنعهم من الإيمان والانصياع للحقّ، كالحسد، والكبر، والطغيان، والعزّة بالاثم، ومتابعة الهوى، وجشع المال، وحبّ الرئاسة، وغير ذلك مّما يبتلى به الإنسان نتيجة عناده، ورفضه لقبول الحقّ أوّل مرة مع إذعانه له، فهذه الأغلال تحيط به وبعنقه، وتمنعه من رؤية الحقّ مرّة أُخرى، فهي معلولة للعناد الأوّل، وعلّة للعناد المستمرّ.

والله تعالى ينسب جعل الأغلال إلى نفسه. والسرّ فيه: أنّ تكوّن هذه الأغلال نتيجة طبيعية للمعاندة، فهو في أوّل مواجهته للحقّ يجده ويعرفه، ولكنّه يعاند المرض في نفسه. وهذا العناد يتكرّر، فيكوّن مجموعة من الأغلال تحيط بعنقه، وتمنعه من رؤية الحقّ مرّة أُخرى. وكلّ ذلك نتيجة طبيعية للعناد، فتنسب إلى الله تعالى، لأنّه الخالق والمدبّر.

ص: 391

«وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَاغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» «السدّ»: المانع، و«الإغشاء» هو التغطية. والتعبير يصوّر المعاند محاطاً بسدّين من أمامه ومن خلفه، فلا يمكنه أن يرى إلا نفسه. ولعلّ السدّين كناية عن الموانع الخارجية التي تمنع الإنسان من رؤية ما عداه، فالفرق بين هذا التصوير والتصوير السابق، أنّ هذا يصوّره محاطاً بموانع خارجية تمنعه من النظر إلى ماوراءها، والموانع هي ما تستهويه وتجذبه إليها من الشهوات والملذّات، والأوّل يصوّره تحت تأثير العوامل النفسية، وكلّ ذلك يمنعه من رؤية الحقّ.

وهذا الإغشاء أيضاً يحصل كنتيجة طبيعية للنظر إلى الدنيا. قال أمير المؤمنين علیه السّلام في وصف الدنيا: «من أبصر بها بصّرته ومن أبصر إليها أعمته»،(1) فهذه العمى والغشاوة، والسدّ المانع من رؤية الحقّ، يحصل قهراً لمن نظر إلى الدنيا، وكلّ نتيجة طبيعية تستند إلى الله تعالى، كما أسلفناه.

وما ذكرناه من الفرق أقرب ممّا ذكره الرازي من أنّ الأوّل لمنعه من النظر في آيات الأنفس، لأنّه لرفع رأسه لا يرى نفسه، والثاني لمنعه من النظر في الآفاق.

«وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنذَرْتَهُمْ أم لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ»، أي سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك، فإنّهم لا يؤمنون. وهذه نتيجة القموح والغشاوة، فالذي لا يمكنه أن يبصر أمامه أو يرى آيات الله ببصيرته لا ينفعه الإنذار. والسرّ فيه: أنّ الإنذار لا يتعلّق بخطر مشهود، وإنّما يتعلّق بخطر في غيب العالم، فلا بدّ من بصيرة ثاقبة وهو ما يفقده الإنسان المعاند.

وقد ورد التعبير عن هذا السدّ في موضع آخر ب_«الحجاب»، قال تعالى: «وَقَالُوا

ص: 392


1- نهج البلاغة، صبحي الصلاح، الخطبة 81

قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي ءَاذَانِنَا وَقُرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ»،(1) فالقوم ما كانوا يرون الرسول ولا يسمعون آيات الله تتلى عليهم ، كلّ ذلك نتيجة هذا السدّ والقموح.

«إنّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ»، «إنّما» تفيد الحصر هنا، بقرينة المقام إن لم نقل بأنّها تفيده دائماً.

ولكن ما هو المراد بالحصر ؟ حيث إنّ الرسول صلّی الله علیه و آله كان ولكن المعاندين لا يتأثّرون بإنذاره.

يمكن أن يقال: إنّ الإنذار لا يتحقّق قطعاً إذا كان المخاطب جماداً وأنت تحسبه إنساناً، لأنّ المورد غير قابل في واقع الأمر، ولا أثر لتصوّر المنذر وحسبانه. والآيات هنا تصوّر القوم غير قابلين للإنذار واقعاً، وإن كانوا في الظاهر بشراً يمكن إنذارهم، فهذه الآية تدخل ضمن المجموعة التصويرية وتكمّلها، ببيان أنّ هؤلاء القوم ليسوا، كما يظنّ الرائي قابلين للإنذار.

وكلّ هذه الآيات تأتي في إطار إيناس الرسول صلّی الله علیه و آله من إيمانهم، وتسليته بأنّه قد أدّى ما عليه بما لا مزيد عليه.

وأمّا قوله تعالى: «مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ»، فقد قالوا: إنّ المراد من يتبّع، أو من اتّبع في علم الله، لأنّ الإنذار قبل الاتّباع، فلا يكون الاتّباع موضوعاً له.

ويمكن القول بأنّ الإنذار لا يختصّ بأصل الرسالة والإيمان بالله واليوم الآخر، بل بكلّ ما يشتمل عليه الدين من أحكام، فالذي يحصل له الخوف حقيقة ويتحقّق فيه الإنذار واقعاً، هو الذي اتّبع الذكر ورسخ فيه الإيمان. والمراد

ص: 393


1- فصلت (41): 5

ب_«الذكر» هو القرآن كما قالوا ويمكن أن يكون مطلق الذكر، أي ما يذكّر الإنسان بفطرته.

و«الخشية» هي الخوف. وقوله: «بِالْغَيْبِ» يحتمل أن يكون بمعنى خشيته تعالى في الخفاء، حيث إنّ كثيراً من الناس يتجنّبون المحرمات أمام الناس، ولا يتّقون في الخفاء. وعليه فالقيد احترازي. ويحتمل أن لا يكون احترازياً باعتبار أنّ خشية الرحمن لا تكون إلا بالغيب، كالإيمان بالغيب، أي ما لا يحسّ به الإنسان، فإنّ أساس الكمال في البشر هو ارتباطه بالغيب، فالذي يخشى الرحمن مع أنّه لا يحسّ بوجوده تعالى هو الذي يقع عليه الإنذار على حقيقته.

والتعبير ب_«الرحمن» للإشارة إلى أنّه مع رجائه لرحمته يخشاه فيكون بين الخوف والرجاء. وهذا هو الحال المطلوب للمؤمن .

«فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَريمٍ» قرن الإنذار بالتبشير، والخشية بالرحمة، ليبقى المؤمن على حالته بين الخوف والرجاء، فلا يغترّ بإيمانه ويأمن عذاب الله، ولا ييأس من رحمته تعالى.

و«البشارة» تتعلّق بنوعين من العمل لا يخلو منهما مؤمن، فهناك عمل لابدّ فيه من المغفرة، حتّى لا يكون مانعاً في سبيل الكمال، وهو الذنب صغيره وكبيره، وحتّى ما يصدر من الأنبياء والمعصومين علیهم السّلام، ممّا لا يتوقّع منهم لقربهم وجلالة قدرهم، وإن لم يكن ذلك إثماً لأنّهم معصومون بفضله تعالى. وهناك ما يعمله المؤمن من الصالحات، فيتبعه الأجر الكريم. و«الكريم» يقال لكلّ أمر قيّم كالأحجار الكريمة. وهذا الأجر لا يعرف قيمته إلا الله تعالى ولذلك جاء بلفظ النكرة، فالمغفرة لا حدود لها والأجر أيضاً لا يعرف حدوده إلا الله تعالى.

«إِنَّا نَحْنُ نُحْي الموتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ»، الإتيان بالضمير المنفصل

ص: 394

«نَحْنُ» للتأكيد على أنّ الذي يحيي الموتى ليس إلا الله تعالى. والغرض تعقيب اختلاف أحوال الناس من مطيعين وعاصين بأنّ كلّ أحد يحاسب على عمله بدقّة متناهية، فكلّ ما قدّموا من أعمال صالحة وفاسدة مكتوب مسجّل، وكلّ ما تركوا من آثار حسنة وسيّئة مكتوب مسجّل، وهذا يشمل كلّ تأثير خفيّ لعمل الإنسان لا يعلمه إلا الله تعالى، فإنّ الإنسان لا يعلم أنّ ما يصدر عنه من عمل حسن أو سيّئ، ماذا يترتّب عليه من آثار، وأين يقع في سلسلة العلل والمعلولات.

هذا، مضافاً إلى الآثار المباشرة للعمل وهو الاستنان به من قبل الآخرين، ولذلك ورد في الحديث النبوي الشريف: «من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أُجورهم شيء»(1) وعن أبي جعفر الباقر علیه السّلام: «أيّما عبد من عباد الله سنّ سنّة هدى، كان له أجر مثل أجر من عمل بذلك، و أيّما عبد من عباد الله سنّ سنّة ضلالة، كان عليه مثل وزر من عمل ذلك من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»(2) والإنسان لا يعلم الأعداد الهائلة من البشر الذين يستنّون بسنّته ويقتدون به، فيجب أن يكون القادة متيقّظين لما يصدر منهم ، وكذا غيرهم وإن قلّ المستّنون بهم، فإنّ عمل الإنسان يؤثّر في أولاده على أقلّ تقدير، فيجب الاهتمام بما نعمله جهاراً، فإنّ هذا هو الذي يستنّ به.

وكذلك العمل الصالح، فإنّ هناك من يستّنون به وإن قلّوا. وكلّ هذا مسجل عند الله وفي صحيفة آثار الإنسان، وإن لم يكن من عمله المباشر. ولذلك كانت الصدقة جهراً مطلوبة وإن كانت سرّاً أفضل، فإنّ الجهر بها يدعو الآخرين

ص: 395


1- وسائل الشيعه 15: 25
2- ثواب الأعمال: 119

للاقتداء. ومن هنا، فإنّ ما يقوله البعض - لتبرير ما يصدر منهم من إثم - بأنّا لسنا ممّن يصلح ظاهره ويفسد باطنه، خطأ فادح، فإنّ الإعلان بالإثم له خطر عظيم.

ولذلك ورد في الحديث ما يدلّ على أنّ الإثم الذي يجهر به أبعد من العفو والمغفرة ، فإنّه يقلّل من شأن التقوى، ويهوّن من فداحة الإثم في أعين الناس، ويترتّب عليه آثار سلبية كثيرة في المجتمع. والمطلوب من المؤمن أن يكون ظاهره حسناً أيضاً، بل حتّى لو لم يصلح باطنه، فإنّ إصلاح الظاهر مطلوب، والإثم في الخفاء أقرب إلى الغفران من غيره. (1)

والحاصل: أنّ هذه الآية تشتمل على تخويف عظيم من آثار العمل، وربّما لا يترتّب على بعضها العقاب، كما لو لم يكن ما صدر منه جهراً، ولكن علم به بعض الناس فاقتدى به، أو أثر ذلك في ضعف إيمانه، أو ترتّب عليه في سلسلة العلل والمعلولات آثار سلبية غير مقصودة ولا متوقّعة. ولكنّ الآية مطلقة وتدلّ على أنّ كلّ هذه الآثار مسجّلة، ولا يبعد أن تكون مؤثرّة في ما يحصل للإنسان من مقام عند الله وإن لم يكن موجباً للعقاب، فإنّ لكلّ أحد مرتبة، سواء كان في الجنّة أو فى النار.

قال تعالى: «أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ الله كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ»(2)، وكذا غيرها من الآيات التي تدلّ على

ص: 396


1- ففي الحديث عن رسول الله صلّی الله علیه و آله: «كلّ أُمتي معافى إلا المجاهرين الذين يعملون العمل بالليل، فيستره ربِّه، ثم يصبح فيقول: يا فلان إني عملت البارحة كذا وكذا» (كنز العمّال 4: 239)، وعن أمير المؤمنين علیه السّلام: «مجاهرة الله سبحانه بالمعاصي تعجل النقم» (غرر الحکم و دررالکلم: 707) وعن الإمام الرضا علیه السّلام: «المذيع بالسيئة مخذول، والمستتر بالسيئة مغفور له» (الكافي 2: 428)
2- آل عمران (3): 162 - 163

ذلك. والدرجة تتغيّر حتّى لو كان العمل غير موجب للعقاب أو كان معفواً عنه، فلنكن على حذر من أعمالنا.

«وَكلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُبين»، «الإحصاء» أي العدّ التامّ قال تعالى: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوهَا»،(1) وهذا مأخوذ من الحصى حيث كانوا يعدّون بها الأشياء. والمراد ب_«كلُّ شَيءٍ» كلّ أعمال الإنسان فإنّ الشيء يتحدّد بتناسب المقام كقوله تعالى في قصّة ملكة سبأ: «وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ»(2)، أي ممّا يناسب شأن الملوك إذ لم توت كلّ شيء قطعاً. و«الإمام» هو القدوة. والعرب تعبّر عن الشاقول بالإمام، لأنّ البنّاء يتبعه ويقتدي به في رصّ لبنات البناء. ولا يختصّ ذلك بالإنسان، كما ربّما يتوهّم. والظاهر أنّه هنا هو الكتاب الذي يسجّل فيه كلّ الأعمال صغيرها وكبيرها. والتعبير عنه بالإمام باعتبار أنّه يحدّد مصير الإنسان فهو كالشاقول. وتوصيفه ب_«المبين» تأكيد على أنّه يظهر كلّ شيء، ولا يخفي منها شاردة ولا واردة، قال تعالى: «وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مَا هِذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» . (3)

وليس المراد ب_«الكتاب» ما يُكتب فيه من الورق، كما يتوهّم، وليس مجازاً أيضاً ، بل الكتاب هو المجموعة. ولذلك يعبّر عن القرآن بالكتاب قبل أن يكتب في صحيفة. ولا يبيّن القرآن أنّ هذه المجموعة من الأعمال المسجلة كيف تظهر في تلك النشأة، وإنما بيّن أن نفس الأعمال حاضرة، كما ورد في موارد عديدة، ومنها هذه الآية حيث قال: «وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً».

ص: 397


1- إبراهيم (14): 34
2- النمل (27): 23
3- الكهف (18): 49

سورة یس (13-19)

«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)»

«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَاب الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ»، الظاهر أنّ الضمير في قوله تعالى «وَاضْرِبْ لَهُمْ» يعود إلى نفس المذكورين سابقاً وهم أهل مكّة.

وربّما يتساءل: ما هو الوجه في أمر الرسول صلّی الله علیه و آله أن يضرب لهم مثلاً في الإنذار والتبشير، بعد ما مرّ من التأكيد على عدم الجدوى في إنذارهم بالأمر؟

لعلّ الوجه فيه أمران:

الأوّل: أنّ الإنذار لا بدّ من أن يستمّر وإن لم يؤمنوا ويئس الرسول من إيمانهم، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة ولتتمّ الحجّة عليهم.

والثاني: أنّ القول إنّما حقّ على أكثرهم، فهناك قليل يؤمل منهم الخير.

ومعنى قوله تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً» أي ومثّل لهم مثلاً، فإنّ «الضرب» بمعنى التمثيل، كما يقال: هذا من هذا الضرب، أي من هذا المثال.

ويحتمل في التمثيل احتمالان

الأوّل: أن يكون المثال مثالاً لهم، فيكون الجار والمجرور «لَهُمْ» متعلّقاً بالمثل. والمعنى: أنّ مثلهم كمثل أصحاب القرية، فيكون كقوله تعالى: «مَثَلُهُمْ

ص: 398

كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً»(1) ووجه الشبه أنّهم كفروا كهؤلاء، وأتوا بحجج واهية، نظير ما تفوّه به هؤلاء، ولم يؤمن منهم إلا القليل، بل لم يؤمن إلا رجل واحد فقط.

والثاني: أن تكون «لَهُمْ» متعلّقاً بالضرب، أي اذكر لهم مثلاً يمثّل الكافرين والمؤمنين.

و«القرية» كلّ ما يجتمع فيه جمع من البشر، وقرى الشيء أي جمعه. وقيل: إنّ المراد بها أنطاكية، وقيل غيرها. ولا يهمّ ذلك ولا يصحّ ما ورد فيه من الأقاصيص، والمهمّ أن نستعبر بالمثل. وقوله تعالى: «إِذْ جَاءَهَا المُرْسَلُونَ» ظرف لكونهم مثلاً. والضمير يعود إلى القرية.

«إذ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ»، «إذ أَرْسَلْنا» ظرف أيضاً، وبدل من الظرف السابق، وهو بيان تفصيلي لإرسال الثلاثة، فالقوم جاءهم ابتداءً رسولان. وهو بنفسه غريب ويدلّ على أهميّة هذه القرية نظير إرسال موسى وهرون علیهماالسّلام إلى فرعون، بل إنّ إرسال هارون كان بطلب من موسى عليهماالسّلام لا ابتداءً، كما هو ظاهر الآية هنا، بل زادت هذه القرية بتعزيز الرسولين بإرسال رسول ثالث بعد أن كذّبوهما.

و«التعزيز» التقوية والمنع والنصرة. وظاهر الآية وما بعدها أنّهم رسل الله سبحانه وإن لم يكونوا أصحاب شرائع، ولكن بعض الروايات تقول: إنّهم أرسلوا من قبل عيسى علیه السّلام. وليس في ذلك ما يعتمد عليه.

«فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ»، هذا ليس بالطبع نقلاً حرفياً لكلامهم، خصوصاً بعد

ص: 399


1- البقرة (2): 17

أن كذّبوهما، فجاء الثالث يعزّزهما، فلا بد من أن تكون هناك مقدّمات ومحادثات طويلة، ومطالبة من القوم بالدليل والآية. ولا بدّ من إتيانهم بمعجز يدلّ على ارتباطهم بالله تعالى.

فالمراد بهذه الآية ذكر مقدّمة تبيّن عرضهم للرسالة تمهيداً لبيان ردّ فعل القوم وهو المذكور في الآية التالية.

«قالُوا ما أنْتُمْ إلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَىءٍ إِنْ أَنتُم إلا تَكْذِبُونَ»، ثلاث جمل أجابوا بها دعوة الرسل:

الأُولى: «ما أنتُمْ إلا بَشَرٌ مِثْلُنا» وهذا الاعتراض ممّا يدلّ على أنّهم أُرسلوا من قبل الله تعالى، إذ لو كانوا من قبل عيسى علیه السّلام لم يكن وجه للاستغراب.

وهكذا واجه القوم رسل ربّهم، كعادة من قبلهم ومن بعدهم، وردّوا الدعوى المدعومة بالآيات والمعجزات بالقول المتكرّر : «ما أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا».

وهذا الاعتراض يشتمل على جزء آخر منطو في كلامهم، وهو أنّ الله تعالى لا يرسل بشراً برسالته، إذ لا فرق بين بشر وبشر، فلو كان البشر لائقاً لرسالة السماء لكان الأجدر بها رجل منّا عظيم له مال وولد وجاه في العشيرة! وقولهم: «مِثْلُنَا» يقصدون بها أنّهم مثلهم في البشرية لا أنّهم لا يملكون مميّزات. والغرض أنّ الرسول يجب أن لا يكون من البشر، كما قاله سائر الأقوام.

