رحلة في افاق الحياة والمعرفة المجلد 1

هوية الكتاب

رحلة في افاق الحياة والمعرفة

الجزء الأول

سيرة ومسيرة الإمام المجدد

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1439 ه - 2018 م

مؤسسة الإمام الشيرازي العالمية

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1439 ه - 2018 م

مؤسسة الإمام الشيرازي العالمية

VA 22150 USA،Springfield، 7900 Backlick Rd

ص: 2

رحلة في افاق الحياة والمعرفة

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ

نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ

ص: 4

الإهداء ...

جهد المقلّ أمام النعمة العظمى، وهدية الفقير للمعطي بوفرة، من نترقب ظهوره وننتظر حضوره...

إلى بقية اللّه الأعظم الحجة المهدي المنتظر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) ، ولي كل نعمة، مدار الدهر وناموس العصر.

نهدي ثواب هذا الجهد المغلف بتواضع أرواحنا، للتعريف بأحد وكلائه العامين العاملين، والذي كان بحق مصداقاً لهذه الرواية الشريفة في فترة غيبته الكبرى:

«أما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم».

كان الإمام المجدد السيد محمد الشيرازي (رحمه اللّه) المصداق الحقيقي لذلك البعض ممن خالف هواه وأطاع مولاه، حيث بذل كل نفسه وروحه وعقله في سبيل الدفاع عن حرم أهل البيت (عليهم السلام) في زمن قل الناصر والمعين وتخاذل الكثيرون، وتحمل أعباء المرجعية والجهاد لأكثر من نصف قرن، لم تحدّه الجغرافيا

ص: 5

أو تحبسه بين جدرانها كل الأسوار والحواجز التي وضعت أمامه، رغم كل عمره الذي قضاه مطارداً من الأنظمة المستبدة في بلده أو بلدان أخرى، وأعطى كل وجوده في سبيل رفع الظلامة عن أتباع الإمام المهدي (عليه السلام) بخاصة والتعريف بهم، وتقديم أئمتهم (عليهم السلام) منارات يهتدى بها في ظلمة الدنيا الحالكة، ورفع لواء الدفاع عن المسلمين بعامة مذكراً بحضارتهم ومجدهم، وموقداً فيهم جذوة الإسلام المحمدي الأصيل.

فرحمه اللّه وأعلى درجاته وجعله ورؤاه وأفكاره منهاجاً لاستنقاذ البلاد والعباد.

بجوار سيد الشهداء (عليه السلام)

كربلاء المقدسة

مؤسسة الإمام الشيرازي العالمية

ص: 6

شكر وتقدير

هذه الكتب التي ستصدر تباعاً وتحت عناوين متعددة، تغطي رحلة الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) في حياته وجهاده، وما تركه من بصمات لا تمحى في ذاكرة تاريخ المرجعيات الدينية الشيعية، وهي نتاج جهود اشترك فيها الكثيرون، أفراداً ومؤسسات.

نخص بالشكر منهم:

فضيلة الحجة الشيخ مرتضى معاش لمتابعته الجادة.

الأستاذ حيدر الجراح للتحرير وتقويم النص.

الوجيه الأخ محمد أمين خوشنويس الذي كان مهموماً بالمتابعات و إجراء الحوارات.

فضيلة الشيخ حسين الفاضلي والسيد حازم الموسوي والأخ حامد تقي بور الذين تكبدوا العناء في إجراء الحوارات مع مختلف الشخصيات.

فضيلة الشيخ رسول الفدائي، فضيلة السيد فاضل الطباطبائي، فضيلة الشيخ مكي الحائري، وفضيلة الشيخ جاسم الأديب، الوجيه الأخ هاشم المطيري للمتابعة والاهتمام.

الأستاذ طالب أديب لمراجعة بعض المجلدات.

ص: 7

مع الشكر والتقدير لكل من ساهم في الطباعة والصف والإخراج والتنضيد والطبع وغير ذلك.

كما نشكر المؤسسات التي ساهمت في إنجاز هذا العمل، كمؤسسة النبأ للإعلام والثقافة، ومركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث.

ونعتذر إن نسينا أحداً قدم مساهمة في هذه الكتب، سائلين المولى عز وجل أن يتقبله في ميزان أعمالهم قبولاً حسناً، إنه نعم المجيب.

ص: 8

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعترته الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم إلى يوم الدين.

أما بعد، لا تطمح أن تكون هذه المجموعة من الكتب وتحت عنوان رئيسي واحد يجمعها وهي موسوعة الإمام الشيرازي (قدس سره) .

لا تطمح أن تكون موسوعة دينية أو اجتماعية أو فلسفية أو تاريخية أو فقهية، بل هي عمل موسوعي بحد ذاته يعالج عدداً من المواضيع والملفات التي قضى الإمام الراحل (رحمه اللّه) عمره الشريف مهتماً بها وفي كافة المجالات المعرفية.

وهي تحاول أن تلم - ولو بالحد الأدنى - بما كتبه الإمام الراحل (رحمه اللّه) حول عدد من العناوين، مثل: (الاستبداد - الإصلاح - التسامح - التنظيم - الحرب والسلام - الحكومة - الدولة - الشورى - ولاية الفقيه - العنف واللاعنف - الاحزاب)، إلى أخر ذلك من عناوين، مع المامة موسعة حول ما تناولته أقلام كتاب مختلفين، وهي تجهد في اللحاق بهذا النتاج الضخم للإمام الراحل (رحمه اللّه) .

ولا تنسى الموسوعة وهي تتوغل في العوالم الشيرازية الغنية باهتماماتها أن تتناول عدداً من القضايا والمواضيع عبر بلدان متعددة من قارات العالم، حيث

ص: 9

انشغل الإمام الراحل (رحمه اللّه) بمسلميها دون النظر إلى الجنسية والعرق والطائفة.

فكان إن انصب إهتمامه نحو العراق وإيران والكويت وسوريا وتركيا وافغانستان وباكستان وفلسطين ومختلف القضايا العربية والإسلامية، وغير ذلك من جغرافية إسلامية لم تقتصر على الحيز المكاني المتعارف عليه بحدوده المصطنعة، فاهتم (رحمه اللّه) بالوجود الإسلامي في الامريكيتين والدول الأوربية، لما لهؤلاء المهاجرين إلى تلك البلدان من أثر ودور في النهضة الإسلامية المنشودة.

ويحاول هذا الجهد بالدرجة الأساس أن يجمع قدر الإمكان وبما توفرت لدى العاملين عليه من مصادر وارشيف ووثائق، جميع كتابات الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلا ما ندر، وجميع ما كتب عنه وهو النزر اليسير، ليكون وثيقة مهمة من وثائق مرجعية دينية شيعية نذرت عمرها وابناءها لخدمة الإسلام والمسلمين، وحاولت - وقد نجحت في الكثير - أن تغرس الوعي وتنشره في أوساطهم، وهو - أي الإمام الراحل (رحمه اللّه) - كان همه الأكبر والمتواصل إيقاظ ذلك الوعي من سباته.

نطمح من خلال هذا العمل، أن نرد ولو بعض الدين لواحد من مراجع الدين الشيعة والذي لم يألو جهداً في الدفاع عن مصالح الإسلام والمسلمين في فترات شهدت سيطرة الأنظمة الاستبدادية على مقدرات البلدان العربية والمسلمة، وكانت فترة زاخرة بالتيارات والحركات الفكرية والسياسية المتعددة، والتي قارعها الحجة بالحجة، ولم يكتف بالتنظير فقط، بل عمل جاهداً على تطبيق تنظيراته تلك على أرض الواقع.

ص: 10

الحوار الأول : مع آية اللّه الشيخ فاضل الصفار

اشارة

ص: 11

الصورة

ص: 12

التمهيد

ليس أقدر من التلميذ على تقديم صورة قلمية لمعلمه، خاصة إذا لازمه لفترات طويلة في قاعة الدرس وخارجها، وحضر معه نشاطاته الاجتماعية أو الثقافية، وتلمس عن قرب همومه وما يشغل تفكيره، واطلع عن كثب على سلوكه وطريقة عيشه، التي تتوزع بين المأكل والملبس والتعامل مع الآخرين، وحالات الفرح والحزن.

تأخذ تلك الصورة أسماءً وأشكالاً متعددة تبعاً لنوع الكتابة أو الحديث فيها؛ فهي قد تكون مذكرات أو سيرة ذاتية أو شهادات، والمذكرات هي ذلك النوع من أنواع الكتابة التاريخية وثيق الصلة بالسيرة الذاتية، والفرق بين السيرة الذاتية والمذكرات هو أن الأولى تروي قصة حياة الكاتب وتسجل خبراته ومنجزاته في المقام الأول، على حين تعنى الأخرى - أي المذكرات -، قبل كل شيء، بوصف الأحداث وتعليلها، وبخاصة تلك التي لعب فيها كاتب المذكرات دورا أو تلك التي عايشها أو شهدها من قريب أو بعيد، ومن هنا وقوعها في منزلة متوسطة بين (موضوعية) التاريخ و(ذاتية) السيرة الذاتية.

الشهادات هي الحديث عن الاخرين، من واقع القرب منهم، ونقل أحداث عاشوها وعاصروها وكانوا شهوداً عليها وعلى تطورها، وهي أيضا نقل تقوم به الذاكرة لملامح من تاريخ قريب فيه الكثير من فعل الأشخاص وحركتهم

ص: 13

في واقعهم المعيش.

وهناك ضرورة للتمييز بين الشهادات والمذكرات، فالشهادات هي أكثر تعبيراً من المذكرات، لأن المذكرات كما يرى المؤرخون والمهتمون بالتدوين التاريخي، تخضع لاستراتيجية الخطاب الحذر، وأغلب المذكرات هي في الحقيقة شهادات فقدت البعض من أصالتها، لأن المذكرات لا يكتبها إلا صاحبها.

إن سير الشخصيات العامة والمشهورة التي تسجل الخفي من تجاربهم وترصد المواقف في المحطات المهمة في حياتهم، تعتبر مصدراً ثرياً ومهماً للتعرف على البيئة التي نشأوا فيها والأجواء التي عاشوا في مناخاتها والأفكار والمفاهيم السائدة في عصرهم؛ وهذا النوع من الوثائق والشهادات يتيح للأجيال المتعاقبة الاطلاع على تجارب أصحابها والتعرف على نظرتهم للحياة ومواقفهم من الأحداث ومدى تأثير المبادئ والقيم على مسيرة الإنسان وحكمه على الأشياء والمواقف والأحداث.

الصورة

في الأوراق القادمة، يقدم آية اللّه الشيخ فاضل الصفار شهادته على فترة تاريخية طويلة نسبياً تمتد لأكثر من ستة عشر عاماً،كان فيها قريباً من الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) بدءاً من كربلاء المقدسة، مكان الولادة والتعرف على الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، مروراً بايران، محطة الهجرة القسرية في عهد النظام السابق في العراق.

ما سجله الشيخ الصفار من لقطات بقيت في ذاكرته، يساهم من خلالها

ص: 14

في محاولة أبراز الصورة الحقيقية لبعض الشخصيات والأحداث التي ارتبطت بالامام الراحل (قدس سره) ، وهو في مساهمته يحاول أن يكون محايداً في توصيف بعض تلك الشخصيات بقدر الإمكان، وبذلك فأنه تنحى جانباً عند التعرض للتحليل النفسي والاجتماعي، تاركاً الأمر إلى المختصين في هذا المجال للتعمق في تحليل تلك الشخصيات التي مرت في حياة الإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) .

في هذه الأوراق، كثيراً ما يأخذ الشيخ الصفار المبادرة في حديثه، دون انتظار توجيه سؤال محدد، وربما يعود ذلك لتزاحم الذكريات التي تريد الخروج من ذاكرته، ولا يستطيع أحياناً ملاحقتها؛ ومع اعترافه بأن هذه الشهادة التي يقدمها عن الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) ضرورية ومهمة، إلا أنه يعتقد أنها جاءت متأخرة نوعاً ما، لان الكثير من الأحداث والوقائع والشخصيات جرى ما جرى عليها في الذاكرة من نسيان واضمحلال.

شهادة الشيخ الصفار جرت على سبع جلسات متقاربة في تواريخها من العام (1425 ه- ق - 2005 م) ، وفي مكان جغرافي واحد، هو مدينة قم المقدسة في ايران.

في هذه الشهادة للشيخ فاضل الصفار، عدة عناوين رئيسية وأخرى فرعية، فرضتها طبيعة الأحداث والذكريات التي يرويها الصفار، دون التقيد بمرحلة زمنية تسبق الأخرى، مع اسئلة هي أقرب إلى المداخلات أو الاستفزاز لإخراج المزيد من الذاكرة المتخمة بالوجوه والتفاصيل.

ص: 15

الصورة

ص: 16

القسم الأول

عوامل النجاح وسر الصمود

يبدأ الشيخ الصفار شهادته تحت عنوان (عوامل النجاح وسر الصمود) بهذه الكلمات:

تخبرنا حقائق التاريخ التي نطالعها بأن الحديث عن العظماء أمر في غاية الأهمية، وهذه الأهمية تعود إلى مكانته ودوره في مجتمعه أو أمته، وفيما قام به وقدمه في حياته للآخرين. ويمكننا الاستعانة بحديث الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي يقول فيه: «من ورخ مؤمناً فقد أحياه»(1). فالحديث عن العظماء يوحي بالعظمة، والفخر والاعتزاز.

كثيراً ما طرح ويطرح عليّ السؤال عن الإمام الراحل (قدس سره) ، باعتباري تلميذاً له، من قبل كثير من الأخوة المؤمنين - مجتمعين أو متفرقين مراراً وتكراراً - وأينما كنت، سواء في إيران أم في سوريا، أم في العراق، أم أماكن أخرى. رغبة من هؤلاء في التعرف على شخصيته الفذة (أعلى اللّه مقامه)، وعن سيرته الكبيرة، فيقولون لي: أنت كنتَ من تلاميذه، وعشتَ معه مدَّة من الزمن، فنحب أن تحدثنا عنه بإسهاب، وتخبرنا عن شخصيته وصفاته وسيرته ومشاريعه

ص: 17


1- راجع سفينة البحار: ج2 ص641 مادة (ورخ) وفيه: قد ورد عن سيد البشر (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من ورّخ مؤمناً فكأنّما أحياه».

وطموحاته وآماله وآلامه.

حين نتحدث عن الإمام المجدد آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) فهو حديث عن عظيم من عظماء هذا العصر الذي نعيشه، فهو الفقيه والنابغة، سلطان المؤلفين وقدوة المؤمنين، الذي نذر نفسه وحياته لرسالته ودينه ومقلديه في جميع أنحاء العالم الإسلامي.

الحديث عن مثل هذه الشخصية، وعن النهضة الثقافية والفكرية التي حمل رايتها لتغيير المجتمع، حديث واسع وطويل، وحافل بالعبر والتجارب.

عشت مع الإمام الراحل (قدس سره) أكثر مما عشت مع والدي، فقد هاجرت من العراق وأنا في سن السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، وعاشرت الإمام الشيرازي (قدس سره) نيفاً وعشرين سنة، عشتها في ظله الوارف، فلمست منه أشياء كثيرة لعلي لم ألمسها من والدي الذي فارقته مبكراً، فكنت اعتبره الوالد كما اعتبره المرجع والأستاذ، واعتبرني واحداً من أبنائه كما كنت أشعر بذلك. من خلال تلك الصلة القريبة والتي ربطتني بالإمام الراحل (قدس سره) ، كان طلب هؤلاء الأخوة المتكرر مني أن أتحدث عن حياة الإمام الراحل (قدس سره) ، وغالباً كنت أردد وأقول لهم هذا الجواب: (بأنني كثيراً ما أتردد في ذلك، بسبب الحيرة التي تنتابني وهي من أين أبدأ في حديثي).

ووجه الحيرة في ذلك يعود إلى أن الإمام الراحل (قدس سره) رجل قلّ نظيره، ورجل سبق عصره، وتقدم على أقرانه وزمانه مراحل بعيدة، لأنه شخص واسع في مداه وفي أبعاده، فكل نقطة وكل زاوية من زوايا حياته الشريفة تصلح أن تكون بداية للحديث، وتحتاج إلى الكثير من ذلك الحديث وقد لا نفيه برغم ذلك حقه.

ص: 18

على قدر ما تسعفني ذاكرتي، وكنت يومها بين الخامسة أو السابعة من العمر، أدركت السيد الراحل (قدس سره) في أيام المجد الذي صنعه في كربلاء المقدسة والأنشطة الرائعة التي كانت تقام هناك بإشرافه وتشجيعه وتشويقه، قبل أن يغادر العراق في عام (1390ه- - 1970م) حيث هاجر إلى الكويت.

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، يؤم صلاة الجماعة في حرم سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) ، ولعل صلاته كانت أكبر صلاة جماعة تقام في كربلاء المقدسة، وهي مهيبة جليلة، وحينما كنا نذهب ونراها نعجب ونبهر بها، لأنها كانت جامعة لشرائح المجتمع الكربلائي وغير الكربلائي من الزوار الكرام، لأن الزائرين الذين كانوا يقصدون زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) كانوا يلتحقون بصلاته أيضاً.

الصورة

تلك الصلاة كانت تضم العالم، والمثقف والأمي والتاجر والعامل والزائر والمقيم وغيرهم، وكان الحرم الشريف للمولى أبي عبد اللّه (عليه السلام) يمتلئ بالمصلين، في ذلك السّن كنت أجلّ شخصيته وأحبه، وكنت أفتعل العذر من أجل أن أحظى بمحادثته، ولكني ماذا كنت أستطيع أن أفعل في تلك السنوات من العمر؟ وماذا أجيد من عمل في مثل هذه السن؟ كنت أذهب محاولاً التقرب منه، فكان بشخصيته المحبوبة وجاذبيته المشهودة وابتسامته الحنونة التي لم تكن تفارق محياه الشريف، وترحيبه بكل من يقدم عليه، أو (ملكَاه) على حدّ تعبير العراقيين كان لطيفاً جداً، وهذا ما كان يشجعنا على الاتصال به والتواصل معه، مع أننا أطفال

ص: 19

صغار، وهو مرجع كبير وإمام مهيب، فكنت أذهب إليه وهو جالس على سجادة الصلاة، فأقبّل يده الكريمة وأسأله مسألة شرعية بسيطة على قدر فهم صبي في تلك السن، وكان كل قصدي التقرب منه والتزود من هذا الوجه الحنون العطوف الهش البش، فأقول له: هل هذا حلال أم حرام؟ وكان يجيبني - ولعله يعرف هدفي وغايتي - بالحكم الشرعي، فكنت بأي حجة أو عذر أحاول أن أتصل به.

أما ما سمعته عن سيرة الإمام الراحل (رحمه اللّه) في كربلاء من الناس القدامى من الكبار في السن، من الذين عاصروه وعاشروه وعايشوه وهم في كربلاء، فهناك أشياء كثيرة سمعتها من أناس ثقات وبعضهم من ذوي الشأن، فهو معروف عنه وإلى الآن - حيث عدنا إلى العراق بعد سنين الهجرة والاغتراب - كما نسمع من كبار السن في كربلاء المقدسة ومن المشايخ الكبار الذين عاصروه وعاشروه الإشادة به، وبأنه رسخ في العراق الحس الديني والإيماني، وحوّل مدينة كربلاء المقدسة إلى واحة للفكر والثقافة والنهضة إضافة للتدين، وهذا لم يكن منحصراً في كربلاء المقدسة، وإنما إشعاعاته كانت واسعة وعريضة.

بوادر الاصطدام مع السلطات

بدأت الحكومة المركزية في بغداد العاصمة، بعد انقلاب تموز العام 1968 تخشى من تحرك الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، فتصدت لتحد منه منذ أيامها الأولى - مع أن المسافة بين كربلاء المقدسة وبغداد أكثر من مئة كيلو متر، والمواصلات كانت ما زالت بدائية، في ذلك الوقت حيث كان التواصل فيه تواصلاً ضعيفاً إلا أن الحكومة أخذت ترصد أنشطته، وتتابع أفكاره ومشاريعه، وأحياناً تتعرض له

الصورة

ص: 20

لتحد منها.

فمن قصصه مع هذه الحكومة وأزلامها ما نقله أحد الأشخاص الثقات من أهالي كربلاء المقدسة، قال:

كانت هناك مكتبة خاصة مقابل ساحة باب الشهداء لحرم الإمام الحسين (عليه السلام) هي مكتبة السعادة، وتعود للمرحوم (السيد سعيد زيني)(1) - وأنا رأيتها أيام صغري - كانت مكتبة واسعة ومرتبة بشكل جميل قياساً إلى مكتبات ذلك الوقت، وكان صاحبها السيد سعيد من وجهاء كربلاء المقدسة ومن الشخصيات المقبولة والذين لهم ثقلهم في المجتمع وفي الدولة، وله كلمة مؤثرة ومسموعة في أوساط الناس، وكانت مكتبته من الأماكن القليلة جداً في كربلاء المقدسة التي يتوفر بها هاتف.

وفي أيام ترقب ثبوت رؤية هلال شهر رمضان أو عيد الفطر كان المسؤولون المهمون في المحافظة يجتمعون في مكتبته؛ لأن مكتبته قريبة من مصدر القرار، والإمام الراحل (رحمه اللّه) الذي كان تواجده - غالباً - إما في الحرم الحسيني المطهر أو في بيته، حيث يقع بيته قرب مكتبة السيد سعيد وتفصله عن المكتبة بما لا يتجاوز - إذا حسبناها بالخط المستقيم (200 - 250 متر)، فبيته كان يقع في شارع الإمام علي (عليه السلام) ، والبيت موجود إلى الآن، ومكتبة السيد سعيد زيني تقع إلى جانب الحرم من جهة باب الشهداء (رضوان اللّه عليهم) فهي قريبة جداً.

ففي ذلك اليوم وكان قد ثبت عند الإمام الراحل (رحمه اللّه) عيد الفطر، اجتمع

ص: 21


1- كان عميد أسرة (آل زين-ي)، وهي أسرة علمية برز فيها عدد من العلماء والأدباء والخطباء، يرتقي نسبها إلى العلامة السيد علي بن السيد سيف الدين من سلالة الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) .

المحافظ وقائد الشرطة وغيرهم في مكتبة السيد سعيد زيني، واتصلوا بأحد المسؤولين في بغداد لكي يعلموهم بأن السيد الشيرازي (قدس سره) في كربلاء المقدسة أعلن العيد؛ ولا أذكر من كان الطرف الآخر على الهاتف، هل هو رئيس الوزراء أو وزير الداخلية - فالقصة جرت منذ زمن بعيد نسبيا وأنا سمعتها من أحد كبار السن - المهم أن الطرف المسؤول في بغداد سأل المحافظ حول وضع كربلاء المقدسة وكيف تسير الأمور فيها، لأن المحافظ كان قد أخبرهم عن ثبوت العيد عند السيد الشيرازي (قدس سره) ، وفي هذه الأثناء كان مرور السيد الشيرازي (قدس سره) و قد أنهى صلاة المغرب والعشاء وهو ذاهب إلى بيته، وغالباً ما يتمشى في تلك المناطق إلى بيته، سأل المسؤول في بغداد، المحافظ عن الوضع في كربلاء المقدسة، فأجابهم: إذا كان لكربلاء أهمية عندكم، فعليكم إخراج السيد الشيرازي منها، لأن بقاءه في كربلاء تهديد للحكومة فيها.

والظاهر أن هذه القضية - إعلان العيد بعد ثبوت رؤية الهلال - كانت إحدى العوامل والأسباب التي جعلت السلطة تشعر بخطورة وجوده على الحكومة، فأخذت تعجِّل في اتخاذ مواقف مضادّة له ولتحرّكاته لاسيما في كربلاء المقدسة التي كانت مهد حركته ومركز انطلاقه.

وكان من نتائج هذه المكالمة وغيرها أن أصدروا قراراً باعتقال جمع من المؤمنين القريبين منه، وتعرضوا إلى حوزة كربلاء المقدسة بالمضايقة والظلم والتنكيل. وكان الإمام الراحل (قدس سره) وجماعته من الأوائل الذين عانوا من الإرهاب والعنف الذي انتشر - فيما بعد - في العراق كله، ولكنه ابتدأ من حوزة كربلاء المقدسة، وانتشر حتى عمّ البلاء العراق برمته.

ص: 22

فراسة الإمام الراحل (رحمه اللّه)

ومن الذكريات الأخرى التي استرجعها - وقد سمعتها من عدة طرق من الثقاة بالنسبة إلى فراسة الإمام الراحل (رحمه اللّه) أو قوته المعنوية أو ما شئتم فعبروا، فأهل المعرفة لديهم تفسيرات متعددة لها - هذه القضية:

ذكر أحد السادة من أهالي كربلاء المقدسة وكان من مريديه وأصحابه، وأولاده اليوم من أهل الخير والصلاح. قال: إنه في يوم من الأيام فقد أحد أبنائه، فقَدَ أثره ولم يعرف أين يجده؟ فبحث عنه يومين أو ثلاثة أيام ولم يصل إلى نتيجة أو خبر عن ولده، وظل قلقاً عليه لا يهدأ له بال حتى يجد ولده.

وكان من طبع وسجايا الإمام الراحل (قدس سره) السؤال عن أحوال الناس والمجتمع البعيدين عنه والقريبين، كما كان يعتبر متابعاً - وبامتياز - للأخبار والأحداث العالمية، حيث كان يترصد الأخبار ويعرفها ربما قبل إذاعتها من وسائل الإعلام العامة، فكيف بالمسائل الشخصية، والعلاقات الخاصة مع الأشخاص القريبين عليه! وفي مدينة مثل كربلاء المقدسة التي كانت صغيرة في ذلك الزمان؟ فهو باهتمامه وتفقده لأحوال الناس واطلاعه على أوضاعهم ما كانت تفوته فائتة.

فوصل الخبر للسيد الشيرازي (رحمه اللّه) أن فلاناً فقدَ أحد أبنائه وهو يبحث عنه من مدة ولم يجد له خبراً، يقول السيد: حينما كان السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ينزل من باب حرم الإمام (عليه السلام) على الدرج المؤدي إلى الصحن الحسيني الشريف، سلمت عليه وصافحته، فاستخبر عن أحوالي وقال: مالي أراك على غير ما يرام، خيراً إن شاء اللّه؟ فأجبت السيد وبانكسار وألم: لقد فقدت

ص: 23

ابني منذ أيام، وأنا ابحث عنه من غير نتيجة، وقد سألت عنه عدة جهات ولم أحصل له على خبر.

الصورة

فتأمل السيد الشيرازي (رحمه اللّه) قليلاً، واضعاً يده على جبهته وقال: اذهب إلى مرقد (السيد أحمد بن هاشم)(1) تجد ولدك هناك إن شاء اللّه؛

استأجر الأب سيارة، وذهب إلى مرقد السيد أحمد بن هاشم فوجد ابنه هناك!

هل القصة تدل فيما تدل على فراسة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟ أي أنه كان عنده علم بوضع المجتمع العراقي، والظروف المحيطة به، ولعل الموسم كان موسم زيارة السيد أحمد بن هاشم فتوقع مثل هذا التوقع، أو أنها نوع من النورانية الإلهية التي يلهم اللّه عز وجل بها عباده الصالحين بالصواب في العديد من الأحيان، وفي الحديث الشريف الوارد عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه عز وجل»(2).

يحترمه الجميع

من الخصوصيات التي كانت عند الإمام الراحل (رحمه اللّه) والتي سمعتها من

ص: 24


1- وينص صاحب موسوعة (دائرة المعارف) بقوله: أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد بن محمد بن ابراهيم المجاب ابن محمد العابد ابن موسى بن جعفر (عليه السلام) المشهور بأحمد بن هاشم أو أبو هاشم الموسوي الظاهر هو الذي قبره بشفاثا على ثلاثة مراحل بكربلاء. وقد دون هذا النسب الشريف في المشجرات العائلية المنتشرة في كربلاء وخارجها ،وفي مصنفات كثيرة مخطوطة ومطبوعة.
2- بحار الأنوار: ج67 ب 2.

عدد كبير من الثقات كبار السن في كربلاء المقدسة أيام كان يعيش بينهم، ونسمعها الآن أيضاً من الناس بعدما عدنا إلى كربلاء بعد حوالي ربع قرن من الفراق، حيث يستعيد الكثيرون ذكرياتهم مع الإمام الشيرازي (قدس سره) ، فمن هذه الخصوصيات أنه كان يحظى باحترام ومحبة كل أفراد المجتمع على الإطلاق، ومن جميع الطبقات، فلم تكن هناك شريحة في المجتمع - خصوصاً المجتمع الكربلائي - لا تحترمه ولا تجله، حتى الناس الذين ليس لهم علاقة بالدّين بل لهم علاقة بالفسق والفجور والعصيان كانوا يحترمونه جداً، حتى إن الكثيرين يتذكرون أنه كان من دأبه في أوقات معينة، أن يتمشى فيها على النهر - نهر الحسينية الذي يسقي كربلاء وبساتينها - ويفكر في شؤونه الخاصة، وفي الشؤون العامة، وفي إصلاح البلد، فكان يصادف أن يلتقي بمجموعة من الشباب الطائش المغرر به يعملون بعض المنكرات، وبعض الأعمال التي ينشغلون بها في تلك الأماكن الخالية، حيث كانوا يتخذون من بعض الزوايا وأطراف النهر أماكن لللهو المحرم، فكانوا بمجرد أن يشاهدوه من بعيد يجمعون - و بسرعة - كل أدواتهم ويخفونها على جانب، ويقفون له بكل احترام وإجلال، فيسلم عليهم ويسلمون عليه ويقبلون يده، ويودعونه بكل أدب واحترام أيضاً.

وهذا النوع من المكانة والتقدير قلما تجده في مجتمع من المجتمعات، هكذا يُحترم العالم ويجل ويقدر حتى من قبل أناس لا علاقة لهم بالعلم ولا بالتدين.

المؤمن يألف ويؤلف

وكان من صفاته التي يشهد له الناس بها - حتى الآن - من الكبار الذين كانوا في ذلك الزمان صغاراً، أن الإمام الراحل (قدس سره) عندما كان يمر في الأزقة أو

ص: 25

الشوارع ويرى بعض الأطفال يلعبون كان يسلم عليهم، ويقف يسألهم بعض الأسئلة فيجيبونه، ثم يقبلون يده.

وهذه صفة من صفات الأنبياء (عليهم السلام) وسيرتهم وقد تأثر بهم السيد (رحمه اللّه) ، حيث يلزم على الإنسان أن لا يتعالى على المجتمع الذي يعيش فيه، على اختلاف شرائحه وطبقاته ومستوياته، يحب الجميع ويسعى لهداية الجميع، ولا يفكر أن هذا طفل أو ذاك كهل، فكان يحترمه الجميع بمختلف مستوياتهم لعظم أخلاقه.

وأما المثقفون والمفكرون والإعلاميون فخواطرهم وذكرياتهم كثيرة، وأنا رأيت جملة من الشعراء والأدباء في كتبهم وفي دواوينهم يسجلون كيف كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يلتقي بهم ويحتضنهم ويشجعهم ويتواصل معهم.

الخواطر والذكريات عنه في كربلاء المقدسة كثيرة جداً، وقد فاجأني هذا السؤال، لأنه يحتاج إلى استعداد مسبق لم أتوفر عليه اللحظة، ويتطلب إثارة بعض الدفائن والذكريات حتى تستحضرني المواقف التي وقفها السيد الإمام الراحل (قدس سره) .

هل ما حصل انقلاب؟

* من خلال تلك المقدمة والتي تصلح مدخلاً لحوار أوسع معكم، ذكرتم أن الإمام الراحل (قدس سره) كان ولا زال يتمتع بحضور كبير في المجتمع الكربلائي، وأن الجميع كان يكن له مشاعر الحب والإجلال والمودة، فكيف تمكنت حكومة البعث في بغداد من إلحاق الأذى به، والتضييق عليه، رغم كثرة المحيطين به؟

- هناك عدة ظروف محيطة في حياة السيد الراحل (رحمه اللّه) أدت إلى جملة من هذه النتائج السيئة والثمرات المرة، واحدة منها: النظام الحاكم في العراق، فالنظام الحاكم بدأ بطشه بحوزة كربلاء المقدسة وبشخصياتها الكبيرة وقد ابتدأ

ص: 26

بحوزة كربلاء قبل غيرها، لأنها كانت متصدية له، وكانت الحالة في أعلى درجات المواجهة والصدام العنيف، فليس هناك أعلى من درجة الحكم بالإعدام على كبار الشخصيات العلمية في كربلاء، فأعلى حكم يمكن أن تصدره الدولة تجاه شخصية من الشخصيات هو الإعدام، ونظام الحكم البعثي واجه الإمام الراحل (رحمه اللّه) بذلك، ولعل أول حكم صدر بحق هذا الرجل العظيم هو هذا الحكم الظالم، حيث لم يتدرج من الحبس ثم يتصاعد إلى الإعدام.

هناك عرف عند السلطات المستبدة بأن الأحكام القضائية أو الأحكام السياسية تصدر تدريجياً، لأن الخلاف السياسي هو خلاف بالرأي، وليس صاحبه مجرماً حتى يحكم عليه بهذه الأحكام القاسية، فتبدأ من الاستدعاء للتحقيق، ثم تتدرج إلى التوقيف الاحتياطي، ثم يؤخذ منه تصريح أو تعهد بعدم إشهار المعارضة، وإذا خالف تتخذ بحقه عقوبات سياسية رادعة كالسجن، والسجين السياسي عادة يُعامل معاملة خاصة، لأنه سجين رأي وليس سجين جرم أو جناية أو ما أشبه ذلك.أما إن الحكم يصدر فوراً بالإعدام من دون أي سابق إنذار لشخص كبير وله تأثير في المجتمع فهذا معناه أن السلطة قررت المصادمة والمواجهة علناً مع حركات الإصلاح في المجتمع، وحركة الإمام الراحل (رحمه اللّه) كانت حركة نشيطة ولها تأثيرها وتياراتها فكرياً وسياسياً، وكانت المعارضة السياسية أيضاً قد قررت المواجهة الفعلية العلنية، وواجهت الدولة بأشد الأساليب المتاحة لها كرد فعل على أعمال الحكومة الظالمة.ومن ذلك أن المرحوم الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره) (1) - شقيق الإمام الراحل (رحمه اللّه) - وفي ذكرى

ص: 27


1- ينحدر سماحته من أسرة عريقة في العلم والسياسة والفضل، من نسل المجدد الشيرازي الأول السيد محمد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) ، ومن ناحية الأم يكون الميرزا محمد تقي الشيرازي (رحمه اللّه) ^ _ قائد ثورة العشرين في العراق، ووالده المرجع الديني الميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) اجتهد على يد مراجع كبار واهتم بالجوانب الفكرية و الاقتصادية والسياسية إلى جانب تخصصه في الفكر الإسلامي. مارس دوره الموجه في الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة وغيرها، إلى جانب تبنيه لها وذلك بالتعاضد مع اخيه الأكبر الإمام الراحل المجدد الثاني آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) ، وقد أمضى فترة طويلة من حياته بين الاعتقال والنفي. إتخذ من لبنان مقرا له عام 1970 م، وقبل ذلك كان يتردد كثيراً على سوريا، أسس جماعة العلماء عام 1977 م إلى جانب تبنيه لها كما أسس الكثير من المؤسسات التربوية والثقافية والدينية والاجتماعية في كل من العراق وسوريا ولبنان وأوروبا وأستراليا وساحل العاج وسيراليون ونيجيريا وكينيا. وضع أول لبنة في تأسيس الحوزة العلمية الزينبية في سوريا عام 1975 م وقد خرجت هذه الحوزة منذ تأسيسها إلى اليوم المئات من الطلاب من مختلف الجنسيات وتعتبر اليوم أكبر وأهم الحوزات في هذه البلدة الطيبة وهي ما زالت اليوم تمارس كل الصيغ للوصول إلى تحقيق الأهداف الإسلامية عامة. اغتالته مخابرات النظام العراقي في بيروت عام 1980، وأصبحت تقام له مجالس تأبين سنوية.

ميلاد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وخلال المهرجان الكبير الذي كان ينظمه أهالي كربلاء المقدسة والحوزة العلمية وبتوجيه السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، قال (رحمه اللّه) :

الصورة

ويل للعراق فليله لا ينقضي***حتى تقوم حكومة الإسلام

كان مثل هذا التحدي، و هذا التعبير العلني في مناسبة عامة يعتبر عند نظام

ص: 28

الحكم البعثي من أعلى درجات المواجهة والصراحة بالعداء لهم، والحديث عن حزب البعث العراقي وأن أصوله مسيحية وكذلك يهودية، لأن مؤسسه (ميشيل عفلق)(1) وأنه من أذيال المستعمر، وأنه كذا - هذا الكلام - في ذاك الزمان كان كفراً بالقومية والوطنية البعثية، ومن كان يستطيع التكلم به جهاراً وعلى رؤوس الأشهاد؟

الصورة

وهذا كان - بالحقيقة - شعاراً وسيفاً يجرده الإمام الراحل (رحمه اللّه) الذي كان يعتبر في أعلى درجات المواجهة مع السلطة الحاكمة في العراق، ولذا حكمت السلطة عليه بالإعدام غيابياً ودون محاكمة، خرج على أثرها سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) من العراق تحت جنح الظلام وهو خائف يترقب.

ص: 29


1- هوأحد مؤسسي حزب البعث الذي أصبح فيما بعد حزب البعث العربي الاشتراكي. ولد في دمشق لعائلة متوسطة تدين بالمسيحيّة الأرثوذكسية، تلقّى تعليمه في المدارس الفرنسية في سورية الواقعة تحت الانتداب الفرنسي، وانتقل إلى باريس ليلتحق بجامعة السوربون حيث بلور أفكاره الحزبية. تأثر عفلق بحركة الإنبعاث الإيطالي بزعامة جوزيبي مازيني فحملها بأهدافها إلى الواقع العربي ولم يكن الفكر البعثي وليد ثقافة ميشيل عفلق بل استورد عفلق فكرة الانبعاث الإيطالي باهدافة (الوحدة - الحرية - الاستقلال). قام عفلق عام 1941 بتكوين أول جماعة سياسية منظمة باسم الإحياء العربي التي أصدرت بيانها الأول في شباط. وبمساعدة صلاح الدين البيطار والدكتور مدحت البيطار، عقد المؤتمر التأسيسي في 7 نيسان عام 1947 في دمشق، وانتخب ميشيل عفلق عميدا للحزب. في عام 1952 تم دمج حزب البعث العربي مع الحزب الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني ليصبح حزب البعث العربي الاشتراكي. توفي العام 1989 في بغداد.

وبعد خروجه من العراق لم تكتف الحكومة - في ذلك الوقت - بإصدار حكم الإعدام عليه، بل لو وجدوا اسمه أو رسالته العملية أو كتاب من كتبه أو صورته عند أي شخص كانوا يعتقلونه ويحكمون عليه بأشد العقوبات، وقد يعدم فوراً، وربما كانوا يتجاوزون عقوبة الأشخاص والأفراد لتصل إلى الأسر والعوائل، فأي أثر من آثاره كانت السلطات البعثية تجده عند أسرة أو عائلة كان يكفي جرماً لتعذيبهم أو قتلهم، فيحكم على الرجال بالإعدام فوراً، وعلى النساء والأطفال بالتضييق والتنكيل.

فاسم الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان - بالحقيقة - مرعباً بالنسبة للسلطات البعثية في العراق، ولذا كانت تعلن الحرب على كل شيء يتعلق به حاضراً كان أو غائباً، فكان اسمه تهمة، وصورته جريمة، ورسالته جناية، وكتابه كبيرة من الكبائر، والحكم على مَنْ يحمل أي شيء أو أثر من آثاره بالإعدام فوراً ودون محاكمة يعد من أهول و أقسى الأحكام.

من الطبيعي أن سلطة بهذا العداء وتلك العقلية وهكذا تصرفات، لا ترحم ولا تتهاون مع هذه القضايا التي تعتبرها خطيرة جداً، كانت لا ترحم المجتمع كله، فكل من وجدوا عنده رسالة السيد الراحل (رحمه اللّه) أو صورته، أو كتاباً من كتبه أو كتاباً يتحدث عنه كان حكمه الإعدام فوراً، وفي المدة الأخيرة التي اشتدت فيها الأزمة بين السلطة الحاكمة والإمام الراحل (رحمه اللّه) ، كان البعثيون لو عرفوا أي شخص اتصل به ولو بسلام عابر دون كلام كانوا يعدمونه مباشرة ولا يسجنونه، وإنما يعدمونه فوراً وبدون أي سابق إنذار أو جرم أو ذنب إلا أنه اتصل أو سلّم على الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

ص: 30

* هل في ذاكرتكم بعض الأمثلة على ذلك؟

- هناك مجموعة من الأخوة ذهبوا إلى الكويت في ذاك الوقت الذي كان فيه سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) قد وصلها واستقر فيها، فلما رجعوا إلى كربلاء المقدسة تم اعتقالهم، وإلى يومنا هذا لم يظهروا، و لم يعرف عنهم خبر منذ ذلك الوقت، وحتى الآن لا أعلم إن كانوا مرتبطين به أو ذهبوا إلى زيارته فقط أو إنها تهمة باطلة قد لفَّقت عليهم، وكثير من الناس الذين كانوا في أيام الإمام الراحل (رحمه اللّه) وكان لهم علاقة مباشرة معه وهم معروفون بذلك، حكم عليهم بالإعدام، وهؤلاء - بالحقيقة - أكثر من أن نحصيهم.

* هل استمرت هذه الحالة من التضييق والتنكيل بتلامذة ومريدي الإمام الراحل (رحمه اللّه) بعد خروجه من العراق؟

- نعم استمرت هذه الحالة حتى بعد خروج الإمام الراحل (رحمه اللّه) من العراق إلى الكويت - وللأسف - استمرت هذه السياسة الظالمة تحكم المجتمع العراقي عامة والكربلائي خاصة، إلى آخر فترة من حكومة البعث البائدة؛ كان اسم الإمام الراحل وكتبه وفكره وصوره مُحاربة، وحاملها مجرم يحكم عليه بالإعدام، والفترة طالت، وهذا أمر طبيعي، لأن هذا الظلم شكل فراغاً كبيراً في المجتمع العراقي حيث فقد القادة الحقيقيين، وبقي فيه البعث يعشش على الأنقاض، ويعيش على أشلاء أجساد الشهداء.

لم يكتف حزب البعث بالحكم - الذي استحوذ عليه بانقلابه - فقط، وإنما كان يعمل على تغيير جوهر الإنسان وقلبه ونفسه ومشاعره وفكره وعقله، ليسهل الاستحواذ على هذا الإنسان، هذه العملية الممسوخة من التغيير الذي

ص: 31

أجراه نظام الحكم البعثي على العراق والعراقيين، جعل بعضهم يفقد توازنه ليعيش حالة انفصام في الشخصية، وصراعاً داخلياً كبيراً، ففي الوقت الذي يؤمن بشيء تراه يمارس أشياء ضد ما يعتقد وعكس ما يؤمن به، وهذه الحالة هي من أشد أنواع الانفصام، لأنها تحول الإنسان الحر إلى إنسان مسلوب الإرادة والاختيار.

حتى وصل الحال - ببعض الناس - أن الابن يتجسس على أبيه، والزوجة على زوجها، والصديق على صديقه؛ حوّل البعثيون المجتمع العراقي إلى ثكنات عسكرية، وسجون مفتوحة واسعة الأسوار، ولا أحد يعلم متى يدخل السجن الصغير ذا الأسوار وهل سيخرج سالماً، لأن الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود، أي أنه تحول إلى مجتمع ليس له قيمه وعاداته وتقاليده وأعرافه ودينه، التي تعارف عليها.

هذا كان أحد الأسباب في قضية استفراد السلطان البعثية الحاكمة في محاربة السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وهناك أسباب أخرى داخلية نابعة من داخل المجتمع ومن بعض العاملين في الحقل الإسلامي أو في الحوزة العلمية، حيث كان لها دور أساسي في القضايا المعروفة، و التي تعرض لها السيد الراحل (رحمه اللّه) .

كل ذلك أدى إلى الصدام بين الإمام الراحل (رحمه اللّه) والسلطات العراقية، ولست هنا في مقام الاستعراض لهذه المسألة وتناولها بالتفصيل، ولكن سأقتصر في حديثي عن الأسباب المؤثرة فقط.

جبهات المواجهة

لا يخفى أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) لم يكن مجرد عالم دين ومرجع تقليد فقط، وإنما كان مفكراً وقائداً ومجاهداً، ولقد حارب ثلاثة من الأنظمة المستبدة،

ص: 32

وهي تعد من كبريات الأنظمة السياسية في المنطقة، وهو غريب طريد ومحارب ووحيد، وهذه الأنظمة هي:

الأولى: نظام الحكم في العراق.

وبالخصوص نظام حزب البعث الذي كان بطشه وطيشه وجبروته معروفاً للجميع، حتى ضرب به المثل، فلقد كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) عدوه اللدود، وحاربه أكثر مما حاربه بعض جهات المعارضة السياسية العراقية المتصدية لهذا الشأن في السر.

كنا نسمع كلماته و نقرأ كتبه ومحاضراته، ونراقب عن كثب كل أعماله، ولهذا الحديث باب واسع، وإني أتحدث عن أيام أدركتها ولاحظتها وشاهدتها بأم عيني، فقد كنت أراقب وأرى تحركات ونشاطات الإمام الراحل (رحمه اللّه) ضد نظام الحكم في العراق وأنا في المهجر أكثر من عشرين سنة، ولا أنقل في هذا الحوار ما سمعته في كربلاء المقدسة، لأنني كنت صغيراً آنذاك!

الثاني: نظام الشاه في إيران.

فقد حارب الإمام الراحل (رحمه اللّه) نظام الشاه في إيران أيضاً، والذي كان يعده الغرب الشرطي الأساسي في المنطقة، وكان معروفاً عن الشاه أنه يملك خامس أقوى جيش في العالم في ذلك الحين، فكان يواجهه ويحاربه، لأنه كان عميلاً للغرب ومفسداً في بلده وظالماً لشعبه.

الثالث: أنظمة الاستبداد في المنطقة.

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يواجه كل نظام يظلم رعيته سواء أكانوا من المسلمين أم من غير المسلمين، فكان يحاربه ويواجهه، حتى أن صحيفة سعودية كتبت في أوائل الثمانينات وهي على ما أعتقد صحيفة (المسلمون)، كتبت: (إن

ص: 33

هناك شخصيات من علماء الشيعة يشكلون أكبر خطر علينا - المقصود هم الحركة الوهابية(1) - والشخصية الأولى هو السيد محمد الحسيني الشيرازي، بأفكاره وبحركته الواسعة ضد الحركة الوهابية).

لأن حركة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) كانت حركة نهضوية للمجتمع، وللفكر الشيعي في أوساط الشيعة وغير الشيعة، وطبيعي أن مثل هذه الشخصية المؤثرة تحارب من قبل الأنظمة السياسية والأنظمة الدينية المنحرفة.

هذا الذي استذكره وأشرحه وأفسره ليس انقلاباً بالمعنى المفهوم للانقلاب

ص: 34


1- تنسب الفرقة الوهابية إلى محمد بن عبد الوهاب بن سليمان النجدى. في سنه 1143ه- أظهر محمد بن عبد الوهاب الدعوة إلى مذهبه الجديد، ولكن وقف بوجهه والده ومشايخه، فأبطلوا أقواله، فلم تلق رواجاً حتى توفى والده سنه 1153ه، فجدد دعوته بين البسطاء والعوام فتابعه حثالة من الناس، فثار عليه أهل بلده وهموا بقتله، ففر إلى (العيينة) وهناك تقرب إلى أميرها وتزوج أخته، ومكث عنده يدعو إلى نفسه وإلى بدعته، فضاق أهل العيينة منه ذرعاً فطردوه من بلدتهم، فخرج إلى (الدرعية) شرقى نجد، وهذه البلاد كانت من قبل بلاد مسيلمة الكذاب التى انطلقت منها أحزاب الردة. فراجت أفكار محمد بن عبد الوهاب فى هذه البلاد واتبعه أميرها محمد بن سعود، وعامة أهلها. وكان فى ذلك كله يتصرف وكأنه صاحب الاجتهاد المطلق، فهو لا يعبأ بقول أحد من أئمة الاجتهاد لا من السلف ولا من المعاصرين له، هذا ولم يكن هو على الحقيقة ممن يمت إلى الاجتهاد بصلة!! هكذا وصفه أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، وهو أعرف الناس به، وقد ألف كتاباً في إبطال دعوة أخيه وإثبات زيفها، ومما جاء فيه عبارة موجزة وجامعة في التعريف بالوهابية ومؤسسها، قال فيها: (اليوم ابتلى الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنة ويستنبط من علومهما ولا يبالى من خالفه، ومن خالفه فهو عنده كافر، هذا وهو لم يكن فيه خصلة واحدة من خصال أهل الاجتهاد، ولا واللّه ولا عشر واحدة، ومع هذا راج كلامه على كثير من الجهال، فإنا للّه وإنا إليه راجعون).

على السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وإنما هي نتائج تصيب كل مَنْ يعمل في الحقل الاجتماعي والإصلاحي صادقاً مخلصاً مجاهداً، أو - إن صح التعبير - كل من يسبح على عكس التيار العام يُبتلى بالعزلة.

وهذه الصِّفة كان يعاني منها حتى الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) وفي مدة مديدة من أعمارهم الشريفة - أي من حياة العزلة عن المجتمع -، فالإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان طيلة خمساً وعشرين سنة في بعض الروايات التاريخية جليس الدار، مع أنه حجة اللّه على الأرض.

وكذا ولده الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء وعلى تراب كربلاء ظل وحيداً فريداً وهو ريحانة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، هو واثنان وسبعون شخصاً من أصحابه فقط، فأين الأمة الإسلامية؟ أين تلك الجموع الغفيرة التي آمنت برسول اللّه، واتبعته؟!

فغالباً ما يبتلى المصلحون والقادة الربانيون بالعزلة، إما العزلة الناشئة من سياسة السلطة، أو العزلة الناشئة من المصالح، أو تزاحم المصالح، وبالنسبة لبعض الحالات قد لا يسمى انقلاباً، بمقدار ما يسمى ابتلاء، فهذا نوع من الابتلاء والامتحان.

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يدرك هذه الحقيقة، وهذا واضح في الكثير من محاضراته، فإنه شأن المصلحين، ولعله يشير إلى هذه الحقيقية في أحد كتبه - حسبما أعتقد (السبيل إلى إنهاض المسلمين)(1):

ص: 35


1- بحث فيه السيد الراحل (رحمه اللّه) سبل النهوض بالمسلمين إلى المجد والحضارة، ومن بعض العناوين التي طرحت فيه: إلى حكومة ألف مليون مسلم، الأمة بين المأساة والعلاج، الحاكم الأعلى بانتخاب المسلمين، نشر الوعي في البلاد الأجنبية، وغيرها من العناوين.

إن المجاهدين غالباً يبتلون بعدة مخاطر، إحداها التذويب من قبل السلطات السياسية التي تحكم عبر الإغراء بالمال، أو الإغراء بالمناصب، وشيئاً فشيئاً يجعلون المجاهد ينسلخ عن أهدافه العليا التي رسمها.

الصورة

والخطر الثاني - وهو خطر صعب أيضاً - التعب، فالمجاهد في وسط الطريق قد يتعب، ويتخلى عن أهدافه فيتحول من مجاهد إلى إنسان عادي إذا لم يكن مع السلطة، ويقول: أنا أدَّيت ما عليَّ، ويترك أهدافه المتبقية ويصاب بالملل، يصاب باليأس من تحقيق الأهداف، لا سيما إذا طالت فترة الجهاد والعمل.

لذا مدح الباري عزوجل المجاهدين الصابرين إلى نهاية الطريق في قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)(1).

قيمة المجاهدين وأهمية انجازاتهم تظهر أكثر لدى صبرهم وصمودهم واستمرارهم على العمل إلى نهاية المطاف.

أخطر المواجهات

* هل اقتصرت الأخطار على الإغراء وحده، أم أن هناك أخطاراً أخرى

ص: 36


1- سورة الأحزاب: 23.

تعرض لها وواجهها في مراحل حياته المتعددة؟

- ما أكثر تلك الأخطار، فالكثير من المحاولات كانت موجهة إما إلى الإمام الراحل (رحمه اللّه) شخصياً، أو إلى المقربين منه كتلاميذه.

كما كانت هناك إغراءات كثيرة جداً، لكن الظرف الآن لا يسمح لي بالتكلم عن بعض الشواهد والأمثلة التي أعرفها جيداً، ومنها عرضت عليه بعض الدول مناصب وسلطات عليا، يعني: أن يكون الحاكم الأول في بعض تلك الدول، فلم يقبل تمسكاً بمبادئه وأفكاره.

وحتى في العراق إذا كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) ساكتاً على سياسة النظام البعثي، و لا يواجهها بشيء من الاحتجاج و التمر عليها، لم يصبه أذى، فإن النظام كان يريد من الناس أن يؤيدوا أو يسكتوا عن تصرفاته وظلمه، وربما كانوا يفسحون له المجال، أو توضع تحت تصرفه المزيد من الصلاحيات والامكانيات، فيعيش في راحة، وفي المقابل يرى النظام يسوق البلد والناس إلى ضلالاته وأفكاره المنحرفة إلى حيث يريد، لا إلى حيث يريد الإسلام، ولكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) لم يكن يريد العيش مع الظالمين.

عوامل وسر نجاح الإمام الشيرازي (رحمه اللّه)

* ماهي بنظركم مقومات نجاح الإمام الراحل (رحمه اللّه) في حياته وحركته العلمية والثقافية؟

- توفرت لدى الإمام الراحل (رحمه اللّه) الكثير من عوامل النجاح ومقوماته.

كنا عند أحد الأخوة وهو من الثقات ومن أهل الخبرة وليس شخصاً يتحدث بالتخمين أو الحدس، وإنما هو من المعاصرين والمطلعين على كثير من الجهات الفكرية، وعلى عدد من العلماء، وعلى كثير من البيوتات المرجعية

ص: 37

والعلمية، ولقد تحدث عن هذا الموضوع؛ ورأى أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) قد ابتلي بجملة من الابتلاءات القاسية جداً في حياته وخلال مسيرته.

الابتلاء الأول: الحكومات المحلية.

الابتلاء الثاني: الحكومات العالمية؛ لأن حركة الإمام الراحل (رحمه اللّه) الفكرية لم تكن حركة عادية، تقتصر على محيطه المحلي أو الإسلامي الأوسع، فهو حتى بالنسبة إلى الغرب كان لديه مجموعة أفكار، ويطمح إلى تغييره من خلالها، وكان يدعو المسلمين والمفكرين إلى تحويل النصارى واليهود إلى مسلمين.

فكتاب (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام)(1) أطروحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) التي كتبها للعالم بأجمعه، وليس للعالم الإسلامي فقط، و فيه الكثير من تلك الأفكار و الطموحات.

ومن الطبيعي أن يتخوف الغرب من تلك الحركة الفكرية للإمام الراحل (رحمه اللّه) ، لأنها كانت حركة مخيفة حتى بالنسبة إلى الدول الغربية، وخصوصاً أن أسرة آل الشيرازي أسرة معروفة تاريخياً بجهادها، وعندها تاريخ عريق في محاربة ومجاهدة الاستعمار وخصوصاً البريطاني، والبريطانيون معروفون بأساليبهم الماكرة وفي تحركاتهم، لأنهم لا ينسون مَنْ يحاربهم ولكن يبدؤون بالقضاء عليه بالتعبير العراقي الدارج ب- (القطنة) أي بطرق غير مباشرة، يضغطون

ص: 38


1- كتاب حول النهوض بالواقع الإسلامي وصياغة أو ضاعه بصياغة إسلامية جديدة وفق مبادئ الإسلام الحنيف، يقع في 736 صفحة تناول فيه سماحة السيد (رحمه اللّه) العديد من المباحث ضمن تسعة فصول، وقد ألف في مدينة قم المقدسة وطبعته مؤسسة الفكر الإسلامي في بيروت سنة 1413 ه- / 1992 م.

عليه مباشرة أو على أتباعه، ويحجّمون حركة الطرف المجاهد، أو العامل ضدهم.

فأولاً: ابتلي الإمام الراحل (رحمه اللّه) بمحاربة أنظمة كبيرة، ثم ابتلي بمجتمع فيه أصحاب قرار ونفوذ بعضهم لا يفهمونه، وكثير من أفكاره التي كان يطرحها في وقتها - وقد لاحظت جملة منها - وصلت الأمة إليها بعد عشر سنوات، حتى الدعوة إلى إقامة حكومة إسلامية، الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان قد طرحها في الستينيات من القرن الماضي ودعا إليها في تلك السنوات في العراق، وكتب كتابه المعروف (نريدها حكومة إسلامية)(1) و(الحكم في الإسلام) و(إلى حكم الإسلام)، وأمثال هذه الكتب التي كتبها في ذاك الزمن الذي كان مجرد الطموح والتطلع إلى حكومة إسلامية يعد ضرباً من الأوهام والخيالات، أو كان أشبه بالحلم في أنظار الغالبية العظمى من المسلمين، ولكن نرى اليوم أن هذا الحق صار ثقافة، ففي كل مكان هناك دعوة وحركة ونشاط يطالب بهذا الحق.

ولأجل ذلك تحمل الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) جميع أنواع المواجهات حتى من قبل أنظمة غربية: المواجهة السياسية والإعلامية والدعائية وغيرها، وكذلك مواجهة من قبل نفس المجتمع الشيعي أيضاً، وكان يتصدى لكل ذلك بمفرده.

المرجعية العليا

كان البعض يطرح هذا السؤال متعجباً: لماذا لم تصل المرجعية العليا إلى

ص: 39


1- كتاب حول الحكومة الإسلامية تناول فيه الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) عدة مواضيع حول حكومة الإسلام ومنها: إعادة الحكم الإسلامي، الحاكم الإسلامي، انتخاب الحاكم الإسلامي، الغنى ونفي الفقر في الحكومة الإسلامية وغيرها من المواضيع المتعلقة بحكم الإسلام.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) بالرغم من تفوقه العلمي وعمله الدؤوب، مع أنه كان يعد من أقدم المراجع، وقد امتدت مرجعيته إلى أكثر من أربعين سنة؟!

و الجواب كما ذكره هذا الشخص الخبير: لا ينبغي التعجب من ذلك بل العجب كيف بقي الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى الآن، على الرغم من أن أنظمة كبرى في المنطقة نزلت إلى حربه؟ فنظام صدام وحده حاول اغتياله أربع مرات وهو في قم المقدسة بعيداً عن العراق، واحدة من هذه المحاولات أنهم دخلوا وأطلقوا الرصاص عليه، وهذا ليس في أوائل الثورة الايرانية، بل لعله بين سنة (1399/ 1979- 1400ه/1980) في هذه الحدود الزمنية تقريباً.

وحتى في اثناء الحرب التي شنها صدام على إيران، حيث كان يرسل فيها طائراته إلى أي مدينة في ايران يتمكن من الوصول إليها وقصفها خاصة مدينة قم المقدسة، و قد استهدفوا محل إقامة الإمام الراحل (رحمه اللّه) - في واحدة من تلك الغارات والضربات الجوية التي قامت بها الطائرات العراقية - حيث كان يستقر في إحدى الحسينيات(1)، ويقيم في السرداب، وقد هجر بيته لما وصله من أنباء بمحاولة الطائرات العراقية قتله عبر استهداف منزلة، واختار الحسينية محلاً لإقامته حماية بالإمام الحسين (عليه السلام) ولكون بناءها أقوى؛ بينما بيت الإمام الراحل (رحمه اللّه) عبارة عن بناء قديم متهالك، تكاد جدرانه تتداعى عليه، إلا أن لطف اللّه سبحانه أن قذائف الطائرة سقطت على البيت المحاذي والمجاور للحسينية.

ص: 40


1- خصصت مباني خاصة سميت بالحسينية أو المجلس الحسيني لإقامة العزاء والمأتم على مصاب أهل البيت (عليهم السلام) . واستخدمت الحسينيات على مر التاريخ لعرض حادثة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) على الناس من خلال الخطيب، والذي غالباً ما يجلس على المنبر متوسطاً الناس، ليبكي الناس على المقتل، ثم تبدأ شعائر أخرى كاللطم أو التطبير إلى غير ذلك.

وقد علم بعض أصدقائنا الذين كانوا خارج إيران، من مصادر خاصة أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان مستهدفاً شخصياً في هذه الغارة بالذات، وقد اتصلوا بسماحته، وقالوا له: سيدنا أنت مُستهدف، مما ألجأه ذلك إلى الخروج من قم إلى مدينة مشهد، و لم يكن في حسبانه أن يترك قم رغم هذه الغارات الهمجية والوحشية، وعلى الرغم من كل الضغوطات التي مورست ضده.

وفي ذلك الوقت و في تلك الظروف الصعبة - وأتذكر تلك الأيام جيداً قد خلت مدينة قم المقدسة من أهلها وصارت مدينة أشباح - كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) مصراً على البقاء فيها، ولكن بعد هذه الغارة صار لازماً عليه - ووفق المستجدات الجديدة - وربما شعر بالتكليف الشرعي أن يخرج منها لحفظ النفس من الخطر، ومن الضرر، فخرج مضطراً.

نعم، كان ذلك الرجل - الخبير - يقول: لا تتعجب لماذا لم تصل إليه المرجعية العظمى، على الرغم من أنه ولمدة خمس وأربعين سنة كان متصدياً للمرجعية وله مقلدون كثيرون في شتى بلاد الإسلام، وكانت أسرته ولأكثر من مائة وخمسين سنة تتولى مهام المرجعية، وتكاد تكون الأسرة الوحيدة التي تتصدى للمرجعية هذه المدة الطويلة، وهذه نقطة مهمة وأساسية، كما أن ثلاثة أو أربعة من كبار مراجع هذه الأسرة واجهوا الاستعمار البريطاني، وأفتوا بفتاوى - كانت مؤثرة إلى حد كبير - ضده.

فطبيعي والحال هذا أن يكون الإمام الراحل (رحمه اللّه) مستهدفاً من قبل أولئك الأعداء بمختلف الوسائل و الآليات و منها تسقيط شخصيته، فالعجب كيف بقي حياً يواصل نشاطه الديني و يزاول مهام المرجعية، وهو إلى الآن مطروح كمرجعية كبرى، وفي العالم الإسلامي كمفكر وعالم دين مسلم كبير، وأنصاره

ص: 41

فئة ليست بالقليلة، فلها من الأنصار والمفكرين والتلامذة والروَّاد، والمؤسسات ما يُبهر العقول.

أهم عوامل النجاح في شخصية الإمام الراحل (رحمه اللّه)

الأول: الإخلاص

إن عوامل النجاح في شخصية الإمام الراحل (رحمه اللّه) كثيرة ومتعددة، وأتصور أن واحدة منها ولعله أهمها هو: الإخلاص في العمل، وقد لاحظت ذلك كثيراً في شخصيته، فمثلاً ما كان يحب أن تتسمى الأشياء أو تنتهي باسمه، مثل الحسينيات أو المساجد أو المؤسسات فكل عمل كان يعمله يريد به وجه اللّه، ويدعو إلى أن يسمى هذا العمل أو هذه المؤسسة بأسماء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) ، والشواهد على ذلك كثيرة جداً، فالإمام الراحل (رحمه اللّه) ، يكاد يكون المرجع الأكثر إيماناً - بحسب ما لاحظناه - بالعمل المؤسسي ضمن إطار العمل المرجعي على مختلف جوانبه.

ولا نبالغ إذا قلنا أسس مئات المؤسسات خلال تصديه للمرجعية، على الرغم من كونه في ضائقة مالية شديدة، لم يكن يجمع الأموال التي تصل عنده، و لم يملك شبراً من الأرض مع وصول مبالغ طائلة بيده و اتساع مرجعيته، ولكن مع ذلك توفاه اللّه وعليه ديون كثيرة، حيث كان ينفق تلك الأموال في بناء المؤسسات في جميع أنحاء العالم، وأنت قلّما تجد أرضاً أو منطقة في العالم سواء في العالم الإسلامي أو العالم الأوروبي، التي يمكن أن تقام فيها مؤسسة إلا وكان للإمام الشيرازي (رحمه اللّه) فيها واحدة أو أكثر، ولكن لم نجد ولا حتى مؤسسة واحدة أو حتى مدرسة واحدة باسمه، بل كلها بأسماء الأئمة المعصومين (عليهم السلام) أو بأسماء ذراريهم أو أسماء العلماء الماضين.

ص: 42

حتى إن بعض الأخوة حينما أسسوا مؤسسة، احتاروا في تسميتها بأي اسم من أسماء المعصومين (عليهم السلام) ، فكل الأسماء قد اختيرت للمؤسسات، فقاموا يبحثون عن أسماء أبناء الأئمة (عليهم السلام) ، وأصحابهم (رضوان اللّه عليهم)، وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يعلل هذا الموضوع - و كنت أسمع منه ذلك - فيقول: يلزم أن نسمي كل مؤسساتنا وأعمالنا باسم أهل البيت (عليهم السلام) لأنهم الباقون، ونحن زائلون، وكان (رحمه اللّه) يقول: تسجيل المؤسسة بأسمائهم المباركة هو الذي يبقى وأما نحن فنذهب وننقضي، نحن عندنا دور نؤديه ونذهب وينتهي هذا الدور، وهم الذين يبقون.

وهذا الشعور والمنهج و تلك الطريقة قلما تجده عند أهل الشأن، وليس من القبيح أو المستهجن تسمية المؤسسة باسم الفرد، فقد يكون ضمن السياق الطبيعي والعقلائي، ولكن إذا لاحظنا قمة الإخلاص - إخلاص العمل وصفاء النية - نرى عمل السيد الراحل (رحمه اللّه) في كمال التفاني والإخلاص، بأن لا يحب الإنسان أن يكون شيء بإسمه.

والأعجب أني رأيت أن بعض الأعلام جمعوا بعض محاضرات الإمام الراحل (رحمه اللّه) أو بعض آرائه وكتبوها في كتبهم من دون ذكر اسمه، وفي بعض الموارد رأيت بعض الأشخاص يأتي إليه ويطلب منه أن يكون كتاب ألفه الإمام الراحل (رحمه اللّه) باسمه، فيقول له: لا مانع عندي اجعله باسمك، وهذا في الحقيقة قمة الإخلاص، و من شأن العمل الناشئ من الإخلاص أن يدوم ويستمر، فهذا العامل الأول.

الثاني: المثابرة في العمل

أما العامل الثاني فهو: المثابرة والجد والاجتهاد الكبير في العمل. فالإمام

ص: 43

الراحل إلى آخر عمره - كما هو عهدي به -، لم يكن عنده نظام متعارف عليه للنوم، وإنما كان الأصل عنده اليقظة والعمل، والنوم عند شدة التعب من العمل فقط، أي إذا لم يطاوعه جسمه للعمل كان يخلد إلى النوم، وقد كان في مدة مديدة من عمره - والذي أعرفه وعايشته فيه - لا ينام في اليوم أكثر من أربع ساعات، مع أن الساعات الأربع - خصوصاً بالنسبة لرجل في مثل عمره الشريف وحركته الدؤوبة وما لاقاه في هذا العمر وبالنسبة إلى مجهوده الكبير الذي يبذله، وإلى تعبه - قليل جداً.

فالعمل نقطة أساسية في التطور، وطالما كان يدعو إلى هذه القاعدة، وفي كتبه كثيراً ما تلاحظ استخدام هذه المفردة: (كثرة العمل) و(كثرة الجهد)، وكان يوصينا ويوصي كل الأصدقاء والتلاميذ الذين كانوا مرتبطين به بالمثابرة في العمل حيث كان يقول: اقتدوا بأصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأنهم كانوا يعملون كثيراً، وأنتم أيضاً اعملوا كثيراً، وإذا سأله شخص عن النوم؟ يقول: وراءك نوم طويل، و يكرر قوله وراءك نوم طويل، أخِّر نومك إلى القبر.

هذه المثابرة أيضاً نقطة أساسية وركيزة مهمة من ركائز وعوامل نجاح الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

الثالث: منهجية الإمام الراحل (رحمه اللّه) بالعمل

وهي نقطة مهمة جداً في تصوري، كانت تعتمد منهجيته في العمل على الجذب لا على الدَّفع، وهذه نقطة تحتاج إلى شرح مطول، ولكن كفكرة نحن نطرحها بشكل مختصر.

كان يرى الإمام الراحل (رحمه اللّه) أن الكل أصدقاء، لذلك كان مبناه التَحَمُّل والمداراة لمختلف شرائح الناس، مع أن شخصاً في موقعه كمرجع تقليد ومصدر

ص: 44

للقرار ولإدارة شؤون المجتمع المسلم، عادة ما يبتلى بأناس خُصماء ألداء، وما أظن أن أحداً من المعاصرين كالإمام الراحل (رحمه اللّه) ابتلي بالخصومات وبالمخاصمات بهذا القدر، حتى إن بعض الناس لم يكونوا خصوماً له فقط، بل كانوا محاربين له طيلة أربعين سنة من أعمارهم التي عاصروه فيها، وقد وظفوا عمرهم لمحاربته، وتحضرني الآن اسماء وعنواين الكثير من الشخصيات الذين تفننوا في الأساليب لمحاربته ولعل بعضهم ما حارب صداماً، ولا حارب نظاماً ظالماً بقدر ما حارب الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ، ابتداءً من التّهم والتلفيق إلى قطع أي وسيلة ارتباط أو وسيلة اتصال، وكانوا يتعمدون إذا رأوا شخصاً له شأن واعتبار وعنده ارتباط به أن يصرفوا عليه الكثير من الوقت والجهد والمال لأجل قطع علاقته بالإمام الراحل (رحمه اللّه) .

هناك الكثير من الأمثلة والشواهد، وفي الحقيقة لست الآن في وارد استعراض هذه المسألة بالتفصيل، ولكن مع ذلك لم أسمع منه كلمة واحدة ضد أحد من خصومه، وكثيراً ما كانوا يأتون ويسألون سماحته عن فلان وعن فلان وينقلون له أخباراً سيئة، وهو يذكرهم دائماً بالخير.

هذه السياسة لا تجدها إلا عند أناس اقتدوا بالأنبياء (عليهم السلام) ؛ لأن الأنبياء هم الذين عرفوا الحق وعرفوا الحقيقة ورأوا نور اللّه، توفر الإمام الراحل (رحمه اللّه) على هذه الطاقة من التحمل، وامتلك هذا القلب الواسع الكبير. أما بعض الناس المغرر بهم فقد كانوا يأتون إليه ليؤذوه ويتجاسروا عليه، حتى إن البعض وصل به عدم (الخوف من اللّه) إلى حد أنه اتهمه بأشياء يخجل الإنسان أن يعبّر عنها، ونسبوا إليه أشياء لا تقال حتى لإنسان عادي، ولكنهم نسبوها إليه ظلماً وعدواناً.

ص: 45

تحمل بلا حدود

أذكر مرة أن جماعة جاءت إليه وكانوا يحرضون عليه، وقيل لهم: احذروا من أن تتأثروا به لأن أخلاقه عالية جداً فلا يخدعكم ولا يغركم بأخلاقه، فجاؤوا ودخلوا عليه حتى يروه عن قرب، لأنهم سمعوا عنه كثيراً، والإمام الراحل (رحمه اللّه) كان من دأبه أنه إذا أتى إليه زائر يحترمه كثيراً بغض النظر عن مكانته، فيستقبله بكل رحابة صدر وبشاشة وترحيب ويقدم له هدية، و كان من ضمن الأشياء التي كان يهديها عادة الكتب، وفي إحدى المرات دخل عنده جماعة من الشباب - من المغرر بهم - وجلسوا عنده، فسألهم عن أحوالهم وأخبارهم، إذ كان من دأبه أن يسأل عن اسم الشخص وعنوانه، ومن أي بلد هو؟ وهل هو متزوج أو أعزب؟ وماذا يعمل؟ وما أشبه من هذه التفاصيل لأجل أن يتعرف عليه أولاً ثم يوجهه ويرشده ثانياً.

ومن العجائب أنه لم يكن ينسى التفاصيل، فلو جاءه هذا الشخص الذي يسأله الآن بعد سنتين أو ثلاث سنوات، ربما كان يتذكر كل التفاصيل التي سمعها منه في الجلسة الأولى، فيكاد أن يكون ذهنه حاسوبياً - إن صح التعبير - في هذه المسألة.

وكعادته احترم هؤلاء الشباب وقدّم لهم الشاي، ومن ثم أوصى الموظف الذي يقوم بشؤونه أن يأتي لهم بمجموعة من الكتب قدَّمها لهم، ولكن واحداً منهم كان صلفاً فأخذ الكتب ورماها في وجه الإمام الراحل (رحمه اللّه) وقال له: أنت تريد خداعنا بهذه الكتب! فما قابله بشيء ولم يرد عليه سوى بابتسامة ارتسمت على وجهه المبارك، وكأن لسان حاله يقول كما قال اللّه العظيم في كتابه الكريم:

ص: 46

(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً)(1)، أو كما كان يقول جده الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اللّهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»(2).

وكان هنالك شخص من كبار المحاربين للإمام الراحل (رحمه اللّه) - وهذه الواقعة أنقلها بواسطة شخص محل ثقة كبيرة عندي - كان هذا الرجل يتتبع أخبار الإمام الراحل (رحمه اللّه) وأعماله ومشاريعه، وأينما يجد ما يرتبط به من قريب أو بعيد إلا ويقوم بقطعه، ولم يتردد من جر المسألة إلى أي سلطة ظالمة لأجل إيذائه أو تلامذته فيرمونهم السجن، هذا الرجل لم يكن عنده أي ورع أومانع عن الاستعانة بكل وسيلة ظالمة أو سبيل باطل.

وكان هناك شخص من أصدقاء الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وهو في نفس الوقت صديق لذاك الرجل أيضاً، وكان من الناس المنصفين، وعنده شأن ووجاهة واحترام، فنقل قائلاً: كنت جالساً عنده - الشخص المناوئ للإمام الراحل (رحمه اللّه) - وجاء اسم السيد، فبدأ حملته بمهاجمته. فقلت له:أنا أعرفك منذ سنوات طوال وأنت تحاربه، فهل رأيته عن قرب أو جالسته أو حادثته؟

قال: لا!! فقلت: لماذا تحاربه إذاً؟!

قال: يكفيني أن أدري حقيقته!!

فقلت له: ما هو رأيك أن ارتب لك لقاء معه، حيث نذهب أنا وإياك إليه وندخل عليه، ونجلس عنده، وأنت بعد اللقاء اعمل برأيك، وافعل ما تريد أن تفعل. أنت حاربت وتحارب السيد الشيرازي (رحمه اللّه) كل هذه السنوات الطوال فاحتمل احتمالاً أنك تعصي اللّه وتغتاب وتتهم وتبهت، فبالنتيجة السيد

ص: 47


1- سورة الفرقان: 7.
2- بحار الأنوار: ج20 ص117.

ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن عائلة محترمة، لا يخفى تاريخها عن أنظار الناس، فليس شخصية أتت من المجهول، بل هو معروف وأنت تحاربه. ضع هذا الاحتمال في بالك فاجلس معه، ومن ثم قرر قرارك.

يقول: قال لي: لا لست مستعداً أن أفعل هذا الشيء. فقلت له: لماذا؟! قال: أنا أخاف أن أدخل على السيد ويسحرني بأخلاقه..!!

هذا اللون من الإصرار على الحرب والمعاداة والمناكدة في الحقيقة عجيب جداً، ومع ذلك أنا شخصياً لم أسمع كلاماً من الإمام الراحل (رحمه اللّه) ضد هذا الرجل، والإمام الراحل (رحمه اللّه) كان يعلم بما يعمله، ويعرف كثيراً عنه.

و لقد كانوا يضغطون على بعض مقلدي الإمام الراحل (رحمه اللّه) ويحاولون التاثير فيهم حتى يعدلوا عن تقليده.

على منابر الجمعة

وهناك مثال آخر، ذات مرة كنت جالساً في غرفة الإمام الراحل (رحمه اللّه) في الأيام التي كنا معه في مدينة مشهد المقدسة، بعد خروجه من مدينة قم أثناء الحرب العراقية الإيرانية واستهدافه أكثر من مرة، وكنا قد وصلنا إلى مشهد المقدسة قبله بيومين أو ثلاثة أيام.

وهذه واحدة من مناقبه الكثيرة حيث إنه سكن في مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) مع الطلبة، ولم يرتض السكنى مع عائلته في بيت أو فندق، فأسرته كانوا في مكان وهو في مكان، وهذا فيه كلام كثير من المناقب والفضائل. وكما قلت - سابقاً - إن الإنسان يحتار بماذا يتكلم؟ ومن أي نقطة يبدأ كلامه في موضع الحديث عن تلك الأخلاق الرفيعة التي كان يحملها الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

ص: 48

ولقد ألقى شخص من أئمة الجمعة المعينين من قبل السلطة الإيرانية في مدينة مشهد المقدسة خطبته المعروفة ضده، وفي الوقت الذي كان الكثير من علماء وشخصيات قم المقدسة وطهران هاجروا إلى مدينة مشهد المقدسة، وكان لهم موقعهم الكبير في إيران، والإمام الراحل (رحمه اللّه) مهما كان فهو رجل ضيف، ومستهدف من قبل طائرات النظام البعثي، وكان هناك من له شأن ومكانة في المجتمع الإيراني أكثر منه ومعروف وغير مستهدف، لكنهم تركوا الحديث عن هؤلاء جميعاً، وتولوا الحديث عن الإمام الراحل (رحمه اللّه) يتعرّضون إليه وينددون به، والحديث معروف والخطبة موجودة موثقة، أيضاً مذكورة في محلها.

نعم، على منبر صلاة الجماعة تهجموا عليه، و اتهموه بتهم و أهانوه إهانات و قالوا ما قالوا و بئس ما قالوا.

كنت جالساً عند الإمام الراحل (رحمه اللّه) في الغرفة التي في وسط المدرسة ولم يكن يدري بالخبر بعد، وكان بعد الظهر من يوم الجمعة، فدخل أحد الإيرانيين من أهالي مشهد المقدسة ونقل له الخبر، وقال له: فلان كان على منبر الجمعة وتحدث عنك بكذا وكذا، ونقل كلام الرجل للإمام الراحل (رحمه اللّه) ، ولكنه (أعلى اللّه مقامه) ظل يستمع ولم يرد بكلمة واحدة، لقد تبسم فقط!!

وكذلك كان هناك بعض الأعلام ممن كانوا يتكلمون عنه بصورة سيئة، وكتبوا عنه أشياء أسوأ، وكانوا لا يجيزون الرجوع إليه بالتقليد، ولا يجيزون إعطاء الحقوق له وما أشبه، وكان يأتي عند سماحته (رحمه اللّه) شباب وشيوخ يسألونه عن تقليد هؤلاء وعن دفع الخمس إليهم، فكان يجيب: نعم جائز.

حتى أن بعض مقلديه كانوا يعطون خمسهم أحياناً إلى غيره فكان يجيزهم، رغم أنه بحاجة إليها لأنها كانت تسد النقص، حيث كان يقترض كثيراً

ص: 49

لإدارة شؤون المرجعية، ولتأسيس المؤسسات و لرواتب الطلبة.

وما رأيته حتى لمرة واحدة يذكر واحداً من هؤلاء الذين كتبوا أو تحدثوا ضده بسوء، فلم ينتقص منهم، بل على العكس نجده كان الوحيد الذي يدافع عنهم، حفاظاً على حيثية وسمعة المرجعية ودورها في العالم الشيعي، فكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) على استعداد أن يبذل ماء وجهه لمصلحة الدين والمذهب، وكم واجه من الضغوطات حتى يحمي أناساً؟ أويحمي سمعة الدين و سمعة المرجعية وسمعة شخصيات ذات ثقل ووزن في العالم الإسلامي؟

جمع الكل تحت الراية

هذه واحدة من نقاط قوته، لو تقرؤون كتب الإمام الراحل (رحمه اللّه) وأفكاره، تجدون إن واحداً من أهم محاور فكره هي جمع الكل، هذه الكلمة التي تكاد تكون نادرة في أذهان الكثيرين من القادة والزعماء والسياسيين والشخصيات.

الناس غالباً ليسوا مستعدين لتحمل الخصومة، ولا مستعدين لتحمل من يخالفهم في الرأي، ولكنه كان يعطي الراتب حتى لمخالفيه، ولمن يسبّه ويشتمه، وكان عندما يأتي إليه يستقبله ويقدم له النصيحة، وهو يعلم أنه يأخذ منه النفع ويوصل إليه المضرة، حتى إن واحداً من الأعلام كان يقول: أنا أتعجب أن يد السيد ليس فيها ملح(1) بالنسبة إلى الكثيرين..؟! لأن الكثير من الواجهات والرموز يصلهم خير السيد (رحمه اللّه) ولكنهم يضمرون الشر له.

وبتصوري إن هذا نوع من الابتلاء الإلهي ونوع من الامتحان، وفي سيرة

ص: 50


1- ما غزّر فيه الخبز والملح، قول شعبي عراقي مأثور يرد للدلالة على نكران الجميل من الآخرين الذين مهما فعلت لأجلهم فانهم يتنكرون له ولا يعترفون به.

الأئمة الأطهار (عليهم السلام) شواهد كثيرة على هذا الموضوع ولعل اللّه (عزوجل) اصطفى الإمام الراحل (رحمه اللّه) ليكون أمثولةً وحجةً ونموذجاً للعالم الصابر، المجاهد المضحي.

وهنالك نقطة أساسية في كل فكر متقدم وفي كل قائد حكيم؛ إنه يجمع المختلف، وطالما كان يستشهد في كتبه ومحاضراته بذلك.

وإذا اختلف اثنان من أصحابه كان يوصيهما بتحمل الآخر، والاقتداء بسيرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لأن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جمع حوله أناساً وكان يعلم بعلم النبوة أنهم بعد وفاته يرتدون عنه، وكان يعلم أنهم يضربون ابنته ويقتلونها، وكان يعلم أنهم يؤسسون إلى خذلان أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) ، فالرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعلم كل ذلك.

إدارة المؤسسات بالمعنويات

ومع كل ذلك كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يجمع هؤلاء حوله ويستشهد بهذه السيرة النبوية وسيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهذه نقطة أساسية من عوامل النجاح في فكره وفي طريقته بالتعامل مع الآخرين.

ربما يمكننا أن نعتبر أن منهجيته في العمل منهجية جاذبة، لأنها تعتمد على المناقبيات في الإدارة، فإن إدارة الأمور تعتمد على الكثير من القواعد، ولها عدة مناهج وعدة منهجيات، منها منهجية السلطات التي تعتمد على القرار والمناصب، ومن خلال المناصب والوظائف الحكومية تدير أمورها، ومنهج آخر للإدارة هي الإدارة بالأموال، ومنهج ثالث للإدارة هي المصالح، سواء أكان المال أم غير المال، وهناك منهج رابع وهو منهج الأنبياء (عليهم السلام) ،وقد شرح بعض

ص: 51

تفاصيله في كتاب (فقه الإدارة)،وهذا المنهج هو الإدارة بالقيم الإنسانية العليا، الإدارة عبر الأخلاق، والإدارة عبر المعنويات. و قد كان يؤمن بهذا الأسلوب في الإدارة، ويعمل به.

كان الذي يسير في ركاب السيد الراحل (رحمه اللّه) محارب من قبل السلطات، وربما يتعرض إلى السجن والتشريد، وربما أكثر أصحابه تعرضوا إلى هذا الشيء.

و أما من حيث المال فقد كانوا في ضائقة مالية عموماً، لأن السيد الراحل (رحمه اللّه) لم يكن يغدق عليهم بالأموال الكثيرة، بل كان يعطي أقل القوت وكان يدعوهم إلى تأسيس المؤسسات، وعندما يأتي بعض مقلديه ويقولون: سيدنا نريد تأسيس مؤسسة، كان يعطيه عشرة آلاف تومان فقط! رغم أنها تكلف عشرة ملايين تومان مثلاً، ثم يقول: أنا أعطيكم هذا المال للبركة، وعليكم تحصيل الباقي.

لم يعرف عنه أنه كان يدير أموره عبر الأموال أو عبر المصالح الضيقة، فالذي يريد مصلحة شخصية لا يأتي في ركابه، فليس معه إلا مواجهة الطغاة والتشريد والسجن والفقر المدقع والزهد الدائم.

وعند النظر إلى بيته وأسرته وأصحابه والمعتقدين بسيرته لا تجدوهم أغنياء، ومع ذلك كله كان يدير الأمور وله تأثير على القلوب، وعلى الأرواح بشكل كبير، حتى إن إحدى الشخصيات الكبيرة في إحدى الحكومات التي تصدت لمحاربته ومواجهته، حينما سئل: لماذا أنت بهذا القدر من النشاط والجهد - المادي والمعنوي - لتشن الحرب على السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، فليس عنده ما يستدعي الحرب عليه بهذه الشراسة والقسوة؛ هل لأنه يبني مستشفيات ومدارس ومؤسسات خيرية إنسانية، ويكتب كتباً، وتلاميذه يكتبون كتباً، وليس

ص: 52

عنده الشيء الذي يشكل خطورة عليكم، فلماذا تحاربوه بكل هذه القوة والقسوة؟!

قال: أنت بحسب الظاهر ترى أن هذا النشاط عادي وبمنتهى البساطة، ولكن المشكلة أن السيد الشيرازي مفكر، وفكره يغزو الآخرين.

ثم قال: لو نترك السيد الشيرازي يعمل بحريته فلا يبقي لنا شبر نتواجد فيه، وهذا الكلام من شخص يعتبر من أهل الفكر - وللأسف - وله مكانة كبيرة في إحدى الدول، فالسيد الشيرازي يغزوه في أفكاره!!

وهذه حقيقة فلو اطلعتم على بعض حواراته مع بعض السياسيين أو المفكرين، لرأيتم كيف يقنع الطرف المقابل بكل سهولة؛ لأن حجته دامغة.

مع وفد الأمم المتحدة

بعد دخول صدام إلى الكويت(1) كانت الدول تتهيأ وتستعد لإخراج صدام

ص: 53


1- في 2 أغسطس من عام 1990 تقدمت فرق الحرس الجمهوري مخترقة الحدود الدولية باتجاه مدينة الكويت، وتوغلت المدرعات والدبابات العراقية في العمق الكويتي وقامت بالسيطرة على المراكز الرئيسية في شتى أنحاء البلاد ومن ضمنها العاصمة. قامت السلطات العراقية ولأغراض دعائية بنصب حكومة صورية تحت مسمى جمهورية الكويت برئاسة علاء حسين من 4 أغسطس سنة 1990 إلى 8 أغسطس من نفس العام أي لمدة أربعة أيام. اعتبرت الكويت المحافظة التاسعة عشر للعراق وتم تعيين عزيز صالح النومان، وهو قائد الجيش الشعبي في الكويت، بمنصب المحافظ لها. وكانت النسخة العراقية من الأحداث والتي نشرته قنوات الإعلام العراقي هو أن انقلاباً عسكرياً حصل في الكويت بقيادة الضابط الكويتي علاء حسين الذي طلب الدعم من العراق للإطاحة بأمير الكويت ولكن هذا التحليل لم يلاق قبولاً من الراي العام العالمي.

من الكويت، وفعلاً أخرجوه منها(1)

وفي هذه القضية أحاديث ومناقبيات كثيرة للإمام الراحل (رحمه اللّه) .

في ذلك الوقت جاءه وفد من إحدى المنظمات العالمية - وأعتقد إنه وفد من الأمم المتحدة - وكان الوفد خماسياً أو سداسياً، وبعضهم يتكلم اللغة العربية، وطلبوا اللقاء معه في المكان الذي كان يستقر فيه، ولم تكن هناك رغبة من قبل السلطات الإيرانية المحلية، أن يأتي طرف عالمي، ويلتقي به، لأنهم كانوا يريدون التعمية والتعتيم عليه، ولكنهم جاؤوا والتقوا به خفية.

وعندما جلسوا عنده لم يكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) يدع مثل هذه الفرصة تمر من دون أن يقدم لهم فكرة ورؤية حضارية.

قال: أنا عندي ملاحظة على القوانين العالمية في الأمم المتحدة، ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار.

قالوا باستغراب: ما هي؟ حيث لم يكونوا يتوقعون من عالم أو مرجع - جالس في زاوية من زوايا بيته المتواضع لم يجتاز عتبة داره إلى الشارع في مدينة قم لسنوات عديدة - أن تكون عنده أفكار تطويرية للأمم المتحدة، ولقوانينها العالمية!!

قال لهم: نحن نلاحظ أن القوانين في الأمم المتحدة أو السياسة المتبعة في الأمم المتحدة سياسة مبنية على التناقضات وليس على الحقيقة.

ص: 54


1- حرب الخليج الثانية، تسمى كذلك عملية عاصفة الصحراء أو حرب تحرير الكويت (17 يناير إلى 28 فبراير 1991)، هي حرب شنتها قوات التحالف المكونة من 34 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق بعد أخذ الإذن من الأمم المتحدة لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي.

ومثل هذا الكلام بالنسبة لهذا الوفد كبير جداً لأنه يهدد كل المؤسسة بالخطر ويجعلها تحت السؤال.

قالوا: لماذا؟!

قال: صدام حاكم ظالم، وعنده جيش قوي، والكويت بلد صغير طمع صدام فيه ودخله وظلمه وهجَّر أهله، وقتل الناس الأبرياء، ثم ثلاثون دولة أو أكثر اجتمعت لأجل إخراج صدام من الكويت بصلاحيات وبقوانين ومقررات من الأمم المتحدة، باعتبار أن صدام ظالم ومعتد، والظالم والمعتدي ينبغي أن يُطرد، وهذا لا بأس به، ثم أخذ الإمام الراحل (رحمه اللّه) يتحدث عن حزب البعث ويقول لهم: إن حزب البعث يشن حرباً شعواء على الشعب العراقي مدة مديدة، ولم ينج منه لا امرأة ولا طفل ولا كبير ولا صغير، وعنده مقابر جماعية يومياً، ويشن حرباً طاحنة على الشعب الأعزل، لكن الأمم المتحدة، وهذه الدول الثلاثون وغيرها يتفرجون ويسكتون، بل ويبررون ويقولون: إن إنقاذ هذا الشعب المظلوم من يد هذا الحاكم الظالم هو تدخل في الشؤون الداخلية.

ثم قال: وهذا تناقض واضح و بين؛ لأنه إذا كان المعيار لإخراج صدام من الكويت أنه ظالم فهو في بلده أيضا ظالم، بل الظلم في هذه الحالة أشد وأقسى؛ لأن الكويت بالقياس إلى كل العراق تضاهي محافظة من محافظاته، في حين أن كل العراق من أقصاه إلى أقصاه مظلوم!! وإذا كان المعيار العدوان، فكلاهما عدوان، حيث يقوم بعدوان متكرر و يومي على شعبه،، فلماذا في حالة تتكلمون، و في حالة تسكتون؟!

وقام الوفد بتسجيل كلامه وقالوا سننقله إلى المسؤولين في المنظمة.

نلاحظ من هذا اللقاء الذي جرى على غفلة من أنظار الحاكم الموقع الذي

ص: 55

يتبوأه الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) عالمياً، وهذا دليل على أن العالم وأصحاب الشأن كانوا يعرفون قوته الفكرية والمعنوية، وإلا فلماذا جاؤوه إليه و لم يذهبوا إلى غيره وفيهم من هو أكثر شهرة، وفيهم من هو أكثر سلطة، وفيهم من هو أكثر مالاً منه؟

والشيء الثاني: مستوى الهدفية عند الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، ومستوى حربه على الظلم، و نكران الذات الذي يجسده، فحينما يأتي إليه أمثال هذا الوفد لا يطالبهم بأشياء شخصية تتعلق به وبوضعه، بما أنه كان في ذاك الوقت كالسجين في داره، بل تحدث عن شأن شعب مظلوم، أراد إنقاذه من الظلم.

مغزى ما أريد قوله، إن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان يدير الأمور بالأخلاق، وهذا أيضاً يفتح باباً واسعاً للحديث عن هذه القضية، وهذه واحدة من نقاط قوته ونجاحه، حيث إنه كان يتعامل بالمعنويات، ويتعامل بالقيم النبيلة، ولا يتعامل بالمناصب ولا بالأموال ولا بالمصالح الشخصية، فهذه كلها زائلة، ولكن القيم والمبادئ لها ثبات في حياة المجتمعات الإنسانية.

ص: 56

القسم الثاني

منابع عبقرية الإمام الشيرازي (رحمه اللّه)

* على ضوء ما ذكرتموه من أخلاقيات ومناقب ومواقف للإمام الراحل (رحمه اللّه) ، يتبادر إلى أذهاننا سؤال حول منابع عبقريته وسرها، رغم ولادته في بيئة يمكن أن يقال عنها إنها بيئة كابتة ومكبوتة، بما أنها بيئة منغلقة محدودة، وتعاني من استبداد سياسي مزمن، ولم يكن لأقرانه مثل تطلعاته ولم يمتلكوا مثل أفكاره، حتى إنه يقال - وقد سمعت من أحد المقربين -: إن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان يفكر في توحيد البلاد الإسلامية، عن عمر لا يتجاوز بضع سنوات، فما هي برأيكم منابع عبقريته؟

- يمكن الجواب عن هذا السؤال من زوايا عديدة، ولكن نكتفي ببعض الإشارات إلى المراد:

أتذكر - وهذه القصة تعود إلى 18 سنة تقريباً - أني كنت جالساً عند واحد من كبار الأساتذة فجرى الحديث عن الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) فوصفه - في مقام المقارنة بين كفاءات ومظاهر القوة في شخصيته، ونقاط القوة في غيره من رجالات الأمة - بكلمة موجزة جداً لكنها دالة على منابع نبوغه وقوة فكره، لا سيما أنها صادرة عن شخص أقل ما يقال فيه أنه من أهل الخبرة، ولم يكن إنساناً عادياً لأنه إلتقى بالكثير من المراجع الكبار من العلماء في العراق وإيران ولبنان وفي أماكن أخرى كالخليج.

