دروس في الکفایة المجلد 7

هویة الکتاب

دروس في الکفایة

شارح: محمدي بامیاني، غلامعلي

كاتب: آخوند خراساني، محمدکاظم بن حسین

تعداد جلد: 7

لسان: العربية

الناشر: دار المصطفی (ص) لاحياء التراث - بیروت لبنان

سنة النشر: 1430 هجری قمری|2009 میلادی

رمز الكونغرس: 1430 /آ3 ک7028 159/8 BP

موضوع: اصول

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

التاسع (1): أنه لا يذهب عليك أن عدم ترتب الأثر غير...

=============

تتمة المقصد السابع

تتمة فصل فى الاستصحاب

تتمة تنبيهات الاستصحاب

التنبيه التاسع في اللازم المطلق

(1) و هذا التنبيه كسابقه مما يتعلق بالأصل المثبت.

و الغرض من عقده: هو تمييز اللازم العقلي أو العادي - الذي يترتب على استصحاب الحكم، من دون أن يكون الاستصحاب مثبتا - عن اللازم غير الشرعي الذي يكون ترتبه على الاستصحاب مبنيا على الأصل المثبت.

و بهذا التمييز و الفرق يندفع إشكال مثبتية الاستصحاب عند ترتب الأثر الشرعي على المستصحب بواسطة اللازم العقلي أو العادي.

فلا بد أوّلا: من بيان التمييز و الفرق، و ثانيا: من بيان دفع الإشكال.

و أما توضيح التمييز و الفرق، فيتوقف على مقدمة و هي: أن اللازم العقلي أو العادي على قسمين:

أحدهما: هو اللازم المطلق للمستصحب فيما إذا كان المستصحب حكما شرعيا؛ بمعنى: أن اللازم يترتب على مطلق وجوده الحكم، سواء كان وجوده واقعيا أو ظاهريا.

و ثانيهما: هو اللازم الخاص، بمعنى: أنه لا يترتب إلاّ على الوجود الواقعي للمستصحب.

و مثال الأول: كحسن الإطاعة و قبح المعصية. و وجوب المقدمة؛ بناء على كونه عقليا، فحسن الإطاعة و قبح المعصية و وجوب المقدمة من اللوازم العقلية المترتبة على مطلق وجود المستصحب، سواء كان واقعيا أم ظاهريا.

و مثال الثاني: هو كالإجزاء، فإن إجزاء الصلاة مع الطهارة الحدثية حكم عقلي مترتب على الطهارة الواقعية لا الأعم منها، و من الطهارة الظاهرية الثابتة بالاستصحاب.

فلا يجزي الإتيان بالصلاة مع الطهارة الظاهرية عن الصلاة مع الطهارة الواقعية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن مورد الإشكال و توهم أن اللازم العقلي أو العادي الذي لا يثبت نفسه و لا أثره الشرعي بالاستصحاب؛ إلاّ بناء على الأصل المثبت هو القسم الثاني أعني: اللازم العقلي أو العادي لوجود المستصحب الواقعي، دون الأول أي:

ص: 5

الشرعي (1) و لا الشرعي (2) بوساطة غيره من العادي أو العقلي بالاستصحاب (3) اللازم الأعم من وجوده الواقعي و الظاهري، فإن القسم الأول يثبت باستصحاب الحكم من دون إشكال مثبتية الاستصحاب.

=============

و الوجه في عدم المثبتية في القسم الأول هو: وضوح تبعية كل حكم لموضوعه، و عدم تخلفه عنه لكونه بمنزلة العلة للحكم، و المفروض في المقام: أن المستصحب بمطلق وجوده - و لو ظاهرا - موضوع لذلك اللازم، فبمجرد الاستصحاب يثبت وجود المستصحب ظاهرا، و هو الموضوع لذلك اللازم، فيترتب عليه، من دون حاجة إلى تعبد و تنزيل آخر يخصه؛ لعدم قابليته للتعبد الشرعي؛ بل بنفس التعبد بالملزوم - لكونه سببا لوجوده و لو ظاهرا - يترتب عليه لازمه قهرا من باب ترتب الحكم على موضوعه، و لو كان للازم حكم شرعي ترتب عليه أيضا لتحقق موضوعه.

و هذا بخلاف القسم الثاني، فإنه لا موجب لترتبه على المستصحب؛ لا من جهة سراية التعبد من المستصحب إلى لازمه.

أما الأول: فلعدم تحققه؛ إذ الثابت بالاستصحاب هو الوجود الظاهري، و المفروض:

إنه ليس بموضوع.

و أما الثاني: فلما مر سابقا من أن المستفاد من أخبار الاستصحاب تنزيل المستصحب وحده بلحاظ أثره الشرعي دون العقلي و العادي، و عليه: فلا وجه لترتيب اللازم غير الشرعي، و لا حكم هذا اللازم على المستصحب إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) و هو العقلي أو العادي. و لا يخفى: أن حديث الأصل المثبت لا يجري في هذا الفرض؛ لأن الأصل المثبت هو الأصل الجاري في الملزوم لإثبات الأثر الشرعي المترتب على لازمه. و هذا بخلاف إثبات نفس اللازم العقلي و العادي، فإنه حيث لا يكون واسطة بين المستصحب و لازمه العقلي و العادي، فلا ينطبق عليه ضابط الأصل المثبت.

و إنما الوجه في عدم ترتب لازمه أن التعبد الاستصحابي يكون بلحاظ الأثر الشرعي المترتب على المستصحب؛ لا مطلق أثره و لو كان عقليا أو عاديا.

(2) يعني: و لا الأثر الشرعي الثابت بوساطة غير الأثر الشرعي و هو اللازم العقلي أو العادي.

(3) متعلق ب «ترتب» أي: باستصحاب الملزوم، سواء كان المستصحب موضوعا أم حكما.

ص: 6

إنما (1) هو بالنسبة إلى ما للمستصحب واقعا (2)، فلا يكاد (3) يثبت به (4) من آثاره إلاّ أثره الشرعي الذي كان له بلا واسطة أو بوساطة أثر شرعي آخر (5) حسبما عرفت فيما مر (6)؛ لا بالنسبة (7) إلى ما كان للأثر الشرعي...

=============

(1) خبر قوله: «أن عدم»، يعني: أن عدم ترتب الأثر العقلي أو العادي، و كذا الأثر الشرعي المترتب عليهما بالاستصحاب مختص بالحكم الذي يكون بوجوده الواقعي موضوعا للأثر.

و أما إن كان الموضوع وجود الحكم مطلقا - و لو في الظاهر - فلا مانع من ترتب لوازمه العقلية و العادية و آثارهما الشرعية عليه، و ضمير «هو» راجع إلى «عدم ترتب».

(2) قيد للمستصحب، و المراد ب «ما» الموصول حكم المستصحب.

(3) هذه نتيجة حصر نفي ترتب الأثر غير الشرعي - أو الشرعي المترتب على اللازم العقلي أو العادي على الاستصحاب - بكون الحكم بوجوده الواقعي موضوعا، فإن مقتضى هذا الحصر ترتب الأثر غير الشرعي أو الشرعي المترتب عليه على الحكم الثابت بالاستصحاب؛ إذا كان الحكم بمطلق وجوده و لو ظاهرا موضوعا كما مر تفصيله، أما إذا كان موضوع الأثر خصوص الوجود الواقعي للحكم، فإنه لا يترتب على استصحاب الحكم؛ لأن الثابت به وجود ظاهري له، و المفروض: أنه ليس موضوعا للحكم، و قد تقدمت أمثلة الكل.

(4) أي: فلا يكاد يثبت بالاستصحاب من آثار المستصحب إلاّ أثره الشرعي الذي كان للمستصحب بلا واسطة؛ كوجوب إنفاق الزوجة الثابت باستصحاب حياة الزوج بلا واسطة.

و ضمائر «آثاره، أثره، له» راجعة إلى «المستصحب».

(5) كحرمة أخذ الخمس أو الزكاة على الزوجة المستصحبة حياة زوجها، فإن هذه الحرمة مترتبة على وجوب الإنفاق عليها الثابت باستصحاب حياة زوجها.

(6) أي: في التنبيه السابع، حيث قال في صدره: «كما لا شبهة في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب من الآثار الشرعية و العقلية».

(7) معطوف على «بالنسبة»، يعني: أن عدم ثبوت الأثر غير الشرعي و كذا أثره و إن كان شرعيا بالاستصحاب إنما هو بالنسبة إلى الأثر الثابت لنفس الواقع المستصحب؛ لا بالنسبة إلى الأثر غير الشرعي الثابت للحكم بوجوده مطلقا، سواء كان واقعيا أم ظاهريا، فإنه لا مانع من ترتبه على المستصحب؛ لتحقق موضوعه ظاهرا بالاستصحاب. و المراد بالموصول في قوله: «ما كان» هو الأثر غير الشرعي.

ص: 7

مطلقا (1) كان (2) بخطاب الاستصحاب أو بغيره من أنحاء الخطاب، فإن آثاره (3) شرعية كانت أو غيرها تترتب عليه إذا ثبت و لو (4) بأن يستصحب، أو كان (5) من آثار المستصحب. و ذلك (6) لتحقق موضوعها...

=============

(1) قيد للأثر الشرعي، يعني: أن يكون الأثر الشرعي بوجوده الأعم من الواقعي و الظاهري موضوعا للأثر غير الشرعي؛ كوجوب الإطاعة المترتب على الحكم الشرعي مطلقا؛ و لو كان ظاهريا ثابتا بالاستصحاب مثلا.

(2) بيان للإطلاق، يعني: سواء ثبت الحكم الشرعي الأعم من الواقعي و الظاهري بخطاب الاستصحاب كقوله «عليه السلام»: «لا تنقض اليقين بالشك» الذي هو من الأصول العملية، أم بخطاب غير الاستصحاب كالأدلة الاجتهادية غير العملية كالبيّنة و خبر الواحد و غيرهما.

و ضمير «بغيره» راجع إلى خطاب الاستصحاب.

(3) يعني: فإن آثار الأثر الشرعي الذي يكون بوجوده المطلق موضوعا لها تترتب على ذلك الأثر الشرعي؛ و إن كانت تلك الآثار غير شرعية.

(4) هذا هو الفرد الخفي للثبوت، يعني: أن الآثار الشرعية تترتب عليه إذا ثبت ذلك الحكم الشرعي ظاهرا؛ و لو بأن يجري الاستصحاب في نفسه أو في الموضوع الذي يترتب عليه هذا الحكم.

و ضمير «غيرها» راجع إلى «شرعية»، و ضميرا «عليه و المستتر» في «يستصحب» راجعان إلى «الأثر».

(5) معطوف على «بأن يستصحب» يعني: و لو ثبت ذلك الأثر الشرعي بالاستصحاب الجاري في موضوع ذلك الأثر الشرعي، فهذا إشارة إلى الاستصحاب الموضوعي، و قوله: «يستصحب» إشارة إلى الاستصحاب الحكمي.

(6) هذا تعليل لترتب الآثار الشرعية و غيرها على الأثر الشرعي الثابت بالاستصحاب الجاري في نفسه أو في موضوعه.

و محصله: أن ترتبها عليه يكون من ترتب الحكم على موضوعه، فلا يحتاج ترتب تلك الآثار عليه إلى تنزيل آخر؛ بل يكفي في ترتبها مجرد التعبد بثبوت موضوعها كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة مثلا إذا فرض ترتب وجوب التصدق على وجوبها، و وجوب الدعاء على وجوب التصدق و هكذا، فإن هذه الأحكام الشرعية الطولية تترتب على تحقق وجوب صلاة الجمعة و لو بالاستصحاب المحرز له ظاهرا؛ إذ المفروض: كون

ص: 8

حينئذ (1) حقيقة، فما للوجوب عقلا (2) يترتب على الوجوب (3) الثابت شرعا باستصحابه أو استصحاب موضوعه (4) من (5) وجوب الموافقة و حرمة المخالفة و استحقاق العقوبة، إلى غير ذلك (6) كما يترتب على الثابت بغير الاستصحاب (7) بلا شبهة و ارتياب، فلا تغفل (8).

=============

موضوع تلك الآثار هو الحكم الشرعي بوجوده الأعم من الظاهري و الواقعي.

و من الواضح: امتناع انفكاك الحكم عن الموضوع؛ لأن وزانهما وزان العلة و المعلول، فجميع الآثار الشرعية و العقلية المترتبة على الحكم مطلقا سواء كان واقعيا أم ظاهريا تترتب على الحكم الشرعي الثابت بالاستصحاب أو غيره.

(1) أي: حين ثبوت الأثر الشرعي ظاهرا و لو بالاستصحاب.

(2) كوجوب الإطاعة الثابت للوجوب الشرعي، فإنه يترتب على الوجوب الشرعي الثابت باستصحاب نفسه كوجوب صلاة الجمعة كما مر، أو باستصحاب موضوعه؛ كاستصحاب حياة الغائب المترتب عليها وجوب الإنفاق شرعا على زوجته، المترتب على هذا الوجوب الشرعي الحكم العقلي و هو وجوب الإطاعة.

(3) بل كل أثر شرعي إلزامي كالحرمة و الوجوب.

(4) هذا في الاستصحاب الموضوعي، و ما قبله هو الاستصحاب الحكمي.

(5) مفسر ل «ما» الموصول.

(6) كوجوب المقدمة و حرمة الأضداد.

(7) كالعلم و الدليل المعتبر كالخبر الصحيح، فإن الحكم العقلي يترتب على الأثر الشرعي الثابت بهما ثبوتا واقعيا في الأول، و ظاهريا في الثاني.

(8) و تفطن حتى لا يخطر ببالك التنافي بين ما تقدم من عدم حجية الأصل المثبت، و بين ما ذكر هنا من ترتب الآثار غير الشرعية على الأثر الشرعي الثابت بالاستصحاب، فإن هذا اعتراف بحجية الأصل المثبت و رجوع عن إنكارها، و ليس هذا إلاّ التهافت بينهما. هذا تمام الكلام في التنبيه التاسع.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من عقد هذا التنبيه التاسع: هو تمييز اللازم العقلي أو العادي - الذي يترتب على استصحاب الحكم، من دون أن يكون الاستصحاب مثبتا - عن اللازم غير الشرعي الذي يكون ترتبه على الاستصحاب مبنيا على الأصل المثبت.

ص: 9

العاشر (1): أنه قد ظهر مما مر: لزوم أن يكون المستصحب حكما...

=============

و به يندفع إشكال مثبتية الاستصحاب إذا ترتب أثر الشرعي على الحكم المستصحب بواسطة اللازم العقلي أو العادي.

2 - توضيح الامتياز و الفرق: أن اللازم العقلي أو العادي على قسمين:

أحدهما: هو اللازم المطلق من حيث يترتب على وجود المستصحب المطلق أي:

وجودا واقعيا أو ظاهريا؛ كحسن الإطاعة و قبح المعصية.

ثانيهما: ما يترتب عليه من حيث وجوده الواقعي فقط كالإجزاء، و بعد هذا الفرق يندفع توهم مثبتية الاستصحاب عن القسم الأول بعد أن كان القسم الثاني مبنيا على القول بالأصل المثبت؛ إذ يثبت اللازم العقلي أو العادي و ما بواسطتهما من الأثر الشرعي بالاستصحاب من باب تحقق موضوع الأثر، و من المعلوم: أن الحكم تابع لموضوعه نفيا و إثباتا. و أما القسم الثاني: فلا يثبت اللازم العقلي و العادي من جهة تحقق الموضوع بالاستصحاب؛ لأن الموضوع هو الوجود الواقعي و ما يثبت بالاستصحاب هو الوجود الظاهري.

3 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - عدم كون الاستصحاب مثبتا فيما كان اللازم العقلي أو العادي المطلق وجود المستصحب واقعيا أو ظاهريا.

و كون الاستصحاب مثبتا فيما كان اللازم لازما لوجود المستصحب الواقعي.

التنبيه العاشر: في اعتبار موضوعية المستصحب للأثر بقاء لا حدوثا

(1) الغرض من عقد هذا التنبيه: دفع توهم من زعم أن قولهم: «إن المستصحب إما حكم شرعي و إما ذو حكم كذلك» يدل على اعتبار أن يكون كذلك ثبوتا و بقاء، فلو كان كذلك في مرحلة البقاء دون مرحلة الثبوت لم يجر فيه الاستصحاب. و قبل بيان دفع المصنف لهذا التوهم: نذكر ما هو محل الكلام في المقام.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن للاستصحاب مرحلتين:

الأولى: هي مرحلة ثبوت الحكم أو موضوع ذي حكم.

الثانية: هي مرحلة بقاء ذلك الحكم أو الموضوع.

ثم هنا احتمالان: الأول: أن يكون لكل من الحكم أو الموضوع مرحلة الثبوت و البقاء معا؛ كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة و استصحاب حياة زيد.

الثاني: أن يكون لهما مرحلة البقاء دون الثبوت؛ كاستصحاب عدم التكليف، فإنه

ص: 10

في الأزل لم يكن حكما مجعولا، و لكنه عند الشك في التكليف هو حكم مجعول شرعا، نظرا إلى كون أمر بقائه و رفعه بيد الشارع فعلا كما هو الحال في وجود التكليف عينا، و كما إذا فرضنا أن اليد كانت نجسة قبل الظهر مثلا، و لم يكن لها أثر شرعي لعدم وجود الصلاة مثلا في ذلك الوقت و لا شيء آخر مما يعتبر فيه الطهارة، ثم شككنا بعد الظهر في طهارتها، و للنجاسة أثر شرعي بقاء و هو عدم جواز الدخول في الصلاة. ثم محل الكلام هو الاحتمال الثاني؛ إذ ربما يتوهم عدم جريان الاستصحاب فيه، و لعل الوجه فيه هو أن الاستصحاب عبارة عن الإبقاء الشرعي بضميمة أن مرجعه إلى جعل الحكم المماثل، و هذا لا يصح إلاّ إذا كان المتيقن حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي ثبوتا؛ و إلاّ لم يكن الحكم المجعول في مقام الشك إبقاء شرعيا للمتيقن.

لكن هذا التوهم فاسد عند المصنف «قدس سره».

وجه فساده: أنه لم يؤخذ في دليل الاستصحاب هذا العنوان - أعني: عنوان الإبقاء - بل المأخوذ فيه هو عدم النقض عملا.

و معاملة المتيقن السابق معاملة الباقي لا حقا. و هذا لا يستلزم أكثر من كون المتيقن بقاء حكما شرعيا أو ذا حكم شرعي. و يكون المجعول حكما مماثلا للمشكوك على تقدير وجوده واقعا، و لا يعتبر أن يكون كذلك حدوثا؛ لعدم تكفل الدليل للإبقاء بل للأمر بالعمل في مقام الشك عمل الباقي واقعا. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح دفع المصنف للتوهم المذكور.

فالمتحصل: أنه لا يجب في المستصحب أن يكون حكما فعليا أو ذا أثر شرعي حال اليقين؛ بل كونه ذا أثر حال الشك كان كافيا في إجراء الاستصحاب، فمثلا: لو شك في بلوغ زيد، فإن استصحاب عدم التكليف بالنسبة إليه جار و إن كان قبل البلوغ لا أثر شرعي بالنسبة إلى زيد؛ إذ ليس داخلا في موضوع التكليف حتى يكون لليقين السابق أثر شرعي.

و كذلك إذا وقع مال لزيد في البحر، ثم أخرج جري استصحاب ملكيته له، و إن كان في حال كونه في البحر مأيوسا منه لا أثر شرعي لملكيته إيّاه؛ لكنه حيث يكون في حال الشك ذا أثر من جواز تصرفه و حرمة تصرف غيره جرى الاستصحاب.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

ص: 11

شرعيا (1) أو ذا حكم كذلك (2)؛ لكنه (3) لا يخفى: أنه لا بد أن يكون كذلك (4) بقاء و لو لم يكن كذلك ثبوتا. فلو لم يكن المستصحب في زمان ثبوته حكما و لا له أثر شرعا، و كان في زمان استصحابه كذلك، أي: حكما أو ذا حكم يصح (5)

=============

(1) كاستصحاب الوجوب.

(2) كاستصحاب الملك. فهذا إشارة إلى الاستصحاب الموضوعي، و ما قبله إشارة على الاستصحاب الحكمي.

(3) غرضه: بيان مورد لزوم كون المستصحب حكما أو ذا حكم حتى يندفع به التوهم المزبور، و محصله: أن مورد ذلك هو البقاء لأنه ظرف الشك الذي هو مورد الاستصحاب، و ليس ذلك إلاّ مرحلة البقاء دون الثبوت، فلو لم يكن المستصحب في زمان ثبوته حكما و لا موضوعا ذا حكم، و كان كذلك بقاء جرى فيه الاستصحاب.

و مثّل في المتن - لما لم يكن حكما حال اليقين به، و صار كذلك حال الشك - باستصحاب عدم التكليف، حيث إنه في الأزل ليس حكما مجعولا؛ لعدم محكوم عليه فيه حتى يكون حكما له؛ لكنه فيما لا يزال - أي: في المستقبل الذي هو ظرف تشريع الأحكام - يكون حكما؛ لما مر من أن نفيه كثبوته فيما لا يزال مجعولا شرعا، بمعنى: أن للشارع إبقاء العدم على حاله و نقضه بالوجود - و إن لم يطلق عليه الحكم - لأن الملاك في شرعية الحكم هو كون المورد قابلا لأن تناله يد التشريع، و هذا الملاك موجود في العدم الأزلي، فإبقاؤه كنقضه حكم، فإذا شك في بقائه فلا مانع من استصحابه بعد كون هذا العدم عند الشك في بقائه حكما أي: قابلا لاستيلاء يد التشريع عليه.

و يمكن التمثيل لعدم كون العدم في حال اليقين حكما و لا موضوعا له بعدم رضا المالك بالتصرف في ماله، فإنه قبل تصرف أحد في ماله ليس عدم رضاه حكما و لا موضوعا لحكم فعلي أصلا و لا تكليفي كالحرمة و لا وضعي كالضمان؛ لكنه بعد وضع شخص يده عليه إذا شك في بقاء عدم رضاه جرى استصحابه بلا مانع.

و مقتضاه حرمة تصرف الغير فيه و ضمانه له، فعدم رضا المالك حال اليقين به لم يكن حكما و لا ذا حكم؛ و لكنه حال الشك يكون دخيلا في الحكم و لو جزءا لموضوعه، و هذا المقدار كاف في صحة الاستصحاب.

(4) أي: حكما أو ذا حكم. و هذا أيضا يعني قوله بعد ذلك: «كذلك» و ضمير «أنه» للشأن، و ضمائر «ثبوته، له، استصحابه» راجعة إلى المستصحب.

(5) هذا جواب لو في قوله: «فلو لم يكن المستصحب».

ص: 12

استصحابه؛ كما في استصحاب عدم التكليف (1)، فإنه و إن لم يكن بحكم مجعول في الأزل (2) و لا ذا حكم إلاّ إنه حكم مجعول فيما لا يزال (3)؛ لما عرفت (4): من أن نفيه كثبوته في الحال (5) مجعول شرعا، و كذا استصحاب موضوع لم يكن له حكم ثبوتا (6)، أو كان و لم يكن حكمه...

=============

(1) هذا مثال لعدم كون المستصحب حال اليقين به حكما شرعيا و لا ذا حكم شرعي؛ لأنه هي البراءة الأصلية العقلية في الأزل. و ضمير «استصحابه» راجع على المستصحب.

(2) لبرهان حدوث العالم بأسره في قبال قدمه، فلم يكن مكلف حتى يجعل عليه حكم، فعدم الحكم سالبة بانتفاء الموضوع. و ضميرا «فإنه، أنه» راجعان إلى «عدم».

(3) و هو المستقبل الذي يكون زمان الشك في البقاء المأخوذ موضوعا للتعبد الاستصحابي، و من المعلوم: أنه لا معنى لجريان الاستصحاب في ظرف الشك في البقاء إلاّ ترتيب الأثر الشرعي على المستصحب؛ و إلاّ يلزم اللغوية.

(4) تعليل لكونه حكما فيما لا يزال، و حاصله: ما أفاده سابقا في التنبيه الثامن بقوله: «و كذا لا تفاوت في المستصحب أو المترتب بين أن يكون ثبوت الأثر و وجوده أو نفيه و عدمه، ضرورة: إن أمر نفيه بيد الشارع كثبوته» من كفاية مجرد القابلية للجعل في الاستناد إلى الشارع، لاستواء نسبة القدرة إلى الطرفين، فالعدم الأزلي في زمان الشك في بقائه مجعول شرعي بهذا المعنى من الجعل.

لكن صحة إسناده إلى الشارع باعتبار قدرته على نقض عدمه بالوجود أمر، و إطلاق الجعل و المجعول على عدم الحكم أمر آخر، ضرورة: مساوقة الجعل للتكوين و الإيجاد و لو في عالم الاعتبار، و هذا لا يصدق على مجرد القدرة على نقض العدم بالوجود.

نعم؛ لا ريب في انتساب بقاء هذا العدم إلى الشارع. و ضميرا «نفيه، كثبوته» راجعان إلى التكليف، و بهذه العبارة بيّن مراده من الحكم، فلا تنافي بين نفي الجعل و إثباته.

(5) أي: حال البقاء الذي هو حال الشك و مورد جريان الاستصحاب.

(6) أي: في حال اليقين بالمستصحب؛ كما إذا كان الصبي مستطيعا من حيث المال، و بعد بلوغه يشك في بقاء استطاعته المالية، فإنه لا مانع من استصحابها و الحكم بوجوب الحج عليه، مع إن استطاعته في زمان اليقين بها لم تكن موضوعا لوجوبه.

و كاستصحاب حياة الولد إلى زمان موت والده، فإن حياته في زمان اليقين بها لم

ص: 13

فعليا (1)، و له حكم كذلك (2) بقاء، و ذلك (3) لصدق نقض اليقين بالشك...

=============

تكن موضوعا للإرث؛ لأنها كانت في زمان حياة الوالد، و موضوعيتها للإرث إنما تكون حال وفاته و هو زمان الشك في حياته، فحياة الولد في زمان اليقين بها لم تكن ذات أثر شرعي، و صارت في زمان الشك فيها ذات أثر.

و جميع الأعدام الأزلية من هذا القبيل؛ كعدم التذكية حال حياة الحيوان، و عدم القرشية، و عدم الكرية و نحوها، فإنه لا يترتب أثر شرعي على هذه الأعدام حال اليقين بها، فإن عدم التذكية لا أثر له إلاّ بعد زهوق روح الحيوان.

و الشك في انتقاض هذا العدم، و كذا عدم القرشية، فإنه لا أثر له حين اليقين به، و هو عدم وجود المرأة، و إنما أثره بعد وجودها؛ لأنه يشك في بقاء عدم القرشية بالنسبة على هذه المرأة، فإذا جرى استصحاب عدم قرشيتها ترتب عليه حكمه؛ لو لم يناقش في استصحابه من جهة المثبتية.

و كذا الحال في عدم الكرية، فإنها في حال اليقين بعدمها لا أثر لها، و الأثر يترتب عليها فيما إذا شك في بقائها بسبب وجود ماء يشك في كريته، فإنه يترتب على استصحاب عدمها انفعاله بملاقاة النجاسة.

(1) كطهارة الثوب و البدن قبل وقت الصلاة، فإن فعلية شرطيتها إنما تكون بعد وقتها الذي هو ظرف الشك في بقائها، و من المعلوم: أنه لا إشكال في صحة استصحابها مع عدم فعليتها حال اليقين بها.

(2) أي: فعلي، و قوله: «له» متعلق بمحذوف، يعني: و لم يكن حكمه فعليا و كان له حكم فعلي بقاء.

و لو كانت العبارة هكذا: «أو كان و لم يكن فعليا إلا بقاء» كانت أخصر، و مع إبقاء العبارة على حالها يكون الأولى إسقاط كلمة «حكمه» للاستغناء عنها، لأنه بمنزلة أن يقال: «أو كان له حكم و لم يكن حكمه فعليا».

(3) تعليل لما ذكره من اعتبار كون المستصحب أثرا شرعيا أو ذا أثر كذلك بقاء و لو لم يكن كذلك ثبوتا.

و محصل التعليل: أن المعيار في صحة الاستصحاب - على ما يستفاد من أخباره - هو صدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن الحالة السابقة، و من المعلوم: عدم دخل لتلك الحالة في هذا المعيار أصلا، فإن رفع اليد عن عدم حرمة شرب التتن مثلا بالشك في بقائه و البناء على حرمته مما يصدق عليه نقض اليقين بالشك قطعا، مع عدم كون

ص: 14

على (1) رفع اليد عنه و العمل (2)؛ كما إذا قطع بارتفاعه، و وضوح (3): عدم دخل أثر الحالة السابقة ثبوتا (4) فيه و في تنزيلها (5) بقاء.

فتوهم (6): اعتبار الأثر سابقا (7)؛ كما ربما يتوهمه الغافل من (8) اعتبار كون عدم حرمته أزلا أثرا شرعيا و لا موضوعا له؛ لكنه شرعي بقاء، بمعنى: كون إبقاء العدم و نقضه بالوجود بيد الشارع، كما أنه يصدق إبقاء الحالة السابقة على العمل بها و البناء عليها.

=============

فالمتحصل: أن المعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب في ظرف البقاء الذي هو مورد التعبد أثرا شرعيا أو ذا أثر شرعي؛ لأنه حال الشك الذي لا بد فيه من جعل الوظيفة للشاك المتحير في الحكم.

(1) متعلق ب «لصدق»، و ضمير «عنه» راجع إلى «اليقين».

(2) معطوف على «رفع» و بيان له. و قوله: «كما» متعلق ب «العمل»، و ضمير «بارتفاعه» راجع على اليقين، يعني: لصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن اليقين؛ بأن يعمل عمل القاطع بارتفاعه كما عرفت في مثال شرب التتن.

(3) معطوف على «صدق»، و هذا متمم التعليل المزبور، يعني: و لوضوح عدم دخل أثر الحالة السابقة - الثابت لها حال الثبوت المقابل للبقاء - لا في صدق النقض و لا في تنزيل الحالة السابقة في مرحلة البقاء.

و الحاصل: أن صحة التعبد الاستصحابي تتوقف على ترتب الأثر في زمان الشك، و لا تتوقف على ترتبه في زمان الثبوت.

(4) تمييز ل «أثر»، و ضمير «فيه» راجع على «صدق نقض» و الثبوت مقابل البقاء.

(5) أي: في تنزيل الحالة، و هو معطوف على «فيه»، و المعطوف و المعطوف عليه متعلقان ب «دخل».

و غرضه: أن التعبد ببقاء الحالة السابقة لا يتوقف على ثبوت أمر شرعي لحدوثها؛ بل يتوقف على ثبوت أثر لبقائها؛ لأنه زمان التعبد الاستصحابي.

(6) هذا إشارة إلى التوهم المذكور في صدر التنبيه بقولنا: «و دفع توهم من زعم أن قولهم...» الخ.

(7) أي: حدوثا، و هو من قيود «اعتبار»، يعني: فتوهم اعتبار الأثر الشرعي في السابق - أي: في ظرف اليقين - فاسد.

(8) متعلق ب «يتوهمه»، و بيان لمنشا التوهم. يعني: أن توهم اعتبار الأثر الشرعي

ص: 15

المستصحب حكما أو ذا حكم فاسد (1) قطعا، فتدبر جيدا.

=============

للحالة السابقة في الاستصحاب و التعبد ببقائها إنما نشأ من هذا الكلام الذي قد عرفت عدم أساس له.

(1) خبر «فتوهم» و وجه القطع بفساده هو: ما أفاده بقوله: «و ذلك لصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عنه...» الخ. و قد تقدم توضيح ذلك.

فتلخص مما أفاده في هذا التنبيه: أن المدار في صحة الاستصحاب على كون المستصحب في مرحلة البقاء أثرا شرعيا أو ذا أثر شرعي، سواء كان كذلك أيضا في مرحلة الحدوث و الثبوت أم لم يكن، و الوجه في ذلك: أن التعبد يكون في البقاء دون الثبوت. هذا تمام الكلام في التنبيه العاشر.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - محل الكلام: أن ما يعتبر في الاستصحاب أحد أمرين:

أحدهما: كون المستصحب حكما شرعيا.

و الآخر: كونه موضوعا ذا حكم شرعي.

فوقع الكلام في أنهما كذلك ثبوتا و بقاء، أو يكفي أن يكونا كذلك بقاء فقط.

2 - ربما يتوهم: عدم جريان الاستصحاب فيما لم يكن المستصحب حكما أو موضوعا ذا حكم شرعي في مقام الثبوت و الحدوث.

و لعل الوجه فيه: أن الاستصحاب عبارة عن الإبقاء الشرعي و هو فرع الثبوت.

3 - هذا التوهم: فاسد عند المصنف.

و وجه فساده: أنه لم يؤخذ في دليل الاستصحاب هذا العنوان: أعني عنوان الإبقاء - بل المأخوذ فيه عدم نقض اليقين بالشك، بمعنى: أن يعامل بالمتيقن السابق عند الشك في البقاء معاملة الباقي. و هذا لا يستلزم أكثر من كون المتيقن حكما شرعيا أو ذا حكم شرعي بقاء.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو: كفاية كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي بقاء فقط.

ص: 16

الحادي عشر (1): لا إشكال في الاستصحاب فيما كان الشك في أصل تحقق

=============

التنبيه الحادى عشر في أصالة تأخر الحادث
اشارة

(1) الغرض من عقد هذا التنبيه الحادي عشر: هو التعرض لجريان الأصل المعروف بأصالة تأخر الحادث في الحادثين المعلوم حدوثهما و عدم جريانه فيهما، و بيان الصور التي يختلف باختلافها حكم الأصل الجاري فيها.

و قبل الخوض في هذا المقصود الأصلي تعرض المصنف لحكم الشك في أصل حدوث حادث من موضوع أو حكم، و قال: لا إشكال في جريان استصحاب العدم فيه؛ لتحقق أركانه فيه من اليقين و الشك و الأثر الشرعي، و كذا لو شك في ارتفاع حكم أو موضوع ذي حكم بعد العلم بتحققه، فيستصحب وجوده إلى زمان العلم بارتفاعه.

و قبل الخوض بالبحث عما هو المقصود بالبحث في هذا التنبيه الحادي عشر؛ ينبغي تحرير محل الكلام فيه فنقول: إن محل الكلام فيه يتضح بعد ذكر مقدمة و هي: أن من أركان الاستصحاب هو اليقين بتحقق المستصحب في زمان و الشك في بقائه و ارتفاعه في زمان آخر. ثم الشك في الارتفاع في الزمان اللاحق على قسمين:

أحدهما: هو الشك في الارتفاع في الزمان اللاحق رأسا، أعني: في جميع أجزاء الزمان اللاحق؛ كالشك في ارتفاع الطهارة مثلا في الزمان اللاحق كذلك بعد العلم بتحققها في الزمان السابق.

ثانيهما: هو الشك في ارتفاع المستصحب في جزء من الزمان، مع العلم بالارتفاع بعد ذلك الزمان؛ كالشك في بقاء حياة زيد يوم الخميس مع العلم بموته يوم الجمعة.

و بعبارة أخرى: كان الشك في تقدم الارتفاع و تأخره بعدم العلم بأصل الارتفاع.

إذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك أن محل الكلام - في هذا التنبيه الحادي عشر - هو القسم الثاني لا القسم الأول؛ لأن القسم الأول مما لا كلام في اعتبار الاستصحاب فيه، فالمقصود بالبحث في هذا التنبيه الحادي عشر هو: أن الاستصحاب هل يجري في الوجود و العدم المضافين إلى زمان خاص أو زماني خاص، و الأول: كترتب الأثر على إسلام زيد مثلا يوم الجمعة، و الثاني: كترتب الأثر على إسلامه قبل القسمة. كما يجري في الوجود و العدم المضافين إلى الماهية، كوجود زيد و عدمه أم لا؟

و كيف كان؛ فقد تعرض المصنف «قدس سره» في هذا التنبيه لأقسام: من الاستصحاب.

ص: 17

الأول: ما إذا شك في أصل حدوث حادث حكما كان أو موضوعا، الأول:

كالشك في طهارة شيء بعد العلم بنجاسته؛ كما لو شك في طهارة ثوبه بعد غسله بدون العصر مثلا، فإن استصحاب عدم طهارة الثوب جار بلا مانع.

الثاني: كالشك في موت غائب، فيستصحب عدم تحقق الموت و تترتب آثار حياته من وجوب الإنفاق على زوجته، و حرمة تقسيم أمواله و غيرهما من أحكام الحياة عليه.

هذا ما أشار إليه بقوله: «لا إشكال في الاستصحاب فيما كان الشك في أصل تحقق حكم أو موضوع».

الثاني: ما إذا علم بوجود حادث؛ و لكنه شك في أنه هل حدث في زمان متقدم أم زمان متأخر بعد القطع بأصل تحققه ؟

و هذا على قسمين: أحدهما: يلاحظ تقدمه و تأخره بالنسبة إلى أجزاء الزمان؛ كما إذا علم بموت زيد و لم يعلم أنه مات يوم الخميس أو مات يوم الجمعة.

ثانيهما: يلاحظ تقدمه و تأخره بالنسبة إلى حادث آخر قد علم بحدوثه أيضا؛ كما إذا علم بموت متوارثين على التعاقب، و لم يعرف المتقدم منهما عن المتأخر، فهاهنا مقامان من الكلام.

المقام الأول هو: ما إذا لوحظ التقدم و التأخر بالنسبة إلى أجزاء الزمان.

المقام الثاني: ما إذا لوحظ التقدم و التأخر بالنسبة إلى حادث آخر.

و أما المقام الأول: فحاصل الكلام فيه: أنه لا إشكال في جريان استصحاب عدم تحقق الحادث في الزمان الأول، و ترتيب آثار عدمه في ذلك الزمان.

فإذا علم بكون زيد ميتا يوم الجمعة، و لم يعلم أن حدوث موته كان فيه أو في يوم الخميس، فلا مانع من استصحاب عدم موته يوم الخميس و ترتيب آثاره؛ كوجوب الإنفاق على زوجته و حرمة تقسيم أمواله بين ورّاثه، و غير ذلك عليه؛ دون الآثار المترتبة على تأخره عن يوم الخميس؛ لكون تأخر حدوثه عن يوم الخميس لازما عقليا لعدم حدوثه يوم الخميس، و الاستصحاب لا يثبت به اللازم العقلي و لا الأثر الشرعي المترتب عليه. فلا تثبت بهذا الاستصحاب تأخر وجوده عن يوم الخميس إن كان لعنوان التأخر أثر إلاّ على القول بالأصل المثبت.

و كذا لا يثبت الحدوث يوم الجمعة، فإن الحدوث عبارة عن الوجود المسبوق بالعدم

ص: 18

فإثبات الحدوث يوم الجمعة باستصحاب عدم الحدوث يوم الخميس متوقف على الأصل المثبت.

نعم؛ لو كان الحدوث مركبا من أمرين: أي: الوجود يوم الجمعة مثلا و عدم الوجود يوم الخميس لتترتب آثار الحدوث بالاستصحاب المذكور؛ لكون أحد الجزءين محرزا بالوجدان و هو الوجود يوم الجمعة، و الجزء الآخر بالأصل و هو عدم الوجود يوم الخميس؛ لكنه خلاف الواقع، فإن الحدوث أمر بسيط و هو الوجود المسبوق بالعدم.

هذا تمام الكلام في المقام الأول الذي أشار إليه بقوله: «فإن لوحظ بالإضافة إلى أجزاء الزمان».

و أما المقام الثاني: و هو لحاظ تقدم الحادث و تأخره بالنسبة إلى حادث آخر، ففيه موضعان من الكلام.

الموضع الأول: ما إذا كان كل من الحادثين مجهولي التاريخ، و قد أشار إليه بقوله الآتي: «فإن كانا مجهولي التاريخ».

الموضع الثاني: ما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ، و الآخر مجهول التاريخ، و قد أشار إليه بقوله الآتي: «و أما لو علم بتاريخ أحدهما».

و أما الموضع الأوّل فله أربعة أقسام:

1 - ما إذا كان الأثر الشرعي لتقدم أحدهما أو لتأخره أو لتقارنه بنحو مفاد كان التامة، بمعنى: أن الأثر مترتب على نفس عنواني التقدم و التأخر، و قد أشار إليه بقوله:

«فتارة: كان الأثر الشرعي لوجود أحدهما بنحو خاص من التقدم أو التأخر أو التقارن».

2 - ما إذا كان الأثر الشرعي للحادث المتصف بالتقدم أو التأخر أو التقارن بنحو مفاد كان الناقصة؛ بأن يكون الأثر مترتبا على الشيء المتصف بالتقدم أو التأخر، و قد أشار إليه بقوله: «و أما إن كان مترتبا على ما إذا كان متصفا بالتقدم أو بأحد ضديه».

3 - ما إذا كان الأثر الشرعي للعدم النعتي أي: للحادث المتصف بالعدم في زمان حدوث الآخر بنحو مفاد ليس الناقصة؛ كما إذا قيل: لم يكن الابن متصفا بالإسلام في زمان موت الأب.

و قد أشار إليه بقوله: «فالتحقيق أنه أيضا ليس بمورد للاستصحاب».

4 - ما إذا كان الأثر الشرعي للعدم المحمولي أي: لعدم أحدهما في زمان حدوث الآخر بنحو مفاد ليس التامة، بمعنى: أن الأثر مترتب على نفس عدم التقدم و التأخر، و قد

ص: 19

أشار إليه بقوله: «و كذا فيما كان مترتبا على نفس عدمه في زمان الآخر واقعا».

فها هنا صور أربع مستفادة كلها من كلام المصنف.

و أما أحكام هذه الصور: فقال في الصورة الأولى ما حاصله: إن الأثر إذا كان لتقدم أحدهما أو لتأخره أو لتقارنه دون الحادث الآخر و لا لهذا الحادث بجميع أنحائه؛ فاستصحاب عدمه بنحو مفاد ليس التامة جار بلا معارض؛ لليقين السابق به و الشك اللاحق فيه، بخلاف ما إذا كان الأثر لتقدم كل منهما أو لتأخر كل منهما أو لتقارن كل منهما، أو كان لأحدهما بجميع أنحائه من التقدم و التأخر و التقارن، فإن الاستصحاب حينئذ يعارض.

و في الصورة الثانية: قال بعدم جريان الاستصحاب أصلا و لو كان الأثر مفروضا في طرف واحد دون الآخر؛ و ذلك لعدم اليقين السابق فيه.

و أما الصورة الثالثة - و هي ما إذا كان الأثر للعدم النعتي أي: للحادث المتصف بالعدم في زمان حدوث الآخر بنحو مفاد الناقصة، فقال فيها: بعدم جريان الاستصحاب أيضا أي: و لو كان الأثر مفروضا في طرف واحد دون الآخر.

و ذلك لعدم اليقين السابق فيه كما في الصورة الثانية عينا. و قيل بجريان الاستصحاب في هذه الصورة؛ لأن الحادث كان متصفا بالعدم من الأزل، فيستصحب كونه كذلك بنحو مفاد كان الناقصة إلى زمان حدوث الآخر بلا مانع عنه أصلا سوى المعارضة إذا كان الأثر مفروضا في كلا الطرفين.

في الصورة الرابعة: التي هي عمدة الصور الأربع، و هي ما إذا كان الأثر للعدم المحمولي أي: لعدم أحدهما في زمان حدوث الآخر فقال فيها: بعدم جريان الاستصحاب لكن لا للمعارضة بالمثل و التساقط؛ كما أفاد الشيخ «قدس سره» كي تختص المعارضة بما إذا كان الأثر مفروضا في كلا الطرفين؛ بل لاختلال أركان الاستصحاب من أصلها و لو كان الأثر مفروضا في طرف واحد دون الآخر.

و ذلك لعدم إحراز اتصال زمان شكه بزمان يقينه، فإذا علم مثلا إجمالا بموت كل من زيد و عمرو على التعاقب، و أنه مات أحدهما في يوم الخميس و الآخر في يوم الجمعة، و لم يعلم أن أيّهما مات في يوم الخميس و أيهما مات في يوم الجمعة، فلا يستصحب عدم موت زيد من زمان اليقين به و هو يوم الأربعاء إلى زمان موت عمرو؛ لأن زمان الشك و هو زمان موت عمرو لم يعلم أنه هل هو يوم الخميس كي يكون

ص: 20

متصلا بزمان اليقين؛ أو أنه يوم الجمعة كي يكون منفصلا عنه باتصال حدوث موت زيد به، فإذا لم يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين فلا مجال للاستصحاب حينئذ قال:

«حيث لم يحرز معه كون رفع اليد عن اليقين بعدم حدوثه بهذا الشك من نقض اليقين بالشك...» الخ.

و كيف كان؛ فإن زمان الشك و هو زمان موت عمرو إذا كان يوم الجمعة، و كان منفصلا عن زمان اليقين و هو يوم الأربعاء، فقد تخلل بينهما موت زيد المعلوم بالإجمال، فإذا احتمل تخلل المعلوم بالإجمال احتمل تخلل العلم قهرا، فإن العلم تابع للمعلوم؛ إذ حيثما كان المعلوم كان العلم هناك، فإذا احتمل تخلل العلم احتمل نقض اليقين باليقين؛ فتكون الشبهة مصداقية، فلا يجري الاستصحاب أصلا.

و كيف كان؛ فقد صارت هذه الصورة الرابعة مجالا للكلام و محطا للنقض و الإبرام.

و قد ذكر للمنع في جريان الاستصحاب فيه وجوه:

الوجه الأول: ما اختاره صاحب الكفاية «قدس سره» من عدم جريان استصحاب العدم؛ لعدم إمكان التمسك بعموم دليل التعبد بالاستصحاب في المورد؛ لكون الشبهة مصداقية، و ذلك لاعتبار اتصال زمان الشك بزمان اليقين في جريان الاستصحاب.

و الوجه في اعتبار اتصال المشكوك بالمتيقن زمانا هو: دخله في تحقق صدق النقض؛ إذ بدون الاتصال لا يصدق النقض المنهي عنه.

بيان ذلك: أن النقض إنما يصدق في صورة ما إذا كان متعلق الشك و متعلق اليقين أمرا واحدا، مع إلغاء خصوصية الزمان الموجبة لتعلق الشك في البقاء و اليقين بالحدوث، بمعنى: إنه إذا غض النظر عن اختلاف المتعلقين زمانا كان أمرا واحدا، و عند ذلك يصدق النقض عند عدم العمل بالمتيقن، و مع انفصال زمان المشكوك عن زمان المتيقن لا يتحقق النقض؛ لعدم كون المتيقن و المشكوك أمرا واحدا حتى مع إلغاء خصوصية الزمان، فمثلا:

لو علمنا بعدالة زيد عند الصباح، ثم علمنا بفسقه حين الزوال، ثم شككنا بعدالته بعد الزوال، فالحكم بعدم عدالته بعد الزوال لا يعدّ نقضا لليقين بعدالته حين الصباح و لو مسامحة كي يشمله دليل «لا تنقض»؛ لأن المشكوك غير المتيقن، فالنقض لا يصدق بعد انفصال زمان الشك في عن زمان اليقين؛ بل إنما يصدق في صورة اتصالهما.

و عليه: فلا بد من اعتبار الاتصال كي يصدق النقض في مورده، فيكون مشمولا للنهي العام، و لأجل ذلك لم تجر أدلة الاستصحاب مع الشك في الاتصال و عدمه؛

ص: 21

للشك في صدق النقض حينئذ كي يشمله النهي، و عدمه كي لا يشمله، فتكون الشبهة مصداقية، و يمتنع التمسك بالعموم فيها. و هنا كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

و أضربنا عن ذكر سائر الوجوه لنفس الغرض.

و أما الموضع الثاني - و هو أن يكون أحدهما معلوم التاريخ و الآخر مجهوله - فله ما تقدم في مجهولي التاريخ من الصور:

1 - ما كان الأثر مترتبا على تقدم أحدهما أو تأخره أو تقارنه بنحو مفاد كان التامة، و قد أشار إليه بقوله: «فلا يخلو أيضا إما يكون الأثر المهم مترتبا على الوجود الخاص من المقدم أو المؤخر أو المقارن».

2 - يكون الأثر مترتبا على الحادث المتصف بالتقدم أو التأخر أو التقارن بنحو مفاد كان الناقصة.

3 - يكون مترتبا على الحادث المتصف بالعدم في زمان حدوث الآخر بنحو ليس الناقصة. و قد أشار إلى هاتين الصورتين أي: الثانية و الثالثة بقوله: «و إما يكون مترتبا على ما إذا كان متصفا بكذا...» الخ.

4 - أن يكون الأثر مترتبا على عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر بنحو مفاد ليس التامة، و قد أشار إليه بقوله: «و إما يكون مترتبا على عدمه الذي هو مفاد ليس التامة في زمان الآخر...» الخ، فها هنا صور أربع كما في الموضع الأول.

أما الصورة الأولى: فقد حكم فيها بجريان استصحاب العدم أي: عدم التقدم أو التأخر أو التقارن لو لا المعارضة باستصحاب العدم في الطرف الآخر، أو المعارضة باستصحاب العدم في نفس هذا الطرف.

أما المعارضة باستصحاب العدم في نفس هذا الطرف فيما إذا كان الأثر لكل من تقدم هذا و تأخره و تقارنه، فاستصحاب عدم كل يعارض باستصحاب عدم الآخر.

و أما المعارضة باستصحاب العدم في الطرف الآخر: فلأن الآخر و إن كان تاريخ حدوثه معلوما؛ و لكن تقدمه على هذا أو تأخره عنه أو تقارنه معه غير معلوم، فالأصل عدمه إذا كان الأثر مفروضا فيه أيضا، فيتعارض الأصلان.

و أما الصورة الثانية و الثالثة: فقد حكم فيهما بعدم جريان الاستصحاب؛ لعدم اليقين السابق بعد فرض كون الأثر مترتبا على الحادث المتصف بكذا بنحو مفاد كان الناقصة، كما في الثانية و الثالثة من الموضع الأول عينا.

ص: 22

حكم (1) أو موضوع (2).

و أما إذا كان الشك في تقدمه و تأخره (3) بعد القطع بتحققه و حدوثه في زمان،

=============

و أما الصورة الرابعة: فقد حكم فيها بجريان استصحاب العدم في خصوص مجهول التاريخ من الحادثين، دون معلوم التاريخ.

و أما الجريان في مجهول التاريخ: فلأن زمان الشك حينئذ و هو زمان حدوث معلوم التاريخ قد أحرز اتصاله بزمان اليقين، و ليس مردّدا بين زمانين كي لا يحرز اتصاله بزمان اليقين.

و أما عدم الجريان في معلوم التاريخ: فلعدم الشك فيه في زمان أصلا، فإنه قبل حدوثه المعلوم لنا وقته تفصيلا لا شك في انتفائه، و بعده لا شك في وجوده. و هذا واضح.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) كالشك في طهارة شيء بعد العلم بنجاسته؛ كما إذا شك في طهارة ثوبه بعد غسله بدون العصر مثلا، أو حصول حلية الذبيحة بتذكية الكتابي، فإن استصحاب عدم طهارة الثوب و عدم حلية الذبيحة جار بلا مانع إن لم يجر فيها الأصل الموضوعي.

(2) كالشك في موت غائب، و غيره من الموضوعات ذوات الأحكام الشرعية، فإنه لا إشكال في استصحاب عدم تحققه؛ و ترتيب آثار حياته من وجوب الإنفاق على زوجته، و حرمة تقسيم أمواله و غيرهما من أحكام الحياة.

(3) هذا الضمير و ضمير «تقدمه» راجعان إلى «حكم أو موضوع».

و غرضه: أنه لا إشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان الشك في أصل الحدوث. و أما إذا كان الشك في كيفية حدوثه من التقدم و التأخر بعد القطع بأصل تحققه: فلا يحلو إما أن يلاحظ التقدم و التأخر بالنسبة إلى أجزاء الزمان؛ كما إذا قطع بوجود زيد يوم الجمعة مثلا، و شك في أن مبدأ وجوده كان يوم الخميس أو يوم الجمعة، و إما أن يلاحظا بالإضافة إلى حادث آخر مع العلم بزمان تحققه؛ كما إذا علم بولادة زيد يوم الجمعة، و شك في تقدمها على وفاة عمرو و تأخرها عنها، فهنا صورتان:

الصورة الأولى: هي لحاظ التقدم و التأخر بالإضافة إلى أجزاء الزمان، و لا إشكال في جريان الاستصحاب في عدم تحقق الحادث في الزمان الأول، و ترتيب آثار عدمه في ذلك الزمان، فإذا علم بكون زيد ميتا يوم الجمعة، و لم يعلم أن حدوث موته كان فيه أو في الخميس، فلا مانع من استصحاب عدم موته يوم الخميس و ترتيب آثاره؛ كوجوب الإنفاق على زوجته و حرمة تقسيم ماله بين وراثه و غير ذلك عليه، دون الآثار المترتبة على

ص: 23

فإن لوحظ (1) بالإضافة إلى أجزاء الزمان، فكذا (2) لا إشكال في استصحاب عدم تحققه في الزمان الأول (3) و ترتيب آثاره؛ لا آثار (4) تأخره عنه؛...

=============

تأخره عن يوم الخميس؛ لكون تأخر حدوثه عن يوم الخميس لازما عقليا لعدم حدوثه يوم الخميس، و الاستصحاب لا يثبت اللازم العقلي، و لا الأثر الشرعي المترتب عليه.

و كذا إذا علم بعدم إسلامه يوم الأربعاء، و شك في حدوثه يوم الخميس أو يوم الجمعة، فلا إشكال في استصحاب عدم إسلامه إلى يوم اليقين بوجوده و هو يوم الجمعة، و ترتيب آثار عدم حدوثه يوم الخميس؛ لاجتماع أركان الاستصحاب فيه.

و أما آثار لازم عدم حدوث الإسلام يوم الخميس و هو حدوثه يوم الجمعة، أو تأخر حدوثه عن يوم الخميس: فلا تترتب على استصحاب عدم إسلامه إلى يوم الجمعة؛ و ذلك لأن الحدوث - الذي هو أمر بسيط منتزع من الوجود المسبوق بالعدم - لازم عقلي للتعبد بعدم إسلامه يوم الخميس، و المفروض: قصور أدلة الاستصحاب عن إثبات لوازم المستصحب العادية و العقلية و آثارها الشرعية كما عرفت تفصيله في التنبيه السابع.

و كذا الحال في التأخر، حيث إنه أمر وجودي من مقولة الإضافة، و هو لازم عقلي لاستمرار العدم المتيقن إلى يوم الجمعة، و قد عرفت: عدم إثبات اللازم العقلي و لا الأثر الشرعي المترتب عليه بالاستصحاب.

الصورة الثانية: لحاظ التقدم و التأخر بالإضافة إلى حادث آخر، و قد عرفت توضيحها و بيان صورها، فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة.

(1) أي: الشك في تقدم الحادث و تأخره، لا في أصل حدوثه كما هو المفروض أولا.

(2) يعني: فكالصورة الأولى و هي الشك في أصل الحدوث في عدم الإشكال في جريان الاستصحاب فيها، و ضمير «تحققه» راجع إلى «حكم أو موضوع».

(3) كيوم الخميس في المثال المزبور، و ضمير «آثاره» راجع إلى «عدم».

(4) معطوف على «آثاره»، يعني: لا ترتيب آثار تأخر الحكم أو الموضوع عن الزمان الأول كيوم الخميس في المثال المذكور، يعني: لو كان لتأخر الحادث عن يوم الخميس أثر شرعي لا يترتب ذلك الأثر على استصحاب عدم تحققه يوم الخميس؛ و ذلك لأن التأخر لازم عقلي لعدم حدوثه يوم الخميس، و قد تحقق سابقا: أن الاستصحاب لا يثبت اللوازم العقلية و لا الآثار الشرعية المترتبة عليها. و ضمير «عنه» راجع إلى الزمان الأول.

ص: 24

لكونه (1) بالنسبة إليها مثبتا إلاّ (2) بدعوى: خفاء الواسطة، أو عدم (3) التفكيك في التنزيل بين (4) عدم تحققه إلى زمان و تأخره عنه عرفا (5)، كما لا تفكيك بينهما واقعا، و لا (6) آثار حدوثه في الزمان الثاني،...

=============

(1) تعليل لقوله: «لا آثار تأخره عنه»، و قد عرفت توضيحه بقولنا: «و ذلك لأن وصف التأخر لازم عقلي لعدم حدوثه، و ضمير «لكونه» راجع إلى الاستصحاب، و ضمير «إليها» إلى «آثار تأخره».

(2) استثناء من قدح مثبتية الأصل المثبت في موردين أحدهما: ادعاء خفاء الواسطة، و الآخر: امتناع التفكيك واقعا و ظاهرا بين عدم الحدوث في الزمان الأول و بين تأخر حدوثه عنه.

أما الأول: فتقريبه أن يقال: إن آثار التأخر و إن كانت آثارا لنفس التأخر حقيقة؛ إلاّ إنها في نظر العرف آثار لعدم تحقق الحادث في الزمان الأول و هو يوم الخميس في المثال، فالواسطة بين الآثار و بين عدم حدوث الحادث في الزمان الأول الثابت بالاستصحاب - و هي التأخر - خفيّة.

و أما الثاني، فبيانه: أن الملازمة بين عدم الحدوث يوم الخميس مثلا و بين تأخر حدوثه عنه تكون بمثابة تمنع التفكيك بينهما حقيقة و تنزيلا، يعني: كما أنه لا تفكيك بينهما واقعا كذلك لا تفكيك تنزيلا.

(3) معطوف على «دعوى»، و هذا إشارة إلى المورد الثاني، و ما قبله إشارة إلى المورد الأول.

(4) هذا و «في التنزيل» متعلقان ب «تفكيك»، و ضميرا «تحققه، تأخره» راجعان إلى «حكم أو موضوع».

(5) قيد ل «تفكيك»، يعني: لا تفكيك بينهما عرفا في مقام التنزيل كما لا تفكيك بينهما واقعا. و يجوز أن يكون قيدا للتنزيل، يعني: لا تفكيك بينهما تنزيلا بنظر العرف، كما لا تفكيك بينهما واقعا.

(6) معطوف على «لا آثار تأخره»، يعني: لا يجوز أيضا ترتيب آثار حدوث الحادث في الزمان الثاني و هو يوم الجمعة في المثال باستصحاب عدم حدوثه يوم الخميس؛ و ذلك لأن عنوان الحدوث الذي هو أول الوجود ملازم لعدم الوجود يوم الخميس، و لا يثبت هذا العنوان بالاستصحاب حتى يترتب عليه آثاره الشرعية، و ضمير «حدوثه» راجع إلى

ص: 25

فإنه (1) نحو وجود خاص.

نعم (2)؛ لا بأس بترتيبها بذاك الاستصحاب (3) بناء (4) على أنه عبارة عن أمر مركب من الوجود في الزمان اللاحق و عدم الوجود في السابق (5).

و إن لوحظ (6) بالإضافة إلى حادث آخر: علم بحدوثه أيضا و شك في تقدم ذاك «حكم أو موضوع».

=============

(1) أي: فإن الحدوث في الزمان الثاني نحو وجود خاص، و هذا تعليل لعدم ترتيب آثار الحدوث في الزمان الثاني كيوم الجمعة في المثال. و قد عرفت نحو الوجود الخاص للحدوث، و أن استصحاب عدم الوجود يوم الخميس لا يثبت الحدوث بالمعنى المزبور ليترتب على الحدوث آثاره على القول بالأصل المثبت.

(2) استدراك على قوله: «و لا آثار حدوثه».

و غرضه: جواز ترتيب آثار حدوث الحادث يوم الجمعة باستصحاب عدم حدوثه يوم الخميس، بناء على كون الحدوث من الموضوع المركب لا المقيد، بأن يقال: «إن الحدوث هو الوجود في زمان لاحق، و العدم في زمان سابق»، فإن علم بوجود حادث يوم الجمعة، و استصحب عدمه يوم الخميس فقد أحرز الحدوث بكلا جزأيه، أحدهما بالوجدان، و الآخر بالتعبد، فيترتب الأثر الشرعي حينئذ على الحدوث من دون إشكال المثبتية.

(3) أي: باستصحاب عدم الحدوث يوم الخميس.

(4) قيد لقوله: «لا بأس بترتيب آثار الحدوث، بناء على أن الحدوث عبارة...» الخ.

و ضمير بترتيبها راجع إلى «آثار حدوثه».

(5) هذا أحسن تعبير لتأدية الموضوع المركب، ثم إن لازم تركّب الموضوع كون الأثر مترتبا على كلا جزأي الموضوع كما هو لازم جميع الموضوعات المركبة، فمعنى آثار الحدوث حينئذ: آثار العدم السابق و الوجود اللاحق، نظير ترتب الضمان على الغصب المركب من الاستيلاء على مال و عدم إذن مالكه، فإن ترتب هذين الأثرين على الغصب المحرز أحد جزأيه أعني: الاستيلاء بالوجدان، و الآخر و هو عدم الإذن بالاستصحاب لا يكون من الأصل المثبت أصلا.

(6) معطوف على قوله: «فإن لوحظ بالإضافة إلى أجزاء الزمان». و هذا إشارة إلى الصورة الثانية، و هي كون الشك في التقدم و التأخر ملحوظا بالإضافة إلى حادث آخر علم بحدوثه أيضا، و شك في تقدم ذلك عليه و تأخره عنه.

ص: 26

في الحادثين المعلوم حدوثهما و المشكوك تقدم أحدهما على الآخر

ثم الحادثين المعلوم حدوثهما و المشكوك تقدم أحدهما على الآخر تارة: يكون تاريخ حدوث كليهما مجهولا، و أخرى: يكون أحدهما معلوما و الآخر مجهولا.

و أما إذا علم تاريخ كل منهما فهو خارج عن موضوع البحث؛ لعدم تصور الشك حينئذ في التقدم و التأخر. فالكلام يقع في مقامين:

الأول: في مجهولي التاريخ.

و الثاني: في كون أحدهما معلوم التاريخ و الآخر مجهوله و قد تقدم تفصيل الكلام في كلا المقامين، و نكرر المقام الأول طبقا لما في منتهى الدراية حيث ذكر لكل قسم مثالا شرعيا، فلا يكون التكرار خاليا من الفائدة..

قال في «منتهى الدراية، ج 7، ص 600» ما هذا لفظه:

«أما المقام الأول: فأقسامه أربعة؛ لأن الأثر الشرعي إما يترتب على الوجود المحمولي أو الوجود النعتي، أو العدم المحمولي أو العدم النعتي، و لا بأس ببيان الفارق بين هذه الأقسام فنقول: إن الوجود المحمولي هو نفس الوجود المحمول الأولي على الماهية، و هو مفاد «كان» التامة، حيث يكون فاعلها موضوعا للقضية، و مفاد «كان» أعني: الوجود محمولا، فمعنى «كان زيد» أنه موجود، فزيد مبتدأ و «كائن» و ما بمعناه من أسماء العموم خبره. و في قبال هذا الوجود المحمولي العدم المحمولي الذي هو مفاد «ليس» التامة و إن لم تستعمل «ليس» في اللغة العربية إلاّ ناقصة لقول ابن مالك: «و النقص في فتى و ليس زال دائما قفي».

و على كل حال: فحمل المعدوم على الماهية هو المراد من العدم المحمولي مثل: «زيد معدوم».

و الوجود الربطي هو مفاد «كان» الناقصة الواردة على المبتدأ و الخبر و الموجبة للربط بينهما كقولنا: «كان زيد قائما»، حيث إن القيام المحمول على زيد أمر زائد على نفس وجوده، و الدال على هذا الربط هو الفعل الناقص، و في قبال هذا الوجود الربطي العدم الربطي الذي هو مفاد «ليس» الناقصة، كقولنا: «زيد ليس بقائم»، حيث إن مدلوله سلب ربط الاتصال بالقيام عن زيد.

و لا يخفى: أن التعبير عن الوجود بمفاد «كان» الناقصة بالوجود النعتي إنما يطلق على وجود العرض الذي هو موجود لنفسه في غيره بغيره، إلاّ إن وجوده المحمولي نعت للغير.

و حيث إن النسب و الارتباطات معان حرفية و لا استقلال لها في الوجود كما تقدم في

ص: 27

المعاني الحرفية - و المفروض: أن مدلول الأفعال الناقصة إما إيجاد الربط و إما سلبه - فالأصح التعبير عن مفاد «كان» الناقصة بالوجود الربطي، و عن مفاد «ليس» الناقصة بالعدم الربطي، فالتعبير عنهما بالربطي جرى على اصطلاح بعض الأعاظم.

إذا عرفت هذا فلنشرع ببيان الأقسام الأربعة و نقول: القسم الأول هو ترتب الأثر على الوجود المحمولي و له صور: الأولى: أن يكون الأثر الشرعي مترتبا على وجود أحد الحادثين بنحو خاص من التقدم، أو التأخر أو التقارن دون الحادث الآخر.

أما الأول فهو: كتقدم رجوع المرتهن عن الإذن على البيع، و تقدم العيب على العقد، فإن رجوع المرتهن عن إذنه قبل البيع يوجب بطلان البيع، كما أن تقدم العيب على العقد يوجب بطلان الخيار، و نحو ذلك من النظائر، فإن أحد الحادثين و هو رجوع المرتهن و عيب المبيع في هذين المثالين لا يترتب عليه الأثر إلاّ على وجوده بنحو خاص و هو التقدم على حادث آخر و هو البيع؛ إذ لا أثر لرجوع المرتهن عن الإذن بعد البيع، و كذا لا أثر لحدوث البيع في المبيع بعد البيع.

و أمّا الثاني: أعني: التأخر فهو: كملاقاة الثوب المتنجس للماء فإن أثر هذه الملاقاة و هي الطهارة مترتب على الملاقاة بنحو خاص، و هو تأخرها عن كرّية الماء، فلا أثر للملاقاة قبل حصول الكرية، و لا مع التقارن بناء على ما يستفاد من ظاهر قوله «عليه السلام»: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء»(1)، حيث إنه يستفاد من رجوع الضمير إلى الكر أن الماء المفروض كونه كرا لا ينفعل بالملاقاة، فيعتبر في عدم تنجسه بالملاقاة سبق الكرية، فصورة التقارن داخلة في المفهوم الدال على الانفعال، و هذا الاستظهار مما أفاده أيضا الشيخ الأنصاري في طهارته(2)، و نظائر هذا المثال في الفقه كثيرة.

و أما الثالث: أعني: التقارن فهو كمحاذاة الرجل و المرأة في الصلاة، مع وحدة زمان شروعهما في الصلاة، فإن المانعية - بناء على القول بها - مترتبة على الحادثين و هما صلاتا الرجل و المرأة مع تقارنهما شروعا و عدم حائل بينهما، و لا فصل عشرة أذرع كذلك. و كتقارن عقدي الأختين زمانا لرجل، فإن بطلانهما مترتب على تقارنهما؛ إذ مع اختلافهما زمانا يحكم بصحة المتقدم منهما و بطلان المتأخر، فإن الأثر في هذين

ص: 28


1- الكافي 1/2:3-2، الفقيه 12/9:1، تهذيب الأحكام 107/39:1، و 108/40 - 109، الاستبصار 1/6:1-3، الوسائل 391/158:1-392.
2- كتاب الطهارة 154:1.

عليه و تأخره عنه؛ كما إذا علم بعروض حكمين (1) أو موت متوارثين (2)، و شك في المتقدم و المتأخر منهما، فإن كانا مجهولي التاريخ فتارة: كان الأثر الشرعي لوجود أحدهما بنحو خاص من (3) التقدم أو التأخر أو التقارن (4) لا للآخر (5) و لا له (6) بنحو آخر، فاستصحاب (7) عدمه صار بلا...

=============

المثالين مع تقارن الحادثين و هما العقدان هو البطلان؛ إذ مع تقدم أحدهما على الآخر يحكم بصحة المتقدم منهما و بطلان المتأخر.

و حكم هذين القسمين جريان الاستصحاب في الحادث الذي يكون وجوده المحمولي موضوع الأثر، فيستصحب عدم ذلك الوجود الخاص أو عدم تلك الخصوصية، و يكون هذا الاستصحاب رافعا لموضوع الأثر كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

(1) كما إذا علم بصدور حكمين لموضوع يكون أحدهما ناسخا و الآخر منسوخا، و لم يعلم تاريخهما حتى يؤخذ بالمتأخر الناسخ، و يترك المتقدم المنسوخ

(2) كموت أب و ابن، و تحقق جمعتين في أقل من فرسخ مع الجهل بتاريخ الموتين و الجمعتين، فإن تقارن موت المتوارثين مانع عن التوارث، و كذا تقارن الجمعتين في أقل من ثلاثة أميال مانع عن صحتهما، و المانعية أثر شرعي يترتب على تقارن الحادثين.

(3) بيان ل «نحو خاص»، و كذا قوله: «أو التأخر أو التقارن». و قوله: «كان الأثر الشرعي لوجود أحدهما...» الخ. إشارة إلى الصورة الأولى المذكورة بقولنا: «الأولى أن يكون الأثر الشرعي مترتبا على وجود أحدهما بنحو خاص...» الخ.

(4) و قد عرفت آنفا بعض الأمثلة للتقارن و ضديه.

(5) يعني: لا يكون الأثر الشرعي للحادث الآخر بأحد أنحاء وجوده من التقدم أو التأخر أو التقارن.

و غرضه: أن الحكم الشرعي مترتب على أحد الحادثين بأحد أنحاء وجوده، و غير مترتب على الحادث الآخر أصلا.

(6) يعني: و لا يترتب الأثر الشرعي على الحادث المذكور أولا بنحو آخر من أنحاء وجوده الثلاثة. هذا ما يظهر من العبارة؛ لكن ليس هذا معنى صحيحا لها، ضرورة: أنه ليس للوجود نحو آخر غير الأنحاء الثلاثة و هي التقدم و أخواه، فحق العبارة أن تكون هكذا: «و لا له بجميع أنحائه»، أو «و لا له بمطلق وجوده».

(7) هذا حكم الصورة الأولى و هي كون الأثر الشرعي مترتبا على أحد الحادثين بنحو خاص من التقدم و أخويه بنحو الوجود المحمولي الذي هو مفاد «كان» التامة، مع عدم ترتب الأثر على الحادث الآخر، فإن الاستصحاب يجري في عدم الحادث بلا

ص: 29

معارض (1)، بخلاف ما إذا كان (2) الأثر لوجود كل منهما كذلك (3)، أو لكل (4) من أنحاء وجوده، فإنه حينئذ (5) يعارض، فلا مجال لاستصحاب العدم في واحد، معارض؛ إذ لا أثر للحادث الآخر حتى يجري فيه الاستصحاب و يعارض ذلك الاستصحاب الجاري في الموضوع ذي الأثر الشرعي، كما إذا كان أحد المتوارثين كافرا، فإن استصحاب عدم موت مسلمهما إلى زمان موت الآخر الكافر جار، و يترتب عليه الإرث و هو إرث المسلم منه، و لا يجري استصحاب عدم موت الكافر إلى زمان موت المسلم؛ لعدم أثر شرعي له حتى في ظرف العلم بتأخر موته عن موت المسلم، حيث إن الكافر لا يرث المسلم.

=============

و بالجملة: فالأصل في أحد طرفي المعلوم بالإجمال إن لم يترتب الأثر إلا على أحدهما.

(1) لما عرفت من عدم جريان الأصل في الحادث الآخر حتى يعارض ذلك الاستصحاب الجاري في الحادث الذي يترتب عليه الأثر. و ضمير «عدمه» راجع إلى «أحدهما».

(2) هذه هي الصورة الثانية أعني: ما إذا كان النحو الخاص في كل من الحادثين موضوع الأثر.

(3) أي: بنحو خاص؛ بأن يكون لتقدم كل منهما أو تأخره أو تقارنه أثر، ففي هذه الصورة يكون لوجود كل من مجهولي التاريخ بنحو خاص أثر شرعي في قبال ما تقدم من كون الأثر لوجود أحدهما بنحو خاص. و ضمير «منهما» راجع إلى الحادثين.

(4) معطوف على «لوجود»، و هذا إشارة إلى الصورة الثالثة و هي ما إذا كان كل من الحادثين بجميع أنحاء وجوده ذا أثر شرعي. و ضمير «وجوده» راجع على «كل منهما».

(5) أي: ترتب الأثر على وجود كل من الحادثين بنحو خاص، أو ترتب الأثر على كل واحد من أنحاء وجود كل منهما.

و غرضه: أنه في هاتين الصورتين لا مجال لجريان استصحاب العدم في شيء من الحادثين؛ لمعارضته بمثله في الآخر؛ إذ المفروض: ترتب الأثر الذي هو شرط جريان الاستصحاب على كلا الحادثين، و المانع الخارجي - و هو العلم بكذب أحد الاستصحابين - يوجب سقوطهما عن الاعتبار، فإنه لا يمكن التعبد الاستصحابي بعدم قسمة التركة إلى زمان إسلام الولد الكافر، و بعد الإسلام إلى زمان القسمة. و ضمير «فإنه» راجع إلى «استصحاب». و رعاية الإيجاز الذي يهتم به المصنف «قدس سره» تقتضي أن تكون

ص: 30

للمعارضة (1) باستصحابه العدم في آخر لتحقق (2) أركانه في كل منهما. هذا (3) إذا كان الأثر المهم مترتبا على وجوده الخاص الذي كان مفاد كان التامة.

و أما (4): إن كان مترتبا على ما إذا كان متّصفا بالتقدم أو بأحد...

=============

العبارة هكذا:

«فإنه حينئذ يعارض، فلا مجال له في واحد منهما مع تحقق أركانه في كل منهما».

(1) تعليل لقوله: «فلا مجال»؛ لكنه مستغنى عنه بقوله: «يعارض» فإنه بمنزلة التعليل ل «فلا مجال»، و لذا قرنه بفاء التفريع. و قوله: «في آخر» يراد به في حادث آخر.

(2) تعليل لفردية كل من الحادثين لدليل الاستصحاب و وجود المقتضي لجريانه في كليهما، غاية الأمر: أن المانع - و هو التعارض - أوجب سقوطهما عن الاعتبار.

(3) أي: ما ذكرناه - من صحة جريان الاستصحاب و عدم صحته للتعارض - إنما هو فيما إذا كان الأثر الشرعي مترتبا على الوجود الخاص لأحد الحادثين أو كليهما وجودا محموليا له حالة سابقة تصحح الاستصحاب، في مقابل الوجود النعتي الذي ليس له حالة سابقة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

و الحاصل: أن ما أفاده من قوله: «فتارة: كان الأثر الشرعي لوجود أحدهما» إلى قوله:

«و أما إن كان مترتبا على ما إذا كان متصفا...» الخ، فيرجع إلى صور ثلاث:

إحداها: ترتب الأثر على وجود أحد الحادثين بنحو خاص من التقدم أو التأخر أو التقارن دون الحادث الآخر، و استصحاب العدم يجري فيها بلا مانع.

ثانيتها: ترتب الأثر على وجود كل من الحادثين بنحو خاص من التقدم و أخويه.

ثالثتها: ترتب الأثر على كل من الحادثين بأنحاء وجوده.

و الاستصحاب في هاتين الصورتين يسقط بالتعارض. و هذه الصور الثلاث مشتركة في كون الملحوظ فيها الوجود المحمولي الذي هو مفاد كان التامة؛ بأن يكون موضوع الأثر الشرعي وجود الحادث كالإسلام مثلا يوم الجمعة، فإن الحادث الزماني لا بد و أن يقع في زمان، فإن وجد يوم الجمعة ترتب عليه الأثر و هو كونه وارثا؛ و إلاّ فلا يترتب عليه هذا الأثر. هذا كله في القسم الأول من الأقسام الأربعة لمجهولي التاريخ.

(4) هذا إشارة إلى القسم الثاني من الأقسام الأربعة لمجهولي التاريخ.

و محصل ما أفاده: أنه لا يجري فيه الاستصحاب إذا كان الأثر مترتبا على اتصافهما بالتقدم أو التأخر أو التقارن؛ لا على نفس تلك الصفات التي هي عبارة عن خصوصية الوجود المتصف بها الذي هو مفاد كان التامة.

ص: 31

ضديه (1) الذي كان مفاد كان الناقصة (2)،...

=============

و بعبارة أخرى: قد يكون التقدم و نحوه عنوانا مشيرا للوجود كالخيط المحيط بشيء، و يقال: إن الواقع تحت الخيط حكمه كذا، من دون نظر إلى دخل الخيط في شيء من الحكم و الموضوع؛ بل النظر فيه مقصور على الحكاية عن الموضوع، و قد يكون التقدم و نحوه نعتا للموضوع؛ بحيث يكون لاتصاف الموضوع به دخل في الحكم، و يدور الحكم مداره وجودا و عدما.

و الأول: يكون من قبيل الوجود المحمولي الذي هو مفاد كان التامة، و الثاني: من قبيل الوجود النعتي الذي هو مفاد كان الناقصة. و الوجه في عدم جريان الاستصحاب في هذا القسم بجميع صوره من اعتبار التقدم، و التأخر و التقارن، و ترتب الأثر على أحد الحادثين أو كليهما ليس لأجل تعارض الأصلين فيما إذا ترتب الأثر على كل من الحادثين و لا المثبتية، بل لاختلال أوّل ركني الاستصحاب و هو اليقين السابق، حيث إن اتصاف موت زيد بكونه مقدما على موت عمرو المفروض توارثهما غير متيقن سابقا حتى يستصحب و ذلك لأن الموضوع و هو «موت زيد المتصف بكونه متقدما على موت عمرو» لم يكن متيقنا في زمان سابق حتى يتعبد ببقائه في ظرف الشك، حيث إنه في حال حياة زيد لم يكن موت حتى يتصف بالتقدم على موت عمرو أو بالتأخر عنه، و عدم اتصاف الموت بالتقدم - حال الحياة - إنما هو من السالبة بانتفاء الموضوع.

و أما التمسك باستصحاب العدم الأزلي كما في مثل قرشية المرأة بأن يقال: «إن موت زيد حال الحياة كما لم يكن بنفسه كذلك لم يكن وصفه أعني: تقدمه على موت عمرو، و بعد حصول اليقين بموت زيد يشك في انتقاض عدم تقدمه، فيستصحب كاستصحاب عدم قرشية المرأة بعد العلم بوجودها» فهو ممنوع، للفرق بين المقام و عدم القرشية؛ لأن مفروض الكلام: كون موضوع الأثر الشرعي اتصاف موت زيد بعدم تقدمه على موت عمرو؛ لا عدم اتصافه بالتقدم، و من المعلوم: أن استصحاب العدم الأزلي إنما يثبت عدم الاتصاف بالتقدم، و لا يثبت اتصاف موت زيد بعدم تقدمه على موت عمرو إلاّ بناء على الأصل المثبت.

(1) و هما التأخر و التقارن، و ضمير «ضديه» راجع على التقدم.

(2) و قد عرفت في مدخل البحث بعض الكلام في مفاد كان التامة و الناقصة. و من باب زيادة البيان نقول: إن مفاد كان الناقصة هو الوجود الرابط المتعلق بالجعل المؤلف

ص: 32

فلا (1) موردها هنا (2) للاستصحاب (3)؛ لعدم (4) اليقين السابق فيه بلا ارتياب.

و أخرى (5): كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر؛...

=============

الذي يعبر عنه بالجعل المتعدي لاثنين كقوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ فِرٰاشاً (1) في قبال الوجود النفسي و هو الجعل البسيط الذي هو إفاضة نفس الشيء المعبر عنه بلسان الأدباء بالجعل المتعدي لواحد كخلق السماوات و الأرض، و جعل الظلمات و النور.

و قوله: «الذي» صفة لما يستفاد من الكلام و هو الاتصاف بالتقدم أو أحد ضديه، فإن هذا الاتصاف مفاد كان الناقصة؛ لأنه قيد زائد على نفس الوجود المحمولي، فإن اتصاف زيد مثلا بالعدالة صفة زائدة على أصل وجوده الذي هو أوّل محمولات الماهية، و غيره من العوارض كالعدالة و الفقاهة و الغنى و نحوها محمولات مترتبة؛ لترتبها على المحمول الأولي للماهية و هو الوجود.

(1) جواب قوله: «و أما» و بيان لحكم القسم الثاني و هو كون الأثر مترتبا على الاتصاف بالتقدم أو أحد ضديه بمفاد كان الناقصة، و قد أوضحناه بقولنا: «لا يجري الاستصحاب في هذا القسم الثاني بجميع صوره...» الخ و حاصله: أن استصحاب كون الحادث المتصف بالتقدم على حادث آخر لا يجري؛ لعدم تيقّنه سابقا.

(2) أي: في صورة ترتب الأثر على اتصاف الحادثين بالتقدم أو بأحد ضديه بنحو مفاد كان الناقصة.

(3) أي: استصحاب عدم كون الوجود متصفا بالتقدم أو أحد ضديه بنحو مفاد ليس الناقصة.

(4) تعليل لقوله: «فلا مورد»، و حاصله: أن عدم جريان الاستصحاب هنا إنما هو لاختلال ركنه الأول و هو اليقين السابق؛ و ذلك لأن عنوان التقدم و ضديه من العناوين المنتزعة عن الذات و من الخارج المحمول، فهي من قبيل لوازم الماهية غير المنفكة عنها في عالم تقررها، و ليست من الإضافات الخارجية المسبوقة بالعدم حتى يجري فيها الاستصحاب، فلا يقين بعدمها حتى يستصحب. كذا قيل.

(5) معطوف على قوله: «فتارة: كان الأثر الشرعي...» الخ.

و غرضه: بيان حكم ما لو كان الأثر الشرعي مترتبا على عدم أحد الحادثين في زمان وجود الآخر، و هذا القسم أيضا كسابقه على نحوين:

أحدهما: أن يكون العدم نعتيا، و هو مفاد ليس الناقصة.

ص: 33


1- البقرة: 22.

فالتحقيق (1) أنه أيضا (2) ليس بمورد للاستصحاب فيما كان الأثر المهم مترتبا على ثبوته للحادث؛ بأن يكون الأثر للحادث المتصف (3) بالعدم في زمان حدوث الآخر؛ ثانيهما: أن يكون العدم محموليا، و هو مفاد ليس التامة.

=============

و أما الأول: فحكمه عدم جريان الاستصحاب فيه لإثبات اتصاف وجود الحادث بالعدم في زمان حدوث الآخر؛ و ذلك لعدم اليقين السابق الذي هو أحد ركني الاستصحاب. مثلا إذا كانت طهارة الثوب المتنجس الملاقي للماء مترتبة على ملاقاته متصفة بعدمها آن حدوث كرية الماء - لعدم ترتب طهارته على مطلق الملاقاة و لو قبل كريته - فلا يمكن إحراز هذا الوصف العدمي للملاقاة بالاستصحاب، ضرورة: أنه لا يقين بوجود الملاقاة متصفة بهذه الصفة السلبية حتى يستصحب؛ إلاّ بناء على السالبة بانتفاء الموضوع؛ بل يجري استصحاب عدم الاتصاف المزبور؛ لكونه معلوما سابقا.

(1) هذا إشارة إلى حكم النحو الأول المذكور بقولنا: «أما الأول: فحكمه عدم جريان الاستصحاب فيه...» الخ.

(2) يعني: مثل صورة الوجود النعتي الذي تقدم منه بقوله: «و أما إن كان مترتبا على ما إذا كان متصفا بالتقدم أو بأحد ضديه».

و غرضه: أن العدم النعتي كالوجود النعتي في عدم جريان الاستصحاب؛ لاشتراكهما في عدم اليقين السابق؛ لما عرفت: من عدم تيقن ملاقاة الثوب المتنجس للماء متصفة بعدم كونها في آن حدوث الحادث الآخر و هو الكرية، و مع عدم جريان الاستصحاب لإثبات اتصاف هذه الملاقاة بعدم تحققها آن حدوث الكرية لا يحكم بطهارة الثوب؛ لعدم ترتبها على مطلق الملاقاة للماء؛ بل على ملاقاة خاصة، فيحكم بنجاسته لاستصحابها.

(3) إشارة إلى النحو الأول و هو كون العدم نعتيا المذكور بقولنا: أحدهما: أن يكون العدم نعتيا و هو مفاد ليس الناقصة.

ثم إن ظاهر هذا التعبير جعل موضوع الأثر قضية موجبة معدولة المحمول، و من المعلوم: أن مفاد هذا النحو من القضايا مفاد كان الناقصة؛ إلاّ إن المحمول متضمن لمعنى سلبي لوحظ لبّا نعتا للموضوع، و حيث إن الاتصاف بالوجود و العدم منوط بتحقق الموضوع، فقبل وجوده لا اتصاف بالعدم في زمان الآخر و لا بوجوده فيه، فركن اليقين بالحدوث مختل كما أفاده في المتن.

ص: 34

لعدم (1) اليقين بحدوثه كذلك (2) في زمان؛ بل (3) قضية الاستصحاب عدم حدوثه كذلك، كما لا يخفى.

و كذا (4) فيما كان مترتبا على...

=============

(1) تعليل لقوله: «فالتحقيق أنه أيضا ليس بمورد الاستصحاب»، و حاصله: «عدم اليقين باتصافه بالعدم المزبور حتى يجري فيه الاستصحاب؛ إذ لم يعلم أنه وجد متأخرا عن زمان حدوث الآخر حتى يتصف بالعدم، أو وجد متقدما عليه أو مقارنا له حتى لا يتصف به. و ضميرا «ثبوته، بحدوثه» راجعان إلى أحدهما.

(2) أي: متصفا بالعدم في زمان من الأزمنة.

(3) يعني: بل مقتضى الاستصحاب عدم حدوث الحادث متصفا بالوصف المزبور؛ لأنه متيقن سابقا، فإذا فرضنا العلم بعدم الحادثين و هما في مثال الكرية و الملاقاة يوم الأربعاء، و العلم بحدوثهما يومي الخميس و الجمعة مع الجهل بتقدم أحدهما على الآخر، فيوم الجمعة ظرف العلم بوجودهما، مع فرض ترتب الأثر الشرعي - و هو طهارة الثوب المتنجس - على ملاقاته للماء بوصف كونها معدومة حال حدوث الكرية؛ إذ لو كانت الملاقاة قبل حدوث الكرية أو آن حدوثها - المندرج في مفهوم «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء» كما تقدمت الإشارة إليه عند شرح قول المصنف: «و إن لوحظ بالإضافة إلى حادث آخر علم حدوثه أيضا - لم يترتب عليها الأثر و هو طهارة الثوب أمكن استصحاب عدم حدوث الملاقاة بهذا الوصف العدمي من باب السالبة بانتفاء الموضوع، حيث إن الملاقاة بوصفها العدمي كانت معدومة يوم الأربعاء و لو لأجل عدم تحقق أصل الملاقاة فيه، و يشك يوم السبت في انتقاض هذه الملاقاة الموصوفة بالوصف العدمي، فيستصحب عدمها مع هذا الوصف، و مقتضاه عدم طهارة الثوب المزبور؛ لأن الاستصحاب يحرز عدم تحقق المطهر و هو وجود الملاقاة حال عدم حدوث الكرية.

قوله: «كذلك» أي: متصفا بعدم حدوثه في زمان حدوث الآخر، و ضمير «حدوثه» راجع على أحدهما.

هذا تمام الكلام في حكم النحو الأول و هو كون العدم نعتيا.

(4) هذا إشارة إلى النحو الثاني و هو ما إذا كان الأثر مترتبا على عدم أحدهما زمان الآخر محموليا، و هو مفاد ليس التامة - بمعنى عدم تقيد أحدهما بالآخر، و لا دخل عنوان انتزاعي كالاجتماع و التقارن في موضوع الأثر - و هذا هو ضابط الموضوع المركب، حيث يقوم كل من العرضين بمعروضه، و لا يدل الدليل على دخل أمر انتزاعي كعنوان

ص: 35

الاجتماع في موضوع الأثر، و حكم هذا النحو هو: عدم جريان الاستصحاب فيه أيضا؛ لكن لا لعدم اليقين السابق كما كان في الفرض المتقدم؛ بل لاختلال شرط جريان الاستصحاب و هو إحراز اتصال زمان المشكوك بزمان المتيقن كما سيأتي.

و توضيح ذلك - على ما في «منتهى الدراية، ج 7، ص 614» - يتوقف على ذكر مثال أوّلا ثم تعقيبه ببيان وجه عدم جريان الاستصحاب.

أما المثال: فهو كما إذا وقع بيع من الراهن و رجوع من المرتهن عن إذنه في البيع، و لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر؛ و المفروض: إناطة صحة البيع بأن لا يقع في زمان رجوع المرتهن عن إذنه في البيع، فلا بد هنا من فرض أزمنة ثلاثة للبيع و الرجوع عن الإذن؛ أحدها: زمان العلم بعدمهما معا كيوم السبت.

ثانيها: زمان حدوث أحدهما كيوم الأحد.

ثالثها: زمان حدوث الآخر كيوم الاثنين، فيوم السبت زمان العلم بعدم كل من البيع و الرجوع، و يوم الأحد زمان العلم الإجمالي بحدوث أحدهما، و يوم الاثنين زمان العلم الإجمالي أيضا بحدوث الآخر، ففي يوم الاثنين يعلم بوجودهما مع الجهل بتقدم أحدهما على الآخر؛ إذ لم يعلم أن البيع وقع في يوم الأحد حتى يكون مقدما على الرجوع عن الإذن و يترتب عليه آثار الصحة، لوقوعه في زمان عدم الحادث الآخر و هو الرجوع عن الإذن، أوقع يوم الاثنين حتى يكون باطلا، لوقوعه بعد وجود الحادث الآخر و هو الرجوع عن الإذن الواقع يوم الأحد، و المفروض: إناطة صحة البيع بوقوعه في زمان عدم الرجوع عن الإذن هذا.

و أما وجه عدم جريان الاستصحاب في عدم الرجوع عن الإذن، مع كونه متيقنا يوم السبت فهو على ما أفاده: فقدان شرط جريانه أعني: إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين.

و توضيحه: منوط بالإشارة إلى أمرين:

أحدهما: أن موضوع أخبار الاستصحاب هو نقض اليقين بالشك، و محمولها النهي المستفاد من «لا» الدالة على الزجر عن النقض، و من المعلوم، أن ترتب كل محمول على موضوعه يتوقف على إحراز ذلك الموضوع بوجه من الوجوه؛ و إلاّ فنفس الخطاب قاصر عن إثبات موضوعه، ف «أكرم العالم» مثلا يدل على وجوب إكرام كل من اتصف بالعلم على نحو القضية الحقيقية؛ و لكنه لا يتكفل إثبات عالمية زيد أو غيره كما هو واضح.

ص: 36

و كذا في المقام؛ فإن أحرز من الخارج صدق النقض على رفع اليد عن اليقين السابق كان ذلك منهيا عنه، و إن لم يحرز صدقه فلا سبيل لإثبات أن رفع اليد عنه نقض بمجرد النهي عن النقض المستفاد من المحمول؛ لعدم جواز التمسك بالعام في الفرد المشتبه كونه من أفراده؛ و إن قيل بجواز التمسك به في فرده الذي يشك في كونه فردا للمخصص.

ثانيهما: أن التعبد الاستصحابي يكون بعنوان الإبقاء؛ إما إبقاء للمتيقن السابق و إما إبقاء لليقين، و هو يقابل النقض الذي معناه رفع اليد عن المتيقن أو اليقين، و من المعلوم: أن لازم هذا الإبقاء اتصال الموجود بالتعبد بالموجود بالحقيقة؛ لكونه متيقنا، و لو لا هذا الاتصال كان التعبد الاستصحابي بالوجود لا بإبقاء ما تيقنه، فلا يصدق الإبقاء على ما إذا تخلل فاصل بين المشكوك و المتيقن؛ كما إذا تيقن بوجوب شيء في الساعة الأولى و تيقن بعدمه في الساعة الثانية، و شك في وجوبه في الساعة الثالثة، فإنه ليس شكا في بقاء الوجوب المتيقن في الساعة الأولى؛ و إنما هو شك في وجوده الحدوثي لا البقائي، و لو فرض ترتيب آثار الوجوب عليه لم يكن جريا عمليا على الوجوب المتيقن في الساعة الأولى كما هو واضح.

و على هذا: فإن أحرز اتصال زمان المتيقن بالمشكوك صدق عنوان الإبقاء على ترتيب الأثر عليه: كصدق النقض المنهي عنه على رفع اليد عنه.

و إن أحرز انفصال المشكوك عن المتيقن لم يصدق الإبقاء و النقض قطعا كما عرفت في المثال. و إن لم يحرز اتصاله به و لا انفصاله عنه لم يمكن التمسك ب «لا تنقض» للحكم ببقائه تعبدا؛ لأنه تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية؛ لتكفل الدليل لثبوت الحكم لموضوعه المفروض وجوده لا لإيجاد الموضوع.

إذا عرفت هذين الأمرين فلنعد إلى تطبيقهما على المثال المتقدم، فنقول: إن زمان اليقين بعدم الرجوع كما مر آنفا هو يوم السبت، فإذا استصحبنا يوم الاثنين - الذي هو زمان اليقين بوجود الحادثين و ظرف الشك في التقدم و التأخر - عدم الرجوع لم يحرز اتصال زمان شكه بزمان اليقين، حيث إن زمان الشك هو يوم الاثنين، فحينئذ: إن كان حدوث الرجوع يوم الاثنين اتصال زمان الشك فيه بزمان اليقين بعدمه و هو يوم السبت.

و إن كان حدوثه يوم الأحد انفصل زمان الشك - و هو يوم الاثنين - عن زمان اليقين؛ لتخلل اليقين بالخلاف في يوم الأحد المتخلل بين يومي السبت و الاثنين. و مع عدم إحراز الاتصال لا تحرز مصداقيته لعموم مثل: «لا تنقض اليقين بالشك»، فالتمسك به حينئذ

ص: 37

نفس (1) عدمه في زمان الآخر واقعا، و إن كان (2) على يقين منه في آن (3) قبل زمان في المقام تشبث به في الشبهة المصداقية؛ إذ لو كان الرجوع في المثال يوم الأحد كان استصحاب عدمه يوم الاثنين من نقض اليقين باليقين لا بالشك، و الاستصحاب إنما يجري عند كون رفع اليد عن اليقين السابق نقضا له، لا ما إذا دار الأمر بين كونه نقضا أو انتقاضا، فإنه شبهة مصداقية لدليل «لا تنقض».

=============

(1) أي: بدون لحاظ نعتيته حتى يكون عدما محموليا كالوجود المحمولي في كونه أول محمول يحمل على الماهيات ك «الإنسان موجود أو معدوم».

و قوله: «واقعا» قيد ل «الآخر» أي: يترتب الأثر على عدم أحد الحادثين في زمان الوجود الواقعي - لا التعبدي - للحادث الآخر.

(2) وصلية، يعني: لا يجري الاستصحاب في هذه الصورة و إن كان أول ركنيه و هو اليقين بعدمه موجودا.

و الوجه في عدم جريانه: ما مر آنفا من عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين.

و ضمير «منه» راجع إلى «عدمه»، و قوله: «و إن كان على يقين منه» إشارة إلى ما أفاده الشيخ «قدس سره» من جريان الاستصحاب، و سقوط بالتعارض إن كان الأثر مترتبا على عدم كل من الحادثين بالإضافة إلى الآخر.

قال بعد منع إجراء أصالة التأخر لعدم اليقين به: «و أما أصالة عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر فهي معارضة بالمثل، و حكمه التساقط مع ترتب الأثر على كل من الأصلين».

و محصل وجهه هو: اجتماع أركان الاستصحاب من اليقين و الشك في كل واحد من الحادثين، مع ترتب الأثر الشرعي عليهما، فالمقتضي لجريانه في كل منهما موجود؛ إلاّ إن وجود المانع من جريانه فيهما و هو التعارض أوجب سقوطهما.

و بالجملة: فمختار الشيخ جريان الاستصحاب في الحادثين و سقوطه بالتعارض، و مختار المصنف عدم جريانه في نفسه لا لأجل المعارضة، فعدم جريانه عند الشيخ إنما هو لوجود المانع و عند المصنف لعدم الشرط.

و تظهر ثمرة هذا الخلل فيما إذا كان الأثر لأحد الحادثين. دون الآخر، فإن الاستصحاب يجري فيه و يترتب عليه الأثر بناء على مختار الشيخ، و لا يجري فيه بناء على ما اختاره المصنف.

(3) و هو الآن الذي يعلم بعدم وجودهما فيه كيوم السبت في المثال المزبور، فإنه يكون قبل يوم الأحد الذي هو زمان اليقين الإجمالي بأحد الحادثين فيه؛ إذ المفروض:

ص: 38

اليقين بحدوث أحدهما؛ لعدم (1) إحراز اتصال زمان شكه (2) و هو زمان حدوث العلم الإجمالي بحدوث البيع أو رجوع المرتهن عن الإذن في يوم الأحد. و المراد من اليقين في قوله: «زمان اليقين» هو اليقين الإجمالي بحدوث أحد الحادثين كما عرفت في مثال البيع و رجوع المرتهن.

=============

(1) تعليل لعدم جريان الاستصحاب في النحو الأخير، و هو كون الأثر مترتبا على عدم أحد الحادثين محموليا في زمان الآخر، و قد عرفت توضيحه بقولنا: «و أما وجه عدم جريان الاستصحاب في عدم الرجوع عن الإذن».

(2) الموجود في كلمات المصنف هنا و في الحاشية في بيان المانع عن جريان الاستصحاب في القسم الرابع هو: عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين؛ و لكن الظاهر كما أفاده جمع من تلامذته «قدس الله أسرارهم» إرادة اتصال المشكوك بالمتيقن؛ لا اتصال زمان نفس الوصفين، و ذلك لوجهين:

أحدهما: أن الشك و اليقين من الأمور الوجدانية الحاضرة لدى النفس عند التفاتها إليها، فيدور أمرها بين الوجود و العدم، و لا يعرضها الشك و إنما يعرض وصفا اليقين و الشك على الأمور الخارجية، فهي إما متيقنة أو مظنونة أو مشكوكة.

و عليه: فنفس قول المصنف: «لعدم إحراز اتصال زمان شكه» شاهد على إرادة اتصال زمان المشكوك بزمان المتيقن؛ لأنه يمكن فرض الشبهة الموضوعية فيه من أن المشكوك متصل بالمتيقن على تقدير، و منفصل عنه على تقدير آخر.

و أما نفس الشك و اليقين: فهما إما موجودان قطعا و إما معدومان كذلك، و لا معنى لشك النفس في أنها متيقنة أو شاكة.

ثانيهما: أن المعتبر في الاستصحاب اجتماع نفس اليقين و الشك زمانا، و اختلاف المتيقن و المشكوك كذلك كالعدالة المتيقنة يوم الجمعة المشكوكة يوم السبت، على خلاف قاعدة اليقين؛ لتعدد زماني الشك و اليقين فيها و اتحاد زمان المتيقن و المشكوك و على هذا: فالمعتبر في الاستصحاب اجتماع الوصفين زمانا لا اتصالهما حتى يكون تخلل الفاصل بينهما قادحا في جريانه.

نعم؛ ظاهر بعض الأخبار كقوله «عليه السلام»: «من كان على يقين فشك فليمض على يقينه» و إن كان اعتبار سبق حصول اليقين على الشك، و اتصال الشك به لمكان الفاء، فمع عدم إحراز اتصال نفس الشك باليقين لا يجري الاستصحاب لاختلال شرطه.

ص: 39

الآخر (1) بزمان يقينه (2)؛ لاحتمال (3) انفصاله عنه باتصال (4) حدوثه به.

و بالجملة: كان بعد ذاك الآن (5) الذي قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما زمانا (6):

=============

إلاّ إن هذا التعبير ناظر إلى ما هو الغالب في الخارج من حصول اليقين بشيء ثم الشك فيه، لا أن سبق اليقين و اتصال الشك به زمانا معتبر في الاستصحاب؛ لجريانه لو حصل الوصفان في زمان واحد؛ لإمكانه بعد اختلاف متعلقيهما بالحدوث و البقاء.

(1) و هو يوم الاثنين في المثال المذكور؛ لما مر من أن أحد الحادثين - و هما البيع و الرجوع - حدث يوم الأحد، و الحادث الآخر وجد لا محالة يوم الاثنين، فزمان حدوث الشك في تقدم أحد الحادثين على الآخر هو يوم الاثنين الذي يكون العلم بوجودهما أيضا.

(2) و هو يوم السبت في المثال، حيث إنه زمان اليقين بعدم الرجوع. و قوله: «بزمان» متعلق ب «اتصال»، يعني: لعدم إحراز اتصال زمان الشك في أحد الحادثين - كالرجوع في المثال - بزمان يقينه و هو يوم السبت؛ و ذلك لاحتمال حدوث الرجوع يوم الأحد المتصل بيوم السبت، فلم يتصل حينئذ يوم الاثنين الذي هو زمان الشك في تقدمه على البيع و تأخره عنه بزمان اليقين بعدمه أعني: يوم السبت؛ لتخلل يوم الأحد الذي هو زمان حدوث الرجوع بين يومي السبت و الاثنين.

(3) تعليل لقوله: «لعدم إحراز اتصال...» الخ. و حاصله: إن وجه عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين هو احتمال حدوث الرجوع يوم الأحد المتصل بيوم الاثنين الذي هو زمان الشك، و من المعلوم انفصال يوم الاثنين عن يوم السبت الذي هو زمان اليقين بعدم الرجوع، و مع هذا الاحتمال لا يحرز الاتصال المزبور الذي هو شرط جريان الاستصحاب.

(4) متعلق ب «انفصاله» و الباء للسببية، يعني: لاحتمال انفصال زمان الشك عن زمان اليقين بسبب اتصال زمان حدوث الحادث المستصحب عدمه كالرجوع بزمان الشك في تقدمه و تأخره و هو يوم الاثنين، فلم يتصل زمان شكه بزمان اليقين بعدمه و هو يوم السبت، و ضمير «حدوثه» راجع إلى «الحادث» و ضمير «به» راجع إلى «زمان شكه».

(5) و هو يوم السبت الذي يعلم بعدم كلا الحادثين فيه و الأولى ذكر الضمير العائد إلى الموصول بأن يقال: «الذي هو قبل».

(6) أحدهما يوم الأحد في المثال المزبور، و هو زمان العلم الإجمالي بحدوث أحد الحادثين، و الآخر يوم الاثنين كما سيجيء.

ص: 40

أحدهما: زمان حدوثه، و الآخر (1): زمان حدوث الآخر، و ثبوته الذي (2) يكون ظرفا للشك في أنه (3) فيه أو قبله، و حيث (4) شك في أن أيّهما مقدم و أيّهما مؤخر؛ لم يحرز (5) اتصال زمان الشك بزمان اليقين، و معه (6) لا مجال للاستصحاب، حيث (7) لم يحرز معه كون رفع اليد عن اليقين بعدم حدوثه بهذا (8) الشك من نقض اليقين بالشك.

=============

و قوله: زمانان اسم «كان»، و ضمير «أحدهما» الأول راجع إلى الحادثين، و الثاني:

راجع إلى «زمانان»، و ضمير «حدوثه» راجع إلى «أحدهما».

(1) يعني: و الزمان الآخر و هو يوم الاثنين في المثال زمان حدوث الحادث الآخر.

(2) صفة ل «زمان حدوث الآخر»، و هذا يبين زمان حدوث الآخر، يعني: ذلك الزمان كيوم الاثنين في المثال يكون ظرفا للشك في أن الحادث الذي يراد استصحاب عدمه هل حدث في الزمان الثاني و هو يوم الاثنين، أو في الزمان الأول و هو يوم الأحد؟

(3) يعني: في أن الحادث المستصحب عدمه حدث في الزمان الآخر و هو يوم الاثنين، أو في الزمان الذي قبله و هو يوم الأحد. فضمير «فيه» راجع إلى «الآخر» المراد به الزمان الآخر، و كذا ضمير «قبله» المراد به «أحدهما»، يعني: أحد الزمانين.

(4) هذا تقريب إشكال عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين. و ضمير «أيهما» في الموضعين راجع إلى الحادثين.

(5) جواب «حيث»، و قد عرفت تقريب عدم إحراز الاتصال المزبور مفصلا.

(6) يعني: و مع عدم إحراز الاتصال المزبور لا مجال للاستصحاب.

(7) تعليل لقوله: «لا مجال»، و حاصله: أنه مع عدم إحراز الاتصال المزبور لا يجري الاستصحاب؛ لعدم إحراز مصداقيته لعموم دليل الاستصحاب.

توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 7، ص 621» -: أنه إذا فرض كون رجوع المرتهن عن الإذن يوم الأحد فلا مجال لاستصحابه يوم الاثنين؛ لانتقاض اليقين بعدمه يوم السبت باليقين بحدوثه يوم الأحد، فلا يصدق في يوم الاثنين نقض اليقين بالشك، و مع احتمال عدم صدق نقض اليقين بالشك تكون الشبهة موضوعية، و لا مجال للتمسك بالدليل مع الشك في موضوعه كما ثبت في محله.

و ضمير «معه» راجع إلى ما يستفاد من العبارة من عدم إحراز الاتصال.

(8) هذا، و قوله: «عن اليقين» متعلقان ب «رفع»، و «بعدم» متعلق ب «اليقين» و المراد بقوله: «بهذا الشك» هو الشك في التقدم و التأخر بالنسبة إلى حادث آخر، و ضمير ««حدوثه» راجع إلى الحادث المشكوك تقدمه على الآخر و تأخره عنه.

ص: 41

لا يقال (1): لا شبهة في اتصال مجموع الزمانين (2) بذاك...

=============

قوله: «من نقض اليقين بالشك» خبر «كون»، و حاصله: ما مر آنفا من أنه مع عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين لا يحرز موضوع دليل الاستصحاب و هو نقض اليقين بالشك؛ لاحتمال كون رفع اليد عن اليقين السابق من نقض اليقين باليقين الذي هو أجنبي عن موضوع الاستصحاب، و مع هذا الاحتمال لا يصح التمسك بدليل الاستصحاب.

(1) غرض هذا القائل: دفع إشكال احتمال انفصال زمان الشك عن زمان اليقين و إثبات إحراز اتصالهما.

توضيحه: إن زمان الشك في تقدم أحد الحادثين على الآخر و تأخره عنه هو مجموع الزمانين اللذين هما في المثال يوما الأحد و الاثنين، و من المعلوم: اتصال هذا المجموع بزمان اليقين بالعدم و هو يوم السبت.

و عليه: فشرط جريان الاستصحاب - و هو اتصال زمان الشك بزمان اليقين - محرز، فلا إشكال في جريان الاستصحاب هنا من هذه الجهة و إن كان ساقطا في كلا الحادثين بالتعارض كما ذهب إليه الشيخ «قدس سره».

و بعبارة أخرى: كان يوم السبت ظرف اليقين بعدم كل من البيع و رجوع المرتهن، و يوما الأحد و الاثنين ظرف وجود الحادثين؛ للعلم الإجمالي حسب الفرض بحدوثهما في اليومين، و الشك من يوم الأحد في انتقاض عدم كل منهما بالوجود للعلم الإجمالي بوجود أحدهما؛ كالشك يوم الاثنين في تقدم حدوث أحدهما على الآخر؛ لأنه ظرف العلم بوجودهما، فالمكلف مع علمه الإجمالي بوجود أحدهما يوم الأحد لا يتيقن بعدمهما و لا بوجودهما فيه كما لا يقين بوجود أحدهما المعين فيه؛ بل يشك فيه؛ إذا لا يقين له يوم الأحد ببقاء العدمين؛ لعلمه الإجمالي بوجود أحدهما، كما لا يقين له بوجود أحدهما المعين؛ لأن علمه بحدوث أحدهما إجمالي لا تفصيلي، فيتعين بحسب البرهان أن يكون مبدأ شكه في حدوث كل منهما يوم الأحد، و قد استمر هذا الشك إلى يوم الاثنين، فالمستصحب الذي كان في قطعة من الزمان متيقنا قد صار مشكوكا فيه في قطعة أخرى من الزمان متصلة بالقطعة الأولى.

و حيث تحقق شرط جريان الاستصحاب - و هو إحراز اتصال المتيقن بالمشكوك - فالمقتضي لجريانه موجود، و تصل النوبة إلى المانع أعني: المعارضة.

(2) و هما في المثال المزبور يوما الأحد و الاثنين كما مر آنفا.

ص: 42

الآن (1)، و هو (2) بتمامه زمان الشك في حدوثه؛ لاحتمال (3) تأخره عن الآخر، مثلا (4): إذا كان على يقين من عدم حدوث واحد منهما في ساعة، و صار على يقين من حدوث أحدهما بلا تعيين في ساعة أخرى بعدها (5)، و حدوث (6) الآخر في ساعة ثالثة؛ كان (7) زمان الشك في حدوث كل منهما تمام الساعتين لا خصوص أحدهما (8) كما لا يخفى.

=============

(1) و هو يوم السبت الذي هو زمان اليقين بعدم الحادثين.

(2) أي: و مجموع الزمانين بتمامه - من مبدأه و منتهاه - زمان الشك في حدوث الحادث المستصحب، و ضمير «حدوثه» راجع إلى الحادث.

(3) تعليل لكون مجموع الزمانين بتمامه زمان الشك في حدوث الحادث المستصحب عدمه.

و حاصل التعليل كما مر بيانه: أنه لما كان حدوثه في كل من اليومين محتملا فلا محالة يكون مجموع الزمانين زمان الشك في حدوث الحادث الذي يستصحب عدمه.

(4) قد عرفت توضيح هذا بما مر آنفا من التمثيل بالبيع و رجوع المرتهن عن الإذن فيه، و فرض أزمنة ثلاثة لهما من أيام السبت و الأحد و الاثنين، فإذا كان الأثر الشرعي مترتبا على البيع ظرف عدمه حال حدوث الحادث الآخر و هو رجوع المرتهن عن الإذن، فإن كان زمان الرجوع يوم الأحد اتصل بزمان باليقين بعدم البيع و هو يوم السبت، و إن كان يوم الاثنين انفصل عن يوم السبت الذي هو زمان اليقين بعدم البيع فلا يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين.

(5) أي: بعد الساعة الأولى التي هي زمان اليقين بعدم كلا الحادثين، فالساعة الثانية هي زمان العلم الإجمالي بحدوث أحدهما.

(6) معطوف على «حدوث»، يعني: و صار على يقين من حدوث الحادث الآخر في ساعة ثالثة؛ لكن بلا تعيين المتقدم و المتأخر منهما كما هو مفروض البحث.

(7) جواب «إذا كان»، و حاصله: «أن مقتضى العلم الإجمالي بحدوث أحدهما في الساعة الثانية و حدوث الآخر في الساعة الثالثة هو كون زمان الشك في حدوث كل من الحادثين تمام الساعتين؛ إذ لا يعلم تفصيلا زمان حدوثهما، فلا محالة يصير مجموع الساعتين زمان الشك في حدوث كل منهما، و هو كذلك كما يشهد به الوجدان؛ لقيام احتمال حدوث كل منهما في كل واحدة من الساعتين.

(8) حتى يشكل بعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين.

ص: 43

فإنه يقال (1): نعم (2)؛ و لكنه (3) إذا كان بلحاظ إضافته إلى أجزاء الزمان.

و المفروض (4): أنه بلحاظ إضافته إلى الآخر، و أنه حدث في زمان حدوثه و ثبوته (5) أو

=============

(1) هذا جواب القائل المزبور: المدعي لاتصال زمان الشك بزمان اليقين.

و توضيح هذا الجواب - على ما في «منتهى الدراية، ج 7، ص 624» - أن الأثر الشرعي إن كان مترتبا على عدم الحادث في زمان معلوم تفصيلي؛ كعدم بيع الراهن يوم الاثنين فلا مانع حينئذ من استصحاب عدمه من يوم السبت الذي هو زمان اليقين بعدمه إلى يوم الاثنين؛ لاتصال زمان اليقين بزمان الشك، و أما إذا كان مترتبا على عدمه في زمان حدوث الآخر - الذي هو زمان إجمالي مردد بين زمانين كيومي الأحد و الاثنين - فلا يجري فيه الاستصحاب؛ لعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين كما عرفت في مثال بيع الراهن و رجوع المرتهن عن الإذن، حيث إن الرجوع إن كان يوم الأحد اتصل زمانه الذي هو زمان الشك في وقوع البيع بزمان اليقين بعدمه و هو يوم السبت، و إن كان يوم الاثنين انفصل عن يوم السبت، فلم يحرز اتصال زمان اليقين بعدم البيع في زمان حدوث الرجوع عن الإذن بالشك فيه.

(2) حاصله: إن اتصال مجموع الزمانين كيومي الأحد و الاثنين بزمان اليقين و إن كان مسلما، لكنه كذلك بلحاظ إضافة الحادث إلى أجزاء الزمان، حيث إنه بهذا اللحاظ يتصل زمان الشك في كل من الحادثين بزمان اليقين بعدمه؛ لوضوح: أن العلم الإجمالي بحدوث أحدهما يوم الأحد - في المثال المزبور - يوجب الشك في إن الحادث المعلوم إجمالا هو هذا أو ذاك، و هذا الشك مستمر إلى يوم الاثنين الذي هو ظرف حدوث الآخر.

فالنتيجة: أن الشك في كل منهما متصل بيقينه.

و أما بلحاظ إضافته إلى حادث آخر: فاتصال زمان الشك في الحادث - الذي يكون في زمان عدم حدوث الآخر موضوعا للحكم - بزمان اليقين بعدمه غير محرز كما تقدم آنفا.

(3) يعني: و لكن الاتصال الذي ادعاه هذا القائل إنما يكون بلحاظ إضافة الحادث إلى أجزاء الزمان، و المفروض: إنه ليس كذلك؛ إذ الملحوظ إضافة الحادث إلى حادث آخر.

(4) الواو للحال، يعني: و الحال أن المفروض لحاظ الاتصال بالإضافة إلى حادث آخر، و أنه حدث في زمان ثبوته أو قبله. و ضمير «أنه» راجع على الاتصال، و ضميرا «إضافته، أنه» راجعان إلى «الحادث» و قوله: «إذا كان» خبر «لكنه».

(5) هذا الضمير و ضمير «حدوثه» راجعان إلى «الآخر»، و المراد بهذين اللفظين واحد

ص: 44

قبله، و لا شبهة أن زمان شكه بهذا اللحاظ (1) إنما هو خصوص ساعة ثبوت الآخر (2) و حدوثه لا الساعتين (3).

فانقدح (4): أنه لا مورد هاهنا (5) للاستصحاب؛ لاختلال...

=============

و هو زمان وجوده. و لا يمكن إرادة المعنى الظاهر من زمان الحدوث و هو أن انتقاض العدم بالوجود؛ و ذلك لكون المفروض: عدم تقارن الحادثين في الوجود؛ للعلم الإجمالي بتقدم أحدهما على الآخر، فكأنه قيل: «و أنه حدث بعده أو قبله».

(1) أي: بلحاظ إضافة الحادث إلى الحادث الآخر، لا بالإضافة إلى أجزاء الزمان.

و غرضه من قوله: «و لا شبهة»: بيان أن زمان الشك ليس مجموع الزمانين حتى يتصل بزمان اليقين كما يدعيه القائل المزبور، و ذلك لأن الشك بلحاظ الحادث الآخر من حيث التقدم و التأخر لا يحدث إلاّ في الزمان الثاني كيوم الاثنين في المثال الذي هو ظرف تحقق الحادث الآخر، بداهة: أن يوم الأحد الذي هو زمان حدوث أحد الحادثين لا يعقل فيه الشك في التقدم على الحادث الآخر و تأخره عنه، و إنما يعقل ذلك بعد حدوثهما معا، و ليس زمان اليقين بثبوتهما إلاّ يوم الاثنين، فيحدث الشك في التقدم و التأخر يوم الاثنين لا قبله، فيوم الاثنين بالخصوص زمان الشك في التقدم و التأخر لا مجموع يومي الأحد و الاثنين.

و عليه: فإن كان زمان حدوث الحادث الذي يراد استصحابه يوم الأحد كان زمان شكه - و هو يوم الاثنين - منفصلا عن زمان اليقين بعدمه و هو يوم السبت.

و إن كان زمان حدوثه يوم الاثنين كان زمان شكه و هو هذا الزمان متصلا بزمان يقينه و هو يوم السبت؛ لعدم تخلل يقين بالخلاف بينهما، و حيث إن هذا الاتصال لا يحرز فلا يجري الاستصحاب في مجهولي التاريخ.

(2) لما عرفت: من تقوّم الشك في تقدم حادث على آخر و تأخره عنه بوجود كلا الحادثين، و هو منوط بمجيء الزمان الثاني الذي هو ظرف وجود الآخر.

(3) يعني: لا مجموع الزمانين اللذين تحقق فيهما الحادثان كما هو مدعى القائل المزبور.

(4) هذه نتيجة ما ذكره من عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين، و أن عدم جريان الاستصحاب هنا إنما هو لأجل اختلال شرطه و هو عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين. و ضمير «أنه» للشأن.

(5) أي: في الصورة الأخيرة و هي كون الأثر مترتبا على العدم المحمولي لأحدهما في زمان حدوث الآخر.

ص: 45

أركانه (1)؛ لا أنه (2) مورده، و عدم جريانه إنما هو بالمعارضة (3) كي يختص (4) بما كان الأثر لعدم كل (5) في زمان الآخر، و إلاّ (6) كان الاستصحاب فيما له الأثر جاريا.

استصحاب احد الحادثين فيما علم تاريخ أحدهما

و أما (7) لو علم بتاريخ أحدهما فلا يخلو...

=============

(1) الأولى إفراده بأن يقال: «ركنه»؛ إذ لم يذكر في وجه عدم جريان الاستصحاب إلاّ عدم إحراز الاتصال المزبور.

(2) يعني: لا أن المقام مورد الاستصحاب، و عدم جريانه فيه إنما هو لأجل المعارضة بجريانه في الحادث الآخر، و ضميرا «مورده، جريانه» راجعان إلى «الاستصحاب»، و ضمير «هو» راجع إلى «عدم»، و «عدم» معطوف على ضمير «أنه»، أي: و أن «عدم جريانه إنما هو بالمعارضة».

(3) يعني: بسبب المعارضة مع الاستصحاب الجاري في الحادث الآخر، و هذا تعريض بما تقدم من كلام الشيخ عند شرح عبارة المصنف «قدس سره»: «و كذا فيما كان مترتبا على نفس عدمه في زمان الآخر واقعا، و إن كان على يقين منه»، حيث إن الشيخ أجرى الاستصحاب فيهما و أسقطهما بالمانع و هو التعارض، و المصنف لم يجرهما؛ لفقدان الشرط و هو إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين، و من المعلوم: تقدم الشرط رتبة على المانع.

(4) يعني: كي يختص عدم جريان الاستصحاب بسبب المعارضة بما إذا كان الأثر الشرعي مترتبا على عدم كل من الحادثين في زمان الآخر، حيث إن الاستصحاب يجري فيهما و يسقط بالتعارض؛ إذ لو كان الأثر مترتبا على عدم أحدهما فقط في زمان الآخر جرى فيه الاستصحاب بلا مانع؛ إذ لا أثر للحادث الآخر حتى يجري فيه الاستصحاب و يعارضه.

(5) أي: كل من الحادثين في زمان الحادث الآخر؛ كموت الأب و الابن، فإن لعدم موت كل منهما في زمان موت الآخر أثرا شرعيا و هو التوريث.

(6) أي: و إن لم يكن الأثر لعدم كل منهما في زمان الآخر؛ بأن كان الأثر لأحدهما دون الآخر كان الاستصحاب في الحادث الذي له الأثر جاريا؛ لعدم معارض له حينئذ.

هذا تمام الكلام في المقام الأول المتكفل لمباحث مجهولي التاريخ. و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(7) هذا معادل لقوله: «فإن كانا مجهولي التاريخ» فالأولى أن يقال: «و إن كان أحدهما معلوم التاريخ و الآخر مجهوله».

ص: 46

أيضا (1): إما أن يكون الأثر المهم مترتبا على الوجود الخاص من المقدم أو المؤخر أو المقارن (2) فلا إشكال في استصحاب عدمه (3) لو لا المعارضة (4) باستصحاب العدم و كيف كان؛ فقد أشار بهذه العبارة إلى المقام الثاني المتضمن لمباحث الحادثين المعلوم تاريخ أحدهما؛ كما إذا علم بتاريخ الموت و أنه يوم السبت، و شك في تاريخ الإسلام و أنه يوم الجمعة أو يوم الأحد. و محصله: أن ما تقدم في مجهولي التاريخ من الصور جار هنا؛ لأن الأثر الشرعي تارة: يترتب على وجود أحدهما أو كليهما محموليا بنحو خاص من التقدم أو التأخر أو التقارن، و أخرى: يترتب على اتصاف أحدهما أو كليهما بإحدى تلك الصفات بنحو الوجود النعتي، و ثالثة يترتب على عدم أحدهما في زمان الآخر بنحو العدم المحمولي، و رابعة: يترتب على عدم أحدهما في زمان الآخر بنحو العدم النعتي، فالصور أربع نتعرض لأحكامها عند تعرض المصنف «قدس سره» لها لزيادة التوضيح؛ و إلاّ فقد تقدم الكلام في أحكام هذه الصور تفصيلا.

=============

(1) يعني: كمجهولي التاريخ، فإن الصور المتصورة هناك تتصور هنا أيضا.

(2) هذا إشارة إلى الصورة الأولى و هي: كون الأثر الشرعي مترتبا على الوجود الخاص المحمولي الذي هو مفاد كان التامة؛ كما إذا كان إرث الوارث من الميت المسلم مترتبا على إسلامه بوجوده الخاص، و هو تقدمه على موت المورث، حيث إن إرثه مترتب على إسلامه في زمان حياة المورث لا على إسلامه في زمان موت المورث، فلا مانع من استصحاب عدمه إلى زمان موت المورث؛ إذ المفروض: عدم أثر للحادث الآخر حتى يجري فيه الاستصحاب و يعارضه.

(3) هذا إشارة إلى حكم الصورة الأولى. و هي: كون الأثر مترتبا على وجود أحد الحادثين محموليا بنحو خاص من التقدم أو التأخر أو التقارن، و حاصله: جريان استصحاب عدمه الخاص و إن كان تاريخ حدوثه معلوما؛ إذ لا منافاة بين العلم بوجوده المطلق و عدم العلم بوجوده الخاص المسبوق بالعدم الذي هو مورد الاستصحاب كما مر في إسلام الوارث، فإن المعلوم هو إسلام الوارث يوم الجمعة، و أما وجود الإسلام قبل القسمة فغير معلوم، و لا مانع من استصحاب عدمه، و به يرتفع موضوع الأثر؛ لفرض موضوعية الوجود الخاص من الإسلام للأثر، و باستصحاب الأزلي ينتفي موضوع الأثر.

و حيث كان المقتضي لجريان الأصل موجودا فلا بد أن يكون المانع منه هو المعارضة المتوقفة على كون الأثر للطرفين أو لوصفين في طرف واحد كما سيظهر.

(4) هذا إشارة إلى كون الأثر مترتبا على وجود كل من الحادثين محموليا بنحو

ص: 47

في طرف الآخر (1) أو طرفه (2) كما تقدم (3)، و إما (4) يكون مترتبا على ما إذا كان خاص من التقدم و التأخر و التقارن؛ كإسلام الوارث قبل القسمة و القسمة قبله، حيث إن لكل منهما متقدما على الآخر أثرا شرعيا، فإن الإسلام قبل القسمة يوجب إرث المسلم عن الميت المسلم منفردا إن لم يكن أحد في مرتبته، و مشاركا إن كان وارث آخر في مرتبة و كذا القسمة قبل الإسلام، فإنها توجب ملكية المقتسمين من دون مشاركة من يسلم معهم بعد القسمة، فإنه يجري الاستصحاب في عدم الإسلام في الزمان الواقعي للقسمة و بالعكس، و يسقط بالتعارض؛ إذ المفروض: ترتب الأثر على وجود كل منهما متقدما على الآخر.

=============

(1) يعني: في طرف الحادث الآخر كما عرفت في مثال الإسلام و القسمة.

(2) معطوف على «طرف». و ضميره راجع إلى «أحدهما» يعني: لو لا المعارضة باستصحاب العدم الجاري في الحادث الآخر، أو الجاري في حادث واحد باعتبار ترتب الأثر على وجوده بنحوين من التقدم على الحادث الآخر و تأخره عنه؛ بحيث يكون ذا أثر شرعي بكلا نحويه من التقدم و التأخر، فالمراد معارضة استصحاب العدم في نحوين من أنحاء حادث واحد كالتقدم و ضديه.

و الأولى في إفادة هذا المعنى أن يقال: «لو لا المعارضة باستصحاب العدم في بعض أنحائه أو في الحادث الآخر».

و كيف كان؛ فالاستصحاب يجري فيه و يسقط بالتعارض؛ كملاقاة المتنجس للماء، فإنها قبل الكرية تنجس الماء، و بعدها تطهر المتنجس، فالملاقاة بكلا وصفيها - و هما التقدم و التأخر - ذات أثر شرعي، و هو انفعال الماء أو طهارة المتنجس. و عليه: فتعارض الاستصحابين يكون في صورتين:

إحداهما: ما إذا ترتب الأثر على وجود كل من الحادثين بنحو خاص.

ثانيتها: ما إذا ترتب الأثر على أكثر من وصف واحد من التقدم و أخويه في أحد الحادثين.

(3) يعني: في مجهولي التاريخ حيث قال: «بخلاف ما إذا كان الأثر لوجود كل منهما كذلك...» الخ.

(4) معطوف على قوله: «إما أن يكون الأثر»، و الضمير المستتر في «يكون» راجع على الأثر، و هذا إشارة إلى الصورة الثانية و هي كون الأثر الشرعي مترتبا على وجود أحد الحادثين أو كليهما نعتيا كما هو مفاد كان الناقصة بنحو خاص من التقدم أو التأخر أو التقارن.

ص: 48

متصفا بكذا (1)، فلا مورد للاستصحاب أصلا لا في مجهول التاريخ و لا في معلومه كما لا يخفى؛ لعدم (2) اليقين بالاتصاف به سابقا فيهما.

و إما (3) يكون مترتبا على عدمه الذي هو مفاد ليس التامة في زمان الآخر (4)، فاستصحاب العدم (5) في مجهول التاريخ...

=============

(1) أي: التقدم و ضديه، و حكم هذه الصورة عدم جريان الاستصحاب فيها لا في مجهول التاريخ و لا في معلومه؛ لاختلال أوّل ركني الاستصحاب و هو اليقين السابق في كليهما، ضرورة: أنه ليس اتصافهما أو أحدهما بتلك الصفات متيقنا سابقا، فإن الإسلام الموصوف بكونه قبل موت المورث ليس له حالة سابقة حتى يستصحب، من غير فرق في ذلك بين معلوم التاريخ و مجهوله، بداهة: أن العلم بحدوث معلوم التاريخ إنما هو بالنسبة إلى الزمان كيوم الجمعة، و أما بالإضافة إلى تقدمه على الحادث الآخر فهو مشكوك فيه و لا يقين بذلك، و المفروض: أنه هو الملحوظ هنا.

(2) تعليل لقوله: «فلا مورد للاستصحاب أصلا»، و قد عرفت توضيحه، و ضمير «به» راجع على «بكذا» المراد به أحد الأوصاف من التقدم و التأخر و التقارن، و ضمير «فيهما» راجع إلى مجهول التاريخ و معلومه.

و بالجملة: فإذا علم بموت الأب يوم الجمعة، و لم يعلم زمان موت الابن و أنه كان يوم الخميس أو يوم السبت، و المفروض: أن موت كل منهما متصفا بتقدمه على موت الآخر مما يترتب عليه الأثر الشرعي، و موت كل منهما بهذا الوصف ليس له حالة سابقة فلا يجري فيه الاستصحاب، فعدم جريان الاستصحاب فيهما إنما هو لفقدان ركنه؛ لا لوجود المانع و هو التعارض.

(3) معطوف على «و إما يكون»، و هو إشارة إلى الصورة الثالثة، و هي كون الأثر الشرعي مترتبا على عدم أحد الحادثين محموليا الذي هو مفاد «ليس» التامة في الزمان الواقعي للآخر. و ضمير «عدمه» راجع على «أحد الحادثين».

(4) قيد لقوله: «عدمه» أي: عدم الكائن في زمان الحادث الآخر.

(5) هذا إشارة إلى حكم الصورة الثالثة، و هو جريان استصحاب العدم في مجهول التاريخ دون معلومه.

و أما جريانه في مجهول التاريخ: فلتحقق ركني الاستصحاب من اليقين السابق و الشك اللاحق فيه، مع وجود شرطه و هو اتصال زمان الشك بزمان اليقين، مثلا: إذا كانت قسمة التركة يوم الأربعاء معدومة يقينا، و شك في تحققها يوم الخميس أو يوم

ص: 49

جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ دون معلومه

كان (1) جاريا لاتصال (2) زمان شكه دون معلومه (3)؛ لانتفاء (4) الشك فيه في زمان (5)، و إنما (6) الشك فيه بإضافة زمانه إلى الآخر،...

=============

الجمعة، و علم بوجود الإسلام يوم الجمعة و بعدمه قبله، فحينئذ: يتصل زمان الشك في القسمة و هو يوم الخميس بزمان اليقين بعدمها أعني يوم الأربعاء، فلا مانع من استصحاب عدمها إلى يوم الجمعة. و هذا مختار الشيخ «قدس سره» أيضا حيث إنه ذهب إلى جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ(1).

(1) خبر «فاستصحاب»، و ضمير «منهما» راجع على «الحادثين».

(2) تعليل لجريان الاستصحاب في مجهول التاريخ، و قد عرفت توضيح اتصال زمان شك الحادث المجهول التاريخ بزمان يقينه. و أما عدم جريانه في معلوم التاريخ فلما سيأتي.

(3) يعني: يجري الاستصحاب في المجهول التاريخ دون المعلوم التاريخ، فكلمة «دون» بمعنى: «لا»، و هو عطف على «في مجهول التاريخ» و الأولى أن يقال: «في مجهول التاريخ منهما دون معلومه جاريا».

(4) تعليل لعدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ، و محصله: انتفاء ثاني ركني الاستصحاب و هو الشك في البقاء في عمود الزمان فيه؛ و ذلك لأن الإسلام في المثال قبل يوم الجمعة معلوم العدم، و في يوم الجمعة معلوم الحدوث، و مع العلم بكل من زماني عدمه و وجوده لا يتصور فيه الشك حتى يجري فيه الاستصحاب. و ضمير «فيه» راجع إلى «معلومه».

(5) يعني: في شيء من الأزمنة التفصيلية؛ لأن زمان تاريخ الحادث المجهول لا يخلو إما أن يكون قبل تاريخ المعلوم أو بعده أو مقارنا له. فإن كان قبله: فعدم المعلوم مقطوع به، و إن كان بعده أو مقارنا له: فوجوده مقطوع به لا مشكوك فيه، فلا شك في عدم المعلوم في زمان حدوث المجهول بنحو التطبيق على أحد الأزمنة.

(6) يعني: و إنما الشك في الحادث المعلوم التاريخ لا يتصور إلا بإضافة زمانه إلى الحادث الآخر، حيث إنه لم يعلم أن الإسلام الحادث يوم الجمعة هل تحقق قبل زمان القسمة أو بعدها، فالشك في معلوم التاريخ يكون بالإضافة إلى عدمه المضاف إلى حادث آخر، لا إلى عدمه الاستقلالي الذي لا شك فيه و لذا قال: «لانتفاء الشك فيه في زمان».

ص: 50


1- فرائد الأصول 249:3.

و قد عرفت (1): جريانه فيهما (2) تارة، و عدم جريانه كذلك (3) أخرى.

فانقدح (4): أنه لا فرق بينهما كان الحادثان مجهولي التاريخ أو كانا مختلفين، و لا و غرضه من قوله: «و إنما الشك فيه» بقرينة نفي الشك عن عدمه المطلق هو: الإشارة إلى نحوين من إضافة عدم معلوم التاريخ إلى الحادث الآخر، و هما: كون العدم ملحوظا محموليا و هو مفاد ليس التامة، و كونه ملحوظا نعتيا و هو مفاد ليس الناقصة، و هذه هي الصورة الرابعة أعني: كون العدم نعتيا.

=============

و بالجملة: فلم يذكر الصورة الرابعة صريحا، و إنما ذكرها بعنوان عام و هو العدم المضاف إلى حادث آخر الشامل للصورة الرابعة و هي العدم النعتي، و الثالثة و هي العدم المحمولي.

فإن لوحظ هذا العدم المضاف محموليا بأن يكون عدمه بنحو خاص من التقدم على الحادث الآخر و تأخره عنه أو مقارنته له موضوعا للحكم الشرعي جرى الاستصحاب فيهما؛ لكن يسقط بالتعارض، و إن لوحظ هذا العدم نعتيا؛ بأن يكون متصفا بوصف التقدم أو ضديه، فلا يجري فيهما الاستصحاب؛ لعدم اليقين السابق بهذا الاتصاف.