والبشر منذ قديم الأيّام يواجه رسالات السماء بهذا الاستبعاد المتكرّر، وكأنّ بعضهم يوصي إلى من بعده، كما قال تعالى: «أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ»(1)، ويستغربون من أن يرسل الله تعالى بشراً مثلهم رسولاً إليهم، حيث إنّهم ينظرون

ص: 400


1- الذاريات (51): 53

إلى أنفسهم، فلا يجدون فيها قابلية الرسالة ويحكمون على كلّ البشر بمثل ذلك. وهذا هو القياس الباطل الذي يختاره كثير من المتفقّهة أساساً لاستنباط الحكم الشرعي!

والجملة الثانية : «ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ» وبذلك ينكرون الشريعة. ولعله بدليل أنّ الله تعالى لم يرسل ملكاً إلينا، فلم ينزل شريعة وتركنا نعمل ما نشاء.

ثمّ إنّ التعبير ب_«الرحمن» إن كان من القوم، فلعلّهم أرادوا القول بأنّ الله تعالى رحيم بعباده فيتركهم وشأنهم، وهذا ما يكرّره بعض من لا يسعه إنكار الربّ في هذا العصر تقليداً، لا عن علم، ولكنّه لا يريد متابعة الشريعة التي تقيّد حرّياته، فيقول: إنّ الله تعالى رحيم بعباده، فلا يمكن أن يذهب بهم إلى النار لمجرّد أنّهم عصوه أو ارتكبوا الآثام واتّبعوا الشهوات!!

ويمكن أن يكون وصف «الرحمن» في الحكاية، فهم نفوا أصل الإنزال من قبل الربّ جلّ وعلا، دون توصيفه بالرحمن، والله سبحانه في حكاية قولهم يأتي بهذا الوصف إيذاناً بالردّ عليهم، فإنّ رحمته تعالى تقتضي أن ينزّل على عباده ما يسلك بهم سبيل السعادة.

والجملة الثالثة: «إِنْ أنْتُمْ إلا تَكْذِبُونَ» وهذه نتيجة الجملتين السابقتين. و «إن» نافية وهي مع «إلا» تفيد الحصر أي ليس لكم شأن في هذا المقام إلا الكذب.

«قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لمُرْسَلُونَ»، استشهدوا بعلم الله تعالى وهو بمنزلة الحلف، ولذلك صدّر الخبر بلام القسم. ولم يأت هذا التأكيد في إعلانهم الأوّل وإنّما أتى في الإعلان الثاني، لأنّه كان بعد التكذيب.

وربّما يستغرب الاستشهاد والحلف بأنّهما لا يفيدان شيئاً في مقام الاحتجاج.

ص: 401

وأُجيب عن ذلك بأنّ الاستدلال إنّما هو في قولهم: «وَما عَلَيْنا إلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» حيث إنّ البلاغ لا يكون مبيناً إلا إذا سانده دليل وآية.

وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله والمعنى إنّا مرسلون إليكم صادقون في دعوى الرسالة ، ويكفينا في ذلكم علم ربّنا الذي أرسلنا بها، ولا حاجة لنا فيه إلى تصديقكم لنا، ولا نفع لنا فيه من أجر ونحوه ولا يهمّنا تحصيله منكم، بل الذي يهمّنا هو تبليغ الرسالة وإتمام الحجّة. (1)

والتكلّف فيه ظاهر، واستخراج هذه المجموعة من الأهداف من هذه العبارة غريب، مضافاً إلى أنّ ظاهر العبارة أنّه بمنزلة القسم، كما ذكره العلامة أيضاً، وما ذكر لا يحتاج إلى القسم.

ويمكن أن يقال: إنّ هذا نظير الاكتفاء بشهادة الله على الرسالة، كما قال تعالى: «وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِالله شَهِيداً»(2)، وقال أيضاً: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ»(3)، وغير ذلك، وهي كثيرة. والظاهر أنّ المقصود بهذا البيان هو التهديد والوعيد بنزول العذاب، كالآية التالية وليس المقصود الاستدلال.

«وَما عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغ المُبينُ»، الظاهر أنّ هذه الجملة أيضاً يقصد بها التهديد، وتقريره: أنّا قد بلّغناكم غاية التبليغ وجئناكم بالآيات والبراهين ونوكّل الأمر بعد ذلك إلى الله تعالى، حيث كان القوم يعترفون بالله ويخافون سطوته، وقد سمعوا أنباء الأُمم السابقة.

ص: 402


1- الميزان في تفسير القرآن 17: 74
2- النساء (4): 79
3- الرعد (13): 43

«قالوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ»، التهديد الظاهر في لحن الجملتين السابقتين آثار غضب القوم وحفيظتهم ، فاستندوا إلى قوّتهم وهدّدوا رسل الله، ولكنّهم مهّدوا للتهديد باختلاق حجّة يبرّر لهم التعذيب، فقالوا إنّا نتشاءم بكم ونظنّ أنّ ما يصيبنا من البلاء إنّما هو من شؤمكم وشؤم دعوتكم، فلئن لم تنتهوا عن ذلك، لنرجمنّكم وننزّل بكم عذاباً أليماً. و«الرجم» هو الضرب بالحجارة وفي ذلك من التحقير والهتك ما لا يخفى.

و«التطيّر» مأخوذ من الطير، حيث كان العرب يتشاءمون ببعض الطيور كالغراب ويسمّونه غراب البين، أو يتشاءمون بحالات خاصّة للطير، كعبوره عن الجانب الأيسر، ومن هنا عبّر عن كلّ تشاؤم بالتطيّر. (1)

وهذه المواجهة أيضاً ممّا تداولته الأقوام، قال تعالى حكاية عن قوم فرعون: «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطْبُرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ»(2) ، وقبلهم قوم ثمود قال تعالى: «قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ»(3) وهذه حيلة من يعجز عن مقابلة الدليل والبرهان، فيتشبّث بالاتّهامات الواهية التي لا يمكن إثباتها، أو بالاستهزاء والسخرية.

«قالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ»، أي ما ينبغي أن تتشاء موا به أو ما هو سبب للشؤم واقعاً معكم، فعبّروا عن ما هو سبب الشؤم والشقاء بالطائر من باب المقابلة ومجاراة الخصم في التعبير، والمراد به أعمالهم، فالعمل هو السبب في الشؤم والشقاء.

ص: 403


1- كما ورد في «لسان العرب»: وقيل للشَّؤْم طائرٌ وطَيْرٌ وطيَرَة، لأنّ العرب كان من شأنها عيافةُ الطَّيْر وزَجْرُها، والتَّطَيُّرُ بِبَارِحها ونَعيقِ غُرابها وأخْذِها ذَاتَ اليَسار إذا أثارُوها، فسمّوا الشَّؤْمَ طَيْراً وطائراً وطيرَةً لتشَاؤُمهم بها. (لسان العرب 4: 512)
2- الأعراف (7): 131
3- النمل (27): 47

ولعلّ من هذا الباب قوله تعالى: «وَكُلَّ إنسان أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ» (1). وقيل: «الطائر» بمعنى الحظّ أو الشؤم نفسه.

«أئِنْ ذُكِّرْتُمْ»، «الهمزة» للاستفهام الإنكاري، وجواب الشرط محذوف، أي: أئن ذكرتم بما تدعوكم إليه فطرتكم كذّبتم واستهزأتم وتشاءمتم وتطيّرتم؟! أهذا هو جواب المنطق والبرهان؟! والتعبير ب_«التذكير» يفيد أنّهم كانوا يعرفون الحقّ بفطرتهم، ولكنّهم غفلوا عنه أو تغافلوا.

«بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ»، أي تجاوزتم الحدّ واستكبرتم وطغيتم. و«الإسراف» التجاوز عن الحدّ في أي شأن من الشؤون. و«بل» للإضراب، أي ليس الأمر كما تزعمون من التشاؤم، بل الشؤم أتاكم من إسرافكم.

ص: 404


1- الإسراء (17): 13

سورة يس (20- 29)

«وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)»

«وَجاءَ مِنْ أَقْصَا المدينةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ»، «أَقَصَا المَدِينَةِ» أي أبعد مكان منها بالنسبة إلى موضع اجتماع الرسل والقوم. والمعنى أنّ الرجل جاء إلى مجمع الرسل والقوم راكضاً مسرعاً، حيث كان بعيداً عنهم، والظاهر: أنّ الهدف من ذلك تصویر اهتمامه بالإسراع إلى الوصول، وكأنّه يتوقّع كارثة، فهو يحاول تفاديها. ولا يبعد أنّ السبب هو الخوف من نزول العذاب. وهذا يؤيّد ما ذكرناه من في أنّ استشهادهم بعلم الله تعالى تهديد منهم، فكأنّ الخبر وصل إلى الرجل المؤمن، فحاول أن يمنع من وقوع الكارثة.

وقيل: إنّ الهدف بيان أنّه إنّما حضر الموقف وشهد للمرسلين ابتداءً من دون تواطؤ. ولكنّ هذا إنّما يوجّه التركيز على كون المجيء من أقصى المدينة ولا يوجّه السرعة.

وقد اعتبر هذا الرجل - على ما في الحديث - من سبّاقي الأُمم إلى الإيمان. وقد روى ذلك جمع من العامّة عن رسول الله صلّی الله علیه و آله بألفاظ مختلفة منها: «سبّاق

ص: 405

الأُمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: عليّ بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون. فهم الصدّيقون وعلى أفضلهم».(1)

والحاصل: أنّه حضر الموقف وخاطب قومه، فقال لهم: «يا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ»، فشهد بذلك لهم أنّهم مرسلون من قبل الله تعالى وخاطبهم بقوله: «يا قَوْمِ»، أي يا قومي، لإثارة عواطف القرابة، وليبيّن لهم أنّه ناصح لهم ولا يريد لهم إلا الخير، لأنّهم قومه وعشيرته.

«اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ»، استدلّ الرجل الناصح على رسالتهم بأنّهم لا يسألون أجراً على ذلك، وأنّهم في نفس الوقت مهتدون. وهو بذلك يبيّن مقياس وجوب الاتّباع وهو أن لا يكون للداعي مصلحة مادّية، ويكون في نفس الوقت مهتدياً يدعو إلى الخير ويمنع من الشرّ.

والجملة «وَهُمْ مُهْتَدُونَ» حالية، والمراد تقييد اتّباع من لا يسأل أجراً بأن يكون مهتدياً يدعو إلى الخير، فإنّ من غريب أطوار البشر أنّ هناك أُناسا يتبرّعون بأموالهم ويتعبون أنفسهم في سبيل إغواء الناس، وإبعادهم عن الخير والصلاح، وهم شياطين الإنس. قال تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ هُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ»(2).

والدافع النفسي لذلك هو جمع أكبر عدد ممكن من الناس حول ما يستهويه من مبدأ أو حزب أو نحو ذلك، خصوصاً إذا كان ممّا لا يقبله العقل أو الفطرة، والإنسان يستوحش من قلّة الأصحاب.

ص: 406


1- الرياض النضرة 1: 157؛ المجمع الزوائد 9: 102؛ الكفاية، الكنجي: 106
2- لقمان (31) : 6

إذن فلا يكفي لوجوب الاتّباع كونه متبرّعاً في دعوته، بل يجب أن يكون في نفس الوقت بيّن الهداية. وهكذا كانت دعوة الأنبياء علیهم السّلام . وقد مرّ أنّ قوله تعالى: «عَلَى صِرَاطٍ مُستَقِيم»(1) لا يبعد أن يكون تنكيره إشارة إلى وضوح استقامته. وأمّا كون الأنبياء متبرّعين بدعوتهم، فهو واضح . وقد تكرّر في الكتاب العزيز قوله تعالى عن لسان الرسل : «لا أسْأَلُكُم عَلَيهِ أجْراً»(2) وبعبارات مختلفة.

بل كان من الواضح أنّهم حتّى بعد تمكّنهم من الدنيا، كانوا يعيشون عيشة الزهد وترك الملذّات. ناهيك في ذلك سيرة الرسول الأكرم وقد بني مسجده أوّل ما ورد المدينة بدون سقف، ثمّ اشتدّ عليهم الحرُّ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ الله لَوْ أظللت عَلَيْهِ ظلاً، فَرَفَعَ أساطينَهُ في مُقَدَّمِ الْمَسْجِد إلى مَا يَلِي الصَّحْنَ بالْخَشَب، ثمّ ظَلّله وَ ألْقَى عَلَيْهِ سَعَفَ النَّخْلِ فَعَاشُوا فِيهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله لَوْ سَقَفْتَ سَقْفاً، قَالَ: «لا عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى الأمر أعْجَلُ مِنْ ذَلِك».(3) وكان يركب الحمار ويردف معه، وكان يجلس على الأرض ويأكل مع العبيد،(4) وحينما توفّي كان عليه دين في مؤونة عياله.

وفي الحديث عن العيص بن القاسم قال: قلت للصادق علیه السّلام حديث يروى عن رسول أبيك أنّه قال: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه و آله من خبز برّ قط، أهو صحيح؟ فقال: «لا!

ص: 407


1- يس (36): 4
2- الأنعام (6): 90؛ هود (11): 51؛ الشورى (42): 23
3- بحار الانوار 19: 112
4- وكان النبي صلّى الله عليه و آله يرقع ثوبه ويخصف نعله ويحلب شاته ويأكل مع العبيد ويجلس على الأرض و یركب الحمار ويردف ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجته من السوق إلى أهله». (إرشاد القلوب (الديلمي): 115؛ وسائل الشيعة 5: 54)

ما أكل رسول الله خبز برّ قطّ، ولا شبع من خبز شعير قطّ».(1)

وفي «الميزان» وغيره أنّ هذا المؤمن الناصح إنّما بيّن بهذا الكلام أنّ المانع من الاتّباع إمّا كون الداعي ضالاً ويدعو إلى ضلال، أو أنّه يدعو إلى هداية، ولكنّه يطلب بذلك أجراً. (2)

ولكنّ الذي يظهر من الآية أنّه إنّما بين مناط وجوب الاتّباع لا موانعه، إذ لم يرد في كلامه النهي عن الاتباع، بل الأمر به، مضافاً إلى أنّه لا مانع من متابعة من يدعو إلى هداية ولكنّه يطلب على ذلك أجراً.

«وَما لِيَ لا أعْبُدُ الَّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» يستدلّ هذا المؤمن الصالح في هذه العبارة على ربوبية الله تعالى ولزوم عبادته بأنّه الخالق وإليه المرجع، وأنّ ما عداه لا يضرّ ولا ينفع. و«الفطر» هو الشقّ، وعبّر به عن الخلق الأوّل والإبداع من دون مثال، ومن دون مادّة سابقة، كأنّ الخالق جلّ وعلا شقّ العدم وأظهر الوجود.

وبيّن بالجملة الأُولى - أي هذه الآية - إيمانه بأنّ الله تعالى هو المبدأ والمعاد، وأنّ ذلك هو مناط أهلية العبادة. ويقابل بذلك الاعتقاد الوثني السائد آنذاك بأنّ العبادة تخصّ من يتوقّع منه نفع أو ضرر في هذه الحياة، فهو يعلن بهذه الجملة خطأهم، وأنّ الذي يستحقّ العبادة هو الخالق الذي إليه نعود. ثمّ في الجملة التالية - أي الآية التالية - أفاد أنّ الضرر والنفع أيضاً لا يكونان إلا منه تعالى.

ص: 408


1- روضة الواعظين: 456؛ وسائل الشيعة 24: 244 . و في رواية أُخرى كان يأكل خبز الشعير غير منخول وما أكل خبز برّ قطّ ولا شبع من خبز الشعير قطّ». (وسائل الشيعة 24 : 435)
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 17: 76

بل إنّ التأمّل في التعبير يقضي بأنّه لم يرد حصر استحقاق العبادة في الله تعالى حيث ذكر مناط العبادة، أراد بيان وجوب عبادة الله تعالى أيضاً، وذلك لأنّ الاستفهام في قوله: «وَما لِي لا أَعْبُدُ الَّذى فَطَرَني»، إنكاري، فهو يستنكر من نفسه عدم العبادة، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت العبادة واجبة عقلاً.

ووجه ذلك، أنّ الفطرة تدعو الإنسان إلى لزوم العبادة والتذلّل أمام الذي خلقه من العدم، وذلك لأنّه يملكه ملكية حقيقية، لا ملكية اعتبارية يحكم بها نظام المجتمع لمصالح الإنسان، فإنّ وجوده متقوّم بإرادة الخالق، لأنّه لم يخلقه من شيء فلا أصل له إلا إرادة الله تعالى. وهذا يستفاد من التعبير بالفطر كما أسلفنا.

هذا من جهة. ومن جهة أُخرى، فإنّ الرجوع إنّما هو إليه تعالى، والإنسان مسؤول أمامه عن كلّ أعماله، ويجازى عليها في حياة أبدية. وهذا أيضاً يقتضي عبادته تعالى، ليضمن الإنسان سعادته الأبدية.

ويلاحظ وجود فرق بين الجملتين في الضمير ، فأتى في الجملة الأُولى بضمير المتكلّم وفي الجملة التالية بضمير الجمع المخاطب، فلم يقل: «الذي فطرني وإليه أرجع» ولا «الذي فطركم وإليه ترجعون».

ولعلّ الوجه فيه أنّ الوصف الأوّل يشير إلى أنّ مقتضى الفطرة التي يحسّ بها كلّ إنسان، هو التذلّل لله تعالى، فلا يتوقّف الأمر إلا على الرجوع إلى الضمير والوجدان، فهو يرجع في ذلك إلى نفسه وينبّه كلّ أحد أن يرجع إلى ضميره ليشعر بلزوم عبادة من أنشأه من العدم، بخلاف الأمر الثاني وهو الرجوع إلى الله تعالى، فإنّه لا يعلم بذلك، بل بأدلّة خاصّة، ولذلك أبدل وجه الخطاب وأتي

ص: 409

بضمير المخاطب، وفيه أيضاً إشارة إلى ردّ ما زعمه الوثنيون من إنكار الآخرة.

ولم يقل: «ترجعون» - بفتح التاء - بل بضمّه، للتأكيد على أنّ ذلك يحصل رغماً عليكم، فإنّ الذي خلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، وبعث إليكم الرسل وأنزل الشرائع، لم يخلقكم سدى.

«أأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةٌ إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٌ لا تُغْنِ عَنِّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا»، ثمّ عرّج على التنديد بعبادة غيره، مهما كان واختار أيضاً صيغة التكلّم عن نفسه مع الاستفهام الإنكاري - كالجملة السابقة - إيذاناً بأنّ ذلك أيضاً ممّا يقتضيه العقل والوجدان البشري، وكيف يعبد الإنسان ويتذلّل أمام موجود ضعيف لا يضرّه ولا ينفعه، وهو أقوى منه ؟!

