رحلة في افاق الحياة والمعرفة المجلد 2

هوية الكتاب

رحلة في افاق الحياة والمعرفة

الجزء الثاني

سيرة ومسيرة الإمام المجدد

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1439 ه - 2018 م

مؤسسة الإمام الشيرازي العالمية

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1439 ه- - 2018 م

مؤسسة الإمام الشيرازي العالمية

7900 Backlick Rd, Springfield,VA 22150 USA

ص: 2

رحلة في افاق الحياة والمعرفة

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ

نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ

ص: 4

الحوار الخامس: مع فضيلة الحجة الشيخ ناصر الأسدي دام عزه

اشارة

ص: 5

الصورة

ص: 6

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعترته الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم إلى يوم الدين.

أما بعد، ينشغل القسم الأول من هذه الأوراق بطرح العديد من الأسئلة على سماحة الشيخ ناصر الأسدي، وأما الأقسام الثلاثة الأخرى فتنشغل بفعل السرد عبر شهاداته وهو يسترجع بذاكرته الكثير من التفاصيل.

قد لا نجد في القسم الأول الكثير من ملامح الشيخ، لكن بقية الأقسام سنجد تلك الملامح واضحة بصورة أكبر، فهو إذ يروي الكثير من التفاصيل كأنما يروي جزءاً كبيراً من حياته، لكنها حياة ليست بمعزل عن حياة من يتحدث عنه وهو الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) .

كيف يمكن صناعة الذات وصناعة العالم في الوقت نفسه؟!

من خلال فعل السرد المتضمن في هذه الانطباعات والشهادات التي يرويها سماحة الشيخ ناصر الأسدي، وهو فعل لا يستذكر ماضيه إلا عبر ماضي شخصية أخرى، اندمج فيها حد الذوبان حباً وتطلعاً.

وهذا الاستذكار في حقيقته هو سيرة ذاتية للمتحدث تطرح رؤية لما نسميه

ص: 7

ذاتنا وأفعالها، وتأملاتها وأفكارها ومكانها في العالم.

لكن ما السيرة الذاتية عموما؟ إنها تتكون مما يلي: راوٍ، هنا والآن، وهو الشيخ الأسدي، يأخذ على عاتقه مهمة وصف تطور شخص هناك وحينذاك، وهو الإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) ، شخص تصادف أنه يحمل الإسم نفسه. وينبغي عليه طبقاً للعرف أن يستدعي هذا الشخص من الماضي إلى الحاضر بطريقة ينصهر فيها الشخص المقصود والراوي في النهاية ويصبحان شخصاً واحداً بوعي مشترك.

والسيرة الذاتية عبر استرجاعها للأحداث والمواقع والأشخاص والأفكار، هي تنضوي تحت ما يعرف بالسرد، أو الحكي أو القصّ المباشر من طرف الكاتب أو الشخصية في مثل هذه الكتابات، يهدف إلى تصوير الظروف التفصيلية للأحداث والأزمات. ويعني كذلك برواية أخبار تمت بصلة للواقع أو لا تمت، أسلوب في الكتابة تعرفه القصص والروايات والسير والمسرحيات.

يتضمن السرد سمتين بالضرورة: إحداهما الحكي عما حدث لجمع من البشر مع نظرة إلى النظام الذي حدثت فيه الأمور، ويستعين هذا الجزء بشكل كبير بأدوات مثل الفلاش باك، والنظر إلى الامام، وأدوات أخرى. لكن لابد أيضا أن يجيب العمل السردي على السؤال: لماذا يستحق هذا أن يحكى، ما أهميته؟

ما يبرر الحكي هو التزام بمجموعة معينة من المسلمات بشأن الذات، وعلاقة المرء بالأخرين، ورؤية المرء للعالم وموضعه فيه.

ينبغي أن تكون لهذه الشهادات والانطباعات خاصيتان على الأقل، ينبغي أن تركز على الناس وحالاتهم المتعمدة من رغباتهم، ومعتقداتهم، وافكارهم،

ص: 8

وانشطتهم، وانفعالاتهم إلى آخره.

وينبغي أن تركز على الكيفية التي أدت بها هذه الحالات المتعمدة إلى أنواع معينة من الأنشطة. وينبغي أيضا أن تبدو مثل هذه الشهادات والانطباعات نظاماً يحفظ، أي يحفظ التسلسل أو يبدو أنه يحفظه، الخصائص المسلسلة لما تكونه الحياة نفسها، أو يفترض انها تكونه.

هذه المقدمة ضرورية لقراءة ما يكتبه الشيخ ناصر الأسدي، حيث الأسئلة التي طرحت عليه للاستذكار والإجابة قليلة بالمقارنة مع انثيالات ذاكرته المتخمة بالتفاصيل، يتذكر قسماً كبيراً منها، وينسى غيرها قليل.

إنه في هذه الكلمات وأنت تقرأه، كأنك تقرأ سيرته الذاتية، لكنها سيرة آثر أن يدمجها بسيرة شخصية أخرى، يعتبرها نبراساً وراية عالية رافقها في حياته على مدى أكثر من أربعة قرون أو تزيد، وهي فترة زمنية غنية وشاسعة بالقياس إلى ما يعيشه الإنسان.

فمن مدرسة حفاظ القرآن، إلى أزقة كربلاء المقدسة ومعاهدها ومدارسها الدينية وحسينياتها، كان الأسدي لا يبصر، ووعيه في بداية تشكله، غير صورة لعالم دين، هو مهوى أفئدة الكثيرين رغم صغر سنه، وكل شخصية بمثل مقام هذا العالم تأخذ الرهبة والخجل والتردد كثيرين من المقدمين على تحيته والسلام عليه، لكن هذا العالم لم يكن ليترك شيئاً مما تولده مكانته أو مقامه من الإقبال عليه، لأنه دائماً يستقبل القادمين إليه بكل ود ومحبة.

تلك الجذور الأولى، تشبثت بالأرض وامتدت عميقاً، وهي تتقدم بخطوات صاحبها في العمر والتجربة.

لقد أصبح قريباً من أستاذه، وهو يشعر باطمئنان أكبر في وجوده معه

ص: 9

وقريباً منه، في غربة قسرية لليد واللسان فرضتها سلطة البعث في العراق على الإمام الراحل (رحمه اللّه) وتلاميذه ومقلديه.

لهذا جاءت أكثر تلك الشهادات واصفة لكمّ غفير من الذكريات والمواقف والأحداث والأشخاص، في مدينتي مشهد وقم المقدستين، حيث تلازم الرفقة وتراكم التجربة والنضج المعرفي.

ص: 10

من دفاتر الأيام

ص: 11

الصورة

ص: 12

تمهيد

في الحياة العلمية للإنسان تمر عليه الكثير من الشخصيات، لكن قلة منها تترك أثراً لا يُنسى، فبعض من تلك الشخصيات تبرز أهميتها في حياة أمة، وبعضها في حياة أفراد بل فرد، ولعل الإمام الراحل آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) من تلك الشخصيات التي تركت أثراً لا يُمحى في حياة كل مَنْ أحاط به أو سمعه أو قرأ له في مسيرة الأمة الإسلامية عامة.

لقد كان (قدس سره) يأمل ويعمل لرقي الإنسان المسلم بكل وسعه، ويفكر في كل ما يُسهم في تشكيل الشخصية العلمية العملية لهذا الإنسان.

وننقل - في حديثنا - خواطر وحوارات حول الإمام الشيرازي (قدس سره) مع واحد من معاصريه وممن تأثروا به، وهو سماحة الشيخ ناصر الأسدي (حفظه اللّه).

الصورة

ص: 13

ص: 14

القسم الأول

في مدرسة حفاظ القرآن

كنّا نعيش في كربلاء المقدسة ضمن أسرة محافظة، وكان أهلنا يمتنعون عن الحاقنا للدراسة في المدارس الحكومية؛ والسبب هو توجهها العلماني، وعدم تربيتها للطالب تربية دينية، لذلك التحقت بمدرسة (حفاظ القرآن الحكيم الأولى)(1) الواقعة مقابل الحسينية الطهرانية(2)، والملاصقة لجدار الصحن الحسيني الشريف, فكانت بدايتي في الصف الأول الإبتدائي في هذه المدرسة المتكونة من ثلاثة صفوف فقط في مرحلة التأسيس الأولى.

لم أكن وقتها أعرف السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ولم التقِ به بعد, وبعد مرور

ص: 15


1- تأسست على يد المرجع الديني الكبير الراحل السيد ميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) ، وكانت ثلاث من هذه المدارس للبنين وثلاث للبنات، وفيما بعد واصل المشوار نجله الراحل المرجع الديني آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه) ، بالإشراف على هذه المدارس. وكان الهدف من هذه المدارس، إنشاء أرضية دينية أصيلة للتعليم من الصف الأول الإبتدائي، بحيث يحمل الطالب معه إلى المرحلة المتوسطة الثقافة الدينية. ويمكن الإشارة إلى أبرز خريجي هذه المدارس هو الفقيه الراحل آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) .
2- شيدت هذه الحسينية على أرض خان الباشا الذي بناه الوزير العثماني حسن باشا سنة 1127ه- (1715م) لأستقبال زوار الإمام الحسين (عليه السلام) في بداية عام 1951.

فترة من الزمن دعينا مع الأساتذة إلى صلاة الجمعة جماعة في الصحن الحسيني الشريف ولم نبلغ سن التكليف بعد, وكان المكان مكتظاً بالمصلين المشاركين بالصلاة في صحن الإمام الحسين (عليه السلام) ، وكانت هذه المناسبة بداية لمعرفتنا بالسيد الراحل (رحمه اللّه) الذي كانت مدرستنا معروفة باسمه حيث رأيناه لأول مرة فيها وهو يؤم جموع المصلين في الصحن الحسيني الشريف.

كان برنامجنا اليومي مساءً مع بعض الزملاء كالآتي: نذهب لنصلي المغرب والعشاء جماعة، ثم نذهب لنسلّم على السيد الشيرازي (رحمه اللّه) وهو جالس على سجادة الصلاة ونقبِّل يديه، وهذا البرنامج كان قد استمر لفترة وجيزة، ثم انتقل مكان المدرسة إلى منطقة اسمها زقاق الداماد(1)، فأصبحت المدرسة كبيرة, لتصبح صفوفها ستة تتفرع من كل صف شُعب ك: الصف الأول شعبة: أ، الصف الثاني شعبة: ب، إلى آخره.

الصورة

وكان للسيد الشيرازي (رحمه اللّه) برنامج لزيارة المدرسة مرتين في السنة يستعد الجميع قبل زيارته لها فيتم تنظيفها وترتب وتنظم، ليأتي سماحته (رحمه اللّه) فيزور كل صف فيها، ثم يدخل على الطلاب فيقومون ويسلمون عليه، فيبدي النصح الجميل للجميع ولاسيما الكبار، وأحياناً كان يدور نقاش قصير بين سماحته (رحمه اللّه) والأستاذ لمدة دقائق، ويتحدث إلى الطلاب ثم يودعهم ليذهب بعدها إلى صف آخر، وهكذا مع بقية الصفوف والطلاب.

كان الطلاب يستبشرون ويفرحون لزيارته، ويشعرون بأن لهم دور مهم في

ص: 16


1- زقاق كان يقع منطقة بين الحرمين الشريفين، وقد هدم وأزيل منذ عدة سنين ولا يوجد له أثر الآن.

حياته (رحمه اللّه) , وأتذكر في إحدى المرات أنه دخل فجأة إلى المدرسة في وسط الاستراحة حيث كان الطلاب يلعبون ويركضون في الساحة والضجيج والصياح واللعب منتشر في كافة الأرجاء، فخيّم الهدوء فجأة واجتمع الطلاب حوله ليسلموا عليه ويقبَّلوا يده, ويبقوا معه لدقائق ليرد سلامهم بكل ود ومحبة، ثم يودعهم ويذهب إلى الإدارة, فزيارته إلى مدرستنا بين فترة وأخرى، مثل زيارة الشهيد السيد حسن (رحمه اللّه) .

كان من النشاطات البارزة أيضاً في هذه المدرسة وقتها تأسيس فرقة للمسرح، وكنت ضمن أعضاء هذه الفرقة، حيث تقدم كل سنة عرضين مسرحيين، وقد اشتركت في مسرحيات عديدة منها:

الصورة

(فدائيو الإسلام)، ومسرحية (الإمام علي (عليه السلام) مُحطم اليهود)، حيث كان السيد الراحل (رحمه اللّه) حريصاً على مشاهدة هذه المسرحيات، وكان حضوره مميزاً ويضفي جواً من الأهمية الكبيرة لما نقدمه من عروض، وحينما يبدأ العرض كان سماحته (رحمه اللّه) يجلس في الصف الأول من المشاهدين، وعندما كنا نراه هو وأخوه الشهيد السيد حسن (رحمه اللّه) (1) يشاهداننا ينتابنا شعور بالفخر والاعتزاز والأهمية،

ص: 17


1- ينحدر سماحته من أسرة عريقة في العلم والسياسة والفضل، من نسل المجدد الشيرازي الأول السيد محمد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) ، ومن ناحية الأم يكون الميرزا محمد تقي الشيرازي (رحمه اللّه) قائد ثورة العشرين في العراق، ووالده المرجع الديني الميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) اجتهد على يد مراجع كبار واهتم بالجوانب الفكرية و الاقتصادية والسياسية إلى جانب تخصصه في الفكر الإسلامي. مارس دوره الموجه في الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة وغيرها، إلى جانب تبنيه لها وذلك بالتعاضد مع أخيه الأكبر الإمام الراحل آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) ، وقد أمضى فترة طويلة من حياته بين الاعتقال والنفي. إتخذ من لبنان مقراً له عام 1970 م، وقبل ذلك كان يتردد كثيراً على سوريا، أسس جماعة العلماء عام 1977 م إلى جانب تبنيه لها كما أسس الكثير من المؤسسات التربوية والثقافية والدينية والاجتماعية في كل من العراق وسوريا ولبنان وأوروبا وأستراليا وساحل العاج وسيراليون ونيجيريا وكينيا. وضع أول لبنة في تأسيس الحوزة العلمية الزينبية في سوريا عام 1975 م وقد خرجت هذه الحوزة منذ تأسيسها إلى اليوم المئات من الطلاب من مختلف الجنسيات وتعتبر اليوم أكبر وأهم الحوزات في هذه البلدة الطيبة وهي ما زالت اليوم تمارس كل الصيغ للوصول إلى تحقيق الأهداف الإسلامية عامة. اغتالته مخابرات النظام العراقي في بيروت عام 1980، وأصبحت تقام له مجالس تأبين سنوية.

أما باقي الحضور فكانوا من الطبقة المتميزة في كربلاء المقدسة ومن وجهاءها وشخصياتها، وكانت بطاقات الحضور تباع أحياناً بأثمان باهظة - من جهات غير مسؤولة - ولا تصل ليد أي أحد، وأحياناً إذا كان هناك إقبال جماهيري يستمر العرض لأربعة أيام متتالية وهذه أطول فترة حينذاك وكان وقت العرض قبل شهر محرم الحرام في شهر ذي الحجة والذي هو آخر السنة الدراسية.

هذه هي خلاصة لقاءاتنا الأولى بالسيد الراحل (رحمه اللّه) وهكذا كانت.

وفي وقت من ذلك الزمن، وحينما كنا نحضر صلاة الجماعة في الصحن الحسيني الشريف، كان يوجد شيخ يدعى الشيخ يونس، وهو رجل متواضع وملتزم بالعمل التبليغي، ويقع مكتبه فوق سطح الكشوانية(1) - التي في مدخل الحضرة الشريفة - وتقع مقابل الباب المؤدي إلى شارع الشهداء أي من الجانب الغربي للصحن الشريف في المكان الذي يؤدي السيد الراحل (رحمه اللّه) فيه الصلاة وكان سماحته (رحمه اللّه) يعمل بالاتفاق مع أحد الشيوخ ليتسنى له الكلام بحرية

ص: 18


1- هو المكان الذي يتم فيه تأمين أحذية الزوار في الجوامع والحسينيات والمزارات.

وعفوية، وليس إلقاء محاضرة رسمية، فيحضر الشباب والأولاد الأصغر سناً، والذين كان عددهم في حدود العشرين طالباً, ليسرد لهم قصص الأنبياء (عليهم السلام) ، وأحياناً يتناول مسألة أو اثنتين في الفقه لمدة قصيرة من الزمن تتراوح بين ربع إلى نصف ساعة كل ليلة بعد الصلاة، وكان الحضور طوعياً لتلك الجلسات لا قانون محدد فيها، حيث كنا نحضر أحياناً، ونغيب عن الحضورعندما يكون لدينا برنامجاً آخر في مكان ما، وهذا العمل التبليغي الجميل كان لفترة معينة قبل أن تشعر به المخابرات البعثية والتي كانت تقف بالمرصاد ضد أي نشاط ديني.

مرحلة التعميم

كانت أيام تلك الفترة الزمنية، هي الوقت الذي التقينا فيه بسماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وبعدها كنا نواصل دراستنا في المدرسة إلى أن أصبحنا على أعتاب مرحلة التعميم - أي لبس العمامة وزي رجال الدين - حيث كان لدى سماحته (رحمه اللّه) برنامج للتعميم والذي يشمل كافة الطلاب الذين يصلون إلى مرحلة معينة في المدرسة، ويُشخّص فيهم المسؤولية لتحمّل مثل هذه المهمة الكبيرة فكان سماحته (رحمه اللّه) يسعى إلى تتويجهم بالعمامة واللباس الإسلامي الخاص برجال الدين والعلماء واقتداء بلباس رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان يأخذ الطلاب وعلى شكل مجاميع أولى وثانية .. وهكذا للتعميم.

وفي أحد الأيام بعث لي مدير المدرسة سماحة الشيخ ضياء الزبيدي(1) - والذي كان قيادياً ناشطاً واعياً وشجاعاً ومجاهداً، وللإنصاف أقول أنه كان بطلاً من أبطالنا (أطال اللّه عمره)، وهو الآن خطيب حسيني بارع - ليطلبني لرؤيته,

ص: 19


1- ناشط ومجاهد وخطيب حسيني مميز، كان مدير مدرسة حفّاظ القرآن الاولى.

فذهبت إلى غرفة الإدارة، وكنت متوجساً أن يحاسبني لفعل شيء معين, أو أي إشكال وخطأ يمكن أن أكون قد ارتكبته دون قصد مني، فقام من وراء طاولته وأتى ليجلس بجانبي على الأريكة في غرفة الإدارة، وبدأ يتكلم كلاماً مشجعاً ومادحاً ومثنياً على دور الخطباء والمبلغين الذين يؤدون الرسالة الإسلامية ولهم شأن اجتماعي كبير ومحترم في المجتمع وفي خط الإمام الحسين (عليه السلام) ، وأتذكر يومها أنه ذكر لي عدة نماذج قائلاً: هذا الذي تراه الآن خطيب ناجح ويعيش بمستوى اقتصادي ممتاز وأموره جيدة وفق برنامج تبليغي ورسالي خاصة في دول الخليج ، ومن الناحية المعنوية فهو - أي المعمم - يعتبر خادماً لسيد الشهداء (عليه السلام) . هذا الكلام شجعني جداً، واقتنعت أن أتعمم، ولكن والديَّ رفضا هذه الفكرة؛ لأنني كنت الوحيد لهما وليس لديهما ابن آخر يعيلهم في هذه الحياة.

لكن في إحدى الأيام، وعند رجوع والدي إلى البيت قال لي: لقد رضيت أن تتعمم.

فسألته والدتي: كيف وأنت كنت رافضاً لذلك؟

فقد اتضح أن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) كان قد بعث الشيخ ضياء الزبيدي برفقة العلاّمة السيد عبد الحسين القزويني (حفظه اللّه)(1) نجل الشهيد آية اللّه السيد صادق القزويني، الذي كان معلمنا في مدرسة الحفّاظ، وهو خطيب بارع، إلى والدي وقالوا له: إن هذا هو طلب السيد، فدع ابنك يتعمم؛ فأجابهم والدي قائلاً: ما دام السيد الشيرازي قال ذلك فليس لدي أي مانع.

ص: 20


1- السيد عبدالحسين بن السيد محمد صادق بن السيد محمد رضا بن المرجع الكبير آية اللّه السيد محمد هاشم الموسوي القزويني الحائري، وينتهي نسبه إلى السيد إبراهيم المجاب بن محمد العابد بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) .

تهيأت بعد ذلك لدراسة المقدمات، وكان أحد المعلمين والمربين الجيدين وهو الشيخ كميل كريم (حفظه اللّه) يجيد الخياطة، فخاط لنا صاية - وهي لباس خاص للمعممين -، وتم تحديد موعد ارتدائنا العمامة، وكان ذلك يوم ميلاد الإمام العسكري (عليه السلام) في العاشر من ربيع الثاني عام 1970م وبعد وفاة المرحوم السيد الحكيم (رحمه اللّه) (1) بثلاثة عشر يوماً، أنا ومعي الشيخ محمد علي المؤمن (رضوان اللّه تعالى عليه)(2) حيث جمعنا الشيخ ضياء الزبيدي مع طلاب الصف وكنا حوالي ثمانية وعشرين طالباً، ذهبنا إلى بيت السيد الراحل (رحمه اللّه) يوم الميلاد ومعنا ملابس التعمم - الصاية والعباءة - وكان بيت السيد الراحل (رحمه اللّه) يقع في شارع الإمام علي (عليه السلام) - هناك اجتمعنا مع سماحته (رحمه اللّه) حيث كان لديه عمل وعنده ضيوف في غرفة أخرى، ثم بدقائق حضر وطلب قماش العمامة من الشيخ ضياء الزبيدي فأخذه ولفَّ العمامة، وسأل: مَنْ الذي سيتعمم؟ خاطبني الشيخ ضياء: قم!

وأوقفني السيد (رحمه اللّه) باتجاه القبلة وقرأ سورة (القدر)، وطلب مني قراءتها ووضع العمامة على رأسي، وألبسني الصاية والعباءة، ورفع الحضور أصواتهم بالصلاة على محمد وآل محمد، وكان بعض الوجهاء والتجار أهدوا ساعات منضدية للطلبة بمناسبة الميلاد وأمر السيد الراحل (رحمه اللّه) بإحضارها وباشر بتوزيعها على كل الطلاب الحاضرين، وكانت تلك الهدايا قيّمة وثمينة

ص: 21


1- مرجع ديني شيعي كبير، تسنّم المرجعية بعد السيد أبو الحسن الاصفهاني وكان المرجع الثاني للشيعة في العالم، ثم تسنم المرجعية العامة للشيعة بعد وفاة السيد حسين البروجردي، وأخذ بوضع نظام إداري للحوزة, وشرع ببناء المدارس وإرسال المبلغين إلى نقاط العراق المختلفة.
2- أحد الطلاب في مدرسة حفاظ القران، وقاريء مميز للقران الكريم.

ولها فائدة كبيرة إذ لا يملك معظم الناس ساعات ونحن كنا من الطبقة الفقيرة، وكانت الساعة منضدية هلالية الشكل وجميلة جداً ولطيفة، ثم أعطانا هدية نقدية في ظرف مقدارها دينار عراقي، والدينار العراقي - ذلك اليوم - يعني الكثير بالنسبة لنا, والقوة الشرائية له كانت تعادل حدود خمسة وأربعين إلى خمسين دولاراً، ففرحنا كثيراً لهذه الهدية التشجيعية، وبعدها قدَّم لنا السيد الراحل (رحمه اللّه) الوصايا والنصائح التي بيّن فيها وبشكل مختصر مسؤولية رجل الدين وما يجب عليه القيام به من نشاطات، وكانت نصائحه لمن يعممهم، خلاصتها: لزوم التحلي بالعلم الكثير والتقوى والأخلاق الحسنة والسعي إلى تأسيس المؤسسات التربوية والأخلاقية, وتنمية موهبة الخطابة، والمداومة على الكتابة والتأليف، وغير ذلك.

كان لديه خمس نصائح يكررها في مناسبات التعميم، لكن في إيران أضاف إليها نظريته في لزوم إقامة دولة الألف مليون مسلم، أي لزوم السعي لبناء المؤسسات والتي يجاهد من أجل قيامها؛ إذ كان يقول لكل طالب يعممه: ضع هذا في بالك؛ وهو أن يكون عملك متواصلاً وبدون انقطاع طيلة حياتك.

كان ذلك اليوم المشهود الذي تعممنا فيه ذا أثر كبير في حياتنا, وبعدها بخمسة شهور هاجر السيد (رحمه اللّه) من العراق، في نفس العام الذي تعممنا فيه، وكانت هجرته في اليوم الخامس والعشرين من شعبان المعظم.

بالعودة إلى ذكريات التعميم مع الشيخ محمد علي المؤمن، عند حضورنا في اليوم التالي إلى المدرسة، وعندما رآنا زملاؤنا الطلاب فرحوا كثيراً وقاموا بمباركتنا، ثم ذهبنا إلى صفنا ونحن نرتدي العمامة، وقبلنا كان الشيخ كاظم السباعي(1) وأفراداً

ص: 22


1- أستاذ وباحث وخطيب حسيني ومن الطلبة المميزين في مدرسة حفاظ القرآن الكريم.

آخرين قد تعمموا وبذلك كان صفاً يضم مجموعة من المعممين مثل صف الحوزة. وكان قد بعث سماحة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ببيت شعر إلى إدارة المدرسة، دونه بدوره الشيخ كميل (حفظه اللّه) على لوحة التعليم في الصف وكنا مجتمعين نتجاذب أطراف الحديث وهو يخبرنا: أن سماحة السيد أنشد هذا الشعر خصوصاً للطلاب المعممين وليس لعموم الناس, وكان البيت الشعري يقول:

مشت العمائم في البلاد وطوحت***بكشيدة وسدارة وعقال

البرنامج الأسبوعي لسماحة السيد الراحل (رحمه اللّه)

خلال الفترة التي كان فيها سماحة السيد (رحمه اللّه) موجوداً في العراق كان هناك قرار من أساتذتنا بتواجدنا صباح كل جمعة في مكتب سماحته (رحمه اللّه) ، في منزله الذي كان يقع في شارع الإمام علي (عليه السلام) ، حيث استأجر منزلاً آخر بجانب المنزل القديم؛ لضيق مساحته وازدحامه بالحاضرين، فكنا نذهب إلى هناك للاستماع إلى توجيهاته لعموم الناس وكنا نستفيد من هذه التوجيهات، وأحياناً كان يأتي شباب وأطفال، فكان يعرّفهم علينا، أي أنه يربط الزائرين بالموجهين، ونقوم بالتنسيق معهم والارتباط بهم، من خلال استقبال هؤلاء الأفراد الجدد وتبادل الحديث معهم وتوزيع الكتب عليهم.

وفي صبيحة الجمعة أيضاً كان طلبة الجامعة يأتون من بغداد - وفيهم من أهالي كربلاء المقدسة يتلقون دروسهم في جامعة بغداد - ويكون مركز اجتماعهم في بيت السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وكان يلقي عليهم محاضرة خاصة بجيل الشباب الحوزويين وأخرى بجيل الجامعيين.

وكذلك كان عنده برنامج في كل ثلاثاء ليلاً في جامع العطارين في كربلاء

ص: 23

المقدسة لعموم الناس، وكان مجلساً كبيراً يحضره المئات، حيث يلقي عليهم محاضرة أيضاً، أما في عصر الجمعة فيلقي سماحته (رحمه اللّه) لرجال الدين محاضرة خاصة، وأنا لم حضر مثل هذه المحاضرات؛ لصغر سني حيث كانت خاصة بالأكبر منّا سناً، وما عدا ذلك فنحن لم نتخلف عن أي برنامج لسماحته (رحمه اللّه) وكنا ملتزمين جداً بالحضور إلى تلك البرامج.

فالسيد الشيرازي (رحمه اللّه) كانت لديه أسبوعياً ثلاث محاضرات أساسية، محاضرة للجامعيين، ومحاضرة للكسبة والتجار، ومحاضرة لرجال الدِّين.

وضمن برامجه الأساسية كان السيد (رحمه اللّه) يسعى إلى تأسيس الهيئات الشبابية، التي كانت لنا فيها مشاركة واسعة, ففي كربلاء المقدسة ومحيطها تأسست حوالي مائتي هيئة شبابية والهيئة تعني ندوة دينية شبابية أسبوعية، وكانت الهيئة عبارة عن أفراد من الشباب المثقفين المتدينين يكوّنون خلية من شخص أو اثنين يختارون مكاناً معينا ليقيموا فيه مجالساً ومحاضرات، وغالباً ما يكون في مسجد في يوم خاص يحدد لذلك وقد يصل عدد الأفراد المشاركين في الهيئة إلى (120) فرداً يكون أحدهم مسؤولاً عنهم، وهذا المسؤول صاحب شخصية قوية ومثقف يبدأ محاضرته فيتكلم عشر دقائق أو ربع ساعة أو ثلث ساعة أحياناً ليطرح مسألة فقهية، أو مسألة تاريخية أو يتكلم عن إمام من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) مثلاً، وبعد ما ينتهي يبدأ أفراد آخرون يحاضرون بالموجودين، عبر طرح مواضيع معينة.

كان البرنامج يبدأ بقراءة القرآن الكريم، حيث يوزعون مجموعة مصاحف على الحاضرين ويجلسون بشكل مربع تقريباً ويضعون الرحلات القرآنية الخاصة أمامهم ويأخذون بقراءة القرآن الكريم وتلاوته، بعد ذلك يتحدث المسؤول إلينا

ص: 24

لبعض الوقت ثم شخص آخر بعده، ومن ثم تبدأ مرحلة السؤال والجواب.

ألقيت أول محاضرة في حياتي في هيئة القرآن الحكيم وكان مقرها قبل الوصول لشارع الإمام علي (عليه السلام) باتجاه الجنوب إلى ساحة البلوش، وكان الحاج مصطفى المؤذن(1) مدير تلك الهيئة.

الصورة

وقد كلفت أن القي محاضرة من كتاب (في ظل الإسلام) وهو كتاب رائع من مؤلفات السيد الشيرازي (رحمه اللّه) والذي تأثرت به كثيراً،وفيه بحوث عن الإنسان، وعن السلم واللين، وبحث حول المرأة وبحث حول الحيوان، وبحث حول النبات، وبحث حول المجتمع، وبحث حول القضاء الإسلامي، وقد أعجبني موضوع القضاء فهيأت محاضرتي حوله، وكان التحدث حول القضاء الإسلامي في العام 1970م يعتبر حديثاً حضارياً ومتطوراً وجميلاً، وكان فيه نوع من الإبداع أن يتكلم الخطيب الحسيني عن القضاء الإسلامي وأسلوبه وطريقته. وفي وقته لم تكن هناك محاضرات تتطرق إلى مثل هذا الموضوع، فكنت متوتراً جداً؛

ص: 25


1- قارئ ومؤذن الحرم الحسيني الشريف،ومن وجهاء كربلاء المقدسة ومدرس للقرآن الكريم وناشط في خط الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

فهي المرة الأولى التي القي فيها محاضرة حول القضاء هناك.

أما في الكويت بعد هجرته إليها، فقد كان السيد الشيرازي (رحمه اللّه) يعتمد عليَّ بتبليغ الطلاب وتذكيرهم ببرنامج المحاضرة ليوم الخميس عصراً في مدرسة الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكان يجتمع بنا في كل أسبوع ويلقي محاضرة مركزّة وقيمة.

نظام الهيئات والمؤسسات

* شيخنا الكريم، باعتقادكم ماهي عدد الأشخاص المرتبطين بهذه الهيئات؟

كان عدد الهيئات بحدود مائتي هيئة، وكان متوسط عدد الأشخاص الموجودين في الهيئة خمسة عشر فرداً، يصبح لدينا في هذه الحالة حوالي ثلاثة آلاف شاب، وهذه الهيئات كانت مثل الخلايا التنظيمية، لها قيادات عليا من أهل الحل والعقد من الكبار الذين يوجهون عملها وأفرادها، ولما كانت هناك برامج عامة مثل إحياء مهرجان أو شيء من هذا القبيل كانت هذه الهيئات كلها تكرس جهودها وقدراتها في البرامج بشكل تنظيمي.

وتقوم هذه الهيئات أحياناً بطبع الكتب خاصة في المناسبات وفي وفيات الأئمة (عليهم السلام) حيث تقام المجالس الحسينية، وهي ليست فقط هيئات أسبوعية، تتضمن قراءة القرآن الكريم أوإلقاء المحاضرات واستقبال الأسئلة والأجوبة، بل كانت تُربِّي الشباب على الثقافة، وعلى الخطابة وتشجيعهم على الكتابة، فكان بعضهم يكتب مقالة ويقرأها أمام الحاضرين فينمو قلمه الأدبي.

وكانت هذه المائتا خلية شبابية تشكل القنوات التي يوجه سماحة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) من خلالها تيار الشباب في كربلاء المقدسة، وبالنسبة لي في تلك

ص: 26

الفترة فقد كنت عضواً في هذه الهيئات, وفي فترة ما كنت مسؤولاً عن بعضها.

أسلوب السيد الشيرازي (رحمه اللّه)

كان من صفات سماحته (رحمه اللّه) زيارة مجالس هذه الهيئات وتعبئتها، إذ كانت لهذه المجالس عادات أسبوعية هناك، حيث يجتمع الناس بهدف التبرك بذكر سيد الشهداء (عليه السلام) وبضمن هذا الاجتماع كان لديهم مجلس أسبوعيٌّ، حتى أن بعض الناس كانوا يقيمون هذه المجالس في غرف معيشتهم، وكنت أذهب إلى مجالسهم، وكان يحضر إلى هذه المجالس ستة إلى سبعة أفراد، و يرتقي الخطيب المنبر لإلقاء محاضرته، وكان السيد الشيرازي (رحمه اللّه) يحضر بعضاً من هذه المجالس، وأتذكر على سبيل المثال الشيخ غلام حسين إسلامي(1) والذي كان إماماً في جامع الإمام زين العابدين (عليه السلام) (2)، وكان يعقد مجلسه الأسبوعي في بيته عصر الجمعة، حيث كنت أسكن فيه، وفي إحدى المرات ومن دون سابق إنذار أو تبليغ رأينا سماحة السيد الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) ، وسماحة المرجع السيد صادق (دام ظله) ومجموعة من الطلبة دخلوا علينا في المجلس، وقد شعرنا يومها بالفخر والاعتزاز كثيراً، لأن السيد (رحمه اللّه) حضر في بيتنا، وكان بحضوره يعطي اعتباراً لهذه المجالس.

كذلك كان من عادته أن يزور الحجيج بعد عودتهم من الحج، ويمكن القول إنّ أكثر بيوت كربلاء المقدسة قد دخلها سماحة السيد (رحمه اللّه) وزار أصحابها.

وكان من عاداته إجابة دعوات الناس، حتى إنني سمعت منه أنه في بعض

ص: 27


1- من تلامذة ووكلاء الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وكان إماماً لصلاة الجماعة في مسجدين في كربلاء المقدسة.
2- مركز تجمع ديني في وسط قم المقدسة تقام فيه مختلف البرامج الدينية.

الليالي من شهر رمضان يذهب ليشارك في الإفطار في ثلاثة أماكن في ليلة واحدة؛ لأن ذهابه لهم كان يعطي اعتباراً لصاحب البيت، وعدم الذهاب تصرف غير جميل، فكان يحضر لدقائق ويقوم بعدها ويذهب إلى مكان ثانٍ ثم إلى مكان ثالث.

وأحياناً كان ينشغل حتى يحين وقت صلاة الجماعة التي يحضرها العديد من الناس، فكان أحد سائقي العربات التي تجرها الخيول - الربل - يأخذه من شارع الإمام علي (عليه السلام) ويوصله بسرعة إلى الباب الغربي للصحن الحسيني الشريف، الباب الذي يدخل منه تسمى(باب الزينبية)(1) ليصل إلى سجادة الصلاة الخاصة به.

وأحياناً كان سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) يخرج من بيته ويعبر سوق (النعلجية) ويدخل إلى صحن الإمام الحسين (عليه السلام) وحينما يمر في هذا السوق يسلِّم على كل فرد من الموجودين على طرفيه، فيلقي تحية الإسلام عليهم جميعاً، على هذا وذاك، يسلِّم على كلهم، فكانوا أحياناً يزدحمون على السيد الراحل (رحمه اللّه) ، فيخرجون من المحلات ويردون عليه السلام ويقبِّلون يديه.

وكان السيد الشيرازي (رحمه اللّه) دائماً يتعطر بالورد المحمدي وخاصة عندما كان في العراق؛ وذلك لاستحباب تعطر المؤمن.

أما في إيران فلم يكن يفعل كذلك لحكمة خاصة به، فكان سماحته (رحمه اللّه) عندما يقدم أحدهم له العطر يهديه لشخص آخر.

ص: 28


1- يقع هذا الباب إلى الجنوب الغربي من الصحن الحسيني الشريف وقد سميت بهذا الاسم لوجود مقام تلّ الزينبية مقابلاً له.

تطور فكر ومنهجية السيد الشيرازي (رحمه اللّه)

* ولد السيد الشيرازي (رحمه اللّه) وترعرع في بيئة لم تكن تحمل أفكاراً مثل ما كان يحمل سماحته، فمن أين استمد إبداعه لمثل هذه الأفكار؟

- كانت البيئة المحيطة بسماحته (رحمه اللّه) بيئة تقليدية، تعاني الجمود إلى حد كبير حالها حال أغلب البلاد الإسلامية حينها، وقد تجاوز السيد الشيرازي (رحمه اللّه) كل هذه الحدود الجامدة.

فقد ظهرت في تلك الفترة بدايات الصحوة في العالم الإسلامي، فكانت حركة الإخوان المسلمين تعمل في مصر ولها تأثيرها، وقد ألّف سيد قطب(1) ومحمد قطب(2) عدداً من الكتب التي أثارت الإعجاب لدى الكثيرين، لا يعني هذا إني في وارد مدح أحد، إلا أن تلك الكتب كانت تمتلك تاثيرها بسبب لغتها الأدبية رغم ما فيها من إشكالات عقائدية.

وفي إيران كانت هناك تيارات شيعية ثورية ومتحضرة، وفي تلك المرحلة من الستينات كان الشيخ الفلسفي (رحمه اللّه) قد ألقى ثلاثين محاضرة حول تربية الطفل والتي أصدرها في كتاب ترجم إلى العربية تحت عنوان (الطفل بين الوراثة والتربية).

هكذا كانت طبيعة الحراك الثقافي، يضاف إليها ظهور شبهات الشيوعيين في مجتمعاتنا، وظهور حركات ثقافية وسياسية شيعية، وحركات سنية لديها أفكار حضارية.

ص: 29


1- سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي، كاتب وأديب ومنظر إسلامي مصري.
2- محمد قطب إبراهيم حسين شاذلي، كاتب مصري وهو شقيق سيد قطب.

الصورة

فصدرت كتب متعددة لا تتمالك نفسك من أن تتأثر بها مثل ما تتأثر بكتاب (السبيل إلى إنهاض المسلمين) وكانت تلك الكتب تعرض الإسلام الأولي وفق حكم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وتتحدث عن تاريخه، وكيف كانت الحدود في زمنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ وكيف كان ينفذها؟ وكم كان متساهلاً؟ وكيف كان ينشط الحركة الاقتصادية

في المدينة؟ وفي بعضها خطة مفترضة لتأسيس حركة إسلامية تأخذ على عاتقها التغيير، وصفات الجماعة التي تريد التغيير وفق رؤية إسلامية، وفي بعضها ما ينتقد واقع المسلمين على اعتباره ليس واقعاً إسلامياً، وفيها أحاديث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع مقارنتها لواقعنا البعيد عن تلك التعاليم كل البعد.

وكانت تلك الكتب كتباً أدبية جميلة مع ملاحظة الانحرافات العقائدية التي تملؤها.

* ما الذي جعل السيد الشيرازي (رحمه اللّه) يتصدى لمثل هذه القضايا التي عرف بها ولم يسبقه أحد إلى ذلك في بيئته ومحيطه؟

- كان السيد الشيرازي (رحمه اللّه) فقيهاً ومرجعاً يشعر بالمسؤولية تجاه مجتمعه، ويشعر بأن البرامج التقليدية والتي تعارفت عليها المرجعيات الدينية لا تفي بالغرض، خاصة مع هذه الحركات التي ظهرت في العالم الإسلامي على اختلاف أنواعها وأشكالها، وأن شبابنا سينتظمون في الأحزاب الشيوعية إذا لم يجدوا تنظيماً آخر يلبي توجهاتهم، ولأجل ذلك قام بتأسيس منظمة العمل(1),

ص: 30


1- تنظيم سياسي شيعي بواجهة فكرية رسالية.

وهي منظمة أخذت على عاتقها إصدار الكتب الجديدة والحضارية، فكانت تغذي فكر الشباب بالخطط اللازمة للتغيير، ولم تدع لهم مكاناً للفراغ مطلقاً.

من جانب آخر، كانت تصل للسيد الشيرازي (رحمه اللّه) مجموعة من الكتب المتنوعة التي ترتبط بسائر الحركات، كحركة غاندي(1) محرر الهند، وكانت مثل هذه الكتب والإصدارات تصل تباعاً إلى كربلاء المقدسة، وكان السيد

الراحل (رحمه اللّه) يشعر بمسؤولية أكبر وهو يقرأ ما فيها من أفكار، ويرى صعود البعثيين إلى المسرح السياسي، وصعود الشيوعيون وانتشارهم في العراق، مع ما رافق ذلك من كتب ومنشورات كانت تصدرها تلك الحركات، لذلك كان يلزم مواجهتهم بأسلوبهم، وليس بالأسلوب التقليدي الذي تعارفت عليه مدينة كربلاء المقدسة وغيرها من مدن العراق، فتأثر وثار على الوضع التقليدي الذي نشأ عليه في تلك المدينة. فأسس سماحته (رحمه اللّه) الهيئات، وأخذ يكتب كتباً جديدة.

وأنا أرى أن هذين عاملان أساسيان جداً، كما أنه ينتمي إلى أسرة ثائرة في التاريخ, أسرة مصلحة، فهو منتمٍ إلى أسرة المجدد الكبير(2)، ويعرف أن خطه هو الإصلاح، وخط والده كان خطاً إسلامياً، فهو ليس من الأفراد الذين لا يتصدون للمسؤوليات ويتحملوها، ويعرف أن عليه تحمل المسؤولية وليس كالآخرين الذين يقولون: وما شأني بمشاكل العراق والمسلمين؟ كما يقول

ص: 31


1- موهانداس كرمشاند غاندي، كان السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلال الهند.
2- الميرزا محمد حسن الشيرازي، الملقب بالشيرازي الأول وبالمجدد الشيرازي. تصدى للمرجعية الدينية بعد وفاة الشيخ الأعظم الأنصاري في عام 1281 ه. ارتبط اسمه ب- (حوزة سامراء) وثورة التنباك (التبغ) في إيران.

البعض الآن! فلم يكن من هذا النوع، بل كان يشعر بمسؤولية جسيمة لأن يحافظ على كربلاء المقدسة وعلى العراق وغير العراق بقدر استطاعته.

كل هذه المؤثرات الإيجابية والسلبية للحراك السياسي والثقافي لمختلف التيارات والتي كانت تموج وتزخر بها البلدان الإسلامية، وإحساسه بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، سببت أن يوجد السيد الراحل (رحمه اللّه) حركة تفرد بها في ذلك الزمان.

مقومات النجاح

* ما هي مقومات نجاح السيد الراحل (رحمه اللّه) في حياته وحركته العلمية والثقافية والتربوية وغيرها والتي استند عليها؟

* هل هي مقومات غيبية أعم من المقومات الظاهرية؟

باعتقادي إن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) كان لديه عناية ربانية، حيث قد ذهب إلى مسجد السهلة (1) لمدة أربعين أسبوعاً ومن ثم تغيّر سلوكه بعدها، لم يكن السيد الراحل (رحمه اللّه) يتحدث بهذا الشأن، ولكن والده كان يعتقد بأن هذا هو سبب التغيير، لقد تغيّر اسلوبه وسلوكه، وقد كان مهتماً أشد الاهتمام بالتدريس، فكان يدرس سبعة دروس في اليوم الواحد، فانسحب من هذا المجال ليصب جهده في مجال التأليف، واهتم بالكتابة، وسار في دروبها وأصبحت قائمة أولياته الرئيسية، لقد أحاطت به عناية غيبية، إضافة إلى عوامل نجاح أخرى

ص: 32


1- أحد أكبر المساجد التي شُيّدت في الكوفة خلال القرن الهجري الأوّل، وما زال أثرها وذِكْرها خالداً إلى الآن. ويبدو أنّ بني ظفر هم بُناة المسجد الحقيقيّون، وهؤلاء بطنٌ من الأنصار نزلوا الكوفة، ولهذا عُرِف المسجد أوّلَ الأمر بمسجد بني ظفر، ثمّ إنّ المسجد عُرِف ب- (مسجد السَّهْلة)، وهي التسمية المتداولة حاليّاً.

كانت موجودة في شخصيته، فلم يكن يعرف الكلل ولا الملل في العمل، فكان بإمكانه أن يعمل طوال اليوم الواحد ست عشرة إلى سبع عشرة ساعة من العمل المتواصل, ومن المعلوم أن العمل والمثابرة عليه من أهم عوامل نجاح الإنسان.

وإضافة إلى ما ذكرنا كان قمة في أخلاقه العملية، وكل عوامل النجاح مترابطة فيما بينها عنده، فكان لديه سعة صدر ويتحمل الناس وعنده أخلاق سامية مع الجميع.

في إحدى الأيام - وكنت شاهداً على هذه الواقعة شخصياً وهي شاهد على أخلاقه النموذجية - انتبه إلى غياب أحد الأشخاص في البرنامج الأسبوعي ليوم الثلاثاء، فطلب مني أن أذهب للسؤال عن سبب غيابه، فبعثت أحدهم إليه ليسأله عن سبب غيابه وعدم حضوره، فأجابه بقوله: لن أذهب إليه لأنه سبَّني وأنا لا أحضر مجالسه. عاد الشخص الوسيط إلى السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وأخبره بما قاله الرجل، فاستغرب السيد الراحل (رحمه اللّه) أشد الاستغراب، وقال: ليس من عادتي ذلك حتى مع الخصوم فكيف بمثل هذا الصديق ومتى اختلفت معه حتى يحتمل صدور ذلك مني؟! ثم طلب منه العودة لسؤاله: متى وكيف حدث ذلك؟

وفعلا عاد هذا الرسول وطرح عليه السؤال؟ فأجابه: في أثناء المحاضرة قال السيد الشيرازي:

بليت بأعورٍ فعجزت عنه***فكيف إذا بليت بأعورين

وكان هذا الشخص المتغيب عن الحضور، كريم العين - أي أعوراً - لا يرى بها، فأتى الرسول بالجواب إلى السيد الراحل (رحمه اللّه) ، فاعتذر منه السيد (رحمه اللّه) وطلب أن يسامحه مع أنه لم يقصده وإنما هو بيت من الشعر جاء في سياق المحاضرة؛ فأرضاه وجلبه مرة ثانية إلى مجلسه، وأخذ ينتبه لهذا النوع من الأشعار، حيث قال سماحته (رحمه اللّه) : هذا النوع من

ص: 33

الشعر وأمثاله لا أقرأه على المنبر أبداً، فربما يحسّ أحد من الجالسين بالإهانة. فكثير من الأشعار قيلت بحق أصناف من الناس وأصناف من الكسبة كالقصابين وفيها هجاء وذم، واستمر على هذا المنوال لآخر عمره.

فالأخلاق من عناصر نجاح الإنسان, بل هي من عناصره الأساسية، وهذا ما امتاز به سماحة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) .

كان الجميع يرفد من بحر علمه الغزير, فالمحامي الذي يلتقي به يستمع منه التوجيه، والأستاذ والطبيب والفقيه والطالب كلهم يستمعون إلى توجيهاته، فقد كان عنده علم بكل ما يدور حوله في المجتمع، وواقع الناس الاجتماعي، بمعنى آخر كان رجلاً قيادياً في صميم المجتمع، لم يكن مثل من يجلس في بيته منعزلاً عن الناس لا يلتقي بهم ورغم ذلك يتحدث بسخرية واستهزاء عن الناس ويستصغر شأنهم، فينظر إليهم من برجه العالي، وليس عنده احترام للآخرين ولا يحضر مجالسهم، بل كان رجلاً شعبياً بسيطاً، يختلط بالناس ويزورهم باستمرار وفي كل مكان.

وقد روى لي الشيخ أبو بشير الدكتور محمد المفتح(1) حين كنت أقيم في الشام، في أحد الأيام شاهدت السيد الشيرازي (رحمه اللّه) يدخل إلى المقهى، فكان الجميع يقوم احتراماً لحضوره، على العكس مما ينظر اليوم لرجل الدين وهو يذهب إلى المقهى لاحتساء الشاي، ويعتبر ذلك منقصة بحقه، إنه بذهابه إلى المقهى كان في وسط الناس، فكانوا يجتمعون إليه ويُقبِّلون يديه.

وكان في بعض المقاهي أنواع من المُحرَّمات فكان الجالسون يجمعون أدواتهم

ص: 34


1- خطيب وباحث وسياسي من كوادر الساحة الإسلامية.

المحرمة بسرعة حينما يرون قدوم السيد الراحل (رحمه اللّه) ، فيأتونه للسؤال عن مسألة معينة, ويجلبون له الماء والشاي، بهذا الشكل كان السيد الشيرازي (رحمه اللّه) يتعامل مع الناس.

* على ذكر المقاهي، كيف خطط السيد الراحل (رحمه اللّه) للقضاء على لعب القمار في مقاهي كربلاء المقدسة؟

- كنت صغيراً وقتها فلا أتذكر التفاصيل، ولكن كل الذي أذكره مما سمعت عنه أنه بعث المبلغين مثل الشيخ ضياء الزبيدي والشيخ عبد الزهراء الكعبي(1) إلى هذه المقاهي وطلب منهم منع القمار.

زيارة العسكريين (عليهما السلام) في سامراء المشرفة

* في ما يتعلق بزيارة سامراء والتي شجع وحثَّ عليها السيد الراحل (رحمه اللّه) ، هل شاركتم في هذه الزيارات؟

* وما هي الأسباب التي دعت إلى تشجيعها؟

* وماهي نتائجها؟

- نعم، شاركت في هذه الزيارات، وهي مستمرة حتى اليوم، وكانت قائمة وموجودة طوال زمن البعثيين، وهي مشروع تأسيسي رائع جداً.

كانت لدى سماحة السيد (رحمه اللّه) خطة للتأثير على أهل سامراء المشرفة، وكان يوصي بتطبيقها، ولا أتذكر الآن تفاصيلها بسهولة فقد كنت صغيراً وقتها، ولكني سمعتُ من شيبتنا أنّ السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يوصي ويقول: عندما تذهبون لا تأخذوا طعاماً معكم واذهبوا إلى مطاعمهم؛ اذهبوا وتعاملوا معهم،

ص: 35


1- يعد من أشهر خطباء المنبر الحسيني في العراق ودول الخليج. وهو أول من أحسن قراءة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم العاشر من المحرم وقراءة مسير السبايا في يوم الأربعين .

واشتروا منهم أي شيء، ولا تجادلوهم حتى لو رفعوا الثمن.

الصورة

كانت تلك الزيارات حملات تبليغية رائعة جداً، وكان برنامجها يتم تنفيذه في شهر رمضان المبارك كما أتذكر على الشكل التالي: كان سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) يُصلي بالناس صلاة الظهر جماعة في صحن الإمام الحسين (عليه السلام) في شهر رمضان المبارك، وكانت السيارات تقف بالشارع الفرعي المتاخم لمخيم الإمام الحسين (عليه السلام) والناس جميعاً المصلون في الحرم المقدس وغيرهم يستقلون هذه السيارات مجاناً، وكان إفطارهم في سامراء المشرفة في كل ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، ثم يقومون بالزيارة وقبل السحور يعودون إلى كربلاء المقدسة حيث يصلون إليها مابين الساعة الثانية أو الثانية والنصف.

هذا البرنامج كان جميلاً جداً، فهو برنامج اجتماعي وتبليغي وودي، وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) يعتني بهذه الزيارة، ويردد: نحن الشيعة نحترمهم ونحاول التأثير فيهم.

وكان يتوجه لنا بقوله: أعطوهم وأكرموهم، وكأنما كان بنفسه أحياناً يبعث لهم الهدايا وخاصة لعلمائهم وشيوخهم.

وكان البرنامج قائماً حين كان السيد الراحل (رحمه اللّه) في العراق، وبقي مستمراً بعدما هاجر إلى الكويت.

ص: 36

الإمام الراحل (رحمه اللّه) والآخرون

* كيف كان تعامل السيد الراحل (رحمه اللّه) مع علماء سائر الأديان كالمسيحية، واليهودية، ومع أصحاب المذاهب السنية وغيرها؟

* هل سمعتم أو شاهدتم كيفية تعامله معهم لجذبهم؟

- شخصياً لم أر ذلك، لكنني أعرف أن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان في الأصل يحترمهم، وكان عنده نوع من التواصل مع الشيخ عبد العزيز البدري(1)، حيث كان شاباً مجاهداً خطيباً متمكناً، وفي موقفه مع حكومة البعثيين تكلم ضد ميشيل عفلق(2)، وضد أحمد حسن البكر(3) فقتل نتيجة لذلك، وكان يحب سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) ويحترمه كثيراً، وعنده كلمات حول سماحته (رحمه اللّه) وفيها يمدح شخصيته، وبدوره كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يوجهه ويعطيه مقترحات، ويعطيه بعض الكتب،وكان الشيخ عبد العزيز البدري شخصية محترمة وضمن تشكيلة من علماء السُنة في بغداد.

الصورة

أحمدحسن البكر

ص: 37


1- ونشأ في بيئة علمية وتلقى دروسه الدينية على يد طائفة من علماء بغداد، ونال إجازاته العلمية وعين إماما في مسجد السور سنة 1949م
2- هوأحد مؤسسي حزب البعث الذي أصبح فيما بعد حزب البعث العربي الاشتراكي.
3- ثالث رئيس لجمهورية العراق حكم في الفترة من 1968 إلى 1979. كما ويعد رابع حاكم جمهوري في تاريخ الجمهورية العراقية منذ تأسست في 14 تموز 1958.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) مع المطران كابوجي

وتواجد المطران كابوجي(1) في ايران، وهو فلسطيني مسيحي، قامت اسرائيل باعتقاله وسجنه، وقد التقى بالسيد بعد ترتيبات معينة، وهناك صور التقطت له مع سماحة السيد توثق هذا اللقاء. وكان معجباً كثيراً بشخصية سماحته.

الصورة

غير ذلك، ألف سماحة السيد كتاباً عن تجاربه ولقاءاته مع عدد من المسيحيين، عنوانه (كيف ولماذا اسلموا؟) ذكر فيه قصص المسيحيين الذين أسلموا، ويذكر تفاصيل متعددة عنهم ومناقشته معهم.

وعنده أيضاً كتاب اسمه (مباحثات مع الشيوعيين) بخصوص الماركسيين ومناقشاته الجميلة معهم والتي لها أثر بالغ مع الذين تحدث عنهم.

إذاعة كربلاء المقدسة

* ما الذي تذكرونه عن قضية تأسيس محطة بث إذاعية وشراء أجهزتها وعرقلة السلطات للمشروع؟

* هل هناك من تفاصيل أكثر غير معروفة بخصوص هذا الموضوع؟

- لم أسمع بالتفاصيل، ولكني أعرف بشكل عام أن السيد الراحل (رحمه اللّه) استطاع أن يجلب جهاز بث إذاعي لتاسيس محطة راديو في كربلاء المقدسة، لكن

ص: 38


1- رجل دين مسيحي سوري. أصبح مطراناً لكنيسة الروم الكاثوليك في القدس عام 1965. عُرف بمواقفه الوطنية المعارضة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.

السلطات العراقية صادرت الجهاز بعد علمها بالموضوع، وهو جهاز بسيط لكن كلفته قد تصل إلى عشرة آلاف دولار في ذلك الوقت, وكان مهماً في تلك الحقبة الزمنية, فالراديو والتلفزيون في العراق آنذاك في بداية وجودهما في العراق مهمة جداً، مثل أهمية القنوات الفضائية الآن.

وقتها كانت هذه القضية كبيرة ومهمة جداً، وخطوة تبليغية نوعية تجذب الانتباه، لذلك منعته السلطات وصادرت كل أجهزة البث الإذاعية، وكخطوة للتعويض قام السيد (رحمه اللّه) بتأسيس برنامج بديل عنها وهو برنامج (التوجيه الديني) الذي كان المسؤول عنه سماحة السيد عبد الحسين القزويني (حفظه اللّه)، وكان يُبث من مدرسة الحفاظ في غرفة خاصة مكتوب عليها غرفة التوجيه الديني, وهذه الغرفة كانت توجه الزائرين, من ضمنها برنامج فقه يومي, وكانت تقدم أيضاً برنامجاً يحمل اسم (الإسلام الحضاري) والذي يلاقي قبولاً لدى الشباب مثل الصلاة والعلم الحديث، وكانت مثل هذه البرامج مقتبسة من مصادر منها كتاب عنوانه (روح الدين الإسلامي) للكاتب اللبناني عفيف عبد الفتاح طبّارة، وهو كتاب جميل جداً، وكتبه وفقاً للأحكام الشرعية المتوافقة مع الطب الحديث ومع قواعد العلم الحديث.

كان يوجد شاب من طلاب مدرسة الحفاظ يبعثه السيد القزويني إلى سماحة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) في بيته، وأحياناً كنتُ أنا أرافق هذا الشاب، حيث كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يقف في باب البيت ويأخذ منه الكتاب فيتصفحه وينتخب منه أكثر من نصف صفحة ويؤشر بخط، أو يضع إشارة، ويقول: اذيعوا هذا.

كان البرنامج الفقهي في الساعة العاشرة صباحاً، أما في العصر فكان يقدم برنامج ثقافي، وفي الليل كان هناك برنامج توجيهي أخلاقي، وشيئاً من هذا القبيل.

ص: 39

هكذا صار هذا البرنامج بديلاً عن الإذاعة والراديو الذي كان ينوي سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) تأسيسه، وكان منتشراً في أنحاء كربلاء المقدسة, حيث وضعوا مكبرات الصوت في كل مكان - حوالي ستين مكبرة صوت - بحيث تغطي كربلاء المقدسة كلها، ومركز البث هو مدرسة الحفاظ من غرفة التوجيه الديني.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) وحوزة النجف الأشرف

* كان السيد الشيرازي (رحمه اللّه) في زمان والده المقدس الميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) وبعد زمان والده، يتمتع بعلاقات طيبة مع المراجع العلماء في النجف الأشرف، فما هي الأسباب التي دعت بعضهم إلى التحرك لإصدار بعض الفتاوى ضده؟!

- كنت وقتها في العراق، والسيد الراحل (رحمه اللّه) كان في الكويت، والذي شاع على الألسن، إن الذي كان خلف القضية هو مدير الأمن والذي كان اسمه (ناظم كزار)(1) وهو شيعي كردي، ولكنه كان بعثياً متشدداً، وبعد فترة لاحقة قاد محاولة انقلاب على الدولة، وقد أعدمه البعثيون لأنه من الشيعة، ويمكن أن تكون القضية مصطنعة وليست واقعية، وبالتنسيق مع جماعات معينة استطاعوا إخراج تلك الفتوى من البعض.

الصورة

من جهة أخرى هناك جماعات لم تكن مؤمنة بأفكار السيد الراحل (رحمه اللّه) ،

ص: 40


1- مدير الأمن العام في زمن الرئيس العراقي أحمد حسن البكر. حاول القيام بانقلاب لقتله ونائبه صدام حسين في الأول من تموز عام 1973.

قامت بالوشاية ضده، وقد سمعت من السيد الشهيد محمد صادق القزويني (رحمه اللّه) (1) والد السيد مرتضى القزويني(2)، والذي كان حلقة الوصل والارتباط للسيد الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) مع المرجعيات وتربطه علاقة مع السيد الخوئي والسيد الشاهرودي(3)،يروي أنه ذهب للسيد الخوئي فقال له السيد: أن هناك جماعات ضد السيد الشيرازي يضغطون عليَّ حتى أصدر فتوى ضده، لكني من المستحيل أن أقوم بمثل هذا العمل، فأنا لا يمكن أن أُفتي أبداً ضد السيد الشيرازي لاني أعرفه جيداً.

السيد الخوئي كان يعرف السيد الشيرازي (رحمه اللّه) عن قريب، لكن حركة السيد الراحل الشبابية وبعض الأنشطة الأخرى لم تكن تعجب البعض، فكان يحاول أن يؤثر بالأفراد المحيطين بالسيد الخوئي.

فوضعت خطط معينة من بعض المنافسين الخصوم للسيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، وقد بعثوا برسائل للسيد الخوئي من بلاد مختلفة: من خوزستان ,ومن الكويت, ومن السعودية, ومن قم المقدسة, ومن كافة فئات المجتمع كشيخ عشيرة، من عالم، من أستاذ, مجموعة رسائل مختلفة وكثيرة بعثت للسيد الخوئي، تنتقص من شخصية السيد الشيرازي (رحمه اللّه) .

ص: 41


1- يعد من مشاهير رجال الدين الذين اشتركوا في ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني، وكان له أثر لا يستهان به في تحريض العشائر العربية المجاورة لكربلاء، للمشاركة في العمل الجهادي ضد الإنكليز.
2- هو رجل دين وخطيب حسيني شيعي معاصر. وقد برز في الإعلام من خلال دروس التفسير التي يلقيها في الصحن الحسيني.
3- أحد القيادات التي تعاقبت على حزب الدعوة الإسلامية العراقي، أصبح فيما بعد رئيسا للسلطة القضائية في الجمهورية الإيرانية.

شعور سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) بالمسؤولية والتصدي لتحملها وإعلانه مرجعيته وهو في سن الشباب، جعل الآخرين لا يقبلون بذلك، فكان البعض يوجه النقد إلى برامجه، ومؤسساته الشبابية وكتبه وكراريسه، لأنها كانت خلاف المألوف والمعهود الذي تعارفوا عليه، ولم يستسيغوا هذا الذي يحدث، إضافة إلى ذلك عمره الصغير نسبياً لأعمار المراجع والمتصدين, فهو كان شاباً وكانت (البروتوكولات) توجب أن يشيب العالم ويصبح كبيراً في السن ليتصدى، هذه البروتوكولات غير صحيحة وغير موافقة لروح الإسلام، الذي يقول: (أعلمكم، أفضلكم)، بمعنى أن الذي تتوفر فيه الشروط هو المقدم وليس بالضرورة أن يكون شيخاً كبيراً.

موقف سماحة السيد الشيرازي (رحمه اللّه)

* ماذا كان موقف السيد الشيرازي (رحمه اللّه) بعد إصدار الفتوى ضده؟

- كان موقف سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) موقف الإغضاء وعدم التعليق والسكوت.

وكان يقول بما معناه: نحن نتحمل، لم يعلّق بشيء ضدهم.

وكانت هناك فتوى من مراجع قدامى ضد السيد الخوئي، قام بعض الكوادر والمقلدين من الشيبة وكبار السن بالسعي خلفها والحصول عليها بعد صعوبات وجهود كبيرة حتى لو اقتضى الأمر السفر إلى دول أخرى، وقد حصلوا على بعض هذه الفتاوى وجلبوها للسيد الشيرازي (رحمه اللّه) ودخلوا عليه دخول المنتصرين؛ ليتخذها السيد الراحل (رحمه اللّه) دفاعاً عن نفسه.

لكن السيد الراحل (رحمه اللّه) قام بتمزيقها فوراً ولم يرد بكلمة واحدة، لأنه لم

ص: 42

يكن يعتقد بهذا الأسلوب أبداً، وحينما مزق الفتوى كان الشيخ حميد الشاهرودي الذي جلبها له - وهو حيٌّ يرزق -، ولم يرض السيد الراحل (رحمه اللّه) أن تنشر، وعلق قائلاً: إذا الناس الذين يقلدوني يقولون في تقليد السيد الشيرازي واجتهاده إشكال، والذين يقلدون السيد الخوئي يقولون في تقليده واجتهاده إشكال، وبينهما يضيع الناس، لأنهم سيكونون الضحية لهذه الاختلافات!!

وهذه القضية الآن ذكرتني بشيء آخر غير مسألة الفتوى، فعندما كنا في قم المقدسة، دخلت على سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) في إحدى المرات وكانوا قد علقوا منشوراً ضده فيه كلام قبيح وسباب ضده، ولا أتذكر الآن الجهة التي كانت مسؤولة عن تعليقه، فقلت له: سيدنا نحن نردُّ بصورة غير مباشرة، ونكتب شيئاً ايجابياً ونغيِّر التوجه، مثلاً نكتب موقف السيد لدعم نهضة العراق وثورته وننشره.

لكن السيد الراحل (رحمه اللّه) نظر لي وبشيء من الحدَّة فقال: بمقدار ما نحن ننشغل بهذه الأمور نتأخر عن مسيرتنا، وعن عملنا الذي نحن نسير فيه!!

والجدير بالذكر أن المنشور كان يؤكد على أن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ضد الثورة وضد صدام وضد نهضة العراق الثورية!!

من خلال هذا الموقف وغيره كبر سماحة السيد (رحمه اللّه) في عيني كثيراً، فبمقدار ما ننشغل بهذه الأمور سوف نتأخر عن مسيرتنا الأصلية..

لأنه كان معتقداً بالمسيرة التي يسير عليها - مائة بالمائة - رضوان اللّه تعالى عليه.

وشيء في ذهني الآن لا أدري هل السيد الراحل (رحمه اللّه) قاله أم كأنه قال: كل يوم يوجد كلام ونحن أيضاً نكتب ردود، ولا أتذكر من كان صاحب التعليق

ص: 43

الذي سمعته في تلك الجلسة وهو يستشهد ببيت من الشعر هو:

لو أنَّ كلَّ كلبٍ عوى القمتُهُ حجراً***لأصبحَ الصخرُ مثقالاً بدينار

الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) يرفض الرد المباشر

و أتذكر موقفاً آخر بخصوص مواقف السيد الشيرازي (رحمه اللّه) إزاء ما يقوم به الآخرون ضده، وهذه المرة حين خرج شخص في البحرين وأدعى السفارة - أي أنه سفير الإمام الحجة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) - وأثارت دعواه مشكلة كبيرة هناك، وكان هذا من تيار سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) , ومقلِّداً له - للأسف - لا أعرف كيف أحتال عليه بعض الأشخاص وغيّروه, فصدرت فتاوى ضده من المرجعيات، فتقرر أن تصدر فتوى من سماحة السيد (رحمه اللّه) ، ولكنه لم يرض أن يعطي فتوى مباشرة لمبناه الأساسي، قائلاً: ليس كل مَن يخرج ضدنا نأتي ونتحارب معه، نحن يجب أن نسير بطريقنا.

ولكني اقترحت على سماحته (رحمه اللّه) أن نعدّ أسئلة واستفتاءات وهو يجيب عنها، فوافق على ذلك.

فوضعنا بعض الأسئلة، السؤال الأول كان مسألة حول التيمم أو شيء من هذا القبيل.

السؤال الثاني: هل للإمام الحجة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) نواب خاصون في زمن الغيبة؟

وكان جواب السيد الراحل (رحمه اللّه) : هم أربعة فقط لا غير.

أما السؤال الثالث: ما هي مسؤولية الإنسان المكلف الملتزم بمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في عصر الغيبة؟

أجاب عن ذلك: يلزم عليه أن يراجع المرجع الجامع للتقليد.

ص: 44

وكان هناك سؤالاً آخر لا أذكر في أي مورد كان، وهذه الأسئلة لعلها موجودة في أرشيف الوثائق الآن.

هكذا كان ردنا على المعارضين للسيد الراحل (رحمه اللّه) بصورة غير مباشرة وبتكليف منه كانت هذه الأسئلة والأجوبة عليها.

موقف آخر

* هل هناك موقف ثالث كمثل لهذه القضايا؟

- كانت هناك ضغوط على السيد الراحل (رحمه اللّه) ليفتي ضد بعض المفكرين، حيث لم تكن أفكاره وطروحاته نابعة عن عقيدة سليمة، ولم يكن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) يعتقد بها، لكن صاحبت أفكاره أجواء صاخبة وتبعه الكثير من الشباب، لأنه كان أديباً ومتكلماً مفوهاً، فكان حينما يتكلم يؤثر على المثقفين والشباب في الجامعات، وكان أحياناً يقف ويتكلم لمدة ثمان ساعات، ولأجل انحرافاته أصدر عدد من المراجع فتاوى ضده.

لكن سماحة السيد (رحمه اللّه) كان يقول: إن الكثير من الشباب لا يعتقد بالمرجعية ويعتقد بهؤلاء المفكرين ويستمع إليهم ويتبعهم، فلابد وأن يكون هنالك مرجع يطرح فكراً بديلاً ويمكنه التأثير فيهم لإنقاذهم فيكون ملجأ للشباب.

وكان ما ذكره السيد الراحل (رحمه اللّه) صحيحاً بالفعل، فالكثير من اولئك الشباب تراجعوا وقلدوا السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، واعتقدوا بطروحاته، وتغيرت أفكار قسمٍ منهم، لكن قسماً آخر بقي متمسكاً بقناعاته.

وعلى كل حال لم يعط السيد الراحل (رحمه اللّه) فتوى مطلقاً ضد أي شخص

ص: 45

أو جهة معينة للتحريض ضده أو ضدها.

وهذا يعني أن سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يتمتع بسعة الصدر، ليس مع الموجودين خارج إطار مرجعيته فقط، حتى مع الدائرين في فلكها.

فعلى سبيل المثال، أعضاء منظمة العمل التي له فضل تأسيسها هم بمثابة أبنائه، وهم من ضمن جماعته والمحسوبين على مرجعيته، وقد يرتكب بعضهم خطأ إدارياً، كما في الجهاز المرجعي كذلك، ففي كل مكان يوجد الصالح والطالح والصحيح والخطأ، ولكننا عندما نريد أن نوازن بين الإيجابيات والسلبيات فإن كفة الإيجابيات تكون أكثر رجحاناً.

عندما حصلت عدد من المشاكل التي أدت إلى أضعاف منظمة العمل، وقتها عرفنا ورأينا كم كان حجم الخطأ الذي ارتكبه البعض من خلال تضعيفها في داخل السعودية، وفي أفغانستان كذلك حيث كان لديها امتدادات واسعة، وفي إيران وفي العراق أيضاً حيث كانت المكون الكبير الثالث للشيعة، عندما ضعفت المنظمة رأينا كم كانت الخسارة كبيرة.

وهذه المراحل من الخسارة لم تقتصر على منظمة العمل، بل خسر فيها الكثيرون في مختلف البرامج والانتخابات، وهذه كلها برأيي من آثار تلك المرحلة بسبب النزاعات التي تمحورت حول رفض السيد الشيرازي (رحمه اللّه) لإصدار الفتاوى ضد الآخرين.

كثيرون أرادوا منه إصدار فتوى ضد المنظمة وضغطت عليه جماعات محسوبة عليه، وانسحبت جماعات أخرى احتجاجاً على عدم إصداره لفتاوى من هذا النوع، ومع ذلك نرى أن سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) واسع الصدر ونيّر الفكر والعقل ويحاول أن يحتضن الجميع ويجمعهم ويحرص على أن لا يتفرقوا.

ص: 46

مؤلفات الإمام الشيرازي (رحمه اللّه)

* حول بعض الاشكالات المثارة على كتابة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) للكراسات صغيرة الحجم، لماذا كان السيد راحل (رحمه اللّه) يصر على كتابة تلك الكراسات، من المؤكد أنكم سمعتم منه تفسيراً لذلك؟

- سمعت منه ذلك كثيراً وتكراراً وكان يذكر هذا المثل: أحياناً يأتي للإنسان ضيوف فيذبح لهم ذبائح من خراف ودجاج لعمل وليمة فاخرة بأنواع المأكولات، وأحياناً يشتري أحد الأشخاص من السوق ساندويشاً يأكلها واقفاً ويذهب إلى عمله. ثم يضيف قائلاً: هؤلاء الشباب الذين ترونهم، لا يطالعون المجلدات الضخمة، بل يطالعون الكراريس الصغيرة، وأنا أكتب الكراس للطالب الجامعي كما أكتب لأبسط الناس, حيث إن المجلدات في الوقت الحاضر تكاد توضع في المكتبات للزينة فقط أو لفئة معنية من الناس.

فكان يقول: يجب رَشّ الثقافة التي عندنا للمجتمع، مثل المطر الرذاذ وليس المطر الغزير، فالمطر يتساقط أحياناً على شكل رذاذ ويبلل خلال لحظات البلد والناس وكل شيء.

فبهذا الشكل يجب علينا أن نَرشّ الثقافة على المجتمع، ومن أهم الوسائل لذلك هي الكراسات التي تتوجه للشباب لأنهم سيقرئونها حتماً لاختصارها واحتوائها على أهم الأفكار والتوجيهات بصورة موجزة وسريعة.

الشخصية الإبداعية للإمام الراحل (رحمه اللّه)

* كيف استطاع الإمام الراحل (رحمه اللّه) أن يبني لنفسه هذه الشخصية المتعددة في اتجاهاتها، وكفاءاتها من التأليف، إلى الخطابة، إلى تأسيس المؤسسات الثقافية للشيعة، إلى الإدارة، والسياسة، واختصاصات كثيرة أخرى، فكيف تمكن من تحقيق

ص: 47

ذلك كله؟

- في جميع المجتمعات عادة ما يكون الرجال الأفذاذ قليلون. ويذكر لنا التاريخ وجود رجال متميزين كأشد مايكون التميز والتفرد، أمثال مالك الأشتر كم واحداً لدينا منه الآن مثلاً؟ أو حبيب بن مظاهر الأسدي الذي كان قائداً، استطاع في أحداث الكوفة الصعبة أن يصل إلى كربلاء المقدسة، وكيف سلمه الإمام الحسين (عليه السلام) راية خاصة؟ كيف مثل هذه الشخصية وغيرها أصبحت نموذجاً يقتدى به؟

ولدينا أيضاً شخصيات علمية أمثال أديسون مخترع الكهرباء, وغيره من علماء أفذاذ خدموا البشرية وقدموا لها الكثير.

فالشخصيات التاريخية النموذجية عادة ما تكون قليلة، وسماحة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) وهو من أسرة السادة الشيرازية (رحم اللّه الماضين منهم وحفظ اللّه الباقين) كلهم أسرة معطاء فيهم العديد من النوابغ العلمية، ولأني أحبهم كثيراً سأروي شيئاً صغيراً، سمعته من السيد محمد كاظم الشيرازي ابن السيد جعفر الشيرازي (حفظه اللّه)، كان ينقل عن أخيه السيد محسن الشيرازي أنه كان يحفظ صفحة كاملة من القرآن الكريم بمجرد قراءتها مرة واحدة. هذه القابلية هي من أنواع النبوغ، فهذه الأسرة فيها نبوغ ذاتي بنسبة معينة، وفيها رجال تاريخيون هي نماذج يقتدى بها.

حسب اعتقادي الشخصي لم يكن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ذو شخصية مادية بل ذو شخصية روحانية، حيث توجد عناية إلهية خاصة له، بالإضافة إلى مجمل العناية الربانية التي أحيط بها.

كان رجلاً صبوراً، يتحمل الكثير، صامداً مجاهداً، وهذه الصفات ذكرت

ص: 48

في خطبة المتقين التي صعق لها (همام) وأصيب بالسكتة ووقع ومات عندما سمعها من الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) والذي قال الإمام عنه: أنه كان يخاف عليه من هذا الموقف، لذا لم يصف له المتقين في بداية طلبه، ولو قرأنا هذه الخطبة وبحثنا لها عن مثال، لوجدنا أنها تنطبق على سماحة السيد (رحمه اللّه) حيث كان رجلاً نموذجياً تنطبق عليه هذه الصفات.

ومثل هؤلاء الأشخاص لا يحتويه شيء زهيد، ولا يُشبع طموحه هدف صغير، ففي الوقت الذي يكتب فيه، نجده يُدرِّس ويؤسس، ويكون خطيباً من الدرجة الأولى، ومؤلفاً لا يضاهيه أحد، فهو (يتيمة الدهر)، حسب تعبير الشيخ الأردبيلي الذي كتب تقريراً في الفقه وعبّر عن السيد الراحل (رحمه اللّه) بهذه التسمية، مثل هذه النماذج عادة يمتازون بصبر منقطع النظير، ولا يمكن لميدان واحد أن يشبع طموحهم فتصبح شخصيتهم متعددة الأبعاد.

منذ ثلاثين سنة أو أكثر في الكويت، سمعت خطبة للسيد الراحل (رحمه اللّه) باللغة الفارسية كنت حاضراً فيها، ألقاها بمناسبة أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) , وقد تكلم سماحته عن مصائب الرأس الشريف لسيد الشهداء (عليه السلام) ، وذكر عشر مصائب تخص الرأس الشريف؛ وكلما كان يذكر مصيبة يهتز المجلس ببكاء الحاضرين، وكان هو أيضاً يبكي مع الناس، حتى إن واحداً من المستمعين أغمي عليه، فحملوه وأخرجوه من المسجد.

لم يستطع السيد الراحل (رحمه اللّه) إكمال المجلس بعد أن وصل للمصيبة العاشرة لأنه استغرق بالبكاء حتى قام من المجلس وتركه، ليأتي السيد احمد جبرائيل(1) ويأخذ بقراءة النعي وإكمال مجلس العزاء.

ص: 49


1- خطيب المنبر الحسيني وناشط اجتماعي في خدمة الفقراء والمستضعفين.

مثل هذه الشخصية المتعددة الأبعاد، يكون كل ما يصدر منها نموذجياً متكاملاً مثالياً، فهو في كتاباته نموذجي، وفي خطابته نموذجي، وفي أغلب أبعاده ونواحيه نموذجي، فهذه الشخصية وحسب فلسفة الإسلام بالنسبة لشخصية الإنسان وكونه خليفة لله في الأرض، تخلَّق بخلق اللّه، ومن الممكن أن يعمل وأن يرتفع وأن يسمو من خلال أي عمل يقوم به، حتى أنه يصل دون المعصومين (عليهم السلام) .

إن تلك القابلية موجودة في هذه الذات، ولكن حسب مواجهته لشهواته، وحسب مواجهته للنفس الأمارة بالسوء، وحسب جهاده وصبره، بهذا يمكنه أن يصل إلى تلك المراقي.

فكيف لإنسان أن يجلس في غرفة في منتصف الليل مستغرقاً في التفكير أو القراءة أو الكتابة دون أن يمل أو يتعب؟ ونحن الواحد منا لو جلس لساعة أو ساعة ونصف أو أكثر قليلاً، لأصابه الملل والتعب، كما يحدث لي فأقوم وأذهب لألتقي بأصدقائي.

لكننا نرى سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) يجلس في غرفته ليدير الأمور بأحسن تدبير، ويدبِّر أموال لتوزيع الشهرية؛ وهي عملية معقدة وصعبة، لأنه لم يكن لديه مقلدون من التجار الكبار الذين يلتزمون بايصال شهرية ثابتة له، وكان السيد علي الفالي عونه في أشد الظروف المناخية - كتساقط الثلوج - حيث كان يذهب إلى أحد التجار في (كرج)(1) ليقترض منه مبلغ الشهرية التي يوزعها.

وذات مرة سأل الشيخ المجاهد الأفغاني(2) قبل أكثر من عشرين سنة

ص: 50


1- مدينة قريبة من طهران العاصمة الإيرانية.
2- أستاذ ووكيل إداري، من تلامذة الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

آية اللّه العظمى الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظله) (1) عن رأيه بشخصية سماحة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ؟

الصورة

وكان سماحة آية اللّه الشيخ الوحيد (دام ظله) محتاطاً كثيراً في آرائه ويحذر الأجواء المتوترة التي كانت في حينها تشهد نشاطاً محموماً لأجهزة المخابرات ضد كل مَنْ يخالف النظام،فقال آية اللّه الشيخ الخراساني (دام ظله) بما معناه: إذا كان هناك إنسان لديه كل هذه المقاومة واستطاع أن ينجز كل هذه الانجازات ويقوم بهذه الأعمال فهذا شخص يتمتع بمؤهلات وإمكانات عالية.

وكلنا نعرف أن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) كان يدير الدرس ويدير المرجعية ويدير الوكلاء ويدير شؤون الاقتصاد، ويؤلف ويخطب ويحاضر، كل هذه الأعمال ومعها عبادة كثيرة ومكثفة، ويبقى في مكان إقامته الجبرية عشرين سنة لا يخرج منه، فأي شخصية هي شخصية السيد الراحل (رحمه اللّه) ؟

إنه لا يأتي مثله ولا يتكرر, فقد كان (رحمه اللّه) يقول: العلم شرط والعدالة شرط وثمانية وتسعين الباقية للإدارة - وهكذا كان يدير أموره.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) والعشائر العراقية

* تشكل العشائر العراقية ركناً أساسياً وداعماً للمرجعية الدينية في العراق

ص: 51


1- مرجع ديني شيعي معاصر مقيم بمدينة قم في إيران.

منذ ثورة العشرين والتفاف تلك العشائر حول مرجعيتها الدينية، مروراً بالكثير من المواقف المساندة والداعمة، كيف تنظرون إلى علاقته مع العشائر العراقية أثناء تواجده بينهم أو بعد هجرته من العراق؟

- عندما كان سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) في العراق خلال الأعوام (1967 -1970م) وتلك الفترة كنت صغيراً في السن، فلا أتذكر تفاصيلها، لكني كنت قد طرحت هذا السؤال ضمن مجموعة من حوالي ثمانين سؤالاً على السيد مرتضى القزويني (حفظه اللّه) حول شخصية السيد الراحل (رحمه اللّه) وعلاقته الوطيدة بالعشائر العراقية وشيوخها، وكان جوابه يشير إلى أن الإمام الراحل كانت له علاقة مع شيوخ بني أسد وآل كمونة(1) وغيرهم، وكان الكثيرون من شيوخ العشائر يحبونه ويزورونه.

وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) كثيراً مايردد على أسماعنا أن في العراق قوتان: قوة الجيش وهذا في خدمة الدولة، وقوة العشائر وهي في خدمة المرجعية - فقوة الجيش، كما هو المعروف على الأغلب كانوا من أهل السُنّة، والعشائر أغلبهم من خط الشيعة الإمامية - وكان يقول - ما مضمونه -: العراق يعني العشائر.

وكان يهتم بالعشائر من خلال شيوخهم، ففي قم المقدسة حيث كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يمد جسور التواصل معهم عبر زياراتهم، وعندما كنت في الشام بعث السيد الراحل (رحمه اللّه) مقداراً معيناً من المال بيد أحد الأصدقاء - ولعله كان السيد محسن الخاتمي(2) - هدية لشيوخ العشائر الذين كانوا مقيمين في الشام، لأنهم أيضاً اجتمعوا في الشام بعد أحداث العراق والانتفاضة الشعبانية.

فخلاصة الكلام: إن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يؤمن كثيراً بالدور الهام الذي

ص: 52


1- من الأسر العربية المعروفة في كربلاء المقدسة.
2- الوكيل العام لمرجعية الامام الراحل (رحمه اللّه) خارج ايران في سوريا والخليج والبلدان الأجنبية.

يمكن أن تلعبه العشائر العراقية في أي تغيير للنظام السياسي في العراق.

الإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) والحركة الوهابية

* ما هو موقف الإمام الراحل (رحمه اللّه) من الحركة الوهابية ونظرته إليها، وكيف كان يعتقد ويعمل على مواجهة تغلغلها في أوساط المجتمعات المسلمة؟

- كان السيد الراحل (رحمه اللّه) ينظر - وهذا هو الواقع - للحركة الوهابية على أنها حركة بريطانية، وهي حزب وليست مذهباً كما يتم تصويرها والترويج لها، ولذا يلزم مواجهتها بالمبلغين.

وكان يعتقد بحل أساسي لشؤون الحوزات ولشؤون الأمة الإسلامية وكان يكرر طرحه مئات المرات، وهو (شورى الفقهاء المراجع)، وكان يقول: يجب أن نواجه الحركة الوهابية بالكتاب، ويجب على المراجع أن يجلسوا فيما بينهم، ويخططوا لمواجهة هذه الحركة.

ولا يخفى أنه كان يعتقد أيضاً بالمنظمة الإسلامية العالمية اعتقاداً راسخاً،ويقول: بما أن أولئك لهم تنظيم، فيجب أن يكون لك تنظيم أيضاً.

وقال هذا الكلام أيضاً للسيد موسى الصدر عندما كان قادماً إلى الكويت، وسمعت من سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) أنه اقترح عليه ثلاثة مقترحات، وكانت مهمة جداً وإستراتيجية.

واحدة منها: بما أنه يقابلكم في لبنان ثلاثة تنظيمات: التنظيم الصهيوني فيما يسمى ب- (إسرائيل)، وكذا التنظيم الغربي المتمثل بالمسيحيين، والمتمثلة بالمارونية، وكذا التنظيم الشيوعي، وهو تنظيم قوي يعتبر شرقياً تابعاً للاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت، فلابد لكم من تنظيم.

ص: 53

وعلى أثر ذلك الكلام قام السيد موسى الصدر (رحمه اللّه) ، في تلك الفترة بتأسيس حركة المحرومين(1) التي تسمى الآن بحركة (أمل) وتعني أفواج المقاومة اللبنانية، وهي الجناح العسكري لحركة المحرومين، وقد أقيمت لها مهرجانات مسلحة عند تاسيسها، وكانت أشرطة الكاسيت تصل إلى الكويت والتي تظهر أن الشيعة قد تسلحوا وتنظموا في لبنان، كان هذا أحد اقتراحات السيد الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) ، وأتصور أنه اقترح شيئاً حول المجلس الإسلامي الشيعي(2) أيضاً.

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يقدم اقتراحاته، وكان يقول: يجب أن تواجه عدوك بأسلوبه، فالوهابيون لديهم تنظيم وتشكيلات، فيجب أن يكون لدينا تنظيم أيضاً، فلا يمكن أن تواجه الوهابية بهذه الفوضى الموجودة، فللوهابية تشكيلات وكل واحد من جماعتهم يقومون بتربيته وتهيئته، ولديهم لكل اختصاص فرد تمَّ تربيته وتدريبه في ضمن اختصاصه، فلا يمكن أن تجابه الوهابية بتلك الفوضى الموجودة. بل يحتاج ذلك إلى تنظيم, وهذا التنظيم يصبح مثل جسد الإنسان، فاليد اليمنى لها دورها واليد اليسرى كذلك، والأنف والإذن، فكل شيء منظم ويؤدي عمله.

كان (رحمه اللّه) يعتقد بمواجهة الخصوم بالتنظيم، وأما من دون تنظيم فنبقى على حالنا سواء الشيعة في العراق أم في إيران أم عموم الشيعة في العالم، ولا نستطيع الوصول إلى هدفنا، لأن وضعنا الموجود وبهذا الشكل الذي عليه لا يتقدم إلا مع

ص: 54


1- أفواج المقاومة اللبنانيّة وتسمى الآن (حركة أمل) تأسّست تحت مسّمى حركة المحرومين بعد دعوة السيد موسى الصدر في خطاب ألقاه بتاريخ 20/1/1974، بمناسبة ذكرى عاشوراء.
2- يُعَد المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى المرجعية الرسمية لدى الطائفة الشيعية في لبنان، وهو يتبع رئاسة مجلس الوزراء في الجمهورية اللبنانية، تولى تأسيسه السيد موسى الصدر.

رص الصفوف ونظم الطاقات.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) وإدارة المال

* كيف كانت رؤية السيد الراحل (رحمه اللّه) حول حياة رجال الدين؟

* وهل كان يسمح بتأسيس المشاريع الاقتصادية الاستثمارية؟

كان سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) يعتقد بأن رجل الدين يجب أن تكون معيشته متوسطة الحال.

وأنا أضيف أنه يلزم أن يكون وضعه المادي جيداً حتى يتمكن من الإنفاق. فهو لا يعيش فقط لنفسه ولكن يجب عليه أن يكون قادراً على أن يعطي للآخرين، فالإسلام - بهذا الشكل الذي نحن نعتقد به كرجال دين - يعطي للناس حاجتهم.

وأذكر في إحدى المرات قد حصلت على مبلغ من المال مخصصة لعمل الخير من الكويت أو ربما من المقلدين في إحدى الدول الأوربية والتي لا أذكرها تحديداً، وقد أخذت من سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) إجازة حول التصرف في ذلك المال، وقلت له: سيدنا هذه النقود أنا على استعداد لأن استثمرها وأنا ضامن لها، إذ لدي أحد الأفراد الثقة الذين أتعامل معهم، فبعض من هذا المال نؤسس به مشروعاً استثمارياً، ومن ريع ووارد هذا المشروع الاستثماري أدفع للأمور الخيرية، إلى أن حان وقت هجرتي، فسحبت رأس المال الأصل وسلمته، ولم نستطع الدخول في مشروع استثماري كامل وجيد ومبرمج ومخطط له بصورة دقيقة نظراً للظروف التي تحيط بنا.

* شيخنا الجليل، لماذا كان السيد الشيرازي (رحمه اللّه) يسمح كثيراً بالتصرف في الحقوق الشرعية - في الإطار الشرعي - بالشكل الذي لم يكن متعارفاً عليه عند غيره

ص: 55

من المرجعيات؟

- كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يعتقد بضرورة النهضة الإسلامية، فعندما يرى كادراً نشطاً، وهذا الكادر يستطيع أن يقدم خدمة أو يقوم بأي شيء نافع، يقوم بتشجيعه ويساعده على إنشاء مؤسسة ما, ولما كانوا ينشئون تلك المؤسسة لم يوجد عند هذا الكادر إمكانية الحصول على المال لدعم تلك المؤسسة، لكن عنده حقوق شرعية وعنده صديقه أو أبوه أو ابنه, فكان السيد الراحل (رحمه اللّه) يجيز له التصرف من تلك الحقوق الشرعية، وكان يقول في معرض تشجيعه: لا بأس، قم بإنشاء مؤسستك ولك الحق الشرعي، فكان يريد أن يزيد من عدد المؤسسات الفاعلة وينشّط الحركة باتجاه المجتمع.

إذا طلب من أحدهم تاليف كتاب - مثلاً - يسأله: من أين لي مصاريف طبع الكتاب سيدنا؟ فيقول السيد الراحل (رحمه اللّه) له: اسع واحصل على متبرع، فيقول له : لم أجد أي متبرع. لكنه يواصل البحث.

وبعد مرور فترة معينة يعود قائلاً لسماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) : طلبت مني أن أؤلف كتاباً وقد فعلت، ويوجد أحد الأشخاص وعنده من الحقوق الشرعية فهل تعطوني إجازة للتصرف فيها في هذا المجال؟ فكان السيد الراحل (رحمه اللّه) يقول له: نعم، وأحياناً كان يقول له: لك حق التصرف في النصف - مثلاً - أو الثلث أو الكل، وهذا حسب الظروف والموارد، فكان يعطي إجازة حتى تستمر الحركة.

وبفضل تلك الإجازة تأسست حركات نشيطة وشبكة من المؤسسات، في كل أنحاء العالم. ولو لم يكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) يعطي هذه الإجازة للتصرف بالأموال لما كان لهذه الحركة العلمية والعملية من وجود، ولا يخفى أن السيد الراحل (رحمه اللّه) عند ما كان يعطي هذه الإجازة في التصرف في الحقوق الشرعية،

ص: 56

كان يقع في ضغط وضائقة مادية، لأنه - وكما هو المعروف - إن الحقوق الشرعية هي وسيلته للانفاق والمصدر الاقتصادي للمرجعية.

* أعلن الإمام الراحل (رحمه اللّه) مرجعيته في عمر مبكر وطرح رسالته العملية، فما هي الانعكاسات السلبية التي رافقت مرجعيته ؟

الصورة

- في الواقع كانت هناك جهات معادية تصل جذورها إلى الاستعمار البريطاني، وإلى الحكومات المتآمرة مثل حكومة البعثيين في العراق. وكما ذكرت سابقاً، أن ناظم كزار كان له دور كبير في ذلك، كما كان هناك صراعات - وللأسف - مصلحية دنيوية تتحكم في الكثير من الحركات. وقد كان السيد الراحل (رحمه اللّه) بحالة من العنفوان والانطلاقة الشبابية وقتها والتي كان متمسكاً بها، والانتشار السريع له في كل مكان في ذلك الوقت، تسببت هذه الحالة في إثارة بعض الحاسدين عليه وبعض الجهات ذات الارتباطات المشبوهة.

حينما هاجر سماحته (رحمه اللّه) إلى الكويت صدر ما صدر ضده من جهات مختلفة، وبتهم متعددة.

هذه الحركة أحدثت إثارة وبلبلة في الأوساط، وتركزت تحليلات عديدة حولها، فقاموا بتسقيطه بمختلف الطرق ومنها التشكيك في أعلميته بل اجتهاده رغم أن الامام الراحل (رحمه اللّه) كان خلال هذه الفترة يدرّس البحث الخارج وقد تتلمذ على يديه الكثرين وقد كتب الشروح العلمية للكتب الحوزوية ك- (الوصول

ص: 57

إلى كفاية الأصول)، و(إيصال الطالب إلى المكاسب) بالإضافة إلى موسوعته الفقهية الاستدلالية (الفقه).

وللشهادة لأجل التاريخ والحقيقة، كان سماحة السيد (رحمه اللّه) لا غبار عليه لكن كانت هناك إثارات مصلحية, وإثارات بعثية, وإثارات لبعض الأحزاب الإسلامية ضده، لأن بعض الأحزاب الإسلامية وخصوصاً حزب (الدعوة الإسلامية)(1) كانت لديهم خطة لجذب السيد الراحل (رحمه اللّه) إلى صفوف الحزب، ضمن أحداث مفصلة وطويلة في كربلاء المقدسة لا أتذكرها لأني لم أكن قريباً من تفاصيلها بشكل مباشر، أرادوا في حزب الدعوة أن ينظِّموا السيد الراحل (رحمه اللّه) في صفوف حزبهم، وسماحة السيد (رحمه اللّه) رفض مثل هذا الأمر على اعتبار أن المرجع يلزم أن يكون للجميع، فإذا انتمى إلى حزب أو إلى جماعة أصبح يمثل جهة واحدة، وهذا غير صحيح في العمل والأسلوب المرجعي، فالمرجع يجب أن يكون خيمة تضم الجميع. فهؤلاء - وبحدود معينة - تحسسوا من رفضه ولم يتقبلوه.

ثم هناك جانب آخر وهو أن سماحة السيد (رحمه اللّه) كان يؤيد الشعائر الحسينية بصورة مطلقة وبصورة حاسمة وقوية، لكن هذا الحزب لم يكن يؤيد - حسب قناعاته وحسب تبريراته - تلك الشعائر، فهذان عاملان أساسيان في منافسة أو منازعة حزب الدعوة مع السيد الراحل (رحمه اللّه) وهؤلاء كان لهم تأثير على جماعات وجهات، فهذه المنافسة السلبية أدت تدريجياً إلى إصدار البيانات ضد السيد الراحل (رحمه اللّه) لكنها رفضت من جهات متعددة.

وقد قام بعض الأعلام بالتصدي لها منهم الشيخ حميد الشاهرودي، كما أن

ص: 58


1- أحد الأحزاب السياسية العراقية، وتأسست في سنة 1957م.

آية اللّه السيد مرتضى القزويني تصدى بقوة، فبعث رسالة إلى الأطراف، وأتذكر أن الرسالة كان فيها حوالي ثمانية عشر سؤالاً موجهة حول السيد الشيرازي (رحمه اللّه) منذ حوالي ثلاثين عاماً, وهي رسالة متينة متقنة فيها احتجاج بحجج كافية ووافية بشكل أسئلة محددة تنقض تلك البيانات الصادرة بحق السيد الراحل (رحمه اللّه) فلم يجيبوا عليها لقوتها ومتانتها بالإضافة إلى واقعيتها.

وقد كنت حينها في كربلاء المقدسة مع مجموعة من الشباب، ولم يكن بأيدينا شيء لنفعله، حتى في الحوارات والمناقشات كنا نطرح هذا الموضوع في أجواء خاصة، لأن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) كان محظوراً تداول اسمه في العراق في تلك الفترة، ويتم ملاحقة كل من كان يقلده ويتبعه، من قبل السلطات.

أدت تلك الحركة السلبية ضد السيد الشيرازي (رحمه اللّه) إلى حالة واسعة من التذمر في أوساط المجتمع، حيث أججت الصراعات والخلافات والتشنجات والحساسيات بين الشيعة أنفسهم، إلى أن وصل الأمر إلى مرحلة الطلاق بين العوائل لأجل أن أحد الزوجين يقلد السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، وغيرها من حالات وأحداث مفجعة بسبب تلك الهجمة.

سلطان المؤلفين

* كيف استطاع الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وعلى رغم انشغالاته العلمية والاجتماعية والضغوط السياسية التي تعرض لها في العراق وايران، أن يكتب كل هذه الكتب وفي علوم ومعارف متعددة؟

- في الواقع أن سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) كان مؤلفاً جاداً، وحينما يكتب للمجتمع لم يكن يهتم بكثير من الشكليات المتعلقة بالكتابة، فهو رجل ذكي وحفِّيظ ومعلوماته غزيرةوتجاربه كثيرة. فكل قضية أو كل قصة أو كل شيء

ص: 59

يحدث في المجتمع، فإن السيد الراحل (رحمه اللّه) يحتفظ به في ذهنه، وبشكل سريع كان يكتب عن ذلك، فحينما كان يريد - مثلاً - أن يكتب عن قصة النبي موسى (عليه السلام) وهو حافظ للقرآن الكريم، يذكر الآيات القرآنية حول النبي موسى (عليه السلام) ويعلِّق عليها، وله كتاب (موسى في البحر) وله قصتان أو ثلاث حول النبي موسى (عليه السلام) ، فقد كان يملك ذاكرة كبيرة وحادة مليئة بالمعلومات، وقد تعوّد الكتابة بسرعة، وتعود على القراءة السريعة، ولم يكن يهتم كثيراً باستخراج المصادر، فمثل هذه الأمور يتركها للجان مختصة بشؤون التحقيق والتنضيد للكتاب، وكان يقول: (أنا عليَّ أن أثبّت المعلومة وأذهب سريعاً)، وكان يكتب بخط ناعم جداً حتى يستفيد من الوقت أكثر فأكثر، ولم يكن ينشغل بالسفر وما أشبه إلا مضطراً، ولا يخرج إلى هنا وهناك كثيراً، خصوصاً إبان تواجده في إيران، فكان (رحمه اللّه) ذا علم غزير، وكان إذا بدأ يكتب ترى أن المعلومات تتدفق وتنساب من يراعه على الورق انسياباً كبيراً وغزيراً، وهذا بسبب عبقريته الذهنية ولبحر المعلومات المخزونة في ذاكرته، فهو حالة خاصة ونادرة وغير موجود عندنا، وقل مثيلها في التاريخ، وأهم من كل ذلك العناية الربانية والإخلاص اللذان كان يتصف بهما, فإخلاصه والعناية الربانية به - كما أتصور - هو ما جعله يتمكن من تأليف هذا الكم الهائل من الكتب، وأول كتاب ألفه سماحته (رحمه اللّه) كتاب (الفضيلة الإسلامية) وهو كتاب أخلاقي ألفه وعمره أقل من عشرين عاماً في ذلك الوقت.