(1) أشار بهذا إلى أحكام صور الحادثين المعلوم تاريخ أحدهما دون الآخر.

(2) أي: في الحادثين المعلوم تاريخ أحدهما فيما إذا كان الأثر مترتبا على وجود كل منهما محموليا بنحو خاص من التقدم و ضديه، فإن الاستصحاب يجري فيهما؛ لكنه يسقط بالتعارض.

(3) أي: في الحادثين اللذين يترتب الأثر على وجودهما أو عدمهما نعتيا، فإن عدم جريانه حينئذ: إنما هو لأجل عدم اليقين السابق بهذا الاتصاف، فأوّل ركني الاستصحاب فيهما مفقود.

(4) هذا حاصل أبحاث الحادثين من مجهولي التاريخ و المختلفين، و تعريض بالشيخ الأنصاري «قدس سره»، حيث إنه اقتصر في مجهولي التاريخ على جريان أصالة العدم فيهما، و لم يفصّل بين كيفية موضوعيتهما للأثر الشرعي من حيث الوجود المحمولي و النعتي، و كذا العدم بمفاد ليس التامة و الناقصة.

مع أنه لا بد من جريان الاستصحاب في أحدهما بلا مانع إذا ترتب الأثر عليه فقط دون الحادث الآخر، و دون ترتب الأثر على نحو آخر من أنحاء ذلك الحادث، و إلاّ يجري الاستصحاب فيهما أو في نحوي ذلك الحادث و يسقط بالتعارض، فإطلاق كلامه في جريان أصالة العدم في مجهولي التاريخ لا يخلو من الغموض.

ص: 51

بين (1) مجهوله و معلومه في المتخلفين (2) فيما (3) اعتبر في الموضوع خصوصية ناشئة من و اقتصر «قدس سره» أيضا في الحادثين المجهول تاريخ أحدهما دون الآخر على جريان أصل العدم في المجهول دون المعلوم، مع أنك قد عرفت التفصيل بين ترتب الأثر على وجود خاص من التقدم و ضديه محموليا، و بين ترتب الأثر على الوجود الخاص نعتيا؛ بجريان الاستصحاب في الأول دون الثاني.

=============

و غرض المصنف «قدس سره»: بيان اختلاف وجه عدم جريان الاستصحاب في الحادثين أو أحدهما من مجهولي التاريخ و المختلفين، و هو أحد أمور ثلاثة:

أولها: اختلال أول ركني الاستصحاب أعني: اليقين السابق فيما إذا كان الأثر مترتبا على اتصاف الحادث بالعدم في زمان حدوث الآخر.

ثانيها: اختلال شرط و هو إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين فيما إذا ترتب الأثر على أحد الحادثين محموليا في زمان الآخر.

و ثالثها: وجود المانع و هو التعارض فيما إذا كان كل من الحادثين موضوعا للأثر، أو كان أحدهما لأكثر من وصف واحد من التقدم و ضديه موضوعا للحكم على ما تقدم مفصلا.

و ضمير «أنه» للشأن، و ضمير «بينهما» راجع إلى الحادثين. و الأولى بإيجاز العبارة و سلامتها أن يقال: «لا فرق بين كون الحادثين مجهولي التاريخ و مختلفيه».

(1) معطوف على «بينهما» يعني: لا فرق في أحكام الحادثين بين مجهولي التاريخ و مختلفيه.

(2) أي: المختلفين من حيث العدم المحمولي و النعتي، فيجري الأصل في المعلوم و المجهول إذا أخذ العدم فيهما محموليا، و لا يجري في شيء منهما إذا أخذ العدم فيهما نعتيا.

نعم؛ بينهما فرق من هذه الحيثية، و هي: ما إذا لوحظ العدم في زمان الآخر من دون إضافة خصوصية التقدم أو أحد ضديه، حيث إن الأصل في هذه الصورة يجري في المجهول دون المعلوم؛ لانتفاء الشك كما أفاده.

(3) متعلق ب «لا فرق»، يعني: لا فرق بين الحادثين مطلقا فيما إذا اعتبر في الموضوع خصوصية كالتقدم و ضديه، و شك في تلك الخصوصية، فإن كانت تلك الخصوصية بنحو الاتصاف و النعتية لا يجري فيها الاستصحاب، و إن لم تكن بنحو الاتصاف جرى فيها الاستصحاب.

ص: 52

إضافة أحدهما إلى الآخر بحسب الزمان من التقدم (1) أو أحد ضديه و شك فيها (2)، كما لا يخفى.

كما انقدح: أنه (3) لا مورد للاستصحاب - أيضا (4) - فيما تعاقب حالتان

=============

(1) بيان لقوله: «خصوصية»، و المراد ب «ضديه» هو التأخر و التقارن.

(2) أي: في الخصوصية و هي التقدم أو أحد ضديه، و قد عرفت: أن بتلك الخصوصية يختلف حكم الاستصحاب من حيث جريانه فيها و عدمه باختلاف لحاظ تلك الخصوصية من حيث المحمولية و النعتية.

و حاصل مرامه «قدس سره»: أن ما ذكر من جريان الاستصحاب و عدمه في الشك في الخصوصية المأخوذة في الموضوع جار في الحادثين مطلقا من مجهولي التاريخ و المختلفين. و ضمير «ضديه» راجع إلى «التقدم».

(3) الضمير للشأن، و قد أشار بهذا إلى أن حكم تعاقب الحالتين المتضادتين العارضتين لشخص واحد كالطهارة و الحدث و الطهارة و النجاسة حكم الحادثين اللذين يترتب الأثر على العدم المحمولي لأحدهما في زمان الآخر و إن افترقا موضوعا؛ لقيام الحالتين بشخص واحد على التعاقب لا التقارن؛ لامتناع وجودهما في آن بخلاف الحادثين؛ لقيامهما بشخصين مع إمكان تقارنهما وجودا.

و لكون الاستصحاب في الحادثين عدميا و في الحالتين وجوديا.

و كيف كان؛ فمحصل ما أفاده المصنف هنا هو: أنه إذا علم المكلف بصدور طهارة و حدث منه في ساعتين، و لم يعلم المتقدم منهما و المتأخر، و شك في الساعة الثالثة في حالته الفعلية من الطهارة و الحدث - إذ لو حصلت الطهارة في الساعة الأولى فقد انقضت بالحدث الصادر في الساعة الثانية، فالحالة الفعلية هي الحدث، و لو تحقق الحدث في الساعة الأولى فالحالة الفعلية هي الطهارة - فلا يجري الاستصحاب في بقاء شيء من هاتين الحالتين لعدم إحراز اتصال زمان اليقين بحدوثهما بزمان الشك في بقائهما.

و ذلك لأن زمان الشك في بقائهما في المثال و هو الساعة الثالثة لا يجري فيه استصحاب الطهارة إلاّ إذا كان زمان اليقين بحدوثها الساعة الثانية حتى يتصل زمان اليقين بحدوثها بزمان الشك في بقائها، فإذا كان زمان اليقين بحصول الطهارة الساعة الأولى انفصل زمان الشك عن زمان اليقين؛ لتخلل اليقين بالضد و هو الحدث بين الساعة الأولى و الثالثة، و مع هذا الاحتمال لم يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين في شيء من الحالتين، فلا يجري الاستصحاب في بقاء شيء منهما.

(4) يعني: كعدم موردية الحادثين للاستصحاب.

ص: 53

متضادتان (1)؛ كالطهارة و النجاسة (2)، و شك في ثبوتهما و انتفائهما (3)؛ للشك (4) في المقدم و المؤخر منهما؛ و ذلك (5) لعدم إحراز الحالة السابقة المتيقنة المتصلة بزمان الشك في ثبوتهما (6)...

=============

(1) يستفاد من هذه الكلمة: وجود القيدين المزبورين - و هما وجوديتهما و امتناع تقارنهما في الحالتين - الموجبتين لتميّزهما عن الحادثين.

(2) كالعلم بنجاسة ثوبه أو بدنه، و كذا تطهيره في الساعة الأولى و الثانية، مع عدم العلم المتقدم منهما و المتأخر، فإن الاستصحاب لا يجري في بقاء شيء من الطهارة و النجاسة لما تقدم في مثال الطهارة و الحدث من عدم إحراز اتصال زمان اليقين بزمان الشك.

(3) هذا الضمير و ضمير «ثبوتهما» راجعان إلى «حالتان».

(4) متعلق ب «و شك» و علة له، يعني: أن الشك في البقاء ناش من الشك في المتقدمة و المتأخرة من الحالتين؛ إذ مع العلم بالتقدم و التأخر لا يحصل الشك في البقاء كما هو واضح.

و ضمير «منهما» راجع إلى «حالتان».

(5) تعليل لقوله: «كما انقدح»، و قد عرفت آنفا توضيحه بقولنا: «فلا يجري الاستصحاب في شيء من بقاء هاتين الحالتين لعدم إحراز...» الخ.

(6) أي: في ثبوت الحالتين، و المراد به الشك في بقائهما، فالتعبير به أولى من التعبير بثبوتهما.

و كيف كان؛ فتوضيح عدم إحراز اتصال زمان اليقين السابق بزمان الشك اللاحق هو: أنه لو كان حدوث الطهارة في الساعة الثانية كان زمان اليقين بها متصلا بزمان الشك في بقائها و هي الساعة الثالثة، و لو كان حدوثها في الساعة الأولى لم يكن زمان اليقين بحدوثها متصلا بالساعة الثالثة التي هي زمان الشك في بقائها؛ لتخلل الساعة الثانية التي هي ظرف حصول الحدث بين الساعة الأولى و الثالثة، فدوران زمان اليقين بحصول الطهارة بين الساعة الأولى و الثانية أوجب الشك في اتصاله بزمان الشك في بقائها، و مع عدم إحراز الاتصال لا يجري الاستصحاب لا أنه يجري و يسقط بالتعارض.

و بهذا التقريب: ظهر الفرق في المانع عن جريان الاستصحاب بين المقام و الحادثين، ضرورة: كون المانع في الحادثين عدم إحراز اتصال زمان الشك في كل منهما بزمان اليقين؛ لأن المتيقن كان مثلا عدم كل من الإسلام و الموت يوم السبت، و تردد حدوث

ص: 54

و ترددها (1) بين الحالتين. و أنه (2) ليس من تعارض الاستصحابين فافهم و تأمل في المقام فإنه دقيق.

=============

كل منهما بين يومي الأحد و الاثنين، فزمان المتيقن معلوم و زمان الشك في البقاء غير معلوم.

و لكن في الحالتين المتعاقبتين يكون المانع عدم إحراز اتصال زمان المتيقن بزمان المشكوك؛ لأن ظرف الشك هو الساعة الثالثة مثلا، و يدور أمر المتيقن بين حدوثه في الساعة الأولى و الثانية.

و على كل حال: فمناط الإشكال في الجميع عدم إحراز اتصال زماني اليقين و الشك، و عدم إحرازه ملازم للشك في صدق الإبقاء الذي هو موضوع التعبد الاستصحابي.

(1) معطوف على «عدم»، و ضميره راجع إلى «الحالة» و مفسر لقوله: «لعدم إحراز...» الخ يعني: أن وجه عدم إحراز الاتصال المزبور هو تردد الحالة السابقة المتيقنة بين الحالتين، حيث إن الحالة المعلومة المتحققة في الساعة الثانية مرددة بين الحالتين و هما الطهارة و الحدث، أو الطهارة و النجاسة، و لأجل هذا التردد لا يحرز اتصال زمان اليقين بزمان الشك.

(2) معطوف على «أنه» في قوله: «كما انقدح أنه»، و ضمير «أنه» للشأن، و يمكن أن يكون راجعا إلى تعاقب الحالتين، يعني: و كما انقدح أن تعاقب الحالتين ليس من تعارض الاستصحابين كما نسب إلى المشهور.

و الوجه في عدم كونه من تعارض الاستصحابين: أن التعارض في رتبة المانع المتأخرة عن الشرط، و المفروض: في تعاقب الحالتين عدم إحراز شرط جريان الاستصحاب و هو اتصال زمان الشك بزمان اليقين فيهما، و بدون إحراز الشرط لا يجريان، فلا تصل النوبة إلى جريانه فيهما و سقوطه بالتعارض؛ بل تجري هنا قاعدة الاشتغال المقتضية لوجوب الغسل أو الوضوء؛ لتوقف العلم بفراغ الذمة عن التكاليف المشروطة بالطهارة على ذلك.

و تركنا ما في المقام من التطويل رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من عقد هذا التنبيه الحادي عشر: هو التعرض لجريان الأصل المعروف بأصالة تأخر الحادث في الحادثين المعلوم حدوثهما.

ص: 55

و تحرير محل الكلام: أن الشك في ارتفاع ما هو المتيقن تارة: يكون في تمام أجزاء الزمان، و أخرى: هو الشك في ارتفاع المستصحب في جزء من الزمان، مع العلم بالارتفاع بعد ذلك الزمان؛ كالشك في بقاء حياة زيد يوم الخميس مع العلم بموته يوم الجمعة.

محل الكلام هذا الاحتمال الثاني.

2 - يتعرض في هذا التنبيه لأقسام من الاستصحاب:

الأول: ما إذا شك في وجود حادث؛ فإن الأصل عدمه.

الثاني: ما إذا علم بوجود هذا الحادث؛ و لكنه يشك في أنه هل حدث في زمان متقدم أو زمان متأخر؛ كما إذا علم بأن زوجته خرجت عن النشوز و لكن يشك في أنها خرجت أول رمضان أو أول شوال؛ مما يسبب عدم اشتغال ذمته بنفقة شهر رمضان، يجري أصالة عدم الطاعة إلى أول شوال، فذمته فارغة عن نفقتها لشهر رمضان.

الثالث: ما إذا علم بوجود هذا الحادث؛ و لكن كان ترتب الأثر متوقفا على وصف خاص، كما لو أسلم أحد الورثة و شك في أن إسلامه هل كان متأخرا عن القسمة حتى لا يشارك باقي الورثة أم كان قبل ذلك حتى يشاركهم، فإن الإسلام و إن كان أمرا حادثا و الأصل عدم حدوثه إلى زمان القسمة؛ إذ التأخر وصف زائد على عدم الحدوث، فإنه و إن كان ملازما معه - إذ عدم الحدوث إلى زمان القسمة ملازم للحدوث بعدها - إلاّ إنه أصل مثبت و الأصل المثبت ليس بحجة.

الرابع: ما لو علم بحدوث الحادثين لكن لا يعلم التأخر و التقدم؛ كما لو علم بأن هذا الماء كان قليلا و يده كانت نجسة و قد حدثت الكرية و الملاقاة؛ و لكنه لا يعلم بتقدم الملاقاة حتى يحكم بنجاسة الماء أم تأخرها حتى يحكم بطهارته.

3 - أحكام هذه الأقسام:

أما القسم الأول: فلا إشكال في استصحاب عدم الحادث فيه.

و أما القسم الثاني: فكذا لا إشكال في استصحاب عدم تحققه في الزمان الأول، فيترتب عليه آثار عدم التحقق في الزمان الأول.

و أما القسم الثالث: فإنه لا يترتب على أصالة عدم الإسلام إلى حال القسمة تأخر الإسلام عن القسمة؛ لكون الاستصحاب بالنسبة إلى آثار التأخر مثبتا فليس بحجة.

و أما القسم الرابع: - و هو ما إذا شك في تقدم الحادث أو تأخره - فهو على قسمين:

ص: 56

الأول: ما إذا لوحظ تقدمه و تأخره بالإضافة إلى أجزاء الزمان؛ كما إذا لم يعلم أن موت زيد كان يوم الخميس أو يوم الجمعة.

الثاني: ما إذا لوحظ تقدمه و تأخره بالإضافة إلى حادث آخر قد علم بحدوثه أيضا؛ كما إذا علم بموت متوارثين على التعاقب، و لم يعرف المتقدم منهما عن المتأخر، فهنا مقامان من الكلام.

4 - و أما المقام الأول: فخلاصة الكلام فيه: أنه لا إشكال في استصحاب عدم تحقق الحادث في الزمان الأول مثل استصحاب عدم موت زيد يوم الخميس و ترتيب آثاره؛ كوجوب الإنفاق على زوجته، و حرمة تقسيم أمواله بين الورثة و نحو ذلك، دون الآثار المترتبة على تأخره عن يوم الخميس؛ لكون تأخر حدوثه عن يوم الخميس لازما عقليا لعدم حدوثه يوم الخميس، و الاستصحاب لا يثبت به اللازم العقلي.

5 - و أما المقام الثاني: - و هو لحاظ تقدم الحادث و تأخره بالإضافة إلى حادث آخر - ففيه موضعان من الكلام:

الموضع الأول: هو ما إذا كان كل من الحادثين مجهولي التاريخ.

و الموضوع الثاني: هو ما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ و الآخر مجهول التاريخ.

6 - و أما موضع الأول: فله أربعة أقسام:

1 - ما كان الأثر الشرعي لتقدم أحدهما أو لتأخره أو لتقارنه بنحو مفاد كان التامة، بمعنى: أن الأثر مترتب على نفس عنواني التقدم و التأخر.

2 - ما كان الأثر الشرعي للحادث المتصف بالتقدم أو التأخر أو التقارن بنحو مفاد كان الناقصة؛ بأن يكون الأثر مترتبا على الشيء المتصف بالتقدم أو التأخر.

3 - ما كان الأثر الشرعي للعدم النعتي أي: للحادث المتصف بالعدم في زمان حدوث الآخر بنحو مفاد ليس الناقصة.

4 - ما كان الأثر الشرعي للعدم المحمولي أي: لعدم أحدهما في زمان حدوث الآخر بنحو مفاد ليس التامة، بمعنى: أن الأثر مترتب على نفس عدم التقدم و التأخر فهنا صور أربع.

7 - أحكام هذه الصور:

و حكم الصورة الأولى: جريان استصحاب عدم الحادث بلا معارض.

و حكم الصورة الثانية هو: عدم جريان الاستصحاب أصلا؛ لعدم اليقين السابق فيه.

ص: 57

و حكم الصورة الثالثة هو: عدم جريان الاستصحاب أيضا لعدم اليقين السابق فيه كالصورة الثانية.

و أما الصورة الرابعة: و هي عمدة الصور فقال المصنف «قدس سره»: بعدم جريان الاستصحاب فيها؛ لكن لا للمعارضة بالمثل و التساقط كما قال الشيخ «قدس سره»؛ بل لاختلال أركان الاستصحاب من أصلها؛ و ذلك لعدم إحراز اتصال زمان شكه بزمان يقينه.

8 - أما الموضع الثاني: و هو أن يكون أحدهما معلوم التاريخ و الآخر مجهوله؛ فله ما تقدم في مجهولي التاريخ من الصور:

1 - ما كان الأثر مترتبا على تقدم أحدهما أو تأخره أو تقارنه بنحو مفاد كان التامة.

2 - ما كان الأثر مترتبا على الحادث المتصف بالتقدم أو التأخر أو التقارن بنحو مفاد كان الناقصة.

3 - ما كان الأثر مترتبا على الحادث المتصف بالعدم في زمان حدوث الآخر بنحو مفاد ليس الناقصة.

4 - ما كان الأثر مترتبا على عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر بنحو مفاد ليس التامة.

9 - أحكام هذه الصور:

أما الصورة الأولى: فقد حكم فيها بجريان استصحاب العدم، أي: عدم التقدم أو التأخر أو التقارن لو لا المعارضة باستصحاب العدم في الطرف الآخر.

و أما الصورة الثانية و الثالثة: فقد حكم فيهما بعدم جريان الاستصحاب؛ لعدم اليقين السابق بعد فرض كون الأثر مترتبا على الحادث المتصف بكذا.

و أما الصورة الرابعة: فقد حكم فيها بجريان استصحاب العدم في خصوص مجهول التاريخ من الحادثين، دون معلوم التاريخ منهما.

و أما الجريان في مجهول التاريخ: فلأن زمان الشك حينئذ و هو زمان حدوث معلوم التاريخ قد أحرز اتصاله بزمان اليقين.

و أما عدم الجريان في معلوم التاريخ: فلعدم الشك فيه في زمان أصلا، فإنه قبل حدوثه المعلوم لنا وقته تفصيلا لا شك في انتفائه، و بعده لا شك في وجوده. هذا واضح.

ص: 58

الثاني عشر (1): أنه قد عرفت (2): أن مورد الاستصحاب لا بد (3) أن يكون حكما 10 - رأي المصنف «قدس سره»:

=============

1 - جريان استصحاب عدم الحادث فيما إذا كان الشك في أصل الحدوث.

2 - استصحاب عدم التقدم إذا كان الأثر مترتبا على نفس عدم التقدم.

3 - جريان الاستصحاب في الصورة الأولى من الموضع الأول.

4 - عدم جريان الاستصحاب في الصورة الثانية و الثالثة و الرابعة من الموضع الأول.

5 - جريان استصحاب العدم في الصورة الأولى و الرابعة من الموضع الثاني.

6 - عدم جريان الاستصحاب في الصورة الثانية و الثالثة من الموضع الثاني.

تنبيه الثانى عشر في استصحاب الأمور الاعتقادية
اشارة

(1) الغرض من عقد هذا التنبيه الثاني عشر: هو تحقيق حال الاستصحاب في الأمور الاعتقادية من حيث جريان الاستصحاب فيها و عدمه، ثم التنبيه على المناظرة التي جرت بين بعض الأعلام الإمامية و بعض أهل الكتاب من جريان استصحاب نبوة بعض الأنبياء السابقين «عليهم السلام»، و بيان ما هو الحق في ذلك، و أن الأمور الاعتقادية التي منها النبوة كالأفعال الجوارحية في جريان الاستصحاب فيها أم لا؟

(2) يعني: في الأمر العاشر، حيث قال: «إنه قد ظهر مما مر: لزوم أن يكون المستصحب حكما...» الخ.

و حاصل مقصوده من هذه العبارة: أنك قد عرفت في التنبيه العاشر: أن المستصحب لا بد من أن يكون حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي. و عليه: فلا إشكال فيما إذا كان المستصحب حكما شرعيا كوجوب صلاة الجمعة، أو موضوعا صرفا خارجيا إذا كان ذا حكم شرعي كخمرية المائع الخارجي.

(3) وجه اللابدّية: أنه لمّا كان الاستصحاب من الأصول العملية الشرعية توقف جريانه لا محالة على تحقق أمرين:

أحدهما: كون المستصحب مما تناله يد تشريع الشارع من حيث إنه شارع، أو موضوعا لحكم الشارع؛ إذ لو لم يكن كذلك لم يعدّ أصلا تعبديا.

ثانيهما: ترتب الأثر العملي على هذا الحكم؛ إذ لو لم يكن موردا لابتلاء المكلف و عمله كان التعبد به لغوا، و خرج الاستصحاب عن كونه أصلا عمليا مجعولا وظيفة للشاك في مقام العمل.

ص: 59

شرعيا أو موضوعا لحكم كذلك (1)، فلا (2) إشكال فيما كان المستصحب من الأحكام الفرعية أو الموضوعات الصرفة الخارجية (3) أو اللغوية (4) إذا كانت ذات أحكام شرعية.

=============

(1) أي: شرعي، و بالجملة: فلا بد أن يكون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا له.

(2) هذه نتيجة اعتبار كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا له، فإن الأحكام الفرعية المتعلقة بالعمل مثال لكون المستصحب حكما شرعيا، من دون فرق بين كونه نفسيا و غيريا، و استقلاليا و ضمنيا، و إلزاميا و ترخيصيا.

(3) هذا مثال للموضوعات التي تترتب عليها أحكام شرعية، و المراد بالصرفة هي:

الموضوعات التي لم يتصرف فيها الشارع أصلا؛ و إن جعلها موضوعات لأحكام كالماء و الحنطة و اللحم و التمر و غيرها، في قبال الماهيات المخترعة كالصلاة و الصوم و الحج، فإنها موضوعات تصرف فيها الشارع.

(4) كما إذا فرض كون لفظ الصعيد الموضوع لجواز التيمم به حقيقة لغة في مطلق وجه الأرض، و شك في نقله إلى معنى آخر عند نزول الآية المباركة الآمرة بالتيمم بالصعيد، فإنه لا مانع من استصحاب ذلك المعنى لترتيب الحكم الشرعي؛ و هو جواز التيمم بمطلق وجه الأرض عليه.

و مثل لفظ «الصعيد» ألفاظ «الآنية و الغناء و المفازة» و غيرها إذا كان لها معان لغوية و شك في بقائها حين تشريع أحكام لها، فإن استصحابها لترتيب أحكامها عليها بلا مانع.

و إشكال المثبتية إما غير لازم؛ لترتب الأحكام الشرعية على نفس تلك المعاني بلا واسطة، و إما غير باطل لكون هذا الاستصحاب في أمثال هذه الموارد أصلا لفظيا، و مثبتات الأصول اللفظية معتبرة كما ثبت في محله. و حيث إن مقصوده من الاستصحاب في المعنى اللغوي عند الشك في النقل ليس هو نفس الأصل العملي المستند إلى مثل: «لا تنقض». فلا مجال لتوجيه جريان الأصل في باب اللغات بما أفاده بعض المحشين من «أن استصحاب الظهور يحقق موضوع الحجية التي هي من المجعولات، فيحصل للمعنى اللغوي فردان كل منهما حجة، أحدهما: ما هو ظاهر بالفعل بحسب المحاورات العرفية في معنى، و ثانيهما: ما هو ظاهر تعبدا بمعنى: الحكم ببقاء ظهوره السابق في معنى، و دليل حجية الظاهر يشمل كلا منهما»؛ و ذلك لما فيه من

ص: 60

و أما الأمور الاعتقادية (1) التي كان المهم فيها شرعا هو الانقياد (2) و التسليم، أن دليل حجية ظواهر الألفاظ هو السيرة العقلائية الممضاة على العمل بالظواهر، و من المعلوم: أن المتبع عندهم بما هم عقلاء هو الظهور الفعلي. و استصحاب الظهور السابق قاصر عن إثباته، و الفرد الادعائي للظهور الثابت بالاستصحاب ليس متبعا عندهم حتى يندرج في دليل حجية الظواهر على حد اندراج الظهور الفعلي فيه؛ و ذلك لأن دليل حجية الظواهر و هي السيرة العقلائية لبّي، فلا إطلاق له حتى يشمل كلا من الظهور الفعلي و التعبدي، فموضوع الحجية هو خصوص الظهور الفعلي.

=============

و بالجملة: فما أفاده المصنف «قدس سره» في الحاشية من «أن الأصل الجاري هنا أصل لفظي و هو أصالة عدم النقل و لا ربط له بالاستصحاب» في غاية المتانة، و لا وجه لإثبات الظهور التنزيلي كما في بعض الحواشي أصلا.

(1) توضيحه: أن الأمور الاعتقادية على قسمين:

الأول: أن يكون المطلوب فيها شرعا مجرد الالتزام بها و عقد القلب عليها من دون لزوم تحصيل اليقين بها؛ كخصوصيات عالم البرزخ و البعث و الجنة و النار، فإن الواجب منها علينا هو التسليم لها و الاعتقاد بها على ما هي عليه، فتتأدى هذه المطلوبية بأن نعتقد بما اعتقد به إمامنا الصادق «صلوات الله عليه»، و في هذا القسم يجري كل من الاستصحاب الموضوعي و الحكمي.

أما الأول: فكما إذا شك في بقاء سؤال النكيرين أو وحشة القبر أو ضغطته في بعض بقاع الأرض؛ لكرامة من دفن فيها من نبيّ أو إمام «صلوات الله عليهما»، فإنه يجري الاستصحاب في جميع ذلك، و يترتب عليه وجوب الاعتقاد بذلك كله، فإن هذا الوجوب حكم شرعي يترتب على استصحاب موضوعه؛ إذ لا فرق في الحكم الشرعي بين تعلقه بعمل جارحي و عمل جانحي بعد شمول دليل الاستصحاب لكليهما كما سيأتي.

و أما الثاني: فكما إذا فرض الشك في وجوب اعتقادنا بنبوة الأنبياء السابقين «عليهم السلام»؛ لاحتمال وجوبه على خصوص المسلمين في صدر الإسلام، أو شك في وجوب الاعتقاد بالسؤال و الضغطة و الوحشة مع اليقين بها، فإن استصحاب وجوب الاعتقاد جار في جميعها بلا مانع.

(2) هذا إشارة إلى القسم الأول الذي يكون المطلوب فيه هو الالتزام و الانقياد دون اليقين و المعرفة، و قد مر تفصيله بقولنا: «الأول: أن يكون المطلوب فيها شرعا».

ص: 61

و الاعتقاد بمعنى: عقد القلب عليها (1) من الأعمال القلبية الاختيارية (2)، فكذا (3) لا إشكال في الاستصحاب فيها حكما، و كذا موضوعا (4)...

=============

(1) أشار بهذا التفسير إلى مغايرة الاعتقاد لليقين، فإن الثاني مقابل الجهل، و الأول مقابل الجحود و الإنكار و لو مع اليقين كما يشهد به قوله تعالى: جَحَدُوا بِهٰا وَ اِسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا (1)، و كذا الوجدان، فإن بعض الناس مع علمه بأفضلية غيره منه لا يلتزم بذلك، و لا يعقد قلبه عليه لجهات خارجية.

و من هنا يقال: إن بعض خلفاء الجور مع تيقنه بإمامة من عاصره من الأئمة الطاهرين «صلوات الله عليهم أجمعين» لم يلتزم بما تيقنه، و لم يؤد وظيفته بالنسبة إليه «عليه السلام»؛ بل ظلمه و جفاه.

و بالجملة: فلا ينبغي الارتياب في مغايرة الاعتقاد لليقين كما هو المحكي عن أكثر المتكلمين أيضا، و أن النسبة بينهما عموم من وجه؛ لاجتماعهما في الأصول الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها كلا من اليقين و عقد القلب، و افتراقهما من ناحية الاعتقاد بخصوصيات البرزخ و الحساب و الميزان و الحوض و كيفيات تعذيب العصاة، و من ناحية اليقين بحصول العلم بنبوة الرسول الأعظم «صلى الله عليه و آله و سلم» لأكثر أهل النفاق مع عدم اعتقادهم و التزامهم بذلك.

(2) غرضه: أن الانقياد و التسليم و عقد القلب تعدّ أعمالا و إن كانت صادرة من الجوانح، و هي اختيارية، فيصح تعلق التكليف بها، و كذا استصحابه لو شك في بقائه.

و قد عرفت أن الاعتقاد ليس هو اليقين، و إلاّ لاندرج في القسم الثاني الآتي.

و بالجملة: فجريان الاستصحاب في وجوب الاعتقاد منوط بأمور ثلاثة:

أحدها: كون الاعتقاد عملا اختياريا و إن كان قلبيا.

ثانيها: مغايرته لليقين؛ إذ مع الاتحاد يندرج في الأمور الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها المعرفة.

ثالثها: عدم التلازم بين الاعتقاد و اليقين؛ إذ معه كما عن بعض المحققين: لا يعقل الشك في بقاء اللازم مع انتفاء الملزوم و هو اليقين.

(3) جواب «و أما الأمور الاعتقادية» يعني: فلا إشكال في جريان الاستصحاب هنا، كعدم الإشكال في جريانه في الموضوعات الصرفة و اللغوية.

(4) و قد عرفت أمثلة كل من الاستصحاب الموضوعي و الحكمي عند شرح قوله:

ص: 62


1- النمل: 14.

فيما (1) كان هناك يقين سابق و شك لاحق؛ لصحة (2) التنزيل و عموم الدليل (3).

و كونه (4) أصلا عمليا إنما (5) هو بمعنى: أنه وظيفة الشاك تعبدا قبالا للأمارات «و أما الأمور الاعتقادية» و ضمير «فيها» راجع إلى «الأمور الاعتقادية».

=============

(1) متعلق بقوله: لا إشكال، و قيد لكل من الحكم و الموضوع، و هو إشارة إلى التفصيل في متعلق الاعتقاد بين المبدأ تعالى الذي لا يعتريه شك في البقاء، و بين غيره مما يمكن فيه الشك في البقاء.

(2) تعليل لقوله: «فكذا لا إشكال»، و محصله: أن المقتضي لجريان الاستصحاب في هذا القسم من الأمور الاعتقادية من كلتا مرحلتي الثبوت و الإثبات موجود.

أما مرحلة الثبوت فلبداهة: صحة التنزيل فيها، و جعل المشكوك فيه موضوعا أو حكما منزلة المتيقن، فإذا شك في بقاء أصل السؤال أو وجوب الاعتقاد به مثلا، مع اليقين ببقاء أصله صح تنزيل المشكوك منهما منزلة المتيقن؛ إذ لا مانع من صحة هذا التنزيل أصلا.

و أما مرحلة الإثبات: فلا قصور فيها أيضا بعد شمول عموم مثل: «لا تنقض اليقين بالشك» لهذا القسم من الأمور الاعتقادية كشموله للأحكام الفرعية.

فالنتيجة: أن الاستصحاب الموضوعي و الحكمي يجري في هذا النوع من الأمور الاعتقادية.

(3) معطوف على «صحة»، و هذا إشارة إلى مقام الإثبات أي: دليل الاستصحاب، كما أن قوله: «لصحة التنزيل» إشارة إلى مقام الثبوت، و قد مر توضيح كليهما.

(4) أي: «و كون الاستصحاب...» الخ و هذا إشارة إلى ما قد يتوهم في المقام و هو: أن الاستصحاب من الأصول العملية التي لا تجري في الأمور الاعتقادية لمغايرتها للعملية.

(5) هذا دفع التوهم المزبور، و محصله: أنه لا منافاة بين كون الاستصحاب أصلا عمليا، و بين جريانه في الأمور الاعتقادية؛ إذ المراد بالأصل ما يقابل الأمارة، و هو ما جعل وظيفة للشاك في مقام العمل، بخلاف الأمارة فإنها تحكي عن الواقع و ترفع - و لو تعبدا - الشك الذي هو موضوع الأصل. و المراد بالعمل كما مرت الإشارة إليه: ما يعم العمل الخارجي و الجانحي، لا ما يقابل الاعتقاد كما هو مبنى التوهم حتى يختص الاستصحاب بالأحكام الفرعية المتعلقة بالأعمال الجوارحية.

هذا تمام الكلام في القسم الأول من الأمور الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها عقد القلب عليها، من دون لزوم المعرفة بها، و كانت نتيجة البحث فيه جواز جريان كل من الاستصحاب الموضوعي و الحكمي فيه.

ص: 63

الحاكية عن الواقعيات، فيعم (1) العمل بالجوانح (2).

و أما (3) التي كان المهم فيها شرعا و عقلا هو القطع بها و معرفتها، فلا (4) مجال له

=============

(1) هذه نتيجة قوله: «وظيفة الشاك تعبدا»، و قد عرفت محصله.

(2) كما في المقام، و قوله: «كالجوارح» يعني: الأفعال الجوارحية المتعلقة بها الأحكام الفرعية.

(3) معطوف على قوله: «و أما الأمور الاعتقادية» يعني: «و أما الأمور الاعتقادية التي يكون المهم فيها...» الخ. و هذا إشارة إلى القسم الثاني من الأمور الاعتقادية.

و توضيحه: أنه إذا كان موضوع وجوب الاعتقاد و التسليم بالأمور الاعتقادية بشرط اليقين بها لا مطلقا؛ كوجود الصانع و توحيده و النبوة و المعاد - حيث إن موضوع وجوب الالتزام و الاعتقاد بها هو معرفتها و اليقين بها لا نفس وجودها واقعا و إن لم يتعلق بها معرفة، كما كان الأمر كذلك في القسم الأول - فلا يجري الاستصحاب الموضوعي في تلك الأمور؛ إذ ليست هي بوجودها الواقعي موضوع وجوب الاعتقاد و التسليم حتى تثبت بالاستصحاب؛ بل موضوعها المعرفة بها، و هي لا تثبت بالاستصحاب، فلا يجدي جريانه في الموضوع، فلو كان متيقنا بحياة إمام زمانه لا يجري فيها الاستصحاب؛ إذ لا يثبت به المعرفة التي هي موضوع وجوب الاعتقاد إلا بناء على أمرين: أحدهما كفاية المعرفة الظنية في الأمور الاعتقادية التي يكون المهم فيها المعرفة، و الآخر حجية الاستصحاب من باب الظن.

و أما الاستصحاب الحكمي: فلا مانع من جريانه، فلو شك في وجوب تحصيل القطع بتفاصيل القيامة، بعد أن كان في زمان قاطعا بوجوبه جرى فيه الاستصحاب و يترتب عليه وجوب تحصيل اليقين بها.

قوله: «شرعا» كمعرفة الله «سبحانه و تعالى» عند الأشاعرة، المنكرين للتحسين و التقبيح العقليين، فإن وجوبها شرعي عندهم؛ لكنه عقلي عند العدلية، و يمكن أن يكون قوله: «شرعا» إشارة إلى وجوب تحصيل المعرفة ببعض الاعتقاديات كالمعاد الجسماني؛ إذ بناء على وجوب تحصيل المعرفة به عندنا يكون وجوبه شرعيا لا عقليا.

و عليه: فليس قوله: «شرعا» إشارة إلى وجوب معرفة الباري عند الأشعري؛ بل غرض المصنف الإشارة إلى أن وجوب معرفة بعض الأمور الاعتقادية عقلي و بعضها شرعي.

(4) جواب «و أما التي»، يعني: فلا مجال للاستصحاب الموضوعي في تلك الأمور الاعتقادية التي يكون المهم فيها القطع بها. و ضميرا «بها، معرفتها» راجعان إلى «الأمور».

ص: 64

موضوعا و يجري (1) حكما، فلو كان (2) متيقنا بوجوب تحصيل القطع بشيء كتفاصيل القيامة (3) في زمان، و شك في بقاء وجوبه يستصحب (4).

و أما (5) لو شك في حياة إمام زمان مثلا فلا يستصحب (6)؛ لأجل ترتيب لزوم معرفة إمام زمانه؛ بل يجب تحصيل اليقين بموته أو حياته مع إمكانه (7)، و لا يكاد يجدي (8) في مثل وجوب المعرفة عقلا أو شرعا؛ إلاّ إذا كان حجة من باب...

=============

(1) يعني: و يجري الاستصحاب الحكمي؛ لصحة التنزيل ثبوتا و عموم دليل الاستصحاب إثباتا.

(2) هذا متفرع على ما أفاده من جريان الاستصحاب الحكمي في القسم الثاني من الأمور الاعتقادية، و عدم جريان الاستصحاب الموضوعي فيه.

(3) هذا مثال للاستصحاب الحكمي.

(4) يعني: و يستصحب نفس وجوب تحصيل القطع بذلك الشيء؛ كبعض خصوصيات البعث و الميزان على تقدير عروض الشك، بعد القطع بوجوب تحصيل العلم بذلك. و الوجه في جريان الاستصحاب الحكمي هو: اجتماع أركانه فيه.

(5) مثال للاستصحاب الموضوعي الذي منعه بقوله: «فلا مجال له موضوعا» و محصله: أنه لو شك في حياة إمام زمان و نحوه مما يجب فيه تحصيل المعرفة، فلا يجري فيها الاستصحاب؛ لأن المطلوب لزوم المعرفة لا وجوب الاعتقاد بوجود الإمام واقعا حتى يترتب وجوب الاعتقاد بحياته الثابتة بالاستصحاب؛ بل الموضوع لوجوب الاعتقاد هو الحياة المعلومة، و من المعلوم: أن استصحاب الحياة لا يوجب المعرفة بها؛ بل لا يترتب على استصحابها إلا الحياة الواقعية التي هي بعض موضوع الاعتقاد، و بعضها الآخر هي المعرفة التي لا يثبتها الاستصحاب؛ لبقاء الشك على حاله بعد جريانه أيضا.

و بالجملة: فالاستصحاب الموضوعي لا يجري في الأمور الاعتقادية التي يتوقف وجوب الاعتقاد بها على معرفتها.

(6) يعني: فلا يستصحب حياة إمام الزمان؛ إذ لا يثبت الاستصحاب معرفة الإمام حتى يترتب عليها حكمها و هو وجوب المعرفة؛ بل لا بد من تحصيل اليقين بموته أو حياته.

(7) يعني: مع إمكان تحصيل اليقين بموت الإمام أو حياته.

(8) يعني: و لا يكاد يجدي الاستصحاب؛ لما عرفت: من عدم إثباته للمعرفة التي هي جزء الموضوع و دخيل فيه عقلا أو شرعا حسب اختلاف الموارد و الأقوال كما مرت الإشارة إليه آنفا.

ص: 65

إفادته (1) الظن، و كان (2) المورد مما يكتفي به أيضا (3) فالاعتقاديات (4) كسائر الموضوعات لا بد في جريانه فيها (5) من (6) أن يكون في المورد أثر...

=============

إلاّ إذا كان الاستصحاب حجة من باب الظن، و كان الأمر الاعتقادي مما يكتفى فيه بالمعرفة الظنية أيضا، فحينئذ: يجدي الاستصحاب المزبور؛ لأنه يثبت المعرفة الظنية التي هي كالمعرفة العلمية على الفرض، فإذا كان وجوب الاعتقاد بنسب الإمام «عليه السلام» مترتبا على مطلق الاعتقاد الراجح الشامل للعلم و الظن، فاستصحاب حياته و إن لم يكن موجبا لليقين بحياته؛ لكن يترتب عليه وجوب الاعتقاد بنسبه الذي موضوعه مطلق الاعتقاد الراجح به و لو كان هو الظن الذي يثبت بالاستصحاب.

(1) أي: إفادة الاستصحاب للظن، و المستتر في «كان» راجع إلى الاستصحاب.

(2) معطوف على «كان».

و غرضه: أن جريان الاستصحاب في الأمر الاعتقادي منوط بشرطين:

أحدهما: حجية الاستصحاب من باب الظن.

ثانيهما: كفاية المعرفة الظنية في ذلك الأمر الاعتيادي.

و ضمير «به» راجع إلى «الظن».

(3) يعني: كما يكتفى فيه بالقطع، و ذلك في كل أمر اعتقادي يكون الواجب فيه مطلق الاعتقاد الراجح الصادق على كل من العلم و الظن المقابل للشك و الوهم.

(4) هذا حاصل ما أفاده في تقسيم الأمور الاعتقادية، و حكم الاستصحاب من حيث جريانه فيها و عدمه.

و غرضه: أن نسبة الأمور الاعتقادية إلى الاستصحاب كنسبة الموضوعات إليه من دون تفاوت بينهما، فكما أن جريانه في الموضوعات منوط بترتب الأثر الشرعي عليها، فكذلك جريانه في الأمور الاعتقادية، فكل مورد يترتب عليه أثر شرعي مع إمكان موافقته في حال الشك يجري فيه الاستصحاب، سواء كان ذلك متعلقا بعمل الجوارح أم بعمل الجوانح.

و بالجملة: فمجرد كون شيء أمرا اعتقاديا ليس مانعا عن جريان الاستصحاب فيه؛ بل حال الأمور الاعتقادية حال الموضوعات في توقف جريانه في كليهما على اجتماع شرائطه.

(5) أي: في الاعتقادات، و ضمير «جريانه» راجع على الاستصحاب.

(6) هذا إشارة إلى شروط ثلاثة في جريان الاستصحاب في جميع الموارد:

ص: 66

شرعي (1)، يتمكن من موافقته مع بقاء الشك فيه (2)، كان (3) ذاك متعلقا بعمل الجوارح أو الجوانح.

=============

أحدها: أن يكون في المورد أثر شرعي، ثانيها: التمكن من موافقته، حيث إنه أصل عملي، ثالثها: بقاء الشك، حيث إنه موضوع للأصل المقابل للأمارة، و مع اجتماع هذه الشروط يجري في الاعتقاد و غيره على حد سواء.

(1) هذا إشارة إلى الشرط الأول، و قوله: «يتمكن» إشارة إلى الشرط الثاني. و قوله:

«مع بقاء الشك فيه» إشارة إلى الشرط الثالث.

(2) كما هو كذلك في القسم الأول من الأمور الاعتقادية، و في الشك في بقاء وجوب المعرفة في القسم الثاني منها.

(3) أي: سواء كان الأثر الشرعي متعلقا بأفعال الجوارح كالصلاة و الحج و غيرهما، أم بأفعال الجوانح كالأمور الاعتقادية من الالتزام و عقد القلب و المعرفة.

فصار المتحصل مما أفاده: أنه في الأمور الاعتقادية التي كون المهم فيها شرعا هو الانقياد و التسليم و عقد القلب عليها يجري فيها الاستصحاب موضوعا و حكما، و في الأمور الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها هو القطع بها يجري فيها الاستصحاب حكما لا موضوعا.

و لا يخفى: أن ما أفاده المصنف من أول التنبيه إلى هنا من تقسيم الأمور الاعتقادية إلى قسمين، و جريان الاستصحاب موضوعا و حكما في القسم الأول، و جريانه حكما في القسم الثاني لا يخلو من تعريض بما أفاده الشيخ «قدس سره»، فلا بد أولا من ذكر كلام الشيخ ثم مورد نظر المصنف فيه ثانيا.

قال الشيخ «قدس سره»، في صدر التنبيه السابع: «و أما الشرعية الاعتقادية فلا يعتبر الاستصحاب فيها؛ لأنه إن كان من باب الأخبار فليس مؤداها إلاّ حكم عملي كان معمولا به على تقدير اليقين به، و المفروض: أن وجود الاعتقاد بشيء على تقدير اليقين به لا يمكن الحكم به عند الشك؛ لزوال الاعتقاد فلا يعقل التكليف، و إن كان من باب الظن فهو مبني على اعتبار الظن في أصول الدين»(1).

و أما نظر المصنف فبيانه: أن مقصود الشيخ بقوله: «و أما الشرعية الاعتقادية فلا يعتبر الاستصحاب فيها»: إما أن يكون الأحكام الشرعية الاعتقادية في قبال الأحكام الشرعية العملية الفرعية كالصلاة، و إما أن يكون نفس المعتقدات أي: الأمور التي لا بد من

ص: 67


1- فرائد الأصول 259:3.

و قد انقدح بذلك (1) أنه لا مجال...

=============

الاعتقاد بها. و على كل منهما يرد عليه بالمنع من تعليل عدم جريان الاستصحاب بناء على أخذه من الأخبار بعدم إمكان الحكم بوجوب الاعتقاد عند الشك؛ لزوال الاعتقاد.

وجه المنع: أن الشك في وجوب الاعتقاد لا يزيل نفس الاعتقاد، و الشك في الأمر الاعتقادي و إن كان مزيلا للاعتقاد بمعنى الإيقان؛ لكنه لا ينافي عقد القلب عليه و الالتزام بواقعه فيما لم يعتبر فيه المعرفة. و لأجله لا بد من التفصيل في الأمور الاعتقادية بين ما يكفي فيه عقد القلب عليها و لو لم يعلم بها كتفاصيل عالم البرزخ، و بين ما يكون المطلوب فيها المعرفة و اليقين بها، فإنه لا مانع من جريان الاستصحاب في القسم الأول حكما و موضوعا كما تقدم بيانه.

هذا مضافا إلى: أن الاعتقاد إن كان بمعنى المعرفة اليقينية فلا وجه للتفصيل في الاستصحاب بين حجيته بالأخبار و حجيته بالظن؛ إذ المفروض: عدم الجدوى في الاستصحاب؛ لعدم إفادته المعرفة المطلوبة في الاعتقاد و إن كان حجة من باب الظن.

و أما دعوى الشيخ «قدس سره»: بأن الاستصحاب حكم عملي فيردها ما في المتن من أنه في قبال الأمارة الكاشفة عن الواقع؛ لا بمعنى اختصاصه بأعمال الجوارح حتى لا يجري في الأحكام المتعلقة بأعمال الجوانح.

(1) أي: ظهر بما ذكر - من أن الاعتقادات كالموضوعات في توقف جريان الاستصحاب فيها على كون المورد ذا أثر شرعي - أنه لا مجال للاستصحاب في نفس النبوة... الخ.

توضيحه: أنه يحتمل في النبوة المستصحبة وجوه ثلاثة:

أولها: أن يراد بها صفة نفسانية تكوينية موجبة للاستيلاء على التصرف في الأنفس و الآفاق، و الفوز بمنصب الرئاسة العامة الإلهية، و هذه المرتبة العالية من كمال النفس تستلزم تلقي المعارف الإلهية من المبدأ الأعلى بلا توسط بشر. و النبي على هذا «فعيل» بمعنى مفعول، باعتبار تلقيه للوحي، فينبئه تعالى بما شاء.

ثانيها: أن يراد بها منصب مجعول إلهي كولاية الفقيه على القصّر، و ولاية الأب و الجد على الصغير، و كالقضاوة و الملكية و غير ذلك من الأحكام الوضعية، فالنبوة على هذا ليست بمعنى كون نفسه المقدسة مجلى المعارف - و إن كانت هذه الصفة مما لا بد منها في اعتبار النبوة - بل بمعنى جعله مخبرا و مبلغا عنه تعالى و سفيرا إلى خلقه، فبعثته تثبت له منصب المخبرية و السفارة، و للنبوة حينئذ معنى فاعلي لا مفعولي؛ لأنها بالمعنى

ص: 68

الأول أمر واقعي؛ لأن النبي ممن أنبأه الله تعالى بمعارفه، لا أمر اعتباري.

ثالثها: أن يراد بالنبوة المستصحبة أحكام شرعية يشك في منسوخيتها بشريعة أخرى.

فهذه احتمالات ثلاثة لا بد من ملاحظة كل منها.

فإن أريد بها المعنى الأول، فلا يجري فيها الاستصحاب؛ إما لاختلال ركن الشك في البقاء، و إما لاختلال شرط جريانه أعني: كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي. أما اختلال الشك: فلأجل أن الشك في بقاء النبوة بمعنى المرتبة القدسية لا بد أن يكون إما لانحطاط نفسه المقدسة أو للموت أو لمجيء نبيّ آخر، و الكل غير معقول.

و أما الأول - و هو الذي اقتصر عليه في المتن -: فلأن الانحطاط إنما يتصور في الملكات الحاصلة للنفس بالتخلق من تحليها بالفضائل بسبب المجاهدة؛ كملكة العدالة و الجود و الإيثار، فيحصل الضعف فيها؛ بل ربما تزول بسبب تسويلات النفس الأمّارة بالسوء، و حيث إن لملكة النبوة درجة التحقق و وصولها من مرتبة القوة و الاستعداد إلى مرتبة الفعلية المستلزمة لمقام الوحي، فانحطاطها معناه العود و الانقلاب إلى القوة المستحيلة عادة.

و أما الثاني: فلأن الموت لا يوجب زوال سائر الملكات الراسخة فضلا عن هذه الملكة الشامخة، كيف ؟ و الدنيا مزرعة الآخرة و المعرفة بذر المشاهدة، كيف يعقل زوالها بالموت ؟.

و كيف تنقلب النفوس العالية بالموت إلى نفوس سافلة، مع أن الموت لو لم يوجب قوة المشاهدة لم يوجب ضعفها.

و أما الثالث: و هو زوالها بمجيء نبي لا حق و لو كان أكمل فلوضوح أن زيادة كمال شخص لا توجب زوال كمال شخص آخر أو نقصه.

و عليه: فلا يعقل الشك في بقاء النبوة بهذا المعنى حتى يستصحب. هذا كله في اختلال الشك في البقاء.

و أما اختلال شرط الاستصحاب، فلوضوح: أن النبوة بهذا المعنى أمر تكويني لازم لمرتبة كمال النفس، فلو فرض محالا إمكان انحطاط النفس عن تلك المرتبة لا يجري فيها الاستصحاب؛ لعدم كونها مجعولا شرعيا كما هو ظاهر، و لا موضوعا لحكم شرعي مهم، إلاّ في نذر شيء له تعالى على تقدير بقاء هذه الصفة الكمالية لذلك النبي و عدم انحطاطها.

ص: 69

له (1) في نفس النبوة إذا كانت ناشئة من كمال النفس (2) بمثابة يوحى إليها، و كانت (3) لازمة لبعض مراتب كمالها؛ إما (4) لعدم الشك فيها بعد اتصاف النفس بها، أو لعدم (5) كونها مجعولة؛ بل من الصفات الخارجية التكوينية، و لو (6) فرض فإن قلت: وجوب العمل بأحكام شريعته من آثار بقاء نبوته، فكيف لا يكون لبقائها أثر شرعي ؟

=============

قلت: وجوب العمل بالأحكام ليس من آثار النبوة بهذا المعنى حتى يترتب على استصحابها؛ إذ لو علم ببقائها بهذا المعنى لا يجب أيضا العمل بأحكام شريعته مع العلم بحدوث شريعة أخرى ناسخة بسبب بعث نبي آخر، فوجوب العمل بالأحكام أثر بقاء النبوة بالمعنى الثاني أي: المنصب الإلهي الذي هو من سنخ الأمور الاعتبارية، و هذا كما سيأتي يجري فيه الاستصحاب و يترتب عليه آثاره الشرعية.

هذا كله في حكم النبوة بمعنى: الملكة القدسية الباقية ببقاء نفسه المطمئنة في العوالم و النشآت.

و إن أريد بها المعنى الثاني: فسيأتي حكم الاستصحاب فيه فانتظر.

(1) أي: للاستصحاب و ضمير «أنه» للشأن.

(2) هذا إشارة إلى النبوة بالمعنى الأول، و هو ما ينشأ من كمال النفس.

(3) معطوف على «كانت»، يعني: و كانت النبوة لازمة لبعض مراتب كمال النفس.

(4) بيان لوجه قوله: «لا مجال له»، و قد ذكر لعدم المجال لجريان الاستصحاب في النبوة بالمعنى الأول وجهين على سبيل منع الخلو - متقدمين آنفا بقولنا: «فإن أريد بها المعنى الأول فلا يجري فيها الاستصحاب...» الخ - الأول: عدم الشك في بقائها، الثاني: كونها من الصفات التكوينية، فلا يجري فيها الاستصحاب و لو مع الشك في بقائها؛ لاحتمال انحطاط النفس عن تلك المرتبة العالية؛ و ذلك لعدم كونها من المجعولات الشرعية و لا مما يترتب عليه حكم شرعي، و من المعلوم: توقف جريان الاستصحاب على تحقق أحدهما. و ضميرا «فيها، بها» راجعان إلى «النبوة».

(5) معطوف على «لعدم الشك»، و هذا إشارة إلى ثاني وجهي عدم جريان الاستصحاب الذي تقدم بقولنا: «الثاني: كونها من الصفات التكوينية».

(6) وصلية، غرضه: أن الاستصحاب لا يجري في النبوة بالمعنى الأول، و لو فرض الشك في بقائها الذي هو ثاني ركني الاستصحاب، لما عرفت: من عدم كون النبوة بهذا المعنى حكما شرعيا و لا موضوعا لحكم شرعي. و ضمير «بقائها» راجع إلى «النبوة».

ص: 70

الشك في بقائها باحتمال (1) انحطاط النفس عن تلك المرتبة و عدم (2) بقائها بتلك المثابة؛ كما هو (3) الشأن في سائر الصفات و الملكات الحسنة الحاصلة بالرياضات و المجاهدات، و عدم (4) أثر شرعي مهم (5) لها يترتب عليها باستصحابها (6).

نعم (7)؛ لو كانت النبوة من المناصب المجعولة و كانت...

=============

(1) الباء للسببية، يعني: و لو فرض الشك في بقائها بسبب احتمال انحطاط النفس... الخ.

و غرضه: بيان منشأ الشك في بقاء النبوة و هو احتمال انحطاط النفس.

(2) معطوف على «انحطاط»، و يمكن عطفه على «بقائها»، يعني: و لو فرض في بقائها و ارتفاعها بسبب احتمال انحطاط النفس. و الإيجاز يقتضي أن تكون العبارة هكذا: «و لو فرض الشك في بقائها و ارتفاعها باحتمال انحطاط النفس عن تلك المرتبة كما هو الشأن...».

(3) أي: احتمال انحطاط النفس شأن سائر الصفات و الملكات الحاصلة بالرياضات؛ إذ مع حصول ضعف في تلك الرياضات المحصلة للملكات تنحط تلك الملكات عن المراتب العالية الحاصلة بالرياضات الشاقة.

(4) معطوف على «عدم كونها مجعولة»، يعني: أن المنع عن جريان الاستصحاب بالمعنى الأول إنما هو لعدم كون المستصحب بنفسه أثرا شرعيا و لا موضوعا له، و المفروض: إناطة جريانه بأحدهما. و عليه: فالواو في «و عدم» بمعنى «مع»، فمنع جريان الاستصحاب منوط بأمرين: أحدهما: عدم مجعولية المستصحب، و الآخر: عدم ترتب أثر شرعي عليه.

(5) احتراز عن غير المهم، و هو الحاصل نادرا بعنوان ثانوي كالنذر و أخويه.

(6) هذا الضمير و ضميرا «لها، عليها» راجعة إلى «النبوة».

(7) استدراك على قوله: «و قد انقدح بذلك»، و إشارة إلى المعنى الثاني للنبوة، و حاصله: أنه يمكن إجراء الاستصحاب في نفس النبوة بناء على كونها من المناصب المجعولة كالولاية و القضاوة و نحوهما من الأحكام الوضعية المجعولة؛ إذ المفروض: كون النبوة بنفسها حينئذ مجعولا شرعيا، لا صفة تكوينية غير قابلة للاستصحاب كما هو مقتضى معناها الأول الذي يعد من المعدات للنبوة التي هي من المناصب المجعولة؛ لكن يشكل إجراء الاستصحاب في النبوة المجعولة الإلهية من ناحية أخرى.

ص: 71

كالولاية (1) و إن كان (2) لا بد في إعطائها من أهلية و خصوصية يستحق بها لكانت (3) موردا للاستصحاب بنفسها، فيترتب (4) عليها آثارها و لو كانت (5) عقلية بعد (6) استصحابها؛ لكنه (7) يحتاج إلى دليل (8) كان هناك غير منوط بها؛...

=============

و محصل هذا الإشكال المانع عن جريان الاستصحاب في النبوة بمعنى المنصب الإلهي هو: لزوم الدور.

توضيحه: أن جريانه فيها منوط بحجيته من غير ناحية بقاء النبوة؛ إذ لو كانت منوطة ببقائها لزم الدور؛ لتوقف بقائها على الاستصحاب كما هو المقصود، فلو توقف اعتباره على بقاء النبوة كان دورا موجبا لامتناع التمسك به لإثبات بقاء النبوة.

(1) أي: في كونها من المناصب المجعولة.

(2) كلمة «و إن» وصلية، و هذه الجملة معترضة، يعني: أن هذا المنصب الرفيع و إن كان إلهيا؛ و لكنه يحتاج إلى محل قابل، فالنبوة التكوينية توجد القابلية و الأهلية لإفاضة المنصب الإلهي الشامخ، و ضمير «إعطائها» راجع إلى «النبوة». و المراد بالخصوصية:

كمال النفس بمرتبة يجعلها أهلا لإفاضة النبوة الإلهية. و ضمير بها راجع إلى «الإلهية».

(3) جواب «لو كانت»، يعني: لو كانت النبوة من المناصب المجعولة لكانت بنفسها موردا للاستصحاب؛ لاجتماع أركانه؛ إذ المفروض: كون النبوة حينئذ من المجعولات الشرعية، و ضمائر «بنفسها، عليها، آثارها» راجعة إلى «النبوة».

(4) هذا متفرع على جريان الاستصحاب في النبوة التي تكون من المناصب المجعولة، فإن لازم صحة جريانه فيها هو ترتب آثار النبوة على استصحابها.

(5) يعني: و لو كانت آثار النبوة عقلية كوجوب الإطاعة الذي هو حكم عقلي مترتب على الحكم مطلقا، سواء كان واقعيا أم ظاهريا كما تقدم ذلك في التنبيه التاسع، فيترتب هذا الحكم العقلي على النبوة الثابتة بالاستصحاب كترتبه على النبوة الثابتة بالقطع.

(6) هذا الظرف متعلق ب «فيترتب»، و ضمير «استصحابها» راجع إلى النبوة.

(7) استدراك على قوله: «لكانت موردا»، و بيان للإشكال الذي تقدم توضيحه في قولنا: «و محصل الإشكال...» الخ.

(8) سواء كان الاستصحاب أصلا عمليا أم دليلا اجتهاديا؛ لافتقاره - على التقديرين - إلى دليل شرعي على اعتباره، فإن كان ذلك الدليل من الشرع السابق لزم الدور، و إن كان من الشريعة اللاحقة فلا يجدي في بقاء الشريعة السابقة؛ لأن اعتبار الاستصحاب

ص: 72

و إلاّ (1) لدار كما لا يخفى.

و أما استصحابها (2) بمعنى: استصحاب بعض أحكام شريعة من اتصف بها، فلا إشكال فيه (3) كما مر (4).

ثم لا يخفى (5) أن الاستصحاب لا يكاد يلزم به الخصم؛ إلاّ إذا اعترف بأنه على من الشريعة اللاحقة مستلزم لنسخ الشريعة السابقة، و عدم شك في بقائها حتى يجري فيه الاستصحاب. و لو كان الدليل على اعتبار الاستصحاب بناء العقلاء لم يصح الاستناد إليه إلاّ بعد الإمضاء، فيقع الكلام في أن الشرع السابق أمضاه أو اللاحق، فإن كان هو السابق لزم الدور، و إن كان هو اللاحق فذاك مساوق للنسخ و عدم الشك في البقاء، و هو خلف.

=============

(1) أي: و إن لم يكن هناك دليل غير منوط بالنبوة؛ بأن كان منوطا بالنبوة «لدار»؛ إذ يكون إثبات النبوة بالاستصحاب و إثبات حجية الاستصحاب بالنبوة، و هو دور صريح، هذا تمام الكلام في استصحاب النبوة بمعانيها الثلاث.

(2) أي: استصحاب النبوة، و هذا إشارة إلى النبوة بمعناها الثالث، و قد تقدم آنفا بقولنا: «و إن أريد بها بعض أحكام شريعة...» الخ. و ضمير «بها» راجع على «النبوة».

(3) في بعض النسخ «فيها»، و ضمير «فيها» راجع إلى «استصحابها»، فالأولى تذكير الضمير كما في بعض النسخ، و لذا ذكرنا الضمير مذكرا.

و كيف كان؛ فالأنسب بمقتضى السياق أن يقال: «و أما النبوة بمعنى: بعض أحكام شريعة من اتصف بها: فلا إشكال في استصحابها».

(4) يعني: في التنبيه السادس في استصحاب عدم نسخ بعض أحكام الشرائع السابقة.

(5) هذا أحد الأمور التي عقد هذا التنبيه لبيانها، و قبل الخوض فيه لا بد من ذكر مقدمة و هي: الاستدلال بالاستصحاب يكون تارة: لإثبات الدعوى و إقناع النفس و معذوريته في بقائه على الشريعة السابقة؛ كما هو شأن البرهان الحقيقي، و أخرى: لإلزام الخصم و دعوة المسلم إلى اليهودية كما هو شأن البرهان الجدلي، و في كليهما يعتبر أمور:

الأول: اليقين بالثبوت و الشك في البقاء، ضرورة أنهما ركنا الاستصحاب.

الثاني: كون المستصحب أثرا شرعيا أو ذا أثر شرعي.

الثالث: الاعتقاد بحجية الاستصحاب و قيام الدليل عليها.

فإن هذه الأمور معتبرة في البرهان الذي يراد به إثبات الدعوى، فإن الاستصحاب مع

ص: 73

فقدان أحد هذه الأمور لا يكون حجة، فلا يصلح لإثبات الدعوى، كما أنها معتبرة في البرهان الجدلي الذي يراد به إلزام الخصم؛ إذ مع فقدان كلها أو بعضها لا يرى المورد من موارد الاستصحاب حتى يكون حجة على الخصم و يلزم به و تبطل به دعواه؛ إذ لا بد في إلزامه من اعترافه بجريان الاستصحاب في المورد، و مع إنكاره لشرط من شرائطه و اعتقاده بعدم جريانه فيه كيف يعقل إلزامه به ؟

ففي البرهان الجدلي الملزم للخصم المبطل لدعواه يعتبر اعترافه باجتماع جميع شرائط البرهان عنده، كاجتماعها عند من يقنع به نفسه و يثبت به دعواه، و لذا قال المصنف «قدس سره»: «لا يكاد يلزم به الخصم إلاّ إذا اعترف...» الخ.

و بهذه المقدمة يتضح: أنه لا مجال لتثبت الكتابي باستصحاب نبوة موسى «على نبينا و آله و عليه السلام»، لا إلزاما للخصم و هو المسلم، و لا إقناعا لنفسه.

أما الأول: فلانتفاء الشرط الأول و الثاني فيه إن أريد بالنبوة الصفة الكمالية القائمة بنفسه المقدسة التي من شئونها تلقي المعارف الإلهية و الفيوضات الربانية؛ و ذلك لليقين ببقاء النبوة بهذا المعنى، فلا شك في بقائها حتى يجري فيها الاستصحاب. كما لا أثر شرعا لهذه النبوة، فينتفي الشرط الثاني أيضا و هو كون المستصحب أثرا شرعيا أو موضوعا له.

و لانتفاء الشرط الأول أيضا - و هو الشك في البقاء دون الشرط الثاني - إن أريد بالنبوة الشريعة، حيث إن ارتفاعها معلوم؛ لعلم المسلم بنسخها بهذه الشريعة، فلا يكون شاكا في ارتفاع شريعته حتى يجري فيها الاستصحاب و يلزمه الكتابي به.

و أما الثاني: و هو تشبث الكتابي باستصحاب نبوة موسى «على نبينا و آله و عليه السلام» لإقناع نفسه، فلا مجال له؛ إذ لو أريد بالنبوة المنصب الإلهي الذي لا بد من تحصيل اليقين به بالنظر إلى المعجزات و دلائل النبوة، فلا يجري فيها الاستصحاب؛ لأنه لا يوجب المعرفة.

و لو أريد بها الشريعة: فالكتابي و إن كان متيقنا بأصلها و شاكا في بقائها؛ إلاّ إن جريانه فيها منوط بالدليل على اعتباره، فإن كان ذلك الدليل من نفس تلك الشريعة لزم الدور، لتوقفها على اعتبار الاستصحاب، و توقف اعتباره عليها. و إن كان من هذه الشريعة: لزم الخلف؛ إذ لازم اعتباره من هذه الشريعة ارتفاع الشريعة السابقة.

و لو أريد بالنبوة الكمال النفساني الحاصل بالرياضات، فلا مجال لجريان الاستصحاب

ص: 74

يقين، فشك فيما (1) صح هناك التعبد و التنزيل (2) و دل عليه الدليل (3).

كما (4) لا يصح أن يقنع به إلاّ مع اليقين و الشك و الدليل (5) على التنزيل.

و منه (6) انقدح: أنه لا موقع لتشبث الكتابي باستصحاب نبوة موسى أصلا لا إلزاما للمسلم؛ لعدم (7) الشك في بقائها قائمة بنفسه المقدسة،...

=============

فيها لليقين ببقائها. مضافا إلى عدم ترتب أثر شرعي عليه.

(1) متعلق ب «يلزم» أي: إذا كان المستصحب النبوة بالمعنى الثالث و هو أحكام شريعة موسى «عليه السلام».

(2) غرضه: أن مجرد اعتراف الخصم بكونه على يقين فشك لا يكفي في إلزامه؛ بل لا بد من كون المورد من موارد صحة التنزيل و التعبد في ظرف الشك؛ بأن لا يكون من الأمور الاعتقادية التي يجب تحصيل المعرفة بها، و إلاّ فلا يجري فيها الاستصحاب؛ لأنه لا يوجب المعرفة، فلا يصح التعبد و التنزيل في تلك الأمور الاعتقادية ثبوتا.

(3) هذا مقام الإثبات؛ إذ مجرد إمكان التعبد لا يثبت فعلية التعبد؛ بل فعليته منوطة بدلالة الدليل عليها.

(4) غرضه: أن هذين الشرطين معتبران أيضا في من يجري الاستصحاب لإقناع نفسه و إثبات دعواه؛ لما مر آنفا: من لزوم اجتماع الشرائط في البرهان مطلقا حقيقيا كان أو جدليا، و ضمير «به» راجع إلى الاستصحاب أي: يقنع الكتابي بالاستصحاب.

(5) معطوف على «اليقين»، يعني: و مع الدليل على التنزيل.

(6) أي: و من عدم جريان الاستصحاب في أحكام شريعة موسى «عليه السلام».

و غرضه من هذه العبارة، بعد تمهيد المقدمة المزبورة: بيان ذي المقدمة الذي هو أحد الأمور الداعية إلى عقد هذا التنبيه، و المراد بذلك الأمر هو: ما جرى بين بعض أهل الكتاب و بين بعض السادة الأعلام - و هو السيد السند العلامة السيد محمد باقر القزويني على ما في حاشية المحقق الآشتياني، أو السيد الأجلّ بحر العلوم، أو العلامة السيد محسن الكاظمي، أو السيد حسين القزويني «قدس الله تعالى أرواحهم الطاهرة» على ما في أوثق الوسائل، أو جميعهم؛ لإمكان تعدد الواقعة - من مناظرة، و هي: أن الكتابي في مقام إلزام المسلمين تمسك بالاستصحاب، بتقريب: أنهم متيقنون بنبوة موسى «عليه السلام»، فعليهم إثبات نسخها، فإن الاستصحاب يقتضي بقاء شرعه إلى أن يثبت نسخه. و من هنا يظهر الفرق بين هذا التنبيه و بين التنبيه السادس كما تقدم هناك فراجع.

(7) تعليل لعدم صحة تمسك الكتابي بالاستصحاب لإلزام المسلم.

ص: 75

و اليقين (1) بنسخ شريعته؛ و إلاّ (2) لم يكن بمسلّم مع (3) أنه لا يكاد يلزم به ما لم يعترف بأنه على يقين و شك (4) و لا إقناعا (5) مع الشك؛ للزوم (6) معرفة النبي بالنظر (7) إلى حالاته و معجزاته عقلا (8)،...

=============

و محصل التعليل كما مر آنفا: عدم الشك في بقاء النبوة بمعنى الصفة الكمالية النفسانية، و مع العلم ببقائها لا مورد للاستصحاب مع أنه لا أثر لها شرعا حتى تستصحب.

(1) معطوف على «عدم الشك»، يعني: و لليقين بنسخ شريعته إن أريد بالنبوة المستصحبة الشريعة؛ إذ المسلم يقطع بنسخ شريعة موسى «عليه السلام»، و إلاّ فليس بمسلم، فعلى التقديرين لا يلزم المسلم باستصحاب الكتابي، إما للقطع بالبقاء إن أريد بالنبوة الصفة الواقعية الحاصلة بالرياضات؛ لكن قطع المسلم بالبقاء لا يجدي الكتابي الذي مقصوده إثبات بقاء شرع موسى «عليه السلام»، و إما للقطع بالارتفاع إن أريد بالنبوة الشريعة كما تقدم تفصيله.

(2) أي: و إن لم يكن المسلم متيقنا بالنسخ لم يكن بمسلم.

(3) هذا متمم لقوله: «لعدم الشك...» الخ، يعني: كيف يمكن إلزام المسلم باستصحاب شريعة موسى «عليه السلام» القاطع بنسخها؟ مع أنه لا بد في إلزام الخصم بالبرهان الجدلي - و هو الاستصحاب هنا - من تحقق موضوعه و هو اليقين و الشك اللذان هما ركنا الاستصحاب حتى يمكن إلزام المسلم به.

(4) و المفروض أنه لا يمكن للمسلم - من حيث إنه مسلم - أن يكون متيقنا بشريعة موسى «عليه السلام» و شاكا في بقائها؛ بل هو متيقن بارتفاعها، فينتفي الشك في البقاء الذي هو ثاني ركني الاستصحاب، و مع انتفائه لا يبقى مجال لجريانه.

(5) معطوف على «إلزاما». و حاصله: الذي تقدم تفصيله هو: أن الاستصحاب بالنسبة إلى الكتابي و إن أمكن جريانه - لكونه شاكا - لكنه لا يجديه أيضا بحيث يعول عليه في تكليفه؛ لأن النبوة من الأمور الاعتقادية التي يجب تحصيل المعرفة بها بالنظر إلى معجزات النبي و دلائل نبوته، و لا يكتفى فيها بالشك.

(6) تعليل لقوله: «و لا إقناعا»، يعني: أن النبوة مما يجب تحصيل المعرفة بها.

(7) متعلق ب «معرفة»، و قوله: «عقلا» قيد أيضا ل «معرفة»، و الأولى أن تكون العبارة هكذا: «للزوم معرفة النبي عقلا بالنظر إلى حالاته و معجزاته».

(8) فلو فرض حجية الاستصحاب بنظر الكتابي فليس له أيضا التمسك به في إثبات

ص: 76

و عدم (1) الدليل على التعبد بشريعته لا عقلا و لا شرعا (2). و الاتكال (3) على قيامه في شريعتنا لا يكاد (4) يجديه إلاّ على نحو محال...

=============

بقاء النبوة المجعولة، حيث إن معرفة النبي ليست بأقل من الأحكام العملية الفرعية التي لا يجوز استصحابها إلاّ بعد الفحص و اليأس عن الناسخ و المخصص و المقيد، فلا وجه لاستصحاب النبوة قبل الفحص عن ورود شريعة أخرى و عدمه، و من المعلوم: أن الكتابي لو تفحص و لم يكن ممن أعمى الله قلبه لاستبصر و أذعن بالحق.

(1) معطوف على «لزوم»، و هذا إشارة إلى أن الكتابي إذا أراد التعبد بشريعة موسى «عليه السلام» فكلا ركني الاستصحاب و هما اليقين و الشك و إن كانا موجودين؛ لكن الشرط الثالث المتقدم بقولنا: «الثالث: الاعتقاد بحجية الاستصحاب و قيام الدليل عليها» مفقود؛ لعدم الدليل على اعتباره هنا لا عقلا و لا شرعا.

أما الأول: فلأن البناء على الحالة السابقة المتيقنة عند الشك في بقائها ليس من المستقلات العقلية كحسن الإطاعة و قبح المعصية. و لو سلم كونه مما استقرت عليه سيرة العقلاء: فاعتباره منوط بإمضاء الشرع، فيرجع ذلك إلى الدليل الشرعي، فإن كان الإمضاء من الشرع السابق فاستصحاب النبوة السابقة يتوقف على ثبوتها، و ثبوتها على استصحاب النبوة، و هذا دور. و إن كان الإمضاء من الشرع اللاحق: لزم الخلف، و هو ارتفاع النبوة السابقة بالنسخ.

و أما الثاني: فهو عين ما ذكر في دليل إمضاء بناء العقلاء.

(2) قد عرفت تقريب عدم الدليل عقلا و شرعا على اعتبار الاستصحاب في جواز التعبد بالشريعة السابقة مع الشك فيها.

(3) هذا إشارة إلى دفع توهم، و هو عدم تسليم قوله: «و لا شرعا» بتقريب: أن قيام الدليل على اعتبار الاستصحاب في شرعنا كاف في ثبوت الدليل الشرعي على اعتباره، و ضمير «قيامه» راجع إلى الدليل.

(4) هذا دفع التوهم: و حاصله كما مر: أن اعتبار الاستصحاب في شريعتنا لا يجدي الكتابي أصلا؛ إذ لازم اعتباره في هذه الشريعة ارتفاع الشريعة السابقة، حيث إن اعتقاده باعتبار الاستصحاب في هذه الشريعة يتوقف على تصديق هذه الشريعة، ضرورة:

أن حجية الاستصحاب من أحكامها، فالإذعان بحجيته موقوف على تصديق أصل الشريعة، و تصديقها مساوق لليقين بارتفاع الشرع السابق، فيلزم من استصحاب ذلك الشرع عدمه. و هو ما أفاده بقوله: «مجال». و ضمير «يجديه» راجع على «الكتابي».

ص: 77

و وجوب (1) العمل بالاحتياط عقلا في حال عدم المعرفة بمراعاة (2) الشريعتين ما لم (3) يلزم منه الاختلال؛ للعلم (4) بثبوت إحداهما على الإجمال؛ إلاّ (5) إذا علم بلزوم البناء على الشريعة السابقة ما لم يعلم الحال.

=============

هذا تمام الكلام فيما أفاده المصنف في منع تمسك أهل الكتاب بالاستصحاب لإثبات بقاء شريعتهم و عدم نسخها.

(1) معطوف على «لزوم المعرفة»، يعني: أن الكتابي الشاك ليس له أن يقنع بالاستصحاب الذي لا يفيد إلا حكما ظاهريا؛ بل عليه الفحص و النظر لتحصيل المعرفة مع الإمكان، و بدونه ليس له الاعتماد على الاستصحاب في أعماله؛ بل عليه أن يعمل بمقتضى العلم الإجمالي و هو العمل بكلتا الشريعتين ما لم يلزم منه اختلال النظام.

و الحاصل: أن الاستصحاب لا يجدي الكتابي لا اعتقادا و لا عملا.

(2) متعلق ب «بالاحتياط»، و قوله: «عقلا» قيد ل «وجوب»، و «في حال» متعلق ب «العمل»، و يمكن تعلقه ب «وجوب».

(3) قيد لوجوب الاحتياط، يعني: يجب الاحتياط بمراعاة الشريعتين ما لم يلزم من الاحتياط اختلال النظام، و ضمير «منه» راجع على «الاحتياط».

(4) متعلق ب «وجوب العمل» و تعليل له، يعني: يجب الاحتياط عقلا لأجل العلم الإجمالي بثبوت إحدى الشريعتين. و ضمير «إحداهما» راجع إلى «الشريعتين».

(5) استثناء من وجوب الاحتياط عقلا.

و حاصل الاستثناء: أنه إذا ثبت اعتبار الاستصحاب بالنسبة إلى حجية الحجج بنظر العقل - كثبوت اعتباره في عدم الحجية عند الشك في حدوثها - لم يجب الاحتياط بمراعاة الشريعتين؛ بل يعمل بما يقتضيه الاستصحاب من بقاء الشريعة السابقة، هذا و لكنه مجرد فرض؛ إذ لا فرق في اعتبار الاستصحاب و عدمه بين موارده.

فتحصل من جميع ما أفاده المصنف «قدس سره»: أن استصحاب النبوة لا يجري مطلقا، سواء أريد بها الصفة الكمالية التكوينية أم الموهبة الإلهية التشريعية، أم الأحكام الفرعية، و سواء أريد بالاستصحاب إلزام الخصم أم إقناع النفس؛ لأنه بناء على إرادة الصفة التكوينية من النبوة لا شك في بقائها أولا، و عدم ترتب أثر شرعي عليها على تقدير الشك فيها ثانيا، من غير فرق في ذلك بين قصد الإلزام و الإقناع بالاستصحاب؛ لإناطته في كلتا الصورتين بالشك في البقاء و الأثر الشرعي. و بناء على إرادة الصفة التشريعية الإلهية منها - و إن كانت النبوة بنفسها حينئذ أثرا شرعيا قابلا للاستصحاب -

ص: 78

لكنه مع ذلك لا يجري فيها؛ لا إلزاما للمسلم، لليقين بارتفاعها، مع وضوح: أنه يعتبر في إلزامه بالاستصحاب الجدلي من كونه متيقنا بالثبوت و شاكا في البقاء، و لا إقناعا لنفسه؛ لكون النبوة من الأمور الاعتقادية التي يجب تحصيل اليقين و المعرفة بها، و من المعلوم: أن الاستصحاب لا يوجب المعرفة؛ بل حكم على الشك.

و بناء على إرادة الشريعة من النبوة و إن كانت بنفسها حكما شرعيا موردا للاستصحاب؛ إلاّ إنه لا يجري فيها أيضا، لا إلزاما؛ ليقين المسلم بارتفاعها بنسخها بهذه الشريعة، و إلاّ فليس بمسلم، و لا إقناعا؛ للزوم الدور إن كان دليل اعتبار الاستصحاب من الشرع السابق؛ لتوقف بقائه على اعتبار الاستصحاب، و توقف اعتباره على بقاء الشرع.

و إن كان دليل اعتباره من هذا الشرع لزم الخلف و هو ارتفاع الشرع السابق.

و بالجملة: فلا مجال لاستصحاب الكتابي لإثبات نبوة موسى أو عيسى «عليهما السلام»، لا لإقناع نفسه و لا لإلزام خصمه. و اكتفينا في هذا التنبيه بما في منتهى الدراية لما فيه من الكفاية.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من عقد هذا التنبيه الثاني عشر: هو تحقيق حال الاستصحاب في الأمور الاعتقادية من حيث جريان الاستصحاب و عدمه. و لا إشكال في جريانه فيما إذا كان المستصحب من الأحكام الفرعية، أو كونه موضوعا لأثر شرعي، فإذا كان هذا ملاكه فلا فرق بين كون المورد من أفعال الجوارح أو الجوانح.

فلو كان الأكل و الشرب عملا للمكلف حسب الجوارح: فالاعتقاد و عقد القلب و التصديق عمل له بحسب الجوانح، فيجري الاستصحاب في كلا القسمين.

2 - ثم المطلوب في باب الاعتقاد تارة: يكون تعلق فعل القلب بنفس الواقع على ما هو عليه، من دون أن يكون العلم مأخوذا في موضوعه، و ذلك كالتصديق بما جاء به النبي «صلى الله عليه و آله و سلم»، و الاعتقاد بما يجري على الإنسان من الأحوال بعد الموت من سؤال القبر ثم النشر و الحشر و محاسبة الأعمال بالميزان.

و أخرى: يكون المطلوب تعلقه بالواقع المعلوم؛ بحيث يكون العلم جزءا للموضوع، فلا يكفي الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه؛ بل يجب الاعتقاد بالواقع الثابت عن علم،

ص: 79

كالاعتقاد بالله تعالى و صفاته و أنبيائه و خلفائه.

3 - جريان الاستصحاب في القسم الأول من الأمور الاعتقادية حكما و موضوعا؛ إذ يكون كل من الحكم و الموضوع موضوعا لوجوب الاعتقاد؛ لعدم اعتبار العلم؛ بل الاعتقاد به إذا أحرز الواقع بوجه من الوجوه. فلو شككنا في أن سؤال القبر من دين الله أو لا بعد ما كان كذلك، يستصحب و يتعلق به الالتزام و الاعتقاد، أو شككنا بوجوب الاعتقاد بنبوة الأنبياء السابقين «عليهم السلام»؛ لاحتمال وجوبه على خصوص المسلمين في صدر الإسلام يستصحب وجوب الاعتقاد بنبوة الأنبياء السابقين.

4 - و أما القسم الثاني من الأمور الاعتقادية: فقد فصّل المصنف بين استصحاب الموضوع و الحكم حيث قال بعدم الاستصحاب الموضوعي في تلك الأمور؛ إذ ليست هي بوجودها الواقعي و إن لم يتعلق بها العلم و المعرفة موضوع وجوب الاعتقاد، بل موضوعه هي المعرفة و هي لا تثبت بالاستصحاب.

و أما الاستصحاب الحكمي: فلا مانع من جريانه، فلو شك في وجوب تحصيل القطع بتفاصيل القيامة بعد أن كان في زمان قاطعا بوجوبه جري فيه الاستصحاب، و يترتب عليه وجوب تحصيل اليقين بها.

5 - تمسّك الكتابي باستصحاب نبوة موسى: بتقريب: أن المسلمين متيقنون بنبوة موسى «عليه السلام»، فعليهم إثبات نسخها، فإن الاستصحاب يقتضي بقاء شرعه إلى أن يثبت نسخه.

و يقال في الجواب عنه: إن استصحاب النبوة لا يجري مطلقا، سواء أريد بها الصفة الكمالية أو الموهبة الإلهية أو الأحكام الفرعية، و سواء أريد بالاستصحاب الإلزام أو الإقناع؛ لأنه بناء على إرادة الصفة الكمالية من النبوة لا شك في بقائها أوّلا، و لا يترتب عليها أثر شرعي ثانيا. من غير فرق ذلك بين قصد الإلزام و الإقناع و بناء على إرادة الصفة التشريعية منها: فليقين المسلم بارتفاعها بالنسخ أولا، و لكون النبوة من الأمور الاعتقادية التي يجب تحصيل اليقين بها، و من المعلوم: أن الاستصحاب لا يوجب اليقين و المعرفة.

و أما بناء على إرادة الشريعة من النبوة: فإنها و إن كانت بنفسها من الأحكام القابلة للجعل؛ إلاّ إن الاستصحاب لا يوجب إقناعا و لا إلزاما. و الأول للزوم الدليل إن كان دليل اعتباره من الشرع السابق، و الخلف إن كان دليل اعتباره من الشرع اللاحق، و الثاني

ص: 80

الثالث عشر: أنه لا شبهة (1) في عدم جريان الاستصحاب في مقام مع دلالة مثل ليقين المسلم بارتفاعها بالنسخ؛ و إلاّ فليس بمسلم، فلا مجال لاستصحاب الكتابي لا لإلزام خصمه، و لا لإقناع نفسه، مع أن الدليل لا بد أن يكون للإلزام أو الإقناع.

=============

6 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - جريان الاستصحاب حكما و موضوعا في القسم الأول من الأمور الاعتقادية.

2 - جريانه حكما لا موضوعا في القسم الثاني من الأمور الاعتقادية.

3 - عدم صحة تمسك الكتابي بالاستصحاب لإلزام المسلم و لا لإقناع نفسه.

في عدم جريان الاستصحاب مع الدليل الاجتهادي

(1) يعني لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب مع الدليل الاجتهادي؛ إذ لا يجري الأصل العملي مع الدليل الاجتهادي كما قرر في محله.

تنبيه الثالث عشر في دوران الأمر بين التمسك بالعام و استصحاب حكم المخصص

الغرض من عقد هذا التنبيه: هو أنه إذا خرج فرد من أفراد العام في زمان، و شك فيه بعد ذلك الزمان، فهل يجري الاستصحاب أم يتمسك فيه بالعام ؟

و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام فنقول: إن موضوع الكلام فيه ما إذا ورد عام مطلق من حيث الزمان؛ بأن دل على استمرار الحكم في جميع الأزمنة إلى الأبد، ثم خصص بعض أفراده في زمان معين؛ و شك بعد انقضاء الزمان الخاص في حكم الفرد الخاص في أنه محكوم بحكم الخاص أم لا؟ فهل يرجع على العموم أو إلى الاستصحاب حكم المخصص ؟ ذهب إلى كل جماعة.

و لا يخفى: أن انعقاد هذا البحث ليس من جهة ملاحظة التعارض بين العموم و الاستصحاب، فإن الاستصحاب أصل عملي لا مجال للرجوع إليه مع وجود الدليل من عموم أو إطلاق، و لا مانع من الرجوع إليه إن لم يكن هناك دليل.

بل انعقاد البحث إنما هو لتعيين موارد الرجوع إلى العموم و تمييزها عن موارد التمسك بالاستصحاب فيقال: هل المرجع فيه عموم العام أم استصحاب حكم الخاص ؟

فالإشكال و الخلاف إنما هو في الصغرى بعد الاتفاق في الكبرى.

إذا عرفت ما هو محل الكلام في المقام فاعلم: أن في هذه المسألة أقوالا منها:

«ما عن المحقق الثاني: من التمسك بالعموم مطلقا.

و منها: استصحاب حكم الخاص كذلك كما عن السيد بحر العلوم «قدس سره».

ص: 81

و منها: التفصيل بين المخصص اللبي و اللفظي بالتمسك بالعام في الأول، و بالاستصحاب في الثاني كما عن صاحب الرياض «قدس سره»..»(1).

و منها: التفصيل بين العموم الاستغراقي و العموم المجموعي بالرجوع إلى العموم في الأول، و إلى الاستصحاب في الثاني.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين العموم الاستغراقي و العموم المجموعي.

و حاصل الفرق بينهما: هو أن الحكم يكون متعددا بتعدد الأفراد الطولية في العموم الأزماني، و كل حكم غير مرتبط بالآخر امتثالا و مخالفة؛ كوجوب الصوم ثلاثين يوما، كما أن الأمر في الأفراد العرضية كذلك، فإنه إذا قال المولى: أكرم العلماء مثلا يكون الحكم متعددا بتعدد أفراد العلماء الموجودين في زمان واحد، و لكل حكم إطاعة و معصية و امتثال و مخالفة.

هذا بخلاف العموم المجموعي حيث يكون هناك حكم واحد مستمر؛ كوجوب الإمساك من طلوع الفجر إلى المغرب، فإنه لا يكون وجوب الإمساك تكليفا متعددا بتعدد آنات هذا اليوم.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه إن كان العموم من القسم الأول، فالمرجع بعد الشك هو العموم؛ لأنه بعد خروج أحد الأفراد عن العموم، لا مانع من الرجوع إليه لإثبات الحكم لباقي الأفراد، و إن كان من القسم الثاني، فالمرجع هو الاستصحاب؛ لأن الحكم واحد على الفرض و قد انقطع يقينا، و إثباته بعد الانقطاع يحتاج إلى دليل، و مقتضى الاستصحاب بقاء حكم المخصص. هذا غاية ما يقال في توضيح ما اختاره الشيخ «قدس سره» من التفصيل.

يقول المصنف ردا على تفصيل الشيخ: إن مجرد كون العموم الأزماني من قبيل العموم المجموعي لا يكفي في الرجوع إلى الاستصحاب؛ بل لا بد من ملاحظة الدليل المخصص أيضا، فإن أخذ الزمان فيه بعنوان الظرفية، كما أنه بطبعه ظرف لما يقع فيه كالمكان، فلا مانع من التمسك بالاستصحاب، و إن كان الزمان مأخوذا على نحو القيدية، فلا يمكن التمسك بالاستصحاب؛ لأنه مع فرض كون الزمان قيدا للموضوع يكون إثبات الحكم في زمان آخر من إسراء حكم ثابت لموضوع إلى موضوع آخر، و هو

ص: 82


1- منتهى الدراية 685:7.

قياس محرّم، فلا بد من الرجوع إلى أصل آخر من البراءة أو الاشتغال حسب ما يقتضيه المقام.

هذا كله على تقدير كون العموم على نحو العموم المجموعي.

و أما إن كان العموم على نحو العموم الاستغراقي، فالمتعين الرجوع إلى العام إن لم يكن له معارض، و إلاّ فيتمسك بالاستصحاب إن كان الزمان في الدليل المخصص مأخوذا بنحو الظرفية، و إن كان مأخوذا بنحو القيدية، لا يمكن التمسك بالاستصحاب أيضا، فلا بد من الرجوع إلى أصل آخر، فتكون الصور على ما ذكره المصنف أربع:

الأولى: أن يكون العام من قبيل العموم الاستغراقي، مع كون الزمان مأخوذا في دليل التخصيص بنحو الظرفية.

الثانية: هي الأولى مع كون الزمان مأخوذا على نحو القيدية. و حكمها الرجوع إلى العام مع عدم المعارض، و إلا فيرجع إلى الاستصحاب في الصورة الأولى، و إلى أصل آخر في الصورة الثانية.

الثالثة: أن يكون العموم من قبيل العام المجموعي مع كون الزمان ظرفا.

الرابعة: هي الثالثة مع كون الزمان قيدا، و حكمهما الرجوع إلى الاستصحاب في الثالثة، و إلى أصل آخر في الرابعة، و تشتركان في عدم إمكان الرجوع إلى العام فيهما إلا فيما إذا كان التخصيص من الأول؛ كتخصيص أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) بخيار المجلس، و هو قوله «عليه السلام»: «فإذا افترقا وجب البيع»(2)، فيصح في مثله الرجوع إلى العام؛ لعدم كون التخصيصي في هذه الصورة قاطعا لاستمرار الحكم حتى يكون إثبات الحكم بعده محتاجا إلى الدليل، فيرجع إلى استصحاب حكم الخاص؛ بل التخصيص يوجب كون استمرار الحكم بعد هذا الزمان، فيتعين الرجوع إلى العام بعد زمان التخصيص، بخلاف ما إذا كان التخصيص في الوسط، كخيار الغبن على ما هو المعروف من كون مبدأه زمان الالتفات إلى الغبن، فإن التخصيص قاطع للاستمرار. و إثبات الحكم بعده يحتاج إلى دليل.

و كيف كان، فحاصل الكلام: أن تقسيم الشيخ «قدس سره» يكون ثنائيا، نظرا إلى فرض العام استغراقيا تارة و مجموعيا أخرى.

ص: 83


1- المائدة: 1.
2- الكافي 170:5 /جزء من ح 7، تهذيب الأحكام 20:7 /جزء من ح 86، الوسائل 18: 6 /جزء من ح 23014.

العام (1)؛ لكنه (2) ربما يقع الإشكال (3) و الكلام فيما إذا خصص في زمان في أن المورد بعد هذا الزمان (4) مورد الاستصحاب أو التمسك بالعام.

و التحقيق (5) أن يقال: إن مفاد العام تارة: يكون - بملاحظة...

=============

و أما تقسيم المصنف: فيكون رباعيا نظرا إلى فرض الزمان في الخاص ظرفا تارة، و قيدا أخرى. و حاصل ضرب الاثنين في الاثنين أربعة. ثم ما أفاده المصنف أولى مما أفاده الشيخ؛ لكونه جامعا لجميع الصورة.

هذا تمام الكلام فيما أفاده المصنف في المقام. توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) لكونه دليلا اجتهاديا حاكما على الأصول التي منها الاستصحاب، و التعبير بالمثل للإشارة إلى عدم خصوصية للعام؛ بل كل دليل اجتهادي و إن كان إطلاقا أو إجماعا يقدم على الاستصحاب و غيره من الأصول العملية.

(2) هذا هو المطلب الأصلي الذي عقد هذا التنبيه لبيانه، و قد تقدم: أن في التمسك بالعموم أو الاستصحاب بعد الزمان الذي خصص فيه العام أقوالا، و قد عرفت تلك الأقوال.

(3) منشأ الإشكال هو: أن التخصيص هل يسقط العام عن الحجية رأسا؛ بحيث يمنع عن أصالة العموم مطلقا؟ أم لا يسقطه كذلك ؟ أم يسقطه في الجملة ؟

قوله: «في أن» متعلق ب «يقع».

(4) أي: زمان التخصيص كزمان اطلاع المغبون على الغبن في خيار الغبن.

(5) اعلم: أن تفصيل المصنف «قدس سره» في هذا التنبيه بفرض صور أربع ناظر إلى كلام الشيخ في التنبيه العاشر، حيث إنه اقتصر على بيان صورتين: إحداهما: ظرفية الزمان لاستمرار حكم العام. و ثانيتهما: قيديته الموجبة لتكثر أفراد العام.

و نكتفي بتوضيح المتن و نقول: إن الدليل الدال على ثبوت حكم الموضوع عام إما أن يتكفل لثبوته في جميع الأزمنة كقوله: «أكرم العلماء دائما»، و إما أن يتكفل لثبوته في زمان خاص كقوله: «أكرم العلماء إلى أن يفسقوا»، بناء على اعتبار مفهوم الغاية، و إما أن لا يتكفل للحكم في الزمان الثاني نفيا و إثباتا، إما لإجماله كما إذا أمر بالجلوس إلى الليل و تردد مبدؤه بين استتار القرص و ذهاب الحمرة، أو لقصور دلالته كقوله: «الماء إذا تغير تنجس»؛ لعدم دلالته على بقاء النجاسة و ارتفاعها بعد زوال التغيير.

و حكم هذه الصور واضح، فالمرجع في الأولين نفس الدليل؛ لدلالته على العموم

ص: 84

الأزماني كما في الصورة الأولى، و على الاختصاص بزمان العدالة في الصورة الثانية، كما أن الاستصحاب هو المرجع في الصورة الثالثة.

إنما الكلام فيما إذا ورد عموم أفرادي يتضمن العموم الأزماني بدليل لفظي أو بمقدمات الحكمة، و خرج بعض الأفراد في بعض الأزمنة عن العموم، و لم يتكفل الدليل الخاص لكيفية خروجه و أنه خرج في بعض الأزمنة أو في جميعها، فهنا صور يرجع في بعضها إلى العام، و في بعضها إلى استصحاب حكم المخصص، و في بعضها إلى حجة أخرى غير العام و الاستصحاب.

توضيحه: أن خطاب العام الدال على ثبوت الحكم لكل فرد من أفراده إن كان الزمان مأخوذا فيه قيدا؛ بحيث يكون لكل فرد في كل قطعة من ذلك الزمان حكم مستقل، كما إذا قال: «أكرم العلماء من هذا اليوم إلى عشرة أيام»، و كان للعام عشرة أفراد، كان إكرام كل واحد منهم في كل يوم واجبا مستقلا غير مرتبط بإكرامه في يوم آخر، فإكرام زيد في اليوم الأول فرد من العام، و إكرامه في اليوم الثاني فرد آخر منه و هكذا، و لكل إكرام إطاعة و معصية تخصه، فيحصل في المثال مائة فرد مثلا للعام، و يكون عموم العام شاملا لجميع هذه الأفراد في عرض واحد، و ينحل إليها على حد سواء، غايته: أن عموم العام بالنسبة إلى ذوات العلماء عموم أفرادي، و بالقياس إلى قطعات الزمان عموم أزماني.

و إن كان الزمان مأخوذا فيه ظرفا محضا؛ بحيث يكون الحكم الثابت لكل فرد حكما واحدا مستمرا من أول حدوثه إلى آخر اليوم العاشر، فيكون للعام العموم الأفرادي خاصة دون الأزماني، فالإكرامات في المثال المتقدم عشرة بناء على الظرفية، كما أنها مائة بناء على القيدية بلحاظ قطعات الأزمنة. و هذا التفصيل هو الذي اختاره الشيخ.

و المصنف أجرى فرض ظرفية الزمان و قيديته في ناحية المخصص أيضا. فمثل: «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» يحتمل فيه كل من التقييد و الظرفية، فيحصل من قسمي المخصص مع قسمي العام أربعة أقسام.

و عليه: فصور المسألة أربع، فيؤخذ الزمان تارة: قيدا لكل من العام و الخاص كقوله:

«الجلوس في المسجد في كل آن واجب، و الجلوس في وقت الزوال ليس بواجب».

و أخرى: ظرفا للحكم فيهما كقوله: «يجب دائما إكرام العلماء، و لا يجب أبدا إكرام زيد العالم». و ثالثة: قيدا للعام و ظرفا للخاص كقوله: «أكرم العلماء في كل آن، و لا

ص: 85

الزمان (1) - ثبوت (2) حكمه لموضوعه على الاستمرار و الدوام.

و أخرى (3): على نحو جعل كل يوم من الأيام فردا لموضوع ذلك العام، و كذلك مفاد مخصصه تارة (4): يكون على نحو أخذ الزمان ظرف استمرار حكمه و دوامه (5)، و أخرى (6): على نحو يكون مفردا و مأخوذا في موضوعه: فإن كان مفاد كل من العام و الخاص على النحو الأول (7): فلا محيص عن استصحاب حكم تكرم زيدا النحوي يوم السبت». و علم من الخارج أن السبت ظرف لعدم وجوب إكرامه لا قيد له. و رابعة: عكس ذلك؛ بأن يكون الزمان ظرفا للعام و قيدا للخاص كقوله:

=============

«أكرم العلماء مستمرا، و لا تكرم العالم البصري في شيء من الأيام». و سيأتي في كلام المصنف أحكام هذه الصور.

(1) الذي يكون بطبعه ظرفا للزماني كالمكان الذي هو ظرف للمكاني، و تحتاج قيديته ثبوتا و إثباتا إلى مئونة زائدة.

(2) بالنصب خبر «يكون»، و جملة «يكون» مع خبرها خبر «أن»، و «على نحو» متعلق ب «ثبوت»، يعني: ثبوت الحكم لموضوعه يكون بنحو الاستمرار و الدوام، و ضميرا «حكمه، لموضوعه» راجعان إلى العام و المستتر في «يكون» الذي هو اسمه راجع إلى «مفاد». و هذا إشارة إلى كون الزمان ظرفا لا قيدا مفردا للعام، فإكرام كل فرد من أفراد العلماء في جميع الأزمنة يكون فردا واحدا لا أفرادا بتعدد الأزمنة.

(3) معطوف على «تارة»، و هذا إشارة إلى قيدية الزمان و مفرديته للعام.

(4) متعلق ب «مفاد» يعني: و كذلك التحقيق أن يقال: «إن مفاد مخصصه...» الخ، و ضمير «مخصصه» راجع إلى العام.

(5) يعني: لم يلاحظ في الزمان إلاّ ما هو مقتضى طبعه من الظرفية و هذا هو القسم الأول من المخصص، فزيد العالم مثلا الخارج عن عموم «أكرم العلماء» فرد واحد في جميع الأزمنة.

(6) معطوف على «تارة»، و هذا إشارة إلى القسم الثاني من المخصص، و هو كون الزمان مفردا فيه، و قد تقدم مثاله. و ضمير «موضوعه» راجع على «مخصصه».

(7) هذا شروع إلى حكم القسم الأول، و هو كون الزمان في كل من العام و الخاص مأخوذا ظرفا لاستمرار الحكم؛ بحيث لا مدخلية للزمان فيه أصلا، و الحكم فيه بعد زمان الخاص هو الرجوع إلى استصحاب الخاص، فإذا خرج وجوب إكرام زيد في يوم الجمعة عن وجوب إكرام العلماء، و شك بعد يومها في وجوب إكرام زيد و عدمه يستصحب

ص: 86

الخاص في غير مورد دلالته (1)؛ لعدم (2) دلالة للعام على حكمه؛ لعدم (3) دخوله على حدة في موضوعه، و انقطاع (4) الاستمرار بالخاص (5) الدال على ثبوت الحكم له في حكم الخاص و هو عدم الوجوب، و لا يتمسك بعموم العام؛ إذ ليس الفرد الخارج إلا فردا واحدا، و ليس متعددا بتعدد الأزمنة حتى يقال: إن المتيقن هو تخصيص العام بفرد واحد، و الشك في تخصيصه بعد زمان الخاص شك في تخصيصه بفرد آخر، و هو من صغريات الشك في التخصيص الزائد الذي يرجع فيه إلى العام.

=============

كما لا يتشبث بالخاص؛ لعدم كون الزمان مأخوذا فيه إلاّ بنحو الظرفية، فلا يدل إلاّ على انتفاء الحكم في زمانه و هو يوم الجمعة، و لا يدل على حكم ما بعده نفيا و إثباتا، فلا بد من الرجوع فيه إلى الأصل و هو الاستصحاب.

(1) أي: دلالة الخاص، و المراد بغير مورد: دلالته هو ما بعد زمان الخاص.

(2) تعليل لقوله: «فلا محيص» يعني: أن الرجوع إلى الاستصحاب دون العام إنما هو لأجل عدم دلالة العام على حكم الخاص بعد الزمان المعلوم، حيث إن دلالته عليه منوطة بأمرين: أحدهما: كون الخاص بعد ذلك الزمان فردا مستقلا للعام و موضوعا على حدة لحكمه. و الآخر: بقاء حكمه و عدم انقطاع استمراره. و المفروض: انتفاء كليهما.

أما الأول: فلفرض عدم كون الزمان مفردا للعام حتى يكون الخاص بعد زمان التخصيص فردا مستقلا للعام. و أما الثاني: فلانقطاع استمراره في الزمان المعلوم و هو زمان الخاص، و مع عدم دلالة العام على حكمه بعد الزمان المعلوم و كذا الخاص - إذ المفروض: عدم دلالته أيضا إلاّ على ارتفاع الحكم في الزمان المفروض ظرفا له أيضا - لا محيص عن الرجوع إلى استصحاب حكم الخاص؛ لاجتماع شرائطه من اليقين و الشك و الحكم الشرعي و لو نفيا.

(3) تعليل ل «لعدم دلالة»، و إشارة إلى الأمر الأول المذكور بقولنا: «أحدهما: كون الخاص...» الخ. و ضميرا: «دخوله، حكمه» راجعان إلى الخاص، و ضمير «موضوعه» راجع إلى العام.

(4) معطوف على «عدم» و إشارة إلى الأمر الثاني المتقدم بقولنا: «و الآخر بقاء حكمه و عدم انقطاع استمراره...» الخ.

(5) الباء للسببية، و المجرور متعلق ب «انقطاع». و ضمائر «له، دلالته، لاستصحاب» راجعة إلى الخاص.

ص: 87

الزمان السابق (1)، من دون دلالته على ثبوته في الزمان اللاحق، فلا مجال (2) إلا لاستصحابه.

نعم (3)؛ لو كان الخاص غير قاطع لحكمه...

=============

(1) أي: في زمان الخاص من دون دلالته على ثبوت حكم الخاص في الزمان اللاحق، و هو زمان الشك في ثبوت حكم الخاص أو العام، و ضمير «ثبوته» راجع إلى «الحكم».

(2) هذه نتيجة تعليل عدم جريان الاستصحاب، لكن الإيجاز الذي يهتم به المصنف «قدس سره» يقتضي حذفه؛ للاستغناء عنه بقوله: «فلا محيص» الذي هو جواب قوله:

«فإن كان».

(3) هذا استدراك على ما أفاده في القسم الأول بقوله: «فلا محيص عن استصحاب حكم الخاص في غير مورد دلالته».

و محصل هذا الاستدراك - الذي هو تقييد لحكم الشيخ بمرجعية استصحاب حكم المخصص فيما كان الزمان ظرفا للعام - هو: تعيّن الرجوع إلى العام فيما كان التخصيص في الابتداء أو الانتهاء دون الأثناء.

و بيانه: أن عموم وجوب الوفاء بكل عقد قد يخصص بدليل خياري المجلس و الحيوان مما يكون متصلا بالعقد و مانعا من لزومه من أوّل زمان وقوعه، و قد يخصص بدليل خيار الغبن بناء على دلالته على ثبوت الخيار من زمان العلم به؛ إذ لو دل على انكشافه بالعلم لكان كخيار المجلس و نحوه متصلا بالعقد.

فإن كان الخاص مخصصا للعام من أول الأمر كخياري المجلس و الحيوان و القبض في المجلس في بيع الصرف حيث يكون مبدأ تشريع حكم العام و هو اللزوم بعد زمان دلالة الخاص، فمبدأ وجوب الوفاء بعد افتراق المتابعين في خيار المجلس، و بعد انقضاء ثلاثة أيام في خيار الحيوان، و بعد حصول القبض في بيع الصرف، فالمرجع في مورد الشك بعد زمان الخاص هو عموم العام لا استصحاب حكم الخاص، فإذا افترق المتبايعان عن مجلس البيع بمقدار شبر مثلا و شك في بقاء خيار المجلس، أو شك بعد مضي ساعة من ثلاثة أيام في بقاء خيار الحيوان أو من حصول القبض في بيع الصرف، فاللازم التمسك بعموم أوفوا و الحكم بلزوم البيع، و لا يتشبث بالاستصحاب، و ذلك لدلالة عموم وجوب الوفاء بكل عقد بالإضافة إلى كل فرد من أفراده على أمرين:

أحدهما: ثبوت وجوب واحد مستمر للوفاء، أخذا بمقتضى ظرفية الزمان للعام.

ص: 88

- كما (1) إذا كان مخصصا له من الأول - لما ضرّ به في غير مورد دلالته، فيكون (2) أوّل زمان استمرار حكمه بعد زمان دلالته (3)، فيصح (4) التمسك ب أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و ثانيهما: كون مبدأ ثبوت هذا الحكم الوحداني أول زمان وجود الموضوع كزمان تحقق عقد البيع في الخارج، و هو مقتضى إطلاق وجوب الوفاء بكل عقد، و من المعلوم:

=============

أن الخاص كدليل خيار المجلس إذا كان مخصصا في الابتداء كان مانعا عن دلالة العام على الثاني و يقدم عليه؛ لتقدم كل خاص على عامه، و أما دلالة العام على الأول فلا مانع لها، فاللازم الأخذ به، فيفيد أن الاستمرار يبتدئ من بعد المجلس.

(1) بيان لكون الخاص غير قاطع لاستمرار حكم العام؛ بأن يكون مانعا عن حدوث حكم، و ضميرا «حكمه، له» راجعان إلى العام. «لما ضرّ به» جواب «لو» يعني: لو كان الخاص مخصصا للعام من الأول لما ضرّ الخاص بالعام في غير مورد دلالة الخاص عليه، فيتمسك بعموم العام لا باستصحاب حكم الخاص؛ كما إذا ورد «أكرم العلماء تمام الشهر»، ثم قال: «لا تكرم زيدا في اليوم الأول»، فيتمسك بالعام لإكرام زيد من اليوم الثاني إلى آخر الشهر لدلالة الخاص على أن مبدأ هذا الإكرام الوحداني المستمر من اليوم الثاني لا الأول. و كذا الحال إذا ورد المخصص في الأخير، كما إذا قال: «لا تكرم زيدا في اليوم الأخير من الشهر»، فالعام حجة من أول الشهر إلى ما قبل اليوم الأخير.

(2) هذا نتيجة كون الخاص مخصصا للعام من أول الأمر، و حاصله: أن هذا التخصيص الابتدائي يوجب أن يكون مبدأ زمان تشريع حكم العام بعد زمان دلالة الخاص، فيكون أوّل زمان وجوب الوفاء بالعقد بعد افتراق المتعاقدين عن مجلس البيع، و بعد ثلاثة الحيوان، حيث إن عموم وجوب الوفاء قد خصص بخياري المجلس و الحيوان، ففي زمانيهما - و هما زمانا كونهما في المجلس و الأيام الثلاثة في الحيوان - لا يجب الوفاء بالعقد لكونهما زماني دلالة الخاص عليهما.

(3) أي: دلالة الخاص، و ضمير «حكمه» راجع إلى العام.

(4) هذا متفرع على كون الخاص مخصصا للعام من الأول و حاصله: أنه في صورة تخصيص العام من الأوّل يتشبث في زمان الشك - و هو غير زمان دلالة الخاص - بعموم العام لا باستصحاب حكم الخاص؛ لما مر آنفا من أن للعام عموما أزمانيا، كما أن له عموما أفراديا، فالشك فيما بعد زمان التخصيص شك في التخصيص الزائد في عمومه الأزماني، فكما يتشبث بالعام في الشك في التخصيص الزائد في عمومه الأفرادي، فكذلك يتمسك به في الشك في التخصيص الزائد في عمومه الأزماني.

ص: 89

و لو خصص بخيار المجلس و نحوه (1)، و لا يصح (2) التمسك به فيما إذا خصص بخيار لا في أوّله (3)، فافهم.

=============

(1) كخيار الحيوان و خيار الغبن بناء على ثبوته حين العقد، و كون العلم بالغبن كاشفا عنه لا شرطا له.

(2) معطوف على «يصح التمسك» يعني: يصح التمسك باوفوا و لا يصح التمسك به فيما إذا خصص أوفوا بخيار لا في أوّله بل في أثنائه؛ بأن انقطع استمرار وجوب الوفاء كتخصيصه بخيار الشرط - المشروط بعد مضي مدة من لزوم العقد - للمتعاقدين أو لأحدهما، و بخيار التأخير المتحقق فيما إذا باع شيئا و لم يقبض الثمن و لم يسلم المبيع، فإنه يلزم البيع ثلاثة أيام، فإن جاء المشتري بالثمن فهو أحق بالسلعة؛ و إلاّ فللبائع الخيار في فسخ البيع، و بعد انقطاع اللزوم لا يصح التمسك بعد الثلاثة باوفوا لانقطاع حكمه. ففرق بين التخصيص في الأول و بينه في الأثناء، و هو: أن إطلاق دليل اللزوم بحسب الزمان و إن كان مقتضيا لثبوت اللزوم من الأول؛ إلاّ إن الخاص منعه عن ذلك بمقدار دلالته و أما في غير ذلك المقدار كزمان افتراق المتعاقدين فلا مانع منه، و يكون هذا الزمان مبدأ ثبوت حكم العام.

و هذا بخلاف التخصيص في الأثناء، فإنه قاطع لاستمرار حكمه، و المفروض: أن الزمان ظرف لا قيد له حتى يكون الموضوع أو المتعلق فردا مستقلا كي يرجع الشك في خروجه عن العام إلى الشك في التخصيص الزائد و يتمسك فيه بالعام؛ بل لا محيص حينئذ عن الرجوع إلى استصحاب حكم الخاص.

(3) يعني: لا في أوّل العقد كخيار المجلس؛ بل في أثنائه كالخيارات الحادثة بعد العقد. و نظيره في التكليفيات ما إذا ورد: «أكرم العلماء تمام الشهر، و لا تكرم زيدا في اليوم الخامس عشر»، فلا دلالة للعام على حكم إكرام زيد في ما بقي من الشهر؛ لانقطاع الحكم الواحد بسبب ورود الخاص في الأثناء.

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى أنه بناء على ظرفية الزمان لكل من العام و الخاص - كما هو المفروض - لا فرق بين تخصيص العام من الأول و بين تخصيصه في الأثناء في عدم حجية العام فيما بعد زمان التخصيص؛ لما قد يقال تارة: من امتناع التمسك بالعام مطلقا إذا كان الحكم واحدا شخصيا لا واحدا نوعيا؛ إذ كما يمتنع تقييده في الأثناء حذرا من لزوم الخلف؛ لاستلزام بقائه بعد التخصيص تعدد الحكم و المفروض وحدته، فكذا يمتنع تقييده في الأول؛ لامتناع تبعّض البسيط، لفرض: أن المجعول حكم واحد شخصي،

ص: 90

و هذا الواحد الحقيقي كما يستحيل تعدده كذلك يستحيل تبعّضه. و عليه: فلا فرق في امتناع التقييد بين الابتداء و الأثناء، و لو قيّد امتنع التمسك بالعام الدال على استمرار حكم واحد شخصي لكل فرد من أفراده.

و أخرى: من الفرق بين استفادة العموم و الاستمرار من دليل خارجي، و استفادته من نفس دليل الحكم، فإنه على الأول يتجه التفصيل بين التخصيص في الأثناء و الابتداء، كما إذا دل العموم على إثبات الحكم للفرد في الجملة، و دل دليل آخر على استمراره، بأن يقول الجاعل: «إن حكم الفرد الثابت بالعموم مستمر»، فإذا خصص حكم هذا الفرد من الأول جاز الرجوع إلى العموم؛ لدلالة التخصيص على أن هذا الحكم الواحد المستمر ثابت للفرد بعد زمان التخصيص، بخلاف تخصيصه في الأثناء؛ لانقطاع الاستمرار.

بخلافه على الثاني أعني: ثبوت الاستمرار بنفس الدليل الأول الدال على ثبوت أصل الحكم كما في المقام؛ لاستفادة اللزوم و الاستمرار معا من آية وجوب الوفاء بالعقود، و لا فرق في امتناع التمسك بالعام بين ورود التخصيص من الأول و في الوسط؛ لأن الحكم المستمر المدلول عليه بالآية الشريفة قد انقطع، و المصنف يعترف بأن الحكم لو انقطع احتاج إثباته إلى دليل، و لا يكفي الدليل الأوّل لإثباته.

و في هامش «منتهى الدراية، ج 7، ص 696» ما هذا لفظه: «لكن الظاهر متانة تفصيل الماتن بين الابتداء و الأثناء، و اندفاع كلا الإشكالين، أما أولهما: فبأن المفروض: تكفل العام لأحكام شخصية لموضوعات كذلك. و إطلاق كل واحد من هذه الأحكام الشخصية يقتضي اتصاله بنفس زمان انعقاد العقد، و ورود المخصص في الابتداء يزاحم هذا الإطلاق و يقدم عليه لأقوائيته، و نتيجة الجمع بين الدليلين: أن مبدأ هذا الواحد الشخصي هو ما بعد زمان دلالة الخاص من دون لزوم تبعّض البسيط أصلا، و إنما يتأخر هذا البسيط عن زمان الخاص إلى زمان افتراق المتبايعين أو غيره، و هذا بخلاف التخصيص في الأثناء فإنه قاطع لاستمرار الحكم.

و أما ثانيهما: فبما ذكرناه في توضيح كلام المصنف «قدس سره»، فإن دليل أصل لزوم العقد و استمراره و إن كان هو الآية الشريفة لا غيرها؛ إلا إن دليل وجوب الوفاء هو الآية المباركة، و دليل اعتبار اتصال اللزوم بالعقد هو إطلاقها الأزماني، و حينئذ: فالفرق بين دليلي خياري المجلس و الغبن هو: أن الأول مانع عن الحكم المستمر، و الثاني رافع استمرار الحكم، و من المعلوم: أن قاطع الاستمرار و رافعه يكون بعد ثبوت أصل الحكم؛

ص: 91

و إن كان مفادهما (1) على النحو الثاني (2) فلا بد من التمسك بالعام بلا كلام؛ لكون (3) موضوع الحكم بلحاظ هذا الزمان (4) من أفراده، فله (5) الدلالة على إذ لو لم يجب الوفاء من أول الأمر لم يصدق قطع الاستمرار و رفعه، فلا يجوز التمسك بالعام في التخصيص في الأثناء. بخلاف التخصيص في الأول فإنه مانع عن أصل الحكم المستمر، فمدلول الآية هو الحكم المستمر، و هذا المستمر يتأخر مبدؤه عن العقد إلى التفرق عن مجلس المعاملة، و عليه: فلا يرد على المصنف ما أفيد من الفرق بين ثبوت الاستمرار بنفس الدليل و غيره».

=============

(1) معطوف على قوله: «فإن كان مفاد كل من العام و الخاص»، و إشارة إلى القسم الثاني من الأقسام الأربعة، و هو كون الزمان قيدا لكل من العام و الخاص، و محصله: أن الزمان إن كان قيدا لكل منهما كما إذا وجب الجلوس في كل آن في المسجد، ثم خرج منه الجلوس في الساعة الأولى من النهار مثلا، فلا بد حينئذ من التمسك بالعام في غير مورد دلالة الخاص عليه كالساعة الثانية من النهار، بداهة: أن الجلوس فيها فرد آخر للعام يشك في خروجه، فيتمسك بالعام لكونه شكا في التخصيص الزائد؛ إذ المفروض: أن للعام عموما أزمانيا كعمومه الأفرادي كما تقدّم توضيحه في شرح قوله: «و التحقيق».

و ضمير «مفادهما» راجع إلى العام و الخاص.

(2) و هو كون الزمان مقيدا لكل من العام و الخاص.

(3) تعليل لقوله: «فلا بد من التمسك بالعام».

و حاصل التعليل: أن العام يدل على حكم كل ما ثبتت فرديته له بنحو من أنحاء الدلالة، فقولنا: «كل مستطيع يجب عليه الحج» يشمل كل فرد من أفراد المستطيع، و إذا خرج عنه فرد لمرض أو غيره لا يضر ذلك بدلالته على وجوب الحج على سائر الأفراد.

ففي المقام إذا كان الزمان مفردا و مقيدا للعام لا يضر خروج فرد منه في زمان بدلالة العام على حكمه في غير زمان الخاص؛ إذ المفروض: فردية ذلك الزمان أيضا للعام، فيشمله حكمه فالمراد بالحكم هو العام.

(4) أي: ما بعد زمان الخاص، فإن الجلوس في الساعة الثانية - في المثال المزبور - أيضا من أفراد الجلوس في كل آن، فيتمسك بالعام أعني: قوله: «اجلس في كل آن في المسجد».

(5) هذا متفرع على فردية ما بعد زمان الخاص للعام؛ إذ لازم فرديته له دلالة العام عليه كدلالته على سائر أفراده، و ضمير «فله» راجع إلى العام، و ضمير «حكمه» راجع

ص: 92

حكمه، و المفروض (1): عدم دلالة الخاص على خلافه.

و إن كان (2) مفاد العام على النحو الأول (3) و الخاص على النحو الثاني (4): فلا (1) إلى «موضوع» المراد به ما بعد زمان الخاص كالجلوس في الساعة الثانية.

=============

(1) غرضه: أن المقتضي لكون ما بعد الخاص محكوما بحكم العام - و هو دلالة العام عليه - موجود، و المانع عنه مفقود؛ إذ المانع لا بد أن يكون هو الخاص، و ذلك منحصر بمقدار دلالته و هو زمان الخاص كالساعة الأولى في المثال المزبور، و ليس له دلالة على خلاف العام فيما بعد زمان الخاص، لعدم المفهوم لدليل الخاص.

و عليه: فلا مانع من دلالة العام على حكم ما بعد الخاص، و ضمير «خلافه» راجع إلى «العام» و يمكن رجوعه إلى «حكمه».

(2) معطوف على «فإن كان» و إشارة إلى القسم الثالث من الأقسام الأربعة و هو ما إذا كان الزمان ظرفا للعام و قيدا للخاص، و حاصله: أنه لا يرجع فيه إلى العموم كما لا يجري فيه الاستصحاب، فلا بد في تعيين الوظيفة من الرجوع إلى حجة أخرى.

أما عدم مرجعية العام فيه: فلفرض ظرفية الزمان لاستمرار حكم وحداني لكل واحد من أفراده، و قد انقطع هذا الحكم بورود المخصص الذي كان الزمان قيدا له.

و أما عدم جريان استصحاب حكم الخاص فيه: فلتعدد الموضوع؛ حيث إن زمان الخاص فرد مغاير لما بعده من الزمان، فاستصحاب حكم الموضوع الواقع في زمان خاص إلى الموضوع الواقع بعد زمان الخاص تسرية موضوع آخر مغاير للموضوع الأول، و هذا أجنبي عن الاستصحاب الذي هو إبقاء حكم ثبت لموضوع قطعا في ظرف الشك في بقاء ذلك الحكم؛ إذ لا يصدق هذا إلا مع وحدة الموضوع في حالتي اليقين و الشك، فمع تعدد الموضوع يكون قياسا، لا استصحابا، مثلا: إذا ورد «أكرم العلماء دائما» بنحو يكون الزمان ظرفا محضا لاستمرار حكم كل واحد من أفراده، ثم ورد «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» مع كون الزمان قيدا له - لدخله في ملاك النهي عن إكرامه - ففي يوم السبت و ما بعده لا يتمسك بالعام، لانقطاع حكمه، و لا باستصحاب حرمة الإكرام، لكون موضوعه لتقيده بالزمان مغايرا لحرمة الإكرام في يوم آخر على تقدير حرمته فيه، و من المعلوم: أجنبية ذلك عن الاستصحاب المتقوم بوحدة الموضوع، بل و بوحدة المحمول أيضا.

(3) و هو كون الزمان ظرفا للعام لا قيدا و مفردا له.

(4) و هو كون الزمان قيدا و مفردا للخاص.

ص: 93

مورد للاستصحاب، فإنه (2)، و إن لم يكن هناك دلالة أصلا (3) إلاّ (4) إن انسحاب الحكم الخاص إلى غير مورد دلالته من (5) إسراء حكم موضوع إلى آخر، لا استصحاب (6) حكم الموضوع.

(1) جواب «و إن كان»، و قد عرفت: وجه عدم موردية الخاص للاستصحاب و هو تعدد الموضوع، ضرورة: أنه مع قيدية الزمان للخاص يكون الموضوع المقيد بزمان الخاص مغايرا للموضوع المقيد بغير زمان الخاص، و من المعلوم: تقوم الاستصحاب بوحدة الموضوع، و عدم جريانه مع تعدده كما تقدم آنفا.

(2) الضمير للشأن، و غرضه: أن عدم جريان استصحاب الخاص في هذا القسم ليس لأجل وجود دليل اجتهادي حاكم عليه؛ إذ المفروض: عدمه، حيث إنه دائر بين العام و الخاص، و من المعلوم: عدم دلالة شيء منهما على حكم ما بعد زمان الخاص.

أما العام: فلانقطاع استمرار حكمه بالخاص، و عدم كون ما بعد الزمان فردا آخر للعام حتى يدل على حكمه؛ إذ المفروض: كون الزمان ظرفا للعام لا مفردا له.

و أما الخاص: فلعدم دلالته إلاّ على خروج خصوص المقيد بزمانه عن العام، فلا يدل على خروج فرد آخر و هو ما بعد زمانه، فالدلالة في ناحية كل من الخاص و العام مفقودة.

(3) أي: لا للعام و لا للخاص بشيء من الدلالات الثلاث كما مر آنفا.

(4) غرضه: بيان المانع عن جريان استصحاب حكم الخاص بعد نفي مانعيّة دليلي العام و الخاص: لعدم دلالتهما على حكم ما بعد زمان الخاص.

و محصل ما أفاده في وجه عدم جريان الاستصحاب هو: تعدد الموضوع ضرورة:

أنه بعد فرض مفردية الزمان للخاص يكون الموضوع في غير زمان الخاص مغايرا لما هو الموضوع في زمانه، فالجلوس في الساعة الأولى التي هي زمان الخاص في المثال المذكور - غير الجلوس في الساعة الثانية التي هي بعد زمان الخاص، و مع تعدد الموضوع يخرج عن باب الاستصحاب، و يندرج في القياس الذي يحرم استشمام رائحته عندنا. و ضمير «دلالته» راجع إلى الخاص.

(5) متعلق ب «انسحاب» و تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر قياس لا استصحاب حكم موضوع واحد لا يختلف إلاّ بحسب زماني اليقين و الشك.

(6) معطوف على «إسراء»، يعني: أن انسحاب حكم الخاص إلى غير مورد دلالته يكون من تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر، لا من استصحاب حكم موضوع واحد.

ص: 94

و لا مجال (1) أيضا للتمسك بالعام؛ لما مر (2) آنفا، فلا بد من الرجوع إلى سائر الأصول.

و إن كان (3) مفادهما على العكس (4): كان (5) المرجع هو العام للاقتصار (6) في تخصيصه بمقدار دلالة الخاص؛ و لكنه (7) لو لا دلالته لكان الاستصحاب مرجعا؛

=============

(1) عطف على «فلا مورد للاستصحاب»، يعني: لا مورد للاستصحاب و لا مجال أيضا للتمسك بالعام، فلا بد من الرجوع إلى غير الاستصحاب من الأصول العملية، و هو في المقام أصالة البراءة، حيث إنه يشك بعد الزوال في وجوب الجلوس، و من المعلوم: أن مرجع الشك في التكليف أصل البراءة.

(2) في القسم الأول، حيث قال: «لعدم دلالة للعام على حكمه؛ لعدم دخوله على حدة في موضوعه، و انقطاع الاستمرار بالخاص».

(3) عطف على «فإن كان»، و هو إشارة إلى القسم الرابع أعني: ما إذا كان الزمان مفردا للعام ظرفا للخاص، و المرجع حينئذ في غير مورد دلالة الخاص هو العام؛ إذ المفروض: أن ما بعد زمان الخاص فرد أيضا من أفراد العام، و يشك في تخصيصه زائدا على التخصيص المعلوم، و قد قرر في محله مرجعية العام في الشك في التخصيص الزائد كمرجعيته في الشك في أصل التخصيص، و مع دلالة العام على حكم غير مورد دلالة الخاص لا مجال لاستصحاب حكم الخاص أصلا؛ لعدم جريان الأصل مع الدليل.

(4) و هو مفردية الزمان في العام و ظرفيته للخاص.

(5) جواب «و إن كان». و ضمير «مفادهما» راجع إلى العام و الخاص.

(6) تعليل لمرجعية العام في هذه الصورة، و حاصله: الاقتصار في تخصيص العام على القدر المتيقن، و هو مقدار دلالة الخاص، ففي غيره يرجع إلى العام، لكونه شكا في التخصيص الزائد، و ضمير «تخصيصه» راجع على العام.

(7) الضمير للشأن يعني: و لكن لو لا دلالة العام على حكم ما بعد زمان الخاص لكان استصحاب حكم الخاص مرجعا في هذه الصورة؛ إذ المفروض: ظرفية الزمان له المستلزمة لوحدة الموضوع في مورد دلالة الخاص و غيره الموجبة لعدم كون الاستصحاب فيه تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر، حتى يكون قياسا لا استصحابا، و لذا يرجع إليه إذا ابتلى العام بمانع، كما إذا كان له معارض أو علم إجمالا بتخصيصه بين مورد الشك و غيره، و غير ذلك مما يوجب سقوط أصالة العموم عن الحجية، كما إذا ورد «أكرم العلماء كل يوم» و خصصه بقوله: «لا تكرم زيدا يوم الجمعة»، و كان المنهي عنه

ص: 95

لما (1) عرفت من أن الحكم في طرف الخاص قد أخذ على نحو (2) صح استصحابه، فتأمل تعرف أن إطلاق كلام شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه» في المقام نفيا (3) و إثباتا في غير محله.

=============

أصل الإكرام لا خصوصية وقوعه في يوم الجمعة حتى يكون الزمان قيدا له، ثم قال: لا يجب إكرام العلماء فيسقط العامان بالتعارض. و يستصحب حكم الخاص أعني: الحرمة.

(1) تعليل لاستصحاب حكم الخاص، و حاصله: «كما مر آنفا: أن مقتضى ظرفية الزمان في الخاص صحة استصحاب حكمه في غير مورد دلالته؛ لوحدة الموضوع في زماني الخاص و ما بعده، لكن العام مانع عن جريانه، لدلالته على حكم ما بعد زمان الخاص.

(2) المراد بهذا النحو: هو ظرفية الزمان الخاص لا قيديته له؛ إذ مع الظرفية لا تنثلم وحدة الموضوع، فيصح الاستصحاب فيما بعد زمان الخاص، و مع القيدية تنثلم وحدته و يتعدد الموضوع، و مع تعدده لا يجري الاستصحاب. و ضمير «استصحابه» راجع إلى الحكم.

(3) قال الشيخ الأنصاري: «الحق هو التفصيل في المقام بأن يقال: إن أخذ فيه عموم الأزمان أفراديا بأن أخذ كل زمان موضوعا مستقلا لحكم مستقل لينحل العموم إلى أحكام متعددة بتعدد الأزمان كقوله: «أكرم العلماء كل يوم»، فقام الإجماع على حرمة إكرام زيد العالم يوم الجمعة، و مثله ما لو قال: أكرم العلماء، ثم قال لا تكرم زيدا يوم الجمعة، إذا فرض أن الاستثناء قرينة على أخذ كل زمان فردا مستقلا، فحينئذ: يعمل عند الشك بالعموم و لا يجري الاستصحاب. و إن أخذ لبيان الاستمرار كقوله: أكرم العلماء دائما، ثم خرج فرد في زمان و شك في حكم ذلك الفرد بعد ذلك الزمان، فالظاهر جريان الاستصحاب؛ إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم؛ لأن مورد التخصيص الأفراد دون الأزمنة، بخلاف القسم الأول».

و محصل كلامه في طرف النفي هو: أنه في صورة ظرفية الزمان للعام لا يرجع إلى العام في صورة الشك و مقتضى إطلاق حكمه بعدم مرجعية العام هو: عدم الفرق بين كون الزمان مأخوذا في الخاص ظرفا كالعام، و كونه قيدا. كما أن مقتضى إطلاقه عدم الفرق أيضا بين كون الخاص مخصصا من الابتداء كخياري المجلس و الحيوان، و من الأثناء كالخيارات الحادثة بعد العقد. و قد عرفت: أن المصنف اعترف بالإطلاق الأول و أنكر الإطلاق الثاني.

ص: 96

و ادعى صحة الرجوع إلى العام إذا كان التخصيص من الأول، و عدم صحته إذا كان التخصيص في الأثناء مع كون الزمان ظرفا، فعدم صحة الرجوع إلى العام مع ظرفية الزمان مختص بالتخصيص في الأثناء، هذا في إطلاق كلامه في طرف النفي.

و أما محصل كلامه في طرف الإثبات فهو: أن إطلاق الرجوع على استصحاب حكم الخاص فيما إذا كان الزمان ظرفا للعام يشمل ما إذا أخذ الزمان مفردا للخاص و إن كان ظرفا في العام. و هذا الإطلاق أيضا في غير محله؛ لما عرفت من: أن مفردية الزمان توجب تعدد الموضوع في زمان الخاص و ما بعده، و مع هذا التعدد يخرج انسحاب حكم الخاص إلى غير زمانه عن الاستصحاب إلى القياس. فإطلاق كلامه في إثبات استصحاب حكم الخاص في غير محله؛ بل لا بد من تقييده بما إذا أخذ الزمان ظرفا فيه لا قيدا و مفردا له؛ و إلاّ فلا يجري فيه الاستصحاب، بل يرجع فيه إلى سائر الأصول العملية.

فالمتحصل: أن إطلاق كلامه «قدس سره» في نفي مرجعية العام مخدوش؛ لأنه مرجع فيما إذا كان التخصيص من الابتداء أو في الانتهاء.

و كذا إطلاق كلامه في إثبات مرجعية الاستصحاب؛ لما عرفت: من تقييد مرجعيته بما إذا كان الزمان ظرفا في الخاص، و أما إذا كان قيدا له - و إن كان ظرفا للعام - فلا مجال لاستصحابه؛ بل يرجع إلى سائر الأصول.