ص: 57

قال: لقد عايشت وعاصرت كثيراً من العلماء، فوجدت أن لكل عالم منهم بعض ملامح النبوغ ولكن وجدت السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ممتلئاً في الإيجابيات، وهذا نص عبارته: ما تفرق في العلماء الآخرين من الإيجابيات، اجتمعت في السيد الشيرازي (رحمه اللّه) .

وهذه العبارة و إن كانت جداً موجزة، إلا أنها دالَّة في الحقيقة على أن لكل شخصية من الشخصيات نقاط للعظمة، فالشخصية المميزة لا تكون كذلك بلا سبب، وإنما هناك نقاط بارزة في حياته، وكل النقاط البارزة التي تفرقت في الآخرين لتضفي عليهم العظمة اجتمعت في شخصية السيد الشيرازي (رحمه اللّه) .

و أما السؤال الذي طرح، فهنالك عوامل و مسائل متعددة.

الإمداد الغيبي

المسألة الأولى: اعتقد - وبما لمسته من سيرته - إن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان لديه تسديد معنوي، وتأييد وإسناد غيبي، لأن طاقته سواء في الفكر أم العمل، أم الصبر، أم الإرادة، أم التفاؤل كانت كبيرة. حيث كان شخصية لا تعرف التشاؤم والملل، واليأس وغيرها من الصفات السلبية، فكنت تجده في أسوأ الظروف وحالات الهزائم متفائلاً، حتى إنه في كثير من الأحيان حيث كانت تصيبه أو أصحابه أو العالم الإسلامي هزَّات عنيفة يأتي لك بشعاع من النور من قلب الهزيمة ليفتح أمامك باب الأمل.

ولايعقل أن يأتي هذا النحو من المعنوية العالية من قبل شخص بطاقاته الإنسانية العادية، فلا بُدَّ من أن يكون هناك دعم وتأييد غيبي.

هناك سببان ربما جعلا السيد الشيرازي (رحمه اللّه) في أن تكون له حظوة من

ص: 58

التسديد المعنوي:

السبب الأول: دعاء والده الميرزا السيد مهدي الشيرازي(1) (رحمه اللّه) له، وقد

ص: 59


1- السيد مهدي بن حبيب اللّه الحسيني الشيرازي، مرجع شيعي في القرن 13 الهجري. ولد سنة 1304 ه- في مدينة كربلاء المقدسة في العراق، وبدأ تعلمه فيها حيث تعلم فيها قراءة القرآن الكريم. ثم سافر مع والده إلى مدينة سامراء المقدسة وأخذ فيها دروسه في النحو والصرف والمنطق والمعاني والبيان والحساب والهندسة، وحفظ القرآن الكريم ومقامات الحريري وألفية ابن مالك والتهذيب في المنطق والجزري في التجويد ومتن الشاطبي وشطراً من متن المطول، وقد تتلمذ في فن التجويد على المقرئ حسين الهندي. كما درس أيضاً في سامراء المقدسة التفسير والأخلاق والتجويد والجفر والطلسمات والدراية والحديث والرجال والهيئة . درس الفقه و الأصول على يد كبار الفقهاء و الأصوليين. * عائلته وأبناؤه ينتمي إلى عائلة الشيرازي وهي عائلة شيعية دينية مشهورة، ومن رجال هذه العائلة السيد محمد حسن الشيرازي مؤسس نهضة التنباك في إيران، والشيخ محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين في العراق. وقد أنجب السيد الميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) من الأبناء: السيد محمد: أكبر أبنائه، وهو مرجع ديني سابق، عاش في كربلاء المقدسة والكويت وقم المقدسة، حيث توفي فيها سنة 2001. وخلف السادة: (محمد رضا - مرتضى - جعفر - مهدي - محمد علي - محمد حسين). السيد حسن: عالم من علماء الشيعة، ومؤسس الحوزة العلمية الزينبية في دمشق، اغتيل سنة 1400 ه- في بيروت في لبنان. السيد صادق: مرجع حالي من مراجع الشيعة في مدينة قم المقدسة. وابناؤه هم السادة: (علي - حسين - أحمد - جعفر). السيد مجتبى: عالم من علماء الشيعة، عاش في كربلاء المقدسة والنجف الأشرف وقم المقدسة ومشهد المقدسة، انتقل بعد الثورة الإيرانية للعيش في المملكة المتحدة. له ابن اسمه (مصطفى). _ * مؤلفاته - شرح العروة الوثقى/ شرحٌ على كتاب العروة الوثقى. - رسائل في مباحث أصولية. - رسالة في التجويد. - رسالة حول فقه الإمام الرضا. - كشكول في مختلف العلوم. - الدعوات المجربات. - رسالة في الجفر. - هدية المستعين في أقسام الصلوات المندوبة. - أجوبة المسائل الاستدلالية. - ذخيرة العباد. - ذخيرة الصلحاء. - الوجيزة. - بداية الأحكام. - تعليقة على العروة الوثقى/ ولا يزال مخطوطاً ولم يُطبع بعد. - حاشيةٌ على كتاب وسيلة النجاة، الرسالة العملية للسيد أبي الحسن الأصفهاني. * وفاته توفي في الثامن والعشرين من شهر شعبان 1380 ه، ودُفِنَ في مقبرة (آل الشيرازي) في حرم الإمام الحسين (عليه السلام) .

كان صاحب روح معنوية كبيرة ، لم ادركه ولكن التقيت بأناس كثيرين من كبار السن ممن أدركوه وشاهدوه، والكثير منهم كانوا يقولون: عند وفاته كُسفت الشمس. وهو أمر متواتر عند الناس في العراق ولا سيما في كربلاء المقدسة، وقد التقيت كثيراً من الناس الذين أكدوا ذلك وقالوا إننا لاحظنا هذا الموضوع، وتزامن كسوف الشمس مع وفاة هذا المرجع الكبير يدلُّ على عظمة فريدة، وعن قوة هائلة فيه، والبعض كان يقول بحدوث آيات أخرى في وفاته.

الصورة

ص: 60

ومن الطبيعي أن يستجاب دعاء شخص مثل السيد الميرزا مهدي (رحمه اللّه) حيث كان يدعو لشأن ولده كثيراً.

السبب الثاني: ما حصّله السيد الراحل (رحمه اللّه) من بركات المسجد السهلة(1)؛ حيث كان الناس يذهبون ليلة الأربعاء إلى المسجد السهلة ويبقون إلى الصباح يتعبدون اللّه تعالى، وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) مواظباً على هذا البرنامج،

ص: 61


1- أحد أكبر المساجد التي شُيّدت في الكوفة خلال القرن الهجري الأوّل، وما زال أثرها وذِكْرها خالداً إلى الآن. ويبدو أنّ بني ظفر هم بُناة المسجد الحقيقيّون، وهؤلاء بطنٌ من الأنصار نزلوا الكوفة، ولهذا عُرِف المسجد أوّلَ الأمر بمسجد بني ظفر، ثمّ إنّ المسجد عُرِف ب- (مسجد السَّهْلة)، وهي التسمية المتداولة حاليّاً. * المشاهد أو المقامات التي تُزار الآن داخل المسجد هي: 1 - مقام الإمام علي زين العابدين السجّاد (عليه السلام) : يقع وسط المسجد. 2 - مقام الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) : يقع وسط المسجد تماماً، ومحرابه مُجوَّف. 3 - مقام الإمام المهديّ المنتظر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) : يقع في وسط الضلع القبلي. 4 - مقام النبي الخضر (عليه السلام) : في الزاوية بين الضلعين الجنوبي والغربي. 5 - مقام النبي إدريس (عليه السلام) : يُقال إنّه كان بيت إدريس، يقع في الزاوية بين الضلعين الجنوبي والشرقي. 6 - مقام الصالحين: ويُعرَف بمقام الأنبياء هود وصالح (عليهما السلام) ، يقع في الزاوية بين الضلعين الشمالي والشرقي. 7 - مقام النبيّ إبراهيم الخليل (عليه السلام) : يُقال إنّه كان بيت إبراهيم (عليه السلام) ، يقع في الزاوية بين الضلعين الشمالي والشرقي. وقد أُلحق بالمسجد قديماً صحنٌ واسع، وهو مقسّم إلى قسمين: الأوّل: الذي في الطرف الجنوبي (خان الزوّار)، وهو شبيه بالخانات الشاخصة الآن على طريق النجف الأشرف - كربلاء المقدسة القديم، ويعود تاريخه إلى حوالَي 300 سنة. والثاني: يقع في الجانب الشمالي، وفيه بيوت خدم المسجد، وقد هُدّمت أوائل سنة 1979م.

فإنه وإن لم يتحدث بذلك، لكن عِدّة قرائن تُبيّن أنه قد نال هناك الشيء الكثير. واعتقد أن هذا كان أحد أسباب توفيقاته.

أشرت سابقاً: ليس عجيباً أن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) لم يحقق الانتشار لكل ما أراده وطرحه ونادى به، ولم يتحقق له كل ما كان يريده، بل العجيب أنه كيف استطاع البقاء قوياً وصامداً، وبقي له كل هذا الحضور، على الرَّغم من كل الضغوطات التي مورست عليه من الاتجاهات المختلفة، ومن الحكومات المختلفة، ومن الخصوم الكثيرين.

ولا شك في كونه من مصاف الرعيل الأول من المراجع الكبار، و أعتقد أن السبب في ذلك غيبي، وله الكثير من الشواهد.

رؤيا ذات دلالات

رأى أحد المؤمنين العراقيين حلماً بحق السيد الراحل (رحمه اللّه) في

ص: 62

الأيام التي كنا فيها في مدينة قم المقدسة(1) قال: رأيت أنني كنت في شارع (جهار مردان) ورأيت

ص: 63


1- إحدى مدن إيران، والحوزة العلمية فيها تعتبر واحدة من أهم المراكز العلمية الدينية للشيعة بعد النجف الأشرف. توجد بالمدينة العديد من المزارات الدينية أهمها مرقد السيدة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) . * سبب تسميتها بقم: هناك أقوال متعددة في ذلك: - منها: إنها في الأصل كانت (كوميدان) ثم خففت، فصارت (كم) ثم عربت إلى (قم). - ومنها: إنها سميت باسم حصن (كم) الذي يقع على بعد حوالي 20 كيلومتراً إلى الجنوب الغربي منها، وكان يعرف بجودة زعفرانه، والزعفران (الكمي) عرب في كتب التاريخ إلى (الزعفران القمي). - لكن ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إنما سمي قم لأن أهلها يجتمعون مع قائم آل محمد (عليه السلام) و يقومون معه و يستقيمون عليه و ينصرونه». كما في سفينة البحار: ج 2 ص 446. * تزخرف قم المقدسة اليوم بالعديد من المؤسسات والمدارس العلمية يزيد عددها على 60 مؤسسة ومدرسة منها: - المدرسة الفيضية: تعتبر مركز إدارة الحوزة العلمية في قم يعود تأسيسها إلى العهد الصفوي. - جامعة دار الشفاء: تأسست في العهد القاجاري واتسعت لتصبح جامعة كبيرة. - المدرسة الحجتية: أسسها الفقيه الراحل السيد محمد حجت حسين على حسن الكوه كمرى التبريزى، وهي مخصصة حالياً لدارسة قسم من الطلبة غير الإيرانيين وتعتبر المركز العالمي للدراسات الإسلامية. - مدرسة آية اللّه الكلبايكاني: وهي من المشاريع الحديثة وتضم معهداً لعلوم القرآن. - مدرسة الرسول الأعظم: أسسها الإمام الشيرازي سنة 1406 ه.ق و خرجت مآت من الفضلاء و المبلغين. - مدينة العلم: وهي من أضخم المشاريع العلمية - السكنية في قم. - جامعة الزهراء (عليها السلام) : وهي مدينة جامعية حديثة خاصة بالنساء . - جامعة الصدوق: وهي أكبر مدينة جامعية حديثة في قم تحتوي على 6 مؤسسات جامعية. - جامعة المفيد : وهي مشروع جامعي حديث وكبير أيضاً. - وهنالك معاهد ومؤسسات ومنتديات ومجامع علمية أخرى تابعة للحوزة وهي متخصصة في مجالات عديدة كالتبليغ والبحث. * معالم قم المراقد والقبور: من معالم المدينة كثرة المراقد لأبناء أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأحفادهم، إذ يبلغ عدد مراقدها المشهورة نحو 16 مرقداً من أبرزها: - مرقد السيدة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) : هو من أشهر المراقد المقدسة فيها وأحد أبرز المعالم الدينية في ايران. - مرقد السيد موسى المبرقع بن الامام محمد الجواد (عليه السلام) : وهو جد السادات الرضويين توفي سنة (296 ه). - مرقد السيد حمزة بن الامام موسى الكاظم (عليه السلام) . - مرقد اسماعيل بن أحمد (من أحفاد الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ) - مراقد الأربعين كوكباً (جهل أختران) وهي منسوبة إلى 16 من أبناء الائمة (عليهم السلام) وأحفادهم مع عدد من أنصارهم. - مراقد (خاكفرج) وفيها مدافن عدد من أحفاد الأئمة (عليهم السلام) . - مرقد السيد ابراهيم المعروف ب- (شاه ابراهيم) ، والسيد محمد من أبناء الإمام الكاظم (عليه السلام) . - مرقد السيد احمد بن قاسم (من أحفاد الإمام الصادق (عليه السلام) ). - مرقد علي بن جعفر (من أحفاد الإمام الصادق (عليه السلام) ). - مرقد حمزة بن أحمد بن الإمام السجاد (عليه السلام) . - مرقد علي بن حسين بن موسى بن بابوية والد الشيخ الصدوق (ت 329 ه). - قبر المحدث الشريف زكريا بن آدم بن عبداللّه بن سعد الأشعري القمي (ت 1013 ه). - قبر إسحاق بن آدم بن عبداللّه الأشعري القمي من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) . - إبراهيم بن محمد الاشعري من أصحاب الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) . - أحمد بن إسحاق وكيل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) (ت سنة 258 ه). - إدريس بن عيسى القمي من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) . - محمد بن جعفر صاحب كتاب كامل الزيارات، وقبره في مقبرة بابلان. - جعفر بن محمد بن موسى بن قولويه القمي (سنة 369 ه). - علي بن إبراهيم القمي صاحب التفسير (توفى في القرن الرابع الهجري). - والكثير من العلماء والفضلاء.

ص: 64

كمَّاً وفيراً من الناس متجمهرين في الشارع، نساءً ورجالاً بمختلف الأشكال وقالوا: سيخرج الإمام المهدي (عليه السلام) من هنا، ونحن ننتظر ظهوره، وفجأة رأينا فارساً، وعندما اقتربنا منه رأينا الفارس بهيئة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، والناس يتمسحون ويتبرَّكون به.

قال: عندما نقلتُ هذا الخبر إلى السيد الراحل (رحمه اللّه) جرت دموعه، فإن الرؤيا و إن لم تكن حجة شرعاً إلا أنها من المبشرات.

ص: 65

ولا شك أن مظاهر التأييد الإلهي ومظاهر المعنويات كثيرة في السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وهذا ملاحظ وملحوظٌ كثيراً.

رسالة إلى السيد الشيرازي (رحمه اللّه)

جاء أحد الأخوة من الأصدقاء القريبين يطلب اللقاء الخاص بالسيد الراحل (رحمه اللّه) في تلك الأيام التي مورست الضغوطات الشديدة بحقه، و كان أخوه مرتبطاً ببعض الجهات التي لها دور في تلك الضغطوطات، فكان مبعوثاً من قبلهم يحمل رسالة خاصة يريد أن يطرحها عليه بانفراد، فطلبت من السيد الراحل (رحمه اللّه) وكان من دأبه أن لا يردّ أحداً في موعد، فصار الموعد الساعة الثامنة ليلاً، وكان الفصل شتاء، فأردت الخروج من الجلسة لأتركهما بانفراد لكن السيد الراحل (رحمه اللّه) أمرني بالبقاء. وكان هذا من سيرته، حيث لم يكن يجعل مثل تلك الجلسات مغلقة تماماً مع الطرف الآخر، وإنما يدعو الآخرين للحضور ليكونوا شهوداً على القضية، أو لبعض الملاحظات الأخرى - فقد لاحظت فيه الدقة الشديدة حتى في الجزئيات، وهذا يفتح باباً للحديث عنه في كثير من المسائل، حيث كان يراعي كل صغيرة وكبيرة، ولا يكون غافلاً أبداً، فلا يغفل عن الأشياء حتى عن المسائل الجزئية - على كل حال حصل اللقاء، وأتى الشخص وقال: كان للمسؤولين اجتماع خاص، وقرروا فيه أن موقفهم منك قد وصل حده و كفى مماطلة، فهم يريدون إنهاء الأمر معك، أي يريدون أن ينهوا القضية ويغلقون الباب الذي تأتيهم منه الريح المقلقة لهم وينتهي الموضوع ويسجنوك في دارك، إلا أن تكتب ما يريدون.

وكان يعتقد أن السيد الراحل (رحمه اللّه) سيكتب ما يريدون من التأييد لهم

ص: 66

ولأعمالهم.

لكن أجابه السيد الراحل (رحمه اللّه) : تكليفي أن أقول كلمة الحق ولا أؤيد ما هو غير صحيح، و أعمل بالحق، فقد قال تعالى:(وَقِفُوهُمْ إنَهُمْ مَسْئولُونَ)(1)، فأنا أفعل ما يمليه تكليفي عليّ، وليفعلوا ما يريدون أن يفعلوا.

فقال الرجل مُحذّراً: سيدنا إنهم قد قرروا وحسموا الموضوع، وليس هناك أحد يقف إلى جانبك.

فاحمرّ وجه السيد الراحل (رحمه اللّه) ، ورفع بصره و يده اليمنى إلى السماء وقال: اللّه معي .. قال تلك الكلمة، وأشار تلك الإشارة، و انتهى اللقاء!

حقيقةً كان السيد الشيرازي (رحمه اللّه) مرتبطاً باللّه بكل كيانه، حيث لم يقف أحد إلى جانبه، ولم يحصل على أي سند من الناس، فلم يعتمد على غير اللّه، وكان اللّه سبحانه وتعالى كان ناصره ومسانده ومؤيده في الكثير من جوانب حياته.

وكان في أشد الاختناقات وأقوى المضايقات وأعظم الأزمات كالطود الشامخ الذي لا تزعزعه الريح؛ كان يتعرض إلى ضغوطات كثيرة باستمرار، تكفي بعضها لأن تصدم غيره و أن تميته من هولها، ولكنه كان يخرج منها بكل جدارة بانتصار جديد، وبحيوية ونشاط، حيث كان يخطط لكل شيء، وكان من نعم اللّه عليه أن تنقلب القضية التي يراد بها إيذاؤه معكوسة تماماً و ما ذلك إلا لسعة قدراته في مختلف المجالات.

والنقطة الجوهرية في سيرة السيد الراحل (رحمه اللّه) أنه كان معنوياً مرتبطاً جداً بمصدر غيبي، والذي كان يعايشه ويغور في شخصيته يشعر بأن هناك إسناداً

ص: 67


1- سورة الصافات: 24.

وإمداداً غيبياً يحفظه ويسدده، ولعل تلك الضغوطات كانت سبباً في علو درجاته، وهذا مما لا شك فيه عندنا.

دخلت عليه ذات مرَّة، فرأيته متضايقاً ومتأذياً جداً، وكان ذلك إثر اعتقال مجموعة من أصحابه وتلامذته، فكان يتكلم في سبب الضغوطات، فقال: إن هؤلاء يؤذون الناس بسببنا، فقرأت له آية قرآنية بصورة عفوية وتلقائية، ولم أكن أهدف إلى شيء من ورائها سوى الاستشهاد بالكتاب العزيز على ما يحدث، ولكن شعرت بأن السيد الراحل (رحمه اللّه) قد ارتاح عندما سمعها، وكأنه انفتح أمامه باب للأمل والنصر، قرأت له قوله تبارك وتعالى:(وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)(1).

نظر إليّ السيد الراحل (رحمه اللّه) بارتياح، وانشرحت أساريره، وكأن هذه الآية الشريفة نزلت على قلبه مثل ماء بارد لأن القلوب المؤمنة تطمئن بذكر اللّه سبحانه، وهذا شيء لا يشعر به الإنسان عادة إلا أن يكون له ثقة باللّه سبحانه وتعالى، وأن يكون مؤمناً إيماناً قوياً بأن هذه المرحلة التي يمر بها هي اختناق ابتلائي، وليست اختناقاً ناشئاً من أشياء أخرى حتى يتمرد أو ينزعج أو يتشاءم، وإنما يعتبره مرحلة الجهاد.

فلا شك أن واحداً من أهم نقاط قوة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) هو الإمداد الغيبي.

الذكاء الخارق

الشيء الثاني الذي وجدته في السيد الشيرازي (رحمه اللّه) هو حضور الذهن والذكاء الخارق للعادة، وقد قلت لبعض الأخوة عدة مرات: إن ذهنيته تكاد

ص: 68


1- سورة النساء: 104.

تكون مثل الحاسوب، فإذا أراد شخص أن يصف حضوره الذهني الدائم حتى في التفاصيل، أمكنه التمثيل بالحاسوب، حيث يحفظ كل ما تخزنه فيه.

فمثلاً: رأيت أناساً كثيرين كانوا يفارقون السيد الراحل (رحمه اللّه) مدة طويلة بعد لقائهم الأول معه، وبمجرد رؤيته لهم مرة ثانية يتذكرهم ويتذكر كثيراً من تفاصيل ذلك اللقاء.

وفي إحدى الأيام أتى رجل وسلَّم على السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وكان ذلك في الكويت، وجلس عنده فترة قليلة، وبعد عشرين سنة لما دخل على السيد الراحل (رحمه اللّه) مرة ثانية، تذكره وعرفه وعرف اسمه وعرف أباه وعمله، وأين هو موجود! فرحب به وتحدث معه باسمه وبتفاصيل أحواله، وكأنه قد تعرف عليه اليوم أو البارحة، وقد رأيت بعض الناس ممن أتوا بعد عشرين سنة، أو بعد خمس عشرة سنة.

في حين أن أي إنسان قد يتعرض بعد سنة أو سنتين إلى نسيان الكثير من الأحداث أو الأسماء أو الوجوه، وربما لا يتعرف على بعض أصدقائه إذا فارقهم مدة أو ربما ينسى مكان العمل السابق، أما السيد الراحل (رحمه اللّه) فلم يكن كذلك.

وأتذكر أن الكثير من العلماء والمراجع الكبار كنا نذهب ونزورهم ونلتقي بهم في الأيام التي كانت الأوضاع في قم المقدسة بسيطة وسهلة.

كانت الحالة العلمية والطبيعية في بيوتات العلماء والمراجع الكرام سهلة جداً، فكان من السهولة على الإنسان العادي أن يدخل على المرجع، ويجلس عنده ويسلم عليه ويُقبِّل يده، ويسأله مسألة شرعية أو علمية.

ولكن بعدها أصبحت المسألة صعبة وصارت هناك أجهزة إدارية ومكاتب وما أشبه، ففي تلك الأيام كنا ندخل على العديد من المراجع، لزيارتهم

ص: 69

بالمناسبات، ونرى أن الناس يوجهون له السؤال فيجيب، لكن أحياناً يتردد في الجواب فيراجع كتاباً يقرؤه ثم يُعطي الفتوى، إلا أني لا أتذكر حدوث مثل ذلك في السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، و لذا كنا نسأله ولا نسأل غيره في المسائل الشرعية، حتى في بيته لم يكن هناك لجنة استفتاء كبيرة بل كان يجيب شخصياً عن المسائل.

نعم كان الشيخ المعيني (رحمه اللّه) كاتباً عنده لمدة من الزمن فكان يكتب الأجوبة، ولكن تعرض على سماحة السيد (رحمه اللّه) بعد الظهر وقبل جلسة السيد الراحل (رحمه اللّه) العامة بساعة أو أقل أو أكثر، كل الأجوبة يأتون بها إلى غرفته، فيقرؤون السؤال والجواب، فيصححها أو يغير في العبارة ثم يمضي الجواب الصحيح ويمهره بالختم.

وكثيراً ما كنت أراه وأشترك في بعض الجلسات، فلم تكن هناك لجنة استفتاء بشكلها النظامي، وكانت أسئلتنا عند السيد الراحل (رحمه اللّه) ، نحن والطلاب الذين كانوا مرتبطين بنا وغيرهم.

ولا أتذكر مرة من المرات توقف أو تردد حتى في المسائل الصعاب، أو في مسائل الفقه الدقيقة، حيث كان يجيب عن أدق الأسئلة مباشرة، ولو سألته للاستزادة عن وجه الجواب كان يذكر السبب فوراً وبلا توقف.

حافظة عجيبة للأحاديث

لا شك أن الحضور الذهني غير الطبيعي واللافت للإنتباه، من نقاط العبقرية لديه، وقد لاحظت أن بعض الذين عملوا في تهميش كتب السيد الراحل (رحمه اللّه) لتخريج الروايات، كانوا لا يعثرون في المصادر الروائية على بعض الروايات النادرة التي ينقلها السيد الراحل (رحمه اللّه) ، فكانوا يسألونه عن مصدر

ص: 70

الرواية، حيث لم يجدونها في الكتب المعروفة حتى في موسوعة بحار الأنوار(1) الذي هو جامع لدرر الأخبار، وفيه نسبة عالية من روايات أهل البيت (عليهم السلام) تقريباً، فكان السيد الراحل (رحمه اللّه) وباللحظة يقول: ارجعوا إلى الكتاب الفلاني تجدونها فيه.

مع أن الكتاب - مثلاً - موسوعة (الفقه) يمكن أن يكون السيد الراحل (رحمه اللّه) قد كتبه عندما كان في كربلاء المقدسة أو في الكويت، مع الفاصلة الزمنية البالغة أكثر من اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة سنة، فيتذكر السيد الراحل (رحمه اللّه) مصدر الرواية فوراً، وفعلاً يرجعون إلى الكتاب فيرون الرواية موجودة فيه. هذا الحضور الذهني العجيب، الذي كان ينعم به.

وبطبيعة الحال لم أشاهد كل طريقته و منهجه في الكتابة، ولكني مُطلَّع على بعضها، في تصوري أنه كان يعتمد على حافظته المستوعبة لكمّ كثير من الدروس،فعندما يريد أن يكتب المطلب أو الرواية فإنه كان يكتبها عن حفظ لا عن مراجعة للمصدرالأصلي، وهذه إحدى أسرار كثرة الكتابة عنده، لأنه لا يحتاج إلى الرجوع إلى كثير من المصادر، وبعد أن يكتب الكتاب تأتي لجنة تحقيق من ورائه وتضبط هذه المتون، وكان يعتقد بأنه إذا كان يريد أن يكتب بالطريقة المتعارفة فإنه ما كان يقدر أن يصل إلى الهدف الذي كان يريد الوصول إليه في كتابة أكثر من ألف كتاب في مختلف الشؤون العلمية والفكرية والثقافية للمسلمين.

ص: 71


1- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، أحد كتب الحديث المشهورة لدى الشيعة الإثني عشرية. ألفه الشيخ محمد باقر المجلسي في زمن الدولة الصفوية. يحتوي على الكثير من الأحاديث، ويعد من أكبر كتب الحديث حيث يتكون من 110 مجلدات.

مع علماء حوزة مشهد

كان السيد الشيرازي (رحمه اللّه) بمدينة مشهد المقدسة، في أيام حرب المدن(1)- في (الحرب العراقية الإيرانية)(2) - وفي شهر رمضان المبارك فرصة جيدة للمناقشات

ص: 72


1- حرب المدن: فشلت الهجمات الجوية العراقية على ايران في تحقيق أي تأثير استراتيجي. وكان الرد الإيراني على الغارات العراقية أكثر تهديداً للعراق. فقد فشل الجيش العراقي في إدراك حقيقة صعبة: مسافة الطيران إلى طهران كانت أطول منها إلى بغداد. فلو تمكنت إيران من الحصول على صواريخ بالستية، مثل صواريخ سكود الروسية، لكان بإمكانها استهداف بغداد، بينما في نفس الوقت لم يكن ممكناً لصواريخ سكود العراقية من الوصول إلى العاصمة الإيرانية البعيدة. بعد ذلك بوقت قصير، حصلت إيران بالفعل على صواريخ سكود ومنصات إطلاق، وذلك من ليبيا وسوريا. ولأن القوات المسلحة لعشرات الدول كانت مجهزة بهذه الصواريخ في الواقع، يمكن الافتراض بثقة بأن إيران سعت أيضاً إلى شراء صواريخ سكود في السوق السوداء. لم يستمر التفوق الصاروخي الإيراني طويلاً. فبمساعدة شركات ألمانية بشكل خاص، تم تمديد مدى صواريخ سكود العراقية عن طريق تركيب خزانات وقود أكبر. وبنجاح كبير، أصيبت طهران بالتالي بأكثر من 500 صاروخ - تضاءل وزن حمولة هذه الصواريخ بفضل خزانات الوقود الإضافية. وأطلقت إيران حوالي 200 صاروخ سكود وصلت في الغالب إلى بغداد، إلا أنها لم تصب أهدافاً إستراتيجية. ولا تزال الأثار السلبية للحرب المدمرة موجودة في البلدين.
2- الحرب العراقية الإيرانية، أطلق عليها من قبل الحكومة العراقية آنذاك اسم قادسية صدام بينما عرفت في إيران باسم الدفاع المقدس (بالفارسية: دفاع مقدس). هي حرب نشبت بين العراق وإيران من سبتمبر 1980 حتى أغسطس 1988، خلفت الحرب نحو مليون قتيل وخسائر مالية بلغت 400 مليار دولار أمريكي، دامت الحرب ثماني سنوات لتكون بذلك أطول نزاع عسكري في القرن العشرين وواحدة من أكثر الصراعات العسكرية دموية، أثرت الحرب على المعادلات السياسية لمنطقة الشرق الأوسط وكان لنتائجها بالغ الأثر في العوامل التي أدت إلى حرب الخليج الثانية والثالثة.

العلمية لتواجد الكثير من أعلام قم المقدسة، و بعضهم مراجع أو فقهاء من المرشحين للمرجعية، وكان من عادة العلماء أن يجلسوا في مثل هذه الليالي المباركة ويحضر عندهم أهل الفضل و يتبادلون الحوار العلمي، فشكل بعض علماء مشهد المقدسة وفداً بعضهم من كبار الشخصيات والفضلاء من حوزة مشهد - و لا أعلم أنه كان وفداً عفوياً، أو حقيقياً - حيث كانوا في حيرة لتشخيص الأعلم من بين هؤلاء الأعلام، فأحضر الوفد مجموعة من الأسئلة ليوجهوها إلى العديد من العلماء للنظر في موضوع الأعلمية. وبعد أن زاروا جمعاً من الأعلام حضروا عند السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، و لم يكن أحد حاضراً في ذلك المجلس غيره، فكلما طرحوا عليه سؤالا أجاب عليه جواباً كاملاً وذكر مدارك الجواب والأدلة عليه، وإذا كان جوابه يستند إلى رواية تحدث من حيث سندها ومن حيث دلالتها ومن كل الحيثيات، وإذا كان يستند إلى الشُّهرة أو إلى سيرة المتشرعة أو إلى حكم عقلي، يبيِّنه بتفاصيله، ويذكر الاشكالات التي يمكن أن تورد عليه ويجيب عنها أيضاً إن كان له جواب.

وبعد ذلك اللقاء،عندما بدأ السيد الراحل (رحمه اللّه) درسه - وأعتقد أنه كان درس البيع من المكاسب - في سرداب مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ، حيث محل إقامته، - و لا زال السرداب موجوداً، لكن أعتقد أنهم غيروا في معالمه، وفي تلك الأيام كان سرداباً كبيراً جداً، وما كان مقطَّعاً كما هو اليوم - فأول ما شرع بالتدريس اكتظ المجلس بالطلبة و امتلأ السرداب بالحضور، ولم تستوعب مساحته لأعداد الطلبة، بل كان الحضور المكتظ يخرج إلى ساحة المدرسة، وفي الممرات المؤدية، كان هناك أيضاً بعض الطلبة يحضرون لاستماع الدرس، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلُّ على قناعة أكثر الطلاب والعلماء بسعة علميته،

ص: 73

حيث أشاع الوفد الزائر عنه هذه العلمية الكبيرة.

أقرب الآراء إلى روح الإسلام

النقطة الثالثة التي أعتقد أنها واحدة من أهم نقاط عبقرية السيد الشيرازي (رحمه اللّه) هي الفهم العرفي في مسائل الفقه، وهي نقطة مميزة ومهمة جداً عند الفقهاء.

فقد كان لجمع من الفقهاء ذهنية عرفية عالية جداً، هي من نقاط قوتهم، منهم الفقيه الهمداني (رحمه اللّه) (1)، و قد لمست ذلك من سماحة السيد (رحمه اللّه) بوضوح، فكثيراً ما ترى الأعلام في مناقشاتهم الفقهية أو الأصولية يخوضون في النقاش نقضاً وإبراماً وحلاً في الأدلة العقلية، أو في الدقة الفلسفية؛ لكن السيد

الراحل (رحمه اللّه) يوصل إليك عمق المطلب بحسب الفهم العرفي، و بسهولة متناهية وترى رأيه مطابقاً مع روح الشريعة في مختلف الجوانب، - غالباً - وليس رأياً شاذاً أو غير منسجم مع المتون الشرعية.

أتذكر أننا كنا ندرس كتاب (الأصول)(2) لسماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) عند

ص: 74


1- الشيخ رضا بن محمد هادي الهمداني النجفي. رجل دين وفقيه ومرجع شيعي إيراني، كان يستوطن العراق، اشتهر بتأليفه كتاب مصباح الفقيه حتى صار يُقال له صاحب المصباح. وكان من تلامذة السيد محمد حسن الشيرازي، وقد تسنَّم المرجعية بعد وفاته إذ كتب حاشية على رسالته العملية الموسومة بنجاة العباد، ثم كتب رسالته العمليَّة التي أسماها ذخيرة الأحكام.
2- كتاب علمي عميق في علم أصول الفقه للإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) طبع في 8 أجزاء، تناول فيه المباحث الأصولية المعمقة كالتمايز بين العلوم، علائم الحقيقة والمجاز، حقيقة الأمر، المرة والتكرار، مقدمة الحرام،دلالة النهي على الفساد، التقيييد كالتخصيص، الشهرة جابرة وكاسرة، التردد بين الجزء والمانع، و غيرها، وقد طبع الكتاب مراراً عديدة في قم وبيروت.

أحد الأساتذة الكبار(1) في مدينة قم المقدسة لمدة سبع أو ثمان سنوات - ولا شك أنه من أعلام الأساتذة من حيث العلم ومن حيث الأسلوب، وهو من بيوتات معروفة بالفضل والمرجعية. وكان منهج السيد الراحل (رحمه اللّه) في كتابه أن ينقل مختلف الآراء وربما ذكر عشرة أقوال أو أكثر ثم يذكر رأيه -، وبعد أن استمر أستاذنا بتدريس الكتاب مدة طويلة، واطلع على منهجية السيد الراحل (رحمه اللّه) ، قال لبعض الحاضرين في الدرس في مقام التقييم بين الآراء: أنا لاحظت أراء السيد الشيرازي (رحمه اللّه) بالقياس إلى آراء غيره، فعندما تقرأها تستغرب قليلاً منها في البداية، لأنها خلاف المألوف في الأجواء العلمية السائدة، أو في طريقة عرضها عند بعض العلماء من الإيغال في البحوث العقلية والفلسفية، وخصوصاً في المسائل الأصولية، ولكن حينما تتأمل في رأيه تأخذ به، وعندما تتأمل به أكثر بعد مُدَّة تصل وترى أن هذا الرأي هو أقرب الآراء إلى روح الإسلام وهو أقرب من غيره إلى الحق، لأنه متفق مع مضامين الآيات والروايات.

فقد كان السيد الراحل (رحمه اللّه) مستوعباً لمختلف جوانب الشريعة، أي لا يأخذ الرأي الفقهي كرأي فقهي محض، بل كان يلاحظ القرائن الخارجية التي قد تسهم في صناعة الرأي، فيلاحظ الجانب الاجتماعي والجانب السياسي والجانب الاقتصادي وحتى الجانب العلمي كذلك.

خذ مثلاً كتاب (الآداب والسنن)(2)، الكثير من الأعلام كتبوا في الآداب

ص: 75


1- آية اللّه السيد حسين الشاهرودي نجل المرجع الديني السيد محمود الشاهرودي، من مشاهير أساتذة البحث الخارج في حوزة قم المقدسة.
2- من تأليفات الإمام الشيرازي (أعلى اللّه مقامه) في مدينة قم المقدسة عام 1406ه. ضمن موسوعة الفقه الاستدلالية، ويقع في أربعة أجزاء.

والسنن، وأكثر الموسوعات الروائية فيها آداب وسنن، ولكن للسيد الراحل (رحمه اللّه) بيانات وتعليقات في الآداب والسنن ناضجة جداً، وأي إنسان حتى غير المتدِّين، بل حتى غير المسلم عندما يقرؤها يجدها مليئة بما تنفعه جداً، وموافقة للطبيعة والفطرة البشرية، وهي مستندة أيضاً إلى الروايات، أي عندما يحلل لك الرواية أو الآية كما في تفسيره (تقريب القرآن إلى الأذهان) يعطيك رأياً ناضجاً ومكتملاً في تفسير الآية أو في معناها أو في مضامينها، فتتأمل الرأي الذي يستظهره من الآية لتراه متطابقاً مع الكثير من الروايات، ومتطابقاً مع المضامين التي وردت في الزيارات، ومتطابقاً مع المضامين الواردة في الأدعية، ومتطابقاً مع فهم المتشرعة.

وهذه نقطة مميزة ومهمة جداً عند الفقيه أن يكون له قدرة على فهم العرف، والعرف محور أساسي في الفتوى، لأنه يتدخل في تشخيص الموضوع، وتشخيص حدود الحكم أيضاً، هذه هي مهمة العرف، وليست مهمة (لغة) أو مهمة متخصص أو غير ذلك. أعتقد أنها نقطة أساسية جداً في عبقرية السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ونبوغه.

ص: 76

القسم الثالث

عالمية الطرح في فكر الإمام الشيرازي (رحمه اللّه)

من المزايا المهمة التي امتاز

بها الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) : خروجه عن الدائرة الإسلامية في الدعوة إلى الإسلام، باعتبار أنه لم يكن يعتبر نفسه مرجعاً دينياً فقط، بل كان مصلحاً كبيراً، وليست للمرجعية عنده موضوعية، وإنما المرجعية في نظره طريقية، لأنها طريق إلى خدمة الإسلام وإلى نشر تعاليمه في جميع أنحاء العالم، لذلك هو:

أولاً: لم يحصر نفسه في الدائرة الشيعية التي هو مرجع من مراجعها، بل كانت بعض الأنشطة والكتابات والمناقشات والحوارات التي يقوم بها تشمل غير الشيعة الإمامية من عامة المسلمين، وفي هذا كلام مفصَّل حول علاقاته بالدروز(1) والزيديين(2) في اليمن، والعلويين(3) في تركيا، وعلاقاته مع أبناء السنة

ص: 77


1- طائفة دينية، يسمون بالدروز نسبة لنشتكين الدرزي. يُشير الدروز إلى أنفسهم بإسم الموحدون نسبةً إلى عقيدتهم الأساسية في توحيد اللّه أو بتسميتهم الشائعة (بنو معروف) ويعتقد الباحثون أن هذا الإسم هو لقبيلة عربية اعتنقت الدرزية في بداياتها أو ربما هو لقب بمعنى أهل المعرفة والخير.
2- الزيدية هم طائفة دينية إسلامية متفرعة عن الشيعة ويعتبرون أقلية بينهم، معظمهم في اليمن اليوم، وتواجدوا سابقاً في نجد وشمال أفريقيا وحول بحر قزوين، وتسمى أحيانا بالهادوية ولكنها تسمية خاصة بفرع فقهي داخل الزيدية نسبة إلى يحيى بن الحسين. يؤمنون بإمامة زيد بن علي، بعد الإمام السجاد (عليه السلام) . لا يؤمنون بالعصمة باستثناء للأئمة الثلاث الأولين وهم الإمام علي بن أبي طالب والحسن والحسين بالإضافة لإيمانهم بعصمة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . يرفضون مبدأ الغيبة وتوارث الإمامة ويؤمنون أن كل من تتوفر فيه شروط الإمامة بإمكانه الخروج ومواجهة مايعتبرونه ظلما. شروط الإمامة عندهم أن يكون عالماً في الشؤون الدينية، لا يعاني من عيوب جسدية ومن سلالة النبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبر ابنته فاطمة (عليها السلام) .
3- العلوية وتسمى كذلك النصيرية هي طائفة من الشيعة الجعفرية الإثني عشرية، نسب إليهم عدم اعتمادهم على نظام المرجعيات الدينية (الذي يعد أساسياً عند من سواهم)، وكذلك وجود القليل من الكتب في الفقه والحديث تميز هذه الطائفة. وهي تعتمد بشكل أساسي على الكتب الشيعية وعلى رأسها الكتب الأربعة ومصنفات أخرى كثيرة يشتركون فيها مع بقية الاثني عشرية. وهم اليوم يتواجدون في الجبال الساحلية السورية ويختلفون عن علويي المغرب أو الزيديين في اليمن أو تركيا. وهم من الشيعة الإمامية الإثنى عشرية، انعزلوا لبعض الظروف السياسية القاهرة التي كانت تضطهدهم في كل مكان، و قد سعى آية اللّه الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) و جمع علماءهم ليبينوا حقيقة مذهبهم بعد خروجهم عن تلك الظروف السياسية، فأجمع علماؤهم على بيان وقعه أكثر من 80 عالماً مهماً من علمائهم و طبع تحت عنوان (المسلمون العلويون شيعة أهل البيت) عشرات المرات في سوريا و لبنان و غيرهما.

أيضاً والأنشطة التي كان يمارسها في هذا المجال كثيرة ومتنوعة.

بل كانت له أطروحة نظرية واستراتيجية لتغيير العالم الغربي، ودعوته إلى الإسلام، وهذه نقطة أساسية في المرجعية الشيعية يكاد ينفرد بها الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ، حيث لم نعثر في تاريخ المسلمين على مرجع تقليد بنى خارطة عمل على هذا الأساس، وكانت له في هذا السبيل عدة خطوات، ومن هذه الخطوات كتب كتابين يُعدان من أهم كتبه في هذا المجال، الكتاب الأول هو: (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام)، وهو أطروحته لتغيير العالم كله على ضوء قيم الإسلام ومبادئه، وهذا الموضوع واضح من عنوان

ص: 78

الكتاب، ولا شك أن هذه البنود الأربعة هي الإيمان، الحرية، الرفاه، السلام، هي من أهم الغايات في الشريعة الإسلامية التي تدعو الناس إليها.

وفي هذا الكتاب وجه الإمام الراحل (رحمه اللّه) النقد للسياسة الغربية في العالم عموماً باعتبارها المسيطرة على الوضع العام، أي الوضع الدولي، فبَّين نقاط الضعف فيها، وبَيَّن السياسة الجديدة التي ينبغي أن يمضي عليها العالم.

وهذا الكتاب في الحقيقة غني جداً في الأفكار والتصورات حول هذه القضايا العالمية.

وأما الكتاب الثاني فهو (الغرب يتغير)، في هذا الكتاب كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يتصور - وهذا ما سمعته منه في أواخر عمره الشريف أي قبل أن نفارقه بسنوات - بأن الغرب على الرغم مما فيه من بعض الأساليب الديمقراطية، أو الديمقراطية النسبية، حيث لم يكن يعتقد بأن الديمقراطية الغربية ديمقراطية حقيقية بكل معنى الكلمة وإنما فيها شيء من آليات الديمقراطية، فكان في هذا الكتاب وفي المحاضرات والحوارات الخاصَّة أيضاً يقول هذا الشيء: لابُدَّ من تغيير الطريقة الغربية في الديمقراطية ولابُدَّ من تقويمها، وهذا التعبير أدق من التعبير الأول؛ باعتبار أن هذه الديمقراطية تحمل في طياتها الكثير من التناقضات؛ سواء في طريقة الانتخاب، أم في الرجال الذين تأتي بهم إلى السلطة، وسواء في السياسة الخارجية، أم في السياسة الداخلية، وكان عنده إشكالات أساسية على هذا الموضوع، وكان يطمح إلى تقريب الديمقراطية أكثر إلى الإسلام أورفع مستواها الأخلاقي والإنساني أكثر وأكثر عبر مزاوجتها بمبادئ الإسلام.

ثانياً: المسألة الأخرى التي كان يدعو لها السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وكتبها في عدة موارد من كتبه وذكرها في محاضراته هي: إن الممارسة الغربية للديمقراطية

ص: 79

لابد أن تتطور؛ لأنه انكشف زيف هذه الأساليب، فغير معقول أن البشرية ترتفع وترتقي إنسانياً، ولكن من حيث أساليب السياسة تبقى متخلفة، وقد وضع السيد لتغيير العالم الغربي خطة تتكون من عدة مسائل عملية، أشير إلى المهم منها:

1 - دعا إلى تكوين منظمة عالمية للدفاع عن حقوق المظلومين، ودعوته إلى تكوين هذه المنظمة العالمية هو لأجل نصرة المظلومين، وجمع الطاقات الخيِّرة في العالم، الطاقات الإنسانية المسلمة وغير المسلمة، جمعها وصَبَّها في تجاه تغيير العالم نحو الإسلام ونحو المبادئ الإنسانية، وأسس لهذه المسألة ووضع اللبنات الأساسية والأولية لهذا المشروع العالمي.

ولكن ما يؤسف له أن العالم الإسلامي ما زال متأخراً عن التفكير في مثل هذه الاستراتيجيات وفي العمل لإنجاح مثل هذا المشروع، وربما بمرور الزمن يأتي مَنْ يتبنى هذه المشاريع ويعتمد هذه الخطوة، وسيصل العالم الإسلامي والإنساني في يوم ما إلى نتيجة أنه لا يمكن تغيير العالم إلا بالتماسك والتوحد بين القوى الخيرة، والتنسيق بينها إسلامية كانت أو غير إسلامية.

2 - تعلم اللغات لإبلاغ الرسالة، الشيء الثاني الذي كان يدعو إليه الإمام الراحل (رحمه اللّه) بعض أصدقائه الوكلاء و المبلغين، هو تكثيف الجهود لإلقاء كلماتهم ومحاضراتهم باللغات الأخرى كالإنجليزية والفرنسية، وقد تأسست لجنة لمتابعة هذا الهدف، وقامت بترجمة الكتب وبعضها كتبه الفكرية، وذلك من أجل أن تبدأ الحركة نحو تغيير العالم الغربي، وقد دعا إلى هذا في عدة محاضرات، بل إن أحد الأصدقاء قال: في أواخر أيام حياته بعث إلي يطلبني وكنت في مدينة أخرى، وحضرت عنده وقال: هناك عدة أهداف كنت قد رسمتها، وأطمح إلى

ص: 80

تحقيقها، وربما لم أوفق لإنجاحها، ولكن ربما مَنْ سيأتي بعدي من الأصدقاء أو المؤمنين المصلحين يأخذون بهذه الأفكار ويعملون عليها - وربما كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يجد في هذا الشخص المخاطب هذه القابلية والاستعداد - فقال له: ماذا تقصدون سيدنا؟ قال: يلزم علينا السعي لتغيير ثلاث دوائر:

أولاً: يلزم تقوية الفكر الشيعي وفكر أهل البيت (عليهم السلام) بين أفراد الطائفة الحقة، ليكونوا أكثر ثباتاً ورسوخاً في إيمانهم وسيرهم وعملهم.

ثانياً: أن نحاور أبناء السنة وندعوهم إلى التشيع وندخلهم في ولاية علي والأئمة من ولده (عليهم السلام) .

ثالثاً: ندعو الكفار وأهل الكتاب من النصارى واليهود إلى الإسلام، ويلزم رسم خطة في هذا المجال، وأنا لم أوفق لتحقيق هذا الهدف، ولو كان الأجل يمهلني لسعيت في هذا المجال. ولكن الأجل كان أسرع من هذا الطموح والأمل.

هذا مضافاً إلى حركته العالمية، حيث لو ذهبنا إلى العالم الغربي قلما نجد مدينة من المدن المهمة في العالم الغربي، إلا وقد أسس فيها مؤسسة ما، فهدفه ليس فقط جمع المسلمين، وإنما كان هدفه أن تتحول هذه المؤسسة إلى مؤسسة متينة واسعة ومتجددة في المجتمع الغربي من أجل تغييره، وفعلاً كان (قدس سره) يدعو بعض وكلائه وأصحابه إلى التحرك على غير المسلمين من أجل إدخالهم في الإسلام، وإقناعهم بمبدأ الحوارات البناءة في هذا المجال.

وهنا أتذكر خاطرة عن الإمام الراحل بالنسبة إلى إسرائيل، هذه الدولة الصهيونية، ولا شك أنه لم يكن يدعو إلى الصلح مع إسرائيل، وكان يعتقد بأن إسرائيل زائلة، ولابد في يوم من الأيام أن تزول هذه الدولة المصطنعة، وهذا

ص: 81

التحليل لموضوع الدولة الصهيونية ناشئ من كونها دويلة مزروعة عنوة وبالقسوة بين أعدائها، حيث يقول: من غير المعقول أن هناك دولة يمكن أن تبقى ويحيطها خصومها من كل جانب، وهم المسلمون، ولكن المشكلة أن بقاء هذه الدويلة ناشئ من سببين:

السبب الأول: الدعم الغربي لها وبعض الديمقراطية التي تتمتع بها الحياة السياسية في الدولة الصهيونية.

السبب الثاني: الضعف السياسي الذي يعيشه المسلمون باعتبار أن الحكومات الإسلامية أكثرها حكومات مستبدة، قامعة للصوت الحر، ومانعة للفكر من الانتشار، وداخلة في ضمن معادلات دولية مع الدول الكبرى من أجل الحفاظ على إسرائيل، والدخول في مشروع ما يسمى بعملية السلام أو إلى الصلح معها.

فلذلك ألّف كتاباً في هذا المجال عنوانه: (الصلح مع اليهود استسلام لا سلام)(1) . وعنوان الكتاب ينم عن خلاصة الفكرة التي كان يدعو إليها، وكان يدعو الغرب والمفكرين الغربيين في كتبه وحواراته التي يجريها، إلى سحب اليد عن هذه الدولة، حيث لا يمكن لها أن تدوم، في الوقت الذي تعد أهم عوامل عدم الاستقرار في العالم وليس في المنطقة فقط.

وهذا الكلام يمثل موقفاً وتحركاً مهماً من قبله، حيث إن المنطقة إذا يراد لها أن تكون مستقرة سياسياً وأمنياً، لابد من رفع بؤر التوتر منها، وأولها هذه

ص: 82


1- تناول فيه المؤلف عدة مباحث منها: من هم اليهود؟ ومن هي إسرائيل؟ الأصل الجديد ليهود اليوم، مزاعم اليهود، الطابع التجاري لديانة اليهود، اليهود في البلاد العربية، فلسطين في التأريخ وغيرها من المباحث، طبع الكتاب سنة 1422ه- في بيروت.

الدويلة المصطنعة، والمسلمون ثقتهم مهزوزة بالسياسة الغربية بسبب وجود هذه الدويلة، وذلك لأنهم يرون أن هناك تناقضاً في السياسة الدولية التي يقودها الغرب، فمن جهة يدعمون إسرائيل ويقوونها ويمدونها بالسلاح، فتشن إسرائيل عدواناً متواصلاً على المسلمين بشكل وبآخر، ومن جهة ثانية يدعون المسلمين إلى المصالحة معها.

ولو كان الغرب يسمع هذا الكلام ويطبقه، ما كانت تذهب المليارات من الأموال هدراً وعبثاً، وما كان هناك الحاجة إلى تجييش آلاف من الجنود وجلبها إلى المنطقة، وما كانت تذهب مئات الآلاف من الضحايا من هذا العالم، وما كانت تحصل مثل هذه الزعزعة وعدم الاستقرار في العالم نتيجة لهذا الموضوع وهذا الانحراف السياسي الدولي.

تغيير الغرب واليهود

ألخص كلامي بالنسبة إلى توجيه الإمام الراحل (رحمه اللّه) نحو الغرب، تغيير الغرب نفسه؛ وقد كان يدعو صراحة حتى الى تغيير اليهود، أي دعوة اليهود إلى الإسلام والإنسانية؛ فهنالك مشتركات كثيرة بين الأديان السماوية؛ لأن ما يدعو إليه الإسلام هو ما تدعو إليه الفطرة بقطع النظر عن المتبنيات والمعتقدات، ومنها مسألة الإنسانية ومسألة الرحمة ومسألة التسامح واللاعنف، وهي نقطة أساسية في الإسلام، وفي الحديث الشريف: «بعثت بالحنيفية السهلة»(1).

وأتذكر في هذا المجال (انتفاضة الحجارة) الفلسطينية، حيث بدأوا بها أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، وكانوا سابقاً يستخدمون السلاح في المقاومة، ثم

ص: 83


1- كنز العمال: ج6 ص111.

تركوا السلاح واستخدموا الحجارة، وفي ذاك الوقت كانت الانتفاضة الفلسطينية في ذروتها وفي أوج قوتها، لأن جيلاً جديداً نشأ في الفلسطينيين يطالب بحقه في الأرض، ألقى السلاح وبدأ يرمي الحجارة، فبعث الإمام الراحل (رحمه اللّه) مرسولاً إلى ياسر عرفات، وقال: لابد وأن الحق يؤخذ في يوم ما، ولكن عليكم المطالبة بحقوقكم عن طريق اللاعنف، والحجارة عنف، فإذا تركتم الحجارة ستصلون إلى أهدافكم بشكل أسرع وبضحايا أقل.

وبالفعل نحن نرى الآن وبعد مرور سنوات طويلة على انتفاضة الحجارة، ودائماً الشعب الفلسطيني يعطي الضحايا والقتلى والسجناء والجرحى وحياة المجتمع الفلسطيني غير مستقرة، وهذا نتيجة العنف الذي يمارسه أصحاب الحق! لأن الظالم ظالم ولا يبالي بالظلم أبداً، فيقتل ويعذب ويسجن ويصادر الأموال، وممكن إذا مارس المظلوم العنف سيعطيه المبرر أكثر إلى الظلم والعدوان، وحيث إن العالم لا يحكمه الضمير الحر بل المصالح والاتفاقات، ولأن المعسكر الدولي يقف إلى جانب الظالم لا المظلوم، فلذا كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يدعو أصحاب الحق إلى استخدام الأساليب السلمية في المطالبة بحقوقهم كلها.

كان (قدس سره) يدعو الغرب أيضاً إلى التخلي عن السلاح، وله أطروحة جاهزة في هذا المجال، وأن السلاح هو عمل غير عقلاني. لو لاحظتم أول كتاب (الصياغة الجديدة)، وفي أوله يذكر السيد الراحل (رحمه اللّه) عنواناً مثيراً وجذاباً جداً وينم في الحقيقة عن عمق، والعنوان هو: (عالم العقلاء أم عالم المجانين؟)، ولا يقصد من العقلاء والمجانين المعنى اللغوي، بل المعنى السياسي، أي الذين هم عقلاء ولكن تصرفاتهم طائشة ومتناقضة.

ص: 84

وحاصل البحث: إن الذين يديرون العالم وبيدهم أزمّة الأمور وأزمّة القرار السياسي والتسليحي في العالم، ليسوا بعقلاء، بل مجانين؛ لأن هناك كثير من التناقضات، ويذكر المسألة بالتفصيل في محله.

فمثلاً: تراهم يصرفون مئات المليارات لأجل بناء آلاف المستشفيات، ويصرفون في المقابل مليارات الأموال لأجل شن الحروب حتى يملؤون هذه المستشفيات بالقتلى والجرحى!!

فمن جهة نرى هناك توجه نحو السمو في رعاية الصحة العامة والحفاظ على سلامة البيئة، ومن جهة أخرى يصنعون أسلحة يلوثون بها البيئة، ويقتلون بها الناس!! فهل هذا عالم عقلاء أم عالم مجانين؟!

فمعنى دعوته الغرب، هو أنه يجب عليه أن يتخلى عن السلاح، ويتخلى عن الحروب حتى تصل البشرية إلى مستوى راقٍ من الديمقراطية ومن التفاهم، ومن السمو الإنساني، والشعوب تتلاحم.

وأكمل هذه الفكرة بأن دعا إلى رفع الحدود الجغرافية بين دول العالم، ودعا إلى الأمة الواحدة، وإلى الأخوة في الإنسانية. هذه مجموعة من الأفكار، والمحاور التي تدعو الغرب إلى تغيير سياسته التي يسير عليها، وإصلاح العالم نحو المبادئ السامية للإسلام.

في هذا المجال الكلام طويل جداً ولكن وبشكل إجمالي أقول: لا تكاد تحدث حادثة في أية بقعة من العالم، سواء أكانت مرتبطة بالمسلمين أم بغير المسلمين إذا كان فيها بُعد إنساني أو بُعد حقوقي، إلا وللسيد الراحل (رحمه اللّه) فيها متابعة ورأي، وله مساع لإصلاح الوضع.

ص: 85

الجهاد عند الإمام الراحل (رحمه اللّه)

ومن الأشياء التي لاحظتها عنده ومن ضمن المباني الفقهية له في باب الجهاد - وهذه قد تكون من مبتكراته، وعلى فرض أن أحداً سبقه إليها، إلا أنه بلورها ووضع معالمها بصورة أكبر - هي: إن الجهاد في سبيل اللّه لا ينحصر في الدفاع عن بيضة الإسلام، فهو في نظره أن الجهاد يكون لعدة أهداف:

1 - لنشر الإسلام.

2 - دفاعاً عن الإسلام.

3 - إنقاذ المستضعفين في الأرض، ويستدل على ذلك بمثل قوله تبارك وتعالى: (مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ)(1)، وفي قوله تعالى: (المُسْتَضْعَفِينَ) يقول الإمام الراحل (رحمه اللّه) : هذا بند ومحور أساسي من أهداف الجهاد في الإسلام، إذاً إنقاذ المظلوم وحماية صاحب الحق

- وبقطع النظر عن الفكر والعقيدة - من مهمات المجتمع المسلم أيضاً، وكان للسيد الراحل (رحمه اللّه) في أي قضية تحدث في العالم وفيها مظلوم، رأي وله توجه، وله مساع أيضاً في هذا المجال، وذلك عبر إصدار البيانات وإصدار التوجيهات المناسبة لمعالجة هذا الوضع.

أما فيما يتعلق بالوضع في العالم الإسلامي فحدث ولا حرج.

مع وفد قادة الحركة الأفغانية

أتذكر زاره وفد من قادة الحركة الأفغانية، وذلك قبل الخروج السوفييتي

ص: 86


1- سورة التوبة: 38.

من أفغانستان، وقبل مجيء حركة طالبان، فقد كانت الحركة الجهادية الأفغانية هي التي تقف في مواجهة الروس، حيث قام زعماء الفصائل الأفغانية المناهضة للوجود السوفييتي بتشكيل جبهة موحدة، ثم اجتمعوا جميعاً تحت اسم (حزب الوحدة الإسلامية)(1)، واختاروا أميناً عاماً له، فجاء وفد من قادة الحركة الأفغانية، وكان بعضهم من الشيعة الإمامية، ولعل بعضهم كان من السنة أيضاً، فجاؤوا إلى مدينة قم وزاروا مجموعة من العلماء الذين لهم شان في الساحة الأفغانية، ومن ضمنهم زاروا الإمام الراحل (رحمه اللّه) أيضاً، لقد قدموا لينقلوا صورة عن الوضع الأفغاني للعلماء، ولكي يستمعوا لتوجيهاتهم في الشأن الأفغاني، وقد كانت للسيد الراحل (رحمه اللّه) مرجعية كبيرة في أفغانستان، ولعلها كانت المرجعية الأولى في الساحة الأفغانية.

وبعض الذين كانوا في الوفد لم يلتقوا به من قبل، ولكنهم سمعوا عنه بعض الكلام السلبي والدعايات المغرضة، فلم يكونوا مقتنعين بشخصيته وبفكره بالقدر الكافي، ولكنهم ولمتطلبات السياسة وضرورة المصلحة قدموا إلى ايران والتقوا به، فكان فيهم من مقلديه، ومَنْ لا يعتقد به، حينما التقوا به وخرجوا من عنده وبعد جلسة حوار خاصة بهم - إذ لم أحضر هذا الاجتماع الذي استمر

ص: 87


1- حزب الوحدة (وحدة إسلامي) عبارة عن اتحاد توصلت إليه ثمانية أحزاب من الشيعة في مدينة باميان يوم 18 يوليو (تموز) 1989،وكان الحزب يسيطر على منطقة هزارجان وسط أفغانستان قبل أن تخرجه طالبان من تلك المنطقة عام 1998. لكن أعضاء التحالف بدأوا يلتئمون مرة أخرى وضموا الطاجيك والاوزبك العرقيين والهزارة في جبهة مشتركة لمعارضة خطة مفاوضات السلام مع طالبان التي وضعتها الولايات المتحدة، وعموماً الأحزاب الشيعية ضعيفة، مقارنة بالأحزاب السنية، التي سيطرت عليها باكستان، ومنها حزب الوحدة، وحركة نصر، وحركة الشورى والاتفاق، وحرس الجهاد، والحركة الإسلامية، وحزب اللّه.

حوالي الساعة، إلى الساعة ونصف - خرجوا متأثرين به جداً، وكان أحد أبرز قادتهم - و الذي قد قُتل فيما بعد على يد طالبان في أفغانستان - الأشد إعجاباً بشخصيته، فصرح قائلاً: أنا أتأسف جداً على الحركة الأفغانية التي لم تتعرف على السيد الشيرازي من قبل، فسئل: لماذا؟ قال: لأنه أمدَّنا بمعلومات قيِّمة وكثيرة عنا و عن بلدنا أكثر مما نعرفه نحن أهلها، وأعطانا وزودنا بحلول ومقترحات لمعالجة الوضع السياسي والجهادي، ورسم لنا خطة لمستقبل أفغانستان عبر تصورات متنوعة لهذا المستقبل، والحال نحن الأفاغنة، ورغم أنه مضى زمن طويل يزيد على عشرين عاماً في الحركة الأفغانية الجهادية نقاتل ضد الروس ليس لدينا هذا التصور وهذا الشمول في النظرة إلى الوضع الأفغاني.

وهكذا الحال في قضية كشمير(1)، وقضايا أخرى أيضاً، حيث لا يمكن أن توجد حادثة، أو مشكلة ما تقع في العالم الإسلامي، وغير الإسلامي إلا وله فيها مساعٍ، وله فيها رأي ونظر، ولو تأملنا قليلاً واسترجعنا الذكريات والخواطر سنجد كثيراً منها في هذا المجال.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) والأكراد

كان له مواقف مشرقة ومشرفة تجاه الحركة الكردية في شمال العراق، في سبيل رفع الظلم والجور والتمييز العنصري الواقع عليهم، على الرغم مما كان

ص: 88


1- كشمير هي المنطقة الجغرافية الواقعة ما بين الهند وباكستان والصين في شمال شرق آسيا. والصراع حول كشمير يشير إلى نزاع إقليمي بين الهند وباكستان (وبين الهند والصين) حول كشمير، في الشمال الغربي لشبه القارة الهندية. نشبت بسببها حروب ومواجهات عسكرية بين البلدين، تبعها مؤتمرات قمة، سعياً إلى حل هذه المشكلة التي زاد خطرها خاصة بعد انضمام الدولتين إلى النادي النووي.

يتعرض له من ضغوط كثيرة من حكومة العراق وقتها لأجل أن يصدر بياناً أو تصريحاً ضد الحركة الكردية، ولكنه كان يدافع عن الحركة الكردية، وكان يقول: هؤلاء أصحاب حق بغضِّ النظر عن قربهم أو بعدهم من المذهب، أو قريبين من الإسلام أو بعيدين عنه، فهذه المسائل لا يأخذها بنظر الاعتبار، فإنهم أصحاب حق، فلا ينبغي أن يسلب حقهم، لأجل قوميتهم أو عنصرهم أو لأي شيء آخر، وقد زاره أوائل الثمانينات إدريس البارزاني(1) ولعله يومذاك كان الشخص الثاني في الحركة الكردية بعد ملا مصطفى البارزاني(2)، وهو صاحب

ص: 89


1- ولد عام 1944 في قرية بارزان في الوقت الذي كان يعيش البارزانيون حياة قاسية، ألتحق ادريس البارزاني سنة 1962 بصفوف البيشمركة وأدى دوراً بارزاً في تقريب وجهات نظر الأحزاب، وأول من وضع اللبنة الأساسية للجبهة الكوردستانية ، وقاد ملحمة هندرين سنة 1966، وانتخب عضواً في اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكوردستاني في مؤتمره الثامن سنة 1970، وكان عضواً فعالاً في المفاوضات بين الثورة الكوردية والحكومة المركزية، وبعد نكسة عام 1975 عاش منفياً في المخيمات الايرانية، انتخب في المؤتمر التاسع لعام 1979 عضواً للمكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكوردستاني ومشرفاً على الشؤون العسكرية، عمل فترة طويلة مسؤولاً للعلاقات العامة للحزب، توفي يوم 31/1/1987.
2- زعيم كردي من كردستان الجنوبية شمال العراق، شارك أخاه الأكبر أحمد البارزاني في قيادة الحركة الثورية الكردية للمطالبة بالحقوق القومية للأكراد، لكن هذه الحركة تم أخمادها من قبل السلطة الملكية في العراق والقوات البريطانية المحتلة التي أستخدمت ولأول مرة في التاريخ الأسلحة الكيميائية ضد المناطق التي سيطر عليها الثوار الأكراد ،وفي عام 1935 تم نفي البارزاني مصطفى إلى مدينة السليمانية مع أخيه الشيخ أحمد. في عام 1942 فر البارزاني من منطقة نفيهِ ليبدأ حركته الثورية الثانية. وبعد تولي الرئيس العراقي عبد السلام عارف الحكم إتفق مع عدد من القادة الأكراد (سياسيين وعسكريين) وبضمنهم البارزاني على حل شامل للقضية الكردية حيث أعلن اتفاق أبريل عام 1964م، والذي تضمن منح الأكراد الحقوق الثقافية والإسهام في الحكم وبعض الحقوق الأخرى،إلا أن التيار القومي العربي تمكن من التسلل إلى السلطة ونسف كل ما أتفق عليه فاستمرت الدولة باجراءاتها القمعية للشعب الكردي، فتجدد النزاع المسلح بين الطرفين،وظلت القضية الكردية تؤرق حكومة بغداد والبارزاني يقضّ مضجع القيادة العراقية. غادر بعدها البارزاني إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث توفي فيها عام 1979م، في مستشفى جورج واشنطن إثر مرض عضال.

شخصية قوية في الحركة الكردية.

وقد أسس السيد الراحل (رحمه اللّه) بعد خروج الشمال من تحت سيطرة صدام ونظامه حسينية فيه، وعيَّن بعض الوكلاء يعملون لهداية الناس وإصلاحهم، وكذلك تقديم المساعدات الإنسانية إليهم، ولا يقول: هذا كردي، أو هذا عربي؛ إذ لا يوجد هكذا تصور في ذهنه، وكان في مجال الحركة والعمل يدعم الكل ويؤيدهم، فكان يحاول أن يساعد كل مظلوم وينصره، ولعله من المراجع القلائل من الذين كان لهم وكلاء في شمال العراق، لذلك نرى الأكراد كانوا يحترمنه كثيراً، ويعترفون بدوره الطيب في نصرة مظلومية الأكراد، وهم يكنون له غاية التقدير لمواقفه، وفي كتاب (تلك الأيام .. صفحات من تأريخ العراق السياسي) ذكر السيد الراحل (رحمه اللّه) بعض الإشارات والذكريات والخواطر في هذا المجال.

كما أذكر أنه بعد سقوط النظام الصدامي وأبان الحكومة الأولى زار بعض الأصدقاء في لقاء خاص برهم صالح(1)، وهو أحد القيادات الكردية، فأهدوه

ص: 90


1- ولد الدكتور برهم أحمد صالح عام 1960 في مدينة السليمانية في كوردستان العراق. اعتقل من قبل نظام حزب البعث مرتين بتهمة انتماءه للحركة التحررية الكوردية، غادر العراق متوجها إلى المملكة المتحدة لأتمام دراسته بعد الإفراج عنه. انضم سراً إلى صفوف الاتحاد الوطني الكوردستاني ((UK) أواخر عام 1976 ومن ثم أصبح عضواً في تنظيمات أوروبا ومسؤولاً عن مكتب العلاقات الخارجية للاتحاد في العاصمة البريطانية لندن. تم انتخابه عضوا في قيادة الاتحاد في أول مؤتمر للحزب عام 1992، حيث تم تكليفه بمهمة إدارة مكتب الاتحاد الوطني الكوردستاني في الولايات المتحدة الأمريكية، كما أصبح ممثلا لأول حكومة في إقليم كوردستان لدى الولايات المتحدة الأمريكية.

كتاب (تلك الأيام) فأشاد بالكتاب وبمواقف السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وقال: نحن لا ننسى مواقفه تجاه القضية الكردية، وتجاه حمايتنا.

وهذا بالفعل موجود لدى الأكراد، إذ لهم احترام شديد جداً تجاه السيد الراحل (رحمه اللّه) ، ويقدرون مواقفه كثيراً، حتى إن جلال الطالباني(1) - في توليه لمنصب رئاسة الجمهورية - عندما زار كربلاء المقدسة جاء لزيارة مكتب السيد الشيرازي (دام ظله) احتراماً وتقديراً للمواقف، مع أن بعض أصحابنا المجاهدين القدامى وبعضهم من قادة المتدينين الإسلاميين، من الحركات والأحزاب الإسلامية لم يفعلوا هذا، مهما يكن من أسباب.

العمل في أفريقيا

وأيضاً لاحظنا اهتمام الإمام الراحل (رحمه اللّه) في أفريقيا والسعي لهدايتها إلى الإسلام فبعث إليها المبلغين، وأسس المدارس ووضع الوكلاء، وأوكل مجموعة من الأفارقة للعمل في أفريقيا، ففي كينيا هناك نشاط واسع، وفي سيراليون وبلاد أخرى، ومن الذين اهتموا بذلك الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) الذي كان

ص: 91


1- ولد طالباني في قرية كلكان التابعة لقضاء كوي سنجاق قرب بحيرة دوكان. أنظم إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الملا مصطفى البارزاني سنة 1947م، وعندما كان عمره 14 عاماً، وبدأ مسيرته السياسية في بداية الخمسينات كعضو مؤسس لاتحاد الطلبة في كردستان داخل الحزب الديمقراطي الكردستاني.

يتحرك هناك بنشاط بالغ، وكذلك هناك من الرعيل الأول من تلاميذ السيد الراحل (رحمه اللّه) ذهبوا إلى أفريقيا، والتقوا بمجاميع كبيرة من الأفارقة، واهتدى على يدهم الكثير من الأفارقة.

وهذا كله ينم عن أن حركة السيد ما كانت حركة محدودة أو مغلقة، وإنما كانت - في حقيقتها - حركة إصلاحية عالمية تبدأ من إصلاح الإنسان نفسه، ثم إصلاح المجتمع، ثم اصلاح الوضع الدولي بشكل عام، والوضع السياسي فيه، فلا يمكنك أن تعتبره مرجعاً محدوداً في عمله، إنما هو مرجع عام شامل، وفي كل الاتجاهات، إذ لا تجد قضية من القضايا تحدث في هذا العالم إلا وله فيها اهتمام ورأي وسعي لإصلاح بعض الوضع فيها.

هذا كلام بشكل مجمل عن هموم وحركة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، ولا مجال للتفصيل الآن أكثر.

الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ومنهجية الوكالة والوكلاء

* كم تقدِّرون عدد وكلاء الإمام الراحل (رحمه اللّه) وأنشطتهم وبلادهم؟

* وما هي مستوياتهم وكفاءاتهم؟

* وإلى أي حدٍّ كانوا يلتزمون بإرشاداته التي تطرق لها في كتاب (إلى الوكلاء في البلاد)؟

* وبشكل عام كيف كانت نظرته إلى الوكلاء وترابطه معهم؟

* وكيف كان تعامل الوكلاء معه؟

- هذا سؤال مهم كثيراً، فالذي لاحظته أن أسلوب الإمام الراحل (رحمه اللّه) أو طريقة عمله، كانت مبنية على الانفتاح، فلم يكن يجعل حواجز بينه وبين الوكلاء بل حتى الناس، فكان يهتم بأي طاقة من الطاقات أو شخص من

ص: 92

الأشخاص إذا كان يتلمس فيه الخير وإنه يمكن أن يقدم بعض الشيء وأن يخدم الإسلام بعض الخدمة، ثم يعطيه اعتباراً معنوياً، ويشجعه للعمل، طبعاً على اختلاف في المستويات بعضهم على مستوى المأذونين، وبعضهم على مستوى الإجازة، وبعضهم على مستوى التوكيل.

وكان من السهل أن يأتيه شخص يطلب منه وكالة، فإذا عرفه وأن له مسجداً أو موقعاً أو أي قناة للخدمة ويُزكَّى من قبل جماعة ويُوثَّق من حيث التديُّن والفكر فإن الإمام الراحل (رحمه اللّه) وبشكل صريح يعطيه وكالة على اختلاف مراتب الوكالات طبعاً، ولم أجد في يوم من الأيام أنه منع أحداً من العمل بسبب الوكالة، ولا سحب وكالة من أحد، وكان غالباً ما يستشهد بسيرة المرحوم السيد أبي الحسن الأصفهاني(1) ويقول: كانت سيرته هكذا، وتعرفون أن مرجعية السيد أبي الحسن كانت كبيرة جداً، و يُشهد لها بالكفاءة من الناحية الإدارية، حيث كانت تدير المجتمع الشيعي في أزمنة صعبة مثل أزمنة القحط والجوع

ص: 93


1- السيد أبو الحسن بن محمد بن عبد الحميد الموسوي الأصفهاني. مرجع وفقيه شيعي إثني عشري، تسّلم المرجعية بعد وفاة الشيخ محمد حسين النائيني، فصار من كبار مراجع الشيعة وقياداتهم الدينية والسياسية في إيران والعراق. ولد سنة 1277 ه- في إحدى القرى التابعة لمدينة فلاورجان التابعة لمحافظة أصفهان، وينتمي لأسرة متدينة، فوالده محمد كان من رجال الدين في أصفهان، وكذلك جده عبد الحميد الذي كان أحد طلاب محمد حسن النجفي - المشهور بصاحب الجواهر -، وينتهي نسب عائلته بواسطة اثنين وثلاثين عقباً إلى الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) . في عام 1307 ه، هاجر الأصفهاني إلى مدينة النجف وتتلمذ عند رجال الدين والمراجع الموجودين آنذاك أمثال الشيخ حبيب اللّه الرشتي، والشيخ محمد كاظم الخراساني، والسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي -، وقد تبوأ هناك المرجعية والقيادة الدينية والسياسية.

والأوبئة الخطيرة التي كان يمر بها العراق وغير العراق، فقد كان المرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني يكفل عوائل الناس.

و قد نقل لنا السيد الراحل (رحمه اللّه) : لما توفي السيد أبو الحسن الأصفهاني حزن عليه العراقيون واستمر عليه الحداد أربعين يوماً، وأقاموا له العزاء بكل طوائفهم حتى المسيحيين، وسائر القوميات والجاليات وكافة مكونات الشعب العراقي، و من المعلوم أن المجتمع العراقي متنوع في أطيافه ومذاهبه وقومياته، فالجميع نصبوا عليه العزاء واستمر عزاؤهم أربعين يوماً، حتى إن علب السكائر طبعت باللون الأسود حداداً عليه.

هذا لأنه كان صاحب مرجعية مديرة ومدبرة في المجتمع، وكانت تتحمل مسؤوليات ومهام كبيرة في أوساطه.

فكان يذكر نقاط القوة في السيد أبي الحسن الأصفهاني و التي تمكن بها من الخدمة الجيدة، واحدة منها هي مسألة الانفتاح في موضوع الوكالات، فلذلك ترى عنده وكلاء من طالب المقدمات - يعطيه نسبة من الوكالة والاعتبار - إلى طالب البحث الخارج، وإلى المجتهد. كل على قدر نسبته، وعلى دوره وموقعه يعطيه اعتباره ووكالته، وكان بعضهم من غير أهل العلم ولكنهم متدينون ووجهاء في مجتمعهم.

وهكذا كان الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ففي أي مكان من العالم تجد له وكيلاً أو وكلاء، فلو ذهبت إلى أي منطقة في إفريقيا ترى شخصاً من أهل العلم وكيله، وربما تجد في البلد الواحد الكثير من الأشخاص عندهم وكالات منه، طبعاً مع حفظ المستويات. ونادراً ما تشاهد مكاناً في العالم ليس للإمام الشيرازي (رحمه اللّه) أو لتلاميذه أو لوكلائه فيه وجود.

ص: 94

وأما سبب التوسعة في الوكالات فلأنه كان يرى الوكالة طريق إلى ترويج الشريعة، فالهداية - و التي هي من مسؤولياته - تتوقف على نشر الوكلاء بكثرة، فإن كل وكيل شمعة مضيئة في تلك المنطقة، - كل بنسبته وحسبه -، فلا شك أن وجوده أفضل للناس.

نعم كان البعض يُشكل عليه بأن المستوى العلمي لبعض الوكلاء ضعيف، أو أن البعض مستواه الإداري ضعيف، وهو كلام صحيح بالنسبة؛ لأن التوسعة في الوكلاء والوكالات تستلزم هذا النوع من المشاكل والسلبيات، لكنه كان ينظر إلى الأمر من باب التزاحم في معادلة الأهم والمهم، فكان يرى أن الأهم هو إعطاء الوكالة وتحمل بعض الأضرار التي تنشأ منها؛ لأننا إذا لم نكثر الوكلاء في المجتمع المسلم وغير المسلم معناه أن المجتمع يبقى بلا قيادة، ويبقى بلا توجيه، فلا شك أن بعض التوجيه أفضل من عدمه، وبعض الإصلاح أفضل من عدمه.

وقلما تجد مرجعاً له هذا العدد من الوكلاء كالإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ، حتى أن وكلاءه ربما بلغوا الآلاف، على اختلاف مستوياتهم و درجات وكالاتهم وأدوارهم.

نعم بعض الوكلاء كانوا رموزاً، ويعتبرون من الرعيل الأول من وكلاء الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وكثير منهم كان يجسد أفكاره وتوجهاته.

ولا شك أن للإمام الراحل (رحمه اللّه) السهم الكبير في هذا التحرك العالمي الحاصل الآن في النهضة الشيعية في العالم، وله سهم كبير في صعود وصمود النواب الشيعة في مجالس الأمة، أو الوزارات، أو الحكومات في بعض البلاد. هذا في الوقت الذي كان الشيعي هو الضحية دائماً، وليس له أي شيء، ولكن السيد الراحل (رحمه اللّه) صنع للشيعة وجوداً حقيقياً في حياة الأمة الإسلامية اليوم.

ص: 95

وعندما كان مقيماً في دولة الكويت وبجهوده الحثيثة أصبح للشيعة ثلاثة عشر نائباً في مجلس الأمة، وكانت القضية بالنسبة إلى العالم الشيعي والإسلامي قضية نادرة، فالحكومات كانت تعادي الوضع الشيعي، ولا تثق بإعطاء بعض الصلاحيات السياسية أو الإدارية للشيعة، وهكذا الحال نفسه في أفغانستان، والهند وباكستان وكشمير والعراق وغير ذلك من البلدان.

وقد اعتمد في نشر مرجعيته و أفكاره على البنى التحتية للمجتمع المسلم، فإن البنى التحتية للمرجعية تقوم على عدة عوامل، منها: الوكلاء، فبعض الوكلاء يمثلون توجهاته الإصلاحية، وبعضهم يمثل توجهاته في بناء المؤسسات، وبعضهم يمثلون الثقل الفكري والعلمي.

مؤلفات المدرسة الشيرازية

ربما في عام (1994 أو 1995م) قاموا بإحصاء مجموع ما كتب في مدرسة الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) من كتب نهضوية وتوعوية في العالم الإسلامي، وهذه الإحصائية ربما كانت الأولى، فكان العدد خمسة آلاف عنوان من كتبه أو كتب تلاميذه. أما إذا أردنا جمعها في هذه السنة - عام 1428ه- المصادف 2007 م - لا شك أن هذا العدد قد تصاعد كثيراً، فأي مدرسة علمية، تمكنت أن تنجز هذا الإنجاز؟!

ولا نستطيع القول إن شخصاً واحداً تمكن من تمثيل شخصية السيد الراحل (رحمه اللّه) بكل أبعادها ومميزاتها، فهو وجود نادر، وتمثيله صعب، و لا أبالغ في ذلك، وقد ذكرت سابقاً أن ما تفرق في الآخرين من الكمالات اجتمعت فيه، فهو شخصية فَذَّة، ونادرة في الحقيقة، واهتماماته كثيرة وواسعة، ولم يستطع

ص: 96

وكيل أن يمثل كل توجهاته وكل شخصيته، لكننا - وبشكل عام - نستطيع القول إن كل مجموعة من الوكلاء مثَّلت بُعداً من أبعاد شخصية السيد الراحل (رحمه اللّه) ، فبعضهم في جانب المؤسسات والبعض الآخر في بُعد الخطابة والمحاضرات التوجيهية، وبعضهم في الجانب العلمي وبعضهم في الجانب التربوي، وبعضهم في الجانب الحضاري والإصلاحي وهكذا.

جماهير المقلدين

* سماحة الشيخ، هل يمكنكم أن تحدثونا عن عدد مقلدي الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

* وما هي النشاطات التي كانوا يمارسونها؟

* وهل لديهم مؤسسات معينة؟

* وما هي القوميات التي ينحدرون منها؟ وكيف كان ارتباطهم و علاقتهم بالامام الراحل؟

- حصر عدد المقلدين وتشخيصه صعب جداً، ولكن في الحقيقة أن مرجعية الإمام الراحل (رحمه اللّه) كانت مرجعية عالمية، فله مقلدون في كل العالم الإسلامي، في أي مكان يوجد تقليد ومقلد، وقد تختلف نسبة هؤلاء المقلدين بالنسبة لبقية المراجع الأعلام من حيث السعة والضيق، ففي أفغانستان، كان أقوى مرجع فيها، وفي الخليج ربما كانت مرجعيته المرجعية الثانية، وفي الكويت ربما كان هو الأول مثلاً.

أما في العراق فبسبب الظروف السياسية التي مرَّ بها، حيث كان مُحارباً شخصه وفكره، بل كل ما يمتُّ إليه بصلة ويرتبط به، فكانت النسبة أقل، لكن في بلاد الشام له مقلدون بنسبة جيدة، وفي الهند وباكستان له نسبة جيدة من

ص: 97

المقلدين، وفي أفريقيا عنده نسبة لا بأس بها، وفي أوروبا عنده نسبة جيدة، فهو ليس مرجعاً منحصراً في بلد، أو إقليم أو قومية أو لغة، وإنما له أتباع ومقلدون من كل القوميات، فالأتراك مثلاً في إيران كان منهم نسبة كبيرة يقلدونه مع أنهم ليسوا بعرب، فقد كانت مرجعيته عالمية أُممية، وهذا ما كنا نلمسه جيداً من خلال مراجعة الناس له، ومن خلال الاستفتاءات التي تصل إليه، وكذلك رسالته العملية التي طبعت بعدة لغات، العربية والانجليزية والتركية والاوردية والفارسية وغيرها. ولا شك أن مرجعيته من المرجعيات العامة الشاملة التي كانت منتشرة في كل أصقاع الأرض.

ارتباط المرجع بمقلديه

* كيف كان ارتباط الإمام الراحل (رحمه اللّه) بمقلديه؟

* وكيف كان ارتباطهم به؟

- لم يكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) يضع أو يصنع حواجز بينه وبين الناس، وهذه نقطة امتياز كبيرة جداً - فإن غالب الشخصيات المهمة تحول الحواجز بينهم وبين عموم الناس - فكان يستقبلك في أي وقت كنت تدخل عليه، ومهما يكن مستوى الشخص الزائر له والداخل عليه، سواء أكان من البسطاء أم من المهمين أم من الأثرياء، فبسهولة يمكنه أن يصل إليه ويلتقي به شخصياً.

لم يكن يضع حاجزاً بينه وبين الناس؛ لذلك حصل على محبة خاصة بينهم، وهذه من العلامات المميزة في علاقاته، فهو بمقدار ما ابتلي بخصوم ألداء - كما تكلمت عنه في كلام سابق - حصل على محبين أوفياء جداً، فمحبه محب شديد، ومبغضه - بعضهم - مبغض شديد، مُحبوه تحمّلوا الكثير لأجل الإيمان

ص: 98

به، فمنهم من تعرض للسجون والتشريد والتهجير والقتل والفقر والجوع وغير ذلك.

ارجعوا إلى الجماعة الذين كانوا يقلدونه ويرتبطون به، وانظروا ماذا كان يحصل لهم؟ وماذا كانت حياتهم؟ إنه لم يرض لمرجعيته الراحة، بل اعتمد على الجهاد، فليس أمام الذي يتبعه إلا الجهاد، دون أي شيء آخر، فقد حارب ثلاثة أنظمة كبرى في المنطقة، وحارب الاستعمار بأشكاله، وكان عنده ممارسات ونشاطات لتغيير الوضع الدولي بشكل عا، وهذا أمر كبير، ومن الطبيعي أن أتباعه ومقلديه في أي مكان يعيشون فيه يكونون محاربين، فلا تقبل بهم تلك الأنظمة.

وفي نفس الوقت نرى أنه عندما توفى، لم يكن يملك شبراً من الأرض، بل مات مديوناً ديناً كبيراً، وكذلك الحال مع بعض أولاده الكرام حيث يجري نفس الشيء، وكذلك بعض تلاميذه، فلا تجد تلاميذه الملتزمين بفكره ومنهجه بلا نشاط، بل قد لا تجد فيهم الثري الذي يرفل بالمال، وحتى الثري فيهم ترى عنده مؤسسة يخدم فيها الأيتام، أو يخدم فيها المجتمع، فلا يوجد ما يعتبرونه منافع شخصية لهم أو لأولادهم أو لأتباعهم، وهذه قضية مهمة، فلذلك لا يملك المقلد إلا أن يحبه حباً كبيراً.

وكثيرٌ من هؤلاء المقلدين قدموا لأجله تضحيات كبيرة، - بسبب الضغوطات التي تمارسها بعض الحكومات عليه وبعض الجهات المنافسة له، وهذا حصل بالفعل كثيراً، فعلى الرغم من الخوف والإرهاب، ما تخلى عنه أصحابه، وبقي قوياً، وبقي متماسكاً إلى آخر فترة من عمره الشريف، والسر في ذلك هو أسلوبه في العمل، حيث يُشعر الإنسان إذا كان صغيراً بأنه والده في الحقيقة، لا مرجعه فحسب، فيأخذ منه العطف والمحبة والحنان والفكر والتوجيه والهداية أكثر

ص: 99

مما يأخذ من أبيه، فكيف بالشخص الذي هو وأمه وأبوه ينهلون من هذا النمير العذب، وهذه حالة قلمَّا تجدها في شخصية كبيرة مثله، وقد شاهدت أناساً صغاراً في السن يدخلون عليه فيقوم لهم إجلالاً واحتراماً ويحدثهم ويمازحهم، ويهدي لهم الكتب وما أشبه.

أنت وابنه سواء

فالعلاقة بينه وبين مقلديه والناس الآخرين علاقة حب في الحقيقة، فالسيد الراحل (رحمه اللّه) كان يعشق الناس ويحبهم بكامل إخلاصه، ولا يحبهم لأجل مصلحة، بل يحبهم

لأجل أنهم بشر، لأجل أنهم مؤمنون، لأجل أنهم أصدقاء، وقد لا تجد أنه يفرِّق بينك وبين ابنه، فأنت وابنه سواء، فلا يشعرك بالفرق، ولعل الفرق في قلبه موجود لكنه لا يشعرك به، خصوصاً لمن عاشره عن قرب، فقد عايشته أكثر مما عايشه بعض أقربائه وربما أولاده، فقد عايشته فكراً وعايشته روحاً وعايشته سيرةً، ويمكن بعض أولاده كانوا بعيدين عنه وغير موجودين بقربه بسبب بعض الظروف التي ألجأتهم إلى الهجرة، وربما بعضهم كانوا صغاراً في السن.

الصورة

فعندما تتعامل معه - سواء أكنت مقلداً عادياً أم وكيلاً، أم في أي مستوى من المستويات - لا تشعر بأن بينك وبينه أي حاجز أو فرق، وهذه صفة مهمة،

ص: 100

وهي من الأشياء التي أخذها من سيرة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان رحيماً عطوفاً دائماً، ففي أي وقت تدخل عليه يستقبلك بكل رحابة صدر، وقد قال سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ)(1).

وكما ابتلي بخصوم ألداء، كسب أصدقاء أشداء، أشداء في حبه وفي اتّباعه، وتعرضوا إلى كثير من الضغوطات وما تخلوا عنه، بل يفتخرون بأنهم من أتباعه والمتأثرين بأفكاره. والحديث في هذا المقام طويل جداً.

هدفية الحياة

* ما هو عدد السنوات التي عاشرتم فيها الإمام الراحل (رحمه اللّه) معاشرة قريبة جداً؟

- كانت الفترة التي عاشرت فيها سماحته (رحمه اللّه) ما يقارب سبعة عشر عاماً من عمري، كنت فيها معه يومياً، ألتقي به أكثر مما ألتقي بأهلي، لم أكن ألتقي بهم إلا في ساعات قليلة أمر عليهم في البيت، وعندما أكون خارج البيت أكون عند سماحته (رحمه اللّه) ، نذهب إلى دروسنا أو تدريسنا أو محاضراتنا، ومن الدروس التي نحضرها دروسه، كانت لقاءاتنا به متواصلة، فكنا معه كالأبناء مع الأب، وكثيراً ما كان يدعونا إلى غرفته الخاصة، إلى طعام الغداء، ولكنها لم تكن دعوة غداء مجردة، بل يترتب عليها توجيه وعمل، أو بحث فكرة، أو نصيحة.

أستطيع أن أجزم بأن كل حياته كانت هادفة، ليس لديه شيء اسمه عبث أو فراغ، أو عنده شيء بلا هدف، فأي جلسة وأي مائدة وأي عمل بل أي لحظة و ثانية يجب أن يكون فيها استثمار لمشروع ما، وهذه نقطة قلَّما تجدها في شخص

ص: 101


1- سورة آل عمران: 159.

مهما يكن عظيماً، إلا في المعصومين (عليهم السلام) ، فحياتهم كلها في محضر اللّه وفي خدمة اللّه، وكان كذلك!

كنت تشعر بأن حياته هي هكذا، إما ذكر أو عبادة أو موعظة أو توجيه، لا يوجد عنده شيء اسمه تسلية، أو شيء اسمه راحة، كأن يقول: الآن أريد أن أخلد إلى الراحة.. كراراً ومراراً كان يأتيه أناس وفي نهار الصيف الحار في وقت نوم القيلولة، ويطلبون لقاءه وبعضهم ربما كان إنساناً عادياً من إحدى المدن من طهران أو أصفهان أو من الخليج، فيوقظوه، فكم من الهدفية في حياته؟

لم أجده في يوم من الأيام يسحب حتى خطاً صغيراً على الورق بشكل عبثي ولا معنى له، أو بعنوان تسلية، ولم أره في يوم من الأيام يمسك مسبحة يدوِّر حباتها بين أصابعه تسلية دون التسبيح وذكر اللّه، وحتى عندما يجلس وحده فتراه يفكر في أمر ما أوقضية معينة.

كان ينصحنا كثيراً لو ذهبنا إلى بعض المجالس رعاية للآداب والعلاقات الاجتماعية حيث كنا ندعى إليها ، فيقول (رحمه اللّه) : إذا حضرتم أحد المجالس ووجدتم المتحدث لا يتكلم بكلام قد يكون نافعاً لكم، ولعله نافع للغير من عموم الناس، لكنه بالنسبة لكم غير نافع، حاول أن لا تجلس بدون فائدة، بل أشغل فكرك في مسألة معينة مفيدة تستغل فيها هذا الوقت الذي تقضيه، أي استثمر الوقت. أجعل في بالك رواية أو آية شريفة أو مسألة شرعية وأشغل فكرك في البحث فيها.

وكان دائماً يكرر هذا الحديث الشريف لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على مسامعنا: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»(1).

