دروس في الکفایة المجلد 6

هویة الکتاب

دروس في الکفایة

شارح: محمدي بامیاني، غلامعلي

كاتب: آخوند خراساني، محمدکاظم بن حسین

تعداد جلد: 7

لسان: العربية

الناشر: دار المصطفی (ص) لاحياء التراث - بیروت لبنان

سنة النشر: 1430 هجری قمری|2009 میلادی

رمز الكونغرس: 1430 /آ3 ک7028 159/8 BP

موضوع: اصول

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة المقصد السابع

اشارة

خاتمة: في شرائط الأصول (1)

أما الاحتياط فلا يعتبر في حسنه شيء أصلا؛ بل يحسن على كل حال؛...

=============

شرائط الأصول العملية

اما الاحتياط

اشارة

(1) و هي: الاحتياط و البراءة بقسميها و أصالة التخيير.

و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان أمرين:

أحدهما: أن المصنف لم يتعرض في الخاتمة إلا ما يعتبر في الاحتياط و البراءة، مع إن الأصول العملية هي أربعة، و قد أهمل المصنف ما يعتبر في التخيير و الاستصحاب. و لعل الوجه في ذلك هو: أن التخيير متحد مع البراءة حكما، فيعرف ما يعتبر فيه مما يعتبر فيها.

و أما الاستصحاب: فلأن البحث عنه و عما يعتبر فيه يأتي في باب الاستصحاب.

و ثانيهما: إن شرائط الأصول على قسمين:

قسم منها شرط لأصل الجريان، و قسم آخر شرط للعمل بها.

و الأول كالفحص عن الأدلة الاجتهادية بالنسبة إلى جريان البراءة العقلية، فلا تجري قبل الفحص؛ إذ موضوعها هو عدم البيان لا يتحقق بدون الفحص عنها.

و الثاني كالفحص عن الدليل الاجتهادي بالنسبة إلى البراءة الشرعية؛ لأن موضوعها هو الشك ثابت قبل الفحص، فليس شرطا لجريانها؛ لأنها تجري قبله و لكن العمل بها يتوقف على الفحص، فالفحص شرط للعمل بالبراءة الشرعية لا لأصل جريانها.

أصل الاحتياط و شروط جريانه

لا شك في حسن الاحتياط لكونه مجاهدة في طريق درك الحق و العمل به، و العقل حاكم بحسنه، و لا يشترط شيء سوى أمرين:

الأول: عدم كونه مستلزما لاختلال النظام فإن حفظه واجب.

الثاني: عدم مخالفته لاحتياط آخر.

و لذا قال المصنف: «فلا يعتبر في حسنه شيء أصلا؛ بل يحسن على كل حال».

ص: 5

إلا (1) إذا كان موجبا لاختلال النظام.

و لا تفاوت فيه (2) بين المعاملات و العبادات مطلقا، و لو (3) كان موجبا للتكرار فيها.

=============

أي: سواء أقامت حجة غير علمية على خلافه أم لا، و سواء كان احتمال الحكم الواقعي قويا أم ضعيفا، و سواء كان قبل الفحص أم بعده؛ و سواء كان الاحتياط حقيقيا أم إضافيا كالأخذ بأحد القولين أو الأقوال في المسائل الفرعية.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) هذا استثناء عن حسن الاحتياط.

و غرضه: أنه لا يعتبر في حسن الاحتياط شيء إلا عدم كونه موجبا لاختلال النظام، فالاحتياط الذي ينجر إلى ذلك لا حسن فيه.

و ظاهر كلام الشيخ هنا عدم اعتبار شيء في حسنه حتى عدم اختلال النظام.

و كيف كان؛ فقوله: «إلا إذا» ظاهر في كون الاختلال رافعا لحسن الاحتياط لا لنفس الاحتياط المحرز للواقع، لظهور السلب في القضايا السالبة في رجوعه إلى المحمول لا الموضوع، فالاحتياط المخل بالنظام محرز للواقع، لكنه ليس بحسن لإخلاله بالنظام.

و إن كان المحتمل رجوع الاستثناء إلى الموضوع بأن يقال: إن حقيقة الاحتياط هي إحراز الواقع عملا مع عدم مزاحمة جهة مقبحة له عقلا، و مع وجود المزاحم ينتفي موضوع الاحتياط، فتكون السالبة بانتفاء الموضوع.

لكن هذا الاحتمال ضعيف جدا؛ لأن حقيقة الاحتياط هي الإحاطة بالواقع و حسنه أو قبحه أحيانا لعارض خارج عن هويته، و ظهور قوله: «إلا إذا كان موجبا لاختلال النظام» في هذا الاحتمال و رجوع السلب إلى المحمول مما لا مجال لإنكاره؛ لأن معناه:

إلا إذا كان الاحتياط موجبا لاختلال النظام، فالاختلال الرافع لحسنه مترتب على وجود الاحتياط، لا رافع لحقيقته، فإن الحسن و القبح من المحمولات المترتبة على وجود شيء.

(2) أي: حسن الاحتياط، و هذا إشارة إلى الخلاف في حسنه في العبادات كما نسب إلى جمع من الفقهاء تبعا للمتكلمين، بزعم: أن الاحتياط فيها مخل بقصد الوجه المعتبر في العبادة، و على هذا بنوا بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد و التقليد مع التمكن منهما.

(3) كلمة «لو» وصلية، و بيان لوجه الإطلاق، و إشارة إلى خلاف آخر و هو: أن الاحتياط بحسن إن لم يكن مستلزما لتكرار العبادة، و إلا فلا حسن فيها؛ لما سيشير إليه، و تقدم أيضا في مباحث القطع.

ص: 6

و توهم (1): كون التكرار عبثا و لعبا بأمر المولى و هو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة فاسد (1)؛ لوضوح: أن التكرار ربما يكون بداع صحيح عقلائي (3)، مع أنه لو و قد نسب إنكار حسن الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة إلى صاحب الحدائق، و ضمير «فيها» راجع على العبادات.

=============

(1) هذا أحد الوجوه التي نوقش بها في حسن الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة، و محصله: أن التكرار عبث لا يترتب عليه غرض عقلائي، و لعب بأمر المولى، و هو ينافي قصد القربة أي: امتثال أمره المعتبر في العبادة.

و عليه: فمع التكرار لا يحصل ما هو قوام العبادة من قصد القربة، و هذا الوجه يوجب امتناع الاحتياط في العبادات، و ضمير «هو» راجع على التكرار.

(2) خبر «و توهم» و دفع له بوجهين:

أحدهما: ما أشار إليه بقوله: «لوضوح»، «و حاصله: أن التكرار ليس لازما مساويا للعبثية المنافية لقصد الامتثال؛ لإمكان نشوئه عن غرض عقلائي، كما إذا كان التكرار موجبا لتعوده على العبادة أو دافعا لضرر عدو عن نفسه إذا استحيا العدوّ من الإضرار به ما دام مصليا، أو كان الفحص و السؤال للذل و المهانة، أو غير ذلك من الأغراض العقلائية الموجبة لتكرار العبادة المخرجة له عن العبثية المنافية لقصد الامتثال المعتبر في العبادة»(1).

و بالجملة: فالعبثية لا تصلح لأن تكون مانعة عن حسن الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة؛ لكونها أخص من المدعى كما لا يخفى.

ثانيهما: ما أشار إليه بقوله: «مع أنه لو لم يكن». و محصله: أن مناط القربة المعتبرة في العبادة هو إتيان الفعل بداعي أمر المولى؛ بحيث لا يكون له داع سواه، فلو أتى بهذا الداعي فقد أدى وظيفته و إن لم يكن التكرار ناشئا من غرض عقلائي و كان لعبا في كيفية الامتثال؛ لكنه لا ينافي قصد الإطاعة، حيث إن حقيقتها كما عرفت هي الانبعاث إلى الفعل عن بعث المولى، و تحركه عن تحريكه، و المفروض تحققها.

(3) يمكن أن يريد منكر حسن الاحتياط المستلزم للتكرار عبثية هذا الاحتياط بنظر العقل مع التمكن من الامتثال العلمي التفصيلي، و أن الاحتياط ليس امتثالا عقلا، و الغرض العقلائي من التكرار لا يسوغه و لا يدرجه تحت عنوان الإطاعة أصلا. و عليه:

فلا يندفع الإشكال بوجود الغرض العقلائي من التكرار كما يقول به من يلتزم بترتب مراتب الإطاعة و طوليتها كما لا يخفى.

ص: 7


1- منتهى الدراية 379:6.

لم يكن بهذا الداعي (1)، و كان (2) أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه لما ينافي قصد الامتثال و إن كان لاعبا في كيفية امتثاله فافهم.

=============

(1) أي: داع صحيح عقلائي، و ضمير «أنه» راجع على التكرار أو للشأن.

لا يخفى: أن الترتيب الطبيعي يقتضي تقديم هذا الجواب على الأول؛ بأن يقال:

«فاسد أولا: بعدم منافاة التكرار لقصد الامتثال، و ثانيا: بإمكان نشوء التكرار من غرض عقلائي على تقدير منافاته له».

(2) أي: و لكن «كان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع سواه»؛ بأن كان داعيه إلى الصلاة أمر الشارع و لكن داعيه إلى التكرار مجرد العبث، كما لو كان داعي المأمور في إتيانه بالكتاب أمر المولى - فيما لو أمر بإحضار كتاب الشرائع مثلا - لكنه أتى بعشرة كتب فيما بينها كتاب الشرائع، فإنه يكون ممتثلا و إن كان لاعبا في طريق الامتثال، فإنه لو كان قصده من أصل العمل أمر المولى «لما ينافي» التكرار «قصد الامتثال و إن كان لاعبا في كيفية امتثاله»، فإن أصل الامتثال شيء و طريق الامتثال شيء آخر، فالزمان المعين كأول الظهر، و المكان المعي؛ ككون الإتيان في المسجد، و الكيفية المعينة ككونها بجماعة أو في لباس خاص أو نحو ذلك كلها من طرائق الامتثال، و ليست من أصل الامتثال، و كذلك المرة و التكرار فما طريقان للامتثال و ليسا نفس الامتثال، و ضميرا «مولاه، له» راجعان على المكلف المفهوم من الكلام، و ضمير «إتيانه» راجع على الفعل المستفاد من العبارة.

و قوله: «لما ينافى» جواب «لو» يعني: لو كان أصل الإتيان بداعي أمر المولى لم يكن التكرار غير الناشئ عن غرض عقلائي منافيا بقصد الامتثال و قادحا في حسن الاحتياط المستلزم للتكرار؛ إذ اللعب إنما هو في كيفية الإطاعة لا في نفسها؛ إذ المفروض: كون الإتيان بالمحتملات ناشئا من أمر المولى.

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى صحة هذا الجواب، فإنه لا يلزم اللعب في كيفية الامتثال أيضا، حيث إن كل عمل ناشئ عن داعي الأمر المحتمل، و من المعلوم: أن انبعاث العمل عن الأمر المحتمل انقياد و هو حسن عقلا، فكيف ينطبق عليه عنوان اللعب الذي هو داع شيطاني و هو مضاد لعنوان الانقياد الذي هو داع رحماني ؟

و منه يظهر: عدم اللعب في الجمع بين المحتملات أيضا، بداهة: أن الجمع أيضا يكون ناشئا عن داع إلهي، و هو إطاعة أمره.

و لعل قوله: «فافهم»: إشارة إلى الإشكال في أصل حسن الاحتياط، فإن العرف لا

ص: 8

بل يحسن (1) أيضا فيما قامت الحجة (2) على البراءة عن التكليف؛ لئلا (3) يقع فيما كان في مخالفته على تقدير ثبوته من المفسدة و فوت المصلحة.

=============

يرون حسن من يأتي بأوامر المولى على نحو الاحتياط - مطلقا -

أ لا ترى أن المولى لو أمر بدق مسمار في الحائط فدق العبد في كل مكان من الحائط مسمارا؛ كان له حق العقاب ؟ لا من جهة كونه تصرفا غير جائز، لغرض: كون الحائط و المسمار مباحين؛ بل من جهة أنه لعب و عبث، و كذلك لو أمر بالذهاب إلى دار زيد فذهب إلى عشر دور احتياطا مع التمكن من تحصيل الواقع بلا تكلف و حرج و هكذا.

و لعل السرّ: أن الامتثال عبارة عن إطاعة المولى في أوامره بقدره، فكما أن النقصان خلاف الأمر كذلك الزيادة، فلو أمر ولده بالإتيان بإناء فلم يعرف الولد الإناء المراد و لم يسأل مع إمكانه، ثم أتى بكل إناء في البيت، كان للأب عقابه عرفا لعمله.

أو إشارة إلى منع التكرار في العبادة، و أنه لعب في ذات العبادة لا في كيفية الامتثال؛ إذ فرق بين الزمان و المكان مما هو خارج عن حقيقة العبادة، و بين التعدد مما هو نفس العبادة.

(1) عطف على «بل يحسن على كل حال»، يعني: كما أن الاحتياط يحسن في موارد عدم قيام الحجة على نفي التكليف كالشبهات البدوية الوجوبية أو التحريمية الناشئة عن فقد الدليل على التكليف، كذلك يحسن في موارد قيام الحجة على عدم التكليف، كنهوض أمارة معتبرة على جواز شرب التتن، أو عدم وجوب السورة في الصلاة مع العلم بعدم مانعيتها.

(2) أي: الحجة غير العلمية، بقرينة قوله «قدس سره»: «فيما كان في مخالفته على تقدير ثبوته»، فإن فرض الثبوت و احتماله إنما يكون في الحجة غير العلمية. مضافا إلى:

أنه لا معنى للاحتياط مع العلم بالواقع.

و بالجملة: المقصود حسن الاحتياط في موارد قيام الأمارة غير العلمية على عدم التكليف.

(3) تعليل لحسن الاحتياط في موارد قيام الحجة على عدم التكليف، و حاصله: أن موضوع الاحتياط - و هو احتمال ثبوت الحكم واقعا مع قيام الحجة غير العلمية على عدم التكليف - موجود لاحتمال خطئها كاحتمال وجود الحكم مع خلوّ الواقعة عن الدليل على حكمها نفيا و إثباتا؛ إذ ملاك حسنه عقلا و هو الانقياد في كلتا الصورتين حاصل، بداهة: احتمال ثبوت الحكم مع قيام الحجة على عدمه، فلا مانع من الاحتياط بقراءة

ص: 9

و أما البراءة العقلية (1): فلا يجوز إجراؤها إلا بعد الفحص و اليأس عن الظفر

=============

اما البراءة العقلية

اشارة

السورة مثلا في الصلاة مع قيام الدليل غير العلمي على عدم جزئيتها لها، و ترك شرب التتن مع نهوض أمارة معتبرة على عدم حرمته.

و الحاصل: أنه يحسن الاحتياط لئلا يقع في مفسدة مخالفة الحكم الواقعي على فرض ثبوته.

و قوله: «و فوت المصلحة» عطف على المفسدة، و «من» بيان ل «ما»، و ضميرا «مخالفته، ثبوته» راجعان على «التكليف»، يعني: لئلا يقع المكلف في المفسدة التي تكون في مخالفة التكليف على تقدير ثبوته هذا.

و لكن الشيخ «قدس سره» علل حسن الاحتياط مع قيام الحجة على عدم التكليف بقوله: «لعموم أدلة رجحان الاحتياط، غاية الأمر: عدم وجوب الاحتياط»، و لعل هذا أولى من تعليل المصنف له بقوله: «لئلا يقع»؛ لأن الاحتياط من طرق إطاعة أحكام الشارع، و أدلة حسنه ناظرة إلى كونه حافظا للأحكام و إن كان حافظا لملاكاتها أيضا؛ لكن المطلوب أولا من الاحتياط هو الأول، حيث إن اللازم علينا مراعاة الأحكام دون ملاكاتها، مع أن كفاية قصد جلب المصلحة أو دفع المفسدة في تحقق الانقياد إلى المولى لا تخلو من بحث.

في اشتراط البراءة العقلية بالفحص

(1) يعني: و أما ما يعتبر في الرجوع إلى البراءة العقلية - و هي قاعدة قبح العقاب بلا بيان - فهو الفحص و اليأس عن الظفر بالحجة على التكليف، لأن موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنما هو عدم البيان الذي يمكن الوصول إليه و لو بالفحص عنه، فإن مجرد فقد البيان الواصل بنفسه مع احتمال وجود البيان الذي لو تفحصنا عنه لظفرنا عليه مما لا يكفي في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان؛ بل إذا تفحصنا عنه و لم يكن هناك بيان على التكليف فعند ذلك يستقل العقل بقبح العقاب، و إن احتمل وجود بيان لا يمكن الوصول إليه أصلا، و هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «و أما البراءة العقلية فلا يجوز إجراؤها لا بعد الفحص»، فجواز إجرائها في الشبهات الحكمية دون الموضوعية - التي سيأتي البحث فيها - منوط بتحقق موضوعها أعني: عدم البيان على الحكم و إحراز عدم البيان - أعني الحجة - منوط بالفحص، و بدونه لا يحكم العقل بقبح المؤاخذة؛ إذ لا بد في حكمه به من إحراز موضوعه، و لا يحرز ذلك إلا بالفحص الموجب لوصول الحجة المنصوبة من الشارع على الحكم أو اليأس عن الوصول إليها.

ص: 10

بالحجة على التكليف؛ لما مرت الإشارة إليه (1) من عدم استقلال العقل بها إلا بعدهما.

و أما البراءة النقلية (2): فقضية إطلاق أدلتها (3) و إن كان (4) هو عدم اعتبار الفحص في جريانها كما هو (5) حالها في الشبهات الموضوعية؛...

=============

اما البراءة النقلية

اشارة

و عليه: فلا يستقل العقل بقبح المؤاخذة قبل الفحص؛ إذ لا يتحقق موضوع حكم العقل إلا بالفحص.

و كيف كان؛ فالعقل يقول: إن للمولى وظيفة و للعبد وظيفة أخرى، فوظيفة المولى هو بيان تكليف بنحو متعارف، و وظيفة العبد هو الفحص عن بيان المولى في مظانه، فإذا لم يجد البيان يحكم العقل بعدم العقاب على التكليف الواقعي بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

(1) أي: مرّ ذلك في الدليل الرابع من أدلة البراءة «من عدم استقلال العقل بها» أي:

بالبراءة «إلا بعدهما»، أي: بعد الفحص و اليأس.

هذا تمام الكلام فيما يعتبر في الرجوع إلى البراءة العقلية، فإنها لا تجري في الشبهات الحكمية إلا بعد الفحص؛ لأن موضوعها و هو عدم الدليل على الحكم لا يحرز إلا بالفحص عنه الموجب للاطمئنان بعدمه.

(2) و هي المستندة إلى الأدلة الشرعية.

(3) كأحاديث الرفع و الحجب و السعة و غيرها المتقدمة في أصل البراءة، حيث إن تلك الأدلة لم تقيد بالفحص، فمقتضى إطلاقها جواز إجراء البراءة و لو قبل الفحص و عدم اعتباره في جريانها في الشبهات الحكمية، كما هو حال البراءة النقلية في الشبهات الموضوعية.

و كيف كان؛ فمقتضى إطلاق أدلة البراءة الشرعية هو جواز إجرائها و لو قبل الفحص، فلا بد في رفع اليد عن هذا الإطلاق و تقيده بما بعد الفحص من دليل مقيد، و لذلك ذكر الأصحاب وجوها و هي: الإجماع و العقل و الآيات و الروايات، و ستأتي الإشارة إلى هذه الوجوه في كلام المصنف فانتظر.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(4) الأولى أن يقال: «و إن كانت هي».

(5) أي: عدم الاعتبار، و ضمائر «حالها، جريانها، أدلتها» راجعة على البراءة النقلية، و ظاهر كلامه: عدم اشتراط جريان البراءة الشرعية في الشبهات الموضوعية بالفحص، و ذلك لإطلاق حديث الرفع، حيث إن ما دل على اعتبار الفحص فيها إنما هو بالنسبة

ص: 11

إلا إنه (1) استدل على اعتباره بالإجماع و بالعقل، فإنه لا مجال لها بدونه، حيث يعلم إجمالا بثبوت التكليف بين موارد الشبهات بحيث (2) لو تفحص عنه لظفر به.

=============

إلى الشبهات الحكمية، و لا مانع من بقاء إطلاقها بالنسبة إلى الموضوعية. و أما البراءة العقلية فظاهر المتن إناطتها بالفحص مطلقا، سواء في الشبهات الحكمية و الموضوعية؛ و ذلك لعدم استقلال العقل بالبراءة فيهما قبل الفحص.

(1) استدراك على قوله: «و إن كان هو عدم اعتبار الفحص»، و الضمير للشأن.

و غرضه: أن إطلاق أدلة البراءة النقلية و إن كان مقتضيا لعدم وجوب الفحص في جريانها في الشبهات الحكمية؛ إلا إنه استدل على وجوب الفحص فيها و عدم جواز الأخذ بإطلاق أدلتها بوجوه:

الوجه الأول: هو الإجماع لاتفاق جميع العلماء من الشيعة و السنة على عدم جواز إجراء البراءة قبل الفحص عن مظان البيان؛ بل عليه ضرورة الفقه.

فإنك لا تجد فقيها إذا سئل عن مسألة شرعية يفتي بالبراءة، من دون رجوع إلى الكتاب و السنة.

قال الشيخ «قدس سره»: «الإجماع القطعي على عدم جواز العمل بأصل البراءة قبل استفراغ الوسع في الأدلة». «دروس في الرسائل، ج 4، ص 120».

الوجه الثاني: هو العقل بتقريب: أنه يعلم إجمالا بثبوت تكاليف إلزامية بين موارد الشبهات؛ بحيث لو تفحص عنها في الأدلة لظفر بها، فالعقل بمقتضى العلم الإجمالي يمنع عن إجراء البراءة قبل الفحص، و قد أشار إلى الوجه الأول بقوله: «بالإجماع»، و إلى الوجه الثاني بقوله: و بالعقل، و قد مرّ تقريب الاستدلال بهما على وجوب الفحص، و ضمير «لها» راجع على البراءة، و ضمير «بدونه» إلى الفحص.

(2) متعلق ب «ثبوت».

غرضه: أن اعتبار الفحص في جواز إجراء البراءة إنما يكون في مورد ترتب ثمرة على الفحص، و هي الظفر بالحكم على فرض ثبوته واقعا، ففي هذه الصورة لا يجوز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص، و يجوز بعده؛ لخروج الواقعة حينئذ عن أطراف المعلوم بالإجمال. و أما إذا لم يترتب أثر على الفحص و كان وجوده كعدمه في عدم الكشف عن الواقع، فلا يجوز الرجوع إلى البراءة لا قبل الفحص و لا بعده؛ بل يجب الاحتياط في الواقعة؛ لعدم خروجها عن أطراف العلم الإجمالي، فقوله: «بحيث لو تفحص عنه» تنبيه على أن الفحص المسوغ للرجوع إلى البراءة إنما هو فيما إذا ترتبت الثمرة المزبورة

ص: 12

و لا يخفى (1): أن الإجماع هاهنا (2) غير حاصل (3)، و نقله لوهنه (4) بلا طائل، فإن تحصيله (5) في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل صعب (6) لو لم يكن (7) عادة عليه، و إلا فلا فائدة في الفحص؛ لبقاء الشك الموجب للاحتياط و عدم ارتفاعه بالفحص.

=============

(1) غرضه: ردّ الوجهين المزبورين - و هما الإجماع و العقل - أما الإجماع: فبأن المحصل منه على وجه يكشف عن رأي المعصوم غير حاصل؛ إذ ليس المقام من المسائل الشرعية المحضة التي لا يتطرق إليها العقل، فلا يجوز الاتكال على الإجماع الذي يحتمل استناد المجمعين كلهم أو جلهم فيه إلى حكم العقل. و المنقول منه لا حجية فيه و لو مع فرض حجية المحصل منه الذي لا سبيل إلى تحصيله في المسائل التي للعقل إليها سبيل.

(2) أي: في مسألة وجوب الفحص في إجراء البراءة النقلية في الشبهات الحكمية.

(3) فإن كثيرا من الفقهاء لم يذكروا هذه المسألة حتى يحصل الإجماع من أقوالهم.

(4) أي: نقل الإجماع لوهن هذا النقل «بلا طائل»، يعني بلا فائدة، فلا يمكن الاعتماد على الإجماع المنقول في هذه المسألة.

(5) تعليل لقوله: «غير حاصل»، فإن تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل صعب، و ذلك لاحتمال استناد المجمعين إلى دليل العقل لا إلى الدليل الشرعي حتى يكشف إجماعهم عن قول المعصوم، أو دليل معتبر، فكشف الإجماع عن دليل معتبر صعب.

(6) خبر «فإن تحصيله»، و وجه صعوبة تحصيل الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم ما عرفته من عدم كون المسألة من المسائل الشرعية المحضة.

(7) يعني: لو لم يكن تحصيل الإجماع الكاشف عادة بمستحيل؛ إذ لا طريق إلى استكشافه بعد قوة احتمال كون مستند المجمعين جلهم بل كلهم هو حكم العقل بتنجيز العلم الإجمالي المزبور.

هذا تمام الكلام في الإشكال على الإجماع.

و أما الإشكال على العقل: فبأن الكلام هنا في الشبهة البدوية دون المقرونة بالعلم الإجمالي، ففرض العلم الإجمالي هنا أجنبي عما نحن فيه؛ و ذلك إما لانحلاله بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال بالعلم التفصيلي اللاحق، و إما لعدم تنجيزه لعدم الابتلاء ببعض الأطراف و لو لغفلة المجتهد حين الاستنباط لحكم المسألة عن موارد الشبهات التي يكون

ص: 13

بمستحيل؛ لقوة (1) احتمال أن يكون المستند للجل لو لا الكل هو ما ذكر من حكم العقل (2). و أن (3) الكلام في البراءة فيما لم يكن هناك علم موجب للتنجز (4)؛ إما (5) لانحلال العلم الإجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال، أو لعدم (6) الابتلاء إلا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد من (7) موارد الشبهات و لو (8) لعدم الالتفات إليها.

=============

بينها علم إجمالي بالتكليف؛ إذ وجوب الفحص مختص بصورة وجود العلم الإجمالي المنجز و لا يجري في الشبهات البدوية، فهذا الدليل أخص من المدعى.

(1) تعليل لصعوبة تحصيل الإجماع أو استحالته، و قد عرفت توضيحه بقولنا: «إذ ليس المقام من المسائل...» الخ.

(2) الناشئ عن العلم الإجمالي المذكور.

(3) عطف على «أن الإجماع»، و إشارة إلى الجواب عن الوجه الثاني و هو الدليل العقلي، و قد عرفت توضيح الجواب بقولنا: «و أما العقل: فبأن الكلام»، كما عرفت جواب الوجه الأول و هو الإجماع بقولنا: «و أما الإجماع فبأن المحصل منه...» الخ.

(4) إذ لو كان هناك علم إجمالي منجز كان أجنبيا عن الشبهات البدوية التي هي محل البحث، و اندرج في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

(5) غرضه: أن عدم العلم الإجمالي الموجب لتنجز الحكم يستند إلى أحد وجهين، و هما انحلاله بالعلم التفصيلي بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال، و عدم الابتلاء إلا بالشبهات التي لا يعلم بالتكليف بينها؛ و لو كان عدم الابتلاء لأجل الغفلة و عدم الالتفات إلى تلك الشبهات، كما إذا استنبط المجتهد حكم شرب التتن مثلا، فإنه حين استنباط حكم هذه المسألة كان غافلا عن سائر الشبهات، فهي لأجل الغفلة خارجة عن مورد ابتلائه من حيث الاستنباط، و لذا لا يكون العلم الإجمالي بالتكاليف بينها منجزا.

(6) عطف على «الانحلال»، و هو إشارة إلى ثاني وجهي عدم تنجيز العلم الإجمالي، كما أن قوله: «إما لانحلال العلم» إشارة على أول وجهي عدم تنجيزه.

(7) بيان ل «ما» الموصول و ضمير «بينها» راجع على «ما» الموصول باعتبار معناه و هو موارد الشبهات، يعني: أو لعدم الابتلاء إلا بموارد الشبهات التي لا يكون بينها علم بالتكليف.

(8) كلمة «لو» وصلية متعلقة بعدم الابتلاء، يعني: و لو كان عدم الابتلاء لأجل عدم الالتفات إلى سائر موارد الشبهات، و ضمير «إليها» راجع على موارد الشبهات.

ص: 14

فالأولى (1) الاستدلال للوجوب بما دل من الآيات (2) و الأخبار على وجوب التفقه و التعلم (3) و المؤاخذة (4) على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن العمل بعدم العلم بقوله (5) تعالى (6) كما في...

=============

و لا يخفى: أن الشيخ «قدس سره» تعرض لهذا الدليل العقلي أيضا بقوله: «الخامس:

حصول العلم الإجمالي لكل أحد قبل الأخذ في استعلام المسائل بوجود واجبات و محرمات كثيرة في الشريعة، و معه لا يصح التمسك بأصل البراءة؛ لما تقدم من أن مجراه الشك في أصل التكليف لا في المكلف به مع العلم بالتكليف». «دروس في الرسائل، ج 4، ص 125».

و صريح كلامه: كون المقام من الشك في المكلف به لا في التكليف، و لذا لا تجري فيه البراءة، و قد عرفت أن بحثنا في الشبهات البدوية دون المقرونة بالعلم الإجمالي.

و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(1) هذا هو الوجه الثالث الذي استدل به على وجوب الفحص.

(2) أي: مثل آية السؤال أو النفر الذي هو في معنى الفحص.

(3) كالنبوي «طلب العلم فريضة على كل مسلم ألا إن الله يحب بغاة العلم»(1).

و قوله «عليه السلام»: «أيها الناس: اعلموا أن كمال الدين طلب العلم و العمل به، ألا و إن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال...»(2). الحديث و غيرهما.

(4) عطف على «وجوب التفقه».

تقريب الاستدلال بما دل على وجوب التعلم و المؤاخذة على تركه: أنه لو كان إجراء البراءة قبل الفحص جائزا، و كانت المؤاخذة على خصوص الواجبات و المحرمات المعلومة لم يكن وجه لوجوب التعلم و استحقاق المؤاخذة على تركه؛ إذ المفروض: وجود المعذّر و هو البراءة، و مقتضى إطلاق أدلة البراءة لما قبل الفحص و بعده و اختصاص ما دل على وجوب التعلم و المؤاخذة بما قبل الفحص تقييد إطلاق الأول بالثاني؛ لكونه أخص من الأول كسائر المطلقات و المقيدات.

(5) متعلق ب «المؤاخذة» التي هي نوع من التوبيخ، و «على ترك» و «في مقام» متعلقان بالمؤاخذة أيضا، و «عن عدم» و «بعدم العلم» متعلقان باعتذار.

(6) فَلِلّٰهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبٰالِغَةُ . الأنعام: 149.

ص: 15


1- المحاسن 146/225:1، الكافي 1/30:1، الوسائل 33115/25:270
2- الكافي 4/30:1، الوسائل 33111/24:27.

الخبر (1): «هل تعلمت ؟»، فيقيد بها (2) أخبار البراءة لقوة ظهورها في أن المؤاخذة

=============

(1) و هو ما ورد في تفسير هذه الآية من «أن اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة:

عبدي، أ كنت عالما؟ هل علمت، فإن قال: نعم قال له: فهلا عملت بما علمت ؟ و إن لا، قال: لا، قيل له: هلا تعلمت حتى تعمل ؟»(1).

(2) أي: بالآيات و الأخبار الدالة على وجوب التفقه و المؤاخذة على تركه إطلاق أخبار البراءة؛ لما مر آنفا من شمولها لما قبل الفحص و بعده.

و غرضه «قدس سره»: التنبيه على أن النسبة بين تلك الآيات و الأخبار و بين أدلة البراءة هي نسبة المقيد إلى المطلق، فيقيد بها إطلاق أدلة البراءة، لا أن النسبة بينهما هي التباين كما قد يتوهم، بتقريب: أن مورد أخبار البراءة عدم العلم بالتكليف لا تفصيلا و لا إجمالا، و مورد الآيات و أخبار وجوب التعلم و المؤاخذة على تركه ترك العلم فيما علم وجوبه مثلا و لو إجمالا، فتكون واردة في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، و أجنبية عن الشبهات البدوية التي هي مورد أصالة البراءة، فلا موجب لتقييد إطلاق أدلة البراءة بها مع تباين نسبتهما، فيكون هذا الوجه كالوجهين المتقدمين - و هما الإجماع و العقل - ضعيفا و غير صالح لتقييد إطلاق البراءة بلزوم الفحص، و إناطة جواز العمل بالبراءة النقلية به.

قوله: «لقوة ظهورها» تعليل لقوله: «فالأولى الاستدلال» و دفع للتوهم المزبور، و كان الأولى تقديم «لقوة ظهورها» على قوله: «فيقيد بها»؛ لأن التقييد متفرع على إثبات ظهورها في كون الاحتجاج بترك التعلم حتى يتحد موردها مع مورد أدلة البراءة و يصح التقييد، لورودهما معا في الشبهات البدوية و أخصيتها من أدلة البراءة.

و كيف كان؛ فقد دفع التوهم المزبور بما محصله: أن تلك الآيات و الروايات ظاهرة في كون المؤاخذة و الذم على ترك التعلم فيما لم يعلم، بل قوله «عليه السلام»: في تفسير قوله تعالى: فَلِلّٰهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبٰالِغَةُ : «هلا تعلمت حتى تعمل» كالصريح في كون التوبيخ على ترك التعلم، لا على ترك العمل فيما علم وجوبه حتى يكون مورده الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، دون الشبهات البدوية التي هي مورد أدلة البراءة. و أخبار المؤاخذة جلّها بل كلها في غاية الظهور في كون المؤاخذة على ترك التعلم، لا على ترك العمل بما علم حكمه، و دعوى: تواترها المعنوي قريبة جدا فلا حاجة إلى البحث عن إسنادها. فراجع الوافي بابي فرض طلب العلم و سؤال العلماء و تذاكر العلم. «منتهى الدراية، ج 6، ص 401-402».

ص: 16


1- أمالي المفيد: 227، أمالي الطوسي 10/9، بحار الأنوار 58/178:1.

و الاحتجاج بترك التعلم فيما لم يعلم؛ لا (1) بترك العمل فيما علم وجوبه و لو (2) إجمالا، فلا مجال (3) للتوفيق (4) بحمل هذه الأخبار على ما إذا علم إجمالا، فافهم (5).

و لا يخفى (6): اعتبار الفحص في التخيير العقلي...

=============

(1) هذا هو التوهم المزبور بقولنا: «بتقريب: أن مورد أخبار البراءة عدم العلم».

(2) كلمة «لو» وصلية متعلقة بقوله: «علم وجوبه» يعني: و لو علم وجوبه إجمالا.

(3) هذه نتيجة ظهور الآيات و الروايات في كون الذم على ترك التعلم، لا على ترك العمل بما علم حكمه، و الإشارة إلى التوهم المذكور.

(4) بين إطلاق أدلة البراءة و بين الآيات و الأخبار المشار إليها، بحملها على ما إذا علم إجمالا بثبوت التكاليف بين المشتبهات، و أخبار البراءة على الشبهات البدوية، حتى تكون النسبة بينهما هي التباين، لا الإطلاق و التقييد، و لا يصح تقييد إطلاق أدلة البراءة بهما.

(5) لعله إشارة إلى صحة الجمع بين الآيات و الروايات، و بين أدلة البراءة؛ بتقييد إطلاق أدلة البراءة بهما، لاعتبار الروايات سندا و دلالة.

أو إشارة إلى توهم آخر و دفعه.

أما التوهم فهو: أنه يمكن أن يكون التوبيخ على ترك التعلم بالنسبة إلى العناوين الخاصة من الواجبات و المحرمات المعلومة إجمالا. فلا يكون مورد التوبيخ الشبهة البدوية حتى يقيد به إطلاق أدلة البراءة و يثبت به وجوب الفحص؛ بل مورده العلم الإجمالي بوجود واجبات و محرمات.

و أما الدفع: فهو قوله: «لقوة ظهورها في أن المؤاخذة»، و حاصله: قوة ظهور تلك الروايات، بل صراحة بعضها في كون المؤاخذة على ترك التعلم لا ترك العمل فيما علم حكمه و لو إجمالا.

أو إشارة إلى غيرهما مما يتوهم في المقام.

فتحصل مما أفاده المصنف «قدس سره»: أن دليل اعتبار الفحص في جريان البراءة النقلية في الشبهات الحكمية هو تقييد إطلاق أدلتها بالآيات و الأخبار الدالة على وجوب التعلم و المؤاخذة على تركه.

(6) بعد أن فرغ عن بيان ما يعتبر في جريان الأصول الثلاثة و هي الاحتياط و البراءة العقلية و النقلية، شرع في بيان ما يعتبر في جريان أصالة التخيير في دوران الأمر بين المحذورين.

ص: 17

أيضا (1) بعين ما ذكر في البراءة فلا تغفل (2).

و لا بأس (3) بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة و الأحكام.

و أما التبعة، فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة فيما إذا كان ترك التعلم و محصل ما أفاده فيه هو: أن الفحص هنا معتبر بعين الوجه الذي ذكر في لزوم الفحص في البراءة العقلية، يعني: أن الفحص كما يكون محرزا لعدم البيان الذي هو موضوع البراءة العقلية، كذلك يكون محرزا لموضوع أصالة التخيير و هو تساوي الاحتمالين و عدم مرجح لأحدهما على الآخر، بداهة: أن هذا التساوي لا يحرز إلا بالفحص الموجب إما لتعيّن أحد الاحتمالين، فيتعين الأخذ به؛ لحصول الموافقة القطعية حينئذ، أو لتساويهما فيتخير في الأخذ بأحدهما؛ لعدم التمكن مع عدم رجحان أحد الاحتمالين على الآخر، كعدم استقلاله في الحكم بالبراءة العقلية إلا بعد إحراز موضوعه و هو عدم البيان، بل وجوب الفحص هنا أولى من وجوبه في البراءة العقلية؛ للعلم في المقام بجنس التكليف الموجب للفحص عن نوعه بخلاف البراءة؛ إذ موضوعها و هو عدم الحجة موجودة قبل الفحص و بعده.

=============

(1) يعني: كوجوبه في البراءة العقلية.

(2) حتى تتوهم جواز الرجوع إلى التخيير العقلي قبل الفحص، كما توهم ذلك في البراءة العقلية ببيان: أن المراد بالبيان هناك هو الحجة الواصلة فعلا، و إن كان ذلك التوهم هناك فاسدا و لكنه مع ذلك يفترق التخيير عن البراءة بأن حسن التكليف فيه معلوم و هو موجب للفحص، بخلاف البراءة.

حكم العمل بالبراءة قبل الفحص

(3) لما فرغ المصنف «قدس سره» من بيان اشتراط العمل بالبراءة بالفحص؛ أراد أن يبين ما للعمل بها قبل الفحص من استحقاق العقوبة، و الحكم التكليفي و الوضعي فالكلام يقع في مقامين:

الأول: في استحقاق العقوبة و عدمه.

الثاني: في الحكم الوضعي.

و قد أشار إلى المقام الأول: بقوله: «التبعة»؛ إذ المراد من التبعة هو: العقاب، و إلى المقام الثاني بقوله: «و الأحكام»؛ إذ المراد من الأحكام هي: الأحكام الوضعية. و الجمع إما منطقي أو باعتبار الموارد. و كيف كان:

ص: 18

فحاصل الكلام في المقام الأول: أنه لا إشكال في ترتب العقاب على العمل بالبراءة قبل الفحص فيما إذا انكشف أنه مخالف للواقع، و إنما الكلام في أنه على ترك التعلم مطلقا و لو لم يؤدّ إلى المخالفة، أو أنه على ترك التعلم المؤدي إلى المخالفة، أو أنه على مخالفة الواقع. فالأقوال فيه ثلاثة:

الأول: استحقاق العقاب مطلقا، سواء صادف الواقع أم لا، فلو شرب العصير العنبي من غير فحص عن حكمه و لم يكن حراما واقعا استحق العقوبة عليه، و هذا القول منسوب إلى صاحب المدارك(1) و شيخه المحقق الأردبيلي(2) «قدس سرهما» استنادا إلى قبح تكليف الغافل، حيث إن الجاهل غالبا غافل عن الواقع حين فعل الحرام و ترك الواجب، فيكون العقاب على ترك التعلم، و عليه: فوجوب التعلم نفسي يترتب على مخالفته العقوبة.

الثاني: استحقاقه على ترك التعلم المؤدي إلى المخالفة، فلا يستحق العقوبة في المثال المذكور، و ذهب إليه الشيخ الأنصاري «قدس سره».

الثالث: استحقاق العقاب على مخالفة الواقع و لكن عند ترك التعلم و الحفص، و ذهب إليه المشهور، و المصنف «قدس سره» تبع المشهور، و التزم باستحقاق العقوبة على مخالفة الواقع التي أدى إليها ترك التعلم و الفحص لا على نفس ترك التعلم، فإذا شرب العصير العنبي بدون الفحص عن حكمه و كان حلالا واقعا لا يستحق العقاب و المؤاخذة لعدم مخالفة حكم إلزامي واقعي، و الوجه فيه: أن مخالفة الواقع و إن فرض وقوعها حال الغفلة عن الواقع؛ لكنها لما كانت مستندة إلى تقصيره في ترك الفحص و التعلم تنتهي إلى الاختيار، و لا يقبح العقاب على ما ينتهي إلى الاختيار. و لذا يعاقب أكثر الجهال العصاة على ارتكاب المحرمات مع غفلتهم عن احتمال حرمتها حين الارتكاب، فإن التفاتهم إجمالا قبل الارتكاب إلى احتمال حرمتها كاف في صحة العقوبة مع تمكنهم من الفحص و التعلم و تركهم له اختيارا، و الأخبار المتقدمة في مؤاخذة تارك التعلم أيضا تقتضي استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع مع الشك فيه. هذا تمام الكلام في الأقوال.

و أما منشأ اختلاف الأقوال فهو: أن وجوب التعلم هل هو نفسي و لو كان تهيئيا أو وجوب طريقي أو إرشادي محض.

ص: 19


1- مدارك الأحكام 344:2.
2- مجمع الفائدة و البرهان 110:2.

و الفحص مؤديا إليها (1)، فإنها (2) و إن كانت مغفولة حينها و بلا اختيار، إلا أنها منتهية «فعلى القول» بأنه وجوب نفسي استقلالي أو تهيئي: يكون العقاب على نفس ترك الفحص و التعلم؛ لأن الأمر النفسي المولوي مخالفته و عصيانه يوجب استحقاق العقاب.

=============

«و على القول» بأن وجوبه وجوب نفسي طريقي: تكون مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب أيضا على نفس ترك التعلم و الفحص، و لكن عند مخالفة الواقع.

أمّا كون العقاب على نفس ترك التعلم و الفحص: فلأنه واجب نفسي على الغرض، فمخالفته توجب استحقاق العقوبة.

و أما تقييده ب «عند مخالفة الواقع: فلأجل أن وجوبه لأجل حفظ الواقع و طريقية التعلم و الفحص إلى إدراك الواقع كوجوب الاحتياط شرعا في بعض الشبهات البدوية كما في باب الفروج و الدماء، بل الأموال، فالمطلوب بالذات هو الواقع و إنما مطلوبيته لأجل الوصول إلى الواقع و حصوله.

و كيف كان؛ فالنتيجة: أن العقاب على نفس ترك الفحص و التعلم و لكن لا مطلقا بل فيما إذا انجر إلى مخالفة الواقع، كما هو الشأن في مخالفة كل أمر طريقي نفسي كوجوب الاحتياط في بعض الشبهات البدوية.

«و على القول» بأن وجوبه إرشادي محض، فلا يكون استحقاق على نفس المخالفة للأمر الإرشادي؛ لأنه لا مولوية فيه حتى يوجب ذلك؛ بل الاستحقاق على مخالفة نفس الواقع عند ترك التعلم كما ذهب إليه المشهور.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) أي: إلى المخالفة، و أما إذا لم يؤد ترك التعلم إلى المخالفة، كما إذا لم يكن ما ارتكبه حراما واقعا، فلا عقاب، كما إذا شرب التتن تاركا للتعلم و الفحص و انكشف عدم حرمته، و أما صاحب المدارك و المحقق الأردبيلي «قدس سرهما»: فقد ذهبا إلى حسن مؤاخذته - كما تقدم - استنادا إلى كون وجوب التعلم نفسيا، و أن العقاب عليه لا على الواقع، للغفلة عنه، و قبح تكليف الغافل بديهي.

(2) هذا تقريب وجه استحقاق العقوبة، و قد مرّ آنفا بقولنا: «و الوجه فيه: أن مخالفة الواقع و إن فرض وقوعها حال الغفلة عن الواقع...» الخ.

و ضمائر «فإنها، حينها، أنها» راجعة على «المخالفة».

ص: 20

إلى الاختيار (1)، و هو (2) كاف في صحة العقوبة؛ بل (3) مجرد تركهما كاف في صحتها و إن لم يكن (4) مؤديا إلى المخالفة،...

=============

(1) و هو ترك التعلم و الفحص اختيارا حين التفاته إلى عدم خلو واقعة عن حكم، و بهذا يجاب عن قبح العقاب على الواقع المجهول مع الغفلة؛ لكونه حينئذ بلا اختيار.

و حاصل الجواب: أنه و إن كان فعلا لأجل الغفلة بدون الاختيار، لكنه منته إلى الاختيار، و قوله: «و إن كانت مغفولة حينها» إشارة إلى هذا.

(2) يعني: و الانتهاء إلى الاختيار كاف في صحة العقوبة عقلا.

(3) هذا تعريض بما نسب إلى المشهور من عدم استحقاق العقوبة على نفس ترك التعلم، و إضراب عن استحقاق العقوبة على الترك المؤدى إلى المخالفة، و محصله: ترتب استحقاقها على مجرد ترك التعلم و الفحص و إن لم يؤدّ تركهما إلى مخالفة الواقع فيما إذا احتمل أن تركهما يؤدي إلى ذلك.

لكن العقاب حينئذ لا يكون على ترك الواجب النفسي و هو التعلم، كما هو المنسوب إلى الأردبيلي و صاحب المدارك «قدّس سرهما»؛ بل على التجري، حيث إنه إذا احتمل حرمة العصير العنبي أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال و مع ذلك ترك التعلم لقلة المبالاة بالدين، و شرب العصير أو ترك الدعاء، فإن نفس التجري على المولى يوجب عقلا استحقاق العقوبة و إن لم يخالف الواقع، لعدم حرمة العصير و عدم وجوب الدعاء واقعا.

و على هذا: فالموجب لحسن العقوبة و المؤاخذة أمران: أحدهما: الانتهاء إلى الاختيار، و الآخر: التجري، فالمصنف «قدس سره» قائل باستحقاق العقوبة على ترك التعلم مطلقا و إن لم يؤدّ إلى مخالفة الواقع.

و ضمير «تركهما» راجع على التعلم و الفحص، و ضمير «صحتها» راجع على «العقوبة».

(4) يعني: و إن لم يكن ترك التعلم و الفحص مؤديا إلى مخالفة الواقع، كما إذا شرب التتن من غير فحص عن حكمه و تبين عدم حرمته واقعا، فإن ترك التعلم حينئذ لم يؤدّ إلى مخالفة الحرمة، إذ المفروض: عدم حرمة شربه واقعا.

و عليه: فليس المراد بأداء ترك التعلم إلى المخالفة كون الترك مقدمة للمخالفة و لا ملازما لها، و إلا لم ينفك الترك عنها؛ بل المراد ترتب المخالفة على الترك من باب التصادف، و لذا عبّر المصنف «قدس سره» بالمؤدى، فما في بعض الكلمات من التعبير

ص: 21

مع احتماله (1)؛ لأجل (2) التجري و عدم (3) المبالاة بها.

نعم (4)؛ يشكل في الواجب المشروط...

=============

عن المؤدي بالملازم مسامحة.

(1) أي: مع احتمال أداء ترك التعلم إلى المخالفة، فإن هذا الاحتمال يوجب الاحتياط بالتعلم و الفحص؛ بحيث يعدّ تركهما تجريا؛ لكونه إقداما على مخالفة حكم إلزامي محتمل تنجزه.

(2) تعليل لقوله: «بل مجرد تركهما كاف»، و قد عرفت تقريبه.

ثم إن هذا الوجه لاستحقاق العقوبة مبني على كون التجري موجبا لاستحقاق العقوبة كما اختاره المصنف في بحث التجري.

(3) عطف على «التجري» و مفسر له، و ضمير «بها» راجع على المخالفة.

فالمتحصل: أن المصنف «قدس سره» اختار استحقاق تارك التعلم و الفحص للعقاب مطلقا، سواء خالف الواقع أم لا أما في صورة المخالفة فواضح؛ لتحقق المعصية. و أما في صورة عدم المخالفة فلأجل التجري، فقوله: مخالف للمشهور حيث إنهم قائلون بالاستحقاق في خصوص ما إذا أدى ترك التعلم إلى مخالفة الواقع على ما نسب إليهم في عبارة الشيخ المتقدمة.

بخلاف المصنف فإنه قائل بالاستحقاق مطلقا؛ إما للعصيان و إما للتجري، فما في حاشية العلامة الرشتي من أنه تبع المشهور غير ظاهر، فراجع و تأمل.

(4) غرضه: أن ما ذكر من وجوب التعلم و الفحص في التكاليف المطلقة المنجزة تام.

إذ لو لم يجب الفحص لزم ترك الواجب المطلق.

و أما في التكاليف المشروطة بزمان كصلاة الجمعة أو زماني كالحج المشروط بالاستطاعة، فوجوب التعلم و الفحص فيها مشكل؛ إذ المفروض: عدم وجوب فعلي يوجبها لإناطة التكليف المشروط بتحقق شرطه، فقبل تحققه لا تكليف حتى يوجب التعلم.

فعليه: ينحصر وجوب الفحص بالتكاليف المطلقة الفعلية، و لا وجه لوجوبه في التكاليف المشروطة، لا قبل حصول الشرط و لا بعده.

أما الأول: فواضح؛ لعدم حكم واقعي حينئذ حتى يجب عليه التعلم لئلا يفوت عنه الواقع فيعاقب عليه. و أما الثاني: فلأجل الغفلة عن تلك التكاليف في وقتها الناشئة عن ترك التعلم قبله.

ص: 22

و الموقت (1)، و لو (2) أدى تركهما قبل الشرط و الوقت إلى المخالفة بعدهما فضلا (3) عما إذا لم يؤدّ إليها، حيث (4) لا يكون حينئذ (5) تكليف فعلي أصلا لا قبلهما، و هو واضح (6)، و لا بعدهما و هو كذلك (7)؛ لعدم التمكن منه (8) بسبب الغفلة،...

=============

فالمتحصل: أن وجوب التعلم في التكليف المطلقة ثابت، بخلاف التكاليف المشروطة، فإنه محل إشكال، و لذا التجأ لدفع هذه الشبهة المحقق الأردبيلي و تلميذه صاحب المدارك «قدس سرّهما» إلى الالتزام بوجوب التعلم نفسيا ليكون العقاب على تركه لا على مخالفة الواقع، و المستشكل و هو الشيخ الأنصاري «قدس سره» أورد هذا الإشكال على المشهور القائلين بكون العقاب على ترك الواقع.

(1) هذا من عطف الخاص على العام؛ إذ الوقت في الموقتات أيضا شرط على حدّ سائر الشروط.

(2) كلمة «لو» وصلية، و غرضه: أنه بناء على المشهور - من كون العقوبة على مخالفة الواقع - يشكل الالتزام بترتبها على التكاليف المشروطة مطلقا حتى في صورة أداء ترك التعلم و الفحص إلى مخالفة الواقع بعد الوقت و حصول الشرط؛ للغفلة كما مرّ آنفا فضلا عما إذا لم يؤدّ تركها إلى المخالفة. و ضمير «تركهما» راجع على التعلم و الفحص. و ضمير «إليها» إلى المخالفة.

(3) يعني: فضلا عما إذا لم يؤدّ ترك التعلم و الفحص إلى مخالفة الواقع مع احتمال الأداء إليها. و هذا إشارة إلى صورة التجري المتقدمة في قوله: «بل مجرد تركهما كاف في صحتها و إن لم يكن مؤديا إلى المخالفة».

(4) هذا تقريب الإشكال: و قد تقدم ذلك مفصلا بقولنا: «و حاصل الإشكال».

(5) أي: حين أداء ترك التعلم و الفحص إلى المخالفة بعد تحقق الشرط و دخول الوقت.

(6) أي: و عدم التكليف قبل الشرط و الوقت واضح لأنهما على المشهور من شرائط التكليف، فلا تكليف قبلهما حتى يترشح منه وجوب غيري على التعلم و الفحص.

(7) يعني: و عدم التكليف بعد الشرط و دخول الوقت أيضا واضح، لعدم التمكن من الواجب في ظرفه لأجل الغفلة عنه الموجبة لقبح العقاب به.

و ضميرا «قبلهما، بعدهما» راجعان على الشرط و الوقت، و ضمير «هو» راجع على ما يفهم من العبارة من عدم التكليف.

(8) أي: من الواجب المشروط و الموقت، و قوله: «لعدم التمكن» تعليل لعدم التكليف بعد الشرط و دخول الوقت، فإن تارك التعلم و الفحص عن الواجب كالحج قبل تحقق شرطه كالاستطاعة يصير غافلا عن ذلك الواجب في وقته، و بعد حصول شرطه يتركه

ص: 23

و لذا (1) التجأ المحقق الأردبيلي و صاحب المدارك «قدس سرّهما» إلى الالتزام بوجوب التفقه و التعلم نفسيا تهيئيا، فتكون العقوبة على ترك التعلم نفسه (2) لا على ما أدى إليه من (3) المخالفة، فلا إشكال حينئذ (4) في المشروط و الموقت.

و يسهل بذلك (5) الأمر في غيرهما لو صعب على أحد، و لم تصدق...

=============

للغفلة عنه، و من المعلوم: أنه في حال الغفلة يقبح تكليفه. فقوله: «لا قبلهما، و لا بعدهما» مفسران لقوله: «أصلا».

(1) يعني: و لأجل هذا الإشكال التجأ هذان العلمان «قدس سرهما» إلى الالتزام بكون وجوب التفقه نفسيا تهيئيا لتكون العقوبة على ترك التعلم لا على مخالفة الواقع حتى يرد عليه الإشكال المذكور.

و المراد بالواجب التهيئي: ما يجب مقدمة للخطاب بواجب آخر. و ببيان أوضح:

الواجب التهيئي هو ما وجب تهيؤا لإيجاب عمل، في قبال الواجب الغيري، و هو الذي يجب مقدمة لوجود واجب آخر، فالأول واجب مقدمة لإيجاب شيء، و الثاني واجب لوجود شيء ثبت وجوبه، ففرق واضح بين الوجوب النفسي التهيئي و الوجوب الغيري المقدمي، فإن كلا منهما مباين للآخر، فلا إشكال في تغايرهما مفهوما.

نعم؛ يقع الكلام في وقوع الواجب النفسي التهيئي في الخارج لقصور أدلة وجوب التعلم عن إثباته.

و يمكن أن يكون وجوب قبول الهبة للحج من قبيل الوجوب التهيئي، حيث إن وجوبه مقدمة للخطاب بواجب آخر و هو الحج، بخلاف البذل، فإنه بنفسه يوجب الحج، و أما الهبة فبنفسها لا يجب الحج، بل بقبولها الذي هو واجب تهيّأ لإيجاب الحج، فتدبر.

(2) لكون التعلم على هذا واجبا نفسيا، فتكون العقوبة على نفسه لا على مخالفة الواقع.

(3) بيان ل «ما» الموصول، و الضمير المستتر في «أدى» راجع على «ترك التعلم» يعني:

لا على مخالفة الواقع التي أدى إليها ترك التعلم.

(4) أي: حين وجوب التعلم نفسيا، إذ بعد فرض وجوبه النفسي تصح العقوبة على ترك الواقع.

(5) أي: بوجوب التفقه و التعلم نفسيا يندفع إشكال العقوبة على مخالفة الواقع مع الغفلة حين المخالفة.