وكلاء الإمام الراحل (رحمه اللّه)

* هل من الممكن تقدير عدد وكلاء الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، والذين يتوزعون في الكثير من البلدان؟

ص: 60

* وهل يمكن أن تطلعنا على أنشطتهم المتنوعة؟

* وما هي مستوياتهم وكفاءاتهم في العمل؟

* وهل يمكننا التعرف إلى أي حدٍّ كانوا يلتزمون بإرشاداته التي بيّن بعضها في كتابه (إلى وكلائنا في البلاد) وغيرها من كتبه ؟

- إن وكلاء السيد الراحل (رحمه اللّه) كثيرون جداً لا يمكنني إعطاء رقم دقيق لهم، وقد كان لديه مبنى عملي مميز في الوكالة استلهمه من السيد أبي الحسن الأصفهاني (قدس سره) (1).

كان يقول: التيارات المنحرفة لديهم كثير من الوكلاء، وهم منتشرون في المجتمعات، ولديهم كوادر عديدة يعملون على نشر تلك الانحرافات، فيجب علينا أن نصنع كوادرنا.

وحينما كان يرى شخصاً مناسباً، وذو لياقة ونشاط، وله الرغبة في خدمة المجتمع، ويمتلك مقداراً من الالتزام والورع والديانة والثقافة، فكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يعطيه وكالة وكان لا يتشدد في ذلك، فقد كان من رأيه أن يتعدد الوكلاء، ولا يقبل أن يكون له وكيل مركزي واحد وتكون كل الأمور بيده، ليتحول بعد ذلك إلى نوع من الاستبداد، ويقع السوء في إدارة المجتمع، لذلك كان يكثر من عدد الوكلاء.

وكانوا في مستويات مختلفة، فالوكلاء الكبار والشخصيات المعتمدة لتمثيل المرجعية في بعض الأوساط، كانوا ذوي ثقافة واسعة، وذوي شخصية معتبرة، وكانوا رجالاً مجاهدين عاملين، في جانب آخر كان هناك وكلاء لديهم منطقة معينة وفيها مائتا فرد، أو مائة وخمسون فرداً في الهند، أو باكستان، أو

ص: 61


1- هو مرجع وفقيه شيعي إثني عشري، تسّلم المرجعية بعد وفاة الميرزا محمد حسين النائيني، فصار من كبار مراجع الشيعة وقياداتهم الدينية والسياسية في إيران والعراق.

أفغانستان إلى غيره.

وهؤلاء كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يعطيهم الوكالة، ولكن كان يحتاج في نفس الوقت إلى تزكية لهم، فكان يقول: هل يوجد أحد من المراجع أعطاك وكالة؟ فإذا كان أحد قد منحه مرجع ما وكالة كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يكتفي بهذا القدر من التزكية، ويقول: هذا المقدار يكفي ونحن أيضاً نعطيك وكالة، أما إذا لم يكن أحد من المراجع أعطاه وكالة فكان يعتمد على مَنْ يزكي هذا الفرد.

* لماذا برأيكم كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يكثر من عدد الوكلاء عكس ما كان متعارف عليه ضمن المنهج التقليدي للمرجعية الدينية الشيعية؟

- لقد ثبت ومن خلال الكثير من التجارب، أن المنهج التقليدي في إعطاء الوكالة وجعلها مركزية خطأ كبير، وهو نظام إداري فاشل أمام تيارات الغرب، وتيارات الشيوعية وتيارات الوهابية.

فعلى سبيل المثال: أفغانستان التي يوجد فيها سبعة ملايين أو ثمانية ملايين شيعي، والفقيه والمرجع الذي يكون عنده وكيل مركزي واحد، أو حتى ثلاثة،كيف يمكنه أن يدير كل هذه الملايين؟!

كان الإمام الراحل يؤمن بالتعددية، وبالتنافس بين الوكلاء، فالوكيل كان يدير كادراً في منطقته، فهو مثل منظم الخلية في الحزب - مثلاً - عنده جماعة معينة يعتمد عليهم فيقوم بنشاطاته المختلفة في المجتمع، فحينما كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يعطيه الوكالة، كان يمنحه من خلالها الاعتبار، لأن الناس سوف يحترمونه بسبب كونه وكيلاً للمرجع، وعندها سوف يلتفون حوله؛ لأنه رجل ملتزم ويدعو إلى الصلاح والتدين عادة.

فالوكلاء كانوا رجال دين غالباً، وكان السيد الشيرازي (رحمه اللّه) يؤسس كادراً

ص: 62

بإعطاء الوكالة، وهذا الوكيل سوف يتعامل معه الناس ويلتفون حوله ويعطونه مبالغ, يدعمون مشاريعه وهكذا، مثل عمل كهذا مهم جداً.

إن تأسيس كادر أو تربية كادر، هو عمل من أصعب الأعمال، فعندما يأتي فرد قد يكون طالب حوزة ودرس لمرحلة معينة - حتى ولو درس فقط الرسالة العملية - ولكنه يعرف كيف يجيب على عشرات أو مئات الأسئلة من الناس، وبعض الناس إلى يومنا هذا وفي الكثير من المناطق لا يعرفون كيفية الوضوء، ولا يعرفون أداء الصلاة، ولا يعرفون مراسيم دفن موتاهم، وهذا نراه في معظم المناطق في العراق وإيران، والتي فيها المرجعيات الكثيرة، أما في أفغانستان أو تلك المناطق البعيدة النائية مثل أفريقيا وغيرها فحدِّث ولا حرج.

الاقتصار على الوكلاء المركزيين غير كافٍ كما نرى ذلك في بعض المرجعيات حيث لديها خمسة عشر وكيلاً على سبيل المثال، وهناك في أماكن متفرقة وبعيدة، يوجد الملايين من الشيعة، فكيف يتمكن هؤلاء من إدارة ورعاية شؤونهم وأمور تقليدهم؟

فالمرجعية مثل دولة كبيرة شعبها ثلاثمائة إلى أربعمائة مليون من الشيعة في العالم، كيف يدارون بخمسة عشر أو عشرين وكيلاً؟! لا يمكن هذا إداريا عبر وكالات مركزية عليها الكثير من الاشكاليات.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) أحدث ثورة في حياته، وفي حياة الجسد المرجعي، بهذه الطريقة في الوكالة والوكلاء.

يقول الخطيب الباكستاني المعروف (كول فام هاشمي): وكلاء السيد (رحمه اللّه) في الباكستان صاروا قرابة خمسة آلاف وكيل، وهؤلاء حتى إذا كان عشرهم يمكن أن نعتبرهم كوادر متقدمة وممتازة، فإن هذا يمثل ربحاً كبيراً جداً.

ص: 63

مقلدوا السيد الراحل (رحمه اللّه)

* كم برأيكم العدد التقريبي لمقلدي السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وعلى أي البلاد يتوزعون؟

- ليس هناك إحصاء دقيق لاعدادهم كي يمكننا إعطاء ولو رقماً تقريبياً لهم، ولكن يمكننا أن نقول: في أفغانستان وحسب أهل الحل والعقد من الشخصيات المعتبرة والرصينة، من رجالات أفغانستان، كانوا يقدِّرون عددهم بحوالي ستين بالمائة من الشيعة هناك، أو ربما أكثر بقليل - حسب تقديراتهم - كانوا يقلَّدون سماحة السيد (رحمه اللّه) .

وقد انتشرت مرجعيته في أفغانستان وربما أكثرية الشيعة في أفغانستان كانوا يقلدونه، وأتذكر ما حدث في مكتب الإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) في مدينة قم المقدسة حيث الإقبال الكبير من شخصيات ووجهاء أفغانستان، والذين لم يسعهم المكتب، فكانوا يجلسون أحياناً في المصلى (حيث تقام الصلاة)، وهذه كانت في وقتها ظاهرة غريبة, - أما الآن فالمسألة عادية لأن المراجعين أكثر من ذلك الزمان -، ولكن في ذلك الوقت يأتون كلهم قاصدين الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، حتى إنه طبعت ووزعت عشرات بل مئات الآلاف من الرسالة العملية للسيد الراحل (رحمه اللّه) ، وهؤلاء - الكثيرون منهم - كانوا يأخذون وكالات، وتحفظ نسخة من هذه الوكالة في مكتب سماحته (رحمه اللّه) .

أما في البلاد الأخرى، مثلاً في الخليج، لاسيما دولة الكويت، كان لديه مقلدون وبنسبة جيدة، ولا أعرف على وجه التحديد النسبة؛ لأن الكويتيين عاشروا السيد الراحل (رحمه اللّه) وتأثروا به وتربوا على يديه، فمقلدوه في الكويت نسبتهم عالية.

ص: 64

وفي السعودية يمكننا القول أن نسبتهم الربع من الشيعة هناك، حيث يقلدون السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وهؤلاء أكثرهم رجعوا إلى تقليد سماحة آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (حفظه اللّه).

كما أن هناك للسيد الراحل (رحمه اللّه) مقلدين كثيرين في مختلف البلاد كالهند، وفي باكستان أيضا كان هناك انتشار ملحوظ وواضح.

ويمكننا القول أيضاً، إن في أكثر بلدان العالم التي فيها مسلمون شيعة كان للسيد الراحل (رحمه اللّه) مقلدون، لكن نسبهم العددية تختلف أحياناً من مكان إلى آخر بين أعداد قليلة وأخرى كبيرة.

من الملاحظ على مقلدي الإمام الراحل (رحمه اللّه) أنهم يحملون روح العمل والنشاط والفكر، والتأليف وإقامة الشعائر الحسينية، وتأسيس المؤسسات في أي مكان يكونون فيه في مختلف بلاد العالم، ولاسيما في إيران.

وهناك كتاب ألفه عبد الأمير فولاد زاده(1) حول مؤسسات السيد الراحل (رحمه اللّه) في تلك المرحلة، قبل التوترات والضغوطات السياسية التي تعرض لها، في تلك المرحلة ألف كتاباً أحصى فيه حوالي ألف مؤسسة في إيران، كما أخبرني شخصياً بذلك، وتوزعت تلك المؤسسات على الهيئات الإنسانية والحسينية الصغيرة.

* هل يمكننا معرفة القوميات التي ينتمي اليها مقلدوا الامام الراحل؟

تتوزع قوميات مقلديه على الهندية والباكستانية والأفغانية والعربية، فهم من قوميات مختلفة، ينتمي أفرادها إلى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) .

ص: 65


1- من الشباب الناشطين وكوادر مرجعية الإمام الراحل (رحمه اللّه) ومؤلف.

نظرة الغرب

* كيف كان ينظر الغرب وقادته ومفكروه إلى شخصية الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وإلى حركته، ومؤسساته، وأفكاره؟

- ينظرون إليه نظرة إيجابية من جهات عديدة، وأنه رجل السلم واللاعنف وهذا علمناه بعد وفاة سماحة السيد (رحمه اللّه) .

إضافة إلى ما عرفناه من خلال إحدى المؤتمرات التي انعقدت في كندا بعد وفاة السيد الخوئي تحديداً، وقد حضر إلى هذا المؤتمر مجموعة من المفكرين الأجانب وعلماء شيعة، وكان كل واحد من هؤلاء يعطي رأيه حول المرجعيات الشيعية، وكان أن طرح على العديد منهم سؤالا عن مرجعية السيد الشيرازي (رحمه اللّه) فكان جوابهم: (مرجعية تجمع بين الحالة التقليدية القديمة، وبين الحالة العصرية والحداثة)، واهبوا في الحديث عن ميزات تلك المرجعية وشخصية الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

عموماً لا يتحسس الأفراد الغربيون من نظريات الإمام الراحل (رحمه اللّه) وهم يحبذون ما تحتوي عليه من أفكار، أما البريطانيون - بالخصوص - فلديهم أحقاد قديمة باعتبار أن هذه الأسرة الشريفة قادت ثورات ضدهم وموقفهم موقف الضد من شخصية الإمام الراحل (رحمه اللّه) ومرجعيته.

* كان للإمام الراحل (رحمه اللّه) عدد من المواقف المشهودة له تجاه الكثير من القضايا الإسلامية ومنها القضية الاندونيسية، متى وكيف تحرك الإمام الراحل (رحمه اللّه) لمساندة تلك القضية(1) ؟

ص: 66


1- ساند قضية المسلمين في اندونيسيا التي ثارت ثورة عارمة ضد الماركسية والاستعمار الروسي والصيني الذي كان يمثلهما (سوكارنو)، وقدم المسلمون في هذه الثورة ضد الشيوعية حسب بعض الاحصاءات ثلاثة ملايين شهيد، ثم انتصرت الثورة. وصعد (سوهارتو) إلى سدة الحكم، فبعث له السيد الشيرازي (رحمه اللّه) مذكرة مفصلة تحتوي على خطة مدروسة حول تطبيق الإسلام في اندونيسيا، كانت المذكرة تضم (18) بنداً أساسياً حول كيفية إدارة البلاد وفق قوانين الشريعة الإسلامية الغراء.

- أتصور في أوائل السبعينات ويمكن أن يكون ذلك في عام (1973 أو 1972م ) تقريباً كما أذكر، حدثت في اندونيسيا ثورة إسلامية كبيرة قادها (سوهارتو) ضد (سوكارنو) القائد الشيوعي الذي سيطر على الحكم هناك، وقامت ثورة شعبية عارمة ضده باعتباره قائداً مسلماً، لكنه انحرف وارتبط بالغرب وأصبح عميلاً ومارس الظلم والاضطهاد تجاه شعبه، فإن الإمام الراحل (رحمه اللّه) ومن مقر إقامته في الكويت بعث بمذكرة إلى (سوهارتو)، وقد اطلعت على هذه المذكرة وقتها حين كنت في كربلاء المقدسة وأعتقد إن ذلك كان في العام (1973م) فيها تقريباً ثمانية عشر بنداً حول تطبيق الإسلام في اندونيسيا، باعتبارها دولة إسلامية كبيرة، وثورة إسلامية منتصرة.

* من قضايا المسلمين الأخرى التي اهتم بها الإمام الراحل (رحمه اللّه) هي قضية الصراع الدائر بين الهند وباكستان حول كشمير(1)، كيف تحرك سماحته (رحمه اللّه) نحو تلك القضية؟

- لا أتذكر التفاصيل، ولكني أعلم أنه أصدر بعض البيانات التي تخص شأن المسلمين في كشمير ومعالجة أوضاعهم وتخفيف معاناتهم.

ص: 67


1- الصراع حول كشمير يشير إلى نزاع إقليمي بين الهند وباكستان حول كشمير، في الشمال الغربي لشبه القارة الهندية. نشبت بسببها حروب ومواجهات عسكرية بين البلدين، تبعها مؤتمرات قمة، سعياً إلى حل هذه المشكلة التي زاد خطرها خاصة بعد انضمام الدولتين إلى النادي النووي.

* لو انتقلنا إلى الهند، تلك الدولة الكثيرة النفوس والمتعددة الأعراق والديانات، ما هي أبرز أنشطة الإمام الراحل (رحمه اللّه) فيها، ومن هم وكلاؤه هناك؟

- كان من أبرز وكلائه الأديب الهندي وهو شخصية مرموقة ونشطة وعصرية، وكانت لديه حركة تبليغية واسعة في الهند، وتمكن من أن ينشر مذهب أهل البيت (عليهم السلام) بين حوالي ألفي فرد من الهنود الذين كانوا من عبّاد البقر، وأستطاع أن يؤثر عليهم وصاروا مسلمين ومن شيعة أهل البيت (عليهم السلام) وكان للأديب مؤسسة استطاع فيها أن يترجم خمسة أجزاء من موسوعة الفقه منها: كتاب (الشهادات)، وكتاب (القضاء) إلى اللغة الأوردية وتمت طباعتها.

وكانت لديه علاقات سياسية مع المسؤولين وكان شخصية مقبولة من جهات مختلفة. وكان الأديب الهندي هو الوكيل الأول في الهند للسيد الراحل (رحمه اللّه) حتى أنه يوزع الرواتب في الهند على طلبة العلوم الشرعية.

وهناك عالم آخر من المعتمدين من الشخصيات المهمة ومن الرموز في (لكنهو)(1) وصار من وكلاء السيد الراحل (رحمه اللّه) ، كان يقوم بعدد من النشاطات الجيدة والمثمرة هناك.

* هناك أيضا القضية الفلسطينية وما جلبته من مآسي على الأمة الإسلامية، كيف ناصر السيد الشيرازي (رحمه اللّه) الشعب الفلسطيني منذ الستينات وإلى آخر عمره الشريف؟

- اعتبر الإمام الراحل (رحمه اللّه) القضية الفلسطينية مركزية وأساسية للأمة الإسلامية، وكان يعتقد بلزوم جعل القضية للمسلمين كافة عبر(أسلمتها)، فهو

ص: 68


1- من المدن الشيعيّة في الهند تقع في الشمال الغربيّ من الهند، وتشتمل هذه المدينة على عدة مدارس شيعيّة، منها: الجامعة الناظميّة، ومدرسة الواعظين، وسلطان المدارس.

لا يعتبرها أمرا فلسطينياً خاصاً بالفلسطينيين وحدهم، أو هي قضية عربية خاصة بالعرب وحدهم؛ وإنما هي قضية إسلامية مركزية في الصلب من قضايا المسلمين، وقد أصدر عدداً من البيانات كما ألف بعض الكتب حولها.

* ما هي رؤيته في كيفية مكافحة الحركة الصهيونية ؟

- يمكن معرفة ذلك من خلال النقاط التالية:

الأولى: ضرورة تأسيس المنظمة الإسلامية العالمية التي أوضح برنامجها وبصورة مختصرة عبر عناوين موجودة في كتاب (السبيل إلى إنهاض المسلمين) فمن دون منظمة إسلامية عالمية نحن دائماً محكومون بالحركات المنحرفة التي تتحرك باسم الإسلام كالحركة الوهابية وما أشبه، فهي تضطهدنا وتسفك دماءنا في كل مكان وزمان.

الثانية: فضلاً عن الحركة الثقافية ونشر الكتب وتأسيس الفضائيات وما أشبه، والتحرك الواسع نحو ايصال رسائلنا إلى الآخرين.

الثالثة: من أهم الوسائل - كما كان يعتقد الامام الراحل (رحمه اللّه) - إنه (لا يُفلُّ الحديد إلا بالحديد)، فهؤلاء لديهم أكثر من منظمة دولية (الماسونية، والصهيونية)، فيلزم أن يكون للشيعة منظمة عالمية معترف بها، كما هو الحال مع المنظمات الصهيونية، والمنظمات الشيوعية العالمية، وحتى الحركة الوهابية ومنظماتها العالمية، مقاومة كل ذلك لا تنجح إلا من خلال تنظيم إسلامي عالمي.

* كانت للإمام الراحل (رحمه اللّه) اهتمامات أخرى فيما يتعلق ببعض الجماعات الشيعية والتي توجه لها شتى الاتهامات ولم تأخذ حجمها من الاهتمام، من تلك الجماعات العلويون، والذين يتركز وجودهم في سوريا وتركيا! كيف تحرك

ص: 69

الإمام الراحل (رحمه اللّه) نحو العلويين(1)؟

- تحرك الإمام الراحل (رحمه اللّه) نحوهم من خلال أخيه الشهيد السيد حسن (رحمه اللّه) وكان السيد الشهيد قد صرِّح: (أمرني أخي المرجع الديني السيد محمد الشيرازي بالتحرك)، فكان تحركه واسعاً نحوهم، في سوريا ولبنان وكان يخطط للتحرك على العلويين في تركيا عبر مدِّ الجسور معهم، وهؤلاء العلويون لاسيما في سوريا أعلنوا تشيعهم, أما في تركيا فالحركة توقفت باستشهاد السيد حسن (رحمه اللّه) ، والآن هناك تحركات للمرة الثانية حيث يوجد إحياء للحركة، وهناك مؤسسة تابعة لهذه المرجعية تدير هذه التحركات.

* انهمك الإمام الراحل طيلة عمره الشريف بالعراق، منذ كان متواجداً فيه وحتى بعد رحيله، للخلاص من الحكم الاستبدادي الذي جثم على صدور العراقيين عقوداً طويلة. فكيف تشرح لنا رؤية السيد الراحل (رحمه اللّه) للعراق وقضاياه؟

- كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يعتقد بأن الحل لقضايا العراق ومشاكله السياسية يتم عبر أمور منها:

تصدي المرجعية للقيادة الجماعية في العراق، من خلال نظرية (شورى الفقهاء المراجع)، وكان يعتقد أنه بعد تحقيق ذلك، يجب علينا تأسيس شورى الحركات، وكان يرى أنه يجب التنسيق في القضية العراقية مع القوى العظمى؛ لأن القضية دولية وليست قضية إقليمية، حيث الأمم المتحدة والدول العظمى لها دور فيها، وكان يعتقد إن الذين يرتبطون بالقوى الاقليمية سوف يرتبطون بالضرورة بدول الاقليم مثل السعودية، أو سوريا، أو إيران، أو تركيا، أو أي

ص: 70


1- العلوية هي طائفة من الشيعة، تعتمد بشكل أساسي على الكتب الشيعية وعلى رأسها الكتب الأربعة ومصنفات أخرى كثيرة، يشتركون فيها مع بقية الاثنا عشرية. وهم اليوم يتواجدون في الجبال الساحلية السورية ويختلفون عن علويي المغرب أو الزيديين في اليمن أو تركيا.

جهات أخرى وهذا خطأ سياسي جسيم، وإنما يجب أن تنسق الجماعات العراقية المعارضة مع الأمم المتحدة والدول التي لها تأثير على مجريات الأحداث من منطلقات وطنية ولا يصبحوا عملاء للدول الاقليمية، وكان يطلب من القادة السياسيين الذين يزورونه ويرشدهم إلى أن مفتاح القضية بيد أمريكا وليس بيد السعودية ولا بيد القوى الإقليمية، وكان طلبه الدائم إليهم أن يتحركوا على هذا الصعيد، ومن الذين طلب منهم ذلك قادة المنظمة (منظمة العمل الاسلامي) كالشيخ الحسيني، والشيخ أبو بشير الدكتور المفتح في سوريا, الذي سبق له أن ألف كتاباً، قال له الإمام الراحل (رحمه اللّه) وقتها: أنت دورك أكبر من أن تؤلف، فقال الشيخ ابو بشير: وماذا أفعل؟ قال له: فكر في القضية الاستراتيجية، قضية العراق, فسأله الشيخ: كيف ذلك؟ قال له: اذهب وسافر إلى أمريكا واتفق معهم لعلاج قضية العراق.

استصعب الشيخ أبو بشير الأمر لأن العملية معقدة، فقال له: هل أذهب واقوم بذلك باسمك؟ تأمل السيد الراحل (رحمه اللّه) قليلاً، ثم قال له: لا, بل تذهب وتعمل باسمك.

ورأي السيد الراحل (رحمه اللّه) كان أنه إذا ذهب أي سياسي تحت اسم المرجعية، فإن مثل ذلك سيؤدي إلى تلوث المرجعية بمثل هذه الأمور السياسية، التي لا يمكن إن تخاطر المرجعية في الدخول في تفاصيلها، في حين أن مثل هذا العمل هو عمل سياسي محض، فيلزم على الشيخ المذكور وأمثاله من شخصيات سياسية أن تذهب بصفتها الشخصية المعارضة والسياسية، وليس بصفة مندوب لمرجعية اسلامية معينة، أي مرجعية كانت سواء السيد الشيرازي أم غيره.

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يعتقد - وباعتقاد متين - إن مفتاح الحل للقضية عند

ص: 71

هؤلاء الأجانب، ونحن اضطراراً ولتخليص أنفسنا من طغيان صدام(1) وحزبه - حزب البعث في العراق -، يلزم أن ننسق مع هؤلاء لننقذ شعب العراق.

وكان (رحمه اللّه) يعتقد أيضاً بضرورة الاعتماد على العشائر لحل قضية العراق، فمن دونهم، ومن دون المرجعية، ومن دون التحالفات الدولية، لا يمكن علاج قضية العراق، وأيضا من دون وحدة الكلمة بين الجهات السياسية الإسلامية.

أول رسالة عملية

* أعلن الإمام الراحل (رحمه اللّه) مرجعيته في سن مبكرة على غير المعهود في الحوزة أو المرجعيات الدينية، كيف حدث ذلك؟

* ومتى طبع أول رسالة عملية؟

* وكيف تنامت مرجعيته مع وجود مرجعيات كبيرة وقائمة بنفسها في ذلك الوقت ؟

ص: 72


1- صدام حسين عبد المجيد التكريتي الذي ينتمي إلى عشيرة البيجات، هو رابع رئيس لجمهورية العراق في الفترة ما بين عام 1979م وحتى 9 أبريل عام 2003م , وخامس حاكم جمهوري للجمهورية العراقية. ونائب رئيس الجمهورية العراقية بين 1975 و1979. وصل صدام إلى رأس السلطة في العراق حيث أصبح رئيساً للعراق عام 1979 م بعد أن قام بحملة لتصفية معارضيه وخصومه في داخل حزب البعث. وفي عام 1980 م دخل صدام حرباً مع إيران استمرت 8 سنوات من 22 سبتمبر عام 1980م حتى 8 أغسطس عام 1988م. وقبل أن تمر الذكرى الثانية لانتهاء الحرب مع إيران غزا صدام الكويت في 2 أغسطس عام 1990. والتي أدت إلى نشوب حرب الخليج الثانية عام 1991م. ظل العراق بعدها محاصراً دولياً حتى عام 2003 م حيث احتلت القوات الأمريكية كامل أراضي الجمهورية العراقية قبض عليه في 13 ديسمبر عام 2003م في عملية سميت بالفجر الأحمر.. تم بعدها محاكمته بسبب الجرائم التي ارتكبها وتم تنفيذ حكم الإعدام عليه في 31 ديسيمبر عام 2006 م.

الصورة

- للإجابة عن ذلك، أعود إلى العام 1964 حين قام الإمام الراحل (رحمه اللّه) بزيارة السيد محسن الحكيم (قدس سره) في النجف الأشرف ولعله كان يرافقه أخوه الشهيد السيد حسن (رحمه اللّه) ، وكان السيد محسن الحكيم يحترم الإمام الراحل (رحمه اللّه) كثيراً، لكونه ابن الميرزا مهدي الشيرازي، ولكونه عالماً ومجاهداً بمستوى التحديات، نقل الإمام الراحل (رحمه اللّه) تقريراً إلى السيد الحكيم، ذكر فيه: إن البعثيين سوف يعودون للحكم في العراق، وهناك تنظيمات لهم في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، وفي مختلف المناطق في الجنوب، ومعظم قادتهم سُنّة وطائفيون، وقد قاموا بتجنيد البسطاء من شباب الشيعة الضائعين, والذين كانوا القاعدة لهم في مناطقهم، فطلب من السيد الحكيم (رحمه اللّه) أن يتحرك لمواجهة طغيان البعثيين، وذكره بأحداث العام 1963م، حين كانت لديهم ميليشيا واسعة في كل العراق تحت اسم (الحرس القومي)(1) وهذه الميليشيا أغرقت العراق في حمام من الدم، نقل الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى السيد الحكيم تقريره وتوقعاته لما سيفعله البعثيون في العراق، فسأله السيد الحكيم: ماذا تقترح أن نعمل؟

أعطى الإمام الراحل (رحمه اللّه) اقتراحاته، ومن جملتها:

الأول: أن يبعث على الأقل بنصف عدد طلاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف إلى مختلف أنحاء العراق، ويحتفظ بالنصف المتبقي في الحوزة لأغراض

ص: 73


1- الحرس القومي مليشيا تابعة لحزب البعث شكلها عام 1963 بعد انقلاب 8 شباط 1963 التي قادها حزب البعث وقد وفر لها غطاءً قانونياً بإصداره قانون الحرس القومي.

التحصيل العلمي، فلا ينبغي أن يبقوا جميعهم في النجف الأشرف، مع وجود هذا المد البعثي.

الاقتراح الثاني: تأسيس مكتبات عامة في مختلف أنحاء العراق وفي كل منطقة، وهذه المكتبات يكون لها نشاط ثقافي وفكري وتوعوي يرتادها الشباب وغيرهم.. وعلى ضوئها توسع في إنشاء المكتبات، إضافة إلى ما كان لديه من مكتبات يرعاها في أنحاء العراق، وبعضها إلى الآن موجود.

الاقتراح الثالث: تأسيس حزب سياسي، والسيد الحكيم (رحمه اللّه) لم يؤسس حزباً بهذا المعنى بصورة مباشرة، ولكنه قام بمساندة بعض الأحزاب من خلال أمره لوكلائه بأن يساندوه ويقدموا الدعم المادي له من أموال الحقوق الشرعية لتقويته.

الاقتراح الرابع: تأسيس مجلة إسلامية حضارية واسعة الانتشار في العراق، وقد أمر بإصدار عدد من المجلات في العراق.

على كل حال، كانت للسيد الحكيم (رحمه اللّه) رؤية أخرى في مجابهة حزب البعث, وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) كثيراً ما يُرى مهموماً ومغموماً نتيجة لما سيؤول إليه الشعب العراقي.

وهناك تفاصيل أخرى عن القضية ولعل سماحة السيد المرجع (دام ظله) أكثر اطلاعاً عليها.

نتيجة لذلك، اقترح أهل الحل والعقد في كربلاء المقدسة كآية اللّه السيد صادق القزويني(1) - مثلاً - الذي كان من الشخصيات التي تتمتع بالاحترام

ص: 74


1- من كبار رجالات الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة واعتقل عام 1975 من قبل نظام البعث وظل في السجن إلى عام 2000 حيث اختفت آثاره.

والمقبولية في الأوساط الحوزوية والاجتماعية, والشيخ جعفر رشتي(1) وكان من الأساتذة المعتمدين في الحوزة, والشيخ محمود دانش وكان شخصية اجتماعية ومن وجهاء كربلاء المقدسة, والشيخ الكلباسي والد الشيخ محمد صادق الكلباسي(2)، هؤلاء المجموعة اقترحوا على الإمام الراحل (رحمه اللّه) أن يطرح مرجعيته؛ إذا أراد أن يتحرك تحركاً واسعاً في العراق ويواجه مد البعثيين الصاعد فيه، فهو يحتاج إلى جمهور يسمعون كلامه، كما ويحتاج إلى المال، والمرجع له جمهور وأتباع وقاعدة شعبية، وله أموال الحقوق الشرعية، فكان أن اقترحوا عليه أن يكتب رسالته العملية، وفعلاً كتب أول رسالة عملية باسم (أحكام الإسلام) وطبعها صاحب مكتبة (دار الحق).

وأذكر أن غلاف الكتاب كان باللون الأزرق ومزين ببعض الزخارف الإسلامية، وكتبوا على الغلاف بعض الألقاب: كالسيد الإمام وما أشبه. ولكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) أمر بحذفها، وهذه الرسالة العملية كنا ندرسها في مدرسة الحفاظ للقرآن الحكيم.

بعض المرجعيات لم ترتض ما أقدم عليه الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وحجتهم أنه شاب عمره ثلاث وثلاثون أو خمس وثلاثون سنة، وهناك رجال دين من الشَّيبة تجاوزت أعمارهم الستون سنة في النجف الأشرف، ولم يطرحوا رسالة عملية، وهذا حسب تصورهم التقليدي خروج عن بروتوكولات المرجعية المتعارف عليها لديهم، وهي في الواقع بروتوكولات غير شرعية، بمعنى أننا نقدم

ص: 75


1- أستاذ كبير في النحو والمنطق، ومعتمد المراجع في حوزة كربلاء المقدسة.
2- من العلماء البارزين في كربلاء المقدسة، ومن تلامذة الإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) ، وهو مؤلف دائرة المعارف الحسينية.

الرجل الكبير في السن ولا نقدم الشاب الكفوء، وهو ما يتطابق مع النظرية السائدة لدى علماء العامّة، والتي كانوا يقولون فيها أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) شاب وهؤلاء شيوخ الصحابة فنقدم الشيوخ عليه.

مثل هذا البرتوكول موجود وراسخ في الحوزة رسمياً، فالصغير في السن لا يمكن له أن يقدم نفسه كمرجع حتى لو كان أعلم وأكفأ ممن هم أكبر سناً منه. أحدثت هذه المبادرة من قبل الإمام الراحل (رحمه اللّه) اثارات عدة داخل الحوزة العلمية والمرجعية الدينية.

الشباب في ذلك الوقت، وكانوا يمثلون تطلعات الجيل الجديد، بدأوا يقلدونه ويدافعون عنه ويضحون ويقدمون دماءهم في سبيله، وأخذت مرجعيته تنموا تدريجياً, واتصور شخصياً أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) لو لم يسجل موقفه الشجاع هذا، ويكتب رسالته العملية بعدها، ما كان سيوفق لاحقاً، ولم تكن تسنح له الفرصة أو الظروف، ففي نفس تلك الفترة أو بعدها بقليل هاجر إلى الكويت، وهناك لا توجد حوزة علمية، ولا يمكن - على الأقل في ذلك الوقت - أن يؤسس فيها مرجعية, وبعدها غادر إلى إيران والكثير من المرجعيات موجودة, مستقرة عاملة، مثل مرجعية السيد الشريعتمداري(1) والسيد الكلبايكاني(2)، والسيد المرعشي النجفي(3) (رحمهم اللّه) وأمثالهم، فالإمام الراحل (رحمه اللّه) لو أراد - في تلك الظروف - أن يؤسس مرجعية معينة أو يكتب رسالة عملية، لم يستطع فعل

ص: 76


1- مرجع شيعي كانت له أدوار دينية وسياسية كبيرة في إيران والعراق.
2- السيد محمد رضا الكلبايكاني مرجع شيعي، بعد وفاة السيد البروجردي أصبح واحداً من أشهر مراجع التقليد واتسع نطاق تقليده، ولمع نجمه في مختلف المجامع العلمية في داخل ايران وخارجها.
3- السيّد شهاب الدين المرعشي النجفي، وينتهي نسبه الإمام زين العابدين.فقيه ومرجع شيعي.

ذلك، من هنا فإن موقف إعلان المرجعية - كان موقفاً شجاعاً واستراتيجياً، لأنه استبق الزمن وتصدى للمرجعية ونمت مرجعيته منذ ذلك الوقت.

كان للإمام الراحل (رحمه اللّه) في كربلاء المقدسة نفوذ، إضافة إلى نفوذ والده، في الجماهير والمدارس والمؤسسات، مع كفاءته العالية في قيادة كل تلك المؤسسات، وأهل الحل والعقد وأهل الخبرة كانوا يرونه كفوءاً أيضاً, فلماذا لا يكتب رسالته العملية؟! لقد كتبها ونشرها على مستوى محدود وغير واسع، في زمن السيد الحكيم (رحمه اللّه) ، احتراماً له لكن بعد وفاته طبع الرسالة العملية ووزعها وطرح نفسه كمرجع تقليد بصورة واسعة.

* العدد الكبير من المؤسسات التي كان يشجع سماحة السيد (رحمه اللّه) على تاسيسها وتقديم الدعم المادي لها، مع قلة ما كان يأتيه من أموال كانت تضعه في أزمات مالية، كيف كان يعالج تلك الأزمات ؟

* وما هي مصادره المالية؟

* ولماذا كان دائم العوز اقتصادياً؟

- في الواقع هناك مرجعيات لها من يساندها من القوى المحلية، ومن القوى العظمى، ولكن الإمام الراحل كان رجلاً مستقلاً لم يرتبط بدولة معينة، وليس لديه استعداد أن يرتبط مع أحد، رغم أنه قُدِّمت له عروض كثيرة. مثلاً قدمت إليه من دولة الكويت عدة عروض مالية كبيرة، لكنه رفضها. وبعد احتلال الكويت، كان المجال واسعاً ومفتوحاً أمامه، وكان يستطيع أن ينسق مع عدة دول مختلفة، لكنه كان يرفض مثل هذا التصرف والأسلوب، وقد سمعته مراراً وتكراراً وهو يقول: إذا كنا نريد أن نأخذ أموالاً من جهة معينة، ونبني كياننا على تلك الأموال، فأن الممول سوف يفرض علينا قرارات معينة لقاء تمويله، وبذلك نفقد حرية القرار، ونصبح تابعين له، وهذا يعني فقداننا لمصداقيتنا،

ص: 77

وباتباعنا لهذا الممول سوف نفقد كل شيء، وسوف ننتهي.

لم يكن يؤمن بالارتباط بالحكومات على المستوى المالي، وكان يعتقد اعتقاداً راسخاً ومستحكماً أن الاعتماد على الجمهور عموماً من التجار والناس الكسبة وهؤلاء الملايين المتدينين من المجتمع، هو الأفضل لحرية قراره ولسمعة مرجعيته.

لهذا السبب كان دائماً يعاني من العوز المالي، إضافة إلى أنه كان يعطي إجازات في صرف الحقوق الشرعية لمختلف المؤسسات في أنحاء العالم، حتى المؤسسات غير المرتبطة به، والتي ترتبط بجهات أخرى، كانوا يأتون إليه ويأخذون منه الإجازات، مثلاً إحدى مؤسسات الأيتام في لبنان، مع أنها لم تكن مرتبطة بالإمام الراحل (رحمه اللّه) ، كان يعطيهم شهرياً أثني عشر ألف دولار، كلما وصلت إليه مبالغ مالية، وكان يمول أيضاً بعض المؤسسات الدينية شهرياً بنفس المبلغ، وكان بسبب ذلك يعاني من الضائقة المالية، وكان يعتمد على القروض دائماً، وقبل أول الشهر كان (رحمه اللّه) يستقرض الأموال، من التجار الذين كانوا يثقون به ويحبونه ويحترمونه جداً، ويعطونه ما يحتاج إليه من أموال عبر وسائطه إليهم، ومنهم المرحوم السيد علي الفالي، و الحاج محمد بوردارا(1)، و الحاج أبو كمال غفاريان(2) في طهران (رحمهم اللّه)، فهؤلاء وسائط ومؤثرون يذهبون إلى التجار أو غيرهم يستقرضون منهم.

كما أسس سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) صناديق الإقراض الخيري مثل صندوق جواد الأئمة (عليه السلام) ، والذي يعتبر الخلفية التي انطلقت منها صناديق

ص: 78


1- من الكوادر الشيعية الناشطة في مرجعية الإمام الراحل (رحمه اللّه) في طهران.
2- من الكوادر الشيعية الناشطة في مرجعية الإمام الراحل (رحمه اللّه) في طهران.

الإقراض الخيري، وكان (رحمه اللّه) يعطي الإجازات لتأسيس مثل تلك الصناديق، وهو يقول: لا بأس، يجب أن تكون هناك حركة في الإسلام وخدمة للمجتمع، فكان المحتاجون يسحبون أموالاً من هذه الصناديق كديون مستحقة دون فائدة.

* من الأسباب الأخرى للضائقة المالية التي كان يعاني منها الإمام الراحل (رحمه اللّه) هي سماحه للوكلاء بالتصرف بالحقوق الشرعية كثيراً، لماذا كان برأيكم يسمح بمثل هذا التصرف؟

- لأن الوكلاء يريدون أن يديروا أنفسهم، فرجل الدين لديه بيت ولديه ديوان مفتوح، وعنده مجلس ربما أسبوعي، أو برامج اجتماعية، وكثير من الناس ساتون اليه ويرتادون مجلسه، وهم يتوقعون منه المساعدة المادية كما المساعدة المعنوية، فكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يعطي الوكيل إجازة أن يتصرف في الحقوق الشرعية. والوكلاء المعتمدون - مثلاً - السيد محسن الخاتمي (حفظه اللّه) تحمل مسؤولية كبيرة في بلاد مختلفة: في البلاد الأجنبية، وفي الشام ولبنان وفي الكويت، فكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يعطيه إجازة مطلقة لأنه عنده مصاريف واسعة ويدير الكثير من المؤسسات، وحتى الذي ليس لديه إجازة مطلقة أيضاً كان عنده مسؤوليات، وأيضاً عنده حاجات شخصية، عنده أسرة وبيت ومصروف يومي وغير ذلك، وهو منقطع إلى العمل التبليغي أو التحصيل العلمي، فمن أين يدبِّر أموره؟!

فهؤلاء هم جهاز المرجعية، ويختلفون بمقدار الإجازة، فبعضهم الثلث، وبعضهم النصف، وبعضهم كان يعطى الإجازة للتصرف الكامل - طبعاً ضمن ضوابط معينة - ولغرض دعم الحركة العالمية للمؤسسات الثقافية والإعلامية ونحو ذلك.

ص: 79

* لماذا كان الإمام الراحل يمنح الإجازة للتصرف في ثلث الأموال، أو الربع منها في المقدار الشرعي، مع أن الوكيل قد لا يحتاج إلى ذلك؟

- الوكيل كان يأخذ هذا الثلث أو النصف، ويصرفه على العمل الإسلامي في المجتمع، من ذلك مثلاً أنه يوجد لديه طلاب يديرهم، أو توجد مؤسسة يديرها، وليست الأموال دائماً تكون من حقهم الشخصي، فوكلاء الإمام الراحل (رحمه اللّه) مشهود لهم عموماً بأنهم ليسوا من الأثرياء الذين يضعون الأموال في البنوك، أو عندهم منازل مختلفة أو عندهم تجارة، بل هم غالباً كما تشاهدهم في مختلف أنحاء العالم يعيشون معيشة متوسطة الحال، وليسوا أثرياء، وهذه من أبرز مصاديق شؤون الحسبة، فالفقيه مسؤول عنهم.

في إحدى المرات وفي دولة البحرين ذهبت الكثير من أموال أحد المراجع هدراً، أما أموال الإمام الراحل (رحمه اللّه) فقد خدم المجتمع بها، من خلال إعطائه لتلك الإجازات والطلب من وكلائه بإنفاق الأموال في الوجوه التي تفيد المجتمع.

* ما هو دور الإمام الراحل (رحمه اللّه) في تفعيل الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة وسائر الحوزات العلمية في العراق؟

- كان له دور كبير في تفعيل الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة، من خلال تأسيس المدارس العديدة فيها - مثلاً - تأسيس المدرسة الحسنية(1) التي كان يديرها الشيخ حسن النائيني(2)وبتوجيهه تأسست هذه المدرسة، ومن ثم ساهمت هذه المدرسة بتهيئة الكثير من الشباب وتثقيفهم دينياً فاصبحوا من رجال الدين، وهذه

ص: 80


1- تقع بالقرب من الروضة العباسية الشريفة وإلى الشمال منها، وينصب النشاط العلمي المكثف فيها على تدريس الفقه وألأصول وعلم المنطق وألأخلاق وتفسير القرآن وقواعد اللغة العربية من نحو وصرف ، كما تقام فيها المراسيم وألإحتفالات الدينية والطقوس المذهبية.
2- خطيب حسيني وإداري في جهاز الإمام الراحل (رحمه اللّه) وعضو في بعثة الحج.

كانت حركة واسعة وملفتة للنظر في زمنها، إذ أنّ كثيراً من الشباب لبسوا العمامة كشعار لرجل الدين وباشروا بتحمل مسؤولية التبليغ للدين الحنيف، في المناسبات الخاصة مثل شهر رمضان المبارك وشهر محرم الحرام، وكذلك ساهم بتأسيس المؤسسات الحديثة، وساهم بتأسيس اللجان الأدبية، مثل اللجنة التي أسسها الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره) وتخرج منها السيد هادي المدرسي، وتخرج منها السيد مجتبى الشيرازي(1)، والشيخ جعفر الهادي(2)، والسيد محسن الخاتمي، كل هؤلاء كانوا ضمن لجنة الشهيد السيد حسن (رحمه اللّه) .

وبعدها أسس السيد مجتبى لجان أخرى وكانت أربع لجان وأنا كنت من ضمن اللجنة الرابعة والأخيرة، والتي أجهز عليها البعثيون، ومن هذه اللجان خرج الكتّاب والمؤلفون وصاروا رموزاً وشخصيات معروفة، فكانت ما تقوم به من أعمال فاعلة ومؤثرة في مجتمعها، وكان من ضمن برامج فعالياتها توزيع المنشورات في كل مناسبة، مثل منشور عن شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، أو صدور كراسات في المناسبات كسلسلة ذكريات المعصومين (عليهم السلام) ، وكل كراس يحمل اسم المعصوم، وكلها توزع على الناس، كل هذا كان يؤديه وينجزه رجال الحوزة الذين يعملون وفقاً لهذه الطريقة بتشجيع ومباركة من الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، إضافة إلى أنه (قدس سره) فعَّل الحوزة بدرس الأخلاق الأسبوعي وبتعميم(3) الشباب وتأسيس المدارس وبالحركة التبليغية التي نشَّطها وربّاها وبمؤسسات تربوية حديثة مثل اللجان الأدبية.

ص: 81


1- السيد مجتبى الحسيني الشيرازي ابن الميرزا السيد مهدي الشيرازي وأخ للإمام الراحل (رحمه اللّه) .
2- الاستاذ الباحث من العلماء الناشطين والمربين المميزين.
3- ارتدائهم العمامة.

* من المعروف أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان لديه الكثير من الأبناء والأحفاد، ما هي أساليبه ووسائله في تربية أولاده أولاً، وغيرهم من الأقرباء ثانياً؟

* وكيف كان يدير أسرته وذويه وأرحامه، وكيف كانت علاقاته معهم؟

أذكر في يوم من الأيام، وكان يومها عيد الأضحى - على ما تسعفني ذاكرتي - ذهبت إلى بيته في كربلاء المقدسة، وكنت شاباً صغيراً أرتدي العمامة، والسيد محمد رضا (رحمه اللّه) كان صغيراً وهو أصغر مني بسنوات قليلة، وما زال لم ينبت الشعر على لحيته وكان بهيأة جميلة، لعله لم يبلغ الثانية عشرة، ففوجئنا به وقد لبس العمامة وارتدى زي رجال الدين، ورأينا هذا الطالب الذي بالأمس القريب كان يلعب في مدرسة الحفّاظ رأيناه لابساً العمامة!!

الصورة

المعروف أن من أساليب الإمام الراحل (رحمه اللّه) أنه كان يعمم أولاده بعد دخولهم الحوزة ودراستهم فيها لفترة وهم دون العشرين عاماً، وأذكر أيضاً كيف تعمم السيد محمد علي (حفظه اللّه)، وأتذكر أنه كان صغيراً وفي أحد الأيام - حسب ما نقل السيد محمد رضا (رحمه اللّه) - كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يتكلم معه فرآه قد أصبح طويل القامة ورشيقاً بل وأطول منه، فقال (رحمه اللّه) : محمد علي أصبح أطول مني، يجب أن يتعمم، وبسرعة جلب له العمامة وقام بتعميمه، وهذه المبادرة كانت رائعة.

ص: 82

تعلمون أن بعض أولاد المراجع يخرجون من خط المرجعية وخط رجال الدين، لكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) وحين يكون أحد أولاده في ريعان شبابه أو في مرحلة المراهقة يعممه بسرعة ويدخله في سلك الحوزة، فينسجم في أجوائها، وهو الذي استطاع أن يوجه أولاده كلهم ويدخلهم في الحوزة حيث يعممهم ثم بعد فترة قصيرة يزوجهم، فكان يجعلهم على الطريق المستقيم، وتوجد قصص كثيرة سمعتها في هذا المجال.

* نتيجة لمواقف الإمام الراحل (رحمه اللّه) المعارضة لكثير من السياسات والأنظمة، حاول بعض الجهات اغتياله في إيران عدة مرات، ما هي الأسباب الخفية وراء ذلك؟ ومَنْ كانوا؟ وكيف فشلت تلك المحاولات؟

- في الواقع جرت عدة محاولات لاغتيال الإمام الراحل (رحمه اللّه) وإحدى هذه المحاولات - وكما سمعت عنها في وقتها - حين كان في بيت السيد مرتضى القزويني وعندهم اجتماع يخص العراق، وكان أحد الأشخاص يختبيء على سطح المنزل وهو مسلح، وقد هجم على الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، ولكن لوجود الحرس في المنزل انتبهوا إليه وسارعوا إلى الإمساك به بعد تبادل لإطلاق النار معه، حيث أصابوه في قدمه، ثم سلموه إلى الجهات المختصة.

وقبلها كانت هناك محاولة أخرى، عندما كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) مقيماً في الكويت، وكان من عادته أن يتمشى على البحر يفكر ويتأمل، وغالباً ما يكون برفقته أحد الأفراد، وفي إحدى تلك المرات كان معه السيد أحمد جبرائيل، وفجأة جاءت سيارة تسير بسرعة شديدة متجهة نحوهما بقصد صدمهما، ولكن اللّه سلم ولم يتمكن صاحب السيارة من صدمهم؛ لأن ساحل البحر يحتوي على صخور وما أشبه، وبعدها تبين أن محاولة الاغتيال هذه كانت بتدبير من

ص: 83

السفارة العراقية في الكويت وأن السيارة تابعة للسفارة العراقية.

والمحاولة الثالثة كانت في مدينة قم المقدسة، وذلك إبان الحرب العراقية الإيرانية، فعندما طال قصف الطائرات مدينة قم المقدسة، كان هناك قصف قريب جداً من بيت الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، حتى أن الزجاج تكسر، وعلى أثر هذه الغارة انتقل سكن السيد إلى قبو حسينية دار الحسين (عليه السلام) .

وكانت طائرة هذا الطيار الذي قصف المنطقة قد أسقطت، وألقي القبض عليه، فنقل - وبواسطة واحدة - عن مَنْ كان يحقق مع هذا الطيار: أنه من ضمن أهدافه قصف مكان محدد في تلك المنطقة، وقد أعطى عنواناً وعلامات ضمن خريطة تبين أنها لهذا البيت الذي يعود للإمام الراحل (رحمه اللّه) .

أي أن الطيار جاء مستدفاً بالصواريخ بيت الإمام الراحل (رحمه اللّه) ومَنْ فيه، هذا كل ما عرفته عن محاولات اغتيال الإمام الراحل (رحمه اللّه) في ذلك الوقت.

* من المعروف أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان قد جمع عدداً من علماء النجف البارزين وهم: المراجع العظام الخوئي، الحكيم , والشاهرودي للتباحث في إنقاذ السيد الخميني.

كيف تمكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) من جمع هؤلاء الأكابر من العلماء وهو لا زال في سن الشباب؟

هذا الشيء حصل بعد ما عرف بأحداث شهر خرداد(1) والانتفاضة التي

ص: 84


1- انعطافة مهمة في تاريخ إيران المعاصر. فقد جسدت التلاحم المعنوي والشعور الديني الراسخ لدى أبناء الشعب الإيراني، وجَسَدَت نهضة شعب يريد القضاء على الظلم والجور. لقد كانت هذه الانتفاضة تجسيداً لتاريخ الشيعة وجهادهم، ومقياساً لحجم التضحية ونكران الذات لأناس يتحركون باتجاه أهداف إلهية، لكن انتهى كل ذلك بما لم يكن في الحسبان.

الصورة

قامت في ايران ضد اتفاقية الكابتلاسيون والتي كانت بين الشاه ايرن(1) (محمد رضا بهلوي) وأمريكا، والتي وقعت فيها ضحايا، وقد تدخل العلماء في القضية، وكان السيد الخميني يخطب ويثير حماس المنتفضين، ويصدر بيانات التحشيد ضد الحكومة وضد الاتفاقية، وقد ألقي القبض عليه وحكم بإعدامه، فبعث الشيخ علي الكاظمي(2) إلى كربلاء المقدسة، والذي أصبح فيما بعد إمام جمعة ورامين أحد مدن طهران، ونائباً في مجلس الشورى الإسلامي في طهران، وهذا الشيخ هو من تلامذة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وقد ترجم كثيراً من كتب الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى اللغة الفارسية، وهذا الشيخ - علي الكاظمي - كان واسطة السيد الخميني إلى الإمام الراحل (رحمه اللّه) في كربلاء المقدسة، ويخبره على لسان الخميني أن ايران أصبحت أحوالها بهذا الشكل، حيث يعتقل علماء ومراجع الدين ويسجنون.

بعد صلاة المغرب والعشاء في ذلك اليوم لمجيء الشيخ علي الكاظمي، استأجر الإمام الراحل (رحمه اللّه) سيارة وذهب من كربلاء المقدسة إلى النجف

ص: 85


1- محمد رضا بهلوي، وهو الابن الأكبر لرضا بهلوي، وقد نودي به وريثاً للعرش عام 1926. وكان آخر شاه (ملك) يحكم إيران قبل قيام الثورة الإسلامية عام 1979، واستمر حكمه من 1941 إلى 1979 وكان يلقب ب- (شاهنشاه) أي ملك المُلوك.
2- مؤلف ومترجم قدير كان نائباً في مجلس الشورى الإسلامي الايراني وإمام جمعة أحد مدن طهران، وكان من الوسائط بين الإمام الراحل (رحمه اللّه) وقادة ايران.

الأشرف، وأول ما التقى بالسيد محمود الشاهرودي, قال له: إن حياة السيد الخميني في خطر، تساءل السيد الشاهرودي: ما هو المطلوب؟ قال له: المطلوب حضرتكم، والسيد الخوئي، والسيد الحكيم تعقدون اجتماعاً وتتخذون موقفاً موحداً مما يجري.

أجابه: لا بأس بذلك.

فذهبوا إلى السيد الخوئي ووافق على الحضور إلى الاجتماع، وبعدها ذهبوا إلى منزل السيد الحكيم وقد فتح الباب لهم - ربما (السيد مهدي الحكيم(1) أو السيد باقر) - فاعتذر أن يقابلوا والده لتأخر الوقت، إلا أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) لم ييأس، وعاد إلى السيد الشاهرودي وأخبره بموقف ابن الحكيم، فعادوا سوية إلى هناك، ولم يكن مفر هذه المرة من استقبال هذه المجموعة من مرجعيات النجف في ذلك الوقت المتأخر من الليل.

ما توصل إليه الاجتماع كان حسب الآلية التالية:

يتصل السيد الحكيم تلفونياً بالسفير الإيراني في بغداد, ويطلب منه أن يتصل بالشاه لقضية هامة، وإن كان الشاه نائماً فيجب أن يوقظوه ويقولون له: إن السيد محسن الحكيم - المرجع الأعلى للطائفة الشيعية وقتها - يريد مكالمته.

وقال السيد الحكيم للسفير: تقول للشاه :إن السيد الحكيم يطالبك بإطلاق سراح السيد الخميني، ونحن ننتظر الجواب.

اتصل السفير بعد ذلك بالشاه، وكان فعلاً نائماً في تلك الساعة المتأخرة من الليل، وأخبره باتصال السيد الحكيم من العراق، فكان أن وعدهم الشاه بإطلاق سراح السيد الخميني وعدم إعدامه، فأعاد السفير الاتصال بنفس الوقت

ص: 86


1- السيد محمد مهدي الحكيم نجل محسن الحكيم.

المتأخر بالسيد الحكيم وأبلغه الخبر.

وأما كيف استطاع وقتها الإمام الراحل (رحمه اللّه) من جمع هؤلاء العلماء في هذا الاجتماع، أعتقد أن هؤلاء العلماء كانوا يقبلون بالسيد الشيرازي (رحمه اللّه) رغم كونه شاباً باعتباره شخصية في صميم الأحداث، وكرمز جهادي وناشط ويفهم الوضع السياسي.

مثل هذا الاجتماع وقتها، كان استراتيجياً ومهماً جداً، أنقذ السيد الخميني، باعتباره وكما اتهمته السلطات الايرانية مثيراً للشغب، وأطلق سراحه وأبعد إلى تركيا، وظل هناك سنتين ثم أتى إلى العراق.

وقد استعد الإمام الراحل (رحمه اللّه) لاستقبال السيد الخميني وبعث أفواجاً من السيارات لاستقباله، قسم توجهت إلى بغداد وقسم إلى الحلة، فاستقبلوا موكب السيد الخميني، واستعدت مدينة كربلاء المقدسة استعداداً كبيراً جداً، يمكننا من وصف استعدادها بأنها (هَبَّت عن بكرة أبيها)، حيث صدحت الأناشيد مرحبة باستقباله.

وكانت الحركة الشيرازية في كربلاء المقدسة أول من أطلق لقب (الإمام) على الخميني، كما يظهر ذلك في الصور التي التقطت في تلك الفترة في كربلاء المقدسة، إضافة إلى تلقيبه بالمجاهد العظيم وغيرها من ألقاب، والحركة الشيرازية احتوت حركة الخميني احتواءً كاملاً، وأوصلوا صوتها إلى كل أنحاء العالم والكثير من الوثائق الموجودة تؤكد ذلك.

* من المحطات المهمة في حياة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، والتي لم يسلط عليها الضوء كثيراً هي قصة اختفائه بعد مجيء البعثيين إلى الحكم في انقلاب العام 1968، ما هي قصة هذا الاختفاء؟ وما هي الدواعي والأسباب؟

- لم يختف سماحة السيد (رحمه اللّه) مرة واحدة، بل مرتين، وأنا أتذكر واحدة

ص: 87

منهما، وهي في الفترة التي أعقبت التشديد الذي مارسه البعثيون على علماء الدين والمراجع، حيث اعتقل الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) وبعض أولاد المراجع الآخرين، الذين كانوا مستهدفين أيضاً، مثل الشهيد السيد مهدي الحكيم بن السيد محسن الحكيم (رحمهم اللّه)، وقد أصبحت أجواء كربلاء المقدسة يغشاها الحزن وتأثر الناس كثيراً بهذه الأحداث، حتى أن صلاة الجماعة توقفت، وفي مرحلة أخرى كان السيد كاظم القزويني (رحمه اللّه) (1) يصلي في مرحلة اختفاء الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وفي تلك الفترة توقفت صلاة الجماعة في الصحن الحسيني الشريف، وكان الناس حائرون ويتساءلون عن اختفاء السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، ولماذا أصبح الوضع بالشكل الذي هو عليه؟

واذكر وقتها أن النظام البعثي في العراق كانت لديه خلافات مع شاه إيران، وكانت إذاعة الأهواز الناطقة باللغة العربية تنقل أخباراً خاصة عما يحدث في العراق، وكان العراقيون يهتمون بالاستماع إليها، وهي أيضاً تتحدث عن قضايا علماء الدين وتتابع أخبارهم، مثل: اعتقالهم وما يتعرضون له على يد الأجهزة الأمنية، وغيرها من التفاصيل، وبضمن ذلك أخبار الشهيد السيد حسن (رضوان اللّه تعالى عليه)، وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يتابع هذه الإذاعة من مكانه الذي يختفي فيه.

كانت الأخبار تصل إلى تلك الإذاعة بوسائط معينة، ليست متطورة بالشكل الذي نعرفه الآن، ولكن هذه الأخبار المتعلقة بالعراق وعندما تصل إلى

ص: 88


1- رجل دين شيعي وخطيب حسيني عراقي، قد يعبر عنه أحياناً بلقب العلامة القزويني، وكذلك عبر عنه بعض الكُتّاب والمؤلفين بلقب سيد خطباء كربلاء.

إذاعة الأهواز سرعان ما تنتشر في كل أنحاء العراق، حول اضطهاد الشهيد السيد حسن (رحمه اللّه) ، وحول ظروف الاعتقال، وكانت تلك المرحلة قد شهدت حملة اعتقالات واسعة في صفوف رجال الدين، وليس فقط الشهيد السيد حسن (رحمه اللّه) ، حيث تم اعتقال مجموعة من العلماء معه، حتى أن فضيلة الشيخ علي حيدر المؤيد(1) يذكر: إنه لم يكن يظهر رجل دين معمم في الشارع، ويضيف قائلاً: عندما كنت أسير في الشارع كان الناس يقولون: انظروا هذا معمم موجود في كربلاء!!

في تلك الفترة احتدمت حركة قمع من البعثيين غير مسبوقة ضد رجال الدين، والرمز الشهيد السيد حسن (رحمه اللّه) .

أما الدواعي والأسباب لاختفاء الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، فمن المعلوم أن نظام حزب البعث البائد نظام للقمع، وضد التشيع وضد المرجعية، والإمام الراحل (رحمه اللّه) كانت لديه روح المقاومة ضد البعثيين وكان يجهر بمواقفه هذه، وكذلك الشهيد السيد حسن (رحمه اللّه) كانت لديه قصائد وأشعار ضد البعثيين وهي معروفة يضمها ديوان شعره المنشور، فكانا يمثلان معارضة واضحة ضد البعثيين، على اعتبارهم يمثلون مرجعية واعدة ونشيطة، ورموزاً للمجتمع ويعبئون الناس ضد البعثيين، فاعتقل السيد الشهيد حسن (رحمه اللّه) تمهيداً لإعدامه، والإمام الراحل (رحمه اللّه) اختفى لكي لا يعرض نفسه للاعتقال ثم الإعدام.

* ماذا تتذكرون عن أحداث الحرس القومي، وما هو موقف الإمام الراحل (رحمه اللّه) من حكومة عبد الكريم قاسم؟

- لا أتذكر هذه الأحداث لأن أوجها وشدتها كانت في سنة (1963م) العام

ص: 89


1- من وكلاء الإمام الراحل (رحمه اللّه) المعتمدين في الكويت، وخطيب حسيني ومربي مميز.

الذي توفي فيه الميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) .

الصورة

أما بالنسبة لموقف السيد الراحل (رحمه اللّه) تجاه حكومة عبد الكريم قاسم هناك قضيتان اعرفهما.

الأولى ذهاب الإمام الراحل (رحمه اللّه) مع مجموعة من الوجهاء منهم السيد مرتضى القزويني للقاء بعبد الكريم قاسم، وكان كلامهم معه أن لا يفسح مجالاً للشيوعيين, ويفسح المجال أمام العلماء، وهناك مطاليب أخرى تكلم الإمام الراحل (رحمه اللّه) بها مع عبد الكريم قاسم بهذا الخصوص، وهناك صور توثق هذا اللقاء.

أما القضية الثانية، ففي زمن عبد الكريم قاسم وفي الأشهر الستة الأولى للانقلاب على الحكم الملكي، انتشرت موجة الشيوعية في العراق، وكان هناك سبعة وزراء شيوعيين في تشكيلة الحكومة، وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) والميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) ومرجعيات وعلماء النجف الأشرف وكربلاء المقدسة عموماً كانت لديهم حركة تعبئة ضد هذا الانتشار، وكان سماحته (رحمه اللّه) في المدرسة الهندية(1) يلتقي بالعلماء، حيث كانت تلك المدرسة مركزاً لقيادة المعارضة ضد الشيوعيين الذين حاولوا أن ينظموا سلسلة اغتيالات ولم يستطيعوا تنفيذها، لأن حركتهم ضعفت بعد صدور عدد من الفتاوى ضدهم، وكان في

ص: 90


1- وهي من أهم المدارس العلمية في الوقت الحاضر، أنشئت في أواخر القرن الثالث الهجري، كما تصرح بذلك وثيقة الوقف الخاصة بها، تقع بالقرب من روضة الإمام الحسين عليه السلام في زقاق الزعفراني.

قائمة الاغتيال التي نظموها اثنان وخمسون إسماً كان أولهم الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

ومن الجدير ذكره في هذه القضايا وغيرها، إن الذي كان واسطة بين الإمام الراحل (رحمه اللّه) والسيد الحكيم هو سماحة آية اللّه الشهيد السيد محمد صادق القزويني والد السيد مرتضى القزويني، وكذلك كان الواسطة مع السيد الخميني، ومع السيد الخوئي، ومع عموم مراجع النجف في تلك الفترة.

* متى تحمل السيد الراحل (رحمه اللّه) مسؤولية المرجعية؟

* ولماذا تصدى لها وهو في عمر مبكر مقارنة بباقي العلماء؟

- تحمل سماحة السيد (رحمه اللّه) مسؤولية المرجعية في عمر مبكر لأنه كان يشعر بالمسؤولية لقيادة حركة الإصلاح في العراق، والمرجعيات في ذلك الوقت كانت مرجعيات تقليدية - إذا صح التعبير - ليس لها طموحات واسعة تستجيب للتحديات التي تتطلبها المرحلة التي كان يعيشها العراق والبلاد الإسلامية.

فالعراق كان مهدداً بتيارين عنيدين وشديدين، هما: تيار الماركسية الشيوعية والتيار البعثي، والذي رأينا ما فعله صدام بالعراق.

فأهل الحل والعقد في كربلاء المقدسة اقترحوا على الإمام الراحل (رحمه اللّه) التصدي لهذه التحديات، وقد سمعت هذا الكلام من المرحوم آية اللّه الشيخ جعفر رشتي (رحمه اللّه) قال: نحن وغيرنا اقترحنا على الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، أن يقدم نفسه كمرجع ديني، وأكدّنا على الاقتراح وألححنا عليه، لأن حركة الاصلاح في المجتمع تحتاج إلى المال والرجال، والمال يأتي عن طريق الخمس، والخمس اقتصاد الطائفة الشيعية الأقوى والمورد الأكبر، والرجال يطيعون المرجعية - غالباً - العلماء والجماهير والكوادر المثقفة ، فإذا لم يكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) مرجعاً فهذا يعني فقدان هذا المورد المالي والرجال، ولشعوره بالمسؤولية الجسيمة، هو ومن حوله

ص: 91

من أهل الحل والعقد من رموز الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة.

وافق على هذا المقترح، وتصدى للمرجعية بصورة كانت هادئة وليست صاخبة، وطبع رسالته وسار في تنمية وتطوير مرجعيته خطوة خطوة. وقد طبعت الرسالة في حياة السيد الحكيم (رحمه اللّه) على مستوى بسيط من الطباعة وليس بعد وفاته.

* هل من سنة محددة تقريبا يمكن ان تتذكروها لطباعة الرسالة؟

- لا أتذكر التاريخ الدقيق لذلك، فالميرزا الشيرازي توفى عام (1963م) والسيد الحكيم توفي عام (1969م) وفي هذه الفترة لم يعلن الإمام الراحل (رحمه اللّه) مرجعيته بصورة علنية احتراماً للسيد الحكيم، لكنه كان يوجه الناس باعتباره عالماً، وكان أيضا في هذه الفترة يعتبر الوكيل العام والمطلق رسمياً للسيد الحكيم في كربلاء المقدسة في إدارة شؤون الحوزة العلمية، وهناك وثيقة بهذا الشأن، وكذلك كان السيد الراحل (رحمه اللّه) وكيلاً للسيد عبد الهادي الشيرازي(1)،

وكان وكيلاً لمرجعيات أخرى، أي بمعنى أنه كان لديه اعتبار وحظوة عند المرجعية بنسبة معينة.

* كيف كانت مكانة الإمام الراحل (رحمه اللّه) عند والده والذي كان يعتبر مرجعاً كبيراً في ذلك الوقت؟

- لم أكن مطلعاً على الكثير من التفاصيل حول ذلك، لكنني سمعت من إحدى الشخصيات وأعتقد أنه الأغا كولابي(2)، وكان رجل دين من منطقة

ص: 92


1- كان أحد مراجع الشيعة الإثني عشريَّة في العراق، وينتسب لأسرة الشيرازي المعروفة في الأوساط الشيعيَّة. وكان له دورٌ في القيادة الدينيَّة والسياسيَّة للطائفة الشيعيَّة في العراق.
2- من الخطباء والناشطين دينياً.

العباسية الشرقية، وقد توفي قبل أكثر من عشر سنوات في قم المقدسة، وأعتقد أن بعض الشيبة يتذكرونه الآن أيضاً.

قال وهو يروي حادثة حضرها بنفسه: كان الميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) يصلي في جامع العطارين(1) في كربلاء المقدسة فجاءه مجموعة من الناس عندهم قضية خلافية قضائية معقدة، وقالوا للميرزا الشيرازي (رحمه اللّه) : سيدنا نريد أن نجلس معك وتحلَّ لنا هذه القضية. فأحالهم الميرزا مهدي إلى ابنه السيد محمد الشيرازي (رحمه اللّه) .

فقالوا له متعجبين: سيدنا هذه القضية تحتاج إلى رجل دين فقيه ومجتهد حتى يستطيع أن يعالجها.

فقال لهم: ماذا تتصورون هل أن السيد محمد غير مجتهد؟ بل هو مجتهد، وهو فقيه.

* هل سبق وإن سافرتم في رحلة نحو مكان ما مع الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

الصورة

- في الواقع أنا لم أسافر معه، ولكني التقيت به في مدينة مشهد المقدسة حيث بقي الإمام الراحل (رحمه اللّه) هناك ثلاثة أشهر من ضمنها شهر رمضان، وبمجرد وصوله إلى المدينة، بدأت الحركة لإعادة إعمار مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) غير المكتملة، فأنصبّ الجهد الكبير لبنائها، حيث بنيت الغرف ورتبت بشكل جميل للاستفادة منها، وشرع الإمام الراحل (رحمه اللّه) في تدريس (مرحلة البحث الخارج) في كتاب (إحياء الموات) في قبو المدرسة،

ص: 93


1- يقع هذا الجامع مقابل المدرسة السليمية، بالقرب من سوق التجار الكبير.

وكان القبو يمتلئ بالطلبة، وأعتقد أن عددهم كان يصل إلى حوالي ثلاثمائة وخمسين إلى أربعمائة طالب، بمقدار سعة القبو، وكل فضلاء وعلماء مشهد المقدسة كانوا يحضرون إلى محاضرات الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وهو حينما وصل إلى مشهد المقدسة جلس لاستقبال الناس بعد زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) ، فكانت هناك جموع غفيرة من مختلف الفئات والطبقات،من علماء وتجار وشخصيات جاؤوا لزيارته، وكنت حاضراً في كل ذلك.

أتذكر قضيتين مهمتين من تلك المرحلة، الأولى: كان من رأي الإمام الراحل (رحمه اللّه) إقامة المؤتمرات للمؤسسات التابعة له في مدينة مشهد المقدسة، فانتخبني للتحدث حول الموضوع، رغم انشغالي بالتدريس حيث كنت أدرّس أصول المظفر وغيره, وكنت أحاول أن أرتب مواعيد برامجي ليتسنى لي اللقاء به، وكنت حين التقيه نتمشى في إحدى ممرات المدرسة لوقت يستغرق أحياناً الساعة والنصف، وكان من عادته أن يتمشى مع الصاية والعمامة من دون عباءة، وكان (قدس سره) يحدثني في تلك الأوقات عن المؤتمرات ليقنعني بضرورة إقامتها،وأنها وسيلة لخلاص المسلمين بعد ذلك، وقد تفاعلت مع الفكرة، فما كان منه إلا أن طلب مني قانوناً أساسياً لكيفية عقد المؤتمرات، وقد امتثلت لأمره، وخلال ثلاثة أيام كان التقرير جاهزاً، حيث ذكرت فيه صفات مَنْ يحضر تلك المؤتمرات المفترض انعقادها، وكيفية تمويلها، وطريقة إدارتها، وأنواعها، والجهات التي يلزم أن تحضر اليها، وجملة أمور أخرى، وبعد أن اطلع الإمام الراحل (رحمه اللّه) على التقرير والخطط الموجودة فيه لعقد المؤتمرات، قام بالتصويب عليها والموافقة, وقال لي: أبعث بنسخة منها إلى سماحة السيد محسن الخاتمي, وهو المعتمد العام لسماحته في خارج إيران، وكان حينها مقيماً في سوريا، فبعثت بنسخة منها إليه، ونسخة

ص: 94

أخرى إلى الشيخ حسن الصفار لأنه كان ضمن وكلاء الإمام الراحل (رحمه اللّه) الناشطين في قيادة المعارضة ضد النظام السعودي ويقيم في سوريا أيضاً، وكان يحترم الاحترام الكبير للإمام الراحل (رحمه اللّه) ويقبل توجيهاته في تلك المرحلة، ونسخة ثالثة ربما بعثتها إلى الوكيل في الكويت ولا أذكر من كان وقتها.

هذه النسخ الثلاث بعثناها إلى وكلاء معتمدين للإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وعقد مؤتمر في سوريا حضره السيد الخاتمي والشيخ حسن الصفار وتباحثوا في عدد من الأمور والقضايا الملحة، ولم اطلع على تفاصيل ذلك المؤتمر وما دار فيه بصورة دقيقة.

القضية الثانية: كنت مسئولاً عن بعض الطلبة المهجّرين من قم المقدسة إلى مشهد المقدسة؛ بعد اشتداد حرب المدن بين العراق وايران، وقد غادرالإمام الراحل (رحمه اللّه) قم المقدسة إلى مدينة مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) بعد إلحاح كبير عليه من قبل الجميع، حيث لم يكن لديه ملجأ في بيته يمكن أن يتحصن فيه من القصف، ولعل أي صاروخ يقع على بعد مائة متر أو أكثر فسوف يؤثر تأثيراً كبيراً ويشكل خطراً على البيت القديم ومَنْ فيه، في حين أن الكثير من المرجعيات والعلماء كانت لديهم ملاجئ ورغم ذلك خرجوا من قم المقدسة إلى أطرافها ومشارفها في المناطق الزراعية المحيطة بها، لهذا السبب غادر الإمام الراحل (رحمه اللّه) بيته القديم.

* شيخنا الجليل هل كانت هناك قضايا أخرى كنتم شهوداً عليها خلال تلك الفترة الزمنية؟

- بالتأكيد، فبعد بقائي في مشهد المقدسة لمدة ثلاثة أشهر بعد شهر رمضان تحديداً، لم نعد نطيق وضعنا كمهاجرين عن مدينتنا وديارنا، إضافة إلى الإرهاق

ص: 95

الذي كنا نتكبده من الاقامة في الفندق، مع صعوبة مثل تلك الأوضاع عموماً، حين قررت العودة إلى مدينة قم المقدسة، ذهبت لإخبار الإمام الراحل (رحمه اللّه) بنيتي للذهاب وتوديعه؛ كان ذلك عصر أحد الأيام بعد عيد الفطر بيومين أو ثلاثة، فتمنى لي وصولاً محموداً وهو يودعني.

كانت رحلة العودة بواسطة القطار، واستغرق وصولنا إلى مدينة قم حتى الساعة الثامنة والنصف أو التاسعة من صباح اليوم التالي، بعد أن أوصلت زوجتي إلى منزلنا، حدثت نفسي بالذهاب إلى منزل الإمام الراحل (رحمه اللّه) لتفقده ومن فيه، التقيت بالسيد المجيدي(1) مرحباً بي وهو يستقبلني، وقد فاجأني بقوله: إن الامام الراحل (رحمه اللّه) موجود في المنزل ويمكنك رؤيته والسلام عليه.

كنت متعجباً من وصوله قبلنا إلى مدينة قم التي بقي فيها منذ تلك الفترة لايغادرها إلى أن لبى (رحمه اللّه) نداء ربه.

* انخرط السيد الشهيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) في مقارعة سلطة البعث مبكراً، وكانت له مواقف مشهودة، كانت نتائجها اغتياله في مرحلة لاحقة في بيروت، خلال ذلك الوقت اعتقل من قبل السلطات البعثية، ماذا كانت ملابسات اعتقاله؟ وما هو دور الإمام الراحل في نجاته؟

- الشهيد السيد حسن (رحمه اللّه) كان رمزاً في المعارضة ضد البعثيين وله كتابات كثيرة وأشعار موجودة لحد الآن في هذا المجال، إضافة إلى تسجيل صوتي له حيث يقرأ تلك القصيدة المشهورة التي يقول فيها:

زعيمنا الكرار لا (ميشيل)***لا (ماركس)، لا القسيس، لا الحاخام

وكذلك كانت للسيد قصائد أخرى قاسية ضد البعثيين، وقد ألقى بعض

ص: 96


1- عضو بمكتب الإمام الراحل (رحمه اللّه) وخطيب حسيني ومن الكوادر الإدارية.

هذه القصائد في مهرجان ميلاد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وبحضور وزراء بعثيين كانوا جالسين ومما قرأه هذا البيت:

وأسحق جباه الملحدين مردداً***لا السجن يرهبني ولا الإعدام

الصورة

وهو يجاهر بمواقفه دائماً ضد الشيوعيين والبعثيين ويتحداهم، اعتقل السيد الشهيد (رحمه اللّه) لأنه قائد تيار شبابي، وهو عالم ورجل دين محترم ومعروف، والناس يكنون له الحب والاحترام، وقد تم اعتقاله عن طريق الخدعة والمكيدة، حيث اخبره رجال الأمن عند قدومهم إليه لاعتقاله في الساعة الواحدة : إن محافظ مدينة كربلاء لديه عمل معه وسيعود بعد ذلك. فأخذوه معهم وكانت لديهم خطة لإعدامه والقضية فيها تفصيل ليس هذا محله.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) رتب لاختفائه عن عيون رجال الأمن، لأنه هو الآخر مستهدف أيضاً، وفي نفس الوقت يعتبر اختفاؤه هذا استنكارا لما جرى ويعتبر نوعاً من المواجهة، وهذا الاختفاء يعني أن الأوضاع غير طبيعية وتوجد مشاكل عديدة، وبما أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان قائداً شعبياً، والناس يتأثرون به في ظهوره أو اختفائه، فإنهم سوف يتساءلون عن سر هذا الاختفاء، وسيصلون إلى نتيجة أنه مضطهد، وأنه مطارد، وإنه مستهدف من قبل سلطات البعث الحاكم.

رغم مسألة الاختفاء، كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) من داخل مخبئه - كما ذكرت ذلك من قبل - يجمع الأخبار ويبعثها إلى إذاعة الأهواز، في نفس الوقت الذي كان فيه يوجه وينظم حركة الوساطات لإنقاذ الشهيد السيد حسن (رحمه اللّه) ،

ص: 97

وأيضاً كان يستغل ذلك الوقت للتأليف، حيث ألف كتباً عدة وهو في ذلك الوضع الصعب.

هجرة الإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه)

* ما هي أسباب هجرة الإمام المجدد من كربلاء المقدسة؟

- الواقع إنّ البعثيين عام 1968م وفي المرة الثانية التي جاؤوا فيها إلى الحكم شددوا الخناق على كربلاء المقدسة أولاً؛ لأن كربلاء المقدسة بوابة النجف الأشرف، بسقوطها تسقط تلك المدينة وهي تمثل الحلقة الأصغر في مقابل النجف الأشرف الحلقة الأكبر، الإمام الراحل (رحمه اللّه) وبعد سنتين في عام (1970م) قرأ الأوضاع السياسية وما يمكن أن تؤول إليه الأحوال في البلاد، ورأى أن هؤلاء البعثيين قد استحكموا واستبدوا وتجرؤوا على المرجعية الدينية ورموزها، وخصوصاً على السيد الحكيم (رحمه اللّه) ، واعتقلوا الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) ، وكانوا يلاحقون الشهيد السيد مهدي الحكيم (رحمه اللّه) والذي اغتالوه فيما بعد في السودان، هذه الأوضاع كلها، وكذلك الضغط على الطلبة من ذوي الأصول الإيرانية وغيرهم، عرف السيد الراحل (رحمه اللّه) من خلالها، بأن البعثيين وأجهزة أمنهم سوف يقومون بهجمة كاسحة على الحالة الشيعية في العراق، وأنه سيكون المستهدف الرئيس في هذه الهجمة، فهاجر من العراق سراً إلى سوريا، ومن سوريا إلى لبنان، ومن لبنان إلى الكويت.

هذا الوضع الإرهابي الذي نشره وبثَّه البعثيون في مدينة كربلاء المقدسة والنجف الأشرف وعموم العراق، دفع الإمام الراحل (رحمه اللّه) للهجرة من العراق، وقد أثر ذلك على أهالي كربلاء المقدسة الذين أصابتهم الفجيعة حين علموا

ص: 98

بهجرة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، إذ اجتمع جمع غفير منهم على باب بيته وهم يبكون ويتعالى صراخهم، حزناً على رحيله، وكأن أب كل واحد منهم قد توفي ذلك اليوم.

بعد ذلك عمد البعثيون إلى تضييق الدائرة، دائرة الملاحقة والمضايقة، حتى أن السيد مرتضى نفسه استهدف وكانت هناك محاولات متجددة لاعتقاله، وقد خرج مسرعاً من العراق وهكذا باقي الرموز، وهذا كان يوم الخامس والعشرين من شعبان عام (1970 م).

عيّن الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، آية اللّه السيد محمد كاظم القزويني (رحمه اللّه) في مكانه، لكنه أيضا تعرض للملاحقة من قبل أجهزة الأمن، ولم يستطع الاستمرار في مهامه، حيث صلاة الجماعة، وتم اعتقاله لوقت معين، وبعد إطلاق سراحه، اختفى هو الآخر، ليهاجر سراً إلى الكويت أيضاً لاحقاً بالإمام الراحل (رحمه اللّه) .

فيما يتعلق بنا نحن مجموعة الطلاب الذين ننتمي إلى هذه المدرسة المباركة، كان تأثير خبر هجرة الإمام الراحل (رحمه اللّه) كبيراً جداً وصاعقاً وشديداً، كنا يومها نحضر درس التفسير للسيد مرتضى القزويني (حفظه اللّه) في المدرسة الحسنية كحلقة كبيرة، وكانت تبدأ في الساعة الثامنة صباحاً، وكان من المقرر أن يكون بحثنا لذلك اليوم هو تفسير سورة (الروم)، لم يباشر السيد مرتضى القزويني في الدرس كما هي العادة، إذ أنه تكلم قليلاً حول موضوع البحث، وبعدها ألقى علينا محاضرة حول الصبر، وكيف يجب على الإنسان أن يتحمل المشكلات والنوائب، وأن يكون جلداً ليتجاوز هذه المصائب، لأن اللّه تعالى موجود يسند الإنسان المؤمن، واستفاض بكلام آخر من هذا القبيل، وكنا مجموعة الطلاب

ص: 99

الحاضرين نستمع إليه ولا نعرف ماهي القضية تحديداً، ولماذا كان السيد مرتضى القزويني يوجه مثل هذا الحديث لنا وما هي المناسبة!

بعدها فاجأنا وهو يقول: إن سماحة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) هاجر من العراق. أتذكر إننا دخلنا في جو من الإحباط، وانتابتنا نوبة من البكاء والحزن، حتى أن بعضنا قد إنهار ولم يستطع السيطرة على مشاعره.

بعد ذلك بفترة معينة، صدر حكم الإعدام غيابياً بحق الإمام الراحل (رحمه اللّه) بتاريخ (4/11/1974م) ونشر في صحيفة (الثورة) العراقية، وهذا الحكم صدر عليه ضمن مجموعة من الأشخاص كان هو أحدهم باعتبارهم مخربين ضد نظام حزب البعث العراقي، ولم يصدر بحقه بصورة خاصة ومستقلة.

هاجر الإمام الراحل (رحمه اللّه) من العراق قبل خمسة أيام من شهر رمضان المبارك ، وفي شهر ذي الحجة الحرام بدأت موجات التهجير القسري الأول، ومن خلال تلك الحوادث كانت قراءته للمستقبل، ماذا سيحدث فيما بعد ذلك، وكان يقول: إن الإيرانيين كلهم سوف يهجرون، وقد حدث التهجير في شهر ذي الحجة وشهر رمضان المبارك وشوال وذي القعدة، وفي هذه الفترة أصبح البعثيون يشددون من قيودهم ويلاحقون الجميع، واحتدم الصراع بينهم وبين إيران، وكانت تلك حجتهم لحركة التسفير الواسعة، حيث أنذروا الناس ومنحوهم مدة أسبوع، وبعدها كان يؤخذ الرجال من محالهم بملابس العمل، وكذا عمال البناء بملابس عملهم، كان ما حدث في تلك السنوات مأساة يعجز المرء عن وصفها.

فإن الإمام الراحل (رحمه اللّه) عرف بحسه أن هؤلاء البعثيين قادمون لتصفية الحالة الشيعية في العراق، وهو لا يستطيع أن يبقى لمواجهة هذا الطوفان لوحده، فكان قراره بالهجرة لقيادة المسيرة المرجعية من الخارج.

ص: 100

حينما وقعت أحداث التسفير المأساوية، كتب الإمام الراحل (رحمه اللّه) رسالة إلى المسفّرين، وهي عبارة عن كراس جميل جداً فيه توجيهات للمسفّرين حمل اسم (النازحون من العراق) وفيه عشرون نقطة يوجه فيها خطابه ويرشدهم، وهذه التوجيهات كان لها تاثير عميق ورائع.

وفي تلك الفترة نظم الشيخ الفلسفي (رحمه اللّه) مجلساً حاشداً وضخماً في طهران، حضر إليه المهجرون من كربلائيين ونجفيين وبغداديين وأمثالهم، وقد قيل وقتها أن ذلك المجلس حضر فيه خمسون ألف مستمع، ذكرالشيخ الفلسفي (رضوان اللّه عليه) في هذا المجلس كلمة عن الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، قال مما تسعفني به الذاكرة: (صوت التشيع يصل إلى العالم من خلال شخصية واحدة وهو آية اللّه السيد محمد الشيرازي، وهذا الصوت يصل إلى العالم بطريقة واحدة وهي أنه يكتب كراسات حول واقع التشيع وتترجم إلى سبع لغات حية في العالم، وبنسخ كبيرة وتبعث إلى الحج، ومن خلال الحجاج تنتقل الكراسات إلى مختلف أنحاء العالم).

دروس الإمام الراحل (رحمه اللّه)

* هل هناك من ذكريات تحتفظون بها عن سنوات دراسة الإمام الراحل في الحوزة العلمية في مدينة كربلاء المقدسة، مع علمنا أنكم لم تزاملوه في سنوات الدراسة تلك؟

- هذا السؤال يستطيع أن يجيب عنه السيد مرتضى القزويني إجابة موسعة، والذي كان زميلاً للإمام الراحل (رحمه اللّه) لسنوات لا بأس بها، لكني سمعت من الشيخ جعفر الرشتي (رحمه اللّه) وهو من أساتذة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، خصوصاً في الأدبيات، سمعت هذا الكلام أكثر من مرة منه حيث قال: (كل الطلاب الذين

ص: 101

درّستهم كان استيعابهم دون المائة بالمائة، وبدرجات مختلفة، أما الذي كان له استيعاب بشكل خاص ومائة بالمائة وأنا مطمئن لاستيعابه لأفكار كتاب (المطول) أو كتاب (السيوطي) فهو السيد محمد الشيرازي) وتلك الشهادة سمعتها شخصياً على لسان أستاذه الشيخ جعفر الرشتي.

* كيف كان الامام الراحل يدرّس تلامذته، وكيف كان يتعامل معهم رغم اختلاف مستوياتهم وقابلياتهم الشخصية؟

- في بداية المراحل الدراسية للحوزة وهي المقدمات، لم نحضر دروسه التي كان يعقدها في كربلاء المقدسة، وأيضا لم أكن حاضراً في تدريسه لمرحلة الخارج في كربلاء المقدسة أو في الكويت، ولكن بعد ذهابي إلى إيران بعد قيام الثورة بسنة واحدة، ذهبت إلى قم لمواصلة الدراسة، لإكمال مرحلة السطوح(1) وكنت قد درست المقدمات(2) إلى مرحلة درس اللمعة في العراق، وكانت تلك المرحلة تتضمن المكاسب والرسائل والكفاية كاملة، ودرست بعضاً من الرسائل وبعض الأدبيات، أما درس الخارج(3) فقد حضرته لمدة إحدى عشرة سنة، وكلها قرأتها ولم أفوّت درساً منها إلا في الفترة التي مرضت فيها لأسبوعين.

كنت أحضر دروس الإمام الراحل (رحمه اللّه) فقهاً وأصولاً وأتذكر أنني درست

ص: 102


1- يتهيأ الطالب لدراسة الكتب الاستدلالية والأصولية والفقهية والعقائدية والفلسفية، فيقرأ الأستاذ مقطعاً مقطعاً من الكتاب ويشرح الموضوع بما يزيل الغموض والإبهام. ويستمع لما يثيره الطلبة من تعليقات فيصحح آرائهم أو يتنزل عندها إذا كانت آراؤهم جديرة، وتتسم هذه المرحلة بالطابع الاستدلالي في الفقه والكلام.
2- يقتصر الطالب فيها على دراسة النحو والصرف والبلاغة والعروض والمنطق والفقه.
3- حلقات دراسية يقوم برعايتها كبار علماء الحوزة العلمية فيختار الأستاذ بحثاً فقهياً أو أصولياً أو بحثاً في تفسير القران أو في الحديث النبوي يلقيه على شكل محاضرات.

العديد من الكتب عنده أمثال كتاب إحياء الموات وكتاب النكاح وكتاب البيع.

وعلى مدى سنوات الدراسة تلك، كنت أكمل دفتراً كاملاً لمحاضرات الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، مع تقريرات مني على تلك الأبحاث بحدود الصفحتين، حتى أصبح لدي منها ثلاثة عشر أو أربعة عشر دفتراً، وكانت هذه الدفاتر ضمن ما صادرته الأجهزة الأمنية.

الصورة

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يأمل أن يكون تدريسه تدريساً سهلاً، وليس معقداً لا يتمكن الطالب من فهمه، مثلما يقوم به بعض المدرسين، ولم يكن (رحمه اللّه) يعتقد أن التعقيد يمكن أن يقود إلى الفهم، وكان يؤكد من خلال طريقته في التدريس أن المعلومة يجب أن تصل إلى ذهن الطالب بأيسر السبل وكان لدقيقتين أو ثلاث دقائق يفتتح بذكر حديث أو نصيحة ويعلق عليه وكان أحياناً يلقي بتعليقاته وسط التدريس.

وكان في كل أربعاء من الأسبوع، يدرّس عشر دقائق فقط، وباقي الوقت كان يستغله لإلقاء درس في الأخلاق، وهذا الدرس كان بحسب الآني من الأحداث والمواضيع، أو بحسب المناسبات الدينية، مثل مناسبة شهادة الإمام الحسن (عليه السلام) وغيره من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وكذلك عيد الغدير أو موسم الحج, أو في شهر محرم حول سيد الشهداء (عليه السلام) .

وأتذكر أنه تكلم حول الإمام الحجة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) في النصف من شعبان في إحدى السنوات، وكان كلامه على درجة عالية من الرقي ومشجياً، بكى وأبكى

ص: 103

الحاضرين في درسه يومذاك.

وكان (قدس سره) في كل مناسبة لميلاد الإمام الحجة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) يلقي محاضرة خاصة عنه، وكان يعطل الدرس كاملاً، ويتحدث بكلام عميق بشكله ومضمونه، وكان الحاضرون يتأثرون تأثراً شديداً بما كان يقوله السيد الراحل (رحمه اللّه) , وكان يذّكرنا كم نحن مقصرين في حق الإمام الغائب (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) .

خلال دروس الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، كان الحاضرون يطرحون عليه بعض الإشكالات والأسئلة التي يثيرها البحث، فكان يناقش تلك الاشكالات ويجيب عن الأسئلة, ولم يكن يمنع أحداً من طرح تساؤلاته، بل كان يشجع على ذلك وهو الذي يطلب من تلامذته طرح أسئلتهم، وبعد ما يكمل الدرس كان الطلاب يلتفون حوله حوالي ربع ساعة وأحياناً ثلث ساعة، وبيدهم أوراق وأقلام وكانوا إما يسألون أسئلة فقهية أو مداخلة على الدرس أو شيئاً من هذا القبيل وبعد استكمال هذه الوقفة - وقفة الأسئلة والأجوبة - يجلس في غرفته قبيل أذان الظهر، الذي يكون في العادة بعد نصف ساعة من انتهاء تدريسه، ويأخذ باستقبال الطلاب وهم يأتون إليه لمجالسته، فيوجههم ويتحدث إليهم.

* ماذا في الذاكرة حول رحيل الميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره) ؟

الصورة

- لا أذكر الكثير من التفاصيل المتعلقة برحيل الميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) لكني علمت أن أبناءه الأربعة - الإمام الراحل وأشقاؤه الثلاثة - تقاسموا زيارة مجالس العزاء الإمام

ص: 104

الراحل وأشقاؤه الثلاثة - تقاسموا زيارة مجالس العزاء التي أقيمت في كل أنحاء العراق لمدة أربعين يوماً، وصادف قسم من هذه المجالس في أيام شهر رمضان المبارك، فكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يذهب ليحضر في مجالس الحلة أو مجالس النجف الأشرف أو غيرها، في حين يذهب بقية أشقائه إلى أماكن ومجالس أخرى، لأنه لا يستطيع اللحاق بكل المجالس لوحده.

نشاطات في الكويت

* بعد وصول الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى الكويت مهاجراً من العراق، ماذا كان دوره الذي اضطلع به في تلك الفترة؟

- في تلك الفترة كنت في كربلاء المقدسة، قبل ذهابي بعد ذلك إلى الكويت، وما أتذكره إما سمعت به أو كنت شاهداً عليه، تبعاً لموقعي من الأحداث.

حينما سافر الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى الكويت، كان سكنه الأول في بيت أحد الكسبة الذي استضافه، ثم أوقف هذا البيت وقفاً شرعياً وبعدها تحول إلى مدرسة. وفي يوم وصوله، وعندما حان وقت الصلاة، اتخذ الإمام الراحل (رحمه اللّه) مكانه وصلى جماعة بالحاضرين، ثم توافد على زيارته التجار وعدد من الناس من مختلف الشرائح الاجتماعية، وأنشأ الجامع الذي اتخذه مصلى فيما بعد، وبدأ في التدريس مباشرة من دون تأخير.

قام الكثيرون بزيارة الإمام الراحل (رحمه اللّه) من رجال دين، وشخصيات اجتماعية، ووجهاء مدينة الكويت المعروفين، وقام بدوره برد تلك الزيارات، بعدها أسست له ديوانية كان كل ليلة يلقي درس التفسير فيها، وفي كل يوم سبت من الأسبوع، كان يعقد مجلساً حسينياً، لازال مستمراً إلى الآن، وفي كل يوم خميس عصراً كان يأتي إلى المدرسة ويلقي درساً في الأخلاق للطلاب، وأحياناً

ص: 105

كان يطلب مني إدارة هذا الدرس وإخبار الطلاب بعدد من الأمور، وكنت أتحمل هذه المسؤولية.

كانت محاضراته راقية جداً وجميلة، كنا ندونها في دفاترنا، ثم نقوم بتنقيحها، وبعد ذلك تطبع على شكل كراسات صغيرة، ومن الكراسات التي أتذكرها الكراس المعروف (ثورة الإمام الحسن (عليه السلام) ) وهو عبارة عن محاضرة راقية وجميلة ألقاها سماحته في مدرسة الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الكويت وقد تصديت لكتابته وتنقيحه وترتيبه وطباعته.

الصورة

إن نشاطات الإمام الراحل (رحمه اللّه) في الكويت كانت كثيرة جداً في تلك المرحلة، فقد قام بتأسيس مؤسسات عديدة، وفي السنة التي ذهبت فيها إلى الكويت وأعتقد أنها كانت سنة (1975م) في منتصف شهر رمضان المبارك، كان يعقد مجلسه في الديوانية وكان الخطيب فضيلة الشيخ عبد الحميد المهاجر(1)، وفي بعض السنوات التي لا يوجد فيها خطيبٌ مشهور، كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يُدرِّس التفسير، وفي إحدى تلك السنوات، توزع حديثه خلال الشهر الفضيل حول حقوق المرأة،وعن الأم وعن الأخت وعن الزوجة، وعن العمة وعن الخالة، وقضايا تاريخية متنوعة، يذكر خلالها روايات جميلة جداً، وكانت بحوثه مركزة ولطيفة وراقية، مما جعل الديوانية وخارجها تزدحم بالناس

ص: 106


1- رجل دين شيعي وخطيب حسيني عراقي بارز، ومؤلف لعدد من الكتب الإسلامية والتاريخية. وهو مؤسس (كلية الإمام الحسين للخطابة) في مدينة كربلاء المقدسة.

من كل الطبقات الاجتماعية.

ثم جاء موسم الحج واقترحوا عليَّ أن أذهب لحج بيت اللّه الحرام، وقد قررت قبل ذهابي بثلاث ساعات أن أذهب لزيارة الإمام الراحل (رحمه اللّه) والسلام عليه وتوديعه، وقد فتح باب المنزل بنفسه حين طرقته، وكان يرتدي ملابسه البيتية - من دون العمامة والصاية - فقال مُرحباً بي بلهجته العراقية: ها شيخ ناصر! قلت له: سيدنا أنا ذاهب إلى الحج وجئت لأسلم عليكم، فأخذت يده وقبلتها، فقال لي: انتظر قليلاً لا تذهب سأعود حالاً، فذهب داخل البيت وعاد من دون تأخير وأعطاني مائة ريال سعودي، وهو يقول: هذه هدية! قلت له: سيدنا، لقد أتيت للسلام عليكم وتوديعكم. ولم يكن في نيتي أن آخذ شيئاً من سماحة السيد (رحمه اللّه) ، ولكن رزق ساقه اللّه إليَّ، حيث لم يكن عندي نقود أصلاً، إلا خمسون دولاراً فقط، وكانت السيارة التي ستنقلنا إلى الحج لصديق لنا وهو الحاج سعود (رحمه اللّه) ، وكان زملائي في السفر الشيخ كاظم السباعي وسيد حسين المدرسي(1) وأفادني المبلغ الذي أعطانيه في شراء الذبيحة بعد أن أضفت عليه عشرون ريالاً أخرى.

حتى الآن أتذكر تلك الرحلة وما حدث فيها وكأنها بالأمس، وقد اعترضنا بعض المشاكل في الحج واعتقلنا في المدينة المنورة، وتعطلت سيارتنا في منطقة البريدة في وسط الصحراء، وبقينا ثلاثة أيام فيها وكانت شديدة البرودة، وبصعوبة بالغة وصلنا إلى الكويت بعد أن نفدت أموالنا وأتذكر اليوم الذي وصلنا فيه إلى الكويت، كان الوقت قريباً من المغرب، وذهبنا إلى الصلاة وسلمنا على الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وقال سماحته: هل تذهبون إلى المجلس؟ فقلنا: نعم! قال: سوف

ص: 107


1- الأخ الأصغر لسماحة المرجع السيد محمد تقي المدرسي وابن أخت الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

آتي لزيارتكم.

في ذلك الوقت من عام (1975م) كنا في أوائل شبابنا، من الشباب البسطاء والعاديين، رغم ذلك زارنا الإمام الراحل (رحمه اللّه) مهنئاً بقدومنا من الحج، وكان لذلك أثر كبير جداً في نفوسنا وفي نفوس الآخرين الذين كانوا حاضرين في المجلس أيضاً.

وبخصوص العديد من الأنشطة العامة للإمام الراحل (رحمه اللّه) في الكويت فمعروفة جداً في حياة سماحته (رحمه اللّه) وقد ذكرنا سابقاً جملة منها.

* تعرض الإمام الراحل (رحمه اللّه) بعد وصوله إلى الكويت وقيامه بعدد من الانشطة إلى استهداف من قبل عدد من الجهات. مَنْ هي الجهات التي اختلفت مع سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) في الكويت وقامت باستهدافه، وماذا كانت الأساليب التي اتبعتها؟

- للأسف الشديد، حورب الإمام الراحل (رحمه اللّه) في الكويت من جهات ترفع لافتات إسلامية، وهذه الجهات كان تحركها من خلال نقل أخبار وافتراءات كاذبة إلى المخابرات الكويتية، مفادها: أن هذا الرجل القادم إلى الكويت وهو السيد محمد الشيرازي لديه حزب هو (الحزب الفاطمي)، سيقوم بإحداث مشاكل في الكويت. وما قاموا به هو نوع من إثارة الفتنة، عبر الوشاية ضد الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

قدم رجال المخابرات الكويتية إلى المنزل الذي يقيم فيه الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، لغرض اقتياده إلى مكاتبهم والتحقيق معه، لكنه لم يخرج من المنزل ورفض الاستجابة لهم، وكان قد وصل له الخبر مسبقاً، فحدث اتصال تلفونياً بالمرحوم الحاج محمد قبا زرد(1) وهذا اتصل بدوره بالأمير الأسبق

ص: 108


1- من وجهاء الكويت وتجارها ونائب في البرلمان.

الشيخ (سالم الصباح) حيث قابله وقال له: أنا أعرف هذا الرجل، وهو مرجع دين محترم، وأنا أزكّيه لكم، قال الأمير: أنا لا أعرف السيد محمد الشيرازي، ولكني أعرفك، فهل تضمنه أنت؟

أجابه الحاج محمد وهو يؤكد ذلك: نعم أنا أضمنه في أي شيء يكون على عاتقي، وأنا أتحمل مسؤولية هذه الضمانة. في نفس الوقت رفع أمير الكويت سماعة الهاتف واتصل برئيس المخابرات، قائلاً له: السيد محمد الشيرازي ضيف كريم وهو ضيفنا في الكويت، وليس لأحد الحق في أن يلمسه أو يضايقه، بهذا الاتصال ارتفع قرار الاعتقال.