اللقاء الأول بعد الفراق

* سماحة الشيخ، متى كان أول لقاء بينكم وبين الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

* وماذا دار بينكم من حديث؟

* وما هو الانطباع الذي تولد لديكم عنه في ذلك اللقاء؟

- تكلمت سابقاً عن ولادتي وطفولتي وشطر من شبابي في مدينة كربلاء المقدسة، وبعد ذلك خرجت من العراق في عام (1980م) إلى سوريا، وذلك قبل نشوب الحرب العراقية الإيرانية بما يقارب الأسبوعين؛ إذ عندما كنت في سوريا شَنَّ صدام الحرب على إيران، وباعتبار أنه كان لنا بعض الأنشطة الدينية في العراق، وفي تلك الفترة شهدت موجة كبيرة من القمع والاعتقالات الشرسة، شنتها سلطة البعث خصوصاً على أصحاب التوجهات الدينية في كربلاء المقدسة، وذلك لما لهذه المدينة من أثر كبير ومكانة عالية في الحركة العلمية الدينية؛ ولوجود أنشطة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ووجود الحوزة العلمية في سوريا، كل ذلك كان يدلُّ على أن أبناء هذه المدينة مرتبطين بهذا الاتجاه، فكانوا يعتقلون بمجرد عودتهم من سوريا، وقد كان لدي مجموعة من الأصدقاء من المؤمنين الذين كنا نعمل معهم اعتقلوا، وكنت أنا تحت الرقابة حتى أنقذنا اللّه عز وجل من الاعتقال.

فبعد مدة قضيتها في سوريا سافرت إلى طهران لنباشر العمل، وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) قد وصل إلى إيران قبلنا بفترة قليلة، وكان يسكن في نفس هذا البيت(2) في مدينة قم المقدسة ولم يكن هذا البيت بهذه الكيفية وهذا الشكل

ص: 102


1- وسائل الشيعة: ج 1 ص 114/ من وصيته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لابي ذر رضوان اللّه تعالى عليه.
2- البيت الذي اجري فيه الحوار.

الذي عليه الآن، حيث جرت عليه عدة تغييرات، هذا رغم ما هو عليه الآن من بساطة في البناء والأثاث، فماذا كان من قبل؟ حيث كان أصغر من هذا، وبناؤه كان قديماً.

عندما توجهنا ونحن مجموعة من الأخوة والأصدقاء ووصلنا إلى طهران، قررنا المجيء إلى مدينة قم المقدسة لنزور السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وكنا في ذلك الوقت في ريعان الشباب، وكان يجلس في الغرفة، وهي غرفة الاستقبال الأولى في هذا البيت، فدخلنا مع مجموعة الأصدقاء وكان جالساً في ناحية من الغرفة، وكانت محاسنه سوداء لطيفة، لم تغيرها سنوات الشيخوخة أو الكهولة، ووقفت أنا من بعيد لكي استمتع بالنظر إلى وجهه؛ لأنني فارقته وأنا في السادسة أو السابعة من العمر، وعندما التقيت به كان عمري ثمانية عشر عاماً، ولكن هيبته لم تشجعني للإقدام عليه من قرب رغم أنه كان بساماً ومرحاً جداً، وعندما يرى شخصاً يطلب منه المجيء إلى قربه، فيسأله مَنْ أنت؟ وابن مَنْ أنت؟ وماذا تعمل؟ فتراه يقيم نوعاً من العلاقة السهلة بينه وبين الشخص الذي يقدم عليه لأول مرة خاصة.

المهم بعض الأصدقاء الذين كانوا معنا - وكانوا أكبر سناً منا وكانوا يترددون عليه من قبل - ذهبوا وسلَّموا عليه، وطلبوا منه موعداً للقاء، فاتفق (رحمه اللّه) معهم على موعد معين، وكان يعرف أننا قدمنا من العراق، وأن اهتمامنا ينصب على القضية العراقية، فدعانا - في ذلك الموعد المحدد - على وجبة غداء، وفي نفس الغرفة التي كان يجلس فيها، وعندما قدمنا عليه لم يجلب لنا الطعام من المطاعم الخارجية، بل كان الطعام من إعداد البيت، وكان عبارة عن أكلة الثريد المشهورة عند العراقيين والمعروفة ب- (التشريب) وتصنع بطريقة

ص: 103

خاصة، لكنه لم يكن يشبه الثريد المعروف بل كان من البساطة بحيث يشبه الماء، حتى إنني أذكر أن الأواني المستخدمة كانت من النحاس، ومن اللطائف أن هذا الثريد باللحم - حسب الاسم - لم يكن فيه شيء من اللحم، بل عبارة عن ماء زائداً حبة بطاطا مسلوقة.

المهم كان معمولاً بطريقة تدل على البساطة الشديدة في المأكل، وبعد تناولنا الطعام جلسنا إليه، وبدأ يتحدث إلينا حول العمل، وضرورته ضد نظام صدام الظالم، وضرورة التماسك من أجل هذا الهدف، ودعانا إلى بناء النفس وتقويتها حتى نتمكن من تحقيق الأهداف المطلوبة، كي نستطيع أن نقوم بالمهمة التي نذرنا أنفسنا لها.

كان هذا أول لقاء لي بالسيد الراحل (رحمه اللّه) بعد فراق طويل.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) والحركة والوهابية

* كيف كان ينظر الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى الحركة الوهابية؟

* وما هو برنامجه في مواجهتها؟

- اعترف الوهابيون في بعض نشراتهم - على ما أذكر جريدة (المسلمون) وهي جريدة سعودية، وكان التيار الوهابي له تأثير كبير عليها -: (إن أخطر شخصية علينا من الناحية المذهبية والدينية هو السيد محمد الشيرازي، وهو يشكل تهديداً حقيقياً للحركة الوهابية).

والحديث قديم جداً، لا أذكره بالنص ولكنه بهذا المضمون، فإن السيد الراحل (رحمه اللّه) منذ أن كان في العراق تحرك ضد النشاط الوهابي الهدام شخصياً، ومن ضمن هذه الحركة كتابته لمجموعة من الكتب، والكراريس الصغيرة، لصد

ص: 104

الدعاية الوهابية ضد الشيعة، وكانت هذه الكراريس تحمل عناوين:

- من هم الشيعة؟ (1) - أعرف الشيعة(2). - قضية الشيعة(3).

- هكذا الشيعة. - قصة الشيعة. - واقع الشيعة.

- مقالة الشيعة. - الشيعة والشريعة. - أفكار الشيعة.

- نظرة الشيعة. - نهج الشيعة.

وغير ذلك من عناوين التي تتضمن توضيحات أولية عن الشيعة وعن التشيع.

في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وعندما بدأت تنشط الحركة الوهابية بسبب اكتشاف النفط في منطقة الخليج، و قيامها وبدعم من أموال النفظ الهائلة بمد نشاطها إلى خارج الحدود السعودية، بدأ الإمام الراحل (رحمه اللّه) بهذا التحرك التوعوي، وكذلك المرحوم الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) ، وبتنسيق وتوجيه منه، طلب منه أن يتحرك لإعادة بناء مراقد أئمة البقيع (عليهم السلام) وكادت الجهود أن تثمر وتنجح لولا اغتيال السيد حسن (رحمه اللّه) على أيدي عملاء لمصالح صدام وغيره.

والملاحظ أن مدرسة السيد الراحل (رحمه اللّه) ، سواء شخصه أم تلاميذه أم

ص: 105


1- من تأليفات سماحته في كربلاء المقدسة/ وهو تعريف موجز وشامل حول الشيعة والتشيع ويشتمل على بعض الدلائل من كتب السنة على حقانية الشيعة.
2- من تأليفات سماحته في كربلاء المقدسة/ وهو تعريف موجز وشامل عن حياة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وتعريف عام للشيعة والتشيع.
3- من تأليفات سماحته في كربلاء المقدسة/ وهو تعريف موجز وشامل حول الشيعة والتشيع وبعض كلمات أئمة أهل السنة في مدح أئمة أهل البيت (عليهم السلام) .

الخطباء التابعين له أم المتعاونين معهم، دائماً في حالة صد للمد الوهابي والموجة الوهابية سواء في العراق، أم في أي مكان آخر يكونون فيه، وهذا أمر حاصل حتى في الوقت الحاضر من خلال الأسلوب الإعلامي الجديد الذي توجه إليه الشيعة على مستوى الفضائيات ومواقع الانترنت، والمدارس والمبلغين.

فقناة الأنوار الفضائية أول قناة تأسست وأخذت تتحدث باسم الشيعة بكل صراحة وبكل شجاعة، ومن خلال متابعتي لبعض القنوات الشيعية كان بعض الإعلاميين يتحرجون من طرح التشيع، يتحرجون من طرح أسماء أئمة الشيعة أو التحدث عن سيرتهم حتى في المناسبات المهمة، حتى إن أحد المسؤولين بإحدى القنوات الشيعية التي تأسست بعد سقوط نظام صدام، قال: نحن كنا نتحرج من أن نطرح التشيع في الإعلام، أو نبث فكر أهل البيت (عليهم السلام) في قناتنا، لكننا تشجعنا عندما رأينا قناة الأنوار، فأصبحت لدينا الشجاعة الكافية لذلك.

وهناك قناة أخرى مدعومة من قبل دولة مهمة كانت تحجم وتتحرَّج من طرح اسم التشيع وفكر أهل البيت (عليهم السلام) علناً، لكنهم تأثروا بقناة الأنوار حينما أقدمت بشجاعة وثقة وأعلنت عن نهج أهل البيت (عليهم السلام) وبكل صراحة وشفافية، وطرحت الفكر الشيعي على الملأ، ورأوا أن العالم استقبل هذا الفكر لأنه فكر صحيح، وفكر حق وهداية ونور، وبادروا - القائمين على تلك القناة - إلى تغيير اسم القناة، وبدأوا وبشجاعة يطرحون فكر الشيعة.

وهناك قناة أخرى كنت أشاهدها، وكانت تمثل طائفة كبيرة من الشيعة المتدينين، كانوا لا يسلطون الضوء على الفكر الشيعي حتى لاحظت أنه اتصل متصل بأحد البرامج التي تبث مباشرة في أيام عاشوراء فسألهم عن الإمام الحسين (عليه السلام) ، فما كان من مقدم البرنامج إلا أن غيِّر الكلام بشكل حتى لا يركز

ص: 106

كثيراً تحرجاً من قضية الإمام الحسين (عليه السلام) لمصالح سياسية أو اجتماعية!!

العديد من المدارس الأخرى لم يكن عندها هذه الشجاعة والثقة بالنفس في الطرح للتشيع كما هو الحال في مدرسة السيد (رحمه اللّه) ، وهذه حقيقة وأمانة يلزم أن تقال للتأريخ وحفظ الحقائق، وهو أمر لا مبالغة فيه.

ويلاحظ ذلك في كتبه، ففي أي كتاب من أبسط الأفكار إلى أعمقها، تجده لا يطرحها إلا وفيها رواية عن الأئمة (عليهم السلام) ، أو يأتي على ذكر سيرة من سير الأئمة (عليهم السلام) ، وفيها مطالبة بحقوق الشيعة ورفع الظلامة عنهم.

كان للسيد (رحمه اللّه) هذه القدرة على مكافحة المد الوهابي، وهي تبتدئ من تقوية المدرسة، ثم المسجد ثم تأسيس فضائية - بل فضائيات - ثم إصدار النشرات وقد اصدر اتباعه المجلات، والنشرات باسم أهل البيت (عليهم السلام) .

هذا بالإضافة إلى أنه شخصياً كتب الكتب والكتيبات وألقى الكثير من المحاضرات والخطب بهذا الاتجاه، وكذلك سماحة آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) (1) كتب كتاب (حقائق عن الشيعة)(2) وهو كتاب

ص: 107


1- آية اللّه العظمى السيد صادق بن مهدي بن حبيب اللّه الحسيني الشيرازي. هو ثالث أبناء المرجع السيد مهدي بن حبيب اللّه الشيرازي. تصدى للمرجعية الدينية بعد وفاة شقيقه الأكبر سماحة آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي سنة 2001. وقد بدأ سماحته بتدريس الخارج فقهاً وأصولاً منذ أربعين عاماً وذلك من الكويت عام 1398 ه- ولا زال مستمراً في قم بالتدريس ويحضره الكثير من العلماء والفضلاء. ألف سماحة السيد عدداً من الكتب المختلفة في الفقه والأصول والتاريخ والثقافة الإسلامية العامة.
2- حوار عقائدي تناول فيه المؤلف عدة مباحث عقائدية، منها: السجود على التربة، بناء القبور، تزيين المشاهد، تقبييل الأضرحة، التوسل بأولياء اللّه وغير ذلك، ألف سماحته الكتاب في كربلاء المقدسة، وقد طبع مراراً في بلاد متعددة.

للتوجيه والتعريف بشيعة أهل البيت (عليهم السلام) .

كان البعض يسجل عدداً من الاشكاليات على كتب السيد الراحل (رحمه اللّه) ، فيما يتعلق بلغتها السهلة والبسيطة، بدعوى أنه كيف يقوم بكتابة هذه الكتب سهلة اللغة والطرح، والبسيطة في الفكرة والتوضيح مع أنه مرجع تقليد؟

لكن لا يخفى أن هذا النوع من الكتابة كان تحركاً مدروساً من قبل سماحة السيد (رحمه اللّه) ، فمن أهداف هذا المنهج أنه موجه لشريحة من المجتمع، وهؤلاء المعترضون لم يدركوا فكرته وأهدافها وبعدها في المستقبل، ولم يكن هذا العمل - إصدار هذه الكتب المتسلسلة - عملاً صغيراً، بل عمل كبير! وله نوافذه الكثيرة في مواجهة الضلالات والخرافات التي تدعو إليها الوهابية وغيرها من دعوات الضلال، فكانت عنده خطة واسعة تبتدئ من المسجد والمدرسة إلى العمل السياسي والهيئة السياسية، وإلى الحركة الإعلامية التي بدأت - الآن - تظهر آثارها.

فقناة الأنوار الفضائية هي واحدة من نتائج أفكار السيد الراحل (رحمه اللّه) وجهوده، وليست حصيلة الوضع القائم كما يتوهم البعض، فهذا الزخم في الأفكار، وهذا التطوير في الأفراد والتراكم من التحريك والتفعيل، أنتج مجموعة من النتائج في هذا الزمان، وهي الثمار المتمثلة بقناة الأنوار، والمؤسسات الموجودة في كل مكان والمدارس والمعاهد وغيرها، فإن وكلاءه وأصحابه الآن يديرون خمس فضائيات شيعية(1)، ولدى مجموعة من رموز مدرسته مواقع على

ص: 108


1- هذا العدد من الفضائيات في زمن الحوار، ولكن الآن أي عام 1437 ه. ق فقد تجاوزت عدد الفضائيات المرتبطة بخط السيد الشيرازي 16 فضائية، منها الأنوار والزهراء والمهدي والإمام الحسين والشعائر، وهي بلغات متعددة العربية والفارسية والإنكليزية والأردية.

الانترنت، وهي مواقع مهمة وتقوم بدور فعال في الدفاع عن العقيدة وهداية الناس(1)، حتى اتهمت المدرسة بالتشدد كثيراً في موضوع العقيدة والتمسك بالولاية لأهل البيت (عليهم السلام) لما يشاهدونه من جهودهم وجهادهم، وإحياء ذكرهم (عليهم السلام) ، فقلما ترى مرجعاً للتقليد يلبس السواد على الإمام الحسين (عليه السلام) لمدة شهرين، ولكن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يلبس السواد على مصاب الإمام الحسين (عليه السلام) ولشهرين متواصلين، وعلى مصائب أهل البيت (عليهم السلام) جميعاً ويتعدى هذا من الأمور المظهرية إلى الأمور الجوهرية.

فمن الطبيعي أن يكون هذا المنهج يتحرك في منطقة الخطر والخطوط الحمراء في مواجهة الفكر الوهابي وغيره من أفكار الضلالة، وما كان الوهابيون يستصغرون هذا العمل، بل يؤمنون بأنه وطلابه ووكلاءه الذين هم في احتكاك مع المجتمع السني من أقوى الجماعات التي لها السهم الأوفر في هداية الكثير من أهل السنة إلى المذهب الحق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، وهذا أمر يشيد له الكثير من الساكنين في أوربا وسوريا ولبنان وإفريقيا وغيرها من البلدان.

ص: 109


1- تشكلت هذه المواقع بلغات متعددة بلغت 20 لغة، منها: - موقع الإمام الشرازي الراحل (ALSHIRAZI.COM). - موقع مؤسسة الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التي تعنى بنشر أخبار وأفكار المرجع الشيرازي (SHIRAZI.IR) - موقع النبأ التي تعنى بنشر الفكر الإسلامي الحضاري (ANNABAA.ORG). - موقع موسسة الإمام الشيرازي العالمية (SHIRAZIONLINE.ORG). - موقع منظمة الشيعة رايس ووتش، التي تعنى بالدفاع عن حقوق الشيعة عالمياً: (SHIARIGHTSWATCH.ORG). - موقع التقى الثقافية التي تنعى بنشر آثار آية اللّه السيد مرتضى الشيرازي (MALSHIRAZI.COM). - وعشرات المواقع الأخرى.

هذه قضايا يجب أن تحفظ، ولكن مع الأسف في ذلك الزمن لم يكن هناك نشاط توثيق وأرشفة لهذه النشاطات، ولو وثقت - لوجدنا أن الكثير من الناس صاروا شيعة بفكره وتوجيهه وحركته، وتم إنقاذ عشرات الآلاف من الناس من الفكر الوهابي، ومن ضلالات الوهابية، والآن - خلال العشر سنوات الأخيرة - بدأت تظهر بعض ثمارها، حيث تحول الكثير إلى التشيع وأصبحوا من دعاته.

وعلى كل حال هذا يحتاج إلى دراسة مفصلة، وسيتبين أن السيد الراحل (رحمه اللّه) من أكثر المرجعيات الدينية التي تصدَّت إلى الوهابية وضلالاتها.

الشعائر الحسينية

و بما أن بعض المنهزمين - ومع الأسف - يتصورون أن الإصرار على فكر أهل البيت (عليهم السلام) وتركيز هذا الفكر في المجتمع يعتبر نقيصة وعيباً في المجتمع، خصوصاً فيما يتعلق بالشعائر الحسينية، فبعض المنهزمين يقولون: إن هذه الشعائر توجب استهزاء الناس بنا، وتوجب السخرية وما أشبه، وبعض من الذين يدَّعون التحضُّر والتطور يرون أن هذه - الشعائر الحسينية - تتنافى مع الحضارة، وكأن الحضارة والتحضر توجب على الإنسان التخلي عن أفكاره معتقده، أو عن أصالته ودينه، لأجل ذلك كله، سئل السيد الراحل (رحمه اللّه) في استفتاء حول إقامة مراسم العزاء، والشعائر الحسينية(1) على سيد الشهداء (عليه السلام)

ص: 110


1- الشعائر الحسينية هي شعائر دينية يمارسها المسلمون الشيعة لاستذكار معركة كربلاء ومقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وغالباً ما تنشط ممارسة هذه الشعائر في شهري محرم وصفر حسب التقويم الهجري وبالأخص في يوم عاشوراء ويوم الأربعين. ومن الشعائر الحسينية المشهورة : الخطابة الحسينية، التطبير، اللطم، الزنجيل، المشي على الجمر وغيرها من الشعائر المقدسة.

أو أنه إذا استوجبت ضعف التشيّع وضعف المذهب أو جلبت استهزاء الناس بنا هل مع ذلك تفتي باستحبابها، أم لا؟

فأجاب : الشعائر الحسينية مستحبة، واستهزاء الناس بها لا يوجب رفع اليد عن الأحكام الشرعية، وقد دخل الملايين - بهذا التعبير - في الإسلام بسبب هذه الشعائر الحسينية.

وإذا تتبعتم محاضراته ترون أن لديه قصصاً كثيرة في مجال نقاط قوة التشيع التي لا شك أن الشعائر الحسينية هي واحدة منها، بل من أقواها، وهذا فلولا الشعائر الحسينية لكانت الوهابية قد غزت العالم إما بالمال أو بالدعاية، أي بالترغيب والترهيب، لكن التركيز على شعائر الإمام الحسين (عليه السلام) وتقوية المجالس الحسينية التي لمدرسة الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) القدم الأول في هذا المجال - وهذا معروف والكل يشهد بهذا، بعضهم يشهد به مدحاً، وبعضهم قدحاً - ولولا هذا التوجه ما صار سوراً وحجاباً يصد الضلالات الوهابية عن المجتمع المسلم،، فالشعائر الحسينية هي التي مسكت المجتمع الشيعي، وفي الأيام التي عشنا فيها في سوريا، كنا نلمس في أيام عاشوراء كيف تؤثر الشعائر الحسينية في المجتمع السني، وتجذب الكثير من الناس إلى الإيمان بالتشيع.

ص: 111

القسم الرابع

الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) والقضية العراقية

* ما هي رؤية الإمام الراحل (رحمه اللّه) حول (القضية العراقية)(1)؟

* وكيف كان يعمل لعلاج الأزمة وخلاص المؤمنين من نظام البعث؟

* وكيف يلزم أن يكون نظام الحكم هناك بعد التغيير وفق رؤيته؟

- هذا سؤال مهم جداً وفيه محاور كثيرة للكلام حوله.

بالنسبة إلى مواقف الإمام الراحل (قدس سره) حول القضية العراقية وتصوراته حول ماضي العراق ومستقبله حديث طويل، ولكن الآن نحن بدأنا نشعر بأن بعض النتائج التي وصل إليها الوضع السياسي في العراق كانت من توقعاته قبل عشرين أو خمس وعشرين سنة.

ففي يوم من الأيام كان الوضع مأساوياً في العراق كما هو الآن، لأن مأساويته التي يعيشها في الوقت الحالي هي ثمار لتلك المأساة التي كانت في زمان حزب البعث(2)، وكانت المسألة تكاد تكون محبطة، والناس متشائمون إلى أبعد حد

ص: 112


1- وهي التسمية التي عرفت بها في الاوساط السياسية قبل العام 2003.
2- هو تنظيم قطر العراق لحزب البعث العربي الاشتراكي. ترجع بداياته إلى أوائل الخمسينات وقد شارك الحزب في أول حكومة بعد يوليو 1958. وصل إلى الحكم لأول مرة بعد حركة 8 شباط 1963 التي قام بها صحبة ضباط بعثيين. أقصاه عبد السلام عارف عن الحكم في 18 تشرين الثاني من نفس العام. عاد الحزب إلى الحكم بعد انقلاب 17 تموز 1968. حلت سلطات الاحتلال الأمريكي الحزب وحظرته بعد عام 2003.

تجاه الوضع في العراق، والسؤال الذي كان على كل لسان هو: إلى أين ينتهي الوضع؟ وكيف يمكن القضاء على هذا النظام الظالم السفَّاك الوحشي الذي خرج عن حدود الظلم إلى منتهى الوحشية بكل معنى الكلمة؟!

كانت هناك تصورات كثيرة، الدول العظمى لها تصورات، والدول الإقليمية لها تصورات أخرى، ولكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان من دأبه التنبيه على مأساوية الوضع العراقي، وتأكيده على هذا الشكل من المأساة حتى في حواراته الخاصة ولقاءاته، وفي محاضراته دائماً كان يوصي الأصدقاء بعدم النظر في الأمور إلى هوامشها أو إلى ظواهرها فقط، وإنما كان يدعو إلى النظر إلى الجذور العميقة والبنى التحتية والأصول الأساسية لكل مشكلة كانت تطرأ ولكل قضية تحدث، وكان له بالنسبة إلى إنقاذ العراق من ظلم حزب البعث إستراتيجية مبنية على خمسة محاور، وهي:

المحور الأول: العشائر

لقد كان يرى بأن العشائر العراقية هي محور مهم جداً في المجتمع العراقي، وقوة هائلة لا يمكن الاستغناء عنها، وفي كثير من الأحيان كان (رحمه اللّه) يقول: إن البعثيين إنما سيطروا على الوضع بالعراق بعد أن نزعوا السلاح من أيدي العشائر.

الصورة

فالعشائر قوة جماهيرية كبيرة، وفيهم

ص: 113

الأكارم والخيِّرون، وقدر كبير من التدين والالتزام، واحترام المرجعية الدينية، فحزب البعث وضمن سيناريو معين وضمن تكتيك خبيث خدع الناس، وأخذ السلاح من أيدي العشائر العراقية، ثم تسلل إلى وسط هذه العشائر ونظَّم بعض رؤسائها وأبنائها فجمَّد هذه الطاقة الكبرى، ثم سخّر بعضها لخدمته.

وكان يرى بأن إنقاذ العراق من جحيم صدام(1) ومَنْ حوله من الأزلام، يجب أن يعتمد على عدة محاور منها العشائر.

وفي الحرب العراقية الإيرانية قدم الإمام الراحل (رحمه اللّه) مقترحاً إلى المتصدين للحرب في إيران.

الصورة

وكانت الفكرة عند بعض القادة الإيرانيين في الحرب هي مواجهة صدام جيشاً

ص: 114


1- صدام حسين عبد المجيد التكريتي الذي ينتمي إلى عشيرة البيجات، هو رابع رئيس لجمهورية العراق في الفترة ما بين عام 1979م وحتى 9 أبريل عام 2003م ، وخامس حاكم جمهوري للجمهورية العراقية. ونائب رئيس الجمهورية العراقية بين 1975 و1979. وصل صدام إلى رأس السلطة في العراق حيث أصبح رئيساً للعراق عام 1979 م بعد أن قام بحملة لتصفية معارضيه وخصومه في داخل حزب البعث. وفي عام 1980 م دخل صدام حرباً مع إيران استمرت 8 سنوات من 22 سبتمبر عام 1980م حتى 8 أغسطس عام 1988م. وقبل أن تمر الذكرى الثانية لانتهاء الحرب مع إيران غزا صدام الكويت في 2 أغسطس عام 1990. والتي أدت إلى نشوب حرب الخليج الثانية عام 1991م. ظل العراق بعدها محاصراً دولياً حتى عام 2003 م حيث احتلت القوات الأمريكية كامل أراضي الجمهورية العراقية قبض عليه في 13 ديسمبر عام 2003م في عملية سميت بالفجر الأحمر.. تم بعدها محاكمته بسبب الجرائم التي ارتكبها وتم تنفيذ حكم الإعدام عليه في 31 ديسيمبر عام 2006 م.

بجيش، وتحطيم صدام من خلال تحطيم قوته العسكرية، ولذلك استمرت الحرب ثماني سنوات، فعلى كافة الجبهات كانت الحرب مستمرة ومستعرة، لكن كانت للسيد الراحل (رحمه اللّه) - وفي الشهور الأولى من الحرب - فكرة في كيفية مواجهة هذا النظام، فقد كان يشترك مع البقية في نقطة واحدة وهي أنه لابدَّ من إزالة صدام وإسقاطه، ويختلف معهم في كيفية الإسقاط وآلية المواجهة.

فقد كانت خطته من ثلاثة محاور لإسقاط صدام عن طريق الحرب المدعمة بسيناريو كبير، أي رسم تصوراً ووضع خطة ثلاثية، وقدَّمها إلى كبار أصحاب القرار في إيران، و كان مستعداً لتنفيذها، فيسقط صدام من الحكم خلال ستة أشهر.

وهذه الخطة كانت مبنية على أساس ثلاثي، وهي:

الأول: الحرب العسكرية

وهي إشغال الماكنة العسكرية العراقية، وكانت ماكنة كبيرة جداً وهائلة عن طريق جيش بجيش.

هذه النقطة مهمة جداً، فإشغال الجيش كان أمراً ضرورياً، وذلك لأن السلطة وكبار قادة الجيش هم من البعثيين، وطوع أمر صدام، ولم يكن باستطاعة أحد في الجيش - البعثي وغير البعثي - أن يتخلف عن أوامر صدام؛ لأن المقاتل في ساحة المعركة لا يستطيع رفض أمر القائد، ورفض الأمر يعني الإعدام فوراً، مع أن أكثر الجيش العراقي لم يكن مقتنعاً بالحرب حقيقة، وكثير من الانسحابات والهزائم التي أصيب بها الجيش العراقي وقعت لأن الجيش لم يكن مؤمناً بالحرب، وهذه القضية لها تفاصيل كثيرة لست بصدد بيانها، فالكثير منهم كانوا يهربون من الجبهة، فقسم يفرون إلى إيران وقسم يفرون إلى الشمال

ص: 115

وهكذا، فالجندي العراقي كان غير مقتنع بالحرب، وغير واثق بالقيادة السياسية والعسكرية له، فكان مهزوزاً بعض الشيء.

الثاني: دعم العشائر العراقية وتسليحها

تقوية العشائر وإمدادها بالمال والسلاح لتفجير الوضع من الداخل.

والمجتمع العراقي مجتمع عشائري، من الشمال إلى الجنوب، قائم على أساس العشائر، والعشائر هي قوة حقيقية وطنية محبة لبلدها، محبة لأهلها، ولكن صدام جمَّدها من خلال انتزاع السلاح من أيديها، وجعل العيون عليها من المخابرات والأمن لكتم أنفاسها؛ والغرب كان يعرف هذه القوة من خلال تجاربه الاستعمارية في العراق خلال القرن الماضي، ففي ثورة العشرين مثلاً كان للعشائر العراقية القول الفصل بإخراج البريطانيين من العراق.

وكان يقول: يلزم علينا أن نُفعِّل دور العشائر في العراق، ندعمها بالمال وندعمها بالسلاح، ولكن قوة العشائر كانت مجهولة بالنسبة للكثير من القادة فنبههم إليها ولكنها لم تستثمر.

الثالث: كسب الإعلام العالمي

في ذلك الوقت كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) قد حدد ميزانية تقدر بملايين الدولارات للإعلام العالمي لتحريكه ليتضامن مع الشعب العراقي لإسقاط الوجه المقنَّع لصدام، لأن صدام كان يتلبس بالعروبة، وبالوطنية ولكنه كان كاذباً فيجب فضحه على رؤوس الأشهاد.

فصدام لم يكن عربياً في منهجه الذي دعا له، ولا تهمّه مصالح الوطن والوطنية، بل الذي يهمه نفسه وحكمه فقط، والشواهد على ذلك كانت كثيرة، فقد كان يتلبس بالقومية العربية، لكن بالحقيقة لم يكن مؤمناً بهذا الشعار الذي

ص: 116

يرفعه كذباً وزوراً، ولذلك ضرب العرب وبكل الاتجاهات، فقد احتلَّ الكويت، وضرب السعودية، وضرب سوريا، وضرب الفلسطينيين، وضرب شعب العراق، فالعالم العربي كله يئن من وطأة صدام وتعنته وطغيانه.

فالقومية العربية التي كان يرفعها حزب البعث العراقي على الرغم مما في المبدأ القومي من ملاحظات وثغرات، قضية كاذبة ليست حقيقية، والوحدة والحرية أيضاً كذلك.

كان يقول السيد الراحل (رحمه اللّه) : المشكلة هي أن حكومة صدام في بادئ أمره تنفق الملايين من الأموال لشراء الإعلام، بل كان يدفع الملايين.

وأنتم رأيتم في قضية كوبونات النفط وغيرها، حتى بعض نواب المجالس في الدول الأوربية التي لها بعض الديمقراطية نسبياً، أو في العالم العربي وبعض الإعلاميين والمثقفين، كان صدام يشتريهم لتجنيدهم لصالحه، ولتبييض وجهه الأسود فقد كان يعطيهم النفط والأموال، ويعطيهم كوبونات، حتى يلفقوا الحقيقة، ويشوهوا الواقع، والكثير من القنوات الفضائية تدعم موقفه، وبرامج كثيرة تُبث عنه أيضاً، وكانت تدَّعي أنها من أصحاب الانفتاح(1).

فكان رأي السيد الراحل (رحمه اللّه) أنه يجب أن نسقط القناع المزيّف لصدام في العالم، ونسقط اعتباره في العالم العربي، ونحرِّك الشعب من الداخل فيطالب بحقوقه، ونضعفه من الحدود بالمشاغلة بالحرب ليسقط صدام.

هذه كانت بعض ملامح الخطة الثلاثية التي قدمها بإخلاص، وبيَّن لهم أسباب ودواعي هذه الخطة، وذلك لأن المجتمع العراقي غير مؤمن بصدام، ولكنه مغلوب على أمره إذ ليس بيده شيء يفعله، فلا أموال له ولا قوة ولا

ص: 117


1- استذكار من الشيخ الصفار حول الحاضر.

سلاح، فهو لاحول ولا قوة له.

والجيش العراقي - أيضاً - غير مؤمن بالحرب، فهو أيضاً يودُّ لو أنه يسقط هذا النظام حتى يتخلص من ضغطه.

ولكن القيادات الايرانية لم يستمعوا لكلامه، واستمرت الحرب لمدة ثمان سنوات راح الكثير من الضحايا خلالها، وانتهت من دون سقوط صدام.

تنتهون إلى المصالحة

وقد قال السيد الراحل (رحمه اللّه) للقيادات الايرانية حول نتائج الحرب: تنتهون إلى المصالحة.

قالوا: وما السبب في ذلك؟

قال (رحمه اللّه) : لأسباب عديدة و منها أنه لا يوجد سابقة تاريخية لمثل ذلك، وحتى لو كانت هناك سابقة تاريخية فلا يُسمح لإيران بأن تغزو العراق، وتسقط الحكومة العراقية، لأن العالم العربي سوف يتكاتف لحماية صدام.

وفعلاً وقفت العديد من الدول العربية إلى جانب صدام، بالإضافة إلى دعم الدول الغربية بالأموال والمواقف والأسلحة، فقد دعموا نظامه بكل السبل، حتى بالمقاتلين! وفي الجبهات كان المقاتلون من المصريين و السودانيين! وحتى ملك الأردن (الملك حسين)(1) كان شخصياً قد شارك في الحرب، عندما قام هو وصدام باستعراض سحب حبل لأحد المدافع الموجهة الى إيران، وشارك باطلاق الصواريخ وما أشبه، وقد ظهر على شاشات التلفاز في ذلك الوقت،

ص: 118


1- الحسين بن طلال (14 نوفمبر 1935 - 7 فبراير 1999)، ملك المملكة الأردنية الهاشمية من عام 1952 حتى عام 1999.

فالعالم العربي تكاتف لحماية صدام.

من ذلك يمكن ملاحظة أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) دعا إلى تقوية العشائر ودعمها منذ ذلك اليوم، والآن وبعد سقوط النظام نلاحظ الأمريكان والبريطانيين، وقوات التحالف عموماً والقوات العراقية بمختلف طوائفها أرادوا أن يواجهوا العنف والإرهاب والقاعدة(1) وفلول البعثيين، وعن طريق وزارة الداخلية ووزارة الدفاع، لكنهم لم يجدوا حلاً ناجعاً لذلك، ولكن عندما التجأوا إلى العشائر العراقية نجحوا، والعشائر في محافظة الأنبار خلال هذه المدة الأخيرة(2) استطاعت فعلاً أن تطهِّر الأنبار بنسبة كبيرة من وجود القاعدة، فبدأ المجتمع العشائري يتحرك، وعندها ضعف وجود القاعدة كثيراً.

فقد كانت الفكرة عند السيد الراحل (رحمه اللّه) قبل (25 سنة) واضحة وضوح الشمس وبقوة، والآن بدأت تظهر أكثر إلى الناس والحكومة، فقد رأوا أن هناك قوة هائلة وسط هذه الجماهير لا يمكن التغاضي عنها، فإذا روعيت حق رعايتها ستكون أحد عوامل الاستقرار والبناء في البلد.

فالمحور الأول لإنقاذ العراق من براثن صدام ونهجه كان هو محور العشائر.

المحور الثاني: هو التعددية السياسية

كان يدعو الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى التعددية السياسية، والمقصود هو

ص: 119


1- (قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين) اسم لجماعة عسكرية تصنف على أنها من أخطر الحركات الإرهابية في العالم. كان يقودها القائد (أبو مصعب الزرقاوي) في العراق الذي قتل بعد استهدافه بضربة جوية استهدفت منزله، كان يقطن به في محافظة ديالى. والجماعة تضم أفراد من مختلف الجنسيات.
2- أجري هذا الحوار في العام 2007.

التعددية الإيجابية لا السلبية، بمعنى التعددية التي ترعى حقوق كل الطوائف والشرائح بنسبتها بالمجتمع، وأكثرية المجتمع العراقي حسب التقسيم الديموغرافي شيعة، وهناك أقلية سنية، وهناك طائفة كردية أيضاً، بعضها سنية وبعضها شيعية، فهو ومنذ ذلك الوقت كان يدعو إلى حكومة الأكثرية، ولكن ينبغي أن تعطي للأقلية حقوقها الكاملة، لأن مأساة العراق قائمة على أساس تولي الحزبية التي تقدم الأقلية على الأكثرية وتعطيها زمام الحكومة، فهضمت حقوق الأكثرية، فطبيعي عندما تكون الحكومة من الأقلية وهي تريد أن تحكم الجماهير التي تخالفها في الرأي والاتجاه، لا بد وأن يكون هناك استبداد وقمع، إذ ليس من الممكن أن يصبح هناك تفاهم وانسجام بين الحكومة التي تمثل الأقلية وتهضم حقوق أكثرية الشعب، فالحل إذاً هو أن تعطي لكل ذي حق حقه.

ولا نقول إن الأكثرية تأخذ أكثر من حقها، ولا الأقلية يهضم حقها، ولا الأكراد يهضم حقهم، بل كل طائفة من شرائح المجتمع لابد أن تأخذ حقها بحسب نسبتها في الشعب عامة.

وهذه المسألة مسألة عقلائية، وكان يؤكد عليها السيد الراحل (رحمه اللّه) وهي من أولويات الحكم المتوازن، والعالم اليوم يدَّعي أنه لم يتوصل إلى الآن إلى صيغة وشكل حكم أفضل من الديمقراطية حسب مزاعمه، ومن أولويات المسائل الديمقراطية هو أن يكون الأكثر تمثيلاً في الشعب هو الحاكم وفي عين الوقت يعطي للآخرين حقوقهم، فكان السيد الراحل (رحمه اللّه) يدعو إلى هذا المبدأ بقوة، لأنه نابع من العدالة واحترام حقوق الإنسان. أما مبدأ التوافقات أو الاتفاقات ونحوها الذي يقوم على أساس القوة فلا يظن أنه سينجح في النهاية في تقدم البلد وتطويره أو بنائه، لأن الاتفاق والتوافق يحصل لمصلحة ويرتفع لمصلحة، بخلاف

ص: 120

الأكثرية والأقلية فإنها قائمة على الحق، والحق ثابت لا يتغير.

المحور الثالث: محور الإصلاح والنهضة

وكان يستمده الامام الراحل الراحل (رحمه اللّه) من الآيات الشريفة:

1- آية الحرية: (الَّذِينَ يَتَبِعُونَ الرَّسُولَ النَبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(1).

2- آية الأخوة الإسلامية: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(2).

3- آية الأمة الواحدة: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)(3).

4- آية الشورى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(4).

5- آية المسالمة واللاعنف: (ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً)(5).

فكان السيد الراحل (رحمه اللّه) ينظر إلى أبناء المجتمع على أنهم أخوة، وبالنتيجة فأبناء الإنسانية أخوة بقطع النظر عن قوميتهم ودينهم واتجاههم السياسي، وفي الوقت نفسه نحن أمة مسلمة، فيجب - إنسانياً - أن نكون متحررين.

ص: 121


1- سورة الأعراف: 157.
2- سورة الحجرات: 10.
3- سورة الانبياء: 92.
4- سورة الشورى: 38.
5- سورة البقرة: 208.

فكان يقول (رحمه اللّه) : إن الوضع في العالم الإسلامي وليس في العراق فقط يحتاج إلى إحياء هذه الآيات المباركة، وفي هذه المسألة العراق كموجبة جزئية من الأمة، وإلا فإنه (رحمه اللّه) كان يدعو إلى تطبيق هذه الآيات المذكورة في كل العالم الإسلامي، لأن منشأ المشاكل في العالم الإسلامي هو التفرقة والفئويات والتعصب الأعمى والاستبداد والذي غذى هذه المبادئ الهدامة وقواها القانون الوضعي، لأنه ميز بين العالم الإسلامي بالحدود الجغرافية بين البلدان، وميز بين المسلمين بالجنسية والإقامة، ثم ميز بين أبناء البلد الواحد بالموالي للسلطة والمخالف، في حين أن القرآن الكريم يدعو إلى الحرية والأخوة.

فهذا المحور أيضاً دعا إليه السيد الراحل (رحمه اللّه) وجعله من أهم محاور إنقاذ العراق في الدائرة الصغرى، والأمة الإسلامية في الدائرة الكبرى.

المحور الرابع: مسألة الشورى (شورى الفقهاء المراجع)

كان يرى السيد الراحل (رحمه اللّه) أن العالم الإسلامي - ومنه المجتمع العراقي - سيبقى متمزقاً إذا لم تكن هناك تنسيقات، ولم تكن هناك تفاهمات وتشاور على مستوى القيادات العليا للأمة الإسلامية.

(شورى الفقهاء) هذه، ليست منحصرة في المذهب الإمامي، وإنما حتى لأبناء العامة من السنة أيضاً ينبغي أن يكون بينهم شورى، ويجب أن يكون هناك ثلاثة مجالس في الحقيقة تدير شؤون المجتمع المسلم ضمن نظام داخلي متوازن ومعقول وهي:

الأول: مجلس شورى الفقهاء الشيعة، يرى مصالح الشيعة.

الثاني: مجلس شورى الفقهاء السنة العامة من الجمهور. يرى مصالحهم.

ص: 122

الثالث: وهناك مجلس ثالث هو حصيلة هذين المجلسين، والذي تقرر فيه المسائل العامة، فكل مجلس يقرر لأبناء طائفته، فلو كان الناس في بادئ أمرهم وبعد سقوط النظام قد ذهبوا إلى هذا الحل، وشكلوا هذه المجالس للفقهاء على اختلاف مستوياتهم سواء فقهاء على مستوى المرجعيات، أم على مستوى الوكلاء - بأن توجد مجالس للتنسيق والتفاهم وتقريب وجهات النظر واتخاذ القرارات المشتركة - لأمكن إيجاد المزيد من الثقة والتنسيق المشترك.

ومن أكبر الظن أنه لو عمل ذلك لما وصل الوضع في العراق إلى هذا الوضع المأساوي، وإلى هذه المشاكل! لأنه - كما هو واضح - هذه هي المشكلة الأساسية في العراق، وهي التي جعلت أوضاعه تتأزم وتتفاقم أكثر، وهي انعدام الثقة بين الأطراف المختلفة، وانعدام الثقة معناه أن كل طرف من الأطراف، يفكر بأن الطرف الثاني يتآمر عليه، فيحاول أن يعرقل خططه ويعرقل مسيرته، ويحاول أن يعترض على طريقته، فصار الأكثر - للأسف الشديد - هادمين لا بنائين، وفي موقع الهدم لا في موقع البناء، في حين أننا لو كنا قد شكلنا مثل هذه المجالس التنسيقية، التحاورية لإعادة الثقة، لوحدنا المجتمع العراقي، وأطفأنا بالتالي الكثير من الفتن، وفي نفس الوقت بنينا البلد بأيدينا جميعاً، واستطعنا أن نتخذ قرارات مشتركة، وليس أحدنا يسحب عرضاً والآخر طولاً.

المحور الخامس: مبدأ اللا عنف

كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يدعو إلى نهج اللاعنف والسِّلم في كل عمل وخطة، سياسية كانت أو اجتماعية أو إدارية، وكان يدعو إلى المؤتمرات وإلى الإضرابات الجماهيرية العامة، وهذه المسألة ذكرها تفصيلاً في بيان أصدره أيام

ص: 123

الانتفاضة الشعبانية(1) في عام (1990م).

تكون البيان الذي أصدره ذلك الوقت من خمس أو ست نقاط أساسية كحلول للوضع العراقي، مع بيانات أخرى جمعت ضمن فصول عديدة في كتاب اسمه (العراق بين الماضي والحاضر والمستقبل) هذا الكتاب وثَّق الانتفاضة الشعبانية، ووثق التاريخ السياسي العراقي للماضي وللحاضر، وفيه أطروحات للمستقبل.

واجتمع على كتابته ثلة من تلاميذ الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وكتبوه خلال فترة وجيزة - خلال عشرين يوماً تقريباً - وأتذكر أن ذلك كان في شهر رمضان المبارك، فالانتفاضة كانت في شهر شعبان، وفي شهر رمضان كتب هذا الكتاب، وخلال عشرين يوماً من شهر رمضان طبع ونزل إلى الأسواق، ونفد بسرعة، وإلى الآن ليس موجوداً، والظاهر أن بعض الأجهزة السياسية في الدول المجاورة للعراق بنت سياستها على هذا الكتاب، لأنه كتاب توثيقي، وكتاب معلوماته دقيقة، وليست مبنية على مجرد الاحتمالات، وإنما على أسس وضوابط وموازين علمية

ص: 124


1- انتفاضة 1991 في العراق أو الانتفاضة الشعبانية هي مجموعة من عدة مظاهر للاضطراب وعدم الاستقرار في مناطق جنوب وشمال العراق وقعت مباشرة بعد حرب الخليج الثانية، تسمى بالانتفاضة الشعبانية لقيامها في شهر شعبان من العام الهجري. شملت الاضطرابات قيام مواطنين عزل بمحاصرة المعسكرات والدعوة إلى إسقاط النظام، وبعد قيام القوات العراقية بعمليات قمع للمواطنين تحول الأمر إلى انتفاضة شارك فيها مسلحون وعناصر من الجيش العراقي بأسلحتها والياتها العسكرية، اندلعت الانتفاضة في أربعة عشر محافظة من أصل ثمانية عشر تعداد المحافظات التي يتكون منها العراق، أي بمعنى خروج أكثر من (77 (عليهم السلام) ) من الشعب العراقي منتفضاً على النظام الحاكم انذاك ،واستمرت الانتفاضة إلى أن تم إبادتها بتدخل عسكري وإبادة بشرية كبيرة من قبل النظام الحاكم الذي كان يرأسه صدام حسين.

دقيقة،والكتاب ترجم إلى عدة لغات منها الفارسية، واعتقد إلى اللغة الانكليزية، وفي هذا الكتاب جملة من تصورات الإمام الراحل (رحمه اللّه) التي طرحت هناك، ومنها هذه البيانات، والذي يريد أن يعرف تصوراته للعراق، واستراتيجيته للساحة العراقية عليه أن يقرأ كل ذلك في هذا الكتاب.

عواطف الإمام الشيرازي (رحمه اللّه)

* كيف كانت عواطف الإمام الراحل (رحمه اللّه) تجاه العراق؟

- يمكن بمقدوري أن أجزم، بأنه لا يوجد يوماً التقيت به - وكنت التقي به كل يوم تقريباً - إلا وتحدث فيه عن العراق، وعن كيفية إنقاذه، وأحياناً في اليوم الواحد أكثر من عشر مرات يذكر هذا الشيء، وقلَّما يتحدث في محاضرة من محاضراته إلا ويذكر ويسلِّط الضوء على الجانب العراقي وعن الوضع العراقي.

تتبع الأخبار العالمية

كان من دأبه أن يتتبع الأخبار إلى وقت متأخر من الليل، حتى قبل أن ينام يسمع أخبار العالم، وما يجري في العالم ثم ينام، وأول ما يستيقظ من نومه وبعد أداء العبادات والأذكار يفتح المذياع، ويستمع إلى الإذاعات، ففي الكثير من الأحيان تجد الخبر عنده قبل أن تذيعه بعض الوكالات الخبرية، وهذه كانت من القضايا المثيرة للإعجاب، فالخبر دائماً عنده جديد، وتستغرب من أين جاء بهذه الأخبار؟! ومن أين حصل عليها؟!

نعم، كان لديه تتبع شديد للأخبار، وكان يقول (رحمه اللّه) : أنا بالليل أسمع المذياع قبل أن أنام لعلهم يقولون أسقط صدام، وأنام برجاء أن أفتح المذياع

ص: 125

صباحاً وأسمع قد سقط صدام.

وإذا رأيتم محاضراته وهو لديه كم وفير من المحاضرات، والتي يمكن أن أخمّن عددها ببضع آلاف محاضرة، وما جمع منها إلى الآن حسب ما ذكروا لي ثلاثة آلاف، لكن مجموع محاضراته قبل عشر سنوات كانت أكثر من ثلاثة آلاف،وفي الكثير منها حديث عن العراق. أما بعضها فكانت بشكل كامل عن العراق، وأما بعضها الآخر فكانت فيها إشارات فقط.

لم يكن الشيء الذي يقوله عن الساحة العراقية استعراضاً للمشاكل، وإنما كان يطرح الحلول دائماً، فهو كالطبيب الذي يشخِّص المرض ويصف الدواء المناسب للعلاج.

وكان من اشاراته وتوقعاته السياسية الدقيقة أنه في أيام الانتفاضة وفي الأسبوع الأول منها حيث كانت الساحة كلها متفائلة بأن هذه الانتفاضة سوف تطيح بنظام صدام وتسقطه، وتريح البلاد والعباد منه، لكن الإمام الراحل بعد أسبوع من انطلاقتها تحدث عن فشلها، وهذه تعتبر أيضاً من عناصر قوته عن التنبؤات في المستقبل.

فقد زرته بعد أسبوع من الانتفاضة عصراً، فقال (رحمه اللّه) : اجمع الأصدقاء لدي كلام حول الانتفاضة في هذه الليلة.

وعندما جمعنا الأخوة والأصدقاء الذين كانوا موجودين والذين هم ممن يهمهم الوضع العراقي والمستقبل العراقي، وكان التجمع في الغرفة الكبيرة التي هي الآن مكتب المرجعية، وقد كان متحمساً إلى الكلام بشكل عجيب، والساحة كانت متفائلة كثيراً، وكان من دأبه هو التفاؤل والأمل، ما كان يعرف لليأس معنى في كل القضايا، وفي أسوأ الحالات الظلامية والتشاؤمية تراه يفتح لك باب

ص: 126

فرج وبصيص أمل يولده لديك.

جلس الإمام الراحل (رحمه اللّه) على المنبر وقال: بسم اللّه الرحمن الرحيم، الانتفاضة في تصوري سوف تفشل.

هذا الكلام يومذاك كان عكس التيار العام كله، عكس التيار السياسي، عكس تيار الإعلام، لأن العالم نزل إلى الإطاحة بصدام، والانتفاضة كانت قائمة، وكربلاء المقدسة كانت محررة في ذلك الوقت وبأيدي المجاهدين لأن كربلاء المقدسة تقريباً ولمدة (13 إلى 17 يوماً) صارت فيها حكومة مستقلة عن بغداد.

ولكنه، قال (رحمه اللّه) : الانتفاضة ستسقط، ستفشل!

وبيَّن السبب، أي كلام هذا الكلام، بحيث أنت في ذروة الأمل، ويأتي الإمام الراحل (رحمه اللّه) ويقول لك كلاماً هو خلاف المتوقع وعكس المأمول..!!

ولكن عندنا علم بأنه يمتلك درجة عالية من الحكمة والعمق السياسي والقدرة على تحديد الأمور بحيث يستطيع أن يقنعك في الحال بمواجهة هذا الرأي، فبدأ (رحمه اللّه) يحلل، فقال: إن هذه الانتفاضة ستفشل لأنها لا تحمل عوامل الانتصار، وينقصها أسباب النجاح.

شرح أسباب ذلك فقال (قدس سره) : الانتفاضة ستفشل لثلاثة عوامل:

العامل الأول: فقدان القيادة؛ لأنه ليس لهذه الانتفاضة قيادة واضحة، فطبيعي أن بحراً من الجماهير الثائرة ضد نظام الحكم وليس لها قيادة واضحة، ستفشل وتشتتها الأهواء والآراء.

العامل الثاني: ممارسة العنف، فإن بعض الجماهير بدأوا يمارسون العنف ضد مؤسسات الدولة، وأخذوا يقتلون بلا محاكمة، لأن البعض يرى ويشاهد

ص: 127

أشخاصاً بعثيين قد آذوا الناس من قبل ولا يستطيع أن يتمالك أعصابه، إما لأن هذا البعثي قد سجن والده، أو قتل أخاه، أو صادر أمواله، أو رفع عليه تقريراً أدى لإعدام أخوانه أو سجنه؛ إذ كان من دأب الصداميين إيذاء الناس وظلمهم، فيأتي أبناء هؤلاء الضحايا ولا يتحملون مشاهدة هؤلاء البعثيين، ويكون لديهم سلاح فيقتلونهم أمام الناس جهاراً نهاراً، وبعض البعثيين قتلوا في بيوتهم.

نعم، هؤلاء الذين كانوا يؤذون الناس وإن كانوا يستحقون العقوبة لكن الكلام في طريقة العقوبة، فإنها بهذا الشكل العشوائي ليست صحيحة، وطريقها الصحيح أن يدفع إلى القضاء، والقضاء يحاسبه فيعاقبه، ولكن بعض الناس بدؤوا يمارسون العنف بالإفراط، وذلك نتيجة الضغط والقمع الذي كان متراكماً في قلوبهم، فلم يتحملوا، وكانوا يقتلون البعثيين أمام أنظار الناس.

ولا شك أن العنف يجعل البعثيين يستميتون في الدفاع عن أنفسهم، وعن النظام الذي يحميهم؛ لأنهم يعلمون أنه سوف لا يسلم بعثي من العقاب، فلماذا لا يتمادون في فسوقهم، وأساليبهم العنيفة؟!

والناس تعلم أن العديد من البعثيين في العراق ما كانت لهم مصلحة في بقاء النظام البعثي، لأنهم أجبروا على دخول الحزب، ولذا كانوا يكرهونه ولا يريدون استمرار حكم صدام، لأنهم هم أنفسهم كانوا منزعجين من وجوده، لأن حكم صدام - في الواقع - كان مبنياً على فئة صغيرة هي عصابة صدام، والحزب والجيش وغيرهما كانا بالحقيقة أحد أجهزة أعوان صدام، وهذا فيه تحليل مُفصَّل.

فعامل العنف غير المبرر الذي مارسه بعض رجال الانتفاضة، فنفَّر الناس منهم بدلاً من أن يتعاطفوا معهم، وكان من المفروض أن يستخدموا السِّلم

ص: 128

واللا عنف، ويبدون للناس وجه الرحمة لا وجه الغضب، وأما المجرمون من البعثيين فيقدمون إلى المحاكمة العادلة حتى يبدأ الناس يمدون لهم أيديهم ويسحبونها عن حماية النظام الجائر وعن قوة النظام، فتقوى الانتفاضة ويضعف النظام، فيسقط.

العامل الثالث: التدخل الخارجي، وهو واضح حيث تدخلت بعض الدول الإقليمية فملأوا العراق بصور بعض الرموز والزعماء، وسرَّبوا الكثير من الشباب لأجل استثمار الوضع المضطرب هناك، ومن الطبيعي أن أمريكا وأمثالها من القوات الدولية تفهم هذا جيداً - لأنه من أوليات الأمور - وليست مستعدة لأن تحقق أهداف دولة مجاورة أو غيرها، فهي تعمل لمصالحها، ولا تحب أن يأتي آخرون ليستفيدوا من عملها، وهذا الشيء واضح في معادلات السياسيين،وأصحاب المصالح لا يقدمون عملاً لله وحباً للناس بل كل عمل يعملونه يريدون أن يحصدوا ثماره.

فالسياسي يفكر في المصالح والمفاسد، ولا يفكر في المبادئ، وقد قرأت تصريحاً للقائد العسكري لقوات التحالف بالكويت بعد ذلك، يقول فيه: إنه كان قرارنا الزحف إلى بغداد لإسقاط النظام، لكن عندما وجدنا أن هناك نفوذاً لبعض الدول المجاورة للعراق - وهو نفوذ سياسي - أتى لنا القرار من واشنطن بإيقاف المعركة، وعلى العكس بل فسحنا المجال لصدام باستخدام الجو لقمع الانتفاضة.

فالأمريكان أنفسهم حرَّكوا الشعب للانتفاضة على صدام، ثم بعد ذلك هم أنفسهم فسحوا المجال للنظام بقمع الانتفاضة، ولا شك بأن لأمريكا دوراً في قمع الانتفاضة في ذلك الوقت. كل ذلك كان بسبب التدخل الخارجي من دول الجوار.

ص: 129

فهذه العوامل الثلاثة: انعدام القيادة الموحدة والواضحة، واستخدام العنف، ونفوذ الدول المجاورة، وأيضاً سماح المنتفضين لتلك الدول، والمخترقين مخابراتياً كان له التأثير السلبي على مجريات الأحداث، فلهذه الأسباب لم تبق الانتفاضة عراقية محضة، فستنتهي إلى الفشل.

وهذه القراءة كانت مفاجأة ودقيقة في ذلك الوقت.

فالإمام الراحل (رحمه اللّه) كان لديه تحليل دقيق وقراءة صحيحة، ووضع معالجات لهذا الوضع المتأزم، فهو من دون مبالغة كان يتنفس العراق صباحاً ومساءً، نهاراً وليلاً، وفي كل أوقاته وأزمانه.وكان يُشكل على العديد من الخطباء الذين يصعدون المنبر ويقول لهم: لماذا لا تدعون لإنقاذ الشعب العراقي من براثن الظلم الصدامي البعثي؟ لماذا لا تفضحون نظام صدام وتكشفون أسراره؟

كان يقول (رحمه اللّه) : ادعو لقضاء حوائج الناس، ادعو لشفاء المرضى، ولكن هذه القضية مهمة لماذا لا تذكرونها على المنابر؟

وقد كتب عشرات الكتب حول العراق، وأطلق على نظام العراق مصطلحات الآن أخذت دورها في الرأي العام.

و قد كان يعبر عن الطاغية ب- (هدام)؛ وهي مفردة مستخدمة الآن في الرأي العام العراقي، وفي وسائل الإعلام.

فحتى في محاضراته الفقهية أو في جلساته الخاصة كان يتنفس العراق، ويحنُّ إليه، وكانت له الكلمة المشهورة : لقد اشتقت إلى كربلاء.. التي تحمل ما تحمل من معان، وتعبر ما تعبر من أحاسيس ومشاعر.

ص: 130

الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) وكربلاء المقدسة

أما حديثه عن مدينة كربلاء المقدسة وعلاقته بها فحديث ذو شجون، وقد ألّف كتاباً صغيراً حول علاقته بكربلاء المقدسة اسمه (عشت في كربلاء) ، ويقول البعض عن هذا الكتاب: لقد أصبحت هناك ملازمة بين هذين الاسمين - السيد الراحل (رحمه اللّه) وكربلاء المقدسة - ملازمة في الاتجاه الفكري والمرجعي والسياسي وفي كل الاتجاهات.

فعندما تقول هذا شخص من كربلاء، معناه أنه متأثر فكراً بالإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وعندما تقول إن هذا من أتباعه، هذا يعني الاهتمام بشأن كربلاء، وليست كربلاء كحدود، بل كربلاء كمدينة مقدسة، كربلاء كعبة الشيعة، وقلبها النابض ودمعها الجاري بهذا اللحاظ، وإلا فالإمام الشيرازي (رحمه اللّه) كان لا يؤمن بالحدود الجغرافية أصلاً، وهو دعا إلى إزالة الحواجز الجغرافية بين الدول الإسلامية خاصة، وحتى إن البعض من أهل المعرفة من المخضرمين في دراسة التاريخ المرجعي كان يقول: إن السيد يطير بجناحين مهمين، إنه يطير بمرجعيته على الرغم من محاربته، وعلى الرغم من الضغوطات السياسية والمرجعية والاجتماعية والاقتصادية عليه.

وهذان الجناحان هما: جناح العراقيين ولا سيما الكربلائيين منهم، وجناح الأتراك(1)، إذ إنه خدم الكربلائيين خدمة عظيمة جداً، وبعض أهالي

ص: 131


1- حيث إن جمهور الأتراك في إيران وغيرها عدلوا إلى تقليد السيد الشيرازي (رحمه اللّه) بعد رحيل المرجع آية اللّه العظمى السيد كاظم الشريعتمداري (رحمه اللّه) ، و كان لهم الثقل الكبير جداً على الساحة الشيعية.

كربلاء المقدسة يقولون ويصرحون بذلك، وقد قال لي أحد الفضلاء: إن الكثير من أهل المعرفة من الذين عاصروا الإمام الراحل (رحمه اللّه) في كربلاء المقدسة يصرحون بأنه لا يوجد كربلائي من الجيل السابق عاصره، إلا وللإمام الراحل (رحمه اللّه) فضل عليه من جهة تدينه ونشاطه.

فهو (رحمه اللّه) وفيٌّ لكربلاء المقدسة، والكربلائيون بادلوه هذا الوفاء، الكربلائيون دفعوا وبذلوا جهوداً كبيرة جداً من أجله، وتأثروا به تأثراً فكرياً ومرجعياً وسياسياً.

ولهذا قالوا: إن هناك ملازمة بين كربلاء المقدسة والسيد الراحل (رحمه اللّه) في الفكر والحياة المعاصرة.

كان (رحمه اللّه) وفياً لأهالي كربلاء المقدسة، وخدم تلك المدينة خدمة عظيمة، وإلى الآن أثاره وإشعاعاته جلية وبينة، وهو ملموس عند الجميع و يظهر لدى أصحاب الخواطر الأدبية وأصحاب المذكرات والشعراء وغيرهم من أهل الآداب، وقد قرأت بعض كتبهم.

فما من زائر وما من سائح زار كربلاء المقدسة أو عاش فيها إلا ومدحهم، وأشاد بكرمهم، وبدماثة أخلاقهم وانفتاحهم الفكري والثقافي، ومن الواضح أن لكل قاعدة استثناءات إلّا أن الكلام عن الصبغة العامة لهم.

فأهالي كربلاء المقدسة وببركات سيد الشهداء (عليه السلام) لهم تأثير كبير على الساحة العراقية، وعلى الساحة الشيعية عموماً.

فهم في مقدمة القادة للوضع الشيعي، والشواهد على ذلك كثيرة، وحتى على مستوى المرجعية الدينية، ونحن لسنا في مقام استعراض التاريخ المرجعي والتاريخ الحوزوي، فكربلاء المقدسة فيها بركات كبيرة جداً بفضل وبركات

ص: 132

سيد الشهداء (عليه السلام) ، في تاريخ المرجعية الشيعية(1) نجد أن المفاصل الحيوية في التاريخ المرجعي الشيعي كربلائية؛ لأنها كانت ناشئة من كربلاء المقدسة، فحوزة قم المقدسة(2) منشأها من كربلاء المقدسة، لأن مؤسسها الشيخ عبد الكريم الحائري وقد تخرج من حوزة كربلاء المقدسة. وكذلك منشأ الحوزة الزينيبة في منطقة السيدة زينب (3) في سوريا من كربلاء المقدسة، لأن مؤسسها السيد حسن الشيرازي خريج حوزة كربلاء المقدسة، وحوزة كاشان منشأها من كربلاء المقدسة؛

ص: 133


1- المرجعية الدينية هي مفهوم شيعي معناه رجوع المسلمين الشيعة إلى من بلغ رتبة الاجتهاد والأعلمية (على خلاف في اشتراط الأخيرة) في استنباط الأحكام الشرعية، ومن أصبح مؤهلاً لمنصب الإفتاء وأصدر آراءه في الأحكام الفقهية في كتاب يسمّى الرسالة العملية يعبّر عنه ب- (المرجع الديني) أو (آية اللّه العظمى) في المصطلح الشيعي، يرجع الشيعة إلى المراجع أو مراجع التقليد لمعرفة الأحكام الفقهية، وقد يمتد نفوذ المراجع إلى التدخل في مسائل سياسية واجتماعية كما وقع ذلك مراراً في تاريخ المرجعية الشيعية.
2- الحوزة العلمية فيها تعتبر واحدة من أهم المراكز العلمية الدينية للشيعة. والحوزة العلمية لفظ اصطلاحي للمدرسة الفقهية التابعة للمذهب الجعفري، وتنقسم هذة الحوزة العلمية إلى عدة مدارس في العصر الحالي، منها: في النجف الاشرف، وكربلاء المقدسة و قم و مشهد و اصفهان و سوريا، و المنطقة الشرقية و ... الاختلاف في هذه المدارس اختلافٌ جغرافي لاعلمي، فكلها المنهج ذاته للتحصيل العلمي.
3- الحوزة العلمية الزينبية حوزة شيعية تقع في سوريا، وتعتبر من أهم الحوزات الشيعية، أسسها آية اللّه الشهيد السيد حسن الشيرازي عام 1976 م، وقد درس فيها العديد من الأساتذة كآية اللّه المعظم السيد مرتضى الشيرازي (دام ظله) والشيخ المحمدي والشيخ الفاضلي والكثير من العلماء والفضلاء. للحوزة العلمية الزينبية أكثر من 1000 طالب من 26 جالية من مختلف الجنسيات كالسورية و العراقية والأذرية والإيرانية والأفغانية والهندية والباكستانية والصومالية والأفريقية والكويتية والسعودية وغيرها.

لأن مؤسسها المولى النراقي(1) خريج حوزة كربلاء المقدسة، والمراجع الكبار الذين غيَّروا الوضع الشيعي علمياً أو اجتماعياً منشؤهم في كربلاء المقدسة درسوا فيها، وخرجوا مجتهدين ثم انطلقوا إلى العمل،كالسيد بحر العلوم(2) والشيخ جعفر كاشف الغطاء(3) وصاحب الفصول الميرزا القمي(4) وصاحب الرياض(5)، والسيد المجاهد والميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) وغيرهم، وهذه آثار كبيرة جداً يطول عنها الحديث.

وفي رواية ينقلها السيد عبد اللّه شبر(6) في حق كربلاء المقدسة، وأنا أنقلها عنه، يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) : «ليكونن لشيعتنا فيها خِيرة إلى

ص: 134


1- الشيخ مهدي النراقي عالم دين شيعي من أهل نراق. هو محمّد مهدي بن أبي ذرّ النراقي الكاشاني المعروف بالمحقّق النراقي. ولد بقرية نراق من أعمال كاشان. تتلمذ لدى الوحيد البهبهاني و غيرهم. تُوفّي في الثالث والعشرين من محرّم 1209 ه- بالنجف ، ودُفن فيها.
2- السيّد محمّد مهدي بن السيّد مرتضى بن محمّد بحر العلوم الطباطبائي، وينتهي نسبه إلى الحسن المثنى بن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) .
3- الشيخ جعفر بن خضر بن يحيى النجفي المعروف بالشيخ جعفر كاشف الغطاء. من تلامذة المجدد الوحيد البهبهاني، ويُشار إليه بلقب الشيخ الأكبر، وسمي باسم كاشف الغطاء نسبة إلى كتابه كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء، وصار لقباً لعائلته وذريته من بعده، ولا تزال ذريَّته تسمى بآل كاشف الغطاء.
4- الشيخ أبو القاسم بن حسن المشهور بالميرزا القمي والفاضل القمي والمحقق القمي. ولد سنة 1152 ه- ، وتتلمذ لدى السيّد حسين الخوانساري وغيره. ثم هاجر إلى العراق وسكن كربلاء المقدسة حقبة من الزمن ثم عاد إلى بلاد فارس توفي سنة 1231 ه.
5- الميرزا عبد اللّه بن عيسى الإصفهاني التبريزي الأفندي، من تلامذة العلامة محمد باقر المجلسي ومن المجازين بالرواية عنه، بالإضافة إلى غيره من أعلام التشيُّع.
6- السيد عبد اللّه بن محمد رضا بن محمد آل شُبّر. رجل دين ومُحدّث ومتكلم ومُفسّر شيعي عراقي، عاش في أواخر القرن الثاني عشر الهجري والنصف الأول من القرن الثالث عشر.

ظهور قائمنا صلوات اللّه عليه»(1)، يعني كربلاء المقدسة لا تخلو من الناس الأفذاذ الصالحين الذين لهم تأثير، والذين لهم مكانة معنوية، والحديث عن كربلاء المقدسة يطول في هذا المقام.

فكان حنينه إلى كربلاء المقدسة وعلاقته بأهالي كربلاء علاقة الأب والأبناء، علاقة الأسرة الواحدة، وأنت ترى وتشعر فعلاً أن علاقته بالكربلائيين كأنه أبوهم عندما يتحدثون معه، وعندما يجلسون عنده، وهو لم ينفك عنهم، ولم يتركهم في أشد الظروف حراجة، فقد كان يقف دائماً وأبداً إلى جانب كربلاء المقدسة، والشواهد على هذا كثيرة جداً.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) طاقة هائلة

* طرح الإمام الراحل (رحمه اللّه) مرجعيته في سن مبكرة، حيث كان يبلغ من العمر ثلاثين عاماً، كيف تنامت مرجعيته مع وجود مرجعيات كبيرة؟

- في الواقع كان سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) يحمل عدة عوامل قوة، وهذه العوامل ساعدت على نمو مرجعيته المباركة، ومن المفارقات أن عوامل القوة هذه كانت في حقبة من الزمن، أحد عوامل عرقلة مرجعيته وانتشارها.

الصورة

تعلمون أن السيد الراحل (رحمه اللّه) يكاد يكون المرجع الأبرز في هذه الأزمنة المتأخرة

ص: 135


1- بحار الأنوار: ج53 ص12.

الذي واجه حروباً طويلة وعريضة، ضد شخصه الكريم، وضد مرجعيته المباركة، ومع ذلك ظل في خط المنافسة في المرجعية الواسعة.

فقد كانت هناك مرجعيات أكبر منه سناً في هذا المجال، ومع ذلك كانت مرجعيته في زمانها تنافسها، ولم يكن يتحجَّم أو يتوقف، بل كان دائماً في توسع ونمو، ولولا هذه الحروب السياسية والإعلامية، وضغوطات المرجعية الدينية عليه لا شك أنه كان يصبح مرجعاً كبيراً يكاد ينعدم نظيره.

نعم، هنالك عوامل لقوته، كما أن هنالك عوامل مانعة من ظهور فاعلية تلك القوة، فقد كان يحمل في نفسه طاقة كبيرة جداً، مما أدى وساعد مرجعيته على الانتشار في كل مكان، وحسب قول أحد أصحاب القرار في هذا البلد(1) ليس لنا خيار آخر، فلابد أن نعرقل عمله لأنه إذا لم نعرقله سيغزونا، ولن يبقى لنا شبر في هذا البلد، لأنه طاقة فكرية كبيرة، وطاقة عملية كبيرة..!!

ولا شك أن الطاقة لا يمكن أن تتحجم. نعم يمكن أن تتعرقل قليلاً، أو تؤذى، ولكن أن تتتحجم أو تقف فهذا أمر صعب، ولاشك أن اللّه تبارك وتعالى يمد العاملين:(كُلًّا نُمِدُّ هَؤلَاءِ وَهَؤلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)(2)، فكان يستشهد بهذه الآية دائماً ويستلهم منها العزم فهو كان يعمل ليل نهار وعلى كل الاتجاهات، ولا شك أن العمل من عوامل التقدم.

الإمام الرحل (رحمه اللّه) مُجدداً

الشيء الثاني أنه كان مجدداً بحق، فقد كان يحمل أفكاراً جديدة، وأفكاراً

ص: 136


1- يقصد ايران.
2- سورة الإسراء: 20.

منيرة تشخص أمراض الأمة وتضع الحلول لها، ولا شك أن هذه الأفكار النيرة تجد لها روّاداً ومحبين ومؤيدين في المجتمع المسلم، والآن نلاحظ أن المجتمع يبحث عن الفقيه والمرجع الذي يواكب حياته، ويعطي الحلول لمشاكله اليومية، وهذا الشيء كنت تراه في شخص السيد الراحل (رحمه اللّه) فقد كانت لديه حلولاً لمشاكل مستقبلية وليس حلول المشاكل الحاضرة فقط.

فإنك قد لا تجد في الفقهاء السابقين عليه والذين عاصروه على كثرتهم في عصره، مَنْ كتب في (فقه المستقبل)(1)، أولا تجد في الفقهاء مَنْ كتب في (فقه السياسة)، أو في (فقه القانون) و(فقه المرور)(2)

و(فقه البيئة) و(فقه العولمة)(3)، وهي تكاد تكون من نقاط القوة، لأن الفقيه هو من يدير أمور الناس، والفقه هدفه إدارة الحياة وتنظيمها ضمن موازين الشرع، فإذا كان الفقيه يحمل هذه القدرة فلا شك أن هذه من عوامل التقدم.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) وأخلاقه النبوية

والشيء الثالث: أخلاق الإمام الراحل، وهو النقطة المهمة، فأخلاقه بدرجة من السعة والأريحية والدماثة بحيث لا تبرر للعدو عداوته، بل تقلب العدو إلى صديق، وتقلب الصديق إلى حبيب، وهذه من أخلاق الأنبياء (عليهم السلام) .

ص: 137


1- كتاب فقهي استدلالي بحث فيه السيد الراحل (رحمه اللّه) عن المستقبل برؤية فقهية وما يترتب على المستقبل من أحكام شرعية.
2- بحث فقهي استدلالي، تعرض فيه الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) إلى أحكام المرور المختلفة برؤية فقهية استدلالية موسعة.
3- كتاب فقهي استدلالي ضمن الموسوعة الفقهية، بحث سماحة السيد (رحمه اللّه) عدة مباحث حول العولمة ولكن بمنظار فقهي.

ففي أوج الأزمة التي كان يتعرض لها السيد الراحل (رحمه اللّه) من قبل بعض الجهات، وكان فيها سجون ومعتقلات ومداهمات لبيته وإيذاء لطلابه، كان بعض كبار أصحاب الجهة التي كانت تباشر الضغط السياسي والاجتماعي عليه هم أنفسهم يقولون: أخلاق السيد الشيرازي (رحمه اللّه) أخلاق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

الصورة

ذكر لي ذلك أحد أصدقائي وهو صديق لهم بأن مجموعة من كبار قادة الجهة التي آذت الإمام الراحل (رحمه اللّه) وحاربته كانوا جالسين - وقد كان معهم يستمع لما يقولون لكونه ثقة عندهم - فكانوا مجتمعين يفكرون في اتخاذ موقف من السيد الراحل (رحمه اللّه) وكيف يمكنهم مواجهة أنشطته؟ وكيف يضغطون عليه؟ وكيف يؤذونه؟ وكيف يحجّمون تحركه؟

فبعض كبارهم أقر هناك وقال: حقيقةً أخلاق السيد الشيرازي هي من أخلاق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: فأنا بادرته وقلت له إذا أنتم تعرفون أن أخلاقه أخلاق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلماذا تحاربوه وتضغطون عليه، ولماذا تؤذوه؟!

فقال كبيرهم: ماذا نفعل؟ ولكن هذه مصالح سياسية تستدعي هذا العمل!!

ونفس الحال مع شخص آخر من أصدقائنا، وقد ذكرت قصته من قبل، فقد كان هنالك شخص من الشخصيات العراقية يحارب الإمام الراحل (رحمه اللّه) حرباً عشواء في أي مجال يتمكن من ذلك، فقال له صديقنا وهو صديق له أيضاً:

ص: 138

نأخذك إلى السيد الشيرازي، فقط تراه، ومن ثم تعامل معه، إن كنت ترى إن كان من الصحيح أن تحاربه، فحاربه، أو من الصحيح أن تصالحه، فصالحه. قال: لا أذهب إليه فقلت: لماذا؟! قال: لأني أخشى أن يسحرني بأخلاقه العالية.

فحسن أخلاقه ورحابة صدره وسماحته يشهد بها القريب والبعيد، العدو والصديق، الحاقد والمحب، وإنك لا تجد من يُشكل عليه من جهة أخلاقه، بل على العكس تماماً الكل يشيدون بهذا الجانب، وما أكثر الشواهد والأدلة على هذا، وحتى إنه صار مؤخراً مطمعاً للآخرين، أي اتخذ بعض الجاهلين حسن الأخلاق وسعة الصدر عند سماحته لتمرير بعض مصالحهم الشخصية أو الفئوية.

نكران الذات

ذات مرة أرسل أحد مقلدي السيد الراحل (رحمه اللّه) الحقوق الشرعية بيد أحد أصدقائه الذي لم يكن قد رأى سماحته (رحمه اللّه) من قبل، وكان عمره الشريف في أواخر العشرينات أو أوائل الثلاثينات. فجاء يسأل عن السيد (رحمه اللّه) ! فأجابه بعض المغرَّر بهم: سآخذك إلى السيد. لكنه ذهب به إلى شخص آخر كان يصلي في الحرم، - وهذه القصة جرت في كربلاء المقدسة - وكان له شكل حسن ومنظر جميل. فقال لصاحب الحقوق: بأن هذا الشخص هو السيد الشيرازي! فقد كانوا يحاولون بشتى الطرق أن لا تصل الحقوق الشرعية إلى السيد الراحل (رحمه اللّه) . فأعطاه الرجل الحقوق الشرعية، وكان خصماً للسيد الراحل (رحمه اللّه) ويحاربه ويؤذيه إلى حد العدوان وليس مجرد الإيذاء، ولكن بعد احتكاكه بأهل كربلاء المقدسة عرف أن هذا الذي استلم الحقوق الشرعية ليس هو الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وعرف أن

ص: 139

الصورة

للسيد (رحمه اللّه) صلاة جماعة كبيرة في حرم الحسيني الشريف،وكان المكبرون له ثلاثة أو أكثر، أحدهم يوصل التكبير للآخر - وأنا شاهدت هذه الصلاة - وكان في الصفوف الأولى العديد من الكبار الذين خالفوا الإمام الراحل (رحمه اللّه) فيما بعد وحاربوه سنين طوال؛ لأنهم اختلفوا معه في بعض التصورات السياسية، فهم كانوا يريدونه لهم، وهو كان يريدهم للإسلام فافترقوا عنه، على كل حال كانوا في الصفوف الأولى يصلّون خلفه، وصلاة الإمام الراحل (رحمه اللّه) فيها حديث طويل، فعندما اتضح الأمر للرجل أتى إلى السيد الشيرازي (رحمه اللّه) وقال له: سيدنا، أنا مبعوث بيدي حقوق شرعية من قبل فلان، وأرشدوني إلى شخص آخر من الناس، وأنا الآن لا أعرف تكليفي؟ فقال له السيد وبكل أريحية وتسامح: اذهب مطمئناً فقد وصل الحق إلى أهله.

وأيضاً بعض كبار مقلدي الإمام الراحل (رحمه اللّه) كانت لهم أموال ضخمة، فكان يبعث الحقوق الشرعية، إلى مرجع آخر، ممن كتب ضد السيد الراحل (رحمه اللّه) وذلك لبعض الأسباب السياسية أو غيرها، وعندما كانوا يخبرون السيد الراحل (رحمه اللّه) بالأمر كان يأذن في ذلك، مع أنها قضية حساسة جداً فأي سعة صدر هذه؟! ولكني أحتار من أين أتحدث عن أخلاقه المثالثة.

والآن ترى السِّمة الأخلاقية هي البارزة في أولاده وفي أكثر تلاميذه، حتى

ص: 140

الأعداء يشهدون بها، فلم يكن الاشعاع الأخلاقي له منحصراً في شخصيته، بل تعدى إلى أصحابه.

ومن الأوصاف الجلية جداً عندهم هي أن السلام فاش بينهم بشكل كبير، يُسلمون على الصغير وعلى الكبير يحبون الناس ويخدمونهم، ولذا ترى أن المؤهلات الخدمية عندهم كثيرة، والاحترام بينهم شديد، وعلى ما في بعض تلاميذ السيد الراحل (رحمه اللّه) من جوانب العظمة والسمو والرفعة تجدهم في أشد حالات التواضع، وهناك شهادة بحقهم في هذا من العدو والصديق، وحتى من غير المتدينين وهذا هو الجانب المهم في الإمام الراحل (رحمه اللّه) خاصة، وفي أتباعه وتلاميذه بنحو عام.

معالجة الأزمة المالية

* كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) دائم العوز والعجز اقتصادياً، حتى لقي ربه مديوناً، كيف كان يعالج أزماته الأقتصادية؟

- هذا واضح، فالكل يعلم أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) توفى عن دين يقدر بمليون ونصف مليون دولار على ما ذكر، هذا يعني أنه كان يعالج أزماته المالية بالديون، فكان يقترض من أجل أن يدعم مشاريعه التنموية في كثير من الأحيان.

وأنا سمعت من بعض أولاده الأفاضل أن (ماء وجوههم) حقيقة تذهب لشدة الضغط عليهم، لأنه تأتيهم أزمات يضطرون إلى بعض الناس، وليس لهم ما يسدُّ الرَّمق، لا لنفس الإمام الراحل (رحمه اللّه) ولا لأولاده ولا لأخوته، فليس عندهم شيء من الحطام كالسيارات أو القصور أو الأراضي والعقارات، فأثاث بيوت الطلبة العاديين يمكن أن تكون أحياناً أفضل من أثاث بيتهم، وجدران

ص: 141

بيوتهم أفضل من جدار بيتهم، وقد تجد أن لباس الطالب أفضل من لباس السيد المرجع نفسه، مع العلم أنه كانت تمر تحت أيديهم الملايين، وعندهم الكثير من التجار الذين يتمنون أن يقول لهم السيد الراحل (رحمه اللّه) : اعملوا لي الشيء الفلاني.

حتى بيته الذي رحل عنه أوقفه ثم سكن فيه، مع أنه لم يشتره، وكان أحد التجار قد أهداه له، وقد رأيت أحد أولاد(1) الإمام الراحل (رحمه اللّه) في سوريا - كان في وقته المدير العام أو المشرف العام للحوزة العلمية في سوريا- وأحد التجار الخليجيين أهداه داراً في السيدة زينب (عليها السلام) فرفضها، والدار فيها بعض التحسينات، وليس فيها شيء مميز ولكن يمكن أن تكون مريحة بالسكن للسيد وأهله، إلا أنه رفضها بأن تكون ملكاً شخصياً، ولا أعلم أنه أوقفها لله تعالى أو أرجعها لأهلها.

ص: 142


1- هو السيد جعفر، النجل الثالث للإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ، ولد في مدينة كربلاء المقدسة، ثم هاجر بصحبة والده إلى الكويت إثر المضايقات التي تعرض لها الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ، نشأ و ترعرع في ظل والده، ثم انتقل إلى قم المقدسة و بدأ دراسته على يد كبار الأساتذة، منهم آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) و آية اللّه السيد مرتضى الشيرازي (دام ظله) ، ثم أكمل دراسته للسطوح العليا عند والده و عمه آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) ، و آية اللّه العظمى الشيخ وحيد الخراساني (دام ظله) ، حتى نال درجة الاجتهاد من بعض الأساطين إثر كتابته كتاب (التجري)، ثم هاجر إلى سوريا وتصدى لزعامة الحوزة العلمية الزينبية، ثم هاجر إلى إيران ليستمر في نشاطه العلمي عبر التدريس و التحقيق و التأليف، وهو الأن يستمر في تدريس خارج الفقه والأصول.

القسم الخامس

الإمام الراحل (رحمه اللّه) وجوانب من الإدارة والعاطفة

* كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) كثيراً ما يسمح بالتصرف في الحقوق الشرعية، وفي الإطار الشرعي، وكان يمنح الإجازة للتصرف في الثلث أو النصف، مع أن بعض الوكلاء قد لا يحتاط في ذلك، وقد يبلغ الثلث أو النصف كما كبيراً من المال، ما هو السبب في ذلك؟

- يمكن الإجابة على هذا السؤال من وجوه عديدة: وجه يتعلق بالجانب الحوزوي للطالب أو الوكيل، ووجه آخر يتعلق بالدور الاجتماعي للوكيل، بالنسبة إلى الحقوق الشرعية كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يجد بأن المصالح العامة للمسلمين لا تنهض بقبض اليد أو إمساكها في موضوع الإنفاق، وهنالك أكثر من طريقة و منهجية، يتبعها العلماء بالنسبة للحقوق الشرعية، فبعض المراجع يحصرون مسألة قبض الحقوق الشرعية أو جمعها بأنفسهم مراعاة لجانب الاحتياط، أو مراعاة لموازين عديدة، ولبعضهم منهجية واسعة جداً بحيث يُعطي صلاحية إلى المقلِّد نفسه بأن ينفق الحقوق الشرعية في الوجوه التي يراها مناسبة.

ومنهجية الإمام الراحل (رحمه اللّه) كانت منهجية متوسطة جامعة بين الأمرين، بمعنى أنه في عين الحال الذي يُركّز على قبض الحقوق الشرعية كان في نفس الوقت يعطي المجال إلى الوكيل لأن يأخذ دوره الاجتماعي فيها، ومن الواضح أن الجانب المالي من أهم نقاط القوة لأي شخصية، أو لأي وجيه في المجتمع، وحيث

ص: 143

كان للسيد الراحل (رحمه اللّه) حركة نهضوية للأمة، وما كانت حركة مختصة فقط في بُعد الحوزة، وإنما عنده منهجية إصلاحية تبدأ من الشخص وهو صغير إلى أن يُلحد في قبره، وتبدأ من الأسرة وتمتد إلى الدولة، فلذلك كان يرى بأن من المصلحة إعطاء الصلاحيات إلى الوكلاء في أن يتصرفوا في بعض الأموال، فيما يتعلق بالمصالح العامة، وقَلَّما كان يُقيد الوكيل، بل كان يُعطي حسب مستوى الوكيل، وحسب دوره الاجتماعي ومكانته والموقع الذي هو فيه، فبعضهم كان يعطيه إجازة في الثلث، وبعضهم في الربع، وبعضهم في النصف، وفي بعض الموارد - النادرة بالنسبة إلى بعض الشخصيات - أعطى إجازة في الكل، خصوصاً بالنسبة إلى الوكلاء الذين لهم قابلية جيدة، وموقعهم موقع مهم.

وكان يرى بأن الحقوق الشرعية ينبغي أن تصرف في المصالح العامة، كطباعة بعض الكتب، أو تأسيس المجلات، أو تكوين المؤسسات، بالإضافة إلى إعطاء الفقراء والمحتاجين وما أشبه.

وكان يرى - كما يوافقه بعض الفقهاء - عدم ضرورة التقسيم الدقيق للحقوق الشرعية إلى سهمين: سهم السادة، وسهم الإمام (عليه السلام) ، بمعنى التقسيم الحدِّي كأن يفرز الفقيه سهم السادة - فلا يُصرف إلا في شؤونهم - عن سهم الإمام (عليه السلام) ليُصرف في المصالح العامة، بل كان يرى - وقد أثبت - أن هذه سيرة الفقهاء منذ زمان الأئمة (عليهم السلام) إلى العصور المتأخرة، وكان ينقل عن جملة من الفقهاء هذه المسألة التي طرحها

في (الفقه القانون) بأن السيرة جارية على جواز خلط الحقوق الشرعية من الأخماس والزكوات والصدقات وما أشبه ذلك، فللفقيه أن يدمج الحقوق ويصرف منها؛ حيث لا مائز بينها من حيث المؤدى.

هذا ما ذكره الإمام الراحل (رحمه اللّه) في مؤلفاته، مضافاً إلى ما كان يذكره

ص: 144

أحياناً في الجلسات الخاصَّة.

ففي (الفقه القانون) لديه إشارات إلى هذا الموضوع مع تحليل مفصّل وهو موضوع مهم جداً.

فكان يرى السيد الراحل (رحمه اللّه) بأن الفقرالذي ورد في النصوص - بالنسبة إلى تقسيم الحقوق الشرعية - لا ينحصر بالفقر المادي، بمعنى أن الفقير ليس فقط هو الذي يحتاج إلى المأكل والملبس، وإنما كان يرى (رحمه اللّه) الفقر أعم من المادي والمعنوي، بل كان يرى السيد الراحل (رحمه اللّه) بأن الفقر المعنوي أكثر وأهم من الفقر المادي، فلذلك وسّع في دائرة صرف الحقوق الشرعية فيما يتعلق بتأسيس المجلات أو كتابة الكتب أو تأسيس المؤسسات. فلم يمانع في صرف بعض الحقوق في هذا المجال، وكان (رحمه اللّه) يقول: كما أن بدن الإنسان بحاجة إلى طعام كذلك عقله بحاجة إلى فكر، بحاجة إلى وعي، وقلبه بحاجة إلى إيمان، فليس من الصحيح وليس من روح الإسلام، مراعاة جانب المعدة في حقوق الفقير و عدم مراعاة جانب العقل و الروح، وبلا شك أن العقل والروح أهم من الجسد.

لمثل هذا المغزى كان يوسِّع، ولمثلها كان يعطي بعض الصلاحيات إلى الوكلاء بالحقوق الشرعية أن يصرفوها فيما يرونه مناسباً في المصالح العامة، وكثيراً ما كنتُ ألاحظ بأن قسماً من الوكلاء يأتون فيعطيهم إجازة الصرف، أو يعطي المقلدين من الذين عندهم حقوق شرعية فيستجيزونه ليصرفوها في بناء حسينية، أو يصرفوها في طباعة كتاب، أو يصرفوها مثلاً في إرسال مبلغين، فكان يجيزهم فوراً، ومن دون تردد، أعتقد أن هذا هو المغزى والدافع. وهو دافع لا يخلو من متانة وقوة، فإنها نظرة واسعة لروح التشريع وأهدافه، وقد أسس على ضوئها هذا المبنى.

ص: 145

والذي يريد التفاصيل يستطيع قراءة (الفقه القانون)(1).

مؤسسات الإمام الراحل (رحمه اللّه)

* ما هو سبب إصرار الإمام الراحل (رحمه اللّه) على تأسيس المؤسسات؟

* وما هو عدد مؤسساته التي أسسها والتي نجحت نجاحاً باهراً؟

* ولماذا بعض المؤسسات توقفت عن العمل؟

* وكيف كان انطباعه حين يسمع بذلك؟

- هذا السؤال يحتاج إلى إجابة مطولة، ولكن بشكل موجز ومختصر أقول: كانت مؤسسات الإمام الراحل (رحمه اللّه) بالمئات، هذا بحسب المعنى الاصطلاحي للمؤسسة. أما إذا أطلقنا اسم المؤسسة على كل تجمع قائم، الذي يشمل الهيئات ويشمل اللجان الخيرية وما أشبه ذلك فإنها تتجاوز الآلاف، ولا شك في هذا الشيء.

و أما الفلسفة في تأسيسها تعتمد على عدة مسائل كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يؤكد عليها في أثناء حواراته ولقاءاته، وفي كتبه أيضاً أشار إلى هذا الشيء.

كان يرى أن إنقاذ المسلمين من الاستبداد الداخلي، والاستعمار الخارجي من الواجبات الشرعية، وكما طرح هذه الفكرة في كتبه الفكرية. كذلك طرحها في الكتب الفقهية، ففي كتاب (إيصال الطالب إلى المكاسب)(2) تناول هذه المسألة

ص: 146


1- كتاب حول القانون الإسلامي ضمن موسوعة الفقه، تناول فيه سماحة السيد (رحمه اللّه) عدة مباحث قيمة، منها مصادر القانون في الإسلام، قانون التساوي بين الذكر والأنثى، مرونة القانون، وغيرها من المباحث المهمة والمتنوعة حول الرؤية الفقهية للقانون.
2- شرح لكتاب المكاسب للشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه اللّه) في 16 مجلداً، وهو من الشروح المفيدة والنافعة لطلاب العلوم الدينية.

بمناسبة من المناسبات، وذكر الأدلة الشرعية على وجوب إقامة التنظيمات، وله في نفس الكتاب وبمناسبات مختلفة إيماءات وإلماحات إلى أن على المسلمين أن يعملوا لأجل التخلص من البراثن الاستعمارية، ومن السيطرة والهيمنة الاستعمارية عليهم، ولقد جعل هذه المحاور في كتب مثل كتاب (طريق النجاة)(1) أو كتاب (السبيل إلى إنهاض المسلمين) بل حتى في كتاب (الأصول) الذي كتبه بقلمه للبحث الخارج، هناك أيضاً بمناسبة من المناسبات ذكر طريقة إنقاذ المسلمين، وكيف يمكن أن نحرر الأمة الإسلامية من المشاكل، كما طرح (شورى الفقهاء)، مع أن الإنسان في بدو النظر لا يجد مناسبة لطرح الشورى في كتاب أصولي، لكنه كان ينتهز وجود أي رابط يمكن أن يربط به المسائل، فيطرحها لغرض الإرشاد وإيصال فكرة الإصلاح إلى أذهان الجميع.

النظم والنظام تحرر من الاستبداد والاستعمار

وقد كان يرى بأن الأمة الإسلامية ينبغي أن تتحرر من قوتين، قوة داخلية وهي الاستبداد، وقوة خارجية وهي الهيمنة الاستعمارية، ولا يمكن للأمة

ص: 147


1- وهو آخر جزء من موسوعة الفقه، بحث فيه سماحة السيد (رحمه اللّه) طرق نجاة المسلمين، واستدل عليها بالآيات والروايات الشريفة.

الإسلامية أن تتحرر من هاتين القوتين وهي بعيدة عن النظم والنظام.

فالاستبداد عنده جيوش مجيشة للقمع وللسيطرة على الشعوب، فعنده عسكر وتنظيمات اجتماعية ومخابراتية ودعائية، وعنده الكثير من الأشكال والتنظيمات التي تقوي الكيان الاستبدادي.

والاستعمار أيضاً له قوة منظمة من كل الجوانب، وأما إذا أراد المسلمون كأمة، التحرر فلابد من أن تنتظم؛ وكان يقول: ليس من المعقول أن تتحرر أمة فوضوية ومشتتة وغير متناسقة وغير منسجمة مع بعضها البعض، وتتغلب على قوة نظامية وأجهزة منتظمة مع بعضها البعض.

فكان يدعو إلى التنظيم، وإلى وجوب إقامة التنظيم الإسلامي، ولا شك أن التنظيم مصطلح واحد، ولكن تحته مصاديق عديدة وكثيرة، منها: الحزب السياسي، والهيئة والمؤسسة والصحيفة والإذاعة وهكذا.

الإبداع في العمل المؤسساتي

إن الأمة بحاجة إلى توجيه فكري وثقافي كما هي بحاجة إلى توجيه سياسي، والمحور الأساسي لهذا العمل هو المؤسسة، فلذلك يرى المتتبع أن حركة الإمام الراحل (رحمه اللّه) مبنية على أساس المؤسسات لا على أساس الأشخاص والأفراد.