ص: 24

كفاية (1) الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلا مغفولا عنه و ليس بالاختيار.

=============

توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 417» - أن هذا الإشكال - الذي دفعناه في غير الواجب المشروط و الموقت بأن العقل لا يقبح المؤاخذة على ترك الواقع إذا انتهى إلى الاختيار - يمكن دفعه أيضا بما أفاده المحقق الأردبيلي و صاحب المدارك «قدس سرّهما» من كون وجوب التعلم نفسيا؛ إذ العقاب حينئذ: على ترك التعلم الذي هو بنفسه أمر اختياري، بخلاف المؤاخذة على نفس الواقع المغفول عنه حين المخالفة، و عدم اختياريتها للغفلة المانعة عن صحة الخطاب الموجبة لقبح العقاب، فلو لم يكتف بعض في دفع الإشكال عن صحة العقوبة على ترك الواقع بالانتهاء إلى الاختيار، فله أن يدفع الإشكال بالالتزام بوجوب التعلم نفسيا ليكون العقاب عليه.

و بهذا الجواب يندفع الإشكال في غير الواجب المشروط و الموقت أيضا، ضرورة: أن العقاب حينئذ ليس على ترك الواقع المغفول عنه حتى يقبح ذلك لأجل الغفلة عنه؛ بل العقوبة إنما هي على ترك التعلم. و ضمير «غيرهما» راجع على المشروط و الموقت.

(1) فاعل «صعب» و نائب فاعل «تصدق» بناء على كونه مجهولا.

و أما بناء على ما عن بعض النسخ من «يصدق» بصيغة الغائب المعلوم، ففاعل «صعب» ضمير راجع على الجواب المذكور، «كفاية» مفعول «يصدق» و فاعله ضمير مستتر فيه راجع على «أحد»، يعني: لو صعب الجواب المذكور - و هو الانتهاء إلى الاختيار - على شخص، و لم يصدّق كفاية الانتهاء إلى الاختيار... الخ.

و حاصله: أنه لو استشكل بعض في حسن المؤاخذة على ترك الواقع بعدم كفاية الانتهاء إلى الاختيار في حسنها، فلا بد أن يدفع الإشكال في غير الواجب المشروط و الموقت بوجه آخر، و هو الالتزام بوجوب التعلم نفسيا ليكون العقاب على تركه، لا على ترك الواقع، و في المشروط و الموقت بهذا الوجه، أو بالالتزام بكونهما من الواجب المطلق المعلق الذي سيأتي توضيحه عند شرح كلام المصنف «قدس سره».

فالمتحصل: أن إشكال العقوبة على الواقع المغفول عنه يندفع في الواجب المطلق بأحد وجهين - على سبيل منع الخلو -: إما بالانتهاء إلى الاختيار، و إما بكون العقوبة على ترك التعلم الذي هو واجب نفسي تهيئي. و في الواجب المشروط و الموقت أيضا بأحد وجهين، و هما: الالتزام بالوجوب النفسي التهيئي للتعلم، و كون الواجب فيهما مطلقا لا مشروطا.

ص: 25

و لا يخفى: أنه لا يكاد ينحل هذا الإشكال (1) إلا بذلك (2) أو الالتزام بكون المشروط أو الموقت مطلقا (3) متعلّقا (4) لكنه (5) قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته قوله: «على ما كان فعلا» أي: على الواقع الذي كان فعلا - يعني: حين المخالفة - مغفولا عنه، و لم يكن تركه حينئذ بالاختيار، حيث إن الغفلة تخرج مخالفة الواقع عن حيز الاختيار، فلا تصح المؤاخذة عليه؛ لعدم كونه اختياريا.

=============

(1) أي: استحقاق العقوبة في الواجب المشروط و الموقت، لعدم تكليف فعلي فيهما توجب مخالفته استحقاقها لا قبل الشرط و لا بعده كما تقدم تفصيله. و ضمير «أنه» للشأن.

(2) أي: بالالتزام بالوجوب النفسي التهيئي للتعلم.

و غرضه: أن هذا الإشكال لا يندفع عن الواجب المشروط و الموقت إلا بأحد وجهين قد أشير إليهما:

أحدهما: وجوب التعلم نفسيا لتكون العقوبة على تركه لا على مخالفة الواقع.

و الآخر: كون الوجوب في الواجب المشروط و الموقت مطلقا بجعل الشرط وقتا كان أم غيره من قيود المادة لا الهيئة، فالوجوب فعلي غير مشروط بشيء، و يترشح منه الوجوب على مقدماته كالتعلم، فترك الفحص و التعلم حينئذ يصحح العقوبة على ما يقع بعد ذلك غفلة من مخالفة الواقع.

و الحاصل: أنه يندفع الإشكال بجعل المشروط و الموقت واجبا مطلقا بأن يكون الوجوب فعليا و الواجب استقباليا، و هو المسمى بالواجب المعلق.

قوله: أو الالتزام عطف على «ذلك»، و هذا إشارة إلى الوجه الثاني الذي دفع به الإشكال، و قد مر تقريبه بقولنا: «و الآخر: كون الوجوب في الواجب المشروط...» الخ.

(3) أي: غير مشروط، بمعنى: كون الشرط من قيود المادة لا الهيئة حتى يكون الوجوب مشروطا، و عطف «الموقت» على «المشروط» من عطف الخاص على العام.

(4) صفة ل «مطلقا» يعني: أن المشروط أو الموقت من قسم الواجب المطلق المعلق، و هو ما يكون الوجوب فيه حاليا و الواجب استقباليا، لا من قسم الواجب المطلق المنجز، و قد تقدم المراد بالمعلق و المنجز في بحث مقدمة الواجب.

(5) أي: «لكن الواجب المطلق المعلق...» الخ، و هذا إشارة إلى الإشكال و دفعه.

أما الإشكال فهو: أن مقتضى كون الواجب المشروط و الموقت مطلقا معلقا هو

ص: 26

الوجودية (1) عقلا بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غير التعلم (2)، فيكون الإيجاب حاليا (3) و إن كان الواجب استقباليا قد أخذ على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب وجوب إيجاد مقدماتهما الوجودية قبل حصول الشرط و دخول الوقت؛ إذ المفروض:

=============

إطلاق وجوبهما المقتضي لإيجاب مقدماتهما، و من المسلم عندهم: عدم وجوب تحصيل المقدمات قبل الشرط و الوقت، فليكن هذا التسالم دليلا على عدم كون الواجب المشروط مطلقا، و أن الشرط وقتا كان أو غيره قيد للهيئة كما هو مقتضى القواعد العربية، فيكون شرطا للوجوب، كما هو المشهور أيضا، فلا وجوب قبل تحقق الشرط و الوقت حتى يترشح منه وجوب على التعلم.

فالنتيجة: أن الالتزام بكون المشروط واجبا مطلقا معلقا حتى يجب به التعلم و يوجب تركه استحقاق العقوبة خارج عما تقتضيه القواعد العربية، فلا يندفع به الإشكال.

و أما الدفع: فمحصله: أن جعل هذا الوجوب في الواجب المطلق المعلق إنما يكون بمثابة لا يجب تحصيل مقدماته قبل الشرط و الوقت إلا خصوص التعلم، و دخل سائر المقدمات إنما هو بوجودها الاتفاقي، فإن الاستطاعة مثلا بوجودها الاتفاقي مقدمة، لا بوجودها التحصيلي كالطهارة بالنسبة على الصلاة. و على هذا: فيكون بين المقدمات تفاوت في ترشح الوجوب من الواجب إلى بعضها كالفحص و التعلم، و عدم ترشحه على بعضها الآخر كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج، فإنه لا يجب تحصيلها.

و بالجملة: فإطلاق الوجوب لا يقتضي إيجاب جميع المقدمات؛ بل لا بد من ملاحظة نظر المولى في كيفية دخل المقدمات، فإن كان دخلها بوجودها الاتفاقي فلا يجب تحصيلها، و إلا وجب ذلك. و التعلم من هذا القبيل، فيجب قبل الشرط أو الوقت، و يعاقب على تركه.

(1) دون الوجوبية، لأنها شرائط نفس الوجوب و مقدمة رتبة عليه، فيمتنع ترشح الوجوب المتأخر عنها عليها، و «عقلا» قيد ل «تتصف» و «بالوجوب» متعلق به أيضا.

(2) هذا استثناء من «مقدماته»، يعني: لا تتصف مقدماته الوجودية بالوجوب إلا التعلم.

(3) يعني: لا يكون الشرط قيدا للهيئة حتى يكون الوجوب منوطا به؛ بل هو قيد للمادة، فالوجوب حالي و الواجب استقبالي، و من المعلوم: اقتضاء الوجوب الحالي لوجوب مقدماته.

ص: 27

شرطه (1)، و لا غير التعلم من مقدماته (2) قبل شرطه أو وقته (3).

و أما (4) لو قيل بعدم الإيجاب إلا بعد الشرط و الوقت كما هو (5) ظاهر الأدلة و فتاوى المشهور، فلا (6) محيص عن الالتزام بكون وجوب التعلم نفسيا؛ لتكون العقوبة - لو قيل بها (7) - على تركه لا على ما أدى إليه...

=============

(1) أي: الشرط الذي يكون بوجوده الاتفاقي دخيلا كالاستطاعة، فإنه لا يترشح من الواجب وجوب غيري عليها، نعم؛ لو لم يكن دخله بهذا النحو كان مقتضى قيديته للواجب وجوب تحصيله.

(2) أي: الواجب المطلق المعلق، و ضميرا «مقدماته، شرطه» راجعان إليه أيضا.

(3) هذا الضمير و ضمير «شرطه» راجعان على الواجب الاستقبالي.

(4) غرضه: أنه لو نوقش في الوجه الثاني - و هو كون الواجب المشروط و الموقت مطلقا معلقا حتى يجب التعلم غيريا بعدم الوجوب إلا بعد الشرط و الوقت كما هو مقتضى كون الشرط قيدا لنفس الوجوب و فتاوى المشهور - حيث إنهم أفتوا بعدم وجوب مقدمات الواجب المشروط و الموقت قبل الشرط و الوقت - فيتعين دفع إشكال استحقاق العقوبة فيهما بكون وجوب التعلم نفسيا؛ لتكون المؤاخذة على تركه لا على ترك الواقع.

(5) أي: عدم الإيجاب ظاهر الأدلة المتضمنة للشرط و الوقت كقوله تعالى: إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلاٰةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اَللّٰهِ (1)، فإن النداء المراد به زوال يوم الجمعة شرط لوجوب السعي.

(6) جواب «و أما» و هو كالصريح في تعيّن دفع إشكال العقوبة في الواجب المشروط و الموقت بالالتزام بنفسية وجوب التعلم.

قوله: «نفسيا» يعني: لا غيريا ترشحيا؛ لعدم إطلاق الوجوب لذي المقدمة قبل الشرط و الوقت حتى يترشح منه وجوب غيري على التعلم، مع أن الوجوب الغيري لا توجب مخالفته استحقاق العقوبة.

(7) أي: بعقوبة، و الأولى «ليكون استحقاق العقوبة» كما عبر به قبل أسطر؛ إذ ليس الكلام في العقوبة الفعلية، بل في استحقاقها.

و قوله: «لو قيل بها» إشارة إلى أحد الأقوال الثلاثة المتقدمة في استحقاق العقوبة، و هو القول بكون استحقاقها على ترك التعلم نفسه في قبال القولين الآخرين، و هما:

ص: 28


1- الجمعة: 11.

من (1) المخالفة، و لا بأس به (2) كما لا يخفى، و لا ينافيه (3) ما يظهر من الأخبار من كون وجوب التعلم إنما هو لغيره (4) لا لنفسه، حيث (5) إن وجوبه لغيره لا يوجب استحقاقها على ترك الواقع، و ترك التعلم من حيث أدائه إلى ترك الواقع.

=============

و لعل الأولى تقديم «على تركه» بأن يقال: «لتكون العقوبة على تركه لو قيل بها»، فاستحقاقها مترتب على نفس ترك الفحص و التعلم و العمل بأصالة البراءة قبلهما، سواء صادف تركهما ترك الواقع أم لا. و ضمير «تركه» راجع على التعلم. و قوله: «لا على» عطف على «تركه».

(1) بيان ل «ما» الموصول، و ضمير «إليه» راجع على الموصول، و المستتر في «أدى» راجع على «تركه».

(2) يعني: و لا بأس بالالتزام بالوجوب النفسي للتعلم في دفع الإشكال في الواجب المشروط و الموقت؛ لكون العقوبة حينئذ على الواجب النفسي.

(3) يعني: و لا ينافي وجوب التعلم نفسيا «ما يظهر من الأخبار...» الخ.

و غرضه: تأييد مذهب الأردبيلي و صاحب المدارك «قدس سرهما» من كون التعلم واجبا نفسيا، و دفع ما يتوهم من منافاته لظاهر الأخبار.

و محصل تقريب التوهم هو: أن الالتزام بالوجوب النفسي للتعلم مناف لظاهر أدلة وجوب التعلم، حيث إن ظاهرها وجوبه للعمل، فيكون وجوبه للغير كوجوب سائر المقدمات، و ليس وجوبه لنفسه، فكيف التوفيق بين هذا الظاهر و الوجوب النفسي هذا؟

و ملخص دفع هذا التنافي هو: أن الوجوب للغير مغاير للوجوب بالغير، فإن الواجبات النفسية كلها واجبات للغير، بمعنى: أن وجوبها نشأ من الملاكات الداعية إلى إيجابها، فالصلاة وجبت للغير و هو ملاكها كالنهي عن الفحشاء، و الوجوب بالغير هو الوجوب المترشح من وجوب آخر، و الأول واجب نفسي، و الثاني واجب غيري كمقدمات الصلاة، و قد تقدم آنفا: أن الواجب التهيئي هو ما وجب للتهيؤ لتشريع واجب.

و بالجملة: فالوجوب الغيري المقدمي غير الوجوب النفسي التهيئي.

(4) أي: لغير التعلم و هو العمل في الرواية التي أشير إليها و هي قوله «عليه السلام»:

«قيل له: هلاّ تعلمت حتى تعمل».

(5) هذا وجه دفع المنافاة: و قد عرفت تقريبه بقولنا: «و ملخص دفع الثاني...» الخ.

ص: 29

كونه واجبا غيريا يترشح وجوبه من وجوب غيره، فيكون (1) مقدميا؛ بل للتهيؤ لإيجابه (2) فافهم (3).

و أما الأحكام (4): فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة؛ بل في صورة

=============

(1) يعني: حتى يكون التعلم واجبا مقدميا؛ بأن ينشأ وجوبه عن وجوب غيره.

(2) أي: لإيجاب الغير، و هذا هو الوجوب النفسي التهيئي؛ لأنه كما مر سابقا عبارة عن التهيؤ لإيجاب شيء على المكلف، و قوله: «بل للتهيؤ» عطف على «لا يوجب»، يعني: بل وجوبه للتهيؤ لإيجاب الغير.

(3) يمكن أن يكون إشارة إلى وجوه لعل أوجهها: إباء حمل نصوص وجوب التعلم على النفسي التهيئي الذي وجه به الشيخ «قدس سره» كلام العلمين الأردبيلي و صاحب المدارك «قدس سرهما»، ضرورة: أن قولهم «عليهم السلام» في بعضها: «هلاّ تعلمت حتى تعمل» كالصريح في كون التعلم مقدمة للعمل في الخارج، لا مقدمة لوجوب العمل حتى يكون وجوب التعلم نفسيا تهيئيا له لا غيريا لوجوده كما لا يخفى. فإن كان وجوبه تهيئيا كان التعبير هكذا: «هلاّ تعلمت حتى يجب أن تعمل».

و بالجملة: لا تدل نصوص وجوب التعلم على وجوبه النفسي التهيئي، فإما تدل على وجوبه الغيري، و إما على وجوبه الطريقي، و لا يترتب استحقاق العقوبة على شيء منهما. و قد مرت الإشارة إلى الإشكال في وجوبه الغيري؛ لعدم كون التعلم مقدمة وجودية للواجب بل هو مقدمة للعلم بوجوده، فليس وجوب التعلم إلا وجوبا طريقيا.

فما أفاده الشيخ «قدس سره» من كون وجوبه غيريا لا يخلو من الغموض؛ لما عرفت من: عدم كون التعلم مقدمة وجودية للواجب حتى يجب بالوجوب الغيري المقدمي، مضافا إلى: عدم اقتضاء الإيجاب الغيري لاستحقاق العقوبة. هذا تمام الكلام في المقام الأول المعقود لبيان ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من استحقاق العقوبة.

(4) هذا هو المقام الثاني المتكفل لحكم العمل بالبراءة قبل الفحص و التعلم، و قوله:

«أما الأحكام»: عطف على «أما التبعة» المذكور بعد قوله: «و لا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة و الأحكام».

و لا يخفى: أن الأولى التعبير ب «الحكم» كما عبّر به الشيخ «قدس سره» بقوله: «و أما الكلام في الحكم الوضعي و هي صحة العمل الصادر من الجاهل و فساده، فيقع الكلام فيه تارة في المعاملات و أخرى في العبادات...» الخ؛ إذ المقصود هنا هو: بيان الحكم الوضعي فقط أعني: الصحة أو الفساد، و هو حكم واحد، و ليس هنا حكم تكليفي

ص: 30

الموافقة أيضا في العبادة (1) فيما لا تأتى منه قصد القربة (2)؛ و ذلك (3) لعدم الإتيان مترتب على العمل بسبب ترك الفحص غير حكمه الواقعي الثابت له مطلقا، سواء تفحص عنه أم لم يتفحص.

=============

و كيف كان؛ فمحصل ما أفاده في حكم العمل بالبراءة قبل الفحص و التعلم: أن المعيار في صحة العمل و فساده هو الموافقة للواقع و المخالفة له مطلقا، سواء كان عبادة أم معاملة، غاية الأمر: أنه إن كان عبادة فقد اعتبر في صحته مضافا إلى المطابقة للواقع نشوؤه عن قصد القربة، فمع قصدها - و لو رجاء - صح و لا يحتاج إلى الإعادة، و بدون قصدها لا يصح و تجب إعادته و إن كان مطابقا للواقع.

و إن كان معاملة فلا يعتبر في صحتها غير الموافقة له.

فالمتحصل: أن العمل العبادي يصح في صورة واحدة و هي الموافقة للواقع مع حصول قصد القربة لغفلة أو لرجاء إدراك الواقع، و البناء على تداركه مع تبيّن الخلاف، و يفسد في صورتين: إحداهما: مخالفته للواقع، و الأخرى: موافقته له بدون قصد القربة، و إن كان رجوع كلتا الصورتين إلى صورة واحدة و هي المخالفة للواقع الذي هو في العبادات العمل مع القربة.

و خلاصة الكلام: أنه يظهر من عبارة المصنف: أن المعيار في الصحة و الفساد في المعاملة هو موافقتها مع الواقع و مخالفتها له، فإن وافقته صحت و إن خالفته بطلت، و أن المعيار في العبادة أمران: موافقتها مع الواقع و تمشّي قصد القربة، فإن وافقت العبادة مع الواقع و تمشّى قصد القربة صحت، و إلا بأن خالفت الواقع أو وافقته و لم يتمشّى قصد القربة لتردّد العامل بالبراءة قبل الفحص و عدم جزمه بأحد الطرفين بطلت. توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) يعني: كعدم الإشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة للواقع في خصوص العبادة؛ لفقدان شرط صحتها و هو قصد القربة، كما إذا احتمل جزئية السورة مثلا للصلاة، أو مانعية اللباس المشكوك لها، فإنه مع هذا الاحتمال و عدم الإتيان بالسورة رجاء و عدم البناء على الإعادة مع انكشاف الخلاف لا يتأتى منه قصد القربة للشك في صلاحية هذا العمل للمقربية. و التقييد بالعبادة لوضوح عدم اعتبار قصد القربة في التوصليات حتى يقدح عدم تمشّيه في عبادية العمل.

(2) كمثال احتمال جزئية السورة على ما عرفت آنفا، فيبطل العمل العبادي لاختلال شرطه و هو قصد القربة.

(3) تعليل لعدم الإشكال في وجوب الإعادة في صورتي المخالفة للواقع و الموافقة له

ص: 31

بالمأمور به (1) مع عدم دليل على الصحة و الإجزاء، إلا (2) في الإتمام في موضع القصر، أو الإجهار أو الإخفات في موضع الآخر، فورد في الصحيح (3) - و قد أفتى مع فقدان قصد القربة، و هذه العلة مشتركة بين صورتي الموافقة للواقع بدون قصد القربة و المخالفة له.

=============

قوله «مع عدم دليل على الصحة» تعليل لصورة الإتيان بالعمل فاقدا لبعض شرائطه.

و حاصله: أنه إذا أتى بالمأمور به ناقصا صدق أنه لم يأت بالمأمور به على وجهه، فهو فاسد؛ إلا إذا دل دليل على صحته و عدم لزوم إعادته، و هذا الدليل مفقود إلا في موضعين؛ أحدهما: الإتمام في موضع القصر، و الآخر الجهر أو الإخفات في موضع الآخر على التفصيل الآتي إن شاء الله تعالى.

(1) الأولى إضافة «على وجهه» إليه؛ لما مر منه في بحث التعبدي و التوصلي من دخل قصد القربة في الغرض، و عدم تكفل نفس الخطاب لاعتباره في العبادة، و عليه:

فالمراد بقوله: «في صورة الموافقة» هو الموافقة لذات العبادة ما عدا قصد القربة، فلا يتوهم التهافت بين صدر الكلام و ذيله.

(2) استثناء من قوله: «مع عدم دليل على الصحة».

(3) أما الصحيح الدال على الأول فهو صحيح زرارة و محمد بن مسلم: (قالا قلنا:

لأبي جعفر «عليه السلام»: رجل صلى في السفر أربعا أ يعيد أم لا؟ قال «عليه السلام»:

«إن كان قرئت عليه آية التقصير و فسرت له فصلى أربعا أعاد و إن لم يكن قرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه»)(1).

و أما الصحيح الدال على الثاني، فهو صحيح زرارة عن أبي جعفر «عليه السلام»:

(في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه، و أخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، فقال «عليه السلام»: «أيّ : ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته و عليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري، فلا شيء عليه و قد تمت صلاته»)(2).

فإن هذين الصحيحين يدلان على صحة الصلاة التامة في موضع القصر الذي هو المأمور به، و صحة الصلاة التي أجهر فيها في موضع الإخفات، و بالعكس، و لو لا هذان

ص: 32


1- الفقيه 434:1 /ذيل ح 1265، تهذيب الأحكام 568/22603، الوسائل 506:8 / 11300.
2- الفقيه 1002/343:1، تهذيب الأحكام 635/162:2، الاستبصار 1163/313:1، الوسائل 7412/86:6-7413.

به المشهور (1) - صحة (2) الصلاة و تماميتها في الموضعين مع الجهل مطلقا، و لو كان (3) عن تقصير موجب (4) لاستحقاق العقوبة على ترك الصلاة المأمور بها؛ لأن (5) ما أتى بها و إن صحت و تمت إلا إنها (6) ليست بمأمور بها (7).

=============

الصحيحان لكان مقتضى القاعدة البطلان؛ لعدم كونها مأمورا بها.

(1) غرضه: إثبات حجية الصحيحين المذكورين، و عدم كونهما من الصحاح المعرض عنها عند المشهور حتى يسقطا بسبب الإعراض عن الحجية؛ بل من المعمول بهما عندهم.

و بالجملة: فالمقتضي للحجية فيهما - و هو صحة السند - موجود، و المانع عنها - و هو إعراض المشهور، مفقود، و عليه: فلا إشكال في اعتبارهما و صحة الاعتماد عليهما.

و ضمير «به» راجع على «الصحيح».

(2) فاعل «فورد»، و قوله: «و تماميتها» عطف على «صحة»، و ضميرها راجع على «الصلاة».

(3) بيان لقوله: «مطلقا» يعني: و لو كان الجهل عن تقصير في الفحص و السؤال.

(4) صفة ل «تقصير» و «لاستحقاق» متعلق به.

(5) تعليل لكون استحقاق العقوبة على طبق القاعدة، و ذلك لأن ما أتى به المكلف ليس مأمورا به حتى لا يستحق العقوبة؛ إذ المأمور به هو صلاة القصر دون التمام، أو الجهر دون الإخفات، أو العكس، و ترك المأمور به و الإخلال به لا عن عذر يوجب استحقاق العقوبة، فينبغي أن لا يكون استحقاقها موردا للإشكال؛ و إن كان الدليل و هو الصحيحان المتقدمان دالا على صحتها و عدم لزوم إعادتها. و ضمير «بها» راجع على الموصول المراد به الصلاة، و كذا ضمير «إنها».

(6) يعني: إلا إن الصلاة مع صحتها بالدليل المزبور ليست بمأمور بها بأمرها الأولي؛ إذ المفروض: عدم انطباقه على المأتي به، فصحته إنما هي بالدليل الثانوي.

(7) قال في الجواهر: «وفاقا للأكثر كما في المدارك و غيرها؛ بل المشهور كما في الروض و غيره، بل في الرياض أن عليه الإجماع في الجملة في ظاهر بعض العبارات، بل حكى المقدس البغدادي الإجماع عليه صريحا. و ربما يؤيده معروفية استثناء هذه المسألة و مسألة الجهر و الإخفات من عدم معذورية الجاهل كما يومي إليه سؤال الرسي و الرضي السيد المرتضى عن وجه ذلك... و أجاب المرتضى عنه مقرا لهما على ما يستفاد من كلامهما من كون الحكم مفروغا عنه... تارة بأنه يجوز تغير الحكم الشرعي بسبب

ص: 33

إن قلت (1): كيف يحكم بصحتها مع عدم الأمر بها؟

=============

الجهل و إن كان الجاهل غير معذور... و كأنه يريد أن الجاهل هنا أيضا غير معذور بالنسبة للإثم و عدمه إن كان فعله صحيحا للدليل». «جواهر الكلام، ج 14، ص 343».

(1) أي: إن قلت: ما هو الوجه لصحة الصلاة ؟ و ما هو الوجه لاستحقاق العقوبة على تقدير الصحة ؟ فإنه كيف يحكم بصحة الصلاة المخالفة مع عدم الأمر بها، فإن الأمر كان متوجها إلى القصر و إلى الإخفات في الظهرين، و إلى الجهر في الصبح و المغربين. هذا هو الإشكال الأول.

و الإشكال الثاني: كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي أمر بها - أي: الصلاة الواقعية - حتى فيما إذا تمكن مما أمر بها، يعني: أنه لو تمكن من إعادة الصلاة موافقة للواقع فكيف يقول له الشارع: لا تصل - إذ لا إعادة عليه - ثم يعاقبه بأنه لم صلى الصلاة الناقصة ؟ فإنه كالتهافت.

و كيف كان؛ فغرضه: أنه كيف يمكن الحكم بصحة العبادة بدون الأمر؟ و كيف يحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به مع عدم استناد الترك إلى المكلف و تمكنه من الإتيان به ؟

و توضيح الإشكال - على ما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 442» - أن هذا الإشكال ينحل إلى إشكالين:

أحدهما: أنه كيف يصح المأتي به بدون الأمر؟ مع أن الصحة هي انطباق المأمور به عليه، و المفروض: خلو المأتي به عن الأمر، فيمتنع انطباقه عليه، مع دلالة الصحيحين المتقدمين على الصحة. أما الصحيح الأول فلقوله: «عليه السلام»: «فلا إعادة عليه»، حيث إن نفي الإعادة يدل على ملزومة، و هي الصحة. و أما الصحيح الثاني: فلقوله «عليه السلام»: «أو لا يدري فلا شيء عليه و قد تمت صلاته».

ثانيهما: أنه كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به مع القدرة على الإعادة و الإتيان بالمأمور به على وجهه ؟ كما إذا علم بوظيفته من القصر أو الجهر أو الإخفات في الوقت مع سعته و التمكن من فعله ثانيا، و معه لا موجب لاستحقاق العقوبة؛ إذ المطلوب في تمام الوقت هو صرف الوجود من الطبيعة المأمور بها، و المفروض:

تمكنه من ذلك مع عدم وجوب الإعادة، بل مرجوحيتها شرعا بمقتضى قوله «عليه السلام»: «تمت صلاته و لا يعيد»، فترك المأمور به حينئذ مستند إلى الشارع، و معه كيف تصح مؤاخذته ؟ هذا تمام الكلام في الإشكال من وجهين.

ص: 34

و أما الجواب عن الإشكال الأول: - و هو الحكم بصحة العبادة مع عدم الأمر بها فتوضيحه يتوقف على مقدمة: و هي: أن الحكم بالصحة تارة: يكون لأجل الأمر، و أخرى: يكون لأجل وجود ملاك الأمر و هو المصلحة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الصحة هنا ليست بلحاظ الأمر؛ بل بلحاظ ملاكه لوفاء المأتي به بالغرض الأكمل، و الحكم باستحقاق العقاب يكون لأجل أنه فوّت على المولى مقدارا من المصلحة لا يمكن تداركها.

و المتحصل: أن الصحة إنما هي لأجل كون المأتي به واجدا لعمدة مصلحة المأمور به التي يلزم استيفاؤها، و كيف كان؛ فلاشتمال المأتي به على هذا الملاك اللازم الاستيفاء يتصف بالصحة و الإجزاء عن المأمور به؛ بحيث لو لم تجب صلاة القصر كانت الصلاة تماما مأمورا بها؛ لكن لما كانت مصلحة صلاة القصر أهم صارت هي الواجبة فعلا لا الصلاة تماما، فصحة صلاة التمام مستندة إلى المصلحة لا الأمر الفعلي كي يقال: ليس هناك أمر فعليّ فكيف يحكم بالصحة ؟

و أما الجواب عن الإشكال الثاني - و هو أنه كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة مع تمكن المكلف من الإعادة التي تكون وافية بتمام المصلحة - فإنه لا فائدة في الإعادة؛ إذ لا مصلحة تقتضي الإعادة، حيث إن المصلحة التامة الكامنة في صلاة القصر قد فاتت بسبب الإتيان بصلاة التمام لمكان الضدية بين المصلحتين، فمصلحة صلاة التمام فوتت مصلحة صلاة القصر، فلا مصلحة لها بعد الصلاة تماما، و لم يبق شيء منها قابلا للتدارك حتى تجب إعادتها لأجل تداركه.

هذا نظير ما إذا أمر المولى عبده بسقي البستان أو الزرع بماء النهر مثلا، فسقاه بماء البئر، فإن مصلحة السقي بماء النهر قد فاتت بسقيه بماء البئر و يمتنع تداركها، بل سقيه بماء النهر حينئذ مضر بالبستان أو الزرع و مفسد له، فمصلحة نفس السقي في الجملة و إن ترتبت على السقي بماء البئر؛ إلا إن كمال المصلحة - و هو النمو الزائد - لا يترتب عليه و لا يمكن تداركه بماء النهر.

فالمتحصل: أن الحكم باستحقاق العقاب إنما هو لأجل تفويت مقدار من المصلحة لا يمكن تداركها على المولى.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

ص: 35

و كيف (1) يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي أمر بها (2) حتى (3) فيما إذا تمكن مما أمر بها كما هو (4) ظاهر إطلاقاتهم؛ بأن علم (5) بوجوب القصر أو الجهر بعد الإتمام و الإخفات، و قد بقي من الوقت مقدار إعادتها قصرا أو جهرا؟ ضرورة (6): أنه لا تقصير هاهنا (7) يوجب استحقاق العقوبة.

و بالجملة: كيف (8) يحكم بالصحة بدون الأمر؟ و كيف يحكم باستحقاق العقوبة قوله: «كيف يحكم بحصتها مع عدم الأمر بها؟» إشارة إلى الإشكال الأول، و ضميرا «بصحتها، بها» راجعان على الصلاة.

=============

(1) هذا إشارة إلى الإشكال الثاني الذي تقدم تقريبه.

(2) و هي: صلاة القصر، أو الجهر أو الإخفات.

(3) يعني: كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به مطلقا حتى في صورة القدرة على إعادته في الوقت مع مرجوحية الإعادة ؟ حيث إن ترك المأمور به حينئذ ليس مستندا إلى المكلف حتى يستحق المؤاخذة؛ بل هو مستند إلى الشارع كما هو مقتضى قوله «عليه السلام» في الصحيحين المتقدمين: «فلا إعادة عليه»، و «فلا شيء عليه»، و «قد تمت صلاته» على التقريب المتقدم.

(4) يعني: كما أن الحكم باستحقاق العقوبة مطلقا ظاهر إطلاقات الفقهاء، حيث إنهم أطلقوا استحقاق من أتم في موضع القصر جاهلا بالحكم للعقوبة، فإن إطلاق كلامهم يشمل صورة ارتفاع الجعل في الوقت و التمكن من الإتيان بالمأمور به الواقعي فيه.

(5) هذا بيان التمكن من فعل المأمور به في الوقت. و ضمير «إعادتها» راجع على الصلاة المأمور بها.

(6) تعليل لقوله: «و كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة ؟»، و حاصله: أنه كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به الواقعي مع عدم تقصيره في الترك، حيث إن الترك مستند إلى حكم الشارع بإجزاء غير المأمور به و عدم الإعادة، و ضمير «أنه» للشأن.

(7) أي: في صورة ارتفاع الجهل في الوقت و التمكن من الإتيان بالمأمور به فيه، فترك المأمور به الواقعي حينئذ ليس مستندا إلى تقصيره حتى يستحق العقاب؛ بل تركه مستند إلى حكم الشارع بالإجزاء و عدم الإعادة كما تقدم آنفا.

(8) هذا إشارة إلى الإشكال الأول، كما أن قوله: «و كيف يحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن ؟» إشارة إلى الإشكال الثاني، و قد تقدم تقريبهما مفصلا.

ص: 36

مع التمكن من الإعادة (1)؟ لو لا الحكم (2) شرعا بسقوطها و صحة ما أتى بها (3).

قلت: إنما حكم بالصحة (4) لأجل اشتمالها على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء في نفسها مهمة في حد ذاتها (5)؛ و إن كانت دون مصلحة الجهر و القصر (6)، و إنما لم يؤمر (7) بها لأجل أنه أمر بما (8) كانت واجدة لتلك المصلحة (9) على النحو الأكمل

=============

(1) يعني: في الوقت لإدراك المصلحة الوقتية، و مع ذلك حكم الشارع بسقوط الإعادة.

(2) قيد للتمكن، يعني: أن المكلف متمكن من الإعادة، إلا إن الشارع عجّزه و سلب عنه القدرة عليها بسبب حكمه بالإجزاء و الصحة، ففوت المأمور به ناش عن حكمه بالصحة، لا عن تقصير المكلف كما مر.

(3) أي: بالصلاة، فتأنيث الضمير باعتبار ما يراد من الموصول لا باعتبار لفظه، و ضمير «سقوطها» راجع على الإعادة.

(4) هذا جواب عن الإشكال الأول، و هو اتصاف المأتي به بالصحة مع عدم الأمر به، و قد تقدم توضيح ذلك و لا حاجة إلى الإعادة.

(5) يعني: أن صلاة التمام في حد ذاتها - مع الغض عن القصر - ذات مصلحة مهمة يلزم استيفاؤها؛ لكنها ليست مساوية لمصلحة القصر، و إلا كان اللازم هو التخيير بينه و بين التمام كسائر الواجبات التخييرية، لعدم مزية حينئذ لصلاة القصر توجب الأمر بها تعيينا.

و ضمير «اشتمالها» راجع على الصلاة التامة في موضع القصر، أو الصلاة جهرا في موضع الإخفات، أو العكس و ضميرا «نفسها، ذاتها» راجعان على «مصلحة».

(6) إذ لو كانت مساوية لمصلحة الجهر و القصر لكان الحكم هو التخيير بين القصر و التمام، و الجهر و الإخفات، كما عرفت آنفا.

(7) يعني: أن صلاة التمام إن كانت ذات مصلحة فلما ذا لم يؤمر بها في عرض الأمر بالقصر؟ فقد أجاب عنه: بأن عدم الأمر بها إنما هو لأجل الاستغناء عنه بسبب أكملية مصلحة القصر؛ لاشتماله على مصلحة التمام و زيادة.

(8) أي: بالصلاة القصرية الواجدة لمصلحة الصلاة التامة على الوجه الأكمل و الأتم، و على هذا فلا موجب للأمر بالتمام.

(9) أي: المصلحة القائمة بصلاة التمام على الوجه الأكمل يعني: إنما أمر بصلاة القصر التي تكون واجدة للمصلحة القائمة بصلاة التمام على الوجه الأكمل و الأتم.

ص: 37

و الأتم (1).

و أما الحكم (2) باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة، فإنها (3) بلا فائدة؛ إذ (4) مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في المأمور بها (5)، و لذا (6) لو أتى بها في موضع الآخر جهلا - مع تمكنه من التعلم - فقد قصر، و لو (7) علم بعده و قد وسع الوقت.

فانقدح (8): أنه لا يتمكن من صلاة القصر...

=============

و بالجملة: فحاصل جواب الإشكال هو: أن اتصاف المأتي به - كالتمام في موضع القصر - بالصحة إنما هو بلحاظ المصلحة الموجودة فيه، لا بلحاظ الأمر، و عدم الأمر به مع اشتماله على المصلحة المهمة إنما هو لأجل أهمية مصلحة القصر و أكمليتها من مصلحته، و من المعلوم: تبعية التشريع لأهم المصلحتين.

(1) يعني: أن تلك المصلحة تكون بمثابة من الأهمية تمنع عن الأمر بالتخيير بين القصر و التمام و لو بنحو أفضلية القصر من التمام؛ بل أهميتها توجب الأمر بالقصر تعيينا.

(2) هذا جواب عن الإشكال الثاني و هو: أنه كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به مع التمكن من إعادته.

و قد تقدم توضيح الجواب عن هذا الإشكال الثاني فلا حاجة إلى التكرار.

(3) أي: الإعادة بلا فائدة، و الأولى أن يقال: «فلأنها بلا فائدة»؛ لأنه في مقام تعليل عدم الإعادة مع التمكن منها حتى لا يستحق العقوبة.

(4) تعليل لكون الإعادة بلا فائدة، و قد عرفت توضيحه في الجواب عن الإشكال الثاني. فراجع.

(5) كصلاة القصر، فإن مصلحة صلاة التمام تفوّت مصلحة القصر.

(6) يعني: و لعدم بقاء المجال لاستيفاء مصلحة المأمور به، و عدم فائدة في الإعادة لو أتى بالتمام في موضع القصر جهلا بالحكم، فقد قصر و ليس عليه الإعادة و إن علم بالحكم في الوقت و تمكن من الإعادة فيه. و ضمير «بها» راجع على الصلاة غير المأمور بها كالتمام.

(7) كلمة «لو» وصلية يعني: و لو كان علمه بالحكم في سعة الوقت و إمكان الإعادة فيه، و ضمير «بعده» راجع على الإتيان.

(8) هذه نتيجة ما تقدم من عدم المجال للإعادة عادة لفوت المصلحة، و عدم بقاء

ص: 38

صحيحة (1) بعد فعل صلاة التمام، و لا (2) من الجهر كذلك بعد فعل صلاة الإخفات؛ و إن كان الوقت باقيا.

إن قلت (3): على هذا يكون كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب شيء منها يوجب الإعادة. و عليه: فلا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد الإتيان بصلاة التمام، و كذا في الجهر و الإخفات، و إن كان الوقت لإتيانها باقيا؛ لما مر آنفا من:

=============

أن مصلحة المأتي به كالتمام تفوّت مصلحة المأمور به كالقصر، و يسقط أمره أيضا، و ضمير «أنه» للشأن.

(1) لأن الصحة موافقة الأمر، و المفروض: سقوط الأمر بصلاة القصر بقوات مصلحتها بفعل صلاة التمام.

(2) يعني: و لا يتمكن من الجهر «كذلك»، أي: صحيحة بعد الإتيان بصلاة الإخفات؛ لما مر من فوات المصلحة.

(3) هذا إشكال على ما تقدم من الحكم بصحة التمام مكان القصر، و الجهر مكان الإخفات.

و حاصل الإشكال: أن بناء على ما تقدم آنفا: من أنه مع استيفاء مصلحة الإتمام في موضع القصر، أو مصلحة كل من الجهر و الإخفات في موضع الآخر لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي هي في المأمور به يكون الإتمام في موضع القصر جهلا، و هكذا كل من الجهر و الإخفات في موضع الآخر كذلك سببا لتفويت الواجب، و السبب المفوّت للواجب حرام، و حرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام، فكيف يقال: إنه صح و تم ؟

و بالجملة: ملخص الكلام في تقريب الإشكال: أن ترك المأمور به - و هو القصر - حرام، و حيث إن التمام مقدمة لهذا الترك المحرم، فتسري الحرمة إليه و النهي في العبادة يقتضي الفساد. و عليه: فالصلاة التامة لحرمتها فاسدة، و مع فسادها كيف يحكم بصحتها و إجزائها عن المأمور به ؟

و حاصل الجواب: أن التمام ليس مقدمة لترك الواجب الفعلي و هو القصر؛ بل التمام و القصر ضدان، و هما في رتبة واحدة، فعدم كل منهما يكون أيضا في رتبة وجود الآخر، لا في طوله حتى يصير عدم أحدهما مقدمة و من أجزاء علة وجود الآخر فلا علية بينهما؛ بل عدم أحدهما ملازم لوجود الآخر، و مع عدم التوقف و العليّة لا يكون التمام سببا لفوت المأمور به حتى يتصف لأجل المقدمية بالحرمة و يفسد، بل هو باق على

ص: 39

فعلا (1)، و ما هو سبب لتفويت الواجب كذلك (2) حرام، و حرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام (3).

قلت (4): ليس (5) لذلك، غايته أنه (6) يكون مضادا له، و قد حققنا في محله (7): أن الضد و عدم ضده متلازمان ليس بينهما توقف أصلا.

لا يقال: على هذا (8) فلو صلى تماما أو صلى إخفاتا - في موضع القصر و الجهر.

=============

محبوبيته لاشتماله على المصلحة المهمة اللازم استيفاؤها، فيقع صحيحا، أي: واجدا للملاك و مسقطا للواجب الفعلي لكونه مفوتا لملاكه الداعي إلى الأمر به.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) قيد للواجب؛ إذ الواجب الفعلي هو القصر، حيث إن ملاكه أقوى من ملاك التمام، و قد مرت الإشارة إلى أن التشريع تابع لأقوى الملاكين.

(2) أي: الفعلي، و المراد ب «ما هو السبب» هو التمام، حيث إنه مقدمة لتفويت القصر الذي هو الواجب الفعلي، و قوله: «حرام» خبر «ما» الموصول، يعني: و ما هو السبب لتفويت الواجب الفعلي حرام من باب المقدمة.

(3) لامتناع التقرّب بما هو مبغوض و حرام، و فساد العبادة بسبب النهي عنها.

(4) هذا دفع الإشكال: و قد تقدم توضيح ذلك.

و خلاصة الدفع: أن سبب ترك الواجب هو سوء الاختيار لا هذا المأتي به.

(5) أي: ليس كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب الفعلي، فالمشار إليه في «لذلك» هو التفويت.

(6) أي: غاية الأمر: أن كلا منهما في موضع الآخر يكون مضادا للواجب الفعلي الفائت، و ضمير «له» راجع على الواجب.

(7) أي: في مبحث الضد، حيث إن الضد كالسواد و عدم ضده كعدم البياض متلازمان، و ليس بينهما توقف و علّية أصلا.

و عليه: فلا يكون فوت الواجب الفعلي كالقصر مستندا إلى فعل التمام؛ بل هو مستند إلى تقصيره في ترك الفحص و التعلم، فصلاة التمام تقع محبوبة، لكونها واجدة للمصلحة التامة في حد ذاتها، و ليست مقدمة لترك القصر حتى تصير مبغوضة غير صالحة للمقربية و الإجزاء.

(8) أي: بناء على اشتمال المأتي به - كالتمام في موضع القصر الذي هو الواجب الفعلي، و كذا كل من الجهر و الإخفات في موضع الآخر - على مصلحة تامة لازمة

ص: 40

مع العلم بوجوبهما في موضعهما - لكانت صحيحة و إن عوقب على مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر.

فإنه يقال (1): لا بأس بالقول به لو دل دليل على أنها تكون مشتملة على المصلحة و لو مع العلم؛ لاحتمال (2) اختصاص أن...

=============

الاستيفاء في ذاته موجبة لفوت مصلحة الواجب يلزم الحكم بصحة صلاة التمام من العالم بوجوب القصر أيضا، مع استحقاقه العقوبة على مخالفة الواجب.

و بعبارة أخرى: أنه بناء على ما تقدم من اشتمال الإتمام في موضع القصر، و هكذا كل من الجهر و الإخفات في موضع الآخر على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء في نفسها و أن مع استيفائها لا يبقى مجال لاستيفاء مصلحة الواجب إذا صلى المكلف تماما في موضع القصر أو صلى جهرا أو إخفاتا في موضع الآخر عالما عامدا كانت صلاته صحيحة و إن استحق العقاب على مخالفة الواجب.

و حاصل الجواب: أن ذلك ثبوتا مما لا مانع عنه، غير أنه إثباتا لا دليل لنا على الاشتمال على المصلحة مطلقا حتى في صورة العلم و العمد؛ و ذلك لاحتمال الاختصاص بصورة الجهل فقط.

(1) هذا دفع الإشكال: و قد تقدم إجمال الجواب، و أما تفصيل ذلك فيقال: إنه لو كان الدليل اشتمال المأتي به - كالتمام في موضع القصر - على المصلحة إطلاق يشمل صورتي العلم بوجوب القصر و الجهل به لقلنا بصحة التمام و إجزائه عن القصر مطلقا، كما نقول بصحة تارك إنقاذ الغريق و لو عمدا، حيث إن إطلاق دليل وجوب الصلاة يدل على مطلوبيتها المطلقة التابعة لوجود مصلحتها مطلقا حتى في حال التزاحم كإنقاذ الغريق.

و ضمير «به» راجع على كون صلاته صحيحة مع العلم بوجوب القصر و الجهر، يعني: لا بأس بالقول بكون صلاته صحيحة، مع العلم بوجوب القصر و الجهر «لو دل دليل على أنها» أي: الصلاة «تكون مشتملة على المصلحة و لو مع العلم» يعني دل دليل على أن الصلاة غير المأمور بها واجدة للمصلحة و لو مع العلم بعدم الأمر بها.

(2) تعليل لما يفهم من قوله: «لو دل دليل» من أنه لو لم يدل دليل على اشتمال غير المأمور به على المصلحة - و لو مع العلم بالمأمور به الواقعي كالقصر - لا يمكن الالتزام بالصحة؛ لاحتمال اختصاص اشتماله على المصلحة بحال الجهل بوجوب القصر؛ لقرب دعوى دخل الحالات من الجهل و غيره في المصالح و المفاسد التي هي ملاكات الأحكام،

ص: 41

يكون (1) كذلك في صورة الجهل، و لا بعد أصلا في اختلاف الحال فيها باختلاف الحال بوجوب شيء و الجهل، كما لا يخفى.

و قد صار بعض الفحول (2) بصدد بيان إمكان كون المأتي به في غير...

=============

و مع هذا الاحتمال لا دليل على اشتماله على المصلحة حتى يجزئ عن المأمور به، فقاعدة الاشتغال تقتضي لزوم الإعادة و عدم الاكتفاء بالتمام، و حق العبارة أن تكون هكذا: «و فيه بأس لو لم يدل دليل على ذلك لاحتمال اختصاص...» الخ.

(1) يعني: أن يكون المأتي به كذلك، أي: مشتملا على المصلحة المهمة في صورة الجهل بالمأمور به الواقعي لا مطلقا حتى في صورة العلم به.

و ضمير «فيها» راجع على الصلاة، يعني: و لا بعد أصلا في اختلاف الحال في الصلاة المأتي بها بدلا عن المأمور به الواقعي، و لا بعد في اختلاف حال المصلحة باختلاف المكلف من حيث علمه بوجوب شيء كالقصر و الجهل به، فإن لحالات المكلف كالسفر و الحضر و غيرهما دخلا في المصالح و المفاسد الداعية إلى تشريع الأحكام.

فالمتحصل: أن المأتي به من التمام موضع القصر أو الجهر موضع الإخفات أو العكس لا يشتمل على المصلحة التامة حتى يجزئ عن المأمور به الواقعي؛ إلا في صورة الجهل بالواجب الواقعي الفعلي.

(2) و هو فقيه عصره الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كشف الغطاء، قال في مقدمات الكتاب ما هذا لفظه: «و تعلق الأمر بالمتضادين ابتداء غير ممكن، للزوم التكليف بالمحال. و لو تضيّقا معا بالعارض تخير مع المساواة، و قدم الراجح مع الترجيح بحقية المخلوق أو شدة الطلب، و يرجع الأول إلى الثاني؛ لأن انحصار المقدمة بالحرام بعد شغل الذمة لا ينافي الصحة و إن استلزم المعصية، و أي مانع لأن يقول الآمر المطاع لمأموره: إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا فافعل، كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر و الإخفات، و القصر و الإتمام، فاستفادته من مقتضى الخطاب لا من دخوله تحت الخطاب، فالقول بالاقتضاء و عدم الفساد أقرب إلى الصواب و السداد» «كشف الغطاء، المبحث الثامن عشر من المقدمة، ص 27» على ما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 453».

و توضيح الترتب: الذي أفاده كاشف الغطاء «قدس سره» هو: أن المأتي به كصلاة التمام يتعلق به الأمر بشرط العزم على عصيان الأمر بالقصر بنحو الشرط المتأخر، فالأمر بصلاة القصر مطلق، و الأمر بضدها و هو الصلاة تماما مشروط بالعزم على عصيان أمر

ص: 42

موضعه (1) مأمورا به بنحو الترتب. و قد حققنا (2) في مبحث الضد: امتناع الأمر بالضدين و لو بنحو الترتب بما لا مزيد عليه، فلا نعيد.

=============

القصر، فالعزم على عصيانه يوجب أمرين:

أحدهما: استحقاق العقوبة لتركه المأمور به اختيارا بترك الفحص و التعلم و الآخر تعلق الأمر بصلاة التمام؛ لتحقق موضوعه، و لا مانع من تعلق الأمر بالضدين بنحو الترتب، و عليه: فيكون التمام مأمورا به.

(1) يعني: التمام في موضع القصر، أو الجهر في موضع الإخفات أو العكس.

(2) هذا إشارة إلى رد الترتب المزبور و حاصله: أن الترتب مستلزم لطلب الجمع بين الضدين، و هو محال، ضرورة: أن خطاب القصر الفعلي لا يتوقف على شيء، و خطاب التمام بالعزم على العصيان أيضا يصير فعليا، ففي ظرف العزم على العصيان يجتمع الطلبان بالضدين في آن واحد، و هو ممتنع.

و قد يجاب عن الترتب الذي ذكره كاشف الغطاء «قدس سره»: بأن المقام ليس من صغريات الترتب المعروف و أجنبي عنها حيث إن مورده الضدان اللذان يكون كل منهما واجدا للملاك في عرض الآخر؛ لا أن يكون ملاك أحدهما منوطا بعصيان خطاب الآخر كالمقام، فإن ملاك صلاة التمام منوط بعصيان خطاب صلاة القصر و ليست ذات ملاك في عرض صلاة القصر.

و قد تحصل من كلام المصنف «قدس سره» في حل الإشكال: أن المأتي به لاشتماله على المصلحة الوافية بمعظم مصلحة المأمور به الفائت مسقط له من دون أن يكون متعلقا للأمر؛ إذ لا يدل النص على أزيد من عدم وجوب الإعادة و هو لازم أعم لكون التمام في موضع القصر مأمورا به أو مسقطا له بلا تعلق أمر به؛ لعدم الملازمة بين صحة الشيء و تماميته و بين كونه مأمورا به كما مرّ سابقا، فاستحقاق العقاب إنما هو على ترك القصر الواجب في كلتا حالتي العلم و الجهل، و عدم الإعادة يكون لسقوط الواجب بغيره.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - شرط الاحتياط لا يعتبر في حسن الاحتياط شيء سوى عدم كونه موجبا لاختلال النظام.

و توهم: كونه عبثا و لعبا بأمر المولى فيكون منافيا لقصد الامتثال:

مدفوع: بأن تكرار العمل بالاحتياط ليس لازما - مساويا للعبثية المنافية لقصد

ص: 43

الامتثال؛ لإمكان نشوئه عن غرض عقلائي، كما إذا كان التكرار موجبا لتعوّده على العبادة أو دافعا لضرر عدوّ عن نفسه إذا كان استحى العدو من الإضرار به ما دام مصليا، أو كان الفحص و السؤال موجبا للذل و المهانة، أو كان الاحتياط لعبا في كيفية الامتثال فلا ينافي الامتثال.

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى الإشكال في أصل الاحتياط عرفا، فإن العرف لا يرون حسن من يأتي بأوامر المولى على نحو الاحتياط. أ لا ترى أن المولى لو أمر عبده بدق مسمار في الحائط فدق العبد في كل مكان من الحائط مسمارا كان للمولى حق العقاب؛ لأن العبد لعب و عبث بأمر المولى ؟

2 - يعتبر في جريان البراءة العقلية: الفحص؛ لأن موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنما هو عدم البيان الذي يمكن الوصول إليه و لو بالفحص. و عليه: فلا يستقل العقل بقبح العقاب قبل الفحص؛ إذ لا يتحقق موضوع حكم العقل إلا بالفحص.

3 - و أما البراءة الشرعية: فمقتضى إطلاق أدلتها و إن كان جواز إجرائها و لو قبل الفحص إلا إنه لا بد من رفع اليد عن هذا الإطلاق و تقييده بما بعد الفحص من دليل مقيد.

و لذلك ذكر الأصحاب وجوها لتقييد إطلاق أدلة البراءة الشرعية و هي: الإجماع و العقل و الآيات و الأخبار.

ثم يرد المصنف تقييد إطلاق أدلة البراءة بالإجماع و العقل.

و أما الإجماع: فالمحصل منه غير حاصل، و المنقول منه لا يكون حجة.

و أما العقل: فبأن الكلام ليس في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي؛ بل في الشبهات البدوية إذ وجوب الفحص و الاحتياط مختص بصورة وجود العلم الإجمالي.

4 - الأولى الاستدلال على وجوب الفحص بما دل من الآيات مثل آية السؤال أو النفر الذي هو في معنى السؤال و الأخبار: كالنبوي: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»، و قوله «عليه السلام»: «أيها الناس: اعلموا: أن كمال الدين طلب العلم و العمل به، ألا إن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال»، و غيرهما مما دل على وجوب التعلم، فيقيد بها أخبار البراءة، لأنها بإطلاقها تشمل قبل الفحص و بعده، فبهذه الأخبار تقيد بما بعد الفحص.

ص: 44

5 - و يعتبر في التخيير العقلي: الفحص كما يعتبر في البراءة العقلية؛ لأن الفحص كما يكون محرزا لعدم البيان في البراءة العقلية كذلك يكون محرز الموضوع التخيير العقلي، و هو التساوي و عدم الترجيح، فالتساوي بين الاحتمالين لا يحرز إلا بالفحص.

بقي الكلام في حكم العمل بالبراءة من دون فحص، فيقع الكلام في مقامين: الأول في استحقاق العقوبة، و الثاني: في الصحة و الفساد.

6 - و أما استحقاق العقوبة ففيه أقوال:

الأول: استحقاق العقاب مطلقا أي: سواء صادف الواقع أم لا. كما يقول به المحقق الأردبيلي و صاحب المدارك.

الثاني: استحقاقه على ترك التعلم المؤدي إلى المخالفة كما يقول به الشيخ «قدس سره».

الثالث: استحقاقه على مخالفة الواقع؛ و لكن عند ترك التعلم و الفحص كما ذهب إليه المصنف تبعا للمشهور.

و منشأ هذا الاختلاف هو: أن وجوب التعلم هل هو نفسي أو طريقي أو إرشادي ؟ فعلى الأول: يكون استحقاق العقاب على نفس ترك التعلم و الفحص. و على الثاني:

يكون استحقاق العقاب على ترك التعلم و الفحص؛ و لكن عند مخالفة الواقع. و على الثالث: يكون استحقاق العقاب على مخالفة الواقع عند ترك التعلم و الفحص.