كان الذي تحرك - وأعلن أسفي مرة أخرى - بهذه الوشاية أحد المشايخ من وكلاء البعض، وكان من قادة حزب الدعوة في الكويت، وكان ما يتصوره - وللأسف -: إن السيد الشيرازي أكثر ضررا على الإسلام من الصهاينة؛ لأن هؤلاء عدو خارجي وهو عدو داخلي!! ويمكن ملاحظة حجم غسل الدماغ الذي تعرض له من خلال هذه القضية.

وقد أثار بعمله هذا، جماعات كثيرة من وجهاء الكويت ومن تجارها، وردوا عليه بإقامتهم دعوى ضده لينقلب الوضع عليه، من حائك للدسائس والمؤامرات إلى ضحية لها، حيث تم إبعاده من الكويت ومنع من الدخول إليها إلى قبل عشر سنوات حيث ارتفع المنع عنه ودخل إلى دولة الكويت مرة أخرى، وقد ذهب إلى ديوانية الإمام الراحل (رحمه اللّه) وألقى محاضرة واعتذر إلى أهل الكويت وللناس عن هذا العمل، وقال: أنا أخطأت، وإن ما بدر منه بحق الإمام الراحل (رحمه اللّه) سابقاً كان اشتباهاً، وهو يعتذر عن ذلك، وقد قدم هذا الاعتذار قبل خمسة عشر سنة، حين كان الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) حياً يرزق.

ص: 109

ومن الغريب أنه ارتبط بحادثة أخرى مع الإمام الراحل (رحمه اللّه) بشكل غير مباشر، وقد رواها السيد مرتضى القزويني (حفظه اللّه)، وكان على المنبر في الكويت، وذلك حين كان ذاهباً من لبنان إلى سوريا وكان برفقته الشيخ نديم الحاتمي(1) وكيل الإمام الراحل (رحمه اللّه) في كندا، وكان يجلس بجنب السيد مرتضى القزويني رجل تبدو عليه سمة الاحترام، فتعرّف عليه السيد القزويني وتكلم معه وسأله الرجل: من أين أنتم؟ قال له: نحن من كربلاء المقدسة ولدينا مدرسة دينية. فقال له: أريد أن اسجل ابني طالباً فيها. قال له: لا باس. فجلب ابنه إلى كربلاء المقدسة وأدخله إلى مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) ، وبعد فترة من الدراسة تعمم هذا الابن على يد الإمام الراحل (رحمه اللّه) مع شخصيات أخرى مثل الشيخ فاضل المالكي(2), ولم يستطع بعد ذلك أن يتكيف مع أجواء كربلاء المقدسة حينها، وكان لديه طموح ويريد أن يحققه، فانتقل إلى النجف الأشرف، لإكمال دراسته هناك حيث أصبح شخصية معروفة، لينتظم بعدها في صفوف حزب الدعوة.

كانت مناسبة الحديث من قبل السيد مرتضى القزويني وذكره لهذه الواقعة، هو حالة الغليان في ايران في العام 1978 وبوادر الثورة القادمة، كنت وقتها طالباً عند السيد القزويني وكان في نيته أن يتحدث في محاضراته في شهر رمضان المبارك في حسينية الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن عالم الذر، فتحدثت معه بخصوص موضوعه المقترح، وقلت له: أعتقد أن كثيراً من الأمور أولى وأوجب

ص: 110


1- وكيل الإمام الشيرازي في قرية الزهراء في حلب، وناشط اجتماعي وسياسي، ومستشار رئيس البرلمان العراقي السابق اسامة النجيفي، يقيم في كندا وله مؤسسات اسلامية ضخمة.
2- عالم وخطيب، جمع بين الدراستين الحوزوية والأكاديمية.

في تناولها والحديث عنها من هذا الموضوع. فسألني: ماذا تقترح من مواضيع أتحدث بها؟ قلت له: تكلم عن حياة أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) المجاهدين الأبطال أمثال: عمار بن ياسر والمقداد وغيرهم، فوافق السيد القزويني على اقتراحي, وأخذ بالحديث في محاضراته عن حياة الصحابة وكان الحضور في المجلس يصل إلى حدود المائتي شخص.

وفي إحدى المحاضرات تحدث السيد القزويني عن الجهاد وضرورة المشاركة فيه وعن تقوية الحوزات، وذكر قصة هذا الشيخ وذكره بالاسم، ومن المعروف عن السيد مرتضى القزويني أنه يتكلم بشكل صريح على المنبر، فذكر قصة هذا الشيخ وانضمامه إلى الحزب، وكيف أصبح ضد حوزة كربلاء المقدسة وضد الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وكيف قاد المعارضة ضده، ثم كيف أصبح ضحية لمؤامرته، وكيف انقلب عليهم ثم اعتذاره في مرحلة لاحقة عما اتهم به الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

ولا يخفى أنه بعد أن ظهرت الحقائق تغير الشيخ مما يكشف عن طيب نفسه وحقانيته وهو الآن يأتي إلى زيارة المرجع سماحة السيد صادق الشيرازي (دام ظله) ويتعاطى مع أصدقائنا وإخوتنا في قضايا كثيرة، وله محاضرات جميلة تختص بالشؤون العقائدية.

* ماذا كان يفعله ويقوم به الإمام المجدد (رحمه اللّه) في إيران بعد هجرته إليها قادماً من الكويت؟

- منذ وصوله إلى ايران باشر بالعمل والتحرك في الميدان بقوة وهمة عالية، فهو بالفعل قائد وبطل، وقاد جملة كثيرة وكبيرة وهامة من المؤسسات تناهز حوالي ألف مؤسسة، وكذا بقية المساجد والحسينيات، وقد ألّف كتاباً عنها باللغة

ص: 111

الفارسية، فقاد هذه المؤسسات والحسينيات وعبأ كوادره، المنتشرين في الخليج والعراق، وكثيراً من الكوادر الذين هاجروا إلى إيران واستقروا في قم المقدسة أو في مناطق أخرى من إيران.

قاد الإمام الراحل (رحمه اللّه) المسيرة المرجعية، وبدأ بالتدريس الواسع حيث كان يُدرِّس في مسجد الإمام زين العابدين (عليه السلام) وكان يحضر الدرس لاسيما درس الأخلاق عصر الخميس أكثر من ألف طالب، بمائة أو مائة وعشرون طالباً، وقد أصبحوا فيما بعد أئمة جمعة في إيران، واصبحوا شخصيات مهمة فيها، إلى أن حدثت توترات بينه وبين بعض خطوط النظام الايراني لاسيما خط المخابرات، فأخذ الإمام الراحل (رحمه اللّه) يدرّس في البيت وخفَّت نشاطاته بعض الشيء.

* نذر الإمام الراحل كل عمره للدفاع عن أهل البيت (عليهم السلام) وإيصال رسالتهم إلى العالم أجمع، وكان للإمام الحسين (عليه السلام) منزلة خاصة في قلبه، كيف كان يجسد تلك العلاقة بسيد الشهداء (عليه السلام) وخصوصاً في شهري محرم وصفر؟

- وسط مجموعة المراجع المتواجدين في الساحة الشيعية، يمكنني وصف الإمام الراحل (رحمه اللّه) بأنه (المرجع الحسيني)، فإذا كان بقية المراجع يقيمون المجالس الحسينية ويكتفون بهذا المقدار، فإن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان يقود (حركة حسينية كبيرة).

ومما كان يقوم به على سبيل المثال، أنه كان يدعو رؤساء وقيادات المواكب والهيئات الحسينية كلهم قبيل شهر محرم، وكان يرشدهم إلى الورع، وإلى أخلاق الإمام الحسين (عليه السلام) ويوجههم إلى خدمة الناس في جميع المواقف، وليس خدمتهم فقط في المجالس، مع توجيهه لهم إلى التثقيف وتوزيع الكتب، وإلى الحرص على وحدة الكلمة، ويحذرهم من وقوع الخلافات والمشاحنات بينهم.

ص: 112

كان الشيخ أحمد معرفت(1) (رحمه اللّه) مكلفاً بدعوة مجموعة كبيرة من هؤلاء الوجهاء أو رؤساء المواكب في طهران، وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يلتقي بهم لقاءين، الأول قبل شهر محرم حيث يعطيهم توجيهات وتعبئة معنوية، والثاني بعد شهر المحرم، حيث كان يشكرهم ويعطيهم إرشادات لمواصلة المسيرة.

وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) إضافة إلى التعبئة، يقوم بتوزيع الأموال على كل الهيئات في مدينة قم المقدسة، وقد كنت وسيطاً في توزيع هذه الأموال، وهو أيضاً يدعم ويوزع الأموال على كل المواكب العراقية هناك، وكنت أزور المواكب المهمة مع سماحة المرجع السيد صادق الشيرازي (دام ظله) ، مثل موكب حسينية الشهيد الصدر أو الحسينية النجفية(2)، وبعض المجالس الكبيرة للعراقيين, فكان سماحة السيد صادق الشيرازي (دام ظله) ونيابة عن أخيه يقوم بزيارة تلك المواكب وأنا برفقته، وأحياناً كان يرافقه في زياراته الشيخ حسن الأصفهاني(3)، ويقوم بتوزيع الهدايا الثمينة والمحترمة عليهم تشويقاً لهم ودعماً لمجالسهم.

الصورة

بالنسبة للمواكب الأخرى في مختلف أنحاء إيران، فقد كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يوزع عليهم اللحوم والمواد الغذائية والنقود، وكان قد عاهد نفسه على أنه في كل سنة وفي ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) يؤلف كتاباً، وعنده مجموعة كتب بهذا الخصوص (جهاد الحسين (عليه السلام) ومصرعه) وكتاب (إمامان)؛ أما

ص: 113


1- وكيل سماحة السيد في طهران وناشط اجتماعي وخطيب حسيني مميز.
2- من المراكز الاجتماعية ودينية الهامة في مدينة قم المقدسة.
3- عضو مكتب الإمام الراحل (رحمه اللّه) ومستشار في مختلف الأمور المرجعية.

في الكويت فقد كتب (تجارب في المنبر)،وأنا سعيت في طبعه، وله (رحمه اللّه) مجموعة كتب أخرى عن الإمام الحسين (عليه السلام) ، أعتقد أنها بلغت حدود خمسة وعشرين كتاباً وكراساً.

الصورة

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) طالما يؤكد على قضية الشعائر الحسينية، انطلاقاً من اعتقاده بجميع هذه الشعائر المألوفة عند الشيعة، وكان يقول دائماً: هذه فتاوى الفقهاء، التي يلزم على المجتمع الشيعي أن يلتزم بها، فإذا أفرغ المجتمع الشيعي من الشعائر الحسينية لا ترى عنده شيئاً.

وحقيقة ليس عند المجتمعات الشيعية تجمعات نتيجة للكثير من الظروف السياسية التي تحيط بهم في بلدانهم؛ فصلاة الجماعة ضعيفة وصلاة الجمعة غير موجودة أصلاً، وهي جديدة عليهم حيث تمكنوا - بعض الشيء - من أدائها، لكنها غير منتشرة في أوساطهم، فكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يعتقد بهذه الشعائر اعتقاداً راسخاً لأنها الركيزة الأساسية التي يستند إليها الشيعة ويتمسك بها شبابهم.

وكان من حرصه الدائم وعمله الدؤوب، إعطاء النقود للآخرين لتأسيس الحسينيات، وحسينية الأمام الصادق (عليه السلام) في مدينة البصرة على سبيل المثال، أعطى الإمام الراحل (رحمه اللّه) لمجموعة من الشخصيات التي كانت تزوره وتنسق معه، مبالغ مالية لا بأس بها لتشجيعهم على تأسيسها.

* بعيداً عن الإثارات التي حصلت، كيف كانت علاقة السيد الخوئي مع أسرة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

- كان السيد الخوئي يحترم ويقدر أسرة الشيرازي (رحمه اللّه) ، فقد كان صديقاً

ص: 114

للميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) وكان صديقاً أيضاً للإمام الراحل (رحمه اللّه) وكان يُصرِّح، ويقول: (يطلبون مني أن أكتب فتوى ضد السيد، ولكني من المستحيل أن أكتب فتوى ضده)، وكنت قد سمعت هذه الكلمة من الشهيد السيد محمد صادق القزويني (رحمه اللّه) .

كانت العلاقة إيجابية بين الأسرتين والشخصيتين، ولكن بعد هجرة الإمام الراحل (رحمه اللّه) من العراق إلى الكويت، وتدخل الوشاة من أحزاب إسلامية وغير إسلامية في العلاقة بين الاثنين لإفسادها، صدر ما صدر.

* للإمام الراحل (رحمه اللّه) الكثير من المواقف المشرفة مع قوميات العراق وأقلياته، ومن هؤلاء الأكراد، كيف كان تعامله معهم؟

- فيما يتعلق بتعامله مع الأكراد، كان يقول ويؤكد دائماً: نحن يجب أن نقف مع الأكراد، رغم ماهو معروف عنه من عدم تأييده للدعوات القومية، سواء أكانت كردية أم عربية، لأن هذا عندما يقول: أنا عربي وذاك يقول: أنا كردي، وكان الإمام الراحل يعتقد بأخوة المسلمين كافة بعيداً عن انتماءاتهم القومية أو العرقية، وعنده فتوى صدرت ضد الحرب مع الأكراد، حرّم فيها على مقلديه في كربلاء المقدسة وغيرها من المدن أن ينخرطوا في صفوف الجيش العراقي لمقاتلة الأكراد في شمال العراق، وكان الملا (مصطفى البارزاني)(1) وفي إحدى السنوات وكما سمعت من المرحوم الشيخ جعفر الرشتي (رحمة اللّه عليه)، حيث ذكر ورود الملا مصطفى البارزاني إلى كربلاء المقدسة واستقبال الجميع واحترامهم له، وقد زار المدرسة الهندية والتقى بالميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه)

ص: 115


1- زعيم كردي من كردستان الجنوبية في شمال العراق، وشارك أخاه الأكبر أحمد البارزاني في قيادة الحركة الثورية الكردية للمطالبة بالحقوق القومية للأكراد.

وابنه السيد محمد كان موجوداً أيضاً.

بعد رحيل الميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) ظل الأكراد ولا زالوا يحترمون خط ونهج الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وحتى في قم المقدسة فقد جاءوا لزيارة سماحته (رحمه اللّه) عدد من قادتهم، حيث زاره إدريس البارزاني الذي كان هو خليفة الملا مصطفى البارزاني.

الصورة

كما أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) أسس حسينية في شمال العراق في منطقة شقلاوة، وفي فترة ما كنت هناك أصلي وأُدرِّس فيها، وأقوم باستقبال العراقيين في الفترة التي هاجرت فيها من العراق، وهي حتى الآن موجودة، ولكن لظروف العراق هي الآن بيد حزب مسعود البارزاني(1).

* كيف كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يتعامل مع المرجعيات الدينية في النجف الأشرف؟

* وهل هناك شواهد وقصص في هذا المجال؟

- الذي أعرفه عن ذلك أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان يتعامل باحترام وتعاون وتنسيق بينه وبينهم، خاصة في القضايا العامة التي تهم عموم المجتمع، مثل رؤية الهلال، فإذا كان رأيه يخالف رأي المرجعية في النجف الأشرف لم يكن يعلن عنه، ويُرجع الناس إلى مرجعية النجف، وقد حدث في إحدى السنوات خلاف بين الإمام الراحل (رحمه اللّه) والسيد الحكيم (رحمة اللّه عليه) حول تلك القضية، فقد كان رأي الإمام الراحل (رحمه اللّه) أن العيد هو يوم الاثنين، بينما كان رأي السيد

ص: 116


1- رئيس إقليم كردستان العراق منذ توليه الحكم عام 1992.

الحكيم أن العيد هو يوم الثلاثاء، لكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) لم يعلن عن ذلك وسافر وأفطر ثم عاد، فأصبح يوم الثلاثاء هو العيد، وبعدها تبين أن العيد هو يوم الاثنين في الواقع.

كان تعامل الإمام الراحل (رحمه اللّه) مع المراجع، وخاصة الكبار في السن منهم، ينم عن الاحترام المطلق لهم، أذكر مثلا على ذلك، حين كان في الكويت وفي أحد الأيام جاءه زائراً - الميرزا حسن الإحقاقي(1) - والد الشيخ عبد الرسول الإحقاقي وهو رجل صاحب شيبة كبير السن وربما كان عمره تسعين سنة، وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يحترمه احتراماً شديداً، وحينما دخل إلى ديوانية الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، والتي تحتوي على اريكتين من اليمين واليسار لعموم الجالسين، قام الإمام الراحل (رحمه اللّه) له من مكانه المخصص له في منتصف المجلس، وأجلس الشيخ الإحقاقي مكانه، وجلس هو على الأريكة مع الناس الجالسين في مكانهم. مثل هذا السلوك له قيمة كبيرة وهامة، فهي تنمُّ عن احترام كبير للضيف الزائر.

ونفس السلوك قام به - كما رأيت ذلك - مع الشهيد السيد محمد صادق القزويني (رضوان اللّه تعالى عليه) والد السيد مرتضى القزويني، حينما دخل إلى مجلس الإمام الراحل (رحمه اللّه) قام من مكانه وأجلس السيد القزويني فيه، وأصبح كأنه الضيف، والضيف كأنه صاحب المجلس.

هكذا كان أسلوب السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وحينما كان السيد الخوئي والحكيم والشاهرودي يأتون إلى كربلاء المقدسة كان السيد الراحل أول الزائرين لهم، وكان يهتم بزيارتهم، ويجلس معهم جلسة مفصلة يطرح قضايا مختلفة

ص: 117


1- تكفل بزمام المرجعيه خلفاً لأخيه الميرزا علي الإحقاقي وأصبح مرجعاً لمتبعي نهج وفكر أحمد بن زين الدين الأحسائي.

مشتركة، وعلى كل حال يؤدي هذا الواجب، هكذا كان أسلوب سماحته، وما اصطدم مع أي جهة من جهات المرجعية إلا في مرحلة معينة التي اعتقد فيها أن مواقف البعض ضد العقيدة وضد الإسلام ولشعوره بالمسؤولية، إتخذ الموقف المناسب منها.

* لعدم تقبل الآخرين لحركة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ونشاطاته الحيوية، عارضه الكثيرون، كيف كان يتعامل مع هؤلاء المعارضين له؟

كان يزورهم ويحترمهم ويتواصل معهم ويرسل إليهم الهدايا، ولم يكن يتكلم بكلمة سوء واحدة عن أي أحد من هؤلاء، فقد كان يتحمل ما يقومون به بسعة صدره.

أذكر واحدة من القضايا التي تكشف عن طريقة الإمام الراحل (رحمه اللّه) مع معارضيه. كان هناك أربعة من الأخوة العراقيين من المريدي الإمام الراحل (رحمه اللّه) والمحبين له، وكانوا زملاء فيما بينهم على المستوى الشخصي والمستوى الدراسي، لكن بعض الناس - من الشخصيات المعروفة ولا داعي لذكر أسمائهم - أثَّروا عليهم وانقلبوا إلى معارضين للإمام الراحل (رحمه اللّه) بسبب أوضاع إيران عموماً عندما أعلن (قدس سره) اعتراضه على استمرار الحرب العراقية - الإيرانية.

طريقته التي اتبعها في التعامل مع هؤلاء الأربعة، أن يقوم البعض من جماعة الإمام الراحل (رحمه اللّه) بالتواصل معهم باستمرار وزيارتهم مع بقاء احترامهم لهم، وكان من رأي الإمام الراحل (رحمه اللّه) لزوم استمرار التعاون معهم.

وقد بعث لكل واحد منهم في ذلك الوقت - قبل ثلاثين عاماً - مبلغ ألف وخمسمائة تومان وكان مبلغاً كبيراً في حينها؛ مع أن راتبه للطالب في حوزة قم المقدسة في نفس ذلك الوقت كان مائة تومان.

ص: 118

هذا التواصل المستمر معهم وعدم مقاطعتهم أثمر بعد فترة حيث جاء ثلاثة منهم إلى الامام الراحل (رحمه اللّه) واعتذروا إليه، باستثناء رابعهم الذي بقي حتى اليوم على حاله من المعارضة.

أسلوب الإمام الراحل (رحمه اللّه) وتعامله مع معارضيه ومخالفيه، هو الاحترام والتزاور والتواصل وإرسال الهدايا، وعدم التكلم بسوء في حق احد منهم.

* على اعتباركم من المطلعين على النتاج المعرفي للعديد من مراجع الدين الشيعة، كيف تنظرون إلى موسوعته الفقهية التي تعددت أبوابها ومواضيعها وعناوينها؟

- يمكن تقسيم موسوعة الفقه إلى قسمين، الأول منها هو ما يمكن تسميته (الفقه المحافظ التقليدي) كما هو الموجود في الرسائل العملية، مثل: العبادات والأحكام وما إلى ذلك، وأما القسم الثاني يمكن تسميته قسم (مستدركات الفقه) وهي : الفقه (فلسفة التاريخ), الفقه (السنّة المطهرة), الفقه (القرآن الحكيم), الفقه (السياسة), الفقه (الاجتماع), الفقه (الاقتصاد), الفقه(القانون), الفقه (البيئة), الفقه (المرور), الفقه (الإعلام) ... إلى آخر ذلك من عناوين، فهذه مستدركات الفقه، ولكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) أدخلها فيه.

سألت الإمام الراحل (رحمه اللّه) في إحدى المرات: لماذا قلتم (الفقه - الاقتصاد), و(الفقه - السياسة) ولم تقولوا الاقتصاد أو السياسة دون ذكر كلمة الفقه؟

كان جوابه (رحمه اللّه) : أريد أن أكتب شيئاً تفهمه الحوزة وتستوعبه, فالحوزة تعرف منطق الفقه ولا تعرف منطق السياسة، أو منطق الاقتصاد، فإذا كتبت (الفقه - الاقتصاد) سوف يقتني الحوزوي هذا الكتاب ويقرؤه، وكذا الحال لو قلت (الفقه - القانون) وغير ذلك من عناوين، يفهمها الحوزوي من خلال الفقه، أما إذا كتبت القانون أو السياسة مجردة عن الفقه, فإن (الحوزويين) لا يطالعون

ص: 119

مثل هذه الكتب عادة.

موسوعة الفقه تحتوي على ما يقارب نصف مليون مسألة فقهية، وهي الموسوعة التي اعتمد عليها أهل الخبرة من الفقهاء والعلماء والمدرسين، واعتبروها من الأدلة على أعلمية الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، والتي حسب ما يعرّفها الفقهاء من خلال تعليقاتهم على العروة الوثقى، هي بكثرة الإطلاع على الروايات، ولا يوجد مثل الإمام الراحل (رحمه اللّه) فقيه آخر في معرفة الروايات مطلقاً.

في الموسوعة عدد من الروايات التي لم يقرأها أو يسمع بها أحد، وحتى في محاضراته يذكر روايات كلها جديدة،لا تجدها في كتاب (وسائل الشيعة ومستدركاتها)، أوكتاب (شرح نهج البلاغة) وأيضاً (الآداب والسنن) رغم كثرة الروايات فيها, وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يبحث في روايات تلك الكتب ويناقشها من خلال محاضراته وتحليلاته التي كان يلقيها.

والموسوعة تنم عن المعرفة الواسعة للإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وسعة الاطلاع وجودة الاستنباط، وكل ذلك أحرزه الإمام الراحل (رحمه اللّه) من خلال ضبط المقدمات في علوم اللغة العربية والأدبية، والعيش في بيئة عربية، مما أدى بالتالي إلى فهم الروايات بصورة صحيحة ومن ثم الاستنباط الجيد منها.

وهذه الموسوعة هي الوحيدة في تاريخ الفقه الإسلامي بهذا العدد من المجلدات كماً وكيفاً، مائة وستون مجلداً لمؤلف واحد.

وتوجد موسوعة قانونية بثلاثمائة مجلد ولكن في البلاد الأوربية ومؤلفوها أربعون أو خمسة وأربعون رجل قانون، وهي ما تعد كتاباً نادراً لا نظير له مطلقاً في مجال الكتابة والتأليف.

ص: 120

التقيت مرة بالشيخ حسن طراد(1) إمام جامع الغبيري، وهو من الرموز الدينية في لبنان، ومن أهل الخبرة والشخصيات المحترمة، قال لي: العلامة المجلسي كبير جداً في تاريخ الشيعة، والسيد الشيرازي برأيي أكبر من العلامة المجلسي! وحين تسألني: لماذا أكبر؟ أقول: لأن السيد لم يكتب في علم واحد بل في علوم مختلفة، وليس في التاريخ الإسلامي مؤلفٌ بسعته، فهو كتب بالاستدلال والاستنباط وفي كل مسألة نقض وإبرام، وهو غير السرد التاريخي الذي كان للعلامة المجلسي والموجود في بحار الأنوار.

كان الشيخ حسن طراد يؤمن بأعلمية الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وعنده تقريض وكلام يمدحه فيه.

وللشيخ جعفر الهادي (حفظه اللّه) - وهو من التلاميذ البارزين لسماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ,وقد التزم بدراسة الأصول على يديه - شهادته التي يقول فيها: لقد قارنت بين (الفقه - الاقتصاد) وبين (اقتصادنا) للشهيد الصدر الأول (رحمة اللّه عليهما) فوجدت في فقه الاقتصاد أكثر من ستين نظرية اقتصادية ليست موجودة في كتاب (اقتصادنا).

وتكفي هذه التقاريض لهذه الموسوعة التي كتبت حولها، وأنا أتصور أن رسائل في الماجستير وأطاريح عديدة في الدكتوراه يجب أن تكتب حول (موسوعة الفقه).

* في مقابل ضخامة عمل مثل موسوعة الفقه، دأب الإمام الراحل (رحمه اللّه) على تأليف الكراسات الصغيرة وفي مختلف المواضيع. ماذا كان هدفه من تأليف هذه

ص: 121


1- رجل دين شيعي، أديب وشاعر من جبل عامل قضى جلّ حياته في العلم والجهاد والتأليف والنشاط العام.

الكراسات؟

- ركز الإمام الراحل (رحمه اللّه) جهوده على تأليف هذه الكراسات لاعتقاده الراسخ بأنها من الوسائل المهمة للنهضة الثقافية في الأمة الإسلامية، ومعروف أن النهضة الشيوعية التي قامت في الصين انطلقت من خلال الكراريس، إذ أن كراسات (ماو تسي تونغ)(1) هي التي قامت بنهضة ثقافية شيوعية في الصين التي بلغ سكانها وقتها مليار إنسان.

الصورة

والإمام الراحل (رحمه اللّه) كان يعتقد بالكراريس باعتبارها - أيضاً - وجبة خفيفة وغنية مثل أكلة السندويش التي يمكن لأي أحد شراءها من الشارع وتناولها بسرعة مع الشعور بالشبع، وكان (رحمه اللّه) يقول دائماً ويؤكد إن الثقافة مثل المطر تهطل على المجتمع، ولا يهم إن كان مطراً خفيفاً أو قوياً، فإنه سيبلل الجميع.

فالثقافة هكذا يمكن لها أن تنتشر في المجتمع عن طريق الكراريس. فالمجلدات تصبح جيدة للمكتبات غالباً وللخواص أي الطبقات الخاصة من المثقفين والباحثين وأهل الاختصاص، أما الكراريس فهي عامة وشاملة لأبسط طبقات المجتمع.

* رغم جهود الإمام الراحل (رحمه اللّه) في خدمة المجتمعات الإسلامية، إلا أنه واجه جبهة عريضة من بعض القوى والحكومات التي حاربته. برأيكم من كان يقف

ص: 122


1- زعيم الحزب الشيوعي الصيني منذ 1935 حتى وفاته. كان سياسياً وقائداً عسكرياً صينيًا.

خلف تلك الجبهة؟

- أكثر ما يمكن رصده فيما يتعلق بالجماعات الشيعية، هو الخلافات الداخلية والتي يمكن تشبيهها بأنها (السرطان) وهذه الخلافات هي التي كانت ولا زالت تجرّيء الأعداء مثل النظام السعودي، ونظام صدام سابقاً في العراق، والأنظمة الإرهابية في مختلف البلاد العربية على أغلبية الشيعة في بلدانهم وكذلك على رموزهم، فهناك مَنْ يشي ويكذب ويقوم بنقل أشياء وهمية للحكومات التي تحارب الشيعة، ثم إن الإمام الراحل (رحمه اللّه) يمتلك فكراً تحررياً وإصلاحياً، وكان يدعو إلى التعددية، ويدعو إلى إحياء الموات، ويدعو إلى قاعدة العدل والإحسان، ويدعو إلى الكثير من الأمور التي لا تروق للحكومات.

الحكومات المستبدة لا يعجبها طرح مثل هذه الأمور وهذه الأفكار التحررية النهضوية، وأغلب هذه الحكومات في البلاد العربية والإسلامية، وبغض النظر عن ارتباطاتها المشبوهة بالمعسكر الغربي أو المعسكر الشرقي السابق، هي متأثرة بهذين المعسكرين، وبالتالي فلا تريد حكومات هذه البلدان مثل هذا النوع من الفكر وهذا النوع من الكتب، وكمثل على هذا الرفض، وجدت السلطات السعودية كتاب (ما هو الإسلام؟) عند شاب في أوائل الثمانينات, فاعتقل ثم أعدم!! لعدة أمور، واحدة منها أن لديه هذا الكتاب (ما هو الإسلام؟) وثانياً لأن مؤلفه هو الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

للإمام الراحل (رحمه اللّه) كتاب عنوانه (حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) ) وهو مطبوع باللغة العربية، أما باللغة الفارسية فقد طبع منه عشرون ألف نسخة - على ما أظن - والذي طبعه المرحوم الشيخ أحمد معرفت في طهران برعاية مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام) ، وسمعت من الشيخ أنه قال: لدينا غلاف الكتاب، ولكن محتوى

ص: 123

الكتاب نفسه صودر من قبل الحكومة، عبر وزارة الإرشاد متعللين بأنهم لم يعطوا إجازة لنشره، مما أدى إلى مصادرته وإرساله للمحرقة.

وفي الواقع فإن هذه الحكومات التي تسيطر على مقاليد الحكم في البلاد الإسلامية، لا تعتقد بالحكم الإسلامي الأول، ولها اجتهاداتها الخاصة بها، لهذا تم إحراق الكتاب؛ لأنه كتاب يعتمد على فكر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في صور وصيغة الحكم الأولي، وإذا طرح وقبله المجتمع فإن معنى ذلك أن المجتمع يرفض النظام الحالي القائم في أي بلد من بلدان الإسلام، لأنه على خلاف حكم رسول اللّه وأمير المؤمنين (عليهما السلام).

* لماذا اعتقل أكثر من مائة من أعضاء مكتبه، وكذلك أكثر من خمسمائة من طلاب درسه؟

- قاد الإمام الراحل (رحمه اللّه) تياراً معارضاً اصلاحياً وناشطاً في مختلف البلاد الإسلامية العربية، والتيار الإصلاحي غالباً ما يتحول إلى تيار ثوري يرفض الواقع القائم ويدعو إلى غير النظريات التي قام عليها النظام وتغييرها.

لهذا فإن تلك الحكومات لم تستطع أن تطيق الإمام الراحل (رحمه اللّه) وما يمثله، ولا أن تستوعب تياره الإصلاحي الذي يدعو إلى إصلاح أوضاع الحكومات والبلدان، وهذه الحكومات أيضاً، لم تكن تقبل بتغيير نظامها الذي قامت عليه وآمنت به.

ويمكن معرفة توجهات تلك الحكومات من خلال مواقفها من الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، فهي إن كانت مخلصة لشعوبها فموقفها من سماحته هو تعدد اجتهادات، وإن لم تكن مخلصة ومرتبطة بالاستعمار وعميلة، فيتجسد موقفها من خلال محاربتها للإمام الراحل.

ص: 124

* لماذا كانت الحكومات تقوم بمصادرة العديد من مؤسسات الإمام الراحل (رحمه اللّه) ومشاريعه الخيرية وذلك عند اشتداد محاصرته وتسعير حربها ضده، وكيف كان يتعامل تجاه هذه الأمور؟

- لقد هدمت الكثير من المؤسسات في العراق كالمدارس، وصودرت قسم من المؤسسات مثل: مكتبة القرآن الحكيم التي تقع خلف المخيم الحسيني، ومدرسة العلامة ابن فهد الحلي التي كانت بيد جماعة من أنصار الإمام الراحل (رحمه اللّه) ومن تلامذته أيضاً، وقد احتلت من قبل الشيخ عبد اللطيف الدارمي(1) ومن معه وهم زمرة من سبعة أو ثمانية أشخاص احتلوا هذه المدرسة وعلقوا لافتة تشير إلى أنها مقر النهضة الإسلامية، هذه الأعمال بحق مؤسسات الإمام الراحل (رحمه اللّه) حدثت في العراق وفي إيران - أيضاً - كذلك ما حصل لمسجد الإمام الحسين (عليه السلام) في قم المقدسة، فهذا المسجد ومدرسة الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) صودرت، وكذلك صوردت الحسينية الزينبية التي تقع في سوق (كذر خان).

وهذه الأعمال - في الواقع - تنم عن انزعاجهم الشديد بتيار الإصلاح الذي قاده الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، والذي يدعو إلى قضايا نهضوية تحررية، فأحرقوا كتباً وصادروا مدارساً، واعتقلوا أفراداً، أي أنهم مارسوا مختلف أنواع الاضطهاد بحقه, وهذه طبيعة الحكومات التي لا تعتمد الحوار ولا تعتمد التعقل، وإنما أسلوبها قمع الحركات والتوجهات التي تخالفها الرأي.

* ماذا كان موقف الإمام الراحل (رحمه اللّه) من الحرب العراقية الإيرانية، والتي خلفت الكثير من الخسائر في الارواح والممتلكات؟

- كان دوره ونهجه هو الدعوة إلى إعداد مقدمات انطلاق الثورة الإسلامية في العراق، عبر حركة داخلية، وجماهيرية شعبية من هنا يمكننا فهم رفضه

ص: 125


1- بعثي في كربلاء المقدسة.

للحروب بشكل عام وهذه الحرب بشكل خاص، فهو (رحمه اللّه) كان يقول: هذه الحرب لا تؤدي إلى نصر لأحد الطرفين، وليس نتيجتها إلا الضحايا والمعوقين وتخريب البنى التحتية للبلدين، وهذا الرأي والموقف أثبتت الأيام صحته.

وأيضاً كان (رحمه اللّه) يدعو إلى نهضة إسلامية مرجعية داخل العراق، ولا يمكن انطلاق هكذا ثورة إصلاحية في العراق إلا (بشورى الفقهاء المراجع)، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بالاتفاق مع القوى العظمى عامة؛ لأن معادلات القضية العراقية مرتبطة بالقوى العظمى وبالولايات المتحدة خاصة، ومع عدم الاتفاق مع الولايات المتحدة لا يمكن إسقاط النظام في العراق مطلقاً بأي حال من الأحوال.

وكان إضافة إلى دعوته ل- (شورى الفقهاء) يدعوا أيضاً إلى استقطاب وجمع العشائر العراقية، وإلى شورى الحركات الإسلامية في العراق، وكان لا يدخر وسعاً في طرح نظريته هذه عبر بياناته العديدة، والمطبوعة في أكثر من كتاب، كذلك كتبه التي ألفها حول ذلك. وكان يقول: بغير هذه الطريقة لا يمكن أن تقوم للعراق قائمة، والحروب الحدودية لا تؤدي إلى نتيجة, فهناك الكثير من الحروب الطويلة والطاحنة بين الدول على الحدود ولم تصل يوماً إلى نتيجة معينة، وفعلاً فإن جميع كلامه كان صحيحاً، حيث اضطر البلدان في النهاية إلى الاتفاق على إيقاف الحرب.

* ما الذي تحتفظون به من ذكريات عن مراسيم عقد قران أبنائه وبناته؟

- كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يقتصر على قراءة الصيغة الشرعية لعقد الزواج بحضور عدد من الأقرباء.

وأتذكر عقد قران أول أبنائه السيد محمد رضا (رضوان اللّه عليه) في الكويت حيث كنت حاضراً حينها، عندما زوجّه وكان شاباً في بداية حياته، حتى

ص: 126

شاربه لم يظهر إلا شعيرات قليلة في وجهه وقد أقيمت وليمة عشاء عامة في حسينية الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم جاء السيد محمد رضا، وقد ألقى أحد الخطباء كلمة تهنئة وتبريك للسيد محمد رضا.

الصورة

كما كان يعتمد على مهر السنة - مهر فاطمة الزهراء (عليها السلام) - وهذا يعني زواج متواضع وبسيط.

بالنسبة لزواج صهره سماحة السيد حسين الشيرازي ابن السيد المرجع آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) كنت جالساً ليلة الزفاف في الغرفة مع الإمام الراحل (رحمه اللّه) مع جمع من الأخوة في المكتب كالشيخ المحقق والسيد المجيدي والشيخ رضا سلطاني(1) والشيخ حسن الأصفهاني، وقد بارك الشيخ المحقق للإمام الراحل (رحمه اللّه) هذا الزواج، وقال له: سيدنا كيف يتزوج صهركم ولا تقيمون وليمة عشاء؟! فضحك الإمام الراحل (رحمه اللّه) لقوله وأمر أن يجلب عشاء من المطعم، وكان الطعام عبارة عن رز مع الكباب أو الدجاج وهي أكلة ايرانية، وكان الحضور حوالي أثني عشر أو ثلاثة عشر فرداً حيث تناولوا طعام العشاء، وكانت هذه هي وليمة الزواج, فهو (رحمه اللّه) يقتصد في المصاريف كل الاقتصاد، ويحتاط أيضاً ويتقيد بمهر السنّة في أمور الزواج.

* تعرض الإمام الراحل (رحمه اللّه) لأنواع عديدة من المحن والصعوبات في العراق، ما الذي تتذكرونه من تلك المحطات؟

ص: 127


1- عضو مكتب الإمام الراحل (رحمه اللّه) وخطيب حسيني.

- لقد تعرض إلى اشكال مؤلمة من تلك المحن، وتحملها بصبر وجلد قويين: كاعتقال أصحابه، ومصادرة كتبه ومؤسساته، ومنعه من التحرك، ومصادرة جوازات سفر اصحابه لمنعهم من الخروج، ثم اعتقالهم وتعذيبهم، كما مورس بحق بعضهم مختلف أنواع المطاردة، وهذا كله قد حدث في العراق وحدث مثله في إيران أيضاً، حيث تكررت معاناة الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

لكن على العموم، واجه الإمام الراحل (رحمه اللّه) تلك المحن التي حاصرته بها مختلف أجهزة المخابرات بسعة صدر وتحمل كبيرين، ولم تثنه حركة القمع من مواصلة مسيرته، وهو (رحمه اللّه) في مختلف الظروف كان يواصل عمله فيجلس في البيت يكتب ويؤلف ويواصل برنامجه بقدر ما يستطيع وفي الكويت واجه محناً من نوع آخر، واجه محنة التآمر ضده لإخراجه منها - كما ذكرنا - كما كان يواجه ضغوطاً اقتصادية قوية مع أن المفروض أن الكويت منطلق المال.

هذه الضغوط الاقتصادية مثل تأمين رواتب الطلاب وكانت ثمانية دنانير، وبعدها ازداد قليلاً مثلاً راتبي شخصياً صار خمسة عشر ديناراً، وكنت أعزباً في تلك الفترة، فكان يعاني من مثل هذه الضغوط, كذلك كان يعاني من ضغط الشائعات: كالكلام النابي الموجه ضده، وتشويه الصورة وبث السموم في المجتمع.

كان هذا كله يعاني منه الإمام الراحل (رحمه اللّه) طوال حياته، فهناك الكثير من الجهات المنافسة، والجهات المخاصمة، والأحزاب المختلفة، علمانية وغيرها، كانت تبث الشكوك وأحياناً الطعن في شخصيته، ولكنه عموماً كان يستمر في مسيرته ولا يثنيه شيء ولا يوقفه أحد.

* لم يعرف عن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كثرة السفر أو الانتقال من مكان إلى

ص: 128

آخر، لماذا برأيكم كان محدود الحركة في تنقلاته؟

- لاعتقاد الإمام الراحل (رحمه اللّه) أن الوقت شيء مهم وثمين جداً، ولاعتقاده أيضاً بضرورة وأهمية التأليف وضرورة أداء واجبه، والسفر يستغرق مقداراً كبيراً من وقته، ولم يكن يرغب بانفاق هذا الوقت في الترفيه وأمثال ذلك، فكان يُفضِّل التأليف، ويفضل أداء واجباته، وهو في السفر لايستطيع أن يؤدي واجبه بالصورة المطلوبة.

وحينما قدم الشيخ القرائتي(1) لزيارة السيد الراحل (رحمه اللّه) برفقة الشيخ جعفر الهادي (حفظه اللّه) أبدى الشيخ القرائتي إعجابه الكبير بشخصه وكتبه وحركته، فسأله: كيف استطعت أن تؤلف وتكتب هذا المقدار الكبير من الكتب ولا زلت قادراً على إنتاج الكثير منها؟!!

فأجابه الإمام الراحل (رحمه اللّه) - وكما أخبروني إذ أنني لم أكن حاضراً في الاجتماع - قائلاً: في الواقع أنا لا أسافر ولا أعمل أي شيء غير ضروري، ولا أجلس هنا وهناك في ملتقيات، ولا أخرج للترفيه، فأنا مكبٌّ على التأليف، وأنا مواظب على هذا المسير.

ولعل من أهم الأسباب التي أدت إلى غزارة تأليفه للكتب هو في قلة السفر، إلا بمقدار الضرورة.

* عرف عن الإمام الراحل (رحمه اللّه) أخلاقه الكبيرة وحسن تعامله مع زائريه، ماذا في ذاكرتكم عن طريقته في التعامل مع زائريه وضيوفه من الناس بشكل عام؟

- كان أسلوبه (رحمه اللّه) يمتاز بالاحترام البالغ لزائريه، إذ هو يحترم أي زائر يزوره من الشباب وغيرهم، وكان يسأله عن اسمه ومنطقته وعمله، وكان

ص: 129


1- داعية ايراني ورئيس حركة محو الأمية فيها.

يوجهه التوجيه المطلوب وكان من عادته أن يقوم احتراماً للداخلين عليه من الزائرين حتى لو كانوا شباباً في مقتبل العمر - يعني عمره ست عشرة أو سبع عشرة سنة - فيقوم ويستقبله، وهذا لحسن أخلاقه عموماً.

الصورة

في إحدى المرات كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) مصاباً بنزلة برد، ويرقد في نفس هذه الغرفة التي نجري حوارنا فيها، وعلى مثل هذا الفراش في وسطها، وكان الجو شديد البرودة، قمت ومجموعة من الأخوة - وكان حوالي عددنا عشرة - بزيارته للسلام عليه والسؤال عن صحته، لأنه كان منقطعاً عن الدرس وعن لقاء الناس؛ فسلَّمت عليه وقبَّلت يديه، وكان يلبس طاقية مع ملابسه المنزلية وعليه بطانية، فبدأ بالسؤال عن الأخوة، وقال لهم: كيف حالكم؟ أبخير؟

بعدها توجه سماحته (رحمه اللّه) لي، وقال: يا شيخ ناصر، السلم نبتة لا تهزها العواصف. قال هذه الكلمة وبدأ يتكلم عن السلم وأساليب اللين حوالي عشر دقائق، وكنت متعجباً منه، ففي هذا الوقت القصير وهذا الوضع الصحي وحتى هذه اللحظات ونحن قادمون لعيادته وللسلام عليه، كان (رحمه اللّه) يستغلَّ هذا الوقت في التوجيه والإرشاد للآخرين.

وفي مرة أخرى، جاءني الحاج جعفر إسلامي(1) وقال لي: سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) يريدك بعد صلاة المغرب والعشاء، وفعلاً ذهبت إليه ودخلت عليه في

ص: 130


1- موظف تنفيذي وعضو في مكتب الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

الغرفة، قال لي: أجلس هناك. وأشار إلى الزاوية اليمنى، استغربت من طلبه ذلك، لأني كنت دائماً اجلس على يساره ويبدأ بكلام فيوجهني لعمل معين، أو يسألني بضع أسئلة، أو يتكلم كلاماً عاماً، ولكن قبل أن أجلس وهو كذلك، دخل شاب غريب لم أكن قد رأيته من قبل، وبمجرد دخول الشاب ورؤيته للإمام الراحل (رحمه اللّه) أنفجر بالبكاء، وارتمى على قدميه يريد تقبيلهما، ورفض سماحة السيد (رحمه اللّه) ذلك ولم يرضَ به، لكنه استمر يبكي بكاء مراً لأربع أو خمس دقائق، والإمام الراحل (رحمه اللّه) يهديء من روعه ثم أجلسه على يساره.

بعدها قال الشاب للإمام الراحل (رحمه اللّه) : سيدنا أنا شاب منتمٍ لأحد الأحزاب الإسلامية وأسكن في أصفهان، وكنت مأموراً أن أمزق صورك أو أشوهها، بتمزيق نصفها أو أرمي عليها الأصباغ، وأنا الآن نادم ومعتذر لله وإليك، أعتذر منك وأنا تائب، وأنا مستقيل من هذا الحزب.

قال له (رحمه اللّه) : ما هو اختصاصك؟

أجابه: خريج كلية الاقتصاد في الجامعة المستنصرية.

فبدأ الإمام الراحل (رحمه اللّه) يتكلم معه وينصحه وطلب منه أن يكتب وقال له: ألِّف كتاباً في اختصاصك؛ لأنه (رحمه اللّه) كان يعتقد بضرورة التأليف ونشر الفكر, بعدها قال الشاب: أنا خرجت من الحزب.

اعترض عليه الإمام الراحل (رحمه اللّه) قائلاً: لا، لا تستقيل!! بل أبقى في الحزب، وأدي دورك من داخل الحزب، ولتكن كلمتك أصلح وعملك أفضل. لكنه أجاب: لا سيدنا أنا بعد الآن لا أنسجم معهم.

بعد أن هدأ الشاب وهو يتجاذب أطراف الحديث مع الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، جلبوا له الشاي ليحتسيه كما جرت العادة عند مجيء أي زائر، وكان

ص: 131

الإمام الراحل (رحمه اللّه) يحدثه ويوجهه، ثم طلب الإمام الراحل (رحمه اللّه) من الحاج جعفر إسلامي، أن يجلب له كتاب (الفقه - الاقتصاد) وهو أحد اجزاء الموسوعة الفقهية, فذهب الحاج إسلامي لتلبية طلبه، وبحث بين الكتب لكنه لم يعثر على نسخة منه، وعاد وهو يقول: لم أجد (الفقه - الاقتصاد) ولكن يوجد كتاب (الفقه - السياسة). فقال له الإمام الراحل (رحمه اللّه) : لا بأس اجلبه، فأهداه إلى هذا الشاب، الذي نهض بدوره وودع الإمام الراحل (رحمه اللّه) وعاد إلى مدينته. بعد ذلك عرفت أنه (رحمه اللّه) طلبني لمجرد الحضور؛ لأن هذا الشاب غريب ولا نعرفه، وقد طلب لقاءً خاصاً، فمن باب الحيطة والحذر طلبني أن أكون في المجلس.

إضافة إلى ذلك، كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) مضيافاً، إذ أن أي جماعة كانوا يأتون قادمين من طهران أمثال: الشيخ نديم الطائي - الشيخ الحاتمي - السيد حسين الطويل، السيد الفائزي، أو من الأخوة في منظمة العمل الإسلامي أو في حركة الفتح الإسلامي، كان (رحمه اللّه) يستضيفهم، وكان يطلب مني البقاء عنده. وأحياناً كان يقول لي: أنت ضيّفهم، فكنت أضيفهم في منزلي الخاص.

في إحدى المرات قدمت مجموعة من التجار وبعض الشخصيات من الكويت - لا أتذكر على وجه التحديد مَنْ كانوا - وقد أقام لهم الإمام الراحل (رحمه اللّه) وليمة للغداء، وطلب مني عدم الذهاب إلى منزلي وتناول الغداء معهم, وقد طلب (رحمه اللّه) تحضير الطعام في البيت، وإذا كان قليلاً لا يكفي ضيوفه فإنه يوعز بإكماله من المطعم. وأمر (أبا عباس) المسؤول عن خدمة الزائرين بجلب الرقّي (البطيخ الأحمر) فوضعها على سفرة الطعام، وقام (رحمه اللّه) بفتح الرقّي بالسكين إكراماً لضيوفه، فلما فتحها تبين أنها ليست حمراء وعادية لا طعم لها، ويبدو أنه شعر بالحرج أمام ضيوفه، فطلب من الحاج جعفر إسلامي أن يجلب

ص: 132

قليلاً من ماء الورد مع قليل من السكر ووضعه على الرقّي وقال: الآن تفضلوا بتناولها.

صحيح نحن تناولنا (رقّية) بيضاء ولكنها مع السكر وماء الورد كان طعمها لطيفاً، وما قام به الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، عبارة عن ابتكار جميل ولذيذ.

في أحد الأيام زاره على ما تسعفني الذاكرة، حفيد السيد البروجردي(1) (رضوان اللّه عليه) وكنا متواجدين في المجلس وبعد حوالي نصف ساعة أو ثلاثة أرباع الساعة، قام هذا الضيف يريد المغادرة، فقام الإمام الراحل (رحمه اللّه) احتراماً للسيد البروجردي (رضوان اللّه عليه) واحتراما للزائر، يشيعه إلى الباب ونحن قمنا برفقته، وفي العودة إلى مجلسنا وفي الممر قلت له: سيدنا انظر لهذا الحائط - وقد تغير لونه - ونحن يأتي إلينا ضيوف من البلاد الإسلامية والأجنبية ومن عدد من الجامعات وغيرها من الأماكن، هذا غير مناسب لنا، فإذا سمحتم بإعطائنا إجازة لصبغ هذه الحيطان، وسوف أتكفل شخصياً بالنفقات. فما كان منه (رحمه اللّه) ألا أن توقف عن السير في الممر ونظر إلي نظرة حادة وغير طبيعية أتذكرها حتى الآن وقال لي: لو بدر هذا الكلام من غيرك لقبلناه ولكن منك فهذا غير مقبول.. فقلت له: لماذا سيدنا؟

قال: ألم تشاهد كم يأتي إلى هنا من الفقراء وبيد كل منهم وصفة دواء من طبيب، ويريد أن يشتري الدواء لطفله المريض، لكنه لايملك ثمن الدواء. ونحن رغم ذلك نصبغ بيتنا، فهل هذا مناسب؟! كلا، هذا غير مناسب ولا تفعله..

لم يوافق على منحي أجازة حتى بهذا المقدار القليل من صبغ حيطان

ص: 133


1- السيد حسين البروجردي بن السيد علي الطباطبائي البروجردي، الشهير بالإمام البروجردي عالم دين شيعي إيراني.

المنزل، هكذا كان أسلوبه دائماً (رحمه اللّه) .

* توزعت كتب الإمام الراحل (رحمه اللّه) على معارف وعلوم شتى، على اعتباركم من المتابعين لحركة التأليف والكتابة لديه، ما هي أهم الرؤى والأفكار التي طرحها في مؤلفاته؟

- أهم الرؤى والأفكار التي يمكن رصدها مبثوثة في كتبه الأساسية الاستراتيجية - إن صحَّ التعبير - والتي هي كتاب (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام) الذي أشرفت على ترتيبه وتنظيمه، وفي كتاب (السبيل إلى إنهاض المسلمين) أيضاً أنا رتبت الكتاب وطبعته، وفي كتاب (ممارسة التغيير). أما بالنسبة للحوزات فكتابه (إلى وكلائنا في البلاد) وكتب حضارية أخرى من هذا القبيل.. ويمكن ذكر أهم تلك الرؤى على الشكل التالي:

1.الشورى:

تعتمد رؤى الإمام الراحل (رحمه اللّه) الاستراتيجية أولاً وقبل كل شيء على (شورى الفقهاء المراجع)، وهي نظرية نظامية شرعية، وذات مبانٍ وتفريعات ومسائل فقهية وتفاصيل وجزئيات، وهي نظرية استراتيجية، وتعتبر منطلقاً للإصلاح، وقد ألّفت كتابين في هذا المضمار، الكتاب الأول (شورى الفقهاء المراجع) وكان بتوجيه السيد الراحل (رحمه اللّه) ويتألف من حوالي ستمائة وأربعين صفحة، وهو دراسة تحليلية حول القيادة المرجعية الجماعية، وكنت أينما أقع في مشكلة فكرية، من إشكال أو شبهة، أذهب وأجلس معه (رحمه اللّه) وأطرح السؤال وأتحاور معه وبعدها أذهب وأكتب الإجابات.

هذا الكتاب ألّفته في مدينة قم المقدسة أثناء مرحلة حرب المدن في الحرب العراقية الايرانية، وأكملته في مدينة مشهد المقدسة وقد استغرق مني أقل من سنة.

وكتبت الكتاب الثاني: (شورى الفقهاء مفتاح الإصلاح العام) في سوريا،

ص: 134

وكان بطلب من سماحة السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) حيث اتصل بي وأنا هناك، وقال: يريدون في ايران أن يطبعوا كتاباً حول الشورى، ولكن الكتاب السابق حجمه كبير، عليك تلخيصه بكتاب آخر. قمت بتلخيص ذلك الكتاب وأضفت عليه، فصار كتاباً آخر طبع لحد الآن ثلاث طبعات.

فهذه النظرية - شورى الفقهاء المراجع - هي منطلق الإصلاح وفيها تفاصيل رائعة جداً، لكنها تحتاج إلى نهضة ثقافية، لأن المجتمع غير مؤهل ليقتنع بها. وطالما نحن ندعو المجتمع إلى تطبيق النظام الإسلامي، هناك الكثير من الأمور التي لم يستوعبها بعد، ولم يقتنع بها، ولا يوجد أحد يقوم بتوصيل الفكرة لهذا المجتمع، لذا تعد هذه النظرية من الأمور الأساسية لتطبيق أي نظام اسلامي بشكله الصحيح.

2.الحرية:

من الأمور الأساسية الأخرى التي كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يؤمن بها، هي (الحريات الإسلامية) وقد ألف كتاب (الفقه - الحريات) إيمانا منه أن الإنسان له مطلق الحرية في كل شيء وفق الحكم الأولي الإسلامي: السفر، الحضر، التأسيس، التجارة، الزراعة والكسب, وهو لا يؤمن بمسألة التقييد بالجوازات والجنسية وهذه المسائل الروتينية التي جاءت بها الحضارة الغربية إلى بلادنا، ولا يؤمن بالتعقيدات في إدارة الحكومات والمؤسسات الدولية، فنظرية الحريات نظرية أساسية جداً عنده (رحمه اللّه) وإن المجتمع يجب أن يكون حراً، وهذه الحرية هي التي تؤدي إلى نهضة الأمة، وهي التي تصل بها إلى سعادتها.

3. اللاعنف:

يعتقد الإمام الراحل (رحمه اللّه) إن من الأمور الأساسية جداً والاستراتيجية مبدأ

ص: 135

اللاعنف، وقد كتب في هذا الموضوع أكثر من كتاب، وكذلك كُتِبَ الكثير حول نظريته في اللاعنف، وانتشرت الفكرة في مختلف أنحاء العالم والمدن الإسلامية، والآن تواصل انتشارها عن طريق الفضائيات, وكنت قد قدمت برنامجاً أسبوعياً من على شاشة تلفزيون الأنوار حول (اللاعنف في الإسلام) وقد استقبل البرنامج استقبالاً جيداً من المشاهدين.

اللاعنف في تاريخ الأنبياء (عليهم السلام) , واللاعنف في تاريخ الأئمة (عليهم السلام) وفي تاريخ العلماء وعلى صعيد القرآن والروايات, والإسلام عامة هو دين اللاعنف, والإمام الراحل (رحمه اللّه) كان متأثراً برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) والعلماء والأولياء، وكان يذكر الناس بتجربة (غاندي) محرر الهند، ويدعو إلى مطالعة كتابه ومذكراته (قصة تجاربي مع الحقيقة).

لقد كان (رحمه اللّه) يؤمن بنظرية اللاعنف إيماناً مطلقاً. وحينما كان يعلق على انتفاضة فلسطين التي عرفت بانتفاضة الحجارة، كان يقول: هذه انتفاضة صحيحة ومن حق الناس أن يعترضوا على الصهاينة، ويجب إحداث نهضة لإسقاط الصهيونية، ولكنه كان يُشكل ويعترض على استعمال الحجارة من قبل المنتفضين؛ يفسر ذلك بقوله: هذه الحجارة حينما ترمي بها العدو، سيقوم هذا العدو بالرد عليك بواسطة الرصاص، وأنت لا تملك ما ترد به عليه، لأنه أقوى منك في السلاح، يجب علينا أن نكون أقوى من العدو من ناحية السلاح ومن الناحية المعنوية ومن الناحية النفسية ومن ناحية أساليب المقاومة، ويجب أن نبتكر في مقاومتنا ضد أعدائنا، فليس بالسلاح وحده يمكننا المقاومة، لأن العدو أقوى منا ويستطيع تصفيتنا، وكذلك الحجارة تتسبب في إطلاق النار على الناس.

وكان يقول: المظاهرات أصل، والاعتصامات أصل، والمكافحة والمقاومة

ص: 136

أصل، والانتفاضة صحيحة والجهاد يجب أن يعم على صعيد الأمة الإسلامية كلها، لكن بأساليب السِّلم.

الصورة

وقد تكلم بشكل مفصل في كتابه (اللاعنف في الإسلام) وكتابه (السبيل إلى إنهاض المسلمين) حول هذا الأمر، أي أن الإمام الراحل (رضوان اللّه عليه) يؤمن بأن الطريق الأساسي للنهضة الإسلامية هو طريق اللاعنف، والسلم وفي كتاب (السبيل إلى إنهاض المسلمين) ذكر وطرح (رحمه اللّه) إحدى عشرة نقطة

حول اللاعنف، أي حول أساليب السلم، ويقول يجب علينا نشرهذه النقاط إذا أردنا أن تتوسع حركة الإصلاح الإسلامية وكان ينتقد الحركات السياسية - عموماً - التي حملت السلاح.

ولغرض تدعيم النظرية من خلال الأحداث التاريخية، يعقد مقارنة بين حركة المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، التي قدمت فيها الجزائر مليون شهيد من أصل عدد سكانها البالغ أحد عشر مليونا في ذلك الوقت، حتى سميت بثورة المليون شهيد. وحركة المقاومة التي قادها غاندي في الهند، والتي قدمت مابين مائتي ألف إلى ثلاثة مائة ألف قتيل، في وقت كان نفوس الهند في ذلك الزمان حوالي نصف مليار، وقد انتصرت ثورتهم العملاقة على الاستعمار البريطاني؛ لأنها كانت ثورة سلمية.

4. بناء المؤسسات الحضارية:

ومن النظريات الأساسية التي يؤمن بها (رحمه اللّه) هي ضرورة تأسيس المؤسسات بكثرة، كي يتم ملأ العالم الإسلامي بها، وكان لا يدخر جهداً في

ص: 137

توجيه كل فرد من الذين يزورونه إلى تأسيس مؤسسة، وأيضاً توجيه كل شاب يعممه في الحوزة إلى تأسيس مؤسسة؛ لذلك كثرت مؤسساته وانتشرت في كثير من البلدان المسلمة.

ولأهمية تلك النظرية عنده، ألّف كتاب (تأسيس الجمعيات) ويذكر فيه أكثر من ثمانمائة اقتراح لتأسيس الجمعيات ومن المؤسسات جمعية للأمراض لكل نوع من المرض، مثل مرضى العيون، ومرضى الحنجرة، ومرضى الأذن، ومرضى القلب، وهو يدعو أيضاً إلى تأسيس الجمعيات المتعددة والمتنوعة: جمعيات لكفيفي البصر, وجمعيات لتأسيس وبناء المساجد, وجمعيات لشؤون طلاب العلم, وجمعيات للإطعام وبذله للناس, وجمعيات حسينية, وجمعيات قرآنية, وجمعيات لإحياء السنة النبوية, وجمعيات لتحفيظ القرآن, إلى آخر الجمعيات والمؤسسات.

هذه بعض الرؤى والأفكار التي طرحها الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وهناك غيرها الكثير موجودة وموضحة في كتبه الكثيرة.

السبيل لتحقيق أهداف الإمام الراحل (رحمه اللّه)

* هذه الرؤى والأفكار والنظريات تحتاج إلى جهود كبيرة لتحقيقها على أرض الواقع. كيف يمكننا أن نرسم خطواتنا في سبيل تحقيق هذه الرؤى والأفكار وتطبيق تلك النظريات؟

- لتحقيق ذلك يجب علينا أن نعمل وبجد واجتهاد وكخطوة رئيسية لتأسيس (شورى الفقهاء)، وهذا العمل يحتاج منا إلى جهاد متواصل ودؤوب، لكن مع الأسف لم يتوجه أحد إلى تحقيق ذلك؛ لأنه يحتاج إلى الكثير من الكتب والندوات والمؤتمرات والمحاضرات كما يحتاج إلى تأسيس الجمعيات وتوزيع

ص: 138

المنشورات في المناسبات, وتأسيس النقابات, والمنظمات والروابط والاتحادات الشبابية, وتأسيس المنظمة الإسلامية العالمية.

و(شورى الفقهاء) نظرية رصينة وحضارية يمكن أن تحقق نهضة ثقافية كبرى لو عمل الجميع على تحقيقها على أرض الواقع، مع تشييد مقدماتها.

وقد دعى الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى نشر مليارات الكتب، وله كراس أسمه (ثلاثة مليارات كتاب) وزعها كما يلي :

- مليار كتاب لتوعية أبناء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من الشيعة.

- مليار كتاب لتوعية أبناء العامة بأحقية مذهب أهل البيت (عليهم السلام) .

- ومليار كتاب لتوعية الغربيين ومختلف الشعوب الأخرى بروعة الإسلام.

وكان يدعو إلى ذلك كثيراً, فتحقيق نظرياته يحتاج إلى هذا النوع من العمل.

بالاضافة إلى ذلك، نحتاج إلى أن نطور مناهج حوزاتنا، التي تبدأ من دراسة (شرائع الإسلام) إلى أن تصل إلى (كفاية الأصول) ثم البحث الخارج، وهي مناهج لايمكن لها إنتاج طبقة من الذين يعتقدون ويؤمنون بالشورى، وبالتعاون مع الجميع، والمجتمع الحوزوي - تبعا لذلك - تسيطر عليه الاختلافات والحساسيات المرجعية، والحساسيات الحزبية، وغير ذلك. وحينما يصل قسم منهم إلى سدة الحكم ويمتلكون السلطة، فإنهم في كثير من الأحيان يستعملون العنف مع الآخرين، ويحاولون إلغاءهم، ولا يتقبلون الرأي الآخر، وهذا ما يجب تغييره.

وللإمام الراحل (رحمه اللّه) نظريات متعددة حول عمل الحوزات وتطويرها، ويمكننا الاستفادة من بعض أرائه الموجودة في كتاب (إلى وكلائنا في البلاد) ويعتبر من كتبه الاستراتيجية، والذي ألفه في كربلاء المقدسة، وأتذكر حينما صدر هذا

ص: 139

الكتاب، كان الشهيد السيد محمد صادق الصدر(1) (رحمه اللّه) رمز التيار الصدري الآن في العراق، يوجه وكلاءه إلى مطالعة هذا الكتاب، وتطبيق مبادئه التي تتوزع على تسعين نقطة إرشادية إلى علماء المناطق والوكلاء وأيضاً يمكن الإشارة إلى كتابه الآخر (إلى الحوزات العلمية) وكتب أخرى.

الصورة

لقد كتب الإمام الراحل (رحمه اللّه) أكثر من عشرة كتب لتوجيه الحوزات العلمية وتطويرها منها (الحاجة إلى علماء الدين) ومنها (كيف تدير الأمور) وهذه الكتب تحث على نهضة حوزوية من خلال تغيير بعض مناهجها وتطويرها، وإضافة مناهج ومعارف جديدة، مثل علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، وأيضاً تطوير المهارات الكتابية المبدعة وتعليم الخطابة، لحاجة رجل الدين الماسة إليهما لإيصال رسالته إلى المجتمع، وكان (رحمه اللّه) أيضاً يدعو إلى تغيير طرائق وأساليب التدريس في الحوزة, إذ يجب على كل أستاذ أن يخصص يوم الأربعاء من كل أسبوع لدروس أخلاقية يلقيها على طلابه، وأن يقدم بعض الاضاءات الأخلاقية بقية الأيام قبل دروسه المعتادة، وذلك لحاجة الحوزات الماسة إلى مثل هذه الدروس، مع افتقادها أيضاً إلى مناهج مفصلة ومركزة لتدريس القران الكريم، مع حثه أيضاً - وقد سمعت ذلك منه في البحث الخارج - على تدريس كتاب (نهج البلاغة، وكتاب الصحيفة السجادية)، مثلما يتم تدريس (الكفاية) و(الرسائل) و(المكاسب).

ص: 140


1- رجل دين ومرجع شيعي معروف؛ كان من مُعارضي النظام العراقي في فترة حكم حزب البعث العربي الاشتراكي وقد عُرف بنشاطه المُناهض للنظام وهو الذي أدّى لاغتياله.

هذه الآراء والأفكار التي كان قد طرحها الإمام الراحل (رحمه اللّه) تحتاج إلى السعي المتواصل لتطبيقها، وتحتاج إلى عمل ثقافي كبير، وإلى لجان تتحرك في كافة الاتجاهات، وتلتقي بأجهزة المراجع وبأهل الحل والعقد، وهي تحتاج إلى عمل منظم متكامل الجوانب، وعبر اتصالات وأيضاً من خلال تأسيس تنظيمات ونقابات في الحوزات حتى تجد هذه الأفكار طريقها إلى التنفيذ.

علاقة الإمام الراحل (رحمه اللّه) بالأئمة الأطهار (عليهم السلام)

* انشغل الإمام الراحل (رحمه اللّه) وطيلة حياته بنشر فكر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) والكتابة عن حياتهم، كيف كانت علاقته بهم (عليهم السلام) ؟

- كانت علاقة الإمام الراحل بأهل البيت (عليهم السلام) علاقة وثيقة وقوية جداً، وقد ألّف كتباً كثيرة عن كل الأئمة (عليهم السلام) ، وكان في مناسبات وفياتهم ومواليدهم يعطل دروسه في الحوزة، ويلقي محاضرات خاصة بصاحب المناسبة، ويدعو إلى الكتابة الكثيرة عن حياة الأئمة (عليهم السلام) ويشجع الكتاب على ذلك، والكاتب

المعروف (علي محمد علي دخيل) الذي ألّف كتابه الجميل (أئمتنا) كان ذلك نتيجة اقتراح وتشجيع من الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

الصورة

فهو كان دائماً يوجّه إلى الكتابة عن الأئمة (عليهم السلام) ويدعو إلى الاهتمام بتاريخهم كثيراً.

* كيف كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) ينظر إلى الماضي، حيث العبر الكثيرة فيه. وكيف كان ينظر إلى المستقبل، وهو يؤشر الكثير على خرائطه، ويبصر أبعد مما

ص: 141

يبصره الآخرون؟

- بالنسبة للماضي القريب أي قبل نصف قرن، كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يؤمن أن الأوضاع كانت أقرب إلى الإسلام، وعنده كتاب جميل حول ذلك اسمه (بقايا حضارة الإسلام كما رأيت) وفيه يذكر كيف كانت الضيافة ودية ومتواضعة، وكيف كان الحج سهلاً، والسفر كذلك, وتشييد المنازل كانت مسألة طبيعية, ولم يكن في دوائر الدولة الكثير من الروتين, مع البساطة في العيش وعدم التعقيد، وكان الزواج سهلاً غير معقد، وكانت أصالة اليسر الموجودة في الإسلام حاكمة.

فكان يستعير هذه التصورات من الماضي الذي كانت فيه تلك العادات الإسلامية، فيذكّر بها ويؤكد عليها وهو ينتقد الأوضاع القائمة، والتعقيد الحاكم، وينتقد الوضع الاجتماعي القائم لدينا.

أما بالنسبة للمستقبل لاسيما في المجال السياسي، فكان (رحمه اللّه) يتنبأ بما سيحدث، كما هو الحال في مسألة انهيار الاتحاد السوفيتي، وقد ذكر في كثير من محاضراته هذا الانهيار المتوقع وكتبها في كتبه، مثل كتاب (ماركس ينهزم)، حيث قال قبل عشر سنوات من ذلك الحدث: أتوقع بعد عشر سنين سقوط الإتحاد السوفيتي، وفعلاً حدث ذلك بالتحديد كما توقع الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

وحينما كان في الكويت تنبأ باحتلالها، إذ أنه كان يعتقد أن وضع الكويت فيه عدة اشكالات؛ منها أنه محاط بثلاث من الدول الكبرى في المنطقة هي (العراق وإيران والسعودية)، وبلد صغير وثري وضعيف من ناحية القوة العسكرية، فإنه سيستهدف من أي قوة مجاورة له. وفعلاً وقع احتلال الكويت كما رأيناه، وكما تنبأ به الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

ص: 142

ولقطع الطريق على الآخرين في احتلال الكويت، كان قد اقترح حلاً لذلك على عدد من نواب مجلس الأمة الكويتي، الذين أوصلوه إلى ولي عهد الكويت السابق الشيخ (سعد العبد اللّه) وقد سمعت المقترح منه شخصياً.

وكان من مقترحاته (رحمه اللّه) : هؤلاء الأجانب وأمثالهم المتواجدون في الكويت يمكن استقبال أصحاب الكفاءات منهم واعطاءهم الجنسية الكويتية، والعمل على أن يكون الشعب الكويتي بحدود خمسة ملايين نسمة، ليصبحوا بهذا التعداد من السكان شعباً قوياً، وإذا فكرت أي دولة مجاورة باحتلال الكويت، فإنها ستجد أمامها ما لا يقل عن نصف مليون إلى ثمانمائة ألف مقاتل، أما إذا كان الشعب الكويتي مليوناً، وكلهم تجار وموظفون، فيأتي العدو ولديكم جيش صغير من الأجانب الموجودين والذين لا يعترف بوطنيتهم، هؤلاء لا يستطيعون أن يقاوموا المحتل.

وكان جواب ولي العهد: الكويت لا تتحمل هذه الأعداد.

في حين أن الكويت أرضاً وثروةً تتحمل التجنيس, لكن الكويتيين تشددوا في هذا الموضوع ولم ينفذوه وأخيراً تورطوا بالاحتلال.. وحين أصدر الإمام الراحل (رحمه اللّه) بياناً ذكر فيه ذلك، وقال: نبهت سابقاً أن الكويت معرَّضة للاحتلال ولاسيما أن طاغية مثل صدام كان جارهم.

وكذلك بالنسبة للحرب بين إيران والعراق أيضاً تنبأ بنتيجتها التي انتهت إليها حيث كان يقول دائماً: سوف يضطر الطرفان إلى التصالح دون تحقيق أي من الأهداف المعلنة لكليهما.

وقضية الإصلاح في العراق وأفضل الطرق لتغيير نظام الحكم فيه، فقد كان يؤمن (رحمه اللّه) بثورة داخلية تطيح بصدام ونظامه، حيث تاريخ العراق فيه كثير

ص: 143

من الثورات الداخلية وهي التي تؤثر به، أما الاحتلال الخارجي فلا يمكن أن يكون الحل الأفضل للتغيير.

أخيراً سقط صدام عن طريق الاحتلال الخارجي من قبل أمريكا ومن تحالف معها، و كان بإمكانها محو العراق كله، وليس مثل ما حدث سابقاً في الحرب مع ايران، التي أرادت فعل ذلك بأسلحتها البسيطة ولم تتمكن. إضافة إلى رفض بقية الدول لذلك، على عكس حالة امريكا تحت غطاء الأمم المتحدة. و قد كنا في غنى عما جرى بعد هذا الاحتلال على العراق والعراقيين من مصائب وكوارث، لو قام التغيير في العراق عن طريق ثورة داخلية من أبناء الشعب العراقي. وهو ما كان يطمح إليه الأمام الراحل (رحمه اللّه) ، وهو طموح صحيح وواقعي.

أما بالنسبة إلى بعض أفكاره (رحمه اللّه) التي يعتقد البعض بأنها مستحيلة وصعبة التحقيق؛ لأنها تدعو إلى الإسلام الأولي الأصيل, وتدعو إلى ثورة إدارية ورفض التعقيد في دوائر الدولة, وإلى تسليم المؤسسات الخدمية إلى المجتمع، فقد كان يقول: يجب أن يقود الناس الجامعات, ويديرون المواصلات، والتلفون، والمطار، والكهرباء، والماء وأيضاً البريد والبرق والهاتف والاقتصاد والإعلام. هذه النشاطات التعليمية والاقتصادية والخدمية، التي أسست الحكومات وزارات لها، يجب على الناس قيادتها، وعلى التجار والجهات العلمية أن تؤسس محطات تلفزيونية, ولكن مثل هذا التصور والطموح؛ لايقبل في بلداننا، لأنها قائمة على سلطة أحادية وليست تعددية، وهي بلدان لا تتمتع بالانفتاح على مختلف الآراء, وإلا فنظريات الإمام الراحل (رحمه اللّه) كلها وبدون استثناء يمكن تطبيقها، إذا توفرت لها القليل من المقدمات، وأيضا الحاجة إلى تثقيف الأمة ليكون التطبيق

ص: 144

بعدها نظامياً وحراً وسلساً دون مشاكل.

خذ مثلاً على ذلك نظرية (إحياء الموات) وهي نظرية صعبة؛ تتأتى صعوبتها من أن عالم اليوم يعتقد إن الحكومات هي المالكة للأراضي، بينما في الإسلام الشعب هو المالك للأرض (الأرض لله ولمن عمرها)(1) فالذي يعمر الأرض يصبح مالكاً لها، لكن الحكومات لا يمكن أن ترضى بهذا وتقول: نحن المالكون للأراضي.

هذه النظرية يمكن تطبيقها، ولكن تحتاج إلى مقدمات لذلك، أما دور الدولة فيكون الإشراف والتنظيم فقط، حتى لا تحدث خصومات وفوضى، وليس أن تمنع ذلك ولا تمنحها للناس بحجة ملكيتها للأرض، مما يؤدي إلى حدوث أزمة خانقة وحادة في السكن، كما هو الحال في إيران وغيرها من البلاد الإسلامية، مع تصاعد وارتفاع أثمان ما موجود من عقارات وأراضي.

بوجود الأراضي، واليد العاملة والمواد الإنشائية والثروة - المواد الأولية والأساسية - يصبح علاج المشكلة هيناً وبسيطاً، لكن القوانين الوضعية للحكومات تقيد الحريات وتمنع إحياء الأراضي للسكن أو الزراعة، وبالتالي حدوث أزمة السكن, وأزمة الغلاء في المواد الغذائية والحكومات في هذه البلدان وهي تمنع من إحياء الأرض، بداعي ملكيتها، فأنها لا تعمل على استغلالها وتطويرها، أو لا تريد ذلك لأنهم لا يعتقدون ب- (الأرض لله ولمن عمرها).

وخذ مثلاً آخر وهو مسألة تجاوز أو إسقاط الحدود بين الدول، لماذا لا تستطيع البلاد العربية إسقاط الحدود في ما بينها، وهم يشكلون ثلاثمائة مليون

ص: 145


1- جامع أحاديث الشيعة: ج23 ص1026. المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) .

نسمة، مقارنة بدول الإتحاد الاوربي؟ يمكن لهم ذلك بعد أن يتفقوا على نظام أمني وإداري معين ويسهلون عبور الحدود فيما بينهم، مثل ما كان الحال في الأمة الإسلامية سابقاً، وأثناء (الخلافة الإسلامية) على ما لدينا من تحفظات على شرعيتها، لكن لم تكن هناك حدود ما كانت الحدود بين أقاليمها وولاياتها.

صحيح أن المجموعة الأوربية رغم سهولة التنقل بين دولها، فإن الحدود موجودة فيما بينها، لكن هذا لا يمنع أي مواطن فرنسي مثلاً من الذهاب إلى بريطانيا أو المانيا أو أي دولة أخرى، دون تأشيرة للدخول (فيزا) بل مجرد هوية شخصية تفي بالغرض، لماذا لا يمكن تحقق ذلك بين مواطني العراق ومصر؟ أو بين العراق وإيران؟ دون تأشيرة دخول (فيزا)، إن الحكومات الحالية تعمل على تقييد حريات مواطنيها وتحد من حركتهم، بسبب قوانينها الوضعية، والتي لاتنسجم مع الإسلام الأصيل.

كل نظريات الإمام الراحل (رحمه اللّه) التي كان يعتقد بها ويطرحها ويدافع عن امكانية تطبيقها - وهو فقيه كبير ومرجع ديني مشهور - هي نظريات ومناهج إسلامية تنسجم مع الحكم الأولي في الإسلام والتي يمكن تطبيقها بعد التمهيد لها وإعداد الشعبوب لقبولها وكذلك عبر الاتفاقات بين الدول.

السيد الراحل (رحمه اللّه) والدنيا

* طبع الزهد والتقشف حياة الإمام الراحل (رحمه اللّه) كيف كان ينظر إلى الدنيا؟

دائماً ما كان يقول للذين يأتونه وبيدههم أوراق الإعلان عن مجالس العزاء: سيأتي اليوم الذي تطبع فيه ورقة الإعلان عن مجلس عزائي!

وأتى ذلك اليوم وتوفي (رحمه اللّه) وطبعنا إعلانات لفواتحه وبرامجها.

ص: 146

كان سماحة السيد (رحمه اللّه) ينظر إلى الدنيا على أنها مزرعة الآخرة(1)، ويجب على الإنسان أن يكد ويكدح ويعمل، وكان يوجّه دائماً إلى العمل المتواصل والجهاد والتأسيس والتأليف، إلى آخر ذلك من الأعمال، وكلما رأى أحداً فأنه يقوم بتوجيهه إلى القيام بأي عمل يستطيع القيام به.

ولا يخفى أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان يعيش حياة بسيطة، وكما ذكرت سابقاً، حين أردنا أن نصبغ ممر المكتب لم يرضَ بذلك.

وأذكر مثالاً آخر عن زهد الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، ففي أحد الأيام أتى إلى الغرفة التي يجلس فيها لاستقبال زايريه، وكانوا قد غيّروا الفراش فيها، وكان الفراش القديم مستهلكاً وبالياً وفيه عيوب شديدة واضحة للعيان، حيث يأتي إليه ضيوفه ويجلسون عليه، واستبدلوه بهذا الفراش الجديد، لكنه (رحمه اللّه) وعند رؤيته لهذا التغيير في فراش الغرفة، رفض بقاءه وأمر بإعادة نفس الفراش, ونفس الشيء حدث حين جلبوا بطانيات جديدة بدل البطانيات القديمة التي يجلس عليها، حيث رفض هذه الجديدة، وبقي متمسكاً بماكان يجلس عليه.

لقد كان (رحمه اللّه) بسيطاً جداً ولا يحب المظاهر أو الترف.

وحتى في ما يتعلق بملابسه التي يرتديها، كان بسيطاً وزاهداً، ففي أحد الأيام انتبهت إلى أن (الصاية) التي يرتديها قديمة جداً، وأخذ قماش أكمامها يتمزق، وقتها لم أتكلم معه بشيء حول ذلك، بل أخبرت بعض الأصدقاء، وقد طلب الشيخ علي الحيدر المؤيد بعد فترة من أحد الخياطين خياطة (صاية) جديدة له (رحمه اللّه) ، فطلب الشيخ من سماحته (صاية) لأخذ مقاساتها عند الخياط، فأعطاه (الصاية) التي يرتديها وهو يستعجله بإعادتها إليه.

ص: 147


1- كما ورد عن النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . عوالي اللئالي: ج1 ص267.

لقد انتبه الشيخ المؤيد إلى أن ما أخذه هو (الصاية) الوحيدة لدى الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، ومن هنا كان إلحاحه بالطلب في إعادتها إليه بسرعة، خوفاً من أن يأتيه أحد من ضيوفه وليس لديه ما يرتديه عند استقباله.

في ما يتعلق بطعامه، فقد عرف عنه (رحمه اللّه) العزوف عن لذائذ المأكل والمشرب، حتى لو كان صائماً، وأذكر إفطارنا معه وعدداً من الضيوف، حيث اجتمعنا على مائدة عامرة، تكريماً لهؤلاء الضيوف، أيام تواجده في مدينة قم المقدسة، لقد اقتصر في إفطاره على اللبن والخبز، وكان حينها قد قارب الخامسة والستين من عمره، ويحتاج إلى التغذية المتوازنة، لكنه يمتنع عن ذلك زهداً وتقشفاً، وهو مرجع للإمة ولديه الأموال والحقوق يعطيها للناس.

وهذا ما دعا المرحوم الشيخ تقي تاج الدين(1) (رحمة اللّه عليه) حين التقى بالإمام الراحل (رحمه اللّه) في إحدى المرات، وتكلم معه بحدة، أو حسب تعبيره وهو يعتذر - كان كلامي معه خلاف الأدب - حيث قال للإمام الراحل (رحمه اللّه) : سيدنا لماذا لا تأكل وتتغذى جيداً! لماذا تتقشف في طعامك؟ يلزم أن تعتنوا بتغذيتكم فأنتم الآن ملك للأمة وملك للدين والمبدأ، والمجتمع بحاجة إليكم، يجب أن تتغذى جيداً حتى لا يصيبك الضعف وتستطيع أن تؤدي واجبك، ما تفعله ليس صحيحاً.

وقد تحدث أيضاً في هذا الشأن بعد ذلك مع السيد محمد رضا (رحمه اللّه) وقال له: يجب أن تهتموا بطعام والدكم. أجلبوا له أنواعاً مختلفة من الطعام ووفق نظام غذائي مناسب مثل (الكباب واللحم), دعوه يأكل حتى يقوى على تحمل واجباته ومسؤولياته. واعتقد أن السيد محمد رضا (رحمه اللّه) كان جوابه: نحن نريد أن

ص: 148


1- من الخطباء والناشطين في مكتب الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

نفعل ذلك، لكنه لا يرضى.

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يفرض رأيه بالأشياء التي ترتبط به ارتباطاً مباشراً.. وعلى كل حال كان يظهر عليه كثيراً من مظاهر الزهد والتقشف المؤلمة.

وحتى في بقية الشؤون نلمس زهده وتقشفه، وعدم انجراره خلف المظاهر والأمور الكمالية، حتى وإن كانت ضرورية ومطلوبة.

فعلى سبيل المثال، الحائط الذي بين البيت وبين المصلى، حيث تقام الصلوات، وتعقد المجالس والدروس اليومية فيه بصورة يومية متواصلة، هذا الحائط كان قد أشرف على الانهيار، وكنا نحتاج إلى إجازة من الإمام الراحل (رحمه اللّه) لتهديمه ومن ثم تجديده، لكنه كان يرفض ذلك لعدم اعتقاده بأنه آيل للسقوط والانهيار، ويقول في معرض رده على الأخرين الذين يطالبونه بإجازة هدمه وإعادة بنائه: يمكن للحائط أن يصمد، فلماذا نصرف نقود بيت المال على هدمه وبنائه؟ لم يكن يرضى بذلك، ولكن المرحوم السيد علي الفالي (رحمه اللّه) وفي ليلة من الليالي وبإدارته للأمر، هدم الحائط خوفاً من انهياره على الناس، حيث هدمه دون أخذ إجازة من الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، لكنهم قالوا له: هذا الحائط واقع لا محالة فيجب هدمه وخلال يومين كان حائط جديد بني على انقاضه، وقد خرجت الكثير من الحشرات والعقارب أثناء هدمه الذي كان يجب أن يتم من فترة طويلة.

وكذلك الشأن في ساحة المصلى والتي كانت ترابية وفيها تعرجات ومطبات كثيرة، وكان من الصعوبة أن تفرش سجادة الصلاة عليها بصورة طبيعية، ورغم ذلك لم يكن (رحمه اللّه) يرضى أن يتم اصلاح تلك الإرضية واكسائها بالبلاط العادي، مثل ما معمول به في أرضيات المساجد في أي مكان آخر، ولكن بعد

ص: 149

الحاح وضغوط شديدة، أعطانا الإجازة لتغيير الأرضية واصلاحها، ولكنه اشترط ذلك بقوله: في سواد ليلة غيرّوه.

لكن ليلة واحدة لاتكفي لانجاز العمل، رغم سهر العمال والبناؤون حتى الصباح، حين حان وقت درس البحث الخارج للإمام الراحل (رحمه اللّه) ، فاضطر أن يلقيه على طلبته في الغرفة الكبيرة في المكتب، حتى أصبحت الأرضية الجديدة جاهزة في اليوم الثاني.

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) ومن خلال هذه الأمثلة التي ذكرتها، وأمثلة أخرى كثيرة، بسيطاً جداً في متطلبات الحياة من أمور المعيشة كالبناء والملبس والمأكل .. الخ، كان شديد الزهد والتقشف، وكان شديد التواضع بما في الكلمة من معنى.

* هذه البساطة والتواضع والتقشف التي عاشها الإمام الراحل في دنياه، كيف انعكست على نظرته إلى الآخرة؟

- كان ينظر إلى الاخرة على أنها هي الأصل، ويجب علينا ان نبنيها عبر تضحيتنا بهذه الدنيا الزائلة.

* اعتقل الكثير من ابنائه وأنصاره في مراحل متعددة من حياته. كيف يمكن لكم أن تصفوا أحواله عند حوادث الاعتقال تلك؟

- على الرغم مما تعرض له الإمام الراحل (رحمه اللّه) من المضايقات والتجاوزات فإنه كان صلباً كالجبل الأشم.

حين تم اعتقالي، طلبوا مني أن أوقع تعهداً بمقاطعة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ومكتبه وبيته، رفضت ذلك، واودعوني السجن وتعرضت فيه لأذى وضغوطات كثيرة، وقد مرضت مرضاً شديداً وكنت أرتجف من الحمى، وحالتي

ص: 150

غير طبيعية. وقد أضربت عن الطعام لعدة أيام لم آكل خلالها شيئاً. ولم يكن في وارد من اعتقلني أن اتعرض لمشاكل صحية، أو أن أموت بسبب ذلك، اطلق سراحي بعد كفالة من أحد المعارف، ولما كنت لم أوقع لهم على تعهد بمقاطعة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، فقد صدر قرار بإبعادي إلى كرمان، لكن لم ينفذ الإبعاد، وقد هاجرت إلى شمال العراق بأمر من الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

أذكر أني عند خروجي من السجن ذهبت مباشرة إلى بيته (رحمه اللّه) وجلست عنده ورأيته وكأنه لم يحدث أي شيء، فهو كان يتكلم ويمازح الآخرين ويقوي صمودهم ويرفع من معنوياتهم.

كان مصدر قوة وإمداد بالوقود المعنوي للآخرين، وكان شديد الصلابة، على الرغم من كل التهديدات والضغوط التي كانت تحيط به. رغم أنه في ذلك الحين قالوا له: سوف يصدر حكم بالإعدام في حق ولدك - آية اللّه السيد مرتضى (حفظه اللّه) - لكنه أجاب قائلاً: أنا مكلف بأن أؤدي واجبي، أما إعدام ابني، فالذي يقدم على ذلك فقد ارتكب جريمة.

كانت تلك الحملة التي شنوها ضده (رحمه اللّه) وضد تياره الفكري، حملة استبدادية جائرة وشرسة، على الرغم من أنه لم يحمل السلاح,ولم يقتل أحداً, ولم يتسبب بمشكلة لأحد, ولا خرج بمظاهرة ضد أحد ولم يكتب بياناً ضد أحد, وكتبه الإصلاحية موجودة إلى الآن ككتاب (السبيل إلى إنهاض المسلمين)، لكن من كان يخالفه لا يتحمل دعواته الاصلاحية والتغييرية.

وعلى كل حال، لقد كان الإمام الراحل شديد الصلابة، ولم يلن مطلقاً أو يرضى بالتنازل عن مبادئه وما يؤمن به، ولا بمقدار شعرة كجده الإمام الحسين (عليه السلام) ، وبقي كذلك حتى آخر لحظة في حياته.

ص: 151

اهتمام الإمام الراحل (رحمه اللّه) بالطلبة الأكاديميين

* كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) في كتاباته كثيراً ما يحث على الاهتمام بالجامعات والدراسات الاكاديمية والجامعيين أنفسهم. كيف كان يتعامل (رحمه اللّه) مع الاكاديميين؟

كان يحترمهم كل الاحترام، وكان يقول لهم: عليكم بفهم المناهج الإسلامية في الاقتصاد وفي السياسة وفي الطب وفي مختلف الأمور.

كانت لديه نصائحه الخاصة للأطباء فكان يقول لهم: الشيء الذي لا تعرفه لا تقدم له علاجاً، وقل: لا أعرف ذلك ولا تخجل. وكان ينصحهم أيضاً أن لا يأخذوا النقود من الفقير.

ومثل هذه النصائح المتعددة كان يزجيها إلى جميع الأاطباء، لكن المثقفين منهم كان ينصحهم بالكتابة والتأليف خصوصاً, فكان يقول لأي واحد من هؤلاء: ألف واكتب مثل أطباء مصر، وكان يضرب بهم المثل ويقول: هو طبيب ولكنه مؤلف، يكتب أفكاره ويدعو إلى الإصلاح، كانت هذه من وصاياه للأطباء والطبقة المثقفة.

وحسب وجهة نظري، فإن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان يطمح أن تنشر نصائحه الشفهية تلك

بعد جمعها في كتاب يكون بمتناول الجميع، إلا أن ذلك لم يتحقق.

وكان يدعو أيضاً، إلى تنظيم الحوزة من خلال تأسيس جامعة فيها علوم إسلامية إلى جانب الدراسة الحوزوية الحرة، ولم يكن يريد الاعتماد على الدراسات الجامعية لوحدها، أو اعتماد أسلوب الدرس والتدريس الحر فقط، لأنه كان يرى خطأ هذه الطريقة الموجودة، فكان يقول: يجب أن يكون إلى جانب

ص: 152

هذه الحوزة الحرة لدينا جامعات حوزوية، من قبيل وجود جامعة للقضاء وجامعة للخطابة و ... كذا غيرها من الاختصاصات.

* برأيكم ماهو سبب بقائه معتكفاً في بيته طيلة العشرين عاماً الأخيرة من عمره؟

- في الواقع كان هذا تعبيراً عن احتجاج، إذ أنه (رحمه اللّه) كان ثائراً على الأوضاع القائمة، لما فيها من استبداد وظلم وطغيان، وتجاوز على الإسلام، وتجاوز على المرجعيات، ولأن فيها الكثير من التفرد والآحادية في السلطة وفي كل شيء.

وكان في اعتكافه في بيته، يعترض على هذا الواقع ويعلن عن رفضه واستنكاره له، ولا يريد أن يلتقي بأحد أو يخرج للقاء أحد، ورغم بقائه في البيت كل تلك السنين إلا أنه كان يؤدي واجبه من داخله، لقد كان اعتكافه مقاومة سلبية.

* كم مرة خرج من بيته خلال هذه المدة الطويلة؟

- أنا أتذكر أنه خرج مرتين فقط!

الخروج الأول له إلى مدينة مشهد المقدسة، والخروج الثاني من بيته ذهب لزيارة السيد الكلبايكاني (رحمه اللّه) (1) عندما كان مريضاً, وكان كأنما أجرى عملية أو شيئاً من هذا القبيل.

الصورة

ص: 153


1- السيد محمد رضا الكلبايكاني، علم دين شيعي ومرجع تقليد في قم المقدسة.

علاقة الإمام الراحل (رحمه اللّه) مع المراجع

* كيف كانت علاقته (رحمه اللّه) مع مراجع التقليد في قم المقدسة وغيرها؟

الصورة

- كانت علاقته بهم إيجابية ويحترمهم، وكان الكثير من المراجع يأتون إلى زيارته في السنة مرة أو مرتين، مثل السيد المرعشي النجفي (رحمه اللّه) دأب على زيارته مرة بالسنة في شهر رمضان، وهو يعرف ظروف الإمام الراحل (رحمه اللّه) فما كان ينتظر أن يرد له زيارته، وفي إحدى المرات كنا بعد الصلاة مجتمعين فرأينا حرساً وحركة وجلبة في الخارج ولما سألنا: ما القضية؟ فقالوا: الشيخ المنتظري(1) قادم لزيارة السيد الشيرازي، وكان الرجل الثاني بعد السيد الخميني في إيران ويحترم الإمام الراحل (رحمه اللّه) كثيراً، ويدافع عنه وله مواقف مشرفة عنده، والشيخ المنتظري أكثر من مرة قدم لزيارته.

وكان السيد المرجع آية اللّه العظمى السيد صادق (دام ظله) مندوبه في استقبال هذه الشخصيات ومتابعة هذه المراسيم.

كان سماحة السيد صادق (دام ظله) هو الذراع الأيمن وهو مصداق للحديث الوارد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: «كان مالك لي كما كنت لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) » . فكان كرئيس الوزراء للسيد الراحل (رحمه اللّه) ، وكان يمثل السيد ونعم الممثل، وكان على قدر كبير من المسؤولية، ويعطي صورة إيجابية راقية عن

ص: 154


1- مرجع ديني، حكم عليه بالإعدام في عهد الشاه سنة 1975، لكن تم إطلاق سراحه بعد ثلاث سنوات. وبعد انتصار الثورة عين نائباً للقائد، لكن تم عزله.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) , فيذهب لزيارة المراجع وأساتذة الحوزات والشخصيات، فكانت تنطبع في أذهانهم صورة مشرقة عن الإمام الراحل (رحمه اللّه) فعلاقته مع المرجعيات علاقة إيجابية جداً.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) ونظام البهلوي

* ما هي نظرته إلى نظام الشاه وما كانت مواقفه تجاه الحكم البهلوي في إيران؟

- كانت مواقفه مواقف المعارضة المطلقة، وفي انتفاضة خرداد كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) صوت الانتفاضة في الخارج وله بيانات وأشعار وأناشيد ضد الشاه، وبرقيات إلى مختلف أنحاء العالم ضده.

ص: 155

القسم الثاني

شهادات وانطباعات من حياة الإمام الراحل (قدس سره)

العمامة

كان التعمم (ارتداء العمامة) غالباً يجري في أيام الفرح ومواليد الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وأتذكر أن سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) قد توّجني وزميلاً لي وهو المرحوم الحجة (الشيخ محمد علي المؤمن) في ذكرى ميلاد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) العاشر من ربيع الثاني في كربلاء المقدسة عام 1970 م ، وهو العام الذي هاجر فيه سماحته في الخامس والعشرين من شعبان المعظم واستقر في الكويت، عبر سوريا.

وبعد أن يتعمّم الشاب يسلم على جميع الحاضرين ويعانقهم، وهم يباركون له مناسبة تتويجه الذي يضعه على طريق العلم والجهاد والدين إلى آخر عمره.

وكان آخر من عمّمهما الإمام الراحل (رحمه اللّه) في حياته اثنين من أحفاده هما المحمدان الجوادان، الشيرازي (رحمه اللّه) نجل سماحة آية اللّه السيد مرتضى الشيرازي (دام ظله) والفالي نجل سماحة الحجة السيد كاظم الفالي.

زاره أحد شخصيات قم المقدسة من العلماء كما هو معتاد بين آونة

ص: 156

وأخرى، وحسب الأصل فإنه (رحمه اللّه) يبالغ في احترام العلماء، فقد زاره حفيد المرجع الكبير السيد حسين البروجردي (رحمه اللّه) وبعد أن أنتهى اللقاء ونهض الضيف ليودعه خرج معه الإمام الراحل (رحمه اللّه) لمشايعته ونحن الجالسون خرجنا معه أيضاً، وبعد توديعه عند الباب رجع (رحمه اللّه) إلى مجلسه، وفي ممر الطريق إلى غرفته قلت لسماحته ما طلبه البعض مني وقد أشرت إلى الجدار الأبيض المتغير اللون قليلاً: سيدنا أتسمحون بصبغ هذه الجدران، وأنا أضمن التكلفة.

قلت له ذلك لأنني أعلم أنه يعاني اقتصادياً وسيرفض فوراً لأنه يعتبر ذلك الصبغ من الأمور الكمالية، فماذا فعل؟

توقف قليلاً ونظر إلي بحدة، أجابني مستنكراً: لو قالها غيرك لقلت إنه قليل الاطلاع أما أنت لماذا؟!

قلت - وقد ملكني الاستغراب -: وكيف ذلك يا سيدنا؟ أجاب: أما ترى يومياً كم من الفقراء يراجعوننا؟ أما رأيت بنفسك هؤلاء الذين معهم وصفة الطبيب ولا يملكون ثمن الدواء لعلاج أطفالهم؟ ونحن نفكر في تجميل وصبغ حائط مكتبنا؟؟ ورفض إعطاء الإذن!

وأذكر أيضا إن نفس هذه المعارضة قوبلت بها حين اقترحت على سماحته (رحمه اللّه) سحب أنابيب الغاز المركزي، فكان رده لو إن الطبقة الفقيرة أسست في منازلها أنابيب الغاز المركزي فنحن نفعل أيضا وإلا فلا. وبعد تكرار الاقتراح ودخول سماحة السيد الرضا (رحمه اللّه) في الموضوع أجاز سماحته ذلك، فرأيت بعض المختصين واتفقت معهم وحصلت على المال تبرعاً من الوجيه الفاضل الحاج صاحب الخباز (حفظه اللّه تعالى) وكان ذلك بعد أن أخذ تأسيس الغاز المركزي طريقه إلى أكثر بيوت قم المقدسة.

ص: 157

كراس الاعلمية

إننا نعتقد إن السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) هو الأفقه والأعلم في بحر هذه الحوزات العلمية وأعمدتها من الأساتذة الكبار والفقهاء العظام، وقد صدرت فتاوى عديدة في هذا الصدد.

في تلك الحقبة من الزمن تولدت لدينا فكرة طرح أعلمية السيد (رحمه اللّه) خصوصاً وإننا نواجه منافسين أشداء، وكنا نطرح في كل مكان هذا المعتقد الاستراتيجي وقد طرحت الموضوع في الجلسات الخاصة مع الشباب العاملين من طلبة الحوزة، فخرجنا باجماع على ضرورة كتابة نقاط علمية دقيقة تبين بالدليل الفقهي أعلمية سماحته (رحمه اللّه) . بعد مناقشة الموضوع طرحته بصورة خاصة على سماحة السيد الرضا (رحمه اللّه) وطلبت منه التعاون في هذا البحث العلمي، فتضافرت الجهود، وهو بدوره درس الموضوع أيضاً، فصدر منشور خاص في عدة صفحات، ثم بعد ذلك طورنا البحث وأخرجناه على شكل كراس، تحت عنوان (الاعلمية)، موضوعه ارتكز على المسالة رقم (11) من (العروة الوثقى) للمحقق اليزدي (رحمه اللّه) من كتاب الاجتهاد والتقليد والتي يبين فيها ضوابط الاعلمية ويؤكد على (إن الأعرف بالروايات، وبمدارك المسالة، وبالاشباه والنظائر والأجود استنباطاً) هو الأعلم ونحن قد طبقنا ضوابطها العلمية على شخصية السيد الراحل (رحمه اللّه) واحدة واحدة مع جملة من الشواهد والأدلة التطبيقية. كان لهذا الكراس أثر كبير في النفوس والأفكار، وقرأه إخوتنا وحفظوا بعض معلوماته وكانوا يطرحونها هنا وهناك، فكان نشاطاً مرجعياً نافعاً ومتميزاً وقائماً على البحث العلمي.