فكان (رحمه اللّه) يحث الوكلاء جميعاً على العمل، أو يبعث الوكيل إلى مكان من أجل عمل، ويدعوه إلى تكوين مؤسسة وجمع الناس، لأن المؤسسة:

أولاً: تبلور شخصية الوكيل، ولا تجعل جهوده متشتتة أو ضائعة هنا وهناك.

ثانياً: هي مركز لجمع الطاقات وتجميع الأفراد والمحاور.

ثالثاً: هي مركز إشعاع للفكر، وانطلاق للعلاقات، وللتأثير والتأثر.

ص: 148

رابعاً: هي طريقة للنظم والتنظيم.

فلذلك قلما تجد في بقعة من بقاع العالم لا سيما البقاع المهمة، إلا وللسيد الشيرازي وتلامذته ومدرسته، قائمة حضور فيها، وهذه الخطة تعتبر من سمات هذه المدرسة أي إن أبسط وكيل من وكلائه تراه أول ما يفكر به هو أن يعمل مؤسسة، ومن خلالها يبدأ عمله المكلف به.

إن هذه الثقافة صارت عرفاً عاماً في هذه المدرسة، وضمن الأعراف السائدة فيها، فترى الطالب الذي يحضر درس السيد الشيرازي عنده مؤسسة، وهو أمر بديهي جداً، ولهذا نرى بعض وكلاء الآخرين يغبطون تلامذته على هذه المسألة، حيث لديهم مرجعية كبيرة، ولها من الأموال والكتب، والتلاميذ الكثير، ولكن اهتمامهم أقل بالمؤسسات، بينما ترى بعض صغار التلاميذ من تلامذة الإمام الراحل (رحمه اللّه) أو أبسط وكيل من وكلائه لديه مؤسسة.

المؤسسات الإجتماعية

منها ما يرتبط بالمسائل الاجتماعية كالزواج الجماعي مثلاً، وهي ثقافة تروجها بعض الدول اليوم لتشجيع الزواج. وقد سَنَّها الإمام الراحل (رحمه اللّه) قبل عشرين أو خمس وعشرين سنة(1) وبعض الدول الآن بدأت تتبنى هذه الثقافة، ويعرضونها على قنواتهم الفضائية.

أحد أصدقائنا وهو من كربلاء المقدسة عنده مؤسسة باسم (الإمام السجاد (عليه السلام) ) للتزويج، زوَّج حوالي ألفا وثمانين أو ألفا وستة وثمانين زوجاً، وهذه مؤسسة واحدة في كربلاء المقدسة، فكم غيرها من المؤسسات في إيران،

ص: 149


1- أجري هذا الحوار مع الشيخ الصفار في سنة 2007.

ومثلها المؤسسات التي في دول الخليج مثلاً وغيرها من الأماكن، حتى التاجر المرتبط بالسيد (رحمه اللّه) يفكر في بناء مؤسسة، وقد أوجد التجار الكثير من المؤسسات، وكلاؤه هم من أهل العلم والفضل وجلّ تفكيرهم ينصب على إقامة المؤسسات، في حين أن الكثير من أهل القدرة لا زالوا لا يعرفون الخطوة الأولى لتكوين المؤسسة، لأنهم يفتقدون ثقافة تأسيس المؤسسة!!

المؤسسات التي بناها السيد الراحل (رحمه اللّه) وأثَّرت في الساحة الإسلامية وكان لها دور كبير في المجتمعات هي مؤسسات كثيرة جداً، وعلى سبيل المثال أنا أذكر نماذج مختصرة - فإن الحديث يطول عن هذا الموضوع -:

الصورة

الحوزة العلمية في جوار حرم السيدة زينب (عليها السلام) هذه مؤسسة واحدة، ولكنها تضم عشرات المؤسسات المترابطة والمتداخلة فيما بينها، وعلى مدى ثلاثين سنة قدَّمت الشيء الكثير للشيعة وللتشيع في التوجيه الديني من محاضرات وأفكار، ومن مؤتمرات ومؤسسات فرعية تابعة لها، ومن طباعة صحف ومجلات مختلفة، ومن توعية دينية واجتماعية وإلى آخره من نشاطات الحوزة الكثيرة. تأسست هذه المؤسسة سنة (1975 للميلاد) وهي إلى الآن ثرية في عطائها بإذن اللّه تعالى.

وإذا ذهبتم إلى كندا - مثلاً - فهناك مؤسسات عديدة وكبيرة تعد من مؤسسات السيد الراحل (رحمه اللّه) ، فيها الكثير من المرافق الحيوية، مضافاً إلى المدارس

ص: 150

التي تحتويها والمراكز الثقافية التابعة لها.

وهذه المؤسسات موجودة أيضاً في لندن، وكذلك الحال في الكويت التي توجد بها مدرسة الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

والتي أسسها حين نزل الكويت، وصحيح أن اسمها مدرسة ولكن تحتوي على الكثير من الأنشطة والفعاليات.

فمدرسة واحدة على الرغم من أنها ليست ثرية من الناحية المالية إلا أنها تضم ست فضائيات، مع أن الإعلام لا يمكن أن ينهض بلا دعم متواصل، حيث يقول الإعلاميون: إنه مستحيل، فالإعلام لابدَّ له من دعم كبير، وإذا أراد أن يكون قوياً فلا بد من توفير دعم دولة وليس دعم تاجر، أو ما أشبه ذلك، ولكن مدرسة الإمام الراحل (رحمه اللّه) في الكويت قامت بتأسيس الكثير من المؤسسات الإعلامية، حتى على مستوى الفضائيات، تلك المؤسسات تحتاج إلى الكثير من الدعم والأموال فتنهض من دون الرجوع إلى دولة، فهذا ينم عن تراكم كبير في التجارب، بحيث إن مجموعة من الأفراد من أتباعه أو من وكلائه يقدرون على إطلاق فضائية، والفضائية تنافس الكثير من الفضائيات الأخرى المدعومة من الدول، وهو إنجاز كبير فعلاً.

والحديث عن المؤسسات طويل وعريض، ويمكنكم أن تجروا جردا للمؤسسات الكبيرة والصغيرة التي أسست على عهده من قبل تلامذته، ومن بعد عهده وإلى يومنا هذا، فهذا حقيقة موضوع جدير بالاهتمام، ولا بأس أن يوثَّق ويوضع له دليل خاص وتعريف بهذه المؤسسات، لأن هذا بحدّ ذاته إنجاز كبير، وحتى دول كبيرة لها إمكانات وطموحات فكرية وسياسية ما استطاعت أن تبني هذا القدر والكم الوفير من المؤسسات، و هي قد لا تستطيع الإنجاز بهذا الحجم الكبير، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على البركة في هذه الأعمال

ص: 151

والأنشطة ولعل من أسرار ذلك هو الإخلاص الذي كان يتمتع به السيد الراحل (رحمه اللّه) وبعض القائمين على هذه المؤسسات.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) والمرجعيات الأخرى

أما بالنسبة لعلاقته بالمرجعيات الأخرى، فقد كان يحترم الجميع، يعظم شأنهم ويثمن جهودهم.

في الأيام الأولى من مجيئه إلى إيران، كان يقوم في اليوم الواحد بزيارات عديدة، للعديد من المراجع والأعلام، فقد كان متحرراً من العزلة التي ضربت عليه بالإقامة الجبرية فيما بعد، فقلما تجد شخصية لها شأن لم يذهب لزيارتها، وقد زاره - بمجرد وصوله إلى إيران قادماً من الكويت - كل الشخصيات العلمية أو معظمها، وقد كانت لديه مواقف مهمة جداً بالنسبة للثورة في إيران، بل وله سهم حقيقي في إيصال صوت الثورة إلى العالم، حتى قال أحد رجالات الشاه - وهو اردشير زاهدي -: إن الخميني فجِّر الثورة من إيران، والشيرازي أوصل صوتها إلى العالم.

أي لم يكن دور الإمام الراحل (رحمه اللّه) بالنسبة إلى الثورة الإيرانية، بالدور المتفرج أو المساهم البسيط، وإنما كان له دور أصيل وعميق في مساهمته، حتى إن الكثير من الأخبار والأفكار التي كانت توجه الساحة الإيرنية كان من تأثير السيد الراحل (رحمه اللّه) وأصحابه. وهذا الكلام ما تناقلته الشخصيات العاملة في ذلك الزمان، بل قد احتضن السيد الراحل (رحمه اللّه) وهو في الكويت مجموعة من قادة الثورة وكان يرعاهم ويوفر لهم احتياجاتهم، وربما يتكفل ببعض شؤونهم.

بل حتى إن بعض الضغوطات التي واجهها الإمام الراحل (رحمه اللّه) من قبل

ص: 152

بعض العلماء في الحوزة العلمية كانت ناشئة من هذا الدعم والتأييد لهذه الحركات والأنشطة.

ولكن نلاحظ أنهم لم يعطوا السيد (رحمه اللّه) حقه، وهذا أمر مشهود ومعروف.

شاهد الكلام: كان للإمام الراحل (رحمه اللّه) دور تأثيري كبير على الساسة، وعلى أصحاب القرار.

وكما قلنا سابقاً إن السيد الراحل (رحمه اللّه) بعث مبعوثاً إلى (ياسر عرفات)(1) فقال له: إذا أردت أن تنتصر يجب أن تتمسك بالأساليب السلمية في العمل أي اللاعنف وأن تتركوا العنف، لأن العنف يضيع الحق.

وهذه الخطوات إنما كان يقوم بها لأنه كان يرى أن صلاح الأمة وأخذ حقوقها يجب أن يتم على كل الاتجاهات وفي كل المستويات.

أما بالنسبة إلى لقاءاته بالمراجع الكرام فأنا شاهدت وحضرت جملة من هذه اللقاءات التي كان يلتقي فيها بالمراجع، ولقد قلتُ من قبل أن كل المراجع قاموا بزيارته عندما نزل قم المقدسة، وكان في برنامجه اليومي زيارة للمراجع الآخرين، فكان يزورهم ويزورونه، ويحبهم ويحبونه.

الصورة

ص: 153


1- سياسي فلسطيني وأحد رموز الحركة الفلسطينية من أجل الاستقلال. رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية المنتخب في عام 1996.

أفكار المرجعيات العليا

حينما كان يجلس الإمام الراحل (رحمه اللّه) مع المراجع يطرح عليهم الأفكار الحيوية التي تمسُّ مشاكل الأمة الإسلامية كنظرية شورى الفقهاء، وقد طرحها تقريباً على كل المراجع الذين التقى بهم، وقد كنت حاضراً في بعضها، حيث جرى حوار في موضوع (شورى الفقهاء)، وقد حاورته بهذا الأمر يوماً، وقلت لعل بعض الفقهاء لم يعتقد بهذه النظرية إما من جهة الحكم أو من جهة وجود الموانع، فقال (رحمه اللّه) : أنا طرحت هذه الفكرة على كل المراجع، وكلهم موافقون عليها، وعندما تسنح لي الفرصة أو المجال وتخف الضغوطات - علينا، وعلى غيرنا - أستطيع أن أجمعهم خلال مدة وجيزة، وربما خلال ستة أشهر أجمعهم كلهم في مجلس الشورى، وفي ذاك الزمان كبار المراجع من العراق وإيران كانوا على قيد الحياة، أي إن المراجع الكبار كانوا موجودين في تلك الأيام التي جرى فيها هذا الحوار الذي أنقله لكم.

وقال سماحته (رحمه اللّه) : إذا سنحت لي الفرصة أنا أجمعهم؛ لأنهم مقتنعون بالفكرة، ولكن نحتاج إلى فسحة سياسية حتى نستطيع أن نحقق هذا المشروع، ولو أعطيت المجال أنا لصنعت هذا الشيء بنفسي.

كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يزور المراجع، وكان يطرح معهم مثل هذه المواضيع المهمة، أو يطرح عليهم مشاكل ويطالبهم بالحلول.

فمثلاً: في إحدى المرات - وقد ذكر ذلك بنفسه لنا - زار أحد المراجع في قم المقدسة، وكان من المراجع المهمين في خوزستان في ذاك الوقت. قال: إذا احتاجت الدولة إلى بعض الميزانية كيف يمكن أن تحلوا المشكلة اقتصادياً؟! وهل

ص: 154

يمكن للدولة أن تأخذ الضرائب من الشعب، مع أنها محرمة في نظر الإسلام؟! فقال ذاك المرجع: نعطي إجازة في صرف الحقوق الشرعية في هذا المجال، لكن السيد الراحل (رحمه اللّه) لم يكن مقتنعاً بهذا الجواب كما أشار إلى ذلك في (فقه الاقتصاد)، فهل هنالك بعض المجال للدولة في أخذ الضرائب بمقدار الضرورة التي يحددها شورى الفقهاء؟! لأن هذه حالة استثنائية وليست حالة أصيلة، باعتبار أن الضرورات تبيح المحظورات، و تقدر بقدرها وطريقة الجمع بين القاعدتين هو الأخذ بالمقدار المطلوب على قدر رفع الضرورة عند الاضطرار إلى ذلك فقط، مع تخطيط دقيق و بحث مستمر للخروج من هذه الضرورة.

فعلى كل حال كان بعض المراجع يأتون لزيارته، وبعض المراجع الآن هم من الأحياء، وكنتُ أراهم عندما يأتون لزيارته، فما من شخص يدخل عليه من المراجع إلا ويبحث معه مسألة شورى الفقهاء، أو التعددية السياسية، والتصدي لإنقاذ الأمة الإسلامية والسعي للاكتفاء الذاتي في الأمة للانفكاك من التبعية للغرب ونحوه.

وقد طرح أحدهم مرجعيته بعد ارتحال السيد الخوئي (قدس سره) ، وطبع رسالته العملية فتعرَّض إلى بعض الضغوطات هنا لأجل الكف عن ذلك. فكان يقول لبعض تلاميذه - أنا أتعجب من (الجماعة) لماذا يغتاظون، ويتضايقون عندما أطرح مرجعيتي ويصادرون رسالتي العملية ؟! إذا كانوا يحاربون السيد الشيرازي فهو (حامل هَمَّ الإسلام على رأسه دائماً)، - وهذا التعبير من مرجع، تعبير ينم عن تشخيص كبير ومحدد في جهة مهمة - فيمكن أن يزاحمهم في جملة من القضايا، ثم كان يقول: هناك مرجع آخر حاربوه وأغلقوا عليه بابه، لأنه كان معهم في مدة، ثم بعد ذلك خالفهم وافترق عنهم، أما أنا فلماذا؟! لست كالسيد الشيرازي، ولا

ص: 155

كالمرجع الآخر - فلماذا يغتاظون مني؟!

شاهد الكلام: إن تحرك السيد الراحل (رحمه اللّه) على المرجعيات وزيارة المراجع له كانت تصب في الإتجاه الإصلاحي، وفي الإتجاه التوجيهي، ولو كان الأجل أمهله مدة من الزمان أعتقد أنه ربما كان يستطيع أن يوصل مشروع شورى الفقهاء إلى مرحلة التطبيق، وإذا لم يكن على مستوى كل الفقهاء لا أقل من بعضهم، فقد كان باستطاعة السيد الراحل (رحمه اللّه) أن يوصل شورى الفقهاء الى النضوج والارتقاء، ويوصل هذه الفكرة إلى مرحلة متقدمة في الأمة، ولكن لله في خلقه شؤون، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) وأساليبه التربوية

* كيف كانت خططه وأساليبه في تربية أولاده وأقربائه؟

* وكيف كانت علاقته مع أسرته وأرحامه و بالعكس ؟

- هذا السؤال له عدة جوانب، الجانب العاطفي يحتاج إلى كلام كثير، وأستطيع أن أنقل لكم انطباعاتي ولكن بشكل مختصر، فأنا ما رأيت في حياتي علاقة روحية بهذا الشكل من الانسجام بينه وبين وأولاده وأرحامه، ويمكن لي أن أتذكر الأيام التي كان فيها الإمام الراحل (رحمه اللّه) هنا، وكان لديه ما شاء اللّه من الذرية، فقد بارك اللّه سبحانه وتعالى في ذريته، وكان من دأبه أن يزوجهم وهم في

الصورة

ص: 156

مقتبل العمر وفي الشباب، فغالباً كان بيته يضج بالأولاد، وما رأيت في يوم من الأيام بيته إلا وهو مكتظ بالأطفال.

من اللطائف التي كان يتمتع السيد الراحل (رحمه اللّه) بها - وهذه حالة نادرة - أنه حينما كان يكتب أو يطالع كان يطالع في مكان وفوق رأسه أطفال عديدون يصيحون ويقفزون ويلعبون. وكانت له علاقات متميزة مع كل طفل منهم، فكل فرد منهم له علاقة خاصة تمتاز عن العلاقة مع غيره، خصوصاً مع الأطفال الصغار. وأحياناً كان ينقل قصص بعض أحفاده في المحاضرات التربوية، ولم يكن ذلك إلا لأجل أن يتخذها عبرة، أي إنه ما كان ينقلها لأجل التسلي بل ينقلها للعبرة.

فالجانب العاطفي في حياته جانب شديد الأهمية، وإلى الآن آثار أخلاقياته ومعنوياته على أولاده وأحفاده جليَّة وواضحة، فعندما ترى تعاملهم - أولاده وأحفاده وأسباطه الذين التقوا واحتكوا به - تحس بعمق علاقتهم مع الناس وعلاقتهم مع بعضهم البعض وهي علاقة تكاد تكون نادرة، فالاحترام الكبير والتقدير المتبادل والتدين والوقار والفضائل جلية عليهم.

كما أن لديهم حقيقة الشيء الكثير من المكارم والفضائل، والشخص قد يعجز عن التكلم فيها، ولقد رأيت السيد الراحل (رحمه اللّه) عدَّة مرات - في المناسبات كمواليد الأئمة (عليهم السلام) - يجلس في الديوانية العامة (البراني) ويأتي أخوه الأصغر(1) ليسلم عليه، فينحني عليه لتقبيل يده ويجلس، ثم يأتي السيد محمد رضا (رحمه اللّه) وينحني على يد والده (رحمه اللّه) ثم على يد السيد عمه (دام ظله) لكي يقبلها ويجلس، ثم يأتي السيد مرتضى ليسلم على أخيه الأكبر السيد محمد رضا (رحمه اللّه) فينحني على

ص: 157


1- سماحة آية اللّه العظمى السيد صادق بن مهدي الحسيني الشيرازي.

يديه حتى يقبلها بعد تقبيل يد والده وعمه. مع أن كل واحد له موضوعية في شخصيته وفي استقلاليته، وإلى الآن أشاهد هذه المشاهد المشرفة حقيقة، وهذه طبعاً مناقبيات عالية، وهذه الأخلاق العالية يعود الفضل في جانب كبير منها إلى الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

وهذه المناقبيات لا تجدها إلا في بيوت العلماء الذين أخذوا الشيء الكثير من أخلاق آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

أما في الجانب الإداري فقد كانت لديه نظرية يكاد يمتاز بها عن غيره من الأعلام والمراجع الكرام، فإذا رأينا المراجع وبيوتاتهم، فإن الأبناء لهم الرأي الأول في بيت المرجع، أي إن ابن المرجع هو الآمر الناهي باعتبار علاقته بوالده، وإنه أقرب الناس إليه، ولكن السيد الراحل (رحمه اللّه) لم يكن يؤمن بمثل هذه النظرية، بل كان يؤمن بعكسها، وإلى مدة طويلة ما كان يسمح لأولاده في التصدي للأمور، فمَنْ يدير المكتب ومَنْ يتعامل معه هم غير أولاده، فقد كانت مهمتهم الدراسة فقط، وفي الكثير من المسؤوليات التي تقتضي السفر أو الذهاب إلى خارج إيران، أو التعامل مع قضية لم يكن يسمح لأولاده بأن يتصدوا، وكان يبعث تلاميذه من غير أولاده، لأنه يرى بأن تصدي الأولاد لإدارة المرجعية ليس بالأمر الصحيح، لأنه قد يؤدي إلى المحسوبيات أو التفرد، و لم يكن يؤمن بالتفرد ولا بالمحسوبية.

ولكن بسبب الظروف السياسية والقمع الشديد الذي تعرض له أجبر في المدة الأخيرة بأن يدع أولاده للتصدي بعض الشيء لعدد من القضايا، وإلا فإلى مدة عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة وعندما كانت الظروف جيدة ما كان يسمح لهم أن يتصدوا لشيء من الأعمال إلا الدراسة والتدريس والعلاقات العامة

ص: 158

ونحوها، حتى أن الوكيل المطلق له لم يكن ابنه.

وفي كثير من الأحيان كنت أرى الناس وأعضاء المكتب لهم نفوذ وسلطة، وابنه ليس له نفوذ، ولو أراد شيئاً يطلبه من المسؤولين أو يقدمه بصيغة مقترح لا أكثر ولا أقل.

وفي الكثير من الجلسات القرار ليس لابنه، بل له صوت واحد والقرار للجماعة وللأكثرية، وإلى يومنا هذا أبناء الإمام الراحل (رحمه اللّه) هكذا يتعاملون، لأنهم أيضاً يتصفون بالمرونة ويحترمون آراء الآخرين، ولا يؤمنون بالتفرد، بل اسلوبهم قائم على التعددية ونظام المؤسسة لا المحور الواحد.

وفي تصوري أن نظرية الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، نظرية ناضجة وواعية، حيث كان لا يرى التسلط للأبناء على الأمور لكونهم أبناء مراجع، فابن المرجع له مكانته واحترامه ودوره المهم، ولكن يجب أن تكون الاعتبارات الأخرى هي الحاكمة.

ويكاد السيد الراحل (رحمه اللّه) أن يكون من المراجع المعدودين الذين تكون عائلتهم جميعاً في خط العلم من أولاده وأسباطه وأحفاده، بل من النقاط التي لاحظتها وسمعتها من الأكابر أن أسرة آل الشيرازي منذ زمان المجدد الشيرازي إلى اليوم - أي حوالي (150- 170 سنة) - المرجعية متناوبة فيهم جيلاً بعد جيل، ويكاد أن يكون البيت الوحيد الذي لم تفارقه المرجعية، بكفاءة و جدارة كاملة.

وهذا الأمر ينمُّ عن توفيقات كبيرة في هذا البيت.

و قد لاحظت الكثير لم يكن أولاده أو أحفاده في خط العلم، ولكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) هو وأولاده في ذلك الخط.

ص: 159

التشويق المستمر لطلب العلم

وكان دائماً يوجّه محاضراته - لنا ولغيرنا - ويقول: ادرسوا كثيراً، وكونوا علماء وحلماء. وكان يعطي منهجية في هذا السبيل، وأحياناً يقترح لنا كتباً للدراسة، فإذا جلست عنده يسألك ماذا تدرس؟ وأي كتاب تقرأ؟ مثلاً تقول له: مكاسب(1)، أو تقول له: كفاية(2)، أو غيرها من كتب الدراسة. ثم يقول (رحمه اللّه) : هل درست شرح التجريد(3)، فإن كان الجواب بالنفي شوق على دراسته.

كان دائماً يشجع على الدراسة لأهمية الموضوع، وكان يشجع تلاميذه على التصدي للتدريس فضلاً عن أولاده، حتى إذا وجده أهلاً للتدريس، قال له: أنت على اعتبارك فلان بن فلان اذهب ودرِّس البحث الخارج، وهذه القضية أيضاً واحدة من نقاط التميز عند الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، إنه هو بنفسه في أيام حياته الشريفة كان يشجع طلابه على التصدي للأمور الكبيرة، والتصدي للأشياء الصعبة كتدريس البحث الخارج(4)، أو لكتابة الكتب والرسائل، وقد لاحظته يقول لجملة من العلماء: اكتبوا رسالة عملية واطبعوها، ولكن في ذاك الزمان كانوا مُدرِّسين، فقال لهم: اكتبوا رسالة واطبعوها، واطرحوا أنفسكم للمرجعية، والآن هم من المراجع ولله الحمد. وهذه حالة تكون نادرة في هذا

ص: 160


1- كتاب المكاسب للشيخ الأعظم استاذ الفقهاء والمجتهدين الشيخ مرتضى الانصاري (قدس سره) .
2- كفاية الأصول للشيخ محمد كاظم الخراساني المعروف بالأخوند المتوفى عام 1329 ه.
3- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للخواجة نصير الدين الطوسي، شرحه جمال الدين الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر المشتهر بالعلامة الحلي.
4- المرحلة الأخيرة من الدراسة في الحوزات العلمية عند الشيعة الاثني عشرية، سميت بالخارج لأن التدريس فيها يتم خارج نطاق الكتب التي يعتمدها الأستاذ في تحضير مادته.

الباب، بأن يدعو الإنسان الآخرين إلى منافسته في المرجعية !!

وهذا يؤكد النظرية التي آمن بها وعمل عليها وهي: إنه كان يريد المرجعية كطريق وليس هدفاً، وإنما هي وسيلة ليس أكثر من ذلك.

فلذلك أنت الآن إذا تدخل في أسرة آل الشيرازي لا ترى أن القيمة والمكانة لابن السيد، لأنه ابن السيد فقط ولا غير، بل لأنه صاحب فكر وقَّاد، ولأنه صاحب تقوى وخدمة ومتفوق على أصحابه لا أقل من بعضهم، ولكن المنهجية العامة في هذا البيت هي منهجية العلم والفقاهة.

دور الإمام الراحل (رحمه اللّه) في تقوية الحوزات

* ما هو دوره في تفعيل الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة وسائر الحوزات العلمية؟

- هذا السؤال بحاجة إلى توضيح البنى التحتية للحوزة، لأن تقوية الحوزة العلمية عادة تتم عبر عدة طرق ووسائل:

منها إقامة المدارس وتقويتها بالمنهجية والنظام المتين، ومنها استيعاب الطلبة، ومنها تقوية العلماء والفضلاء.

وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يقوم بها كلها، فكان له في كربلاء المقدسة أكثر من (15- 16) مدرسة، وكلها مرتبطة به بشكل أو بآخر، وكان يديرها ويعطي رواتب شهرية لكل الطلاب، بل لعله هو المرجع الوحيد الذي كان يعطي الراتب الشهري لكل طالب وحتى في الأماكن النائية من العالم، وراتبه الشهري العام كان يوزع في الهند وباكستان وأفغانستان وإيران والخليج وسوريا ولبنان، وفي كل مكان في العالم يوجد به حوزة، فأينما توجد مدرسة وفيها طلاب علوم

ص: 161

دينية كان يعطيهم الراتب الشهري (الشهرية)، وهنالك مَنْ هو أقدر منه من حيث المال، لكن لم يكن مثل السيد الراحل (رحمه اللّه) .

وهذه المسألة استمرت في إيران، فعندما وصلها، - وإيران بلد جديد عليه لأنه نشأ في العراق -، كان يعتبر نفسه في مرحلة انتقالية وليس أكثر، ويترقب متى تتغير الظروف حتى يرجع إلى بلده، ولكن مع ذلك كان يرعى كل الحوزات والمدارس التابعة له والتي كنت أحصيها في الأيام التي كنت متواجداً في ايران حوالي (13 - 14) مدرسة، ثم أخذ برعاية الحوزة العلمية بشكل عام، وكانت رعايته لها نوعية، وما كان ذلك بدون (هدفية).

وكان السيد يعطي لكل جالية مجالاً، ويحتضنها بشكل من الأشكال، فللأفارقة كان يعطي دوراً، وللإيرانيين هناك مدارس مختصة بهم وهناك مدرسة أو مدرستان تعطى للأفغانيين، ويشجعهم لإدارة هذه المدارس وتربية الطلاب الأفغانيين، وللباكستانيين والهنود، كان يعطي مدرسة أو مدرستين في الوقت الذي كانت فيه هذه الجاليات تعتبر مستضعفة في الحوزة - مع الأسف - وللعراقيين كان يعطي مدرسة، وخصوصاً بعد انتفاضة شعبان ارتفعت الأعداد من حوالي (175) طالباً إلى (500) طالب، وخرَّجت هذه المدرسة الكثير من الأساتذة والمدرسين والخطباء والمؤلفين والمحققين. هذا إلى الوقت الذي كنت أنا فيه، أي حوالي سنة (1997م) وأما بعد خروجي من ايران فلا أعلم هل تأسست مدارس جديدة أم لا؟ والذي أذكره أن (16) مدرسة كان يرعاها في ذلك الوقت.

وليس ذلك فقط، بل حتى في بيته ومكتبه المرجعي يكاد أن يكون المكتب الوحيد في ذاك الزمان الذي ترى فيه العراقي والإيراني والهندي والأفغاني والباكستاني والتركي، فكل الجاليات كانت موجودة، وبعضهم أعضاء في

ص: 162

مكتبه، أي كان عنده تنوع حقيقي، وأممية حقيقية في مكتبه، وأممية حقيقية في مدارسه، وأممية حقيقية في أفكاره، وكلهم ما كانوا مُجرد منفذين بل أصحاب قرار فيه؛ لأنه يؤمن باللامركزية في العمل، فالمحور من الافغانيين يعطيهم إعتبارهم، ويعطيهم دوراً في صناعة القرار، والمحور من الهنود والباكستانيين كذلك، والمحور من العرب والعراقيين لهم دورهم أيضاً، وكذلك محور الإيرانيين، وهكذا فكان يعطي كل ذي محور حقه منها ويمنحه الحرية والدعم للعمل نحو الأفضل.

تعددية أممية

عندما تدخل في بيت السيد الراحل (رحمه اللّه) ترى تعددية حقيقية، والقرار مُتقسّم بين الجميع، والكل يشتركون في صناعة القرارات المشتركة، وأما في المسائل الخاصة فترى الكل يتميَّز وله خصوصيته، وهذه جنبة حضارية وطريقة متطورة، وإلى الآن الكثير من المؤسسات والهيئات والجمعيات، ما وصلت إلى هذا الأسلوب الإداري الحضاري، حتى في الكثير من الحكومات لم تصل إلى هذا النحو من التعدد الحقيقي، ولكنه هذه الظاهرة الحضارية كانت مطبَّقة في مكتب السيد الراحل (رحمه اللّه) قبل (25 - 30) سنة، ولا ننفي وجود بعض المشاكل في هذا الأسلوب، ولكن المشاكل هي نتيجة تخلف الأمة، أو قصور الأفراد لا قصور الأسلوب، أو تقصيرهم، هذه الطريقة والأسلوب - في الحقيقة - ينمُّ عن سعة وشمولية في التفكير، فلذلك أنت عندما تأتي إلى بيته ترى التنوع الكثير، وكثيراً ما كان يأتي بعض الأصدقاء لأول مرة، فعندما يدخلون ويرون هذا التنوع يقولون: هنا الأمم المتحدة؛ لما يجدونه من تنوع وتعدد وتنسيق.

ص: 163

والمحاضرة الأسبوعية التي كان الامام الراحل يلقيها في يوم الأربعاء هي محاضرة توجيهية بخصوص طلبته، محاضرة خاصة في الفكر والعقيدة والأخلاق كان يلقيها على الطلبة، فعندما تأتي وتدخل إلى القاعة ترى العراقي والخليجي والإيراني والأفغاني والهندي والتركي كلهم مجتمعين فيها، وترى المعمم وغير المعمم، ومن النقاط المتميزة فيها أنه لا يميز بين طلبته، كطالب المقدمات عن غيره من الطلاب، فالكل يجلسون في مجلس واحد على قدم المساواة، والكل متعايش معها، ومؤمن بهذه الطريقة التي تراعي المستويات، وتحترم الجميع في وقت واحد.

فليس الطلاب طبقات، فلا توجد طبقية في معاملة الإمام الراحل (رحمه اللّه) لتلاميذه وطلابه، حتى ابنه وتلميذه يعاملهم بنفس المعاملة، مثل ما أن ابنه له حصَّة من الاعتبار فتلميذه له حصة من الاعتبار كذلك.

المشورة الدائمية

كثيراً ما كان تجاه بعض الأحداث يدعو العديد من ثقاته إلى غرفته الخاصَّة.

فقد تحصل مشكلة ما كمشكلة سياسية في إحدى الدول الإسلامية، فيقول: حدثت مشكلة في ذاك البلد، كيف نحلها؟ أي يطرح السؤال ويترك المجال لكل واحد ليقول رأيه، ابنه له رأي، وتلميذه أيضاً له رأي، الصغير أو الكبير، طالب المقدمات، ومدرس بحث خارج، الكل مشترك في الجلسة ولهم رأي فيها، ويشتركون في القرار، وكان للسيد الراحل (رحمه اللّه) بنفسه رأي أيضاً، أيُ مستوى من التربية والانفتاح هذا؟ وأيُ مستوى من احترام الأفراد وكفاءاتهم عنده؟

فأسلوبه مع أولاده هكذا تماماً، فما كان يُشعرك أن هذا ولده، وهذا

ص: 164

أبعد، فالكل قريبون منه والكثير من الأخوة كانوا يشعرون بأن كل واحد منهم عنده بمنزلة واحد من أولاده، ولا يوجد فرق بيننا وبينهم سوى أن ذاك من صلبه، وهذا من غير صلبه.

أنت تشعر هذا الشعور، وهو أيضاً يُشعرك به، وما أكثر الأيام التي كان يدعونا فيها إلى غرفته الخاصة، وعلى مائدته نأكل، أيام برد، وأيام حر، يدعوك أو يدعك تدخل إلى بيته وبكل حرية فترى غرفته، وترى مائدته، وكأنك تتحدث مع أبيك بصراحة وبكل ارتياح، وبكل حرية تتحدث معه مع رعاية الجانب الأدبي والأخلاقي طبعاً، وكان في بعض الأحيان يتمازح مع بعض طلابه أو أصحابه، يتمازح معهم ويتمازحون معه تمازح الأب مع أبنائه، هكذا كان شعورنا.

وأعتقد وربما أستطيع أن أجزم أن كل الذين عاشروه وكانوا يجلسون معه لهم مثل هذا الانطباع، وكانوا يعيشون نفس الشعور الذي عشناه.

فنحن وهو أسرة واحدة، أب وأبناء، فإذا كان يتعامل مع تلميذه هكذا، فكيف كان تعامله مع ابنه؟

والحديث عن هذا طويل وجميل لما فيه من نفحات تربوية، ولمسات أخلاقية راقية.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) وأصحاب الديانات والمذاهب الأخرى

* ما هو موقف الإمام الراحل (رحمه اللّه) من سائر الأديان والمذاهب؟

* و كيف كان يحاول التأثير عليهم ؟

- كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) في الواقع يُفرِّق بين مسألتين في التعامل مع الآخرين:

ص: 165

أولاً: الحفاظ على الأصالة، فهو معروف بتصلبه في ولائه لآل البيت (عليهم السلام) ، وأذكر أننا وجمع من الطلبة طلبنا من أحد أساتذتنا أن يدرسنا كتاب (الأصول) للإمام الراحل (رحمه اللّه) وهو شخص أُجله وأحترمه كثيراً - حقيقة - وهو من الأساتذة الكبار، ولعله من النوادر الذين رأيتهم في حياتي الدراسية من حيث العلم والتقوى والأخلاق، ولكن يمكن أن لا يرضى أن أذكر اسمه وإلا ذكرته، وأسال اللّه تعالى أن يطيل في عمره ويحفظه ويجزيه جزاء العلماء العاملين.

وعندما طلبنا منه تدريسنا كتاب الأصول، قال: أستخير اللّه في ذلك، فاستخار اللّه فكانت الاستخارة جيدة، وافق على تدريسه، ولكنه واجه مشكلة شخصية له من حيث الموقع، حيث كان ابن مرجع من كبار المراجع، وكان في نفسه شخصية علمية كبيرة، ومعروف في أوساط علمية وقفت ضد الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، فتحدى كل هذه الظروف، وهذه القصة قديمة، و في يوم من الأيام قال لنا: أنا في الواقع أرى من اللازم أن أدرّس كتاب السيد الشيرازي، وأروِّج له، فسأله أحد الأخوة: لماذا؟

قال: لأني أعتقد أنه موالٍ لأهل البيت (عليهم السلام) ، وهذا الكلام له مفهوم كبير في العرف الحوزوي.

الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) بلا حدود

وقد لاحظت وضوحه وصراحته حتى في كتبه الفقهية، فعندما يريد أن يمثل لمطلب فقهي في المسائل الإيجابية يذكر الأسماء التي تتعلق بأسماء أهل البيت (عليهم السلام) ، مثلاً في موضوع الزواج يذكر (زينب وعلي) أو (زينب

ص: 166

ومحمد)، وفي الأمثلة السلبية يذكر أعداء أهل البيت (عليهم السلام) ويضعهم مثالاً.

دققوا الآن أنتم في هذه المسألة، في مواضيع المعاصي، في أمثلة المعاصي، - لا سيما في كتبه الشرحية للمكاسب والكفاية خاصة - يأتي بأسماء أعداء آل البيت (عليهم السلام) ، وأما في المسائل الإيجابية فيأتي بأسماء أهل البيت (عليهم السلام) ، فأي درجة من الولاء هذه؟

فكان هو، متصلباً بولائه لآل محمد (عليهم السلام) حتى مؤسساته كلها سُميت بأسمائهم، ولا يوجد كتاب من كتبه إلا وذكرهم ومجَّدهم ومدحهم.

ولكن في نفس الوقت ما كان يؤمن بأن المواجهة مع المذاهب أوالأديان بالعنف أو بالقطيعة هو الصحيح.

كان يعتقد بأن هناك موقفان: موقف في العلم والفكر والمعتقد، وموقف في العمل، وفي العمل يجب أن نصادق الجميع، ونعايش الكل لأجل أن نؤثر عليهم أو نحفظ مودتهم.

وفي مدة من الزمن كنت أتابع بعض كتبه أراجعها وألاحظها، فأوصاني بوصيتين:

الوصية الأولى: كان يؤكد أن تروى الروايات من كتبنا المعتبرة الروائية أو الفقهية ونحوهما، لأن الفقيه الكبير والمحدث الثقة كلاهما حجة فيما يرويانه وإن لم يذكر الفقيه سند الرواية في كتابه. طبعاً بشرط أن يكون قد استند إليها الفقيه وعمل بمؤداها.

فبعض الإشكالات التي يذكرها البعض ناشئة من عدم المعرفة بهذا الأمر، حيث يقولون هذه الرواية لم ترد في الكتب الروائية، فلا تصلح وإن وردت في الكتب الفقهية للعلامة أو للشهيد أو للشيخ الطوسي (رحمهم اللّه)، لأنهم

ص: 167

رووها من غير مصادرنا بحسب الظن.

لكن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يرى خلاف ذلك حيث يحتمل أنها رويت من أحد مصادرنا التي لم تصل إلينا، وهذا ينم عن نورانية خاصة.

الوصية الثانية: عدم ذكر أي كلام عنيف ضد أي مذهب من المذاهب، وذلك لأني أريد أن أصلحهم.

المسألة الأخرى التي يمكن ملاحظتها في كتبه أنه لا يذكر أسماء خصوم آل محمد (عليهم السلام) الأوائل أصلاً، وإذا ذكرهم بأسمائهم في مكان فإنما هو لاعترافهم بفضيلة من فضائل أهل البيت (عليهم السلام) فيذكرهم لذكر تلك الفضيلة، وهذه كتبه مليئة بهذا المنهج و يمكن ملاحظتها.

فكان يرى بأن هناك موقفان، موقف يأخذ جانب الفكر والهدى والضلال فهم على ضلالتهم وعلى باطلهم، ولكن الموقف الثاني هو الموقف العملي فنحن نريد أن نصلحهم، ونريد أن نهديهم إلى سواء السبيل، فلذلك لم يكن عنده مانع من الانفتاح و التحاور معهم، فإذا أتى إليه أحدهم وأراد أن يزوره استقبله بكل رحابة صدر، وأحياناً كان يبعث مبعوثين إلى الشخصيات الكبيرة منهم لأجل محاورتهم.

الصورة

وحتى في كتبه التي تناول فيها الفكر السياسي أو الحقوقي مثل الفقه

ص: 168

السياسة(1) والفقه الدولة الإسلامية دعا إلى وجوب احترام حقوقهم وإعطائهم حق التمثيل في الجمارك والوزارات و إن كانت الحكومة تتبع الأكثرية، فكان يفرق بين بطلان العقيدة وبين جانب الإنسان الذي له حقوقه و حاجاته، ولا يجيز أن يكون الأول مبرراً لهضم الثاني.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) والإصلاح

* لماذا تحمل الإمام الراحل (رحمه اللّه) مسؤولية المرجعية وهو في عمر مبكر؟

- مسألة الوظيفة والإصلاح، نقطة جوهرية بمسؤوليات المرجعية.

وحقيقة كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يرى ويتنبأ بمستقبل العالم الإسلامي، فكان يرى بأن العالم الإسلامي ذاهب بسيره الحثيث صوب الهاوية، وذلك من أوائل الخمسينات والستينات من القرن الماضي، باعتبار أن المد الشيوعي كان قوياً، والمد القومي أيضاً، والأحزاب المنحرفة بدأت تتوزع وتتنوع وتنتشر في العالم الإسلامي، والغرب بدأ ينشر أفكاره الضالة، وليس من المعقول أن نترك المجتمع الإسلامي بلا رعاية، فلابد من تحرك للعلاج، فتحرك سماحته (رحمه اللّه) منذ البداية، وكان تحركه الأول على المراجع في العراق في ذلك الزمن.

تحرك وحاورهم ودعاهم إلى العمل، ولكن وجد بأنه لا مناص من التصدي الشخصي، خصوصاً وأن والده السيد الميرزا مهدي (قدس سره) فارق الدنيا والإمام الراحل (رحمه اللّه) كان في عمر الشباب، فإذا لم يتحرك ولم يتصد للمرجعية في ذاك الزمان، كان يسرع الانهيار إلى العراق وغيره، لأن

ص: 169


1- يقع في جزئين بحث فيه سماحة السيد (رحمه اللّه) مجموعة متعددة من مباحث السياسية بنظرة فقهية.

المؤامرات كبيرة، والأمة غير مستعدة لمواجهتها بسبب الجهل وسياسة الحكومات المحلية، فتوجهه الإصلاحي وتحركه كان لأجل الوقوف أمام المد الغربي، وأمام المد الشيوعي، وأمام المد المفسد في الأمة. هذا الذي دعاه إلى التصدي المبكر للمرجعية، لأن الساحة الإسلامية كانت بلا قيادة، صحيح أن لها مرجعيات مهمة وجليلة ولكن تلك المرجعيات كانت مهتمة بالجانب الديني أكثر من غيره. أما الجانب القيادي فقد كان فيه فراغ كبير، ولولا أن حكومة البعث كانت تتصدى لمحاربة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وحكمها عليه بالإعدام، وسجن أخيه المرحوم السيد حسن، واعتقال مجموعة من تلامذته النشيطين لتمكن من إنجاز الكثير من المشاريع النهضوية، ولكن بدأت حكومة البعث تتمدد بالتضييق عليه، ثم الحكم عليه بالإعدام، وخروجه إلى الكويت، وبعده تم تصفية حوزة كربلاء المقدسة، لتبقى مقفلة الأبواب لمدة (35) سنة، والآن بحمد اللّه تعالى أعيد إليها بعض النشاط بهمة جملة من الأخوة العلماء و الأفاضل.

ولذا يرى البعض أن السيد الراحل (رحمه اللّه) لو كان باقياً في العراق لما تمكن صدام من أن يصل إلى التمادي الكبير على الشعب ومقدراته، بل كان وضع العراق أفضل بكثير، حيث كانت له قوة هائلة في العراق، والجماهير كانت ملتفة حوله، وتسمع منه وتطيع أمره، فكان يمكنه أن يحد من البعثيين وإجرامهم، ولكن صداماً أدرك ذلك فبدأ بالبطش به ثم حكم عليه بالإعدام، فاضطر السيد الراحل (رحمه اللّه) إلى الهجرة، وكان إلى آخر يوم من حكمه وقبل سقوطه إذا كان يسمع عن شخص أنه يُقلد السيد الراحل (رحمه اللّه) أو

ص: 170

مرتبط به كان يسجنه أو يعدمه؛ لأنه يعتبر اسم الشيرازي خطاً أحمر، فضلاً عن الأشياء المتعلقة به.

أعتقد أن هدفه الإصلاحي هو الذي دعاه إلى هذا المنهج، وهناك تقييمات أخرى في تصوري ولكن لا يسع المجال لذكرها.

ص: 171

القسم السادس

الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) والرحلة إلى مدينة مشهد الإمام الرضا (عليه السلام)

* هل جمعتكم رحلة معينة برفقة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، على قلة أسفاره وماذا تحتفظون من ذكريات عن تلك الرحلة؟

- سافرت معه في أيام حرب المدن حين قام صدام بقصف مدينة قم، وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) يشرح الأسباب التي دفعت صدام إلى قصفها، وهو مستاء جداً من هذه الحملات، وسخافة المبررات و العقول التي تحكم العراق.

لم أرافق الإمام الراحل (رحمه اللّه) في مغادرته مدينة قم، لقد سبقته بالخروج منها، وبعد ثلاثة أيام من وصولنا إلى مدينة مشهد المقدسة، وصل السيد الراحل (رحمه اللّه) إليها.

لم أوفق للسفر مع سماحته (رحمه اللّه) إلا مرة واحدة، وهي من مدينة قم إلى مدينة مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) وهو لم يكن يسافر إلا لضرورة قصوى كالسفر في تلك الأيام التي بلغت الحرب بين العراق وإيران الذروة، وراح صدام يضرب المدن كثيراً ومنها مدينة قم المقدسة، وفي تلك الأيام - وحسب جملة من القرائن - كان سماحة السيد (رحمه اللّه) مستهدفاً شخصياً، أو من ضمن المستهدفين في ضرب مدينة قم من قبل النظام الصدامي.

ومن ضمن الشواهد: إن السيد الراحل (رحمه اللّه) في أيام القصف خرج من

ص: 172

البيت الذي كان فيه، لأنه من حيث البُنى التحتية كان بناءً متصدعاً و منهاراً، فهو قديم جداً، وأتذكر أنه كان يكفيه صوت أو رعد أو عصف أو أي انفجار قوي وإن كان بعيداً بعض الشيء لأن تنهار جدرانه، وينهدم البيت على من فيه.

فنقل سكنه من هذا البيت إلى الحسينية الكربلائية الصغيرة المسماة بدار الحسين (عليه السلام) ، ونزل في السرداب لأن بناءه قوي، فصارت صلاته وإقامته أكثر أمناً بهما. بقي السيد الراحل (رحمه اللّه) في هذا المكان مدة أثناء حرب المدن وقصف قم، وأتذكر أنه عندما كان يضرب صدام قم وطهران، تحولت طهران إلى شبه مدينة أشباح مع أن المعروف أنها في الأيام العادية تجمع حوالي (13) مليون نسمة، و قد ذهبت إليها في أيام حرب المدن، وفي منتصف النهار، في أوج النشاط في النهار وجدت هناك أفراداً قلائل يتمشون هنا وهناك،.. فما بالك بمدينة صغيرة كمدينة قم فإنها هُجرت تماماً، وخلت شوارعها وأزقتها، ولم يبقَ فيها إلا أفراد قلائل، ومنهم السيد الراحل (رحمه اللّه) ، حيث هو ومعه جماعة من أصحابه حوله، سكنوا سرداب الحسينية و أما عائلته فقد سكنوا الطابق الثاني من الحسينية(1)، ولكنه رفض أن يخرج من قم حتى وقت الضربة التي تعرَّض فيها للخطر القريب جداً، حيث وصلت الطائرات العراقية قم وضربت السوق المجاور لبيته (سوق قم)، والضربة كانت عنيفة جداً، وراح فيها الكثير من الضحايا، والخسائر البشرية الكبيرة جداً، ومن ضمن المناطق التي استهدفت الحسينية التي كان يسكنها، ولكن من لطف اللّه سبحانه وتعالى ما أصابت الحسينية مباشرة،

ص: 173


1- هذا أيام القصف بالطائرات و أما أيام القصف بالصواريخ فلم يغادر السيد الراحل (رحمه اللّه) بيته بل سكن السرداب و أما عائلته فقد خرجوا إلى منطقة قريبة من قم اسمها (مؤمن آباد) فسكنوا هناك، وكانوا يترددون عليه.

فقد سقط الصاروخ على البيت المجاور تماماً، ولا يبعد عن مسكن السيد الراحل (رحمه اللّه) إلا بضع أمتار.

وفي نفس الليلة جرت اتصالات معه من قبل بعض الأخوة والأصدقاء الذين كانوا يعيشون في ذاك الوقت خارج ايران و جملة منهم من أهل الخير ولهم خبرة في قضايا الاستهداف للشخصيات في الصراعات وقالوا للسيد الراحل (رحمه اللّه) : أنت المستهدف في هذه الضربة ظاهراً.

وذكروا أن ذوي الاطلاع يؤكدون ذلك، حيث لم تكن مسألة القصف تلك عفوية، و لا يستبعد احتمال استهداف السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وتوجد القرائن وشواهد أخرى في هذا المجال، لأن صدام حاول اغتيال السيد (رحمه اللّه) أربع مرات ولم يتمكن ولله الحمد وكانت هذه طريقة سهلة جداً لاغتياله.

لذلك أحسَّ السيد (رحمه اللّه) في هذه المرحلة بالخطر، وشعر بأن تكليفه الشرعي أن يخرج من مدينة قم. في الوقت الذي كاد أن يكون الوحيد من الأعلام والأساتذة أو من القلائل الذين ظلوا مقاومين في قم، فقرر الخروج بعد ذلك إلى مدينة مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) .

وبعد هذه الحادثة بيوم أو يومين قررنا الذهاب إلى مشهد بصحبة العائلة وجملة من أصدقائنا وأصحابنا من ضمنهم أولاد السيد الراحل (رحمه اللّه) ، - السيد رضا والسيد مرتضى - حيث كانوا موجودين معنا في نفس اليوم الذي ذهبنا.

في تلك الرحلة لم أصاحب السيد الراحل (رحمه اللّه) في الطريق، ولكن صحبته في محل إقامته في مشهد؛ لذلك يوجد لديَّ بعض الخواطر الجيدة عنه هناك.

لقد تأخرتم كثيراً لتوثيق مثل هذه الذكريات الجميلة، فلقد مضى عليها الكثير من الأيام، ولوكانت في وقتها لكانت بالعشرات من القضايا الهامة ومن

ص: 174

المناقبيات والنوادر التي كانت موجودة، ولكن الآن استذكر منها بعض القضايا والأشياء القليلة جداً.

في مدينة مشهد المقدسة

كان الإمام الراحل - قبل انتقاله إلى مشهد - قد شرع في بناء (مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) بواسطة وكيله(1) هناك، وهي إلى الآن معروفة، وتعتبر من محاور الحوزة العلمية في مشهد المقدسة. في ذلك الوقت لم تكن هذه الحوزة - المدرسة - مكتملة بعد من حيث البناء، بل كانت بحاجة إلى بعض الأمور التكميلية حتى يمكن السكن فيها، ولا أذكر هل كان ينقصها الأبواب أوالشبابيك أو كانت تحتاج إلى الزجاج فقط، فلا أدري على وجه التحديد الآن، ولكن المتيقن أنها كانت ناقصة وليست كاملة من هذه الناحية، حتى نفايات البناء لم تخرج من المدرسة بعد.

أما عن الفراش والاثاث، فقد كانت قليلة جداً، فالكثير من الأشياء والأغراض ناقصة أو غير موجودة أصلاً.

ومن حين وصولي إلى مدينة مشهد استأجرت غرفة صغيرة وسكنت مع العائلة فيها، وفي الليل كنا نلتقي جميعاً بالحسينية أو في مكان آخر، ثم إن السيد رضا والسيد مرتضى رأوني في الليل، وقالوا: غداً في أول الصبح احضر إلى المدرسة، لكن لم يخبروني السبب، ولم يقولوا لي ما هو الموضوع بالضبط! وكان ذلك في أواخر شهر شعبان.

في الصباح الباكر حوالي الساعة السابعة أو السابعة والنصف صباحاً ذهبت إلى المدرسة، فرأيت مجموعة من أصدقائنا الذين قدموا إلى مشهد المقدسة من

ص: 175


1- حجة الإسلام و المسلمين الشيخ علي السيّاح.

قم المقدسة، وكذلك السيد رضا والسيد مرتضى وباقي أولاد السيد (رحمه اللّه) كانوا موجودين جميعاً، وجمهرة من السادة والأصدقاء اجتمعوا هناك، وفي حوالي الساعة الثامنة والنصف، أو التاسعة رأينا الإمام الراحل (رحمه اللّه) قد أصبح أمامنا، وهذه القضية كانت مفاجأة كبيرة ومفرحة جداً بالنسبة لنا، فهي مفاجأة من جهة ومفرحة من جهة أخرى؛ لأننا كنا قلقين على وضعه، فكيف به إذا كان في مأمن من الخطر، ونكون معه في هذه المرة وفي هذا المكان أيضاً، فكانت هذه نعمة كبيرة وعظيمة جداً، رغم عدم اكتمال المدرسة و عدم كونها مجهزة لاستقباله بعد.

لكن همم الشباب وفرحهم الغامر بقدومه جعلنا ننهض ونقوم بحملة عمل شعبي، فساحة المدرسة وسردابها كان مليئاً بالتراب والحجارة والأسمنت والجص وكل ما يتوقع من نفايات البناء، والغرف كلها كانت وسخة وفيها نفايات البناء، وقد كنا مجموعة من عشرين أو خمسة وعشرين شخصاً، ولقد عملنا عملاً جماعياً، فأتينا بالأدوات - رفوش وعربات وزنابيل - وغيرها وبدأنا بنقل النفايات إلى خارج المدرسة.

ومن اللطائف أن أولاد الإمام الراحل (رحمه اللّه) لا سيما (السيد محمد رضا) و(السيد مرتضى) كانوا يشاركوننا في هذا العمل، ووقفوا إلى جانبنا، رغم أنهم كانوا يقدرون على أن يأتوا بالعمال ليرفعوا الأنقاض إلى خارج المدرسة، ولكن الحالة المعنوية والإرتباط الروحي جعل الجميع كتلة من النشاط، وجعل جميع الرجال إخوة متفاعلين مع بعضهم البعض أكثر من عمال البناء، فراح الجميع يعملون دون أن يفكر أحدهم ما هو هذا العمل أو ذاك الشيء.

فبدأنا بحملة تنظيف واسعة للمدرسة، وكل النفايات والأوساخ حملناها إلى الخارج، وبعد ذلك أتوا بسيارات شحن كبيرة حملت تلك النفايات إلى

ص: 176

خارج المدينة، والألطف من ذلك أن الإمام الراحل شخصياً كان موجوداً معنا في هذه الحملة، أي إنه أيضاً اشترك بالعمل، ونزل معنا، وأتذكر أنه كان واضعاً عباءته وعمامته وصايته(1) على جانب في السرداب، وراح يعمل بتنظيف السرداب، ونحن كنا نحاول أن لا ندعه يعمل معنا، إلا أنه كان يصرَّ على المشاركة، لأن وجوده بيننا كان نعمة عظيمة جداً ، وأتذكر أن بعض الأصدقاء تأثروا معنوياً بشكل كبير جداً، ولقد تأثروا بهذا الموقف منه إذ وجدوه في مثل هذا الموقع.

في أمثال هذه المواقف لعل البعض يترفعون عن المشاركة، أو أنهم لا يرون العمل مناسباً لهم، ولكن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يرى نفسه مع بقية الأخوة والأصدقاء سواء بسواء، فعمل الجميع بجد ونشاط حتى نظفنا المدرسة كلها، وكنسناها وغسلناها بالماء، وجهزناها بالإمكانات المتاحة لنزوله فيها، وفي اليوم الأول هيأنا غرفة واحدة لكي تكون محلاً لإقامته.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) يسكن مع طلابه

ومن الأشياء التي رأيتها هناك أنه اتخذ موقفاً تأثرنا به جميعاً، وبالنسبة لي فلقد كان فيه الكثير من العبرة والموعظة، وكذلك بالنسبة لعموم الأخوة والأصدقاء، فمدينة مشهد كما تعرفون مدينة مقدسة وسياحية منذ قديم الأيام، وفيها الكثير من الفنادق، والكثير من الشقق المفروشة والدور المجهزة، وهناك الكثير من مقلدي الإمام الراحل (رحمه اللّه) ممَنْ كان مستعداً أن يستقبله ويستضيفه

ص: 177


1- تلبس الصاية فوق الدشداشة، وقد تعارف عند أهل العلم لبس الصاية والتي تخاط بطريقة تكاد تختص بهم.

عنده، ويعطيه منزلاً لينزل فيه، ولكنه لم يقبل أن ينزل في بيت أحد أبداً، ورفض الاقامة في أي فندق، بل أقام معنا في المدرسة على قلة الإمكانات وعدم ملاءمتها للسكن، فنزل في غرفة، كان يجلس ويطالع فيها، وصارت مقره ومكان عمله إلى أن نظفنا بقية المدرسة، و قمنا بتقسيم الغرف على الطلاب والأصدقاء الذين هاجروا معنا، فكانت هجرة جماعية، فكنت أقسم كل غرفة وأضع فيها ثلاثة أو أربعة، وأذكر أرقامهم وأسماءهم إلى الآن هي في بالي، ولكن الطابق الأرضي جعلناه لسماحته، لسكنه هو ولمكتبه، فغرفة للقاءات، وغرفة للمحاضرات، رغم أن الطابق الأرضي غير مجهز ولم يكن فيه إمكانات ملائمة ومناسبة، ولكن السيد الراحل (رحمه اللّه) لم يقبل بأن يذهب إلى فندق ويعيش فيه، وإنما قال: أنا أواسي طلابي وأصحابي. وفعلاً هو سكن في المدرسة مع الطلاب، والمدرسة غير صالحة، والجو كان بارداً وشتائياً، وكانت بعض الشبابيك من غير زجاج مما يزيد من وطأة البرد على من يسكن المدرسة، ولم يكن فيها إمكانات للتدفئة، فكان ينقصها الكثير من الحاجات كالفراش والأثاث وباقي لوازم المعيشة.

وكانت عائلته تقيم في مكان آخر وهو يقيم في المدرسة، فكان أفراد العائلة - زوجة الإمام الراحل (رحمه اللّه) وأحفاده وربما بناته - يأتون لزيارته في الليل، يزورونه لمدة ساعة أو ساعة ونصف يجلسون معه ويذهبون إلى منزلهم، وهو طول النهار معنا في المدرسة.

من هناك انطلق السيد الراحل (رحمه اللّه) للعمل في مشهد، رغم وجود بعض التجاذبات السياسية بين العديد من الجهات، فقد تصدى أحد الشخصيات المعروفة في خطبة صلاة الجمعة للإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وتكلم ضده بصراحة،

ص: 178

وتهجم عليه هجوماً سياسياً لإسقاط اعتباره.

ومن المفارقات أني كنت جالسأً عنده، في عصر ذلك اليوم الذي تحدثوا ضده في خطبة الصلاة، وكانت الساعة حوالي (4 أو 4:30) عصراً على وشك أذان المغرب بقليل حين أتى شيخ من المشايخ المشهديين، ودخل عليه في غرفته - في الغرفة التي كانت في وسط المدرسة، وليس على الجناح الأيمن أو الأيسر، إنما في الغرفة الوسطية - فقد كنت حاضراً في تلك الجلسة، فقال له: سيدنا اليوم في صلاة الجمعة ذكرك إمام الجمعة فلان، أو خطيب من الخطباء و تكلم ضدكم، وذكر خلاصة كلامه، وهو كلام تعسفي و مؤلم جداً.

ونقل أنه كان مما قال: ( إن هجرته إلى مشهد لا تحسب لله، لأنه أتى حتى يروِّج لمرجعيته)..!! بالإضافة إلى كلام فيه الكثير من الظلم، والتجني على الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، لأننا نعرف بأنه ليس هو الوحيد الذي كان في مشهد المقدسة، بل هناك نسبة كبيرة من أعلام الحوزة أتوا إلى مشهد المقدسة، في ذلك الحين بعضهم مراجع، وبعضهم من المؤهلين إلى المرجعية، وبعضهم من المسؤولين ومن المتصدين للشأن السياسي، فهؤلاء جميعاً جاؤوا إلى مشهد المقدسة، وبعضهم كانوا من مدن أخرى غير مشهد المقدسة فذهبوا إلى مدنهم، وأما من ليس له مدينة أخرى أو أقرباء في مناطق لا تطالها صواريخ صدام ذهب إلى مشهد المقدسة، فلم يكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) الوحيد الذي خرج من مدينة قم المقدسة، بل كان مستهدفاً و مضطراً وغريباً في الوقت نفسه.

وعلى كل حال اجتمع العشرات من كبار الأساتذة في مشهد المقدسة، ومنهم سماحته (رحمه اللّه) ولكنهم فسروا مجيئ السيد الراحل (رحمه اللّه) بتلك الطريقة، والأسباب والدواعي بعضها معروفة وبعضها لا يعرفها غير اللّه عز وجل،

ص: 179

وعندما أكمل الشيخ حديثه لم يجبه الإمام الراحل (رحمه اللّه) بكلمة واحدة سوى التبسم!! ولا أدري هل كان هذا الشخص قد أرسله البعض حتى يوصل الخبر للسيد الراحل (رحمه اللّه) ويرصد رد فعله، أو هو كان يتكلم بصورة عفوية وبمحبة؟ لكن السيد الراحل (رحمه اللّه) أراد أن يقتدي بأمير المؤمنين (عليه السلام) في القصة المعروفة حينما رد على من شتمه بقوله تبارك وتعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً)(1) فلربما أراد أن يعمل بالآية، وهو هكذا دأبه دائماً، فمثل هذا الموقف بالنسبة إلى سماحته ليس بغريب، وعادته تجاه الذين يتكلمون ضده، أو حتى الذين يسبونه، أو الذين يتهمونه إتهامات رخيصة جداً لم يكن يجيبهم بشيء أبداً، بل كان يغضُّ الطرف عنهم، ويغض النظر، ويسير بمنهجه دون أن يلتفت، مقتدياً برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) .

وقد كنا مطلعين على بعض سيرة السيد الراحل (رحمه اللّه) في المدرسة، فقد كانت الدروس متوقفة، ثم حلَّ شهر رمضان المبارك، فكنا نراه في الليل وفي النهار ومنذ الصباح الباكر وحتى في آخر الليل دائب العمل، ولا يضيع وقته، فكان سماحة السيد (رحمه اللّه) ينام - في تلك الفترة - بعد صلاة الفجر، وبعد الاستيقاظ يتمشى في صالة المدرسة، وهذه سُنَّة من سننه، ويقضي وقت المشي دائماً في التفكير، وأحياناً كان يصادف أن يدعو واحداً من الأصدقاء لكي يتمشى معه، ومَنْ يتمشى معه لا يقصان الحكايا والنكات، وإنما كانا يفكران سوية، ويتناقشان في مصالح المؤمنين أو في حلِّ مشاكلهم أو في موضوع يهم الإسلام والمسلمين.

ص: 180


1- سورة الفرقان: 7.

باقة ورد هدية للإمام الراحل (رحمه اللّه)

في يوم من الأيام جاءه أحد المؤمنين، وقد جلب معه إلى الإمام الراحل (رحمه اللّه) باقة من الورد المميز، حيث كانت لها خصوصيات من حيث الجاذبية والنضارة واليناعة واللون والرائحة، وقدمها لسماحته كهدية، وفي الوقت الذي كان يتمشى فيه بالصالة كان مجموعة من الأخوة يقومون بشؤون الخدمات، فنادى سماحته أحدهم وقال له: خذ هذه الباقة من الورد واذهب ووزعها على هؤلاء الأخوة الموجودين هنا.

فقال له: سيدنا هذه لكم، لأنكم لا تملكون وسيلة للتسلية، ولا راحة لديكم، وهذا الأخ جلبها لكم كي تستريحوا روحياً، وتستمتعوا بها قليلاً.

حيث كان من الضروري في تلك الأجواء الضاغطة والكابتة أن يستمتع السيد الراحل (رحمه اللّه) بالنظر إليها و يشم من عبيرها الزاكي.

فأجابه سماحة السيد (رحمه اللّه) : هؤلاء أوجب مني لأن يحصلوا على هذه الهدية؛ لأنهم شباب فهم أحوج إليها.

وبالفعل بعث هذه الباقة من الورد ووزعها عليهم، وهذا التصرف لم يكن غريباً بالنسبة إليه، وإنما كان هذا دأبه ومتعارف عنه، وقد شاهدته في موارد عديدة يقبل الهدية من أي شخص ولا يردها ويحتفظ بها ثم يوزعها على مَنْ هم حوله، فلذلك بعض الأخوة كان يفرح كثيراً إذا جلس عند سماحته (رحمه اللّه) فيدخل عليه أحد الأشخاص ومعه هدية، لأنه في أحيان كثيرة تأتيه هدايا ثمينة جداً فيقوم بتوزيعها على الجالسين.

ذات مرة - في أوائل الثمانينات - جاءه أحد الأخوة حاملاً معه جهاز تسجيل

ص: 181

من نوع حديث يؤدي عدة وظائف و كان نادراً في ذاك الوقت؛ وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) بحاجة إلى مثل هذا الجهاز لأجل الاستماع إلى النشرات الخبرية والتقارير العلمية، ويسجل فيه محاضراته ونحوها، فقدمه هدية لسماحته، فقبلها منه وشكر صاحب الهدية، ولكن عندما خرج صاحب الهدية أعطاها سماحته للأخ الجالس بجانبه، ويمكن في ذلك الوقت كانت قيمة هذه الهدية كبيرة، لعلها كانت تساوي (150) ألف تومان في ذاك الزمان، و هو مبلغ كبير، وأحياناً تأتيه العطور الجيدة، أو أي شيء آخر يأتي له كان بدوره يهديه لمن حوله، أو من كان جالساً جنبه، ومن النادر جداً أن يدخلها إلى بيته، فغالباً يقسمها على الناس من حوله، ويوزعها على مجالسيه.

استمرينا نحن مع الإمام الراحل (رحمه اللّه) على ذلك الحال في هذه الأيام والليالي الجميلة في مشهد المقدسة، واستمر هو أيضاً في بقائه في المدرسة إلى آخر يوم، وهو اليوم الذي قررت فيه القيادات السياسية والعسكرية انتهاء حرب المدن، وقرر سماحته (رحمه اللّه) العودة إلى مدينة قم المقدسة لمتابعة المسيرة من هناك.

التدريس المميز

* لقد درستم عند الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، كيف كانت طريقته في التدريس؟

* وكيف كان يتعامل مع تلامذته؟

- لقد درست عند الإمام الراحل (رحمه اللّه) الحصة الأكبر من دروس البحث الخارج سواء في الفقه أو في الأصول، وكان الفقه يدرّسه في الصباح الساعة العاشرة، والأصول في وقت العصر قبل أذان المغرب بساعة.

وكان من أهم مزايا درسه:

ص: 182

أولاً: وضوح البيان وإيجاز العبارة.

الصورة

فواحدة من مميزات أسلوبه في الدرس، وضوح البيان وإيجاز العبارة، وقد قضيت مدة طويلة في كتابة تقريراته كنت ألاحظ في درسه عدة مزايا، وهذا الذي أقوله اعترف به حتى بعض خصومه، حيث كانوا يشتركون في درسه، ويقّرون له بالفضل وبالعلم، وبالتفوق في هذا المجال، فدرسه من حيث البيان يفهمه الجميع، حتى طالب اللمعة(1) إذا كان يفهم هذا الكتاب بشكل جيد ويحضر درس السيد الراحل (رحمه اللّه) استطاع الاستفادة من الدرس بمقداره وسعته، والمجتهد إذا حضر درسه أيضاً يجد ما يثريه، فمن حيث البيان كان واضحاً بشكل يتمكن الكل - وبحسب مستواه - أن يغترف من معينه؛ لأنه لم يكن يتعمد التعقيد في البيان أبداً، بل بالعكس كان يتعمد التسهيل والتبسيط، حيث كان يعتبر التعقيد يجهد الطالب، ويستهلك وقته، ويتنافى مع غرض التعليم والتعلم.

ولا يخفى أن هنالك منهجين أو ثلاثة مناهج في بيان المطالب العلمية: منهج يعتمد التعقيد، ويعتبر أن غلق العبارة وتعقيدها ترفع من مستوى الدرس ومن مستوى الطالب، وهناك منهجية أخرى هي المنهجية التي لا تعتمد التعقيد،

ص: 183


1- كتاب اللمعة الدمشقية، لمحمد بن جمال الدين مكي العاملي المعروف ب(الشهيد الأول). إشارة إلى الطلبة الذين لم يصلوا لمستوى البحث الخارج.

و هي جليَّة في كتب الشيخ الأنصاري (قدس سره) ، حيث كان عنده مادة علمية غزيرة ولكن يُبيّنها بأسهل أسلوب وأوضح طريقة ولا يتعمد غلق العبارة، وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) يعتمد على هذه المنهجية، فأي طالب وبأي مستوى من المستويات كان يحضر درسه كان يستفيد منه.

ثانياً: لا يحتكر العلم.

لم يكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) يحتكر العلم لنفسه، بل يفيضه لكل طالب، وهذه أيضاً نقطة مميزة جداً في شخصيته؛ لأنك قد تلاحظ أن بعض العلماء والأساتذة يبخل في إعطاء العلم، وقد لا يعطيه بسهولة لدواع بعضها قد يخلو من الفائدة. وقد يريد بعض الطلبة حضور الدرس، لكن الاستاذ لا يعجبه الطالب فيمنعه، وأحياناً زملاءه في الدرس لا يسمحون له بالحضور،أما السيد (رحمه اللّه) فكان يعطي علمه بسهولة ويسر، وأي طالب - حتى إذا لم يكن بمستوى درس البحث الخارج - يقول له: سيدنا تأذن لي أن احضر درسك؟ يقول له: تفضل اشترك معنا.

إن السيد الراحل (رحمه اللّه) لم يرفض أو يترفع من حضور أي طالب درسه ومهما كان مستواه، البعض كان يعترض ويقول: هذا ليس مستواه درس الخارج فلا تسمح له أن يحضر درسك، فكان يقول: العلم مباح للجميع، دع كل واحد يأتي فإنه يستفيد بقدره.

وهذه نقطة مميزة عنده، وهي مأخوذة من سيرة النبي والأئمة (عليهم السلام) ؛إذ ما كانوا يحظرون العلم على أحد، وهذه طريقة بعض المراجع القدامى، وقد سمعت عن السيد البروجردي (قدس سره) أو غيره حتى بعض الناس من غير طلبة العلم، كانوا يأتون ويشتركون في الدرس كمستمعين ولم يكن لديهم مانع من ذلك ولا يأبون منه؛ ففي الحديث النبوي: «طلب العلم فريضة على كل

ص: 184

مسلم»(1) و في حديث آخر عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»(2)،فلا ينبغي أن يقتصر العلم على فئة أو مستوى، بل يغترف كل أحد بمستواه.

ثالثاً: غزارة المادة العلمية.

كان درس الإمام الراحل (رحمه اللّه) من حيث المضمون و المادة العلمية غزيراً جداً، وأستطيع القول بتلخيص: إن هناك ثلاث خصوصيات في درسه وهي: العمق العلمي، والتلخيص الكافي والوافي، والبيان الواضح.

هذه ثلاثة محاور كانت تميز درسه، فلو كان هنالك مطلب يتعلق ب(الاستصحاب)(3) مثلاً، فعندما تجلس وتستمع للدرس وفي خلال نصف ساعة كان يعطيك أربعة أو خمسة أقوال في المسألة، ويبين كل قول ودليله ووجه الإشكال عليه، واختيار سماحته (رحمه اللّه) من هذه الأقوال، وبعض الأساتذة وهم الآن أعلام في حوزة قم المباركة يبين المطلب الواحد للطلاب في ثلاث محاضرات، وأحياناً يعطي بمحاضرة واحدة قولين، ويكون ذلك بتكلُّف شديد عليه.

وكان كثيراً ما يختصر من الجهد ومن الزمان، ولذلك قلت: إن الكثير من الفضلاء كانوا يشتركون في الدرس مع أنهم من حيث الاتجاه السياسي أو حتى الاتجاه المرجعي كانوا على خلاف معه، ولكنهم من حيث العمق العلمي كانوا يشتركون في مستوى واحد، ويقولون بالتعبير الفارسي بما معناه: إنه استاذ كبير!

ص: 185


1- وسائل الشيعة: ج 27 ص 26.
2- تفسير القمي: ج 2 ص 401.
3- عرف الاستصحاب بانه الحكم ببقاء ما كان، وهو قاعدة من قواعد الاستنباط لدى كثير من الأصوليين، ووظيفة هذه القاعدة على الاجمال إن كل حالة متيقنة في زمان سابق، ومشكوكة البقاء يمكن إثبات بقائها بالاستصحاب.

وقد اشتركت في دروس أخرى لأعلام وأساتذة كبار، ولاحظت أحياناً التلميذ إذا أشكل عليه بإشكال، قد يكون وارداً، وقد يكون ضعيفاً، أو يكون الأستاذ قد بيّنه من قبل بما يدفعه، فكان يرده بجواب يسكته، ولذا كان البعض يرى أن مثل هذا الجواب فيه شبهة الإهانة وإن كان للأستاذ على الطالب حقوق، إلا أنه لم يعهد في الأخبار أن هذا النحو من الجواب من ضمن هذه الحقوق، وعلى كل حال كان بعض الأساتذة يشتد مع الطالب، وأمام زهاء مائة طالب أو أكثر، أو قد يكون ذلك متعارفاً عند البعض، أو ليس بالأمر الغريب، ولكني في درس السيد الراحل (رحمه اللّه) رأيت حرية كبيرة من حيث المحاورات التي تجري فيه، فقد كان واسع الصدر إلى أبعد الحدود، فلم أره مرة واحدة يُسكت طالباً بعنوان الإفحام، أي يسكته عنوة، و لم أره حتى لمرة واحدة ومن على منبر الدرس يحتد مع أحد تلاميذه مهما يكن إشكاله من الضعف والركاكة، وغاية ما هنالك كان يقول له: يا سيد هذا الكلام الذي أنت تقوله لا يوجد شخص واحد قال به.

رغم أنه يوجد بعض الطلبة يلح بالمناقشة الضعيفة، فبعض إشكالاته ضعيفة، أو خارج المطلب، أو استطرادية أو ما أشبه ومع ذلك كان يواجههم بلطف و احترام و هو يذكر اشكاله، حتى كان الطلاب يثورون عليه لأنه لا يعطي مجالاً كافياً لسماع جواب سماحته، فلا يصبر حتى يبين له كل المطلب، فكانوا يلتفتون على المستشكل ويقولون له: دعنا نسمع الدرس!

نعم بعض المستشكلين كانوا يطرحون إشكالات قوية، فكان السيد الراحل (رحمه اللّه) يناقشهم في الدرس ويقنعهم كما أني ما رأيته لم يقنع أحد المستشكلين في جوابه، فلم يكن يعجز أو يسكت.

ص: 186

وكانت علاقته مع الطلاب ومع التلاميذ في غاية الاحترام، فبعد الدرس كانوا يلتفون حوله، فهذا الذي عنده مسألة شرعية، وهذا الذي عنده مسألة قضائية، وهذا الذي عنده حاجة خاصة، فكان يقضي حوائجهم ويجيبهم .

فما رأيته في يوم غضب على طالب، أو أهان أحداً منهم، بل بالعكس، فمهما كان الطالب صغيراً في العلم يستمع منه، حتى نحن فاحياناً كنا لا نستطيع أن نتكلم معه أثناء الدرس؛ لأننا كنا (صغار القوم) ولا نعرف اللغة الفارسية حتى نتكلم بها، فكان عندما يذهب إلى غرفته نذهب إليه إذا كان لدينا أسئلة أو عندنا ملاحظات، فكان يستمع للإشكال بكل رحابة صدر ويجيب عليه، ونتناقش ونتحاور معه.

وهذه من مزاياه، حيث لم يكن يفرق بين أحد وأحد، بين الطالب الذي يفهم والطالب الذي لا يفهم، فالكل عنده في المعاملة سواء، وليس الطالب الذي يفهم يسمع له بشكل جيد والذي لا يفهم يُخرسه ولا يعطيه مجالاً للتكلم، بل في كثير من الأحيان كان يقول: هذه المطالب تحتاج إلى نظر، تحتاج إلى تفكير، عليكم أن تفكروا فيها حتى تتضح المطالب بشكل جيد.

سيدة الموسوعات

* من واقع كونكم مطلعين على النتاج العلمي للكثير من العلماء والمراجع، كيف تنظرون إلى الموسوعة الفقهية التي ألفها الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

- لا شك أن الموسوعة الفقهية إنجاز علمي وتاريخي كبير من عدة جهات:

الجهة الأولى: أنها موسوعة كاملة في الفقه الإسلامي المتعارف عليه، وأضيفت عليها أبواب جديدة في الفقه، وهذا فتح لم يسبق إليه أحد من الأعلام، فقد أضاف أبواباً جديدة للفقه الإمامي، فحوالي (20) عنواناً من الأبواب الجديدة أضافها للفقه.

ص: 187

فعندما تلاحظون الموسوعات الفقهية وحتى عند الجمهور وأهل العامة - ولدينا حوالي ثلاثين موسوعة فقهية - إما أن تكون كاملة - وهي قليلة - أو تكون ناقصة أو مختصرة، ونادراً ما ترى موسوعة فقهية كاملة ومفصلة من كل جوانبها مثل كتاب الجواهر(1)

وأما غير الجواهر فإما أن تكون الموسوعة كاملة ومختصرة، أو تكون موسعة في البحث، ولكن الفقيه الذي يكتبها لا يتمكن من إتمامها. إما بسبب غلبة الأجل أو عروض الموانع . أما موسوعة الإمام الراحل (رحمه اللّه) فهي موسوعة موسعة و كاملة تماماً، وتفوقت على الجواهر من حيث إنها جمعت مزايا الجواهر ومَنْ تأخر عن صاحبها، مضافاً إلى الأبواب الجديدة التي أضيفت إليها.

وبالحقيقة موسوعة فقهية تضم (160) مجلداً، إنجاز كبير ليس عند الإمامية فقط، بل عند عموم المسلمين، وأنا لا أظن أن فقيهاً من الفقهاء من الإمامية أو غيرهم قد كتب موسوعة بهذا الحجم وبهذه الصفات التي تحدثت عنها. هذا طبعاً بحسب المعروف و المتناول في اليد من الموسوعات.

الجهة الثانية:كونها موسوعة شاملة، فهي لا تتضمن المباني والمسائل الفقهية فقط، وإنما تستعرض جملة من المسائل الثقافية، ثقافة الحياة في مختلف الجوانب، وتتضمن الحكمة، والفلسفة للأحكام والتشريعات، فمثلاً في باب النكاح ترى أن السيد الراحل (رحمه اللّه) يذكر مشاكل الزواج وحلولها، وكيف يمكن أن نعالج مشكلتها من الجوانب الفقهية المختلفة. وفي كتاب العتق والتدبير والاستيلاء، وما أشبه ذلك غالباً الفقهاء يبدؤون في التعريف، ثم يذكرون

ص: 188


1- الجواهر السنية في الأحاديث القدسية، للشيخ محمد حسن النجفي الاصفهاني العاملي من مراجع الشيعة و مجتهديهم في القرن الثالث عشر بعد الهجرة. و عرف بصاحب الجواهر.

الأحكام، ولكن السيد الراحل (رحمه اللّه) يذكر فلسفة الاسترقاق وفلسفة العتق، ومثل ذلك تجده في كتاب القضاء والحدود والتعزيرات والدماء والمحرمات ونحوها، فسماحة السيد (رحمه اللّه) يذكر بالموسوعة الفقه مع فلسفة الأحكام، أي إنك عند قراءة المسائل الفقهية تقرأ فلسفة التشريعات إلى جانبها.

ولو قُيِّضَ للجنة أو جماعة من العلماء يتفرغون لاستخراج المطالب الجديدة من موسوعة (الفقه) لكانت في نفسها موسوعة .

الجهة الثالثة: إنها موسوعة فقه الحياة، وهذه أيضاً نقطة مهمة في تصوري، لأنه دمج الفقه مع الحياة، بحيث إن الذي يقرأ موسوعة الفقه مهما يكن مستواه في العلم، سواء أراد أن يكون طبيباً أو مهندساً، أو طالب مقدمات في حوزة أو مجتهداً، فإنه يستفيد من هذه الموسوعة، وكل على قدره؛ لأن بيانها بيان سلس، وقريب إلى الأذهان، والمسائل التي تناولها تهم حياة المجتمع.

الجهة الرابعة: الموسوعة تربط بين الفقه وروح الإسلام، فقد استطاع الإمام الراحل (رحمه اللّه) أن يربط ما بين الفقه وروح الإسلام بشكل عام، فعندما تقرأ الموسوعة ترى أن هناك تلاحماً بين العقائد والفقه، وبين الفقه والأخلاق وبين الفقه وقواعد الأصول، وبين التفسير والفقه، وبين الوضع الاجتماعي والفقه.

فتعتبر موسوعة الفقه موسوعة للحياة وليس موسوعة فقه للمتخصصين فقط من الفقهاء.

هذا مضافاً إلى أنه استعرض الكثير من الفروع والتفريعات الفقهية الجديدة، والفقهاء من قبله لم يتعرضوا إليها وما ذكروها في كتبهم، فهي موسوعة تتضمن الكثير من حيث الأفكار، و من حيث فتح المسائل والأبواب الجديدة.

ولكن في هذه الموسوعة بحاجة إلى أمرين:

ص: 189

الأول: التبويب، تحتاج هذه الموسوعة إلى التبويب؛ لأن تبويبها ضمن التبويبات الحوزوية المعروفة، وهي ضمن السياق الحوزوي، ولكن إذا أردنا إعطاءها بعداً معاصراً فإنها تحتاج إلى تبويب جديد، و فرز العناوين وفرز الأصول والفروع.

الثاني: الفهرسة والطباعة الحديثة والمنقحة والمحققة، وهذا ربما سيتم إنجازه في المستقبل بهمة أولاده الأعلام أو المؤسسات التابعة.

ولكن الموسوعة من حيث الإنجاز، لا شك أنها إنجاز تاريخي مهم، بل ونادر، وفي تصوري كما أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) جُهل شأنه في حياته، هذه الموسوعة الآن مجهولة القدر، وسوف يجعلها اللّه سبحانه وتعالى بعد مدة من الزمن من المصادر والكتب الرئيسية التي مَنْ أراد أن يقرأ الإسلام، أو مباني فقه أهل البيت (عليهم السلام) عليه أن يرجع إلى هذه الموسوعة كمصدر أول لكل ذلك.

الكراسات رسائل توعوية

* ماذا كان هدف الإمام الراحل (رحمه اللّه) من تأليف الكراريس والكتب الصغيرة في الوقت الذي كان الكثير من العلماء لا يكتبون حتى في تفسير القرآن الكريم؟!

- يكاد أن يكون واضحاً إن الإمام الراحل (رحمه اللّه) لم يكن يرى المرجعية هدفاً في نفسه، وإنما كان يرى المرجعية طريقاً إلى أهداف أسمى، هذا من جهة.

ومن جهة ثانية كان يرى بأن توعية الأمة من مهام الفقيه، بالإضافة إلى مهمة بيان الأحكام الشرعية، وذلك لأن مهمة الفقيه هي مهمة الأنبياء (عليهم السلام) ، والأنبياء كانوا يصلحون الإنسان، و كان غالباً ما يستشهد بقول أمير المؤمنين (عليه السلام) بحق

ص: 190

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «طبيب دوَّارٌ بطبهِ، قد أحكمَ مراهِمَهُ، وأحمى مواسِمَه، يضعُ ذلكَ حيثُ الحاجة إليهِ مِن قلوبٍ عُميٍ، وآذانٍ صُمٍ، وألسنةٍ بُكم.. متتبعٍ بدوائهِ مواضعِ الغفلةِ، ومواطنِ الحيرة»(1)، فكان يرى بأن مهمة الفقيه هي مهمة الطبيب الذي يعالج الأمة في مختلف شؤونها، وليس لإعطاء الأحكام والمسائل الشرعية فقط، بل عليه أيضاً بيان المسائل التوعوية والإرشادية للأمة بمحاضراته وكتيباته الصغيرة؛ لأن الكتب الكبيرة لا يقرأها إلا المتخصص وصاحب الشأن عادة.

وكان سماحة السيد (رحمه اللّه) يفكر حتى بوعي البقال والعطار والسائق والخباز والفلاح، وهؤلاء ليس من شأنهم أن يقرؤوا كتاباً من خمسمائة أو ستمائة صفحة، وفيه الكثير من الأفكار المعقدة والمسائل الصعبة، وإنما كان يفكر أن يوصل الفكرة بأسرع طريق، وبأقصر مسافة، وبأسهل بيان، وليس هنالك أي طريق للوصول إلى ذلك إلا الكراسة الصغيرة التي نسميها أحياناً بتعبيرنا الأفكار السريعة أو المعلبة الجاهزة، ولا شك أن الإنسان العادي يستطيع أن يقرأ ربع ساعة أو عشرين دقيقة، وهو يستطيع قراءة فكرة عن الصلاة أو الإمامة، أو شورى الفقهاء، ولكن لا يستطيع قراءة (500 -600) صفحة حول موضوع واحد.

وحيث إن هذه هي مهمة الفقيه إذن يجب عليه أن يكتب هذا الشيء، وكان البعض لا يتفقون معه في الهدف، وربما يتحفظون عليه بهذه الطريقة، ولكن يوجد اختلاف في الهدف بينه وبين غيره.

علماً بأنه كان يصرِّح مراراً: أنا أقول وأركز على كتابة الكتاب، أو نشر المجلة من باب المقدار الممكن بالنسبة إلينا أو المتاح، و لو كان هناك وسيلة أخرى للتوعية والإرشاد أكثر من الكتاب كنا نذهب وراءها.

ص: 191


1- نهج البلاغة:من خطبة له (عليه السلام) 108.

لكن الأجل لم يمهله، فقد توفي في أوائل انتشار الفضائيات، ولو كان باقياً إلى الآن لكانت الفضائيات المرتبطة بتلاميذه غير قليلة، حيث كان يشوق الجميع إلى فتح فضائية خاصة إذا كان يرى من عنده قابلية لمثل هذا العمل؛ لأن الفضائية تأثيرها الآن من حيث المنافع العامة والتوعية الجماهيرية أكثر من الكتاب أو المجلة؛ لأن المجتمع الآن تبدل في تلقي المعلومة من القراءة إلى الاستماع، والفضائية في الدقيقة الواحدة تدخل ملايين البيوت، وتخاطب ملايين العقول، في حين أن الكتاب تأثيره محدود.

فقد كان رجلاً مصلحاً في الأمة، وليس مجرد فقيه تنحصر مهمته ببيان الأحكام الشرعية، بل مهمته واسعة وشاملة، ومن الطبيعي أن هذه المهمة تستدعي أن يكتب الكراسة، ويحاضر على الشباب والنساء أيضاً، ويدعو الناس حتى يلقي الخطاب أو الكلمة، ولا يبالي في هذا الموضوع لومة لائم؛ لأن هدفه الأمة كلها، وإيصال صوت الإسلام لكل الناس وليس لفئة معينة.

هذه هي سيرة الأئمة (عليهم السلام) فالأئمة ماذا كانوا يعملون؟ والأنبياء (عليهم السلام) كيف كانوا ينشرون الوعي في الأمة؟! هل كانوا يجلسون في دورهم، ويغلقون عليهم الأبواب، ويعطون الفتاوى فقط؟ أو يعطون رسالة عملية فقط؟ أو يكتبون موسوعة فقهية بشأن المتخصصين فقط؟ أم أنهم كانوا يبينون الأحكام، وكانوا يدعون أيضاً تلاميذهم إلى الجلوس في المساجد لأجل بيان الأحكام؟ وما أشبه ذلك.

لم يكن سماحة السيد (رحمه اللّه) يبالي بالأصوات التي لم تتفَّهم هدفه من كتابة هذه الكتب، والكراريس.

لقد سار في طريق تخالف العرف السائد في الحوزة المباركة، ولكن ليس

ص: 192

المشكلة فيه، بل المشكلة في العرف المبني على أسس غير صحيحة، فكان البناء غير صالح، فقد كانت مسيرته مسيرة صحيحة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل، فهذه مسؤوليات شرعية لإقامة الدِّين الحنيف، فإذا كان الفقيه يتمكن من هذا ولو بكتابة الكراس، ولو بكتابة ورقة واحدة كالبيان، لزم عليه ذلك.

وحين كنت في سوريا كان يبعث لي بقصاصة ورق صغيرة بين فترة وأخرى يقول فيها: لا تنسى مؤتمرات الإنقاذ، أو لا تنسى الدعوة إلى الآيات الثلاث، أو الترويج لها.

شرح كتاب السماء و العالم من بحار الأنوار

وذات مرة وأنا في سوريا بعث سماحة السيد (رحمه اللّه) لي رسالة، وقال فيها: شيخنا - وهذا من لطفه أنه كان يخاطبني بلغة خاصة مع بعض الأوصاف - أقترح عليكم أن تشرحوا (كتاب السماء والعالم) الموجود في موسوعة بحار الأنوار(1) بطريقة عصرية وتطابق علوم الأئمة (عليهم السلام) ، مع العلوم الأكاديمية الجديدة، فاعتبرته تكليفاً، وسعيت وراء الفكرة، وهي من حيث المبدأ كانت فكرة جبارة و مهمة جداً، ولكن في وقتها الإنسان يحتار ماذا يفعل؟

فكتاب (السماء والعالم) يضم (10) مجلدات من (بحار الأنوار) وفيها صنوف العلوم والمعارف الشرعية التي تحتاج إلى تسليط الضوء من قبل العلوم

ص: 193


1- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، وهو أحد كتب الحديث المشهورة لدى الشيعة الإثني عشرية. ألفه الشيخ محمد باقر المجلسي. يحتوي على الكثير من الأحاديث، ويعد من أكبر كتب الحديث حيث يتكون من 110 مجلد.

الحديثة. يعني شرح الروايات، وشرح الآيات بالعلوم الحديثة ما أمكن .

وبعد التفكير بالمسألة قلت: سمعاً وطاعةً، وتوكلت على اللّه، والتمست من السيدة زينب (عليها السلام) التوفيق لهذا العمل، وفكرت من أين أبدأ، فهذا العمل يحتاج إلى متخصصين وأكاديميين.

وهكذا وخلال وقت قصير - بتوفيق من اللّه و بعناية من السيدة عقيلة الهاشميين عليها و على آبائها ألف تحية و سلام - جمعت مجموعة من الأكاديميين من العراقيين والسوريين، وعملت منهم فريق عمل، فكانوا عشرة أو اثني عشر شخصاً، وقرأت كتاب (السماء والعالم) وقسمت أبوابه، وكل باب أعطيته إلى متخصص، وباشرنا في العمل، ووضعت الخطة، وكانت بعض التوقفات التي عندهم أشرحها لهم، وعندي بعض التعليقات في هذه الموسوعة، وهم يضيفون معلوماتهم الأكاديمية، فأنجزنا منها (11) مجلداً.

المجلد الأول: كان في نشأة الكون ودلائل التوحيد في الكون والوجود.

المجلد الثاني: في الفلك والنجوم، أعطيناه إلى أحد من الأخوة الخبراء في هذا الفن.

المجلد الثالث: في علم النفس.

المجلد الرابع: في الفيزياء والظواهر الطبيعية.

المجلد الخامس: في الملائكة.

المجلد السادس: في الطب والتشريح، أعطيناه إلى أحد الأطباء المتخصصين فشرح لنا هذا الكتاب.

وفي عالم النبات وفي عالم الحيوان وفي عالم الجن إلى آخره.

وبالفعل استغرق انجاز الموسوعة في أحد عشر مجلداً، سنة ونصف إلى

ص: 194

سنتين تقريباً.

وكان سماحة السيد (رحمه اللّه) بين مدة ومدة يسألني: إلى أين وصل العمل؟ فكان متابعاً جيداً، وقد تكفل رعاية الكتاب كاملة وطباعته.

وبعد أن أنجزنا العمل أرسلنا الكتاب إلى المطبعة لطبعه وكنت متفائلاً كثيراً، فطبع كاملاً إلا المجلد الأخير حيث كان يلزمه أسبوعاً ليخرج من المطبعة، وفي هذه الأثناء توفي السيد (قدس سره) ، وقد كانت بالنسبة لي صدمة كبيرة جداً، لأنني كنت أرغب أن يرى العمل قبل أن ينتقل من هذه الدنيا، ولكن اللّه غالب على أمره.

فوضعنا ورقة النعي في المجلد الأخير من الموسوعة، ثم أضفنا له ثلاثة مجلدات، وهي مجلد في الكيمياء، ومجلد في الصيدلة العشبية، وآخر في الصيدلة الكيماوية؛ والآن الباب مفتوح في هذه الموسوعة لإضافة بعض الأبواب الأخرى، وكلها شرح لروايات أهل البيت (عليهم السلام) في ضوء العلوم الحديثة،على قدر ما نفهمه و يفهمه الآخرون، وليس على قدر كل مضامين الأخبار والروايات.

كان هدف الإمام الراحل (رحمه اللّه) عظيماً، وإلا فما معنى أن يهتم مرجع تقليد بشرح (كتاب السماء والعالم).

و قد كن النساء يلتقين بسماحته - وحتى ربات البيوت - فكان يدعوهن إلى الكتابة والقراءة وطلب العلم وتقوية القلم بالكتابة الهادفة؛ ولذلك ترى جملة من نساء أسرته وبعض مقلداته كتبن الكتب في هذا المجال.