و «اتّخاذ الإله» تعبير عن العبادة والتذلّل، فإنّ الإله هو المعبود. ثمّ إنّه نفى عنهم أيّ فائدة حتّى بالشفاعة، فلا هم ينقذونه من هذا الضرّ ولا بإمكانهم أن يشفعوا لدى الله تعالى، لأنّ المفروض أنّه أراد به الضرّ ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، وليس هناك شفاعة يقابل ما أراد الله تعالى.

ولعلّ التعبير ب_«الرحمن» في الآية للإشارة إلى أن إرادة الضرّ منه جزء من رحمته الواسعة العامة التي هي المستفادة من صيغة الرحمن، وإن كان الأمر بالنسبة إلى الشخص ومصالحه الخاصّة مضرّاً.

«ولا ينقذون» بكسر النون. أي لا ينقذوني من الضرّ الذي أراده لي الله تعالى.

«إِنِّي إذاً لفى ضَلالٍ مُبين»، «إذاً» ظرف، أي إنّي لو فعلت ذلك لكنت في ضلال مبين. وإنّ هذا لضلال بيّن واضح أن يترك الإنسان عبادة ربّه الذي خلقه وبيده الأمر وإليه المرجع، ويعبد ما لا يضرّ ولا ينفع.

ص: 410

«إِنِّى آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ»، قال بعض المفسّرين: إنّ هذا خطاب للرسل. وهو بعيد والسياق لا يلائمه. وكأنّ الذي اضطرّهم إلى ذلك، التعبير ب_«ربّكم»، واستبعدوا أن يخاطب القوم بذلك. ولا وجه للاستبعاد وقد ورد حكاية قول موسی علیه السّلام في قوله تعالى: «وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ»،(1) فالظاهر أنّه استمرّ في خطابه للقوم مجاهراً بإيمانه، متحدّياً جبروتهم وتهديدهم بالرجم، ومركّزاً على التعبير بأنّ الذي آمن به، هو ربّهم وأنّه لا يخافهم، فليسمعوا له وليعملوا ما يشاؤون.

«قيلَ ادْخُلِ الجنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمى يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لى رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ»، لم يرد في الآيات تصريح بمصير هذا المؤمن، ولكن يظهر من هذه الآية وما تليها أنّهم قتلوه، حيث ابتدأ بالأمر بدخول الجنّة، ممّا يدلّ على موته، ثمّ ذكر أنّه لم يمهلهم بعده، بل أنزل عليهم العذاب، فيستفاد منه أنّه استشهد على أيديهم رضوان الله عليه.

ولا غرابة في الخطاب بعد القتل: «ادْخُلِ الجنّة»، فقد قال تعالى: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».(2)

ولكنّه بالرغم من ظلمهم له بقي الناصح الأمين لهم، حتّى في تلك النشأة، فتمنّى لو كانوا يرون مكانه ويعلمون بمغفرة الله له وإكرامه إيّاه، وإنّما تمنّى ذلك، ليكون حافزاً لهم على الإيمان بالله.

ولذلك ورد في الحديث أنّه نصح قومه حيّاً وميّتاً. والنصح هو الإخلاص.

ص: 411


1- الدخان (44): 20
2- آل عمران (3): 169

و «ما» في قوله: «بما غَفَرَ لِى» مصدرية، أي بغفرانه لي. وقدّم الغفران على الإكرام، لأنّ العبد لا يليق بإكرام ربّه حتّى تماط عنه الذنوب بمغفرته.

ولم يقل «وأكرمني» لئلا يتلفّظ بما يدلّ على الغرور وكأنّ الإكرام خاصّ به، بل قال: «جَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ» وهم جمع كثير . ومن جهة أُخرى فإنّ المؤمن يفرح بأن يكون في جمع الصالحين الذين أكرمهم الله تعالى فهو بذاته نعمة ومزيّة.

«وَما أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدِ مِنَ السَّماءِ». لم يرد في الآيات مصير الرسل أيضاً إلا أنّه ربّما يستفاد من قوله تعالى: «عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ» أنّهم لم يصبهم شيء، حيث لم يقل من بعد الرسل، ولعلّ المؤمن أشغلهم بنفسه لينجو الرسل.

وعلى كلّ حال، فلم يكن مصير القوم إلا عذاب الاستئصال الذي أبادهم جميعاً. وتدلّ الآية على عظم منزلة الرجل عند الله تعالى حيث لم يمهلهم، بل أنزل عليهم العذاب فوراً، كما تدلّ على عدم الاهتمام بشأنهم، فلم يكن الأمر بحاجة إلى إنزال جنود للمقابلة، بل تكفيهم صيحة واحدة تهلكهم جميعاً.

«وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ»، أي ما كان ينبغي أن ننزّل جنوداً، فأمرهم أهون من ذلك. والظاهر أنّ الغرض من هذه الجملة تعميم الحكم ليشمل مشركي مكّة والجزيرة العربية، ليتمّ بذلك تحذيرهم من العذاب المهين. وكذلك غيرهم من الأقوام السابقة، فإنّ نزول الملائكة لم يكن للمقابلة، بل لإنزال العذاب، فإنّ الصيحة والرجفة ونحوهما إنمّا كانت تتحقّق بواسطتهم.

«إِنْ كانَتْ إِلا صَيْحَةً واحِدَةً فإذا هُمْ خامِدُونَ»، أي لم تكن النازلة أو الحادثة إلا صيحة واحدة. ثمّ إنّ الصيحة ورد ذكرها في موارد عديدة، كنوع من عذاب الاستئصال. والظاهر أنّ المراد بها هو الصوت الهائل، ولا يدلّ على أنّ الصوت

ص: 412

هو الذي تسبّب في هلاكهم ، فلعلّه كان صوت الصاعقة أو الزلزال أو الخسف أو غير ذلك، إلا أنّ التعبير بما يدلّ على الصوت يهدف إلى بيان سرعة الإبادة وعدم الإمهال، وهذا يتبيّن بوضوح إذا أُسند الهلاك إلى مجرّد الصوت وإن كان مصاحباً للسبب الواقعي. هذا، ويمكن أن يكون نفس الصوت أيضاً موجباً للهلاك، كما يدمّر المباني.

و«إذا» فجائية، تدلّ على سرعة تحقّق الهلاك العامّ بسبب الصيحة. و«الخمود» بمعنى انطفاء النار وسكون الشيء المتحرّك، ويكّنى به عن الموت.

وربّما يظهر من بعض الآيات أنّ العذاب في بعض الأقوام كان متعدّد الوجوه، فقد ورد بأنّ عذاب ثمود كان الرجفة أي الزلزال (1)، وكذلك بالنسبة لقوم شعيب(2)، مع أنّ الوارد في سورة هود فيهما الصيحة (3)، وفي سورة فصّلت أنّ عاداً وثمود أُهلكوا بالصاعقة(4). والجمع بين الآيات يقتضي أن يقال: إنّ الصيحة تصاحب كلاً من الرجفة والصاعقة، كما أنّه يمكن أن يجمع بين نوعين من العذاب: «الرجفة» و«الصاعقة» أو يكون المراد ب_«الرجفة» الزلزال الحادث من الصاعقة، فتكون هي العذاب الأصل.

ص: 413


1- راجع: الأعراف (7): 78
2- راجع: الأعراف (7): 91
3- راجع: هود (11): 67 و 94
4- راجع: فصلت (41): 13

سورة یس (30- 32)

«يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)»

«يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ»، بعد الانتهاء من ذكر المثال - وهو حديث أصحاب القرية - جاء بهذا التعقيب المناسب لتعمّ النتيجة. «يا حَسْرَةً» نداء للحسرة والتأسّف، كأنّك تنادي الحسرة بأنّ هذا موضعك. وهذا من كلام الله سبحانه ولا يلزم منه أن ينسب التأسّف إليه تعالى وهو منزّه عنه، بل المراد إنشاء أنّ هذا موضع أسف الآسفين. والتركيز على كلمة «العباد» للإيذان بأنّ كونهم عباداً لله الذي أنعم عليهم ببعث الرسل، ادّعى للأسف، حيث قابلوا هذه النعمة بتكذيب الرسل، بل الاستهزاء بهم.

ومن الغريب اتّفاق الأُمم على ذلك وكأنّهم تواصوا به، حتّى لم يبق رسول من رسل الله سبحانه لم يواجه هذا الاستهزاء - كما هو صريح الآية المباركة - والتعبير بأنّهم «كانوا يستهزؤون» يدلّ على الاستمرار في ذلك، وأنّه لم يكن حدثاً عابراً وإنّما كان ذلك دأباً لهم وعادة مستمرّة.

«الَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ هُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ» استفهام تقريري يطلب منهم الإقرار بأنّهم رأوا ذلك. و«القرون» المجامع البشرية، مأخوذ من قرن الشيء بالشيء إذا جمع بينهما، ويطلق على مجموعة من البشر في زمان أو في مكان، وعلى الاعتبار الأوّل يطلق أيضاً على نفس الزمان الذي يجمعهم، ثمّ اصطلح

ص: 414

على مجموعة خاصّة من الزمان، أي مائة عامّ حسب بعض المصطلحات. (1)

والمعروف في تفسير الآية: أنّه تنبيه للبشر الحاضر المخاطب أن يتّعظ بموت من قبله، فهذه القرون والمجتمعات البشرية البائدة، قد أهلكهم الله جميعاً - جماعات وفرادى - بعذاب أو بدونه، فإنّهم يجدون أنّ الذي فات ومات، لا يرجع ، فليتّعظوا بذلك وكفى بالموت واعظاً. وبناءً على هذا التفسير فقوله: «أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ» بدل عن «كَمْ أَهْلَكْنا»، أي ألم يروا أنّهم لا يرجعون إليهم. فالغرض من التنبيه هو الالتفات إلى عدم رجوع الموتى.

ولكن لا يبعد أن يكون الغرض هو التنبيه على الاتّعاظ بمصير المجتمعات التي نزل عليها العذاب الإلهي، وهو المناسب للمثال المذكور - أصحاب القرية - وكذلك للتعبير بالإهلاك. وبناءً على هذا التفسير، فلا يبعد أن يكون قوله: «أَنَّهُمْ إلَيْهمْ لا يَرْجِعُونَ» بياناً لكيفية الإهلاك، لا بدلاً عن «كُمْ أَهْلَكْنَا»، يعني أنّ الله تعالى قد أهلكهم بكيفية لا رجوع لهم، والمراد ليس رجوع الأشخاص، بل رجوع المجتمع والحضارة. فالغرض الاتّعاظ بمصير الحضارات البائدة التي أهلك الله مجتمعاتها بعذاب الاستئصال، فلم يبق لهم إلا ذكر في التاريخ أو أثر للاعتبار.

«وَإِنْ كُلّ ما جَميعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ»، أي أنّ الهلاك ليس نهاية أمرهم، بل إنّهم مجموعون ومحضرون لدينا للحساب. و«لمّا» بمعنى «إلا»، فتفيد الحصر مع «إن»

ص: 415


1- والقَرْنُ الأمَّةُ تأتي بعد الأُمّة، وقيل: مُدَّتُه عشر سنين، وقيل: عشرون سنة، وقيل: ثلاثون، وقيل: ستون، وقيل: سبعون، وقيل: ثمانون وهو مقدار التوسّط في أعمار أهل الزمان.... وقيل: القَرْن مائة سنة، وجمعه قُرُون... ابن الأعرابي : القَرْنُ الوقت من الزمان، يقال: هو أربعون سنة، وقالوا: هو ثمانون سنة، وقالوا: مائة سنة ... (لسان العرب 13: 333-334)

النافية، أي لا يشذّ منهم قرن ومجتمع، بل كلّهم يجمعون ويحضرون لدينا. و «مُحْضَرُونَ» خبر بعد خبر و «لَدَيْنا» متعلّق به. وقوله: «جَميعٌ» بمعنى مجموع، والتنوين في «كُلُّ» بدل عن القرن في الآية السابقة، أي كلّ مجتمع منهم مجموع هناك. و«محضرون» أي مقهورون على الحضور عندنا.

وتدلّ الجملة على أنّ كلّ مجموعة في الدنيا تجمع هناك أيضاً، فهناك مصير جمعي مشترك، وهناك مصير فردي لكلّ شخص. ويدلّ على هذا الأمر أنّ الكتاب أيضاً كتابان، كتاب للأُمّة، ولكلّ فرد كتاب مستقلّ. قال تعالى: «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إلى كِتَابِهَا»(1)، وأمّا ما ذكر فيه كتاب الفرد فكثير، منها قوله تعالى: «وَكُلّ إنسان أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا»(2).

ص: 416


1- الجائية (45) : 28
2- الإسراء (17): 13 - 14

سورة یس (33- 40)

«وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ(33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)»

«وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الميتة اختيْناها وَأَخْرَجْنَا مِنْها حَباً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» الضمير في قوله: «لَهُم» يعود إلى العباد. والميتة والميِتة واحد. و «الأرض الميتة» التي لم تعمر بزرع أو بناء. والآية تنبّه الإنسان وتلفت نظره إلى أقرب مسرح للحياة إليه، ليرى بأُمّ عينه - من دون حاجة إلى مجهر أو بحث علمي - أنّ الحياة تدبّ في الأرض الميتة بنزول المطر عليها، ثمّ يخرج منها الحبّ ليأكل منه الإنسان. والغرض من ذلك التنبيه على أنّ الإحياء بعد الموت أمر مستمرّ في الطبيعة وكما أنّ الله تعالى يحيي الأرض الميتة باستمرار سيحيي الإنسان بعد موته. و«الحبّ» يشمل القمح وغيره، فيمكن أن تكون «من» تبعيضية، فإنّ بعض الحبّ لا يأكله الإنسان.

وجملة: «أحْيَيْناها» يمكن أن تكون وصفية باعتبار أن الأرض وإن كانت معرفة إلا أنّها للجنس وليست مميّزة، فيجوز توصيفها. وهناك من المذاهب النحوية ما يرفض توصيف المعرفة حتّى في هذا الفرض، ويمكن اعتبارها جملة استينافية لبيان كون الأرض الميتة آية، كأنّ سائلاً يسأل: كيف كانت الأرض

ص: 417

الميتة آية؟ فيأتيه الجواب: «أحْیَيْناها»، أي بهذا الاعتبار كانت آية.

«وَجَعَلْنَا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخيِلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ» عطف على «أَخْرَجْنا»، فإنّ هذا أيضاً من نتائج الإحياء. و«الجنّة»: البستان الذي يستر شجره الأرض من جنّ بمعنى ستر. ولعلّ تخصيص الذكر ب_«النخيل والأعناب» لكثرتهما وكثرة أنواعهما ولأنّ ثمرهما من أغنى الثمار ، من حيث القيمة الغذائية، ولأنّهما ينبتان في أكثر بقاع الأرض خصوصاً العنب. و«العنب» يطلق على الشجر والثمر.

وقوله: «وَفَجَّرْنا» أيضاً عطف على «أخْرَجْنا»، لأنّ تفجير العيون أيضاً من نتائج الإحياء بإنزال المطر. وضمير «فيها» يعود إلى الأرض أو الجنّات. و«من» قيل: إنّها زائدة، أي وفجّرنا فيها عيوناً، وقيل: إنّ المفعول محذوف وهو «شيئاً» و «مِنَ الْعُيُونِ» صفته.

«لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أيْديهِم» تعليل لما سبق، والضمير في «ثَمَرِهِ» قيل: يعود إلى الجنّات بتأويل أنّها المجعول، فلذلك أفرد وذكّر، وقيل: يعود إلى الله تعالى، أي من الثمر الذي خلقه، فيكون تمهيداً لاستنكار عدم الشكر.

و «ما» يمكن أن تكون نافية، فالمراد: أنّهم يأكلون من ثمره الذي لم يعملوه بأيديهم وإن غرسوا وسقوا، وهذا الاحتمال يناسب عود الضمير إليه تعالى. ويمكن أن تكون موصولة، أي ليأكلوا من الثمر الطبيعي وممّا عملته أيديهم من تصنيع المنتوج بطبخ ، ونحوه ، فكلّه يعود إلى النعمة الطبيعية، فلا وجه لما قيل من أنّ الغرض بيان نعم الله الحاصلة بتدبيره من دون دخل لغيره.

«أَفَلا يَشْكُرُونَ» الاستفهام للاستنكار ، والفاء للتفريع، أي مع كلّ هذه النعم التي يتنعّمون بها في حياتهم ويتلذّذون ، فكيف لا يشكرون المنعم بعبادته،

ص: 418

وطلب مرضاته، والائتمار بأوامره، والابتعاد عن نواهيه، مع أنّ كلّ ذلك أيضاً لصالحهم ؟!

«سُبْحانَ الَّذى خَلَقَ الأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الأرض وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ»، «سبحان» مصدر سبّح يسبّح، أي أُسّبح سبحان الذي... وهو إنشاء تسبيح منه تعالى لنفسه، تنويهاً على تنزيهه من أن يشاركه أحد في تدبيره، فهو الخالق للأزواج كلّها. و«من» في المواضع الثلاثة للبيان، فالأزواج نبات وبشر وأُمور أُخرى لا يعلمونها.

و«الأزواج» جمع زوج، وهو كلّ ما قرن بشيء آخر، ومنه الزوجان الذكر والأُنثى. فالآية تشير إلى تركّب النبات من الذكر والأُنثى وهو أمر لم يكن يعلمه البشر في ذلك العصر إلا في بعض الأشجار كالنخل. ولا يبعد شمول «ما تنبت الأرض» للحيوان أيضاً، بل وللإنسان، كما قال تعالى: «وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً»(1)، فيكون «وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ» من ذكر الخاصّ بعد العامّ.

«وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ» إشارة إلى وجود الزوجين في أشياء أُخرى كثيرة، لم يصل إليها علم البشر في ذلك اليوم، ولعلّه لا يصل إلى بعضها أبداً ولا يختصّ ذلك بزوجية الذكر والأُنثى - كما يتوهّم - فلا مانع من شموله للزوجية في الذرّة حيث تقترن أجزاؤها التي تتشكّل منها. والزوج والزوجان: المثلان المتقارنان، ولا يطلق إلا إذا كان كلّ منهما مكمّلاً للآخر بوجه، كزوجي الباب والحذاء مثلاً.

«وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فإذا هُمْ مُظْلِمُونَ»، مجموعة آيات تشير إلى آيات الله تعالى في الكون، فمنها آية الليل والنهار وهما آيتان تتكرّران بمرور الزمان، ويمرّ عليهما الإنسان دون تأمل. والقرآن يثير الانتباه إليهما في آيات عديدة،

ص: 419


1- نوح (71): 17

ومن وجوه شتّى، فمنها ما ورد هنا حيث شبّه الليل كأنّه ملبوس بالنهار، فيسلخ الله منه النهار، كما يسلخ الجلد من الحيوان، وفجأة يغرق الناس في الظلام.