7 - الإشكال في وجوب التعلم و الفحص في الواجب المشروط و الموقت:

و حاصل الإشكال: أن ما ذكر من وجوب التعلم و الفحص في التكاليف المطلقة المنجزة تام، و أما في التكاليف المشروطة و الموقتة بزمان: فوجوب التعلم و الفحص فيها مشكل؛ إذ المفروض: عدم وجوب فعلي يوجبها لإناطة التكليف المشروط بتحقق شرطه، فقبل تحقق الشرط لا تكليف حتى يجب التعلم، فوجوب التعلم في التكاليف المشروطة محل للإشكال، و لذا التجأ لدفع هذا الإشكال المحقق الأردبيلي و صاحب المدارك إلى الالتزام بوجوب التعلم نفسيا؛ ليكون العقاب على تركه لا على مخالفة الواقع؛ إذ لا وجه لوجوب التعلم و الفحص في التكاليف المشروطة لا قبل حصول الشرط و لا بعده.

أما الأول: فواضح لعدم حكم واقعي حينئذ حتى يجب عليه التعلم لئلا يفوت عنه الواقع فيعاقب عليه.

و أما الثاني: فلأجل الغفلة عن تلك التكاليف في وقتها الناشئة عن ترك التعلم قبله.

8 - دفع هذا الإشكال بوجهين: أحدهما: هو الالتزام بالوجوب النفسي التهيئي

ص: 45

للتعلم، لتكون العقوبة على تركه لا على مخالفة الواقع.

و الآخر: كون الوجوب في الواجب المشروط و الموقت مطلقا بجعل الشرط وقتا كان أم غيره من قيود المادة لا الهيئة، فالوجوب فعلي غير مشروط بشيء، و يترشح منه الوجوب على مقدماته كالتعلم و هو الواجب المسمى بالواجب المطلق المعلق، فترك التعلم و الفحص حينئذ يصحح العقوبة على ما يقع بعد ذلك غفلة من مخالفة الواقع.

9 - و أما الإشكال على الواجب المعلق: بأن يقال: إن مقتضاه وجوب إيجاد مقدماتها الوجودية قبل حصول الشرط و قبل دخول الوقت، مع أن المسلم عندهم عدم وجوب تحصيل المقدمات قبل الشرط و الوقت، فيكون هذا دليلا على أن الشرط و الوقت من قيود الهيئة لا المادة، فلا وجوب قبل الشرط و الوقت حتى يترشح منه الوجوب على التعلم: فمدفوع؛ بأن جعل هذا الواجب في الواجب المطلق المعلق إنما يكون بمثابة لا يجب تحصيل مقدماته قبل الشرط و الوقت إلا خصوص التعلم، و دخل سائر المقدمات إنما بوجودها الاتفاقي لا بوجودها التحصيلي، و على هذا فيكون بين المقدمات تفاوت في ترشيح الوجوب من الواجب على بعضها كالفحص و التعلم، و عدم ترشحه على بعضها الآخر كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج، و الطهارة بالنسبة إلى الصلاة.

10 - و أما الحكم الوضعي: فالمدار في صحة العمل هو الموافقة للواقع و المخالفة له مطلقا، أي: سواء كان عبادة أو معاملة، غاية الأمر: يعتبر في صحة العبادة - مضافا إلى الموافقة للواقع - قصد القربة و لو رجاء، فالمعيار في الصحة و الفساد بالنسبة إلى المعاملة هو موافقتها للواقع و مخالفتها له، فصحت على الأول و بطلت على الثاني.

و أما العبادة: فالمعيار في صحتها أمران: موافقتها للواقع، و تمشّي قصد القربة، فصحت عند تحققها و بطلت عند انتفاء أحدهما.

11 - صحة الإتمام في موضع القصر و الجهر في موضع الإخفات و الإخفات في موضع الجهر إنما هو لدليل و هو الرواية الصحيحة.

لا يقال: إنه كيف يحكم بصحة العبادة في الموضعين مع عدم الأمر بها مع أن الصحة تتوقف على الأمر؟ و هذا أولا. و ثانيا: كيف يحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به حتى في صورة القدرة على إعادته في الوقت ؟

فإنه يقال: إنما حكم بالصحة لاشتمال الصلاة تماما على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء و إن كانت أقل من مصلحة القصر، فالحكم بالصحة إنما هو بلحاظ الملاك

ص: 46

و المصلحة لا بلحاظ الأمر حتى يقال بعدم الصحة لعدم الأمر.

و أما استحقاق العقوبة مع تمكن المكلف عن الإعادة: فلأنه لا فائدة في الإعادة؛ إذ لا مصلحة تقتضي الإعادة، مع أنه فوّت مقدار المصلحة على المولى لا يمكن تداركها، فاستحقاق العقاب إنما هو لأجل تفويت مقدار من المصلحة على المولى.

12 - إن قلت: على ما ذكرتم من أنه لا يتمكن من الإتيان بالصلاة قصرا بعد الإتيان بالصلاة تماما، و كذلك الأمر في الجهر موضع الإخفات و بالعكس، و لازم ذلك: أن يكون التمام موضع القصر و الجهر موضع الإخفات حراما لأنه سبب و مقدمة لترك الواجب، و مقدمة الحرام حرام و النهي في العبادة يقتضي الفساد، فالإتمام موضع القصر و الجهر موضع الإخفات فاسد، فكيف يقال بصحة الإتمام موضع القصر و الجهر موضع الإخفات ؟

و بعبارة أخرى: أن ترك المأمور به - و هو القصر - حرام و حيث إن إتمام الصلاة مقدمة لهذا الترك المحرم يكون حراما و منهيا عنه، و النهي في العبادة يقتضي الفساد. و عليه:

فالصلاة تماما لحرمتها فاسدة، و مع فسادها كيف حكم بصحتها و إجزائها عن المأمور به ؟

و حاصل الجواب: أن التمام ليس مقدمة لترك الواجب الفعلي و هو القصر؛ بل التمام و القصر ضدان و هما في مرتبة واحدة، فعدم كل منهما يكون أيضا في رتبة وجود الآخر، فلا يكون وجود أحدهما مقدمة لعدم الآخر لاعتبار التقدم في المقدمة، فلا يكون التمام سببا لفوت المأمور به حتى يتصف لأجل المقدّمية بالحرمة و الفساد.

13 - لا يقال: بناء على اشتمال الصلاة تماما في موضع القصر و الجهر في موضع الإخفات على مصلحة تامة يلزم الحكم بصحة الصلاة تماما في موضع القصر من العالم بوجوب القصر، و كذا الجهر في موضع الإخفات صح من العالم بوجوب الإخفات مع استحقاق العقوبة على مخالفة الواجب الواقعي، مع أنه مما لم يقل به أحد.

فإنه يقال: إن ذلك ثبوتا مما لا مانع عنه، غير أنه إثباتا لا دليل لنا على اشتمال المصلحة مطلقا حتى في صورة العلم و العمد؛ و ذلك لاحتمال الاختصاص بصورة الجهل فقط.

14 - قال كاشف الغطاء: بكون التمام موضع القصر و الجهر موضع الإخفات مأمورا به بنحو الترتب بتقريب: أن المأتي به - كالصلاة تماما - يتعلق به الأمر بشرط العزم على عصيان الأمر بالقصر بنحو الشرط المتأخر، فالأمر بصلاة القصر مطلق، و بضدها - و هو

ص: 47

ثم إنه ذكر (1) لأصل البراءة شرطان آخران: أحدهما: أن لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى.

=============

شرطان آخران للبراءة
اشارة

التمام - مشروط بالعزم على عصيان أمر القصر، فالعزم على عصيانه يوجب أمرين:

احدهما استحقاق العقوبة لتركه

أحدهما: استحقاق العقوبة لتركه المأمور به اختيارا بترك الفحص و التعلم، و الآخر: تعلق الأمر بصلاة التمام؛ لتحقق موضوعه، و لا مانع من تعلق الأمر بالضدين بنحو الترتب، و عليه: فيكون التمام مأمورا به.

و لكن الترتب باطل؛ لكونه مستلزما لطلب الضدين، فيلزم التكليف بالمحال و هو باطل.

15 - نظريات المصنف «قدس سره»:

1 - حسن الاحتياط مطلقا إلا أن يكون موجبا لاختلال النظام.

2 - اعتبار الفحص في البراءة العقلية.

3 - اعتبار الفحص في التخيير العقلي.

4 - اعتبار الفحص في البراءة الشرعية بالآيات و الروايات.

5 - استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع عند الرجوع إلى البراءة من دون فحص.

6 - المدار في صحة المعاملة عند ترك الفحص هو الموافقة للواقع.

7 - المعيار في صحة العبادة الموافقة للواقع مع قصد القربة.

8 - بطلان الترتب.(1) الذاكر هو: الفاضل التوني في محكي الوافية(1)، و نسب إلى الفاضل النراقي أيضا، و لا اختصاص للبراءة بهذين الشرطين، بل يشترك فيه جميع الأصول العدمية، فإذا وقعت نجاسة في أحد الإناءين، كان إجراء أصالة الطهارة في أحدهما معناه الحكم بنجاسة الإناء الآخر و وجوب الاجتناب عنه، فالأصل هنا أوجب ثبوت حكم شرعي لغير مجراه، و هذا معنى قوله: «من جهة أخرى»، و كذا لو وقعت نجاسته في ماء مشكوك الكرية فإن إجراء أصالة عدم الكرية موجب لإثبات القلة و النجاسة، فمثل هذين الأصلين لا يجريان لأنهما موجبان لإثبات حكم شرعي آخر.

و كيف كان؛ فشأن أصالة البراءة هو نفي الحكم لا إثباته، لأن المستفاد من أدلتها هو:

أنها مسوقة للامتنان، و كون إجرائها مستلزما لثبوت حكم آخر مناف لذلك، فلا يجري في مثل ما إذا كان لشخص مال و شك في وجود الدين؛ بحيث يصير مستطيعا بذاك المال

ص: 48


1- الوافية في أصول الفقه: 21.

ثانيهما (1): أن لا يكون موجبا للضرر على آخر.

و لا يخفى (2): أن أصالة البراءة عقلا و نقلا في الشبهة البدوية بعد الفحص لا على فرض عدم الدين، فإذا نفي الدين بالبراءة يلزم منه ثبوت الاستطاعة و وجوب الحج.

=============

فالمتحصل: أنه إذا كانت أصالة البراءة نافية لحكم عن موضوع و مثبتة له لموضوع آخر، كما إذا اقتضى استصحاب الطهارة أو قاعدتها عدم نجاسة أحد الإناءين اللذين علم إجمالا بنجاسة أحدهما، فإن شيئا منهما لا يجري فيه؛ لأن جريانه فيه يثبت وجوب الاجتناب عن الآخر.

و إن شئت فقل: إن أصالة البراءة عن وجوب الاجتناب عن أحد الإناءين في المثال المزبور تثبت وجوب الاجتناب عن الإناء الآخر، فلا تجري فيه؛ لأن شأن البراءة نفي الحكم فقط لا النفي من جهة و الإثبات من جهة أخرى، و لذا لم تعدّ من الأدلة؛ إذ لو كانت مثبتة لحكم شرعي لعدّت من الأدلة الشرعية.

و قيل في وجه عدم جريان أصل البراءة إذا كان مثبتا لحكم شرعي من جهة أخرى:

إنه أصل مثبت و الأصل المثبت ليس حجة.

ثانيهما ان لا يكون موجبا للضرر على آخر
اشارة

(1) هذا هو الشرط الثاني.

و حاصل الكلام في المقام: أنه يعتبر في جريان أصالة البراءة: أن لا يكون موجبا لضرر الغير من مسلم أو من بحكمه، كما إذا فتح إنسان قفص الطير الذي هو لإنسان آخر، أو حبس شاته حتى مات ولدها، أو أمسك رجلا فهربت دابته و ضلت، فإن إجراء أصل البراءة عن الضمان في أمثال هذه الموارد موجب لضرر صاحب الطير و الشاة و الدابة، فمثل هذا الأصل لا يجري؛ لما عرفت من: أن أصالة البراءة تكون للامتنان، و كون إجرائها مستلزما لورود ضرر على الغير يكون منافيا للامتنان.

(2) هذا شروع في ردّ الشرط الأول.

توضيح الرد: - على ما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 487» - أن موضوع الحكم الشرعي تارة: يكون أمرا ظاهريا أو أعم منه كعدم استحقاق العقوبة الذي هو مقتضى البراءة العقلية و الإباحة، و عدم الحكم الذي هو مقتضى البراءة الشرعية، كما إذا فرض أن جواز البيع مترتب على كل ما يكون حلالا و لو ظاهرا، فحينئذ إذا شك في حرمة شرب التتن و نحوه من الشبهات البدوية، و بعد الفحص جرت فيه البراءة الشرعية المثبتة لحليته ثبت جواز بيعه أيضا؛ إذ المفروض: كون موضوع جواز بيعه حليته و لو ظاهرا؛ إذ لو لم يترتب جواز بيعه على هذه الحلية لزم تخلف الحكم عن موضوعه و هو محال؛ للخلف و المناقضة.

ص: 49

محالة تكون جارية (1)، و عدم (2) استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقلية و الإباحة (3) أو رفع التكليف الثابت بالبراءة النقلية، لو كان (4) موضوعا لحكم شرعي أو ملازما و أخرى: يكون أمرا واقعيا، كما إذا ترتب على عدم الحكم واقعا لا ظاهرا و لا أعم من الواقع و الظاهر، كما إذا فرض أن موضوع وجوب الحج ملكية الزاد و الراحلة مع عدم الدين واقعا، فإن إجراء البراءة عن الدين لا يثبت وجوب الحج لعدم إحراز موضوعه و هو عدم الدين واقعا، فعدم ترتب الحكم الشرعي على البراءة الشرعية في مثل هذا المثال إنما هو لعدم تحقق موضوعه و هو عدم الدين واقعا، حيث إن أصل البراءة لا يحرز الواقع.

=============

فالمتحصل: أن موضوع الحكم الشرعي إن كان أعم من الواقع و الظاهر، فلا محالة يترتب عليه حكمه بمجرد جريان أصل البراءة فيه؛ كترتب سائر الأحكام عند تحقق موضوعاتها، و إن كان خصوص الواقع لا يترتب الحكم على البراءة، لعدم إحراز موضوعه، فلا محصل للشرط الأول الذي ذكره الفاضل التوني «رحمه الله»؛ إذ على تقدير: لا محيص عن ثبوت الحكم، لتحقق موضوعه بالبراءة، و على تقدير آخر: لا موضوع لذلك الحكم حتى يثبت بالبراءة.

فإن كان غرض الفاضل التوني «رحمه الله» عدم جريان البراءة بعد الفحص في الصورة الأولى - و هي كون موضوع الحكم الشرعي أعم من الواقع و الظاهر - فهو خلاف أدلتها، و إن كان غرضه جريانها بدون ترتب الحكم الشرعي عليها فهو خلاف دليل ذلك الحكم و طرح له بلا موجب.

(1) لإطلاق أدلة البراءة النقلية الذي لم يقيد إلا بالفحص المفروض تحققه، و لاحتمال عدم دخل شيء في البراءة العقلية إلا الفحص، فبعد حصوله لا وجه للتوقف في جريانها.

(2) مبتدأ خبره «لو كان»، و الجملة مستأنفة و «الثابت» صفة ل «عدم».

(3) عطف على «عدم»، و قوله: «و رفع» عطف على «الإبادة»، و «الثابت» صفة ل «الإباحة و رفع» و الأولى تثنيته، بأن يقال: «الثابتان» و التعبير بالإباحة تارة و بالرفع أخرى، لرعاية مدلول أخبار البراءة، لظهور حديث الحل في جعل الإباحة الظاهرية، و حديث الرفع في مجرد نفي الإلزام المجهول.

(4) يعني: لو كان عدم استحقاق العقوبة و الإباحة موضوعا لحكم شرعي كإباحة شرب التتن و لو ظاهرا التي هي موضوع جواز البيع كما تقدم آنفا، أو ملازما لحكم شرعي، كما إذا دخل وقت الفريضة و شك في اشتغال ذمته بواجب فوري كأداء دين من

ص: 50

له، فلا محيص عن ترتبه عليه بعد إحرازه، فإن (1) لم يكن مترتبا عليه، بل على نفي التكليف واقعا فهي و إن كانت جارية إلا إن ذاك الحكم لا يترتب، لعدم (2) ثبوت ما يترتب عليه بها، و هذا (3) ليس بالاشتراط.

و أما اعتبار (4) أن لا يكون موجبا للضرر، فكل مقام تعمه قاعدة نفي الضرر و إن نفقة زوجته أو غيرها، فإنه بجريان البراءة في الدين يثبت وجوب الصلاة فعلا الملازم لنفي الدين ظاهرا.

=============

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

قوله: «بعد إحرازه» أي: إحراز عدم استحقاق العقوبة و رفع التكليف بإجراء البراءة بعد الفحص، و ضمير «عليه» راجع على عدم استحقاق العقوبة و رفع الحكم، و ضمير «فهي» راجع على البراءة.

(1) هذا بيان للصورة الثانية، و هي: كون التكليف مترتبا على عدم الحكم واقعا، و أصالة البراءة تجري فيها، و لكن لا يترتب عليه الحكم؛ لعدم تحقق موضوعه و هو عدم الحكم واقعا، حيث إن الثابت بالبراءة عدم الحكم ظاهرا لا واقعا. و اسم «يكن» ضمير مستتر راجع على الحكم، و «بل على» عطف على «مترتبا» و قد تقدم مثال ترتب الحكم على عدم التكليف بوجوده الواقعي في مثال الحج المنوط بعدم الدين.

(2) تعليل لعدم ترتب ذلك الحكم على نفي التكليف بأصل البراءة. و حاصله: أن عدم ترتبه عليه كعدم ترتب وجوب الحج على نفي الدين بأصل البراءة إنما هو لعدم الموضوع أعني: عدم الدين واقعا؛ لا لأجل اشتراط جريان البراءة بعدم ترتب حكم شرعي عليه، فالمراد ب «ما» الموصول هو الموضوع، و الضمير المستتر في «يترتب» راجع على الحكم، و ضمير «عليه» راجع على الموصول. و ضمير «بها» راجع على البراءة.

(3) يعني: و عدم ترتب التكليف على البراءة حينئذ ليس لأجل اشتراط البراءة بعدم ترتب حكم شرعي عليه، بل إنما هو لأجل انتفاء موضوع ذلك الحكم؛ إذ موضوعه بالفرض عدم الحكم واقعا، و هو لا يثبت بالبراءة إذ الثابت بها نفي الحكم ظاهرا كما مر آنفا.

(4) هذا شروع في رد الشرط الثاني الذي ذكره الفاضل التوني «رحمه اللّه» و هو:

أن لا يكون جريان البراءة في مورد موجبا للضرر على آخر.

و محصل الرد - على ما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 490» - هو: أن المورد إن كان مما تجري فيه قاعدة الضرر فلا مجال لجريان البراءة فيه، لكون القاعدة دليلا اجتهاديا،

ص: 51

لم يكن مجال فيه (1) لأصالة البراءة، كما هو (2) حالها مع سائر القواعد الثابتة بالأدلة الاجتهادية؛ إلا إنه (3) حقيقة لا يبقى لها مورد،...

=============

و البراءة أصلا عمليا، و قد ثبت في محله عدم المجال للأصل مع الدليل، لوروده أو حكومته على الأصل كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

و إن كان مما لا تجري فيه قاعدة الضرر، فلا مانع من جريان البراءة فيه و مجرد احتمال صغرويته لقاعدة الضرر لا يمنع عن جريان البراءة فيه مع فرض الفحص و عدم الظفر بدليل على حكم الضرر.

و بالجملة: فمع الظفر بالدليل الاجتهادي مطلقا من دليل الضرر و غيره من الأدلة الاجتهادية لا مجال للبراءة؛ لعدم المقتضي لها، حيث إن الدليل رافع لموضوعها، فعدم جريانها مع الدليل إنما هو لعدم المقتضى، لا لعدم شرطه، ضرورة: أن الشرط متأخر رتبة عن المقتضى، فلا يطلق الشرط إلا مع إحراز المقتضي، و مع عدم المقتضي لا يطلق الشرط كالمقام.

فإن كان مراد الفاضل التوني من الاشتراط: أن جريان البراءة مشروط بعدم ترتب الضرر عليها، ففيه أولا: أن إطلاق الشرط عليه لا يخلو من المسامحة؛ لما مر آنفا من: أن عدم الجريان حينئذ مستند إلى عدم المقتضى، لا إلى عدم الشرط.

و ثانيا: أنه لا اختصاص للضرر؛ بل جريان البراءة منوط بعدم الدليل الاجتهادي مطلقا من دليل الضرر و غيره، كما أن عدم الجريان لا يختص بالبراءة، بل كل أصل عملي يتوقف جريانه على عدم دليل اجتهادي في مورده.

(1) أي: في المقام الذي تجري فيه قاعدة الضرر.

(2) يعني: كما أن عدم المجال لجريان البراءة مع قاعدة نفي الضرر حال البراءة مع سائر القواعد الثابتة بالأدلة الاجتهادية، و ضمير «حالها» راجع على أصالة البراءة.

(3) الضمير للشأن، و حاصله: أن أصالة البراءة و إن لم يكن لها مجال في موارد الضرر، إلا إن عدم جريانها فيها ليس لأجل شرطية عدم قاعدة الضرر لجريان البراءة؛ بل لعدم المقتضي لجريانها معها؛ لما مر من أن دليل قاعدة الضرر كسائر الأدلة الاجتهادية يرفع الشك الذي هو موضوع أصل البراءة و غيره من الأصول العملية، فالدليل الاجتهادي رافع لموضوع الأصل و لو ظاهرا كما هو مقتضى الأدلة غير العلمية، فمع الدليل لا مقتضي لأصالة البراءة؛ لا أن عدم الدليل شرط لجريان البراءة.

ص: 52

بداهة (1): أن الدليل الاجتهادي يكون بيانا و موجبا للعلم بالتكليف و لو ظاهرا (2)، فإن كان المراد من الاشتراط ذلك (3) فلا بد من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهادي، لا خصوص قاعدة الضرر (4) فتدبر، و الحمد لله على كل حال.

=============

فقوله: «إلا إنه حقيقة» إشارة إلى عدم المقتضي للبراءة، و ضمير «لها» راجع على أصالة البراءة.

(1) تعليل لقوله: «لا يبقى لها مورد»، و توضيحه ما تقدم بقولنا: «بل لعدم المقتضي لجريانها».

(2) يعني: فلا يكون موردا للبراءة العقلية و هي قبح العقاب بلا بيان و لا البراءة النقلية؛ لتحقق البيان بالدليل الاجتهادي، و معه ينتفي موضوع كلتا البراءتين، و لا يبقى مقتض لجريانهما.

(3) أي: عدم بقاء مورد لأصل البراءة مع قاعدة نفي الضرر، فإن كان هذا مراد الفاضل «رحمه الله» من الاشتراط، فلا بد من اشتراط عدم مطلق دليل اجتهادي على خلاف أصل البراءة، لا خصوص قاعدة الضرر؛ إذ الوجه في عدم جريانها مع قاعدة الضرر هو: كونها رافعة لموضوع البراءة، و هذا الوجه جار في جميع الأدلة الاجتهادية، و قد عرفت سابقا: أن إطلاق الشرط على الدليل الاجتهادي الرافع لموضوع البراءة مبني على المسامحة. و ضمير «خلافها» راجع على أصالة البراءة.

(4) لما مر من عدم الفرق بين قاعدة الضرر و بين سائر القواعد الاجتهادية في رفع الشك الذي هو موضوع البراءة.

قوله: «فتدبر» لعله إشارة إلى دقة المطلب.

هذا تمام الكلام في شرائط الأصول العمليّة. فيقع الكلام في تفصيل قاعدة نفي الضرر.

ص: 53

ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر و الضرار (1) على نحو

=============

قاعدة لا ضرر و لا ضرار

قاعدة لا ضرر و لا ضرار(1) و قد جعل المصنف «قدس سره» الكلام فيها في جهات:

الأولى: في بيان مدركها.

الثانية: في شرح مفادها بحسب المادة تارة و الهيئة التركبية أخرى.

الثالثة: في بيان نسبتها مع الأدلة المتكفلة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأولية المعارضة لها بحسب الظاهر؛ كأدلة وجوب الصلاة و الصيام و الحج و نحوها، و كذلك نسبتها مع الأدلة الثانوية؛ كأدلة نفي العسر و الحرج و الإكراه، و نحوها من العناوين الثانوية العارضة للعناوين الأولية كالصلاة و غيرها من العبادات و المعاملات.

و أما الكلام في الجهة الأولى: فقد استدل لإثبات هذه القاعدة بالأدلة الأربعة.

أما الإجماع: فواضح لا يحتاج إلى البيان.

و أما العقل: فإنه قد يحكم مستقلا بأن الضرر و الضرار مناف للعدل و اللطف فلا يجوز.

و أما الكتاب: فقد استدل له بقوله تعالى: وَ لاٰ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرٰاراً (1).

و أما السنة: فقد استدل عليها بأخبار كثيرة، و قد اكتفى المصنف «قدس سره» بذكر ما هو أشهرها قصة و أصحها سندا و أكثرها طرقا و أوضحها دلالة، و هي الرواية المتضمنة لقصة سمرة بن جندب مع الأنصاري.

و تفصيل القصة موجود في المتن فلا يحتاج إلى مزيد من البيان.

و قد ادعى تواترها و لو إجمالا. فلا إشكال في مدرك قاعدة لا ضرر.

و أما الكلام في الجهة الثانية: فقد أشار المصنف إليها بقوله: «و أما دلالتها...» الخ.

و توضيحها يتوقف على شرح معاني مفردات الألفاظ الواقعة في متن الحديث من كلمات «لا»، و «ضرر»، و «ضرار».

و أما «ضرر»: فالمحكي عن جملة من كتب اللغويين كالصحاح(2) و النهاية(3) الأثيرية التي هي عند العامة كمجمع البحرين عندنا - و القاموس هو: «أنه ما يقابل النفع»، كما أن المحكي عن الصحاح و المصباح: «أن الضرر اسم مصدر و المصدر الضرّ»، فالضر الذي

ص: 54


1- البقرة: 231.
2- الصحاح 719:2 - ضرر.
3- النهاية في غريب الحديث 81:3 - ضرر.

هو فعل الضار نتيجته الضرر، و هو النقص في المال أو النفس أو العرض أو الطرف و هو الأعضاء كاليدين و الرجلين و نحوهما من الأطراف.

و لكنه لا يطلق على مطلق النقص؛ بل خصوص النقص من الشيء الذي من شأنه عدم ذلك النقص، مثلا: لا يطلق الأعمى على مطلق فاقد البصر، بل على خصوص فاقده الذي من شأنه أن يكون بصيرا كالحيوان، فلا يطلق على الجدار و نحوه.

و عليه: فالتقابل بين النفع و الضرر تقابل العدم و الملكة، فوجود البصر للإنسان مثلا نفع، و عدمه ضرر، و كذا وجود اليدين له نفع و عدم إحداهما أو كليتهما ضرر؛ بل وجود كل ما يقتضيه طبيعة الشيء و خلقته الأصلية نفع له و عدمه ضرر.

هذا ما ينسب إلى اللغويين؛ لكن العرف العام مخالف له، حيث إن الضرر عندهم عدم التمام الذي هو مقتضى طبيعة الشيء لا أنه مقابل للنفع الذي هو شيء زائد على ما يقتضيه الخلقة الأصلية. هذا تمام الكلام في معنى كلمة الضرر.

و أما الضرار: فقيل: إنه استعمل في معان:

أحدها: ما أشار إليه المصنف و استظهره في المقام من أن الضرار بمعنى الضرر، فهو و إن كان مصدرا من مصادر باب المفاعلة؛ لكنه ليس هنا فعل الاثنين، لوجوه: منها:

إطلاق لفظ «المضار» على سمرة في كلام النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» في رواية الحذاء: «ما أراك يا سمرة إلا مضارا»(1)، و في مرسلة زرارة: «إنك رجل مضار»(2) مع وضوح أن الضرر في قضية سمرة لم يصدر إلا من سمرة.

و منها: ما عن النهاية الأثيرية من أنه «قيل: هما أي الضرر و الضرار - بمعنى واحد و التكرار للتأكيد»(3).

و منها: ما عن المصباح من: «أن ضاره يضاره مضارة و ضرارا: يعني ضره».

و منها: غير ذلك مما يشهد بوحدة الضرر و الضرار معنى، و أنه فعل الواحد مع كونه مصدر باب المفاعلة.

ثانيها: أن الضرار فعل الاثنين، فعن النهاية الأثيرية أيضا: «و الضرار فعل الاثنين»(4).

ثالثها: أن الضرار الجزاء، فعن النهاية أيضا: «و الضرر ابتداء الفعل، و الضرار الجزاء(5)

ص: 55


1- الفقيه 103:3 /ذيل ح 3423، الوسائل 32279/425:25.
2- الكافي 294:5 /ذيل ح 8، الوسائل 32282/429:25. (3و4و5) النهاية في غريب الحديث 81:3 - ضرر.

عليه، و لعله يرجع إلى المعنى الثاني، و إن كان تعددهما غير بعيد».

رابعها: أن تضر صاحبك من دون أن تنفع به في قبال الانتفاع به، كحفر بالوعة في قرب دار الجار مع تضرر الجار بها و انتفاع الحافر بها.

و حاصل الكلام: أن ما استظهره المصنف هو المعنى الأول و هو: أن الضرار بمعنى الضرر جيء به للتأكيد. هذا تمام الكلام في كلمة الضرر و الضرار.

و أما كلمة «لا» النافية: فحاصل ما أفاده المصنف «قدس سره» فيها هو: أن الأصل في مثل تركيب «لا ضرر» و مما دخل فيه «لا» النفي على اسم النكرة ك «لا رجل في الدار» هو نفي حقيقة مدخولها، فمعنى «لا رجل» نفي طبيعة الرجل في الدار حقيقة أو ادعاء بلحاظ نفي آثار تلك الطبيعة؛ إذ انتفاء آثارها المطلوبة منها يصحح نفي نفس الطبيعة تنزيلا لوجودها الذي لا يترتب عليه الأثر المرغوب منه منزلة عدمه.

إذا عرفت شرح معاني المفردات الواقعة في متن الحديث فاعلم: أن ما اختاره المصنف «قدس سره» من إرادة نفي حقيقة الضرر ادعاء تنزيلا لوجود الضرر الذي لا يترتب عليه الأثر منزلة عدمه، فالوضوء الضرري منفي شرعا بلحاظ عدم ترتب أثره و هو الوجوب عليه، فكأنه قيل: «وجوب الوضوء الضرري معدوم»؛ لأن مرجع نفي الضرر تشريعا مع وجوده تكوينا إلى نفي حكمه شرعا، و هذا من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

فحاصل ما اختاره المصنف «قدس سره» من كون نفي الضرر من نفي الموضوع و الحقيقة ادعاء و إرادة: نفي الحكم منه.

توضيح ذلك: أنه لما تعذرت إرادة المعنى الحقيقي - و هو نفي الضرر حقيقة؛ لكونه كذبا، لوجود الضرر في الخارج - دار أمره بين جملة من المعاني:

منها: إرادة الحكم من الضرر بعلاقة السببية و المسببية؛ بأن يكون الضرر مستعملا في الحكم بتلك العلاقة، حيث إن الحكم سبب للضرر و إنه لم يجعل الحكم الضرري في الإسلام مطلقا أي: سواء كان واجبا أو مستحبا تكليفيا أو وضعيا، فإذا وجب الوضوء مع كون استعمال الماء مضرا أو لزم البيع الغبني، فإن الضرر في الأول ناش عن حكم الشارع بوجوب الوضوء، و في الثاني عن حكمه بلزوم البيع على المغبون، فهذان الوجوب و اللزوم منفيان بقاعدة الضرر، فمرجع هذا الوجه إلى استعمال لفظ الضرر مجازا في سببه و هو الحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي.

و بهذا التصرف المجازي يصير النفي حقيقيا لعدم جعل طبيعة الحكم الذي ينشأ منه

ص: 56

الضرر حقيقة، ففي وعاء التشريع لا ضرر حقيقة و يسمى هذا التصرف بالمجاز في الكلمة، و يعبر عنه: بأن الحكم الضرري لا جعل له، فالضرر عنوان لنفس الحكم و محمول عليه بالحمل الشائع؛ كالحرج الذي هو عنوان الحكم و منفي في الشرع، كما هو مقتضى قوله تعالى: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، و هذا ما اختاره الشيخ الأنصاري «قدس سره»، حيث قال: «إن المعنى بعد تعذر إرادة الحقيقة عدم تشريع الضرر، بمعنى: أن الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد تكليفيا أو وضعيا، فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينتفي». «دروس في الرسائل، ج 4، ص 227».

و منها: إرادة نفي نوع من طبيعة الضرر حقيقة بنحو المجاز في الحذف بأن يقال: إن الضرر غير المتدارك لا جعل له شرعا، فالمنفي هو الضرر لا مطلقا؛ بل خصوص الضرر لا يجبر و لا يتدارك كإتلاف مال الغير بدون الضمان، أو صحة البيع الغبني بدون جبران ضرر المغبون بالخيار، فكل ضرر متدارك بجعل الشارع للضمان أو الخيار أو غيرهما، و هذا مختار الفاضل التوني.

و منها: جعل كلمة «لا» ناهية؛ بأن يراد من «لا ضرر»: الزجر عنه و طلب تركه، نحو قوله تعالى: فَلاٰ رَفَثَ وَ لاٰ فُسُوقَ وَ لاٰ جِدٰالَ فِي اَلْحَجِّ (1).

إن قلت: «لا» الناهية تختص بالفعل المضارع، فلا يصح أن يقال بأنها ناهية في المقام مع كونها داخلة على الاسم.

قلت: لا يكون المراد أنها ناهية باصطلاح أهل الأدب؛ بل المراد أنها تكون مفيدة للزجر و النهي؛ لأن الجملة المشتملة عليها مستعملة في نفي الضرر إخبارا أو إنشاء بداعي الزجر عنه.

و لكن هذا الحمل بعيد، و يكون خلاف الظاهر منها، كما أن حملها على نفي الصفة و الضرر الغير المتدارك أيضا بعيد؛ بل ركيك، فيدور الأمر بين المجاز في الكلمة، و بين الحمل على نفي الماهية ادعاء، و الظاهر أنهما يرجعان إلى معنى واحد، و هو مختار المصنف «قدس سره»: فالنتيجة هي: أن دلالة الرواية على قاعدة ضرر واضحة.

و أما الجهة الثالثة: و هي النسبة بين قاعدة لا ضرر و بين الأدلة المتكفلة لأحكام الأشياء بعناوينها الأولية: فيكون بينهما عموم من وجه، لأن الأدلة المتكفلة لأحكام الأشياء

ص: 57


1- البقرة: 197.

الاختصار، و توضيح مدركها و شرح مفادها، و إيضاح نسبتها مع الأدلة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأولية (1) أو الثانوية (2) و إن كانت أجنبية (3) عن مقاصد الرسالة، إجابة لالتماس بعض الأحبة، فأقول و به أستعين: إنه قد استدل عليها (4) بأخبار كثيرة منها: موثقة زرارة عن أبي جعفر «عليه السلام»: «أن سمرة بن جندب (5) كان له عذق (6) في حائط لرجل من الأنصار، و كان منزل الأنصاري بعناوينها الأولية تدل على ثبوتها، سواء كانت ضررية أو لا، و يدل لا ضرر على النفي أعم من أن يكون ذلك الحكم الأول وجوب الوضوء أو الغسل أو الصلاة أو غيرها.

=============

و يظهر من غير واحد بأنه يكون التعارض بين لا ضرر و بين أدلة الأحكام الأولية؛ و لكن يقدم لا ضرر عليها للأقوائية، إلا إن أقوائيته في جميع الموارد يكون محل التأمل، و قال الشيخ الأنصاري «قدس سره»: يقدم لا ضرر عليها لحكومته عليها و كونه شارحا لها.

و قال صاحب الكفاية «قدس سره»: يقدم لا ضرر عليها للتوفيق العرفي بينه و بينها؛ و إن لم يكن له نظر الحاكمية و الشارحية و الأظهرية، و يشترك ذلك مع قول الشيخ الأنصاري من حيث النتيجة، و قد يسمى التوفيق العرفي بالحكومة العرفية، و ما أفاده الشيخ من الحكومة بالحكومة الاصطلاحية. هذا تمام الكلام في الجهات الثلاث.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) كأدلة وجوب الصلاة و الصيام و الحج و غيرها من العناوين الأولية.

(2) كأدلة نفي الحرج و العسر و الإكراه، و نحوها من العناوين الثانوية العارضة للعناوين الأولية كالصلاة و غيرها من العبادات و المعاملات.

(3) لكون قاعدة الضرر من القواعد الفقهية، فمحل بحثها هو الفقه.

احاديث نفى الضرر

(4) أي: على قاعدة الضرر. هذه إحدى جهات البحث، و محصلها: أن مدرك قاعدة الضرر أخبار كثيرة و منها: موثقة زرارة و توصيفها بالموثقة لوقوع ابن بكير الفطحي الموثق في سندها، و لا يخفى: اختلاف ما في المتن مع ما نقله الوسائل عن المشايخ الثلاثة، لكنه غير قادح في الاستدلال لأنه في حكاية القصة لا في الذيل الذي هو مورد الاستدلال.

(5) بفتح السين المهملة و ضم الميم و فتح الراء المهملة و هو من الأشقياء. فراجع ترجمته.

(6) بفتح العين المهملة و الذال المعجمة: النخلة بحملها و بالكسر: عنقود التمر.

ص: 58

بباب البستان، و كان سمرة يمر إلى نخلته و لا يستأذن، فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فجاء الأنصاري إلى النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» فشكا إليه، فأخبر بالخبر، فأرسل رسول الله و أخبره بقول الأنصاري و ما شكاه، فقال: إذا أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فلما أبى فساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيعه فقال: لك بها عذق في الجنة، فأبى أن يقبل، فقال رسول الله «صلى الله عليه و آله و سلم» للأنصاري: اذهب فاقلعها و ارم بها إليه. فإنه لا ضرر و لا ضرار»(1).

و في رواية الحذاء (2) عن أبي جعفر «عليه السلام» مثل ذلك (3)، إلا إنه فيها بعد الإباء: «ما أراك يا سمرة إلا مضارا، اذهب يا فلان فاقلعها و ارم بها وجهه»(4)، إلى غير ذلك من الروايات الواردة في قصة سمرة (3) و غيرها، و هي كثيرة و قد ادعى

=============

(1) هو: أبو عبيدة زياد بن عيسى، و روايته خالية عن جملة «لا ضرر و لا ضرار».

(2) مع اختلاف يسير لا يقدح في دلالة الخبر على المطلوب.

(3) و هي: رواية ابن مسكان عن زرارة، رواها الوسائل(1) عن الكافي(2)، و فيها قوله «صلى الله عليه و آله و سلم» لسمرة: «إنك رجل مضار، و لا ضرر و لا ضرار على مؤمن قال: ثم أمر بها فقلعت و رمى بها إليه، فقال له رسول الله «صلى الله عليه و آله و سلم»:

انطلق فاغرسها حيث شئت».

قوله: «مع اختلافها لفظا و موردا» إشارة إلى إشكال على دعوى التواتر.

و حاصل الإشكال: أن التواتر بكلا قسميه من اللفظي و المعنوي مفقود هنا؛ إذ التواتر اللفظي - و هو حصول التواتر على لفظ أو ألفاظ مخصوصة كحديث الغدير - غير حاصل هنا قطعا؛ لوضوح: عدم تحقق التواتر على كلمة «لا ضرر و لا ضرار». و كذا التواتر المعنوي، و هو حصول النقل المتواتر على قضية خاصة بألفاظ مختلفة، كتواتر شجاعة المولى أمير المؤمنين «عليه السلام» بنقل ما صدر منه «عليه السلام» في الحرب مع عمرو ابن عبد ود من قتله مع كونه «لعنه الله» من أشجع شجعان العرب، فإن التواتر المعنوي أيضا مفقود في المقام، لعدم مورد واحد نقل متواترا كالشجاعة، لتعدد الموارد

ص: 59


1- الكافي 2/292:5، تهذيب الأحكام 651/141:7، الوسائل 32281/129:25.
2- الوسائل 32282/429:25.
3- الكافي 8/294:5.
4- الفقيه 3423/103:3، و فيه «فاقطعها». الوسائل 32279/427:25.

تواترها، مع اختلافها لفظا و موردا فليكن المراد به تواترها إجمالا، بمعنى القطع بصدور بعضها.

و الإنصاف أنه ليس في دعوى التواتر كذلك (1) جزاف، و هذا (2) مع استناد المشهور إليها موجب لكمال الوثوق بها و انجبار (3) ضعفها، مع أن بعضها (4) موثقة، هنا، فإن مورد بعض نصوص الباب قصة سمرة، و مورد بعضها الآخر الشفعة، و بعضها الآخر منع فضل الماء، و بعضها شيء آخر.

=============

و بالجملة: فالتواتر اللفظي و المعنوي يشتركان في وحدة المورد، و يفترقان في اعتبار وحدة اللفظ أو الألفاظ في الأول و الاختلاف في الثاني.

فملخص الإشكال على التواتر: أن التواتر الذي ادعاه الفخر «قدس سره» لا لفظي و لا معنوي، و لذا التجأ المصنف إلى توجيه التواتر بالإجمالي. و ضميرا «تواترها، اختلافها» راجعان على الروايات. و قد أشار إلى دفع الإشكال المزبور بقوله: «فليكن المراد به تواترها إجمالا».

و حاصل الدفع: أنه يمكن أن يراد بالتواتر هنا التواتر الإجمالي، و هو القطع بصدور بعض الروايات الواردة في قضايا متعددة غير مرتبطة، فيقال فيما نحن فيه:

يعلم إجمالا بصدور رواية من روايات قاعدة الضرر.

(1) أي: إجمالا بمعنى: القطع بصدور بعضها.

(2) أي: التواتر الإجمالي مع عمل المشهور بتلك الروايات، و استنادهم إليها في الفتوى موجب لكمال الوثوق و الاطمئنان بصدورها و سبب لانجبار ضعف سندها.

(3) عطف على «كمال»، و انجبار ضعف إسنادها - بإسناد المشهور إلى الروايات الضعيفة - مبني على ما هو المشهور من جابرية عملهم لضعف الرواية، و حيث إن إسناد كثير من الروايات المحتج بها على المقام ضعيفة على المشهور احتج لاعتبارها باستناد المشهور إليها. و ضمائر «إليها، بها، ضعفها» راجعة على الروايات.

(4) و هو: موثقة زرارة المتقدمة، فإن صاحب الوسائل رواها عن الكافي عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر «عليه السلام». و هذا السند معتبر؛ إذ في العدة علي بن إبراهيم القمي صاحب التفسير، و هو ثقة(1). و أحمد بن محمد البرقي وثقه الشيخ(2) و النجاشي(3)

ص: 60


1- رجال النجاشي: 680/260، خلاصة الأقوال: 45/186.
2- الفهرست: 65/62.
3- رجال النجاشي: 182/76.

فلا مجال للإشكال فيها من جهة سندها كما لا يخفى.

و أما دلالتها (1): فالظاهر أن الضرر هو ما يقابل النفع من النقص في النفس أو الطرف أو العرض أو المال تقابل العدم و الملكة، كما أن الأظهر أن يكون «الضرار» بمعنى: الضرر جيء به تأكيدا كما يشهد به (2) إطلاق «المضار» على سمرة، و غيرهما(1)، و اعتماده على المراسيل و روايته عن الضعفاء ليس طعنا فيه؛ إذ نقل الثقة عن الضعيف لا يقدح في وثاقته.

=============

و أما محمد البرقي: فقد وثقه الشيخ(2) و العلامة(1)، و ما عن النجاشي(2) من «أنه كان ضعيفا في الحديث» غير ظاهر في الجرح حتى يلزم الاعتماد عليه؛ لكون النجاشي أسطوانة أهل هذا الفن، إذ من المحتمل قويا أن مراده روايته عن الضعفاء، و هو غير قادح في وثاقته؛ لأن النقل عن غير الثقة مع عدم علمه به لا يقدح في وثاقته، ضرورة: أن مناط اعتبار قوله و هو تحرزه عن الكذب لا يزول بالنقل عن غير الثقة مع الإسناد إليه و عدم العمل بقوله. و مع فرض الشك في قادحية مثل هذا لا نرفع اليد عن توثيق مثل الشيخ «قدس سره».

و أما ابن بكير: فهو و إن كان فطحيا؛ لكنه من أصحاب الإجماع(3).

و أما زرارة: فجلالته في غاية الظهور بحيث لا تحتاج إلى البيان(4).

فالرواية معتبرة.

و ضمير «بعضها» راجع على الروايات.

و ضميرا «فيها، سندها» راجعان على الروايات.

المراد من نفى الضرر

المراد من نفى الضرر(5) أي: و هذا إشارة إلى الجهة الثانية من الجهات الثلاث المتعلقة بقاعدة لا ضرر.

و قد تقدم توضيحها فلا حاجة إلى تكرارها، و ضمير «دلالتها» راجع على قاعدة لا ضرر.(6) أي: يشهد بكون الضرار بمعنى الضرر: إطلاق المضار الذي هو من باب المفاعلة على سمرة مع تفرده في الإضرار، و عدم مشاركة أحد معه في الضرر في تلك القضية،

ص: 61


1- خلاصة الأقوال: 15/237.
2- رجال النجاشي: 899/335.
3- اختيار معرفة الرجال 639/635/2، خلاصة الأقوال: 24/195.
4- رجال النجاشي: 463/175، اختيار معرفة الرجال 120/346:1، رجال الطوسي: 5010/337.
5- خلاصة الأقوال: 7/63.
6- رجال الطوسي: 5391/363.

و حكي (1) عن النهاية لا فعل الاثنين (2) و إن كان هو الأصل (3) في باب المفاعلة.

و لا الجزاء على الضرر (4)، لعدم تعاهده من باب المفاعلة.

و بالجملة: لم يثبت له (5) معنى آخر غير الضرر.

كما أن الظاهر (6) أن يكون «لا» لنفي الحقيقة، كما هو الأصل (7) في هذا و هذا أحد الشاهدين اللذين أقامهما المصنف على وحدة الضرر و الضرار معنى.

=============

(1) عطف على «يشهد»، يعني كما يشهد و كما حكي عن النهاية و يمكن عطفه على «إطلاق» بعد تأويله بالمصدر، يعني: كما يشهد به إطلاق «المضار» على سمرة، و يشهد به حكاية اتحادهما معنى عن النهاية.

و كيف كان؛ فهذا هو الشاهد الثاني على الوحدة، قال في محكي النهاية.

«و قيل: هما بمعنى، و التكرار للتأكيد»؛ إلا إن كلمة «قيل» تشعر بالتمريض، فلا يبقى إلا الشاهد الأول و هو إطلاق المضار على سمرة.

(2) يعني: لا أن يكون الضرار فعل الاثنين، و هو المعنى الثاني من المعاني المتقدمة للضرار. قال في محكي النهاية الأثيرية: «و الضرار فعل الاثنين»، و الشاهدان المذكوران ينفيان كون «الضرار» هنا فعل الاثنين؛ لكن شهادة الشاهد الثاني مخدوشة بأن النهاية لم تشهد بوحدتهما، لما عرفت من: أن الحكاية بلفظ «و قيل» ليست ارتضاء للوحدة و قولا بها حتى تكون شهادة مثبتة للوحدة و نافية لكون «الضرار» فعل الاثنين، بل الأمر بالعكس، حيث إن قوله: «و الضرار فعل الاثنين» ظاهر في جزمه بأن التعدد أحد معانيه اللغوية.

و كذا الحال في الشاهد الأول، فإن شهادته على الوحدة أيضا محل إشكال مذكور في بعض التعاليق، فدعوى: أظهرية الوحدة غير ثابتة.

(3) كما هو المشهور بين أهل العربية؛ لكنه غير ثابت إن أريد بالأصل وضع باب المفاعلة للمشاركة بين اثنين في صدور الفعل.

و إن أريد به الغلبة الاستعمالية، ففيه - مع عدم ثبوتها أيضا - أنها لا تصلح لحمل الموارد المشكوكة عليها؛ لتوقيفية اللغات و عدم حجية مجرد الغلبة و طريقيتها لإثباتها.

(4) هذا إشارة إلى المعنى الثالث للضرار، و قد تقدم ذكره.

(5) أي: لم يثبت للضرار معنى آخر غير الضرر، فالمراد بهما واحد.

(6) هذا إشارة إلى معنى كلمة «لا» النفي، و قد عرفت توضيحه بقولنا: «فحاصل ما أفاده المصنف».

(7) الأولى تأخيره عن قوله: «حقيقة» بأن يقال: «لنفي الحقيقة حقيقة كما هو

ص: 62

التركيب حقيقة (1) أو ادعاء (2)؛ كناية عن نفي الآثار، كما هو (3) الظاهر من مثل:

«لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»(1)، و «يا أشباه الرجال و لا رجال»(2)، فإن (4) قضية البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادعاء (5)؛ لا نفي (6) الحكم أو الأصل في هذا التركيب أو ادعاء»؛ إذ المراد بالأصل هو: الوضع، فيلزم انقسام الوضع إلى النفي الحقيقي و الادعائي، نظير انقسام الموضوع له إلى المعنى الحقيقي و المجازي، و هذا الانقسام كما ترى.

=============

نعم؛ إن كان المراد بالأصل الغلبة فلا بأس بالعبارة المذكورة؛ لأن المعنى حينئذ هو:

أن «لا» النافية لنفي الحقيقة كما هو الغالب حقيقة أو ادعاء، فانقسام الغلبة إلى النفي الحقيقي و الادعائي صحيح دون المعنى الحقيقي.

(1) قيد لنفي الحقيقة، و ضمير «هو» راجع على نفي الحقيقة، و المراد بقوله: «في هذا التركيب» هو دخول «لا» النافية على اسم النكرة، و حاصله: أن الأصل في «لا» النافية الداخلة على اسم الجنس هو نفي الطبيعة حقيقة أو مبالغة و ادعاء، تنبيها على أن الموجود الفاقد للأثر المطلوب منه كالمعدوم.

(2) عطف على «حقيقة»، و قوله: «كناية» قيد ل «ادعاء» و منشأ له.

(3) أي: نفي الحقيقة ادعاء ظاهر الأمثلة المذكورة في المتن مثل: «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد...» (1) الخ.

(4) هذا تمهيد لبيان ما اختاره من كون نفي الضرر من نفي الموضوع و الحقيقة ادعاء و إرادة نفي الحكم منه، و قد تقدم توضيح ذلك فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار.

(5) غرضه: أن نفي الحقيقة ادعاء لما كان أوقع في النفس و أوفق بالبلاغة تعين إرادته بعد تعذّر الحمل على المعنى الحقيقي، فيكون هذا المعنى بقرينة البلاغة أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي.

(6) هذا تعريض بالشيخ الأنصاري «قدس سره» حيث قال: بأن المراد في نفي الضرر: هو نفي الحكم باستعمال الضرر في الحكم بعلاقة السببية، و أن هذا المعنى أقرب المجازات عنده بعد تعذر إرادة المعنى الحقيقي.

و المصنف أورد عليه: بأن البلاغة في الكلام تقتضي إرادة نفي الحقيقة، لا نفي الحكم ابتداء، و إن كان مرجع نفي الحقيقة في وعاء التشريع إلى نفي الحكم أيضا؛ لكن البلاغة

ص: 63


1- دعائم الإسلام 148:1، و في تهذيب الأحكام 244/92/1: «لا صلاة... في مسجده».
2- نهج البلاغة 569:1، معاني الأخبار: 310.

الصفة (1) كما لا يخفى.

و نفي (2) الحقيقة ادعاء بلحاظ الحكم (3) أو الصفة غير نفي أحدهما ابتداء مجازا في التقدير أو في الكلمة (4) مما لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة.

و قد انقدح بذلك (5):...

=============

قرينة على إرادة نفي الحقيقة ادعاء.

(1) عطف على «الحكم» و هو ثالث المعاني المذكورة، أعني: الضرر غير المتدارك، بمعنى: أن كل ضرر غير متدارك منفي شرعا فكل ضرر متدارك بجعل الشارع للضمان أو الخيار أو غيرهما.

(2) إشارة إلى توهم و دفع.

و أما التوهم فهو: أن القائل بنفي الحكم كالشيخ القائل بالمجاز في الكلمة، أو القائل بالمجاز في التقدير كتقدير «غير المتدارك» قائلان أيضا بنفي الطبيعة أي: طبيعة الحكم الضرري، أو طبيعة الضرر غير المتدارك، كالمصنف القائل بنفي الطبيعة، و المفروض: أن المنفي لبا في الكل هو الحكم؛ لأن النفي تشريعي، فلا بد من كون المنفي مما تناله يد الوضع و الرفع التشريعيين، فما الفرق بين هذه المعاني الثلاثة ؟

و أما الدفع فهو: و إن ظهر من قوله: «فإن قضية البلاغة...» الخ لكنه أعاده توضيحا، و حاصله: أن نفي الحكم بلسان نفي الحقيقة و الموضوع أبلغ في الكلام من نفي نفس الحكم ابتداء، فقوله: «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد» غير قوله: «لا صلاة كاملة في غير المسجد»، ففي الأول: تكون الطبيعة منفية، و في الثاني: أثرها و هو الحكم.

و الأول أوفق بالبلاغة.

(3) أي: نفي الحكم حقيقة كما هو مختار المصنف مغاير لنفي الحكم ابتداء كما هو مختار الشيخ، أو نفي الصفة كذلك كما عن الفاضل التوني و غيره.

(4) الأول: كتقدير «غير المتدارك»، و الثاني: كجعل كلمة «ضرر» بمعنى: الحكم بعلاقة السببية كما مرت الإشارة إليه.

و الصواب «كما» بدل «مما» لعدم كون «مما» خبرا لقوله: «و نفي الحقيقة»، و إنما خبره «غير نفي»، و به تمّ الكلام، و لعله من سهو الناسخ؛ كما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 511».

(5) أي: بسبب كون نفي الحقيقة ادعاء أقرب إلى البلاغة من نفي الحكم أو الصفة.

و غرضه: الإشارة إلى ضعف إرادة غير نفي الحقيقة من المعاني المتقدمة من نفي الحكم

ص: 64

بعد (1) إرادة نفي الحكم الضرري (2) أو الضرر الغير المتدارك (3)، أو إرادة النهي من النفي جدا، ضرورة (4): بشاعة استعمال الضرر و إرادة خصوص سبب (5) من أسبابه، أو خصوص غير المتدارك منه (6).

=============

الضرري كما أفاده الشيخ «قدس سره»، و الضرر غير المتدارك كما نسب إلى الفاضل التوني «رحمه اللّه»، و إرادة النهي من النفي كما اختاره شيخ الشريعة الأصفهاني و غيره(1).

و الوجه في ضعفها هو: أقربية نفي الحقيقة ادعاء إلى المعنى الحقيقي من سائر المعاني، فيتعين حمل «لا ضرر» عليه؛ إذ الأقربية توجب ظهور الكلام فيه، و بعد إرادة غيره من المعاني المزبورة؛ لخلوها عن قرينة توجب حمله عليها.

(1) بضم الباء فاعل «انقدح»، و «جدا» قيد له.

(2) و هو المجاز في الكلمة بعلاقة السببية كما ذهب إليه الشيخ «قدس سره».

(3) و هو المجاز في التقدير المعبر عنه بنفي الصفة التي هي غير المتدارك.

يعني: أن المنفي هو الضرر غير المتدارك و هو المنسوب إلى الفاضل التوني «رحمه الله». «أو إرادة النهي من النفي» كما اختاره بعض كشيخ الشريعة الأصفهاني «قدس سره» في رسالته المعمولة في قاعدة الضرر.