أي إن هذه المدرسة تكاد أن تكون الوحيدة التي للنساء فيها حركة علمية وفكرية بهذا الزخم، وهذا بحسب العرف الحوزوي ليس من مهمة الفقيه، ولكن منهجية الإمام الراحل (رحمه اللّه) وطموحاته وتصوراته عن المرجعية تشمل ذلك،

ص: 195

وتجعل هذه الأمور من صلب مهمة وعمل المرجع وأهدافه، فليس من الغرابة عليه أن يكتب الكراس؛ لأن هذه منهجية الإصلاح، فالخلل ليس في منهجيته، بل الخلل في العرف السائد الذي بدأ يرى الأمور الصالحة أموراً غير صالحة، وهذه من المعضلات التي تحتاج إلى معالجة حقيقية في الأمة عامة.

الحروب التي شنَّت على الإمام الراحل

* حاربته الكثير من الحكومات بكل ما تملك من القوى، مَنْ كان خلف ذلك برأيكم؟

* وكيف كان تصديه لتلك الحكومات ؟

- تطرقت في موضع سابق لتلك المحاربات، و يمكنني أن أضيف: كان للإمام الراحل (رحمه اللّه) منهجية خاصة، تتمتع بخصوصيات كثيرة، فهي:

أولاً: منهجية مستقلة عن الحكومات.

ثانياً: منهجية تعتمد على وعي الأمة وتحريكها باتجاه حقوقها وأهداف الإسلام.

ثالثاً: منهجية أصيلة في الفكر، وصلبة في العمل، ومن الواضح أن نشاط الإمام الراحل (رحمه اللّه) اجتمع مع ثقل المرجعية المباركة، لأن المرجعية هي قوة إلهية وشعبية، وثقل حقيقي، ولها من المال و الرجال والأفكار والمدارس والحوزات الشيء الكثير، فطبيعي أن مثل هكذا مرجعية تحارب؛ لأنها تضر بطرفين: تضر الساسة المستبدين، وتضر المعادلات الاستعمارية في المنطقة، وعادة مثل هكذا منهجية يحاربها طرفان، الاستعمار والمستبدون، أي الحكومات المستبدة، حيث يجدون في هذه المنهجية خطراً عليهم وعلى مصالحهم، والذين حاربوا

ص: 196

الإمام الراحل (رحمه اللّه) معروفون، سواء من الأنظمة التي حاربته، والدول التي وقفت ضده في المنطقة، والدول الغربية التي اصطفت معها، فحاربوه بطريقتين مباشرة و غير مباشرة.

* لقد تم حرق كتاب الإمام الراحل (رحمه اللّه) الذي يتحدث فيه عن حكومة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقد طبعت عشرة آلاف نسخة ! هل كنتم على إطلاع على هذه القضية؟

- لم أكن موجوداً في هذه القضية أثناء وقوعها، ولكن سمعت في وقتها أن هذا الكتاب صودر وأحرق، ومقتضى القاعدة أن السبب هو تضمنه لأفكاره التي لا تتحمل غالباً، ولأنه يُعتبر إدانة حقيقية لكثير من الأساليب السياسية والحكومية في المنطقة.

ومن الواضح أن للإمام الراحل (رحمه اللّه) في أفكاره أصولاً لا يتجاوز عنها، ومن ضمن أفكاره التي طرحها في هذا الكتاب أو غيره الحديث عن احترام التنوع المذهبي و السياسي، و الدعوة لوحدة المسلمين، وهذا الحديث إدانة واضحة للسياسات القائمة، وكل الدول الإسلامية لا تعمل لتحقيق هذه الوحدة، فهم يقولون بوحدة المسلمين، وفي الأوراق وفي الهويات يكتبون (مسلم) وإنما كمنهجية سياسية حقيقية لا يوجد هناك وحدة بين دول العالم الإسلامي، فلا وجود لوحدة روحية أو وحدة حقيقية بين الدول الإسلامية.

وحتى في القوانين الوضعية في الدول، فالعراقي الذي يأتي إلى مصر كلاهما عربيان، ولكن (العراقي) يعتبر في مصر أجنبياً، و(المصري) في الأردن يعتبر أجنبياً، و(الأردني) يأتي إلى إيران وهو أجنبي، و(الإيراني) يذهب إلى الهند هو أجنبي، إذاً أين الوحدة الإسلامية؟ وأين الأمة الواحدة؟

ص: 197

في ظل حكومة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) كانت الوحدة الإسلامية موجودة، فسلمان الفارسي كان من الفرس، وقد قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حقه: «سلمان منا أهل البيت»(1)، وأيضا على سبيل المثال صهيب كان من الروم ويعتبر من أجلاء أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

هذه الحكومة هي التي تؤمن بالوحدة الإسلامية وتؤمن بالأخوة وتؤمن بالحرية، وإعطاء المجال لكل الناس لأن يتكلموا ويبدوا آراءهم، وكانت الدولة الإسلامية بلا حدود جغرافية تمزق بلاد المسلمين، وقد ذكر الإمام الراحل (رحمه اللّه) هذه الأمور في كتبه كثيراً، وعندما يحلل حكومة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه، فمن المؤكد أن لا يتحملون مثل هكذا كتاب، لأن حكومتهم قائمة على عكس هذه الأفكار، فيصادر الكتاب ويحرق.

وهذه حقيقة مما يؤسف له؛ فإنها من المآسي التي نعيشها في بلداننا، فإن الفكر الحر والتاريخ الصحيح، والأفكار الحضارية، والمناهج المتميزة، تهتضم، وتحارب، ويتعامل معها بهذا الشكل من القسوة كالحرق والمصادرة والمنع والقمع وغير ذلك من الأعمال غير المبررة.

الحلم والصبر من سجايا الإمام الراحل (رحمه اللّه)

* لماذا تم اعتقال أكثر من مائة فرد من أعضاء مكتب الإمام الراحل (رحمه اللّه) وطلاب درسه، وصودرت مؤسساته، وأجهضت بعض مشاريعه ؟

- هذا أيضاً يصب في نفس ذلك السياق المتقدم، وكما قلت فإن للإمام الراحل (رحمه اللّه) منهجيته، ومن سماته:

ص: 198


1- بحار الأنوار: ج65 ص 55.

أولاً: أنه رجل مصلح.

وثانياً: منفتح.

وثالثاً: مستقل.

فطبيعي أن يحصل الذي تفضلتم به بالسؤال.

* كيف كان يستقبل انباء مثل هذه الأعمال التي تستهدفه؟

- بالصبر ثم الصبر، وتحريك الرأي العام لإنقاذ المظلوم، لأنه في نفس الوقت الذي كان يدعو فيه إلى التحرر لم يكن يؤمن بالعنف أبداً، حتى الكلمة العنيفة لم يكن يقبلها، وأحياناً إذا خرج من شخص كلمة واحدة عنيفة في محاضرة أو كتابة أو في مقال، كان يقول له: احذفها! لأنه كان يدعو إلى اللاعنف، وكان يدعو دائماً إلى قراءة سيرة النبي المصطفى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلي أمير المؤمنين (عليه السلام) في معاملة الناس، ولكي يستشهد على إمكان تطبيق الفكرة في الزمن المعاصر كان يدعو إلى قراءة سيرة غاندي(1)، فسيرته على الرغم مما فيها من النواقص والسلبيات، ولكن لها من الإيجابيات الشيء الكثير بحيث استطاع أن يحرر بلداً مثل الهند بعد (300) سنة من الاستعمار البريطاني، وبلداً فيه (500) دين و(700) لغة وقومية، استطاع غاندي أن يوحده تحت عنوان اللاعنف.

لم يكن الإمام الراحل يؤمن بالعنف أبداً، ولم يكن يواجه عنف الدول، أو عنف بعض الأجهزة في الدول، والاعتقالات والقمع وتوزيع المنشورات

ص: 199


1- موهنداس كرامشاند (1869 -1948م): فيلسوف ومجاهد هندي، ولد في بور بندر . اشتهر بلقب (المهاتما) أي النفس السامية، دعا إلى تحرير الهند من الإنكليز بالطرق السلمية والمقاومة السلبية بعيداً عن العنف. أدت جهوده إلى استقلال الهند عام 1947 م . يعد من أبرز دعاة السلام. اغتاله براهماتي متعصب.

المضادة له، لم يكن يواجهها بالعنف أبداً، وفي كثير من الأحيان كان يسكت عنهم، وهذا السكوت له أبعاد مهمة، وله في كثير من الأحيان معان عميقة، وكان يستخدم أسلوب الضغط الإيجابي، فيبعث الناصحين لينصحوا الجماعة المضادة، ولم يكن يستخدم أساليب أخرى في هذا المجال .

أفراح الإمام الراحل (رحمه اللّه) بأولاده

* هل حضرتم عقد قران أبناء وكريمات الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

* وكيف كانت تجري هذه المراسيم؟

- حضرت بعضها، فكان من أبسط ما يكون، وأعتقد أن أي واحد من أولاده عندما كان يريد أن يزوجه ويعقد له أو شيء من هذا القبيل، كان يدعو بعض الخواص وكل المدعوين ربما لا يتجاوزون (30) فرداً، فيعمل لهم عشاء مختصراً، وهذه كل القضية، وكان اللّه يحب المحسنين .

وإذا دخل أي إنسان إلى بيت الإمام الراحل وشاهد أولاده المتزوجين وأين يقيمون، يفهم كيف تكون حياتهم وكيف هو مسكنهم وطريقة عيشهم!

هذه الغرفة(1) - غرفة الجلسات الإدارية - في مرحلة من المراحل كانت غرفة (السيد مرتضى)، فكان إذا بكى طفله لا يستطيع أن يطالع.

وكان بعض أبنائه يقول لي: لا أستطيع أن أقرأ بعد. وكل أولاده بهذا الشكل كانوا في سكنهم، وربما حتى بعض بناته بهذا الشكل، فواحدة من بناته العلويات زوجها إلى ابن أخيه السيد المرجع(2)

وكان مهرها (17) ألف تومان،

ص: 200


1- الغرفة التي أجري فيه الحوار مع سماحة الشيخ الصفار.
2- آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) .

وهذا كان قليلاً جداً بالقياس إلى المتعارف عليه في ذاك الزمان.

تنظيف فراش المكتب

كان السيد الراحل (رحمه اللّه) زاهداً بكل معنى الكلمة، وزهده كان عجيباً، وليس زهداً عادياً. في إحدى المرات أرادوا تجديد فراش غرفته، لأنه كان بسيطاً ولا يتجاوز بعض البطانيات، واللطيف أن هذه البطانيات لم تتغير في غرفته لسنوات طوال، ولم تتبدل منذ أن فرشت، فقالوا له: سيدنا هذه البطانيات صارت وسخة ونريد أن نغسلها، فلو

سمحت لنا بغسلها وإرجاعها وخلال هذه الفترة نأتي لكم ببطانيات أخرى نفرشها مكانها إلى أن تنشف تلك.

الصورة

فقال: كلا، نبقى بهذا الشكل نجلس على البساط إلى أن تعود هذه البطانيات.

فقالوا: سيدنا لعل من غيرالمناسب أن يجلس الضيوف على الأرض، فحتى يكون مجلسكم لائقاً وبالمستوى نأتي بالبطانيات الجديدة لفترة قصيرة. فلم يقبل، ولكن بعض الأخوة في فترة استراحته في الداخل فرشوا البطانيات الجديدة

ص: 201

ولما جاء ورآها جمعها، ووضعها على جنب وجلس على البساط، والغريب أن البطانيات الأصلية التي كانوا قد أرسلوها للغسيل عندما غُسلِّت ونُشِّفت وجاؤوا بها نظيفة لم يقبل سماحته بفرشها وبقي يجلس على الموكيت، وقد كنت حاضراً في هذه القصة، وكنت وسيطاً للأخوة عند سماحته (رحمه اللّه) على أساس أن الجديدة لم تقبل بها فلماذا لم تفرش القديمة؟ وقلت له: بأن الوقت شتاء والجو بارد والأرض باردة، ولا يمكن الجلوس عليها بدون بطانيات.

وما زلت أتحدث إليه إلى أن وافق على فرش البطانيات القديمة بعد إصرار وإلحاح، وسبب إصراره كان هو تخوفه من الانزلاق في حب المظاهر والشكليات ولو بهذا المقدار البسيط من الأمور، لأنه كان يرى أن الإنسان ينجر إلى الدنيا شيئاً فشيئاً و من دون أن يشعر أحياناً، فلذا كان يحد من ذلك مهما أمكن.

ويرفض الستائر المستخدمة

وموقف آخر نقله لي أحد أولاده، أي أنقل بواسطة واحدة فقط! بأن إحدى العلويات من أخوات سماحته غيّرت الستائر التي في بيتها، وجلبت مكانها ستائر جديدة، فأخذت عائلة الإمام الراحل (رحمه اللّه) الستائر القديمة.

وأنا حينما دخلت بيته لم يكن فيه ستائر من قماش، وستائره الأشجار، ولقد رأيت عنده شباكاً كبيراً وعليه قطعة من القماش الرخيص جداً - الخام -،ولهذا فعائلته أخذت ستائر بيت أخته القديمة وعلقتها في بيتها.

وعندما دخل البيت - لأنه كان في الديوان - ورأى هذه الستائر، فقال: ما هذا؟ قالوا له: هذه الستائر قديمة و ليست جديدة، فقال: كلا! هذا غير ضروري.

ص: 202

وأمرهم بنزع تلك الستائر، وبقي بيته كما كان.

ما كان يملك إلا صاية واحدة

كان زهده مذهلاً في الحقيقة، فذات مرة طلب أحد أعز طلابه منه أن يخيط له صاية جديدة، وقال له: سيدنا دعنا نخيط لك صاية جديدة، قال (رحمه اللّه) له: عندي هذه الصاية وأنا مكتف بها، وأصرَّ عليه الشيخ حتى وافق، فقال: إذاً أعطينا صاية لكي نأخذها إلى الخياط ليأخذ القياس ونفصِّل عليها، فقال له: تعال وخذ الصاية بعد صلاة الظهر ولمدة نصف ساعة وترجعها لي ولا تأخِّرها أكثر من ذلك، فقال له الشيخ: ولماذا تريدها بهذه السرعة؟ فقال له: ليس عندي غيرها، ويمكن أن تأخذوها وتذهبوا ويأتينا ضيوف، فإذا كنت أريد أن أستقبلهم وأجلس معهم ليس عندي صاية - غير السوداء - لألبسها!!

هكذا كان السيد الراحل (قدس سره) في الوقت الذي كان عنده وتحت تصرفه الملايين من الأموال، فكل ما يأتيه من أموال وهدايا ينفقها ويوزعها على الطلاب أو الشؤون العامة للمسلمين.

وكان من دأبه وعادته إذا كانت تأتيه بعض الهدايا - صايات، عمائم، عبايات، أقمشة أخرى - يوزعها على الطلاب، وإذا أتته هدايا ثمينة يجد فيها حلاً لمشاكل عديدة كان يبيعها ويشتري بها أشياء أخرى يوزعها، فمثلاً تأتيه عباءة ثمينة فكان يبيعها ويشتري بثمنها (30) عباءة يوزعها على الطلاب والفقراء ولا يأخذ شيئاً منها.

أتريد أن تصنع مني طاغوتاً يا دكتور؟

في السنوات الأخيرة، بدأت الأمراض تضعف جسمه شيئاً فشيئاً، وصحته

ص: 203

تتأثر بالمرض بشكل متواصل، نتيجة لتراكم الأمراض وقلَّة الغداء وكثرة التعب والأعياء كل ذلك أثَّر على صحته بشكل واضح، وحساسية الظرف السياسي لم تكن تسمح بإجراء فحوصات كاملة له، أو إجراء عمل جراحي إن لزم الأمر، فاصفر وجهه يوماً بعد يوم.

و كان أحد الأطباء طبيبه و مستشاره الذي يرجع عليه عند الضرورة، في يوم من الأيام أحد الأصدقاء راجع عيادة الطبيب فرآه مندهشاً و متعجباً - وهذه الحادثة أنقلها عن طريق هذا الصديق - فقال له: ما بك يا دكتور مندهش بهذا الشكل؟ فقال: واللّه إن هذا السيد أذهلني، فقال: لماذا؟ قال: بعثوا إليَّ أنه مريض، ولما أتيت لأفحصه قال لي أخوه السيد صادق: دكتور أعلم أن السيد لا يأكل زهداً، - وفعلاً كان السيد (رحمه اللّه) كذلك حيث لم يكن يأكل ما لذ وطاب، وحتى عائلته - أحياناً - إذا عملت له كأس عصير من الجزر مثلاً لم يكن يقبل أن يشربه إلا بصعوبة، وإذا قبله لا يقبل أن يشرب كأس عصير آخر إلا بعد أسبوع من شربه العصير الأول، مع أن الطاقة التي كان يصرفها والسن التي كان فيها، يستوجبان التغذية المستمرة -، فقال السيد صادق للدكتور: إن السيد لا يأكل فانصحه بالتغذية؛ لأن الدواء وعلاج المرض يقوم بركنين: الغذاء والدواء، وأما الدواء لوحده فلا ينفع ومضاعفاته كبيرة، فأجابه الدكتور: سيدنا هذا من أوليات الطب، ومن الطبيعي أن أقول له ذلك. يقول الدكتور: وعندما ذهبت لفحصه، قلت له: سيدنا يجب أن تتغذى جيداً، ولا يصح أن لا تأكل.

فقال لي: ماذا تعني بكلامك؟ فأي شيء تقصد بالطعام الجيد؟!

قلت: سيدنا يطبخون لك دجاجة وبشكل جيد، وتشرب ماءها، وتأكل من لحمها وما شابه ذلك.

ص: 204

فقال لي: أشكرك يا دكتور، لم أكن أتوقع منك مثل هذا الكلام.

فقلت له: لماذا سيدنا؟ فأنا ما قلت شيئاً يزعجك أوغير لائق لا سمح اللّه!

قال: أنت الآن تأتي وتقول لي سيدنا أنت مريض عليك أن تأكل الفروج، وغداً تأتي وترى فراشي موكيت وبطانيات قديمة فتقول لي: سيدنا أنت مرجع تقليد وهذا لا يليق بمقامك، فعليك أن تغير الفرش والبطانيات وغيرها، ثم تأتي بعد ذلك وتقول لي: سيدنا ثيابك عتيقة وبالية وعليك أن تلبس لباساً يليق بشأنك، ملابس جديدة وصاية وعباءة جديدة، وهكذا قليلاً قليلاً تصنع وتعمل مني طاغوتاً، وأنا ما كنت أرجو أن تنصحني هكذا نصيحة.

فالدكتور يعلق ويقول: ما هذه الشخصية؟ أي عظمة هذه العظمة؟

هكذا كان يتعامل مع شؤونه الخاصة، وهكذا كان يشدد على نفسه لكي لا تطمع في حطام الدنيا.

ص: 205

القسم السابع

الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) رجل التحديات الكبرى

حسب معايشتي ومتابعتي للإمام الراحل (رحمه اللّه) خلال سنوات طويلة لاحظت أنه كان يتعرض في مسيرته لجملة من المحن والصعوبات، وكان يعاني منها، فهناك صعوبات في الجانب الفكري، وهناك صعوبات يواجهها من حيث المجتمع، وصعوبات يواجهها من حيث السياسة، وهذه الصعوبات ليست بالصعوبات الآنية أو الوقتية التي تمر عليه في يوم وتنفك عنه أياماً.

وإنما كانت - بالحقيقة - تحديات كبرى كان يواجهها باستمرار في حياته، وكانت ملازمة لمسيرته اليومية.

فمن ناحية الصعوبات الفكرية فقد كان يحمل أفكاراً متجددة، وإذا أردنا أن نطلق عليه تعبيراً مناسباً نستطيع أن نعبِّر عنه بأنه (فقيه مصلح) لأنه كان يحمل مشروع نهضة اصلاحية للعالم الإسلامي، بل للعالم كله.

وعادة لدى هكذا شخصية أفكار ومشاريع كثيرة، فتواجه صعوبات كثيرة، من حيث إنه يسبق عصره في التفكير، وهذه في نفسها محنة، إذا كان الإنسان أو العالم يعيش في مجتمع لا يتفهم أفكاره، ولا يتفهم العلوم التي يحملها. هذه تكون في نفسها من أشد الصعوبات، ومن أشد المحن، وفي الروايات أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان في بعض الأحيان يذهب إلى البئر بظهر الكوفة ويتكلم

ص: 206

فيه؛ لأنه لا يجد أحداً يتحمل العلوم التي كان يحملها، والكل يعلم أنه من أشد الصعوبات، أن يعيش العالم بين أمة لا تفهمه، وهذه واحدة من المسائل التي تناولها بعض المحللين التاريخيين، حيث قالوا: من أشد معاناة الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في مجتمعه أنه لم يجد من يتفهمه و يبلغ مدى علومه و أفكاره.

لو استطاع لغيّر العالم

وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يعيش مثل هذه المشكلة، و إن كان الفرق كبيراً بين معاناة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) وبين المقام، ولا يمكن القياس بينهما إلا إن المثال يقرب من جهة و يبعد في جهات.

لم يكن السيد الراحل (رحمه اللّه) يهتم أو يقيم وزناً للمسائل الهامشية أو الجزئية في الحياة، وإنما كان صاحب مشروع ونهضة إصلاحية، تبدأ من الدولة ورئاستها وإلى الحكومة والوزارات، ثم إلى الإدارة والزراعة والصناعة والتجارة والتعليم.

ففي كل قضية من القضايا السياسية والحكم والحياة والإنسان، عنده رأي وموقف، ولو كان العالم طوع أمره وكانت الحياة السياسية والإجتماعية طوع إرادته لرأيت أنه يأتي بمنهجية جديدة في الكثير من الأشياء، فهذا الوضع القائم في الدنيا حسب رأيه بحاجة إلى تغيير، ولو كانت له يد وسلطة لأجرى التغيير اللازم عليه.

حتى في الحوزة العلمية والمرجعية ومنهج التعليم في الحوزة والجامعة، وطريقة التعليم والدراسة والمواد التي تدرس كان له مجموعة أفكار لتغييرها.

وبالحقيقة يحتار الإنسان إذا أراد أن يتكلم عن تصورات وأفكار الإمام الراحل (رحمه اللّه) الإصلاحية في الحياة، لأنها تكاد تكون شاملة لكل شيء، حتى في

ص: 207

طريقة التربية والتعليم، وحتى في أسلوب التعامل مع الأولاد والزوجة.

فقد كانت لديه أراء كثيرة، وكتب الكتب المتنوعة عنها، فكان يبحث عن المشاكل في المجتمع ويقدم لها الحلول، فمثلاً لاحظ مشكلة كثرة العازبات في المجتمع فكتب فيها كتاباً (كيف نزوج العازبات)(1)، وفي مسائل الغذاء للسيد الراحل (رحمه اللّه) كتاب (كيف نعالج أزمة الغذاء)، وكذلك قضية البيئة تلوثها فهنالك أزمة بيئية كبيرة وهي أزمة عالمية شاملة لكل الكرة الأرضية، للسيد كتاب(2) يطرح فيه حلولاً لمعالجة هذه المشكلة.

إذا بحثت تكاد لا تجد زاوية من زوايا الحياة إلا وله فيها رأي واجتهاد، وغالباً عندما تقرأ آراءه تراها طبيعية جداً، وحسب الفطرة، والإنسان - حقيقة - يستغرب ويتساءل لماذا لم يلتفت العالم إلى هذه النقاط؟ أو لا يريد أن يلتفت إليها، وهذه محنة كبرى أن العالم الكبير يعيش في مجتمع جاهل أو متجاهل.

وفي الرواية الشريفة: «أرحموا من الناس ثلاثاً : عزيز قوم ذل، وغني قوم افتقر، وعالماً بين جهال»، فهذه محنة كبرى.

يقال إنه سأل ملك أحد الحكماء عن عالم كبير أراد أن يسجنه: كيف أسجنه وأعذبه؟ وراحوا يتباحثون بطريقة تعذيبه في السجن.

فقال الحكيم للملك: لا نحتاج إلى تعذيبه، بل اسجنه مع جهال لا يعرفون قدره، فيكون هذا أكبر تعذيب روحي ونفسي له.

ص: 208


1- يتناول مشكلة العزّاب والحلول السليمة لتزويجهم طبق الأحكام الشرعية. الكتاب يقع في ثلاثة فصول وخاتمة. ويقع الكتاب في 192صفحة من الحجم الرقعي.
2- الفقه البيئة، كتاب استدلالي ضمن موسوعة الفقه، تناول سماحة السيد (رحمه اللّه) فيه عدة مباحث فقهية استدلالية حول البيئة.

فهذه محنة كبرى ليس لها سقف وحدود، فلا تنتهي إلى حدٍّ معين، وليس لها نهاية. هذه المحنة لازمت حياة الإمام الراحل (رحمه اللّه) في العراق والكويت، ولازمته في إيران، ولو كان الأجل أمهله ربما كانت تلازمه إلى النفس الأخير، لأن أفكاره تسبق عصرها.

أفكاره وتصوراته سبقت عصره، ومن الأشياء التي تحققت أخيراً، وقد طرحها منذ زمن أو توقع حدوثها، ما ذكره في كتاب (الفقه الاقتصاد) وغيره من الكتب، وطبقها في حياته من الناحية العملية، وهي معالجة أزمة الفقراء عبر الصناديق الخيرية للإقراض الحسن - صناديق القرض الحسن - هذه التجربة بدأها في كربلاء المقدسة، واستمر عليها وطورها في إيران. أما في الكويت فلا أدري هل عمل بها أم لا؟ وربما هناك الوضع يختلف.

فقد فتح مجموعة من الصناديق الخيرية لتزويج العزاب ولبناء البيوت وغيرها من الأمور الخيرية، في الوقت الذي كانت سياسة الدولة قائمة على عكس هذا الاتجاه، فقبل (20) سنة كانت سياسة الدولة المتعلقة في عمل البنوك والمصارف قائمة على أساس تعاطي الرِّبا وما أشبه ذلك، على خلاف صناديق القرض الحسن، فكانت بعض الخطط الاقتصادية الموجودة بشكل وبآخر تؤدي إلى تقويض مشروع صندوق القرض الحسن، لذلك كثيراً من الصناديق الخيرية فشلت وأعلنت إفلاسها، أو ما وجدت لنفسها طريقاً للعمل في البلد.

واليوم(1) تسمعون وتلاحظون أن الجهات الرسمية في البلد(2) يدعون إلى معالجة الأزمة الاقتصادية للأسر والعوائل عبر فتح صناديق القرض الحسن.

ص: 209


1- بعد مضى أكثر من ثلاثين سنة على أطروحة السيد الراحل (رحمه اللّه) .
2- أي إيران.

تأمل كم هي الفاصلة الزمنية بين ما طرحه السيد الراحل (رحمه اللّه) وبين ما توصل إليه ذوو الاختصاص والشأن الآن، وصاروا يطرحونه كحل لمثل هذه المشكلة.

وواحدة من الأفكار التي طرحها سماحته (رحمه اللّه) هي مسألة (التزويج الجماعي) للعزاب والعازبات، فالإمام الراحل (رحمه اللّه) هو أول مَنْ باشر بهذا المشروع، وبعد ذلك بدءت المؤسسات التي تدعم المشاريع الخيرية وتدعم مشاريع المساعدات مثل الفقراء والمحتاجين، يقيمون الزواج الجماعي، حتى الدول العربية في المنطقة باشرت في مثل هذا المشروع، في حين أن السيد الراحل (رحمه اللّه) قام بهذا المشروع في كربلاء المقدسة، وقام به في طهران قبل (20) سنة أو (22) سنة، يمكن للجميع ملاحظة أنه كان يطرح تصوراته و أفكاره في زمان، ولا يفهمها الناس إلا بعد عقود و سنوات طويلة، بل حتى أصحاب الاختصاص لم يصلوا إليها، ولكنك الآن ترى وبعد مرحلة زمنية طويلة نسبياً وصلوا إليها ولكن بعد أن ضيعوا تلك السنوات، فهذه محنة كبرى.

يطالب بالوحدة في زمن التشتت

هذه الفكرة من أهم محاور أفكار الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، لأنه كان يدعو إلى رفع الحدود الجغرافية بين الدول الإسلامية، ويدعو إلى أن يكون المجتمع الإسلامي مجتمعاً واحداً قد يختلف في لغاته، ويختلف في قومياته وعناصره، لكن كل ذلك يجب أن لا يحول دون وحدته، ولا ينبغي الاختلاف على أساس الجنسية أو على أساس حدود جغرافية وضعها الاستعمار لتفريق الأمة بمبدأ (فرق تسد).

في وقته وحينما كان يطرح هذه الأفكار في مجموعة من كتبه كنت أرى كثيراً

ص: 210

من أصحاب الفكر والثقافة يستغربون، ويعتبرون هذا الفكر مثالياً وغير قابل للتطبيق، ولكن أوربا طبقت هذه الفكرة من سنة (1990م) فما بعد وعملياً سقطت الحدود الجغرافية بين دول أوربا، والآن الدول العربية وخصوصاً دول الخليج وضعوا سقفاً زمنياً، ولا أدري في أي سنة سوف يسقطون الحدود الجغرافية بينهم. إذاً هذه الفكرة التي كان يدعو لها السيد قبل (30) سنة هي فكرة عملية وقابلة للتطبيق.

فإذا كان العالم الإسلامي يقف بشكل جدّي ومحايد - بعيداً عن الدعوات الطائفية والقومية والعنصرية - ويأخذ هذه الأفكار ويتبناها ويطبقها لكان بخير كثير.

فأي شخص من الناس عنده مثل هذه الأفكار النيِّرة على الأمة أن تُقدِّره، وتحيطه بالعناية وترعاه، ولكن الأمة التي لا تفهم هذه الأفكار، ولا تُثمِّنها، ولا تُقدِّر أصحابها فهذه محنة عظيمة، تنزل على العالِم الذي يعيش في هكذا ظروف.

فالمحنة الأولى للإمام الراحل (رحمه اللّه) كانت محنة الفكر، فقد كان يعيش في وسط أمة لا تقدره، ولا تفهم أفكاره، وليس فقط بسطاء الناس لا يفهمون، بل حتى بعض أهل الاختصاص من الناس ما كانوا يفهمون أفكاره، وما كانوا يقدِّرون قيمتها.

وإلى يومنا هذا هناك بعض من الناس لا يفهمون هذه الأفكار، وقد تنبأ بعض أهل الخبرة، فقال: بعد (100) سنة قد يفهم الناس ويعون قيمة ومكانة الإمام الراحل وحينها يعرفون أي عالم فقدوا، وأي طاقة كبيرة ضيعوا.

وحينئذ سوف يسترشد الناس بأفكاره، ويأخذون بتصوراته التي كان يحدثهم بها منذ عقود.

ص: 211

الإمام الراحل (رحمه اللّه) والمجتمع

المحنة الثانية هي محنة المجتمع؛ لأنه في الواقع - كما قلت - كان مرجعاً مصلحاً، فهو في نفس الوقت يراعي الموازين المرجعية والموازين الفكرية، بل كان كثيراً يراعي الجوانب الاجتماعية، وأتذكر أحد أصدقائنا كان على خلاف مع زوجته، وتطورت المشاكل، وجرت الوساطات بينهما من أجل محاولات الإصلاح، فلم ينفع كل ذلك، لأن الزوج كان عنيداً بعض الشيء، ويتصلب في مواقفه من المشكلة، ويريد أن يخضع زوجته، ويلزمها بآرائه وتصوراته وما كان يقبل إلا بذلك، ويرفض التنازلات من قبله، - لست الآن بصدد بيان مع مَنْ يكون الحق، أو الحكم على أي طرف منهما، فالشاهد أصل القضية -، فبعث لي الإمام الراحل (رحمه اللّه) لأنه يعرف أن الزوج صديقي، وعندي بعض التأثير عليه، فأتيت إليه فقال لي: اذهب وقل لفلان - صاحب القضية - أن يحلَّ هذه المشكلة بالتي هي أحسن، ولو بالتنازل عن بعض حقوقه؛ لأن الإنسان عليه أن يشتري سمعته ولو بالتنازل.

هذه الحادثة وهذا القول - بالحقيقة - كانت بالنسبة لي إشراقة أنارت أو أضاءت لي الطريق إلى مسافات طويلة جداً، وأعطتني فلسفة اجتماعية وأسلوب عمل في الحياة العملية لا أنساه.

من هذه القضية عرفت أسلوبه في العمل المرجعي، ففي مرجعيته كان يُطبِّق هذا المبدأ، فالمرجعية التي ابتليت بالأعداء الكثيرين وما كانت تعادي أحداً هي مرجعية الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

فأسلوبه كان قائماً على الحب للآخرين وليس العداء، فما رأيته يعادي

ص: 212

أحداً، بل كان يحب الجميع - حقيقة كان يحب الجميع - ويتنازل في كثير من الأحيان عن حقه لأجل أن لا تقع فتنة، لأجل أن لا يقع اختلاف بينه وبين غيره، أو بين صاحب وصاحبه، فكان يراعي الموازين الاجتماعية إلى أبعد الحدود.

العمل دائماً

صار أحد الأفراد المرتبطين بالبيت كبيراً في السن وعنده أولاد وبنات وأحفاد وحيث لم يكن عنده عمل، كان يجلس في بيته يعاني من فراغ، والغالب أن يكون الإنسان في هذه الظروف نقطة توتر في الأسرة، لأنه يشغل نفسه بشؤون العائلة، فربما يتدخل في شؤون النساء، ويتدخل في شؤون الأطفال، أو إعداد الطعام وهكذا، فيسبب توترات دائمة في العائلة.

عرف سماحته بذلك، فأرسل لي لأنه يعرف أن أولاده أصدقائي، فقال لي: اذهب وقل لفلان وفلان - أولاد هذا الرجل - أن يبحثوا لأبيهم عن عمل مناسب، مثلاً: محل أو دكان أو بسطة صغيرة لينشغل بها، أي اجعلوا له مكاناً يعمل به، فإذا لم يعمل هذا الرجل فإنه يمكن أن يموت بسرعة، أو يبتلى بأمراض كثيرة، أو يبقى عنصر توتر دائم في العائلة.

لهذه الدرجة كان يلاحظ الجوانب الاجتماعية، وكان لهذه الدرجة حريصاً على راحة الناس وسعادتهم، فيوجه الأبناء والآباء لكي تبقى الأسرة الواحدة منسجمة ومتماسكة و سعيدة.

حفظ التوازن بين المرجعية والموازين الاجتماعية

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يسعى لحل مشاكل أصدقائه أو أحد مريديه أو مقلديه إذا علم بها فيحاول حلها، أو يطرح أفكارا لحلها، وكان في ذلك يراعي

ص: 213

الموازين الاجتماعية والمرجعية في آن واحد، فهو يريد الحفاظ على الأسلوب المرجعي والأصول، وفي نفس الوقت يحافظ على الأعراف الاجتماعية، وإيجاد التوازن بين هذين الأمرين في غاية الصعوبة.

ونحن نلاحظ في حياتنا اليومية أحياناً بعض المراجع الكرام يراعي الموازين المرجعية، وربما يضطر لعدم مراعاة الموازين الاجتماعية، وبعض المراجع أو العلماء أو الشخصيات يراعي الموازين الاجتماعية وربما يضطر لترك الموازين المرجعية. لكن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يريد أن يحفظ الاثنين معاً، ولذلك تراه ليس يعاني من ذلك فقط، بل كل من كانوا معه، ويعملون لديه في الجوانب الإدارية عندهم هذه المعاناة، ولا زالت هذه المنهجية مستمرة في هذه المدرسة؛ لأنك تريد أن تحفظ الميزان المرجعي، وتريد أن تحفظ الميزان الاجتماعي، والموقع المرجعي يعني أنك في موقع القدوة في المجتمع، وحتى تكون في موقع القدوة في المجتمع، تفرض عليك أشياء يجب أن تستجيب لها، وأحياناً تخل بالموقع المرجعي، بحيث إذا استجبت للظرف الاجتماعي تكون قد أخللت بالموقع المرجعي، وإذا ما استجبت للموقع المرجعي يختل الميزان الاجتماعي لك، فكيف توازن بينهما؟

وهذه بحدِّ ذاتها معضلة كبيرة، وهي إحدى الأسباب التي أدت إلى خروج بعض الشخصيات أحياناً من المسيرة، و شقوا لهم طريقاً ثانياً؛ لأنهم يرون أن الإنسان عندما يكبر تصير عنده مطالب وتطلعات، وقضايا يطلب تحقيقها.

فمثلاً من الأشياء التي كان يدعو أصحابه دائماً إليها هي الزهد في هذه الحياة، والعيش بالقصد، أي اقتصادياً في غاية الاقتصاد، وكان يكتفي في شؤونه بمقدار الضرورة، وذلك بحاجة إلى جهاد كبير مع النفس، وهذا مما لا يتحمله

ص: 214

كل واحد.

إن هذا من الصعب المستصعب، لأن هناك ضغوطات يمارسها المجتمع، ويفرض عليك بعض موازينه بالقهر والإكراه، فلو كنت خطيباً من الدرجة الأولى أو عالماً كبيراً والناس يروك ويعرفونك ويعرفون إمكانياتك، فلا يسمح لك المجتمع أن تسكن بيتاً بسيطاً أو تستخدم سيارة بسيطة، و تثار التساؤلات من قبله عن ذلك، لا سيما قضايا الترفيه في السكن و اللباس و الطعام و الشراب وما شابه ذلك.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يدعوك إلى التزهد وهو يعلم أن هذا الشيء صعب للغاية، فكان البعض يتحاشى اللقاء به، بل كان البعض يتركه ويذهب، ولكن سماحته (رحمه اللّه) لم يكن مستعداً للتنازل عن القيم الأصيلة، ولم يكن ليتركهم بل كان يتحفظ على علاقته بهم، و يحاول أن يرشدهم و ينصحهم و لا يقاطعهم.

ولذا قلت: بأن هذه بحد ذاتها محنة كبيرة، لأنها كانت محنة مع الأصدقاء، مع التلاميذ والطلاب، مع الأهل والأقرباء. إنها محنة مع المجتمع الذي كان يعيش فيه.

قال له شخص ذات يوم: إن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أتوا له بأحد أصحابه المقربين في حد من الحدود، فالإمام (عليه السلام) أمر بإقامة الحد عليه، فالتفت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: يا أمير المؤمنين، إن المقام معك لذل، وإن فراقك كفر(1).

أي إننا إذا كنا نبقى معك فإنك سوف تطبق علينا أحكام الإسلام كاملة وبلا هوادة، وإذا نفارقك ففراقك الكفر الصريح، فماذا نصنع؟!

ص: 215


1- الكافي: ج7 ص268 ح40.

أحياناً كان بعض أصحاب وتلاميذ الإمام الراحل (رحمه اللّه) يمرون بهذه المرحلة العامة التي يدعو لها، فمثلاً: من الأشياء التي كان يدعو لها - و هو يؤمن بالعمل السياسي، ويعتقد بوجوب التنظيم ووجوب تكوين الأحزاب، ووجوب الدخول في الأعمال السياسية؛ لأجل الإصلاح - النزاهة عن مظالم الحكومات، وعدم الدخول في ولايات الظالمين والعمل لدى السلاطين، فكيف تجمع هذه الأمور؟! كيف تجمع بين الاعتقاد بضرورة مزاولة العمل السياسي من دون أن تتلوث بمساوئ السياسة، فالعمل السياسي عادة يلاحظ جانب المصلحة، ولذا بعض الساسة لا يفكر بالمجتمع والآخرين، بل يأخذ بالمصلحة وحسب، و ربما لا يلحظ أن هذه المصلحة تضرب أي مكان أو منطقة من قيمك، تتنافى مع أي فكرة من أفكارك، وأي مبدأ من المبادئ السياسية التي تدافع عنها، فهذه تستبعدها أثناء العمل؛ لأن منطق المصلحة هو الذي يجب أن يسود.

فإذا فكرت بالعمل السياسي، فيجب أن تفكر وتضع بحسابك بأن القيم والمبادئ في المرحلة الثانية، بل المصلحة في المرحلة الأولى وكل شيء بعدها في مراحل متأخرة عنها، ولكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان يرى المصلحة السياسية في المرتبة الأولى، والقيم الدينية أيضاً في المرتبة الأولى فهما معاً يكمل بعضه بعضاً، وهذه كيف تجمعها؟ وكم من الحكمة و الموازنة و قوة الإرادة تحتاج؟

انقسام الأصحاب تحت ضغط الظروف

ولذلك بعض تلاميذه السياسيين لم يصلوا إلى مكان، لأنهم ابتلوا بهذه المشاكل، فانقسم أصحابه إلى ثلاثة أقسام أو أطراف أو إتجاهات:

جماعة منهم انجروا إلى المعادلات السياسية وخرجوا من أسلوبه، وذلك

ص: 216

منذ أن بدأوا بالعمل السياسي على أرض الواقع.

وجماعة أخرى رأوا أنهم لا يقدرون على الصبر، ولا على الموازنة، لأنه إذا كان يريد أن يلتزم بدينه ومبادئ هذه المدرسة فيجب أن يفوِّت الكثير من المصالح السياسية، فيتخذ مواقف معينه تمليه عليه مبادؤه، والمفروض أن لا يتخذها سياسياً حتى يحصل على الموقع الذي يرغب به سياسياً، فإذا تعارض المبدأ مع الموقف السياسي و أخذ جانب المبدأ لابد و أن يضحي بدوره في المقام المتقدم، بل يرى أن دوره ومكانه في المقام الرابع أو الخامس، وهذا في المعادلات السياسية لا يوصل إلى نتيجة، فتراه متحيراً، فإنه إن ترك دينه ليحصل على موقع سياسي متقدم فهذه مشكلة، وإن حصل على موقع سياسي لزم أن يتخلى عن دينه، كذلك هذه مشكلة.

لذا كانوا يتركون العمل السياسي في وسط الطريق، بحيث يتخلون عنه، ويتمسكون بدينهم، وصاروا مفكرين، أو صاروا كتّاباً، وقسم منهم صاروا خطباء، وهذه حقيقة نقولها باللسان، ولكن بالعمل هي صعبة جداً. وهؤلاء أعدادهم كثيرة بين تلاميذه وأصحابه، مع أنها من المدارس الأولى التي بدأت العمل السياسي في العراق، ودعت إلى تكوين حكومة إسلامية شورية، والإمام الراحل (رحمه اللّه) هو أول من دعا إلى قيام حكومة إسلامية قبل (40) سنة وعنده الكثير من الكتب تناولت هذا الموضوع، كتبها حينما كان في كربلاء المقدسة، منها: (نريدها حكومة إسلامية) و(الحكومة الإسلامية) وما أشبه.

من هناك دعا إلى قيام حكومة إسلامية، ولكن أصحابه ما وصلوا إلى هذه الحكومة الإسلامية، لأن بعض المتصدين منهم أصحاب مبادئ ثابتة حالت دون أهدافهم السياسية.

ص: 217

والجماعة الثالثة من أصحابه تركوا العمل السياسي وغيره، ومارسوا أعمالاً دنيوية أخرى.

هذا الصراع بين المبادئ و المصالح حقيقة قائمة، يمكن أن تتردد على لسان أي انسان و هو يدافع عن المبادئ، و لكن العمل بها صعب جداً.

تأملوا حتى أصحاب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) انقسموا إلى هذه الفئات الثلاث، قسم منهم دخل في المعادلات السياسية والسلطة والمال وما شابه ذلك، فأحرقهم المال والسياسة، حتى إن أحدهم حينما مات لم يتمكنوا من تقسيم ثروته حتى كسَّروها بالفؤوس في قصة معروفة في التاريخ، وواحد منهم لشدته وصلابة مواقفه و حقانيته شردوه في البلاد حتى مات غريباً، ولم يجد أحداً يدفنه كأبي ذر الغفاري الذي مات منفياً وحيداً غريباً، وما وجد أحداً يدفنه، فتقوم بعض القوافل بهذه المهمة كما في بعض المرويات، وجماعة أخرى تركوا الجهاد وانشغلوا في أمور الدنيا.

المقصود إن من أكبر المحن عند القائد والزعيم والمرجع والإنسان المصلح هو المجتمع الذي يعيش فيه حيث التضارب بين المصالح، والتجاذب بين الدوافع والحاجات.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) والحكومات

المحنة الكبرى الثالثة هي مشكلة الحكومات، فالحكومات ما كانت تتنازل أمام شخص مثل الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؛ لأنه كان يجعل كل النظام السياسي تحت السؤال بأفكاره وتصوراته وليس النظام السياسي المحلي فقط، حتى النظام السياسي الدولي كان يجعله تحت السؤال؛ لأنه يكتشف نقاط الخلل فيه، ويذكر

ص: 218

الحلول على ضوء الإسلام و مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ، ومن الواضح حصول النزاع الدائم مع مثل هذه الشخصية.

والإمام الراحل (رحمه اللّه) ذكر جملة من تصوراته ومواقفه ومحنه في كتابه (تلك الأيام)(1)، وهو وأخوه السيد حسن أول شخصيتين علميتين ومن أسرة علمية في العراق حكم عليهما بالإعدام، وحكم الإعدام على هكذا شخصيات - علماء دين كبار، وأناس من أبناء أسرة مرجعية عريقة - لم يكن معروفاً في العراق سابقاً، وإنما بدأته حكومة البعث، حيث راحت في غيها، وبدأت بتصفية الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة من أسرة السيد الشيرازي وغيرهم، حتى إن السيد المرجع(2) قال: ذهبت إلى النجف عندما اعتقلوا السيد حسن، وكان أول رجل دين يُعتقل من أسرة معروفة ولها تاريخ عريق، وهذا يعني تغييراً كبيراً جداً في أسلوب عمل الحكومة البعثية، فرجل الدين له حصانة اجتماعياً، وله قداسة خاصة، ولا يحق اعتقاله؛ لأنه قال كلمة على المنبر، أو قال بيت شعر، فهو فوق السجون والمعتقلات، فهو إنسان حر، يحق له أن يصرح برأيه، كما كان كذلك سابقاً في العراق.

يقول سماحة السيد المرجع (دام ظله) : ذهبت إلى النجف والتقيت ببعض الشخصيات وشرحت لهم الموقف، وقلت لهم: يلزم أن نتخذ موقفاً، لأن السكوت على اعتقال السيد حسن يستلزم السكوت على اعتقال غيره، وهذا

ص: 219


1- ذكر فيه قسماً من ذكرياته في العراق، منها: اللقاء بالمتصرف عبدالرسول الخالصي، اللقاء بوزير الشؤون الاجتماعية، الانقلابات العسكرية، اللقاء بسعيد القزاز وزير الداخلية، اللقاء بالشيخ محمد رضا الشبيبي، اللقاء بخليل كنه وزير المعارف، وغيرها من الذكريات.
2- آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) .

سوف يفتح باباً لمحاربة الحوزة العلمية كلها، و ستنجر إلى مفاسد كبيرة، وذكر في وقتها الشخصيات التي التقى بهم، والسيد المرجع (دام ظله) في وقتها لم يكن إنساناً عادياً بل كان فاضلاً، عالماً وابن مرجع تقليد كبير، وأخوه شخصية علمية كبيرة من أسرة معروفة. يقول: حينما زرت بعض الشخصيات المهمة سمعت بعضهم يقول: إنه يريد أن يجرَّنا حتى ندافع عن أخيه.

هكذا كان البعض يتصور الأمور، وينظر إلى الأحداث، ينظر من زاوية شخصية لا عامة، إنه ذاهب إليهم من أجل قضية مهمة وتحد كبير، ولكن بسبب التفكير المحدود، وشعور الآخرين أن القضية شخصية، ما استجاب لنصرة العلماء في كربلاء المقدسة إلا القليل.

ولو كان هؤلاء البعض يفكرون بأن المسألة ليست شخصية فالشهيد السيد حسن (رحمه اللّه) من البداية تصدى للبعث، وصرح علناً بأن البعث حزب يهودي، وصليببي، واستعماري، فهو الذي قال:

ويل العراق فليله لا ينقضي***حتى تقوم حكومة الإسلام

الصورة

وحوزة كربلاء المقدسة هي أول حوزة حوربت، ولم تتعرض هذه الحوزة الشريفة إلى التصفية بهذا الشكل إلا لأن الشخصيات المؤثرة في العراق لم يتصدوا بالشكل اللائق، إلا ما ندر منهم، إلا القلة القليلة الذين استطاع صدام من اعتقالهم وسجنهم وقتلهم بعد ذلك، وبعضهم من الشخصيات والبيوتات

ص: 220

العلمية، ولقد استطاع النظام البعثي أن يقتلهم، أو يؤذيهم أو ما أشبه ذلك.

وقد خرج أعلام الحوزة في كربلاء المقدسة من العراق بخروج آل الشيرازي منه، وبعد مدة تعرضت حوزة النجف الأشرف إلى ضغط شديد من السلطات، وأهم الشخصيات في الحوزة تعرضوا إما إلى الهتك، وإما إلى القتل، أي على مستوى المجتهدين والمرشحين إلى المرجعية حوالي ثلاثة أو أربعة منهم قتلهم صدام.

هذا غير السيد الصدر (رحمه اللّه) (1) وأخته العلوية(2)، وأيضاً أعدم صدام من أسرة آل الحكيم حوالي (18 إلى 20) شخصاً وبعضهم من الأعلام ومن الشخصيات، بل المرجع الأعلى للطائفة(3) جاء به صدام إلى بغداد بعد الانتفاضة الشعبانية، وهذه كانت قضية كبيرة جداً، ولم يتمكن أن يفعلها أي حاكم للعراق إلا أن صداماً فعلها بعد أن طغى و تجبر.

وهذه محنة كبيرة أن ترى المستقبل بشكل صحيح، وتشعر بالخطر، وتنبه عليه، ولا تجد من يعينك عليه، بل وأحياناً تجد من البعض مواقف معكوسة.

ص: 221


1- آية اللّه العظمى السيد محمد باقر الصدر، ولد بمدينة الكاظمية يوم 25 ذو القعدة عام 1353 ه. في مساء يوم 9 إبريل 1980 تم إغتياله مع أخته بنت الهدى بالرصاص بأمر من الرئيس العراقي السابق صدام التكريتي.
2- آمنة حيدر الصدر ولدت في مدينة بغداد، في عام 1357 ه- 1937م، فهي كريمة الشيخ عبدالحسين آل ياسين، وهي أخت المرجع الديني الشيخ محمد رضا آل يس.
3- يقصد السيد أبو القاسم بن علي أكبر بن هاشم تاج الدين الموسوي الخوئي، كان يترأس الحوزة العلمية بمدينة النجف بالعراق، وكان مرجعاً وزعيماً لملايين الشيعة الاثني عشرية في العراق وإيران والخليج وغيرها من المناطق. توفي السيد أبو القاسم الخوئي في العراق في مدينة النجف الأشرف سنة 1992، و دفن في مرقد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في النجف الأشرف.

حرب الدعايات ضد الإمام الراحل (رحمه اللّه)

هذه محن ثلاث: محنة الغربة في التفكير، محنة الضغوطات الاجتماعية، محنة الضغوطات السياسية؛ هذه محن كبرى وليست صغيرة، وما كان لها سقف زمني لكي تنتهي، بل كانت مستمرة في كل حياة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، مضافاً إلى المحنة الأخرى وهي محنة الدعايات المضادة له، وهي بالواقع حرباً في حياته وليست محنة، هذا الموضوع الذي شغل حركة السيد الراحل (رحمه اللّه) وتلاميذه، وبذلوا الكثير من أجله، وضحوا بالكثير في مقابل هذه الدعايات المضادة، فالكثير من الوقت والإمكانيات وحرق الأعصاب والتوتر النفسي التي كانوا يتحملونها بسبب هذه الدعايات المغرضة، وتلك الحرب لم تنته حتى بعد وفاته، وإن بعض آثارها مع الأسف لا زالت موجودة.

فأي محنة كبرى هذه التي ابتلي بها!! فقد يمر الإنسان اليوم بمحنة معينة ولكنها تنقضي مع الأيام، وأما أن تكون بمحنة مستمرة لا تنقضي، وتلحقك الدعايات المغرضة تتناولك من كل جانب، فهذا شيء غريب حقاً بمنطق الحياة.

والعجيب أن بعضهم إذا سمع أو علم عن شخص أنه من مقلديه كانوا يذهبون إليه و يصرفون عليه الوقت الكثير كي يعدِّلوا تقليده ومواقفه، وبعضهم كانوا من مقلديه وعندهم حقوق شرعية، فيذهبون إليهم ويغيرون تقليدهم، ويحرضونهم على استرجاع ما دفعوه من حقوق له، فهل سمعتم بمثل هكذا حرب؟!

الصبر و التحمل

حقاً كانت حياته كلها صبراً وجهاداً، وبالرغم من كل الظروف والضغوطات الشديدة، لم أره يوماً يقطَّب وجهه أبداً، بل كان يوصينا دائماً

ص: 222

ويقول: من القبائح في شخصية أهل العلم أن يُقطِّبوا وجوههم، بل عليك أن تفتح أساريرك (فحزنك في قلبك، وبشرك في وجهك) وما رأيته في يوم من الأيام متوتر الأعصاب رغم كل هذه الضغوطات.

اللاعنف بلا حدود

ذات مرة كنا جالسين معه في غرفة المكتب فقام وخرج منها وذهب إلى داخل البيت، وما أن خرج سماحته (رحمه اللّه) من الباب إلا وصار شبه تيار هواء فانغلق الباب آلياً بشكل قوي، فعاد السيد الراحل (رحمه اللّه) وفتح الباب مرة ثانية ثم أغلقها بهدوء حتى يشير لنا بأنني لم أغلق الباب بهذه الطريقة العنيفة، بل أغلق بقوة الهواء العاصف، فما كان يحب أي سمة من سمات العنف في السلوك، فهذا أسلوبه في الحياة.

لا للشعارات

كنا إذا اجتمع الأخوة واكتمل النصاب نتصل به حتى يحضر لإلقاء المحاضرة، وذات مرة قدم لزيارته جمع من الشباب، فخرج سماحته من غرفته ودخل في الغرفة الكبيرة، وكان بعض هؤلاء الشباب لأول مرة يرونه، وكان له هيبة خاصة، فعندما دخل على المجلس ليلقي المحاضرة وقف الجميع يرددون الهتافات، وفي حينها كان الوضع السياسي غير ملائم، بحيث ما كان يميل إلى الشعارات والتبجيلات والهتافات. فلم يكن يحبها، بل كان يعتبرها واحدة من المظاهر غير الصحيحة في المجتمع، وغالباً ما تؤدي إلى التسطيح في الفكر، فكان يستشهد بقوله تبارك وتعالى في قضية فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ

ص: 223

كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)(1).

فكان يقول: واحدة من أهم مزايا الاستبداد الفرعوني في مصر أنه كان قد استخف عقول الناس، فالناس أطاعوه في الاستخفاف، وهنالك روايات بهذا المضمون.

فعندما رأى الشباب قاموا يهتفون، رجع إلى غرفته، ولم يلق المحاضرة.

وكان هذا نوع من الاحتجاج السلمي الذي كان يمارسه، فليس عنده توتر نفسي، ولا حساسية من أحد، إلا أنه لم يكن يحب هكذا مظاهر احتفالية كالهتاف والتمجيد والصياح، ولا يرغب فيها، حتى في كتبه عندما تقرأها تجد بعد المقدمة يكتب (محمد) بدون أي لقب حتى (السيد)، أو (محمد الشيرازي) فقط، و الألقاب الموضوعة على الكتاب إنما هي من أفعال الناشرين.

وما أكثر الكتب والرسائل التي كان يبعثها، فيكتب (محمد الشيرازي)، وأحياناً (محمد) فقط دون أي ألقاب أخرى.

الصلب القوي أمام الشدائد

على الرغم من المحن القاسية التي كان يمر بها والتحديات الكبرى التي اعترضت طريقه لم تكن ترى أثرها ظاهراً عليه، فلم يعش متوتراً أو سلبياً أو يتصرف بطريقة عدائية، أو يضعف أو يتراجع عن موقفه أو مبادئه، بل بالعكس تجده رابط الجأش، صلباً، قوياً، منبسط الأسارير.

فتراه مصداقاً للرواية الشريفة التي تقول: «المؤمن كالجبل لا تحركه

ص: 224


1- سورة الزخرف: 54.

العواصف»(1).

مهرجان صفر الشعري

أتذكر السنة التي كان فيها بعض الضغوطات السياسية والاعتقالات، وفي هذه الأثناء مرت مناسبة (28) صفر، ذكرى شهادة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ففي هذا التاريخ من كل عام كان سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) يدعو العراقيين، فكانوا يجتمعون من كل إيران في قم المقدسة، وكانوا في ضيافة أهالي كربلاء المقدسة. ويكون البرنامج كالتالي:

في ليلة (28) صفر تكون مباراة في الشعر وقراءة القصائد العزائية الرائعة، من قبل هيئات المحافظات والتي يصل عددهم أحياناً إلى (30) هيئة، حيث كانوا يأتون ومعهم شعراء ورواديد(2)، ويبدؤون بعد صلاة العشاء العزاء بمجلس ثم بقصائد اللطم(3) ويتناوبون على صعود المنبر وقراءة القصائد، وربما صعد حوالي (25) رادوداً في تلك الليلة ويستمر ذلك إلى آخر الليل، وربما حتى أذان الفجر.

وحقيقة كانت تلك الليالي فيها ما يشبه المهرجانات الشعرية. وكان مثار التعجب والإنبهار، فأية طاقة لديهم هؤلاء المؤمنين، و بعد قليل من النوم كانوا يخرجون من الحسينية أو مسجد الإمام الحسين (عليه السلام) بموكب مهيب(4)، ويذهبون

ص: 225


1- شرح اصول الكافي - الشيخ صالح المازندراني -: ج9 ص181.
2- مفردها الرادود: وهي مفردة دارجة تطلق على المنشد الذي يردد المراثي على اللاطمين.
3- اللطمية: وهي مفردة تطلق على المرثية التي تنشد، ويلطم الحاضرون على صدورهم حزناً وتفاعلاً مع المناسبة الحزينة،واللفظ من باب المجاز: لأن اللطم يكون على الوجه.
4- الموكب الحسيني: جمع من المعزين ينضمون عادة تحت اسم مأتم ما، يشاركون فيه بعزاء آل البيت (عليهم السلام) ، لاطمين ومرددين القصيدة التي ينشدها عليهم الرادود.

إلى حرم السيدة المعصومة (عليها السلام) ، فيؤدون صلاة الزيارة ثم يرجعون إلى الحسينية، ويؤدون صلاة الظهرين، ثم يتناولون طعام الغداء، وبعد الغداء كانوا يأتون إلى زيارة السيد الراحل (رحمه اللّه) في بيته، فكانت الزيارة السنوية للعراقيين في سائر محافظات إيران لسماحته (رحمه اللّه) في عصر يوم (28 صفر).

وكان الأخوة في مكتب السيد الراحل (رحمه اللّه) يستقبلونهم، فيلقي سماحة السيد (رحمه اللّه) عليهم محاضرته، وقد سمعت من كثير منهم أن هذه المحاضرة زادنا السنوي، لأنهم كانوا متوزعين في أنحاء إيران، فهذا يسكن في مشهد، وذاك في أصفهان، وذلك في يزد، والناس تشغلهم الحياة، فكل يلهيه عمله، ولا يأتون إلى مدينة قم إلا في هذه المناسبة، يأتون كي يلتقوا به، ويستمعون لتوجيهاته، ويعتبرون هذا التوجيه هو الشحن الروحي والمعنوي لمدة سنة.

في تلك السنة كانت الأزمة السياسية في ذروتها، وقبل يوم من المناسبة وزعت منشورات كثيرة في مدينة قم تتناول الإمام الراحل (رحمه اللّه) بالجرح، وتتكلم عليه بكل صراحة، وفيها كثير من الكلام الرخيص، وبعضها ملصوقة على الجدران، وبعضها موزعة في الشوارع والأزقة، وفي يوم (28) صفر كان الموكب من أكبر المواكب في تلك السنة بحيث خرج حوالي (20) مجموعة ولهم شعارات، هذا عدا موكب الزنجيل، وفي وسط المجاميع جاء بعض الناس يوزعون المنشورات أو يرمونها بالآلاف وكلها ضد الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وكان هذا العمل استفزازاً وتحدياً كبيراً جداً لمقلديه، وله شخصياً، وفي عصر ذلك اليوم الذي كان موعد محاضرته لهذه الجموع، - وعادة في محاضرته كان يوصي الناس بحسن الأخلاق والتقوى وبخدمة بعضهم البعض الآخر ومساعدة الفقراء ومساعدة المحتاجين إلى آخره - داهمت القوى الأمنية بيته، واقتحموه بالقوة، ودخلوا البيت، وضربوا

ص: 226

جماعة واعتقلوهم، وكان الهدف تخريب وتعطيل هذا البرنامج، ودخلوا بالقوة ومعهم أجهزة وكل ما يلزم لتعطيل البرنامج، فخرج الناس وقطع الإمام الراحل (رحمه اللّه) محاضرته ودخل داخل البيت، لكي لا يواجه الناس ضغوطاً أكثر؛ لأن الجموع كانت غفيرة، والناس مزدحمون في بيته، فالمصلى كان ممتلئاً، والغرف التي بعده كانت ممتلئة، وفي الداخل لا يوجد مكان للجلوس، فكل البيت ممتلئ، ولم يكن فيه مجال لكي يجلس شخص واحد.

وبعد هذه الأحداث بدقائق وربما لا تتجاوز الربع ساعة فرغ المكان تماماً، ولم يبق حتى شخص واحد، للوضع المتأزم والمربك جداً، ولكن بقيت مع بعض الأخوة جالساً في المصلى ومندهشاً من هذا الحدث، فلماذا هذا الشكل القاسي بالتعامل؟ فما الذي يخيفهم من كلامه إذا أوصى الناس بمكارم الأخلاق؟ وهكذا رحت أفكر وأسأل نفسي عن جملة من الاستفهامات وجملة من التساؤلات، وبالتالي فإن هذه الصورة ليست إسلامية ولاحضارية.

وبينما أنا غارق في أسئلتي وحيرتي أتى إليَّ أحد الأخوة الموظفين في مكتبه وقال لي: السيد يريدك. فقمت وأدخلني الرجل إلى مكان وإذا بسماحته (رحمه اللّه) جالس على كرسي وهو مبتسم و يضحك ويلقي محاضرته على بعض الأخوة الذين أدخلوهم إلى هناك بطريقة أو بأخرى، وهو يتكلم مع الأخوة ويوجه ولا يشعرك بحدوث شيء، وكأن هؤلاء لم يهجموا على بيته، ولم يقوموا بهذه الأعمال فيه، وإنما كانوا يرشون ورداً على أصدقائه وضيوفه، وكان يقول: هذا كله قليل، ولا تحملوا همَّ ذلك، فالحياة والمواقف تحتاج إلى صبر وتحمل.

والغاية من هذا الكلام أنك في الوقت الذي ترى الناس في غاية الإحباط لأنهم كانوا خائفين، فإنه يعطيك روحية عجيبة ودفعاً معنوياً غريباً، وكأنك

ص: 227

الآن على موعد مع الهدايا الثمينة، فيشعرك بالثبات، ويعطيك قوة الأمل، لأنه كان في غاية الشجاعة.

عندي أهداف كبرى

لم تكن المحن تؤثر على الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، ومن اللطائف التي دائماً أقولها وأذكرها للأخوة وأستشهد بها أنه في الكثير من المناسبات والمواقف في نفس تلك السنة التي وقعت فيها أحداث (28) صفر وتم توزيع الكثير من المنشورات ضده، وكانت قضية مربكة جداً، وأزعجت الكثير من الأعلام في قم المقدسة لوجود تحد كبير. في تلك الفترة قال له بعض الأخوة: سيدنا ما هو رأيك بأن تردَّ عليهم في بيان أو محاضرة أو منشور صغير؟ قال: لا أفعل مثل هذا الشيء أبداً حتى لو وزعوا الملايين من هذه المنشورات..!! قالوا له: لماذا؟ قال: أنا عندي أهداف كبرى، وهي تتطلب منا جهداً كبيراً ووقتاً وعملاً كثيراً، وإذا كنت أريد أن أرد على كل واحد يتكلم بكلمة فهذه الأهداف الكبرى تصبح أهدافاً صغيرة وهامشية، ليس لها أي قيمة، وأنا غير مستعد أن أشغل نفسي بالهامشيات، وأنزل إلى هذا المستوى حتى أرد على هذه القضايا.

كان ما قاله الإمام الراحل درساً مهماً لنا، فإذا تقرأ عشرات الكتب في التوجيه وفي التربية لا يمكن لها أن تعطيك بمقدار هذا الموقف، مع أن المنشورات التي كانت تكتب ضده،كانت قاسية وجارحة جداً، وطاعنة في شخصيته، وفي هذا الحوار لا أريد أن أذكر مضامينها، وربما يتاح لأناس آخرين أن يتكلموا بالتفاصيل المسعة أكثر مني.

المحن التي كانت تواجهه، لم يكن يعتبرها محناً - وهذه نكتة مهمة في البين -

ص: 228

بل كان يعتبرها ابتلاء واختباراً.

أذكر في اليوم الذي أعلنوا فيه عن وفاة (مهدي بازركان)(1)، أتيت إلى السيد الراحل (رحمه اللّه) وقت العصر، حيث يجلس كل يوم لاستقبال الناس، فرأيته متأثراً، فقلت له: سيدنا خيراً أراك حزيناً ومتأثراً، مع أنه يوجد الكثير من الاختلاف بوجهات النظر بينك وبينه؟ قال: الشيء الذي أعجبني فيه وتأثرت لأجله هو استقامته، فالرجل ما غيَّر في حياته شيئاً عندما أصبح رئيساً للوزراء، بل بقى على ما هو عليه سابقاً، بقي بنفس البيت الذي يسكن فيه، وعلى نفس السيارة التي كان يستخدمها، وهذا ينبغي أن يقدَّر، فالشخصية التي لا تؤثر فيها السلطة والمال تستحق كل التقدير والاحترام، بقطع النظر عن الخلافات الفكرية والمنهجية بيننا.

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) غالباً يوصينا ويوصي الأصدقاء، وخصوصاً الأخوة المشتغلين في الميدان السياسي، وحتى في الميدان المرجعي، بعدم الاغترار بالدنيا والسلطة وغيرها، وكان يقول: يجب أن تبقى على نفس الحال قبل السلطة وبعدها، ولا تتغير، ولو تغير الشخص بعد السلطة فهذا خطأ ينم عن تنازله عن مبادئه و اشتغاله بالدنيا.

كان يستشهد بقضية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ومضمونها أنه دخل عليه شخص وهو على منبر الكوفة يخطب وهو يحرك ثوبه ليجففه من البلل، وكأنه يجففه في الهواء، وكان يقول: أنا دخلت لكم بثوبي هذا فإذا خرجت بغيره فأنا لكم خائن.

وفي خبر مروي عن عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب إذ قال لعلي (عليه السلام) : يا

ص: 229


1- أول رئيس وزاء في إيران، بعد سقوط الشاه.

أمير المؤمنين لو أمرت لي بمعونة أو نفقة، فواللّه مالي نفقة إلا أن أبيع دابتي. فقال علي (عليه السلام) : «واللّه ما أجد لك شيئاً إلا أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك»(1). وروى بكر بن عيسى قال: كان علي (عليه السلام) يقول: «يا أهل الكوفة، إذا خرجت من عندكم بغير راحلتي و رحلي و غلامي فلان فأنا خائن»(2) فكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة بينبع، وكان يطعم الناس منها الخبز واللحم ويأكل هو الثريد بالزيت.

كان يوصينا دائماً بأن الحياة والسلطة والمال والثناء والقدرة لا ينبغي أن تغيرنا، والإنسان الذي ينشغل بالدنيا يفشل؛ لأنه لا يستطيع أن يحقق شيئاًفي الحياة.

حياة الإمام الراحل (رحمه اللّه) مليئة بهذه المحن التي كان يعتبرها ابتلاءات، ويعتبرها جهاداً في سبيل اللّه. كان شعوره بهذا الشكل، ويرجو من اللّه مزيداً من الثواب.

كان بعض الأخوة القريبين منه جداً والمنفتحين عليه يقولون له: إلى متى هذا التعب، وهذا العناء؟ سيدنا نحن من اليوم الذي صرنا في مدرستكم وقلدناكم وسرنا معكم أخذت بنا السجون والفقر والجوع والزهد والركض من الصباح إلى الليل حتى عوائلنا أخذت تشكوا حالها منا.

وفعلاً بعض العوائل كانوا يشتكون من أزواجهم، لأنهم في العمل أكثر مما هم في البيت، كما كان هو في العمل أكثر منه في البيت، وأهم وكلائه لم يكن عندهم بيوت للسكن، في الوقت الذي ينفقون الملايين من الأموال على الآخرين، وعلى المشاريع، وإذا كان عند بعضهم بيت كان حاله حال بيوت

ص: 230


1- الغارات: ج1 ص67.
2- شرح نهج البلاغة : ج2 ص200/ بحار الأنوار: ج41 ص137.

الناس، لأن السيد الراحل (رحمه اللّه) نفسه ما كان عنده بيت، وأولاده ما كان عندهم بيوت إلا ما شذَّ وندر، وعادة ليسوا هم الذين اشتروها، بل هي للآخرين.

فكل هذه المحن التي كانت تمر على الإمام الراحل (رحمه اللّه) يعتبرها بلايا وامتحانات، إلا أنها كانت دائمة ومستمرة لا تنقطع ما دام هو في هذه الحياة، وهي تحديات وابتلاءات كبرى وليست صغرى، تحديات دول وحكومات وجماعات، ولكن لم تغيِّر منه شيئاً، وبقي على مسيرته، وبقي على أفكاره.

ولعل أي شخص آخر إذا كان يدعو إلى أفكاره - سنة، سنتين، ثلاث، أربع وربما إلى عشر سنوات - ولا يجد استجابة بل تشنُّ عليه حروب بلا هوادة فإنه سوف ييأس، ولكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) ما كان يعرف معنى لليأس أبداً في حياته الشريفة.

فكان يأتيه بعض الأخوة - مراراً وتكراراً حصل ذلك - ويشكون له كل أنواع الشكاوي، فيقول لهم: اذهبوا واعملوا مؤسسة، أو ابنوا مدرسة، أو شكلوا حزباً، فيقرؤون له آية اليأس - إن صح التعبير - ويشكون له الموانع الإدارية، والضغوطات السياسية والفقر والحاجة، إلا أنه كان يخرج لهم من بين كل هذه الأنقاض وكل هذا التشاؤم بصيص أمل، ويعطيهم دفعة معنوية وقوة روحية، ويشحذهم بما حباه اللّه من ذلك كله، ويقول لهم: صحيح كل الذي تقولون ولكن لابد من العمل وإن طال السفر.

وهكذا كان دائماً فما من أحد يدخل عليه ليواسيه بمحنه ويشاركه في ابتلاءاته، ولكن الكل كان يذهب إليه محملاً بالأثقال والأعباء فيتحملها هو أو يخفف منها، ولذا فما دخل إليه أحد إلا وخرج من عنده متفائلاً مستبشراً.

ص: 231

الصورة

ص: 232

الحوار الثاني: مع فضيلة الحجة الشيخ علي الرميثي دام عزه

اشارة

ص: 233

الصورة

ص: 234

القسم الأول

نبذة تعرفية عن الشيخ الرميثي

* فضيلة الشيخ قبل التطرق إلى ما تميز به الإمام الراحل (رحمه اللّه) من مناقب شخصية ومعنوية، نريد أن نعرّف القاريء على سماحتكم، ومن خلال لسانكم..

- في زمن النظام السابق، وتحديداً في اليوم الثاني من الحرب العراقية الإيرانية، هاجرنا إلى ايران بعد اشتداد الضغوط علينا من قبل السلطات البعثية، وقد استقر بنا المقام في مدينة قم المقدسة.

دخلت إلى الحوزه العلمية، وهي حوزة دار الحسين (عليه السلام) وكنت اتلقى الدروس باللغة العربية، في تلك الحوزة بدأت بالتعرف على أولاد الإمام

الراحل (رحمه اللّه) ومنهم السيد محمد رضا الشيرازي (رضوان اللّه تعالى عليه) والسيد مرتضى (حفظه اللّه)، إضافة إلى مجموعة أخرى من تلاميذ الإمام الراحل (رحمه اللّه) ومريديه، منهم السيد باقر الفالي والشيخ عبد الحميد المهاجر ومجموعه من الأساتذه كانوا يتواجدون هناك في بداية الدروس.

بعدها كانت لنا لقاءات مفصله دائماً ومحاضرات ودروس أخلاقية مع المرجع الراحل (قدس اللّه نفسه الزكية)، مثلما كانت لنا أيضا دروس أخلاقية أسبوعية مع المرجع الحالي آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) ومن خلال هذه اللقاءات تعرفنا وعرفنا مزايا الإمام الراحل (رحمه اللّه) وتقربنا إليه وعرفنا خصائصه وأخلاقه الطيبة والنبيلة والعظيمة التي كان يتمتع بها، والعلوم الرفيعة التي تحصّل عليها، ومن خلال هذا الاحتكاك والتواجد مع الإمام الراحل (رحمه اللّه)

ص: 235

والتي دامت إلى سنوات عديدة، حتى سنة (1997م) حين خرجنا من ايران باتجاه سوريا، بعد أن اشتد الحصار عليه وعلينا، من قبل سلطات الحكومة الايرانية، كانت تلك السنوات في مدينة قم المقدسة، كلها اتصال دائم لم ينقطع مع الإمام الراحل (رحمه اللّه) والمرجع الحالي وانجاله (حفظهم اللّه جميعاً).

فيما يتعلق بدراستي الحوزية على شيء من التفصيل، فقد بدأتها من المراحل الابتدائية وهي ما يعرف بالمقدمات، إلى أن وصلت إلى المراحل المتقدمة وهي السطوح ثم بحوث الخارج، وتتلمذت على يد أنجال الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، ومنهم السيد محمد رضا (قدس سره) والسيد مرتضى (حفظه اللّه) وبعض المدرسين الآخرين سواء أكان في حسينية دار الحسين (عليه السلام) أم بعد ذلك في مدرسة جابر ابن حيان وبعدها في مدرسة الإمام الهادي (عليه السلام) وبعد ذلك في مدرسة الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كذلك درسنا عند مدرسين آخرين من خارج هذه المدرسه وهذا الإطار.

* ماهي الاعمال التي تزاولونها في الوقت الحاضر؟

- أتواجد الآن في كندا، ووجودي هناك يستدعي مني الارتباط مع الجالية العربية والإسلامية الموجوده هناك، والتواصل معهم عبر المناسبات الدينية، من مواليد الأئمة (عليهم السلام) ووفياتهم، وعبر الكثير من محاولات الإجابة عن الأسئلة التي يطرحوها، والتي تتعلق بجوانب الحياة الاجتماعية في بلد المهجر، وكذلك الأسئلة المتعلقة بقضايا الدين والمذهب، وكل ما يحتاجونه في حياتهم، فإنهم يتواصلون معي في ذلك، سواء عبر اسئلتهم أم عرض مشاكلهم والبحث عن حلول لها، أتشارك مع تلك الجالية في أفراحها وأتراحها.

ص: 236

اللقاء الأول

* متى كان أول لقائكم بالإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمه اللّه) وماذا استفدتم من هذا اللقاء ؟

أول لقاء لي مع الإمام الراحل (رحمه اللّه) عندما خرجنا من المعسكر الذي كنا نتواجد به في اصفهان، وهو معسكر المهجرين ووصلنا إلى مدينة قم المقدسة، وفي اليوم الثاني لوصولنا، قمنا بزيارة المرجع الراحل وتشرفنا بلقائه، وكان أول سؤال طرحه علي في ذلك اللقاء: ماهو عملكم في العراق؟ أجبته: سماحة السيد أنا معلم! قال: هذا العمل شريف، وهذا عمل الأنبياء (عليهم السلام) ، ولكن هذا العمل وحده لا يكفي، فأنت تحتاج إلى أن تبذل الجهود المتواصلة في الكتابة،

لتوعية الناس وإرشادهم، اعلم أن لديك قدرة على البيان والتعبير والحمد لله، ولكن كل كاتب بحاجة أن يقوي قلمه من خلال الكتابة المستمرة.

منذ ذلك الوقت، بدأت ومجموعة من الأخوة بالدخول في دورات تدريبية، ومن خلال توجيهات المرجع الراحل (رحمه اللّه) المستمرة وتشجيعه لنا، بدأنا بتأليف بعض الكتب، وكان أحدها تحت إشراف السيد محمد رضا (رحمه اللّه) ، وكتاب آخر كان تحت إشراف الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وهو كتاب حول الظلم، ويعتبر أول كتاب لنا مع السيد الراحل (رحمه اللّه) الذي كان يوجهنا في كل خطواتنا التي نقطعها مع الكتاب، ويرشدنا إلى الكثير فيه عبر لقاءاتنا المتواصلة معه.

مقومات الشخصية الناجحة

* من خلال تلك المعرفة الطويلة بالإمام الراحل (رحمه اللّه) ماهي مقومات وخصائص شخصيته ونجاحه؟

- في الواقع إن من يتقرب إلى الإمام الراحل (رحمه اللّه) ويتواصل معه أو حتى

ص: 237

يلتقي به لمرة واحدة، يرى أن لديه خصائص قد تفرد بها حقيقة، من هذه الخصائص، صبره واستقامته، وهي قلما تجدها عند أحد غيره.

هذا الصبر الكبير وتلك الاستقامة زرعهما فينا أيضاً. ربما بعض الناس عندهم صبر وعندهم استقامة تصل إلى حدود قد تنتهي عندها، لكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان صبره واستقامته يمتدان إلى كل أعماله ودأبه الكبير على انجازها، انعكس ذلك في توجيهاته وفي كتاباته وفي مطالعاته، وحتى في لقاءاته مع الآخرين، وهو يواجه سلبياتهم واحباطاتهم، تراه مع كل ذلك يرشد هؤلاء ويعطيهم الهمة ويزرع فيهم كل ما من شأنه أن يحشد قواهم وطاقاتهم على مواصلة مسيرتهم.

في كل السنوات التي قضيتها قريباً منه، لم ألمس أو أر أي إشارة أو ذرة يأس تنتابه، كان على الدوام متفائلاً ويتطلع إلى البعيد، كجده أمير المؤمنين (عليه السلام) .

كانت رؤيته للأمور بعيدة المدى، ينظر إليها بشيء من العمق والتدبر، من خلال ما خفي منها ليستكشفها، لذلك يعطي تحليلاته، ويطرح آراؤه بصورة ثاقبة، متوقعاً ما عليه تلك الأمور في المستقبل قبل مجيئه، وفي هذا شواهد كثيرة.

السبب وراء المشاكل

* فضيلة الشيخ تطرقتم إلى بعد النظر واتساعه والذي كان يتمتع به الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وهي ميزة خاصة به كما أشار الكثيرون في لقاءات سابقة، أو ممن عرفه لفترة طويلة. هل تعتقد أن مثل هذه الميزة ربما كانت السبب في بعض المشاكل والمحن التي تعرض لها الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، خاصة بوجود جهات يمكننا تسميتها ب- (التقليدية) والتي بقيت على أنماط تفكيرها وعملها ثابتة لا تتحرك، أمام مرجعية تتحدث عن المستقبل وتخطط له وتعمل لأجله، وهي مرجعية الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

ص: 238

* هل يعد مثل هذا الاستثناء سبباً لإثارة المشاكل أمام من يحملون أفكاراً جديدة ويريدون التغيير؟

- كل خصائص الإمام الراحل نقاط إيجابية تحسب له، ولكن الآخرين ربما لا يستطيعون تحمل مثل تلك الخصائص والمزايا الشخصية للمقابل، وهو نابع من شعور بالنقص، لذا ترى الكثير من هؤلاء يثيرون المشاكل ويفتعلوها، لتكون تلك المشاكل حجر عثرة أمام مرجعية الإمام الراحل (رحمه اللّه) ويحدوا من قدرته على العمل أو التقدم إلى الأمام في مجالاته والأمور التي يسير نحوها لإنجازها، وإذا لم يتمكنوا من القضاء عليه فهم على الأقل يفكرون بإيقافه أو إحباطه.

سأضرب لك مثلاً يصور تلك الحالة، حالة بعد النظر والفهم المستقبلي، وحالة التعاطي التقليدي مع الأمور، جاء مجموعة من الأخوة الأفغان إلى ايران، وهم ينتمون إلى مختلف التنظيمات الإسلاميه الأفغانية، جاؤوا إلى ايران وزاروا بعض العلماء والمراجع، وهي زيارات تم توثيقها عبر مصور تلفزيوني يرافقهم، ما يؤسف له حقيقة في هذه الزيارات، أن أحد الشخصيات المشهورة لم يكن يعرف هل كان هناك شيعة موجودون في أفغانستان أم لا؟!

لم يعرف هذا الشخص الشهير بحقيقة وجود شيعة افغان، وعندما جاء أعضاء الوفد إلى المرجع الراحل (رحمه اللّه) وسجلوا كلامه، تعجبوا مما قاله وعبر عنه وكشف من خلال كلمته حجم المعلومات التي كان يمتلكها عن مراحل تطور حركتهم السياسية ومراحل عملهم اللاحقة التي يتصورها في المستقبل، ثم حدد لهم مراحل العمل القادم في الحكومة الأفغانية العتيدة إذا قامت في افغانستان بعد اندحار السوفييت، كان في كلامه (رحمه اللّه) يحدد لهم نسبتهم في الحكومة القادمة تبعاً لعدد نفوسهم الحقيقي وليس كما كان يحملون من تصورات عن تلك الأعداد وهي 17 (عليهم السلام) ، فكانت نسبتهم حسب كلام الإمام الراحل في الحكومة المتوقعة يجب

ص: 239

أن تكون 25 (عليهم السلام) ويجب أن يكون لهم وزراء 25 (عليهم السلام) وسفراء 25 (عليهم السلام) بالعالم.

ذلك الكلام وقتها مع أعضاء تلك الحركة، زرع فيهم الثقة ومنحهم الحماس، وهم يسمعون تلك التوقعات المستقبلية لافغانستان وحكومتها القادمة، لذلك فإنهم بعد خروجهم من ذلك اللقاء مع الإمام الراحل، كانوا يقولون: لم نسمع من مرجع أو عالم التقينا به في زيارتنا، مثل هذه الرؤى أو المواقف أو التصورات التي نستفيد منها مستقبلاً، كما لمسنا ذلك في لقائنا مع المرجع الشيرازي!

لم يكن أمر تصور المستقبل وكيف ينبغي أن يكون أو سيتحقق منحصراً في تلك الواقعة، بل إن ذلك امتد إلى الكثيرين من المسؤولين في الدولة الايرانية، حين كانوا يلتقون بسماحته ويأخذ بالحديث معهم عن مستقبل الأحداث الجارية ومآلاتها، ويقدم الحلول لمشاكل مستقبلية تظهر جذورها أمامهم، لم يكن هؤلاء المسؤولين يتحملون تلك الأفكار والآراء ويصرون على رفضها، رغم العدد الكبير من المستشارين الذين يحيطون بهم، في وقت كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يعيش لوحده وليس لديه مستشارين، لكنه كان يقرأ الكتب بنهم ويتابع الأخبار عبر الصحف، كان يقرأ الواقع بما هو عليه، ويعطي خلاصة تلك القراءة للحاضر ممتدة إلى المستقبل، والمسؤولين في الدولة ورغم وجود الكثير من المستشارين لديهم والامكانيات الكبيرة التي توفرت تحت تصرفهم، إلا أنهم لم يكن بمقدورهم التوصل إلى حلول للمشاكل التي تعترضهم، وكانوا كثيراً ما يقعون في فخ الأخطاء دائماً.

* لو أن هذه الأمور التي تحدثت عنها قد صدرت من شخص آخر غير المرجع السيد محمد الشيرازي (رحمه اللّه) هل كانت ستلقى القبول ؟

لا استطيع تأكيد ذلك أو نفيه، ولكن هناك حقيقة نعرفها نحن الذين رافقنا

ص: 240

الإمام الراحل (رحمه اللّه) لسنوات طويلة، فالكثيرون لا يريدون أو لا يسمحون بظهور صورة السيد على سطح الأحداث، وبالتالي لا يتقبلون أو يتفاعلون مع تلك الرؤى والتصورات، وهم أحياناً يتقبلونها إذا كانت صادرة من شخص عادي آخر، لكن نفس ما يتقبلونه من هؤلاء الآخرين لا يستطيعون أو يرفضون تقبله إذا كان صادراً من الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، لأنهم يتصورون إنه سيستفيد على المستوى الشخصي من ذلك.

لكننا ومن خلال معرفتنا بالإمام الراحل (رحمه اللّه) ، فإنه لم يكن في يوم من الأيام يرغب في منفعة شخصية أو خاصة، لأن كل اهتمامه منصبّ على الأمور المفصلية للشعوب المسلمة وللأمة الإسلامية الواحدة والتحديات المصيرية التي تواجهها.

يستطيع الآخرون أن يتفقوا مع بعض تلك الاهتمامات أو يرفضوها، تبعاً لتصوراتهم واهتماماتهم، ولكن مايتعلق بنا هو كيف يمكن معالجة تلك التحديات؟

على سبيل المثال، النظرة إلى الأخوة الإسلامية، بعض الدول تنظر إليها نظرة سلبية، فحين يدخل الشيعي إلى الدولة الفلانية، وسكن فيها كثيراً مايواجه بالمعارضة ورفض منحه الإقامة، وربما يتعرض إلى مضايقات أخرى، وهي في جميعها مخالفة لمبدأ الأخوة الإسلامية التي كان الإمام الراحل شديد التأكيد عليها في الكثير من بياناته وفي الكثير من كتبه، وألحّ وركز عليها، وهو يرى أن تلك الأخوة غير موجودة في الواقع العملي للبلدان المسلمة، فالأفغاني في العراق غريب، والعراقي في السعودية غريب.

مثل هذا التركيز على مبدا الأخوة الإسلامية لم يتحملها أحد من أصحاب

ص: 241

القرار وكانوا يعارضونها كدول لها مصالحها الخاصة ولا ينظرون إلى مصالح الإسلام العليا ومنها الأخوة الإسلامية، وهي مبدأ إسلامي أصيل 100 (عليهم السلام) أكد عليها ونادى بها الإسلام ورسوله وأهل بيته (عليهم السلام) .

النظرة إلى الدنيا

* كيف كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) ينظر الى الدنيا ؟

- كتبت حول ذلك موضوعاً مختصراً وهو عبارة عن نقاط مضيئة تجسد نظرة الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى الدنيا، الموضوع حمل عنوان (وللزهد صور أخرى).

أضيف إلى ذلك واستكمالاً لنظرة الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى الدنيا، كان زاهداً بكل معنى الكلمة، ينظر باحتقار إلى الدنيا وإلى المال وإلى المناصب، كان طعامه متواضعاً، وفراشه وملابسه كذلك، ويمكنني القول أن الكثير من الناس الفقراء أفضل منه حالاً في ملابسهم.

بالإضافة إلى شدة تواضع ملبسه، كانت عباءته التي يرتديها ممزقة، وعلى مدى سنوات طويلة كانت تحمل إليه الهدايا من كل مكان، لكنه كان يعطيها للآخرين ممن حوله، ويبقى ملازماً لعباءته المثقوبة في أكثر من مكان. وكان يردد باستمرار تكفيني هذه العباءة.

زهده بالدنيا بكل مغرياتها، جعلته يسمو بهذا الشكل ويرتفع في مكانته، التي طابقت ما وصف به الإمام السجاد (عليه السلام) زهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا يرد موجوداً ولا يطلب مفقوداً» هكذا كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) في ملبسه، وكان في طعامه يكتفي في الكثير من الأحيان بالخبز والملح أو الخبز واللبن، لذلك وقع في مشاكل طبية كبيرة ورافقته الأمراض، وكنت مطلعاً على زيارات الطبيب إليه

ص: 242

وهو يخاطبه بقوله: سيدنا أنت الآن الأمة تستفيد من علمك ومن فكرك ومن توجهك ومن علومك، انتبه إلى نفسك فالأمة بحاجة إليك! يجب أن تأكل جيداً وأن تتناول ما يقوي بدنك! وكان يجيبه (رحمه اللّه) : كيف يمكن أن آكل الطعام اللذيذ وأشبع، والآخرون جياع؟!

زاوية أخرى لهذا الزهد تمثلت برفضه للسفر خارج مدينة قم المقدسة في أشهر الصيف حيث ترتفع درجات الحرارة ويسافر الكثير للمناطق الباردة في ايران للاستجمام، لكنه ورغم حبه للسفر، كان يمتنع عن الخروج من مدينة قم المقدسة، ويقول: أريد أن أعيش كما يعيش الناس.

كان مهموماً بما عليه واقع الناس وهم يكابدون مشقات الحياة، ولو أنه استمع إلى نصائح الطبيب وكان يأكل بصورة جيدة، لربما طال به العمر لولا الأجل المحتوم.

كان تواضع الإمام الراحل (رحمه اللّه) تجسيداً لما كان يقوله دائماً ونسمعه منه: (على رجل الدين أن تكون عنده صفتان صفة الزهد وصفة التواضع، الزهد يحببه إلى اللّه والتواضع يحببه إلى المجتمع وإلى الناس).

وهاتان الصفتان كانتا تلازمان المرجع الراحل.

مع الحوزات العلمية

* ماذا كان دور الإمام المجدد (رحمه اللّه) في تفعيل الحوزة العلمية ؟

من المتعارف عليه أن مناهج الدراسة في الحوزة هي مناهج في الأصول، وفي الفقه، وفي الفلسفة، وفي اللغة العربية، وبعض المناهج الأخرى، وهي بمجملها كانت كلاسيكية.

وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، يتمنى أن يقوم بتدريس مواد ومناهج أخرى،

ص: 243

مثل التاريخ لمعرفة سيرة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسيرة الأئمه المعصومين (عليهم السلام) ، وكذلك دراسة (نهج البلاغة)، إضافة إلى ذلك، كان يقول إنه يحتاج إلى دراسة العلوم الحديثة، ونحتاج إلى دراسة الحقوق والقانون، ونحن نرى الأمة الإسلامية كلها عندها هذا الضعف بمعرفة القوانين والحقوق، ولا تعرف الرعية حقوقها، لذلك ترى الحاكم في بعض الأحيان يتعدى على حقوق الرعية ويضرب الدستور عرض الحائط، وربما يقوم بالغائه وتعيش الأمة في دستور مؤقت أو لا دستور والأمة ساكتة!

هذه النتيجه هي عدم الوعي بالقانون والثقافه القانونية والحقوقية، لذلك كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يصرعلى هذه المسألة الخطيرة، فلو كانت الأمة تمتلك الوعي في الثقافة الحقوقية والقانونية لما وصلت إلى هذه الحالة.

هذا الغياب للعلوم الحديثة لم يقتصر على هذا الجانب، بل هناك أمور وعلوم أخرى تشمل قضايا التربية وقضايا المرأة وقضايا الطفل وعلم النفس والسياسة والاقتصاد، كلها مغيبة، عمل الإمام الراحل (رحمه اللّه) على التطرق إليها في كتبه، وأتوقع في المستقبل أن تلاقي صدى كبيراً لأن الأمة تحتاج إلى هكذا علوم للنهوض بواقعها.

صحيح أن لدينا علماء في الفقه وفي الأصول وفي الفلسفة، لكننا في المجالات الأخرى مغيبون، لذلك بعض الأمور السياسية حتى رجال الحوزة ينخدعون بها وربما هم يذهبون مع الدولة ومع النظام الحاكم ولا يعلمون ماذا هناك، إنهم يذهبون مع التيار الجارف للسياسة، وهذا الخطأ الكبير نتيجة لنقص الوعي الجيد في المجالات الأخرى وهي مطلوبة دائماً، ويؤكد عليها المرجع

ص: 244

«العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(1) وربما يركن إلى الظالم ويتعاون معه وهو يعلم أو لا يعلم.

الكثيرون تعاونوا مع الظالم، نتيجه عدم توفر الوعي! ولو كان هناك وعي ثري ومطلوب وجيد لما وصلت الحالة إلى ما وصلت إليه، ويمكن تلمس ذلك في حالة العراق، وما يمر به الآن رغم توفر الإمكانات الهائلة على إعادة إعماره وبنائه، إلا أن الساسة اهملوا بناء الإنسان الفرد، وبناء شخصية المراة والطفل والشاب والعائلة والجامعة.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) في تأكيده على هذه المجالات العلمية والمناهج الحديثة، وعدم ركونه إلى الظالمين جعلته متميزاً عن الآخرين في طروحاته، وهو ما قاد إلى أن يقف الكثيرون بوجهه ويرفضون الانصات له.

أهم الآراء والأفكار

* فضيلة الشيخ ما هي أهم آرائه وأفكاره؟

الإجابة على هذا السؤال متشعبة وطويلة، لكن يمكنني الحديث عن أهم ما تميز به الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وهو دعوته إلى استيعاب الجميع بغض النظر عن اختلافاتهم، ولاستيعاب الطاقات الذي كان يدعو إليه من أجل استغلاله في بناء الأمة، ورفعها من الحضيض الذي هي فيه.

الانسان الذي يقود عملية التغيير في هذه الأمة، ويريد أن يحق الحق في جوانبها المختلفة، عليه أن يعي هذه الحقيقة، حقيقة استيعاب الجميع في برنامجه التغييري، فلا يستبعد هذا أو ذلك، ولا يرفض هذا أو ذاك، كما تفعل الأنظمة

ص: 245


1- روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) / الكافي: ج1 ص27.