قال في «العين»: «وانسلخ النهار من الليل: خرج منه خروجاً لا يبقى معه شيء من ضوئه».(1) ومن هنا صحّ الإتيان ب_«إذا» الفجائية، فإنّ الظلام لا يفاجئ وجه الأرض، بل يأتي تدريجاً في كلّ أُفق، ولكن إذا لم يبق شيء من الضوء فاجأ الظلام. ومصحح التعبير ب_«المفاجأة» أنّه أمر غريب يحصل في مدّة قليلة، فيكون مفاجئاً لمن يلاحظ الأُفق مستمتعاً بضوء النهار.

والمتعارف في هذا التشبيه هو العكس، حيث يشبّه الليل كخيمة مطبقة على الأرض. ولعلّ الغرض الإشارة إلى أنّ الأصل فى الكرة الأرضية هو الظلام وأنّ الضياء يعرض عليها من الشمس فالنهار هو العارض الذي يسلخ وليس معنى ذلك أنّ الليل سابق على الأرض زماناً، بل المراد أن الضياء هو الذي يحتاج إلى موجب.

ويأتي في جملة: «نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ» ما مرّ من الوجهين في جملة: «أحْيَيْناها» من كون الجملة استينافية لبيان كون الليل ،آية، أو وصفية باعتبار كون الليل جنساً.

وقوله: «مُظْلِمُونَ»، أي داخلون في الظلام، كقولهم أصبح أي دخل في الصباح.

«وَالشَّمْسُ تَجْرى لِمُسْتَقَرٌّ لَها»، قديماً كان المفسّرون يفسّرون هذه الآية بما يبدو للإنسان من جريان الشمس حول الأرض في كلّ يوم، ويفسّرون «المستقرّ»

ص: 420


1- العين 4: 198

بوجوه ،غريبة، أقربها أنّ المراد هو مدارها المتغيّر صيفاً وشتاءً.

وهناك روايات غريبة حول مستقرّ الشمس، منها ما رواه القوم في صحاحهم، وننقل هنا ما رواه الآلوسي في «روح المعاني» قال: وفي غير واحد من الصحاح، عن ابي ذرّ رحمه الله قال: كنت مع النبي صلّی الله علیه و آله في المسجد عند غروب الشمس، فقال: «يا أباذرّ أتدري أين تذهب هذه الشمس؟» قلت: الله تعالى ورسوله أعلم. قال: «تذهب لتسجد، فتستأذن، فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله عزّ وجلّ: «وَالشَّمْسُ تَجْرِى مُسْتَقَرٌ لَهَا»».(1)

وفي رواية: «أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟» قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم. قال: «إنّ هذه تجري حتّى تنتهي إلى مستقرّها تحت العرش فتخرّ ساجدة».(2) الحديث.

وفي ذلك عدّة روايات، وقد روي مختصراً جدّاً. وأخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذرّ قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه و آله عن قوله تعالى: «وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٌّ لَهَا» قال: «مستقرها تحت العرش». فالمستقر اسم مكان، والظاهر أنّ للشمس فيه قراراً حقيقة. (3)

وارتبك الآلوسي في تفسير هذا الحديث وتطبيقها على الواقع المعلوم في ذلك العهد، واضطرّ أخيراً أن يثبت للشمس نفساً ناطقة كالإنسان، وأنّ نفسها هي التي تسجد تحت العرش. (4)

ص: 421


1- صحيح البخاري 4: 75؛ كنز العمّال 14: 350
2- صحیح مسلم 1: 96
3- روح المعاني 12: 12
4- راجع: تفسير الآلوسي 23: 12

ولما عزّ على الآلوسي أن يروي القوم في صحاحهم، مثل هذه الأحاديث نسب إلى الإمامية حديثاً أغرب، وهو أنّ الشمس عليها سبعون ألف كلاب (!) وكلّ كلاب يجرّه سبعون ألف ملك إلى آخره! ولا أدري أين وجد هذا الحديث، ولماذا أبدل «الكلب» ب_«الكلاب»، ومهما كان، فنحن لا ندّعي صحة أحاديث كتاب مهما بلغ، وإنّما الاعتراض على زعم القوم من التسليم لأحاديث ما سمّوه بالصحاح.

وأمّا المتأخّرون حيث ثبت لهم بفضل العلم الحديث أنّ الشمس لا تجري حول الأرض، وأنّ حدوث الليل والنهار إنّما هو بدوران الأرض حول نفسها، فقد فسّروا الآية بأنّ المراد جريان الشمس إلى مستقرّ لها، حيث تقف عن الحركة، ف_«اللام» بمعنى «إلى» والمراد ب_«الجريان» الحركة التي كشف عنها العلم حديثاً، حيث تجري هي بمجموعتها وبسرعة هائلة نحو موضع من الفضاء.

ولكنّ الظاهر أنّ المراد هو الجريان الظاهري الذي يراه ويعرفه كلّ إنسان وبذلك يكون آية من آيات الله تعالى، ونعمة من نعمه حيث يتسبّب في حدوث الليل والنهار. وأّما هذا الجري الذي لا يعرفه إلا الأخصائيون وربّما يظهر بعد مدّة من الزمان خطؤهم، فلا يمكن أن يكون هو المقصود بالآية الكريمة، إذ ليس أمراً يعرفه الناس ولا يحقّق نعمة عليهم، فكيف يكون آية من آياته.

ولا مانع من التعبير عن هذا الأمر الكوني بما يظهر للعيان من أنّه جريان الشمس حول الأرض، فإنّ القرآن ليس كتاباً علمياً، وإنّما هو كتاب هداية يهدي الإنسان لما لا يمكنه الوصول إليه من عالم الغيب وحقائقه، والتعبير ب_«الجريان» إنّما هو حسب رؤية الإنسان وإحساسه، كما أنّنا أيضاً نعبر عن هذه الحركة في

ص: 422

مجال محادثاتنا اليومية بذلك، ولا نعبّر عن طلوع الشمس - مثلاً - بدوران الأرض إلى مرحلة يرى فيها الشمس، وكذلك التعبير بورود الشمس في برج كذا أو خروجها من برج كذا ونحو ذلك.

والمراد بالمستقرّ ما تقرّر لها من المدار الذي يتغيّر في فصول السنة بدقّة متناهية حسب ما نشاهده أو يتبيّن بالمحاسبات الرياضية الدقيقة.

«ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزيز العليم»، الإشارة بالبعيد مع أنّه قريب في الذكر، للتنويه على عظمة هذا التقدير ودقّته، وهو «تقدير العزيز»، أي الغالب على كلّ الموانع مهما كانت «العليم» بما لا بدّ منه في تدبير ذلك. ولعل التعبير ب_«العزيز الغالب» بدلاً عن «القدير» للتنبيه على وجود موانع طبيعية أمام هذا التدبير.

«وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَديمِ» تشبيه لكيفيات الوجه المرئي من القمر لدينا بمنازل ينزل فيها القمر ، وهي ثمان وعشرون حالة، أوّلها الهلال وأوسطها البدر وآخرها الهلال أيضاً ولكن معكوساً.

وعلى هذا، فلا حاجة إلى ما قاله المفسّرون من أنّ هناك تقديراً في اللفظ، وهو: أنّ القمر قدّرنا له منازل، أو قدّرناه ذا منازل، أو غير ذلك، فإنّ التجوّز إنّما يكون في التعبير عن الحالات بالمنازل، ولكن بناءً على ما قلنا، يكون القمر بذاته - أي بوجهه المرئي لنا - مقدّراً بها.

و «العرجون» عذق النخل، و «القديم» منه له ثلاث صفات شبه القمر في آخر حالاته به من حيث هذه الصفات، وهي الاصفرار والذبول والانحناء. والغرض من الآية، التنبيه على أنّ هذه المنازل والحالات تسهل لكم الحساب والتأريخ، ويمكن لكلّ إنسان أن يميّز التأريخ القمري على وجه التقريب، بملاحظة حالة

ص: 423

القمر من دون دراسة وبحث وبلا حاجة إلى تقويم، بل ربّما قيل: إنّ الملاحظة الدقيقة، توجب معرفة التأريخ بدقّة، وهو كلام غريب.

«لا الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهارِ»، تشير الآية إلى دقّة النظام في الكون، وعدم طروء أيّ تغيير لا في السرعة ولا في المسار، فلا يمكن للشمس أن تدرك القمر بمعنى أن تزيد من سرعتها فيتغيّر النظام الفلكي، ولا الليل يسبق النهار بمعنى أن يشغل جزءاً من النهار أكثر ممّا هو مضبوط حسب النظام الدقيق الثابت طيلة تأريخ الكون.

«وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ»، الظاهر أنّ المراد ب_«كلّ» أي كلّ كوكب ونجم، فكلّ واحد من الكواكب والأنجم، يسبح في فلكه، وإن لم يسبق ذكر للكواكب ،والنجوم، إلا أنّه معلوم من السياق. و«الفلك» كلّ مسار دائري. والتعبير ب_«السبح» يناقض الفرضية الفلكية السائدة في تلك العصور القائلة بأنّ كلّ واحد من الكواكب والنجوم ثابت في جسم يدور به.

وقيل: إنّ المراد كلّ من الشمس والقمر والليل والنهار، وشمول السبح في الفلك لليل والنهار باعتبار أنّ حالتي النور والظلام تتلاحقان على مختلف البقاع في الأرض، وكأنّ كلاً منها يتعقّب الآخر، فشبّه هذه الحالة بالسبح في فلك. ولكنّه بعيد كما لا يخفى.

ص: 424

سورة يس (41-44)

«وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)»

«وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ المُشْحُون» وبمناسبة الفلك يذكرهم بالفلك آية أُخرى. والكلمتان من منشأ واحد. و«الفلك» السفينة يطلق على المفرد والجمع. ولعلّ تسميتها بالفلك باعتبار أنّه يدار بها على الماء كما في «معجم مقاييس اللغة». والظاهر أنّ المراد به هنا سفينة نوح علیه السّلام، نبّه عليها مقدّمة للتنبيه على الفلك الموجود باعتبار أنّه أوّل سفينة صنعت على وجه الأرض، وأنّ منه تعلم البشر صنع الفلك، وكان ذلك بوحي من الله تعالى وإشراف مباشر، قال تعالى: «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا».(1)

ثمّ إنّها تعدّ نعمة كبرى للبشرية، حيث إنّهم بقوا على وجه الأرض بفضل تلك السفينة، قال تعالى: «وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ»(2). ويدلّ على كون المراد سفينة نوح علیه السّلام التعبير بفعل الماضي: «حَمَلْنا» وكذلك وصف الفلك ب_«المشحون»، أي المملوء، حيث أمر الله تعالى نوحاً علیه السّلام أن يحمل معه من كلّ صنف ممّا يحتاج إليه البشر، قال تعالى: «قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ»(3).

يبقى الكلام في التعبير ب_«الذرّية» في قوله تعالى: «حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ» والظاهر أنّ

ص: 425


1- هود (11): 37
2- الصافات (37): 77
3- هود (11): 40

المراد بهم كلّ من تبقى من البشر ممّن لم تشملهم كلمة العذاب الإلهي في ذلك العصر، و «الذرّية» بمعنى ما ذرّ وانتشر ، وليس بمعنى الأولاد خاصّة. والضمير يعود إلى البشر السابقين، فيكون بمعنى أنّه تعالى حمل كلّ الذرّية في تلك السفينة إبقاءً للنسل، وإلا لشملهم الفناء ولم يبق على وجه الأرض بشر. وعلى هذا، فالمعنى في الآية التالية واضح أيضاً، وهو أنّا خلقنا لهم فلكاً مثل تلك السفينة.

وأمّا القوم فلم يرقهم هذا التفسير الواضح المنقول عن بعض الأقدمين ومنهم ابن عبّاس، بل عبّر عنه العلامة الطباطبائي رحمه الله بأنّه تفسير رديء (1)، ولم يذكر وجهاً لرداءته، وكأنّهم لم يستوعبوه تمام الاستيعاب مع عظم شأنهم، ففسّروا الآية بأنّ المراد حمل الناس في الفلك، وارتبكوا في تفسير الذرّية، فقالوا: إنّ تخصيصهم بالذكر وهم صغار الأولاد أو الأولاد عموماً من جهة أنّهم أحوج إلى المركوب، والكبار يمكنهم المشي.

وهو كلام غريب، فإنّ السفن تسير في البحر، ولا يستفاد منها غالباً للانتقال من ساحل إلى ساحل لمخاطرها، والغالب أنّ الكبار هم المستفيدون، بل يُمنع الصغار من الركوب غالباً.

وقال العلامة: إنّ ذكر الذرّية لإثارة الشفقة والرحمة(2). وهو أغرب من سابقه، فما دخل الشفقة بذكر الآية، خصوصاً مع كونه في الغالب ممّا يستخدمه الكبار؟!

ص: 426


1- الميزان فى تفسير القرآن 17: 92
2- نفس المصدر

وقالوا: إن التوصيف ب_«المشحون» للإشارة إلى أنّهم لا يكتفون بركوبها، بل يحملون عليها أمتعتهم أيضاً.

ولكنّ مجرّد إمكان حمل الأمتعة لا يبرّر توصيف السفينة ب_«المشحون»، فقد لا يكون فيها إلا الركاب وأمتعتهم القليلة، فمن الواضح أنّ هذا الوصف يراد به توصيف سفينة بذاتها؛ كانت مشحونة وممتلئة.

ثمّ إنّ التوصيف بالمفرد المذكّر - المشحون - يدلّ على أنّ المراد ب_«الفلك» هو المفرد لا الجمع، فلا يصحّ ما ذكروه من أنّ المراد سائر السفن، وهذا أيضاً دليل واضح على ما ذكرنا.

«وَخَلَقْنا هُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ»، تبيّن بما ذكرنا أنّ المراد بقوله تعالى: «مِنْ مِثْلِهِ» سائر السفن، والضمير يعود إلى الفلك في الآية السابقة، أي وخلقنا لهم سفناً مثل سفينة نوح علیه السّلام، والسفن وإن كانت من صنع البشر، إلا أنّ كلّ شيء مخلوق لله تعالى، فهو الذي خلق المواد التي يصنع منها البشر ما يشاء، وأودع فيها الخصائص التي يستفيد منها الإنسان، وهو الذي جهّزه بما يتوقّف عليه الصنع من قوّة عقلية وجسمية. وفي النهاية لا يتحقّق شيء في الكون إلا بإرادته وأمره تعالى .

وأمّا على تفسير القوم، فالمراد ب_«ما يركبون» في هذه الآية سائر ما يركب كالدوابّ، وربّما اعتبر منها المراكب الحديثة أيضاً. وعلى ذلك، فتكون هذه الآية فاصلاً بين الآية السابقة وما تعقّبها في الآية التالية، إذ أنّها لا تناسب سائر المراكب لاشتمالها على الغرق. وأمّا على ما ذكرناه، فالآية التالية ترتبط بهذه الآية لا بسابقتها، وهذا أيضاً دليل آخر على صحة ما ذكرناه، والحمد لله.

ص: 427

«وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَريخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ»، «الصريخ» بمعنى المغيث، سمّي به، لأنّه يجيب صرخة المستغيث. والإنسان إذا كان في سفينة وفي وسط البحر لا يسمع صرخته أحد غالباً، فلا صريخ له يغيثه ولا منقذ ينقذه. والمراد بهذه الآية التنبيه على حالة الانقطاع الذي يحصل للإنسان في البحر، حيث لا يمكنه التوسّل بما ينقذه من الغرق ويوصله إلى الساحل إذا تقاذفته الأمواج، فييأس من الحياة ولا يجد من يتوسّل به إلا الله تعالى. وهذه الحالة تحصل للإنسان في غير البحر أيضاً عندما تنقطع الأسباب ويفقد الأمل، وهذا الأمر من دوافع التوجّه إلى الله تعالى. والطريق للوصول إليه من جهة القلب أقرب الطرق وأوثقها.

ولذلك تكرّر في القرآن الكريم التنبيه على ذلك، كقوله تعالى: «قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كلّ كَرْبٍ ثم أَنتُمْ تُشْرِكُونَ»(1).

وقوله تعالى: «هُوَ الَّذى يُسَیِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حتّى إذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بريحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بها جاءَتْها ريحٌ عاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوجُ مِنْ كُلّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرض بِغَيْرِ الحَقِّ»(2).

وقوله تعالى: «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلى الْبَرِّ أعْرَضْتُمْ وَكانَ الإنسان كَفُوراً»(3) . وغير ذلك.

ص: 428


1- الأنعام (6): 63 - 64
2- یونس (10): 22 - 23
3- الإسراء (17): 67

«إلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إلى حينٍ». نعم، لا صريخ ولا منقذ لمن شاء الله أن يغرقه إلا إذا شملته رحمة من الله تعالى. و «رَحْمَةٌ» و «مَتاعاً» مفعول لأجله، والاستثناء مفرّغ حيث لم يذكر المستثنى منه وهو في التقدير: لا ينقذون لسبب من الأسباب إلا لرحمة تشملهم من الله تعالى، فالمنقذ هو الله تعالى، وهو لا ينقذهم إلا لرحمة شملتهم، وليمتّعهم في الدنيا متاعاً إلى حين، أي إلى أجل محدّد، فالموت آتٍ لا محالة، وإنّما يسلمون من موت إلى موت كما قال المتنبي:

ولم أسلم لكي أبقى ولكن *** سلمت من الحِمام إلى الحِمام (1)

ص: 429


1- راجع: تفسير الآلوسی 23: 28

سورة یس (45-47)

«وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)»

«وَإِذا قيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»، الضمير في قوله: «لَهُم» يعود إلى مشركي مكّة والجزيرة العربية، حيث كان الكلام في أوّل السورة حولهم، ثمّ مثل لهم بقصّة أصحاب القرية، ثمّ ذكّرهم بالآيات الكونية. وفي هذا المقطع يؤنّبهم بأنّهم إذا واجهوا الرسول صلّى الله عليه و آله والمؤمنين، حيث يأمرونهم بتقوى الله تعالى واتقاء غضبه وعذابه، يعرضون، بل يستهزؤون، كما مرّ في آية سابقة أنّ العباد يستهزؤون بكلّ رسول يأتيهم.

ومن هنا فإنّ المراد بقوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ» أي إذا قال لهم الرسول صلّی الله علیه و آله أو المؤمنون «اتَّقُوا الله تعالى» أو نحو ذلك أعرضوا.

واختلف المفسّرون في المراد بقوله تعالى: «مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ»، ففي «مجمع البيان»: روى الحلبي، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «معناه اتّقوا ما بين أيديكم من الذنوب وما خلفكم من العقوبة»(1) والرواية مرسلة ولم نجدها في مصدر آخر. ولكن المعنى لا بأس به فالمراد بما بين أيديكم ما هو حاضر لديكم من الأعمال وبما خلفكم نتائجها يوم القيامة، وكما يمكن أن يعبّر عمّا يأتي بكونه أمامك يصحّ أن يعبّر أنّه خلفك.