(4) تعليل لقوله: «بعد» و محصله: أن استعمال الضرر في سبب خاص من أسبابه - و هو الحكم الشرعي كلزوم البيع الغبني، مع عدم انحصار السبب فيه و وجود أسباب تكوينية له كالضرر الناشئ من استعمال الماء في الوضوء مثلا، و غير ذلك كما هو مرجع كلام الشيخ «قدس سره» - مستتبع لوجهين:

الأول: استعمال الضرر في سببه، و هو الحكم مجازا.

و الثاني: أن الضرر عام يشمل الضرر الناشئ عن الحكم و غيره، فإرادة الحكم فقط من أسبابه من قبيل استعمال العام و إرادة الخاص منه بلا موجب و قرينة، و هذا من الاستعمالات المستنكرة.

(5) و هو الحكم الشرعي الذي ينشأ منه الضرر كما عرفت، و لازمه عدم تعرضه لحكم الضرر الناشئ من أسبابه التكوينية و الأفعال الخارجية، و ضمير «أسبابه» راجع على «الضرر».

(6) أي: من الضرر، هذا هو المجاز في الحذف و قد تقدم توضيحه و «خصوص»

ص: 65


1- رسالة لا ضرر: 37-39، كما ذكر في هامش قاعدة لا ضرر للسيد السيستاني: 165.

و مثله (1) لو أريد ذاك (2) بنحو التقييد، فإنه (3) و إن لم يكن ببعيد إلا إنه بلا دلالة عليه غير سديد.

و إرادة النهي (4) من النفي و إن كان ليس...

=============

عطف على «خصوص».

(1) أي: و مثل استعمال الضرر في الحكم مجازا بعلاقة السببية، و في الضرر غير المتدارك مجازا في الحذف في البشاعة لو أريد الحكم، أو الضرر غير المتدارك من «لا ضرر» بنحو الحقيقة؛ بأن يراد ذلك بنحو التقييد أي: تعدد الدال و المدلول، ففي الأول يقال: «لا حكم ضرريا»، و في الثاني: «لا ضرر غير متدارك».

فالفرق بين قوله: «و مثله» و قوله: «ضرورة: بشاعة» هو: أن الاستعمال في باب التقييد حقيقي، و في قوله: «بشاعة» مجازي مع وحدة المراد في كليهما؛ إذ الملحوظ في كل منهما ليس مجرد ذات الضرر؛ بل الضرر المقيد بكونه ناشئا من الحكم فقط، أو خصوص الضرر غير المتدارك.

(2) أي: استعمال الضرر مجازا في الحكم أو غير المتدارك منه كما مر آنفا.

(3) أي: التقييد و إن لم يكن ببعيد؛ لشيوعه في الاستعمالات المتعارفة؛ لكنه منوط بقرينة، و بدونها لا يصح المصير إليه. و ضميرا «أنه، عليه» راجعان على التقييد، «و غير سديد» خبر «أنه».

(4) هذا إشارة إلى تضعيف إرادة النهي و الزجر من «لا» النافية؛ بأن يراد من «لا ضرر» حرمة الإضرار مطلقا بالنفس و بالغير كحرمة إهانة المؤمن. و شرب الخمر و السرقة، و غير ذلك من المحرمات، فوزان «لا ضرر» و زان فَلاٰ رَفَثَ وَ لاٰ فُسُوقَ وَ لاٰ جِدٰالَ فِي اَلْحَجِّ (1)و «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(2) و «لا غش بين المسلمين»(3) و نحو ذلك.

و محصل تضعيف المصنف «قدس سره» له: أن إرادة النهي من النفي و إن لم تكن بعزيزة؛ لكن موردها هو «لا» النافية الداخلة على الفعل، كقوله تعالى: لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ (4)، و لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ (5) و غير ذلك من الآيات و الروايات.

ص: 66


1- البقرة: 197.
2- نهج البلاغة 165/41:42، أمالي الصدوق: 452.
3- سنن الدارمي 248:2، مسند الشهاب 351/228:1.
4- البقرة: 124.
5- الواقعة: 79.

بعزيز (1)، إلا إنه لم يعهد من مثل هذا التركيب (2) و عدم (3) إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة لا يكاد (4) يكون قرينة على إرادة واحد منها بعد (5) إمكان حمله على نفيها و أما إرادة النهي من هذا التركيب - يعني «لا» النافية الداخلة على اسم الجنس - فلم تعهد في الاستعمالات المتعارفة، فإن «لا» النهي من خواص الفعل، فاستعمال «لا» الموضوعة لنفي الجنس في النهي غير معهود في الاستعمالات المتداولة، فكيف يحمل النفي في المقام على النهي ؟

=============

(1) يعني: في «لا» الداخلة على الأفعال كما تقدم آنفا.

(2) و هو ما دخل فيه «لا» على اسم الجنس كقوله: «لا رجل»، و كيف يصح إرادة النهي من النفي في بعض الموارد مثل: «لا ربا بين الوالد و الولد»، و «لا سرف في الوضوء» و غير ذلك مما أريد به الجواز من هذا التركيب.

(3) توضيحه: أن تعين أحد المعاني المجازية - بعد تعذر إرادة المعنى الحقيقي لوجود الضرر تكوينا الموجب لكذب النفي الحقيقي - منوط بقيام قرينة معينة لأحد المجازات، و لا يكفي في تعيّن أحدها مجرد تعذر المعنى الحقيقي. و لعله تعريض بما قد يظهر من كلام الشيخ «قدس سره» في الرسائل(1)، حيث قال فيها: «فاعلم أن المعنى بعد تعذر إرادة الحقيقة عدم تشريع الضرر، بمعنى: أن الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد تكليفيا كان أو وضعيا». «دروس في الرسائل، ج 4، ص 227».

و قريب منه ما في رسالته المستقلة المعمولة في قاعدة الضرر، فإنه ربما يظهر منه تعيّن إرادة المعنى المزبور بمجرد تعذر الحمل على المعنى الحقيقي.

و المصنف «قدس سره» أورد عليه: بأن مجرد تعذر الحمل على المعنى الحقيقي لا يكفي في إرادة المعنى الذي اختاره الشيخ، كما لا يكفي في إرادة غيره من المعاني المجازية؛ بل يحتاج تعين واحد منها إلى قرينة معيّنة كما لا يخفى.

(4) خبر «و عدم...» الخ، و هذا هو التعريض الذي أشرنا إليه. و ضمير «منها» راجع على ما ذكره من المعاني المجازية.

(5) غرضه: أن القرينة على تعين أحد المعاني المجازية - و هو حمله على نفي الحقيقة ادعاء - موجودة، و هي ما تقدم منه من أقربيته إلى البلاغة من سائر المعاني. و ضمير «حمله» راجع على «نفي»، و ضمير «نفيها» إلى الحقيقة.

ص: 67


1- فرائد الأصول 460:2.

ادعاء؛ بل كان (1) هو الغالب في موارد استعماله.

ثم الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر (2) هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها (3)،

=============

(1) هذه قرينة أخرى على حمله على نفي الحقيقة ادعاء، و هي الغلبة بحسب الاستعمال، ففي الحمل على هذا المعنى قرينتان:

إحداهما: أقربيته إلى البلاغة من سائر المعاني المجازية المتقدمة.

ثانيتهما: غلبة إرادة نفي الحقيقة ادعاء بحسب الاستعمالات.

فهاتان القرينتان تعينان إرادة هذا المعنى، و مع هاتين القرينتين لا يبقى مجال للحمل على غير نفي الحقيقة ادعاء. و الضمير المستتر في «كان» الذي هو اسمه راجع على «حمله»، يعني: بل كان حمله على نفي الحقيقة ادعاء هو الغالب في موارد استعمال مثل هذا التركيب، فقوله: «بعد إمكان» ناظر إلى إمكان حمل النفي على نفي الحقيقة ادعاء.

و قوله: «بل هو الغالب» ناظر إلى وقوعه في الاستعمالات المتعارفة.

(2) لا يخفى: أن المصنف «قدس سره» لما بين المراد من «لا ضرر» و أنه نفي الحكم بلسان نفي الموضوع و الحقيقة ادعاء؛ أراد أن يبيّن الحكم الذي ينفى بقاعدة الضرر، فقال: إن المراد بذلك الحكم هو الثابت لموضوع بعنوانه الأولي كلزوم البيع و وجوب الصوم و إباحة السفر و غير ذلك، أو المتوهم ثبوته لموضوع بعنوانه الأولي، كبعض ما اعتقده أهل الجاهلية و ارتكبوه من جواز قتل البنات، و عدم توريثهن، و نكاح الشغار، فلو قال الشارع: «لا قتل للبنات» فمراده: رفع ما توهموه من جواز قتلهن.

و بالجملة: فنفي الحكم يقتضي ثبوته حقيقة أو توهما حتى يصح ورود النفي عليه بلسان نفي موضوعه، فالصوم مثلا إذا صار مضرا ارتفع حكمه بقاعدة الضرر.

و عليه: فالضرر سبب لارتفاع حكم الموضوع الذي طرأ عليه الضرر. و هذا من غير فرق بين نفي الضرر حقيقة بأن يراد بالضرر نفس الحكم كما اختاره الشيخ؛ و بين نفيه ادعاء الذي مرجعه إلى نفي الحكم بلسان نفي الموضوع كما هو مذهب المصنف لأن مرجع الوجهين إلى نفي الحكم، سواء كان ابتداء، أم بنفي موضوعه، فلزوم البيع الغبني مثلا منفي على التقديرين.

(3) أي: عناوين الأفعال الثابتة لها ذاتا كالصلاة و الحج و البيع، و غير ذلك من العناوين الأولية، و لا يبعد أن يكون المراد بالأفعال: كل ما يتعلق به الحكم الشرعي وجوديا كان كالوضوء، و البيع أم عدميا كالصوم و تروك الإحرام، و لو قال: «الثابت لكل شيء بعنوانه الأولي» كان أحسن.

ص: 68

أو المتوهم (1) ثبوته لها كذلك في حال (2) الضرر لا الثابت (3) له بعنوانه، لوضوح (4):

أنه العلة للنفي.

و لا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه و ينفيه، بل يثبته و يقتضيه (5).

و من هنا (6) لا يلاحظ النسبة بين أدلة نفيه و أدلة الأحكام و تقدم...

=============

(1) عطف على «الثابت»، يعني: إن المنفي بقاعدة الضرر هو الحكم الثابت للأفعال أو الحكم المتوهم ثبوته لها كاعتقاد أهل الجاهلية بجواز قتل البنات كما مرّ آنفا. و ضمير «ثبوته» راجع على الحكم، و ضمير «لها» إلى الأفعال، و المشار إليه في «كذلك» قوله:

«بعناوينها».

(2) متعلق ب «نفيه»، يعني: أن الحكم الذي أريد نفيه في حال الضرر... الخ.

(3) يعني: لا الحكم الثابت للضرر بعنوانه كوجوب الزكاة و الخمس و الجهاد، فإن موضوع الوجوب في هذه الأمور ضرر مالي و هو الزكاة و الخمس، و نفسي و هو الجهاد، و الحكم الثابت لعنوان الضرر لا يرتفع بقاعدة الضرر؛ لأن الضرر الموضوع لحكم كسائر الموضوعات مقتضى لحكمه، و المقتضي للشيء لا يكون رافعا له، فيمتنع أن يكون الضرر نافيا لحكمه الذي شرع له بعنوانه. و ضميرا «له، بعنوانه» راجعان على الضرر.

(4) تعليل لكون المنفي بقاعدة الضرر خصوص الحكم الثابت للعنوان الأولي الشامل إطلاقه لصورة إيجابه الضرر كوجوب الوضوء و لزوم البيع، فإن مقتضى إطلاق دليلهما ثبوت هذين الحكمين مطلقا حتى في حال الضرر، دون الحكم الثابت لعنوان الضرر.

و قد عرفت تقريب هذا التعليل بقولنا: «لأن الضرر الموضوع لحكم...» الخ، فلا يمكن أن يكون المنفي بقاعدة الضرر الحكم الثابت لعنوان الضرر؛ لأنه موضوع لحكمه، و من المعلوم: أن الموضوع كالعلة، فكما أن العلة تقتضي وجود المعلول، فكذلك الموضوع، فإنه يقتضي الحكم، فلا يعقل أن يكون رافعا له لامتناع اقتضاء شيء لطرفي النقيض.

(5) لما مر من: أن الموضوع لما فيه من ملاك التشريع للحكم كاقتضاء العلة لوجود المعلوم، و ضمير «أنه» راجع على الضرر، و ضمير «حكمه» راجع على «الموضوع»، و ضمائر «ينفيه، يثبته، يقتضيه» راجعة على «حكمه».

نسبة القاعدة مع ادلة الاحكام الاولية

(6) أي: و من أن المنفي بنفي الضرر هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها الأولية، و من أن الضرر علّة لنفيه «لا يلاحظ النسبة...» الخ.

و هذا إشارة إلى الجهة الثالثة من الجهات الثلاث المتعلقة بقاعدة الضرر. و هي نسبة أدلة نفي الضرر مع أدلة الأحكام.

ص: 69

أدلته (1) على أدلتها (2)، مع أنها (3) عموم من وجه، حيث (4) إنه يوفق بينهما عرفا بأن و لا يخفى: أن في هذه الجهة يبحث تارة: عن نسبة أدلة نفي الضرر مع أدلة أحكام الأفعال بعناوينها الأولية، و أخرى: عن نسبتها مع أدلة أحكام العناوين الثانوية غير الضرر.

=============

و ثالثة: عن نسبتها مع دليل خصوص الضرر من العناوين الثانوية، و هذا هو المسمى بتعارض الضررين.

فهنا مباحث:

الأول: في نسبة أدلة نفي الضرر مع أدلة أحكام الأفعال بعناوينها الأولية.

و محصل ما أفاده المصنف «قدس سره» في ذلك: أن دليل نفي الضرر يقدم على دليل الحكم الأولي؛ لأن العرف المتبع نظره في استظهار المعاني من الألفاظ يوفق بين دليلي نفي الضرر و الحكم الأولي بحمل الأول على الفعلي، و الثاني على الاقتضائي.

و بعبارة أخرى: يرى العرف أن العنوان الثانوي - و هو الضرر - رافع لفعلية الحكم الأوّلي الذي كان قبل عروض الضرر فعليا، و مع هذا التوفيق العرفي لا تلاحظ النسبة - و هي العموم من وجه - بين دليلي نفي الضرر و الحكم الأولي حتى يجب الرجوع في المجمع الذي هو مورد تعارضهما إلى قواعد التعارض أو الأصل العملي، فلا يقال: إن دليل وجوب الوضوء مثلا يشمل الوضوء الضرري و غيره، و دليل نفي الضرر يشمل الوضوء و غيره كالصوم و الحج و البيع و غيرها، ففي الوضوء الضرري يتعارض الدليلان، فيرجع فيه إلى أحكام التعارض، بل يقال: إن المرجع فيه دليل نفي الضرر، فيحكم بعدم وجوب الوضوء الضرري، و لا يرجع فيه إلى دليل وجوب الوضوء.

(1) أي: تقدم أدلة نفي الضرر على أدلة الأحكام، و «تقدم» عطف على «لا يلاحظ».

(2) أي: أدلة الأحكام.

(3) يعني: مع أن النسبة بين أدلة نفي الضرر و أدلة الأحكام الأولية عموم من وجه، و قد قرر في محله: أن حكم العامين من وجه هو الرجوع إلى قواعد التعارض أو الأصل العملي؛ لكن لا تلاحظ هذه النسبة بينهما؛ بل يقدم دليل نفي الضرر للتوفيق العرفي المزبور. فقوله: «مع» قيد لقوله: «لا تلاحظ النسبة».

(4) الظاهر: أنه تعليل لعدم ملاحظة النسبة بين الدليلين مع كونها عموما من وجه، و محصله: أن التوفيق العرفي بين الدليلين منع عن ملاحظة النسبة التي بينهما و هي

ص: 70

الثابت (1) للعناوين الأولية اقتضائي يمنع عنه فعلا ما عرض عليها من (2) عنوان الضرر بأدلته كما هو (3) الحال في التوفيق بين سائر الأدلة المثبتة (4) أو النافية لحكم العموم من وجه، و عليه: فلعل الأولى تقديمه على عدم ملاحظة النسبة بأن يقال: و من هنا يوفق بينهما عرفا... إلى قوله: من عنوان الضرر بأدلته، و لذا لا يلاحظ النسبة بين أدلة نفيه و أدلة الأحكام... إلى قوله: مع أنها عموم من وجه»، و الوجه في التقديم: علية التوفيق العرفي بين الدليلين؛ لعدم ملاحظة النسبة بينهما، و الظاهر: أن نظرهم في هذا التوفيق إلى حفظ موضوعية كلا العنوانين للحكم، فإن موضوعية العنوان الأولي للحكم مطلقة شاملة لجميع الحالات التي منها العنوان الثانوي، و الأخذ بإطلاقها يسقط العنوان الثانوي عن الموضوعية رأسا، فالجمع بينهما بالاقتضائية و الفعلية يوجب بقاء موضوعيتهما معا و يكون جمعا بين الدليلين في مقام الإثبات و هو متبع ما لم ينهض دليل على أهمية ملاك الحكم الثابت للعنوان الأولي، و تبعية فعلية الحكم له في كل حال حتى حال عروض العنوان الثانوي، و ضمير «أنه» للشأن، و ضمير «بينهما» راجع على «أدلة نفيه و أدلة الأحكام».

=============

(1) أي: بأن الحكم الثابت للعناوين الأولية اقتضائي، و الضرر العارض عليها رافع لفعلية ذلك الحكم الثابت للعنوان الأولي.

(2) بيان ل «ما» الموصول الذي هو فاعل «يمنع»، و «فعلا» قيد ل «يمنع»، و ضمير «عنه» راجع على «الثابت»، و ضمير «عليها» إلى «العناوين»، يعني: يمنع عنوان الضرر الذي يعرض العناوين الأولية عن فعلية الحكم الثابت لها، و «بأدلته» متعلق ب «يمنع»، يعني: يمنع عنوان الضرر بأدلته فعلية الحكم الثابت للعناوين الأولية.

(3) يعني: أن التوفيق العرفي بحمل حكم العناوين الأولية على الاقتضائي، و حكم عنوان الضرر على الفعلي مطرد في كل عنوان ثانوي مع عنوان أولي، و لا يختص بعنوان الضرر من العناوين الثانوية.

و عليه: فيقدم دليل الحرج و النذر و العهد و اليمين و غيرها من العناوين الثانوية أيضا على أدلة أحكام العناوين الأولية، مع كون النسبة بينهما أيضا عموما من وجه.

(4) كأدلة الشرط و النذر و اليمين، و غيرها من الأدلة الرافعة لحكم الأفعال بعناوينها الثانوية، فإذا شرط في ضمن عقد لازم فعل صلاة الليل مثلا، أو نذر ذلك أو حلف عليه، فإنها تقدم على أدلة استحباب صلاة الليل، و يحكم بفعلية وجوب فعلها بمقتضى وجوب الوفاء بالشرط و النذر و اليمين، و يحمل استحبابها على الاقتضائي.

ص: 71

الأفعال (1) بعناوينها الثانوية و الأدلة (2) المتكفلة لحكمها بعناوينها الأولية (3).

نعم (4)؛ ربما يعكس الأمر فيما أحرز بوجه معتبر أن الحكم في المورد ليس (5) بنحو الاقتضاء؛ بل بنحو العلية التامة (6).

=============

(1) كأدلة رفع الحرج و الخطأ و النسيان، نظير الوضوء فيما إذا توقف شراء مائه على بذل مال كثير يوجب وقوعه في الحرج، فإن فعلية وجوب الوضوء حينئذ يرتفع بدليل نفي الحرج، و يحمل وجوبه على الاقتضائي.

(2) عطف على «سائر»، و ضميرا «لحكمها، بعناوينها» راجعان على «الأفعال».

(3) كوجوب الصوم و الحج و نحوهما من الأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الأولية، فإنها ترتفع فعليتها بالأدلة النافية لها بالعناوين الثانوية كالإكراه و الخطأ و النسيان و الحرج و غيرها، و تحمل على الحكم الاقتضائي.

(4) استدراك على ما ذكره من التوفيق العرفي بين دليلي الحكم الأولي و الثانوي؛ بحمل الأول على الاقتضائي و الثاني على الفعلي.

و محصل هذا الاستدراك: أنه قد يعكس الأمر و يقدم دليل الحكم الأولي على الثانوي فيما إذا أحرز بدليل معتبر كون الحكم الأولي مجعولا، بنحو يكون علة تامة للفعلية لا مقتضيا لها حتى يمكن رفع فعليته، و حمله على الاقتضائي بسبب عروض عنوان ثانوي عليه مطلقا، سواء كان هو الضرر أم غيره، كوجوب إنقاذ نبيّ أو وصيّ ، فإن هذا الوجوب فعلي مطلقا و إن كان موجبا للضرر أو الحرج على الغير، فلا يحمل على الاقتضائي بالتوفيق العرفي بين دليله و دليل حكم العنوان الثانوي كالضرر و غيره.

(5) يعني: ليس مجعولا بنحو الاقتضاء حتى يكون موردا للتوفيق العرفي المزبور؛ بل هو مجعول بنحو يكون علة تامة للفعلية.

و قوله: «أن الحكم» نائب فاعل ل «أحرز»، و المراد بالوجه المعتبر: الدليل المعتبر.

(6) كحرمة نكاح المحارم، و وجوب الدفاع عن النفس و عن بيضة الإسلام، و ارتكاب خلاف الواقع عن عذر لا ينافي عليّة الحكم و بقائه، غاية الأمر: أن المكلف معذور في مخالفته و لا يعاقب عليها لأجل العذر، فنكاح المحارم شبهة لا يرفع حرمته الواقعية.

و المراد بالعلية التامة: عدم ارتفاع الحكم الواقعي بطروء عنوان ثانوي من الضرر و الإكراه و الاضطرار و غيرها عليه؛ لا عدم المعذورية في مخالفته لطروء عذر من الأعذار الموجبة للأمن من العقوبة، فإن المعذورية لا تنافي بقاء الحكم الواقعي كما مر في نكاح المحارم شبهة، فإن حرمته الواقعية لا ترتفع بالشبهة، بل الشبهة تمنع عن استحقاق العقوبة

ص: 72

و بالجملة (1): الحكم الثابت بعنوان أولي تارة: يكون بنحو الفعلية مطلقا (2)، أو بالإضافة (3) إلى عارض دون عارض، بدلالة (4) لا يجوز الإغماض عنها بسبب (5) دليل حكم العارض المخالف له فيقدم (6) دليل ذاك العنوان (7) على دليله.

=============

على ارتكاب الحرام الواقعي؛ كما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 522».

(1) هذا حاصل ما ذكره في قوله: «نعم» و ما قبله، و ملخصه: أن الدليل المتكفل لحكم الفعل بعنوانه الأولي إن دل على فعلية الحكم مطلقا - بحيث لا ترتفع فعليته بشيء من العناوين الثانوية من الضرر و غيره كالمثال المتقدم و هو وجوب حفظ النبي و الوصي «صلوات اللّه عليهما»، أو بالإضافة إلى بعض العناوين الثانوية - وجب تقديمه في الصورة الأولى على كل عنوان ثانوي يطرأ عليه؛ لأن المفروض: كون علة تامة للفعلية. و في الصورة الثانية على بعض العناوين الثانوية كوجوب الوضوء، فإنه مقدم على دليل الضرر إن لم يكن المال المبذول بإزاء ماء الوضوء مجحفا و موجبا لوقوعه في الحرج و إن كان مجحفا و حرجيا، فدليل نفي الضرر مقدم على دليل وجوب الوضوء؛ للتوفيق العرفي الموجب لحمل وجوب الوضوء حينئذ على الاقتضائي.

و إن دل على فعلية الحكم لا بنحو الإطلاق و العلية التامة فسيأتي حكمه.

(2) يعني: بالنسبة إلى جميع العوارض و هي العناوين الثانوية كما مر آنفا.

(3) عطف على «مطلقا»، و قد تقدم المراد بقوله: «إلى عارض دون عارض»، و مثاله بقولنا: «أو بالإضافة إلى بعض العناوين الثانوية وجب تقديمه في الصورة الأولى...» الخ.

(4) متعلق ب «يكون»، يعني: أن دلالة الدليل على فعلية الحكم بالعنوان الأولي تارة:

تكون بنحو تأبى عن حملها على الاقتضائي كما إذا كانت دلالته بالنصوصية، فيقدم حينئذ دليل الحكم الأولي على دليل الحكم الثانوي؛ لتقدم النص على الظاهر، و ضمير «عنها» راجع على الدلالة.

(5) متعلق ب «الإغماض»، يعني: لا يجوز الإغماض عن دلالة دليل الحكم الأولي بسبب دليل حكم العنوان الثانوي المخالف للحكم الأولي؛ لما فرض من عدم جواز الإغماض عن دلالته بالنصوصية مثلا.

(6) هذا نتيجة فعلية الحكم الأولي مطلقا، إذ لازم دلالة دليله - بحيث لا يجوز الإغماض عنها - هو تقدمه على دليل العنوان الثانوي.

(7) يعني: أن العنوان الأولي يقدم على دليل العنوان الثانوي، و ضمير «دليله» راجع على «حكم العارض».

ص: 73

و أخرى (1): يكون على نحو لو كانت هناك دلالة للزم الإغماض عنها بسببه عرفا، حيث كان اجتماعهما قرينة على أنه بمجرد المقتضي، و أن العارض مانع فعلي، هذا (2) و لو لم نقل بحكومة دليله على دليله (3)، لعدم (4) ثبوت نظره إلى مدلوله.

=============

(1) عطف على «تارة»، و هذا هو الشق الثاني الذي أشرنا إليه بقولنا: «و إن دل على فعلية الحكم لا بنحو الإطلاق و العلية التامة...» الخ.

و توضيحه: أن دليل حكم الفعل بعنوانه الأولي إن كانت دلالته على فعلية الحكم بمثابة لا تأبى عن التصرف فيها بحمل الحكم على الاقتضائي؛ كما إذا كانت دلالته بالعموم أو الإطلاق وجب الإغماض عن دلالته بسبب دليل حكم العنوان الثانوي، و حمل الحكم الأولي على الاقتضائي؛ إذ العرف يوفق بينهما بجعل اجتماع الدليلين قرينة على أن الحكم الأولي ليست فعليته بنحو العلية التامة حتى يأبى عن التصرف فيه بالحمل على الاقتضائي؛ بل يقبل التصرف، فيحمل على الاقتضائي، و يجعل العنوان الثانوي مانعا فعليا عن فعليته، حيث إن دلالة دليل الحكم بالعنوان الأولي تكون بالإطلاق، و هو ظاهر في شموله لجميع الحالات و العناوين الثانوية و دلالة دليل الحكم بالعنوان الثانوي تصلح لتقييد إطلاق فعليته، و حمله على الاقتضائي، و لا عكس إذ لازم حمل العنوان الثانوي على الاقتضائي عدم صيرورته فعليا أصلا، فيلغو تشريعه.

قوله: «عرفا» قيد ل «لزم»، و ضمير «عنها» راجع على «دلالة»، و ضمير «بسببه» إلى «دليل حكم العارض».

و قوله: «لو كانت هناك دلالة» أي: دلالة على العلية.

قوله: «حيث» تعليل للزوم الإغماض، و قد مر توضيحه بقولنا: «إذ العرف يوفق بينهما بجعل اجتماع الدليلين قرينة...» الخ. و ضمير «أنه» راجع على «الحكم الثابت».

(2) أي: تقديم دليل العنوان الثانوي على دليل حكم العنوان الأولي ثابت؛ و إن لم نقل بحكومة دليله على دليل حكم العنوان الأولي.

و غرضه: أن التقديم المزبور مسلم إما للحكومة كما هو مختار الشيخ «قدس سره»، و إما للتوفيق العرفي إن لم يتم حديث الحكومة.

(3) أي: دليل حكم العنوان الأولي، و الضمير الأول راجع على «العارض».

و قوله: «و لو لم نقل» تعريض بما أفاده الشيخ «قدس سره» من الحكومة كما سيأتي تفصيله.

(4) هذا تعليل لعدم حكومة دليل نفي الضرر على أدلة أحكام العناوين الأولية.

ص: 74

كما قيل (1).

ثم انقدح بذلك (2): حال توارد دليلي العارضين كدليل نفي العسر و دليل نفي توضيحه: أن الشيخ «قدس سره» قائل بحكومة دليل قاعدة الضرر على أدلة أحكام العناوين الأولية، قال في الرسائل: «ثم إن هذه القاعدة حاكمة على جميع العمومات الدالة بعمومها على تشريع الحكم الضرري؛ كأدلة لزوم العقود و سلطنة الناس على أموالهم... إلى أن قال: و المراد بالحكومة: أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر من حيث إثبات حكم لشيء أو نفيه عنه.

=============

فالأول: مثل ما دل على الطهارة بالاستصحاب، أو بشهادة العدلين، فإنه حاكم على ما دل على أنه «لا صلاة إلاّ بطهور»، فإنه يفيد بمدلوله اللفظي على أن ما ثبت من الأحكام للطهارة في مثل: «لا صلاة إلاّ بطهور» و غيرها ثابت للمتطهر بالاستصحاب أو بالبينة.

و الثاني: مثل الأمثلة المذكورة - يعني بها حكومة مثل أدلة نفي الضرر و الحرج و رفع الخطأ و النسيان و نفي السهو عن كثير السهو و نفي السبيل على المحسنين، إلى غير ذلك - بالنسبة إلى الأحكام الأولية». انتهى. «دروس في الرسائل، ج 4، ص 232».

و محصل إشكال المصنف «قدس سره» على هذه الحكومة كما أوضحه في حاشية الرسائل هو: عدم انطباق ضابط الحكومة بنظر الشيخ على قاعدة الضرر، حيث إنه يعتبر في الحكومة أن يكون الدليل الحاكم ناظرا بمدلوله اللفظي إلى مدلول الدليل المحكوم و شارحا له. و ليس دليل نفي الضرر كذلك؛ لعدم نظر له إلى أدلة الأحكام الأولية؛ بل هو في عرضها، نظير: فَلاٰ رَفَثَ وَ لاٰ فُسُوقَ وَ لاٰ جِدٰالَ فِي اَلْحَجِّ و نحوها، و لازم عدم انطباق ضابط الحكومة هنا ملاحظة مرجحات باب التعارض.

(1) القائل: هو الشيخ «قدس سره»، و قد تقدمت عبارته، و ضمير «نظره» راجع على دليل العارض، و ضمير «مدلوله»، إلى دليل الحكم الأولي.

نسبة القاعدة مع ادلة الاحكام الثانوية

(2) أي: بالتوفيق العرفي بين دليل نفي الضرر و أدلة الأحكام الأولية بحمل الأول على الفعلية و الثاني على الاقتضاء ظهر حال توارد دليلي العنوانين الثانويين، و أن التوفيق العرفي لا يجري فيهما؛ بل لهما حكم آخر و هو جريان حكم التزاحم أو التعارض فيهما.

و هذا إشارة إلى المبحث الثاني، و هو نسبة دليل الضرر مع أدلة أحكام العناوين الثانوية غير الضرر كالحرج و النذر و اليمين و الشرط؛ كما إذا كان حفر بئرا أو بالوعة في ملكه

ص: 75

الضرر مثلا، فيعامل معهما معاملة المتعارضين لو (1) لم يكن من باب تزاحم المقتضيين، و إلا فيقدم ما كان مقتضيه أقوى و إن كان دليل الآخر أرجح و أولى.

=============

مضرا بجاره و تركه كان حرجا على نفسه، و كما إذا كان شرب التتن مضرا بحاله و تركه عسرا عليه، و كما إذا نذر الصلاة في المسجد المعين مثلا و كان أداؤها فيه مستلزما للضرر، فحينئذ: يقع التهافت بين أدلة النذر و الضرر و الحرج و كل منها عنوان ثانوي، فلا يتأتى فيها التوفيق العرفي بحمل أحدهما على الفعلي و الآخر على الاقتضائي لتساويها في الفعلية و الاقتضاء، و كونها من قبيل الواحد لعرضيتها و عدم طوليتها حتى يوفق بينها بحمل أحدها على الفعلي و الآخر على الاقتضائي.

و يعامل مع دليلي العنوانين الثانويين معاملة المتعارضين إن كان المقتضي للحكم في أحدهما دون الآخر، فيرجح ذو المزية منهما على الآخر، و على تقدير التكافؤ: يتخير أو يرجع إلى ما يقتضيه الأصل في المسألة.

و إن كان المقتضى له في كليهما مطلقا حتى في ظرف الاجتماع كإنقاذ الغريقين المؤمنين - حيث إن الملاك في إنقاذهما حتى حال الاجتماع موجود، و عدم قدرة المكلف على إنقاذهما معا مانع عن امتثال أمر كليهما، لكون إنقاذ أحدهما حرجيا و الآخر ضرريا، لتوقفه على بذل مال كثير مضر بحاله مثلا - عومل معهما معاملة التزاحم من تقديم ما هو أهم ملاكا؛ كما إذا كان أحدهما عالما عاملا على الآخر. و التخيير مع عدم إحراز أهمية الملاك في أحدهما.

قوله: «فيعامل معهما معاملة المتعارضين» من الترجيح أو التخيير أو التوقف و الرجوع إلى الأصل العملي. و ضمير «معهما» راجع على «دليلي العارضين».

(1) قيد ل «فيعامل» يعني: لو لم يكن توارد دليلي العارضين من باب تزاحم المقتضيين و هما ملاكا تشريع الحكمين، فإن كانا من هذا الباب عومل معهما معاملة التزاحم، لأنهما حينئذ من صغرياته، و يكفي في إحراز المقتضي في كليهما إطلاق دليلي العارضين الشامل لجميع الحالات التي منها حال الاجتماع، و هذا الإطلاق متبع إلى أن يقوم دليل من الخارج على عدم المقتضى في أحدهما حال الاجتماع، فيعامل معهما حينئذ معاملة التعارض.

و لعل قوله: «لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين» مع ظهور كل عنوان ثانوي في كونه مقتضيا و ذا ملاك للحكم و عدم المجال معه للترديد بقوله: «لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين» ناظر إلى أدلة خصوص العناوين الثانوية الواردة مورد الامتنان، حيث

ص: 76

و لا يبعد أن الغالب في توارد العارضين أن يكون من ذاك الباب (1) لثبوت (2) المقتضى فيهما مع (3) تواردهما، لا من باب التعارض، لعدم...

=============

إنها لا تجري فيما يلزم من إجرائها خلاف الامتنان، فدليل نفي الضرر لا يشمل المورد الذي يلزم من جريانه فيه الحرج، و كذا دليل الحرج قاصر عن شموله المورد يلزم الضرر من جريانه فيه، فلا إطلاق في دليلي هذين العارضين حتى يتمسك به لإثبات المقتضى في مورد الدوران.

و بالجملة: إن كان ترديد المصنف بين التعارض و التزاحم من جهة استلزام جريانها لخلاف الامتنان الموجب لقصور المقتضي عن الشمول لموارد الدوران فله وجه، فتدبر؛ كما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 529».

قوله: «و إلاّ فيقدم ما كان مقتضيه أقوى» أي: و إن كانا من باب تزاحم المقتضيين قدّم ما هو الأقوى ملاكا على غيره؛ لأنه المرجح في باب التزاحم، و الأولى من صاحبه في التأثير كمصلحة إنقاذ العالم الورع التي أهم من مصلحة إنقاذ المؤمن الجاهل، و أهمية الملاك مرجحة توجب التقدم و إن كان دليل الآخر بحسب الجهات المعتبرة في الحجية أولى؛ و ذلك لاختصاص تلك الجهات بباب التعارض، و عدم شمولها لباب التزاحم، فالترجيح بالسند و نحوه لا يجري في باب التزاحم.

و المراد من قوله: «أولى» هو الأولى من حيث الدليلية.

(1) يعني: باب التزاحم، و غرضه من قوله: «و لا يبعد»: التعرض لمقام الإثبات بعد احتمال كل من التعارض و التزاحم ثبوتا، و قال: إن غلبة ثبوت المقتضي في توارد العارضين أي: العنوانين الثانويين توجب اندراجهما في باب التزاحم و جريان أحكامه عليهما.

(2) تعليل للغلبة المزبورة، و حاصله: أن ثبوت المقتضي في العارضين غالبا في حال تواردهما دليل على كونهما من صغريات كبرى التزاحم، دون التعارض الذي يكون المقتضي فيه في أحد الدليلين لا كليهما و الضمير المستتر في «يكون» الذي هو اسمه راجع على «توارد».

(3) متعلق ب «لثبوت»، و ضميرا «فيهما، تواردهما» راجعان على «العارضين».

و غرضه: أن المقتضى في كل من العارضين في حال تواردهما على مورد ثابت - كثبوته فيهما حال انفراد كل منهما عن الآخر و ثبوته فيهما حال التوارد - أوجب اندراجهما في باب التزاحم. و قوله: «لا من باب» عطف على «ذاك الباب».

ص: 77

ثبوته (1) إلاّ في أحدهما كما لا يخفى.

هذا (2) حال تعارض الضرر مع عنوان أولي أو ثانوي آخر (3).

و أما (4) لو تعارض مع ضرر آخر، فمجمل القول فيه: أن الدوران إن كان بين ضرري شخص واحد (5) أو اثنين (6)، فلا مسرح إلا لاختيار...

=============

(1) أي: المقتضى، و هذا تعليل للمنفي و هو التعارض، و ضمير «أحدهما» راجع على «العارضين».

و الحاصل: أن ثبوت المقتضي في العنوانين الثانويين حال تواردهما على مورد واحد يدرجهما في باب التزاحم، دون التعارض المنوط بعدم ثبوت المقتضي إلاّ في أحدهما.

(2) يعني: أن ما ذكرناه إلى الآن كان راجعا إلى علاج تعارض دليل نفي الضرر مع دليل حكم العنوان الأولي و الثانوي غير عنوان الضرر من التوفيق العرفي في الأول، و إجراء حكم التزاحم أو التعارض في الثاني.

و أما تعارض عنوان الضرر مع مثله، فسيأتي الكلام فيه.

(3) أي: عنوان ثانوي آخر غير عنوان الضرر.

(4) يعني: لو تعارض الضرر مع ضرر آخر. هذا إشارة إلى البحث الثالث و هو ملاحظة نسبة دليل نفي الضرر مع مثله، و يعبّر عنه بتعارض الضررين، و هو تارة: يكون بين ضرري شخص واحد، و أخرى: بين ضرري شخصين، و ثالثة: بين ضرر نفسه و غيره، و سيأتي تفصيلها.

و توضيح المتن طبقا لما في منتهى الدراية.

(5) هذا هو القسم الأول، و له صورتان:

إحداهما: أن يكون الضرران واردين على غير المكره؛ كما إذا أكرهه الجائر على أن يأخذ قطيع غنم من زيد أو ألف دينار منه، سواء كان مالية الثاني أقل من مالية القطيع بكثير أو مساوية لها أو أقل منها.

ثانيتها: أن يكونا واردين على نفس المكره؛ كما إذا أكره الظالم زيدا على دفع أحد شيئين من مال نفسه إليه.

(6) هذا هو القسم الثاني، كما إذا وجه الظالم الضرر على اثنين آخرين غير المكره المتقدم في الصورتين الأوليين؛ بحيث كان الضرر دائرا بينهما و المكره خارجا عنهما؛ كما إذا أكره زيد على أن يأخذ للجائر مائة دينار مثلا من عمرو أو بكر من دون خصوصية لأحدهما؛ بحيث يندفع شر الظالم بدفع المبلغ المذكور إليه من أي واحد منهما كان.

ص: 78

أقلهما (1) لو كان و إلاّ (2) فهو مختار.

و أما (3) لو كان بين ضرر نفسه و ضرر غيره فالأظهر عدم لزوم تحمله الضرر و لو و المصنف «قدس سره» جعل جميع هذه الصور من صغريات التزاحم نظرا إلى وجود المقتضي لجريان قاعدة الضرر فيها، فإن كان أحد الضررين أقل من الآخر قدّم ذلك، و إلاّ تخيّر.

=============

ثم إن المصنف «قدس سره» و إن عبر عن تزاحم الضررين بالتعارض؛ لكن من المعلوم:

أن مراده هو التزاحم؛ لأن حكمه الذي أفاده من «اختيار أقل الضررين لو كان و إلاّ فالتخيير» هو حكم التزاحم؛ لا التعارض الذي حكمه التساقط و الرجوع إلى عمومات أخر.

(1) أي: أقل الضررين لو كان أحدهما أقل، فإن هذا حكم التزاحم، و أما بناء على كونهما من باب التعارض - كما ذهب إليه الشيخ - فيسقطان معا عن الاعتبار، و يرجع إلى عمومات أخر كقاعدة السلطنة أو غيرها.

(2) أي: و إن لم يكن أحدهما أقل؛ بأن كانا متساويين فهو مختار عقلا في الأخذ بأيهما شاء كغيره من موارد التزاحم.

(3) «هذا إشارة إلى الصورة الثالثة، و هي: تعارض ضرري شخصين يكون المكره - بالفتح - أحدهما، كما إذا أكرهه الجائر على أن يدفع إليه مائة دينار مثلا إما من مال نفسه، أو من مال زيد.

و كذا مثل الضرر الوارد على الجار بحفر المالك البالوعة في ملكه، و على المالك بترك حفرها فيه، في غير صورة ورود الضرر من الظالم.

و محصل ما أفاده المصنف فيه هو: أن الأظهر عدم وجوب تحمله للضرر عن الغير كما نسب إلى المشهور؛ بل المحكي عن المبسوط و التذكرة نفي الخلاف فيه، و إن كان ضرر صاحبه أكثر؛ إذ لا تجري فيه قاعدة الضرر التي وردت مورد الامتنان، فإن جريانها في ضرر الغير يوجب تحمل الضرر عنه، و من المعلوم: أنه لا منّة على تحمل الضرر لدفعه عن صاحبه، فمقتضى قاعدة السلطنة جواز التصرف في ملكه؛ و إن استلزم الضرر على الغير.

و عليه: فيجوز أن يحفر بئرا أو بالوعة في داره و إن تضرر جاره به. و قد مثل له أيضا:

بما إذا أكره الجائر شخصا على التولي من قبله، حيث إنه بقبوله للولاية يتضرر المسلمون، و بعدم قبوله لها يقع هو في الضرر، فيتعارض الضرران و يرجع إلى قاعدة نفي الحرج، فلا

ص: 79

كان ضرر الآخر أكثر، فإن نفيه (1) يكون للمنة على الأمة، و لا منّة على تحمل الضرر لدفعه عن الآخر، و إن كان أكثر.

نعم (2)؛ لو كان الضرر متوجها إليه ليس له (3) دفعه عن نفسه بإيراده على الآخر.

=============

يجب قبول الولاية من الجائر مطلقا، سواء كان الضرران متساويين؛ كما إذا كان الضرر الوارد عليه من ناحية الجائر - على تقدير عدم قبول الولاية - مائة دينار، و كان ضرر المسلمين بوسيلته مع فرض قبولها هذا المقدار أيضا. أم كانا متفاوتين؛ لفقدان شرط جريان قاعدة نفي الضرر و هو الامتنان مطلقا.

و الحاصل: أن المصنف «قدس سره» ذهب إلى أن التعارض في القسمين الأوليين يكون من باب التزاحم، و في القسم الثالث يكون من باب التعارض.

ثم إن ما أفاده المصنف «قدس سره» هنا من التفكيك بين ضرري شخص و شخصين بما عرفت توضيحه في الصور الثلاث تعريض بما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس سره» من معاملة التعارض بينهما و إن كان المستفاد من كلامه في رسالته المستقلة(1): إجراء حكم المتزاحمين على تعارض الضررين.

(1) تعليل لعدم لزوم تحمل الضرر عن الغير الناشئ عن جريان قاعدة نفي الضرر في ضرر الآخر؛ إذ مقتضى نفيه عن الآخر هو: تحمل الضرر عنه.

و محصل التعليل: أن قاعدة الضرر لا تجري في ضرر الغير؛ لأن لازمه تحمل صاحبه عنه و هو خلاف الامتنان، فلا تجري فيه و إن كان ضرره أكثر. و ضميرا «نفيه، لدفعه» راجعان على الضرر، و الضمير المستتر في «و إن كان» راجع على ضرر الآخر.

(2) استدراك على قوله: «فالأظهر عدم لزوم»، و محصله: أن عدم لزوم تحمل الضرر عن الغير إنما هو فيما إذا كان الضرر دائرا بينهما، و أما إذا كان الضرر متوجها إليه ابتداء:

فلا يجوز له دفعه عن نفسه و توجيهه إلى غيره؛ كما إذا أكره الظالم زيدا على أن يدفع إليه من مال نفسه مائة دينار، و أراد أن يوجه هذا الضرر إلى غيره و يدفعه عن نفسه، أو توجه إليه الضرر بآفة سماوية كالسيل و نحوه، فإنه ليس له دفعه إلى غيره؛ بل عليه تحمل الضرر.

(3) لأنه ظلم على الآخر و هو قبيح و حرام؛ إذ المفروض: عدم توجه الضرر إلى الغير، فتوجيهه إليه إنما هو من ناحية نفسه.

و الحاصل: أن تحمل الضرر ليس لأجل جريان القاعدة في حق الغير حتى يقال

ص: 80


1- منتهى الدراية 533:6.

اللهم إلاّ أن يقال (1): إن نفي الضرر و إن كان للمنّة؛ إلاّ إنه (2) بلحاظ نوع الأمة و اختيار الأقل بلحاظ النوع منه، فتأمل (3).

=============

بمعارضته بالقاعدة الجارية في ضرر نفسه؛ و ذلك لعدم توجه الضرر إلى الغير من ناحية الحكم الشرعي حتى يرتفع بقاعدة؛ بل الضرر أولا و بالذات متوجه إلى نفسه و صاحبه أجنبي عنه. و ضميرا «دفعه، بإيراده» راجعان على الضرر.

و الأولى أن يقال: «فليس له» لكونه من موارد لزوم اقتران الجزاء بالفاء.

(1) هذا استدراك على قوله: «و لا منّة على تحمل الضرر لدفعه عن الآخر».

و غرضه: أنه يمكن أن يقال باندراج دوران الضرر بين شخصين - الذي قلنا فيه: بعدم لزوم تحمل الضرر عن الغير و إن كان ضرره أكثر؛ إذ لا منّة على تحمل الضرر لدفعه عن الآخر، بل في تحمل حرج و مشقة - في تعارض ضرري شخص واحد ببيان أن يلاحظ مجموع الأمة بمنزلة شخص واحد، فحينئذ: يتحقق الامتنان برفع أكثر الضررين. و أما إذا لوحظ كل واحد من الأمة بالاستقلال؛ كما كان ذلك مبنى قوله: «و لا منّة على تحمل الضرر لدفعه عن الآخر» فلا وجه لتحمل الضرر عن الغير كما تقدم.

ثم إن ما أفاده من احتمال ملاحظة مجموع الأمة شخصا واحدا ذكره الشيخ الأنصاري في الرسالة المستقلة؛ لكن المصنف تأمل فيه.

(2) أي: المنّة بتأويلها بالامتنان، و ضمير «منه» راجع على «الأمة».

(3) الظاهر: أنه إشارة إلى فساد لحاظ مجموع الأمة شخصا واحدا بعد وضوح:

كون قاعدة الضرر كسائر القواعد الشرعية، و وضوح: كون الأحكام انحلالية؛ بحيث يكون كل واحد من الأشخاص بالاستقلال مكلفا.

و عليه: فلا بد من المصير إلى ما ذكره قبل ذلك من أنه لا منّة على تحمل الضرر لدفعه عن الآخر، هذا.

و تلخص مما أفاده المصنف «قدس سره» في تعارض ضرري شخص واحد أو شخصين: أنه إن كان أحدهما أقل فهو المختار، و إلاّ فالحكم التخيير، و في تعارض ضرر نفسه مع ضرر غيره عدم تحمل الضرر عن الغير و إن كان كثيرا، و في الضرر المتوجه إلى نفسه عدم إيراده على الغير.

هذا تمام الكلام في قاعدة لا ضرر، و يليه بحث الاستصحاب و تركنا تطويل الكلام في المقام رعاية للاختصار.

ص: 81

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - ذكر الفاضل التوني لأصل البراءة شرطين آخرين:

أحدهما: أن لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى، فلا يجري في مثل ما إذا كان لشخص مال على قدر استطاعة الحج على فرض عدم الدين، فإذا شك في وجود الدين و نفى الدين بأصل البراءة يلزم منه ثبوت الاستطاعة الشرعية، فيجب عليه الحج؛ لأن جريان أصل البراءة موجب لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى، فلا تجرى البراءة؛ لأن المستفاد من أدلتها: أنها مسوقة للامتنان، و كونها مستلزمة لثبوت حكم آخر ينافي الامتنان، فلا تجرى البراءة في المثال المذكور، لأن شأن أصل البراءة هو نفي الحكم فقط لا النفي من جهة و الإثبات من جهة أخرى.

و قيل في وجه عدم جريان البراءة إذا كانت مثبتة لحكم شرعي من جهة أخرى: إنها أصل مثبت، و الأصل المثبت ليس بحجة.

الشرط الثاني: الذي ذكره الفاضل التوني لأصل البراءة - هو أنه يعتبر في جريانها أن لا يكون موجبا لضرر الغير، كما إذا فتح إنسان قفص الطير الذي هو لإنسان آخر، أو حبس شاته حتى مات ولدها، أو أمسك رجلا فهربت دابته و ضلت، فإن إجراء أصل البراءة عن الضمان في أمثال هذه الموارد موجب لضرر صاحب الطير و الشاة و الدابة، فمثل هذا الأصل لا يجري؛ لما عرفت من: أن أصل البراءة يكون للامتنان و كونه موجبا للضرر على الغير ينافي الامتنان.

2 - ردّ المصنف على الشرط الأول: أن موضوع الحكم الشرعي تارة: يكون أمرا ظاهريا أو أعم منه؛ كعدم استحقاق العقوبة الذي هو مقتضى البراءة العقلية و الإباحة، و عدم الحكم الذي هو مقتضى البراءة الشرعية؛ كما إذا فرض ترتب جواز البيع على كل ما يكون حلالا و لو ظاهرا، فحينئذ: إذا شك في حرمة شرب التتن و نحوه من الشبهات البدوية، و بعد الفحص جرت فيه البراءة الشرعية المثبتة لحليته ثبت جواز بيعه أيضا؛ إذ المفروض: كون موضوع جواز بيعه حليته و لو ظاهرا، فيترتب عليه جواز البيع؛ إذ لو لم يترتب جواز البيع على هذه الحلية يلزم تخلف الحكم عن موضوعه و هو محال.

و أخرى: يكون موضوع الحكم أمرا واقعيا؛ كما إذا ترتب الحكم الشرعي على عدم شيء واقعا لا ظاهرا و لا أعم من الواقع و الظاهر؛ كما إذا فرض أن موضوع وجوب الحج

ص: 82

ملكية الزاد و الراحلة مع عدم الدين واقعا، فإن إجراء البراءة عن الدين لا يثبت وجوب الحج؛ لعدم إحراز موضوعه و هو عدم الدين واقعا بأصالة البراءة عن الدين، فعدم ترتب الحكم الشرعي على البراءة الشرعية - في مثل هذا المثال - إنما هو لعدم تحقق موضوعه و هو عدم الدين واقعا، حيث إن أصل البراءة لا يحرز الواقع.

إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم: أنه لا محصل للشرط الأول الذي ذكره الفاضل التوني؛ إذ على تقديره لا محيص عن ثبوت الحكم لتحقق موضوعه بأصل البراءة و هو التقدير الأوّل الذي يكون موضوع الحكم الشرعي أعم من الظاهر و الواقع.

و على تقدير آخر: لا موضوع لذلك الحكم حتى يثبت بأصل البراءة، و هو التقدير الثاني الذي يكون موضوع الحكم فيه أمرا واقعيا.

3 - و أما ردّ الشرط الثاني فحاصله: أن المورد إن كان مما يجري فيه قاعدة لا ضرر فلا مجال لجريان أصل البراءة فيه؛ لكون القاعدة دليلا اجتهاديا و البراءة أصلا عمليا، و قد ثبت في محله: عدم جريان الأصل العملي مع وجود الدليل الاجتهادي لورود الدليل الاجتهادي أو حكومته على الأصل العملي.

و كيف كان؛ فلا مورد لأصل البراءة مطلقا، سواء كانت عقلية أو شرعية لانتفاء موضوعها بالدليل الاجتهادي.

4 - قاعدة لا ضرر و لا ضرار:

و قد جعل المصنف الكلام فيها في جهات:

الأولى: بيان مدركها.

الثانية: بيان شرح مفرداتها مادة و هيئة.

الثالثة: بيان نسبتها مع أدلة الأحكام الأولية:

و أما الجهة الأولى: فقد استدل عليها بأخبار كثيرة؛ و لكن نكتفي بذكر ما هو أشهرها قصة و أصحها سندا و أكثرها طرقا و أوضحها دلالة، و هي الرواية المتضمنة لقصة سمرة بن جندب مع الأنصاري. و تفصيل القصة موجود في المتن، و قد ادعى البعض تواترها إجمالا فلا إشكال في مدركها.

و أما الكلام في الجهة الثانية: فتوضيحها يتوقف على شرح مفردات الألفاظ الواقعة في متن الحديث.

فالضرر هو: النقص في المال أو النفس أو العرض أو الطرف، و لكنه لا مطلقا بل

ص: 83

خصوص النقص من الشيء الذي من شأنه عدم ذلك النقص، و عليه: فالتقابل بين النفع و الضرر من تقابل العدم و الملكة.

و أما الضرار: فقد استعمل في معان:

أحدها: أن الضرار بمعنى الضرر، فيكون ذكره للتأكيد كما هو مختار المصنف «قدس سره».

ثانيها: أن الضرار فعل الاثنين.

ثالثها: أن الضرار هو الجزاء.

و أما كلمة «لا» النافية: فالأصل فيها في مثل تركيب «لا ضرر» و لا رجل هي نفي حقيقة مدخولها حقيقة أو ادعاء بلحاظ نفي آثار تلك الطبيعة تنزيلا لوجودها منزلة العدم عند عدم ترتب الآثار عليها، و قد اختار المصنف نفي حقيقة الضرر ادعاء تنزيلا لوجود الضرر الذي لا يترتب عليه الأثر منزلة العدم.

توضيح ذلك: أنه لما تعذرت إرادة المعنى الحقيقي و هو نفي الضرر حقيقة - لكونه كذبا لوجود الضرر في الخارج - دار أمره بين جملة من المعاني منها: إرادة الحكم من الضرر بعلاقة السببية و المسببية؛ بأن يكون الضرر مستعملا في الحكم بتلك العلاقة، و هو مختار الشيخ الأنصاري «قدس سره»، و يسمى هذا التصرف بالمجاز في الكلمة.

و منها: إرادة نوع من طبيعة الضرر حقيقة بنحو المجاز في الحذف؛ بأن يقال: إن المنفي هو الضرر غير المتدارك كإتلاف مال الغير بدون ضمان مثلا.

و منها: جعل كلمة «لا» ناهية؛ بأن يراد من «لا ضرر» الزجر عنه و طلب تركه؛ و لكن هذا الحمل بعيد، كما أن حملها على نفي الصفة - و هي غير المتدارك - بعيد.

فيدور الأمر بين المجاز في الكلمة و بين نفي الحقيقة ادعاء، و الظاهر: أنهما يرجعان إلى معنى واحد و هو نفي الحكم، غاية الأمر: نفي الحكم في أحدهما يكون ابتداء، و في الآخر بلسان نفي الموضوع.

5 - و أما النسبة بين قاعدة لا ضرر و بين أدلة الأحكام الأولية: فهي و إن كانت عموما من وجه؛ إلاّ إنه يقدم لا ضرر عليها للتوفيق العرفي بينه و بينها على ما هو رأي المصنف «قدس سره»؛ بأن يحمل الحكم العنوان الأولي على الاقتضائي، و الحكم المنفي بقاعدة لا ضرر على الفعلي، و كذا يقدم دليل الحرج و النذر و العهد و اليمين و غيرها من العناوين الثانوية أيضا على أدلة أحكام العناوين الأولية، مع كون النسبة بينهما أيضا هي عموم من وجه.