ص: 158

بحث الخارج

تصدى سيدنا الأستاذ الراحل (رحمه اللّه) لتدريس بحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة بعد رحيل والده الإمام الميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) بسنوات، تميز بحثه:

الصورة

أولاً: بالدقة العلمية والتحقيق اللغوي والنحوي أحياناً لتأثيره على استنباط الحكم.

ثانياً: كثرة التفريعات العلمية على كل مسالة، إذ إنه كان محيطاً بآراء الفقهاء ومهتماً بنظرياتهم حتى الشاذة منها ويبدع الفروع العلمية في كل بحث يطرحه، فكان (رحمه اللّه) ذا عقلية موسوعية ومنطلقة ويطرح فروعاً إبداعية لم يطرحها أي فقيه في التاريخ.

ثالثاً: عمق الاستدلال من ميزات بحثه، حيث كان محيطاً ومهيمناً على البحث ويستدل على الرأي الذي يتبناه بأدلة وافية كماً وكيفاً، وما من فرع علمي مقامة عليه الأدلة إلا وتراه يضيف إلى الأدلة دليلاً أو دليلين من إبداعاته المنحصرة به.

رابعاً: وكان يتميز بحثه بالوضوح، كان لا يحب التعقيد على عكس ذوق بعض الحوزويين الذين يفضلون التعقيد والغموض، أما هو (رحمه اللّه) فكان على

ص: 159

عكس هذا المسلك.

أما عدد تلامذته الحوزويين فهم كثر لعلّهم عدة آلاف، لكن محافل درسه كانت تتراوح بين (300 - 500) عالم فاضل منهم المجتهد والمجتهد المتجزئ والمحقق والخطيب والمؤلف وأمثالهم، وفيهم العراقي والإيراني والأفغاني والباكستاني والخليجي وغيرهم. وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) يدرس بحث الفقه كل يوم في الساعة الحادية عشر صباحاً، أما الأصول فكان مساءً قبل المغرب بساعة ونصف. وقد كان (رحمه اللّه) يعتبر الدرس منطلقاً للعمل والكفاح وكان يصرح بذلك ويقول: إننا ننطلق من هذا الدرس للعمل في المجتمع وليس مجرد البحث العلمي.

بعث مجاميع إلى العاصمة وغيرها للتنسيق والتبليغ

لتصديه (رحمه اللّه) لشؤون مختلفة وانتشار مجاميع عاملة ومؤسسات هنا وهناك، كان بين الحين والآخر ينتدب مجموعة تنتخب بدقة ومشورة وتبعث للقاء بتلك الجهات العاملة. أتذكر أنه (رحمه اللّه) كان أحياناً يبعث بجمع من شبابنا الخاصين المثقفين إلى طهران العاصمة للقاء جهات معينة من رموز القضية العراقية والناشطين في الساحة، وكان يبعث أحياناً بعض رجال الدين للقاء بعض الوكلاء والناشطين في طهران أيضاً. ومع قدوم مناسبة محرم الحرام كانت تشكل مجموعات لزيارة كل الحسينيات (حوالي 40 حسينية أو أكثر) في إيران وإبلاغها التعاليم الخاصة وإعطائها بعض التبرعات ورفدها بآلاف من الكتب الثقافية. وللحركة التبليغية في المواسم الخاصة أهمها محرم الحرام وشهر صفر ثم شهر رمضان المبارك وثالثاً موسم الفاطمية، فكان يعبيء كل تلامذته وأجندته التبليغية ويرصد لذلك مبالغ مالية تقدم كهدايا للمبلغين كمعّرف للذهاب وللإياب ويحملهم إن أمكن الكتب الثقافية. وينطلق هؤلاء إلى المناطق العربية في الجنوب الإيراني أو مختلف أنحاء

ص: 160

البلاد، ويمارسون نشاطهم التبليغي في الموسم ويرتبطون بجماعات خاصة من تلك المناطق ويرجعون بعد ما أدوا شيئاً من الواجب، يعودون محملين بالمعلومات والتقارير عن تلك المناطق مضافا إلى المقترحات العملية وأحياناً معهم مبالغ من الحقوق الشرعية يسلمونها للمرجعية ويستلمون (الإيصالات) ويبعثونها إلى أصحابها.

ومثل هذه الحركة نوعية ومن أهم وسائل ارتباط المرجعية بالقواعد الشعبية. وكان سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) يوليها أكبر اهتمامه. ومن العادات الايجابية في هذه الحركة التبليغية، إنه (رحمه اللّه) كان يتوج المعممين ويبعثهم إلى تلك القرى والمدن، لأن الوسيلة الإعلامية في هذه الحركة هي (المنبر الحسيني) ولا يرتقيه إلا معمم. وتحرك الشباب ورجال الدين في إطار هذا النوع من التبليغ والدعوة إلى اللّه، باعث لنموهم وارتفاع مستوياتهم وانفتاح على الناس وحصولهم على حزمة تجارب تفيدهم خلال مسيرتهم المستقبلية باتجاه تحقيق الأهداف. وكانت جهات منافسة متشددة تتحسس بدرجة عالية من هذه الحركة التبليغية وترصدها وتتابع أخبارها وكانت تؤدي أحياناً إلى بعض المعاكسات والمضايقات.

ومن أهم الأنشطة التبليغية تعبئة المبلغين لخارج إيران، فكان العشرات في فصل الصيف من كل عام يتوجهون إلى سورية حيث الحضور الجماهيري المكثف عند السيدة زينب (عليه السلام) فكان مبلغوا الحركة المرجعية في خضم ذلك المشهد الفقير ينتهزون فرصاً من الجسور العلاقاتية وإقامة المجالس الحسينية طوال شهر محرم وصفر وأداء دور اجتماعي بارز، كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يعبئ لهذا الموسم لا سيما الخليجيين المرتبطين بهؤلاء الزوار القادمين إلى سورية من مختلف أقطار

ص: 161

الخليج، وكان يقول للعراقيين الذين لا يفسح المجال لهم للسفر إلى الخليج ولنفس الخليجيين المعارضين المحرومين من السفر إلى بلادهم يقول لهم: إنكم لا تستطيعون السفر إلى الخليج والخليج نفسه سافر إلى سورية فالتقوا بشعوبكم هناك وانتهزوا الفرصة الثمينة هذه فإنها تمر مر السحاب.

التنبؤات

لوعي الإمام الراحل (رحمه اللّه) واستيعابه للأحداث وخلفياتها السياسية كان (رحمه اللّه) يتنبأ بنهاية مختلف الأحداث منها:

1. تنبأ بانهيار صرح (الاتحاد السوفيتي) الإمبراطورية الشيوعية العالمية والقطب المنافس عالمياً للولايات المتحدة. تنبأ بذلك قبل عشر سنوات من السقوط، وتنبأ بتحديد المدة أيضاً. فإنهار السوفيات بعد عشر سنوات بالضبط وفق تنبؤ الإمام الراحل (رحمه اللّه) وكان صرّح بنبوءته في (بحث الخارج) حيث كان يدرس بحوثاً معمقة في الاقتصاد العالمي والإسلامي، علماً ونظاماً، كما سجل نبوءته في كتابه التحليلي الجميل (ماركس ينهزم).

2. تنبأ باحتلال الكويت من قبل النظام العراقي وأطماع جيرانها بها، وقد نقل نبوءته إلى قيادة دولة الكويت حين كان مقيماً هناك فسئل: كيف عرفت؟ أجاب: من الواضح لو أن طفلاً بيده سبيكة ذهب يملكها وحوله عدة من الرجال الأشداد لاشك إن لعابهم يسيل ويخططون لسرقة السبيكة منه، والكويت بلد صغير ضعيف يحوطه من مختلف الجهات عمالقة ثلاثة: السعودية، العراق وإيران، ووفق قرائن وسوابق تاريخية تنبأت بالموضوع. سألته القيادة الكويتية: وما العلاج ؟ أجاب (رحمه اللّه) : رفع نسبة الشعب الكويتي إلى خمسة ملايين، وذلك

ص: 162

بتجنيس المقيمين من أصحاب الكفاءات، ووفق ضوابط عقلانية معينة، وارتفاع النسبة معناه إن الكويت ستتمتع بجيش قوامه حوالي سبعمائة ألف إلى مليون مقاتل، حين تتعرض لخطر من جيرانها، فإن كل شعبها بملايينه الخمسة سيهب للدفاع والتضحية فلا يجرؤ الجيران على التحرش بها، لم يقتنع الكويتيون بالأطروحة ووقعوا في الأزمة والخطر.

فمهما قويت المواثيق الدولية كما هي قائمة الآن، فأن مختلف الدول والحركات المسلحة تستصغر الكويت مع وضعها الراهن.

3. وتنبأ بخروج قوات صدام التي اجتاحت الكويت، وقال : أكثر مدة لبقائها في الكويت سنة وأقلها تسعة أشهر وهكذا تحققت النبوءة أيضاً.

4. حين اندلعت الانتفاضة الشعبانية عام 1991 م في العراق عبأ كل أجندته وطاقاته للإسناد والدعم وكانت كل الجهات تتفاءل وتنتظر سقوط الطاغية، إلا أن سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان يقول: مصير هذه الانتفاضة البطولية سيكون للأسف هو الإخفاق ولا يتحقق النصر على يديها. وكان يقرأ هذه النهاية من خلال الحالة العاطفية العامة في العراق وأجواء انتفاضتها، ولعدم وجود قيادة منظمة وحكيمة وانعدام التحالفات المحلية والدولية وغير ذلك من القرائن التي كان يطرحها أحياناً.

5. تنبأ بعدم وفاء السعوديين بوعودهم مع المعارضة التي اتخذ مجلسها القيادي قرار الانسحاب من خنادق المعارضة وإلقاء الراية والاتفاق مع النظام على حوالي أحد عشر مطلباً نشرته الصحافة السعودية. حينها التقت القيادات بسماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) فكان رأيه العمل برأي أكثرية قادة المعارضة لكنه أكد لهم: إن السعوديين لا يفون لكم بالوعود وهكذا حدث فعلاً. وهذا الواقع اليوم

ص: 163

أمامنا بعد كل تلك السنوات وتلك المطالب لازالت حبراً على ورق. من تلك المطالب السماح بإصدار صحيفة كبيرة واسعة الانتشار لكن ذلك لم يتحقق إلى اليوم!

6. وكان يتنبأ بنهاية الحرب العراقية الإيرانية، في حين كان يراهن أكثر السياسيين على انتصار إيران على العراق، وإن حركة شعبية ورسمية واسعة تنهض لحكم العراق بعد أن تسقط نظامه، إلا أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان يرى خلاف ذلك ويقول: ستضطر إيران إلى الصلح. وقد نقل رأيه إلى القيادة الإيرانية العليا وشخص السيد الخميني، وذلك بعد تحرير خرّمشهر ، وقال: إن الظروف صالحة الآن للصلح وإلا ستضطرون إليه في ظروف قاهرة وصعبة، إلا أن جوابهم له كان: ( إن الصلح مع صدام كفر). وبعد مرور ثمان سنوات قاسية على الحرب الضروس وسقوط أكثر من مليون ضحية من الطرفين رضخت إيران لقرار الأمم المتحدة وقبلت بالصلح مرغمة.

7. وكان يقول للمعارضة العراقية: لن تستطيعوا تحقيق النصر إلا بالتحالف مع القوى الدولية، وإن لم تبادروا فستضطرون إليه، إلا أن المعارضة كانت ترفض التنسيق مع القوى العظمى، ولكن الزمن تكفل بكسر صلابتها فاضطرت إلى المرونة فتحالفت معها وكانت النتيجة سقوط الطاغية بالتنسيق مع القوى الدولية ودخولها للعراق. بالطبع لم يكن رأي الامام الراحل (رحمه اللّه) التنسيق معها كي تدخل العراق، وإنما كان ضرورة التنسيق باعتبار العالم اليوم أسرة مترابطة ومعارضته للمجاهدين يسد عليهم طريق النصر.

8. تنبأ سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) بسقوط صدام وقال: بعد تدخل القوات الدولية في أفغانستان وسقوط طالبان فيها سيأتي دور العراق وتتحرك

ص: 164

القوى الدولية لإسقاطه، وهكذا تحققت النبوءة أيضاً وكان يقول بثقة وطمأنينة: صدام زائل عن قريب.

هذه نقاط عاجلة ولا يحضرني الآن غيرها، لكني أعلم أنه (رحمه اللّه) كان يتنبأ في كثير من الأحداث الدولية والمحلية، والزمن يتكفل بتحقيقها.

ولدى الإمام الراحل (رحمه اللّه) كراس علمي جميل يحمل عنوان (الغرب يتغير) ويتنبأ فيه بسقوط محورية الولايات المتحدة وسقوط النظام الرأسمالي بواقعه الحالي الذي أخذ يترنح على أثر الأزمات المالية العالمية، إلا أنه يرى إن السقوط ليس لكل النظام ورموزه وإنما تغير النظام مع مرور الزمن. وكما في القضايا السياسية كذلك في القضايا الاجتماعية والاقتصادية كان غالباً يقول رأيه في المستقبل وتصح نبوءاته.

قادة المجاهدين الأفغان يلتقون سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه)

بعد رحيل العديد من المرجعيات الدينية، توجهت شرائح كبيرة من الساحة الأفغانية الشيعية بالتقليد لسماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) . وأتذكر كيف إن علماء ووجهاء وشخصيات أفغانستان قد تواترت على مكتبه وكان أحياناً يضيق بهم المكان، ويوجهون إلى الجلوس والانتظار في (المصلى) ساحة المنزل، بعد أن تكتظ بهم الغرف كلها. وفي تلك المرحلة كانت الرسالة العملية لسماحته (رحمه اللّه) تطبع بكثافة وتوزع بصورة واسعة.

ووفق تقديرات أهل الخبرة فإن في افغانستان حوالي 60 (عليهم السلام) من أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) الأفغان قد قلدوا سماحته، وأتذكر إن فضيلة الشيخ (المجاهد)، وهو من أعضاء وتلامذة السيد الراحل (رحمه اللّه) الناشطين، كان يوزع

ص: 165

على حوالي (65) مدرسة دينية رواتب شهرية من سماحته (رحمه اللّه) .

في إحدى الليالي بعد صلاتي المغرب والعشاء وصل إلى بيت سماحته (رحمه اللّه) حوالي (11) شخصية دينية وسياسية كبيرة من الشخصيات الجهادية في أفغانستان، وكانوا على موعد متفق عليه، وكان ذلك بعد تحالف تسع حركات ثورية مسلحة تجاهد ضد النظام الماركسي والاحتلال السوفيتي لأفغانستان، وصلوا إلى البيت ومعهم حرسهم وكاميراتهم الإعلامية، والتقوا بسماحة الامام الراحل (رحمه اللّه) في غرفته الخاصة وعرضوا عليه برنامجهم، وكان ضمنهم ممن أتذكر فضيلة العلامة الحجة الشهيد (محمد علي مزاري) الذي غدر به عملاء طالبان حيث كان في مفاوضات معهم فاستشهد ومن معه (رضوان اللّه عليه)، وقد اقترح عليهم سماحة السيد (رحمه اللّه) ثلاث نقاط:

الأول: تأسيس محطة بث إذاعي ونفذوا المقترح.

الثاني: تأسيس مدرسة في كل منطقة تحت سلطتهم، واستجابوا للطلب إلا إن ذلك مكلف اقتصادياً وصعب عليهم وفق ظروفهم الجهادية المعتمدة.

أما النقطة الثالثة فلا تسعفني الذاكرة.

وهم بدورهم طلبوا من سماحته (رحمه اللّه) أن يبعث وفداً إلى هناك لزيارتهم والإطلاع عن قرب على مجريات الأحداث، فلبى طلبهم وبعث وفداً رفيع المستوى إلى المناطق المحررة، وطلبوا أيضاً منه السعي لحل الخلافات الداخلية هناك، فكلف الإمام الراحل (رحمه اللّه) الوفد المبعوث وأدوا ما عليهم ووحدوا ساحتهم الاجتماعية، ولكن بعد مغادرة الوفد تناهت إلينا الأنباء إن الخلافات تأججت مرة أخرى. وانتهى الاجتماع على اتفاق للتواصل والعمل، وفي ذلك الاجتماع أجاز السيد الراحل (رحمه اللّه) لهم صرف الحقوق الشرعية داخل البلاد

ص: 166

للمعوزين والمستضعفين وللعمل الثوري الجهادي ضد الأجندة الشيوعية هناك. من جهة أخرى اهتم سماحة السيد (رحمه اللّه) كثيراً بقضيتهم فطبع لهم الكثير من الكتب وبعث إليهم المساعدات وأصدر كثيراً من وثائق التوكيل الشرعي فخوّل الكثير من العلماء هناك وكالة عنه تسيير الأمور الشرعية والإنسانية، وأسس العديد من المؤسسات هناك لعلها تصل إلى المائة أو أكثر، منها مساجد ومدارس وحسينيات وجمعيات أيتام وحفر آبار ارتوازية وغيرها، وظل الإمام الراحل (رحمه اللّه) متواصلاً معهم إلى آخر حياته.

الوكالات المرجعية

كان سيدنا الأستاذ الإمام الراحل (رحمه اللّه) يهتم بهذا الحقل من العمل اهتماماً خاصاً، ويرعى الوكلاء بعناية ويدقق في النصوص التوثيقية في سعة دائرة الصلاحية وضيقها، وفي اللقب الذي يعطى للوكيل. وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) إن لم يعرف رجل دين معين وقد طلب ذلك الرجل منه الوكالة ولا يعرفه من يرتبط بسماحته (رحمه اللّه) ، يسأله إن كان يحمل وثيقة توكيل من فقيه آخر أم لا؟ فإن كان يملكها فلا يتردد سماحته (رحمه اللّه) في إصدار توكيل له، وإن لم يملكها يقيّم الشخص علمياً ويسأل عن أنشطته ومن يعرفه؟ فإن حصل اطمئنان نسبي به تعطى له الوكالة أيضاً، وإلا يطلب منه تزكية من أحد أساتذة الحوزة أو جمع من المؤمنين من أهل المنطقة.

ولم يكن من رأي سماحته (رحمه اللّه) تركيز الوكالة على شخص معين وإن كان ذا نفوذ وشخصية مؤثرة، وفلسفته في ذلك تتلخص في إن المركزية تؤدي إلى الفردية وتتسبب في إدارة محدودة تثير معارضات كثيرة، لذلك كان يعطي

ص: 167

الوكالات لتعددها في منطقة واحدة، وكانت لهذه النظرية تبعات سلبية أحياناً، وذلك لعدم وجود نظام للتنسيق المشترك، والعمل الموحد والتحرك في اتجاه متفق عليه، فكانت تحدث احتكاكات وتؤشر سلبيات أحياناً.

وقد كثر وكلاء سماحة السيد (رحمه اللّه) في بلاد مثل الهند والباكستان وأفغانستان وإيران وكذلك في الخليج والعراق، وقيل إن وكلاء سماحته في الباكستان فقط بلغ عددهم حوالي خمسة آلاف وكيل، وذلك لحاجة الساحة إلى الكادر المرجعي الناشط والذي يتحول إلى حلقة وصل بين القاعدة والقمة المرجعية.

وقد ألف الإمام الراحل (رحمه اللّه) كتاباً يحمل عنوان (إلى وكلائنا في البلاد) ضمنه تسعين نقطة انطلاق للوكيل وهو منهج استراتيجي. على الوكلاء رسم خارطة طريق على ضوئه والتحرك في صفوف جماهير الأمة. وهؤلاء الوكلاء هم الجهاز الإداري للقيادة المرجعية النافذة في وسط الأمة.

أحياناً كانت تقع هفوات في العمل، فذات مرة أصدرت وكالة شرعية بعد تزكيات عديدة، لكن ذلك أدى إلى إثارة وتوترات مع وكيل مركزي كبير - لا أحبذ ذكر الأسماء - فسحبت الوكالة من الأول بطريقة ذكية لأنه أيضاً لم يحسن استثمار وكالته بالوجه الحسن.

ولقد توسطت عند سماحته (رحمه اللّه) لأخذ التوكيل منه لرجال رأيت فيهم الكفاءة، أما المجموعات التي كنت أعمل معها فكلها تحمل وثيقة التوكيل من سماحته وتعمل تحت مظلة مرجعيته وبإسناده. والوكلاء قيادات دينية وعاملون مخلصون. وإنني أرى ضرورة تأليف كتاب تحقيقي حول وكلاء سماحته (رحمه اللّه) وترجمة حياتهم وشخصياتهم الاجتماعية والعلمية ومؤسساتهم العاملة في الساحة.

ص: 168

تملّك السكن

كان سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) يرى ضرورة سعي الأفراد لامتلاك سكن، وحين كان إخوتنا يعيشون في المهجر - قم المقدسة - لم يكن أحدهم يملك سكناً، فقام السيد الراحل (رحمه اللّه) بحملة تشجيع وتشويق لانطلاق الأفراد في تأسيس سكن خاص لهم، فكانوا أولا يقدمون على الزواج ويستأجرون منزلاً يسكنون فيه سنة أو سنتين ويخططون للشراء أو البناء.

وهكذا تحركوا واحداً بعد الآخر ووفروا لأنفسهم المساكن المملوكة لهم. وكانت الخطة لكل منهم أن يستقرض كمية من المال من صناديق الإقراض الخيري (منها صندوق أو بنك جواد الأئمة الخيري، والذي اخبرني أحد مؤسسيه بأنه كان له الفضل في امتلاك اثنتي عشر ألف أسرة للمسكن، ويبيع مصوغات زوجته ويساعده أقرباؤه: والده وأمه وأعمامه وأمثالهم، فيشتري المنزل على شكل أقساط متعددة فيبذل المال الذي كان سابقاً يدفعه للمؤجر يدفعه الآن للأقساط، وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) يساعدهم في المشروع أيضاً.

وإنني حين اشتريت، وفق الطريقة السابقة منزلاً صغيراً (42 متراً) قرب مكتب سماحة السيد (رحمه اللّه) ودعيت من قبله بعد صلاتي العشائين فحضرت في غرفته المتواضعة وكان بعض العلماء جالسين معه فجلست على يمينه ففوجئت بإخراج يده خفية من ردن عباءته وعلى خلاف عادته، فأخرج رزمة من المال، وقال: خذها! قلت: ما هذه؟ قال: خذها وضعها في جيبك. فاستجبت، فأردف قائلاً: هدية بسيطة لشراء المنزل. خجلت منه وشكرته وكانت الرزمة ذات مائة قطعة كل قطعة مائة تومان إيراني فكان المجموع عشرة آلاف تومان، وكان ثمن المنزل الذي ابتعته حوالي نصف مليون تومان، كنت قد استقرضت أحد عشر

ص: 169

ألفاً سلفة من صناديق الإقراض في قم المقدسة وطهران. وكان يؤكد في مناسبات عديدة، الاستئجار عمل خاطئ وعلى الإنسان أن يعزم على شراء سكن.

المؤتمرات

وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يصر على ضرورة إقامة المؤتمرات والندوات، وقد نفذ ذات مرة إصراره على ذلك، حين طلب كوادر الحسينيات والمؤسسات ونظّم مؤتمراً لثلاثة أيام في مكتبه وصدر له كراس جميل يحمل عنوان (مؤتمرات الإنقاذ).

وكان يقول: إن المؤتمرات الواقعية والتي يشترك فيها أهل الحل والعقد والناشطون في الساحة والتي تستغرق مدة شهر يناقشون كل أطراف القضية (القضية العراقية كأبرز نموذج)، ثم يخرج بقرارات أساسية وينطلق الأعضاء إلى العمل، مثل هذا المؤتمر حين تكرره كل ثلاثة أشهر أو أكثر يوصل المسيرة إلى النصر.

وفي الفترة المشهدية(1) طلب إلي كتابة نقاط حول إقامة المؤتمرات، فسعيت وبالتشاور والمداولة الطويلة مع سماحة السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) كتبت نقاطاً عديدة تأسس منها دستور لإقامة المؤتمرات وقرأت النصوص عليه بالتفصيل، فكان يضيف أو يحذف أو يعدل، وطلب إلي بعث نسخة إلى العلامة الحجة السيد محسن الخاتمي، والعلامة الحجة الشيخ حسن الصفار، وفعلت، وفعلاً أقيم مؤتمر في الشام جرى فيه تداول أمور مشتركة كثيرة ومهمة، لكن قطف الثمار يتطلب مواصلة عقد المؤتمرات، والشخصان كلاهما كانا منغمسين

ص: 170


1- نسبة إلى مدينة مشهد.

في العمل والمسؤوليات الكبيرة، فلم تتواصل عندهما حركة المؤتمرات.

ولكن بعد هجرة سماحة السيد المرتضى حفظه اللّه إلى الشام استمرت المؤتمرات السنوية وكانت ذات تأثير إيجابي ملحوظ.

وفي الإجمال كانت المؤتمرات في منظومة الفكر الإسلامي المرجعي لسماحة الامام الراحل (رحمه اللّه) لها دور أساسي في تقدم العمل إلى الأمام، وإنقاذ الأمة من الهاوية كما في الهند التي قامت ثورتها العملاقة عام 1948 م على سلسلة طويلة من المؤتمرات الإستراتيجية المتواصلة والمتقنة والتي تنطلق منها ماكنة العمل فينتج النصر المؤزر في النهاية.

كتاب (الأصول) وتدريسه في الحوزة

هذا الكتاب (الأصول/مباحث الألفاظ/والمباحث العقلية) كتاب متميز لمن يستوعبه ويفهم لبابه، وكتبه سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) بعناية فائقة وبأسلوب علمي، ضمنه نظرياته الأصولية التي أبدع فيها ولم يسبقه بها أحد، من جهة أخرى إنه في الوقت الذي نافس كتاب (كفاية الأصول للمحقق الخراساني) في العمق امتاز عنه بطرح النظريات الأصولية التي أبدعت بعد مرحلة (الكفاية) مع مناقشتها وسبر أغوارها، مثل نظريات المحقق اليزدي والميرزا الشيرازي الثاني وغيرهما، كما أنه اهتم باستيعاب الفروع الأصولية العلمية وإيفاءها حقها من البحث.

مع هذه الخصائص ولدت فكرة تدريس الكتاب ونضجت مع مرور الزمن وتحمل العالم الجليل السيد عسكر العلوي (رحمه اللّه) الذي كان من الأعضاء الناشطين في تحمل المسؤولية في مكتب سماحته لفترة معينة، والتقى مع العالم

ص: 171

الجليل آية اللّه السيد حسين الشاهرودي نجل المرجع الكبير الراحل السيد محمود الشاهرودي وطرح عليه موضوع تدريس هذا الكتاب، فكان منه أن طلب نسخة من الكتاب طالعه وأعجب، به فتصدى لتدريسه وحضره نخبة من فضلاء إخوتنا وتواصلوا معه إلى النهاية.

كما تصدى - حسبما أتذكر - آية اللّه الشيخ الدوستي لتدريس كتاب (الفقه - البيع) والذي هو الآخر من كتب سماحته (رحمه اللّه) المتميزة.

وتصدى سماحة الأستاذ الفاضل الحجة الشيخ جعفر الهادي (حفظه اللّه) لتدريس كتاب (الفقه - الاجتماع).

وتصدى فضيلة الأستاذ الحجة السيد محمد باقر الفالي (حفظه اللّه) لتدريس كتاب (الفقه - السياسة).

ونقل عن الأستاذ الكبير آية اللّه الشيخ أحمد الباياني - رحمه اللّه - إنه لو لم يقع في محاذير أمنية من جهة متشددين معينين لكان يتصدى لتدريس كتاب (الفقه - البيع) بصورة عامة، ولو تحقق لحضر بحثه أكثر من ألف تلميذ فاضل. لكن الظروف عاكسته ولم يستطع تحقيق ما يصبو إليه ويعتقد به.

وتدريس كتاب (الأصول) ومن قبل أستاذ قدير وفاضل، طرح وزن الكتاب في الأوساط الحوزوية وعرّفه للكثير ممن لم يعرفوه، وقد سعت جهات منافسة ومتشددة لإيقاف ذاك الدرس، إلا أن الأستاذ الشاهرودي كان يعتقد بقناعة تامة بمستوى الكتاب وجدوائية تدريسه وتحدى من تحداه وأكمل الدرس إلى النهاية. وكان ذلك الموقف تأييداً مدوياً للكتاب والمؤلف مما ترك تموجاته الإيجابية في الوسط العلمي في قم المقدسة.

ص: 172

الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ، يؤسس تنظيماً

قرر الإمام الراحل (رحمه اللّه) في مرحلة من مراحل العمل نحن لم نشهدها ولكن بلغتنا بطرق متعددة وممن اشتركوا ضمن ذلك النشاط الخاص، قام (رحمه اللّه) عبر وسائط الإداريين بانتقاء مجاميع عشرية كل مجموعة (10) أعضاء يجتمع معهم بشخصه (رحمه اللّه) اجتماعاً مركزاً أساسياً وتربوياً، وينقل إليهم لباب تجارية وخلاصة أفكاره ومبادئه، يلتقي مع العشرة لمدة عشرة أسابيع، ثم يطلب منهم العمل ضمن مؤسسة معينة واللقاءات تستمر من الصباح إلى الظهر ويتناولون طعام الغداء في منزل سماحة السيد (رحمه اللّه) . بعد انتهاء الأسابيع العشرة يقترح عليهم تأسيس مشروع والعمل ضمنه أو الانخراط في مشاريع قائمة لغرض تقوية جهازها العامل.

إحدى هذه المجاميع العشرة طلب منها سماحته (رحمه اللّه) تأسيس حسينية في محافظتهم (أصفهان) ومنطقتهم تقع في (جلفا) وهي منطقة أغلب ساكنيها من المسيحيين، جرى الحوار بين الشباب والسيد الراحل (رحمه اللّه) حول كيفية التأسيس، فقال لهم: تذهبون إلى دور المنطقة واحدة بعد أخرى تطرقون الباب وتطلبون رب البيت وتطرحون عليه المشروع إنكم تريدون تأسيس حسينية في المنطقة هل إنه مستعد للتعاون، وكيف؟ ثم أردف: قد يردكم عشرة منهم، خصوصاً وإن المنطقة مسيحية لا تعتقد بالشعائر الحسينية.

وهكذا كان الأمر كان الأغلب يقابلونهم بالضحك على عقولهم والسخرية إلا أن أحدهم قال: نعم أنا مستعد للتعاون، قيل له كيف؟

قال: عندي أرض هنا أتبرع بها! ففرحوا بذلك ودلهم على الأرض

ص: 173

وكانت خربة ومعبأة بالنفايات وفيها شيء من البناء المتهالك.

فبدأوا بأنفسهم يهدمون البناء وانطلقوا في عمليات التنظيف، ومر بهم رجل من المنطقة فتفاعل مع المشروع، وقال: أجرة نقل الأنقاض ودفن الأرض في ذمتي.

وهكذا أعدت الأرض للاستغلال فنصبت خيمة عليها وأطل موسم محرم حيث ذكرى استشهاد أبي الأحرار الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) فأقيم في المنطقة مجلس حاشد وناجح وأعضاؤه من جيل الشباب وأطلق على المشروع (حسينية بيت العباس (عليه السلام) ).

ومع مرور الزمن تألق المشروع وبعد مخاض ليس بالعسير كثيراً وتأسست الحسينية المتميزة وحازت (الدرجة الأولى) في أصفهان وأصبحت حرماً ثقافياً ومركزاً لعشرات ومئات البرامج المنوعة كالمسابقات والدورات الصيفية والنشر الثقافي إلى غير ذلك.

بعد فترة من الزمن حيث عاشوراء الإمام الحسين (عليه السلام) ألقى السيد المرجع آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) خطاب عاشوراء في مساء يوم العاشر، حيث أجواء الحزن الثقيل والظلام والمصابيح الحمراء التي ترمز إلى سفك الدم المظلوم على تربة كربلاء المقدسة؛ واقترح سماحته تأسيس قناة باسم الإمام الحسين (عليه السلام) ..

فما كان من هؤلاء الشباب العشرين من تنظيمات سيدنا الأستاذ الراحل (رحمه اللّه) إلا أن تصدوا بعزم وإرادة لتأسيس هذه القناة وبعد أشهر انطلقت فضائية الإمام الحسين (عليه السلام) الناطقة بالفارسية، وتبث على مدار الساعة مختلف البرامج الثقافية والعبادية والحسينية.

ص: 174

نعم هكذا انطلق الكوادر الذين ربتهم حركة السيد (رحمه اللّه) التنظيمية وإنني أعرف نماذج منهم هم اليوم في الطليعة في ميادين العمل الإسلامي وكنموذج فضيلة الشيخ مصطفى محمدي والشيخ رسول بهنام فكانت حركة السيد الراحل (رحمه اللّه) مبعثاً للخير والبركة للأعضاء أنفسهم وللمجتمع. وقد كان (رحمه اللّه) يركز على النوعيات الجيدة من الشباب تلك التي تتمتع بالذكاء والوعي والنشاط والذين لا يضيع الجهد الذي يبذل عليهم.

لكن هنا ملاحظة هي إن هذا العمل كان بحاجة إلى تشكيل قيادة مركزية تلتزم باجتماع أسبوعي وفق نظام معين لتدير وتواصل الحركة كي تدرس أسبوعياً المشكلات والتطورات وتكوّن حلقة وصل بين تلك الخلايا والكوادر، فكان العمل كله يصب في مصب واحد وألا يتبعثر، وإنني احتمل إن سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) كان لازال يواصل حركته التنظيمية وينتظر الفرصة المناسبة لتشكيل (القيادة المركزية) أو لأي سبب آخر لأن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يفهم هذه المعادلة فهماً دقيقاً ويرشد ويدعو بإلحاح إلى تأسيس منظمة إسلامية عالمية ومن دون ربط الخلايا بعضها ببعض يستحيل تكوين نواة المنظمة الحالية.

المؤسسات

المجتمع الحي والسليم والمنتج هو ذلك الذي يعتمد على مؤسسات المجتمع المدني بكل مجالاتها وأنواعها وأهدافها وأنشطتها، وهذه قاعدة كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) مقتنعاً بها وداعياً لها بعمق. من هنا فإنه بذل الجهود الطائلة والمتواصلة لتأسيس مختلف مؤسسات المجتمع المدني الدينية المحضة كالمساجد، أو الحسينيات أو المراكز الثقافية أو الجمعيات الخيرية أو المدارس أو المكتبات وما شابه ذلك، صغيرة وكبيرة، وهذه المؤسسات تحولت كلها إلى مراكز لتقديم الخدمات

ص: 175

غير الانتفاعية للمجتمع، ويكفي أن نذكر نموذجاً واحداً من رجالها وهو العلامة الحجة الشيخ علي حيدر المؤيد الذي أسس حوالي (44) مسجداً. وقد ألف أحد الكوادر وهو (عبد الأمير فولاد زادة) كتاب أرشف ووثّق فيه حوالي (1000) مؤسسة.

كثير من الوكلاء المعتمدين أسسوا المؤسسات والمراكز، وكذلك الكثير من تلامذته الذين عممهم وتولى تربيتهم، والشباب أعضاء المجاميع العشرية المنظمة، وكثير من الذين زاروه واستمعوا إليه .

أذكر ذات صبيحة جمعة قبيل الظهر زاره عالمان وعرّفا أنفسهما بأنهما من لبنان، في الأربعينيات من العمر، وكعادته طرح عليهما جملة من الأسئلة عن أحوالهم وأنشطتهم ومناطقهم وسألهما هل إنهما يؤمّان الجمع في مسجد؟ أجابا: نعم ، فانبرى الشيخ وقال: سماحة السيد في صيف العام الماضي زرناكم وسألتنا نفس السؤال وأنا لم أكن إمام جماعة لعدم وجود جامع في المنطقة فقلت لي: أسسوا مسجداً وصلِ فيه بالناس فاستجبت لنصيحتكم فبنيت مسجداً وأنا الآن إمام ذلك المسجد!

هكذا كان سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) يؤسس، ويشجع أصدقاؤه ووكلاؤه وزائروه على تاسيس المؤسسات، فهو (رحمه اللّه) مرجع المؤسسات بحق. والجدير بالذكر إن المؤسسات كلها تقريباً تبدأ بمخاض عسير ومسيرة صعبة وديون، وبعد ذلك مع مرور الزمن تتطور وتتألق وتسدد الديون وتنتج للمجتمع، كان هذا شان وواقع المؤسسات مطلقاً. نموذج (حسينية الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ) في الكويت و (مستشفى سيد الشهداء) في طهران و (مستوصف سيد الشهداء) في دمشق - حي السيدة زينب (عليها السلام) وغيرها، وحوالي عشرة بنوك

ص: 176

خيرية في إيران. ومؤسسات سماحته (رحمه اللّه) تعد بالمئات في مختلف أنحاء العالم وفي كثير من البلاد. وهذا الموضوع أيضاً من المهمات في تاريخ مرجعية سماحته (رحمه اللّه) ويستحق تأليف كتاب خاص نرجو أن يقيض اللّه من يتحمل هذه المسؤولية النافعة والمشجعة للآخرين للاقتداء والتأسيس.

لقطات

كان سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) يحترم بشكل متميز الشخصيات المرجعية سواءً في حياتها بالتعامل الإيجابي والتعاون وبعد رحيلها كذلك، وكان (رحمه اللّه) يهتم بإقامة مراسيم الفاتحة لتلك الشخصيات بعد وفاتها. وفي رحيل السيد الخوئي (رحمه اللّه) أقام الفاتحة ثلاثة أيام وحضرها بشخصه من الصباح إلى أذان المغرب مساءً. إضافة إلى ذلك أمر بإعداد وجبات كبيرة من الطعام لإطعام آلالاف من المعزين وغيرهم في برنامج عام ومفتوح.

ومما أتذكره في هذا الصدد أيضا إنه (رحمه اللّه) في كربلاء المقدسة عام (1970 م) وهو العام الذي رحل فيه المرجع الكبير السيد الحكيم (رحمه اللّه) أقام سماحته الفاتحة طوال ثلاثة أيام متصلة صباحاً وعصراً وليلاً، وأمر بإعداد الطعام لمئات الآلاف من المشيعين والمعزين وكان التوزيع من قبو (سرداب) الحسينية الطهرانية والتي أطلق عليها فيما بعد (حسينية الإمام علي (عليه السلام) ) .

* مرة سألت سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) هذا السؤال: إن عالم اليوم متميز في مختلف المجالات فهل يجب على المسلمين وعلى رجال الدين أن يتميزوا؟ بمعنى: أن يرتقي الخطيب إلى القمة والمؤلف كذلك والمؤسسات وكل الأنشطة تسعى للتفوق والتميز؟ أجاب: نعم، وهذا مقتضى الحديث الشريف: (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه) ويعلو الدين بعلو كفاءاته وامتياز رجاله.

ص: 177

* اعتصم في منزله لمدة طويلة، حوالي عشرين عاماً مستنكراً المظالم والخروقات ضد الدين ومبادئه ومفاسد خط المتشددين الذين عاثوا في الأرض الفساد ولم يخرج من منزله إلا حين استهدف في مرحلة قصف المدن حيث اعترف الطيار الأسير إن هذه المنطقة في قم المقدسة هي ضمن المناطق المستهدفة وهو لم يدر إنها تضم منزل سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) فكان أن قصفت منطقة بالقرب منه ولم يلحق المنزل إلا أضرار طفيفة فخرج سماحته (رحمه اللّه) وسكن في قبو حسينية (دار الحسين (عليه السلام) ) في ظروف صعبة وغرفة صغيرة هي في الأصل مخزن لبعض الأثاث وكنت مرة جالساً عنده وأرى الفئران تخرج واحدة تلو الأخرى آخذة حريتها دون رادع أو مانع، فطلبت إلى بعض العاملين شراء مصيدة لاستنقاذ غرفته من عبثها وإيذائها، بعد أيام هاجر سماحته (رحمه اللّه) إلى مشهد المقدسة وأقام فيها بعد زيارة واحدة للإمام الرضا (عليه السلام) دون أن يخرج منها إلى حين عودته إلى قم المقدسة.

وخرج مرة أخرى للعلاج في طهران ولإجراء عملية جراحية واستغرقت عدة أيام قليلة ولأجل الظروف الأمنية القاسية عرف الأطباء بأنه عالم من خوزستان وقد أعجبوا به كثيراً ونصحهم وأرشدهم إلى ما فيه صلاحهم. وكان الذهاب والإياب محاطاً بمنتهى السرية والكتمان.

ومرة أخرى خرج من المنزل لأقل من ساعة زار فيها السيد المرجع الكلبايكاني (رحمه اللّه) في مرضه الذي آل إلى وفاته ولم يخرج بعدها إلا بعد أن أصيب بجلطة دماغية ولبى نداء ربه في صبيحة الثاني من شوال المكرم بعد عيد الفطر من عام 1423ه- (حسبما أتذكر) وذلك في مستشفى الكلبايكاني في قم المقدسة.

* كان يرى إن البحوث العلمية الحوزوية غزيرة النفع، ولا يحبذ ترك

ص: 178

المناهج القديمة والاقتصار على الحديثة، وكان يرى الجدوائية والنفع في الجمع بينها، وبين الحوزة حيث لا تترك دراسة كتاب (المطول) في علم البلاغة و(أبواب الانسداد) من رسائل الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه) وقال مرة: إن في أبواب الانسداد من الرسائل بحر من العلم! كان يرفض إلغاء تلك المناهج ومنها: (القوانين في الأصول) للمحقق القمي (رحمه اللّه) . ويؤكد على دراسة تلك المناهج للطلاب الجادين والذين يطمحون إلى الارتقاء في مراقي العلم الحوزوي وكسب القدرة الفائقة في التحقيق والدقة العلمية.

* حين اشتدت قبضة الجناح المتشدد من المخابرات على الحوزة العلمية وبدأت تزرع الجواسيس في المدارس الحوزوية لرصد تحركات الطلاب واختراق صفوف وبرامج بعض المدارس كان رأي الإمام الراحل (رحمه اللّه) ضرورة وجود المخابرات المضادة وقال لي مرة: أوصلوا الخبر إلى السيد حسن القزويني - وهو ابن أخت سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) - والذي كان يدير مدرسة علمية حوزوية بضرورة وجود شبكة مخابرات مضادة في مدرسته وإلا فإن الخصوم يستهدفونها من داخلها ويجري الماء من تحت أقدامه وهو لا يدري!

* وذات مرة حين اشتدت الحملات العسكرية في حرب إيران والعراق وكثرت الضحايا وخربت المدن، أمر سماحته بإقامة برنامج الدعاء ووضع المصاحف الشريفة على الرؤوس وأجري البرنامج بعد صلاتي العشاءين في مصلى منزله بنفس الطريقة التي تؤدى في ليالي القدر في شهر رمضان المبارك، حيث يقسم الداعي على اللّه تعالى عشر مرات بنفسه ويقول: بك يا اللّه. ثم بعشر مرات بكل واحد من المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) .

وكان أحياناً ينظم برنامج للصلاة على النبي وآله (عليهم السلام) أربعة عشر ألف

ص: 179

مرة (14000) فيجتمع عشرة أفراد تقريباً ويقسمون الأربعة عشر ألف عليهم وبيدهم المسبحات ويبدؤون كل واحد يصلي على النبي وآله: (اللّهم صل على محمد وآل محمد) إلى أن تنتهي الختمة كاملة فينفض الجمع. كان يقول السيد الراحل (رحمه اللّه) : إن هذه تؤثر في إجابة الدعاء.

* كان يقول (رحمه اللّه) : إن مشكلتنا في عدم قدرتنا لأداء المسؤوليات الكبرى وإنقاذ المسلمين، إن كادرنا لازال قليلاً وضعيف كيفاً، ولا يعتقد بالذي نريد تحقيقه.

* وذات مرة في مشهد الرضا (عليه السلام) كنت أطلب منه كمية من المال وقد صرفته من قبل، فطلبني إلى غرفة سكنه البسيطة فدخلت وجلست فجاء بقطعة مربعة من القماش الأبيض وبسطها على الأرض ثم جاء بكيس من أكياس السكر أو الرز والذي يسع ل- (50) كيلو، ممتلئ أكثر من نصفه بنقود غير منتظمة وأفرغه على قطعة القماش وبدأ ينظم الأوراق النقدية، وكانت هذه من الحقوق الشرعية نقلها إليه أحد وكلائه الأفغان من مقلديه فكانت النقود حجمها كبير واعتبارها صغير، فنظمنا تلك الأموال وأحصيناها وقدم لي المقدار المطلوب وودعته وخرجت.

* حين كان يقيم مجالس العزاء بمناسبة محرم وغيره كان (رحمه اللّه) يحضر من أول المجلس إلى آخره ويستقبل الناس بعده ويحترمهم ويجيب على مسائلهم ويقضي حوائجهم وكان يصغي إلى الخطيب إن كان حديثه علمياً ونافعاً، ويستغرق في التفكير إن كان الحديث مكرراً وسطحياً.

التعبئة للهجرة

* كان يركز على ضرورة الهجرة إلى خارج البلاد ويعتقد إن إنقاذ البلاد

ص: 180

الإسلامية يتم من خارجها لأن أنظمتها شمولية وقاسية، لذلك كان يركز (رحمه اللّه) على الهجرة ومن الذين اقتنعوا بمغادرة البلاد وهاجروا وكانت هجرتهم منعطفاً في حياتهم أصحاب السماحة السيد مرتضى القزويني والشيخ نديم الطائي والشيخ عبد الحميد المهاجر وغيرهم كثيرون، وانتهت النوبة إلى هجرة أبنائه فهاجر السيد الرضا (رحمه اللّه) إلى الكويت والسيد المرتضى إلى سورية وغيرهم كذلك.

التخطيط للمستقبل

وحين كانت المرجعية هي القيادة الشرعية ورايتها في زمنه كانت بيده، خطط سماحته (رحمه اللّه) للمستقبل، فكان يشجع جهات معينة للعمل المرجعي إلى أن كتب وثيقة واضحة وتوجيهية أكد فيها إن سماحة آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) قد بلغ مرتبة سامية للاجتهاد وهو أهل للفتيا وتصدي المرجعية، وهذه حقيقة مؤكدة وإن السيد الصادق هو كبير آل الشيرازي وعميدهم وأستاذهم يتمتع بكفاءات في القمة وفي الساحة الحوزوية يعتبر من الرموز الأولى التي يشار إليها بالبنان ونحن نعتقد باعلميته المطلقة فقهاً وأصولاً وغيرهما، وهذا التوجيه من الإمام الراحل (رحمه اللّه) ليس لكون المرجعية منصباً دنيوياً يرثه الصغار عن الكبار كالقيصرية، بل لأنها مقام روحاني ديني لا يصلح إلا لأهله وشروطه في غاية الصعوبة ولا تتوفر في أي كان. وفي بعض حوزاتنا تجرد المتصدون عن الشروط الواقعية للمرجعية ورفع إليها من ليس لها بأهل؛ لذلك لزم التوجيه من المرجع السابق ونعم ما صنع الإمام الراحل (رحمه اللّه) وتوجيهه في محله وكان من أشد الضرورات وإن لم يفعل ذلك لكان يلام على موقفه وتتبعثر الساحة التابعة لخطه ومدرسته.

ص: 181

عدم رد المحتاجين

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يؤكد في توصياته بقوله: لاتردوا أحداً فالمراجعون المعوزون وأصحاب الحاجات من أي طبقة ومستوى اجتماعي لا تردوهم وإن استدعى الأمر الدعم القليل والرمزي. ورد في الحديث ما مضمونه: (لا تستح من القليل فإن المنع أقل منه)(1). لذلك كان المراجعون يقدم لهم مبلغ رمزي وزهيد لكنه مشفوع بالاعتذار وكنا نقول لهم: العين بصيرة واليد قصيرة معذرة منكم، وكان الطرف الآخر يستلم المبلغ تبركاً لأنه من أموال المرجعية وتابعة للإمام الحجة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) . وفي أحيان قليلة بل أقل من القليل كان الطرف الآخر تأخذه الأنفة والعزة ويرفض الاستلام فكان الرد منا الاحترام ومحاولة رفض الرد وتكرار الاعتذار والاعتراف بحقه لكن الظروف الاقتصادية خانقة!

كتاب اللّه

كان يبذل اهتماماً خاصاً بالكتاب العزيز منذ أيام العراق، فقد أسس ست مدارس لحفظ القران الكريم للشباب من الجنسين، وكان كتاب (تقريب القرآن إلى الأذهان) ضمن المناهج الدراسية الهامة. وألف (رحمه اللّه) أربع تفسيرات للقرآن هي: (تقريب القرآن إلى الأذهان) و(تبيين القرآن) وتوضيح القرآن والتفسير الموضوعي.

الصورة

ص: 182


1- روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : « لَا تَسْتَحِ مِنْ إِعْطَاءِ الْقَلِيلِ فَإِنَّ الْحِرْمَانَ أَقَلُ مِنْه »/ نهج البلاغة: المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) :65.

وألف أيضاً (الفقه - القرآن الحكيم) ضمنه بصورة استدلالية مختلف المسائل الفقهية المرتبطة بالقرآن الكريم وفيها فروع إبداعية جديدة وطرحها بصورة تصلح مواداً دراسية في الحوزة. ولقد سمعته في بحث الخارج يقول: يلزم تدريس القرآن في الحوزات العلمية كتدريس السطوح - الكفاية والمكاسب والرسائل - وأضاف: كذلك (نهج البلاغة) و(الصحيفة السجادية) يلزم تدريسها في الحوزات لكتب السطوح.

التواصل

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يتواصل مع أصحابه في مختلف أنحاء العالم وبأية وسيلة ممكنة، وكانت إحدى وسائله السريعة والمؤثرة حين يزوره شخص من بلد معين يسأله عن أصحابه ووكلائه في تلك المنطقة، ثم حسب الضرورات ومستوى الأفراد كان يأخذ دفتر الإيصالات الموضوع أمامه دائماً، لأن كثيراً من مقلديه يسلموه مقداراً من الحقوق فيسجل لهم الإيصال بنفسه سريعاً وفي الوقت ذاته، ويقطع الورقة ويسلمها لمن سلمه حقاً من الحقوق، فتبقى قطعة أخرى على الجانب الأيسر ليسجل عليها معلومات عن الإيصال المسلّم، إن هذا القسم يبقى عاطلاً مطبوعاً عليه الاسم وكمية المبلغ والتاريخ، لكن السيد (رحمه اللّه) لم يعبأ بذلك ولم يعتبره ضرورياً ضمن نظامه فكان يقطع ورقة ويكتب خلفها رسالة إلى كوادره وفي أنحاء العالم يضمنها أهم توجيهاته لهم ويسلمها إلى الشخص الزائر بعد أن يطويه مرتين أو ثلاث، دون الالتزام بظرف خاص أو عنوان أو غير ذلك من البروتوكولات المعهودة.

هذا وإن الظروف الأمنية كانت تتطلب: الاختصار وصغر حجم الرسالة كي يكون إخفاؤها ميسوراً ويوصل القرار إلى الكوادر بلا عناء أو جهد أو

ص: 183

بروتوكولات أو ما شابه. وإنني احتفظ بالعديد من هذه الرسائل المختصرة في أرشيفي الخاص.

الفكر الحضاري

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يؤكد على جملة من الأفكار المركزية والتي تعتبر ضمن مشروعه النهضوي المتميز، منها:

* اعتماد (السلم) في العمل وكان يرفض حتى المشاعر القلبية السلبية تجاه الآخرين ويعتبرها مرحلة من الخشونة، فنظرية السلم عنده مع الصديق والعدو، وفي الكلام والعمل والقلب، وأكثر من التأليف في هذا المجال، وكان يقول لنا: (السلم نبتة لا تهزها العواصف).

* التعددية واحترام رأي الآخر، حيث إن الرأي الحر من أوليات الحقوق الإنسانية وكل من له رأي جدير بأن يحترم ولا يجوز بحال من الأحوال أن يدان الآخر لفكر ورأي يتبناه، وكان يقول: إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يحترم حتى الكفار والمنافقين ويتعامل معهم بالتي هي أحسن ما لم يحملوا السلاح ضده.

* ويعتقد (رحمه اللّه) بصورة أساسية بضرورة عقد مجلس تنسيق للمرجعيات الدينية العليا، وكان يعبر عن ذلك ب- (شورى الفقهاء) أي المراجع، وإن عدم الشورى يؤدي إلى الفردية في القيادة وهذا معناه مصادرة دور المرجع الآخر، مما يؤدي ذلك إلى التشرذم والضعف واستقواء الأعداء. ولا يمكن إدارة الأمة الشيعية في العالم بمرجعية واحدة، لأن كل الطاقات لو خاضت الميدان لم تبق مساحات من هذه الأمة بلا قيادة وبلا رعاية وعناية، فكيف إذا انفردت جهة واحدة؟

* ومن نظرياته الأساسية وجوب إحياء الآيات الخمس المنسية وهي:

ص: 184

الأولى: آية الشورى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ).

الثانية: وآية الإخوة الإسلامية: (إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).

الثالثة: وآية الأمة الواحدة: (وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً).

الرابعة: وآية الحريات: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلْأَغْلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).

الخامسة: وآية المسالمة واللاعنف: (ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَافَّةً).

وكان سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) يركز في إلقاء المحاضرات عليها وفي الاجتماعات الخاصة ويؤكد: إن تخلف الأمة الإسلامية سببه يكمن في نسيان هذه الآيات الخمس.

* ومن مبادئه التي ركز عليها كثيراً ونظَر لها ودفع باتجاهها هي ضرورة (تشكيل المنظمة الإسلامية العالمية) وإن ذلك يتم عبر تنظيم مؤتمر لتأسيس النواة المركزية، ثم تقسيم الأعمال وتنظيم لجان والانطلاق للعمل وحول هذا الموضوع تحدث في كتابه (السبيل إلى إنهاض المسلمين) وغيره.

* ومن مبادئه أيضاً ضرورة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في الحياة دون الحيد عنها يميناً أو شمالاً لا شيء آخر على أنه (أحكام ثانوية) ويطبق باسم الإسلام. فمثلاً كان يرى ويؤكد ضرورة تطبيق نظام (إحياء الموات) وفق الضوابط الشرعية ونظام (الضرائب الإسلامية) ونظام (إقامة العدالة دون عنف) إي مكافحة الجرائم والانحرافات بالطرق الثقافية وتغيير القناعات لا بطرق الضغط والخشونة، وكان دوماً ينتقد الإعدامات والضرائب والروتينات الإدارية المتعبة.

* وكان يرى ضرورة بقاء الحوزات العلمية على ما هي عليه وتأسيس

ص: 185

(جامعات علمية حوزوية) إلى جانبها، لا إلغاء هذه الحوزات التي خَّرَجت أعاظم الفقهاء وفطاحل العلماء والأدباء والمفكرين الإسلاميين.

* وكان يرى أيضاً ضرورة الخدمة الواسعة لمختلف شرائح المجتمع عبر مختلف أنواع المؤسسات الإنسانية والثقافية، وكان (رحمه اللّه) يقول : إن المؤسسات أساس لقوة المجتمع.

* ويؤكد على ضرورة الزواج المبكر.

* وضرورة تقوية الحوزات العلمية.

* وضرورة تقوية ونشر مختلف أنواع الشعائر الحسينية بكل هذه الأساليب والطرق التي تنفذها جماهير الأمة الشيعية في كل مكان ولا يجوز تضعيفها وبأي حال.

* وكان يرى ضرورة البساطة في العيش وإن هذه التعقيدات المعاصرة تضاعف المشكلات وتزيدها تعقيداً وكتب في هذا المجال كثيراً، وما كتبه هو مؤلفه الجميل (بقايا حضارة الإسلام كما رأيت). فكان يركز على البساطة في الزواج والسفر والسكن والضيافة وكل شيء.

* وضع برنامجاً متكاملاً للوكلاء ماذا لهم وماذا عليهم وكتب كتاباً ضمنه (90) نقطة وأسماه (إلى وكلائنا في البلاد).

* وكان يرى: إن المرجعية الواعية والناشطة هي القائمة على قاعدة (جمع الكل) فتتحول إلى خيمة ينضوي تحتها أبناؤها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فلا تتخذ المرجعية موقف التضاد من أي جهة أو فرد بلغ الأمر ما بلغ، إلا الطغاة الذين يلزم تجريد كل الطاقات ضدهم بالطرق السلمية. وشعار (جمع الكل) استراتيجي معتمد في منهجه.

ص: 186

* وفي قضية (ثبوت الهلال) لشهر رمضان أو شوال، كان يحترم آراء الجهات المرجعية الأخرى ويرى لزوم التنسيق معها ولم يكن ينفرد بالإعلان، لأن ذلك معناه تشطير المجتمع إلى قسمين وإثارة البلبلة واللغط والسلبية.

* كان يرى (أصالة العمل) ولا يعبأ باللغط والانتقاد والمعارضات، لأنه إن اقتنع بأمر ما يرى ضرورة الجهاد في سبيل تنفيذه، لأن شرائح المجتمع لا تتفق على أمر واحد مطلقاً فكل منهج ومؤسسة ومشروع يحظى بمؤيدين ومناصرين من جهة وبمعارضين مثبطين من جهة أخرى.

* كان يؤكد على (أصالة التحصيل العلمي) والارتقاء إلى أعلى المستويات ويوصي تلامذته وأصحابه بضرورة (التملي من العلم) لأن (طلب العلم من المهد إلى اللحد)(1) حسب النص النبوي الشريف.

* ومن حركته الإصلاحية اعتماد (التأليف) كوسيلة للتثقيف والتغيير، فكتب كثيراً وشجع على الكتابة، وربى على التأليف كثيراً، وما أكثر من ألفوا بناءً على تشجعيه وتوصياته وتبرعاته النسبية للطبع. وإنني كتبت (شورى الفقهاء المراجع) و (محنة الأكثرية في العراق) بناءً على تشجيعه، ومثلي كثيرون! وقد قال الدكتور (محمد حسين الصغير) رئيس جامعة الكوفة لي ولغيري: (إن السيد الشيرازي علم شباب العراق على التأليف). وما كان يلتقي واحداً من الطبقة المثقفة إلا وأوصاه بالتأليف، وكان يوصي رجال السياسة خصوصاً وغيرهم بكتابة (المذكرات) ومن الذين أوصاهم سماحة آية اللّه السيد مرتضى القزويني وسماحة الحجة الشيخ نديم الطائي وغيرهما، وأنا ممن أوصاه سماحته بكتابة المذكرات لذلك توجهت إلى هذا الأمر نسبياً وأكتب اليوم هذه السطور كمذكرات

ص: 187


1- روي عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « اطلبوا العلم من المهد إلى اللّحد»./ نهج الفصاحة: 218.

تسع سنين من رحيل سماحته (رحمه اللّه) .

* وكان يؤكد كثيراً على ضرورة اهتمام العالم بالخطابة وأن تكون الخطابة علمية ومتميزة وقد طبق نفسه المثل في ذلك، فكان يخطب باللغتين الفارسية والعربية وكان يهز أحياناً كيان المستمعين ومشاعرهم ويجري دموعهم.

وذات مرة خطب في أربعين الإمام الحسين (عليه السلام) وذكر معاجز الرأس الشريف ثم بكى وبكى وخنقته العبرة وبكى معه الجمهور وأغمى على أحدهم لشدة الفجيعة وعجز لعمق أثر المحنة عليه من مواصلة الحديث ونزل عن المنبر فرقاه الخطيب الحسيني الراحل السيد أحمد جبرائيل (رحمه اللّه) وأتم المجلس.

القضاء

إن من أهم حاجات الناس للعالم الديني احتياجهم إلى قضائه وفصله للخصومات الاجتماعية والاقتصادية وما أكثرها اليوم، وإن محن مجتمعاتنا المعاصرة إنها ضحية رخيصة للنزاعات التي تحرق فيها الأخضر واليابس وتستهلك طاقات هائلة وكثير منها تترك عالقة ولا تحل إلى سنوات طوال لتشدد الأطراف المتخاصمة.

رجل الدين باعتباره عالماً أولاً، ولكونه موضع ثقة الناس، يلجأ إليه الكثيرون آملين منه فصل خصوماتهم، والمرجع الديني هو النموذج الأسمى الذي تقصده مختلف الشرائح الاجتماعية لغرض القضاء.

كان سيدنا الأستاذ (رحمه اللّه) يمارس هذا الدور أحياناً وكان مسلكه يعتمد على (المصالحة) وإرضاء الطرفين حيث ورد عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الصلح سيد الأحكام».

ص: 188

وقال تعالى: (وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌۗ)(1).

في كثير من الأحيان كان يعالج الموضوع المتنازع فيه بالحلول الوسطية، لذلك يقوم ببذل جهد كلامي وتشجيع الممانع وإقناعه فتحل عقدة النزاع. ومع ازدياد نسبة مسؤولياته اتخذ مساعدين له في هذا الصدد، فكان أحياناً يلقي بالمسؤولية على نجله الراحل السيد الرضا (رحمه اللّه) أو على آخرين.

وفي النزاعات العميقة وبالأخص تلك التي كانت تقع بين القيادات الميدانية العاملة كان (رحمه اللّه) يوسع صدره لهم ويركز في الإصلاح ويصل بسفينتهم إلى ساحل الأمن والتفاهم ورأب الصرع.

أما إذا كان الطرفان صلبين متشددين ويرفضان رأيه ومقترحاته، فكان (رحمه اللّه) يحافظ على أصول تعامله مع كليهما ويحترم الأشخاص وإن كان يرفض الأفعال والمواقف، فكثير من التصدعات أو النزاعات الكبيرة حدثت بين أطراف في منظمة العمل أو حركة الفتح الإسلامي أو بين مسؤولي الحسينيات والمؤسسات.

كان المتنازعون لا يقتنعون بمقترحات السيد الراحل (رحمه اللّه) وكان يمتنع (رحمه اللّه) من اتخاذ موقف حدي تجاه أحد الطرفين ويتركهما لحالهما، أما لو كان النزاع يتصل بأمر شرعي كان يبين فيه الحكم الفقهي ويحاول رأب الصدع والإصلاح، ومع المتشددين فموقفه بعد بذل جهود الإصلاح هو تركهم لسبيلهم حيث إن التشدد لا يعالج إلا بمرور الزمن الذي يثبت معه أفضلية المرونة والتفاهم والحلول الوسطية مضافاً إلى بقاء العلاقة الودية والاحترام المتبادل.

ص: 189


1- سورة النساء: 128.

الاجتماعات التعبوية

كان من العادات السنوية المعتمدة والأساسية لتعبئة الجمهور باتجاه الشعائر الحسينية أن يطلب الإمام الراحل (رحمه اللّه) مسؤولي الحسينيات كل عام قبيل محرم الحرام بعشرة أيام أو أقل قبل المناسبة، فيلقي عليهم كلمة تعبوية ساخنة ويحثهم على المزيد من التضحية في المسيرة الحسينية.

وبعد عاشوراء بأيامٍ قليلة كان يطلبهم أو يبادرون هم لزيارة قم المقدسة والاجتماع بسماحته (رحمه اللّه) فكان مرة أخرى يلقي محاضرة يقدم لهم شكره، ثم يبدأ بسرد توجيهاته لمواصلة المسيرة الحسينية والنضال لخدمة الشرائح المختلفة من المجتمع لاسيما جيل الشباب ويقدم المقترحات العملية لهم.

وفي ذكرى استشهاد الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) 28/صفر الخير من كل عام كان أرباب الشعائر الحسينية يقودون موكبهم إلى قم المقدسة وفي عصر الثامن والعشرين حيث ذكرى استشهاد الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان جمهور غفير يحتشد في منزل سماحته وقد تحفز لاستماع توجيهاته (رحمه اللّه) ويعلم أكثرهم أنهم لا يلتقون به إلا بعد عام.

فكان (رحمه اللّه) يعد حديثاً سنوياً ملؤه المعلومات الخاصة المركزة والتوجيهات العلمية والدينية والأخلاقية التي يحتاجها الناس كاحتياجهم للهواء والطعام. ثم يلتقون به (رحمه اللّه) ويطرحون أسئلتهم وحاجاتهم ويستلمون هداياهم من الكتب ويرجعون إلى محافظاتهم ومدنهم وقد تعبؤوا معنوياً وانشداداً إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أولا وإلى مرجعيتهم ثانياً ويبدؤون بمسيرتهم الحياتية في اليوم الثاني متأثرين بالمناسبة الماضية إيجابياً.

كان هذا مروراً سريعاً على البرنامج السنوي لسماحته (رحمه اللّه) .

ص: 190

العلاقات مع حركة حرية إيران

ذات يوم كنت قد عزمت على السفر من قم المقدسة إلى طهران ومع أعضاء عائلتي وفي الممر الصغير الذي يقع فيه الآن (حسينية أهل البيت (عليهم السلام) ) والذي يقع في آخره (مسجد زين العابدين (عليه السلام) ) رأيت أربعة رجال في هندام منظم وجميل سألني أحدهم بالفارسية بعد التحية: أين منزل السيد الشيرازي؟ أوضحت لهم العنوان، ثم بعد اجتيازهم انتبهت إلى أنني كنت قد رأيت هؤلاء فيما مضى وتساءلت يا ترى من كانوا؟ بعد التأمل تذكرت إنهم قادة (حركة

الصورة

حرية إيران) أولهم والذي سألني عن العنوان هو المهندس (مهدي بازركان) أول رئيس وزراء لإيران بعد سقوط الشاه، والثاني (إبراهيم يزدي) وزير الخارجية الإيراني السابق، والثالث: (صباغيان) والرابع لا أتذكره، وحين كنت على عجل لم أركز لأتذكرهم، هؤلاء وغيرهم من القادة المخضرمين والمجاهدين القدامى كانوا على صلة مع الإمام الراحل (رحمه اللّه) وكان سماحة آية اللّه السيد مرتضى الشيرازي حفظه اللّه قد زارهم أكثر من مرة في مكتبهم بطهران العاصمة، ونقلت إليهم ترجمات الكتب الأساسية لسماحته (رحمه اللّه) والتي تبرز نظريات الحضارة المستنبطة من أصول الإسلام وكلما صدر كتاب كان الوسطاء المعنيون يحملون نسخاً منه إلى قادة الحركة، ونقلت إليهم بعض الكتب بكميات معينة لغرض توزيعها على قواعد الحركة، فكان

ص: 191

التعاون الثقافي قائماً معهم بصورة حيوية وناشطة، ومن جهة أخرى كانوا يشكلون سنداً لأفكار ومدرسة الإمام الراحل (رحمه اللّه) . ومع هجرتي من إيران لا أدري إلى أين وصلت نتيجة تلك العلاقات وماذا كان مصيرها؟

مع تنظيم الحجتية

الصورة

تدور في ذهني معلومة لا أتذكر صحتها أو عدمها وهي: أن الفقيد الراحل آية اللّه الشيخ الحلبي مؤسس ومرشد جمعية (الحجتية) في إيران قد زار سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) في قم المقدسة أم لا؟ وأظنه قد زاره مرة واحدة. وفيما بعد تطورت العلاقات وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يبعث نجله آية اللّه

السيد المرتضى حفظه اللّه لزيارة الحلبي (رحمه اللّه) في طهران وقد قام بالزيارة لعدة مرات وتواصل معه لفترة عديدة حمل سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) ولده رسالة ليبلغها للشيخ الحلبي (رحمه اللّه) مفادها: ضرورة بعث طيف من كوادرها إلى خارج ايران، إلا أن الشيخ لم يقتنع. مع مرور الزمن نضج الاقتراح بتكرار طرحه والنقاش فيه فاتخذ الشيخ ومعه القيادة العليا للجمعية قراراً بنقل جملة من نشطاءها إلى خارج ايران ومن البلاد التي استقر فيها رجاله: الهند والولايات المتحدة الأمريكية، ففتحوا صفحة جديدة في ساحات نضالية جديدة وانطلقوا يؤسسون ويطورون؛ بعد مدة من الزمن صرح الشيخ قائد الجمعية لآية اللّه السيد المرتضى حفظه اللّه الذي كان في زيارة له، بقوله: نحن لو أردنا أقامة عشرين مؤتمراً في وقت واحد خارج إيران لاستطعنا! إلا أن السيد مرتضى حفظه اللّه لم

ص: 192

يتلقَ التصريح بجدية ذلك لأن عشرين مؤتمراً أمر في غاية الصعوبة والتعقيد. وبعدها هاجر آية اللّه السيد مرتضى حفظه اللّه إلى واشنطن وشاهد على الأرض قوة تنظيم الحجتية، اقتنع بفحوى تصريح قائده حول عقد المؤتمرات العشرين في وقت واحد. واستمرت العلاقات الإيجابية وإلى الآن حيث إن بعض كوادر مرجعيتنا تتبادل الاحترام معهم وتتواصل في الزيارات.

العمل المتواصل

كان السيد الراحل (رحمه اللّه) قليل النوم وكثير العمل ولا يفوت دقيقة من عمره بل ولا لحظة إلا ويستغلها في حدود المستطاع ومرة استطرد وطرح موضوع (تنظيم النوم) وسألت الإمام الراحل (رحمه اللّه) عن نظام نومه، أجاب: لا نظام لي فيه ولا أستطيع الالتزام، إنني أعمل وأؤلف وأطالع وأواصل نشاطي حتى إذا أحسست بالنعاس والحاجة الملحة إلى النوم، آنئذ أنام ومتى ما استيقظت فلا أنام مرة أخرى. وقد كان يكتفي من النوم (4) ساعات ولو ازداد لم يتجاوز الخمس ساعات وأحياناً كان يكتفي بساعتين أو ثلاث. وهكذا هي طبيعة رجال العمل وأبطال الإسلام في التاريخ.

محاولات الاغتيال

أعداء المصلحون كثيرون دوماً، فأمير المؤمنين (عليه السلام) بتأريخه المشرق وفكره العملاق يتعرض للاغتيال ويقتل، وهذه سنة تأريخية درج عليها الطالحون والطغاة ليصفّوا جسدياً رجال العمل والإصلاح. والاغتيالات تبقى مجهولة الهوية إن وقعت، ومجهولة الهوية إن فشلت أيضاً. فالمحاولات وخصوصاً تلك التي تكون بصورة غير مباشرة وغامضة تبقى قيد الكتمان وخاضعة

ص: 193

للاحتمالات، وسماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان مقلقاً لمضاجع الطغاة والحاقدين وكانوا يحاولون بوسائل مختلفة التخلص منه.

* ذات مرة كان يتمشى في وقت متأخر من الليل على ساحل البحر في الكويت - بنيد القار - ومعه الخطيب الراحل سماحة السيد أحمد جبرائيل (رحمه اللّه) فما كانت إلا لحظات ويرون سيارة مسرعة باتجاههم وصلت إليهم كالبرق الخاطف، فانزاحوا بسرعة فائقة عن الطريق غير الطبيعي للسيارات والطبيعي للمشاة فتجاوزتهما دون أن يصابا بشيء ثم عرفا إنها كانت تابعة للسفارة العراقية والتي اغتالت حينها (حردان التكريتي) وكانت تصول وتجول في الكويت وكأنها دولة داخل أخرى.

* وفي قم المقدسة حيث كان سماحته في اجتماع في منزل سماحة آية اللّه السيد مرتضى القزويني (حفظه اللّه) وفجأة يرى الحراس شاباً مسلحاً فوق السطح ويتمكنون من إلقاء القبض عليه وتسليمه إلى الجهات الأمنية المختصة وحللت القضية بأنها محاولة اغتيال لسماحته (رحمه اللّه) وبعض من معه حيث كانت تلك الفترة فترة نضال واسع محموم ضد طغاة العراق.

* وفي قصف مدينة قم المقدسة من قبل الطيران العراقي البعثي أوقع الطيار في الأسر وسأل عن منطقة وصفها بصورة تقريبية ماذا بها؟ فإذا بها كانت منطقة مكتب سماحته (رحمه اللّه) ودار سكناه والعديد من الكوادر العاملين في مرجعيته وتوقع بعض المحللين إنها كانت خطة بعثية للتخلص منه (رحمه اللّه) .

* ومرة أخرى أهدي إلى منزله مقدار من اللحم، فمنع سماحته استعماله لنفسه ولأعضاء عائلته، ورمى به إلى قطة في المنزل فلقيت حتفها فور ما أكلت ذلك اللحم، مما يدل على أنه كان مسموماً وكان (رحمه اللّه) مستهدفاً للقضاء عليه.

ص: 194

وتبقى القضايا كلها وأمثالها في دائرة الاحتمالات ولو كانت تكلف بها لجان تحقيق كان يتبين واقع الأمر.

من وصايا السيد الشيرازي (رحمه اللّه)

* حين كان يعقد القران ويزوج شاباً من شابة كان في كثير من الأحيان ينصحهم مما يفيدهم في حياتهم الزوجية وذات مرة قال للشباب: انتبه لا تغضب عليها خلال خمسين سنة!

* وكانت له وصايا خاصة للأطباء ومرة زاره جمع منهم في مكتبه فأوصاهم بأمور منها:

1. إن لم تشخص المرض لا تعطي الدواء وقل لم افهم المرض.

2. لو كان المريض فقيراً فلا تأخذ منه أجرة، فقد قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «خير الناس انفعهم للناس».

3. وعليكم كطبقة مثقفة أن تتحملوا مسؤولياتكم الاجتماعية والشرعية للإصلاح، فعليكم أن تؤلفوا الكتب وإن الكتاب من وسائل الإصلاح الهامة في كل المجتمعات.

* ومن وصاياه للخطباء: ابذل غاية جهدك للتحضير المتقن ليكون الخطاب مؤثراً. ومرة زاره جمع من الخطباء والمبلغين بعد أن انتهى مؤتمر خطابي عقد في مدرسة (جابر بن حيان الكوفي) التي كانت تعمل تحت رعاية مكتبه (رحمه اللّه) وقرر المؤتمرون زيارة سماحته ليلقي خطاباً فيهم ونفذ الأمر، ومما ذكره سماحته هذه القصة قائلاً: التقى الخطيبان الكبيران الشيخ الفلسفي عميد خطباء إيران والشيخ الراشد الذي كان من ألمع الرموز ويلقي خطاباً أسبوعياً من إذاعة طهران

ص: 195

هي في القمة محتوى واداءً، فجرى بينهما ما يهمهما من أحاديث فسأل الراشد الشيخ الفلسفي: كم ساعة تبذل لتحضير بحوثك الخطابية؟ أجاب: (12) ساعة بعد أن أسحب سلك التليفون وانقطع عن العالم الخارجي وادخل مكتبي الخاص ثم رد الفلسفي نفس السؤال على الشيخ الراشد، فأجاب: في الواقع أنا احضّر أسبوعاً كاملاً لإلقاء خطابي الإذاعي واقسم مراحل التحضير يوماً للتقارير وثانياً لنهج البلاغة وثالثاً للتاريخ ورابعاً للعلوم الحديثة وخامساً للقضايا الاجتماعية والأزمات الراهنة وسادساً للأدب والشعر والقصة. ثم علق سماحته (رحمه اللّه) قائلاً: هؤلاء كبار الخطباء هكذا يهتمون بالتحضير فكيف بالناشئين والصغار؟

ومن وصاياه أيضاً للخطباء: لا تساوم مع أرباب المجلس على الأجور فإن ذلك مسقط لشخصية رجل الدين الذي يخدم المبادئ والمسيرة الحسينية.

وثالثاً: لا تنقل معلومة لم تتأكد منها بنفسك فإن إلقاء المسموعات ضعف للخطيب وإلقاء الحديث الموثق قوة له؛ وغيرها من الوصايا.

وكانت له (رحمه اللّه) وصايا وتوجيهات لمختلف شرائح المجتمع يكررها عليهم ولكن دون أن يكون فيها ملل لأحد منها وتكراره كان معتمداً على معلومات جديدة وإن كان العنوان الرئيسي أو الثانوي متكرراً.

الهجرة إلى مشهد المقدسة

عند اشتداد قصف المدن أثناء الحرب العراقية الايرانية، هاجر الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى مشهد المقدسة، بعد أن خرج من بيته وسكن لفترة في قبو حسينية ( دار الحسين (عليه السلام) ) في قم المقدسة ولم تكن محصنة إلا إن الظروف الأمنية الاضطرارية والقاهرة هي التي خلقت تلك الظروف الجائرة، ونحن طبقاً للضرورة هاجرنا إلى طهران مدينة (قرجك) فتناهت إلينا الأنباء بعد أيام إن

ص: 196

سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) قد وصل إلى مشهد المقدسة. عمت الفرحة في الأجواء وتحمست مختلف خلايا العمل المرجعي للالتحاق بالسيد المرجع هناك وحتى الذين لم يقرروا الإقامة هناك اندفعوا لزيارته (رحمه اللّه) بعد زيارة مولانا الرضا (عليه السلام) . كانت حركة نوعية وذات ثمار عديدة وخلق تغيير جديد وساحة عمل جديدة وهذه نتائج طبيعية للهجرة.

وصل الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى المهجر وتوجه قبل كل شيء إلى زيارة الإمام الثامن (عليه السلام) ثم إلى مقر حركته العلمية في الحوزة (مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ).

لم تكن المدرسة مكتملة البناء، ولم يكن قبوها الذي هو عبارة عن صالة اجتماعات بمساحة حوالي 200 م2، وكانت بحاجة إلى حركة متواصلة وجادة لانجاز البناء. وطلب من كادر البناء والمتعهد بذل قصارى الجهود لانجاز المشروع سريعاً مهما كلف الأمر، واستخرج تبرعاً من بعض التجار وانطلقت حركة البناء تحث الخطى وتم إكمال ذلك في خمسة طوابق خلال فترة قصيرة، وتم أيضاً بناء القبو وليتحمل البرامج ذات الطابع العام . وفور ما وصل سماحته إلى المشهد الرضوي المقدس انطلق في إعداد مقدمات العمل تدريساً وتأليفاً واستقبالاً للوفود وقضاء حوائج الناس وغير ذلك من أنشطة.

وذات مرة كنت في ديوانية سيدنا الراحل (رحمه اللّه) إذ دخل عليه رجل قصير القامة نوعاً ما ومعه فتى يافع له من العمر حوالي (15) عاماً، صافح سماحة السيد (رحمه اللّه) وقبّل جبهته وكلمه بكلام لم اسمعه فأشار إلي (رحمه اللّه) بيده اليمنى قائلاً: تعال يا شيخ ناصر! فأسرعت إليه، فقال: هذا الفتى واسمه (حسين) اسكنه في إحدى غرف المدرسة ونظم دروسه وأشرف على تربيته وتوجيهه، قلت: سمعاً وطاعة إنشاء اللّه تعالى.

ص: 197

جامع الإمام زين العابدين (عليه السلام)

وهو اليوم مركز علمي معتمد ومنذ حوالي ثلاثين عاماً وكان (رحمه اللّه) يدرّس فيه وفي بحث الأخلاق كان يحضر حوالي أكثر من ألف من طلبة وفضلاء الحوزة العلمية وهو مركز حوزوي تدرس فيه بحوث مختلفة وسماحة السيد المرجع يدرس بحثه الخارج فيه صباحاً في الساعة التاسعة كل يوم.

ص: 198

القسم الثالث

تأسيس الجمعيات

* لقد ألف الإمام الراحل (رحمه اللّه) كراساً تحت عنوان (تأسيس الجمعيات) واقترح وأكد على أهمية تأسيس (811) جمعية، بمعنى أنها نافعة وتساهم في نهضة الأمة الاسلامية وهي جمعيات علمية، تربوية، خدمية، انسانية، روحية، اجتماعية وفي كل مجال حيوي.

تعزية الاخرين

* كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يبعث برسائل التعزية إلى عميد الأسرة آنئذ الشهيد آية اللّه السيد محمد باقر الحكيم، ثم يأمر بإقامة الفاتحة على روح الشهيد السيد الحكيم (رحمه اللّه) أو الشهداء الآخرين وعلى روح آية اللّه العظمى السيد يوسف الحكيم (قدس اللّه سرهم).

فلم عن الايتام

الإعلام هو السلطة الرابعة في البلاد. وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يعتقد أن الإعلام هو القوة الأولى، فأي وسيلة إعلامية تستطيع توجيه الراي العام تتمتع بقوة هائلة تستطيع أن تفرض على الحكومات مواقف وقرارات معينة. وإن الفضائيات الحديثة التي تنادي بفكر أهل البيت (عليه السلام) كانت أمل الإمام

ص: 199

الراحل (رحمه اللّه) ومن طموحاته الحيوية وقد أكد عليها كثيراً. ولقد طلبني (رحمه اللّه) في اللقاء الأخير الذي لم أره بعدها وفي جلسة خاصة، قال: اعمل ثلاثة أعمال هامة:

الأول: تحرك على الجهات الممولة في الكويت، رجال مال وأعمال وتحدث معهم حول ضرورة تأسيس قناة فضائية تنطق باسم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وذكر لي اسم الوجيه الفاضل (الحاج علي الصراف) الكويتي الجنسية لغرض تحريضه على هذا المشروع.

الثاني: تحرك للقاء بالقادة السوريين والرئيس بشار الأسد لإقناعه حول تأسيس حزبين كبيرين إلى جانب حزب البعث ذي الهوية السنية أولهما شيعي العقيدة لتنظيم المواقف الشعبية الشيعية، والثاني علوي الهوية والعقيدة لتنظيم شباب العلويين في الساحل.

الثالث: تحرك للعمل في أوساط العلويين الأتراك حيث إن عددهم حوالي ثلاثة وثلاثين مليون (33000000) نسمة وهم في الأصل من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وهؤلاء مهمشون ومنسيون وهم قوة شيعية كبيرة.

وانني لم استطع القيام كاملاً بتلك الخطوات إلا أنني استقبتلها بإيجابية لكني لم استطع تبنيها. فالفضائية تأسست بعد وفاته بعام تقريباً (قناة الأنوار الفضائية) وذات الدور الثقافي الديني والإيجابي الكبير في المنطقة. وأذكر مثلاً عن دورها الإيجابي على صعيد التضامن الاجتماعي، حيث عرضت في إحدى الأيام فلما عن أسرة تضم أماً وخمسة أيتام في إحدى ضواحي البصرة، وقد ترك الفلم أثراً كبيراً في النفوس وقد جرت دموع منفذ البرنامج مرتين وهز عواطف المشاهدين. وأرى ضرورة المزيد من إنتاج هذه الأفلام الإنسانية والتي تبعث

ص: 200

الوعي في العقول والحرارة في النفوس وتثمر في النهاية مواقف خيرية لعون المستضعفين والمسحوقين.

وكان منفذ البرنامج قبل ذلك ملازماً للإمام الراحل (رحمه اللّه) وكادراً نشيطاً يعمل وفق أوامر وتعاليم من اتسم بالإخلاص والمثابرة والورع التي انيطت إليه في كل المجالات.

بحوث الخارج

أما بحوث الخارج فدرست الفقه حوالي عشر سنوات عند سيدنا المعظم الأستاذ الراحل (أعلى اللّه في الجنان درجاته) أكملت عنده مباحث الخمس والنكاح وإحياء الموات والبيع وغيرها، وقد قررت كل تلك الدروس، لكن صادرتها بعض أجهزة المخابرات التي كافحت أفكار ومواقف ومسيرة المرجع المذكور. ودرست الأصول (مباحث الألفاظ والمباحث العقلية) عنده، أيضا من جهة أخرى حضرت حوالي ثلاث سنوات بحوث الأصول عند سماحة آية اللّه العظمى الوحيد الخراساني.

العمل الإداري

في الليالي الأولى من إقامتي في قم المقدسة كنت ملازماً لصلاة الجماعة في منزل الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وكان من سيرته الإدارية عقد اجتماعات خاصة مغلقة بعد صلاتي المغرب والعشاء في غرفته التي تحولت الآن إلى موقع أثري فيه كتبه وعمامته وقلمه ودفتره والجرس الذي كان بواسطته يطلب الموظف الخاص، إضافة إلى فراشه المعهود والمسند الذي كان يتكئ عليه. كلها لقطات ذات معاني ودلالات تذكّر بأحداث تاريخ حافل جمع بين دفتيه حركة دائبة لحوالي ثلاثة

ص: 201

عقود من الزمن. جاءني الأخ جعفر اسلامي (حفظه اللّه) ذات ليلة بعد الصلاتين كانت الليلة الثانية من اقامتي في المهجر الجديد - قم المقدسة - فاجأني قائلاً: سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) يطلبك، قمت على الفور لإجابة الطلب ولا أعلم ما المطلوب؟ ولم استطع الحدس به.

تشكيل نواة للتنظيم

فتح المسؤول باب الغرفة فكان السيد الراحل (رحمه اللّه) جالساً ينتظر، وفور ما فتحت الباب قام واقفاً على رجليه ومستبشراً، سألني عن أحوالي ودروسي ووضعي الإداري، بعد ذلك بدأ بحديثه حول أوضاع الأمة الإسلامية بوجه عام وما تعانيه من مصائب ومحن.

تكلم في هذا المحور بإسهاب، ثم قال: ما هو الحل؟ كيف يجب أن نعالج الأوضاع؟ ثم أجاب هو عن السؤال قائلاً: إحدى أهم طرق العلاج تأسيس المنظمات الشعبية الثورية وتربية الكوادر القيادية والمنظمات هي التي تستطيع أن تصب طاقات النخبة وطاقات الحوزة والتجار والجامعات في مصب واحد ينتهي بالمآل إلى إصلاح الأوضاع العامة.

وتحدث في هذا المحور بإسهاب أيضاً. وأخيراً قال (رحمه اللّه) : التزم أنت في قم المقدسة إلى جانب مواصلتك للتحصيل العلمي، تأسيس منظمة اسلامية ثقافية سلمية تتبنى تربية الكوادر القيادية وتعمل في طريق إنقاذ الامة الاسلامية بوجه عام. قلت: هذا عمل أكبر من حجمي وبحاجة إلى جهود كبيرة وأنا أريد إكمال المراحل الدراسية في قم المقدسة ولهذا هاجرت إليها.

قال (رحمه اللّه) : إنك تستطيع تنفيذ المهمة وليس الأمر أكبر من حجمك.

زرع في نفسي الثقة وركز حديثه في هذا الأمر. أما إنه بحاجة إلى جهود كبيرة

ص: 202

فعليك بذل ما في وسعك بقدر استطاعتك في أيام تعطيل الدروس الحوزوية والأوقات الكثيرة، يومياً تبذل (8) ساعات للدروس و(4) ساعات لتأسيس التنظيم. قلت له: وهذه المهمة تكلف مبالغ طائلة من المال، أجاب: في المراحل الأولى لا حاجة إلى مبالغ طائلة ومع مرور الزمن يستطيع الكوادر استخراج المال من المجتمع. ثم أردف: إنني أتحمل تكاليف العمل حالياً.

زرع بكلماته بين جوانحي معنوية الإقدام على العمل الكبير وأشعل في نفسي الحماس. وانتهى الاجتماع بعد أن طلب مني الحضور ليلياً عنده بعد الصلاة، لكن لازالت الفكرة رغم أهميتها وحيويتها بحاجة إلى بحث وتحقيق. ودعته وخرجت فقام واقفاً احتراماً لي.

في الليلة الثانية راجعت سماحته (رحمه اللّه) وانعقد اجتماع ثانٍ وتحدث بصورة تفصيلية عن ضرورة العمل الثقافي في الأمة. واستنتج آخر البحث: ضرورة تأسيس منظمة تعتمد الفكر والثقافة منهجاً واستراتيجية ثابتة.

في الليلة الثالثة: تحدث عن ضرورة التزام السلم والاساليب اللينة والرزينة في العمل مع مختلف الشرائح داخل التنظيم وخارجه.

وفي الليلة الرابعة تحدث عن ضرورة الاهتمام التنظيمي برجال المال وأساليب التأثير عليهم.

وفي الليلة الخامسة: تحدث عن ضرورة شورى الفقهاء المراجع وأنها هي القادرة على إنقاذ الأمة باعتبارها قيادة روحية لها، وأكد كيف أن التنظيم يستطيع نشر هذا الوعي والتمهيد لقيام الشورى المرجعية.

وهكذا استمرت الاجتماعات وفي كل ليلة يطرح عنواناً خاصاً ثم يناقش فيه وينتهي الاجتماع بضرورة تشكيل تنظيم. فاقتنعت كاملاً واتخذت القرار،

ص: 203

قرار تأسيس منظمة داخل الحوزة وفي صميم مدرسة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ومن تلامذته ومقلديه.

قرار التأسيس

تقرر تأسيس نواة للتنظيم الثوري السلمي، وبدأت بعد المشورة مع سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ونجله البكر السيد محمد رضا (رحمه اللّه) ، بسلسلة لقاءات فردية في داخل مكتب سماحته ليلياً بعد الصلاتين فالتقيت أصحاب السماحة: الشيخ حسن عبد الهادي والشيخ فاضل الصفار والشيخ جلال معاش والشيخ جعفر الحائري، وبعد المداولات الفردية معهم حول ضرورة العمل المرجعي، ولزوم الاجتماعات المنتظمة للتداول والتشاور في مجمل قضايا الحوزة والمرجعية وغيرها. ثم انتظمت الاجتماعات في صبيحة أيام الجمع في منزلي الواقع في نفس الزقاق الذي يقع فيه مكتب سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) . فكنا نتناول فطورنا أولاً في الساعة الثامنة وبعدها أبدأ أنا بافتتاح الاجتماع وإدارته وطرح العناوين، ويبدأ الحوار وبعد ذلك في الساعة (11) ينتهي الاجتماع ونتوجه إلى مكتب سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) بصورة فردية هادئة دون أن يشعر أحد بشيء.

وفي هذا الاجتماع تقرر تأسيس نواة التنظيم وتم تأسيسه. وكان هناك حوالي عشرين شاباً حوزوياً من إخوتنا، هؤلاء تم توزيعهم على أعضاء الهيئة العليا للتنظيم وفي مختلف الأحداث والقضايا يوجه الآخرون بواسطة أعضاء الهيئة. وكان من الأنشطة الشبابية تنظيم محاضرات كل أسبوع أو أسبوعين أحياناً في غرفة السيد الراحل (رحمه اللّه) ويحضرها كل المجموعة العشرين، وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) يطرح سلسلة أفكاره الإسلامية النيرة الرائعة، كل اجتماع يطرح حلقة منها، وكان يثقف الشباب ثقافة عصرية إسلامية ويعلق على الأحداث

ص: 204

العالمية والمحلية، وينتقد السلطة بصورة منطقية ووفق أسس علمية وشرعية.

كما كان يركز حول أوضاع العراق، البلد والوطن المستباح من قبل طغاة حزب البعث الدموي. وقد غرز من خلال تلك المحاضرات أجمل وأروع الأفكار في هؤلاء الشباب الحوزويين المخلصين. وفي اجتماع أيام الجمعة كانت تطرح وتخطط برامج الانتخابات في حوزة السيد المرجع.

وكانت تتخذ قرارات الملتقيات والمؤتمرات الخطابية وقضايا العلاقات مع مختلف شرائح الحوزة والمؤسسات وكيفية إسناد (بحث الخارج) الذي يلقيه علينا الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، والتخطيط لكيفية كسب الرموز وعلاج المشكلات وكثير من القضايا، ومنها الإدارة والتعبئة للمجلس الحسيني العربي المسائي في منزله وغير ذلك من أمور.

وقد ناقشنا وكتبنا نظاماً داخلياً للتنظيم. وكان في الأوساط الحوزوية يطلق على هؤلاء الشباب بأنهم (مجموعة الشيخ ناصر)! من جهة أخرى كانت جهات محافظة تتحسس حول حركتنا مع أنها لم تعلم بوجود مجموعة منظمة لكن موقفها كان سلبياً. أما نحن فكانت سياستنا احترام الجميع واستيعابهم حتى لو كان معارضاً لنا ويعمل بالضد منا.

وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يتعامل مع هؤلاء الشباب من خلال هذا التشكيل الجديد، فحين أراد بعثهم إلى التبليغ أو تعميم بعضهم أو تقديم هدية مناسبة معينة أو إبلاغهم بقرار معين، كان (رحمه اللّه) يطلبني ويخول الأمر لي، وأنا بدوري كنت أتواصل مع الإخوة الشباب وأبلغهم الأمر.

وبالمقابل لو كان اقتراح لدى بعضهم أو رسالة أو حاجة مادية أو يطلب لقاءً خاصاً كنت أنا أتابع الموضوع وانجزه له. وكان السيد محمد رضا (رحمه اللّه) أستاذاً

ص: 205

ومدرساً لهؤلاء الشباب ويحثهم دوماً خلال توجيهاته التربوية إلى التعاون معي والتنسيق في مختلف الأمور وكان أحياناً يحول هؤلاء الشباب وأمثالهم إليّ لإمضاء البرامج ودفعها إلى الأمام.

الانشطة المكتبية

كانت مجموعتنا سنداً لمشاريع مكتب سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) ومما كنت أنا والمجموعة نؤديه من أعمال:

1. العلاقات مع الشخصيات العربية الحوزوية وهم: العراقيون أولاً ثم السعوديون والبحرينيون والخوزستانيون واللبنانيون. فكنا نزور بعضهم في منازلهم أو في حسينياتهم أو مدارسهم. ومن الحسينيات التي كنا نرتادها ونقدم لها دعماً سنوياً في عاشوراء، حسينية الإمام الصادق (عليه السلام) لأهالي البصرة، وحسينية أهل البيت (عليهم السلام) لأهالي العمارة، والحسينية النجفية، وحسينية وجامع الشهيد الصدر (رحمه اللّه) ، وحسينية أهالي الرميثة، وحسينية أهالي الناصرية وغيرها، كما كنا نتزاور مع مدرسة الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين (رحمه اللّه) (1) وهي خاصة لمجموعة من الطلبة اللبنانيين. وكانت بعض مفردات هذه العلاقات تفصيلية وفيها تبادل للزيارات ومداولات لقضايا مختلفة.

2. إدارة ومتابعة شؤون مدارس السيد الراحل (رحمه اللّه) وأهمها حينها مدرسة

ص: 206


1- وهو عاملي الأصل عراقي المولد. تربّى في كنف والده السيّد يوسف شرف الدين وجده السيد هادي الصدر وتتلمذ عليهما في المقدمات. اعتنى السيد بتعليم الناشئة فأسس المدرسة الجعفرية في العام 1938 م، كما كان له الدور الأساس في بناء مدرسة الزهراء (عليها السلام) . له ما يقارب الثلاثين مؤلفاً بين كتاب ورسالة وغيرها، من أهمها المراجعات والمجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وغيره من الكتب.

جابر بن حيان ومدرسة الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . وإدارات هذه المدارس كانت محفوفة بالأزمات والمتاعب وفي ظروف اقتصادية وأمنية صعبة.

3. مد جسور التواصل والرعاية الممكنة للشخصيات العربية في الحوزة، وكنت أنظم المواعيد واللقاءات مع جملة من الشخصيات، منها على سبيل المثال لا الحصر أصحاب السماحة: الشيخ مهدي الآصفي(1) حيث كان عائداً من لندن في سفرة علاج فنظمت معه لقاء مع سماحة آية اللّه السيد صادق الشيرازي (دام ظله) الذي كان يمثل أخاه السيد الأستاذ الراحل (رحمه اللّه) في هذه الزيارات، رافقت سماحته لزيارة الآصفي وأتذكر أن السيد (دام ظله) طرح على الشيخ حينها التزام الحجامة لأن الشيخ يعاني من مشاكل في القلب وتقرر في آخر اللقاء أن التزم موضوع الحجامة للشيخ، فاتفقت مع الوجيه الحاج صادق خوشحالت الذي كان حينها لحسن الحظ في قم المقدسة قادماً إليها من يزد، فنظمت موعداً وأخذته إليه، وأجرى له الحجامة في غرفة مكتبه وأنا حاضر فيها. بعد أيام رد الشيخ الزيارة وزار سماحة آية اللّه السيد صادق الشيرازي (دام ظله) في منزله والذي تحول بعد رحيل السيد الاستاذ الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى دار ضيافة يستقبل فيه وفود وضيوف المرجعية. ونظمت زيارة للشيخ الكوراني (حفظه اللّه)(2) وكانت فاتحة

ص: 207


1- ولد عام 1358 ه- بمدينة النجف الأشرف. اتّجه نحو الدراسة الحوزوية في مدينة النجف الأشرف، كما نال شهادة الماجستير بالعلوم الإسلامية من جامعة بغداد. له عدة مؤلفات.
2- هو رجل دين شيعي إثنا عشري اشتهر بظهوره إعلامياً في النقاشات والحوارات بين الشيعة والسنة. كما اشتهر في أوساط الشيعة ببحوثه حول الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) وذلك بكتابيه (عصر الظهور)، و(المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) ). يواصل عمله في التأليف والتدريس في حوزة قم المقدسة، وله مشاركات في مجلات البحوث.

خير أيضاً، وذلك لتوترات حدثت في الكويت بين الشيخ ومرجعية الإمام الراحل (رحمه اللّه) . وكان الشيخ حينها منكباً على كتابة موسوعة فقهية أو معجم فقهي لا أتذكر الموضوع, وقال حينها إنني لم أجد بحثاً مستفيضاً في كتاب (إحياء الموات) كما وجدت ذلك في موسوعة (الفقه) للسيد الراحل (رحمه اللّه) وقال: لا أملك هذه الموسوعة وطلبها من سماحة السيد صادق (دام ظله) وكلفت أنا بالأمر فهيأت الموسوعة وبعثتها إليه وكان في مشروعه الفقهي قد نسق مع مكتب المرجع الراحل السيد الكلبايكاني (رحمه اللّه) . ونظمت لقاءً خاصاً مع سماحة الشيخ باقر الناصري وكنت أرافق سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) في زياراته مع هؤلاء الرموز وأشاهد الحوارات التي تجري بينهم. وكان سماحة السيد صادق (دام ظله) يهتم بزيارة الخطباء العرب كالشيخ المالكي والسيد جابر الآغائي والشيخ عبد الأمير المنصوري وغيرهم. وهذه المهمة كانت دقيقة وذات أهمية كبيرة كنت أنا أتحمل جانباً من المسؤولية فيها.

4. رعاية جمع من تلامذة السيد الأستاذ الراحل (رحمه اللّه) من العرب وغيرهم الذين يواظبون على حضور بحث الخارج.

5. رعاية الوفود القادمة من خارج البلاد من السعودية أو لبنان أو غيرها ومن داخل البلاد أيضاً. وكان عليّ في كثير من الأحيان استضافتهم وعقد الاجتماعات معهم والتنسيق والمتابعة معهم.

6. التنسيق مع شرائح من المعارضة العراقية ورعايتهم بما فيهم بعض من شيوخ العشائر.

7. التنسيق مع (التوابين) وهم الأسرى العراقيون الذين أطلق سراحهم من السجون الايرانية.

ص: 208

8. التنسيق مع ثوار الانتفاضة الشعبانية الذين لجأوا إلى ايران.

9. العمل لفصل الخصومات أحياناً.

10. العمل مع لجنة الافتاء في الإجابة على الاستفتاءات العربية.

11. التزام شؤون رواتب العرب الخاصين وغيرهم.

صلاة الجماعة في مكتب السيد الاستاذ (رحمه اللّه)

كان منزل الإمام الراحل (رحمه اللّه) مركزاً اجتماعياً ذا أهمية بالغة، وكانت صلاة الجماعة المسائية هي عنوان التجمع العام لكل الكربلائيين والمنتمين إلى مدرسة السيد الأستاذ الراحل (رحمه اللّه) ، إلا هؤلاء الذين تمنعهم إعذار خاصة بهم من الحضور، لكنهم وأمثالهم كانوا أحياناً كثيرة يزورون منزله في أوقات متعددة.

في أيام الجمع كان المصلى يضيق على سعته بالمصلين، وطالما كنا في قم المقدسة فقد كان السيد الأستاذ الراحل (رحمه اللّه) هو إمام الجماعة خلال سبع أو ثمان سنوات خلال مدة إقامتنا في قم المقدسة وقبل الهجرة منها، وبعد انقطاعه لتظافر مسؤولياته كان سماحة اية اللّه الشيخ حسين الفدائي هو الإمام للجماعة، وقبله كان سماحة الحجة الشيخ غلام حسين الإسلامي (رحمه اللّه) هو الذي يؤم الجمع.