هذا كما في «منتهى الدراية، ج 7، ص 703».

و هناك كلام طويل أضربنا عنه رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من هذا التنبيه هو: أنه إذا خرج فرد من أفراد العام في زمان و شك فيه بعد ذلك الزمان، فهل يجري الاستصحاب أم يتمسك فيه بالعام ؟

و قبل البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام فيقال: إن موضوع الكلام فيه ما إذا ورد عام مطلق من حيث الزمان؛ بأن دل على استمرار الحكم في جميع الأزمنة إلى الأبد، ثم خصص بعض أفراده في زمان معين و شك بعد انقضاء الزمان الخاص في حكم الفرد الخاص في أنه محكوم بحكم الخاص أم لا، فهل يرجع إلى العموم أو إلى استصحاب حكم المخصص ؟

ص: 97

ذهب إلى كلّ جماعة، فمرجع البحث إنما هو لتعيين موارد الرجوع إلى العموم و تمييزها عن موارد التمسك بالاستصحاب فيقال: هل المرجع فيه عموم العام أم استصحاب حكم الخاص ؟

إذا عرفت ما هو محل الكلام في المقام فاعلم: أن في هذه المسألة أقوالا.

2 - الأقوال فيها أربعة:

الأول: ما عن المحقق الثاني من التمسك بالعموم مطلقا.

الثاني: استصحاب حكم الخاص كذلك كما عن السيد بحر العلوم «قدس سره».

الثالث: التفصيل بين المخصص اللبّي و اللفظي بالتمسك بالعام في الأول، و بالاستصحاب في الثاني كما عن صاحب الرياض «قدس سره».

الرابع: التفصيل بين العموم الاستغراقي و العموم المجموعي بالرجوع إلى العموم في الأول، و إلى الاستصحاب في الثاني كما عن الشيخ «قدس سره».

3 - و توضيح تفصيل الشيخ، يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين العموم الاستغراقي و العموم المجموعي. و هو: أن الحكم يتعدد بتعدد الأفراد في العموم الاستغراقي، فلكل حكم إطاعة و معصية و امتثال و مخالفة، هذا بخلاف العموم المجموعي حيث يكون هناك حكم مستمر كوجوب الإمساك من طلوع الفجر إلى المغرب، فلا يكون وجوب الإمساك تكليفا متعددا بتعدد آنات هذا اليوم.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه إن كان العموم من القسم الأول فالمرجع بعد الشك هو العموم؛ لأنه بعد خروج بعض الأفراد عن العموم لا مانع من الرجوع إليه؛ لإثبات الحكم لباقي الأفراد.

و إن كان في القسم الثاني: فالمرجع هو الاستصحاب؛ لأن الحكم واحد على الفرض، و قد انقطع يقينا، و إثباته بعد الانقطاع يحتاج إلى دليل و مقتضى الاستصحاب بقاء حكم المخصص.

4 - قول صاحب الكفاية ردّا على تفصيل الشيخ: بأن مجرد كون العموم الأزماني من قبيل العموم المجموعي لا يكفي في الرجوع إلى الاستصحاب؛ بل لا بد من ملاحظة الدليل المخصص أيضا، فإن أخذ الزمان فيه بعنوان الظرفية فلا مانع من التمسك بالاستصحاب، و إن كان الزمان قيدا فلا يمكن التمسك بالاستصحاب؛ لأن ذلك يكون

ص: 98

من إسراء حكم ثابت لموضوع إلى موضوع آخر و هو قياس محرم، فلا بد من الرجوع إلى أصل آخر من البراءة أو الاشتغال حسب ما يقتضيه المقام هذا على تقدير كون العموم مجموعيا.

و أما إذا كان العموم استغراقيا: فالمتعين فيه هو الرجوع إلى العام إن لم يكن له معارض، و إلاّ فيتمسك بالاستصحاب إن كان الزمان في الدليل المخصص ظرفا و إن كان قيدا لا يمكن التمسك بالاستصحاب أيضا، فلا بد من الرجوع إلى أصل آخر.

5 - الصور و الاحتمالات على ما ذكره المصنف «قدس سره» أربع:

الأولى: أن يكون العام استغراقيا مع كون الزمان مأخوذا في دليل التخصيص بنحو الظرفية.

الثانية: هي الأولى مع كون الزمان مأخوذا على نحو القيدية.

و حكمها: الرجوع إلى العام مع عدم المعارض؛ و إلاّ فيرجع إلى الاستصحاب في الأولى، و إلى أصل آخر في الثانية.

الثالثة: أن يكون العموم مجموعيا مع كون الزمان ظرفا.

الرابعة: هي الثالثة مع كون الزمان قيدا. و حكمهما هو الرجوع إلى الاستصحاب في الثالثة و إلى أصل آخر في الرابعة.

فالمتحصل: أن تقسيم الشيخ يكون ثنائيا نظرا إلى فرض العام استغراقيا تارة، و مجموعيا أخرى.

و أما تقسم المصنف: فيكون رباعيا، نظرا إلى فرض الزمان في الخاص ظرفا تارة، و قيدا أخرى.

ثم ما أفاده المصنف أولى مما أفاده الشيخ لكونه جامعا لجميع الصور و الاحتمالات.

6 - إن خطاب العام الدال على الحكم لكل فردان كان الزمان قيدا؛ لكل فرد إن كان الزمان قيدا كما إذا قال: «أكرم العلماء من هذا اليوم إلى عشرة أيام»، و كان للعام عشرة أفراد، كان إكرام كل واحد منهم في كل يوم واجبا مستقلا غير مرتبط بإكرامه في يوم آخر، فيكون عموم العام شاملا لجميع هذه الأفراد في عرض واحد، و ينحل إليها على حد سواء.

ص: 99

غاية الأمر: أن عموم العام بالإضافة إلى ذوات العلماء عموم أفرادي، و بالقياس إلى قطعات الزمان عموم أزماني.

و إن كان الزمان فيه ظرفا فقط؛ بحيث يكون الحكم الثابت لكل فرد حكما واحدا مستمرا من أوّل حدوثه إلى آخر اليوم العاشر، فلا يكون للعام العموم الأزماني؛ بل له العموم الأفرادي فقط.

فالإكرامات في المثال المذكور عشرة بناء على الظرفية، كما أنها مائة بناء على القيدية بلحاظ قطعات الأزمنة.

و هذا التفصيل هو الذي اختاره الشيخ «قدس سره».

و لكن المصنف أجرى فرض ظرفية الزمان و قيديته في ناحية المخصص أيضا، فمثل:

«لا تكرم زيدا يوم الجمعة» يحتمل فيه كل من القيدية و الظرفية، فيحصل من قسمي المخصص مع قسمي العام أربعة أقسام. و سيأتي في كلام المصنف أحكام هذه الصور.

7 - حكم ما إذا كان الزمان مأخوذا على نحو الظرفية في كل من العام و الخاص كما أشار إليه بقوله: «فإن كان مفاد كل من العام و الخاص على النحو الأول»؛ و هو كون الزمان في كل منهما مأخوذا ظرفا لاستمرار الحكم و الحكم فيه بعد زمان الخاص هو الرجوع إلى استصحاب حكم الخاص، و هو عدم وجوب إكرام زيد في قولنا: «أكرم العلماء و لا تكرم زيدا العالم يوم الجمعة»، و لا يتمسك بعموم العام؛ إذ ليس الفرد الخارج إلاّ فردا واحدا و ليس متعددا بتعدد الأزمنة حتى يقال: إن المتيقن هو تخصيص العام بفرد واحد، و الشك في تخصيصه بعد زمان الخاص شك في تخصيصه بفرد آخر و هو من صغريات الشك في التخصص الزائد الذي يرجع فيه إلى العام. كما لا يتشبث بالخاص أيضا لعدم كون الزمان قيدا؛ بل يكون ظرفا فقط، فلا يدل إلاّ على انتفاء الحكم في زمانه و هو يوم الجمعة، و لا يدل على حكم ما بعده نفيا و إثباتا، فلا بد فيه من الرجوع إلى الأصل و هو الاستصحاب.

حكم ما إذا كان الزمان قيدا لكل من العام و الخاص - و هو القسم الثاني - و قد أشار إليه بقوله: «و إن كان مفادهما على النحو الثاني» و هو كون الزمان قيدا لكل من العام و الخاص.

و حاصله: أن الزمان إن كان قيدا لكل منهما كما إذا وجب الجلوس في كل آن في المسجد، ثم خرج منه الجلوس في الساعة الأولى من النهار مثلا، فلا بد حينئذ من

ص: 100

التمسك بالعام في غير مورد دلالة الخاص عليه كالساعة الثانية من النهار، بداهة: أن الجلوس فيها فرد آخر للعام يشك في خروجه، فيتمسك بالعام لكونه شكا في التخصيص الزائد؛ إذ المفروض: أن للعام عموما أزمانيا كعمومه الأفرادي.

8 - حكم ما إذا كان الزمان ظرفا للعام و قيدا للخاص:

و هو القسم الثالث الذي أشار إليه بقوله: «و إن كان مفاد العام على النحو الأول» و حاصله: أنه لا يرجع فيه إلى العموم كما لا يجري فيه الاستصحاب، فلا بد في تعيين الوظيفة من الرجوع إلى حجة أخرى.

أما عدم مرجعية العام فيه: فلفرض ظرفية الزمان لاستمرار حكم وحداني لكل واحد من أفراده، و قد انقطع هذا الحكم بورود المخصص الذي كان الزمان قيدا له.

و أما عدم جريان استصحاب حكم الخاص فيه: فلتعدد الموضوع حيث إن زمان الخاص فرد مغاير لما بعده من الزمان، فاستصحاب حكم الموضوع الواقع في زمان خاص إلى الموضوع الواقع بعد زمان الخاص تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر مغاير للموضوع الأول، و مع تعدد الموضوع يكون قياسا لا استصحابا.

و قد أشار إلى القسم الرابع بقوله: «و إن كان مفادهما على العكس» و هو ما إذا كان الزمان قيدا للعام و ظرفا للخاص، و المرجع حينئذ في غير مورد دلالة الخاص هو العام؛ إذ المفروض: أن ما بعد زمان الخاص فرد أيضا من أفراد العام و يشك في تخصيصه زائدا على التخصيص المعلوم، و قد قرر في محله: مرجعية العام في الشك في التخصيص الزائد كمرجعيته في الشك في أصل التخصيص، و مع دلالة العام على حكم غير مورد دلالة الخاص لا مجال لاستصحاب حكم الخاص أصلا؛ لعدم جريان الأصل مع الدليل.

9 - نظريات المصنف «قدس سره»:

1 - استصحاب حكم المخصص فيما إذا كان الزمان ظرفا لكل من العام و الخاص.

2 - الرجوع إلى العام في غير مورد دلالة الخاص إن كان الزمان قيدا لكل من العام و الخاص.

3 - الرجوع إلى حجة أخرى دون العام، و استصحاب حكم المخصص فيما إذا كان الزمان ظرفا للعام و قيدا للخاص.

4 - المرجع في غير مورد دلالة الخاص هو العام فيما إذا كان الزمان قيدا للعام و ظرفا للخاص.

ص: 101

الرابع عشر (1): الظاهر أن الشك في أخبار الباب و كلمات الأصحاب هو خلاف اليقين، فمع (2) الظن بالخلاف فضلا عن الظن بالوفاق يجري الاستصحاب. و يدل عليه (3) - مضافا إلى أنه كذلك لغة (4) كما في الصحاح (5)،...

=============

تنبيه الرابع عشر في كون المراد بالشك في الاستصحاب هو خلاف اليقين
اشارة

تنبيه الرابع عشر في كون المراد بالشك في الاستصحاب هو خلاف اليقين(1) الغرض من عقد هذا التنبيه الرابع عشر: هو بيان ما هو المراد من الشك المأخوذ في الاستصحاب، و هو أحد ركني الاستصحاب، هل المراد هو الشك بمعنى: تساوي الطرفين، أو بمعنى اللغوي أعني: عدم اليقين الشامل للظن غير المعتبر؟ فيكون المراد باليقين حينئذ هو الأعم من اليقين الوجداني كالعلم، و اليقين التعبدي كالظن المعتبر.

و ما يظهر من المصنف «قدس سره» هو المعنى الثاني، أعني: المراد من الشك هو خلاف اليقين حيث قال: «الظاهر أن الشك في أخبار الباب و كلمات الأصحاب هو خلاف اليقين»، فيشمل للشك بمعنى: تساوي الاحتمالين و راجحهما و مرجوحهما، أعني: الشك و الظن و الوهم.

و وجه الظهور: هو جعل الناقض لليقين السابق في أخبار الباب منحصرا في اليقين بالخلاف، فما لم يحصل هذا الناقض يبني على اليقين السابق و إن حصل الظن على خلافه، و إلاّ مع قيام الحجة على اعتباره.(2) هذه نتيجة أعمية الشك؛ إذ مع كونه بمعنى بتساوى الاحتمالين - كما هو المصطلح من الشك عند أهل الميزان - لا يندرج شيء من الظن بالخلاف و الوفاق في الشك بمعناه الاصطلاحي.

(3) أي: و يدل على كون الشك خلاف اليقين أمور هذا أولها، و بيانه: أن غير واحد من اللغويين صرح بأن الشك هو خلاف اليقين؛ بل يمكن استظهار اتفاقهم على ذلك من كلمات بعضهم، ففي مجمع البحرين: «الشك: الارتياب، و هو خلاف اليقين، و يستعمل فعله لازما و متعديا كما نقل عن أئمة اللغة، فقولهم: خلاف اليقين يشتمل التردد بين الشيئين، سواء استوى طرفاه أم رجح أحدهما على الآخر». مجمع البحرين، 2، 536.

(4) قد عرفت عبارة مجمع البحرين و ظهورها في اتفاق أهل اللغة عليه، و قوله:

«كذلك» أي: خلاف اليقين.

(5) قال فيه: «الشك خلاف اليقين»(1) و مثله ما في القاموس(2).

ص: 102


1- مجمع البحرين 536:2 - شك.
2- القاموس المحيط 309:3 - الشك.

و تعارف (1) استعماله فيه في الأخبار في غير باب (2) - قوله (3) «عليه السلام» في

=============

(1) عطف على «أنه» يعني: و مضافا إلى تعارف استعماله، و هذا إشارة إلى الأمر الثاني، و محصله: استعمال لفظ الشك في روايات الشك في عدد الركعات و أخبار قاعدة التجاوز؛ بل و بعض الأصول العملية، حيث إن المراد بالشك فيها خلاف اليقين.

فراجع محله في الفقه.

(2) يعني: في أبواب متعددة كباب الشك في الركعات، و قاعدتي التجاوز و الفراغ و غيرها. و ضمير «استعماله» راجع إلى الشك، و ضمير «فيه» راجع إلى «خلاف اليقين».

(3) فاعل «و يدل»، و هذا إشارة إلى الأمر الثالث، و محصله: أنه يدل على إرادة «خلاف اليقين» من «الشك» ما ورد في نفس أخبار الاستصحاب من موارد نبّه عليها الشيخ أيضا.

منها: قوله «عليه السلام» في صحيحة زرارة الأولى المتقدمة: «و لكن تنقضه بيقين آخر»، حيث إنه يحدد ناقض اليقين باليقين، و قد ثبت في محله: «أن التحديد يفيد الحصر، فإن تحديد الكرّ بألف و مائتي رطل عراقي مثلا ينفي الزيادة على هذا المقدار و النقيصة عنه، ففي المقام ينفي حصر الناقض باليقين كل ما هو خلاف اليقين من الشك المصطلح و الظن و الوهم، غاية الأمر: أن الظن المعتبر كالعلم في الاعتبار.

و بالجملة: يدل هذا الحصر بقرينة التحديد أن المراد بالشك في باب الاستصحاب خلاف اليقين، ثم يراد باليقين بسبب دليل حجية الأمارات غير العلمية الحجة، فكأنه قيل: «لا تنقض اليقين إلاّ بالحجة على خلافه».

و منها: قوله «عليه السلام» في الصحيحة المتقدمة أيضا: «لا حتى يستيقن أنه قد نام».

توضيحه: أن إطلاق جواب الإمام «عليه السلام» بعدم وجوب الوضوء على من تيقن الطهارة و عرضته الخفقة و الخفقتان؛ بحيث لم يلتفت إلى تحريك شيء في جنبه، مع ترك استفصاله «عليه السلام» بين إفادة الخفقة - التي هي من أمارات النوم عادة - للظن بالنوم و عدمها، مع إفادتها له أحيانا «يدل» على أن الحكم المذكور أعني: عدم وجوب الوضوء ثابت ما لم يحصل العلم بالخلاف، و لو حصل الظن بالخلاف فلا بد أن يراد بالشك حينئذ خلاف اليقين، فيدل على اعتبار الاستصحاب مطلقا حتى مع الظن بالخلاف.

و منها: قوله «عليه السلام»: «و لا تنقض اليقين بالشك»، بتقريب: أنه «عليه السلام» - بعد الحكم بعدم وجوب إعادة الوضوء إلاّ بعد اليقين بالنوم - نهى عن نقض اليقين بالشك و هذا النهي بقرينة ذلك الحكم المغيّى باليقين بالخلاف أي: النوم يراد بالشك في

ص: 103

أخبار الباب: «و لكن تنقضه بيقين آخر»، حيث (1) إن ظاهره أنه في بيان تحديد ما ينقض به اليقين و أنه (2) ليس إلاّ اليقين. و قوله (3) أيضا: «لا حتى يستيقن أنه قد نام» بعد السؤال عنه «عليه السلام» عما إذا حرك في جنبه شيء و هو لا يعلم، حيث (4) دل بإطلاقه مع ترك الاستفصال بين ما إذا أفادت هذه الأمارة (5) الظن و ما إذا لم تفده، بداهة (6) أنها لو لم تكن مفيدة له دائما لكانت مفيدة له أحيانا على (7) عموم النفي لصورة الإفادة.

و قوله (8) «عليه السلام»...

=============

جملة النهي خلاف اليقين الذي هو مطلق يشمل الشك و الظن و الوهم، هذا ما يتعلق بظاهر عبارة المتن.

(1) هذا تقريب دلالة «و لكن تنقضه بيقين آخر» على إرادة خلاف اليقين من الشك في أخبار الاستصحاب، و قد عرفت تقريبه، فلا حاجة لى الإعادة و التكرار.

و ضميرا «ظاهره، أنه» راجعان إلى «قوله»، و ضمير «به» راجع إلى «ما» الموصول.

(2) عطف على «أنه». و ضميره راجع إلى الموصول يعني: و أن ما ينقض به اليقين ليس إلاّ اليقين، و إذا انحصر الناقض باليقين فلا محالة يراد بالشك خلاف اليقين.

(3) عطف على «قوله»، و هذا أيضا من الصحيحة الأولى لزرارة.

(4) هذا تقريب الاستدلال بالجملة المذكورة، و قد مر توضيحه. و ضميرا «بإطلاقه، و المستتر» في «دل» راجعان إلى «قوله» و «بعد السؤال» ظرف ل «قوله».

(5) و هي الخفقة و الخفقتان، حيث إنهما أمارتان تفيدان الظن بالنوم تارة، و لا تفيدانه أخرى.

(6) غرضه: إثبات صحة الإطلاق الناشئ عن ترك الاستفصال.

توضيحه: أن الأمارة المزبورة لما كانت مفيدة للظن بالنوم - و لو نادرا - كان لاستفصال الإمام «عليه السلام» عن إفادتها للظن و عدمها مجال، فترك الاستفصال حينئذ يفيد الإطلاق، و عدم إعادة الوضوء مطلقا، سواء أفادت هذه الأمارة الظن بالنوم أم لم تفده، و ضمير «أنها» راجع إلى الأمارة.

(7) متعلق بقوله: «دل»، و المراد ب «عموم النفي» نفي وجوب الوضوء في كلتا صورتي الظن بالخلاف - أي: بحصول النوم - و عدمه. و ضميرا «له» في كلا الموضعين راجعان إلى الظن.

(8) عطف على قوله: «قوله» يعني: و يدل عليه قوله «عليه السلام» بعده: «و لا ينقض

ص: 104

بعده (1): «و لا ينقض اليقين بالشك» أن (2) الحكم في المغيّى (3) مطلقا (4) هو عدم نقض اليقين بالشك كما لا يخفى.

و قد استدل عليه (5) أيضا بوجهين آخرين: الأول: الإجماع القطعي على اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف (6) على تقدير اعتباره من باب الأخبار.

و فيه (7): أنه لا وجه لدعواه، و لو سلم اتفاق الأصحاب على...

=============

اليقين بالشك»، و هو إشارة إلى المورد الثالث المتقدم و هو «و منها: قوله «عليه السلام»:

«و لا ينقض اليقين بالشك».

(1) أي: بعد قوله «عليه السلام»: «لا حتى يستيقن أنه قد نام».

و قد عرفت: أن جملة «و لا ينقض اليقين بالشك» بنفسها لا تصلح لإثبات إرادة خلاف اليقين من الشك، بل لا بد من ضم جملة «حتى يستيقن أنه قد نام» إليها، و لا حاجة إلى مثل هذا الاستدلال التكلفي مع إمكان إثبات المطلوب بغيره بلا تكلف، كقوله «عليه السلام»: «و لكن ينقضه بيقين آخر» كما صنعه الشيخ.

(2) الصواب دخول «على» على «أن» و هو متعلق ب «يدل»، يعني: و يدل قوله «عليه السلام»... الخ.

(3) و هو قوله «عليه السلام»: «لا حتى يستيقن أنه قد نام».

(4) يعني: و إن كان الظن على خلافه، فلا بد من البناء على الوضوء المعلوم سابقا حتى مع الظن بخلافه.

(5) أي: و استدل على كون الشك في باب الاستصحاب خلاف اليقين بوجهين آخرين - غير الوجوه الثلاثة المتقدمة - أولهما الإجماع و المستدل بهما هو الشيخ في الرسائل، راجع: «دروس في الرسائل، ج 5، ص 192»، حيث قال «و يدل عليه وجوه:

الأول: الإجماع القطعي»(1)، يعني: مقتضى الإجماع القطعي هو حجية الاستصحاب مع الظن بالخلاف بناء على اعتباره من باب الأخبار و التعبد، لا من باب الظن.

(6) أي: بخلاف الحالة السابقة، لكن الإجماع على الاعتبار إنما هو «على تقدير اعتباره» أي: اعتبار الاستصحاب «من باب الأخبار». أما لو اعتبرناه من باب إفادته الظن لم يكن حجة إذا كان الظن النوعي على خلافه.

(7) هذا جواب الاستدلال بالإجماع، و هو ينحل إلى وجهين:

أحدهما: عدم ثبوت الاتفاق على اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف، إما لما

ص: 105


1- فرائد الأصول 285:3.

الاعتبار (1)؛ لاحتمال (2) أن يكون ذلك (3) من جهة ظهور دلالة الأخبار عليه.

الثاني (4): أن الظن غير المعتبر إن علم بعدم اعتباره...

=============

قيل: من كون المسألة مستحدثة، و أنه لم يكن لها في كلمات المتقدمين على الشيخ المفيد «قدس سره» عين و لا أثر. و إما لاختلاف من تعرض لها في حجيته مطلقا، أو في خصوص الشك الذي تساوى طرفاه. هذا ما أشار إليه بقوله: «لا وجه لدعواه» أي:

دعوى الإجماع.

ثانيهما: أنه بعد فرض ثبوت الاتفاق المزبور يحتمل استنادهم في ذلك إلى ظهور الأخبار المشار إليها فيه، و مع هذا الاحتمال يخرج عن الإجماع التعبدي الكاشف عن رأي المعصوم «عليه السلام» إلى الإجماع المدركي، الذي لا يصلح للركون إليه كما لا يخفى. و قد أشار إليه بقوله: «لاحتمال أن يكون ذلك من جهة ظهور دلالة الأخبار عليه». و ضمير «أنه» للشأن، و ضمير «اعتباره» راجع إلى الاستصحاب.

(1) أي: اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف.

(2) تعليل لقوله: «لا وجه لدعواه» و حاصله: أنه مع احتمال استناد المجمعين إلى الروايات لا يصلح هذا الإجماع للحجية لاحتمال مدركيته.

(3) أي: اتفاق الأصحاب. و ضمير «عليه» راجع إلى الاعتبار مع الظن بالخلاف.

(4) هذا هو الوجه الثاني الذي استدل به الشيخ «قدس سره».

و بيانه: أن الظن على خلاف اليقين السابق إن كان عدم اعتباره لقيام الدليل الخاص عليه كالظن القياسي، فمعنى عدم حجيته: عدم الاعتناء به و فرض وجوده كعدمه، و لازم هذا الفرض: جريان الاستصحاب في صورة قيامه على خلاف اليقين السابق كصورة عدم قيامه على خلاف ذلك اليقين؛ لأن من آثار تنزيل وجوده منزلة عدمه جريان الاستصحاب مع وجوده كجريانه مع عدمه.

و إن كان عدم اعتباره لعدم الدليل على حجيته كالشهرة الفتوائية و نحوها من الظنون غير المنهي عنها بدليل خاص، فعدم جواز رفع اليد به عن اليقين إنما هو لأجل صدق نقض اليقين بالشك على هذا الرفع، و من البديهي: عدم جوازه، و ذلك لأن الحكم الواقعي و إن لم يكن مشكوكا في الزمان اللاحق بل مظنون العدم لقيام الظن على خلافه؛ إلاّ إن الحكم الفعلي المعلوم في السابق يكون مشكوك البقاء في اللاحق؛ لأن جواز المضي على طبق الظن بارتفاعه مشكوك أيضا، فيصير الحكم الفعلي مشكوكا فيه فعلا بعد ما كان متيقنا سابقا، و هذا بنفسه موضوع أدلة الاستصحاب من نقض اليقين السابق بالشك اللاحق.

ص: 106

بالدليل (1) فمعناه: أن وجوده كعدمه عند الشارع، و أن (2) كلما يترتب شرعا على تقدير عدمه فهو المترتب على تقدير وجوده و إن كان (3) مما شك في اعتباره، فمرجع (4) رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشك فتأمل جيدا (5).

و فيه (6): أن قضية عدم اعتباره - لإلغائه أو لعدم الدليل على اعتباره - لا يكاد

=============

(1) أي: الدليل الخاص كالظن القياسي حيث إنه نهى عنه بنص خاص.

(2) عطف تفسيري لقوله: «أن وجوده» و أن محصله: أن معنى وجوده كعدمه هو ترتيب أثر عدمه على وجوده، فكما لو لم يقم الظن القياسي على خلاف الحالة السابقة كان الاستصحاب جاريا، فكذلك لو قام على خلافها.

و ضمير «فمعناه» راجع إلى «عدم اعتباره»، و ضمائر «وجوده، كعدمه، عدمه وجوده» راجعة إلى «الظن».

(3) عطف على «إن علم»، و الأولى أن يقال: «و إن شك في اعتباره»؛ لكنه عين عبارة الشيخ «قدس سره».

و كيف كان؛ فهو إشارة إلى صورة كون عدم حجية الظن لأجل عدم الدليل على اعتباره. و قد مرّ توضيح ذلك.

(4) جواب «و إن كان». و قوله «بسببه» متعلق ب «مرجع».

(5) لعله إشارة إلى منع صدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن اليقين السابق بالظن المشكوك اعتباره؛ إذ لا بد في صدقه من اتحاد متعلق اليقين و الشك حتى يكون الشك في بقاء نفس ما كان على يقين منه، و من المعلوم: أن الشك هنا لم يتعلق بالمتيقن السابق؛ بل تعلق بأمر آخر و هو حجية الظن، فرفع اليد عن اليقين حينئذ نقض لليقين بالظن لا بالشك.

و الحاصل: أن المشكوك هو الحجية، و هي غير المتيقن السابق، فلم يتحد متعلقا اليقين و الشك.

(6) هذا ردّ من المصنف على الوجه الثاني من الوجهين الآخرين. و توضيح هذا الرّد يتوقف على مقدمة و هي: أن عدم اعتبار الظن قد يكون بمعنى ترتيب آثار الشك عليه.

و قد يكون بمعنى عدم ترتيب آثار الظن.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن مقتضى عدم اعتبار الظن هو عدم ترتيب آثار الظن عليه لا ترتيب آثار الشك عليه، فلا يجري الاستصحاب عند قيام الظن غير المعتبر على

ص: 107

يكون إلا عدم إثبات مظنونه به تعبدا، ليترتب عليه آثاره شرعا، لا ترتيب (1) آثار الشك مع عدمه؛ بل لا بد حينئذ (2) في تعيين أن الوظيفة أيّ أصل من الأصول العملية خلاف الحالة السابقة؛ و ذلك لعدم الشك، و لم يترتب عليه أثر الظن أيضا لأنه ليس بحجة على الفرض، و لازم ذلك هو: الرجوع إلى سائر الأصول العملية.

=============

و بعبارة أخرى: أن مقتضى عدم اعتبار ظن ليس عقدا إيجابيا و هو ترتيب آثار الشك المتساوي طرفاه على وجود الظن غير المعتبر حتى يجري فيه الاستصحاب الذي هو من آثار هذا الشك؛ بل مقتضاه عقد سلبي، و هو عدم ثبوت المظنون بهذا الظن؛ ليترتب عليه آثاره الشرعية، فلو كان متيقنا لطهارة ثوبه مثلا، ثم شهد عدل واحد بنجاسته، و قلنا بعدم اعتبار شهادة عدل واحد في الموضوعات، فإن معنى عدم اعتبار شهادته: عدم ثبوت نجاسة الثوب؛ بها لا ثبوت آثار الشك بها التي منها الاستصحاب؛ إذ العقد السلبي لا يستلزم العقد الإيجابي، و تنزيل الظن غير المعتبر منزلة الشك في الآثار الشرعية.

و الخلاصة: فعدم اعتبار الظن ليس معناه ثبوت آثار الشك له؛ بل معناه عدم ثبوت مضمونه شرعا.

و عليه: فهذا الوجه الثاني لا يصلح لإثبات اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف؛ بل لا بد من الرجوع إلى الوجوه الأخر في إثباته.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح جواب المصنف في الجواب عن هذا الوجه الثاني من الوجهين الآخرين.

و ضميرا «عليه، و آثار» راجعان إلى المظنون بالظن غير المعتبر، و ضميرا «مظنونه، به» راجعان إلى الظن غير المعتبر.

(1) عطف على «عدم»، فإن نفي النفي إثبات، يعني: أن مقتضى عدم اعتبار الظن عدم إثبات مظنونه به؛ لا ترتيب آثار الشك عليه، فقوله: «لا ترتيب» إشارة إلى العقد الإيجابي، كما أن قوله: «إلاّ عدم إثبات مظنونه» إشارة إلى العقد السلبي، و ضمير «عدمه» راجع إلى «الشك».

و المراد بهذا الشك هو: المتساوي طرفاه بناء على كونه هو الظاهر من أخبار الاستصحاب، و الظن غير الشك، فلا بد في حكم الظن غير المعتبر القائم على خلاف الحالة السابقة من الرجوع إلى غير الاستصحاب، ففي مسألة الوضوء مع أمارة النوم يرجع إلى قاعدة الاشتغال القاضية بلزوم إحراز الطهارة للصلاة مثلا.

(2) أي: حين عدم اقتضاء الظن غير المعتبر العقد الإيجابي، أو حين ظن بخلاف الحالة السابقة.

ص: 108

من الدليل (1)، فلو فرض عدم دلالة الأخبار معه (2) على اعتبار الاستصحاب (3) فلا بد (4) من الانتهاء إلى سائر الأصول بلا شبهة و لا ارتياب، و لعله أشير إليه (5) بالأمر بالتأمل (6)، فتأمل جيدا.

=============

(1) متعلق ب «لا بد» يعني: بعد نفي العقد الإيجابي - و هو ترتيب آثار الشك على الظن غير المعتبر - لا بد في تعيين الوظيفة مع الظن غير المعتبر، من الرجوع إلى غير الاستصحاب.

(2) أي: مع الظن غير المعتبر، يعني: بناء على دلالة الأخبار على اعتبار الاستصحاب في خصوص الشك المصطلح - و هو ما تساوى طرفاه، و عدم دلالتها على اعتباره مع الظن بالخلاف - لا بد في تشخيص الوظيفة من الرجوع إلى غير أخبار الاستصحاب؛ لعدم الموضوع لها مع الظن بالخلاف؛ إلاّ إذا قام دليل آخر على اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف كالشك.

(3) لما فرض من دلالتها على اعتبار الاستصحاب في خصوص الشك المتساوي طرفاه.

(4) جواب «فلو»؛ إذ بعد اختصاص اعتبار الاستصحاب بالشك المصطلح فلا محيص عن الرجوع إلى غيره من سائر الأصول العملية في صورة الظن بالخلاف، ففي الظن بالفراغ يرجع إلى قاعدة الاشتغال، و في الظن بالتكليف يرجع إلى أصالة البراءة.

(5) أي: أشير إلى الإشكال المزبور و هو عدم اقتضاء الظن غير المعتبر للعقد الإيجابي، أعني: ترتيب آثار الشك عليه. و ضمير «لعله» للشأن.

(6) حيث قال الشيخ «قدس سره»: «و إن كان - يعني الظن غير المعتبر - مما شك في اعتباره، فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشك. فتأمل جيدا»(1).

فالمتحصل: أنه إن دل دليل الاستصحاب على أن الظن بالخلاف كالشك فلا بأس من القول به؛ و إلاّ كان المرجع فيما ظن بالخلاف - الأصول العملية - و لا ينفع دليل الشيخ في إلحاقه بالشك.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من عقد هذا التنبيه الرابع عشر: هو بيان المراد من الشك الذي هو أحد ركني الاستصحاب، هل هو بمعنى تساوي الطرفين أم بمعنى خلاف اليقين ؟

ص: 109


1- فرائد الأصول 285:3.

و ظاهر المصنف هو: المعنى الثاني. و وجه الظهور هو: جعل الناقض لليقين السابق في أخبار الباب منحصرا في اليقين بالخلاف.

2 - و الدليل: على كون المراد من الشك خلاف اليقين أمور:

الأول: قول أهل اللغة، ففي مجمع البحرين: «الشك و الارتياب هو خلاف اليقين»، و كذا في الصحاح و نحوهما.

الثاني: هو استعمال الشك في روايات الشك في عدد الركعات و أخبار قاعدة التجاوز بمعنى خلاف اليقين.

الثالث: ما ورد في نفس أخبار الاستصحاب كقوله «عليه السلام»: «و لكن تنقضه بيقين آخر»، حيث إنه يحدد ناقض اليقين باليقين، فيفيد التحديد في المقام حصر ناقض اليقين باليقين، فينفي كل ما خلاف اليقين من الشك المصطلح و الظن و الوهم.

و الخلاصة: يدل هذا الحصر بقرينة التحديد أن المراد بالشك في باب الاستصحاب خلاف اليقين.

و كقوله «عليه السلام»: «لا حتى يستيقن أنه قد نام»، بتقريب: أن إطلاق جواب الإمام «عليه السلام» بعدم وجوب الوضوء على من تيقن بالطهارة يدل على أن الحكم المذكور، أعني: عدم وجوب الوضوء ثابت ما لم يحصل العلم بالخلاف.

3 - استدل بالإجماع القطعي على كون المراد بالشك هو خلاف اليقين، إذ قام الإجماع على حجية الاستصحاب مع الظن بالخلاف بناء على اعتباره من باب الأخبار و التعبد؛ لا من باب الظن.

و الجواب: أوّلا: عدم ثبوت الإجماع على اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف؛ لكون المسألة مستحدثة.

و ثانيا: على فرض ثبوت الإجماع يحتمل استنادهم في ذلك إلى دلالة الأخبار فيخرج الإجماع عن الإجماع التعبدي الكاشف عن رأي المعصوم «عليه السلام» إلى الإجماع المدركي الذي لا يصلح للركون إليه.

4 - استدل أيضا: بأن الظن على خلاف اليقين السابق لا يخلو عدم اعتباره عن أحد احتمالين:

الأول: أن يكون هناك دليل خاص على عدم اعتباره كالقياس، فمعنى عدم حجيته:

فرض وجوده كعدمه، و لازم ذلك جريان الاستصحاب مع وجوده كما يجري مع عدمه.

ص: 110

تتمة (1):

=============

الثاني: أن يكون عدم اعتباره لعدم الدليل على حجيته كالشهرة الفتوائية، فعدم جواز رفع اليد عن اليقين إنما هو لأجل صدق نقض اليقين بالشك على هذا الرفع.

و من البديهي: عدم جوازه، و على كلا التقديرين يجري الاستصحاب مع الظن بالخلاف.

5 - و الجواب: أن عدم اعتبار الظن قد يكون بمعنى ترتيب آثار الشك عليه. و قد يكون بمعنى عدم ترتيب آثار الظن عليه.

ثم مقتضى عدم اعتبار الظن في المقام هو: عدم ترتيب آثار الظن عليه؛ لا ترتيب آثار الشك عليه، فلا يجري الاستصحاب عند قيام الظن غير المعتبر على خلاف الحالة السابقة، و ذلك لعدم الشك، و لم يترتب عليه أثر الظن أيضا؛ لعدم كونه حجة على الفرض، فيرجع إلى سائر الأصول العملية.

و الخلاصة: فعدم اعتبار الظن ليس معناه ثبوت آثار الشك له؛ بل معناه عدم ثبوت مضمونه شرعا، و عليه: فهذا الاستدلال ساقط لا يصلح لإثبات اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف.

6 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو: أن المراد بالشك في باب الاستصحاب هو خلاف اليقين.

تتمة في اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب
اشارة

(1) الغرض من بيان هذه التتمة: هو التعرض لشرطين من شرائط الاستصحاب و هما: بقاء الموضوع و عدم أمارة معتبرة في مورده؛ إذ معها لا تصل النوبة إلى الاستصحاب لحكومتها عليه، فهنا مقامان: مقام بقاء الموضوع، و مقام عدم أمارة معتبرة في مورد الاستصحاب لا على خلافه، و لا على وفاقه و قبل البحث تفصيلا عن اشتراط بقاء الموضوع في المقام الأول لا بد من بيان أمور:

الأول: بيان ما هو المراد من موضوع الاستصحاب.

الثاني: بيان ما هو المراد من بقاء الموضوع في باب الاستصحاب.

الثالث: بيان لزوم الدليل على بقاء الموضوع.

و أما الأمر الأول: فصاحب الكفاية لم يتعرض إلى ما هو المراد من الموضوع؛ و لكن الشيخ الأنصاري «قدس سره» قال في الرسائل: «و المراد به معروض المستصحب». راجع «دروس في الرسائل، ج 5، ص 201». فالمراد من الموضوع هو: معروض المستصحب،

ص: 111

لا يذهب عليك أنه لا بد في الاستصحاب من بقاء الموضوع، و عدم أمارة معبّرة هناك و لو على وفاقه (1)، فهاهنا مقامان:

=============

سواء كان المستصحب حكما كوجوب نفقة الزوجة أو غيره كحياته مثلا.

و أما الأمر الثاني: فيقال: إن المراد من بقاء الموضوع بقاؤه بجميع ما له دخل في عروض المستصحب لذلك المعروض.

و بعبارة أخرى: أن المراد من بقاء الموضوع في الاستصحاب هو كون الموضوع في القضية المشكوكة عين الموضوع في القضية المتيقنة؛ كي يكون الشك في الزمان اللاحق متعلقا بعين ما كان متيقنا في الزمان السابق، حتى يصدق نقض اليقين بالشك فيما لم يمض على طبق اليقين السابق؛ لأن المستفاد من أدلة الاستصحاب هو: وجوب المضي على طبق اليقين السابق، و عدم جواز نقضه بالشك، و لا يصدق المضي و النقض إلاّ مع اتحاد القضيتين موضوعا و محمولا و إنما التفاوت بينهما هو: كون ثبوت المحمول قطعيا في القضية المتيقنة، و محتملا في القضية المشكوكة.

فاعتبار بقاء الموضوع الراجع إلى اشتراط اتحاد القضيتين في الموضوع و المحمول مستفاد من أدلة الاستصحاب.

و لهذا يقول صاحب الكفاية: «إنه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع، بمعنى: اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة موضوعا؛ كاتحادهما حكما» أي: محمولا.

فالمتحصل: أن المقصود من بقاء الموضوع هو اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة موضوعا و محمولا. كقولك: «زيد عادل»، فلو لم يكن الموضوع - و هو عدالة زيد - باقيا لم يجر الاستصحاب؛ لأن عدالة بكر لم تكن متيقنة.

و الخلاصة: أن اعتبار بقاء الموضوع بهذا المعنى يكون أمرا بديهيا لا يحتاج إلى إقامة دليل و برهان. انتهى الكلام.

الأمر الثالث: و هو الدليل على اعتبار بقاء الموضوع فقد استدل عليه بوجوه:

منها: ما تقدم من استفادة ذلك من نفس أدلة الاستصحاب.

و منها: الإجماع كما حكي عن بعض، و المراد به هو اتفاق العلماء لا الإجماع المصطلح الكاشف عن رأي المعصوم «عليه السلام»؛ لأن بيان اعتبار بقاء الموضوع ليس من وظيفة الشارع.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية»

(1) أي: على وفاق الاستصحاب، كما إذا كان شيء معلوم الطهارة سابقا، و شك

ص: 112

المقام الأول (1):

أنه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع؛ بمعنى: اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة موضوعا كاتحادهما حكما (2)،...

=============

في بقائها، و قامت بيّنة على طهارته، فإنه يبني على طهارته للبيّنة لا للاستصحاب؛ لأن الأصل لا يجري مع الأمارة المعتبرة.

المقام الاول انه لا اشكال فى اعتبار بقاء الموضوع

(1) و حاصل الكلام في المقام: أنه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب؛ لأنه إدامة الوجود السابق في ظرف الشك؛ إما بالتعبد و إما بغيره.

ثم التعبير ببقاء الموضوع مذكور في كثير من الكلمات، مع إنه لا بد من بقاء المحمول أيضا، و لعل الاكتفاء بالموضوع لأجل أهميّته، أو لكون المراد بقاءه بوصف موضوعيته.

(2) أي: محمولا، يعني: يعتبر في الاستصحاب كون القضية المشكوكة عين القضية المتيقنة موضوعا و محمولا و نسبة كمثال: «زيد عادل»، من دون اختلاف بين القضيتين إلاّ في إدراك؛ لكونها في إحداهما معلومة، و في الأخرى مشكوكة. و الخلاصة:

فالقضيتان متحدتان في جميع وحدات التناقض إلاّ في زمان النسبة باليقين و الشك.

و غرضه من التعبير باتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة؛ بدلا عن التعبير ببقاء الموضوع دفع توهم، و هو: أن التعبير بالبقاء ظاهر في البقاء الخارجي، لظهور «البقاء» في استمرار الحادث، و حينئذ: يختص ذلك بما إذا كان المحمول من الأعراض و المحمولات المترتبة كالقيام و القعود و العدالة و الاجتهاد و نحوها؛ مما يكون موضوعها موجودا خارجيا.

و أما إذا كان المحمول نفس الوجود الذي هو أوّل محمول يحمل على الماهيات، فاعتبار بقاء الموضوع فيه يغني عن الاستصحاب؛ إذ مع العلم بوجود زيد في الزمان الثاني لا معنى لاستصحاب وجوده فيه.

و بالجملة: فإشكال التعبير بالبقاء هو اختصاص اعتبار بقاء الموضوع بما إذا كان المحمول من الأعراض و المحمولات الثانوية، و عدم كونه عاما لجميع الموارد التي منها كون المحمول نفس الوجود كقولنا: «زيد موجود».

و قد أجاب الشيخ «قدس سره» عن هذا الإشكال بما حاصله: من أن المراد ببقاء الموضوع بقاؤه على نحو معروضيته للمستصحب، ففي استصحاب قيام زيد يكون الموضوع وجوده الخارجي؛ لأنه كان سابقا معروضا للقيام، و في استصحاب وجود زيد يكون الموضوع تقرره الماهوي لا وجوده الخارجي؛ إذ لا يعقل أن يكون زيد بوجوده

ص: 113

ضرورة (1): أنه بدونه لا يكون الشك في البقاء بل في...

=============

الخارجي معروضا للوجود؛ و إلاّ يلزم أن يكون معنى القضية «زيد موجود» زيد الموجود موجود، و من المعلوم: فساده.

و الخلاصة: فاستصحاب كل من المحمول الأولي - و هو الوجود - و المحمول الثانوي كالقيام و القعود صحيح، غاية الأمر: أن الموضوع في الأول هو الماهية المجردة عن الوجود الذهني و الخارجي، و هي باقية في زمان الشك في وجود زيد مثلا، فيصح استصحابه لبقاء معروضه و هو الماهية الممكنة القابلة للوجود، كما أن الموضوع في المحمول الثانوي كالقيام هو الوجود الخارجي، فالموضوع في «زيد قائم» مثلا هو «زيد الموجود»، ففي ظرف الشك في القيام يكون الموضوع أي: معروض المستصحب - الذي هو القيام أيضا - وجود زيد في الخارج. هذا محصل ما يستفاد من كلمات الشيخ «قدس سره» في بيان المراد ببقاء الموضوع في الاستصحاب، و دفع الإشكال المذكور بما عرفت.

و المصنف «قدس سره» عبّر عن اعتبار بقاء الموضوع بعبارة لا يرد عليها الإشكال المذكور حتى يحتاج إلى دفعه بما أفاده الشيخ؛ بل ظاهر تفسير المصنف لكلام الشيخ في حاشية الرسائل إرادة معنى واحد، سواء عبّر عنه ببقاء الموضوع أم باتحاد القضيتين قال فيها: «فالموضوع هو معروض المستصحب كما أفاده؛ لكن مع جميع القيود في عروضه عليه عقلا أو شرعا أو عرفا»، و من المعلوم: أن وحدة الموضوع بهذا المعنى هي عبارة أخرى عن اتحاد القضيتين.

و لعل التعبير ببقاء الموضوع ناظر إلى أهميته في الكلام؛ لا لاعتبار الاتحاد بلحاظه بالخصوص، أو إلى بقائه بوصف موضوعيته، فإنه بهذا المعنى لا ينفك عن وحدة المحمول و النسبة، فيحصل الاتحاد في القضيتين، و الأمر سهل بعد وضوح المطلب؛ كما في «منتهى الدراية، ج 7، ص 726-727».

(1) استدل المصنف على اعتبار وحدة القضيتين بنفس أدلة الاستصحاب الدالة على أن المتيقن سابقا المشكوك لا حقا لا يجوز نقضه و رفع اليد عنه؛ و ذلك بوجهين:

أحدهما: بموضوع تلك الأدلة أعني: الشك في البقاء.

و ثانيهما: بمحمولها أعني: النهي عن النقض، و قوله: «لا يكون الشك في البقاء» إشارة إلى الوجه الأول، و محصله: أن الشك في البقاء الذي يتقوّم به الاستصحاب لا يصدق إلاّ بوحدة القضية المتيقنة و المشكوكة موضوعا و محمولا؛ إذ بدونها لا يكون الشك في البقاء، فإذا كانت عدالة زيد متيقنة ثم صارت عدالة عمرو مشكوكة لا

ص: 114

الحدوث (1)، و لا رفع (2) اليد عن اليقين في محل الشك نقض اليقين بالشك، فاعتبار البقاء بهذا المعنى (3) لا يحتاج إلى زيادة بيان و إقامة برهان.

=============

يصدق الشك في بقاء عدالة زيد على الشك في بقاء عدالة عمرو؛ بل هو شك في أمر آخر.

و ضمير «أنه» للشأن، و ضمير «بدونه» راجع إلى «اتحاد القضيتين».

(1) فلو علمنا سابقا: بأن الماء في الإناء الأصفر كرّ، و شككنا فعلا في أن الماء الذي في الإناء الأبيض كرّ أم لا؟ لم يكن شكا في البقاء بالنسبة إلى الأصفر؛ بل شكا في حدوث الكرية بالنسبة إلى الإناء الأبيض.

(2) يعني: و لا يكون رفع اليد عن اليقين السابق في مورد الشك نقض اليقين بالشك؛ إذ لم يكن هناك يقين سابق حتى نكون قد نقضناه بالشك.

(3) هو ما أفاده بقوله: «بمعنى: اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة موضوعا...» الخ.

و هناك أقوال في تفسير بقاء الموضوع في الاستصحاب.

الأول: هو قول الشيخ الأنصاري، و أن بقاء الموضوع عند الشيخ «قدس سره» عبارة عن كون الموضوع في القضية المشكوكة على النحو الذي كان في القضية المتيقنة من الوجود الخارجي و الذهني و التقرري، حيث قال: «فإذا أريد استصحاب قيام زيد أو وجوده فلا بد من تحقق زيد في الزمان اللاحق على النحو الذي كان معروضا في السابق، سواء كان تحققه في السابق بتقرره ذهنا أو بوجوده خارجا.

فزيد معروض للقيام في السابق بوصف وجوده الخارجي، و للوجود بوصف تقرره ذهنا لا بوجود الخارجي». راجع: «دروس في الرسائل، ج 5، ص 202».

و أما قول صاحب الكفاية في تفسير بقاء الموضوع - و هو القول الثاني - فعبارة عن اتحاده عرفا في القضية المتيقنة و المشكوكة، سواء كان وجوده بقاء من سنخ وجوده حدوثا أم لا، كما إذا شك في عدالة زيد بعد موته، فإن وجوده حال اليقين بعدالته كان خارجيا، و في زمان الشك يكون تقرريا.

و القول الثالث في تفسير بقاء الموضوع ما نسب إلى صاحب الفصول، «و هو احتمال بقاء الموضوع خارجا».

و هذا مستفاد مما حكي عنه حيث قال: «إن الشك في بقاء الموضوع خارجا يمنع عن استصحاب الحكم المترتب عليه؛ لكن يرتفع هذا المانع بجريان الاستصحاب أوّلا في نفس الموضوع، ثم في حكمه ثانيا، ففي الشك في عدالة زيد مع الشك في حياته

ص: 115

يجري الاستصحاب أوّلا في حياته و ثانيا في عدالته».

و بالجملة: فإحراز الموضوع و لو تعبدا معتبر في استصحاب عارضه، و هو كاف في جريانه، فلا وجه لاعتبار العلم ببقاء الموضوع في جريانه.

إذا عرفت هذه الأقوال في تفسير بقاء الموضوع فاعلم: أنه يجري الاستصحاب - على تفسير صاحب الكفاية - في المحمولات المترتبة؛ كالعدالة و القعود و القيام و غيرها، و لو مع عدم العلم ببقاء موضوعاتها خارجا؛ بل و مع العلم بارتفاعها أيضا، كما إذا شك في بقاء عدالة زيد مع العلم بموته فضلا عن الشك فيه، و ذلك لأن بقاء الموضوع - بمعنى اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة كما عليه المصنف - صادق عليه؛ لأن نفس القضية المعلومة و هي «زيد عادل» صارت مشكوكة، و العلم بموت زيد فضلا عن الشك فيه لا يوجب خللا في موضوعها و لا في محمولها كما لا يخفى.

و لا يجري الاستصحاب في تلك المحمولات على تفسير الشيخ في بقاء الموضوع، و هو اعتبار بقاء الموضوع في زمان الشك بنحو كان موجودا حال اليقين به؛ لأن الموضوع في زمان اليقين كان موجودا خارجيا، و في زمان الشك لا يكون كذلك فلا يكون الموضوع على تفسير الشيخ باقيا كي يجري الاستصحاب.

و أما على قول صاحب الفصول - و هو القول الثالث - فيجري الاستصحاب أوّلا في الموضوع، ثم في حكمه، ففي الشك في عدالة زيد مع الشك في حياته يجري الاستصحاب أوّلا: في حياته، و ثانيا: في عدالته؛ إذ يكفي في الاستصحاب إحراز بقاء الموضوع و لو تعبدا، فلا وجه لاعتبار العلم ببقاء الموضوع في جريان الاستصحاب.

و الدليل الثالث على لزوم بقاء الموضوع في الاستصحاب: ما أشار إليه بقوله:

«و الاستدلال عليه باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر»، و المستدل بهذا الدليل العقلي هو جمع من العلماء كصاحبي الفصول و المناهج و تبعهما الشيخ الأنصاري.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن العرض - كما في علم الفلسفة - هو الذي يقوم بغيره، فانتقاله عنه إلى غيره محال، إذ في حال الانتقال إما لا يكون قائما بالمنتقل عنه و لا بالمنتقل إليه، أو يكون قائما بالمنتقل إليه، و كلا الاحتمالين محال و باطل، لأن الأوّل يسبب قيام العرض بلا موضوع و لا محل و هو محال. و الثاني: يوجب انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر، و هو أيضا محال؛ إذ حال الانتقال يبقى العرض بلا موضوع و لو آناً ما.

ص: 116

و الاستدلال عليه «باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر؛ لتقوّمه (1) بالموضوع و تشخصه (2) به» غريب، بداهة:...

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الحكم عرض على الموضوع، فلو أردنا استصحاب الحكم لموضوع آخر، كان ذلك سببا لانتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر الذي عرفت استحالته.

و لكن الاستدلال لبقاء الموضوع في باب الاستصحاب بهذا الدليل العقلي غريب.

و توضيح الإشكال على هذا الاستدلال يتوقف على مقدمة و هي: أن البقاء على قسمين؛ حقيقي و تعبدي، و الفرق بينهما: أن الأول لا ينفك عن معروضه؛ و إلاّ يستلزم أحد المحذورين المذكورين من بقاء العرض بلا موضوع، أو انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر.

و الثاني لا يستلزم شيئا منهما؛ إذ مفاد الاستصحاب ترتيب آثار وجود المستصحب كالعدالة مثلا في ظرف الشك في بقائها، و هذا حكم ظاهري مقتضاه ترتيب آثار العدالة شرعا على العدالة المشكوكة، و ليس مقتضى الاستصحاب بقاء العدالة الواقعية حتى يلزم أحد المحذورين المذكورين.

و عليه: فلا مانع من الحكم ببقاء المحمول تعبدا بمعنى: لزوم ترتيب آثار وجوده مع الشك في بقاء موضوعه؛ كالتعبد بلزوم ترتيب أحكام العدالة و الاجتهاد و الزوجية و غيرها شرعا مع الشك في موضوعاتها.

(1) تعليل لاستحالة انتقال العرض، و قد عرفت توضيح ذلك.

(2) أي: تشخص العرض بالموضوع، قال المحقق الطوسي «قدس سره» في التجريد:

«و الموضوع من جملة المشخصات»، فلو انتقل العرض عن الموضوع زال تشخصه فيزول شخصه كما في الشوارق، مثلا: امتياز وجود بياض الثلج عن بياض العاج لا يكون إلاّ بالمحل و الموضوع؛ لاشتراكهما في ماهية البياض و لوازمها و أجزائها، و حيث إن الماهية المبهمة لا تتحقق في الخارج، و لا وجود للعرض بدون معروضه كان تشخص العرض منوطا بتشخص موضوعه، فلو انعدم المعروض انتفى العرض القائم به أيضا؛ لانتفاء المحتاج عند انتفاء المحتاج إليه، و هذا معنى كون الموضوع من جملة المشخصات.

و ضمير «لتقوّمه» راجع إلى العرض، و ضمير «تشخصه» راجع إلى العرض أيضا، و ضمير «به» راجع إلى الموضوع.

قوله: «غريب» خبر قوله: «و الاستدلال» و إشكال عليه.

ص: 117

أن استحالته (1) حقيقة غير مستلزم لاستحالته تعبّدا و الالتزام (2) بآثاره شرعا.

و أما (3) بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجا، فلا يعتبر قطعا في جريانه (4) لتحقق (5) أركانه بدونه.

نعم (6)؛ ربما يكون مما لا بد منه في ترتيب بعض الآثار، ففي استصحاب عدالة زيد و محصل الإشكال: إن البقاء على قسمين حقيقي و تعبدي، و الأول لا ينفك عن معروضه، و إلاّ يستلزم أحد المحذورين المذكورين من بقاء العرض بلا محال و انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر، و الثاني لا يستلزم شيئا من المحذورين، و قد عرفت توضيح ذلك.

=============

(1) أي: أن استحالة انتقال العرض حقيقة - كما هو مقتضى البرهان العقلي المذكور - لا تستلزم استحالة انتقال العرض تعبّدا كما هو مقتضى الاستصحاب؛ لأنه حكم ظاهري كما عرفت آنفا، و ضمير «لاستحالته» راجع على «الانتقال».

(2) عطف تفسيري لقوله: «تعبدا»، فإن التعبد هو الالتزام بالآثار شرعا.

فتحصل: أن البرهان العقلي المزبور يثبت استحالة انتقال العرض حقيقة من موضوع إلى آخر، و لا يثبتها تعبدا حتى يكون دليلا على اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب؛ بل الدليل على اعتباره هو ما ذكرناه من صدق نقض اليقين مع بقائه و عدم صدقه بدونه.

(3) عطف على قوله: «بمعنى: اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة، و إشارة إلى القول الثالث المنسوب إلى صاحب الفصول، و قد تقدم توضيح ذلك فراجع.

(4) أي: في جريان الاستصحاب في المستصحب الذي هو عارض الموضوع كالعدالة التي هي من عوارض الحياة.

(5) تعليل لقوله: فلا يعتبر قطعا، و محصله: عدم توقف استصحاب العارض على إحراز الموضوع خارجا بعد عدم كون الشك في العارض ناشئا من الشك في الموضوع؛ كنشوء الشك في عدالة زيد من صدور فعل منه أوجب الشك في سقوطه عن العدالة، فإن استصحاب العدالة بعد موت زيد يجري إن كان لها أثر كجواز تقليده و لو بقاء على القول به، فإن زيدا كان عادلا سابقا، و صارت عدالته مشكوكة لا حقا؛ للشك في زوال ملكاته بالموت مثلا، فأركان الاستصحاب من اليقين و الشك متحققة، و رفع اليد عن عدالته نقض لليقين بالشك.

و ضمير «أركانه» راجع إلى الاستصحاب، و ضمير «بدونه» إلى «إحراز».

(6) استدراك على قوله: «فلا يعتبر قطعا». و توجيه لكلام الفصول، و محصله: أن

ص: 118

لا يحتاج إلى إحراز حياته لجواز تقليده (1)، و إن كان محتاجا إليه (2) في جواز الاقتداء به أو وجوب إكرامه أو الإنفاق عليه. و إنما (3) الإشكال كله في أن هذا الاتحاد هل هو بنظر العرف أو بحسب دليل الحكم أو بنظر العقل ؟

فلو كان (4) مناط الاتحاد هو نظر العقل فلا مجال للاستصحاب في الأحكام؛ إحراز وجود الموضوع لازم في بعض الموارد، و هو ما إذا كان الأثر الشرعي مترتبا على وجود الموضوع خارجا كعدالة زيد للاقتداء به أو إطعامه و نحو ذلك، ففي مثل هذه الموارد لا بد من إحراز وجود الموضوع لترتيب هذه الآثار الشرعية؛ لا لأجل اعتباره في جريان الاستصحاب؛ بل لأجل اقتضاء تلك الآثار وجود الموضوع خارجا.

=============

(1) يعني: بناء على عدم دخل حياته في جواز تقليده مطلقا كما عن بعض، أو بقاء كما عن جماعة.

(2) الضمير راجع إلى «الإحراز»، يعني: و إن كان إحراز حياة زيد محتاجا إليه في ترتيب جواز الاقتداء به، و ضميرا «إكرامه، عليه» راجعان إلى «زيد».

و المراد بوجوب الإنفاق: وجوبه على من تجب نفقته عليه كالزوجة و الأولاد.

(3) عطف على قوله: «لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع»، يعني: بعد أن نفى المصنف الإشكال عن اعتبار بقاء الموضوع، بمعنى: اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة تصدى لبيان المراد من الاتحاد المزبور، و أنه هل بنظر العرف أم بحسب الدليل الدال على الحكم أم بنظر العقل. فإن هذه الوجوه الثلاثة متصورة ثبوتا فهنا مقامان:

الأول: مقام الثبوت. و الثاني: مقام الإثبات.

أما المقام الأول: فهو ما عرفته من الاحتمالات الثلاثة، و تعرض المصنف «قدس سره» لما يترتب عليها من اللوازم و الثمرات.

و أما المقام الثاني: فسيأتي بعد الفراغ عن المقام الأول.

(4) هذه إحدى الثمرات، و محصلها: أنه لو كان مناط الاتحاد نظر العقل فلازمه:

عدم جريان الاستصحاب في الأحكام إن كان الشك في بقاء الحكم ناشئا من زوال حال من حالات الموضوع؛ لاحتمال دخل الزائل في الموضوع الذي هو بنظر العقل مقتض للحكم، فزواله يوجب الشك في بقاء الموضوع.

و من المعلوم: عدم جريان الاستصحاب مع الشك في بقائه، كعدم جريانه مع القطع بارتفاعه.

و عليه: فيختص الاستصحاب بالموضوعات الخارجية كحياة زيد و غيرها مما يكون الموضوع في القضية المشكوكة عينه في القضية عقلا.

ص: 119

لقيام (1) احتمال تغيّر الموضوع في كل مقام شك في الحكم بزوال (2) بعض خصوصيات موضوعه؛ لاحتمال (3) دخله فيه، و يختص (4) بالموضوعات، بداهة (5):

أنه إذا شك في حياة زيد شك في نفس ما كان على يقين منه حقيقة، بخلاف (6) ما

=============

(1) تعليل لقوله: «لا مجال»، و حاصله: أنه يحتمل تغيّر الموضوع بزوال بعض خصوصياته؛ لاحتمال كون القيود المأخوذة في الحكم حدوثا و بقاء راجعة إلى الموضوع.

و عليه: فيصير الشك في الواقع ذاتا و صفة سببا للشك في الموضوع، فلا مجال حينئذ للاستصحاب؛ لعدم العلم ببقاء الموضوع.

(2) متعلق ب «شك»، و غرضه: كون الشك في الحكم ناشئا من زوال بعض خصوصيات موضوعه؛ كالشك في نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه.

(3) متعلق ب «تغيّر»، يعني: منشأ التغيّر هو احتمال دخل بعض الخصوصيات في الموضوع، و ضمير «موضوعه» راجع إلى الحكم.

(4) عطف على «فلا مجال»، يعني: و يختص الاستصحاب بالشبهات الموضوعية.

(5) تعليل لاختصاص الاستصحاب بالموضوعات، فإن زيدا مثلا الذي هو معروض الحياة المشكوكة المستصحبة عين زيد الذي هو معروض الحياة المعلومة. و قوله «حقيقة» قيد ل «شك في نفس».

ثم إن المقصود باختصاص الاستصحاب بالموضوعات إذا كان المناط النظر بالدقّي العقلي هو جريانه في الموضوعات التي يحكم العقل بوحدتها في القضيتين المتيقنة و المشكوكة، فلو لم تحرز وحدتها في بعض الموارد كان حالها حال الشبهات الحكمية في عدم الجريان، و من المعلوم: أن العرف إذا تردد في حكمه بوحدة القضيتين أحيانا، فعدم جريان الاستصحاب حينئذ بناء على اعتبار النظر العقلي يكون بالأولوية القطعية.

و على هذا: فلا تتوهم منافاة حكم المصنف هنا باختصاص الاستصحاب بالموضوعات، بناء على التعويل على نظر العقل؛ لما تقدم منه في صدر الاستصحاب من منعه حتى في بعض الشبهات الموضوعية بقوله: «و هذا مما لا غبار عليه في الموضوعات الخارجية في الجملة»، مع أن مبنى المنع عن جريانه فيها هو التعويل على النظر العرفي.

وجه بطلان التوهم: أن منعه «قدس سره» عن جريانه، مع كون المناط نظر العرف يقتضي منعه بناء على إناطته بالنظر العقلي بالأولوية القطعية.

(6) يعني: بخلاف ما لو كان مناط الاتحاد بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل، و ينبّه بهذا على اختلاف الثمرة.

ص: 120

لو كان بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل، ضرورة (1): أن انتفاء بعض الخصوصيات و إن كان موجبا للشك في بقاء الحكم لاحتمال (2) دخله في موضوعه؛ إلا إنه ربما لا يكون بنظر العرف و لا في لسان الدليل من مقوماته (3).

كما أنه (4) ربما لا يكون موضوع الدليل بنظر العرف بخصوصه موضوعا، مثلا:

=============

(1) هذا بيان وجه الفرق بين كون مناط الاتحاد نظر العقل، و بين كونه نظر العرف أو لسان الدليل، و أن الاستصحاب ربما يجري على الأخيرين دون الأول، كما سيظهر.

و حاصل الفرق هو: أن انتفاء بعض خصوصيات الموضوع و إن كان بدوا موجبا للشك في بقاء الحكم لاحتمال الاتحاد في الموضوع كالفرض السابق، و هو ما إذا كان مناط الاتحاد نظر العقل و زالت بعض خصوصيات الموضوع؛ إلاّ إن نظر العرف الذي هو المتبع في فهم الخطابات الشرعية ربما يساعد بحسب المناسبات المغروسة في أذهانهم، على أن الزائل ليس من مقوّمات الموضوع حتى يكون له دخل في الحكم؛ بل من الحالات المتبادلة عليه، فيحكم بوجود الحكم مع زواله كالحكم بوجوده مع بقائه.

(2) هذا منشأ الشك في بقاء الحكم، حيث إن منشأه احتمال دخل الخصوصية الزائلة في موضوع الحكم، و ضمير «دخله» راجع إلى «بعض»، و ضمير «موضوعه» إلى «الحكم».

(3) بل يكون بنظر العرف من حالات الموضوع المتبادلة. و قوله: «إلاّ إنه» متعلق ب:

«و إن كان موجبا».

(4) بعد بيان الفرق بين كون مناط الاتحاد نظر العقل، و بين كونه نظر العرف و بحسب دليل الحكم، أراد بيان الفرق بين هذين الأخيرين أيضا، و قبل بيان الفرق بينهما أشار إلى توهم و هو: أنه كيف يكون الموضوع في نظر العرف مغايرا للموضوع في لسان الدليل، مع أن المرجع في فهم معنى الدليل هو العرف أيضا لأنه المخاطب به ؟ و معه لا يبقى مجال لتوهم تعددهما و تغايرهما حتى يبحث عن الفرق بينهما.

و دفع هذا التوهم: بأنه ربما يكون ظاهر الدليل - من جهة ظهور العنوان المأخوذ فيه في الموضوعية - دوران الحكم مداره وجودا و عدما؛ لكن العرف بحسب القرائن المرتكزة و المناسبات المغروسة في أذهانهم يجعلون الموضوع أعم مما أخذ موضوعا في لسان الدليل؛ كما إذا جعل «العنب إذا غلى» موضوعا للحرمة، و حيث إن العنوان المأخوذ في كل دليل ظاهر في الموضوعية التي يدور الحكم معها وجودا و عدما، فلا محالة يحكم العرف بأن موضوع الحرمة هو عنوان العنب.

هذا بحسب النظر العرفي البدوي السطحي.

ص: 121

إذا ورد: «العنب إذا غلى يحرم» كان العنب بحسب (1) ما هو المفهوم عرفا هو خصوص العنب؛ و لكن (2) العرف بحسب ما يرتكز في أذهانهم و يتخيلونه من (3) المناسبات بين الحكم و موضوعه يجعلون الموضوع للحرمة ما يعم الزبيب، و يرون العنبية و الزبيبية من حالاته المتبادلة (4)؛...

=============

و أما بحسب النظر الثانوي العمقي: يرى أن الموضوع ذات العنب، و ليست العنبية مقوّمة للموضوع؛ بل من حالاته المتبادلة و الوسائط الثبوتية، فهذا الجسم موضوع سواء كان في حال الرطوبة و هو المسمى بالعنب، أم في حال الجفاف و هو المسمى بالزبيب، فمعنى الموضوع العرفي حينئذ هو: أن العرف مرجع في تمييز ما هو مقوّم للموضوع عما ليس مقوّما له، و معنى الموضوع الدليلي هو الرجوع إلى العرف في معنى الكلام و معرفة ظاهره.

و ببيان آخر: أن للعرف نظرين:

أحدهما: بما هو من أهل المحاورة، و بهذا النظر يرجع إليه في تحديد الموضوع الدليلي.

و ثانيهما: بما ارتكز في ذهنه من المناسبة بين الحكم و موضوعه و إن كان على خلاف ظاهر الكلام، و هذا النظر الثاني هو مناط الاتحاد في الاستصحاب دون النظر الأول.

فإذا ورد «الماء المتغير نجس» فظاهر الدليل الشرعي بحسب النظر البدوي العرفي هو كون الموضوع للنجاسة الماء بوصف كونه متغيرا؛ لكن المرتكز في ذهن العرف من المناسبات هو كون معروض النجاسة ذات الماء، و أن التغيّر واسطة في الثبوت، كما أن ملاقاة الماء القليل للنجاسة واسطة ثبوتية في انفعاله، و بعد زوال التغيّر بنفسه و الشك في بقاء نجاسته لا مانع من استصحابها؛ لبقاء موضوعها و هو نفس الماء، و الشك نشأ من احتمال كون التغيّر علة حدوثا فقط أو حدوثا و بقاء. و هذا الفرق ما أفاده المصنف في الحاشية بعد سؤال الفرق بين الموضوع العرفي و الدليلي فراجع.

(1) يعني: كان العنب بحسب الموضوع الدليلي الذي يفهمه العرف بدوا هو خصوص العنب و إن تغير بعد ذلك لأجل المناسبات.

(2) هذا إشارة إلى دفع توهم و هو: أنه كيف يكون الموضوع العرفي مغايرا لموضوع الدليل ؟ مع أن المرجع في فهم معنى الدليل هو العرف أيضا، و قد تقدم دفع هذا التوهم.

(3) بيان ل «ما» الموصول.

(4) أي: الحالات التي لا يوجب انتفاؤها ارتفاع الموضوع، بخلاف أوصافه المقوّمة التي يوجب زوالها انتفاء الموضوع.

ص: 122

بحيث (1) لو لم يكن الزبيب محكوما بما حكم به العنب كان (2) عندهم من ارتفاع الحكم عن موضوعه، و لو كان (3) محكوما به كان من بقائه، و لا ضير (4) في أن يكون الدليل بحسب فهمهم على خلاف ما ارتكز في أذهانهم بسبب ما تخيلوه من الجهات و المناسبات فيما (5) إذا لم تكن بمثابة...

=============

و من الموارد التي يمتاز فيها الوصف المقوّم عن غيره: ما ذكروه في الفقه من أنه إذا قال البائع: «بعتك هذا الفرس بكذا»، فبان كونه شاة كان البيع باطلا؛ لأن الصورة النوعية الفرسية مقوّمة للمبيع، بخلاف ما لو قال: «بعتك هذا العبد الكاتب» فانكشف كونه أميّا، فالبيع صحيح؛ لعدم كون الوصف مقوّما للمبيع بنظر العرف، بل من أوصاف الكمال، و تخلّفه يوجب الخيار للمشتري.

(1) غرضه: إقامة الأمارة على كون الزائل من الحالات المتبادلة على الموضوع لا من مقوّماته.

و حاصل تلك الأمارة: أنه إذا صدق ارتفاع الحكم عن موضوعه على عدم كون الزبيب محكوما بأحكام العنب، و صدق على ترتيب أحكامه على الزبيب بقاء الحكم على موضوعه، كان الوصف الزائل كالعنبية في المثال من حالات الموضوع المتبادلة؛ لا من مقوّماته التي كون الدليل ظاهرا فيها.

و إذا لم يكن كذلك؛ بأن لم يصدق البقاء و الارتفاع على ترتيب أحكام العنب على الزبيب، و عدم ترتيبها عليه كان لأجل كون الوصف الزائل من المقومات التي ينتفي الموضوع بانتفائها.

(2) أي: كان عدم محكومية الزبيب بحكم العنب «عندهم من ارتفاع الحكم عن موضوعه».

(3) معطوف على «لو» في قوله: «لو لم يكن»، يعني: بحيث لو كان الزبيب محكوما بما حكم به العنب كان من بقاء الحكم على موضوعه، و من المعلوم الضروري:

توقف صدق البقاء و الارتفاع على وحدة الموضوع.

(4) غرضه: التنبيه على أن المغايرة بين الموضوع الدليلي و العرفي غير قادحة لما ستعرف.

(5) متعلق بقوله: «و لا ضير»، يعني: لا ضير في اختلاف الموضوع الدليلي مع الموضوع العرفي فيما إذا لم تكن الجهات «بمثابة تصلح...» الخ.

ص: 123

تصلح (1) قرينة على صرفه عما هو ظاهر فيه.

و لا يخفى (2): أن النقض و عدمه حقيقة يختلف بحسب الملحوظ من...

=============

و غرضه من هذا البيان: توجيه عدم قدح الاختلاف بين الموضوع الدليلي و العرفي، مع كون المرجع في فهم الدليل هو العرف أيضا، و توضيح هذا التوجيه يتوقف على مقدمة و هي: أن المناسبة بين الحكم و الموضوع تارة: تكون لوضوحها كالقرينة الحافة بالكلام المانعة عن انعقاد الظهور في خلاف ما تقتضيه تلك المناسبة، كما في قولهم «عليهم السلام»: «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»، فإن المناسبة بين انفعال الماء بالنجاسة تقتضي انفعاله بالملاقاة لا مطلقا و لو بالمجاورة، و لذا لم يفت أحد ظاهرا بانفعاله بالمجاورة، مع عدم ورود دليل بالخصوص على اعتبار الملاقاة في الانفعال.

و أخرى: لا تكون بذلك الوضوح كمثال: «العنب حلال» أو «إذا غلى يحرم»، فإن العرف يرى بالنظر البدوي نفس العنب من حيث هو موضوعا للحكم، و لا يحكم بموضوعية ذاته و كون العنبية و الزبيبية من حالاته المتبادلة إلا بعد التأمل في أن الرطوبة و اليبوسة في نظر العرف من حالات الموضوع لا من القيود المقوّمة له؛ بحيث يدور الحكم مدارها، فمناسبة الحكم و الموضوع هنا ليست كالقرينة المتصلة المانعة عن انعقاد الظهور كما كانت كذلك في «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المناسبة إن كانت من القسم الأول؛ بأن تكون كالقرينة الحافة بالكلام اتحد الموضوع الدليلي و العرفي. و إن كانت المناسبة من القسم الثاني؛ بأن تكون كالقرينة المنفصلة غير المانعة عن انعقاد الظهور، فلا محالة من تعدد الموضوع الدليلي و العرفي.

(1) إذ لو كانت المناسبات بمثابة تصلح لصرف الدليل عما هو ظاهر فيه من موضوعية العنوان المذكور فيه كالعنب، و جعله من حالات الموضوع المتبادلة اتحد الموضوع الدليلي مع الموضوع العرفي، فتعددهما يكون في القسم الثاني من المناسبات.

و ضميرا «صرفه، هو» راجعان إلى «الدليل»، و ضمير «فيه» إلى «ما» الموصول.

هذا تمام الكلام في المقام الأول المتكفل لبيان احتمالات اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة ثبوتا، و قد عرفت أنها ثلاثة دليلي و عرفي و عقلي.

(2) هذا إشارة إلى المقام الثاني أي: مقام الإثبات و تعيين أحد الاحتمالات الثلاثة بحسب اقتضاء الدليل، حيث إن النقض يختلف باختلاف الموضوع دليلا و عقلا و عرفا، فيصدق بالنسبة إلى موضوع الدليل مثلا، و لا يصدق بالنسبة إلى الموضوع العرفي، فلا

ص: 124

الموضوع (1)، فيكون نقضا بلحاظ موضوع (2)، و لا يكون بلحاظ موضوع آخر، فلا بد في تعيين أن المناط في الاتحاد هو الموضوع العرفي أو غيره من بيان أن خطاب «لا تنقض» قد سيق بأيّ لحاظ (3).

فالتحقيق (4) أن يقال: إن قضية إطلاق خطاب «لا تنقض» هو أن يكون بلحاظ يصدق النقض على عدم ترتيب أحكام العنب على الزبيب بحسب موضوع الدليل، و يصدق بحسب الموضوع العرفي، فلا بد من تعيين الموضوع بالدليل حتى يكون هو المناط في الاتحاد.

=============

و توضيح ما أفاده المصنف «قدس سره» في ذلك هو: أن خطاب «لا تنقض» الذي هو مستند الاستصحاب من الخطابات الشرعية الملقاة إلى العرف، و من المعلوم: أن المرجع في فهمها و تشخيص مرادات الشارع منها هو العرف؛ إذ لو لم يكن نظرهم في ذلك حجة مع أنهم هم المخاطبون بها فلا بد من نصب قرينة عليه.

و كأن يقول: «استظهار العرف من جميع الخطابات حجة إلاّ في باب الاستصحاب، فإن المعتبر فيه هو حكم العقل بصدق النقض». و إلاّ يلزم الإخلال بالغرض.

و حيث إنه لم يرد هذا التخصيص من الشارع، فيستكشف منه اعتبار ما يستفيدونه من الخطابات؛ و إن لم يساعده العقل و لا ظاهر الدليل. و عليه: فيكون مناط الاتحاد هو الموضوع العرفي دون الموضوع الدقي و الدليلي.

و بالجملة: فحمل أدلة الاستصحاب على نظر العقل تخصيص في الخطابات بلا قرينة توجبه؛ كما في «منتهى الدراية، ج 7، ص 744».

(1) من كونه عقليا أو عرفيا أو دليليا.

(2) كنفي أحكام العنب عن الزبيب، فإنه نقض بلحاظ الموضوع العرفي دون الدليلي؛ لما مرّ من أن الموضوع الدليلي هو العنب بعنوانه، فنفي أحكامه عن الزبيب ليس نقضا لأحكام العنب عن العنب؛ بل عن موضوع آخر، كما أن إثبات أحكامه للزبيب ليس إبقاء لأحكام العنب؛ بل تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر.

(3) من لحاظ الموضوع عقليا أو عرفيا أو دليليا حتى يتميّز به اتحاد القضية المشكوكة و المتيقنة.

(4) هذا شروع في إثبات كون اللازم في الاستصحاب هو بقاء الموضوع العرفي لا الموضوع العقلي الدقي، و لا الموضوع المأخوذ في لسان الدليل، و حاصله: أن مقتضى إطلاق خطاب «لا ينقض اليقين بالشك أبدا»: أن يكون النقض هو بلحاظ الموضوع

ص: 125

الموضوع العرفي؛ لأنه المنساق من الإطلاق في المحاورات العرفية، و منها الخطابات الشرعية (1)، فما لم يكن هناك دلالة على أن النهي (2) فيه بنظر آخر غير ما هو الملحوظ في محاوراتهم؛ لا محيص (3) عن الحمل على أنه بذاك اللحاظ (4)، فيكون (5) العرفي؛ لأنه المنساق من الإطلاق؛ و إلا لكان عليه البيان. و عليه: فالمناط في بقاء الموضوع أي: اتحاد القضيتين موضوعا هو نظر العرف و إن لم يكن اتحاد بحسب الموضوع العقلي الدقي و لا بحسب الموضوع المأخوذ في لسان الدليل، ففي مثل قوله:

=============

«العنب إذا غلى يحرم» تستصحب الحرمة المعلقة على حال الزبيبية، و ذلك لاتحاد القضيتين بحسب الموضوع العرفي، و كون العنبية و الزبيبية من الحالات المتبادلة؛ و إن لم يكن اتحاد بحسب الموضوع العقلي الدقي و لا بحسب الموضوع المأخوذ في لسان الدليل.

و في مثل الوجوب و الاستحباب أو الحرمة و الكراهة إذا زالت المرتبة الشديدة من الطلب؛ لم يستصحب الاستحباب أو الكراهة؛ و ذلك لعدم اتحاد القضيتين بحسب المحمول عرفا و إن كان هناك اتحاد عقلا و دقة، نظرا إلى كون الثاني عين الأول لا تفاوت بينهما إلاّ بشدة الطلب و ضعفه؛ كما تقدم في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) لأنهم هم المخاطبون بتلك الخطابات، و لو لم يكن فهمهم فيها حجة لوجب على المتكلم التنبيه على ذلك و بيان مراده منها. و ضمير «لأنه» راجع إلى لحاظ الموضوع العرفي.

(2) أي: أن النهي عن النقض في خطاب «لا تنقض» بنظر آخر غير النظر العرفي الملحوظ في محاوراتهم، فلا بد من الحمل على أن النهي عن النقض يكون باللحاظ العرفي.

(3) جواب «فما لم يكن»، و الأولى اقترانه بالفاء بأن يقال: «فلا محيص».

(4) أي: اللحاظ العرفي، و ضمير «أنه» راجع على النهي، يعني: فلا محيص عن الحمل على أن النهي عن النقض يكون بذاك اللحاظ العرفي لا العقلي و لا الدليلي.

(5) هذه نتيجة عدم نصب قرينة على لحاظ نظر آخر غير ما هو الملحوظ في محاورات العرف، و حاصله: أن المعيار في بقاء الموضوع - حتى يصدق على إثبات الحكم له في ظرف الشك إبقاؤه، و على نفيه عنه نقضه - هو الموضوع العرفي لا العقلي

ص: 126

المناط في بقاء الموضوع هو الاتحاد بحسب نظر العرف، و إن لم يحرز بحسب العقل (1) أو لم يساعده النقل (2)، فيستصحب (3) مثلا ما يثبت بالدليل للعنب إذا صار زبيبا؛ لبقاء الموضوع، و اتحاد القضيتين عرفا، و لا يستصحب فيما لا اتحاد كذلك (4) و إن كان هناك اتحاد عقلا كما مرت الإشارة إليه في القسم الثالث (5) من أقسام استصحاب الكلي، فراجع.

=============

و لا الدليلي، و لذا يجري الاستصحاب في أحكام العنب المتبدل بالزبيب؛ لكون الموضوع عند العرف و هو ذات العنب لا عنوانه باقيا حال الزبيبية، و لا يجري فيما إذا كان المشكوك من مراتب المتيقن؛ كالاستحباب الذي هو من مراتب الوجوب إذا ارتفع الوجوب و شك في بقاء الاستحباب الذي هو أيضا من الطلب، و ليس التفاوت بينه و بين الوجوب إلاّ بشدة الطلب و ضعفه، فالموضوع العقلي و هو الطلب و إن كان باقيا؛ لكن الموضوع العرفي منتف؛ لكون الوجوب و الاستحباب بنظر العرف متباينين.

(1) كما مرّ في مثل: «الماء المتغير» إذا كان الشك في البقاء ناشئا من زوال وصف من أوصاف الموضوع.

(2) كما في مثال العنب؛ إذ بعد جفافه و تبدله بالزبيب لا يصدق عليه موضوع الدليل.

(3) يعني: بعد البناء على كون المعيار في الاتحاد نظر العرف يجري الاستصحاب في أحكام العنب الذي صار زبيبا، لبقاء الموضوع عرفا، و هو ذات العنب الملحوظ بين حالتي الرطوبة و الجفاف. و المراد ب «ما يثبت» هي: الأحكام. قوله: «لبقاء الموضوع» متعلق ب «فيستصحب»، و «للعنب» متعلق ب «يثبت».

قوله: «و لا يستصحب» عطف على «فيستصحب»، يعني: و لا يستصحب ما يثبت بالدليل في الموارد التي لا اتحاد فيها عرفا بين القضيتين.

(4) أي: عرفا و إن كان هناك عقلا كما مرّ في مثال الوجوب و الندب.

(5) و هو ما إذا كان المشكوك من مراتب المتيقن كالشك في الاستحباب بعد القطع بارتفاع الإيجاب، و قد تعرض له في أواخر التنبيه الثالث، حيث قال هناك: «إلاّ إن العرف حيث يرى الإيجاب و الاستحباب المتبادلين فردين متباينين..» الخ.

و قد تحصل مما أفاده المصنف: أن المرجع في تشخيص مفهوم «لا تنقض» هو العرف، و الرجوع إليهم إنما هو في تمييز المفهوم لا في تطبيقاتهم المسامحية غير المعتبرة. و تركنا ما في المقام من تطويل الكلام رعاية للاختصار.

ص: 127

المقام الثاني (1):

أنه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة في مورده (2)، و إنما الكلام في أنه (3) للورود أو الحكومة (4)، أو التوفيق (5) بين دليل اعتبارها و خطابه.

=============

المقام الثاني: تقدم الأمارة على الاستصحاب بالورود
اشارة

(1) الغرض من بيان هذا المقام: هو التعرض لوجه تقدم الأمارة المعتبرة غير العلمية على الاستصحاب، بعد أن نفى الشبهة عن تقدمها عليه، و لكنه لا بد من حمل نفي الشبهة على كون الاستصحاب أصلا عمليا، و أما بناء على أماريته فمقتضى القاعدة تعارضهما و تساقطهما لا تقدم الأمارة عليه، فما يتراءى في كلمات بعض: من معاملة التعارض مع الأمارة و الاستصحاب مبني على كونه من الأمارات لا من الأصول العملية.

(2) أي: في مورد الاستصحاب؛ كما إذا كان الثوب مثلا متنجسا و شك في طهارته، و شهدت بيّنة بطهارته، فإنه تقدم شهادة هذه البيّنة على استصحاب نجاسته و يحكم بطهارته.

(3) أي: في أن عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة و تقديمها عليه هل هو للورود أم غيره ؟

و الورود: عبارة عن خروج شيء عن دائرة موضوع دليل حقيقة بعناية التعبد في مقابل التخصص الذي هو الخروج الموضوعي أيضا، لكن لا بالتعبد، بل بالتكوين؛ كخروج الجاهل عن موضوع «أكرم العلماء».

(4) و هي بنحو الإجمال: خروج شيء عن موضوع دليل بالتعبد و بإثباته للمؤدى؛ كخروج وجوب السورة مثلا في الصلاة عن موضوع دليل البراءة الشرعية بقيام أمارة معتبرة غير علمية على وجوبها، فإن هذه الأمارة بإثباتها لوجوب السورة تقدم على أصل البراءة حكومة، و قد تقدم تفصيل الحكومة في قاعدة نفي الضرر.

(5) و التوفيق بين الدليلين: توضيحه يتوقف على مقدمة و هي: إن للتوفيق العرفي إطلاقين:

أحدهما: نحو خاص من الجمع العرفي بين الدليلين المتعارضين بالنظر البدوي، و هو في قبال سائر أنحاء الجمع بينهما كالورود و الحكومة و التخصيص.

ثانيهما: معنى عام لمطلق الجمع الدلالي بين المتعارضين فيندرج فيه الورود و الحكومة و التخصيص، و حمل الظاهر على النص أو الأظهر، و حمل أحدهما على الحكم الاقتضائي و الآخر على الفعلي.

ص: 128

و التحقيق: أنه (1) للورود، فإن (2) رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المقصود من التوفيق العرفي في آخر هذا البحث هو المعنى الثاني، كما أن المراد به في المقام بقرينة مقابلته للورود و الحكومة هو الأول، فهو عبارة عن حمل أحد الدليلين المعروضين على العرف على الحكم الاقتضائي و الآخر على الفعلي، كالجمع بين دليلي وجوب الوضوء و نفي الضرر بحمل الأول على الاقتضائي و الآخر على الفعلي، أي: نفي الوجوب فعلا لأجل الضرر.

=============

و تقريبه في المقام أن يقال: أن البناء على الحالة السابقة المتيقنة ثابت لو لا اعتبار الأمارة شرعا القائمة على خلافها، فالحكم الاستصحابي اقتضائي و الحكم الثابت بالأمارة فعلي.

و ضمير «اعتبارها» راجع إلى الأمارة، و ضمير «خطابه» إلى الاستصحاب.

(1) أي: أن عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة يكون للورود. هذا ما اختاره المصنف هنا؛ لكنه في ما علقه على بحث البراءة من الرسائل عدل إلى الحكومة، و جعل مورد الورود خصوص الدليل العلمي على الأصل العملي، حيث قال في جملة كلامه: «و إما حاكم عليه برفع موضوعه حكما كما هو الحال في الدليل غير العلمي بالنسبة إلى كل أصل كان مدركه النقل». «حاشية الرسائل، ص 112».

(2) تعليل لقوله: «و التحقيق» و بيان له.

و يمكن تقريب الورود بوجهين:

الأول: ما أفاده في حاشية الرسائل من اقتضاء الأمارة لليقين الرافع للشك حقيقة.

و توضيحه: أن موضوع أدلة الاستصحاب هو «نقض اليقين بالشك» لتعلق النهي المدلول عليه ب «لا تنقض»، و ليس الموضوع نفس «الشك» حتى يدعى بقاء الشك وجدانا فيما تيقنه سابقا، بعد قيام الأمارة على أحد طرفي الشك و يبطل دعوى الورود، لما عرفت: من تعلق النهي بنفس «نقض اليقين بالشك».

و حينئذ: فإن كان السبب في رفع اليد عن اليقين السابق نفس الشك في البقاء كان ذلك منهيا عنه بمقتضى «لا تنقض»؛ و إلاّ فلا.

و على هذا: فإن قامت أمارة معتبرة كخبر العدل و البيّنة على أمر كان اللازم الأخذ بها، سواء وافقت الحالة السابقة أم خالفتها، و ذلك لارتفاع موضوع الاستصحاب أعني:

- نقض اليقين بالشك - بقيامها؛ لكون نقض اليقين حينئذ باليقين لا بالشك، فإن الأمارة المعتبرة و إن لم توجب اليقين بالواقع؛ لإمكان مخالفتها للواقع؛ لكن مفاد دليل اعتبار الأمارة هو اليقين بالحكم بعنوان ثانوي كعنوان «ما أخبر به العادل» أو «ما شهدت به

ص: 129

البيّنة» و نحو ذلك من العناوين المستفادة من أدلة الاعتبار.

مثلا: إذا علمنا بنجاسة الثوب و أخبرت البيّنة بتطهيره، فالطهارة الواقعية و إن لم تكن معلومة بعنوانها الأوّلي، إلاّ إن طهارته بعنوان «ما شهدت به البيّنة» معلومة، و يكون نقض اليقين بالنجاسة بسبب اليقين بالطهارة نقض اليقين باليقين، لا بالشك فيها حتى يكون منهيا عنه.

نعم؛ لو كان موضوع الاستصحاب نفس اليقين و الشك لم ينطبق ضابط الورود على المقام؛ لبقاء الشك وجدانا في الطهارة بعد قيام البيّنة. و لكن لما كان الموضوع «نقض اليقين بالشك» لم يكن نقض اليقين بالنجاسة بعد قيام البيّنة نقضا له بالشك؛ بل نقضا له باليقين بطهارته و إن كان يقينا بها بعنوان ثانوي، أي: بعنوان «ما أخبرت به البيّنة»، و هذا معنى الورود الذي يرتفع به موضوع الاستصحاب حقيقة ببركة دليل اعتبار الأمارة.

و الشك في الحكم الواقعي - كالطهارة في المثال المتقدم - و إن كان باقيا بعد قيام الأمارة؛ إلاّ إنه لا منافاة بين الشك في شيء من وجه و العلم به من وجه آخر ثانوي أعني بعنوان ما قامت الأمارة عليه.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول من تقريب الورود، و هو ما أفاده المصنف في حاشية الرسائل، ص 235.

الثاني: ما يستفاد من كلماته في الاستدلال بالأخبار و في التنبيه الثاني من أن موضوع الاستصحاب هو نقض الحجة باللاحجة، و الأمارة المعتبرة حجة رافعة لهذا الموضوع.

و بيانه: أنه قد تقدم في الاستدلال بصحاح زرارة و غيرها كون قوله «عليه السلام»:

«فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» إرشادا إلى قضية ارتكازية عقلائية و هي أنه لا ينبغي نقض اليقين لكونه أمرا مبرما، بالشك لكونه مرهونا، و من المعلوم: أن العليل بهذه الكبرى لا يختص باليقين و الشك بل هو شأن كل حجة في قبال ما ليس بحجة، فالمذموم عند العقلاء رفع اليد عن الدليل بغير الدليل.

و حيث إن المفروض حجية الأمارة غير العلمية كخبر العدل و البيّنة كان نقض اليقين السابق بسبب الحجة مما ينبغي بنظرهم، هذا.

و الفرق بين هذين التقريبين واضح؛ لابتناء الوجه الأول على أن مؤدى الأمارة حكم

ص: 130

خلافه ليس (1) من نقض اليقين بالشك؛ بل (2) باليقين، و عدم (3) رفع اليد عنه مع الأمارة على وفقه ليس (4) لأجل أن لا يلزم نقضه به؛ بل من جهة لزوم العمل معلوم بعنوان ثانوي أي: بعنوان «ما قامت الأمارة عليه»، فيتحقق اليقين الناقض بقيام الأمارة، و هذا بخلاف الوجه الثاني؛ لعدم ابتنائه على إفادة الأمارة لليقين بالواقع بعنوان ثانوي، و إنما يبتني على التصرف في اليقين و الشك بإرادة الحجة و اللاحجة منهما؛ لأن العرف الملقى إليه خطاب «لا تنقض» لا يرى خصوصية في وصفي اليقين و الشك؛ لأن المناط عنده في عدم حسن النقض هو رفع اليد عن الحجة بما لا يكون حجة، و حيث إن الأمارة حجة تعبدا فهي رافعة لموضوع الاستصحاب و إن لم تورث اليقين.

=============

و يرد على كلا الوجهين إشكال تقديم الأمارة على الاستصحاب، مع أنه حجة أيضا، و سيأتي التعرض له و لجوابه عند تعرض المصنف له.

(1) خبر «فإن» و «بسبب» متعلق ب «رفع»، و ضمير «خلافه» راجع إلى «اليقين».

(2) يعني: بل من نقض اليقين باليقين، أي: بالحجة الموجبة لليقين بعنوان ثانوي، و هذا إشارة إلى أول الوجهين المتقدمين لتقريب الورود.

(3) إشارة إلى إشكال، و هو: أنه على تقدير الورود - المبني على إرادة الحجة من اليقين حتى تشمل الأمارة غير العلمية المعتبرة شرعا - يلزم العمل على طبق الأمارة المعتبرة مطلقا، سواء وافقت اليقين السابق أم خالفته، مع إنه ليس كذلك لأنه مع موافقة الأمارة لليقين السابق يكون العمل به استندا إلى الاستصحاب و عدم لزوم نقض اليقين بالشك أيضا، لا إلى الأمارة، فلو كانت الأمارة واردة على الاستصحاب كانت واردة عليه مطلقا، سواء وافقته أم خالفته، فتقديمه عليها في صورة الموافقة كاشف عن عدم ورودها عليه.

و ضميرا «عنه، وفقه» راجعان إلى «اليقين».

(4) خبر «و عدم» و إشارة إلى دفع الإشكال المزبور.

و محصله: أن العمل باليقين مع موافقة الأمارة له ليس مستندا إلى الفرار من النهي عن لزوم نقض اليقين بالشك حتى يقال: إن العمل به إنما هو لأجل الاستصحاب لا لأجل الأمارة؛ بل العمل به مستند إلى تلك الأمارة المطابقة لليقين السابق على ما يقتضيه دليل اعتبارها من تنزيلها منزلة العلم و رفع الشك تعبدا. و من المعلوم: أنه هادم للشك الموضوع للاستصحاب، فالبناء على اليقين السابق للعلم التعبدي ببقائه غير البناء عليه مع الشك في بقائه، هذا.

ص: 131

بالحجة (1).

لا يقال: نعم (2)؛ هذا لو أخذ بدليل الأمارة في مورده، و لكنه لم لا يؤخذ بدليله، و يلزم (3) الأخذ بدليلها؟

فإنه يقال (4): ذلك إنما هو لأجل أنه لا محذور في الأخذ بدليلها، بخلاف الأخذ و لعل تغيير أسلوب العبارة - حيث عبّر في صورة المخالفة بنقض اليقين باليقين و في صورة الموافقة بلزوم العمل بالحجة - للإشارة إلى تقريب الورود بالوجهين المتقدمين.

=============

و ليس غرضه «قدس سره» تخصيص أوّل الوجهين بصورة المخالفة و ثانيهما بصورة الموافقة؛ و ذلك لوضوح بطلانه، فإن مقتضى دليل الاستصحاب - على ما صرح به كرارا - هو إنشاء حكم مماثل، و يمتنع فعلية كل من مؤدى الأمارة و الاستصحاب؛ لامتناع اجتماع الفعليين سواء كانا مثلين أم ضدين.

و ضمير «نقضه» راجع إلى اليقين، و ضمير «به» إلى الشك.

(1) النافية للشك الذي هو موضوع الاستصحاب، فالعمل بالدليل الموافق إنما هو لأجل عدم الموضوع معه للاستصحاب، فلا يقال بحجيته في عرض الأمارة الموافقة له، و عدم ورود الأمارة حينئذ عليه.

(2) هذا استدراك على قوله: «بل باليقين» و إشكال على دعوى ورود الأمارة على الاستصحاب.

و محصل هذا الإشكال: أن العمل بالأمارة المخالفة لليقين السابق إنما يكون نقضا لليقين باليقين، و مخرجا للمورد عن مصاديق نقض اليقين بالشك بناء على حجية دليل الأمارة في مورد الاستصحاب كما ذكره المدعي للورود و هو أول الكلام؛ لإمكان الأخذ بدليل الاستصحاب و العمل به دون دليل الأمارة، و مع إمكان الأخذ بدليله لا مجال للتمسك بدليل الأمارة؛ لتنافيهما و امتناع الجمع بينهما، إذ المفروض: مخالفة الأمارة لما يقتضيه الاستصحاب، فالأخذ بدليل الأمارة و رفض دليل الاستصحاب محتاج إلى مرجح، فالمشار إليه في قوله: «هذا» كون رفع اليد عن اليقين السابق بالأمارة المخالفة له من نقض اليقين باليقين. و ضمير «مورده، بدليله» راجعان إلى الاستصحاب، و ضمير «و لكنه» للشأن.

(3) بالرفع عطف على «لا يؤخذ» يعني: و لم يلزم الأخذ بدليل الأمارة حتى يكون رفع اليد عن اليقين السابق بها من نقض اليقين باليقين ؟ و ضمير «دليلها» راجع إلى الأمارة.

(4) هذا جواب الإشكال المزبور:

و محصله: أن دليلي الاستصحاب و الأمارة لما كانا متنافيين امتنع الأخذ بكليهما،

ص: 132

فلا بد من العمل بأحدهما و طرح الآخر، فإن أخذ بدليل الأمارة لم يلزم محذور تخصيص دليل الاستصحاب؛ لأن رفع اليد عن اليقين السابق بالأمارة المعتبرة ليس نقضا لليقين بالشك حتى يخالف دليل الاستصحاب؛ بل هو نقض اليقين باليقين أي: بالحجة، فالأخذ بدليل الأمارة جمع حقيقة بين دليلها و دليل الاستصحاب أما الأول: فواضح، و أما الثاني: فلأنه من مصاديق «و لكن تنقضه بيقين آخر».

و إن أخذ بدليل الاستصحاب في مورد الأمارة: لزم منه محذور تخصيص دليل الأمارة اقتراحا، أو بوجه دائر و الوجه في لزوم هذا المحذور واضح؛ إذ مع وجود الأمارة لا موضوع للاستصحاب؛ إذ معها لا يلزم نقض اليقين بالشك حتى يكون موردا للاستصحاب، فتحقق موضوع الاستصحاب في مورد الأمارة موقوف على إخراجه عن عموم دليل الأمارة، و تخصيصه بدليل الاستصحاب و هذا التخصيص إما اقتراحي أي:

بلا وجه، و إما دوري، و كلاهما فاسد؛ إذ الأول مستلزم لمخالفة عموم دليل الأمارة بلا وجه صحيح يوجب الخروج عن أصالة العموم التي هي من الأصول اللفظية العقلائية المعمول بها.

و الثاني: مستلزم للمحال؛ لأن شمول دليل الاستصحاب لمورد الأمارة منوط بصدق نقض اليقين بالشك، و كونه كذلك موقوف على إخراجه عن مورد دليل اعتبار الأمارة؛ و إلاّ لم يتحقق موضوع الاستصحاب، فلو توقف إخراجه عن عموم دليل اعتبار الأمارة على دليل اعتباره لزم الدور، و هو محال.

و بعبارة أخرى: مخصصيّة دليل الاستصحاب لعموم دليل الأمارة موقوفة على حجيته، و حجيته موقوفة على مخصصيته، و هذا دور.

أما توقف المخصصية على الحجية فواضح؛ إذ التخصيص كالتقييد تصرف في الدليل و هو العام و المطلق، و المتصرف في الدليل لا بد أن يكون حجة حتى يصلح للتصرف في الدليل؛ و إلا يلزم رفع اليد عن ظاهر الحجة بغير دليل.

و أما توقف الحجيّة على المخصصيّة؛ فلأنه لو لم يخصص دليل الاستصحاب عموم دليل الأمارة كانت الأمارة يقينا تعبديا رافعا لموضوع الاستصحاب.

و لا ينعكس الأمر، فلا يقال: «مخصصيّة دليل الاستصحاب لدليل الأمارة موقوفة على حجية الأمارة، و حجيتها موقوفة على مخصصية الاستصحاب لها»، و ذلك لأن المقدمة الأولى و إن كانت مسلمة، إذ التخصيص يرد على ما هو الحجة؛ لكن المقدمة

ص: 133

بدليله، فإنه (1) يستلزم تخصيص دليلها بلا مخصص (2) إلاّ على وجه دائر؛ إذ التخصيص (3) به يتوقف على اعتباره معها، و اعتباره (4) كذلك يتوقف على التخصيص به؛ إذ لولاه (5) لا مورد له (6) معها كما عرفت آنفا (7).

=============

الثانية ممنوعة؛ لعدم توقف حجية الأمارة على مخصصيّة الاستصحاب لها، بل لا ارتباط بينهما أصلا، فلا يصح تقرير الدور في طرف العكس.

(1) أي: لزوم الأخذ بدليل الأمارة و ترك دليل الاستصحاب.

و ضمير «أنه» للشأن، و ضمير «بدليلها» راجع إلى الأمارة، و ضمير «بدليله» إلى الاستصحاب، و قد عرفت: عدم المحذور في الأخذ بدليل الأمارة، إذ لا يلزم من الأخذ بدليلها نقض اليقين بالشك؛ بل يلزم نقض اليقين باليقين.

(2) أي: بلا وجه، و هو المعبّر عنه بالاقتراح، و لم يتعرض لوجه بطلانه لوضوحه.

(3) هذا شروع في تقريب الدور الذي عرفت تفصيله.

و ضمير «به» راجع إلى دليل الاستصحاب، و ضمير «اعتباره» راجع إلى الاستصحاب، و ضمير «معها» راجع إلى الأمارة.

(4) يعني: و اعتبار الاستصحاب مع الأمارة يتوقف على تخصيص دليل الأمارة بالاستصحاب.

و توضيح العبارة بإبراز مراجع الضمائر هكذا: «إذ التخصيص بدليل الاستصحاب يتوقف على اعتبار الاستصحاب مع الأمارة، و اعتبار الاستصحاب مع الأمارة يتوقف على تخصيص دليل الأمارة بالاستصحاب»، فضمير «به» راجع إلى الاستصحاب.

(5) يعني: لو لا تخصيص دليل اعتبار الأمارة بالاستصحاب، و هذا تعليل لاعتبار الاستصحاب، و حاصله: أن اعتباره مع الأمارة موقوف على تخصيصه للأمارة؛ إذ مع وجودها يكون نقض اليقين باليقين أي: بالحجة، و لا يكون من نقض اليقين بالشك الذي هو مورد الاستصحاب؛ إلا إذا لم يكن موردا للأمارة، و عدم مورديته للأمارة موقوف على تخصيص دليل الاستصحاب لعموم دليل الأمارة، و منعه عن اعتبار الأمارة في هذا المورد حتى يخرج عن مصاديق نقض اليقين باليقين، و يندرج في مصاديق نقض اليقين بالشك.

(6) أي: لا مورد للاستصحاب مع الأمارة.

(7) من أن مورد الأمارة غير العلمية من مصاديق نقض اليقين باليقين أي: بالحجة، لا من مصاديق نقض اليقين بالشك الذي هو مورد الاستصحاب، فصيرورة مورد الأمارة مصداقا لنقض اليقين بالشك منوط بتخصيص دليلها بالاستصحاب.

ص: 134

و أما حديث الحكومة (1): فلا أصل له أصلا، فإنه (2) لا نظر لدليلها إلى مدلول و بالجملة: فوجه تقدم الأمارة المعتبرة غير العلمية على الاستصحاب عند المصنف هو الورود، و قد عرفت تقريبه بوجهين، فلاحظ.

=============

(1) و هو الذي اختاره الشيخ «قدس سره»، فإنه جعل تقدم أدلة الأمارة على أدلة الاستصحاب على وجه الحكومة، فإنه جعل الحكومة تنزيل شيء خارج عن موضوع دليل منزلة ذلك الموضوع في الآثار الشرعية، كتنزيل الطواف منزلة الصلاة في الأحكام، أو تنزيل شيء داخل في موضوع منزلة ما هو خارج عنه في عدم ترتيب أحكامه عليه كتنزيل الصلاة رياء أو بلا ولاية أو بلا طهارة منزلة عدمها في عدم ترتيب أحكام الصلاة عليها.

قال الشيخ في الأمر الثالث مما يعتبر في جريان الاستصحاب: «و معنى الحكومة أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عما يقتضيه الدليل الآخر لو لا هذا الدليل الحاكم، أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله لو لا الدليل الحاكم...

ففيما نحن فيه إذا قال الشارع: اعمل بالبينة في نجاسة ثوبك، و المفروض: أن الشك موجود مع قيام البيّنة على نجاسة الثوب، فإن الشارع جعل الاحتمال المخالف للبيّنة كالعدم، فكأنه قال: لا تحكم على هذا الشك بحكمه المقرر في قاعدة الاستصحاب.

و افرضه كالمعدوم»(1).

فحكومة البيّنة على الاستصحاب على ما أفاده عبارة عن تنزيل احتمال الخلاف الذي هو مفاد الاستصحاب منزلة العدم في عدم ترتيب حكم نقض اليقين بالشك عليه، و ترتيب آثار ضد الحالة السابقة و هو ما قامت البيّنة عليه من نجاسة الثوب في المثال، فلا يجري استصحاب طهارته المتيقنة سابقا المشكوكة لا حقا؛ لأن احتمال الطهارة ملغى بمقتضى البيّنة القائمة على النجاسة.

و ببيان أوضح: دليل اعتبار الأمارة - كآية النبأ - يدل على وجوب تصديق العادل و إلغاء احتمال خلافه، فإذا أخبر العادل بحرمة العصير العنبي المغلي قبل ذهاب ثلثيه مثلا كان مقتضى وجوب تصديقه إلغاء احتمال خلاف حرمته و هو حليته، و من المعلوم أن هذا الاحتمال مورد استصحاب الحلية، و هو منفي تنزيلا بخبر العادل بالحرمة، فالأمارة المعتبرة نافية لموضوع الاستصحاب تنزيلا و إن كان باقيا تكوينا.

و هذه الحكومة من الحكومة المضيّقة، لأنها تضيق الموضوع بإخراج فرد منه، و حصر حجية الاستصحاب بغير مورد الأمارة.

(2) تعليل لقوله: «فلا أصل له» و بيان لوجه الإشكال الذي أورده على الحكومة التي

ص: 135


1- فرائد الأصول 314:3.

فسرها الشيخ، بكون الحاكم بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر و مبيّنا لمقدار مدلوله و مسوقا لبيان حاله، على ما أفاده «قدس سره» في أوائل التعادل و الترجيح.

توضيح الإشكال: أن هذا الضابط للحكومة لا ينطبق على الأمارة غير العلمية حتى يكون تقدمها على الاستصحاب بنحو الحكومة، و ذلك لفقدان شرطها و هو نظر الحاكم بمدلوله اللفظي إلى الدليل المحكوم و شرحه له، ضرورة أن دليل الأمارة كآية النبأ مثلا لا تعرض و لا نظر له إلى مدلول دليل الاستصحاب إثباتا و شرحا له؛ بحيث يعد مفسرا و مبيّنا لحاله، و إن كان ينافيه ثبوتا من حيث إن لازم كل دليلين متعارضين نفي كل منهما مدلول الآخر، لما بين مدلوليهما من التنافي واقعا، و ذلك أجنبي عن الدلالة اللفظية على هذا التنافي. مثلا قوله: «أكرم العلماء» ينافي قوله: «لا تكرم العالم الفاسق»؛ لاقتضاء الأمر مطلوبية إكرام العالم الفاسق، و اقتضاء النهي مبغوضيته، و لأجل هذا التنافي الثبوتي لا يمكن الأخذ بهما في المجمع؛ و لكن يقدم النهي على الأمر لأقوائية ظهور الخاص من العام، فالمناط في التقديم هو مقام الدلالة و الإثبات.

و عليه: فالمعول في موارد الجمع الدلالي - و منها الحكومة - على دلالة اللفظ، لا ملاحظة الواقع و نفس الأمر.

و بعبارة أخرى: الحكومة من كيفيات دلالة اللفظ، فالخارج عن حيطة الدلالة اللفظية أجنبي عن الحكومة، فمجرد التنافي بين مدلولي الدليلين واقعا من دون دلالة اللفظ عليه إثباتا لا ينطبق عليه حدّ الحكومة. و عليه: فالبيّنة القائمة على نجاسة الثوب تقتضي لزوم ترتيب آثار النجاسة عليه، و استصحاب طهارته يقتضي ترتيب آثار طهارته عليه، فالبيّنة تنفي استصحاب الطهارة، كما أن الاستصحاب ينفي النجاسة.

لكن نفي البيّنة لما يقتضيه الاستصحاب ليس مستندا إلى الدلالة اللفظية بأن تكون البيّنة بمدلولها اللفظي نافية للشك الاستصحابي؛ لعدم كون دليل اعتبار البيّنة كرواية مسعدة بن صدقة شارحا للمراد من قوله «عليه السلام»: «لا تنقض اليقين بالشك» و محدّدا لموارده حتى ينطبق عليه ضابط حكومة أحد الدليلين على الآخر، فمفاد البيّنة ليس إلا نجاسة الثوب واقعا.

و أما نفي اعتبار الشك في طهارة الثوب: فليس مدلولا للبيّنة بالدلالة اللفظية حتى تكون حاكمة على الاستصحاب.

فالنتيجة: أن التنافي بين مدلولي الأمارة و الاستصحاب ناش من التضاد و التهافت بين

ص: 136

دليله إثباتا (1) و بما هو مدلول الدليل (2) و إن كان دالاّ على إلغائه معها ثبوتا (3) و واقعا؛ لمنافاة (4) لزوم العمل بها مع العمل به لو كان على خلافها، كما أن (5) قضية نفس المدلولين ثبوتا كالطهارة و النجاسة في المثال، من دون دلالة عليه إثباتا.

=============

و ضمير «فإنه» للشأن، و ضمير «لدليلهما» راجع على الأمارة، و ضمير «دليله» إلى الاستصحاب.

(1) قيد لقوله: «لا نظر» يعني: فإنه لا نظر إثباتا - و في مقام الدلالة - لدليل الأمارة إلى مدلول دليل الاستصحاب، كما يلتزم به الشيخ في تعريف الحكومة.

(2) بيان و موضح لقوله: «لا نظر» يعني: لا نظر لدليل الأمارة إلى مدلول دليل الاستصحاب لفظا و إثباتا؛ و إن كان ذلك الدليل دالا على إلغاء الاستصحاب المخالف له ثبوتا، إلاّ إن هذه الدلالة لا تجدي عند الشيخ في الحكومة؛ لعدم كونها ناشئة من دلالة اللفظ؛ بل هي ناشئة من تنافي ذات المدلولين، ضرورة: منافاة البناء على طهارة الثوب للاستصحاب و نجاسته للبيّنة في المثال المذكور، و ضمير «إلغائه» راجع إلى «مدلول»، و ضمير «معها» إلى الأمارة.

(3) أي: واقعا من جهة امتناع اجتماع مدلوليهما، لما فيهما من التنافي الذاتي لا إثباتا من جهة دلالة اللفظ.

(4) تعليل لكون دلالة دليل الأمارة على إلغاء الاستصحاب ثبوتية لا إثباتية مستندة إلى دلالة اللفظ.

و حاصل التعليل: أن نفس اعتبار الأمارة و لزوم العمل بمؤداها ينافي عقلا العمل بالاستصحاب. و كذا العكس، فإن البناء على طهارة الثوب في المثال المزبور استنادا إلى اعتبار الاستصحاب ينافي البناء على نجاسته اعتمادا على الأمارة و هي البيّنة، فلزوم العمل بكل منهما يطرد الآخر عقلا؛ لامتناع اجتماع مفاديهما و هما الطهارة و النجاسة لتضادهما و تنافيهما.

و ضميرا «بها، خلافها» راجعان إلى «الأمارة»، و ضميرا «به»، و المستتر في «كان» راجعان إلى الاستصحاب.

(5) غرضه: أن الإلغاء ثبوتا لا يختص بدليل الأمارة، فكما أن دليلها يلغي ثبوتا ما يقتضيه دليل الاستصحاب، فكذلك دليله يقتضي إلغاء الأمارة ثبوتا، فالدلالة الثبوتية على الإلغاء - لا الإثباتية - لا تختص بدليل الأمارة؛ بل تشترك بين كلا دليلي الأمارة و الاستصحاب، و هذه الدلالة الثبوتية ليست مناطا للحكومة التي فسرها الشيخ بالشرح

ص: 137

دليله إلغاؤها كذلك (1)، فإن (2) كلا من الدليلين بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل، فيطرد كل منهما الآخر مع المخالفة (3).

هذا مع (4) لزوم اعتباره معها في صورة الموافقة، و لا أظن أن يلتزم به القائل بالحكومة، فافهم فإن المقام لا يخلو من دقة.

=============

و الدلالة اللفظية، فلا حكومة للأمارات غير العلمية على الاستصحاب.

و ضمير «دليله» راجع إلى الاستصحاب، و ضمير «إلغاؤها» على الأمارة.

(1) يعني: ثبوتا و واقعا، فلم لا يكون دليل الاستصحاب حاكما على الأمارة ؟

(2) تعليل لإلغاء كل منهما ما يقتضيه الآخر، و محصله: أنه لما كان كل من الدليلين بصدد بيان وظيفة الجاهل بالحكم، فلا محالة يطرد كل منهما الآخر المخالف له في المؤدى بملاك المضادة و المنافرة بين لزوم العمل بأمارة تدل على وجوب شيء و لزوم العمل باستصحاب يقتضي حرمته، فإن من البديهي طرد كل من الأمارة و الاستصحاب للآخر؛ لكمال المنافرة بين المستصحب و مؤدى الأمارة و هما الوجوب و الحرمة.

و الحاصل: أن كلا من الأمارة و الاستصحاب يلغي الآخر بملاك التضاد الواقع بين مؤداهما، فهذا الإلغاء ليس مستندا إلى دلالة اللفظ؛ بل هو ناش من تضاد مضموني الدليلين ثبوتا، فلا وجه للحكومة الشارحة اللفظية للأمارات غير العلمية على الاستصحاب كما ذهب إليه الشيخ «قدس سره».

(3) أي: مع مخالفة كل من الأمارة و الاستصحاب في المؤدى كمثال نجاسة الثوب و طهارته. و أما مع موافقتهما في المؤدى فلا تنافر بينهما حتى يلغي كل منهما الآخر.

(4) هذا إشكال آخر على الحكومة.

و محصل هذا الإشكال: أنه بناء على كون دليل الأمارة ناظرا إلى إلغاء احتمال الخلاف يلزم اعتبار الاستصحاب مع موافقته لمؤدى الأمارة، كما إذا كان مقتضى كل منهما طهارة الثوب، و اختصاص حكومة الأمارة على الاستصحاب بصورة المخالفة، و لا يظن ذلك من القائل بالحكومة.

و هذا الإشكال يتجه على ظاهر تعريف الشيخ «قدس سره» للحكومة في أوائل التعادل و الترجيح حيث قال: «فنقول: قد جعل الشارع للشيء المحتمل للحل و الحرمة حكما شرعيا أعني الحل، ثم حكم بأن الأمارة الفلانية كخبر العادل الدال على حرمة العصير حجة، بمعنى: أنه لا يعبأ باحتمال مخالفة مؤداه للواقع، فاحتمال حلية العصير المخالف للأمارة بمنزلة العدم لا يترتب عليه حكم شرعي كان يترتب عليه لو لا هذه

ص: 138

و أما التوفيق (1): فإن كان بما ذكرنا(1) فنعم الاتفاق، و إن كان بتخصيص دليله الأمارة»(1)، فإذا كان دليل الأمارة دالا على إلغاء احتمال خلاف مؤداها للواقع، فلا محالة تختص حكومة الأمارة بصورة مخالفة الاستصحاب لمؤداها.

=============

و أما مع موافقته له فلا؛ لعدم احتمال خلاف في البين حتى يلغيه دليل الأمارة.

و بالجملة: فما أورده المصنف على حكومة الأمارة على الاستصحاب وجهان:

أحدهما: عدم نظر دليل الأمارة إثباتا إلى دليل الاستصحاب، و الآخر: اختصاص هذه الحكومة بصورة مخالفة المستصحب لمؤدى الأمارة دون صورة الموافقة له.

و ضمير «به» راجع إلى الاستصحاب.

و قوله: «فافهم» لعله إشارة على إمكان ردّ الجواب الثاني، و هو اختصاص الحكومة بصورة المخالفة بتعميم الحكومة لصورة الموافقة بعدم القول بالفصل بين صورتي المخالفة و الموافقة.

أو إلى: إمكان تصحيح الحكومة إما بكفاية النظر مطلقا و لو ثبوتا فيها، و إما بجعل التصديق جنانيا بمعنى الأمر بالاعتقاد بصدق الخبر و النهي عن الاحتمال مطلقا موافقا أو مخالفا، كما في بعض الحواشي.

و الكل كما ترى؛ إذ في الأول: إنه لا مجال لعدم القول بالفصل في هذه المسألة المستحدثة الخلافية، و في الأخيرين: أنهما خلاف ما يظهر من الشيخ «قدس سره» من اعتبار الدلالة اللفظية، و من إلغاء احتمال الخلاف؛ لا الاحتمال مطلقا، و الظاهر: أن الأمر بالفهم المتعقب بعدم خلو المطلب عن دقة ليس إشارة إلى مطلب.

و تركنا ما في المقام من تطويل الكلام رعاية للاختصار.

(1) قد تقدم في أول هذا المقام الثاني: أن التوفيق العرفي يطلق على معنيين خاص و عام، و المراد به هنا بقرينة جعل «الورود» من أقسامه مطلق الجمع العرفي.

(2) من الورود فنعم الاتفاق، لكن إطلاق التوفيق العرفي لا يخلو من مسامحة؛ إذ الخروج الموضوعي عن حيز أحد الدليلين ليس جمعا بينهما؛ لعدم تصادقهما على ما هو الخارج موضوعا عن أحدهما؛ إلا أن يوجه بأن الخروج التكويني كخروج الجاهل عن موضوع وجوب إكرام العلماء أجنبي عن الجمع العرفي.

و أما الخروج التشريعي كخروج مؤدى الأمارة عن نقض اليقين بالشك تعبدا - لبقاء الشك وجدانا بعد قيام الأمارة أيضا على خلاف الحالة السابقة المعلومة - فيعد جمعا

ص: 139


1- فرائد الأصول 15:4.

بدليلها (1) فلا وجه له (2)؛ لما عرفت (3): من أنه لا يكون مع الأخذ به نقض يقين بشك لا أنه (4) غير منهي عنه مع كونه من نقض اليقين بالشك.

=============

عرفيا أيضا؛ إذ العرف المخاطب بالدليل الوارد يقدمه على الدليل المورود.

(1) أي: بدليل الأمارة.

و توضيحه: أنه قد نسب إلى جماعة كون النسبة بين الأمارة و الاستصحاب عموما من وجهة و تقديم الأمارة عليه في مورد الاجتماع؛ كما إذا كان مؤدى الأمارة كالبيّنة طهارة شيء، و مقتضى الاستصحاب نجاسته لوجهين مذكورين في أوثق الوسائل.

«أحدهما: كون الأمارة أقل موردا من الاستصحاب، و أقليّة أفراد أحد العامين من المرجحات، فتخصص أدلة الاستصحاب بأدلة الأمارة.

ثانيهما: أن من جملة المرجحات استلزام تقديم أحد الدليلين على الآخر إلغاؤه، فيقدم الآخر عليه حينئذ، و تقديم الاستصحاب على الأمارة مستلزم لذلك؛ و ذلك لأن الاستصحاب من حكم المعارضة من سائر الأدلة مساو لسائر الأصول من البراءة و التخيير و الاحتياط، فلو قدم عليها لزم تقديمها عليها أيضا، فيلزم إلغاء سائر الأدلة حينئذ لا محالة».

(2) يعني: و إن كان التوفيق العرفي بتخصيص دليل الاستصحاب بدليل الأمارة، فلا وجه له لعدم انطباق ضابط التخصيص عليه، حيث إن ضابطه هو التصرف في الحكم برفعه عن الخاص مع بقاء الموضوع على حاله و عدم التصرف فيه، كتخصيص عموم دليل وجوب القصر على المسافر بما دل على وجوب الإتمام على من شغله السفر مثلا، فإنه مسافر موضوعا، و المخصص أخرجه عن حكم المسافر و لم يخرجه عن موضوعه.

و في المقام: يكون دليل الأمارة متصرفا في الموضوع و هو نقض اليقين بالشك - لكنه غير منهي عنه بسبب قيام الأمارة على خلافه - حتى يكون من باب التخصيص.

(3) حيث قال: «و التحقيق أنه للورود، فإن رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشك بل باليقين».

و ضمير «أنه» للشأن، و ضمير «به» راجع إلى «دليلها».

(4) يعني: لا أن الأخذ بدليل الأمارة يكون داخلا في الاستصحاب موضوعا لصدق «نقض اليقين بالشك» عليه و خارجا عنه حكما؛ لعدم حرمة نقضه بسبب الأمارة، و غرضه من قوله: «لا أنه غير منهي عنه»: الإشارة إلى ضابط التخصيص الذي هو إخراج حكمي كما تقدم، و عدم انطباقه على المقام؛ لكون الأمارة رافعة لموضوع الاستصحاب،

ص: 140

حيث إنها ترفع الشك و توجب صدق نقض اليقين باليقين، و ليست الأمارة رافعة للحكم مع بقاء الموضوع و هو نقض اليقين بالشك حتى ينطبق عليه ضابط التخصيص.

فحاصل إشكال المصنف على التوفيق العرفي: إن أريد به التخصيص هو: عدم انطباق ضابطه على الأمارة، لأن التخصيص إخراج حكمي من دون تصرف في الموضوع، و الأمارة رافعة لموضوع الاستصحاب فما ينطبق في المقام هو ضابط الورود دون التخصيص. و ضمير «كونه» راجع إلى «الأخذ بدليلها».

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - تعرض المصنف في هذه التتمة شرطين من شرائط الاستصحاب، و هما بقاء الموضوع، و عدم أمارة معتبرة في مورده؛ إذ معها لا تصل النوبة إليه. فيقع الكلام في مقامين:

أما المقام الأول فلا بد من بيان أمور:

الأول: بيان ما هو المراد من موضوع الاستصحاب.

الثاني: بيان ما هو المراد من بقاء الموضوع.

الثالث: لزوم الدليل على بقاء الموضوع.

و المراد من الموضوع هو: معروض المستصحب كصلاة الجمعة فيما إذا كان المستصحب هو وجوبها، و وجود زيد فيما إذا كان حياة زيد.

و المراد من بقاء الموضوع: بقاؤه بجميع ما له دخل في عروض المستصحب لذلك المعروض، و يتحقق البقاء بهذا المعنى في اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة موضوعا و محمولا.

2 - يقول صاحب الكفاية: إن بقاء الموضوع بمعنى اتحاد القضيتين لا يحتاج إلى زيادة بيان و إقامة برهان؛ لعدم صدق نقض اليقين بالشك بدون الاتحاد. كما لا يخفى.

ثم يذكر ما ذكره الشيخ من الاستدلال بالدليل العقلي، و هذا الاستدلال مبني على أن يكون المراد من بقاء الموضوع هو إحراز وجود الموضوع في الخارج؛ كما هو مختار الشيخ أو صاحب الفصول.

تقريب الاستدلال بهذا الدليل العقلي: أن العرض هو الذي يقوم بغيره، فانتقاله عنه

ص: 141

إلى غيره محال؛ إذ في حال الانتقال إما لا يكون قائما بالمنتقل عنه و لا بالمنتقل إليه، أو يكون قائما بالمنتقل إليه، و كلا الاحتمالين باطل و محال؛ لأن الأول: يستدعي قيام العرض بغير موضوع و محل و هو محال. و الثاني: يوجب انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر و هو أيضا محال؛ إذ حال الانتقال يلزم كون العرض بلا موضوع و لو آناً ما.

3 - ردّ الاستدلال لبقاء الموضوع بهذا الدليل العقلي: هو انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر و إن كان مستحيلا حقيقة؛ إلا إنه ليس مستحيلا تعبدا. و المراد هو الثاني و هو لا يستلزم محذورا.

ثم المراد من بقاء الموضوع إذا كان الاتحاد بنظر العقل فلا يجري الاستصحاب لانتفاء الاتحاد عقلا عند تغيّر الموضوع، و لا شك عند عدم تغيّره أصلا.

و أما إذا كان مناط الاتحاد هو نظر العرف: فيجري الاستصحاب لبقاء الموضوع عرفا عند تغيّر الموضوع بزوال بعض أوصافه.

4 - و المناط في بقاء الموضوع في الاستصحاب: هو بقاء الموضوع العرفي؛ لا الموضوع العقلي الدقي، و لا الموضوع المأخوذ في لسان الدليل، ففي مثل قوله: «العنب إذا غلى يحرم» نستصحب الحرمة التعليقية في حال الزبيبية؛ و ذلك لاتحاد القضيتين بحسب الموضوع العرفي، و كون العنبيّة و كون العنبيّة و الزبيبية من الحالات المتبادلة؛ و إن لم يكن اتحاد بحسب الموضوع العقلي الدقي و لا بحسب الموضوع المأخوذ في لسان الدليل.

و في مثل الوجوب و الاستحباب يكون الأمر بالعكس، فلم يستصحب الاستحباب عند انتفاء الوجوب، و ذلك لعدم اتحاد القضيتين بحسب المحمول عرفا و إن كان هناك اتحاد عقلا؛ نظرا إلى كون الاستحباب عين الوجوب، و التفاوت بينهما بالشدة و الضعف.

5 - تقدم الأمارة على الاستصحاب: إما بالورود أو الحكومة، أو التوفيق إنما يصح إذا كان الاستصحاب أصلا عمليا لا أمارة ظنيّة.

و الفرق بين هذه العناوين: أن الورود عبارة عن خروج شيء عن دائرة موضوع بعناية التعبد في مقابل التخصص الذي هو الخروج الموضوعي أيضا لكن بالتكوين لا بالتعبد؛ كخروج الجاهل عن موضوع «أكرم العلماء».

و الحكومة هي: عبارة عن كون دليل ناظرا و مفسرا لدليل آخر، و التوفيق هو الجمع بين الدليلين المتعارضين بالجمع الدلالي.

ص: 142

6 - التحقيق: أنه للورود، فإن اللازم هو الأخذ بأمارة معتبرة - كخبر العدل و البيّنة - سواء كانت موافقة للحالة السابقة أو مخالفة لها؛ ذلك لارتفاع موضوع الاستصحاب أعني: «نقض اليقين بالشك»؛ لكونه نقض اليقين باليقين حينئذ لا بالشك، و هذا معنى الورود.

7 - الإشكال: على دعوى ورود الأمارة على الاستصحاب بأن العمل بالأمارة المخالفة لليقين السابق إنما يكون بنقض اليقين باليقين و مخرجا للمورد عن مصاديق نقض اليقين بالشك، بناء على حجية دليل الأمارة في مورد الاستصحاب، و هو أوّل الكلام لإمكان الأخذ بدليل الاستصحاب و العمل به دون دليل الأمارة، فلا مجال للتمسك بدليل الأمارة مدفوع؛ بأنه إن أخذ بدليل الاستصحاب لزم محذور تخصيص دليل الأمارة بلا وجه أو بوجه دائر، و لا محذور في الأخذ بالأمارة، فاللازم الأخذ بها من باب الورود دون دليل الاستصحاب من باب التخصيص.

8 - و أما حديث الحكومة - الذي اختاره الشيخ - «فلا أصل له»؛ لأن ضابط الحكومة لا ينطبق على تقدم الأمارة المعتبرة حتى يكون من باب الحكومة؛ و ذلك لفقدان شرطها و هو نظر الحاكم بمدلوله اللفظي إلى الدليل المحكوم و شرحه له، و دليل الأمارة - كآية النبأ - لا تعرض له و لا نظر إلى مدلول دليل الاستصحاب إثباتا.

9 - و أما التوفيق: فلو كان بمعنى الورود فنعم الاتفاق، و إن كان بمعنى تخصيص دليل الاستصحاب بدليل الأمارة فلا وجه له لعدم انطباق ضابط التخصيص عليه، حيث إن ضابطه هو التصرف في الحكم برفعه عن الخاص مع بقاء الموضوع على حاله، و ليس الأمر كذلك في المقام؛ لأن دليل الأمارة يكون متصرفا في موضوع دليل الاستصحاب لا في حكمه.

10 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - المراد من بقاء الموضوع هو: اتحاد القضيتين المتيقنة و المشكوكة؛ لا بمعنى إحراز الموضوع خارجا.

2 - المناط في اتحاد القضيتين هو في نظر العرف لا النظر الدقي العقلي.

3 - تقدم الأمارة على الاستصحاب يكون من باب الورود لا من باب الحكومة، و لا من باب التوفيق العرفي.

ص: 143

خاتمة (1): لا بأس ببيان النسبة بين الاستصحاب و سائر الأصول العملية (2)، و بيان التعارض بين الاستصحابين (3).

و أما الأول (4): فالنسبة (5) بينه و بينها هي بعينها النسبة بين الأمارة و بينه، فيقدم عليها (6) و لا مورد معه لها؛...

=============

خاتمة

اما الاول في ورود الاستصحاب على سائر الأصول العملية

(1) المذكور في الخاتمة أمران.

الأول: بيان النسبة بين الاستصحاب و سائر الأصول العملية من البراءة و الاشتغال و التخيير.

الثاني: بيان حكم تعارض الاستصحابين، و عقد لبيان حكم تعارض الاستصحاب مع اليد و القواعد الأخر تذنيبا.

(2) بمعنى: أنه لو كان في المقام براءة أو احتياط أو تخيير عقلية كانت أو شرعية، و كان هناك استصحاب، فهل يقدم الاستصحاب عليها، أو تقدم تلك الأصول على الاستصحاب ؟

(3) بمعنى: أن أيّهما يقدم على الآخر؛ كما لو غسل يده في الماء المشكوك الكرية مع كونه كرّا سابقا، فاستصحاب نجاسة اليد يقول بالنجاسة، و استصحاب كرّية الماء يقتضي الطهارة، فهل يقدم ذلك الاستصحاب أم هذا؟

(4) هذا الأمر الأول يتضمن جهتين:

الأولى: بيان النسبة بين الاستصحاب و بين الأصول النقلية.

و الثانية: بيان النسبة بينه و بين الأصول العقلية.

(5) هذا إشارة إلى الجهة الأولى، و حاصلها: أن النسبة بين الاستصحاب و بين الأصول الشرعية هي الورود، فهو وارد على الأصول كورود الأمارة على الاستصحاب.

و في قباله قولان آخران، أحدهما: الحكومة، و ثانيهما: التخصيص.

و ضمير «بينه» في الموضعين راجعان إلى الاستصحاب، و ضمير «بينها» إلى الأصول، و ضميرا «هي، و بعينها» راجعان إلى النسبة.

(6) هذا الضمير راجع على «الأصول»، يعني: فيقدم الاستصحاب ورودا على الأصول العملية؛ و ذلك لعين ما تقدم منه في وجه تقدم الأمارات على الاستصحاب حرفا بحرف.

ثم إن المصنف «قدس سره» أوضح وجه الورود في حاشية الرسائل، و محصل ما أفاده

ص: 144

للزوم (1) محذور التخصيص إلاّ بوجه دائر في العكس (2)، و عدم (3) محذور فيه أصلا. هذا في النقلية منها.