ص: 84

6 - و قد يعكس الأمر بمعنى: أنه يقدم دليل الحكم الأولي على الحكم بالعنوان الثانوي فيما إذا أحرز بدليل معتبر كون الحكم الأولي مجعولا، بنحو يكون علة تامة للفعلية لا مقتضيا لها؛ حتى يمكن رفع فعليته و حمله على الاقتضائي بسبب عروض عنوان ثانوي عليه؛ كوجوب إنقاذ نبي «صلوات الله عليه» أو وصي «عليه السلام»، فإن هذا الوجوب فعلي مطلقا و إن كان موجبا للضرر أو الحرج على الغير. فلا يحمل على الاقتضائي بالتوفيق العرفي بين دليله و دليل حكم العنوان الثانوي كالضرر و غيره.

7 - و أما حكم تعارض دليل الضرر مع أدلة أحكام العناوين الثانوية غير الضرر كالحرج و النذر و اليمين و الشرط؛ كما إذا كان حفر بئر أو بالوعة في ملكه مضرا بجاره و تركه كان حرجا على نفسه.

و كما إذا كان شرب التتن مضرا بحاله و تركه عسرا عليه، و كما إذا نذر الصلاة في مسجد معين مثلا، و كان أداؤها فيه مستلزما للضرر، فحينئذ يقع التعارض بين أدلة النذر و الضرر و الحرج، و كل منها عنوان ثانوي، فلا يتأتى فيها التوفيق العرفي بحمل أحدها على الفعلي و الآخر على الاقتضائي؛ لتساويها في الفعلية و الاقتضاء، و كونها من قبيل الواحد لعرضيتها و عدم طوليتها حتى يوفق بينها بحمل أحدها على الفعلي و الآخر على الاقتضائي، و يعامل مع دليلي العنوانين الثانويين معاملة المتعارضين إن كان المقتضى للحكم في أحدهما دون الآخر، فيرجح ذو المزية بينهما على الآخر، و على فرض التكافؤ يتخير أو يرجع إلى ما يقتضيه الأصل في المسألة.

و إن كان المقتضى له في كليهما مطلقا حتى في ظرف الاجتماع كإنقاذ الغريقين المؤمنين، عومل معهما معاملة التزاحم من تقديم ما هو أهم ملاكا؛ كما إذا كان أحدهما عالما و الآخر جاهلا. و التخيير مع عدم إحراز أهمية الملاك في أحدهما.

8 - أما حكم تعارض الضررين: فهو - في تعارض ضرري شخص واحد أو شخصين - الأخذ بأقلهما إن كان أحدهما أقلا؛ و إلاّ فالحكم هو التخيير، و في تعارض ضرر نفسه مع ضرر غيره عدم تحمل الضرر عن الغير و إن كان كثيرا. و في الضرر المتوجه إلى نفسه عدم إيراده على الغير.

9 - نظريات المصنف «قدس سره»:

1 - بطلان ما ذكره الفاضل التوني من الشرطين الآخرين للبراءة.

2 - تمامية قاعدة لا ضرر سندا.

ص: 85

3 - الضرر و الضرار بمعنى واحد، و معناهما هو الضرر في مقابل النفع.

4 - كلمة «لا» النافية بمعنى نفي الحقيقة ادعاء.

5 - و النسبة بين دليل نفي الضرر و بين أدلة الأحكام الأولية هي عموم من وجه، و تقديم لا ضرر على أدلة الأحكام الأولية من باب التوفيق العرفي في بعض الموارد.

6 - قد يعامل مع تعارض لا ضرر مع أدلة العناوين الثانوية معاملة المتعارضين، و قد يعامل معاملة المتزاحمين.

7 - حكم تعارض ضرري شخص واحد أو شخصين هو: الأخذ بأقل الضررين إن كان، و إلاّ فالتخيير.

8 - و في تعارض ضرر نفسه مع ضرر غيره عدم تحمل الضرر عن الغير.

9 - في الضرر المتوجه إلى نفسه عدم إيراده على الغير.

ص: 86

فصل في الاستصحاب (1)

اشارة

=============

(1) و قبل الدخول في بيان أدلته ينبغي تقديم أمور:

الأمر الأول: في معنى الاستصحاب لغة و اصطلاحا.

الثاني: في أن البحث عن الاستصحاب هل يكون بحثا عن مسألة أصولية أو فقهية.

الثالث: في الفرق بين الاستصحاب و قاعدة اليقين.

الرابع: في تقسيم الاستصحاب على أنحاء.

الكلام في معنى الاستصحاب

و هو في اللغة: عبارة عن أخذ شيء مصاحبا، فمعنى: استصحبت هذا الشيء أي:

أخذته مصاحبا، و استصحبت هذا الشخص أي: اتخذته صاحبا، فإطلاقه على القاعدة المعروفة بالاستصحاب عند الأصوليين إنما هو باعتبار أن العامل بها يتخذ ما تيقن به سابقا صحيبا له إلى الزمان اللاحق في مقام العمل، فكأن المستصحب يجعل الشيء المشكوك فيه في صحبته، فإذا شك في بقاء طهارته - و قد كان سابقا متطهرا - لازم الطهارة و بنى على أنها معه، و منه قوله الفقهاء في مقام بيان مبطلات الصلاة:

«استصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه مبطل للصلاة»، فيكون هذا الاستصحاب بالمعنى اللغوي.

و أما معناه اصطلاحا: فقد عرف في كلمات القوم بتعاريف عديدة.

منها: ما في زبدة الأصول للشيخ البهائي «رحمه الله» من أنه «إثبات الحكم في الزمان الثاني تأويلا على ثبوته في الزمن الأول»، و هو تعريف جيد إلاّ من ناحية عدم الإشارة فيه إلى ركني الاستصحاب و هما: اليقين السابق و الشك اللاحق.

و منها: ما اختاره الشيخ الأنصاري «قدس سره» في رسائله بعنوان أنه تعريف أسدّ و أخصر و هو: «أن الاستصحاب إبقاء ما كان»(1)، و يرد عليه أيضا بعدم الإشارة فيه إلى

ص: 87


1- فرائد الأصول 9:3.

ركني الاستصحاب، مضافا إلى: شموله الإبقاء التكويني لما كان، بينما متعلق الإبقاء في الاستصحاب إنما هو الحكم الشرعي التعبدي.

اللهم إلا أن يقال: إن طبيعة البحث قرينة على كونه ناظرا إلى التشريع.

و منها: ما ذهب إليه المصنف «قدس سره» و هو: «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه»، و هذا التعريف مما لا بأس به إن أضيف إليه قيد آخر و هو: عدم كون الحكم بالبقاء مستندا إلى دليل خاص، حيث إنه لولاه لكان التعريف شاملا لما إذا كان الإبقاء من جهة قيام دليل خاص عليه.

و منها: ما اختاره المحقق النائيني «قدس سره» من: «أن الاستصحاب عبارة عن عدم انتقاض اليقين السابق المتعلق بالحكم أو الموضوع من حيث الأثر، و الجري العملي بالشك في بقاء متعلق اليقين»(1).

و هذا التعريف مضافا إلى كونه تطويلا بلا دليل لا يناسب مقام التعريف؛ يرد عليه ما ورد على تعريف المصنف من شموله لما إذا كان عدم انتقاض اليقين السابق مستندا إلى دليل خاص.

فالصحيح هو تعريف المصنف «قدس سره» بإضافة القيد المزبور. أي: الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه، من دون قيام دليل خاص عليه.

هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

و أما الأمر الثاني - و هو كون الاستصحاب من المسائل الأصولية أو غيرها - فقد حكم بعض بكونه من المسائل الأصولية يقينا، و فصل بعض آخر بين الاستصحاب في الشبهات الحكمية، و الاستصحاب في الشبهات الموضوعية، فحكم بأنه من المسائل الأصولية على الأول، و من القواعد الفقهية على الثاني. و هذا ما يظهر من كلام السيد الخوئي «قدس سره» في مصباح الأصول - قسم الاستصحاب - ص 6، حيث قال: ما حاصله: من أنه على القول باختصاص حجية الاستصحاب بالشبهات الموضوعية و عدم حجيته في الأحكام الكلية كما هو المختار يرجع البحث عنه إلى البحث عن قاعدة فقهية مستفادة من الأخبار، فيكون الاستصحاب من القواعد الفقهية كقاعدة الطهارة و قاعدة التجاوز، و يعتبر فيه حينئذ اليقين السابق و الشك اللاحق من المقلد، و لا يكفى تحققهما من المجتهد بالنسبة إلى تكليف المقلد.

ص: 88


1- انظر الموسوعة الفقهية الميسرة 411:2.

نعم؛ اليقين و الشك من المجتهد يعتبران في جريان الاستصحاب بالنسبة إلى تكليف نفسه، لا بالنسبة إلى تكليف المقلد - إلى أن قال - و أما على القول بحجيته في الأحكام الكلية أيضا: فيكون الاستصحاب حينئذ ذا جهتين، فمن جهة كونه جهة في الأحكام الكلية يكون البحث عنه بحثا عن مسألة أصولية؛ لإمكان وقوع نتيجة البحث في طريق استنباط الأحكام الشرعية كما هو الملاك في كون المسألة أصولية، و حينئذ: يعتبر فيه اليقين السابق و الشك اللاحق من المجتهد كما في سائر القواعد الأصولية.

فبعد تحقق اليقين السابق و الشك اللاحق من المجتهد بالنسبة إلى حكم شرعي كلي كنجاسة الماء المتمم كرّا، و حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال يستصحب هذا الحكم الكلي، و يفتي بنجاسة الماء و حرمة وطء الحائض، و يجب على المقلد اتباعه من باب رجوع الجاهل إلى العالم.

و من جهة كونه حجة في الأحكام الجزئية و الموضوعات الخارجية يكون البحث عنه بحثا عن مسألة فقهية، و لا مانع من اجتماع الجهتين فيه، فإنه يثبت كونه قاعدة أصولية و قاعدة فقهية بدليل واحد و هو قوله «عليه السلام»: «لا تنقض اليقين بالشك»(1)، فإن إطلاقه شامل لليقين و الشك المتعلقين بالأحكام الكلية و اليقين و الشك المتعلقين بالأحكام الجزئية أو الموضوعات الخارجية، فبدليل واحد يثبت كونه قاعدة أصولية و قاعدة فقهية، و لا مانع منه أصلا.

و أما الأمر الثالث - و هذا الفرق بين الاستصحاب و قاعدة اليقين - فحاصله: أن اليقين و الشك متضادان؛ بل باعتبار خصوصية فيهما متناقضان؛ لأن اليقين يعتبر فيه عدم احتمال الخلاف، و الشك يعتبر فيه احتمال الخلاف، و بين هاتين الخصوصيتين تناقض. فلا يمكن اجتماع اليقين و الشك في شيء واحد.

فلا بد حينئذ من الالتزام بأحد أمرين: إما الالتزام بوحدة زمان الوصفين و تعدد زمان متعلقهما، فيكون موردا للاستصحاب.

و إما الالتزام بوحدة زمان المتعلقين و تعدد زمان الوصفين، فيكون موردا لقاعدة اليقين.

و بعبارة أخرى: أن الشك إذا تعلق ببقاء ما تيقن به فهو الاستصحاب، و إذا تعلق بأصل حدوث ما تيقن به فهو قاعدة اليقين.

ص: 89


1- علل الشرائع 361:2 /ب. 8، جزء من ح 1، تهذيب الأحكام 421:1 /جزء من ح 1335، الوسائل 466:3 /جزء من ح 4192.

و في حجيته إثباتا و نفيا أقوال (1) للأصحاب.

=============

و أما الأمر الرابع: فهو في تقسيم الاستصحاب على أنحاء:

فتارة: يقسم باعتبار المستصحب، فإنه قد يكون حكما شرعيا، و قد يكون غيره، و الحكم الشرعي قد يكون تكليفيا، و قد يكون وضعيا.

و كذا قد يكون كليا، و قد يكون جزئيا.

و أخرى: باعتبار منشأ اليقين، فإنه قد يكون العقل و قد يكون غيره من الكتاب و السنة أو السماع و الرؤية، كما إذا كان المستصحب من الأمور الخارجية.

و ثالثة: باعتبار منشأ الشك، فإنه قد يكون الشك ناشئا من احتمال طروء المانع مع اليقين بوجود المقتضي، و يسمى بالشك في الرافع، و قد يكون ناشئا من احتمال انقضاء استعداده ذاتا، و يسمى بالشك في المقتضي، و غير ذلك من التقسيمات التي تعرّض لها الشيخ «قدس سره»، و قد وقع الخلاف بينهم في حجية الاستصحاب و عدمها مطلقا، و التفصيل بين الحكم الشرعي و غيره تارة، و بين ما كان سبب اليقين بالحكم الشرعي الدليل العقلي و غيره أخرى، و بين الشك في المقتضي و الشك في الرافع ثالثة.

و اختار(1) الشيخ «قدس سره» التفصيل باعتبارين:

الأول: التفصيل بين الشك في المقتضي و الشك في الرافع.

و الثاني: التفصيل بين ما كان سبب اليقين بالحكم الشرعي الدليل العقلي و غيره، فأنكر حجية الاستصحاب في الأول في التفصيلين؛ و إن كان إرجاع التفصيل الثاني إلى الأول ممكنا. و حيث إن في استقصاء هذه التفاصيل تطويلا بلا طائل، فالعمدة هو النظر إلى الأدلة التي أقاموها على حجية الاستصحاب فانتظر ما استدل به على حجية الاستصحاب من السيرة و الإجماع و الأخبار و غيرها.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) «قال في أوثق الوسائل: «قيل: تبلغ الأقوال في المسألة نيفا و خمسين»، و اقتصر الشيخ كصاحب الفصول «قدس سرهما» على نقل أحد عشر قولا.

و اختار في الفصول التفصيل بين الشك في المقتضي و الشك في الرافع، و عدّه القول الثاني عشر في المسألة، و لا بأس بالإشارة إلى الأقوال التي تعرض لها الشيخ «قدس سره»:

الأول: الحجية مطلقا، قال في الأوثق: «عزاه الشهيد الثاني(2) إلى أكثر المحققين».

ص: 90


1- فرائد الأصول 48:3.
2- فرائد الأصول 48:3.

الثاني: عدم الحجية مطلقا، قال في الأوثق: «ذهب إليه السيدان و صاحبا المدارك و المعالم».

الثالث: التفصيل بين الوجودي و العدمي. نسب ذلك إلى بعض العامة.

الرابع: التفصيل بين الأمور الخارجية و الحكم الشرعي بالاعتبار في الثاني دون الأول، قال في الأوثق: «حكاه المحقق الخوانساري عن بعضهم، و قد أنكر المصنف عند التعرض لأدلة الأقوال: وجود قائل بهذا التفصيل».

الخامس: التفصيل بين الحكم الشرعي الكلي و غيره، بالاعتبار في الثاني دون الأول إلا في عدم النسخ، قال في الأوثق: «اختاره الأخباريون».

السادس: التفصيل بين الحكم الجزئي و غيره، فلا يعتبر في غير الجزئي، حكى الشيخ عن السيد الصدر استظهاره من كلام المحقق الخوانساري؛ لكن الشيخ في مقام بيان أدلة الأقوال قال: «على تقدير وجود القائل به».

و في الأوثق: «المستفاد منها - أي: من حاشية المحقق الخوانساري - هو التفصيل بين الأمور الخارجية و غيرها، سواء كان حكما جزئيا أم كليا».

السابع: التفصيل بين الأحكام التكليفية و الوضعية، و ما يترتب عليها من التكليف بالاعتبار في الثاني دون الأول. حكاه الشيخ عن الفاضل التوني و سيأتي بيانه عند تعرض المصنف للأحكام الوضعية.

الثامن: التفصيل بين ما ثبت بالإجماع و غيره، بعدم الاعتبار في الأول، حكي عن الغزالي. و لكن تأمل الشيخ عند بيان الأدلة في صحة النسبة.

التاسع: التفصيل بين الشك في المقتضي و الرافع بعدم الاعتبار في الأول، استظهره الشيخ من كلام المحقق في المعارج، و اختاره كصاحب الفصول.

العاشر: هذا التفصيل مع اختصاصه بوجود الغاية لا الرافع.

و قد تعرض الشيخ الأنصاري لأكثر هذه الأقوال مع أدلتها؛ و لكن المصنف لأجل تحرير الأصول أعرض عن التعرض لها و اقتصر على الاستدلال على مختاره، أعني:

حجية الاستصحاب مطلقا و تفاصيل أربعة:

أولها: التفصيل في الحكم الشرعي بين كونه مستندا إلى حجة شرعية من الكتاب و السنة، و بين كونه مستندا إلى حكم العقل.

ثانيها: التفصيل بين الشك في المقتضي و الرافع، و هو خيرة جمع من المحققين منهم الشيخ الأنصاري «قدس سره».

ص: 91

و لا يخفى: أن عباراتهم (1) في تعريفه و إن كانت شتى؛ إلاّ إنها (2) تشير إلى ثالثها: التفصيل بين الحكم التكليفي و الوضعي.

=============

رابعها: التفصيل بين الأحكام الكلية و الموضوعات الخارجية، أشار إليه في طي البحث عن اعتبار وحدة القضيتين موضوعا و محمولا(1)، و سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.

(1) أشار المصنف «قدس سره» قبل الخوض في أدلة اعتبار الاستصحاب إلى أمور ثلاثة أولها: تعريفه، ثانيها: إثبات كونه مسألة أصولية، ثالثها: اعتبار وحدة القضيتين المتيقنة و المشكوكة موضوعا و محمولا: و قوله: «لا يخفى أن عباراتهم» إشارة إلى أول هذه الأمور، و حاصله: أن الاستصحاب عرف في كلمات القوم بتعاريف مختلفة:

منها: ما عن الشيخ البهائي «قدس سره» في الزبدة(2) و قد تقدم ذكر هذا التعريف.

و منها: ما عن الفاضل التوني في الوافية من: «أنه التمسك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال على بقائه فيما بعد ذلك الوقت، أو غير تلك الحال»(3).

و منها: ما في القوانين من: «أنه كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق، مشكوك البقاء في الآن اللاحق»(4).

و منها: ما في الفصول من: «أنه إبقاء ما علم ثبوته في الزمان السابق فيما يحتمل البقاء فيه من الزمن اللاحق»(5).

و منها: ما في كشف الغطاء من: «أنه الحكم باستمرار ما كان إلى أن يعلم زواله»(6).

و منها: غير ذلك مما تقدم بعض تلك التعاريف.

و حيث إن شيئا من هذه التعاريف غير سليم من الخلل، عدل المصنف «قدس سره» إلى تحديده بقوله: «و هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه».

(2) أي: أن التعاريف الواردة في كتب القوم «تشير...» الخ.

و غرضه: أن اختلاف القوم في تعريف الاستصحاب بتكثير القيود و غير ذلك لم ينشأ

ص: 92


1- منتهى الدراية 5:7-7.
2- ذكره الشيخ في فرائد الأصول 9:3.
3- الوافية في أصول الفقه: 200.
4- انظر حاشية على القوانين: 23.
5- الفصول الغروية: 366.
6- كشف الغطاء 35:1.

مفهوم واحد و معنى فارد، و هو الحكم ببقاء حكم (1) أو موضوع ذي حكم (2) شك في بقائه (3) إما (4) من جهة بناء العقلاء على ذلك في أحكامهم العرفية...

=============

عن الاختلاف في حقيقته و مفهومه؛ بل حقيقته واحدة، و الغرض من التعريف: الإشارة إلى ذلك المفهوم الفارد، غاية الأمر: أن الجهات المشيرة إليه مختلفة، فكل واحد من تلك التعريفات يشير إلى ذلك المفهوم الوحداني بالجهة المأخوذة في ذلك التعريف.

(1) هذا في الشبهة الحكمية، و قوله: «أو موضوع ذي حكم» إشارة إلى جريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعية، و مقتضى التعبد الاستصحابي في الجميع: جعل الحكم المماثل للحكم المشكوك فيه، أو لحكم الموضوع المشكوك فيه.

(2) أي: سواء كان الحكم تكليفيا بناء على جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية، أم وضعيا. و أما اعتبار كون المستصحب حكما أو موضوعا ذا حكم: فلأن الاستصحاب من الأصول العملية التي هي وظائف شرعية للشاك في مقام العمل، فإذا لم يكن المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا له فلا معنى للتعبد ببقائه.

(3) أي: شك في بقاء الحكم المتيقن أو موضوعه.

(4) غرض المصنف «قدس سره»: إثبات أن ما ذكره من تعريف الاستصحاب جامع لما يعتبر في التعريف؛ و ذلك لأنه يعتبر في تحديد ما يكون من الحجج الشرعية أمور:

الأول: التئام التعريف مع دليل الاعتبار.

و الثاني: اشتمال التعريف على ما يكون دخيلا في حقيقة المعرف - بالفتح - و مقوما له؛ إذ بدونه لا يكون التعريف وجها و شارحا للمعرف كما هو ظاهر.

الثالث: كون التعريف جامعا للمباني و الأقوال المختلفة حتى يكون مورد النفي و الإثبات واحدا؛ و إلا كان النزاع لفظيا كما سيتضح.

و ما أفاده «قدس سره» بقوله: «إما من جهة...» الخ بيان للأمر الأول، و حاصله: أن دليل اعتبار الاستصحاب - من بناء العقلاء على بقاء الحالة السابقة أو النص و الإجماع الآتيين، أو الإدراك العقلي الظني بالبقاء الحاصل من ملاحظة الحالة السابقة - منطبق على تعريف المتن؛ لأن مفاد كل واحد منها هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه.

و هذا بخلاف أكثر التعاريف؛ لظهورها في استناد الإبقاء إلى خصوص الظن بالبقاء، و من المعلوم: أن هذا لا يلتئم مع كون الاستصحاب أصلا عمليا مستندا إلى الأخبار لا الظن. هذا بيان الأمر الأول.

ص: 93

مطلقا (1)، أو في الجملة (2) تعبدا (3)، أو للظن به الناشئ عن ملاحظة ثبوته سابقا.

و إما (4) من جهة دلالة النص أو دعوى الإجماع عليه كذلك (5)، حسبما تأتي الإشارة (6) إلى ذلك مفصلا.

و لا يخفى: أن هذا المعنى (7) هو القابل لأن يقع فيه النزاع و الخلاف في نفيه و أما الأمر الثاني فتوضيحه: أن اليقين السابق و الشك اللاحق ركنان في الاستصحاب، و قد لوحظ كل منهما في التعريف، أما الشك في البقاء: فللتصريح به، و أما اليقين بالحدوث: فلدلالة «بقاء حكم أو موضوع» عليه، فالتعريف من هذه الجهة تام.

=============

و المشار إليه في قوله: «ذلك» هو الحكم بالبقاء.

(1) يعني: في جميع الموارد من الشك في المقتضي و الرافع، و كون المستصحب حكما أو موضوعا، و كليا أو جزئيا، و غير ذلك من التفاصيل المتقدمة.

(2) إشارة إلى اعتبار الاستصحاب ببناء العقلاء في بعض الموارد كالعمل به في الشك في الرافع، أو رافعية الموجود خاصة.

(3) يعني: و لو لم يحصل الظن الشخصي و لا النوعي ببقاء الحالة السابقة المتيقنة؛ بأن كان بناؤهم رجاء و احتياطا. و عليه: فكل من قوله: «تعبدا أو للظن به» قيد لبناء العقلاء، يعني: أن بناءهم على إبقاء ما كان إما أن يكون للظن به و إما للتعبد و لو لم يحصل لهم ظن بالبقاء، و على الثاني: يندرج الاستصحاب في الأصول العملية، و على الأول: في الأمارات.

و ضميرا «ثبوته، به» راجعان على الحكم المتيقن أو الموضوع ذي حكم.

(4) عطف على «إما من جهة...» الخ. و سيأتي بيانهما عند التعرض للأدلة.

(5) أي: على الحكم بالبقاء مطلقا أو في الجملة.

(6) الأولى تبديلها ب «بيان» و نحوه، إذ لا مناسبة بين الإشارة و التفصيل.

(7) أي: الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم، و هذا إشارة إلى الأمر الثالث مما يعتبر في التعريف.

و غرضه: أن المعنى الذي يصح النزاع فيه بحيث يتحد مورد النفي و الإثبات - كما هو شأن غير الاستصحاب من المسائل الخلافية - هو المعنى المذكور أعني: كون الاستصحاب عبارة عن «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه».

و توضيح ما أفاده: أنه لا ريب في كون الاستصحاب من الأمور المبحوث عنها من

ص: 94

و إثباته (1) مطلقا (2) أو في الجملة، و في (3) وجه ثبوته على أقوال (4)، ضرورة:...

=============

زمان القدماء؛ بل الأقدمين إلى عصرنا هذا، فأثبته قوم و نفاه آخرون إما مطلقا أو في الجملة كما عرفت في الإشارة إلى الأقوال، و من المعلوم: أن اختلاف الأصحاب فيه معنوي؛ لعدم استحقاق النزاع اللفظي للبحث و النظر، و في المقام جهتان تقتضيان الالتزام بتعريف الاستصحاب بما في المتن، دون غيره من التعاريف.

إحداهما: اقتضاء كون النزاع في أصل اعتبار الاستصحاب و عدمه معنويا لتعريفه بما ذكر؛ لتوارد النفي و الإثبات حينئذ على مفهوم وحداني جامع للمباني المتشتتة في المسألة، فالقائل بالاعتبار يدعي حجيته بالتحديد المذكور في المتن، و النافي له ينكر نفس هذا المعنى، و أن «الحكم ببقاء حكم أو موضوع...» غير ثابت؛ لعدم الدليل عليه لا من الأخبار و لا العقل و لا سيرة العقلاء، كما أن المفصّل يقول بثبوت اعتباره في الشك في الرافع دون الشك في المقتضي، و النزاع على هذا معنوي، بخلاف ما إذا عرف الاستصحاب بأنه «التمسك بثبوت ما ثبت في وقت بعد ذلك الوقت»، فإنه عليه يكون نفس بناء العقلاء على الأخذ بما ثبت سابقا، و من المعلوم: صيرورة النزاع لفظيا حينئذ؛ إذ المنكر لهذه السيرة قد يقول باعتبار الاستصحاب لكونه حكما لا نفس البناء العملي، فلم يتوارد النفي و الإثبات على أمر واحد حتى يكون النزاع معنويا.

ثانيتهما: اقتضاء أدلة اعتبار الاستصحاب لتعريفه المتقدم.

و بيانه: أن القائلين بحجيته اختلفوا في الاستدلال عليها، فمنهم من استدل عليها بالأخبار، و منهم من تمسك لها ببناء العقلاء، و منهم من تشبث بالعقل، و منهم من احتج عليها بالإجماع، و المفهوم الجامع الذي يمكن إثباته بكل واحد من هذه الأدلة هو كونه «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم» لصحة أن يقال بثبوت الحكم بالبقاء بالنص أو بالعقل أو بسيرة العقلاء، في قبال النافي المنكر لدلالة النص و غيره عليه، فيتحد مورد النفي و الإثبات، و هذا بخلاف تعريف الفاضل التوني الظاهر في كون الاستصحاب نفس البناء العقلائي بلا حكم في البين، و من المعلوم: أن هذا البناء أجنبي عما إذا كان مفاد الأخبار الحكم بالبقاء، فيصير النزاع حينئذ لفظيا.

(1) هذا الضمير و ضميرا «فيه، نفيه» راجعان على هذا المعنى.

(2) هذا و ما بعده إشارة إلى الأقوال في المسألة، و قد تقدمت.

(3) عطف على «في نفيه»، و هذا إشارة إلى الجهة الثانية المتقدمة بقولنا: «ثانيتهما:

اقتضاء أدلة اعتبار الاستصحاب...» الخ.

(4) متعلق ب «النزاع و الخلاف».

ص: 95

أنه (1) لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء على البقاء أو الظن به (2) الناشئ من العلم بثبوته لما (3) تقابل فيه الأقوال، و لما (4) كان النفي و الإثبات واردين على مورد واحد؛ بل موردين (5). و تعريفه (6) بما ينطبق على بعضها و إن كان ربما يوهم أن لا

=============

(1) الضمير للشأن، و هذا تعليل لقوله: «هو القابل لأن يقع...» يعني: أن الاستصحاب بناء على كونه هو الحكم ببقاء حكم... مجمع للأقوال المختلفة، فنفس هذا الحكم بالبقاء ثابت عند بعض و غير ثابت عند آخر و هكذا.

و أما كونه موردا لتقابل الأقوال من جهة الدليل: فلما عرفته آنفا من: أنه إذا لم يكن الاستصحاب بمعنى «الحكم ببقاء حكم...» لم تتقابل الأقوال فيه من ناحية دليل اعتباره؛ إذ المثبت للاستصحاب بمعنى الحكم بالبقاء غير المثبت له بمعنى بناء العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة؛ لمغايرة الحكم الشرعي بالبقاء لبناء العقلاء.

(2) أي: بالبقاء الناشئ هذا الظن من العلم بثبوت حكم أو موضوع ذي حكم.

(3) جواب «لو كان»، و ضمير «بثبوته» راجع على «حكم أو موضوع ذي حكم».

(4) عطف على «لما تقابل» و مفسر له، و قد تقدم بيانه.

(5) مع أن النزاع في أمر يقتضي معلومية مورد النزاع، و عليه: فلا مناص من اختيار ما ذكره من التعريف دون سائر ما ذكروه.

(6) أي: و تعريف الاستصحاب، و المراد بالموصول في «بما ينطبق» تعريف الاستصحاب.

و غرضه من هذا الكلام: الاعتذار عن بعض تعاريف الاستصحاب بعد إثبات كون تعريفه الصحيح الذي يكون مجمعا للأقوال المتشتتة هو ما تقدم بقوله: «الحكم ببقاء حكم أو موضوع...» الخ. فقوله: «و تعريفه بما ينطبق» إشارة إلى وهم و دفع ذكرهما في حاشية الرسائل أيضا في التعليق على تعريف الفاضل التوني للاستصحاب.

و أما الوهم فهو: أن تعريف الاستصحاب بأنه «التمسك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال على بقائه» يوهم عدم كونه هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم؛ بل الاستصحاب هو نفس البناء العملي على الحالة السابقة لظهور «التمسك بثبوته...» في أن الاستصحاب نفس الاعتماد على ثبوته السابق في إبقائه عملا، مع عدم كون الاستصحاب نفس التمسك بثبوت ما ثبت، بل ما به التمسك؛ لأن الاستصحاب بناء على حجيته من باب الظن - كما هو مبنى التعريف المزبور - هو الظن بالبقاء أو الظن بالملازمة بين الثبوت و البقاء، و المناسب له أن يقال: إنه التمسك بما ثبت بمعنى: إبقاء ما ثبت و عدم الانفكاك عنه عملا.

ص: 96

يكون هو الحكم بالبقاء بل ذاك الوجه (1) إلا إنه (2) حيث لم يكن بحد (3) و لا برسم؛ بل من قبيل شرح الاسم (4) كما هو الحال في التعريفات غالبا (5) لم يكن له (6) دلالة و بعبارة أخرى: حيث إن المستصحب - بالكسر - هو المكلف ففعله إبقاء ما ثبت تعويلا على ثبوته في السابق، و هذا الإبقاء هو الحكم بالبقاء الذي أفاده الماتن، و أما تعريفه ب «التمسك بثبوت ما ثبت» فظاهر في جعل نفس الثبوت السابق حجة و دليلا على ثبوته في اللاحق، و هذا ليس هو الاستصحاب المصطلح، فإن كون الثبوت السابق أمارة على البقاء لا ربط له بفعل المكلف أعني: إبقاء ما ثبت. هذا حاصل الوهم.

=============

و أما الدفع فهو: أن منافاة تعريف الفاضل التوني لما في المتن من كونه «الحكم ببقاء حكم أو موضوع...» مبنية على كون هذه التعريفات حقيقة أي: مبنية لمطلب «ما» الحقيقية، و أما بناء على كونها تعريفات لفظية أي: مبنية لمطلب «ما» الشارحة - كما هو كذلك - فلا يرد عليها إشكال أصلا ضرورة: كون مقصود الجميع الإشارة إلى ما هو المعلوم المرتكز عند الكل من الحكم بالبقاء، و ليست هذه التعاريف في مقام حقيقة الاستصحاب حتى يكون اختلاف الحدود كاشفا عن اختلاف ماهية المحدود.

و ضمير «بعضها» راجع على الأقوال أي: بعض الأقوال دون جميعها؛ لانطباق تعريف الفاضل التوني و غيره على استناد حجية الاستصحاب إلى الظن، و من المعلوم: أن مثله أجنبي عن تعريفه بالحكم بالبقاء كما عرفت في تقريب الوهم.

(1) أي: الوجه المذكور في التعريف من أنه نفس «التمسك بثبوت ما ثبت...» الخ، أو «كون حكم أو وصف يقيني الحصول...»؛ لعدم كون الاستصحاب - بناء على هذين التعريفين - هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم.

(2) هذا إشارة إلى دفع التوهم، و قد تقدم بقولنا: «و أما الدفع...» الخ. و ضمير «أنه» كالمستتر في «لم يكن» راجع على التعريف.

(3) و هو التعريف بالفصل القريب، و الرسم هو التعريف بالخاصة، فإن كانا مع الجنس القريب فتام و إلا فناقص.

(4) الظاهر: أن مقصوده من شرح الاسم هو التعريف اللفظي، فالعبارة لا تخلو من مسامحة.

(5) نبّه على ذلك في مواضع من الكتاب؛ كبحث الواجب المطلق و المشروط و العام و الخاص.

(6) أي: لتعريف الاستصحاب بما ينطبق على بعض الأقوال. و قوله: «لم يكن» جواب «حيث».

ص: 97

على أنه (1) نفس الوجه، بل للإشارة إليه (2) من هذا الوجه، و لذا (3) لا وقع للإشكال على ما ذكر في تعريفه بعدم الطرد أو العكس، فإنه لم يكن به (4) إذا لم يكن (5) بالحد أو الرسم بأس (6).

فانقدح (7): أن ذكر تعريفات القوم له و ما ذكر فيها من الإشكال بلا حاصل (8) و تطويل بلا طائل.

ثم لا يخفى (9): أن البحث في حجيته مسألة أصولية، حيث يبحث فيها لتمهيد

=============

(1) أي: أن الاستصحاب نفس الوجه، و هو البناء العملي المذكور في تعريف بعضهم له.

(2) أي: إلى الاستصحاب، يعني: أن غرض من عرفه بالبناء العملي هو تحقق هذا البناء في الاستصحاب، و ليس بصدد بيان أن هويته هذا البناء حتى ينافي تعريف المصنف له بأنه هو الحكم بالبقاء.

(3) يعني: و لأجل كون التعريف من قبيل شرح الاسم لا وقع للإشكال على التعريفات بعدم الطرد تارة و عدم العكس أخرى؛ إذ مورد هذه الإشكالات هو التعريف الحقيقي المبيّن لمطلب «ما» الحقيقية دون التعريف اللفظي المبيّن لمطلب «ما» الشارحة.

(4) هذا الضمير و ضمير «فإنه» راجعان على «ما ذكر في تعريفه».

(5) اسمه ضمير مستتر راجع على قوله: «ما ذكر».

(6) اسم «يكن» في قوله: «لم يكن به».

(7) هذه نتيجة عدم كون تعريفات القوم للاستصحاب حقيقية؛ إذ لا يبقى حينئذ مجال للإشكال عليها طردا أو عكسا، فلا جدوى للمناقشة فيها أصلا. و ضمير «له» راجع على الاستصحاب، و ضمير «فيها» على «تعريفات»، و «ما» الموصول معطوف على «تعريفات».

(8) خبر «أن»، و «تطويل» بالرفع معطوف على «بلا حاصل» هذا تمام الكلام في الأمر الأول، و هو تعريف الاستصحاب.

(9) هذا إشارة إلى الأمر الثاني الذي تعرض له قبل بيان الأدلة، و هو إثبات كون الاستصحاب من مسائل علم الأصول لا من مباديه، و لا قاعدة فقهية، و لا بأس قبل توضيح كلامه بذكر ضوابط المسألة الأصولية و الفقهية و القاعدة الفقهية إجمالا فنقول:

أما ضابط المسألة الأصولية: فهو ما يكون دخيلا في الاستنباط بنحو دخل الجزء الأخير من العلة التامة، فيخرج ما عدا علم الأصول طرا عن هذا التعريف و إن كان لجملة

ص: 98

من العلوم دخل أيضا في الاستنباط كالعلوم العربية و الرجال و غيرهما؛ لكن دخلها ليس دخل الجزء الأخير؛ بل الدخل الإعدادي على التفصيل المقرر في محله.

و أما ضابط القاعدة الفقهية - كقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» و عكسها، و «كل شرط مخالف للكتاب و السنة باطل». و «كل حكم ضرري أو حرجي مرفوع»، و «من ملك شيئا ملك الإقرار به» إلى غير ذلك - فهو كالمسألة الأصولية من حيث استنباط الأحكام الفرعية منها؛ لكنها تمتاز عنها في أن المسألة الأصولية لا تتعلق أولا و بالذات بالعمل كحجية الخبر و الظواهر و غيرهما، بخلاف القاعدة الفقهية، فإنها تتعلق بعمل المكلف بلا واسطة؛ كحكم الفعل الضرري و الحرجي و غير ذلك.

و أما ضابط المسألة الفقهية: فهو أيضا ما يتعلق بالعمل بلا واسطة، و يكون نتيجة للمسألة الأصولية؛ إلا إن أمر تطبيقها بيد العامي، لا المجتهد لأن وظيفة الفقيه الإفتاء بالحكم الكلي، كحرمة شرب الخمر، و وجوب التصدق، و نحوهما، و أما تطبيق عنواني الخمر و التصدق على أفرادهما فهو أجنبي عن وظيفة المجتهد.

و الفرق بين المسألة الفقهية و القاعدة الفقهية أيضا - بعد اشتراكهما في تعلق كل منهما بالعمل بلا واسطة كما مر - هو: أن موضوع المسألة الفقهية نوع واحد كالخمر و الخل و الماء و الحنطة، و غيرها من الطبائع التي هي موضوعات المسائل الفقهية.

بخلاف القاعدة الفقهية، فإن موضوعها ما يندرج تحته أنواع عديدة كعنوان الضرر و الحرج، و «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، فإن الضرر و الحرج مثلا يندرج تحتهما الصلاة و الوضوء و الصوم و البيع و غيرها، و كذا «ما يضمن» لاندراج جميع العقود المعاوضية تحته، من دون فرق في ذلك بين كون محمولها حكما واقعيا أوليا؛ كقاعدة «ما يضمن»، و بين كونه حكما واقعيا ثانويا؛ كقاعدتي الضرر و الحرج و نحوهما، و بين كونه حكما ظاهريا؛ كقاعدتي الفراغ و التجاوز و أصالة الصحة و غيرها.

إذا عرفت ضوابط القاعدة الفقهية و المسألة الأصولية و الفقهية فاعلم: أن الاستصحاب يجري تارة: في الحكم الأصولي؛ كاستصحاب حجية العام بعد الفحص عن المخصص، و استصحاب عدم وجود المعارض.

و أخرى: في الحكم الكلي الفرعي؛ كنجاسة الماء المتغير الذي زال تغيره من قبل نفسه و حرمة العصير الزبيبي إذا غلى و اشتد قبل ذهاب ثلثيه إذا شك في حليته و حرمته.

و ثالثة: في الموضوعات الخارجية؛ كاستصحاب حياة زيد أو عدالته مثلا و كالجاري

ص: 99

قاعدة تقع في طريق استنباط الأحكام الفرعية (1).

=============

في الأحكام الجزئية؛ كاستصحاب نجاسة ثوبه ببول بعد غسله مرة في الكثير للشك في اعتبار التعدد حتى في الغسل به.

أما الجاري في الأحكام الجزئية و الموضوعات الخارجية: فليس مسألة أصولية، و يقتضيه قول المصنف في تعريف علم الأصول في أول الكتاب: «و مسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية».

و أما الجاري في القسمين الأولين: فحاصل ما أفاده «قدس سره» فيهما هو: أن الاستصحاب من المسائل الأصولية، سواء كان من الأصول العملية التي هي وظيفة الشاك، و يكون الشك موضوعها، أم من الأدلة الظنية.

أما على الأول: فلانطباق ضابط المسألة الأصولية عليه؛ إذ يقال: «إن نجاسة الماء المتغير الذي زال تغيره بنفسه أو بعلاج مما شك في بقائه، و كل ما شك في بقائه فهو باق، فينتج بقاء نجاسة الماء المزبور»، و الحكم بنجاسته في هذه الصورة حكم كلي فرعي يتعلق بالعمل، فالاستصحاب حينئذ قاعدة مهدت لاستنباط الأحكام الفرعية، و كل ما كان كذلك فهو مسألة أصولية.

و أما الاستصحاب الجاري في المسألة الأصولية كالحجية: فكونه من مسائل علم الأصول أظهر؛ إذ ليس مجراه حكما فرعيا حتى يتوهم كونه من القواعد الفقهية.

و أما على الثاني - و هو كون الاستصحاب بناء العقلاء على ما علم ثبوته سابقا - فلأن البحث عن حجيته بحث عن ثبوت التلازم بين الحدوث و البقاء عند العقلاء و عدمه، و على تقدير ثبوته: فهل هذا البناء منهم حجة أم لا؟

و كذا بناء على اعتباره من باب الظن بالملازمة، فإنه يبحث فيه تارة: عن وجود هذا الظن و أخرى: عن حجيته، و من المعلوم: أن البحث عن دليلية الظن بالبقاء كالبحث عن حجية غيره من سائر الظنون أصولي لا فقهي؛ لعدم كون مفاده حكم العمل بلا واسطة كالبحث عن حجية خبر الواحد.

(1) و كل ما كان كذلك فهو مسألة أصولية؛ لما تقدم في تعريف علم الأصول بأنه «صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أو التي ينتهي إليها في مقام العمل»، فالاستصحاب الجاري في الموضوعات الجزئية كحياة المفقود و عدالة زيد، و كذا الجاري في الأحكام الجزئية كحلية هذا المائع أو طهارة هذا الثوب ليس مسألة أصولية؛ بل هو من الأحكام الفرعية كقاعدتي الفراغ و التجاوز.

ص: 100

و ليس مفادها (1) حكم العمل بلا واسطة، و إن كان ينتهي إليه، كيف (2)؟ و ربما لا

=============

(1) الظاهر رجوع الضمير إلى الاستصحاب، فالأولى تذكيره، و كذا ضمير «فيها»، و يحتمل قويا رجوعهما إلى «حجيته»، أو إلى المسألة الأصولية، و هذا إشارة إلى ما اشتهر بينهم من تعريف الحكم الفرعي كما في القوانين(1) و غيره(2): بأنه ما يتعلق بالعمل بلا واسطة كوجوب الصلاة و الحج و غيرهما.

و مقصود المصنف من هذه العبارة: بيان وجه عدم كون الاستصحاب من المسائل الفرعية؛ لأن الحكم الفرعي - على هذا - لا بد أن يتعلق بعمل المكلف بلا واسطة، و ليس الاستصحاب كذلك؛ لأن حقيقة الاستصحاب «الحكم ببقاء ما علم سابقا من حكم أو موضوع»، سواء كان دليله النقل من النص أو الإجماع أم العقل، و من المعلوم: أن «الحكم ببقاء» يعم الحكم الفرعي كالوجوب، و الوضعي كحجية رأي الميت بقاء، فلو كان مفاد الاستصحاب حكما فرعيا لما جرى في الأحكام الأصولية كالحجية.

و إن شئت فقل: إن الاستصحاب هو جعل الملازمة بين الحدوث و البقاء، من غير فرق بين كون الجعل الشرعي تأسيسيا كما إذا كان دليله النص أو الإجماع، و بين كونه إمضائيا كما إذا كان دليله العقل، أو بناء العقلاء، فإنه ما لم يثبت هذا التلازم لا يمكن الحكم بنجاسة الماء المتغير الزائل تغيره من قبل نفسه مثلا. و ضمير «إليه» راجع على العمل.

(2) غرضه: إقامة الشاهد على أصولية المسألة يعني: كيف لا يكون الاستصحاب مسألة أصولية ؟ و الحال أنه قد يكون مجراه خصوص المسألة الأصولية ؟ كاستصحاب حجية رأي الميت على ما يستدل به القائل بجواز البقاء على تقليد الميت، فلو لم يكن الاستصحاب مسألة أصولية لما جرى في الحجية التي هي حكم أصولي، و الظاهر: أن كلامه هنا لا يخلو من تعريض بما أفاده الشيخ «قدس سره» في الأمر الثالث الذي عقده للبحث عن أصولية المسألة، بناء على كلا القولين من كونه أمارة ظنية و أصلا عمليا، قال: «إن مسألة الاستصحاب - على القول بكونه من الأحكام العقلية - مسألة أصولية يبحث فيها عن كون الشيء دليلا على الحكم الشرعي نظير حجية القياس و الاستقراء»، إلى أن قال: «و أما بناء على القول بكونه من الأصول العملية ففي كونه من المسائل

ص: 101


1- قوانين الأصول: 5.
2- هداية المسترشدين 60:1، الفصول الغروية: 3، تعليقة على معالم الأصول 66:1.

يكون مجرى الاستصحاب إلا حكما أصوليا كالحجية مثلا، هذا (1) لو كان الاستصحاب عبارة عما ذكرنا (2).

و أما لو كان عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته، أو الظن به الناشئ من الأصولية غموض؛ لأن الاستصحاب حينئذ قاعدة مستفادة من السنة و ليس التكلم فيه تكلما في أحوال السنة... و المسألة الأصولية هي التي بمعونتها يستنبط هذه القاعدة من قولهم «عليهم السلام»: «لا تنقض اليقين بالشك...». نعم؛ يندرج تحت هذه القاعدة مسألة أصولية يجري فيها الاستصحاب، كما تندرج المسألة الأصولية أحيانا تحت أدلة نفي الحرج، كما ينفي وجوب الفحص عن المعارض حتى يقطع بعدمه بنفي الحرج».

=============

ثم اختار هو «قدس سره» ضابطا آخر للمسألة الأصولية يندرج معه الاستصحاب في علم الأصول، و هو ما لا حظّ للمقلد في إجرائها في موردها، هذا ما أفاده الشيخ.

و أما المصنف: فلمخالفته القوم في تعريف علم الأصول و في موضوعه - بما تقدم منه في أول الكتاب - عدل عما أفاده الشيخ إلى ما في المتن، حيث استدل على كون الاستصحاب مسألة أصولية بقوله: «حيث يبحث فيها لتمهيد قاعدة... و ليس مفادها حكم العمل بلا واسطة...».

و لعل غرضه من قوله: «كيف ؟ و ربما...» منع مقايسة الاستصحاب بقاعدة نفي الحرج الجارية في مثل وجوب الفحص عن المعارض و هو حكم أصولي، فإن جريانها فيه لا يخرجها عن القواعد الفقهية و لا يدرجها في علم الأصول، فالاستصحاب الجاري في الحكم الأصولي قاعدة فقهية أيضا.

وجه منع المقايسة: بطلان المقيس عليه، و ذلك لأن وجوب الفحص عن المعارض ليس حكما أصوليا حتى يقال: بأن نفيه بقاعدة الحرج لا يوجب كونها مسألة أصولية، يتجه النقض حينئذ؛ لوضوح: كون وجوب الفحص حكما فرعيا متعلقا بعمل المجتهد في مقام الاستنباط، فلم تجر قاعدة نفي الحرج في حكم أصولي حتى يقاس الاستصحاب الجاري في الحكم الأصولي عليه.

و هذا بخلاف الحجية التي هي حكم أصولي محض، فإن جريان الاستصحاب في الحجية شاهد على كونه مسألة أصولية لا فقهية، و لا يقاس بقاعدة نفي الحرج هذا.

(1) أي: ما ذكرناه من الوجه لكون الاستصحاب مسألة أصولية.

(2) من كونه أصلا عمليا، و هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع شك في بقائه.

ص: 102

ملاحظة ثبوته (1) فلا إشكال (2) في كونه مسألة أصولية.

و كيف كان (3)؛ فقد ظهر مما ذكرنا في تعريفه (4): اعتبار أمرين في مورده: القطع بثبوت شيء و الشك في بقائه، و لا يكاد (5) يكون الشك في البقاء إلا مع اتحاد

=============

(1) أي: ثبوت ما علم ثبوته، و المراد به و بقوله: «ثبوته» قبل ذلك: هو ما يقابل البقاء.

(2) جواب «و أما لو كان»، و قد عرفت توضيحه بما تقدم و هو قوله: «و أما على الثاني و هو كون الاستصحاب بناء العقلاء»، و ضميرا «ثبوته، به» راجعان على «ما علم» من الحكم أو الموضوع، و ضمير «كونه» راجع على الاستصحاب.

(3) يعني: سواء كان الاستصحاب مسألة أصولية أم فقهية.

و هذا إشارة إلى الأمر الثالث الذي تعرض له المصنف قبل الخوض في الاستدلال، و هو بيان ركني الاستصحاب بناء على كونه أصلا عمليا مستندا إلى الأخبار الآتية. و قد تعرض له الشيخ «قدس سره» في الأمر الخامس فقال: «إن المستفاد من تعريفنا السابق الظاهر في استناد الحكم بالبقاء إلى مجرد الوجود السابق أن الاستصحاب يتقوم بأمرين أحدهما: وجود الشيء في زمان، سواء علم به في زمان وجوده أم لا... و الثاني: الشك في وجوده في زمان لاحق عليه...»(1).

(4) من كونه «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه»، فإن المستفاد منه اعتبار أمرين فيه:

أحدهما: اليقين بثبوت شيء، و هو يستفاد من قوله: «شك في بقائه»؛ إذ الشك في البقاء يدل على الفراغ عن حدوثه.

ثانيهما: الشك في البقاء و هو مصرح به في التعريف.

(5) حاصله: أن الشك في البقاء - الذي هو أحد ركني الاستصحاب - متقوم باتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة موضوعا و محمولا؛ إذ مع عدم اتحادهما لا يكون من الشك في البقاء؛ بل من الشك في الحدوث، ضرورة: أن البقاء هو الوجود الاستمراري للموجود السابق، و من المعلوم: إناطة صدقه بالاتحاد المزبور.

و من هنا يظهر: أن المراد بالاتحاد: هو الاتحاد الوجودي بأن يكون الموجود اللاحق عين السابق عرفا حتى تتحقق الوحدة، فلو كان الموجود السابق و اللاحق متحدين ماهية و متعددين وجودا - كما إذا فرض عمرو مقارنا لانعدام زيد - لم يكن الموجود السابق و اللاحق واحدا؛ بل متعددا مع اتحادهما في الإنسانية.

ص: 103


1- فرائد الأصول 24:3.

القضية المشكوكة و المتيقنة بحسب الموضوع و المحمول (1)، و هذا (2) مما لا غبار عليه في الموضوعات الخارجية في الجملة.

=============

ثم إن محمول القضية قد يكون من المحمولات الأولية كالوجود و العدم و غيرهما، كقولنا: «زيد عادل أو شجاع»، و على التقديرين: يكون المحمول تارة: وجوديا، و أخرى:

عدميا، فالصور أربع، و لا فرق في شرطية اتحاد القضيتين المتيقنة و المشكوكة بين هذه الصور.

و الحاصل: أنه لا إشكال في اعتبار وحدة القضيتين المتيقنة و المشكوكة موضوعا و محمولا في جريان الاستصحاب، سواء كان المستصحب من الموضوعات الخارجية كحياة زيد و رطوبة الثوب و غير ذلك، أم من الأحكام الشرعية كوجوب صلاة الجمعة و نجاسة الماء المتغير بالنجاسة إذا زال تغيره بغير الاتصال بالعاصم من الكرّ أو الجاري.

(1) كما عرفت في الأمثلة المتقدمة، فمثل: «زيد عادل» قضية متيقنة فيما مضى كأمس و مشكوكة فعلا.

(2) يعني: أن اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة مما لا غبار عليه في استصحاب غالب الموضوعات من القارة و التدريجية.

أما القارة - و هي التي تجتمع أجزاؤها في سلسلة الزمان من الجواهر كالحيوان و النبات، و الأعراض كالسواد و البياض، و العلم و العدالة و الفسق، و الغنى و الفقر، و الحدث و الخبث، و حياة زيد و غير ذلك من الأمور الخارجية، فإن موضوعاتها أعني: النفس و البدن و ماهية زيد التي يعرض عليها الوجود تارة و العدم أخرى - فيمكن للعرف إحرازه، فلا مانع من استصحاب العدالة و الطهارة و الحياة و غيرها في الأمور القارة.

و أما غير القارة من الأمور التدريجية - كالزمان و بعض الزمانيات؛ كالماء النابع من العين و الدم الخارج من عرق خاص - فإنه و إن أشكل فيها بعدم بقاء الموضوع لتقومها بالتصرم و التجدد؛ لكن الحق جريان الاستصحاب فيها كما أفاده المصنف في التنبيه الرابع و في حاشيته على الرسائل، فإنها و إن لم تكن مجتمعة الأجزاء بحسب الوجود لتصرمها، إلا إن وحدتها حقيقة لا تنثلم بذلك ما دامت الأجزاء متصلة لم يتخلل العدم بينها، فلذا يجوز استصحاب الليل و النهار و جريان الماء من منبعه و غير ذلك.

نعم؛ لا يجري الاستصحاب في بعض الموضوعات الخارجية التي لا يصدق فيها بقاء الموضوع عرفا، كما إذا كان الماء أكثر من خمسين شبرا مثلا و هو أزيد من الكر على مذهب المشهور، فأخذ منه مقدار يشك العرف معه في بقاء الموضوع و هو الكرّ البالغ

ص: 104

و أما الأحكام الشرعية سواء كان مدركها العقل (1) أم النقل (2) فيشكل حصوله (3) فيها؛ لأنه (4) لا يكاد يشك في بقاء الحكم إلا من جهة الشك في بقاء ثلاثا و أربعين شبرا إلا ثمن شبر، فإنه لا يمكن الإشارة إلى ما بقى من الماء بأن يقال:

=============

«كان هذا كرّا و الآن كما كان»؛ لفرض أن الكرّ كان الماء قبل نقص مقدار منه. و كذا الكلام في استصحاب القلة إذا أضيف إلى الماء مقدار يحتمل بلوغه حدّ الكثرة، و نظيرهما استصحاب الاستطاعة المالية في أول عامها إذا كان المال وافيا بمئونة الحج ثم صرف مقدارا منه بحيث يشك في وفاء الباقي بها، فإنه لا يجري استصحاب الموضوع أعني: الاستطاعة.

التقييد بقوله: «في الجملة» لإخراج ما إذا شك العرف في بقاء الموضوع و انثلام وحدته، و قد عرفته بقولنا: «نعم؛ لا يجري الاستصحاب...».

(1) كحكم العقل بقبح الكذب الضار بالمؤمن الذي هو مستند حرمته الشرعية.

(2) كالكتاب و السنة اللذين يستند إليهما أكثر الأحكام الشرعية. و كيف كان؛ فغرضه من قوله: «و أما الأحكام الشرعية»: أن الشرط المزبور - أعني: وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة - يشكل إحرازه في استصحاب الأحكام الشرعية.

و حاصل وجه الإشكال: أن الشك في بقاء الحكم الشرعي - في غير النسخ - لا ينشأ إلا من جهة زوال وصف من أوصاف الموضوع مما يحتمل دخله فيه، أو وجود ما يحتمل أن يكون لعدمه من دخل في الموضوع، و معه يرجع الشك في بقاء الحكم إلى الشك في بقاء موضوعه، فلا يحرز بقاء الموضوع حتى يصح استصحاب الحكم، مثلا:

إذا ثبتت النجاسة للماء المتغير بوصف التغير، و وجوب صلاة الجمعة في زمان حضور الإمام «عليه السلام»، ثم زال تغير الماء بنفسه أو بعلاج، و كذا إذا غاب الإمام «عليه السلام»، فإن الشك في بقاء النجاسة و وجوب صلاة الجمعة حينئذ يستند إلى الشك في بقاء الموضوع؛ لاحتمال دخل التغير و الحضور في موضوع النجاسة و الوجوب، فلا يحرز وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة، هذا.