ص: 430


1- مجمع البيان 8: 278

وقيل: معناه: اتّقوا ما بين أيديكم من أمر الآخرة، فاعملوا لها، وما خلفكم من أمر الدنيا، فاحذروها ولا تغترّوا بها. ولكنّه بعيد بالنسبة للتعبير عن أُمور الدنيا بما خلفكم فإنّ بعضها حاضرة.

وقيل: اتّقوا ما مضى ويأتي من الذنوب.

وقيل: اتّقوا عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.

وقيل: اتّقوا موجبات الغضب والعذاب وهي محيطة بكم من كلّ جانب، فإن لم تتّقوا يوشك أن تقعوا فيها. وعليه فالتعبير كناية عن الإحاطة.

وهذا أيضاً بعيد من جهة ظهور العطف في الفرق بين القسمين وأنّ ما بأيديكم مغاير لما خلفكم ومن، هنا فالمعنى الأوّل هو الأقرب بين المحتملات المذكورة.

وقوله: «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» يدلّ على أنّ الرحمة قد لا تترتّب على التقوى، وإنّما تهيء التقوى أرضية صالحة لنزول الرحمة، ومثلها قوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»(1)، وغيرها من الآيات. والسبب واضح، فإنّ المتّقين أيضاً في خطر عظيم، وعلى المؤمن أن يسأل ربّه دائماً حسن العاقبة. والجملة تعليلية، أي لكي ترحموا.

والجواب في الجملة الشرطية «وَإِذا قيلَ لَهُمْ» محذوف لعلّه لغاية فظاعته، خصوصاً بملاحظة هذه الآيات التي يرونها، وتقديره: «أعرضوا» ونحو ذلك، وتدلّ عليه الآية التالية وهو إعراضهم عن كلّ آية من آيات الله تعالى.

«وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إلا كانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ»، المراد: الآيات النازلة من

ص: 431


1- النور (24): 56

السماء عن طريق الوحي، لأنّها هي التي تأتي إليهم، فتشمل الأوامر بالتقوى، ومنها ما ورد في الآية السابقة، فكأنّه قال: وإذا قيل لهم اتّقوا أو غير ذلك من آیات ربّهم، فإنّهم يعرضون عنها ولا يلفت ذلك انتباههم.

والتعبير ب_«الربّ» للتنبيه على أنّ كلّ هذه الآيات إنّما تأتي في سياق تربيتهم، وذكره في هذا المقام تمهيد لما سيأتي من مسارعتهم للتوجّه نحو الربّ يوم القيامة بعد إعراضهم عن آياته. وقوله: «كَانُوا» يدلّ على الاستمرار، أي أنّ ذلك دأبهم وديدنهم.

«وَإِذا قيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ الله أطْعَمَهُ إِنْ أنْتُمْ إلا في ضَلالٍ مُبينٍ». تتعرّض الآية لمقولة أُخرى من كفّار مكّة وغيرهم في مواجهة المؤمنين ودعوتهم للخير والصلاح. وربّما يستغرب مضمون الآية من جهة أنّ العرب عرفت بالجود والسخاء، فكيف كانوا يمتنعون من الإنفاق بحيث يكون ذلك ظاهرة عامّة فيهم، تستوجب نزول آية بشأنهم؟! وهذا ما دعا بعض المفسّرين إلى اختلاق احتمالات غريبة.

والظاهر أنّ الباعث للمشركين إلى عدم استجابة الدعوة هو أنّهم أُمروا بالإنفاق ممّا رزقهم الله، وفي ذلك إشارة إلى أن يكون الداعي طلب مرضاته تعالى، وهم كانوا ينفقون أموالهم رياءً وسمعة وطلباً للمجد وثناء الشعراء، وهذا لا يعتبر فضيلة، بل هو رذيلة، وقلّما كان بينهم إنفاق طلباً للخير وبعيداً عن الرياء. وحتّى لو كان ذلك، فإنّ الطلب من المؤمنين يشتمل على هذه الميزة وهو اعتقاد أنّ هذا المال ممّا رزقنا الله، فعلينا أن نأتمر فيه بأوامره، وهذا هو الموجب للكمال الحقيقي، وأمّا الإنفاق حبّاً للناس ونحو ذلك ممّا يذكر في زماننا - فهو

ص: 432

وإن كان حسناً إن لم يكن طلباً للجاه والترفّع - ولكنّه ليس هو الكمال المطلوب.

ولعلّه لهذا ورد التصريح بذكر المتخاطبين في الآية الكريمة، مع أنّ السياق يقتضي الإتيان بالضمير، فالمراد التنبيه على أنّ الموضوع يرتبط بالإيمان والكفر، لا بالبخل والسخاء.

وأمّا جواب الكافرين، فالظاهر أنّه يبتني على المجادلة مع المؤمنين في ما دعوا إليه، حيث إنّ المؤمنين اعتبروا أموالهم رزقاً من الله تعالى، وطلبوا منهم أن ينفقوا منها على الفقراء، فأجاب الكفّار بأنّ الله لو شاء لرزقهم، كما رزقنا إذ لا جب لأن يمتنع من دفع رزقهم إليهم مباشرة، ويدفع إلينا سهمهم من الرزق، ثمّ يطلب منّا أن ندفع إليهم ،رزقهم، فلو كان لهم سهم في رزق الله، لرزقهم مباشرة. ولوضوح هذا الاستدلال، عقّبوا كلامهم بأنّكم في ضلال مبين واضح.

والجواب عن ما ذكره الذين كفروا واضح أيضاً، إذ أنّ الله تعالى لا يبعث بالرزق إلى أحد مباشرة، وإنّما يعتبر ما يكسبه كلّ أحد بكد يمينه وبفكره، رزقاً من الله تعالى، لأنّه هو الذي هيّأ له هذه الوسائل الطبيعية، ومنحه تلك القوّة والاستعداد، ووفّقه لكسب المال. وليس كلّ أحد يتهيّأ له بصورة طبيعية كلّ تلك الوسائل، ويأبى الله تعالى أن يغيّر سنته في الكون. وبذلك يفسح المجال لامتحان الإنسان واختباره. وكلّ ما يحصل للإنسان في هذه الحياة من ضيق وسعة مجال للامتحان ولتكامل الإنسان ونموّه.

وقيل: إنّ جواب الكافرين يبتني على الخلط بين الإرادة التشريعية والتكوينية، فكأنّهم يدّعون أنّ الله تعالى لا يمكن أن يأمر بذلك، إذ لو شاء لأطعمهم، وهذه المغالطة تكرّر منهم نظير ما ورد من أّن الله شاء أن نشرك، فلا سبيل لنا إلا

ص: 433

الشرك، كما قال تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ الله مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا أَبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ»(1)، وغيرها من الآيات، بل ربّما كانوا يدّعون أنّ الله تعالى أمرهم بذلك، كما قال تعالى: «وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا أَبَاءَنَا والله أمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ»(2).

ولكنّ ما ذكر لا يرتبط بالعبارة المنقولة منهم في هذا المقام، كما يظهر بملاحظة ما ذكرناه في توضيح جواب الكافرين عن اقتراح المؤمنين.

ص: 434


1- النحل (16): 35
2- الأعراف (7): 28

سورة يس (48- 54)

«وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)»

«وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»، هذا سؤال متكرّر منهم، فتارة يسألون به عن موعد العذاب الدنيوي، وتارة عن الساعة، أي يوم نهاية النظام الكوني وبداية نظام جديد، حيث كانوا ينذرون بهما.

ومبنى السؤال أنّه لو كنتم صادقين في هذا الوعيد والإنذار، فلا بدّ لكم من معرفة زمانهما، فحدّدوا لنا اليوم بدقّة.

ويأتي الجواب في بعض الآيات بنفي العلم بالموعد، إذ لا ملازمة بين معرفة أصل الحادثة ومعرفة الموعد، خصوصاً إذا كان العلم بها مبنّياً على أساس الأخبار الغيبية التي لم تفصح عن الموعد.

ويأتيهم الجواب هنا قارعة مدوّية:

«مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأخُذُهُمْ وَهُمْ يَحِصُمُونَ»، «ينظرون» أي ينتظرون، فكأنّهم إذ يسألون عنه ينتظرونه، مع أنّهم لا ينتظرونه واقعاً وإنّما يسألون استهزاءً وتكذيباً، ولكنّ الجواب يبتني على عدم إمكان التكذيب. و«الصيحة» هي الصوت المدوّي. وقد مرّ أنّ التعبير بذلك للإشارة إلى سرعة الحدوث وسهولة

ص: 435

الأمر، كأنّه لا يحتاج إلى شيء إلا إلى صيحة واحدة، «تأخذهم» أي تستولي عليهم، كأنّها بنفسها العذاب قد أحاط بهم وهم في حالتهم العادية يتداولون أُمور دنياهم، ويختصمون في أُمور البيع والشراء وغير ذلك، فتأتيهم بغتة، كما ورد التعبير به في آيات كثيرة. و «يخصمون» في الأصل يختصمون، و قد أبدلت التاء صاداً وأُدغمت.

«فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةٌ وَلا إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ»، أي لا يمهلهم لأن يوصوا إلى من بعدهم وليس هناك من يوصون إليه إلا أنّه مجرّد فرض، وإنّما أتى ب_«الوصيّة» نكرة للنفي التامّ، أي لا يمكنهم أيّ وصيّة. وهذا أيضاً تصوير لحالة المباغتة والمفاجأة ولا يرجعون إلى أهلهم، بل لا أهل لهم، فالكلّ قد أُصيب.

«وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فإذا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» وهنا تأتي موعد النفخة الثانية. والواقع أنّ هذا هو الذي يكذّبونه، لأنّهم إنّما يكذّبون قيام القيامة، والحياة بعد الموت، ولا يمنعون احتمال فناء الدنيا بحادث كوني هائل، وإنّما يأتي الجواب بذكر الصيحة المهلكة تخويفاً لهم ولأنّ النفختين متلازمتان، فالأُولى مقدمة للثانية.

وقد ورد التصريح بهما في قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِى الأرض إلا مَنْ شَاءَ الله ثم نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فإذا هُمْ قِيَام يَنظُرُونَ»(1)، و«الصور» قرن الثور، يصنّع فينفخ فيه ويصدر منه صوت عال، فيستخدم في إعلان الحرب ونحوه. و «النفخ في الصور» كناية عن سرعة الأمر وسهولته إذا أراده الله، فكأنّ صوراً ينفخ فيه، فإذا هم قيام فجأة وهم أحياء ينظرون.

ص: 436


1- الزمر (39): 68

ومن الغريب ما نسب إلى بعض أهل اللغة - على ما في لسان العرب - من أنّ الصور جمع صورة وأنّ المراد: النفخ في صور الموتى فيقومون، وأجاب عنه بعضهم بوجوه، ولم ينتبه الفريقان إلى الآية المذكورة آنفاً، حيث إنّ النفخة الأُولى ليست للإحياء بل للإماتة، فبطلان القول واضح. مضافاً إلى أنّ الضمير في قوله تعالى: «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى» مذكّر، فلا يصحّ أن يعود إلى الصور إذا كان جمعاً.

ومهما كان فنفخة في الصور تكفي لإحياء الموتى، بل هو أسرع من ذلك. قال تعالى: «وَما أَمْرُنا إلا واحِدَةً كَلَمْحِ بِالْبَصَر»(1). و«الحدث» - بفتحتين - القبر. و «النسل» هو الإسراع في المشي. والتعبير يصوّرهم مهرولين إلى ربّهم الذي ربّاهم، فكلّ يريد أن يجد نتيجة سيرته، كأنّهم تلاميذ مدرسة يهرولون لأخذ نتائج الامتحان وأكثرهم يعلمون أنّ أيديهم صُفر، وأنّ نتيجتهم الصفر، ولكن لا ملجأ من الله إلا إليه، فأين يذهبون، وقد كشف الغطاء عنهم، وعلموا أنّ الله هو الحقّ، وأنّ ما كانوا يدعون من دونه هو الباطل، وأُسقط في أيديهم، فلا حيلة لهم إلا الإسراع إلى الربّ بعد أن أعرضوا عنه وعن آياته.

«قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا»، يقولون ذلك وهم مسرعون إلى ربّهم يدعون بالويل والثبور، ويسألون في استغراب: من بعثهم من رقدتهم؟ و«المرقد» مصدر، ويحتمل في هذا التعبير أن يكون المرقد كناية عن القبر وهو تعبير دارج، والسؤال ليس للاستفهام، خصوصاً إذا فرض الجواب منهم أيضاً، وإنّما هو للاستغراب ومقدمة للاعتراف بما كذّبوا به في الحياة الدنيا، ويحتمل أنّهم لا

ص: 437


1- القمر (54): 50

يشعرون في عالم البرزخ بشيء، بل يستمرّون في غفلة كأنّهم نيام، كما ورد في الحديث أنّ أكثر الناس يلهى عنهم. (1)

«هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ» الظاهر أنّ الجواب منهم بقرينة تصديق المرسلين. والتوصيف ب_«الرحمن» توسّل منهم برحمته يوم لا ينفع التوسّل، كما لا ينفعهم تصديق المرسلين بعد طول تكذيب.

ويحتمل أن يكون الجواب من الملائكة، فالتوصيف من جهة ظهور رحمته في ذلك اليوم ظهوراً بيّناً يفوّق كلّ التوقّعات، إذ لولا رحمته لم يسلم أحد من عذابه. و «ما» في قوله: «مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ» موصولة، والعائد محذوف، أي ما وعد به الرحمن ، وجملة: «وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ» استينافية.

«إنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ»، اسم «كَانَتْ» الحادثة أو الواقعة، و «إذا» فجائية، و «جَميعٌ» بمعنى مجموع وهو خبر للضمير، و «مُحْضَرُونَ» خبر ثانٍ، يعني أنّ بعثكم لم يتوقّف على شيء إلا صيحة واحدة، فتجدون أنفسكم فجأة مجتمعين ومحضرين أمام الله تعالى وليس الحضور باختيارهم، بل يحضرون قسراً.

وقد مرّ الكلام حول مغزى كونهم مجتمعين وقلنا إنّ المجتمعات البشرية تحضر هناك مجتمعة، فإنّ بعض الأعمال لا تظهر قيمتها وأثرها السلبي والإيجابي إلا في إطار المجتمع، وهناك مصير يخصّ المجتمع بينما لكلّ فرد مصيره الخاصّ أيضاً، كما أنّ هناك كتباً بعدد الأفراد وكتباً للأُمم، قال تعالى: «كُلُّ أُمَّةٍ

ص: 438


1- في الكافي عدّة أحاديث بعضها معتبرة بهذا المضمون: «لا يُسْألُ في القَبْرِ إِلا مَنْ مَحَضَ الإِيمَان مَحْضاً أو مَحَضَ الكُفْرَ مَحْضاً والآخرون يُلْهَى عَنْهُمْ». (راجع: الكافي 3: 235)

تُدْعَى إلى كِتَابِهَا»(1)، وقال أيضاً: «اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً»(2) .

«فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»، أي لا تظلم شيئاً من الظلم، فهو مفعول مطلق أو «الشيء» مفعول به وهو كناية عن القلّة، كقوله تعالى: «وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً»(3) والجملة التالية تبيّن السرّ في نفي الظلم مطلقاً وهو أنّ الإنسان يُجزى بنفس عمله، وأيّ عدل فوق هذا ؟!

وأمّا كيف يجزى بنفس العمل؟ فأمر لا يصل إليه أفهامنا إلا ما نجده من أنفسنا من العذاب في الضمير إذا تذكّرنا العمل، مع أنّا لا نعلم فظاعته الحقيقية. وحيث يتبيّن الحقّ ناصعاً في تلك النشأة ويشعر الإنسان بفظاعة عمله ويجده ملصقاً به، لا يكاد يغفل عنه لحظة وذلك أشدّ العذاب.

وعليه فلا حاجة إلى تقدير. كما قالوا من أنّ المقدّر إلا جزاء ما كنتم تعملون مع أنّ هذا التقدير يفقده ميزة تعليله لعدم الظلم، لأنّ الجزاء حينئذٍ مبهم، فإن كان أمراً يتعيّن بجعل جاعل أمكن أن يكون ظلماً.

ثمّ إنّ هذه الجملة وأشباهها ممّا ينقل عن الخطابات يوم القيامة لا يجب أن تكون مقولة قول، حتّى يُبحث عن قائله - كما في التفاسير - فكثيراً ما تكون حكاية الحال ليس إلا.

هذا، وقد وقع الكلام بين المفسّرين في أن هذا الحكم خاصّ بأهل النار، أم يشمل أهل الجنّة أيضاً، فقال بعضهم: إنّ أهل الجنّة لا يجزون ما عملوا، بل لهم

ص: 439


1- الجاثية (45): 28
2- الإسراء (17): 14
3- النساء (4): 124

ما يشاؤون ولهم المزيد. ولكنّ الآيات التي ورد فيها هذا المضمون وإن كان أكثرها يخصّ أهل النار، كالآية التي نتحدّث عنها، وبعضها مطلقة أو عامّة، إلا أنّ هناك من الآيات ما تصرح بالحكم في أهل الجنّة بالخصوص قال تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُخضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعيداً»(1)، وإحضار العمل جزاء.

ولا ينافي ذلك أنّ الله تعالى يزيدهم من فضله، فإنّ الزائد ليس جزاءً، كما لا ينافيه أنّ المتّقين ليسوا رهيئة أعمالهم على ما في قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إلا أصحَابَ الْيَمِينِ»(2) . والاعتبار أيضاً يؤيّد ذلك، فإنّ الأعمال لا تنفكّ عن الإنسان إلا ما كفّره الله تعالى من الأعمال القبيحة، أي ستره. ولا فرق في ذلك بین الأعمال الصالحة والسيّئة.

ص: 440


1- آل عمران (3): 30
2- المدّثر (74): 38 - 39

سورة يس(55- 58)

«إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)»

تذكّر الآيات وما بعدها حال المؤمنين، ثمّ المجرمين، كتفصيل لما أجمل في الآية السابقة من أنّ كلّ نفس تجزى بعملها.

«إِنَّ أصحاب الجنّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ»، الآية فريدة في مضمونها وهي أنّ أصحاب الجنّة مشغولون. و «الشغل» - بضمّ الغين وسكونه - كلّ ما يشغل بال الإنسان ويمنعه من التوجّه إلى الغير سواء كان خيراً أم شرّاً، وحيث إنّهم لا يشغلهم شرّ في الجنّة عقّبه بقوله تعالى: «فاكِهُونَ» وهو خبر بعد خبر ليتبيّن أنّهم مشغولون بالملذّات.

و «فاكه» و«فكه» أي طيّب النفس المزّاح والضحوك، ومنه المفاكهة أي المزاح. وهذه الآية توضح أنّ أهل الجنّة لا يملّون ولا يسأمون من طول البقاء، كما قال تعالى: «لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً»(1) وقد كثر الكلام في ما يشغلهم وهو ممّا لا طائل تحته، فإنّ الآية تبيّن أنّهم مشغولون بالمفاكهة وسائر الملذّات، كما أشار إليه في الآيات الثلاث الآتية وأهمّها أخيرتها.

«هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فى ظلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَكِؤُونَ» يمكن أن يكون كلّ من «في ظِلالٍ» و «عَلَى الأَرائِكِ» و «مُتَّكِؤُونَ» خبراً بعد خبر، ويمكن أن يكون الأخير خبراً وما قبله متعلّق به. والمراد ب_«الأزواج» إمّا الأقران، فإنّ المتّقين يجتمعون مع بعض، كما قال تعالى: «وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلِّ إِخْواناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ»(2)،

ص: 441


1- الكهف (18): 108
2- الحجر (15): 47

وإمّا الأزواج من المؤمنات ومن الحور العين. و«الأرائك» جمع أريكة، أي السرير.

وكونهم في ظلال، ربّما يدلّ على أنّ هناك شمساً أو ما يشبهها. ولا يبعد ذلك، ولكنّها شمس لا تضرّ ولا تؤذي. ولا ينافيه قوله تعالى: «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الأرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً»(1)، لقوله تعالى في الآية التالية: «وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا»(2) فلعلّ عدم رؤية الشمس من جهة أنّهم دائماً في ظلّ، والغرض بيان التفاف شجر الجنّة وطول ظلّها. ويمكن أن يكون التعبير بالظلال كناية عن عدم وجود الشمس والإضحاء، فهم دائماً في نهار ظليل.

«لَهُمْ فيها فاكِهَةٌ وَهُمْ ما يَدَّعُونَ» لعلّ التنكير فى الفاكهة للتفخيم، أي فاكهة أيّما فاكهة، وفي ذلك إشارة إلى أنّ ما يؤتونه من طعام، ليس لدفع الجوع أو للتقوّي - كما هو الحال في الدنيا - وإنّما يتناولون ما يتناولون للتلذّذ والتفكّه فحسب. و «ما يَدَّعُونَ» بمعنى ما يتمنّون أو ما يطلبون وهو افتعال من الدعاء.

«سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبِّ رَحيم» وهذا أهمّ وأعظم ما في الجنّة من نعمة، بل لولا ذلك لم يكن غيره نعمة. والظاهر أنّ هذا سلام من الله سبحانه، لا من قبل الملائكة، ولا بواسطتهم. وفي التعبير ما يوحي بغاية اللطف والعناية، حيث إنّ السلام المبعوث لهم، ليس وحياً ولا كتاباً، بل قولاً وهو من ربّ رحيم بهم، ويظهر أنّ السلام هنا قول على حقيقته، يُقال لهم، وليس معناه: أنّ السلام ثابت وجوداً، كما ورد في موارد عديدة، ومنها التعبير عن الجنّة بدار السلام، فالسلام

ص: 442


1- الإنسان (76): 13
2- الإنسان (76): 14

في هذه المواضع بمعنى السلامة المطلقة من كلّ ما يكدّر صفو العيش، ولكنّه هنا قول يصدر من ربّ الرحمة إكراماً لهم ولطفاً بهم. و «قَوْلاً» مفعول مطلق، تقديره: يقال قولاً.

ذلك

والتوصيف ب_«الربّ» يفيد أنّ ما يلقونه من الثواب والجزاء والإكرام حاصل تربيتهم ووصولهم إلى درجات راقية من الكمال، والتوصيف ب_«الرحيم» يفيد أنّ من آثار رحمته البالغة الخاصّة بالمؤمنين، فإنّ الرحيم من صيغ المبالغة ولكنّه يدلّ على الثبات، ولذلك يختصّ برحمته في الآخرة الخاصّة بالمؤمنين، بخلاف «الرحمن»، فإنّه أيضاً من صيغ المبالغة ولكنّه يدلّ على التوسّع والشمول، ولذلك يعمّ غير المؤمن ويختصّ بالدنيا.

ص: 443

سورة یس (59-62)

«وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)»

«وَامْتارُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ»، «امْتازُوا» أي انفصلوا وتميّزوا. وفي التقييد ب_«اليوم» إشارة إلى أنّ هذا الظرف ليس ظرف اختلاط. فإنّ المؤمنين والمجرمين ربّما يتعايشون في الدنيا، بل يتناسبون ويتصاهرون، ولكنّ الحال في ذلك اليوم حال جمع بين متفرّقات وتفريق بين مجتمعات، فيجمع هناك بين كلّ أحد وفريقه المناسب له، وإن تباعدوا في الدنيا بمقتضى معاييرهم في هذه الحياة. ويلازمه التفريق بينه وبين من كان يجتمع بهم ممّن لا يناسبونه في المعايير الإلهية.

و«الإجرام» قيل: إنّه بمعنى اكتساب الخطيئة وأصله من الجرم، أي القطع باعتبار أنّ كلّ كسب اقتطاع لشيء، إلا أنّه لم يستعمل في كسب الحسنات، بل في الآثام فقط. ولكن لا يبعد أن يكون الوجه في التعبير ب_«الإجرام» هو أنّ المجرم يقطع الصلة بينه وبين المجتمع، ولذلك لا يعبّر به في العرف عن كلّ مخالفة للقانون، أو كل عمل مستهجن عرفاً، بل عن مثل القتل والاعتداء، ولعلّه في التعبير القرآني يستعمل في كلّ ما يقطع الصلة بين العبد وربّه. والعبارة هنا عامة تشمل من يدّعي الإسلام والإيمان أيضاً.

«ألَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ» الخطاب للمجرمين ولكن وصفهم ب_«بني آدم»، لأنّ العهد كان عامّاً، والمراد: العهد الذي أبلغهم بواسطة

ص: 444

رسله، ومنها ما ورد في الكتاب العزيز في موارد كثيرة، كقوله تعالى: «يا أيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِى الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ»(1).

والمراد ب_«العبادة»، الإطاعة العمياء، كما قال تعالى في ذمّ اليهود: «وَعَبَدَ الطَّاغُوت»(2)، وإنّما كانوا يطيعون الطواغيت طاعة عمياء، وهي أن يطيع الإنسان غيره من دون أن يعلم السبب الباعث للأمر وفي غير موارد الحاجة إلى تخصّص، والعمل وفقاً لإرشاد المتخصّص. ومثله قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أنْ يَعْبُدُوها»(3) . وأمّا الإطاعة مع الاعتماد على معرفة الآمر، كإطاعة أوامر الطبيب ونحوه، فليس عبادة ولا أمراً مستنكراً. والطاعة العمياء لا تجوز إلا لله تعالى ومن أمر الله بإطاعته.

وعداوة الشيطان لبني آدم عداوة عريقة متأصّلة متوغّلة في القدم، كما يظهر بملاحظة قصّته مع أبينا آدم علیه السّلام حيث أُمر بالسجود له، فامتنع ترفّعاً واستكباراً، فأخرج من السماء وأمر بالهبوط إلى الأرض، فآلى على نفسه أن يترصّد لبنيه كلّ مرصّد ويأتيهم من بين أيديهم وعن أيمانهم وشمائلهم، ويمنعهم من الخضوع لله تعالى، ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه، فلم يسلم من حبائله إلا القليل. وهكذا العدوّ المبين. والله تعالى يخاطب البشر باستفهام إنكاري: «أفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ للظَّالِمينَ بَدَلا»(4).

ص: 445


1- البقرة (2): 168
2- المائدة (5): 60
3- الزمر (39): 17
4- الكهف (18): 50

«وَأَنِ اعْبُدُونِى هَذَا صِراطٌ مُسْتَقيمٌ» عطف على «أنْ لا تَعْبُدُوا» وكلاهما تفسير للعهد، وقد عهد بوجوب عبادته تعالى في الأديان كلّها، وفي يوم الهبوط أيضاً حيث قال عزّ من قائل: «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّى هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى»(1)، مضافاً إلى أنّه ممّا تدعو إليه الفطرة والعقل.

والظاهر أنّ «هَذَا» في الآية إشارة إلى عبادته تعالى، لا إلى مجموع العهدين. و «الصراط» هو الطريق، وأصله السراط بالسين. والطريق إذا كان مستقيماً، فإنّه أقرب الطرق إلى المقصد.

والتنكير في «صِراطٌ مُسْتَقيم» للتعظيم، أي أنّه من حيث الاستقامة وانتفاء أيّ اعوجاج وانحراف واصل إلى مرتبة لا يمكن توصيفها، ولعلّه اكتفي بذلك عن الحصر، فلم يقل: هذا هو الصراط المستقيم، لأنّ الصراط بصفة الاستقامة التامّة من كلّ أحد إلى المقصود لا يمكن أن يكون إلا واحداً، وكلّ صراط غيره لا بدّ فيه من نوع من الانحناء أو الإعوجاج.

«وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلا كَثيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ» دعوة إلى التفكّر في أُمور الماضين الذين أغواهم الشيطان وأبعدهم عن إطاعة أوامر الله تعالى واتّباع رسله، ممّا أدىّ إلى نزول العذاب عليهم وهلاكهم؛ أفلا يكفي ذلك للاعتبار ؟! بل إّن النظر في أحوال المجتمع البشري وعواقب أُمورهم عامّة وفي جميع الأزمنة، يكشف لنا الكثرة الهائلة من البشر الذين يتّبعون خطوات الشيطان في مختلف سلوكهم، وما يؤدّي إليه من المفاسد الاجتماعية والسقوط في مهاوي الإثم.

ص: 446


1- طه (20): 123

و«الجبلّ» يطلق على الجماعة العظيمة تشبيهاً لهم بالجبل، فالمعنى أنّه أضلّ جماعات كثيرة. (1) وحيث إنّ الخطاب موجّه يوم القيامة، قيل لهم: «أَفَلَم تَكُونُوا تَعقِلُونَ»، أي أكنتم في الدنيا بحيث لا تعقلون؟!

ص: 447


1- الجَبْل والجِبْلة والجُبلة والجِبِلُّ والجبلَّة والجَبِيل والجَبْل والجُبْل والجُبُلُّ والجبْلُ، كلّ ذلك: الأُمّة من الخَلْق والجماعة من الناس وقول الله عز وجل: «ولقد أضلّ منكم جبلاً كثيراً» ؛ يقرأ جُبْلاً عن أبي عمرو، وجُبُلاً عن الكسائي، وجِبْلاً عن الأعرج وعيسى بن عمر، وجبلاً - بالكسر والتشديد- عن الحسن وابن أبي إِسحاق، قال: ويجوز أيضاً جِبَل - بكسر الجيم وفتح الباء - جمع جِبْلة وجبَل وهو في جميع هذه الوجوه خَلْقاً كثيراً. قال أبو الهيثم: جُبْل وجُبُلٌ وجِبْل وجِبِلٌ ولم يعرف جُبَّلاً، قال: وجَبِيلٌ وجِبِلَّة لغات كلّها. (لسان العرب 11: 98)

سورة یس (63-68)

«هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)»

«هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتي كُنتُمْ تُوعَدُونَ» خطاب توبيخ و تقريع، فهم يرون جهنمّ، ولكنّ الخطاب لتوبيخهم على عدم الاهتمام بإنذار الرسل ولم يقل: «وُعدتم»، بل قال: «كُنتُمْ تُوعَدُونَ» ممّا يدلّ على استمرار الوعيد واستمرار الرسالات ونزول الكتب.

و «جَهَنَّمُ» اسم لنار الآخرة. قيل: إنّ معنى الكلمة بعيدة القعر. وقيل: إنّها في الأصل عبرية. والظاهر أنّه الصحيح. وقيل غير ذلك.

«اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنتُمْ تَكْفُرُونَ»، «الصلي» أصله إيقاد النار، ثمّ أطلق على الاحتراق والاشتواء بها. والتقييد ب_«اليوم» للتنبيه على أنّه اليوم الذي أنكرتموه. و «ما» في «ما كُنتُمْ» مصدرية، يعني بكفركم ، والكفر مقولة مشكّكة، فلا يختصّ بمن لم يؤمن بالله ورسله، بل يشمل بعض المؤمنين، كما قال تعالى: «وَ لله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمينَ»(1). وقوله: «كنتم» يدلّ على استمرارهم على الكفر وإصرارهم عليه.

«الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»، «الختم على الأفواه» كناية عن عدم تمكّنهم من التكلّم، إذ ليس هناك اختيار مفتوح،

ص: 448


1- آل عمران (3): 97

قال تعالى: «يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلا بإذْنِهِ»(1). ولعلّ المراد بتكلّم الأيدي وشهادة الأرجل ونطق الجلود، هو ظهور الأعمال التي ارتكبت بواسطتها علانية. وهذه أوضح شهادة وأقوى نطق وأفصح بيان لأنّه لا يأتي بلفظ يدلّ عليه، بل يأتي بالعمل بنفسه.

ويشهد لذلك التفصيل الوارد في قوله تعالى: «حَتَّى إذا ما جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قَالُوا أَنْطَقَنَا الله الَّذى أَنْطَقَ كلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(2)، فإنّ التعليل بأنّ الله تعالى أنطق كلّ شيء، يدلّ على أنّه ليس من النطق المتعارف. و«النطق» بمعناه العامّ هو الإفصاح عمّا في النفس أو عن الواقع، وهذا يتحقّق في يوم القيامة بأبلغ وجه.

ويشهد له أيضاً قوله تعالى: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(3)، حيث يدلّ على أنّ الألسنة أيضاً تخبر عن ما صدر منها، مع أنّ الآية هنا تصرّح بأنّ الألسنة مختوم عليها، فلا بدّ من حمل شهادتها على ما ذكرناه ولا ينافي ذلك عدم التكلّم الذي هو المراد بختم الألسنة.

«وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ»، «الطمس» هو المحو، فيمكن أن يكون المراد محو العين نهائياً، ويمكن أن يراد محو الإبصار، وهو أيضاً طمس للعين حيث تبقى بلا أثر. والطمس قد يأتي متعدّياً بنفسه وقد يتعدّى ب_«على».

ص: 449


1- هود (11): 105
2- فصّلت (41): 20 - 21
3- النور (24): 24

و«الاستباق» يحتمل أن يكون بمعنى الابتدار والمبادرة، لا التسابق والمسابقة، كما أنّ قوله تعالى: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ»(1)، أيضاً يحتمله، فيكون المعنى بادروا إلى الخيرات قبل انقضاء الفرصة. وهنا أيضاً بمعنى أنّهم بادروا إلى السير على الصراط. ويحتمل أن يكون بمعنى التسابق.

واختلفوا في المراد ب_«الصراط» فذكر بعضهم أنّ المراد به صراط الله تعالى.

وهو غير صحيح، لأنّ المشركين لا يبادرون إليه، بل لا يسلكونه أصلاً. ومن هنا قال بعضهم: إنّ «استبقوا» بمعنى تجاوزوا وتركوا. ولم أجد له وجهاً.

وفي «التبيان»: أنّ المراد به طريق النجاة. (2) وهو بظاهره كالوجه السابق إلا أنّه يمكن توجيهه بأنّ الإنسان يحاول - بالطبع - أن يتجنّب الوقوع في المهالك، فهم أيضاً كان من ضمن مقاصدهم النجاة من الهلكة المحتملة في حياة أُخرى، إلا أنّهم لم يبصروا طريق الحقّ للنجاة، لأنّهم طمس على أعينهم.

ولكن هذا التوجيه أيضاً لا ينفع في تصحيح هذا الاحتمال، لأنّ عدم إبصارهم طريق النجاة أمر حاصل فعلاً، فلا معنى لتعليقه على مشيئة الطمس.

وذكر جمع منهم أنّ المراد به الطريق المألوف لهم إلى مساكنهم أو مقاصدهم، فالمعنى أنّه تعالى لو طمس على أعينهم لم يتمكّنوا من السير إلى مقاصدهم. وهذا لا بأس به.

ويحتمل أن يكون «الصراط» كناية عن طريق الحياة المتعارفة في شؤونهم المادّية. وعلى هذا المعنى يصحّ التسابق أيضاً، فإن البشر يتسابقون في شؤون

ص: 450


1- المائدة (5): 48
2- التبيان 8: 473

حياتهم في الدنيا. وعليه لا بدّ من اعتبار الطمس على العين أيضاً كناية عن سلب البصيرة ، لأنّ بعض شؤون الدنيا لا تتوقّف المسابقة فيها على الأبصار.

«فَأَنَّى يُبْصِرُونَ»، أي كيف يبصرون طريقهم وقد طمس على أعينهم، أو كيف يهتدون إلى الطريق الصحيح وقد سلبت بصائرهم. والنتيجة أنّهم لا يستطيعون الوصول إلى مقاصدهم.

ثمّ إنّه وقع الكلام في الغرض من هذه الآية وتاليتها وارتباطهما بما قبلهما، وللقوم في توجيه ذلك كلمات شتّى، والغالب منهم اعتبره تهديداً لهم، بأنّ الله تعالى لو شاء لجعلهم عمياناً ، فلن يبصروا طريقهم الذي يسلكونه عادة، ولا علاقة حينئذٍ بينها وبين ما قبلها.

وبعضهم اعتبر مورد الآيتين ما سيحدث للمشركين في يوم القيامة! وهو ،غريب، لأنّ ما يواجهه المشركون من العذاب يوم القيامة، أشدّ بكثير، فلا معنى لتهديدهم بطمس العيون والمسخ.

والظاهر أنّ ارتباط الآية وما بعدها بما قبلها من جهة ما ورد في الآية السابقة من شهادة الأعضاء، على ما كانوا يكسبون في الدنيا، فربّما يتوهّم من ذلك أنّ ما صدر منهم في الدنيا كان خارجاً عن حيطة القدرة الإلهية، مع أنّ كلّ ما فعلوه كان بإذنه وإرادته التكوينية، فأراد في هاتين الآيتين، أن يبيّن وجهين واضحين، ممّا يمكن أن يمنع الله تعالى به نشاطهم وحركتهم بصورة طبيعية، فضلاً عن إنزال عذاب الاستئصال أو ما هو أخفّ وأخصّ منه، وليس ذكر ذلك إلا من باب المثال. والله العالم.

«وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ» المسخ تشويه

ص: 451

الخلق. و«المكانة» بمعنى المنزلة والدرجة التي بلغوها في سلوك طريق الإنسانية والكمال، كما قال تعالى: «قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ»(1)، أي على ما أنتم عليه من الفهم والإدراك، فليس بمعنى المكان كما قيل.

ولعلّ المراد: أنّهم يفقدون بهذا المسخ صفة التكامل والنموّ، بل يبقون على منزلتهم الحالية. وبذلك يظهر معنى قوله تعالى: «فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ» وأنّ المراد أنّهم لا يتطوّرون ويمضون قدماً في ما أهّلوا له بحسب النوع من درجات الكمال، ولا يرجعون فيبدأوا الطريق من نقطة الصفر، حيث لا يمكن ذلك، فيبقون في مكانتهم ومنزلتهم ، وهذا غاية السقوط.