=============

في حاشية الرسائل، و محصل ما أفاده في الحاشية في ورود الاستصحاب على غيره من الأصول النقلية: أن موضوع الاستصحاب هو المشكوك من وجه، و هو الشك في الحكم الواقعي في مرحلة البقاء، و موضوع سائر الأصول هو المشكوك مطلقا أي: حدوثا و بقاء، فالاستصحاب يوجب العلم بالحكم بعنوان كونه مشكوك البقاء، و مع العلم به يخرج حقيقة عن موضوع الأصول، و هو الجهل بالواقع لحصول العلم به من وجه، فإذا حرم حيوان بالجلل مثلا، ثم شك في زوال الجلل عنه فاستصحاب جلله أو حرمته يوجب العلم بحكمه بعنوان كونه مما شك في بقاء حكمه؛ لاقتضاء دليل الاستصحاب جعل حكم مماثل للحكم المتيقن. و الشك في الحلية و الحرمة الواقعيتين و إن لم يرتفع بالاستصحاب؛ لكنه بعنوانه الاستصحابي معلوم ظاهرا، و مع العلم بحكمه ظاهرا لا يبقى موضوع لأصالة الحل؛ إذ موضوعها هو الشك من جميع الجهات حتى من جهة كونه مشكوك الحكم بقاء.

فاستصحاب الحرمة يدرجه في الغاية، و هي «حتى تعلم أنه حرام»، و لا نعني بالورود إلاّ ارتفاع الموضوع.

فالمتحصل: أن الاستصحاب رافع لموضوع غيره من الأصول، فمعه لا مورد لها.

و ضمير «معه» راجع على الاستصحاب، و ضمير «لها» على «الأصول».

(1) تعليل لعدم المورد لسائر الأصول مع الاستصحاب.

توضيحه: أنه إذا قدم الاستصحاب على سائر الأصول لا يلزم محذور أصلا؛ إذ لا موضوع لها مع الاستصحاب؛ لما عرفت: من ارتفاعه به، بخلاف تقديمها على الاستصحاب، فإنه مستلزم للتخصيص بلا وجه إلاّ بوجه دائر؛ لأن اعتبارها مع الاستصحاب موقوف على مخصصيتها لدليل الاستصحاب، و مخصصيتها له موقوفة على اعتبارها؛ إذ لا بد أن يكون المخصص معتبرا حتى يصلح للتخصيص.

(2) متعلق ب «لزوم»، و المراد بالعكس تقديم سائر الأصول على الاستصحاب، فإن هذا التقديم يستلزم الدور الذي عرفت تقريبه.

(3) معطوف على «لزوم»، يعني: و لعدم محذور في تخصيص الاستصحاب للأصول و تقديمه عليها أصلا، فإن محذور الدور لا يلزم فيه جزما، لما مر من أن الاستصحاب رافع لموضوع الأصول، و مع رفعه لموضوعها كيف يتوقف جريانه عليها؟

ص: 145

و أما العقلية (1): فلا يكاد يشتبه وجه تقديمه عليها، بداهة (2): عدم الموضوع معه لها، ضرورة (3) أنه إتمام حجة و بيان و مؤمّن من العقوبة، و به الأمان (4). و لا شبهة في أن الترجيح به عقلا صحيح (5).

و ضمير «فيه» راجع إلى التخصيص، و ضمير «منها» إلى الأصول. و هذا تمام الكلام في الجهة الأولى و هي النسبة بين الاستصحاب و الأصول النقلية.

(1) هذه هي الجهة الثانية أعني: ورود الاستصحاب على الأصول العقلية و هي البراءة و الاشتغال و التخيير.

و محصل تقريب وروده عليها: أنه يرفع حقيقة ما هو موضوع لتلك الأصول، فإن موضوع البراءة العقلية - و هو عدم البيان أي: الحجة على التكليف - يرتفع بالاستصحاب الذي هو حجة و بيان على التكليف. و كذا يرتفع الشك في المؤمّن - الذي هو موضوع قاعدة الاشتغال المقتضي عقلا للزوم الاحتياط تحصيلا للمؤمّن - ببركة الاستصحاب، فإنه صالح للمؤمّنية و رافع لاحتمال العقوبة، فإذا علم إجمالا بوقوع قطرة دم مثلا - إما على ثوب نجس أو ثوب طاهر - فاستصحاب طهارة الثوب الذي كان طاهرا يجري، و يرتفع موضوع الاحتياط العقلي و هو احتمال العقوبة.

نعم؛ إذا كان للمعلوم الإجمالي أثر زائد؛ كما إذا كان بولا و النجاسة السابقة دما، فحينئذ: لا يجري؛ بل تجري قاعدة الاشتغال، و كذا الحال في موضوع قاعدة التخيير و هو تساوي الاحتمالين؛ كما إذا دار الأمر بين وجوب شيء و حرمته، و جرى الاستصحاب في الوجوب، فإن به يخرج عن تساويهما الموجب للتحيّر؛ كاستصحاب شهر رمضان في يوم الشك في كونه منه أو من شوال، فإنه يرفع التحيّر.

(2) تعليل لقوله: «فلا يكاد»، و ضمير «معه، أنه» راجعان إلى الاستصحاب، و ضمير «لها» راجع إلى الأصول العقلية.

(3) بيان لعدم الموضوع، و قوله: «أنه إتمام حجة و بيان» إشارة إلى البراءة العقلية، فإن موضوعها - و هو عدم البيان - يرتفع بالاستصحاب، حيث إنه حجة و بيان على التكليف.

(4) إشارة إلى الاشتغال العقلي الذي موضوعه عدم المن من العقوبة، و هو يرتفع بالاستصحاب؛ لكونه مؤمّنا من العقوبة؛ كما إذا جرى استصحاب القصر أو الإتمام في بعض الموارد التي يقتضي الاحتياط فيها الجمع بينهما، فإن استصحاب وجوب أحدهما مبرئ للذمة و مؤمّن من العقوبة عند الاكتفاء بمستصحب الوجوب.

(5) هذا إشارة إلى التخيير العقلي الذي موضوعه تساوي الاحتمالي الموجب للتحير، و لا شبهة في أن الاستصحاب يرجح أحد الاحتمالين، فيرتفع به الموضوع و هو التساوي؛

ص: 146

و أما الثاني (1): فالتعارض بين الاستصحابين إن كان لعدم إمكان العمل بهما بدون كما مر في استصحاب شهر رمضان في يوم احتمل كونه منه أو من شوال، فإن الاستصحاب يرفع التحير الموضوع للتخيير.

=============

اما الثانى في تعارض الاستصحابين

(1) هذا شروع في الأمر الثاني ما يبحث عنه في الخاتمة، و هو حكم تعارض الاستصحابين.

و توضيحه أن التعارض - الذي يراد به هنا على قسمين:

القسم الأول: يكون بدون العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما حتى يعلم بكذب أحدهما في مقام الجعل و يندرج في التعارض المصطلح؛ كما إذا جرى الاستصحاب في وجوب إنقاذ غريقين أو إطفاء حريقين أو تجهيز ميتين من دون تعارض بين الاستصحابين في مقام التشريع، غاية الأمر: أن المكلف لا يقدر على امتثال كلا الأمرين.

و حكم هذا القسم هو الرجوع إلى قاعدة باب التزاحم من تقديم ما هو الأهم لو كان أحدهما أهم؛ و إلاّ فالتخيير لاندراج هذا القسم في تزاحم الواجبين؛ إذ لا فرق في تزاحم الواجبين بين كونهما واقعيين أو ظاهريين.

القسم الثاني: ما علم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، فإجراء الاستصحاب في كليهما كذب قطعا، و هذا القسم يتصور على وجهين: الأول: أن يكون أحد الشكين مسببا عن الشك الآخر و في طوله.

الثاني: أن يكون الشكان عرضيين و معلولين لعلة ثالثة، و هذا الوجه الثاني قد يكون جريان الاستصحاب فيهما مستلزما للمخالفة العملية، و قد لا يكون مستلزما لها، و حكمه جريان كلا الاستصحابين فيما لم يلزم منه محذور المخالفة القطعية للتكليف؛ و إلاّ فلا يجري الاستصحاب لوجود مانع، و هو لزوم المخالفة القطعية العملية.

و أما إذا كان الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر: فحكمه جريان الأصل السببي دون المسببي؛ كما إذا كان الشك في طهارة الثوب المغسول بما هو مشكوك الطهارة من الماء و نجاسته، فيجري استصحاب طهارة الماء و لا يجري استصحاب نجاسة ثوب النجس الذي غسّل بالماء المشكوك؛ لأن الماء المشكوك محكوم بالطهارة بعد استصحاب طهارته، و لازم طهارة الماء طهارة الثوب النجس الذي غسّل به.

هذا خلاصة الكلام في صور تعارض الاستصحاب و أحكامها. و أما تفصيل ذلك فهو موجود في منتهى الدراية.

ص: 147

علم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما (1)؛ كاستصحاب وجوب أمرين (2) حدث بينهما التضاد في زمان الاستصحاب، فهو (3) من باب تزاحم الواجبين.

و إن (4) كان مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، فتارة: يكون المستصحب (5) في أحدهما من الآثار الشرعية لمستصحب الآخر، فيكون الشك توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

=============

قوله: «بهما» أي: بالاستصحابين، و هذه هي الصورة الأولى أعني: عدم العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحد المستصحبين، مع حصول التضاد الموجب لعجز المكلف عن الامتثال في زمان الاستصحاب.

(1) يعني: بدون العلم بانتقاضها لا يكون تعارض بين الاستصحابين؛ لعدم مانع من تشريعهما معا؛ كاستصحاب وجوب إنقاذ الغريقين، و هذا هو تزاحم المصطلح.

(2) كوجوب إطفاء حريقين مثلا لا يقدر المكلف على امتثال كليهما من باب الاتفاق، لا دائما حتى يندرج في باب التعارض، و لذا قيّد التضاد ب «زمان الاستصحاب» المراد به زمان الامتثال.

(3) إشارة إلى حكم الصورة الأولى يعني: أن تعارض الاستصحابين اللذين لم يعلم انتقاض الحالة السابقة في أحدهما، و لم يمكن العمل بهما يندرج في باب تزاحم الواجبين، فإن كان أحدهما أهم من الآخر تعيّن الأهم، و إلاّ فالحكم هو التخيير بينهما.

ففي الغريقين: إن كان أحدهما أهم كما إذا كان وليا من أوليائه «تبارك و تعالى» تعيّن إنقاذه؛ و إلاّ تخيّر.

(4) عطف على «إن كان» يعني: و إن كان التعارض لأجل العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما لا لعجز المكلف عن امتثال كليهما؛ كإنقاذ الغريقين، فتأتي فيه الأقسام التي تقدمت إجمالا، و سيجيء تفصيلها في كلام المصنف إن شاء الله تعالى.

(5) هذا هو المعروف بالشك السببي و المسببي، و التعبير بكون المستصحب في أحدهما مسببا عن الآخر، أو من الآثار الشرعية لمستصحب الآخر كما في المتن و غيره لا يخلو عن مسامحة واضحة؛ لأن المسبب في الشك المسببي هو الشك في بقاء مستصحبه؛ كبقاء نجاسة الثوب المغسول بالماء الذي تستصحب طهارته، ضرورة: نشوء الشك في بقاء نجاسته عن الشك في بقاء طهارة الماء، فالمستصحب في الثوب و هو نجاسته ليس من الآثار الشرعية لطهارة الماء التي هي مورد الاستصحاب؛ بل ارتفاعها من آثار طهارة الماء كما هو المطلوب.

ص: 148

فيه (1) مسببا عن الشك فيه، كالشك في نجاسة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة و قد كان طاهرا (2)، و أخرى: لا يكون كذلك، فإن كان (3) أحدهما أثرا للآخر، فلا مورد إلاّ للاستصحاب في طرف السبب.

=============

و كيف كان؛ فالمقصود من الشك المسببي هو الشك المعلول عن شك آخر؛ بحيث يكون أصله رافعا لموضوع أصل الشك المسببي. قوله: «من الآثار الشرعية» احتراز عن الآثار العقلية، فإذا كان من الآثار العقلية لمستصحب الآخر كتسبّب بقاء الكلي عن الشك في حدوث الفرد الباقي؛ فلا يكون المسبب - و هو بقاء الكلي - من لوازم وجود الفرد شرعا؛ بل من لوازمه العقلية، فلا يكون استصحابه حاكما على استصحاب الكلي كما تقدم تفصيله في التنبيه الثالث. و الأولى تبديل قوله: «المستصحب الآخر» ب «للمستصحب في الآخر»؛ ليكون نظيرا لقوله: «في أحدهما».

(1) أي: فيكون الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر.

(2) يعني: و قد كان الماء طاهرا.

و غرضه من هذا القيد: التنبيه على أن اندراج هذا المثال في أمثلة تعارض الاستصحابين في الشك السّببي و المسببي منوط بطهارة الماء سابقا حتى يجري فيه الاستصحاب؛ و إلاّ فالحكم بطهارة الثوب المغسول بالماء الذي هو مشكوك الطهارة و النجاسة ليس منوطا بجريان الاستصحاب في طهارة الماء؛ لكفاية ثبوت طهارة الماء بقاعدتها في طهارة الثوب لحكومتها على استصحاب نجاسة الثوب، حيث إن مقتضى طهارة الماء الثابتة باستصحابها أو بقاعدتها هو طهارة المتنجس المغسول به؛ كارتفاع الحدث مطلقا به، و غيره من الآثار المترتبة على طهارته.

قوله: «و أخرى» عطف على «فتارة» يعني: و أخرى لا يكون المستصحب في أحدهما من الآثار الشرعية لمستصحب الاستصحاب الآخر؛ بأن لا يكون شكه مسببا عن الشك فيه و ناشئا منه، كما إذا كان الشكان عرضيين من دون ترتب و طولية بينهما.

(3) هذا إشارة إلى الشك السببي و المسببي، و قد اختلفت كلماتهم في حكمه، فذهب المحقق القمي و بعض المتأخرين إلى إجراء حكم المتعارضين عليهما، و المعروف من زمن الشيخ الأنصاري إلى عصرنا هو تقديم الأصل السببي على المسببي؛ و إن وقع الخلاف في وجه التقديم في كونه للورود أو الحكومة أو التخصيص، فالظاهر من بعض كلمات الشيخ: أن التقديم من باب الورود، و وافقه صاحب الكفاية هنا و في حاشية الرسائل.

ص: 149

و المستفاد من بعضها الآخر هو: الحكومة، و وافقه المحقق النائيني و غيره.

و ظاهر المحقق الأصفهاني «قدس سره» بعد مناقشته في الحكومة بوجوه عديدة هو الثالث، حيث قال في آخر البحث: «فلو فرض كونه - أي: التقديم - تخصيصا و دوران الأمر بين تخصيصين لكان أحدهما أرجح من الآخر»(1).

قال في «منتهى الدراية، ج 7، ص 785» ما لفظه: «و حيث إنك عرفت إجمالا اختلاف الكلمات في وجه التقديم، فينبغي توضيح المتن بعد التنبيه على عبارة الشيخ المستفاد منها الورود. قال «قدس سره» في ثاني الأدلة التي أقامها على تقديم الأصل السببي على المسببي ما لفظه: «إن قوله «عليه السلام»: «لا تنقض اليقين بالشك» باعتبار دلالته على جريان الاستصحاب في الشك السببي مانع للعام عن قابلية شموله لجريان الاستصحاب في الشك المسببي، يعني: أن نقض اليقين له يصير نقضا بالدليل لا بالشك، فلا يشمله النهي في لا تنقض» - إلى أن قال - «و إن قلت»: و أما وجه دلالته على كون التقديم للورود فهو: أنه بعد التصرف في اليقين و الشك بإرادة الدليل و اللادليل منهما يصير نقض اليقين في المسبب بالدليل، فينتفي موضوع الأصل المسببي أعني:

«نقض اليقين بالشك» بإجراء الأصل في السبب.

و كيف كان؛ فما أفاده المصنف في المتن من وجه التقديم هو الوجه العام الذي سبق منه في تقديم الأمارة على الاستصحاب، و سيأتي في تقديمه على سائر الأصول و محصله: لزوم التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر.

و توضيحه: أن المناط في تقديم الأصل السببي على المسببي ترتب الثاني على الأول ترتبا شرعيا مع اقتضاء الأصل السببي زوال الشك في المسبب، كما في المثال المعروف أعني: غسل الثوب المتنجس بماء مستصحب الطهارة، حيث إن الشك في بقاء نجاسة الثوب ناش عن الشك في طهارة الماء و نجاسته، و لو كان الماء طاهرا لكان أثره الشرعي المستفاد من النصوص: «ما يغسل بالماء الطاهر طاهر» هو طهارة الثوب، فطهارة الماء سبب شرعي لطهارة الثوب.

و لا عكس يعني: ليس نجاسة الماء أثرا شرعيا لنجاسة الثوب، فإن الملاقي و إن كان تابعا لحكم ملاقاه و مقتضى هذه التبعية نجاسة ما يلاقي النجس؛ إلاّ إن المقام أجنبي عن مسألة الملاقي للنجس؛ للفرق بين تطهير المتنجس بالماء و بين ملاقاة الماء القليل للمتنجس؛

ص: 150


1- نهاية الدراية 301:3.

فإن (1) الاستصحاب في طرف المسبب موجب لتخصيص الخطاب (2)، و جواز (3) نقض اليقين بالشك في طرف السبب بعدم (4) ترتيب أثره الشرعي، فإن (5) من آثار طهارة الماء طهارة الثوب المغسول به و رفع (6) نجاسته، فاستصحاب (7) نجاسة الثوب نقض لليقين بطهارته، بخلاف (8) استصحاب طهارته؛ إذ لا يلزم منه نقض يقين إذ لو كان مطلق الملاقاة بينهما حتى بنحو الصبّ للتطهير موجبا لانفعال القليل لتعذر التطهير به، و انحصر التطهير في الكرّ و نحوه.

=============

و هذا اللازم واضح البطلان، و يكشف بطلانه عن عدم كون انفعال القليل أثرا لنجاسة الثوب، فالتسبب من طرف واحد، فبقاء نجاسة الثوب لازم نجاسة الماء من أوّل الأمر، لا نجاسته الحاصلة بالغسل.

و على هذا: فبعد غسل الثوب بالماء و إن تحقق في كل منهما يقين و شك. و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(1) تعليل لقوله: «فلا مورد» و بيان للورود.

(2) و هو «لا تنقض اليقين بالشك»، و قد عرفت توضيحه. «و أن البناء على نجاسة الثوب نقض اليقين بالشك، و هذا تخصيص في عموم «لا تنقض» في طرف الاستصحاب السببي و هو طهارة الماء؛ لأن البناء على بقاء نجاسة الثوب نقض لليقين بطهارة الماء بالشك فيها كما مرّ.

(3) عطف على «تخصيص» و مفسر له، يعني: و موجب لجواز نقض اليقين بالشك.

(4) متعلق ب «نقض»، و ضمير «أثره» راجع على «اليقين».

(5) غرضه: بيان لزوم نقض اليقين بالشك من طرف السبب.

و حاصله: ما عرفته من أن النقض يتحقق بعدم ترتيب آثار اليقين، و من آثار اليقين بطهارة الماء التي هي مورد الاستصحاب السببي طهارة الثوب المغسول به شرعا، فلو بنى على بقاء نجاسته باستصحابها كان هذا البناء نقضا لليقين بطهارة الماء بالشك فيها، و هو منهي عنه.

(6) بالنصب عطف على طهارة الثوب و مفسر له؛ لكن المفسر - بالفتح - أوضح منه.

(7) بعد أن أثبت كون طهارة الثوب من آثار طهارة الماء اتضح أن بقاء نجاسة الثوب المغسول به نقض لليقين بطهارة الماء، و ضمير «بطهارته» راجع إلى الماء.

(8) يعني: بخلاف استصحاب طهارة الماء و هو الاستصحاب الجاري في الشك السببي، فإنه لا يلزم منه المحذور المذكور و هو نقض اليقين بنجاسة الثوب بالشك فيها؛

ص: 151

بنجاسة الثوب بالشك؛ بل باليقين بما هو رافع لنجاسته، و هو غسله بالماء المحكوم شرعا بطهارته (1).

و بالجملة: فكل من السبب و المسبب و إن كان موردا للاستصحاب (2)؛ إلاّ إن الاستصحاب في الأول بلا محذور، بخلافه في الثاني (3)، ففيه محذور التخصيص بلا وجه (4) إلاّ بنحو محال (5)...

=============

بل يلزم نقض اليقين بما جعل الشارع رافعا لنجاسته، حيث إن الماء الذي غسل به الثوب جعله الشارع طاهرا، و طهارته و لو ظاهرا كافية في طهارة المتنجس الذي غسل به.

فقوله: «إذ لا يلزم» تعليل لقوله: «بخلاف استصحاب طهارته»، و ضمير «منه» راجع إلى استصحاب طهارة الماء، و ضمير «هو» راجع إلى «ما» الموصول، و ضمير «لنجاسته» إلى الثوب.

(1) أي: بطهارة الماء ببركة استصحابها.

(2) لكون كل منهما واجدا لليقين و الشك الفعليين، و هذا يوجب جريان الاستصحاب في كل منهما و تعارضهما كما تقدم ذهاب الجماعة إليه.

إلاّ إن الاستصحاب في الأول و هو السبب لا محذور فيه، بخلافه في الثاني أعني:

المسبب، فإن في جريان الاستصحاب فيه محذور التخصيص بلا وجه أو بنحو دائر كما عرفت.

(3) و هو المسبب، فإن في استصحابه محذور التخصيص بلا وجه.

(4) فالأخذ باستصحاب نجاسة الثوب يتوقف على عدم جريان الاستصحاب في طهارة الماء و عدم جريان استصحاب طهارة الماء إلى تخصيصه بلا مخصص و هو باطل، ضرورة، و إما لتخصيصه بنفس الاستصحاب الجاري في نجاسة الثوب و تخصيصه به دوري؛ لأن التخصيص به يتوقف على تحقق موضوعه، و تحقق موضوعه يتوقف على عدم جريان الاستصحاب في طهارة الماء، و عدم جريان استصحاب طهارة الماء يتوقف على تخصيصه، باستصحاب نجاسة الثوب، و هذا دور واضح. و أما جريان استصحاب طهارة الماء فلا يلزم من جريانه شيء التمامية موضوعه و عدم توقفه على عدم جريان استصحاب نجاسة الثوب لأنه ليس من آثاره.

(5) و قد عرفت تقريب كلا محذوري الدور و عدم الوجه.

و يمكن تقريب الدور بوجه آخر و هو: أن خروج الاستصحاب السببي عن عموم «لا تنقض» منوط بدخول الاستصحاب المسببي تحت عمومه حتى يصلح للمخصصية، و دخوله كذلك منوط بخروج الاستصحاب السببي عن عمومه؛ إذ لو لم يخرج عنه كان

ص: 152

فاللازم (1) الأخذ بالاستصحاب السببي، نعم (2)؛ لو لم يجر هذا الاستصحاب بوجه لكان الاستصحاب المسببي جاريا، فإنه (3) لا محذور فيه حينئذ (4)، مع وجود أركانه (5) و عموم خطابه.

و إن (6) لم يكن المستصحب في أحدهما من الآثار للآخر: فالأظهر جريانهما فيما رافعا لموضوع الاستصحاب المسببي و موجبا لنقض يقينه باليقين لا بالشك، فخروج السببي عن العموم منوط بدخول المسببي فيه، و هو منوط بخروج السببي عن العموم، و هذا هو الدور.

=============

(1) حيث إن محذور الأخذ بالاستصحاب المسبب من الدور و عدم الوجه أوجب الأخذ بالاستصحاب السببي.

(2) هذا استدراك على لزوم الأخذ بالاستصحاب السببي.

و غرضه: أن الأخذ بالاستصحاب المسببي إنما يكون فيما إذا لم يجر الاستصحاب السببي لمحذور؛ كابتلائه بمعارض، كما إذا غسل الثوب المتنجس بأحد الماءين المشتبهين اللذين علم إجمالا بنجاسة أحدهما، فإن استصحاب نجاسة الثوب الذي هو استصحاب مسببي يجري، و لا يجري استصحاب طهارة الماء الذي هو أصل سببي لكونه معارضا بالاستصحاب في الإناء المشتبه الآخر.

و الوجه في جريان الأصل في المسبب هو: أن كل واحد من الأصلين فرد لعموم «لا تنقض»، و إنما المانع عن جريانه في المسبب هو كون الأصل السببي فردا فعليا للعام، بخلاف الأصل المسببي فإن فرديته للعام تقديرية، فإذا سقط الأصل السببي الفعلي ارتفع المانع عن شمول العام للفرد الآخر؛ لصيرورته فردا محقق الوجود، فيجري.

(3) تعليل لجريان الاستصحاب المسببي، و قد عرفت توضيحه.

و ضمير «فإنه» للشأن، و ضمير «فيه» راجع إلى الجريان المفهوم من قوله: «جاريا».

(4) أي: حين عدم جريان الأصل السببي، مع وجود أركان الاستصحاب المسببي من اليقين و الشك، و عموم خطابه مثل: «لا تنقض».

و الحاصل: أن المقتضي لجريان الاستصحاب المسببي موجود، و المانع - و هو الاستصحاب السببي - مفقود.

(5) يعني: مع وجود المقتضي لجريانه، و قوله: «لا محذور فيه» إشارة إلى عدم المانع بأن يقال: «لكان الاستصحاب المسببي جاريا لوجود أركانه و عموم خطابه و عدم محذور فيه».

(6) عطف على قوله: «فإن كان أحدهما أثرا للآخر»، و هذا إشارة إلى صورة كون

ص: 153

الشكين عرضيين مع العلم إجمالا بانتقاض أحد المستصحبين، و عدم لزوم المخالفة العملية من جريان الاستصحاب فيهما، و محصل ما أفاده فيه هو: أن الاستصحاب يجري في كليهما لوجود المقتضي و عدم المانع.

و أما الأول: لعموم دليل الاستصحاب الشامل لأطراف العلم الإجمالي؛ لكون كل منهما معلوما سابقا مشكوكا لا حقا.

فالمحدث المتوضئ غفلة بمائع مردد بين الماء و البول، يجري استصحاب الحدث و طهارة الأعضاء؛ لكون كل منهما متعلقا لليقين و الشك، و لا يلزم من جريانهما مخالفة عملية لتكليف فعلي معلوم إجمالا.

أما جريان استصحاب الطهارة: فلاحتمال كون المائع ماء، فالأعضاء باقية على طهارتها و إن ارتفعت واقعا، و أما جريان استصحاب الحدث فلعدم العلم بارتفاعه، و تقتضي قاعدة الاشتغال حينئذ: لزوم إحراز الطهارة للصلاة و غيرها من المشروط بالطهارة.

و عليه: فلا يلزم من إجراء الاستصحابين مخالفة عملية لتكليف إلزامي فعلي.

و بالجملة: ففي هذا المثال لا يكون شيء من الشكين مسببا عن الآخر؛ بل هما عرضيان مسببان عن علة ثالثة، و هي دوران أمر المائع بين الماء و البول، فإنه منشأ الشك في بقاء كل من الحدث و طهارة البدن، فيجري كلا الاستصحابين مع العلم الإجمالي بانتقاض أحد المستصحبين؛ لارتفاع طهارة البدن إن كان ذلك المائع بولا، أو ارتفاع الحدث إن كان ماء؛ لكن هذا العلم الإجمالي بالانتقاض مع عدم لزوم المخالفة العملية غير مانع عن جريانهما؛ إذ لا تنافي بين نفس المستصحبين، ضرورة: اجتماع الحدث القائم بالنفس، و الطهارة القائمة بالبدن.

نعم؛ يقع التنافي بينهما باعتبار لوازمهما؛ إذ لازم بولية المائع بقاء الحدث و نجاسة البدن، و لازم مائيته ارتفاع الحدث و بقاء طهارة الأعضاء، فلا يمكن الجمع - لأجل هذه اللوازم - بين بقاء الحدث و طهارة البدن؛ لكن التفكيك في اللوازم في مرحلة الظاهر مما لا محذور فيه، و إنما المحذور هو المخالفة العملية، و ذلك غير لازم من الحكم بوجوب الوضوء و طهارة الأعضاء.

و الحاصل: أن المانع - أعني: المخالفة - غير لازم، و اللازم و هو التفكيك في اللوازم ظاهرا غير مانع.

ص: 154

لم يلزم منه محذور المخالفة القطعية للتكليف الفعلي المعلوم إجمالا؛ لوجود المقتضي إثباتا (1) و فقد المانع عقلا (2).

أما وجود المقتضي: فلإطلاق الخطاب و شموله (3) للاستصحاب في أطراف المعلوم بالإجمال، فإن (4) قوله «عليه السلام» في ذيل بعض أخبار الباب: «و لكن

=============

(1) يعني: أن المقتضي لجريان كلا الاستصحابين و هو دلالة الدليل - التي هي مقام الإثبات - موجود، و قوله: «إثباتا» تعريض بما أفاده الشيخ «قدس سره» من قصور دليل الاستصحاب إثباتا عن شموله لأطراف العلم الإجمالي، بتقريب: أن مقتضى عموم «لا تنقض» حرمة نقض اليقين بالشك مطلقا و إن كان مقرونا بالعلم الإجمالي، و مقتضى «انقضه بيقين آخر» وجوب نقضه بيقين آخر و لو كان إجماليا، فيقع التعارض بين الصدر و الذيل، فإذا علم إجمالا بنجاسة أحد إناءين كانا طاهرين، فقد علم بانتقاض الطهارة في أحدهما، و لا وجه لجريان استصحاب الطهارة في كليهما للمناقضة مع اليقين بنجاسة أحدهما إجمالا مناقضة السلب الكلي للإيجاب الجزئي، و لا في أحدهما المعين؛ لكونه بلا مرجح، و لا في غير المعين؛ لأنه ليس للعام فرد آخر غير الفردين المتشخصين في الخارج.

و بالجملة: فمقتضى عموم الصدر عدم جواز النقض في كليهما، و مقتضى الذيل جوازه في أحدهما، و هذا التناقض يوجب إجمال الدليل و قصوره عن الشمول لأطراف العلم الإجمالي و سقوط الأصول فيها.

هذا ملخص إشكال الشيخ «قدس سره» على شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي.

(2) لعدم لزوم المعصية كما سيأتي، و المخالفة الالتزامية ليست مانعة عقلا و لا شرعا كما تقدم في محله.

(3) عطف تفسيري ل «إطلاق الخطاب»، و الأولى تبديل الإطلاق بالعموم كما سيأتي في قوله: «عن عموم النهي»، و وجه شموله هو وقوع جنس اليقين في حيّز النهي، و مبغوضية الجنس تقتضي مبغوضية جميع أفراده، كمبغوضية جميع أفراد الخمر المستفادة من قوله: «لا تشرب الخمر»، و هذا هو السلب الكلي.

(4) شروع في الجواب عن الإشكال المتقدم عن الشيخ.

و قد أجاب عنه المصنف بوجهين:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «لو سلم».

ص: 155

تنقض اليقين باليقين» لو سلم أنه يمنع عن شمول قوله «عليه السلام» في صدره: «لا تنقض اليقين بالشك» لليقين و الشك في أطرافه؛ للزوم المناقضة في مدلوله ضرورة (1):

=============

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «إلاّ إنه لا يمنع».

و توضيح الوجه الأول في الجواب: أن قوله «عليه السلام»: «و لكن تنقضه بيقين آخر» ليس حكما تعبديا بجواز النقض باليقين مطلقا و لو إجمالا؛ حتى يناقض مدلول «لا تنقض» و هو حرمة نقض اليقين بالشك و لو كان مقرونا بالعلم الإجمالي؛ بل هو حكم عقلي ذكر تأييدا و تأكيدا للنهي و إرشادا إلى أن اليقين لما كان أمرا وثيقا فلا بد من استمرار الجري على مقتضاه و عدم رفع اليد عنه إلى أن يحصل ما هو مثله في الوثاقة و الإبرام، و يتعلق بعين ما تعلق به اليقين السابق، و ليس ذلك إلاّ العلم التفصيلي؛ إذ العلم الإجمالي مشوب بالشك أولا، و غير متعلق بعين ما تعلق به ذلك اليقين ثانيا؛ لتعلق العلم التفصيلي بواحد معين أو بصورة تفصيلية معينة، و تعلق العلم الإجمالي بعنوان «أحدهما» أو بالصورة الإجمالية المرددة بين أمرين، فيتعدد متعلق العلمين، فلا يشمل دليل الاستصحاب - و هو «لا تنقض اليقين» - كلا العلمين.

فوجود الذيل حينئذ كعدمه. و عليه: فلا مانع من الاستدلال بالصدر على جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي؛ إذ لا موضوع للمناقضة بين الصدر و الذيل.

و حاصله الوجه الثاني في الجواب: أنه لو سلم شمول الصدر لأطراف العلم الإجمالي يجاب عن الإشكال بوجه آخر و هو: أنه هناك أخبار في الباب ليس فيها الذيل المذكور أي: «إنما ينقضه بيقين آخر».

و عليه: فإطلاق الخطاب و شموله لأطراف العلم الإجمالي في سائر أخبار الباب محفوظ على حاله، و المقتضي للجريان محقق لا محالة، فحينئذ: يشمل عموم «لا تنقض» أطراف العلم الإجمالي من دون محذور، و إجمال ما اشتمل على الذيل المزبور لا يسري إلى سائر الأخبار الخالية عنه، و لا يوجب إجمالها لانفصال هذا الذيل عنها و عدم اتصاله بها حتى يصلح لصرفها عن ظاهرها، فإطلاق الأخبار المجردة عن هذا الذيل محكم و لا مانع من الاستدلال به لجريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي.

و هذا محصل الجواب الثاني.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) هذا بيان المناقضة.

ص: 156

المناقضة بين السلب الكلي و الإيجاب الجزئي (1)؛ إلاّ إنه (2) لا يمنع عن عموم النهي في سائر الأخبار مما ليس فيه (3) هذا الذيل، و شموله (4) لما (5) في أطرافه؛ فإن (6) إجمال ذاك الخطاب لذلك (7) لا يكاد يسري إلى غيره مما (8) ليس فيه ذلك.

و أما فقد المانع (9): فلأجل أن جريان الاستصحاب في الأطراف لا يوجب إلاّ

=============

(1) و أما الإيجاب الجزئي: فالمراد به النقض بيقين ما الصادق على العلم الإجمالي.

(2) إشارة إلى الوجه الثاني من الجواب، و قد عرفت توضيحه.

(3) الضمير راجع على «ما» الموصول المراد به الأخبار التي ليس فيها هذا الذيل، فإنها تدل على عدم نقض شيء من أفراد اليقين بالشك؛ و إن كان مقرونا بالعلم الإجمالي.

(4) عطف على «عموم»، يعني: إلاّ إن الذيل لا يمنع عن عموم النهي و عن شموله لأطراف المعلوم بالإجمال.

(5) متعلق ب «شموله»، و ضمير «أطرافه» راجع إلى المعلوم بالإجمال، و المراد ب «ما» في «لما» هو اليقين و الشك، و حاصله: أن الذيل لا يمنع عن شمول النهي في سائر الأخبار لليقين و الشك المتعلقين بأطراف العلم الإجمالي، و لو سقط الموصول و الظرف و قيل:

«و شموله لأطرافه» لكفى و كان أخصر.

(6) تعليل لقوله: «لا يمنع عن عموم النهي»، و قد عرفت آنفا تقريبه.

و حاصله: عدم سراية إجمال الخطاب المقرون بذلك الذيل إلى غيره مما ليس فيه هذا الذيل؛ و ذلك لظهور الأخبار المجردة عنه في العموم بلا مانع؛ إذ المفروض: عدم احتفافه بما يمنع ظهوره في العموم.

(7) أي: لذلك الذيل، و ضمير «غيره» راجع إلى ذلك الخطاب و هو المقرون بالذيل.

(8) يعني: من الأخبار التي ليس فيها ذلك الذيل، فضمير «فيه» راجع إلى «ما»، و قوله: «ذلك» إشارة إلى الذيل.

هذا تمام الكلام في إثبات وجود المقتضي لجريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي، مع عدم لزوم مخالفة عملية من جريانه فيها، بعد الجواب عن إشكال الشيخ «قدس سره» في المتن بوجهين تقدم بيانهما.

(9) بعد أن أثبت وجود المقتضي لجريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي صار بصدد تحقيق عدم المانع عن تأثير المقتضي، و قد أفاد في ذلك: أن المانع من جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي هو المخالفة العملية للتكليف الفعلي، و هي لا

ص: 157

المخالفة الالتزامية، و هو ليس بمحذور لا شرعا و لا عقلا (1).

و منه (2) قد انقدح: عدم جريان في أطراف العلم بالتكليف فعلا (3) أصلا و لو في بعضها؛ لوجوب الموافقة القطعية له عقلا، ففي جريانه لا محالة يكون محذور المخالفة القطعية أو الاحتمالية (4)، كما لا يخفى.

=============

تلزم في مفروض كلامنا، كما قال في صدر البحث: «فالأظهر جريانهما فيما لم يلزم منه محذور المخالفة القطعية».

و عليه: فيجري استصحاب الحدث و طهارة البدن في التوضؤ بمائع مردد بين الماء و البول، مع العلم إجمالا بارتفاع الحدث أو طهارة الأعضاء. و كذا يجري استصحاب النجاسة في الإناءين النجسين اللذين علم إجمالا بطهارة أحدهما، دون العكس، و هو ما إذا كانا طاهرين، و علم إجمالا بنجاسة أحدهما، فإن استصحاب الطهارة لا يجري للزوم المخالفة العملية فيه، دون المثالين الأوّلين.

(1) لما تقدم في الأمر الخامس من مباحث القطع من عدم وجوبها.

(2) أي: «و مما تقدم من أن المانع من جريان الاستصحاب هي المخالفة العملية دون الالتزامية...» الخ، و هذا إشارة إلى صورة عرضية الشكين و العلم الإجمالي بانتقاض أحد المستصحبين، و لزوم المخالفة القطعية العملية من جريان الاستصحاب فيهما، و المخالفة الاحتمالية من جريانه في بعضها.

و محصل ما أفاده في حكمها: عدم جريان الاستصحاب لا في جميع الأطراف للقطع بالمخالفة و لا في بعضها لاحتمال المخالفة، و كلاهما محذور عقلي مع العلم بفعلية التكليف على كل تقدير كما تقدم تفصيل ذلك في مباحث العلم الإجمالي من مباحث القطع و في أوائل الاشتغال.

(3) قيد للتكليف، يعني: أن عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي إنما يكون فيما كان المعلوم بالإجمال حكما فعليا على كل تقدير.

قوله: «و لو في بعضها» قيد لقوله: «أصلا»، يعني: لا يجري الاستصحاب مطلقا لا في جميع الأطراف و لا في بعضها، و ضمير «له» راجع إلى التكليف المعلوم بالإجمال.

و قوله: «لوجوب الموافقة القطعية» تعليل لعدم جريان الاستصحاب. و حاصله: أنه مع فعلية التكليف على كل تقدير يحكم العقل بوجوب موافقته القطعية؛ لعدم حصول الأمن من العقوبة إلاّ بها. و ضمير «بعضها» راجع إلى «أطراف»، و ضميرا «جريانه» في الموضعين راجعان إلى الاستصحاب.

(4) هذا في جريان الاستصحاب في بعض الأطراف، و ما قبله في جريانه في جميع

ص: 158

الأطراف، و ممنوعية المخالفة عقلا إنما هي لكونها ترخيصا في المعصية التي يستقل العقل بقبحها، و باستحقاق مرتكبها للعقوبة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - المذكور في الخاتمة آمران:

الأول: بيان النسبة بين الاستصحاب و سائر الأصول العملية.

الثاني: بيان تعارض الاستصحابين.

ثم الأمر الأوّل يتضمن جهتين:

الأولى: بيان النسبة بين الاستصحاب و الأصول النقلية.

و الثانية: بيان النسبة بينه و بين الأصول العقلية.

و أما الجهة الأولى فحاصلها: أن النسبة بين الاستصحاب و بين الأصول الشرعية هي الورود، فهو وارد عليها كورود الأمارة على الاستصحاب.

و هناك قولان آخران؛ أحدهما: الحكومة، و ثانيهما: التخصيص.

و خلاصة وجه الورود: أن موضوع الاستصحاب هو المشكوك من وجه و هو الشك في الحكم الواقعي في مرحلة البقاء، و موضوع سائر الأصول هو المشكوك مطلقا أي:

حدوثا و بقاء، فالاستصحاب يوجب العلم بالحكم بعنوان كونه مشكوك البقاء، و مع العلم به. يخرج حقيقة عن موضوع الأصول و هو الجهل بالواقع لحصول العلم به، و مع العلم لا يبقى موضوع للأصول النقلية. و هذا معنى الورود.

هذا بخلاف تقديمها عليه، فإنه مستلزم للتخصيص بلا وجه أو بوجه دائر؛ لأن اعتبارها مع الاستصحاب موقوف على مخصصيتها لدليل الاستصحاب، و مخصصيّتها كذلك موقوفة على اعتبارها؛ إذ لو لا اعتبارها مع الاستصحاب لا تصلح للمخصصية، و هذا هو دور صريح.

2 - الجهة الثانية: - و هي ورود الاستصحاب على الأصول العقلية - أنه يرفع حقيقة موضوع تلك الأصول؛ إذ موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان، و الاستصحاب بيان، و موضوع قاعدة الاشتغال هو عدم الأمن من العقوبة، و بالاستصحاب يتحقق الأمن من العقوبة و موضوع التخيير العقلي هو تساوي الدليلين المتعارضين، و عدم ترجيح أحدهما

ص: 159

على الآخر و بالاستصحاب يحصل ترجيح ما يوافق الاستصحاب على الآخر.

فالحاصل: أن الاستصحاب رافع لموضوع تلك الأصول، فيكون واردا عليها.

3 - حكم تعارض الاستصحابين: و هو على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يكون بدون العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما حتى يعلم بكذب أحدهما في مقام الجعل، و يندرج في التعارض المصطلح. غاية الأمر: أن المكلف لا يقدر على امتثال كلا الأمرين كاستصحاب وجوب إنقاذ غريقين.

و حكم هذا القسم هو الرجوع إلى قاعدة باب التزاحم من تقديم ما هو الأهم إن كان أحدهما الأهم؛ و إلاّ فالتخيير لاندراج هذا القسم في تزاحم واجبين ظاهريين.

4 - القسم الثاني: ما علم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، و أن يكون الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر، و حكمه جريان الاستصحاب السببي دون المسببي؛ كما إذا كان الشك في طهارة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة و النجاسة و كان طاهرا سابقا، فاستصحاب طهارة الماء يكون سببيّا به يرتفع الشك عن نجاسة الثوب المغسول به، فيكون الثوب محكوما بالطهارة، و لا يجري استصحاب نجاسة الثوب؛ لأن الاستصحاب في جانب المسبب موجب لتخصيص الخطاب أعني: «لا تنقض اليقين بالشك»، فيلزم جواز نقض اليقين بالشك في طرف المسبب على فرض جريان الاستصحاب فيه.

5 - القسم الثالث: ما إذا لم يكن المستصحب في أحدهما من الآثار في الآخر؛ بأن لا يكون الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر، فالأظهر جريان كلا الاستصحابين ما لم يلزم منه محذور المخالفة العملية للتكليف الفعلي المعلوم إجمالا؛ و ذلك لوجود المقتضي و عدم المانع.

و أمّا الأول: - و هو دلالة الدليل: فموجود، هذا بخلاف ما أفاده الشيخ من قصور دليل الاستصحاب إثباتا عن شموله لأطراف العلم الإجمالي؛ للزوم التناقض بين الصدر - و هو لا تنقض اليقين بالشك - و الذيل - و هو «انقضه بيقين آخر» - إذ مقتضى الصدر:

هو عدم جواز نقض اليقين بالشك في كلا الاستصحابين، و مقتضى الذيل: قصوره عن الشمول لأطراف العلم الإجمالي، فلا يجري الاستصحاب في مورد العلم الإجمالي.

6 - أجاب صاحب الكفاية عن هذا الإشكال: بوجهين:

الأول: أن قوله «عليه السلام»: «انقضه بيقين آخر». ليس حكما تعبديا بجواز النقض

ص: 160

تذنيب (1)

=============

باليقين مطلقا و لو إجمالا؛ حتى يناقض مدلول «لا تنقض اليقين بالشك»؛ بل هو حكم عقلي من عدم رفع اليد عن اليقين إلاّ بمثله، و هذا الحكم إنما يصح فيما إذا تعلق اليقين اللاحق بعين ما تعلق به اليقين السابق، و ليس ذلك إلاّ العلم التفصيلي؛ إذ العلم الإجمالي مشوب بالشك أوّلا و غير متعلق بعين ما تعلق به ذلك اليقين ثانيا؛ لتعلق العلم التفصيلي بواحد معيّن، و تعلق العلم الإجمالي بعنوان أحدهما، فيتعدد متعلق العلمين، فلا يشمل دليل الاستصحاب كلا العلمين حتى يلزم التناقض بين الصدر و الذيل.

7 - الوجه الثاني من الجواب: أنه لو سلم شمول الصدر لأطراف العلم الإجمالي فيقال في الجواب: إن هناك أخبار في الباب ليس فيها الذيل المذكور و عليه: فإطلاق الخطاب و شموله لأطراف العلم الإجمالي في سائر أخبار الباب محفوظ على حاله، و المقتضي لجريانه محقق لا محالة.

فيشمل عموم «لا تنقض» أطراف العلم الإجمالي من دون محذور فيه، و إجمال ما اشتمل على الذيل المذكور لا يسري إلى سائر أخبار الباب.

8 - و أما فقد المانع: فقد أفاد المصنف في ذلك: أن المانع من جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي هو المخالفة العملية للتكليف الفعلي، و هي لا تلزم في المقام، فيجري كلا الاستصحابين.

9 - نظريات المصنف «قدس سره»:

1 - إن النسبة بين الأصول الشرعية و العقلية و بين الاستصحاب هي الورود أي: ورود الاستصحاب عليهما.

2 - حكم القسم الأول من تعارض الاستصحابين هو التزاحم.

3 - حكم القسم الثاني هو تقديم الاستصحاب السببي على المسببي.

4 - حكم القسم الثالث هو جريان كلا الاستصحابين فيما إذا لم يلزم من جريانهما محذور مخالفة عملية.

تذنيب

في تقدم قاعدة التجاوز و الفراغ و أصل الصحة على الاستصحاب

(1) الغرض من عقد هذا التذنيب: بيان النسبة بين الاستصحاب و بين القواعد الجارية في الشبهات الموضوعية كقاعدتي التجاوز و الفراغ، و أصالة الصحة في عمل الغير و القرعة و غيرها.

و اقتصر المصنف «قدس سره» على ذكر نسبتها مع الاستصحاب، و لم يتعرض

ص: 161

لا يخفى: أن مثل (1) قاعدة التجاوز (2) في حال الاشتغال بالعمل، و قاعدة (3) لمباحثها، لكونها قواعد فقهية أجنبية عن علم الأصول، و لذا تعرض لها بعنوان التذنيب.

=============

و الظاهر: أن ما أفاده صاحب الكفاية من تقديم هذه القواعد الثلاث على الاستصحاب بالتخصيص منوط بكونها أصولا تنزيلية؛ إذ بناء على كونها أمارات تكون واردة على الاستصحاب.

(1) التعبير بالمثل للإشارة إلى عدم اختصاص البحث بها، و جريانه في سائر القواعد الجارية في الشبهات الموضوعية كقاعدة الفراش.

(2) و هي قاعدة مجعولة لحكم الشك في وجود الشيء بمفاد كان التامة بعد الخروج عن محله و الدخول في غيره، و البناء على وجود المشكوك فيه، و عدم الاعتناء بالشك.

و يدل عليه جملة من الروايات كصحيح زرارة: «إذا خرجت من شيء و دخلت في غيره فشككت ليس بشيء»، و رواية إسماعيل بن جابر «كل شيء شك فيه مما قد جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه»، و غير ذلك من النصوص الدالة على ذلك.

و تقريب الدلالة: أن المراد من الشك في شيء: الشك في أصل وجوده، و المراد من التجاوز عن الشيء الخروج عن محل الشيء و الدخول في غيره، كما إذا شك في وجود جزء الصلاة كالقراءة بعد تجاوز محلها بالدخول في الركوع، و مقتضى الخبرين: عدم الاعتناء بالشك و البناء على وجوده.

الظاهر أن مراده من قوله: «حال الاشتغال بالعمل»، خصوصا بقرينة قوله: «و قاعدة الفراغ بعد الفراغ» اختصاص مورد قاعدة التجاوز بالشك في نفس الأجزاء حال الاشتغال بالعمل المركب قبل الفراغ عنه.

و لعل وجهه: عدم إطلاق كلمة «في غيره» في صحيحة زرارة لغير أجزاء المركب من الأعمال الأجنبية عن أجزائه؛ بل لا بد أن يكون الغير المترتب على المشكوك فيه مثل المشكوك فيه من حيث الجزئية. و عليه: فلا تجري قاعدة التجاوز بعد الفراغ عن العمل.

(3) «عطف على قاعدة»، و ضمير «عنه» راجع إلى العمل، و قاعدة الفراغ شرّعت للحكم بصحة العمل الموجود إذا شك في صحته بمفاد كان الناقصة بعد الفراغ عن العمل الذي شك في صحته.

و يدل عليه موثق محمد بن مسلم: «كلّما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو»(1)، فإن ظهور «فأمضه» في الأمر بالبناء على وجود المشكوك فيه على النحو الذي

ص: 162


1- تهذيب الأحكام 1426/344:2، الوسائل 1526/237:8.

الفراغ بعد الفراغ عنه، و أصالة (1) صحة عمل الغير، إلى غير ذلك من القواعد المقررة في الشبهات الموضوعية (2) إلاّ القرعة (3)؛ تكون مقدمة (4) على استصحاباتها ينبغي أن يقع عليه، و هو وجوده على الوجه الصحيح مما لا ينكر.

=============

و كذا قوله «عليه السلام»: «مما قد مضى»؛ إذ معناه مما قد أتى به، إذ بدون الإتيان به لا يصدق المضي عليه، فلا يتطرق فيه احتمال إرادة المضي عن المحل لا عن نفس الشيء ليكون مساوقا لمثل رواية ابن جابر المتقدمة، مما يشتمل على لفظ التجاوز الظاهر في التجاوز عن محل الشيء المنطبق على التجاوز.

و عليه: فمفاد الأخبار بنظر المصنف كما صرح به في الحاشية جعل قاعدتين، إحداهما: البناء على وجود الشيء بمفاد كان التامة و هي قاعدة التجاوز، و ثانيتهما: البناء على وجود الشيء على النحو الذي ينبغي أن يقع عليه من كونه واجدا لشرطه و جزئه و هي قاعدة الفراغ.

(1) عطف على «قاعدة»، و هذا الأصل أيضا من الأصول الجارية في صحة عمل الغير في قبال صحة عمل النفس بترتيب آثار صحة الشيء لا فساده، و القدر المتيقن منه جريانه بعد إحراز أمرين، أحدهما: أهلية الفاعل لصدور الفعل الصحيح منه، و ثانيهما:

قابلية المورد.

و قد استدل الشيخ «قدس سره» على اعتبارها بوجوه من الإجماع و السيرة و غيرهما.

قال المصنف في الحاشية بعد المناقشة في الإجماع القولي و العملي الذي استدل به الشيخ: «نعم سيرة عامة الناس بدليل عدم ردعهم عنها يكشف عن إمضائها و الرضا بها، و إلاّ كان عليهم الردع عنها، فالأولى كان التمسك بسيرة العقلاء كما لا يخفى.

و إن كان الإنصاف استقلال العقل به لأجل اختلال نظام المعاش و المعاد كما أفاده».

(2) كقاعدة الفراش، و أصالة الحرية في الإنسان و قاعدة اليد بناء على كونها من الأصول لا الأمارات و قاعدة سوق المسلمين و غيرها.

(3) استثناء من القواعد المقدمة على الاستصحاب يعني: أن تلك القواعد غير القرعة مقدمة على الاستصحاب، و أما القرعة فالاستصحاب يقدم عليها لما سيأتي.

(4) وجه تقدم هذه القواعد على الاستصحابات الجارية في مواردها هو أخصيتها من الاستصحاب حقيقة أو حكما.

و الأخصية الحقيقية تكون في قاعدة التجاوز؛ لأن وجود الحادث مسبوق بالعدم، فالشك في وجوده مورد الاستصحاب العدمي، كالشك في القراءة بعد تجاوز محلها.

ص: 163

المقتضية لفساد (1) ما شك فيه من الموضوعات، لتخصيص (2) دليلها بأدلتها.

و كون النسبة (3) بينه و بين بعضها عموما من وجه؛...

=============

و الأخصيّة الحكمية تكون فيما إذا كانت النسبة بين الاستصحاب و بعض تلك القواعد عموما من وجه؛ و لكن لو قدم الاستصحاب في مورد الاجتماع استلزم ذلك قلّة المورد لتلك القواعد؛ بحيث يكون سوق الدليل لبيان أحكام الموارد القليلة مستهجنا عند أهل اللسان، فإن موارد اليد غير المسبوقة بيد الغير في غاية القلة؛ بحيث يكون دليلها لبيان تلك الموارد القليلة مستهجنا عند أبناء المحاورة، كاستهجان حمل المطلق على الفرد النادر.

هذا مضافا إلى الإجماع على عدم الفصل بين مواردها من كونها مسبوقة باليقين السابق و عدمه، فالنسبة و إن كانت عموما من وجه، إلاّ إن هذا الإجماع يوجب تخصيص دليل الاستصحاب في مورد الاجتماع، و تقديم أدلة تلك القواعد على دليله فيه فإن في التخصيص جمعا بين الدليلين، و ضمير «استصحاباتها» راجع إلى «الشبهات».

(1) كاستصحاب عدم الإتيان بالركوع المشكوك فيه بعد التجاوز عن محله، فإن قاعدة التجاوز تقتضي الصحة إلاّ إن الاستصحاب يقتضي الفساد. لكن ليس الفساد مطلقا مقتضى الاستصحاب؛ إذ المشكوك فيه إن لم يكن ركنا لا يقتضي استصحاب عدم الإتيان به فساد الصلاة، فقاعدة التجاوز تجري و تنفي سجدة السهو، أو قضاء المتروك مما يقتضيه استصحاب عدمه.

(2) تعليل لتقديم أدلة القواعد على دليل الاستصحاب. و ضمير «دليله» راجع على الاستصحاب، و ضمير «بأدلتها» إلى القواعد.

و حاصل التعليل: تخصيص عموم دليل الاستصحاب بأدلة القواعد، فالمقام من صغريات العام و الخاص، و لا شبهة في اقتضاء القاعدة تخصيص العام به.

(3) هذا إشكال على تخصيص دليل الاستصحاب بأدلة تلك القواعد، و محصله:

أن نسبة بعض تلك القواعد إلى الاستصحاب ليست بالأخصية حتى تقدم عليه؛ بل بالعموم و الخصوص من وجه.

و توضيحه: منوط ببيان نسبة كل واحدة من هذه القواعد مع الاستصحاب فيقال:

أما نسبة الاستصحاب مع قاعدة الفراغ فهي العموم من وجه لجريان الاستصحاب في جميع الشبهات الحكمية و الموضوعية؛ كوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة و عدالة زيد، و لا معنى لجريان قاعدة الفراغ. و أما جريانها دونه فهو فيما إذا تواردت حالتان على

ص: 164

المكلف قبل الصلاة و شك بعد الفراغ في المتقدم و المتأخر منهما كالحدث و الطهارة، فإنه لا يجري فيه الاستصحاب إما لقصور المقتضي و إما لوجود المانع و هو المعارضة المقتضية للسقوط، و تجري القاعدة و يحكم لأجلها بصحة الصلاة. و مورد الاجتماع هو: أغلب موارد قاعدة الفراغ إذا كان الشك في إتيان جزء المركب أو شرطه؛ لاقتضاء الاستصحاب عدم تحققه؛ لكون عدمه متيقنا فيستصحب، و اقتضاء القاعدة التعبد بإتيانه لقوله «عليه السلام»: «بلى قد ركعت»(1) أو «فأمضه كما هو».

نعم؛ إذا كان الشك في صحة العمل ناشئا من الشك في الزيادة المانعة كان مقتضى الاستصحاب أيضا صحة العمل لأصالة عدم الزيادة، كما كان يقتضيها قاعدة الفراغ، فالصلاة محكومة بالصحة حتى لو لم تشرع قاعدة الفراغ أصلا لكفاية الاستصحاب في إثبات صحتها. مع إن مورد بعض أخبار القاعدة هو الشك في النقيصة؛ بحيث لا يمكن حمل القاعدة على خصوص الشك في الزيادة.

و عليه: فتصحيح الصلاة بخصوص القاعدة منحصر في ما كان الشك في النقيصة، و من المعلوم: أنه لو قدم الاستصحاب فيه للزم اختصاص القاعدة بمورد نادر و هو توارد الحالتين التي لا يجري فيه الاستصحاب، فلا بد من تقديم القاعدة فرارا من محذور تنزيل الأخبار على الفرد النادر.

و أما نسبة الاستصحاب مع أصالة الصحة الجارية في عمل الغير: فهي أيضا عموم من وجه، فتجري القاعدة دون الاستصحاب فيما إذا علمنا بوقوع عقد من المكلف و شككنا في كيفية وقوعه و أنه هل وقع باللفظ العربي أم وقع بالفارسي ؟ مع فرض كون موضوع الأثر هو العقد العربي خاصة، فأصالة الصحة تقتضي التعبد بوقوعه عربيا.

و حيث إنه لا علم بالحالة السابقة فلا يجري الاستصحاب؛ إذ ليس الشك في أصل الوقوع بل في كيفيته، إلاّ بناء على جريانه في الأعدام الأزلية. و كذا لو شك في صحة عقد لأجل الشك في وقوعه حال الإحرام أو الإحلال.

و مورد الافتراق من ناحية الاستصحاب جميع الشبهات الحكمية و الموضوعية التي لا تتعلق بفعل الغير. و مورد الاجتماع الشبهات الموضوعية المتعلقة بفعل الغير، فأصل الصحة يقتضي التعبد بوجود الشرط و الجزء و فقد المانع، و الاستصحاب يقتضي الفساد بعدم تحقق الجزء و الشرط.

ص: 165


1- تهذيب الأحكام 851:2 /جزء من ح 592.

لا يمنع (1) عن تخصيصه بها - بعد الإجماع على عدم التفصيل بين مواردها - مع لزوم (2) قلة الموارد لها جدا لو قيل...

=============

و الاستصحاب يكون حكميا تارة و موضوعيا أخرى، فالأول: كاستصحاب عدم ترتب النقل و الانتقال على العقد الفارسي لاحتمال اعتبار العربية فيه.

و الثاني: كاستصحاب عدم تحقق عقد البالغ الذي هو موضوع الأثر. و أما نسبة قاعدة اليد مع الاستصحاب، فهي أيضا عموم من وجه، فمورد الاجتماع أغلب موارد اليد المسبوقة بيد الغير، و مورد الافتراق من ناحية اليد تعاقب حالتين من يد واحدة على مال؛ كما إذا كان المال لزيد في زمان و كان عارية عنده في زمان آخر، فالاستصحاب لا يجري، و من ناحية الاستصحاب ما إذا كانت حال اليد معلومة؛ كما إذا كانت عين وديعة ثم شك في تملك الودعي لها، فإن الاستصحاب فيها يجري دون اليد.

إذا عرفت النسبة بين هذه القواعد و الاستصحاب فاعلم: أنه لا بد من إعمال قواعد التعارض في مورد الاجتماع؛ لا تقديم تلك القواعد على الاستصحاب.

(1) خبر «كون» و إشارة إلى دفع الإشكال المزبور، بوجهين:

أحدهما: الإجماع. و الآخر: اللغوية.

و تقريب الأول: أن الإجماع على عدم الفصل بين موارد تلك القواعد و تقديمها مطلقا على الاستصحاب يجعلها حكما كالخاص في تخصيصها للاستصحاب و تقديمها عليه.

فالنتيجة: أن تلك القواعد الثلاث و إن كانت أعم من وجه من الاستصحاب لكنها بحكم الخاص في تخصيصها للاستصحاب، و ضمير «تخصيصه» راجع على «دليله» أي: دليل الاستصحاب، و ضمير «بها» راجع إلى «أدلتها»، و ضمير «مواردها» إلى «القواعد».

(2) هذا هو الوجه الثاني لتقديم تلك القواعد على الاستصحاب، و محصله: أنه مضافا إلى الإجماع المذكور لا بد من تقديمها أيضا على الاستصحاب؛ إذ لو قدم عليها لقلّ موردها، لقلّة مورد منها لم يكن فيه استصحاب على خلافه، و قد ثبت في محله من التعادل و الترجيح: أن قلّة المورد لأحد العامين - إذا قدم عليه الآخر في المجمع - من مرجحات باب التعارض.

و قد مثلوا له بتقديم أدلة اعتصام الماء الجاري القليل على مفهوم أدلة عاصميّة الكرّ؛ لاقتضاء إطلاق المفهوم انفعال القليل راكدا كان أم جاريا؛ إذ لو قدم دليل عاصمية الكر

ص: 166

بتخصيصها (1) بدليله، إذ قلّ مورد منها لم يكن هناك استصحاب على خلافها، كما لا يخفى.

و أما القرعة (2): فالاستصحاب في موردها يقدم عليها؛ لأخصيّة دليله من دليلها؛ و حكم بانفعال القليل الجاري لزم كون مناط الاعتصام دائما هو الكر، و لغوية عنوان الجاري عن موضوعيته للاعتصام.

=============

بخلاف عدم الأخذ بمفهوم أدلة عاصمية الكر لكثرة الماء الراكد القليل الذي هو موضوع الانفعال بمفهوم «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء».

(1) أي: أدلة القواعد يعني: لو قيل بتخصيص أدلة القواعد بدليل الاستصحاب لزم المحذور المذكور و هو قلّة المورد لها، بخلاف تخصيصه بأدلتها و تقديمها على الاستصحاب، فإنه لا يلزم منه ذلك المحذور أصلا؛ لكثرة موارد الاستصحاب و ضمائر «لها، منها، خلافها» راجعة إلى «القواعد».

في تقديم الاستصحاب على القرعة

(2) و قد عرفت استثناء القرعة من سائر القواعد التي مرّ الكلام في تقدمها على الاستصحاب.

و وجه استثنائها و تقدم الاستصحاب عليها أمران:

أحدهما: الأخصية، و الآخر: وهن دليل القرعة بكثرة التخصيص.

أما الأول: - و هو أخصية دليل الاستصحاب من دليل القرعة - فلظهور دليلها في اعتبارها مطلقا، من غير فرق فيه بين العلم بالحالة السابقة و عدمه، بخلاف الاستصحاب، فإن مورده خصوص العلم بالحالة السابقة، و مقتضى قاعدة تخصيص العام بالخاص تخصيص عموم دليل القرعة بدليل الاستصحاب.

و حاصل الوجه في أعمية دليل القرعة هو: أن الأخبار المستدل بها على اعتبارها طائفتان: إحداهما: خاصة و هي الأخبار الواردة في موارد متفرقة كقطيع غنم نزى الراعي على واحدة منه، و الوصية بعتق ثلث ممالكيه و هم ستون مملوكا، و اشتباه الحر بالعبد في سقوط بيت على قوم لم يبق منهم إلاّ صبيان، و تعيين مولود جارية اجتمع عليها رجلان أو ثلاثة، و غير ذلك مما ورد في أبواب الوصية و العتق و الميراث و الطلاق، و دل على حجية القرعة في تلك الشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي.

ثانيتهما: الأخبار العامة المشتملة على عنوان «المشكل و المجهول و المشتبه»؛ و أن «القرعة سنة»، و المقصود من أخصية دليل الاستصحاب من دليل القرعة هو: أخصيته من

ص: 167

لاعتبار (1) سبق الحالة السابقة فيه دونها و اختصاصها (2) بغير الأحكام إجماعا لا يوجب (3) الخصوصية في دليلها بعد...

=============

الطائفة الثانية الشاملة لما إذا كانت الحالة السابقة معلومة و مجهولة؛ إذ بهذا اللحاظ يكون دليل الاستصحاب أخص منها.

و أما الطائفة الأولى: فلا ريب في لزوم العمل بها في مواردها عند اجتماع شرائط الحجية.

هذا كله في إثبات الوجه الأول.

و أما الثاني فسيأتي فانتظر.

قوله: «لأخصية دليله» إشارة على الأمر الأول المتقدم بقولنا: «أما الأول و هو أخصية دليل الاستصحاب من دليل القرعة...».

و ضميرا «دليله، فيه» راجعان إلى الاستصحاب، و ضمائر «دليلها، موردها، عليها، دونها» راجعة إلى «القرعة».

(1) تعليل ل «أخصية دليله»، و قد تقدم تقريب الأخصية.

(2) أي: «و اختصاص القرعة بغير الأحكام إجماعا...» الخ، يعني: أن هذا إشكال على أخصية دليل الاستصحاب من دليل القرعة، و محصله: أن النسبة بين دليلي القرعة و الاستصحاب تنقلب من الأخص المطلق إلى الأخص من وجه، فلا بد حينئذ من معاملة التعارض معهما، لا تخصيص دليل القرعة بدليل الاستصحاب.

توضيح انقلاب النسبة: أن الإجماع على عدم اعتبار القرعة في الأحكام أوجد خصوصية فيها صارت القرعة بها أخص من وجه من الاستصحاب؛ لاختصاصها لأجل هذا الإجماع بالشبهات الموضوعية، كما أنها أعم من الاستصحاب، لاعتبارها مع العلم بالحالة السابقة و بدونه. و الاستصحاب أعم من القرعة؛ لكون مورده كلتا الشبهتين الحكمية و الموضوعية و أخص منها؛ لاختصاصه بصورة العلم بالحالة السابقة، فيتعارضان في مورد الاجتماع و هي الشبهة الموضوعية المسبوقة باليقين.

(3) خبر «و اختصاصها» و دفع للإشكال المذكور.

و محصله: أن المعيار في لحاظ النسبة بين الدليلين من حيث العموم و الخصوص - بحيث تكون نسبة الأخصية محفوظة بين المخصصات على كثرتها و غير منقلبة إلى نسبة أخرى، لتساويها في الأخصية، و عدم تقدم بعضها رتبة على الآخر حتى يتعين تخصيص العام به، فتنقلب نسبته مع سائر المخصصات من الأخصية إلى الأعم من وجه - هو ظاهر

ص: 168

عموم (1) لفظها لها.

هذا مضافا (2) إلى وهن دليلها بكثرة (3) تخصيصه حتى صار العمل به في مورد محتاجا إلى الجبر بعمل المعظم كما قيل، و قوة (4) دليله بقلة (5) تخصيصه بخصوص دليل (6) لا يقال:...

=============

لفظ العام من دون نظر إلى شيء معه، مثلا: إذا قال: «أكرم الأمراء»، ثم قال: «لا تكرم مبتدعيهم، و أهن أعداءهم لأهل البيت «عليهم الصلاة و السلام» و اقتل ناصبيهم» إلى غير ذلك من المخصصات، فإن نسبة كل واحد من هذه الخصوصات إلى «الأمراء» نسبة الخاص إلى العام، و من المعلوم: أن دليل القرعة المشتمل على عنوان «المشكل و المشتبه و المجهول» عام يشمل الشبهات الموضوعية و الحكمية و المسبوقة باليقين و غيرها و دليل الاستصحاب أخص منه، فيخصصه، فيختص دليل القرعة بما لم يكن مسبوقا باليقين.

و تخصيص دليل القرعة بعدم جريانها في الأحكام لا يوجب انقلاب النسبة بينها و بين الاستصحاب إلى الأعم من وجه حتى يتعارضا في المجمع و هو المشتبه المقرون باليقين السابق.

(1) أي: لفظ القرعة. و في العبارة مسامحة؛ إذ المقصود عموم الألفاظ الواردة في دليل القرعة من «المشكل و المشتبه و المجهول». و ضمير «لها» راجع إلى الأحكام المراد بها الشبهات الحكمية.

(2) هذا هو الأمر الثاني من الأمرين الموجبين لتقدم الاستصحاب على القرعة.

و حاصله: أن كثرة تخصيص دليل القرعة أوجبت ضعف ظهوره في العموم المانع عن جريان أصالة الظهور فيه، و لذا اشتهر بينهم: أن العمل به في كل مورد منوط بعمل المشهور. و عليه: فلا مجال للعمل بالقرعة في مورد الاستصحاب استنادا إلى عمومها.

(3) متعلق ب «وهن»، و الباء للسببية، يعني: مضافا إلى وهن دليل القرعة بسبب كثرة تخصيصه.

(4) عطف على «وهن» يعني: مضافا إلى وهن دليل القرعة، فلا سبيل إلى العمل بعمومه، و قوة دليل الاستصحاب، فلا مانع من العمل بأصالة العموم فيه.

(5) الباء للسببية، يعني: و قوة دليل الاستصحاب بسبب قلّة تخصيصه، حيث إن كثرة التخصيص - في عمومات القرعة - الموجبة لضعف الظهور ربما تمنع عن جريان الأصل العقلائي و هو أصالة العموم فيه، فيعامل معه معاملة المجمل.

و ضمير «تخصيصه» راجع إلى «دليله» و ضميره راجع إلى الاستصحاب.

(6) كتخصيص دليله بأدلة البناء على الأكثر في الركعتين الأخيرتين؛ إذ

ص: 169

كيف (1) يجوز تخصيص دليلها بدليله ؟ و قد (2) كان دليلها رافعا لموضوع دليله لا الاستصحاب يقتضي البناء على الأقل، لكن تلك الأدلة خصصته و لذا لا يجوز البناء فيها على الأقلّ .

=============

(1) يعني: كيف يجوز تخصيص دليل القرعة بدليل الاستصحاب ؟ و الحال أن دليل القرعة رافع لموضوع دليل الاستصحاب.

و غرضه من «لا يقال»: الإشكال على ما أفاده قبل ذلك من تقديم دليل الاستصحاب على دليل القرعة بالأخصية، لا ما ذكره أخيرا من صيرورة المراد من دليل القرعة مجملا لكثرة التخصيص؛ إذ مع الإجمال لا معنى لتقديم دليل القرعة ورودا أو حكومة على الاستصحاب كما هو مقصود المستشكل كما سيظهر، و على هذا كان الأولى ذكر الإشكال و جوابه قبل قوله: «مضافا إلى وهن دليلها» لئلا يتوهم ارتباط الإشكال بالوجه الثاني. و كيف كان:

فتوضيح الإشكال: أن القرعة على ما يظهر من بعض الروايات تكون من الأمارات كقوله «عليه السلام» في خبر محمد بن حكيم: «كل ما حكم الله به فليس بمخطئ»(1)، و قوله «صلى الله عليه و آله» فيما رواه أبو بصير عن أبي جعفر «عليه السلام»: «ليس من قوم تقارعوا ثم فوضوا أمرهم إلى الله إلاّ خرج سهم المحق»(2)؛ لظهورهما في إصابة القرعة بالواقع، و من المعلوم: أن ما جعله الشارع حجة بلحاظ كشفه عن الواقع يكون أمارة، و قد ثبت أن الأمارة رافعة للشك الذي هو موضوع الأصول التي منها الاستصحاب، و عليه: فلا وجه لتقديمه على القرعة بما تقدم من تخصيص دليلها بدليله.

(2) الواو للحالية، يعني: كيف يقدم دليل الاستصحاب على دليل القرعة ؟ و الحال أن دليلها رافع للشك الذي هو موضوع دليل الاستصحاب، و هذا ناظر إلى بعض روايات القرعة الظاهرة في كشف القرعة عن الواقع، و كونها واسطة إثباتية له.

و هذا شأن الأمارة، و ليس في الاستصحاب جهة كشف و حكاية عن الواقع.

بل هو حكم على الشك الذي يرتفع بالقرعة، فهي كسائر الأمارات واردة أو حاكمة على الاستصحاب، و ضمير «دليلها» راجع إلى القرعة، و ضمير «دليله» راجع إلى الاستصحاب.

ص: 170


1- تهذيب الأحكام 240:4 /ذيل ح 593، الوسائل 259:27 /ذيل ح 33720.
2- الفقيه 3399/94:3، الوسائل 33715/258:27.

لحكمه (1)، و موجبا (2) لكون نقض اليقين باليقين بالحجة على خلافه، كما هو (3) الحال بينه و بين أدلة سائر الأمارات، فيكون هاهنا أيضا (4) من دوران الأمر بين التخصيص بلا وجه (5) غير دائر و التخصص (6).

فإنه يقال (7): ليس الأمر...

=============

(1) يعني: لا لحكم الاستصحاب مع بقاء موضوعه حتى يبقى مجال للبحث عن تقدمه على القرعة، بدعوى: تحقق موضوع كل منهما و كونهما متعارضين.

(2) عطف على «رافعا» و مفسر له؛ حيث إن الأمارة الكاشفة عن الواضع ترفع الشك و توجب كون نقض اليقين باليقين بالحجة - و هي القرعة - على خلاف اليقين السابق. و ضمير «خلافه» راجع إلى اليقين في قوله: «نقض اليقين» و قوله: «بالحجة» متعلق ب «باليقين» أي: القطع بحجية القرعة في موارد الشبهة.

(3) أي: رفع الموضوع حال سائر الأمارات مع الاستصحاب، و ضمير «فيكون» راجع إلى تقديم الاستصحاب.

(4) يعني: كغير القرعة من سائر الأمارات في دوران الأمر بين تخصيص دليل القرعة بدليل الاستصحاب بلا وجه أو بوجه دائر، حيث إن مخصصيته لدليل القرعة موقوفة على اعتباره، و هو موقوف على مخصصيته بالتقريب الذي تقدم في تقديم الاستصحاب على سائر الأصول، و هذا دور محال، و بين التخصص أعني به: الخروج الموضوعي، حيث إن الأخذ بالقرعة يوجب ارتفاع الموضوع و هو نقض اليقين بالشك، و الاندراج في نقض اليقين باليقين بالحجة على الخلاف. لكن المراد بالتخصص هنا هو الورود، فإن الخروج و إن كان موضوعيا، لكنه تشريعي لا تكويني.

(5) فيكون خارجا عن الموازين.

(6) عطف على «التخصيص».

(7) هذا جواب الإشكال المزبور، و مرجع هذا الجواب إلى فساد قياس القرعة بسائر الأمارات المقدمة على الاستصحاب ورودا أو حكومة.

توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 7، ص 815» - أن موضوع سائر الأمارات مجهول الحكم بالعنوان الأولي كحرمة شرب الخمر و حلية الخلّ و نظائرهما من أحكام العناوين الأولية، فإذا قام خبر الثقة على حرمة شرب التتن مثلا كان رافعا للشك الذي هو موضوع الاستصحاب، و واردا أو حاكما عليه، و موضوع القرعة هو مجهول مطلقا و بكل عنوان - لا في الجملة - فلو علم الحكم بعنوان الاستصحاب ارتفع المشكل الذي

ص: 171

كذلك (1)، فإن (2) المشكوك مما كانت له حالة سابقة و إن كان من المشكل و المجهول و المشتبه (3) بعنوانه الواقعي؛ إلاّ (4) إنه ليس منها بعنوان ما طرأ عليه من نقض اليقين بالشك، و الظاهر من دليل القرعة أن يكون منها بقول مطلق (5) لا في الجملة (6).

=============

هو موضوع في القرعة؛ لكون الاستصحاب رافعا لموضوعها، فيقدم عليها. و اختلاف الموضوع في القرعة و سائر الأمارات أوجب الفرق بينهما في تقدم الاستصحاب على القرعة، و تقدم سائر الأمارات على الاستصحاب.

(1) أي: دائرا بين التخصيص بلا وجه و التخصص، على التفصيل الذي تقدم.

(2) تعليل لقوله: «ليس الأمر كذلك»، و بيان لعدم كون القرعة مقدمة على الاستصحاب كتقدم سائر الأمارات عليه، و حاصله: ما تقدم من: أن الموضوع في القرعة هو المجهول من جميع الجهات و العناوين و لو بعنوان نقض اليقين بالشك؛ إذ الظاهر من لفظ «المشكل» و نظائره هو الجهل و الاشتباه بقول مطلق و بكل عنوان، و الاستصحاب بيان لحكم المجهول بعنوان ثانوي و هو نقض اليقين بالشك، و رافع لموضوع دليل القرعة بهذا العنوان الثانوي، فالمشكوك الذي يجري فيه الاستصحاب لا يشمله دليل القرعة؛ لعدم كونه مجهول الحكم بقول مطلق.

(3) و غيرها كعنوان «الملتبس» مما هو مذكور في أدلة القرعة، يعني: و إن كان المشكوك في الاستصحاب مجهول الحكم بعنوانه الواقعي كسائر الأمارات غير القرعة، و لذا يرتفع الشك في الاستصحاب بالأمارة القائمة على الحكم الواقعي؛ لكن القرعة ليست كذلك؛ لأن موضوعها هو الجهل المطلق و بجميع العناوين، و من المعلوم: ارتفاعه بالاستصحاب؛ لأنه موجب لوضوح الحكم في الجملة بعنوان ثانوي و هو نقض اليقين بالشك.

(4) أي: إلاّ إن المشكوك الذي له حالة سابقة ليس من «المشكل و نظائره» بعنوان ثانوي؛ إذ المراد به هو المجهول في الجملة لا مطلقا، بخلاف الجهل في دليل القرعة، فإنه الجهل المطلق، و لذا يرتفع بوضوح الحكم في الجملة و لو بعنوان نقض اليقين بالشك.

(5) إذ المشكل المطلق و مثله «المجهول و المشتبه و الملتبس» ظاهر في الجهل الذي لا سبيل إلى رفعه كما مرت الإشارة إليه آنفا، و الضمير المستتر في «أن يكون» راجع إلى المشكوك، و ضمير «منها» إلى عناوين «المشكل و المجهول و المشتبه».

(6) يعني: كما في سائر الأمارات، فإن الموضوع فيها هو مجهول الحكم بعنوانه الواقعي لا مطلقا.

ص: 172

فدليل (1) الاستصحاب الدال على حرمة النقض الصادق (2) عليه حقيقة رافع لموضوعه أيضا (3)، فافهم (4).

فلا بأس (5) برفع اليد عن دليلها عند دوران الأمر...

=============

(1) هذه نتيجة كون موضوع دليل القرعة المجهول المطلق و بكل عنوان، و مقتضاه:

تقدم الاستصحاب على القرعة؛ لكونه بيانا للحكم بعنوان ثانوي، و رافعا للجهل المطلق بوجه.

(2) هذا و «الدال» نعتان ل «دليل»، و ضمير «عليه» راجع إلى «المشكوك» الذي له حالة سابقة و ضمير «لموضوعه» راجع إلى دليل القرعة، يعني: فدليل الاستصحاب يدل على أمرين: الأول: حكم الشك الذي له حالة سابقة و هو حرمة النقض، و الثاني: رفع الجهل الذي يكون موضوع دليل القرعة بعد صدق المشكوك عليه حقيقة.

(3) يعني: كما أن دليل الاستصحاب يكون مثبتا لحكم موضوعه أعني: الشك المسبوق باليقين، كذلك يكون رافعا لموضوع دليل القرعة.

(4) يحتمل قويا أن يكون إشارة إلى ضعف التفصيل بين القرعة و الاستصحاب في كون الجهل في القرعة هو الجهل المطلق، و في الاستصحاب هو الهمل في الجملة؛ بل المراد بالجهل في كليهما واحد، و هو إما عام في كل منهما و إما خاص كذلك.

نعم؛ لو قيل بظهور عنوان «المشكل» في بعض أخبار القرعة فيما ادعاه المصنف من عدم وضوح الوظيفة لا واقعا و لا ظاهرا؛ إذ مع تعيين الوظيفة بالاستصحاب و جعل الحكم المماثل يتعين العمل به و إن لم ينكشف الواقع به، و يرتفع الإشكال الموضوع في دليل القرعة.

و هذا بخلاف عنوان «المجهول» لظهوره في الجهل بالواقع خاصة.

(5) سوق الكلام يقتضي تفرعه على ما أفاده من كون دليل الاستصحاب رافعا لموضوع دليل القرعة؛ لكن لا يناسبه حينئذ التعليل بقوله: «لوهن عمومها»؛ لعدم المناسبة بينه و بين المعلل؛ بل لا بد من التعليل برافعية دليل الاستصحاب لموضوع دليل القرعة.

و لذا احتملنا قويا كون الأمر بالفهم إشارة إلى ضعف ما أفاده في وجه تقديم الاستصحاب على القرعة من التفصيل بينهما في الجهل الذي مرجعه إلى رافعيته لموضوع دليل القرعة، و بعد تضعيفه اختار في تقديمه على القرعة الوجه الذي ذكره قبل ذلك بقوله: «مضافا إلى وهن دليلها بكثرة تخصيصه حتى صار العمل به في مورد محتاجا إلى الجبر»، و لذا أعاده هنا معتمدا عليه و معللا به، و قال: «لوهن عمومها و قوة

ص: 173

بينه (1) و بين رفع اليد عن دليله، لوهن عمومها و قوة عمومه كما أشرنا إليه آنفا (2)، و الحمد لله أوّلا و آخرا، و صلى الله على محمد و آله باطنا و ظاهرا

=============

عمومه»، و هذا التعليل يشهد بتضعيف التفصيل المزبور بقوله: «فافهم»، و اختار الوجه السابق بشهادة هذا التعليل.

(1) أي: بين رفع، اليد عن دليل القرعة، و بين رفع اليد عن دليل الاستصحاب.

و ضمير «عمومها» راجع إلى القرعة، و ضمير «عمومه» إلى الاستصحاب.

(2) و هو قوله: «مضافا إلى وهن دليلها بكثرة تخصيصه».

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من عقد هذا التذنيب: بيان النسبة بين الاستصحاب و بين القواعد الجارية في الشبهات الموضوعية؛ كقاعدتي التجاوز و الفراغ و أصالة الصحة في عمل الغير و القرعة و غيرها.

ثم ما أفاده المصنف من تقديم هذه القواعد الثلاث غير القرعة - على الاستصحاب بالتخصيص - منوط بكونها أصول تنزيلية؛ إذ بناء على كونها من أمارات تكون واردة أو حاكمة على الاستصحاب.

2 - جملة من الروايات تدل على قاعدتي التجاوز و الفراغ كصحيحة زرارة «إذا خرجت من شيء و دخلت في غيره فشكك ليس بشيء»، «كل شيء شك فيه مما قد جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه».

و أما تقريب دلالة هاتين الروايتين على قاعدة التجاوز: فإن المراد من الشك في شيء هو: الشك في أصل وجوده، و المراد من التجاوز عن شيء هو: الخروج عن محل الشيء و الدخول في غيره، و مقتضى الخبرين عدم الاعتناء بالشك و البناء على وجود الشيء بعد التجاوز عن محله. هذا في قاعدة التجاوز.

و أما قاعدة الفراغ: فقد شرعت للحكم بصحة العمل الموجود إذا شك في صحته بعد الفراغ عن العمل الذي شك في صحته.

و يدل عليه موثق محمد بن مسلم «كلما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو»، فإن ظهور «فأمضه» في الأمر بالبناء على وجود المشكوك فيه على النحو الذي ينبغي أن يقع عليه و هو وجوده على النحو الصحيح مما لا ينكر.

3 - وجه تقديم هذه القواعد - غير القرعة - على الاستصحابات الجارية في مواردها

ص: 174

هو أخصية هذه القواعد من الاستصحاب حقيقة أو حكما و الأخصية الحقيقية تكون في قاعدة التجاوز؛ لأن وجود الحادث مسبوق بالعدم، فالشك في وجوده مورد للاستصحاب العدمي كالشك في القراءة بعد تجاوز محلها.

و الأخصية الحكمية تكون فيما إذا كانت النسبة بين الاستصحاب و بين بعض تلك القواعد عموما من وجه. فيلزم من تقديم الاستصحاب قلّة موارد تلك القواعد بخلاف تقديمها عليه حيث لا يلزم هذا المحذور.

4 - و الإشكال: على تخصيص دليل الاستصحاب بأدلة تلك القواعد فيما إذا كانت النسبة بينهما عموما من وجه، فيقع التعارض بينهما في مادة الاجتماع، فيرجع إلى قواعد باب التعارض من الترجيح أو التخيير، فلا معنى لتخصيص دليل الاستصحاب بأدلة تلك القواعد مدفوع بأحد وجهين:

أحدهما: الإجماع، فإن الإجماع على عدم الفصل بين موارد تلك القواعد و تقديمها على الاستصحاب مطلقا يجعلها حكما كالخاص في تخصيصها للاستصحاب و تقديمها عليه بالتخصيص.

ثانيهما: يلزم من تقديم الاستصحاب عليها قلة مواردها، بخلاف تقديمها على الاستصحاب، فلا يلزم هذا المحذور.

و لزوم قلّة مورد تلك القواعد مانع عن تقديم الاستصحاب عليها.

5 - في تقديم الاستصحاب على القرعة وجهان:

أحدهما: الأخصّية.

و الآخر: وهن دليل القرعة بكثرة التخصيص.

و أما أخصية دليل الاستصحاب من دليل القرعة: فلظهور دليلها في اعتبارها مطلقا، من غير فرق فيه بين العلم بالحالة السابقة و عدمه، بخلاف دليل الاستصحاب فإن مورده هو خصوص العلم بالحالة السابقة، و مقتضى قاعدة تخصيص العام بالخاص هو تخصيص عموم دليل القرعة بدليل الاستصحاب.

و أما وهن دليل القرعة: فلأن كثرة التخصيص في عمومات القرعة الموجبة لضعف الظهور ربما تمنع عن جريان الأصل العقلائي و هو أصالة الظهور فيه، فيعامل معه معاملة المجمل، فيكون الاستصحاب مقدما عليها لكونه أقوى الدليلين.

6 - و الإشكال: بأنه كيف يجوز تخصيص دليل القرعة بدليل الاستصحاب ؟ و الحال

ص: 175

أن دليل القرعة رافع لموضوع دليل الاستصحاب لأنها من الأمارات - كما هو مفاد بعض الروايات في باب القرعة - مدفوع؛ بفساد قياس القرعة بسائر الأمارات المقدمة على الاستصحاب ورودا أو حكومة؛ لأن موضوع سائر الأمارات هو مجهول الحكم بالعنوان الأولي كحرمة شرب الخمر و حلية الخلّ و نحوهما.

و أما موضوع القرعة: فهو مجهول مطلقا و بكل عنوان، فلو علم الحكم بعنوان الاستصحاب ارتفع موضوع القرعة و هو المجهول المطلق.

فالاستصحاب رافع لموضوعها فيقدم عليها.

7 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - تقديم قاعدتي التجاوز و الفراغ و أصالة الصحة في عمل الغير على الاستصحاب في مواردها.

2 - تقديم الاستصحاب على القرعة.

ص: 176

المقصد الثامن في تعارض الأدلة و الأمارات (1)

اشارة

المقصد الثامن في تعارض الأدلة و الأمارات (1)

=============

(1) و قبل الخوص في أصل البحث ينبغي تقديم أمور:

1 - أن الشيخ الأنصاري «قدس سره» عبّر عن هذا البحث بلفظ الخاتمة، حيث قال:

«خاتمة في التعادل و الترجيح»(1). و هذا التعبير منه، مشعر بكونها خارجة عن المسائل الأصولية، مع أنها من أهم المسائل الأصولية، فلا وجه لجعله خاتمة لعلم الأصول.

2 - أن التعبير عن هذا البحث بتعارض الأدلة كما في المتن هو الأصح من التعبير ب «مبحث التعادل و الترجيح» كما في بعض نسخ الكتاب و لعله من سهو الناسخ أو الطابع.

3 - في عطف الأمارات على الأدلة احتمالان:

الأول: كون العطف تفسيريا إشارة إلى وحدة المعنى و ترادف لفظي الدليل و الأمارة.

الثاني: مغايرة المعطوف للمعطوف عليه كما هو مقتضى العطف؛ إذ القاعدة في العطف هي المغايرة بينهما كما نسب إلى الشيخ الأنصاري «قدس سره»، فحينئذ: يكون الدليل مختصا بالأحكام، و الأمارة مختصة بالموضوعات.

و من هنا يظهر: أن في عبارة المتن جهات من البحث منها: جعل مباحث التعادل و الترجيح من مقاصد علم الأصول لا خاتمة مباحثه كما عن الشيخ «قدس سره».

و منها: أولوية التعبير ببحث تعارض الأدلة من التعبير ببحث التعادل و الترجيح.

و منها: إرادة معنى من الأدلة و الأمارات هنا أو إرادة معنيين.

و قبل التعرض لهذه الجهات لا بأس ببيان الوجه الموجب للبحث عن التعادل و الترجيح فيقال: إن همّ الفقيه من تنقيح مباحث الأصول هو تحصيل الحجة على الحكم الشرعي، و لا ريب في أن فعلية كل حجة بمعنى جواز الاستناد إليها في مقام الاستنباط، تتوقف على وجود المقتضي للحجية و فقد المانع عنها.

ص: 177


1- فرائد الأصول 7:4.

توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 8، ص 5» - أن استنباط الحكم الشرعي من أخبار الآحاد التي هي عمدة أدلة الفقه منوط بأمور:

الأول: حجية خبر الواحد؛ بأن يكون خبر العدل أو الثقة طريقا لإحراز صدور الحكم الشرعي من النبي و الولي «صلى الله عليهما و آلهما».

الثاني: ظهور الألفاظ الواردة في الخبر في معانيها و عدم إجمالها؛ كدلالة صيغة «افعل» على الوجوب، و دلالة صيغة «لا تفعل» على الحرمة، و دلالة الجملة الشرطية على المفهوم، و ألفاظ العموم على العموم، و عدم دلالة الأمر الواقع عقيب الحظر أو توهمه على الوجوب، و غير ذلك من الأمور المبحوث عنها في مباحث الألفاظ الراجعة إلى تعيين صغريات الظهورات.

الثالث حجية ظواهر الألفاظ بنحو الكبرى الكلية، سواء وردت في الكتاب أم في السنة، في قبال من يدّعي اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه أو غير ذلك.

الرابع: علاج تعارض الأخبار؛ لما يتراءى من التنافي بين الأخبار المأثورة عن الأئمة المعصومين «عليهم السلام»، خصوصا في أبواب العبادات.

أما الأمر الأول: فيتكفله بحث خبر الواحد؛ إذ قد عرفت هناك وفاء الأدلة - من الكتاب و السنة المتواترة إجمالا و السيرة العقلائية الممضاة شرعا - بإثبات اعتبار خبر الثقة أو الموثوق به.

و أما الأمر الثاني: فيتكفله العرف و اللغة، و قد تقدم في مباحث الألفاظ جملة منها.

و أما الأمر الثالث: فيبحث عنه في مسألة حجية ظواهر الألفاظ، و أن ظواهر الكتاب و السنة تكون حجة في حقنا كحجيتها في حق الموجودين في عصر التخاطب.

و بتمامية هذه الأمور الثلاثة يتمّ المقتضي لحجية خبر الواحد، فإذا تصدى المجتهد للاستنباط و لم يكن للخبر معارض كان الخبر حجة فعلية أي: منجّزا للواقع على تقدير الإصابة و معذّرا عنه على تقدير الخطأ؛ و إن كان للخبر معارض أو معارضات لم يجز التمسك به إلاّ بعد علاج التعارض؛ و ذلك لقصور أدلة حجيّة الخبر و ظاهر الكلام عن شمولها بحال التعارض، بناء على ما هو الحق من حجيّة الأمارات على الطريقية.

و حينئذ: يكون أحد الخبرين المتعارضين حجة شأنية لا حجة فعلية، و من المعلوم: أن ما يصلح للاستناد إليه في مقام الاستنباط هو الحجة الفعلية لا الاقتضائية، و تتوقف هذه الحجية الفعلية - في الأخبار المتعارضة - على قيام دليل ثانوي على حجية أحد الخبرين

ص: 178

تعيينا أو تخييرا. و هذا المقصد الثامن يتكفل البحث عن هذا الدليل الثانوي، و يعيّن وظيفة الفقيه الذي يواجه الأخبار المتعارضة في كثير من الأبواب.

و يلزم البحث حينئذ عن جهات:

منها: أن الأصل في تعارض الخبرين هو التخيير أو التساقط.

و منها: حجية المتعارضين في المدلول الالتزامي أعني: نفي الثالث و عدمها.

و منها: عدد المرجحات و اعتبار الترتيب بينهما و عدمه.

و منها: التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى كل ما يوجب أقربية أحد المتعارضين إلى الواقع و عدمه.

و منها: حكم معارضة أكثر من خبرين و مسألة انقلاب النسبة. و غير ذلك مما سيأتي بحثه في هذا المقصد إن شاء الله تعالى.

إذا اتضح ما ذكرناه من شدة الحاجة إلى تنقيح مسائل تعارض الأدلة لدخلها في الاستنباط، فلنعد إلى ما أردنا بيانه من الجهات الثلاث، فنقول:

أما الجهة الأولى: فمحصّل الكلام فيها: أنه قد جعل جمع من الأصحاب المسائل الباحثة عن أحكام تعارض الأدلة في خاتمة مباحث علم الأصول، كما جعلها من المقاصد، فمن الطائفة الأولى: صاحب المعالم و القوانين و الفصول و الشيخ الأنصاري، ففي المعالم(1) و الرسائل: «خاتمة في التعادل و الترجيح».

و في الفصول: «خاتمة في تعارض الأدلة»(2).

و من الطائفة الثانية: العلامة في محكي التهذيب و المحقق الرشتي في البدائع، و المصنف «قدس سرهم».

و الظاهر: أن ما صنعه المصنف أولى؛ إذ البحث عنه بعنوان الخاتمة ربما يكون ظاهرا في خروجه عن مسائل علم الأصول كخروج الأمور المبحوث عنها في المقدمة - كمسألة الاشتراك و الصحيح و الأعم و المشتق و نحوها - عن مسائل العلم، مع وضوح: انطباق ضابط المسألة الأصولية عليه، فإن تعريف علم الأصول - سواء كان هو «العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الكلية»، أم كان هو «ما يبحث فيه عن عوارض الأدلة» أم غيرهما - ينطبق على أحكام تعارض الأدلة، فلا وجه لجعلها خاتمة العلم إلاّ إذا أريد

ص: 179


1- معالم الدين: 249.
2- الفصول الغروية: 435.

اختتام مسائل علم الأصول بها، لا خروجها عن حاق مباحثه.

و في المقام احتمال ثالث له وجه وجيه، و هو ما نبّه عليه الفقيه الأعظم الأصفهاني «قدس سره» من أنه ينبغي جعل هذا المقصد الثامن تتمة لمباحث حجية خبر الواحد؛ لرجوع البحث فيه إلى حجية الخبر المعارض و عدمها، كحجية خبر المعارض، فراجع تقدير بحثه الشريف: «منتهى الوصول، ص 251».

و أما الجهة الثانية: فتقريبها: أنهم جعلوا عنوان هذه المباحث تارة «التعادل و الترجيح» بلفظ المفرد، أو «التراجيح» بصيغة الجمع المذكورين في عدة من كتب الأصول، و أخرى: «تعارض الأدلة» كما في المتن و عدة أخرى من العبارات.

و الظاهر: أولوية التعبير الثاني من الأول؛ لأن «تعارض الأدلة» عنوان جامع لكل من المتعارضين المتعادلين في المزايا، و الواجد أحدهما لمزية دون الآخر. و مع كون نفس الكلي - مع الغض عن خصوصيات أفراده - ذا حكم فالأنسب جعل نفسه عنوان البحث دون أفراده. و من المعلوم: أن لنفس التعارض أحكاما مثل: كون الأصل فيه التساقط أو التخيير، و مثل: أولوية الجمع بينهما مهما أمكن من الطرح، و نحوهما.

مضافا إلى: مناسبة هذا العنوان لما ورد في بعض أخبار العلاج أعني: به مرفوعة زرارة التي فيها «الخبران المتعارضان».

و لعل نظر المحقق القمّي «قدس سره» - في الجمع بين الألفاظ الثلاثة المذكورة - إلى التنبيه على تكفل هذا البحث لأحكام نفس الكلي و أفراده معا. فتأمل جيّدا.

و أما الجهة الثالثة: فتقريبها: أنهم اصطلحوا على تسمية الطريق المعتبر في الأحكام بالدليل و في الموضوعات بالأمارة، فخبر الثقة إن كان مؤداه حكما شرعيا - كوجوب صلاة الجمعة - كان الخبر دليلا، و إن كان موضوعا خارجيا - بناء على اعتباره فيها - سمّي أمارة كسائر الطرق المثبتة للموضوعات كالبيّنة و الإقرار.

لكن الظاهر أن المقصود بهما في المتن أمر واحد؛ لأن موضوع البحث في باب التعارض هو الأخبار التي هي أدلة الأحكام، و عليه: يكون عطف «الأمارات» على «الأدلة» تفسيريا.

فإن قلت: إن الفقيه كما يثبت له منصب الإفتاء بالأحكام الكلية كذلك يثبت له التصدي للقضاء و فصل الخصومة، و حينئذ: فكما يلزمه تعيين حكم الخبرين المتعارضين و الشهرتين المتعارضتين في مقام الإفتاء، فكذلك يلزمه تعيين حكم البيّنتين المتعارضتين من

ص: 180

تقديم بيّنة الداخل و عدمه. و عليه: يكون «تعارض الأدلة» للإشارة إلى وظيفته في مقام الإفتاء، و «تعارض الأمارات» إلى وظيفته في مقام القضاء، فلا يكون العطف حينئذ تفسيريا.

قلت: لا ريب في ثبوت المنصبين للفقيه، بل و غيرهما بناء على عموم ولايته؛ لكن المقصود بالبحث في مسألة التعادل و الترجيح هو: إثبات حجية أحد الخبرين و عدمها؛ لا علاج تعارض مطلق الطرق حتى يندرج حكم تعارض البيّنتين و نحوهما في هذا البحث.

و هناك جهات أخرى من البحث تركناها رعاية للاختصار.

ص: 181

ص: 182

فصل (1)

التعارض: هو تنافي (2)...

=============

فصل فى تعريف التعارض

اشارة

(1) الغرض من عقد هذا الفصل: تعريف التعارض الذي هو موضوع الأحكام الآتية في هذا المقصد، ثم بيان ما يترتب على هذا التعريف من عدم شموله لموارد الجمع الدلالي و التوفيق العرفي مما يكون بين المدلولين منافاة و تمانع؛ لكن ليس بين نفس الدليلين تمانع، و الصور الرئيسية التي ادّعى المصنف عدم صدق تعريف التعارض عليها ثلاث:

الأولى: موارد حكومة أحد الدليلين على الآخر.

الثانية: موارد التوفيق العرفي بين الدليلين بالتصرف في أحدهما تارة و في كليهما أخرى.

الثالثة: موارد حمل أحد الدليلين على الآخر كما في النص و الظاهر و القرينة و ذي القرينة، و سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى. بعد الفراغ من تعريف التعارض.

عناوين ثلاثة في تعريف التعارض

عناوين ثلاثة في تعريف التعارض(1) اعلم: أن الموجود في كلمات القوم في تعريف التعارض عناوين ثلاثة:

أولها: - و هو المنسوب إلى المشهور - «تنافي المدلولين على وجه التناقض أو التضاد»، ففي القوانين: «تعارض الدليلين تنافي مدلوليهما»(2)، و في الفصول «تنافي مقتضاهما»(2).

ثانيها: ما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس سره» بقوله: «و غلب في الاصطلاح على تنافي الدليلين و تمانعهما باعتبار مدلولهما...»(3).

ثالثها: ما أفاده الماتن.

و لا ريب في مغايرة تعريف المصنف لما أفاده المشهور. و في مغايرته لتعريف الشيخ

ص: 183


1- فرائد الأصول 11:4.
2- ذكره في منتهى الدراية 11:8.
3- الفصول الغروية: 435.

تأمل سيأتي بيانه.

و في «منتهى الدراية، ج 8، ص 12» ما هذا لفظه: «و تحقيق ما أجمله المصنف هنا و وجه عدوله عن تعريف المشهور منوط بالبحث في مقامين:

الأول: في توضيح الألفاظ الواردة في التعريف.

الثاني: في الفرق بين تعريف المشهور و تعريف الماتن، و وجه عدوله عنه.

أما المقام الأول: فنقول فيه: إن الكلمات المحتاجة إلى البيان هي التنافي، و الدلالة، و التناقض، و التضاد.

أما التنافي: فهو كالتعارض على وزن «التفاعل» من النفي.

و النفي في اللغة: هو الطرد و الدفع، و هذا المعنى هو المقصود في باب التعارض؛ لأن كل واحد من المدلولين ينفي الآخر؛ بالدلالة الالتزامية الشرعية كما سيظهر، أو لأن كل واحد من الدليلين يطرد الآخر و يزاحمه في حجيته الفعلية. لكن التعارض أخص من التنافي؛ لأن التنافي - و هو عدم الاجتماع في الوجود - بالذات يتحقق في المدلولين المتمانعين كالوجوب و الحرمة، أو الوجوب و عدمه، و لا يصدق التعارض على هذا التمانع، فلا يوصف الوجوب و الحرمة بأنهما متعارضان، و إن وصفا بأنهما متنافيان؛ بل يوصف ما دل على الوجوب و ما دل على الحرمة بالمعارضة، فيقال: تعارض الخبران، و لا يقال: تعارض الحكمان، فالتعارض من أوصاف الدال - بما هو دال - بالذات لا بالعرض.

و أما كلمة «الدلالة» ففيها جهتان:

الجهة الأولى: أنها تطلق على معنيين: أحدهما: الحكاية و الكشف، و هذا في قبال الكلام المجمل، فالدلالة متقومة بالظهور.

و الآخر: الحجية أي: ظاهر الكلام المتصف بالحجية.

و بعبارة أخرى: يراد بالدلالة ظاهر خصوص الدليل دون غيره مما لا يكون دليلا، و معنى التنافي في الدلالة هو تمانع الدليلين المتعارضين في الاندراج تحت دليل الاعتبار، فإذا دل أحد الخبرين على وجوب جلسة الاستراحة، و الخبر الآخر على عدم وجوبها امتنع شمول أدلة. حجية خبر الثقة لكليهما؛ لامتناع التعبد بالمتناقضين الموجب لبطلان اقتضاء دليل الاعتبار الحجية الفعلية لكل منهما بعينه؛ للزوم اجتماع النقيضين لأحدهما المعيّن؛ لكونه ترجيحا بلا مرجح، فيزاحم كل منهما الآخر في الحجية الفعلية و في شمول عموم أدلة الاعتبار له، و هذا هو التنافي في الدلالة.

ص: 184

و الشاهد على إرادة هذا المعنى من الدلالة لا مطلق الكشف و الحكاية هو تصريح المصنف فيما سيأتي بعدم التعارض في موارد الجمع الدلالي كالعام و الخاص المنفصل عنه، لوضوح: أن الخاص المنفصل لا يصادم ظهور العام في عمومه، و إنما يزاحمه في حجيته بالنسبة إلى مورد الخاص، فلو كان المناط في تنافي الدلالتين اختلاف ظهورهما لزم إدراج موارد الجمع الدلالي و تقديم أقوى الحجتين على الآخر في تعريف التعارض، مع أنه لا ريب في خروجها عنه. و ينحصر وجه خروجها عنه في إرادة الحجة من الدلالة؛ إذ لا تمانع بين حجية كل من العام و الخاص.

نعم؛ لا ريب في أن المنسبق من كلمة الدلالة هو الحكاية و الكشف لا الحجية؛ إلاّ إن مقصود الماتن منها هو الحجية، فإنه «قدس سره» جعل التعارض من حالات الدليل لا من عوارض المدلول.

الجهة الثانية: أن المراد بالدلالة ليست هي خصوص الدلالة اللفظية المنحصرة في المطابقية و التضمينية و الالتزامية؛ بل المراد بها: مطلق ما كان حجة و لو لم ينطبق عليه ضابط الالتزام من اللزوم العقلي كما في العمى و البصر، أو العرفي كما في جود حاتم الطائي. و يشهد لهذا التعميم ما أفاده بقوله: «عرضا». و صرّح به في حاشية الرسائل من درج العلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين - مع تعدد موضوعيهما - في موضوع التعارض.

و أما كلمة التناقض فواضحة؛ لأنها عبارة عن تقابل السلب و الإيجاب في شيء واحد، و اعتبر في استحالته اجتماع الوحدات الثمانية أو الأزيد منها.

و أما كلمة التضاد: فقد قسّم المصنف التضاد إلى الحقيقي و العرضي، و لكن المشهور أرادوا به التضاد الحقيقي خاصة كالتناقض حيث لم يوصفوه بالحقيقي و العرضي.

و كيف كان؛ فالتضاد الحقيقي كالتناقض يشترط فيه اتحاد الموضوع كاجتماع الوجوب و الحرمة في فعل واحد. و التضاد العرضي لا يعتبر فيه اتحاد الموضوع؛ بل يمتنع تحقق أمرين وجوديين في موضوعين في نظام الوجود كما سيأتي مثاله في موارد العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين.

ثم إن المعتبر من اتحاد الموضوع في التناقض و التضاد الحقيقي - كما أفاده في حاشية الرسائل - هو الاتحاد في الجملة ليشمل التعارض التبايني و العموم و الخصوص المطلق و العموم و الخصوص من وجه كما سيأتي.

هذا تمام الكلام في شرح الألفاظ الواردة في تعريف المصنف للتعارض.

ص: 185

و قد ظهر بما ذكرناه: أنه تعريف جامع لأفراد التعارض و مانع للأغيار أي: لموارد التوفيقات العرفية.

و أما المقام الثاني - و هو الفرق بين تعريف التعارض بما أفاده المشهور و المصنف و وجه عدوله عنه - فنقول: أما الفرق بين التعريفين فهو: أن ظاهر تعريف المشهور كون التعارض من صفات المدلولين، و كون توصيف الأمارتين و الدليلين بالتعارض توصيفا بحال المتعلق كما ورد التصريح به في كلمات بعضهم كالمحقق السيد علي القزويني، فيصح حينئذ جعل التعارض وصفا للدليلين؛ لأنه كتوصيف اللفظ بالكلية و الجزئية. مع كونهما من أوصاف المعاني و المفاهيم لا الألفاظ.

و ظاهر تعريف المصنف «قدس سره»: أن التعارض وصف لنفس الدليلين كالخبرين اللذين وصفا بالتعارض في بعض نصوص الباب كقوله: «إذا ورد عنكم الخبران المتعارضان»، و منشأ هذا التنافي في الحجية هو تمانع المدلولين، فيكون الوصف بحال الموصوف حقيقة؛ إذ الموصوف بالتعارض يكون نفس الأمارتين كالخبرين لا مدلوليهما، غاية الأمر: أن تنافي المدلولين حيثية تعليلية و واسطة ثبوتية لتوصيف الدليلين بالتعارض كوساطة النار لحرارة الماء، فإن قولنا: «الماء حار». حمل حقيقي و إسناد إلى ما هو له.

و هذا بخلافه على تعريف المشهور، فإن تنافي المدلولين فيه حيثية تقييدية في تعارض الأمارتين، و يكون واسطة في عروضه على الدليلين كوساطة حركة السفينة لحركة الجالس فيها، فإنه يصح سلبها عن الجالس فيها حقيقة؛ إذ المتحرك هو السفينة دون جالسها، إلاّ بناء على معنى آخر للحركة غير مقصود عرفا.

هذا تقريب الفارق بين تعريف المصنف و المشهور.

و أما وجه عدوله عن تعريف المشهور: فأمران، اقتصر في المتن على ذكر واحد منهما، و تعرض لكليهما في حاشية الرسائل في مقام تحسين تعريف الشيخ للتعارض:

أحدهما: ما تقدم آنفا من أنه لو كان التعارض «تنافي المدلولين» - كما أفاده المشهور - كان التعارض وصفا لمتعلق الدليلين لا لأنفسهما. و لو كان التعارض ما أفاده الشيخ من «أنه تنافي الدليلين باعتبار تنافي المدلولين» كان التعارض وصفا لنفس الموصوف أعني:

الدليلين، و كان منشأ تنافيهما تمانع مدلوليهما، فيسري التنافي من المدلولين إلى الدالين.

ثانيهما: - و هو العمدة - أن تعريف المشهور يعمّ موارد الجمع الدلالي و التوفيق العرفي، مع أنه لا ريب في عدم إجراء أحكام التعارض - من التوقف و الترجيح و التخيير - عليها.

ص: 186

و هذا بخلاف تعريف التعارض بتنافي الدليلين.

و توضيحه: أن تنافي الدليلين قد يكون بدويّا زائلا، بالتأمل؛ بحيث لا يتحيّر العرف في الجمع بينهما و العمل بهما، و قد يكون مستقرا لا يرى العرف سبيلا إلى الجمع بينهما.

و الظاهر: أن موضوع الأخبار العلاجية و الأبحاث الآتية هو التعارض المستقر الذي يوجب استمرار تحيّر العرف في الجمع بين المتعارضين كما إذا كان أحدهما يأمر بشيء و الآخر ينهى عنه.

و على هذا: فالتعريف المناسب لهذا الموضوع المأخوذ في أخبار العلاج هو أن يقال:

«إن التعارض تنافي الدليلين» لا تعريفه ب «تنافي المدلولين» لأن تعريف المشهور يشمل كل دليلين متنافيين مدلولا و إن لم يكن بينهما منافاة دلالة و إثباتا - أي: في مقام الحجية - كما إذا كان بينهما حكومة أو جمع عرفي على أنحائه، فلا بد من إجراء أحكام التعارض عليهما من التخيير أو الترجيح، مع إنه ليس كذلك، لخروجهما عن باب التعارض.

و هذا بخلاف تعريف المتن، فإنه لا يشمل مثل هذين الدليلين و لنذكر شاهدين:

الأول: موارد حكومة أحد الدليلين على الآخر، نظير ما دل على حكم، الشكوك في الركعات مثل: قوله «عليه السلام»: «إذا شككت فابن على الأكثر» و ما دل على نفي الشك عمن كثر شكه كقوله «عليه السلام»: «لا شك لكثير الشك» فإن مدلولي هذين الدليلين متنافيان، بمقتضى تقابل الموجبة الكلية مع السالبة الجزئية، فالخطاب الأول المثبت للحكم يشمل كثير الشك و غيره، و الخطاب الثاني النافي للحكم مخصوص بكثير الشك، فيصادم المدلولان - في كثير الشك - بالنفي و الإثبات.

و مقتضى تعريف المشهور: إجراء أحكام التعارض بينهما لأنهما دليلان متنافيان بحسب المدلول، مع إنه لا ريب - عند الجميع - في عدم عدّ هذين الدليلين من المتعارضين. و الوجه في عدم تعارضهما مع عدم تنافيهما في مقام الدلالة و الحجية، فإن الدليل الحاكم شارح و مبيّن للمراد الجدّي من الدليل المحكوم كما سيأتي توضيحه و عليه:

فلا محذور في شمول دليل حجية خبر الثقة لكلا الخبرين المتقدمين، و ينحصر التخلص عن هذا النقض - الوارد على تعريف المشهور للتعارض - في العدول إلى تعريف المتن.

الشاهد الثاني: موارد الجمع الدلالي، كما إذا ورد: «أكرم الأمراء و لا تكرم زيدا الأمير»؛ لتمانع المدلولين في «زيد الأمير» بالنفي و الإثبات؛ لاقتضاء الأمر بإكرام الأمراء

ص: 187

الدليلين (1)،...

=============

على نحو العام الاستغراقي مطلوبية إكرامه، و اقتضاء النهي مبغوضيته، فيندرجان في باب التعارض بناء على تعريف المشهور له، و يخرجان عنه بناء على تعريف المصنف للتعارض؛ و ذلك لعدم تنافيهما دلالة؛ لكون الثاني - لأخصيته - مخصصا و قرينة على عدم إرادة «زيد» من العام.

و الحاصل: أن تعريف المشهور ينتقض بموارد الحكومات و التوفيقات العرفية؛ لتحقق التنافي بين المدلولين أو المداليل، مع عدم إجراء أحكام التعارض - من التخيير و الترجيح - على هذه الموارد قطعا، فتعيّن تعريف التعارض بالتنافي في مرحلة الدلالة و الإثبات كي لا يرد النقض المزبور.

هذا ما يتعلق بتوضيح ما أفاده المصنف من تعريف التعارض و وجه عدوله عن تعريف المشهور.

و أما تعريف الشيخ الأنصاري «قدس سره» للتعارض فهو: إما ملحق بتعريف المشهور. و إما متحد مع تعريف الماتن كما سيأتي بيانه في التعليقة إن شاء الله تعالى.

(1) تنافي الدليلين: إما أن يكون بحسب المدلول المطابقي و طرد كل منهما لتمام ما يدل عليه الآخر، و إما أن يكون بحسب المدلول التضمني أي: تمانع الدليلين في بعض مدلوليهما، و إما أن يكون بحسب المدلول الالتزامي.

فالأول - و هو التنافي في المدلول المطابقي - أظهر مصاديق التعارض، نظير ما دلّ على استحباب القنوت في ركعتي الشفع و ما دل على عدم استحبابه فيهما.

و نظير ما دل على انفعال البئر و الماء القليل بملاقاة النجاسة، و ما دل على عدم انفعالهما بها. و يصدق تعريف التعارض عليهما سواء كان بمعنى تنافي المدلولين أم تنافي الدليلين في مقام الإثبات.

و الثاني: أي: - التنافي في المدلول التضمني - نظير العامين من وجه و هو كثير في الأخبار؛ فمنها: ما قيل من تعارض قوله «عليه السلام»: «أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة»(1)، مع قوله «صلى الله عليه و آله و سلم»: «صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما عداه إلاّ المسجد الحرام»(2).

و وجه التعارض واضح، فإن الأفضل للمتنفّل بمكة و المدينة الصلاة في داره، بمقتضى

ص: 188


1- مسند أحمد 182:5، صحيح البخاري 178:1، و فيه: «أفضل الصلاة: صلاة».
2- الكافي 8/555:4، تهذيب الأحكام 8:6 /ذيل ح 15، الوسائل 6547/28:5.

أو الأدلة (1)، بحسب (2) الدلالة...

=============

إطلاق الخبر الأول، كما أن الأفضل له هو الإتيان بالنافلة في أحد المسجدين بمقتضى إطلاق الخبر الثاني الشامل للمكتوبة و النافلة، فمورد الاجتماع هو التنفل في المسجدين.

الثالث: أي: - التنافي في المدلول الالتزامي - يجري في الالتزام الشرعي تارة، و في الالتزام العقلي أخرى.

أما الدلالة الالتزامية الشرعية: فكما إذا دل دليل على وجوب القصر في أربعة فراسخ، و دل دليل آخر على وجوب الصوم فيها، فإنهما من حيث المدلول المطابقي لا منافاة بينهما، لتعدد الموضوع.

لكن الملازمة الشرعية بين الإفطار و القصر الثابتة بدليل خارجي - و هو قوله «عليه السلام»: «إذا قصّرت أفطرت، و إذا أفطرت قصّرت»(1) - أوجبت التنافي بينهما، و حينئذ: فما يدل على وجوب القصر ينفي التزاما وجوب الصوم كما و أن ما يدل على وجوب الصوم ينفي التزاما وجوب القصر.

و أما الدلالة الالتزامية العقلية: فكما إذا دل دليل على وجوب شيء، فإنه يدل بالالتزام العقلي على وجوب ما يتوقف عليه، و إذا ما ورد ما يدل على عدم تلك المقدمة دل على عدم وجوب ذلك الشيء لا محالة، مع فرض بقاء التوقف، فيتعارضان من حيث الدلالة الالتزامية العقلية.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) كاختلاف أخبار الحبوة في مقدارها من كونه سبعة أو أربعة أو ثلاثة أو اثنين، فإنه لمّا كانت الروايات في مقام تحديد الحبوة فلا محالة يقع التعارض بينها؛ لأن كلاّ منها ينفي بالدلالة الالتزامية الناشئة من التحديد - الظاهر في الحصر - ما يثبته الآخر فراجع.

و كروايات العارية، فإن بعضها ينفي الضمان فيها مطلقا، و بعضها ينفيه إلاّ في عارية الذهب و الفضة، من غير فرق في ذلك بين المشكوك و غيره، و بعضها ينفيه إلاّ في عارية الدرهم فإنه مضمون على المستعير مطلقا، سواء شرط عليه الضمان أم لا، و بعضها ينفيه إلاّ في عارية الدنانير سواء اشترط الضمان على مستعيرها أم لا.

و سيأتي تفصيل تعارض أكثر من دليلين في مسألة انقلاب النسبة إن شاء الله تعالى.

(2) متعلق ب «تنافي» يعني: أن التعارض وصف الأدلة لا المداليل، و قد تقدم بيانه عند

ص: 189


1- الفقيه 436:1 /ذيل ح 1269، تهذيب الأحكام 22:3 /ذيل ح 551، الوسائل 8: 503 /ذيل ح 11291.

و مقام (1) الإثبات على (2) وجه التناقض أو التضاد (3) حقيقة أو عرضا (4)؛...

=============

توضيح الوجه الثاني من وجهي عدول المصنف عن تعريف المشهور.

(1) الظاهر: أنه عطف تفسيري للدلالة المراد بها الحجية التي يثبت بها الحكم الشرعي.

(2) الظاهر: أنه متعلق بمحذوف مثل «كائنا» و نحوه، و ليس متعلقا بالتنافي، و غرضه من قوله: «على وجه التناقض أو التضاد»: بيان منشأ تعارض الدليلين في مرحلة الإثبات لا بيان كيفية تعارض نفس الدليلين من أنه على وجه التناقض تارة، و على وجه التضاد أخرى.

و توضيحه: أن التعارض و إن كان وصفا لنفس الدليلين - لا وصفا للمدلولين - كما مرّ مشروحا، لكن الواسطة الثبوتية بتعارض الخبرين هي تنافي المدلولين، و من المعلوم: أن تنافي المدلولين يكون بنحو التناقض تارة كما في دلالة أحدهما على وجوب عدم شيء و الآخر على وجوبه، و يكون بنحو التضاد أخرى، كما في دلالة الآخر أحدهما مثلا على استحباب صلاة العيدين جماعة في عصر الغيبة و دلالة الآخر على حرمتها بناء على تضاد الأحكام كما هو كذلك. و يشهد لما ذكرناه: من أن مراد المصنف بيان منشأ التعارض لا جعل التناقض و التضاد في نفس الحجية ما أفاده المحقق العراقي في الفوائد، قال فيها:

«التعارض و إن كان هو تنافي الدليلين بحسب المدلول للتناقض أو التضاد بين المدلولين»، و هذا صريح في أن التعارض و إن لم يكن تنافي المدلولين كما زعمه المشهور؛ بل هو تعارض الدليلين، لكن منشأ تعارض الدليلين تناقض مدلوليهما تارة، و تضادهما أخرى.

(3) الوجه في زيادة قيد «التضاد»، و عدم الاقتصار على التنافي بنحو التناقض هو: أن التنافي الذي فسرّ به التعارض لما كان موهما لاختصاص التعارض بالتناقض - لأن مقتضى التنافي هو النفي و الرفع الذي هو نقيض كل شيء - دعا الشيخ و المصنف و غيرهما إلى أخذ قيد التضاد في تعريفه ليعم التعارض مطلق التمانع بين المداليل.

و دعوى: عدم الحاجة إلى قيد «التضاد»؛ لأن الدليلين الدالين على المتضادين بالمطابقة يدلان على المتناقضين بالدلالة الالتزامية، فتقييد التنافي بالتناقض كاف في عموم التعريف للمتضادين غير مسموعة؛ لعدم ثبوت كفاية الدلالة الالتزامية في الحدود إن لم يكن اللازم من البيّن بالمعنى الأخص، لبناء الحدّ على تعريف المحدود و رفع الخفاء عنه.

(4) هاتان الكلمتان متعلقتان بقوله: «التضاد»، فالمقصود: أن التنافي على وجه التضاد إما حقيقي و إما عرضي، و قد عرفت: أن فرض التعارض في موارد التضاد

ص: 190

بأن (1) علم كذب أحدهما إجمالا، مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا (2).

و عليه (3): فلا تعارض بينهما (4) بمجرد تنافي مدلولهما إذا كان بينهما حكومة العرضي فارق آخر بين تعريفي المصنف و المشهور للتعارض، فإنهم اقتصروا على التضاد الحقيقي؛ و لكن المصنف «قدس سره» فرض قسمين للتضاد.

=============

و كيف كان؛ فالمراد بالتضاد الحقيقي هو تنافيهما بحسب مفهومهما لا بسبب أمر خارجي، كما عرفت في مثال استحباب الجماعة في صلاة العيدين و حرمتهما. و المراد بالتضادّ العرضي هو تمانع الدليلين بسبب أمر خارجي - مانع عن شمول دليل الاعتبار لهما - كالعلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين، من دون أن يكون بين نفس المتعلقين و لا حكميهما - اللذين علم إجمالا بكذب أحد الخبرين الدالين عليهما - تناقض و لا تضاد.

فالمتحصل من كلام المصنف في تعريف التعارض هو: أن التعارض يوصف به الأدلة لا المداليل، يعني: تمانع الدليلين في شمول دليل الاعتبار لهما و هو منحصر في صور ثلاث:

الأولى: أن يكون منشأ تعارض الدليلين تناقض مدلوليهما كالوجوب و عدمه.

الثانية: أن يكون منشؤه تضاد المدلولين حقيقة كالوجوب و الحرمة.

الثالثة: أن لا يكون منشؤه تنافي المدلولين أصلا؛ بل العلم الإجمالي بكذب أحد المتعارضين أوجب التعارض بين الدليلين و عدم شمول دليل الاعتبار لهما، و يطلق على هذا القسم التعارض بالعرض.

(1) هذا تفسير للتضاد العرضي.

(2) يعني: لا عقلا و لا شرعا، كما لو دل دليل على أنه لا يملك الأب، و دل دليل آخر على أنه يصح عتق الأب، و دل دليل ثالث على أنه لا عتق إلاّ في ملك، فإن الدليلين الأولين ليس بينهما تناف أصلا.

أما حيث علمنا بأنه لا يصح العتق إلاّ في ملك كان اللازم كذب أحدهما إما صحة عتق الأب و إما أنه لا يملك الأب، و كذا إذا دل دليل على وجوب صلاة الجمعة، و آخر على وجوب الظهر يومها، فإنه لا تنافي بينهما، أما حيث علمنا بأنه لا تشرع صلاتان في يوم واحد فقد وقع التنافي بين الدليلين.

موارد خروج الجمع الدلالي عن تعريف التعارض

المورد الأول: حكومة أحد الدليلين على الآخر.

(3) أي: و بناء على تعريف التعارض بتنافي الدليلين لا المدلولين.

(4) أي: بين الدليلين.

ص: 191

رافعة للتعارض (1) و الخصومة؛ بأن (2) يكون أحدهما قد سبق ناظرا إلى بيان كمية ما

=============

(1) المقصود به: تنافي المدلولين لا التعارض المصطلح عنده و هو تنافي الدليلين؛ لأنه «قدس سره» يريد إخراج موارد الحكومة - التي يتحقق فيها التنافي بين المدلولين لا الدليلين - عن تعريف التعارض، فلا بد أن يراد بكلمة «التعارض» تنافي المدلولين حتى يتجه خروج موارد الحكومة عن التعارض المصطلح الذي هو تنافي في الدليلين.

(2) هذا إشارة إلى تعريف الحكومة الرافعة لتعارض الدليلين و قد سبق منّا توضيح الحكومة و الورود و التوفيق العرفي - الشامل لهما و للتخصيص، و لحمل الظاهر على الأظهر، و حمل أحد الحكمين على الاقتضائي و الآخر على الفعلي - في المقام الثاني من تتمة الاستصحاب.

و كيف كان؛ فالحكومة هي كون أحد الدليلين ناظرا إلى دليل آخر و متعارضا لبيان كمية موضوع ذلك الدليل الآخر تعميما أو تخصيصا، فالتعميم يكون بإدخال ما ليس موضوعا في الدليل المحكوم بالتوسعة فيه، و جعل فرد آخر لموضوع الحكم، و هذا القسم يسمى بالحكومة الموسّعة كما إذا دل الدليل على إناطة وجوب القصر و الإفطار بالمسافة الامتدادية، و دل دليل آخر على أن المسافة التلفيقية هي المسافة الامتدادية، فإن حكومة ما دل على موضوعية الثمانية التلفيقية موسّعة لموضوع دليل حكم الثمانية الامتدادية، و التخصيص يكون بإخراج بعض أفراد موضوع الدليل المحكوم و رفع الحكم عن ذلك البعض، و هذا القسيم يسمى بالحكومة المضيّقة المخصصة لموضوع الحكم في الدليل المحكوم، و هو كما إذا دل دليل على أن «الشاك بين الثلاث و الأربع بيني على الأربع»، و دليل آخر على أن «كثير الشك ليس بشاك»، فإن دليل الثاني حاكم على الأول؛ لكونه رافعا لموضوعه، فإن الحكم بالبناء على الأربع حكم للشك على تقدير وجوده بنحو القضية الشرطية، يعني: «كلّما شك المصلّي بين الثلاث و الأربع - سواء كان كثير الشك أم قليله - وجب عليه البناء على الأربع» و دليل كثير الشك يهدم ذلك التقدير؛ لدلالته على «أن كثير الشك ليس بنظر الشارع من أفراد الشاك»، فلا يثبت له حكم «الشاك بين الثلاث و الأربع» من البناء على الأربع.

و هذه الحكومة المضيقة و إن كانت مشتركة مع التخصيص في كون كل من الحاكم و الخاص ذا دلالة مستقلة على مضمونه؛ إلاّ إنها تفترق عن التخصيص بأن الحاكم ناظر إلى المحكوم و متعرض لبيان كمية موضوعه و متفرع عليه، بخلاف الخاص، فإنه ليس متفرعا على العام.

بقي التنبيه على بعض أحكام الحكومة، و هو: أن قوام الحكومة حيث كان بتعرض

ص: 192

الدليل الحاكم لما يراد من موضوع الدليل المحكوم تعميما أو تخصيصا، فلذا تخرج مواردها عن موضوع التعارض كخروج موارد ورود أحد الدليلين على الآخر من جهة عدم تواردهما على موضوع واحد، فالدليل الحاكم يشبه القرينة المنفصلة من جهة و المتصلة من جهة أخرى.

أما كونه و بنظر العرف في حكم القرينة المتصلة الحاكية مع ذيها عن معنى واحد؛ فلأن الحاكم و إن كان منفصلا عن المحكوم و غير مانع عن ظهوره في مؤدّاه؛ إلاّ إنه بلحاظ شارحيته له لا يغاير مدلول المحكوم، و أما كونه كالقرينة المنفصلة؛ فلأن المدلول و إن كان واحدا لبّا، لعدم مغايرة الشارح للمراد من المشروح إلاّ أن الدال على هذا المدلول الواحد متعدد، لغرض الانفصال و استقرار ظهور كلا الدالين.

و بهذا تصير الحكومة برزخا بين القرينة المنفصلة و المتصلة، فمن حيث وحدة المدلول تشبه المتصلة، و من حيث تعدد الدال تشبه المنفصلة.

و يترتب على هذا أمران:

الأمر الأول: تعيّن الأخذ بمدلول الحاكم بعد الفراغ عن إثبات حكومته و إن كان أضعف دلالة على مؤدّاه من المحكوم، من غير ملاحظة النسبة بين دليلي الحاكم و المحكوم، و لا ملاحظة قوة الظهور و ضعفه؛ بل يقدم الحاكم و لو كانت بينهما عموما من وجه. و أضعف دلالة.

و هذا بخلاف باب التخصيص و سائر موارد الجمع، فإن تقديم الخاص و الأظهر يكون بمناط تقديم أقوى الدليلين، و لذا يتوقف في تقديم الخاص في فرض مساواته للعام في الدلالة.

الأمر الثاني: الظاهر عدم سراية إجمال الحاكم إلى المحكوم فيما لا يسري إجمال الخاص المردد بين الأقل و الأكثر إلى العام؛ لفرض حجية أصالة العموم في جميع أفراد العام، و المزاحم لهذه الحجية هو القدر المتيقن من الخاص المجمل. و كذا الحال في باب الحكومة. فإذا ورد «أكرم العالم»، ثم ورد «العالم الفاسق ليس بعالم»، فإن إطلاق العالم في الدليل المحكوم شامل لمرتكب الصغيرة لا عن إصرار، و الشارح و إن كان مجملا، و لعله يتوهم سراية إجماله إلى المحكوم قضية للتضايف بين الشارح و المشروح؛ إلاّ إن الصحيح عدم سرايته؛ لأن شارحية الحاكم مقصور على مقدار دلالته، و المفروض: دلالته على الأقل و هو مرتكب الكبيرة، و أما غيره فلا مزاحم لأصالة الإطلاق في دليل المحكوم فيؤخذ به.

ص: 193

أريد من الآخر (1)، مقدما (2) كان أو مؤخرا، أو كانا (3) على نحو إذا عرضا على العرف وفّق بينهما بالتصرف في خصوص أحدهما (4) كما هو...

=============

(1) أي: من الدليل الآخر و هو الدليل المحكوم.

(2) هذا و «مؤخرا» حالان من «الآخر» المراد به الدليل المحكوم، و اسم «كان» ضمير راجع إلى «الآخر»، يعني: أن الحكومة - الرافعة للتعارض و للخصومة - تتحقق فيما إذا سبق أحد الدليلين للنظر إلى الآخر، سواء كان زمان صدور الدليل المحكوم مقدما على الدليل الحاكم - كما يعتبره الشيخ - أم مؤخرا، و هذه نقطة خلاف بين الشيخ و المصنف في اعتبار سبق المحكوم على الحاكم - كما هو رأي الشيخ، و عدمه كما هو رأي المصنف.

المورد الثاني: التوفيق العرفي

(3) عطف على «إذا كان»، و بيان للمورد الثاني مما لا يكون فيه تمانع بين الدليلين في مقام الدلالة و إن كان التنافي بين نفس المدلولين ثابتا. و هذا هو التوفيق العرفي و الحكومة العرفية بنظر المصنف، لا الحكومة الاصطلاحية المنوطة بكون أحدهما ناظرا إلى الآخر و شارحا له.

و قد ذكر لهذا التوفيق العرفي فرضين: أحدهما: توفيق العرف بين الدليلين - المتعارضين بدوا - بالتصرف في أحدهما.

و ثانيهما: بالتصرف في كليهما و المقصود فعلا بيان الفرض الأول.

يعني: فلا تعارض بين الدليلين اللذين يكونان على نحو إذا عرضا على العرف جمع بينهما بالتصرف في خصوص أحدهما، و لا يبقى متحيّرا في العمل بهما، كما هو الحال في الأدلة المتكفلة للأحكام الأوّلية - كوجوب الوضوء و نحوه - مع الأدلة الثانوية النافية للعسر و الحرج و الضرر و غيرها، فإنها ترفع الأحكام الأولية، فيرتفع وجوب الوضوء بدليل نفي الحرج و نحوه إذا صار الوضوء حرجيا أو ضرريا، فيصير الحكم الأولي اقتضائيا و الحكم الثانوي فعليا.

و هذا الجمع هو المسمى بالتوفيق العرفي و الحكومة العرفية؛ و ذلك مطرد في جميع الأحكام الأولية و الثانوية التي يكون بين موضوعاتها ترتب و طولية كوجوب الوضوء في المثال المتقدم، فإن موضوعه - و هو نفس الغسلتين و المسحتين - مقدم على عارضه من الضرر و الحرج و نحوهما من العناوين الثانوية.

(4) هذا الضمير و ضمير «بينهما» راجعان إلى الدليلين.

ص: 194

مطرد (1) في مثل الأدلة المتكفلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأوّلية، مع مثل الأدلة النافية للعسر و الحرج و الضرر و الإكراه و الاضطرار مما يتكفل لأحكامها بعناوينها الثانوية، حيث (2) يقدّم في مثلهما الأدلة النافية، و لا تلاحظ النسبة بينهما أصلا (3) و يتفق (4) في غيرهما (5) كما لا يخفى.

=============

(1) هذا لا يخلو من تعريض بمختار الشيخ «قدس سره» القائل بحكومة أدلة نفي الضرر و الحرج على أدلة الأحكام الأولية، و قد نبّه المصنف عليه في قاعدة لا ضرر بقوله:

«و من هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلة الأحكام، و تقدم أدلته على أدلتها، مع أنها عموم من وجه، حيث إنه يوفق بينهما عرفا بأن الثابت للعناوين الأولية اقتضائي... إلى أن قال:

هذا - أي: التقديم - و لو لم نقل بحكومة دليله على دليله؛ لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله» فراجع.

(2) تعليل لقوله: «وفّق بينهما بالتصرف» يعني: أن العرف يوفّق بينهما بأنه يقدّم في مثل العناوين الأولية و الثانوية خصوص الأدلة النافية. و يحمل أحكام العناوين الأولية على الاقتضائية و الثانوية على الفعلية، من غير ملاحظة النسبة بينهما، فيقدم دليل حكم العنوان الثانوي على دليل حكم العنوان الأولي. و إن كانت النسبة بينهما عموما من وجه.