و لا يخفى: أن ما أفاده المصنف بقوله: «و أما الأحكام الشرعية...» الخ. إشارة إلى أحد تفاصيل الاستصحاب أعني: التفصيل بين الشبهات الحكمية الكلية و الموضوعات الجزئية، و حكاه الشيخ عن الأمين الاسترابادي، و سيأتي نقل كلامه.

(3) أي: حصول اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة في الأحكام الشرعية.

(4) تعليل لقوله: فيشكل، و قد عرفت تقريبه، قال الأمين الاسترابادي فيما حكاه عنه

ص: 105

موضوعه بسبب تغير بعض ما هو عليه (1) مما احتمل دخله (2) فيه (3) حدوثا (4) أو بقاء؛ و إلاّ (5) لا يختلف الحكم عن موضوعه إلاّ بنحو البداء بالمعنى...

=============

الشيخ «قدس سره» ما لفظه: «إن صور الاستصحاب المختلف فيها عند النظر الدقيق و التحقيق راجعة على أنه إذا ثبت حكم بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته تجريه في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة و حدوث نقيضها فيه، و من المعلوم: أنه إذا تبدل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين، فالذي سمّوه استصحابا راجع في الحقيقة إلى إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر متحد معه في الذات مختلف معه في الصفات، و من المعلوم عند الحكيم: أن هذا المعنى غير معتبر شرعا...».

و استدل الفاضل النراقي على هذا القول بوجه آخر سيأتي التعرض له في التنبيه الرابع إن شاء الله تعالى.

(1) يعني: بسبب تغير بعض الأوصاف التي يكون الموضوع واجدا لها، فضمير «هو» راجع على الموضوع، و ضمير «عليه» إلى «ما» الموصول المراد به أوصاف الموضوع.

(2) الضمير راجع على الموصول في «مما» المراد به الوصف الزائل يعني: من الصفات التي يحتمل دخلها في الموضوع.

(3) يعني: أنه قد يكون احتمال دخل الشيء الزائل في مرحلة الحدوث فقط؛ كاحتمال كون التغير دخيلا في موضوع الحكم بالنجاسة حدوثا فقط، فلا ترتفع النجاسة بزوال التغير بنفسه، بل تبقى بحالها.

(4) و قد يكون احتمال دخله في مرحلة البقاء؛ كما إذا احتمل دخل عدم فسخ الصبي الذي عقد له الولي في بقاء العقد بعد بلوغه و رشده، فإذا فسخه بعد البلوغ لا يمكن استصحاب بقاء أثر العقد؛ لاحتمال دخل عدم فسخ المعقود له في بقاء العقد، فلا يحرز بقاء الموضوع مع الفسخ.

(5) أي: و إن لم يكن الشك في الحكم ناشئا من الشك في بقاء الموضوع بل كان الموضوع معلوم البقاء، فلا يتصور الشك حينئذ في بقاء الحكم؛ لعدم تخلفه عن موضوعه، ضرورة: أن الموضوع كالعلة له، فكما لا يتخلف المعلول عن العلة فكذلك لا يتخلف الحكم عن الموضوع.

نعم؛ يتصور التخلف بنحو البداء، كما إذا جعل حكما لموضوع إلى الأبد باعتقاد اشتماله على مصلحة دائمية، و بعد مضي زمان ظهر له كون مصلحته موقتة، فيرتفع

ص: 106

المستحيل (1) في حقه تعالى، و لذا (2) كان النسخ بحسب الحقيقة دفعا لا رفعا.

و يندفع هذا الإشكال (3): بأن الاتحاد في القضيتين بحسبهما و إن كان مما لا الحكم عن موضوعه بانتفاء مصلحته، و هذا هو البداء المستحيل في حقه تعالى، و لذا كان النسخ في الأحكام الشرعية دفعا لا رفعا، و المراد بالدفع: أن الحكم من أول الأمر كان محدودا بهذا الحد، و تأخر بيان أمده لمصلحة، لا أن الحكم شرع إلى الأبد ثم نسخ في هذا الزمان، فإنه مستحيل في حقه «سبحانه و تعالى»؛ لاستلزامه الجهل و عدم إحاطته بجهات الحسن و القبح. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

=============

فليس النسخ رفعا لأمر ثابت بل دفعا أي: إظهارا لعدم تشريع الحكم إلا موقتا؛ لعدم المقتضى لتشريعه إلى الأبد.

فصار المتحصل: أن منشأ الشك في بقاء الحكم الكلي الفرعي منحصر في اختلاف بعض ما عليه الموضوع من الأوصاف؛ كما عرفت في الأمثلة المذكورة، و معه لا يمكن إحراز وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة. هذا بخلاف غالب الشبهات الموضوعية.

(1) و هو: أن يظهر للحاكم خطأ حكمه السابق فيعدل عنه. و أما البداء بالمعنى الممكن أعني: الإبداء و الإظهار فلا مانع منه.

(2) أي: و لكون البداء - بمعنى الظهور و العلم بالشيء - مستحيلا في حقه تعالى كان نسخ الحكم الشرعي بمعنى الدفع لا الرفع كما عرفت.

(3) أي: إشكال عدم اتحاد الموضوع في القضية المتيقنة و المشكوكة في الأحكام الكلية.

و حاصل ما أفاده في دفع الإشكال هو: أن وحدة الموضوع و إن كانت مما لا بد منه في الاستصحاب؛ إلا إن المدار في الاتحاد المزبور هو النظر العرفي لا العقلي، و لا ما هو ظاهر الدليل على ما سيأتي تحقيقه في الخاتمة إن شاء الله تعالى، و مع حكم العرف باتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة - و صدق الإبقاء و النقض على إثبات الحكم و نفيه مع اختلاف بعض حالات الموضوع - يسهل الأمر في إحراز وحدة القضيتين في استصحاب الأحكام إذا احتل بعض أوصاف الموضوع مما لا يكون بنظر العرف مقوما له؛ بل من حالاته و عوارضه و إن كان بنظر الدقي العقلي دخيلا في الموضوع كما لا يخفى، ففي مثال وجوب صلاة الجمعة: لا يكون حضور الإمام «عليه السلام» مقوما له بنظر العرف؛ بل من حالاته. و كذا موضوع حكم الشارع بالانفعال و هو ذات الماء الذي طرأ عليه التغير، فلا مانع من استصحاب الأحكام الكلية.

ص: 107

محيص عنه في جريانه (1)؛ إلا إنه لما كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافيا في تحققه (2) و في صدق الحكم ببقاء ما شك في بقائه، و كان بعض ما عليه الموضوع من (3) الخصوصيات التي يقطع معها بثبوت الحكم له مما يعد بالنظر العرفي من حالاته (4) - و إن كان واقعا من قيوده و مقوماته (5) - كان (6) جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها عند الشك فيها لأجل (7) طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها مما عدّ من حالاتها لا من مقوماتها (8) بمكان (9) من الإمكان، ثم إن هذا الجواب قد تكرر في كلمات الشيخ، فقال هنا في جوابه الحلي من كلام الأمين الاسترابادي ما لفظه: «بأن اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة الذي يتوقف صدق البناء على اليقين و نقضه بالشك عليه أمر راجع على العرف؛ لأنه المحكم في باب الألفاظ».

=============

و ضمير «بحسبهما» راجع على الموضوع و المحمول أي: بحسب الموضوع و المحمول.

(1) أي: جريان الاستصحاب، و ضمير «عنه» راجع على الموصول في «مما» المراد به الاتحاد.

(2) أي: تحقق الاتحاد بنظر العرف، و ضمير «أنه» للشأن.

(3) بيان للموصول في «ما عليه»، و ضمير «معها» راجع على «الخصوصيات»، و ضمير «له» إلى «الموضوع».

(4) أي: حالات الموضوع، و من المعلوم: أن شأن الحال عدم ارتفاع الموضوع بارتفاعه.

(5) الضميران راجعان على الموضوع، و من الواضح: أن ما يكون مقوما عقلا للموضوع يوجب انتفاؤه انتفاء الموضوع.

(6) جواب «لما كان»، و قد عرفت توضيحه.

(7) تعليل للشك، يعني: أن منشأ الشك في الأحكام هو انتفاء بعض حالات الموضوع، و ضمير «فيها» راجع على الأحكام.

(8) هذا الضمير و ضميرا «فيها، حالاتها» راجعة على الموضوعات، و من المعلوم: أن شأن المقوم هو انتفاء الموضوع بانتفائه كالعادل و المجتهد، فإذا زالت العدالة و ملكة الاجتهاد ترتفع أحكامهما كنفوذ الشهادة و جواز التقليد؛ لتقوم موضوعهما بالعدالة و الاجتهاد.

(9) خبر «كان»، يعني: لا إشكال في جريان الاستصحاب حينئذ.

ص: 108

ضرورة (1): صحة إمكان دعوى بناء العقلاء على البقاء تبعدا، أو لكونه (2) مظنونا و لو نوعا، أو (3) دعوى: دلالة النص أو قيام الإجماع عليه قطعا بلا تفاوت (4) في ذلك بين كون دليل الحكم نقلا أو عقلا.

=============

(1) تعليل لكفاية الاتحاد عرفا؛ و ذلك لأن المدار في صحة جريان الاستصحاب على صدق الشك في البقاء، و من المعلوم: صدقه على الاتحاد العرفي، سواء كان اعتباره ببناء العقلاء أم الظن أم النص أم الإجماع، فلا وجه لتوهم اختصاص كون الموضوع عرفيا بما إذا كان دليل الاعتبار النصوص؛ بدعوى: كون الأخبار مسوقة بلحاظ الموضوع العرفي، لأنها ملقاة إلى العرف، فالمتبع في تشخيص الموضوع و صدق الشك في البقاء هو نظر العرف.

وجه فساد التوهم: صحة دعوى كون التزام العقلاء و كذا الإجماع و الظن بلحاظ الموضوع العرفي أيضا.

إلاّ أن يقال: إن لبّية الدليل من الإجماع و بناء العقلاء تقتضي لزوم الاقتصار على القدر المتيقن؛ إذ لا إطلاق له كالنص حتى يؤخذ به.

(2) عطف على قوله: «تعبدا»، و ضمير «لكونه» راجع على «البقاء».

(3) عطف على «دعوى بناء العقلاء». و قوله: «أو قيام» عطف على «دلالة النص».

جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف بحكم العقل

(4) متعلق ب «صحة إمكان دعوى بناء العقلاء»، يعني: بلا تفاوت في بنائهم على البقاء «بين كون دليل الحكم نقلا...» الخ. و هذا إشارة إلى تفصيل آخر في حجية الاستصحاب ابتكره الشيخ «قدس سره»، و هو التفصيل بين الحكم الشرعي المستند إلى الأدلة النقلية؛ كالكتاب و السنة كأغلب كالتكاليف، و المستند إلى الحكم العقلي؛ كحسن العدل و ردّ الوديعة و الصدق النافع، و قبح الظلم و الكذب الضار بالمؤمن، و نحوها بجريان الاستصحاب في الأول دون الثاني، و اعترض عليه المصنف هنا و في الحاشية، قال الشيخ في الوجه الثاني من وجوه تقسيم الاستصحاب باعتبار الدليل الدال على المستصحب ما لفظه: «نظرا إلى أن الأحكام العقلية كلها مبينة مفصلة من حيث مناط الحكم الشرعي و الشك في بقاء المستصحب و عدمه لا بد و أن يرجع إلى الشك في موضوع الحكم...

و الموضوع لا بد أن يكون محرزا معلوم البقاء في الاستصحاب...

و هذا بخلاف الأحكام الشرعية، فإنه قد يحكم الشارع على الصدق بكونه حراما، و لا يعلم أن المناط الحقيقي فيه باق في زمان الشك أو مرتفع فيستصحب الحكم الشرعي...».

ص: 109

و المستفاد منه: أن المانع من جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستكشفة من حكم العقل أمران:

أحدهما: عدم إحراز وحدة الموضوع في القضيتين المتيقنة و المشكوكة مع اشتراط الاستصحاب به، بيانه: أنه - بناء على القول بالتحسين و التقبيح العقليين أي: درك العقل العملي بأن هذا مما ينبغي فعله و ذاك مما ينبغي تركه مع الغض عن خطاب الشارع، و بناء على ثبوت الملازمة بين حكمي العقل و الشرع - فإذا أدرك العقل حسن ردّ الوديعة و قبح الكذب الضار بنفس محترمة ترتب عليه حكم الشارع بوجوب الرّد و حرمة الكذب بما هما موضوعان لحكم العقل، و من المعلوم: أن إدراكه للحسن و القبح لا يتطرق إليه الإهمال و الإجمال؛ لأنه إن أحرز جميع القيود الدخيلة في مناط التحسين أو التقبيح استقل بالحكم به، و إن لم يحرزه لم يستقل به؛ إذ القيود في القضايا العقلية بأجمعها من الجهات التقييدية الراجعة على نفس موضوع الحكم الذي هو فعل المكلف، فإذا زالت بعض الأوصاف كانتفاء الضرر عن الكذب، أو استلزام ردّ الأمانة للخوف انتفى حكم العقل قطعا، ينتفي بتبعه أيضا تحريم الشارع في الأوّل و إيجابه في الثاني، ضرورة: كون الموضوع للحرمة في القضية المتيقنة «الكذب المضر»، و الموضوع في المشكوكة هو مطلق الكذب لانتفاء قيد الإضرار حسب الفرض، و من المعلوم: امتناع استصحاب حرمة الكذب المضر - في الشبهة الحكمية - لإثبات حرمة مطلق الكذب؛ لاحتمال دخل وصف الإضرار في موضوع الحكم الشرعي، و بمجرد هذا الاحتمال لا يحرز وحدة الموضوع.

ثانيهما: اختلال ركن الاستصحاب، و هو الشك في البقاء، قال الشيخ «قدس سره»:

«أ لا ترى أن العقل إذا حكم بقبح الصدق الضار، فحكمه يرجع إلى إن الضار من حيث إنه ضار حرام، و معلوم: أن هذه القضية غير قابلة للاستصحاب عند الشك في الضرر مع العلم بتحققه سابقا...».

و توضيحه: أن تقبيح العقل للصدق المضر ليس لموضوعية خصوص عنوان «الصدق المضر» لحكمه بالقبح؛ بل لصغرويته لكبرى حكم العقل بقبح الإضرار بالغير، و لا شك في هذه الكبرى الكلية كي يجري فيها الاستصحاب، و إنما الشاك في وجودات الضار التي هي مصاديق ما أدركه العقل كلية، و بزوال وصف الضرر لا يحكم على ذات الصدق بالقبح، كما لا يحكم عليه بالحرمة شرعا؛ لاقتضاء الملازمة بين حكمي العقل

ص: 110

أما الأول (1): فواضح. و أما الثاني (2): فلأن الحكم الشرعي المستكشف به عند و الشرع للقطع بانتفاء الحكم الشرعي المستند إلى الإدراك العقلي حتى لو قلنا بكون المناط في تشخيص الموضوع العرف لا الدليل و لا العقل، لفرض: أن كل عنوان تعلق به تحسين العقل أو تقبيحه فهو بنفسه متعلق الخطاب الشرعي، و حيث ارتفع الحكم العقلي من جهة اختلال بعض خصوصيات الموضوع ارتفع الحكم الشرعي المستند إليه أيضا، فلا شك في بقائه كي يستصحب.

=============

هذا كله في الأحكام الشرعية المستكشفة من حكم العقل بقاعدة الملازمة.

و أما الأحكام الشرعية المستندة إلى الأدلة النقلية: فلما كان تمييز موضوعها بيد العرف، و احتمل وجود مناط آخر للحكم لم يطلع عليه العقل جرى الاستصحاب فيها؛ كما إذا حكم الشارع بحرمة الكذب المضر، و لم يعلم أن المناط هو الإضرار أو نفس الكذب - بما أنه إخبار غير مطابق للواقع - و زال الضرر أو شك في زواله، فإنه يجري استصحاب الحرمة في الشبهتين الحكمية و الموضوعية.

هذا محصل ما يستفاد من كلام الشيخ، و حيث إن المصنف ناقش في كلا الوجهين كما سيظهر فلذا أوضحنا المقصود مقدمة لتعليقه عليه؛ كما في «منتهى الدراية، ج 7، ص 40-42».

(1) و هو المستند إلى النقل، و وجه وضوحه: أن تشخيص وحدة الموضوع في القضيتين في هذه الأحكام يكون بيد العرف قطعا، لأنه المخاطب بها.

(2) و هو المستند إلى القضايا العقلية، و هذا شروع في مناقشة الوجه الأول مما أفاده الشيخ «قدس سره»، أعني: شبهة عدم إحراز وحدة الموضوع.

و بيانه: أنه إذا حكم العقل بقبح التصرف في مال الغير عدوانا و وجوب ردّ الأمانة، ثم عرض الاضطرار أو الخوف من الرّد، و احتمل دخله في مناط التحسين و التقبيح انتفى حكم العقل قطعا؛ لعدم إدراكه فعلا، حيث إنه لم يحرز ما هو الدخيل في موضوع حكمه؛ لكن ارتفاع حكم العقل لا يمنع استصحاب الحكم الشرعي المستند إليه كحرمة التصرف و وجوب الرّد المذكورين، و ذلك لأنه بعد استكشاف خطاب شرعي بهما من قاعدة الملازمة يشك في بقاء وجوب ردّ الوديعة المستلزم للخوف و حرمة التصرف المستلزمة للاضطرار، لاحتمال دخل هذا الوصف في الموضوع، فإن كان المناط في وحدة الموضوع النظر الدقي العقلي تمّ ما أفاده الشيخ؛ لكن يلزمه المنع من حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية و الموضوعية في الأحكام المستندة إلى الأدلة النقلية

ص: 111

طروء انتفاء ما احتمل دخله في موضوعه (1) مما لا يرى مقوّما له (2) كان (3) مشكوك البقاء عرفا (4)؛ لاحتمال (5) عدم دخله فيه واقعا و إن كان لا حكم للعقل بدونه أيضا؛ كما إذا ورد: «يحرم الصدق الضار»، و احتمل مدخلية هذا الوصف في موضوع الحكم، فإذا شك في بقاء مضريته لا يجري الاستصحاب؛ لعدم إحراز وحدة الموضوع، و هذا مما لا يلتزم به.

=============

و إن كان المناط صدق الوحدة بالنظر العرفي كما هو مختار الشيخ «قدس سره» أيضا فلا بد من التفصيل بين الأوصاف، فإن كان الوصف الزائل مقوما للموضوع أو مما يحتمل مقوّميته له - كما هو الحال في اعتبار ملكة العدالة في مرجع التقليد المستفاد من مثل: «قلد المجتهد العادل» - فبزواله لا مجال للاستصحاب؛ لعدم إحراز وحدة الموضوع في القضيتين لو لم نقل بإحراز عدمها.

و إن كان الوصف الزائل غير مقوم لموضوع الحكم: جرى الاستصحاب كما هو الحال في مثل: «الماء المتغير متنجس» في عدّ التغير من الحالات.

و حيث إن الخصوصيات الدخيلة في حكم العقل معدودة عرفا من الحالات المتبادلة على الذات، فاللازم القول بحجية الاستصحاب في هذا السنخ من الأحكام.

و ضمير «به» راجع على العقل أي: المستكشف بالعقل بعد تسليم قاعدة الملازمة.

(1) أي: موضوع الحكم الشرعي، و ضمير «دخله» راجع على «ما احتمل» المراد به الوصف الزائل، و ذلك كالتغير في تقيّد الموضوع - أعني: ذات الماء - به، و كذا الحال في وصف الضرر بالنسبة إلى حرمة الصدق المضر فإنه مما يحتمل في الموضوع؛ لكنه ليس مقوما له.

(2) يعني: مما لا يرى بنظر العرف مقوّما للموضوع؛ و إن كان مقوما له بالنظر الدقي؛ إذ لو لا دخله للغا أخذه.

(3) خبر «فلأن الحكم»، و كان الأولى تبديله ب «يصير».

و غرضه: أن المعيار في جريان الاستصحاب - و هو كون الشيء مشكوك البقاء عرفا - حاصل هنا فيجري بلا مانع.

(4) و حيث إن المدار على وحدة موضوع القضيتين عرفا لا عقلا فلا بد من الالتزام باعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي.

(5) تعليل لقوله: «كان مشكوك البقاء»، و ضميرا «دخله، بدونه» راجعان على الموصول في «مما» المراد به الوصف الزائل، و ضمير «فيه» راجع على الموضوع.

ص: 112

قطعا (1).

إن قلت: كيف هذا (2) مع الملازمة بين الحكمين ؟

قلت: ذلك (3) لأن الملازمة إنما تكون في مقام الإثبات و الاستكشاف لا في مقام

=============

(1) قيد ل «لا حكم». يعني: أن حكم العقل مرتفع قطعا عند زوال وصف موضوعه أو قيده، إما لإحراز دخله بالخصوص في الملاك، و إما لأن إحراز العقل لوجود الملاك يكون في ظرف وجود ذلك الشيء من باب القدر المتيقن و إن لم يكن دخيلا واقعا في المناط، بخلاف حكم الشرع، فإنه لا قطع بعدمه فيجري فيه الاستصحاب، و ضمير «بدونه» راجع على «ما احتمل دخله».

(2) يعني: كيف هذا أي: التفكيك بين حكمي العقل و الشرع بجعل الأول مقطوع الانتفاء عند زوال بعض القيود، و الثاني مشكوك البقاء و محكوما بالإبقاء تعبدا؟

و حاصل هذا الإشكال: أن الملازمة بين الحكمين تقتضي وحدة موضوعيهما و عدم أوسعية أحدهما من الآخر؛ إذ المفروض: استكشاف خطاب الشارع من قاعدة الملازمة، فكما ينتفي حكم العقل بتبدل بعض خصوصيات الموضوع، فكذلك الحكم الشرعي المستند إليه، و إجراء الاستصحاب فيه من تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر، و هو أجنبي عن الاستصحاب المصطلح المتقوم بوحدة القضيتين موضوعا و محمولا.

(3) أي: التفكيك، و هذا الجواب كما يتخلص به عن إشكال التفكيك بين حكمي العقل و الشرع كذلك يندفع به الوجه الثاني المتقدم في توضيح كلام الشيخ أعني: انتفاء ركن الاستصحاب و هو الشك في البقاء.

و توضيح هذا الجواب يتوقف على مقدمة، و هي بيان أمرين:

الأول: إن للحكم العقلي مرتبتين و هما الشأنية و الفعلية، و المراد بالأولى: هو المناط الواقعي للحكم من المصلحة أو المفسدة الكامنة في الأفعال التي لم يطلع عليها العقل، و بالثانية: إدراك العقل له فعلا الموجب لتحسين أمر و تقبيح آخر، و هذا الحكم الفعلي موقوف على لحاظ الموضوع بجميع الخصوصيات المعتبرة فيه، و مع اختلال بعض الشرائط و القيود الدخيلة في إدراك الحسن و القبح يكون انتفاء ذلك الإدراك قطعيا، و هذا بخلاف حكمه الشأني، فإنه حكم تقديري معلق على الإحاطة بالملاكات النفس الأمرية، و هي قد تختلف مع المناطات المعلومة التي تكون منشأ لإدراكه الفعلي للحسن و القبح.

الثاني: أن الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي إنما يتبع حكمه الشأني في مقام

ص: 113

الثبوت (1)، فعدم (2) استقلال العقل إلا في حال (3) غير ملازم لعدم حكم الشرع إلا الثبوت، يعني أنا ما هو ملاك حكم العقلي واقعا هو بنفسه ملاك حكم الشرع، و يتبع حكمه الفعلي في مقام الإثبات، يعني: في مرحلة استكشاف خطاب الشارع لا بد من فعلية إدراك العقل.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الملازمة بين حكمي العقل و الشرع لا تنافي أوسعية موضوع حكم الشرع من موضوع حكم العقل؛ لعدم كون التلازم في مرحلة الثبوت، ضرورة: عدم توقف حكم الشرع على حكم العقل الفعلي واقعا و في نفس الأمر كي يتحد موضوعهما حقيقة؛ بل الملازمة إنما تكون في مقام الكشف و الإثبات و العلم بخطاب الشارع، بمعنى: أن الدليل على الحكم الشرعي هو العقل، كما قد يكون غيره من النص و الإجماع.

و عليه: فالحكم العقلي واسطة في الإثبات و العلم بالحكم الشرعي، لا في الثبوت و أصل وجوده حتى ينتفي بانتفائه، و من المعلوم: أن التبعية في مقام الإثبات لا تلازم التبعية في مقام الثبوت.

نعم؛ الملازمة الثبوتية تكون بين الحكم الشرعي و الحكم العقلي الشأني، لكن الكلام في تبعيته لحكمه الفعلي، لأنه موضوع قاعدة الملازمة و إذا زال بعض ما يحتمل دخله في موضوع حكم العقل انتفى حكمه، لكن يشك في ارتفاع حكم الشارع؛ لاحتمال بقاء ملاكه، فلا بد من ملاحظة أن الوصف المتبدل هل يكون مقوّما أم حالا على التفصيل المتقدم بقولنا: «لكن زوال حكم العقل لا يمنع استصحاب الحكم الشرعي...». و بهذا التقريب كما لا يتعدد الموضوع بنظر العرف كذلك يحصل الشك في بقاء الحكم الشرعي، فيستصحب لاجتماع أركان الاستصحاب.

(1) يعني: دوران الحكم الشرعي مدار الحكم العقلي الفعلي وجودا فقط؛ بحيث لو أحرز العقل العلة التامة للحسن أو القبح حكم بأنه مما ينبغي فعله أو تركه، و لا يدور مداره عدما أيضا؛ إذ لا يدل على انحصار عليته للحكم الشرعي، فلا يصدق قولنا: «لو لم يكن للعقل حكم لم يكن للشرع حكم أيضا»؛ لعدم الدليل على هذا التلازم؛ بل الدليل على خلافه، إذ ربما لا يكون للعقل حكم فعلي؛ لقصوره عن إدراك المناطات الواقعية، كما هو الحال في غالب الأحكام الثابتة بالأدلة النقلية، و الشارع لاطلاعه على تلك الملاكات ينشئ أحكاما على طبقها.

(2) هذا متفرع على كون التلازم في مقام العلم و الإثبات لا الثبوت.

(3) و هو حال اجتماع الخصوصيات الدخيلة في حكمه، كما في قبح الكذب

ص: 114

في تلك الحال (1)؛ و ذلك (2) لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع من المصلحة أو المفسدة التي هي ملاك حكم العقل كان (3) على حاله في كلتا الحالتين (4)، و إن لم يدركه (5) إلاّ في إحداهما؛ لاحتمال (6) عدم دخل تلك الحالة فيه، أو احتمال (7) أن يكون معه ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلا...

=============

الضار بالغير غير النافع للكاذب.

(1) و هي حال احتمال الشرائط، لإمكان حكم الشرع مع زوال بعض ما يراه العقل دخيلا في حكمه. و قوله: «غير ملازم» خبر «فعدم».

(2) بيان لعدم الملازمة، و كون موضوع الحكم الشرعي أوسع مما يراه العقل.

(3) خبر «أن يكون ما هو»، و «من المصلحة» بيان ل «ما هو». و لو أبدل «كان على حاله» ب «ثابتا» كان أخصر؛ لصيرورة العبارة هكذا: «لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع... ثابتا في كلتا الحالتين».

(4) يعني: حالتي بقاء ذلك الوصف و ارتفاعه.

(5) أي: و إن لم يدرك العقل الملاك إلاّ في إحدى الحالتين و هي حالة وجود الوصف، فوجود الوصف دخيل في العلم بالملاك لا في أصل وجوده.

(6) تعليل لاحتمال وجود الملاك في الحالتين و إن لم يدركه العقل إلاّ في إحدى الحالتين التي هي طريق استكشاف العقل للملاك من دون دخلها فيه ثبوتا، فالملاك في كلتا الحالتين موجود، و ضمير «فيه» في الموضعين، و ضمير «معه» راجع على الملاك.

(7) عطف على «احتمال عدم» يعني: أو لاحتمال أن يكون مع ذاك الملاك ملاك آخر، بلا دخل لتلك الحالة الزائدة فيه أصلا، و إن كان لتلك الحالة دخل في اطلاع العقل على الملاك و استكشافه له. و هذا وجه ثان لاستصحاب الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي، و الفرق بين الوجهين: أنه على الأول: يطرد ملاك واحد في الحالتين، و على الثاني: يوجد ملاكان يختص أحدهما بحال وجود الوصف، و يشترك الآخر بين حالتي وجوده و عدمه.

و من المعلوم: أن احتمال وجود ملاك آخر معه - كاحتمال بقاء الملاك الأول - ملزوم لاحتمال بقاء الحكم الشرعي، و هو كاف في جريان الاستصحاب لوجود مناطه و هو الشك في البقاء.

فإن قلت: تصحيح إجراء الاستصحاب بهذا الوجه الثاني غير سديد، إذ مع فرض انتفاء الملاك في الفعل الواجد للوصف، و احتمال قيام مناط آخر بالفعل الفاقد للوصف

ص: 115

و إن كان لها (1) دخل فيما اطلع عليه من الملاك.

و بالجملة (2): حكم الشرع إنما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعا لا ما هو مناط حكمه فعلا، و موضوع حكمه كذلك (3) مما لا يكاد يتطرق إليه الإهمال و الإجمال مع تطرقه إلى ما هو موضوع حكمه شأنا، و هو ما قام به ملاك حكمه واقعا، فربّ يكون الحكم المنبعث عن الملاكين متعددا، و لا يجري في مثله الاستصحاب؛ لأنه من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي، و هو الشك في حدوث فرد للكلي مقارنا لارتفاع فرده الموجود سابقا، و من المعلوم: أن الفرد المشكوك الحدوث محكوم بعدم حدوثه بالأصل.

=============

قلت: ليس المقصود إجراء الاستصحاب في ملاك الحكم و مناطه الدائر بين الزائل و الحادث؛ بل الغرض استصحاب الحكم الشرعي الشخصي الذي يستند حدوثه إلى مناط و بقاؤه إلى مناط آخر، و من المعلوم: أن تبدل الملاك لا يقتضي تبدل نفس الحكم؛ كوجوب إكرام زيد لكونه عالما، و بعد زوال علمه - لمرض مثلا - لكونه هاشميا، و نظيره في التكوينيات تبديل عمود الخيمة بمثله الحافظ للهيئات الموجودة الشخصية، فإنه لا يوجب تغيرا في تلك الهيئة الوحدانية.

و النتيجة: أن احتمال حدوث ملاك آخر قائم بالفعل الفاقد للوصف يوجب احتمال بقاء حكمه الشرعي، فيستصحب لاجتماع أركانه من اليقين بحدوث الجعل و الشك في الارتفاع.

(1) أي: لتلك الحالة كالإضرار في حرمة الكذب و قبحه، فإنه دخيل في موضوع حكم العقل بالقبح، و غير دخيل في المفسدة الواقعية التي لم يطلع عليها العقل.

(2) هذا حاصل ما أفاده في الإيراد على كلام الشيخ «قدس سره»، و حاصله - كما عرفت - أن حكم الشارع تابع للملاك الواقعي لحكم العقل الشأني؛ بحيث لو التفت إليه لحكم به فعليا، و ليس حكم الشرع تابعا لحكم العقل فعلا لأجل إحرازه مناط حكمه؛ إذ يمكن أن يكون مناط حكم الشرع أعم من ملاك حكم العقل.

(3) أي: فعلا.

و غرضه: ردّ ما تقدم من الشيخ من أن الأحكام العقلية كلها مفصلة من حيث المناط و لا إهمال فيها، و يدور أمرها بين وجودها قطعا و عدمها كذلك، فلا يتطرق الشك فيها كي تستصحب.

و حاصل الرّد: أن للعقل حكمين أحدهما شأني و الآخر فعلي، فإن كان الغرض

ص: 116

خصوصية لها دخل في استقلاله (1) مع احتمال بقاء ملاكه (2) واقعا، و معه (3) يحتمل بقاء حكم الشرع جدا؛ لدورانه (4) معه وجودا و عدما. فافهم و تأمل جيدا.

ثم إنه لا يخفى (5): اختلاف آراء الأصحاب في حجية الاستصحاب مطلقا و عدم حجيته كذلك (6)، و التفصيل بين الموضوعات و الأحكام، أو بين ما كان الشك في الرافع و ما كان في المقتضي إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة (7) على (8) أقوال إنكار الإهمال في حكمه الفعلي فهو كلام متين؛ لأنه إذا أحاط بمناط حكمه حكم و إلاّ فلا يحكم، لكن زوال الوصف إنما يوجب انتفاء الحكم العقلي الفعلي الكاشف عن الخطاب الشرعي، و لا يقتضي انتفاء الملاك الواقعي المنبعث عنه الحكم الشرعي.

ص: 117

شتى لا يهمنا نقلها و نقل ما ذكر من الاستدلال عليها (1)، و إنما المهم الاستدلال على ما هو المختار منها (2) و هو (3) الحجية مطلقا على نحو يظهر بطلان سائرها (4)، فقد استدل عليه (5) بوجوه: الوجه الأول (6): بناء العقلاء من الإنسان بل ذوي الشعور من

=============

(1) فإنه إطالة بغير طائل.

(2) أي: من هذه الأقوال.

(3) أي: هو القول الأول أعني «الحجية مطلقا».

(4) فلا حاجة إلى إطالة الكلام بالبحث عن أدلتها و ردّها؛ لكنه «قدس سره» تعرض لتفصيل الشيخ الأنصاري بين الشك في المقتضي و الرافع، و للتفصيل بين الوضع و التكليف.

(5) أي: على المختار و هو حجية الاستصحاب مطلقا.

أدلة حجية الاستصحاب

الوجه الاول استقرار بناء العقلاء

(6) المراد ببناء العقلاء و سيرتهم: هو عملهم في قبال الإجماع القولي، غاية الأمر:

أن السيرة تطلق - كما قيل - على عملهم بما هم متدينون بدين و متشبثون بشريعة؛ كاستقرار طريقتهم على بيع المعاطاة، و اكتفائهم بالعقد الفعلي استنادا إلى تدينهم بدين، و اعتبار هذه السيرة منوط بالإمضاء. و البناء يطلق أيضا على استقرار العقلاء بما هم عقلاء على أمر شرعي كبنائهم على اعتبار الخبر الموثوق الصدور.

و يقابل هذين البناءين ما يطلق عليه فهم العرف كاقتضاء فهمهم بما هم عرف في تعيين المرادات من ظواهر الألفاظ؛ كبنائهم على اعتبار الظواهر و أصالة الحقيقة و نحوهما.

و كيف كان؛ فالاستدلال ببناء العقلاء على اعتبار الاستصحاب مؤلف من مقدمتين:

أما الأولى - فمحصلها: استقرار بناء العقلاء على إبقاء ما كان على ما كان، بمعنى:

كون الاعتماد على الوجود السابق المتيقن في ظرف الشك في بقائه من مرتكزات العقلاء في جميع أمورهم و شئونهم، فالشك المسبوق باليقين و غير المسبوق به ليسا على حدّ سواء عندهم؛ لعدم اعتنائهم باحتمال تبدل ذلك المعلوم السابق بغيره، بخلاف ما إذا لم تكن الحالة السابقة محرزة، فإنهم يرجعون إلى أمور أخرى كالاحتياط العقلي و نحوه.

بل يمكن دعوى: عدم اختصاص هذا البناء بالعقلاء؛ لأنه دأب كل ذوي الشعور و من جبليات جميع النفوس؛ لما يرى من رجوع الحيوانات إلى أوكارها بعد تركها.

ص: 118

كافة أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة، و حيث (1) لم يردع عنه الشارع كان ماضيا.

و فيه أولا: منع استقرار بنائهم على ذلك (2)...

=============

و أما الثانية - فبيانها: أن هذا البناء حجة شرعا؛ لعدم ردع الشارع عنه، و هذا المقدار كاف في الإمضاء.

و عليه: فمقتضى هذا الدليل حجية الاستصحاب مطلقا من باب الأصل لا الأمارة؛ لأن اعتباره لأجل الظن بالبقاء هو مقتضى الوجه الثاني الآتي.

قال الشيخ الأنصاري في عداد أدلة اعتبار الاستصحاب مطلقا: «و منها: بناء العقلاء على ذلك في جميع أمورهم كما ادعاه العلامة في النهاية و أكثر من تأخر عنه، و زاد بعضهم: أنه لو لا ذلك لاختل نظام العالم...»(1).

(1) هذا إشارة إلى وجه حجية بناء العقلاء؛ إذ من المعلوم: عدم كون بنائهم بنفسه حجة، و إنما يتوقف اعتباره على إمضاء الشارع، و هذا الإمضاء قد يستكشف بالدليل اللفظي، و قد يستكشف بعدم الردع بشرط إمكانه و عدم مانع عنه من تقية و غيرها في البين، و ضمير «عنه» راجع على بناء العقلاء.

(2) أي: على العمل على طبق الحالة السابقة. ثم إن المصنف «قدس سره» أورد على التمسك ببناء العقلاء على اعتبار الاستصحاب بوجهين؛ على ما في «منتهى الدراية، ج 7، ص 57»:

الأول: ما يرجع إلى منع المقدمة الأولى، يعني: أن المقصود بالاستدلال بهذا البناء إثبات تعويلهم على الحالة السابقة تعبدا، و كفاية نفس الوجود السابق بما هو متيقن لترتيب آثاره عليه في ظرف الشك، مع أنه ممنوع؛ إذ لا معنى للتعبد المحض في عمل العقلاء به ارتكازا؛ بل لا بد من استناده إلى منشأ عقلائي و هو أحد أمور ثلاثة، فقد يكون منشؤه الاحتياط كما إذا كان له ابن في بلد آخر، و جرت عادة الأب على الإنفاق عليه و سدّ حاجاته المالية، فإنه لو شك الوالد في حياة ابنه أرسل إليه الأموال رجاء و احتياطا حذرا من ابتلاء ابنه بضيق المعاش على تقدير بقائه حيا.

و قد يكون منشؤه الاطمئنان بالبقاء أو الظن به، و ذلك كالتاجر الذي يرسل البضائع إلى تاجر في بلد آخر، فإنه و إن لم يتفحص عن بقائه كل مرة، و لكنه مطمئن بحياته، و لذا يرسلها إليه بحيث لو علم بموت جماعة من أهل ذلك البلد و احتمل كون وكيله

ص: 119


1- فرائد الأصول 94:3.

تعبدا (1)؛ بل إما رجاء و احتياطا، أو اطمئنانا بالبقاء أو ظنا به و لو نوعا (2)...

=============

منهم لم يرسل الأموال الخطيرة إليه قطعا؛ لزوال اطمئنانه - بل ظنه - بالبقاء و قد يكون منشؤه الغفلة عن شكه الفعلي في بقاء ما كان؛ كما إذا غيّر مسكنه و غفل عنه، فإنه قد يسلك الطريق إلى داره الأولى. و هذا في الحيوانات أظهر لأجل عادتها الحاصلة من تكرار الفعل السابق، و مع تبدل عادتها لا ترجع إلى محلها الأول إلاّ لأجل الغفلة.

و عليه: فليس من ارتكازيات العقلاء العمل تعبدا بالمتيقن السابق في ظرف الشك في بقائه كي يتجه الاستدلال به على اعتبار الاستصحاب.

الثاني: ما يرجع إلى منع المقدمة الثانية، أعني: تحقق شرط الاعتبار، و حاصله: أن حجية هذا البناء العقلائي - كسائر موارده كبنائهم على العمل بخبر الثقة - منوطة بالإمضاء و لو بعدم الردع، لكنه ممنوع؛ إذ لا دليل على الإمضاء، بل دل على الردع عنه طائفتان من الأدلة:

الأولى: ما دل بالعموم على ردعه، و عدم اعتباره كالآيات و الروايات الناهية عن العمل بغير العلم، كقوله تعالى: وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (1) و هي شاملة للمقام؛ إذ المفروض: زوال اليقين ببقاء الحالة السابقة، و غاية ما يمكن دعواه: وجود الظن باستمرارها، و من المعلوم: أن كل ما ليس بعلم موضوع للنهي عن اتباعه.

الثانية: ما دل من الكتاب و السنة على كون المرجع في الشبهات أصالة البراءة كما هو مذهب الأصوليين، أو أصالة الاحتياط كما هو مذهب الأخباريين، فإن إطلاق أدلة البراءة يشمل ما إذا كان الشك في ثبوت التكليف مسبوقا بالعلم به و غير مسبوق بالعلم به، فمثل: «رفع ما لا يعلمون» ينفي ظاهرا وجوب صلاة الجمعة المعلوم وجوبها حال حضور الإمام المعصوم «عليه السلام» و بسط يده، و المشكوك بقاؤه حال الغيبة لاحتمال كون حضوره «عليه السلام» مقوّما لوجوبها.

و كذا أدلة الاحتياط الآمرة بالوقوف عند الشبهة، فإنها بإطلاقها تقتضي الأخذ بالحائطة للدين، سواء كان الشك مسبوقا بالعلم بالتكليف أم لم يكن.

و قد تحصل: أن بناء العقلاء على الأخذ باليقين السابق - على تقدير تحققه - يكون مردوعا عنه، فلا عبرة به لإثبات حجية الاستصحاب.

(1) لما عرفت من: عدم ابتناء عمل العقلاء على التعبد.

(2) أي: الظن بالبقاء الحاصل للنوع و إن لم يحصل لهذا الشخص بالخصوص،

ص: 120


1- الإسراء: 36.

أو غفلة (1) كما هو (2) الحال في سائر الحيوانات دائما و في الإنسان أحيانا.

و ثانيا: سلمنا ذلك (3) لكنه لم يعلم أن الشارع به (4) راض، و هو عنده ماض، و يكفي في الردع عن مثله (5): ما (6) دل من الكتاب و السنة على النهي عن اتباع غير العلم، و ما دل على البراءة أو الاحتياط في الشبهات، فلا (7) وجه لاتباع هذا البناء فيما لا بد في اتباعه من الدلالة على إمضائه، فتأمل جيدا (8).

=============

و حيث إن المدار على الظن الشخصي، فلذا أتى ب «لو» لبيان الفرد الخفي من الظن المعمول به.

(1) بمعنى: عدم التفاتهم إلى العلم السابق و الشك اللاحق، فيكون عملهم بالحالة السابقة غفلة و من دون التفات.

(2) أي: العمل على الحالة السابقة غفلة حال غير الإنسان من الحيوانات دائما لاختصاص صفتي العلم و الشك بالإنسان، فلا يستند عمل غير الإنسان بالحالة السابقة إلى الاستصحاب؛ بل إلى العادة الحاصلة من تكرار الفعل ما لم تتبدل بعادة أخرى، و مع التبدل لا يرجع الحيوان إلى محله السابق إلا مع الغفلة، بخلاف الإنسان، فإنه قد يكون للغفلة، و قد يكون لغيرها، و لذا قال «قدس سره»: «و في الإنسان أحيانا».

(3) أي: سلمنا استقرار بناء العقلاء على العمل بالحالة السابقة... و هذا ثاني إيراد المصنف على الدليل المزبور، و قد تقدم بقولنا: «الثاني: ما يرجع على المقدمة الثانية...».

(4) هذا الضمير و ضمير «هو» راجعان على بناء العقلاء.

(5) التعبير بالمثل لأجل شمول دليل النهي عن اتباع غير العلم لهذا البناء على العمل باليقين السابق و غيره من الموارد كبناء العقلاء على العمل بخبر الثقة؛ إلا أن يجاب عنه بخروجه تخصصا لا تخصيصا.

(6) فاعل «يكفي»، و هذا إشارة إلى أول طائفة تدل على المنع. و قوله: «و ما دل» معطوف عليه و إشارة إلى الطائفة الثانية المانعة عن العمل بهذا البناء العقلائي.

(7) هذا متفرع على عدم العلم بإمضاء الشارع لبناء العقلاء على العمل بالحالة السابقة.

(8) و لا تتوهم: أن مردوعية السيرة بالآيات الناهية عن متابعة غير العلم دورية لعين ما تقدم في بحث حجية خبر الواحد فيقال في المقام: إن رادعية الآيات عن السيرة على العمل بالاستصحاب متوقفة على عمومها لها، و عمومها لها متوقف على عدم تخصيصها ببناء العقلاء، و عدم التخصيص متوقف على عدم حجية بناء العقلاء؛ إذ لو

ص: 121

كان حجة لخصص العموم، فإثبات عدم حجية بنائهم على الاستصحاب بأصالة عموم الآيات متوقف على عدم حجية بنائهم، و هو الدور. فلا فارق بين المقام و مسألة حجية الخبر.

لأنه يقال: إن هذا التوهم توهم فاسد، للفرق بين المقامين؛ إذ في بحث الخبر بعد تقرير الدور من الطرفين أثبت المصنف اعتبار السيرة التي كانت على حجية الخبر بالاستصحاب المفروغ عن اعتباره، و خصص به الآيات الناهية. و هذا بخلاف المقام؛ إذ لا دليل على اعتبار بناء العقلاء على الحالة السابقة؛ لفرض: عدم ثبوت حجية الاستصحاب بعد، فكيف تخصص الآيات الرادعة بالسيرة التي لم يثبت اعتبارها شرعا؟ و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

خلاصة بحث الدليل الأول من الأدلة على حجية الاستصحاب و هو بناء العقلاء:

1 - المراد من بناء العقلاء و سيرتهم: هو عملهم في قبال الإجماع القولي، و الاستدلال ببناء العقلاء على اعتبار الاستصحاب مؤلف من مقدمتين:

أما المقدمة الأولى: فمحصلها استقرار بناء العقلاء على إبقاء ما كان على ما كان - بمعنى كون الاعتماد على الوجود السابق المتيقّن في ظرف الشك في بقائه - من مرتكزات العقلاء في جميع أمورهم؛ بل يمكن دعوى عدم اختصاص هذا البناء بالعقلاء لأنه دأب كل ذوي الشعور؛ لما يرى من رجوع الحيوانات إلى أو كارها بعد تركها.

و أما المقدمة الثانية: فلأن هذا البناء حجة شرعا لعدم ردع الشارع عنه و هذا المقدار كاف في الإمضاء.

إيراد المصنف على هذا البناء بوجهين:

2 - الوجه الأول: ما يرجع إلى منع المقدمة الأولى؛ إذ ليس المقصود بالاستدلال بهذا البناء إثبات تعويلهم على الحالة السابقة تعبدا؛ إذ لا معنى للتعبد المحض في عمل العقلاء به ارتكازا؛ بل لا بد من استناده إلى منشأ عقلائي و هو أحد أمور ثلاثة:

1 - بأن يكون منشؤه الاحتياط؛ كإرسال الأموال إلى الولد في بلد آخر رجاء و احتياطا خوفا من ابتلاء ابنه بضيق المعاش على تقدير كونه حيا.

2 - أن يكون منشؤه الاطمئنان بالبقاء؛ كإرسال التاجر البضائع إلى تاجر في بلد آخر.

ص: 122

الوجه الثاني (1): أن الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق.

=============

3 - أن يكون منشؤه الغفلة عن شكه الفعلي في بقاء ما كان؛ كما إذا غير مسكنه و غفل عنه، فإنه قد يذهب إلى داره الأولى غفلة.

و عليه: فليس من ارتكازيات العقلاء العمل تعبدا بالمتيقن السابق في ظرف الشك في بقائه؛ كي يتجه الاستدلال به على اعتبار الاستصحاب.

3 - الوجه الثاني: ما يرجع إلى منع المقدمة الثانية، أعني: تحقق شرط الاعتبار؛ إذ من شرائط حجية بناء العقلاء هو: إمضاء الشارع و لو بعدم الردع لكنه ممنوع؛ إذ لا دليل على الإمضاء، بل دل على الردع عنه طائفتان من الأدلة:

الأولى: هي الآيات و الروايات الناهية عن العمل بغير علم كقوله تعالى: وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (1)، و من المعلوم: أن كل ما ليس بعلم موضوع للنهي عن اتباعه، فهي شاملة للمقام إذ المفروض: زوال اليقين ببقاء الحالة السابقة.

الثانية: ما دل من الكتاب و السنة على كون المرجع في الشبهات أصالة البراءة، كما هو مذهب الأصوليين، أو أصالة الاحتياط كما هو مذهب الأخباريين.

فالمتحصل: أن بناء العقلاء على الأخذ باليقين السابق على تحققه يكون مردوعا عنه، فلا عبرة به لإثبات حجية الاستصحاب.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو عدم صحة الاستدلال ببناء العقلاء على حجية الاستصحاب.

الدليل اى الوجه الثاني: حجية الاستصحاب من باب الظن
اشارة

الدليل اى الوجه الثاني: حجية الاستصحاب من باب الظن(1) و حاصل هذا الوجه العقلي على حجية الاستصحاب: أن الثبوت السابق مفيد للظن به في اللاحق.

إما بدعوى: أن مجرد ثبوت شيء مع عدم الظن بارتفاعه يوجب الظن بالبقاء.

أو دعوى: أن الغالب هو بقاء ما لم يعلم ارتفاعه بعد العلم بثبوته، و إليه استند شارح المختصر الحاجبي فقال: معنى استصحاب الحال: أن الحكم الفلاني قد كان و لم يظن عدمه، و كل ما كذلك فهو مظنون البقاء.

و قد أورد المصنف «قدس سره» على هذا الوجه الثاني بوجوه:

الوجه الأول: ما يرجع على الدعوى الأولى فقط و حاصله: منع علّية مجرد الوجود السابق للظن بالبقاء، ضرورة: أن الممكن كما يحتاج في حدوثه إلى مؤثر كذلك يحتاج

ص: 123


1- الإسراء: 36.

و فيه (1): منع اقتضاء مجرد الثبوت للظن بالبقاء فعلا (2) و لا نوعا فإنه لا وجه له (3) أصلا إلاّ كون الغالب فيما ثبت أن يدوم مع إمكان أن لا يدوم، و هو (4) غير معلوم، و لو سلم (5): فلا دليل على اعتباره بالخصوص مع نهوض الحجة على عدم اعتباره بالعموم.

=============

في بقائه أيضا إلى المؤثر؛ إذ وجه الحاجة إلى العلة المحدثة هو الإمكان، و هو موجود بالنسبة إلى البقاء أيضا؛ و ذلك لعدم خروج الممكن بحدوثه و وجوده عن الإمكان الذاتي، و إن صار واجبا بالغير. و حينئذ: لا يحصل الظن بالبقاء بمجرد الثبوت السابق بل البقاء يحتاج إلى مؤثر، فلا يحصل الظن به إلا بالظن بوجود مؤثر في بقائه، و المفروض:

عدم الظن بوجود المؤثر بالنسبة إلى بقائه.

الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و هو غير معلوم»، يعني: كون الغالب فيما ثبت أن يدوم غير معلوم؛ إذ لم تثبت هذه الغلبة فيما شك في بقائه بعد العلم بحدوثه؛ لأن ما ثبت جاز أن يدوم و أن لا يدوم، فالحكم بالدوام مع احتمال عدم الدوام و تساوي الاحتمالين ليس إلا ترجيحا من غير مرجح و هو باطل عقلا. و هذا الوجه كالوجه الثالث الآتي راجع على إبطال الدعوى الثانية.

الوجه الثالث: ما أشار إليه بقوله: «و لو سلم» و حاصله: أنه - بعد تسليم الغلبة المذكورة - لا دليل على اعتبارها؛ بل نهض على عدم اعتبارها عموم الكتاب و السنة الناهية عن اتباع غير العلم؛ كما تقدم في بيان الردع عن السيرة العقلائية.

(1) أي: الإشكال في هذا الوجه الثاني، و قد تقدم إيراد المصنف بالوجوه الثلاثة على هذا الوجه الثاني، فلا حاجة إلى التكرار.

(2) أي: الظن الشخصي في قبال الظن النوعي.

(3) أي: لا وجه لاقتضاء مجرد الثبوت للظن بالبقاء. و ضمير «أنه» للشأن.

(4) يعني: و كون الغالب فيما ثبت أن يدوم غير معلوم. و هذا إشارة إلى الوجه الثاني كما عرفت.

(5) هذا إشارة إلى الوجه الثالث، و ضمير «اعتباره» راجع على الظن بالبقاء، يعني:

حيث لا دليل على حجية هذا الظن بالخصوص فهو باق تحت عموم الأدلة الناهية عن اتباع غير العلم.

و بالجملة: فالجواب الأول: ناظر إلى عدم تسليم الغلبة، و الثاني: إلى عدم اعتبارها بعد تسليمها؛ لعدم دليل على اعتبارها، و الثالث: إلى الدليل العام على اعتبار هذه الغلبة؛

ص: 124

الوجه الثالث: دعوى الإجماع عليه كما عن المبادئ حيث قال: الاستصحاب حجة، لإجماع الفقهاء على أنه متى حصل حكم ثم وقع الشك في أنه طرأ ما يزيله أم لا وجب الحكم ببقائه على ما كان أولا و لو لا القول بأن الاستصحاب حجة لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجح (1).(1). انتهى. و قد نقل (2) عن غيره أيضا.

=============

للعمومات الناهية عن العمل بغير العلم.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - حجية الاستصحاب من باب الظن إما بدعوى: أن مجرد ثبوت شيء مع عدم الظن بارتفاعه موجب للظن بالبقاء، أو دعوى: أن الغالب هو بقاء ما لم يعلم ارتفاعه بعد العلم بثبوته.

2 - إيراد المصنف على هذا الوجه:

أولا: منع علّية مجرد الوجود السابق للظن بالبقاء.

و ثانيا: عدم ثبوت كون الغالب فيما ثبت أن يدوم إذ لم تثبت هذه الغلبة فيما شك في بقائه.

و ثالثا: لا دليل على اعتبار هذه الغلبة على فرض تسليمها؛ بل نهض الدليل على عدم اعتبارها، و هو عموم الكتاب و السنة الناهية عن العمل بغير العلم.

3 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو عدم تمامية الاستدلال بهذا الوجه الثاني على حجية الاستصحاب.

الدليل اى الوجه الثالث: الإجماع

الدليل اى الوجه الثالث: الإجماع(2) يعني: البناء على الحالة السابقة، مع تساوي الوجود و العدم بالنسبة إلى الممكن لا يكون إلا لأجل حجية الاستصحاب؛ إذ لو لم يكن حجة لكان ترجيح البقاء على الارتفاع من دون مرجح، و هو باطل عقلا.

(2) الناقل هو: الشيخ الأنصاري(1) «قدس سره»، نقل الإجماع عن صاحب النهاية و صاحب المعالم و الفاضل الجواد؛ لكن في المعالم نسبته إلى الأكثر، و هو ينافي تصريح المحقق «الإطباق عليه»، و العلامة «الاتفاق عليه». و ضمير «غيره» راجع على المبادئ.

ص: 125


1- مبادئ الأصول: 251، و نقله الشيخ في فرائد الأصول 53:3.
2- فرائد الأصول 53:3.

و فيه (1): أن تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة مما له مبان مختلفة في غاية الإشكال و لو مع الاتفاق، فضلا (2) عما إذا لم يكن و كان (3) مع الخلاف من المعظم، حيث ذهبوا إلى عدم حجيته مطلقا أو في الجملة، و نقله موهون جدا لذلك (4)، و لو

=============

(1) و قد ردّ المصنف الإجماع بما حاصله: أن الإجماع إما محصل و إما منقول، و كل منهما لا يخلو عن إشكال.

و يرد على الأول وجهان:

الأول: أن تحصيل الإجماع الكاشف عن قول المعصوم «عليه السلام» في المسألة التي لها مدارك مختلفة في غاية الصعوبة؛ حتى مع الاتفاق فضلا عمّا إذا كانت هي محل الخلاف؛ لأن حجية الاستصحاب عند القائلين بها مستندة إلى مبان مختلفة مذكورة في كلامهم، و الإجماع كذلك ليس كاشفا عن رأي المعصوم «عليه السلام»؛ لاحتمال استناد بعضهم إلى بعض تلك المباني، و بعضهم إلى بعضها الآخر، فيكون الإجماع حينئذ مدركيا، و لا أقل من احتمال مدركيته، و من المعلوم: أنه لا عبرة به؛ إذ العبرة بالمدرك.