الصورة

وهذه الصلاة الكبيرة كانت مجمعاً للعمل والعلاقات، فالمواعيد كانت تبرم بعدها وقبلها وتنفذ كذلك،

ص: 209

والاجتماعات تنطلق منها، ومتابعة أعمال وأنشطة الشباب والمؤسسات والأفراد كانت تنفذ قبلها وبعدها، وتلقى المحاضرات أحياناً في أيام الأربعاء وغيرها وكثير من الأنشطة الأخرى كانت كذلك. فصلاة الجماعة كانت عبارة عن ملتقى اجتماعي وديني وتنظيمي على مستوى كبير من الأهمية.

المجالس الحسينية

منذ أول يوم من محرم إلى الثالث عشر منه وفي أيام وفيات المعصومين (عليهم السلام) كانت تقام مجالس حسينية صباحية باللغة الفارسية ويرقى المنبر ثلاثة أو أربعة من رموز المنبر الحسيني في قم المقدسة.

الجلسات الهادفة

في كل يوم قبل الدرس وبعده في أيام التحصيل الدراسي، كان السيد الأستاذ الراحل (رحمه اللّه) يستقبل الخواص، وفي الفترة المسائية قبل المغرب بحوالي ساعتين، تتوزع بواقع ساعة للمواعيد الخاصة والساعة الأخرى لاستقبال عموم المراجعين. أما في الفترة الليلية فقد كان (رحمه اللّه) يستقبل المراجعين بصورة خاصة.

كان شعار الإمام الراحل (رحمه اللّه) وسلوكه في ذلك، سيرة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) حيث كان هؤلاء يبذلون وقتهم وطاقتهم للأمة، ولم يكن أحد من المسلمين يعاني من محذور فيما لو قرر اللقاء بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو أحد الائمة المعصومين (عليهم السلام) . فكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكأنه ليس له شيئاً لحاجات نفسه إلا ما لابد منه وعبادة الليل، أما غير ذلك فهو لكل الناس حيث لا حجّاب ولا بوابون ولا موانع وشروط وقيود.

كان سيدنا الأستاذ (رحمه اللّه) في أيام تعطيل الدراسة الحوزوية، يستقبل

ص: 210

المراجعين والنخبة وغيرهم خلال ساعتين قبل الظهر، وساعتين قبل المغرب، وساعتين تقريباً بعد صلاتي المغرب والعشاء، أما في غير ذلك من الأوقات فكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يستجيب للناس، ولكن ذلك منوط بضرب موعد معين أو أن المسؤول في المكتب يتصل بسماحته وينقل له طلباً باللقاء.

ولقد شاهدته مراراً كثيرة يخرج صبيحة الجمعة مبكراً في الساعة السادسة أو السابعة لاستقبال مراجعين لغرض طرح قضية معينة تهمهم. وأحيانا يجري عقود النكاح في مثل تلك الأوقات، وكنت أشترك معه حسب طلبه لإجراء العقد وكالة عن الزواج.

أذكر ذات مرة وكنت في المكتب إلى وقت متأخر من الليل في فصل الشتاء لتزاحم العمل وتراكمه، فوجئت بورود شيخ غريب ألقى التحية! فأجبته ثم أردف: هل يمكنني اللقاء بسماحة السيد محمد الشيرازي؟ استغربت وقلت: أفي مثل هذا الوقت؟ قال: الآن وصلت من طهران! قلت له: غداً إن شاء اللّه، قال: أريد السفر حالاً إلى تبريز في أذربيجان، ترددت أمام إصراره، ماذا أصنع؟ وكان لا يصعب عليّ رده، لكني توكلت على اللّه تعالى وقررت الاتصال بالسيد الراحل (رحمه اللّه) على مضض، رفعت سماعة التليفون وطلبت الرقم الداخلي الخاص بسماحته، فأجاب (رحمه اللّه) على النداء فوراً فسلمت عليه، فبادرني قائلاً: لازلت إلى هذا الوقت في المكتب؟ ماذا تعمل؟ قلت له: بعض الأعمال والحسابات لم استطع طوال النهار من إتمامها للانشغال بأعمال أخرى، ثم قال: تفضل ماذا تريد؟ نقلت له أمر الشيخ المراجع في ذلك الوقت، وأنه وصل للتو ويريد السفر ليلاً، فقال (رحمه اللّه) : قل لجعفر إسلامي - موظف مساعد لسماحته - ليفتح باب الغرفة - الخاصة بسماحته - ويقدم الشاي للضيف وسأخرج إليه. وفعلاً

ص: 211

لم تمض إلا أقل من خمس دقائق وفتحت الباب الداخلية لغرفة سماحته ودخل مستقبلاً ضيفه وعقد جلسة عمل معه، أما أنا فتركتهما وذهبت لإنهاء عملي ثم خرجت من المكتب.

لقد كان (رحمه اللّه) يستجيب سريعاً للمواعيد والمراجعين ويستمع إليهم ويحاورهم ويقدم توجيهاته وينسق معهم في أي وقت من الأوقات. وما ذكرته في نظام لقاء الإمام الراحل (رحمه اللّه) بالمراجعين إنما هو الأصل، أما الاستثناءات فهي في العمل المرجعي وهي أصل آخر ونسبتها كبيرة ومصاديقها كثيرة، وكم مرة أتذكر إنني كنت في بحث مع سماحة السيد الرضا (رحمه اللّه) في غرفة الإمام الراحل (رحمه اللّه) الخاصة في غير وقت دوامه، وإذا بنا نفاجأ في الساعة الثالثة والنصف أو الرابعة عصراً في الصيف أو الشتاء، وإذا بالباب الداخلية تفتح ويدخل سماحته (رحمه اللّه) في الغرفة ونحن فوراً نغلق الكتب ويطلب منا أحياناً أن نبقى جالسين لاستقبال الضيف أو الوفد القادم.

أما ماذا كان يجري في الاجتماعات فأن غرفة الإمام الراحل (رحمه اللّه) تعني (المركز القيادي المرجعي الأول في العالم)، تلك الغرفة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 6 - 8 أمتار فقط، كانت تمثل مركز الإنطلاق والقيادة وممارسة مرجع كبير جل مسؤولياته وواجباته فيها.

كانت تلك الجلسات اليومية الحرة داخل الغرفة المتواضعة غاية التواضع، هي الموجهة للحركة الثقافية والعلمية والإعلامية والحسينية وغيرها. أتذكر أن ما كان يجري فيها هو ما يلي على نحو الإجمال والتركيز:

1. المراجعون من ذوي الحاجات الإنسانية، خاصةً من علماء وطلبة الحوزة العلمية، يلتقون بالإمام الراحل (رحمه اللّه) ويطرحون مواضيعهم ويقرر

ص: 212

سماحته ما يلزم تجاههم.

2. إبداء نصيحته لمن يريد مشورته في موضوع يهمه.

3. نفس سماحته (رحمه اللّه) لو أراد المشورة في موضوع معين، كان يلتقي مستشاريه وطلبته ورجال مكتبه في تلك الغرفة وتعقد اجتماعات منتظمة أو حرة وآنية.

4. لو كانت لدينا مشكلة نبحث عن علاجها بالتعاون الفكري مع سماحته (رحمه اللّه) .

5. مناقشات فكرية وفقهية وروائية ولغوية وغيرها.

6. نقل الملاحظات حول كتاب أو مشروع أو موقف معين إلى سماحته (رحمه اللّه) .

7. نقل الأخبار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمرجعية إلى سماحته (رحمه اللّه) .

8. من يراجع لمسالة فقهية كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يجيبه.

9. من يراجع ومعه حقوق شرعية يريد تسليمها بيد سماحته (رحمه اللّه) ، لأن بعض الناس لا يطمئنون إلا بوضع حقوقهم بين يدي سماحته خصوصاً، فكان دفتر الايصالات بجنبه يسجل فوراً الايصال ويطبعه بخاتمه ويسلمه للمراجع.

10. عقد اجتماعات العمل مع أعضاء المكتب للتخطيط والتنفيذ لمختلف برامج المكتب.

11. ورشة عمل للمناقشات الفكرية حول (شورى الفقهاء) أو (التعددية الحزبية) في إدارة أمور البلاد أو شؤون الحرب والسلم وشؤون الاقتصاد وقضايا العالم الإسلامي وغيرها. وحين اندلعت الانتفاضة الشعبانية في العراق عام

ص: 213

1991م، تحولت غرفة الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى مركز لغرفة العمليات، وكانت تعقد الاجتماعات الطويلة كل ليلة من شهر رمضان المبارك لغرض التحرك لإسناد الانتفاضة ولاستيعاب الملايين الذين شردوا من الوطن ولجأوا إلى جنوب وغرب ايران.

12. إلقاء المحاضرات أحياناً.

13. إجراء عقود النكاح في بعض الأحيان، وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يقدم نصائح للزوج ويطلب منه مثلاً: أن لا يغضب على زوجته خمسين سنة.

14. يعمم شباب الحوزة.

15. مناقشة الأوضاع السياسية في العراق وغيره مع رجال الحركات الإسلامية أو النخبة من تلامذته، أو أعضاء المكتب، ومثل هذه المناقشات كانت تستتبع أحياناً باتخاذ قرارات معينة تهم الوضع السياسي كزيارة جهة متصلة بالموضوع أو كتابة بيان وإصداره للساحة أو غير ذلك.

16. اجتماع علمائي حر يعقد في صباح كل يوم جمعة وخميس يحضره طبقة الأساتذة، تطرح فيه مختلف المسائل الشرعية والأصولية والروائية والتاريخية، وكان الفقيد الراحل آية اللّه الشيخ محمد علي (المدرس الافغاني) يحضرها ويقول: إنني أحضر في جلسات السيد الشيرازي ونيتي تقوية مرجعيته. وكان الشيخ الافغاني يعتقد أن السيد الراحل (رحمه اللّه) هو المرجع الأكفأ الذي يلزم أن يتوجه الناس إليه في التقليد. وكان يصرح بمعتقده هنا وهناك في هذه الغرفة.

17. في إحدى الأيام كنت أنا وحولي عشرة من أعضاء المكتب وخواص الأصدقاء ومعنا فضيلة الشيخ عزيز اللّه المحقق، وكنا قد حضرنا في أول الليلة للسلام على الإمام الراحل (رحمه اللّه) والمباركة له بالصهر الجديد وهو سماحة السيد

ص: 214

حسين الشيرازي (حفظه اللّه)، قال الشيخ المحقق: سيدنا من المستحب في الأعراس الأطعام! كيف تزوجون كريمتكم ولا تطعمون ولا تقيمون وليمة؟ قال (رحمه اللّه) : نعم يلزم ذلك .. فقرع الجرس الخاص بندائه للموظف المختص (جعفر إسلامي) ففتح الباب فوراً وقال: نعم سيدنا؟ قال سماحته (رحمه اللّه) : اطلبوا من المطعم الغذاء لعشرة أشخاص، ونفذ الموظف ماطلب منه. فاستأذن بعدها سماحته (رحمه اللّه) وذهب إلى داخل المنزل، ولم يمض شيء من الوقت إلا وفرش السماط ووصل الطعام وكان كما يعبر عنه في المطبخ الايراني (جلو مرغ) أي الرز والدجاج.

18. طلبني الإمام الراحل (رحمه اللّه) مرة بعد الصلاتين مساءً، وجلست أمامه في الجانب الأيمن على غير المعتاد، لأنني كنت أجلس بجنبه دائماً، وكان ضيوفه يجلسون على يساره فيكون مجلسه (رحمه اللّه) دونهم ويجلسهم أرفع رتبة من مجلسه. بعد حوالي دقيقتين فتحت الباب ودخل شاب لا أعرفه فقام السيد الراحل (رحمه اللّه) إحتراما له، فانفجر الشاب باكياً وطال بكاؤه، وقد حاول الإمام الراحل (رحمه اللّه) تهدئته دون جدوى، وبعد أن هدأ أخيراً بعد محاولات متعددة، جلسنا جميعاً وجيء إليه بالشاي ثم بدأ حديثه خجولاً مفجوعاً قائلاً: أعتذر من سماحتكم وأرجوا أن تعفوا عني وتغفروا لي.

قال السيد الراحل (رحمه اللّه) : وما ذاك؟ قال: إنني كنت منتمياً لجهة مخاصمة لكم وكانت مسؤوليتي أن أشوه سمعتكم وأين ما وجدت صورة لكم أمزقها وأشوهها في الشوارع والأزقة.

سأله السيد الراحل (رحمه اللّه) عن محل سكنه؟ قال: مدينة إصفهان، وسأله عن مستواه العلمي؟ قال: خريج جامعة المستنصرية في بغداد واختصاصي

ص: 215

الاقتصاد، ثم أضاف الشاب قائلاً: إنه قد انفصل عن الذين كان يعمل معهم. قال له السيد (رحمه اللّه) : تواصل معهم ولا تدخل في نزاع.

ثم طلب سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) من موظف مسؤول أن يجلب إليه نسخة من كتاب (الفقه - الاقتصاد) ذهب الموظف ورجع قائلاً: نفذت كل النسخ! قال سماحته (رحمه اللّه) : إذن نسخة من كتاب (الفقه - السياسة) فجيء به وأهداه للشاب وطلب منه أن يؤلف بعض الكتب لخدمة الإسلام والمسلمين ثم ودع وخرج ليرجع إلى إصفهان.

مثل هذا الموقف قد تكرر كثيراً مع غير هذا الشاب وأمثاله الكثير. وعموماً كان سماحته (رحمه اللّه) يقابلهم بالحلم والصفح والعفو ثم الاحترام وإهداء الكتب وتوجيه النصح إليهم.

19. بين فترة وأخرى كانت اجتماعات مؤسسة (جواد الأئمة (عليه السلام) للإقراض الخيرية) تعقد مع سماحته (رحمه اللّه) والمرحوم السيد علي الفالي والهيئة الإدارية في نفس الغرفة. كما أن قادة الحركة الثورية في افغانستان منهم الشهيد الشيخ المزاري (رحمه اللّه) وأقرانه يجتمعون مع سماحته (رحمه اللّه) في نفس الوقت في الغرفة المتواضعة.

كما أن كبار الشخصيات العلمية والمرجعية مثل آية اللّه السيد رضا الصدر وآية اللّه العظمى المرجع الديني الكبير المرعشي النجفي والشيخ المنتظري وغيرهم كانوا يلتقون سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) بين فترة وأخرى في نفس الغرفة، وأكثر الصور الملتقطة لسماحته (رحمه اللّه) مع الشخصيات الكبيرة تلك المذخورة في الأرشيف والمنشورة أيضاً، اغلبها التقطت في غرفته.

ومن الذكريات مع هذه الغرفة الصغيرة إنني مع أقرباء زوجتي والأخ

ص: 216

العزيز الراحل السيد عباس الرضوي (رحمه اللّه) وعدة من الأصدقاء والأقرباء التقينا في هذه الغرفة عصر يوم الغدير عام 1980م، وأجرى لي سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) عقد الزواج، فأخذ الوكالة من زوجتي وأنا بدوري وكلت السيد عباس فأجرى سماحته صيغة عقد القران على مهر قدره ألف دينار عراقي غائباً وحج بيت اللّه الحرام عند القدرة والاستطاعة ونسخة من كتاب اللّه العزيز حاضراً، وقد وفيت بها عليّ وأعطيت زوجتي مهرها الحاضر وأما الغائب فتبرعت به لتأسيس مضيف الحوراء زينب (عليها السلام) في الشام حي السيدة زينب (عليها السلام) ، وأما الحج فقد حججت معها مرتين، مرة من الشام وأخرى من العراق.

وقد أهدى إلي سماحته (رحمه اللّه) حينها ظرفاً يحتوى على أربعة الآف تومان ايراني وكانت تعادل حوالي ثلاثمائة دولار، كما أنه كان يقدم لي الهدايا عند ولادة كل وليد جديد، فأهدى لي بعد ولادة إبنتي البكر ألفا وخمسمائة تومان أما الهدايا الأخرى فلا أتذكر مقاديرها.

وفي إحدى زيارات الشيخ المنتظري لسماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) أول الليل بعد الافطار في شهر رمضان وقد رافقته كتيبة أمنية انتشرت في المنطقة وعلى فوهات السكك والطرق فالتقى شخص من تيار آخر منافس لنا بأحد إخوتنا - أظنه الشيخ جعفر الحائري - وقال له: استهدف بيت السيد الشيرازي هجم عليه الحرس الثوري! وكانت القضية تشويشاً واشاعة سوداء مغرضة.

أعمدة المرجعية

استندت مرجعية الإمام الراحل (رحمه اللّه) أولاً وقبل أي فرد وجهة على أخيه سماحة آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) ، والذي خلفه في حمل راية

ص: 217

المرجعية الشيرازية، وهو شخصية علمية فذة يعتقد جمع من أهل الخبرة من المجتهدين المحققين بأنه أفقه أهل زمانه، وكتبه الدقيقة العميقة مع غزارة الفروع والاحاطة في الاستدلال تشهد بذلك، فكتاب (بيان الفقه) بمجلداته العديدة

و(بيان الاصول) بمجلداته العديدة أيضاً، ومنها (قاعدة لا ضرر) وكتاب (الاجتهاد والتقليد) الذي طبع للمرة الأولى عام 1976م قبل 35 عاماً اعتمد عليه من اعتقد بأعلمية سماحته (رحمه اللّه) آنذاك منهم العالم الرباني الراحل الشيخ محمد الهاجري (رحمه اللّه) .

الصورة

وسيدنا الصادق (دام ظله) كان يمثل الساعد الأيمن للسيد الراحل ويتصدى لكل مهمة معقدة، ومن مسؤولياته الأساسية إدارة دفة العلاقات المرجعية على أعلى مستوى مع كبار المرجعيات في قم المقدسة وكبار الأساتذة والشخصيات الحوزوية، وكانت الحوزة العلمية بإجماع رموزها مؤمنة بالوزن العلمي الرصين له، وهو في علاقاته على درجة عالية من الوعي والحنكة والخلق السامي ودقة المواعيد وإدارة البحث، ومن عاداته (دام ظله) إنه كان مجرد أن يستقر به المقام أن يطرح بحثاً فقهياً خصباً ويأخذ بزمام النقاش وتسير عقارب الساعة وهو يركز البحث أكثر فأكثر ومع انقراض ثلاثين دقيقة يكون قد أدى الواجب في الزيارة والحديث. وأي عالم كان يزور الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان يأمر سماحته بأخذ عنوانه ورقم هاتفه لتنظيم موعد وزيارة سماحة السيد صادق (دام ظله) له. وكذلك من مسؤولياته تولي المهمات الكبيرة في جهاز السيد الراحل (رحمه اللّه) وهي ضخ

ص: 218

الروح المعنوية في أعضاء المكتب وكوادر العمل في كل مكان حيث الكثيرون يعانون من أزمات سياسية أو اقتصادية مستعصية وتقل لديهم الحيلة ويعجزون عن العلاج، فكانت زيارتهم لسماحة السيد الصادق (دام ظله) كافية لتجديد عزمهم وإصرارهم على مواصلة الدرب اللاحب.

ذات مرة عصفت بنا أزمة اقتصادية قاسية، واجتمع أعضاء المكتب وبحثوا الأمر تفصيلاً ولكن دون جدوى. فاتفقت كلمتهم على طرح الموضوع على سماحة آية اللّه السيد صادق (دام ظله) فانتدبني المجتمعون ومع سماحة الشيخ المجاهد لزيارة السيد صادق (دام ظله) وطرح الموضوع معه.

نفذنا القرار، اجتمعنا بسماحته في منزله الخاص والذي تحول الآن إلى دار ضيافة. بحثنا الموضوع معه، كان رأيه تحمل مصاعب المرحلة لحين اجتياز الأزمة وقال ضمن ما قال: (كما إنكم تجتمعون لعلاج الأزمة الاقتصادية سيأتي يوم تجتمعون فيه للتخطيط لصرف الأموال الواردة إلى ميزانيتكم المرجعية).

أيقظ الروح المعنوية فينا من جديد ودفعنا إلى العمل.

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) قد اتفق مع العديد من أعضاء المكتب الناشطين أن يراجعوا آية اللّه السيد صادق (دام ظله) فيما لو اصطدموا بمشكلة اقتصادية، ولم يعالجها سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) إلا نسبياً. فمثلاً لو أردنا إعطاء مبلغ ما لمن يريد السفر إلى خارج البلاد خمسين ألف تومان، وقدم سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) عشرين ألفا وهي دون مستوى ذلك المبلغ، كان السيد الصادق حفظه اللّه هو الذي يكمل الباقي. وهذا الاتفاق قد حل كثيراً من مشاكل الأعضاء الاقتصادية.

إجمالاً كان آية اللّه السيد الصادق (دام ظله) بمثابة رئيس الوزراء في المرجعية

ص: 219

ولكن دون ظهور وبروتوكولات وإعلام. وكان ذائباً في مرجعية أخيه الراحل (رحمه اللّه) وباذلاً كل طاقاته في إدارة الأمور والتزام أي أمر صعب ومعقد، وملازماً لجلسات أخيه يومياً وإن أعذر في يوم ما، ففي اليوم التالي يلزم نفسه مهما كانت الظروف للحضور إلى مجلس أخيه.

ذات مرة كنت على موعد معه وما إن استقر بنا المقام ولعدة دقائق قام معتذراً ومؤكداً لزوم وضرورة الحضور عند الإمام الراحل (رحمه اللّه) واتفق معنا على موعد آخر.

أعمدة مكتب سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه)

1. العلامة الحجة السيد محسن الخاتمي (حفظه اللّه) عالم فاضل ،واستاذ في التفسير، وكادر قيادي ومجاهد مخلص، وتاريخه حافل وهو من تلامذة الشهيد آية اللّه السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) والإمام الراحل (رحمه اللّه) .

يتميز بحدة الذكاء وقوة الحجة وفن المفاوضات وكثرة الانتاج والحكمة في اتخاذ القرار. هو من رموز المدرسة الشيرازية الشريفة، ومن المتفانين في العمل للإسلام والمسلمين ومدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ويتقن فن العلاقات الناجحة كل اتقان، وطبيعته الانفتاح الإيجابي على الجميع. مظهره الخارجي منظم ويتميز بالرزانة والوقار لدراساته الحوزوية إلى بحث الخارج ثم نزل ميدان العمل بكل جد ومثابرة.

كان صاحب قرار ورأي ذو وزن في المكتب ويعتمد عليه سيدنا الراحل (رحمه اللّه) في كثير من الأمور، منها:

تأسيس وإدارة مدرسة (جابر بن حيان الكوفي)، وكان دوره استراتيجيا وأنتج بعد مرور فترة من الزمن جيلاً من المبلغين والخطباء والأساتذة والكتاب،

ص: 220

وكانت إدارة تلك المدرسة الحوزوية الحضارية أمراً في غاية الصعوبة.

ومنها إدارة الشؤون السياسية والارتباط بقادة المعارضة العراقية وبعض رموز النظام الايراني للضرورة، وقد تصدى لتأسيس (حركة الجماهير المسلمة) بالتنسيق مع سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) وأعمدة مكتبه.

وكانت هذه العملية محفوفة بالمتاعب وفي طريقها سلسلة من العقبات والمطبات، فتصدى بكفاءة وأدى مسؤولياته على أحسن وجه.

وكان يدير أعضاء المكتب ويحل مشكلاتهم وخلافاتهم أحياناً، ويرعى ويشرف على مؤسسات السيد الأستاذ الراحل (رحمه اللّه) ويهتم بشؤون رموز الحوزة العلمية ويجلس في غرفته المجاورة لغرفة سماحة السيد الاستاذ (رحمه اللّه) لإدارة الأمور.

بعد فترة من الزمن في عام 1980م تحمل مسؤولية إدارة خط ومؤسسات السيد الراحل (رحمه اللّه) خارج ايران، فهاجر إلى سورية واستلم مسؤولية إدارة الحوزة العلمية فتقلد منصب العمادة فيها، وكذلك يدير خط ومدرسة السيد الراحل (رحمه اللّه) في الخليج منطلقاً من سورية ومن الكويت.

دور سماحة السيد محسن الخاتمي كبير ومتعدد الجوانب واستراتيجي في نفس الوقت. وقد لاحقته أجهزة مخابرات بعض الدول وتحسست من تحركاته، إلا أنه لم يعبأ بها وواصل مسيرته أكثر من عشرين عاماً حافلة بالأحداث الجسيمة والمطبات العميقة والمسؤوليات الكبيرة. ثم اعتزل العمل المكتبي الخاص وتوجه إلى الخدمة الاجتماعية وتولى شؤون الأيتام في مدينة مشهد المقدسة وأشرف على موسوعة هامة تحت عنوان (موسوعة المصطفى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ) عن تفاصيل حياة وحركة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . وهو لازال إلى الآن يواصل مسيرته المعطاءة المشكورة.

ص: 221

2. العلامة الحجة الراحل السيد علي الفالي (قدس سره) ، وهو الآخر عالم فاضل ومجاهد فذ وبطل لا يجارى، هو الذراع الأيسر لسماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) بعد العلمين المذكورين. وكان (رحمه اللّه) لا يعرف يداً عن قدم، يشمر السواعد لبذل كل خدمة مهما كانت صعبة ومجهدة، وكان العمد المعتمد في كل المؤسسات الاقتصادية (صناديق الأقراض الخيري) وكل الحسينيات المنتشرة في ايران وتعدادها أكثر من أربعين وكل البرامج والمشاريع الأخرى. السيد الفالي قائد ميداني وشخصية ذات قدرة فائقة في تحمل مختلف المسؤوليات وكان يعمل بصورة متواصلة من الصباح إلى المساء ولا ينال شيئاً من الراحة، بل المهم عنده إنجاز المهام ولا يتوقع من أحد شكراً أو جزاءً .

توسط في إقراض آلاف المعوزين وتسبب في حصولهم على المساكن، كما بذل قصارى جهوده في تزويج آلاف الشباب. خيره عم الناس لذلك حين لقي حتفه بحادث مؤسف بكت عليه العيون، كل من عرفه بكى لفقده وأقيم له تشييع شعبي ونوعي اشترك فيه الآلاف كتشييع المراجع الكبار بالرغم من أن أجواء مدينة قم كانت مشوبة بحذر شديد لأنها كانت مهددة في كل لحظة بقصف قوات صدام في الحرب العراقية الايرانية، مع ذلك تقاطرت الجماهير من مختلف محافظات ايران للاشتراك في تشييع ذلك العالم المجاهد الجليل.

الحديث عن السيد الفالي طويل جداً، ولقد تصديت لمتابعة إصدار فلم وثائقي عن حياته (رحمه اللّه) كما تصديت أيام رحيله (رحمه اللّه) بإصدار كتاب عن حياته وصدر الكتاب حينها ونفدت نسخه.

وبكلمة: إنه كان أمة في رجل ويخدم آلاف الناس دون فرق عنده بينهم، وترك فراغاً عجز الآخرون رغم فضلهم ونشاطهم أن يسدوه إلى هذا اليوم،

ص: 222

رحمه اللّه برحمته الواسعة، وقد نقل جثمانه بعد العام 2003 إلى كربلاء المقدسة ودفن إلى جوار جده ومولاه الإمام الحسين (عليه السلام) فهنيئاً له هذا الشرف الرفيع.

3. السيد محمد رضا (قدس سره) ، كان (رحمه اللّه) كطاقة الريحان تتضوع عطراً وكالقمر يشع نوراً ويزهو جمالاً ونموذج فذ في عطائه الذي يفيض بالعلم والثقافة والتربية.

الصورة

السيد رضا (رحمه اللّه) قوة خفية ذات ثقل في أكثر القرارات والمشاريع ومتميز في آرائه وتنظيراته يشار إليه بالبنان، الكل يشعرون في مكتب والده (رحمه اللّه) بالحاجة إلى رأيه وموقفه ودعمه. مستشار أمين لوالده وعمه وأعضاء المكتب ومساند مخلص يحرص على نجاح عموم المؤسسات. بذل عمره وشبابه في التحصيل العلمي وتربية التلاميذ وأداء دوره الاجتماعي والمكتبي الهادئ دون إثارة أو صخب. يزور الرموز ويداري شباب الخط ليس في المكتب والحوزة فقط بل كل الشباب ورموز المدرسة الشيرازية الشريفة كانوا يلتقونه ويطرحون قضاياهم فيصغي إليهم بكل حواسه ثم يقدم لهم أفضل المقترحات والحلول. فهو المستشار الأول والمساند الأول ومحرك الطاقات والموجه إلى العمل والجهاد. مساعد لأبيه وعمه والسيدين الفالي والخاتمي. يعينهم جميعاً في مشاريعهم في دائرة إمكاناته وطاقاته، ومع رعاية موازين الحفاظ والاحتياط في صفوف الحوزة كان يتحرك مع تلك الأفكار والرؤى وفي مناخ الاحتياطات والرزانة الحوزوية المحافظة، وهذه توافقية معقدة لكنها كانت ممكنة في حركة السيد الرضا (رحمه اللّه) .

ص: 223

دوره كان اقتصادياً في دعم المرجعية، وتربوياً في التدريس والتنمية، ومسانداً لمختلف المشاريع. ومساعداً للمرجعية واعمدتها.

في هذا الخضم تمكن أن يخرج عالماً كبيراً تدين له الحوزة كلها بالفضل والاعتبار، لكن ما يعتصر القلوب ألماً أن السيد الرضا (رحمه اللّه) كان وردة يافعة فذبلت وجارت عليها الأقدار.. سلام عليه حين ولد وحين جاهد واستشهد وحين يبعث حياً. قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من مات على حب آل محمد مات شهيداً».

المستشارون السياسيون

كان السيد الأستاذ (رحمه اللّه) مهتماً كل الاهتمام بالشأن السياسي على صعيد الأمة الإسلامية والعالم العربي والشرق والغرب كله وأخص من كل تلك البلاد: العراق وايران.

المستشارون السياسيون كانوا مجموعة من نخبة أهل الخبرة منهم أصحاب السماحة: (المدرسيون) السيد محمد تقي والسيد هادي والسيد عباس، إضافة إلى الشيخ نديم الطائي (الحاتمي)، والسيد عز الدين الفائزي والسيد حسين الطويل والشيخ جاسم الأسدي وغيرهم. ومتى ما كان يحدث أمر كان سماحة السيد (رحمه اللّه) يطلبهم للتشاور، ومتى ما كانوا يزورون السيد (رحمه اللّه) كان يطرح عليهم مختلف الأخبار ويسمع رأيهم فيها، وأحياناً كان يستشير سماحة اية اللّه السيد مرتضى القزويني (حفظه اللّه) في أية زيارة أو لقاء.

وفي الشأن الايراني والحوزوي كان يستشير سماحة اية اللّه الشيخ حسين الكرماني وسماحة السيد صادق (دام ظله) وغيرهما.

وفي قضايا الساحة العراقية المحلية والحوزوية كان أحياناً يستشيرهم

ص: 224

ويستشير بعض أعضاء المجموعة المرتبطة بي والتي تعمل بالتنسيق معي.

الرصد الإعلامي

مسؤول الرصد الإعلامي هو فضيلة الحجة الشيخ رضا السلطاني، دوره قراءة الصحف الرئيسية وتسجيل مانشيتاتها وخلاصة أخبارها وتقديمها يومياً للسيد الراحل (رحمه اللّه) . ولفترة معينة كان مسؤولاً عن سماع بعض نشرات الأخبار العالمية وتسجيل خلاصتها وتقديمها لسماحته (رحمه اللّه) .

الدائرة الثانية في المكتب

كنت أنا والمجموعة العاملة معي وأمثالها ضمن الدائرة الثانية في المكتب، وكان زملائي حوالي خمس عشرة شخصية، وهم: الشيخ رحيم الحائري، والشيخ المجاهد، والشيخ المحقق، والسيد المجيدي، والشيخ حسن الاصفهاني والسيد هاشم اليعقوبي، والشيخ رضا السلطاني، والشيخ التوكلي، والشيخ جعفر عسكربور والشيخ حسين الشاهرودي، والتحق فيما بعد السيد مرتضى

والسيد جعفر الشيرازيان (حفظهما اللّه)، كل من هؤلاء له دوره ومسؤوليته.

وكانت هناك دوائر أخرى متعددة للأفغانيين وللهنود والباكستانيين وللترك الاذربيجانيين. وكان السيدان الجليلان الفاضلان السيد حسين الفالي والسيد محمد باقر الفالي من العناصر الناشطة في المكتب ولهما دور كبير، وكذلك فضيلة الخطيب الحسيني الشيخ السعيدي أيضاً، هؤلاء هم رجال المكتب من علماء الحوزة في قم المقدسة.

وكان هناك جمع آخر منتشر في مختلف أنحاء البلاد في العاصمة طهران وفي إصفهان وفي شيراز ومشهد وتبريز والأهواز ومختلف المناطق الأخرى. إلى جانب

ص: 225

هؤلاء كان جمع كبير من الوجهاء والكوادر القيادية العاملة من غير رجال الحوزة ولهم أهم الأدوار الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. منهم الوجهاء الأفاضل: الحاج رضا نائيني، والحاج جعفر مير حائري، والحاج ابو كمال غفاريان، والحاج محمد بوردارا، والحاج أبو رسول (حجو)، والسيد سجاد الفالي وغيرهم.

هؤلاء هم نماذج من كوادر سماحة السيد (رحمه اللّه) العاملين في الساحة والذين لازالوا يؤدون أدوارهم في هذا الخط، مع الأخذ بالاعتبار ظروفهم الحالية المختلفة عن تلك التي مضت قبل أكثر من عقدين.

الحراك الثقافي

من النشاطات الظاهرة وتحظى باهتمام كبير هو التحرك الثقافي، حيث كان السيد (رحمه اللّه) يعتقد بأصل كبير أسسه هو وانطلق منه للعمل، وهو ضرورة نشر مليار كتاب في الأمة الإسلامية، لذلك كان يبذل غاية جهده للتأليف والنشر. وكان من أهدافه السامية تأليف ألف كتاب، ولما أتم الألف قرر مواصلة التأليف إلى ثلاثة آلاف، لكن الأجل اختطفه فقطع عليه مسيرته التأليفية.

الكتاب أصل كبير عند سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) وألف كراساً أسماه (ثلاثة مليارات كتاب) يقصد من ذلك ضرورة نشر ثلاثة مليارات، مليار منها لتوحيد الطائفة الشيعية، ومليار لهداية المسلمين إلى هدى ومدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ، أما المليار الثالث فلتعريف الغرب على حقائق الاسلام.

كان (رحمه اللّه) يعبئ كثيراً للتأليف ويخطب بكل تركيز ليقنع التلامذة والمستمعين بضرورة التأليف والنشر، ولقد كتب المئات من المؤلفين كتبهم بناءً على إرشاد وتشجيع سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) لهم.

ص: 226

يقول الأستاذ الكبير الدكتور محمد حسين الصغير عميد جامعة الكوفة وأنا سمعت منه كلمته الرائعة التي يقول فيها: (إن سماحة السيد الشيرازي قد علّم شباب العراق المثقف على التأليف).

ولقد شجع حتى النساء على ذلك، على أثر ذلك التشجيع انطلقت عدة من نساء أسرته وألفت مختلف الكتب النافعة، منها: (خطب وكلمات ابي الأحرار الحسين بن علي (عليهما السلام) ) الذي ألفته زوجة سماحته (رحمه اللّه) ، وغير ذلك كثير. وإنني الّفت كتاب (شورى الفقهاء المراجع) و(محنة الأكثرية في العراق) بتوجيه وتشجيع منه (رحمه اللّه) .

ولو وقف شخص لجمع أسماء وكتب الذين ألفوا بتشجيع من سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) لعله يسجل عدة آلاف من اسماء الكتاب.

فكان (رحمه اللّه) الملهم والمحفز المصر والمتابع لحركة التأليف في الأمة الإسلامية، ولعلني لا أبالغ لو قلت: إنني سمعت منه ألف مرة يشجع الآخرين على التأليف.

والجدير بالذكر هنا أنه (رحمه اللّه) كلما عمم شاباً من الحوزة شجعه على التأليف ضمن نقاط خمسة يوجهها إليه، ولو علمنا أنه عمم أكثر من ألف شاب نعرف كم أنه تكلم حول التأليف مشجعاً ودافعاً للكتاب إلى الأمام. وكم من هؤلاء الرجال صدرت لهم كتب على أثر توجيه سماحته (رحمه اللّه) .

مكتب السيد الراحل (رحمه اللّه) مركز لنشر الكتاب في العالم

خلال مدة إقامته في قم المقدسة لا يوجد إحصاء حول الكتب التي ألفت ووزعت من تأليفاته أو غيرها، فمثلاً كتاب سماحة آية اللّه الشيخ حسين الفدائي

ص: 227

(عراقنا الإسلامي والهزات المعاصرة) كتب بتشويق السيد الراحل (رحمه اللّه) وطبع ونشر من مكتبه.

(موسوعة الفقه) طبعت ونشرت من مكتبه، مئات الكتب الثقافية طبعت ونشرت من مكتبه، وبين مدة وأخرى لا تتجاوز الشهر نرى كتباً عديدة توزع مجاناً، كثير منها كراسات صغيرة وقسم منها مجلدات كبيرة. فما كان المكتب يخلو من كتب التوزيع مطلقاً. وأحياناً في مناسبات محرم وصفر وأمثالها كانت تنطلق حملات توزيع الكتاب وتنشر الآلاف المؤلفة. وما من وفد يزور سماحته (رحمه اللّه) إلا ويخرج ومعه كيس من الكتب، سواء من الطبقة المثقفة أو من غيرها.

وحتى الرجل الأمي كان يحظى من مكتب السيد الراحل (رحمه اللّه) بمجموعة كتب.

كانت فلسفة الإمام الراحل (رحمه اللّه) في ذلك هي: إن هذا الأمي يأخذ الكتاب إلى المنزل فيقع بيد أولاده وبناته وزوجته وضيوفه، وعلى كل حال لا يهدر الكتاب بل يقرأ وإذا لم يستفد منه مطلقاً فانه يهديه لصديقه أو ضيفه أو... وهذا أيضاً يحقق هدفنا لأن الكتاب سيقرأ أيضاً.

وكان البعض يأخذ الكتاب ويذهب إلى السوق ويبيعه، كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يقول: هذا أيضاً يحقق هدفنا من توزيع الكتاب ويشارك في نشر الفكر لأن الكتاب الذي يباع سيقرأ أيضاً!

وكان يقول مكرراً: يلزم أن نرش الثقافة على المجتمع كزخ المطر الغزير. ويقول أيضاً لأصحاب المواكب الحسينية الذين يوزعون الطعام على المعزين: وزعوا مع كل وجبة طعام كتاباً أو كراساً، فالطعام غذاء المعدة والكتاب غذاء العقل والروح.

ص: 228

وكانت بعض الكتب تحمل أفكاراً لا يرتضيها بعض رجال الحكم المتشددون، فكان الكتاب يطبع بطرق معينة دون أن يطلع هؤلاء عليه ودون أن يكون لأحد أو جهة مستمسك قانوني ضد الكتاب.

فكان الكتاب يمر بمراحل صعبة حتى يصل إلى يد القارئ. من جهة أخرى كانت الكتب تطبع بأجهزة بدائية، من تحقيق أو استخراج المصادر أو إخراج فني أو تجليد أو غير ذلك، فكانت تصدر بأوراق رخيصة صفراء وكان يقول سماحته (رحمه اللّه) أيضاً: (المهم أن يصل الكتاب إلى يد المجتمع وليس مهما أن يجلد أو أن تكون أوراقه راقية أو ما شابه ذلك).

وفي كثير من الأحيان كانت الكتب تطبع قرضاً ولم يكن سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) يملك ثمن الطبع. وحاول مرة بواسطة الاتفاق مع دار نشر لطبع كتبه وتوزيعها لكن صاحب الدار رفض لأن كتب سماحته (رحمه اللّه) ليست تجارية ومربحة إضافة إلى أنها تحمل أفكاراً لا يرتضيها بعض الحكومات هذا ما كان صاحب الدار يتجنبه بشدة واحتياط.

نعم أمثال كتاب (إيصال الطالب إلى المكاسب) والكتب الحوزوية كانت تجارية ولازالت. ولقد قال لي مالك (دار الهدى) في قم المقدسة وهو الوجيه (الحاج جعفر مير الحائري) الناشط في جهاز مرجعية سماحة السيد الرحل (رحمه اللّه) : (إن كتاب إيصال الطالب إلى المكاسب) بيع في أحد الأعوام بمفرده أكثر من كل الكتب الأخرى المعروضة في مكتبه).

وكان يملك معرضاً حافلاً بأنواع الكتب وفي مختلف العلوم والفنون وكان موقع معرضه في المنطقة التي يطلق عليها (كذر خان) وهي منطقة مزدحمة ومركز طلاب العلم وفيها العديد من المكتبات والمعارض.

ص: 229

إجازة مفتوحة

لكل كتاب يطبع في بلد من العالم ضوابط للطبع والترجمة والنشر وهذه حقوق مشروعة ودولية، فليس لأحد طبع أي كتاب لغرض التجارة والاسترباح ولا لأي غرض آخر إلا بعد الاتفاق مع الدار الناشرة له أو المؤلف أو أية جهة أخرى مسؤولة عنه، وكذا الترجمة بأية لغة في العالم وكذا أي تصرف آخر بالكتاب كما لو أراد اقتباس نصوصه لإخراج فلم أو مسلسلة مرئية أو مسموعة.

أما سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) فقد أسقط كل هذه الحقوق عن نفسه وأعلن عن إجازة مفتوحة لأي كتاب من كتبه، طبعاً ونشراً وترجمة غير تلك التي يتعلق بها حقوق الآخرين. أما بعض الموسوعات ك- (الوصائل إلى الرسائل) التي كانت تثقل كاهل سماحته (رحمه اللّه) بالمصاريف الباهظة وكانت مشروع استرباح أيضاً فلا أعلم إن مورداً واحداً طلب السيد (رحمه اللّه) ربحاً منه.

ولقد كان (رحمه اللّه) يكرر ويوجه كثيراً ويؤكد حول أهمية مشروعه (المليار كتاب) وصدر قبل سنوات كتاب لأحد الكتّاب في السعودية يحمل عنوان (الكتاب في فكر الإمام الشيرازي)، وفي المواسم الدينية الشعبية مثل محرم الحرام كانت حركة الطبع والنشر والتنشيط في المكتب، وتتألف هيئة من العلماء والوجهاء وأحياناً أكثر من هيئة واحدة تنطلق إلى مختلف أنحاء ايران وتزور عشرات الحسينيات في كل المحافظات وتنقل إليهم آلاف الكتب لتوزيعها مجاناً على الجماهير.

إجمالا وبكلمة واحدة: منزل سماحة السيد (رحمه اللّه) كان يمثل أكبر مركز كبير ووحيد في كل ايران لتوزيعه الكتاب على أوسع نطاق باللغة العربية والفارسية وأحياناً بالإنكليزية والتركية والكردية أيضاً.

ص: 230

ولا يفوتني أن أؤكد هنا: إن الكتاب هو الأبرز في حركة سماحة الامام الراحل (رحمه اللّه) الثقافية ويحظى بالحظ الأوفر. في نفس الوقت كان يرى سماحته (رحمه اللّه) ضرورة تأسيس المجلات والدوريات وإقامة الندوات والمؤتمرات وكان يشجع كل المراكز والحسينيات على إصدار نشرة شهرية تعنى بتثقيف المجتمع وحين لا يستطيع المركز إصدار نشرة منظمة أسبوعية أو شهرية أو فصلية كان (رحمه اللّه) يؤكد لهم على إصدار نشرة في أية فرصة ممكنة دون الالتزام بموعد منتظم، وكان يطلق على هذا النوع من الدوريات مصطلح (كاهنامة)(1) أي الدورية (الاحيانية) لا اسبوعية ولا شهرية ولا فصلية.

ومجلة (طريق الثورة) كانت مركزة ونافعة وينتظرها قراؤها كل شهر وتنطق باسم (حركة الجماهير المسلمة) وتصدر بلغتين. هذه كانت صدرت بتشجيع السيد الراحل (رحمه اللّه) وإعدادها الفارسية تحمل اسم (راه انقلاب) بجهود معينة.

ونشرة (الحقيقة) التي أصدرها فضيلة العلامة الشيخ مرتضى معاش صدرت أيضاً بتشجيع سماحته (رحمه اللّه) .

وهكذا عشرات المجلات والدوريات التي كانت تصدر من المراكز الشيرازية المننتشرة في ايران وغيرها. وبكلمة إن الحركة الثقافية في نهج السيد الراحل (رحمه اللّه) كانت أصلاً أصيلاً ومبدأ استراتيجياً يحمل شعار (النهضة الثقافية في العالم الاسلامي الكبير).

الاقتصاد المرجعي

يعتمد اقتصاد المرجعية على الخُمس الذي يستخرجه المؤمنون الملتزمون من أرباح مكاسبهم ويقدمونه للمرجعية، هذا الخمس هو الذي يضمن رواتب

ص: 231


1- مصطلح باللغة الفارسية تعني الدورية أو الأحيانية.

طلاب الحوزة ومصاريف المكتب ويمول الحركة الثقافية ومختلف الأنشطة الأخرى.

ولقد سمعت محاضرة لسماحته (رحمه اللّه) في الكويت كان يركز على أن تشريع الخمس إنما تركز على محور (ضرورة التبليغ). غير أن هذا الوارد والمنبع الرئيس عجز عن ضمان مشاريع سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) وذلك للأسباب التالية:

1. طموحات سماحته كانت واسعة وكبيرة ومصاريفه بالطبع تكون كثيرة، فكان الوارد لا يفي بالصادر دائماً.

2. وكانت هناك جهات مرجعية أخرى ترتبط بأصحاب المال من مقلدي سماحته (رحمه اللّه) ويقنعونهم بأهمية دفع مبالغ الخمس لهم أو لمشاريعهم إن كانت أو لمرجعيتهم، وسماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) كان لا يتردد ولا يتوانى في إمضاء تلك المطالبات لكي يحترم هؤلاء الآخرين أولاً ولكي يداري المتمول المعطي ثانياً ولكي يتجنب أية حساسيات أو حزازات أو نزاعات مستقبلية ثالثاً.

ذات مرة كانت جهة سياسية مرجعية قد تقاضت من مقلد خليجي لسماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ثمانمائة ألف درهم إماراتي فأمضاه (رحمه اللّه) ، ومرة أخرى كان أحد وكلاء مرجعية أخرى تقاضى من مقلد لسماحته (رحمه اللّه) في طهران عدة ملايين أمضاه السيد الراحل (رحمه اللّه) أيضاً.

وفي المقابل ذات مرة سلمني فضيلة الخطيب الشيخ فاضل الحيدري أربعة آلاف تومان وسلمته الايصال الموقع من الإمام الراحل (رحمه اللّه) وتبين أن المعطي مقلد لمرجع آخر بعد فترة من الزمان تابع وكيله واسترجع المبلغ! وتكررت هذه الصورة مرة أخرى كان قد دفع رجل ألفي تومان للسيد المجيدي رجع بعد أيام يطالب بها قيل له: صرفت للحوزة فرفع صوته غاضباً مستنكراً فعوض له المبلغ!

ص: 232

أهكذا تدار أمور المسلمين؟ مع هذه الحساسيات السوداء؟ والتي لازالت مهيمنة على بعض القلوب والنفوس؟

3. والمشكلة الأخرى المعقدة في هذه الواردات، إن بعض رجال الدين الذين يتقاضونها من المجتمع ويحملونها إلى المرجعية، يطالبون بنسبة منها لصرفها في شؤون مشاريعهم وقضاياهم وإعطاءها لمن يرونهم مستحقين لها، أو لكتاب ألفوه، أو لمشروع في حالة بناء، أو التزويج أو الفقراء، أو ما شابه ذلك، وهذه كلها مشروعة وايجابية، إلا أن المشكلة إن نفس المرجع يحتاج إلى هذا المال احتياجاً مبرّحاً: من أين يوفر الميزانية الكبيرة لرواتب الحوزة العلمية مثلاً؟ ومن أين يدفع لمئات المراجعين يومياً وشهرياً من ذوي الجاه والعلم والوجاهة وهم في أشد عوز وفاقة ولا يملكون ما يعالجون به مرضهم أو مرضاهم؟ بعض الوسائط يطلب كل الوارد الذي وصل بيده ويطلب الإجازة الشرعية والإيصال المختوم منه (رحمه اللّه) وبعضهم يطالب بنسبة معينة، وبعضهم يتصرف به ثم يطلب الامضاء.

4. من جهة أخرى كان سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) هو المشجع للمشاريع، وهو السبب في تصدي الوكيل أو غير الوكيل لتأسيس جامع مثلاً أو مشروع إنساني، فكان (رحمه اللّه) هو المبادر أحياناً لإجازات صرف الحقوق الشرعية، فكانت الأموال تتوجه إلى تلك المؤسسات والمشاريع وبالمال، وتبقى المؤسسة المرجعية تعاني من أشد ضائقة.

يعتمد اقتصاد المرجعية أيضاً وبعد الخمس على التبرعات لمختلف المشاريع، فكل مؤسسة أو نشاط مرجعي كان رجال المرجعية يبذلون الجهود المضنية والمكثفة لإنجاحه وتمويله، فطبع الكتب، كل كتاب بمفرده أحياناً كان يعتمد على التبرع، وشؤون الفقراء والمعوزين كانت كذلك، والمؤسسات الكبيرة

ص: 233

مثل الحسينيات والجوامع والجمعيات والمنظمات كذلك تقوم على التبرعات، وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يقيم الولائم للوفود الخاصة من رجال المال أو الوسائط إليهم، وبعد الوليمة أو قبلها، يتكلم بتركيز حول مشروع تأسيس حسينية مثلاً أو أي مشروع آخر مستوصفاً أو جامعاً أو مدرسة أو غيرها، وبحشد المعلومات الشرعية والقصص الوعظية كان الأثرياء يستجيبون ويطلب منهم واحداً من الكوادر الفعالة ليتابعه ويواصل الحديث معه ويتقاضى منه الملك أو المال مباشرة.

وأحياناً كانت تصلني بعض المبالغ الصغيرة والتبرعات أو الحقوق فيأمر سماحته (رحمه اللّه) بصرفها في مواردها وأكثر الأحيان كنت قد اقترضت مبلغاً لإسعاف الرواتب وأحياناً لأشهر مثلاً، فكان المبلغ يوفى به الدين! وأتذكر إن كتاب (العراق بين الماضي والحاضر والمستقبل) طبع بتبرع استخرجته من بعض المتبرعين في طهران وتأسيس قنوات الغاز لمنزل سماحة الامام الشيرازي (رحمه اللّه) نفسه قد وفرت حسابه من الوجيه الفاضل الحاج صاحب الخباز (حفظه اللّه تعالى) ذلك لأن سماحته (رحمه اللّه) كان يرفض الانفاق على أمر خاص به وبعائلته، إضافة إلى ذلك كان يقول: إذا انتشرت في كل مدينة توصيل الغاز المركزي للمنازل آنئذ نحن نوصل الغاز، لأنه كان يريد أن يعيش عيشة الفقراء لا الأغنياء، فتحركت ونفذت المشروع لتوصيل الغاز المركزي إلى منزله.

وأما المصدر الأخير للاقتصاد المرجعي هو السلف والقروض التي كان يتم اقتراضها من التجار ومن البنوك عبر وسائط معينة وبصورة غير مباشرة.

كان هذا هو الطريق الأخير لعلاج الازمات، غير أن الصعوبة تكمن فيما لو سدت كل الأبواب فلا خمس ولا تبرع ولا قرض. وكم من مرة اوصدت الأبواب، ذلك لأن كل جهة قادرة على الإقراض قد استقرض منها، فكانت

ص: 234

تشتد الأزمات مع قدوم مطلع كل شهر حيث إن ميزانية رواتب الحوزة كبيرة وفوق الطاقة الاقتصادية للمرجعية، فكانت تتولد أزمة خانقة!

ولا ننسى أن نؤكد إن سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) أغمض عينه يوم لبى نداء ربه فترك الدنيا وهو مثقل بديون قدرت بحوالي ثلاثة مليارات دينار عراقي! تصدى بعض تجار الخليج الكبار لإيفائها عنه. ولقد كان يعاني دوماً من قلة المال والديون، وكنت أنا اقترض لرواتب الطلبة العرب ولا يسددها سماحته إلا أواخر الشهر وأحياناً بيومين قبل الشهر القادم!

لقد أبلى بلاءً حسناً على صعيد الاقتصاد المرجعي، كان يوصي موظف الشراء - ابو عباس - بشراء أرخص وأردء البضائع من السوق للحاجات المنزلية الخاصة، فيشتري الفاكهة مثلاً من الدرجة الثالثة أما للضيوف فهذا أمر أخر مختلف عن التسوق لمنزله، وكان لا يملك غير صاية (زبون) واحدة وحين بدأت بالتهرؤ تبرع فضيلة الشيخ علي حيدر المؤيد بثمن خاص لخياطة صاية جديدة.

وكان (رحمه اللّه) يوصي طلبته بالحد الوسط في المعيشة لا البساطة المفرطة التي تتسبب في أن تقحمهم العيون وتزدريهم ولا الفخفخة والتميز الاقتصادي.

والجدير بالذكر أن سمعته شاعت بأنه يملك الكثير الكثير ومرة تقدم أحد شخصيات قم بطلب قرض خمسة ملايين تومان وهذا مبلغ كبير خارج عن قدرته (رحمه اللّه) فاعتذر منه.

الإبداع الفكري

عالم اليوم يغمره الإبداع، يعيش الإنسان المعاصر تحت خيمة الإبداع المستمر في ملبسه ومأكله ومواصلاته وكلامه والفراش الذي يجلس عليه وفي كل شيء يمر أمام عينه من الصباح الباكر حتى آخر الليل.

ص: 235

ولقد كتب (كين روبنسون) في كتابه القيم (صناعة العقل) أن التكنولوجيا الدقيقة التي تم الاصطلاح عليها ب- (نانو تكنولوجي) تصنع الآن كمبيوتراً دقيقاً يزرع في شريان الإنسان أو عند خلية من مخه، ليسجل ملاحظاته ثم بعدها يشخص المرض فيعالجه! وحين سئل أحد علماء التكنولوجيا الدقيقة عن الكمبيوتر الذري وكيف يقوم بتسجيل ملاحظاته قال: (إن الكمبيوتر الدقيق يضبط مقدار نمو لحيتك في كل لحظة!).

وهكذا هو منطق العصر الحديث إبداع شامل (حتى في وسائل الدمار والتخريب).

ولقد كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) مبدعاً عملاقاً في عالم الفكر، وقد أبدع نظريات كثيرة وتعمق فيها وعالج منعطفاتها، وسجل أفكاره في كتبه البالغة ألفاً وثلاثمائة وأربعة وستين (1364) كتاباً حسب تصريح مسؤول كتبه ومخطوطاته فضيلة العلامة الشيخ علي الفدائي (دام عزه).

وبنظرة خاطفة إلى عناوين مجموعة من كتبه تنطبع رؤية عند الباحث عن مدى شموليته في البحث والتاليف، مثلاً: فلسفة التاريخ/ فقه العولمة/ طريق النجاة/ فقه الحقوق/ الاقتصاد/ السياسة/ الاجتماع/ الفقه كتاب العقل/ فقه المرور/ البيئة/ النظافة/ الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والسلام والرفاه/ ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين/ السبيل إلى إنهاض المسلمين/ الغرب يتغير/ الازمات وحلولها/ المرض والعلاج (المقصود أمراض الواقع المعاشي وعلاجها لا أمراض الجسد)، وغيرها كثير ...

هذه تنبئ بأن كاتبها مفكر مبدع دقيق الفكر غزير الاطلاع وشخص فذ.

وقد ألف كراساً يحمل عنوان (تأسيس الجمعيات) يحتوي على اقتراحات

ص: 236

لتأسيس (810) جمعية ويعتبرها حلقات مترابطة في سلسلة الحركة النهضوية للأمة الإسلامية. وكتاباً يحمل عنوان (إلى ابنائنا في البلاد الأجنبية) ويعتبرهم حملة رسالة الإسلام الإنسانية إلى العالم الشرقي والغربي ويضع برنامجاً لأبنائنا المقيمين في تلك البلاد.

وكتب كتاباً آخر يحمل عنوان (إلى وكلائنا في البلاد) يحتوي على تسعين (90) نقطة توجيه تشكل رؤيته (رحمه اللّه) حول دور ومسؤولية علماء الدين في الأمة مالهم وما عليهم. وقد كان الشهيد السعيد آية اللّه العظمى السيد محمد محمد باقر الصدر (قدس سره) يوجه تلامذته ووكلاؤه إلى اقتناء هذا الكتاب والتزام ما فيه من التعاليم والمناهج لعلماء الدين والوكلاء المنتشرين في كل بلاد العالم. وقد اندفع بعض تلامذته (رحمه اللّه) ينبوعاً غزيراً للإبداع الفكري المنبثق من نور القرآن الكريم ودرر السنة النبوية الشريفة وجواهر كلام أهل البيت (عليهم السلام) .

في إحدى المرات هاجم أحد الشباب الثوريين بعض علماء الدين الذين لم يحركوا ساكناً في خضم أحداث العراق الجريح في عام 1991م وهاجمهم عن طريق الانتقاد اللاذع ووصفهم بالجبن والتخاذل فقرأ (رحمه اللّه) الآية الكريمة : (وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا). وهؤلاء (وَٱلْحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ). وهكذا في كل نقاش وعند طرح أي سؤال فإنه يطرح جواباً محكماً وفيه أحياناً إبداع لم يسمع به أحد.

ونظريته في (شورى الفقهاء والمراجع) تبدو بسيطة في بادئ الأمر، لكنها في الواقع عميقة وتكتنفها فروع عملية كثيرة وورد عليها شبهات، وقد تمكن سماحته (رحمه اللّه) من إشباعها ورفدها بفيض من الأفكار والشواهد والمعلومات والنصوص الشريفة. مثلها نظرية (السلم والسلام) التي ألف عنها مجلداً

ص: 237

بحوالي (800) صفحة حشد فيه كوكبة من النصوص البكر الرائعة والقصص الواقعية والتاريخية والاحصاءات الحديثة. وتكلم حولها في كتابه (السبيل) ضمن إحدى عشر نقطة أو أكثر كلها في مضمار فلسفة العمل السلمي الشامل من المفردات الثقافية والسياسية والإعلام والتربية والتنظيم والمال والعلاقات والأنشطة الإنسانية ومنظومة أخلاقية واسعة تضم ضمنها العفو والاغضاء والمداراة وسلسلة من القواعد الحيوية، هذه شكلت منظومة فكرية عميقة حول نظريته (رحمه اللّه) في السلم والسلام و(اللاعنف).

وهكذا في مختلف الميادين التي ألف فيها، نجد منظومة مترابطة الحلقات من الأفكار الإبداعية الإسلامية الرائعة. ذات مرة كانت هناك ملاحظة في وصف أحد العلماء ومستواه بتعبير مناسب لشأنه، فكان لقب (حجة الإسلام) قليلاً بشأنه، ولقب (حجة الإسلام والمسلمين) كبيراً عليه، فأعاد السيد الراحل (رحمه اللّه) في صيغة الوكالة التي كتبها له (ثقة الإسلام والمسلمين) وكان لقباً جديداً ولم يسبق إليه أحد، اطمأنت نفس ذلك الوكيل ولم نواجه حرجاً في الأمر. ولقب (الثقة) رتبة يستعمل قبل (الحجة) فوجد السيد الراحل (رحمه اللّه) طريقاً وسطاً.. وهكذا في كل مجالات الفكر والعمل. وهذا بحث يحتاج إلى كتاب مستقل.

مكتبة عامة وأخرى خاصة

أسس الإمام الراحل (رحمه اللّه) مكتبة عامة وهي مكتبة (الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) ) في منطقة حيوية في قلب قم (كذر خان) وكانت أبوابها مفتوحة لاستقبال الزائرين صباحا ومساءً. ومديرها هو العلامة الأديب الشيخ (سلطان علي الصابري) الذي بذل جهوداً مكثفة في تنظيمها وتبويبها وترقيم الكتب وتصنيفها علمياً. وكانت تحتوي على مخزن للكتب تحت الأرض وغرفتان

ص: 238

منظمتان للمطالعة والتحقيق وغرفة للإدارة.

كانت تحتوي على عدة آلاف من الكتب المنوعة المختلفة واستفدت من كتبها ومصادرها في تأليف كتاب (شورى الفقهاء المراجع) ، واستخرجت وثائق الشورى تاريخياً من كتبها.

وكانت هناك مكتبة خاصة وسرية تحمل اسم (مكتبة الإمام الجواد (عليه السلام) ) لا يجد أحد إليها سبيلاً، إلا الخواص من إخوتنا العلماء والمثقفين وكانت هذه تحتوي على كتب نهضوية وسياسية ومذكرات شخصيات العالم وكتب محمد حسين هيكل وغيره من كبار الكتاب العرب والدوليين. ولتأليف الكتب النوعية مثل (فقه العولمة) مثلاً وغيره كان سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) وتلامذته والعاملون في الإعلام يعتمدون هذه المكتبة، وكانت تحت إشراف وإدارة بعض كوادر (حركة الجماهير المسلمة) وحين كنا نحتاج إلى كتاب معين أو إلى موضوع معين كنا نطلب من المسؤول عن ذلك وفي اليوم الثاني يأتي إلينا بالكتاب أو الموضوع المطلوب وكانت لدينا نسخة من (فهرست) بأسماء محتوياتها من الكتب، وكانت هذه المكتبة تغذى بالكتب الثمينة من لبنان والكويت وبعض البلاد العربية الأخرى، وكان مقرها في مدرسة (الإمام الهادي (عليه السلام) ).

وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) وغيره مهتمين بهذه المكتبة الخاصة ويعتمدون عليها في حاجاتهم الفكرية. وكان له (رحمه اللّه) رجال يرصدون سوق الكتاب ويقتنون له كل كتاب ذي شأن، من هؤلاء الوجيه المثقف والفاضل (الحاج رضا النائيني) ومنهم أيضا فضيلة العلامة الشيخ (صاحب تيرناز).

إلى ذلك كان لسماحته مكتبة غنية في منزله له ولأولاده وأعضاء أسرته رجالاً ونساءً، ولكل أعضاء مكتبه كذلك مكتبات فرعية ثمينة في منازلهم

ص: 239

يعتمدونها في التأليف والتدريس والخطابة، كما أن في كل مدرسة من مدارسه الحوزوية مكتبة معتبرة تضم مختلف ما يحتاج إليه طلبة العلم وعلماء الدين.

قضية العراق الجريح

كانت القضية العراقية وهي التسمية التي عرفت بها أوضاع العراق، قضية استراتيجية وغاية في الأهمية، وكانت الشغل الشاغل لسيدنا الأستاذ (رحمه اللّه) وهمه المؤرق له، وقد ألف حولها حوالي ثلاثين كتاباً وكراساً منها: (تلك الأيام) و (نصف قرن من المطاردة) و(إذا قام الإسلام في العراق) و(النازحون من العراق) و(الأكثرية الشيعية في العراق) وغيرها. وقلما كان يلقي محاضرة ولا يذكر خاطرة أو قضية أو معلومة عن العراق وتاريخه ومقدساته ومرجعياته ودوره الاستراتيجي ومستقبله. وبذل قصارى الجهود للعراق ولإنقاذه من براثن الطغاة ومخالب أعدائه المرعبين.

جوانب من عمل الإمام الراحل (رحمه اللّه) التي عمل فيها للعراق

1. الجانب السياسي : تحرك بصورة جادة مع القادة الايرانيين تواصل معهم في الزيارات بصورة مباشرة وأحياناً بواسطة أذرعه السياسية العاملة في الساحة.

التقى السيد الخميني أثناء الحرب العراقية الايرانية وعرض عليه ما يلي:

أولاً: إن القضية العراقية مرتبطة بداخل العراق لا بالحرب الحدودية، ذلك لأن الأسرة الدولية المعاصرة لا ولن تسمح لدولة أن تنتصر على أخرى عسكرياً ثم تتدخل في شؤونه الخاصة وتسقط نظامه، ثم إن العراق وغيره قد مر بتجارب عديدة أثبتت إن الثورة الشعبية الداخلية هي القادرة على تقليم أظافر النظام ثم

ص: 240

استئصاله من جذوره.

ثانياً: إن الثورة الشعبية في العراق مرتبطة بفتوى المرجعية، وإن مرجعية العراق الأولى متمثلة في شخصية ومدرسة السيد ابو القاسم الخوئي، ومادام الخوئي لم يتحرك فشعب العراق هو الآخر تبعاً له لا يتحرك، وحركة مرجعية الخوئي لها سبيلان لا ثالث لهما، أولا: بالتنسيق مع وكلائه الأساسيين في الخارج ليتحركوا في نهضة شعبية ويصدروا بياناتهم وتعليماتهم لشعب العراق ويقوموا يتعريفه بظروف المرجع وأنه لا يستطيع مباشرة التوجيه والقيادة. وثانيا: العمل المركّز والمخطط لإخراج الخوئي من العراق، آنئذ يملك حريته ورأيه ويستطيع التصدي وتحمل المسؤولية.

قال الخميني: كيف يخرج الخوئي من العراق؟ أجاب السيد الراحل (رحمه اللّه) فوراً: أنا أتحمل هذه المسؤولية وأوصله سالماً إلى ايران.

ثالثاً: ولا يمكن تفجير قنبلة الثورة الحقيقية في العراق الا بالتنسيق مع عشائر العراق، والتي هي طوع أمر المرجعية ولها تاريخ حافل من النضال ضد الطغاة الحاكمين وضد قوى الاستعمار الأجنبي في ثورة العشرين وانتفاضة عام 1941م وفي مواجهة التيار الالحادي الأحمر عام 1963م وغيرها.

وقال (رحمه اللّه) أيضاً: نتحرك ونجذب شيوخهم إلى ايران ونشكل مجلساً قيادياً لهم يتولى قيادة الثورة، أما العمل الثوري مع تهميش العشائر فلا يكون إلا زوبعة في فنجان.

رابعاً: إضافة إلى شيوخ العشائر، يلزم تشكيل مجلس ثوري قيادي لحركات المعارضة كلها دون استثناء ومنحهم الإرادة الجدية للتغيير، ولكن مع تغييب الحركات أيضاً يحول العمل الثوري إلى زوبعة في فنجان، ذلك لأن قادة الحركات

ص: 241

هم زعماء العراق السياسيون فكيف يمكن الاستغناء عنهم؟

خامساً: وقال السيد الراحل (رحمه اللّه) للقادة الايرانيين مباشرة أو بالواسطة أن الثورة ليست في صحراء قاحلة لا تمت إلى العالم بصلة تعمل بنفسها مستغنية عن كل ما حواليها لا تصدر شيئاً إلى أحد ولا تستدر شيئاً من أحد، فهي مضطرة للتنسيق مع المحافل الدولية والقوى العظمى والأمم المتحدة وبدون ذلك لا تستطيع فعل شيء، فالارتباط مع الأسرة الدولية أيضاً من ضرورات الثورة المقتدرة الصارمة التي تنتهي إلى الاطاحة بأبشع دكتاتورية في التاريخ تلك التي تمثلت بنظام حزب البعث المكروه الجاثم على صدر العراق.

هذه (الخماسية) هي أصول فكر سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) في القضية العراقية وقد طرحها في كل مورد ومناسبة وناضل في سبيلها وبذل الغالي والنفيس ودفع الثمن باهضاً لهذه الأفكار الثورية.

هذا هو منهجه وخطوطه الرئيسية للنهضة في العراق، بتعبير آخر: مشروعه لإسقاط النظام.

وفي الجانب السياسي أيضاً أذكر تحركه مع المعارضة العراقية ولقاءاته وتبادل الأفكار والتنسيق، وقد كانت (منظمة العمل الإسلامي) و(حركة العلماء المجاهدين في العراق) و(حركة الجماهير المسلمة) و(حركة المهجرين العراقيين) والتي تحولت فيما بعد إلى (الوفاق الاسلامي) هي الأذرع السياسية التي كان سماحته (رحمه اللّه) يعتمد عليها بنسب متفاوتة وفي مساحات معينة.

وكان سماحته (رحمه اللّه) يوجه هذه المجاميع الثورية إلى زيارة حكومات دول الجوار العراقي والتنسيق معها قدر المستطاع وايقافها على حقيقة ما يجري في العراق من جرائم سلطوية منظمة وقليلة النظير في التاريخ، وهذه الحركات أو

ص: 242

بعضها كانت دوماً تشترك في مختلف المؤتمرات الدولية والمحلية المعارضة للنظام في العراق وتؤدي ما عليها من أدوار.

2. الجانب التنظيمي والعسكري: كانت هناك عدة جهات مرتبطة بسماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) تتواصل مع خلايا معينة داخل العراق وتتبادل معها الأخبار والمنشورات والخطط وترفدها بالدعم الاقتصادي، وفي الجانب العسكري كانت العمليات الشجاعة البطولية التي نفذها مغاوير (منظمة العمل الاسلامي - الجناح العسكري) إنما هزت كيان النظام المتجبر بفتاوى الإمام الراحل (رحمه اللّه) . وحين شن النظام حملات وحشية على قطاعات واسعة من الشعب اعتقالا واعداما وتهجيرا لحوالي خمسة وأربعين ألف عراقي، بإحدى تهمتين إما أن أصلهم ايراني أو إنهم عناصر غير مرغوب فيها، أصدر سماحته بياناً دعى فيه إلى تشكيل (جيش تحرير العراق) فاجتمعت عدة من الحركات وقاطعت المشروع حركات أخرى، فتشكل الجيش وأقام المعسكرات على الأراضي الايرانية وانطلق يخطط ويعد لتفجير الثورة الشعبية العارمة في داخل الوطن الجريح.

وتشكلت مجموعة عسكرية كردية فيلية من أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) إلا أن مخابرات النظام اخترقت صفوفها وزرعت عميلاً لها في وسطها ونفذ عملية جبانة دنيئة حين أطلق النار على قائد المجموعة وكوادرها وهم نائمون وسط الليل فاستشهدوا جميعاً ولاذ المجرم بالفرار، ونقلت جثامين الشهداء إلى قم ودفنت في مقبرة (جنة البقيع) بعد التشييع الحاشد الحزين.

الجدير بالذكر أن جهات أساسية في الساحة الايرانية لم تتعاون مع حركة سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) الثورية ضد النظام، ثم مع مرور الزمن تعقدت ولم تستطع الجهود إنتاج الثمار المرجوة منها فاضطر ساحته (رحمه اللّه) أن ينسحب من هذا

ص: 243

النوع من العمل الحساس.

3. الجانب الإنساني: بذلت المرجعية الشيرازية جهوداً كبيرة في مساعدة العراقيين المجاهدين والتوابين والمهجرين، وكان هذا ملفاً مزدحماً وحافلاً بكثير من النشاطات، وقد أفتى لعدة مرات بصرف الحقوق الشرعية للمهاجرين والمهجرين وللمجاهدين والتوابين.

وحين تدفقت موجات المهاجرين عام (1981م) على ايران وعام (1991م) بعد الانتفاضة الشعبانية، تحركت بتوجيه السيد الراحل (رحمه اللّه) كل الحسينيات والوكلاء والخطباء والتجار وذوي الشأن في حركة واسعة لاحتواء المهجرين والمهاجرين. في وجبة واحدة بعثت مؤسسة (أنصار الحسين (عليه السلام) ) من طهران (160) شاحنة كبيرة (تريلة) مليئة بالمساعدات، وقد ظل ملايين الناس في طهران مبهورين من هذه الحركة الواسعة النطاق لخدمة أبناء هذا الشعب النبيل. واستمر هذا الدعم الخدمي متواصلاً إلى آخر عمره.

وبالنسبة للتوابين، كذلك عمل على تقديم مساعدات مختلفة ومحاضرات ثقافية وتوزيع كتب وهدايا نقدية وبضائع مختلفة ومواد غذائية وأشرك أعداداً منهم في برامج للزواج الجماعي في طهران خصوصاً. ومكتب سماحته (رحمه اللّه) عرف بوقوفه مع العراقيين إنسانياً في كل الأحداث الصعبة التي المت بشعبنا المناضل. وهذا حديث طويل أكتفي منه فيه بما ذكرت.

4. الجانب الحوزوي: أسس الإمام الراحل (رحمه اللّه) مدرسة (جابر بن حيان الكوفي) لاحتواء شريحة من الشباب العراقي وهكذا كان. وقد انتمى إليها حوالي أربعمائة طالب في فترات مختلفة ودرسوا المناهج الحوزوية المعهودة إضافة إلى بحوث في السياسة والاقتصاد والاجتماع.

ص: 244

وقد تخرجت نخبة من خيرة الخطباء والعلماء والمبلغين من هذه المدرسة ومدرسة الرسول الاعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد انتشر طلبة حوزة سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) في مختلف أنحاء العالم وهم يؤدون أدوارهم المشهودة اليوم.

والمتتبع لمسيرة تلامذته (رحمه اللّه) يعرف أن حركة ثقافية واسعة يؤديها هؤلاء في العديد من بلاد العالم.

5. البيانات والإعلام والثقافة: وكان (رحمه اللّه) مهتماً بمختلف الشؤون التي تهم العراق، وفي كل مناسبة كان يصدر بياناً مركزاً يحتوي على معلومات ثمينة، وقد جمعت تلك البيانات وطبعت في كراسات متعددة.

وعلى الصعيد الإعلامي كانت هناك دوريات ونشرات ثقافية تصدرها الحركات العاملة مع مرجعيته وإذاعات معارضة للنظام، آخرها إذاعة في كردستان العراق بعد انتفاضة 1991م.

تمكن النظام عبر شن حملة عسكرية على مناطق من كردستان أن يحتل مقر هذه الإذاعة ويعتقل أعضاءها، فكان مصيرهم الإعدام! كان ذلك في عام 1996 (حسبما أتذكر).

هذا وقد طبع مكتب سماحته مئات الآلاف من الكتب الموجهة للساحة العراقية مثل غيرها ووزعت مجاناً ودون مقابل.

هذه خلاصة عابرة عاجلة حول حركة سيدنا الأستاذ الإمام الراحل (رحمه اللّه) في الساحة العراقية، إنها كلمات مختصرة وهي غيض من فيض.

شخصية سماحة الإمام الشيرازي (رحمه اللّه)

لقد تعرفت على الإمام الراحل (رحمه اللّه) منذ نعومة أظفاري في ربوع الحسين (عليه السلام) كربلاء المقدسة وعرفته بالخصائص النادرة:

ص: 245

1. هيبة ورزانة وجمال وعطر فواح وهندام جذّاب.

2. كلمات جميلة ودية مع كل من يلتقي به حتى الصغار فضلاً عن الكبار، البشاشة التي أضفت على قسمات وجهه مسحة إضافية من الجمال كانت لا تفارق محياّه.

3. ذكر حسن وثناء من كل الناس ومحبة عميقة في قلوبهم حتى غير المتدينين منهم.

4. مثابرة متواصلة وعمل لا يعرف الكلل والملل وخدمة وفيرة لعموم الناس.

5. احترام مطلق للكبار والصغار، للشريف والوضيع، للتاجر والعامل، للعالم والجاهل. ولا يلقى أهل المعاصي بوجه مكفهر كما في الحديث، لأنه كان يرى أن تطبيق الشريعة في الظروف الراهنة يتسبب في المزيد من البعد عن الدين.

6. لم يتزوج مبكراً لأنه كان منكباً على التحصيل العلمي ومعبئاً كل طاقاته في سبيل الارتقاء المعنوي باعتباره وسيلة فضلى لخدمة الإسلام والمسلمين، وقد رزقه اللّه تعالى اثني عشر مولوداً بالتناصف ذكوراً وإناثاً، وكل الأشبال الستة علماء متميزون ومجتهدون فقهاء بصورة مطلقة أو متجزئة، وكل الإناث تقريباً عالمات، فاضلات، مدرسات، وخطيبات. أحفاده كأولاده كلهم تقريباً طلبة علم، مجدون، يتصفون بالطموح والمثابرة والاخلاص، وكلهم مشاريع عطاء للأمة والحمد لله.

والجدير بالذكر هنا أنه (رحمه اللّه) كان يعتقد بتكثير النسل بناءً على قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «تناكحوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط»(1).

وكانت له استراتيجية معتمدة في هذا المجال وهي صحيحة ودقيقة بالرغم من

ص: 246


1- بحار الأنوار: ج100 ص220.

صعوبتها إلا أنها كثيرة العوائد للأمة.

ولقد اقترحت على أهل الحل والعقد من الأسرة الشريفة تأسيس (نقابة) لآل الشيرازي تهتم بشؤون كل الأعضاء النسبيين والسببين وترعى أمورهم، إذ إن هذه الأسرة (الشجرة الطيبة) لازالت تحمل هموم الأمة بين جوانحها وترفع راية الإصلاح عالياً.

وتأسيس نقابات الأسر ضرورة حضارية للتكافل الاجتماعي ووحدة الكلمة وتعميق الألفة والتعاون على البر والتقوى.

وكان تاريخياً للعلويين في بغداد نقابة تجمع شتاتهم وتوحد كلمتهم وترعى شؤونهم، وكان الشهيد السيد الرضا (رحمه اللّه) هو نقيبهم ويطلق عليه وصف (نقيب الأشراف).

ولقد اقترح عليه من جهات مختلفة تعدد الزوجات، إلا أنه كان مخالفاً لذلك. ومخالفاً أيضا لأي نوع من الزواج إلا الزواج من واحدة دواماً ولم يرتض باقتراح التعدد!

وأتذكر أن رجلاً أربعينياً جاء إليه (رحمه اللّه) وصار يكلمه بإخفات وأطال الكلام وكنت جالساً على يساره وبجنبه، قلت له: ماذا يريد هذا الرجل؟ أنا مستعد للتعاون معكم في أمره وعلاج مشكلته، قال: لا، وبعد أن غادر الرجل قال (رحمه اللّه) : إنه كان يطلب مني الزواج بإحدى قريباته! ثم تبسم (رحمه اللّه) .

7. يتحمل كل الناس ولا يرد على المعتدي بالمثل، ويتواصل مع من يقاطعه ويرسل العطايا الودية والهدايا التقديرية إلى الخصوم.

ذات مرة تحالف - في وقت لاحق - أربعة من المتعاونين مع كوادره ومن الذين كانوا قد التزموا أدواراً إيجابية ونضالية ضد طغاة العراق وتحت مظلة

ص: 247

السيد الراحل (رحمه اللّه) الكبيرة: كان تحالفهم معارضة خط السيد الراحل (رحمه اللّه) وكانوا قد اتخذوا مواقف مضادة وتفوهوا ضده بكلام جارح.

ما أن تناهت أخبار تحالفهم المضاد إلى السيد الراحل (رحمه اللّه) إلا وعلق قائلاً: نحن السبب.. يلزم رعايتهم أكثر، ثم الحوار معهم حول مواقفهم. فأمر نجله الأكبر سماحة سيدنا الرضا (رحمه اللّه) بتنظيم زيارات لهم، إضافة إلى تقديم هدايا متنوعة وكتب، وطلب إليهم إن كانت لهم حاجات معينة فإن سماحته مستعد لقضائها. تغيرت بعد ذلك مواقفهم ولأن جانبهم، وقد رافقت السيد الرضا (رحمه اللّه) في زيارة بعضهم.

وكان هناك أحد الرموز في الحوزة العلمية يحمل في داخله فكراً معارضاً يظهر على سلوكه، فكان موقف سماحته (رحمه اللّه) أن يطلب من أخيه الصادق (دام ظله) بالتواصل والتزاور معه، فما من مجلس حسيني يقيمه ذلك الرمز إلا وكان سيدنا الصادق (دام ظله) يحضره، مضافاً إلى ذلك كان يزوره بصورة خاصة بين فترة وأخرى في منزله ويبلغه تحيات السيد الأستاذ (رحمه اللّه) .

وقد طرح اقتراح على سماحته (رحمه اللّه) أن يبعث بهدية رمزية له تنبئ عن حسن نية ومحبة قلبية له، بعد المشورة صوّب الاقتراح، فأمر أن تشترى عباءة وتبعث إليه (وكانت العادة الجارية في الحوزة إهداء العباءات).

لكنه رفض قبولها، ومع ذلك فقد ظل خط السيد يتواصل معه ويحترمه وإن كان هو مصر على القطيعة.

قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعاء مكارم الأخلاق العظيم: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَسَدِّدْنِي لِأَنْ أُعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ، وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ، وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ، وَأُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ، وَأُخَالِفَ

ص: 248

مَنِ اغْتَابَنِي إِلَى حُسْنِ الذِّكْر»(1) . وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «صل من قطعك وأعف عمن ظلمك»(2).

وتواصل الإمام الراحل (رحمه اللّه) بواسطة أخيه مع إحدى الشخصيات الحوزوية وزاره السيد الصادق (دام ظله) نيابة عن أخيه حوالي عشرين مرة، ونجلا الإمام الراحل (رحمه اللّه) السيد الرضا (رحمه اللّه) والسيد المرتضى (حفظه اللّه) مرات عديدة إلا أنه لم يرد على هذه الزيارات المكثفة له ولا مرة واحدة ولا بعث مندوباً عنه، لكنه (رحمه اللّه) ظل متواصلاً معه إلى حين وفاته (رحمهم اللّه جميعاً).

وفي مرة أخرى كان خصوم سياسيون متشددون قد أصدروا بياناً لاذعاً جارحاً مهينا، وطبعوا منه عشرات الآلاف ووزعوه في ذكرى أربعين الإمام الحسين (عليه السلام) في مدينة قم المقدسة حيث الحشود الغفيرة التي تتوجه إليها لإحياء الذكرى والزيارة، وكان عنوان البيان مثيراً، وترجمته : (محمد الشيرازي أكبر عقبة في طريق الثورة الإسلامية في العراق!).

وكان راي العديد من الأخوة كتابة رد علمي عليه فدخلت على سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) وأخبرته بذلك الرأي. رفض رفضاً حاسماً وعلق قائلاً: إننا بمقدار ما نصرف من جهد على الرد نتخلف عن أداء الواجب ومواصلة مسيرتنا! ثم أضاف (رحمه اللّه) : إن المعارضين هنا وهناك كل يوم يقولون شيئاً أو يصدرون بياناً أو ما شابه ذلك، هل نترك أعمالنا ومسؤولياتنا وننشغل بالرد عليهم؟ قلت له: حسناً نكتب بياناً إيجابياً ولا نذكر البيان المضاد حتى ولو بإشارة ونقول كلمتنا، أجاب بالرفض أيضاً لأن ذلك رد فعل وليس فعلاً إيجابياً!

ص: 249


1- الصحيفة السجادية: من دعائه (عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- بحار الأنوار: ج68 ص423.

وعلى هذه فقس على ما سواها. وموقف التغاضي أو العفو أو بعث الصلات المادية وعدم الرد بالمثل مصاديق للمداراة التي قال عنها الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرت بإقامة الفرائض»(1) و«أمرت بمداراة الناس كما أمرت بتبليغ الرسالة»(2) و«من مات مدارياً مات شهيداً»(3). وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) في القمة حيث المداراة بأوسع ما تحمله الكلمة من معاني.

8. المثابرة والعمل المتصل والمتواصل، بذل الجهد، استغلال الفرص، الكدح دون كلل ولا ملل ولا تعلل، كانت من سماته البارزة يلمسها فيه من يعاشره لأقل مدة زمنية.

ذات مرة جرى حوار بيني وبينه حول تنظيم الوقت واستغلال الفرص طرحت عليه سؤالاً، قلت له: كيف تنظمون النوم وساعات الاستراحة؟ أجاب سريعاً: لا نظام لي في النوم. استغربت كثيراً وسألته مع نبرة تعجب واستنكار: كيف؟ أليس النظام مطلوباً؟ أجاب سريعاً: إنني أعمل واتحمل التعب، متى ما عجزت عن مواصلة العمل وشعرت بالحاجة القصوى إلى النوم أذهب إلى الفراش للخلود إلى الراحة.

وكان سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) ينام لا محبة للنوم بل لحاجته الماسة إليه ولكي يستعيد النشاط والقدرة ويقوم إلى مشوار جديد من العمل. وذات مرة ودون قصد انجر الكلام حول الاستحمام فقال: لا أصرف أكثر من عشر دقائق

ص: 250


1- الكافي: ج2 ص117.
2- تحف العقول: ص48.
3- بحار الأنوار: ج72 ص55.

للاستحمام أما الغسل فخمس دقائق فقط. وحين كان يسافر أهله وعائلته كلهم إلى مشهد المقدسة سنوياً مرة واحدة كان (رحمه اللّه) يدخل المطبخ قبل بحثه الخارج الساعة (11) صباحاً وخلال دقائق أن كثرت لا تتجاوز العشر فيضع الماء في القدر (الطنجرة الصغيرة) ويضع فيها الباذنجان والبصل وما يتوفر دفعة واحدة ويضعها على نار هادئة ويخرج للتدريس ويعلق (رحمه اللّه) على هذه الطريقة بقوله: (هكذا يصبح الطعام أطيب طعماً)!

ولاهتمامه (رحمه اللّه) بالوقت واحترامه المواعيد بدقة واستغلال الفرص وكثافة العمل في حياته (رحمه اللّه) حديث طويل. اكتفي بهذا النزر اليسير.

9. في علاج المشكلات الخاصة والعامة التي ابتلي بها المسلمون في كل مكان، كان سماحته (رحمه اللّه) يردد كلمة مهمة تكشف عن تفكير استراتيجي يقول: (عليكم بالجذور)، فأزمة الاستبداد والفقر والبطالة والتشرذمات وغيرها لا تعالج سطحياً ومؤقتاً، إنما تعالج بعلاج أزمة الأنظمة الاجتماعية المنحرفة والتخلف الثقافي وفقدان مؤسسات استراتيجية مثل مراكز الدراسات وشورى الفقهاء وما أشبه ذلك. العلاج السريع تسكين للألم والعلاج الجذري استئصال الانحراف والفساد.

10. كان يحاول جاهداً الاكتفاء الذاتي في إدارة شؤونه الخاصة والعائلية، على سبيل المثال: كان هو بنفسه يحلق نفسه بنفسه ويحلق رأس أولاده الصغار.

11 - كان يركز مبادئه في فكر تلامذته وينتظر كل فرصة للتبليغ لها.

ذات مرة أصيب بوعكة صحية في عز الشتاء البارد فشكلت مجموعة من حوالي خمسة عشر شاباً وطلبت زيارته فدخلنا عليه، كان متمدداً تحت الغطاء وعلى رأسه قلنسوة بيضاء فجلس احتراماً لنا سألناه عن صحته وسأل عنا وعن

ص: 251

الأصدقاء الآخرين ثم قال بالنص: (يا شيخ ناصر السلم نبتة لا تهزها العواصف) وراح يتحدث عن ضرورة الأساليب السلمية في العمل وفي كل المجالات الإصلاحية.

حركة تزويج الشباب

* كان يبذل جهداً متواصلاً لشؤون إنسانية اجتماعية منها: تزويج الشباب، يشجع لتأسيس الجمعيات والهيئات التزويجية وكلما كان يلتقيه شاب يسأله عن إن كان متزوجاً، فإن أجاب بالسلب يبذل له النصح بإسهاب ويقنعه بالإقدام للزواج وتحمل مسؤولية مقدماته وإن كانت صعبة وثقيلة.

وكان يركز على الآباء لتزويج ابنائهم. ولقد كان أحد الشباب كثير الحركة والانتقاد وسريع الغضب ومجاهر بالاعتراضات لمختلف الأمور، متمرد وشرس، كان أبوه يشكوه إلى سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) فكان جوابه: زوّجه! وتكررت الشكوى وتكرر الجواب أيضاً. إلى أن استجاب أبوه وزوّجه فخفّت المشكلات بشكل ملحوظ.

تأسست عدة جمعيات عامة لتزويج الشباب، كان منها وأبرزها: مؤسسة أنصار الحسين (عليه السلام) في طهران والتي أسسها جمع من خيرة كوادر مدرسة السيد الراحل (رحمه اللّه) ، أبرزهم الوجيه المجاهد: الحاج جلال الوكيل (حفظه اللّه).

هذه المؤسسة تزور سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) كل عام عدة مرات ويضع السيد الراحل (رحمه اللّه) فيها روح الصبر والعطاء الغزير. كانت كل عام تقيم مهرجاناً ضخماً شعبياً ورسمياً لتزويج ألف شاب وشابة يقدم لهم مساعدة كثيرة، منها الملابس المناسبة وقطعة ذهبية وثلاجة وطباخ وسلف منظمة وحجز في فنادق لثلاثة أيام للعرس، وكانت وسائل الإعلام تهتم بالخبر وتنشره عبر الإذاعة

ص: 252

والتلفزيون والصحافة.

وأخيرا ضايق هذه الأنشطة بعض المتشددين في جهاز المخابرات واوقفتها كاملاً. أما في المحافظات الأخرى أبرزها قم واصفهان ومشهد فكانت تقوم بنفس البرنامج ولكن بحجم أكبر، وتقدم هدايا ثمينة تكفل أكثر مصاريف الزواج، وقد توسطت أنا لتسجيل بعض الشباب فتم الأمر وحصلوا على هدايا جيدة.

وقد ركز سماحته على شبابنا وطلبة مدرسته الحوزوية حتى تزوج كلهم ولم يبق فيهم إلا من شذ عن البرنامج ولا أعرف أكثر من شخص واحد من هذا القبيل.

مشروع حركة التعميم

كانت له فلسفة خاصة تدفعه إلى نشاط متواصل لتعميم شباب الحوزة العلمية (ارتداء العمامة)، أساس فلسفته في ذلك تقوم على ما يلي:

1. إن التعميم يحول صاحبه إلى (كادر) في المجتمع حيث إن هذا الزي يعني: الوقار والأخلاق والورع، والمجتمع يتعامل مع المعمم معاملة متميزة ومثل هذا الكادر تحتاج الساحة إليه أمس الحاجة.

2. إضافة إلى أن هذا الزي (حافز) فعال يدفع صاحبه إلى القيم ويوقظ فيه الشعور بالمسؤولية ويخلق حوله جواً للتحصيل العلمي ولو بأدنى مستوى بحيث يستطيع الإجابة على بعض المسائل العامة للابتلاء.

وهكذا يكون - التعمم - وسيلة تربوية ترفع من شأن صاحبه وتدفعه إلى الالتزام والاهتمام والتواجد في مقام مناسب.

3. إضافة إلى ذلك فإن التعمم هو الكادر المرجعي الاجتماعي، فالمرجع

ص: 253

الديني يؤدي دوره بواسطة رجال الدين المعممين المنضوين تحت لوائه، أما لو لم يكن معمماً فيضمر دوره ويقل إنتاجه وتحدد فرص العمل الإسلامي إمامه.

هذا ولقد شاهدت رأي العين العشرات بل المئات من رجال الحوزة والعلم الذين تتوجوا على يد سماحته بالعمامة قد ارتقوا في مجتمعات مختلفة واستطاعوا أن يتصدوا لمسؤوليات كبيرة اجتماعية وإنسانية ودينية مختلفة. هؤلاء لو لم يعمموا لما كان لهم أن يخوضوا الميدان ويتصدوا لمسؤوليات انيطت بهم لكونهم رجال دين معممين وملتزمين بمدرسة السيد محمد الشيرازي (رحمه اللّه) .

وقد كان سماحته حثيثاً في حركة التعميم وبذلك فإنه تمكن من تطوير وتنمية الحركة الاسلامية على صعيد العالم وفي بلاد مختلفة شرقاً وغرباً.

وكان سماحته (رحمه اللّه) لا يشدد في الشروط لنفس الفلسفة المذكورة سابقاً حين احتياج الساحة إلى المعمم وإن لم يكن متكاملاً.

وإنني أرى أن هذا الميدان من عمل السيد الراحل (رحمه اللّه) يستحق أن يؤلف حوله كتاب مستقل يتضمن وثائق وصور وأسماء الذين عممهم والنصائح الاستراتيجية التي كان يقدمها لهم في كل حفل تعميم، والدور الذي يؤديه المعممون اليوم، هؤلاء الذين تشرفوا بارتداء العمامة على يد سماحته (رحمه اللّه) والتواريخ وغير ذلك.

ص: 254

القسم الرابع

الهجرة إلى مشهد المقدسة

مع الوصول إلى مشهد المقدسة أمر سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) بإكمال بناء (مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ) وانطلقت حركة أعمار نشطة واصلت عملها على مدار الساعة، وتم إنجاز البناء خلال أيام قليلة، وليس أشهر كما كان متوقعاً، فكان الطابق الأول من المدرسة تم اتخاذه مكتباً تدار فيه شؤون الحوزة والناس، مضافاً إلى البحوث العلمية، والحلقات الدراسية.

ولما انتشرت أنباء وصول سماحة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) في أجواء مشهد المقدسة، أسرعت مختلف الجهات الحوزوية والشعبية إلى زيارته.

كل أساتذة الحوزة وكل طلابها تقريباً البالغ عددهم حوالي سبعة آلاف زاروا سماحته (رحمه اللّه) ، وكذلك من بقية مناطق إيران الأخرى، من جميع جهاتها إلى المشهد الرضوي، الذي حل فيه سماحته (رحمه اللّه) ، وكان ذلك في أوج اشتعال نيران الحرب العراقية الإيرانية، حيث ركب العدو رأسه، وغمره غروره وغطرسته، فاستهدف مئات المدن الإيرانية، وصب نيران غضبه وصمم صواريخه على رؤوس آلاف الأبرياء من الطاعنين في السن والنساء الحوامل والعجائز والرضع من الأطفال.

بلغت الظروف الأمنية ذروتها في الخطورة وتحولت قم المقدسة والعديد من المدن إلى مدن أشباح لم يبقَ في ديارها ديّار ولا في أسواقها ممتار، وتحت الضغط العام وبعد قصف أقرب المناطق ولحوق أضرار بمنزله ومكتبه (رحمه اللّه) ، استجاب سماحته

ص: 255

لإجماع المستشارين وللرأي العام، فهاجر إلى المشهد الرضوي الشريف. فتقاطرت الوفود، زرافات ووحداناً، تبارك له قدومه وسلامته من قصف المدن، لكن المصيبة الكبيرة التي ألحقت به وبرجاله وكوادره، فقدان العالم الجليل والمجاهد الكبير السيد علي الفالي (رحمه اللّه) في حادث سير مؤسف، حيث كان يحمل الأموال والمؤن إلى مهجّري الحرب في مشهد المقدسة، ففي لحظات من الغفوة لشدة الإرهاق وقلة النوم انكفأت المركبة وانقلبت ثلاث مرات وراح السيد الفالي وأخوه السيد جواد (رضوان اللّه تعالى عليهما) ضحية للحادث المؤسف ونجى ولده السيد محمد.

التدريس العام

أعلن سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) بأنه سيبدأ ببحث (الخارج) كدرس عام في الحوزة العلمية في مشهد المقدسة، عنوان البحث كتاب (إحياء الموات) ومكانه: قبو مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) .

وما إن انتشر النبأ، إلا وعمت البهجة في الأوساط العلمية، واستقبل هذا الأمر بارتياح وقبول، وفي اليوم الموعود صباحاً في الساعة العاشرة بدأ سماحته بالتدريس وقد اكتظت الصالة بالفضلاء فكانت هذه الخطوة خدمة للحوزة، وتربية للتلاميذ الفضلاء، وأداءً للمسؤولية وارتباطاً للمئات من الفضلاء والعلماء بمرجعية سماحته (رحمه اللّه) .

فوائد التدريس

الأولى: تبينت ملامح شخصية سماحته (رحمه اللّه) العلمية وقدرته الفائقة، وسعة أفقه العلمي والمعرفي.

الثانية: تأسيس شبكة علاقات حوزوية واجتماعية ومرجعية، على أثرها

ص: 256

صدرت عشرات أو مئات الوكالات للعلماء والمبلغين، ومدت جسور مع شخصيات اجتماعية معتبرة.

الثالثة: انكشفت ملامح مرجعية سماحته (رحمه اللّه) ومقدرته في الإدارة والأداء وأخلاقياته السامية والنموذجية.

الرابعة: وبالتصدي للتعليم العالي الإخباري، أدى جانباً من المسؤولية الشرعية الملقاة على كاهله، باعتباره عالماً يجب عليه إنفاق علمه.

الخامسة: خلق أجواء إيجابية وذات إشعاع مرجعي وودي، أكسبت مدرسته كثيراً من المواقف والمقلدين والمتعاونين مع مشايعته، وبعد انتهاء المرحلة خلف ذكراً حسناً وأثراً طيباً في النفوس.

ومع خوض سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) ميدان التدريس، نزل كوادره معه أيضاً، فأولاده بدأوا بالقاء دروس مختلفة والسيد المرجع (دام ظله) بدأ ببحث خارج خاص ، وأنا شخصياً بدأت بتدريس أصول المظفر والروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، وانطلقت حركة علمية ناشطة في أجواء مدرسته وتلامذته.

وفد المعارضة السعودية

في تلك الفترة زار سعوديون مختلفون من ذوي الشأن سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) وكلهم من أبناء مدرسته. وقد كانت الدولة السعودية متوترة بشدة من حركة المعارضة الشيعية وعلى الخصوص من (منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية)(1) لهذا فقد بادرت أجهزة المخابرات السعودية، ورجال سياستها

ص: 257


1- وهي منظمة سياسية معارضة لنظام الحكم الموجود في المملكة العربية السعودية أسسها معارضون سعوديون شيعة كانوا متواجدين في قم المقدسة باسم الحوزة الحجازية وسُمي فيما بعد بإسم تجمع علماء الحجاز، كانوا جميعهم من محافظة القطيف و محافظة الإحساء شرق السعودية ما عدا شخص واحد كان من المدينة المنورة غرب السعودية.

الخارجية بطلب إجراء حوار مع هذه المعارضة التي أرّقت مضاجعهم وسلبت النوم من عيونهم، تكررت الوسائط والطلبات وقادة المعارضة يرفضون وأخيراً اقتنعوا ببدء الحوار نتيجة دوافع سياسية، أما على المستوى الشرعي فإن ذلك منوط بإجازة المرجع الجامع للشرائط، وكان هؤلاء مرجعهم ومربيهم الإمام الراحل (رحمه اللّه) فبعثوا إليه من يبحث معه أهمية الموضوع وايجابياته وسلبياته، وكان الوسيط هو الدكتور (توفيق السيف)(1) وهو السياسي السعودي المخضرم، وأسرته بفروعها الكثيرة، الحليفة والمقلدة لسماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) .

التقى توفيق السيف بالإمام الراحل (رحمه اللّه) في اجتماع تفصيلي، ومعه - على ما أتذكر - شخصية علمية وسياسية أخرى.

رفض سماحته خوض مفاوضات مع نظام مستكبر ومستبد ومدجج بالأسلحة والمال إلى النخاع، وقال لهما: إن النظام السعودي يريد أن يسحب منكم رأية المعارضة، ويجركم إلى داخل المملكة، ثم لا يفي بأي من عهوده ومواثيقه.

وقد تعددت اللقاءات لدراسة موضوع الحوار مع الحكومة السعودية لأهميته بالنسبة للمعارضة الشيعية، وكان رأي سماحته (رحمه اللّه) الذي استقر عليه هو إن الطرف الآخر لا يفي بعهوده، ورغم ذلك قال لهم: (إن رأيي مع الأكثرية من قادة التنظيم)، وطلب إليهم عقد مؤتمر تداولي في الموضوع للخروج برأي واحد، ونفذ الطلب، فاجتمع إثنان وعشرون شخصية قيادية في المؤسسة التنظيمية ل(منظمة الثورة في الجزيرة العربية)، وخرجوا بعد يومين من النقاشات

ص: 258


1- مفكر وباحث سياسي ومؤلف سعودي مهتم بقضايا التنمية السياسية شيعي اثني عشري المذهب. وهو عضو في مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت وكذلك عضو في منظمة العفو الدولية في لندن.