و عليه: فيقدم دليل نفي الضرر على دليل وجوب الوضوء، مع كون النسبة بينهما عموما من وجه، و يحكم بعدم وجوب الوضوء الضرري.

و لو كان بين هذين الدليلين تعارض كان اللازم إجراء قانون التعارض في المجمع في المتعارضين بالعموم من وجه، فعدم رعاية ضابط التعارض فيه دليل على خروجهما عن باب التعارض موضوعا.

(3) غرضه: أن عدم لحاظ النسبة دليل على عدم كونهما متعارضين، و إلاّ كان اللازم ملاحظة النسبية بينهما و إجراء أحكام التعارض في مورد الاجتماع.

(4) عطف على «مطرد»، يعني: كما يتفق التوفيق العرفي بالتصرف في خصوص أحد الدليلين في غير أدلة أحكام العناوين الأولية و الثانوية، كما إذا كان أحد العنوانين بنظر العرف - و لو بمناسبة الحكم و الموضوع - مقتضيا للحكم، و الآخر مانعا عنه نظير ما قيل من: «أكرم العلماء و لا تكرم الفساق» فإن العرف يقدّم حرمة الإكرام في العالم الفاسق على وجوب إكرام العلماء؛ لما يراه من كون العلم مقتضيا لوجوب الإكرام، و الفسق مانع عنه، مع عدم كون أحد العنوانين في طول الآخر كالعنوان الأوّلي و الثانوي.

(5) أي: غير العناوين الأوّلية و الثانوية.

ص: 195

أو بالتصرف (1) فيهما، فيكون مجموعهما قرينة على التصرف فيهما أو في (2) أحدهما المعيّن و لو كان الآخر أظهر (في نسخة: و لو كان من الآخر أظهر)،

=============

(1) عطف على «بالتصرف في خصوص أحدهما»، و بيان للفرض الثاني للتوفيق العرفي و الحكومة العرفية، و لهذا الفرض صورتان، إحداهما: كون مجموع الدليلين قرينة على التصرف في كليهما، و ثانيتهما: كون مجموعهما قرينة على التصرف في أحدهما المعيّن.

و المقصود فعلا بيان الصورة الأولى منهما، و حاصلها: أن من الموارد الخارجة عن تعارض الدليلين ما إذا وفق العرف بينهما بالتصرف في دلالتهما معا؛ بأن يكون كل منهما قرينة على التصرف في الآخر، و مثّل له بما ورد من «أن ثمن العذرة من السحت»(1) ثم ورد «و لا بأس ببيع العذرة»(2)، بتقريب: أن العرف يوفّق بينهما بحمل العذرة في الأول بمناسبة الحكم و الموضوع - على عذرة الإنسان، و في الثاني: على عذرة البهائم، فإن الحرمة تناسب عذرة الإنسان لنجاستها، و الجواز يناسب عذرة البهائم لطهارتها، فتكون العذرة في دليل الحرمة كالنصّ في عذرة الإنسان و ظاهرا في عذرة غيره و في دليل الجواز كالنص في عذرة البهائم، و ظاهر في عذرة الإنسان، فيرفع اليد عن ظاهر كل منهما بنص الآخر، فتكون النتيجة حرمة بيع عذرة الإنسان و جواز بيع عذرة غيره.

(2) عطف على «فيهما» و إشارة إلى الصورة الثانية من الفرض الثاني من موارد التوفيق الخارجة عن باب التعارض؛ و حاصلها: أنه قد يوفّق العرف بين الدليلين بالتصرف في أحدهما المعيّن و إن كان أظهر من الآخر؛ كما إذا لزم من التصرف في دليل غير الأظهر قلّة المورد له أو عدمه؛ كما إذا قال: «أكرم الأمير و لا تكرم الفساق»، فإن دلالة الثاني على معناه و إن كانت بسبب الوضع أظهر من دلالة الأول على معناه لكونه بالإطلاق؛ لكن الدليل الأول يقدم عليه في مورد الاجتماع - و هو الأمير الفاسق - و يحكم بوجوب إكرامه؛ إذ التصرف في «أكرم الأمير» بعدم إكرام الأمير الفاسق يوجب قلّة أفراده و اختصاص وجوب الإكرام بالأمير العادل، و هو إما معدوم. و إما نادر ملحق به، فلا محيص حينئذ من التصرف في «لا تكرم الفساق» مع أظهريته، و إخراج الأمير الفاسق عن دائرته.

و كيف كان؛ فقد أخرج المصنف «قدس سره» موارد عديدة عن باب التعارض.

ص: 196


1- تهذيب الأحكام 1080/352:6، الوسائل 22286/175:17.
2- الكافي 3/226:5، تهذيب الأحكام 1079/372:6، الوسائل 22285:17.

و لذلك (1) تقدم الأمارات المعتبرة على الأصول الشرعية (2)، فإنه (3) لا يكاد يتحير أحدها: الحكومة.

=============

ثانيها: التوفيقات العرفية التي منها: التصرف في أحد الدليلين بالخصوص كما في أدلة أحكام العناوين الأولية، فإن المطّرد هو التصرف فيها بحملها على الاقتضائية، و إبقاء أدلة أحكام العناوين الثانوية على ظاهرها من الفعلية.

و منها: التصرف في كلا الدليلين.

و منها: التصرف في أحدهما المعيّن و إن كان أظهر من الآخر من حيث الدلالة؛ و ذلك لجهة خارجية توجب ذلك كلزوم عدم مورد أو قلّته للدليل الآخر الظاهر لو لم يتصرّف في الأظهر كما عرفت مثال ذلك.

(1) أي: و لأجل كون الدليلين على نحو إذا عرضا على العرف وفق بينهما - بالتصرف في أحدهما المعيّن من دون أن يرى تهافتا بينهما - تقدم الأمارات المعتبرة غير العلمية على الأصول الشرعية من الاستصحاب و غيره، حيث إن العرف لا يرى موضوعا للأصول مع قيام الدليل و الأمارة على وفاقها أو خلافها، فإن موضوع أصالة الحل مثلا هو مشكوك الحل و الحرمة، و الخبر المعتبر الدال على الحرمة يرفع الشك الذي هو موضوع أصالة الحل، و تدخل الحرمة في الغاية و هي قوله «عليه السلام»: «حتى تعلم أنه حرام» و تخرج عن المغيّى قوله «عليه السلام»: «كل شيء لك حلال».

و كذا الحال في الاستصحاب، فإن رفع اليد عن اليقين السابق بالخبر المعتبر غير العلمي القائم على خلافه ليس نقضا لليقين بالشك؛ بل هو من نقض اليقين باليقين، و هذا التوفيق العرفي هو المسمّى بالورود.

(2) تقييد الأصول بالشرعية لأجل إخراج الأصول العقلية، فإنه لا خلاف بين الشيخ و المصنف «قدس سرهما» في ورود الأمارات عليها، و إنما الخلاف بينهما في وجه تقدم الأمارات على الأصول الشرعية، فالشيخ يقدمها بالحكومة، و المصنف بالورود، و عليه:

يكون التقييد بالشرعية ناظرا إلى كلام الشيخ.

(3) الضمير للشان، و هذا بيان وجه التوفيق العرفي، و محصله: أن ضابط التعارض - و هو تحيّر العرف في الجمع بين الدليلين - مفقود هنا، حيث إنه لا يلزم من تقديم الأمارات على الأصول محذور - و هو تخصيص أدلة الأصول الشرعية - أصلا؛ لأن التخصيص إخراج حكمي مع حفظ الموضوع كقوله: «أكرم الأمراء إلا زيدا»، مع كون زيد من الأمراء.

ص: 197

أهل العرف في تقديمها (1) عليها بعد ملاحظتهما، حيث (2) لا يلزم منه محذور تخصيص أصلا.

بخلاف العكس (3)، فإنه يلزم منه محذور التخصيص بلا وجه، أو بوجه دائر (4) و في المقام لا يكون دليل الأمارة مخصّصا لدليل الأصل؛ بل يكون رافعا لموضوعه، فليس هنا إلاّ دليل واحد و هو الأمارة دون دليلين حتى يتحيّر العرف في الجمع بينهما.

=============

(1) أي: في تقديم الأمارات على الأصول، و ضمير «ملاحظتهما» راجع إلى «الأمارات و الأصول».

(2) بيان لوجه عدم تحيّر العرف، و حاصله: - كما مر آنفا - هو: عدم لزوم محذور من تقديم الأمارات على الأصول أصلا؛ لارتفاع موضوع الأصول بها إما وجدانا بناء على حجية الأمارات ببناء العقلاء، حيث إنها تفيد الاطمئنان الذي هو علم عادي نظامي. و إما تعبدا بناء على حجيّتها من باب تتميم الكشف و إلغاء احتمال الخلاف شرعا، فإن الشك الذي هو موضوع للأصول يرتفع في كلتا الصورتين، فيبقى دليل الأمارة حينئذ بلا مانع؛ لعدم لزوم محذور تخصيص في دليل الأصل بعد انتفاء موضوعه، و هو المراد بقوله: «حيث لا يلزم منه محذور تخصيص أصلا». و ضمير «منه» راجع إلى «تقديمها».

(3) و هو تقديم الأصول الشرعية على الأمارات؛ حيث إنه يلزم من هذا التقديم محذور و هو: التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر.

أما الأول فتقريبه: أن خبر الثقة إذا قام على حرمة شرب التتن مثلا كان حجة؛ لكونه مشمولا لعموم أدلة حجية خبر الواحد، و البناء على عدم اعتباره حينئذ تخصيص لعموم أدلة حجيته من دون وجه؛ إذ لا موجب لرفع اليد عن الحجة و هي أصالة العموم.

و أما الثاني فبيانه: أن عدم حجية الخبر الدال على حرمة شرب التتن مثلا - و خروجه عن عموم دليل حجيته مع كونه فردا فعليا له - منوط بمخصصيته دليل الأصل له، و من المعلوم: توقف مخصصيته على حجيته حتى يصلح لتخصيص الحجة و هي أصالة العموم، و حجيته أيضا موقوفة على مخصصيته؛ إذ لا سبيل إلى رفع اليد عن أصالة العموم إلاّ بمخصصية دليل الأصل لها، فتوقف المخصصيّة على الحجية و بالعكس دور.

(4) إذ يتوقف تخصيص الأمارات بالأصول على اعتبار الشارع الأصول مطلقا حتى في مورد الأمارات، و اعتبار الشارع الأصول مطلقا يتوقف على تخصيص الأمارات بها، و لا يلزم من العكس ذلك؛ إذ تقديم الأمارة على الأصول لوجود موضوع الأمارة دون

ص: 198

كما أشرنا إليه في أواخر الاستصحاب (1).

و ليس (2) وجه تقديمها حكومتها؛ على أدلتها لعدم كونها ناظرة إلى...

=============

الأصل؛ إذ مع وجود الأمارة لا جهل بالواقع حتى يتحقق موضوع الأصل.

(1) حيث قال: «المقام الثاني: أنه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة في مورد...» الخ.

(2) يعني: و ليس وجه تقديم الأمارات على الأصول الشرعية حكومة الأمارات عليها؛ كما ذهب إليه الشيخ «قدس سره» حيث إنه قال بعد بيان ورود الأمارات على الأصول العقلية: «و إن كان مؤداه - أي: الأصل - من المجعولات الشرعية كالاستصحاب و نحوه كان ذلك الدليل حاكما على الأصل، بمعنى: أنه يحكم عليه بخروج مورده عن مجرى الأصل».

و محصل تقريب الحكومة التي عرفت ضابطها من عبارة الشيخ التي نقلناها سابقا هو: كون أحد الدليلين متعرضا بمدلوله اللفظي لحال الدليل الآخر، و رافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه، نظير ارتفاع حكم الشك الثابت بدليله - كالبناء على الأربع مثلا - بما دل على أنه «لا شك لكثير الشك»، أو «مع حفظ الإمام».

ففي المقام إذا كان مقتضى الاستصحاب حليّة شيء و قام خبر الثقة مثلا على حرمته كان هذا الخبر حاكما على استصحاب الحلية أي: مخرجا له عن موضوع الحلية و موجبا لنقض اليقين باليقين أي: بالحجة، لا بالشك.

و بالجملة: فالدليل الحاكم يرفع تعبّدا الشك الذي هو موضوع الاستصحاب و غيره من الأصول الشرعية، و هذا الكلام ظاهر في إرادة حكومة نفس الأمارة على أدلة الأصول، و لا حكومة دليل اعتبارها على أدلة الأصول.

و المصنف يناقش في حكومة كل من الأمارة و دليل اعتبارها بما سيأتي فانتظر.

قوله: «لعدم كونها ناظرة» تعليل لنفي الحكومة التي ادعاها الشيخ «قدس سره»، و حاصله: عدم انطباق الضابط المذكور في كلامه للحكومة على المقام. و ينبغي بيان منشأ نزاع المصنف و الشيخ في حكومة أحد الدليلين على الآخر فإنه قد تكرر من الماتن مناقشة كلام الشيخ في حكومة قاعدة «لا ضرر» على أدلة الأحكام الأولية، و كذا في حكومة الأمارة على الاستصحاب، و حكومته على مثل أصالتي الحل و البراءة، و ألجأته هذه المناقشة إلى اختيار الجمع بوجه آخر من التوفيق العرفي أو الورود.

و قد بيّن المصنف مرامه في مواضع من حاشية الرسائل مختصرا و في الفوائد مفصّلا.

ص: 199

و محصل ما أفاده فيهما هو: أن ما اعتبره الشيخ في تفسير الحكومة من «كون أحد الدليلين متعرضا بمدلوله اللفظي لحال الدليل الآخر» متين جدا، فلا يكون أحد الدليلين حاكما على الدليل الآخر ما لم يكن تفسير مدلول الدليل المحكوم و تبيّن كمية موضوعه مدلولا لفظيا للدليل الحاكم، فإذا لم يكن هذا النحو الخاص من التفسير و الشرح لم ينطبق ضابط الحكومة على هذين الدليلين؛ بل كان بينهما تعارض يقتضي رعاية حكمه من التخيير أو الترجيح أو تقديم أحدهما بمناط آخر كالتوفيق العرفي؛ و لا يكفي في الحكومة دلالة الدليل الحاكم على أمر واقعي ينطبق على موضوع الدليل المحكوم عقلا؛ لكن بدون النظر و الشرح و التفسير بالدلالة اللفظية.

و بيان وجه عدم الكفاية: أن مدلولي الحاكم و المحكوم متنافيان، و الرافع لهذا التنافي هو الشرح و النظر و التعرض المتقوّم بها الحكومة، و إنما يتحقق النظر إذا كان الدليل الحاكم بمدلوله اللفظي حاكيا عن حال موضوع الدليل المحكوم سعة و ضيقا، و مفسرا له و مبيّنا لكمية ما يراد منه هذا بحسب الكبرى.

و أما تطبيقه على المقام ببيان انتفاء ضابط الحكومة بين الأمارة و الأصل، فتوضيحه: أن الشارع جعل الأمارة حجة في ظرف الجهل بالواقع، و حكم بعدم الاعتناء باحتمال مخالفته للواقع، و حجية الأمارة في هذه الحال حكم مستقل غير متفرع على جعل أصالة الحل فيما اشتبهت حليته و حرمته، و معنى حجية الأمارة - حسب الفرض - إلغاء احتمال خلاف ما أخبر به العادل أو الثقة، و معنى هذا الإلغاء هو: عدم ترتيب الحكم المجعول لاحتمال الخلاف عليه. لكن دلالة الأمارة على نفي حكم الاحتمال إنما هو بمقتضى دلالته الالتزامية الثابتة في دليل الأصل أيضا؛ لأن دليل الأصل مثل: «كل شيء لك حلال» يدل أيضا على انتفاء غير الحلية من الأحكام، فإن الدليل على ثبوت حكم خاص يدل على انتفاء ما ينافي ذلك الحكم، فتقع المعارضة بين الدلالتين لا الحكومة.

لا يقال: الأمارة ناظرة إلى الأصل العملي و متعرضة لحكم مورده؛ و ذلك لأنه إذا أخبر العادل بحرمة شرب التتن مثلا، فمدلوله المطابقي هو حرمة شربه، و مدلوله الالتزامي اللفظي هو نفي ما عدا الحرمة - أعني: الحلية الظاهرية التي هي مفاد الأصل - الثابتة لموضوعها و هو الشرب المشكوك في حكمه الواقعي.

و هذه الدلالة منتفية في جانب دليل الأصل، فإن خلاف الحلية الظاهرية في

ص: 200

أدلتها (1) بوجه (2)، و تعرّضها (3) لبيان حكم موردها لا يوجب (4) كونها (5) ناظرة إلى موضوعها هو الحرمة الظاهرية أو عدم الحلية الظاهرية، و إلغاؤها لا ربط له بإلغاء حرمة شرب التتن المترتبة على ذات الشرب لا على المحتمل.

=============

فإنه يقال: أوّلا: أن النظر المعتبر في الدليل الحاكم عند الشيخ «قدس سره» هو الدلالة اللفظية التي يعبر عنها بالشرح و التفسير، و النظر بهذا المعنى مفقود في الأمارات. ففرق بين تعرض أحد الدليلين لذات مدلول الآخر و بين تعرضه له بما هو مدلوله، و الرافع للمنافاة - المسمّى بالحاكم - هو الثاني لا الأول، و المفروض: أن الأمارة لا بمدلولها و لا بدليل اعتبارها ليست شارحة لما يراد من مثل «كل شيء لك حلال».

و ثانيا: أن النظر إن كان أعم من الدلالة الالتزامية العقلية لزم أن يكون دليل الأصل أيضا حاكما على الأمارة، ضرورة: أن مقتضى الأصل هو الحلية التي هي مورد الأمارة الدالة على الحرمة، و من المعلوم: منافاة الحل و الحرمة، و دلالة كل منهما بالالتزام العقلي على نفي الآخر. و هذا معنى حكومة كل من الدليلين المتنافيين - بحسب المفاد - على الآخر و هو كما ترى.

و عليه: فلا بد أن يراد بالنظر الدلالة اللفظية دون العقلية الثابتة في كل دليل، حيث إن مدلوله المطابقي ثبوت الحكم لموضوعه و مدلوله الالتزامي العقلي نفي غير ذلك الحكم عن موضوعه.

و قد عرفت: انتفاء النظر اللفظي في الأمارات، سواء كان المقصود حكومة نفس الأمارة على الأصل أم حكومة دليلها على دليله.

فالنتيجة هي: عدم حكومة الأمارات على الأصول الشرعية؛ لعدم انطباق ضابط الحكومة عليها؛ هذا كما في «منتهى الدراية، ج 8، ص 42» مع تصرف ما منّا.

(1) أي: أدلة الأمارات.

(2) أي: بشيء من الدلالات اللفظية الشارحة لمعنى الكلام.

(3) يعني: «و مجرد تعرّض الأمارات لبيان حكم مورد الأصول...» الخ.

و هذا إشارة إلى توجيه الحكومة و إثبات النظر للأمارات بما ذكرناه آنفا من قولنا: لا يقال: «الأمارة ناظرة»، و ضمير «موردها» راجع إلى الأصول.

(4) خبر «و تعرّضها»، و دفع لتوجيه حكومة الأمارات على الأصول، و قد عرفت توضيح الدفع بوجهين.

(5) أي: كون الأمارات، و ضمائر «لها، أدلتها» في الموضعين راجعة إلى الأصول.

ص: 201

أدلتها و شارحة لها؛ و إلاّ (1) كانت أدلتها أيضا دالة و لو بالالتزام (2) على أن حكم مورد الاجتماع فعلا (3) هو مقتضى الأصل لا الأمارة، و هو (4) مستلزم عقلا نفي ما هو قضية الأمارة؛ بل (5) ليس مقتضى حجيتها إلاّ نفي ما قضيته عقلا من دون دلالة

=============

(1) هذا إشارة إلى الوجه الثاني المتقدم بقولنا: «و ثانيا: أن النظر إن كان أعم من الدلالة الالتزامية».

يعني: و إن أوجب تعرض الأمارات لحكم مورد الأصول كونها شارحة لأدلة الأصول و ناظرة إليها كانت أدلة الأصول أيضا...» الخ.

وجه هذه الدلالة الالتزامية هو: أن المنافاة بين الأحكام الظاهرية الثابتة بالأمارة و الأصل توجب دلالة كل واحد من الأمارة و الأصل - بالالتزام العقلي - على نفي ما عداه، فدليل حرمة شرب التتن مثلا يدل مطابقة على الحرمة و التزاما عقليا على نفي حليّته، و دليل حليته يدل أيضا مطابقة على حليّته، و التزاما عقليا على نفي حرمته، فيتحقق التعارض بينهما في مورد الاجتماع كشرب التتن المحكوم بالحرمة بمقتضى الأمارة و بالحلّ بمقتضى الأصل و ينهدم أساس الحكومة.

و عليه: فقوله: «و إلاّ كانت» جواب نقضي لنظر الأمارة إلى الأصل، حيث إن هذا النظر لا يختص بالأمارة؛ بل يشترك الأصل مع الأمارة في هذا النظر، فيلزم حكومة كل من الأمارة و الأصل على الآخر، و هذا واضح البطلان.

(2) أي: الالتزام العقلي الناشئ من تنافي الحكمين المدلولين بالأمارة و الأصل.

(3) قيد قوله: «حكم» يعني: أن دليل الأصل - كأصالة الحلّ - يدل التزاما عقليا على أن الحكم الفعلي - في مورد اجتماع قاعدة الحلّ و الأمارة على حرمة شرب التتن مثلا - هو الحل الذي يقتضيه أصالة الحل، لا الحرمة التي تقتضيها الأمارة.

(4) أي: و كون حكم مورد الاجتماع فعلا مقتضى الأصل لا الأمارة مستلزم عقلا نفي مقتضى الأمارة، و هي الحرمة في مثال شرب التتن.

و غرضه: توضيح الإشكال على ما أفاده الشيخ من حكومة الأمارات على الأصول الشرعية بتطبيق الحكومة على كل من الأمارة و الأصل، بناء على تعميم النظر في الحكومة للالتزام العقلي كما تقدم؛ لكن لا معنى لحكومة كل من الدليلين على الآخر؛ بل ليس هذا إلاّ التعارض.

(5) هذا إشارة إلى توهم و دفعه.

أما التوهم الذي مرجعه إلى تصحيح الحكومة التي أفادها الشيخ «قدس سره» من ناحية دليل حجية الأمارة - لا من ناحية نفس الأمارة التي كان البحث المتقدم بلحاظ

ص: 202

عليه (1) لفظا، ضرورة (2): أن نفس الأمارة لا دلالة...

=============

حكومتها على الأصل - فهو: أن نفس الأمارة كخبر الثقة الدال على حرمة شرب التتن مثلا و إن لم يكن مؤداها ناظرا إلى دليل الأصل مثل: «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام» حتى تصح دعوى الحكومة إلاّ إن دليل حجيّة الأمارة كآية النبأ و غيرها - ناظر إلى دليل الأصل؛ لأن مقتضى دليل حجيتها نفي احتمال خلاف مؤدى الأمارة كحرمة شرب التتن في المثال، فإن احتمال خلافه - الذي هو موضوع أصالة الحل - منفيّ بدليل حجية خبر الثقة، و هذا النظر النافي لموضوع الأصل يوجب حكومة دليل الأمارة عليه، فيتم حينئذ حديث حكومة الأمارات على الأصول؛ كما أفاده الشيخ «قدس سره». هذا حاصل التوهم.

و أما دفعه - المشار إليه بقوله: «بل ليس مقتضى...» الخ - فتقريبه الراجع إلى نفي النظر اللفظي للأمارة المقوّم لحكومتها على الأصل هو: أن شيئا من مؤدى الأمارة و حجيتها لا يدل لفظا على نفي مقتضى الأصل.

أما مؤداها: فلأنه ليس إلاّ الحكم الواقعي، و أما حجيتها: فلأن مقتضاها ليس إلاّ لزوم العمل شرعا بمقتضى الأمارة، أي: جعل الحكم المماثل على طبق مؤداها، دون تتميم الكشف و إلغاء احتمال الخلاف و تنزيل الظن منزلة العلم، و شيء منهما لا نظر له لفظا إلى مؤدى الأصل.

نعم؛ تشريع الحرمة مثلا التي هي مؤدى الأمارة مناف عقلا لتشريع الحلية في مورد الأصل و كذا العكس، فإن حكم الأصل كحليّة شرب التتن مثلا ينافي أيضا عقلا مؤدى الأمارة و هي حرمته.

و بالجملة: فليس المراد بالحجية نفي احتمال الخلاف و تتميم الكشف حتى يكون ناظرا إلى موضوع الأصل؛ بل المراد بها لزوم العمل على طبق مؤدى الأمارة كما هو أحد المباني في حجية خبر الواحد.

قوله: «عقلا» قيد ل «نفي»، و المراد بالموصول: الحكم، و ضمير «قضيته» راجع إلى الحكم يعني: بل ليس مقتضى حجية الأمارة إلاّ نفي الحكم الذي يقتضيه الأصل، و هذا النفي عقلي لا لفظي، و عقليته إنما هي لتنافي مدلولي الأمارة و الأصل كالحرمة و الحلية.

(1) أي: من دون دلالة على ما يقتضيه الأصل كالحلية لفظا؛ بل الدلالة عقلية كما مرّ آنفا.

(2) تعليل لنفي الدلالة اللفظية، يعني: أن هذه الدلالة لا بد أن يكون الدال عليها

ص: 203

له (1) إلاّ على الحكم الواقعي (2)، و قضية حجيتها ليست إلاّ لزوم العمل على وفقها شرعا المنافي (3) عقلا للزوم العمل على خلافه (4) و هو (5) قضية الأصل.

هذا مع احتمال أن يقال (6): إنه ليس قضية الحجية شرعا إلاّ لزوم العمل على وفق الحجة عقلا، و تنجزّ الواقع مع المصادفة و عدم تنجّزه في صورة المخالفة.

=============

نفس الأمارة أو دليل اعتبارها، و شيء منهما لا يدل عليها؛ إذ الأمارة لا تدل إلاّ على الحكم الواقعي كحرمة شرب التتن، و دليل اعتبارها - المشار إليه بقوله: «و قضية حجيتها ليست...» الخ - لا يدل إلاّ على جعل الحكم الظاهري المماثل لمؤدى الأمارة، و هذا مراده ب «لزوم العمل على وفقها شرعا»، و عليه: فلا يدل شيء من الأمارة و دليل حجيتها لفظا على نفي ما يقتضيه الأصل، و نتيجة ذلك عدم حكومة الأمارة على الأصل.

(1) أي: للأمارة، و الصناعة تقتضي تأنيثه؛ لكنه لم يؤت به مؤنثا حتى في النسخة المطبوعة على النسخة الأصلية.

(2) واقعيته إنما هي بلحاظ ثبوته للشيء بعنوانه الأوّلي كشرب التتن لا بعنوانه الثانوي، و هو مشكوك الحكم حتى يكون حكما ظاهريا.

(3) نعت ل «لزوم» في قوله: «إلاّ لزوم العمل».

(4) الأولى تأنيث الضمير لرجوعه كرجوع ضميري «حجيتها، وفقها» إلى الأمارة.

(5) أي: و خلاف الأمارة - كالحلية - يكون مقتضى الأصل.

(6) هذا جواب آخر عن نظر الأمارة عقلا إلى الأصل، و نفي مفاده لأجل تضاد الحكمين.

و حاصل هذا الجواب: إنكار جعل الحكم المماثل للأمارة حتى يكون مضادا لما يقتضيه الأصل و تنفيه الأمارة عقلا، و تصير حاكمة على الأصل.

توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 8، ص 48» - أن من مباني حجية الأمارات غير العلمية جعل الحجية لها التي هي من الأحكام الوضعية القابلة للجعل بالاستقلال شرعا كما تقدم في مباحث الاستصحاب، و ليس مقتضى الحجية إلاّ تنجز الواقع مع الإصابة و العذر مع الخطأ، من دون جعل حكم شرعي مماثل للمؤدي كالحرمة حتى ينافي هذا الحكم ما يقتضيه الأصل كالحلية، و يكون ناظرا إليه و نافيا له بالالتزام العقلي.

و بالجملة: فليس للمؤدى حكم حتى ينفى عقلا ما يقتضيه الأصل، و تحكم عليه الأمارة. و الفرق بين الحجية في الأمارات و الأصول حينئذ هو: أن الحجية في الأمارات لا

ص: 204

و كيف كان (1)؛ ليس (2) مفاد دليل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبّدا كي يختلف الحال (3)،...

=============

أثر لها إلاّ التنجز مع الإصابة و العذر بدونها بخلاف الحجية في الأصول فإن مقتضاها جعل الحكم الظاهري فيها. و أما ما تقدم من قوله «قدس سره»: «بل ليس مقتضى حجتها» فقد عرفت أن مقصود المصنف منه جعل الحجية في الأمارات و الأصول بمعنى واحد - و هو جعل الحكم الظاهري في كلتيهما - حتى يدل كل منهما بالالتزام العقلي على نفي ما يقتضيه الآخر.

فصار المتحصل إلى هنا: عدم الوجه في حكومة نفس الأمارة و لا دليل اعتبارها على الأصل؛ لانتفاء النظر المعتبر في تحقق الحكومة، و قد مر وجه عدم النظر اللفظي؛ بل و لا العقلي لا في الأمارة و لا في دليلها.

(1) يعني: سواء قلنا بكون الحجية مقتضية لجعل المؤدى في الأمارات، كما هو المنسوب إلى المشهور، أم قلنا بكون الحجية - كما احتمله هنا و اختاره في محله - بمعنى:

تنجز الواقع مع الإصابة و التعذير بدونها، لا مجال لحكومة الأمارة على الأصل إلاّ بمعنى آخر في الحجية، و هو تتميم الكشف و تنزيل الظن منزلة العلم.

(2) غرضه: تسليم الحكومة على تقدير دلالة دليل الاعتبار على إلغاء احتمال الخلاف، و تنزيل الأمارة منزلة القطع كما أفاده الشيخ «قدس سره»؛ لكن الإشكال في إثبات هذا المبنى.

و كيف كان؛ فلمّا اعترف المصنف بالحكومة على هذا المبنى تصدّى لدفع الإشكال الذي أوردوه على الحكومة على ذلك المبنى أيضا.

و محصل ذلك الإشكال: لزوم حكومة كل من الأمارة و الأصل على الآخر؛ حيث إن دليل اعتبار الأمارة القائمة على حرمة شرب العصير مثلا ينفي احتمال خلافها و هو احتمال حليته، كما إن دليل اعتبار الأصل المقتضي لحلية شرب العصير ينفي أيضا احتمال خلافها و هو الحرمة، و إن احتمال الحرمة يكون شرعا بمنزلة العدم لا يترتب عليه الحكم الشرعي المترتب عليه لو لا الأصل، و من المعلوم: أنه لا معنى لحكومة كل من الدليلين على الآخر؛ بل هذا هو التعارض، فلا بد من معاملة التعارض مع الأمارة و الأصل.

(3) أي: حال دليل الاعتبار، و هذا إشارة إلى دفع الإشكال المزبور.

و توضيح دفعه: أن الخبر الدال على حرمة العصير، و كذا الخبر الدال على «حلية كل

ص: 205

شيء حتى تعلم أنه حرام» مشمول لأدلة حجية الخبر، و يعمّ الحكم بتصديق العادل كلا منهما، و ما يدل بالمطابقة على وجوب تصديق العادل عملا يدل التزاما على إلغاء احتمال خلافه. إلاّ إن الوجه في حكومة أحد الخبرين - أي: الأمارة - على الآخر - أعني: الأصل - هو: أن الأمارة القائمة على حرمة شرب العصير بعنوانه الأولي يدل بالالتزام اللفظي على إلغاء احتمال خلافه، و لا معنى لإلغاء الاحتمال إلا إلغاء حكمه و أثره شرعا، فهذه الأمارة تدل على إلغاء احتمال الحلية الواقعية - التي هي خلاف ما أخبر به العادل - و حكم هذا الاحتمال هو الحلية الظاهرية بمقتضى «كل شيء لك حلال» فالأصل العملي يعارض المدلول الالتزامي للأمارة.

و هذا بخلاف احتمال خلاف مفاد «كل شيء لك حلال»، فإن خلاف الحلية الظاهرية في موضوعها هو عدم الحلية الظاهرية أو الحرمة الظاهرية أو الاحتياط، و من المعلوم: أن إلغاء هذا الاحتمال أجنبي عن إلغاء حرمة شرب العصير المترتبة على ذات الشرب لا على المحتمل؛ إذ لا يمس الأصل العملي كرامة الواقع، فهو بالمطابقة يدل على حلية الشيء المشكوك الحكم جلاّ و حرمة و بالالتزام على نفي الحرمة الظاهرية. و لا منافاة بين حرمة شيء واقعا و حليته ظاهرا على ما تقرر في الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري و عليه: فدليل وجوب التصديق في طرف الأمارة يدل بالالتزام على إلغاء مفاد الأصل.

و لا يدل في طرف الأصل على إلغاء مفاد الأمارة، و حيث إن هذه الدلالة الالتزامية لفظية مأخوذة من اقتضاء نفس عنوان التصديق، فيؤخذ بها و تتحقق الحكومة المتوقفة على نظر الحاكم بمدلوله اللفظي - و لو بالالتزام - إلى المحكوم.

و الظاهر: أن الالتزام بحكومة الأمارة على الأصل مبني على أمرين:

أحدهما: كفاية تعرّض الحاكم بمدلوله اللفظي - و لو بدلالته الالتزامية اللفظية - للدليل الآخر، دون العكس، و عدم توقف الحكومة على وجود كلمة «أعني» و أشباهها من أدوات الشرح و التفسير؛ لأن المهم هو التعرض بالدلالة اللفظية، و المفروض: تحققها في المقام، فإن الدلالة الالتزامية تكون من أقسام الدلالة اللفظية لا العقلية.

ثانيهما: كون الحجية في الأمارات من باب تتميم الكشف و إلغاء احتمال الخلاف، لا على مبنى تنزيل المؤدى منزلة الواقع و جعل الحكم المماثل، و لا على مبنى جعل الحجية؛ لكن إثبات مبنى تتميم الكشف و جعل الظن منزلة العلم بنظر المصنف «قدس سره» مشكل.

ص: 206

و يكون (1) مفاده في الأمارة نفي حكم الأصل، حيث (2) إنه حكم الاحتمال (3)، بخلاف (4) مفاده فيه؛ لأجل أن الحكم الواقعي ليس حكم احتمال...

=============

(1) بالنصب عطف على «يختلف» و مفسر له، و ضمير «مفاده» راجع على «دليل الاعتبار»، و قد عرفت: مفاد دليل الاعتبار في كل من الأمارة و الأصل، و أن مفاد دليل اعتبار الأمارة - بناء على كونه إلغاء احتمال الخلاف - ينفي الاحتمال الذي هو موضوع الأصل، فيكون حاكما عليه كما ذهب إليه الشيخ «قدس سره».

(2) يعني: حيث إن حكم الأصل كالحلية حكم احتمال الحرمة.

و غرضه من هذه العبارة: بيان كون مفاد دليل الاعتبار في الأمارة نفي حكم الأصل كالحلية.

توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 8، ص 50» - أن إلغاء احتمال خلاف الحرمة - التي هي قضية الأمارة - أعني به الحل الذي هو مفاد الأصل يوجب انتفاء احتمال الحرمة الذي هو موضوع أصالة الحل. بخلاف مفاد دليل الاعتبار في الأصل، فإنه لا يكون مفاده فيه نفي حكم الأمارة أعني: الحرمة واقعا حتى يلغى احتمالها؛ بل مفاده في الأصل نفي احتمال كون الحكم الظاهري في محتمل الحرمة واقعا غير حليّته كإيجاب الاحتياط. و هذا الدليل لا ينفي ما تقتضيه الأمارة من حرمة الشيء واقعا، فلا نظر لدليل الأصل إلى الأمارة حتى يكون حاكما عليها.

و بالجملة: فبناء على مبنى إلغاء الاحتمال و تنزيل الظن منزلة العلم في حجية الأمارات تتجه حكومة الأمارات على الأصول.

(3) يعني: أن احتمال الحرمة الواقعية لشرب التتن مثلا موضوع للحلية التي هي مفاد الأصل، فإذا دلّت أدلة حجية الأمارة على كون الأمارة كالعلم بالواقع ارتفع احتمال الحرمة الذي هو موضوع الأصل و تبدّل بالعلم بها.

(4) يعني: بخلاف مفاد دليل الاعتبار في الأصل، حيث إن الحكم الواقعي كحرمة شرب التتن في المثال ليس حكم احتمال خلاف الأصل حتى ينفيه دليل الأصل، ضرورة: أن الحلية التي هي مفاد الأصل حكم محتمل الحرمة، فاحتمال الحرمة موضوع الأصل، فلا يعقل أن ينفي به، و دليل اعتبار الأصل ينفي احتمال حكم ظاهري آخر غير الحلية - كإيجاب الاحتياط - عن نفس هذا الموضوع أعني احتمال الحرمة، كما قال به أصحابنا المحدثون.

ص: 207

خلافه (1).

كيف (2)؟ و هو (3) حكم الشك فيه و احتماله (4)، فافهم (5). و تأمل جيدا.

فانقدح بذلك (6): أنه لا يكاد ترتفع غائلة المطاردة و المعارضة بين الأصل و الأمارة و ضمير «مفاده» راجع على دليل الاعتبار و ضمير «فيه» على الأصل. قوله: «لأجل» تعليل لعدم كون مفاد دليل الاعتبار في الأصل نفي حكم الأمارة.

=============

(1) الضمير راجع إلى «مفاده»، أي: مفاد دليل الاعتبار في الأصل.

(2) يعني: كيف يكون دليل الأصل نافيا لاحتمال خلاف الحكم الواقعي الذي هو مؤدى الأمارة ؟ مع أن موضوع الأصل نفس هذا الاحتمال، فإذا نفى الأصل هذا الاحتمال لزم من وجود الأصل عدمه.

(3) الواو للحالية، و ضمير «هو» راجع على «مفاد الأصل»، و ضمير «فيه» راجع إلى «الحكم الواقعي» يعني: و الحال أن مفاد الأصل - كحلية الشيء المشكوك في حكمه - حكم الشك في الحكم الواقعي.

فتلخص من جميع ما تقدم: أن الحكومة التي ادّعاها الشيخ «قدس سره» مبنية على حجية الأمارات من باب تتميم الكشف و إلغاء الاحتمال، و لا يرد عليه حينئذ إشكال حكومة الأصول على الأمارات أصلا.

(4) عطف على «الشك» و ضميره راجع إلى الحكم الواقعي.

(5) لعله إشارة إلى وجاهة مبنى تتميم الكشف في حجية الأمارات غير العلمية بدعوى: أن ظاهر أدلة حجيتها عرفا هو تتميم طريقيتها و كشفها تعبدا، حيث إنها طرق عقلائية يكون الأمر المتعلق بها ظاهرا في الأخذ بها لأجل الكشف و الطريقية، و هذا عبارة أخرى عن إلغاء احتمال الخلاف الموجود فيها تعبدا.

و عليه: يتجه كلام الشيخ «قدس سره» في حكومة الأمارات على الأصول على مبنى تتميم الكشف.

أو إشارة إلى ما في تقريرات الفقيه الأعظم الأصفهاني «قدس سره» من إمكان منع موضوعية الاحتمال في الأمارة حتى يكون كموضوعيته في الأصل؛ بل الموضوع خبر العادل، و خروج صورة العلم إنما هو لحكم العقل بعدم تعقل جعل الأمارة للعالم. «منتهى الأصول، ص 261».

(6) أي: بما ذكرناه من الإشكال على الحكومة التي أفادها الشيخ «قدس سره».

ص: 208

إلاّ بما أشرنا سابقا (1) و آنفا (2) فلا تغفل (3).

هذا و لا تعارض (4) أيضا (5) إذا كان أحدهما قرينة على التصرف في الآخر، كما في الظاهر مع النص (6) أو الأظهر، مثل العام و الخاص (7) و المطلق و المقيد، أو

=============

(1) أي: في الاستصحاب، حيث إنه جعل هناك تقديم الأمارات على الأصول لأجل الورود.

(2) من التوفيق العرفي الذي هو نوع من الحكومة الرافعة للتعارض و الخصومة.

(3) لعله إشارة إلى المنافاة بين الورود - الذي أفاده في مبحث الاستصحاب - و التوفيق العرفي الذي أفاده هنا؛ إذ التوفيق هو الجمع بين الدليلين و الأخذ بهما، و الورود هو الأخذ بأحدهما و ترك الآخر، بل انتفاؤه رأسا؛ إلاّ أن يراد بالتوفيق العرفي ما ينطبق على الورود.

المورد الثالث: حمل الظاهر على الأظهر

(4) عطف على «فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي مدلوليهما» و هذا إشارة إلى المورد الثالث من موارد التنافي بين المداليل مع خروجها عن تعريف التعارض من جهة عدم تنافيهما في مقام الدلالة و الإثبات.

(5) يعني: كعدم التعارض في موارد الحكومة و التوفيق العرفي و الفرق بين المقام و التوفيق العرفي هو: أن تقديم أحد الدليلين على الآخر هناك إنما يكون لجهات خارجية كمناسبة الحكم و الموضوع، و قرينيّة العنوان الثانوي للتصرف في الدليل المشتمل على العنوان الأولي، بخلافه هنا، فإن تقديم أحد الدليلين على الآخر فيه إنما هو بملاحظة حالات اللفظ من النصوصية و الأظهرية.

(6) فإن النص قرينة على التصرف في الظاهر، مثل: زر الحسين «عليه السلام» و لا بأس بترك الزيارة، أو الظاهر مع «الأظهر» نحو: رأيت أسدا يرمى، حيث إن «يرمى» أظهر في مفاده الذي هو رمي السهم من رمي الحجارة الملائم مع الحيوان المفترس، من ظهور الأسد في معناه الذي هو الحيوان المفترس.

(7) كعموم ما دل على حرمة الرّبا إلاّ في بعض الموارد كالولد و والده و السيد و عبده و غير ذلك، فإن المخصّص - لنصوصيته أو أظهريته - يقدم على العام الذي هو ظاهر في العموم، و كذا الحال في المطلق و المقيد كقوله: «إن ظاهرت فأعتق رقبة»، و «إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة»، فإن الأول: ظاهر في صحة عتق مطلق الرقبة و إن كانت كافرة، و الثاني: نص في اعتبار الإيمان في صحة عقتها، فيقيد إطلاق الأول به. و هذا الجمع

ص: 209

مثلهما (1) ممّا كان أحدهما نصا أو أظهر، حيث إن بناء العرف على كون النص أو الأظهر قرينة على التصرف في الآخر.

و بالجملة: الأدلة في هذه الصور (2) و إن كانت متنافية بحسب مدلولاتها (3)؛ إلاّ إنها غير متعارضة لعدم (4) تنافيها (5) في الدلالة و في مقام الإثبات؛ بحيث (6) تبقى أبناء المحاورة متحيّرة (7)؛ بل بملاحظة المجموع (8) أو خصوص بعضها يتصرف...

=============

الدلالي العرفي يرفع الحيرة، و يخرج نظائر هذين الدليلين عن موضوع التعارض الذي هو الموجب للتحيّر.

(1) أي: مثل العام و الخاص و المطلق و المقيد في كون أحد الدليلين نصّا أو أظهر، و الآخر ظاهرا كقوله: «يجب غسل الجمعة» و «ينبغي غسل الجمعة»، فإن الأوّل نصّ في الوجوب، و الثاني ظاهر في الاستحباب. و قوله «مما» بيان ل «مثلهما».

(2) أي: العام و الخاص و المطلق و المقيد و نظائرهما، فإن مداليلهما و إن كانت متنافية، ضرورة: أن صحة عتق الرقبة الكافرة كما يقتضيها إطلاق «أعتق رقبة»، و عدم صحته كما هو مقتضى «أعتق رقبة مؤمنة» متنافيان: لكن أظهرية المقيد أو نصوصيته قرينة في مقام الدلالة و الإثبات على إرادة خصوص المقيد، و عدم تعلق الطلب بعتق مطلق الرقبة حتى يتحقق التنافي بين الدليلين.

(3) كما عرفت في مثال «أعتق رقبة» و «أعتق رقبة مؤمنة».

(4) تعليل لعدم تعارض الأدلة مع تنافي مدلولاتها، حيث إن مناط التعارض ليس هو التنافي بين المدلولات، بل مناطه تنافيها في مقام الدلالة و الإثبات، و هو مفقود في العام و الخاص و المطلق و المقيد، و مثلهما مما يكون أحدهما نصا أو أظهر و الآخر ظاهرا؛ لما مرّ آنفا: من قرينية النص أو الأظهر على التصرف في الآخر؛ بحيث لا يبقى تحيّر لأبناء المحاورة في الجمع بينهما و العمل بهما.

(5) هذا الضمير و ضميرا «مدلولاتها، أنها» راجعة إلى «الأدلة».

(6) متعلق ب «تنافيها» و بيان له، فإن ملاك التعارض هو التنافي في مرحلة الدلالة، فلا تعارض إن لم يكن بينهما منافاة في هذه المرحلة و إن كان بينهما منافاة من حيث المدلول.

(7) حتى يوجب هذا التحيّر اندراج تلك الأدلة في باب التعارض.

(8) بأن يتوقف انعقاد الظهور - المتبع عند أبناء المحاورة - على ملاحظة مجموع الكلمات المتعددة الصادرة من متكلم واحد حقيقة كالكلمات الصادرة من زيد مثلا، أو

ص: 210

في الجميع (1) أو في البعض (2) عرفا (3)، بما ترتفع به المنافاة التي تكون في البين.

و لا فرق فيها (4) بين أن يكون السند فيها قطعيا أو ظنيّا أو مختلفا، فيقدم النص أو تنزيلا كالروايات الصادرة عن الأئمة المعصومين «عليهم السلام»، فإنهم «عليهم السلام» بمنزلة متكلم واحد، فتكون الكلمات الصادرة منهم كالصادرة من متكلم واحد في قرينية بعضها على الآخر، أو كون المجموع ظاهرا في مطلب واحد.

=============

(1) متعلق ب «بملاحظة المجموع». و التصرف في الجميع كالتصرف في كلا الخبرين اللذين دل أحدهما على حرمة بيع العذرة، و الآخر على جوازه، فإنه يتصرف في كليهما بمناسبة الجواز و الحرمة، فيحمل ما دل على الحرمة على عذرة الإنسان، و ما دل على الجواز على عذرة مأكول اللحم.

(2) متعلق ب «خصوص بعضها»، و التصرف في البعض كما يتصرف فيما دل بظاهره على وجوب إعادة الحج على المخالف بعد استبصاره بحمله على الاستحباب؛ بقرينة الأخبار الدالة على استحباب الإعادة كقوله «عليه السلام»: «يقضي أحبّ إليّ ».

(3) قيد ل «يتصرف»، و «بما» متعلق ب «يتصرف» و بيان للتصرف العرفي، و ضمير «به» راجع إلى «بما».

(4) أي: لا فرق في الموارد التي قلنا بخروجها عن باب التعارض و عدم شمول الأخبار العلاجية لها كالعام و الخاص و المطلق و المقيدة و غيرهما - مما يكون أحدهما نصا أو أظهر، و الآخر ظاهرا - بين كون السند فيها قطعيا كالكتاب و الخبر المتواتر و خبر الواحد المحفوف بالقرائن القطعيّة، أو ظنيا كأخبار الآحاد غير المحفوفة بتلك القرائن، أو مختلفا كالكتاب أو الخبر المتواتر و خبر الواحد غير العلمي، فإن النص أو الأظهر في جميع هذه الموارد يقدّم على الظاهر و إن كان سنده قطعيا كالكتاب، و كان سند النص و الأظهر ظنّيين كالخبرين غير العلميين، فإن إطلاق الكتاب مثلا يقيّد بخبر الواحد الظني السند.

و الوجه في عدم الفرق في تقديم النص، أو الأظهر على الظاهر بين قطعية السند و ظنيّته و الاختلاف هو لزوم العمل بهما بعد اعتبارهما سندا، و عدم تنافيهما دلالة و قطعية سند الظاهر لا تمنع عن التصرف عرفا في دلالته بعد كون الآخر أظهر منه، و موجبا لرفع التحيّر الذي هو الموضوع للأخبار العلاجية. و لحكم العقل بالتساقط أو التخيير.

و كيف كان؛ فتوضيح عدم الفرق في الصور التي حكم فيها بالجمع بحمل الظاهر على الأظهر أو النص بين كون سند الأظهر أو النص ظنيا أو قطعيا يتوقف على مقدمة و هي: أن اعتبار الخبر و الحديث يتوقف على أمور ثلاثة:

ص: 211

الأظهر - و إن كان بحسب السند ظنيّا - على الظاهر (1) و لو كان (2) بحسبه قطعيا.

=============

الأول: السند بأن يكون حجة معتبرة عند الشارع، و لا فرق في الحجة بين القطعية و الظنية.

الثاني: الدلالة؛ بأن يكون للفظ ظهور في المعنى عرفا، و لا يكون مجملا.

الثالث: جهة الصدور، بأن يكون صدور الحديث لبيان الحكم الواقعي لا لتقية و نحوها.

فإذا تمت هذه الجهات الثلاث يصير الحديث حجة يؤخذ به. ثم لدى التعارض لا بد و أن يقدم الأمر الثالث على الأمر الثاني و الأمر الأول، فإذا كان هناك حديثان أحدهما قطعي السند منصوص الدلالة، و الآخر ظني السند ظاهر الدلالة؛ لكن كان قطعي السند للتقية، و ظنّي السند لبيان الحكم الواقعي قدّم الظني على القطعي لأنه حجة صدر لبيان الحكم الواقعي، و الأول - و إن كان أقوى سندا و دلالة - لكنه ليس لبيان الحكم الواقعي حتى يؤخذ به، كما أنه لا بد أن يقدم الأمر الثاني على الأمر الأول حال التعارض، فإذا كان هناك حديثان أحدهما قطعي السند ظاهر الدلالة، و الآخر ظنّي السند نص الدلالة جمع بينهما بحمل الظاهر على النص، و إن كان سند الظاهر قطعيّا و سند النص ظنيّا، و ذلك لأن المعيار - بعد حجية كليهما - هو الأقوى دلالة، و النص أقوى دلالة.

إذا عرفت هذه المقدمة فيتضح لك: وجه عدم الفرق في تقديم النص أو الأظهر على الظاهر، بين كون سند النص أو الأظهر ظنيّا، و سند الظاهر قطعيا، و بين العكس لأن المناط في التقديم هو قوّة الدلالة لا قطعية السند.

(1) متعلق ب «يقدم»، و ضمير «فيها» راجع إلى الموارد المذكورة الخارجة عن باب التعارض.

(2) يعني: و لو كان الظاهر بحسب السند قطعيا مثل الكتاب و الخبر المتواتر؛ لما عرفت: من عدم تهافتهما سندا، و لزوم العمل بهما لوجود الجمع العرفي بينهما الموجب لعدم تنافيهما في مقام الدلالة و الإثبات.

فصار المتحصل: أنه في موارد الجمع العرفي يجب العمل بكلا الدليلين، من دون لحاظ السند فيها من حيث قطعيته و ظنيته و اختلافه، فلا يقع تعارض في سنديهما.

و مورد التعارض في السند هو ما يذكره بقوله: «و إنما يكون التعارض بحسب السند».

ص: 212

و إنما يكون التعارض في غير هذه الصور (1) مما (2) كان التنافي فيه بين الأدلة

=============

(1) أي: غير موارد الجمع العرفي من العام و الخاص و المطلق و المقيد و نحوهما؛ إذ لا تنافي بينها في مرحلة الدلالة و الإثبات بحيث يتحيّر العرف في الجمع بينها.

(2) بيان ل «غير»، و ضمير «فيه» راجع إلى الموصول في «مما».

و غرضه: بعد نفي التعارض عن الصور المذكورة - التي لا يتحيّر العرف في الجمع بينها - إثبات التعارض في غير تلك الصور و هو: ما إذا كان العرف متحيّرا في الجمع بين الدليلين أو الأدلة في مقام الإثبات.

توضيح ذلك: أن حجية ما يستنبط منه الحكم الشرعي منوطة بواجديته لأمور ثلاثة:

أحدها: صدوره ممن له تشريع الأحكام.

ثانيها: ظهوره في المعنى و عدم إجماله.

ثالثها: كونه صادرا لبيان الواقع و المتكفل للأول: أدلة حجيّة الأخبار، و يعبّر عنه تارة:

بأصالة السند، و أخرى: بأصالة الصدور. و للثاني: بناء أبناء المحاورة على كون اللفظ ظاهرا في المعنى الكذائي، و يعبّر عنه بأصالة الظهور.

و للثالث: ظهور حال المتكلم في إرادة ظاهر كلامه، و جعله حاكيا عن مرامه، و يعبّر عنه بأصالة الجهة.

و هذه الأمور الثلاثة مقوّمة لدليلية الدليل، فإذا تعارض دليلان علم إجمالا بكذب أحد هذه الأمور الثلاثة في أحد الدليلين، و بمخالفة أحدهما للواقع.

و صور تعارض هذه الأمور و إن كانت كثيرة؛ إذ التعارض قد يكون بين أصالتي السند فيهما كما إذا كانا مقطوعي الدلالة و الجهة، و قد يكون بين أصالتي الظهور كما إذا كانا مقطوعي السند و الجهة، و قد يكون بين أصالتي الجهة كما إذا كانا مقطوعي السند و الدلالة، و قد يكون غير ذلك؛ إلاّ إن التعارض الذي يسري من الدلالة إلى السند و يوجب التعارض في أصالتي الصدور - و يكون موضوع حكم العقل بالتخيير أو التساقط و موضوع أخبار العلاج - ينحصر في الدليلين الظنيين، سواء كان كل واحد منهما قطعيا جهة و دلالة أم ظنيّا كذلك؛ فإن التعارض يقع بين سنديها للعلم الإجمالي بعدم صدور أحدهما، بعد وضوح: عدم إمكان الجمع بينهما بالتصرف فيهما، لفرض:

قطعية دلالتهما، فلا محالة يقع التعارض بين أصالتي الصدور فيهما؛ إذ لا معنى للتعبد بصدورهما مع العلم الإجمالي بكذب أحدهما. هذا في صورة القطع بالدلالة و الجهة.

و أمّا في صورة ظنيتهما - كظنيّة السند - فلأنهما و إن كانا قابلين للتصرف في

ص: 213

بحسب الدلالة و مرحلة الإثبات. و إنما يكون التعارض بحسب السند فيها إذا كان كل واحد منها قطعيّا دلالة وجهة. أو ظنيّا (1) فيما (2) إذا لم يكن (3) التوفيق بينها بالتصرف في البعض أو الكل (4)، فإنه (5) حينئذ (6) لا معنى للتعبد بالسند في الكل إمّا أحدهما و الأخذ بظاهر الآخر، و حمل الأول على التقية مثلا؛ إلاّ إنه لعدم قرينة على ذلك يصير المراد فيهما مجملا و إن لم يكن هذا الإجمال منافيا لأصل الصدور واقعا؛ لكنه مخلّ بالتعبد بالسند؛ إذ لا معنى للتعبد بسند رواية مجملة.

=============

و بالجملة: فأصالة الصدور لا تجري في الصورة الأولى؛ للعلم الإجمالي بعدم صدور أحدهما، و في الصورة الثانية؛ لعدم الأثر في التعبد بالصدور.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) أي: في الدلالة و الجهة كالسند، فيتعارض الأمور الثلاثة فيهما بناء على عرضيّتها. و أمّا بناء على طوليّتها - و كون الظهور و الجهة في طول الصدور - فالتعارض يكون بين أصالتي الصدور فقط.

(2) هذا قيد لقوله: «ظنيّا»؛ لأن القطعي غير قابل للتوفيق جزما و بلا تعليق.

(3) بمعنى «يوجد» و «يكن» هنا تامة، و «بالتصرف» متعلق ب «التوفيق».

(4) إذ مع إمكان التوفيق بينهما بالتصرف في البعض أو الكل تندرج في موارد الجمع العرفي، و تخرج موضوعا عن باب التعارض.

(5) الضمير للشأن، و هذا تعليل للتعارض بحسب السند و حاصله: أن دليل التعبد بالصدور لا يشملهما، إما للعلم الإجمالي بكذب أحدهما كما في صورة القطع بالدلالة و الجهة؛ إذ مع قطعيّتهما و عدم إمكان التصرف فيهما يحصل العلم بعدم صدور أحدهما.

و إمّا لأجل عدم معنى للتعبّد بصدورهما كما في صورة الظن بكل من الصدور و الدلالة و الجهة، حيث إن نتيجة التعبد حينئذ ليست إلاّ الرفض؛ لإجمالهما، إذ المفروض: أنهما لظنيتهما و إن كانا قابلين للحمل و التصرف - بإرادة خلاف الظاهر في أحدهما أو البناء على صدور أحدهما لبيان غير الواقع - و لذا لا يحصل العلم الإجمالي بكذب أحدهما؛ إلاّ إنه لعدم قرينة على تعيّن أحد الأمرين يصير كل منهما مجملا، و لا معنى للتعبد بالمجمل.

(6) يعني: حين عدم التوفيق بين الأدلة بالتصرف في الكل أو البعض.

ص: 214

للعلم بكذب أحدهما أو لأجل (1) أنه لا معنى للتعبد بصدورها مع إجمالها (2)، فيقع (3) التعارض بين أدلة السند حينئذ كما لا يخفى.

=============

(1) عطف على «إمّا» و كلاهما علة لعدم معنى للتعبد بصدورهما.

غاية الأمر: أن الأول راجع إلى عدم المقتضي للحجية، و الثاني: إلى وجود المانع و هو لغويتها.

(2) هذا الضمير و ضمير «بصدورها» راجعان إلى «الأدلة». و وحدة السياق تقتضي إفراد ضمير «أحدهما» كغيره من الضمائر، لا تثنيته.

(3) هذه نتيجة العلم بكذب أحد الدليلين أو لغوية التعبد بصدورهما، فإنهما يمنعان شمول أدلة اعتبار السند لهما، و هذا معنى التعارض.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - إن التعبير عن هذا البحث بتعارض الأدلة أولى من التعبير عنه بمبحث التعادل و الترجيح، ثم عطف المصنف الأمارات على الأدلة إمّا تفسيري إشارة إلى وحدة المعنى و ترادف لفظي الأدلة و الأمارات، و إما غير تفسيري، فلا بد من المغايرة بين المعطوف و المعطوف عليه بأن يكون الدليل مختصا بالأحكام، و الأمارة مختصة بالموضوعات.

ثم ما صنعه صاحب الكفاية من جعله هذا المبحث من مقاصد علم الأصول أفضل مما صنعه الشيخ من جعله هذا المبحث من خاتمة علم الأصول، المشعر بكونه خارجا عنه مع أنه من أهم مباحث علم الأصول.

2 - الوجه الموجب للبحث عن تعارض الأدلة: أن همّ الفقيه هو تحصيل الحجة على الحكم الشرعي، و فعلية الحجة تتوقف على وجود المقتضي للحجية و فقد المانع عنها.

توضيح ذلك: أن استنباط الحكم الشرعي من أخبار الآحاد التي هي عمدة أدلة الفقه منوط بأمور:

الأول: حجية خبر الواحد.

الثاني: ظهور الألفاظ الواردة في الخبر في معانيها و عدم إجمالها.

الثالث: حجية ظواهر الألفاظ بنحو الكبرى الكلية، سواء كانت من الكتاب أو السنة في حق جميع المكلفين و عدم اختصاصها بمن قصد إفهامه.

الرابع: علاج تعارض الأخبار.

ص: 215

3 - فيقال: أما الأمر الأول: فيتكفله بحث خبر الواحد، و قد مرّ تفصيله في بحث أخبار الآحاد.

و أما الأمر الثاني: فيتكفله العرف و اللغة، و قد تقدم تفصيل ذلك في مباحث الألفاظ.

و أما الأمر الثالث: فيبحث عنه في مسألة حجية ظواهر الألفاظ و أن ظواهر الكتاب و السنة تكون حجة.

و بتمامية هذه الأمور الثلاثة يتمّ المقتضي لحجية خبر الواحد، فإذا تصدى المجتهد لاستنباط الحكم الشرعي، و لم يكن للخبر معارض كان الخبر حجة فعلية، و إن كان له معارض لا يجوز التمسك به إلاّ بعد علاج التعارض.

و الحجية الفعلية في الأخبار المتعارضة تتوقف على قيام دليل ثانوي على حجية أحد الخبرين تخييرا أو تعيينا، و هذا المقصد الثامن يتكفل البحث عن هذا الدليل الثانوي، و يعيّن وظيفة الفقيه الذي يواجه الأخبار المتعارضة في كثير من أبواب الفقه.

4 - تعريف التعارض: و قد عرّف المصنف التعارض بتنافي الدليلين أو الأدلة، و التعارض بهذا المعنى لا يشمل موارد الجمع الدلالي مما ليس بين الدليلين منافاة.

الصور الرئيسية التي هي خارجة عن باب التعارض هي ثلاثة:

الأولى: موارد حكومة أحد الدليلين على الآخر.

الثانية: موارد التوفيق العرفي بين الدليلين بالتصرف في أحدهما أو في كليهما.

الثالثة: موارد حمل أحد الدليلين على الآخر؛ كما في النص و الظاهر و الأظهر و الظاهر.

5 - عناوين ثلاثة في تعريف التعارض:

أولها: - و هو المنسوب إلى المشهور - «تنافي الدليلين على وجه التناقض أو التضاد».

كما في القوانين و الفصول.

ثانيها: هو «تنافي الدليلين و تمانعهما باعتبار مدلولهما» كما عن الشيخ الأنصاري.

ثالثها: ما أفاده صاحب الكفاية حيث قال: «التعارض هو تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة».

و أما كلمة الدلالة: ففيها جهتان:

الأولى: أنها تطلق على معنيين:

ص: 216

1 - الحكاية و الكشف في قبال الكلام المجمل.

2 - الحجية، و معنى التنافي في الدلالة هو تمانع الدليلين المتعارضين في الاندراج تحت دليل الاعتبار، بمعنى: امتناع شمول أدلة حجية خبر الثقة لكلا الخبرين المتعارضين، لامتناع التعبد بالمتناقضين. هذا هو معنى التنافي في الدلالة.

6 - و أمّا الفرق بين تعريف التعارض عند المشهور و بين تعريفه عند المصنف فهو: أن ظاهر تعريف المشهور: كون التعارض من صفات المدلولين، فيكون وصفا بحال المتعلق.

و ظاهر تعريف المصنف: أن التعارض وصف لنفس الدليلين. هذا خلاصة الفرق بين التعريفين.

و أما وجه عدول المصنف عن تعريف المشهور فأمران:

أحدهما: أنه لو كان التعارض تنافي المدلولين كما هو المشهور لكان التعارض وصفا لمتعلق الدليلين لا نفسهما، و على تعريف المصنف كان الوصف لنفس الدليلين لا لمتعلقهما.

ثانيهما: - و هو العمدة - أن تعريف المشهور يعمّ موارد الجمع الدلالي و التوفيق العرفي، مع إنه لا تجري أحكام التعارض من التوقف و التخيير و التساقط في موارد الجمع.

هذا بخلاف تعريف المصنف حيث لا يشتمل موارد الجمع.

7 - إشكال المصنف على ما أفاده الشيخ من حكومة الأمارات على الأصول الشرعية، بمعنى: أن الحكومة عبارة عن كون أحد الدليلين متعرضا بمدلوله اللفظي لحال الدليل الآخر، و رافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض إفراد موضوعه. نظير ارتفاع حكم الشك الثابت بدليله - كالبناء على الأربع - بما دل على أنه «لا شك لكثير الشك»، ففي المقام إذا كان مقتضى الاستصحاب حليّة شيء، و قام خبر الثقة مثلا على حرمته كان هذا الخبر حاكما على استصحاب الحلية أي: مخرجا له عن موضوع الحلية و موجبا لنقض اليقين باليقين أي: بالحجة.

و حاصل إشكال المصنف عليه: هو عدم انطباق ضابط الحكومة على الأمارات؛ إذ ليس أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر.

8 - و توهم: تصحيح حكومة الأمارة على الأصل من ناحية دليل حجية الأمارة لا من ناحية نفس الأمارة، بمعنى: أن نفس الأمارة كخبر الثقة الدال على حرمة شرب التتن؛ و إن لم يكن مؤداها ناظرا إلى دليل الأصل؛ إلاّ إن دليل حجية الأمارة كآية النبأ

ص: 217

و غيرها ناظر إلى دليل الأصل؛ لأن مقتضى دليل حجيتها نفي احتمال خلاف مؤداها، فاحتمال الخلاف - و هو موضوع أصالة الحلّ - منفي بدليل حجيّة خبر الثقة، و هذا النظر النافي لموضوع الأصل يوجب حكومة الأمارة على الأصل كما يقول الشيخ؛ مدفوع:

بأن شيئا من مؤدى الأمارة و دليل حجيتها لا يدل لفظا على مقتضى الأصل؛ لأن مؤداها ليس إلاّ الحكم الواقعي، و أمّا حجيتها: فلأن مقتضاها ليس إلاّ لزوم العمل شرعا بمقتضى الأمارة أي: جعل الحكم المماثل على طبق مؤداها، دون تتميم الكشف و إلغاء احتمال الخلاف كي تكون الأمارة حاكمة على الأصل.

9 - إخراج الموارد العديدة عن باب التعارض:

منها: الحكومة.

و منها: التوفيقات العرفية التي منها التصرف في أحد الدليلين كما في أحكام العناوين الأولية، فإن المطرد هو التصرف فيها بحملها على الاقتضائية و إبقاء أدلة أحكام العناوين الثانوية على ظاهرها من الفعلية.

و منها: التصرف في كلا الدليلين.

و منها: التصرف في أحدهما المعيّن و إن كان أظهر من الآخر من حيث الدلالة، و ذلك لجهة خارجية توجب ذلك؛ كلزوم عدم مورد أو قلّته للدليل الآخر الظاهر لو لم يتصرف في الأظهر.

10 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - تعريف التعارض بتنافي الدليلين أو الأدلة.

2 - إخراج موارد الجمع عن باب التعارض.

3 - تقديم الأمارات على الأصول إنما هو من باب الورود لا الحكومة.

ص: 218

فصل (1)

=============

فصل اصالة التساقط

في بيان مقتضى القاعدة الأولية

و هي حكم العقل مع قطع النظر عن أدلة خاصة و أخبار علاجية.

و هناك قاعدة ثانوية و هي مفاد أدلة خاصة و أخبار علاجية يأتي البحث عنها في الفصل الثالث.

(1) الغرض من عقد هذا الفصل الثاني: هو بيان مقتضى القاعدة الأولية في الخبرين المتعارضين بناء على الطريقية. و أمّا بناء على السببية فسيأتي الكلام في مقتضى القاعدة الأولية فانتظر.

فيقع الكلام فعلا في مقتضى القاعدة الأولية على الطريقية أي: في حكم العقل في تعارض الأمارتين.

و توضيح ما هو مقتضى القاعدة الأولية في المقام يتوقف على مقدمة و هي: أن حجية الأخبار - و سائر الأمارات - إمّا أن تكون من باب الطريقية و الكشف عن الواقع.

و إمّا أن تكون من باب السببية و الموضوعية.

و الفرق بينهما: أن المراد من جعل الحجية على وجه الطريقية هو: كونها مجعولة بلحاظ لزوم حفظ الواقع و الأحكام الواقعية، و لا مصلحة في نفس الخبر و إنما المصلحة في المؤدى و الواقع.

و أما المراد بحجية الخبر على نحو السببية فهو: وجود المصلحة في نفس الخبر سواء طابق الواقع أم لا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن مقتضى القاعدة الأولية على الطريقية هو سقوط المتعارضين عن الحجية للعلم الإجمالي بكذب أحدهما.

نعم؛ يمكن نفي الثالث بهما، فلو دل أحدهما على حرمة صلاة الجمعة و الآخر على الوجوب نفيا الاستحباب؛ لأن الحجة المجهولة بينهما نافية له.

و كيف كان؛ فمحتملات تعارض الخبرين على الطريقية و إن كانت كثيرة هي:

الأول: سقوطهما عن الحجية رأسا أي: سواء كان في المدلول المطابقي أو الالتزامي،

ص: 219

و جواز الرجوع إلى الأصل و لو كان مخالفا لهما، فالتعارض يوجب فرض كليهما كالعدم و كون المورد مما لا نص فيه.

الثاني: الحكم بالتوقف، بمعنى: سقوطهما في المدلول المطابقي دون الالتزامي، و جواز الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما دون الأصل المخالف لهما.

الثالث: حجيّتهما معا.

الرابع: حجية أحدهما تخييرا.

الخامس: حجية الموافق للواقع منهما.

السادس: حجية أحدهما لا بعينه إلاّ إن مختار المصنف هو هذا الاحتمال السادس.

و محصل ما أفاده في وجهه: هو أن التعارض لما لم يكن موجبا لسقوط كلا المتعارضين عن الطريقية؛ لعدم كونه موجبا للعلم بكذبهما معا حتى يسقط كلاهما عن الطريقية؛ بل لا يوجب إلاّ العلم بكذب أحدهما، كان اعتبار الآخر الذي فيه مناط الحجية - و هو احتمال المطابقة للواقع - بلا مانع.

إلاّ إنه لما كان ذلك غير متميز عمّا علم إجمالا كذبه، مع احتمال انطباقه على كل واحد من المتعارضين فلا يشملهما دليل الاعتبار، لأجل العلم بعدم صغروية كليهما له، و لا يشمل أحدهما المعيّن؛ لكونه ترجيحا بلا مرجح، و لا أحدهما المخيّر، لعدم فرديته للعام.

و ببيان آخر: الوجه في حجية أحد المتعارضين بلا عنوان هو وجود المقتضي و فقد المانع.

أما وجود المقتضي: فلأن المقتضي لجعل الحجية للخبر هو غلية الإصابة نوعا، و حيث إن كل واحد من المتعارضين جامع لشرائط الحجية لو لا التعارض - كان احتمال الإصابة موجودا في كل منهما؛ إذ لا علم بكذب أحدهما المعين حتى يكون الساقط عن دليل الاعتبار خصوص معلوم الكذب.

و عليه: فالمقوم لحجية كل واحد - أعني احتمال الإصابة بالواقع - موجود، و لا بد من ملاحظة مقدار مانعية المانع و أنه يمنع عن حجية أحدهما أو كليهما.

و أمّا فقد المانع عن حجية أحدهما: فلانحصار المانع في العلم الإجمالي بكذب أحدهما، و هو لا يوجب سقوط كليهما عن الحجية بل يوجب سقوط أحدهما بلا عنوان؛ و ذلك لتساوي نسبة هذا العلم الإجمالي إلى كلا الخبرين، إذ لا تعيّن لواحد منهما بحسب هذا العلم.

ص: 220

و حيث كان المقتضي - أعني به: احتمال الإصابة - موجودا في كلا الخبرين، و كان المانع متساوي النسبة إليهما و لم يكن مانعا عنهما معا و لا عن أحدهما المعيّن كان أحد المقتضيين و هو محتمل الصدق منهما مؤثرا بلا عنوان في مقتضاه، و الآخر بلا عنوان أيضا ساقطا عن التأثير، و نتيجته حجية أحدهما و سقوط أحدهما كذلك.

و يترتب على هذا البيان أمران:

أحدهما: سقوط المتعارضين في المدلول المطابقي، فإن أحد الخبرين - و إن كان حجة - كما عرفت - إلاّ إنه لا علامة له تميّزه عن الخبر الساقط عن الحجية لكونه بلا لون و لا عنوان أيضا؛ لاحتمال انطباق الخبر الكاذب على كل منهما، فلأجله يسقطان عن الاعتبار في المؤدى.

ثانيهما: نفي الثالث بالحجة الواقعية المعلومة إجمالا، و لا يتوقف هذا النفي على العلم التفصيلي بالحجة، فأي واحد من الخبرين كان حجة واقعا كان نافيا للثالث؛ و ذلك لأن الغرض المترقب من الحجة - و هو تحريك المكلف و بعثه نحو الفعل أو زجره عنه - و إن لم يترتب على الحجة التي لا تعيّن لها بوجه أصلا؛ الذي هو أثر حجية الخبر واقعا، لوجود المقتضي لنفي الثالث في أحدهما و فقد المانع منه. هذا توضيح ما أفاده المصنف بناء على الطريقية.

و أما بناء على حجية الأمارات من باب السببيّة و الموضوعية، أي: بمعنى: كون قيام الأمارة على وجوب شيء أو حرمته سببا لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى مقتضية لجعل ما يناسبها من الوجوب أو الحرمة للمؤدى على ما ينسب إلى المعتزلة، فأحكامها مختلفة.

توضيح ذلك: أن المصنف قد ذكر صورا لتعارض الأمارتين على السببية، و لهذا جعل أحكامها مختلفة من التساقط و التخيير بينهما مطلقا، و الأخذ بمقتضى الحكم الإلزامي إذا كان أحد المؤديين حكما إلزاميا و الآخر غير إلزامي و غير ذلك.

و مبنى هذه الصور هو: محتملات حجية الأمارة على السببية من كون الحجة خصوص ما لم يعلم كذبه، أو الأعم منه و مما علم كذبه.

و على الثاني: فإمّا أن يكون معنى الحجيّة إثبات المؤدى بدون التدين به، و إمّا أن يكون معناها لزوم الالتزام و التدين به و إن كان المؤدى إباحة.

و أما الصورة الأولى - و هي كون الحجة خصوص ما لم يعلم كذبه -، فحكمها

ص: 221

التساقط كحجيتها على الطريقية، و قد أشار إلى حكم هذه الصورة بقوله: «فكذلك» يعني: فكما ذكرناه على الطريقية من سقوطهما في المدلول المطابقي و نفي الثالث بأحدهما، و سيأتي تفصيل الكلام فيها في توضيح العبارة.

و أما الصورة الثانية: - و هي ما إذا كانت الأمارة كحدوث مصلحة أو مفسدة غير منحصرة في خصوص ما لم يعلم كذبه؛ بأن كانت كل أمارة مقتضية لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى - ففيها صور ثلاث:

الأولى: أن يكون مدلولا الأمارتين متضادين؛ كما إذا قامت إحداهما على وجوب الإزالة عن المسجد، و الأخرى على وجوب الصلاة مثلا. و حكم هذه الصورة حكم باب التزاحم من التخيير إن لم يكن أحدهما أهم و لو احتمالا.

و الوجه في إجراء حكم التزاحم هنا هو: أن المقتضي للوجوب في كل واحد منهما - و هو قيام الأمارة على طبقه - موجود، و المانع مفقود؛ إذ المانع هو عجز المكلف عن امتثال كلا الخطابين. و هو نظير وجوب إنقاذ الغريقين المؤمنين؛ فإن العجز عن إنقاذهما معا لا يوجب سقوط أصل الخطاب؛ بل يقيد وجوب إنقاذ كل منهما بترك الآخر، و نتيجته التخيير.

الثانية: أن تكون الأمارتان في موضوع واحد، و كان مؤداهما حكمين إلزاميين كدلالة إحداهما على وجوب البقاء على تقليد الميّت و الأخرى على حرمته، فإن جعل الضدين في موضوع واحد يؤول إلى جعل المتناقضين باعتبار الدلالة الالتزامية. و الحكم في هذه الصورة كسابقتها هو التخيير إن لم يكن أحدهما أهمّ من الآخر و لو احتمالا، فإنه يقدم على ما ليس فيه هذا الاحتمال كما هو حكم المتزاحمين في جميع الموارد.

الثالثة: أن تكون الأمارتان في موضوع واحد - كالصورة الثانية - و كان مؤدى إحداهما حكما إلزاميا، و مؤدى الأخرى حكما غير إلزامي؛ كدلالة إحداهما على حرمة ذبيحة الكتابي، و الأخرى على حليتها، و حكم هذه الصورة لزوم الأخذ بالحكم الإلزامي و طرح غيره؛ لعدم المعارضة بين المقتضي و اللامقتضي، فإن الإلزامي ناش من المقتضي، بخلاف غير الإلزامي، فإنه ليس فيه المقتضي؛ إذ يكفي فيه عدم تحقق مقتضى الإلزام.

هذا تمام الكلام في مقتضى القاعدة الأولية على كل من الطريقية و السببيّة في حجية الأمارات. توضيح بعض العبارات.

ص: 222

التعارض و إن كان لا يوجب إلاّ سقوط أحد المتعارضين عن الحجية رأسا (1)، حيث (2) لا يوجب إلاّ العلم بكذب أحدهما، فلا يكون هناك مانع عن حجية الأخر، إلاّ إنه (3) حيث كان بلا تعيين و لا عنوان واقعا (4)، فإنه (5) لم يعلم كذبه إلاّ كذلك - و احتمال (6) كون كل منهما كاذبا - لم...

=============

(1) أي: في كل من الدلالة المطابقية و الالتزامية؛ لأن معلوم الكذب ليس فيه مقتضي الحجية و الطريقية. فالتعارض يوجب سقوط إحداهما عن الحجية لا سقوط كليهما.

(2) تعليل لعدم إيجاب التعارض إلاّ سقوط أحد المتعارضين عن الحجية، فلا وجه لسقوط كليهما عنها؛ إذ المانع عن الحجية - و هو العلم بالكذب - مختص بأحدهما.

(3) أي: إلاّ إن معلوم الكذب حيث إنه لم يكن له عنوان و علامة يميّزانه عن معارضه؛ إذ المفروض: واجدية كل منهما لشرائط الحجية، و عدم محذور في حجية كل منهما إلاّ العلم الإجمالي بكذب أحدهما و احتمال انطباق «معلوم الكذب» على كل منهما، امتنع شمول دليل الاعتبار لهما؛ للزوم التناقض، كما إذا دلّ أحدهما على وجوب شيء و الآخر على عدم وجوبه. أو التضاد، كما إذا دل أحدهما على طهارة الغسالة مثلا و الآخر على نجاستها، فيسقط كلا المتعارضين عن الحجيّة في خصوص مدلولهما المطابقي.

(4) لما مرّ من فرض واجدية كل منهما لشرائط الحجية، و ليسا كاشتباه خبر ضعيف بخبر صحيح، فإن الصحيح متميّز عن الضعيف بما له من العنوان واقعا.

و توضيح الفرق بين حجية أحدهما بلا عنوان و بين اشتباه الحجة باللاحجة - بعد اشتراكهما في صلاحية كل من البابين لنفي الثالث - هو: أن النافي للثالث في مسألة اشتباه الحجة باللاحجة هو الحجة الواقعية التي لها تعين واقعا و إن كانت مجهولة ظاهرا، و النافي للثالث في مسألة حجية أحدهما بلا عنوان هو الحجة المبهمة التي لا تعيّن لها واقعا و لا ظاهرا.

(5) أي: فإن معلوم الكذب لم يعلم كذبه إلاّ كذلك أي: بلا تعيين و لا عنوان.

(6) عطف على «كذلك»، يعني: لم يعلم كذبه إلاّ باحتمال كون كل منهما كاذبا، و يمكن عطفه على «بلا تعيين» يعني: كان بلا تعيين، و كان باحتمال «كون كل منهما كاذبا»، كما يمكن كون الواو بمعنى «مع».

و على كل: فهذه الجملة مستغنى عنها، فإن احتمال كذب كل منهما كان مستفادا

ص: 223

يكن (1) واحد منهما بحجة في خصوص مؤداه، لعدم (2) التعيين في الحجية أصلا كما لا يخفى.

نعم (3)؛ يكون نفي الثالث بأحدهما لبقائه على الحجية (4) و صلاحيته (5) على ما هو عليه من عدم التعيين لذلك (6) لا بهما (7).

=============

من نفس التعارض، و كون الخبر الكاذب فاقدا لعلامة تميّزه عن الخبر الآخر.

(1) جواب «حيث كان»، و قد عرفت وجه عدم حجيتهما و هو التناقض أو التضاد الذي هو منشأ أصالة التساقط الحاكم به العقل في المتعارضين - بناء على الطريقية - في خصوص المؤدى أعني به المدلول المطابقي الذي هو مورد التكاذب.

(2) تعليل لعدم حجية كل منهما، و حاصله: أنه لمّا كان الدليل الأوّلي للحجية قاصرا عن شمول أحدهما لا بعينه؛ لما مرّ آنفا من لزوم التناقض أو التضاد، فلا دليل على حجية أحدهما في مدلوله المطابقي؛ إذ ما لم تحرز الحجة لم يكن مؤدّاها حجة.

حجية أحد المتعارضين في نفي الثالث

(3) استدراك على عدم حجية كل منهما في مدلوله المطابقي.

و حاصله: أن التعارض يختص بمورد التكاذب و هو المدلول المطابقي للمتعارضين كما مرّ، و أما ما لا تكاذب فيه كنفي الثالث - و هو المدلول الالتزامي - فلا مانع من حجيته فيه، فإذا دلّ أحد المتعارضين على وجوب شيء و الآخر على حرمته، فهما و إن كانا ساقطين في مدلوليهما المطابقين أعني: الوجوب و الحرمة؛ إلاّ إن حجية أحدهما لا بعينه صالحة لنفي الثالث.

(4) لما عرفت من وجود المقتضي و فقد المانع، فذاك الواحد مع عدم تعيّنه صالح لنفي الثالث.

(5) عطف على «بقائه» و مفسر له، و ضميره و ضمير «لبقائه» راجعان إلى «أحدهما».

و قوله: «من عدم» بيان للموصول في «ما هو».

(6) أي: لنفي الثالث، و هو متعلق ب «صلاحيته».

(7) عطف على «بأحدهما» يعني: يكون نفي الثالث مستندا إلى أحدهما لا إلى كلا المتعارضين؛ إذ مع العلم إجمالا بكذب أحدهما لا وجه لحجيتهما معا؛ لمنافاته لحجيّتهما، من دون منافاة لحجيّة أحدهما لا بعينه.

و الظاهر: أن قوله: «لا بهما» تعريض بمن جعل نفي الثالث مدلول كلا الخبرين لا مدلول أحدهما لا بعينه.

ص: 224

هذا (1) بناء على حجية الأمارات من باب الطريقية كما هو (2) كذلك، حيث (3) لا يكون حجة طريقا إلاّ ما احتمل إصابته، فلا محالة كان العلم بكذب أحدهما مانعا عن حجيّته، و أمّا (4) بناء على حجيّتها من باب السببيّة فكذلك (5) لو كان الحجة وجه التعريض: أن الباقي على الحجية هو أحدهما بلا عنوان، و هذا ينفي الثالث، و ليس الحجة كلا المدلولين الالتزاميين كي يستند نفي الثالث إلى كلا المتعارضين.

=============

(1) يعني: ما ذكرناه - من عدم حجيّتهما في المدلول المطابقي، و حجية أحدهما في نفي الثالث - مبني على حجيّة الأمارات من باب الكشف و الطريقية.

(2) أي: كما أن التساقط المزبور - بناء على حجيّة الأمارات بنحو الكشف و الطريقية - هو الحق.

(3) تعليل للتساقط المذكور، و حاصله: أن حجيّة شيء من باب الطريقية منوطة باحتمال إصابته للواقع، فمع العلم بالكذب و عدم الإصابة لا معنى لحجيته في خصوص مؤداه.

هذا بالنسبة إلى ما علم كذبه. و أما غيره فهو على إبهامه حجة فيما لا معارض له من نفي الثالث، و هذا هو ما تقدم من التساقط في الجملة.

مقتضى القاعدة الأوّلية في تعارض الدليلين بناء على السببيّة

(4) هذا شروع فيما هو مقتضى القاعدة الأوّلية في تعارض الأمارتين؛ بناء على حجية الأمارات من باب السببيّة و الموضوعية.

(5) يعني: التساقط. فكما ذكرناه على الطريقية من سقوطهما في المدلول المطابقي و نفي الثالث بأحدهما.

و أمّا تقريب هذا الاحتمال على القول بالسببيّة و اشتراكه مع مبنى الطريقية فهو: أن حجيّته كل أمارة - على ما تقدم في الفصل السابق - منوطة بتمامية جهات ثلاث و هي:

الصدور و الدلالة و الجهة. و الدليل على اعتبار أصالتي الظهور و الجهة هو: بناء العقلاء على الأخذ بظاهر الكلام و حمله على بيان المراد الجدي، و من المعلوم: أن السيرة العقلائية دليل لبيّ ، و ليس لها لسان حتى يؤخذ بإطلاقه، فلا بد من الأخذ بالقدر المتيقن منها عند الشك في تحقق البناء العقلائي، و القدر المتيقن منه هو ما إذا لم يعلم كذبه، فإنهم إذا علموا عدم إرادة المتكلم ظاهر الكلام، و عدم كونه كاشفا عن مراده الجدّي لم يعملوا به و لم يرتّبوا عليه آثاره. و عليه: فدائرة حجية أصالتي الظهور و الجهة مضيقة؛ لاختصاصها بالظاهر المحتمل صدقه، و عدم كون معلوم الكذب مورد عملهم. و أما أصالة

ص: 225

هو خصوص ما لم يعلم كذبه؛ بأن لا يكون المقتضي للسببيّة فيها إلا فيه (1) كما هو (2) المتيقن من دليل اعتبار غير السند منها (3) و هو بناء العقلاء على أصالتي الظهور و الصدور لا لتقية و نحوها (4)، و كذا (5) السند لو كان دليل اعتباره هو بناؤهم أيضا، السند فكذلك؛ إذ الدليل عليها إما السيرة العقلائية على العمل بخبر الثقة و إما إطلاق الآيات و الأخبار المتواترة إجمالا، و شيء منهما لا يصلح لإثبات حجية الخبر المعلوم كذبه.

=============

أمّا السيرة العقلائية: فحالها حال السيرة على أصالتي الظهور و الجهة من أن المتيقن من عمل العقلاء هو عملهم بخبر الثقة المحتمل للصدق و الكذب، و إن لم يكن العمل به لأجل طريقيته إلى الواقع، بل لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى.

و أما الأدلة اللفظية - كمفهوم آية البناء و جملة من الأخبار الإرجاعية - فمقتضى إطلاقها و إن كان حجية كل خبر حتى معلوم الكذب؛ لكن أصل الإطلاق ممنوع؛ لظهورها في كون المصلحة في العمل بالخبر الذي لم يعلم مخالفته للواقع، فإن هذه الخطابات ملقاة إلى العرف، و من المعلوم: عدم بنائهم على العمل بالأمارة عند العلم.

بالخلاف لا يبعد ظهورها في حجية الخبر المفيد للظن أو الاطمئنان، و عدم كفاية احتمال الصدق و الكذب.

و بالجملة: مفاد أدلة الاعتبار - بناء على الموضوعية و الطريقية - واحد في جريان أصالة الصدور و الدلالة و الجهة، و أن المصلحة تكون في العمل بالأمارة عند عدم العلم بالخلاف، فلا مقتضي لحجيّة كليهما حال التعارض حتى يندرجا في باب التزاحم كما هو حال بعض الصور الآتية؛ بل الحجة أحدهما لا بعينه كما هو الحال على الطريقية.

(1) أي: في خصوص ما لم يعلم كذبه، و ضمير «فيها» راجع إلى الأمارات.

(2) أي: كون الحجة ما لم يعلم كذبه لا تفصيلا و لا إجمالا المتيقن.

(3) أي: من جهات الأمارات و هي: الدلالة و الجهة و السند.

يعني: كما أن الحجة خصوص ما لم يعلم كذبه هو المتيقن من دليل اعتبار غير السند من الجهة و الدلالة من الأمارات إن كان ذلك الدليل بناء العقلاء على أصالتي الظهور و الصدور لبيان الواقع، لا لتقية. فلو علم بالخدشة في أحد الظهورين أو بالصدور تقية في أحد الخبرين لم يدل دليل الاعتبار على الحجية.

(4) من المصالح الأخر؛ كعدم استعداد المخاطب لإلقاء الحكم الواقعي إليه.

(5) عطف على «غير»، يعني: و كما هو المتيقن من دليل اعتبار السند لو كان دليل

ص: 226

و ظهوره (1) فيه (2) لو كان هو الآيات و الأخبار.

ضرورة (3)؛ ظهورها فيه (4) لو لم نقل بظهورها (5) في خصوص ما إذا حصل الظن منه أو الاطمئنان.

و أما (6) لو كان المقتضي للحجيّة في كل واحد من المتعارضين لكان التعارض بينهما من تزاحم الواجبين (7)، فيما إذا كانا مؤدّيين إلى وجوب الضدين أو لزوم المتناقضين (8)؛...

=============

اعتباره بناء العقلاء، فإن المتيقن من بنائهم أيضا هو كون الحجة خصوص ما لم يعلم كذبه، و قوله: «أيضا» يعني: كبناء العقلاء في غير السند.

(1) عطف على «المتيقن»، يعني: و كما هو - أي: خصوص ما لم يعلم كذبه - ظهور دليل اعتبار السند فيه لو كان دليل اعتباره هو الآيات و الأخبار.

(2) أي: في خصوص ما لم يعلم كذبه.

(3) تعليل لظهور دليل اعتبار السند - الذي هو غير بناء العقلاء من الآيات و الأخبار - في كون مقتضى السببية خصوص ما لم يعلم كذبه لو لم نقل بظهورها في خصوص ما إذا حصل الظن منه بالصدق أو الاطمئنان به.

(4) أي: في خصوص ما لم يعلم كذبه. و ضمير «هو» راجع إلى «دليل».

(5) هذا الضمير و ضمير «ظهورها» راجعان إلى الآيات و الأخبار.

(6) عطف على قوله: «لو كان الحجة» و حاصله: أن في حجية الأمارات على السببيّة تفصيلا، و هو: أنه إذا كانت الأمارة الموجبة لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى منحصرة في خصوص ما لم يعلم كذبه، فحكمها التساقط كحجيّتها بناء على الطريقية؛ إذ المفروض: أن ما يقتضي الحجية - و هو ما لم يعلم كذبه - ليس في كلا المتعارضين مع العلم بكذب أحدهما حتى يندرجا في المتزاحمين المنوطين بوجود المقتضي في كليهما، فلا بدّ من إجزاء حكم التعارض عليهما دون التزاحم.

و إذا كانت الأمارة الموجبة لحدوث مصلحة أو مفسدة غير منحصرة في خصوص ما لم يعلم كذبه - بأن كانت كل أمارة مقتضية لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى - فقد ذكر المصنف «قدس سره» صورا ثلاثا، و قد تقدم تفصيل الكلام في هذه الصور.

(7) لكون كل واحد منهما لأجل سببيته لحدوث مصلحة أو مفسدة في مؤدّاه واجدا للمقتضي الذي هو مقوم باب التزاحم.

(8) و قد عرفت بعض أمثلتهما آنفا، و من أمثلتهما كما لو قال أحدهما بوجوب

ص: 227

لا فيما (1) إذا كان مؤدى أحدهما حكما غير إلزامي، فإنه (2) حينئذ لا يزاحم الآخر، ضرورة (3): عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه أن يزاحم به ما فيه الاقتضاء.

إلاّ أن يقال (4): بأن قضية اعتبار دليل غير الإلزامي أن يكون عن اقتضاء، فيزاحم كونه في عرفات، و قال الآخر بوجوب عدم كونه في عرفات. و ضمير «بينهما» راجع راجع إلى «المتعارضين».

=============

(1) عطف على «فيما إذا»، يعني: فلا تجري قاعدة التزاحم فيما إذا دلّ أحدهما على حكم إلزامي، و الآخر على حكم غير إلزامي، و ضمير «أحدهما» راجع إلى «المتعارضين»، فقوله: «لا فيما إذا» إشارة إلى الصورة الثالثة المذكورة سابقا. و غرضه: عدم جريان قاعدة التزاحم في هذه الصورة.

(2) يعني: فإن مؤدى أحدهما - حين كونه غير إلزامي - لا يزاحم مؤدى الآخر و هو الإلزامي.

(3) تعليل لعدم مزاحمة غير الإلزامي للإلزامي.

و حاصل التعليل: ما عرفته بقولنا: «لعدم المعارضة بين المقتضي و اللامقتضي».

ثم إن التفصيل الذي ذكره المصنف «قدس سره» في حجية الأمارات على السببية - بين كون مطلق الأمارة سببا لحدوث مصلحة في مؤداها، و بين كون خصوص أمارة لم يعلم كذبهما سببا له؛ باندراج الصورة الأولى في المتعارضين اللذين حكمهما التساقط، و الصورة الثانية في المتزاحمين اللذين حكمهما التخيير مع التساوي، و الأخذ بالأهم و لو احتمالا، و لزوم الأخذ بخصوص الحكم الإلزامي فيما إذا كان مؤدى الآخر حكما غير إلزامي - تعريض بما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس سره» من اندراج المتعارضين بناء على حجيّة الأمارات من باب السببية مطلقا في باب التزاحم، من دون التفصيل المذكور في المتن.

و ضمير «فيه» راجع إلى «ما» الموصول المراد به المعارض الذي فيه الاقتضاء.

و ضمير «به» راجع إلى الموصول في «ما لا اقتضاء فيه» المقصود به المعارض الذي ليس فيه الاقتضاء.

(4) استثناء مما ذكره في حكم المتعارضين - اللذين يكون مؤدى أحدهما حكما إلزاميا، و مؤدى الآخر حكما غير إلزامي - من تقديم الإلزامي على غيره.

و وجه الاستثناء: هو أن الحكم غير الإلزامي إن كان لأجل المقتضي - كالإلزامي - اندرج المتعارضان حينئذ في تعارض المقتضيين، و خرجا عن باب تعارض المقتضي

ص: 228

به حينئذ ما يقتضي الإلزامي، و يحكم فعلا بغير الإلزامي، و لا يزاحم (1) بمقتضاه (2) ما (3) يقتضي الغير الإلزامي؛ لكفاية عدم تمامية علّة الإلزامي في الحكم (4) بغيره.

نعم (5)؛ يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا (6) لو كان قضية الاعتبار هو و اللامقتضي؛ لأن الحكم غير الإلزامي نشأ أيضا عن ملاك حدث في مؤدى الأمارة بسبب قيامها عليه، و اقتضى تشريع إباحة الفعل و الترك، فيندرجان في باب التزاحم؛ إلا إنه لا بد من الأخذ بما يدل على الحكم غير الإلزامي؛ لعدم تأثير مقتضى الحكم الإلزامي مع وجود المانع، و هو ما يقتضي الحكم غير الإلزامي و عدم تمامية المقتضي للحكم الإلزامي كاف في عدم تحققه و في ثبوت غير الإلزامي و فعليته.

=============

و الضمير في «يكون» راجع إلى الحكم غير الإلزامي، و ضمير «به» أيضا راجع إلى الحكم الغير الإلزامي، يعني: فيزاحم بغير الإلزامي - حين كونه عن اقتضاء - ما يقتضي الحكم الإلزامي، فيقدم غير الإلزامي على الإلزامي دون عكس.

(1) بالفتح عطف على «فيزاحم»، يعني: و لا ينعكس الأمر بأن يزاحم ملاك الحكم غير الإلزامي بملاك الإلزامي حتى يرتفع به فعلية غير الإلزامي؛ و ذلك لكفاية عدم تمامية ملاك الإلزامي في فعلية غير الإلزامي، و عدم الحاجة إلى تمامية مقتضيه، بخلاف فعلية الإلزامي، فإنها منوطة بتمامية علته من وجود المقتضي و عدم المانع.

(2) أي: بمقتضى الإلزامي.

(3) نائب عن فاعل «يزاحم»، و المراد ب «ما» الموصول هو: ملاك الحكم غير الإلزامي.

(4) متعلق بقوله: «لكفاية»، و ضمير «بغيره» راجع إلى «الإلزامي».

(5) استدراك على قوله: «لا فيما إذا كان مؤدى أحدهما حكما غير إلزامي...» الخ.

و حاصله: أنه يمكن أن يندرج في باب التزاحم - الذي حكمه التخيير - ما إذا كان مؤدى أحدهما حكما غير إلزامي؛ بأن يقال: إن دليل اعتبار كل من المتعارضين لا يختص بإثبات المؤدى من الوجوب و الحرمة و الإباحة؛ بل يقتضي وجوب الموافقة الالتزامية بمؤداه أيضا و إن لم يكن مؤدّاه حكما إلزاميا، و حينئذ: فمع تعذر الالتزام بكليهما يلزم الالتزام بأحدهما تخييرا، كما هو الحال في جميع الأمارات المتعارضة بناء على وجوب الموافقة الالتزامية كالموافقة العملية.

(6) يعني: و لو كان الحكم غير الإلزامي - كالاستحباب - ممّا لا اقتضاء فيه، لكن الالتزام به واجب و إن كان العمل غير واجب، فيتجه حينئذ ما أفاده من اندراج المتعارضين في المتزاحمين كالواجبين المتزاحمين؛ لعدم إمكان الموافقة الالتزامية بالنسبة إلى

ص: 229

لزوم البناء و الالتزام (1) بما يؤدي إليه من الأحكام؛ لا مجرد (2) العمل على وفقه (3) بلا لزوم الالتزام به، و كونهما (4) من تزاحم الواجبين حينئذ (5) و إن كان واضحا، ضرورة (6): عدم إمكان الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الأحكام إلا إنه (7) لا كليهما كما لا يخفى.

=============

(1) و أما إرادة الطريقية و الموضوعية من قوله: «مطلقا» كما قيل، ففيها: أنها لا تلائم الطريقية؛ للعلم بكذب أحدهما المانع عن وجوب الالتزام بمؤدى الخبرين المتعارضين، فلا يتجه وجوب الالتزام بهما إلاّ على مبنى السببيّة الموجبة للحكم الظاهري في كل منهما، و الالتزام به، فإنه بناء على الطريقية لا حكم أصلا حتى يجب الالتزام به كما لا يخفى.

(2) عطف على «لزوم»، يعني: لا مجرد وجوب الموافقة العملية؛ بل هو مع وجوب الموافقة الالتزامية.

(3) يعني: على وفق ما يؤدي إليه من الأحكام من دون الالتزام به. و ضمير «به» كضمير «وفقه» راجع إلى الموصول في «بما يؤدى من الأحكام».

(4) أي: و كون المتعارضين من باب تزاحم الواجبين.

(5) أي: حين كون مقتضى دليل الاعتبار وجوب الموافقة الالتزامية؛ و إن كان تزاحم المتعارضين واضحا، حيث إن وجوب الالتزام بمضمون كل منهما ثابت كوجوب الواجبين المتزاحمين في سائر المقامات مع تعذر الالتزام بهما، فلا محيص عن الالتزام بأحدهما تخييرا كسائر موارد التزاحم.

و الحاصل: أنه بناء على السببية، و على وجوب الموافقة الالتزامية يندرج المتعارضان في باب التزاحم مطلقا، سواء أ كانا مؤديين إلى وجوب الضدين أم لزوم المتناقضين، أم كان مؤدى أحدهما حكما إلزاميا و مؤدى الآخر حكما غير إلزامي، عن اقتضاء أو لا عن اقتضاء.

(6) تعليل لكون المتعارضين - بناء على وجوب الموافقة الالتزامية - من المتزاحمين.

(7) من الضمير للشأن.

و غرضه: الإشكال على ما أفاده بقوله: «نعم يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا...» الخ و هذا الإشكال يرجع إلى وجهين:

الأول: عدم دليل نقلي و لا عقلي على لزوم الموافقة الالتزامية في الأحكام الواقعية، فضلا عن الأحكام الظاهرية التي هي مؤديات الأمارات بناء على السببية و قوله: «إلا إنه لا دليل نقلا...» الخ إشارة إلى هذا الوجه.

ص: 230

دليل نقلا و لا عقلا على الموافقة الالتزامية للأحكام الواقعية فضلا عن الظاهرية كما مرّ تحقيقه (1) و حكم التعارض (2) بناء على السببية فيما كان من باب التزاحم (3) هو التخيير لو لم يكن أحدهما معلوم الأهمية أو محتملها في الجملة (4)، حسبما فصّلناه في مسألة الضد (5)؛ و إلاّ (6) فالتعيين و فيما (7) لم يكن من باب التزاحم هو: لزوم

=============

(1) في الأمر الخامس من مباحث القطع.

(2) هذا إشارة إلى الوجه الثاني، و حاصله: أنه - بعد تسليم وجوب الموافقة الالتزامية حتى في الأحكام الظاهرية - لا يكون التخيير حكم المتزاحمين مطلقا كما ينسب إلى الشيخ «قدس سره»؛ بل في خصوص ما لم يكن أحدهما معلوم الأهمية أو محتملها؛ إذ لو كان أحدهما كذلك لزم الأخذ به تعيينا.

و الحاصل: أن مجرد وجوب الموافقة الالتزامية لا يوجب التخيير بقول مطلق.

(3) كما في الصورتين الأوليين و هما: لزوم وجوب الضدين كالإزالة و الصلاة، و لزوم المتناقضين كطهارة الغسالة و عدمها.

(4) هذا قيد للترجيح بالأهمية في باب التزاحم، يعني: أن الترجيح بالأهمية في الجملة ثابت، و أمّا الترجيح بها مطلقا حتى مع وجود غيرها من المرجحات - كتقدم الزماني و عدم البدل لأحد المتزاحمين و غيرهما من المرجحات - ففيه كلام مذكور في محله.

(5) لم يتقدم منه في مسألة الضد تفصيل و لا إجمال بالنسبة إلى تقديم محتمل الأهمية، و إنما تعرض له في موضعين آخرين أحدهما: في مسألة الدوران بين المحذورين بقوله: «و لا يذهب عليك أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح...» الخ.

ثانيهما: في حاشية الرسائل، حيث فصّل في كلام الشيخ بتقديم محتمل الأهمية.

(6) يعني: و لو كان أحدهما معلوم الأهمية أو محتملها وجب الأخذ به تعيينا.

(7) عطف على «فيما كان»، يعني: «و حكم التعارض فيما لم يكن من باب التزاحم...» الخ، و هذا إشارة إلى الصورة الثالثة و هي: ما إذا كان مؤدى أحد المتعارضين حكما إلزاميا كالوجوب، و الآخر حكما غير إلزامي كالاستحباب أو الإباحة؛ كما إذا دلّ أحدهما على وجوب التسبيحات ثلاث مرات في الأخيرتين من الرباعيات، و الآخر على استحباب ما زاد على مرة واحدة منها فيهما.

و وجه عدم كون هذه الصورة من التزاحم هو: عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه

ص: 231

الأخذ بما دل على الحكم الإلزامي لو لم يكن (1) في الآخر مقتضيا لغير الإلزامي؛ و إلاّ (2) فلا بأس بأخذه و العمل عليه؛ لما أشرنا إليه من وجهه (3) آنفا، فافهم (4).

هذا (5) هو قضية القاعدة في تعارض الأمارات؛ لا الجمع (6) بينهما بالتصرف في أحد المتعارضين أو في كليهما، كما هو (7) قضية ما يتراءى مما قيل من أن الجمع (8) لمعارضة ما فيه الاقتضاء، فيقدم ما يدل على الحكم الإلزامي على ما يدل على غير الإلزامي؛ إلا إذا كان ذلك أيضا ناشئا عن المقتضي، فيقدم هو على الإلزامي كما أشار إليه بقوله: «و إلا فلا بأس بأخذه».

=============

(1) هذا إشارة إلى قوله: «إلاّ أن يقال:...» الخ و قد تقدم توضيحه.

(2) يعني: و لو كان في الآخر مقتض لغير الإلزامي.

(3) و هو كفاية عدم تمامية علة الحكم الإلزامي في فعلية الحكم غير الإلزامي.

(4) لعله إشارة إلى ضعف وجه تقديم الحكم غير الإلزامي الاقتضائي على الإلزامي؛ بما بيّناه في التعليقة من تقديم الإلزامي على غيره لأهمية ملاكه من ملاكه.

أو إشارة: إلى أن غير الإلزامي بعد مزاحمته للإلزامي يصير لا اقتضائيا.

(5) أي: ما تقدم من أول الفصل إلى هنا في تعارض الدليلين - من التساقط في المدلول المطابقي و بقاء أحدهما لا بعينه على حجيته في نفي الثالث بناء على الطريقية.

و كذا الحال بناء على حجية الأمارات على السببيّة بالنحو الأول، و هو كون السببية في خصوص أمارة لم يعلم كذبها - فمع العلم بكذب أحدهما إجمالا يسقط كلاهما عن الحجية. و أما على السببيّة بالنحو الآخر - و هو كون الأمارة مطلقا و لو مع العلم بكذبها إجمالا سببا لحدوث المصلحة و الحكم الفعلي - فقد عرفت: أن حكمها التخيير، و هو مقتضى القاعدة الأولية في تعارض الأمارات.

و هذا تمهيد للإشكال على قاعدة «أولوية الجمع مهما أمكن من الطرح»، بناء على إرادة ظاهرها من لزوم التكلف في الجمع بين الدليلين حتى يخرجا عن التعارض، و لو كان هذا الجمع بعيدا عن مذاق العرف و طريقتهم.

(6) عطف على «هذا»، يعني: لا أن مقتضى القاعدة هو الجمع بين المتعارضين بالتصرف في أحدهما أو كليهما.

(7) الضمير راجع إلى «الجمع» يعني: كما أن الجمع مقتضى ما يتراءى» الخ.

(8) و استدل على أولوية الجمع من الطرح بوجوه:

منها: الإجماع على أولوية الجمع المزبور من الطرح.

ص: 232

مهما أمكن أولى من الطرح؛ إذ (1) لا دليل عليه فيما لا يساعد عليه العرف مما كان المجموع أو أحدهما قرينة عرفية على التصرف في أحدهما بعينه أو فيهما، كما عرفته في الصور السابقة (2).

=============

و منها: أن الأصل في الدليلين الإعمال، فيجب الجمع بينهما مهما أمكن لاستحالة الترجيح من غير مرجح، كما ذكره ثاني الشهيدين «قدس سرهما»، و غيره.

و منها: ما ذكره الشيخ في الرسائل بقوله: «و أخرى: بأن دلالة اللفظ على تمام معناه أصلية، و على جزئه تبعية، و على تقدير الجمع يلزم إهمال دلالة تبعية و هو أولى مما يلزم على تقدير عدمه، و هو إهمال دلالة أصلية»(1).

و الكل مخدوش؛ إذ في الأول: عدم حجيته؛ لعدم حجية الإجماع المنقول سيما مع العلم بعدم تحققه؛ لما مر من حكم المتعارضين على الطريقية و على بعض أنحاء السببية هو التساقط.

و في الثاني: أن مقتضى دليل الاعتبار في كل من المتعارضين و إن كان هو لزوم إعمالهما؛ لكنه يلزم إعمالهما بنحو يساعد عليه العرف؛ لأنهم المخاطبون بالخطابات الشرعية.

فالنتيجة: أن الجمع لا بد أن يكون بمساعدة العرف لا مطلقا.

و في الثالث: أن الجمع إن كان لمساعدة العرف كما في مثل العام و الخاص فهو حق؛ لكن ليس للأولوية المزبورة. و إن كان لغير مساعدة العرف فالأولوية ممنوعة؛ لعدم دليل عليها، و ما ذكر مستندا لها مجرد استحسان لا يعبأ به ما لم يوجب أظهرية أحد المتعارضين من الآخر.

(1) تعليل لقوله: «لا الجمع بينهما»، و قد أجاب عنه بوجهين:

أحدهما: عدم الدليل على الجمع المزبور؛ لما عرفت: من ضعف أدلة أولوية الجمع بين الدليلين.

الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «مع إن في الجمع كذلك...» الخ.

و حاصله: أن غرض القائل بأولوية الجمع من الطرح إعمال مقتضى الأصل، و هو الجمع بين الدليلين و الفرار من محذور طرح أحدهما في أحدهما، أو كليهما مستلزم لسقوط أصالة الظهور في أحدهما أو كليهما.

(2) من موارد الجمع العرفي كالعام و الخاص و المطلق و المقيد و النص أو الأظهر

ص: 233


1- فرائد الأصول 20:4.

مع (1) إن في الجمع كذلك (2) أيضا (3) طرحا للأمارة أو الأمارتين (4)، ضرورة (5):

سقوط أصالة الظهور في أحدهما أو كليهما معه (6)، و قد عرفت (7): أن التعارض بين الظهورين فيما كان سنداهما قطعيّين (8)، و في السندين إذا كانا ظنيّين (9)، و قد و الظاهر و غير ذلك.

=============

(1) هذا إشارة إلى الوجه الثاني، و قد عرفت توضيحه.

(2) أي: بالتصرف في أحدهما أو كليهما.

(3) أي: كطرح أحد الدليلين في استلزام الجمع طرحا لأمارة أو أمارتين.

(4) طرح الأمارة - أي: أصالة الظهور - يكون في صورة التصرف في أحد الدليلين و طرح الأمارتين - أي: أصالتي الظهور - يكون في صورة التصرف في كلا الدليلين، فلا وجه لأولوية الجمع من الطرح.

(5) تعليل لكون هذا الجمع طرحا، و قد عرفت: أن المراد بالطرح طرح أصالة الظهور.

(6) أي: مع هذا الجمع؛ لاستلزامه سقوط أصالة الظهور في أحد المتعارضين لو كان التصرف في أحدهما، و سقوطها في كليهما لو كان التصرف فيهما معا.

(7) هذا تمهيد لتوجيه أولوية الجمع من الطرح بعد الإشارة إلى التعارض موضوعا و حكما، و أن ما ذكروه من قاعدة أولوية الجمع لا يلائم ما تقدم من حكم التعارض.

توضيح ما أفاده: أن موضوع التعارض إمّا يكون في الدلالة؛ كما إذا كان سند المتعارضين قطعيّين، أو في السندين و غيرهما؛ كما إذا كانا ظنيين من جميع الجهات، ليكون التعارض بين الأصول الستة أو من حيث السند فقط؛ ليكون التعارض بين الأصلين، و هما أصالتا الصدور. و حكم التعارض في جميع هذه الصور هو التساقط لا الجمع بينهما كما هو مقتضى أولوية الجمع.

(8) لم يذكر المصنف «قدس سره» في الفصل السابق حكم تعارض الدليلين فيما كان سنداهما قطعيّين؛ بل اقتصر على تعارض السندين الظنيّين مع قطعية الدلالة أو الجهة، فلعله أراد أنه يعلم حكم قطعية السندين من مجموع ما أفاده في صور التعارض.

(9) هذا و ما قبله مما يبيّن موضوع التعارض، و أنه قد يتحقق في الدلالة كما في قطعية سنديهما، حيث إن القطع بالصدور قرينة صارفة عن ظهورهما بحملهما على معنيين مجازيين يمكن اجتماعهما و التعبد بهما؛ لارتفاع التنافي بينهما الموجب لامتناع التعبد بمدلوليهما إلا بالحمل المزبور. و قد يتحقق التعارض في السند كما إذا كانا ظنيّين، كما مرّ آنفا.

ص: 234

عرفت (1): أن قضية التعارض إنما هو سقوط المتعارضين في خصوص (2) كل ما يؤدّيان إليه من الحكمين لا بقاؤهما (3) على الحجية بما يتصرف فيهما أو في أحدهما (4) أو بقاء (5) سنديهما عليها (6) كذلك (7) بلا (8) دليل يساعد عليه من عقل أو نقل، فلا يبعد (9) أن يكون المراد من إمكان الجمع هو إمكانه عرفا.

=============

(1) يعني: في أول هذا الفصل حيث قال: «... لم يكن واحد منهما بحجة في خصوص مؤدّاه»، و هذا إشارة إلى حكم التعارض، و هو سقوط المتعارضين في خصوص المدلول المطابقي على التفصيل الذي تقدّم سابقا، لا بقاؤهما على الحجيّة.

(2) المراد به: المدلول المطابقي، و «من الحكمين» بيان ل «ما» الموصول.

(3) أي: لا بقاء المتعارضين و هو عطف علي «سقوط»، و هذا إشارة إلى قاعدة أولوية الجمع من الطرح، و حاصله: أن حكم المتعارضين هو التساقط عن الاعتبار، لا بقاؤهما على الحجية كما هو مقتضى قاعدة أولوية الجمع الموجبة لارتكاب التأويل في أحدهما أو كليهما، مع عدم وضوح عدم الدليل على حجيّة الكلام في المأوّل.

(4) هذا الضمير و ضمير «فيهما» راجعان إلى المتعارضين أي: يتصرف في ظهور كلا المتعارضين أو أحدهما، هذا في صورة القطع بصدورهما و عدم إمكان التصرف في سنديهما لأجل هذا القطع، فلا بد من التصرف في ظهور أحدهما أو كليهما كما تقتضيه قاعدة الجمع المزبورة.

(5) عطف على «بقاؤهما»، هذا في صورة ظنيّة السندين، يعني: أنه يبنى على بقاء سنديهما على الحجية - التي يقتضيها دليل حجيّة الخبر - مع التصرف في ظهورهما أو أحدهما إعمالا لقاعدة أولوية الجمع من الطرح.

(6) أي: بقاء سندي المتعارضين على الحجيّة.

(7) يعني: بالتصرف فيهما أو أحدهما.

(8) متعلق ب «بقاء سنديهما» يعني: أنه لا دليل على حجيّة سنديهما مع ظنيتهما؛ لا من العقل؛ لما مرّ من أن مقتضاه سقوط المتعارضين عن الحجية، و لا من النقل؛ لأن مقتضى الأخبار العلاجية حجية أحدهما تعيينا أو تخييرا.

(9) هذه نتيجة ما تقدم من كون مقتضى التعارض سقوط المتعارضين عن الحجية، لا بقاؤهما على الحجية و التصرف فيهما أو في أحدهما، و هو التوجيه الذي أشرنا إليه في شرح قوله «قدس سره»: و قد عرفت: «أن التعارض بين الظهورين»، و حاصله: أنه يمكن

ص: 235

و لا ينافيه (1) الحكم بأنه أولى مع لزومه (2) حينئذ (3) و تعيّنه، فإن (4) أولويته من قبيل الأولوية في أولي الأرحام، و عليه (5): لا إشكال و لا كلام.

=============

توجيه قاعدة «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح» بأن المراد بالإمكان الذي هو معقد الإجماع ليس ذلك الإمكان العقلي؛ بل المراد به: الإمكان العرفي؛ إذ العقلي منه يوجب انسداد باب التعارض رأسا، ضرورة: إمكان الجمع عقلا بين المتعارضين في جميع الموارد، و لو بحسب الزمان و المكان؛ كحمل أحدهما على الليل و الآخر على النهار، أو حمل أحدهما في هذا المكان، و الآخر في المحل الكذائي، أو بحسب حالات المكلف كالصحة و المرض و الفقر و الغنى و غيرها.

و عليه: فلا يبقى موضوع للأخبار العلاجية، و من البديهي: عدم بناء الأصحاب على اعتبار الجمع العقلي بين الأخبار المتعارضة؛ بل بناؤهم على إعمال قواعد التعارض فيها من الترجيح و التخيير و غيرهما.. و لو كان مرادهم الإمكان العقلي لكان عملهم مخالفا لقولهم، و لكان مقدّما على أحكام التعارض.

فلا وجه لإرادة الإمكان العقلي من القاعدة في معقد الإجماع؛ بل المراد هو:

الإمكان العرفي كحمل العام على الخاص و المطلق على المقيد، و غيرهما من موارد الجمع العرفي المتقدمة سابقا.

(1) يعني: و لا ينافي الإمكان العرفي الحكم، هذا إشكال على التوجيه المزبور، و حاصله: أنه بناء على إرادة الإمكان العرفي يتعيّن الجمع بين المتعارضين، لا أنه أولى، مع أن القائلين بأولوية الجمع لم يقولوا بتعيّنه و لزومه.

(2) هذا الضمير و ضميرا «بأنه، تعيّنه» راجعة إلى الجمع الممكن عرفا.

(3) أي: حين إمكان الجمع عرفا. و قوله «و تعيّنه» عطف على «لزومه».

(4) أي: فإن أولوية الجمع عرفا. و هذا دفع الإشكال، و محصله: أن الأولوية يراد بها التفضيل تارة، و التعيين أخرى كما في آية «أولي الأرحام» حيث إن الإرث يختص بمن في الطبقة السابقة، فأولويتها تعيّنية. و كذا في المقام، فإن أولوية الجمع العرفي بين الدليلين تعينيّة.

و عليه: فالتوجيه المزبور - و هو حمل الإمكان على العرفي لا العقلي - خال عن الإشكال.

(5) أي: و على هذا التوجيه لا إشكال في أولوية الجمع من الطرح و لا كلام.

ص: 236

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان ما هو مقتضى القاعدة الأوليّة: و هل حكم العقل مع قطع النظر عن الأخبار العلاجية في المتعارضين.

فيقال: إن مقتضى القاعدة الأوليّة - على القول بحجيّة الأمارات من باب الطريقية - هو التساقط، بمعنى: سقوط المتعارضين عن الحجيّة؛ للعلم الإجمالي بكذب أحدهما.

نعم؛ يمكن نفي الثالث بهما معا لا بأحدهما، فلازم التساقط سقوط المتعارضين في المدلول المطابقي، و نفي الثالث بالحجة الواقعية المعلومة إجمالا.

2 - و أما بناء على حجية الأمارات من باب السببيّة: بمعنى: كون قيام الأمارة على وجوب شيء أو حرمته سببا لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى، مقتضية لجعل ما يناسبها من الوجوب أو الحرمة للمؤدى، فأحكامها مختلفة من التساقط و التخيير بينهما مطلقا، و الأخذ بمقتضى الحكم الإلزامي.

و أما الصورة الأولى - و هي كون الحجة خصوص ما لم يعلم كذبه - فحكمها التساقط كحجيّتها على الطريقية.

و أما الصورة الثانية - و هي ما إذا كانت حجيّة الأمارة غير منحصرة في خصوص ما لم يعلم كذبه؛ بأن كانت كل أمارة مقتضية لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى، ففيها صور ثلاث:

3 - الأولى: أن يكون مدلول الأمارتين متضادين، و حكم هذه الصورة: حكم باب التزاحم من التخيير أو الترجيح بتقديم الأهم على غيره.

الثانية: أن تكون الأمارتان في موضوع واحد؛ كدلالة أحدهما على وجوب البقاء على تقليد الميت، و الآخر على حرمته، و كان مؤداهما حكمين إلزاميين كهذا المثال، و الحكم في هذه الصورة: كسابقتها هو التخيير أو تقديم ما هو الأهم على غيره.

الثالثة: أن تكون الأمارتان في موضوع واحد كالصورة الثانية، و كان مؤدى إحداهما حكما إلزاميا، و مؤدى الأخرى حكما غير إلزامي، و حكم هذه الصورة: لزوم الأخذ بالحكم الإلزامي و طرح غيره؛ لعدم المعارضة بين المقتضي و اللامقتضي. هذا تمام الكلام فيما هو مقتضى القاعدة الأوّلية.

4 - و أمّا بناء على وجوب الموافقة الالتزامية؛ كالموافقة العملية، فيكون باب

ص: 237

التعارض مندرجا في باب التزاحم مطلقا، أي: سواء كانا مؤديين إلى وجوب الضدين أم لزوم المتناقضين، أم كان مؤدى أحدهما حكما إلزاميا و مؤدى الآخر غير إلزامي، كان عن اقتضاء أو لا عن اقتضاء.

إلاّ إنه لا دليل على وجوب الموافقة الالتزامية في الأحكام الواقعية، فضلا عن الأحكام الظاهرية.

5 - و المراد من إمكان الجمع: هو الإمكان العرفي لا الجمع العقلي، فإنه ممكن في جميع الموارد.

و المراد من أولوية الجمع: أولوية تعيينية لا أولوية تفضيلية.

6 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - مقتضى القاعدة الأوّلية على الطريقية هو: التساقط.

2 - نفي الثالث بهما لا بأحدهما.

3 - مقتضى القاعدة الأوّلية على السببية هو: التساقط في الجملة في بعض الموارد، و التزاحم في بعضها الآخر.

4 - و المراد من إمكان الجمع بين الدليلين هو: إمكان الجمع عرفا لا عقلا.

5 - و المراد من أولوية الجمع أولوية تعيينيّة لا أولوية تفضيلية.

ص: 238

فصل (1)

لا يخفى: أن ما ذكر من قضية التعارض بين الأمارات إنما هو بملاحظة...

=============

فصل في بيان مقتضى القاعدة الثانوية في باب تعارض الأخبار

اشارة

(1) الغرض من عقد هذا الفصل: بيان ما تقتضيه القاعدة الثانوية النقلية في تعارض الروايات، كما كان الغرض من عقد الفصل السابق بيان ما تقتضيه القاعدة الأولية العقلية المقتضية لتساقط المتعارضين في الجملة.

و حاصل الكلام في المقام: أنه بعد ما قام الإجماع و الأخبار العلاجية على عدم سقوط الخبرين المتعارضين، و أنه لا بد فيهما من العمل بأحدهما لا محالة؛ إمّا تعيينا أو تخييرا إذا فرض أنه لم تنهض حجة على التعيين أو التخيير، بمعنى: أنه إذا عجزنا عن الجمع بين الأخبار العلاجية، و لم نستفد منها وجوب الترجيح في الخبرين المتعارضين بتقييد إطلاقات أخبار التخيير بأخبار الترجيح، أو التخيير بينهما بحمل أخبار الترجيح على الاستحباب و غيره و إن استفدنا من مجموعهما عدم سقوط المتعارضين على الإجمال.

في تأسيس الأصل في دوران الحجيّة بين التعيين و التخيير

يقع الكلام فيما هو مقتضى الأصل في دوران الحجيّة بين التعيين و التخيير، بمعنى: إن مقتضى الأصل هل هو وجوب الأخذ بالراجح و العمل على طبقه. أو جواز العمل بالمرجوع و طرح الراجح ؟

ذهب المصنف: إلى أن الأصل يقتضي التعيين، و هو وجوب العمل بالراجح، بدعوى:

كون المقام من صغريات دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجيّة، حيث إن خروج ذي المزية عن مقتضى أصالة عدم الحجيّة قطعي إمّا تعيينا؛ لاحتمال وجوب الترجيح، و إمّا تخييرا لاحتمال عدم وجوبه.

و خروج غير ذي المزية عن أصالة عدم الحجيّة مشكوك فيه، و من المقرر في محله:

كفاية الشك في الحجيّة في الحكم بعدم الحجية.

ص: 239

القاعدة (1) في تعارضها (2)؛ و إلاّ (3) فربما يدّعى الإجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين في الأخبار، كما اتفقت عليه (4) كلمة غير واحد من الأخبار (5)، و لا يخفى (6): أن اللازم فيما إذا لم تنهض حجة على التعيين أو التخيير بينهما هو (7) الاقتصار على الراجح منهما؛ للقطع (8) بحجيته تخييرا أو تعيينا، بخلاف الآخر (9) لعدم القطع بحجيته، و الأصل عدم حجية ما لم يقطع بحجيّته؛ بل (10) ربما ادعي الإجماع أيضا على حجية خصوص الراجح.

=============

فالمتحصل: أن المتيقن من التخيير هو صورة تكافؤ الخبرين المتعارضين، و أمّا مع مزية أحدهما على الآخر من بعض الجهات: فالمتيقن هو جواز العمل بالراجح، و أمّا العمل بالمرجوح: فلم يثبت فلا يجوز الالتزام به، فصار الأصل فيما يحتمل كونه مرجحا الترجيح به. توضيح بعض العبارات.

(1) أي: القاعدة الأوّلية العقلية المقتضية لتساقط المتعارضين في الجملة كما ذكر في الفصل السابق.

(2) أي: في تعارض الأمارات.

(3) أي: و إن لم تلاحظ القاعدة الأوّلية العقليّة، فربما يدّعى قيام الدليل النقلي من الإجماع و الروايات العلاجية على عدم سقوطهما معا عن الحجيّة، و أن أحدهما حجة تعيينا أو تخييرا في خصوص الروايتين المتعارضتين، لا جميع الأمارات المتعارضة، و أنه لا بدّ من رفع اليد عما تقتضيه القاعدة العقلية الأوّلية من سقوطهما معا، و الالتزام بحجية إحداهما تعيينا أو تخييرا.

(4) أي: على عدم سقوط كلا المتعارضين.

(5) أي: الأخبار العلاجية التي هي أدلة ثانوية على حجية أحد الخبرين المتعارضين.

(6) إشارة إلى ما هو مقتضى الأصل في دوران الحجيّة بين التعيين و التخيير، و قد عرفت: أن الأصل يقتضي الأخذ بالتعيين.

(7) خبر «أن» يعني: أن اللازم هو الأخذ بالراجح.

(8) تعليل لزوم الأخذ للراجح، و قد مرّ توضيح ذلك. و ضميرا «بينهما، منهما» راجعان إلى المتعارضين.

(9) و هو المعارض المرجوح؛ لكونه مشكوك الحجيّة و الأصل عدمها. و ضمير «بحجيته» في الموضعين راجع إلى الآخر.

(10) إضراب على قوله: «للقطع بحجيّته»، يعني: بل الإجماع أيضا قائم على حجية خصوص الراجح من المتعارضين، مضافا: إلى حكم العقل القطعي بحجيته،

ص: 240

و استدل عليه (1) بوجوه أخر (2)، أحسنها (3) الأخبار و هي (4) على طوائف:

منها (5): ما دل على التخيير على الإطلاق؛ كخبر الحسن بن الجهم عن الرضا «عليه السلام»: (قلت يجيئنا الرجلان و كلاهما ثقة بحديثين مختلفين، و لا يعلم أيّهما الحق، قال: «فإذا لم يعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت») (6).

=============

فيكون العقل و النقل متطابقين على حجية الراجح.

(1) أي: و استدل على عدم سقوط المتعارضين و لزوم الأخذ بأحدهما.

(2) غير الإجماع الذي تعرض له بقوله: «و إلاّ فربما يدّعى الإجماع...» الخ.

(3) أي: أحسن تلك الوجوه هو الأخبار لمخدوشية غير الأخبار من تلك الوجوه.

أخبار العلاج

اشارة

(4) أي: مطلق الأخبار العلاجية الواردة في أحكام المتعارضين، التي منها أخبار الترجيح هي على طوائف؛ لا خصوص الأخبار التي استدل بها لوجوب الترجيح على طوائف، فالضمير راجع إلى الأخبار مطلقا - بالاستخدام - بمعنى: أن المراد من لفظ الأخبار في قوله: «أحسنها الأخبار» هو خصوص الأخبار الدالة على الترجيح. و المراد منها حين عود الضمير إليها هو مطلق الأخبار الواردة في المتعارضين لاشتمالها على أخبار التخيير أيضا، و هي ليست من أخبار الترجيح.

و كيف كان؛ فقد ذكر المصنف «قدس سره» أربعة منها:

1 - أخبار التخيير

(5) أي: من الطوائف الأربع من أخبار العلاج «ما دل على التخيير على الإطلاق»، بدون تقييد بفقد المرجحات، فلو كانت مزية في أحدهما كانت الحجة التعيينية و هي ذو المزية، فلا تخيير حينئذ.

(6) صدر الحديث كما في الوسائل هكذا: (قال: قلت له - أي: للرضا «عليه السلام»: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة فقال: «ما جاءك عنّا فقس على كتاب الله «عزّ و جلّ » و أحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا، و إن لم يكن يشبههما فليس منا»، قلت..)(1)، و دلالة الخبر على التخيير بين المتعارضين واضحة، فإن الحسن بن الجهم سأل أولا عن تعارض الخبرين المرويين عنهم «عليهم السلام»، فأجابه «عليه السلام» بعرض الحديثين على الكتاب و السنة، فإن كان أحدهما يشبههما تعيّن الأخذ به، و إن لم يكن شيء منهما شبيها بالكتاب و السنة فلا يأخذ بهما. ثم سأل ثانيا عن حكم الخبرين

ص: 241


1- الاحتجاج 108:2، الوسائل 33373/121:27.

و خبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله «عليه السلام»: «إذا سمعت من أصحابك الحديث و كلهم ثقة، فموسع عليك حتى ترى القائم فتردّ عليه»(1).(1).

و مكاتبة عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن «عليه السلام»: (اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله «عليه السلام» في ركعتي الفجر، فروى بعضهم: صلّ في المحمل، و روى بعضهم: لا تصلّها إلاّ في الأرض. فوقع «عليه السلام» «موسع عليك بأيّة عملت»(2).(2).

=============

اللذين رواهما ثقتان، فأجاب «عليه السلام» بالتوسعة في العمل بكل منهما.

و الظاهر: أن منشأ السؤال الثاني هو موافقة الخبرين لعمومات الكتاب و السنة؛ بحيث لم يكن العرض على الكتاب و السنّة كافيا لتمييز الحجة عن اللاحجة.

فإن قلت: هذا الخبر يدل على التخيير بعد فقد المرجح لا على التخيير المطلق، فمع وجود الشباهة بالكتاب و السنة في أحدهما خاصة لم يحكم «عليه السلام» بالسعة؛ بل بحجيّة خصوص المشابه بهما.

قلت: ليس كذلك، فإن دلالة الخبر على التخيير المقيد بعدم المرجح مبنية على كون موافقة الكتاب من المرجحات، و سيأتي من المصنف منع ذلك، و أن موافقة الكتاب من وجوه تمييز الحجة عن اللاحجة؛ بحيث لا مقتضى لحجيّة الخبر المخالف، و حيث إن كلا الخبرين - في مفروض السؤال - موافق الكتاب فالمقتضي لحجيتهما موجود، و يكون حكمه «عليه السلام» بالتخيير مطلقا لا مقيدا بفقد المرجح.

(1) دلالة هذا الخبر على التخيير - حتى لو فرض وجود المرجح في أحد المتعارضين - واضحة؛ لأن موضوع الحكم بالتوسعة في حجيّة الخبرين المتعارضين هو مجيء الثقات بأحاديث تتضمن أحكاما مختلفة يتعذر الأخذ بها، و الحكم هو التخيير في الأخذ بأيّ منهما شاء.

لكن هذا التخيير الظاهري ينتهي بظهور الإمام الحجة «عليه السلام»، فإذا ظهر «عليه السلام» ارتفع هذا الحكم الظاهري كسائر الأحكام الظاهرية، فإنه يحكم بالواقع و ببطون القرآن.

(2) و تقريب الدلالة: أن أحد الخبرين ظاهر في شرطية الاستقرار في النافلة كالفريضة، و الخبر الآخر ظاهر في عدم اعتبار الاستقرار و الأجزاء في حال السيرة،

ص: 242


1- الاحتجاج 108:2، الوسائل 33374/122:27.
2- تهذيب الأحكام 583/228:3، الوسائل 5302/330:4.

و مكاتبة الحميري إلى الحجة «عليه السلام» - إلى أن قال في الجواب عن ذلك حديثان... إلى أن قال «عليه السلام» - «و بأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا» (1)، إلى غير ذلك من الإطلاقات (2).

و منها (3): ما دل على التوقف مطلقا.

=============

فالخبران متعارضان في حكم الاستقرار في النافلة، و أجاب «عليه السلام» بالتوسعة و التخيير في العمل بكل واحد منهما، و هذا هو المطلوب.

(1) روى المكاتبة في الوسائل هكذا: (في جواب مكاتبة محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان «عليه السلام»: يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبر؟ فإن بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه التكبير، و يجزيه أن يقول: بحول الله و قوّته أقوم و أقعد، فكتب «عليه السلام» في الجواب: «إن فيه حديثين: أمّا أحدهما فإنه إذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير. و أمّا الآخر، فإنه روي: أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية و كبّر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير، و كذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى، و بأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا)(1).

و دلالتها كسابقتها واضحة، فإن أحد الخبرين يدل على مطلوبية التكبير في الانتقال من كل حالة إلى أخرى في الصلاة، و الآخر يدل على عدم مطلوبيته حال النهوض، و إذا كبر بعد السجدة الثانية، فيتعارض الخبران بالسلب و الإيجاب في استحباب تكبير عند قيام.

و أجاب «عليه السلام» بالتخيير، و أن مصلحة التسليم و الانقياد لهم «عليهم السلام» تقتضي جعل التخيير و التوسعة في العمل بأيّهما شاء و لم يحكم «عليه السلام» بتخصيص الخبر الأول بالثاني، مع أن التخصيص جمع عرفي رافع للتعارض.

(2) كخبر الكافي: «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك»(2). هذا تمام الكلام في أخبار التخيير.

2 - أخبار التوقف

(3) أي: من الطوائف الواردة في علاج تعارض الأخبار: ما دل على التوقف مطلقا - في قبال مطلقات التخيير - أي: من دون تقييدها بفقد المرجح؛ كخبر سماعة عن أبي

ص: 243


1- الغيبة (الطوسي): 378، الاحتجاج 304:2، الوسائل 8192/362:6.
2- الكافي 6:1 /ذيل ح 7، الوسائل 33339/108:27.

و منها (1): ما دل على ما هو الحائط منها.