و وجه عدم كشفه عن رأي المعصوم «عليه السلام» - الذي هو مناط حجية الإجماع - واضح، إذ يمكن أن يكون المتشبث في اعتبار الاستصحاب ببناء العقلاء مثلا منكرا له؛ بناء على عدم تمامية مستنده المزبور، لعدم تمامية سائر الأدلة أيضا في نظره.

الثاني: أن دعوى الإجماع باطلة من أساسها؛ لكثرة الأقوال في المسألة، و مع كثرتها لا يحصل الاتفاق أصلا.

و يرد على الثاني أيضا - وجهان:

الأول: أن الإجماع المنقول ليس حجة في خصوص المقام، لكون نقله موهونا بخلاف المعظم.

الثاني: أن الإجماع ليس حجة في نفسه كما ثبت في محله.

(2) هذا إشارة الإشكال الثاني على تقدير كون الإجماع المدعى محصلا. و الضمير المستتر في «يكن» راجع على «الاتفاق».

(3) يعني: و كان عدم الاتفاق مع الخلاف من المعظم.

(4) أي: لخلاف المعظم، و هذا أول الإشكالين المتقدم بقولنا: «الأول أن الإجماع المنقول ليس حجة في خصوص المقام...» الخ.

ص: 126

قيل (1) بحجيته لو لا ذلك (2).

الوجه الرابع: و هو العمدة في الباب، الأخبار المستفيضة(3)
صحيحة الزرارة الاولى

منها: صحيحة زرارة قال: قلت له: الرجل ينام (4) و هو على وضوء، أ يوجب الخفقة (5) و الخفقتان عليه الوضوء (6)؟ قال: «يا زرارة، قد تنام العين و لا ينام القلب و الأذن، و إذا نامت العين و الأذن و القلب فقد وجب الوضوء». قلت: فإن حرّك (7) في جنبه شيء و هو لا يعلم،

=============

(1) هذا إشارة إلى الإشكال الثاني على الإجماع المنقول، و هو عدم حجية الإجماع في نفسه.

(2) يعني: لو لا الإشكال في تحصيل الإجماع مع اختلاف المباني في حجية الاستصحاب، و يمكن الإشكال في الإجماع في خصوص المقام: بأن ما حكاه المحقق في المعارج هو إطباق العلماء على البراءة الأصلية، و أنها ليست غير الاستصحاب، فكان دعوى الإجماع على الاستصحاب حدسية من جهة انطباق البراءة الأصلية عليه؛ لكونه إحدى صغرياتها، فإذا تحقق تعددهما انهدم أساس الإجماع على الاستصحاب.

و البحث ملخص فلا حاجة إلى التلخيص.

و كيف كان؛ فظاهر كلام المصنف «قدس سره» هو: عدم حجية الإجماع في المقام، فلا يتم الاستدلال به على حجية الاستصحاب.

الدليل الرابع: الأخبار المستفيضة

(3) و هي الأخبار الكثيرة التي لم تبلغ حدّ التواتر.

(4) أي: يأخذه النوم.

(5) الحركة حركة الرأس بسبب النعاس، يقال: خفق برأسه خفقة أو خفقتين: إذا أخذت حركة من النعاس برأسه، فمال برأسه دون سائر جسده.

(6) يفهم من هذا السؤال: أنه سؤال عن الشبهة المفهومية بمعنى: أن مفهوم النوم مشتبه عند زرارة، بحيث لا يعلم أنه يشمل الخفقة و الخفقتين أم لا.

(7) ماض مجهول من باب التفعيل، و هو سؤال عن الشبهة المفهومية. و الكلام في هذه الصحيحة تارة: يقع في سندها، و أخرى: في دلالتها.

و أما الكلام فيه من حيث السند: فلا إشكال فيه لكون رواتها من الأجلة. و لا يضرها الإضمار و ذلك بأحد وجهين:

الوجه الأول: أن الإضمار من مثل زرارة يكون بمنزلة الإظهار، فلا يوجب القدح في اعتبار الرواية؛ إذ مثل زرارة لا يسأل غير المعصوم «عليه السلام»؛ لأن نقل الرواية عن غير

ص: 127

المعصوم «عليه السلام» للغير من دون نصب قرينة على تعيين المسئول عنه خيانة لا تصدر عن مثل زرارة، فيكون الإضمار من دون نصب قرينة على تعيين المسئول عنه دليلا على كون المسئول عنه هو المعصوم «عليه السلام»(1).

و الوجه الثاني: أن هذه الرواية رويت مسندة إلى الإمام الباقر «عليه السلام»، على ما ذكره السيد الطباطبائي في الفوائد، و الفاضل النراقي على ما ذكره الشيخ «قدس سره» في تنبيهات الاستصحاب و غيرهما من الأفاضل، و من البعيد أن مثل السيد و أمثاله نقلها مسندة، و لم يعثر على أصل من الأصول(2). هذا تمام الكلام في سند الرواية.

و أما دلالة الرواية فتتوقف على ذكرها و هذا نصها:

قال: قلت له: الرجل ينام و هو على وضوء، أ يوجب الخفقة و الخفقتان عليه الوضوء؟ قال: «يا زرارة، قد تنام العين و لا ينام القلب و الأذن، إذا نامت العين و الأذن و القلب فقد وجب الوضوء»، قلت: فإن حرّك في جنبه شيء و هو لا يعلم ؟ قال: «لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، و إلاّ فإنه على يقين من وضوئه، و لا ينقض اليقين أبدا بالشك و لكنه ينقضه بيقين آخر».

و قبل تقريب الاستدلال بهذه الصحيحة ينبغي بيان تعيين مورد السؤال فيها فنقول:

إنه لا شك في أن الصحيحة تتضمن سؤالين، السؤال الأول: «أ توجب الخفقة و الخفقتان عليه الوضوء»؟

السؤال الثاني: «فإن حرّك على جنبه شيء و هو لا يعلم»؟ و من الواضح أن السؤال الثاني كان سؤالا عن شبهة موضوعية، و هي أنه هل يمكن الاستدلال بعدم الالتفات عند تحريك شيء على جنبه و هو لا يعلم أنه قد نام ؟ فأجاب الإمام «عليه السلام» بقوله: «لا حتى يستيقن أنه قد نام».

و أما تعيين مقام السؤال الأول ففيه احتمالات:

الأول: أن الشبهة في مورد الرواية كانت مفهومية لا بمعنى أن الراوي كان غير عارف بمفهوم النوم إجمالا؛ بل كان يعرفه لكن كان غير عارف بحدّه الدقيق حتى يطبقه على موارد الشبهة، و كان الشك في تحقق النوم بالخفقة و الخفقتين ناشئا عن عدم التعرف على مفهومه الدقيق الجامع.

ص: 128


1- مصباح الأصول 13:3.
2- مصباح الأصول 13:3.

قال: «لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، و إلاّ فإنه على يقين من وضوئه، و لا ينقض اليقين أبدا بالشك و لكنه ينقضه بيقين آخر»(1).

=============

الثاني: كان السؤال عن الناقض و أنه هل هو المرتبة الكاملة من النوم، أو تكفي المرتبة الضعيفة مع العلم بمفهوم النوم و أن له مراتب قويها ما تتعطل به القوى الثلاث - العين، و الأذن، و القلب - و ضعيفها ما تتعطل به العين، أو هي مع السمع و لكن القلب يدرك و لا يتعطل.

الثالث: كان السؤال عن ناقضية الخفقة و الخفقتين مع العلم بأنها ليست داخلة في النوم؛ لكنه يحتمل أن تكون بنفسها ناقضة و إن لم تكن نوما. و هذا الاحتمال الثالث مردود؛ لأن النواقض محدودة، و بعيد عن زرارة أن لا يعرفها، و يحتمل كون الخفقة برأسها ناقضة و إن لم تكن داخلة تحت النوم.

فتعيّن أحد المعنيين الأول و الثاني، فعلى الأول: الشبهة حكمية مفهومية، و على الثاني:

حكمية محضة و هو الظاهر، بقرينة أن الإمام «عليه السلام» قام بتبيين مراتب النوم، و صرّح بأن نوم العين و الأذن مع التصديق بأنه من مراتبه لا يكفي، و إنما الناقض هو المرتبة الكاملة منه أي: إذا نام الجميع.

هذا تمام الكلام في بيان تعيين مورد السؤال في هذه الصحيحة.

و أما تقريب الاستدلال بهذه الصحيحة على حجية الاستصحاب: فيتوقف على مقدمة و هي: بيان الجزاء لقوله: «و إلاّ فإنه على يقين من وضوئه». أو لقوله: «فإن حرّك في جنبه شيء و هو لا يعلم». و الأول هو مختار الشيخ الأنصاري «قدس سره»، حيث جعل الشرط «و إلاّ» أي: و إن لم يستيقن أنه قد نام. و الثاني هو مختار صاحب الكفاية حيث جعل الشرط «فإن حرّك في جنبه شيء و هو لا يعلم».

و في الجزاء على كلا الاحتمالين في الشرط احتمالات:

الاحتمال الأول: أن الجزاء محذوف مستفاد من قوله: «لا» في جواب «فإن حرك في جنبه شيء و هو لا يعلم» أي: لا يجب الوضوء «حتى يستيقن أنه قد نام». هذا على تقرير صاحب الكفاية الاستدلال بها على حجية الاستصحاب؛ و لكن تقرير الشيخ الأنصاري الاستدلال بها على حجية الاستصحاب يكون مخالفا لتقرير صاحب الكفاية.

و حاصل ما أفاده الشيخ في تقرير الاستدلال بها على حجية الاستصحاب هو: أن

ص: 129


1- تهذيب الأحكام 11/8:1، الوسائل 631/245:1.

الشرط عبارة عن قوله «عليه السلام»: «و إلاّ» و جوابه - و هو لا يجب عليه الوضوء - محذوف و قوله «عليه السلام»: «فإنه على يقين من وضوئه» علّة للجواب المحذوف و أقيم مقامه، و قيام العلة مقام الجزاء كثير في القرآن. ثم ذكر جملة من الآيات لقيام العلة مقام الجزاء فيها. راجع «دروس في الرسائل، ج 4، ص 354».

فيكون معنى الرواية: أنه إن لم يستيقن أنه قد نام فلا يجب عليه الوضوء؛ لأنه على يقين من وضوئه في السابق، و بعد إهمال تقييد اليقين بالوضوء عن الوضوء، و جعل العلّة نفس اليقين - لا اليقين بالوضوء - يكون قوله «عليه السلام» -: «و لا ينقض اليقين أبدا بالشك» - بمنزلة كبرى كلية للصغرى المزبورة. ثم أشار إلى الاحتمالين الآخرين في الجواب حيث قال ما مفاده: إنه لا يكون جواب الشرط عبارة عن قوله «عليه السلام»:

«فإنه على يقين من وضوئه»، و لا قوله «عليه السلام»: «و لا ينقض اليقين» الخ، و كان ذكر قوله: «على يقين» الخ توطئة و تمهيد له حتى يلزم محذوران:

الأول: لا يستفاد منها إلاّ عدم جواز النقض على نحو التعبد في باب الوضوء فقط، حيث إنه يكون خلاف الظاهر منه.

الثاني: يلزم الفصل بالواو بين الشرط و الجزاء، و هو لا يصح على قانون اللغة العربية.

فالحاصل: أنه لا يصح أن يكون الجزاء قوله: «لا ينقض اليقين» الخ، و كان قوله:

«على يقين» الخ، تمهيدا له لما ذكر من الإشكالين.

هذا تمام الكلام في تقريب الاستدلال بالصحيحة على حجية الاستصحاب على ما قرره الشيخ «قدس سره».

و لكن صاحب الكفاية قرر الاستدلال بنحو آخر و هو: أن الشرط عبارة عن قوله «عليه السلام»: «فإن حرّك...» الخ، و جوابه عبارة عن لفظ «لا». و قوله «فإنه على يقين» تعليل للجواب بالأمر الارتكازي الغير المختص بباب الوضوء، يعني: أن السائل لما سأل عن وجوب إعادة الوضوء أجاب الإمام «عليه السلام»: بأنه لا يجب. ثم علل الإمام عدم الوجوب بأن المورد داخل في قضية ارتكازية شرعية على عدم نقض اليقين بالشك و هي قوله «عليه السلام»: «و لا ينقض اليقين أبدا بالشك».

و كيف كان؛ فإن التعليل لما كان بأمر ارتكازي و هو: أن اليقين ذو صلابة و لا ينقضه شيء ذو رخوة كالشك صحّ للعرف انتزاع قاعدة كلية من المورد و هو أن الشك كالقطن لا يمكن له أن ينقض اليقين الذي هو كالحجر.

ص: 130

و على ذلك فما هو الدخيل في التعليل هو نفس اليقين و الشك لا اليقين بالوضوء و الشك فيه، و لو كان الأمر كما توهم لكان للإمام «عليه السلام» التنبيه عليه.

فالنتيجة هي: صحة الاستدلال بهذه الصحيحة على حجية الاستصحاب في جميع الأبواب لا في باب الوضوء فقط.

فلا يكون جواب الشرط عبارة عن قوله «عليه السلام»: «فإنه على يقين...» الخ، و لا قوله: «و لا ينقض اليقين بالشك...» الخ، و جعل قوله: «فإنه على يقين...» تمهيدا للجواب حتى لا يكون دليلا على اعتبار الاستصحاب في جميع الأبواب بنحو الكلية؛ بل يكون حكما تعبديا و نهيا عن نقض اليقين بالشك في باب الوضوء فقط، حيث إن جعل الجواب قوله: «فإنه على يقين من وضوئه» يكون على خلاف الظاهر منه؛ لأن كلمة «فإنه على يقين» ظاهرة في التعليل، فجعل الجملة الاسمية الخبرية - يعني قوله «عليه السلام»: «فإنه على يقين من وضوئه» بمعنى الإنشاء و الأمر بالمضي على اليقين و البناء عليه بحسب العمل حال الشك - تعسف، كما أن جعل الجواب عبارة عن قوله «عليه السلام»: «و لا ينقض اليقين...» الخ، و جعل قوله «عليه السلام»: «فإنه على يقين...» الخ. تمهيدا للجواب - لا أنه علّة قامت مقام الجزاء - أيضا يكون على خلاف الظاهر منه؛ بل لا وجه له بعد عدم صحة الفصل بالواو بين الشرط و الجزاء على قانون العربية، إلاّ إن الظاهر من الصحيحة: ما سلك إليه الشيخ «قدس سره».

و أما كلام صاحب الكفاية فلا يخلو عن المناقشة:

أولا: من جهة أنه إن كان الشرط عبارة عن قوله «عليه السلام»: «فإن حرّك...» الخ.

يتعين أن يكون جوابه لفظة «لا» على حسب الصناعة العرفية، و لا يحتمل أن يكون الجواب قوله «عليه السلام»: «فإنه على يقين...» الخ، و لا قوله: «و لا ينقض اليقين...» الخ، لأنه خلاف الظاهر منه عرفا؛ بل لا يصح لاستلزامه الفصل بالواو بين الشرط و الجزاء.

و ثانيا: مرّ أنه منع بناء العقلاء، فكيف قال في المقام: بأن التعليل يكون بالأمر الارتكازي العقلائي الغير المختص بباب الوضوء؟ فلا يخلو كلامه عن التناقض.

و كيف كان؛ سواء جعل الشرط قوله: «فإن حرّك...» الخ، و جوابه لفظة «لا»، و جعل قوله: «فإنه على يقين» تعليلا للجواب - كما يقول صاحب الكفاية - أو جعل الشرط قوله: «و إلاّ» و كان الجواب محذوفا، و جعل قوله: «فإنه على يقين» علة له،

ص: 131

و هذه الرواية و إن كانت مضمرة إلاّ إن إضمارها لا يضر باعتبارها، حيث كان مضمرها مثل زرارة، و هو ممن لا يكاد يستفتى من غير الإمام «عليه السلام»، لا سيما مع هذا الاهتمام (1).

و تقريب الاستدلال بها (2): أنه لا ريب في ظهور قوله «عليه السلام»: «و إلاّ فإنه على يقين...» إلى آخره عرفا (3) في النهي عن نقض اليقين بشيء بالشك (4) فيه، فكانت الرواية دليلا على اعتبار الاستصحاب في جميع الموارد لظهور التعليل في بيان الأمر الارتكازي، و أنه لا يجوز نقض اليقين بالوضوء بالشك فيه؛ لأنه يكون من مصاديق الكبرى الكلية الارتكازية من عدم جواز نقض اليقين على الوجه الكلي بالشك فيه. هنا كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

=============

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) يعني: اهتمام زرارة، المستكشف من تصديقه للسؤال عن شقوق المسألة من تحديد مفهوم النوم الناقض و الأمارة عليه.

(2) أي: تقريب الاستدلال بالصحيحة و مورده فيها هو قوله «عليه السلام»: «و إلاّ فإنه على يقين»؛ إذ هو بمنزلة قوله: «و إن لم يستيقن أنه قد نام فلا يجب الوضوء، لأنه كان متيقنا بالوضوء»، و هذا هو الاستصحاب، حيث إن جملة «فإنه على يقين» اسمية فهي ظاهرة في تحقق اليقين فعلا، أي: في زمان تحقق الشك، غاية الأمر: أن اليقين تعلق بالحدوث، و الشك بالبقاء.

فالمكلف متيقن في حال عروض الخفقة و الخفقتين بتحقق الوضوء سابقا، و شاك في انتقاضه بعروض النعاس عليه.

و محصل الكلام في المقام: أن النهي عن نقض اليقين بالوضوء بالشك فيه ليس لخصوصية في الوضوء؛ بل لكونه من صغريات القضية الكلية الارتكازية على ما هو ظاهر التعليل بقوله: «فإنه على يقين» من كونه بأمر ارتكازي؛ لوضوح أن عدم نقض اليقين بخصوص الوضوء بسبب الشك فيه ليس من مرتكزات العقلاء بما هم عقلاء حتى يتجه التعليل به، و على هذا فالصحيحة دليل على حجية الاستصحاب مطلقا من دون اختصاصها بباب دون باب.

(3) هذا، و «في النهي» متعلقان ب «ظهور» يعني: أنه يستفاد النهي من مجموع الجزاء المحذوف و هو «فلا يجب الوضوء»؛ و علته و هو «فإنه على يقين من وضوئه».

(4) متعلق ب «نقض»، و ضمير «فيه» راجع على «شيء».

ص: 132

و أنه (1) «عليه السلام» بصدد بيان ما هو علّة الجزاء المستفاد (2) من قوله «عليه السلام»: «لا» في جواب «فإن حرك في جنبه...» إلى آخره، و هو (3) اندراج اليقين و الشك في مورد السؤال في القضية الكلية الارتكازية الغير المختصة بباب دون باب.

و احتمال (4) أن يكون الجزاء هو قوله: «فإنه على يقين...» إلى آخره غير

=============

(1) معطوف على «النهي».

(2) صفة ل «الجزاء» و الجزاء المستفاد من قوله «عليه السلام»: «لا» هو «لا يوجب الوضوء».

(3) الضمير راجع على الموصول في «ما هو» يعني: أن علّة عدم وجوب الوضوء عند عروض الخفقة و الخفقتين هو: أن الشك في مورد السؤال يندرج في القضية الارتكازية من البناء على ما كان و عدم نقض اليقين إلاّ بمثله.

و بالجملة: فقوله «عليه السلام»: «فإنه على يقين من وضوئه» علة للجزاء المحذوف، و هو قوله: «فلا تجب إعادة الوضوء». و الغرض من هذا التعليل هو: إدراج اليقين بالوضوء و الشك فيه تحت القضية الكلية غير المختصة بباب دون باب.

و بيانه: أنه يعتبر في تعليل حكم بشيء أن تكون العلة المنصوصة قضية كلية مرتكزة في ذهن المخاطب، و يكون الغرض من التعليل التنبيه على صغروية المعلل لعموم تلك العلة؛ كما إذا قال الشارع: «لا تشرب الخمر فإنه مسكر»، أو قال الطبيب للمريض: «لا تأكل الرمان فإنه حامض»، فإن المفهوم من نحو هذا التعبير استناد النهي عن شرب الخمر و أكل الرمان إلى انطباق عنوان المسكر المفروغ حرمته و عنوان الحامض المضر بحال المريض عليهما، و عليه: فالمناط في حسن التعليل كون العلة كبرى كلية ارتكازية، و المعلل من صغرياتها.

و على هذا: فتعليل عدم وجوب إعادة الوضوء في الصحيحة بقوله «عليه السلام»:

«فإنه لا ينقض اليقين بالشك» تعليل بأمر مغروس في أذهان العقلاء؛ لأجل أن اليقين بما أنه كاشف ذاتي عن الواقع مما ينبغي سلوكه، و الشك حيث إنه محض التحير و التردد لا يجوز البناء عليه؛ لكونه محتمل الضرر، و هذه الكبرى العقلائية المسلمة طبقها الإمام «عليه السلام» على الاستصحاب و إن زال اليقين و تبدل بالشك.

(4) هذا شروع في تقريب دلالة الصحيحة على اعتبار الاستصحاب و عموم حجيته لسائر الأبواب، مع أن ظهورها الأوّلي بيان قاعدة الاستصحاب في باب الوضوء خاصة بعدم الاعتناء باحتمال وجود الناقض.

ص: 133

و محصل ما أفاده هنا: إن الوجوه المحتملة في جزاء الشرط في قوله «عليه السلام»:

«و إلاّ» ثلاثة:

الأول: ما تقدم من كون جزاء الشرط محذوفا، و قيام علته و هي قوله «عليه السلام»:

«فإنه على يقين من وضوئه» مقامه، و أنه مبني استفادة حجية الاستصحاب في جميع الموارد.

الثاني: كون جزاء الشرط نفس قوله «عليه السلام»: «فإنه على يقين»؛ ليكون اللام في «اليقين» في قوله «عليه السلام»: «و لا ينقض اليقين بالشك» للعهد كي يختص اليقين غير المنقوض بالشك بباب الوضوء.

فالجملة خبرية في مقام الإنشاء و هو الأمر بالمضيّ على اليقين بوضوئه و البناء عليه بحسب العمل، فالمعنى: من شك في وضوئه فليأخذ بيقينه السابق.

و المصنف أورد عليه بما حاصله: أن قوله «عليه السلام»: «فإنه على يقين» جملة خبرية لا يصح وقوعها جزاء للشرط فيما نحن فيه؛ لأن الجزاء يكون مترتبا على الشرط ترتب المعلول على العلة؛ بحيث إذا تبدلت القضية الشرطية بالحملية يصير الشرط موضوعا و الجزاء محمولا، ففي قولنا: «إن جاء زيد فأكرمه» يصح أن يقال: المجيء علة لوجوب الإكرام. و من المعلوم: عدم انطباق هذا الضابط على المقام؛ لأن معنى قوله «عليه السلام»: «فإنه على يقين من وضوئه» و هو كونه سابقا على اليقين بالوضوء غير مترتب على الشرط أعني: «و إن لم يستيقن أنه قد نام»؛ لوضوح: عدم كون ذلك اليقين معلولا لعدم العلم بالنوم، بل هو معلول لأمر لا يرتبط بالشك بالنوم.

و لأجل عدم الترتب المزبور قال المصنف «قدس سره» بعدم صحة جعله جزاء إلا بعد انسلاخه عن الخبرية إلى الإنشائية؛ بأن يكون المراد: إنشاء وجوب العمل بالحالة السابقة، و البناء على وجود الوضوء السابق من حيث الآثار، غاية الأمر: أن الإنشاء تارة: يكون لسان جعل الحكم ك أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ * و «لا تشرب الخمر» و نحوهما، و أخرى: يكون بلسان جعل الموضوع كقوله «عليه السلام»: «الطواف بالبيت صلاة»(1) و «أنت متيقن

ص: 134


1- عوالي اللآلي 70/214:1، سنن الدارمي 44:2، المستدرك 267:2، و فيهم «.. إلا إن الله أحل فيه النطق، فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير». و ورد بلفظ: «لا بأس أن يقضي المناسك على غير وضوء؛ إلا الطواف فإن فيه صلاة». تهذيب الأحكام 509/154:5، الوسائل 986/374:1.

بالوضوء» مثلا، فمعنى الجملة حينئذ: «أنه إن لم يستيقن النوم فليبني على وضوئه»، و يكون قوله «عليه السلام»: «و لا ينقض اليقين بالشك» تأكيدا له. و ضابط الجزاء ينطبق حينئذ على المقام؛ لأن التعبّد بالبقاء على الحالة السابقة مترتب على اليقين بالوضوء و الشك في النوم.

لكن الحمل على الإنشاء بعيد إلى الغاية؛ لأن حمل الخبر على الإنشاء مخالف للأصل لا يصار إليه إلا بقرينة، و هي مفقودة في المقام؛ إذ لا حاجة إلى ذلك بعد الاستغناء عن جعله جزاء بالمحذوف المدلول عليه بالجملة السابقة و هي قوله «عليه السلام»: «لا» في جواب قول السائل: «فإن حرك في جنبه شيء و هو لا يعلم».

نعم؛ قد يراد الطلب من الجملة الفعلية الخبرية مثل: «يعيد» إذا كان المتكلم في مقام الإنشاء، و كذا تستعمل الجملة الاسمية لإنشاء المادة، و المحمول كما في ألفاظ العقود و الإيقاعات مثل: «أنت طالق، و أنت حر» و نحوهما. و أما مثل: «فإنه على يقين» فحمله على الإنشاء خلاف الظاهر؛ لو لا دعوى أنه غير معهود.

فالمتحصل: أنه لا وجه لاحتمال كون «فإنه على يقين...» جزاء الشرط.

الثالث: أن يكون الجزاء قوله «عليه السلام»: «و لا تنقض اليقين بالشك»، و قد ذكر جملة «فإنه على يقين» توطئة و مقدمة لبيان الجزاء، و المعنى حينئذ: «و إن لم يستيقن أنه قد نام فلا ينقض اليقين بالوضوء بالشك في النوم»، و يكون المراد: خصوص اليقين الوضوئي، فيختص بباب الوضوء؛ بل يختص بخصوص الشك في النوم؛ و لا يعم جميع النواقض لأن اليقين الذي لا ينقض و لا ينبغي نقضه هو اليقين الملحوق بالشك في النوم لا غيره، فيجري الاستصحاب فيما إذا كان الشك متعلقا بالنوم لا مطلقا.

لكن هذا الاحتمال أبعد من سابقه؛ لكونه مخالفا لما عهد من القواعد العربية من لزوم خلوّ الجزاء عن الواو الظاهرة في المغايرة المنافية لشدة الارتباط و الاتصال بين الشرط و الجزاء؛ لما عرفت من ترتب الثاني على الأول ترتب المعلول على علته، و الواو تنافي هذا الترتب، و يشهد له: أن جملة «لا تنقض» في الروايات الآتية جعلت للحكم بالمضي على الحالة السابقة لا نفس الحكم بالمضي.

و بالجملة: فهذا الاحتمال الثالث في غاية الوهن و السقوط. و قد عرفت وهن الاحتمال الثاني أيضا، فالمتعين هو الاحتمال الأول، و قد تقدم تقريب دلالته على اعتبار الاستصحاب مطلقا.

ص: 135

سديد (1)، فإنه (2) لا يصح إلا بإرادة لزوم العمل على طبق يقينه، و هو (3) إلى الغاية بعيد، و أبعد منه: كون (4) الجزاء قوله: «لا ينقض...» إلى آخره. و قد ذكر: «فإنه على يقين» للتمهيد.

و قد انقدح بما ذكرنا (5): ضعف احتمال اختصاص قضية «لا تنقض...» إلى آخره

=============

(1) خبر لقوله: «و احتمال»، و هذا إشارة إلى الاحتمال الثاني، و قد تقدم وجه فساده بقولنا: «و المصنف أورد عليه بما حاصله...» الخ.

(2) أي: فإن كون الجزاء «فإنه على يقين» لا يصح إلا بتأويل الجملة الخبرية بالإنشائية، و قد تقدم بيانه بقولنا: «و لأجل عدم الترتب المزبور قال المصنف:...».

(3) أي: إرادة لزوم العمل على طبق يقينه بعيد، و قد عرفت وجه البعد بقولنا: «لكن الحمل على الإنشاء بعيد إلى الغاية...» الخ.

(4) هذا هو الاحتمال الثالث، و قد تقدم بيانه بقولنا: «الثالث أن يكون الجزاء...» الخ، و قد عرفت وجه الأبعدية بقولنا: «لكن هذا الاحتمال أبعد من سابقه...» الخ.

(5) أي: بما ذكرنا من حمل قوله «عليه السلام»: «فإنه على يقين من وضوئه على التعليل و قيامه مقام الجزاء المحذوف، و هذا شروع في بيان معممات اعتبار الاستصحاب لغير باب الوضوء. و هي أمور ثلاثة و مؤيد واحد.

و قد تقدم أوّل المعممات مفصلا من اقتضاء التعليل بالأمر الارتكازي عدم اختصاصه بمورد الرواية و هو الوضوء. و قد أشار إلى المعمم الثاني بقوله: «مع أنه لا موجب لاحتماله...».

و حاصله: إنه لا وجه لاحتمال اختصاص «لا تنقض» في هذه الصحيحة بباب الوضوء إلا كون اللام للعهد؛ بأن يكون إشارة إلى اليقين في قوله: «فإنه على يقين من وضوئه»، كما هو الحال في قوله تعالى: أَرْسَلْنٰا إِلىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصىٰ فِرْعَوْنُ اَلرَّسُولَ (1)، لكن لا وجه لاحتمال كون اللام هنا للعهد؛ لأن الظاهر كون اللام للجنس إلا مع قرينة موجبة للحمل على العهد و هي مفقودة هنا.

و مجرد سبق المدخول و هو اليقين في قوله «عليه السلام»: «فإنه على يقين من وضوئه» لا يكون قرينة على كون اللام للعهد؛ و ذلك لكمال الملاءمة مع الجنس موجودة أيضا، و معها لا موجب لحمل اللام على العهد.

و قد أشار إلى المعمم الثالث بقوله: «مع أنه غير ظاهر في اليقين بالوضوء...» الخ،

ص: 136


1- المزمل: 15-16.

و حاصله: منع ظهور «اليقين» في اليقين الوضوئي و لو قيل بكون «فإنه» جزاء الشرط، و ذلك لأن هذا الظهور إنما يكون إذا تعلق «من وضوئه» - «اليقين» حتى يكون من قيوده و متعلقاته، و أما إذا كان متعلقا بمجموع الجار و المجرور و هو «على يقين» فلا يكون «من وضوئه» من قيوده؛ إذ يتعلق حينئذ بما يتعلق به قوله: «على يقين»، و التقدير: «فإنه من طرف وضوئه على يقين»، فيكون «اليقين» مطلقا غير مقيد، كما يقال: إن زيدا من ناحية عدالة عمرو و علمه على يقين، فلا قيد في اليقين.

و عليه: فلو أصرّ القائل بأن اللام للعهد لم ينفعه ذلك لإثبات اختصاص جملة «و لا ينقض اليقين بالوضوء»؛ لفرض أن المعهود و هو «فإنه على يقين» مهمل الخصوصية حسب الفرض، فاليقين المعهود مطلق غير مقيد بشيء حتى يدعى اختصاصه بالوضوء.

هذا تمام الكلام في المعممات الثلاث. و أما المؤيد: فقد أشار إليه بقوله: «و يؤيده تعليل الحكم بالمضي...» الخ.

أي: و يؤيد ضعف احتمال الاختصاص تعليل الحكم في أكثر روايات الباب بمضامين قريبة مما في المضمرة، ففي الصحيحة الآتية ورد قوله «عليه السلام»: «لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت، و ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا»(1).

و في رواية الخصال عن أمير المؤمنين «عليه السلام»: «من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه فإن اليقين لا يدفع بالشك»(2).

و في رواية عبد الله ابن سنان الواردة في إعارة الثوب من الذمي عن أبي عبد الله «عليه السلام»: «فإنك أعرته إياه و هو طاهر، و لم تستيقن أنه نجسه»(3).

و في موثقة عمار عنه «عليه السلام»: «إذا شككت فابن على اليقين. قلت: هذا أصل ؟ قال: «نعم»(4)، و عليه فقد تكررت جملة «و لا ينقض اليقين بالشك» إما بلفظها

ص: 137


1- تهذيب الأحكام 421:1 /جزء من ح 1335، الاستبصار 183:1 /جزء من ح 641، الوسائل 466:3 /جزء من ح 4192.
2- الخصال: 619، جزء من حديث الأربعمائة، باختلاف.
3- تهذيب الأحكام 361:2، ج ذيل ح 1495، الاستبصار 392:1 /ذيل ح 1497، الوسائل 521:3 /ذيل ح 4348.
4- الفقيه 1025/351:1، الوسائل 10452/212:8.

باليقين و الشك في باب الوضوء جدا (1)، فإنه ينافيه (2) ظهور التعليل في أنه بأمر ارتكازي لا تعبدي قطعا.

و يؤيده (3): تعليل الحكم بالمضي مع الشك في غير الوضوء في غير هذه الرواية بهذه القضية أو ما يرادفها، فتأمل جيدا، هذا مع أنه (4) لا موجب لاحتماله إلا احتمال كون اللام في «اليقين» للعهد إشارة إلى اليقين في «فإنه على يقين من وضوئه»، مع أن الظاهر أنه للجنس كما هو الأصل (5) فيه،...

=============

و إما بما يرادفها في الروايات، مع عدم كون مورد السؤال الوضوء أو الطهارات الثلاث حتى يدعى اختصاص هذه الكبرى بها.

ثم إن تعبير المصنف هنا بالتأييد - دون الشهادة التي ذكرها في حاشية الرسائل - لعله لأجل أن ما ورد بلسان التعليل كما في صحيحة زرارة الآتية يحتمل فيه العهد أيضا كما في هذه المضمرة، فلا بد من قرينة أخرى لإثباته أن اللام للجنس.

و كيف كان؛ فالمهم إثبات كون التعليل في خصوص هذه المضمرة بأمر ارتكازي و إقامة القرائن على عدم كون اللام للعهد كما سيظهر.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدارية.

(1) قيد لقوله: «ضعف احتمال».

(2) أي: الاختصاص، و ضمير «فإنه» للشأن و ضمير «أنه» راجع على التعليل، و قوله:

«قطعا» قيد ل «ينافيه».

و غرضه: أن الاختصاص خلاف ظاهر التعليل؛ لظهوره في الارتكازية التي تقتضي اطراد الحكم المعلل و عدم اختصاصه بباب دون باب.

(3) أي: و يؤيد ضعف احتمال الاختصاص تعليل الحكم في أكثر روايات الباب بمضامين قريبة مما في المضمرة، و قد تقدم الكلام في هذا التأييد فلا حاجة إلى التكرار.

(4) الضمير للشأن، و ضمير «لاحتماله» راجع على «اختصاص»، و هذا إشارة إلى المعمم الثاني، و قد عرفت توضيح ذلك.

(5) و حمل اللام على الجنس في خصوص المقام لا يخلو عن إشكال، و ذلك فإن اللام بطبعه و إن كان ظاهرا في الجنس، و أنه الأصل فيه و لكن سبق «فإنه على يقين من وضوئه»، مما يوهن الظهور المذكور هذا أولا.

و ثانيا: أن هذا الأصل معارض بما اختاره المصنف في بحث ألفاظ العموم بقوله:

«فالظاهر أن اللام مطلقا تكون للتزيين كما في الحسن و الحسين «عليهما السلام»،

ص: 138

و سبق (1)؛ «فإنه على يقين...» الخ لا يكون قرينة عليه، مع كمال الملاءمة مع الجنس أيضا (2)، فافهم (3) مع (4) إنه غير ظاهر في اليقين بالوضوء؛ لقوة احتمال أن يكون «من وضوئه» متعلقا بالظرف (5) لا ب «يقين»، و كان المعني: فإنه كان من طرف وضوئه على يقين، و عليه: لا يكون الأوسط (6) إلا اليقين (7) لا اليقين بالوضوء (8) كما لا يخفى على المتأمل.

و بالجملة (9): لا يكاد يشك في ظهور القضية في عموم اليقين و الشك، و استفادة الخصوصيات إنما تكون بالقرائن التي لا بد منها لتعيينها على كل حال. فالكلام محفوف بما يصلح للقرينية على كون اللام للعهد، و لا دافع لهذا الاحتمال و معه لا سبيل لإحراز العموم أو الإطلاق و إثبات اعتبار الاستصحاب في جميع الأبواب.

=============

(1) مبتدأ خبره «لا يكون»، و هو دفع دخل مقدر، و قد تقدم بقولنا: «و مجرد سبق الدخول...» الخ، و ضمير «عليه» راجع على العهد.

(2) أي: مع كمال الملاءمة مع العهد.

(3) لعله إشارة إلى أن الملاءمة مع الجنس لا تمنع عن كون اللام للعهد إذا كان مقتضى الصناعة العربية حمله على العهد، فالعمدة في منع العهد ظهور التعليل في إدراج المورد في القضية الكلية الارتكازية غير المختصة بباب دون باب. أو إشارة إلى ما ذكرناه من الإشكال على كون الأصل في اللام هو الجنس؛ لكونه معارضا لما ذهب إليه المصنف من الأصل فيه هو التزيين لا الجنس و لا العهد.

(4) أي: مع أن «اليقين» في «فإنه على يقين» غير ظاهر... و هذا إشارة إلى وجه المعمم الثالث، و قد تقدم توضيح ذلك فراجع الوجوه الثلاثة للتعميم.

(5) و هو «على يقين، لا المجرور فقط».

(6) و في بعض النسخ «الأصغر» بدل «الأوسط».

(7) فصورة القياس من الشكل الأول هكذا: «كان المكلف على يقين من ناحية وضوئه، ثم شك في حدث النوم. و كل من كان على يقين و شك لم ينقضه به».

و النتيجة: وجوب بناء المكلف على اليقين السابق و عدم نقضه مهما كان متعلقه.

(8) لما عرفت من: عدم تعلق «من وضوئه» باليقين حتى يكون اليقين مقيدا بالوضوء؛ بل اليقين مطلق، فلا يختص بباب الوضوء.

(9) هذه خلاصة المعممات الثلاثة و تأييدها بتطبيق الإمام «عليه السلام» للكبرى على موارد أخرى كالطهارة الخبثية و الشك في الركعات و غيرهما.

ص: 139

خصوصا (1) بعد ملاحظة تطبيقها في الأخبار على غير الوضوء أيضا.

ثم لا يخفى (2) حسن إسناد النقض - و هو ضد الإبرام - إلى اليقين، و لو كان

=============

(1) قد تقدم هذا التأييد بقوله: «و يؤيده تعليل الحكم...»، و قد تقدم توضيحه.

(2) هذا شروع في بيان حجية الاستصحاب في كل من الشك في المقتضي و الرافع و ضعف التفصيل بينهما.

و توضيحه: أن من الأقوال في الاستصحاب - كما أشير إليه - التفصيل بين الشك في المقتضى و الرافع بالحجية في الثاني دون الأول، و اختاره جملة من الأعيان قديما و حديثا كالمحقق الخوانساري و صاحب الفصول و الشيخ الأنصاري و المحقق النائيني و غيرهم «قدس الله أسرارهم»، و لما اهتم به الشيخ و غيره تعرض له من تأخر عنه كالمصنف هنا و في حاشية الرسائل، و نذكر قبل المتن بعض كلمات أرباب هذا التفصيل قال صاحب الفصول في الفصول: «و اعلم أن المستفاد مما يعتمد عليه من هذه الأخبار... حجية الاستصحاب في الأشياء التي مقتضاها البقاء و الاستمرار لو لا عروض المانع بقرينة لفظ النقض، فإن المفهوم منه، اقتضاء الشيء المتيقن للبقاء على تقدير عدم طرو الناقض المشكوك فيه؛ إذ عدم البناء على بقاء ما علم ثبوته في وقت لا يعد نقضا له إذا لم يكن في نفسه مقتضيا للبقاء...»(1) الخ.

و قال الشيخ الأنصاري: «ثم إن اختصاص ما عدا الأخبار العامة بالقول المختار واضح، و أما الأخبار العامة فالمعروف بين المتأخرين الاستدلال بها على حجية الاستصحاب في جميع الموارد، و فيه تأمل قد فتح بابه المحقق الخونساري في شرح الدروس، توضيحه أن حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتصالية...»(2).

و توضيح كلام الشيخ: أن الأخبار المستدل بها على اعتبار الاستصحاب على طائفتين إحداهما خاصة، و ثانيتهما عامة، أما الخاصة كمضمرة زرارة الواردة في الوضوء، و موثق عمار الوارد في إعارة الثوب الطاهر من الذمي و غيرهما، فموردها الشك في الرافع بعد الفراغ عن اقتضاء المستصحب للبقاء لو لا المزيل.

و أما العامة - مثل خبر محمد بن مسلم عن أبي عبد الله «عليه السلام» عن أمير المؤمنين «عليه السلام»: «فإن الشك لا ينقض اليقين» و غيره - فهي أيضا تدل على القول المختار لوجود المقتضي و فقد المانع.

ص: 140


1- الفصول الغروية: 371.
2- فرائد الأصول 78:3.

و توضيح ما أفاده الشيخ لإثبات المقتضي للقول بالاختصاص يتوقف على مقدمة و هي: أن معنى النقض الحقيقي هو رفع الهيئة الاتصالية الحسية الحاصلة في الأشياء، و إبانة أجزائها كنقض الحبل و الغزل و نحوهما مما يكون له هيئة اتصالية حسية، و منه قوله تعالى: كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهٰا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكٰاثاً (1).

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه إذا تعذر حمله على المعنى الحقيقي فلا بد من حمله على أقرب المجازات، و يدور الأمر في المقام بين إرادة أحد معنيين مجازيين:

الأول: رفع اليد عن الشيء الثابت مع وجود المقتضي لبقائه لو لا عروض المزيل كالطهارة و الزوجية الدائمة.

الثاني: رفع اليد عن مطلق اليقين؛ و إن لم يكن في متعلقه استعداد الاستمرار، كاليقين بالزوجية المنقطعة أو بإضاءة السراج إلى ساعتين لقلة زيته.

و من المعلوم: أن الأقرب إلى المعنى الحقيقي هو الأول أعني: الأمر الثابت الذي فيه اقتضاء البقاء في عمود الزمان، فكأنه «عليه السلام» قال: «لا ترفع اليد عن المتيقن الثابت القابل للاستمرار بالشك في بقائه».

وجه الأقربية: ما تقرر من أن الجملة المشتملة على فعل إذا تعلق به شيء و تعذر الأخذ بمدلول كليهما معا قدم ظهور الفعل على ظهور متعلقة؛ كما إذا قال المولى: «لا تضرب أحدا»، فإن ظهور الضرب في الضرب المؤلم حاكم على إطلاق «أحد» الشامل للأحياء و الأموات، و تكون خصوصية الفعل منشأ لتخصيص «أحد» بالأحياء، و لا يصير عموم المتعلق قرينة على تعميم الضرب لغير الأحياء.

و في المقام حيث كان إرادة رفع اليد عما من شأنه البقاء أقرب إلى معنى «النقض» الحقيقي، فلذا يتصرف في عموم المتعلق أعني: «اليقين»، و يخصص بما فيه استعداد البقاء، و عليه: فيتم المطلوب و هو اختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع.

و تحصل: أن المنقوض في أخبار الاستصحاب لا بد أن يكون مما يقتضي البقاء؛ بحيث يكون الشك في بقائه مستندا إلى الشك في وجود الرافع كالنوم و سائر النواقض المعهودة للوضوء. هذا توضيح مرام الشيخ «قدس سره».

و أورد عليه المصنف: بالبحث تارة: في مدلول مادة «النقض»، و أخرى: في هيئة «لا تنقض».

ص: 141


1- النحل: 92.

و محصل ما أفاده حول المادة: أن النقض الذي هو ضد الإبرام و الإحكام إنما أسند إلى نفس اليقين الذي هو أمر مبرم و شيء مستحكم؛ لكونه أقوى مراتب الإدراك، لما فيه من الجزم المانع عن احتمال النقيض، فهو مما يعتقد ببقائه و استمراره، بخلاف الظن، فإنه لا يظن باستمراره؛ بل يظن بزواله.

و بالجملة: فلا حاجة إلى جعل «النقض» مسندا إلى «المتيقن» حتى يقال بعدم صحة إسناده إليه إلا إذا كان المتيقن مما فيه اقتضاء البقاء و الدوام؛ لكونه أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي؛ بل المسند إليه هو نفس اليقين الذي فيه معنى الإبرام و الاستحكام؛ لما في شرح الإشارات من أن «اليقين هو التصديق بطرف مع الحكم بامتناع الطرف الآخر، و يعتبر فيه أمور ثلاثة: الجزم، المطابقة، و الثبات». و عليه: فلا نظر إلى المتيقن حتى يعتبر فيه اقتضاء الدوام.

و يشهد لكون المصحح للإسناد هو اليقين نفسه لا متعلقه المقتضي للبقاء أمور:

أولها: ظهور القضية في ذلك لإسناد النقض فيها إلى نفس اليقين.

ثانيها: أنه لو كان مصحح إسناد النقض إلى اليقين قابلية المتيقن للبقاء لا إبرام اليقين لصح إسناده إلى الحجر الذي يقتضي ثقله بقاءه في مكانه، بأن يقال: «نقضت الحجر من مكانه» أي: رفعته، مع عدم صحته و ركاكته بلا إشكال.

و عليه: فمصحح الإسناد ثبات اليقين و استحكامه لا غيره.

ثالثها: صحة إسناد النقض إلى اليقين مطلقا و إن تعلق بأمر لم يحرز اقتضاؤه للبقاء، و لذا يصح أن يقال: «لا تنقض اليقين باشتعال السراج بالشك فيه»، حتى إذا لم يحرز اقتضاؤه للبقاء، كما إذا لم يعلم أن النفط الموجود في السراج كان ليترا واحدا أم نصف ليتر، فعلى الأول: يكون السراج مشتعلا فعلا، و الشك في اشتعاله حينئذ ينشأ من احتمال رافع له كهبوب الرياح و غيرها، و على الثاني: لا يكون مشتعلا؛ لفناء الوقود.

و عليه: فلا موجب لجعل المنقوض هو المتيقن الذي فيه مقتضى البقاء و الدوام، بدعوى: كونه أقرب إلى المعنى الحقيقي أعني: الأمر المبرم الحسي، فيتعين إرادته إذا دار الأمر بينه و بين إرادة مطلق رفع اليد عن شيء و لو لعدم المقتضى له. و ذلك لما عرفت من:

صحة إسناد النقض إلى نفس اليقين؛ بل هو المتيقن لأنه ظاهر القضية كما عرفت، و إذا كان الإسناد بلحاظ نفس اليقين لا المتيقن صحت دعوى عموم اعتبار الاستصحاب للشك في كل من المقتضى و الرافع.

ص: 142

متعلقا بما ليس فيه اقتضاء للبقاء و الاستمرار لما (1) يتخيل فيه من (2) الاستحكام، بخلاف الظن فإنه (3) يظن أنه ليس فيه إبرام و استحكام و إن كان متعلقا بما فيه اقتضاء ذلك (4)، و إلا (5) لصح أن يسند إلى نفس ما فيه المقتضي له، مع ركاكة (6) مثل:

«نقضت الحجر من مكانه»، و لما (7) صح أن يقال: «انتقض اليقين باشتعال السراج» هذا بعض الكلام في المادة. و أما الهيئة فسيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى فانتظر.

=============

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) تعليل لحسن إسناد النقض إلى اليقين لا المتيقن، و ضمير «منه» راجع على اليقين، و هذا شروع في مناقشة كلام الشيخ «قدس سره»، و قد عرفت توضيح ما أفاده الشيخ «قدس سره».

(2) بيان للموصول في «لما» و ضمير «فيه» راجع على اليقين و استحكامه إنما هو لكونه أجلى أنحاء الإدراكات و أقوى مراتبها.

(3) أي: فإن الظن لأجل تزلزله و عدم ثباته يظن بعدم استحكامه، فلا يصح إسناد النقض إليه و إن كان المظنون مما فيه اقتضاء البقاء لو خلى و طبعه، فلا يقال: «لا تنقض الظن بالوضوء بسبب الشك فيه»؛ إذ لا إبرام في الظن و هو الرجحان التوأم مع احتمال الخلاف حتى يصح إسناد النقض إليه، مع أن المظنون و هو الطهارة مما فيه اقتضاء البقاء.

و ضمير «فإنه» للشأن، و ضميرا «أنه، فيه» راجعان على الظن.

(4) أي: اقتضاء البقاء، و اسم «كان» ضمير راجع على الظن.

(5) أي: و إن لم يكن مصحح النقض ما في اليقين من الإبرام و الاستحكام - بل كان المصحح له ما في المتيقن من اقتضاء الدوام و الاستمرار - لكان استعمال النقض فيما فيه مقتضى البقاء صحيحا مع عدم صحته. و هذا هو الشاهد الثاني المتقدم بقولنا: «ثانيها: أنه لو كان مصحح إسناد النقض...» الخ، و الضمير المستتر في «يسند» راجع على النقض.

(6) بل لا يصح استعماله؛ إذ المراد بنقض الحجر بقرينة «من مكانه» هو نقله إلى مكان آخر، و من المعلوم: عدم ورود النقض بمعنى النقل.. نعم؛ إذا أريد به كسره و إبانة أجزائه فهو صحيح، لكن لا يلائمه قوله: «من مكانه»؛ لأن هذه الكلمة قرينة على إرادة النقل من النقض، و هو غير معهود.

و بالجملة: فإن أريد بنقض الحجر كسره و الفصل بين أجزائه كان بمعنى كسر الحجر، و صحته حينئذ منوطة باستعمال أبناء المحاورة.

(7) عطف على قوله: «لصح»، و هذا هو الشاهد الثالث المتقدم بقولنا: «ثالثها: صحة إسناد النقض...» الخ.

ص: 143

فيما إذا شك في بقائه للشك في استعداده (1)، مع بداهة صحته و حسنه.

و بالجملة (2): لا يكاد يشك في أن اليقين كالبيعة و العهد إنما يكون حسن إسناد النقض إليه بملاحظته (3) لا بملاحظة متعلقه، فلا موجب (4) لإرادة ما هو أقرب إلى الأمر المبرم أو أشبه بالمتين المستحكم مما فيه اقتضاء البقاء، لقاعدة «إذا تعذرت (5) الحقيقة فأقرب المجازات»، بعد تعذر إرادة مثل ذاك الأمر (6) مما يصح إسناد النقض إليه حقيقة.

فإن قلت (7): نعم؛ و لكنه حيث لا انتقاض لليقين في باب الاستصحاب حقيقة،

=============

(1) أي: شك في بقاء الاشتعال من جهة الشك في استعداد السراج له، فقوله:

«للشك» متعلق ب «شك في بقائه».

(2) هذه نتيجة ما أثبته من الشواهد الثلاثة على كون المسند إليه نفس «اليقين» و أن مصحح الإسناد هو إبرام اليقين و ثباته و استحكامه في نفسه مهما كان متعلقه.

(3) أي: بملاحظة اليقين، و قد أسند النقض إلى العهد و البيعة لما فيهما من ثبات الوصلة، فمنه قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مِيثٰاقِهِ (1) و لاٰ تَنْقُضُوا اَلْأَيْمٰانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهٰا (2) و كذا في نقض البيعة. و ضمير «إليه» راجع على اليقين.

(4) يعني: بعد صحة إسناد النقض إلى نفس اليقين لا موجب لما ذكره الشيخ «قدس سره» من إرادة المتيقن - الذي فيه اقتضاء البقاء - من اليقين. و قد عرفت: أن أساس كلامه «قدس سره» كان على إثبات إسناد النقض إلى المتيقن، و كون خصوص ما فيه استعداد البقاء أقرب إلى معنى النقض. لكنك عرفت أيضا: أنه لا أساس له، و أن مصحح الإسناد هو استحكام اليقين، لا متعلقه حتى يفصل بين ما فيه استعداد الدوام و غيره، و من المعلوم: أن وصف اليقين بما هو اعتقاد جازم لا يفرق فيه بين تعلقه بما يبقى في عمود الزمان و ما لا يبقى، فالمناط هو اليقين بما أنه مرتبة راسخة من العلم غير قابلة للزوال.

(5) تعليل للمنفي و هو قوله: «إرادة كما نقص عليه الشيخ «قدس سره»».

(6) أي: ذاك الأمر المبرم المحسوس.

(7) المستشكل يريد إثبات مقالة الشيخ «قدس سره» من اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع، و عدم حجيته في الشك في المقتضي، و لا يخفى أن

ص: 144


1- الرعد: 25.
2- النحل: 91.

هذا الإشكال ليس تتمة لكلام الشيخ و إن كان مرتبطا بأصل دعواه، و إنما هو إشارة إلى دليل آخر على اختصاص أخبار الاستصحاب بالشك في الرافع، ذكره المصنف في حاشية الرسائل بقوله: «نعم؛ يمكن تقريب دلالة الأخبار على الاختصاص بالشك في الرافع بوجه أدق و أمتن، و هو: أنه قد عرفت: أن استعمال لفظ النقض فيها إنما هو بلحاظ تعلقه باليقين، و قد عرفت أيضا: أنه لا يصح النهي عنه بحسبه إلا فيما إذا انحل اليقين حقيقة و اضمحل كما هو في مورد قاعدة اليقين، أو مسامحة كما في الشك في الرافع في مورد الاستصحاب...» الخ. حاشية الرسائل، ص 190.

و توضيحه: أنه لا ريب في امتناع تعلق وصفي اليقين و الشك بأمر واحد في زمان واحد لكونهما متضادين، فلا بد من اختلاف زمانيهما أو متعلقيهما، فإن اتحد المتعلق و تغاير زمان حصول اليقين و الشك - بحيث تعذر اجتماعهما - كان مورد قاعدة اليقين، كما إذا تيقن يوم الجمعة بعدالة زيد ثم شك يوم السبت في عدالته؛ بنحو انتقض يقينه السابق بسبب سراية الشك إلى العدالة في يوم الجمعة.

و إن تعدد المتعلق و اتحد زمان حصول الوصفين؛ بأن تعلق اليقين بحدوث الشيء و الشك في بقاء ذلك الحادث كان مورد الاستصحاب؛ لاجتماع اليقين و الشك زمانا في الاستصحاب؛ لأنه في حال شكه في البقاء يكون متيقنا بالحدوث.

إذا عرفت هذا فاعلم: أن صحة إسناد النقض إلى اليقين في قوله «عليه السلام»: «لا تنقض اليقين بالشك» تتوقف على كون الشك ناقضا لليقين و هادما له حقيقة؛ كنقض النوم مثلا للطهارة، و هذا المعنى إنما يتصور في قاعدة اليقين؛ لسراية الشك فيها إلى اليقين و انمحاء الصورة العلمية عن لوح النفس دون الاستصحاب؛ لبقاء اليقين على حاله، ضرورة: أن الشك في الاستصحاب يكون في البقاء دون الحدوث، فالشك مجتمع مع اليقين لا ناقض له حتى يصح النهي عن نقضه به، و حيث إن الشارع الأقدس طبّق هذه الجملة على الاستصحاب في مضمرة زرارة من اليقين بالوضوء و الشك في انقضاضه بالخفقة و الخفقتين، فلا جرم يكون إسناد النقض إلى اليقين بعناية المجاز و هي: أن متعلق اليقين لما كان من شأنه البقاء لوجود مقتضيه كان كأنه متيقن البقاء في آن الحدوث، فاليقين تعلق بحدوثه حقيقة و ببقائه اعتبارا، نظير ثبوت المقبول كالنطفة بثبوت القابل كالإنسان، فإن ثبوت المقبول بالذات ثبوت للقابل بالعرض، و اليقين بالمقبول يقين بالقابل اعتبارا، فذلك اليقين السابق بالحدوث ذاتا يقين ببقائه اعتبارا لأجل قابليته للبقاء،

ص: 145

فلو لم يكن هناك اقتضاء البقاء في المتيقن لما (1) صح إسناد الانتقاض إليه بوجه و لو مجازا، بخلاف ما إذا كان (2) هناك، فإنه (3) و إن لم يكن معه أيضا (4) انتقاض حقيقة؛ إلاّ (5) إنه صح إسناده إليه مجازا، فإن اليقين معه (6)، كأنه تعلق بأمر مستمر مستحكم قد انحل و انفصم بسبب الشك فيه من جهة الشك في رافعه.