ولكنّ المشهور بين المفسّرين أنّ المراد، تهديدهم بمسخهم أحجاراً ونحوها وهم في مكانهم، فلا يستطيعون مشياً أو حركة إلى الأمام ولا يرجعون إلى مساكنهم. وقيل غير ذلك. والارتباك واضح في العبارات، والمسخ لا يختصّ بتحوّلهم إلى جماد كالحجر ، بل يشمل تحوّلهم إلى حيوان، مع أنّهم لو تحوّلوا إلى حيوان، لاستطاعوا التحرّك إلى الأمام وكذلك الرجوع.

«وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ»، «التعمير» إعطاء العمر. والمراد به هنا - على الظاهر - العمر بعد الكهولة، لا مجرّد إعطاء العمر، كما توهّم. ومن ذلك التعبير عن من يطول عمرهم أكثر من المعتاد بالمعمّرين. ولعلّ الغرض من بيان ذلك، الاستشهاد بمورد توقّف في التطوّر، بل نكسة للتدليل على إمكان ما ورد في الآية السابقة بأنّ هناك مثله ما هو أمر طبيعي متعارف ولكنّه في خلق الجسم، فكما أنّ الإنسان المعمّر ينتكس خلقه ويتوقّف عن التطوّر والتكامل، بل ينقص

ص: 452


1- الأنعام (6): 135

شيئاً فشيئاً، كذلك من مسخ من مسخ الله نفسه وروحه، فإنّه يتوقّف عن التطوّر في الكمال البشري، بل ربّما يفقد بعض ما حصل عليه. أفلا يعقلون ويعتبرون بما یرونه؟

وأمّا على ما ذكره القوم في تفسير الآية السابقة، فلا بدّ من حمل هذه الآية على بيان أمر طبيعي واضح، وهو النكسة في الخلق مع تقادم العمر من دون أن ترتبط بالآية السابقة، ومن دون أن يكون لبيان هذا الأمر غرض خاصّ في سياق الآيات.

ص: 453

سورة یس (69-70)

« وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)»

«وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِى لَهُ» كان من وجوه الدعاية ضد الرسالة المجيدة أنّ ما أتى به الرسول صلّى الله عليه و آله ليس كتاباً من عند الله تعالى، بل هو شعر. وكانوا يصفون الرسول صلّی الله علیه و آله بأنّه شاعر ، كما حكي عنهم في مواضع من الكتاب العزيز. وهذه الآية من المواضع التي يردّ الله تعالى عليهم هذه التهمة بأنّ مكانة الرسول صلّى الله عليه و آله أعلى من أن يعلّمه الشعر، وأنّه لا ينبغي له وإنّما أُرسل عليه الذكر.

والظاهر من هذه الجملة أنّ المراد تنزيه النبيّ صلّى الله عليه و آله من تعلّم الشعر أساساً، حيث إنّ الإنسان لا يعلم شيئاً إلا ما علّمه الله تعالى، فنفي التعليم معناه أنّه صلّى الله عليه و آله لا يعلم الشعر.

وقال بعض المفسّرين: المراد أنّه إذا تعلّم الشعر، فليس بتعليم منّا وأنّا لم نعلّمه إلا القرآن وهو ليس شعراً كما يقوله الكفّار، بل هو قرآن مبين.

وإنّما يقال ذلك، لئلا يوصم مقام النبوّة بالجهل في الشعر، فإنّه فنّ رفيع لا ينبغي أن يجهله النبيّ صلّى الله عليه و آله.

وهذا غير صحيح، فإنّ قوله تعالى: «وَمَا يَنْبَغِي لَهُ» يوضح أنّ المنفيّ في الجملة الأُولى هو تعلّم النبيّ صلّى الله عليه و آله له بذاته، لا أنّ ما علّمه الله تعالى ليس شعراً، فنفي التعليم هنا كإثبات تعليم القراءة والكتابة وغيرهما لنوع الإنسان، كما قال تعالى: «عَلْمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ»(1).

ص: 454


1- العلق (96): 5

ولو كان المراد نفي كون ما علّمه الله شعراً، لكان الأولى أن يقال: وما أنزلنا عليه شعراً، بل هو ذكر وقرآن.

وبذلك يظهر أنّ ما كان يلاحظ من النبيّ صلّی الله علیه و آله أنّه لا ينشد الشعر إنشاداً صحيحاً - على ما وردت به الروايات - لم يكن تعمّداً منه، بل كان لا يجيّد ذلك، ولا ينبغي له أن يعلم، فليس كلّ علم كمالاً - كما اشتهر - فإنّ الشعر ليس إلا تخييلاً وإيهاماً وتأثيراً في نفوس الناس بتلبيس الباطل لباس الحقّ، وهذا كسائر ما يدّعى فنّا لا يخدم البشرية غالباً، بل يخدم في الغالب سرّاق البشرية وطواغيتهم والانتهازيين وأصحاب الجشع والمفسدين في الأرض، والله تعالى نزّه نبيّه الكريم عن مثل ذلك.

فإن قلت: كيف ذلك ونحن نجد كثيراً من الشعراء والفّنانين خدموا البشرية وجعلوا فنّهم وذوقهم في خدمة الضعفاء والفقراء، أو في خدمة الدين والمصلحين، ومدحوا النبيّ والأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين؟

قلت: الكلام ليس في استثمار ما تداولته الأيدي من وسائل الدعاية والتأثير على الأحاسيس في سبيل خدمة الحقّ بالمقدار الميسور، وإن كان ذلك في حدّ ذاته ضعيفاً جدّاً، فإنّك لا تجد الشعر مطلوباً وقويّاً إلا إذا كان في سبيل اللهو واللغو والباطل، وكذلك سائر الفنون، كالتمثيل والتصوير وغيرهما، إنّما الكلام في أنّ اللازم هو إعلام الناس بأنّ الصحيح هو أن لا يسلموا قيادهم لهذه الطرق الوهمية، بل يتفكّروا ويتدبّروا ويتّبعوا المنطق الصحيح. وهذا هو ما يدعو إليه القرآن الكريم، وقد كرّر في الآيات الدعوة إلى التفكّر والتعقّل.

ص: 455

ولا نمنع من التوسّل بهذه الوسائل ما دام الناس على هذه الوتيرة، إن لم تكن الوسيلة محرّمة، ولذلك نجد أنّ النبيّ صلّی الله علیه و آله، دعا لمن نصروا المسلمين بشعرهم في مواجهة الشعراء من الكفّار، وكذلك دعا لحسّان بن ثابت حين مدح أمير المؤمنين علیه السّلام بعد نصبه للولاية، وكذا ما يروى عن الأئمّة علیهم السّلام كإهداء الإمام الرضا علیه السّلام جبّته لدعبل الخزاعي رحمه الله. وموارد ذلك كثيرة، ويكفي في ذلك قوله تعالى في الاستثناء من الشعراء الذين يتبعهم الغاوون: «إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا الله كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا»(1).

والتأمّل في الآية يدلّنا على أنّ ذلك إنّما يستثنى في مقام الانتصار ودفع الظلم، وإلا فهو في حدّ ذاته غير مطلوب، بل حتّى في مثل ذلك المقام، يجب أن يتقدّمه ذكر كثير لله تعالى

«إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ». نعم إنّ ما جاء به النبيّ صلّی الله علیه و آله ليس من قبيل الشعر، يتلاعب بخيال الإنسان ويؤثّر في وهمه، وإنّما هو ذكر يذكّره بما تملي عليه فطرته وقد نسيه بتوغّله في ملذّات الدنيا وزينتها. وهو قرآن مبين. و«المبين» إمّا بمعنى موضح، باعتبار أنّه يوضح الحقائق التي لا تبلغها الفكر البشري مهما تعمّق وتوسّع، وإمّا بمعنى الواضح، فإنّه وإن كان دقيقاً عميقاً، لا يبلغ غوره، إلا أنّه من الوضوح بحيث يمكن لكلّ من يجيّد اللغة، أن يتذكّر به ويعتبر ويهتدي إلى الصراط المستقيم.

«لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ»، أي لينذر الرسول صلّی الله علیه و آله من كان حيّاً، وهذا تعريض بمن لا يتأثّر بالإنذار، فكأنّه ميّت. وقد تكرّر هذا التشبيه في

ص: 456


1- الشعراء (26): 227

القرآن الكريم، كقوله تعالى: «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المُوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرينَ»(1)، وغيرها من الآيات. «وَيَحِقَّ الْقَوْلُ»: أي يثبت القول، ولعلّ المراد به كلمة العذاب، فتثبت على الكافرين بإتمام الحجّة عليهم.

ص: 457


1- النمل (27): 80

سورة یس (71-76)

«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)»

«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ»، تعود الآيات إلى التذكير بنعم الله تعالى والتنديد بكفر الإنسان بربّه. والظاهر: أنّ الجملة استينافية و ترتبط بقوله تعالى: «وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ» حيث يتبيّن منها وجه استحقاقهم للعذاب، وهو كفرهم بربّهم، مع أنّ إنعامه عليهم مشهود لهم وملحوظ بوضوح، فلا يحتاج إلى تفكّر وتعمّق، بل يكفي فيه الرؤية. ولذلك عبّر عن ذلك بالرؤية دون العلم: «أوَلَمْ يَرَوْا» ولا وجه لتأويلها بالعلم، كما في «روح المعاني»(1).

ولعلّ التعبير ب_«ما عملت» أيدينا لبيان أنّها نعمة طبيعية، لا دخل للإنسان وعمله فيها، ومع ذلك فهو الذي يتملّكها ويتصرّف فيها. وهذا غاية اللطف والإحسان، فالله سبحانه يخلقها ويصنعها بيده والإنسان يملكها. و«اليد» كناية عن القدرة، حيث إنّ الإنسان يصنع أكثر ما يصنع بيده، فعبّر عن كلّ ما يباشر بصنعه، أنّه صنع يده ، حتّى لو لم يستعمل فيه يده، كما لو باشر العمل برجله، فيقول هذا ما صنعته يدي. ثمّ توسّع في ذلك، فعبّر عن ما يصنع بأمره أنّه صنيعة يده، حيث كان استناد العمل إليه عرفاً أقوى من استناده إلى المباشر.

ولكنّ بعض الناس ممّن يعدون من السلف يعتبرون الآية من المتشابهات،

ص: 458


1- روح المعانی 23: 50

كما في «روح المعاني» قال: «وأنت تعلم أنّ الآية من المتشابه عند السلف وهم لا يجعلون اليد مضافة إليه تعالى بمعنى القدرة أفردت، ك_«يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(1) أو ثنّيت، ك_«خَلَقْتُ بِيَدَيَّ»(2) أو جمعت، كما هنا، بل يثبتون اليد له عزّ وجلّ، كما أثبتها لنفسه مع التنزيه الناطق به قوله سبحانه: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»(3)»(4) . ومن الغريب أنّه عقّب على ذلك بقوله: «وارتضاه كثير ممّن وفّقه الله تعالى من الخلق، ولا أرى الطاعنين عليهم إلا جهلة».(5)

ومن الواضح: أنّ الجهل هو أساس هذا القول ومبناه، فإنّ هذا الكلام لا بدّ من حمله على أنّهم يجهلون معنى اليد وأمثاله إذا نسبت إليه تعالى في القرآن، وأنّهم يقرّون بجهلهم، وإلا فلو حمل على ظاهره لكان كفراً، إذ يقتضي أن يقال: إنّ له تعالى أعضاء، كما لنا ولكناّ لا نعلم حقيقتها، وهذا يستلزم التجسيم وهو كفر، حتى لو كان ذلك على سبيل الاحتمال، إذ من الواجب في التوحيد تنزيهه تعالى عن التجسّم وهو ينافي احتمال التجسّم.

و «الأنعام» جمع نَعَم - بفتح النون - مأخوذ من النعمة، تطلق على الإبل، لأنّ عرب البادية كانت تهتّم بها أكثر من كلّ ما تملك، فتعتبرها أكبر نعمة. وتطلق أيضاً على مجموع الإبل والبقر والغنم.

وقوله تعالى: «فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ» للإشارة إلى أن نفس تملّكهم للأنعام، نعمة من

ص: 459


1- الفتح (48): 10
2- ص75 :(38)
3- الشورى (42): 11
4- روح المعانی 23: 50
5- نفس المصدر

الله تعالى، مع أنّهم لم يخلقوها ولم يباشروا أمراً في صنعها، فهي حيوانات تتكاثر وتتناسل في الطبيعة بتدبير أزلي من الله تعالى، كغيرها من أصناف الحيوان، ولكنّ الإنسان تمكّن - بفضله تعالى - من تذليلها وتملّكها.

«وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ»، لم يكن للإنسان أن يذلّل الأنعام لولا أنّ الله تعالى ذلّلها له، وجعلها بالطبع مستسلمة له، مع أنّ بعضها أقوى منه بكثير وبإمكانها أن تهجم عليه وتقتله، ولكنّه تعالى جعلها منقادة حتّى لطفل صغير، وجعلها تأنس بالإنسان وتطيعه ولا تستوحش منه، بالرغم من أنّه يسخر بعضها لركوبه وحمل أثقاله، ويظلمها في ذلك ويحمّلها أكثر من طاقتها، ويبخل عليها، ويذبح بعضها الآخر أو ينحر ويأكل منها، ومع ذلك فإنّها تبقى ذليلة مطيعة مسخّرة له.

وفي ذلك من عظيم نعمة الباري ولطيف تدبيره ما يدهش الملاحظ الدقيق. وأمّا الذي يمرّ بآيات الله تعالى معرضاً عنها، فيعتبر كلّ ذلك من شؤون الطبيعة، ويرى أنّه هو الذي سخّر لنفسه كلّ هذه الملايين من الأنعام، مع أنّه غير قادر على أن يسخر بعوضة أو ذباباً.

و «من» في قوله تعالى: «فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ» تبعيضية، أي تركبون بعضها وتأكلون لحوم بعضها. و«الركوب» - بفتح الراء - بمعنى المركوب.

«وَ لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ»، منافع الأنعام كثيرة، فالإنسان ينتفع بشعرها وصوفها ووبرها وجلدها ويصنع منها الملابس والفرش والأواني وغير ذلك، ويشرب من ألبانها ويصنع منها مختلف المنتوجات، وبتقدّم العلم لم يبق شيء منها لا ينتفع به.

ص: 460

«أَفَلا يَشْكُرُونَ» كلّ هذه النعم يمرّ الإنسان عليها وكأنّه ملكها بفضل ذكائه ولا يشكر نعمة ربّه!!

«وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آلةٌ لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ»، تدلّ الآية على أنّ الذي يدعو المشركين إلى اتّخاذ الآلهة من دون الله تعالى هو طلب النصر. فهل المراد خصوص الانتصار على الأعداء والحوادث الكونية، أو أنّه يشمل النصر أمام إرادة الله تعالى أيضاً؟ الظاهر هو الثاني وقد مرّ كلام المؤمن: «ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَةٌ إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلَا يُنقِذُونِ»(1) ويظهر بذلك أنّ الوثنيين كانوا يتوقّعون من أوثانهم أن يشفعوا لهم حتّى لو أراد الله بهم الضرّ، بل ربّما ينقذونهم من دون حاجة إلى شفاعة.

وهكذا الإنسان يبحث عن أيّ مهرب يصونه من متابعة القانون والعدالة، فيتشبّث بشفاعة الوسطاء أمام القانون الإلهي حتّى في يوم القيامة، كما كان في الدنيا يتشبّث بالوسائط والرشى ليخالف القانون ويتهرّب منه.

«لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ» من الواضح أنّ الأوثان لا تستطيع أن تعمل شيئاً وهي من صنع أيديهم، فكيف تقدر على ما لا يقدرون عليه؟! بل الأمر بالعكس، فإنّهم - أي المشركين - جند لهم محضرون، أي مكرهون على الحضور لنصرة الأوثان التي يعتبرونها آلهة. وتبيّن أنّ الضمير في قوله تعالى «وهم» يعود إلى المشركين وقوله «لهم» متعلق ب_«جند» و «محضرون» صفة لهم أو خبر ثان.

ولعلّ الإحضار والإكراه من جهة أنّ العادات والتقاليد البالية والتقيّد بها،

ص: 461


1- يس (36): 23

أرغمتهم على ذلك وهم لا يؤمنون بها قلباً، ولذلك كان بعضهم يصنع الوثن من تمر، فإذا جاع أكله. وقد صدر من بعضهم أشعار في هجاء بعض الآلهة لعجزها عن الدفاع عن نفسها.

وفي «الميزان»(1) فسّر الإحضار بما يحصل يوم القيامة لما تكرّر في الكتاب العزيز من التعبير به عن الحضور أمام الله سبحانه ومنها ما مرّ في هذه السورة؛ ولكنّه لا يناسب السياق، كما هو واضح.

ولا يخفى: أنّ الوثن هو كلّ ما يهتمّ به الإنسان ويعلّق عليه الآمال، مع أنهّ من صنع نفسه، سواء كان صنماً من حديد وحجر، أو شخصية زائفة يصنعها الإنسان ويتعبّد لها، ونحن نجد من حولنا أُناساً ليس لهم أيّ ميزة ذاتية على الآخرين بعلم أو عقل أو دهاء أو إيمان أو قوّة بدنية، ولكنّ الدعايات والأعلام والأوهام تجعل منه شخصية أُسطورية، فيلتفّ حوله الناس، ويعقدون عليه الآمال، ويتوقّعون منه أن يكون ناصراً لهم يوم الشدّة، وهو لا يملك ضرّاً ولا نفعاً، بل لا يستطيع نصر نفسه إلا بهؤلاء الذين التفّوا حوله، فالآية تنطبق على كلّ هؤلاء.

هذا، والضمير في «لَهُم» يعود إلى الآلهة، وبهذا الاعتبار صح ّكونه لذوي العقول، وإلا فالأصنام بعنوانها يعود إليها الضمير المؤنث، مع أنّا قد بيّنا أنّ عنوان الآلهة، لا يختصّ بالأوثان.

وذكرت في الآية وجوه أُخرى بعيدة.

ويؤيّد ما ذكرناه ما روي في التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم، قال: «وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر علیه السّلام في قوله: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آلِهَةٌ

ص: 462


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 17: 110

لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ» يقول: «لا يستطيعون الآلهة لهم نصراً وهم لهم - أي للآلهة - جند محضرون»(1).

«فَلا يَحْزُنُكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ» الظاهر: أنّ المراد ب_«القول» ما ينبئ عن شركهم. والنبيّ صلّی الله علیه و آله كان يؤذيه إصرارهم على هذه المقولات التافهة والخرافات الموروثة ويحزن عليهم، فيسلّيه الله سبحانه بأنّ ذلك كلّه بعلمنا. ويكفي المؤمن سلوة أن يعلم أنّ كلّ ما في الكون بعلم الله تعالى.