السياسية في بلداننا، في استبعادها للجميع المختلفين معها، وتقريب المتزلفين إليها، فهم يستبعدون الشباب ويستبعدون النساء، والمثقفين وعلماء الدين والصحفيين والإعلاميين، وكل من يعارضهم معارضة سلمية، مما ولد الكثير من المشاكل والسلبيات.

يجب على قادة التغيير، استيعاب الجميع لأن ذلك يولد المحبة والألفة بين أبناء الأمة، ووضع كل طاقة في مكانه والاستفادة منها في عملية التغيير والبناء.

من الأمور الأخرى التي أكد عليها الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، هي وحدة المسلمين وله كتاب اسمه (كيف نجمع شمل المسلمين؟)، أنا شخصياً طبعت منه ستة عشر ألف نسخة، وقد صودر هذا الكتاب وألقي القبض على صاحب المطبعة التي طبعته وحكم عليه بالسجن.

الصورة

ومن المسائل التي كان يؤكد عليها سماحة السيد (رحمه اللّه) هي قوله دائماً: اجعلوا أمير المؤمنين (عليه السلام) قدوة لكم، واجعلوا حكومته نموذجاً لما تطمحون إليه. فنحن ليس لدينا نموذج باهر للحكم غير حكومة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والحكومة العلوية، فرغم قصر عمرها، استطاع أن يدير دولة بحجم خمسين دولة في أنظمة هذا اليوم، استطاع إدارتها بصورة نموذجية ربما تكشف عنها الكثير من عهوده ومواثيقه التي كتبها لولاته، مثل عهده إلى مالك الأشتر.

الحكومات الإسلامية

* الكثير من الحكومات أو الدول تطلق على نفسها (حكومات أو دول إسلامية)! ماهي نظرة الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى الحكومات الإسلاميه؟

ص: 246

* وكيف كان يتمنى أن تكون؟

* وهل كانت هناك حكومات إسلاميه بالمعنى الذي يريده الإمام الرحل (رحمه اللّه) ؟

- لايوجد شيء اسمه حكومات إسلامية بالمعنى الكامل لتلك الكلمة، لأن هناك شروط ومواصفات عديدة للدولة الإسلامية، قد توجد هناك حكومات تحتوي على القدر الضئيل من ذلك المحتوى الإسلامي، مثل بعض الحريات أو الضوابط أو القوانين، وحكومات غيرها لا تحتوي حتى على تلك النسب الضئيلة من المحتوى الإسلامي للحكومة.

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يؤكد على مسائل عديدة فيما يتعلق بهذه الحكومات، ولو من حيث التطبيق الشكلي لمظاهر الإسلام وقوانينه.

في كتابه (بقايا حضارة الإسلام) يشير الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى بعض الأمور الإيجابية التي كانت موجودة في العهد الملكي في العراق، أمثال الحريات النسبية، وقلة الاعتقالات، ووجود الأحزاب المتعددة، إضافة إلى سهولة الإقامة بالنسبة إلى القادمين من خارج العراق.

الصورة

في الحكومات الجمهورية اللاحقة على الملكية بعد العام 1958 اختفت تلك المظاهر والإيجابيت وحلت بدلاً عنها سلبيات ومشاكل، وكان (رضوان اللّه عليه) يسعى بكل جهوده وعبر كتبه أو محاضراته التي يلقيها بالمثقفين ومن يأتي لزيارته، ويشجعهم على التحدث إلى الحكومة والطلب منها لتطبيق ما يمكن تطبيقه من قوانين إسلامية.

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، يؤكد على تشكيل الأحزاب وتعددها، لأن ذلك يمنح النظام السياسي صمام أمان تجاه الديكتاتورية التي يمكن لها أن تظهر لعدم

ص: 247

وجود الأحزاب المتنافسهة، واقتصار ذلك النشاط على حزب واحد.

كمثل على ذلك وهذه المرة من ايران، حيث منعوا الأحزاب في فترات معينة، أتذكر أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) قد بعث بأحد المقربين إليه، إلى الشيخ رفسنجاني لحثه على السماح بتأسيس الأحزاب، أو أن يقوم هو بتأسيس حزب يضم بين صفوقه جميع الشيعة المستبعدين من تشكيل الأحزاب في ايران.

وكان جواب رفسنجاني أنه مقتنع بهذه الفكرة إلا أن الظروف السياسية لا تسمح بتنفيذها.

لو تم تطبيق ما أكد عليه الإمام الراحل (رحمه اللّه) لما وصلنا إلى تلك الثورات والانتفاضات التي حدثت في العالم العربي والتي تنشد التغيير والمشاركة السياسية.

مع المناوئين

* الكثيرون حاربوا الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وتعرض جراء ذلك لمحن ومصائب، لماذا تعرض لمثل ذلك؟

من بديهيات الحياة الاجتماعية أن الإنسان المنعزل والجالس في بيته، والذي لايشترك بأي نشاط اجتماعي معين، لايذكره الآخرون بخير أو سوء، لأنه لايكون معروفاً لديهم، ولا أحد يشير إليه من قريب أو بعيد.

لكن مثل هذا الإنسان، لو نزل إلى الساحة الاجتماعية، وشارك الناس مشاكلهم وهمومهم، وكان له في كل موقف كلمة واضحة، وفي كل حادثة رأي صريح، ويقدم هذا الإنسان أطروحات وآراء ويقدم الحلول ويشير إلى الأخطاء، فمن المؤكد أن لا أحد يتقبل ذلك بسهولة، وخاصة الحكومات والأنظمة السياسية.

ص: 248

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) وعلى سبيل المثال فيما يتعلق بالمشاكل الاقتصادية للناس وللمجتمع، كان الكثيرون يقصدون بيته المفتوح دائماً، ويتحدثون إليه عن أوضاعهم الاقتصادية المتدهورة ويعرضون عليه مشاكلهم، وكان (رحمه اللّه) يعرف سبب تلك الأوضاع والمشاكل، ويعرضها على الحكومات من خلال دروس الأخلاق التي كان يعقدها كل يوم أربعاء، أو من خلال كتبه وبياناته، ولكن تلك الحكومات لا يمكن أن ترضى بمثل هذه الطروحات، فهي تريد من يتستر على عيوبها ولا يكشفها للآخرين، لكنه كان يرفض ذلك، إنه يشخص الأسباب ويقدم الحلول.

ليس من مشكلة إلا ولها حل عند الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وهي حلول عملية كان يبادر دائماً لتقديمها إلى الأفراد الذين يحيطون به، أو من ينتمون إلى فكره ومدرسته، أو يقلدون مرجعيته ويسيرون وفق طروحاته، والذين كانوا يعملون على تغير واقع الأمة وانتشالها مما هي فيه.

ولم يكن أمام هولاء الأفراد غير تأسيس الهيئات والجمعيات التي تساعد في تقديم الحلول للكثير من المشاكل، مثل هيئات تزويج العزاب، التي قامت بتزويج الآلاف من الشباب في وقت تعجز فيه الدولة عن تزويج المئات أو حتى العشرات.

تلك الهيئات حاربتها الحكومات على اختلاف الأنظمة، لظنها أن ما يقوم به الإمام الراحل (رحمه اللّه) هو دعاية له ولمرجعيته، وأنها ستشكل نصراً له عليهم. لهذا كانوا يشنون الحرب عليه، بشتى الطرق والوسائل، وليس أقلها غلق تلك الهيئات والجمعيات الفاعلة.

محاربة الجهل

كان (رحمه اللّه) مهموماً بقضية الجهل وعدم الوعي الذي تعيشه الأمة، وكخطوة

ص: 249

عملية للقضاء على هذا الجهل ورفع مستوى وعي الأفراد، قام بفتح العديد من المكتبات العامة، وطبع المئات من العناوين الكتب ووزعها مجاناً، لكي يمنح الأمة خلاصها من الجهل عن طريق المعرفة، لكن من كان ضده قام بإغلاق تلك المكتبات وصادر كتبها، فهم لا يريدون انقاذ الأمة من جهلها، لأن تجهيلها يصب في مصلحتها ودوام بقائها.

وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) على العكس من ذلك، إنه يريد أن يرفع عنها جهلها ويجعل منها أمة واعية عن طريق المعرفة. لهذا كانت الحكومات وبعض الأشخاص تحاربه.

من خلال تاريخ هذه الأسرة، والتي فيها الكثير من الرجالات الذين حاربوا الإنكليز وأعلنوا الثورة عليهم، مثل قائد ثورة التنباك وقائد ثورة العشرين، أستطيع التأكيد أن ما تعرض له الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان بسبب تلك المواقف التاريخية المشهودة لعائلته، والتي يعمل الإنكليز بشتى طرقهم وأساليبهم على محاربة قادتها، أو من يتوسمون فيه القدرة على التغيير.

وأستطيع التأكيد، إن من كان يتحرك ضد الإمام الراحل (رحمه اللّه) ومرجعيته ليس عدواً داخلياً فقط بل عدو خارجي أيضاً! كيف تفسر أن أي دعاية سلبية تنطلق ضد الإمام الراحل تجدها تنتشر بسرعة رهيبة من شمال العراق إلى جنوبه، إن لم يكن خلفها أجهزة مخابرات تبث تلك الدعايات والسلبيات؟

كانت تلك الأجهزة والأنظمة السياسية الفاسدة تخشى من المرجعيات الواعية والمتكاملة والرشيدة، ومرجعية الإمام الراحل (رحمه اللّه) واحدة منها، فهي مرجعية متكاملة من جميع الأبعاد لم يغفل عن أي شيء، والدليل كتبه التي ألفها مخاطباً الرجل، وكتب متكلماً إلى المرأة، وتحدث في كتبه إلى الشباب، وإلى

ص: 250

الحوزة، والى المثقف، وإلى الفلاح، وإلى السياسيين، تحدث في تلك الكتب إلى الجميع، انظر إلى توجيهاته التي يريد من خلالها أن تنهض الأمة، مقابل الآخرين الذين يريدون بالأمة أن تسقط إلى الحضيض..

لذلك كان صراعه مع هؤلاء، صراع أفكار وإرادات، وليس صراع أشخاص فيما بينهم، صراع رجل مثقف يريد أن ينهض بالأمة ضد حكومات ظالمة، حكومات مستبدة، تتعاون معها ربما جهات خارجية وداخلية لطمس هذا الفكر، ومحاولة طمس هذا الحضور للمرجع الراحل (رحمه اللّه) ، ولقد عرض على الإمام الراحل (رحمه اللّه) من قبل تلك الجهات عرضاً هو أقرب إلى القول منهم، (لا نريد منك تأييداً، نريد منك سكوتاً فقط.. وسندع هذه الملايين التي تصل إليك شهرياً، وتلك السيارات والأملاك والعقارات، والمحيطون بك من طلاب ومعاونين ومريدين، كلهم سنمنحهم جوازات سفر، وربما جوازات دبلوماسية، كل تلك الأمور سوف نهيؤها لكم ولكن اسكتوا، اسكتوا عن الظلم، واسكتوا عن محاربة الجهل، دع الجهل متفشي بين أوساط الناس)!!

لكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) حاشاه أن يقبل بتلك المغريات الزائلة، لم يرضخ لتلك المطالب والتهديدات، وبقي مصراً على مبادئه ونهجه.

لم يحارب مرجع في التاريخ كما حورب الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ومن جهات مختلفة، لماذا؟ هل لأنه كان يريد مالاً؟ لا يريد ذلك،بل هو يعطي المال، ولكن هذا الرجل الواعي، هذا الرجل المتنور الذي يريد أن ينهض بالأمة، يريدون منه أن يكون خانعاً ولم يكن كذلك، لذلك تحمل ما تحمل (رضوان اللّه تعالى عليه).

مستوى التفكير

في خضم هذه الحرب وتلك الصراعات التي أحاطت بالمرجع الراحل (رحمه اللّه) ،

ص: 251

أين كانت الجهات المعاصرة له، وماذا كان موقفها من تلك الحرب وتلك الصراعات؟

بالنسبة إلى هذا السؤال ربما فيه الكثير من الحساسيات، أتذكر أحد أبناء المراجع الكبار وقد زاره في مدينة قم المقدسة، وكان هذا الابن مطلعا على اسرار والده، وهي أسرار كثيرة جداً، ولديه معلومات قيّمة وقصص كثيرة أيضاً، والإمام الراحل (رحمه اللّه) قد نقل بعض قصص ذلك المرجع إلى ابنه، وفي نهاية الحديث قال الإمام الراحل (رحمه اللّه) لابن المرجع: والدك انتقل إلى رحمة اللّه، والآن أنت حي ترزق، وقد اطلعت على أسرار والدك وقصصه ومواقفه، وفيها الكثير من المواقف التي تفيد الحوزة وتفيد الأمة وتفيد رجال الفكر، فهي قصص تضج بالحيوية، لماذا لا تكتبها كي تستفيد الأمة منها ولو فقط مذكرات والدك بخط يدك أنت.

لم يملك الابن إلا أن يجيب الإمام الراحل (رحمه اللّه) بجواب سبب جرحاً عميقاً له (رحمه اللّه) ويمكنني أن أقول أنه جرح قلب الإمام الراحل جرحاً كبيراً جداً، كنت أنظر إلى وجهه وأعرف كيف تألم من هذا الجواب.

قال له: سيدنا لمن أكتب، والناس يأتون إلي ويقبلون يدي، ويعطونني أموالهم، فلمن أكتب بعد؟

وتلك حقيقة، أنظر أي فكر يحمله الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، لم يقل له إن هذا هو احساسه تجاه تراث والده الذي مات، وكيف يجب عليه أن يحافظ على تراث والده، وهي مسؤوليته بالدرجة الأساس، حتى لو لم يقل له أحد إن هذه مسؤوليتك تجاه تراث وفكر والدك والمتضمن قصصاً ربما تنتشل الأمة من المآسي..

ص: 252

مع الأسف الشديد هذا المستوى من التفكير موجود لدى الاخرين، وعلى مثل ذلك وسواها كثير من الامور.

الناس تتصور بعض الأمور الجزئية ولا تنظر إلى البعيد، والآن التداعيات والمحن التي تعيشها الأمة، والهجمات التي تأتي إليها وتتكالب عليها من كل جهة من الخارج، كيف نواجهها الآن دون استعداد أو رؤية بعيدة للأمور؟

عندما ظهرت الأقمار الصناعية وأجهزة الاستقبال الفضائي، كتب الإمام الشيرازي (رضوان اللّه تعالى عليه) كراساً حول ذلك(1)، وحول الظواهر الاجتماعية والأخلاقية التي ترافق مثل تلك التكنولوجيا والتي هي الآن أخذت تغزوا أفكار شبابنا وشاباتنا، وتغزو العوائل في عقر دارها، كيف نواجهها؟ لا أحد فكر بذلك غير الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، والذي أوجب علينا تأسيس وإطلاق قنوات إسلامية تواجه هذا المد الفضائي وتعطي الفكر الرشيد، وخصوصاً فكر أهل البيت (عليهم السلام) وهو الفكر الناصع إلى هذه الأمة.

مع المراجع العظام

* كيف كان يتعامل الإمام الراحل (رحمه اللّه) مع مراجع التقليد في قم المقدسة؟

- الإمام الراحل (رضوان اللّه تعالى عليه) حتى أعداؤه يشهدون له بأنه لديه أخلاق عالية جداً، وكان دائماً هو الذي يبادر إلى زيارة المراجع، وهو الذي يعرض عليهم مساعدتهم إذا كانوا يحتاجون إلى شيء، وكان دائماً يريد علاقات قوية ووِئاماً موصولاً بين المراجع كي لا تبقى بعض الحساسيات، وكان طبيعياً وجود اختلافات في التوجهات واختلافات في الفتيا، وهو لم يكن ينظر إلى تلك

ص: 253


1- كتاب باللغة الفارسية (با ماهواره جه بايد كرد).

الاختلافات نظرة سلبية، كان يريد دائماً وخصوصاً في مايتعلق بالأمور السياسية والأمور الاجتماعية مواقف موحدة من قبل المراجع، كالموقف من الحرب العراقية - الإيرانية، وموقفاً موحداً من قضايا معينه كقضايا جنوب لبنان وقتها، وافغانستان وباكستان.

هذا ما كان يريده الإمام الراحل (رحمه اللّه) من المراجع، والكل يشهد له بأنه كان هو صاحب المبادرة والخطوة الأولى.

كانت علاقاته جيدة مع كل المراجع إلا ما ندر، من بعض من كانوا يحملون ظناً سيئاً - والعياذ باللّه - بالسيد الراحل (رحمه اللّه) ، وحين كانوا يأتون إلى مجالس الإمام الراحل (رحمه اللّه) لا يقوم لهم أحد سوى سماحة السيد، وكان كثيراً ما يترك إليهم المكان ويجلسهم في قربه أو مكانه، وكثيراً ما تكررت منه هذه المعاملة الرفيعة، وكانوا يرون والحال هذه، إن أخلاق الإمام الراحل (رحمه اللّه) هي أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) ، لهذا تراجعوا عن مواقفهم وسوء ظنونهم وغيروا نظرتهم تجاه السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وهذا حدث مع الكثير من الشخصيات والمجتهدين، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على رفعته وقوة أخلاقه ومثله التي كانت يتمسك بها.

* إذا عكسنا السؤال وطرحناه بالشكل التالي: كيف كان ينظر مراجع التقليد في قم المقدسة إلى مرجعية السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ؟

- نظرة الآخرين للسيد الراحل (رحمه اللّه) نظرة إيجابية، والدليل على ذلك ماحدث حين اعتقل أبنائه ومقلديه وبعض الكوادر المحيطه به وأفراد من مكتبه في قضايا سياسية مدبرة، حين قمنا بالتدخل والاتصال مع بعض الجهات النافذه

ص: 254

بالدولة، وأحدهم الشيخ ناصر مكارم الشيرازي(1)، أشاد بأخلاق المرجع الراحل (رحمه اللّه) وقال كل العلماء وكل المراجع الموجودين في قم المقدسة لم يتكلموا بسوء أو يكتبوا شيئاً سلبياً عن السيد الراحل (رحمه اللّه) أو ينقلون ذلك إلى الدولة، وإنما هناك جهات معروفة الخط والتوجه وربما محسوبة على الجانب العراقي، هؤلاء الذين هم من كتبوا تقارير أمنية مع الأسف الشديد، ونقلوا أحداثاً غير واقعية إلى الحكومة الإيرانية وإلى رجالات الدولة، لذلك أوجدوا تلك الصورة المشوشة، أو توجه الدولة أو نظرتها السلبية إلى السيد المرجع.

الأحزاب المناوئة

* من هي تلك الجهات التي كانت تعمل ضد الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) مع الحكومة؟ وأين مراجع التقليد من مثل هذه الأمور؟

- لا أخفي عليكم ربما هذا البعض من الأشخاص، وهذه الجهات كانت معروفة ومحسوبة على حزب ...

* محسوبة على الحزب أو هي من ضمن قياداته وكوادره؟

- من ضمن الحزب وقياداته، والأسماء معروفة، حتى إن المسؤول الأمني الكبير في إيران قد ذكر أسمائهم واحداً واحداً مع التقارير التي يكتبونها ضد الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، ولو أردنا الحصول على هذه التقارير لاستطعنا الحصول عليها وجلبها ولكن الإمام الراحل (رحمه اللّه) ما كان يفكر بذلك.

* أين مراجع التقليد من هذا؟ وما هو موقفهم من الحزب المذكور والذي هو حزب سياسي يمس مرجعية تعمل لإصلاح المجتمع ولتنظيمه، هل الحزب كان المتسلط على التوجهات السياسية أم كان ذريعه لمحاربة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

ص: 255


1- من مراجع التقليد في قم المقدسة.

- ذكرت لكم إن أغلب المراجع إذا لم يكن جميعهم كانت علاقتهم إيجابية جداً مع الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، لكنهم لم يعملوا على تغيير هذه الصورة المشوشة.

نحن عند النظر إلى المحيطين بقيادة الدولة والحلقة الخاصة المقربة منهم، والمحيطة بالمسؤولين هؤلاء كانوا يمنعون أي أمور إيجابية عن الإمام الراحل (رحمه اللّه) تصل إلى الزعماء أو الشخصيات السياسية، ولذلك ينقلون البهتان والكذب، ويقومون بتحويل الايجابيات إلى سلبيات.

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يشخص المشاكل ويعطي الحلول، لكن المحيطين بالقيادات السياسية يقومون بنقل ذلك بصورة محرفة بعيدة عن موضوعها، وكان لهؤلاء المدلسين المحيطين بتلك الشخصيات تاثير كبير، واذكر مثلاً على ذلك.

كان لي موقف مع (التيجاني السماوي) وهو كاتب تونسي معروف، ركب في سفينة أهل البيت (عليهم السلام) قال لي: قبل إصدار قرار منع التطبير والشعائر الحسينية وتقبيل العتبات، قبل ذلك بأسبوع أو عدة أيام اتصل بي أحد قيادات الدولة وأنا في باريس، اتصل بي قائلاً: سوف يقوم القائد بإصدار بيان حول الشعائر الدينية وتهذيبها فعليك أنت أن تصدر بيانات التأييد وتحرك المثقفين الموجودين في أوربا وباريس ليرسلوا بيانات تأييد مماثلة للقائد حتى لا يكون وحده، نريد أن نظهر للقائد على أن قيادات الأمة الإسلامية في الخارج كلها معه..

هذا المثل يعطيك دليلاً على أنه توجد هناك فئة تحيط بتلك القيادات يطرقون على رأسه بهذه الأفكار إلى أن اقتنع, اقتنع على أن الشعائر كلها دخيلة على الإسلام جاءت بها فئات محسوبة على المجوس أو الهنود أو غيرها، لذلك يجب أن تهذب هذه الشعائر لذلك اأصدر بيانه، وكانت برقيات التأييد مهيئة من

ص: 256

الخارج ومن الداخل، وإذا عدت إلى مواقف المراجع العراقيين كلهم رفضوا ذلك، وقد استشار القائد بنفسه الكثير من المراجع، واحد هؤلاء المراجع الآن موجود حي يرزق، يقول استشارني وقلت له لا تتدخل في هذا الموضوع واترك قضايا الإمام الحسين (عليه السلام) لأنها أكبر منك، وقد حاول الكثيرون قبلك ولم يستطيعوا أن يغيروا، وهذه الشعائر، الناس مقتنعة بها أشد الاقتناع، وهي شعائر مستحبة يقوم بها الناس، يقول هذا المرجع: لم يسمع كلامنا وإنما سمع هذه المجموعة التي تحيط به مع الأسف الشديد.

المرجع والأمة

* هل المرجع يسيّر الأمة أم الأمة تسيّر المرجع ؟

- هنا في مثل هذه المواقف هذه ليست أمة بل جماعة.

فالمرجع يسيّر الأمة لما فيه الأصلح لها، بينما تجد جماعة يحاولون أن يسيّروا المرجع لما فيه مصالحهم، فأي مرجعية هي؟!

مثل هذه المسائل ربما تكون طبيعية في عالم السياسة وهي الآن موجودة في الكثير من الأماكن، لكن توجد هناك حدود وأمور وقوانين يلتزم بها المرجع.

لكن من يحيطون به يصورون له أن هذه الأمور هي من الدين وإن خالفت تعاليمه، لذلك البعض من المراجع يقتنع بها ويتصور أنه قد اتخذ موقفاً صحيحاً وصائباً.

مثل هذه التدخلات من قبل بعض المحيطين والمتزلفين والحواشي في الأمور السياسية أو الدينية، هي إحدى العيوب الكبيرة، وهم يمتلكون تاثيراً قوياً، وكذلك الأبناء لهم تأثير قوي في إصدار الفتيا وإصدار الأحكام، طبعاً في بعضهم، وهذه أمور معروفة وليست غائبة عن الناس وكتبت فيها مذكرات

ص: 257

وقصص كثيرة.

* سؤال أخير حول هذه النقطة، هذه الحواشي إن لم تجد هوى في نفس هذا الشخص من هذا الجانب هل كانت تعمل عليه ؟

- إنها ليست مسألة أهواء، بل إن تلك الحواشي تنتمي إلى مرجعية فكرية لقيطة ممسوخة، تجمع أفكاراً مختلفة، وتتصور على أن هذا هو الإسلام الواقعي، فيأخد من هذا ومن ذاك، وفي المحصلة تلتقي أفكار تلك الحواشي مع أفكار من يحيطون بهم.

مع المنبر الحسيني

* قدم الإمام الراحل (رحمه اللّه) الكثير للمنبر الحسيني، وكان يؤكد على الاهتمام به وتطويره. كيف كان يريد أن يكون عليه المنبر الحسيني وكيف يمكن تطويره وفقاً لتلك لرؤية الدؤوبة للإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

- امتلك الإمام الراحل (رحمه اللّه) نظرة شاملة للمنبر الحسيني، وللشعائر الحسينية بشكل أوسع.

فقد كتب في ذلك وتكلم كثيراً حول الموضوع، وله الكثير من المحاضرات والتوصيات، وكان يرى بأن المنبر تحديداً، له خصوصية تميز الشيعة عن غيرهم من المذاهب الأخرى، ومن خلال هذا المنبر استطاع الشيعة أن يحصنوا أفراد الأمة الشيعية من الهجمات الفكريه الواردة إليهم من الأفكار المنحرفة تحصيناً ذاتياً، ثم التحرك على الآخرين واقناعهم بفكرهم الناصع، وإدخالهم للتشيع ونشرهم لهذا التشيع في كل مكان، وخصوصاً فكر وعدالة وسماحة أهل البيت (عليهم السلام) ، كل هذا من خلال المنبر.

والحقيقة فإن من ليس له (الحسين) ليس عنده شيء، والذي عنده (الحسين) عنده كل شيء.

ص: 258

من خلال (الحسين) أنا أدخل إلى المجتمع، ومن خلال (الحسين) أصلح ما فسد من أموره، وأتصدى لما سيدخل على المجتمع من مفاسد، ومن خلال (الحسين) أواجه جميع الهجمات، ومن خلال (الحسين) أدخل الآخرين إلى الإسلام وإلى التشيع، ومن خلال (الحسين) أنشر راية الحق وراية أهل البيت (عليهم السلام) ومذهبهم في كل بقعة ومعمورة.

لذلك كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يؤكد على أن يكون للخطيب علم واسع، وله دراية ومعرفة تامة في أساليب الخطابة والإلقاء، ويعرف كيف يؤثر على الآخرين ويشد انتباههم لهذه الأمور.

وكان (رضوان اللّه تعالى عليه) إضافة إلى ذلك يؤكد على الوسيلة الإعلامية المهمة التي تعمل على نشر كل هذا في السابق وهو المنبر، في الحسينيات والمساجد، وكان الناس يحضرون مائة، مائتين، وألفاً والفين، وربما عشرة الآف، زادوا أو قلوا عن ذلك، ولكن الآن في العصر الحاضر وهذه الطفرة العظيمة في وسائل الاتصالات والإاعلام، كان يؤكد الإمام الراحل (رحمه اللّه) على فتح قنوات فضائية إسلامية للمنبر الحسيني كما كان يؤكد كثيراً على أخيه المرجع سماحة السيد صادق الشيرازي (دام ظله) على شراء قمر صناعي يكون خاصاً بالشيعة كي يستطيعوا أن يثبتوا جدارتهم للآخرين ولايتركوا أحداً يتحكم بهم، كما يحصل الآن حيث تتحكم الأقمار الصناعية الأخرى بالقنوات الشيعية، تحذفها أو وتوقف وتمنع بثها، لكن لو كان هناك قمر خاص بهم لما حدث ذلك! لأن هذا أيضاً على جانب عظيم من الأهمية، حيث يتم نقل صوت الخطيب إلى الملايين من الناس عوضاً عن مئتين أو ألف.

بفضل منبر الحسين (عليه السلام) ، وبفضل فكر الحسين (عليه السلام) ، انتشر التشيع إلى

ص: 259

العالم كله، ونحن ليس لدينا مناسبة أخرى أفضل من تلك المناسبة وهي شهر محرم الحرام، ربما عندنا شهر رمضان الكريم لكن استغلاله به ضعف وتواجد قليل على الساحة الفضائية، لكن حرارة (الحسين)، منبر (الحسين) هي القادرة على نشر التشيع ونشر الإسلام في كل البقاع.

ترى الآن مايحدث، بعد هذه الطفرة في وسائل الاتصال، كيف أخذ شيعة الحسين (عليه السلام) ينشرون مأساته بفضل المنبر، وبفضل الخطيب فالخطيب له خصائص يجب أن يتمتع بها، والحسينيات كذلك لها مميزات، وقد أشار الإمام الراحل (رحمه اللّه) إليها في كراس إرشادات إلى الخطباء وإلى الحسينيات، كيف تعمل وكيف تتحرك، وكيف على أصحاب الحسينيات أن يكونوا على ثقافه ودراية يجعلوا من خلالها الفرد الذي يدخل إلى الحسينية لا يخرج منها إلا وهو مقتنع بفكر أهل البيت (عليهم السلام) .

لذلك فقد امتلك الإمام الراحل (رحمه اللّه) رؤية شاملة وواسعة للمنبر الحسيني وما يتعلق به، في محاضراته وكتبه وتوجيهاته.

مع الشعائر الحسينية

* هل كانت هناك شعائر معينة اختص بها الإمام الراحل (رحمه اللّه) ؟

- كل الشعائر الحسينية، أو الشعائر الدينية، أو الشعائر الولائية، سواء كانت وفيات أو مواليد، كان يقوم بها الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) .

لم يترك أي مناسبة تذهب سدى وإنما يستغلها أفضل استغلال، فكنت تراه في الوفيات يعقد المجالس، وفي المواليد يحضر، وكان في مناسبات المواليد يعمم الكثير من الطلبة، ويلقي عليهم خطابات وتوجيهات، ولاتجد واحدة من هذه المناسبات تخلوا من التوجيه والارشاد، فهو (رحمه اللّه) كان يستغل جميع المناسبات

ص: 260

الدينية وخصوصاً الشعائر الحسينية أفضل استغلال، وكان من المعروف عنه (رضوان اللّه عليه) إنه يلبس السواد من أول ليلة من محرم الحرام إلى الثامن من ربيع الأول ولا يخلعه إلا في نهاية اليوم الثامن من ربيع الأول.

موانع تأسيس الفضائيات

* عرف عن الإمام الراحل (رحمه اللّه) أنه لم يكن صاحب قول فقط، بل صاحب قول وفعل، وهذا ما عهدناه وما رأيناه طيلة حياته. بتصوركم ماهي العوائق التي وقفت بوجه الإمام الراحل (رحمه اللّه) ومنعته من إنشاء قنوات فضائية رغم تأكيده على ذلك ودعوته إليها؟

- في الحقيقه ورغم وجود الفكرة في إنشاء فضائية شيعية، ووجود الكوادر والرجال، ووجود الأموال بمقدار معين، ورغم وجود بعض الموانع المادية إلا أنه من الممكن تجاوزها والتغلب عليها. ولا اعتقد في هذا المجال أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان يتوقف عند قلة الأموال في التأسيس لمثل هذا المشروع، كما تعذر الكثيرون الذين تحرك عليهم الإمام الراحل (رحمه اللّه) ووجههم وشحذ هممهم، وكان تبريرهم لعدم القدرة على إنجاز مثل هذا المشروع، إن امكانياتهم المادية ليست كبيرة.

لكن الحقيقة كان هناك شيء أكبر من ذلك، كانت هناك معارضة، ما يمكن تسميته بالمنع من قبل أجهزة الدولة في ايران، تحرك الإمام الراحل (رحمه اللّه) على مختلف المراجع والعلماء والسادة والأساتذه الكبار المعروفين، وطرح عليهم أن يكون لكل استاذ ولكل مرجع قناة فضائية، تنقل دروسه ومحاضراته وكذلك الخطباء الذي يأتون إلى بيت هذا المرجع أو العالم، وتستغل هذه القناة دروس المرجع ودروس العالم، وبهذا تكون عندنا مئة قناة، أو ألف قناة.

اقتنع البعض بهذه الفكرة، ولكن القيود التي فرضتها هذه الدولة منعت

ص: 261

ذلك ولم تسمح حتى بتأسيس إذاعة، وهي أبسط شيء.

لانستطيع تحديد المسألة في قطب معين، ويمكن أن تكون هناك ربما توجهات دولية تمنع هذا الصوت الرشيد، وتمنع هذا الفكر الثاقب أن ينطلق للناس، وربما وجدت جهات قد تكون حاقده على المرجعية، وخصوصاً المرجعية الشيرازية، وربما عندهم أحقاد بدر وحنين، الأحقاد التي كانت للميرزا الكبير صاحب ثورة التبغ و محمد تقي الشيرازي (رحمه اللّه) صاحب ثورة العشرين، ومواقف تلك الأسرة من الاستعمار البريطاني في ايران والعراق..

خلفيات العداوات

* فضيله الشيخ تحدثت عن المنع الموجه، وهو وجدناه في كل شيء، في الكتاب وفي الإذاعة وفي القناة الفضائية، هل نستكشف من ذلك أن هناك خلفيات تاريخية لهذا العداء الموجه ضد الأسرة الشيرازية ومرجعياتها؟

- المرجعيه الشيرازية تتميز ليس فقط في الكلام وإنما بالفعل والعمل، وهذه الدول الدكتاتورية والاستعمار تعلم ذلك عن هذه المرجعية، لذلك فهم يشعرون بالخوف منها.

أنا لا أعمل في بلد مسيحي أو بلد وهابي وأو بلد صابئي، أنا أعمل على بلد من يقوده محسوب على مذهب أهل البيت (عليهم السلام) .

كان لدى الإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) قصة لطيفة كثيراً ما كان يرويها ويؤكد عليها:

في إحدى المقاطعات كان هناك رجل معروف بارتباطه بالانكليز، وهو في المقاطعة التي كان يعيش فيها، جعل الناس دائماً في جهل كي يتحكم بهم، وانت داءما ماتستطيع التحكم بالانسان الجاهل، وتسيّره وتقوده بكل اتجاه. ابن هذا

ص: 262

الرجل الكبير أو شيخ العشيره ذهب إلى أوربا وتعلم العلوم ورجع إلى هذه المقاطعة، وأراد أن يبني مدارس وكليات ومؤسسات يطور بها أوضاع مقاطعته، لكن أبيه قال له: نحن نعيش على جهل هؤلاء، ونحن نتمكن من أن نقودهم لأنهم جهلاء، ونتمتع بهذه الثروة وهذه القدرة لأنهم جهلاء، فأنت لو قمت بتعليمهم وتثقيفهم، فإنهم سوف يتغلبون علينا ويطردوننا وينبذوننا.

وهكذا يراد للشعوب أن تبقى جاهلة، لذلك كان الإمام يؤكد على طباعة الكتب وتوزيعها، ويعطي المال اللازم لأجل تحقيق ذلك، وحتى في محرم حيث تقوم بعض الهيئات بتوزيع الطعام كان (رحمه اللّه) يشجعها على ذلك، ويشجعها أيضاً على توزيع الطعام الفكري..

لماذا كان يفعل ذلك؟

لتوعية الناس وتشجيعهم على محاربة الجهل، لذلك كانت السلطات المستبدة تمنع الإمام الراحل (رحمه اللّه) من القيام بهذا العمل وتحاول محاصرته، لأن مثل هذا الوعي فيه ضرر لهم، لأنهم يريدون الشعب أن يبقى على جهله، حتى يتمكنوا من التحكم به، فالعميل يبقى مسيطراً والاستعمار يبقى على هذه الحالة، لهذا ترى الدكتاتورية والاستبداد تستمر بيننا.

* هل إن مثل هذا العداء لهذه الأسرة يرتبط بثورة التنباك في ايران وثورة العشرين في العراق؟

- يقال إن الاستعمار البرطاني لا ينسى أعداؤه، وهم لا ينسون ما حدث معهم سواء في ثورة التنباك أو في ثورة العشرين. ثورة العشرين مهمه جداً وكان لها دور في تارخ هذه العائلة الشريفة، لذلك يحقد البريطانيون على هذه العائلة، ويخرجون هذا الحقد على ذراريهم، لذلك يصبّ البلاء صباً على العائلة

ص: 263

الشيرازية لأنها قامت بهذه الثورة.

ودائماً ما كانت هذه العائلة المباركة تريد النهوض بالأمة الإسلامية، ولو عدت بالذاكرة إلى السنوات الخمسين الأخيرة، سواء ما تعلق بحياة الإمام الراحل (رحمه اللّه) أو ما كان يدور بفلكه لرأيت كم خدم التشيع، وكم كتاب نشر له حول تلك النهضة، وحول التحرك على الشباب، والتحرك على الأطفال، والتحرك على النساء، وفي كل المجالات.

ومع احترامي للعلماء الآخرين، فإن مثل هذه النظره الشمولية غير موجوده عند هؤلاء الآخرين، وربما هي موجودة عند البعض منهم لكن بنسب ضعيفه جداً، ولكن هذه العائلة تحمل الكثير من المزايا والخصائص العظيمة، لذلك لا يراد لها أن تتحرك ولهذا يأتيها القمع من كل مكان. وكذلك الإقصاء والتهميش ضد رموزها..

تصور كمثال على حجم هذا الاقصاء والتهميش، أن دولة من الدول تقيم كل سنة وربما كل شهر مؤتمراً لأحد فطاحل علماء الشيعه بالقرن الحالي أو القرن الماضي، لا يوجد عالم لم يقيموا له مثل هذا المؤتمر، لكن سلطان المؤلفين المرجع الراحل (رحمه اللّه) ما زال البعض يحاربه حتى بعد مماته. ولايريدون التذكير أو الاحتفاء به وبمنجزه، وكذا الحال مع صاحب ثورة العشرين الميرزا محمد تقى الشيرازي (رضوان اللّه عليه) لماذا لم يعقد له مؤتمر يحتفل به، وصاحب ثورة التنباك أو التبغ لماذا لم يعقد له مؤتمر وهو الذي أنقذ ايران من الاستعمار ومن اتفاقيات مهينة.

منذ أكثر من ثلاثين عاماً بعد انتصار الثورة في ايران، لم يعقد مثل هذا المؤتمر، لأن ذلك يتعلق بعائلة الشيرازي وجهودها، وهو يذكر بسلطان المؤلفين، ويذكر بقادة الثورات من علماء تلك العائلة.

ص: 264

انظر إلى حجم هذا الحقد الذي يمتد حتى إلى الأموات، وكان الحكومات الدكتاتورية أو الاستعمار البريطاني وغيره يقولون: نحن نحاربك بغضاً منا لأجدادك سواء.

نحن لا نقول إن تلك المرجعيات بريطانية، ولكن الخط البريطاني موجود سواء في الحكومات أو في أوساط المثقفين أو في أوساط الكتاب وغيرهم، فالاستعمار البريطاني نافذ ويعطي تعليماته.

* هل يمكن أن يكون الحضور البريطاني نافذاً حتى في بعض المرجعيات؟

- لا استبعد مثل هذا الشيء، وخاصة بعد نشر كتاب معروف ومطبوع في اللغة الفارسية يتحدث عن العلاقات المتبادلة بين البعض المحسوب على رجال الدين والسفارة البريطانية في طهران، وقد ضم الكثير من الوثائق والصور.

يوجد ضعفاء النفوس ويوجد رجال دين بلباس رجال الدين دخلوا إلى هذه الحوزة المباركة وحركوا الأشياء وسيروها باتجاهات مختلفة ترضي الاستعمار.

اللاعنف بلا حدود

* ورغم تلك الظروف، ورغم كل تلك المعاناة والعذاب الكائن ضد مرجعية الإمام الراحل، نجده يطرح (نظرية اللاعنف) هل لك أن تفتح لنا شيئاً من النوافذ على هذه النظرية ؟

- البحث في (نظرية اللاعنف) يستغرق الكثير، لكن هناك ما يمكن استذكاره على الصعيد العملي، كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) كثيراً ما يؤكد على مطلب اللاعنف من خلال قوله الذي يردده دائماً: (أنا ادعو إلى اللاعنف في كل شيء).

في إحدى المرات سألته: ألا نحتاج في بعض المرات إلى نوع من القسوة؟

ص: 265

أجابني (رحمه اللّه) قائلاً: إذا سمحنا بقليل من القسوة فأنها تتوسع، لذلك أنا اأمنع العنف في جميع أشكاله.

ربما كنا نلتزم بالقليل منه، لكننا الآن ندعو إلى اللاعنف في كل شيء حتى نستطيع أن نحصل على كل شيء، فإذا قلنا نسمح ببعض العنف ولا نسمح به في بعض الأوقات، فإن هذا البعض القليل سوف يتغلب على اللاعنف ويتوسع، لذلك يقول (رحمه اللّه) أنا أؤكد على اللاعنف مطلقاً.

كان حقيقة يدعو إلى اللاعنف في جميع الموارد، وكان لديه إيمان كامل به، وقد راجت في ذلك الوقت الكثير من الكتب، حتى إن بعضها كانت تصدر في الغرب، وكان بعض الأخوة يقومون بترجمتها سريعاً إلى اللغة العربية ويبعثوها إليه (رحمه اللّه) ويطلع عليها ويقرأها.

كان الكثيرون في أنحاء العالم يؤيدون مثل هذا الطرح، وكان يصر على الدعوة إليها، ولكن مع الأسف الشديد فإن العنف المتفشي في عالمنا، من العائلة إلى قمة السلطة، لا تستطيع أن تعالجه في يوم وليلة،إن هذا يحتاج إلى سنوات طويلة.

خذ مثلاً الثورة الفرنسية والحرية النسبية التي نادت بها، لم تتحقق في فرنسا بسنوات قليلة، رغم ما سبقها من عشرات الكتب التي أبدعها أصحابها، لذلك نحن نحتاج إلى الكثير من الوقت لتطبيق هذه النظرية حيث عمل بها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعمل بها أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان أهل البيت (عليهم السلام) نموذجاً رائعاً لتطبيق هذه النظرية في حياتهم رغم كل ما أحاط بهم.

مصادرة كتب

* هنالك كتاب ألفه الإمام الراحل (رحمه اللّه) يتحدث عن حكومة الرسول

ص: 266

الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وقد تمت مصادرته بعد أن طبعت منه عشرة الآف نسخة، ما هي المضامين التي حملها بين دفتيه ولماذا صودر؟

- حسب معلوماتي الدقيقة فإن هذا الكتاب قد طبع أكثر من عشر مرات، ولكن بدون إجازة لطبعه، تكفل بطباعته على مرات متفاوتة عدد من الأصدقاء، وتم توزيعه يوم عشرين صفر في إحدى السنوات.

الكتاب يقدم صوراً وحوادث معينة لحكومة الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكان الإمام الراحل يريد أن يقول عبر تلك الصور والحوادث، إن الذي نحن فيه لا يطابق حكومة رسول اللّه وأمير المؤمنين (عليهما أفضل الصلاة والسلام) وهذه حقيقة واضحة، الحكومات ترفع الشعارات وتدعي بالاقتداء بتلك التجارب، لكنه مجرد إدعاء لا تجد له تطبيقاً عملياً، لذلك كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يؤكد في هذا الكتاب وعبر إيراده للكثير من القصص والوقائع، بعد هذه الادعاءات عن الحقيقة.

لقد كانوا بعيدين كل البعد عن رسول اللّه وعن أمير المؤمنين علي (عليهما أفضل الصلاة والسلام) لذلك ترى أن السلطات أحسّت بالخوف عند نشر الكتاب واطلاع الناس على تلك القصص والوقائع، وهي تقارن بينها وبين الدكتاتورية والاستبداد والتسلط وفرض الضرائب الباهظة، والسجون والظلم.

كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يريد من خلال هذا الكتاب أن يعيد الوعي بالتجربة النبوية في الحكم، والتذكير بالتجربة العلوية أيضاً، وهو مما لا يرضي تلك السلطات، حيث قامت باعتقال صاحب المطبعة، وصودرت نسخ الكتاب التي كانت موجودة فيها وأحرقت، حتى مصمم الغلاف تم اعتقاله.

لم يقتصر الأمر على هذا الكتاب وحده، فهناك كتاب آخر هو (كيف

ص: 267

نجمع شمل المسلمين) كتاب لطيف جداً وكتاب فيه بساطة في وضع النقاط على الحروف وتشخيص العيوب وكذلك إعطاء العلاج اللازم لها، وهو كتاب مختصر من القطع الصغير، وأتذكر أننا طبعنا منه بحدود خمسة عشر ألف نسخة، ولدى أخذي مائة نسخة منه من المطبعة، جاء رجال الأمن وصادروا الكتاب واعتقلوا صاحب المطبعة وصادروا جميع نسخ الكتاب الموجودة فيها.

وكان السبب في ذلك، أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) قد أورد في كتابه هذا عبارة يقول فيها إن التفرد يؤدي إلى الاستبداد، حتى لو كان ذلك المتفرد مرجعاً دينياً فإنه سوف يستبد برأيه، لكن لو كان الحكم شوروياً لا يحدث مثل هذا الشيء، وهم قد اتهموا الإمام الراحل بأنه يقصد فلان وفلان في هذه العبارة.

المغريات

* هل من مغريات قدمت إلى الإمام الراحل (رحمه اللّه) في تلك المرحلة؟

- مغريات عديدة جداً قدمت إليه، فقد حاولوا إغراؤه بالمال الكثير، وعرضوا عليه ست سيارات مرسيدس، مع تعهدات بجعله أكثر المراجع عطاءً للمنح المالية للطلبة، وأيضاً جوازات دبلوماسية لك ولأولادك وإلى المحيطين بك والمتعلقين بك حتى يسافروا بحريتهم، نعطيك كل هذا وأكثر ولا نريد منك غير المبايعة والسكوت.

رغم تلك المغريات إلا أن الإمام الراحل (رحمه اللّه) رفض ذلك، فهو لا يريد إلا أن يكون حراً، لا ينحني أو يخضع لأحد مهما كان مركزه أو ما يتمتع من سلطة ونفوذ.

والحال هذه فقد بدأت الحرب ضده..

ص: 268

القسم الثاني

اشارة

هذا الملحق للحوار هو وقائع حياتية كان فضيلة العلامة الشيخ علي الرميثي حاضراً فيها وشاهداً عليها في حياة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ..

للزهد صور أخرى..

ليس فخراً أن يزهد الإنسان في الدنيا وهو لا يملكها..

وليس فخراً أن يلبس ثوب الزهد وهو مجبرٌ عليه..

إنما الفخر أن يمتلك الإنسان الدنيا ويقبض على أزمتها، ويتركها طوعاً واختياراً.

كما أن الزهد لا يعني الانعزال وترك الحياة خوفاً من الوقوع في ملذاتها وزخارفها، وإنما الزهد الدخول في معترك الحياة ومعاشرة الناس عن قرب، لمواساة ضعفائهم، وإصلاح أغنيائهم، وصياغة الأنموذج الأسمى للزاهدين، والقدوة الفضلى للراغبين بالسير على المنهج القويم.

فالزاهد - كما يصفه الإمام الصادق (عليه السلام) - هو الذي يختار الآخرة على الدنيا، والذل على العز، والجهد على الراحة، والجوع على الشبع، وعاقبة الآجل على محبّة العاجل، والذكر على الغفلة، ويكون نفسه في الدنيا وقلبه في الآخرة.

هذه الأطر والمواصفات التي رسمها الإمام الصادق (عليه السلام) للزاهد الواقعي، قد يراها البعض موزعة عند هذا أو ذاك، ولكن وجودها مجتمعة في شخص واحد وفي ظروف غير عادية، قد تكون غير مألوفة أو متعارفة، فالأشخاص الذين نالوا

ص: 269

شرف (الزهد) في بعض حقب التاريخ البعيد أو القريب، لو دققنا في حياة بعضهم لرأيناها في الغالب لا تحمل إلا بعداً واحداً من أبعاد الزهد المتعارفة..

أما فقيدنا السعيد المرجع الأعلى آية اللّه العظمى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس اللّه نفسه الزكية)، فقد كان مثال الزهد والتواضع في كل شيء، وفي كل بعد تراه مقدماً على أقرانه، ولا يرى في ذلك فخراً، ولا عجزاً عن حياة الراحة والرفاهية، فقد عاش في أجواء وظروف لو عاشها غيره لعجز عن الوصول للدرجات الدنيا التي وصلها فقيدنا الراحل (رحمه اللّه) .

كان (عطّر اللّه ثراه) لا يرى في الزهد تربية للنفس وارتقاء للروح فقط، وإنما كان ينظر إليه باعتباره عنصر المواساة الأول مع الفقراء والضعفاء، كان ينظر إليهم أولاً قبل نفسه، وربما كان لا ينظر إلى نفسه بقدر ما ينظر إلى صورة أولئك الذين يئنون من الجوع ولا يجدون ما يسد رمقهم، وكان دائماً يتمثل بقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى»(1)، أأقنع من نفسي بأن يقال هذا مرجع المسلمين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش.. الآخر الفقير.. الآخر الضعيف.. الآخر المسكين.. الآخر المستضعف.. هو أول ما يفكر به عند كل خطوة يخطوها أو حركة يقوم بها، يرى في احترام الإنسان الضعيف وحفظ كرامته والدفاع عنه وأخذ حقوقه المعيار في الحكم على الأشخاص الذين يدّعون الزهد والتواضع، وعندما يكون المعيار الغير والآخر

ص: 270


1- نهج البلاغة: من كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها: 45.

الجمعي تضمحل قيمة الأنا وتموت نوازع الغرور والكبرياء، ويرتقي الإنسان إلى مصاف الأولياء والأنبياء (عليهم السلام) .

الدنيا بزخرفها وزبرجها أتت طائعة لفقيدنا الراحل (رحمه اللّه) في بعض السنين، ولكنه أبى إلا أن يكون كجدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي امتلك السلطتين الدينية والزمنية، ومع ذلك كان يبيت جائعاً طاوياً، ولا يجد شيئاً يوقد به النار للضياء، ويستحي من مرقع مدرعته لكثرة ما رقعها.

نعم.. قضيت عشرين عاماً قريباً منه، لم أره يوماً غيّر عباءته، رغم الثقوب الكبيرة التي احتوتها والتغيرات اللونية التي طرأت عليها، تمسك بها بقوة واعتاد عليها على الرغم من إصرار المقربين وهدايا المقلدين الداعية إلى تبديلها. والمسألة غير محصورة في هذا البعد الضيّق، وإنما تتعدّاه إلى كل الأمور التي ترتبط به من قريب أو بعيد.

ولعلّ الشيء المتميز في فقيدنا الراحل (رحمه اللّه) ، هو حرصه الشديد على تتبع أحوال الماضين من الزهاد، وخصوصاً أولئك الذين يرتبطون بالشجرة الطيبة من آل الشيرازي الكرام، أمثال الميرزا الكبير، والشيخ محمد تقي الشيرازي، والسيد عبد الهادي الشيرازي، والسيد ميرزا مهدي الشيرازي (قدس اللّه أسرارهم)، فطبّق كل ما سمع عنهم، وكان لا يأخذ إلا الصعب المستصعب الذي فيه تقويم للنفس ورقي للروح، لذلك أقول وبفخر إن زهد فقيدنا يمثل خلاصة زهد الماضين من شجرته.

واليوم بعد غياب الجسد عنا، قد تكون القصص والوقائع التي عشتها وعايشتها عن قرب خير ما يعطي الصورة الواقعية عن زهد شمولي غطى مختلف الأبعاد، ورسم واقعاً مغايراً لما ألفه الناس عن الزهد، فهذا مرجعنا

ص: 271

الراحل (رحمه اللّه) ، والصور الأخرى للزهد..

الصورة الأولى

يقوم الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) من مكانه، يستقبل ضيفه القادم بإجلال ووقار، يليق بمكانة الأستاذ الأول للحوزة العلمية في قم المشرفة، إنه آية اللّه المرحوم الشيخ الباياني (قدس سره)، جاء لزيارة الإمام الشيرازي في بيته رداً على الزيارة التي قام بها آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) له عند رجوعه من مدينة أردبيل موطنه الأصلي.

أجلسه الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) إلى جنبه، وبعد أن رحّب به طويلاً، قال له: ما هي أخبار أردبيل؟ قال المرحوم الباياني: لوهلة ظننت أن الحوزة انتقلت إلى أردبيل، فقال له الإمام: وكيف؟ قال: أغلب العلماء والمدرّسين رأيتهم في أردبيل، ولكثرة مشاغلي وارتباطاتي لم أتمكن من زيارة الكل، غير عدد ضئيل لا يتجاوز ال- 55 شخص، فسأله الإمام الراحل (رحمه اللّه) : ماذا يجري في أردبيل، هل هناك مؤتمر استدعى حضور هذا العدد الضخم من العلماء؟ فقال المرحوم الباياني: إنهم جاءوا للاصطياف والاستجمام!! ثم التفت إلى الإمام الراحل وقال له: لي في أردبيل بيت وسيع ولأقربائي عدة بيوت، إذا أحببتم قضاء بعض الوقت والراحة فأنا في خدمتكم، فقال له الإمام الراحل: لم أفكر يوماً بالإقدام على هكذا خطوة، فالدنيا جد وعمل، والراحة والنوم الطويل ينتظرنا في القبر.

وبدون أية مقدمات أو فاصلة عن الكلام السابق قال الإمام مخاطباً ضيفه: هل سمعتم بالمجزرة التي ذهب ضحيتها عدة مئات من مسلمي البوسنة والهرسك في مدينة (سربنيستا)، لا تتصوروا أن المسؤولية لا تطالنا، نحن مقصرون بالنسب التي نستطيع العمل بها ولم نعمل، والعلماء يأتون في المقدمة، وكذلك وسائل

ص: 272

الإعلام تحمل قسطاً وافراً من التقصير؛ فهي لم تتعامل مع هذا الحدث الكبير بالنسبة المطلوبة والعناية المرادة..

هكذا استطاع (قدس اللّه نفسه الزكية) أن ينقل المستمعين من أجواء الاستجمام إلى أهمية الاهتمام بالحدث العام.

وبعد أن ودع الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ضيفه وعاد إلى مكانه ثانية، التفت أحد الجالسين إليه قائلاً: سيدنا ما كنا نحب التحدث بحضور الأستاذ الباياني، فقد يكون محقاً في بعض كلامه، فالسفر في الوقت الحاضر نافع لكم، ومناخ مدينة قم المقدسة الملتهب، وما أصابكم من فقر في الدم، وآلام ركبتكم تستدعي أخذ قسط وفير من الراحة.

وهنا التفت الإمام إلينا وخاطبنا بحرقة المهموم المحزون على ما يجري في العالم الإسلامي فقال: أنا لم اعبر إلا عما بداخلي بحضور الشيخ، وأقولها إليكم ثانية: إننا لم نخلق للراحة، وإنما للعمل والكدح، وما يجري من مآسٍ في عالمنا يفرض علينا التوجه الجدي لما يحدث، والمسارعة في التحرك قبل فوات الأوان. ثم ماذا أقول لفقراء قم لو سألوني، هل فكرت بنا يا سيد محمد، فنحن مثلك نعاني من الحر وشح المياه وتلوثها؟ عليّ البقاء هنا لكي أواسي الفقراء في هذه المدينة والمدن الأخرى فيما يعانونه.

ومع اشتداد الأمراض عليه (رحمه اللّه) ، وعلى المتعلقين به لم أشاهده يوماً خارجاً من بيته سراً أو علناً، طلباً للراحة أو شوقاً للعزلة.

الصورة الثانية

كنت جالساً في مكتب الإمام الشيرازي (قدس اللّه نفسه الزكية)، وإذا بالهاتف يقدم إليّ للتحدث مع شخص يريدني، رفعت السماعة وإذا بي أسمع

ص: 273

صوتاً أعرفه يطالبني بالحضور فوراً لأمر هام؛ وبعد أن وصلت إليه مسرعاً، قال لي: أرجو منك خدمة وهي أن تسرع في إيصال هذا السمك المشوي إلى سماحة الإمام الشيرازي.

قلت له: طلبك مرفوض، ليس مني وإنما من سماحته الذي يرفض هكذا أكلات ويراها من الترف والبذخ، وأنا لا أستطيع الذهاب به وعندي العلم الكامل برفضه من قبل سماحة السيد، فإن كنت مصراً على إيصاله فأرجو منك إعفائي من المهمة.

فقال: لا بأس أنا أتكفّل بإيصاله لسماحته.

وصل صاحب السمك - وهو من المقلدين المخلصين لسماحة السيد - للمكتب مسرعاً، ودخل مباشرة على سماحته الذي كان جالساً مع بعض الناس ووضع أمامه صحناً كبيراً فيه سمكتان مشويتان، وطلب من سماحته التفضل بالأكل قبل أن يبرد السمك.

وهنا رفع الإمام الغطاء الموضوع على السمك وقال للذي جاء به: ارفع هذه السمكه - وأشار إلى إحدى السمكتين - وقدمها للناس المتواجدين في المكتب، وخذ الثانية للعاملين في المكتب.

فقال صاحب السمك: سيدنا جئت بهذا لك، والناس الذين في الخارج ربما أكلوا السمك كثيراً، وأنا سمعت بأن سماحتكم لم تأكلوا السمك منذ سنوات وأحببت أن تأكل من يدي، ثم أردف: سيدنا تفضلوا بالأكل من هذا، وأنا الآن ذاهب إلى السوق لأبتاع السمك للجالسين والعاملين في المكتب.

فقال له الإمام: أنا أشكرك كثيراً على شعورك، ولكن لي إليك طلب وهو أن لا تكرر هذا الأمر ثانية، أتعرف لماذا؟ لهذه الأسباب:

ص: 274

أولاً: إن أسعار السمك غالية جداً، ولا يستطيع كل أصناف المجتمع التفكير به، وأنا لا يمكنني شراؤه أو أكله قبل أن يأكله الفقراء.

ثانياً: ماذا سيقول الناس الذين يدخلون المكتب أو يمرون بجنبه وهم يشمون رائحة السمك طاغية في كل مكان من المكتب؟ أتعلم ماذا سيقولون؟!!

ثالثاً: إن الإنسان يستطيع أن يحشو أمعاءه بشيء رخيص وبسيط، أما هذه الأمور - وأشار إلى السمك المشوي - فلا تزيده إلا بعداً عن دار الآخرة وإقبالاً على ملذات الدنيا الزائلة.

عند هذه النقطة أخذ صاحب السمك يقدم اعتذاره الشديد، وإنه كان جاهلاً سبب عدم أكل سماحته للسمك، وإنه لن يكرر ذلك ثانية..

عندها طلب الإمام من أحد المقربين بأن يضع شيئاً من العطور أو البخور في المكتب ومتعلقاته، لكي تطغى رائحته على رائحة السمك ولا يبقى أثر لذلك.

الصورة الثالثة

مشهد يومي يتكرر أمامي كلما حضرت صباحاً إلى بيت سماحة الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ، حيث كنت أشاهد خادم المكتب (الحاج أبو عباس) يقدم ورقة صغيرة تتضمن مشتريات المكتب اليومية والبيت الخاص لسماحته، من مواد الطعام والمتطلبات الأخرى إلى سماحة السيد، ليقبض ثمنها، وكثيراً ما أرى سماحته يسأل الخادم عن سعر هذه البضاعة أو جودة تلك المواد ولماذا ارتفعت بهذا المقدار؟!

وكثيراً ما كنت أسأل نفسي، ترى لماذا يعمل الخادم بهذه الطريقة المملة يومياً؟ أليس من الأفضل أن يقوم بشراء احتياجات المكتب والبيت شهرياً لما لها من فائدة على وقته وقيمة البضاعة، باعتبار أن أسعار الجملة فيها فارق كبير عن

ص: 275

أسعار المفرد؟ ولماذا يدقق سماحته (رحمه اللّه) مع الخادم بهذه الدقة ويستفسر عن كل الأمور التي جلبها واشتراها؟

وذات مرة سألت الخادم عما يدور في خلدي، وأكدت بأن المسألة فيها منفعة مادية ربما سماحته لم يلتفت إليها، وقلت له لماذا لا تعرض هذا الرأي على سماحته أو أحد المتعلقين به، ربما يستحسنوه وترتاح أنت لبعض الوقت؟ فأجابني قائلاً: المسألة لا ترتبط بي، وإنما هي تأكيدات سماحته بالرجوع إليه في هكذا موارد، وأنا بدوري ألححت عليه سابقاً على ما ذكرتم وأكدت على الارتفاع اليومي الفاحش للأسعار، ولكنه رفض الأسباب وطلب مواصلة العمل يومياً، وأضاف: إذا أحببت معرفة المزيد اذهب وتحسس الأسباب بنفسك.

الجملة الأخيرة للخادم جعلتني أتحين أقرب فرصة للقاء سماحته ومعرفة الأسباب منه شخصياً، وبعد يومين سنحت لي الفرصة بالجلوس قرب سماحة السيد وسؤاله عن الأسباب، فقلت للسيد الراحل (رحمه اللّه) : سيدنا لماذا لا تسمحون للخادم بشراء مواد الطعام واحتياجات المكتب مرة في الشهر لما لها فائدة في الوقت والمال؟ ثم لماذا لا تحولون هذه المهمة لشخص آخر باعتبارها أمراً ثانوياً لا يجب أن يأخذ من وقتكم الثمين؟

فقال لي سماحته: استفسارك قد أجبت عليه اليوم لأحد المقربين، وأقول لك كما قلت له: إنني جليس الدار، وهذا يمنعني من معرفة الكثير من الأمور التي تحدث في الخارج، وهذا الشيء الذي يقوم به الخادم يجعلني على ارتباط دائم مع الشارع العام وما يدور فيه وخصوصاً المسائل المتعلقة بالوضع الاقتصادي وتأثيراته السلبية على الوضع المعاشي والاجتماعي، وأنا من خلال هذه الواسطة - الخادم - أتعرّف يومياً على أسعار السوق ومعدلات التضخم

ص: 276

ومسائل التوزيع ونوعية المادة أو البضاعة، وما يهمني أكثر معرفة نسب ارتفاع الأسعار وتأثيراتها على الفقراء والضعفاء، وكيف يتسنى لهم مماشاة الارتفاعات العالية والمستمرة للأسعار يومياً.

فقلت لسماحته: سيدنا كلامكم صحيح وأنا أتفهم احساساتكم ومواساتكم للضعفاء، ولكن الناحية الأمنية يجب أن لا نغفل عنها، الحيطة والحذر مطلوبة في هذه الظروف ودائماً، وهذا الشيء يستدعي الشراء شهرياً وعدم الاقتصار على تاجر معين، وخصوصاً أن الخادم معروف عند الكل وربما يقدم البعض على أذيتكم بواسطة المواد التي يجلبها هذا الخادم يومياً.

أجابني: ربما يكون إشكالك صحيح من بعض الوجوه، ولكنني لا آخذ به، أتعرف لماذا ؟ قلت: كلي آذان صاغية لمعرفة السبب..

قال: أنت تعلم كم يزورني يومياً من الناس على اختلاف أصنافهم وأوضاعهم، فماذا أقول للفقير منهم لو سألني عن علمي بارتفاعات الأسعار وبما يعانون من أزمات وضغوط لتلبية احتياجات عوائلهم؟ هل أقول لهم لا علم لي بما تعانون منه؟ وهل أقدم لهم المساعدة المادية فقط ولا أنظر للمسائل المتعلقة بمعيشتهم؟ أليس من واجب مرجع التقليد أن يكون أول العارفين بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتأثيراتها على أوضاع الفقراء والمحتاجين؟ و...

وهنا قلت لسماحته: أنا اطلب المعذرة على تطفلي...

الصورة الرابعة

الأمراض البسيطة لم تثن يوماً الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) من تأدية مهامه بأكمل وجه وأفضل صورة، ولعلّ أغلب الذين عاشروه أو حضروا درسه التفتوا جيداً إلى هذه النقطة وكيف أنه يقوم بالتدريس أو الحضور لملاقاة الناس وهو مصاب

ص: 277

بالزكام أو وجع الرأس أو آلام الركبة، أما الأمور الأخرى التي يقوم بها داخل البيت من كتابة ومطالعة وعبادة وتفكير فلم تنقطع وإن تكالبت عليه الأمراض مرة واحدة.

ولكن عندما اشتد عليه ألم الركبة، ولم تعد هناك فائدة من جميع الأدوية الجديدة لعلاجها أو تسكينها، اضطر إلى إجراء عملية - فصد - في مكان محدد من الركبة، حيث تقتضي العملية شق اللحم بسكين حاد جداً في مكان معين قريب من منطقة الألم وبدون استعمال أية مادة مخدرة، لإخراج الدم المتجمع في تلك المنطقة.

جيء برجل مسن من أطراف مدينة ساوه - مدينة إيرانية قرب قم المشرفة - لمعاينة ركبة السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وبعد أن عاينها وفحصها جيداً، حدّد مكان الفصد وقال: يجب عليكم أن تمسكوا برجل السيد من الطرفين فالضربة ستكون قوية وعميقة وبدون أية مواد مخدرة.

استعد السيد الراحل (رحمه اللّه) للعملية، وقام الرجل بفصد المكان المعين فخرج الدم وأخذ يتدفق بقوة، وبعد انقضاء فترة قصيرة يعرفها الرجل من خلال تجاربه الكثيرة، قال: هذا يكفي، لنشد الجرح بهذا الرباط، عند هذه المرحلة سقط الإمام مغشياً عليه والرجل ما زال واقفاً، فقال: عليكم بالسوائل والأكلات المقوية للتعويض عن الدم المفقود، وخرج مودّعاً بعد أن دعا له بالعافية.

ولكن الدقائق مرت سريعاً وسماحة السيد لم يفق من غيبوبته، لذلك أسرع أحد الحاضرين بالذهاب إلى أحد الأطباء ودعاه لمعاينة السيد المرجع، وأسرع الطبيب بعد مجيئه لفحص سماحته فقال: إن ضغط السيد منخفض جداً بالإضافة إلى أنه مصاب بفقر دم مزمن وهذا ما يجعل الضعف يشتد على

ص: 278

سماحته، لذلك سارع الدكتور بإيصال المغذي إلى أحد أوردته، وبعد لحظات أفاق الإمام من غيبوبته، وهنا استغل الطبيب الوضع ليكرر ما قاله سابقاً إلى سماحته - حيث أوصاه في زيارات سابقة بالعناية بغذائه والتركيز على ما يقوي الجسم - فقال: سيدنا وضعكم الصحي يزداد سوءاً وإذا لم تركزوا على المشويات من اللحوم وغيرها، وعصير الفواكه فربما تصابون بأمراض لا يمكن شفاؤها بسهولة، ثم أوصى بعض المقربين بالعناية بسماحة السيد وعدم التساهل في تقديم كل ما يساعد على تقويته.

وعندما خرج الطبيب كرّر بعض الحاضرين ما أكد عليه، وقال بعضهم: الضرورة وحاجة المسلمين إلى سماحتكم، تستدعي عدم التفريط بصحتكم والإقبال على تناول الأطعمة التي أوصى بها الطبيب.

فقال السيد (رحمه اللّه) : كلام الطبيب لغيري، أما أنا فلا أعمل بوصاياه لأن الأمور التي ذكرها تميت القلب وتبعد الإنسان عن العباد ورب العباد، ثم إن الإنسان لا يعلم متى يفارق الدنيا، فماذا أقول لربي لو مت وأنا مقبل على هذه الملذات؟ وهل كل الذين يصابون بمرضي لا يعالجون إلا بهذه الطريقة؟ والفقير الذي ليس لدية مال لشراء هكذا أمور ماذا يعمل لكي يشفى من مرضه؟

ربما يسأل البعض: إذاً ماذا يأكل سماحته؟!

أقول - وهذا ما يؤيده أغلب الذين عايشوه وجلسوا على مائدته -: إن طعامه المفضل ماء المرق العادي - الذي يصنع من الماء وبعض الزيت وشيء من معجون الطماطم - مع بعض الخبز اليابس المقطع.

أما الأمور الأخرى فلا يقربها غالباً، وحتى الولائم التي يقيمها لضيوفه أو التي يُدعى لها تراه لا يقترب إلا من نوع واحد من الأكل، وبالتأكيد هذا النوع

ص: 279

يكون أقل الأنواع بساطة وتكلفة، وأنا شخصياً جلست على مائدته كثيراً ولم أره يأكل غير بعض المرق وكسرة صغيرة من الخبز.

والحلويات هي الأخرى لا يميل إليها على الرغم من مرور عشرات العلب أمامه يومياً، تلك التي يجلبها العرسان الجدد معهم عند إجراء عقود الزواج في بيت سماحته (رحمه اللّه) .

الصورة الخامسة

هناك شيء لم يلفت نظري، غير أن أحد الأشخاص ممن يواظبون على الحضور في مكتب الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) لفتني إليه، ففي أحد الأيام سألت هذا الشخص وقلت له: لماذا أراك تتسابق إلى حضور غرفة الإمام كلما فتحت لعامة الناس - هناك جلسات خاصة مع بعض الشخصيات الزائرة لا يسمح لأحد الاشتراك فيها - فقال: تريد الواقع؟ قلت له: نعم! قال: في الحقيقة أنا أرغب في الحصول على الهدايا من سماحة السيد، قلت له: وهل هناك مناسبة لتقديم الهدايا؟ قال: لا، ولكن الهدايا التي يأتي بها الناس لسماحة السيد يقدمها للحاضرين في غرفته، وأنا خلال العام الماضي حصلت على أكثر من هدية.. وأتوقع الحصول على المزيد كلما حضرت في غرفته.

قلت في نفسي لماذا لم أتوجه إلى هذه النقطة - لا لغرض الحصول على الهدايا وإنما لتدوين ذلك - ففي جلسات سابقة رأيت هذه الحالة أمامي مرات ومرات ولكنني لم أتوقف عندها، واليوم هذا الشخص يوجهني إليها وكأنه وعاها قبلي، فراجعت بعض الصور التي مازالت مرسومة في ذهني، فشاهدت أن والدي في إحدى زياراته قد حصل على قطعة قماش راقية جداً، وأخي الدكتور كان نصيبه علبة من العطور الغالية، والسيد ال.. قماش أسود من الذي

ص: 280

يلف على الرأس كعمامة، إنه ديدن سماحته لا يحب أن يفرح بالهدايا قبل أن يفرح الآخرون بها.

بعد ذلك أخذت أراقب الوضع في كل مرة يؤتى بالهدايا لسماحته، وخصوصاً الزائرين القادمين من دول الخليج فبعضهم اعتاد على حمل بعض الهدايا لسماحته (رحمه اللّه) ، فكان حقاً المصداق الأمثل للآية الشريفة: (لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ)(1).

فهو لا يفرح بما يقدم إليه، ويسارع بتحويله إلى من حضر لديه .. ولم يحزن على ما فاته، وإن كان كبيراً في نظر البعض..

كما لم يتردد في الإقدام ثانية على كل فكرة أو مشروع أفشله الآخرون أو صادروه في المرات السابقة، والقصص في هذا المجال كثيرة جداً، وهناك أكثر من حادثة لمصادرة الحقوق الشرعية والأموال الخاصة من وكلائه ومقلديه، ناهيك عن قرارات الحجز على الأشياء المرسلة والواصلة إليه، أما أساليب المنع والإغلاق والنهب والاحتلال لمؤسساته ومدارسه، فهي الأخرى غدت حالة طبيعية لديه لكثرتها وتكررها بين الحين والآخر.

ولعلّ المشروع الإسكاني الذي أراد بناءه في مدينة قم المشرفة، يعد من أبرز المشاريع التي تم القضاء عليها بصورة غريبة بحيث صودر كل شيء يتعلق بالمشروع، واعتقل كل من له ارتباط وصلة قريبة أو بعيدة بالمشروع، حتى سائقي الشاحنات الذين جلبوا الحديد من مدينة بندر عباس الإيرانية لم يسلموا من قرارات الاعتقال والإهانة.

فقد قامت السلطات بمصادرة الأرض - والتي هي الآن مكان تجمع

ص: 281


1- سورة الحديد: 22.

الباصات في مدينة قم (الترمينال) - والحديد المرسل من دولة الكويت، ومصادرة كل الأموال المخصصة للمشروع والتي كانت موضوعة في حساب خاص في أحد البنوك والمقدرة ب- 200 مليون تومان.

وعندما سئل السيد - بعد الحادثة مباشرة - عن خططه المستقبلية في إيران، هل يستمر عليها أم يوقفها؟ قال: إن الواجب علينا أن نعمل بجد ومثابرة وأن لا نتراجع أو نركع أمام هذه التصرفات، والعاملون للهدف الكبير ربما يلاقون أكبر من ذلك، وما عليهم إلا الصمود والتحمل والاستمرار في تأدية مهامهم وأعمالهم، واختتم كلامه بهذه الآية الكريمة: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُم)(1).

الصورة السادسة

في صبح أحد الأيام كنت جالساً مع حجة الإسلام والمسلمين السيد حسين الشيرازي ابن المرجع الأعلى آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) في الغرفة المجاورة لغرفة الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ، وإذا بنا نسمع صوت الجرس - وهو العلامة التي بواسطتها يطلب سماحة السيد (رحمه اللّه) شخصاً أو شيئاً ما - وبما أن الوقت مازال مبكراً وخادم المكتب لم يأت بعد، لذلك قمنا أنا والسيد حسين بفتح الغرفة المخصصة لسماحته (رحمه اللّه) لمعرفة ماذا يريد الإمام في الصباح الباكر.

وعندما دخلنا الغرفة شاهدنا سماحته يجمع البطانيات الجديدة الموضوعة على الأرض وهو يكرر القول أين ذهبت البطانيات القديمة؟ من رفعها من مكانها؟ لماذا غيّرت؟ ألم أقل لكم لا تغيروا شيئاً في غرفتي؟ فقال له السيد

ص: 282


1- سورة محمد: 7.

حسين: (حاج آقا) - وهي عبارة احترام ينطق بها المقربون من سماحته رحمه اللّه عندما يخاطبونه - صحيح أن البطانيات القديمة و سخة وبالية إلا أننا لم نغيرها إلا بعد إلحاح أحد مقلديكم الذي جاءنا يوم أمس حاملاً معه البطانيات الجديدة ، حيث فرشها بنفسه.

فقال سماحته رحمه اللّه مخاطباً السيد حسين: أنت أكثر الناس علماً بحاجة الناس الذين يأتون إلينا يومياً - فقد كان السيد حسين هو المشرف علی شؤون المكتب إثر سفر آية اللّه السيد رضا الشيرازي رحمه اللّه إلی كويت، وسفر سماحة السيد جعفر الشيرازي (دام ظله) - فالكل يأتي وهو يحمل طلبات عالية لا نستطيع تلبيتها جميعاً، والبعض يقدر الحالة ويشاهد الظروف بعينه وكثيراً ما يعذروننا ويقبلون باليسير، وأنتم بعملكم هذا - فرش البطانيات الجديدة - ستفتحون ألسنة الناس علينا، وإذا أردنا أن نعتذر إليهم بقلة الإمكانات وضعف اليد لا يصدقون ذلك وهم يرون الجديد والتغيير أمامهم، وربما قال أحدهم: كيف لا تستطيعون مساعدتي وأنتم يومياً تشترون حاجة جديدة. إن صاحب الحاجة يريد قضاء حاجته فقط، ولا يرى مهما غيّر ذلك، ونحن ليس من مهامنا إخبار الناس بأن هذه الأشياء الجديدة مهداة، وحتى إذا أخبرناهم إنها مهداة ربما لا يصدقنا البعض ويقول لماذا لا يهدي الناس إلينا نحن المحتاجين؟!

أسرعنا أنا والسيد حسين بجلب البطانيات القديمة من أحد غرف المكتب، وأعدنا فرشها وترتيبها من جديد في غرفة سماحته، فجلس عليها وهو مرتاح.

ونفس الحالة رأيتها من سماحته (رحمه اللّه) عندما شاهد التغيرات التي أجريت على الجدار الخارجي للمكتب، وكذلك عندما رأى أحد الصباغين وهو يهم

ص: 283

بصبغ جدران المكتب، فمنعه وطلب من الكل عدم تغيير أي شيء في المكتب بناءً أو صبغاً.

وإلى أن توفي (رضوان اللّه تعالى عليه) لم يقدم أحد على تغيير أي شيء في المكتب، وبقيت جدرانه كما هي مملوءة بالثقوب والشقوق لا تقي الجالسين فيها من لسعات برد الشتاء القارص.

الصورة السابعة

الذي يجلس عند سماحة الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) لا يخرج إلا وهو محمّل بالقصص الهادفة والعظات الصالحة، فسماحته إذا لم يذكر قصة مؤثرة لا يترك موعظة حسنة وهو الخبير باستغلال كل شيء لصالح الفكرة التي يريد إيصالها للآخرين.

ففي أحد الأيام كنا جالسين عند سماحته وإذا بمجموعة من التجار الطهرانيين يتقدمهم المرحوم الحاج هادي الكتبي يدخلون على سماحته (رحمه اللّه) للسلام عليه، و بعد أن جلسوا بدأ السيد الراحل (رحمه اللّه) بالسؤال عن أحوالهم واحداً تلو الآخر.

فقال أحد التجار الطهرانيين: في الأسبوع الماضي كنت في مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) وقد وفقنا للدعاء لسماحتكم، فقال له السيد (رحمه اللّه) : كيف سافرت إلى مشهد؟ قال: بالطائرة! تركه سماحة الإمام و توجه إلى الحاج هادي الكتبي وقال له: سمعت أنكم أنتم كذلك كنتم في مشهد المقدسة، كيف سافرتم؟ فقال الحاج هادي: سيدنا بالسيارة.

فقال الإمام: ما الفرق بين ثمن السيارة و ثمن الطائرة؟

فقال أحد التجار الطهرانيين: 20 ألف تومان.

ص: 284

فقال الإمام: ربما يرى الإنسان أنه غني و يستطيع أن يستغل ماله للركوب في أية وسيلة، ولكن هذا ليس فخراً، الفخر أن يعرف كيف يحافظ على المال الذي حصل عليه بصعوبة، و كيف تنظر إليه الناس، وهل السفر في الطائرة أو السيارة يؤثر على رأي الناس فيه سلباً أو إيجاباً؟

ثم إن الحديث الشريف يقول: «أفضل الأعمال أحمزها»(1) أي أشدها عناءً، ومن يريد زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) عليه أن يختار الأمور التي تصب عليه الخير العميم، وأنا أرى أن السفر بالطائرة والمبيت في فندق خمس نجوم والجلوس على موائد الطعام المفضلة، تبعد الإنسان عن الهدف الواقعي وتقسّي القلب وتبعده من الرحمة والرأفة.

والآية الكريمة تقول: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) والمال غالباً ما يكون وبالاً على صاحبه، يجره نحو الطغيان و التكبر، اليوم سفر بالطائرة وغداً بطائرة خاصة وبعد غد سفرة حول العالم، وهكذا يدور الإنسان بدوامة لا تنتهي أبداً.. والطغيان لا يأتي فجأة أو من فراغ، إنه يأتي تدريجياً، شيئاً فشيئاً يصبح الإنسان طاغياً لا يكفيه كل ما بحوزته فيطلب المزيد و المزيد، فيستغل كل شئ للمزيد، و يقوم بأي شئ لطلب المزيد.

أما لو استطاع الإنسان أن يسيطر على تصرفاته، ويتقيد بمنهاج الزاهدين وسلوك الخائفين، ويراعي ظروف الآخرين، سيكون محبوباً من الخالق ومن المخلوقين، ويبقى ذكره على ألسنة العالمين إلى قيام يوم الدين.

أحد التجار الطهرانيين لم يستطع رفع رأسه إلى الأعلى خجلاً، فظل مطرقاً برأسه نحو الأرض وهو يبكي، وعندما انتهى سماحة السيد (رحمه اللّه) من

ص: 285


1- روي عن النبي الأكرم، بحار الأنوار: ج67 ص191.

كلامه، قال هذا التاجر وهو مازال مطرقاً برأسه: أعاهدك سيدي وأعاهد اللّه جل وعلا أنني لن أسافر إلى مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) إلا بالسيارة فقط.

فقال له السيد الراحل (رحمه اللّه) : المسألة غير محصورة في الذهاب إلى مشهد بهذه الوسيلة أو تلك، وإنما على الإنسان أن يجعل الزهد منهجه في الحياة، وعليه أن لا يخطو أية خطوة إلا بعد التفكير بها جيداً، هل هي مرضية من الحق تعالى أم لا؟ كما إن المال يجب أن يصرف في الموارد الضرورية والمستحبة والمفيدة للصالح العام، وفي الحديث الوارد عنهم عليهم الصلاة والسلام: «لَا تَزُولُ قَدَمٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ ثَلَاث ... وَعَنْ مَالِهِ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَ فِيمَا أَنْفَقَه»(1).

الصورة الثامنة

قيل: (من الصغائر تعرف الكبائر).

ونحن إذا أردنا أن نعرف شخصاً ما، نعرفه من تصرفاته في الأمور الجزئية، من طريقة أكله للطعام.. شربه للسوائل.. أسلوبه في الكتابة.. استغلاله للوسائل.. استفادته من الوقت.. تعلقه ببعض الأشياء..

وإذا أردنا أن نطبّق هذه القاعدة على السيرة الذاتية لسماحة الإمام الشيرازي (رضوان اللّه تعالى عليه) لرأيناها تنسحب خجلاً من الواقع الذي عاشه سماحته في مختلف ظروف حياته..

منها: عندما يريد أن يشرب كأساً من الشاي، فإنه لا يضع في الشاي إلا مكعب صغير من السكر، وإذا أراد أن يحركه، فيحركه بهدوء كي لا يسقط بعضه في الصحن، وإذا سقط شيء من الشاي في الصحن فلا يتركه بل يقوم بشربه

ص: 286


1- عن الإمام الباقر (عليه السلام) ، بحار الأنوار: ج10 ص160 - 161.

أولاً، ولم أره مرة أرجع الشاي لبرودته أو رداءته..

ومنها: الرسائل الواردة إليه بعضها يوضع في أرشيفه الخاص إذا كان مهماً، والبعض الآخر الذي ليس فيه فائدة يحاول أن لا يترك الصفحات والقطع البيضاء الموجودة فيها دون الاستفادة منها، وكذلك الرسائل التي يرسلها فإنه لا يترك فيها بياضاً، وإذا وجد فيقوم بقطعه من الرسالة للاستفادة منه في مطالب أخرى..

ومنها: الوقت عنده ثمين جداً، والدقائق على قلتها لا يتركها تذهب سدى، كيف يجعلها تفلت منه وهو الباحث عن المزيد من الوقت للمطالعة والتأليف؟ وربما تكفي الواقعة التالية لمعرفة مدى حرص السيد الراحل (رحمه اللّه) على الوقت:

في أحد الأيام جاءني صديق يعمل في مكتب سماحته وقال لي: اليوم بعد الظهر سيأتي أحد الصحفيين لإجراء مقابلة مع سماحة السيد ومن الضروري أن تكون حاضراً عند إجرائها. فحضرت في الموعد المحدد، وجاء الصحفي ونصب أدواته استعداداً للقاء، وجاء سماحة السيد وجلس في مكانه المخصص قائلاً: تفضلوا بطرح الأسئلة، وقبل طرح السؤال الأول أدار الصحفي جهاز التسجيل لإجراء الحوار، وإذا بالجهاز لا يعمل، وتبين أن الجهاز غير موصول بالكهرباء وإن السلك الرابط بين الجهاز والكهرباء قد نسيه الصحفي في مكان غير معلوم، فاعتذر لسماحة السيد وقال سأبعث شخصاً ليشتري لي بطاريات من السوق، ولن نتأخر إلا عشر دقائق.

وعندما سمع السيد الراحل (رحمه اللّه) بالدقائق العشرة نهض ودخل إلى البيت، ورجع وهو يحمل كراساً صغيراً، وجلس في مكانه وبدأ يقرأ بالكراس وهو يقول

ص: 287

لنا: هذا الكراس تكفي الدقائق العشرة لمطالعته، ولم تمض أكثر من عشرة دقائق إلا والإمام قد أنهى مطالعته للكراس والصحفي بدأ جاهزاً لطرح السؤال الأول.

ومنها: قد لا يمر يوم دون أن تُهدى إلى سماحته مجموعة من الكتب على اختلاف أنواعها وقيمها، فكان (رحمه اللّه) يطلبني قبل أن يدخل إلى بيته ويقول لي خذ هذه المجموعة من الكتب وأوقفها في مكتبة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، أو مكتبة الإمام الجواد (عليه السلام) ، وهذه البقية ستبقى عندي بعض الوقت للمطالعة وبعدها سأحولها لك لتقدمها للمكتبة، فلم تكن لديه مكتبة خاصة، وما يطلبه من كتب وخصوصاً تلك التي يحتاجها في تأليفاته أحضرها بنفسي له من بعض المكتبات العامة أو الخاصة..

ومنها: إنه (رحمه اللّه) لم يشتر مسكناً ولم يمتلك أرضاً أو عقاراً، ليس هو فحسب بل كل المتعلقين به من إخوانه وأولاده، فتراهم يتنقلون من مسكن إلى مسكن بين الحين والآخر، وعندما ألحّ بعض التجار عليه وعلى أخيه آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) بشراء مسكنين لهما اعترضا على ذلك بشدة وقالا للتجار: إذا كان ولابد فاشتروا بالأموال التي خصصتموها لشراء مساكن لنا بعض المراكز الإسلامية أو بعض الحسينيات في الخارج.

وبهذه الطريقة استطاعا أن يخرجا من ضغوطات التجار، وأن يقيما بعض المؤسسات في الخارج..

وأعتقد أن هذه الأمثلة والقصص كافية للحكم على شخص كان الزهد يسري بعروقه مسرى الدم.

الصورة التاسعة

يعتقد المسؤولون في بعض الدول أن الناس كلهم من قماش واحد، وإن

ص: 288

كانوا من الفقهاء أو المراجع، فالذي لا يبارك خطواتهم، ويعترض على تصرفاتهم، يمكنهم قص لسانه ببعض المال أو بعض الامتيازات الآنية من حطام الدنيا، التي ربما كانت غاية بعض المعترضين.

غير أن هذا الأسلوب (الأموي) لم يعط أية ثمار عندما اصطدم بواقع صلب مقاوم، بأناس نذروا أنفسهم للدفاع عن الحق والعدالة، وعن الحرية والكرامة، وعن الإسلام الواقعي الأصيل، ويأتي في مقدمة أولئك الذين وقفوا وتصدوا بحزم للمخالفات الشرعية المتكررة، فقيدنا الراحل الإمام الشيرازي (قدس اللّه نفسه الزكية)، الذي غدت قصصه ومواقفه البطوليه أمام الجائرين والمستبدين دروساً وعبراً يترنم بها كل من أراد أن يسلك طرق المقاومة والتحدي.

والأساليب التي اتبعها سيدنا الراحل (رحمه اللّه) في مواجهة التعديات على قوانين السماء وتعاليم الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) تختلف من قضية إلى أخرى، فبعض المسائل كان يعالجها (رحمه اللّه) من خلال النصيحة المباشرة وغير المباشرة، بالرسائل الشفوية والكتابية، بالدروس والمحاضرات، باللقاءات الخاصة والعامة، من خلال الكراسات والكتب التي ينشرها ويوزعها يومياً، ومن خلال تحريكه للخطوط والفاعليات المؤثرة في القرارات المختلفة و..

وكانت هذه الأساليب المتنوعة في المواجهة تحيّر السلطات، وهي التوّاقة إلى طمس معالم كل الأصوات المعترضة والمخالفة..

ومن الألاعيب التي حيكت بعناية لإسكات سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) وجرّه نحو زمرة المصفقين والمتملقين، إرسال الوسطاء والشخصيات وبعض القيادات للقاء سماحته (رحمه اللّه) وعرض ما حصلوا عليه، والمتوقع ما يحصل عليه من مزايا ومكاسب إن هو صفق وبايع مثلهم، حتى إن أحد الوفود المهمة

ص: 289

التي دخلت على خط الوساطة نقل كلاماً عن أحد المسؤولين الكبار يفيد بأنه حاضر لتقديم كل ما يجعل السيد الشيرازي يعيش بنعيم لا يبور، ولإبداء حسن النية من جانبه فإنه سيرسل مجموعة من سيارات (المرسيدس) للبيت والعائلة، وسيحول 300 مليون تومان لرفع شهرية سماحته في الحوزة، وإنه سيوصي المسؤولين في الإذاعة والتلفزيون على تخصيص أوقات كافية للتبليغ عن مرجعية السيد الشيرازي وأفكاره، وأنه... وأنه...

فقال لهم الإمام: والمقابل؟!!

قال أحدهم بصراحة: السكوت.. والمبايعة..

فقال لهم: كما تعلمون لو كنت طالباً للدنيا لاستكثرت من المال والجاه وأنا في العراق، ولو كنت أطلب الراحة والرفاهية لما تركت الكويت، والآن أقول لكم أنا لست من أولئك الذين يتكالبون على حطام الدنيا وزبرجها، ويسكتون عن الأخطاء لكي لا تقطع مصادر أموالهم.

في الوقت الحاضر وفي أي وقت أرى انتهاكاً للقيم والتعاليم السماوية، فإنه لا يحق لي السكوت أو الانزواء جانباً وإن أدى ذلك لمصادرة مؤسساتي واعتقال أبنائي..

بماذا أخاطب المظلومين لو أرادوا مني التدخل لرفع الحيف عنهم، هل تعلمون كم الشكاوي التي تصلني يومياً وتطالبني بالمساعدة والمعونة من جرّاء اضطهادهم وظلمهم؟

لماذا يصر المسؤولون على تكميم الأفواه؟ هل فكروا بعواقب ذلك؟ ولماذا يرفضون الرأي الآخر؟ أين التعددية التي يتكلمون عنها أحياناً؟

وأخذ السيد الراحل (رحمه اللّه) يتكلم ويتكلم، والوفد يستمع باستغراب، لأنه

ص: 290

حديث جديد عليهم، لم يعهدوه من أحد قبلاً، فمهماتهم مع الآخرين جميعها تكللت بالنجاح والفوز، واليوم يرون أنفسهم قد اُكلوا بعد أن كانوا هم الآكلين.

وبعد ساعة تقريباً توقف سماحة السيد (رحمه اللّه) عن الكلام، فقال أحد أعضاء الوفد: والنتيجة ماذا نقول للمسؤول الكبير عندما نرجع؟ فقال لهم: انقلوا إليه ما سمعتم، قال أحدهم: لا يمكننا ذلك، فقال: هذه مشكلتكم..

ومن هذا الموقف ومواقف أخرى مثيلة، تيقن المسؤولون أن السيد الراحل (رحمه اللّه) ليس راغباً في الدنيا وما فيها، وهو لا يمكن أن يأتي معهم بطرق الترغيب، فتحول المسار بعد ذلك إلى الطَّرق بعنف بكل أساليب التهديد والمضايقة والمصادرة والاعتقال والمطاردة وبالأوزان المختلفة..

ص: 291

الصورة

ص: 292

الحوار الثالث: مع آية اللّه الشيخ حسن الغديري

اشارة

ص: 293

ص: 294

الصورة

نلتقي بفضيلة آية اللّه الشيخ حسن رضا

غديري(1) ليحدثنا عن بعض خصائص ومزايا الإمام الراحل السيد محمد بن المهدي الشيرازي (رحمه اللّه) .

بداية المعرفة

* حدثونا عن بداية معرفتكم بالإمام

الراحل (رحمه اللّه) .

أما بالنسبة لمعرفتي به قبل لقائه، فتعود إلى زمن الدراسة في الحوزات

ص: 295


1- سماحة العلامة الحجة الشيخ حسن رضا بن مزمل حسين الميثمي الغديري. - ينتمي إلى حواري أمير المؤمنين (عليه السلام) الشهيد ميثم التمار رضوان اللّه تعالى عليه. - ولد في مدينة ديرا غازي خان بمقاطعة البنجاب الباكستانية سنة 1373 ه- 1952م. - يقيم حالياً في لندن بالمملكة المتحدة ويمارس وظائفه الدينية في كل الاتجاهات. - خرج من حاضرة قم المقدسة العلمية على يد المراجع العظام حتى بلغ مرتبة سامية من العلم والفضل. - نال الشهادة الجامعية (الليسانس) في الأدب والعلوم الإنسانية من جامعة البنجاب بلاهور. - نال الشهادة الجامعية (الليسانس) في القضاء من جامعة طهران. - تجاوزت مؤلفاته المائة عنوان في أبواب متفرقة من المعرفة باللغة الأردية والفارسية والعربية والانجليزية. إلى جانب دواوينه، وله تعليقات علمية على كتب فقهية عدة. - خطيب محاضر وقاض مرشد وكاتب مؤلف ومحقق مترجم وأديب شاعر. - باشر وساهم في تأسيس العشرات من المؤسسات الاجتماعية والاعلامية والثقافية والدينية في الباكستان والمملكة المتحدة وغيرهما. - يتولى الان مجلس القضاء الشيعي الإسلامي بلندن.

العلمية، وقد تعرفت عليه عبر الكتب وعبر الأساتذة، وأتصور أن ذلك كان سنة (1965م أو 1966م) فكنا نحضر للدرس عند أساتذتنا، كانوا أيضاً يتكلمون عن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، وبعدما انتقلنا إلى قم المقدسة وذلك في سنة (1971م) أيضاً هناك في الحوزه كنت أدرس كفاية الأصول للمرحوم الآخوند في علم الأصول أستاذنا ذكر كتاب الوصول إلى كفاية الأصول للسيد محمد الشيرازي (رحمه اللّه) ، فسألت عن الكتاب وعن المؤلف فقال إذا كنت تريد أن تفهم الكفاية يجب أن يكون لديك هذا الكتاب وكذلك عندما كنت أحضر درس المكاسب للشيخ الأنصاري (رحمه اللّه) .