و منها (2): ما دل على الترجيح بمزايا مخصوصة و مرجحات منصوصة؛ من مخالفة القوم و موافقة الكتاب و السنّة و الأعدلية و الأصدقية، و الأفقهية، و الأورعية و الأوثقية عبد الله «عليه السلام» قلت: يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به و الآخر ينهانا عنه ؟ قال «عليه السلام»: «لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله». قلت: لا بد أن نعمل بواحد منهما؟ قال: «خذ بما خالف فيه العامة»(1).

=============

و مكاتبة محمد بن علي بن عيسى إلى علي بن محمد «عليه السلام» يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك و أجدادك «عليهم السلام» قد اختلف علينا فيه فكيف العمل به على اختلافه ؟ أو الرّد إليك فيما اختلف فيه ؟ فكتب «عليه السلام»: «ما علمتم أنه قولنا فالزموه و ما لم تعلموا فردّوه إلينا»(2).

و كيف كان فهذه الرواية تدل على وجوب التوقف عند تعارض الأحاديث إذا لم تكن قرينة على صدور أحدهما خاصة و الأمر بالتوقف مطلق غير مقيد بفقد المرجحات الآتية من الشهرة و موافقة الكتاب و مخالفة العامة.

3 - أخبار الاحتياط

3 - أخبار الاحتياط(1) أي: و من تلك الطوائف الأربع: ما دل على الاحتياط في الخبرين المتعارضين، و الدال على الأخذ بالاحتياط قوله «عليه السلام»: في مرفوعة زرارة بعد تكافؤ المرجّحات: «إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك و اترك ما خالف الاحتياط»(2). لكن المرفوعة لا تدل على الاحتياط مطلقا، بل في صورة تكافؤ المرجحات.

4 - أخبار الترجيح

4 - أخبار الترجيح(3) أي: و من الطوائف الأخبار العلاجية، و هذه هي الطائفة الرابعة الدالة على الترجيح بمزايا مخصوصة كثيرة و مرجحات منصوصة؛ من مخالفة القوم و موافقة الكتاب و السنّة و الأعدلية و الأصدقية و الأفقهية و الأورعية و الأوثقية و الشهرة على اختلافها»، أي:

اختلاف الروايات «في الاقتصار على بعضها و في الترتيب بينهما» فبعضها قدم صفة على صفة و بعضها عكس، و إليك جملة منها ذكرها في الوسائل.

ص: 244


1- الاحتجاج 109:2، جامع أحاديث الشيعة 458/26:1.
2- عوالي اللآلي 299/132:4، مستدرك الوسائل 21413/303:17.
3- بصائر الدرجات: 26/544، مستدرك الوسائل 21421/305:17.

منها: مقبولة عمر بن حنظلة و هي عمدة ما في الباب و قد ذكرها في الوافي في أبواب العقل و العلم في باب اختلاف العلم و الحكم عن المشايخ الثلاثة: الكليني و الطوسي و الصدوق، بإسنادهم عن عمر بن حنظلة قال: (سألت أبا عبد الله «عليه السلام»، عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أ يحلّ ذلك ؟

قال «عليه السلام»: «من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، و ما يحكم له فإنما يأخذه سحتا و إن كان حقه ثابتا له؛ لأنه أخذ بحكم الطاغوت، و قد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى اَلطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ »(1).

قلت: فكيف يصنعان ؟ قال: «ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخفّ بحكم الله و علينا ردّ، و الرّاد علينا كالرّاد على الله و هو على حدّ الشرك بالله».

قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما و اختلفا فيما حكما، و كلاهما اختلفا في حديثكم قال: «الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما، و لا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر».

قال: قلت: فإنهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر.

قال: فقال: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمنا، و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه، و إنما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتبع، و أمر بيّن غيّه فيجتنب، و أمر مشكل يردّ حكمه إلى الله.

قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم): حلال بيّن و حرام بيّن و شبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، و من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات، و هلك من حيث لا يعلم».

قال: قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ؟ قال: «ينظر

ص: 245


1- النساء: 60.

ما وافق حكمه حكم الكتاب و السنّة و خالف العامة فيؤخذ به. و يترك ما خالف حكمه حكم الكتاب و السنة و وافق العامة».

قلت: جعلت فداك، أ رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السنة فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة و الآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: «ما خالف العامة ففيه الرشاد». فقلت: جعلت فداك فإن وافقهم الخبران جميعا؟

قال: «ينظر إلى ما هم إليه أميل من حكامهم و قضاتهم فيترك و يؤخذ بالآخر».

قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟

قال: «إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(1).

و منها: مرفوعة زرارة قال: (سألت أبا جعفر «عليه السلام» فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال «عليه السلام»: «يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذ النادر»).

فقلت: يا سيّدي إنهما معا مشهوران مرويان عنكم!

فقال «عليه السلام»: «خذ بما يقول أعدلهما عندك و أوثقهما في نفسك».

فقلت: إنهما معا عدلان مرضيّان موثقان ؟ فقال: «انظر ما وافق منهما العامة فاتركه و خذ بما خالف؛ فإن الحق فيما خالفهم».

فقلت: ربما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين، فكيف أصنع ؟ فقال: «إذن فخذ بما فيه الحائط لدينك، و اترك ما خالف الاحتياط».

فقلت: إنهما معا موافقين للاحتياط أو مخالفين له، فكيف أصنع ؟ فقال «عليه السلام»: «إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ بما وافقه، و إلاّ فيعرضان على أخبار العامة فيؤخذ بما خالفهم»(2).

هذه جملة من روايات الترجيح. و تركنا ذكر الجميع رعاية للاختصار.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

ص: 246


1- الكافي: 10/67، الفقيه 3233/8:3، تهذيب الأحكام 845/301:6، يتفاوت بينهم، الوسائل 33082/13:27.
2- عوالي اللآلي 229/132:4، مستدرك الوسائل 21413/303:17.

و الشهرة على اختلافها (1) في الاقتصار على بعضها و في الترتيب بينها (2). و لأجل اختلاف الأخبار (3) اختلفت الأنظار، فمنهم من أوجب الترجيح بها (4) مقيّدين بإخباره (5) إطلاقات التخيير. و هم بين من اقتصر على الترجيح بها (6)،...

=============

(1) متعلق ب «ما دل على الترجيح» و الضمير راجع إلى «الأخبار».

و قوله: «في الاقتصار» متعلق ب «اختلافها» و غرضه: أن المرجحات التي تضمنتها الروايات مختلفة كمّا و كيفا.

أما الكم: فاختلافها عددا، حيث إن الترجيح بالاحتياط لم يذكر في بعض الروايات، و قد ذكر في المقبولة و المرفوعة، و كذا اقتصر في جملة من الروايات على الترجيح بمخالفة العامة كخبر الحسن بن جهم و غيره، كما اقتصر في بعضها على الترجيح بموافقة الكتاب و السنّة و مخالفة العامة.

و الحاصل: أن اختلاف الأخبار العلاجية في مقدار المرجحات و عددها مما لا ريب فيه.

و أما الكيف: فلاختلاف الأخبار في ترتيب الترجيح بتلك المزايا، ففي بعضها كالمقبولة قدّم الترجيح بالشهرة على الترجيح بمخالفة العامة، و في المرفوعة قدّم الترجيح بالشهرة. و كذا الترجيح بصفات الراوي مقدّم في المقبولة على الترجيح بالشهرة، و في المرفوعة بالعكس.

(2) هذا الضمير و ضمير «بعضها» راجعان إلى «مزايا مخصوصة». و المراد بالاختصار و الترتيب: هو الكم و الكيف اللذان تقدم ذكرهما.

(3) أي: اختلافها من حيث عدد المرجحات و ترتيبها - كما عرفت - أوجب اختلاف الأنظار و تشتت الأقوال.

أحدها: وجوب الترجيح بخصوص المزايا المنصوصة.

ثانيها: وجوب الترجيح بمطلق المزايا - و إن لم تكن منصوصة - الموجبة لقرب أحد الخبرين إلى الصدور أو الواقع.

ثالثها: وجوب الترجيح بكل مزية و إن لم توجب ظنا و لا قربا بأحدهما.

رابعها: التخيير مطلقا سواء كانا متكافئين في المزايا أم متفاضلين فيها.

(4) أي: بالأخبار الدالة على الترجيح بمرجحات مخصوصة.

(5) أي: بأخبار الترجيح، و «إطلاقات» مفعول «مقيدين».

(6) أي: بالمرجحات المنصوصة، و هذا إشارة إلى القول الأول و هو وجوب الترجيح

ص: 247

و من (1) تعدّى منها إلى سائر المزايا الموجبة لأقوائية ذي المزية و أقربيته (2)، كما صار إليه شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه» (3) أو المفيدة (4) للظن، كما ربما يظهر من غيره (5).

فالتحقيق (6) أن يقال: إن أجمع خبر للمزايا المنصوص في الأخبار هو المقبولة بالمزايا المنصوصة، و حاصل استدلالهم على ذلك هو: تقييد إطلاق ما دلّ على التخيير بين المتعارضين - الذي هو جمع عرفي - بما دل على وجوب الترجيح بالمرجحات المخصوصة.

=============

(1) عطف على «من اقتصر»، و هذا إشارة إلى القول الثاني و هو الترجيح بكل مزية موجبة للأقربية إلى الصدور؛ و إن لم تكن من المزايا المنصوصة، و لم تكن أيضا موجبة للظن بالواقع، فالأقوائية تكون بحسب الحجية و الاعتبار، لا بحسب الكشف من الواقع و المطابقة له.

(2) أي: و أقربية ذي المزية، و ضمير «منها» راجع على «المزايا».

(3) و صاحبا القوانين و الفصول، قال في أواخر كتاب الفصول: «فصل: إذا تعارض الخبران المعتبران بحيث لا يمكن الجمع بينهما بوجه يساعد عليه أهل العرف عند عرضهما عليهم، فإن كان لأحدهما رجحان على الآخر بأحد الوجوه المذكورة في الأخبار أو غيرها تعيّن الأخذ به و ترك المرجوح»(1).

(4) عطف على «الموجبة»، يعني: أو المزايا المفيدة للظن بالواقع و إن لم تكن موجبة للأقوائية من حيث الحجية؛ لعدم الملازمة بين الأقوائية من حيث الاعتبار و الظن بمطابقة المضمون للواقع، فاتضح الفرق بين الصورتين. و هذا إشارة إلى القول بالترجيح بالمزايا الموجبة للظن بالواقع.

(5) كصاحب القوانين و غيره.

(6) غرضه من هذا التحقيق: إنكار دلالة أخبار الترجيح على وجوبه، و إثبات عدم صلاحيتها لتقييد إطلاق أدلة التخيير.

و توضيحه: منوط بالتكلم في مقامين.

أحدهما: ما يرجع إلى المقبولة و المرفوعة؛ لأنهما أجمع ما في الباب من الروايات المتضمنة للمرجحات.

ثانيهما: ما يرجع إلى سائر الروايات المشتملة على أحكام المتعارضين.

ص: 248


1- الفصول الغروية: 443.

أما المقام الأول: فمحصله: عدم صلاحية المقبولة و المرفوعة لتقييد إطلاقات التخيير، لوجوه:

الأول: اختلافهما البين في ترتيب المرجحات، حيث إن الترجيح بصفات الراوي في المقبولة مقدم على الترجيح بغيرها، و في المرفوعة بالعكس.

و عليه: فإذا كان أحد الخبرين مشهورا عند أرباب الحديث، و كان الآخر شاذا؛ لكن مع أصدقية راويه و أورعيته من راوي الحديث المشهور اقتضت المقبولة تقديم الخبر الشاذ على المشهور، و اقتضت المرفوعة عكس ذلك، و هذا الاختلاف الموجب للتعارض يوهن اعتبارهما و يسقط كليهما عن الحجية.

فإن قلت: التعارض بين المقبولة و المرفوعة - في تقديم الترجيح بالشهرة الروائية على الترجيح بالصفات في المرفوعة و تأخيره عنه في المقبولة - لا يقتضي سقوط كلتيهما عن الحجية؛ بل يتعين العمل بالمقبولة؛ لأن المرفوعة آمرة بتقديم الخبر المشهور على غيره عند التعارض بنحو الكبرى الكلية، و من المعلوم: أن المشهور من هاتين الروايتين - و هما المقبولة و المرفوعة - هو المقبولة؛ لذكرها في الجوامع الروائية، و المرفوعة لم يروها إلاّ ابن أبي جمهور في الغوالي عن العلامة مرفوعا إلى زرارة و يتعين العمل بالمقبولة حينئذ من جهة الأمر الوارد في المرفوعة بالأخذ بالمشهور من الخبرين، و ترك الخبر غير المشهور، و المقبولة مصداق الخبر المشهور، و المرفوعة مصداق الخبر غير المشهور.

و عليه: فلا موجب لتساقط المقبولة و المرفوعة بالتعارض كما هو ظاهر المتن؛ بل اللازم الأخذ بالمقبولة فقط.

قلت: الحق أن تعارضهما يقتضي سقوطهما معا لا تقديم المقبولة، و ذلك لوجهين:

الأول: أن الاستناد إلى المرفوعة - في تقديم المقبولة عليها - أخذ بها، و من المعلوم: أن الاعتماد على المرفوعة بهذا المقدار يتوقف على حجيّة المرفوعة في نفسها، و تمامية المقتضي للعمل بها حتى يكون تقديم المقبولة مستندا إلى حجة شرعية و هي المرفوعة.

و حيث إن المرفوعة معارضة للمقبولة - حسب الفرض - فهي و إن كانت حجة ذاتا و شأنا؛ لكن المناط في العمل بالخبر حجيته الفعلية، إما بعدم المعارض، و إما بدلالة أخبار العلاج على حجية المرفوعة حتى يستند إليها في تقديم المقبولة؛ إذ المفروض: تعارض نفس الأخبار العلاجية.

الثاني: أن الأخذ بما في المرفوعة - من تقديم الخبر المشهور على غيره حتى يؤخذ

ص: 249

و المرفوعة مع اختلافهما (1) و ضعف (2) سند المرفوعة جدا، و الاحتجاج بهما على وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو (3) عن إشكال؛...

=============

بالمقبولة - محال؛ لأن معنى العمل بالمرفوعة الآمرة بالأخذ ب «ما اشتهر بين أصحابك» هو طرحها، و عدم العمل بها رأسا، و من المعلوم: أن حجيّة الخبر المستلزمة لطرحه غير معقولة؛ إذ ما يلزم من وجوده عدمه محال.

و عليه: فالحق ما أفاده المصنف من اقتضاء تعارض المقبولة و المرفوعة في وجوه الترجيح - كمّا و كيفا - سقوطهما معا، و ما أفاده الشيخ لا يخلو من خفاء. هذا أوّل إشكالات المصنف على وجوب الترجيح.

(1) أي: اختلاف المقبولة و المرفوعة في ترتيب المرجحات كما عرفت، و هذا إشارة إلى الوجه الأول من الإشكالات، و هذا الإشكال مشترك بين المقبولة و المرفوعة و قد مرّ توضيحه.

(2) عطف على «اختلافهما» و إشارة إلى الوجه الثاني من الإشكالات الواردة على الاستدلال بالمقبولة و المرفوعة على وجوب الترجيح، و هذا الوجه مختص بالمرفوعة و محصله: ضعها سندا؛ إذ لم يروها إلاّ ابن أبي جمهور في غوالي اللآلي عن العلامة مرفوعا إلى زرارة، و قيل: إنها لم توجد في كتب العلامة. مضافا: إلى ما اشتهر من قدح بعض فيه.

(3) خبر «و الاحتجاج»، و دفع للاستدلال بالمقبولة و المرفوعة، و هذا إشارة إلى الوجه الثالث الذي جعله مشتركا بين الروايتين.

توضيحه: أن الاستدلال بهاتين الروايتين على وجوب الترجيح في مقام الفتوى مشكل؛ لاحتمال اختصاص الترجيح بتلك المزايا بمورد المقبولة و هو باب الخصومة و الحكومة، و التعدي عن موردها إلى مقام الفتوى منوط إمّا بإلغاء خصوصية المورد، و إمّا بتنقيح المناط و هو كون كل من الفتوى و الحكم مجعولا شرعيا، فالمرجح لأحدهما مرجّح للآخر.

إلاّ إن كليهما ممنوع:

أما إلغاء خصوصية المورد فلتوقفه على إطلاق الأمر بالأخذ بذي المزية، و عدم العبرة بخصوصية المورد و هي الخصومة، و من المعلوم: توقف هذا الإطلاق العقلي على عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب، و المفروض: وجوده و هو مورد المقبولة أعني: الخصومة.

و أمّا تنقيح المناط: فلعدم حصول العلم به مع الالتفات إلى قضية أبان في دية قطع

ص: 250

لقوة (1) احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة و فصل الخصومة كما هو (2) موردها، و لا وجه معه (3) للتعدّي منه إلى غيره كما لا يخفى (4).

=============

أصابع المرأة، و إلى عدم احاطتنا بملاكات التشريع، و الظن به لا يغني من الحق شيئا.

فإن قلت: إن الحكم في القضايا الجزئية، و الفتوى في الأحكام الكلية كانا في عصر الحضور - غالبا - بنقل الرواية، و لازمه: اتحاد باب القضاء و الإفتاء و الرواية حكما، فإذا رجح الشارع حكم أعدل الحاكمين و أفقههما كان لازمه ترجيح رواية أعدل الراويين من جهة عدم مغايرة الحكم للرواية في الصدر الأول، فمرجحات باب الحكومة هي مرجحات باب الرواية أيضا.

(1) قلت: فصل الخصومة في الصدر الأول و إن كان بنقل الرواية عن المعصوم «عليه السلام» لا بالاستناد إلى الرواية - كما قيل - إلاّ إن هذا لا يقتضي وحدة البابين حكما؛ لوضوح: أن حيثية الحكومة و فصل الخصومة غير حيثية الرواية، و نقل ألفاظ الإمام «عليه السلام» إلى الغير، فإن منصب الحكومة منوط بالجعل؛ بخلاف الرواية فإنه يكفي فيها أمانة الراوي في النقل و الصدق في حديثه، و حينئذ: فاعتبار صفة في الناقل للرواية بما هو حاكم و فاصل للنزاع لا يقتضي اعتبارها فيه في مقام نقل الرواية إلى الغير كونه محدثا.

و عليه: فالحق ما أفاده المصنف من اختصاص الترجيح بالصفات بباب الحكومة.

تعليل لعدم خلوّ الاحتجاج بالمقبولة و المرفوعة - على وجوب الترجيح بالمرجحات في مقام الفتوى - عن الإشكال، و قد مرّ توضيح التعليل. و ضمير «بها» راجع إلى «المزايا المنصوصة».

(2) يعني: كما أن مورد الحكومة هو مورد المقبولة و المرفوعة. هذا في المقبولة مما لا إشكال فيه، و أمّا في المرفوعة: فلم يثبت ورودها في الحكومة و فصل الخصومة؛ لأن صدرها «يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان». و ضمير «موردها» راجع إلى المقبولة.

(3) أي: مع احتمال اختصاص الترجيح بالمزايا بباب الحكومة لا وجه للتعدي عنه إلى غيره أعني: مقام الفتوى كما هو المقصود هنا.

(4) الظاهر: أنه إشارة إلى ضعف الوجه الأول للتعدي، و هو كون المستند في التعدي إلغاء خصوصية المورد، بدعوى: إطلاق الأمر بالأخذ بالمزية، من غير فرق في ذلك بين الحكم و الفتوى.

و حاصل وجه الضعف - كما تقدم آنفا -: توقف الإطلاق على عدم القدر المتيقن في

ص: 251

و لا وجه (1) لدعوى تنقيح المناط، مع (2) ملاحظة أن رفع الخصومة بالحكومة في صورة تعارض الحكمين و تعارض ما استندا إليه من (3) الروايتين لا يكاد (4) يكون إلاّ بالترجيح، و لذا (5) أمر «عليه السلام» بإرجاء الواقعة إلى لقائه «عليه السلام» في مقام التخاطب، و المفروض: وجوده و هو مسألة الحكومة، و الإطلاق المترتب على مقدمات الحكمة لا يتحقق إلا بتمامية تلك المقدمات.

=============

(1) هذا إشارة إلى ضعف الوجه الثاني للتعدي عن الحكومة إلى مقام الفتوى، و هو تنقيح المناط الموجب للتعدّي عن باب الحكومة إلى مقام الفتوى.

(2) هذا وجه منع تنقيح المناط: و محصله: وجود الفرق بين المقامين المانع عن حصول العلم بالمناط، حيث إن رفع الخصومة في صورة تعارض الحكمين منوط بترجيح أحد الحكمين على الآخر؛ إذ لا تنقطع الخصومة بالتخيير؛ لإمكان أن يختار كل من المتخاصمين غير ما اختاره الآخر، و ذلك يوجب بقاء المنازعة لا ارتفاعها.

و بالجملة: فالحاسم لمادة الخصومة هو الترجيح دون التخيير. هذا بخلاف الفتوى، فإنها لا تتوقف على الترجيح؛ إذ لا مانع من الإفتاء بأحد الخبرين تخييرا؛ كأن يفتي بوجوب إحدى الصلاتين: الظهر و الجمعة تخييرا في عصر الغيبة.

و الحاصل: أن هذا الفرق بين الحكم و الفتوى مانع عن حصول العلم بوحدة المناط بينهما حتى يتحدا في لزوم الترجيح بالمرجحات.

(3) بيان ل «ما» الموصول؛ إذ المفروض: كون منشأ تعارض الحكمين تعارض الروايتين.

(4) خبر «أن» في قوله: «أن رفع الخصومة»، و قوله: «إلاّ بالترجيح» في قبال التخيير الذي يؤدي إلى بقاء النزاع.

(5) يعني: و لأجل توقف فصل الخصومة على ترجيح أحد الخبرين - اللذين هما مستندا حكمي الحاكمين - لم يأمر الإمام «عليه السلام» بالتخيير، كما أمر به في المرفوعة بقوله: «إذن فتخير أحدهما»؛ بل أمر «عليه السلام» بإرجاء الواقعة إلى لقائه «عليه السلام» في صورة تساوي الخبرين، فلو لم يكن فرق بين الحكم و الفتوى لم يأمر بالتوقف و تأخير الواقعة إلى زمان اللقاء.

و عليه: فلزوم الترجيح في المقبولة ثم التوقف عند تكافؤ المرجحات لا يعارض إطلاقات التخيير المتقدمة، فإن مورد المقبولة هو القضاء و فصل الخصومة الذي يتعيّن فيه الترجيح أو التوقف المحدود إلى زمان ملاقاة الإمام «عليه السلام».

ص: 252

صورة تساويهما (1) فيما ذكر من المزايا، بخلاف مقام الفتوى (2) و مجرد (3) مناسبة الترجيح لمقامها أيضا (4) لا يوجب (5) ظهور الرواية (6) في وجوبه مطلقا و لو (7) في غير مورد الحكومة، كما لا يخفى.

و إن أبيت (8) إلاّ عن ظهورهما في الترجيح في كلا المقامين فلا مجال لتقييد

=============

(1) أي: الروايتين في المزايا.

(2) يعني: بخلاف مقام الفتوى، فإنه لا يتوقف على الترجيح كتوقف الحكومة عليه؛ لإمكان الأمر بالتخيير في مقام الفتوى دون الحكومة.

(3) غرضه من هذه العبارة: إبداء وجه آخر لإثبات وجوب الترجيح بالمرجحات في مقام الفتوى كالحكومة، و محصله: أن الترجيح يناسب مقام الفتوى أيضا؛ لتوقفها على المسألة الأصولية و هي حجية أحد الخبرين المتعارضين؛ إذ من المعلوم: ترتب حجيته الفعلية على الترجيح بتلك المزايا، فهذه المناسبة توجب اشتراك الحكومة و الفتوى في الترجيح.

(4) يعني: كمناسبة الترجيح للمقام الحكومة، و الضمير «لمقامها» راجع على الفتوى.

(5) خبر «و مجرد» و دفع للوجه المزبور، و محصله: أن المدار في اعتبار الاستفادة من الخطابات هو الظهور العرفي، دون المناسبات الخارجية التي لا دخل لها في الظهورات، فإنها لا عبرة بها في الاستظهار من الخطابات، و في المقام لا توجب المناسبة المزبورة ظهور الرواية في وجوب الترجيح في المقامين، و بدون الظهور لا وجه للقول بالترجيح في مقام الفتوى.

هذا كله مضافا إلى عدم اقتضاء المناسبة المزبورة لوجوب الترجيح في المسألة الأصولية لإمكان حجية أحد المتعارضين تخييرا كما يدعيه القائلون باستحباب الترجيح، و عدم توقف حجيته على الترجيح.

(6) و هي المقبولة، و ضمير «وجوبه» راجع إلى «الترجيح».

(7) بيان للإطلاق، و المراد بغير مورد الحكومة هو: مقام الفتوى.

(8) هذا إشارة إلى الوجه الرابع من الإشكالات المتعلقة بوجوب الترجيح و حاصله: أن المقبولة و المرفوعة - بعد تسليم ظهورهما في وجوب الترجيح في مقام الفتوى، أما في المرفوعة: فلكون موردها ذلك. و أما في المقبولة: فلترتب الترجيحات فيها على الحكمين المستندين إلى الحديثين، فمنشأ الترجيح هو استنادهما إلى الحديثين، فلا يمكن التفكيك حينئذ بين الحكمين و مستنديهما في الترجيح - لا تصلحان أيضا لتقييد إطلاقات التخيير في زمان الغيبة.

ص: 253

إطلاقات التخيير في مثل زماننا مما لا يتمكن من لقاء الإمام «عليه السلام» بهما (1)؛ لقصور (2) المرفوعة سندا و قصور المقبولة دلالة؛ لاختصاصها (3) بزمان التمكن من لقائه «عليه السلام»، و لذا (4) ما أرجع إلى التخيير بعد فقد الترجيح.

=============

أما المرفوعة - التي موردها الترجيح في نفس الخبرين - فلما مرّ سابقا من ضعف سندها.

و أما المقبولة: فلقصور دلالتها عن شمولها لزمان عدم التمكن من لقاء الإمام «عليه السلام» و السؤال عنه؛ لاختصاصها بزمان التمكن من لقائه «عليه السلام»، فالترجيح مختص بزمان الحضور، و مع التساوي في المرجحات يجب التوقف و تأخير الواقعة إلى زمان اللقاء.

و أما عصر الغيبة كزماننا: فلم ينهض دليل على وجوب الترجيح فيه و تقييد إطلاقات التخيير، فلا محيص عن الرجوع إليها كالرجوع إليها في الشك في أصل التقييد؛ لمرجعية الإطلاق في الشك في أصل التقييد و زيادته.

قوله: «فلا مجال» جواب «و إن أبيت»، و دفع لتوهم تقييد إطلاقات التخيير بالمقبولة و المرفوعة، و قد تقدم توضيحه بقولنا: «لا تصلحان أيضا...» الخ.

(1) أي: بالمقبولة و المرفوعة، و هو متعلق ب «لتقييد».

(2) تعليل ل «فلا مجال».

(3) تعليل لقصور المقبولة دلالة، و ضميره راجع على «المقبولة».

و تقريب دلالتها على الاختصاص هو: أن قوله «عليه السلام»: «فأرجه حتى تلقى إمامك» كالصريح في التمكن من لقاء الإمام «عليه السلام»، فتدل المقبولة على الترجيح، و في صورة التكافؤ على التوقف و تأخير الواقعة إلى زمان التمكن من السؤال؛ لأن المأمور بالترجيح هو المأمور بالتوقف أيضا و هو المتمكن من لقائه «عليه السلام».

و لا تدل المقبولة على الترجيح في زمان الغيبة حتى تقيّد بها إطلاقات التخيير. و عليه:

فيكون المتبع في زمان الغيبة إطلاقات التخيير مطلقا، سواء كان المتعارضان متكافئين أم متفاضلين.

(4) يعني: و لأجل اختصاص المقبولة - التي هي دليل الترجيح بالمرجحات في الحديثين المتعارضين - بزمان التمكن من لقائه «عليه السلام» و أخذ الحكم منه لم يحكم الإمام «عليه السلام» بالتخيير بعد تساوي الروايتين و فقد الترجيح، فالأمر بالتوقف و إرجاء الواقعة إلى زمان التمكن من تعلم الحكم، و عدم حكمه «عليه السلام» بالتخيير يشهد

ص: 254

مع (1) أن تقييد الإطلاقات الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين - مع ندرة كونهما متساويين جدا (2) - بعيد قطعا (3)، بحيث (4) لو لم يكن ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص (5) لوجب (6) باختصاص المقبولة. و ما فيها من الترجيح - بزمان الحضور، فلا تقيّد المقبولة إطلاق أدلة التخيير إلاّ بزمان الحضور، فيبقى زمان الغيبة تحت إطلاقات التخيير؛ و إن كان المتعارضان متفاضلين.

=============

(1) هذا خامس الإشكالات الواردة على وجوب الترجيح.

و حاصله: دعوى أظهرية إطلاقات التخيير من المقبولة في وجوب الترجيح بالمرجحات.

وجه الأظهرية: أن الأخذ بالمقبولة يوجب حمل أخبار التخيير على الفرد النادر؛ إذا يصير مورد أخبار التخيير بعد تقيدها بالمقبولة منحصرا في الخبرين المتعارضين المتكافئين من جميع الجهات و هو نادر جدا؛ إذ الغالب تفاضلهما و لو من جهة واحدة، و حمل المطلق على الفرد النادر ركيك جزما و خلاف ديدن أبناء المحاورة في محاوراتهم قطعا.

و عليه: فإطلاقات التخيير آبية عن التقييد، فلا بد من العمل بها.

و حمل المقبولة على زمان التمكن من السؤال و التعلّم من الإمام «عليه السلام» إن لم تكن ظاهرة في الاختصاص بذلك الزمان. أو حمل الأمر بالترجيح فيها على الاستحباب، أو جعل موردها خصوص الخصومة.

(2) قيد ل «ندرة».

(3) خبر إن «تقييد...» الخ.

وجه البعد: أنه «عليه السلام» في مقام بيان الوظيفة، لسبق السؤال أولا، و تأيّده بترك الاستفصال مع غلبة تفاضلهما و ندرة تساويهما ثانيا، فيحصل الاطمئنان - بل العلم - بإرادة الإطلاق من أخبار التخيير.

(4) يعني: يكون بعد تقييد المقبولة لإطلاق التخيير بمثابة يسقطها عن صلاحية التقييد، و يوجب قوّة إطلاق التخيير التصرف في المقبولة بحملها على زمان الحضور لو لم تكن بنفسها ظاهرة فيه.

(5) أي: الاختصاص بزمان التمكن من لقاء الإمام «عليه السلام».

(6) جواب «لو» يعني: لو لم تكن المقبولة ظاهرة في زمان الحضور لوجب حملها على زمان الحضور، أو على ما لا ينافي إطلاقا التخيير أفضل؛ كالحمل على الاستحباب،

ص: 255

حملها (1) عليه أو على ما لا ينافيها من الحمل على الاستحباب، كما فعله بعض الأصحاب (2)، و يشهد به (3) الاختلاف الكثير بين ما دل على الترجيح من (4) الأخبار.

و منه (5) قد انقدح: حال سائر أخباره،...

=============

فالحكم هو التخيير، غاية الأمر: أن الترجيح أفضل.

(1) أي: حمل المقبولة على الاختصاص، و ضمير «لا ينافيها» راجع إلى «الإطلاقات»، و كلمة «من» في قوله: «من الحمل» بيان ل «ما» الموصول، فإن الاستحباب لا ينافي الحكم بالتخيير الذي هو مقتضى إطلاقات التخيير كما مرّ غير مرّة.

(2) كما عن العلامة المجلسي و السيد الصدر شارح الوافية، حيث حمل السيد جميع أخبار الترجيح على الاستحباب لا خصوص المقبولة.

(3) أي: بالحمل على الاستحباب. و هذا إشارة إلى سادس الإشكالات التي أوردوها على وجوب الترجيح.

و مرجع هذا الإشكال: إلى أظهرية أخبار التخيير، و ضعف ما دل على وجوب الترجيح الموجب لعدم صلاحيته لتقييد إطلاقات التخيير؛ و ذلك لأن الترجيح بتلك المرجحات لو كان واجبا و سببا لتعيّن الحجية في واجدها كان هذا الاختلاف الكثير كما و كيفا قادحا - كما تقدم سابقا - في إثبات حجية لذيها، ضرورة: أنه يقع التعارض بسبب هذا الاختلاف بين نفس أخبار الترجيح، و مع هذا التعارض الكاشف عن استحباب الترجيح لا تصلح لتقييد إطلاقات التخيير، فأصالة الإطلاق فيها سالمة و جارية بلا مانع، فالنتيجة هي التخيير.

(4) بيان ل «ما» الموصول، و المراد بالأخبار: عموم الروايات الدالة على الترجيح، فهذا الإشكال لا يختص بالمقبولة و المرفوعة كما سيشير إليه.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

أما المقام الثاني الآتي: فهو ما يرجع إلى ما عدا المقبولة و المرفوعة من أخبار الترجيح.

(5) هذا إشارة إلى المقام الثاني، أي: مما ذكرناه في المقبولة و المرفوعة من إشكالاتهما - و كذا بعض الإشكالات الأخر كلزوم التقييد بالفرد النادر، و كون اختلاف المرجحات كما و كيفا موجبا لضعف الدلالة على وجوب الترجيح المانع عن تقييد إطلاقات التخيير - قد ظهر: حال سائر أخبار الترجيح غير المقبولة و المرفوعة.

و توضيح ما أفاده: أن الأخبار الواردة في المقام تشتمل على مضامين ستة، اثنان

ص: 256

منهما أجنبيان عن علاج تعارض الخبرين، و إنما يدلان على شرط حجية الخبر مطلقا، سواء كان له معارض أم لا، و سيأتي نقل بعضها، و أربعة منها ترتبط بعلاج تعارض الحديثين.

فمنها: ما دل على الترجيح بالشهرة، كمرسل الاحتجاج، قال: (و روي عنهم «عليهم السلام» أنهم قالوا: «إذا اختلف أحاديثنا عليكم فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا، فإنه لا ريب فيه)(1).

و منها: ما دل على الترجيح بموافقة الكتاب و السنة كخبر العيون عن الرضا «عليه السلام»: «فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتبعوه ما وافق الكتاب، و ما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله «صلى الله عليه و آله و سلم»(2).

و منها: ما دل على الترجيح بموافقة الكتاب - من دون التعرض لموافقة السّنة - و مخالفة العامة، كمصحح عبد الرحمن عن أبي عبد الله قال: قال الصادق «عليه السلام»: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه و ما خالف كتاب الله فردّوه، فإن لم تجدوهما في كتاب فاعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه، و ما خالف أخبارهم فخذوه»(3).

و منها: ما دل على الترجيح بمخالفة القوم خاصة كخبر الحسن بن الجهم، قال: قلت للعبد الصالح «عليه السلام» هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلا التسليم لكم ؟ فقال: «لا و الله لا يسعكم إلاّ التسليم لنا». فقلت: فيروى عن أبي عبد الله «عليه السلام» شيء و يروى عنه خلافه فبأيهما نأخذ؟ فقال: «خذ بما خالف القوم، و ما وافق القوم فاجتنبه».

و مقصود المصنف «قدس سره» من سائر أخبار الترجيح هذه الطوائف الأربع، فإنها غير متفقة على الترجيح بمزية معينة؛ لدلالة الخبر الأول على الترجيح بالشهرة فقط.

و الخبر الثاني على الترجيح بموافقة الكتاب و السنّة. و الخبر الثالث على مرجحية موافقة الكتاب و مخالفة العامة. و الخبر الرابع على الترجيح بمخالفة العامة خاصة.

ص: 257


1- عيون أخبار الرضا «عليه السلام» 23:2، جزء من ح 45، الوسائل 113:27 /جزء من ح 33354.
2- الوسائل 33362/118:27، عن رسالة الراوندي.
3- الوسائل 33364/118:27، عن رسالة الراوندي.

مع (1) إن في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظرا، و من المعلوم: أن النسبة بين الخبر الأول و الثاني و الرابع هو العموم من وجه، فتتعارض في المجمع و هو الخبر المشهور المخالف للكتاب و الموافق للعامة، فمقتضى الخبر الأول الأخذ به، و مقتضى سائر الأخبار تقديم غيره عليه. و النسبة بين الخبر الثاني و الرابع مع الثالث هو العموم المطلق، و الحاصل: أن أخبار الترجيح لمّا كانت متعارضة فمقتضى القاعدة سقوطها و عدم تقييد أخبار التخيير بها. و ضمير «أخباره» راجع إلى الترجيح أي:

=============

أخبار الترجيح.

(1) هذا سابع إشكالات وجوب الترجيح، و مرجعه إلى أجنبيّة بعض ما عد من مرجحات الخبرين المتعارضين - و من مقيّدات إطلاقات التخيير - عن باب ترجيح أحد المتعارضين على الأخر.

توضيحه: - «على ما في منتهى الدراية، ج 8، ص 141» - إن مورد أخبار الترجيح هو الخبران الجامعان لشرائط الحجّية؛ بحيث لو لم يكن بينهما تعارض لكان كل منهما حجة فعلا، فالمقتضي للحجّية في كل منهما موجود، و التعارض مانع، فالمرجّح يوجب فعليه حجّية ذيه، و الأخبار العلاجية متكفّلة لمرجّح الحجة الفعلية. فلو كان المرجّح مميّزا للحجة عن اللاحجة - بمعنى كون المقتضي للحجية في أحدها موجودا دون الآخر - كان هذا خارجا عن ترجيح الحجة على الحجة كما هو مورد البحث. و المفروض أن الخبر المخالف للكتاب ليس فيه مقتضى الحجية؛ لأن مخالفته للكتاب تشهد بعدم صدوره، و من المعلوم: أن إحراز صدوره - و لو تعبّدا مما يتوقف عليه حجّية الخبر، فالخبر غير الصادر ليس فيه اقتضاء الحجّية حتى يرجّح على غيره - أو غيره عليه - في الحجية الفعلية.

و عليه: فعد الطائفة الآمرة بطرح الخبر المخالف للكتاب - و الدالة على «أنه زخرف، و باطل» و نحو ذلك من التعبيرات - من الأخبار العلاجية الدالة على الترجيح في تعارض الخبرين لا يخلو من النظر. فمرجع هذا الإشكال إلى عدم كون موافقة الكتاب و مخالفته من المرجحات و أجنبيّتهما عن باب الترجيح في الخبرين المتعارضين، و أنهما مميزتان للحجة عن اللاحجة، و لا تصل النوبة حينئذ إلى البحث عن وجوب الترجيح و استحبابه و تقييد إطلاقات التخيير، لما عرفت: من أن عدم المخالفة للكتاب شرط حجية مطلق الأخبار الآحاد، سواء كانت متعارضة أم لا، و ليست من مرجحات باب التعارض.

قوله: «نظرا» اسم «أن» و حاصل وجه النظر ما تقدم من عدم حجّية الخبر المخالف للكتاب في نفسه؛ و إن لم يكن له معارض، فيخرج عن باب تعارض الخبرين.

ص: 258

وجهه قوة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه (1) غير حجة، بشهادة (2) ما ورد في أنه (3) زخرف (4) و باطل، و ليس بشيء (5)، أو أنه (6) لم نقله (7)، أو أمر (8) بطرحه على الجدار (9)،...

=============

(1) يعني: حتى مع عدم ابتلائه بالمعارض. لا يكون حجة.

(2) هذا شاهد على قوة الاحتمال المذكور، فإن التعبير «بالزخرف و الباطل و أنه لم نقله» يكشف عن عدم المقتضي للحجية فيه؛ لأنه يدل على نفي الصدور الذي لا محيص عن إثباته و لو تعبدا في حجية الخبر؛ إذ لا معنى لحجيته مع نفي صدوره، فهذه التعبيرات الكاشفة عن عدم الصدور مميّزة للحجة عن اللاحجة و أجنبيّة عن ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى الذي هو المقصود في تعارض الخبرين.

(3) هذا الضمير و ضمائر «نفسه، لم نقله، بطرحه» راجعة إلى الخبر المخالف.

(4) كما في معتبرة أيوب بن راشد عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال: «ما لا يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف»(1).

(5) يعني لم أظفر على رواية بمضمون «ما خالف كتاب الله فليس بشيء»، نعم في رواية الحسن بن الجهم عن الرضا «عليه السلام» «فليس منّا» أو «فليس من حديثي» كما في بعض الروايات و مع ذلك عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، فلا بد من مزيد التتبع.

(6) عطف على «أنه» في قوله: «أنه زخرف» و الضمير إمّا للشأن، و إمّا راجع إلى الخبر المخالف.

(7) كما في خبر هشام بن الحكم عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال «خطب النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» بمنى فقال: أيها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، و ما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله»(2).

(8) عطف على «ورد» و المراد ب «ما» الموصول الأخبار الواردة في حكم الخبر المخالف للكتاب، فكأنه قيل بشهادة الأخبار التي وردت في أن الخبر المخالف للكتاب زخرف...

أو أمرت بطرحه على الجدار.

(9) يقول صاحب منتهى الدراية(3): لم نعثر على الرواية المشتملة على هذه الكلمة

ص: 259


1- الكافي 4/69:1، الوسائل 33345/110:27.
2- الكافي 5/69:1، الوسائل 33348/11:27.
3- منتهى الدراية 143:8.

و كذا الخبر الموافق للقوم (1)، ضرورة (2): أن أصالة عدم صدوره تقيّة. بملاحظة الخبر المخالف لم مع الوثوق بصدوره لو لا القطع به (3) - غير (4) جارية، للوثوق حينئذ (5) بصدوره كذلك (6)،...

=============

في جوامع الأخبار، نعم في عدة الأصول وجود خبر بهذا المضمون، فقال الشيخ: و روي عنه «عليه السلام» أنه قال: «إذا جاءكم عنّي حديث فأعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، و ما خالفه فاضربوا به عرض الحائط»(1).

(1) غرضه: أن وزان الخبر الموافق للعامة وزان الخبر المخالف للكتاب في الخروج عن باب مرجّحات أحد الخبرين المتعارضين و الاندراج في مميزات الحجة عن اللاحجة.

توضيحه: أن حجية الخبر كما تتوقف على أصل الصدور، كذلك تتوقف على جهة الصدور، و هي كونه صادرا لبيان الحكم الواقعي؛ لا لبيان غيره من تقية أو غيرها، و لا يحصل الاطمئنان من الخبر الموافق لهم بصدوره لبيان الحكم الواقعي إن لم يحصل الاطمئنان بخلافه، فبناء العقلاء الذي هو دليل جمعة الصدور - التي هي شرط الحجية الخبر - لا يشمل الخبر الموافق، فيخرجان عن باب تعارض الخبرين و يدخلان في باب تعارض الحجة و اللاّحجة؛ لمغايرة ما هو شرط الحجّية لما هو مرجّح الحجية.

(2) تعليل لقوله: «و كذا الخبر الموافق للقوم».

و حاصله: أن أصالة جهة الصدور التي هي من الأصول العقلانية المحرزة لجهة الصدور - التي هي إحدى الجهات التي تتوقف عليهما حجّية الخبر - لا تجري في الخبر الموافق لهم للوثوق بصدوره تقية بملاحظة الخبر المخالف لهم؛ لما دلّ على كون مخالفتهم رشدا.

و موافقتهم ضلالة، و مع هذا الوثوق باختلال جهة الصدور كيف يجري الأصل العقلاني في الخبر الموافق حتى تحرز به هذه الجهة ؟ و أنه صدر لبيان الحكم الواقعي.

(3) أي: بصدوره، و ضميرا «صدوره، و بصدوره» راجعان إلى «الخبر الموافق».

(4) خبر «أن» و «للوثوق» متعلق ب «جارية»، و تعليل لعدم الجريان، و قد مرّ توضيحه بقولنا: «أن أصالة الحجية... لا تجري في الخبر الموافق لهم».

(5) أي: حين القطع أو الوثوق بصدور الخبر المخالف للقوم.

(6) أي: بصدور الموافق تقية، حاصلة: أن الوثوق أو القطع بصدور المخالف - الناشئ

ص: 260


1- عدة الأصول 35:1.

و كذا الصدور (1) أو الظهور (2) في الخبر المخالف للكتاب يكون موهونا بحيث لا يعمّه أدلة اعتبار السند، و لا الظهور كما لا يخفي، فتكون (3) هذه الأخبار (4) في مقام تمييز الحجة عن اللاحجة؛ لا (5) ترجيح الحجة على الحجة، فافهم (6).

=============

من مخالفته لهم - يوجب الوثوق بصدور الخبر الموافق تقية؛ لا لبيان الحكم الواقعي، و مع هذا الوثوق لا تجري فيه أصالة حجية الصدور؛ لعدم بناء العقلاء عليهما مع الوثوق بخلافهما.

(1) غرضه: أن الخبر المخالف للكتاب كالموافق للقوم فاقد لشرط الحجية سندا و ظهورا؛ لأن التعبير عنه في الروايات بالزخرف و الباطل يكشف عن عدم اقتضاء الحجية فيه، لا أنه فاقد لما هو مرجح الحجية. و من المعلوم: أن ما لا يصلح للحجية لا يشمله دليل صدوره من الروايات و بناء العقلاء، و لا دليل ظهوره و هو بناء العقلاء أيضا، فلا يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه - مع الغض عن ابتلائه بالمعارض - حجة حتى يندرج هو و معارضه - أعني: الخبر الموافق للكتاب - في تعارض الحجتين، و تكون موافقة الكتاب مرجّحة للخبر الموافق له؛ بل هما مندرجان في تعارض الحجة مع اللاّحجة، و موافقة الكتاب من مميّزات الحجة عن غيرها، لا من مرجحات الحجة.

(2) يعني: فيكون الخبر المخالف فاقدا لشرائط الحجية، لا لمرجّحات الحجة كما هو المطلوب.

(3) هذه نتيجة ما أفاده من الإشكال في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب، و قد مرّ آنفا توضيح الإشكال الذي مرجعه إلى عدم حجية الخبر المخالف للكتاب و الموافق للقوم في نفسه مع الغض عن المعارضة.

(4) أي: موافقة الكتاب و مخالفة القوم.

(5) عطف على «تمييز»، يعني: لا في مقام ترجيح الحجة على الحجة كما هو مورد البحث، فتكون تلك الأخبار أجنبيّة عما نحن فيه، فالتمسك بها لوجوب الترجيح في غير محله.

(6) لعله إشارة إلى ما احتمله بعض من: أن إطلاقات التخيير مقيّدة لا محالة بأخبار موافقة الكتاب و مخالفة العامة؛ و إن حملتا على تمييز الحجة عن اللاحجة لا ترجيح الحجة على الحجة، ضرورة: أنه لا تخيير بين الحجة و اللاحجة، فإطلاقات التخيير مقيّدة على كل حال.

لكن فيه ما لا يخفى، حيث إن مورد أخبار التخيير هو الخبران الجامعان لشرائط

ص: 261

و إن أبيت عن ذلك (1)، فلا محيص عن حملها توفيقا بينها و بين الاطلاقات، إما على ذلك (2) أو على الاستحباب كما أشرنا إليه آنفا (3) هذا.

=============

الحجية؛ بحيث لو لم يكن بينهما تعارض لكان كلاهما حجة فعلية، لا مطلق خبرين و إن لم يكن أحدهما حجة ذاتا. و عليه فلا يصلح ما دلّ على الترجيح بموافقة الكتاب و مخالفة العامة لتقييد إطلاقات التخيير؛ لمغايرة موردها لمورد الترجيح بموافقة الكتاب و مخالفة العامة كما عرفت.

و يمكن أن يكون إشارة إلى ما: أفاده الماتن في آخر فصول هذا المقصد من كون موافقة الكتاب من مرجّحات الحجة على الحجة لا من مميّزات الحجة عن اللاحجة - كما بيّنا - بتقريب: أن موافقة الكتاب و مخالفته المذكورتين في الأخبار العلاجية كالمقبولة لا يراد بهما ما يراد بهما في الأخبار المتضمنة؛ لكون مخالفة الكتاب زخرفا و باطلا و نحوهما؛ إذ المراد بالمخالف فيها هو المخالفة التباينية؛ لأنها هي المساوية للبطلان دون المخالفة بالعموم و الخصوص المطلق؛ لوضوح: جواز تخصيص العام الكتابي و كذا تقييد مطلقه بالخبر الواحد، فإذا كان هناك خبران متعارضان يكون أحدهما موافقا لعام الكتاب و الآخر خاصا مخالفا له أمكن ترجيح الخبر الموافق لعامّه على المخالف له مخالفة بالخصوص المطلق.

(1) يعني: و إن أبيت عن تسليم ظهور أخبار الترجيح بموافقة الكتاب و مخالفة العامة في تمييز الحجة عن اللاحجة، و التزمت بكونهما ظاهرة في ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى، فلا تصلح مع ذلك لتقييد إطلاقات التخيير؛ لتوقف تقييدها على أظهرية مقيّدها. و قد تقدم فيما يتعلق بالمقبولة و المرفوعة أظهرية إطلاقات التخيير و عدم صلاحيتهما لتقييدها.

و حيث تعذر الجمع الموضوعي - المقدم رتبته على الجمع الحكمي - فلا بد حينئذ من الجمع بين إطلاقات التخيير و بين أخبار الترجيح بحمل هذه إمّا على الاستحباب، و إمّا على كونها في مقام تمييز الحجة عن اللاحجة، فإطلاقات التخيير لا تنثلم.

و لا يخفى: أن قوله: «و إن أبيت» يعدّ وجها آخر لعدم تقييد إطلاقات التخيير في قبال الوجوه السابقة؛ لكنه راجع إلى الأظهرية المانعة عن التقييد؛ أو إلى استلزام التقييد حمل المطلق على الفرد النادر؛ لقلة موارد تكافؤ الخبرين المتعارضين من جميع الجهات، و كلاهما من الإشكالات المتقدمة الواردة على تقييد إطلاقات التخيير.

(2) أي: على تمييز الحجة عن اللاحجة.

(3) حيث قال فيما يتعلق بالمقبولة: «بحيث لو لم يكن ظهور المقبولة في ذلك

ص: 262

ثم إنه لو لا التوفيق بذلك (1) للزم التقييد أيضا في أخبار المرجحات، و هي (2) آبية عنه، كيف يمكن تقييد مثل: «ما خالف قول ربنا لم أقله»، أو «زخرف»، أو «باطل» كما لا يخفى ؟

فتلخص مما ذكرنا (3): أن إطلاقات التخيير محكمة، و ليس في الأخبار (4) ما يصلح لتقييدها (5).

=============

الاختصاص لوجب حملها عليه، أو على ما لا ينافيها من الحمل على الاستحباب».

(1) أي: لو لا التوفيق بحمل أخبار الترجيح على تمييز الحجة عن اللاحجة للزم التقييد في نفس أخبار الترجيح كلزومه في إطلاقات التخيير.

و غرضه: إيراد إشكال آخر على تقييد إطلاقات التخيير بأخبار الترجيح بموافقة الكتاب و مخالفة العامة كما عن المشهور.

تقريب الإشكال: أن التقييد المزبور مستلزم لتقييد نفس أخبار الترجيح أيضا، حيث إن إطلاق مرجحية مخالفة العامة مقيد بما إذا لم يكن الخبر الموافق لهم موافقا للكتاب، أو لم يكن الخبران معا مخالفين لهم، مع خلو أخبار الترجيح بمخالفة العامة عن هذا القيد.

و كذا مرجحية موافقة الكتاب، فإنه لا بد من تقييدها بما إذا لم يكن الخبر الموافق له موافقا للعامة، و كذا مرجحية الشهرة، فلا بد من تقييدها بما إذا لم يكن المشهور مخالفا للكتاب أو موافقا للعامة. و بالجملة: فلا بد من تقييد إطلاقات نفس أخبار المرجحات و رفع الاختلاف بينها أولا حتى تصلح لتقييد إطلاقات التخيير ثانيا، و المفروض: إباء أخبار المرجحات عن التقييد كما سيأتي.

(2) الجملة حالية، يعني: و الحال أن أخبار المرجحات آبية عن التقييد.

كيف يمكن تقييد إطلاق مثل «ما خالف قول ربنا لم نقله أو زخرف أو باطل»؟

وجه عدم إمكان التقييد: أن عنوان «الباطل» و نحوه أن يقال: إن «ما خالف قول ربنا باطل إلاّ إذا كان مخالفا للعامة أو كان موافقا للمشهور»، و حيث امتنع تقييد إطلاق مثل: «زخرف و باطل» تعيّن حمله على تمييز الحجة عن اللاحجة.

(3) من الإشكالات المتقدمة التي أوردها على تقييد إطلاقات التخيير من أظهرية الإطلاقات من التقييد، و من استلزام التقييد حمل المطلقات على الفرد النادر و غيرهما.

(4) أي: أخبار الترجيح التي ادعي تقييدها لإطلاقات التخيير.

(5) أي: لتقييد إطلاقات التخيير.

و هنا كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

ص: 263

نعم (1)؛ قد استدل على تقييدها و وجوب الترجيح في المتفاضلين بوجه أخر:

منها: دعوى الإجماع (2) على الأخذ بأقوى الدليلين.

و فيه (3): أن دعوى الإجماع - مع مصير مثل الكليني إلى التخيير و هو في عهد الغيبة الصغرى و يخالط النواب و السفراء، قال في ديباجة الكافي: لا نجد شيئا أوسع و لا أحوط من التخيير - مجازفة (4).

و منها (5): أنه لو لم يجب ترجيح ذي المزية لزم ترجيح المرجوح على الراجح و هو قبيح عقلا، بل ممتنع قطعا.

في بقية الوجوه التي استدل بها لوجوب الترجيح

(1) أي: نعم؛ قد استدل على تقييد إطلاقات التخيير و وجوب الترجيح في المتفاضلين بوجوه أخر غير أخبار الترجيح.

(2) الظاهر: أنه يعني بدعوى الإجماع على الأخذ بأقوى الدليلين ما تقدم منه في صدر الفصل الثالث من الإجماع على الأخذ بالخبر الراجح، و مقصوده من الراجح:

أقوى الدليلين؛ لأن فاقد المزية مرجوح و واجدها من الراجح أقوى من فاقدها فهو مورد الإجماع دون المرجوح.

(3) هذا إشكال على الاستدلال بالإجماع على لزوم الأخذ بأقوى الدليلين.

و حاصل الإشكال: إنكار الإجماع و عدم تحققه؛ و ذلك لأن ثقة الإسلام الكليني مع كونه في عهد الغيبة الصغرى - و مخالطته مع نوّابه «عجّل الله تعالى فرجه الشريف» - ذهب إلى التخيير و لم يقل بالترجيح، و مخالفته هذه تقدح في دعوى الإجماع. هذا مضافا إلى أنه محتمل الاستناد، و مثله ليس بحجة كما سبق في مبحث الإجماع.

و كيف كان؛ فدعوى الإجماع مع مخالفة الكليني مجازفة لا قيمة لها أصلا.

و لذا قال: «و لا نجد شيئا أوسع و لا أحوط من التخيير».

أما أوسعية التخيير فواضحة؛ إذ وجوب الأخذ بأحدهما المعين ضيق على المكلّف، و أما أحوطيته فلعدم العلم بالمرجحات في جميع الموارد في زمان صدور الروايات؛ لعدم العلم غالبا بفتاوى العامة حتى يحصل العلم في ذلك الزمان بموافقة الروايات أو مخالفتها لفتاواهم؛ بل الحاصل لهم لم يكن إلا الظن، و من المعلوم: أن الظن بالمرجحية لا يكفي؛ لأن الأصل عدم حجيته، فالاحتياط يقتضي العمل بإطلاقات التخيير.

(4) خبر «أن دعوى الإجماع».

(5) أي: و من الوجوه التي استدل بها على لزوم تقييد إطلاقات التخيير بأخبار

ص: 264

و فيه (1) أنه إنما يجب الترجيح لو كانت المزية موجبة لتأكّد ملاك...

=============

الترجيح أنه لو لم يجب ترجيح ذي المزية لزم ترجيح المرجوح على الراجح، و التالي باطل فالمقدم مثله، فالنتيجة هي: لزوم ترجيح ذي المزية و هو المطلوب.

و أما بطلان التالي فهو واضح، و أما الملازمة فهي ثابتة، فإن مقابل الراجح هو المرجوح، فإذا لم يلزم و لم يجب الأخذ بالراجح جاز الأخذ بالمرجوح، و مع الأخذ به يلزم ترجيح المرجوح على الراجح و هو قبيح عقلا؛ بل ممتنع قطعا.

و كيف كان؛ فهذا الوجه عقلي كما أن الوجه السابق نقلي.

(1) أي: في ترجيح المرجوح على الراجح، و قد أورد المصنف على الاستدلال بهذه القاعدة بوجهين:

أحدهما: عدم صغروية المقام لكبرى قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح عقلا.

ثانيهما: عدم صحة الإضراب عن قبح الترجيح إلى امتناعه.

و أما الوجه الأول: فتوضيحه: أن الملاك في حجية خبر الواحد - كما سبق في الفصل المتقدم - هو غلبة الإصابة نوعا و احتمال الإصابة شخصا، و من المعلوم: تحقق هذا الملاك و المناط في الخبر الراجح و المرجوح. و أقوائية ذي المزية من فاقدها في الحجية منوطة بكون المزية موجبة لتأكد مناط حجيته و مقتضيها، كما إذا كان خبر العادل مثلا غالب الإصابة، و خبر الأعدل أكثر إصابة منه في نظر الشارع، فيكون المقتضي في الأعدل أشد و أكد.

فحينئذ: يجوز الترجيح بهذه المزية لكونها مما له دخل في مناط الحجية، و أما إذا لم تكن المزية موجبة لتأكد المناط و الملاك فلا وجه للترجيح بها، فإن ضم ما لا دخل له في مناط الحجية إلى الدليل من قبيل الحجر في جنب الإنسان؛ و ذلك كالكتابة و البصر فإنهما غير دخيلين في المخبر و إن قيل باعتبارهما في القاضي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه إن أحرز الدخل المزبور بدليل خارجي لزم ترجيح واجد المزية على فاقدها اعتمادا على ذلك التدليل لا من جهة القاعدة، فإن حجية الراجح من الخبرين المتعارضين كحجية خبر الواحد في غير حال التعارض موكولة إلى بيان الشارع، فإذا حكم بتقديم أحد الخبرين المتعارضين بصفات الراوي أو بموافقة الكتاب أو بغيرهما كان ذلك أجنبيا عن حكم العقل بقبح ترجيح المرجوح على الراجح؛ و إن كان مفاده موافقا له.

و إن لم يحرز الدخل المزبور - كما هو مفروض البحث من جهة عدم دلالة أخبار

ص: 265

الحجية (1) في نظر الشارع، ضرورة (2): إمكان أن تكون تلك المزية بالإضافة إلى الترجيح على وجوبه، فلا وجه لترجيح ذي المزية على فاقدها؛ بل اللازم التسوية بينهما لاشتمال كل منهما على ملاك الحجية و يشك في تأكده بالمزية الموجودة في واجدها، و من المعلوم: أن قاعدة «قبح ترجيح المرجوع على الراجح» لا تتكفل إثبات صغراها، بل لا بد من إحراز الصغرى من الخارج كي يحكم عليها بالقبح. و حيث إنه لم يحرز تأكد مناط الحجية بالمزية الموجودة في أحد الخبرين فلا سبيل للتمسك بهذه القاعدة لإثبات الترجيح؛ بل الأمر على خلاف مقصود المستدل، ضرورة: أن ترجيح واجد المزية - التي لم تثبت مرجحيتها - يكون بلا مرجح، و هو قبيح.

=============

هذا مع الغض عن إطلاقات التخيير الدافعة لاحتمال دخل المزايا في وجوب الترجيح؛ و إلا فبالنظر إليها لا تصل النوبة إلى التمسك بهذه القاعدة العقلية؛ لكون الإطلاق بيانا على عدم الدخل. هذا بيان الوجه الأول الراجع إلى الإشكال الصغروي الذي عرفت توضيحه.

و أما الوجه الثاني - الراجع إلى الإضراب من الحكم بالقبح إلى الامتناع الذاتي - فحاصله: عدم الوجه في هذا الإضراب الظاهر في استحالة ترجيح غير ذي المزية على ذيها.

توضيحه: أن الترجيح بلا مرجح في الأفعال الاختيارية ليس محالا؛ إذ المستحيل هو وجود الممكن بلا علّة، و أما ترجيح الخبر الفاقد للمزية على الواجد لها فليس بمحال؛ لكون علة وجود المرجوح إرادة الفاعل المختار، غاية الأمر: أنه قبيح لكونه بدون داع عقلائي مع إمكان إيجاد الراجح، نعم؛ الترجيح بلا مرجح محال بالنسبة إلى الحكيم «تعالى شأنه» من حيث حكمته «جلّت عظمته».

و نتيجة البحث في هذا الوجه الثاني هي: أن ترجيح المرجوح على الراجح قبيح و ليس بمحال.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) هذا إشارة إلى الوجه الأول الراجع إلى الإشكال الصغروي الذي تقدم توضيحه.

(2) تعليل للمفهوم المستفاد من الحصر في قوله: «إنما يجب الترجيح»، يعني: أنه إذا لم تكن المزية موجبة لتأكد ملاك الحجية فلا وجه للترجيح بها، ضرورة: إمكان... و هذا بيان للمناقشة الصغروية، و حاصله: أنه بعد وضوح كون وجه مرجحية المزية هو دخلها

ص: 266

ملاكها (1) من قبيل الحجر في جنب الإنسان، و كان (2) الترجيح بها (3) بلا مرجح، و هو قبيح كما هو واضح.

هذا مضافا (4) إلى ما هو في الإضراب من الحكم بالقبح إلى الامتناع (5)؛ من (6) أن الترجيح بلا مرجح في الأفعال الاختيارية - و منها الأحكام الشرعية - لا يكون إلا في تأكد ملاك الحجية في نظر الشارع يلزم إحراز دخلها، و هو موكول إلى بيان الشارع، و مع عدم إحراز هذا الدخل يشك في اندراج ذي المزية في أقوى الدليلين حتى يلزم ترجيحه على فاقدها.

=============

(1) أي: ملاك الحجية.

(2) يعني: و مع إمكان عدم دخل المزية في ملاك الحجية و كونها - بالإضافة إلى ملاكها - من قبيل الحجر في جنب الإنسان يكون الترجيح بهذه المزية بلا مرجح، و هو قبيح.

(3) أي: بالمزية و ضمير «هو» راجع إلى «الترجيح».

(4) هذا إشارة إلى الوجه الثاني الراجع إلى الإضراب من الحكم بالقبح إلى الامتناع الذاتي، و قد تقدم توضيحه فلا حاجة إلى التكرار.

(5) هذا و قوله: «من الحكم» متعلقان ب «الإضراب» و «بالقبح» متعلق ب «الحكم».

(6) بيان ل «ما» الموصول، و تقرير للجواب عن الإضراب المزبور و قد عرفت توضيحه، و ملخصه: أن هنا مقامين: أحدهما الترجيح بلا مرجح، و مورده: الأفعال الاختيارية - التي منها الأحكام الشرعية - للشارع، و هو قبيح لا ممتنع، حيث إن إرادة المرجوح - لعدم كونها بداع عقلائي - قبيحة عندهم.

و الآخر: الترجح بلا مرجح بمعنى: وجود المعلول بلا علة و هو محال.

و ما نحن فيه - و هو الحكم الشرعي بجواز الأخذ بالمرجوح - ليس من هذا المقام؛ لعدم كون الأخذ بالمرجوح - ليس من هذا المقام؛ لعدم كون الأخذ بالمرجوح بلا علّة؛ بل يكون الحكم مع العلة و هي إرادة الفاعل المختار فهو من قبيل المقام الأول أعني: كون ترجيح المرجوح على الراجح قبيحا لا ممتنعا، فالإضراب من القبح إلى الامتناع الذاتي في غير محله؛ لاستلزامه للجمع بين الممتنع الذاتي الذي لا يتصف بالحسن و القبح - و هو الترجيح بلا مرجح بمعنى: صدور الفعل من غير علّة مرجحة له - و بين الترجيح بلا مرجح أي: بلا داع عقلائي الذي هو قبيح لا محال.

قوله: «لا يكون إلا قبيحا» خبر «أن الترجيح» و ضمير «منها» راجع إلى «الأفعال».

ص: 267

قبيحا، و لا يستحيل وقوع إلا على الحكيم تعالى؛ و إلاّ فهو (1) بمكان من الإمكان؛ لكفاية (2) إرادة المختار علّة لفعله، و إنما الممتنع وجود الممكن بلا علّة. فلا استحالة (3) في ترجيحه (4) لما هو مرجوح مما باختياره.

و بالجملة: الترجيح بلا مرجح بمعنى بلا علّة محال (5)، و بمعنى بلا داع عقلائي (6) قبيح ليس بمحال، فلا تشتبه.

و منها (7): غير ذلك مما لا يكاد يفيد الظن،...

=============

(1) هذا الضمير و ضمير «وقوعه» راجعان على «الترجيح».

(2) تعليل لإمكان الترجيح بلا مرجح في الأفعال الاختيارية، و عدم استحالته ذاتا و إنما المستحيل هو وقوعه منه تعالى عرضا؛ لمنافاته لحكمته «جل و علا» كما تقدم آنفا.

(3) هذه نتيجة جوابه عن الدليل المزبور القائم على وجوب تقديم ذي المزية على غيره، و حاصلها: أن ترجيح المرجوح على الراجح ليس محالا بل هو قبيح.

(4) هذا الضمير راجع إلى «المختار» فهو من إضافة المصدر إلى فاعله، و ضمير «هو» راجع إلى «ما» الموصول الذي يراد به فعل، و المراد ب «مما» الأفعال يعني: فلا استحالة في ترجيح المختار لفعل مرجوح من الأفعال التي هي باختياره.

(5) يعني: و هو أجنبي عن الحكم بترجيح المرجوح على الراجح.

(6) يعني: كما هو المقصود؛ إذ ترجيح فاقد المزية على واجدها قبيح و ليس بمحال كما تقدم مفصلا، فلا يشتبه عليك القبح - و هو ترجيح المرجوح على الراجح - بالممتنع و هو وجود المعلول بلا علّة.

(7) أي: و من الوجوه التي استدل بها على لزوم تقديم الراجح على المرجوح ما في «الرسائل» من قوله: «و قد يستدل على وجوب الترجيح بأنه لو لا ذلك لاختل نظم الاجتهاد بل نظام الفقه، من حيث لزوم التخيير بين الخاص و العام و المطلق و المقيد و غيرهما من الظاهر و النص المتعارضين»(1).

و لكن ردّ «قدس سره» بخروج هذه المعارضات عن محل النزاع؛ لعدم تحير العرف في الجمع بينها، و هو في محله.

و منها: ما قيل: من أن لازم التخيير تساوي العالم و الجاهل و العادل و الفاسق و هما منفيان بقوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ (2) و أَ فَمَنْ كٰانَ

ص: 268


1- فرائد الأصول 53:4.
2- الزمر: 9.

فالصفح عنه أولى و أحسن (1).

ثم إنه (2) لا إشكال في الإفتاء بما اختاره من الخبرين، في عمل نفسه و عمل

=============

مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً لاٰ يَسْتَوُونَ (1) . و هذا الوجه راجع إلى الترجيح السندي، فإذا كان أحد سندي الروايتين مشتملا على عالم عادل و الآخر على غيره، فاللازم ترجيح الرواية الأولى على الثانية.

و منها: أن حكم الشارع بلزوم الأخذ بأحد المتعارضين دائر بين التعيين و التخيير، و الأصل يقتضي التعيين، و مقتضاه ترجيح ذي المزية على غيره؛ لكن فيه: أن الأصل مرجح حيث لا دليل، و المفروض: وجود الدليل هنا و هو إطلاق ما دلّ على التخيير؛ إذ المفروض: سلامته عن التقييد.

(1) بل الصفح عنه أولى مطلقا حتى مع الظن بوجوب الترجيح؛ لأن الظن غير المعتبر لا يجدي و لا يغني من الحق شيئا.

و قد تحصل مما أفاده المصنف - من أول هذا الفصل إلى هنا - أن المرجع في تعارض الخبرين هو إطلاقات التخيير، و لا يجب الترجيح بشيء من المرجحات الواردة في المقبولة و غيرها من أخبار الباب، و سيأتي الكلام في الآثار المترتبة بالتخيير.

هل يجب الإفتاء بما اختاره من الخبرين أو بالتخيير في المسألة الأصولية أو يجوز كلا الأمرين جميعا؟

(2) الضمير للشأن، و هذا شروع في الآثار المترتبة على التخيير لكن هذه الآثار لا تختص بمختار المصنف «قدس سره» من التخيير المطلق بل تجري بناء على مختار غيره ممن يرجع إلى أخبار التخيير بعد تقييدها بمرجحية موافقة الكتاب و مخالفة العامة، و عليه:

فهذه الآثار أحكام القول بالتخيير سواء قيل به مطلقا أم بعد فقد المرجح.

و كيف كان؛ فالأثر الأول هو: أن مقتضى حجية أحد الخبرين تخييرا جواز الإفتاء بما يختاره منهما؛ إذ المفروض حجيّة أحدهما تخييرا، فإذا اختار أحدهما و أفتى به كان حجة عليه و على مقلديه كالرواية التي هي حجة عليه تعيينا؛ لعدم معارض لها مع اجتماع شرائط حجيتها، فإذا اختار الرواية الدالة على وجوب جلسة الاستراحة و أفتى بوجوبها كان حجة عليه و على مقلديه، و ليس له بعد ذلك أن يختار الرواية الأخرى الدالة على عدم وجوبها.

ص: 269


1- السجدة: 8.

مقلديه و لا وجه (1) للإفتاء بالتخيير في المسألة الفرعية؛ لعدم (2) الدليل عليه (3) فيها.

نعم (4)؛ له الإفتاء به في المسألة الأصولية، فلا بأس حينئذ (5) باختيار المقلد غير ما

=============

(1) هذا إشارة إلى الأثر الثاني، و حاصله: أنه لا وجه لجواز الإفتاء بالتخيير في المسألة الفرعية كالتخيير بين حرمة شرب التتن و إباحته فيما إذا دل أحد الخبرين على حرمته و الآخر على إباحته؛ و ذلك لأن الغالب في كل واقعة وحدة حكمها الواقعي تعيينا و ندرة حكما تخييرا؛ كالتخيير بين القصر و الإتمام في مواطن التخيير. و مع تعيّن الحكم الواقعي يكون الإفتاء بالتخيير على خلافه، و هو افتراء على الشارع، فالحكم بالتخيير في المسألة الفرعية لا مسوغ له.

و عليه: فمورد التخيير هو حجية الخبرين؛ لأن السؤال ناظر إلى ذلك حيث إن التحير في الحجية نشأ عن تعارضهما؛ إذ لو لاه لكان كلاهما حجة، فالجواب بقولهم «عليهم السلام» «بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك» يراد به الأخذ بأيهما حجة و تسليما لأمر الشارع.

و من المعلوم: أن التخيير في الحجية تخيير في المسألة الأصولية و ليس تخييرا بين مضموني الخبرين حتى يكون تخييرا في المسألة الفقهية كي يفتي المجتهد في مثال شرب التتن بالتخيير بين الحرمة و الإباحة.

(2) تعليل لقوله: و لا وجه. و أما عدم الدليل. فلأن ظاهر الأخبار - كما مر - هو التخيير في الحجية التي هي المسألة الأصولية و لا دليل غيرها على التخيير.

(3) أي: على التخيير في المسألة الفرعية. و ضمير «فيها» راجع على «المسألة الفرعية».

(4) استدراك على عدم جواز الإفتاء بالتخيير في المسألة الفرعية، و إشارة إلى الأثر الثالث للقول بالتخيير.

و توضيحه: أنه يجوز للمجتهد أن يفتي بالتخيير في المسألة الأصولية و هي حجية أحد الخبرين تخييرا، ضرورة: أن المستفاد من أدلة التخيير هو التخيير في المسألة الأصولية فلا مانع من الإفتاء بذلك، فيجوز للمقلّد - بعد أن قلّد مجتهده في هذه المسألة الأصولية - أن يختار غير ما اختاره المجتهد من الخبرين المتعارضين، فإذا اختار المجتهد الخبر الدال على إباحة شرب التتن مثلا جاز للمقلّد أن يختار الخبر الدال على حرمته. نظير إجراء الاستصحاب في الموضوعات بعد أن قلّد مجتهده في حجيته فيها، و لا دليل على لزوم متابعة المقلّد للمجتهد فيما اختاره بعد فرض متابعته في نفس الحكم بالتخيير في المسألة الأصولية.

(5) أي: حين جواز الإفتاء بالتخيير في المسألة الأصولية. و «غير» مفعول «باختيار».

ص: 270

اختاره المفتي، فيعمل (1) بما يفهم منه بصريحه أو بظهوره (2) الذي لا شبهة فيه (3).

و هل التخيير (4) بدوي أم استمراري ؟

=============

و لا فرق في الحكم الذي دلّ عليه الخبران من الأحكام المبتلى بها للمجتهد كأحكام الصلاة و الصوم، و من غيرها كالأحكام المختصة بالنساء.

(1) هذه نتيجة حجية الخبر بإفتاء المفتي بها و جواز اختيار المقلد لها، فإن حجية الخبر - أي: الحكم بصدوره في حقه - كحجيته في حق نفس المفتي تقتضي اعتبار معنى ألفاظ الخبر إن كان نصا أو ظاهرا بمثابة لا يعتدّ باحتمال خلافه عند أبناء المحاورة، فلا يكون في فهم معنى الرواية تابعا للمجتهد مثلا بل هو كسائر أبناء المحاورة في فهم المعاني من الألفاظ. و ضمير «منه» راجع إلى «ما اختاره»، أي: ما اختاره المقلّد لا المفتي.

و الأولى أن يقال: «فيعمل بما يفهمه منه».

(2) هذا الضمير و ضمير «بصريحه» - المراد به النص - راجعان إلى «ما» الموصول المقصود به المعنى. يعني: فيعمل المقلّد بالمعنى الذي يفهمه الصراحة أو الظهور من غير الخبر الذي اختاره المفتي. و الأولى تبديل «بصريحه» ب «صراحته» مصدرا كمعطوفه و هو «بظهوره» كما لا يخفى.

(3) أي: في الظهور الذي لا يحتاج إلى النظر و التأمل. و هذا احتراز عن الظهور الذي يحتاج إلى ذلك، كما إذا لم يكن اللفظ الدال على الحكم كالجملة الاسمية أو الفعلية الخبرية - صريحا أو ظاهرا معتدا به في الحكم. و كذا اللفظ الدال على موضوع الحكم كالغناء و الصعيد و الآنية من ألفاظ الموضوعات المستنبطة. فإنه في استظهار معانيها لا بد من مراجعة المجتهد، لعجزه عن إثبات الظهور بدون الرجوع إليه، مع وضوح إناطة حجية الكلام بظهوره في المعنى و عدم إجماله.

هل التخيير بدوي أو استمراري ؟

(4) هذا إشارة إلى الأثر الرابع من آثار التخيير، و توضيحه: - كما في «منتهى الدراية، ج 8، ص 204» -: أن التخيير مطلقا أو في خصوص المتكافئين - على الخلاف - هل هو بدوي بمعنى: أنه إذا اختار أحد الخبرين في زمان لم يكن له الأخذ بالآخر في زمان آخر؟ أم استمراري، فيجوز أن يختار أحدهما في زمان و الآخر في زمان آخر فيه وجوه:

أحدها: كونه بدويا مطلقا و هو الظاهر من كلام الشيخ كما سيأتي تفصيله.

ثانيها: كونه استمراريا كذلك كما هو ظاهر جماعة منهم المصنف «قدس سره».

ص: 271

قضية الاستصحاب (1) لو لم نقل بأنه (2) قضية الإطلاقات أيضا (3) كونه استمراريا.

و توهّم: أن المتحير (4) كان محكوما بالتخيير و لا تحيّر له بعد الاختيار، فلا يكون الإطلاق و لا الاستصحاب مقتضيا للاستمرار لاختلاف الموضوع فيهما فاسد (5)؛ فإن ثالثها: كونه بدويا إلا مع قصد الاستمرار، فقصد الاستمرار دخيل في كون التخيير استمراريا.

=============

رابعها: كونه استمراريا إلا إذا قصد بدويته.

(1) استدل المصنف و غيره على كون التخيير استمراريا مطلقا بوجهين:

أحدهما: الاستصحاب و الآخر: إطلاقات أدلة التخيير.

و الوجه الأول مبني على الإغماض من الوجه الثاني، و محصل تقريب الاستصحاب:

أن التخيير الثابت في الزمان الأول يصير بعد الأخذ بأحد الخبرين مشكوكا فيه؛ لاحتمال كون الأخذ بأحدهما رافعا للتخيير، كغيره من موارد الشك في رافعية الموجود، فيستصحب التخيير و جواز الأخذ بالخبر الآخر في الزمان الثاني و الثالث و هكذا.

(2) أي: بأن التخيير الاستمراري. هذا إشارة إلى الوجه الثاني و هو إطلاقات التخيير.

و محصله: أن مقتضى إطلاق أدلة التخيير بحسب الزمان و عدم تقييده بزمان خاص هو استمرار التخيير، و عدم اختصاصه بالزمان الأول، فإن إطلاق دليل حجية أحد الخبرين تخييرا يقتضي استمرار حجيته كذلك.

(3) يعني: كما أن التخيير مقتضى الاستصحاب، و «كونه» خبر «قضية» و ضميره راجع إلى «التخيير». و بالجملة: فمقتضى الاستصحاب بل الإطلاقات كون التخيير استمراريا.

(4) و هو موضوع الحكم بالتخيير، فإذا أخذ الشخص بأحد الخبرين ذهب تحيّره فلا موضوع للإطلاق و لا بقاء لموضوع الاستصحاب، و حينئذ يجب أن يكون التخيير بدويا لا استمراريا.

(5) خبر و «توهم» و دفع له و حاصله: بقاء موضوع التخيير حتى بعد الأخذ بأحد الخبرين، فلا مانع من الحكم باستمرار التخيير تمسكا بالإطلاق أو الاستصحاب.

توضيحه: أن موضوع التخيير - و هو التحيّر بمعنى تعارض الخبرين - باق على حاله حتى بعد الأخذ بأحد الخبرين؛ لأن الأخذ بأحدهما لا يرفع التعارض و التنافي القائم بهما، فلم يختلف موضوع التخيير قبل الأخذ بأحدهما و بعده حتى يتوجه المنع عن التمسك بإطلاقات التخيير أو استصحابه.

ص: 272

التحيّر - بمعنى تعارض الخبرين - باق على حاله، و بمعنى آخر (1) لم يقع في خطاب موضوعا للتخيير أصلا كما لا يخفى.

=============

(1) يعني: و إن أريد بالتحيّر معنى آخر كالتحيّر في الحكم الواقعي ففيه:

أولا: أنه لم يؤخذ موضوعا للتخيير في شيء من الأدلة.

و ثانيا: أنه - بعد تسليمه - باق أيضا بعد الأخذ بأحد الخبرين، ضرورة: أنه لا يكون كاشفا قطعيا عن الحكم الواقعي حتى يرتفع به التحيّر و يمتنع التمسك بالإطلاق أو الاستصحاب.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من عقد هذا الفصل: بيان ما هو مقتضى القاعدة الثانوية النقلية في باب تعارض الأخبار، و مقتضى القاعدة الأولية و إن كان سقوط المتعارضين عن الحجية كما تقدم في الفصل السابق؛ إلا إنه بعد قيام الإجماع و الأخبار العلاجية على عدم سقوط الخبرين المتعارضين عن الحجية، فهل مقتضى القاعدة الثانوية هو التخيير، أو ترجيح الراجح على المرجوح، فيدور الأمر بين التعيين و التخيير؟

ذهب صاحب الكفاية إلى أن الأصل يقتضي التعيين و هو وجوب العمل بالراجح بدعوى كون المقام من صغريات دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية.

و كيف كان؛ فالأصل يقتضي التعيين و هو وجوب الأخذ بالراجح إمّا تعيينا لاحتمال وجوب الترجيح، و إما تخييرا لعدم وجوبه.

2 - أخبار العلاج على طوائف:

1 - أخبار دلت على التخيير على الإطلاق.

2 - أخبار دلت على التوقف مطلقا.

3 - أخبار دلت على الاحتياط.

4 - أخبار دلت على وجوب الترجيح بمزايا مخصوصة و مرجحات منصوصة. ثم المرجحات التي تضمنتها الروايات مختلفة كمّا و كيفا.

أما الكم: فلاختلافها عددا حيث إن الترجيح بالاحتياط لم يذكر في كثير من أخبار الترجيح.

و أما الكيف: فالاختلاف في الأخبار في ترتيب الترجيح بتلك المزايا ففي بعضها كالمقبولة قدّم الترجيح بالشهرة على الترجيح بمخالفة العامة. و في المرفوعة عكس الأمر.

ص: 273

و كذا الترجيح بصفات الراوي مقدم في المقبولة على الترجيح بالشهرة و في المرفوعة بالعكس.

3 - و اختلاف الأخبار العلاجية في عدد المرجحات و ترتيبها أوجب اختلاف الأنظار و تشتت الأقوال:

أحدها: وجوب الترجيح بخصوص المزايا المنصوصة.

ثانيها: وجوب الترجيح بمطلق المزايا؛ و إن لم تكن منصوصة.

ثالثها: وجوب الترجيح بكل مزية؛ و إن لم توجب ظنّا و لا قربا لأحدهما إلى الواقع.

رابعها: التخيير مطلقا سواء كانا متكافئين في المزايا أم متفاضلين فيها.

4 - و التحقيق: إنكار دلالة أخبار الترجيح على وجوبه و إثبات عدم صلاحيتها لتقييد إطلاقات التخيير.

فيقع الكلام في مقامين: أحدهما: ما يرجع إلى المقبولة و المرفوعة لأنهما أجمع ما في الباب من الروايات المتضمنة للمرجحات.

ثانيهما: ما يرجع إلى سائر الروايات المشتملة على أحكام المتعارضين.

5 - و أما المقام الأول فملخصه: عدم صلاحية المقبولة و المرفوعة لتقييد إطلاقات التخيير لوجوه:

الأول: اختلافهما في ترتيب المرجحات، حيث إن الترجيح بصفات الراوي في المقبولة مقدم على الترجيح بغيرها، و في المرفوعة بالعكس.

و هذا الاختلاف الموجب للتعارض يوهن اعتبارهما و يسقط كلاهما عن الحجيّة، فيسقط كلاهما عن صلاحية تقييد إطلاقات التخيير.

الثاني: أن الأخذ بما في المرفوعة - من تقديم المشهور على غيره حتى يؤخذ بالمقبولة - محال؛ إذ معنى الأخذ بالمقبولة هو طرح المرفوعة، فيلزم من وجود المرفوعة عدمها، و ما يلزم من وجوده عدمه محال.

الثالث: أن الاستدلال بهاتين الروايتين على وجوب الترجيح في مقام الفتوى مشكل لاحتمال اختصاص الترجيح بتلك المزايا بمورد المقبولة و هو باب الخصومة و الحكومة.

6 - و أما الإشكال: في سائر الأخبار العلاجية غير المقبولة و المرفوعة فلأن هذه الأخبار تشتمل على مضامين ستة، اثنان منها أجنبيان عن علاج تعارض الخبرين، و إنما يدلان على شرط حجية الخبر مطلقا، و أربعة منها و إن كانت ترتبط بعلاج تعارض

ص: 274

الخبرين و هي ما دل على الترجيح بالشهرة، و ما دل على الترجيح بموافقة الكتاب و السنة، و ما دل على الترجيح بموافقة الكتاب دون التعرض بموافقة السنة، و ما دل على الترجيح بمخالفة القوم خاصة؛ إلا أن هذه الطوائف الأربع غير متفقة على الترجيح بمزية معينة فيتعارض بعضها البعض فتسقط عن صلاحية تقييد إطلاقات التخيير.

7 - و بعض الأخبار الواردة في الباب خارج عن أخبار الترجيح؛ بل يكون لتمييز الحجة عن اللاحجة، و هو ما دل على أن مخالف الكتاب زخرف و باطل و لم نقله؛ لأن هذه التعبيرات تكشف عن عدم المقتضى للحجية فيه؛ لأنها تدل على نفي الصدور الذي لا محيص عن إثباته في حجية الخبر؛ إذ لا معنى لحجيته مع نفي صدوره، فهذه التعبيرات مميّزة للحجة عن اللاحجة و أجنبية عن ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى.

فحاصل البحث: أن إطلاقات التخيير محكمة و ليس في أخبار الباب ما يصلح لتقييدها.

8 - الاستدلال على تقييد إطلاقات التخيير بوجوه أخر.

منها: الإجماع على الأخذ بأقوى الدليلين و هو الراجح.

و منها: أنه لو لم يجب الترجيح للزم ترجيح المرجوح على الراجح.

و منها غير ذلك.

و أما الجواب عن الإجماع: فلعدم تحققه أولا؛ فكيف يحصل الإجماع مع مخالفة الكليني و قوله بالتخيير و غيره.

هذا مضافا إلى: أنه محتمل الاستناد، و الإجماع كذلك لا يكون حجة.

و الجواب عن الثاني: أولا: ليس المقام من صغريات قبح ترجيح المرجوح على الراجح؛ لأن الملاك في حجية خبر الواحد هو احتمال الإصابة، و هذا الملاك متحقق في كل من المرجوح و الراجح، فلا يلزم من تقديم غير ذي المزية على ذي المزية تقديم المرجوح على الراجح؛ إلا إذا علم من الخارج بأن المزية في الراجح له دخل في تأكد ملاك الراجح و ليس كالحجر في جنب الإنسان و لم يعلم يحرز دخلها في الملاك.

و أما الإضراب من القبح إلى الامتناع الذاتي فهو في غير محله؛ لأن الترجيح في الأفعال ليس بمحال؛ إذ المحال هو وجود الممكن من دون علّة و إرادة الفاعل في الأفعال الاختيارية علة لها.

9 - و مقتضى التخيير: هو جواز الإفتاء بما اختاره المفتي منهما؛ إذ المفروض: حجية

ص: 275

أحدهما تخييرا، فإذا اختار أحدهما و أفتى به كان حجة عليه و على مقلّديه، و لا وجه للإفتاء بالتخيير في المسألة الفرعية كالتخيير بين حرمة شرب التتن و إباحته؛ لأن الغالب في كل واقعة وحدة حكمها الواقعي تعيينا.

10 - كون التخيير بدويا أو استمراريا فيه احتمالان.

و استدل المصنف على كونه استمراريا بوجهين: أحدهما الاستصحاب، و الآخر:

إطلاقات التخيير.

و أما الاستصحاب: فلأن التخيير الثابت في الزمان الأول مشكوك فيه في الزمان الثاني، فيستصحب في الزمان الثاني.

و أما إطلاق التخيير: فلأن مقتضى إطلاق أدلة التخيير بحسب الزمان و عدم تقييدها بزمان خاص هو استمرار التخيير و عدم اختصاصه بالزمان الأول.

11 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - مقتضى القاعدة الثانوية هو: التخيير لعدم صلاحية أخبار الترجيح لتقييد إطلاقات التخيير.

2 - بعض الأخبار العلاجية يكون لتمييز الحجة عن اللاحجة؛ لا لترجيح إحدى الحجتين على الأخرى.

3 - عدم صحة الاستدلال بالإجماع على وجوب الترجيح و لا بالقياس الاستثنائي.

4 - جواز الإفتاء بالتخيير في المسألة الأصولية دون المسألة الفرعية.

5 - التخيير استمراري و لا يكون بدويا.

6 - و مقتضى الأصل في دوران الأمر بين التعيين و التخيير هو التعيين.

ص: 276

فصل (1)

هل على القول بالترجيح، يقتصر فيه على المرجحات المخصوصة المنصوصة، أو

=============

فصل في التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها

اشارة

(1) الغرض من عقد هذا الفصل: هو التعرض لما هو محل الخلاف بين الأعلام من أنه بناء على القول بلزوم الترجيح و تقييد إطلاقات التخيير بأخبار الترجيح، هل يقتصر في الترجيح على المرجحات المنصوصة و في غيرها يرجع على إطلاقات التخيير؟ أم يتعدّى إلى كل مرجح و إن لم يكن من تلك المرجحات، فتقيد إطلاقات التخيير بكل مزيّة ؟

نسب الأول إلى أصحابنا المحدثين و بعض الأصوليين.

و الثاني إلى جمهور الأصوليين و منهم الشيخ الأنصاري «قدس سره».

و لا يخفى: أنه لا موضوع للبحث عن التعدي عن المرجحات المنصوصة بناء على إنكار أصل وجوب الترجيح كما هو مختار المصنف «قدس سره».

و قد استدل الشيخ و أتباعه على التعدي بوجوه ترجع إلى أخبار الترجيح:

الأول: أصدقية الراوي في المقبولة و أوثقيته في المرفوعة؛ بتقريب: أن في كل منهما جهتين: إحداهما: النفسية، ثانيتهما: الكشف و الإراءة، و جعل مرجحيتها من الجهة الأولى أو الثانية و إن كان محتملا و يكون الترجيح بهما بناء على الجهة الأولى تعبديا محضا، و بناء على الجهة الثانية ارتكازيا؛ لكون الأصدقية و الأوثقية موجبتين للأقربية إلى الواقع التي هي ملاك حجية الطرق غير العلمية؛ لكن الظاهر بحسب الإطلاق هو جعل الترجيح بهما من الجهة الثانية، فيكون المناط حينئذ في الترجيح كل ما يوجب القرب إلى الواقع؛ و إن لم يكن من المرجحات المنصوصة و هي في أخبار العلاج الأصدقية و الأوثقية و الأورعية و الأفقهية و الأعدلية كما وردت في المقبولة و المرفوعة، و كذا الترجيح بالشهرة و بموافقة الكتاب و السنة و بمخالفة العامة كما في المقبولة، و بموافقة الاحتياط كما في المرفوعة.

و المرجحات غير المنصوصة كثيرة:

ص: 277

يتعدى إلى غيرها؟ قيل (1): بالتعدي؛ لما (2) في الترجيح بمثل الأصدقية و الأوثقية و نحوهما، مما (3) فيه من الدلالة على أن المناط في الترجيح بها هو كونها (4) موجبة للأقربية إلى الواقع (5)، و لما (6) في التعليل «بأن المشهور مما لا ريب فيه»...

=============

منها: أضبطية الراوي أحد الخبرين من الآخر كما حكي عن الشيخ الترجيح بها.

و منها: قلّة الوسائط و هي علوّ السند.

و منها: نقل أحد الخبرين بلفظ الإمام «عليه السلام»، و الآخر بالمعنى.

و منها: كون لفظ أحد الخبرين فصيحا و الآخر ركيكا بعيد عن الاستعمال.

و منها: تأكّد دلالة أحدهما بحرف التأكيد و القسم و نحوهما دون الآخر.

و منها: اعتضاد أحدهما بدليل دون الآخر.

و منها غير ذلك.

(1) القائل هو الشيخ الأنصاري «قدس سره» و نسبه إلى المجتهدين.

قال بالتعدي لوجوه: الأول: ما أشار إليه بقوله: «بمثل الأصدقية و الأوثقية»، و قد تقدم تقريب التعدي بهما إلى غيرهما.

(2) تعليل للقول بالتعدي. و هذا إشارة إلى أول الوجوه التي استدل بها على التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها، و قد تقدم توضيح ذلك.

(3) بيان ل «نحوهما»، و المراد ب «ما» الموصول المرجحات و «فيه» ظرف مستقر متعلق بأحد أفعال العموم مثل «يكون»، و ضميره راجع إلى الموصول، و معنى العبارة: أن في الأصدقية و الأوثقية و نحوهما من الأمور - التي فيها كشف و إراءة - دلالة على أن المناط في الترجيح بالمرجحات هو كونها موجبة للأقربية إلى الواقع. و «من الدلالة» بيان ل «ما» الموصول في «لما في الترجيح» و تقريب للاستدلال بالأصدقية و الأوثقية و نحوهما.

(4) هذا الضمير و ضمير «بها» راجعان إلى «الأصدقية و الأوثقية و نحوهما».

(5) المعبّر عنها في القوانين في قانون الترجيح ب «ما هو أقرب إلى الحق النفس الأمري؛ لا ما هو أقرب بالصدور عن المعصوم «عليه السلام»...» الخ.

و المراد بالأقربية: كون احتمال مخالفة الخبر الواجد لمرجح للواقع أقل من احتمال مخالفة الخبر الفاقد له للواقع.

(6) عطف على «لما في الترجيح» و إشارة إلى الوجه الثاني من الوجوه التي استدل بها الشيخ على التعدي إلى المرجحات غير المنصوصة، و هو تعليل الأخذ بالخبر المشهور في مقبولة ابن حنظلة بقوله «عليه السلام» «فإن المجمع عليه لا ريب فيه»، بتقريب: أن تعليل

ص: 278

الترجيح في الخبر المشهور بعدم الريب فيه ظاهر في نفي الريب عنه بقول مطلق و من جميع الجهات. لكن هذا الظاهر غير مراد هنا قطعا لقرائن مسلّمة:

منها: عدم إفادة الشهرة الروائية للقطع بالصدور و الدلالة و الجهة؛ بل المقتضي لحصول هذا القطع هو الشهرة الروائية و الفتوائية معا، و المفروض في المقبولة: شهرة الرواية خاصة لقوله «مشهوران مأثوران قد رواهما الثقات».

و منها: أن السائل سأل عن حكم تعارض الخبرين، و لو كان أحدهما قطعيا من جميع الجهات و كان الآخر موهونا كذلك لما كان مجال لفرض التعارض بينهما، و لا للسؤال عن حكم الخبرين المشهورين، فلا بد أن يكون الريب المنفي إضافيا لا حقيقيا؛ إذ يتجه السؤال حينئذ عما هو أقرب إلى الواقع، و يكون الريب فيه أقل من الأخر.

و منها: أن الإمام «عليه السلام» بعد تعليل الأخذ بالمشهور ب «أن المجمع عليه لا ريب فيه» استند إلى خبر التثليث و ظاهرة إدراج الخبر الشاذ - المقابل للمشهور - في الشبهة لا في بيّن الغيّ و الحرام البيّن، فإن المكلف مجبول على عدم الأخذ بما كان هذا شأنه.

و عليه: يصير الخبر المشهور مما لا ريب فيه، بالإضافة إلى غيره لا قطعيا من جميع الجهات.

و منها: أن الإمام «عليه السلام» حكم بترجيح أحد الحكمين بصفات الحاكم من الأصدقية و نحوها، و تقديم خبر الأصدق إنما هو من جهة أقربيته إلى الواقع، فتتقوّى أصالة الصدور في الخبر؛ لكون رواية أصدق من راوي الخبر الآخر، و بعد التكافؤ في الصفات رجّح الإمام «عليه السلام» الخبر المشهور على غيره.

و مقتضى الترتيب تقديم خبر الأصدق - و لو لم يكن مشهورا - على الخبر المشهور الذي رواه الصادق و لو كان الخبر المشهور قطعيا من جميع الجهات لما صح جعل الأصدقية موجبة لأقربية الخبر المخالف للمشهور، و لمّا تعذر الأخذ بظاهر التعليل في نفي الرب عن الخبر المشهور من جميع الجهات - بما تقدم من القرائن - فلا بد من الأخذ بما هو أقرب إلى المعنى الحقيقي، و هو أن يكون الريب في أحدهما أقلّ من الآخر بعد اشتراكهما في أصل الريب، و أن الريب المنفي في الخبر المشهور هو خصوص الريب الموجود في الخبر الشاذ.

و محصل التعليل حينئذ: أن المدار في حجية أحد الخبرين المتعارضين هو قلة احتمال المخالفة للواقع فيه، و أقربية احتمال مطابقته له من احتمال مطابقة الأخر له، فيتعدّى

ص: 279

من (1) استظهار أن العلة (2) هو عدم الريب فيه، بالإضافة إلى الخبر الآخر و لو كان فيه ألف ريب. و لما (3) في التعليل بأن الرشد في خلافهم. و لا يخفى (4): ما في الاستدلال بها.

أمّا الأول (5): فإن جعل خصوص شيء...

=============

حينئذ من الشهرة إلى مزية توجب أقربية ذيها إلى الواقع من الخبر الفاقد لتلك المزية.

(1) بيان ل «ما» الموصول في قوله «و لما في التعليل».

(2) أي: العلة في ترجيح المشهور على الخبر الشاذ هو عدم الريب الإضافي دون الحقيقي، فليس كل ريب منفيا عن الخبر المشهور؛ بل المنفي عنه هو الريب الموجود في الشاذ. و ضمير «فيه» في كلا الموضعين راجع إلى «المشهور».

(3) عطف على «لما في الترجيح» و إشارة إلى الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها على التعدّي، و هو تعليلهم «عليهم السلام» في جملة من الروايات لتقديم الخبر المخالف للعامة ب «أن الحق و الرشد في خلافهم».

و محصل تقريب الاستدلال به: أن المراد بكون الرشد في خلافهم إمّا من جهة كون الحق في مخالفتهم دائما، و إمّا من جهة كونه في مخالفتهم غالبا. و الأول باطل جزما كما هو واضح؛ الموافقة جملة من أحكامهم للواقع، فبعد بطلان الاحتمال الأول يتعين الاحتمال الثاني. فمرجع التعليل حينئذ إلى أن مخالفة العامة مرجحة؛ لكونها أقرب إلى الواقع غالبا، فكل شيء يوجب هذه الأقربية يكون مرجحا و إن كان غير مخالفة العامة.

(4) هذا شروع في ردّ الوجوه المذكورة التي استدل بها على التعدّي عن المرجعات المنصوصة. و ضمير «بها» راجع إلى الوجوه المستفادة من العبارة.

(5) هذا إشارة إلى رد الوجه الأول.

و حاصل ما أفاده في ردّه يرجع إلى أمرين:

أحدهما: أن الاستدلال المزبور على التعدي مبني على ظهور جعل الحجّية أو الراجحية لشيء فيه جهة كشف و إراءة في كون تمام ملاك هذا الجعل هو حيثية الكشف و الطريقية حتى يصح التعدي عنه إلى كل ما فيه هذه الحيثية. و هذا الظهور في حيّز المنع لاحتمال دخل خصوصية ذلك الشيء في الجعل؛ لا جهة الإراءة و لا دافع لهذا الاحتمال، فاستناد التعدي إلى هذا الوجه غير صحيح، و إلاّ جاز التعدي إلى حجية كل ما يفيد الظن كالشهرة و الأولوية و هو كما ترى.

و ببيان آخر: لا ريب في أن جهة الإراءة و الكشف محفوظة في أصدقية المخبر

ص: 280

فيه (1) جهة الإراءة و الطريقية حجة أو مرجحا لا دلالة فيه على أن الملاك فيه بتمامه (2) جهة إراءته؛ بل لا إشعار (3) فيه كما لا يخفى؛ لاحتمال (4) دخل خصوصيته في مرجحيته (5) أو حجيته (6) لا سيما (7) قد ذكر...

=============

و أوثقيته؛ لكن احتمال دخل صنف خاص من المرجح لا دافع له؛ فكما أن جعل الحجية لخبر الثقة لا يوجب التعدي إلى كل ما يوجب الأقربية إلى الواقع كالأضبطية و علو السند خصوصا بملاحظة أن الترجيح يكون بالصدق المخبري لا الخبري؛ إذ لم يعلق الحكم على كل ما هو أوصل إلى الواقع و أطبق عليه حتى يجيء احتمال التعدي إلى كل ما يوجب القرب إليه؛ بل علّق على كون أحد الراويين أصدق من الآخر لمصداقيته بحسب اعتقاده في نقله، و حينئذ: لا وجه للتعدي إلى كل مزيّة تقرب إلى الواقع.

(1) أي: في الشيء، و قوله: «فيه جهة» صفة ل «شيء». و قوله: «لا دلالة» خبر. «فإن جعل».

(2) أي: بتمام الملاك، و ضمير «فيه» في «لا دلالة فيه»، الملاك فيه لا «إشعار فيه» راجع إلى «جعل». و ضمير «إراءته» راجع إلى «شيء».

(3) إضراب على قوله: «لا دلالة» يعني: لا دلالة، بل و لا إشعار - في جعل شيء مرجحا أو حجة - على كون ملاك الجعل هو كشفه و طريقيته حتى يتعدى إلى كل كاشف و طريق.

(4) الظاهر أنه علّة لعدم الإشعار، يعني: أن احتمال دخل خصوصية المورد كالأصدقية و غيرها مانع عن إشعار جعل المرجحية بكون تمام الملاك في جعلها هو الكشف.

(5) هذا الضمير و ضميرا «خصوصيته، و حجيته» راجعة إلى «شيء».

(6) لا يخفى: أن عبارته من «جعل خصوص شيء فيه جهة الإراءة»، إلى هنا كانت راجعة إلى الأمر الأول الذي تقدم تفصيله بقولنا: «أحدهما: أن الاستدلال المزبور...» الخ.

(7) هذا إشارة إلى الأمر الثاني الذي أفاده في ردّ الوجه الأول على التعدي، و حاصله: أنه - بعد تسليم الظهور - لا بد من رفع اليد عنه لاحتفافه بما يمنعه عن الحجية.

توضيحه: أن الترجيح بالصفات الثلاث - و هي الأورعية و الأفقهية و الأعدلية المذكورة مع الأصدقية و الأوثقية - تعبدي، و ليس لأجل الكشف و الطريقية؛ و ذلك لاشتراك العدالة و الأعدلية و الورع و الأورعية في عدم الداعي إلى تعمد الكذب و في احتمال الخطأ و النسيان، فالترجيح بالأعدلية و الأورعية ليس لأجل الكشف بل للتعبد.

ص: 281

فيها (1) ما لا يحتمل الترجيح به إلاّ تعبدا فافهم (2).

=============

نعم؛ لو أريد بالأورعية خصوص التورّع في القول - خصوصا فيما يتعلق بنقل الرواية - كانت كالأصدقية في كونها مقرّبة للخبر إلى الواقع؛ لكن هذا الاحتمال يندفع بإطلاق «أورعهما» الظاهر في اعتبار الأورعية في جميع أفعاله و أقواله، لا خصوص ما يتعلق بنقل الخبر، و يكون مرجحيتها حينئذ متمحضة في التعبد.

و كذلك الأفقهية التي هي أشدية استنباط الحكم و استخراجه من الأدلة، فإنها لا تلازم الصدق؛ إذ ربما يكون غير الأفقه أصدق منه في كلامه؛ لموافقته للمشهور أو لمن هو أفقه من هذا الأفقه من الفقهاء الماضين، فالترجيح بالأفقهية أيضا تعبدي، و وحدة السياق تقتضي كون الترجيح بالأصدقية و الأوثقية أيضا تعبديا، فلا يصلح أن يكون وجها للتعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها مما يوجب الأقربية إلى الواقع.

فإن قلت: هذا الإشكال الثاني غير وارد على كلام الشيخ: لأنه «قدس سره» قسّم الترجيح بصفات الراوي إلى قسمين، فمنها: ما يكون تعبديا كالأورعية، و منها: ما يكون مقربا إلى الواقع، و التعدي عن المرجحات المنصوصة يستند إلى القسم الثاني لا الأول، و عليه: فلا وجه للإيراد عليه بأن بعض المرجحات متمحض في التعبدية.

قلت: الظاهر ورود الإشكال على كلام الشيخ، فإن المرجحات و إن كانت على قسمين، و التعدي مستند إلى ما يكون مقربا إلى الواقع؛ إلا إن المصنف «قدس سره» يدعي احتفاف مثل «الأصدقية» بالأورعية التي لا يحتمل فيها إلاّ التعبد، و هذا الاحتفاف يوجب إرادة الترجيح التعبدي في الأصدقية و الأوثقية أيضا، و يسقط ظهور الكلام في كون تمام مناط الترجيح بهما الأقربية إلى الواقع، و لا دافع لهذا الاحتمال؛ إذ لا بد من استقرار الظهور في كون المناط هو الأقربية حتى يتعدى منهما إلى سائر المرجحات.

(1) أي: في المرجحات، و ضمير «به» راجع إلى «ما» الموصول المراد به المرجح.

يعني: قد ذكر في المرجحات: المرجحات التي لا يحتمل الترجيح بها إلا تعبدا، و هذا صالح لأن يكون قرينة على إرادة الترجيح التعبدي في الأصدقية و الأوثقية أيضا.

(2) لعله إشارة إلى مخدوشية الرّد الثاني المذكور في قوله: «لا سيما...» الخ.

و محصله: أن دعوى كون الترجيح بالأورعية و الأعدلية و الأفقهية تعبديا لا تخلو من منع؛ لقوة احتمال كون الترجيح بها بملاك الأقربية إلى الواقع، ضرورة: أن الأورع - لبذل غاية جهده في إحراز الواقع يحصل له الوثوق و الاطمئنان بصدق ما ينقله و مطابقته

ص: 282

و أما الثاني (1): فلتوقفه على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب للواقع أكثر من الوثوق الحاصل للورع. و كذا الأفقه فإن أكثرية تتبعه و ممارسته - في مقدمات استنباط الحكم و استخراجه من الأدلة - من تتبع الفقيه و ممارسته توجب الاطمئنان الكامل بمطابقة رأيه للواقع. و كذا الأعدل، فإن المرتبة العليا من مراتب العدالة توجب الفحص التام الموجب للوثوق بالصدق لا يحصل ذلك الوثوق للعادل.

=============

و بالجملة: فحمل الترجيح بهذه الصفات الثلاث على التعبد - دون الكشف و الطريقية حتى يكون مانعا عن صحة التمسك بالأصدقية و الأوثقية على التعدي إلى غير المرجحات المنصوصة - يكون بلا موجب.

(1) أي: الوجه الثاني من وجوه التعدي إلى غير المرجحات المنصوصة، و هو الذي تعرض له بقوله: «و لما في التعليل بأن المشهور مما لا ريب فيه».

و توضيح ردّه:

أنه يرد عليه أولا: أن الاستدلال المزبور لإثبات التعدي إلى المرجحات غير المنصوصة مبني على إرادة الريب الإضافي من قوله: «عليه السلام»: «فإن المجمع عليه لا ريب فيه»؛ بأن يراد بالريب المنفي في الخبر المشهور الريب الموجود في الخبر الشاذ حتى يصح الاستدلال به على مرجحية كل ما يوجب قلّة الريب في الرواية، مع إن الأمر ليس كذلك؛ لأن الشهرة في الصدر الأول كانت بمعناها اللغوي و هو الظهور، دون معناها المصطلح عند المتأخرين؛ و ذلك لأن اهتمام الرواة بإكثار ضبط رواية في أصولهم و بذل الجهد في ذلك كان موجبا للوثوق و القطع العادي بصدور تلك الرواية؛ بحيث صح نفي الريب بنحو الاستغراق العرفي عنها، و يقال: «إنها مما لا ريب فيه» و هذا يوجب التعدي إلى كل ما يوجب الوثوق بالصدور؛ لا إلى كل ما يوجب الأقربية إلى الواقع كما هو المطلوب.

فلو سلم التعدي إلى المرجحات غير المنصوصة كان مورده المرجح الصدوري، و هو أجنبي عن المدعى.

و بعبارة أخرى: فلا يدور الأمر في قوله «عليه السلام»: «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» بين نفي الريب حقيقة - أي: بقول مطلق - و بين نفيه بالإضافة إلى خبر آخر فيه ريب أكثر حتى يكون تعذّر إرادة المعنى الأول قرينة معيّنة للثاني.

و الوجه في عدم الدوران: أن الغرض من الترجيح بالشهرة هو تقديم أحد الخبرين المتعارضين بالمرجح الصدوري - أي: من ناحية سنده - على الخبر الآخر، فمعنى قوله

ص: 283

فيها، مع (1) أن الشهرة في الصدر الأول بين الرواة و أصحاب الأئمة «عليهم السلام» «عليه السلام»: «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» أن الخبر المشهور لا ريب فيه من جهة صدوره فقط؛ لكون الشهرة بمعناها اللغوي و هو الظهور، فالخبر المشهور يصير مما لا ريب فيه من ناحية صدوره عن الإمام «عليه السلام»؛ و لكن هذا الاشتهار لا يوجب قطعية دلالة الخبر وجهته حتى يصير الخبر مما لا ريب فيه بقول مطلق و من جميع الجهات، فإن القطع بالدلالة و الجهة لا يحصل بمجرد شهرة الرواية؛ بل لا بد من الشهرة العملية أيضا.

=============

و المفروض في المقبولة و المرفوعة: شهرة الرواية خاصة بلا تكفل لحيثية الدلالة، و يتجه حينئذ تعارض خبرين مشهورين كما ادعاه عمر بن حنظلة بقوله: «كلاهما مأثوران مشهوران».

و من المعلوم: أنه لا منافاة بين القطع بصدور خبرين و بين تنافيهما مدلولا، لكونهما ظاهرين، و لم يقطع بصدورهما معا لبيان الحكم الواقعي، فهما قطعيان سندا و ظنيان دلالة و جهة.

و الحاصل: أن المراد بالريب المنفي هو ما يتعلق بحيثية الصدور فقط، و لا مانع من إرادة عدم الريب الحقيقي العرفي في الخبر المشهور بلحاظ القطع بصدوره، و لا مجال للحمل على نفي الريب الإضافي حتى يتعدى به إلى كل مزية توجب الأقربية.

و ثانيا: أن الشهرة في الصدر الأول لما كانت موجبة للقطع بالصدور كانت مميّزة للحجة عن غيرها لا مرجحة لحجة على مثلها، فتخرج الشهرة عن المرجحية و تندرج في مميّزات الحجة عن اللاحجة.

و هذا خلاف المفروض، و هو كون الشهرة من مرجحات الخبرين المتعارضين الواجدين لشرائط الحجية لو لا التعارض.

فصار المتحصل أولا: أن إرادة الريب الإضافي خلاف الظاهر الذي لا موجب لارتكابه، خصوصا مع قرينية الشهرة على إرادة الحقيقي منه.

و ثانيا: أن نفي الريب مطلقا يوجب التعدي عن الشهرة إلى كل ما يوجب العلم أو الاطمئنان بالصدور؛ لا الأقربية إلى الواقع كما هو المدعى.

و ثالثا: أن عدّ الشهرة بمعناها اللغوي من مرجحات الخبرين المتعارضين مسامحة؛ بل لا بد أن يعد من مميزات الحجة عن اللاحجة.

(1) هذا تمهيد لإثبات إمكان إرادة نفي الريب مطلقا؛ لا الريب الإضافي الذي هو مبنى الاستدلال على التعدي، و حاصله: أن شرط الاستدلال عليه - و هو كون الريب

ص: 284

موجبة لكون الرواية مما يطمأن بصدورها؛ بحيث يصح أن يقال عرفا: «إنها مما لا ريب فيها» (1) كما لا يخفى.

و لا بأس (2) بالتعدي منه إلى مثله (3) مما يوجب الوثوق و الاطمئنان بالصدور؛ لا إلى (4) كل مزيّة و لو لم توجب إلاّ أقربية ذي المزية إلى الواقع من المعارض (5) الفاقد لها.

و أما الثالث (6): فلاحتمال أن يكون الرشد في نفس المخالفة...

=============

المنفي في الخبر المشهور إضافيا - مفقود؛ لأن الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب فيه مطلقا - كما هو ظاهره - لما أفاده من «أن الشهرة في الصدر الأول بين الرواة...» الخ، و المفروض: أن الاستدلال به مبنيّ على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب فيه. و عليه: فلا وجه للتمسك به على التعدي؛ لكون شهرة الرواية حينئذ من مميّزات الحجة عن اللاحجة.

(1) يعني: بنحو الاستغراق العرفي، و ضميرا «بصدورها، أنها» راجعان إلى الرواية.

و ضمير «فيها» راجع إلى الروايات المستفادة من العبارة.

(2) هذا إشارة إلى: أن التعدي من الشهرة الموجبة للاطمئنان بالصدور و إن كان صحيحا؛ لكنه لا يجدي في إثبات المدعى و هو التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها، مما يوجب أقربية مضمون أحد الخبرين إلى الواقع، فجواز التعدي عن الشهرة إلى غيرها مما يوجب أرجحية الصدور لا يثبت المدعى، و هو جواز التعدي إلى كل ما يوجب الأقربية إلى الواقع.

(3) هذا الضمير و ضمير «منه» راجعان إلى «الشهرة»، و كان الأولى تأنيث الضميرين؛ إلا أن يراد «الاشتهار» من الشهرة، و الأمر في التذكير و التأنيث بعد وضوح المطلب سهل.

(4) عطف على «إلى مثله».

غرضه: أن التعدي الثابت غير مفيد، و التعدي المفيد غير ثابت؛ لما مر من: أن التعدي المفيد هو التعدي إلى ما يوجب الأقربية إلى الواقع، و هو غير ثابت، و التعدي الثابت هو التعدي إلى ما يوجب الاطمئنان بالصدور، و ذلك غير مفيد.

(5) متعلق ب «أقربية»، و كذا «إلى الواقع». و ضمير «لها» راجع إلى «المزية».

(6) أي: ثالث الوجوه التي استدل بها على التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها، و هو ما أشار إليه المصنف بقوله: «و لما في التعليل بأن الرشد في خلافهم».

ص: 285

لحسنها (1) و لو سلم (2) أنه لغلبة الحق في طرف الخبر المخالف، فلا شبهة في حصول توضيح ردّ المصنف لهذا الوجه الثالث: أنه يحتمل في التعليل بكون الرشد في خلافهم عدّة وجوه:

=============

أحدها: أن تكون مخالفتهم معنى اسميا؛ بأن يقال: إن نفس المخالفة - لكونها إرغاما لأنفسهم - مطلوبة مع الغضّ عن غلبة إيصالها إلى الواقع بأن يكون في نفس المخالفة جهة رجحان. و من المعلوم: أنه على هذا الوجه لا يصح الاستدلال المزبور لعدم لحاظ كشف المخالفة حينئذ عن مطابقة الخبر المخالف لهم للواقع؛ بل في نفس مخالفتهم مصلحة أقوى من مصلحة الواقع، فلو كان قولهم مطابقا للواقع كانت مصلحة مخالفتهم مقدمة على مصلحة الواقع.

ثانيها: أنه بعد تسليم كون مخالفتهم أمارة غالبية على أن الحق في خلافهم كما في المرفوعة - و عدم دلالة التعليل على مطلوبية نفس مخالفتهم من جهة ظهور هذا التعبير في الطريقية لا النفسية - لا يصلح التعليل للاستدلال المزبور أيضا؛ لأن هذه المخالفة توجب الاطمئنان بوجود خلل في الخبر الموافق لهم، إما في صدوره، و إما في جهته. و لا مانع من التعدي إلى مثل المخالفة من كل مزية توجب الاطمئنان بوجود خلل في الخبر الفاقد لتلك المزية، لا إلى كل مرجح و لو لم يوجب إلا الأقربية إلى الواقع من الخبر المعارض له، فتكون مخالفة العامة حينئذ كشهرة الرواية بين الرواة من مميزات الحجة عن اللاحجة لا من مرجحات إحدى الحجتين على الأخرى التي هي محل البحث.

ثالثها: أنه بناء على كون التعليل «بأن الرشد في خلافهم» ناظرا إلى صدور الخبر الموافق للعامة تقية، فمع الوثوق بصدور الخبرين معا يحصل الاطمئنان لا محالة بصدور الخبر الموافق تقية، و بهذا الوثوق يخرج عن موضوع دليل الحجية، فتكون مخالفة العامة - على هذا الفرض - من مميزات الحجة عن اللاحجة، فلا يصح الاستدلال بالتعليل المزبور على التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها مما يوجب الأقربية إلى الواقع؛ لأن الكلام في ترجيح أحد الخبرين المتعارضين مترتب على اجتماع شرائط الحجية من الصدور و الدلالة و الجهة في كل منهما، و انحصار المانع عن حجيتها الفعلية في التعارض.

و أما إذا كانت موافقة العامة موجبة لخلل في الصدور أو الجهة صارت مخالفتهم مميزة للحجة عن غيرها.

(1) أي: لحسن المخالفة بمعناها الاسمي، و هذا إشارة إلى الاحتمال الأول.

(2) يعني: و لو سلّم أن «الرشد في خلافهم» يكون لغلبة الحق على خلافهم.

ص: 286

الوثوق بأن الخبر الموافق (1) المعارض بالمخالف لا يخلو من الخلل صدورا أو جهة، و لا بأس (2) بالتعدي منه إلى مثله (3) كما مر آنفا.

و منه (4) انقدح: حال ما إذا كان التعليل لأجل انفتاح باب التقية فيه (5)، ضرورة (6):

=============

و وجه التسليم: هو ظهور الأمر بأخذ ما وافق الكتاب و ما خالف العامة في الطريقية لا النفسية. و هذا إشارة إلى الاحتمال الثاني.

(1) يعني: الموافق للعامة، و «المعارض» صفة «الموافق».

(2) غرضه: أن التعدي إلى غير المرجحات المنصوصة بناء على كون مخالفة العامة لأجل غلبة الحق في طرف الخبر المخالف و إن كان صحيحا؛ لكنه لا يفيدنا؛ لأن مقتضاه التعدي إلى مزية توجب أرجحية الصدور لا الأقربية إلى الواقع كما هو المقصود، و قد اتضح هذا بقولنا: «فلا مانع من التعدي إلى مثل المخالفة من كل مزية...» الخ.

(3) هذا الضمير و ضمير «منه» راجعان إلى «المخالفة» المؤولة إلى الخلاف. و المراد بالمثل: كموافقة أحد الخبرين للاحتياط دون الآخر، كما إذا دل أحدهما على اعتبار تثليث التسبيحات الأربع في الأخيرتين من الرباعية و الآخر على كفاية الواحدة فيقدم الأول - بعد تكافئهما من جميع الجهات - لمجرد موافقته للاحتياط.

قوله: «مرّ آنفا» إشارة إلى ما تقدم في ردّ الاستدلال بالتعليل ب «إن المشهور مما لا ريب فيه» حيث قال: «و لا بأس بالتعدي منه إلى مثله مما يوجب الوثوق و الاطمئنان بالصدور».

(4) أي: و مما ذكرناه في الاحتمال الثاني و هو غلبة الحق في طرف المخالف... الخ، و هذا إشارة إلى الوجه الثالث الذي أوضحناه بقولنا: «ثالثها: أنه بناء على كون التعليل بأن الرشد في خلافهم ناظرا...».

(5) أي: في الخبر الموافق.

(6) تعليل لقوله: «انقدح».

و غرضه: أن الاحتمال الثالث - و هو كون التعليل لأجل انفتاح باب التقية - متحد مع الاحتمال الثاني في اختلال الخبر الموافق لهم من جهة الصدور، و عدم شمول دليل اعتبار خبر الواحد له، و كون مخالفة العامة - بناء على هذا الاحتمال - من مميزات الحجة عن اللاحجة كمخالفتهم بناء على الاحتمال الثاني، و هو كون مخالفتهم لغلبة الحق في الخبر المخالف لهم المطابق للواقع غالبا؛ لا من مرجحات إحدى الحجتين على الأخرى - كما هو المقصود. و ظاهر الرواية من حجية كل من الخبرين لو لا المعارضة - حتى يستدل

ص: 287

كمال الوثوق بصدوره كذلك (1)، مع الوثوق بصدورهما (2) لو لا القطع به (3) في الصدر الأول لقلة (4) الوسائط و معرفتها، هذا مع (5) ما في عدم بيان الإمام «عليه بها على التعدي عنها إلى غيرها مما يوجب الأقربية إلى الواقع.

=============

(1) أي: تقية. و ضمير «بصدوره» راجع على «الخبر الموافق».

(2) أي: بصدور الخبر الموافق و المخالف، و هذا توطئة لبيان كون مخالفة العامة لأجل التقية مميزة للحجة عن اللاحجة؛ لأمر حجة لإحدى الحجتين على الأخرى.

توضيحه: - على ما في منتهى الدراية، ج 8، ص 222 - أن صدور الروايتين لما كان في الصدر الأول موثوقا به - بل مقطوعا به - لقلة الوسائط، و معرفتها أوجب ذلك الوثوق بخلل في جهة صدور الموافق، و أنه صدر تقية فلا يشمله دليل الاعتبار، فتكون مخالفة العامة حينئذ خارجة عن مرجحات الخبرين، و داخلة في مميزات الحجة عن اللاحجة كما بينه في الفصل السابق بالنسبة إليه و إلى موافقة الكتاب.

(3) أي: بصدورهما. و قوله: «لو لا القطع» قيد ل «الوثوق».

(4) متعلق ب «القطع» و تعليل له، و ضمير «معرفتها» راجع على الوسائط.

فتلخص: أن شيئا من الاحتمالات الثلاثة في تعليل الإمام «عليه السلام» ب «أن الرشد في خلافهم» لا يجدي في استدلال الشيخ و غيره ممن يذهب إلى التعدي من المرجحات المنصوصة إلى غيرها؛ لما في الاحتمال الأول من أجنبية حسن المخالفة في نفسها عن التعدي إلى كل ما يوجب الأقربية إلى الواقع. و في الاحتمال الثاني من أن مقتضى كون الرشد غالبا في مخالفتهم و الغيّ في موافقتهم هو الوثوق بوجود خلل إما في صدور الخبر الموافق و إما في جهته، و لا مانع من التعدي إلى كل ما يوجب ذلك لا إلى مزية توجب أقربية ذيها إلى الواقع.

و في الاحتمال الثالث من أن الوثوق بصدور الخبرين يقتضي الاطمئنان بصدور الموافق تقية لا لبيان الحكم الواقعي، و التعدي لا بد أن يكون إلى كل مزية توجب الوثوق بصدور الموافق تقية، لا إلى كل ما يوجب الأقربية إلى الواقع من الخبر المقابل له.

(5) هذا شروع من المصنف في إشكالات ثلاثة عامة على التعدي بعد الفراغ عن أجوبة الوجوه الثلاثة المذكورة التي استدل بها على التعدي عن المرجحات المنصوصة.

أوّل هذه الإشكالات: ظهور عدم تعرّض الإمام «عليه السلام» لضابط كلي للتعدي، كأن يقول: «خذ بكل مزية توجب الأقربية إلى الواقع»، مع تكرر السؤال عن حكم الخبرين المتعارضين، و عدم تعرضه «عليه السلام» إلا للمزايا الخاصة، مع وضوح

ص: 288

السلام» للكلية كي لا يحتاج السائل إلى إعادة السؤال مرارا، و ما في أمره «عليه السلام» بالإرجاء بعد فرض التساوي فيما ذكره من المزايا المنصوصة من (1) الظهور في أن المدار في الترجيح على المزايا المخصوصة كما لا يخفى.

=============

كثرة الابتلاء بالأخبار المتعارضة في انحصار الترجيح بالمرجحات المنصوصة، و عدم جواز التعدي إلى غيرها من المزايا. و لو كان المناط الترجيح بكل مزية كان المناسب بيان هذه الكبرى الكلية من أول الأمر حتى لا يحتاج السائل إلى تكرير السؤال مع أنه «عليه السلام» قدم أحد الخبرين بصفات الراوي، و بعد تكافئهما قدّمه بالشهرة، و بعد قول السائل: إنهما مشهوران قدم ما وافق الكتاب و خالف العامة، و بعد استوائهما فيهما قدم ما يخالف ميل حكامهم إليه، و بعد استواء الخبرين في هذه الحيثية حكم «عليه السلام» بالتوقف، و من المعلوم: أن هذا الترتيب بين المزايا ثم الأمر بالتوقف ظاهر جدا في دخل مرجحات خاصة في ترجيح أحد الخبرين على الآخر.

هذا تمام الكلام في بيان الإشكال الأول.

الإشكال الثاني: ما أشار إليه «و ما في أمره «عليه السلام».

و توضيحه: أن الأمر بالتوقف و إرجاء الواقعة إلى بقاء الإمام «عليه السلام» - مع تساوي الخبرين في المرجحات المذكورة في المقبولة، و عدم الأمر بالرجوع إلى غير تلك المرجحات من كل مزية توجب أقربية ذيها إلى الواقع - يدل على انحصار المرجح بالمزايا المنصوصة؛ إذ لو كان هناك مرجح آخر لم يأمر «عليه السلام» بالتوقف و تأخير الواقعة.

و عليه: فلا وجه للتعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها.

(1) بيان «ما» الموصول في «ما مع»، و هذا الظهور إطلاقي ناش من عدم بيان مرجح آخر غير المرجحات المنصوصة في المقبولة، مع كونه «عليه السلام» في مقام البيان و اقتضاء المقام له من دون مانع، و السكوت في مقام البيان بيان.

و عليه: فلا وجه لما نسب إلى المشهور و اختاره الشيخ «قدس سره» من التعدي عن المزايا المنصوصة إلى غيرها.

و الإشكال الثالث: ما أشار إليه بقوله: «ثم إنه بناء على التعدي...» الخ. و محصله:

أن التعدي من المرجحات المنصوصة يقتضي الترجيح بكل مزية و إن لم توجب الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع، و عدم الاقتصار على ما يوجب أحدهما كما عن الشيخ «قدس سره» حيث اقتصر على ما يورث أحدهما.

توضيح ذلك: أن المرجحات المنصوصة على أقسام أربعة:

ص: 289

ثم إنه (1) بناء على التعدي حيث (2) كان في المزايا المنصوصة ما لا يوجب الظن بذي المزية (3) و لا أقربيته كبعض صفات الراوي مثل (4) الأورعية و الأفقهية إذا كان موجبهما (5) مما لا يوجب...

=============

الأول: ما يوجب الظن بالصدور كالأصدقية.

الثاني: ما يوجب الظن بالأقربية إلى الواقع كموافقة الكتاب و هو المسمى بالمرجح المضموني.

الثالث: ما يوجب قرب ذيها إلى صدوره لبيان الحكم الواقعي كمخالفة العامة، بناء على كون الترجيح بها لأجل صدور الموافق لهم تقية، و هو المسمى بالمرجح الجهتي.

الرابع: ما يكون الترجيح به تعبدا محضا من دون أن يوجب ظنا بالصدور أو المضمون أو الجهة.

و لا يخفى: أن إلغاء خصوصيات هذه المرجحات للتعدي إلى غيرها يقتضي التعدي عن كل مرجح منصوص إلى مماثله، فيتعدى من الأصدقية إلى مثلها مما يوجب الظن بالصدور، و من موافقة الكتاب إلى مثلها مما يوجب الظن بالأقربية إلى الواقع، و من الأورعية إلى مثلها مما لا يوجب الظن بالصدور و لا بالواقع، مع أن القائلين بالتعدي لا يلتزمون بهذا التعميم؛ بل يقتصرون فيه على ما يوجب الظن بالصدور أو الأقربية، و لا وجه لهذا الاقتصار مع اقتضاء إلغاء خصوصية كل مرجح منصوص تعميم التعدي.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) الضمير للشأن، و هذا إشارة إلى الإشكال الذي تقدم توضيحه.

(2) هذا تمهيد لبيان تعميم التعدي و لو إلى مزية لا توجب شيئا من الظن بالصدور و الأقربية.

(3) أي: الظن بصدور ذي المزية، و ضمير «أقربيته» راجع إلى ذي المزية و المراد بها أقربية مضمونه إلى الواقع.

(4) التعبير بالمثل لدرج الأعدلية في المرجحات التي لا توجب الظن بذي المزية و لا أقربيته و قوله: «لبعض» مثال للمنفي و هو «ما لا يوجب الظن».

(5) بصيغة اسم الفاعل، و المراد بموجب الأورعية هو: الوقوف عند الشبهات و عدم الاقتحام فيها، و بذل الجهد و تحمل المشقة في العبادات. و المراد بموجب الأفقهية: كثرة التتبع في المسائل الفقهية أو المهارة في القواعد الأصولية، و شيء من الأورعية و الأفقهية - بهذا التقريب - لا يوجب الظن بالصدور و لا الأقربية إلى الواقع، فالترجيح بهما يكون تعبدا محضا.

ص: 290

الظن (1) أو الأقربية. كالتورع من الشبهات، و الجهد في العبادات (2) و كثرة التتبع في المسائل الفقهية، أو المهارة في القواعد الأصولية (3)، فلا وجه (4) للاقتصار على التعدي إلى خصوص ما يوجب الظن أو الأقربية (5)؛ بل إلى كل مزية و لو لم تكن موجبة لأحدهما (6) كما لا يخفى.

و توهم (7): أن ما يوجب الظن بصدق أحد الخبرين لا يكون بمرجح، بل موجب لسقوط الآخر عن الحجية للظن بكذبه حينئذ فاسد (8)،...

=============

و بالجملة: فهذان المرجحان - بناء على التقريب المذكور - لا يوجب الظن بالصدور و الأقربية، فلا بد من التعدي عنهما إلى ما يماثلهما من المزايا التي لا يوجب الظن بشيء منهما.

(1) أي: الظن بالصدور، و «الأقربية» عطف على «الصدور» المحذوف. و قوله:

«التورع، كثرة التتبع» بيان ل «موجبهما» و قوله: «مما» خبر «إذا كان».

(2) هذا بالنسبة إلى الأورعية.

(3) هذا بالنسبة إلى الأفقهية.

(4) جواب «حيث كان»، و جملة الشرط و الجزاء خبر «إنه».

(5) يعني: كما ذهب إليه القائل بالتعدي و اقتصر عليه.

(6) أي: لأحد الظن أو الأقربية، يعني: لا بد من التعدي إلى كل مزية و إن لم تكن موجبة لأحدهما.

(7) هذا التوهم ردّ على الشيخ «قدس سره»: فلا بد أولا من توضيح هذا التوهم ثم دفعه و الجواب عنه.

و أما توضيحه فحاصله: أن جعل الظن بصدق أحد الخبرين المتعارضين من المرجحات غير صحيح، و الصحيح جعله من مميزات الحجة عن اللاحجة؛ إذ قيام الظن على صدق أحد الخبرين يحصل الظن بكذب الخبر المعارض له، فيسقط الخبر المعارض عن الحجية رأسا، و يكون المظنون حجة فقط، فليس هذا من باب الترجيح؛ بل من تمييز الحجة عن اللاحجة.

و بعبارة أخرى: أن المرجح إذا كان موجبا للظن الفعلي بصدق أحد الخبرين فهذا مما يوجب الظن الفعلي بكذب الآخر فيسقطه عن درجة الاعتبار، و تخرج المسألة عن تعارض الحجتين و يكون المرجح هو موهنا لا مرجحا.

(8) خبر «و توهم» و دفع له.

ص: 291

و قد دفع المصنف هذا التوهم بوجهين:

أحدهما: ما يرجع إلى منع الكبرى، و هو كون الظن بالكذب قادحا في الحجية.

و الآخر: إلى منع الصغرى، و هو كون الظن بصدور ذي المزية ملازما للظن بكذب فاقد المزية.

و أما الوجه الأول: فتوضيحه يتوقف على مقدمة و هي: أن الظن - المنوط به حجية خبر الواحد - يمكن أن يكون نوعيا و يمكن أن يكون شخصيا إذ محتملاته ثلاثة؛ لأن حجية الخبر إما أن تكون من باب حصول الظن الشخصي منه و إما من باب الظن النوعي منه، و على الثاني: فإما أن يكون الظن النوعي مقيدا بعدم ظن على خلافه من شهرة أو خبر آخر، و إما أن لا يكون مقيدا بعدم الظن على الخلاف.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الحجة هو الخبر المفيد الظن نوعا، سواء كان على خلافه ظن أم لم يكن، و هذا هو المنسوب إلى الشيخ «قدس سره» و عليه نقول: إن الظن بكذب الخبر لا يقدح في حجيته؛ إذا كان اعتباره من باب الظن النوعي كما هو الحق و عليه الشيخ «قدس سره»، و إنما يقدح في حجيته الشخصي على خلافه، و المفروض: أن اعتبار الأخبار يكون من باب الظن النوعي غير المشروط بعدم الظن على خلافه.

و على هذا: فالظن بكذب الخبر الفاقد للمزية لا يوجب سقوطه عن الحجية. فمبنى التوهم حجية الأخبار على أحد الاحتمالين، و هما حجيتها من باب الظن الشخصي، و حجيتها من باب الظن النوعي المقيد بعدم قيام الظن على خلافه.

و مبنى دفع التوهم هو: حجية الأخبار من باب الظن النوعي المطلق، فبطلان التوهم إنما هو لمنافاته لمبنى الشيخ في حجية الأخبار، هذا توضيح الوجه الأول في دفع هذا التوهم.