المستفيضة والبحث الدقيق، برأي موحد مجمع عليه وهو الدخول في المفاوضات مع النظام.

بالمقابل كان هناك قادة كبار وأوائل في (حركة الرساليين الطلائع)(1) والتي تمثل (منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية) أحد فصائلها ، وهم غير سعوديين، رافضين للمفاوضات ورأيهم الصريح الذي كانوا يعبرون عنه هو: إن المعارضة راية مرفوعة، والمفاوضات تعني إنزال الراية وعدم القدرة على رفعها مرة أخرى، ونتائج المفاوضات غير مضمونة، والخصم لا يفي بشيء منها، فماذا يصنع المعارضون وقد نكسوا رايتهم، وعادوا إلى البلاد، وأصبحوا في قبضة نظام متغطرس مغرور؟

نتيجة لذلك طلب إليهم الإمام الراحل (رحمه اللّه) بقاء شريحة منهم خارج البلاد، كي تضمن لنفسها الحرية، وتملك زمام نفسها وكلمتها، ولا تقع صيداً سهلاً بين براثن أجهزة الخصم.

تكاملت الأفكار والاطروحات حول مقترح المفاوضات، وتفاعلت الأحداث بسرعة، وأثمرت في النهاية عن زيارة لوفد المعارضة للملك فهد بن عبد العزيز(2)، وكان على رأس هذا الوفد الدكتور توفيق السيف، مع أربعة أو

ص: 259


1- بعد نشوب خلافات بين أعضاء منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية، توجه قسم منهم إلى سوريا وقاموا بتأسيس تنظيم سياسي معارض لنظام الحكم الموجود في المملكة العربية السعودية باسم حركة الطلائع الرساليين و تحول مسماه فيما بعد إلى منظمة الثورة الإسلامية.
2- خامس ملوك المملكة العربية السعودية وأولهم اتخاذاً للقب خادم الحرمين الشريفين. هو الابن التاسع من أبناء الملك عبد العزيز الذكور، من زوجته الأميرة حصة بنت أحمد السديري. تولى مقاليد الحكم في 13 يونيو 1982 بعد وفاة أخيه غير الشقيق الملك خالد. أصيب بجلطة في نوفمبر 1995، ومنذ عام 1997 تولى عبد اللّه بن عبد العزيز ولي العهد حينها إدارة معظم شؤون البلاد اليومية.

خمسة أعضاء من شخصيات منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية.

وبعد ذلك، جرت سلسلة اجتماعات تفاوضية بين المعارضة والحكومة السعودية، بعد نهايتها وقع الطرفان على وثيقة تتضمن أحد عشر بنداً ومطلباً للمعارضة، لم تف الحكومة السعودية، ولا بواحد منها وصدقت نبوءة الإمام الراحل (رحمه اللّه) في إنهم لا عهد لهم.

الهدايا العامة

مع حلول شهر شعبان المعظم، اقترح سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) توزيع هدايا عامة على كل طلبة الحوزة العلمية البالغ عددهم حوالي سبعة آلاف عالم وطالب وخطيب وأستاذ، صوب الاقتراح بعد دراسته والتشاور بشأنه، وصدر بيان وعلق على أبواب المدارس والمراكز الحوزوية، موقع باسم مكتب سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) مفاده: إن هدية متواضعة من بقية اللّه الأعظم الحجة المنتظر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) ستقدم إلى رجال العلم عموماً، مكان التوزيع: مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) وزمان التوزيع : يوم /11/ شعبان المعظم/ ولمدة ثلاثة أيام، صباحاً.

إضافة إلى الهدية النقدية، وزعت معها كتب ثقافية، ولا أتذكر كم كان مقدار الهدية، لكني احتمل إنها كانت خمسة آلاف تومان إيراني، وأمثال هذه المبادرة تتقدم بها مختلف المرجعيات وقد نظمت هذه العملية بصورة رائعة، وسجلت الأسماء في دفاتر كبيرة معدة لهذا الغرض وكان التسامح سيد الموقف، ولم يحرم أحد مطلقاً، ومن يشك فيه هل أنه لا يزال يواصل المسيرة العلمية أم لا، كان التعامل معه بقاعدة (اللطف) التي كان يؤكد عليها ويكررها المشرفون على العمل، وفي مختلف مناسبات الفرح والسرور.

ص: 260

مثل هذه المبادرة تنفذ على خلفية احترام الحوزة وطلابها، والعاملين تحت مظلتها الكبيرة، وتشير أيضاً إلى المحبة والاحترام وتقدير جهود رجال الدين، وإبداء النوايا الحسنة تجاههم، من قبل المرجعية الدينية وتجاه قواعدها الحوزوية وقواعد غيرها من رجال العلم والدين.

وقد نشرت المبادرة الودية والإنسانية هذه، جواً من المحبة وقدرت شرائح الحوزة كلها

هذا الموقف الرمزي والودي من قبل مكتبه ومرجعيته للعلماء والحوزويين.

أما التيار المتشدد، والمخاصم لأكثر المرجعيات التي لا توالي مرجعيته، فكان له حينها موقفان: أولهما : إن الشيخ الطبسي رجل الدين الرسمي الأول في مشهد المقدسة والذي لا يجري حدث ولا يتخذ قرار ولا ينفذ مشروع رسمي أو شعبي إلا بعد إمضائه وتأييده، هذا الرجل وبعد انتشار البيان اتصل وناقش الموضوع مع مرجعيته العليا في طهران، فكان الرد عليه: إن كان السيد الشيرازي ينوي تقديم هدية لطلبة الحوزة، فهذا أمر لا مانع فيه من قبلنا ولا داعي في هذه الظروف لمواجهة أمثال هذه الأنشطة.

والجدير بالذكر إن للرجل الأوحد في مشهد المقدسة، الذي لا يعلو على صوته صوت أحد ذو تجربة طويلة في مكافحة التيارات والشخصيات الدينية المختلفة، وطريقته في ضرب أمثال هذه الحركة - توزيع هدايا عامة للحوزة - إنه يعين مجموعة من البلطجية الموالين للتطرف، فينظمون تظاهرة معينة صاخبة تتأجج خلالها عواطف التطرف وتردد شعارات مفادها: الموت لأعداء الإسلام، الموت لأعداء الوطن، الموت لأعداء الثورة، وما أن تصل التظاهرة إلى مقر المكتب أو الموقع الذي ينفذ المهمة ويوزع الهدية فيشن هجوماً كاسحاً، ويعتدي

ص: 261

على العاملين ويشتت شملهم وأمتعتهم ويسلب أموالهم ويكسر أثاثهم ولو وقعت فتنة، ورَدوا بالمثل كان مصير المعتدى عليهم مصير أعداء الدين والوطن! ثم يغلقون أبواب المكتب ويكتبون بعض الشعارات عليه ويمنعونه مستقبلاً من أي نشاط، هذا ما حدث بالنسبة لأكثر من جهة مرجعية في مشهد المقدسة، وخلفها شخصية معينة هي من رموز التطرف في هذه المدينة المقدسة.

أما الانعكاس الثاني السلبي فتمثل في خطاب إمام الجمعة، الذي شن هجوماً كلامياً محموماً على سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) وتكلم عنه بجمل نابية ووصفه بالجبن والفرار من قم المقدسة، هذا في الوقت الذي لم يبقَ رجل دين واحد مقيماً فيها بل إنها أصبحت مدينة أشباح لا رجل دين ولا غيره. فلم الهجوم على سماحته (رحمه اللّه) تحديداً؟ هل المطلوب منه أن يبقى فيها دون غيره ليستقبل صواريخ طغاة العراق بصدر واسع؟!

لقد نشرت الصحافة الايرانية خطابه المشبوه ولم يلق في الساحة صوت مؤيد واحد غير بعض الجماعات المتطرفة من الخط الذي ينتمي إليه هو ليس إلا. وقد رد عليه البعض من الخطباء والعلماء واستنكروا عليه التصريحات غير المؤدبة التي قابل فيها ضيفاً كبيراً على المدينة المقدسة، واستنكره عليه والده أيضاً، وقد زارت وفود عديدة (الأب والابن) وأعلنوا احتجاجهم على الموقف السلبي من شخصية الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

ولم يكن موقف الامام الراحل (رحمه اللّه) ومكتبه الرد بالمثل ولا التهريج ولا نشر البيانات السلبية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وقد اقترح على سماحة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) قطع الراتب الذي يقدمه مكتبه للخطيب المتطرف، فرفض سماحته (رحمه اللّه) ذلك، وابقى على العلاقة الودية معه وكذلك مع أبيه الذي خالف

ص: 262

ولده وموقفه غير المبرر واللا شرعي! وكان لموقف الصمت والتغاضي والرد بالحسنى أثر إيجابي كان داعماً لحق ومظلومية السيد الراحل (رحمه اللّه) الذي استهدف دون ارتكاب ذنب شرعي أو قانوني أو حتى ما يخالف العرف.

وفيما يتعلق بنشر العلم والمعرفة، فقد تم تجريد حملة ثقافية واسعة، نشرت خلالها آلاف الكتب في مستويات مختلفة ووزعت بعض أعداد موسوعة الفقه على أصحاب الفضيلة وطلاب التعليم العالي في (بحث الخارج).

كما وزعت كثير من الكتب الثقافية والعقائدية وأمثالها، ووزع أيضاً ووفق طلب المراجعين، كتاب (توضيح المسائل) وهو الرسالة العلمية لمقلدي سماحته (رحمه اللّه) .

كان يمر على المكتب الكثير من رجال الدين من البلاد المجاورة، ويستلمون أمثال هذه الكتب لغرض نقلها إلى بلادهم. فأي فرد يستطيع نقل عدد من الكتب كان يستلمها من المكتب وينطلق إلى بلاده للدعوة والتبليغ والترويج للمرجعية، لكني للأسف لا أتذكر شيئاً من عناوين تلك الكتب التي تم توزيعها في تلك الفترة..

الأنشطة الإنسانية

اكتظت مدينة مشهد بمهجّري الحرب العراقية الإيرانية، وهي التي احتضنت قبل ذلك جموعاً غفيرة من المعوزين، وهي موطن أساسي وكبير لمشردي الحروب والفقر في أفغانستان. في مثل تلك الظروف كان على المرجعيات الدينية الوقوف إلى جانب الطبقة المستضعفة والمنكوبة، وقد كان مكتب سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) وكل الكوادر القادمين من مختلف المناطق في حركة دؤوبة لإعانة الضعفاء وإسعاف المعوزين وتقديم بعض العون لهم.

وكان من وصاياه (رحمه اللّه) : لا تردوا أحداً ولو بإعطائه القليل والاعتذار منه.

ص: 263

وقد وزعت مقادير كثيرة من البطانيات والمواد الغذائية والأموال النقدية، وكان الجو بارداً وقارصاً يزيد الطين بلة، وتشتد فيه الحاجة إلى الملابس والوقود وغير ذلك.

وكان إيواء المهاجرين يتم في الحسينيات، أو الفنادق أو بعض البيوت المستأجرة، وهذه كلها تتطلب البذل المالي الذي لم يكن متوفراً بسيولة كبيرة في ظروف الهجرة، وكان لمكتب السيد الراحل (رحمه اللّه) موقف الداعم لهذه الأعمال. وكانت شاحنات كبيرة من المؤن تصل إلى مشهد قادمة من طهران بأمر من سماحته (رحمه اللّه) وتعاون الخيرين من التجار.

الحديث عن الأنشطة الإنسانية لمرجعية سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) يتطلب كتابة آلاف من الصفحات، والمرحلة المشهدية صفحة مشرقة منها.

أوقات الفراغ

عاش سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) منفرداً في تلك المرحلة في الغرفة الثالثة من الجانب الأيمن للطابق الأول من مدرسة الامام الرضا (عليه السلام) ، يطالع فيها ويكتب، ويعقد الاجتماعات الخاصة وبعد ذلك كان ينهض ويتمشى في الممر الذي أمام الغرفة والتمشي رياضة ضرورية ولازمة لأمثاله، وكان سماحته (رحمه اللّه) لايكتفي بالمشي فقط، فكان يؤدي أحد عملين: إما أن يطلب أحد أولاده، أو تلامذته، ويتمشيان معاً ويتحدثان فيما بينهما.

وكان (رحمه اللّه) يركز في الحديث على ما له تأثير في بناء شخصية الطرف الآخر، ويتحدث بما يعده في قائمة الأولويات والظروف القائمة، وفي هذا الممر ناقش سماحته (رحمه اللّه) في بنود (القانون الأساسي للمؤتمرات) الذي طلبه مني (رحمه اللّه) فكتبته وقرأت بنوده كلها عليه، وبعثته إلى أهل الحل والعقد في الشام.

العمل الثاني: كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يهتم برياضة التفكير كثيراً، وكان

ص: 264

كلما يتمشى في برنامجه الصباحي أو المسائي، ولم يكن معه أحد للحديث المشترك، كان يفكر في برنامج التأليف أو المواد التي يدرّسها أو قضايا الحوزة والمكتب أو القضايا السياسية العامة والظروف التي تمر بالأمة الإسلامية أو وضع حل لمشكلة معينة.

إهداء وردة

ومما يكشف عن بعض طبائعه وطريقة تفكيره في الأمور المهمة، إنه (رحمه اللّه) أهديت إليه وردة جميلة وجذابة، وكانت تفوح عطراً وتشع أناقة وجمالاً، وقد أهديت إليه لأنه يعيش بعيداً عن أهله الذين كانوا يقيمون في الفندق، وهو لبعده عنهم يعاني من الوحدة والغربة بالإضافة إلى كثرة الضغوطات المرجعية وغيرها، فجاءت تلك الوردة للتخفيف قليلاً من آلام وحدته، فشمها عدة مرات ثم بعثها إلى بعض الحراس، فاحتج عليه إنها قدمت له خصيصاً فأجاب: إن الدكتاتورية والغرور والحالة الفردية تبدأ من هذه الصغائر، فمثل هذه الوردة يلزم أن تكون لي ولغيري، ولا يصح أن احتكر جمالها وعطرها لي خاصة.

بعد الشقة وصعوبة الاتصالات

المرجعية الحيوية التي تتداخل في صميم القضايا العامة للمجتمع وللمقلدين، وتشارك الأمة همومها وآمالها، وتمارس الإدارة الحيوية والناشطة لشؤون الأمة والمجتمع، مثل هذه المرجعية يعاب عليها المكوث كثيراً في مدينة نائية مثل مشهد المقدسة، على الرغم من أنه (رحمه اللّه) كان قد لجأ إليها بعد تطورات قصف المدن في الحرب العراقية الايرانية، لذلك كان يعاني كوادر مرجعيته (رحمه اللّه) من عقد اللقاءات معه وتنسيق الأعمال، وذات مرة كان العديد من الشخصيات قدِموا من

ص: 265

طهران للقاء به، كان منهم سماحة الحجة العلامة الشيخ نديم الطائي، فكان يعبر عن بعد مدينة مشهد بأنها اشبه ب(منفى)، كان يقول: والإمام الرضا (عليه السلام) قد نفي إلى(طوس) وهي مشهد المقدسة هذه نفسها، فكان رأيه ورأي عموم أهل الحل والعقد من رجال المرجعية، العودة إلى قم المقدسة، وذلك بعد هدوء في معركة استهداف المدن ، قم المقدسة عاصمة العلم والمرجعية وقريبة من طهران، عاصمة السياسة والاقتصاد، أما مشهد فمركز ديني وروحاني لوجود قبر الإمام الرضا (عليه السلام) .

ومع انسلاخ شهر رمضان المبارك استقبلني الشيخ نديم الطائي، وطلب مني التوجه إلى ساحة المنزل، والمعروف عندنا إن هذه الساحة هي مصلى، ومكان للمجالس العامة أيام الأعياد وأيام الأحزان، قلت له : لماذا إلى الساحة؟ أجاب مسروراً فوراً: إن سماحة السيد المرجع جالس للاستقبال! قلت: عجيب، أرجع السيد؟ قال: نعم!

كدت أطير من الفرح، وأسرعت إلى الساحة، فوجدته (رحمه اللّه) في صدر المجلس، تحف به كوكبة من العلماء.

كيف تمت العودة ؟

من الواضح إن الحماية الأمنية لسماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) وللقادة تعتبر من أهم المسؤوليات، وهي عملية صعبة وتتطلب مهارة وتجربة ووعياً، وسماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) كان مستهدفاً من البعثيين والقوى المتطرفة لذلك لزم التخطيط الأمني الدقيق، للحفاظ على حياته، ولكي لا يخطط الخصوم، بصورة مباشرة أو غير مباشرة في حادث مروري مصطنع وينهون حياته، والسؤال الذي ينتظر الإجابة: كيف تمت العودة؟ الجواب: تمت عبر خطة مكونة من عدة نقاط:

ص: 266

1. في حصن منيع من الكتمان والسرية، تمت العملية حيث لم يعلم بها إلا أخوه آية اللّه السيد صادق (دام ظله) وفضيلة الحجة الشيخ حسن الأصفهاني (رحمه اللّه) .

2. أبلغ السائق الخاص والأمين المخلص، عبد الأمير الحسيني (أبو عطا) بالاستعداد للخروج في سفرة في الساعة الثامنة ليلاً، وطلب منه أن تكون السيارة جاهزة كاملاً، ولم يخبر بشيء آخر.

3. أعطي مقدار من المال لمدير المحراب والعاملين، وطلب إليه أن يضيّفهم جميعاً في المطعم في الساعة الثامنة مساءً. حيث إن تبرعاً خاصاً جاء لهم لهذا الغرض.

4. أطفئت الكهرباء المركزية لكل العمارة، لصيانة العطل المحتمل.

5. وفي لحظات سريعة تحت جنح الظلام، خرج الإمام الراحل (رحمه اللّه) وركب السيارة الواقفة بباب المدرسة في انتظاره، ولا أذكر إن كان هناك شخص رابع معهم أم لا؟ وهل إن أحداً آخر كان يعلم أم لا؟ أظن إن سماحة السيد صادق (دام ظله) كان معهم أيضا، وأظن إن السيد الرضا (رحمه اللّه) والمرتضى (حفظه اللّه) كانا على علم أيضاً بهذه الرحلة التي تم التخطيط لها.

انطلقت المركبة ولم تتوقف مطلقاً إلا للصلاة أو حاجة غاية في الضرورة، واستغرقت الرحلة إثنتي عشرة ساعة فقط. فوجئ بها الجميع بما فيهم العائلة الكريمة، والأقارب الخاصون.

وكانت الهجرة إلى مشهد المقدسة قبل ذلك، تمت أيضاً بفبركة مماثلة لعملية العودة إلى قم المقدسة.

والجدير بالذكر هنا إن هناك من كان يعمل ضمن مدرسة سماحته (رحمه اللّه) لكنه انفصل عن التنسيق مع سماحة السيد (رحمه اللّه) ، فحين هاجر (رحمه اللّه) عام 1970م

ص: 267

إلى الكويت، هاجر هذا البعض إلى قم المقدسة وحين هاجر السيد إلى قم المقدسة، هاجر الآخر إلى مشهد المقدسة.

التحريض على التقدم الاقتصادي

كان من طبيعته (رحمه اللّه) تحريض الأفراد على تغيير واقعهم، والتقدم بخطوات نوعية إلى الأمام .. ومن أساليبه التشجيع على تغيير أساليب المهنة، وكان هذا سبباً في تقدم نوعي لجمع من رجال الأعمال.

من هؤلاء رجل من ولاية يزد الإيرانية، كان مقيماً في الكويت، يتفاعل مع جهاز سماحته (رحمه اللّه) ، ويتبرع للمشاريع ويزور مدرسة الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويسد الحاجات وبعض النفقات، ويرمم النواقص، حثه سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) على تغيير عمله، حيث كان يعمل في بقالية صغيرة (سوبر ماركت)، اقترح عليه العمل في الصياغة والذهب، لكنه لم يقتنع إلا بعد مرور مرحلة من الزمن، وتمكن من التغلب على مصاعب تغيير المهنة. أقدم على الخطوة الكبيرة فصار تدريجياً تاجر ذهب.

وحين وقعت عملية اغتيال أمير الكويت الأسبق جابر الأحمد(1) والتي لم يكتب لها النجاح، حيث فشلت العملية وقبض على المتآمرين، شنت الحكومة الكويتية بعدها حملات واسعة على الايرانيين والعراقيين واللبنانيين المقيمين هناك، وقامت بترحيلهم بالجملة إلى بلادهم، بعد سحب وثائقهم الكويتية

ص: 268


1- أمير دولة الكويت الثالث عشر والثالث بعد الاستقلال من المملكة المتحدة، هو الابن الثالث للشيخ أحمد الجابر الصباح تعرض في يوم 25 مايو 1985 لمحاولة اغتيال نجا منها، وفي 2 أغسطس 1990 غزت العراق الكويت، فاستخدم كافة الوسائل لتحريرها، وتحقق ذلك في 26 فبراير 1991 بعد حرب الخليج الثانية.

وإسقاط الاقامات، هذا الرجل الذي نسيت اسمه تم ترحيله إلى ايران، ومعه كميات هائلة من سبائك الذهب، ومن المصوغات الذهبية وتمكن بأمواله الطائلة أن يؤسس بنكاً خيرياً في يزد، أطلق عليه (بنك الأئمة الأثني عشر للإقراض الخيري).

لجنة للزيارة والتعاون

نفس الرجل الذي كان يدير بقالية متواضعة في الكويت، وبعد وصوله إلى يزد أمر سماحته (رحمه اللّه) بتشكيل لجنة لزيارته، وهكذا التأم شمل اللجنة من أصحاب الفضيلة الشيخ حسن الأصفهاني (رحمه اللّه) والشيخ عبد الرحيم الحائري، والشيخ جعفر عسكربور(1) وأنا المتكلم، وزارت اللجنة ذلك التاجر المجاهد والوجيه وحملت إليه تحيات سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وعرضت عليه التعاون فاستقبل المقترحات برحابة صدر وتم التنسيق معه نسبياً وقدر المستطاع.

ومن الذين ركز عليهم سماحته (رحمه اللّه) وغير مهنته هو الوجيه المجاهد: الحاج جعفر مير حائري(2)، والذي نزل إلى ميدان العمل وشارك في تأسيس بنك جواد الأئمة (عليه السلام) ومؤسسات مدنية وخيرية غير انتفاعية، منها مستوصف في مشهد المقدسة ومستوصف في قم المقدسة ومؤسسات راقية أخرى؛ و لازال إلى الآن محوراً ذا يد طولى في كثير من الأنشطة الهامة. والتحريض على تغيير المهن، من وسائل سماحته (رحمه اللّه) في تغيير واقع رجال الأعمال ، ودفعهم إلى التقدم والنمو.

تأسيس حي لإسكان العراقيين

كان من رأي الإمام الراحل (رحمه اللّه) تأسيس مشاريع للإسكان، وحين كان

ص: 269


1- خطيب حسيني، وناشط في مكتب سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ومدير بعض الفروع فيه.
2- من كوادر سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) وناشط يقيم في طهران.

العراقيون أكثر احتياجاً، قرر تأسيس حي في قم المقدسة وآخر في طهران وفي غيرهما أيضاً، إلا أن العقبات المصطنعة والغير مشروعة هي التي حالت دون تحقيق ذلك الغرض.

وكان حينها قد وصل إليه من الكويت حوالي مليوني تومان كدفعة أولى وهي تعادل آنئذ حوالي مائتي ألف دولار ومئات الأطنان من المواد الإنشائية، الحديد خصوصاً مما احتاج نقلها إلى(160) مائة وستين شاحنة كبيرة ، فصودرت الأموال والمواد والأرض التي أسس عليها فيما بعد ترمينال لقم.

أما في طهران فتأسس حي صغير في قضاء (باقر أباد) ولكن بصعوبات بالغة واضطر إلى التراجع عن هذه المشاريع السكنية، وكان المسؤول الإداري عن هذه المشاريع هما المرحومان الفاضلان السيد علي الفالي والسيد مرتضى خردمند(1).

ختان الأولاد

ومما بادر إليه سماحته (رحمه اللّه) خدمة للطبقة المستضعفة، مشروع الختان الجماعي، وذلك في مناسبات الأعياد الدينية ومواليد المعصومين (عليه السلام) .

وأتذكر المبادرة التي اتخذت من ميلاد بقية اللّه الأعظم (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) موعداً لها، وحسينية دار الحسين (عليه السلام) مقراً والحاج صادق خوشحالت (رحمه اللّه) (2) منفذاً، فتقرر ختان ألف طفل خلال ثلاثة أيام، وعمت الأفراح والمسرات مع هذه الحملة الإنسانية، إلا أن العدد وقف عند حوالي سبعمائة إذ تدخلت وزارة الصحة ومنعت إكمال المشوار ولا يدرى لأي سبب عقلاني أو شرعي منع هذا المشروع.

ص: 270


1- سبط آية اللّه العظمى الميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) ومن الوجهاء ورجال الأعمال.
2- كان من الوجهاء والناشطين في خط سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

محطة بث تلفزيوني

قرر سماحة الامام الراحل (رحمه اللّه) تأسيس محطة بث تلفزيوني لتهتم بالمحاضرات العلمية والتربوية ولإظهار الوجه الحضاري للفكر الإسلامي، كان هذا القرار حوالي عام (1980 م) وعين سماحته الأخ الفاضل الدكتور الشيخ فؤاد الحلواجي(1) مسؤولاً ومديراً وتحرك لتنفيذ مقدمات المشروع، غير إن الوزارة المعنية وخطوط العناصر المتطرفة تصدت للمشروع وأجهضته قبل أن يولد! وصودرت الأجهزة التي أعدت للتنفيذ . وبعد سنين عدة جرت محاولة أخرى وكانت بالتنسيق مع (منظمة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية) وهذه الكرة أخفقت بعد إعداد سلسلة من المقترحات أيضاً لنفس ما ذكر من الأسباب وكان المسؤول والمدير نفس الشيخ الحلواجي أيضاً.

وفد أفريقيا

في مساء أحد الأيام زار وفد أفريقي يتألف من ثلاث شخصيات من ذوي الشهادات العليا والأساتذة في جامعة أوغندا وغينيا وطرحت معهم أمورمختلفة. وكان مما طرحه سماحته معلومات كانت غائبة عن هؤلاء، منها التحرك الوهابي في أوغندا خصوصاً، وذكر لهم بعض الأرقام عن هذا التحرك، حيث فوجئوا بها وذكر لهم موضوع تهجير المسلمين الشيعة من مؤسسة (الخوجة) وزعزعة كيانهم في أوغندا وارباك مشاريعهم فكانوا لا يعلمون بكثير من تلك المعلومات. وتبين أنه (رحمه اللّه) وهو جالس في غرفته ذات الستة أمتار أكثر معلومات عن البلاد التي يعيش فيها هؤلاء، وبحث معهم أيضاً نشاطات الفاتيكان هناك، وأهديت

ص: 271


1- خطيب حسيني من كوادر سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، بالاضافة إلى كونه طبيب أعشاب.

لهم حزمة من الكتب الهامة التي تنفعهم وتنفع قضايا بلادهم. وقد نسيت للأسف الكثير من المعلومات عن هذا الوفد.

وفد السلام الهندي

وزاره وفد من الهند من رجال السيخ، لحاياهم معقودة ويرتدون بدلات بيضاء متشابهة وكانوا رجالاً نباتيين لا يأكلون اللحوم، وجاءت تلك الزيارة بعد أن تحملوا مسؤولية زيارة بغداد واللقاء بالحكومة العراقية لغرض المداولات في أمر السلام بين إيران والعراق، وطرح معهم سماحته (رحمه اللّه) رؤيته حول العنف في العراق ضد الشعب وضد دول الجوار، ثم تم تزويدهم بالكتب الانكليزية والاوردية وكانوا بطبعهم يحترمون كل أصحاب الأديان.

مع رئيس جمعية الخوجة

من الذين التقوا بسماحته (رحمه اللّه) ونسقوا العمل معه رئيس المسلمين الخوجة، الوجيه الفاضل المرحوم الملا أصغر (رحمه اللّه) (1).

وكان سماحته (رحمه اللّه) يهتم بهؤلاء ويحترمهم وكان في زمان مضى قبل الهجرة من العراق قد اقترح على قياداتهم تأسيس جمعية منظمة لكل الخوجة وتعدادهم حوالي (300000) نسمة، فلبوا الطلب وأسسوا جمعية ( بلال مسلم مشن) ولازالت تعمل إلى اليوم، ولها من الفروع أكثر من سبعين فرعاً منتشرة في مختلف بلاد العالم.

كما سعى لتأسيس حسينية لهم فتأسست بعد ذلك، وتم تأسيس موكب حسيني لهم أيضاً، وقد شاهدت هذا الموكب وكان جلّه من شيعة النيجر،

ص: 272


1- زعيم جمعية الخوجة في العالم ومقره في لندن.

وكانت حسينيتهم تقع في آخر شارع قبلة الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء المقدسة - حسب ما يغلب على ظني -.

وكان (رحمه اللّه) يوصي بزيارة مقرهم في قم المقدسة والتنسيق مع إداراتهم كما كنا ننسق مع بعض شبابهم من (جزر القمر) وغيرها من أقطار أفريقيا، كان شاب بارز فيهم اسمه (مالك) وهو كان مثقف وقيادي مقلد لسماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) ومتحمس للعمل في إطار خطته ومسيرته. والملا اصغر رئيس الجمعية من الناشطين المخلصين وكان في إحدى زياراته إلى العراق قد القي القبض عليه، وزج به في غياهب السجون ومورس بحقه أبشع التعذيب، بعد أن اتهم بالجاسوسية والعمالة!

المركز القيادي العالمي للخوجة في لندن ومكتب الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان على وفاق وتنسيق معه. وعندما شن الرئيس الأوغندي المخلوع الديكتاتور (عيدي أمين)(1) حملة تهجير ضد هؤلاء الخوجة المقيمين في بلاده تحرك سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) للاحتجاجات والاستنكار، وأصدر بياناً في هذا الصدد وسعى لإيصال صوت هؤلاء المظلومين إلى أسماع العالم.

وهذه الجمعية (الخوجة) منظمة ملتزمة تحترم قيادتها، وموالية لأهل البيت (عليهم السلام) تهتم بإقامة الشعائر الحسينية على مدار السنة، تعقد كل ثلاثة أشهر مؤتمرات محلية في مناطق تواجدها، وكل عام تعقد مؤتمراً سنوياً وأكثرهم من التجار والمتمولين، منتشرون في أوربا وأمريكا أصولهم هندية وكانوا من

ص: 273


1- هو رئيس أوغندا الثالث في الفترة بين عامي 1971 و1979. ويوصف دائماً بالدكتاتور العسكري.

الإسماعيليين(1) الذين يعتقدون بأمامة ستة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ثم على أثر جهود مبلّغ مجاهد من علماء النجف الأشرف انفصلوا عن الإسماعيلية وانتموا إلى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ولهم بروتوكولات نظامية خاصة بهم، منها: إنهم بعد صلاة الجماعة يقف إمام الجماعة للسلام والمصافحة فيسلم أحدهم عليه ويصافحه ويقف بجانبه ثم يأتي الثاني ويأتي الآخر يبدأ بالسلام والمصافحة بالإمام أولاً ثم من بعده بالتسلسل ويقف إلى جنب الثالث وهكذا حتى يسلم الجميع على الجميع، يومياً مرة واحدة مساءً ومرة بعد صلاة الظهرين.

قضايا المسلمين

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يبذل كل ما بوسعه لدعم قضايا المسلمين والمستضعفين وهو يأخذ في اعتباره الدافع الديني والإنساني، ف- (الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) كما في مضمون قول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في وثيقته الخالدة لمالك الاشتر (رضوان اللّه تعالى عليه) حين ولاه مصر.

ومما أتذكر من مواقفه (رحمه اللّه) حول القضايا الإسلامية قضايا العراق وإيران وأفغانستان والباكستان والخليج ولبنان وفلسطين والشيشان والبوسنة والهرسك والمسلمين في البلاد الأجنبية والهند وقضية كشمير، وغيرها.

ص: 274


1- الإسماعيلية إحدى فرق الشيعة وثاني أكبرها بعد الاثنى عشرية. يشترك الإسماعيلية مع الاثني عشرية في مفهوم الإمامة، إلا أن الانشقاق وقع بينهم وبين باقي الشيعة بعد استشهاد الإمام السادس جعفر الصادق (عليه السلام) ، إذ رأى فريق من جمهور الشيعة أن الإمامة في ابنه الأكبر الذي أوصى له إسماعيل المبارك، بينما الحق هو أن الإمام هو أخوه موسى الكاظم (عليه السلام) لثبوت موت إسماعيل في حياة أبيه وشهادة الناس ذلك.

في قضية كشمير عموماً ومسجد (بابري) التي جرت في سبيله دماء المسلمين بغزارة، أصدر سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) بياناً للدفاع عن حقوقهم، فاحتج سفير الهند في بيروت ورد بيان سماحته (رحمه اللّه) ونشر بياناً في جريدة السفير وغيرها.

وفي مختلف القضايا كان سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) يصدر بياناً يعلن فيه موقفه ورؤيته لعلاج الأزمة إن كانت هناك أزمة قائمة. وكان (رحمه اللّه) يعيش تلك القضايا بوجدانه. وقد عرض له ذات مرة فيلم لمدة (10) دقائق عن البوسنة والهرسك فما تمالك عواطفه وانفجر باكياً.

وبإلقاء نظرة على بعض العناوين التي انتخبها لكتبه يتبين مدى اهتمامه بقضايا الأمة فكتاب (السبيل إلى إنهاض المسلمين) و(ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين) و (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والسلام والرفاه والحرية) وغيرها، يظهر طبيعة تفكيره وخريطة عقله التي تدل بعمق على شعوره بالمسؤولية تجاه الأمة الإسلامية.

وكان سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) يدعو إلى وحدة الأمة الإسلامية ابناؤها وجغرافيتها وقيادتها وعملتها وقوانينها وغير ذلك، وقد قال عنه سماحة آية اللّه السيد احمد الفالي (رحمه اللّه) (1): (إن السيد محمد الشيرازي يؤرقه ألم الدين) أي الشعور بالمسؤولية تجاه الشريعة والأمة الإسلامية، وكل من عاشر سماحته (رحمه اللّه) وسمع منه بعضاً من آرائه ورؤاه يعرف هذا الأمر بشكل واضح ومؤكد.

ص: 275


1- رجل دين ومؤلف شيعي. كان من المعارضين للحكومة العراقيَّة إبان حكم حزب البعث العربي الاشتراكي، وتعرَّض جراء ذلك للاعتقال والتهجير ثم سحب جنسيته العراقيَّة، فاستوطن إيران.

ومن القضايا التي أولاها اهتماماً بالغاً، قضية العلويين في تركيا.

كان يرى ضرورة التخطيط لربط هذا الوجود الكبير بجسم الطائفة الشيعية والتي يربو عددهم على الاثنين وثلاثين مليون نسمة، وقد أكد لي في آخر زيارة إليه صيف عام (2002 م) بضرورة التحرك لهذه القضية، وقال: نسق مع الناشط الفاضل السيد هاني في الكويت لدعم هذا المشروع؛ وقبل ذلك بحوالي ثلاثة عقود أصدر أمره إلى أخيه الشهيد آية اللّه السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) للاهتمام بعلويي سوريا ولبنان، ففعل (رحمه اللّه) وتمكن بعد مفاوضات ومناقشات علمية طويلة ومغنية مع قادتهم من إصدار بيان عن واحد وثمانين شخصية علمية ودينية منهم أعلنوا فيه عن انتماءهم إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وصدر البيان في كراس تحت عنوان (العلويون شيعة أهل البيت (عليهم السلام) ).

ومن القضايا التي أولاها اهتماما بليغاً أيضا قضية (الأكراد) في العراق وكان قال مكرراً: إنهم إخوة مع باقي المسلمين ولهم حقوقهم كاملة ولا فرق بين أي عراقي وبينهم.

مع العلماء والأعلام

كان سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) راسخ الاعتقاد بأهمية احترام رجال العلم والدين والدفاع عنهم، ويرى أن ذلك من ضرورات العمل فضلاً عن كونه مبدءاً شرعياً ومصداقاً للحديث الشريف: «الْمُؤْمِنُونَ فِي تَبَارِّهِمْ وَ تَرَاحُمِهِمْ وَ تَعَاطُفِهِمْ كَمِثْلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى تَدَاعَى لَهُ سَائِرُهُ بِالسَّهَرِ وَ الْحُمَّى»(1)، وتمثل هذا الاعتقاد ب :

ص: 276


1- روي الإمام الصادق (عليه السلام) / بحار الأنوار: ج71 ص234.

1. التزاور معهم.

2. والتشاور في قضايا مشتركة.

3. وبعث الإصدارات إليهم بصورة متواصلة.

4. المشاركة في المجالس التي يقيمونها.

5. والمشاركة في أحزانهم وأفراحهم.

6. مساعدتهم ببعث الهدايا لهم.

7. إقامة مجالس الفاتحة لهم بعد الرحيل إلى الرفيق الأعلى.

إقامة مجالس الفاتحة كان ديدناً له كلما دعت الضرورة، أعني ضرورة احترام الطرف الآخر وللمرجعيات الكبيرة مثل الخوئي والكلبايكاني كان يقيم الفاتحة ثلاثة أيام. والمعروف الدارج في قم المقدسة: يوم واحد على الأغلب.

وفي الدفاع عنهم أتذكر حين ساقت المخابرات العراقية السيد الخوئي (رحمه اللّه) إلى زيارة صدام قسراً، قال سماحة السيد (رحمه اللّه) : إن وسائل الإعلام هذه ليست حجة شرعية وأصدر بياناً مقتضباً ذكر تشكيكه بالخبر، وقال (رحمه اللّه) : (لا ينفع صداماً جمعه لمقاطع من الصدر وفبركة الأخبار واتهام المرجع الخوئي بأنه زاره في بغداد)، وكان يؤكد: يلزم أن ندافع عن المرجعية وعن هيبتها وسمعتها.

وذات مرة ألقي القبض على سماحة السيد عبد اللّه الغريفي(1) وكيل السيد الخوئي في البحرين من قبل المخابرات الإماراتية في دبي، وكانت الحكومة البحرينية قد أبعدته إلى الإمارات أو طلبت منه مغادرة البلاد، وهو ابن البحرين

ص: 277


1- عبد اللّه حسين بن إبراهيم محسن الموسوي الغريفي البحراني مرجع شيعي بحريني يرجع نسبه إلى حسين الغريفي المتوفي سنة 1001 هجرية والمدفون في البحرين وتنتسب إليه السادة الموسويين من آل الغريفي وهي عائلة بحرانية.

ووكيل المرجعية هناك. نقل الخبر في محضر السيد الراحل (رحمه اللّه) فامتعض كثيراً وخطط للتحرك في الموضوع ومما أتذكر قوله: لو أن قسّاً مسيحياً ينفى من بلد أو يعتقل في بلد فإن العالم المسيحي كله يقوم ولا يقعد والمطران (كبوجي) القس المسيحي الفلسطيني الذي ألقي القبض عليه في تل أبيب وفي منزله سلاح تابع للمقاومة، انتفض العالم المسيحي للدفاع عنه ونقلت أخباره كل وسائل الإعلام العالمية, أما عالم شيعي ووكيل للمرجعية ينفى ويعتقل وتهان كرامته ولا أحد ينطق ببنت شفة كأن لم يكن شيئاً مذكوراً.

تفاعلت قضية اعتقال الغريفي قليلاً ثم أبعد إلى سورية وأقام هناك. ولقد نقلت له موقف سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) في مكتبه في دمشق حي السيدة زينب (عليها السلام) ، وقلت له: (إن السيد الراحل هكذا علق، وكان يخطط للتحرك إلا أن القضية أنهيت بتسفيركم إلى سوريا. وأظن أن سماحته كان قد أقدم على الدفاع عن الغريفي، لكني لا أتذكر شيئاً لمرور أكثر من عقدين من الزمن عليها.

تأبين العلماء

كان يهتم سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) بتأبين العلماء والشخصيات الكبيرة، فكان يقيم مجالس الفاتحة على أرواحهم، فالشهداء من السادة ال الحكيم والمرحومين منهم كآية اللّه العظمى السيد يوسف الحكيم (رحمه اللّه) والسادة أولاد الخوئي كالسيد جمال (رحمه اللّه) والمرجعيات الدينية كسماحة آية اللّه العظمى السيد كاظم شريعتمداري ، مع أنه من ضحايا خط التطرف، وسماحة آية اللّه العظمى الشيخ بشير الخاقاني، أقام لهما السيد الراحل (رحمه اللّه) مجالس الفاتحة تكريماً للعلم والمرجعية، وقد رقى المنبر في رحيل الخاقاني سماحة الحجة الأديب الشيخ جعفر الهلالي (حفظه اللّه تعالى) وبعد الفاتحة هتف أحد الحاضرين بشعارات متطرفة

ص: 278

فلم يتفاعل معه أحد وانتهى المجلس بسلام والحمد لله.

وللوجهاء أيضاً

وكان يقيم مجالس التأبين للوجهاء والرموز أيضاً، إلا أن ذلك كان ينفذ بعد المشورة ودواعي الضرورة وممن أتذكر إقامة الفاتحة لهم: الوجيه الحاج محمد قبازرد والوجيه الفاضل الحاج زيد الكاظمي(1). وفي هذا الأمر كان يقتدي بمرجعية الفقيه الكبير المجاهد السيد ابو الحسن الاصفهاني (رحمه اللّه) ، وكان كثيراً ما يذكر فضائله وحكمته وقصصه الأخلاقية في سعة صدره وذكائه الاجتماعي الذي مكنه من جمع الشمل المرجعي بعد حادثة ثورة المشروطة(2) الشهيرة في ايران، حيث أدت إلى انقسام كبير في الصف المرجعي. كان (رحمه اللّه) يقول: كان للسيد أبي الحسن الاصفهاني (رحمه اللّه) لجنة لإقامة مراسم الفاتحة والتأبين.

ولبعض المرجعيات الكبيرة، كان سماحته (رحمه اللّه) يعطل لجنة (الخارج) حداداً لهم مثل فقدان المرجع الكبير السيد كاظم شريعتمداري (رحمه اللّه) وبالرغم من أن المتطرفين يتحسسون وبدرجة عالية من شخصية ومواقف هذا الرجل الذي طوى مراحل حياته في خدمة الدين والمجتمع، وكان من المتوقع أن تستهدفه بعض الأجندات.

ص: 279


1- من الوجهاء ورجال الأعمال في الكويت.
2- وتعرف بالمشروطة، حدثت بين عامي 1905 و1907. وأدت الثورة إلى إقامة البرلمان في إيران. كانت الثورة الدستورية الفارسية هي الحدث الأول من نوعه في آسيا. حيث فتحت الثورة الطريق للتغيير المزلزل في ايران، مبشرًا بالعصر الحديث. ولقد شهدت فترة من الجدل غير المسبوق في الصحافة المزدهرة. ثم خلقت الثورة فرصاً جديدة وفتحت آفاقاً لا حدود لها على ما يبدو لمستقبل ايران.

البرقيات

وقد كان سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) يبادر سريعاً إلى إرسال البرقيات للجهات المعنية في المناسبات المختلفة ولا سيما الأحزان، ففي الأحداث المؤلمة التي ألمت بآل الحكيم بادر سماحته (رحمه اللّه) إلى إرسال برقيات التعزية، وكان رمزهم الشهيد السعيد آية اللّه السيد باقر الحكيم، وكذا بعث سماحته (رحمه اللّه) برقيات التعزية في مناسبات مختلفة إلى السيد الخوئي (رحمه اللّه) منها مناسبة رحيل نجله سماحة السيد جمال الخوئي الذي وافاه الأجل في الشام، وقد بعث السيد الخوئي (رحمه اللّه) جواب البرقية وقد قرأت نصها ومضمونها:

بسمه تعالى

وصلتني برقيتكم الموقرة ومشاطرتكم لنا في الحزن أشكر الطافكم.

وكان توقيعه كلمة (الخوئي) فقط، وتحتها الخاتم المبارك وكانت في ظرف كتب عليه: (سماحة آية اللّه السيد محمد الشيرازي دام بقاه)، ونصوص البرقيات واجاباتها موجودة في الأرشيف الخاص لمكتبه (رحمه اللّه) .

شاهد هذا الكلام أنه (رحمه اللّه) كان مهتماً بالتواصل والاحترام المتبادل والدفاع عن حرم المرجعية الدينية.

المجلس العائلي

وفي فترة من مراحل العمل والنضال كان يعقد سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) مجلساً يومياً للتربية الخطابية، أعضاؤها زوجته وبناته وزوجات أولاده، تواصل معهن وصنع منهن خطيبات وبعضهن ماهرات ومثقفات عاملات، كما أن بعضاً منهن تؤلفن الكتب، ولازلن إلى اليوم يشاطرن أزواجهن هموم العمل ويؤدين

ص: 280

مسؤولياتهن في هذا المسير.

وفي فترة معينة كان المجلس أسبوعياً ينعقد وكل منهن مستعدة لإلقاء كلمة، وهكذا أسس (رحمه اللّه) النهضة الثقافية النسوية وهي لازالت تتفاعل وتتسع قاعدتها، وبعض هذه النسوة أدين أدواراً قيادية في المجتمع في ايران وسوريا والعراق والكويت، منهن زوجته الفاضلة (أم السادة) تصدت لدور معين وألفت بعض الكتب منها: (من كلمات الإمام الحسن).

الصورة

كان لسماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) ست بنات وستة أولاد كلهم علماء ومبلغون وبعضهم متميزون ويتصدون لتحمل المسؤولية منذ ريعان الشباب وكان يسارع إلى تزويجهم قبل أن يخضر لهم شارب أو عارض.

بعض المسؤولين المرجعيين

كان التصدي لبعض المسؤوليات الملقاة على عاتق الكوادر ينوء بها مسؤول واحد، وبعضها أكثر من مسؤول.

فمثلاً كان العالم الفاضل الشيخ حسين الشاهرودي مسؤولاً عن تحرير وتنقيح كتابات سماحته (رحمه اللّه) حيث كان خطه (رحمه اللّه) ناعماً دقيقاً ومعتمداً على رموز معينة وملكة خاصة، فمثلاً كان مثلث النقط يعني لفظ الجلالة الخاص، هذه وأمثالها يعرفها الشيخ ويستنسخها لتقدم للطبع بخط كبير نسبياً وواضح. وكان (الحاج رضا النائيني) الوجيه والكادر المعتمد الأمين المخلص وهو المسؤول عن طبع الكتب، وقد أسس مطبعة لهذا الغرض بتوجيه من سماحته (رحمه اللّه) .

ص: 281

وكان فضيلة الحجة (الشيخ رضا السلطاني) مسؤولاً عن إعداد تقرير صحفي يومي يدرج فيه خلاصة مانشيتات ثلاث صحف: (كيهان، اطلاعات، وجمهوري اسلامي) وغيرها أحياناً، ويدرج فيها أيضاً خلاصة أهم الأخبار.

وكان مثلث الشيوخ الأفاضل (المحقق والمجاهد والتوكلي) مسؤولين عن المجموعة الافغانية من علماء الحوزة وطلبتها مضافاً إلى ذلك قضايا ومقلدي الساحة الافغانية.

والعلامة الحجة (الشيخ حسن الاصفهاني) مسؤولاً عن الشؤون الاقتصادية ورواتب الحوزة العلمية مضافاً إلى تنظيم المواعيد والتزاور مع العلماء برفقة سماحة آية اللّه السيد صادق الشيرازي (دام ظله) .

وكاتب هذه السطور مسؤولاً عن الخطوط العربية المتصلة بالمرجعية في مكتب سماحته (رحمه اللّه) : الخوزستانية واللبنانية والخليجية والعراقية، إضافة إلى مسؤوليات ذكرت سابقاً.

وسماحة السيد الرضا (رحمه اللّه) والسيد المرتضى (حفظه اللّه) (أبناء الإمام الراحل) مسؤولان عن التوجيه الفكري والحوزوي الخاص.

والمرحوم الفالي مسؤول عن شؤون المؤسسات داخل وخارج ايران ومسؤوليات اقتصادية وإدارية أخرى.

ومعروف عن السادة الفالية أنهم رموز تؤدي مختلف الأنشطة المرتبطة بالشريحة الكربلائية في ايران، وهذه مسؤولية كبيرة وصعبة (والحمل الثقيل لا ينهض به إلا أهله).

وسماحة (السيد المجيدي) رابط حيوي مع جمع من الشخصيات الايرانية في إصفهان وغيرها.

ص: 282

وسماحة (الشيخ الحائري الكلاهي) مسؤول خط الخطباء والحسينيات في قم المقدسة وهو الذي يدعو حوالي (45) خطيباً لمجالس محرم الحرام، ويتواصل معهم على مدار السنة.

وكان سماحة الشيخ الفدائي (حفظه اللّه) هو المتصدي لكتابة وتقرير المحاضرات والدروس.

وسماحة (الشيخ التقوي) مسؤولاً ورابطاً مع الشرائح الاذربيجانية في الحوزة العلمية.

هذا وكان الرمز الكبير الذي يرجع إليه الأعضاء والكوادر بعد السيد الراحل (رحمه اللّه) هو سماحة آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) فهو الشخصية القيادية الثانية في جهاز المرجعية الشيرازية العليا وذلك في حياة أخيه الراحل (رحمه اللّه) .

وكانت نخبة من غير رجال الدين تنوء بمسؤوليات اجتماعية وترتبط بالشخصيات الاقتصادية في المجتمع منهم الوجهاء الأفاضل: الحاج جعفر مير حائري، والحاج ابو رسول (حجو) والحاج محمد بوردارا.

زيارة الشيخ القرائتي

ذات مرة زار الشيخ القرائتي (رئيس نهضة محو الأمية في ايران)، الإمام الراحل (رحمه اللّه) ودار حديث وحوار مركز بينهما، وكان مما طرحه الشيخ على سماحة السيد (رحمه اللّه) : كيف تمكن حضرتكم من إنجاز هذا الكم الهائل من الكتب؟! أجاب (رحمه اللّه) : إنني لا أسافر ولا أخرج من المنزل مطلقاً، ولا أضيع دقيقة من الوقت فيما لا طائل تحته ولا أنام إلا قليلاً.

وأنا من خلال ملازمتي للإمام الراحل (رحمه اللّه) أضيف أنه (رحمه اللّه) كان يتمتع

ص: 283

بعقلية متميزة، فكانت تتدفق الأفكار والطروحات أمامه بغزارة، فيصبها على صفحات الورق بسرعة فائقة، وكان أيضاً يمتلك ذاكرة وقّادة، وفكراً نابغاً، ولا يصرف الوقت لاستخراج أي مصدر ولا ينس شيئاً، ويستفيد من كل ظاهرة اجتماعية وخبر سياسي واقتصادي وكل حديث ينقل في ديوانه، ومع كل ذلك فأنت تجده عاكفاً ليل نهار على الكتابة، ويستعين أحياناً بآلة التسجيل وشريط الكاسيت، وكان قد عبأ كل طاقاته للتأليف، فتمكن أن يصبح (سلطان المؤلفين) ويغمض عينه ملبياً نداء ربه، وقد خلف وراءه ألف وثلاثمائة وأربعة وستين كتاباً (1364) فهو المؤلف الأوحدي على صعيد الكرة الأرضية دون منافس. وذكر في ترجمته (رحمه اللّه) أنه سافر يوماً من كربلاء المقدسة إلى النجف الأشرف ورجع وكان قد ألف قصة من قصص الأنبياء وحلقة من سلسلة (القصص الحق).

لقاء المتطرفين من عناصر المخابرات

أعلن بعض المسؤولين المتطرفين في الدولة الايرانية، عزمهم على لقاء سماحة السيد (رحمه اللّه) ، فرفض اللقاء الخاص وبين جدران أربعة مغلقة، لأنهم على الأغلب كانوا سيطالبونه بما لا يطيقه ومما يخالف الشرع الشريف في رأيه الاجتهادي.

لكنه قبل اللقاء بهم على مضض ووفق شروطه، فزاره هؤلاء بعد صلاتي المغرب والعشاء، وقد استقبلهم في غرفته وفي وسط جمع من أعضاء المكتب فطرحوا مطالبهم، فأجابهم بكلمة: إنني اؤدي ما أراه واجباً شرعياً وما يخالف الشرع لا أقبل به منكم كان أم من غيركم. وكان غاضباً وشديداً في كلامه معهم، فانتهى الاجتماع وعادوا هؤلاء بخفي حين.

ص: 284

الافتاء

وجانب آخر يكشف عن شخصية الإمام الراحل (رحمه اللّه) الفذة، حيث عرف عن الكثير من خط الدكتور علي شريعتي أنه قرأ للسيد (رحمه اللّه) وتفاعل مع رؤاه ومواقفه الحضارية واقتنع بوجود رجال دين كبار متنورين وثائرين وليس كلهم - حسبما يصورهم شريعتي - خاملين انطوائيين ومستهلكين لا يجيدون غير الطقوس المظهرية ولا يمتون إلى حقائق الاسلام بصلة.

الصورة

وحين ظهر في البحرين من يدعي السفارة عن الإمام الحجة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) صدرت الفتاوى واحدة تلو الأخرى تؤكد ظلاله وكفره، وبعضهم أفتى بوجوب قتله. أما سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) فكان رأيه صريحاً (يموت الباطل بترك ذكره) وإن الفتاوى تؤدي إلى إلفات النظر إليه مما يتسبب بحب الاستطلاع، وتوجه الجمهور إليه.

وحين تصاعدت حركة مدعي السفارة في البحرين وتصاعدت معه وتيرة المطالبات بالفتوى المضادة من قبل تياره في البحرين، بعد مداولات عديدة تم الاتفاق بيني وبين سماحته (رحمه اللّه) بتقديم أسئلة فقهية له، ويجيب عليها تحريرياً ثم تنشر الأسئلة غير المباشرة في أوساط الأمة. كتبت تلك الأسئلة بالتنسيق مع سماحة السيد الرضا (رحمه اللّه) وكانت أربعة اسئلة، فيها سؤال حول السجود على الورق الذي لم يتخذ من الخشب بل من القطن، وسؤال آخر هذا نصه: هل للإمام الحجة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) نائب خاص أو سفير في زمن الغيبة الكبرى؟

ص: 285

أجاب سماحته (رحمه اللّه) بالعدم، وهذه الفتوى سحبت الشرعية عن كل مدعٍ للسفارة من دون تنصيص خاص. وكان مما تم طرحه عليه من أسئلة: ما هي مسؤولية الأمة في زمن الغيبة الكبرى؟ أجاب سماحته (رحمه اللّه) : الالتفاف حول راية المراجع العظام وعدم أخذ أي حكم من غيرهم وإطاعة أوامرهم والانتهاء عن نواهيهم، والدفاع عن الإسلام والالتزام بأحكامه والعمل لتطبيقها في مختلف مجالات الحياة. والسؤال الرابع (لا اتذكره لطول الفترة التي مرت على تلك الحادثة).

هكذا ظهر موقفه (رحمه اللّه) دون أن يضع إصبعه على واحد أو يضخم شخصيته. ونشر الاستفتاء الذي وقع باسم جمع من مقلدي سماحته (رحمه اللّه) ، وصدر الجواب موقعاً بخاتمه الشريف.

وهكذا امتنع طوال حياته المرجعية من إصدار أي فتوى ضد أي شخصية أو جهة، في الوقت الذي عاصر مرجعيات كانت هي الأكثر لإصدار الفتاوى الشخصية ضد هذا وذاك لأسباب هشة تكتنفها جملة إشكالات وملاحظات.

مع الاطباء توصيات في الصميم

أكثر من مرة التقى به وفد من الأطباء في قم المقدسة ومشهد الرضوي الشريف، وكان (رحمه اللّه) يعرف لغتهم الطبية وهو الذي ألف حوالي خمسة كتب في الطب منها كتابه القيم (مبادئ الطب).

كانت له توصيات يضعها بين أيديهم على خلفية رؤاه الإسلامية وقيمه الإنسانية، منها:

1. ابذلوا كل جهدكم لاكتشاف المرض وتشخيصه بدقة، ولو فعلت واخفقت في تشخيصه قل بشكل صريح وواضح: لم أعرف هذا المرض، إنك لا

ص: 286

تقدم على العلاج طبعاً ولا تسجل له دواءً.

2. ليكن تعاملك إنسانياً، بمعنى إنك لو عرفت أن المريض ينتمي إلى الطبقة الفقيرة فلا تتقاضى منه أجرة العلاج، ولتكن أجور العلاج متواضعة ورخيصة.

3. اهتم بمعرفة قواعد الطب الإسلامي البديل، ذلك لأنه يتضمن كثيراً من العلاجات الناجحة واليسيرة والرخيصة، وإن العلاج الكيمياوي العصري الحديث على ما فيه من إيجابيات كبرى فإنه محاط بسياج من التعقيد والروتين والتكاليف والبطء والأعراض السلبية التي تتطلب هي الأخرى علاجات خاصة.

4. شاركوا في العمل الإسلامي الاجتماعي، خذوا القلم واكتبوا ما فيه صلاح الأمة، فالتأليف من وسائل الإصلاح الهامة والطبيب ينتمي إلى النخبة المثقفة في المجتمع، وعليه أن يتصدى لدوره القيادي والتوجيهي المؤثر.

وكان السيد الأستاذ (رحمه اللّه) يذكر شاهداً لرأيه هذا أطباء مصر حيث إن كثيراً منهم تصدوا ولا زالوا للتأليف في أي حقل ينفع المجتمع ويسير به نحو الصلاح.

5. وكان (رحمه اللّه) يؤكد أخيرا على ضرورة تأسيس الجمعيات الاختصاصية، والأطباء أكثر من غيرهم معنيون بهذا الأمر، فالجمعية والمنظمة تأخذ موقعها المتميز في خدمة المجتمع وهي الأقدر على النفع العام عما لو كان الطبيب يعمل منفرداً.

وكان سماحته (رحمه اللّه) يهتم بتثقيف هذه الطبقة إسلامياً ويرفدها بالكتب العلمية التوعوية ويتعامل معها بعناية فائقة ويكسب ودها عبر أول لقاء. والجدير بالذكر أن طبيبه الخاص كان هو الدكتور (صادق دستجير)(1) وأحياناً الدكتور

ص: 287


1- من الأطباء في مدينة قم المقدسة، ومن الوجهاء الخيرين وكان الطبيب الخاص لسماحة السيد (رحمه اللّه) .

(بوشهريان)(1) وكان الدكتور صادق ملتزماً برعاية سماحته رعاية خاصة ومنظمة ويزوره في منزله كل شهر مرة أو أكثر أو أقل.

الرعاية الصحية

ولقد كان الأصل عند سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) اعتماد الطب الإسلامي والعلاج الطبيعي، ولو تعقدت حالته كان يلجأ مضطراً إلى الطب الكيمياوي الحديث.

وكان هو (رحمه اللّه) على اطلاع بقواعد الطب، ويعالج نفسه وأهل بيته وأصدقاءه ويضع أمامهم توجيهاته الطبية الإسلامية، كما أنه كان أيضاً ملتزماً بالحجامة واستخراج الدم سنوياً مرة على الأقل وكان يرجع الجلطة القلبية التي أودت بحياة والده المعظم (رحمه اللّه) لتخثر الدم وعدم استخراجه في الوقت المناسب عبر الحجامة أو الفصد.

وكان ملتزماً بمختلف قواعد الصحة في تناول الطعام والشراب وممارسة الرياضة وكان ملتزماً بالسواك ورعاية صحة الأسنان، فكان (رحمه اللّه) إلى آخر حياته متمتعاً بأسنان سليمة وقوية.

كما كان ملتزما باكتحال العينين فكانت عيناه قويتين إلى آخر حياته رغم أنه كان كثير المطالعة والكتابة والنظر إلى المطبوعات.

البقيع الفرقد

كانت فاجعة البقيع تؤرق سيدنا الراحل (رحمه اللّه) وكان يطرح الموضوع في كل مناسبة ويوقظ الشعور

ص: 288


1- من الأطباء الجيدين في مدينة قم المقدسة، والده كان من حلفاء مرجعية الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

والراي العام ويلقي المحاضرات ويكتب حول الموضوع وقد صدر له كتاب يحمل اسم (البقيع الفرقد).

الصورة

وفي ما مضى من الزمن حمل أخوه الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) راية البقيع وتحرك في أوسع نطاق لإعادة إعماره، ولكن الجهود الطائلة باءت بالفشل لأسباب لسنا في صدد طرحها.

كان (رحمه اللّه) يؤلمه الواقع المعاش وقد صرح ذات مرة في إحدى محاضراته الخاصة بقوله: (إنني استطيع بناء البقيع في شهر واحد)، وكان يقصد تذليل العقبات واستصدار القرار، ثم أضاف: (ولكن من الذي يترك لنا الحرية ولا يكبل انطلاقتنا؟ إن المشكلة تكمن فينا لا في خصومنا).

ذكريات الشهيد الشيرازي (رحمه اللّه) عام 1981 م

أصبح يوم (16) من جمادى الثانية من كل عام يوم استذكار البطولات والقيم، إنه اليوم الذي اغتال فيه طغاة العراق، العلم والأدب والشهامة والعظمة التي كانت تتجسد في شخصية الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) اطلقوا عليه (13) رصاصة مزقت صدره وهشمت رأسه واودت بحياته في الحال في بيروت منطقة الرملة البيضاء، حيث كان (رحمه اللّه) متوجهاً لحضور المهرجان التأبيني الذي أقامه لذكرى مرور (7) أيام على اغتيال الشهيد الصدر الأول (رحمه اللّه) في غياهب سجون بغداد!

فأصبحت هذه الذكرى السنوية للشهيد الشيرازي (رحمه اللّه) محطة لاستذكار التأريخ الجهادي الحافل للشجرة الشيرازية الطيبة ومناسبة للتثقيف العام. وطبع

ص: 289

ملاحق للصحف ونشر البوسترات والأدبيات الثورية، فتحولت الذكرى إلى أسبوع لشهداء العراق ومنطلق لفضح جرائم البعثيين في العراق.

وكان مكتب سماحته (رحمه اللّه) يعلق أعماله في هذه المناسبة وينظم مجلساً تأبينياً حوزوياً يحتشد فيه العلماء وشخصيات الحوزة يقرؤون القرآن الكريم والفاتحة، ثم يرقى خطيب حسيني ملم بتاريخ الحركة الشيرازية ورموزها الكبار ويلقي محاضرة تتصل بهذا التأريخ ثم يستثير عواطف الولاء فتجري الدموع للحظات حزناً على سيد المظلومين أبي الأحرار الحسين (عليه السلام) . بعدها تقام وليمة تكريماً للحاضرين واحتفاءً بالذكرى وينفض الجمع وفي وجدانه يقظة الذكريات وحرارة القيم.

وكان هذا التأبين يقام في مسجد الإمام الحسين (عليه السلام) في شارع (عمار ياسر) في قم المقدسة قبل غصبه، وبعده في (مسجد الإمام زين العابدين (عليه السلام) ) وقبله في حسينية (دار الحسين (عليه السلام) ).

وفي إحدى السنين تحركت خلية من شباب الحوزة المنتمين لمدرسة السيد الراحل (رحمه اللّه) لإقامة مهرجان تأبيني للشهيد في الحسينية النجفية في قم المقدسة، وهذه مبادرة نوعية لها دلالاتها، فالشهيد (رحمه اللّه) من مواليد النجف الأشرف وإن إحياء ذكراه في تلك الحسينية ظاهرة وحدوية من شأنها تعميق أواصر المحبة بين شريحة الكربلائيين وغيرهم من العراقيين والنجفيين خصوصاً، وتذويب حساسيات سوداء صنعتها السياسات السوداء على خلفية القاعدة الاستعمارية العريقة (فرق تسد) فكانت الخطوة رائعة قادها السادة آل القزويني أنجال المرحوم آية اللّه السيد عبد الحسين القزويني.

لقطات مشعة

من بنود دعوته: أنه (رحمه اللّه) كان يدعو إلى استهلاك البضاعة الوطنية ويمتنع

ص: 290

هو ويدعو الآخرين أيضاً إلى الاكتفاء بمنتوجات البلاد الإسلامية، وكان يرفض بصورة جازمة شراء البضائع الأجنبية، لا من منطلق المقاومة والحرب ضدها بل من منطلق ضرورة الاكتفاء الذاتي، وكان يتحمل في سبيل ذلك تبعات السعر المضاعف للبضاعة الوطنية غالباً.

وكان أحياناً يرى ضرورة طرح فكرة معينة تتصف بنوع من الخصوصية فيبادر (رحمه اللّه) إلي ويطلب جمع الأخوة لحديث خاص، فكنت انتقي الشباب الواعد والذين اعمل معهم بصورة مباشرة أو بالواسطة واجمعهم في غرفة سماحته (رحمه اللّه) مساءً بعد الصلاة واتصل به هاتفياً أعلن له استعدادنا، فكان (رحمه اللّه) يخرج من الباب الداخلية لغرفته الخاصة ويلتقي ب- (20 - 25) شاباً ويطرح عليهم ما يدور بخاطره من قضية ساخنة أو أمر هام.

وأتذكر بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة حين انفصل الشمال العراقي عن المنظومة الإدارية لحكومة بغداد، طلب سماحته (رحمه اللّه) الاجتماع بالشباب، ففعلت ما عليّ، فالقى محاضرة توعوية وجه الشباب لانتهاز فرصة الحرية والانفتاح في الشمال وطلب إليهم السفر إلى هناك والتعامل الإيجابي مع الوضع الجديد، فسارع بعضهم إلى التنفيذ وسافروا إلى(شقلاوة) واستقروا هناك ثم التحقت بهم، وأسسنا (حسينية الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ) وانطلقنا في مرحلة جديدة من النشاط ذكرت بعضها سابقاً.

ومن ملامح شخصيته (رحمه اللّه) أنه كان لا يرتاح إلى أشعار المدح أو الذم، مدحاً له أو ذماً لغيره، وحين كان بعض الشعراء ينظمون حول شخصيته قصيدة ويطلبون إلقاءها في محضره كان يستجيب لهم على مضض، ولا يرتاح إلى مدحهم ولا يشجعهم، وكان يرى ضرورة استخدام الشعر النهضوي لغرض

ص: 291

إصلاح واقع الأمة، وقال لي ذات مرة: قل للشاعر - ولا اتذكر من كان الشاعر - أن ينظم الأفكار المبثوثة في كتاب (السبيل إلى إنهاض المسلمين)، ففعلت ولم أتابع المشروع، ولكني بعد فترة من الزمان علمت أن بعض إخوتنا من الأدباء السعوديين قد نظم أفكار كتاب (السبيل) في سلسلة قصائد رائعة.

أما الأشعار الشخصية فكانت بعد إلقائها تسلم إلي وأحولها إلى الأرشيف.

التعبئة للهجرة

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) كله أمل في هجرته من الكويت إلى ايران، وكان يأمل أن تخدمه الظروف الجديدة التي ساهم في صنعها، وأن يعيش نوعاً من الانفتاح والانطلاق في ظلها، لم يحصل ذلك نتيجة لعوامل عديدة، فلم يظفر بما كان يأمل، لكنه ظل محتفظاً بحيويته العالية ويعمل كل ما بوسعه من نشاط.

في تلك الظروف كان يقول أحياناً: (إن البلاد الإسلامية كانت ملجأ للغربيين يوم كانت بلادهم شبح في بحر الظلمات والجهل والحروب، أما الآن فالعكس صحيح إذ يستطيع المبلّغ أن ينطلق من تلك البلاد للتنوير والإصلاح وتجريد المعارضة ضد الطغاة).

وعمل على تطبيق كلامه على أرض الواقع؛ فقد عبأ الطاقات للهجرة سواء تلامذته أو حلفاءه أو غيرهم، وعلى أثر تلك التعبئة اقتنع مقلدوه السعوديون أن يهاجروا إلى سوريا وبعض البلاد الأجنبية، وهاجر سماحة الشيخ نديم إلى كندا بعد أن تامرت عليه جهات مغرضة، وهاجر سماحة آية اللّه القزويني إلى الولايات المتحدة بعد أن احتجز جوازه واستدعي مكرراً إلى جهات أمنية معروفة الحال والتوجهات، واستجوب بصورة مشبوهة، وهاجر سماحة

ص: 292

الشيخ جمال الوكيل إلى سوريا، والسيد الرضا (رحمه اللّه) إلى الكويت. وغيرهم كثيرون انتشروا في بلاد عربية وأجنبية مختلفة.

انطلق هؤلاء المهاجرون بعد أن تحرروا من قيود السياسة التي فرضت عليهم، للعمل في أي مهجر أقاموا فيه، وأسسوا المشاريع وأدوا أدوارهم بصورة أوسع وأفضل مما كانوا يؤدونه سابقاً.

ومما يجدر ذكره: إن كثيراً من هذه الهجرات تمت بوثائق سفر اضطرارية ليست أصلية، ذلك لأن هؤلاء الرجال كانوا معارضين لطاغية بلادهم (صدام) ولا تتعاون جهة دبلوماسية معهم وتزودهم بوثيقة معترف بها دولياً، فكان وضعهم جزءاً من الوضع العراقي الصعب.

ومما يذكر في هذا المجال أيضاً ان دعم سماحته لمشاريع الهجرة أو المؤسسات أو أي نشاط آخر كان دعماً رمزياً، وذات مرة طلب إلي أن أكلم أحد إخوتنا العاملين الناشطين لغرض إرسال مبلغ مالي إليه في فرنسا فقال (رحمه اللّه) : نعطيه مائة ألف تومان ثم نقدم إليه عشرة آلاف إلى ستة أشهر القادمة، وبعدها عليه أن يدبر أمره ويكتفي ذاتياً في الجانب المالي، ومائة ألف كانت تعادل حوالي (500 دولار) فقط. ونفذ المشروع، ولكن بعد عدة أشهر عاد الأخ الناشط لصعوبة الظروف وعدم مقدرته على المقاومة والتحمل.

والحقيقة : إن قرار الهجرة الاستراتيجي استبطن كثيراً من الملابسات والتشابكات والتعقيد وقتها، إلا أنه بالمآل النهائي كان في صالح هذه المرجعية الرشيدة.

التدريس العام

وأيضا مما يسلط الضوء على سيرته العملية في الحوزة، إنه (رحمه اللّه) وفي إحدى

ص: 293

المراحل من التدريس، ركز الإمام الراحل (رحمه اللّه) في التوجيه إلى ضرورة تأسيس حلقات دروس عامة معلن عنها في الأوساط الحوزوية لغرض طرح النخبة التدريسية والتعريف بهم على صعيد أساتذة قم المقدسة.

فتصدى سماحة السيد الرضا (رحمه اللّه) لتدريس المكاسب (كتاب البيع) والتف حوله حوالي خمسين طالباً من النخبة الناشطة الواعدة من طلاب الحوزة. وتصدى سماحة السيد المرتضى لتدريس (وسائل الشيخ الأنصاري) و (المطول للتفتازاني).

وتصدى سماحة (الشيخ حسين الفدائي) لتدريس شرح اللمعة الدمشقية. وتصديت أنا - المتكلم - لتدريس اللمعة أيضاً الجزء الثالث، وكان مقر هذه الحلقات كلها في مسجد الإمام الرضا (عليه السلام) وقد صدر لكل درس بيان خاص وعمم على مدارس الحوزة العلمية.

وحين قصفت مدينة قم المقدسة واستهدفت بتركيز واستمرار من قبل قوات طاغية العراق وكان أحد أهم عمليات القصف قد وقع ونحن في وسط الدرس فاضطربت الحوزة كلها وتوقفت الدروس ولم نستطع بعد هدوء الأوضاع من مواصلة المسيرة.

ولقد كان قرار التدريس العام في الحوزة استراتيجياً وذا أبعاد متعددة ودلالات هامة.

(بحث الخارج) العربي

استقر رأي أهل الحل والعقد من إخوتنا خاصة شريحة الشباب على ضرورة تأسيس (بحث خارج) باللغة العربية، ذلك لأن بحث الخارج يستقطب بطبيعته النخب العلمية التي قطعت مراحل المقدمات والسطوح، وهذه النخبة

ص: 294

الملتزمة تستوعب عملية الفكر الموثق والمبرهن عليه. وقد استقر الجميع على هذا الرأي بعد مداولات مستفيضة، فالتقيت بسماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ونقلت له ما اتفقنا عليه من رأي وأخبرته بأنه قد تم طرح اسم السيد الرضا للتصدي لهذا البحث، ولم نستطع اقناعه بتبني هذا المقترح لأنه مزحوم بكثرة المشاغل ونرجو اقناعه، فقال سماحته فوراً موجهاً إليّ الخطاب: تصد أنت لهذا البحث، إلا أنني فوجئت بتوجيه سماحته (رحمه اللّه) هذا، ذلك لأنني لم أكمل تدريس السطوح فكيف أتصدى لبحث الخارج، وقلت له: إن ذلك سيستدعي الانسلاخ عن كل المسؤوليات والمشاغل التي التزم بها حالياً فسكت (رحمه اللّه) .

وبعد أيام وعلى أثر الطلبات الملحة تمكن بعض كبار الأساتذة من التصدي لذلك وتأسيس بحث خارج عربي في أوساطنا الخاصة.

البرامج النسوية

تمتعت النساء بدور كبير في مشاريع الإمام الراحل (رحمه اللّه) فكانت لهن حوزة علمية خاصة مقرها (مدرسة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) ) ومقرها قريب من (مدرسة جابر بن حيان) وهي الآن مقر مركزي لمؤسسة الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . ولهن أيضاً برامج حسينية تقام في حسينية (دار الحسين (عليه السلام) ) وأنشطة مختلفة أخرى.

وقد اقترحت على سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) تنظيم برنامج لإلقاء محاضرة تربوية بين فترة وأخرى وبعد التداول في الموضوع قبل سماحته (رحمه اللّه) . وكان رأينا تنفيذ البرنامج في القاعة الواقعة على يمين الممر المؤدي إلى غرفته (رحمه اللّه) وهي القاعة الرئيسية التي يستقبل فيها أعضاء المكتب الوفود والضيوف وعموم المراجعين. غير أن البرنامج توسع وانتشرت أخباره في الوسط النسوي كالنار في الهشيم،

ص: 295

لذلك اضطررنا إلى تنفيذه في (المصلى) أي ساحة المنزل التي يدرس فيها سماحته (بحث الخارج) وتقام فيها صلاة الجماعة.

وترك هذا البرنامج تأثيراً إيجابياً ملحوظاً وتفاعلت معه الشرائح النسوية إلا أنه مع مرور الزمن لم يوفق له الاستمرار للضغوط المختلفة التي واجهها من المتطرفين.

الانتخابات الحوزوية

تجربة الانتخابات النزيهة هي الوسيلة الفاعلة لصعود الكفاءات إلى المناصب الإدارية، وكان سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) يعتقد أنها هي الطريقة الفضلى حصراً لصعود من يستحق وهبوط عديمي الكفاءة والمقدرة. وحين تم تجديد بناء (مدرسة الرسول الاعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ) من طابقين إضافة إلى القبو والمكتبة والمطبخ، دخلت إدارة طلاب السيد الراحل (رحمه اللّه) الخواص مرحلة جديدة وبقي منصب الإدارة شاغراً، أو يسد هذا الفراغ بنفس الإدارة السابقة التي كانت في المدرسة السابقة، فاقترح (رحمه اللّه) إجراء انتخابات، وكان الاقتراح حيوياً وعملياً، إلا أن المشكلة كانت تكمن في قلة الكفاءات الإدارية وعدم تصدي الموجود منها لهذا المنصب، لأنها لا تعد بأي امتياز مع تحميل الشخص المتصدي ركاماً من المشاكل الإدارية والتوترات.

كنا نعقد اجتماعات خاصة ونبذل جهوداً مضنية للتخطيط وفي ساعة العمل يظهر الضعف أو التعثر في بعض جزئيات العمل المخطط له، أو كان انعدام الكفاءات الإدارية هو السبب الرئيسي في مثل تلك المواقف.

كان المطلوب وفق الخطة الانتخابية أن ينتخب ثلاثة مدراء ويشكلون مجلس إدارة ويديرون مجتمعين إعباء المسؤولية، فكنا نخطط لاستبعاد بعض ذوي

ص: 296

الكفاءة النسبية رغم فتح المجال أمامه ليرشح نفسه، ثم نخطط عبر الاتصالات المكثفة وممارسة وسائل الاقناع لانتخاب مرشحينا إذ كنا نخشى أن يصعد من يخالف مدرستنا وتوجهاتنا فيكون علينا العزم والمصاريف والإتعاب وله الغنم.

خضنا تلك التجربة البكر وكانت صعبة، إلا أنها ضمنت الحرية حتى لخصومنا ولحملة الفكر المتطرف، وانتشرت أخبار هذه الانتخابات الحوزوية وحرية المعارضة وتصاعد حرارة التنافس، غير إننا وبعد صعود المدراء الجدد كنا نعاني من عدم الانسجام فيما بينهم ومن الانسحاب العملي من بعضهم أحياناً ومن مشكلات أخرى، إلا أنها كانت تجربة رائدة طبقنا فيها واحدة من أفكار مدرستنا الحضارية وهي: الانتخابات وحرية المعارضة واحترام الرأي الآخر والإدارة الجماعية.

المجالس الأسبوعية

كان من البنود الأساسية في منهج الإمام الراحل (رحمه اللّه) تشجيع المجالس الأسبوعية لمختلف الشرائح وللجنسين، وكانت هذه المجالس ذات فوائد اجتماعية وثقافية وترشد إلى وتقوي من المعنويات في النفوس وتطلق طاقات الشباب نحو القيم والدين.

أتذكر من هذه الهيئات الشبابية (هيئة مسلم بن عقيل (عليه السلام) ) والتي كان يديرها فضيلة الشيخ علاء سلطان(1) وهي هيئة ناشطة وكان لها تأثير كبير في تربية مجموعة من الشباب المؤمن.

وكانت هذه المجالس الاسبوعية منتشرة في مناطق مختلفة من قم المقدسة وكذا في بعض المحافظات أيضاً، وهذه الاستراتيجية قديمة في منهج سماحته (رحمه اللّه)

ص: 297


1- من كوادر الجيل الجديد في مكتب الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وناشط مرجعي في أوساط الشباب.

حيث عمل بها في العراق قبل الهجرة إلى الكويت عام 1970 م وتأسست حوالي مائتي هيئة شبابية ومجلس أسبوعي، كما أن المنهج عمل به في الكويت أيضاً حيث تأسست كثير من المجالس الأسبوعية وإلى الآن توجد بعض تلك المجالس واستمرت في نشاطها وانعقادها منذ ذلك الزمان إلى هذا اليوم.

اقتراح الهجرة على الشهيد الصدر الاول (رحمه اللّه)

في إحدى المرات اقترح الإمام الراحل (رحمه اللّه) على شخصية يعرفها ويحترمها الجميع، أن يقوم بإيصال رسالة شخصية إلى الشهيد الصدر الأول (رحمه اللّه) مفادها: (إن البعثيين لا يتحملون وجود أمثالكم ويتآمرون على حياتكم وإنني اقترح عليكم الهجرة إلى ايران) ، وكان يقصد (رحمه اللّه) من وراء ذلك أنه مع هجرة الشهيد الصدر الأول (رحمه اللّه) يمكن التعاون والعمل المشترك في سبيل اسقاط الكابوس الجاثم على صدر العراق وهو نظام البعث العراقي، لكن الأمور لم تجر على ما يرام وانتهت باستشهاد الصدر الأول (رحمه اللّه) وعلى سماحته (رحمه اللّه) كذلك بصورة أخرى.

المواكب الحسينية في منزل سماحته (رحمه اللّه)

درجت العادة القديمة في العراق على زيارة منازل العلماء في محرم وصفر حيث إحياء ذكرى الإمام الشهيد (عليه السلام) . وفي العراق كانت المواكب الحسينية تزور منازل الفقهاء المرحومين : السيد حسين قمي(1)، والسيد ميرزا مهدي الشيرازي، والسيد الراحل (رحمه اللّه) ، والعادة جارية هذه إلى يومنا هذا ولكن بنسبة أقل، حيث

ص: 298


1- مرجع شيعي اثني عشري، ولد في قم المقدسة وأكمل دراسته الأولية فيها، ثم هاجر إلى العراق درس في النجف الأشرف وسامراء المشرفة. لبّى نداء ربه بتاريخ 14/ربيع الأول/ 1366 ه، ودفن في صحن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) .

إن كثيراً من هذه المواكب قد ابتعدت عن مثل هذه العادات التي تربطها بالمرجعية الدينية.

في اليوم التاسع والعاشر وأحياناً الحادي عشر من شهر محرم الحرام، كانت تتوجه بعض المواكب إلى منزل سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) وفي يوم أو ليلة الأربعين كان موكب النجفيين في (دولة آباد - طهران) بقيادة خادم الحسين (عليه السلام) الوجيه (الحاج فاضل شفيع) يتوجه إلى منزل سماحته (رحمه اللّه) ، ليعزيه بذكرى أربعين الحسين (عليه السلام) ، أما في الثامن والعشرين من شهر صفر حيث استشهاد الرسول الاعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فكانت هيئات حوالي خمسين حسينية في ايران تتوجه إلى قم المقدسة وتزور سماحته (رحمه اللّه) ويلقي عليهم كلمة تربوية تنفذ إلى القلوب والعقول وتزودهم بالدفع والشحن المعنوي لمدة طويلة. وهذه المواكب كانت تلقى كل الترحيب والتقدير والشكر وتسلم على الإمام الراحل (رحمه اللّه) ويوزع عليها الكتب الثقافية النافعة وتخرج بهدوء على العكس من حالة الوفود الأخرى لبعض الجهات المسيسة حيث ترافقها الهتافات الحسينية ودقات الطبول والهيجان العاطفي المتصاعد.

إطفاء الغضب

في أحد أيام التحصيل الدراسي وبعد انتهاء بحث الإمام الراحل (رحمه اللّه) جاء إلى غرفته وجلس يستقبل البعض بصورة خاصة، فطلبني وعرّفني على رجل لم أعرفه من ذي قبل، وقال: اجلس معه وقم بتهدئته، فأخذته إلى الغرفة الكبيرة التي يستقبل فيها المكتب عموم المراجعين وجلست جانبه وصرت أرحب به واستمع إلى ما يقوله، فرأيته ممتعضاً من الوضع العام، ومن ممارسات العاملين على الساحة العراقية المعارضة، ورأيته متشنجاً ضد بعض قادة تلك المعارضة - لا

ص: 299

أحبذ ذكرهم - وبلغت به المعاناة حداً أنه قرر اغتيال شخصية معينة، فعرفت وقتها لم أوصاني السيد (رحمه اللّه) بتهدئته، فتكلمت معه طويلاً حوالي الساعتين، فانثنى عن عزمه وذهب إلى سبيله وعاد إلى طهران وكان هذا الرجل كنيته (أبو أحمد).

لقاء عائلي

في زيارتي الأولى إلى ايران بعد أن مضت على هجرتي منها أكثر من عشر سنين التقيت سماحة السيد (رحمه اللّه) ، جرى مع الإمام الراحل (رحمه اللّه) أكثر من حديث في مختلف القضايا والأمور.

وفي إحدى اللقاءات كان الاتفاق أن اجلب عائلتي معي لزيارته فجلبتهم، مضافاً إلى والدة زوجتي وحفيدة لها وعائلة الأخ الفاضل الشيخ عبد الحسن الأسدي، وكان لقاءً غمرته العواطف الجياشة بعد غربة ومعاناة وهجرات مضنية وفراق عقد من الزمان، وبعد تبادل الأخبار عما جرى وحدث في تلك السنوات التي مضت، سالته زوجتي ما توصياتكم لطالباتنا في الحوزة الزينبية؟ أجاب سماحته (رحمه اللّه) بشيء من الاسهاب:

1. الاهتمام البالغ بالتحصيل العلمي.

2. المبادرة إلى الزواج وتشكيل الأسرة.

3. تعلم الخطابة للانطلاق إلى أوساط المجتمع وتحمل المسؤولية الاصلاحية.

4. ممارسة الكتابة والنشر لنفس الغرض.

5. تعلم مهنة معينة كالخياطة والحياكة كي تضمن المرأة نفسها اقتصادياً وتساعدها في المعيشة.

وكانت لتوصياته (رحمه اللّه) أثر إيجابي جيد.

ص: 300

الروح الرياضية

كان سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) يتمتع بروح رياضية عالية، فيتعاطف مع مختلف الأشخاص ويستوعب مختلف أنواع الحديث والملاحظات والمقترحات ويستجيب إلى الطرف الآخر ويفتح حواراً معه ويوجهه كائناً من كان إلى ما فيه تقدم مشروعه ويشجع الجميع لتأسيس حسينية أو مركز، وكان في نفس الوقت أريحياً يمزح مع الآخرين بلباقة ويتبادل الضحك معهم، ولم يكن بأي حال من الأحوال، جافاً أو متشنجاً أو مقطباً لوجهه أو يغضب لأمر سطحي، فكان (رحمه اللّه) مالكاً للقلوب بدماثة أخلاقه ولين عريكته وروحه الرياضية العالية.

المعارضون المحافظون

منذ أن تصدى سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) لسُدّة المرجعية الدينية بعد رحيل والده المعظم السيد ميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) عام 1963 م، برزت تساؤلات في الساحة المرجعية والشعبية الشيعية يدور أكثرها حول: هل إنه بلغ مرحلة اجتهاد تمكنه شرعياً من هذه المسؤولية؟ وهل إنه كفوء لتحمل إعبائها؟ وظهرت أيضا عدة تشكيكات هنا وهناك لم تكن تستند إلى أسس رصينة، ومن جهة أخرى ظهرت في أوساط معينة حساسية خاصة استندت على خلفيات عنصرية حيث إن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان من هذه المدينة دون تلك ومن العراق لا من ايران، هذا وكان الخصم المشترك لجميع هذه القوى الشيعية، كالبعثيين نموذجاً ينعشهم هذا الخلاف ويدفعون باتجاه تصعيده لهدم قواعد الصف الديني الشيعي وكسر شوكته.

تفاعلت تلك الحساسيات وانتفخت مع الزمن، ومما ساعد على نمو تلك

ص: 301

الملاحظات والتشكيكات عمره (رحمه اللّه) وكان وقتها (33 سنة) آنذاك مما يتعارض مع بروتوكولات المرجعية التقليدية المحافظة، تلك التي ترى أن المرجعية حكراً على كبار السن، لاعتقاد البعض أن العلم ينمو مع ارتفاع سني العمر، ويكون الشيخ الهرم اعلم من غيره طبيعياً، وهذا الاعتقاد وفق المعايير العلمية لا يقوم إلا على أساس هش، لو كان له أساس أصلاً.

في ماذا تجلت صور المعارضة اليمينية لو اخترنا لها تلك التسمية لسماحته؟ الجواب: بمختلف أساليب الانتفاض الهائج، والتعبير المسيء والتشهير، والمقاطعة والتشويه والإشاعات وحين تصاعدت درجة حرارتها ووصلت إلى القمة، ثم التغرير بجهات محافظة لتشهر سلاح الفتوى الشرعية والباس المعارضة هذه عباءة الدين!

في الوقت الذي لم يصدر من سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ما يشم منه رائحة العصيان وتجاوز أحكام الشرع الشريف، بل إن الاحتياط الشرعي هو الأساس لتصرفاته وقراراته ومؤسساته وأفكاره، فأي تجاوز صدر منه ليشهر في وجهه سلاح الفتوى؟!

حاولت جبهة المحافظين التشكيك في شخصيته العلمية، وهذا التشكيك تجلى في محاولة لإبرازه (رحمه اللّه) غير مجتهد، واستصدرت فتاوى مفادها أن اجتهاده لم يثبت لدى من صدّرها، وعدم الثبوت لا يدل علمياً على عدم الوجود، بل يبقى محصوراً في أن الأمر لم يثبت، لا بمعنى ثبوت العدم وهذا ما لا يميزه من لا يعرف اللغة والمصطلحات الحوزوية، فاستثارت جهات يشك في إخلاصها عواطف صغار الحوزويين، وبعدهم مشاعر وأحاسيس شرائح واسعة من المجتمع مما أدى إلى إثارة الغبار في الأجواء.

ص: 302

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل اتسع إلى إثارة البغضاء والاحقاد والمقاطعات الخطيرة في أوساط الشرائح الملتزمة، وتأجيج العواطف العنصرية الإقليمية، فأدى الأمر إلى شرخ كبير في الوسط الديني الذي يأمل فيه الرسول الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يتحول جبهة متحدة حبله حيث قال: «المسلمون كالجسد الواحد».

كان هؤلاء المعترضون يرون أن بروتوكولات المرجعية التي درجت عليها الحوزات العلمية مقدسةٌ، ولا يجوز ٍلأحد التجاوز عليها أو الغض عنها وترك الالتزام بها، وقد رسخت هذه البروتوكولات في النفوس والعقول إلى درجة عالية وتقدمت عندهم حتى على أولويات الأحكام الشرعية.

ومن هذه البروتوكولات: العمر المتصاعد، والحوزة المعينة، حيث إن المتخرج من غيرها لا يعترف به، وأساليب العمل، حيث إن الأنشطة الشبابية والحركية والتنظيمية وكذا الأنشطة السياسية والمواقف منها لا تتناغم مع طرائق العمل عند الخط المحافظ.

وهذه الأمور كلها التي اعترضوا عليها في ذلك الوقت كانت مجتمعة في شخصية وحركة الإمام الراحل (رحمه اللّه) فكان يمثل مرجعية (غير مألوفة) في أنشطتها وتحركاتها، والتي سلطنا الضوء على بعض ملامحها سابقاً.

ومن بروتوكولات الخط المحافظ أيضاً: اعتماد التعقيد في التأليف أو التدريس واستعمال مصطلحات حوزوية خاصة، وكان سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) لا يرتضي ذلك، ويؤكد على ضرورة إيصال الفكر بطريقة سلسة ومفهومة إلى الطرف الآخر، كما أن الخط المحافظ يرفض في مسلكه التقليدي إصدار كراسات لغرض التثقيف العام أو الخاص بل الأصل عنده إصدار

ص: 303

المجلدات الكبيرة والمعتمدة على أسلوب خاص، لذلك كان يشكل على إصدار السيد الراحل (رحمه اللّه) الكراسات التوعوية والميسرة لجيل الشباب وعموم القاعدة الشعبية. مع أن سماحته (رحمه اللّه) أصدر موسوعات علمية متعددة في شروح كتب (السطوح العليا) في الحوزة لغرض تيسير أفكارها وتوضيح قواعدها ومصطلحاتها لطلابها الحوزويين، ومن هذه الموسوعات (ايصال الطالب إلى المكاسب) و(الوصول إلى كفاية الأصول) و(الوسائل إلى الرسائل).

ثم إنه (رحمه اللّه) قد ألف العديد من الكتب التي اعتمدت الأسلوب الحوزوي المعقد منها (كتاب البيع) في أجزاء، وكتاب (الأصول: مباحث الألفاظ والمباحث العقيلة) في عدة أجزاء أيضاً.

ذات مرة وفي مناسبة استثنائية في أيام إحياء الأيام الفاطمية شارك أحدهم في مجلس أقيم في (مسجد الإمام الحسين (عليه السلام) ) في شارع (عمار بن ياسر) في قم المقدسة، فصار يتنقل بطرفه إلى البناء المحكم والفخم وهو يبدي إعجابه ويهز رأسه ويقول: (إن شاء اللّه لا تكون الأموال المبذولة لهذا المسجد من الحقوق الشرعية!) وهذا معناه: إن تلك الأموال لا يجوز صرفها على هكذا مشروع. والواقع أن الفقيه الجامع للشرائط له أن يتصرف في سهم الإمام (عليه السلام) حسب مصالح المسلمين، ثم معناه أيضاً التهاون في صرف الحقوق الشرعية مع أن المسجد من أفضل المجالات الشرعية الكثيرة العوائد في صرف الحقوق الشرعية، ومثل هذا المسجد يتحول إلى مركز ثقافي وحوزوي علمي مضافاً أنه مركز عبادي واجتماعي، ولقد انبرى أحد إخوتنا وقال للشيخ الذي هز رأسه محتجاً على تأسيس المسجد من الحقوق الشرعية قائلاً له: (بني هذا المسجد من تبرع أحد الخيرين المؤمنين واسمه مكتوب في أعلى الباب الخارجي الكبير للمسجد).

ص: 304

مثل هذا الموقف تكرر كثيراً فاصطنع جواً من التشكيك بتصرفات ومواقف ومؤسسات الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، ومما أود ذكره هنا حول المسجد أنه تأسس بمبادرة من فضيلة الحجة الشيخ علي حيدر المؤيد (حفظه اللّه) وليس مشروعاً خاصاً ومباشراً لسماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ليرد أي إشكالات عليه.

وبالنسبة للإشكالات على اجتهاد سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) :

إن (موسوعة الفقه) هي الجواب الموثق والحي على جميع الإشكالات والطعون التي يجاب بها، وحين ذكر هذا الإشكال عند سماحة الشيخ اصف محسني(1) المجتهد الناشط في الساحة الأفغانية والمعروف بفضله وخبرته وجهاده علق بقوله: (إن من يطالع موسوعة الفقه ويستوعب موادها يرقى إلى درجة الاجتهاد، فكيف بالذي يؤلفها).

ثم هناك العشرات من الفقهاء الذين لم يؤكدوا فقط اجتهاده (رحمه اللّه) بل صرح بعضهم بأعلميته في الساحة المرجعية ووثائقها تلك التصريحات موجودة ومطبوعة في وقتها.

وأما أنشطة مرجعية سماحته (رحمه اللّه) التي أشكل عليها تكتيكياً، فحقيقة الأمر أنه كان يشعر بالمسؤولية الكبرى التي تصدى لحمل إعبائها، وإن الإسلام يواجه حضارات عالمية عملاقة في الشرق والغرب تتحدى وتغزو النفوس والعقول، فالواجب تعبئة كل الطاقات وبمختلف الوسائل للدفاع عن القيم المستباحة وحريم الإسلام الذي ينتهك بأفتك الأسلحة كل يوم.

لذلك فإنه حاول استنفار الطاقات واستفراغ الوسع وخوض لجة الصراع الحضاري مع تيارات الشرق والغرب، فاستخدم كل وسيلة رآها فاعلة ومؤثرة.

ص: 305


1- من العلماء الكبار وتصدى للمرجعية الدينية، ولديه جمهور.

إذن كل ما بادر إليه من أنشطة ومشاريع ومواقف إنما كانت تلبية لنداء الواجب الشرعي والاجتماعي، واعتمد في ذلك كله أساليب السلم والتعقل والإنسانية، ولم تصدر في خلال الخمسين عاماً من الجهاد، أية إساءة لأحد، وأية كلمة جارحة، ولم ينجر إلى أي صراع إلا ضد من كان يعتبرهم خصوم الإسلام والأمة. بل كان يتحمل المعاكسات والتحركات المضادة ويقابلها بالتي هي أحسن مطبقاً حكمة نبي اللّه عيسى (عليه السلام) : (كونوا كالشجرة ترمى بالحجرة فترمي بالثمرة).

والجدير بالذكر هنا أنه (رحمه اللّه) كان مولعاً بالحكم العيسوية الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) فكان يكررها ويذكرها في المحاضرات ويربي الآخرين على ضوئها ويرغبهم إلى مطالعتها في كتاب (بحار الأنوار).

أحدهم والذي كان من رموز المعارضة والتثبيط كانت مرجعية الإمام الراحل (رحمه اللّه) تتواصل في العلاقة الودية معه، وكان سماحة آية اللّه العظمى السيد صادق (دام ظله) يزوره بين فترة وأخرى نيابة عن أخيه ويحمل إليه تحياته، ولعل الزيارات التي قامت بها الشخصيات المنتمية للمرجعية الشيرازية بلغت ثلاثين زيارة مباشرة لشخصه الكريم أو حضوراً للمجالس التي يقيمها في المناسبات. واقترح بعض أهل الخبرة إرسال هدية رمزية طبقاً للعادة الجارية في الحوزات فاستحسن (رحمه اللّه) الاقتراح وبعد جولة من المشاورات تقرر إرسال عباءة لائقة إليه، وفعلاً نفذ الاقتراح فرفض الهدية! وردها دون بيان أي سبب لهذا الموقف.

ومن المعروف في العرف الحوزوي، إن كل زيارة تتبع من المزور برد الزيارة، إلا أن الشيخ (رحمه اللّه) لم يرد على الزيارات الثلاثين ولا لمرة واحدة!

وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يتعامل مع الخط المحافظ المعارض اسمى تعامل

ص: 306

ويقوم تجاهه بأية خدمة مطلوبة وممكنة ولم يرد على أحد بالمثل مطلقاً، ومع ذلك كان يستهدف ويطوق بسياج من الممانعة والمقاطعة والانتهاك! فعاش (رحمه اللّه) مختلف مراحل حياته ضحية الراي والمبادئ!

الممانعة والحرب الباردة

كان السيد الراحل (رحمه اللّه) صلباً في المواقف والأحكام الشرعية ولا يتنازل عن شيء يراه حقاً ولا يراهن على أمر يراه باطلاً، اتخذ موقف المستشكل تجاه كثير من المواقف والقرارات التي كان يتخذها وينفذها متطرفون في ايران.

من الأمور التي أشكل عليها: موجات الإعدام، واستخدام العنف، والمحاكمات السطحية التي كانت لا تستغرق سوى (20) دقيقة.

ذات مرة وفي قم المقدسة دخل رجل يلقب ب- (الاثني عشري) على الشيخ صادق الخلخالي (رئيس المحاكم الثورية) سلم عليه وجلس عنده، ثم قال له: أتذكر زيارتكم لمدينة (باوة) في غرب البلاد؟

أجاب الشيخ: نعم! قال: وشكلت محكمة في الصحراء حيث كنت في زيارة لمعسكر خارج المدينة؟

قال: نعم، وماذا بعد؟ قال:ثم أصدرت حكماً بالإعدام على ثمانية عشر رجلاً حيث المحاكمة كانت حوالي (20) دقيقة فقط؟ قال: نعم أتذكر!

قال له: كيف ثبت لديك صحة عقوبة الإعدام بهذه السرعة الفائقة ودون تحقيق وتدقيق؟

أجاب الشيخ: إن كان المحكومون مستحقون للإعدام، فقد نالوا جزاءهم، وإن لم يكونوا مستحقين فمصيرهم إلى الجنة!

فرد الإثني عشري عليه، وكشف له خطأ الحكم، ثم قال له: أنا أحد

ص: 307

الثمانية عشر المحكومين بالإعدام ولكني تمكنت من الإفلات واللجوء إلى قم المقدسة.

فقال الشيخ: إذهب واشكر ربك!!

مثل هذه المحاكمات والأحكام كان يرفضها سيدنا الراحل (رحمه اللّه) جملة وتفصيلاً.

وكان أيضاً ضد الضرائب التي ارهقت كاهل الشعب ويعتبرها محرمة شرعاً.

وقد التقيت بشاب كان يعمل في منجرة له ليعيش ويسد رمق أهله وأطفاله، ومنجرته لو عرضها للبيع لا يشتريها أحد بأكثر من مليون تومان ايراني - حسب قوله هو - هذا الشاب طالبته وزارة المالية بأربعة ملايين تومان كضرائب على محله لمدة سنين عديدة! فما كان منه إلا أن أغلق المنجرة وترك العمل وظل سائباً يبحث عن قوته وقوت عياله.

هذه الحادثة غيض من فيض وقد كثرت أمثالها بصورة مفرطة، فكان السيد الراحل (رحمه اللّه) معارضاً لهذه الضرائب المجحفة.

وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) ضد واقع الحرب، لأنه كان على قناعة تامة معتمداً على وثائق سياسية وعلمية، إن الحرب ليست إلا محرقة لشباب البلدين ولا يحترق فيها إلا شباب مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من كلا الطرفين والوسيلة النافذة في إسقاط دكتاتورية العراق هي العمل لإشعال فتيل الثورة الشعبية داخل مدن العراق والعصيان المدني على النظام، أما الحرب فليست إلا دماراً وهي أسوأ شيء عرفه الإنسان في التاريخ، وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) تجاوز مرجعيات الأمة ويرى ضرورة تشكيل مجلس قيادي لشورى الفقهاء وبدون أن تؤول الأمور إلى الاستبداد، فكان (رحمه اللّه) يتبنى أفكاراً من هذا القبيل (ذكرنا بعضها آنفاً)، فكان

ص: 308

يتورط مع جهات متطرفة، تعمل بجد لمكافحة مشاريعه وحركته.

الإعلام المضاد

بين الحين والآخر كان بيان ينتشر في أوساط الحوزة والمجتمع في قم المقدسة، موقع بأسماء مستعارة لينتقص شخصية سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) ويطعن في اجتهاده ومؤسساته ومبادئه بطريقة أو بأخرى.

ذات مرة نشر بيان في أيام أربعين الإمام الحسين (عليه السلام) حيث ورود آلاف الزائرين المعزين إلى قم المقدسة، كان عنوانه: (السيد محمد الشيرازي أكبر عقبة في طريق الثورة الإسلامية في العراق).

أليس هذا مضحكاً؟ وفي نفس الوقت أليس هذا الموقف ضد مرجعية قيادية مجاهدة مبكياً ومأساوياً؟

وكان مع البيان ملحقات وثائقية على شكل فتاوى تطعن في مستواه العلمي وفقاهته، في محاولة لتثبيط الجمهور عن تقليد سماحته أو إرجاع مقلديه عنه!

واقترح على سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) الرد الإيجابي فرفض قائلاً: (بمقدار ما نصرف من الوقت للرد نتأخر عن السير نحو الأهداف السامية وكل يوم يصدر شيء ضدنا فهل نتفرغ للردود؟).

* مرة أخرى وبعد العودة من رحلة مشهد المقدسة بفترة قليلة، أصدر متطرفون في القسم السياسي التابع لجماعة من المدرسين بحثاً من حوالي ثلاثين صفحة ضد شخصية وتاريخ وكتب ومؤسسات ورجال المرجعية الشيرازية وضد شخص سماحته بالذات. كان البحث سرياً وخاصة لأئمة جمعة ايران، إلا أن بعضهم من الموالين والمتعاونين مع مرجعية سماحته (رحمه اللّه) قد سربوا نسخة من البحث، واطلع خواص الجهاز على محتواه وقد حصلت أنا على نسخة أصلية

ص: 309

منه، طالعته بإمعان ووضعت عليه (48) إشارة.

ثم كتبت الملاحظات حول النقاط المشار إليها وكانت بعضها تحليلات سلبية وغير واقعية مثل قولهم: إن السيد الشيرازي فعل كذا في كربلاء عام 1963م لأنه كان معزولاً ومرفوضاً في أوساط الجماهير وطرح نفسه، فقام بالاستقبال! وهذا مما يضحك الثكلى ويثير قهقهتها ذلك لأن الجماهير عموماً - إلا من خرج بالدليل - كانوا موالين لسماحته (رحمه اللّه) وإنما وقف ذلك الموقف لقناعته الشرعية والاجتماعية ولمعارضته الدكتاتورية، ومنها ما هو كذب محض وبهتان ضد سماحته (رحمه اللّه) .

ومنها ما هو سهو واشتباه مما يؤكد عدم الدقة في ذلك البحث مثل قولهم: إن الحادث الذي أودى بحياة سماحة السيد علي الفالي (رحمه اللّه) إنه حدث بالنسبة لأخيه السيد حسين!

فكان البحث تشويشاً وتحريفاً لحقائق تاريخية وإثارة لتشكيكات مغرضة. وكان موقف مكتب سماحة السيد (رحمه اللّه) أن التقى بالعديد من شخصيات وأساتذة الحوزة وعرفهم بحقيقة ما كتب في ذلك البحث وإن الأمر سابقة خطيرة قد تؤدي إلى سلسلة تسقيطات مغرضة لشخصيات اجتماعية ودينية كبيرة، وجرت سلسلة اعتراضات من العلماء على هذا البحث.

* وصدرت قرارات تطرفية ضد كل ما يمت إلى المرجعية بصلة، فلا ترسيم للمؤسسات ولا إجازة للمكتب ولا تمشية للمعاملات الإدارية ولا تجنيس لمن يستحق ولا إضافة ولا إجازة عمل ولا أي نوع من التعاون الطبيعي فضلاً عن عدم الاسناد والدعم.

وصدرت قرارات وتعليمات المنع من زيارة مكتبه ومنزله فلو تبين مثلاً أن

ص: 310

بعض الطلاب الرسميين في الحوزة يزور أو يتردد على مكتب سماحة السيد تصدر إليه التنبيهات ويمنع بشدة ويقع تحت الرصد.

ومع مرور الزمن منعت الإجازات للكتب والرسالة العملية واحرقت بعضها مثل كتاب (حكومة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام علي (عليه السلام) ) والذي طبعته (مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام) ) في طهران وبقيت أغلفة الكتاب وتعدادها عشرة آلاف في الوقت الذي أحرق فيه الكتاب نفسه!

وحين تعامل المتطرفون هكذا كان رد الفعل الطبيعي هو طبع الكتب دون ترخيص! كما منعت دور النشر من عرض كتب سماحة السيد (رحمه اللّه) في معارض الكتاب الدولية في طهران.

* اقصاء العاملين مع مكتب سماحة السيد (رحمه اللّه) عن مختلف المجالات ولم يشرك منهم أحد في المؤتمرات المختلفة ومن حيث يعقد مؤتمر (شهداء العراق) لا يذكر الشهداء المنتمون إلى مدرسته وعلى رأسهم الشهيد آية اللّه السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) ، فواجه المؤتمر اعتراضات شديدة فطبع اسم الشهيد (رحمه اللّه) في قائمة شهداء ذكرت اسماؤهم في التقرير الذي صدر عن المؤتمر فيما بعد!

* صودرت الأموال التي تبرع بها الخيرون لتأسيس مجمع سكني للعراقيين المهجرين في قم المقدسة كما صودرت مائة وستون شاحنة محملة بآلاف الأطنان من الحديد لبناء تلك المنطقة.

* منعت مهرجانات وبرامج الزفاف الجماعي.

* منعت برامج (الختان المجاني) لأبناء الفقراء .

* اغلق مستوصف سيد الشهداء (عليه السلام) بعد ما مورست ضغوط شديدة ضده.

ص: 311

* صودر مستوصف (سيد الشهداء (عليه السلام) ) في طهران وسلم بأيدي وجهات منفصلة عن مرجعية سماحته (رحمه اللّه) .

* كما صودرت الحسينية الكربلائية المركزية في طهران وسلمت قهراً لجهات لا تمت إلى المؤسسين والمرجعيين بصلة.

* شنت حملات اعتقال ضد الكوادر العاملة وزج بها في السجون ومورس بحقها أنواع التعذيب.

* واستهدف منزل سماحته (رحمه اللّه) في يوم (28/صفر) حيث ذكرى استشهاد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان سماحته يلقي خطابه السنوي على الوفود والمواكب فاندلعت توترات شديدة وقطع عليه خطابه واستهدف بعض رجال الدين لغرض الاعتقال فدافع عنه الناس وكان تجاوزا وقحاً وانتهاكاً للحرمة وسحقاً لأبسط حقوق الإنسان الاولية.

الظلم تحت عباءة القانون!

إذا كان القانون وسيلة خدمة الإنسانية فإنه يتحول إلى عدو فتاك ينخر في الجذور الإنسانية هذا حين يشرع من حاكم جائر أو مشرع جاهل وأيضاً حين يعطى بيد مستهتر ويطلب منه التنفيذ!

منذ وطأنا أرض كرمنشاه عائدين إليها من قم المقدسة كان شغلنا الشاغل والكابوس النفسي البغيض هو (التمديد القانوني لبقائنا) ذلك لأن كل يوم من الإقامة بعد إنتهاء مدتها يُغرم المقيم حوالي (30) دولاراً، هذا غير الهجوم الكلامي والاهانات والمحاسبة وتضخيم (الجريمة!) والروتين المتعب والمقزز وصدور قرار الطرد في نفس اليوم أو صبيحة غد وغير ذلك من المضاعفات والانعكاست والآثار السلبية.

ص: 312

الممانعة والحرب الباردة

واصل المتطرفون حركتهم المحمومة وتحت شعارات مختلفة دينية أحادية وجارية مع الهوى والمصالح لاكتساح الحركات المرجعية ومن أبرزها الحركة الشيرازية الاصلاحية الثورية، واختلفت أساليبهم في ذلك!

ونقل عن بعض قادتهم قوله: (لا تمسوا شخص السيد محمد الشيرازي بشيء، واعملوا جادين لقصقصة اجنحته وتصفية كوادره ومؤسساته).

* من المؤسسات التي نشطت تحت رعاية السيد (رحمه اللّه) هي (مركز النشر الإسلامي) والذي عبر عنه ب- (كانون نشر اسلامي) ودوره طبع وتوزيع الكتب المرجعية والثقافية باللغتين الفارسية والعربية، وقد واجه المركز سيلاً من الضغوط وأخيراً اغلق وصودرت كتبه!

ومثله باقي مؤسسات النشر أيضاً كل منها عانت من نفس الضغوط ولكن بأشكال مختلفة وتحت شعارات قانونية مرة وغيرها مرة أخرى!

منها مثلاً: (مطبعة القرآن الحكيم) والتي يديرها الوجيه المجاهد الحاج رضا النائيني (حفظه اللّه).

* ذات مرة وفي حركة استفزازية وغريبة من نوعها أعلن (الشيخ صادق الخلخالي) وهو المعروف بقسوته وأحكامه القضائية بآلاف الإعدامات وهو مخلب الخط المتطرف، أعلن أنه سيلقي خطاباً في حسينية دار الحسين (عليه السلام) والتي تعتبر من قواعد حركة السيد (رحمه اللّه) ومرتكزه الاجتماعي التي لا تتفق مع خط ومسلك الخلخالي في شيء فكيف يعلن الخلخالي في خطاب عام في الحسينية النجفية بأنه سيخطب غداً في حسينية (دار الحسين (عليه السلام) ) دون أي تنسيق ولا إعداد مسبق ولا اتفاق؟

ص: 313

على كل حال كانت الخطوة ملغومة وتوجسنا منها خيفة لاحتمال أن يكون وراء الأكمة شيء، دبر أمره بليل! فاستعد إخوتنا كامل الاستعداد واستقبلوه بكل احترام وحفاوة وحضروا لاستماع خطابه وكل يخفق قلبه وانتهى الأمر بسلام بالرغم من أن الأجواء كانت متوترة ومشوبة بحذر

* وقد سمعت من السيد الراحل (رحمه اللّه) قوله: إنه بقي مع التيار السائد يواصل مواقفه المؤيدة مدة ستة أشهر فقط، وقال: زارني المرحوم المرجع الديني (المرعشي النجفي) وقرب فاه من أذني وقال: (إنه ابو ناجي لا تنخدع بهم). وهذه الكنية اصطلاح يستعمل في العراق والمقصود منه الاستعمار البريطاني!

* وفي عام انتفاضة شعبان (1991 م) في شهر صفر وذكرى وفاة الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث تتقاطر الوفود على قم المقدسة، إذ هجمت فرقة مسلحة على المنزل ودخلت فيه متجاوزة حرمة الناس وحرمة المرجع وحرمة العلم والعلماء وحرمة ذكرى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واحدثوا اضطراباً شديداً وتوتراً متصاعداً ورأوا فضيلة الشيخ هاشم الشكرجي(1)، القوا القبض عليه إلا أنه قاومهم وصرخ في وجوههم وساعده الجمهور فاستنقذوه من مخالبهم وفر بجلده من غير الباب الرئيسية وانقطع الخطاب والتهب الناس غضباً وتوتراً، إلا أن مرجعيتهم تمنعهم منعاً باتاً من المواجهة العنفية لخصوسمهم!

* تواصلت حملات الاعتقال وبين فترة وأخرى يشن هجوم كاسح وتداهم المنازل وتعتقل كوكبة من تلامذته وكوادره ولعل الذين اعتقلوا بلغت أعدادهم المئات من الناشطين والعلماء.

وذات مرة القي القبض على السيد المرجع السيد صادق (دام ظله) ومعه

ص: 314


1- من طلبة الإمام الراحل (رحمه اللّه) وناشط جماهيري.

السيدان الجليلان السيد الرضا (رحمه اللّه) والسيد حسين نجل السيد المرجع، إلا أن الخصم كان في تلك المرحلة يحذر من انتشار هكذا أخبار ضده في العالم فبادر إلى إطلاق سراحهم دون كثير من التأخير! وللقضية قصة وتفاصيل.

الصورة

* من الأساليب التي اعتمدها خط التطرف استدعاء الفرد الناشط عبر رسالة كتبية وأخذ توقيعه قسراً للحضور، والرسالة موقعة باسم (ستاد خبر)(1) فعليه الحضور في الموعد المحدد ومع حضوره يستجوب خلال ساعات ويُسال عن كل شيء وشخص وبرنامج وتفصيل يتصل بمرجعية السيد (رحمه اللّه) ثم يطلب إليه التوقيع على مقاطعة السيد (رحمه اللّه) وعدم التعاون معه اطلاقاً ومع من يعمل في جهازه، وبعد ذلك حيث سئل عمن يعرفهم من أصحاب السيد (رحمه اللّه) أن يتصل بهم جميعاً ويخبرهم بأنهم ممنوعون من الذهاب إلى مكتب السيد (رحمه اللّه) والاتصال به والتعاون معه.

واتسعت هذه الحملة فشملت حتى الموظفين العاملين في مكتبه من سواق وحرس وموظفي المشتريات والفراشين، وموظفي الاتصالات، وغيرهم! إلا أن هؤلاء رفضوا الايضاح فسجلت أسماؤهم في القائمة السوداء لاعتقالهم، فاعتصموا داخل منزل السيد (رحمه اللّه) ليلاً ونهاراً، ولم يخرجوا منه، فقاطعوا المجتمع والأهل والأقارب!

ص: 315


1- غرفة عمليات المخابرات الإيرانية في قم المقدسة.

وقسم قليل من الذين ارعبوا وجعجع بهم وهددوا انصاعوا لأوامر الجور، فانقطعوا عن التعاطي مع مكتب السيد (رحمه اللّه) وكان خط التطرف يصرح للمعتقلين أحياناً بأسماء أفراد ويطلب من المعتقل الاتصال به ونقل كلامهم وقرارهم إليه، ويؤخذ من المعتقل بالشدة في هذا الأمر.

وتؤخذ ارقام هواتف الأفراد من المعتقلين ويتصل بهم تلفونياً ويبلغون بالأوامر أو يطلب منهم الحضور في مقر خط التطرف (ميدان راه آهن ستاد خبر). وكان هذا الخط يتجاوز حدود قم المقدسة، ويعمل في طهران العاصمة أحياناً لملاحقة كوادر السيد (رحمه اللّه) .

وبواسطة هذه السياسة الارهابية، فرض خط التطرف طوقاً اجتماعياً قاسياً حول منزل ومكتب السيد (رحمه اللّه) وبث في الأجواء سموم شائعاته وأرعب الناس وقال لهم: إن الذهاب إلى منزله (رحمه اللّه) يتسبب في اعتقال الزائر، لذلك امتنع الكثير عن الزيارة، حتى أنه قد بلغنا أن بعض التجار كان يخشى من أداء حقوقه الشرعية واستلام ورقة الايصال، وقيل، أن مجرد سحب قدر من المال من حسابه البنكي كان يكفي لاستدعائه ومراقبته ومعرفة مصرف المال الذي سحبه؟ لأنهم يعلمون وفق تقاريرهم الخاصة إن هذا التاجر مقلد لسماحته (رحمه اللّه) .

نعم مرت فترة زمنية عجفاء خيم فيها الرعب على النفوس وقبع كابوس ثقيل على الصدور وبات مكتبه (رحمه اللّه) مقراً للاعتصام يراقب من يراجعه والهواتف مرصودة رصداً والأفواه مكممة ولا يعرف أحد أنه ارتكب جرماً!

* قد تصاعدت وتيرة استهداف أجندة السيد الراحل (رحمه اللّه) فطالت أولاده في مرحلة معينة فاعتقل سماحة السيد مرتضى وسماحة السيد مهدي أنجال سماحته (رحمه اللّه) ولم يعرف إلى الآن حقيقة الأمر!

ص: 316

واتهم السيد مرتضى (حفظه اللّه) بأنه علق على تفجير إرهابي وقع في حرم الإمام الرضا (عليه السلام) حيث قال: إن خط التطرف هو الذي دبر أمر التفجير الإرهابي وذلك لأغراض معينة ومدروسة، لا أن أعداء الدين والإمام الرضا (عليه السلام) هم من نفذه. ومورس بحقه تعذيب وحشي واستعملت النار في تعذيب سماحة السيد مرتضى (حفظه اللّه) واحرقت رقبته واذنه! وبعدد فترة طويلة من الاعتقال والتحقيق والتعذيب وتدخل قيادات علمية وحوزوية وسياسية في أمرهما أجيز لهما أن يخرجا إلى المنزل شريطة أن لا يلتقيا أحداً، ولا يتحدثا بأي أمر جرى عليهما!

الصورة

وكان خروجهما مقابل كفالة بكمية كبيرة من المال، أو سند طابو لمنزل مع ضمان بعض الشخصيات المعتبرة (الشيخ حسين الكرماني)(1) لكن الأمر لكونه في مرحلة صعبة من التعقيد اضطر السيدان أن يرجعا إلى السجن بعد انتهاء مدة الإجازة وهي (5) أيام فقط ويخططا للهجرة من ايران وهكذا صار، وصودر المنزل الذي سلم سنده إلى الخط المتطرف الجائر!

وأعدوا فيلماً عن السيد مرتضى (حفظه اللّه) وهو يعترف بأنه كان يخطط لإسقاط النظام! وأنه معاد للثورة! وهذا الاعتراف ليس له من الاعتبار الشرعي

ص: 317


1- من وجهاء الحوزة وعلمائها، ونائب سابق في البرلمان الإيراني، من المعتمدين عند الإمام الراحل (رحمه اللّه) والمجاهدين.

قيد شعرة، ذلك لأن الجهات الإعلامية تتقن تزوير الكلام وتجميع الكلمات واللقطات وتركيب جملة مفيدة منها، ثم إن أي اعتراف في السجن وأي قرار بأي أمر لا حجة شرعية له لأنه منتزع من الضحية في اجواء القهر والإكراه والتعذيب، وقد أجمع الفقهاء بأن إقرار السجين لا حجية له، ولا يؤخذ بشيء منه.

وقد عرض المتطرفون الفيلم في مناطق متعددة من قم المقدسة لعموم الناس والأذكياء منهم عرفوا جيداً إنها أمر دبر بليل!

* في اعتقال فضيلة الشيخ المجاهد والذي هو الآن وكيل سماحة السيد المرجع في كوتية - الباكستان، ومناطق من افغانستان فإنه قد تعرض لأنواع الإهانة والضرب والتعذيب النفسي والجسدي وطالت القضية أربعة أشهر ونصف تقريباً ونقل من قم إلى طهران العاصمة دون أي جرم ارتكبه سوى أنه ناشط مرجعي ومتعاون مع مرجعية الإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) .

* صدرت أحكام بالنفي والابعاد من قم المقدسة إلى يزد وهي الولاية التي تبعد عن قم حوالي (600 كم)، من الذين ابعدوا إليها (الشيخ محمد علي معاش) وهو ناشط حيوي، كان يدير جانباً من الأعمال الحوزوية وهو أخ زوجة السيد الرضا (رحمه اللّه) فكان عليه يومياً أن يراجع دائرة المتطرفين ويوقع ليثبت وجوده هناك، فبقي فيها ممنوعاً من أي عمل ومن أي اتصال، غريباً معوزاً قد ضاقت عليه الدنيا بما رحبت وحولوا عليه النهار ليلاً والحياة شقاءً!

* من الطريف أن السجانين كانوا في يوم الجمعة ظهراً يرفعون صوت الإذاعة حيث يلقي خطيب الجمعة في طهران خطابه ويبث مباشرة وكان خطيب امام الجمعة المؤقت (جنتي)، فكان في الخطبة الثانية يستعرض أخبار البلاد ويعلق عليها، ومما ذكره: إن لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أصدرت بياناً

ص: 318

استنكرت فيه هتك حقوق الإنسان في ايران حيث إن هناك الكثير من المعتقلين دون أن يرتكبوا جرماً وإنما ينتمون إلى حركات فكرية معينة.

فقال الخطيب وأصدقاؤنا السجناء يسمعونه، قال مانصه: (ليس في كل ايران سجين واحد سجن لانتمائه الفكري أو المرجعي أو السياسي وكل السجناء في ايران إنما هم مجرمون وقتلة وسراق وجناة!)

فما كان من إخوتنا إلا أن انفجروا بالضحك وظلت القضية لمدة يتندرون بها!

* طالت الأيادي الجائرة مؤسسات سماحته (رحمه اللّه) وحلفائه واقربائه ومن المؤسسات التي نالت حظاً وافراً من الانتهاك والرعب والمصادرة هي (حوزة الإمام القائم (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) ) في (طهران - قضاء مامزند) والتي تأسست برعاية سماحة السيد المدرسي ابن شقيقة الإمام الراحل (رحمه اللّه) فاستهدفت الحوزة واهينت إدارتها وطلابها وصودرت محتوياتها ومكتبها وكمية كبيرة من المؤلفات من تفسير (من هدي القران) لسماحة السيد المدرسي وامتعة الطلاب الشخصية، ثم منعت الاقامات عن طلابها فتلاشت الحوزة وانتهى أمرها وانتشر كوادرها في مختلف بلاد الخليج وافريقيا وظلت الذكريات النكراء عن تلك العملية المشينة!

* مستوصف (سيد الشهداء (عليه السلام) ) في قم المقدسة الذي كان يعالج المرضى الفقراء ويقدم لهم الدواء مجاناً وبأجور رمزية تعادل عُشر الأجور الحقيقية منع من الترخيص واضطر إلى إنهاء عمله!

وفي فترة من عمر هذا المستوصف كان فضيلة الدكتور (ابراهيم الجعفري) رئيس وزراء العراق السابق، هو الذي يباشر علاج المراجعين المرضى.

ص: 319

ذات مرة كان فضيلة الوجيه السيد سجاد الفالي(1)جالساً عند الدكتور ابراهيم الجعفري إذ دخل فضيلة الوجيه أبو رسول (حجو) - المسؤول الإداري عن المستوصف - فسلم وقال للدكتور: (لو تمكنت وفق ظروفك أن تمدد دوامك في المستوصف ساعتين يومياً) وتقرر أن يبحثوا الأمر مستقبلاً.

* منع العديد من كوادر سماحته (رحمه اللّه) من السفر.

* منعوا من التسجيل الرسمي في الحوزة العلمية.

* منعوا من حق الحصول على الجنسية.

* حجزت آلاف النسخ من الكتب، من مدرسة (الإمام الحسين (عليه السلام) ) الواقعة في زقاق (الوندية) في قم المقدسة، وتم استنقاذ جزء يسير منها استنقذت بعملية ثورية تحت جنح الظلام في الليل والذي قاد العملية هو الأخ الحجة الشيخ عبد الحسن الاسدي.

* فرضوا أجواءً من المقاطعة والرعب على الشرائح العربية في قم المقدسة من العراقيين والخليجيين واللبنانيين والخوزستانيين.

* بين فترة وأخرى بثوا شائعات مسمومة ضد سماحته (رحمه اللّه) وكلما كان يصدر كتاب كانت الشائعات تنتشر انتشار النار في الهشيم بأن السيد (رحمه اللّه) كتب ضد الإسلام والثورة!

لأن الكتب كانت تحتوي على بعض الأفكار الإسلامية التي نوهنا إليها سابقاً.

* ضيق الخناق على حركة السيد (رحمه اللّه) يوماً بعد آخر وكانت لجنة أو جهة معينة في المخابرات من المتطرفين مسؤوليتها رصد حركة السيد (رحمه اللّه) والتخطيط لتضعيفها وإفشالها بمختلف الوسائل اللامشروعة.

ص: 320


1- من وجهاء الكربلائيين وكادر في مرجعية الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

* وصدرت تعميمات إلى كل مؤسسات الدولة وأئمة الجمعة والجماعة بعدم التعاون مع كوادر سماحته (رحمه اللّه) بأي وجه من وجوه التعاون وذلك بعد تشويه صوت الحقيقة عند مختلف الجهات الحكومية وغير الحكومية!

* صدرت تهديدات قاسية ضده بممارسة أقسى العقوبات على أولاده السجناء وفي ذات مرة ، وصل تهديد بإعدام ثلاثة وهم : السيد مرتضى وابو كمال غفاريان(1)

والحاج هادي الذاكري(2)، لكن سماحة السيد (رحمه اللّه) لم يعبأ بذلك وقبلها صدر تهديد بقطع يد السيد مرتضى (حفظه اللّه)، إلا أن السيد (رحمه اللّه) كان لا يزداد بذلك إلا صلابة وإيماناً بأنه على حق وأنهم على باطل.

ولم يتمكن أحد طوال تلك المدة من الحرب الباردة الشاملة القاسية ضده (رحمه اللّه) من تركيعه، وتليين مواقفه المبدئية وكلها مواقف شرعية فكرية ليس فيها شيء من العنف مطلقاً.

الحرب على الفساد

كان السيد (رحمه اللّه) يرى ضرورة النهي عن المنكرات كلما سنحت له فرصة وبالطرق السلمية، فكان ينتقد فكرة (ولاية الفقيه) الواسعة النطاق والتي قال عنها كبار القوم: (إنها في حدود ولاية اللّه تعالى) وقد نشرت الصحافة في مانشيتاتها هذا التصريح للسيد الخميني، وهو يعتقد أن الفقيه يملك تغيير نظام العبادة، فمثلاً يقول: صلوا الصبح أربع ركعات والظهرين والعشائين ركعتين، وصوموا شعبان بدل رمضان، ويشرع وجوب الحج كل عام لمن يستطيع، والحقوق الشرعية ثلث وليس خمساً، وهكذا ..

ص: 321


1- كادر شعبي مخضرم في المدرسة الشيرازية ومعتمد عند الإمام الراحل (رحمه اللّه) .
2- من الكوادر الشبابية في مرجعية الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

وهذه أمور ما أنزل اللّه بها من سلطان وهي ولاية تشريعية واسعة لرب العباد حصراً ليس لغيره ذلك حتى الأنبياء والأئمة (عليه السلام) .

كافح السيد (رحمه اللّه) هذه النظرية بهذه الطريقة الغريبة التي يتحول الفقيه معها إلى الأوحدي الذي يمارس صلاحيات رب العباد!

* وقد زار السيد الراحل (رحمه اللّه) مكرراً السيد الخميني في قم المقدسة وفي طهران وذلك لغرض وضعه في صورة ما يجري على أيدي متطرفين متحكمين في الأمور، وزاره حين كان في مستشفى القلب في طهران وفي حسينية جماران.

في إحدى المرات قال له: اكسب تيارات الحوزة المختلفة وأرضهم بإعطاء الحرية لهم حيث إن رجال الدين شريحة نوعية في المجتمع وذات تأثير ولو لم يكسبوا فإنهم يؤثرون في هدم كيان نظامكم.

وفي مرة أخرى طرح له فكرته حول كيفية إنقاذ العراق من مخالب الطغمة المتحكمة به، وقال له مؤكداً: لا يمكن بالحرب الحدودية فعل شيء بل لابد من التخطيط لثورة شعبية داخلية.

* ذات مرة ذكر خطيب ايراني يلقب (الولايتي)(1) على المنبر قصة من إحدى كتب سماحة السيد (رحمه اللّه) وذكر المصدر وكان الخطاب في حسينية قريبة من منزل سماحته (رحمه اللّه) فما كان من المتطرفين إلا أن حاسبوا الخطيب وقرروا منعه من ارتقاء المنبر هناك!

* وكان السيد (رحمه اللّه) يرى أن هذه الأحكام التي تجري في طول البلاد وعرضها مخالفة لأوليات الشريعة الإسلامية مثل تحديد حرية الناس في السفر والإقامة والعمل والبيع والشراء وغير ذلك.

ص: 322


1- من الخطباء ومن تلامذة الإمام الراحل (رحمه اللّه) والمدافعين عن المدرسة الشيرازية.

وقد كان يشدد في انتقاده لمختلف تلك الظواهر والقوانين وشن حملة إعلامية ضد (الكوبون) الذي عمل به كنظام لشراء مواد غذائية رئيسية منها اللحوم والسكر والزيت، وكان يقول هذه القوانين تحد من حرية الناس وهو أمر مخالف للشريعة!

* كان يعتقد (رحمه اللّه) أن الفكر حر والمعارضة حق وطباعة الكتب حق انساني مضمون لكل من يريد أن يطبع وينشر ويقول كلامه، لذلك فإنه حين منعت كتبه أجاز من الناحية الشرعية طبع أي كتاب ليس فيه أمر بالمنكر أو نهي عن المعروف حتى لو لم يقبل المتطرفون بذلك.

* وحين منعوا بعضاً من الشعائر الحسينية كان السيد (رحمه اللّه) مؤيداً لها ومشجعاً واعتبر المنع غير شرعي.

كان اصحابه ينفذون ما يعتقد ويرشد مرجعهم إليه، وكانوا يحاولون أن يضبطوا الأمور بشكل لا تقع معه أية مشكلة، إلا أن المتطرفين كانوا يمانعون من تلك الشعائر!

في احدى الأعوام زجوا بمئات من المعزين في السجن صبيحة يوم عاشوراء بجرم أنهم طبروا حزناً على الإمام الحسين (عليه السلام) .

* في أحيان معينة إذ كان المتطرفون يخططون لمؤامرة معينة كانت الأخبار تصل إلى أسماع سماحته (رحمه اللّه) فكان يجند أفراداً معينين لكشف الخبر لأهل الحل والعقد في الحوزة العلمية حيث كان المجندون يحصلون على أرقام هؤلاء ويتصلون بهم من مراكز الاتصال العامة كي لا يعرف المتطرفون من الذي اتصل ومن أين؟ فكان (رحمه اللّه) يكشف المؤامرة قبل وقوعها فكانت الجهات المعينة المستهدفة تتخذ حذرها وتستعد لصد الاستهداف.

ص: 323

* وذات مرة صدر بيان موقع بختم (مجاهدين خلق ايران) وهي منظمة إرهابية، العمل العسكري باغتيال وتفجير المراكز والشخصيات، استراتيجية ثابتة لدى هذه الحركة، وفي البيان مقدمة ضد العلماء والحوزات ثم قائمة اسماء بالذين تعمل المنظمة لاغتيالهم هي اسماء جهات متصدية في إدارة الحكومة. إلا أن أول اسم في القائمة هو اسم سماحته (رحمه اللّه) .

رأيت نسخة منه بيد سماحة السيد الرضا (رحمه اللّه) وكانت تعم ايران حركة إرهابية.

والجدير بالذكر أن الشيوعيين في العراق في مطلع ستينات القرن الماضي حيث عاثوا في أرض العراق الفساد، أصدروا بياناً ذكروا فيه أسماء من يريدون اغتيالهم فكان أول اسم في كربلاء المقدسة هو اسم سماحة السيد (رحمه اللّه) !

* في الشهور الأولى للحرب أعلن السيد (رحمه اللّه) في مختلف وسائل الإعلام عبر بيان ذكر فيه أن صدام قد قتل! فبين خطأ الخبر وكذبه إلا أن السيد (رحمه اللّه) أعلن عن ذلك بعدما أعلن وزير خارجية ايران آنذاك (صادق قطب زاده)(1) أعلنه عصراً وأعلن السيد (رحمه اللّه) عن ذلك مساءً!

والخبر قد تسرب من داخل العراق حيث كان صدام قد زار معسكر التاجي ووقعت محاولة استهدفته ثم وقع اشتباك بين حمايته والذين قاموا بالمحاولة ففشلت المحاولة إلا أن الاضطراب الذي حدث تسبب في تسرب خطأ عن قتله. وكان السيد (رحمه اللّه) قد تحرك بصورة جادة وجرت اتصالات مختلفة فتكونت قناعة تامة عند جهات متعددة من أهل الخبرة من خواص السياسيين بعدئذ تم الإعلان بواسطة السيد (رحمه اللّه) ثم بعد فترة طويلة ظهر صدام على شاشة التلفزيون وكان

ص: 324


1- أحد الوزراء في بداية الثورة الايرانية وقد عارض ولاية الفقية إلى أن تم إعدامه.

مدعواً لمؤتمر لرؤساء الجمهوريات والزعماء فغاب عنه مما يقود احتمال أنه كان قد أصيب في قضية محاولة الاغتيال في معسكر التاجي ثم عولج وظهر في التلفزيون بعد حوالي ثلاثة اسابيع!

* كان رأي سماحة السيد (رحمه اللّه) أن الاستثمار يتسبب في إثارة إشكالات وتساؤلات، وإن كثيراً من الناس ينظرون إلى العالِم بأنه تحول إلى تاجر! وكلما حاول العالم كتمان الأمر فإنه مع مرور الزمن ينكشف الأمر، فكان (رحمه اللّه) يعتقد بضرورة العمل المركز لاستخراج الحقوق الشرعية من المتدينين وهي نسبة كبيرة (20 (عليهم السلام) ) وتقع ضمن مسؤولية رجل الدين على عكس الاستثمار الذي هو ضمن مسؤولية التاجر لا العالم، ويقول أيضاً: لا استثمار كاستخراج الحقوق الشرعية من التجار!

* وفي تلك المرحلة نشبت خلافات داخلية ضمن دائرة خط السيد (رحمه اللّه) منها مثلاً: الخلاف بين شريحتين من كوادر الحسينية الكربلائية وحين تأسست (الحسينية الزينبية) قال بعضهم: إنها تقع في وسط منطقة يكثر فيها العرب فلتكن لغة الخطاب والمجالس عربية، وقال آخرون منهم مؤسسوا الحسينية: إن أولادهم قد ترعرعوا في الأجواء الايرانية ولا يجيدون اللغة العربية وإنهم يفضلون الخطابة الفارسية والقصائد والشعارات وغيرها كذلك، نشب الخلاف وتصاعدت نيرانه فاجتمعوا بسماحته (رحمه اللّه) وتأسست لجنة لحل الخلاف إلا أن ذلك لم يتم! فوجه سماحته (رحمه اللّه) إلى تأسيس حسينية أخرى (عربية) إضافة إلى(الزينبية) الفارسية، فتأسست (حسينية جمهور كربلاء) في قم شارع جهارمردان.

وخلافات أخرى أيضاً وهذه من طبيعة العمل غير أن الحل يلزم أن يكون ديمقراطياً يضمن حقوق الجميع وأن لا يؤول اللأمر إلى التشرذم والتشظي، وهذا

ص: 325

ما حدث آنئذ، ولشديد الأسف وفي مختلف هذه النزاعات لم يؤخذ بإرشادات السيد (رحمه اللّه) وأنه برؤاه الثاقبة كان يعالج تلك الانشقاقات الخطيرة وكلها قد فعلت فعلها في ضعضعة الجبهة الشيرازية وتقويض هيبتها وقوتها المتنامية.

وبقيت آثار تلك النزاعات والخلافات إلى هذا اليوم حيث يمضي على رحيل السيد الراحل (رحمه اللّه) عشر سنوات (تاريخ هذه السطور)، وعلاج الخلافات وهي طبيعية في كل حركة هو أن يرضخ الجميع لنظام شوروي ويعملون بأكثرية الآراء لحسم النزاع وإن لم يوفق هذا العلاج لحسمه فيأتي دور المرجع ليستقبل رأيه الشرعي ويعمل به وإن رفض ذلك أيضاً فيتعامل مع الفقيه كقاض شرعي يحكم بعد التحقيق والتثبت من الدعوى بحكمه القضائي والولائي أيضا فيحسم النزاع وإن لم يقبل ذلك فهذا خروج عن قواعد الشريعة! وإن تطور النزاع فالمحاكم الرسمية هي الحل النهائي!

قصتي مع المتطرفين

كنت خلال أيام شهر صفر المظفر من عام الانتفاضة في العراق (1991 م) وهو الشهر الذي لقي فيه الإمام الخوئي (رحمه اللّه) ربه في السادس منه كنت قد تحركت لقضية اقتصادية حيث كان السيد (رحمه اللّه) طلب دينا من الوجيه الفاضل الحاج مهدي التاجر(1) وكان واسطته أقربائي واسمه السيد مهدي سجاد(2) وهو أكاديمي اقتصادي يعمل مع الحاج مهدي وكنت قد زرت السيد مهدي وطرحت معه موضوع القرض فوعد خيراً وعرضت عليه تحرك المتطرفين المحموم ضد أنصار وأصحاب السيد الأستاذ ومنهم أنا، وكنت استدعيت مكرراً وقد أخذ مني توقيع

ص: 326


1- تاجر اماراتي شيعي موالي للإمام الراحل (رحمه اللّه) .
2- رجل أعمال وناشط موالي للإمام الراحل (رحمه اللّه) .

بالحضور في مقر (ستاد خبر قم في ميدان راه اهن) وكان ذلك في شهر ذي الحجة.. وكان قراري هو عدم الاستجابة لأن الحضور عندهم معناه الرضوخ لأوامرهم والرضوخ ينتهي بالقسر والقهر لإعطائهم مختلف المعلومات ثم يطلبون التعاون (أي التجسس على السيد (رحمه اللّه) وأنصاره ومؤسساته) وهذا من أشد ما حرمه اللّه تعالى، وقد سبقت قضايا عديدة كان (طلب التجسس) والتعاون معهم على الإثم والعدوان هو نتيجة الأمر، وضعت السيد مهدي في الصورة لغرض أن يدافع عني وعن المرجعية لقربه من بعض القيادات العليا في ايران.

انتهى الاجتماع معه بعدما طلبت منه القرض وودعته وخرجت راجعاً إلى قم من طهران، وبقيت انتظر مبعوثه من طهران، في صبيحة 26/ صفر حوالي الساعة السادسة كنت استعد للذهاب إلى مجلس حسيني عقده المرحوم آية اللّه السيد كاظم المدرسي في حسينية (الزينبية) التي كان قد أسسها هو والمجلس أقيم بمناسبة استشهاد الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . رن جرس الباب وظننت أن مبعوث السيد مهدي قد وصل بادرت مسرعاً إلى فتح الباب فكانت المفاجأة! مفاجأة كبيرة وقاسية حيث رأيت شاباً ثلاثينياً، متوسط الجثة ملتحياً يرتدي قميصاً وبنطلوناً رصاصياً وضع رجله اليمنى أمام الباب كي لا يغلق وهتف بغضب صائحاً: كل ما لديك من وثائق احضرها فوراً!! وتكلم بكلمات نابية وصوت مرتفع ودخل المنزل ودخل بعده ثلاثة شباب مسلحين وبدؤوا بتفتيش كل شيء في المنزل وكانت عائلتي وأطفالي نائمين فاستيقظوا مرعوبين وانفجر الأطفال بالبكاء والرعب مخيم عليهم يرتجفون ولا يعلمون لماذا هذا الهجوم وما الذنب الذي ارتكبناه؟!

اخذوا كل ما لدينا من وثائق منها الكارت الأخضر والذي يعتبر كالهوية الشخصية ومن يفقده أو يسحب منه يعتبر وجوده في البلاد غير قانوني، وكذا

ص: 327

جوازات السفر ومختلف الهويات والوثائق الأخرى، حاولت الإفلات منهم لعدم تسليم بعضها ما استطعت! لأن كلها مجموعة في محفظة واحدة فصودرت جميعها إلى هذا اليوم وهذه الساعة التي أسجل فيها هذه الذكريات السوداء!

قلبوا المكتبة والأوراق والدفاتر وأثاث المنزل وجعلوا عاليها سافلها واستغرقت العملية أكثر من ساعة، ثم اخذوا كل الأشرطة وكثيراً من الكتب الخاصة وكل الدفاتر والأوراق وكان من ضمنها حوالي أحد عشر دفتراً كتبت فيها تقريرات بحوث الخارج لسماحة السيد (رحمه اللّه) فقهاً وأصولاً وشيئاً من تقريرات سماحة الشيخ الوحيد (دام ظله) (1)، كل دفتر منها ( 100) ورقة كتب على كل ورقة صفحتان أي إن المجموع من الكتابات المصادرة من التقريرات حوالي (2200) صفحة، هذا غير الدفاتر الأخرى التي كتبت فيها مواضيع كثيرة ومختلفة منها حوالي أكثر من مئتي صفحة تقريض حول (موسوعة الفقه) وتاريخ الفقه الشيعي وغير ذلك.

ثم اقتادوني إلى سيارتهم الخاصة التي كانت قد أوقفت على فوهة الزقاق الذي في آخره منزلي الخاص والذي لا تزيد مساحته على (43 م2) والذي كنت أسكن وعائلتي في قبو ذلك المنزل الصغير حوالي إثنى عشر عاماً.

بمجرد ما أركبوني في القسم الخلفي من السيارة صعد أحدهم من الجانب الأيمن وآخر من الجانب الأيسر واثنان في المقدمة أحدهما يقود السيارة، أسرع إليّ قائدهم بقوله في شدة وإهانة وإذلال: اخلع عمامتك! فخلعتها! قال بعدها: أنزل رأسك! ودفع برأسي إلى تحت كي لا يراني أحد في الشارع! ثم أخذ عصابة وشد بها عيني!

ص: 328


1- من كبار المراجع في قم المقدسة، وأستاذ كبير في الحوزة العلمية.

وصلنا إلى المركز الخاص وموقعه في ساحة محطة القطار في قم المقدسة وهو مركز مخابراتي رهيب فيه يخطط المتطرفون لمختلف حركات القمع والسحق والمؤامرات ضد العلماء ورموز المحافظة من الأشراف والأحرار.

مع الوصول إليه وهم يقتادوني إلى حيث يريدون وعند البوابة وفي مكان خاص، سلمتني الزمرة الخاصة إلى السجان فأخذني وأدخلني إلى غرفة، وقال: إخلع ملابسك كلها واعطاني كيساً من الأكياس الخاصة بالنفايات سوداء اللون وقال: ضع الملابس في هذا الكيس ومعها الحذاء والجورب وأعطاني ملابس خاصة بالسجناء رصاصية اللون غامقة، قائلاً: إلبس هذه وهي فضفاضة، قبيحة وغير لائقة.

نقلت إلى غرفة معينة ادخلت فيها واغلق الباب، ثم جيء إليَ بكوب بلاستيك وإناء مثله بالوان غامقة رصاصية آنئذ في الغرفة سمح لي بفتح العصابة التي شدت على عيني فتحتها وجدت رجلاً حليق الذقن مربوعاً وممتلئاً، صاح السجان: يمنع الكلام بتاتاً، ففي تلك الغرفة التي كان فيها مصباح صغير مضاء ليلاً ونهاراً فهي مظلمة ولا منفس للهواء فيها وفي أعلاها قرب السقف زجاجة تقدر مساحتها ب- (30سم × 30سم) يدخل فيها كم قليل من ضوء النهار.

في هذه الغرفة يمنع السلام والكلام والسؤال حتى عن القبلة للصلاة ولا يعرف أحد الوقت لأن الساعات حجزت وكل شيء مع الإنسان من نظارة أو خاتم أو ساعة أو ملابس أو قلم أو دفتر تليفونات أو دفتر ملاحظات أو نقود، كل ذلك يحجز!! فلا يملك شيئاً من مختصاته إلا بعض الملابس الداخلية اللاصقة بالبدن فقط.

ولكن على رغم أنفهم بدأت بالتعارف مع النزيل فتبين أنه رجل من أتراك اذربيجان يقيم في قم المقدسة اعتقل لأنه يعمل في تصريف العملات الأجنبية

ص: 329

وصودر ما عنده من أموال ومارسوا مختلف أنواع الضغط عليه، وكان مريضاً يعاني من التهابات في مجاريه البولية ويحتاج إلى الحمام في فترات متقاربة، وأما قانون السجن: أن الحق في الذهاب إلى الحمام لا يتعدى (3) مرات يومياً ومرة في آخر الليل، فكان يكثر من طرق الباب ولا يعبأ به وحين كان السجان يفتحه كان ينهال عليه بسيل من الكلمات النابية والإهانات.

ذات مرة حين اشتد احتياجه إلى الحمام أراد أن يكشف عن نفسه ويتبول عند الباب فقلت له: إن هذا يعقد قضيتك ويثير غضبهم عليك، قال: أنا محصور ماذا أصنع؟ قلت له: تحمل قليلاً!!

وفعلاً فتح له الباب بعد هنيئة مع كثير من الإذلال والاهانة وعلى كل سجين أن يعصب عينه فوراً مع سماع صوت الباب قبل فتحه وإلا فإنه سيعرض نفسه للحساب والعقاب، ولو رأى السجان أن العصابة لم يحكم شدها، فإنه يحكمها ويسد ثغراتها ويحتج على السجين في ذلك ويهينه بكلمات نابية!

عند الظهر طرقت الباب وطلبت الوضوء، فيأمر السجان أن تشدّ العصائب ويأخذ الأفراد واحداً واحداً إلى الحمام للوضوء.

ثم بعد ذلك يفتح جانب قليل من الباب ويدخل يده ويطلب الأواني فيأخذها فارغة ويعيدها وفيها الرز وعليها شيء من المرق ويعطي كمية من الجزر ووقدحاً خاصاً يملأ ماء.

وفي الغرفة قطعة من البلاستك سوداء وهي في الأصل كيس من النوع الذي يستخدم في بيع الخضار والفواكه يدخل عليها إناء الطعام والخبز والماء ويأكل السجناء، على كل واحد منهم أن يغسل إناءه وكأسه وكوبه وملعقته ولو لم يفعل يحاسب ويعاقب!

ص: 330

في كل يوم عصراً يفتح السجان الباب ويأمر بشد العصائب والكل يتعودون وينضبطون.

الإهمال

وبقيت لا أعرف ماذا جنيت؟ وما الذي يراد مني؟ ولماذا جيء بي إلى هذا السجن المظلم وإلى متى؟! والعديد من الأسئلة الأخرى.

كنت أفكر مستغرباً حين فتحت الباب مع جلبته وكلمات غير لائقة، وإذا بمعتقل آخر زج به معنا، فتح عصابة عينيه فرأيته زميلي سماحة السيد هاشم اليعقوبي(1)!

ثم بعدها جيء بإخوتنا سماحة الشيخ عبد الرحيم الحائري والشيخ جعفر عسكربور، والوجيه الفاضل عباس عامليان(2) ثم العلامة الشيخ حسن معيني

وهو الكاتب في مكتب سماحة السيد (رحمه اللّه) ورجل عصامي ومحتاط في شؤونه الدينية وخطيب لامع باللغتين الفارسية والآذرية التركية، شخصية مؤدبة شفافة طويل القامة شيخ أشرف على الستين من عمره، أنه رجل القيم والرزانة والتعقل ويستحق كل التقدير والاحترام.

زج به في جو من انتهاك الحقوق وعلى نسبة كبيرة من الامتهان والتصغير كان معصباً ومتوتراً ينزف جبينه العرق ادخل المعتقل واغلق خلفه الباب، ضاق نَفَسَه وأصيب بالتشنج ثم وقع شبه مغشي عليه ولم يتمالك نفسه حيث جرت دموعه، تمدد على الأرض مستلقياً يتنفس بصعوبة ويئن أنيناً حزيناً اجتمع حوله

ص: 331


1- من تلامذة الإمام الراحل (رحمه اللّه) وناشط في المكتب.
2- من كوادر العمل المرجعي وناشط في الوسط الشيعي.

السجناء كلهم ورشوا عليه قليلاً من الماء أفاق بعد هنيهة فلم تكن شفتاه تفتران عن ذكر اللّه.

ضاق المكان بالنزلاء وكان السراج مضاءً ليل نهار مما كان يزعجنا كثيراً. في كل أربعة وعشرين ساعة لا ينادون إلا على واحد أو اثنين وكنا نسمع أحياناً أصوات الضرب والتعذيب والصراخ ولا نعلم من المعذب؟ ولماذا هذه المعاملة القاسية التي يأباها الشرع والعقل والقانون؟!!

فكان السجناء يمتلؤون رعباً لأنهم على علم بأن الخصم لا يفهم منطقاً ولا يتفاهم ويحاور وإنما يسير وفق منهجية شوفينية وجائرة ويريد (العمالة) من الضحية والارتماء في أحضانه الموبوءة.

بعد ثلاثة أيام من القلق حول المصير وفي الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل فتح باب السجن على الطريقة المتعجرفة والصاخبة وفز السجناء من النوم صاح السجان (ناصر، ناصر) أجبت: نعم! قال: عجل أخرج أسرع لماذا تتأخر؟!

ولم يمهل في جعجعته حتى لفترة شد العصابة حيث إن كل سجين هو المسؤول عن شد عصابة نفسه وإن لم يفعل يعاقب وإن شدها بغير إحكام يهان ويحاسب ويضبطه السجان نفسه، خرجت مسرعاً فأخذ بيدي واقتادني إلى غرفة أخرى أجلسني على (رحلة مدرسية) متجهة إلى زاوية الغرفة وقال: أمامك أوراق استمارة وقلم، أطرح عليك أسئلة معينة وعليك الجواب شفاها، ثم عليك ملأ الاستمارة التي أمامك.

كانت الاستمارة تحتوي على أكثر من مئة سؤال حول النسب والسبب والعمل والأقارب والأصدقاء ومحل الولادة ومراحل الحياة ومهنة الأقارب

ص: 332

واسمائهم الثلاثية والأقارب في خارج البلاد ونسبة القرابات، وفي أي بلد وماهي مهنهم وانشطتهم؟ وما هي أنشطة سماحة السيد (رحمه اللّه) التي أديتها إلى هذا اليوم؟ والآراء السياسية حول القيادة الحاكمة ونظرياتها وأسئلة حول مختلف المرجعيات الدينية والحركات السياسية وأسئلة كثيرة حول مرجعية سماحة سيدنا سالأستاذ (رحمه اللّه) عن تحركاته وممثلياته في العالم والحوزة الزينبية في الشام، ووكلائه وتلامذته وخصوصيات كل منها وعن كل شيء!

استغربت من هذا الاستجواب وهذه الاستمارة الراقدة أمامي وأجبت عنها جميعها بكل أمانة إلا ما احتملت أن يلحق أذى بصديق أو زميل أو شخصية عاملة مع مدرسة السيد الراحل (رحمه اللّه) وخطه ووكلائه.

سألني عن أصدقائي في مكتب سماحة السيد (رحمه اللّه) أجبت: إنني أتعامل مع كبار السن وذكرت له اسم المرحوم (الشيخ الحجتي)(1) وهو طاعن في السن، وذكرت سماحة السيد صادق (حفظه اللّه) ورجالاً آخرين من هذه الطبقة، حاول كثيراً وعبر تساؤلات مختلفة لأكشف له عن أسماء ناشطين مع السيد الشيرازي وبرامج خاصته، فلم أفده إلا بما يمنح مدرسة السيد (رحمه اللّه) هيبة واقتداراً.

سألني عن عدد مقلدي سماحته ووكلائه أجبته بالتفصيل من دون ذكر اسم معين ممن يحتمل أن يناله أذى من هؤلاء القساة المتطرفين.

وسألني عن مصادر المال، فلم أجبه جواباً يستفيد منه! بل قلت له: إنه مرجع ديني كبير وله مقلدون في كثير من بلاد العالم وهؤلاء يدفعون الخمس والتبرعات وأنتم على اطلاع تام بشرائح مقلديه في الكويت والبحرين والسعودية وغيرها من بلاد الخليج والعراق والبلاد الأجنبية، فهؤلاء هم المصدر الاقتصادي

ص: 333


1- من تلامذة الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

لمؤسسات ومشاريع سماحته (رحمه اللّه) .

وسألني: كيف ارتديت العمامة ومن عممك؟

سردت له قصص تاريخية مفصلة وكل الفضل فيها يعود إلى سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) .

وكثرت الأسئلة ولا أتذكر أكثرها وانتهى التحقيق حدود الساعة الثالثة بعد منتصف الليل وكانت اعصابي متوترة ومنهار القوى.

فاقتادوني إلى الغرفة الخاصة فاستيقظ الزملاء واعتذرت من ازعاجهم وكل من يعود من التحقيق يجتمع عليه السجناء ويسألونه بالتفصيل عن الأسئلة والأجوبة رغم ان التخاطب ممنوع بين السجناء! وغلبني النعاس والإرهاق فاستسلمت للنوم إلى حين صلاة الفجر في حوالي الساعة الخامسة، فخرج السجناء واحداً واحداً إلى الحمام للوضوء وصلينا ثم استسلمت للراحة إلى الساعة الثامنة صباحاً، حيث استيقظت على أثر حركة السجناء للإفطار حيث يفتح السجان الباب ويسلم الخبز والجبن ويطلب من كل واحد أن يحضر كوبه للشاي فيصب الشاي المحلى في الكوب البلاستيكي الأحمر اللون.

وماذا بعد الإفطار صباحا؟

تبادل الأحاديث مع رفاق السجن ممنوع طبعاً فلا يعلم السجناء ماذا يعملون؟ وكان برنامجي اليومي هكذا!

1. فأحياناً أصلي قضاءً وصلوات القضاء عبادة وأجر واستغلال للوقت في أمر نافع.

2. وأحياناً مناقشات علمية وثقافية مع الآخرين.

3. أحياناً قراءة عشرات ومئات سورة الفاتحة لكل المرحومين من المؤمنين

ص: 334

والمؤمنات، منذ فجر الرسالة إلى اليوم بما فيهم الشهداء والثوار والفقهاء والخطباء والمؤلفون والأصدقاء والأقرباء، وغيرهم.

4. وأحياناً قراءة أربعة عشر ألف مرة سورة التوحيد لأنها ختمة مؤثرة في قضاء الحوائج.

5. والنوافل اليومية مع تطويلها وتكرار أذكارها وقراءة مختلف السور القرآنية المحفوظة فيها.

6. وأحياناً التفكير في قضايا ثقافية أو اجتماعية أو غيرها، قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا عبادة كالتفكير».

7. وأحياناً آلاف المرات من الاستغفار.

وكان للمداولات والمناقشات ومختلف البرامج الأخرى أثر كبير في القضاء على الضجر والفراغ.

وماذا يجري خارج السجن؟

كان منزلنا قد تحول إلى (دار الأحزان) للأطفال والعائلة والضيوف المواسين وأقيمت مجالس نسوية باسم السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وانطلقت حركة حامية من الزيارات النسوية ومجاميع من الأقارب، الغرض منها ضخ المعنوية في وجدان أعضاء العائلة، إلا أن زوجتي المجاهدة السيدة (أم محمد) كانت قد رفعت راية للمقاومة ضد المتطرفين الذين لا يعرفون معنى للدين والإنسانية، كانت تأخذ أطفالها الأربعة وتعتصم على باب مقر (المحكمة الخاصة) وتلتقي بالمسؤولين القساة وتحتج وترفع وتيرة الاحتجاج وتصرخ أحياناً وتجلب الأنظار وتستثير مشاعر الناس بالإعلان عن أن هؤلاء الطغاة متجاوزون وظالمون يحتجزون العلماء والأحرار دون ذنب اقترفوه، كل ما أخذ عليهم أنهم أنصار

ص: 335

ودعاة المدرسة الشيرازية المرجعية الدينية والمعروفة بعلمها وجهادها وخدمتها.

وكان الجلاوزة يحاولون بمختلف الوسائل والسبل أن يثنوها عن الاحتجاج ولكن دون جدوى.

ذات مرة كانت تواصل اعتصامها عند باب السجن فرأت أحد الأربعة الذين هاجموا منزلي مع زوجته وهو شاب أشقر متوسط الحجم نحيف وعلى عينيه نظارة وهو متوجه إلى محطة القطار وموقع السجن قريب من المحطة، فاعترضته.

إطلاق سراح البعض من زملائي

أما المشهد داخل السجن فاستمرت التحقيقات مصحوبة بالضغط باتجاه طلب التعاون معهم، وبعبارة أخرى الخيانة للمرجعية والمدرسة المربية والحاضنة، وكانت المواقف متحدة وصلبة ولم يستطع الخصم جر حتى واحد من أصحابنا إليه، وبدات حملة ضغط أخرى استسلم لها البعض وكانت تطالب أصحابنا بمقاطعة مكتب سماحة السيد (رحمه اللّه) وعدم التعاون معه إلا أن أساليب القهر والإكراه فرضت عليهم أن يوقّعوا مجبرين فوقّعوا وأطلق سراحهم إلا أنهم في السر استمروا في تعاونهم مع مكتب سماحة السيد (رحمه اللّه) ولكن عبر واسطة بينهم وبين السيد (رحمه اللّه) .

عباس عامليان (رحمه اللّه)

وكان معنا الأخ الراحل (عباس عامليان) وهو من الكوادر الناشطة والفاعلة في مكتب سماحة السيد (رحمه اللّه) كان يحب الجميع ويخدم الجميع ويتعاون مع الكل وقد تعرض للاعتقال أكثر من مرة لأسباب تافهة ودوافع سياسية غير

ص: 336

واقعية، كان هذا المجاهد مصاباً بالفشل الكلوي ويأخذ يومياً (18) حبة علاج وكان يعاني بصورة استثنائية في السجن ويحتاج إلى الحمام أكثر من غيره ولا يتعاونون معه، وأخيرا بعد الضغط أجبر على التوقيع بعدم زيارة مكتب سماحة السيد (رحمه اللّه) وأخرج من السجن بكفالة. خرجوا واحداً بعد أخر وبقيت أنا اصارع الأزمة.

جولات أخرى من التحقيق

دعيت مرات عديدة للتحقيق بعد منتصف الليل! وجرى فيها كثير من الكلام والشد والجذب.

كنت أحاول أن أقول الحق قوياً صلباً، ولكن دون تجريح أو تحدي أو إثارة، خوفاً من العواقب الوخيمة على يد قوم لا يخافون اللّه واليوم الآخر وسألني المحقق مرة لماذا تدافع وتعتقد بالشيرازي؟ وما الذي قدمه للإسلام ولايران؟ رأيت إن أجيبه بشيء من الإسهاب حول ضرورة احترام المدرسة الشيرازية لمواقفها التاريخية في خدمة ايران خدمات متميزة وقليلة النظير، قلت له: إن للشيرازي مواقف تاريخية مشهودة يكفي الواحد منها أن تضع الحد للانتهاكات التي تمارس بحقه.

قال: مثل ماذا؟ اذكرها بالتفصيل!

وأنا كنت أحب أن أفصل له ذلك فذكرت له مواقف خمسة وكان هو يكتبها قلت له وأنا طبعاً معصب العين ووجهي إلى زاوية الحائط:

1. إن ثورة التبغ الكبرى ضد القوات البريطانية المحتلة فجرها وقادها الميرزا الشيرازي (رحمه اللّه) وهو جد هذه الأسرة المباركة فإنقاذ ايران من براثن الاستعمار تم على يده (رحمه اللّه) .

ص: 337

2. إن والده الإمام الميرزا مهدي الشيرازي ترك كربلاء المقدسة وجاء إلى ايران وتحالف مع السيد البروجردي والميرزا حسين القمي (رحمه اللّه) وقادوا انتفاضة كبرى ضد الشاه وجماهير الشعب كله معهم فاجبروا الطاغية على التراجع في قضية: السفور الإجباري ومصادرة الأوقاف ومنع عمل الحوزات العلمية وارتداء العمامة!

3. إن هذه قم المقدسة والتي قادت الثورة المعاصرة ضد امبروطورية الشاه إانما أسسها عالم تخرج من حوزة كربلاء المقدسة وهو تلميذ من تلامذة الميرزا الشيرازي الثاني قائد ثورة العشرين في العراق فالشيخ عبد الكريم الحائري (رحمه اللّه) أحد أبرز تلامذة الميرزا الشيرازي (رحمه اللّه) وكان قد أوصاه بتأسيس حوزة في قم المقدسة، فاستجاب ونبتت هذه الحوزة الكبيرة التي يرجع الفضل إليها في قيادة ايران ضد الشاه، وهذه حسنة من حسنات الشيرازية أيضاً.

4. وحين أراد الشاه إعدام الخميني في عام (1963 م) تحرك السيد محمد الشيرازي (رحمه اللّه) ، ذهب إلى النجف والتقى المراجع الكبار وعقدوا اجتماعاً هاماً وتحركوا وابرقوا للشاه وطلبوا منه إطلاق سراح الخميني فتم إبعاده فانقذ السيد بحركته النوعية الكبيرة رقبة الخميني من مشنقة الشاه بعد احداث انتفاضة خرداد.

5. والفضل الكبير على ايران أنه ساند الثورة بكل ما أوتي من قوة ثم أسس المؤسسات الكثيرة ونشر مئات الآلاف من الكتب وأدى كثيراً من الأنشطة الإنسانية ولازال هو ووكلاؤه ومؤسساته يقومون بكثير من النشاطات لخدمة شعب ايران المسلم.

ذكرت هذه الأمور بتفصيل إلى أن انتهى الوقت المحدد ونقلت إلى الغرفة الخاصة مرة أخرى.

ص: 338

أفرج عن زملائي واحداً بعد آخر بعد إكراههم على الانفصال عن السيد الراحل (رحمه اللّه) فوقّعوا لذلك، لكنهم بقوا أعضاء ناشطين دون حضور مباشر، بقيت أنا وشاب آخر ادعى أنه من تيار الشيخ المنتظري، فكنا نتحاور في أمور مختلفة تهم الوضع الإسلامي العام وتوالت استجوابات التحقيق مشوبة بالاستفزاز والتوهين أحياناً، وطلب إليّ بإلحاح أن أتعاون معهم أي أن أتحول بعد عشرات السنين من الإخلاص والخدمة للإسلام والمرجعية طلب إليّ أن أتحول إلى(جاسوس)!!

قلت له: هل يصح ويعقل أن فرداً عاش سنين طويلة على مائدة مضيف ثم يتحول إلى جاسوس وضيع وخائن؟! خلافاً لقوله تعالى: (وَلَا تَجَسّسُوا)، حاول أن يبرر لطلبه دون جدوى وبعد المحاولات الفاشلة والترغيب والترهيب، طلب المحقق مني التوقيع على مقاطعة السيد (رحمه اللّه) قلت له: إنه أستاذ لي وذو فضل كبير، كيف أقاطع أستاذاً رباني كالأب الحنون، ثم إنه مرجع كبير واعتقد أنه الأعلم من غيره، فكيف أقاطعه؟ خلافاً لقول الإمام الصادق (عليه السلام) القائل: «زاحموا العلماء ولو بالجثو على الركب» كيف؟ وما هذا التناقض في الموقف مع أنك تدعي كونك على مذهب الإمام الصادق (عليه السلام) ؟ لن أوقع مطلقاً وأبديت صلابة شديدة فأرجعت إلى السجن وقد هدد وتوعد هذه المرة، وقال: إن موقفك يكلفك الكثير، قلت: عليّ أن أؤدي واجبي الشرعي مهما كلف الأمر.

بقيت لفترة في شد وجذب وأنا مصر على موقفي. مضت أيام وأهملنا، ونحن نعيش في واقع يرثى له ولا نعرف مصيرنا.

ذات يوم صاح السجان من خلف الباب - طبعا هناك ثقب صغير ينظر من

ص: 339

خلاله إلى ما يجري في غرفة السجن ويراقب سراً - صاح مستنكراً محتجاً: ماذا قلت للسجين الآخر؟ بادر إلى تهمة كبيرة قائلاً: إنك أعطيته أسماء معينة! ما هي الأسماء؟ ولماذا اعطيتها له؟ وماذا تهدفان من ذلك؟ وأحدث صخباً وجلبة كبيرة وفتح الباب بعد أن شد كل واحد عصابته على عينه وظل يثير قضية وهمية ويعطيها الحجم الكبير ويؤكد حدوثها، وجاء المحقق وقال لي وأنا واقف أمامه بملابس السجن الداكنة والمهلهلة وعينين معصبتين ونفس ثائرة ضدهم للبهتان الغريب قال المحقق: تكلم الواقع هل هذا السجان يكذب؟هذا غير معقول أنه يرصد تحركاتكم ويسمع كلامكم فأي اسم قدمته للسجين الآخر؟ ولأي هدف؟

فأخذت زمام الكلام وتكلمت بلغة العتاب والتوبيخ أيضاً، قلت له: نحن المهاجرون من العراق منذ عام (1975) وهاجرنا إلى البلاد المختلفة وأهلنا هناك بين سجين وقتيل ومشرد ووقفنا مع الثوار في ايران وفرحنا بانتصارهم أعظم فرح في حياتنا على الإطلاق ونعيش في ظروف صعبة وقاسية وليس لنا من الصباح إلى المساء غير الخدمة للحوزة والمجتمع ووردنا إلى يران سريعاً بعد الثورة للخدمة والعمل والجهاد هل هذا جزاؤنا؟ أهكذا تستقبلون الضيوف؟ وهكذا التعامل مع العاملين في الحوزة؟ هل قتلنا أو سرقنا أو اعتدينا على أحد؟! هل هذه مبادئ إسلامية؟ هل الإسلام يقول لكم افعلوا هذه الأفاعيل؟

واسهبت في الحديث ولا اتذكر أكثره، وسكت وليس له أي جواب لأن الأسلوب هذه المرة كان مختلفاً عما مضى.

بعد هذه الحادثة نقلت إلى زنزانة وفصلت عن غرفة السجن السابقة. زنزانة لا يستطيع الإنسان أن يأخذ فيها راحته في النوم أو اليقظة وكانت ثنائية بمعنى وجود شخص آخر شكله مختلف كثيراً عنا، ولا أعرف ماذا كانت التهمة الموجهة

ص: 340

إليه! لكنني أصبت بنكبة نفسية على أثر البهتان والتهمة ونقلي إلى الزنزانة.

الاضراب عن الطعام

امتنعت عن الطعام كاملاً وكان السجان كلما جاء بالطعام اضطر إلى إرجاعه في اليوم الثاني واستمر الإضراب ثلاثة أيام فانتكست صحتي على أثر الضغط النفسي والجسدي وتغيرت سحنتي وصرت أرتجف وأشعر أن آلاف الابر توخز كل جسمي، فجاء السجان بعدما أخبره صاحبي السجين معي ونقلني إلى المحقق فقال: أطلق سراحك إلا أنك ممنوع من التعامل مع مكتب الشيرازي، ومراودة منزله وعليك إحضار كفيل، فجيء بملابس فارتديتها وكانت بعض امتعتي ناقصة إلا أنني وقعت على استلامها كلها وأخذوني في سيارة خاصة بهم وبقيت حائراً حول من يكفلني؟

فذهبت إلى والد زوجتي وأخذته بصعوبة إليهم فنظر إليه الحاكم وقال: هذا كبير السن ولا يضمن إحضارك فهو مرفوض!!

وذهبت إلى بعض الجيران والأصدقاء فكانوا جميعاً يخافون من القيام بهذه المهمة، وأنا ايضاً كنت متحسساً من الموضوع لأن الكفيل يتورط لو حدث لي حادث معين، فذهبت أطلب من بعض المجاورين المخلصين فلم أجد جاري (مشتي غلام) فذهبت أبحث عنه ولقيته صدفة في الشارع وطرحت الموضوع عليه فاستقبل الأمر برحابة صدر فصعد المركبة معنا وذهبنا جميعاً إلى(المحكمة الخاصة) ودخلت على الحاكم فبادر بالقول انتهى الموضوع قلنا له كيف؟ قال: جاء (مهدي) نجل المرحوم الفالي جاء معي للكفالة وقد تكفلني، وسلم وثائق وخرج!

فأكبرت موقفه والتقيت به وشكرته كثيراً وكان موقفاً إنسانياً شريفاً. وذهبت إلى المنزل منهكاً من الجوع والعطش والمرض والسهر والإرهاق إلى

ص: 341

ما شاء اللّه.

ولم يسلموا لي أياً من الدفاتر والكتب الخاصة والأوراق التي صادروها وكانت ثمرة جهد حوالي عشر سنوات وتضم تقريرات بحوث الخارج ضمن المواد المصادرة.

فرح كل من عرف بالخبر ولعن الطغاة في نفس الوقت، وفي أوائل الليل أخبرت بأن سماحة السيد صادق سيزورني! ففرحت وجاء للزيارة وكانت دفعة معنوية كبيرة، وكان معه حسبما أتذكر بعض أولاده لأن كل الموظفين وأعضاء الجهاز المرجعي كانوا قد منعوا من التعاون والمرافقة والتزاور مع الشيرازيين ولا أتذكر ما جرى من الأحاديث إلا أنني وضعت سماحته (دام ظله) في الصورة وقلت له: إنني رفضت الإنصياع لأوامرهم ولم أوقع على مقاطعة المرجعية.

ثم قمت بزيارة لسماحة السيد الأستاذ (رحمه اللّه) في اليوم الثاني متحدياً قرار المنع وكانت الزيارة قبيل المغرب ووضعت سماحته (رحمه اللّه) في صورة ما جرى عليّ وكان السيد (رحمه اللّه) يعبر عن موقفه بكلمة يكررها كلما المت مشكلة أو أزمة، كان يقول: (يلزم أن نعالج الجذور كي نستأصل شافة الأزمات)، انتهى الاجتماع مع ارتفاع نداء الأذان للمغرب، فقمت للصلاة جماعة في المصلى (ساحة المنزل) واحتفى بي الجميع يهنؤني على الخلاص من براثن وانياب خط التطرف، وجلس للصلاة إلى جانبي الحاج (مسلم الأسدي رحمه اللّه) والد أخينا الفاضل العلامة الشيخ عبد الحسن الأسدي، فسألني: لماذا اعتقلوك؟! أجبت: لأنني من تلامذة وأصحاب سماحة السيد، فقال: وماذا فعل السيد؟ هل تجاوز على زوجة القاضي؟ قالها ببراءة واستنكار وباللفظ العامي الصريح!

في اليوم الثاني استدعيت مرة أخرى إلى المحكمة الخاصة فذهبت على

ص: 342

الموعد فخالفوا الوعد وأخروني في غرفة الانتظار ثم دخلت على القاضي وأخبرني بتفاصيل ذهابي في اليوم الماضي إلى منزل سماحة السيد (رحمه اللّه) ولقائي به وبالناس إلا أنه لم يكن يعلم بما جرى من الحديث مع سماحة السيد (رحمه اللّه) ومنعني أيضاً عن مراودة بيت السيد (رحمه اللّه) إلا أنني لم اعبأ بكلامه وقال: إن ذلك يكلفك كثيراً، فلم اعبأ به أيضاً.

ظلت المحكمة الخاصة تلاحقني كل يوم وأخيراً حولت قضيتي على المخابرات الجناح المتطرف وكان شخص يطلق على نفسه لقباً مستعاراً هو (المنتظري) قبيح المنظر طويل القامة حاول كثيراً ومكرراً منعي من مراودة منزل السيد (رحمه اللّه) فلم اعبأ به، فقرر إبعادي إلى محافظة (كرمان) أو الخروج من ايران فاخترت اللأمر الثاني وقدمت جواز سفري إليه إلا أنه راح يماطل في الأمر ويسوف من اليوم إلى غد وبعد غد..

واستدعيت مرة أخرى من المحكمة الخاصة وحاول الحاكم المتطرف (ابو الفضل أربابي)(1)

حرفي عن الهجرة، قال: إلى أين تريد السفر؟ قلت إلى سوريا! فبدأ يشوه صورة سورية عندي فرفضت كلامه ورددت عليه، ثم أعلن هو و( المنتظري) بعد أن رأى الجدية في السفر، أعلنا المنع من السفر وإن قرارهم هو إبعادي إلى(كرمان) أو (يزد) وتركوا لي مدة أسبوع للاستعداد وقد طلبت شهراً.

لكني اختفيت وقاطعتهم سافرت إلى طهران ثم هناك أعددت وثائق مزورة وهاجرت مع عائلتي في البرد القارص وفي جو من التشاؤم إلى كردستان العراق! في (شقلاوة) حيث كانت حسينية الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هناك، وطالت الهجرة حوالي إثنى عشر عاماً بعيداً عن السيد (رحمه اللّه) والأصدقاء والأقرباء وكانت

ص: 343


1- من مدراء ومسؤولي المحكمة الخاصة برجال الدين في مدينة قم المقدسة.

سنين صعبة ملؤها المعاناة واللآلام.

واشتدت المحنة على مرجعيتنا بعدها أكثر مما ذكرت قطرة منها فيما مضى. وفي سوريا جاءني تهديد بالقتل من المحكمة الخاصة والمخابرات العاملة معها وكان الواسطة الذي نقل لي التهديد هو فضيلة الاخ الشيخ جعفر الحائري، وقاطعتهم إلى هذا اليوم وليس لي مشروعاً للكفاح ضدهم إلا أنني معارض وكل الخط المرجعي كذلك و(وَسَيَعْلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٖ يَنقَلِبُونَ)صدق اللّه العلي العظيم.

مجلس خبراء الاقتصاد

انتشر تلامذة سماحة السيد (رحمه اللّه) في مختلف أنحاء البلاد تسنم بعضهم مناصب في القضاء وبعضهم صعدوا إلى مجلس النواب وبعضهم صار إماماً للجمعة وهو منصب يتمتع بحقوق وأدوار قانونية ويعتبر إمام الجمعة القائد الروحي للمجتمع وتحاول الأجهزة الإدارية أن لا تتجاوز تعليماته وارشاداته.

أحد تلامذة سماحته (رحمه اللّه) ارتقى إلى مجلس النواب وكان على اطمئنان وثقة بأفكار وعمق رؤى سماحته (رحمه اللّه) فانتخب في المجلس مسؤولاً للجنة الاقتصادية، وهذه هي التي تنتج الأفكار الاستراتيجية لاقتصاد ايران الحالي والمستقبلي، وهو دور خطير وغاية في الخطورة قام هذا المسؤول والذي درس في مرحلة سابقة في حوزة سماحة السيد (رحمه اللّه) بزيارة على رأس وفد إلى مدينة قم المقدسة والتقى بسماحته (رحمه اللّه) لغرض التداول في شؤون اقتصاد البلاد ومستقبل هذا الاقتصاد وتكلم سماحته (رحمه اللّه) للوفد، وقد جلس رئيسه أمام سماحته (رحمه اللّه) جلسة الصلاة مؤدباً، وطلب من السيد أن يجلس إلى جانبه لكنه ولشدة تأدبه رفض وظل جالساً أمام سماحة السيد (رحمه اللّه) فقال السيد (رحمه اللّه) ما ملخصه:

ص: 344

(تنتخبون عشرة من المجتهدين من الحوزة العلمية من خبراء الفقه الاسلامي، وعشرة من حاملي شهادة الدكتوراه في الاقتصاد، ثم يخصص لهم مكان مكتبي خاص، ويوفر فيه كل ما يحتاجون إليه، ويدعمون بكل كتاب حول الاقتصاد ووسائل الاتصال بأية جهة يريدون، وكل ما يطلبونه في هذا المجال، يلتزمون خلال ستة أشهر يفكرون ويحققون ويسجلون نتاج تحقيقاتهم في دراسات تخصصية حول كل الجوانب في الاقتصاد ومجالات الاختصاص ستة عشر مجالاً منها - مثلاً - الاقتصاد الزراعي والنفطي والتجاري والبنكي والصناعي والعمراني وغيرها، وهذه كلها بحاجة إلى تحقيقات معمقة ودراسات مستفيضة وتفرد لهم مخصصات وأجور عالية ومرضية لهم، ثم بعد انتهاء المدة تؤخذ النتاجات وتصوب في المجلس وتحول إلى وزارة الاقتصاد، وتنزل إلى الأرض للتنفيذ، بهذه الطريقة نكون قد دمجنا الفكر الاقتصادي الحديث مع النظام الاسلامي، وبذلك يمكن التمهيد لنهضة اقتصادية في البلاد).

هذه هي الفكرة الأولية التي قدمها سماحة السيد (رحمه اللّه) للجنة الاقتصادية ورئيسها إلا أن رئيس اللجنة اعتذر بأن للجنته ميزانية محدودة وإدارة مجلس النواب لا توافق على هكذا مشروع لاستنفاده مالاً كثيراً.

فقال سماحته: إن طريق التخطيط الاستراتيجي هو تشكيل هكذا لجنة بحثية وإلا يصطدم الاقتصاد بالعجز والفتور والمرض.

وانتهى الاجتماع بتقديم سماحته (رحمه اللّه) مجاميع من الكتب الخاصة لأعضاء الوفد ثم ودع وخرج وهو يحمل رؤية إيجابية حول كيفية إنقاذ الاقتصاد المنهار في البلاد إن وافق المسؤولون على تنفيذ هكذا خطة مكلفة، وثم طرحت اللجنة مشروعها هذا على النواب فلم يصوب منه شيء.

ص: 345

الأخلاق من أهداف الرسالة الإسلامية

إن الحديث المشهور عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» كان قد أخذ موقعه اللائق في سلوك سماحة السيد (رحمه اللّه) وخطه من قلمه المبارك وموقعه من برامجه التربوية فقد كتب السيد (رحمه اللّه) كتباً عديدة في هذا الحقل منها: (الفضائل والأضداد) و(الأخلاق الإسلامية) و(الفضيلة الإسلامية) وغيرها أيضاً.

أما في منهجه التربوي فقد التزم (رحمه اللّه) في كل أربعاء إلقاء كلمة أخلاقية لمدة (20) دقيقة بعد أن يقتطع مقداراً من بحث الخارج، وكان أيضاً في مناسبات الأفراح والأتراح يلقي كلمة تتصل بالمناسبة، كما كان في كل أسبوعين أو لفترة معينة طويلة يلقي محاضرة تربوية- وكذا أخاه سماحة السيد المرجع (حفظه اللّه)، وكان يوصي أيضاً كل أساتذة الحوزة العلمية تخصيص (20) دقيقة في آخر يوم من الأسبوع لتدريس الأخلاق ونحن وزملاؤنا حين كنا ندرس في الحوزة كنا ملتزمين بهذه القاعدة التربوية كل أسبوع.

أما في المناسبات الكبيرة مثل عاشوراء أو استشهاد الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو العطلة الصيفية أو ميلاد الحجة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) ، كان يفرد لها محاضرة خاصة بعد أن يعطل درسه في ذلك اليوم المتقدم على المناسبة، وسلوكه (رحمه اللّه) كان نسخة عن فكره الأخلاقي فكان نعم القدوة والأسوة الأخلاقية لتلامذته وكل اتباع مدرسته المباركة، وقد اشتهرت المدرسة الشيرازية في أوساط الحوزات والمجتمعات بتميزها الأخلاقي الكبير.

التكرار والتاكيد لانضاج المطالب

كان (رحمه اللّه) لا يحب تكرار المعلومات ويرشد إلى التجديد فيها ويؤكد على

ص: 346

الخطباء ذلك إلا أنه طرح إرشاداته وأفكاره الأساسية في كل مناسبة لغرض الانضاج والتأكيد وكانت قضية (الدولة الإسلامية الواحدة) من أفكاره الأساسية التي ناضل ونظّر وكتب وخطب فيها كثيراً كان يضطر أحياناً للتكرار ما دامت الفكرة والنظرية لازالت قيد الضمور والنسيان.

وحين كانت ترد عليه الوفود في المناسبات السنوية منها موكب كبير من العراقيين يرد على مكتبه في كل أربعين للإمام الحسين (عليه السلام) من كل عام وكان يلقي عليه خطاباً سنوياً مركزاً، فكان سماحة السيد (رحمه اللّه) يؤكد ويكرر منطلقات ضرورة الدولة الإسلامية الواحدة، فاقترح عليّ أحد مسؤولي الموكب أن أذكر سماحته لئلا يكرر، ففعلت!! فارتقى سماحته (رحمه اللّه) المنبر وقال: إن فضيلة الشيخ ناصر الأسدي يقول لي: لا تكرر الأفكار والرؤى! والحقيقة أن التكرار لازم لغرض الانضاج والتذكير والتأكيد فكم مرة كرر ربنا الآية (وَيْلٌ لِلْمُكَذِّبينْ) في سورة المرسلات المباركة، وكم كرر (فَبِأَيِّ ءَالَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) في سورة الرحمن، وكم مرة نكرر يومياً: (ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ) وتكلم حول ضرورة التكرار ولكن بمعلومات جديدة، فركز الفكرة في الأذهان، في نفس المناسبة التي طرحها قبل عام.

مسجد الإمام الرضا (عليه السلام)

هو مسجد كبير ومركز حوزوي هام تعقد فيه برامج التدريس التي يحضرها أحياناً حوالي ألف طالب حوزوي فاضل، يدرس السطوح العلمية العليا، أسسه السيد الراحل (رحمه اللّه) وكانت ولايته بيده وبعد بيد سماحة السيد المرجع (دام ظله) ويتبع المسجد جملة من المحلات التجارية والتوابع الأخرى ويقع بجنبه موقع مكتبة الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) .

ص: 347

وحين أراد اخوتنا في الحسينية النجفية تجديد بناء حسينيتهم زاره وفد من كبارهم وطلبوا من سماحته (رحمه اللّه) تسليمهم المسجد لغرض إقامة الشعائر الحسينية، فاستجاب لهم سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) وكان يحترمهم كثيراً، ولكن شرط عليهم: استمرار الدروس من الصباح إلى المساء كل يوم وإقامة صلاة الجماعة بواسطة فضيلة الشيخ سعيد السعيدي (دام عزه)(1) ومتى ما انتهى بناء الحسينية يرجع المسجد إلى أصحابه الأولين، تم الاتفاق على ذلك.

لكن استمر الواقع إلى اليوم منذ حوالي عشرين عاماً وإمام المسجد سماحة آية اللّه الشاهرودي والمسجد لازال بيدهم وحسينيتهم انتهى بناؤها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً.

وموقف سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) وسماحة السيد صادق (دام ظله) هو مواصلة التعاون معهم وإبقاء هذه المؤسسة الكبيرة الهامة بيدهم وإن كانوا ناشطين في خطوط مرجعية أخرى، وقد قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «المسلمون كالجسد الواحد».

الاستخلاف

نحن ومذهبنا كله لا نرى ذهاب قائد وارتقاء ابنه أو أخيه سدة القيادة إلا في أئمة أهل البيت (عليه السلام) لورود النصوص المتواترة الخاصة. إلا أن المدرسة الشيرازية المباركة تنتج علماء كبار ومراجع دين أكفاء وتتوارث العلم والحكمة والأخلاق والتقوى وكل القيم السامية، لذلك نرى أن كل رمز منهم كفؤ كريم ويشار إليه بالبنان ويطبق أهل الخبرة على فقاهته وأعلميته وتقواه.

وسماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) بما يمثله من علم غزير وتميز كبير نظر إلى هذه القضية نظرة اعتبار واهتمام، فكان السيد (رحمه اللّه) يرجع في احتياطاته أيام حياته إلى

ص: 348


1- أستاذ حوزوي وخطيب ومؤلف، من كوادر مرجعية الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

أخيه سماحة السيد المرجع (دام ظله) وبعد رحيله عثر في أوراقه على وثيقة اجتهاد متميزة لأخيه الصادق (دام ظله) وأنه الجدير بالفتيا والمرجعية وهذا معناه حسب مبني سماحة السيد (رحمه اللّه) أن أخيه في رأيه أعلم من الفقهاء الذين يعرفهم سماحته (رحمه اللّه) حيث إنه يرى الوجوب الاحتياطي في تقليد الأعلم، فلو وجه إلى أخيه معناه: أنه الأعلم في الساحة المرجعية. والحقيقة أن هذه المدرسة المباركة بما تحت مظلتها القيادية مئات من المؤسسات الهامة وملايين المقلدين، فمن أولى بالتصدي لإدارتها من أخيه؟! فأولى (رحمه اللّه) هذه القضية أهمية خاصة كما أنه كان يمثله في التعامل مع المرجعيات والرموز والكل مطبقون على كفاءته ولياقته لنظام المرجعية الحساس.

ص: 349

نبذة تعريفية عن الشيخ ناصر الأسدي

ولد سماحة الشيخ الأسدي في كربلاء المقدسة وذلك عام (1955م)، نشأ وتربّى في هذه المدينة المقدسة، دخل في مدارسها حيث أنهى الثانوية الأكاديمية، وبعد ذلك التحق بالسلك الحوزوي حيث درس على يد كل من الشيخ جعفر الرشتي الأدب العربي، وعلى يد السيد محمد علي الطبسي الفقه، وعلى يد آية اللّه العظمى الإمام المجدّد الراحل السيد محمد الشيرازي (أعلى اللّه مقامه) درس لديه الفقه ومقداراً من الأصول، ودرس لدى السيد المرجع آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) بعضاً من الفقه والأصول في بحث الخارج.

الهجرة إلى الكويت

في عام (1975م) هاجر كربلاء المقدسة متوجّهاً إلى الكويت حيث التحق بحوزة مدرسة الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التي أسّسها الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (أعلى اللّه مقامه).

في قم المقدسة

في عام (1980م) التحق بحوزة قم المقدسة حيث درس على يد كل من الإمام الراحل (رحمه اللّه) والسيد المرجع (دام ظله) وعلى يد آية اللّه الشيخ الاعتمادي كتاب الرسائل، وحضر بحث الخارج عند الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظله) ، وحضر في الأدب العربي عند المرحوم الشيخ محمد علي المدرّس الأفغاني.

ص: 350

في سوريه

وفي عام (1992م) انتقل إلى سورية حيث التحق بالحوزة العلمية الزينبية المباركة، ودرّس فيها أستاذاً في مادة الفقه كتاب (المكاسب المحرمة والخيارات)، وشرح (مختصر المعاني)، إضافة إلى تأسيسه للحوزة الزينبية القسم النسائي وذلك بمعيّة عائلته، وكان سماحته المشرف العام على (مضيف الحوراء زينب (عليها السلام) ).

العودة إلى العراق

انتقل بعد سقوط النظام البائد إلى العراق وبالأخص إلى مدينة كربلاء المقدسة حيث يعمل مدرّساً وعضواً في مكتب السيد المرجع آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) ، ومشرف على الحوزة النسائية ومركزها (مدرسة حافظات القرآن الكريم).

ص: 351

الصورة

ص: 352

الحوار السادس: مع فضيلة الحجة الشيخ عبد الأمير النصراوي حفظه اللّه

اشارة

الصورة

ص: 353

ص: 354

المقدمة

ربما كان هذا الحوار فيه الكثير من الجرأة، وهي لاتنفصل عن شخصية صاحبها، المعروف عنه نقده الصريح لكنه الحقيقي والواقعي تجاه الكثير من القضايا التي يتطرق إليها في مجالس خطابته من على المنبر، أو في لقاءاته مع الآخرين.

وهو حوار أيضاً فيه الكثير من المراجعة ونقد الذات، بحكم الأحداث التي عاصرها صاحب الحوار، أضيفت إليها خبرة متراكمة ونضج بحكم السنوات، مع تراجع للحماس والرومانسية الثورية التي قادته في فترة من عمره إلى سجن الفضيلية في العراق.

وهو إذ يقوم بعملية المراجعة ونقد الذات لا ينفصل عن الكثير من الشخصيات والأسماء التي ترد في حواره، إنه يقوم بعملية المراجعة ليس من خلال ذاته وحدها، بل وهو الأهم، من خلال ذوات الآخرين..

لا يعني هذا، إن عملية المراجعة والنقد الذاتي يمكن أن نطلق عليها أحكامنا القيمية بالصحة أو الخطأ، بالحق أو الباطل، يكفي أنها خطوة فيها من الشجاعة الشيء الكثير.

وهي الشجاعة التي تعلمها من الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وبقي مثابراً عليها، شجاعة الموقف والقرار..

ص: 355

أئمة البقيع (عليهم السلام)

أئمة جعلهم اللّه هدى للناس واستدلالاً لطريق الحق يرفعون الظلم عن رعاياهم ولكن ظلموا من قبل رعاياهم، إنهم أئمة البقيع (عليهم السلام) ظلموا إحياء وكان باستطاعتهم إن يجعلوا الكون مسخراً لهم بإذن اللّه لكن أبوا ذلك وظلموا في قبورهم.

* ما هي تحركات الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمة اللّه عليه) بالنسبة إلى إعادة أعمار قبور أئمة البقيع؟

* وماذا كان يحمل من هموم عندما كان يعيش ذكراهم؟

- استطيع القول بأن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) هو أول وأكثر من دافع عن أئمة البقيع (عليهم السلام) ووقف موقفاً حازماً أمام الحكم السعودي وكان يتوسط حسب إمكانياته ويتحرك خارجياً وداخلياً، حتى عندما كان في داخل العراق وفي مناسبة ولادة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، كربلاء المقدسة تصبح عروساً في نشاطها، وهذا من بركاته ونفحاته، والاستقبال الكبير الذي كان يعقد في كربلاء المقدسة وكان يدعى له حتى السفراء، أصبح مؤتمراً بجهوده (رحمه اللّه) وتوجيهاته طبعاً.

* ما هو المؤتمر الخاص بولادة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ؟

- هو حفل كبير ويدعى إليه السفراء مع شخصيات أخرى كبيرة، هؤلاء كانوا يحضرون ويلقون كلمات بهذه المناسبة، أمثال ذلك الشيخ الطيب الذي لا

ص: 356

يزال اسمه معروفاً صاحب كتاب (أبو طالب مؤمن قريش)(1) والذي حكموا بقتله.

كنت أشاهد هذه الأجواء وكيف كانوا ينصبون تماثيل رمزية، كانوا ينصبون مجسماً للكعبة وهناك ساحة ترمز لقبور أئمة البقيع (عليهم السلام) ولافتات يكتب عليها (نطالب بتعمير قبور أئمة البقيع (عليهم السلام) ).

وأنا في عقيدتي وحسب علمي، أكثر الذين دافعوا بالإمكانيات التي كانت لديه هو السيد الشيرازي (رحمه اللّه) وكان حلمه أن يعاد البناء ومن همومه هو بناء قبور أئمة البقيع (عليهم السلام) فلم يقصر بحسب إمكانيته.

نظرة عالمية

* ماهي علاقة الإمام المجدد (رحمه اللّه) بالديانات والمذاهب الأخرى؟

* وكيف كان يوجه طلبته وأبناءه ومقلديه بخصوص هذا الموضوع ؟

- السيد الشيرازي (رحمه اللّه) كان دقيقاً في كل إعماله، بمعنى أنه عندما يواجه مذهباً أو ديناً، يواجهه بعقلانية لا بتهور، وما كان يجامل على حساب عقيدته.

طبعاً هو ينظر للإسلام نظرة عالمية كما هو حال الإسلام: (يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ)(2)، الإسلام في هذه الآية يضع خيمة تحتها الإنسان، فالملتقيات الإنسانية يدعو إليها السيد الراحل (رحمه اللّه) مع كل الأديان والمذاهب، وفي

ص: 357


1- العلامة الشاعر الشيخ عبد اللّه الشيخ علي الخنيزي، هو من الرواد الأوائل، والركائز التي ارتكزت عليها الحياة الفكرية والأدبية الجديدة في القطيف، وانطبع بأسلوب يميزه بطابع منفرد ينم عليه.
2- سورة الحجرات: 13.

نفس الوقت يكشف في كتبه التحريفات التي أحدثت في هذه الديانات، حول اليهود عنده كتاب (هؤلاء اليهود) وعنده (برتوكولات صهيون) وعنده (ماذا في كتب النصارى)، فهذه حقائق كان يذكرها ليحذر المسلمين منها، لأن اليهود وقعوا في خطأ أكبر من النصارى، وهم أبعد عنا من النصارى، السيد الشيرازي (رحمه اللّه) لم يترك شيئاً في هذه المجالات إلا وكتب عنه فموقفه خصوصاً من اليهود هو التحذير من خطرهم وكان (رحمه اللّه) يبين الدقائق في أمور اليهود وخطرهم العالمي، ومنذ كنت طفلاً كنت أسمعه يقول هذه المعلومة المعروفة (إن اقتصاد العالم تتحكم به اليهود) يعني الصهيونية، الكونكرس الأمريكي 70 (عليهم السلام) يهود ولذلك رئيس الجمهورية لا يفوز إلا أن رضي عنه اليهود.

* تطرقتم إلى أن اقتصاد العالم بيد اليهود، فهل كان هناك مؤلف أو توجيه أو مشروع لدى الإمام الراحل (رحمه اللّه) حول تغيير هذا الواقع وإنهاض الأمة الإسلامية أو إخراجها عن إن يكون اقتصادها بيد اليهود؟

- من المؤكد ذلك .. فكان يطرح هذه القضية ويحدد دائماً الإمكانيات عند غيرنا سواء أكان عدواً أم صديقاً أم محايداً، ماذا كان هدفه من ذلك؟ ليس هدفه أن يعطي معلومة مجردة، بقدر ما هدفه أن يقول نحن يجب علينا أن نفعل ذلك أيضاً، لأننا نحن لدينا طاقات ونملك اقتصاداً وإمكانيات جغرافية.

إن اللّه جعلنا أمة وسطاً يحتاج إلينا الشرق والغرب، بإمكاننا أن نكون أغنى من اليهود. فهو عندما يطرح هذه الأمور يريد أن يبين أو يوجه الشيعة أن يكونوا ذوي اقتصاد قوي، لأن الاقتصاد هو أساس القوة، فكان يطرح اقتصاداً مستقلاً عن الاقتصاد العالمي، ويظهر ذلك بوضوح في كتبه الاقتصادية، ومحاضراته القيمة.

ص: 358

المواقف السلبية

* هل مثل هذه الأمور التي كان يطرحها هي التي دفعت بعض الجهات إلى اتخاذ الموقف السلبي تجاه السيد الراحل (رحمه اللّه) ؟

- من المؤسف عندما قام البعثيون بانقلابهم في العام 1968م(1)، عادوا بوجه منافق غير ذلك الوجه الواضح والفاضح والذي كانوا عليه في العام 1963م (2)، وعملوا ما عملوا، ويتذكر العراقيون في ذلك الوقت ماذا كانت تفعل مقرات الحرس القومي (3)، وكيف كانت تعتدي على الأعراض والنساء، وقضى عليهم عبد السلام عارف(4) ولكنهم عادوا في 1968م بوجه آخر. وطبيعة شعبنا أنه عاطفي خصوصاً في قضية الشعائر، وهم يعرفون كيف يدغدغون مشاعر الناس، فلما جاءوا فاجؤونا ببث القراءة الحسينية في التلفاز والإذاعة، ولكنهم في أيامهم تلك، كان أول عمل قاموا به هو محاولة ضرب المرجعيات ببعضها، لأنهم يرون إن أخطر شيء، وإن الخطورة الأساسية ستأتيهم

ص: 359


1- قامت هذه الثورة في شهر تموز - يوليو من عام 1968، حيث تم الاطاحة بنظام حكم الرئيس عبد الرحمن عارف في العراق، وتولى حزب البعث العربي الأشتراكي السلطة بما يعرف بالثورة البيضاء بقيادة أحمد حسن البكر، ونائبه صدام حسين.
2- انقلاب 8 شباط 1963 أو ثورة رمضان، وهي حركة مسلحة أطاحت بنظام حكم رئيس الوزراء في العراق العميد عبد الكريم قاسم.
3- مليشيات تابعة لحزب البعث شكلها عام 1963 بعد انقلاب 8 شباط 1963 التي قادها حزب البعث وقد وفر لها غطاءً قانونياً، بإصداره قانون الحرس القومي رقم (35) لسنة 1963 بتاريخ 18/5/1963 باعتباره على رأس السلطة.
4- الرئيس الأول للجمهورية العراقية وثاني حاكم أو رئيس دولة أثناء النظام الجمهوري، سبقه الفريق نجيب الربيعي رئيس مجلس السيادة.

من قبل المرجعيات.

* وهل نجحوا في ذلك؟

كلا، فغالبية المراجع ليس لديهم تقصير لكن قد يكون هناك قصور في بعض الأجهزة لتنبئهم ماذا يحدث.

والشيء بالشيء يذكر، لما قام البعثيون في حقبة السبعينيات بالتسفير(1) كان همهم الأكبر هو السيد محسن الحكيم (رحمه اللّه) حيث كانوا يرتجفون من اسمه، فاعترض السيد الشيرازي (رحمه اللّه) على التسفير، وانتقل السيد الحكيم (رحمه اللّه) من النجف الأشرف إلى الكاظمية المقدسة احتجاجاً على هذه القضية (وهذه القضية يذكرها الشيخ الكوراني بمناسبة استشهاد السيد الصدر (رحمه اللّه) ، حيث قال: جاء السيد الحكيم عام 1969م إلى الكاظمية كاحتجاج على البعثيين، وقد جاء قياديون في حزب البعث يطلبون رضاه فطالب السيد الحكيم بأمرين:

الأول: الإفراج عن السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) .

الثاني: الإفراج عن طبيبه الخاص السيد شبر.

فأجابوه - ذكرها الكوراني - بأنه ثبت لديهم إن هؤلاء جواسيس. فسكت السيد الحكيم (رحمه اللّه) وخرج.

وفي الواقع إن اتهامهم السيد حسن (رحمه اللّه) بذلك يعني اتهام جميع العلماء

ص: 360


1- لم تقتصر عقوبات الفرد العراقي من التبعية الايرانية على فقدان الجنسية حيث اشتملت على التسفير، وعلى مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة، وعلى السجن للرجال من اعمار معينة، وفي أحيان أخرى شملت حتى الاختفاء عن وجه الأرض. حصل التسفير بموجتين، الأولى في أوائل السبعينات، وقدرعدد الأشخاص الذين تم تسفيرهم بين 20000 إلى 30000 شخصاً. أما الموجة الثانية فحصلت في 1980.

والمراجع بما فيهم السيد الحكيم (رحمه اللّه) وبعد ذلك قال السيد الحكيم (رحمه اللّه) : (أنا لا أريد أن اصطدم بالبعثيين)، كما نقل نص كلامه الشيخ الكوراني، ولم يكن ذلك إلا لرؤية السيد الحكيم (رحمه اللّه) ، وهو الذي قد حطم الشيوعيين(1) بفتواه.

والذي كان يشغل بال البعثيين هو ضرب المرجعيات، وبدءوا في كربلاء المقدسة، لأن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) كان نشطاً وهم يعرفون كيف يقومون بأعمالهم.

كان هناك شيخ يصرف له السيد الشيرازي (رحمه اللّه) عشرة دنانير شهرياً مع أنه كان يكبر السيد بحوالي أربعين عاماً، ورغم أنه حضر لديه درساً في المقدمات، وكان الراتب ضخماً لأن راتب طالب العلم آنذاك هو دينار واحد شهرياً، لكن السيد (رحمه اللّه) كان يصرف له عشرة أضعاف لأسباب متعددة، المشكلة لم تكن مشكلة ذلك الشيخ فقد كان بسيطاً غاية البساطة، بل مشكلة ابنه الذي ضغط على والده مما أدى إلى أن يحصل البعثيون على كتابة له ضد السيد الشيرازي (رحمه اللّه) فأصبحت مستمسكاً للآخرين.

ص: 361


1- كما يذكرها الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمه اللّه) : في عهد عبد الكريم قاسم عندما طغت الشيوعية في كربلاء المقدسة اجتمع الوالد (رحمه اللّه) مع السيد الحكيم والسيد الخوئي، وكان آنذاك مرتبطاً ببعض الجبهة العلمية في النجف الأشرف. اجتمعوا وقرروا إصدار فتوى ضد الشيوعية فصدرت الفتوى المشهورة وهي: (الشيوعية كفر وإلحاد)، ونشروا هذه الفتوى في كافة أنحاء العراق - ولهم صورة في بيت الوالد (رحمه اللّه) - وبعد صدور الفتوى وانتشارها قرر الشيوعيون اغتيال مائة وأربعة عشر شخصاً وكان من جملة اولئك الوالد (رحمه اللّه) حيث كان له الدور المهم في محاربتهم بالفتيا والتحريض ضدهم، كما كنت أنا من جملتهم حيث كنت أقوم بنشاط كبير؛ لكن اللّه لم يوفقهم لتنفيذ مأربهم. نعم قتلوا بعض الاشخاص. ومنذ ذلك اليوم أصبح لكربلاء المقدسة دور مهم في محاربة الانحرافات التي حفّت بالعراق.