ويُحتمل أن يكون المراد ب_«القول»، مؤامراتهم التي كانوا يخطّطون لها أو أقوالهم الصريحة في تهديد الرسول صلّی الله علیه و آله، فالله سبحانه يقوّي عزيمة رسوله ويسلّيه ويذهب عنه الحزن والغم،ّ بأنّ كلّ ذلك تحت السيطرة، سواء ما أعلنوا عنه وما أسرّوا به.

ص: 463


1- تفسير علي بن إبراهيم 2: 217

سورة یس (77-80)

«أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)»

«أوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فإذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ»، يقال: إنّ بعض المشركين أخذ عظماً بالياً، فجاء به إلى النبيّ صلّی الله علیه و آله يخاصمه ويتحدّاه، فقال: أنت تقول إنّ هذا العظم سيحيا وقد رمّ ، وهو في نفس الوقت يفتته بيده! فقال له النبيّ صلّی الله علیه و آله: «نعم، ويبعثك ويدخلك جهنّم»(1).

فيقال: إنّ هذه الآيات نزلت جواباً عنه، فإن لم يكن، فهو جواب عن المقولة التي كانوا يتداولونها، فإنّ هذه كانت الفكرة السائدة في ذلك المجتمع، حيث كانوا يستغربون: كيف يمكن أن يحيي الله العظام البالية المندرسة التي صارت تراباً ومضى عليها القرون؟!

وتبدأ الآية بتحقير أصل الإنسان في تكوّنه، ليظهر الله تعالى له قدرته في تطويره إلى أن بلغ به المقام أن يتمكّن من التعبير عمّا في نفسه، ويخاصم ربّه الذي خلقه! «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ» والتعبير ب_«الرؤية» من جهة أنّ تكوّن أصله، مشهود له من جهة مشاهدة أمثاله وإن لم يشهد تكوّن نفسه، ولا حاجة إلى تفسيره بالعلم وإن صحّ في حدّ ذاته.

ص: 464


1- تفسير الآلوسي 23: 79؛ و في تفسير البيضاوي «... و يدخلك النار» (تفسير البيضاوي 4: 443)؛ و في البحار نقلاً عن الدواني أنّ الآية نزلت في حقّ أُبيّ بن خلف. (راجع: بحار الأنوار 7: 49)

والسياق يسقط التطوّرات ويظهره كأنّه فجأة تحوّل إلى خصيم مبين، بعد أن كان أصله نطفة نتنة قذرة حقيرة. وقد مرّ التنويه على أنّ المفاجأة، ربّما تطلق من جهة استغراب الشيء الحاصل وإن لم يكن حدوثه مفاجئاً وسريعاً، وهذا تعبير سائد، فمثلاً تقول: فوجئت به يفعل كذا، أي لم يكن ذلك في الحسبان.

و«النطفة»: القطرة من الماء. و «المبين» يمكن أن يكون بمعنى أنّه يعلن مخاصمته لربّه دون حياء، أو لأنّه يبيّن ما يدور في خلده، في إشارة إلى قدرته على النطق الذي هو ميزة الإنسان، فيكون الغرض بيان غاية ما وصل إليه من تكامل في الجسم.

«وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْى الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» هذه الآية تذكّر مورداً من موارد مخاصمة الإنسان لربّه حيث قال: «مَنْ يُحْى العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» واعتبر هذا ضرباً للمثل لغرابة كلامه كما قيل، أو لأنّه مثّل قدرة الله تعالى بقدرة الإنسان، فجعل له مثالاً من خلقه وحيث لا يمكن للخلق أن يحيوا عظماً رميماً، حكم بمثله على قدرته تعالى. وقوله: «وَنَسِيَ خَلْقَهُ» جملة حالية، أي ضرب هذا المثل وهو ناس خلقه، حيث خلقه الله تعالى من نطفة لا تحمل على الظاهر مميّزات الإنسان.

و«الرميم»: العظام البالية، وهو بمعنى المرموم من رمّ الشيء أي أبلاه، وهو من الأضداد، إذ يأتي أيضاً بمعنى أصلح الشيء. والفعيل بمعنى المفعول يستوي فيه المذكّر والمؤنّث، ولذلك أُتي به وصفاً للعظام. و فيه وجوه أُخرى.

«قُلْ يُحْيِيهَا الَّذى أنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَليمٌ»، الجواب واضح وصريح، فالذي خلقه من البدو ولم يكن شيئاً مذكوراً، قادر على أن يعيد خلقه. والإنشاء هو الإبداع، وقوله: «أَوَّلَ مَرَّةٍ» تأكيد ، إذ يغني عنه التعبير بالإنشاء، فالذي أبدع

ص: 465

خلق الإنسان أوّل مرّة - حين لم يكن بهذه الصورة موجوداً وكانت الموادّ متفرّقة، ليس فيها تركيب عضوي ولا فيها حياة - قادر على إحيائه بعد الموت، فإنّه هو واهب الحياة لتلك الموادّ الميّتة المتفرّقة.

وهو عليم بكلّ خلق، أي بكلّ مخلوق، أي يعلم ما يتوقّف عليه خلقه. و«العليم» صفة مبالغة تدلّ على ثبوت الصفة، فإنّ الله تعالى لا يطرأ عليه الجهل والنسيان.

«الَّذى جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ ناراً فإذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» بيان لأحد مظاهر القدرة الخلاقة للتدليل على المضمون السابق. والذي يبدو أنّ المفسّرين القدامى حيث رأوا أنّ الآية تركز على وجود النار في الشجر الأخضر، مع أنّ الغالب أنّ اليابس هو الذي يُستفاد منه في الوقود، ففسّروا الآية بأنّ المراد به المَرخ - بفتح الميم وسكون الراء - والعفار - بفتح العين - قالوا: إنّهما من الزناد، وأنّ العرب كانت توقد النار بحكّ المرخ على العفار، وفسّروا الآية بأنّ وجه التوصيف به أنّ الله تعالى قد جمع في هذا الشجر الأخضر، النار والماء وهما متضادّان، فكذلك يجمع يقدر أن في العظم البالي الموت والحياة.

ولكنّ الظاهر: أنّ المراد هو جعل الشجر وقوداً لا زناداً، لقوله تعالى: «مِنَ الشَّجَرِ» ولم يقل: ب_«الشجر» وقال تعالى: «فإذا أنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» ولم يقل: «به توقدون». ومفاد الآية: أنّه تعالى جعل منه ناراً لا زناداً، مع أنّ الزناد لا يختصّ بالشجر، بل الغالب فيه استخدام الأحجار؛ هذا على تقدير صحّة ما قالوه في المرخ والعفار.

ومثله القول في قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتى تُورُونَ * أَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَها أم نَحْنُ

ص: 466

المنشووُنَ * نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ»(1)، وهو هنا أوضح، إذ الذي جعله الله تذكرة ومتاعاً، هي النار المشتعلة، فالمراد: التنبيه على أنّ الله تعالى جعل لكم الشجر وقوداً.

ولعلّ التركيز على خضرته للإشارة إلى ما قيل من أنّ الشجر حين اخضراره، يمتصّ الطاقة وتبقى كامنة فيه إلى أن ييبس الشجر ويتّقد ناراً، ولكنّ المفسّرين القدماء كانوا يعتبرون ذلك مجرّد إشارة إلى غرابة جمعه بين الماء وإمكان الاتقاد.

وأمّا قوله تعالى: «فإذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» حيث دلّ على المفاجأة، فهو من جهة التعجيب - كما مرّ مراراً - والعجيب هو الاتقاد من الشجر الأخضر ولو بعد يبسه. ولعلّ السرّ في التنبيه عليه الإشارة إلى أنّ الذي جعل في الشجر الأخضر هذه الميزة، حيث يمتصّ الطاقة الكامنة وتختبئ فيه ما دام حيّاً مخضرّاً، ثمّ تشتعل بعد موته ويبسه، قادر على أن يجمع في الجسم الحيّ قابلية الحياة والحركة، فيبرزها بعد موته وبلاه.

ص: 467


1- الواقعة (56): 71-73

سورة یس (81-83)

«أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)»

«أوَلَيْسَ الَّذى خَلَقَ السَّماواتِ وَالأرض بِقادِر عَلى أنْ يَخلُقَ مِثْلَهُمْ» عود إلى الاستدلال على القدرة على الإحياء بأنّه أهون من بدء الكون وإبداعه، لأنّ المراد ب_«السماوات والأرض» - كما قلنا مراراً - هو كلّ الكون، وبهذا المعنى اعتبره الله تعالى أكبر من خلق الناس. قال تعالى: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالأَرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولكنّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون»(1)، مع أنّه سبحانه قال في خلق الإنسان: «لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»(2)، وإنّما كان خلق السماوات والأرض أكبر، لأنّه خلق الكون من العدم وابتدعه ابتداعاً من غير مثال ولا مادّة سابقة.

ففي هذه الآية يقول: إنّ الذي خلق الكون من العدم، قادر على خلق أمثال ما خلق، لسبق المثال، فالضمير في «مِثْلَهُمْ» إمّا أن يرجع إلى السماوات والأرض باعتبار شمولهما على ذوي العقول، أو إلى البشر، كما هو محلّ السؤال، وهو الأقرب.

وإنّما اعتبر كونهم مثلهم، لا نفسهم، لأنّ الصورة تنعدم، فالذي يحيا ليس هو نفس الصورة، وإن كان من نفس الموادّ المتفرّقة - على ما يقوله أكثر علماء المسلمين - فهو إذاً مثله. وأمّا إذا قلنا - كما قال بعضهم - إنّه لا يلزم أن يكون

ص: 468


1- غافر (40): 57
2- التين (95): 4

من نفس الموادّ وإنّ الجسم إنّما يكون جسم زيد مثلاً، لأنّه متعلّق بروحه، فلو تبدّل كلّ الجسم من حيث الموادّ إلى جسم آخر وتغيّرت صورته، فإنّه لا تتغيّر حقيقته التي هي النفس البشرية، فعلى هذا القول تكون المثلية أوضح.

«بَلَى وَهُوَ الخَلاقُ العَلِيمُ» «بَلَى» كلمة جواب تدلّ على الإثبات إذا كان السؤال عن النفي فمفادها أنّه قادر على ذلك. والجملة التالية دليل عليه. والخلاق مبالغة في الخالق والمراد به القدرة على الخلق. والعليم أيضاً مبالغة في العالم. والصيغة تدلّ على الثبات فهو عالم بكلّ شيء لا يزول علمه. والاستدلال باعتبار أنّ إعادة الخلق لا تحتاج إلا إلى القدرة والعلم. وقدرته وعلمه تعالى غير متناهيين.

«إِنَّما أمرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئاً أن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ» تبيّن الآية أنّ الله تعالى إذا أراد أن يخلق شيئاً، فلا يحتاج إلى أمر آخر لكي يوجد وإنّما إرادته تستتبع الوجود بلا واسطة، لا يختلف عنده الكبير والصغير، والعظيم والحقير، والخلق الأوّل والإعادة.

وكلمة «كن» تعبير عن الإرادة وإلا فليس هناك لفظ يقال ولا عمل يعمل إذ لو كان كذلك لاحتاجت تلك اللفظة أو العمل إلى إرادة أّخرى وكلمة أّخرى وهكذا يتسلسل، والتسلسل مستحيل. مضافاً إلى أنّ الشيء غير موجود حتّى يخاطب بالأمر بالكون، وهذا واضح. فليس هناك ما يفصل بين إرادته تعالى شيئاً وتحقّق ما يريد.

ولذلك قال أمير المؤمنين علیه السّلام على ما في «نهج البلاغة»: «يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ كُنْ فَيَكُونُ لا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ، وَلا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ، وَإِنَّمَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلُ مِنْهُ أَنْشَأَهُ».(1)

ص: 469


1- نهج البلاغة، صبحي الصلاح، الخطبة 186

وفي حديث رواه الكليني والصدوق بسند صحيح عن الإمام الرضا علیه السّلام قال: «وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنّه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر، وهذه الصفات منفيّة عنه وهي صفات الخلق، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف لذلك، كما أنّه لا كيف له».(1)

ولا ينافي ذلك التعبير عنه بالقول هنا وأوضح منه في قوله تعالى «إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ تَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».(2) وكذلك التعبير بالأمر في هذه الآية ولا حاجة إلى تفسيره بالشأن كما في «الميزان»، فكلّ ذلك تعبير عن حقيقة واحدة وهي الإرادة وإرادته تعالى فعله لا يتقدّمه تصوّر وشوق وهمّ.

إنّما الكلام في تدرّج المخلوقات في عالم الطبيعة؟ قال العلامة الطباطبائي: «إنّ الذي يفيض منه تعالى لا يقبل مهلة ولا نظرة ولا يتحمّل تبدّلاً ولا تغيّراً، ولا يتلبّس بتدريج وما يتراءى في الخلق من هذه الأُمور إنّما يتأتّى في الأشياء في ناحية نفسها لا من الجهة التي تلي ربّها سبحانه، وهذا باب ينفتح منه ألف باب».

وقال في تفسير قوله تعالى «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» ،(3) «فهذه الموجودات بأجمعها أعمّ من التدريجي الوجود وغيره مخلوقة لله سبحانه، موجودة بأمره الذي هو كلمة كن كما قال تعالى: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»،(4) وكثير منها تدريجية الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجية. وأمّا إذا لوحظ بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة

ص: 470


1- الكافي 1: 110؛ عيون أخبار الرضا علیه السّلام 1: 110
2- النحل (16): 40
3- آل عمران (3): 59
4- يس (36): 82

كما قال تعالى: «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحِ بِالْبَصَرِ».(1)

ولكن الموجود التدريجي ليس إلا عنواناً اعتبارياً لمجموعة موجودات متتالية، تحقّق كلّ منها فعل من أفعاله تعالى، كما أنّ الحركة ليست إلا وجود الشيء في أماكن مختلفة وانتقاله من مكان إلى آخر وكلّ ذلك حوادث متتالية يتوقّف تحقّق كلّ منها إلى إرادة من الله تعالى فلا حاجة إلى هذا التوجيه.

«فَسُبْحانَ الَّذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْء»، ختم السورة المباركة بتنزيه الله سبحانه عمّا يقوله الظالمون والجاهلون، حيث يزعمون لقدرته تعالى حدوداً لا يمكنه اجتيازها، مع أنّه تعالى بيده ملكوت السماوات والأرض.

و«الملكوت» مبالغة في الملك، والمعنى أنّ الملك الحقيقي لله تعالى وهو عبارة عن افتقار الكلِّ إليه في الوجود، فلا استقلال لشيء من دون إرادته، والكلّ في قبضته. و«اليد» كناية عن القدرة.

«وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»، لعلّه تهديد لمن أنكر قدرته تعالى على الإحياء بأنّ مرجعكم إليه وحسابكم عليه والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 471


1- القمر (54): 50

ص: 472

فهرس المطالب

فهرس المطالب

مقدمة الناشر ... أ

مقدمة المؤلّف ... ج

هذا التفسير ومنهجه ... د

الأمر الأوّل: الحاجة إلى التفسير ... ه

1 - معرفة اللغة الأصلية … ز

2 - الألفاظ المشتركة ... ح

3- المجازات والكنايات ... ح

4 - الآيات المشتملة على المسائل الاعتقادية ... ط

5 - الحقائق التاريخية … ط

6 - الحقائق الكونية ... ي

7 - شأن نزول الآيات الأمر ... ي

الثاني: التفسير بالرأي ... ك

روايات الشيعة في التفسير بالرأي ... ك

روايات العامة في التفسير بالرأي ... م

العمل بظواهر الكتاب ... ن

الاستغناء بالكتاب والمنع من نشر السنة ... ع

المراد بالتفسير بالرأي ... ق

1 - محاولة تفسير القرآن بالقرآن ... ق

ص: 473

2 - تأثير المدارس الفلسفية ونحوها ... ر

3 - التعصّب الأعمى ... ش

4 - محاولة تطبيق القرآن على العلم الحديث ... ت

5 - التفسير الباطني ... خ

تفسیر سورة الأحزاب

سورة الأحزاب (1 - 5) ... 3

سورة الأحزاب (6) ... 20

سورة الأحزاب (7- 8) ... 27

سورة الأحزاب (9-11) ... 33

سورة الأحزاب (12-17) ... 50

سورة الأحزاب (18-20) ... 56

سورة الأحزاب (21_24) ... 65

سورة الأحزاب (25-27) ... 75

سورة الأحزاب (28-29) ... 81

سورة الأحزاب (30-31) ... 85

سورة الأحزاب (32-34) ... 89

سورة الأحزاب (35) ... 103

سورة الأحزاب (36-40) ... 106

سورة الأحزاب (41-44) ... 120

سورة الأحزاب (45- 48) ... 124

سورة الأحزاب (49- 52) ... 130

سورة الأحزاب (53- 55) ... 152

سورة الأحزاب (56) ... 160

سورة الأحزاب (57- 59) ... 165

سورة الأحزاب (60- 62) ... 171

فهرس المطالب 475

ص: 474

سورة الأحزاب (63- 68) ... 174

سورة الأحزاب (69- 71) ... 180

سورة الأحزاب (72- 73) ... 184

تفسير سورة سبأ

سورة سبأ (1-2) ... 191

سورة سبأ (3- 6) ... 195

سورة سبأ (7-9) ... 199

سورة سبأ (10-14) ... 204

سورة سبأ (15-19) ... 214

سورة سبأ (20-21) ... 224

سورة سبأ (22-23) ... 227

سورة سبأ (24-27) ... 233

سورة سبأ (28-30) ... 238

سورة سبأ (31-33) ... 243

سورة سبأ (34-39) ... 249

سورة سبأ (40-42) ... 258

سورة سبأ (43-45) ... 261

سورة سبأ (46-50) ... 264

سورة سبأ (51- 54) ... 273

تفسير سورة فاطر

سورة فاطر (1-4) ... 279

سورة فاطر (5- 8) ... 287

سورة فاطر (9-11) ... 293

سورة فاطر (12-14) ... 304

سورة فاطر (15- 18) ... 312

ص: 475

سورة فاطر (19-23) ... 320

سورة فاطر (24- 26) ... 323

سورة فاطر (27-30) ... 327

سورة فاطر (31-35) ... 337

سورة فاطر (36-37) ... 352

سورة فاطر (38- 39) ... 356

سورة فاطر (40-41) ... 362

سورة فاطر (42- 43) ... 367

سورة فاطر (44- 45) ... 373

تفسير سورة يس

سورة يس (1-12) ... 379

سورة يس (13-19) ... 398

سورة يس (20- 29) ... 405

سورة يس (30-32) ... 414

سورة يس (33-40) ... 417

سورة يس (41-44) ... 425

سورة يس (45- 47) ... 430

سورة يس (48-54) ... 435

سورة يس (55- 58) ... 441

سورة يس (59-62) ... 444

سورة يس (63- 68) ... 448

سورة يس (69-70) ... 454

سورة يس (71- 76) ... 458

سورة يس (77-80) ... 464

سورة يس (81- 83) ... 468

ص: 476

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.