و أما الوجه الثاني - الذي أشار إليه بقوله: «مضافا» فحاصله: هو منع الصغرى أعني:

بها ملازمة الظن بصدور ذي المزية للظن بكذب فاقدها، بتقريب: أن هذه الملازمة تختص بما إذا علم إجمالا بكذب أحد الخبرين، ضرورة: أن الظن بصدق أحدهما - مع العلم الإجمالي - يوجب لا محالة وهن احتمال صدور الآخر كالظن بانطباق النجس المعلوم إجمالا على أحد الإناءين الذين علم إجمالا بنجاسة أحدهما، حيث إن هذا الظن يلازم مرجوحية احتمال انطباقه على الإناء الآخر.

و أما إذا لم يعلم بكذب أحد الخبرين، و كان كل منهما في نفسه واجدا لشرائط

ص: 292

فإن الظن (1) بالكذب لا يضر بحجية ما اعتبر من باب الظن نوعا، و إنما يضرّ فيما أخذ في اعتباره عدم الظن بخلافه (2)، و لم يؤخذ (3) في اعتبار الأخبار صدورا و لا ظهورا و لا جهة ذلك (4). هذا مضافا (5) إلى اختصاص حصول الظن بالكذب بما إذا علم بكذب أحدهما (6) صدورا؛ و إلاّ (7) فلا يوجب (8) الظن بصدور أحدهما لإمكان (9) صدورهما مع عدم إرادة الظهور في...

=============

الحجية - كما هو المفروض في تعارض الخبرين - فالملازمة التي هي أساس الصغرى ممنوعة؛ لإمكان صدورهما مع حمل أحدهما على التقية، أو حمل كل منهما على خلاف ظاهره، و عليه: فلا يحصل الظن بصدور أحدهما دون الآخر.

و لا يخفى: أن المناسب تقديم هذا الجواب على الأول، بأن يقال: «بالمنع أولا من حصول الظن بالكذب مطلقا إذا ظن بصدق ذي المزية؛ لإمكان صدورهما معا و عدم إرادة ظهورهما. و ثانيا: عدم مانعية الظن بالكذب عن حجية الخبر الفاقد للمزية بناء على حجية الأخبار من باب الظن النوعي». توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) يعني: فإن الظن الشخصي بكذب الخبر الفاقد للمزية لا يضر بحجيته؛ لعدم كون المدار في حجية الخبر - بنظر الشيخ - على الظن الشخصي و لا على الظن النوعي المقيد بعدم الظن على خلافه؛ بل المدار على الظن النوعي المطلق. و هذا إشارة إلى منع الكبرى. و قد تقدم توضيح ذلك.

(2) هذا الضمير و ضمير «اعتباره» راجعان إلى «الظن نوعا».

(3) يعني: و الحال أنه لم يؤخذ في اعتبار الأخبار...» الخ.

(4) أي: عدم الظن بالخلاف، و قوله: «ذلك» نائب عن فاعل «يؤخذ».

(5) هذا إشارة إلى الوجه الثاني و هو منه الصغرى، و تقدم توضيحه.

(6) هذا الضمير في الموضعين راجع على الخبرين.

(7) يعني: و إذا لم يعلم بكذب أحد الخبرين، و كان كل منهما مشمولا لدليل الاعتبار - كما هو المفروض في تعارض الخبرين - فالملازمة ممنوعة كما تقدم آنفا.

فالمتحصل: أنه في الخبرين المتعارضين - المشمول كل منهما لدليل الحجية مع فرض عدم العلم الإجمالي بكذب أحدهما - لا يحصل الظن بصدور أحدهما دون الآخر.

(8) يعني: فلا يوجب الظن بصدور أحدهما الظن بكذب الآخر.

و عليه: فمفعول «يوجب» محذوف قد علم من العبارة.

(9) تعليل لقوله: «فلا يوجب»، و ضمير «صدورهما» راجع إلى الخبرين.

ص: 293

أحدهما (1) أو فيهما (2)، أو إرادته (3) تقية، كما لا يخفى.

نعم (4)؛ لو كان وجه التعدي اندراج المزية في أقوى الدليلين لوجب الاقتصار على ما يوجب القوة في دليليته و في جهة إثباته و طريقته (5)، من دون التعدي إلى ما لا يوجب ذلك (6) و إن كان موجبا لقوة مضمون ذيه ثبوتا كالشهرة الفتوائية أو الأولوية

=============

(1) أي: في أحد الخبرين؛ كما إذا ورد في خبر «أكرم الأمراء» و في آخر «لا تكرم الأمراء»، و كان المراد من الثاني خلاف ظاهره؛ بأن أريد أمراء السوء.

(2) أي: في الخبرين معا كما في مثل «ثمن العذرة سحت»، و «لا بأس ببيع العذرة» بناء على عدم إرادة الظهور الإطلاقي في كل من الخبرين بأن المراد من الأول عذرة الإنسان، و من الثاني عذرة الحيوان المأكول لحمه.

و الحاصل: أن عدم إرادة الظهور في أحدهما أو كليهما لا ينافي صدورهما.

(3) عطف على «عدم» يعني: أو مع إرادة الظهور تقية؛ إذ في موارد التقية يكون الظاهر مرادا لكن لا بالإرادة الجدية؛ لعدم كون الداعي بيان الواقع.

(4) هذا استدراك على قوله: «ثم إنه بناء على التعدي...» الخ. و محصله: أن وجوب التعدي إلى كل مرجح و إن لم يوجب شيئا من الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع مبني على كون الوجه في التعدي هو الروايات المشتملة على المرجحات. و أما إذا كان الوجه فيه الإجماع المدعى على لزوم تقديم أقوى الدليلين على الآخر، بدعوى:

مصداقية ذي المزية للقاعدة المعروفة - و هي أقوى الدليلين و صغرويته لتلك الكبرى - فاللازم حينئذ الاقتصار على خصوص المزايا الموجبة لقوة أحد الدليلين من حيث الدليلية و الطريقية و عدم التعدي إلى المزايا التي لا توجب ذلك و إن أوجبت قوة ذي المزية مضمونا؛ و ذلك لأن الظاهر أو المتيقن من قاعدة «أقوى الدليلين» هو الأقوائية من حيث الدليلية، و من المعلوم: أن ما يوجب قوة المضمون و قربه إلى الواقع لا يستلزم قوته من حيث الدليلية؛ إذ القوة من جهة الدليلية ترجع إلى قرب الخبر من الصدور، و أما قرب مضمونه إلى الواقع بسبب موافقة شهرة فتوائية أو أولوية ظنية أو غيرهما له فلا يوجب قوة الخبر من حيث الصدور؛ بل غايته الوثوق بصدور مضمون، و أما صدور نفس هذا الخبر فلا يحصل الظن به أصلا كما لا يخفى.

(5) عطف على «إثباته»، و كلاهما بيان ل «دليليته». و قوله: «إثباته» من إضافة المصدر إلى فاعله.

(6) أي: ما لا يوجب القوة في الدليلية و الإثبات، و اسم «و إن كان» ضمير راجع إلى «ما لا يوجب القوة في الدليلية». و ضمير «ذيه» راجع إلى الموصول في «ما يوجب القوة».

ص: 294

الظنية و نحوهما (1)، فإن (2) المنساق من قاعدة «أقوى الدليلين» أو المتيقن منها إنما هو الأقوى دلالة (3) كما لا يخفى فافهم (4).

=============

(1) كالإجماع المنقول، فإنه كالشهرة و الأولوية يوجب قوة مطابقة مضمون ذيها للواقع.

(2) تعليل لقوله: «لوجب الاقتصار». و قد مرّ توضيحه.

(3) المراد بها: الظهور لا الدليلية الشاملة له و للسند و الجهة؛ لكن المراد من قوله: قبل قليل: «القوة في دليليته» هو الصدور بقرينة قوله: «و في جهة إثباته»، و العبارة لا تخلو من مسامحة.

و على كل حال: مورد قاعدة «أقوى الدليلين» هو قوة الظهور، لا قوة الصدور و لا أعم منهما.

(4) لعله إشارة إلى منع ظهوره في إرادة الأقوائية من حيث الدليلية فقط. و إمكان دعوى ظهوره في الأقوائية من جميع الجهات حتى جهة المضمون، أو إشارة إلى أنه يمكن أن يدعى أن المتيقن من معقد الإجماع هو الترجيح بما يوجب أقوائية الدلالة و الظهور، فلا يشمل ما يوجب قوة السند.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من عقد هذا الفصل: هو التعدي من المرجحات المنصوصة إلى غيرها على القول بالترجيح؛ بأن تقيّد إطلاقات التخيير بكل مزية و إن لم تكن منصوصة، فهنا قولان: القول بعدم التعدي كما نسب إلى المحدثين و بعض الأصوليين.

و القول بالتعدي كما هو المشهور بين الأصوليين كما ذهب إليه الشيخ و أتباعه.

و قد استدل الشيخ بوجوه؛ ترجع إلى أخبار الترجيح.

الوجه الأول: أصدقية الراوي في المقبولة و أوثقيته في المرفوعة.

بتقريب: أن في كل منهما جهة الكشف و الطريقية، و يكون كل منهما بهذه الجهة موجبة للأقربية إلى الواقع، فيكون المناط حينئذ في الترجيح كل ما يوجب القرب إلى الواقع و إن لم يكن من المرجحات المنصوصة.

2 - الوجه الثاني: هو تعليل الأخذ بالخبر المشهور في المقبولة بقوله «عليه السلام»:

«فإن المجمع عليه لا ريب فيه» بتقريب: أن التعليل المذكور و إن كان ظاهرا في نفي الريب عن المشهور بقول مطلق و من جميع الجهات إلاّ إن هذا الظاهر غير مراد قطعا؛ بل

ص: 295

المراد أن يكون الريب المنفي إضافيا لا حقيقيا.

و عليه: يصير الخبر المشهور مما لا ريب بالإضافة إلى غيره، و لازم ذلك كان المدار في حجية أحد الخبرين المتعارضين هو قلّة احتمال المخالفة للواقع فيه، و أقربية احتمال مطابقته له من احتمال مطابقة الآخر له، فيتعدى من الشهرة حينئذ إلى كل مزية توجب أقربية ذيها إلى الواقع من الفاقد لتلك المزية.

3 - الوجه الثالث: هو تعليلهم «عليهم السلام» تقديم الخبر المخالف للعامة ب «إن الحق و الرشد في خلافهم»، و المراد من الرشد في خلافهم من جهة كونه في مخالفتهم غالبا لا دائما، فمرجع التعليل حينئذ إلى أن مخالفة العامة مرجحة لكونها أقرب إلى الواقع غالبا، فكل شيء يوجب هذه الأقربية يكون مرجحا و إن كان غير مخالفة العامة.

4 - و أما ردّ الاستدلال بهذه الوجوه: أما الاستدلال بالوجه الأول من هذه الوجوه:

فلأن الاستدلال المزبور على التعدي مبني على أن يكون تمام الملاك في جعل المرجحية هو حيثية الكشف و الطريقية؛ حتى يصح التعدي عنه إلى كل ما فيه هذه الحيثية، و هذا الظهور في حيز المنع لاحتمال دخل خصوصية ذلك الشيء في المرجحيّة، و مع هذا الاحتمال فاستناد التعدي إلى هذا الوجه غير صحيح.

و أما الإشكال في الوجه الثاني: فلأن الاستدلال لإثبات التعدي مبني على إرادة الريب الإضافي حتى يصح الاستدلال به على مرجحية كل ما يوجب قلّة الريب في الروايات، مع إن الأمر ليس كذلك؛ لأن الشهرة في الصدر الأول كانت بمعناها اللغوي و هو الظهور و الوضوح، فكان اشتهار الرواية موجبا للوثوق و القطع العادي بصدور تلك الرواية، و هذا يوجب التعدي إلى ما يوجب الوثوق بالصدور؛ لا إلى كل ما يوجب الأقربية إلى الواقع كما هو المطلوب.

هذا مضافا إلى: أن الشهرة كذلك موجبة لتمييز الحجة عن اللاحجة؛ لا مرجحة لحجة على مثلها، فتخرج عن باب المرجحات و تندرج في باب تمييز الحجة عن اللاحجة.

5 - و أما الإشكال في الوجه الثالث: فلأنه يحتمل في تعليلهم «عليهم السلام» «بأن الحق و الرشد في خلافهم» أن نفس المخالفة فيها جهة رجحان؛ لا في كونها مطابقة للواقع غالبا، و من المعلوم: أنه على هذا الاحتمال لا يصح الاستدلال المذكور؛ لعدم كشف المخالفة حينئذ عن مطابقة الخبر المخالف لهم للواقع؛ بل في نفس مخالفتهم

ص: 296

مصلحة أقوى من مصلحة الواقع، فلو كان قولهم مطابقا للواقع كانت مصلحة مخالفتهم مقدمة على مصلحة الواقع.

6 - إشكالات المصنف على التعدي:

1 - ظهور عدم تعرض الإمام «عليه السلام» لضابط كلي لتعدي دليل على عدم التعدي.

2 - أمره بالتوقف، و إرجاء الواقعة إلى لقاء الإمام مع تساوي الخبرين في المرجحات في المقبولة، و عدم الأمر بالرجوع إلى غير تلك المرجحات دليل على عدم التعدي و انحصار المرجحات بالمزايا المنصوصة.

3 - أنه على التعدي يقتضي الترجيح بكل مزية؛ و إن لم توجب الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع و عدم الاقتصار على ما يوجب أحدهما.

هذا تمام الكلام في إشكالات المصنف على التعدي.

7 - و لا يخفى: أن إلغاء خصوصيات هذه المرجحات للتعدي إلى غيرها يقتضي التعدي عن كل مرجح منصوص إلى مماثله، فيتعدى عن الأصدقية إلى مثلها مما يوجب الظن بالصدور، و من موافقة الكتاب إلى مثلها مما يوجب الظن بالأقربية إلى الواقع، و من الأورعية إلى مثلها مما لا يوجب الظن بالصدور و لا بالواقع، مع أن القائلين بالتعدي لا يلتزمون بهذا التعميم؛ بل يقتصرون فيه على ما يوجب الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع.

8 - توهم: أن ما يوجب الظن بصدق أحد الخبرين لا يكون بمرجح للخبر المظنون؛ بل موجب لسقوط الخبر الآخر عن الحجية للظن بكذبه حينئذ، فيكون هذا من باب تمييز الحجة عن اللاحجة.

مدفوع: بأن الظن المعتبر في الأخبار هو الظن النوعي، و هو حاصل في الخبر بمجرد كونه خبرا، فالظن بالكذب لا يضر بحجيته، فكلا الخبرين يكون حجة و يكون الظن مرجحا لأحدهما عن الآخر لا مسقطا للآخر عن الحجية.

9 - رأي المصنف «قدس سره»:

عدم جواز التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها.

ص: 297

ص: 298

فصل (1)

قد عرفت سابقا: أنه لا تعارض في موارد الجمع و التوفيق العرفي، و لا يعمهما ما

=============

فصل فى اختصاص أخبار العلاج بموارد التعارض

(1) الغرض من عقد هذا الفصل: هو البحث عن اختصاص حكم التخيير أو الترجيح بتعارض الخبرين - و عدم شموله لموارد الجمع العرفي -.

و قد تقدم في الفصول السابقة: أن لتعارض الخبرين أحكاما:

منها: أن مقتضى الأصل الأولي هو سقوطهما في المدلول المطابقي - بناء على الطريقية و نفي الثالث بأحدهما - و وجوب الأخذ بأحدهما بناء على السببية.

و منها: أن الأصل الثانوي المستفاد من الأخبار العلاجية هو التخيير مطلقا كما ذهب إليه المصنف، أو بعد فقد المرجحات كما اختار الأكثر.

و لا ريب في اختصاص الأصل الأولي - و هو التساقط - بموارد التعارض المستقر الذي لا يكون جمع دلالي عرفي بين الخبرين.

و أما الأصل الثانوي المستفاد من الأخبار العلاجية، فهل هو كالأصل الأولي يختص بغير موارد الجمع العرفي، فلا تخيير و لا ترجيح مع إمكان التوفيق العرفي بين الخبرين ؟ أم يعم موارد الجمع العرفي، فيجري الترجيح و التخيير بين الخبرين و لو مع إمكان الجمع الدلالي بينهما؟ كما إذا ورد الأمر بغسل الجمعة الظاهر في الوجوب و ورد الترخيص في تركه فيه قولان، المنسوب إلى المشهور و مختار هو الأول، و هو اختصاص الأصل الثانوي كالأصل الأولي بغير موارد الجمع العرفي.

و المنسوب إلى جمع من الأصحاب كالشيخ الطوسي و المحقق القمي و بعض المحدثين و غيرهم هو الثاني أعني: عدم اختصاص الأصل الثانوي بغير موارد الجمع العرفي، بل يعم موارده.

و قد استدل على ما هو المشهور من اختصاص الأصل الثانوي بغير موارد الجمع العرفي بما أشار إليه المصنف بقوله: «أن الظاهر من الأخبار العلاجية - سؤالا و جوابا - هو التخيير أو الترجيح في موارد التحير»، فموضوع التخيير أو الترجيح هو تحير السائل عن

ص: 299

وظيفته و لا تحير عند إمكان الجمع العرفي بين الخبرين.

و ثانيا: ما أشار إليه بقوله: «و دعوى أن المتيقن منها...» الخ.

و حاصل هذا الوجه الثاني: هو أن الأخبار العلاجية لو لم تكن ظاهرة في غير موارد الجمع العرفي فلا أقل من كونه المتيقن، و مع هذا التيقن لا دليل على جريان أحكام التعارض في موارد الجمع العرفي؛ لوضوح: توقف إطلاق الأخبار العلاجية لموارد الجمع العرفي على عدم وجود القدر المتيقن، و المفروض: أن موارد التحير الفاقدة للجمع الدلالي بين الخبرين تكون هي القدر المتيقن من أخبار العلاج، فلا تتم مقدمات الحكمة في هذه الأخبار حتى ينعقد لها إطلاق شامل لموارد الجمع العرفي.

هذا تمام الكلام في الاستدلال بهذين الوجهين على المشهور.

و يرد على كلا الوجهين:

و أما الإيراد على الوجه الأول: فقد أشار إليه بقوله: «و يشكل...» الخ.

و حاصل الإشكال: هو منع اختصاص الأسئلة - كقول الراوي: «إذا ورد عنكم الخبران المتعارضان فبأيهما نعمل» و نحو ذلك - بغير موارد الجمع العرفي.

و هذا المنع لأحد وجوه ثلاثة:

الأول: أنه يمكن أن يكون السؤال عن حكم كلي التعارض و لو كان بدويا و زائلا مآلا بالنظر العرفي؛ كموارد التوفيقات العرفية، فإن «الظاهر و الأظهر» متعارضان بدوا بمثابة يصح السؤال عن حكمهما.

هذا ما أشار إليه بقوله: «لصحة السؤال بملاحظة التحيّر في الحال».

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «أو للتحير في الحكم واقعا».

توضيحه: أنه يمكن أن يكون السؤال - عن حكم مطلق التعارض - لأجل التحير في الحكم الواقعي و إن لم يكن تحيّر في الحكم الظاهري؛ للعلم به بحسب ميزان الجمع العرفي من حمل الظاهر على الأظهر و نحوه. و عليه: فالتحيّر في الحكم الواقعي كاف في صحة السؤال عن حكم المتعارضين و إن كان بينهما جمع عرفي.

مثلا: إذا ورد خبران في حكم غسل الجمعة أحدهما ظاهر في الوجوب كقوله:

«اغتسل في يوم الجمعة»، و الآخر أظهر في الاستحباب مثل: «ينبغي الغسل في يوم الجمعة»، فإن قانون الجمع العرفي و إن كان مقتضيا لرفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب، إلا إن هذا الجمع يفيد الحكم الظاهري و هو الاستحباب، و أما احتمال وجوب

ص: 300

الغسل واقعا فلا ينتفي بهذا التوفيق العرفي، فإذا سأل الراوي عن حكم الخبرين المتعارضين - مع وجود الجمع الدلالي بينهما - كان سؤاله معقولا؛ لأنه أراد أن يتعلم الحكم الواقعي لغسل يوم الجمعة من جواب الإمام «عليه السلام».

و مع احتمال أن يكون الداعي للسؤال استعلام الحكم الواقعي - حتى مع وجود الجمع العرفي - لا وجه لجعل الأخبار العلاجية منصرفة عن موارد الجمع الدلالي، فإن التحيّر في الحكم لا يزول بمجرد الجمع العرفي؛ لاحتمال أن يكون الحكم الواقعي في الخطاب الظاهر لا الأظهر.

الثالث: ما أشار إليه بقوله: «مع إمكان أن يكون لاحتمال الردع شرعا» و حاصله: أنه يمكن أن يكون عموم السؤال لموارد الجمع العرفي لأجل احتمال الراوي منع الشارع و ردعه عن الجمع العرفي، و هذا الاحتمال يوجب صحة السؤال عن موارد التوفيق العرفي.

و كيف كان؛ فالنتيجة: أنه لا وجه للالتزام باختصاص الترجيح أو التخيير بباب تعارض الخبرين المستقر؛ بل يجريان في موارد الجمع العرفي أيضا.

فلو فرض وجود مزية في العام مفقودة في الخاص قدّم العام على الخاص و هكذا.

هذا تمام الكلام في الإشكال على الوجه الأول.

و أما الإشكال في الوجه الثاني: فقد أشار إليه بقوله: «مجازفة» خبر «و دعوى» و إشكال عليها أو جواب عنها و مرجعه إلى وجهين:

أحدهما: أنه لا مورد هنا للأخذ بالمتيقن؛ إذ مورده إجمال الدليل و عدم ظهوره في معنى، و المفروض: أن إطلاق الأخبار العلاجية الشامل - لموارد الجمع العرفي - باق على حاله.

ثانيهما: أنه - بعد تسليم عدم الإطلاق - لا مجال أيضا للأخذ بالمتيقن؛ و ذلك، لأن المتيقن المجدي في تقييد الإطلاق إنما هو المتيقن في مقام التخاطب، لا المتيقن بحسب الوجود الخارجي أو أنس الذهن، كما إذا قال السيد لعبده: «اسقني ماء»، و كان الغالب بحسب الوجود في مكانهما ماء الفرات مثلا، فالمتيقن حينئذ و إن كان هو ماء الفرات، إلاّ إنه لما كان ذلك بحسب الخارج - لا بحسب التخاطب - فلا يصلح لتقييد الإطلاق.

و المقام من هذا القبيل؛ إذ المتيقن في مقام التخاطب إنما يتحقق في موردين: بعتق الرقبة الواقع جوابا عن سؤال عتق الرقبة المؤمنة، فإن «الرقبة المؤمنة» لورودها مورد السؤال يصير عتقها متيقنا.

ص: 301

يقتضيه الأصل في المتعارضين من (1) سقوط أحدهما رأسا، و سقوط (2) كل منهما في خصوص مضمونه؛ كما إذا لم يكونا في البين، فهل التخيير أو الترجيح (3) يختص أيضا (4) بغير مواردها (5) أو يعمها (6)؟ قولان: أولهما المشهور (7)، و قصارى ما يقال الثاني: حكم العقل الارتكازي بتيقن بعض أفراد المطلق؛ بحيث يصح للمتكلم الاعتماد عليه لكونه كالقرينة الحافة بالكلام الموجبة لظهور اللفظ في ذلك؛ كجواز تقليد المجتهد المنصرف عقلا إلى خصوص المجتهد الورع المخالف لهواه المطيع لأمر مولاه، دون غيره.

=============

و ليس المقام من قبيل هذين الموردين. و عليه: فيكون تيقن غير موارد الجمع العرفي من الأخبار العلاجية خارجيا و أجنبيّا عن مقام التخاطب، فلا يوجب تقيّد إطلاق أخبار العلاج بغير التوفيق العرفي.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) بيان ل «ما» الموصول، و هذا إشارة إلى ما ذكره سابقا في أول الفصل الثاني من قوله: «التعارض و إن كان لا يوجب إلا سقوط أحد المتعارضين...» الخ. و حاصله:

سقوط أحدهما لا بعينه بالتعارض.

(2) عطف على «سقوط»، و هذا إشارة إلى ما ذكره في أوائل الفصل الثاني أيضا بقوله: «إلاّ إنه حيث كان بلا تعيين... لم يكن واحد منهما بحجة في خصوص مؤداه لعدم التعيين في الحجة أصلا».

(3) اللذان يستفادان من الأخبار العلاجية في الخبرين المتعارضين، و التخيير مطلقا مختار المصنف، و الترجيح بين المتفاضلين مذهب المشهور.

(4) يعني: كاختصاص غير التخيير و الترجيح - من سقوط أحدهما لا بعينه، و سقوط كل منهما في خصوص مضمونه المطابقي كما هو مقتضى الأصل الأولي في المتعارضين - بغير موارد الجمع العرفي.

(5) أي: موارد الجمع و التوفيق العرفي، و الأولى تذكير الضمير، لرجوعه إلى «الجمع» أو إسقاط «مواردها» و تبديله بالضمير فقول، بأن يقال: «بغيرها» ليرجع الضمير إلى «موارد» و إن كان تأنيث الضمير باعتبار رجوعه إلى المصدر أيضا صحيحا.

(6) عطف على «يختص»، و ضميره راجع على «مواردها».

(7) بل يظهر من الشيخ «قدس سره» تبعا لبعض مشايخه المعاصرين له أنه مما لا خلاف فيه.

ص: 302

في وجهه (1): إن الظاهر من الأخبار العلاجية - سؤالا و جوابا - هو التخيير أو الترجيح في موارد التحيّر، مما لا يكاد يستفاد المراد هناك (2) عرفا، لا فيما يستفاد و لو بالتوفيق (3)، فإنه (4) من أنحاء طرق الاستفادة عند أبناء المحاورة.

و يشكل (5): بأن مساعدة العرف على الجمع و التوفيق و ارتكازه (6) في أذهانهم على وجه وثيق (7)، لا يوجب (8) اختصاص السؤالات بغير موارد الجمع؛...

=============

(1) أي: في وجه القول الأول المشهور، و هو خروج موارد التوفيق العرفي عن الأخبار العلاجية.

و توضيح هذا الوجه: أن وجه عدم شمول القواعد المستفادة من الأخبار العلاجية لموارد الجمع العرفي أن الظاهر منها سؤالا و جوابا هو التخيير أو الترجيح في موارد التحيّر، و لا تحيّر عند إمكان الجمع العرفي بين الخبرين، فموضوع التخيير أو الترجيح هو تحيّر السائل عن وظيفته.

هذا هو الوجه الذي استدل به على قول المشهور.

و أما الوجه الثاني الذي استدل به على قول المشهور هو ما أشار إليه المصنف بقوله:

«و دعوى أن المتيقن منها...» الخ، و قد تقدم توضيح الكلام.

في كلا الوجهين تفصيلا فلا حاجة إلى التكرار.

(2) أي: في موارد التحيّر التي هي مورد الأخبار العلاجية التي يستفاد منها الترجيح أو التخيير.

و قوله: «مما لا يكاد» بيان ل «موارد التحيّر». و يمكن أن يكون قوله: «مما لا يكاد» للتنبيه على أن التحيّر على ضربين، فتارة: يزول بالتأمل في الخبرين بالجمع بينهما، و أخرى: لا يزول؛ بل يبقى العرف متحيّرا في وظيفته، و هنا لا بد من الترجيح أو التخيير.

(3) العرفي: يعني: ليس مورد أخبار العلاج ما يستفاد فيه المراد و لو بالتوفيق العرفي الذي هو من أنحاء طرق الاستفادة عند أبناء المحاورة.

(4) أي: فإن التوفيق.

(5) و قد تقدم توضيح هذا الإشكال تفصيلا، فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار.

(6) عطف على «مساعدة»، و ضمير «ارتكازه» راجع إلى «الجمع».

(7) و هو التوفيق الذي جرت عليه طريقة أبناء المحاورة كحمل العام على الخاص.

(8) خبر «بأن مساعدة العرف».

غرضه: أن مساعدة العرف على الجمع لا تكون قرينة على اختصاص الأسئلة بغير موارد الجمع. و قد عرفت توضيحه.

ص: 303

لصحة (1) السؤال بملاحظة التحيّر في الحال (2) لأجل (3) ما يتراءى من المعارضة و إن كان يزول عرفا بحسب المآل، أو للتحيّر (4) في الحكم واقعا؛ و إن لم يتحيّر فيه (5) ظاهرا، و هو (6) كاف في صحته قطعا مع (7) إمكان أن يكون (8) لاحتمال الردع شرعا عن هذه الطريقة المتعارفة بين أبناء المحاورة، و جلّ العناوين المأخوذة في الأسئلة (9) - لو لا كلها (10) -...

=============

(1) هذا إشارة إلى الوجه الأول و هو ما تقدم في قولنا: «الأول: أنه يمكن أن يكون السؤال عن حكم كلي التعارض»، و هو تعليل لقوله: «لا يوجب اختصاص»، و بيان لوجه عدم قرينية الجمع العرفي على اختصاص الأسئلة بغير موارد الجمع و قد عرفت توضيحه.

(2) يعني: بدءا كالمطلق و المقيد و العام و الخاص.

(3) تعليل لصحة السؤال يعني: أن التعارض البدوي الموجب للتحير يصحح السؤال.

(4) عطف على «صحة»، و إشارة على الوجه الثاني، و قد تقدم توضيح ذلك.

(5) أي: في الحكم ظاهرا.

(6) يعني: و التحيّر في الحكم الواقعي كاف في صحة السؤال.

(7) هذا إشارة إلى الوجه الثالث الذي تقدم توضيحه.

(8) الضمير المستتر في «يكون» و البارز في «صحته» راجعان إلى «السؤال».

(9) كقول الراوي: «تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة» كما في حديث حسن بن الجهم عن الرضا «عليه السلام»، و قوله: «يتنازعون في الحديثين المختلفين» كما في حديث أحمد بن الحسن الميثمي عن الرضا «عليه السلام»، و قوله: «كيف نصنع بالخبرين المختلفين»؟ كما في سؤال محمد بن عبد الله عن الرضا «عليه السلام» و غير ذلك من الروايات المشتملة على التعارض أو الاختلاف فلاحظها. و قد تقدمت جملة منها في أخبار العلاج المذكورة في الفصل الثالث.

(10) أي: لو لا كل العناوين. و هذا إشارة إلى الروايات المتضمنة للأمر و النهي كقول الراوي: «يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به و الآخر ينهانا عنه» كما في رواية سماعة بن مهران عن أبي عبد الله «عليه السلام»، و غير ذلك مما يشتمل على الأمر و النهي؛ إذ من الواضح: أن الخبرين المتضمنين للأمر و النهي يكونان من مصاديق عنواني المتعارضين و المختلفين، مع إمكان الجمع العرفي بين الخبرين الآمر و الناهي؛ لأن الأمر ظاهر

ص: 304

يعمها (1) كما لا يخفى. و دعوى (2): «أن المتيقن منها (3) غيرها» مجازفة (4)، غايته:

أنه (5) كان كذلك خارجا لا بحسب مقام التخاطب (6)، و بذلك (7) ينقدح وجه في الوجوب و نص في الجواز، و النهي ظاهر في الحرمة و نصّ في طلب الترك، و مقتضى حمل الظاهر على النص الحكم بالكراهة و الرخصة في الفعل، مع أنه «عليه السلام» حكم بالتخيير.

=============

و كذا الحال في مكاتبة الحميري إلى الحجة «عليه السلام»، فإن نسبة الخبر النافي للتكبير - لحال القيام - فيها إلى الخبر المثبت للتكبير في جميع الانتقالات هي نسبة الخاص إلى العام؛ و لكنه «عليه السلام» حكم بالتخيير، لا بالتخصيص الذي هو جمع عرفي.

و كذا في مكاتبة عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن «عليه السلام» في جواز الإتيان بنافلة الفجر في المحمل، فإنه «عليه السلام» حكم بالتخيير مع وجود الجمع الدلالي بينهما بالنصوصية و الظهور؛ لنصوصية الخبر الأول في جواز الإتيان بالنافلة في المحمل، و ظهور الثانية في حرمة الصلاة على غير وجه الأرض، فيجمع بينهما بالحمل على الكراهة و لو بمعنى أنه ترك الأفضل.

و عليه: فجميع العناوين المأخوذة في الأسئلة تعم موارد الجمع العرفي. فصارت النتيجة: أنه لو أشكل في صدق عنوان التعارض على موارد التوفيق العرفي لكفى في شمول الأخبار العلاجية لها ما اشتمل من تلك الأخبار على الأمر و النهي.

(1) أي: يعم موارد التوفيق العرفي.

(2) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من أدلة القول المشهور و هو عدم شمول الأخبار العلاجية للتوفيقات العرفية، و قد تقدم توضيح هذا الوجه فراجع.

(3) أي: من الأسئلة، و ضمير «غيرها» راجع إلى موارد الجمع العرفي. و تقدم توضيح هذا الوجه مع ما يرد عليه.

(4) خبر «و دعوى» و جواب عنها.

(5) أي: غاية الأمر: أن غير موارد الجمع العرفي كان كذلك أي: متيقنا خارجا لا في مقام التخاطب.

(6) الذي هو الصالح لتقييد المطلق، لا المتيقن مطلقا و لو كان خارجيا نظير ما مرّ آنفا.

(7) أي: بالإشكال الذي ذكره بقوله: «و يشكل بأن مساعدة العرف...» الخ، ينقدح وجه القول الثاني و هو التعميم و إجراء الترجيح و التخيير مطلقا و لو في موارد الجمع

ص: 305

القول الثاني (1)، اللهم إلاّ أن يقال (2): إن التوفيق في مثل الخاص و العام و المقيّد و المطلق كان عليه السيرة القطعية من لدن زمان الأئمة «عليهم السلام»، و هي (3) العرفي، و محصل وجه هذا القول هو: شمول إطلاق أخبار العلاج للمورد الجمع العرفي، و عدم صلاحية الانصراف إلى غير موارد الجمع العرفي لتقييد إطلاقها؛ لكون التيقن خارجيا غير مستند إلى التخاطب و الانفهام من اللفظ كما مر آنفا.

=============

(1) و هو التعميم و الحكم بجريان التخيير و الترجيح في موارد التوفيق العرفي، و هو منسوب إلى جماعة، منهم الشيخ الطوسي في العدة و الاستبصار، و المحقق القمي. و بعض المحدثين.

و كيف كان؛ فملخص وجه القول الثاني هو عدم الموجب لاختصاص الأسئلة بغير تلك الموارد، و شمول جل العناوين المأخوذة في الأسئلة لموارد الجمع العرفي جميعا.

(2) هذا شرع في تصحيح قول المشهور - و هو عدم شمول أخبار العلاج لموارد الجمع العرفي.

حاصل التصحيح: هو تسليم الإشكال المتقدم من عدم الموجب لاختصاص الأسئلة بغير موارد الجمع العرفي، و أن جلّ العناوين المأخوذة في الأسئلة لو لا كلها هو مما يعم موارد الجمع العرفي؛ لكن السيرة القطعية من لدن زمان الأئمة «عليهم السلام» كانت قائمة على الجمع بين العام و الخاص و المطلق و المقيد، و غيرهما من موارد الجمع العرفي، فهي تكشف إجمالا عن وجود ما يوجب تخصيص أخبار العلاج بغير موارد الجمع العرفي.

فالمتحصل: أن السيرة القطعية كاشفة عن مخصص يخصص أخبار العلاج، فيثبت حينئذ قول المشهور أعني: عدم شمول أخبار العلاج للتوفيق العرفي.

و فيه: أنه بعد الاعتراف بعموم أخبار العلاج سؤالا و جوابا لموارد الجمع العرفي، و عدم انصرافها عنها أبدا لا يكاد تصح السيرة القطعية أصلا، و ذلك لكون الأخبار بعمومها رادعة عن السيرة.

و هذا بخلاف ما إذا أنكرنا شمولها لموارد الجمع العرفي و ادعينا انصرافها إلى غير موارد الجمع العرفي، فتكون السيرة حينئذ مما لا رادع عنها فتكون معتبرة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(3) يعني: و السيرة القطعية كاشفة عن مخصص يخصص أخبار العلاج، فيثبت حينئذ المشهور أعني: عدم شمول أخبار العلاج للتوفيق العرفي.

ص: 306

كاشفة إجمالا عمّا يوجب تخصيص أخبار العلاج بغير موارد التوفيق العرفي؛ لو لا (1) دعوى اختصاصها به (2)، و أنها (3) سؤالا و جوابا بصدد الاستعلام و العلاج (4) في موارد التحيّر و الاحتياج، أو دعوى (5) الإجمال و تساوي (6) احتمال العموم مع احتمال الاختصاص، و لا ينافيها (7) مجرد صحة...

=============

(1) هذا إشارة إلى وجه القول المشهور الذي أفاده بقوله: «و قصارى ما يقال في وجهه: إن الظاهر من الأخبار العلاجية...» الخ.

و حاصله: أن تخصيص الأخبار العلاجية إنما يصح فيما إذا كان لها عموم يشمل موارد التوفيق العرفي، و أما إذا لم يكن لها عموم؛ بأن يكون موضوع تلك الأخبار خصوص موارد التحيّر - دون غيرها كموارد الجمع العرفي التي لا يتحيّر العرف في استفادة المراد منها - كان خروج موارد التوفيق العرفي بالتخصيص الذي هو خروج موضوعي لا بالتخصيص.

لكن المصنف «قدس سره» منع هذا الوجه بقوله: «و يشكل بأن مساعدة العرف على الجمع و التوفيق...» الخ.

(2) أي: اختصاص أخبار العلاج. و ضمير «به» راجع إلى «بغير».

(3) عطف على «اختصاصها»، و ضميره «راجع إلى أخبار العلاج.

(4) الأول أعني: «الاستعلام» راجع إلى السؤال، و الثاني أعني: «العلاج» راجع إلى الجواب، و «في موارده» متعلق ب «الاستعلام».

(5) عطف على «دعوى اختصاصها»، و حاصله: أن دعوى التخصيص منوطة بعدم اختصاص ظهور أخبار العلاج بغير موارد الجمع العرفي، أو بعدم إجمالها الناشئ عن تساوي احتمالي العموم و الاختصاص، إذ مع صحة هاتين الدعويين لا مجال لدعوى التخصيص كما هو واضح؛ لكن المصنف «قدس سره» منع هذه الدعوى بقوله:

«و دعوى أن المتيقن منها غيرها...» الخ.

(6) عطف تفسيري ل «الإجمال».

(7) أي: و لا ينافي دعوى الإجمال، و هذا إشارة إلى توهم و دفعه.

أما التوهم فهو: أن صحة السؤال عن مطلق التعارض الشامل للتوفيق العرفي تكشف عن العموم، و هو صالح للرادعية عن السيرة، فدعوى السيرة تنافي هذا العموم.

و أما الدفع فمحصله: أن المنافاة منوطة بظهور اللفظ في العموم حتى يصلح للرادعية، و مجرد السؤال عن مطلق التعارض لا يثبت العموم؛ لأن صحته أعم من

ص: 307

السؤال لما (1) لا ينافي العموم ما لم يكن (2) هناك ظهور (3) أنه لذلك (4)، فلم يثبت (5) بأخبار العلاج ردع عمّا هو (6) عليه بناء العقلاء و سيرة العلماء، من (7) التوفيق و حمل (8) الظاهر على الأظهر، و التصرف فيما يكون صدورهما قرينة عليه (9) فتأمل.

=============

احتمال العموم؛ لكفاية احتماله في صحة السؤال، و احتماله لا ينافي السيرة و لا يردعها.

هذا بناء على ما في أكثر النسخ حتى المطبوعة أخيرا المصححة على النسخة الأصلية المخطوطة بقلم المصنف؛ و لكن في نسخة العلامة الرشتي «قدس سره»: «و لا ينافيهما» بتثنية الضمير الراجع إلى كلتا الدعويين - أي: دعوى الاختصاص و دعوى الإجمال - و لا بأس به.

(1) متعلق ب «السؤال» و الأولى تبديله ب «عما».

(2) هذا إشارة إلى دفع التوهم المذكور بقولنا: «و أما الدفع فمحصله...» الخ.

(3) بالرفع مضافا إلى كلمة «أنه» و ضمير «أنه» راجع إلى «السؤال».

(4) أي: للعموم، يعني: ما لم يكن هناك ظهور كون السؤال للعموم، و هذا الظهور غير ثابت؛ لكون السؤال أعم من الظهور و احتماله.

(5) هذه نتيجة قوله: «اللهم إلا أن يقال»، و محصلها: أن أخبار العلاج إما ظاهرة في خصوص التعارض الموجب للتحيّر عرفا، أو مجملة، و المتيقن منها غير موارد الجمع العرفي، أو عامة لموارد الجمع العرفي أيضا.

و على جميع التقادير: تكون موارد التوفيق العرفي خارجة عن حريم تلك الأخبار إما تخصصا كما في الأول و إما تيقنا كما في الثاني، و إما تخصيصا كما في الثالث؛ لكشف السيرة القطعية عن المخصص.

(6) هذه الكلمة زائدة فيكفي أن يقال: «ردع عما عليه بناء العقلاء».

(7) بيان ل «ما» الموصول، و قوله: «سيرة» عطف على «بناء».

(8) هذا و قوله: «و التصرف» معطوفان على «التوفيق» و مفسران له.

(9) أي: على التصرف؛ كما إذا قال: «لا تصم يوم عاشوراء» ثم قال: «صم يوم عاشوراء»، حيث إنه يحمل الأول على الكراهة و الثاني على الرخصة.

قوله: «فتأمل» لعله إشارة على أنه - بناء على عموم أخبار العلاج - لا بد من الالتزام برادعيته للسيرة القطعية التي عليها أبناء المحاورة في التوفيقات العرفية كسائر السير القطعية المردوع عنها بعموم أو إطلاق، و قطعيتها لا تمنع عن ردع أخبار العلاج لها.

فالأولى في دفع الإشكال منع العموم، و دعوى ظهور أخبار العلاج في خصوص

ص: 308

التعارض الحقيقي، و عدم الدليل على الردع - عن هذه السيرة القطعية - الذي هو كاف في إمضائها.

أو إشارة إلى أن الأخبار شاملة لمورد الجمع العرفي؛ إلا إن الإجماع أو السيرة مخصصة، لا أن الأخبار لا تشمله، فخروج موارد الجمع العرفي إنما هو بالتخصيص لا بالتخصص. و الفرق بينهما أظهر من الشمس.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخّص البحث في أمور:

1 - الغرض من عقد هذا الفصل: بيان اختصاص أخبار العلاج بموارد التعارض الحقيقي أو شمولها موارد الجمع العرفي، فيه قولان:

القول الأول - أعني: الاختصاص - هو المنسوب إلى المشهور.

القول الثاني - و هو عدم الاختصاص - منسوب إلى جماعة كالشيخ الطوسي و المحقق القمي و بعض المحدّثين.

2 - استدل على المشهور بوجهين:

أحدهما: أن الظاهر من الأخبار العلاجية سؤالا و جوابا هو موارد التحيّر، و لا تحير في موارد الجمع العرفي.

و ثانيهما: أن المتيقن منها هو غير موارد الجمع العرفي، فلا تجري أحكام التعارض من التخيير و الترجيح في موارد الجمع العرفي.

3 - الإشكال على الوجه الأول: هو منع اختصاص الأسئلة بغير موارد الجمع العرفي لأحد وجوه:

1 - أنه يمكن أن يكون السؤال عن حكم كلي التعارض الشامل للمستقر و الزائل؛ كموارد التوفيق العرفي.

2 - أنه يمكن أن يكون السؤال - عن حكم مطلق التعارض - لأجل التحير في الحكم الواقعي و إن لم يكن تحير في الحكم الظاهري، و التحير في الحكم الواقعي كاف في صحة السؤال عن حكم المتعارضين و إن كان بينهما جمع عرفي.

3 - أنه يمكن أن يكون عموم السؤال لموارد الجمع العرفي لأجل احتمال الراوي منع الشارع و ردعه عن الجمع العرفي، و هذا الاحتمال يوجب صحة السؤال عن موارد الجمع العرفي.

ص: 309

هذا تمام الكلام في الإشكال على الوجه الأول.

4 - و أما الإشكال في الوجه الثاني: فيمكن بأحد وجهين:

أحدهما: أنه لا مورد هنا للأخذ بالمتيقن؛ إذ مورده إجمال الدليل و عدم ظهوره في معنى، و المفروض: أن إطلاق الأخبار العلاجية الشامل - لموارد الجمع العرفي - باق على حاله.

ثانيهما: إنه - بعد تسليم عدم الإطلاق - لا مجال أيضا للأخذ بالمتيقن؛ لأن المتيقن المجدي في تقييد الإطلاق هو المتيقن في مقام التخاطب لا المتيقن الخارجي و المقام من قبيل الثاني لا الأول.

5 - تصحيح قول المشهور - على فرض تسليم الإشكال المتقدم من عدم الموجب لاختصاص السؤالات بغير موارد الجمع العرفي - بأن السرة القطعية قائمة على الجمع بين العام و الخاص و المطلق و المقيد، و غيرهما من موارد الجمع، و هي كاشفة عن وجود مخصص تخصص به أخبار العلاج بغير موارد الجمع العرفي، فبعد خروج موارد الجمع عن الأخبار العلاجية بالتخصيص يثبت ما هو المشهور أعني عدم شمول أخبار العلاج موارد الجمع العرفي.

6 - رأي المصنف «قدس سره»:

عدم جريان ما يستفاد من الأخبار العلاجية من التخيير أو الترجيح في موارد الجمع العرفي.

ص: 310

فصل (1)

قد عرفت (2) حكم تعارض الظاهر و الأظهر، و حمل (3) الأول على الآخر، فلا إشكال (4) فيما إذا ظهر أن أيهما ظاهر و أيهما أظهر، و قد ذكر فيما اشتبه الحال لتمييز ذلك (5) ما لا عبرة به أصلا، فلا بأس بالإشارة إلى جملة منها (6) و بيان (7) ضعفها:

=============

فصل فى ذكر بعض المرجحات التى ذكروها لترجيح احد الظاهرين

في جملة من المرجحات النوعية للدلالة

(1) المقصود من عقد هذا الفصل: هو ذكر جملة من المرجحات للدلالة.

و التعرض لما قيل في تمييز الظاهر و الأظهر - في الموارد التي اشتبه فيها الحال - و تزييفه، فالبحث في هذا الفصل صغروي و هو: إثبات الأظهر و تمييزه عن الظاهر، كما أن ما أفاده في أوائل التعادل و الترجيح من تقدم الأظهر على الظاهر و سائر التوفيقات العرفية بحث كبروي.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(2) يعني: في أوائل التعادل و الترجيح، حيث قال: «و لا تعارض أيضا إذا كان أحدهما قرينة على التصرف في الآخر كما في الظاهر مع النصّ أو الأظهر».

(3) عطف على «حكم» و مفسر له، فإن حكم تعارضهما هو حمل الظاهر على الأظهر.

(4) هذا متفرع على ظهر - بحسب الكبرى - من حكم الظاهر و الأظهر، و أنه لا إشكال في تقديم الأظهر فيما إذا تميز عن الظاهر، و أما في موارد الاشتباه و عدم إحراز الأظهر، فقد ذكروا لتمييزه وجوها ضعيفة سيأتي بيانها.

(5) أي: الأظهر و ضمير «به» راجع إلى «ما» الموصول المراد به الوجوه الضعيفة، و تذكيره باعتبار لفظ «ما» لا معناه.

(6) أي: من الوجوه التي لا عبرة بها.

(7) بالجر عطف على «الإشارة»، و ضمير «ضعفها» راجع إلى «الوجوه».

ص: 311

منها (1): ما قيل في ترجيح ظهور العموم على الإطلاق، و تقديم التقييد على التخصيص فيما دار الأمر بينهما: «من (2) كون ظهور العام في العموم تنجيزيا (3)، بخلاف ظهور المطلق في الإطلاق فإنه (4) معلق على عدم البيان و العام يصلح (5) بيانا،

=============

في ترجيح العموم على الإطلاق

(1) أي: من تلك الوجوه الضعيفة: ما أفاده الشيخ «قدس سره» في الرسائل من أنه إذا دار الأمر بين التقييد و التخصيص قدّم الأول على الثاني لوجهين:

الأول: أظهرية العام في العموم من المطلق في الإطلاق؛ لكون ظهور الأول تنجيزيا حيث إنه مستند إلى الوضع، و الثاني: تعليقيا، لكونه معلقا على مقدمات الحكمة التي منها عدم البيان، و العام صالح للبيانية، فعدم الأخذ بالإطلاق حينئذ إنما هو لعدم تمامية مقتضيه، بخلاف العكس؛ إذ تمام المقتضي للعموم - و هو الوضع - موجود، فلا وجه لرفع اليد عنه للزوم الدور الذي سيأتي تقريبه إن شاء الله تعالى.

مثلا: إذا ورد: «أكرم الشاعر و لا تكرم الفساق»، و كان هناك شاعر فاسق، دار الأمر بين إخراجه عن وجوب إكرام الشاعر بالتقييد بغير الفاسق و بين إخراجه عن عموم حرمة إكرام الفساق بالتخصيص، و الحكم بوجوب إكرامه، فيقال: إن التقييد أولى من التخصيص، حيث إن ظهور «الفساق» في العموم بالوضع، و ظهور «الشاعر» في الإطلاق بمقدمات الحكمة التي هي غير تامة، لما عرفت من صلاحية العام للبيانيّة؛ لأن دلالة العام تنجيزية لا تتوقف على غير الوضع، بخلاف دلالة الإطلاق - الموضوع لنفس الطبيعة - على الشمول؛ فإنها معلقة على عدم البيان؛ لكون المولى بصدد بيان مراده، فعدم تقييده إكرام الشاعر بالعدالة كاشف عن موضوعية نفس الشاعر لوجوب الإكرام و لو كان فاسقا، و من المعلوم: انتفاء هذه بورود البيان و هو العام المفروض صلاحيته للبيانية على ايراد من المطلق.

(2) بيان «ما» الموصول في «ما قيل»، و هذا بيان حاصل كلام الشيخ «قدس سره».

(3) لاستناده إلى الوضع الذي لم يعلّق على شيء؛ لكونه المقتضي التام للظهور.

(4) أي: ظهور المطلق في الإطلاق معلّق على عدم البيان الذي هو جزء المقتضي للإطلاق، فظهور العام لتمامية مقتضيه - و هو الوضع - منجز غير معلق على شيء، بخلاف إطلاق المطلق، فإنه معلق على تمامية مقتضيه المنوطة بعدم البيان.

(5) لكونه تنجيزيا باعتبار تماميّة مقتضيه و هو الوضع كما مرّ مرارا.

ص: 312

فتقديم العام حينئذ (1) لعدم تمامية مقتضى الإطلاق معه بخلاف العكس (2) فإنه (3) موجب لتخصيصه بلا وجه إلا (4) على نحو دائر.

و من (5) «أن التقييد أغلب من التخصيص».

و فيه (6): أن عدم البيان الذي هو جزء...

=============

(1) أي: حين تنجيزيته و صلاحيته للبيانية، و «لعدم» خبر «فتقديم»، و ضمير «معه» راجع إلى «العام» و «مقتضى الإطلاق» بصيغة اسم الفاعل، و المراد به مقدمات الحكمة.

فالنتيجة: أن ظهور العام تنجيزي و المطلق تعليقي.

(2) و هو تقديم المطلق على العام المستلزم لتخصيص العام - كالفساق في المثال - بالمطلق و هو الشاعر، و إخراج الشاعر الفاسق عن حرمة إكرام الفساق، فإن هذا التقديم لا وجه له، ضرورة: أن هذا التخصيص منوط بتمامية المقدمات المقتضية للإطلاق، و قد عرفت عدم تماميتها.

و بعبارة أخرى: يدور الأمر بين تقديم العام على المطلق و بين تخصيص العام، و تقديم العام يلزمه تقيّد المطلق لا تقييده؛ لفرض: عدم جريان المقدمات فيه حتى يستفاد الشيوع من المطلق، فلا يراد من المطلق حينئذ إلا الطبيعة المهملة. و أما تقديم المطلق و تخصيص العام به فهو إما بلا ميزان و ضابط، و إما دوري، و كلاهما باطل، فيتعين تقديم العام على المطلق.

(3) أي: فإن العكس - و هو تقديم المطلق على العام - موجب لتخصيص العام بلا وجه، و هذا تعليل لعدم المطلق على العام، و محصله: أن هذا التقديم بلا وجه أي: اقتراح محض و ليس بميزان؛ لما مر من عدم تمامية المطلق حتى يصح تخصيص العام به؛ لتوقف تماميته على عدم البيان.

(4) استثناء من «بلا وجه» يعني: أن هذا التخصيص يكون بلا وجه إلاّ بنحو محال، و هو الدور؛ إذ العمل بالتعليقي - و هو المطلق - موقوف على طرح التنجيزي و هو العام؛ إذ مع وجوده لا يتحقق المطلق، و طرح التنجيزي منوط بالعمل بالتعليقي، و هذا دور واضح.

(5) عطف على «من كون» و إشارة إلى الوجه الثاني من وجهي تقديم التقييد على التخصيص عند الدوران بينهما، و محصله: أن التقييد في المحاورات أكثر من التخصيص، و هذه الأكثرية ربما توجب أظهرية العام في العموم من ظهور المطلق في الإطلاق.

(6) هذا إشكال على الوجه الأول: و هو كون ظهور العام تنجيزيا و ظهور المطلق تعليقيا. و مبنى الإشكال هو: النزاع في أن البيان المأخوذ عدمه في انعقاد الإطلاق هل هو

ص: 313

المقتضي (1) في مقدمات الحكمة، إنما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا إلى الأبد (2)، و أغلبية (3) التقييد مع كثرة...

=============

البيان حال إلقاء الكلام، فإذا كان المولى في مقام البيان و لم يأت بالمقيد المتصل انعقد الإطلاق في كلامه ؟ أم أن البيان المأخوذ عدمه في مقدمات الحكمة هو البيان إلى الأبد لا خصوص عدمه في حال التخاطب. ظاهر كلام الشيخ «قدس سره» هو الثاني، و مختار المصنف هو الأول، و قد ناقش «قدس سره» كلام الشيخ هنا و في بحث المطلق و المقيد و في الفوائد.

و بعد الإشارة إلى مبنى الإشكال نقول في توضيحه: إن عدم البيان - الذي هو من مقدمات الحكمة التي يتوقف عليها الإطلاق - إنما هو عدم البيان في خصوص مقام التخاطب لا مطلقا حتى في دليل منفصل. و عليه: فظهور المطلق في الإطلاق معلّق على عدم البيان في مقام التخاطب، فلا دخل لعدم البيان المنفصل في انعقاد الظهور في الإطلاق، فبعدم البيان في مقام التخاطب يصير الظهور في الإطلاق تنجيزيا كتنجيزية ظهور العام، فيقع التعارض بين الظهورين التنجيزيين؛ لا بين التنجيزي و التعليقي كما أفاده الشيخ «قدس سره».

نعم اتصال العام بالمطلق يمنع انعقاد الظهور في الإطلاق؛ لكون العام بيانا في مقام التخاطب؛ لكنه خارج عن مفروض البحث و هو انعقاد الظهور في كل منهما، و الخلاف في تعيين الأظهر منهما.

(1) بصيغة اسم الفاعل، و المراد به مقدمات الحكمة، فالأولى إسقاط أحدهما؛ لإغناء كل منهما عن الآخر.

(2) يعني: حتى لو ورد البيان منفصلا عن المطلق بمدة مديدة، و المفروض: هنا ورود العام منفصلا عنه، و بعد استقرار الظهور في كل من العام و المطلق يتعارضان، و لا وجه لتقديم العام.

(3) هذا إشارة إلى الإشكال على الوجه الثاني، و هو كون التقييد أغلب من التخصيص.

و محصل الإشكال وجهان:

أحدهما: منع أغلبية التقييد من التخصيص، لبلوغ التخصيص في الكثرة بمثابة قيل فيه: ما من عام إلا و قد خصّ .

و ثانيهما: أن هذه الأغلبية - بعد تسليمها - غير مفيدة؛ لعدم كونها موجبة للظن في مورد الشك أولا، و عدم حجيته على فرض حصوله ثانيا.

ص: 314

التخصيص (1) بمثابة قد قيل: ما من عام إلاّ و قد خص، غير مقيد (2)، فلا بد (3) في كل قضية من ملاحظة خصوصياتها (4) الموجبة لأظهرية أحدهما من الآخر، فتدبر (5).

و منها (6): ما قيل فيما إذا دار بين التخصيص و النسخ - كما إذا ورد...

=============

(1) هذا إشارة إلى الوجه الأول، و هو منع أغلبية التقييد من التخصيص.

(2) خبر «و أغلبية»، و هذا إشارة إلى ثاني وجهي الإشكال، و الأولى أن يقال: «غير مفيدة» بالتاء لما يعتبر من المطابقة في التأنيث و التذكير بين المبتدأ و الخبر، فإن «غير مفيدة» خبر لقوله: «و أغلبية».

(3) هذا متفرع على عدم تمامية الوجهين المتقدمين اللذين أقيما على ترجيح ظهور العام على ظهور المطلق.

و غرضه: أنه بعد عدم ثبوت ترجيح ظهور العام على ظهور المطلق بالوجهين المذكورين - و صلاحية كل منهما للتصرف في الآخر، و عدم لزوم محذور الدور و التخصيص بلا وجه - لا بد في إثبات الأظهرية في كل قضية من ملاحظة خصوصياتها من القرائن المقالية و المقامية الموجبة؛ لأظهرية العام أو المطلق أو تكافؤهما في الظهور.

(4) أي: خصوصيات القضية، و ضمير «أحدهما» راجع إلى العام و المطلق.

(5) يمكن أن يكون إشارة إلى: أن عدم البيان في مقام التخاطب يتوقف عليه أصل ظهور المطلق في الإطلاق، و أما حجيته بحيث يصح التمسك به فهي مشروطة بعدم البيان إلى الأبد كالمخصص المنفصل، فإن العام ظاهر في العام؛ و لكن حجيته في العموم منوطة بعدم ورود مخصص منفصل، فالعمل بالمطلق أو العام قبل ورود المقيد و المخصص كالعمل بالأصل قبل ورود الدليل، فكما أنه لا مورد للعمل بالأصل بعد الظفر بالدليل، فكذلك العمل بالمطلق أو العام بعد الظفر بالمقيد أو المخصص. و لعل مراد الشيخ من عدم البيان هو عدم البيان في مقام التخاطب في انعقاد أصل الظهور، و عدم البيان أبدا في حجيته بقاء؛ لا توقف أصل الظهور عليه، فإنه مما لا يظن من أحد احتماله.

دوران الأمر بين التخصيص و النسخ

(6) أي: من الموارد التي اشتبه في كون أي الدليلين أظهر «ما قيل...» الخ. فقوله:

«منها» عطف على «منها ما قيل...» الخ، و ضمير «منها» راجع إلى ما يستفاد من قوله:

«ما لا عبرة به أصلا» من الوجوه الضعيفة التي ذكرت لتمييز الأظهر عن الظاهر، و الضمير المستتر في «دار» راجع إلى «الأمر الخاص» أي: دار أمر الخاص بين كونه مخصصا للعام أو منسوخا به. و محصل هذا الوجه في دوران الأمر بين التخصيص

ص: 315

عام (1) بعد حضور (2) وقت العمل بالخاص - حيث يدور بين أن يكون الخاص مخصصا أو يكون العام ناسخا، أو (3) ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، حيث يدور بين أن يكون الخاص مخصصا للعام، أو ناسخا له و رافعا (4) لاستمراره و دوامه في وجه (5) تقديم التخصيص على النسخ من (6) غلبة التخصيص و ندرة النسخ.

=============

و النسخ هو: أغلبية التخصيص الموجبة لتقديمه على النسخ، و قد ذكر المصنف لهذا الدوران موردين: أحدهما: ما أشار إليه بقوله: «إذا ورد عام بعد حضور وقت العمل بالخاص. و ثانيهما: ما أشار إليه بقوله: «أو ورد الخاص...» الخ. و حاصل المورد الأول:

أنه إذا ورد عام بعد حضور وقت العمل بالخاص كما إذا قال: «أكرم زيدا الأمير» و بعد حضور زمان العمل به «لا تكرم الأمراء» فإنه يدور الأمر بين مخصصية الخاص للعام و ناسخية العام للخاص. توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) إشارة إلى المورد الأول.

(2) تقييد ورود العام بكونه بعد حضور وقت العمل بالخاص يكون لأجل تقوّم النسخ بحضور وقت العمل؛ إذ لو ورد العام قبل حضور وقت العمل بالخاص تعيّن التخصيص، و لا يدور الأمر بينه و بين النسخ.

(3) عطف على «ورد عام» و إشارة إلى المورد الثاني - و هو عكس السابق - كما ورد خاص بعد حضور وقت العمل بالعام كقوله «عليه السلام» في ما رواه معاوية بن عمار:

«العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج على من استطاع»(1)، و بعد العمل بهذا العام ورد:

«أن النائي لا يجب عليه العمرة المفردة و الواجب عليه هو عمرة التمتع».

فيدور أمر هذا الخاص بين المخصصية و الناسخية، فتقديم الخاص و إن كان مسلّما، لكن الكلام في أنه للتخصيص أو للنسخ.

(4) عطف على «ناسخا» و مفسّر له، و ضمائر «له، لاستمراره، دوامه» راجعة إلى «العام».

(5) متعلق ب «قيل» يعني: ما قيل في وجه تقديم التخصيص على النسخ.

(6) بيان «ما» الموصول في قوله: «ما قيل».

و حاصل البحث: - على ما في «منتهى الدراية، ج 8، ص 256» - أن الوجه في تقديم

ص: 316


1- الكافي 4/265:4، علل الشرائع 408:2 /ب 144، ح 1، تهذيب الأحكام 433:5 / 1502، الوسائل 1411/8:11.

و لا يخفى (1): أن دلالة...

=============

التخصيص على النسخ - عند الدوران بينهما - هو غلبة التخصيص و ندرة النسخ.

ثم إن الفرق بين النسخ و التخصيص - بعد وضوح وجوب العمل بالخاص المتأخر عن زمان العمل بالعام مطلقا سواء كان ناسخا أم مخصصا - هو: أنه بناء على التخصيص يكون الخاص كاشفا عن كون الحكم الواقعي هو مؤدى الخاص، و أن العام لم يكن مرادا جدّيا من أول الأمر، فإن لم يعمل بالعام لم يكن عاصيا، بل متجريا، لعدم عمله بما كان حجة عليه ظاهرا و هو العام.

و بناء على النسخ يكون العام حكما واقعيا، فإن لم يعمل به كان عاصيا، حيث إن النسخ عبارة عن رفع دوام الحكم و قطع استمراره، فالعام مراد جدي للشارع ما لم يرد ناسخ له، و مع ورود الناسخ يرتفع استمرار حكم العام، نظير الأحكام الموقتة المرتفعة بخروج أوقاتها؛ بل الحكم المنسوخ منها حقيقة. فمع فرض كون العام من الموقتات التي يجب قضاؤها بعد خروج أوقاتها يجب قضاؤها بناء على النسخ، لأن الواجب الواقعي فات عنه في وقته فوجب عليه قضاؤه. و لا يجب قضاؤها بناء على التخصيص؛ لعدم الوجوب واقعا للعام.

و الحاصل: أن غلبة التخصيص على النسخ في المحاورات تلحق المشكوك بالغالب و هو التخصيص.

و كيف كان؛ فالمعروف تعليل ذلك بشيوع التخصيص و ندرة النسخ.

(1) هذا إشكال على الوجه المزبور: و هو غلبة التخصيص على النسخ الذي جعله الشيخ و غيره وجها لترجيح التخصيص على النسخ في الصورتين المذكورتين في المتن.

و محصل الإشكال هو: أنه بناء على الوجه المذكور ذكر في تقديم التقييد على التخصيص - من كون ظهور العام في العموم تنجيزيا و ظهور المطلق في الإطلاق تعليقيا - يلزم تقديم النسخ في المقام على التخصيص؛ لأن دلالة كل دليل على الاستمرار تكون بالإطلاق، فالدلالة على الاستمرار تعليقية لكونها بالمقدمات، لا تنجيزية؛ لعدم كونها بالوضع، فإذا دل دليل بالوضع على قطع ذلك الاستمرار قدم ذلك الدليل عليه؛ لكونه بالوضع قاطعا للاستمرار و مانعا عن تحقق الإطلاق المنوط بعدم البيان؛ لكون الدليل القاطع للاستمرار بيانا. فإذا ورد «أكرم زيدا الشاعر» و بعد حضور وقت العمل به ورد «لا تكرم الشعراء» فإن دلالة الخاص على استمرار وجوب إكرام زيد الشاعر تكون بالإطلاق لا بالوضع، و دلالة حرمة إكرام كل شاعر من زيد و غيره من الأفراد تكون

ص: 317

الخاص (1) أو العام (2) على الاستمرار و الدوام إنما هو بالإطلاق لا بالوضع، فعلى الوجه العقلي (3) في تقديم التقييد على التخصيص كان (4) اللازم في هذا الدوران (5) تقديم النسخ على التخصيص و أيضا (6)، و أن (7) غلبة التخصيص إنما توجب أقوائية بالوضع بناء على وضع الجمع المحلّى باللام للعموم، و حيث إن الظهور الوضعي تنجيزي و الإطلاقي تعليقي يقدّم العام و يصير ناسخا أي: رافعا لاستمرار حكم الخاص. و كذا الحال في عكس المثال و هو: ما إذا ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، فإن مقتضى تقدم الظهور التنجيزي على التعليقي كما عرفت هو كون الخاص ناسخا لا مخصصا.

=============

فالمتحصل: أن هذا الوجه - أي: تنجيزية الظهور و تعليقيته - يقتضي كون العام ناسخا في المثال الأول، و كون الخاص ناسخا للعام في المثال الثاني. و عليه: فلا بد من الالتزام بالنسخ في الموردين دون التخصيص كما ذهب إليه الشيخ و غيره كما عرفت.

(1) هذا في المورد الأول أعني به: ورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاص.

(2) هذا في المورد الثاني، و هو ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام.

(3) و هو كون ظهور العام في العموم تنجيزيا و ظهور المطلق في الإطلاق تعليقيا، و هذا الوجه العقلي هو الذي ذكره مرجحا لتقديم التقييد على التخصيص بقوله: «من كون ظهور العام في العموم تنجيزيا، بخلاف ظهور المطلق في الإطلاق...» الخ.

(4) هذا ما يتعلق به قوله: «فعلى الوجه» يعني: فعلى الوجه العقلي «كان اللازم...» الخ.

(5) أي: في الدوران بين النسخ و التخصيص، و قد عرفت وجه اللزوم، و هو كون دلالة الدليل على الاستمرار بالإطلاق و دلالة العام على العموم - الذي هو بيان لقطع استمرار الدليل المقابل له - بالموضع، فلا بد حينئذ من تقديم النسخ على التخصيص.

(6) يعني: كتقديم التقييد على التخصيص كما تقدم في دوران الأمر بين التخصيص و التقييد.

(7) عطف على «أن دلالة الخاص»، و هذا متمم للجواب عن تقديم التخصيص على النسخ لأجل الغلبة.

توضيحه: أن غلبة التخصيص لا تجدي في رفع اليد عن الظهور الوضعي للعام بالظهور الإطلاقي، إلا إذا أوجبت أقوائية الظهور الإطلاقي في الاستمرار من الظهور الوضعي للعام في العموم، و لا توجب الغلبة ذلك إلا إذا كانت مرتكزة في أذهان العرف

ص: 318

ظهور الكلام في الاستمرار و الدوام من ظهور العام في العموم إذا كانت مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة (1) تعدّ من القرائن المكتنفة بالكلام (2)؛ و إلاّ (3) فهي و إن كانت مفيدة للظن بالتخصيص، إلا إنها غير موجبة لها (4) كما لا يخفى.

ثم إنه بناء على اعتبار عدم (5) حضور وقت العمل (6) في التخصيص - لئلا (7) يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة -، يشكل (8) الأمر في تخصيص الكتاب أو بحيث تعدّ عندهم من القرائن المكتنفة بالكلام الموجبة للظهور. و ليست الغلبة كذلك، فلا يعتد بها، و إن كانت مفيدة للظن بالتخصيص؛ لكن مجرد الظن بالتخصيص لا يوجب وهنا في ظهور الكلام في العموم، و لا أقوائية ظهوره في الدوام.

=============

(1) متعلق بقوله: «مرتكزة».

(2) بحيث توجب أظهرية الكلام في الاستمرار من الظهور الوضعي للعام في العموم.

(3) أي: و إن لم تكن الغلبة مرتكزة في أذهان أبناء المحاورة، فالغلبة و إن كانت حينئذ مفيدة للظن بالتخصيص؛ لكنها لا توجب أقوائية الظهور التي هي مناط تقديم التخصيص على النسخ.

(4) أي: لأقوائية ظهور الكلام، و ضميرا «فهي، أنها» راجعان إلى الغلبة.

(5) غرضه: تحقيق حال الخصوصات الواردة عن أهل البيت المعصومين «عليهم السلام» بعد العمل بالعمومات الواردة في الكتاب و السنة.

و محصل الإشكال فيها: أنه بناء على اشتراط التخصيص بورود الخاص قبل زمان العمل بالعام - حتى لا يلزم القبح و هو تفويت الغرض بتأخير البيان عن وقت الحاجة - يشكل الأمر في تلك الخصوصات، إذ لو كان ورودها بعد العمل بالعام يلزم هذا القبح، فلا يمكن الالتزام بمخصصية تلك الخصوصات لعمومات الكتاب و السنة، كما أنه لا يمكن الالتزام بناسخيتها أيضا لتلك العمومات لاستلزامه كثرة النسخ في الشريعة الواحدة مع قلته و كثرة التخصيص.

و ببيان آخر: الخاص مخصص إن كان قبل زمان الحاجة أي: قبل العمل بالعام و إن كان بعده فهو ناسخ و ليس بمخصص، فلا دوران بين المخصصية و الناسخية.

(6) أي: وقت العمل بالعام، فإن تخصيصه منوط بورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام.

(7) هذا تعليل لاعتبار كون التخصيص قبل زمان العمل بالعام و قد مرّ توضيحه.

(8) خبر «إنه» يعني: ثم إنه «يشكل الأمر في تخصيص الكتاب...» الخ.

ص: 319

السنة (1) بالخصوصات الصادرة عن الأئمة «عليهم السلام»؛ فإنها (2) صادرة بعد حضور وقت العمل بعموماتها، و التزام نسخهما بها (3) و لو قيل (4) بجواز نسخهما

=============

(1) المراد بالسنّة هنا هي السنّة النبوية بقرينة صدور الخصوصات من الأئمة «عليهم السلام»؛ لا بمعنى ما يقطع بكونه من الدين كما هو المقصود من أخبار العرض على الكتاب و السنة.

(2) يعني: فإن الخصوصات صادرة... الخ، و هذا تقريب الإشكال المزبور، يعني:

و المفروض: أنها صادرة بعد العمل بالعام، فلا يمكن أن تكون مخصصة لعمومات الكتاب و السنة.

و الحاصل: أنه يمكن تقريب الإشكال بوجهين:

أحدهما: عدم معقولية دوران الخاص المتأخر عن العام بين النسخ و التخصيص؛ إذ مع وروده قبل العمل بالعام يتعيّن التخصيص، و بعد العمل بالعام يتعيّن النسخ فلا دوران بينهما.

ثانيهما: أن أمر تلك الخصوصات دائر بين أمرين يبعد الالتزام بهما.

الأول: حملها على النسخ بعد انقضاء الوحي، بأن يقال: إن الناسخ مما أنشأه النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و أخفاه لمصلحة عن الناس، و أودعه عند الوصي «عليه السلام» ليظهره عليهم عند وجود المصلحة في إظهاره. و وجه بعده ما قيل: من ندرته خصوصا فيما كان إظهاره عنهم «عليهم السلام» لا عن النبي «صلى الله عليه و آله و سلم».

الثاني: حملها على التخصيص، مع الالتزام باحتفاف العام الكتابي بما يخصصه، و عمل السابقين بالخاص لعلمهم به؛ لكنه اختفى فأظهره الإمام «عليه السلام» لأهل عصره.

و وجه بعده: أن عموم البلوى بتلك الخصوصات الموجب لتوفّر الدواعي إلى نقلها و ضبطها - حتى لا تقع الطبقات المتأخرة في خلاف الواقع - يوجب الاطمئنان بعدم علم أهل العصر السابق بتلك الخصوصات و القرائن الدالة عليها.

(3) أي: بالخصوصات، و ضميرا «بعموماتهما، و نسخهما» راجعان إلى الكتاب و السنة.

(4) هذا إشارة إلى إشكال النسخ بالروايات الصادرة عن الأئمة «عليهم السلام» بعد انقطاع الوحي، حيث إنهم «عليهم السلام» حفاظ الأحكام لا مشرّعون لها حتى

ص: 320

بالرواية عنهم «عليهم السلام» كما ترى (1).

فلا محيص (2) في حله من أن يقال: إن اعتبار ذلك حيث كان لأجل قبح تأخير ينسخوا شيئا من الأحكام. و لكن دفعوا هذا الإشكال بما سيأتي في كلام المصنف «قدس سره».

=============

(1) خبر «و التزام» و دفع له.

و حاصل هذا الدفع: أن الالتزام المزبور مستلزم لكثرة النسخ حينئذ، و هو خلاف ما التزموا به من قلّة النسخ. مضافا إلى استلزامه عدم كمال الدين في عصره «صلى الله عليه و آله و سلم» و المفروض: أنه كمل - بحسب الآيات و الروايات - في زمانه «صلى الله عليه و آله و سلم» كما يصرح به خطبة الغدير في حجة الوداع: «معاشر الناس ما من شيء يقرّبكم إلى الجنة إلاّ و قد أمرتكم به، و ما من شيء يباعدكم عن النار و إلاّ و قد نهيتكم عنه»(1).

(2) هذا جواب الإشكال الذي ذكره بقوله: «يشكل الأمر في تخصيص الكتاب...» الخ.

توضيحه: أنه يمكن دفع الإشكال بوجوه ثلاثة تعرض المصنف لاثنين منها:

أحدها: عدم لزوم قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة من مخصصية تلك الخصوصات لعمومات الكتاب و السنة كما عليه بناء الأصحاب، بتقريب: أن وجه القبح المزبور هو فوات الغرض من تأخير البيان، فإذا فرض انجبار فواته في إخفاء الخصوصات أو مفسدة في إظهارها في الصدر الأول - كما اتفق ذلك في كثير من الأحكام حيث إن بيانها كان بالتدريج حسب اقتضاء المصلحة - صحّ حينئذ دعوى الالتزام بالتخصيص، و كون التكليف الواقعي مؤدى الخاص، إلاّ إن السابقين عملوا بحكمهم الظاهري الذي هو مقتضى العمومات.

فحاصل هذا الوجه: مخصصية الخصوصات لتلك العمومات من دون لزوم قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لما مرّ آنفا من تدارك فوات الغرض - المانع عن القبح بمصلحة في تأخير البيان.

ثانيها: - أي: ثاني الوجوه الدافعة للإشكال - أنه لا مانع من الالتزام بناسخية تلك الخصوصات بمعنى كونها ناسخة للحكم الظاهري الثابت للعام، لا النسخ بمعناه

ص: 321


1- الكافي 11/83:5، الوسائل 21939/45:17.

البيان عن وقت الحاجة - و كان من الواضح أن ذلك (1) فيما إذا لم يكن هناك مصلحة في إخفاء الخصوصات، أو مفسدة في إبدائها؛ كإخفاء (2) غير واحد من التكاليف في الصدر الأول - لم يكن (3) بأس بتخصيص عموماتهما بها.

=============

الحقيقي، و هو رفع الحكم الواقعي الفعلي الثابت؛ بل ليس العام إلاّ حكما ظاهريا من دون أن يكون حكما فعليا ثابتا واقعا و مرادا جدّيا؛ بل الحكم الثابت واقعا هو مقتضى الخصوصات.

و لا بأس بإرادة النسخ بهذا المعنى بعد اقتضاء المصلحة عدم بيان الحكم الواقعي المطابق لتلك الخصوصات.

ثالثها: أن العمومات كانت مقرونة بقرائن تدل على الحكم الواقعي الذي هو مقتضى الخصوصات، و كان عمل السابقين على طبق الخصوصات؛ لكن خفيت تلك القرائن على أهالي الأعصار المتأخرة، و لذا بيّن لهم الأئمة المعصومون «عليهم السلام» تلك الخصوصات.

فمرجع هذا الوجه إلى كشف تلك الخصوصات عن عمل السابقين بمقتضياتها، و عدم عملهم بالعام، فلا يلزم النسخ و لا تأخير البيان عن وقت الحاجة حتى يوجه ذلك بعدم لزوم القبح من هذا التأخير لأجل المصلحة في إخفاء الخصوصات أو المفسدة في إبدائها.

و أوجه الوجوه الثلاثة التي ذكرت في دفع الإشكال هو الوجه الأول أعني:

التخصيص، و دفع محذور قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بمصلحة الإخفاء أو مفسدة الإظهار.

و يؤيد هذا الوجه: بيان الأحكام تدريجا في صدر الإسلام، و عدم اقتضاء المصلحة بيانها دفعة حتى ورد أن المسلمين في أوّل ظهور الإسلام لم يكلّفوا إلاّ بالتوحيد و اعتقاد الرسالة إلى عشر سنين. و المشار إليه في «ذلك» هو اعتبار عدم حضور وقت العمل بالعام في التخصيص.

(1) أي: قبح تأخير البيان يكون في مورد عدم الجبران، و أمّا في مورد الجبران فلا قبح، و المراد بوقت الحاجة العمل بالعام.

و عليه: فليس تأخير البيان قبيحا ذاتيا كقبح الظلم. حتى لا يتغير عما هو عليه؛ بل هو كالكذب في كونه مقتضيا للقبح، و لذا يرتفع لو زوحم بما هو أهم منه كحفظ النفس و نحوه.

(2) هذا تشبيه بالمنفي، و ضمير «إبدائها» راجع إلى «الخصوصات».

(3) جواب قوله: «حيث كان»، يعني: بعد أن كان وجه قبح التخصيص بعد

ص: 322

و استكشاف (1) أن موردها كان خارجا عن الحكم العام واقعا و إن كان داخلا فيه ظاهرا، و لأجله (2) لا بأس بالالتزام بالنسخ بمعنى رفع اليد بها (3) عن ظهور تلك العمومات بإطلاقها في الاستمرار (4) و الدوام أيضا (5)، فتفطن (6).

=============

حضور وقت العام تفويت الغرض، و كان الغرض الفائت متداركا، فلا بأس بالالتزام بمخصصية الخصوصات الصادرة من الأئمة المعصومين «عليهم السلام» لعمومات الكتاب و السنة.

(1) بالجر عطف على «تخصيص عموماتهما» و مفسّر له، و ضمير «عموماتهما» راجع إلى الكتاب و السنة، و ضميرا «بها، موردها» راجعان إلى الخصوصات، و ضمير «فيه» راجع إلى «حكم العام واقعا»؛ و إن كان داخلا في حكمه ظاهرا بمقتضى أصالة العموم.

(2) هذا بيان الوجه الثاني الذي ذكرناه بقولنا: «ثانيها» أي: ثاني الوجوه الدافعة للإشكال...» الخ، أي، و لأجل عدم البأس بمخصصية الخصوصات المقترن إخفاؤها بالمصلحة أو إظهارها بالمفسدة - مع تأخّرها عن زمان العمل بالعمومات - لا مانع من الالتزام بالنسخ بمعنى رفع اليد عن ظهور العمومات في الاستمرار الثابت لها بالإطلاق الأزماني. و النسخ هنا يكون في الحكم الظاهري بالخصوصات التي هي أحكام واقعية، فالنسخ كما يكون في الأحكام الواقعية كذلك يكون في الأحكام الظاهرية؛ لكن تسمية هذا بالنسخ خلاف الاصطلاح.

(3) أي: بالخصوصات.

(4) متعلق ب «ظهور» و الباء في «بإطلاقها» للسببيّة و متعلق ب «ظهور» أيضا.

يعني: رفع اليد بسبب الخصوصات عن ظهور العمومات في الاستمرار الثابت بسبب إطلاقها الأزماني، لما مر من أن للعام ظهورا وضعيا في الأفراد و إطلاقيا في الأحوال و الأزمان، و الخصوصات الواردة بعد العام ترفع إطلاقه الأزماني.

(5) قيد للنسخ، يعني: أنه كما لا بأس بالالتزام بتخصيص عمومات الكتاب و السنة بتلك الروايات كذلك بالالتزام بناسخيتها لتلك العمومات بهذا المعنى من النسخ.

(6) لعله إشارة إلى ضعف الوجه الثاني و هو النسخ بالمعنى المزبور؛ لأنه تخصيص حقيقة أي: بيان للحكم الواقعي الذي هو مؤدى الخاص؛ إذ المفروض: أن العام لم يكن مرادا جديا - و حكما واقعيا فعليا - حتى ينسخ بالخاص؛ بل كان العمل به مبنيا على أصالة العموم.

ص: 323

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - المقصود من عقد هذا الفصل: هو ذكر جملة من المرجحات للدلالة و التعرض لتمييز الظاهر عن الأظهر عند اشتباه الحال فيهما.

و قيل بالوجوه الضعيفة لتميز الأظهر عن الظاهر في الموارد التي اشتبه الحال فيها.

و من تلك الوجوه ما ذكره الشيخ من أنه إذا دار الأمر بين التقييد و التخصيص قدّم الأول على الثاني لوجهين:

الوجه الأول: أظهرية العام في العمومات من المطلق في الإطلاق لكون ظهور الأول تنجيزيا حيث إنه مستند إلى الوضع، و الثاني تعليقيا لكونه معلّقا على مقدمات الحكمة التي منها عدم البيان و العام صالح للبيانية، فلا بد من الأخذ بالعام دون المطلق.

الوجه الثاني: أن التقييد في المحاورات أكثر من التخصيص و هذه الأكثرية ربما توجب أظهرية العام في العموم من ظهور المطلق في الإطلاق.

2 - الإشكال على كلا الوجهين:

و أما على الوجه الأول فحاصله: أن عدم البيان - الذي هو من مقدمات الحكمة التي يتوقف عليها الإطلاق - هو عدم البيان في خصوص مقام التخاطب - لا إلى الأبد -.

و عليه: فظهور المطلق في الإطلاق معلّق على عدم البيان في مقام التخاطب، فلا دخل لعدم البيان المنفصل في انعقاد الظهور في الإطلاق، فبعدم البيان في مقام التخاطب يصير ظهور المطلق في الإطلاق تنجيزيا كظهور العام في العموم، فيقع التعارض بين الظهورين التنجيزيين لا بين التنجيزي و التعليقي، فلا وجه لتقديم العام على المطلق بهذا الوجه.

3 - و أما الإشكال على الوجه الثاني: فلمنع أغلبية التقييد من التخصيص؛ لبلوغ التخصيص في الكثرة على حدّ قيل: «و ما من عام إلاّ و قد خصّ »، هذا مضافا إلى أن هذه الأغلبية - على فرض تسليمها - غير مفيدة لعدم كونها مفيدة للظن في مورد الشك أولا و لعدم الظن الحاصل من الأغلبية بحجة على فرض حصوله ثانيا.

4 - و من الوجوه التي ذكرت لتمييز الأظهرية عن الظاهر هو: تقديم التخصيص على النسخ في دوران الأمر بينهما.

و قد ذكر صاحب الكفاية لهذا الدوران موردين:

ص: 324

المورد الأول: ما إذا ورد عام بعد حضور وقت العمل بالخاص كما إذا قال: «أكرم زيدا الأمير»، ثم قال بعد وقت العمل بالخاص: «لا تكرم الأمراء».

المورد الثاني: ما إذا ورد خاص بعد حضور وقت العمل بالعام، فيدور أمر الخاص في هذا المثال بين المخصصية و الناسخية، فتقديمه على العام و إن كان مسلّما لكن الكلام في أنه للتخصيص أو النسخ.

و كيف كان؛ فإن الوجه في تقديم التخصيص على النسخ في دوران الأمر بينهما هو غلبة التخصيص و ندرة النسخ.

و حاصل الإشكال عليه: أن غلبة التخصيص لا تجدي في رفع اليد عن الظهور الوضعي للعام في العموم بالظهور الإطلاقي؛ إلاّ إذا أوجبت أقوائية الظهور الإطلاقي في الاستمرار من الظهور الوضعي للعام في العموم، و لا توجب الغلبة ذلك إلاّ إذا كانت مرتكزة في أذهان العرف؛ بحيث تعد عندهم من القرائن المكتنفة بالكلام الموجبة للظهور، و ليست الغلبة كذلك فلا يعتدّ بها.

5 - الإشكال في الخصوصات الواردة بعد حضور وقت العمل بالعمومات.

و الإشكال مبني على اشتراط التخصيص بورود الخاص قبل زمان العمل بالعام - حتى لا يلزم قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة - و عليه: فلا يمكن الالتزام بمخصصية تلك الخصوصات لعمومات الكتاب و السنة، كما لا يمكن الالتزام بناسخيتها لهما؛ لاستلزامه كثرة النسخ في الشريعة الواحدة مع قلته و كثرة التخصيص.

6 - و يمكن تقريب الإشكال بوجهين:

أحدهما: عدم معقولية دوران الخاص المتأخر عن العام بين النسخ و التخصيص؛ إذ مع وروده قبل العمل بالعام يتعين التخصيص. و بعد العمل به يتعيّن النسخ فلا دوران بينهما.

ثانيهما: أن أمر تلك الخصوصات بين أمرين لا يمكن الالتزام بهما لبعدهما.

أحدهما: حملها على النسخ بعد انقضاء الوحي، و هذا نادر جدا لو قيل بصحته.

ثانيهما: حملها على التخصيص، فيلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، و هو قبيح عن الحكيم فلا يمكن الالتزام به.

7 - جواب الإشكال بوجهين:

أحدهما: عدم لزوم قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة من مخصصية تلك الخصوصات لعمومات الكتاب و السنة لوجود مصلحة في تأخير البيان، كما اتفق ذلك

ص: 325

في كثير من الأحكام في صدر الإسلام.

و ثانيهما: أنه لا مانع من الالتزام بناسخية تلك الخصوصات، بمعنى: كونها ناسخة للحكم الظاهري الثابت للعام لا النسخ بمعناه الحقيقي و هو رفع الحكم الواقعي الفعلي الثابت؛ بل ليس العام إلا حكما ظاهريا من دون أن يكون حكما ثابتا واقعا، و كان مرادا جديا؛ بل الحكم الثابت واقعا هو مقتضى الخصوصات، و لا باس بإرادة النسخ بهذا المعنى بعد اقتضاء المصلحة عدم بيان الحكم الواقعي المطابق لتلك الخصوصات.

8 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - عدم صحة تقديم التقييد على التخصيص عند دوران الأمر بينهما.

2 - عدم صحة تقديم التخصيص على النسخ عند دوران الأمر بينهما.

3 - حمل الخصوصات الواردة بعد العمل بالعام؛ إما على كونها مخصصة لها للمصلحة في تأخير البيان.

و إما على كونها ناسخة للحكم الظاهري الثابت للعام لا النسخ بمعناه الحقيقي.

ص: 326

فصل (1)

لا إشكال في تعيين الأظهر لو كان في البين إذا كان التعارض بين الاثنين. و أما إذا

=============

في انقلاب النسبة

(1) الغرض من عقد هذا الفصل: تعيين الأظهر فيما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين، و أنه هل تنقلب النسبة بين مثل العام و الخصوصات المتعددة من العموم و الخصوص إلى نسبة أخرى أم لا؟

و قبل الخوض في البحث ينبغي تحرير ما هو محل الكلام في هذا الفصل.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: بيان الاحتمالات في المقام:

الاحتمال الأول: أن يكون أحد الدليلين عاما أو مطلقا و الآخر خاصا أو مقيدا، فلا إشكال في تقديم الخاص على العام و المقيد على المطلق.

الاحتمال الثاني: أن يكون الدليلان عامين من وجه، فلا إشكال في تعارضهما في مادة الاجتماع و الرجوع إلى المرجحات.

الاحتمال الثالث: أن يكون في المقام ثلاثة أدلة أو أكثر؛ كما لو ورد: «أكرم العلماء»، و ورد: «لا تكرم فساق العلماء»، و ورد: «لا تكرم النحويين».

و هنا يكون دليل أعم مطلقا و هو «أكرم العلماء»، و دليلان أخص مطلقا و هما «لا تكرم فساق العلماء» و «لا تكرم النحويين».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن هذا الاحتمال الثالث هو محل الكلام.

و الحق عند المصنف - و هو المشهور - أن يقدم الخاصان على العام، فيحرم إكرام فساق العلماء و إكرام النحويين.

و قد وقع اشتباه لبعض الأعلام - و هو الفاضل النراقي - حيث توهم انقلاب النسبة؛ بأن يخصص «أكرم العلماء» مثلا أولا ب «لا تكرم فساق العلماء»، و حينئذ تكون النسبة بين «أكرم العلماء غير الفساق» و بين «لا تكرم النحويين» عموما من وجه؛ لأنهما يجتمعان في النحوي العادل و يختص الأول بالفقيه العادل و الثاني بالنحوي الفاسق، و هذا الاشتباه مما لا وجه له؛ إذ لما ذا لا يقدّم أحد التخصيصين على التخصيص الآخر

ص: 327

كان بين الزائد عليهما، فتعيّنه (1) ربما لا يخلو من خفاء.

=============

و يقع التعارض في مادة الاجتماع بين العام و كلا الخاصين في مرتبة واحدة، فلا يلزم الانقلاب و قد انعقد هذا الفصل لدفع هذا التوهم.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) أي: فتعيّن الأظهر.

و مقصوده من هذه العبارة: أن البحث في هذا الفصل صغروي كما كان كذلك في الفصل السابق، لا كبروي.

و بيانه: أن الأحكام المتقدمة في الفصول السابقة لتعارض الخبرين - كالتخيير بينهما المدلول بأخبار العلاج، و الاقتصار على المرجحات المنصوصة لو قيل بوجوب الترجيح و غير ذلك - لا تختص بموارد تعارض الخبرين؛ بل تشمل ما إذا كان التعارض بين أخبار ثلاثة أو أربعة أو أزيد؛ بل قد يكون التعارض بين طوائف ست أو سبع من الأخبار، فحكم تعارض أكثر من دليلين - أيضا - هو الجمع الدلالي إن كان بينها حكومة أو أظهرية، و التخيير إن لم يكن بينها ذلك أو توفيق عرفي، سواء كانت الأدلة متكافئة في وجوه الترجيح أم متفاضلة بناء على مختار المصنف من إنكار وجوب الترجيح بالمزايا المنصوصة و غيرها.

فإن كان التعارض بين خبرين، فإن أمكن التوفيق العرفي بينهما؛ بأن كان أحدهما أظهر من الآخر فهو، و إلاّ فلا بد من إعمال قانون التعارض من الترجيح أو التخيير بينهما.

و إن كان التعارض بين أخبار ثلاثة أو أكثر فتقديم بعضها على بعض من باب الجمع الدلالي يتوقف على كون ذلك البعض أظهر من غيره، و تشخيص الأظهر هنا لا يخلو من صعوبة، و لذا عقدوا هذا البحث لمعرفته. و عليه: فهذا الفصل يتكفّل تمييز الأظهر عن الظاهر، و سيظهر ارتباط معرفة الأقوى دلالة من المتعارضات ببحث انقلاب النسبة.

توضيح المقام: - على ما في «منتهى الدراية، ج 8، ص 266» - أن النسبة بين الأدلة الثلاثة المتعارضة أو أكثر إما متحدة - بأن تكون عموما مطلقا فقط، و من وجه كذلك - و إما متعددة؛ بأن تكون النسبة بين البعض عموما مطلقا و بين البعض الآخر عموما من وجه، و سيأتي الكلام في النسبة المتعددة في آخر هذا الفصل فانتظر. و الكلام فعلا فيما إذا كانت النسبة متحدة، فإما تبقى على حالها بعد ملاحظة بعضها مع بعضها الآخر، و إما تنقلب أخرى بعد العلاج.

مثال الأول: ما إذا ورد: «يجب إكرام الأمراء، و يحرم إكرام الفساق، و يستحب

ص: 328

إكرام النحويين»، فإن النسبة بين الأول و بين كل واحد من الآخرين عموم من وجه، سواء لوحظ مع أحدهما أم لم يلاحظ؛ لثبوت هذه النسبة بينها فيل لحاظه مع أحدهما و بعده، و ذلك لأن نسبة «أكرم الأمراء» مع «حرمة إكرام الفساق» و كذا مع «استحباب إكرام النحويين» عموم من وجه، و بعد ملاحظة «أكرم العلماء» مع أحدهما تكون تلك النسبة محفوظة؛ لأن «أكرم العلماء» بعد ملاحظته مع «حرمة إكرام الفساق» تكون نسبته مع «استحباب إكرام النحويين» تلك النسبة السابقة؛ إذ مفاد «أكرم العلماء» بعد ملاحظته مع «حرمة إكرام الفساق» هو «وجوب إكرام الأمراء العدول»، و من المعلوم: أن نسبته مع «استحباب إكرام النحويين» أيضا عموم من وجه، و موارد اجتماعهما هو الأمير العادل النحوي.

و لا إشكال في حكم صورة اتحاد النسبة قبل العلاج و بعده، فإنه يعامل مع مورد اجتماع العامين من وجه معاملة التعارض من الترجيح أو التخيير على الخلاف في تعارض الدليلين أو الأدلة.

و مثال الثاني: - أعني: انقلاب النسبة - ما إذا ورد: «أكرم الأمراء»، ثم ورد «لا تكرم فساقهم»، و ورد أيضا: «يكره إكرام الأمراء الكوفيين»، فإن النسبة بين الأول و كل من الأخيرين عموم مطلق؛ لكن بعد تخصيصه بأحدهما تنقلب النسبة بينه و بين الآخر إلى العموم من وجه؛ إذ النسبة بين «أكرم الأمراء العدول» بعد ملاحظته مع «لا تكرم فساقهم»، و بين «يكره إكرام الأمراء الكوفيين» عموم من وجه؛ لاجتماعهما في الأمير الكوفي العادل و افتراقهما في الأمير غير الكوفي و في الأمير الكوفي الفاسق.

فعلى تقدير صحة انقلاب النسبة تلاحظ النسبة الحادثة دون النسبة السابقة، ففي مادة الاجتماع - و هي في المثال: الأمير الكوفي غير الفاسق - يقدّم الراجح من الدليلين - و هما العام المخصص و الخاص الآخر - على الآخر إن كان هناك راجح؛ و إلاّ فالتخيير بينهما أو غيره من أحكام التعارض.

و على تقدير عدم صحة الانقلاب يخصص العام بكل من الخاصين مع الغض عن الآخر إن أمكن إخراجهما عن العام، كما إذا بقي للعام بعد إخراجهما عنه مورد كالمثال المزبور، حيث إنه بعد إخراج «فساق الأمراء» و «الأمراء الكوفيين» عن العام و هو «وجوب إكرام الأمراء» يبقى له مورد مع «الأمراء العدول غير الكوفيين»، و إن لم يمكن إخراجهما عنه بأن لم يبق للعام مورد؛ كما إذا ورد «أكرم الأمراء، و لا تكرم فساقهم، و يستحب

ص: 329

و لذا (1) وقع بعض الأعلام في اشتباه و خطأ، حيث (2) توهّم: أنه إذا كان هناك إكرام عدول الأمراء»، فإنه لا يمكن تخصيص العام بكليهما لعدم بقاء مورد له، فلا محالة يقع التعارض بين العام و كلا الخاصين، و يجري عليهما حكم المتباينين.

=============

و قد ينعكس الأمر فتنقلب نسبة العموم من وجه إلى العموم المطلق؛ كما إذا ورد:

«أكرم العلماء، و لا تكرم الفساق، و يكره إكرام الأمراء الفساق»، فإن النسبة بين الأول و الثاني عموم من وجه و بين الثاني و الثالث عموم مطلق كما هو واضح، فإذا خصص الثاني بالثالث و صار مفاده «حرمة إكرام الفساق إلا فساق الأمراء، فإنه يكره إكرامهم» انقلبت نسبة الأخص من وجه بين «أكرم الأمراء و لا تكرم الفساق» إلى الأخص المطلق؛ إذ مفادهما حينئذ «وجوب إكرام الأمراء إلاّ فساقهم».

هذا، و قد تنقلب نسبة الأعم و الأخص مطلقا إلى التباين؛ كما إذا ورد: «أكرم الأمراء و لا تكرم فساق الأمراء و يستحب إكرام عدول الأمراء»، فإن النسبة بين العام و بين كل من الخاصين عموم مطلق كما هو واضح؛ إلاّ إن تخصيصه بالخاص الأول - و صيرورة مفاده بعد التخصيص وجوب إكرام الأمراء العدول - أوجب انقلاب النسبة إلى التباين؛ لمباينة هذا المفاد مع استحباب إكرام الأمراء العدول.

إذا عرفت معنى انقلاب النسبة، و أن المقصود من هذا البحث تعيين الأظهر من بين الأدلة المتعارضة، فاعلم: أنه وقع الخلاف في أنه هل يلاحظ نسبة كل خاص مع العام مع الغض عن الخاص الآخر - أن يخصّص العام بكل واحد من الخصوصات في رتبة واحدة - أم يلاحظ نسبة العام إلى خاص، و بعد تخصيصه به يلاحظ ثانيا مع الخاص الآخر و هكذا؟

فيه قولان نسب الأول إلى المشهور، و الثاني: إلى العلامة النراقي «قدس سره» حيث إنه يلاحظ العام مع أحد الخصوصات، و بعد تخصيصه به يلاحظه مع سائر الخصوصات و قيل: إن استدلاله في الفقه يدور عليه.

و لكن التحقيق الذي ذهب إليه المصنف و غيره هو الأول، فالمدار عند الفاضل النراقي على النسبة الحادثة، و عند غيره على النسبة السابقة الأولية التي كانت بين العام و بين كل واحد من الخصوصات، فيخصص بكل واحد منها - مع الغض عن الآخر - بتلك النسبة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) أي: و لخفاء الأظهر وقع بعض الأعلام - و هو الفاضل النراقي - في الخطأ و الاشتباه.

(2) هذا تمهيد لبيان الاشتباه الذي وقع فيه الفاضل النراقي.

ص: 330

عام (1) و خصوصات (2)، و قد خصّص (3) ببعضها (4)، كان اللازم ملاحظة النسبة بينه و بين سائر الخصوصات بعد تخصيصه به، فربما تنقلب النسبة (5) إلى عموم و خصوص من وجه، فلا بد من رعاية هذه النسبة (6) و تقديم (7) الراجح منه (8) و منها أو التخيير (9) بينه و بينها لو لم يكن هناك راجح لا تقديمها (10) عليه؛ إلاّ إذا كانت النسبة...

=============

(1) مثل: أكرم العلماء.

(2) نحو: لا تكرم فساقهم و لا تكرم النحويين.

(3) أي العام.

(4) الخصوصات نحو: لا تكرم فساقهم، فكان اللازم ملاحظة النسبة بين العام و بين سائر الخصوصات نحو: «لا تكرم النحويين» بعد تخصيص العام بالخاص الأول.

(5) التي كانت بين العام و الخاص الثاني «إلى عموم و خصوص من وجه» بعد ما كانت عموما و خصوصا مطلقا. فقوله: «فربما تنقلب النسبة» متفرع على الملاحظة المزبورة، يعني: قد توجب هذه الملاحظة انقلاب النسبة من العموم و الخصوص المطلق إلى الخصوص من وجه، فلا بد من مراعاة هذه النسبة الجديدة بترتيب أحكامها من الأخذ بالراجح منهما إن كان و إلا فالتخيير.

(6) أي: نسبة العموم و الخصوص من وجه التي انقلبت إليها النسبة السابقة.

(7) عطف على «رعاية» و مفسر لها.

(8) أي: من العام المخصص و من سائر الخصوصات.

(9) عطف على «تقديم» يعني: لا بد من رعاية هذه النسبة بتقديم الراجح من العام المخصص و سائر الخصوصات إن كان هناك راجح، أو التخيير بينهما إن لم يكن هناك راجح. و ضمير «بينه» راجع إلى العام المخصص، و ضمير «بينها» راجع إلى «سائر الخصوصات».

(10) عطف على «ملاحظة» يعني: كان اللازم ملاحظة النسبة... لا تقديمها - أي:

لا تقديم الخصوصات على العام - كما يقول به غير الفاضل النراقي «قدس سره»؛ إلاّ إذا كانت النسبة التي كانت قبل التخصيص محفوظة بعده و لم تنقلب إلى نسبة أخرى، فإن انقلبت إليها كان اللازم مراعاة النسبة المنقلبة.

و مثال محفوظية النسبة - و عدم انقلابها بعد تخصيص العام بأحد الخاصين - ما إذا ورد: «أكرم الشعراء، و لا تكرم الشعراء البصريين، و لا تكرم الشعراء الكوفيين»، فإن تخصيص العام ب «لا تكرم الشعراء البصريين» لا يوجب انقلاب نسبة العموم المطلق إلى

ص: 331

بعده (1) على حالها.

و فيه (2): أن النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات. و تخصيص العام بمخصّص نسبة أخرى؛ بل هي باقية على حالها، ضرورة: أن «أكرم الشعراء» قبل تخصيصه ب «لا تكرم الشعراء البصريين» كان أعم مطلقا من «لا تكرم الشعراء الكوفيين»، و هذه الأعمية باقية أيضا بعد التخصيص به، و لم تنقلب إلى نسبة أخرى لوضوح: أعمية «الشعراء غير البصريين» من «الشعراء الكوفيين».

=============

هذا توضيح كلام الفاضل النراقي «قدس سره» و حاصله: كون المدار في العلاج هو النسبة الحادثة؛ إلاّ إذا كانت النسبة السابقة باقية على حالها بعد تخصيص العام بأحد الخصوصات.

(1) أي: بعد تقديمها - أي: تقديم الخصوصات و ضمير «حالها» راجع إلى النسبة.

(2) هذا إشارة إلى جواب المصنف عن كلام الفاضل النراقي.

و توضيح ما أجاب به المصنف عن كلام الفاضل النراقي يتوقف على مقدمة، و هي أن مركز النسبة بين الدليلين أو الأدلة هو الظهور العرفي الثابت لهما أو لها.

ثم إن المخصص المنفصل مما لا يصادم أصل ظهور العام في العموم، و إنما يصادم حجيته بالنسبة إلى مورد الخاص تحكيما للنص أو الأظهر عليه.

نعم القرائن المتصلة تمنع عن انعقاد الظهور.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا يرتفع ظهور العام في العموم بالمخصص المنفصل؛ بل يخصّص العام بكل واحد من المخصصات في مرتبة واحدة من دون انقلاب ما كان بينها و بين العام قبل التخصيص من النسبة؛ لأن وجه تقديم كل خاص على عامّه - و هو الأظهرية في مورد تصادق العنوانين - متحقق في كل واحد من الخصوصات فلا وجه لتقديم أحد الخاصين في تخصيص العام به، ثم ملاحظة نسبة العام المخصص مع الخاص الثاني؛ لأن تقديم أحد الخاصين و انقلاب نسبة العام و مع الخاص الآخر إمّا ترجّح بلا مرجح أي: معلول بلا علة و إمّا ترجيح بلا مرجح.

و الظاهر: أن مبنى الانقلاب هو تخيّل انثلام الظهور بالقرائن المنفصلة كالمتصلة؛ لكنه فاسد لوضوح: ترتب الظهور قهرا على مجرد الاستعمال. و القرينة المنفصلة لا تصادم هذا الظهور أصلا؛ بل تصادم حجيته فقط كما يقول به المشهور.

و كيف كان؛ فظهور العام محفوظ على حاله و لو بعد تخصيصه بأحد الخاصين، فكانت النسبة بينه و بين الخاص الآخر عموما مطلقا كما كانت كذلك قبل تخصيصه

ص: 332

منفصل - و لو كان قطعيا - لا ينثلم (1) به ظهوره و إن انثلم به حجيته.

و لذلك (2) يكون بعد التخصيص حجة في الباقي، لأصالة عمومه (3) بالنسبة إليه.

لا يقال (4): إن العام بعد تخصيصه بالقطعي لا يكون مستعملا في العموم قطعا، فكيف يكون ظاهرا فيه ؟

=============

بأحد الخاصين، فيعامل معهما معاملة العام و الخاص لا معاملة العامين من وجه كما يقول الفاضل النراقي.

(1) توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية: «لا ينثلم» خبر «و تخصيص العام»، و «ظهوره» فاعل «ينثلم»، و ضمير «به» راجع إلى «تخصيص» و ضمير «ظهوره» إلى «العام».

(2) يعني: و لأجل عدم انثلام الظهورات بالقرائن المنفصلة يكون ظهور العام في العموم باقيا على الحجيّة بعد التخصيص بالمخصص المنفصل بالنسبة إلى الباقي، فإنه لو كان التخصيص رافعا لظهوره في العموم لم يكن حجة في الباقي؛ إذ مع ارتفاع الظهور لا يبقى موضوع للحجية.

و بالجملة: فجريان أصالة العموم - التي هي من الأصول المرادية المثبتة لكون الظواهر مرادة للمتكلم - أقوى شاهد على بقاء الظهور النوعي بعد التخصيص بالمنفصل.

(3) أي: لأصالة عموم العام بالنسبة إلى الباقي بعد التخصيص، و حاصله: أن بقاء الظهور بعد التخصيص يوجب حجية العام في الباقي؛ لأصالة العموم؛ إذ جريانها منوط بوجود موضوعه و هو الظهور، فكأنه قيل: «العام بعد تخصيصه باق على ظهوره في العموم، و لذا يجري فيه أصالة العموم، فيكون العام حجة في الباقي».

(4) و حاصل الإشكال: هو منع الظهور للعام في العموم مع تخصيصه بالمخصص القطعي كالإجماع مثلا، و الظاهر: أن وجه التخصيص بالقطعي في نظر المستشكل هو أن المخصص إذا كان قطعيا فيحصل القطع بعدم كون العام مستعملا في العموم حتى يكون حجة في الباقي؛ إذ مع قطعيّة المخصص لم يستعمل العام في العموم حتى يحصل له ظهور فيه و يكون حجة في الباقي.

و حاصل ما أجاب به المصنف بقوله: «فإنه يقال»: إن المخصص المنفصل القطعي ليس قرينة على عدم استعمال العام في العموم حتى يقال بعدم ظهوره في العموم؛ بل هو قرينة على عدم إرادة المتكلم له، و عدم الإرادة لا يلازم عدم الاستعمال و لا لغوية الاستعمال؛ لإمكان ترتيب فائدة عليه، و هي: إفادة قاعدة كلية تكون مرجعا عند الشك في

ص: 333

فإنه يقال (1): إن المعلوم عدم إرادة العموم؛...

=============

التخصيص، و هذه الفائدة المهمة تترتب على استعمال العام في العموم.

و يشهد بذلك حجية العام - بالاتفاق - في تمام ما بقي بعد التخصيص؛ إذ مع فرض عدم الاستعمال في العموم لا وجه لحجيته في تمام الباقي؛ لاحتمال عدم كون المستعمل فيه تمام الباقي؛ بأن يكون هو بعض مراتب الباقي.

و بعبارة أخرى: العام ظاهر - بمقتضى وضعه أو قرينة المراد - في استيعاب جميع أفراده، و حيث إن المخصّص القطعي أو الظني منفصل عنه حسب الفرض، فلا ينثلم أصل ظهوره في الاستغراق؛ لعدم انقلاب الشيء عمّا وقع عليه، و إنما يكون الخاص مزاحما لحجية العام في مقدار دلالته، فيرجع إلى العام في غير ما أخرجه الخاص، و لا تنقلب النسبة بين العام بعد التخصيص و بين الخاص الآخر؛ لبقاء ظهور العام على حاله و إن لم يكن حجة في مدلول الخاص الأول.

و لو فرض انهدام أصل ظهور العام بعد التخصيص بالمخصص المنفصل - كتخصيص «أكرم الأمراء» ب «لا تكرم فساق الأمراء»، و صيرورة العام مجازا - امتنع التمسك به في الشك في التخصيص الزائد؛ لكون العام مجملا حينئذ و عدم كونه كاشفا عن المراد الجدّي؛ لتعدد مراتب المجاز، فيحتمل إرادة تمام الباقي بعد التخصيص أعني به إكرام الأمراء العدول، كما يحتمل إرادة بعض المراتب كإكرام الأمراء العدول الكوفيين أو إكرام الأمراء العدول الشعراء، و حيث إنه لا معيّن لتمام الباقي بعد المخصّص الأول فهو مجمل لا يصح التمسك به في الشك في التخصيص الزائد.

فإن قلت: أصالة عدم مخصص آخر محكمة، و تدل على نفي التخصيص المشكوك فيه و معه لا يصير العام المخصص مجملا؛ يتعين المراد منه في تمام الباقي ببركة هذا الأصل.

قلت: أصالة عدم مخصص آخر قاصرة عن إثبات إرادة تمام الباقي من العام؛ و ذلك لأن هذا الأصل لا يعيّن المراد من العام المخصص، فإن إرادة تمام الباقي مترتبة على ظهور نفس العام في الباقي و حجيته فيه، و حيث إن المفروض اقتضاء التخصيص للمجازية و تفاوت مراتب المجاز، فلا وجه لإرادة تمام الباقي من الباقي حتى يلاحظ مع الخاص الآخر.

(1) توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية:

قوله: «فكيف يكون ظاهرا فيه» يعني: فكيف يكون العام ظاهرا في العموم مع عدم استعماله فيه ؟ قد تقدم توضيح هذا الجواب فراجع.

ص: 334

لا عدم (1) استعماله فيه لإفادة (2) القاعدة الكلية، فيعمل (3) بعمومها ما لم يعلم بتخصيصها؛ و إلاّ (4) لم يكن وجه في حجيته في تمام الباقي؛ لجواز (5) استعماله حينئذ (6) فيه و في غيره (7) من (8) المراتب التي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص.

و أصالة (9) عدم مخصص آخر لا يوجب (10) انعقاد ظهور له، لا فيه و لا في غيره من (11) المراتب؛...

=============

(1) عطف على «عدم»، و ضمير «استعماله» راجع إلى «العام»، و ضمير «فيه» إلى العموم.

(2) متعلق ب «استعماله»، يعني: لا عدم استعماله فيه لأجل إفادة القاعدة الكلية.

(3) بالنصب، أي: ليعمل بعموم هذه القاعدة الكلية ما لم يعلم بتخصيصها.

(4) أي: و إن لم يكن العام مستعملا في العموم لم يكن وجه لحجيته في تمام الباقي.

(5) علّة لقوله: «لم يكن وجه»، و قد مرّ توضيحه: بقولنا: «إذ مع فرض عدم الاستعمال في العموم لا وجه لحجيته في تمام الباقي».

(6) أي: حين عدم استعمال العام في العموم و حاصله: - بناء على عدم استعمال العام في العموم - لا وجه لحجيته في تمام الباقي بعد التخصيص؛ لإمكان استعماله في جميع الباقي و في غيره من المراتب التي يجوز عند أبناء المحاورة انتهاء التخصيص إليها؛ لعدم لزوم التخصيص المستهجن، مع عدم قرينة معيّنة لمرتبة من مراتب التخصيص.

(7) هذا الضمير و ضمير «فيه» راجعان إلى «تمام الباقي».

(8) بيان ل «غيره»؛ إذ كل مرتبة دون مرتبة تمام الباقي يمكن أن يكون هو المستعمل فيه بعد فرض نصب قرينة على عدم استعمال العام في العموم.

(9) هذا تعريض بالشيخ الأنصاري «قدس سره»: حيث أثبت ظهور العام في تمام الباقي بأصالة عدم التخصيص بمخصص آخر، فلا مانع حينئذ من التمسك بالعام في تمام الباقي و ملاحظة هذا العام المخصص مع الخاص الآخر، و عليه: فلا يلزم انقلاب النسبة حتى لو بنينا على صيرورة العام مجازا بالتخصيص.

(10) هذا ردّ كلام الشيخ و حاصله: أن أصالة عدم مخصص آخر لا توجب انعقاد ظهور العام في تمام الباقي؛ لأن منشأ الظهور إما الوضع و إما القرينة، و كلاهما مفقود كما هو واضح، و ليس للظهور موجب آخر.

(11) بيان ل «غيره»، و ضمير «له» راجع إلى العام، و ضميرا «فيه، غيره» راجعان إلى «تمام الباقي».

ص: 335

لعدم (1) الوضع و لا القرينة المعيّنة لمرتبة منها (2) كما لا يخفى؛ لجواز (3) إرادتها و عدم نصب قرينة عليها.

نعم (4)؛ ربما يكون عدم نصب قرينة مع كون العام (5) في مقام البيان قرينة على إرادة التمام، و هو (6) غير ظهور العام فيه (7) في كل مقام.

فانقدح بذلك (8): أنه لا بد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات مطلقا

=============

(1) هذا و ما بعده - مما عطف عليه - كلاهما تعليل لقوله: «لا يوجب انعقاد ظهور»، و الأول أعني: عدم الوضع هو ما اعترف به القائل بمجازية العام المخصص، و الثاني - أعني عدم القرينة المعيّنة - لوضوح أن شأن الخاص إخراج مدلوله عن العام، و لا يدل على أن المراد من العام بعد التخصيص هو تمام الباقي أم بعضه.

(2) أي: من المراتب.

(3) يعني: يمكن أن يريد المتكلم مرتبة خاصة من مراتب التخصيص و لم ينصب قرينة عليها. فلا يكون العام بعد التخصيص ظاهرا في شيء من المراتب حتى يكون حجة فيه. و ضميرا «عليها، إرادتها» راجعان إلى «مرتبة».

(4) استدراك على قوله: «و لا القرينة المعيّنة» و حاصله: أنه قد يكون في بعض الموارد قرينة خارجية على كون المراد من العام المخصص هو تمام الباقي، و ذلك فيما إذا كانت مقدمات الحكمة من كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده، و عدم مانع من إظهاره، فحينئذ يكون عدم نصب القرينة قرينة على أن مراده تمام الباقي بعد التخصيص المعلوم، و إلاّ لأخلّ بغرضه، فإن السكوت في مقام البيان بيان لعدم دخل شيء آخر في غرضه لكن لا يتفق هذا في جميع الموارد.

(5) هذه إحدى مقدمات الحكمة المثبتة لكون المراد تمام الباقي بعد التخصيص، و الأولى أن يقال: «مع كون المتكلم بهذا العام في مقام البيان».

(6) أي: و عدم نصب قرينة - مع كون المتكلم بالعام في مقام البيان - غير ظهور العام في تمام الباقي في جميع الموارد كما هو المدعى، إذ المدعى ظهور العام المخصص بنفسه في تمام الباقي، لا بمعونة قرينة خارجية.

و كيف كان؛ فعلى هذا الإشكال المتقدم من صيرورة العام مجملا - لو لم يكن حقيقة بعد التخصيص - باق على حاله.

(7) أي: في التمام يعني تمام الباقي.

(8) أي: بما تقدم من قوله: «أن النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات و تخصيص العام

ص: 336

و لو كان (1) بعضها مقدّما أو قطعيا (2) ما لم يلزم منه (3) محذور انتهائه إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه عرفا (4) و لو لم يكن (5) مستوعبة لأفراده، فضلا عما إذا كانت بمنفصل... لا ينثلم به ظهوره...» ظهر أنه. و هذا نتيجة ما تقدم من أنه لا بد من ملاحظة ظاهر كل دليل مع ظاهر دليل آخر، فلو كان هنا عام و أربعة خصوصات مثلا فاللازم تخصيص ذلك العام بكل واحد منها مع الغض عن الآخر، و لا تنقلب النسبة التي كانت بينها قبل التخصيص إلى نسبة أخرى، كما يظهر ذلك من الأمثلة المتقدمة.

=============

(1) بيان للإطلاق، و محصله: أنه لا فرق في لزوم تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات بين تقدم بعضها زمانا على الآخر و عدمه، و بين كون بعضها قطعيا و بعضها ظنيّا، فإنه بعد اجتماع شرائط الحجيّة فيها يلزم تخصيص العام بكل واحد منها في عرض الآخر لا في طول الآخر؛ بأن تخصّص أولا ببعضها ثم بالآخر حتى تنقلب النسبة بين العام المخصّص أولا بذلك البعض، و بين سائر الخصوصات، و يصير المدار على النسبة الحادثة.

(2) موجبا للقطع بعدم استعمال العام في العموم، و عدم إرادة المتكلم له واقعا.

(3) أي: من التخصيص، و قوله: «ما لم يلزم» راجع إلى قوله: «لا بد من تخصيص العام» و شرط له يعني: لا بد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات، بشرط أن لا يلزم من تخصيصه بكل واحد منها محذور تخصيص الأكثر؛ بحيث لا يبقى بعده عموم عرفا؛ لاستهجان هذا التخصيص و قبحه في المحاورات و إن لم يكن مستوعبا لأفراد العام، فضلا عما إذا كان مستوعبا لها، فإذا ورد: «أكرم الأمراء و لا تكرم فساقهم و لا تكرم شعراءهم»، و فرضنا عدم لزوم محذور تخصيص الأكثر من تخصيصه بالخاص الثاني - و لزومه من تخصيصه بالخاص الأول لقلّة عدولهم - لزم حينئذ تخصيص العام بأحد الخاصين على ما سيأتي تفصيله قريبا إن شاء الله تعالى.

(4) و هو تخصيص الأكثر المستهجن و إن لم يكن مستوعبا لأفراد العام.

و ضمير «إليه» راجع إلى الموصول في «ما لا يجوز»، و ضمير «لأفراده» راجع إلى «العام».

(5) الأولى «و لو لم تكن» أو «مستوعبا» بدل «مستوعبة».

و كيف كان؛ فهذه الكلمة لا تخلو من تعريض بعبارة الشيخ الأنصاري، فإنه «قدس سره» اشترط في تخصيص العام بالخصوصات عدم لزوم المحذور و ظاهره إرادة عدم بقاء مورد للعام أصلا بقرينة تمثيله بقوله: «و إن لزم المحذور، مثل قوله: يجب إكرام العلماء

ص: 337

مستوعبة لها، فلا بد حينئذ (1) من معاملة التباين بينه (2) و بين مجموعها، و من (3) ملاحظة الترجيح بينهما و عدمه (4)، فلو (5) رجح جانبها أو اختير - فيما لم يكن هناك و يحرم إكرام فساق العلماء، و ورد يكره إكرام عدول العلماء، فإن اللازم من تخصيص العام بهما بقاؤه بلا مورد، فحكم ذلك كالمتباينين».

=============

و اعترض المصنف عليه في الحاشية كما في المتن بعدم انحصار المحذور في خلوّ العام عن المورد؛ بل إذا بقيت أفراد قليلة تحت العام؛ بحيث بلغ التخصيص إلى حد الاستهجان امتنع تخصيص العام بمجموع الخصوصات، و جرت أحكام التعارض على العام، و تلك المخصصات.

(1) أي: فلا بد حين لزوم المحذور المذكور من معاملة التباين؛ لا معاملة الأعم و الأخص بأن يخصّص العام بتلك الخصوصات. و حق العبارة أن تكون هكذا: «و إن لزم فلا بد حينئذ...» الخ.

(2) أي: بين العام، و ضمير «مجموعها» راجع إلى «الخصوصات».

(3) عطف على «من معاملة التباين» و مفسّر له؛ إذ معاملة التباين عبارة عن ملاحظة الترجيح و عدمه بين المتعارضين، فلو رجحت الخصوصات مع الترجيح - أو اختيرت بدون الترجيح - فلا مجال للعمل بالعام أصلا؛ لعدم إمكان العمل بالعام مع استيعاب الخصوصات لأفراده، فحينئذ تكون الخصوصات بأجمعها كدليل واحد ينافي مدلول العام، نظير منافاة «لا تكرم فساق الأمراء و يستحب إكرام عدولهم» مع «أكرم الأمراء»، فإن من الواضح: امتناع معاملة الأعم و الأخص معها، و تخصيص «أكرم الأمراء» بهما؛ لعدم بقاء مورد له بعد تخصيصه بهما؛ لأنه بمنزلة «لا تكرم الأمراء»، و من المعلوم:

تعارضهما تباينيا، فلا محيص عن معاملة التعارض التبايني معهما كسائر المتعارضات المتباينة.

(4) عطف على «الترجيح»، و ضميره راجع إلى «الترجيح»، و ضمير «بينهما» راجع إلى العام و الخصوصات.

(5) أي: فلو رجّح جانب الخصوصات، و هذا بيان كيفية معاملة التعارض التبايني مع العام و الخصوصات، و حاصله: أنه لو رجّح جانب الخصوصات لرجحانها أو اختيرت بدون الرجحان من باب التخيير، فيسقط العام عن الاعتبار؛ لعدم بقاء مورد له حتى يمكن العمل به و لو أخذ بالعام ترجيحا أو تخييرا، فلا تسقط به الخصوصات إلاّ خصوص الخاص الذي يلزم من تخصيص العام به محذور تخصيص الأكثر؛ كتخصيص

ص: 338

ترجيح - فلا مجال للعمل به أصلا، بخلاف ما لو رجّح طرفه أو قدّم تخييرا، فلا يطرح منها (1) إلاّ خصوص ما لا يلزم مع طرحه المحذور (2) من (3) التخصيص فإن (4) التباين إنما كان بينه (5) و بين مجموعها لا جميعها (6)، و حينئذ (7) فربما يقع التعارض «أكرم الأمراء» في المثال المذكور ب «لا تكرم فساقهم» لكثرة الفساق، بخلاف تخصيصه بالخاص الآخر و هو «يستحب إكرام الأمراء العدول» فيخصص العام به و يطرح «لا تكرم فساقهم»، و لا يخصص به «أكرم الأمراء» فإن مقتضى لزوم تقدير الضرورات بقدرها - و حجيّة كل واحد من الخصوصات بنفسه لشمول دليل الحجيّة له - لزوم التخصيص ببعضها الذي لا يلزم المحذور المذكور من التخصيص به و طرح غيره؛ مما يلزم هذا المحذور منه.

=============

(1) أي: من الخصوصات و ضميرا «به، طرفه» راجعان إلى «العام»، و ضمير «طرحه» راجع إلى الموصول في «ما لا يلزم».

(2) بالرفع فاعل «يلزم»، و اللام فيه للعهد الذكري أي: محذور تخصيص الأكثر.

(3) ظرف لغو متعلق ب «يلزم»، و ضمير «بغيره» راجع إلى «ما» الموصول المراد به المطروح.

(4) تعليل لقوله: «فلا يطرح منها...» الخ و محصله: أن وجه طرح الخاص - الذي يلزم من تخصيص العام به محذور تخصيص الأكثر - هو أن التباين إنما كان بين العام و بين مجموع الخصوصات من حيث المجموع لأنه المعارض للعام، لا بينه و بين كل واحد منها حتى يجب طرح الجميع، فاللازم حينئذ: طرح المجموع و تخصيص العام بخاصّ لا يلزم من تخصيصه به المحذور المذكور، و طرح الخاص الذي يلزم من التخصيص به ذلك المحذور.

(5) أي: بين العام و بين مجموع الخصوصات، لا بين العام و جميع الخصوصات.

(6) و الفرق بين المجموع و الجميع: هو لحاظ مجموع الخصوصات مخصصا واحدا و ليس المعارض للعام كل واحد من الخصوصات حتى يلزم طرحها أجمع على تقدير العمل بالعام؛ بل المعارض هو المجموع الذي يتحقق طرحه بترك العمل ببعض الخصوصات. فلو عمل بالعام و خصّصه ببعض الخصوصات صدق عليه طرح المجموع، و إن لم يصدق عليه طرح الجميع لأن الجميع عنوان مشير إلى آحاد الخصوصات، بخلاف المجموع الذي هو عنوان لعدة أمور يكون لهيئتها الاجتماعية دخل في الحكم.

(7) يعني: و حين عدم طرح جميع الخصوصات - و لزوم الأخذ ببعضها و تخصيص

ص: 339

بين الخصوصات، فيخصّص ببعضها ترجيحا أو تخييرا (1) فلا تغفل.

هذا (2) فيما كانت النسبة بين المتعارضات متحدة (3)، و قد ظهر منه (4) حالها فيما العام به - ربما يقع التعارض بالعرض بين الخصوصات، كما إذا ورد: «أكرم الأمراء، لا تكرم فساق الأمراء، يستحب إكرام العدول منهم»، فإن تخصيص العام بهما مستلزم لعدم بقاء مورد للعام، فيقع التعارض التبايني بين العام و مجموع الخاصين، و لا بد من العلاج. فإن طرحنا العام و عملنا بالخاصين فهو. و إن قدمنا العام لم يجز طرح الخاصين معا كما لا يجوز العمل بهما.

=============

أما عدم جواز طرحهما معا: فلأنهما حجتان، و ما يكون مزاحما للعام واحد منهما لا كلاهما؛ لأن منشأ عدم بقاء مورد للعام هو العمل بهما معا، و حينئذ: فالعام حجة بمقتضى أدلة العلاج، و أحد الخاصين حجة أيضا بمقتضى الأدلة، فيقع التعارض بالعرض بين نفس الخاصين من جهة تعذر العمل بهما معا.

و معنى التعارض بالعرض: هو العلم الإجمالي بعدم شمول أدلة الاعتبار لكلا الخاصين، و أن الحجة منهما أحدهما لا كلاهما. و في مثله تصل النوبة إلى رعاية قانون التعارض، فإن كان أحدهما أقوى دلالة قدّم على الآخر كما في «يستحب إكرام الأمراء» فإنه أظهر في الاستحباب من ظهور «لا تكرم الأمراء» في الحرمة، و إن لم يكن لأحدهما مزية بقوة الدلالة فالحكم هو وجوب الترجيح بالمرجحات إن قلنا بوجوبه، أو التخيير في تخصيص العام بأحد الخاصين إن لم نقل بوجوب الترجيح كما هو مختار الماتن «قدس سره».

و هذا مقصود المصنف من قوله: «فربما يقع التعارض بين الخصوصات».

(1) الترجيح فيما كان له مرجّح، و التخيير فيما لم يكن له مرجّح أو قلنا بالتخيير مطلقا حتى مع وجود المرجّح؛ لكون الترجيح مستحبا لا واجبا.

(2) أي: ما ذكرناه من ملاحظة النسبة بين الظهورات يكون فيما إذا كانت النسبة بين الأدلة المتعارضة متحدة، كما إذا كانت النسبة بينها أخص مطلقا كقوله: «أكرم الأمراء، و لا تكرم الكوفيين منهم، و لا تكرم البصريين منهم»، فإن النسبة بين كل واحد منهما مع «أكرم الأمراء» أخص مطلقا.

(3) كالأمثلة المتقدمة، فإن النسبة بينها متحدة و هي الأخص المطلق.

(4) أي: قد ظهر مما ذكرناه في المتعارضات المتحدة النسبة - من ملاحظة النسبة بينها قبل العلاج - حال المتعارضات المتعددة النسبة في أن النسبة ملحوظة بينها قبل العلاج، و لا تنقلب النسبة بينها بعد العلاج.

ص: 340

كانت النسبة بينها (1) متعددة؛ كما (2) إذا ورد هناك عامّان من وجه (3) مع ما هو أخص مطلقا من أحدهما (4)، و أنه (5) لا بد من تقديم الخاص على العام (6) و معاملة (7) العموم من وجه بين العامّين (8) من (9) الترجيح و التخيير بينهما و إن (10) انقلبت النسبة

=============

(1) هذا الضمير و ضمير «حالها» راجعان إلى «المتعارضات».

(2) هذا بيان للمتعارضات المتعددة النسبة، نظير «أكرم الأمراء و لا تكرم فساقهم، و يستحب إكرام العدول» فإن النسبة بين الأولين أخص مطلقا، فيخصّص الأول بالثاني، و نتيجة هذا التخصيص: «وجوب إكرام الأمراء العدول»، و النسبة بين الأول و الثالث عموم من وجه، فيعامل معهما معاملة هذه النسبة في مورد الاجتماع - و هو الأمير العادل - من تقديم أحدهما على الآخر تعيينا أو تخييرا.

و لا تنقلب نسبة العموم من وجه إلى الأخص المطلق، بأن يخصّص «إكرام الأمراء» ب «لا تكرم فساقهم»؛ لتكون النتيجة بعد هذا التخصيص «وجوب إكرام الأمراء العدول»، ثم تلاحظ نسبته و هي الأخصيّة المطلقة إلى «استحباب إكرام العدول» حتى يجب النسبة التي كانت بينهما قبل تخصيص «أكرم الأمراء» ب «لا تكرم فساقهم» من العموم من وجه.

و الحاصل: أن النسبة بين المتعارضات قبل العلاج لا تنقلب إلى نسبة أخرى بعد العلاج، خلافا لما سيأتي من الشيخ الأنصاري من الالتزام بانقلاب النسبة في بعض موارد تعدد نسبة المتعارضات.

(3) نظير «أكرم الأمراء و يستحب إكرام العدول» كما مرّ آنفا.

(4) مثل: «لا تكرم الأمراء الفساق» فإنه أخص مطلقا من «أكرم الأمراء».

(5) عطف على «حالها»، يعني: و قد ظهر أنه لا بد من تقديم الخاص... الخ.

(6) كتقديم «لا تكرم فساق الأمراء» على «أكرم الأمراء» تخصيصا.

(7) عطف على «تقديم الخاص».

(8) ك «أكرم الأمراء و يستحب إكرام العدول» في المثال المتقدم قريبا.

(9) بيان لمعاملة العموم من وجه، و ضمير «بينهما» راجع إلى «العامّين».

(10) وصلية يعني: أن نسبة العموم من وجه بين العامّين و إن انقلبت إلى نسبة العموم المطلق بعد تخصيص أحد العامّين بخاصّه؛ لكن لا عبرة بهذا الانقلاب، و المدار في الترجيح و التخيير هو النسبة السابقة بين العامّين من وجه، فلا بد في مورد الاجتماع من إعمال الترجيح أو التخيير. و في مثل هذه الصورة خالف المصنف الشيخ في التزامه

ص: 341

بينهما إلى العموم المطلق بعد تخصيص أحدهما (1)؛ لما (2) عرفت: من أنه لا وجه إلاّ لملاحظة النسبة قبل العلاج.

نعم (3)؛ لو لم يكن الباقي...

=============

بانقلاب النسبة، قال: «و إن كانت النسبة بين المتعارضات مختلفة، فإن كان فيها ما يقدم على بعض آخر منها إمّا لأجل الدلالة كما في النص و الظاهر أو الظاهر و الأظهر، و إما لأجل مرجح آخر قدّم ما حقه التقديم، ثم لوحظت النسبة مع باقي المتعارضات، فقد تنقلب النسبة و قد يحدث الترجيح...»(1).

(1) كما عرفت في مثال «أكرم الأمراء»؛ فإنه بعد تخصيصه ب «لا تكرم فساقهم» تنقلب نسبته إلى «يستحب إكرام العدول» من العموم من وجه إلى العموم المطلق، ضرورة: أن نسبة «وجوب إكرام الأمراء العدول» إلى «استحباب إكرام العدول» أخص مطلقا؛ لكن لا تلاحظ هذه النسبة الحادثة؛ بل المدار على النسبة السابقة، و إجراء حكم التعارض في مورد الاجتماع - و هو الأمير العادل - بتقديم دليل الوجوب أو الاستحباب إن كان فيه مزية، و إلاّ فالتخيير.

(2) تعليل لما أفاده من ملاحظة النسبة قبل العلاج و معاملة العموم من وجه بين العامّين و إن انقلبت النسبة بينهما إلى العموم المطلق بعد تخصيص أحدهما كما عرفت تفصيله في المتعارضات المتحدة النسبة.

(3) استدراك على قوله: «و أنه لا بد من تقديم الخاص و معاملة العموم من وجه بين العامّين من الترجيح»، هذا تعريض بالشيخ الأنصاري «قدس سره» حيث إنه قدّم العام كقوله: «أكرم الأمراء» بعد تخصيصه ب «لا تكرم فساقهم» على معارضه و هو «يستحب إكرام العدول» لانقلاب نسبة العموم من وجه بين «أكرم الأمراء»، و بين «يستحب إكرام العدول» بعد تخصيص «أكرم الأمراء» ب «لا تكرم فساقهم» إلى الأخص المطلق؛ لصيرورة «وجوب إكرام الأمراء العدول» أخص مطلقا من «يستحب إكرام العدول» فيخصّصه، و تصير النتيجة بعد التخصيص: استحباب إكرام العدول، إلاّ الأمراء العدول، فإن إكرامهم واجب. و السر في الالتزام بانقلاب النسبة هنا هو: أنه لو لاه لزم إلغاء النّص أو طرح الظاهر المنافي له رأسا، و كلاهما باطل.