وأنا عندي معلومة تفيد بأن السيد محمد صادق القزويني(1) عندما ذهب إليهم وقابلهم ليناقشهم في الموضوع، قالوا له: اذهب وقل للسيد الشيرازي (رحمه اللّه) أن لا تطرح نفسك للمرجعية (هذه أمور يجب أن تذكر لتوعية الأجيال بالمستقبل).

وعندما اشتد عود السيد الشيرازي (رحمه اللّه) وانتشرت مرجعيته، اشتدت تلك الهجمات، وتبين فيما بعد أن أحد الأبناء كان خلف تلك الهجمات وقد انتبه إلى ظلمه الكبير تجاه السيد الراحل (رحمه اللّه) وصرح وهو في سوريا: (نحن من ضغطنا على الوالد، وسوف اعتذر من السيد الشيرازي) وكان مدير أعماله في السجن معنا وذكر نفس القضية، فالمخابرات كانت تضغط.

هذه بأمانة يجب أن تكتب للتأريخ.

ومثل هذه الصراعات في المحصلة النهائية أحد الأسباب لهدر طاقات الشيعة.

المهم إن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان عملاقاً بطلاً، وجبلاً شامخاً، ووقف أمام تلك الهجمات والأعاصير العاتية بكل هدوء وعقلانية وصبر، وكذلك الحكومة الايرانية التي حاربته بقوتها، فوقف شامخاً ومرت عليه ظروف صعبة في إيران،

ص: 362


1- السيد محمد صادق بن محمد رضا بن محمد هاشم القزويني. هو رجل دين شيعي. ينتسب لعائلة (القزويني) التي سكنت في كربلاء المقدسة منذ أكثر من مئتين وخمسين سنة، ووالده هو السيد محمد رضا القزويني الذي كان من رجال الدين المجتهدين الذين يحملون لقب (آية اللّه)، وكذلك جده محمد هاشم الذي كان أحد مراجع الشيعة في وقته. ويعد من مشاهير رجال الدين الذين اشتركوا في ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني، وكان له أثر لا يستهان به في تحريض العشائر العربية المجاورة لكربلاء المقدسة، للمشاركة في العمل الجهادي ضد الإنكليز.

لكنه صبر بإرادته العجيبة؛ والأعجب ما فيه هو صبره وعزمه وعدم انفعاله وكأنه لم يحدث شي، هذه جوانب من تلك الهجمات بحسب علمي وأنا عايشتها وكنت شاهداً عليها في تلك الفترة، ولا يخفى أن هذه القضية لا تنطلي حتى على طفل صغير.

وأتذكر أن السيد الراحل (رحمه اللّه) عندما قام بمشروع حفاظ القرآن الكريم في كربلاء المقدسة، كانوا يأتون إليه من سائر المدن ليأخذوا معلومات عن كيفية إنشاء مثل تلك المدارس.

وهذه من المفارقات، لأن الفعل ليس بالكلام وهم قد شاهدوا السيد الشيرازي (رحمه اللّه) كيف قام بهذه المشاريع والاأعمال، فالسيد (رحمه اللّه) لديه إدارة، وهم لا يملكون الخبرة بهذه الأمور، لذلك لا تتعجب.

والمهم ولو بعد حين، تبينت الملابسات و توضحت الحقيقة، نحن لا يهمنا ذلك فمن حقكم أن تسألوا وتتعجبوا وليس هناك عجب بعد أن شاهدنا نتائج هذه الأمور التي يقال أنها قد حدثت قديماً بين البعض، فيلزم إجراء التعديل على النظام الموجود، بأن تحكم التعددية الحقيقية و يجب أن يكون الكل تحت خيمة واحدة، لتكون الأمة في أمان ومنيعة، ولا تتمزق كما تمزقت اليوم، ونعود إلى العهد الذي كان أمثال الشيخ محمد تقي الشيرازي (رحمه اللّه) والسيد محمد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) يهزان الحكومة البريطانية كما أن السيد الحكيم (رحمه اللّه) على زهده هز حكومات.

* لماذا لم تكن هناك إجراءات متخذة بخصوص الهجمات على الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

- ماهي الإجراءات التي يمكن أن تتخذ من الناحية الشرعية سوى الاعتذار والاستغفار؟!

ص: 363

ليس لدينا قوة على أحد. حتى لو لم يعتذر المسببون لكل تلك الاتهامات، فإن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) معروف بأخلاقه يسامح حتى من يسبه بدون إن يصل إليه ويعتذر، فهذه هي أخلاقه.

اسباب التشكيك

* لماذا برأيك التشكيك بالإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

* ولماذا لم يحضر أحد اولئك الذين مارسوا التسقيط إلى الإمام الراحل (رحمه اللّه) ليناقشه أمام الملأ العام؟

- إن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) قد عرفه البعثيون وهم كانوا يعرفون مكمن الخطر، لذلك استهدفوا العلماء النشطين الواعين، كل واحد بطريقة، ومن الطرق التشكيك بشخصيتهم وضرب بعضهم ببعض بهذه الطريقة التي ذكرناها في بداية الحديث، إذا لم يسقطوهم لن تنفذ مخططاتهم، وعندما يبدأ مرجع بمخالفتهم فانهم يخنقوه في المهد.

أنا ذكرت بعض الأساليب، فعندما دخلت المخابرات على الخط اختارت ضعاف النفوس والمتعلقين بالدنيا، وإلا إذا كانت قضية مبدئية لا يحدث هذا حتى لو قتل.

ذكرت لك عندما اخترقت المخابرات هذه الأجواء التي خلقت بها الأجواء ضد السيد الراحل (رحمه اللّه) فهل هذا حدث بشكل إجباري أو عن طريق آخر المهم أنها حدثت.

بعبارة أخرى هناك حقيقة الشي وهناك صورة الشي كحقيقة الأسد وصورة الأسد، فكلامنا هو إننا (نريد حقيقة الأسد).

ما أريد قوله هو إننا بشكل عام كشيعة أو كمسلمين عبارة عن نظام مقابل

ص: 364

اللا نظام، لماذا نحن لا نتجه إلى التنظيم «أوصيكما ... ونظم أمركم»(1) ونحن نسمع حتى كلام أئمتنا (عليهم السلام) تحث على هذا الشي؛ مثل هذه الإفرازات سببها اللانظام، واللا تنظيم الذي يحكمنا، فلابد وأن نغير المسار، فكل شي إلى التقدم ماضياً فلماذا نبقى ساكنين؟

كل من أراد التجديد وقفوا ضده مع أن باب الاجتهاد مفتوح، ألا يجدر أن يعالج كل مشكلة كغزو الفضاء وغيره واسئلة حول زراعة الجنين وغيرها من الأمور الفقهية والمصيرية، وكذا الأمور المرتبطة بمصير الأمة التي تحاك من ورائها المؤامرات القضية هكذا هي منذ سبعين عاماً، نظام مخابرات دقيق يمتلك الإمكانيات لأن يصل إلى غرفة أي شخص يعيش وسط الفوضى واللا نظام، إذن هذه القضية بسيطة فأنتم عندما تسالون عن السبب فهو واضح.

* فهل نستطيع القول بأنه إذا وجدت مرجعية واعية والتي تقدر الأمور بقدرها وتعيش زمانها فهي محاربة من تلك الجهات ؟

- الإنسان مهما بلغ فهو غير معصوم هوى النفس موجود والمعصومون معدودون، إنها النفس الأمارة بالسوء وهي أمام مغريات الدنيا.

فمثلا عندما عرض المشركون على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا إذا أراد زوجة زوجناه أفضل النساء وإن أراد جعلناه ملكاً، وإن أراد مالاً أعطيناه.

فهذه الظاهرة قد كافحها الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين قال: «لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو أقتل دونه»(2)، فهذا المنهج يريده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهذا ليس موجوداً لدى الكثيرين

ص: 365


1- نهج البلاغة: باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) ... ووصاياه لأهله وأصحابه، من وصية له (عليه السلام) للحسن والحسين (عليهما السلام) لما ضربه ابن مجلم لعنه اللّه، 47.
2- بحار الأنوار: ج9 ص143.

لأنهم يخشون على أنفسهم من السجن والقتل فيجدر بهم أن لا يخشوا ذلك، كما أن الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ضحوا لأجل الدين.

اللامركزية في العلم

* لو نأتي مثلاً للمدارس الأكاديمية في العراق وعاصمته بغداد هل يقتصر العلم على بغداد فقط، دون انتشاره في أماكن أخرى، أم يجب أن ينتشر إلى تلك الأماكن؟

- هذه مسالة بديهية، الصغير يفهمها قبل الكبير، العلم لا يقتصر على مكان محدد، بل بالعكس فالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يريد لطالب العلم أن يهاجر، فمن أقواله المشهورة التي ينسب إليه: «أطلب العلم ولو كان في الصين».

فتصور اختصاص العلم بمكان دون أخر تصور عاطفي تقليدي ما أنزل اللّه تعالى به من سلطان فهو دليل على الضعف والتمزق.

والفوضوية التي نعيشها مسالة دنيوية، ترتبط بحب التسلط والزعامة، هذه حال الدنيا فالملك عقيم، البعض ينظر إلى المرجعية كتسلط وملك! ولكن ليس الأمر هكذا، فالمرجعية خدمة للدين وكل أمر يرتبط برجال الدين يجب أن يكون هكذا مثلاً الشيخ عبد الزهراء الكعبي(1) هو كان يتمنى من أعماق قلبه أن يكون فرداً خادماً للإمام الحسين (عليه السلام) . والمرجع بطريق أولى يكون كذلك.

فعندما يرى مرجعاً نشطاً فعليه أن يبعث إليه ويتشاور معه، ويستفيد من آرائه وأفكاره ونظرياته، فهل للعمر علاقة في هذا الموضوع؟

وعلى ما أتذكر أيام الأعياد كان يحدث اختلاف، ففي أحد الأعياد قد ثبتت

ص: 366


1- يعد من أشهر خطباء المنبر الحسيني في العراق ودول الخليج. وهو أول من أحسن قراءة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم العاشر من المحرم وقراءة مسير السبايا في يوم الأربعين.

رؤية الهلال عند السيد الشيرازي (رحمه اللّه) بينما لم تثبت لدى السيد الحكيم (رحمه اللّه) ، فلم يصل السيد الشيرازي (رحمه اللّه) صلاة العيد في الصحن احتراماً للسيد الحكيم (رحمه اللّه) لأنه لم يثبت لديه العيد، هذه هي الأصول المطلوبة (احترام العلماء) خاصة المرجع الأعلى كالسيد الحكيم (رحمه اللّه) ، وبعد ذلك ثبتت الرؤية في الناصرية لدى أحد وكلاء السيد الحكيم (رحمه اللّه) ، نعم هكذا كان يتعامل السيد الشيرازي (رحمه اللّه) .

أنا أقول كان السيد الشيرازي (رحمه اللّه) يقدم خدمة للناس، فاطلعوا على ما لديه من قضايا، لكن توضيح الواضحات من أصعب المشكلات.

الموقف تجاه عبد الكريم قاسم

* هذا حديث ذو شجون.. تعاقبت الحكومات العراقية على اختلاف توجهاتها مع فترة ظهور سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) على الساحة، ماذا كان موقفه اتجاه حكومة عبد الكريم قاسم (28)؟

- أريد أن أكون صريحاً وغير عاطفي بحكم الضمير والمسوولية، إن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) كان في بداياته حتى قبل أن يعلن مرجعيته قد عارض علنا عبد الكريم قاسم رغم بعض الإيجابيات فترة حكمه، فهو خلال فترة حكمه لم يستغل منصبه في جمع المال وأتاح للناس امتلاك البيوت والبناء والإعمار، وهو لم يكن يمتلك بيتاً، وكذلك احترامه للعلماء وقد ذهب إلى السيد الحكيم (رحمه اللّه) حيث يرقد في المستشفى وقبل يده، وأذكر عنها أيضاً حين كنت طالباً في الصف الخامس الابتدائي في الكشافة زارنا عبد الكريم قاسم وهو يركب سيارة صفراء مكشوفة ويحيى الجماهير بيديه، جاء لزيارة الامام الحسين (عليه السلام) من باب الشهداء وهو حافي القدمين وقبل الرصيف ودخل.

ولكنه أخطأ حيث غير أحكام الإسلام وخاصة في الأحوال الشخصية

ص: 367

والضرائب وغير ذلك.

والسيد الشيرازي (رحمه اللّه) كان قد ذهب إليه كما ذهب السيد مرتضى القزويني للقائه في بغداد، ليطرحوا عليه هذه القضايا.

الصورة

وهناك قصة معروفة حدثت وهي إن السيد مرتضى لم يأكل من المأدبة التي

أقامها عبد الكريم ، وعندما سأله عن سبب عدم أكله، أجابه قائلاً: إن هناك قضايا غير جائزة من ضمنها قضية الضرائب.

* زاره الإمام الراحل (رحمه اللّه) في بغداد، فهل طرح عليه هذه الأمور؟

- إن السيد الراحل (رحمه اللّه) لم يكن يجامل في أموره فقد ذهب إليه لينصحه، فلما رأى عدم الفائدة في ذلك بدء بمعارضته جهاراً وأنا أتذكر إنه تهجم عليه في كثير من كتبه.

أنا أنظر إلى تلك المسائل من واقع كوني إنساناً شاهداً على الكثير من القضايا، فالسيد الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) كان وقتها في سن دون الثلاثين، وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على إنه عملاق، وأنا اعتقد أن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) لو كان في غير تلك المرحلة الزمنية، وكان هو المرجع الأعلى، أقنع عبد الكريم على تغيير القوانين.

الحوزة بعد رحيل الامام الشيرازي (رحمه اللّه)

* فضيلة الشيخ لكل زمان رجال وهناك رجل لكل زمان، سؤالنا هو كيف وجدتم الحوزة بشكل خاص والحوزة الدينية بشكل عام بعد رحيل السيد الإمام

ص: 368

الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) ؟

* هل حدث هناك فراغ، إذ من المعلوم أن كل رجل عندما يرحل يترك فراغاً بعد رحيله، وهل كان هناك مثل تلك الحالة؟

* وهل تعتقد أنه يوجد أحد لسد هذا الفراغ بعد رحيل الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

- قلت سابقاً إن مرجعية الإمام الراحل (رحمه اللّه) قد ثبتت من خلال تلك الفترة التي عاشها، وأنها مرجعية واعية، وبسبب ذلك ضربت الحوزة في كربلاء المقدسة من قبل البعثيين.

إن السيد الشرازي في عام 1963 كان لديه ألف طالب في كربلاء المقدسة يربيهم ويبعث فيهم الحيوية والحركة لتبليغ الدين.

والآن في هذه السنوات بعد العام 2003 عادت الحوزة إلى الظهور مجدداً، لكنها ليست على ما كان يطمح إليه السيد الراحل (رحمه اللّه) ، فالفراغ الذي تركه السيد الشيرازي (رحمه اللّه) لا يمكن سده وهذا هو الامتحان بين مغريات الدنيا والقبض على جمرة الدين.

* ذكرتم وجود ألف طالب في زمان الإمام الراحل السيد الشيرازي (رحمه اللّه) على الرغم من تلك المضايقات وتلك الظروف الصعبة ، واليوم بعد سقوط النظام البعثي نجد أن العدد أقل فما هو السبب في قلة نسبة الطلاب؟

- هناك أمر حقيقي يجب الالتفات إليه، وهو لابد أن تكون كل الحوزات مرتبطة ببعضها وهذا شيء إيجابي إذا كان الهدف من ذلك هو الخدمة للمذهب ويجب إن يكون التنسيق فيما بين تلك الحوزات، وعلى أقل تقدير يجب أن يكون هناك مشاورة في جميع الأمور (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ)(1) فالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعظمته كان يشاور أصحابه، فهذه هي الشورى التي يحث عليها الإسلام. فالشورى بالحكم

ص: 369


1- سورة آل عمران: 159.

واضحة قال تعالى: (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(1) بالنسبة لقضايا المعصومين بالنص.

أما المراجع فيتشاورون فيما بينهم، أو يؤسسون مجلس شورى الفقهاء الذي طرحه السيد الراحل (رحمه اللّه) في كتابه وكان يمثل الحل الأمثل للأمة فإذا اتبعوه فلا يخترقون.

فالمفروض أن يكون هناك اجتماع دوري أو أسبوعي لمناقشة أمور الأمة. ولذلك هذه الحالة يجب أن تكون ممتدة على مستوى الخطباء، ويجب أن يؤسسوا مجلساً أو نقابة أو يحددوا لقاءً معيناً ليناقشوا فيه على أقل السبل ما سيتناولوه في مجالسهم في شهر محرم وما هي المواضيع المهمة التي تتطلب أن تثار.

الموقف من الثورة الإيرانية

* ما هو موقف الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) من الثورة الايرانية؟

* ولماذا تغير موقفه بعد انتصارها؟

- هذه هي سبب النازلة إن صح التعبير، كل الناس تعرف موقف السيد الشيرازي (رحمه اللّه) من الثورة.

قبل انتصارها وبعده، فحينما ثار السيد الخميني عام 1963 كان قد حكم عليه بالإعدام في عام 1963 وكان موقف السيد شريعتمداري (رحمه اللّه) معارضاً لمثل هذه العقوبة حيث قال: إن المجتهد لا يعدم، وكذلك كان موقف السيد الشيرازي (رحمه اللّه) لا يختلف عن موقف السيد شريعتمداري، ونتيجة لهذه المواقف لم يتمكن الشاه من إعدام السيد الخميني لكن تم نفيه إلى تركيا.

وعند مجيئ الخميني إلى كربلاء المقدسة خرج السيد الشيرازي (رحمه اللّه)

ص: 370


1- سورة الأحزاب: 36.

لاستقباله إلى المسيب، وكان السيد الشيرازي (رحمه اللّه) في الثلاثينيات من عمره، وناصر الثورة وآزرها، ولما انتصرت الثورة هاجر إلى ايران، فزاره السيد الخميني، وطرح عليه السيد الشيرازي (رحمه اللّه) في تلك الزيارة مشروع شورى الفقهاء.

الصورة

بمعنى أن يجتمع المراجع ويتداولوا الأمور ثم يقرروا القرارات المصيرية بأكثرية الآراء وهذا لا ينافي كون أحدهم المسؤول التنفيذي، فمثلاً لو كان مجلس شورى الفقهاء مطبقاً في إيران لأمكن تجاوز حتى الحرب الإيرانية - العراقية التي كلفت الطرفين ثمناً غالياً حيث إنه بعد أن استرجعت ايران أراضيها أراد صدام إيقاف الحرب وتعويض خسائر الحرب، لكن ايران رفضت مع أن أكثر المراجع كانوا مع إيقاف الحرب، فمثلاً السيد القمي (رحمه اللّه) الذي احتجزوه في بيته، كان قد عرض عليهم هذا الحل، كما هو الحال في العشائر إذا تخاصمت عشيرتان وجرت بينهما دماء فإن الحل الأنسب هو الدية وبذلك تحل النزاعات بين الطرفين. وكذلك السيد الشيرازي (رحمه اللّه) وغيرهما من المراجع العظام.

سلسلة المحن

* شيخنا العزيز تكلمنا عن الكثير من المحن التي عاشها الإمام الراحل (رحمه اللّه) في فترات مختلفة من حياته، وهناك محن كبيرة كانت داخل العراق ، ماهي برأيكم أكثر هذه المحن شدة التي تحملها الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) في العراق؟

- لعل أهم محنة هي مجئ البعثيين عام 1968م، وأول سلسلة المحن التي

ص: 371

عاشها بسبب ذلك، هي اعتقال أخيه الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) لأنه أول رجل دين كانوا يحسبون له حساب، لماذا؟ لأنه (رحمه اللّه) كان سياسياً وثورياً ومندفعاً، بينما كان السيد محمد الشيرازي (رحمه اللّه) سياسياً ثورياً عقلائياً، هذا يعني أن السيد حسن (رحمه اللّه) كان أكثر حرارة، ولأنه كان في كل احتفال سنوي يلقي عدة قصائد تهاجم البعث.

وأتذكر من هذه القصائد بيتا يقول فيه:

داسوا عفاف المحصنات لأنهم***لقطاء لم تحفظ لهم آباء

وقال في حق ميشيل عفلق:

أبوه جاء لسوريا مستعمراً***والأم فارسية عجماء

ففي كل سنة كانت له قصيدة على هذه الشاكلة، ويقال إنه عندما سجن السيد حسن (رحمه اللّه) كان عفلق بنفسه يشرف على تعذيبه وكان يطفئ السكائر في وجهه والسيد حسن (رحمه اللّه) من القلائل الذين ثبتوا وهو القائل:

واسحق جباه الملحدين مرددا***لا السجن يرهبني ولا الإعدام

ذهب إلى السجن وفؤاده مثلج، ورأى من العذاب ألواناً وهو لا يهتم، فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، هذه كانت محنة عسيرة على الإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) ، بالرغم من أنه استخار اللّه وكانت خيرة جيدة لأنه لم يكن يريد تسليمه إلى رجال الأمن عند استدعائه، فالحكمة الإلهية اقتضت ذلك لأن حلاوتها في العطاء والشهادة فكانت محنة كبيرة.

واستمرت المحن حتى كادت أن تصل إليه، لولا أنه يقدر الأمور بقدرها ويخرج إلى الكويت، لكان أيضا اعتقل!

ص: 372

وعند خروجه إلى الكويت ترك مكانه السيد كاظم القزويني(1) والذي اعتقل كذلك وفرج اللّه عنه بعدها.

ومن المحن التي تابعته بعد أن ذهب إلى الكويت، هي حبس تلاميذه ومدراء مكاتبه وكادر مدارس الحفاظ، فقد تم اعتقالنا أنا والشيخ عبد الحميد الزبيدي أيضاً، فكانت هذه محنة جليلة وهو يتألم لذلك.

وتعلم أن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) كان يؤلمه أي شيء يصيب أصحابه، وخاصة الصاحب الصديق المخلص يتألم عليه، فعندما كان يرى في منامه عمار وغيره يتألم عليهم.

وفي الكويت بالرغم من أن هذه الفترة كانت بسيطة ركز وعيه وأقام هناك مشاريع وبانتصار الثورة الايرانية كان السيد الراحل (رحمه اللّه) شديد الفرح لذلك.

في سجن الفضيلية

* سماحة الشيخ لندخل إلى سجن الفضيلية(2) ولنتعرف على سبب اعتقالكم واعتقال اتباع الإمام الراحل ؟

- نحن اعتقلنا عام 1971م عندما هاجر السيد الراحل (رحمه اللّه) إلى الكويت،

ص: 373


1- رجل دين شيعي وخطيب حسيني، يعبر عنه أحياناً بلقب العلامة القزويني، وكذلك عبر عنه بعض الكُتّاب والمؤلفين بلقب سيد خطباء كربلاء المقدسة.
2- هو سجن كان يوجد في الفضيلية تم تأسيسه من قبل طاهر يحيى ومن المفارقات أن طاهر يحيى تم سجنه فيه بعد انقلاب 17 تموز عام 1968وكان سيء السمعة وكان من ياتيء لزيارة هذا السجن يختم على يده ختم خاص واذا انمحى الختم بأي طريقة تصبح من السجناء. وعند تسلم حزب البعث زمام السلطة في العراق وبامر من الرئيس العراقي صدام، وفي العام 1980/4/4 تم تهجير العديد من العوائل بعد مصادرة الجنسية العراقية وشهاداتهم واعتقال البعض منهم في سجن الفضيلية وتم اعتبار الغرض من هذا التهجير هو التحضير للحرب العراقية الإيرانية والسجن الان مهدم بالكامل.

حيث كان من ضمن مشاريع السيد (رحمه اللّه) الهيئات والشباب ونشر الوعي، والبعثيون أول ما بدؤا به هو مداهمة مؤسسات الإمام الراحل (رحمه اللّه) وتفتيشها، وقد قاموا بمصادرة إحدى الطابعات، واعتقلوا الشيخ ضياء الزبيدي والسيد عبد الحسين القزويني، أما أنا فقد جرى اعتقالي بعد اعتراف من قبل الشاعر رضا خويطر حيث جاء في اعترافه، إن هناك هيئات ومن ضمن أعضائها فلان وفلان، وكنت أنا من ضمن هؤلاء، فاعتقلنا جهاز الأمن العام وبقينا حوالي أسبوع، وبعد ذلك نقلونا صباحاً بصحبة شرطي مرور يدعى كنعان وهو مازال شرطي مرور، وكانت في بيت دكتور يسمى شاكر عبود، وهو عبارة عن صالة وتحتها سرداب وكان عددنا ثمانية عشر فرداً، وقد أفرجوا عن أحد المشايخ وكذلك السيد كمال الحيدري لأنه يحمل الجنسية الباكستانية، وكذلك رجل سعودي الجنسية وبقينا نحن الثمانية عشر.

وكانت الشعبة الخامسة عبارة عن مكان إرهاب، وكان معنا أبو ياس خضير الأسدي، كنت قد كتبت له أبيات من الشعر وكانوا كثيراً ما يفتشون الزنزانات ليزرعوا الرعب في نفوس السجناء، وفي إحدى المرات وجدوا الشعر لديه فقالوا له: ما هذا؟! فقال:هذا شعر. فأطلقوا عليه بعض الكلمات المشينة لأنهم اعتقدوا أنه شاعر. فهذه هي ألفاظهم وأساليبهم، ووضعونا في سرداب صغير جداً بحيث إذا أردنا أن نركع في الصلاة تصطدم رؤوسنا بالجدار، وكان معنا مجموعة من حزب التحرير(1) وهؤلاء كانوا غالباً ما يتكلمون معهم ولا

ص: 374


1- تأسس حزب التحرير الإسلامي في العراق عام 1954 على يد مندوبين تم إرسالهم إلى العراق من قبل مؤسس الحزب في القدس (تقي الدين النبهاني) ويعتبر الشيخ سعدون أحمد العبيدي مؤسس الحزب في العراق.

يخافون لأنهم مدعومين من قبل بعض المسئولين، ونحن جالسون ينظر بعضنا إلى بعض، وجلب لنا (سبق الدوري) وهو شخص بسيط بيضة وصمونة لكل فرد فلم نأكل منه شيئاً، لأن الجميع كان لا يفكر بالطعام.

وبعدها فتحوا الباب وسألونا لماذا لا تأكلون؟ هل الطعام لا يعجبكم؟ أتودون أن نجلب لكم الدجاج؟!

وبقينا في الشعبة الخامسة حوالي 21 يوماً أو أكثر.

* ماهي الأسئلة التي طرحوها عليكم أثناء التحقيق معكم؟

- كان من بيننا أشخاص في تنظيمات سياسية وآخرون معممون فتشتت أفكارهم، فلم يستطيعوا أن يفصلوا ما بيننا، فإن أكثر تركيزهم كان على المعممين ونحن لم نحاكم لأنهم لم يصلوا إلى قناعة بأننا جزء من تنظيم حزبي، وكان معنا الشيخ ضياء والشيخ حميد وغيرهم، فانصب تركيزهم على هؤلاء وكان معنا في التنظيم عطاري وصادق الشكرجي، فلذلك لم يحصلوا على اعتراف نتيجة الضغط على المعممين، وإلا لكان قد حكم علينا مدة سنة وحجزونا في سجن الفضيلية الذي كان يحتوي على قاطعين: الأول للسياسيين والآخر للمتهمين العاديين.

ونحن احتجزونا مع هؤلاء الأشخاص وليس مع السياسيين، لكن كان معنا رجل سياسي يدعى سعدون عبد الرزاق وكانت رتبته عقيد ركن والذي أطلق عليه البكر(1) تسمية (الضابط الشهم) الذي كشف مؤامرة سنة 1970 التي

ص: 375


1- يقصد الرئيس أحمد حسن البكر ثالث رئيس لجمهورية العراق حكم في الفترة من 1968 إلى 1979. كما ويعد رابع حاكم جمهوري في تاريخ الجمهورية العراقية منذ تأسست في 14 تموز 1958.

قام بها راهي عبد الواحد آل سكر(1) فبقينا في الفضيلية مدة سنتين وشهرين، وكان هناك وساطات وغيرها ونحن لا نعلم مصيرنا، وكنا نقول لهم إذا كانت لدينا جريمة فحاكمونا فكانوا يقولون إنكم لم تخالفوا القانون وإنما انتم مخالفين للواقع، إلى أن فرج اللّه عنا وخرجنا. وكانوا غالبا ما يسألون عن التنظيمات وعن الأحزاب وكانت بداية الحركة من المرجعية، واسم المنظمة كان لم يتم اختياره بعد، وكان آية اللّه العظمى السيد محمد تقي(2) والسيد عباس(3) هما

ص: 376


1- ولد الشهيد الشيخ راهي عبد الواحد الحاج سكر آل فرعون عام 1924 للميلاد في ناحية المشخاب التابعة إلى محافظة النجف الأشرف. وقد كان والد الشهيد هو الزعيم الشيخ عبد الواحد آل سكر والذي عرف بمواقفه الدينية والوطنية فقد ساهم في بناء اضرحة الأئمة ومساعدة الفقراء ونصرة المظلومين وكان محط احترام رجال الدين، لايعمل عملاً إلا ويأخذ رأي المراجع، ولايتصرف تصرفاً إلا برضاهم وكان من الملتزمين والمتدينين . كما ابلى بلاءً حسناً في الثورة العراقية الكبرى حيث وصفه أحد التقارير البريطانيه بأنه قائد قوات الثائرين. وعند وفاته عام 1956 للميلاد عطلت الحوزة العلمية في يومها وكانت العلماء متهيئة لاستقبال جثمانه وقد صلى علية زعيم الطائفة في حينها السيد محسن الحكيم (رحمه اللّه) وقد انتقلت زعامة ال فتلة إلى الشهيد الشيخ راهي الذي تسلم زمامها قرابة أربعة عشر عاماً فكان كوالده يدافع عن الحق وينصر المظلومين ولاتأخذه في اللّه لومة لائم وهو محل احترام قبيلته وزعماء الفرات الأوسط.
2- آية اللّه السيد محمد تقي المدرسي، والده آية اللّه السيد محمد كاظم المدرسي (رحمه اللّه) الذي كان من رجال الحوزات الدينية، ومنها حوزة كربلاء المقدسة على الخصوص. ومن جانب الأم، فهو ينتمي إلى عائلة السادة الشيرازية المعروفة بدورها البنّاء في الحوزات العلمية، وبتأريخها الجهادي على مستوى الساحة السياسية. فوالدته إبنة المرجع الكبير آية اللّه العظمى السيد الميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) ، واُخت الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمه اللّه) .
3- سماحة الفقيه السيد عباس المدرسي، أحد أبرز رواد النهضة المعاصرة، ولد في كربلاء المقدسة عام 1374ه.

المسؤولان عن التنظيم، وأذكر إن السيد عباس كان هو المسؤول عني في التنظيم لفترة معينة، هذه هي الأسئلة التي كانوا غالباً مايسألونها، ويركزون على مسألة كوننا لنا علاقات خارجية وأننا جواسيس لجهات أجنبية وغيرها.

* وماذا كانوا يريدون أن يثبتوا على الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

- كانوا يريدون إثبات تهمة الجاسوسية المزعومة، ولذلك كانوا يدعوننا باسم جماعة الشيرازي وبعدها حكم على السيد الراحل (رحمه اللّه) بالإعدام غيابياً.

الوحدة الاسلامية

* فضيلة الشيخ، كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) كثيراً ما يتحدث عن الوحدة الإسلامية مثل بلدان بلا حدود، ومواطن بلا جواز، وإلغاء الجنسية، ماهي الوحدة عند الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

- إن نظريته كانت تهدف إلى إلغاء الحدود، لأن الاستعمار قد وضعها بعد الحرب العالمية الثانية، وأما قبلها فلم يكن هناك حدود، وإن الدولة الإسلامية كانت واحدة ويرى أنه يجب أن ترفع الحدود ويعيش المسلمون في دولة واحدة كما كانوا من قبل، هذا هو رأي السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، لأنه ينطلق من منطلق الإسلام المبدئي، وكان البعض يعترض بأن يقول اللآن الظروف اختلفت، ففي موضوع الحج مثلاً لا يذهب إلى الحج إلا مليونين أو ثلاثة فإذا أصبحت هكذا فلإن الجميع يود الذهاب ففي هذه الحالة لا يستطيع الجميع الذهاب من دولة واحدة. وهذه الأمور ليس لها علاقة برأي السيد (رحمه اللّه) ، لأن الدولة هي التي تقدر الأمور بقدرها وتنظم الأمور.

الوحدة مع الحفاظ على العقيدة

ومن نشاطات السيد الراحل (رحمه اللّه) أنه كان يقوم بطبع كراسات تحمل

ص: 377

عناوين (هكذا الشيعة) و(اعرف الشيعة) على نفقة كسبة كربلاء المقدسة وكانت توزع في الحج، وكان السيد مرتضى القزويني له دور كبير في ذلك، وفي ذلك الوقت العصيب حيث كان الوهابيون في أوج قوتهم.

فالشاهد هنا أنه يرى الوحدة الإسلامية من منطلق مبدئي في الإسلام، كما يقول اللّه في القرآن الكريم: (أُمَّةً واحِدَة)(1) و(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)(2) لكن كيف يمكن تحقيق ذلك، ومشروع الوحدة كثيراً ما يطرح وحتى إيران طرحت مثل هذا المشروع؟ لكن مشروع الوحدة الذي يريده السيد الراحل (رحمه اللّه) هو إنها تعني التقاء مصيري بين جميع المسلمين بما يهمهم أمام العدو المشترك، فغالباً ما يتفق المسلمون على الأسس كتوحيد اللّه ورسول اللّه وكعبة اللّه هذا ما يجمعهم، بينما قضايا الاجتهادات والعقائد التي نختلف معهم فيها كقضية الإمامة، فهي لا تمنع من الوحدة والمساندة، لأن المسلم المتفق عليه عند جميع المسلمين هو الذي ينطق الشهادتين وله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، أما أني سأتنازل عن مبدأ من مبادئي كما يسميها الفقهاء، فهو مستحيل، سواء في الأصول الخمسة، والتي منها العدل والإمامة وهما من فروع الأصول، فالعدل من فروع التوحيد والإمامة من فروع النبوة، أم في الفروع، فنحن نلتقي مع السنة كمسلمين، ولكن إذا كانوا يريدون منا أن نتنازل عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) أو شيء آخر فهذه ليست وحدة، فالمعتقد لا يضر بقضية الوحدة كما يقول المثل: (أنا وابن عمي على العدو وأنا وأخي على ابن عمي)، فهذه مسالة فطرية فهو مشروع بحد ذاته وصعب على أصحاب المصالح الذين هدفهم الدنيا،

ص: 378


1- سورة البقرة: 213.
2- سورة البقرة: 143.

مثل جميع حكام العرب الذين نادوا بهذه الوحدة ولكنهم لم يستطيعوا إن يقيموها، فقد نادى بها عبد الناصر(1) ولم يستطع أن يقيمها، وكذلك القذافي(2)، فهؤلاء صناعة بريطانية.

فنعود إلى حديثنا الأول أنهم هم الذين يزرعون لنا الحكام، وإن وحدتنا تقوينا وتمنع عنا العدو.

ضياع الكتب

* ما هي الحادثة التي حدثت في مطبعة النجف الأشرف حول كتاب الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

- لا أعلم عنها شيئاً، ولكني أعرف إن هناك كتاباً مهماً كان يطبع للسيد

ص: 379


1- جمال عبد الناصر حسين، هو ثاني رؤساء مصر. تولى السلطة من سنة 1956، إلى وفاته سنة 1970. وهو أحد قادة ثورة 23 يوليو 1952، التي أطاحت بالملك فاروق (آخر حاكم من أسرة محمد علي)، والذي شغل منصب نائب رئيس الوزراء في حكومتها الجديدة. وصل جمال عبد الناصر إلى الحكم عن طريق وضع محمد نجيب (الرئيس حينها) تحت الإقامة الجبرية، وذلك بعد تنامي الخلافات بين نجيب وبين مجلس قيادة الثورة، وتولى رئاسة الوزراء ثم رئاسة الجمهورية باستفتاء شعبي يوم 24 يونيو 1956.
2- معمر القذافي، حكم ليبيا لأكثر من 42 سنة. رئيس مجلس قيادة الثورة في الجمهورية العربية الليبية. بعدها صار يعرف بالأخ القائد للجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية. وصل القذافي إلى السلطة في انقلاب عسكري خلع به الملك إدريس ملك المملكة الليبية في العام 1969 وظل رئيساً لمجلس قيادة الثورة حتى عام 1977، عندما تنحى رسمياً من رئاسة مجلس قيادة الثورة، ونصب نفسه "قائداً للثورة". في عام 2008 عقد اجتماع لزعماء أفريقيا ومنح لقب (ملك ملوك أفريقيا) ومدافعاً رئيسياً عن الولايات المتحدة الأفريقية، وشغل منصب رئيس الاتحاد الأفريقي في الفترة من 2 فبراير 2009 إلى 31 يناير 2010. قتل القذافي من جانب مقاتلي جيش التحرير الوطني.

الراحل (رحمه اللّه) فيها، لأنه في ذلك الوقت لم يكن هناك مطبعة سواها والكتاب في ذلك الوقت اخفي واتلف.

* هل أخفي عن قصد؟ ومن كان وراءه؟

- طبعا عن قصد، وقد أُدعي أنه ضاع ولكن حدث العاقل بما لا يليق فإن صدق فلا عقل له، ولما أُخبر السيد الراحل (رحمه اللّه) بذلك ابتسم وقال لا يهم نكتب غيره. وفي الحقيقة أنا إذا كتبت قصيدة وضاعت أضجر وأحزن كثيراً، لكن كان السيد الراحل (رحمه اللّه) كالجبل، وأما من كان وراءه فلا أعلم لأن الكثير يمكن أن يصدر منه مثل ذلك، ولا أتذكر اسم الكتاب وربما الشيخ ناصر الأسدي يعلم بتفصيل القضية.

علاقات مرجعية

* اسمح لنا بالعودة إلى السيد ميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) ، كيف تستطيع أن تصف علاقته مع السيد محسن الحكيم (رحمه اللّه) ؟

- الذي أعرفه أن السيد الحكيم (رحمه اللّه) كان يجل السيد ميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) غاية الإجلال والاحترام. لأن السيد ميرزا كان معروفاً بالزهد والتقوى، وأتذكر أن السيد الحكيم (رحمه اللّه) كان يزوره في كربلاء المقدسة ولهم صورة تجمعهما معاً ومكتوب عليها بيتان هما:

بدران في أفق الهداية أشرقا***أنبئك في التفصيل والإيجاز

هذا هو المهدي يسمع محسنا***وترى الحكيم يحدّث الشيرازي

فلا شك في هذه العلاقة الحميمة وخصوصاً ميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) كان عندما يسير في سوق العرب وجنتاه كأنهما نور، كنت صغير السن كما أذكر وقتها.

ص: 380

مع الشيوعيين

* في الحديث عن المد الأحمر والشيوعيين، ما هو موقف الإمام الراحل (رحمه اللّه) من الشيوعيين ؟

- لاشك إن المد الأحمر جاء مع ثورة تموز(1) التي حدثت في 14/تموز/1958 الذي قام بها عبد الكريم قاسم.

والمشكلة إن الشيوعيين انتهزوا الفرصة وقاموا بجر الناس في الشوارع، لذلك كانت ردة فعل السيد قوية جداً، واذكر إنني كنت طفلا وكانت تخرج مظاهرات في الشوارع للشيوعيين ينادون بها (ماكو مهر بس هالشهر) ويدعون إلى الفجور وغيره، فطبعاً هذا اعتى تيار كان وقتها، والسيد وقف ضده بحماس، ومنذ ذلك الوقت لمع في فكري أن هذا هو سبب موقفه من عبد الكريم قاسم فوقف هو والشهيد السيد حسن (رحمهما اللّه) في وجه المد الأحمر، وكان موقفه كما عهدناه يتحلى بالحكمة والعقلانية ويواجه الهجوم بالهجوم، مثال أذكره يدل على أخلاقه ومعالجته لأن هؤلاء ليسوا شيوعيين عقائديين، فالشيوعية كانت موضة لأن روسيا كانت دولة محورية وما كان كما هو الآن تيارات بديلة كحزب اللّه وغيره، وأذكر إن أحد أقاربنا كان أمين عام الاتحاد

ص: 381


1- هي ثورة 14 تموز 1958 وتعرف أيضاً بحركة أو انقلاب 14 تموز 1958، التي أطاحت بالمملكة العراقية حيث كان الملك فيصل الثاني ملكاً على العراق. تم إعلان قيام الجمهورية العراقية وانتهاء حقبة العهد الملكي من خلال البيان الأول للحركة والذي أذاعه عبد السلام عارف من دار الإذاعة، وذلك بعد نجاحه في قلب نظام الحكم بالسيطرة على القيادة العامة للجيش ودار الإذاعة ومجمع بدالة الهاتف المركزي، من خلال قطاعات اللواء العشرين الذي تحت إمرته، وبمساندة من زملائه أعضاء تنظيم الضباط الوطنيين أو الضباط الأحرار في صباح يوم الاثنين الموافق 14 تموز 1958.

الاشتراكي وهو عبد الإله النصراوي(1) كان في سوريا فسألته لماذا لم تنتم إلى أحزاب إسلامية؟ فقال: أين هي الأحزاب الإسلامية وأين القيادة؟ ففي ذلك الوقت كان يوجد فراغ من الأحزاب الإسلامية والقيادات المؤمنة. والسيد الشيرازي (رحمه اللّه) كان يقدر هذه الأمة، كان بيته في ذلك الوقت مفتوحاً للجميع كبيت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكان هناك رجل شيوعي لديه دكان، وكان شيوعياً متصلباً، والسيد الراحل (رحمه اللّه) كما نعلم عنه أنه كان يسلم على الصغير والكبير، وفي كل يوم كان السيد الشيرازي (رحمه اللّه) يلقي عليه التحية وهو لا يرد عليه، واستمر في ذلك عدة أيام وقد تصل إلى ثلاثين يوماً، وبعدها رد التحية ولكن ردها بضيق فقال السيد الراحل (رحمه اللّه) جيد لقد وصلنا، وفي اليوم الآخر قدم له دعوة ليحل ضيفاً عليه في بيته فخجل الرجل ولبى الدعوة، وبعد فترة أصبح من أخلص الخلصاء ولم يترك صلاة الجماعة. فهذه أخلاق أهل البيت (عليه السلام) .

أخلاق الأنبياء (عليهم السلام)

* من المعروف عن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) أنه يبدأ بالصلاح أولاً، ولديه باع طويل في ذلك، ويصبر حتى يصل إلى الهدف.. كيف تفسر لنا هذه الأخلاق التي كان يحملها؟

* وكيف كان يتعامل مع زواره ومن يقصده؟

- هذه هي تجيب عن نفسها، وقد ذكرت في أكثر من مناسبة، أحياناً يمثّل الشخص على الآخرين ولكن سرعان ما ينكشف، كمثل الفنان والممثل عندما يقوم بدور قد يبكيك وقد يضحكك، ولكن بعدها يعود إلى أخلاقه الأصلية. ولكن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) كانت هذه سجيته وأخلاقه، فلا يوجد عالم يقوم

ص: 382


1- سياسي عراقي وأمين عام الحركة الاشتراكية العربية.

للصغير والكبير، عالم لا ينفعل إذا سُب أو وُجهت له إساءة، فهذا صعب جداً، وقد ذكرت أنه كان يحمل أخلاق الأنبياء وأخلاق أئمة اهل البيت (عليهم السلام) ، وهذه السير نحن نقرأها ولا نطبقها، لكن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) رأينا تطبيقه لتلك الأخلاق النبوية (رحمه اللّه) في حياته ولم تكن له مصلحة من الدنيا أبداً، حتى حين كانوا يقولون له اشتري عباءة جديدة لأن هذه ممزقة، فكان لا يأبه لذلك لأنه لا يفكر في الدنيا.. باختصار إن خلقه خلق الأنبياء (عليهم السلام) وخلق جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

لماذا كربلاء

* ما حمل في قلبه إلى كربلاء المقدسة خاصة والعالم الإسلامي عامة، أوصله إلى أن يكون بيت الشيرازي (رحمه اللّه) قلب كربلاء النابض وأمل المواطنين وموضع شكوى المظلومين حتى عبّر عن هذه الحقيقة محافظ كربلاء وقال أنا هنا مجرد موقّع معاملات، أما ملك كربلاء المطاع فهو محمد الشيرازي، ما هذا الموقع الذي احتله في كربلاء المقدسة؟

* وماذا صنع من أجل أهالي المدينة حتى يصل إلى هذا المقام؟

- هناك من يقول إن البيئة المحيطة لها الأثر الكبير في عالم الإنسان، والبيئة يتأثر بها الإنسان إذا كانت حارة أو باردة أو وسط بين ذلك، أتذكر إن الشيخ احمد الوائلي كان يقرأ في مسجد الكوفة وكان يقول نحن النجفيون يؤثر بنا لفيح الصحراء. المزاج المناخي يؤثر على الإنسان، وكربلاء مناخها وسط وأرضيتها مناسبة.

لماذا اختار الإمام الراحل (رحمه اللّه) كربلاء المقدسة وهو قد ولد في النجف الأشرف؟ لعل ذلك يعود إلى أن مجتمع كربلاء المقدسة غالبيته ذو طبيعة طيبة، ودودة، الإمام علي (عليه السلام) يقول: «إِنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ أَقْوَامٍ يَشْتَرُونَ الْمَمَالِيكَ

ص: 383

بِأَمْوَالِهِمْ وَلَا يَشْتَرُونَ الْأَحْرَارَ بِمَعْرُوفِهِم»(1). بجهود الإمام الراحل وكذلك البيئة الاجتماعية المناسبة ساعدت على ذلك، أما في النجف فهناك ضجيج متواصل، لأن هناك مراجع متعددة والكلام لدى الناس سهل لأنهم معتادين على المعممين، فليس لديهم تورع حيث أنهم يتكلمون على العلماء، بينما في كربلاء المقدسة كان يوظف الكسبة في طبع الكراسات في تعريف الشيعة ويكتب على نفقة الكسبة حتى يشعر أنه إنسان له خصوصية، وذلك ترك أثراً طيباً في نفوس الناس. وكان لا يميز بين الغني والفقير، فكلهم يستقبلهم، في وقت يقول البعض إنني ذهبت إلى وكلاء مرجع معين فلم يعيروا لي أهمية وجلست بزاوية بعيدة عنه، وبعدها جاء رجل كويتي فاستقبله وكيل المرجع عند باب المنزل.

مسألة الحب كما يقال أنها بالقلب توجد في منطقة حرة منه، فلو أعطي مال الدنيا لا أحد يستطيع أن يكتسب الحب إلا بالحب ،فهو اشترى القلوب واشترى الأحرار كما قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الحر لا يشترى إلا بالأخلاق بينما (العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الأشارة).

ص: 384


1- بحار الأنوار: ج2 ص357.

الصورة

ص: 385

ص: 386

الحوار السابع: مع الوجيه الحاج مصطفى الصراف (المؤذن) حفظه اللّه

اشارة

ص: 387

الصورة

ص: 388

أجري هذا الحوار مع خادم القرآن الكريم ومؤذن وقاريء الحرمين الشريفين حرم الإمام الحسين (عليه السلام) وحرم أخيه أبي الفضل العباس (عليه السلام) حيث عاشر الإمام الراحل المجدد الثاني آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه) من شبابه حتى رحيله.

هجرة السيد الشيرازي من كربلاء المقدسة

* ماهي أسباب هجرة الإمام الراحل (رحمه اللّه) من كربلاء المقدسة، ومتى كان ذلك، وما هو أثره على العراقيين عامة وعلى أهالي كربلاء خاصة؟

- كانت هجرة السيد الراحل (رحمه اللّه) في حقبة السبعينات وتقريباً في العام 1971م بسبب الضغوطات التي مورست عليه من قبل نظام الحكم البعثي، وقد أخبر المحافظ بنفسه السيد مرتضى القزويني علناً وقال له: قل للسيد أن يخرج من كربلاء حيث هنالك تحركات وضغوطات وأمر صادر من الحكومة المركزية في بغداد باعتقاله.

وكان واضحاً بأن النظام لا يسمح لأي عالم أو مفكر أو مصلح في هذا البلد أن يؤدي دوره، وكان من المؤسف أن يعتقل أو يقتل مثل هكذا شخصية

ص: 389

فريدة،لأن النظام مجرم يفعل أي شئ من دون مبالاة حتى الإعدام، فخرج السيد الراحل (رحمه اللّه) من العراق حفاظاً على نفسه ودينه وعمله وتبليغه للإسلام، ليواصل مسيرته الجهادية فإذا لم تكن كربلاء المقدسة مناسبة للعمل فإن غيرها من المدن مناسبة لإكمال هذه المسيرة.

* لماذا اختار السيد الراحل (رحمه اللّه) الكويت تحديداً للهجرة دون غيرها من البلدان؟

- لأن الكثير من سكان الكويت شيعة وبعضهم من إيران والعراق وشتى المدن الإسلامية، كما إنها بلدة مسالمة تستقبل جميع الغرباء من مختلف الطوائف وليست لديها مشكلة بالعبادة أو التوجه أو التبليغ الإسلامي، فكان الشيعة يتمتعون فيها بحرية كبيرة

* ماذا فعل السيد في الكويت؟

- أسس السيد الراحل (رحمه اللّه) عشرات الحسينيات في الكويت وفي في أطرافها وشتى أنحائها فكانت مؤسسات خيرية تبليغية.

ومنها مدرسة الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التي كانت تضم مائة وخمسون طالباً وتحتوي على أربعين غرفة، وكانت تحتوي أيضاً على ديوانية الشيرازي وعلى مؤسسات الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ومنها مؤسسة سيد الشهداء (عليه السلام) لتزويج الشباب وأخرى لدعم الشيعة في العالم في أفريقيا والسودان وسوريا والعراق دعماً فكرياً ومادياً كما كانوا يبعثون الكتب إلى تلك الدول.

كل هذه الأعمال كانت تقوم بها مجموعة من المؤسسات ببركة السيد الراحل (رحمه اللّه) الذي كان يشوق العاملين ويحمسهم لهذه الإعمال مثل تأسيس

ص: 390

رياض ومدارس للأطفال ومدارس دينية للنساء ومدارس لتحفيظ القرآن الكريم وكذلك مؤسسات خيرية واجتماعية وعقد ندوات علمية وفكرية، حيث كانت تعقد في مختلف المناسبات فيحضرها نخبة من المثقفين والشباب الواعين.

كما وأسست مخيمات للترفيه خارج الكويت وأنا زرتها فكان الطلاب يبقون أسبوعاً في هذه المخيمات يستمعون إلى محاضرات العلماء كالسيد مرتضى والسيد جعفر ابناء السيد الراحل (رحمه اللّه) وكذلك السيد أحمد والسيد حسين ابناء السيد آية اللّه السيد صادق والشيخ علي الحيدر وآخرين.

فكانت هذه المخيمات تحتوي على كل ما يحتاجه الشباب مادياً ومعنوياً كالعاب للأطفال وللشباب ومن ضمنها كرة القدم، بالإضافة إلى الطعام وما أشبه ذلك، فكانوا يبقون هناك مدة من الزمن ليرتاحوا ويرفهوا عن أنفسهم، وكانت أسرة الشيرازي تزور تلك المخيمات وبقية المؤسسات الأخرى، وتوجههم وتحثهم على التقوى والأخلاق والعمل الصالح والعلم وغير ذلك.

* بعد هجرة الإمام الراحل (رحمه اللّه) من الكويت هل استمر عمل هذه المؤسسات أم لا؟

- بعد رحيل السيد الراحل (رحمه اللّه) من الكويت ازدادت هذه الأعمال، فإن أصل تأسيسها كان ببركة توجيهات سماحته (رحمه اللّه) واستمرت هذه البركة وقد سمعت الكثير من الكويتين يقولون نحن اهتدينا على أيدي السيد الشيرازي ولولاه نحن لم نكن نعرف كل هذه الأمور.

وقد حدث موقف أمامي حيث جاء أحد الكويتيين إلى أحد السادة وقال له: سيدنا لولاكم لم نكن نعرف أحكام الصلاة وكان هذا بقرب إحدى الحسينيات.

ص: 391

وقد كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يذهب بنفسه إلى أطراف الكويت كمحافظة الجهراء والسالمية، وكان يستقل الباخرة مع جماعة ويذهب إلى تلك المناطق وقد أسس حسينية ومدرسة وحوزة للتبليغ وهم يقولون نحن ببركة اللّه وأهل

البيت (عليهم السلام) ثم جهود السيد الشيرازي أصبحت لدينا كل هذه الخيرات والبركات ولم نكن من قبل في هذه الحالة، ولا زالت هذه الآثار تذكر في الكويت وهي في تطور وازدياد باستمرار.

وكان هؤلاء الكويتيون يقومون بزيارات إلى السيد الراحل (رحمه اللّه) في قم المقدسة، فيلقي عليهم محاضرات ويشوقهم ويحثهم على العمل.

كما أن المرجع آية اللّه السيد صادق الشيرازي يرعى هذه المؤسسات لحد الآن ويدعمها.

* لماذا هاجر الكويت مع وجود هذه الأرضية الخصبة التي أنتجت الكثير من المؤسسات والهيئات وأصلحت الكثير من الناس؟

- كان الكويتيون لا يريدون أن يغادرهم السيد الراحل (رحمه اللّه) وتألموا لذلك أشد الألم، حتى أن أمير الكويت عندما بلغه الأمر تألم وتمنى لو لم يغادرهم، ولكن لم يكن بد من المغادرة، فقد اندلعت الثورة الإسلامية في إيران، وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) من أشد الداعمين لها، حتى أن أصحاب السيد الراحل (رحمه اللّه) انزلوا صورة شاه إيران من السفارة وغيرها، فقد كان يرجو أن تخدم هذه الثورة العالم الإسلامي وتهدئ الأمور في المنطقة وتجعل الشيعة في راحة واطمئنان، وتقدم وازدهار، فكان انتقاله لأجل أن ينطلق إلى العمل الإسلامي والتوعوي العالمي، وعندما حدثت الأمور التي لم يكن يتوقعها وتغيرت النوايا والأهداف، جلس السيد الراحل (رحمه اللّه) في بيته وأصبح مهتما بعمله وجهاده فقط.

ص: 392

* ماهي النتائج التي انعكست على الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، بعد هجرته إلى إيران؟

الصورة

- هذا كلام مؤلم ويحز بالنفس، فقد توحدت كلمة الفقهاء، وحدثت لقاءات بينهم وزيارات متبادلة وكان السيد يتواصل مع المراجع وقد زاره كل من السيد الخميني والسيد المرعشي النجفي والسيد شريعتمداري والسيد الكلبايكاني والسيد القمي وآخرين من العلماء البارزين في إيران، لكن حدثت أمور لم تكن بالحسبان، حيث كان ينظر السيد إلى بعض الأمور التي تحدث وهي غير شرعية وتنسب إلى الشرع، فأنتجت البرود في العلاقة بين السيد الراحل (رحمه اللّه) وبين الحكومة، وحدثت أمور أخرى أجبرت سماحته (رحمه اللّه) أن يجلس في داره ولا يتحرك، و من هنا بدأت المضايقات حيث كانوا يريدون من السيد الراحل (رحمه اللّه) بعض الأمور، فكان يرفض أن يتدخل فيها لأنها تتعلق بدماء المسلمين وبعضها ترتبط بالحرب الإيرانية العراقية، حيث كان من أشد المعارضين لها كما عارضها بعض العلماء، وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) يعطيهم حلولاً لتلك الحرب.

* هل كانوا يريدون من السيد الراحل (رحمه اللّه) أن يؤيد الحرب؟

- نعم وكذلك كانوا يضغطون على العلماء الباقين ليؤيدوا تلك الحرب لكنهم لم يستجيبوا، فعندما حدث المؤتمر من قبل الدول المجاورة لإيران كان رأي العلماء عقد الصلح قبل أن تسيل مزيد من الدماء مادامت ايران استولت على

ص: 393

المحمرة وعبادان(1)، لكنهم خالفوا أقوال العلماء واستمروا في الحرب، وكان من جملة المعارضين للحرب بالإضافة إلى الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، السيد الكلبايكاني والسيد صادق الروحاني والسيد القمي في مشهد المقدسة.

حتى هجموا على بيت السيد الكلبايكاني وهجموا على شخص السيد القمي في الصحن الرضوي وضربوه وأسقطوا عمامته على الأرض، وثم بدئوا بمضايقة العلماء الآخرين.

* إذن لم تكن الحرب على الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) فقط؟

- كلا كانت الحرب على جميع هؤلاء العلماء تحت شعار (من يعارض مصالحي يضرب) وكانت لدى السيد الراحل (رحمه اللّه) فكرة شورى الفقهاء والتي أصبحت عنواناً لكتاب ألفه السيد مرتضى الشيرازي (حفظه اللّه) استناداً إلى القرآن الكريم والسنة النبوية، فطبع الكتاب وعرض في جميع المكتبات فقام الأمن الإيراني وجهاز المخابرات بسحبه من جميع المكتبات وبدأت بعمليات الاعتقال حتى وصل الأمر إلى أبناء السيد الراحل (رحمه اللّه) وهم السيد مرتضى مؤلف الكتاب المذكور والسيد مهدي الشيرازي (حفظهم اللّه) وبدأت المضايقات من جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

وفي نفس الوقت كانت للسيد الراحل (رحمه اللّه) محاضرات متعددة ومن أهمها محاضرة يوم 28/صفر، حيث كان العراقيون يأتون من جميع المحافظات الإيرانية إلى بيت سماحته (رحمه اللّه) للاستماع إلى هذه المحاضرة، فهجم الأمن على بيت السيد الشيرازي في أثناء المحاضرة من دون أن يخلعوا أحذيتهم وقاموا بقطع التيار

ص: 394


1- من المدن اللإيرانية الحدودية مع العراق، حيث سيطرت عليها قوات البعث خلال الحرب الإيرانية العراقية.

الكهربائي وقطعوا كلام السيد الراحل (رحمه اللّه) - وقد كنت حاضراً في حينها - ووزعوا مناشير ضد سماحة السيد (رحمه اللّه) ، ثم اعتقلوا بعض زائريه وأنا معهم، فأخذونا في سيارة وبعد ساعتين أو ثلاثة بدؤوا معنا بالتحقيق وكانوا يركزون على أمر التقليد، وعندما سألناهم عن سبب اعتقالنا نسبوا ذلك إلى تعدي أحد الزائرين على أحد أفراد الأمن، فكان ذلك ذريعة لمزيد من الاعتقالات! سبحان اللّه، يعتقل جمع غفير لأجل شخص واحد ولكن عندما يضرب مرجع كبير لا يحدث شئ إي إسلام هذا؟!!

وبعد أن بعثت إليهم برقيات الاحتجاج ونشر الخبر في الاذاعات وباللغتين العربية والفارسية خافوا من الضجة الإعلامية فأفرجوا عنا، لكن استمرت مضايقتهم للسيد الراحل (رحمه اللّه) وبمختلف الطرق ومنها المضايقة المادية حيث قامت المصارف بحظر على أمواله التي كان يوزعها كرواتب للطلاب، وقد كان سماحة السيد (رحمه اللّه) يعطيني الشيكات وأنا أقوم بصرفها أيام توزيع الرواتب وأسلمها إلى (التقسيمة الشهرية).

* هل كانت هنالك إغراءات مالية للسيدالراحل (رحمه اللّه) لكي ينصرف عن مسيرته الجهادية؟

- كانت الأموال التي تأتيه من الحقوق الشرعية والتبرعات فقط، وقد عرضت عليه الدولة الإيرانية مبلغ مليار وكذلك الحكومة الليبية ولكنه رفضها، حتى لا تساهم هذه الأموال في تغيير موقفه وكذلك سوريا عرضت عليه أموالاً، وكان الغرض منها الإغراء لكي يسكت عن الباطل لكن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان مصراً على عدم استلام هذه الأموال واعتماده وتوكله على اللّه تعالى وكانوا يريدوه أن لا يتكلم بالحق ولا يذم الباطل فهو لم يخش أحداً ولم يلتجئ إلى أي دولة لأن اعتماده على اللّه وأهل البيت (عليهم السلام) .

ص: 395

* قلت عرضت عليه أموال من ليبيا ما هي مصلحة ليبيا؟

- لا أعرف ما المصلحة ولكنه رفضها وكان توكله على اللّه وكان دعمه من بعض التجار المؤمنين المتعاونين معه في إيران والكويت بقية الدول وكانوا يبعثوها كحقوق شرعية وهو بدوره يصرفها على الحوزة والطلبة ولخدمة الناس، وأنا شخصياً كنت أنقل الأموال.

* ذكرتم أن العامل الاقتصادي الذي حورب به السيد الراحل (رحمه اللّه) في إيران كان يتم عن طريق المصارف هل كانت الأموال التي تصله عن طريق المصارف تصادر؟ أم كانوا يمنعون وصول الناس والمقلدين إليه لإعطاء الخمس ؟

ج/أما الحقوق فكانت تبعث من دون عنوان، وأنا كنت استلمها، وأما من ناحية وصول الناس والمقلدين فكانوا لا يستطيعون أن يأتوا إليه بحرية، لأن بيت السيد (رحمه اللّه) مراقب بالكاميرات والمخابرات حتى يضطر السيد الراحل (رحمه اللّه) للاستسلام.

* انقلوا لنا بعض الذكريات عن تلك الأيام العصيبة التي عشتم مع السيد الراحل (رحمه اللّه) .

- عندما اعتقلوا أولاد السيد (رحمه اللّه) أصبح البيت فارغاً فبعث إلي السيد الراحل (رحمه اللّه) وقال لي: حاج مصطفى إبق في البيت ولا تخرج، فبقيت فترة تقارب الشهر والنصف هناك وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) يعد الطعام بنفسه ويأتي به إلي، نعم الكثير من المقربين خذلوه ولم يأتوا إلى زيارته، وكنت عندما أفتح باب غرفة الاستقبال لأرى هل جاء السيد أم لا؟ أشاهده وبيده مسبحة ويسير في غرفته ذهاباً وإياباً ويستغفر ويدعو اللّه، وكان في تلك الأيام شديد الاعتماد على اللّه تعالى.

وكان يبعث إلي ويقول ناد العاملين بالمكتب والحراس لكي أتكلم معهم

ص: 396

حيث لا يوجد زوار في هذا الوقت، فكنت أجمعهم فيتكلم معهم حول الأخلاق وحول اللاعنف وحول مراعاة الناس وحول خدمة الناس، وكان دائماً يتكلم مع العاملين ويوجههم.

وكان السيد المرجع آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) يلتزم زيارة أخيه الإمام الراحل (رحمه اللّه) برفقة نجله السيد حسين الشيرازي، حيث كانا يتفقدانه يومياً أثناء المضايقات حيث كان البيت فارغاً لا يوجد فيه أحد إلا من عدة أشخاص.

وكان السيد المرجع يدير الشؤون العلمية والمرجعية وبعض الأمور الأخرى والسيد حسين يدير شؤون البيت إدارة جيدة.

وحدث عدة مرات أن دخل الأمن إلى بيت الإمام الراحل (رحمه اللّه) بالقوة ليفتشوا عن شخص فيعتقلوه، لكن وقف السيد حسين أمامهم وواجههم بكل قوة وشجاعة ومنعهم من الوصول إلى مبتغاهم.

والكثير من التجار في طهران وغيرها قطعوا زياراتهم للسيد الراحل (رحمه اللّه) ، بل بعضهم أصبح ضد سماجة السيد (رحمه اللّه) متأثراً بالدعايات والمناشير التي كانت تسيء إليه وتتهمه بشتى التهم، حتى قال لي بعضهم لماذا أنت إلى الآن مع السيد وهو مضايق من قبل الحكومة مضايقة شديدة، فالأفضل أن تتفق مع جهة أخرى وتعمل معها، فكانوا يهبطون من معنويات الآخرين لكي لا يصلوا إلى بيت السيد (رحمه اللّه) حتى أصبح السيد الشيرازي (رحمه اللّه) وحيداً فريداً.

ومرات عديدة بعثوا بعض العلماء إلى الإمام الراحل (رحمه اللّه) ليقنعوه على التنازل، وذات مرة بعثوا المرجع السيد الزنجاني لأجل المحاورة أو الوساطة، فكانوا يطلبون منه أن يعتذر من قائد الثورة اعتذارا كتبياً، حتى يتم الإفراج عن

ص: 397

أولاده بعد أن كانوا في معرض الإعدام.

فكان يشتد غضب السيد الراحل (رحمه اللّه) ويحمل عباءته ويدخل إلى البيت ويقول اجلبوه إلى محكمة علنية ودعوه يتكلم في هذه المحكمة بحرية وأمام الملأ العام، وفي ذلك الوقت إذا كانت اتهاماتكم صحيحة طبقوا الموازين الشرعية، واحكموا عليه بما شئتم.

ذات مرة جاء إليه اثنان من الوزارة الخارجية وسألوه عن عدة مسائل ومنها عن رأيه بالجمهورية الإسلامية فأجابهم قد ذكرت آرائي في الكتاب الفلاني وذكر لهم أسماء بعض كتبه، فلم يدع لهم مجالاً للمفاوضات التي هي عادة من جانب واحد فخرجوا خائبين.

كان يواجههم بهذه الصلابة فلما يئسوا منه تركوه.

وقد كنت أشاهد تلك الجلسات لأنني كنت مسؤولاً عن اللقاءات، وقد كان السيد الراحل (رحمه اللّه) مضايقاً بشدة ولكن اللّه فرج عنه.

* كان الإمام الراحل مرجعاً دينياً عالمياً له مقلدون في العراق والكويت وإيران والكثير من البلاد الإسلامية والأجنبية، فكيف أرادوا تحجيمه؟

- وضعوا خططاً لأجل تحجيم مرجعيته وأعماله ومقلديه في العالم وفي سبيل أن يكون محاصراً ويكون تحت النظر ولا يتحرك إي تحرك، فقد كان السيد الراحل (رحمه اللّه) في إيران بل في العالم فعالاً ومتحركاً تحركاً واسعاً، ومؤسساً لمشاريع كثيرة وضخمة، لكنهم منعوه من إقامة تلك المشاريع.

ومن مشاريعه بناء مدينة سكنية في قم المقدسة للعراقيين وغيرهم لكن قامت الحكومة بوضع يدها على هذه المنطقة وصادروا جميع مواد البناء وجعلوا تلك الأرض الكبيرة كراجاً للسيارات المعروفة اليوم ب- (ترمينال) ثم جاء بعض

ص: 398

المسؤولين وقال للسيد (رحمه اللّه) اكتب إلى قائد الثورة رسالة واطلب منه أن يرجع إليك الأموال والأراضي المصادرة، فلم يقبل! حيث كان يراه مقدمة لمطاليب أخرى بالإضافة إلى عدم مشروعية أصل المصادرة.

وقد كانت هذه الأموال أموالاً خاصة ومن الحقوق الشرعية أيضاً.

فكان السيد الراحل (رحمه اللّه) يحارب من هذه الناحية أيضاً لتحجيم إعماله وحركته المرجعية في العالم.

* لماذا عطل الإمام الراحل (رحمه اللّه) درسه في مسجد الإمام زين العابدين (عليه السلام) ونقله إلى بيته؟

- كان ذلك لعوامل عديدة ومنها إن المخابرات كانوا دائماً يحيطون به، ويراقبون خروجه وجميع تحركاته خارج البيت، فنقل الدرس إلى بيته حتى لا يخرج من الدار ويكون قريباً إلى أهله وأصحابه فكان الطلاب والجماهير يأتون إلى بيته ليستمعون إلى المحاضرات والدروس وهذه من جملة المضايقات التي مرت به.

* كان للجانب الإعلامي الحيز الكبير في حياة الإمام الراحل (رحمه اللّه) والتي نرى آثارها اليوم، فما هي قضية شراء أجهزة إذاعية وعرقلة السلطات مشروع تأسيس محطة إذاعية في كربلاء المقدسة؟

- بالطبع كانوا لا يريدون للسيد الراحل (رحمه اللّه) أن تكون له إذاعة خاصة فهم يقولون نحن دولة ولنا إذاعة وإذا كنتم تريدون أن تتكلموا فتكلموا من خلالها فكانوا يريدون أن يحجموا السيد (رحمه اللّه) وإعلامه لأن الإذاعة تنشر أفكاره وهي مستنبطة من قوانين الإسلام وكلمات أهل البيت (عليهم السلام) فهم لا يريدون له التوسعة والانطلاق، لذلك ضغطوا عليه وحجموه، فأصبح لديه التوجيه الديني الموجود في بعض المناطق ككربلاء المقدسة وغيرها عبر تلك السماعات والتوجيه الديني ولكن بشكل بسيط ومختصر وليس كما يريد.

ص: 399

* تطرقتم إلى الحرب العراقية الإيرانية، ولكي نقولها بصراحة ماهو موقف الإمام الراحل (رحمه اللّه) من تلك الحرب؟

- بصراحة كان مخالفاً لها، فكان ينصحهم ببعض الحلول ومنها: ابعثوا للعشائر العراقية الأسلحة وادعموهم بمختلف أنواع الدعم لتكسبوهم فتكون الحرب داخلية لا حرب خارجية على الحدود فإنها تكلفكم طائرات وغيرها بالإضافة إلى إزاهاق الأرواح البريئة، بينما العشائر في العراق هم يقوموا بهذه الأعمال بالأسلحة البسيطة من خلال تنظيم قوي، فهو أفضل من أن تسيل دماء على الحدود بين العراق وإيران، أو تبعثوا مجاهدين وتسلحوهم بأسلحة، وما أشبه.

وهذه الحلول لم تقبل بها الحكومة حتى جاءت لجنة الصلح فلم يقبلوا بها. حتى إن بعض العلماء قالوا: إننا لن نؤيد الحكومة بعد الآن! وأصبحوا يخالفون الحكومة في جميع الأحوال، حتى أنني زرت السيد المرعشي النجفي (رحمه اللّه) في أحد الأيام مع مجموعة من الأصدقاء فوضع يده على رؤؤس الأطفال وتكلم بكلام يدل على عدم موافقته على هذه الحرب، فالكثير من المراجع في داخل ايران كانوا مخالفين لاستمرار الحرب.

* كيف كانت طبيعة علاقة الإمام الراحل (رحمه اللّه) مع عشائر العراق؟

* وماهي نظرته إليهم ؟

- كان الشيخ محمد تقي الشيرازي (رحمه اللّه) قائد الثورة في العراق فالتفت العشائر حوله وكانوا بإمرته، وهذه خلفية قديمة وأرضية جيدة لعلاقتهم بآل الشيرازي الكرام منذ تلك الأيام، وقد استمرت هذه الحالة إلى يومنا هذا، فكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يرتبط بالعشائر ويحثهم حتى في إيران حيث كان يبعث إليهم، ويعمل لهم ندوات وجلسات.

ص: 400

واتذكر قبل سقوط النظام بعام كنت في إيران فقال لي أريد منك إن تتفاعل مع بعض الشخصيات وتجمع العشائر فلي كلام معهم، فجمع العشائر وألقى محاضرة مهمة عليهم.

ولازال آية اللّه السيد صادق (دام ظله) يقوم بنفس العمل.

* كيف كانت علاقته (رحمه اللّه) مع مراجع التقليد في العراق وفي إيران؟

- في العراق كانت العلاقة طيبة حيث كان يتزاور مع السيد محسن الحكيم والسيد السبزواري والسيد الخوئي في كربلاء المقدسة، وكان يتباحثون في كل الشؤون وحتى في أمر الهلال والعيد.

وفي إيران كانت أغلب الزيارات بين السيد الراحل (رحمه اللّه) والسيد المرعشي النجفي والسيد الكلبايكاني والسيد القمي والسيد الروحاني وكان هناك الكثير من الاجتماعات والزيارات والجلسات فيما بينهم.

وكانت مجالس العزاء في مصائب الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) تقام في بيوت المراجع فكانوا يحضرون إلى بيت السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وأما سماحة السيد حيث لم يكن يخرج من البيت فكان السيد صادق حفظه اللّه يقوم بذلك بالنيابة عنه.

ولازال السيد إلى الآن يزور العلماء ويزورونه.

* كيف كان يقابل الإمام الراحل (رحمه اللّه) مخالفيه؟

- في وقتها كان هناك بعض الأحزاب الإسلامية التي تروج ضد السيد الراحل (رحمه اللّه) في سبيل إسقاطه فكان يحارب من قبل هذه الأحزاب الموجودة ولا نريد أن نذكر أسمائها حتى أنهم أطلقوا عليه إشاعات وتهم شنيعة لا أود التطرق إليها، وكانوا يشككون في علميته ويقولون إنه غير عالم وكانوا يخلقون هذه الأمور ويحصلون على دعم وتأييد من قبل شخصيات وجماعات.

ص: 401

وفي إيران كانت هي ذات الأحزاب تلفق وتلقي التهم على السيد (رحمه اللّه) وتحدث له المشاكل السياسية.

وقد جاءني رجل من الأهواز وهو عراقي الجنسية في الساعة الثانية ظهراً وكان الجو شديد الحرارة، فقال لي: إني أتيت من مكان بعيد وأريد أن أقابل السيد الشيرازي ولدي قضية مهمة معه.

قلت له: أستريح قليلاً حتى يستيقظ السيد، فقال إنني أتيت من مكان بعيد وأريد العودة فيجب أن أقابل السيد الشرازي الآن! فارجو أن تتصل به. فاتصلت بالسيد وكان مستيقظاً، فأخبرته بالأمر فقال إنني سأتي.

وخلال دقائق جاء السيد (رحمه اللّه) ودخلنا إلى الحجرة فأقبل الرجل وسلم على السيد (رحمه اللّه) ثم قبل يده وأراد إن يقبل قدميه، فرفض السيد (رحمه اللّه) ، فقال له: تفضل ماذا تريد؟!

فقال: سيدنا أريدك أن تسامحني وأن تعفو عني لأني لفقت الكثير من التهم عليك وكثيراً ما تكلمت بغير الحق بشأنك، وقد أجبرت على فعل ذلك، وكان عملي هو أن أقوم ببث الدعايات بخصوصك وأن أقوم بتشويه سمعتك، وكل ما أطلبه منك أن تسال اللّه سبحانه وتعالى بأن يعفو عني.

فضحك السيد الراحل (رحمه اللّه) وطلب مني أن أجلب له الشاي وبعدها سأله ما هو عملك؟ فقال: إنني إنسان مثقف وكاتب في الأهواز.

فقال له السيد (رحمه اللّه) : عليك القيام بخمس أمور: أولاً التقوى، ثانياً حسن أخلاقك مع الناس وعاشرهم بالتي هي أحسن وكن معهم، ثالثاً اقض حوائج المحتاجين، رابعاً قو قلمك لتكون مؤلفاً، خامساً ارتق المنبر وكن خطيباً ناجحاً.

ثم قال الرجل: سيدنا أكرر عليك ما قلته وإنني نادم على ما فعلت وأسأل

ص: 402

اللّه المغفرة لي! فقال له السيد: اللّه يغفر لك فاستأذن الرجل وخرج.

هذه هي أخلاق السيد الراحل (رحمه اللّه)

وفي أحد الأيام ونحن نسير في الشارع جاء رجل معمم وتظاهر أنه يريد أن يقبل يد السيد (رحمه اللّه) لكنه بدل أن يقبلها قام بعضها حتى خرج الدم من يده الكريمة، فلم يقل له السيد الراحل (رحمه اللّه) شيئاً، ثم قال لنا هل لديكم منديل؟ فأعطيناه منديل ولفه وذهب إلى البيت حتى يغسل الدم فشاهده ابنه وسأله ما هذا؟ فقال: لاشيء، فسأله فمن أين هذا الدم فقال له: إنه رجل طلب مني حاجة ولم أتمكن من قضائها، ففعل ذلك.

* تطرقتم في حديثكم عن ملازمتكم للسيد الراحل (رحمه اللّه) وأنكم لم تكونوا تتركوه بمفرده، فما هو السبب في ذلك؟

- كان ذلك من باب الاحتياط، فإن بيت السيد الراحل (رحمه اللّه) لم يكن فيه تفتيش، فكنا نجلس معه لكي نمنع حدوث إي تعد، لأن زوار السيد الراحل (رحمه اللّه) من جميع الفئات.

واذكر ذات مرة جاء رئيس القضاة الخلخالي، فلم يعرفه السيد الراحل (رحمه اللّه) فجلس كسائر الزائرين، وعندما أراد المغادرة قام السيد الراحل (رحمه اللّه) احتراماً له، واصطحبه إلى الباب فقال أحد الجالسين سيدنا هذا الشيخ الخلخالي، فطلب منه السيد أن يجلس فلما جلس سأله السيد (رحمه اللّه) وقال له هذه الدماء التي سفكتها هل كانت باستنادك إلى الكتاب أو السنة؟ فقال له: كلا وإنما هي بأمر الخميني وبعدها خرج ولم يقف له السيد ولم يرافقه إلى الخارج.

هكذا كان السيد الراحل (رحمه اللّه) صلباً في دينه ولا يخشى أحداً وهذه الأمور هي مقياس لإطاعة اللّه وإطاعة أوامر الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 403

* هل كان الإمام الراحل في بيته تحت الإقامة الجبرية؟

- نعم كان تحت الإقامة الجبرية ولا يخرج من بيته، حتى إلى الحرم، نعم حدث في بعض المرات أن خرج من بيته متخفياً إلى بيت السيد صادق (حفظه اللّه) لعيادته، فقد كان قريباً إلى بيته، وليست بينهما مسافة كبيرة، وكان مشغولاَ بالتأليف في غرفة صغيرة في السرداب وقد رأيته كذلك مرات عديدة حينما كنت أدخل عليه.

فعلاً نحن خسرنا الإمام الراحل (رحمه اللّه) فكان لا يشبهه أحد في جهاده وعلمه وعمله.

* حدثنا عن بعض نشاطاتك في بيت الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

- كان السيد الراحل (رحمه اللّه) غالباً ما يقول لي اجمع هؤلاء الأطفال في أيام العطل وأقم لهم محفلاً قرآنياً وأريد منك أن تملأ هذا البيت بالأطفال وكان بيت السيد (رحمه اللّه) يعج بالأطفال وكنا نحضر لهم وجبة غذائية، وكان يرتاح نفسياً عندما يشاهدهم.

والآن أصبح هؤلاء الأطفال رجالاً وهم يقرؤون القرآن الكريم في المحافل والإذاعات وغيرها.

وكذلك قمنا ببعض المسابقات القرآنية لمدة 18 سنة وكنت أجري هذه المسابقات بين العراقيين وكان يأتي البعض من سائر المدن كالأهواز وغيرها، وبعض طلابنا أصبحوا اليوم محكمين في جلسات القرآن العالمية، وكنا بعد انتهاء المسابقة التي مدتها ثلاثة أيام نوزع الجوائز عند سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) وكنا نعد لهم وجبة العشاء وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) يلقي عليهم محاضرة حول العمل الإسلامي وحول القران وتطبيقه.

ص: 404

وأتذكر في ثاني مسابقة كان لدى الشباب حماس الثورة، فعندما دخل السيد (رحمه اللّه) قاموا ونادوا بالشعارات، فرجع السيد الراحل (رحمه اللّه) ولم يلقي المحاضرة، وعندما سألوني عن سبب رجوعه وعدم إلقاء المحاضرة قلت لهم هذا بسببكم لأن السيد الشيرازي لا يحب الشعارات وإنما يحب العمل، وكان دائماً يحث على العمل ويخالف الشعارات.

* من خلال معايشتكم لسماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) كيف كان يريد أن يكون المنبر الحسيني، وهل اليوم نرى المنبر الحسيني كما أراده الإمام الشيرازي؟

- كان الخطباء الكرام يحضرون عنده فيلقي عليهم في السنة محاضرة أو محاضرتين في المناسبات كمناسبة عاشوراء واستشهاد السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، وكان يقول لهم على الخطيب أن يحضر الموضوع تحضيراً جيداً، ويلزم أن يطالع عدة كتب لمدة ساعتين أو ثلاث يومياً على الأقل، ويجب أن يجدد في المجالس فلا يلقي نفس الموضوع في أكثر من مجلس، ويلزم أن يجدد في بيان المفاهيم، ولابد أن تحتوي المحاضرة على البساطة في بيان المطالب العميقة، وأن تكون غير فلسفية لكي يدركها الجميع حتى الطفل الصغير ويفهم عمقها المثقف وكان يحث الطلبة والخطباء باستمرار في المجالس الخاصة أيضا على طول السنة.

والكثير من الخطباء الكبار اليوم، هم ممن حضر مجالس الإمام الراحل (رحمه اللّه) واستمع إلى توجيهاته، مثل الشيخ عبد الحميد المهاجر والشيخ فاضل المالكي والسيد محمد باقر الفالي والسيد حسين الفالي وكالشيخ محمد الفوزي والشيخ حسن الصفار وآخرين، حيث كانوا يحضرون في خطب السيد (رحمه اللّه) ويجري لهم لقاءات توجيهية خاصة.

وكان يقول لهم: المعمم يجب أن يحافظ على شخصيته وعلى هذه العمة،

ص: 405

فلا يشرب السكائر ولا يتناول الأطعمة في الشوارع، حتى الأمور التي هي مستحبة بالأصل لكن يسوء سمعتهم يجب أن يتركوها، وكان يهتم بالمعممين إلى حد كبير لكي يحافظوا على شأن العمامة وكان يوصيهم بعدم الضحك والكلام في الشارع وغيرها وكان يدقق في جميع الأمور ويعالجها، فكان مربياً بما للكلمة من معنى.

* تطرقتم إلى المسائل المالية حيث كنتم أحد الأطراف في هذا الموضوع، وكما أعرف إن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان كثير العوز والعجز الاقتصادي حتى لاقى ربه وهو مديون مادياً، فكيف كان يعالج أزماته الاقتصادية؟

- كان كثير التوكل على اللّه والتوسل بالأئمة الأطهار (عليهم السلام) وخاصة بالإمام الحجة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) فإنه الذي يدير الأمور، فبيمنه رزق الورى وبيمنه ثبتت الأرض والسماء.

وكانت الأزمات تحل بسرعة، ولا أعرف كيف؟ نعم إنه اللّه الذي بيده الأمور كلها.

كان يأتي المراجعون ولديهم بعض الاحتياجات كالولادة أو السفر أو الطعام فكنت أعرض عليه الأمر فيعطيني شيئاً بسيطاً، فكنت أصر وأطلب أكثر فيقول: هداك اللّه يا حاج! قل له ليس لدي. فكنت أتصل ببعض أصدقائي في الخارج وأطلب منهم تبرعات لكي أعطيها للناس أصحاب الحوائج. أو اتصل بالسيد حسين و أقول له إن السيد قال أعطهم كذا مبلغ وذلك قليل فكان السيد حسين يكمل المبلغ، وهكذا كنا نعالج الأمور واللّه كان يجعل فيها البركة.

وعموماً كان السيد في أغلب الأوقات في ضائقة مالية لكن اللّه يفرج عنه.

* ما هي قصة الإمام الراحل مع مسجد السهلة؟

ص: 406

- كان يذهب كل ثلاثاء إلى مسجد السهلة ويدعوا اللّه بدعوات وقد سمعت أنه التقى بالإمام الحجة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) وقد أعطي بعد ذلك قوة نشاط وقوة تحرك ليسير في هذا المسير الجهادي، وله الدرجات العالية والتقدم في العلو والتقدم بالمرجعية، وكان يذهب إلى مسجد السهلة ولديه توسلات خاصة بالإمام الحجة (عليه السلام) .

ص: 407

ص: 408

الحوار الثامن

الحوار الثامن: مع الوجيه الحاج جبار الياسري

اشارة

ص: 409

الصورة

ص: 410

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعترته الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم إلى يوم الدين.

نلتقي بالحاج جبار جمعة عبد الرضا الياسري (أبو طالب) ليحدثنا عن بعض المواقف والقصص عن سماحة الإمام المجدد السيد محمد الشيرازي (رحمه اللّه) .

* متى كان أول لقائك بسماحة الامام الراحل، وكيف كان هذا اللقاء؟

- لا اذكر على وجه التحديد في أي سنة التقيت بسماحته (رحمه اللّه) ، ولكن أذكر أنها كانت في حقبة الستينات من القرن الماضي، عندما هوجمت جمعية في شارع علي الأكبر ولا أعلم سبب مهاجمتها، هل كانت بسبب عمل ضد الدولة، أم هي ضد الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) أم غير ذلك؟ فقد هجمت عليها جماعة ادعت أنها من أهالي كربلاء المقدسة وقد اتهموا مجموعة من منطقة (العباسية)(1) ومن منطقة (باب العلوة) وكانوا حوالي 18 أو 20 شخصاً، اتهموا بتهديم مكتب الجمعية، فالتفّت حولهم الشرطة وألقوا القبض عليهم ووضعوهم في التوقيف، فذهب جمع إلى السيد المرجع (رحمه اللّه) وطلبوا منه أن يساعدهم ويتوسط لإطلاق سراحهم، فلم يقصر في ذلك، حيث كلف الحاج (فالح أبو رسول) البقال فشرح

ص: 411


1- إحدى المناطق القديمة في كربلاء المقدسة.

له القضية ومن ثم ذهب الرجل إلى المركز ونظر بأمرهم وعلمنا إنهم بريئون من التهمة وهم نزيهون، وليس لهم إي خلاف مع إي شخص كان، فهم مصلحون وغير مذنبين فيحتاجون إلى وساطة لإطلاق سراحهم، وبعد أن اطلع الحاج فالح على القضية ذهب إلى السيد الراحل (رحمه اللّه) وقال له: إن هؤلاء يحتاجون إلى وساطة، فذهبنا نحن ومعنا الشيخ عبد الزهراء الكعبي وآخرين إلى النجف الأشرف إلى مكتب السيد الحكيم (رحمه اللّه) ولم نجده، ولكننا وجدنا ابناءه وقالوا لنا إن السيد في الأعلى ولايستطيع النزول، ماهي مطالبكم؟ قدموها لنا ونحن نذهب بها إلى السيد الحكيم (رحمه اللّه) .

فتقدم الشيخ عبد الزهراء الكعبي وقص عليهم قصة هؤلاء الأشخاص وبين لهم بأنهم متهمون وهم لم يفعلوا أي شئ من ذلك فصعد وبعد عشر دقائق نزل وقال لنا إن القضية حلت إن شاء اللّه غداً نتصل ببغداد وسيطلق سراحهم. ومن ثم رجعنا إلى كربلاء المقدسة وذهبنا إلى السيد الشيرازي (رحمه اللّه) وشرحنا له ما حدث معنا وبعد ثلاثة أيام أخبرنا المسجونون بأن مكانهم غير مريح وضيق، فذهبنا إلى السيد الراحل (رحمه اللّه) وأخبرناه! فبعث إلى الحاج فالح وقال له: انظر في أمرهم لأن مكانهم ضيق ونحن الآن في فصل الصيف.

والحاج فالح كانت لديه علاقة قوية بالشرطة وكذلك مع المحافظ وكان عندما يدخل إلى الدائرة يحترمه الجميع ويجله ولا يعلم ما سر ذلك لعله من كرامات الإمام الحسين (عليه السلام) .

وبعدها أخذوا موافقة بأن ينقل السجناء إلى منزل في حي الحسين (عليه السلام) كنا نحن قد استأجرناه وقمنا بنقلهم إلى هناك وقد جاء برفقتهم اثنان من الشرطة لحراستهم وبعد خمسة عشر يوماً قاموا بتقديمهم إلى المحكمة وكأنهم قد اتصلوا

ص: 412

بعبد الكريم قاسم.

وهو بدوره اتصل بكربلاء وقال قدموا هؤلاء الأشخاص إلى المحاكمة ومن ثم أطلقوا سراحهم وبعد خمسة وعشرين يوماً حضروا إلى المحكمة وحضر عبد الحسين كمونة (رحمه اللّه) .

أخلاق الإمام الشيرازي (رحمه اللّه)

* كيف وجدتم أخلاقَ الإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) ؟

- كان ذا مستوى رفيع من الأخلاق بحيث إن أي شخص يدخل إليه لا يدعه يخرج فارغ اليدين سواء أكان فقيراً أم غنياً، فكان يدخل يده إلى جيبه ويخرج نقوداً ويعطيها إياهم فقد غمره اللّه بفضله، كما أنه كان يحل مشاكل الناس، فعندما يأتوه ويخبروه بحدوث مشكلة ما كان يذهب بنفسه لحلها.

* وكيف كان يقابل الإساءة؟

- كان يصلح الإساءة فإذا كان هناك شخص سيء فإنه يسعى لإصلاحه.

* ماحال الذين اساؤوا للسيد الشيرازي (رحمه اللّه) ؟

- إن الذين أساؤوا إليه قد فشلوا جميعاً. وكان يحدث أن يأتي المسيء إليه ويطلب منه العفو، فيعفوا عنه وكنت غالباً ما أسمع كلامهم وهم يقولون نحن فعلنا كذا وكذا ونحن نادمون.

* هل من شاهد تذكره على أخلاق الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

- في يوم عيد الفطر جئنا إلى مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) وكنا نمر من سوق العرب لكي ندخل من باب قاضي الحاجات، فصدفة شاهد السيد الراحل (رحمه اللّه) بعض الأعلام قرب مكتبة الكركاوي، فتوجه إليه السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ليعايده،

ص: 413

لكنه أعرض عن سماحة السيد (رحمه اللّه) ، فاقترب منه السيد (رحمه اللّه) ليصافحه، فدفعه ذلك الشخص ولم يقبل أن يعايده فأراد بعض الأصدقاء أن يتعرضوا إليه ويردوا إساءته، فلم يقبل السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ومنعهم وقال لهم: إنه رجل كبير السن وهو بمقام والدي، فلا تتعرضوا له، وبعد فترة جاء السيد الراحل (رحمه اللّه) مع مجموعة من الأشخاص وذهب إلى بيته وقام بمصالحته بالرغم من أنه هو الذي قام بالاعتداء على السيد الشيرازي (رحمه اللّه) .

* لأي شيء أرسلكم السيد إلى النجف الأشرف؟

- أرسلنا سماحة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) إلى النجف الأشرف لأنهم أرادوا إنشاء مكاتب هناك فذهبنا إلى مكتبة السيد الحكيم (رحمه اللّه) وقد حصل لنا حادث عندما خرجنا من هنا أنا وابن الشيخ حمزة الكعبي، لا أريد أن أتطرق إلى تفاصيلها.

ص: 414

الصورة

ص: 415

الصورة

ص: 416

الفهرس

الحوار الخامس

مع فضيلة الحجة الشيخ ناصر الأسدي حفظه اللّه/5

المقدمة... 7

تمهيد... 13

القسم الأول/15

في مدرسة حفاظ القرآن... 15

مرحلة التعميم... 19

البرنامج الأسبوعي لسماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) ... 23

نظام الهيئات والمؤسسات... 26

أسلوب السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ... 27

تطور فكر ومنهجية السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ... 29

مقومات النجاح... 32

زيارة العسكريين (عليهما السلام) في سامراء المشرفة... 35

الإمام الراحل (رحمه اللّه) والآخرون... 37

الإمام الراحل (رحمه اللّه) مع المطران كابوجي... 38

إذاعة كربلاء المقدسة... 38

ص: 417

الإمام الراحل (رحمه اللّه) وحوزة النجف الأشرف... 40

موقف سماحة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ... 42

الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) يرفض الرد المباشر... 44

موقف آخر... 45

مؤلفات الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ... 47

الشخصية الإبداعية للإمام الراحل (رحمه اللّه) ... 47

الإمام الراحل (رحمه اللّه) والعشائر العراقية... 51

الإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) والحركة الوهابية... 53

الإمام الراحل (رحمه اللّه) وإدارة المال... 55

سلطان المؤلفين... 59

وكلاء الإمام الراحل (رحمه اللّه) ... 60

مقلدوا السيد الراحل (رحمه اللّه) ... 64

نظرة الغرب... 66

أول رسالة عملية... 72

هجرة الإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) ... 98

دراسة الامام الراحل... 101

السبيل لتحقيق أهداف الإمام الراحل (رحمه اللّه) ... 138

علاقة الإمام الراحل (رحمه اللّه) بالأئمة الأطهار (عليهم السلام) ... 141

السيد الراحل (رحمه اللّه) والدنيا... 146

اهتمام الإمام الراحل (رحمه اللّه) بالطلبة الأكاديميين... 152

علاقة الإمام الراحل (رحمه اللّه) مع المراجع... 154

ص: 418

الإمام الراحل (رحمه اللّه) ونظام البهلوي... 155

القسم الثاني/156

شهادات وانطباعات من حياة الإمام الراحل (قدس سره)... 156

العمامة... 156

كراس الاعلمية... 158

بحث الخارج... 159

بعث مجاميع إلى العاصمة وغيرها للتنسيق والتبليغ... 160

التنبؤات... 162

قادة المجاهدين الأفغان يلتقون سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) ... 165

الوكالات المرجعية... 167

تملّك السكن... 169

المؤتمرات... 170

كتاب (الأصول) وتدريسه في الحوزة... 171

الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ، يؤسس تنظيماً... 173

المؤسسات... 175

لقطات... 177

التعبئة للهجرة... 180

التخطيط للمستقبل... 181

عدم رد المحتاجين... 182

كتاب اللّه... 182

التواصل... 183

ص: 419

الفكر الحضاري... 184

القضاء... 188

الاجتماعات التعبوية... 190

العلاقات مع حركة حرية إيران... 191

مع تنظيم الحجتية... 192

العمل المتواصل... 193

محاولات الاغتيال... 193

من وصايا السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ... 195

الهجرة إلى مشهد المقدسة... 196

جامع الإمام زين العابدين (عليه السلام) ... 198

القسم الثالث... 199

تأسيس الجمعيات... 199

تعزية الاخرين... 199

فلم عن الايتام... 199

بحوث الخارج... 201

العمل الإداري... 201

تشكيل نواة للتنظيم... 202

قرار التأسيس... 204

الانشطة المكتبية... 206

صلاة الجماعة في مكتب السيد الاستاذ (رحمه اللّه) ... 209

المجالس الحسينية... 210

ص: 420

الجلسات الهادفة... 210

أعمدة المرجعية... 217

أعمدة مكتب سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) ... 220

المستشارون السياسيون... 224

الرصد الإعلامي... 225

الدائرة الثانية في المكتب... 225

الحراك الثقافي... 226

مكتب السيد الراحل (رحمه اللّه) مركز لنشر الكتاب في العالم... 227

إجازة مفتوحة... 230

الاقتصاد المرجعي... 231

الإبداع الفكري... 235

مكتبة عامة وأخرى خاصة... 238

قضية العراق الجريح... 240

جوانب من عمل الإمام الراحل (رحمه اللّه) التي عمل فيها للعراق... 240

شخصية سماحة الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ... 245

حركة تزويج الشباب... 252

مشروع حركة التعميم... 253

القسم الرابع/255

الهجرة إلى مشهد المقدسة... 255

التدريس العام... 256

فوائد التدريس... 256

ص: 421

وفد المعارضة السعودية... 257

الهدايا العامة... 260

الأنشطة الإنسانية... 263

أوقات الفراغ... 264

إهداء وردة... 265

بعد الشقة وصعوبة الاتصالات... 265

كيف تمت العودة ؟... 266

التحريض على التقدم الاقتصادي... 268

لجنة للزيارة والتعاون... 269

تأسيس حي لإسكان العراقيين... 269

ختان الأولاد... 270

محطة بث تلفزيوني... 271

وفد أفريقيا 271

وفد السلام الهندي... 272

مع رئيس جمعية الخوجة... 272

قضايا المسلمين... 274

مع العلماء والأعلام... 276

تأبين العلماء... 278

وللوجهاء أيضاً... 279

البرقيات... 280

المجلس العائلي... 280

ص: 422

بعض المسؤولين المرجعيين... 281

زيارة الشيخ القرائتي... 283

لقاء المتطرفين من عناصر المخابرات... 284

الافتاء... 285

مع الاطباء توصيات في الصميم... 286

الرعاية الصحية... 288

البقيع الفرقد... 288

ذكريات الشهيد الشيرازي (رحمه اللّه) عام 1981 م... 289

لقطات مشعة... 290

التعبئة للهجرة... 292

التدريس العام... 293

(بحث الخارج) العربي... 294

البرامج النسوية... 295

الانتخابات الحوزوية... 296

المجالس الأسبوعية... 297

اقتراح الهجرة على الشهيد الصدر الاول (رحمه اللّه) ... 298

المواكب الحسينية في منزل سماحته (رحمه اللّه) ... 298

إطفاء الغضب... 299

لقاء عائلي... 300

الروح الرياضية... 301

المعارضون المحافظون... 301

ص: 423

الممانعة والحرب الباردة... 307

الإعلام المضاد... 309

الظلم تحت عباءة القانون!... 312

الممانعة والحرب الباردة... 313

الحرب على الفساد... 321

قصتي مع المتطرفين... 326

الإهمال... 331

وماذا بعد الإفطار صباحا؟... 334

وماذا يجري خارج السجن؟... 335

إطلاق سراح البعض من زملائي... 336

عباس عامليان (رحمه اللّه) ... 336

جولات أخرى من التحقيق... 337

الاضراب عن الطعام... 341

مجلس خبراء الاقتصاد... 344

الأخلاق من أهداف الرسالة الإسلامية... 346

التكرار والتاكيد لانضاج المطالب... 346

مسجد الإمام الرضا (عليه السلام) ... 347

الاستخلاف... 348

نبذة تعريفية عن الشيخ ناصر الأسدي... 350

الهجرة إلى الكويت... 350

في قم المقدسة... 350

ص: 424

في سوريه... 351

العودة إلى العراق... 351

الحوار السادس

مع فضيلة الحجة الشيخ عبد الأمير النصراوي/353

المقدمة... 355

أئمة البقيع (عليهم السلام) ... 356

نظرة عالمية... 357

المواقف السلبية... 359

اسباب التشكيك... 364

اللامركزية في العلم... 366

الموقف تجاه عبد الكريم قاسم... 367

الحوزة بعد رحيل الامام الشيرازي (رحمه اللّه) ... 368

الموقف من الثورة الإيرانية... 370

سلسلة المحن... 371

في سجن الفضيلية... 373

الوحدة الاسلامية... 377

الوحدة مع الحفاظ على العقيدة... 377

ضياع الكتب... 379

علاقات مرجعية... 380

مع الشيوعيين... 381

ص: 425

أخلاق الأنبياء (عليهم السلام) ... 382

لماذا كربلاء... 383

الحوار السابع

مع الوجيه الحاج مصطفى الصراف حفظه اللّه/387

هجرة السيد الشيرازي من كربلاء المقدسة... 389

هذه هي أخلاق السيد الراحل (رحمه اللّه) ... 403

الحوار الثامن

مع الوجيه الحاج جبار الياسري/409

أخلاق الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ... 413

الفهرس... 417

ص: 426

الصورة

ص: 427

للاطلاع على آراء وأفكار الإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) راجع المواقع التالية:

* alshirazi.com

* annabaa.org

* malshirazi.org

* Iswf .us

* shirazinetwork.com

* shirazionline.org

* m.youtube.com/user/shajara14

* ⓣelegram.me/shajara14

* ⓣelegram.me/shirazi_lib

* ⓣelegram.me/shajara14_ f

ص: 428

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.