في إحدى المرات ذهبنا إلى أستاذ الفلسفة، وكان يدرسنا كتاب شرح المنظومة للسبزواري فذكر اسم الإمام الراحل (رحمه اللّه) وقال عليكم بشرح السيد الشيرازي.

حقيقة رأينا في جميع العلوم والكتب التي درسناها أن الأستاذ يذكر السيد الراحل (رحمه اللّه) ، و ينقل الكثير عن كتبه.

ومرة ذهبت إلى بيت أحد الأساتذة وسألته من هو هذا السيد الشيرازي، الشارح للكفاية والمكاسب والفلسفه، فبدأ الأستاذ حديثه قائلاً: أنا لا أعرفه معرفة شخصية، ولم أزره ولم أره، ولكن عبر كتبه فهمت هذه الشخصية العظيمة، وإذا أراد أحد أن يصل إلى مرحلة الاجتهاد، فيجب عليه أن يطالع كتبه!

فسألته أين يسكن. قال إنه من كربلاء المقدسة، وهو الآن في الكويت.

وبعد سنوات رزقني اللّه أداء فريضة الحج في سنة (1977م) ومن هناك ذهبنا إلى الكويت، وكان معنا أحد الأصدقاء من قم المقدسة وكان يعرف السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، فقال يمكن أن نذهب ونزوره، فبقينا هناك يوم وليلة، وذهبنا إلى

ص: 296

السيد الشيرازي (رحمه اللّه) الذي رحب بنا كثيراً، وشجعنا وتشرفنا بزيارته، وبعدها أرشدنا إلى عدد من الأمور الأخلاقية والعلمية، وقد سألت سماحته (رحمه اللّه) : سيدنا لقد كتبتم في كل العلوم كتباً، فكيف تسنى لكم هذا التوفيق؟

تبسّم وهو يقول: هذا من بركة الإمام الحسين (عليه السلام) ، ثم شجعنا على الكتابة قائلاً: يجب أن تكتبوا كل ما تدرسونه، فالكتابة تبقى والخطابة تذهب..

وطلب منا البقاء في ضيافته، وأهدى إلينا مجموعة من الكتب، وهو يقول: إنكم لن تستطيعوا قراءتها في موسم الحج، ولكنكم عند العودة بمشيئة اللّه تستطيعون مطالعتها.

كانت الفتره التي قضيناها برفقة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، تقريباً حوالي ساعتين ونصف، وكان ذلك أول لقاء معه.

وأتذكر أنه في ذلك الوقت كان شاباً ونحن كذلك، وقد طلبنا منه النصيحة في كيفية العيش في هذه الحياة وجعلها مثمرة، فقال: العلم والعمل كررها ثلاث مرات.

وبعد مرور سنتين على هذا اللقاء قامت الثورة الايرانية، كان جارنا قبل قيام الثورة سماحة المرحوم السيد علي الفالي، وكان يأتي لزيارتنا ويحدثنا عن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، وأيضاً كان سماحة السيد محسن الخاتمي من الأصدقاء، وقد فتح أبواب عقولنا أكثر على سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وبعد أن نجحت الثوره جاء السيد الشيرازي (رحمه اللّه) إلى ايران، وقد ذَكّرته بزيارتي له في الكويت، فقال لي لم تجدد الزيارة بعدها، فقلت له: سيدنا، لم أوفق حيث كانت رحلات الخطوط الجوية غير مؤاتية بشكل جيد.

وبعد أن استقر في مدينة قم المقدسة، وتعددت لقاءاتي بسماحته (رحمه اللّه) في

ص: 297

بيته وهو شرف كبير لي، حيث كنت أذهب إلى زيارته مع السيد محسن والسيد علي، وتعودت عند زيارته في كل أسبوع أن يعطينا كتاباً من كتبه الجديدة، وكنا نشتاق إلى تلك الكتب، ولم أكن متعوداً على الذهاب إلى منازل مراجع آخرين في قم المقدسة.

وفي إحدى المرات، قلت لسماحته (رحمه اللّه) : سيدنا اليوم لم تعطنا كتاباً جديداً، وأنا قد تعودت على أخذه كل أسبوع، فسأل أحد العاملين في مكتبه: أين الكتاب الجديد؟ فأجابه: ليس لدي علم، فقال له: كيف ليس لديك علم؟! اذهب إلى المخزن وائت بكتاب إلى الشيخ.

وجاء لي بأحد كتبه المطبوعة حديثاً، ونصحني بالكتابة في مختلف المواضيع.

تجسيد الفضائل

وفي هذا المجال يمكنني القول أنني قد أخذت الكثير من المعارف من السيد الراحل (رحمه اللّه) في اللقاء الأول في الكويت، واللقاءات اللاحقة في قم المقدسة والتعرف إلى شخصيته، التي تجسد الكثير من معالم الإنسانية، وتجسد العلم والتقوى عملاً لا قولاً فحسب. فهو (رحمه اللّه) عندما يقول شيئاً يجسد قوله إلى عمل ملموس.

لقد كان وجوده حاضراً وفاعلاً حتى خارج الحوزة، وجود يستضيء منه كل مؤمن، أذكر في إحدى المرات أني سافرت إلى مدينة دبي، للقاء بعض الشخصيات في أوقاف الإدارة الشرعية الجعفرية، ودار هناك حديث عن مواضيع عديدة، وجاء ذكر السيد الشيرازي (رحمه اللّه) من خلال أطروحته عن النظام الشرعي في المجتمع، وهي أطروحة عجيبة، وذلك إن ما يقوله فيها لا يمكن تحقيقه في

ص: 298

الحاضر، ولكن بعد مرور الزمن يتحقق بعض الأشياء منها وكنا شهوداً على ذلك، فنكتشف أن نظريته تلك لم تكن تختص بذلك الوقت المحدد الحاضر، بل بالمستقبل، كان يتكلم عن المستقبل وعما بعد الظهور وأنه سيحصل كذا وكذا حسب الروايات.

واعتقد أن اللّه سبحانه وتعالى منحه فكراً خاصاً، وأيدهُ بأداء الواجب بإسلوب خاص.

كل عالم ديني يؤدي واجباته أما السيد الشيرازي (رحمه اللّه) فكان يؤدي واجبه بأسلوب مختلف ومتجسد بكل المعالم والمعارف، وكان (رحمه اللّه) عندما يتكلم يتكلم عن واقع الأمور من خلال جوهرها، وليس الظاهر منها فقط.

الأخلاق الفاضلة

المعروف عن هذه العائلة الكريمة، وخاصة سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) ، إنهم يمتلكون أخلاقاً طيبة، ومن مميزاته الأخلاقية (التواضع العلمائي) وهو واضح من خلال أسلوبه العملي، وهذه طبعاً من الصفات الكريمة عند كل إنسان مؤمن، ولكنها تتجلى بأورع صورها عند الإنسان الذي هو مرجع ديني كبير، والذي يبين رسالات اللّه و يبين معالم أهل البيت (عليهم السلام) للناس فقد كان السيد الراحل (رحمه اللّه) حقيقة حاملاً لهذه الصفات الأخلاقية الكريمة بصورة متميزة.

مقومات النجاح

* ما هي مقومات نجاح السيد برأيكم؟

- أما بالنسبة إلى مقومات نجاحه فاعتقد أنه امتلك الإخلاص الشديد لله وهذه صفة مهمة للعاملين في سبيل إسعاد الناس وتوجيههم.

ص: 299

النظرة الايجابية

* كيف كان يستطيع النظر إلى الجوانب الإيجابية في القضايا المطروحة أمامه ولا ينظر إلى السلبيات منها؟

- لم يكن يأخذ الجانب السلبي في المسائل التي في متناول يده سواء اجتماعية أو فقهية أو سياسية رغم معارضته لها، بل كان يطرح الأمور الإيجابية الموجودة فيها، مثل شورى الفقهاء حيث أعطى رأياً معارضاً بصورة إيجابية، وكان لا يلجأ إلى المعارضة السلبية، فهو يعتمد على ما يتسلح به من معرفة علمية، والتي تعد سلاحاً إيجابياً مقابل باقي الأسلحة السلبية، وهذا ما أتصور أنه هو الذي كان يقوّم نجاحه في كثير من قضاياه ومشاريعه العلمية.

التنظيم والتقوى

* كيف أسستم منظمة علماء الشيعة؟

- جئت من باكستان مع مجموعة من الأخوة وذهبنا للقاء السيد الراحل (رحمه اللّه) قبل هجرتنا إلى قم المقدسة، لأخذ النصيحة والمشورة منه حول ما يمكننا عمله، وقد أشار علينا بالتنظيم، قبل أن يضيف: التنظيم مع التقوى، وعلى ضوء ذلك شكلنا منظمة علماء الشيعة في باكستان.

* هل كان هو من يدير تلك المنظمة بعد أن ارشدكم إلى تأسيسها؟

- كلا، كان السيد الراحل (رحمه اللّه) فقط هو المرشد، وهو من دلنا على الأمور التنظيمية، ونحن أسسنا وشكلنا تلك المنظمة في باكستان، وقد وفقنا في الكثير من الأمور العلمية والتبليغية نتيجة إرشاداته لنا، لأننا أصبحنا ننظر إلى قضايانا بصورة إيجابية ونترك السلبيات التي تعيقنا عن العمل رغم وجودها، وهو على حد تعبيره (السلب نتيجته السلب والإيجاب نتيجته الإيجاب).

ص: 300

مع الثقلين

* كيف كانت علاقته (رحمه اللّه) باللّه سبحانه وتعالى وأهل البيت (عليهم السلام) ؟

- ومن خصائص السيد الراحل (رحمه اللّه) المتميزة أنه كان دائماً يستدل ويذكر ويستند على الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة للنبي وآله (عليهم السلام) فكلما كان يذكر موضوعاً يذكر الآية وكنت أفكر كيف هو يأتي بالآية مع كل موضوع؟ وكان يأتي بالأحاديث للأئمة (عليهم السلام) مباشرة قال الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال الإمام الباقر (عليه السلام) ، وهذه أيضاً من الصفات الخاصة به، لأن كل إنسان يريد أن يظهر شخصيته العلمسية يأتي ببيانه الشخصي ولكن هو كان يأتي ببيان إما من القرآن أو من الحديث أو الرواية لأهل البيت (عليهم السلام) هذا أيضاً من مميزاته العلمية واعتقد أيضاً إن هذا من مقومات نجاحه الفكري ونجاحه العلمي ونجاحه التخطيطي ونجاحة التنظيمي، إضافة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى وفقه لهذه الأمور.

الكويت أم كربلاء المقدسة؟

ومن مشاريع النجاح هذه الحسينيات في الكويت، زرت مرة الكويت بعد وفاة السيد الراحل (رحمه اللّه) ، فكان الأخوة الكويتيون يقولون أن السيد (رحمه اللّه) حوّل الكويت إلى كربلاء المقدسة قلت كيف قالوا هو أسس الحسينيات الكثيرة، وحب الإمام الحسين (رحمه اللّه) من مقومات النجاح مع التوكل والتوسل طبعا.

الآراء السياسية

* وهل كانت له آراء سياسية لا يمكن الإفصاح عنها؟

- طبعا كانت عنده مثل هذه الآراء على أسس سياسة الأئمة (عليهم السلام) ، حيث يقارنها بالكثير من أمور الواقع وكيف هي بعيدة عنها، لهذا كان يواجه المشاكل

ص: 301

بسبب آرائه تلك، بالإضافة إلى شورى الفقهاء، وقد عارضها بعضهم وكان له موقف منها، لأنهم لم يمتلكوا الرؤية الكاملة لها، لكن السيد الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) كانت لديه تلك الرؤية، وذلك الوضوح، فهو يقول هذا رأي علمي ويقرن ذلك بمباحث الحديث الموجودة في الفقه.

وقد كان عنده آراء خاصة بالكثير من المواضيع السياسية والتي يرى ضرورة تطبيقها في ايران وخارج ايران، قبل الثورة وبعد الثورة بمراحل وبأماكن مختلفة.

وبسبب تلك الآراء واجه سماحة السيد (رحمه اللّه) المشاكل، رغم الإيجابية في طروحاته، ظناً من الآخرين أن آراء السيد الشيرازي هي سلبية كما يعتقدون.

تجسيد الصفات الأخلاقية

الحديث عن الإمام الراحل (رحمه اللّه) واسع ومتشعب، وأما بالنسبة إلى معلوماتي ولقاءاتي معه فقد حضرت في مجالسه كثيراً ورأيت فيه تجسد جميع الصفات الأخلاقية والتواضع والتوكل على اللّه والتوسل بأهل البيت (عليهم السلام) .

وكان معروفاً بالأخلاق العالية التي أصبحت عنواناً بارزاً لمدرسته، لذا الآن يقولون إن الشيرازيين عندهم أخلاق وهذا في تصوري ميراث معنوي انتقل إلى نسله,

قال الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(1) , طبعاً علماء كثيرون موجودون في الحوزات عندنا يؤدون وظائفهم الدينية لتبيين معالم ومعارف أهل البيت (عليهم السلام) ,

ص: 302


1- بحار الأنوار: ج16 ص210.

أما السيد الراحل (رحمه اللّه) فقد كان يتميز في أمر تبيين معارف أهل البيت (عليهم السلام) بأسلوب خاص وأنا أتذكر مرات حديثه عن موضوع التوسل، السيد الراحل (رحمه اللّه) ذكر أحاديث عديدة لأهل البيت (عليهم السلام) مبدياً التواضع الداخلي من قبل نفسه، وهذه من الميزات الشخصية وهو المقوم الاساسي لنجاحه,

فالسيد الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) كان قد اتخذ أسلوب الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونجح بالنسبة إلى المواضيع الإجتماعية الأخرى مثل التعامل مع الآخرين، التعامل مع الحوزات العلمية، التعامل مع المراجع، التعامل مع العلماء.

لقد رأيت السيد الشيرازي (رحمه اللّه) في كل المجالات يتخذ أسلوب النبي وآله (عليهم السلام) والأسلوب الإلهي، يعني التعامل على أساس حفظ حرمة الآخر واحترام الرأي الآخر والأخذ بأسلوب يؤثر بنفسية الآخرين من منظور تبيين معالم أهل البيت (عليهم السلام) عبر العمل، وهذا شيء مهم جداً أن يعمل الإنسان بما يقول القرآن الكريم حيث يقول: (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ)(1).

كان السيد الشيرازي (رحمه اللّه) يقول ويفعل، آو يمكن التعبير عن ذلك بصورة أخرى كان قوله مطابقاً لفعله، أو إن فعله يطابق ما يريد قوله.

العبادة والعلاقة مع اللّه

أما بالنسبة إلى عباداته وعلاقته مع اللّه عز وجل فقد كان (رحمه اللّه) يأخذ بنفس أسلوب الأئمة (عليهم السلام) إخلاصاً لله سبحانه وتعالى,

كانت العباده تظهر على سيرته الشخصية, طبعاً كل عالم عابد، وهذا صحيح، وكل عالم يؤدي واجباته ويعبد اللّه سبحانه وتعالى وله علاقة مع اللّه،

ص: 303


1- سورة الصف: 2-3.

لكن كلامنا عن الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وكما يقال إثبات الشيء لا ينفي ماعداه, الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان عابداً بأقوى تمثلات كلمة العبادة,

هكذا نقل لي ابنه الكريم آية اللّه السيد مرتضى الشيرازي (دام ظله)، فهو كان يصلي صلاة الليل ويطوّل بالدعاء والتعقيبات، و كان يقرأ أدعية خاصة ويبكي عند قراءتها، فهو مثل ما نقل في الروايات عن الإمام السجاد يقرأ الدعاء ويبكي، وهذا البكاء من صميم القلب المتعلق باللّه سبحانه وتعالى، بالنسبة إلى عبادة السيد استطيع أن أعبر أنه كان شخصاً عابداً بالمعنى الكامل للكلمة.

احترام الآخرين

وأما بالنسبة إلى طريقة تعامله مع بقية المراجع، فهو كان يحفظ احترام كل المراجع حتى وهو يذكر المراجع القدامى يذكرهم كأبائه، ويذكر المعاصرين من المراجع باحترام كامل، وهذا من ميزاته الأخرى.

وهو (رحمه اللّه) ، لم يكن يقصّر في حفظ حرمة الشخصيات الأخرى، حتى لو كان في بعض الموارد يختلف مع هذا أو ذاك، كان يذكر اسم الآخرين بأحترام كامل وهذا أيضاً إحدى المقومات لنجاحه.

الأصل العمل

والحديث عن مواقف السيد الراحل (رحمه اللّه) بالنسبة إلى المواضيع العلمية والعملية، تجرنا إلى ما كان يعتقده وما اختص به وهو (أصالة العمل) وهذا الاختصاص بمعنى آخر هو إبداع بالرأي والموقف.

أصالة العمل، شكلت إضافة في الأصول الموجودة في أمهات الكتب والمباحث الحوزوية، واعتقد أنه إذا طبق هذا الأصل في المجتمع في شؤونه

ص: 304

المختلفة، يكون هذا المجتمع مجتمعاً إنسانياً كاملاً، لكننا ومع الأسف نشاهد في كل العالم مسلمين أو غير مسلمين مؤمنين أو غير مؤمنين كلهم ليس لهم اهتمام كامل بهذه الأصالة.

هنالك أسباب عديدة دعت السيد الراحل (رحمه اللّه) إلى التركيز على هذا الأصل، منها الضغوط المادية الكثيرة، والمشوقات والمشجعات للأمور المادية التي وصلت إلى حد جعلت الإنسان في أكثر أوقاته مشغولاً بالأمور المادية فقط، ولا يرى غير هذا المورد، حياته المادية والرفاه المادي.

طبعاً إذا كان مثل هذا الإنسان يتوجه ويلتفت في كل الأوقات إلى الأمور المادية المحضة فلا يمكن له أن يتوجه إلى أصالة العمل الواقعي الواجب تحقيقه في حياته. والإمام الراحل (رحمه اللّه) كان يؤكد ويصر على تحقيق أصالة العمل في المجتمع وهذا هو من ميزاته.

الحريات

وأما الآراء الأخرى للإمام الراحل (رحمه اللّه) في شؤون المجتمع كالحريات واللاعنف وأخرى من هذا القبيل، فقد كان يتخذ لها موقفاً قوياً، وكمثال على ذلك: الحرية، حيث كان يؤكد على لزوم تحقيق الحرية في المجتمع بالمعنى الواقعي للكلمة، ويقول إننا كثيراً ما نتحدث عن الحريات وأما تطبيقها وتحقيقها عملياً فلا يوجد.

* هل يمكن أن تشرح لنا بشيء من التفصيل نظرته إلى الحريات وإلى أي مدى وصلت تلك النظرة؟

- كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وباعتباره مرجع تقليد وعالم دين، يعتقد بأن الحريات يجب أن تكون في دائرة الإسلام والدين لا خارجة عنها، وإلا فلا قيمة

ص: 305

لها، بل قد تعطي نتيجة سلبية، وكان يعتقد أنه يجب أن تطبق الحريات في المجتمع في دائرة الحكم الإلهي، حيث يضمن السعادة للبشر في الحياة، على مستوى الأفراد والمجتمع، فإن الحريات التي في هذه الدائرة هي أوسع من الحريات المطروحة في عالم اليوم، وكان يعتقد أن اللّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان وأعطاه بفضله الإرادة والاختيار، فيجب أن لا تخرج الاستفادة من هذه القوى عن دائرة الشرع، وإذا خرجت فإنها توجب المفسدة، بل تنشئ المفسدة، فتفسد حياة الإنسان في الدنيا والآخرة. لهذا كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يؤكد على أن كل الحريات يجب أن تكون في دائرة الدين والشرع الإلهي المبين.

ومن المؤكد أنه كان يقيم الأدلة في الحقوق الاجتماعية لكل انسان، كحق الحياة مثلاً، وليس لأحد السلطة على سلب هذا الحق.

فلكل إنسان الحق أن يحيى في هذه الدنيا ويتمتع بكل ما هو موجود من النعم الإلهية، وكما للحاكم الحق في كل ذلك، كذلك للآخرين.

الإرهاب الجسدي والفكري

وباعتقاد الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، أن اللاعنف والسلم وغيرها من الأمور تضمن حق الحياة للإنسان، في مجتمعات لا تخلو من العنف والإرهاب بشكل عام، ولا أقصد الإرهاب بمعناه العام من قتل النفس المحترمة، بل هناك إرهاب أشد أثراً من إرهاب القتل، وهو الإرهاب الفكري، وكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يصر بأن المجتمع يجب أن يكون خالياً من الإرهاب الفكري.

وكان يعتقد بأن الحوزات العلمية الموجودة عندنا تعمل على تبليغ ما هو الحق للناس لكي لا يؤثر أحد من الإرهابيين على الفكر، وأكيد أن الإرهاب الفكري أشد فساداُ من الإرهاب الجسدي.

ص: 306

كان يؤكد أننا يجب أن نعارض الإرهاب الفكري من أجل ترسيخ الأسس السليمة للحياة والمجتمع.

وكان يؤكد في كتاباته وخطاباته أنه يجب على كل واحد من العلماء والمثقفين وعلى كل مؤمن أن يقوم بدوره مقابل الإرهاب الفكري, فأنا كرجل دين دوري في مقابل الإرهاب الفكري بالكتابة والخطابة وبيان الحق, والمثقف دوره في دائرة عمله حسب منهجه الموجود وحسب طاقاته واستعداداته، والشخص الذي عنده مال وليس لديه علم هو يقوم بدوره في دائرة عمله ويعارض الإرهاب الفكري، يعني يقطع طرق الإرهابيين الذين يريدون أن يسلبوا حق الحرية للإنسان، تلك الحرية التي منحها اللّه سبحانه وتعالى للإنسان، فمع (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلام)(1) كما في الآية الكريمة إلا أن الآية الأخرى تنص على أنه: (لا إِكْراهَ فِي الدِّين)(2) و(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُورا)(3) الإنسان خلقه اللّه سبحانه وتعالى حراً فلماذا الإنسان الآخر يأتي ويسلب هذا الحق و يقوم بأعمال لسلب هذه الحرية؟

هذا هو الإرهاب الفكري، أنا أريد أن افكر بأي شيء اعتقد بصحته حسب قناعتي، ولكن شخصاً آخر يأتي ويجبرني على اعتناق ما أرفضه كما نرى من هؤلاء الإرهابيين والجماعات التكفيرية، إنهم يكفرون كل شخص، يدعون إنهم مسلمون، حتى في أيام الحج والعمرة لا يعطون الحرية للشخص المسلم الآخر ليتمتع بمذهبه ودينه، هذا هو الإرهاب الفكري.

ص: 307


1- سورة آل عمران: 19.
2- سورة البقرة: 256.
3- سورة الإنسان: 3.

الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان يعارض وبقوة ويعطي الأفكار السديدة في مقابل هذا الارهاب، وهو نفسه كان له دور كبير في سد باب الإرهاب ومعارضته، وفي كتبه الموجودة نرى تأكيده على ما كان يعتقده، وهو تأكيد يستند إلى القرآن الكريم حيث يؤكد على التذكير بقوله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى)(1)، إنه تذكير نافع، فكان يذكر لكي ننتبه.

هذا كان دأب الإمام الراحل (رحمه اللّه) في بياناته، أنه يرغّبنا ويشجعنا ويشجع كل الشيعة أن يحاربوا الإرهاب الفكري بكل قوة.

لذا كان يعتقد بالسلام واللاعنف، ولهذا الغرض أعطى الكثير من الأطروحات الممتلئة بالإرشادادت الصحيحة للإنسان والتي تظهر بوضوح في كتبه ومحاضراته.

من ميزات الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، أنه كان يعطي إلية العمل ويبين كيفيته وهذا هو المهم, ليس فقط عرض للآراء بل كان يعطي الإرشاد الصحيح للتطبيق المقصود في مقابل الإرهاب الفكري والعملي، أي أنه كان يبين طرق المعارضة والمحاربة.

نظرة إلى واقع المسملين والغربيين

كان دور الإمام الراحل (رحمه اللّه) دور إرشاد وتوجيه إلى الطرق الواقعية للتطبيق، وهذه من أهم الخصائص المميزة له، وقد كان يشاهد ما يقع في الغرب ويقول إن هؤلاء الغربيين يخططون ضد المسلمين فلماذا لا ننتبه؟! يجب أن ننتبه ونتوجه إلى معرفة مخططاتهم الفاسدة.

ص: 308


1- سورة الأعلى: 9.

وكان يعتقد أن جميع ما يخططون له لا يعطي النتيجة المطلوبة لهم، لأن مستقبلهم مستقبل فاسد، فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وكان يعتقد أن الغربيين كل ما يخططون له فإن مصيره الفشل، وذلك من خلال سياق الآية الكريمة: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنين)(1) بشرط الإيمان، والإيمان يقتضي العمل وهو ما سماه (أصالة العمل).

فالمجتمع السليم الإنساني الإلهي الديني، هو المجتمع الذي تكون فيه الحريات الحقيقية للإنسان، وليس لأحد أن يسلب هذا الحق عن الآخر، وهو ما كان يؤكد عليه كما في كتابه (الفقه - الاجتماع) حيث ذكر طرقاً عديدة لسلامة المجتمع من الفساد.

وسائل الإعلام

أذكر أني كنت حاضراً في إحدى مجالس الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، ودار الحديث فيه عن وسائل الإعلام والفضائيات، وقد تحيرنا كثيراً مما طرحه حول إنشاء وتأسيس فضائيات إسلامية في ذلك الوقت المبكر من ظهور القنوات الفضائية، ومصدر تحيرنا أننا كنا نفكر بأن مثل هذا العمل هو عمل حكومي، فالحكومات والدول هي التي تقوم بإنشاء وتأسيس القنوات الفضائية، لا رجال الدين ولا المؤسسة الدينية، ولكن بعدما تحققت مثل تلك الأفكار، وشاهدنا ظهور الكثير من تلك القنوات الفضائية، توصلنا إلى نتيجة مفادها، إن الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان يفكر في المستقبل، ويفكر فيه عميقاً، وكان يرى أن للفضائيات الدور الكبير لمستقبل البشرية، وفي إرشاد وتوجيه وهداية الناس وهكذا هو واقع الحال.

وأتذكر في إحدى المرات، إن الأمام الراحل (رحمه اللّه) تطرق في حديثه عن

ص: 309


1- سورة آل عمران: 139.

وسائل الإعلام ومنها الجرائد والمجلات وقال إن تلك الإصدارات لها دور كبير في تثبيت العقيدة، فيجب أن نكتب في الجرائد والمجلات المقالات القويمة المبتنية على الآيات الكريمة وأحاديث الأئمه (عليهم السلام) ، وكان يؤكد على هذا الأمر تاكيداً عملياً، من خلال تشجيعنا على الكتابة، وكنت واحداً من الذين شجعني على الكتابة، واعتقد أن تشجيعه لي كان له الأثر الكبير في حبي للكتابة واستمراري عليها.

وحين كنت ألتقيه في مناسبات متفرقة وأتشرف بحضوره، كان يسألني ماذا كتبت؟ فكنت أجيبه بأني طالب علم أريد الدراسة وليس لدي وقت للكتابة، وكنت وقتها في مرحلة درس الخارج، فكان يقول: ما تدرسه الآن اكتبه واحتفظ بكتابتك تلك، ففي المستقبل سيكون لديك كتاباً كاملاً عنه.

وأذكر أنه عاود طرح سؤاله علي بعد أشهر ماذا كتبت؟ فأجبته قائلاً: لقد قمت بكتابة موضوعات دروسي، فقال: ما شاء اللّه، ما كتبته سيصبح كتاباً في المستقبل. وكان موضوع ما كتبته تلك الفترة موضوعاً عن الميراث، وبعدها بفترة عرضت على سماحته كتيباً صغيراً بخط اليد، حول النظام السياسي للإسلام باللغة الفارسية، ولشدة سروره أمر بطباعته، وقد أخبرته وقتها أن الكتاب بحاجة إلى تصحيح، وليست لدي الخبرة الكافية لذلك، لكنه طمأنني قائلاً: لقد عملت جاهداً، واعتقد أن كل ما كتبته صحيح. وقد طبع هذا الكتيب في ايران باسم (نظام سياسي إسلامي) بالفارسية.

المنبر الحسيني

ويمكن أن نذكر الكثير حول المنبر الحسيني، ودور الإمام الراحل (رحمه اللّه) في التشجيع عليه والاهتمام به، فقد كان (رحمه اللّه) ينظر إلى المنبر الحسيني نظرة أساسية

ص: 310

للتطبيق، ويقول هذا المنبر نعمة ببركة الحسين (عليه السلام) ونستطيع من خلاله أن نبلغ رسالاتنا إلى العالم، ولا يوجد في أي دين أو مذهب مثل ما يوجد لدينا عبر المنبر الحسيني.

وهذا هو الواقع، فالمنبر الحسيني سبب إحياء الدين، وهو أكبر وسيلة للإرشاد والهداية، وأكبر وسيلة للنصيحة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الإمام الحسين (عليه السلام) وهذا هو المقصود الحقيقي من قيام الإمام الحسين (عليه السلام) بنهضته المباركة.

والمنبر الحسيني يقوم بدور الأمر والنهي بشكل سهل وواسع، والذي يجلس في المجالس الحسينية ويسمع الحديث الحكيم والكلام النوراني ويأخذ معارف كبيرة، سوف يسعى ليطبق هذه المعرفة في الحياة كلما وفق للتطبيق فيها.

في تشجيعه للمنبر الحسيني، كان يطلب من الخطيب أن يكون عارفاً بمختلف الأمور، ويجب أن يبلغ الناس ما هي وظيفتهم في الحياة بالنسبة إلى اللّه سبحانه وتعالى خالقهم وربهم، وبالنسبة إلى أهل البيت (عليهم السلام) ، ويطالب الخطيب أن يوجه ويشجع الناس إلى أداء حقوق اللّه وحقوق الناس، وذلك من خلال توضيح العبادات والمعاملات، ولأجل كل هذه الأمور لابد وأن يكون الخطيب الحسيني مطلعاً بمختلف مناحي الحياة ليقوم بدوره الواسع وبترغيب الناس وجلبهم الى طريق الحق.

وكان يطالبنا دائماً بتوسيع وظائف المنبر، وكان يقوم بتأسيس الحسينيات لأجل إرشاد الناس، وله أكثر من كتاب حول الموضوع، منها: (الاستفادة من عاشوراء) و(رسالة المساجد والحسينيات) إضافة إلى توجيهاته الكثيرة بهذا الخصوص في محاضراته ولقاءاته.

ص: 311

وأتذكر أنه كان لدي قبل أربعين عاماً، كتيب صغير مطبوع في كربلاء المقدسة، وهو عبارة عن إرشادات وجهها الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى الخطباء، وهو ما يدل على اهتمامه بالمنبر الحسيني، وكنت كثيراً ما اسمعه يردد على لسانه الحديث النبوي الشريف: «إن الحسين .. مصباح هدى وسفينة نجاة»(1)، ويتساءل: هل ركبنا هذه السفينة أو أصبحنا خارجها؟

وكان يفسر الأحاديث النبوية الشريفة، ويذكر في أحاديثه بعد فقرة وأخرى، كلام الإمام المعصوم (عليه السلام) وكان يقول في رواية كذا ورواية كذا وتعودنا أنه يذكر الرواية بدقة شديدة، وكان يتنقل بين الروايات والأحاديث للأئمة (عليهم السلام) بمنتهى السهولة واليسر فيذكر رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) ليتبعها بعد ذلك برواية للإمام الباقر (عليه السلام) ثم ينتقل إلى رواية أخرى للامام الكاظم (عليه السلام) ، وكان يؤكد دوماً على أهمية كلام المعصوم (عليه السلام) ، لما فيه من معارف، ويجب علينا أن نتوسل إليهم بكل المعارف، والمنبر الحسيني يضمن لنا مثل تلك المعرفة لهم.

دور المرأة في المجتمع

أما بالنسبة إلى دور المرأة في المجتمع الإسلامي، فقد كان يعتقد أن المرأة لها دور كبير في التربية، لأن التربيه الصحيحة تبدأ في حجر الأم, الأم بمقدورها أن تربي أولادها تربية صحيحة أو فاسدة، وعليه يجب توجيه المرأة ويجب إرشادها، لأن سعادة المجتمع الإسلامي تقوم عبر هذه التربية.

فالبيت المدرسة الإولى للطفل، وحجر الأم هو المصدر الحقيقي للتربية،

ص: 312


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج1 ص60.

وكل ما يصلح الأم يصلح التربية، وبالتالي يتأسس المجتمع الصالح.

لذا كان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يؤكد أن تكون المرأة عالمة، عابدة، صالحة، وعارفة بأمور التربية الإسلامية الصحيحة، وكان يذكر قصة أحد العلماء، الذي لا يحضرني اسمه الآن، وهو رجل دين وعالم كبير كانت أمه تتوضأ قبل أن ترضعه، يعني أنه أخذ اللبن من الأم على الطهارة، طوال فترة الرضاع، فأصبح عالماً جيداً صالحاً ومصلحاً.

فالتربية الإسلامية الصحيحة والواقعية والإنسانية والإلهية عبر الأم، ودور المرأة دور كبير في الإسلام، أعطاها الكثير من الحقوق، لكننا مع الأسف في مجتمعنا نسلب حقوق المرأة كثيراً في الكثير من الموارد، مثلاً بعض الأفراد يتمسكون بالآية الكريمة: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساء)(1)، ليفرضوا رأيهم على المرأة لأن الآية تنص على أن الرجل هو الحاكم وهذا فهم خاطئ وليس بصحيح، ف(القَوَّامُونَ) تعني يقومون بأمورهن، أي تقع على عاتقهم مسؤولية أمورها، لا أنهم قوامون بمعنى الحاكمون، فليست هنالك حكومة بين الزوج والزوجة، بل علاقة إنسانية كما يرى الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، وكل واحد منهما مسؤول عن تربية الأولاد تربية صحيحة، واللّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان من ذكر وأنثى ويقول: (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُم)(2) التقوى هي الأساس للإنسان المتقي، ويستحيل أن يسلب المتقي حق الإنسان الآخر، فالمتقي يؤدي حق الآخر، والمتقي يؤدي حق اللّه وحق الناس، المرأة إذا كانت صالحة وكانت

ص: 313


1- سورة النساء: 34.
2- سورة الحجرات: 13.

مؤمنة، تكون تربيتها للأولاد تربية صحيحة سليمة الإهية دينية، فيكون المجتمع الإسلامي مجتمعاً صالحاً.

هذا هو دور المرأة في المجتمع الإسلامي، كما كان يؤكد الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، ليكون المجتمع على الأساس الصحيح ولا يفسد ولا يكون فيه ما يخرب تلك التربية وتلك التنشئة، لأن المرأة تقدر أن تخرّب المجتمع وتقدر أن تصلح، فلها دور كبير، وللإمام الراحل (رحمه اللّه) في هذا المجال آراء قيمة لتوجيه المرأة ولإرشادها إلى وظائفها ومسؤولياتها، ذكر الكثير منها في كتبه ومحاضراته.

والأمر الذي يرتبط بهذا الموضوع هو نظرة الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى الأطفال والشباب، وهذا الرابط هو التربية، فإذا كانت التربية صحيحة، يكون الطفل فرداً في مجتمع صحيح صالح، وإذا كانت تربية فاسدة يكون الطفل مصدراً للفساد داخل المجتمع.

وكذلك الشباب، فهناك الكثير مما يجذبهم، وهم في هذه المرحلة من العمر، مثل الجمال والمال والجاه، فيريد أن يستمتع بها ويستفيد منها، وهي موجودة بكثرة في مجتمعاتنا، لذا من الضروري إرشادهم إلى الطريقة الصحيحة للإستفادة منها، وأن يستمتع بالطريقة الصحيحة لا الفاسدة، أي بعبارة أخرى، إن الإنسان بطبعه يريد أن يأكل لسد الجوع، وأن يشرب لإرواء العطش، وأن يلبس لستر العري أو التجمل، لكن يجب عليه أن يأكل حلالاً و يشرب حلالاً ويلبس حلالاً، والشاب الذي يعيش في المجتمع الصحيح السليم، يستحيل أن يميل إلى الحرام ..

فالإمام الراحل (رحمه اللّه) عنده آراء حول الشباب، وكان يؤكد أنه يجب أن نقوم بدور كبير لإرشادهم وتربيتهم لأن هؤلاء هم أبناء المجتع في الحاضر

ص: 314

والمستقبل، فيجب أن نبني أساسهم على التربية الصحيحة ونوجههم وميولهم إلى الحلال عن طريق مشاريعنا الفكرية، وكان يؤكد أن أهمية تربية الشباب تدعونا إلى أن نقوم بدورنا المنوط بنا، وأن نقوم بمسؤولياتنا قبالها.

وكان يشجع الشباب على البرامج التعليمية الواسعة.

صفات نائب الإمام (عليه السلام)

* وفي نهاية المطاف كيف تصفون الإمام الراحل (رحمه اللّه) حسب معرفتكم له ؟

الحديث عن الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمه اللّه) ليس بالسهل واليسير، وليس حديثاً عن شخص، بل هو عن مزاياه الشخصية وعن صفاته الكريمة، من العلم والعمل والجهاد والتقوى و الفضيله والكمال، وأعتقد أن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان حاملاً لجميع الصفات لنائب الإمام الحجة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) في هذا العصر علماً وعملاً.

ص: 315

الصورة

ص: 316

الحوار الرابع: مع فضيلة الحجة الشيخ حسن الاصفهاني (رحمه اللّه)

اشارة

ص: 317

ص: 318

إذا أردنا أن نتحدث عن شخص من الأشخاص فلا شك في أننا نعايشه بشكل مباشر، أو أن نَعمد إلى مَنْ كان يعاشرهم، ويعيش معهم، ويتقلبون جميعاً في هذه الحياة بكل ما فيها من أفراح وأتراح..

وأما إذا أردت أن تتحدث عن عالم من العلماء فإنك تعمد إلى شيوخه إن استطعت، وإلا فإنك تتوجه إلى طلابه وتلاميذه الذين نهلوا من علومه ومعارفه، وكلما كان التلميذ أقرب كان الحديث معه أنسب ..

وإذا أردت أن تتحدث عن نابغة من نوابغ الدهر، ومفكر من مفكري العصر، فإنك - بداية - تتهيب المقام وتدخل باحترام إلى محرابه المكلل بالعلوم والحكمة، فتقف على الأعتاب وتقلب النظريات العلمية والآراء النقدية والاستنباطات المبتكرة، وتأخذ بالحديث عن جانب من جوانب النبوغ والعبقرية في شخصية ذاك العملاق الذي تتحدث عنه ..

ولكن إذا أردت أن تتحدث عن مرجع كبير، وقامة دينية شامخة، فإن المقام مهيب لما له من الحرمة والقداسة؛ لأن المرجع ظل المعصوم، أو هو نائب المعصوم - كما يعبرون - في هذا العصر..

فكيف إذا أردت أن تتحدث عن شخص هو إنسان، وهو عالم كبير، ونابغة من نوابغ الدهر، ومفكر من أكبر مفكري العصر، ومرجع عملاق من أعظم مراجع هذا الزمن.. فإن الحديث سيختلف تماماً والنظرة ستكون واسعة، لأن الرحاب شاسعة.

ص: 319

نعم، إننا اليوم نريد أن نتحدث عن (أستاذ الفقهاء) و(سلطان المؤلفين) و(نابغة القرن العشرين) المرجع الكبير، والعالم الخبير آية الآيات، ومحقق الروايات، المجدد لما مُحي من معالم الدِّين الحنيف الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قُدس سره وعُطر رمسه) ..

ونلتقي في هذه الإطلالة مع أحد طلابه المقربين، ومرافقيه في مسيرته سماحة الشيخ حسن الأصفهاني ليحدثنا عن تجربته الشخصية مع أستاذه الراحل (رحمه اللّه) ، لأنه ممن قضى عقوداً من السنين في درسه وخدمته نسمع له ماذا يقول .. وبماذا يجيب عن أسئلتنا التي حملناها وتوجهنا إليه بها ..

التعريف بسماحة الشيخ الاصفهاني

* بكلمات موجزة، كيف يمكننا أن نتعرّف على الشيخ الاصفهاني؟

- أنا العبد الفقير إلى رحمة ربه الشيخ حسن الأصفهاني، ولدت في (1948م) الموافق (1327) هجري شمسي، ليست لدي مؤلفات، ولكن مارست الخطابة الحسينية في بداية حياتي في مدينة كربلاء المقدسة، حيث كنت أقرأ مقدمة لمجلس الشيخ المرحوم أحمد سيبويه(1)

في محلة باب الخان (2)، فقرأت لعشرة أيام فأهدوني مبلغ (ربع دينار) مازلت احتفظ به إلى الآن، وقد كتبت عليه لأول مجلس قرأته على الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء المقدسة..

ومنذ البداية انتسبنا في مدرسة الحفاظ، ومن هناك انطلقنا كل حسب جهده واجتهاده، وبدأنا بالعمل وكنت أشارك كثيراً في المجالس، ولكن أصدقائي

ص: 320


1- الخطيب والعالم الجليل الشيخ ميرزا آل سيبويه من أسرة علمية جليلة هاجرت من مقاطعة يزد في إيران إلى كربلاء المقدسة وقطنتها.
2- من المناطق القديمة القريبة من حرم أبي الفضل العباس (عليه السلام) في كربلاء المقدسة.

ورفاقي من الخطباء، وأصحاب المنابر الآن لم يكونوا يشوقوني ويشجعوني لارتقاء المنبر وتطويره شيئاً فشيئاً؛ ولذا فهجرت المنبر للأسف الشديد..

وفي سنة (1391 ه) وصلنا إلى إيران، وارتقيت المنبر لأول مرة في قريتنا (سده) التابعة لمدينة (أصفهان) ثم تتالت المسألة عن أطراف مدينة (أراك) ومن ثم مدينة (إيلام) إلى ما بعد الثورة حتى سنة (1396 ه) حيث كنت أقوم بتوجيه ومساعدة الناس وخدمتهم التي أمر بها الدين القويم هناك، ثم التحقت بمكتب السيد الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) فتركت المنبر والخطابة، من كثرة المسؤوليات الملقاة على عاتقي في خدمة السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) .

* ما كان عنوان عملك في مكتب السيد الراحل (رحمه اللّه) في قم المقدسة، فهل كنت مديراً للمكتب؟

- أول دخولي للمكتب وبيت السيد الإمام (رحمه اللّه) كان تحت عنوان (مسؤول اللقاءات والزيارات) أي منسق ما يخص السيد الراحل (رحمه اللّه) بهذا الخصوص، وأرافقه في كل زياراته؛ وكنت كذلك إلى أن جاء السيد محسن الخاتمي وصار مسؤول المكتب والبيت كله.

وفي هذه الأثناء أضاف لي مسؤولية جديدة وهي مسؤولية (الحراسة الشخصية للسيد الراحل (رحمه اللّه) ) فتنظيم الحرس وتعيينهم، ومتابعة ما يخصهم كلها كانت بيدي، فكنت مسؤولاً عن تدريب وتربية هؤلاء للتعامل الأخلاقي مع كل الداخلين والخارجين من المكتب، وطريقة التعامل مع أعضاء المكتب وضيوفه وزواره.

ثم أنيطت بي مهمة جديدة وهي مسؤولية (الرواتب الشهرية) فكنت أرسل الأشخاص لتوزيع الرواتب وأحياناً كنت أرافقهم لتوزيع الشهريات، لاسيما بعد أن خرج السيد الخاتمي من إيران ..

ص: 321

فكنت أوزع الرواتب على كل العاملين في بيت ومكتب السيد الراحل (رحمه اللّه) ، إلا بعض الأفراد حيث كان لهم علاقة خاصة بالسيد الراحل (رحمه اللّه) فيأخذون منه رواتبهم مباشرة .. كالشيخ ناصر الأسدي، والشيخ فاضل الصفار وغيرهم.

واستمر ذلك إلى عدة أعوام، كل هذه القضايا منوطة ومعلقة بي شخصياً، إلى أن جرت الأحداث والمضايقات للسيد الراحل (رحمه اللّه) وكل مَنْ يعمل معه، و كلٌ أَخذ نصيباً من ذلك، فبعض أُودع السجن، وكثير منهم تعرض لأنواع كثيرة من التعذيب، وبعض هرب متخفياً يترقب إلى آخره، أما أنا فأبعدوني إلى أصفهان، ولا زلت فيها، وقد وفقنا لبناء مسجدين باسم مسجد الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، واستمر بنا الحال إلى عام (1980) فكنت أصلي الجمعة وأقيم الجماعة هناك، وارتقي المنبر أحياناً في المسجد المذكور.

ولكن رأيت أن المسافة بعيدة بين مكان إقامتي والمسجد، فتركت الذهاب إلى المسجد، علماً أن في جانب المسجد حسينية باسم (أصحاب الكساء). ومسجد (الإمامين المرتضى والمنتظر (عليهما السلام) ) والبناء الآن قد اكتمل، وعينت إماماً لصلاة الجماعة، وأكون مسؤولاً لرواتبهم ومصاريفهم وذلك من عام (1413 ه) وحتى الآن، وهذا ملخص عن حياتي في بيت السيد الإمام الراحل (قدس سره وعطر رمسه)..

وعلى كل حال .. أنا مَنْ أنا؟ وما أنا إلا عبد من عباد اللّه، وفقني اللّه سبحانه وتعالى لأكون بخدمة ذلك الإنسان العظيم مجدد القرن الماضي، فدعونا نتحدث عن الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه تعالى).

حديث البدايات

* متى كانت معرفتكم بالإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (أعلى اللّه

ص: 322

درجاته)؟

* وما هي ذكرياتكم الأولى معه؟

- معرفتي بالإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمه اللّه) كانت مبكرة جداً، فمنذ الطفولة وقبل سن التكليف حتى، وربما كنت في التاسعة من عمري حيث كنا أطفالاً ونذهب إلى الصحن الحسيني الشريف - مع زملائي ورفاقي وأقراني - لنؤدي صلاة الجماعة بإمامة الإمام الراحل (رحمه اللّه) حيث كان ماليء العين والبصر، وشاغل كل الأجيال في كربلاء المقدسة فالكل يتحدث عن السيد الشيرازي، من البقال وحتى كبار الرجال، وكذلك النساء والأطفال.

وأوائل تلك الذكريات الندية، والبدايات المرضية كانت من انتسابي إلى مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) الأهلية في كربلاء المقدسة حيث واصلت الدراسة فيها حتى نهاية المرحلة الابتدائية (الصف السادس).

وأذكر جيداً أننا عندما كنا في الصف السادس جاءنا إلى المدرسة (الشيخ نديم الطائي) وهو الذي درَّسنا مادة التاريخ وكنا مجموعة من أبناء كربلاء المقدسة من أمثال: السيد عبد الحسين القزويني، والشيخ علي حيدر المؤيد، والسيد هادي القزويني، والسيد مهدي القزويني، والشيخ رضا داعي الحق وغيرهم من أبناء العوائل المشهورة في كربلاء المقدسة.

وأذكر جيداً أن لهجة الشيخ كانت قريبة إلى اللّهجة الموصلية، وكنا نظن أنه من أبناء العامة في بداية تدريسه لنا، فهذه كانت أوائل الذكريات لي في كربلاء المقدسة.

وفي تلك الأيام والأثناء أذكر أن سماحة السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) استدعانا - أنا والشيخ علي حيدر المؤيد، والشيخ رضا داعي الحق - بعد مداولات ومناقشات أقنعنا بضرورة ولزوم الدخول في صفوف طلاب العلم الديني،

ص: 323

وأقنعنا بالتزيي بزي رجال الدين من عمامة وتوابعها والالتحاق بالحوزة العلمية.

وأذكر أن ذلك تمَّ بمراسيم لطيفة ومشجعة - أذكرها ولا أنساها - حيث كانت في بيت السيد الراحل (رحمه اللّه) الكائن في شارع الإمام علي (عليه السلام) وخرجت من منزله تلك الليلة بلباس طلاب العلوم الدينية.

وبالفعل التحقت بالحوزة العلمية ونجحنا في ذلك الامتحان منحنا (ديناراً واحداً) هدية وكجائزة لنا على مجهودنا ودراستنا.

وبعد ذلك التحقت بمدرسة (حفاظ القرآن الكريم) ولكن بعنوان معلم تشجيعاً لي ومساعدة بنفس الوقت لأننا كنا نعاني - حقيقة - من نقص الأموال والسيولة النقدية في تلك الأثناء، فالوضع الاقتصادي العام، وخصوصاً في كربلاء المقدسة كان ضاغطاً على الجميع.

واستمرت علاقتنا بالسيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) على هذا المنوال إلى أن اعتقل الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) وسجن، ثم توارى واختفى السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) عن الأنظار تلك الفترة المعهودة من الزمن الصعب، والأيام العجاف.

ومما يذكر هنا أن السيد مجتبى الشيرازي (حفظه اللّه) بعث إلي في تلك الأيام بعض الرسائل - بطريقة خاصة - لكي أوصلها إلى أصحابها خفية وبطريق مختلفة، منها أني اشتريت بعض الفواكه والخضار وذهبت إلى بيت السيد في شارع الإمام علي (عليه السلام) وأوصلتها إلى أصحابها ورجعت.

رسائل مختلفة

* ماذا كان مضمون تلك الرسائل، هل تذكرون ؟!

* وهل من رسائل أخرى أوصلتها شيخنا؟

- هذه الرسائل كانت مخصوصة لأشخاص معينين ومغلقة، ولم أكن مخولاً

ص: 324

بفتحها أو الإطلاع عليها أو على مضمونها.

نعم، كانت هناك رسائل أخرى من سماحة السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) شخصياً أعطاني إياها لكي أوصلها إلى السيد محسن الخاتمي، والشيخ ضياء الزبيدي في السجن حيث اعتقلا ووضعا في السجن، تلك الرسالة استنسختها بورقة ثانية أعطيتهما إياها وتركت الأصل معي، وبقيت محتفظاً بها إلى أن اعتقلت في إيران، فصادرتها السلطات فيما صادرت من وثائق وما شابه من مقتنيات شخصية وأمانات.

وأذكر أن السيد والشيخ أطلق سراحهما في منتصف الليل، ولم يطل سجنهما كثيراً.

كما أذكر أن الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) في عام (1373 ه) أعطانا بعض الرسائل إلى مراجع وأعلام إيران بخصوص البقيع وضرورة السعي لإعادة بنائه، وكانت موجهة إلى السيد الكلبايكاني (رحمه اللّه) ، والسيد شريعتمداري (رحمه اللّه) ، بختم يده فأوصلنا تلك الرسائل إلى أصحابها، وأخذنا الإجابات عليها ورجعنا إلى السيد (رحمه اللّه) بها.

ومما أذكره بأن السيد المرحوم شريعتمداري (رحمه اللّه) قال: هذه الرسالة الثانية تصلني من سماحة السيد ونحن سوف نسعى جهدنا في ذلك. ولكن السيد المرحوم الكلبايكاني (رحمه اللّه) لم يكن موجوداً فاستلم الرسالة ابنه المرحوم السيد مهدي.

كما أننا حملنا رسالة أخرى وبذات المضمون إلى المرحوم الشيخ مرتضى الحائري حيث اعتذر لنا بكلام طويل ولكن مما قاله لنا: بلغوا سلامي لسماحة السيد، وسأسعى جهدي لذلك إن شاء اللّه.

والذي أذكره في هذا الأمر أن السيد الشريعتمداري (رحمه اللّه) أهدانا (15توماناً)

ص: 325

عندما خرجنا من عنده ..

كما أني أذكر جيداً عندما كنت مع السيد علي الفالي (رحمه اللّه) نوزع شهرياً لقرابة (1000) ألف طالب حوزوي كهدية شهرية مبلغاً (من 20 - 40) توماناً في المدرسة الفيضية، حيث كنا نخصص غرفة الشيخ محمد حسين الأعلمي لأجل ذلك ونستمر لمدة ثلاثة أيام من كل شهر، وذلك قبل مغادرة سماحة السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) العراق إلى إيران، ولا أعلم الآن - حقيقة - لماذا لم نكن نستطيع توزيع الشهرية في نفس المكان (المكتب أو الحوزة)؟

فهل كان المانع ازدياد عدد الطلبة أو شيء آخر لمحظور سياسي أو منع أمني؟!! لا أعلم بالضبط، ولكن الذي أذكره أننا انتقلنا بعد ذلك إلى بيت ومنزل السيد أحمد الفالي لتوزيع الشهرية من هناك ولمدة ثلاثة أيام أيضاً، واستمرينا على ذلك إلى أن انتقلنا مع السيد الراحل (رحمه اللّه) إلى إيران عام (1379 ه).

كما أنني أذكر وصول سماحة السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى إيران حيث اتصل بالسيد علي الفالي (رحمه اللّه) وقد أخبره بوصول السيد الراحل (رحمه اللّه) فأخذه السيد علي إلى منزل والده السيد أحمد الفالي (رحمه اللّه) حيث كنت حاضراً في أول طعام يصنع لسماحة السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) يومها، ومن ثم انتقل سماحته إلى بيت السيد علي الفالي (رحمه اللّه) .

وفي الأيام الأولى من تلك الفترة طلب مني السيد مجتبى أن أرافق السيد الإمام (رحمه اللّه) في زياراته للعلماء والمراجع كعادة العلماء والسيد الإمام (رحمه اللّه) بالخصوص، وذلك لأنني كنت أرافق السيد مجتبى في معظم زياراته للعلماء هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنني كنت على معرفة واسعة ببيوت العلماء وعناوينها فكنت دليل سماحته للوصول إلى المقصود دون عناء ولو بالسؤال.

ص: 326

والسيد مجتبى طلب مني أن أكون بخدمة سماحة السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) تقبلت هذه المكرمة، وبقيت مع سماحته (رحمه اللّه) إلى أن ألقي عليّ القبض من السلطات الأمنية واعتقلت.

ففي تلك الفترة كنت بخدمة سماحة السيد (رحمه اللّه) ورافقته في كل زياراته التي قام بها، وحتى رد الزيارات من قبل العلماء أيضاً، فقد كانت أيام حركة ونشاط.

ومما أذكره في هذا المقام، أننا كنا في زيارة للسيد الكلبايكاني (رحمه اللّه) وذلك قبل قضية المرحوم السيد شريعتمداري (رحمه اللّه) ، والحجر عليه بإغلاق باب بيته بليلة واحدة فقط، تلك القضية المعروفة والمشهورة.

ففي تلك الأثناء زار سماحة السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) الكثير من الأعلام والمراجع الكرام كالسيد شريعتمداري (رحمه اللّه) ، والسيد الكلبايكاني (رحمه اللّه) ، والسيد المرعشي النجفي (رحمه اللّه) ، والسيد صادق الروحاني، والشيخ هاشم آملي، والشيخ مرتضى الحائري، وغيرهم من أعيان تلك الأيام، فكان سماحة السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) يُحذِّر الجميع من دقَّة الظروف و ينصحهم بالتروِّي والحذر من المتصيِّدين بالماء العكر، لأن سماحة السيد (رحمه اللّه) كان يتوجس الخوف من ذلك الحراك في تلك المرحلة الدقيقة جداً في حينها.

الصورة

* ماذا كان يقول لهم، إذا تذكرون الفحوى ومضمون حديث السيد الراحل (رحمه اللّه) ؟

ص: 327

- كان سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) يرى بأم العين الأعمال الخاطئة والتجاوزات التي تجري، ويرى ببصيرته وخبرته وما إلى ذلك أن الخطأ إذا لم يعالج فإنه يستفحل حتى يتسع الخرق على الراقع - كما يقول الإمام علي (عليه السلام) .

فمما كان يقوله سماحته مُحذِّراً وناصحاً لهم: بأن هذه الأعمال التي تسير وترونها خاطئة وغير شرعية وليست مناسبة إذا لم تقفوا أنتم أمامها لعلاجها وإصلاحها الآن فإنها ستستفحل، وسيأتي دوركم بعد أن دارت وعصفت بغيركم، فعليكم بالسعي لوقفها منذ البداية،

وكان يؤكد على كل مَنْ يلتقي به أن هذه الأعمال خاطئة وغير سليمة، وأنها جزء من خطة استعمارية يجب الانتباه لها، ولكن - يا للأسف الشديد - أن بعضهم كان يعتذر بعذر، ويتعلل بعلل لا طائل منها إلا الفرار والهروب من مواجهة الواقع.

واللطيف أن السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان متفطناً لذلك كله، ولذا كان يقول معلقاً عندما نخرج من عند أحدهم: هل الفرار من الفتنة والشر من سنن الأنبياء (عليهم السلام) ، أو سنن الأوصياء والأولياء والمؤمنين؟!

وأذكر أننا إذا كنا نطرح عليهم مسألة، أو نقول رأينا في قضية ما فكانوا يمتعضون وينزعجون، حتى أنه اقترح سماحة السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) على بعضهم تعطيل الدرس احتجاجاً لما جرى، إلا أنهم لم يوافقوا ولم يعطلوا الدرس ولا حتى واحد منهم فعل ذلك.

ومنذ ذلك اليوم، أو تلك الليلة التزم سماحته (رحمه اللّه) البيت ولم يخرج منه تلك المدة المديدة التي تعرفونها، لأنه رأى نفسه أنه يصرخ في صحراء مقفرة، ولا يجيبه إلا الصدى، فلماذا يخرج؟ ومن يزور؟ وكيف يناقش ولمن النصيحة؟!

ص: 328

* على أي شيء كان السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) يؤكد عليهم غير ما تقدم؟

- الذي أتذكره أن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يؤكد على نقطتين، هما:

الأولى: إن هذه خطة استعمارية يجب الحذر منها.

الثانية: إن هذه الأعمال موجهة ليس لضرب أشخاص بل هي موجهة أصلاً لضرب المرجعية والمراجع؛ والمرجعية كما تعلمون مقام هام وسامي جداً في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) فيجب أن يصان ويحترم.

ولذا كان يريد ويطمح أن يشارك الجميع - بشكل من الأشكال بالممانعة - وأقلها كان موقف التدريس، وتعطيل الدرس ولو ليوم واحد فقط ولكن تحت عنوان (الاعتراض والاحتجاج) على تلك الأعمال التي كانت تجري في البلاد حينها.

* هل تتذكرون - شيخنا - ماذا كانوا يقولون أو يجيبون؟

- أنا شخصياً كنت أكتب وأدوِّن كل ما يقولون، ولكن مذكراتي تلك صودرت حين اعتقلوني فاعتقلوها هي أيضاً، ولا أحد يعلم أين صار مصيرها؟ وهل بقيت أم أنها صارت وقوداً للنيران؟ لست أدري!!

* من أخذها منكم؟

- الجهات الأمنية المختصة التي اعتقلتني، وذلك لأننا كانت لنا معهم قضايا كثيرة، وأهم ما لهم علينا أنهم كانوا يعلمون ويعرفون فحوى ومضمون وكلام سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) بزياراته للمراجع والعلماء، وهذا كان كثيراً، وبما أنني كنت أرافق سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) وأكتب كل ما يقال فكانوا على إطلاع كامل على كل ذلك، وأذكر أن سماحته (رحمه اللّه) كان في بعض الزيارات له، يحتد معهم ويتكلم بقوة وشجاعة دون مواربة ولا يقبل عذر، ويعرب عن رأيه

ص: 329

بصراحة ووضوح دون خوف من أحد.

حتى أنني كنت - شخصياً - إذا خرجنا أقول له: سيدنا، أخشى أن هذا الأسلوب سوف يعطيهم ذريعة وحجة ليخلقوا لنا المشاكل ويعيقوا حركتنا. فكان يقول لي: لا .. بل واجبنا الشرعي، ووظيفتنا نؤديها رضي مَنْ رضي وأبى مَنْ أبى.

وفي إحدى المرات حضر مجموعة من رجال المال والتجار عند سماحة السيد (رحمه اللّه) وتكلموا معه ببعض القضايا التي تهمهم، أو ما يعانون منها، فأرشدهم سماحته (رحمه اللّه) - كعادته - وأعطاهم بعض التوجيهات والإرشادات الاقتصادية، فكتبوها ونشروها فيما بعد بأسمائهم لأنها كانت لصالح الاقتصاد الإيراني خاصة.

ومما أذكره أننا في إحدى الزيارات التي قمنا بها إلى بيت السيد الشريعتمداري (رحمه اللّه) وذلك قبل الهجوم عليه وإغلاق بابه أمام المراجعين، فسأل السيد الشيرازي (رحمه اللّه) هذا السؤال: هؤلاء الحكام على أي وجه يجيزون ضريبة البضائع (أي الجمارك)؟

فأجاب السيد الشريعتمداري (رحمه اللّه) : ربما من باب الاضطرار.

فقال السيد الشيرازي (رحمه اللّه) : هذا ليس بدليل، ودخل معه في بحث علمي فقهي دقيق جداً.

فقال السيد الشيريعتمداري (رحمه اللّه) : ليس هناك حل، لو منعوا (الجمارك) لصار الهرج والمرج واضطرب الوضع، وكل شخص يُدخل إلى البلاد ما يعجبه ويرغب من البضائع المستوردة.

فقال السيد الشيرازي (رحمه اللّه) : كلا، فليمنعوا الأشياء المحرمة من المخدرات والمشروبات والأسلحة، وكل هذه الأشياء التي تضر بالبلاد والعباد، وليتركوا

ص: 330

الناس أحراراً في تجارتهم لا أن يمنعوا كل البضائع أو يضعوا عليها الضرائب، فما يضير أن تدخل بعض الشاي، أو طن من النسيج للبلاد فهذا غير صحيح شرعاً.

فكان سماحة السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) بزياراته للمراجع يتباحث معهم في الأمور التي تهم العباد والبلاد؛ ولذا كان هناك احترام متبادل فيما بينهم وكان أفضلهم معنا السيد الشريعتمداري (رحمه اللّه) ، والسيد المرعشي النجفي (رحمه اللّه) ، والسيد الكلبايكائي (رحمه اللّه) إلا أن بعض الحواشي كانوا يتضايقون وينزعجون ولا تجد منهم الاحترام كما ينبغي أو كما يجب.

* ماذا كانوا يقولون عن السيد الراحل (رحمه اللّه) ؟

* فهل سمعت منهم كلمة إيجابية أو سلبية تجاه السيد (رحمه اللّه) أو كلاماً من السيد (رحمه اللّه) تجاههم؟

- أما أقوال السيد الشيرازي (رحمه اللّه) فلا أذكر أنه قال شيئاً بخصوص أحد منهم.

وأما السيد الشريعتمداري (رحمه اللّه) فكان كثيراً ما يمدح السيد (رحمه اللّه) أمام حاشيته والمقربين منه، وكذلك ينقل عن السيد المرعشي النجفي (رحمه اللّه) أنه قال: أن الشعب الإيراني بعد (100 - 200) سنة سيعرف مكانة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، (وهو الذي جاء لزيارة السيد الراحل (رحمه اللّه) وقال: ضاق صدري فجئت إليك ).

والذي أتذكره أننا عندما كنا نذهب لزيارتهما - السيد الشريعتمداري، والسيد المرعشي النجفي (رحمهما اللّه) - كانا يحترمان السيد الراحل (رحمه اللّه) كثيراً جداً، وأما مكتب السيد الكلبايكاني (رحمه اللّه) - مثلاً - فعندما كنا نتصل بهم لنأخذ موعداً في الساعة الرابعة أو الخامسة بعد الظهر، فكانوا يقولون: أن السيد مشغول وليس لديه وقت تعالوا في يوم آخر غداً أو بعد غد!

ص: 331

فكان سماحة السيد (رحمه اللّه) يذهب في الوقت الذي يحددوه لنا وذلك من منطلق الوظيفة الشرعية والواجب الديني.

أما مكتب السيد الشريعتمداري، والسيد المرعشي (رحمهما اللّه) فكانوا دائماً يرحبون ويفسحون المجال لزيارتنا.

ومما أذكره أن السيد الكلبايكاني (رحمه اللّه) قد شارك شخصياً في تشييع جثمان السيد الشهيد السعيد السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) وصلى على الجنازة وأقام مجلساً للفاتحة - وهو أول من أقامه - في بيته ولمدة ثلاثة أيام كما هو معروف ومشهور.

زيارة السيد الخميني

* في زياراتكم في الأيام الأولى لانتصار الثورة في إيران، عن ماذا كان يدور الحديث، بين الإمام الراحل (رحمه اللّه) والمراجع والعلماء، بأي محاور و مباني كانت تدور الجلسات؟

ج/ بعد وصول السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) إلى مدينة قم المقدسة قادماً من الكويت، كان العلماء والأعلام يأتون لزيارة سماحته عن طريق السيد علي الفالي، حتى أن السيد الخميني كان ممن زاروا السيد الشيرازي (رحمه اللّه) .

الصورة

فكان الإمام الراحل (رحمه اللّه) يكرر ويؤكد على الإقلال من سفك الدماء، وإنهاء ووقف الإعدامات التي كانت تحصل في حينها بتهمة (أعداء الثورة).

فالسيد الخميني زار السيد الشيرازي (رحمه اللّه) في مكان إقامته حيث كان نازلاً

ص: 332

في بيت الشيخ محمد اليزدي وليس في بيته السابق، و كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يؤكد على التعامل الإسلامي والأخلاقي مع العلماء خاصة، وبالتالي ضرورة تغيير الأساليب العسكرية والمخابراتية من الاعتقالات العشوائية والإلقاء بالسجون لكل من هبّ ودبّ دون مراعاة أوامر الشرع الحنيف، وحتى الأمور العرفية والأخلاقية للتعامل ..

زيارة الإمام الراحل للشيخ المنتظري

وأما الرجل الثاني للثورة الشيخ المنتظري فإنه لم يبادر إلى زيارة السيد الراحل (رحمه اللّه) ، إلا أن سماحة السيد (رحمه اللّه) هو الذي بادر بزيارته في بيته الكائن في (جهار مرادن)، وتلك كانت أول زيارة لي مع السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، وقد طرح سماحته (رحمه اللّه) على الشيخ المنتظري مسألة ضرورة وقف الإعدامات لأنها كانت في ذروتها، كما طرح على الشيخ أن يكون وسيطاً بين السيد الخميني وسائر المراجع ليلتقوا ولو مرة في الأسبوع أو على الأقل مرة في الشهر ويتبادلوا التشاور في كل المسائل.

وهنا استغرب الشيخ المنتظري وقال: أنا أحد طلابه الصغار ولا يمكنني أن أعمل شيئاً بهذا الخصوص، والحال أن الكثير من الأمور كانت منوطة به، وهو ماسك بزمامها إلا أنه استطاع أن يجيب السيد (رحمه اللّه) بشكل جيد وذكي، لأنه في الواقع كان لا يريد مثل هذه اللقاءات على مثل تلك المستويات الراقية.

ولكن السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) قال له: حتى لو لم تكن صاحب قرار مؤثر، أو رأي نافذ ولكنك درست عند السيد الخميني لفترة، وهو يحترمك ويسمع كلامك ويقدّر العمل الذي تقوم به، فأطرح عليه الأمر!

ولكن رجع المنتظري وكرر كلامه معتذراً عدم القدرة على هذا الطرح،

ص: 333

ومما قال: أنا لم أكن إلا أحد طلابه العاديين، وليس لي شأن يذكر، ولم أتحمل أي مسؤولية، ولا يمكن لي مثل هذا الطرح.

وأصر الإمام الراحل (رحمه اللّه) على رأيه وأنه قادر ومسؤول، ولكنه أيضاً أصرَّ على أنه غير قادر ولا شأن له! فقمنا وخرجنا من عنده.

وفي الفترة التي كان فيها السيد الشيرازي (رحمه اللّه) مقيماً في بيت السيد علي الفالي أتى ابن الشيخ المنتظري (الشيخ محمد) ولم يأت والده لزيارة السيد (رحمه اللّه) ، ولذا التقاه وجلس معه كل من السيد مجتبى، والسيد علي الفالي لفترة طويلة، واقترح بعض الأمور عليهم وكان أغلبها شكلي وإداري، فمنها طلب أن نجعل على السيد (رحمه اللّه) حراساً من الناس المقربين للسيد (رحمه اللّه) ، وأن لا يعتمدوا على الغرباء كما فعل هو نفسه الذي كان مكلفاً بحراسته والده، فجمع حراساً من مدينة (نجف آباد).

ونحن بالفعل عملنا بهذا الاقتراح، حيث أن الكثير من الغرباء يكونون مندسين وعملاء للآخرين، فجعلنا جميع الحرس ممن نعرفهم ونثق بهم من أهالي كربلاء المقدسة خاصة، ومن البيوت المعروفة بالتدين وبالولاء والإخلاص للسيد الراحل (رحمه اللّه) ..

زيارة الشيخ محمد يزدي

وفي زيارة السيد الإمام الراحل إلى الشيخ محمد يزدي في بيته، طرح سماحته بعض القضايا المهمة وهناك تنبأ لهم وقال لهم محذراً عن احتمال هجوم العراق على إيران وأنه يجب الحذر والحيطة من هذا الجانب، لاسيما الجيش والقوات المسلحة عليهم أن يكونوا على أهبة الاستعداد لرد الهجوم العراقي الذي يراه وشيكاً.

ص: 334

كما أنه نصحهم بأن يمدوا جسور التواصل مع زعماء العشائر في جنوب العراق وأن يدفعوا لهم الصلات والمساعدات والهدايا لضمان وقوفهم معهم، ولعل المبلغ المطلوب لذلك الأمر كان بسيطاً ولا يتجاوز ثمن طائرة حربية واحدة فقط، بل وعليهم أن يشجعوهم ويمدوهم بالسلاح ليثوروا على حكومة صدام ويساندوهم ليسقطوه وإلا فإن خطره قادم عليهم.

إلا إنهم لم يفهموا ذلك، ولم يقدروا هذا الاقتراح، لأنهم لم يكونوا مُطَّلعين على واقع النظام الصدامي الفاسد جداً، ولم يصدقوا نبوءة السيد الراحل (رحمه اللّه) بالهجوم العراقي على إيران .

في ذاك اللقاء بين السيد الشيرازي (رحمه اللّه) والسيد الخميني وأعضاء الثورة ممن حضروا في بيت الشيخ اليزدي، والشيخ اليزدي كان يكتب الحوار الذي كان يدور بين السيدين (الشيرازي (رحمه اللّه) والخميني)، فكل ما أقوله وبالتفصيل هو موجود ومسجل لديهم.

ولهذا نرى أن الشيخ محمد يزدي يقبّل يد السيد الشيرازي (رحمه اللّه) عدة مرات عندما كنا نزورهم في بيته أو عندما كان يأتي لزيارة السيد الراحل (رحمه اللّه) في بيت السيد الفالي، وفي ذلك الوقت لم تكن لدينا أجهزة إعلامية وتصوير وما شابه ذلك لنوثق ذلك بالصوت والصورة، وتقول للعالم أين كان هؤلاء من السيد الشيرازي (رحمه اللّه) وأين مكان ومكانة السيد في تلك الأيام ..

السيد الشيرازي (رحمه اللّه) والعشائر العراقية

* هل كان للسيد الراحل (رحمه اللّه) تأثير على العشائر العراقية حسب خبرتكم ووجهة نظركم؟

- حسب علمي وإطلاعي أن سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يتعامل مع

ص: 335

العشائر العراقية بواقعية وخبرة عملية، فلذا تراه كان يؤكد على نقطتين مهمتين هما:

الأولى: إن نزع السلاح من العشائر العراقية، وتجويعهم وإفقارهم خطة استعمارية بحتة.

الثانية: علينا أن نكسب العشائر العراقية والعمل على تفوقها وتسليحها ودعمها مادياً ومعنوياً ليكونوا أداة الثورة لاسقاط حكومة صدام الفاسدة.

محاولات التسقيط في الكويت

* لماذا كان الهجوم شديداً وشرساً على السيد الراحل (رحمه اللّه) في الكويت، كإصدار الفتوى ومؤيداتها.. فما كان سبب ذلك؟

* وكيف تعامل الإمام الراحل (رحمه اللّه) معها؟

- أنا شخصياً لم أكن في الكويت، ولكن سمعت ممن أثق بهم.

فسمعت أنه كانت هناك بعض الجهات، وبعض الأفراد ممن عملوا ضد السيد الشيرازي (رحمه اللّه) من حين كان في كربلاء المقدسة وقبل أن ينزل على الكويت، واستمرت الحملة في الكويت ولكن بشدة وشراسة أقوى، واشترك فيها كبار الشخصيات العراقية في حينها، الذين سعوا جهدهم لتسقيط السيد الراحل (رحمه اللّه) والتأثير على شخصيته في العيون والقلوب.

علماً أن هؤلاء عندما كانوا ياتون إلى كربلاء المقدسة للزيارة، وكان سماحة السيد (رحمه اللّه) يزورهم في أماكن إقامتهم ويحتفي بهم كثيراً.

وهذه القضايا السادة الكرام سماحة السيد المرجع السيد صادق الشيرازي (دام ظله) والسيد مجتبى (حفظه اللّه) وبقية الأخوة على دراية وإطلاع أكثر مني عن تلك المرحلة، ولكن الذي سمعته من بعض الأخوة المقربين والأصدقاء

ص: 336

أن سبب ذلك كله كان بعض المصالح المادية، إذ أنهم كانوا يتصورون أن سماحة السيد (رحمه اللّه) سوف يؤثر على مصالحهم.

وهناك الآن أحد العلماء الأعلام من الذين هداهم اللّه وعرفوا حق السيد الشيرازي (رحمه اللّه) فجاءوا اعتذروا من ماضيهم، وعن تلك الضجة المفتعلة بحق السيد في تلك المرحلة، إلا أن آثارها ما زالت باقية في الواقع والأذهان لاسيما البسطاء السذج من أفراد الأمة.

وذلك لأنه زرع في الكويت بذرة شقاق وغذاها فنمت وكبرت وما زالت آثارها وثمارها المرة في أرض الواقع رغم أنه يأتي اليوم إلى مكتب السيد الشيرازي وله سلام وكلام وملاحظات مع الأخوة، باعتباره شخصية منتمية لأحد الأحزاب المعروفة والفاعلة في الساحة العراقية منذ أن كان السيد الراحل (رحمه اللّه) في كربلاء المقدسة قبل أن ينتقل إلى الكويت.

وكانت بداية تحركهم ضد السيد الشيرازي في كربلاء المقدسة أن مكتبهم أو مقرهم الذي اتخذوه في مدينة كربلاء في تلك الأيام تعرض ذات يوم إلى هجوم من قبل أفراد مجهولين إلا أنهم اتهموا جماعة السيد! وأنهم الذين هاجموهم واعتدوا عليهم!! فوجهوا أصابع الاتهام وألقوا تبعاته كلها على السيد وجماعته، كما اتهموا سماحته بإثارة الناس والرأي العام في كربلاء المقدسة ضدهم.

وعلى أثر تلك الحادثة راح عناصر ومسؤولي الحزب بالعمل ضد السيد الشيرازي جهاراً نهاراً، وظهر ذلك إلى العلن، علماً أن المقر ذلك كان سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) هو الذي أسسه تحت اسم جمعية خيرية ولكن بعد فترة جاء جماعة ذلك الحزب وسيطروا عليه وجعلوه مقراً لهم في كربلاء المقدسة ..

ص: 337

وأما سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) فإنه كان بريئاً من كل ذلك وهي كانت أعمال حزبية متبادلة فيما بينهم كما لا يخفى على المطلعين والخبراء بهذا الشأن.

ولكنهم بعد تلك الحادثة أظهروا العداء للسيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، وراحوا يعملون ضده في الخفاء والعلن، ومن ذلك أنهم كانوا يذهبون إلى بعض الشخصيات ويتكلمون ضد السيد الراحل (رحمه اللّه) ، حتى أنهم استطاعوا إصدار بيان منه ضد السيد الشيرازي (رحمه اللّه) وهو في قمة الهرم الاجتماعي والعلمي.

وكان عندي تلك البيانات والأوراق التي صدرت بحق السيد الراحل (رحمه اللّه) في تلك الفترة إلا أنني لا أدري أين صارت الآن.

وكل تحرك صار فيما بعد فإنه كان ينطلق ويستنكر على ذلك البيان المفتعل، وأذكر أننا وبعد أن نزلنا إلى إيران وجاء بعض أنجاله وأولاده ذهبنا لزيارتهم مع السيد مجتبى والسيد علي الفالي، وأظهروا الندم على ما فعلوه بالسيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، كما أن أحد ابنائه جاء لزيارة السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) فألقى بنفسه على يدي ورجلي سماحة السيد (رحمه اللّه) يريد أن يقبلهما معتذراً من سماحته، وذلك حينما وصل إلى قم المقدسة وراح يبكي ويعتذر من السيد الشيرازي (رحمه اللّه) .

ومما قاله: (أعذرونا فإن الحزب الفلاني هو الذي حركنا وأخذ البيان ضدكم لغايات كنا نجهلها في حينها).

وقال: (إني لم أكن في مسألة البيان من الوالد، ومع ذلك فأنا اعتذر وأطلب العفو والمساعدة من سماحتكم).

فمن هناك كانت بذور الشقاق، وأولئك الذين افتعلوا كل هذه الضجة ضد السيد الشيرازي (رحمه اللّه) .

ص: 338

* كيف كانت ردة فعل السيد الراحل (رحمه اللّه) ؟

- سمعت - وما شهدت تلك الفترة - أن سماحته (رحمه اللّه) ما كان يعيرها أهمية ولا يعتبرها ذات شأن، وكان يقول لمن حوله: نحن نقوم بواجبنا وأولئك يعملوا أعمالهم؛ ولم يكن يسمح حتى بالعمل ضد أحد أو يحرك الشارع ضد أحد منهم لا في العراق، ولا في الكويت ولا إيران، حتى عندما اعتقل أخوته كالسيد الشهيد، أو السيد مجتبى (حفظه اللّه) فلم يحرك ساكناً ضد أولئك الحزبيين المعروفين.

* ماذا كانت ردة فعل السيد الراحل (رحمه اللّه) بالنسبة لذلك الحزب في كربلاء المقدسة، والكويت ثم في إيران ؟

- قلت فيما تقدم: إن جناب السيد الراحل (رحمه اللّه) لم يكن له أي

تحرك ضد أحد منهم لا في كربلاء المقدسة، ولا في الكويت، ولا حتى عندما نزل إلى إيران، لا هو شخصياً تكلم ضدهم، ولم يسمح لأحدٍ أن يتكلم إذا استشاره في مثل هذه المسألة.

ولكن العجيب فعلاً هو عداء أولئك السافر والغريب ضد السيد الراحل (رحمه اللّه) ، فكان عداؤهم شديداً، وحقدهم وبغضهم للسيد الراحل (رحمه اللّه) أشد وأعجب فعلاً؛ فكانوا يتصورون أن السيد (رحمه اللّه) إذا دخل ساحة الصراع السياسي فإنه سيكتسح الساحة العراقية كلها ويسحب البساط من تحت أقدامهم وأنه سيسيطر على ساحة الحراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي كله؛ وأنه سيقصيهم من الساحة كلها فيجب عليهم أن يحاربوه قبل أن يكبر ويستفحل أمره (وذلك لأنهم كانوا يسمون السيد الشيرازي (رحمه اللّه) في تلك الفترة بملك كربلاء).

وأنا شخصياً الآن لا أعرف حقيقة لماذا كانوا يبغضون السيد الراحل (رحمه اللّه) ،

ص: 339

ولماذا كانوا يحقدون عليه بهذا الشكل، فمن أين؟ وكيف؟ ولماذا؟ وما هي أسباب ذلك الحقد والبغضاء ضد السيد الراحل (رحمه اللّه) ؟ إن هذا مما يثير العجب والاستغراب فعلاً!!

وأذكر أن بعض الأشخاص الذين لم يكن لهم ربط أو انتساب لذاك الحزب كانوا يملئون قلوبهم حقداً وحسداً وبغضاً ضد السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، وكثير منهم نعرفهم وما زالوا أحياء في كربلاء المقدسة، وكنا نذهب لزيارتهم مع السيد الراحل (رحمه اللّه) ، والسيد المرجع السيد صادق (دام ظله) في منازلهم وبيوتهم إلا أنهم لم يبادروا ولم يأتوا ولو لمرة واحدة لزيارة سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) أو السيد المرجع (دام ظله) حالياً وإن هذا من أعجب العجب فعلاً!!

شهادة الميرزا جواد التبريزي (رحمه اللّه)

وأذكر أننا ذات يوم ذهبنا لزيارة الشيخ الميرزا جواد التبريزي (رحمه اللّه) (1) في أوائل نزولنا إلى مدينة قم المقدسة من الكويت وبعد السلام والاحترام وبدون مقدمات قال الميرزا للسيد الراحل (رحمه اللّه) : (في أحدى الليالي ذهبنا إلى أحد الكبار ولم يكن أحد عنده إلا نحن، فقلت له: هذه الأعمال التي تقومون بها لم يفعلها أي شخصية من شخصيات الشيعة في العالم - قديماً وحديثاً - بحيث تصدرون البيانات بين فترة وأخرى ضد السيد محمد الشيرازي).

ص: 340


1- هو مرجع شيعي اثني عشري. ولد سنة 1345 هجرية في بيت ديني رفيع بمدينة تبريز في إيران. في سنة 1371 ه- سافر إلى مدينة النجف الأشرف، وحضر فيها دروس كبار أساتذتها. في عام 1397 هجري وبعد عودته من زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في مدينة كربلاء المقدسة داهمته قوات أمن الرئيس المخلوع صدام في العراق وسفّرته إلى إيران. عندها سكن مدينة قم المقدسة وشرع بتدريس الدروس العالية ويعد درسه من أجود الدروس العلمية في مختلف العلوم، لاسيّما الفقه والأصول.

* عذراً على المقاطعة شيخنا .. هل سمعتم هذا أنتم من الميرزا؟

- نعم، أنا سمعته بنفسي، وهذا نص ولفظ ما قاله الشيخ الميرزا جواد (رحمه اللّه) ، وقال: إنه جلس وأطرق برأسه إلى الأرض.

ويستأنف الميرزا ويقول: فقلت له: من الناحية الشرعية لا يجوز إصدار مثل هذه البيانات منكم.

فغضب ورفع طرف الفراش الذي يجلس عليه، وقال: وماذا تجيب على كل هذه الرسائل؟ قل لي: ماذا أجيب عن كل هذه الرسائل التي تصلني؟!

قال الميرزا: فقلت له: هل هذا جواب شرعي، بعض الناس يتكلمون، وبعض الأفراد يكتبون ضد شخص آخر، فهل مثل هذه الأمور أصبحت حجة واورثتكم العلم اليقين حتى تصدروا مثل تلك البيانات؟!

فكان السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) يستمع إلى كلام الميرزا جواد التبريزي وهو يبتسم ولم يقل شيئاً أبداً.

* ماذا كان جوابه أخيراً ..؟!

- لم يكن لديه جواب إلا رفعه لطرف الفراش، وقوله: ماذا أجيب على كل هذه الرسائل؟

* ماذا كانت تحتوي تلك الرسائل ؟

* ومَنْ كان يرسلها للسيد ؟

- لا أعلم .. والشيخ الميرزا جواد التبريزي لم يقل عنها شيئاً، وظاهراً أنه لم يره إياها ولم يطلعه على محتواها، ولكنه أراه مجموعة تحت الفراش وهو بحالة غضب واضح على وجهه.

* هل كانت هناك زيارات متبادلة تتذكرونها مع علماء السنة في مدينة قم

ص: 341

المقدسة، وقبلها في الكويت، وكربلاء المقدسة أو مع بعض علماء النصارى وقساوستهم ؟

- لم تكن هناك أي زيارات متبادلة لنا معهم، إلا أن هناك زيارات فردية أو جماعية من بعض الشخصيات العلمائية لأهل السنة والجماعة بحيث كانوا يأتون إلى زيارة سماحة السيد الشيرازي وخاصة في أعقاب المؤتمرات الإسلامية، كمؤتمر الوحدة الذي كان يعقد سنوياً، فكان بعض المترجمين من أصدقائنا يأتون بهم لزيارة سماحة السيد الإمام (رحمه اللّه) .

وأذكر منهم الشيخ أحمد كفتارو(1) مفتي سورية، والأسقف كابوتشي(2)الفلسطيني، وبعض النواب ووجهاء الحركات الجهادية الفلسطينية، وهؤلاء كان سماحة السيد يتكلم معهم بخصوص فلسطين وأساليب المقاومة للكيان الصهيوني والتعامل مع اليهود وكيفية العمل للخلاص من ذلك الشر المستطير ودور لدول الإسلامية والوحدة الإسلامية في ذلك كله ..

الصورة

ص: 342


1- الشيخ أحمد بن الشيخ محمد أمين كفتارو المولود في دمشق عام 1915م، من علماء العامة.
2- رجل دين مسيحي سوري. ولد في حلب. أصبح مطراناً لكنيسة الروم الكاثوليك في القدس عام 1965. عُرف بمواقفه الوطنية المعارضة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، وعمل سراً على دعم المقاومة. اعتقلته سلطات الاحتلال في آب 1974 أثناء محاولته تهريب أسلحة للمقاومة، وحكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن 12 عاماً. أفرج عنه بعد 4 سنوات بوساطة من الفاتيكان، وطرد من فلسطين في تشرين الثاني 1978.

* ماذا كان مضمون كلام السيد الراحل (رحمه اللّه) مع أولئك الزوار مثل كابوتشي؟

- أنا شخصياً لم أكن معهم حاضراً في تلك الجلسات.

* ماذا كان يوصي مثل الشيخ أحمد كفتارو ؟

- بالدقة والحرفية أنا لا أذكر الآن، ولكن مما أذكره أن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يعلم بأن ابن الشيخ أحمد كفتارو كان مسؤولاً عن حزب التحرير(1)، وهو من الحزبيين الأقوياء في حينها - وله صورة موجودة لدينا - فعندما أتى الشيخ لزيارة الإمام الراحل (رحمه اللّه) بشوق ولهفة بادية وواضحة أذكرها، وأنا كما قلت لكم أنني كنت أحضر مثل هذه الجلسات وأسجل وأكتب كل ما يقال فيها واحتفظ بها في بيتي إلا أنهم أخذوا ذلك كله حين اعتقلوني في إيران للمرة الثانية فاعتقلوها معي وأخذوها إلى حيث أرادوا ولم أدر واللّه العالم أين هي الآن وما الذي حلّ بها.

برنامج الإمام الراحل (رحمه اللّه) في قم المقدسة

* ما هو برنامج السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) عندما نزل إلى مدينة قم بادئ ذي بدء؟

- في الأيام الأولى من دخول السيد الشيرازي (رحمه اللّه) إلى مدينة قم المقدسة،

ص: 343


1- حزب التحرير هو تكتل سياسي إسلامي تأسس في القدس مطلع عام 1953 على يد القاضي تقي الدين النبهاني، بعد تأثره بحال العالم الإسلامي إثر سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية في إسطنبول عام 1924. ويتخذ الحزب من البلاد الإسلامية مجالاً لعمله لإقامة دولة الخلافة، ولديه ناطقين رسميين في عدد من البلاد الإسلامية، والكثير من المكاتب الإعلامية. وللحزب انتشار فيفلسطين ولبنان ودول شرق آسيا، وبعض الدول الغربية كالمملكة المتحدة وأستراليا. والحزب محظور في معظم الدول العربية والإسلامية، وفي ألمانيا وروسيا.

وفي بيت السيد علي الفالي كان برنامج السيد الإمام على الشكل التالي:

في الساعة الثامنة صباحاً كان يجلس في ديوانية (مجلس المرحوم السيد علي الفالي .. وهي عبارة عن غرفتين متلاصقتين، وكان السادة من آل المدرسي هم الذين يتوسطون بين الأفراد والهيئات لزيارة سماحة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، وكان سماحته يستقبلهم فيتكلم مع الأفراد، ويخطب أو يحاضر بالجماعات والهيئات، وكل بحسب درجته العلمية والثقافية، أو مكانته الاجتماعية، أو وظيفته ومهمته السياسية أو الإدارية .. وكانت الزيارات تستمر إلى الساعة الثانية، وربما حتى الرابعة عصراً.

ويتخلل ذلك طبعاً صلاة الظهرين بإمامة سماحته (رحمه اللّه) للحضور في الديوانية.

الصورة

وبعد ذلك كان سماحته (رحمه اللّه) يأخذ قسطاً من الراحة (شبه قيلولة) ليعود للجلوس في الديوانية الساعة الخامسة مساءً وحتى ينتهي المراجعون.

واعتباراً من اليوم الرابع لوصول سماحته (رحمه اللّه) لمدينة قم المقدسة بدأنا بالزيارات، وكانت كثيرة ومكثفة، وأذكر أننا في ذات يوم قمنا باثني عشرة زيارة في أثني عشر مكاناً مختلفاً، وهذا ليس بالأمر السهل كما تعلمون ..

فكنا نزور العلماء والأعلام، والمراجع الكرام، وغيرهم من أعيان المجتمع في حينها .. والذي أذكره أن (المشكيني)(1) هو الوحيد الذي لم يأذن بزيارته علماً

ص: 344


1- الشيخ علي المشكيني ولد سنة 1921 في إحدى القرى التابعة لمدينة مشكين شهر، شمال غربي إيران، وبعد الثورة الايرانية ، تقلد مناصب عديدة، توفي مساء الإثنين 15/7/1428ه- عن عمر يناهز السادسة والثمانين.

أنني اتصلت ببيته لأخذ موعداً للزيارة فلم يأذنوا لنا بذلك، وعاد وأتصل السيد علي الفالي بهم محاولاً أخذ موعد لزيارة السيد.. إلا أنهم أيضاً لم يأذنوا بذلك فلم نجتمع به والحمد لله أننا لم نره .. إلا أن بقية العلماء فإننا زرناهم قاطبة دون استثناء على ما أذكر ..

* لماذا رفض الزيارة، ولأي سبب؟

- لا أعرف ذلك تماماً .. والذي أعرفه أنه كان يتهرب من اللقاء، لماذا؟ لست أدري!!

وهكذا كانت زيارات سماحة السيد (رحمه اللّه) مستمرة من الساعة الثامنة صباحاً وحتى منتصف الليل، وربما أن سماحته (رحمه اللّه) لا يأخذ ساعة من الراحة خلال ذلك، وأذكر أنني كنت أرافق سماحته في تلك الفترة من الصباح وحتى آخر الليل، حتى أن أهلي وأبنائي كان يحتجون عليّ أنني لا أبالي بهم فيعترضون على غيابي وتأخري بالعودة إلى البيت.

* الواقع يقول: إن سماحة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) كان له مكانة مرموقة وعالية في الثورة الإيرانية لماذا فقدها، مع أنه كان من الأعمدة الأساسية للثورة فلماذا ابتعدوا عنه شيئاً فشيئاً إلى أن أقصوه تماماً ؟

- كان سماحة الإمام الراحل (رحمه اللّه) في أوائل الثورة لا يريد الارتباط معهم، وما كان يقبل هذه الفكرة ومع بعض التصرفات، وبالأخص بعد خروج السيد الخميني من المشفى وذهابه إلى جماران، منذ ذلك الوقت بدأت تشتد العداوة منهم تجاه السيد الشيرازي ..

* هل كنت هناك حينها ..؟

- لم أكن هناك، ولكن السيد علي الفالي كان هناك ..

* أي أنك لا تعلم ما قالوا، وما سمعوا عن السيد الراحل (رحمه اللّه) ..؟

ص: 345

- لم يقل شيئاً، وكلما سألت السيد علي الفالي (رحمه اللّه) لم يجبني بشيء .. وحتى إذا كنت أصر عليه أحياناً إلا أن السيد علي كان يخبئه علي، ويخفيه عني، ولا يخبرني بشيء .. ولكن يمكن أنه نقل ذلك للخواص أكثر مني وهم خواص الخواص كالسيد صادق (حفظه اللّه)، ولكنني لا أعلم يقيناً ما الذي جرى هناك، فلم أرافق سماحة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) إلى جماران أبداً، ولا أعرف شيئاً عنها حقيقة ..

من أخلاقيات الإمام الراحل (رحمه اللّه)

* هل لديك قصة جميلة عن أخلاقيات السيد الراحل (رحمه اللّه) ؟

* كيفية تعامله مع من يهاجمه بالقول أو بالفعل .. فيقال: أن أحدهم عض يد السيد الراحل (رحمه اللّه) بدل أن يقبلها؟

- إن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) كان حضوره ووجوده أخلاق متجسدة، فكان يراعي الأخلاقيات كلها في تعامله مع جميع الأفراد، فذات يوم جاء لزيارة سماحته اثنان من المسؤولين الأمنيين.

* متى كان ذلك بالتحديد؟

- أتصور أن ذلك بعد اعتقال ابن السيد علي الفالي.

* أي في أوائل أيام الثورة، ونزول السيد الراحل (رحمه اللّه) إلى قم المقدسة؟

- نعم، حيث كان (عباس عامليان) قد احتجز لعدة أيام، فذلك في أوائل أيام الثورة، وكان قد تقرر أن يأتي من مكتب (الشيخ المنتظري) وفد مؤلف من شخصين .. ولكن في البداية رفض سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) أن يجلس معهما، ولكن وبإصرار السيد علي الفالي، والسيد محسن الخاتمي الذي كان ما زال في إيران قبل أن يخرج منها، قبل ورضي سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) أن يجلس

ص: 346

معهما، وأذكر أنه كان شدة بالكلام فيما بينهم.

فسألهم عن ابن السيد علي الفالي ما الذي فعله حتى يعتقل، وعباس عامليان لماذا يعتقل؟!