و بيانه: أن «أكرم الأمراء» عام عارضه دليلان أحدهما بالعموم المطلق، و الآخر بالعموم

ص: 342


1- فرائد الأصول 111:4.

من وجه. و لو خصّصنا «أكرم الأمراء» ب «يستحب إكرام العدول» بأن تخرج مادة الاجتماع - و هي الأمير العادل - عن حيّز العام و تبقى تحت حكم العام الآخر، فإما أن يخصّص العام المخصص - و هو الأمير الفاسق - بالخاص الآخر و هو «لا تكرم فساقهم»، و يلزم لغوية العام رأسا؛ لعدم بقاء فرد ل «أكرم الأمراء» حينئذ، و إما أن لا يخصص به، فيلزم طرح الخاص أعني: «لا تكرم فساقهم».

و من المعلوم: بطلان كلا اللازمين، فيتعيّن تخصيص العام أولا بخاصّه ثم ملاحظة النسبة مع العام الآخر.

و حاصل تعريض المصنف بما أفاده الشيخ هو: أن التعارض بين الدليلين - كما تقدم في ردّ مقالة الفاضل النراقي - يلاحظ دائما بالنظر إلى ظهور الدليلين قبل علاج التعارض بين أحدهما و معارضه الآخر، فإن العلاج من قبيل رفع المانع؛ لا إحراز المقتضي و هو الظهور. و لا تفاوت في هذا المناط بين تساوي نسبة المتعارضات و تخالفها.

و عليه: فتقديم العام بعد تخصيصه على معارضه لا يصح مطلقا كما يظهر من الشيخ؛ بل يتجه في صورة واحدة و هي: ما إذا لم يبق تحت العام المخصص إلاّ أفراد نادرة بحيث لا يجوز تخصيصهما ثانيا في مورد الاجتماع؛ إمّا لعدم بقاء فرد للعام المخصص، و أما لقلّة أفراده، بحيث يستهجن التخصيص إلى ذلك الحدّ. مثلا إذا لم يبق تحت «أكرم الأمراء العدول» - الذي هو نتيجة تخصيص «أكرم الأمراء بلا تكرم فساقهم» - إلاّ أفراد ثلاثة، و المفروض: أنهم مادة اجتماع «أكرم الأمراء العدول و يستحب إكرام العدول» كان إخراج هذه الأفراد الثلاثة عن حيّز. «أكرم الأمراء العدول» موجبا للاستهجان العرفي؛ بل فوقه، فلا محيص عن إبقاء هذه الأفراد تحت «أكرم الأمراء العدول» و وجوب إكرامهم، و عدم إدراجهم في «يستحب إكرام العدول».

و وجه تقديم العام المخصص حينئذ على العام الآخر هو: كون العام المخصص كالنص في الباقي، فتقديمه على معارضه لا يكون لانقلاب النسبة بينه و بين «يستحب إكرام العدول» حتى يستند تقدمه إلى الترجيح أو التخيير اللذين هما من أحكام المتعارضين؛ بل لأقوائية الدلالة، حيث إن لفظ «الأمراء» بعد تخصيصه ب «لا تكرم فساقهم» يصير كالنص في «الأمراء العدول» المفروض كونهم ثلاثة، فيقدّم لأجلها على «يستحب إكرام العدول» و يحكم بوجوب إكرامهم لا باستحبابه.

و بالجملة: فالعام المخصّص - لقلّة أفراده - صار كالنص في مورد الاجتماع و هو في

ص: 343

تحته (1) بعد تخصيصه إلاّ إلى ما لا يجوز أن يجوز عنه التخصيص أو كان (2) بعيدا جدّا لقدّم (3) على العام الآخر؛ لا لانقلاب (4) النسبة بينهما (5)؛ بل لكونه (6) كالنص المثال «أكرم الأمراء العدول» بخلاف العام الآخر - و هو يستحب إكرام العدول - فإنه بمقتضى عمومه ظاهر في مورد الاجتماع.

=============

و قد تحصّل ممّا ذكرناه: أن المصنف وافق الشيخ «قدس سره» في المثال المتقدم على أصل تقديم «أكرم الأمراء» في مادة الاجتماع على «يستحب إكرام العدول»؛ لكن مناط التقديم عند كل منهما غير ما هو عند الآخر، فهو بنظر الشيخ مستند إلى التخصيص الناشئ من انقلاب النسبة، و بنظر المصنف مستند إلى تقديم المباين على المباين بمناط قوّة الدلالة - لا التخصيص - لأن «أكرم الأمراء» صار نصا في منتهى مراتب التخصيص أعني: «الأمير العادل»، و يكون شمول «يستحب إكرام العدول» للأمير العادل بالظهور المستند إلى العموم، و من المعلوم: عدم رعاية قاعدة التعارض - من الترجيح و التخيير - بين النص و الظاهر؛ بل يقدّم النص على غيره حتى في المتباينين و المتعارضين بالعموم من وجه، و لا تنقلب النسبة؛ لما تقدم في ردّ مقالة الفاضل النراقي من أن مدار التعارض على ظهور الدليل و هو لا يتغيّر بورود المخصص المنفصل، فإنه يزاحم حجية الظهور لا أصله.

(1) أي: تحت العام بعد تخصيصه إلاّ إلى حدّ لا يجوز أن يتعدى عنه التخصيص و هو البلوغ إلى درجة يجوز التخصيص إليها؛ لكن لا يجوز تجاوز التخصيص عنها؛ للزوم محذور تخصيص الأكثر أو استيعاب جميع أفراد العام، كما إذا كان الباقي تحت العام بعد التخصيص ثلاثة أشخاص مثلا، فإنه لا يجوز تخصيصهم ثانيا.

(2) عطف على «لا يجوز» يعني: أو كان التعدّي عنه بعيدا عن المحاورات، كما إذا كان التخصيص مستلزما لتخصيص الأكثر و غير واصل إلى حد الاستيعاب.

(3) جواب «لو لم يكن»، و المراد بالعام الآخر في المثال هو: «يستحب إكرام العدول».

(4) يعني: لقدّم العام المخصص على العام الآخر لا لأجل انقلاب النسبة بينه و بين العام الآخر كما يقول به الشيخ «قدس سره»؛ بل لكون العام المخصص كالنص في الباقي بعد التخصيص، و من المعلوم: تقدّم النص أو الأظهر على الظاهر.

(5) أي: بين العام المخصص و العام الآخر.

(6) أي: لكون العام بعد التخصيص، و ضمير «فيه» راجع إلى «الباقي».

ص: 344

فيه، فيقدم (1) على الآخر (2) الظاهر فيه بعمومه، كما لا يخفى.

=============

(1) يعني: فيقدّم العام المخصّص على العام الآخر الظاهر في الباقي، فإن دلالة «أكرم الأمراء» بعد تخصيصه ب «لا تكرم فساقهم» على مادة الاجتماع تكون كالنص لقلته، بخلاف «يستحب إكرام العدول»، فإن دلالته على الباقي تكون بالظهور المستند إلى أصالة العموم و الأول أقوى دلالة من الثاني، فيقدم عليه من جهة أقوائية الدلالة؛ لا من جهة التعيين أو التخيير اللذين هما من أحكام المتعارضين اللذين يكون العامان من وجه من صغرياتهما.

(2) يعني: على العام الآخر الظاهر في الباقي بسبب عمومه مثل: «يستحب إكرام العدول». في المثال المتقدم. و هنا كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - محل الكلام: ما إذا كان هناك أكثر من دليلين كما لو ورد «أكرم العلماء» و ورد «لا تكرم فساق العلماء» و ورد «لا تكرم النحويين»، و الحق عند المصنف: أن يقدم الخاصان على العام، فيحرم إكرام فساق العلماء و إكرام النحويين، و هذا هو المشهور.

و قد وقع الفاضل النراقي في اشتباه و خطأ حيث توهّم انقلاب النسبة بأن يخصّص «أكرم العلماء» أولا ب «لا تكرم فساق العلماء»، و بعد التخصيص بالخاص الأول تلاحظ النسبة بين العام المخصص - و هو العلماء غير الفساق - و بين الخاص الثاني أعني: «لا تكرم النحويين».

و النسبة حينئذ تكون عموما من وجه، فتنقلب النسبة من العموم المطلق إلى العموم من وجه؛ لأنهما يجتمعان في النحوي العادل، و يختص الأول بالفقيه العادل، و الثاني بالنحوي الفاسق. و قد انعقد هذا الفصل لدفع هذا التوهم.

2 - و حاصل دفع هذا التوهّم: أن هذا التوهم مبني على أن يكون لحاظ النسبة طوليا و ليس الأمر كذلك؛ بل لحاظ النسبة يكون عرضيا و في مرتبة واحدة، فلا يلزم الانقلاب أصلا.

أو يقال: إن النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات و أنها باقية حتى بعد تخصيص العام بمخصص منفصل؛ لأن المخصص المنفصل يزاحم حجية ظهور العام لا أصل الظهور.

ص: 345

و كيف كان؛ فظهور العام محفوظ على حاله و لو بعد تخصيصه بأحد الخاصين، فكانت النسبة بينه و بين الخاص الثاني عموما مطلقا، كما كانت كذلك قبل تخصيصه بأحد الخاصين، فيعامل معهما معاملة العام و الخاص لا معاملة العامين من وجه كما يقول به الفاضل النراقي.

3 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو عدم انقلاب النسبة، و بقاء ظهور العام في العموم و حجيته في الباقي.

ص: 346

فصل (1)

لا يخفى: أن المزايا المرجحة لأحد المتعارضين الموجبة للأخذ به و طرح الآخر

=============

فصل فى بيان المرجحات توجب ترجيح احد الطرفين سندا

رجوع المرجحات إلى الصدور

(1) الغرض من عقد هذا الفصل: إرجاع جميع المرجحات - من المنصوصة و غير المنصوصة - إلى المرجح الصدوري. و عدم مراعاة الترتيب بينها.

توضيح الأمر الأول - و هو الإرجاع - يتوقف على مقدمة و هي: أن مجموع المرجحات من غير تقييد بكونها من المنصوصات أو غيرها على قسمين: «داخلية» و «خارجية».

و أما المرجحات الخارجية - أعني: كل مزية مستقلة في نفسها و لو لم يكن هناك خبر أصلا - فسيأتي تفصيل الكلام فيها في الفصل الأخير.

و أما المرجحات الداخلية - أعني: كل مزية غير مستقلة في نفسها - فهي على أقسام كلها لدى المصنف من مرجحات السند، فإنها موجبة لتقديم أحد السندين و حجيته فعلا و وجوب الأخذ به و طرح الآخر رأسا، و هو متين جدا.

و قد أشار المصنف إلى تلك الأقسام بقوله: «و إن كانت على أنحاء مختلفة و مواردها متعددة، من راوي الخبر و نفسه و وجه صدوره و متنه و مضمونه». و قوله: «مثل الوثاقة و الفقاهة» مثالان للمرجح الذي مورده راوي الخبر؛ بأن يكون أحد الراويين أوثق أو أفقه من الآخر.

«و الشهرة» أي: الشهرة في الرواية مثال للمرجح الذي مورده نفس الخبر؛ بأن يكون هذا الخبر مشهورا في كتب الحديث لا نادرا.

«و مخالفة العامة» مثال للمرجح الذي مورده وجه صدور الخبر؛ بأن يكون وجه صدوره بيان الحكم الواقعي.

«و الفصاحة» مثال للمرجح الذي مورده متن الخبر بأن يكون الخبر فصيحا.

«و موافقة الكتاب و الموافقة لفتوى الأصحاب» مثالان للمرجح الذي مورده مضمون الخبر؛ بأن يكون مضمونه موافقا للكتاب أو لفتوى الأصحاب.

ص: 347

بناء (1) على وجوب الترجيح و إن كانت (2) على أنحاء مختلفة، و مواردها (3) من راوي الخبر و نفسه و وجه صدوره و متنه و مضمونه، مثل الوثاقة و الفقاهة (4) و الشهرة و مخالفة العامة (5) و الفصاحة و موافقة الكتاب و الموافقة لفتوى الأصحاب، إلى غير فهذه المرجحات و إن كانت مختلفة إلاّ إنها موجبة لتقديم أحد السندين و ترجيحه و طرح الآخر.

=============

هذا خلاصة الكلام في رجوع هذه المرجحات إلى المرجح الصدوري و أما عدم مراعاة الترتيب بين هذه المرجحات: فتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أنه على القول بعدم التعدي من المرجحات المنصوصة إلى غيرها و الاقتصار على المرجحات المنصوصة، لا بد من مراعاة الترتيب بينها كما ذكر في الروايات.

و أما على القول بالتعدي: فالمناط في الترجيح إفادة الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه يسقط البحث عن الترتيب بين المرجحات؛ إذ على القول بعدم التعدي فلا بد من الترتيب بينها، و على القول بالتعدي فلا موضوعية لشيء من المرجحات؛ بل المدار على الظن الحاصل منها.

نعم؛ يتجه البحث حينئذ عن أن أيا منها يوجب الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع، و أيّا منها لا يوجب ذلك، و هذا غير اعتبار الترتيب بينها.

(1) توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية:

«بناء» قيد لقوله: «الموجبة»، حيث إن إيجاب المرجحات للأخذ بالخبر الواجد لتلك المرجحات مبني على القول بوجوب الترجيح بها؛ إذ بدونه لا وجه للأخذ بذي المزية تعيينا.

(2) هذه الجملة إلى قوله: «إلاّ إنها موجبة» خبر قوله: «أن المزايا».

(3) أي: معروضات المزايا متعددة، فقد تعرض المزية نفس الخبر، و قد تعرض راويه كالوثاقة و الفقاهة، فقوله: «من راويه...» بيان ل «مواردها».

(4) هذان مرجحان لراوي الخبر، و مثلهما العدالة و نحوها مما ذكر في المقبولة.

(5) مثال للمرجح الذي مورده جهة الصدور؛ لكن عدّها من عوارض جهة الصدور - بمعنى: كون موردها جهة الصدور - لا يخلو من مسامحة؛ لأن جهة الصدور ليست شيئا يعرضه مخالفة العامة؛ إذ الجهة مما ينتزع من مضمون الخبر، فينبغي عدّ مخالفة القوم من مرجحات مضمون الخبر لا من مرجحات الجهة.

ص: 348

ذلك (1) مما يوجب مزيّة في طرف من أطرافه (2)، خصوصا (3) لو قيل بالتعدي من المزايا المنصوصة؛ إلاّ إنها (4) موجبة لتقديم أحد السندين و ترجيحه (5) و طرح الآخر، فإن (6) أخبار العلاج دلّت على تقديم رواية ذات مزية في أحد أطرافها و نواحيها (7)، فجميع هذه من مرجحات (8) السند حتى (9) موافقة الخبر للتقية، فإنها أيضا (10) مما يوجب ترجيح أحد السندين و حجيته فعلا و طرح الآخر رأسا.

=============

(1) كأضبطية الراوي و كون تحمّله للخبر بعد البلوغ و النقل باللفظ في أحد الخبرين و النقل بالمعنى في الآخر، فإنها غير شهرة الرواية مثلا نوعا و موردا.

(2) أي: من أطراف الخبر.

(3) قيد لقوله: «و إن كانت على أنحاء مختلفة»، يعني: أنه بناء على التعدّي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها تصير المزايا و مواردها أكثر من المزايا المنصوصة و مواردها؛ كقلّة الوسائط و قلّة التكرار في بعض الأحاديث و كثرته، كما في حديث تحف العقول، و غير ذلك من المزايا المختلفة سنخا و موردا.

(4) هذا راجع إلى قوله: «و إن كانت على أنحاء مختلفة» يعني: أن المزايا و إن كانت على أنحاء مختلفة مع اختلاف مواردها إلاّ إنها ترجه إلى السند و توجب قوّته و رجحانه و سقوط الآخر عن الحجية.

(5) أي: و ترجيح أحد السندين على الآخر.

(6) هذا تقريب كون المزايا موجبة لتقديم أحد السندين على الآخر.

و محصله: أن مفاد أخبار العلاج هو تقديم رواية - ذات مزية - على رواية فاقدة لها، و المراد بالتقديم هو: جعلها حجة و صادرة لبيان الحكم، فالمرجحات كلها ترجع إلى ترجيح السند، فتعامل معاملة الصدور مع ذيها، سواء كان موردها رأي الخبر و متنه و غيرهما.

(7) هذا الضمير و ضمير «أطرافها» راجعان إلى «رواية».

(8) الظرف مستقر و خبر ل «فجميع»، و المراد ب «هذه» جميع المرجحات.

(9) يعني: حتى تعدّ موافقة الخبر للتقية - التي عدّت من المرجحات الجهتية المتأخرة رتبة عن أصل الصدور - من المرجحات السندية؛ لأنها توجب رجحان أحد السندين و حجيّته فعلا و سقوط الآخر عن الحجية رأسا.

(10) أي: فإن موافقة الخبر للتقية تكون كسائر المرجحات في كونها موجبة لرجحان أحد السندين و إن كان موردها الجهة.

ص: 349

و كونها (1) في مقطوعي الصدور متمحضة في ترجيح الجهة لا يوجب (2) كونها كذلك (3) في غيرهما، ضرورة (4): إنه لا معنى للتعبد بسند ما يتعيّن حمله على التقية،

=============

(1) هذا إشارة إلى توهم و دفعه:

أما التوهّم فتقريبه: مقايسة المقام - أعني: الخبرين الظنيين سندا - بالخبرين القطعيين كذلك في كون مخالفة العامة مرجحة من حيث الجهة؛ بأن يقال: إن مخالفة القوم كما تكون مرجحة جهتية في القطعيين، كذلك تكون مرجحة جهتية في الظنيين؛ إذ لا فرق في مرجحيتها من حيث بين الظنيين و القطعيين؛ لحجيتهما معا، غاية الأمر: أن الحجية في القطعيين ذاتية و في الظنيين تعبدية، فلا موجب لجعل مخالفة العامة مرجحة للصدور في الظنيين فقط؛ بل لا بد أن تكون مرجحة لجهة الصدور في القطعيين أيضا.

و أما دفع التوهّم فمحصله: أن مقايسة الظنيين بالقطعيين غير صحيحة؛ لأنها مع الفارق ضرورة: أن القطع الوجداني بالسند في القطعيين يوجب حمل الموافق للعامة على التقية، فتكون مخالفة العامة مرجحة لجهة الصدور لا لنفسه؛ إذ لم يرد من الشارع تعبّد في ناحية السند مثل: «صدّق العادل». و حيث كان الصدور قطعيا و لم يكن قابلا لإعمال التعبد الشرعي، فلا معنى لجعل مخالفة العامة - التي هي من المرجحات التعبدية مرجحة للسند؛ بل يتعين كونها مرجحة للجهة.

هذا بخلاف الظنيين، فإن صدورهما تعبدي لا وجداني، و من المعلوم: أن التعبد موقوف على الأثر الشرعي، و لا أثر هنا إلاّ الحمل على التقية الذي هو عبارة أخرى عن الطرح، فلا يصح التعبد بصدور الخبر الموافق للعامة ثم حمله على التقية، بخلاف المخالف لهم فإن التعبد بصدوره مما له الأثر، فيحكم بصدوره لمخالفته للعامة، فهذه المخالفة مرجحة لصدوره بعد أن كان مقتضى أدلة حجيّة الخبر صدور كليهما؛ لكن لأجل التعارض لا يمكن الحكم بصدورهما معا فيحكم بصدور المخالف لهم.

و بالجملة: فالمخالفة للعامة مرجحة للسند في الخبر المخالف لهم لترتب الأثر عليه.

(2) خبر ل «و كونها» و دفع للتوهم المزبور. و قد عرفت توضيح الدفع.

(3) يعني: مرجحة للجهة، و ضمير «كونها» راجع على المخالفة و ضمير «غيرهما» راجع إلى «مقطوعي الصدور».

(4) تعليل لقوله: «لا يوجب». و هذا إشارة إلى عدم أثر شرعي يترتب على التعبد بسنده حتى يصح التعبد بصدوره؛ إذ لا أثر لهذا التعبد إلاّ الحمل على التقية الذي هو معنى الطرح، و ليس هذا أثرا شرعيا يصحّح التعبد كما تقدم توضيحه آنفا.

ص: 350

فكيف (1) يقاس على ما لا تعبّد فيه للقطع بصدوره ؟

ثم (2) إنه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجحات لو قيل بالتعدي، و إناطة الترجيح بالظن أو بالأقربية إلى الواقع ضرورة (3): أن قضية ذلك تقديم الخبر الذي ظنّ (4) صدقه أو كان (5) أقرب إلى الواقع منهما، و التخيير (6) بينهما إذا تساويا، فلا وجه (7)

=============

(1) يعني: فكيف يقاس ما فيه التعبد - الموجب لحمله على التقية - على ما لا تعبد فيه؛ للقطع بصدوره الذي لا يعقل معه التعبد.

فالمتحصل: فساد قياس مظنوني الصدور - اللذين يتعبد بصدورهما - على مقطوعي الصدور.

عدم مراعاة الترتيب بين المرجحات

(2) هذا إشارة إلى الأمر الثاني الذي انعقد هذا الفصل لبيانه و هو مراعاة الترتيب بين المرجحات، و هذا مبني على القول بالتعدي من المرجحات المنصوصة إلى غيرها. و أمّا على القول بعدم التعدي فلا بد من مراعاة الترتيب كما ذكر في أخبار الترجيح.

و قد تقدم وجه عدم مراعاة الترتيب فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة، فنذكر توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(3) تعليل لعدم الوجه لمراعاة الترتيب بناء على القول بالتعدي؛ لما مرّ آنفا من عدم دخل شيء - من خصوصيات المزايا المنصوصة - في الترجيح؛ إذ المناط فيه هو إفادة المرجحات للظن، سواء كانت من المنصوصة أم غيرها، و المراد ب «ذلك» هو التعدي.

(4) هذا إشارة إلى أن المناط في الترجيح بالمزايا هو الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع، من دون دخل خصوصية شيء من المرجحات في الترجيح.

(5) عطف على «ظنّ » يعني: أن مقتضى التعدي تقديم الخبر الذي ظنّ صدقه، أو كان أقرب إلى الواقع من الخبر الآخر. و عليه: فالأولى تبديل «منهما» ب «من الآخر» و إرجاع ضمير التثنية إلى الخبرين و إن كان صحيحا؛ لكنه ليس مذكورا في العبارة أولا، و يوهم أن هذا الخبر المظنون الصدور أو المظنون المطابقة إلى الواقع غير هذين الخبرين ثانيا.

(6) عطف على «تقديم»، يعني: أن مقتضى التعدي هو التخيير بين الخبرين مع تساويهما في المزايا الموجبة للظن الفعلي بصدورهما؛ لإمكان ذلك مع الظن بخلل في دلالتهما أو جهتهما.

(7) هذه نتيجة ما ذكره من التعدي إلى غير المزايا المنصوصة؛ لكون المناط في الترجيح هو الظن بالصدور أو أقربية المضمون إلى الواقع، ضرورة: أن المرجح هو الظن

ص: 351

لاتعاب النفس (1) في بيان أن أيّها يقدّم أو يؤخّر إلاّ (2) تعيين أن أيها يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها (3) مع الآخر.

و أما (4) لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة فله (5) وجه؛ لما يتراءى من ذكرها من أيّ سبب حصل، فلا وجه حينئذ لإتعاب النفس في أن أيّها يقدّم أو يؤخذ؛ إذ المرجح حقيقة هو الظن بالصدور أو الأقربية من دون دخل الخصوصية المزايا.

=============

(1) من جماعة من المحققين كالوحيد البهبهاني و الشيخ الأنصاري و بعض تلاميذه «قدس الله أرواحهم الطاهرة»، فإنهم أتعبوا أنفسهم في بيان الترتيب بين المرجحات بعد تقسيمها إلى المرجح الصدوري و الجهتي و المضموني؛ بتقديم الصدوري على الجهتي لتأخر جهة الصدور رتبة عن أصل الصدور، بتقديم المرجح المضموني على الجهتي.

(2) استثناء من قوله: «فلا وجه لإتعاب النفس».

غرضه: توجيه ما تعرّضوا له من ترتيب المرجحات بعد نفي الوجه في اعتبار ترتيبها بناء على التعدي عن المزايا المنصوصة بمناط الظن.

و محصل توجيهه: أن بيان ترتيب المرجحات لا وجه له إلاّ تعيين المزية التي توجب الظن الذي هو مناط التعدي في صورة تزاحم بعض المرجحات مع بعضها الآخر كموافقة أحد الخبرين للشهرة، و مخالفة الآخر للعامة و هكذا، فيمكن أن يقال: إن مخالفة العامة في صورة المزاحمة للشهرة توجب الظن دون الموافقة للشهرة.

(3) أي: مزاحمة بعض المرجحات مع البعض الآخر.

(4) عطف على «لو قيل»، و الأولى أن يقال: «بخلاف ما لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة، فإن له وجها».

و كيف كان؛ فالغرض من هذه العبارة: بيان حال ترتيب المرجحات - من حيث الاعتبار و عدمه - بناء على الاقتصار على المرجحات المنصوصة و عدم التعدي إلى غيرها.

و توضيح ما أفاده هو: أنه بناء على عدم التعدي يمكن الالتزام بالترتيب بين المرجحات استنادا إلى ذكرها بالترتيب في المقبولة و المرفوعة، حيث إن المذكور في المقبولة ابتداء صفات الراوي من الأعدلية و الأفقهية و الأصدقية و الأورعية، ثم الشهرة، ثم موافقة الكتاب و السنّة، ثم مخالفة العامة، و في المرفوعة ابتداء الشهرة، ثم صفات الراوي ثم مخالفة العامة، ثم موافقة الاحتياط.

(5) أي: فلاعتبار الترتيب وجه. و قوله: «لما يتراءى» بيان للوجه، و قد تقدم توضيحه بقولنا: «حيث إن المذكور في المقبولة ابتداء...» الخ، و ضمير «ذكرها» راجع إلى «المزايا».

ص: 352

مرتّبا في المقبولة و المرفوعة. مع إمكان (1) أن يقال: إن الظاهر كونهما كسائر أخبار

=============

(1) غرضه: المناقشة في الوجه الذي أفاده سندا لاعتبار الترتيب بوجهين:

الوجه الأول: ما أفاده بقوله: «إن الظاهر كونهما...» و توضيحه: أنه يمكن أن يقال:

إن الظاهر كون المقبولة و المرفوعة كسائر أخبار الترجيح في مقام بيان المرجحات، من دون نظر إلى ترتيب بينها، فلا يكون ذكر المرجحات مرتبة في المقبولة و المرفوعة دليلا على اعتبار الترتيب شرعا بينها، خصوصا مع اختلافهما في بيان ترتيب المرجحات؛ لتقديم صفات الراوي في المقبولة على سائر المرجحات، و تقديم الشهرة في المرفوعة على غيرها من المزايا.

الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و إلاّ لزم تقييد...» الخ.

أي: و إن لم يكن ظاهر المقبولة و المرفوعة بيان تعداد المرجحات فقط من دون نظر إلى اعتبار الترتيب بينها - بل كانتا ظاهرتين في اعتبار الترتيب بينها أيضا «لزم تقييد جميعها».

و محصله: أنه إن كان ظاهر المقبولة و المرفوعة اعتبار الترتيب دون بيان تعداد المرجحات فقط لزم أن يقيّد بهما سائر أخبار الترجيح مما لم يذكر فيه إلاّ بعض المرجحات من واحد كموافقة الكتاب، أو أزيد كموافقة الكتاب و السنة، فإطلاق مرجحية موافقة الكتاب يقتضي الترجيح بها مطلقا سواء كان الخبر الموافق له شاذا أم لا، و سواء كان المخبر المخالف له موافقا للشهرة أم لا. و هذا الإطلاق يوجب اندراج صورة مزاحمة المرجحين في الخبرين المتعارضين - و إن لم يكن المرجحان من نوع واحد - في إطلاقات التخيير، فإذا كان أحد الخبرين موافقا للكتاب و الآخر مخالفا للعامة وقع التعارض بينهما و يرجع إلى إطلاقات التخيير، مع أن موافقة الكتاب مقدّمة على مخالفة العامة في المقبولة، فإن عدم اعتبار الترتيب و كون جميع المرجحات من حيث الترجيح في عرض واحد يقتضي مرجحية كل من المرجحات بلا قيد و مرجعية إطلاقات التخيير عند تزاحمها.

هذا بخلاف اعتبار الترتيب، فإنه يقتضي اعتبار المرجح بشرط عدم مرجح في رتبة سابقة عليه، ففي الفرض المزبور لا تصل النوبة إلى التعارض و الرجوع إلى أدلة التخيير؛ بل يقدّم الخبر الموافق للكتاب على المخالف للعامة؛ لتقدّمه في المقبولة على المخالف للعامة، و لا يرجع إلى إطلاقات التخيير؛ بل إلى أخبار الترجيح.

و الحاصل: أنه بناء على الترتيب يلزم كثرة تقييد إطلاق ما دل على الترجيح بمرجح واحد أو أكثر، و هذا التقييد الكثير بعيد.

ص: 353

الترجيح بصدد بيان أن هذا مرجّح و ذاك مرجّح (1)، و لذا (2) اقتصر في غير واحد منها على ذكر مرجّح واحد؛ و إلاّ لزم تقييد جميعها - على كثرتها - بما في المقبولة و هو (3) بعيد جدا، و عليه (4): فمتى وجد في أحدهما مرجّح و في الآخر آخر منها (5) هذا تمام الكلام في الإشكال على اعتبار الترتيب بين المرجحات المنصوصة.

=============

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) يعني: من دون نظر إلى اعتبار ترتيب بينها واقعا.

(2) غرضه: إقامة شاهد على ما ادعاه من إمكان دعوى ظهور المقبولة و المرفوعة في مقام بيان تعداد المرجحات، من دون نظر إلى ترتيب بينها، و ذلك الشاهد هو عدم تعرّض غير واحد من أخبار الترجيح إلاّ لمرجح واحد كقول مولانا الرضا «عليه السلام» في خبر محمد بن عبد الله في الخبرين المختلفين: «إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامة فخذوه، و انظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه»، و قول أبي عبد الله «عليه السلام» في خبر سماعة بن مهران: «خذ بما فيه خلاف العامة» و غير ذلك مما ذكر فيه مرجّح واحد و هو موافقة الكتاب كخبر الحسن بن الجهم عن العبد الصالح «عليه السلام»: «إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله و أحاديثنا، فإن أشبههما فهو حق، و إن لم يشبههما فهو باطل». و قريب منه سائر أخبار الباب، فإن الاقتصار على ذكر مرجّح واحد و عدم بيان الترتيب بين المرجحات في تلك الروايات يشهد بعدم اعتبار الترتيب.

قوله: «و إلاّ» إشارة إلى الوجه الثاني من الإشكال الذي تقدم توضيحه.

(3) أي: تقييد إطلاق الأخبار المتضمنة لمرجح واحد أو أكثر بالمقبولة و المرفوعة بعيد جدّا؛ لاستهجان كثرة التقييد كاستهجان كثرة التخصيص عند أبناء المحاورة؛ إذ جميع أخبار الترجيح - عدا المقبولة و المرفوعة - لا تتضمّن تمام المرجحات بل بعضها، فيلزم تقييد كلها.

(4) يعني: و بناء على كون المقبولة و المرفوعة بصدد بيان المرجحات - من دون نظر إلى اعتبار الترتيب و الطولية بينها - فمتى وجد في أحد الخبرين مرجح كأول المرجحات المذكورة في المقبولة مثل الأفقهية و غيرها من صفات الراوي، و في الآخر مرجح آخر كمخالفة العامة و نحوها مما يتأخر عن صفات الراوي في المقبولة وقع التعارض بينهما؛ لكون المرجحين في عرض واحد، فيرجع حينئذ إلى إطلاقات التخيير.

(5) أي: من المرجحات.

ص: 354

كان (1) المرجع هو إطلاقات التخيير و لا كذلك (2) على الأول (3)؛ بل لا بد من ملاحظة الترتيب إلاّ (4) إذا كانا في عرض واحد.

و انقدح بذلك (5): أن حال المرجّح الجهتي (6) حال سائر المرجحات في أنه (7) لا بد في صورة مزاحمته مع بعضها (8) من ملاحظة أن أيّهما فعلا (9) موجب للظن بصدق

=============

(1) جواب «فمتى» يعني: فالمرجع حين التعارض هو إطلاق ما دلّ على التخيير.

(2) يعني: و لا يرجع إلى إطلاقات التخيير بناء على كون المقبولة و المرفوعة بصدد بيان الترتيب بين المرجحات؛ بل يرجع إلى أخبار الترجيح.

(3) و هو البناء على الترتيب بين المرجحات، فلا بد حينئذ من ملاحظة الترتيب بين المرجحات، و تقديم الخبر - الذي يكون مرجحه مقدما رتبة على مرجح الخبر الآخر - على الخبر المعارض له، و لا تصل النوبة إلى إطلاقات التخيير.

(4) استثناء من قوله: «و لا كذلك على الأول» يعني: يلاحظ الترتيب بين المرجحات إذا كان بينها ترتب، و أما إذا كان المرجحات في الخبرين من نوع واحد - ككون المرجّح في كل منهما من صفات الراوي مثلا - فإنهما لعرضيتهما لا ترتيب بينهما، فيقع التعارض بينهما، و يرجع إلى إطلاقات التخيير كما تقدم آنفا.

(5) أي: بما ذكر في وجه عرضية المرجحات - و كون المقبولة و المرفوعة بصدد بيان تعداد المرجحات من دون نظر إلى اعتبار الترتيب بينها - يظهر حال المرجّح الجهتي كمخالفة العامة و كونه كسائر المرجحات في أنه إذا زوحم مع مرجّح آخر يلاحظ ما يكون منهما واجدا لملاك الترجيح من الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع، فيقدم ما فيه هذا المناط على غيره، و مع التساوي و عدم هذا الملاك فيهما يرجع إلى اطلاقات التخيير.

و هذا الكلام توطئة للإيراد على الوحيد البهبهاني و الشيخ «قدس سرّهما».

(6) كمخالفة العامة، فإن حالها - بناء على مذهب المصنف «قدس سره» من عدم الترتيب بين المرجحات - حال سائر المرجحات في المزاحمة مع غيره من المزايا كما مر آنفا.

(7) الضمير للشأن؛ و ضمير «مزاحمته» راجع إلى «المرجح الجهتي».

(8) أي: بعض المرجحات، و ضمير «أيهما» راجع إلى المرجح الجهتي و سائر المرجحات.

(9) قيد ل «أيّهما» يعني: لا بد من ملاحظة أن أيّ واحد من المرجّح الجهتي و غيره من المرجحات واجد للمناط؛ و هو الظن الفعلي بالصدور أو الأقربي إلى الواقع، فيقدّم منهما ما يوجب الظن المزبور على غيره، و الأولى تقديم «موجب» على «فعلا».

ص: 355

ذيه بمضمونه (1) أو الأقربية (2) كذلك إلى الواقع، فيوجب (3) ترجيحه و طرح الآخر، أو أنه (4) لا مزية لأحدهما على الآخر، كما إذا كان الخبر الموافق للتقية بما له من المزية (5) مساويا للخبر المخالف لها بحسب (6) المناطين (7)، فلا بد حينئذ (8) من التخيير بين الخبرين فلا وجه (9) لتقديمه على غيره (10) كما عن الوحيد البهبهاني «قدس

=============

(1) متعلق ب «صدق». و ضمير «ذيه» راجع إلى المرجح و الأولى أن يقال: «للظن بصدق مضمون ذيه».

(2) عطف على «بصدق» أي: موجب للظن بالصدق أو للظن بأقربية مضمونه إلى الواقع.

و الحاصل: أن الوظيفة في مزاحمة المرجحات بناء على عدم اعتبار الترتيب بينها هو الأخذ بذي المزية التي توجب فعلا الظن بالصدور أو أقربية المضمون إلى الواقع و طرح الآخر، و مع التساوي و عدم كون إحدى المزيتين موجبة للظن المزبور لا بد من الرجوع إلى إطلاقات التخيير.

(3) يعني: فيوجب المرجّح - الموجب فعلا للظن بالصدور أو الأقربية - ترجيح واجد هذا المرجح على فاقده، و تقديمه عليه.

(4) عطف على «أن أيّهما» و ضميره للشأن يعني: من ملاحظة أن أيّ واحد من المرجحين موجب فعلا للظن... أو أنه لا مزية لأحد المرجحين من حيث إفادته للظن الفعلي بالصدور أو الأقربية، كما إذا كان راوي أحد الخبرين أعدل أو أفقه أو غيرهما من مرجحات السند مع كونه موافقا للعامة، و كان الخبر الآخر مخالفا للعامة، و لم يكن شيء من مزايا الخبرين موجبا للظن الفعلي، فيرجع حينئذ إلى إطلاقات التخيير.

(5) كالمرجح السندي مثل الأفقهيّة و الأعدليّة و نحوهما.

(6) متعلق ب «مساويا». و ضمير «لها» راجع إلى «التقية».

(7) و هما الظن بالصدور و الأقربية إلى الواقع.

(8) أي: فلا بد حين عدم مزية - لأحد المرجحين على الآخر - من التخيير بين الخبرين.

(9) هذه نتيجة ما أفاده «قدس سره» من عدم الترتيب بين المرجحات، و أن المدار في تقديم أحد المرجّحين على الآخر على إفادة الظن الفعلي لا على غيرها. و عليه: فلا وجه لتقديم المرجح الجهتي - كمخالفة العامة - على غيره كما عن الوحيد البهبهاني «قدس سره»، فإنه قدّم المرجح الجهتي على غيره من المرجحات، و تبعه بعض أعاظم معاصري المصنف و هو المحقق الميرزا الرشتي «قدس سره» مصرّا على ذلك.

(10) هذا الضمير و ضمير «تقديمه» راجعان إلى «المرجّح الجهتي».

ص: 356

سره»، و بالغ فيه (1) بعض أعاظم المعاصرين «أعلى الله درجته»، و لا (2) لتقديم غيره عليه كما يظهر من شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه»، قال: أما لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور؛ بأن كان الأرجح صدورا موافقا للعامة، فالظاهر تقديمه (3) على غيره و إن كان مخالفا للعامة، بناء على تعليل الترجيح بمخالفة العامة باحتمال التقية في الموافق (4)؛ لأن هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا كما في المتواترين، أو تعبّدا كما في الخبرين بعد عدم إمكان التعبّد بصدور أحدهما و ترك التعبد بصدور الآخر. و فيما نحن فيه يمكن ذلك (5) بمقتضى أدلة الترجيح من حيث الصدور (6).

=============

(1) أي: في تقديم المرجح الجهتي على غيره من المرجحات. و الحاصل: أن هذين العلمين «قدس سرهما» يقدّمان المرجّح الجهتي على المرجّح السندي و المضموني.

(2) عطف على «فلا وجه» يعني: و لا وجه لتقديم غير المرجّح الجهتي على المرجح الجهتي كما هو مذهب الشيخ الأنصاري «قدس سره». فإنه قدّم المرجّح؛ السندي و المضموني على المرجّح الجهتي، فالمصنف «قدس سره» خالف هؤلاء الأعلام، و ذهب إلى عرضيّة المرجحات طرّا، من غير فرق في ذلك بين التعدّي إلى غير المرجّحات المنصوصة و عدمه و الاقتصار عليها، فالأقوال ثلاثة:

أحدها: تقديم المرجّح الجهتي على غيره، و هو قول الوحيد و الرشتي «قدس سرهما».

ثانيها: تقديم غير المرجح الجهتي - و هو الصدوري - على الجهتي و هو قول الشيخ و غيره.

ثالثها: عرضيّة المرجحات، و عدم تقديم بعضها على بعضها الآخر إلاّ بأقوائية الملاك، و مع عدمها و تساويهما في الملاك يرجع إلى إطلاقات التخيير.

(3) أي: تقديم الأرجح صدورا على غير الأرجح صدورا و إن كان غير الأرجح مخالفا للعامة.

(4) هذا احتراز عما إذا كان الترجيح لقلّة الاحتمال في الخبر المخالف و كثرته في الموافق؛ إذ تخرج مخالفة العامة حينئذ عن المرجح الجهتي و تندرج في المرجح المضموني.

(5) أي: التعبّد بصدور أحدهما و ترك التعبد بصدور الآخر، فإن ذلك يمكن فيما نحن فيه أعني: الخبرين الظنيين المتفاضلين.

(6) محصل ما أفاده: أن المرجّح الجهتي لمّا كان متفرعا على إحراز أصل الصدور - قطعا كما في المتواترين أو تعبّدا كما في الظنيين المتكافئين اللذين لا بد من الحكم

ص: 357

إن قلت (1): إن الأصل في الخبرين الصدور، فإذا تعبدنا بصدورهما اقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقية، كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما، فيكون هذا المرجّح (2) نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدّما على الترجيح بحسب الصدور.

قلت (3): لا معنى للتعبد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعيّن على التقية، لأنه إلغاء لأحدهما في الحقيقة.

=============

بصدورهما معا، لفرض تساويهما من حيث شمول دليل الحجيّة لهما - فلا مورد لهذا المرجّح الجهتي في المتفاضلين؛ كما هو مورد البحث؛ لعدم شمول دليل الحجية إلاّ لخصوص ذي المرجّح الصدوري، دون فاقده حتى تلاحظ جهة صدوره. و عليه: فيقدم ذو المرجح الصدوري - و إن كان موافقا للعامة - على غيره و إن كان مخالفا لهم.

(1) محصل هذا الإشكال: الذي أورده الشيخ «قدس سره» على نفسه هو: أن في تقديم المرجّح الصدوري على الجهتي محذورا، و هو: تخصيص عموم أدلة حجيّة الخبر، حيث إن مقتضى هذا التقديم عدم شمولها للخبر المخالف للعامة، فلا بد من الالتزام بحجيّة كلا الخبرين و صدورهما معا كما هو مقتضى عموم أدلة حجيّة الخبر، ثم التصرف في الخبر الموافق للعامة بحمله على التقية. نظير شمول أدلة اعتبار الخبر للظاهر و الأظهر، و التصرف في الظاهر بحمله على الأظهر، فكما يصح التعبد بصدور الظاهر مع فرض عدم العمل به؛ للزوم حمله على الأظهر، و لا يقتضي هذا الحمل لغوية التعبّد بدليل حجيّة خبر الواحد، فكذا في مورد موافقة أحد الخبرين للعامة و صدوره تقية، فإنه يتعبّد بصدوره و لو لم يجز العمل بمضمونه فعلا؛ لاختصاص مشروعيته بحال التقية.

و عليه: فتكون مخالفة العامة نظير المرجّح الدلالي في التقدم على المرجح الصدوري.

(2) أي: المرجّح الجهتي، و قوله: «أضعفهما» أي: أضعف الخبرين دلالة.

(3) هذا دفع الإشكال: و محصله: عدم صحة قياس المقام بالظاهر و الأظهر؛ و ذلك للفرق الواضح بينهما، حيث إنه لا يرفع اليد عن الظاهر رأسا حتى لا يشمله دليل الحجية؛ بل يتصرف في دلالته في الجملة كالعام الذي يتصرف فيه بالخاص، فدليل الحجية يشمل كلا من الظاهر و الأظهر بلا إشكال.

و هذا بخلاف المتفاضلين، فإن دليل الحجية لا يشمل الخبر الموافق للعامة؛ إذ لا أثر لشموله له إلاّ إسقاطه و رفع اليد عنه رأسا و هذا هو الطرح لا الحجيّة.

و بالجملة: فالدليلان اللذان يكون بينهما جمع عرفي يشملهما دليل الحجيّة لعدم

ص: 358

و قال بعد جملة من الكلام: «فمورد هذا الترجيح تساوي الخبرين من حيث الصدور إما علما كما في المتواترين، أو تعبدا كما في المتكافئين من الأخبار. و أمّا ما وجب فيه التعبد (1) بصدور أحدهما المعيّن دون الآخر؛ فلا وجه لإعمال هذا المرجح (2) فيه (3)؛ لأن (4) جهة الصدور متفرع على أصل الصدور». انتهى موضع الحاجة من كلامه «زيد في علوّ مقامه».

و فيه (5) - مضافا إلى ما عرفت -: أن (6) حديث فرعيّة جهة الصدور على أصله إنما انثلامه بالنسبة إليهما؛ إذ لا يلزم من شموله لهما محذور الطرح في أحدهما بخلاف المقام - أعني: المتفاضلين صدورا - لما عرفت من عدم تعقل صدورهما ثم طرح أحدهما رأسا؛ إذ حمل الموافق منهما للعامة على التقية إلغاء له عن الاعتبار من جميع الجهات.

=============

(1) و هو فيما إذا كان المتعارضان متفاضلين، فإنه يجب التعبد بأحدهما المعيّن - و هو ذو المزية الصدورية - بمقتضى أدلة الترجيح.

(2) أي: المرجّح الجهتي.

(3) أي: فيما وجب فيه التعبّد بصدور أحدهما المعيّن، و حاصله: أنه - بعد تفرّع جهة الصدور على أصله - لا يبقى مجال لإعمال المرجّح الجهتي؛ بل لا بد من إعمال المرجّح الصدوري و الحكم بصدور ذيه، و طرح الخبر الآخر و إن كان مخالفا للعامة.

(4) تعليل لقوله: «فلا وجه»، و قد تقدم في صدر كلامه بقوله: «لأن هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما...» الخ.

و مقتضى الفرعية لزوم إعمال مرجح الصدور قبل مرجح جهته، فلا مجال للمرجح الجهتي مع الصدوري؛ بل هذا مقدم على ذلك.

(5) هذا جواب ما أفاده الشيخ «قدس سره»: و هو يرجع إلى وجهين:

أحدهما: ما أشار إليه بقوله: «مضافا إلى ما عرفت»، و محصله: ما أفاده سابقا من أنه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجحات سواء قلنا بالتعدي عن المزايا المنصوصة أم لم نقل، و من المعلوم: أن مقتضى عدم الترتيب عرضيّة المرجحات و عدم تقدم أحدها على الآخر.

(6) إشارة إلى ثاني الوجهين: و محصله: أنّ فرعية جهة الصدور على أصله إنما تصح إن لم يكن المرجح الجهتي مرجحا لأصل الصدور، و أما إذا كان كذلك بأن جعل مناط مرجحية المرجّح مطلقا - سواء كان مرجّحا صدوريا أم جهتيا - الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع، فلا فرق بينه و بين سائر المرجحات؛ لرجوعها طرّا إلى مرجحات

ص: 359

يفيد إذا لم يكن المرجح الجهتي من مرجّحات أصل الصدور؛ بل من مرجّحاتها.

و أما (1) إذا كان من مرجّحاته (2) بأحد المناطين فأيّ فرق بينه (3) و بين سائر المرجحات، و لم يقم دليل (4) بعد في الخبرين المتعارضين على وجوب التعبّد بصدور الصدور، فترتيب المرجحات يجدي في تقديم بعضها على بعضها الآخر إن لم ترجع إلى المرجّح السندي، فهذه المناقشة ترجع حقيقة إلى منع الصغرى، و هي عدم كون ما عد من المرجح الجهتي مرجّحا للجهة؛ بل هو مرجح؛ لأصل الصدور.

=============

و عليه: فإذا كان أحد الخبرين مخالفا للعامة و الآخر موافقا لهم، و كان راويه أعدل و أفقه من راوي الآخر؛ قدّم الخبر الذي مناطه أقوى من الآخر؛ سواء كان ذلك الخبر مخالفا للعامة أم موافقا لهم، و مع التساوي و عدم الأقوائية يرجع إلى إطلاقات التخيير.

هذا بناء على التعدّي عن المزايا المنصوصة بمناط الظن، و كذا الحال بناء على عدم التعدّي، فإنه على مذهب المصنف من عدم اعتبار الترتيب بينها، فيرجع أيضا إلى إطلاقات التخيير.

و على كل حال: فلا ملزم بالأخذ بذي المرجّح السندي و طرح ذي المرجّح الجهتي كما أفاده الشيخ «قدس سره»؛ لعدم دليل عليه، حيث إن أخبار العلاج لا تدل إلاّ على الترجيح بالمزية السندية و الجهتية، و لا تدل على تقديم إحداهما على الأخرى عند المزاحمة؛ بل لا بد حينئذ من الرجوع إلى إطلاقات التخيير.

(1) إشارة إلى القول بالتعدّي و قد تقدم توضيحه.

(2) أي: من مرجحات أصل الصدور، و ضمير «مرجحاتها» راجع إلى جهة الصدور.

(3) أي: بين مرجّح أصل الصدور.

(4) إشارة إلى القول بالاقتصار على المرجحات المنصوصة و عدم التعدّي عنها إلى غيرها.

و غرضه: أنه بناء على الاقتصار على المرجحات المنصوصة و عدم التعدّي عنها لا دليل أيضا على مذهب الشيخ من وجوب التعبّد بصدور الراجح من غير جهة الصدور - و هو الواجد للمرجح الصدوري - على الواجد للمرجح الجهتي، حيث إن أخبار العلاج لا تدل إلاّ على «أن هذا مرجّح، و ذلك مرجّح»، و ليس فيها دلالة على اعتبار الترتيب بينها حتى يقال: إن المرجّح الصدوري مقدّم على المرجح الجهتي.

و بالجملة: فلا دليل على تقديم المرجّح السندي على الجهتي سواء قلنا بالتعدي أم لا.

ص: 360

الراجح منهما من حيث غير (1) الجهة مع كون الآخر راجحا بحسبها (2)، بل هو (3) أول الكلام كما لا يخفى. فلا محيص (4) من ملاحظة الراجح من المرجحين (5) بحسب أحد المناطين (6) أو من (7) دلالة أخبار العلاج على الترجيح بينهما (8) مع المزاحمة، و مع عدم الدلالة (9) - و لو لعدم التعرّض لهذه الصورة (10) - فالحكم (11)

=============

(1) و هو المرجّح الصدوري. و ضمير «منهما» راجع إلى «الخبرين».

(2) أي: بحسب الجهة، و هي كمخالفة العامة بناء على كونها من المرجحات الجهتية.

(3) يعني: بل وجوب التعبد بصدور ذي المرجح الصدوري - مع كون الخير الآخر راجحا من حيث الجهة - أول الكلام؛ لما عرفت من إشكال استفادة ترتيب المرجحات من الأخبار.

(4) هذا ملخص ما أفاده بطوله، و حاصله: أنه لا بد في صور تزاحم المرجحات - بناء على التعدّي عن المرجحات المنصوصة - من ترجيح المرجّح الذي فيه الظن بالصدور أو الأقربية إن كان، و إلاّ فالرجوع إلى إطلاقات التخيير.

(5) و هما المرجّح الصدوري و الجهتي، و «بحسب» متعلق ب «الراجح».

(6) أي: الظن بالصدور و الأقربية إلى الواقع فإنهما مناطا الترجيح بناء على التعدّي.

(7) عطف على «من ملاحظة» يعني: لا محيص من دلالة الأخبار العلاجية، و هذا إشارة إلى صورة عدم التعدّي عن المرجحات المنصوصة، و المفروض: عدم دلالة الأخبار على حكم تزاحم المرجحات، فلا بد أيضا من الرجوع إلى إطلاقات التخيير.

(8) أي: بين المرجحين.

(9) يعني: عدم دلالة الأخبار على الترجيح بأحد المرجحين في صورة تزاحمهما، إمّا لأجل كونها في مقام تشريع أصل الترجيح بتلك المرجحات؛ لا بصدد بيان الترتيب بينها، و إما لأجل عدم تعرضها لحكم مزاحمة خصوص المرجّح الجهتي مع غيره من المرجحات كمزاحمة موافقة الكتاب لمخالفة العامة، فلا بد في صورة مزاحمة المرجّح الجهتي مع غيره من الرجوع إلى إطلاقات التخيير، فلاحظ الأخبار العلاجية.

(10) و هي صورة مزاحمة المرجح الصدوري و الجهتي.

(11) هذا جواب «و مع عدم» و اقترانه بالفاء لتضمن ما قبله معنى الشرط، يعني:

و مع عدم دلالة أخبار العلاج - على حكم مزاحمة المرجّح الصدوري - فالحكم إطلاقات أدلة التخيير.

ص: 361

هو إطلاق التخيير، فلا تغفل (1).

و قد أورد بعض أعاظم تلاميذه (2) عليه بانتقاضه بالمتكافئين من حيث الصدور، فإنه لو لم يعقل التعبد بصدور المتخالفين من حيث (3) الصدور (4) مع حمل أحدهما على التقية لم يعقل (5) التعبّد...

=============

(1) يعني: لا تغفل عما ذكرناه - من عدم ترتيب المرجحات و رجوع جميعها إلى السند حتى لا تقع فيما وقع غير واحد فيه من تخيّل تقدّم المرجح الصدوري على الجهتي.

(2) الظاهر: أن المراد من بعض أعاظم تلاميذه الشيخ هو المحقق الميرزا حبيب الله الرشتي، و حاصل ما أورده على الشيخ القائل بتقدم المرجّح؛ الصدوري على الجهتي هو النقض بالمتكافئين صدورا، كما إذا فرض تساوي رواتهما في العدالة و الوثاقة و الفقاهة، فإن التعبد بصدور الخبرين مع حمل أحدهما على التقية إن كان ممكنا فأيّ فرق فيه بين المتكافئين سندا - اللذين صرح الشيخ بكون مورد الترجيح بمخالفة العامة مقطوعي الصدور كالمتواترين أو مظنوني الصدور المتكافئين سندا - و بين مظنوني الصدور المتخالفين صدورا؛ كما إذا كان المرجّح الصدوري في الخبر الموافق للعامة دون الخبر المخالف لهم، فإنه بناء على مذهب الشيخ - من اعتبار الترتيب بين المرجحات - لا بد من تقديم الخبر الموافق للعامة حينئذ على الخبر المخالف لهم المشتمل على المرجّح الجهتي؛ لفرض عدم وصول النوبة إليه.

و إن لم يكن التعبّد بصدور الخبرين المتكافئين - مع حمل أحدهما على التقية - ممكنا فلا وجه للالتزام بصدورهما مع حمل أحدهما على التقية في المتخالفين أيضا؛ إذ حكم الأمثال فيما يجوز و لا يجوز واحد.

و الحاصل: أنه لا وجه للتفكيك بين المتكافئين صدورا و بين المتخالفين كذلك، و بالالتزام بصدور الخبرين في الأول، و حمل أحدهما على التقية. و الالتزام بصدور خصوص الراجح منهما صدورا في الثاني. هذا تقريب إشكال بعض تلاميذ الشيخ عليه.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(3) متعلق ب «المتخالفين».

(4) يعني: من حيث وجود المرجّح الصدوري في أحد المتخالفين صدورا دون الآخر كما هو المفروض مع حمل أحدهما على التقية.

(5) جواب «لو»، و ضمير «أحدهما» راجع إلى «المتخالفين».

ص: 362

بصدورهما (1) مع حمل أحدهما عليها (2)؛ لأنه (3) إلغاء لأحدهما أيضا (4) في الحقيقة.

و فيه (5): ما لا يخفى من الغفلة، و حسبان أنه التزم «قدس سره» في مورد الترجيح

=============

(1) أي: بصدور المتكافئين من حيث الصدور اللذين التزم الشيخ بصدورهما و حمل الموافق منهما للعامة على التقية، و جعلهما مورد الترجيح بالمرجّح الجهتي.

(2) أي: على التقية، و ضمير «أحدهما» راجع إلى «المتكافئين».

(3) تعليل لعدم تعقل التعبّد بصدور المتكافئين مع حمل أحدهما على التقية.

و محصل التعليل: أن التعبّد الذي لا يترتب عليه أثر إلاّ الحمل على التقية - التي هي طرح الخبر و إلغاؤه - غير معقول؛ إذ يلزم من وجود التعبد عدمه. مضافا إلى لغوية مثل هذا التعبد.

(4) يعني: كما أن حمل الموافق للعامة على التقية في المتكافئين صدورا إلغاء له حقيقة.

(5) هذا دفع إشكال الميرزا الرشتي على الشيخ. و محصل الدفع هو: أن ورود النقض المذكور على الشيخ «قدس سره» مبني على أن يكون مراده من التعبّد بالخبرين التعبد الفعلي و الحجية الفعلية؛ إذ لو كان هذا مراده فالنقض المذكور وارد عليه، ضرورة:

أن الحجية الفعلية مفقودة في كلّ من المتكافئين و المتفاضلين، حيث إن دليلها إمّا أدلة حجية خبر الواحد، و إما أخبار العلاج، و شيء منهما لا يقتضي حجية المتعارضين فعلا.

أما الأول فواضح؛ إذ مقتضاه حجية كل خبر بعينه، و هذا غير ممكن في صورة التعارض.

و أما الثاني: فلأن مقتضاها حجيّة أحدهما تعيينا مع المرجّح و تخييرا مع تساويهما و تكافؤهما، لا حجية كليهما فعلا.

و أما لو كان مراد الشيخ «قدس سره» في المتكافئين صدورا هو تساويهما بحسب دليل الاعتبار - لا الحجية الفعلية - فمن المعلوم أن التساوي من هذه الجهة - أي: إمكان الحجية - موجود في المتكافئين دون المتفاضلين؛ لأن مقتضى أخبار العلاج هو حجية خصوص ذي المزية تعيينا، فلا يتساوى الخبران من حيث دليل الاعتبار في المتفاضلين، و يتساويان في المتكافئين صدورا، و لا يمكن التعبد بصدور أحدهما دون الآخر، و عدم التعبد بصدور الآخر، فيكونان كمقطوعي الصدور في عدم المرجح الصدوري، فتصل النوبة حينئذ إلى المرجح الجهتي الذي هو متفرع على أصل الصدور كما أفاده الشيخ «قدس سره»، فلا بد من تقديم ذي المرجّح الصدوري على الآخر.

ص: 363

بحسب الجهة باعتبار (1) تساويهما من حيث الصدور، إما للعلم بصدورهما، و إما للتعبد به فعلا مع (2) بداهة: أن غرضه من التساوي من حيث الصدور تعبدا:

تساويهما بحسب دليل التعبد بالصدور قطعا، ضرورة (3): أن دليل حجية الخبر (4) لا يقتضي التعبد فعلا بالمتعارضين (5)؛ بل و لا بأحدهما (6)، و قضية (7) دليل العلاج ليس إلاّ التعبد بأحدهما تخييرا أو ترجيحا.

=============

و «من» في قوله: «من الغفلة» بيان «ما» الموصول، و «حسبان» عطف على «الغفلة»، و ضمير «أنه» راجع إلى الشيخ، و عليه: كان المناسب تقديم «قدس سره» على «التزم» إذ لا يناسب جعل ضمير «أنه» للشأن.

(1) متعلق ب «التزم».

و غرضه: أن إشكال الميرزا الرشتي على الشيخ «قدس سره» نشأ من تخيل أن الشيخ «قدس سره» التزم في مورد الترجيح بالجهة باعتبار صدورهما فعلا المحرز بالوجدان أو التعبّد. و لذا أورد عليه النقض بأن الحكم بصدور الخبرين المتكافئين مع حمل أحدهما على التقية إن كان ممكنا أمكن ذلك أيضا في الخبرين المتخالفين صدورا، فاللازم الحكم بصدورهما أيضا و حمل أحدهما على التقية، مع عدم التزام الشيخ بذلك؛ بل التزم بترجيح ذي المرجح الصدوري على فاقده.

(2) هذا تنبيه على عدم صحة التخيّل المزبور، و أن مراد الشيخ «قدس سره» من التساوي من حيث الصدور تعبدا هو إمكان التعبد و الحجية الإنشائية؛ لا التعبد الفعلي حتى يقال: بعدم تعقل الحجة الفعلية في المتعارضين مطلقا، سواء كانا متكافئين صدورا أم متخالفين كذلك.

(3) تعليل لكون غرض الشيخ التساوي من حيث الصدور شأنا لا فعلا.

(4) و هي الأدلة العامة الدالة على حجية خبر الواحد، فإنها لا تقتضي حجية كليهما و لا أحدهما، لا معيّنا لعدم الترجيح، و لا مخيّرا لعدم كونه فردا للعام.

(5) أي: بالمتعارضين المتكافئين من حيث الصدور.

(6) أما عدم التعبد الفعلي بالمتعارضين فللتعارض الذي لا يمكن معه حجية المتعارضين فعلا، و أما عدم التعبد الفعلي بأحدهما تعيينا و تخييرا فلما مرّ آنفا.

(7) غرضه: أنه لا دليل على التعبد الفعلي بالمتكافئين صدورا؛ لأن الدليل على الحجية منحصر في الأدلة العامة القائمة على حجية أخبار الآحاد، و في الأخبار العلاجية.

و شيء منهما لا يدل على حجيتهما فعلا.

ص: 364

و العجب كل العجب أنه (1) «رحمه الله» لم يكتف بما أورده من النقض حتى ادعى استحالة تقديم الترجيح بغير هذا المرجح (2) على الترجيح به،...

=============

أما الأدلة العامة فلما مرّ آنفا. و أما الأخبار العلاجية فلأنها لا تقتضي إلاّ حجية أحدهما تعيينا أو تخييرا، فلا محيص عن إرادة إمكان حجيّة المتكافئين صدورا لا فعليتها.

فصارت النتيجة: أن مراد الشيخ «قدس سره» إمكان حجية المتعارضين، سواء كانا متكافئين صدورا أم مختلفين كذلك؛ إلاّ إن تفرّع جهة الصدور على أصل الصدور، و كذا الأخبار الآمرة بالترجيح بالمرجح الصدوري أوجبا ارتفاع إمكان شمول دليل الاعتبار للمرجوح في غير المتكافئين؛ لوجود المرجّح الصدوري في غير المرجوح الموجب لشمول دليل التعبد للراجح صدورا و إن كان موافقا للعامة، دون المرجوح صدورا و إن كان مخالفا للعامة.

هذا بخلاف صورة تكافؤ المتعارضين صدورا؛ لبقاء إمكان شمول دليل الحجية لهما مع الغض عن المرجّح الجهتي، و إيراد الميرزا الرشتي «قدس سره» مبنيّ على اعتبار التعبد الفعلي بصدورهما في مورد الترجيح بالمرجح الجهتي مع تكافئهما صدورا، و قد عرفت:

أن مراد الشيخ إمكان التعبد بالمتعارضين لا فعليته.

برهان امتناع تقديم المرجّح الصدوري على الجهتي

(1) إن بعض الأعاظم من تلاميذ الشيخ و هو المحقق الرشتي «لم يكتف بما أورده من النقض».

و محصل ما أفاده من دعوى استحالة تقديم المرجّح السندي على الجهتي خلافا للشيخ - القائل بتقدم الأرجح صدورا إذا كان موافقا للعامة على غيره و إن كان مخالفا للعامة - هو القطع بعدم إمكان شمول دليل اعتبار الخبر للخبر الموافق للتقية؛ لدوران أمره بين عدم صدوره رأسا و بين صدوره تقية. و على التقديرين لا يعقل حجيته كعدم تعقل حجيّة الخبر الموافق للعامة إذا كان قطعي الصدور؛ لامتناع التعبد بصدور ما علم بصدوره وجدانا؛ بل صحة التعبد به منوطة بالشك في صدوره.

(2) أي: المرجح الجهتي، و المراد بغيره هو المرجّح الصدوري. و ضمير «به» راجع على «هذا المرجح» و هو المرجّح الجهتي.

غرضه: دعوى استحالة تقديم المرجح الصدوري على الجهتي، و هذا التقديم هو مدعى الشيخ.

ص: 365

و برهن (1) عليه بما حاصله: «امتناع التعبد بصدور الموافق لدوران (2) أمره بين عدم صدوره من أصله و بين صدوره (3) تقية، و لا يعقل التعبد به على التقديرين (4) بداهة:

كما أنه لا يعقل التعبد (5) بالقطعي الصدور الموافق؛ بل الأمر في الظني الصدور (6) أهون؛ لاحتمال عدم صدوره بخلافه».

ثم قال (7): «فاحتمال تقديم المرجحات السندية على مخالفة العامة - مع نصّ الإمام «عليه السلام» على طرح موافقهم (8) - من العجائب و الغرائب التي لم يعهد صدورها من ذي مسكة فضلا عمن هو تال العصمة علما و عملا».

ثم قال: «و ليت شعري أن هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه ؟ مع إنه في جودة النظر يأتي بما يقرب من شق القمر».

=============

(1) يعني: و برهن المحقق الرشتي «قدس سره» على دعوى هذه الاستحالة بامتناع ترجيح الأرجح صدورا الموافق للعامة على الخبر المخالف لهم؛ لأن أمر الموافق للعامة دائر بين عدم صدوره رأسا، و بين صدوره تقية، و على التقديرين: لا يعقل التعبد به كما مرت الإشارة إليه.

(2) تعليل لامتناع التعبد بصدور الموافق. و قد تقدم توضيحه.

(3) هذا الضمير و ضمائر «أمره، صدوره، به» راجعة إلى «الموافق».

(4) و هما عدم الصدور أصلا أو صدوره تقية بداهة؛ لعدم أثر شرعي يصح التعبد بلحاظه.

(5) لامتناع اجتماع الإحراز التعبدي مع الإحراز الوجداني.

(6) كما هو المفروض؛ إذ مورد البحث هو الخبر الظني الصدور الواجد للمرجحات الصدورية، يعني: أن امتناع التعبد بصدور الظني أسهل من امتناعه في القطعي؛ لما ذكره من احتمال عدم الصدور في الظني و انتفائه في القطعي الصدور، فإذا رفعنا اليد عن القطعي الموافق للعامة، فرفع اليد عن الظني أسهل.

و ضمير «عدم صدوره» راجع إلى الظني الصدور و المعنى عدم صدور الظني الصدور.

و ضمير «بخلافه» راجع إلى القطعي الصدور. فالمعنى بخلاف القطعي الصدور، فإن رفع اليد عنه - لقطعية صدوره و انتفاء احتمال عدم الصدور فيه - أصعب من رفع اليد عمّا فيه احتمال عدم الصدور.

(7) يعني: بعض الأعاظم من تلاميذ الشيخ و هو المحقق الرشتي «قدس سره».

(8) كقوله «عليه السلام» في مصحح عبد الرحمن بن أبي عبد الله: «فما وافق

ص: 366

و أنت خبير بوضوح فساد برهانه (1).

ضرورة (2): عدم دوران أمر الموافق بين الصدور تقية و عدم الصدور رأسا؛ لاحتمال (3) صدوره لبيان حكم الله واقعا، و عدم (4) صدور المخالف المعارض له أصلا، و لا يكاد (5) يحتاج في التعبد إلى أزيد من احتمال صدور الخبر لبيان ذلك (6) أخبارهم فذروه، و ما خالف أخبارهم فخذوه»(1).

=============

(1) و هو امتناع التعبد بالخبر الموافق للعامة لأجل دوران أمره بين الاحتمالين، و هما:

عدم صدوره، و صدوره للتقية؛ لكنه ليس كذلك، لدورانه بين احتمالات ثلاثة، أعني:

الاحتمالين الأولين و احتمال صدوره لبيان حكم الله الواقعي، و من المعلوم: أن احتمال صدور الموافق يخرج التعبد به عمّا ادعاه الميرزا الرشتي «قدس سره» من الامتناع و عدم المعقولية؛ لكفاية احتمال الصدور في شمول أدلة حجية الخبر له؛ إذ المانع عن الشمول - و هو العلم بالكذب - مفقود مع فرض احتمال صدور الموافق، و عدم صدور الخبر المخالف المعارض له أصلا.

(2) تعليل لوضوح فساد برهانه الذي أقامه على عدم معقولية التعبد بصدور الخبر الظني الموافق للعامة، و قد مر توضيحه آنفا بقولنا: «لدورانه بين احتمالات ثلاثة».

(3) تعليل لنفي دوران أمر الموافق بين أمرين، و إثبات دورانه بين أمور ثلاثة.

(4) عطف على «صدوره» يعني: و لاحتمال عدم صدور الخبر المخالف للعامة المعارض للخبر الموافق لهم أصلا.

(5) غرضه من هذه العبارة: إثبات إمكان التعبد بالخبر الموافق في قبال الامتناع الذي ادعاه المحقق الرشتي «قدس سره» و حاصله: أن احتمال الصدور المفروض وجوده كاف في صحة التعبد.

و بعبارة أخرى: كلام المصنف يشتمل على كبرى و صغرى، فالكبرى هي أن المناط في حجية كل خبر واحد هو احتمال صدقه و كذبه، فلو علم صدق الخبر أو كذبه لم يكن مجال للتعبد بالصدور.

و الصغرى هي: أن الخبر الموافق للعامة لا علم بكذبه و لا بصدقه؛ بل يحتمل إصابته بالواقع، و نتيجة ذلك شمول أدلة الاعتبار - من الأدلة الأولية و الثانوية - للخبر الموافق للعامة لوجود المقتضي و فقد المانع.

(6) أي: لبيان الحكم الواقعي، و بهذا الاحتمال يعقل التعبد به و تصير احتمالاته ثلاثة.

ص: 367


1- الوسائل 33362/118:27، عن رسالة الراوندي.

بداهة (1)؛ و إنما دار احتمال الموافق بين الاثنين (2) إذا كان المخالف قطعيا صدورا و جهة و دلالة، ضرورة (3): دوران معارضه (4) حينئذ (5) بين عدم صدوره و صدوره تقية، و في غير هذه الصورة (6) كان دوران أمره بين (7) الثلاثة (8) لا محالة؛ لاحتمال (9) صدوره (10) لبيان الحكم الواقعي حينئذ (11) أيضا (12).

و منه (13) قد انقدح: إمكان التعبد بصدور الموافق القطعي لبيان الحكم الواقعي و إنما يدور احتمال الخبر الموافق بين الاثنين - و هما الصدور تقية و عدم الصدور رأسا - فيما إذا كان الخبر المخالف قطعيّا من جميع الجهات أي: الصدور و الجهة و الدلالة، ضرورة: أن الظني الموافق يدور أمره حينئذ بين هذين الاحتمالين و لا ثالث لهما.

=============

(1) قيد ل «يحتاج».

(2) كما أفاده المحقق الرشتي «قدس سره»، فإن الدوران بين الاحتمالين إنما هو فيما إذا كان المخالف قطعيّا صدورا و جهة و دلالة.

(3) تعليل لقوله: «و إنما دار».

(4) و هو الخبر الموافق الذي يعارضه الخبر المخالف القطعي من جميع الجهات.

(5) أي: قطعية الخبر المخالف من جميع الجهات الثلاث.

(6) يعني: غير صورة قطعيّة الخبر المخالف من الجهات الثلاث؛ كما إذا كانا ظنيين من جميع الجهات، أو كان المخالف قطعيا سندا و دلالة، و ظنيا جهة أو قطعيا سندا، و ظنيا دلالة و جهة، أو قطعيا دلالة و ظنيا سندا و جهة، إلى غير ذلك من الصور المتصورة التي لا تنافي ثلاثية احتمالات الخبر الموافق للعامة من عدم صدوره، أو صدوره للتقية أو لبيان الحكم الواقعي.

(7) خبر «كان». و ضمير «أمره» راجع على «الموافق».

(8) المتقدمة، و هي عدم صدور الموافق، و صدوره تقية أو لبيان الحكم الواقعي.

(9) تعليل لدوران أمر الخبر الموافق بين الثلاثة المتقدمة.

(10) أي: صدور الموافق للعامة لبيان الحكم الواقعي.

(11) أي: حين عدم كون الخبر المخالف قطعيا من جميع الجهات.

(12) قيد ل «احتمال صدوره» يعني: أن احتمال صدور الموافق لبيان الحكم الواقعي موجود لوجود احتمال عدم الصدور و صدوره تقية.

(13) أي: و مما ذكر - من تعقل التعبد بالظني الموافق و مع ما أفاده المحقق الرشتي من عدم تعقّله، حيث التزم بانحصار أمر الخبر الموافق في احتمالين، و هما عدم صدوره

ص: 368

أيضا (1)، و إنما لم يكن التعبد بصدوره (2) لذلك (3) إذا كان معارضه المخالف قطعيا بحسب السند و الدلالة؛ لتعيين حمله على التقية حينئذ (4) لا محالة.

و لعمري أن ما ذكرناه (5) أوضح من أن يخفى (6) على مثله، إلاّ إن الخطأ و النسيان كالطبيعة الثانية للإنسان، عصمنا الله من زلل الأقدام في كل ورطة و مقام.

ثم إنّ هذا (7) كله إنما هو بملاحظة أن هذا...

=============

و صدوره تقية - قد ظهر الإشكال في مقايسة الظني الموافق بالقطعي الموافق في عدم تعقل التعبّد بالصدور، و أنه لا وجه لمنع تعقل التعبد في شيء من الموافق القطعي و الظني، و ذلك لوضوح كفاية احتمال الصدور الموافق لبيان الحكم الواقعي في الموافق القطعي في صحة التعبد به و شمول دليل الاعتبار له، غاية الأمر: أن في الموافق الظني احتمالات ثلاثة: عدم الصدور، و الصدور تقية، و الصدور لبيان الحكم الواقعي، و في الموافق القطعي احتمالين: صدوره تقية، و صدوره لبيان الحكم الواقعي. و كثرة الاحتمال و قلّته لا توجبان الفرق بينهما في تعقل التعبد و عدمه.

(1) يعني: كإمكان التعبد بصدور الموافق الظني.

(2) أي: بصدور الموافق القطعي.

غرضه: أن عدم تعقّل التعبد بصدور الموافق القطعي لبيان الحكم الواقعي كما ذكره بقوله المتقدم آنفا: «كما أنه لا يعقل التعبد بالقطعي الصدور الموافق»، إنما يكون فيما إذا كان الخبر المعارض المخالف له قطعيا سندا و دلالة، إذ يتعيّن حينئذ حمل الموافق القطعي على التقية.

(3) أي: لبيان الحكم الواقعي.

(4) أي: قطعية الخبر المخالف للعامة، و ضمير «حمله» راجع إلى «الموافق».

(5) أي: أن ما ذكرناه - من ردّ ما أفاده المحقق الرشتي - ممّا لا ينبغي أن يخفى على مثله، إلاّ إن النسيان لا يفارق الإنسان؛ بل هو كالطبيعة الثانية له.

(6) هذا من العبارات المشهورة التي لم يظهر لها إلى الآن معنى يصحّ الركون إليه بالنظر إلى القاعدة الأدبية من اشتراك المفضل و المفضل عليه في المبدأ، فإن هذه القاعدة لا تنطبق عليه؛ إذ معناه: أن ما ذكرناه أوضح من الخفاء، و هذا كما ترى.

(7) أي: ثم إن جميع ما تقدم إلى هنا من تقدّم الأرجح صدورا على المخالف للعامة أو بالعكس، أو أنه لا فرق بينهما أصلا كما هو المختار لكون المعيار في التقدم هو حصول

ص: 369

المرجح (1) مرجّح من حيث الجهة، و أما (2) بما هو موجب لأقوائية دلالة ذيه (3) من أحد المناطين السابقين من الظن الشأني بالمعنى المتقدم أو الفعلي إنما هو بملاحظة كون المخالفة للعامة هي من المرجحات الجهتية.

=============

و أما لملاحظة كونها من المرجحات الدلالية نظرا إلى ما في الموافق للعامة من احتمال التورية الموجب لضعف ظهوره و دلالته، و أن المخالف للعامة يكون أقوى منه دلالة و ظهورا لعدم احتمال التورية فيه أصلا فهي مقدمة على جميع المرجحات طرا.

و فيه: أن الكبرى و هي تقدم المرجحات الدلالية على ما سواها من المرجحات و إن كانت هي مسلّمة؛ و لكن كون مخالفة العامة من المرجحات الدلالية محل تأمل بل منع، فإن مجرد كون الخبر موافقا للعامة و جريان احتمال التورية فيه دون بيان الواقع مما لا يخل بظهوره عرفا ليكون المخالف للعامة هو أقوى منه ظهورا، و من هنا ترى المصنف قد رجع أخيرا عن ذلك فقال: اللّهم إلاّ أن يقال: «إن باب احتمال التورية و إن كان مفتوحا...» الخ.

(1) أي: أن مخالفة العامة مرجح من حيث الجهة لا من حيثية أخرى.

و هي كون المخالفة من المرجحات الدلالية الموجبة لأقوائية دلالة الخبر المخالف من دلالة الموافق، ببيان: أن في الخبر الموافق احتمالين:

أحدهما: صدوره للتقية التي هي إرادة ظاهر الكلام من باب الكذب الذي سوّغه الشرع لمصلحة أقوى من مفسدة الكذب.

ثانيهما: إعمال التورية فيه بإرادة الحكم الواقعي الذي هو خلاف ظاهره بدون قرينة عليه؛ كإرادة الوجوب من كلمة «ينبغي» بناء على ظهورها في الندب، و إرادة الحرمة من كلمة «لا ينبغي» بناء على ظهورها في الكراهة.

فعلى الاحتمال الأول: تكون مخالفة العامة من المرجحات الجهتية. و على الاحتمال الثاني - المؤيّد بوجود التورية - تكون المخالفة مرجحيا دلاليّا لإيجابها ضعف دلالة الموافق و ظهوره في معناه و قوة دلالة المخالف و ظهوره، فيصير المخالف حينئذ أظهر من الموافق لانسداد باب التورية فيه و انفتاحه في الموافق، فقدّم على الموافق من باب تقدم الأظهر على الظاهر. و قد تقدم الإشكال عليه.

(2) عطف على «بملاحظة»، يعني: و أما إذا لوحظت المخالفة من حيث كونها موجبة لأقوائية الدلالة... الخ، و قد تقدم توضيحه بقولنا: «لا من حيثية أخرى».

(3) أي: ذي المرجح. و ضمائر «معارضه، دونه، فهو» راجعة إلى «ذيه».

ص: 370

معارضه، - لاحتمال التورية في المعارض المحتمل فيه (1) التقيّة دونه - فهو (2) مقدّم على جميع مرجحات الصدور، بناء على ما هو المشهور من تقدّم التوفيق بحمل الظاهر على (3) الأظهر على الترجيح بها (4).

اللّهم (5) إلاّ أن يقال: إن باب احتمال التورية و إن كان مفتوحا فيما احتمل فيه التقية، إلاّ إنه (6) حيث كان بالتأمل و النظر لم...

=============

(1) أي: في المعارض، و المراد بالمعارض هو الخبر الموافق للعامة.

(2) جواب «و أما» يعني: و أمّا مخالفة العامة - بما أنها موجبة لأقوائية ذيها - فهي مقدمة على جميع مرجحات الصدور، و لا يقدم شيء منها على المرجح الجهتي، بناء على ما هو المشهور من تقدم التوفيق العرفي - الذي منه حمل الظاهر على الأظهر - على الترجيح بمرجحات الصدور طرا.

و غرضه: أن باب التوفيق العرفي أجنبي عن باب التعارض الذي يجري فيه نزاع تقدم المرجح الجهتي على الصدوري و بالعكس.

(3) متعلق ب «بحمل». و قوله: «بحمل» متعلق ب «التوفيق».

(4) أي: بمرجحات الصدور، و «على الترجيح» متعلق ب «تقدم».

(5) غرضه: إنكار كون مخالفة العامة موجبة لأقوائية الدلالة - و إخراجها عن التوفيق العرفي - بعدم كون التورية قرينة على إثبات أظهرية الخبر المخالف للعامة من الخبر الموافق؛ و ذلك لأن باب احتمال التورية و إن كان مفتوحا في الموافق و مسدودا في المخالف؛ إلاّ إن التورية ليست جلية كالقرائن اللفظية أو العقلية المنسبقة إلى الأذهان بلا تأمل و نظر كاللوازم البينية بالمعنى الأخص التي لا يحتاج الالتفات إليها إلى إعمال نظر حتى تكون قرينة عرفية على التصرف في الخبر الموافق، و توجب أظهرية المخالف و تخرج مخالف العامة عن المرجحات الجهتية، و تدرجها في المرجحات الدلالية، و على هذا: فمخالفة العامة مرجّح؛ جهتي لا دلالي حتى تتقدم على جميع المرجحات الصدورية و غيرها.

(6) يعني: إلاّ إن التورية حيث كانت بالتأمل و النظر - و لم تكن كالقرائن العقلية الحافة بالكلام - لم توجب أظهرية معارضه و هو الخبر المخالف للعامة؛ حتى يتقدم على معارضه الموافق بالأظهرية.

و بعبارة أخرى: الترجيح بالظهور مختص بما إذا كان اللفظ بحسب الدلالة اللفظية أظهر و لو بواسطة القرائن، لا من جهة الظهور الوضعي بالخصوص. و أما الاحتمالات

ص: 371

يوجب (1) أن يكون معارضه أظهر بحيث يكون قرينة على التصرف عرفا في الآخر، فتدبر (2).

=============

العقلية غير المرتكزة في أذهان العرف، فلا تجعل اللفظ بحسب قابليته للمعنى أظهر من الآخر، و المفروض: إن التورية من هذا القبيل.

(1) الأولى رعاية التأنيث فيه و في «كان»؛ لرجوع الضمير المستتر إلى التورية.

(2) لعله إشارة إلى ما قيل: من أن منع الأظهرية مطلقا بصرف كون المناط ما يعد قرينة عقلية غير مستقيم، بعد وضوح انقسام الأمر العقلي إلى خفي و جلي و صحة اعتماد المتكلم على قرينة عقلية في مقام التخاطب؛ و إن لم يفهمها المخاطب إلاّ بعد الدقة و الالتفات.

و بعبارة أخرى: لعله إشارة إلى ردّ «اللّهم إلاّ أن يقال»، و وجهه: أن الظهور متبع عند العقلاء إذا لم يكن في المقام شيء صارف له و لو احتمال التورية و التقية إذا كان احتمالا عقلائيا، فكون المخالف أظهر في مفاده لا بأس بالقول به.

رأي المصنف «قدس سره»:

1 - رجوع جميع المرجحات إلى المرجحات السندية و الصدورية.

2 - عدم اعتبار الترتيب بين المرجحات.

ص: 372

فصل (1)

=============

فصل فى المرجحات الخارجية

(1) هذا الفصل معقود للكلام في المرجحات الخارجية.

و قبل الخوض في أصل البحث ينبغي بيان محل الكلام، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي بيان أمرين:

أحدهما: أن البحث في المرجحات الخارجية متفرع على أمرين: الأول: لزوم الترجيح. و الثاني: التعدّي من المرجحات المنصوصة إلى غيرها. و إلاّ فبناء على ما هو مختار المصنف «قدس سره» من الرجوع إلى إطلاقات التخيير مطلقا لا موضوع لعقد هذا الفصل.

ثانيهما: أن المراد بالمرجّح الخارجي هو كل مزيّة مستقلة بنفسها، و المراد بالداخلي هي المزية الغير المستقلة بنفسها لقيامها بإحدى الجهات المتعلقة بالخبر.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل الكلام في المقام هو البحث عن المرجحات الخارجية و هي: على أقسام:

الأول: ما لم يقم على اعتباره و لا على عدم اعتباره دليل كالظن الحاصل من الشهرة الفتوائية؛ بأن يكون أحد الخبرين موافقا للشهرة الفتوائية.

الثاني: ما قام دليل على عدم اعتباره؛ كالظن الحاصل من القياس حيث يوافق أحد الخبرين المتعارضين.

الثالث: ما قام الدليل على اعتباره؛ كموافقة أحد الخبرين للكتاب.

الرابع: ما قام الدليل على اعتباره في نفسه من دون كونه ناظرا إلى ارتباط له بالخبر الموافق له؛ كالأصول العملية الموافقة لأحد المتعارضين.

و الفرق بين الثالث و الرابع واضح، فإن موافقة الكتاب معناه كون أحد الخبرين موافقا لعموم الكتاب، و لا ريب أن العموم باعتبار فناء العام في مصاديقه و أفراده يكون ناظرا إلى مورد مدلول الخبر الذي وافقه، بخلاف الأصل فإنه حيث كان حكما للمشكوك - بما هو مشكوك حكمه واقعا - لا يكن له نظر إلى مورد الخبر الموافق؛ لأن الخبر يتضمن

ص: 373

موافقة الخبر (1) لما يوجب الظن بمضمونه و لو نوعا (2) من المرجحات في الجملة (3)، بناء (4) على لزوم الترجيح لو قيل بالتعدّي من المرجّحات المنصوصة، أو الحكم بما أنه هو الحكم واقعا، و الأصل يتضمن الحكم له بما أنه حكم ظاهري للمشكوك حكمه واقعا، فلا يعقل نظر الأصل إلى أحد المتعارضين؛ لفرض: أن موضوع الأصل الشك في الحكم الواقعي.

=============

و قد تعرّض المصنف لجميع الأقسام. و الكلام الآن في القسم الأول كما يدل عليه قوله في آخر كلامه: «هذا حال الأمارة غير المعتبرة لعدم الدليل على اعتبارها».

(1) هذا إشارة إلى أول أقسام المرجحات الخارجية و هو الظن غير المعتبر لأجل عدم الدليل على اعتباره، و محصل ما أفاده في الترجيح بالظن غير المعتبر - بناء على وجوب الترجيح في الخبرين المتعارضين، و على التعدي عن المرجحات المنصوصة - وجهان استدل بهما الشيخ «قدس سره»:

أحدهما: كون موافقة الخبر للأمارة المزبورة مزيّة، و المفروض - بناء على القول بالتعدي - وجوب الترجيح بكل مزيّة تقرّب واجدها إلى الواقع، أو توجب الظن بالصدق.

ثانيهما: اندراج الخبر الموافق للأمارة المذكورة في أوقى الدليلين، و قد ادّعي الإجماع على لزوم تقديم الأقوى منهما على غيره.

قوله: «بمضمونه» أي: بمضمون الخبر، و المراد بالموصول في «لما» هو الأمارة.

(2) قيد «الظن».

و غرضه: عدم اعتبار الظن الفعلي في الأمارة الموافقة لأحد المتعارضين، كما اعتبره بعضهم، و كفاية الظن النوعي كما ذهب إليه الشيخ و المصنف «قدس سرهما»؛ بل المصنف لم يعتبر الظن النوعي أيضا، و التزم - بناء على القول بالتعدي عن المرجحات المنصوصة - بالتعدّي إلى كل مزية و إن لم توجب الظن النوعي.

(3) قيد لمرجحية الظن المعتبرة.

و غرضه: أن مرجحيته ليست بنحو الإطلاق حتى يكون الظن مطلقا - و لو نهي عنه بالخصوص كالقياس و نحوه من المرجّحات؛ بل مرجحيته تكون بنحو الإيجاب الجزئي.

(4) قيد لقوله: «من المرجّحات».

غرضه: أن الترجيح بالظن غير المعتبر لا بد أن يستند إلى دليل، و ما استدل به أو يمكن الاستدلال به على ذلك وجوه.

و قد أشار إلى الوجه الأول بقوله: «بناء على لزوم الترجيح» الخ.

ص: 374

قيل (1) بدخوله في القاعدة المجمع عليها (2)؛ كما ادعي، و هي «لزوم العمل بأقوى الدليلين».

و قد عرفت (3): أن التعدّي محلّ نظر بل منع، و أن (4) الظاهر من القاعدة هو ما و حاصله: أنه بناء على التعدّي فموافقة الخبر لمثل الشهرة الفتوائية مما يوجب الظن بأقربية مضمونه إلى الواقع، و أشار إلى الوجه الثاني بقوله: «أو قيل بدخوله في القاعدة المجمع عليها...» الخ.

=============

(1) عطف على «قيل». و إشارة إلى الوجه الثاني الذي تقدم بقولنا: «ثانيهما: اندراج الخبر...» الخ.

(2) و هي تقتضي الترجيح بهذا المرجح؛ لوضوح: أن موافقة الشهرة الفتوائية لأحد الخبرين مما توجب اندراجه تحت هذه القاعدة المجمع عليها؛ لاستلزام الشهرة أقوائية الدليل الموافق لها.

(3) يعني: قد عرفت ذلك في بحث التعدي و عدم التعدي عن المرجحات المنصوصة عند تضعيف تمسك الشيخ «أعلى الله مقامه» بالفقرات الخاصة من الأخبار العلاجية، و به يحصل لك الجواب عن الوجه الأول من الوجوه التي استدل بها الشيخ للترجيح بالقسم الأول من المرجح الخارجي.

(4) عطف على «التعدي» و إشارة إلى الجواب عن الوجه الثاني.

و توضيح الجواب هو: أن القدر المتيقن من القاعدة هو الأخذ بما يوجب أقوائية أحد الدليلين في مقام دليليته و كشفه النوعي بلحاظ نفسه؛ لا من جهة أمر خارجيّ يوجب الظن بمطابقة مضمونه للواقع؛ كالشهرة الفتوائية و الأولوية الظنية، فإن ذلك لا يزيد في كشفه عن الواقع حتى يصير الخبر الموافق له أقوى دليلا من معارضه.

نعم؛ يوجب ذلك الأمر الخارجيّ غير المعتبر قوّة مضمون الخبر الموافق له ثبوتا؛ لكنه لا يوجب القوّة في دليليته إثباتا و كشفا.

فالمتحصل: أن هذا المرجح الخارجي لا يوجب قوة الدليل الموافق له من حيث دليليته؛ و إن أوجب الظن بأقربية مضمونه للواقع إلاّ إن الدليل - بما هو دليل - لم تحدث له قوّة بما هو دليل و كاشف؛ لوضوح: أن مساندة الشهرة الفتوائية لأحد الخبرين لا تجعله بالنسبة إلى معارضه من قبيل الأظهر و الظاهر؛ بل الظهور فيه على ما هو عليه؛ بل لا توجب أيضا قوّة ملاك الحجية فيه من حيث الصدور، و لا توجب أيضا قوّة ملاك صدوره لبيان الواقع، و إنما غاية ما توجب هو قرب مضمونه إلى الواقع و هو غير هذه الجهات.

ص: 375

كان الأقوائية من حيث الدليليّة و الكشفيّة، و كون (1) مضمون أحدهما (2) مظنونا لأجل مساعدة أمارة ظنيّة عليه لا يوجب قوّة فيه من هذه الحيثية (3)؛ بل هو (4) على ما هو عليه من القوّة لو لا مساعدتها (5) كما لا يخفى. و مطابقة (6) أحد الخبرين لها لا يكون لازمه الظن بوجود خلل في الآخر إما من حيث الصدور، أو من حيث جهته.

=============

(1) يعني: و مجرّد حصول الظن بمضمون أحد الخبرين - بسبب مساعدة أمارة ظنية عليه - لا يوجب قوة دليليته و كشفه حتى يصير أقوى من معارضه.

(2) أي: أحد الدليلين. و ضميرا «عليه، فيه» راجعان إلى «أحدهما».

(3) يعني: حيثية الكشف و الطريقية، فلا يندرج الخبر الموافق للأمارة غير المعتبرة في قاعدة «أقوى الدليلين».

(4) يعني: بل أحد الدليلين الموافق للأمارة غير المعتبرة باق على ما هو عليه من القوة، و لم تزد دليليّته بسبب مساعدة الأمارة غير المعتبرة عليه، فوجود الأمارة غير المعتبرة كعدمها.

(5) أي: لو لا مساعدة الأمارة.

(6) هذا إشارة إلى الوجه الثالث من وجوه الترجيح بالأمارة غير المعتبرة، و قد أفاده الشيخ «قدس سره» أيضا، و هو إرجاع هذا القسم من المرجحات الخارجية إلى المرجحات الداخلية، قال في المقام الثالث في المرجحات الخارجية: «ثم الدليل على الترجيح بهذا النحو من المرجّح ما يستفاد من الأخبار العلاجية من الترجيح بهذا النحو من المرجح ما يستفاد من الأخبار العلاجية من الترجيح بكلّ ما يوجب أقربية أحدهما إلى الواقع و إن كان خارجا عن الخبرين؛ بل يرجع هذا النوع إلى المرجّح الداخلي، فإن أحد الخبرين إذا طابق أمارة ظنيّة فلازمه الظن بوجود خلل في الآخر إما من حيث الصدور، أو من حيث جهة الصدور، فيدخل الراجح فيما لا ريب فيه و المرجوح فيما فيه الريب... فيقال في تقريب الاستدلال: إن الأمارة موجبة لظن خلل في المرجوح مفقود في الراجح، فيكون الراجح أقوى إجمالا من حيث نفسه».

و محصله: إرجاع هذا القسم من المرجحات الخارجية المضمونية إلى المرجحات الداخلية - و اندراجها حينئذ في أخبار الترجيح بالمرجحات الداخلية - بدعوى: أن مطابقة أحد الخبرين لما يوجب الظن بأقربيته إلى الواقع تلازم حصول الظن بوجود خلل في الخبر الآخر، إما في صدوره و إما في جهة صدوره، فيصير مشمولا لما فيه الريب من إحدى الجهات و الخبر المطابق للأمارة مصداق لما لا ريب فيه بالإضافة إلى غيره، فيتعين الأخذ به.

و ضمير «لها» راجع إلى أمارة ظنية. و قوله: «لا يكون لازمه» خبر «و مطابقة» و جواب

ص: 376

كيف (1)؟ و قد اجتمع مع القطع بوجود جميع ما اعتبر في حجية المخالف لو لا (2) معارضة الموافق و الصدق (3) واقعا لا يكاد يعتبر في الحجية كما لا يكاد يضر بها عن هذا الوجه الثالث بوجهين: أحدهما: صغروي، و الآخر: كبروي. و ما أفاده بقوله:

=============

«لا يكون لازمه» إشارة إلى الوجه الأول و محصله: أن مجرّد مطابقة أحد الخبرين لأمارة غير معتبرة لا تستلزم الظن بوجود خلل في الخبر الآخر لا في صدوره و لا في جهة صدوره، كيف توجب هذه المطابقة الظن بوجود خلل في الخبر الآخر المعارض له ؟ مع القطع بوجود جميع شرائط الحجية في الخبر المخالف للأمارة الخارجية غير المعتبرة - لو لا معارضته للخبر الموافق لتلك الأمارة - ضرورة: امتناع اجتماع القطع بحجيته مع الظن بوجود خلل في صدوره أو جهته؛ بحيث يكون المانع عن حجيته منحصرا في هذه المعارضة.

(1) هذا إنكار للاستلزام المزبور المدعى في كلام الشيخ «قدس سره»، يعني: كيف يوجب مجرّد المطابقة لأمارة غير معتبرة الظن بالخلل في الخبر المعارض، مع القطع بوجود جميع شرائط الحجية فيه لو لا ابتلاؤه بمعارضة الخبر الموافق للأمارة غير المعتبرة ؟ لامتناع القطع بحجية الخبر المخالف مع الظن بوجود خلل فيه.

(2) قيد لحجية الخبر المخالف.

و غرضه: أنه لا مانع من حجية المخالف إلاّ معارضة الخبر الموافق لأمارة غير معتبرة له.

(3) إشارة إلى الإشكال الثاني الوارد على كلام الشيخ «قدس سره»، و هذا الإشكال كبروي؛ لرجوعه إلى عدم قدح الظن بالخلل - في الخبر المخالف - في حجيته بعد تسليم الاستلزام المزبور؛ و ذلك لأن القدح المذكور مبنيّ على اعتبار الصدق واقعا في حجية الخبر، و مانعيّة الكذب واقعا عن حجيته حتى يكون الظن بكذب الآخر واقعا موجبا للظن بخلل في حجيته.

و السرّ في ذلك: أن حجية الأخبار عندهم تكون من باب الظن النوعي الذي لا يقدح في اعتباره الظن بالخلاف؛ بل يكفي في الحجية احتمال الصدق، فلا يضر معه احتمال الكذب واقعا، و من المعلوم: أن مطابقة أحد الخبرين للمرجّح المضموني لا يجعل الخبر الآخر معلوم الكذب؛ بل غايته حصول الظن به، و قد تقدم كرارا: أن موضوع التعبّد بأدلة الاعتبار هو غلبة الإصابة بالواقع نوعا.

و احتمال الإصابة شخصا، و لا ريب في وجود هذا المقدار في الخبر الفاقد للمزية، و لا يقتضي الظن بكذبه خروجه عن دائرة الحجية.

ص: 377

الكذب كذلك (1)، فافهم (2).

هذا (3) حال الأمارة غير المعتبرة؛ لعدم الدليل على اعتبارها.

و أما (4) ما ليس بمعتبر بالخصوص - لأجل الدليل على عدم اعتباره بالخصوص كالقياس - فهو و إن كان (5) كالغير (6) المعتبر...

=============

(1) أي: واقعا. و ضمير «بها» راجع إلى «الحجية».

(2) لعله إشارة إلى أنه يمكن أن يكون نظر الشيخ «قدس سره» إلى أن مطابقة أحد الخبرين لأمارة غير معتبرة توجب العلم الإجمالي بوجود مرجح واقعي صدوري أو جهتي في الخبر الموافق، فيقدّم حينئذ على المخالف بناء على القول بوجوب الترجيح و التعدّي عن المزايا المنصوصة.

لكنه بعيد جدا لبعد حصول العلم الإجمالي؛ بل الحاصل مجرد الاحتمال، فالحق عدم الترجيح بالأمارة غير المعتبرة إلاّ إذا أوجبت الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع بناء على التعدي؛ و إلاّ فلا.

(3) أي: ما ذكر من الأبحاث هو حال مطابقة أحد الخبرين المتعارضين للأمارة غير المعتبرة لعدم دليل على اعتبارها، فقوله: «لعدم الدليل» قيد ل «غير المعتبرة». هذا تمام الكلام في القسم الأول من المرجحات الخارجية و الحق عند المصنف عدم الترجيح به.

(4) يعني: و أما الأمارة غير المعتبرة التي يكون عدم اعتبارها لقيام دليل بالخصوص عليه... و هذا إشارة إلى القسم الثاني من المرجحات الخارجية.

و محصل كلام المصنف فيه: أن هذا القسم و إن كان كالأمارة غير المعتبرة - لأجل عدم الدليل على اعتبارها كالشهرة الفتوائية و الأولوية الظنية - في كونه مقتضيا للترجيح بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة، و على اندراج الخبر الموافق للأمارة غير المعتبرة بدليل خاص كالقياس في صغريات قاعدة «أقوى الدليلين»؛ لكن الأخبار الناهية عن تلك الأمارة كالقياس تمنع الترجيح بها؛ لأن مقتضى النهي عن استعمال تلك الأمارة عدم جواز استعمالها في الأحكام الشرعية، و من الواضح: أن الترجيح بها استعمال لها في الحكم الشرعي الأصولي؛ إذ المفروض: تعيين الحجة بها، و لا فرق في حرمة استعمالها في الأحكام بين الأصولية و الفرعية؛ بل قد يكون خطره في المسألة الأصولية أكثر؛ كما إذا اشتمل الخبر الموافق للقياس على جملة من الأحكام.

(5) الضمير المستتر فيه و ضمير «فهو» راجعان إلى «ما ليس بمعتبر».

(6) خبر «كان»، و الأولى أن يقال: «كغير» بدون أداة التعريف؛ لشدّة الإبهام.

ص: 378

لعدم (1) الدليل بحسب (2) ما يقتضي الترجيح به من (3) الأخبار، بناء على التعدّي و القاعدة (4) بناء (5) على دخول مظنون المضمون في أقوى الدليلين؛ إلاّ (6) إن الأخبار الناهية عن القياس و «أن السنّة إذا قيست محق الدين». مانعة عن الترجيح به، ضرورة: أن استعماله في ترجيح أحد الخبرين استعمال له في المسألة الشرعية

=============

(1) متعلق ب «المعتبر»، و المراد بعدم الدليل: عدم الدليل الخاص؛ و إلاّ فالدليل العام أعني: به أصالة عدم الحجية في كل أمارة لم يقم دليل على اعتبارها موجود.

(2) متعلق ب «كان». و هذا وجه المماثلة المستفادة من قوله: «كالغير المعتبر».

(3) بيان ل «ما» الموصول. و ضمير «به» راجع إلى «غير المعتبر لعدم الدليل».

(4) عطف على «الأخبار»، يعني: أن الترجيح بأمارة غير معتبرة - لأجل دليل بالخصوص على عدم اعتبارها كالقياس - مبنيّ على أحد الأمرين المتقدمين على سبيل منع الخلوّ:

أحدهما: التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها لاستفادته من بعض الفقرات الخاصة من الأخبار العلاجية.

ثانيهما: اندراج الخبر الموافق لتلك الأمارة غير المعتبرة - بدليل خاص - في قاعدة أقوى الدليلين المجمع عليها.

(5) قيد لقوله: «و القاعدة».

غرضه: أن صغروية الخبر الموافق لأمارة غير معتبرة بدليل خاص - لقاعدة أقوى الدليلين - مبنيّة على كون الظن بالمضمون موجبا للأقوائية.

(6) استدراك على قوله: «فهو و إن كان كغير المعتبر».

غرضه: بيان الفارق بين القسم الأول و الثاني من المرجحات الخارجية، و عدم كونهما بوزان واحد في مقام ترجيح أحد الخبرين المتعارضين، فالترجيح بالقسم الأول أقل إشكالا؛ إذ لا نهي عن العمل به بالخصوص، بخلاف الثاني؛ لوجود النهي عنه فإن الأخبار الناهية عن العمل بالقياس تمنع الترجيح به و عن استعماله في الدين، فإن الترجيح به استعمال له في تعيين المسألة الأصولية و هي الحجيّة، و من المعلوم: أن الحكم الأصولي كالفرعي يكون من الدين بلا تفاوت بينهما. و كيف كان:

فحاصل ما أفاده المصنف: أنه لو لا الأدلة الناهية عن العمل بالقياس لكان حال الظن القياسي حال الأمارة غير المعتبرة لعدم الدليل؛ لأنه بعد كون المناط هو الأقربية و كون المظنون أقربيّته و لو بالظن الخارجي أقوى الدليلين فلا محالة يصح الترجيح به، و يدخل

ص: 379

الأصولية، و خطره ليس بأقل (1) من استعماله في المسألة الفرعية.

و توهم (2): أن حال القياس هاهنا (3) ليس في تحقق الأقوائية به إلاّ كحاله فيما ينقح به موضوع آخر ذو حكم - من اعتماد عليه (4) في مسألة أصولية و لا فرعية تحت القاعدة لكونه أقوى من الدليل المخالف له، فأدلة الترجيح تشمل الترجيح بالظن القياسي، كما تشمل الترجيح بالأمارة الظنية التي لم يقم على اعتبارها دليل؛ إلاّ إن النهي عن إعمال القياس في الدين مانع عن الترجيح به؛ لأن الترجيح بالظن القياسي إعمال له في الدين، فالمقتضي للترجيح بالنسبة إلى القياس و الأمارة غير المعتبرة لعدم الدليل على اعتبارها على حدّ سواء؛ إلاّ إن الأخبار الناهية عن العمل بالقياس هي المانع عن الترجيح به.

=============

(1) بل قد يكون خطره في المسألة الأصولية أكثر؛ كما إذا كان الخبر الموافق للأمارة غير المعتبرة مشتملا على جملة من الأحكام.

(2) و حاصل التوهم: هو جواز الترجيح بالقياس و إثبات حجيّة أحد المتعارضين به كجواز تنقيح الموضوع الخارجي به كقياس الغليان بالشمس على الغليان بالنار، و إثبات الحرمة للمغلي بالشمس قياسا له بالمغلي بالنار، فالقياس ينقح موضوعا خارجيا ذا حكم شرعي، و ليس الموضوع الخارجي حكما شرعيا حتى يصدق على تنقيح الموضوع به استعمال القياس في الدين؛ ليكون منهيا عنه.

و عليه: فلا مانع من ترجيح أحد المتعارضين بالقياس.

و حاصل الجواب عن هذا التوهم: أن القياس في الموضوعات الخارجية الصرفة ليس قياسا في الدين و إن رتب عليها أحكام شرعية جزئية، بخلاف إعمال القياس في المسألة الأصولية أو الفرعية فإنه قياس في الدين لما يترتب عليه من استنباط حكم شرعي كلي لا جزئي، فقياس ترجيح أحد الخبرين المتعارضين بالقياس على تنقيح موضوع ذي حكم قياس مع الفارق، فيكون باطلا.

و حاصل الفرق: إن تنقيح الموضوع الخارجي بالقياس ليس استعمالا له في الدين، بخلاف ترجيح أحد الخبرين به على الآخر، فإنه قياس في الدين إذ استعمال القياس لتعيين ما هو الحجة استعمال له في الدين.

(3) أي: مقام ترجيح أحد المتعارضين، فإن حال القياس في باب الترجيح و إثبات الأقوائية به ليس إلاّ كحاله في تنقيح الموضوع الخارجي الذي يترتب عليه حكم شرعي، من دون اعتماد على القياس.

(4) هذا الضمير و ضمير «حاله» و ضمير «به» في الموضعين راجعة إلى القياس.

ص: 380

قياس (1) مع الفارق، لوضوح الفرق بين المقام، و القياس في الموضوعات الخارجية الصرفة (2)، فإن (3) القياس المعمول فيها (4) ليس في الدين، فيكون (5) إفساده أكثر من إصلاحه، و هذا بخلاف المعمول في المقام (6)، فإنه (7) نحو إعمال له في الدين، ضرورة (8): أنه (9) لو لاه لما تعيّن الخبر الموافق له للحجية بعد سقوطه (10) عن الحجية بمقتضى أدلة الاعتبار، و التخيير (11) بينه و بين معارضه (12) بمقتضى أدلة العلاج، فتأمل جيدا.

=============

(1) خبر «و توهم» و دفع له. و قد تقدم توضيح الدفع، فلا حاجة إلى الإعادة.

(2) المراد بالموضوعات الصرفة: هي الموضوعات الخارجية التي تعلقت بها أحكام شرعية بدون أن يتصرف الشارع في حدودها، كما عرفت في غليان العصير بالنار، فإن الغليان موضوع عرفي تعلق به حكم شرعي.

(3) هذا بيان الفارق و قد عرفت توضيحه تفصيلا.

(4) أي: في الموضوعات.

(5) بالنصب يعني: يكون إفساده أكثر من إصلاحه.

(6) و هو ترجيح أحد الخبرين على الآخر بالقياس.

(7) يعني: فإن المعمول في مقام الترجيح نحو إعمال للقياس في الدين.

(8) بيان لكون ترجيح أحد الخبرين بالقياس إعمالا له في الدين.

(9) هذا الضمير للشأن، و ضميرا «لو لاه، له» راجعان إلى «القياس».

(10) أي: سقوط الخبر الموافق للقياس عن الحجية بمقتضى القاعدة الأولية، بعد قصور أدلة اعتبار الأخبار عن شمولها لكلا المتعارضين و لا لأحدهما المعين، و لا المخيّر.

(11) عطف على «سقوطه»، يعني: و بعد التخيير بين الخبر الموافق للقياس و بين معارضه بمقتضى الأخبار العلاجية؛ إذ المفروض: تكافؤهما إلاّ في موافقة أحدهما للقياس، فإذا تعيّن الخبر الموافق له للحجية كان ذلك إعمالا للقياس في الدين.

و الحاصل: أن حكم المتعارضين بمقتضى القاعدة الأولية هو سقوط كليهما، و بمقتضى أخبار العلاج هو التخيير، فتعيين أحد الخبرين المتكافئين للحجية - لأجل موافقته للقياس - عمل بالقياس و خارج عن كلا الحكمين اللذين تقتضيهما القاعدة الأولية و أخبار العلاج.

ثم إن الأولى إبدال «بمقتضى أدلة الاعتبار» ب «بمقتضى القاعدة الأولية» كما لا يخفى، فإن أدلة العلاج أيضا من أدلة الاعتبار؛ لكنها دليل ثانوي، و أدلة حجية خبر الواحد دليل أولي، و الأمر سهل بعد وضوحه.

(12) هذا الضمير و ضمير «بينه» راجعان إلى «الخبر الموافق».

ص: 381

و أما (1) إذا اعتضد بما كان دليلا مستقلا في نفسه كالكتاب و السنة القطعيّة، فالمعارض المخالف لأحدهما إن كانت مخالفته (2) بالمباينة الكلية، فهذه الصورة (3) خارجة عن مورد الترجيح؛ لعدم (4) حجية الخبر المخالف كذلك (5) من أصله و لو مع عدم المعارض فإنه (6) المتيقن من الأخبار الدالة على...

=============

(1) عطف على «أما ما ليس بمعتبر»، و كان الأولى أن يقال: «و أما ما كان دليلا مستقلا في نفسه و كان معاضدا لأحد الخبرين».

و هذا إشارة إلى ثالث أقسام المرجحات الخارجية.

و محصل ما أفاده في هذا القسم: أن الخبر المخالف للكتاب أو السنة القطعية إن كانت مخالفته لهما بالمباينة الكلية، فهذه الصورة خارجة عن الترجيح؛ إذ مورده: كون الخبرين المتعارضين واجدين لشرائط الحجية، و من المعلوم: أن الخبر المخالف بهذه المخالفة لا يكون حجة في نفسه و لو مع عدم معارض له؛ إذ المتيقن هو الروايات الدالة على «أن الخبر المخالف زخرف أو باطل أو نحوهما» هو هذه الصورة، فالمتعين حينئذ العمل بالخبر الموافق و طرح المخالف.

(2) أي: مخالفة المعارض بنحو المباينة، و ضمير «أحدهما» راجع على «الكتاب و السنّة».

(3) أي: المخالفة التباينية خارجة عن مورد الترجيح.

(4) تعليل لخروج هذه الصورة عن مورد الترجيح، و محصله: أن المخالفة التباينية مانعة عن الحجية و إن لم يكن معارض للخبر المخالف للكتاب و السنة بهذه المخالفة؛ بل ليس فيه اقتضاء الحجية كما هو ظاهر ما في الأخبار، من التعبيرات ب «زخرف و باطل و لم نقله» و نحو ذلك.

(5) أي: مخالفة تباينية، فإن المخالف كذلك ليس في نفسه حجة و لو لم يكن له معارض.

(6) أي: فإن الخبر المخالف تباينيا يكون هو المتيقن من الأخبار الدالة على «أن الخبر المخالف للكتاب و السنّة زخرف أو لم نقله» أو غير ذلك.

و الوجه في تيقّنه أولا: أن المخالفة بنحو العموم المطلق ليست مخالفة عرفا؛ لكون الخاص عندهم مبيّنا لما هو المراد من العام، و قرينة عليه، و ليست هذه المخالفة مشمولة لتلك الأخبار؛ لخروجها عنها موضوعا.

و ثانيا: أنها أبية عن التخصيص، مع العلم الإجمالي بصدور أخبار مخالفة للكتاب -

ص: 382

أنه (1) «زخرف» أو «باطل» أو أنه «لم نقله» أو غير ذلك (2).

و إن كانت (3) مخالفته بالعموم و الخصوص المطلق فقضية القاعدة فيها (4) و إن كانت ملاحظة المرجحات بينه و بين الموافق، و تخصيص (5) الكتاب به تعيينا أو تخييرا لو لم يكن الترجيح في الموافق بناء (6) على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد.

إلاّ (7) إن الأخبار الدالة على أخذ الموافق من المتعارضين غير قاصرة عن العموم بنحو العموم المطلق - عنهم «عليهم السلام». لو سلّم كون مخالفة العموم المطلق مخالفة فالأخبار المشار إليها منصرفة عنها.

=============

(1) هذا الضمير و ضمير «نقله» راجعان إلى «الخبر المخالف».

(2) مثل «اضربوه على الجدار».

(3) عطف على «إن كانت مخالفته» و إشارة إلى القسم الثاني و هو المخالفة بالعموم و الخصوص المطلق.

و توضيح ما أفاده هو: أن مقتضى قاعدة التعارض المستفادة من الأخبار العلاجية و إن كان هو ملاحظة المرجحات بين الخبر الموافق للكتاب أو السنّة و بين الخبر المخالف و الأخذ بأرجحهما إن كان و إلاّ فالتخيير بينهما، و تخصيص الكتاب بالخبر المخالف إن أخذ به تعيينا أو تخييرا بناء على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد؛ إلاّ إن الأخبار المتضمنة لأخذ الموافق للكتاب من الخبرين المتعارضين تشمل صورة المخالفة بنحو العموم و الخصوص المطلق، بناء على كونها من الأخبار العلاجية التي هي في مقام ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى لا في مقام تمييز الحجة عن اللاحجة؛ كما استفاده المصنف سابقا من تلك الأخبار و أيد هذه الاستفادة بأخبار العرض على الكتاب الدالة على عدم حجية الخبر المخالف للكتاب من أصله و لو بدون المعارض.

(4) أي: في المخالفة بالعموم و الخصوص المطلق. و ضمير «بينه» راجع على «الخبر المخالف».

(5) عطف على «ملاحظة». و ضمير «به» راجع إلى «الخبر المخالف».

قوله: «لو لم يكن الترجيح» قيد لقوله: «تخييرا.

و غرضه: أنه يخصص الكتاب بالخبر المخالف تعيينا إن كان له مرجح، و تخييرا إن لم يكن له مرجّح.

(6) قيد لقوله: «و تخصيص الكتاب به»؛ إذ بدون هذا البناء لا وجه لتخصيص الكتاب به.

(7) استثناء من قوله: «فقضية القاعدة و إن كانت ملاحظة المرجحات».

ص: 383

لهذه الصورة (1) لو قيل (2) بأنها في مقام ترجيح أحدهما؛ لا تعيين الحجة عن اللاحجة كما نزلناها عليه (3).

و يؤيده (4): أخبار العرض على الكتاب الدالة على عدم حجية المخالف من أصله، فإنهما (5) تفرغان عن لسان واحد، فلا وجه لحمل المخالفة في إحداهما على خلاف المخالفة في الأخرى، كما لا يخفى.

=============

و محصله: هو أن قاعدة التعارض و إن كانت مقتضية لملاحظة الترجيح بين الخبر الموافق و المخالف للكتاب بنحو العموم المطلق كما أفاده الشيخ «قدس سره»، و تقديم الخبر المخالف إن كان راجحا على الموافق و تخصيص الكتاب به، و التخيير بين الموافق و المخالف إن كانا متكافئين؛ إلاّ إن أخبار الترجيح بموافقة الكتاب تشمل هذه الصورة، فيرجح بها الخبر الموافق لعموم الكتاب على المخالف لعمومه و إن كان المخالف مع عدم المعارضة مخصصا لعموم الكتاب لأخصيّته منه.

هذا بناء على القول بكون أخبار الترجيح بموافقة الكتاب و السنة في مقام ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى. و أما بناء على كونها في مقام تعيين الحجة عن اللاحجة فلا مرجّح للخبر الموافق على المخالف حتى يقدم عليه لأجل موافقته للكتاب.

(1) أي: صورة كون المخالفة بنحو العموم المطلق.

(2) قيد لقوله: «غير قاصرة» إذ مع عدم كونها في مقام الترجيح - بل في مقام تعيين الحجة عن اللاحجة - تكون أجنبية عن تعارض الحجتين الذي هو مورد البحث.

(3) يعني: كما نزّلنا الأخبار الدالة - على أخذ الموافق - على تعيين الحجة عن اللاحجة حيث قال عند الجواب عن أخبار الترجيح: «مع أن في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظرا...» الخ.

(4) يعني: و يؤيد تنزيل تلك الأخبار - على أنها في مقام تعيين الحجة عن اللاحجة - أخبار العرض على الكتاب الدالة على عدم حجية المخالف من أصله و إن لم يكن له معارض، للتعبير عنه بالزخرف و الباطل و نحوهما.

(5) هذا وجه التأييد: توضيحه: أن أخبار العرض على الكتاب - الدالة على عدم حجية المخالف من أصله و «أنه زخرف و باطل» و نحو ذلك - و أخبار الأخذ بالموافق مع وحدة الموضوع فيهما كيف تحمل إحداهما و هي أخبار العرض على المخالفة التباينية.

و الأخرى و هي أخبار العلاج على غير المخالفة التباينية ؟

فإنه مع وحدة الموضوع - و هي المخالفة - فيهما، و أنهما تفرغان عن لسان واحد لا وجه للتفكيك بينهما بحمل إحداهما على معنى، و الأخرى على معنى آخر.

ص: 384

اللّهم (1) إلاّ أن يقال: نعم؛ إلاّ إن دعوى اختصاص هذه الطائفة (2) بما إذا كانت المخالفة بالمباينة، بقرينة (3) القطع بصدور المخالف غير المباين عنهم «عليهم السلام» كثيرا، و إباء (4) مثل: «ما خالف قول ربّنا لم أقله» أو «زخرف» أو «باطل» عن التخصيص غير (5) بعيدة.

=============

(1) هذا عدول عمّا ذكره من تأييد وحدة معنى المخالفة في الطائفتين من الأخبار بقوله: «فلا وجه لحمل المخالفة في إحداهما»، و بيان للفرق بين المخالفة التي هي من المرجحات، و بين المخالفة التي هي من شرائط حجية خبر الواحد.

و محصل وجه العدول: أنه لا بد من التفكيك بين المخالفتين في هاتين الطائفتين لوجهين:

أحدهما: العلم الإجمالي بصدور المخالف بنحو العموم و الخصوص المطلق.

و الآخر: إباء بعض أخبار العرض على الكتاب عن التخصيص.

فهذا الوجهان قرينتان على التفكيك المزبور، بحمل أخبار العرض على المخالفة التباينية؛ إذ لا معنى لأن يقال: «ما خالف قول ربّنا لم نقله أو باطل إلاّ ما علم صدوره»، و حمل أخبار الأخذ بالموافق و طرح المخالف على الأعم و الأخص المطلقين. فما يكون من المرجحات هو المخالفة بنحو العموم و الخصوص المطلق، و ما يكون مميّزا للحجة عن اللاحجة هو المخالفة التباينية.

(2) و هي أخبار العرض على الكتاب، و «بما» متعلق ب «اختصاص».

(3) متعلق ب «اختصاص» و الباء للسببية. و قوله «بقرينة» إشارة إلى الوجه الأول المذكور بقولنا: «أحدهما: العلم الإجمالي».

(4) عطف على «بقرينة»، و هو إشارة إلى الوجه الثاني المتقدم بقولنا: «و الآخر إباء بعض أخبار العرض على الكتاب عن التخصيص»، فقوله: «عن التخصيص» متعلق ب «إباء».

(5) خبر «دعوى»، و عليه: فإذا ورد خبر يدل على حرمة الرّبا بين الوالد و الولد، و خبر آخر يدل على جوازه، و الأول موافق للعام الكتابي و هو قوله تعالى: وَ حَرَّمَ اَلرِّبٰا (1) و الثاني مخالف له مخالفة العموم و الخصوص المطلق، قدّم الموافق إن لم يكن ترجيح للمخالف؛ و إلاّ فيقدّم المخالف و يخصّص به عموم الكتاب، و يحكم بجواز أخذ الربا للوالد من ولده بناء على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد.

ص: 385


1- البقرة: 275.

و إن (1) كانت المخالفة بالعموم و الخصوص من وجه فالظاهر أنها كالمخالفة في الصورة الأولى (2) كما لا يخفى.

و أما (3) الترجيح بمثل الاستصحاب - كما وقع في كلام غير واحد من الأصحاب

=============

(1) عطف على قوله: «إن كانت مخالفته بالمباينة الكلية».

توضيحه: أنه إن كانت المخالفة للكتاب أو السنة بالعموم من وجه فالظاهر: أن حكمها في المجمع حكم المخالفة التباينية لتحيّر العرف في الجمع بين العامين من وجه في مورد اجتماعهما، و عدم تحيّره في الجمع بين العام و الخاص المطلقين، فتندرج المخالفة بالعموم من وجه في أخبار العرض؛ لعدم موجب لخروج المخالفة بالعموم من وجه عنها، كما كان لخروج مخالفة العموم و الخصوص المطلق عنها وجه و هو ما تقدم من العلم الإجمالي بصدور روايات مخالفة للكتاب مخالفة العموم المطلق، و من إباء بعض أخبار العرض عن التخصيص.

و بالجملة: تكون المخالفة بالعموم من وجه من مصاديق المخالفة عرفا.

(2) و هي المخالفة التباينية.

(3) هذا إشارة إلى حال القسم الرابع من أقسام المرجحات الخارجية، و الدليل المعتبر في نفسه غير المعاضد لمضمون أحد الخبرين، نظير الاستصحاب و غيره من الأصول العملية.

و تعبير المصنف «بمثل الاستصحاب» يدل على عدم اختصاص هذا البحث بالاستصحاب، و قد صرّح الشيخ «قدس سره» بتعميمه، حيث قال: «و لا فرق في ذلك بين الأصول الثلاثة أعني: أصالة البراءة و الاحتياط و الاستصحاب».

و محصل ما أفاده المصنف: أن الأصل إن كان اعتباره من باب الظن، فعلى القول بعدم التعدّي من المرجّحات المنصوصة لا مجال للترجيح بالأصل، و على القول بالتعدي فإن كان ذلك الظّن موجبا للظّن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع فالترجيح به واضح، و إن لم يكن موجبا لأحد هذين الأمرين - اللذين أنيط بهما التعدي - فلا وجه للترجيح أيضا.

و إن كان اعتباره تعبّدا من باب الأخبار الدّالة على أن الأصل وظيفة للشاك، فلا وجه للترجيح به أصلا؛ لعدم اعتضاد أحد الخبرين المتعارضين به، بداهة: أن الأصل ليس كاشفا عن الواقع حتى يكون في رتبة الأمارة. و معاضدا لها و مقرّبا لمضمونها إلى الواقع، كيف يمكن أن يكون كاشفا عن الواقع ؟ مع تقوّم موضوعه بالشك الذي لا يعقل فيه الكشف و الطريقية.

ص: 386

- فالظاهر: أنه (1) لأجل اعتباره من باب الظن و الطريقية عندهم، و أما بناء على اعتباره (2) تعبّدا من باب الأخبار وظيفة للشاك - كما هو المختار كسائر الأصول العملية التي تكون كذلك (3) عقلا أو نقلا - فلا وجه (4) للترجيح به أصلا؛ لعدم (5) تقوية مضمون الخبر بموافقته (6) و لو بملاحظة دليل اعتباره (7) كما لا يخفى.

هذا آخر ما أردنا إيراده، و الحمد للّه أوّلا و آخرا و باطنا و ظاهرا.

=============

(1) أي: الترجيح لأجل اعتبار الأصل من باب الظن و الطريقية.

و الظاهر: كون الظن أعم من النوعي و الشخصي؛ إلاّ إن الترجيح بالأول مشكل بناء على استناد التعدّي عن المرجحات المنصوصة إلى الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع كما لا يخفى.

(2) أي: اعتبار الأصل تعبّدا و وظيفة للشاك، فلا وجه للترجيح به أصلا.

(3) أي: وظائف للشاك عقلا؛ كقاعدة قبح العقاب بلا بيان، أو نقلا كالبراءة الشرعية.

(4) جواب «و أمّا»، و ضمير «به» راجع إلى «بمثل الاستصحاب».

(5) تعليل لقوله: «فلا وجه».

(6) أي: بموافقة الخبر لمثل الاستصحاب.

(7) أي: اعتبار مثل الاستصحاب.

و الوجه في ذلك: أن دليل اعتبار الأصل العملي لا يدل إلاّ على أنه وظيفة الشاك عملا، و من المعلوم: أنه أجنبيّ عن الإحراز و الكشف، فإن مدلول الخبر هو الحكم الواقعي، و مؤدى الأصل العملي هو الحكم الظاهري، و من المعلوم: عدم وحدة رتبة هذين الحكمين حتى يتقوى مدلول الخبر بمؤدى الأصل.

فتحصل من جميع ما أفاده المصنف من أوّل بحث المرجحات الخارجية إلى هنا: أن الأمر الخارجي الموافق لأحد الخبرين المتعارضين إن كان أمارة غير معتبرة - سواء كان عدم اعتبارها لعدم الدليل على اعتبارها كالشهرة الفتوائية و الأولوية الظنية، أم لقيام الدليل على اعتبارها كالقياس - لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين المتعارضين و إن كان دليلا مستقلا في نفسه كالكتاب و السنة القطعية، فإن كان الخبر المعارض مخالفا للكتاب أو السنّة القطعية بالتباين أو العموم من وجه قدّم الخبر الموافق، و يسقط المخالف عن الاعتبار رأسا، و لا يكون هذا التقديم من باب ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى؛ بل من باب تقديم الحجة على اللاحجة.

ص: 387

و إن كان مخالفا للكتاب أو السنة بالعموم و الخصوص المطلق كانت موافقة الكتاب من المرجحات، فإن لم يكن للخبر المخالف مرجّح يوجب تقدّمه على الموافق يؤخذ بالموافق، و يطرح ذلك؛ و إلاّ يؤخذ بالمخالف و يخصّص به عموم الكتاب.

ص: 388

و قد تمّ هذا الكتاب المسمّى بدروس في الكفاية في يوم الثاني عشر من شهر جمادى الأولى سنة 1425 هجرية في دمشق - الحوزة العلمية الزينبية في جوار السيّدة زينب «عليها السلام».

و تركت بحث الاجتهاد و التقليد تبعا لآية الله العظمى السيد محسن الحكيم «قدس سره» حيث ترك بحث الاجتهاد و التقليد في حقائق الأصول.

الحمد للّه ربّ العالمين، و صلى الله على نبيّه محمد و على آله الطاهرين و أصحابه المنتجبين.

ص: 389

ص: 390

فهرس الجزء السابع

التنبيه التاسع: ترتب الآثار العقلية و العادية على الاستصحاب 5

خلاصة البحث مع رأي المصنف 9

التنبيه العاشر: في لزوم كون المستصحب حكما شرعيا أو ذا حكم شرعي بقاء 10

لا فرق بين كون المستصحب أو المترتب علة بين الأمر الوجودي و العدمي 13

خلاصة البحث مع رأي المصنف 16

التنبيه الحادي عشر: في أصالة تأخر الحادث 17

أقسام تأخر حادث على حادث آخر 19

أحكام تلك الأقسام 20

و قد ذكر المصنف لمنع جريان الاستصحاب تأخر حادث على حادث آخر وجوها 21

الفرق بين الوجود المحمولي و الوجود النعتي أو العدم المحمولي و العدم النعتي 27

الفرق بين ما هو مختار الشيخ الأنصاري و بين ما هو مختار صاحب الكفاية في المسألة 38

دفع إشكال انفصال اليقين عن الشك في استصحاب أحد الحادثين 42

استصحاب أحد الحادثين فيما علن تاريخ أحدهما 46

جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ دون معلوم التاريخ 50

ذكر المصنف وجوها لعدم جريان الاستصحاب في الحادثين أو أحدهما 52

خلاصة البحث مع رأي المصنف 55

التنبيه الثاني عشر: في استصحاب الأمور الاعتقادية 59

الأمور الاعتقادية على قسمين و الفرق بينهما 61

جريان الاستصحاب الحكمي دون الموضوعي إذا كان الأمور الاعتقادية من القسم الثاني 64

الاحتمالات في استصحاب النبوة 68

لزوم الدور في استصحاب النبوة بمعنى المنصب الإلهي 72

ص: 391

لا إشكال في استصحاب بعض أحكام شريعة النبي السابق 73

الجواب عن تمسك الكتابي باستصحاب نبوة موسى «عليه السلام» 74

خلاصة البحث مع رأي المصنف 79

التنبيه الثالث عشر: في عدم جريان الاستصحاب مع الدليل الاجتهادي 81

الفرق بين العموم الاستغراقي و العموم المجموعي 82

انقسامات العام و الخاص في المقام مع بيان حكم تلك الأقسام 85

الأقوال في المسألة هي أربعة 98

الصور و الاحتمالات على ما كره صاحب الكفاية على أربعة 99

نظريات المصنف في المسألة 101

التنبيه الرابع عشر: جريان الاستصحاب مع الظنّ بالخلاف 102

الدليل على كون الشك في باب الاستصحاب بمعنى خلاف اليقين 105

خلاصة البحث مع رأي المصنف 109

في اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب 111

الدليل على اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب 112

الأقوال في تفسير بقاء الموضوع في الاستصحاب 115

الإشكال على الاستدلال على بقاء الموضوع باستحالة انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر 117

الفرق بين نظر العقل و نظر العرف في اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة 121

في إثبات كون اللازم في الاستصحاب هو بقاء الموضوع العرفي لا الموضوع العقلي 125

يقول المصنف: إن المرجع في تشخيص «لا تنقض» هو العرف 127

المقام الثاني: تقدم الأمارة على الاستصحاب بالورود 128

و يمكن تقريب الورود بوجهين 129

الإشكال على ضابط الحكومة 136

خلاصة البحث مع رأي المصنف 141

في ورود الاستصحاب على سائر الأصول العملية 144

توضيح ورود الاستصحاب على الأصول العقلية 146

ص: 392

في تعارض الاستصحابين 147

بيان ما هو المناط في تقديم الأصل السببي على المسببي 150

جواب المصنف على إشكال الشيخ الأنصاري 155

خلاصة البحث مع رأي المصنف 159

في تقدم قاعدة التجاوز و الفراغ و أصل الصحة على الاستصحاب 161

في تقديم الاستصحاب على القرعة 167

خلاصة البحث مع رأي المصنف 174

المقصد الثامن: في تعارض الأدلة 177

بيان مجمل جهات البحث قبل تفصيلها 179

تقريب الجهة الأولى و الثانية 180

عناوين ثلاثة في تعريف التعارض 183

بيان الفرق بين تعريف التعارض عند المشهور و عند المصنف 186

خروج موارد الجمع الدلالي عن تعريف التعارض 191

المورد الثاني: التوفيق العرفي 194

المورد الثالث: حمل الظاهر على الأظهر 209

خلاصة البحث مع رأي المصنف 215

في بيان مقتضى القاعدة الأولية 219

حجّية أحد المتعارضين في نفي الثالث 224

مقتضى القاعدة الأولية في تعارض الدليلين بناء على السببية 225

استدل على أولوية الجمع من الطرح بوجوه 232

خلاصة البحث مع رأي المصنف 237

في بيان مقتضى القاعدة الثانوية في باب تعارض الأخبار 239

أخبار العلاج و أخبار التخيير 241

أخبار الاحتياط و أخبار الترجيح 244

أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الأخبار هو المقبولة 245

الإشكال على وجوب الترجيح المستفاد من المقبولة و المرفوعة 253

ص: 393

ذكر الأخبار الدالة على الترجيح 257

سابع إشكالات وجوب الترجيح 258

في بقية الوجوه التي استدل بها على وجوب الترجيح 264

يقول المصنف: إن المرجع في تعارض الخبرين هو إطلاقات التخيير 269

هل التخيير بدوي أو استمراري ؟ 271

اختلاف الأخبار العلاجية في عدد المرجحات و ترتيبها أوجب اختلاف الأنظار 274

رأي المصنف 276

في التعدي عن المرجحات المنصوصة على غيرها 277

ردّ الوجوه التي استدل بها على التعدي 280

توضيح ردّ المصنف للوجه الثالث من وجوه التعدي 286

هناك إشكالات ثلاثة عامة على التعدي 288

ردّ المصنف على الشيخ الأنصاري 291

خلاصة البحث مع رأي المصنف 295

اختصاص أخبار العلاج بموارد التعارض 299

قول المشهور بعدم شمول أخبار العلاج للتوفيق العرفي 306

خلاصة البحث مع رأي المصنف 309

في المرجحات النوعية للدلالة 311

في ترجيح العموم على الإطلاق 312

دوران الأمر بين التخصيص و النسخ 315

يمكن تقريب الإشكال بوجهين 320

توضيح دفع الإشكال بوجوه ثلاثة 321

خلاصة البحث مع رأي المصنف 324

في انقلاب النسبة 327

توضيح كلام الفاضل النراقي و جواب المصنف عنه 332

رد المصنف على الشيخ الأنصاري 335

معنى التعارض بالعرض 340

ص: 394

تعريض المصنف على الشيخ الأنصاري 343

خلاصة البحث مع رأي المصنف 345

رجوع المرجحات إلى الصدور 347

دفع توهم الظنيين بالقطعيين 350

عدم مراعاة الترتيب بين المرجحات 351

الإشكال على اعتبار الترتيب بين المرجحات المنصوصة 354

في تقديم المرجح الجهتي على غيره من المرجحات 357

فرعية جهة الصدور على أصل الصدور 359

إشكال المحقق الرشتي على الشيخ القائل بتقدم المرجح الصدوري على الجهتي 361

دفع إشكال المحقق الرشتي على الشيخ 363

ردّ دليل امتناع التعبد بالخبر الموافق للعامة 367

مخالفة العامة مرجّح من حيث الجهة لا من حيثية أخرى 370

رأي المصنف هو رجوع جميع المرجحات إلى المرجحات السندية 372

المرجحات الخارجية 373

المرجح الخارجي لا يوجب قوة الدليل الموافق له من حيث دليليته 375

إرجاع بعض المرجحات الخارجية إلى المرجحات الداخلية 376

دفع توهم جواز الترجيح بالقياس 380

حاصل البحث في المرجحات الخارجية: عدم الترجيح بالظن غير المعتبر 387

الفهرس 391

ص: 395

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.