قالوا: بأن عباس عامليان قام بتوزيع شريط كاسيت للشيخ المنتظري وهو يتكلم حول قضية فدك(1) وكما اتهموا وقالوا - وعلى فرض أنهم فعلوا ذلك - فليست المعالجة تكون بتلك الطريقة من اعتقال وسجن وما يتبعهما فإن هذا غير صحيح أصلاً.

ولكنهما وبمجرد دخولهما على جناب السيد الراحل (رحمه اللّه) بدؤوا الحديث بهذه الشدة، لكن جناب السيد الراحل (رحمه اللّه) لم يجبهم بشيء بل أطرق برأسه إلى الأرض ولم يتكلم أبداً .. ولكنهم لما رأوا سكوت السيد (رحمه اللّه) عن إجابتهم تواقحوا أكثر وهنا تدخل السيد محسن الخاتمي، وقال: بأن هناك مَنْ يطلب جناب السيد من الأهل وهو بانتظاره.

وبهذه الطريقة انسحب السيد الإمام (رحمه اللّه) وقام ودخل إلى داخل البيت، والسيد محسن قادهم إلى غرفة ثانية وما أن دخلوا عليها حتى نزل عليهما السيد

ص: 347


1- فدك واحة تقع في أطراف الحجاز قرب مدينة خيبر في شبه الجزيرة العربية في المملكة العربية السعودية وتتبع إدارياً منطقة حائل وتقع بالجزء الغربي الجنوبي لمنطقة حائل كان سكانها القدماء من العماليق ومن بعدهم سكنها اليهود اشتهرت بزراعة القمح و التمور. كان يسكنها طائفة من اليهود ، ولم يزالوا على ذلك حتى السنة السابعة حيث قذف اللّه بالرعب في قلوب أهلها فصالحوا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على النصف من فدك وروي أنه صالحهم عليها كلها. وابتدأ بذلك تأريخها الإسلامي، فكانت ملكاً لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لأنها مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وأهداها أو وهبها لابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، فكانت لها بها عمال يعملون ويأتون بالحصاد أو قيمته للزهراء (عليها السلام) حتى استشهد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فغصبت من يد فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، ولما طالبت بها، طلبوا منها الشهود على خلاف ما أنزل اللّه .

الراحل (رحمه اللّه) بكلام شديد جداً، ومنطق قوي لم يتوقعوه.

وهذا ما قيل لي في المحكمة ولم أسمعه من السيد الراحل (رحمه اللّه) شخصياً.. سألوني: ماذا قال لهما السيد محسن؟ فقلت لهم: لا أعرف فأنا لم أكن حاضراً ساعتها..

* وإلى الآن لا تعرفون ماذا قال لهم شيخنا؟

- أعرف أنه قال لهما: أنتم لم يكن لديكم عقل ولا شعور، أما تستحون؟! وهل تعلمون ما قدّم هذا السيد الجليل للسيد الخميني من خدمات وللثورة، فهو قد أمضى عمره في خدمة هذه الثورة، والآن أنتم تأتون وتعملون ضده، لماذا؟! ما الذي جرى لعقولكم؟!

لأنهم في تلك الأيام حاولوا أن يخرجوا الناس بمظاهرات ومسيرات شعبية ضد السيد الشيرازي (رحمه اللّه) وحاولوا تعطيل درس السيد الراحل (رحمه اللّه) وبحثه بما يقومون به من مشاغبات وما يفتعلونه من مشاكل، وما يثيرونه من بلابل بهدف عرقلة الدرس وتسقيطه.

لأن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يدرس (فقه الاقتصاد)، وفي حينها أصدر رئيس الجمهورية (أبو الحسن بني صدر)(1) كتاب (توحيد الاقتصاد) وهو كتاب تعب عليه بني صدر كثيراً، فقال السيد (رحمه اللّه) في مجلس درسه: إن كتاب (توحيد الاقتصاد) مخالف للإسلام وفيه الكثير من القول الباطل، وهو صورة من

ص: 348


1- أبو الحسن بني صدر، كان أول رئيس لإيران بعد الثورة الإيرانية سنة 1979، التي انتصرت وأنهت الحكم الملكي. ولد في همدان الإيرانية، تولّى مؤقتاً منصب وزير الشئون الخارجية في إيران من 12 نوفمبر 1979 بعد إبراهيم يزدي وتلاه في هذا المنصب صادق قطب زاده. تولّى رئاسة الجمهورية الإيرانية في 4 فبراير 1980 حتى 21 يونيو 1981.

(الكتاب الأخضر)(1) للقذافي.

والكتاب في حقيقته كان يشبه (الكتاب الأخضر) للرئيس الليبي (معمر القذافي)، فكانوا يطبعونه ويوزعونه بشكل عجيب في إيران وربما طبعوا منه آلاف النسخ ووزعوها على الشعب.

وعندما قال ذلك سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) ، قام بعض الأفراد محتجين بشدة، وقالوا: هذا تضعيف للنظام، وضرب لقيم الثورة - ذلك في بداية الثورة وبني صدر في أوج قوته ورئاسته لإيران - ولكن سماحة السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) امتص غضبهم، وتمالك نفسه في الدرس، وقال: أنا لم أقل شيئاً مما تتصورون، والذي قلته هو أنه كتاب تعب عليه ولكن فيه زخرفات مخالفة للإسلام كثيراً، وأنه عيناً من الكتاب الأخضر للقذافي، ذاك عربي وهذا فارسي لكن الفكرة واحدة.

* كان ذلك في رئاسة وقوة بني صدر أليس كذلك؟

- نعم، كان هذا القول في زمن رئاسة وقوة أبو الحسن بني صدر، وسيطرة القذافي في ليبيا، وذلك لأن ليبيا كانت قوية في إيران حينها وذلك بواسطة الشيخ منتظري، فجماعة الشيخ المنتظري قاموا بأعمال سيئة وغير معقولة كتوزيعهم (الكتاب الأخضر) للقذافي بالملايين من النسخ في إيران.

فالسيد الراحل (رحمه اللّه) لم يكن حاداً وشديداً أو خشناً في تعامله مع كل الناس، وبعضهم كانوا يأتون إلى السيد الراحل (رحمه اللّه) ويتكلمون بفظاظة وشدة

ص: 349


1- الكتاب الأخضر هو كتاب ألفه القائد الليبي السابق معمر القذافي عام 1975 وفيه يعرض أفكاره حول أنظمة الحكم وتعليقاته حول التجارب الإنسانية كالاشتراكية والحرية والديمقراطية، حيث يعتبر هذا الكتاب بمثابة كتاب مقدس عند معمر القذافي، ولكنه مليء بالإشكالات العقلية والشرعية.

ويغلظون بالكلام بوجه سماحته (رحمه اللّه) ويسمعهم بأذنه إلا أنه لم يكن يجيب أحد منهم على إساءته، بل كان يطرق برأسه إلى الأرض ويحمّر وجهه الشريف فقط، فنعرف أن إساءة حصلت من أحدهم.

* كانوا يهينوا السيد إذن ..؟!

- نعم وللأسف الشديد، هذا نعرفه عندما كان وجه السيد (رحمه اللّه) قد تغير لونه، إلا أنه لم يكن يقل شيئاً.

* شيخنا قصة أخرى غير قصة بني صدر وكتابه، هل تذكرون مثالاً آخر حدث في دروس البحث الخارج، كأن يقوم أحدهم ويقول كلاماً ، أو يرفع شعاراً، أو يشكل بأشكال قوي على السيد الراحل (رحمه اللّه) بهذا الخصوص ؟

- أنا شخصياً لم أر أحداً، لا في الدرس، ولا في مسجد الإمام زين العابدين، ولا في مكتبه يفعل ذلك.

* هل درّس السيد الراحل (رحمه اللّه) في مسجد الإمام زين العابدين (عليه السلام) ؟

* ولماذا انتقل إلى مقره الجديد؟

- بعد قضية السيد الشريعتمداري (رحمه اللّه) - الذي تقدم طرفاً منها - عطّل السيد الراحل (رحمه اللّه) درسه المعتاد، وبعد أيام من ذلك انتقل إلى مقره الجديد ..

* بأي حجة عطّل الدرس هناك ونقله إلى المقر الجديد؟ في العرف الحوزوي بحاجة إلى سبب مقنع!

- نعم، عرفوا السبب - وهو قضية السيد الشريعتمداري (رحمه اللّه) طبعاً - ولكن في تلك الأيام كنا نقول: بأن السيد الراحل (رحمه اللّه) تعب صحياً، أو مريضٌ .. وما أشبه ذلك .. ولكن بعد أسبوع وحين بدأ الدرس في المقر الجديد، وشيئاً فشيئاً انتشر الخبر عبر جماعة السيد الشريعتمداري (رحمه اللّه) الذين نشروا الخبر وأفشوه بين الناس، ولكن بشيء من التحفظ وبعض الاحتياطات طبعاً.

ص: 350

فبعض الأصدقاء كانوا يقولون: إن هذا العمل كان اعتراضاً على ما حدث للسيد الشريعتمداري (رحمه اللّه) ، وأنهم قد جعلوه جليس البيت ومنع من اللقاء معه، مما دفع السيد الشيرازي إلى تعطيل مؤقت لدرسه، ثم وقبل وفاته بعدة سنوات عطل السيد الشريعتمداري (رحمه اللّه) الدرس نهائياً.

* ما هي إشكالات الحكومة على درس السيد الراحل (رحمه اللّه) ؟

- الحكومة كانت ترسل بعض الأفراد المتطرفين إلى درس السيد الراحل (رحمه اللّه) حتى إذا صدر منه كلاماً يمسّ النظام في الدرس يقومون بالاعتراض عليه، ولكن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يتقبل ذلك ببرودة أعصاب، وحلم عجيب، بل كان يردّ على أسئلتهم ويجيب على إشكالاتهم بعلمية وفقاهة.

كما أن الكثير من أفراد القوى الأمنية والمخابرات كانوا يأتون ويحضرون درس السيد الراحل (رحمه اللّه) ، أو إنهم يستدعون أو يطلبون بعض الوجوه البارزة ممن يحضر درس السيد (رحمه اللّه) فيمنعونهم من حضور الدرس، ونحن كنا بدورنا نذهب إليهم ونسألهم أو أننا نرسل إليهم الأفراد وليسألهم ويستفسر منهم عن سبب الغياب وعدم الحضور في الدرس.

فيقول: إن وضعنا غير مساعد على الحضور فإن لديكم علماً ولكن ليس لديكم أموالاً تسعنا فنسعى لغيركم، وأعذرونا من الحضور في درس السيد، وبعضهم صرّح بذلك جهاراً وقالها صراحة.

وهدفهم كان - طبعاً - تضعيف السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وتضعضع صفوف أصحابه وطلابه، ومحاولة التأثير على علمية السيد الراحل (رحمه اللّه) بتضعيف دروسه أو منعه، وبالتالي التقليل من عدد الطلاب والمريدين، ولا ينتشر صيت السيد الراحل (رحمه اللّه) وعلميته، ومكانته في القلوب والعقول.

ص: 351

لأن الحقيقة كانت واضحة وضوح الشمس بأنهم كانوا يخافون كثيراً من الإمام الشيرازي وذلك لقوته ومكانته الاجتماعية وأخلاقه الراقية، فكانوا يخشونه رغم أننا كنا لا نترك فرصة إلا ونبين لهم بأن السيد لا يعاديهم ولا يعمل ضدهم، فتعالوا إليه واجلسوا معه وحاوروه واسمعوا منه متى أردتم.

ولكنهم لا يقبلون منا نصحنا ويقولون: إن المحاورة والجلوس مع السيد الشيرازي فيها خطر شديد علينا.

* مع كل هذه الضغوط الهائلة، فإن درس السيد الراحل (رحمه اللّه) لم يضعف ولم يقلّ الحضور ؟

- لم يتأثر درس السيد الشيرازي (رحمه اللّه) بذاك التأثير الواضح وذلك لأن طلاب وتلاميذ السيد الشريعتمداري كانوا يحضرون معنا، وكان لهم حضورهم وقوتهم في ذلك الحين، فكل الصامدين المخلصين للسيد الشريعتمداري وبعض الطلاب الإيرانيين، وقسماً من الأفاغنة، والكربلائيين - علماً أن بعض الطلاب الكربلائيين يخافون حضور درس السيد الراحل (رحمه اللّه) في تلك الظروف - فهؤلاء جميعاً جعلوا مسألة تضعيف درس السيد الشيرازي أمراً ليس سهلاً على أولئك المعطلين له.

وأذكر أنه كان طالبان من طلاب السيد صادق الروحاني يحضرون درس السيد الراحل (رحمه اللّه) ويكثرون من طرح الإشكالات بوجه أو بدون وجه، وبحق وبدون حق، وغالباً كانت إشكالاتهما في غير محلها وغير صحيحة ..

والحقيقة .. أن العمل في ذلك الوقت كان صعباً جداً، ومشكل جداً .

* ماذا كان يريد النظام من السيد الراحل (رحمه اللّه) ؟

* ولماذا السيد الشيرازي (رحمه اللّه) لم يعط القوم ما أرادوه ..؟!

- قصيرة من طويلة - كما يقول الإمام الحسين (عليه السلام) - كانوا يريدون من

ص: 352

السيد الراحل (رحمه اللّه) أن يبايعهم وكفى، وكل شيء بعدها يقولوه أو يريدونه من جناب السيد الراحل (رحمه اللّه) عليه أن يقول: نعم، ويمضي لهم على البياض ..

هذا الذي كانوا يريدونه من السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، ولهذا لم يستطع سماحة السيد (رحمه اللّه) أن يعطيهم أو يوافق على إعطائهم لأن ذلك غير ممكن شرعاً وعقلاً ومنطقاً وواقعاً .. لأن تكليف السيد الشيرازي كان يقتضي عليه واجباً معيناً ولا يمكن أن يوافق على الشر أو الظلم والجور الذي كان يمارس من قبلهم، فكيف يقبل السيد (رحمه اللّه) بقتل الناس الأبرياء بدون وجه حق، وبدون ذنب يوجب القتل؟

وهذا ليس من عندي أو أنا استنتجته من خلال الوقائع التي شهدتها، لا بل هذا ما جاء به السيد أحمد الخميني(1) شخصياً،فقد جاء مرتين إلى السيد الشيرازي وهو يحمل رسالة شفهية مفادها (عليك أن تعمل معنا وتسلم لنا بشكل كامل ومطلق) دون اعتراض حتى!!

* ماذا كان جواب السيد الراحل (رحمه اللّه) له ؟

- لا أذكر نص كلام السيد الراحل الآن، ولكن ظاهراً أنه قال له: أنا صديقكم ومستعد للعمل معكم في سبيل خدمة هذه الأمة وهذا الشعب، ولكن أكون معكم بشكل كامل ودون رأي لي أو نقاش معكم فهذا أمر آخر يصعب علي الالتزام به.

وأذكر أن الشيخ محمد علي شريعتي الذي كان له نفوذ وكلمة في السلطة، وهو الذي جاء بالسيد أحمد الخميني إلى جناب السيد الراحل (رحمه اللّه) لزيارته وذلك

ص: 353


1- هو السيد أحمد بن روح اللّه بن مصطفى الخميني ولد في مدينة قم في عام 1946م. أصيب السيد أحمد الخميني بأزمة قلبية وتنفسية توفي على أثرها في السابع عشر من شهر شوال من عام 1415ه- .

قبل أن يزوره السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، فكان يُلحُّ على السيد الراحل (رحمه اللّه) ويقول له: بأننا نريد ذلك منك (أي بالتسليم لهم دون كلام ولا نقاش في شيء).

زيارة الشيخ أحمد جنتي

ومن اللطيف أنني أذكر لكم زيارتنا لجنتي، فأذكر أننا قصدنا زيارته وكان بيته بعيداً جداً، وهو صغير جداً ربما لا يتجاوز (100 - 150م)، علماً أنه لم يكن قد زار السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، فذهبنا إليه بمبادرة من سماحة السيد (رحمه اللّه) ، واستقبلنا استقبالاً جيداً، ولكن بعد مدة جاء لزيارة السيد الراحل (رحمه اللّه) وكنت حاضراً في هذا اللقاء شخصياً.

والعجيب ما أن استقر به المجلس حتى بدأ بلهجة عنيفة وخشنة، وقال: امنعوا جماعتكم والأفراد العراقيين الذين يتكلمون كثيراً ضد النظام، ويضعفون الحكومة كثيراً!

فقال له السيد (رحمه اللّه) : إن هؤلاء لا يرتبطون بنا، وهؤلاء من مدينة أخرى ونحن من كربلاء المقدسة ولا ربط لنا بهم إطلاقاً.

فقال: كلهم مرتبطون بكم! فقال السيد الراحل (رحمه اللّه) : أقول لك وأكرر أنهم ليسوا منا في شيء. ثم أشار السيد (رحمه اللّه) إلي وقال: اسأل الشيخ أليسوا من جماعة وأتباع فلان. وأؤكد أنه لا يوجد كربلائي واحد ضدكم في القول أو العمل، واتيني بكربلائي واحد من جماعتنا عمل ضدكم.

وهنا قام الرجل وذهب مغضباً، وكانت تلك أول وآخر زيارة له لنا.

زيارة السيد الخامنئي

* هل تتذكر بعض اللقاءات السياسية أو الدينية مع السيد الراحل (رحمه اللّه) ؟

ص: 354

- ذهبنا إلى زيارة السيد الخامنئي، وكان مقره في غرفة ابن السيد محمد علي أبطحي(1) في المدرسة الفيضية الطابق الثاني، فلقينا السيد ورحّب بالسيد

الراحل (رحمه اللّه) كثيراً، والمعروف أن السيد الإمام الراحل (رحمه اللّه) كان متشوقاً لخدمة الناس، وكان يحذره من احتمال هجوم عراقي على إيران فعليهم باليقظة، وتكلم معه حول الأخلاق وطرح عليه بالبدء بتدريس الأخلاق في الحوزة العلمية.

فقال الخامنئي للسيد الراحل (رحمه اللّه) : إن لي علاقة وطيدة بكم! وتكلم عن ذكرياته في كربلاء المقدسة، ثم قال: أنا مع الشيخ هاشمي رفسنجاني(2) إحدى ليالي الجمعة ذهبنا إلى كربلاء المقدسة، وحضرت أول صلاة جماعة في كربلاء كانت لكم، وصفوف صلاة الجماعة الأولى كانت ممتلئة ولم يكن لنا مكان للصلاة معكم .. فقال رفسنجاني: اترك الصفوف وذهبنا إلى جانبكم فواحد منا صلى عن اليمين والآخر عن الشمال من جنابكم واقتدينا بكم في صلاتنا تلك. هل تذكرون ذلك سيدنا؟!

قال السيد الراحل (رحمه اللّه) : هذا من لطفكم .. ونصحه بأن يكونوا معتدلين ولا يكونوا متشددين ومتطرفين.

فقال الخامنئي: إن مسؤوليتي في وزارة الدفاع، والأمور الدفاعية

ص: 355


1- ناشط ديموقراطي إيراني ورئيس معهد حوار الأديان. وهو نائب رئيس إيران سابقاً.
2- سياسي ورجل دين إيراني شغل منصب رئاسة الجمهورية لدورتين رئاسيتين (1989 -1997). ولد عام 1934 في جنوب شرق إيران لأسرة من المزارعين. حكم عليه بالسجن عدة مرات في فترة حكم شاه إيران. تولى منصب رئيس البرلمان بين عامي 1980 و1989. وفي آخر أعوام الحرب العراقية الإيرانية التي انتهت عام 1988، عينه الخميني قائماً بأعمال قائد القوات المسلحة.

العسكرية، - وكانت مسؤولية الخامنئي يومذاك هي إمامة الجمعة في طهران - وليس لي إلى ما تطلبون سبيل.

وقمنا وخرجنا وخرج معنا إلى الدرج (السلالم) مشيعاً لجناب السيد (رحمه اللّه) وهناك ودعنا ولكن لم يأت لزيارة السيد الراحل (رحمه اللّه) أبداً ..

زيارة أئمة الجمعة

وأذكر أننا قصدنا زيارة كل أئمة الجمعة فزرناهم في بيوتهم، كما أننا زرنا والتقينا بالقاضي وحاكم محكمة الثورة الخاصة برجال الدين في قم المقدسة(1)،

وكان شيخاً له مكتبة لبيع الكتب قبل أن يصبح رئيساً للمحكمة، ولا أذكر اسمه الآن، ولكن الذي أذكره أن لهذا المنصب عدد من العناوين منها:

- رئيس المحكمة.

- رئيس الإعداد العام.

- رئيس المحكمة العامة.

- رئيس محكمة الثورة.

- الإعداد الخاص برجال الدين.

ونحن ذهبنا مع جناب السيد الراحل (رحمه اللّه) رداً لزيارته له.

فقال له السيد (رحمه اللّه) : الإسلام لم يكن هكذا في يوم من الأيام .. فالإسلام لم يكن خشناً، ولا عنيفاً ..فهذه الطريقة بتعاملكم مع قادة النظام الملكي وقتلهم ونشر صورهم بهذا الشكل في الصحف والجرائد ليس صحيحاً.. والرسول

ص: 356


1- لعبت محكمة رجال الدين في ايران دوراً خاصاً في الحياة السياسية، وهي محكمة مخالفة للقانون قامت السلطة باستغلالها لضرب المعارضين لها، واتخاذها سيفاً مسلطاً على عامة رجال الدين من أجل اخضاعهم والسيطرة عليهم وتوجيههم الوجهة التي تريدها السلطة أو الحاكم الأعلى.

الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت الأطهار (عليهم السلام) كانوا لا يعدمون الناس وإذا عدمتم فلا تشهروا بهم بهذه الطريقة بالجرائد والمجلات، فإن ذلك له مردود سلبي في الرأي العام، والمجتمع البشري كله.

فقال الرجل في جواب السيد: ماذا أقول لهؤلاء الشباب، أو ماذا نجيب هؤلاء الشباب المتحمسون؟

فقال سماحة السيد: ماذا تعني بهذا الجواب وبهذا الكلام؟! فهل هذا هو منطق الإسلام عندكم؟

فقال: هؤلاء حرس الثورة الذين وضعوا أرواحهم في أكفهم ماذا نجيبهم؟!

فتأثر السيد الراحل (رحمه اللّه) كثيراً من هذا الجواب وقمنا وانصرفنا من ذلك المجلس..

* إن الجماعات المنحرفة كثيرة في إيران - كحزب الثورة والشيوعيين وغيرهم -، وكانت تبذل ضغوطاً كبيرة على السيد الراحل (رحمه اللّه) لكي يصدر فتوى ضدهم، ولكن سماحة السيد أبى ذلك ولم يصدر بيان ضدهم، لماذا؟

* وما هي فكرة السيد الراحل (رحمه اللّه) بهؤلاء؟

- كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يقول: لو قمنا بعمل ما ضدهم فإنهم سوف يتعاظمون ويكثرون ويكبرون، ولكن إذا استطعنا أن ندخل بعض الأفراد الأكفاء في أوساطهم وحاولوا تغييرهم من الداخل فهذا أفضل وأكمل.

فبعض الأفراد كانوا معنا ولكن عندما رأوا أن السيد الراحل (رحمه اللّه) لم يصدر بياناً ضدهم ابتعدوا عنا بل وأصبحوا ضدنا، وعن هذا الطريق ضربنا ولحق بنا الكثير من الضرر والأذى.. إلا أن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان صامداً في موقفه وفكره وأهدافه الخاصة به مهما بلغت الضغوط عليه من كل الأطراف المناوئة له.

ص: 357

* لماذا الكثير من أصدقاء السيد (رحمه اللّه) وأنصاره الذين كانوا في كربلاء المقدسة تركوه وحيداً في إيران؟

- ماذا أقول هنا - وعن أي أسباب أتحدث؟

أذكر إن أحد هؤلاء - وهو أحد أقربائنا - الذي كان وكيلاً لجناب السيد (رحمه اللّه) ، وسجن في العراق، وعندما خرج من السجن ووصل إلى قم المقدسة نزل في بيت السيد علي الفالي إلى أن انتقل إلى بيته، وكانت له علاقة خاصة وحميمية بالسيد الفالي والسيد مجتبى، فكان مصراً على السيد مجتبى لكي يبدأ بدرس البحث الخارج في قم المقدسة، ولكن السيد مجتبى لم يرضخ لرغبته وينفذ اقتراحه، ولم يقبل اقتراحه فانزعج كثيراً من ذلك..

ثم لما وصل السيد الراحل (رحمه اللّه) إلى مدينة قم المقدسة ونزل في بيت السيد علي الفالي أيضاً، وقريبي كان يتوقع أن ينزل سماحة السيد في بيته إلا أنه لم ينزل عنده ونزل عند السيد الفالي، فانزعج أكثر من عدم تلبية السيد الراحل (رحمه اللّه) لرغبته بذلك وفسرها على أنها إهانة له فانقطع عن السيد، ولم يأت لزيارته سوى مرة واحدة فقط، ثم أخذ موقفاً سلبياً من السيد الراحل (رحمه اللّه) بعدها لأجل ذلك.

* لماذا هذا الموقف السلبي من السيد (رحمه اللّه) ؟

- السبب كما يقال: هو لما ذهب السيد الراحل (رحمه اللّه) ونزل في بيت السيد الفالي ولم يأت عنده وينزل في بيته وأنا وكيله المطلق في العراق، هكذا كان يفكر وبهذه الطريقة كان ينظر إلى المسألة ..

من هنا وبدون أي سبب وجيه ترك السيد الراحل (رحمه اللّه) ، رغم أنه كان من أشد المدافعين والمخلصين للسيد (رحمه اللّه) وكان يضع صورة سماحته في مسجده.

ص: 358

هذا مثال، وكثير من الأفراد والشخصيات الكبيرة فبينما هم في كربلاء المقدسة كانوا يسيرون في ركاب السيد الراحل (رحمه اللّه) ويسيرون معه ويؤيدونه بقوة، وذلك لأن جناب السيد (رحمه اللّه) كان يزورهم شخصياً ويلتقي بهم في منازلهم أو مقراتهم.

فكانوا أصدقاء السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وكان يتكلم معهم ويوجههم وينصحهم وهم يكتبون وينشرون بعض القضايا ضد الشيوعية أو البعثية أو حتى ضد الوهابية .. إلا أنهم لم يكونوا أوفياء لسماحة السيد (رحمه اللّه) ، ولم تكن أقدامهم ثابتة على صراط واحد .. بل كانوا يقفزون من حبل إلى آخر كلما تطلبت مصالحهم ذلك.

وهؤلاء لا يمكن أن يقاسوا بالشيخ الشاهرودي(1)، أو السيد الفالي، أوالسيد الطبسي، وغيرهم من الأعيان الكبار الذين اثبتوا وفاءهم وصدقهم للسيد الراحل (رحمه اللّه) .

فأولئك كان سبب انقطاعهم وابتعادهم عن السيد الشيرازي أن السيد كان مشغولاً جداً ولا يستطيع وليس لديه وقت ليزورهم كل في منزله ليرضيه ويتواصل معهم أكثر، وهم لم يقدروا هذه المسألة، وخاصة أنهم صاروا أصحاب مكانة مرموقة ووجاهة في المجتمع، وكانوا يشعرون بالسيادة والقيادة في ظل الظروف الجديدة، وأحدهم عندما ابتعد عن السيد (رحمه اللّه) ، ذهب إليه السيد وزاره في بيته وكان مجلساً عاماً، ولكن السيد (رحمه اللّه) ما كان يستطيع أن يذهب إلى كل واحد منهم.

وبعضهم الآخر كانوا يتركون السيد (رحمه اللّه) ويذهبون بعيداً ولم يلتزموا

ص: 359


1- الشيخ مرتضى بن حسين بن علي الشاهرودي. هو خطيب حسيني ورجل دين شيعي.

موقف الحياد بل راحوا ينتقدون سماحته ويشهرون به في المحافل والمناهل؛ وهؤلاء كانوا على خطر عظيم وتأثيرهم كبير على المسيرة وذلك لأن القريب عندما يبتعد يؤذي قريبه مرتين، الابتعاد والتشهير بحق أو دون وجه حق.

وهناك بعض الأشخاص لم يكونوا ثابتي القدم، ولم يكونوا أوفياء، فأحدهم كان منذ البداية متذبذباً وله إشكالات وانتقادات وبقي حتى آخر أيامه ينتقد ويستشكل، وأبناؤه كان لهم دور كبير في ذلك، وغيره أيضاً كان لهم مواقف معادية ضد السيد لاسيما بعد وفاة المرحوم السيد علي الفالي، وبقي على عدائه إلى آخر أيام السيد (رحمه اللّه) ، وهو الذي أثار الأمور ضد السيد محمد رضا في الكويت كما تعلمون ذلك عنه جيداً.

وعندما كان السيد (رحمه اللّه) في إيران لم يكن يسأل عن شخصه أو يرسل إليه التحيات والسلامات مع الزوار من أهل الكويت،- للظروف السياسية التي كان يعيشها السيد الراحل (رحمه اللّه) - فلم يقل لهم: سلموا على شخص فلان بالتحديد، فهذا ما أزعجه وضايقه شيئاً ما، وهو إلى اليوم هكذا مع بعض الشدة أو الرخاء حسب الظروف يتقلب، فيعبرون أشخاصهم أولاً وكان سماحة السيد (رحمه اللّه) إذا لم يقل لهم سلموا على فلان بالتحديد كأنه لا يحترمه.. فهذا خطأ فادح كانوا يقعون فيه!

فكانوا يتعاملون مع السيد الراحل (رحمه اللّه) بشيء من الندية، أي إذا لم يتصل السيد (رحمه اللّه) بهم أو يزورهم أو يرسل إليهم سلام خاصاً،كانوا يتعاملون مع سماحة السيد بنفس الطريقة فلا يتصل ولا يزور ولا يسلم لأنه يعتبر نفسه بمقام اجتماعي ووجاهة يجب أن يحترمه السيد الشيرازي لأجل ذلك.

ص: 360

* كثير من العلماء كانوا مؤيدين للسيد الراحل (رحمه اللّه) عندما كان في كربلاء المقدسة، ولكن تغير الوضع في إيران حيث تركوه وحيداً وابتعدوا عنه، لماذا؟

- ماذا أقول والقول يطول ويقصر، ولكن أقول كلمة فقط: إنها المصالح الدنيوية لهم.

إذاعة كربلاء

* يقال إن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يريد أن يؤسس إذاعة في كربلاء المقدسة ولكن الحكومة العراقية منعته، هل كنت في تلك القضية ؟

- انقل لكم عن السيد جعفر بحر العلوم(1)

الذي كان يذهب مع الإمام الراحل (رحمه اللّه) في زياراته إلى بغداد للقاء بعض المسؤولين من الوزارات كوزير الأوقاف أو وزير الشؤون أو وزير الداخلية، أو غيرهم ممن زارهم سماحة السيد في تلك الفترة.

يقول السيد جعفر: كنا نذهب إلى مكاتبهم وأول شيء كان يطلبه منهم السيد (رحمه اللّه) هو تأسيس إذاعة - راديو - في كربلاء المقدسة، ولكن هذا الطلب قوبل بالرفض القاطع من قبل جميع الوزراء والمسؤولين في حينها..

ص: 361


1- نجل السيد موسى من أحفاد آية اللّه العظمى السيد مهدي بحر العلوم الكبير. ولد في مدينة النجف الأشرف، نشأ على يد والده أبي الشهداء الأربعة أحد علماء هذه الأسرة ومجتهديها. عيّن عضواً في اللجنة المركزية للانتفاضة الشعبانية عام (1411 ه- ) الموافق ل- (1991م ) ، حيث كان حلقة وصل بين الجماهير والمرجع الديني. واعتقلته المخابرات الصدامية مع بعض من كان من أعضاء اللجنة المركزية وثلاثة من إخوته وابنيه الكرام ، وبعد سقوط النظام العفلقي تبين استشهاده مع اخوته وابنيه المظلومين في السجن.

فابتكر السيد (رحمه اللّه) خطة جديدة، وفريدة من نوعها في ذلك الوقت، حين أسس شبكة من السماعات حتى أنها بلغت (30) سماعة نشرها في كل كربلاء المقدسة لاسيما المراكز الرئيسية اعتباراً من الحرمين الشريفين والشوارع الموصلة إليهما كشارع قبلة الإمام الحسين (عليه السلام) وشارع قبلة أبي الفضل العباس (عليه السلام) وشارع علي الأكبر (عليه السلام) وشارع السدرة، حتى غطت تلك الشبكة كل كربلاء بالصوت.

وجعل مركز البث في مدرسة (حفاظ القرآن)، وكان البث قبل أذان الظهر وقبل أذان المغرب ولمدة (15-20) دقيقة فقط، وكان السيد عبد الحسين القزويني يقرأ التوجيهات الدينية التي ترسل إليه من السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وإلى حين خرجنا من كربلاء المقدسة كان هذا البرنامج معمولاً به في كربلاء ومستمراً، والآن وبعد السقوط أستأنف الأخوة العمل بهذا المشروع الرائد ولكن البث يتم من حرم الإمام الحسين (عليه السلام) مباشرة.

* هل لكم ذكريات من السيد الراحل (رحمه اللّه) بخصوص أندونوسيا وسوهارتو(1)، أو كشمير والهند أو فلسطين ؟

- حول فلسطين كان سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) يصدر بعض البيانات ويكتب رسائل لأخيه السيد الشهيد (رحمه اللّه) بخصوص دعم القضية الفلسطينية، وأما البقية فلم يكن لدي تفاصيل أذكرها الآن.

* هل تعلم شيئاً عن علاقة السيد (رحمه اللّه) بالعشائر العراقية في العراق أو في إيران، أو مع الوهابية في السعودية أو أي عمل بهذا الخصوص كحركة أو جلسة حوار ؟

- نشاط السيد الراحل (رحمه اللّه) ضد الوهابية السعودية كان عبر منظمة العمل

ص: 362


1- ثاني رؤساء إندونيسيا، حكم اندونيسيا بيد من حديد على مدى 32 عاماً، توفي يوم الأحد 27 يناير 2008.

الإسلامي فرع الحجاز(1)، وكان يديره الشيخ حسن الصفار وكان سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) يوجه الشيخ للعمل على فضح أعمال الوهابية ومواجهة التطرف والتحجر الوهابي السلفي، وذلك قبل أن يعود ويتصل بأطراف الحكومة السعودية.

* ماذا كان يفعل؟!

- كان يحاضر ويخطب ويصدر مجلة باسم (الجزيرة) يكتبون فيها ويشرحون فيها أفكار الوهابية العدائية ويفضحون أعمالهم العدائية ضد الأمة الإسلامية، وكانوا يخافونها لأنها فعلاً كانت مؤثرة.

الضائقة المالية

* كانت هناك ضائقة مالية، هل تعرفون لماذا كانت تحدث مثل هذه المشاكل المالية؟

* وكيف كان يحلها السيد الراحل ؟

- السبب كان لديه كثير من الوكلاء، وكثير منهم كانوا يجمعون الحقوق الشرعية ويأخذونها ولا يوصلونها إلى سماحة السيد (رحمه اللّه) وذلك لتأسيس المؤسسات، وتمويل المشاريع.

وللأسف الشديد، كان هناك بعض الأفراد غير المخلصين، أو غير المنصفين، بحيث لم يراعوا الحقوق ونسبهم التي يحددها لهم سماحة السيد

ص: 363


1- بعد نجاح الثورة في إيران انتقل علماء دين سعوديين شيعة من الدراسة في النجف الأشرف إلى قم المقدسة، وقاموا بتأسيس تنظيم بإسم الحوزة الحجازية و سُمي فيما بعد بإسم تجمع علماء الحجاز، كان جميعهم من محافظة القطيف و محافظة الأحساء شرق السعودية ما عدا شخص واحد من المدينة المنورة غرب السعودية.

الراحل (رحمه اللّه) ، بل كانوا يأخذون نصف الحقوق، أو أكثر أو لا يوصلوا شيئاً أصلاً.

ومشاريع السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ومؤسساته ومسؤولياته كبيرة جداً، ولذا تراه دائماً في ضائقة مالية لتمويل أعماله الكثيرة جداً؛ وربما هذه النقطة بالذات وهذا السبب الذي دفع بالسيد ليأذن لكثير من الناس من أهل الخير أو من لديهم أعمال خيرية ليصرفوها في مناطقهم وبناء مؤسساتهم فيها، حيث أن سماحته وصل إلى طريقة طريفة في هذا المجال وكان يراها أجدى وأنفع من الطريقة المتبعة بتعيين الوكلاء وصرف الحقوق الشرعية، وهي أن يوسع دائرة الوكلاء ويشجع كل أهل الخير للعمل الخيري، ولا يحصرها في الوكيل أو المرجع ويحصرها بذلك فقط، بل نشرها على نطاق واسع ليعم الخير وتزدهر المشاريع الخيرية في كل مكان.

زيارة سامراء

* هل كنت شيخنا في الحركة التي قام بها من أجل سامراء في ليالي شهر رمضان المبارك ؟

- نعم، كنت في أحدى السفرات معه وذلك بعد صلاة الظهر، حيث خرجنا من باب الشهداء وكان الباص ينتظرنا هناك، وكنا بخدمة سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) في أثناء الطريق، ووصلنا إلى سامراء المشرفة قبل أذان المغرب وصلينا في الحرم المقدس للإمامين العسكريين (عليهما السلام) ثم تناولنا طعام الإفطار، ثم توجهنا إلى مرقد السيد محمد (سبع الدجيل)(1) ومن ثم توجهنا إلى الكاظمية

ص: 364


1- السيد محمد بن الإمام علي الهادي (عليه السلام) ، صاحب المرقد الطاهر المعروف والملقب عند العامة والخاصة بسبع الدجيل. وسمي بهذا اللقب وذلك لعدم تعرض قطاع الطرق في الأزمنة القديمة إلى زواره وذلك لخشيتهم منه, لكرامته ومنزلته عند اللّه سبحانه وتعالى، ومعاجز ظهرت لهم.

المقدسة، ومنها عدنا إلى كربلاء المقدسة حيث وصلنا عند السحور إليها، رحلة لا أنساها أبداً.

فالسيد الراحل (رحمه اللّه) كان يشوّق الناس ويرغبهم على مثل هذه الزيارات والسفرات، ولذا ترى أن بعض الناس كانوا يذهبون إلى سامراء المشرفة عدة مرات في الشهر.

تربية الأبناء

* كيف كانت تربية السيد الراحل (رحمه اللّه) لأبنائه، وكيف يتعامل معهم، أو مع أقربائه وعائلته؟

- كان أسلوب السيد الراحل (رحمه اللّه) في تربيته لأبنائه مثالياً إلى أبعد الحدود، وأستطيع أن أقول إنه كان نموذجياً، حيث إنه لم يكن في أي بيت من بيوت المراجع الكرام مثل ذلك؛ فعائلة السيد الشيرازي عائلة علمائية بكل معنى الكلمة فكان لا يسمح لأبنائه أن يدرسوا في المدارس العادية أكثر من عدة سنوات، بل كان يشوقهم ويشجعهم للالتحاق بالحوزة العلمية لتحصيل العلوم من الحوزة وليس من غيرها.

وكان سماحته (رحمه اللّه) حنوناً وعطوفاً وودوداً جداً مع أبنائه وأحفاده .. حتى أنك تره إذا كان في غرفة الاستقبال وعنده ضيوف وسمع صوت بكاء الأطفال داخل البيت فكان يتألم لهم وحناناً عليهم لا غضباً منهم.

وربما يسأل عن سبب ذاك البكاء وهل هو طبيعي أو عن مرض، ففي الفترة التي كنت فيها بخدمته لم أره ولو لمرة واحدة تكلم مع أحد أبنائه أو أحفاده بشدة، ولم أسمعه يصدر كلاماً قاسياً على أحد منهم؛ ولذا قلت بأنه كان مثالياً ونموذجياً في تربيته الصالحة والصحيحة لهم.

ص: 365

محاولات الاغتيال

* كم محاولة اغتيال كانت ضد السيد الشيرازي (رحمه اللّه) في إيران، أو في العراق، كم محاولة اغتيال جرت بحق السيد الراحل (رحمه اللّه) ؟!

- في إيران جرت محاولتان وأنا كنت في إحداها.

وذلك عندما كنا بزيارة للسيد مرتضى القزويني في بيته - الذي صار مدرسة الآن - وأذكر أنه وبمجرد دخولنا إلى البيت سمعنا الرصاص يلعلع خلفنا، وبعض الرصاصات أصابت باحة المنزل، والشرطة قالوا لنا في حينها: إنه شخص مدمن للمخدرات تصرف بدون وعي.

إلا أنهم أخفوا ذلك ولم يصرحوا بالحقيقة وهي أنه كان يحاول اغتيال السيد الراحل (رحمه اللّه) .

* من كان ذلك المعتدي؟

- كان من المعروفين في مدينة قم المقدسة، وبالتحقيق والتدقيق علمنا أنه من حراس بيت (فلان) شخصياً .. ولذا فإن مسؤول الأمن أتى لزيارة السيد الراحل (رحمه اللّه) أرسله الشيخ المنتظري وقدم اعتذاره للسيد (رحمه اللّه) عما حدث بحقه، وقد ألقي القبض على ذلك الشخص وأودع السجن لفترة ثم أنهم أطلقوا سراحه كما قيل لنا؛ فهذا ما رأيته وحضرته شخصياً.

أما المحاولة الثانية: فكانت من القوات العراقية حين قصفت قم المقدسة وذلك في حرب المدن بين البلدين، فقصفت الطائرات العراقية بيت السيد الراحل فاضطر لإخلاء مدينة قم المقدسة مع من أخلوها ونزل إلى مدينة مشهد المقدسة وفي مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) حاول أحد الزائرين أن يدخل على السيد (رحمه اللّه) وهو يخفي سلاحه ونيته، إلا أن اللّه سبحانه وتعالى كشفه ومنعه الأخوة من

ص: 366

الدخول إلى غرفة السيد (رحمه اللّه) .. ولذا غيرنا مكان إقامة وغرفة سماحة السيد إلى مكان آخر أكثر أمناً له في حينها.

هذا ما أذكره في إيران أما العراق فلا أتذكر شيئاً من هذا القبيل.

* تلك المجلات التي تأسست في العراق، مثل: ينابيع الثقافة الإسلامية أو الأخلاق والآداب، ماذا كانت تهدف ؟

* وهل كنت مشاركاً في تأسيسها أو مطلعاً على دور السيد الراحل (رحمه اللّه) في التشويق لتأسيسها؟

- أتذكر أن سماحته (رحمه اللّه) شجع وشوّق السيد محمد علي الطبسي لتأسيس مجلة باسم (الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ) .

* هل كان يدفع السيد الراحل (رحمه اللّه) تكاليفها؟

- نعم، كان يدفع تكاليف جميع المجلات كمبادئ الإسلام، الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ، الأخلاق والآداب، وحتى أجوبة المسائل الدينية، تلك التي كان مسؤولاً عنها السيد عبد الرضا الشهرستاني.

فكل هذه الدوريات يتحملها السيد الراحل (رحمه اللّه) وهو الذي يدفع لهم تكاليفها، حتى أنني أتذكر أن بعض المقالات كانت تنشر بأسماء بعض الأشخاص المحترمين وهي بالحقيقة بقلم السيد الراحل (رحمه اللّه) .

* هل سافرت مع السيد الراحل (رحمه اللّه) كمرافق له ؟

- مرتان فقط! الأولى ما تقدم ذكره من سفرنا مع سماحته لزيارة سامراء المقدسة.

والثانية: كانت رحلته من قم المقدسة إلى مشهد الرضا (عليه السلام) وذلك في أثناء تبادل قصف المدن في الحرب العراقية الإيرانية فقصفوا مدينة قم المقدسة بالخصوص، وأصيب الكثير من الأماكن لاسيما جوار وما حول بيت السيد

ص: 367

الراحل (رحمه اللّه) ، حيث أصيب مقر صندوق القرض الحسن (جواد الأئمة (عليه السلام) ) واستشهد فيها المرحوم (رضا عامليان وابنه محمد) وهو طفل صغير.

وأنا والسيد علي الفالي كنا قد خرجنا لتفقد أماكن القصف البعيدة عن بيت السيد الشيرازي، ولكن عندما عدنا عرفنا أن القصف طال كل ما حول السيد الراحل ومكان إقامته حيث كان في سرداب حسينية دار الحسين (عليه السلام) وقد تضررت الأبواب والنوافذ بشكل كبير نتيجة القصف العنيف للمكان.

فقرر السيد الراحل (رحمه اللّه) أن يغادر مدينة قم المقدسة إلى مدينة مشهد

الرضا (عليه السلام) مع كل من السيد المرجع السيد صادق، والسيد علي الفالي، ولكن السيد علي الفالي قال: يجب أن أبقى لخدمة المصابين والمجروحين وتشييع الشهداء، فاختاروني أنا للنيابة عنه لمرافقة السيد الشيرازي برحلته تلك.

فأسرعت إلى بيتي وودعت أهلي وأطفالي وسلمتهم أمانة للحاج محمد بان المعروف ب- (حجو) وقلت له: أينما تريد أن تأخذهم فخذهم أنا في خدمة السيد وهؤلاء أمانة عندك فأحفظهم.

* كيف ذهبتم إلى مشهد المقدسة؟

- كانت الحكومة قد خصصت أحد رجالها للتجسس ومراقبة السيد الشرازي (رحمه اللّه) ، وقد وضعوه بعنوان حرس على بيت السيد، والحقيقة أنه كان لمراقبة كل شيء، وكل فرد يأتي إلى بيت السيد من شخصيات، والنشاطات وفي الليل كان يذهب ويقدم تقريره إلى الحرس الثوري أو الأمن وكان يتواجد من الساعة (8) صباحاً وحتى الساعة (8) مساءً أي اثني عشرة ساعة كان يراقب السيد بشكل متواصل.

في تلك الليلة لم يذهب في الوقت المحدد له، وبقي يزاول عمله، ولكن

ص: 368

استطعنا إقناعه وبشدة للذهاب إلى بيت السيد (رحمه اللّه) ليستفسر لنا هل من إصابات في العائلة، وفي لحظات غيابه غادرنا مع السيد الراحل (رحمه اللّه) ، وكان لبيت السيد سائق اسمه أبو عطا نثق به وهو رجل يمكن الاعتماد عليه وكان يحفظ الأسرار حتى لو كانوا يقتلونه لا يتكلم بكلمة واحدة وكان عارفاً بقوانين السياقة وملتزماً بها بدقة، فقلت له: اذهب إلى شارع مزار شاه السيد علي (عليه السلام) (1).

في بادئ الأمر استغرب هذا الطلب مني ورفض التوجه إلى المكان خوفاً على السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، ولكني أقنعته بالفكرة، فوافق على ذلك، وذهبنا إلى ذلك المكان، وكنا قد استخرنا على المرافقين لنا في رحلتنا، فكان كل من (مجيد رجبي) و( محمد زور دار)، ولم نقل لأي منهم أين نحن ذاهبون.

واستلمنا الطريق وراحت السيارة تنهب بسرعة، وكان سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) يحادث السائق أبو عطا خلال الطريق، والحرس كانوا ما بين النائم والمستيقظ، ولم نتوقف حتى للحظة في تلك الصحراء القاحلة لا لطعام ولا لشراب إلا لملئ الوقود فقط.

واللطيف أن جناب السيد كان ينظر إلى تلك الصحراء المترامية الأطراف ويقول: لو كان بيد اليابانيين لكانت كلها خضراء، وأشجارها مثمرة وغابات منتجة ومفيدة، وأذكر أنها كانت ليلة مقمرة جميلة وكان سماحة السيد (رحمه اللّه) من

ص: 369


1- يقع مزار هذا السيد الجليل في القسم الشمال الشرقي لمدينة قم المقدسة. وهو محط زيارة الزائرين وتقديم نذورهم، وغالباً ما يتحول إلى مركز اعتكاف المؤمنين وسؤال حاجاتهم. ثم إنّ أقوى الشواهد التاريخية تشير إلى أنّ صاحب هذه البقعة المباركة هو: السيد علي بن أحمد بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن جعفر بن عبد اللّه بن جعفر بن محمد الحنفية بن علي أمير المؤمنين سلام اللّه عليه، وكان أبوه أول من هاجر إلى مدينة قم من السادة ذرية محمد بن الحنفية.

أول الطريق إلى آخره يتكلم معنا، وينصح ويرشد ويطرح بعض الأطروحات لحل مشاكل المسلمين في العالم أجمع.

وعندما وصلنا إلى مدينة مشهد المقدسة فتح لنا الباب السيد مجتبى شخصياً وكم تفاجئ وانبهر من وجودنا عنده واستقبل سماحة السيد (رحمه اللّه) بكل حفاوة واشتياق، و أعطى المرافقين غرفة ليرتاحوا فيها.

وذهب السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ليرتاح من عناء هذا السفر فلم ينم أكثر من نصف ساعة، ثم قام يتمشى في الغرفة.

ثم رأينا أن المكان غير آمن فانتقلنا إلى مكان قريب من إحدى المعسكرات وبقينا فيه أسبوعاً لم يخرج أحد منا من هناك، لا الحرس ولا السائق ولا أحد فكان أشبه بالسجن الحقيقي لنا جميعاً.

فقال لي أبو عطا: إني تعبت وأسمح لي أن أخرج قليلاً.

فقلت له: اذهب إلى المدينة والحسينية والمدرسة، ولا تخبرهم عن مجيء السيد أبداً، وهذا كان بعد أن انتقل كل الحواشي من النساء والأطفال إلى مدينة مشهد المقدسة.

وكان من المقرر أن يلتحق بنا السيد علي الفالي إلا أنه حدث له حادث وتوفي وهو في المستشفى.

* كيف كان ذهاب السيد الراحل (رحمه اللّه) إلى الحرم أول مرة؟!

- عند دخولنا لمدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) أصبح وجودنا علنياً، وذلك بعد وفاة السيد علي الفالي، حيث بدأ درس سماحة السيد (رحمه اللّه) في المدرسة من حيث انتهى درسه في قم المقدسة، وكان الحضور في الأيام الأولى قليلاً نسبياً إلا أن المكان امتلأ بالطلاب مع الأيام.

ص: 370

فذات يوم قرر السيد الراحل (رحمه اللّه) وصمم على زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) وذلك دون إعلان، وفي الساعة الثانية ظهراً ذهبنا من جهة مسجد (كوهرشاد) إلى الحرم، وقد اخترنا ذلك الوقت الذي لا يكون فيه إلا الغرباء فقط فلا يعرفنا أحد وهكذا حصل بالفعل.

ثم دخلنا الحرم الشريف، وزرنا وصلينا ثم قفلنا راجعين وكان سماحته بطريق العودة ينظر إلى الأطراف ويقول: يجب أن يتوسع هذا المكان الشريف، ويجب أن يكون صحناً واحداً موحداً لا صحون متعددة.

وأذكر أن سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) وصل عند الرأس الشريف حيث أفرج له الزوار ليصل

إلى الضريح المقدس.

* هل درست عند السيد الراحل (رحمه اللّه) ؟

- عندما كنت في مدينة قم المقدسة كنت ملتزماً بحضور درس السيد الراحل رضوان اللّه عليه.

* كيف كان السيد مع تلاميذه وطلابه؟

- كان تعامله مع طلابه تعاملاً أبوياً حتى لو كان بعضهم أكبر من سماحته في السن، وبعضهم كانوا يسألون ويستشكلون، ويتدخلون في الكلام وحتى الدرس، وكثير منها كان في غير محلها وغير صحيحة، ولم أر منه خلال هذه الفترة أي نوع من الشدة في الكلام مع أحد منهم أو ما شابه ذلك.

وأما درس الأخلاق فكان يلقيه في مسجد الإمام زين العابدين (عليه السلام) وكان درساً مميزاً وفيه كثير من الموعظة والقصص المفيدة على كل المستويات.

في رحاب الإمام الحسين (عليه السلام)

* كيف كانت علاقة السيد الراحل بالإمام الحسين (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام)

ص: 371

خصوصاً في شهري محرم وصفر؟

- كان ملتزماً بلبس السواد في شهري محرم وصفر، ولم أر مرجعاً من المراجع مثله ملتزماً بالسواد مثله، فإنه كان يلتزم بالسواد منذ أن كان عمره ثماني أو تسع سنوات إلى أن توفي، وهكذا كان والده الميرزا مهدي (رحمهما اللّه تعالى) وأنا أتذكره جيداً كيف كان يلبس السواد في محرم وصفر وذلك ليس الجبة والصاية فقط، بل حتى تحت الجبة، كان أسوداً.

والسيد الراحل (رحمه اللّه) كان يحترم الجميع ويحبهم ويبادلهم المودة والصداقة، فلم يكن يعادي أحداً، هذا وقد رأيته مراراً وتكراراً في كربلاء المقدسة وغيرها، أن السيد (رحمه اللّه) كان يدخل مجلس فاتحة أو غيره لأحد الأفراد وبعض الأفراد المناوئين له حاضرون في المجلس ولا يقفون له عندما يدخل، ولكن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان أي داخل يدخل يقف له ويسلم عليه ولا يجلس حتى يجلس ذلك الشخص في مجلسه، وهذا رأيته عدة مرات وفي عدد من المجالس.

استقبال السيد الخونساري

* هل سمعت باستقباله للسيد الخونساري(1)؟

- الذي أذكره أن السيد الخونساري وصل إلى مدينة كربلاء المقدسة قبل الخميني، وكان قد دخل إلى العراق وذهب إلى النجف الأشرف بادئ ذي بدء، ولكن هناك لم يستقبله أحد كما ينبغي له أو لمثله.

ص: 372


1- مرجع ديني إثني عشري، ولد في مدينة خونسار الايرانية وينتهي نسبه إلى الإمام الكاظم (عليه السلام) . هاجر إلى النجف الأشرف لإكمال دراسته عند أساتذتها المشهورين من أمثال آية اللّه الآخوند الخراساني، وآية اللّه السيد محمد كاظم اليزدي، وكذلك أخذ يحضر دروس آية اللّه ضياء الدين العراقي.

ولما علم السيد الراحل (رحمه اللّه) بأن السيد الخونساري على مشارف كربلاء خرج إلى وادي كربلاء المقدسة واستقبله من هناك، ورافقه إلى أن أنزله في بيته حتى يكون ضيفاً عليه، لكن السيد الخونساري قال: لي مكاني في الحسينية الطهرانية(1).

ومن هناك قام السيد الشيرازي (رحمه اللّه) بإرسال الوفود العلمائية لزيارة السيد الخونساري، وقدمه لصلاة الجماعة مكانه في الصحن الشريف، وكان السيد الراحل (رحمه اللّه) يصلي خلفه، وكان يحترمه كثيراً وبشكل غير عادي، ولهذا كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يدعو لمرجعية السيد الخونساري بعد وفاة السيد ميرزا مهدي الشيرازي.

الساندويش الفكري

* الكثير من الناس كانوا يعارضون السيد الراحل (رحمه اللّه) بكتاباته الكتيبات الصغيرة، لاسيما الموجهة للناشئة وكانوا يعللون ذلك بأن هذا ليس من شأن السيد، فلماذا كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يصر على ذلك؟

* هل سمعت منه شيئاً بهذا الخصوص؟

ص: 373


1- الحسينية الحيدرية (الطهرانية سابقاً ). شيدت هذه الحسينية على أرض خان الباشا الذي بناه الوزير العثماني حسن باشا سنة 1127ه- لأستقبال زوار الإمام الحسين (عليه السلام) . وتقع مقابل باب الرجاء أحد أبواب الروضة الحسينية المقدسة. وفي سنة 1368ه- اشترى مجموعة من التجار الإيرانيين من مدينة طهران أرض الخان من مديرية أوقاف بغداد وشاركهم في تمويلها بعض التجار من العراق والكويت. وقد اقيمت هذه الحسينية لعموم زائري مدينة كربلاء ومراقدها المقدسة. قام النظام البعثي البائد بتدميرها بالكامل بعد أنتفاضة شعبان 1412 ه- لكنها وبعد سقوط هذا النظام عادت للوجود واعيد بنائها وهي الآن في مراحل البناء النهائية.

- كان سماحة السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، يقول: إن هذه الكتيبات الصغيرة السهلة الفهم والعميقة المحتوى هي أفضل بكثير من الكتب الكبيرة، والضخمة المعقدة بالألفاظ والاصطلاحات الغربية عن ذهن القارئ العادي، وبعبارة أخرى كان يشبه هذه الكتيبات بأكلة الوجبات السريعة (الساندويش) أي سريعة القراءة وسهلة الفهم وبسيطة التداول، وهي توصل الفكرة للجميع.

وذات مرة قلت لسماحة السيد: إن أصولكم (كتاب الأصول) فيه الكثير من الكلمات الصعبة ومن العيار الثقيل.

فقال: هذا كتبته لأولئك الذين يعترضون على الكتب البسيطة التي أكتبها!

وهكذا كانت فكرة السيد الراحل (رحمه اللّه) وعقيدته بأن هذه الكتيبات السهلة البسيطة القابلة للفهم هي ذات جدوى أكبر من تلك المطولات والمعقدات بالمصطلحات، لذا كان يصر على إصدارها بين الحين والآخر، رغم أن بعض المغرضين كانوا يشيعون أن تلك الكتب لا تفيد أحداً.

فكان يقول: الواقع غير ذلك تماماً، فمثلاً السلسلة التي كان يصدرها سماحته على شكل كتيبات يوزعها في موسم الحج من كل عام (من هم الشيعة؟ وأعرف الشيعة، وهكذا الشيعة) التي كانت تعرف الناس بالشيعة بطريقة إيجابية وسهلة وبقلم مرجع كبير فكان مردودها كبير جداً على كل المستويات.

حكومة النبي والأمير (عليهما السلام)

* كان هناك كتاب له باسم (حكومة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأمير (عليه السلام) ) قالوا: بأن السلطات صادرت هذا الكتاب وأحرقوا منه عشرة آلاف نسخة . هل عندك تفاصيل في هذه القضية ؟

ص: 374

- نعم، أذكر أنه هناك كتاب لسماحة السيد (رحمه اللّه) بعنوان (حكومة النبي والأمير (عليهما السلام) وهذا الكتاب ترجمه السيد محمد باقر الفالي إلى اللغة الفارسية، ولا أذكر أنه طبع في اللغة العربية، ولكنه طبع باللغة الفارسية فصودرت جميع النسخ من هذا الكتاب ومنعوه من الانتشار بين الناس، وذلك لأن السيد الشيرازي (رحمه اللّه) كان قد شرح أساسيات حكومة الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) وهذا لم يوافق مزاجهم وفكرهم وعملهم وسياستهم وذلك لأنهم لا يريدوا أن يعرف الناس إلا ما يعرفوهم عليه فقط.

* هل تعلم من الذي أمر بحرق الكتب، وكيف كانت ردة فعل السيد الراحل (رحمه اللّه) ؟

- لا أعرف من أمر بحرق الكتب بعد مصادرتها، ولكن سماحة السيد (رحمه اللّه) كان يقول: نحن نقوم بواجبنا الشرعي، ونؤدي ما علينا، وهم يعملون ما يريدون ويفعلون ما يشاؤون.

فلم نلاحظ عليه الانزعاج أو التألم من مثل هذه الأعمال، وأما ما كان يبطنه سماحته من ضيق وحزن وألم فهذا لا يعرفه إلا اللّه تعالى.

تزويج الأبناء

* هل تذكر كيفية زواج أولاده، وما هو أسلوبه بهذا الشأن؟

- أذكر مراسيم زواج السيد مرتضى (اللّه يحفظه) وأذكرها جيداً وأنها كانت بسيطة جداً وبدون أي تشريفات أو تزيينات، بل كان سريعاً ومفاجئاً.

وكذلك العلويات من بناته فكان يزوجهن من الأكفاء بسرعة وبساطة والسيد الراحل ما كان يهتم لكل الانتقادات الموجهة له بهذا الخصوص .

ومن الذين اعترضوا عليه - لاسيما بتزويج البنات فلان وفلان حيث لم

ص: 375

يقبلوا بهذه الطريقة السهلة السريعة في الزواج لاسيما البنات، إلا أن السيد (رحمه اللّه) لم يأبه لأحد في هذا المجال لأنه يراه صحيحاً وموافقاً للشريعة السمحة تماماً.

* هل تذكرون قصة عن كيفية تلك الأعراس من السرعة والبساطة وكلام السيد الراحل (رحمه اللّه) ؟

- كانت بساطة لا توصف، فلم يضع أي قيود أو شروط، وبمجرد أن يطلبوا منه ويخطبوا كريمته - لاسيما إذا كانوا سادة من أبناء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - كان السيد (رحمه اللّه) يقبل بذلك فوراً ويجري مراسيم الزواج بسرعة.

وأما أبناءه الذكور فكانوا بنفس البساطة، فكان يقول لنا مثلاً: اليوم نزوج السيد جعفر، أو اليوم نزوج السيد مهدي، أو السيد محمد علي، وأنا شخصياً حضرت وليمة زواج السيد مرتضى وحتى السيد محمد علي وأما السيد محمد حسين فلم أكن حاضراً وليمته وزواجه إلا أنه بنفس الطريقة وبنفس البساطة.

عبادة السيد الراحل (رحمه اللّه)

* كيف كان ارتباط السيد الراحل (رحمه اللّه) باللّه تعالى، من دعاء وصلاة وتوسل وتوكل؟!

- في السفر الذي رافقت به سماحته (رحمه اللّه) من مدينة قم المقدسة إلى مدينة مشهد المقدسة كان دائم الذكر، وأذكر أنه قرابة أربع وعشرين ساعة لم ينم فيها سماحته علماً أنني إذا كنت مسافراً في السيارة أبقى لمدة (48) ساعة لا أنام فيها والسير على طول الطريق، وكان سماحة السيد (رحمه اللّه) يتحدث معنا بشوؤن المسلمين في العالم أو ينصحنا، أو أنه يذكر اللّه سبحانه وتعالى، وكان دائماً على وضوء وصلاته في السفر مختصرة وسريعة وهذا ما رأيته شخصياً من تلك السفرة الطويلة نسبياً لأننا خرجنا من الحسينية في قم المقدسة الساعة التاسعة مساءً

ص: 376

ووصلنا إلى مشهد الرضا (عليه السلام) حيث نزل عند السيد مجتبى في الساعة الحادية عشر قبل الظهر من اليوم التالي.

كما أن سماحته لم يترك صلاة الليل في تلك الفترة العصيبة التي كنت أرافقه فيها وكذلك لم يترك غسل الجمعة والعجيب أنه كان يغتسل غسل الجمعة بإبريق من الماء البارد في الشتاء القارس في المرافق القديمة في المدرسة في مدينة مشهد المقدسة.

* هل عندك قصص ترويها لنا في هذا الباب ؟

- نعم، ما أكثرها فسماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) كان ملتزماً جداً حتى بالمستحبات وهذا أنا على يقين منه فلا يتركها في أي ظرف وفي كل الحالات ومهما كانت الأوضاع صعبة كان يأتي بها بشكل من الأشكال.

فحياة السيد الإمام (رحمه اللّه) كانت تتلخص بكلمات فإما يكتب أو يدرس أو يذكر اللّه أو يتفكر في أوضاع الأمة الإسلامية، وما هي السبل لإنقاذها من المآسي التي تسقط فيها حالياً؟ والملاحظ أن سماحته (رحمه اللّه) إذا تعب قام ليمشي في البيت الذي يسكنه لدقائق معدودة فإذا كان لنفسه كان يفكر في المؤسسات والمشاريع المهمة وإذا كان معه أحد فتراه يتشاور معه فيما يفكر فيه.

الشؤون الشخصية

* كيف كان السيد الراحل في ملبسه ومأكله ونومه؟

ص: 377

- أما نومه فكان قليلاً جداً، وأذكر أننا في البيت الذي نزلنا به في مشهد المقدسة رأيت ذلك من السيد (رحمه اللّه) بأم عيني فتراه إما مشغولاً بالكتابة والتأليف وعندما يتعب أو يرى أن عليه أن ينام فإنه يذهب ليستريح لا يتجاوز ذلك نصف ساعة، وإذا كان متعباً أو مرهقاً فإنه ينام لمدة ساعة لا أكثر، وأما ملبسه فكان بسيطاً جداً لا يتجاوز العباية والصاية وما تحتها.

حصار ربع قرن

* خلال (25) سنة الأخيرة من عمره الشريف كان جليس البيت ومحاصراً ممنوعاً من الخروج هل تذكرون كم مرة خرج من بيته وبأي مناسبة؟

- كان خروجه نادراً وقليلاً جداً وأذكر أن سماحته (رحمه اللّه) خرج في إحدى المرات وذهبنا معه إلى حسينية دار الحسين (عليه السلام) القريبة من بيته، من أجل الصلاة على جنازة عمته أم الأخوة السادة آل النوري والمرة الثانية خرج لعيادة السيد الكلبايكاني في مرضه وهو في بيته ولا أذكر أن سماحته خرج من بيته خلال هذه المدة المديدة.

* كيف كان ارتباط السيد الراحل (رحمه اللّه) بالشباب خاصة ؟

- السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يراعي هذه الفئة العمرية بشكل خاص لأنه يرى بهم أمل الأمة ومستقبلها، ولذا تراه يستقبلهم بحفاوة ويسلم عليهم واحداً واحداً، وإذا كانوا قليلي العدد يسأل كل واحد منهم عن اسمه وعمره وعمله وتحصيله العلمي، وينصحهم ويرشدهم ويشجعهم لصنع مستقبلهم، وغالباً كان يوصيهم بثلاثة أشياء هي (التقوى، تأليف الكتب، الخوف من اللّه في السر والعلن).

هذه الوصايا الثلاث التي كان يؤكد عليها سماحته (رحمه اللّه) لكل أحد من

ص: 378

زواره، إلا أنه يوصي بها الشباب خاصة، وكان بعض الشباب يتأثرون بكلامه ويحاولون تطبيقها في مستقبلهم.

كما أن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يحب خطباء المنبر الحسيني ويشجعهم على تحسين أدائهم المنبري ومقارنته بالكتابة والتأليف، فكلما كان يزوره أحد الخطباء المشهورين أو المغمورين فكان يوصيهم بأن يكتبوا لا أقل من كتاب عن كل من المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) .

ومما أذكره في هذا السبيل أن المرحوم الشيخ أحمد الرحماني الهمداني(1)

ونتيجة لكلام وتشويق وترغيب سماحة السيد (رحمه اللّه) كتب كتبه الرائعة والمشهورة جداً.

كما أن الشيخ الفلسفي عندما منع من الخطابة وأجبر على الإقامة في بيته كتب إليه السيد الراحل (رحمه اللّه) رسالة قال له فيها: عليك بالتأليف والكتابة، فكان أول ما كتبه كتاب (الطفل بين التربية والوراثة).

* كيف كان تعامله مع النساء (ربات البيوت، طالبات الجامعات والمعاهد...) ممن كن يأتين لزيارته ؟

- كان يوصي جميعهن بتقوى اللّه والزواج المبكر ويشوقهن للكتابة والتأليف كل منهن في مجالها والخوف من اللّه في السر والعلن، وهذه بالحقيقة وصايا الإمام الراحل (رحمه اللّه) لجميع الزائرين والمراجعين له.

ص: 379


1- رجل دين ومؤلف شيعي من أهل همدان. ولد في همدان سنة 1355 ه، وبها نشأ وبدأ دراسته الدينيَّة (الحوزويَّة). هاجر إلى طهران ودرس فيها واشتغل بالخطابة والوعظ والتأليف، بالإضافة إلى اشتغاله بالتدريس سنوات عديدة في مدرسة آية اللّه المجتهدي الطهراني، ثم أسَّس مدرسة عرفت باسم مدرسة آية اللّه الآخوند الهمداني.

الخوف من اللّه تعالى

* كان سماحته (رحمه اللّه) يخاف اللّه خوفاً واقعياً حقيقياً، هل رأيت ذلك منه أو شعرت منه يوماً؟

- نعم، أشهد بأن السيد الراحل (رحمه اللّه) كان يخاف اللّه بكل كيانه.

في قضية أذكرها جيداً أنني رأيت منه مرة واحدة شدة في الكلام والموقف، كان شخص يدعى حاج محمد وهو مسؤول شراء الحاجيات اليومية لبيت السيد وكان يعطيه السيد الراحل (رحمه اللّه) في كل يوم مقداراً معيناً من المال لشراء الحاجيات كما يعطيه قائمة بالأغراض التي سيشتريها من السوق، كالخضار والفواكه واللحم والرز والخبز، وفي بعض الأوقات كان مسؤول الشراء (حاج محمد) يخرج ويعلم أن مقدار المال لا يكفي لحاجات السيد (رحمه اللّه) لأن عائلته كانت كبيرة فيضيف بعض الكميات المقررة، وفي آخر الأسبوع كان يأتيني ويقدم حسابه ومصروفه الإضافي للبيت، وأنا أعطيه المال وبعد ذلك أقدم قائمة الصادرات والواردات أسبوعياً لجناب السيد (رحمه اللّه) فكان يدقق في القائمة فذات يوم رأى في قائمتي (1200) تومان كتبت باسم الحاج محمد، فقال: لماذا أخذ منكم؟ فقلت له: إنه اشترى أكثر مما قلتم له فأخذ الإضافي مني؛ فانفعل السيد الراحل (رحمه اللّه) وبان الغضب على وجهه خوفاً من اللّه فقام وبدأ يمشي في الغرفة وهو يقول: تدخلت في أمري يا شيخ، تدخلت في أمري وأنا أخاف اللّه فكم فقير موجود حولنا.

وبدأ يشرح لي بأن عليه أن يعيش عيش الفقراء وأن لا يسرف في معاشه وإلا فهو مسؤول أمام اللّه عز وجل.

قلت: سيدي لم أعمل خلاف الشرع وأنا كنت مجبراً فماذا أصنع والرجل

ص: 380

قد دفع من ماله؟

إلا أن سماحته (رحمه اللّه) لم يقنع بكلامي وظهر عدم الارتياح على وجهه الشريف وحزن من تصرفي وأنا بدوري انزعجت فذهبت لألوذ بالسيد المرجع السيد صادق (دام ظله) مقدماً استقالتي ليعفيني من مهمتي وأعطيته كل المفاتيح والأشياء التي كانت عندي، إلا أن سماحة السيد صادق (حفظه اللّه) لم يقبل مني الاستقالة ولم يعفني من مهمتي وهكذا انتهت تلك القضية.

* كيف كان تعامله مع الكادر في البيت والمكتب ؟

- أما بالنسبة لأفراد المكتب والحرس والمسؤولين عن الضيافة فكان تعامله أبوياً وحنوناً وأقصد الأب الذي لا يأمر حتى أبناءه، فلم أره مرة واحدة يقول للحاج جعفر أعطيني أو أجلب كأساً من الماء، بل إذا احتاج إلى أن يشرب كان يقوم بنفسه ليشرب الماء، حتى أنه إذا أراد أحد منه الخيرة فتراه يقوم بنفسه ويأتي بالقرآن الكريم، ولذا فإنه جرت العادة أنه إذا أراد أحدهم الخيرة فيأتي إلى السيد ومعه القرآن الكريم.

سرور السيد الشيرازي (رحمه اللّه)

* أي شيء كان يسّر السيد الراحل (رحمه اللّه)

ويدخل البهجة على قلبه؟

- عندما يطبع كتاب ويوزع، كان يسره ذلك كثيراً، وتراه مبتهجاً ومسروراً، وأذكر أنه في إحدى المرات أتى الشيخ الذاكري من بيروت وكان معه كتاب (الحرية في الإسلام) وكتاب آخر طبع في بيروت، فوجدنا السيد الراحل (رحمه اللّه) بان عليه السرور، وظهر الفرح على وجهه، وأخذ يتصفح الكتاب وقال: أبدؤوا بتوزيعه سريعاً وأوصلوه بيد القراء، فكان سماحته إذا رأى الكتاب قد خرج من المطبعة إلى عالم النور فإن ذلك يدخل السرور والبهجة على قلبه الشريف.

ص: 381

الكسل يزعجه

* أي شيء كان يؤذيه ويزعجه ؟

- يتأذى من عدم النشاط، وينزعج من الكسل وعدم الحيوية، أو التواني والتباطؤ بالعمل من قبل بعض الأخوة والأصدقاء، أو عندما يرى أن بعضهم لا ينفذ ما أرشده عليه، أو أمره به وهذا ربما يخص الحواشي والمقربين والمحيطين بجنابه، فكان ينزعج إذا تكاسلوا أو لم يعملوا ولم يكن لهم عذر مقبول.

* هل رأيته يطبخ طعاماً ؟

- أذكر أنه في الموجة الثانية لقصف المدن في الحرب تقرر أن سماحته (رحمه اللّه) يذهب إلى مدينة (يزد) مع ولده المرحوم السيد محمد رضا (رحمة اللّه عليهما)، وذلك في سيارة إسعاف قديمة ولا تكاد تخرج من المدينة، تابعة لمستشفى (سيد الشهداء (عليه السلام) )، علماً أنني لم أكن معهما، ولكن في اليوم الثاني أخذت العنوان من السيد صادق (دام ظله) وذهبت بأثرهما إلى مدينة (يزد) حيث وجود السيد الراحل وولده، وكان نازلاً في بيت والد الشيخ حسين الفدائي حفظه اللّه، وتعجبت من ذلك لأن المكان لم يكن آمناً بما يكفي على جناب السيد (رحمه اللّه) ، إلا أنه كان لا يعلم بوجوده أحد.

فكان عنده وإذا به يأتي لنا بالفطور بنفسه، في قدر قد طبخ به رزاً غير مصفى، ومرقة خاصة لم أكل مثلها في حياتي، وكان يعلق: إن هذه قضايا شكلية ويجب أن لا نقف عندها كثيراً وعلى الإنسان أن لا يتلف وقته ويضيع أيامه بصنع الطعام وأكله.

ومرة أخرى كانت في أحدى الأيام العادية، وحين طلبني وكان لي موعداً عنده، فذهبت إليه، وقلت: سيدنا حان الوقت (الموعد)، فقال: تفضل ادخل

ص: 382

الآن نذهب.

وعندما دخلت رأيته دخل المطبخ وأخرج من الثلاجة مقداراً من الرز والمرق وأتى بهما كما هما باردان، وقال: تفضل وكل معي، فجلسنا وأكلنا هذا الطعام هنيئاً مريئاً، ثم قمنا وذهبنا إلى موعدنا المقرر.

* إذا صادف أن أحد من العمال أو الموظفين لم ينفذ ما عليه، ولم يقم بواجبه، فماذا كان يقول له السيد (رحمه اللّه) ؟ وكيف يتصرف معه في هذه الحالة؟

- كان السيد الراحل (رحمه اللّه) يسأله، ويستفسر منه عن سبب ذلك، فإن كان لديه عذر وجيه، ودليل مقنع فيدلي به، وإذا لم يكن له عذر فإنه يطرق برأسه إلى الأرض ولا يرفع رأسه خجلاً من سماحة السيد (رحمه اللّه) ، وسماحة السيد كان يسكت ولا يقول له شيئاً.

* هل كان يحدد شخصاً آخر لهذا العمل؟

- نعم، كان يختار شخصاً آخر لهذا العمل، ولكن لم نره يغضب ويغلظ على أحد من المقصرين.

* عندما أصدر بعضهم بياناً ضد السيدالشيرازي (رحمه اللّه) ، تصدى جمع من العلماء لذلك وقاموا بمحاولات لسحب البيان، هل كنت معهم؟

* أو هل سمعت شيئاً عن ذلك؟

- في بداية صدور البيان ضد السيد الراحل (رحمه اللّه) الذي لم يظهر حتى وصل سماحته إلى الكويت، وأنا شخصياً لا أذكر تلك التفاصيل، ولكن سمعت أن السيد مرتضى القزويني تصدى وكتب رسالة إليهم بهذا الخصوص، وأغلب الظن أن الرسالة موجودة عندي.

* أنت اعتقلت وسجنت - شيخنا - ماذا كانوا يريدون منك؟

- يريدون أن أقول لهم إن السيد الراحل (رحمه اللّه) يعمل ضد الثورة لتكون لهم

ص: 383

حجة ضده، وأقول لهم ماذا كان يفعل السيد (رحمه اللّه) بحق الثورة، لتكمل الحجة على السيد (أي أنه كان يقول ويعمل ضد الثورة).

فقلت لهم: لم يكن للسيد الشيرازي أقوال، ولا أفعال ضدكم في يوم من الأيام.

فقالوا لي: ما هي نظرية شورى الفقهاء حتى يطرحها على الملأ، فنحن حذفنا شورى القضاء، وشورى الفقهاء غير ممكنة، فكيف هو يقول بها.

والحقيقة أن كتاب السيد الراحل (الشورى) مطبوع وموجود بين الناس ولم يكن سرياً أو جديداً لم يعرفوا عنه شيئاً، ولكن كان حجة العاجز، وعمل الفاشل، لأنهم ما كانوا يريدون شيئاً إلا مسألتين فقط هما:

الأولى: التأثير على الناس المحيطين بجناب السيد (رحمه اللّه) لينفض الناس ويبتعدوا عنه، فيضعف اجتماعياً.

الثامنية: الضغط على سماحة السيد شخصياً ونفسياً، بهدف التأثير على روحيته ومعنوياته فيضطرب شيئاً ما؛ لأنهم كانوا على يقين بأن السيد الراحل (رحمه اللّه) لم يعمل ضدهم في يوم من الأيام، و كل هدفه خدمة الناس ونشر رسالة أهل البيت الأطهار (عليهم السلام) وفكرهم على أكبر ساحة ممكنة.

إلا أنه لم يكن يقبل تلك الأعمال المخالفة للشرع الحنيف من سفك الدماء، والسجون والتعذيب وما إلى ذلك من ممارسات فيها انتهاك لحرمة الدين الإسلامي وقيمه الحضارية.

ومن الأشياء التي كانوا يسألوني عنها: كم رواتب العمال الذين يعملون في بيت ومكتب السيد الشيرازي؟

فأقول: إنهم لا يعملون بالراتب، بل يعملون تطوعاً وحباً بالسيد

ص: 384

الشيرازي، ومتى يتوفر لدى جناب السيد مالاً كان يعطيهم ما تسير له دون تحديد معين.

والهدف من ذلك أنهم كانوا يحاولون أن يجعلوا أحداً من الذين يعملون في بيت السيد الراحل (رحمه اللّه) أن يتعامل معهم لينقل لهم كل صغيرة وكبيرة مما يجري في بيت ومكتب السيد الراحل (رحمه اللّه) إلا أنهم فشلوا في هذه أيضاً.

الإبداع الفكري للسيد الشيرازي (رحمه اللّه)

* ماذا كانت إبداعات السيد الراحل (رحمه اللّه) كما تراها ؟

ج/ كثيرة جداً إبداعات السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ، فلا تكاد تحصى حقيقة إلا أنني أذكر منها بعض الأمثلة فقط، فمن إبداعاته طرح مسألة شورى الفقهاء والمراجع لإدارة شؤون الأمة، ومنها طرحه للأحزاب الإسلامية، وقد تأسست عدد من الأحزاب في ظل دعوته تلك.

وإبداع السيد الشيرازي (رحمه اللّه) كله كان يختصر في أنه كان يريد أن يطبق الإسلام الحنيف، وشريعته السماوية على أرض الأمة الإسلامية ويطمح إلى تبليغ الإسلام إلى كل بقاع العالم، وأن ينفي الفقر والعوز والحاجة من الأمة الإسلامية.

* هل رأيت طريقة سماحة السيد الراحل (رحمه اللّه) في التأليف ؟

- في الفترة التي كنت فيها بخدمة السيد (رحمه اللّه) في مدينة مشهد المقدسة رأيته كيف يكتب ويؤلف، فتراه كان يجلس ويكتب لمدة ساعتين تقريباً - علماً أنه كان يكتب بشكل سريع جداً، ويقرأ أيضاً قراءة سريعة لم أر مثله في حياتي حتى إذا توقفت أصابعه عن الحركة - لأن أصابعه تقف عن الحركة لكثرة الكتابة - فتراه يقف ليتمشى في الغرفة ويفكر في المسألة التي كان يكتب بها، أو غيرها من

ص: 385

مشاريعه الكثيرة جداً.

وفي بعض الأحيان كان يطرح مسألة شرعية عليّ، فإذا كنت أعرف الجواب أجيبه، وإذا لم أعرف كان يجيبني هو عليها مع تفاصيلها ليعلمني، ثم يجلس ثانية ليستأنف الكتابة والتأليف.

هذا ما رأيته منه في مدينة مشهد المقدسة وخلال إقامتي معه وفي خدمته، وأما في مدينة قم المقدسة فإن لجناب السيد الراحل (رحمه اللّه) أماكنه الخاصة ولكن إذا اضطررنا للسؤال أو مسألة فإننا كنا ننزل إلى السرداب فكنا نراه جالساً يكتب فنسأله ونخرج من عنده سريعاً لكي لا نعطله.

* كيف كان لديه مسألة التولي والتبري وتعامله مع أعداء المذهب؟

- كان إيمانه قوياً جداً بما هو مؤمن به، لاسيما الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) ، وهذا الشيء يلاحظه كل مَنْ جلس معه، أو قرأ كتبه الكثيرة؛ فمسألة التولي لأولياء اللّه تعالى والتبري من أعدائهم وظالميهم مسألة في الصميم وليست في الشكليات والقشور فقط.

أما المذاهب الإسلامية الأخرى فإنه كان يخاطبهم في كتبه، ويحاورهم إذا جاؤوا إليه - وكم له من حوارات معهم ومع غيرهم من الأديان الأخرى وقد أفرد لهم كتباً - وكان يقول لنا: يجب أن نراعي طريقة الطرح في المناظرة، ونتعامل معهم بحسب مكانتهم العلمية وفهمهم وطريقة طرحهم للمسائل، فإن كان بسيطاً نتعامل معه بكلمات بسيطة ومواقف مناسبة لفهمه، ولكن إن كان قوياً ومتعلماً فإن طرحنا معه يكون علمياً ورصيناً وقوياً أيضاً، فعليكم أن تراعوا مثل هذه القضايا في الحوار والنقاش مع الآخرين.

كما كان سماحته (رحمه اللّه) يحاور كل الأطراف إسلاميين وعلمانيين ومسيحين

ص: 386

وشيوعيين وغيرهم وأذكر أنه ذات يوم وحين كان سماحته (رحمه اللّه) في الكويت ذهب إلى بيت (قبازرد)(1) وكان هناك سفير (السوفييت) آنذاك، ودخل معه في حوار ومناظرة وانتصر عليه فيها.

شكر ودعاء الختام

لا يسعنا في نهاية هذا الحوار السريع المفيد، مع سماحة الشيخ الأصفهاني المحترم، إلا أن نشكر اللّه تعالى على هذا التوفيق الرباني، لهذا التوثيق الحقيقي لحياة الإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه) ، ونشكر سماحة الشيخ الذي تحمل هذا العناء ونبش تلك الذكريات التي أتحفنا بها جزاه اللّه كل الخير.

وقبل الوداع نقول: اللّهم أمطر شآبيب رحمتك على تلك النفس الزكية، وتلك الروح الطاهرة، وذاك الجسد المضمخ بالإيمان، وتلك الشخصية المتسربلة بالولاء لمحمد وآله الأطهار (عليهم السلام) .

اللّهم ارحم غربته، وطيب تربته، وآنس روعته، اللّهم احشره في ركاب محمد وآل محمد (عليهم السلام) الذي أفنى حياته في التاريخ لهم والدفاع عنهم والحب لهم؛ فإنه كان من مصاديق قولهم: (رحم اللّه عبداً أحيا أمرنا) و (نضَّر اللّه وجه عبد أحيا أمرنا) فارحمه ونضِّر وجهه فإنه أضنى جسده، وأفنى عمره في سبيل ذلك.

اللّهم، ارحم وأغفر وتحنن وتفضل وتكرم على ذاك السيد الجليل، والمرجع النبيل، الإمام ابن الكرام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه) ، وارفع درجاته وقدس نفسه وعطر رمسه فإنك أرحم الراحمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله الطاهرين .

ص: 387


1- محمد حسين علي قبازرد، نائب سابق في مجلس الأمة الكويتي.

الصورة

ص: 388

الفهرس

الإهداء ... 5

شكر وتقدير... 7

المقدمة... 9

الحوار الأول

مع آية اللّه الشيخ فاضل الصفار/11

التمهيد... 13

القسم الأول/17

عوامل النجاح وسر الصمود... 17

بوادر الاصطدام مع السلطات... 20

فراسة الإمام الراحل (رحمه اللّه) ... 23

يحترمه الجميع... 24

المؤمن يألف ويؤلف... 25

هل ما حصل انقلاب؟... 26

جبهات المواجهة... 32

أخطر المواجهات... 36

ص: 389

عوامل وسر نجاح الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ... 37

المرجعية العليا... 39

أهم عوامل النجاح في شخصية الإمام الراحل (رحمه اللّه) ... 42

تحمل بلا حدود... 46

على منابر الجمعة... 48

جمع الكل تحت الراية... 50

إدارة المؤسسات بالمعنويات... 51

مع وفد الأمم المتحدة... 53

القسم الثاني/57

منابع عبقرية الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ... 57

الإمداد الغيبي... 58

رؤيا ذات دلالات... 62

رسالة إلى السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ... 65

الذكاء الخارق... 67

حافظة عجيبة للأحاديث... 69

مع علماء حوزة مشهد... 71

أقرب الآراء إلى روح الإسلام... 73

القسم الثالث/76

عالمية الطرح في فكر الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ... 76

تغيير الغرب واليهود... 82

ص: 390

الجهاد عند الإمام الراحل (رحمه اللّه) ... 85

مع وفد قادة الحركة الأفغانية... 85

الإمام الراحل (رحمه اللّه) والأكراد... 87

العمل في أفريقيا... 90

الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ومنهجية الوكالة والوكلاء... 91

مؤلفات المدرسة الشيرازية... 95

جماهير المقلدين... 96

ارتباط المرجع بمقلديه... 97

أنت وابنه سواء... 99

هدفية الحياة... 100

اللقاء الأول بعد الفراق... 102

الإمام الراحل (رحمه اللّه) والحركة والوهابية... 104

الشعائر الحسينية... 110

القسم الرابع/112

الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) والقضية العراقية... 112

المحور الأول: العشائر... 113

تنتهون إلى المصالحة... 118

المحور الثاني: هو التعددية السياسية... 119

المحور الثالث: محور الإصلاح والنهضة... 121

المحور الرابع: مسألة الشورى (شورى الفقهاء المراجع)... 122

ص: 391

المحور الخامس: مبدأ اللا عنف... 123

عواطف الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) ... 125

تتبع الأخبار العالمية... 125

الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) وكربلاء المقدسة... 131

الإمام الراحل (رحمه اللّه) طاقة هائلة... 135

الإمام الرحل (رحمه اللّه) مُجدداً... 136

الإمام الراحل (رحمه اللّه) وأخلاقه النبوية... 137

نكران الذات... 139

معالجة الأزمة المالية... 141

القسم الخامس/143

الإمام الراحل (رحمه اللّه) وجوانب من الإدارة والعاطفة... 143

مؤسسات الإمام الراحل (رحمه اللّه) ... 146

النظم والنظام تحرر من الاستبداد والاستعمار... 147

الإبداع في العمل المؤسساتي... 148

المؤسسات الإجتماعية... 149

الإمام الراحل (رحمه اللّه) والمرجعيات الأخرى... 152

أفكار المرجعيات العليا... 154

الإمام الراحل (رحمه اللّه) وأساليبه التربوية... 156

التشويق المستمر لطلب العلم... 160

دور الإمام الراحل (رحمه اللّه) في تقوية الحوزات... 161

ص: 392

تعددية أممية... 163

المشورة الدائمية... 164

الإمام الراحل (رحمه اللّه) وأصحاب الديانات والمذاهب الأخرى... 165

الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) بلا حدود... 166

الإمام الراحل (رحمه اللّه) والإصلاح... 169

القسم السادس/172

الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) والرحلة إلى مدينة مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) ... 172

في مدينة مشهد المقدسة... 175

الإمام الراحل (رحمه اللّه) يسكن مع طلابه... 177

باقة ورد هدية للإمام الراحل (رحمه اللّه) ... 181

التدريس المميز... 182

سيدة الموسوعات... 187

الكراسات رسائل توعوية... 190

شرح كتاب السماء و العالم من بحار الأنوار... 193

الحروب التي شنَّت على الإمام الراحل... 196

الحلم والصبر من سجايا الإمام الراحل (رحمه اللّه) ... 198

أفراح الإمام الراحل (رحمه اللّه) بأولاده... 200

تنظيف فراش المكتب... 201

ويرفض الستائر المستخدمة... 202

ما كان يملك إلا صاية واحدة... 203

ص: 393

أتريد أن تصنع مني طاغوتاً يا دكتور؟... 203

القسم السابع/206

الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) رجل التحديات الكبرى... 206

لو استطاع لغيّر العالم... 207

يطالب بالوحدة في زمن التشتت... 210

الإمام الراحل (رحمه اللّه) والمجتمع... 212

العمل دائماً... 213

حفظ التوازن بين المرجعية والموازين الاجتماعية... 213

انقسام الأصحاب تحت ضغط الظروف... 216

الإمام الراحل (رحمه اللّه) والحكومات... 218

حرب الدعايات ضد الإمام الراحل (رحمه اللّه) ... 222

الصبر و التحمل... 222

اللاعنف بلا حدود... 223

لا للشعارات... 223

الصلب القوي أمام الشدائد... 224

مهرجان صفر الشعري... 225

عندي أهداف كبرى... 228

ص: 394

الحوار الثاني

مع فضيلة الحجة الشيخ علي الرميثي دام عزه/233

القسم الأول/235

نبذة تعرفية عن الشيخ الرميثي... 235

اللقاء الأول... 237

مقومات الشخصية الناجحة... 237

السبب وراء المشاكل... 238

النظرة إلى الدنيا... 242

مع الحوزات العلمية... 243

أهم الآراء والأفكار... 245

الحكومات الإسلامية... 246

مع المناوئين... 248

محاربة الجهل... 249

مستوى التفكير... 251

مع المراجع العظام... 253

الأحزاب المناوئة... 255

المرجع والأمة... 257

مع المنبر الحسيني... 258

مع الشعائر الحسينية... 260

موانع تأسيس الفضائيات... 261

ص: 395

خلفيات العداوات... 262

لماذا كان يفعل ذلك؟... 263

اللاعنف بلا حدود... 265

مصادرة كتب... 266

المغريات... 268

القسم الثاني/269

للزهد صور أخرى... 269

الصورة الأولى... 272

الصورة الثانية... 273

الصورة الثالثة... 275

الصورة الرابعة... 277

الصورة الخامسة... 280

الصورة السادسة... 282

الصورة السابعة... 284

الصورة الثامنة... 286

الصورة التاسعة... 288

الحوار الثالث

مع آية اللّه الشيخ حسن الغديري/293

بداية المعرفة... 295

ص: 396

تجسيد الفضائل... 298

الأخلاق الفاضلة... 299

مقومات النجاح... 299

النظرة الايجابية... 300

التنظيم والتقوى... 300

مع الثقلين... 301

الكويت أم كربلاء المقدسة؟... 301

الآراء السياسية... 301

تجسيد الصفات الأخلاقية... 302

العبادة والعلاقة مع اللّه... 303

احترام الآخرين... 304

الأصل العمل... 304

الحريات... 305

الإرهاب الجسدي والفكري... 306

نظرة إلى واقع المسملين والغربيين... 308

وسائل الإعلام... 309

المنبر الحسيني... 310

دور المرأة في المجتمع... 312

صفات نائب الإمام (عليه السلام) ... 315

ص: 397

الحوار الرابع

مع فضيلة الحجة الشيخ حسن الاصفهاني (رحمه اللّه) /317

التعريف بسماحة الشيخ الاصفهاني... 320

حديث البدايات... 322

رسائل مختلفة... 324

زيارة السيد الخميني... 332

زيارة الإمام الراحل للشيخ المنتظري... 333

زيارة الشيخ محمد يزدي... 334

السيد الشيرازي (رحمه اللّه) والعشائر العراقية... 335

محاولات التسقيط في الكويت... 336

شهادة الميرزا جواد التبريزي (رحمه اللّه)... 340

برنامج الإمام الراحل (رحمه اللّه) في قم المقدسة... 343

من أخلاقيات الإمام الراحل (رحمه اللّه) ... 346

زيارة الشيخ أحمد جنتي... 354

زيارة السيد الخامنئي... 354

زيارة أئمة الجمعة... 356

إذاعة كربلاء... 361

الضائقة المالية... 363

زيارة سامراء... 364

تربية الأبناء... 365

ص: 398

محاولات الاغتيال... 366

في رحاب الإمام الحسين (عليه السلام) ... 371

استقبال السيد الخونساري... 372

الساندويش الفكري... 373

حكومة النبي والأمير 3... 374

تزويج الأبناء... 375

عبادة السيد الراحل (رحمه اللّه) ... 376

الشؤون الشخصية... 377

حصار ربع قرن... 378

الخوف من اللّه تعالى... 380

سرور السيد الشيرازي (رحمه اللّه) ... 381

الكسل يزعجه... 382

الإبداع الفكري للسيد الشيرازي (رحمه اللّه) ... 385

شكر ودعاء الختام... 387

الفهرس... 389

ص: 399

للاطلاع على آراء وأفكار الإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) راجع المواقع التالية:

* alshirazi.com

* annabaa.org

* malshirazi.org

* Iswf .us

* shirazinetwork.com

* shirazionline.org

* m.youtube.com/user/shajara14

* ⓣelegram.me/shajara14

* ⓣelegram.me/shirazi_lib

* ⓣelegram.me/shajara14_ f

ص: 400

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.