=============

و المفروض: أن اليقين بالبقاء قد ارتفع و تبدل بالشك و صح بالمسامحة أن يقال: إنه اضمحل، و يصح حينئذ النهي عنه بحسب العمل.

و هذا بخلاف الشك في المقتضي؛ لعدم انحلال اليقين فيه لا حقيقة و لا مسامحة.

و الحاصل: أن اليقين في الاستصحاب و إن لم ينقض حقيقة، فالإسناد لا يخلو من مسامحة؛ إلا إنه فرق بين تعلق اليقين بما هو من شأنه البقاء و الدوام و ما ليس كذلك، إذ في الأول يتعلق الشك بعين ما تعلق به اليقين، فيقوى شباهته بما إذا انتقض اليقين حقيقة كما في قاعدة اليقين، بخلاف الثاني؛ إذ لا يصح أن يقال: لو لا الشك في الرافع لكان على يقين في البقاء.

هذا بيان ما أفاده المصنف هنا و في الحاشية، و قد عرفت: أنه وجه آخر لتخصيص أخبار الاستصحاب بموارد إحراز المقتضي و الشك في الرافع؛ كما في «منتهى الدراية، ج 7، ص 102-103».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) جواب «لو لم يكن»، و جملة الشرط و الجواب جواب لقوله: «حيث لا انتقاض». و محصله: أن إسناد النقض في باب الاستصحاب إلى اليقين ليس حقيقيا؛ لبقاء اليقين بالحدوث على حاله، و الإسناد المجازي منوط بكون المتيقن مما يقتضي البقاء و الدوام.

(2) أي: إذا كان اقتضاء البقاء محرزا في المستصحب.

(3) الضمير للشأن، و ضمير «معه» راجع على اقتضاء البقاء في المتيقن.

(4) أي: كما إذا لم يكن من شأن المتيقن البقاء و الاستمرار، و «انتقاض» اسم «يكن» و التعبير بالنقض كما في الصحيحة أولى من التعبير بالانتقاض.

(5) استدراك على قوله: «و إن لم يكن»، و ضمير «أنه» للشأن، و ضمير «إليه» راجع على اليقين، يعني: أن مصحح الاستعمال المجازي في إسناد النقض إلى اليقين إنما يوجد في خصوص مورد إحراز المقتضي و الشك في الرافع.

(6) أي: مع اقتضاء المتيقن للبقاء، و ضمير «كأنه» راجع على اليقين.

ص: 146

قلت (1): الظاهر أن وجه الإسناد هو لحاظ اتحاد متعلقي اليقين الشك ذاتا و عدم

=============

(1) هذا جواب الإشكال: و قد ذكره في حاشية الرسائل بعد بيان الدليل المتقدم بما لفظه: «لكنك عرفت: أن الظاهر أن وجه إطلاق النقض و إسناده إلى اليقين في مورد الاستصحاب إنما هو بملاحظة اتحاد متعلقي اليقين و الشك ذاتا، و عدم ملاحظة تعددهما زمانا».

و محصله: أن الإشكال المتقدم مبني على دخل الزمان في متعلقي اليقين و الشك، ضرورة: مغايرة المقيد بالزمان الأول للمقيد بالزمان الثاني، فإن عدالة زيد يوم الجمعة - التي هي مورد اليقين - تغاير عدالته في يوم السبت - التي هي مورد الشك - و من المعلوم:

أن الشك في عدالته يوم السبت لا يوجب زوال اليقين بعدالته يوم الجمعة حتى يصح إسناد النقض إليه، فلا بد من اعتبار مصحح للإسناد و هو ما تقدم من العناية و المسامحة.

لكن الظاهر إمكان الإسناد بعناية أخرى أقرب إلى أذهان العرف، و هي تجريد الشك و اليقين عن الزمان و لحاظ اتحاد متعلقيهما، يعني إلغاء متعلق اليقين من حيث كونه حدوث الشيء، و متعلق الشك من حيث كونه بقائه، فكأن هذين الوصفين تعلقا بذات واحدة و هي العدالة، و حيث كان الملحوظ نفس المتعلق كان هذا المقدار كافيا في صحة إسناد النقض إلى اليقين، و لا يبقى مجال تخصيص مفاد الأخبار بالشك في الرافع فقط.

ففي المثال المتقدم يصح أن يقال: «علمت العدالة ثم شك فيها»، فبلحاظ اتحاد متعلقي اليقين و الشك ذاتا يصح إسناد النقض إلى اليقين، و يقال: «انتقض اليقين بعدالة زيد بالشك فيها، سواء كان المتيقن مقتضيا للبقاء أم لا.

فإن قلت: إن إسناد النقض إلى اليقين حيث كان مجازيا على كل حال، فمقتضى قاعدة «إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى» هو حمل «النقض» على رفع اليد عن خصوص اليقين المتعلق بما فيه اقتضاء البقاء؛ لكونه أقرب إلى المعنى الحقيقي من حمله على رفع اليد عن مطلق اليقين؛ و إن تعلق بما ليس في ذاته اقتضاء الدوام، و عليه: يختص اعتبار الاستصحاب بالشك في الرافع دون المقتضي، فثبت مدعى الشيخ «قدس سره».

قلت: و إن كان ذلك أقرب ظاهرا؛ إلا إن المدار في الأقربية إلى المعنى الحقيقي هو العرف لا العقل، و اليقين المتعلق بما فيه اقتضاء البقاء أقرب إلى المعنى الموضوع له اعتبارا لا عرفا، لما عرفت من: كون النقض مسندا إلى نفس اليقين الذي هو أمر مبرم من دون لحاظ العرف لمتعلقه، فلا يتفاوت في نظرهم بين كون متعلق اليقين مما فيه اقتضاء البقاء، و بين كونه مما لم يكن فيه ذلك، فالأقربية بنظر العقل لا توجب اختصاص حجية

ص: 147

تعددهما زمانا، و هو (1) كاف عرفا في صحة إسناد النقض إليه و استعارته (2) له بلا تفاوت في ذلك (3) أصلا في نظر أهل العرف بين ما كان هناك اقتضاء البقاء و ما لم يكن، و كونه (4) مع المقتضي أقرب بالانتقاض و أشبه لا يقتضي تعيينه لأجل قاعدة «إذا تعذرت الحقيقة»، فإن (5) الاعتبار في الأقربية إنما هو بنظر العرف (6). لا الاعتبار، و قد عرفت: عدم التفاوت بحسب نظر أهله، هذا كله في المادة (7).

=============

الاستصحاب بالشك في الرافع، بعد كون المناط في الأقربية نظر العرف المتبع في تشخيص مداليل الخطابات الشرعية كما لا يخفى.

و يشهد له: أن العرف لا يفهم من تشبيه زيد مثلا بالأسد إلا الشجاعة، مع كونه أقرب عقلا إلى الحيوان المفترس هو الواجدية لجميع صفات الأسد، لا خصوص الشجاعة التي هي إحدى صفاته.

(1) أي: اتحاد متعلقي اليقين و الشك ذاتا كاف في صحة إسناد النقض إلى اليقين.

(2) أي: استعارة النقض لليقين، و هو عطف تفسيري على «صحة إسناد». و وجه الاستعارة تشبيه اليقين بالأمر المبرم المستحكم، و إثبات أثره و هو الانفصام للمشبه، فالمقصود من التشبيه: إثبات قابلية اليقين للانتقاض، فيكون نظير «و إذا المنية أنشبت أظفارها».

(3) أي: في صحة إسناد النقض إلى اليقين. و الحاصل: أن تمام المناط في صحة إطلاق النقض على شيء هو إبرامه و اقتضاؤه للبقاء، سواء كان الشك فيه في المقتضي أم الرافع، و يشهد له صحة إطلاق النقض في مورد انتفاء المقتضي كصحته عند وجود الرافع، فيقال: «التيمم ينتقض عند وجدان الماء»، كما يقال: «ينتقض بالحدث»، بلا تفاوت بين الاستعمالين عرفا.

(4) مبتدأ خبره «لا يقتضي»، و ضميره راجع على النقض و هو دفع توهم تقدم بيانه بقولنا: «فإن قلت: إن إسناد النقض... قلت: و إن كان ذلك أقرب..» الخ.

(5) تعليل لقوله: «لا يقتضي»، و قد تقدم تقريبه في قولنا: «قلت: و إن كان...».

(6) كما عرفت في تشبيه زيد بالأسد، فإن المتبع في صحة الاستعمالات المجازية هو النظر العرفي دون الدقة العقلية.

(7) أي: في مادة النقض، و قد عرفت: أن كلمة «النقض» لا تصلح لأن تكون قرينة على تخصيص الاستصحاب بالشك في الرافع.

هذا تمام الكلام في إيراد المصنف - على الشيخ القائل بالتفصيل بين الشك في

ص: 148

المقتضي، فلا يكون الاستصحاب حجة و بين الشك في الرافع، فيكون حجة - من جهة مادة النقض.

و قد أشار إلى الإشكال على الشيخ «قدس سره» من جهة الهيئة بقوله: «و أما الهيئة» هذا ناظر إلى ما أفاده الشيخ من اقتضاء هيئة «لا تنقض» لتخصيص عموم «اليقين» بموارد الشك في الرافع بإرادة المتيقن من اليقين، و المصنف يمنع هذه الدلالة. و تفصيله - على ما في «منتهى الدراية، ج 7، ص 107»: أن قوله «عليه السلام»: «لا تنقض اليقين» و ما هو بمنزلته يحتمل فيه وجوه أربعة:

أحدها: نقض نفس اليقين كما هو ظاهر القضية.

ثانيها: نقض آثار اليقين و أحكامه الشرعية.

ثالثها: نقض نفس المتيقن.

رابعها: نقض آثار المتيقن و أحكامه.

و على جميع التقادير: لا يمكن أن يراد بالنقض معناه الحقيقي الذي هو فعل اختياري.

أما بالنسبة إلى نفس اليقين: فلوضوح انتقاضه قهرا بعروض الشك، فلا وجود لليقين حتى يصح النهي بنقضه، و من المعلوم: اعتبار كون الفعل المتعلق به الأمر أو النهي مقدورا للعبد، و عدم صحة تعلق التكليف بغير المقدور.

و أما بالنسبة إلى أحكام اليقين: فلأن الحكم تابع لموضوعه وجودا و عدما، فمع انتفاء الموضوع ينتفي الحكم أيضا، و إلا يلزم الخلف و المناقضة كما قرر في محله، فإذا فرض كون اليقين موضوعا لأحكام شرعية، فلا محالة تنتفي بانتفائه؛ كارتفاع وجوب التصدق إذا نذر ذلك ما دام متيقنا بحياة زيد، و زال يقينه. مضافا إلى: أن حدوث الأحكام و بقاءها في يد الشارع، فلا معنى لإبقاء العبد أحكام الشرع إلا بحسب العمل، فوجوب البقاء على الحالة السابقة حكم شرعي أمره بيد الشارع، و لكن العمل به و امتثاله من الأفعال الاختيارية للمكلف.

و أما بالنسبة إلى المتيقن كالوضوء و الحياة و غيرهما: فلأن بقاء المتيقن في الخارج تابع لعلته المبقية، فإن كانت هي باقية فهو باق، و إلاّ فلا، فإبقاء المتيقن ليس فعلا اختياريا قابلا لتعلق التكليف به، فإذا كان المتيقن هو الوضوء فبقاؤه منوط بعدم طروء الناقض واقعا؛ لا بإبقاء المكلف له.

و أما بالنسبة إلى آثار المتيقن؛ كجواز الدخول في الصلاة و غيرها مما يشترط فيه

ص: 149

و أما الهيئة: فلا محالة يكون المراد منها النهي عن الانتقاض بحسب البناء و العمل (1) لا الحقيقة؛ لعدم (2) كون الانتقاض بحسبها تحت الاختيار، سواء كان الطهارة: فلما تقدم في آثار المتيقن من عدم كون الأحكام الشرعية تحت قدرة المكلف و اختياره.

=============

و بالجملة: فالنقض الحقيقي غير مراد هنا قطعا، سواء أريد باليقين نفسه كما هو ظاهر القضية، أم المتيقن من باب المجاز في الكلمة، أم آثار المتيقن بالإضمار و تقدير «آثاره»؛ بأن يكون قوله «عليه السلام»: «لا تنقض اليقين» بمنزلة قوله: «لا تنقض آثار المتيقن»، فيكون هنا مجازان أحدهما في الكلمة؛ لأنه استعمل اليقين في المتيقن، و الآخر في الحذف و هو تقدير «الآثار» المضاف إلى اليقين الذي أريد به المتيقن.

و إذا ثبت عدم كون النقض حقيقيا على كل تقدير، فلا محالة يراد به النقض من حيث العمل؛ لأنه مما يمكن تعلق النقض به؛ إذ مرجع عدم النقض حينئذ إلى عدم رفع اليد عن العمل السابق الواقع على طبق اليقين، فكأنه قيل: «أبق عملك المطابق لليقين» و هذا المعنى قابل لتعلق الخطاب به؛ لأنه في حال اليقين بالوضوء كان يصلي و يطوف و يمسّ كتابه المصحف مثلا، و في حال الشك يبقي هذه الأعمال.

و لا فرق في إرادة إبقاء العمل من «لا تنقض» بين إرادة المتيقن من «اليقين»، و إرادة آثار اليقين، و إرادة آثار المتيقن منه.

و قد ظهر من هذا البيان: أن الإبقاء من حيث العمل لا فرق فيه بين تعلق اليقين بما فيه اقتضاء البقاء و تعلقه بما ليس فيه ذلك؛ لوضوح: صدق الإبقاء عملا في كلتا الصورتين على حد سواء في نظر العرف.

و عليه: فمن حيث الهيئة أيضا لا سبيل لاستفادة اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع. هذا و قد اتضح أيضا: عدم الوجه في التصرف في «لا تنقض» بإرادة المتيقن من اليقين، أو الإضمار بإرادة آثار اليقين كما ذكره الشيخ، بناء منه على كون النقض محمولا على معناه الحقيقي لو بنى على أحد هذين التصرفين. و ذلك لما عرفت من: عدم كون النقض حقيقيا على كل تقدير، فلا يجدي التصرف المزبور في صحة حمل النقض على معناه الحقيقي.

(1) عطف تفسيري للبناء، كما قد يعبر عنه أحيانا بالبناء العملي الذي هو المطلوب في الاستصحاب و سائر الأصول العملية، دون البناء القلبي و الالتزام النفساني.

و ضمير «منها» راجع على «الهيئة» و «بحسب» متعلق ب «الانتقاض».

(2) تعليل لقوله: «فلا محالة بكون...»، و ضمير «بحسبها» راجع على الحقيقة.

ص: 150

متعلقا باليقين كما هو (1) ظاهر القضية، أم بالمتيقن أم بآثار اليقين بناء (2) على التصرف فيها بالتجوز (3) أو الإضمار (4)، بداهة (5): أنه كما لا يتعلق النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه بنفس اليقين (6) كذلك لا يتعلق بما كان (7) على يقين منه، أو أحكام (8) اليقين، فلا يكاد (9) يجدي التصرف بذلك في بقاء الصيغة على حقيقتها،

=============

(1) أي: تعلق النقض باليقين ظاهر قوله: «لا تنقض اليقين» بحسب الوضع الأدبي؛ يكون اليقين مفعولا ل «لا تنقض».

(2) قيد لكل من «المتيقن، و آثار اليقين»، و هما الاحتمال الثالث و الثاني من الاحتمالات الأربعة المتقدمة، و ضمير «فيها» راجع على القضية.

(3) يعني: المجاز في الكلمة بإرادة المتيقن من اليقين.

(4) بتقدير «الآثار» أي: آثار اليقين، و هذا و ما قبله من التجوّز تعريض بكلام الشيخ «قدس سره».

(5) تعليل للتعميم الذي ذكره بقوله: «سواء كان متعلقا باليقين...» الخ.

(6) لانتقاضه قهرا بتبدله بالشك، فلا معنى للنهي عن نقضه.

(7) و هو المتيقن كالوضوء في الخارج تابع لعلته المبقية له بعدم طروء الناقض؛ لا بإبقاء المكلف له.

(8) عطف على «ما» الموصولة، يعني: كذلك لا يتعلق النهي عن النقض بأحكام اليقين؛ لأن الحكم الشرعي المترتب على اليقين ينتفي بزوال اليقين كما هو شأن انتفاء كل حكم بانتفاء موضوعه. و لا معنى للنهي عن نقضه حينئذ.

(9) هذه نتيجة ما تقدم من أن الإبقاء من حيث العمل لا يفرق فيه بين تعلق اليقين بما من شأنه الدوام و بما ليس كذلك.

و فيه رد على كلام الشيخ «قدس سره»، حيث إنه بعد بيان اختصاص النقض بما إذا كان الشك في الرافع، قال ما لفظه: «ثم لا يتوهم الاحتياج إلى تصرف في اليقين بإرادة المتيقن منه؛ لأن التصرف لازم على كل حال، فإن النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه لا يتعلق بنفس اليقين على كل تقدير؛ بل المراد: نقض ما كان على يقين منه و هو الطهارة السابقة، أو أحكام اليقين».

فإن ظاهره إمكان إرادة النقض الاختياري إذا كان متعلقا بالمتيقن أو أحكام اليقين، و عدم إمكان إرادته إذا تعلق بنفس اليقين.

لكن قد عرفت عدم إمكان إرادة النقض الاختياري مطلقا و إن تعلق بالمتيقن أو آثار

ص: 151

فلا مجوّز له (1) فضلا عن الملزم (2)، كما توهم.

لا يقال: لا محيص عنه (3)،...

=============

اليقين، فلا مجوز للتقدير أو الإضمار؛ إذ المفروض: أن هذا التصرف لا يوجب حمل النقض على معناه الحقيقي حتى يجوز ارتكابه.

مضافا إلى: منع لزوم التصرف حتى لو صح به حمل النقض على حقيقته، و وجه المنع دوران الأمر بين التصرف في الصيغة بإرادة النقض العملي. و في اليقين بإرادة المتيقن أو آثار اليقين، و التصرف في الهيئة أهون من ارتكاب المجاز في اليقين؛ لعدم وجود علاقة تصحح استعمال اليقين في المتيقن.

هذا مع ما عرفت من: أن المناسب للنقض نفس اليقين بما هو أمر مبرم. و المشار إليه «بذلك» هو التجوّز أو الإضمار.

(1) أي: فلا مجوّز للتصرف بالتجوّز أو الإضمار، و ضمير «حقيقتها» راجع على الصيغة.

(2) هذا إشكال آخر على الشيخ تقدم بقولنا: «مضافا إلى منع لزوم...».

إلا أن يقال: بعدم ورود هذا الإشكال على الشيخ؛ لأنه قال بعد عبارته المتقدمة:

«و كيف كان؛ فالمراد إما نقض المتيقن، فالمراد بالنقض رفع اليد عن مقتضاه، و إما نقض أحكام اليقين أي: الثابتة للمتيقن من جهة اليقين، و المراد حينئذ: رفع اليد عنها...»، و هو يدل بوضوح على إرادة النقض العملي الذي هو فعل اختياري قابل لورود النقض عليه لا الحقيقي. نعم؛ قد يوهم كلامه الأول إرادة النقض الحقيقي، لكن لا بد من ملاحظة تمام كلامه لاستفادة مرامه «زيد في علوّ مقامه».

(3) أي: لا محيص عن التصرف في متعلق النقض و إرادة نقض المتيقن.

و غرض المستشكل: تثبيت ما أفاده الشيخ من إرادة المتيقن من اليقين في قوله «عليه السلام»: «لا تنقض اليقين»، و ذلك لأن اليقين في الصحيحة - أعني اليقين بالوضوء - طريقي محض، ضرورة: أن الآثار الشرعية من جواز الدخول في الصلاة و غيره تترتب على نفس الوضوء لا على اليقين به، فلا أثر لليقين حتى يترتب عليه بنهي الشارع عن النقض، و إنما يصح ذلك في اليقين الموضوعي الذي يترتب عليه شرعا آثار و أحكام، لصحة الحكم ببقاء الأثر المترتب على اليقين بعد زواله.

و لكن المفروض: كون اليقين في مورد الصحيحة طريقيا محضا، و عليه فهذا التصرف لازم لا أنه بلا ملزم.

ص: 152

فإن (14) النهي عن النقض بحسب العمل لا يكاد يراد بالنسبة إلى اليقين و آثاره؛ لمنافاته (2) مع المورد.

فإنه يقال: إنما يلزم (3) لو كان اليقين ملحوظا بنفسه و بالنظر الاستقلالي؛ لا ما إذا

=============

(1) تعليل ل «لا محيص» و قد عرفت تقريبه بقولنا: «و ذلك لأن اليقين في الصحيحة...» الخ.

(2) أي: لمنافاة النقض بحسب العمل مع مورد الصحيحة، حيث يكون اليقين فيه طريقا محضا إلى الوضوء.

(3) أي: إنما يلزم المنافاة مع المورد. و هذا دفع الإشكال،

و حاصله: أن متعلق النقض و إن كان مفهوم اليقين الذي يقتضي الاستقلالية، إلا إنه يكتسب الآلية و الطريقية من مصاديقه الخارجية.

و بيانه: أن اليقين الخارجي بكل شيء يكون مغفولا عنه؛ بحيث لا يرى المتيقن - بالكسر - إلا نفس المتعلق من دون التفات إلى الصورة الذهنية التي هي متعلق العلم حقيقة؛ لكن المرئي و هو الصورة الذهنية - لمكان رؤية الخارج له - لا يرى إلا خارجيا، نظير الصورة المنعكسة في المرآة، فإن الرائي يرى نفسه و إن كان المرئي حقيقة هو ظله.

و بالجملة: فمصاديق اليقين كلها طرق و آلات لكشف متعلقاتها، و لما كان وجود الطبيعي عين الأفراد، فلا بد من كون الطبيعي كمصاديقه ليتحد معها و ينطبق عليها، فلا محالة تسري الآلية من المصاديق الخارجية إلى الطبيعي أعني اليقين الذي أسند إليه النقض، فيكتسب اليقين الكلي من أفراده المرآتية و الطريقية، فيكون اليقين الكلي الذي يسند إليه النقض في ظاهر القضية ملحوظا طريقا. و بهذه العناية ينطبق نقض اليقين على المورد، فكأنه قال: «لا تنقض المتيقن»، و على هذا فالموضوع هو المتيقن لا اليقين.

و نظير المقام: النص الوارد في وجوب إعادة الصلاة على من استيقن أنه زاد فيها، فإن الموضوع لوجوب الإعادة نفس زيادة الركن لا اليقين بها، غاية الأمر: أن اليقين يوجب تنجزه.

و نظيره أيضا في المحاورات العرفية ما يقال: «إذا علمت بمجيء زيد فأكرمه»، مع أن لب مراد المولى إكرام زيد على تقدير المجيء لا على العلم به، و إنما يؤخذ العلم في الخطاب طريقا و مرآة لمتعلقه، و لذا يقوم كل كاشف عن الواقع مقامه.

نعم؛ قد يؤخذ اليقين موضوعا للحكم بحيث يكون هو تمام الموضوع أو جزؤه على تفصيل تقدم في مباحث القطع.

ص: 153

كان ملحوظا بنحو المرآتية و بالنظر الآلي كما هو (1) الظاهر في مثل قضية «لا تنقض»، حيث تكون ظاهرة عرفا في أنها كناية عن لزوم البناء و العمل بالتزام (2) حكم مماثل للمتيقن تعبدا إذا كان (3) حكما و لحكمه (4) إذا كان موضوعا، لا عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين بالالتزام بحكم مماثل لحكمه شرعا، و ذلك (5) لسراية الآلية قوله: «لا ما إذا كان...» الخ عطف على «لو كان»، و اسم «كان» ضمير راجع على اليقين.

=============

(1) أي: كون اليقين ملحوظا بنحو المرآتية هو الظاهر من قضية «لا تنقض اليقين»، و لعله لأن الغالب في اليقين المأخوذ في الخطابات هو الطريقية، و هذه الغلبة توجب الظهور في خلاف الموضوعية. أو بملاحظة مناسبة الحكم و الموضوع في خصوص أخبار الاستصحاب، فإنها خطابات ملقاة إلى العرف، و ليس مفادها عندهم ترتيب آثار اليقين؛ بل ظاهرة في معنى كنائي و هو: جعل حكم مماثل تعبدا إذا كان المستصحب حكما شرعيا، و جعل حكم مماثل لحكم المستصحب إذا كان موضوعا لحكم شرعي.

و الوجه في هذا الظهور الكنائي: تعذر تعلق هيئة «لا تنقض» بنفس اليقين لانتفائه قهرا، و لا بآثار اليقين؛ لأنها أحكام عقلية غير قابلة للجعل التشريعي، و لا نفس المتيقن؛ لأنه إن كان حكما فبقاؤه و ارتفاعه بيد الشارع لا بيد العبد، و إن كان موضوعا لحكم شرعي فكذلك؛ لأن بقاءه تابع لاستعداد ذاته للبقاء؛ لا بيد المكلف حتى يبقيه. و يتعين حينئذ كون مفاد الجملة جعل حكم مماثل.

(2) الأولى تعديته ب «على» ليصح تعلقه بكل من البناء و العمل؛ لأنه لم يعهد تعدية البناء - بمعنى العمل - بالباء.

(3) يعني: إذا كان المتيقن حكما كما في استصحاب الأحكام كالوجوب.

(4) أي: و لحكم المتيقن إذا كان المستصحب من الموضوعات ذوات الآثار الشرعية كالحياة و العدالة و الغنى و الفقر و غيرها.

و لا يخفى: أن مدلول أخبار الاستصحاب أمر واحد و هو الكناية عن لزوم العمل بالمتيقن السابق تعبدا، و لكن يختلف هذا البناء العملي باختلاف المستصحب، فقد يكون إنشاء حكم مماثل لنفسه إن كان حكما، و قد يكون إنشاء حكم لمثل حكمه إن كان المستصحب موضوعا ذا أثر شرعي، فالاختلاف في مصاديق ذلك المكنّى عنه لا في نفس مفاد دليل الاستصحاب.

(5) تعليل لقوله: «كما هو الظاهر»، و دفع لتوهم تقدم بيانه.

ص: 154

من اليقين الخارجي إلى مفهومه الكلي، فيؤخذ (1) في موضوع الحكم في مقام بيان حكمه، مع عدم دخله (2) فيه أصلا، كما ربما يؤخذ (3) فيما له دخل فيه أو تمام الدخل (4)، فافهم (5).

=============

و محصل التوهم: أن الطريقية و الاستقلالية من الحالات العارضة على اليقين المصداقي دون المفهومي؛ لوضوح: أن مفهوم اليقين لا يكون مرآة حتى يلاحظ فيه المرآتية، كما أن مفهوم المرآة لا يكون آلة للنظر و الإراءة؛ بل مصداقه الخارجي، و من الواضح: أن اليقين في قولهم «عليهم السلام»: «لا تنقض اليقين» قد استعمل في المفهومي منه، فكيف يلاحظ مرآة للمتيقن ؟ بل لا بد من إرادة الاستقلالي منه، فيتوجه حينئذ إشكال المنافاة مع اليقين بالوضوء الذي هو مورد الرواية؛ إذ لا ريب في إرادة الآلي من هذا اليقين.

و قد أجاب المصنف عنه بقوله: «و ذلك لسراية»، و قد عرفت توضيحه بقولنا: «و لما كان وجود الطبيعي عين الأفراد...» الخ.

(1) أي: يؤخذ اليقين - في موضوع حكم الشارع بحرمة النقض - مثلا بلحاظ مرآتي، و يكون تمام الموضوع ذات المتيقن، و حيث إنه لم يستعمل هذا اليقين في أفراده التي يكون النظر إليه استقلاليا لكونها جزء موضوع الحكم أو تمام الموضوع، كان النظر إلى هذا المفهوم الكلي أيضا آليا؛ لسراية أحكام المصاديق إلى الطبيعي.

(2) أي: عدم دخل اليقين في موضوع الحكم؛ لكون الموضوع ذات المتيقن.

(3) هذا عدل لقوله: «يؤخذ» أي: ربما يؤخذ اليقين في موضوع يكون لليقين دخل في الموضوع، فتسري الاستقلالية من مصاديق ذلك اليقين إلى الكلي المأخوذ في لسان الدليل؛ لأن اليقين المستعمل في الأفراد بلحاظ استقلالي يستعمل في المفهوم الكلي أيضا بلحاظ استقلالي.

(4) إذا لم يكن للواقع المعلوم دخل في الحكم؛ بل كان تمام الموضوع هو اليقين.

(5) لعله إشارة إلى: أن مجرد سراية الآلية من اليقين الخارجي إلى اليقين المفهومي، لا يوجب ظهور القضية عرفا في كون اليقين ملحوظا مرآة و طريقا إلى المتيقن.

نعم؛ يكون ذلك وجها لصحة لحاظ الطريقية في اليقين المفهومي إذا اقتضت الضرورة لحاظ الآلية فيه. فدعوى ظهور مثل قضية «لا تنقض» في اليقين الطريقي لا تخلو عن الجزاف.

و عليه: فلا يمكن المساعدة على ما ذكره الشيخ «قدس سره» من إرادة المتيقن

ص: 155

ثم (1) إنه حيث كان كل من الحكم الشرعي و موضوعه مع الشك قابلا للتنزيل بلا تصرف (2) و تأويل، غاية الأمر: تنزيل الموضوع (3) بجعل مماثل حكمه، و تنزيل الحكم (4) بجعل مثله، كما أشير إليه آنفا (5) كان (6) قضية «لا تنقض» ظاهرة في بالتصرف المزبور، فتأمل جيدا. و تركنا ما في المقام من التطويل رعاية للاختصار.

=============

(1) الغرض من هذا الكلام: إثبات عموم الصحيحة لحجية الاستصحاب في كل من الموضوع و الحكم، ببيان: أن اليقين في قولهم «عليهم السلام»: «لا تنقض اليقين بالشك» مطلق يشمل اليقين بكل من الموضوع و الحكم، و لم تقم قرينة على إرادة أحدهما بالخصوص، فمقتضى إطلاق الدليل هو إرادة كل يقين، سواء تعلق بالموضوع أم بالحكم. غاية الأمر: أنه إذا تعلق بالموضوع يكون مقتضى «لا تنقض» جعل حكم مماثل لحكمه، و إذا تعلق بالحكم تكون قضيته جعل حكم مماثل لنفسه.

و هذا التعميم يستفاد من التعليل الوارد في الصحيحة، الظاهر في كونه تعليلا بأمر ارتكازي عقلائي لا بأمر تعبدي.

و مورد الرواية و إن كان شبهة موضوعية، حيث إن الشك في انتقاض الطهارة نشأ من احتمال تحقق النوم بالخفقة أو الخفقتين، بعد العلم بأصل الحكم و هو ناقضية النوم لها، إلا إنه لا يخصص عموم الوارد، كما قرر في محله، فالعبرة بعموم الوارد لا بخصوصية المورد كما هو واضح.

فالمتحصل: أن الاستدلال بهذه الصحيحة تام و مدلولها؛ لاعتبار الاستصحاب في الموضوعات و الأحكام.

(2) يعني: بلا تصرف زائد على ما تقدم من حمل النقض على النقض العملي؛ لتعذر إرادة النقض الحقيقي من «لا تنقض» على كل تقدير كما عرفت آنفا.

(3) كاستصحاب الزوجية إذا شك في ارتفاعها بطلاق و نحوه، فإن مقتضى هذا الاستصحاب جعل حكم مماثل لحكم الزوجية الواقعية كوجوب الإنفاق ظاهرا بالنسبة إلى المرأة المشكوكة زوجيتها، فوجوب الإنفاق حال العلم بالزوجيّة حكم واقعي، و حال إحرازها بالاستصحاب حكم ظاهري مماثل للواقعي.

(4) كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة الثابت زمن حضوره «عليه السلام».

(5) حيث قال: «بالتزام حكم مماثل للمتيقن تعبدا إذا كان حكما...» الخ.

(6) جواب «حيث كان»، و هذا بيان عموم حجية الاستصحاب للشبهات الكلية و الموضوعية، و قد عرفت توضيحه.

ص: 156

اعتبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية و الموضوعية، و اختصاص (1) المورد بالأخيرة لا يوجب تخصيصها بها (2)، خصوصا بعد ملاحظة أنها قضية كلية ارتكازية قد أتى بها في غير مورد لأجل (3) الاستدلال بها على حكم المورد، فتأمل (4).

=============

(1) مبتدأ خبره «لا يوجب» أي: و اختصاص المورد - و هو ناقضية الخفقة و الخفقتين للوضوء - بالأخيرة و هي الشبهة الموضوعية لا يوجب تخصيص الوارد بالمورد كما عرفته آنفا.

(2) أي: تخصيص قضية «لا تنقض» بالشبهة الموضوعية.

(3) تعليل لقوله: «قد أتى»، و ضمير «بها» راجع على القضية الكلية الارتكازية، و ضمير «أنها» إلى قضية «لا تنقض».

(4) لعله إشارة إلى: أن كون المورد من الشبهة الموضوعية مبني على جعل الطهارة من الأمور الخارجية التي كشف عنها الشارع.

و أما بناء على كونها من المجعولات الشرعية: فيكون المورد من الشبهة الحكمية؛ لكن يبقى حينئذ سؤال عموم الصحيحة للشبهات الموضوعية، و جوابه هو: دلالة «لا تنقض اليقين» على ذلك. هذا ما يتعلق بشرح كلمات المصنف حول أولى صحاح زرارة.

و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - الكلام في الصحيحة الأولى من حيث السند و الدلالة: فيقال: إنه لا إشكال فيها من حيث السند؛ و إن كانت مضمرة إلا إن إضمارها لا يقدح في اعتبارها؛ لأن الإضمار من مثل زرارة بمنزلة الإظهار؛ إذ مثل زرارة لا يسأل غير المعصوم «عليه السلام». هذا مضافا إلى كونها مسندة إلى الإمام الباقر «عليه السلام» في كلام جملة من الأعلام.

2 - و أما دلالة الرواية على حجية الاستصحاب فهي أيضا تامة في الجملة.

و تقريب الاستدلال بها على حجية الاستصحاب: يتوقف على مقدمة و هي: بيان الجزاء لقوله: «و إلا فإنه على يقين من وضوئه». أو لقوله: «فإن حرّك في جنبه شيء و هو لا يعلم». و الاحتمال الأول هو: مختار الشيخ الأنصاري، حيث جعل الشرط «و إلا» أي: «و إن لم يستيقن أنه قد نام».

ص: 157

و الاحتمال الثاني هو: مختار صاحب الكفاية، حيث جعل الشرط «فإن حرّك في جنبه شيء و هو لا يعلم».

و في الجزاء على كلا الاحتمالين احتمالات؛ إلا إن الحق أن يكون الجزاء محذوفا مستفادا من قوله «عليه السلام»: «لا» أي: لا يجب الوضوء؛ و لكن على تقرير الشيخ قامت العلة - و هو قوله: «فإنه على يقين من وضوئه» - مقام الجزاء، فيكون معنى الرواية:

أنه إن لم يستيقن أنه قد نام فلا يجب الوضوء عليه؛ لأنه كان على يقين من وضوئه في السابق. و بعد إهمال تقييد اليقين بالوضوء عن الوضوء، و جعل العلة نفس اليقين لا اليقين بالوضوء؛ يكون قوله «عليه السلام»: «و لا ينقض اليقين أبدا بالشك» بمنزلة كبرى كلية للصغرى المزبورة.

فالنتيجة هي: صحة الاستدلال بها على حجية الاستصحاب في جميع الأبواب لا في باب الوضوء فقط.

3 - و أما احتمال كون الجزاء نفس قوله «عليه السلام»: «فإنه على يقين...» ليكون اللام في «اليقين» في «لا ينقض اليقين بالشك» للعهد؛ كي يختص اليقين غير المنقوض بالشك بباب الوضوء مردود: بأن الجملة الخبرية لا يصح وقوعها جزاء للشرط فيما نحن فيه؛ لأن الشرط في الجزاء أن يكون مترتبا على الشرط، و هذا الشرط مفقود في المقام؛ لأن معنى «فإنه على يقين من وضوئه» و هو كونه سابقا على اليقين بالوضوء غير مترتب على الشرط أعني: «و إن لم يستيقن أنه نام» لوضوح: عدم كون ذلك اليقين معلولا لعدم العلم بالنوم؛ بل هو معلول لأمر لا يرتبط بالشك بالنوم، و لأجل عدم الترتب المزبور قال المصنف بعدم صحة جعله جزاء إلا بعد انسلاخه عن الخبرية إلى الإنشائية؛ بأن يكون المراد: إنشاء وجوب العمل بالحالة السابقة، و جعل الجملة الخبرية جملة إنشائية يحتاج إلى قرينة و هي منتفية في المقام مع ما فيه من التكلف.

4 - و جعل الجزاء قوله: «و لا تنقض اليقين بالشك»، و ذكر جملة «فإنه على يقين» توطئة و مقدمة لبيان الجزاء، و المعنى حينئذ: «و إن لم يستيقن أنه قد نام»، «و لا تنقض اليقين بالشك»: مردود؛ لكونه مخالفا للقواعد العربية من لزوم خلو الجزاء عن الواو الظاهرة في المغايرة المنافية لشدّة الارتباط و الاتصال بين الشرط و الجزاء؛ لما عرفت من:

ترتب الثاني على الأول ترتب المعلول على علته، و الواو ينافي هذا الترتب.

ص: 158

5 - ردّ المصنف على الشيخ - و من وافقه - القائل بالتفصيل بين الشك في المقتضي و الشك في - الرافع حيث قال بحجية الاستصحاب في الثاني دون الأول.

و استدل الشيخ على اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع تارة: بمادة «لا تنقض اليقين بالشك»، و أخرى: بهيئته.

و أما الاستدلال بالمادة: فلأن معنى النقض الحقيقي هو رفع الهيئة الاتصالية الحسيّة الحاصلة في الأشياء و إبانة أجزائها كنقض الحبل و الغزل.

ثم إذا تعذر حمله على المعنى الحقيقي: فلا بد من حمله على أقرب المجازات، و من المعلوم: أن الأقرب إلى المعنى الحقيقي هو رفع اليد عن الأمر الثابت الذي فيه اقتضاء البقاء في عمود الزمان، و لازم ذلك: حجية الاستصحاب فيما إذا كان الشك من جهة الرافع بعد وجود المقتضي.

و أورد عليه المصنف «قدس سره»: بأن النقض الذي هو ضد الإبرام و الإحكام إنما أسند إلى نفس اليقين، الذي هو أمر مبرم و شيء مستحكم لكونه أقوى مراتب الإدراك، فهو مما يعتقد ببقائه و استمراره، بخلاف الظن فإنه لا يظن باستمراره؛ بل يظن بزواله فيصح إسناد النقض إلى نفس اليقين من دون فرق بين الشك في المقتضي أو الرافع.

و لازم ذلك: حجية الاستصحاب مطلقا.

6 - و أما استدلال الشيخ بالهيئة على اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع دون المقتضى: أن هيئة «لا تنقض اليقين» تقتضي تخصيص عموم اليقين بموارد الشك في الرافع بإرادة المتيقن من اليقين، فتدل الرواية من حيث الهيئة على حجية الاستصحاب فيما إذا كان الشك في الرافع. و المصنف يمنع هذه الدلالة؛ لأن النقض الحقيقي غير مراد قطعا، سواء أريد باليقين نفسه كما هو ظاهر القضية، أم المتيقن من باب المجاز في الكلمة، أم آثار المتيقن، أو تقدير آثاره.

و إذا ثبت عدم كون النقض حقيقيا على جميع التقادير: فلا محالة يراد به النقض من حيث العمل، و مرجع هذا النقض حينئذ إلى عدم رفع اليد عن العمل السابق الواقع على طبق اليقين.

ثم الإبقاء من حيث العمل لا فرق فيه بين تعلق اليقين بما فيه اقتضاء البقاء - كما في الشك في الرافع، و بين تعلقه بما ليس فيه ذلك - كما في الشك في المقتضي - لوضوح:

صدق الإبقاء عملا في كلتا الصورتين على حدّ سواء في نظر العرف.

ص: 159

صحيحة اخرى للزرارة

و منها (1): صحيحة أخرى لزرارة قال: «قلت له: أصاب ثوبي دم...

=============

و عليه: فمن حيث الهيئة أيضا لا سبيل لاستفادة اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع.

7 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو دلالة هذه الصحيحة على حجية الاستصحاب مطلقا.

(1) أي: و من الأخبار الدالة على حجية الاستصحاب مطلقا: «صحيحة أخرى لزرارة».

و تقريب الاستدلال بهذه الصحيحة الثانية: يتوقف على مقدمة و هي بيان أمرين:

الأمر الأول: بيان ما فيها من الفروع بعنوان أسئلة و أجوبة.

الأمر الثاني: بيان ما يمكن الاستدلال بها على حجية الاستصحاب من تلك الفروع.

و أما الفروع: التي اشتملت الرواية عليها فهي ستة:

الفرع الأول: ما أشار إليه بقوله: «قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف»، و هو سؤال عن حكم نسيان نجاسة الثوب في الصلاة بعد العلم بها، و أجاب «عليه السلام» بوجوب غسل الثوب و إعادة الصلاة.

الفرع الثاني: ما أشار إليه بقوله: «قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه»، و هو سؤال عن حكم العلم الإجمالي بنجاسة الثوب؛ بأن علم إجمالا بأن النجاسة أصابت ثوبه، و تفحص عنها و لم يظفر بها و صلى ثم رأى تلك النجاسة، و أجاب «عليه السلام» بلزوم غسل الثوب و إعادة الصلاة، فهذا السؤال الثاني سؤال عن حكم العلم الإجمالي بنجاسة الثوب و الصلاة معها، فأجاب «عليه السلام» بوجوب الإعادة، و عدم الفرق بين العلم الإجمالي بالنجاسة و العلم التفصيلي بها بالنسبة إلى وجوب الإعادة.

و قد يشكل على هذه الفقرة من الرواية: بأن مثل زرارة كيف يتصور في حقه افتتاح الصلاة مع فرض التفاته إلى نجاسة ثوبه، و فرض حصول القطع بعدم نجاسة الثوب بالفحص عنها بعيد، و أبعد منه: عدم منجزية العلم الإجمالي بنظر زرارة؛ لكن يندفع الإشكال بإمكان حمل فعل المسلم على الصحة هنا، و أن زرارة افتتح الصلاة بوجه مشروع بأن غفل عن نجاسة ثوبه حين افتتاحها، فصلى ثم وجدها، و لا دافع لهذا الاحتمال كي يشكل الأمر.

الفرع الثالث: ما أشار إليه بقوله: «قلت: فإن ظننت» الخ، و هو سؤال عن حكم رؤية النجاسة بعد الصلاة مع الظن بالإصابة قبلها، بأن علم بطهارة ثوبه ثم ظن بأنه

ص: 160

أصابه دم و نحوه، و تفحص عنه و لم يظفر به و صلى ثم وجده.

فهذا السؤال سؤال عن حكم الظن بالنجاسة و الصلاة معها، و أجاب بوجوب تطهير الثوب للفريضة الآتية و عدم وجوب الإعادة. أما وجوب الغسل: فلأجل ما رأى فيه بعد الصلاة من النجاسة، و أما عدم وجوب الإعادة: فلأجل استصحاب الطهارة، و كفاية إحراز الطهارة الظاهرية في عدم وجوب الإعادة، و هذا مبني على أن يكون المراد من الشك الشامل للظن المفروض في السؤال.

و تعجب زرارة من حكمه «عليه السلام» بعدم وجوب الإعادة مع اشتراك هذه الفروع الثلاثة في وقوع الصلاة في النجاسة، و لذا سأل عن لم الحكم، فأجابه «عليه السلام» ب: «لأنك كنت على يقين من طهارتك، فشككت، و لا ينبغي نقض اليقين بالطهارة بالشك في النجاسة».

الفرع الرابع: ما أشار إليه بقوله: «قلت: فإني قد علمت أنه قد أصابه»، و هو سؤال عن كيفية تطهير الثوب عند العلم الإجمالي بنجاسته، و لم يعلم موضعها تفصيلا و أراد الصلاة، فأجاب «عليه السلام» بوجوب تطهير الناحية التي علم إجمالا بنجاستها حتى يحصل له اليقين بالطهارة، فإذا علم بأن موضع النجاسة في طرف اليمين مثلا لم يحصل العلم بطهارته إلا بغسل تمام ذلك الطرف.

الفرع الخامس: ما أشار إليه بقوله: «قلت: فهل علي إن شككت في أنه أصابه شيء أن انظر فيه ؟»، و هو سؤال عن حكم ما إذا شك في نجاسة الثوب فهل يجب الفحص عنها للدخول في الصلاة أم يجوز الشروع فيها بدون الفحص. فهذا السؤال سؤال عن وجوب الفحص و عدمه مع الشك في الإصابة، فأجاب «عليه السلام» بعدم وجوبه؛ بل بعدم وجوب النظر.

و ملخص الجواب: أنه ليس عليك تكليف بالفحص و النظر؛ إلا أن تريد إذهاب الشك عن نفسك فلك النظر، إلاّ إنه لا يجب عليك السؤال. فالفحص حسن لإزالة الشك الذي وقع في نفسه، و هذه الجملة دليل على عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية.

الفرع السادس: ما أشار إليه بقوله: «قلت: إن رأيته في ثوبي و أنا في الصلاة»، و هو سؤال عن حكم رؤية النجاسة أثناء الصلاة، فهذا السؤال سؤال عن حكم رؤية النجاسة و هو في الصلاة.

ص: 161

و أجاب عنه «عليه السلام»: بنقض الصلاة و إعادتها إن كان شاكا في موضع النجاسة، و البناء على ما أتى به و غسل الثوب و إتمام الصلاة إن لم يكن شاكا من أول الأمر.

و في هذا الجواب احتمالان:

أحدهما: أن يكون المراد بقوله «عليه السلام»: «إذا شككت في موضع منه» الشك البدوي، و محصله: أنه إذا شككت في إصابة النجس لموضع من الثوب و رأيت النجاسة في الأثناء تعيد الصلاة. و على هذا: فالشك في الموضع كناية عن أصل إصابة النجاسة للثوب، و يكون قوله «عليه السلام»: «و إن لم تشك» مفهوما له، يعني: و أما إذا لم يكن لك شك ثم رأيته فلعله أصاب الثوب في الأثناء، و يحكم بصحة ما مضى من الصلاة بمقتضى قاعدة عدم نقض اليقين بالشك، و تغسل الثوب و تأتي بباقي العبادة مع فرض عدم تخلل المنافي.

ثانيهما: أن يكون الشك في الموضع كناية عن العلم الإجمالي بإصابة النجاسة للثوب؛ لكنه يشك في موضع الإصابة و أنه في هذه الناحية أو في تلك، و الحكم بالإعادة حينئذ لأجل العلم بالنجاسة قبل الصلاة و عدم مشروعية دخوله فيها، فتجب الإعادة سواء قلنا: بشرطية الطهارة الواقعية أو الإحرازية، أم بمانعية النجاسة المعلومة؛ لفرض فقدان الشرط أو اقتران الصلاة بالمانع.

ثم صرح «عليه السلام» بمفهوم الجملة الشرطية و قال: «و إن لم تشك»، و مدلوله: «أنه إذا لم تعلم بالنجاسة و لم تشك في موضع من الثوب لا تعيد»، و ذلك للاستصحاب؛ لأنه تيقن الطهارة قبل الصلاة، و بعد رؤية النجاسة في الأثناء يشك في إصابتها الآن أو وجودها قبل الصلاة؛ بحيث وقعت الأجزاء السابقة في النجس، و مقتضى اليقين السابق و الشك اللاحق: جريان استصحاب الطهارة المتيقنة قبل الصلاة، و عليه: تطهير الثوب للأجزاء الباقية و إتمامها إذا لم يتخلل المنافي. هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

و أما الأمر الثاني - و هو ما يمكن الاستدلال به على حجية الاستصحاب - فهو موردان منها: الأول قوله «عليه السلام»: «لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت، و ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا».

الثاني: قوله «عليه السلام» في ذيل الرواية: «و ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك».

و إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن الاستدلال بهذه الصحيحة على حجية

ص: 162

رعاف (1) أو غيره (2) أو شيء من المني، فعلمت (3) أثره إلى أن أصيب له الماء، فحضرت الصلاة، و نسيت أن بثوبي شيئا و صليت، ثم إني ذكرت بعد ذلك (4)، قال: «تعيد الصلاة و تغسله» قلت (5): فإن لم أكن رأيت موضعه، و علمت أنه قد أصابه، فطلبته و لم أقدر عليه، فلما صليت وجدته، قال «عليه السلام»: تغسله و تعيد (6)، قلت (7): فإن ظننت أنه قد أصابه و لم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر شيئا، الاستصحاب تام؛ لأن الإمام «عليه السلام» كان في الجواب عن السؤال الثالث في مقام تعليل الحكم - بعدم وجوب الإعادة - بأمر ارتكازي لا بأمر تعبدي حتى يختص اعتبار الاستصحاب بمورد الرواية، و عليه: فهذه الرواية دالة على اعتبار الاستصحاب مطلقا، سواء كان الشك في المقتضي أم الرافع، و سواء كان في الشبهات الحكمية الكلية أم الموضوعية؛ لدلالتها على جعل الحكم الظاهري المماثل للمستصحب أو لحكمه، فلا حاجة إلى الإعادة.

=============

و كذلك يصح الاستدلال على حجية الاستصحاب بالمورد الثاني؛ بل هذه الصحيحة أولى و أوضح دلالة من الصحيحة الأولى لاشتمالها على كلمة «لا ينبغي»، و التصريح بالتعليل في قوله «عليه السلام»: «لأنك كنت على يقين...» الخ فالنتيجة هي: أن تكون كلمة «لا ينبغي» مع التعليل المذكور أظهر في الدلالة على كبرى كلية ارتكازية، بعد كون «اللام» في «اليقين» بمعنى الجنس، و هي عدم نقض مطلق اليقين بالشك.

بقي الكلام في توضيح بعض العبارات أو الكلمات.

(1) و هو بضم الراء: الدم الذي يخرج من الأنف يقال: رعف الرجل: إذا خرج الدم من أنفه كما في مجمع البحرين(1).

(2) عطف على «رعاف» و شيء عطف على «دم».

(3) بالتشديد ماض من باب التفعيل بمعنى جعلت له علامة، أي: جعلت على أثره علامة ليعلم بها موضع النجاسة.

(4) أي: بعد الصلاة.

(5) هذا السؤال إشارة إلى الفرع الثاني الذي تقدم توضيحه.

(6) هذان الموردان من أطراف العلم الإجمالي، و هما خارجان عن محل الكلام. فإن وجوب الغسل و إعادة الصلاة فيهما بمقتضى العلم الإجمالي بوجود النجس في ثوبه.

(7) هذا السؤال إشارة إلى الفرع الثالث الذي تقدم حكمه.

ص: 163


1- مجمع البحرين 195:2 - رعف.

فصليت فرأيت فيه، قال: تغسله و لا تعيد الصلاة قلت: لم ذلك (1)؟ قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا.

قلت (2): فإني قد علمت أنه قد أصابه و لم أدر أين هو فأغسله ؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك. قلت (3):

فهل علي إن شككت في أنه أصابه شيء أن انظر فيه ؟ قال: لا، و لكنك إنما تريد أن تذهب بالشك الذي وقع في نفسك. قلت: إن رأيته في ثوبي و أنا في الصلاة، قال:

تنقض الصلاة و تعيد، إذا شككت في موضع منه ثم رأيته (4)، و إن لم تشك ثم رأيته رطبا، قطعت الصلاة و غسلته، ثم بنيت على الصلاة، لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك، «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك»(1).

و قد ظهر مما ذكرنا في الصحيحة الأولى (5): تقريب الاستدلال بقوله: «فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك» في كلا الموردين (6)، و لا نعيد.

=============

(1) أي: لما ذا لا تجب إعادة الصلاة ؟

(2) إشارة إلى الفرع الرابع، و قد عرفت حكمه.

(3) هذا السؤال إشارة إلى الفرع الخامس الذي تقدم حكمه.

(4) بحيث تعلم أن الذي رأيته في الصلاة هو ما شككت فيه قبلها.

(5) أي: قد ظهر مما ذكرنا في الصحيحة الأولى: تقريب الاستدلال بالموردين من الصحيحة الثانية و هما - الفرع الثالث و السادس منها - على حجية الاستصحاب، فكما أنه «عليه السلام» في الصحيحة الأولى قد علل عدم وجوب الوضوء باندراج اليقين و الشك في المورد تحت القضية الكلية المرتكزة في أذهان العقلاء الغير المختصة بباب دون باب، و هو مما يكشف عن إمضاء تلك القضية الكلية، فكذلك في الصحيحة الثانية قد علل عدم وجوب إعادة الصلاة في الفقرة الثالثة و السادسة باندراج اليقين و الشك في المورد تحت القضية الكلية المرتكزة، و هو مما يكشف عن إمضائه لها و رضائه بها.

(6) و المورد الأول هو السؤال الثالث أعني: الظن بإصابة النجاسة، و الثاني هو السؤال السادس أعني: رؤية النجاسة في أثناء الصلاة و احتمال وقوعها في الأثناء، و لأجل اشتمال الكلام في الموردين المزبورين على اللام الذي هو كالنص في التعليل يصير كالنص في تعليل الحكم بكبرى ارتكازية، بخلاف التعليل في الصحيحة الأولى، و لأنه لاشتماله على الفاء المحتمل كونه جزاء الشرط يخرج عن الظهور القوي في التعليل. هذا

ص: 164


1- تهذيب الأحكام 1335/428:1، الاستبصار 641/183:1.

نعم (1)؛ دلالته في المورد الأول على الاستصحاب مبني على أن يكون المراد من اليقين في قوله «عليه السلام»: «لأنك كنت على يقين من طهارتك» اليقين بالطهارة مضافا إلى أن التعبير ب «ليس ينبغي...» الخ مما يختص بموارد العتاب أظهر في إفادة التعليل بكبرى ارتكازية، و لم يرد مثل هذا التعبير في الصحيحة الأولى.

=============

(1) استدراك على ظهور دلالة هذه الصحيحة على حجية الاستصحاب مطلقا، و إثبات قصور الجملة الثالثة - و هي المورد الأول - عن إثبات المقصود.

و توضيح الإشكال و القصور يتوقف على مقدمة و هي: أن في لفظ اليقين - في قوله «عليه السلام»: «لأنك كنت على يقين من طهارتك» - احتمالين:

أحدهما: أن يكون المراد باليقين هو اليقين بالطهارة الحاصل بالنظر و الفحص؛ لا اليقين بطهارة الثوب قبل الفحص، بناء على أن يكون قول الراوي: «فلم أر شيئا» كناية عن حصول العلم له بالطهارة بسبب النظر و الفحص، فالشك الحاصل بعد الصلاة يسري إلى اليقين المتحقق بالنظر و الفحص، و بسراية الشك إليه يندرج في قاعدة اليقين و يصير أجنبيا عن الاستصحاب.

ثانيهما: أن يكون المراد باليقين هو الحاصل قبل ظن الإصابة، فيكون قوله: «فلم أر شيئا» كناية عن عدم العلم بالإصابة - لا العلم بالإصابة كما هو مقتضى الاحتمال الأول - و المراد بالشك هو احتمال وقوع النجاسة بعد ذلك اليقين، فإذا كان عالما بطهارة الثوب قبل الصلاة بساعتين مثلا، ثم ظن بالإصابة في الساعة الثالثة، فتفحص و لم يجد النجاسة و صلى، و بعد الصلاة رأى النجاسة في الثوب، و احتمل وقوعها على الثوب قبل الصلاة، فلا يوجب الظن بالإصابة زوال اليقين السابق على هذا الظن.

إذا عرفت هذه المقدمة تعرف: أن الاستدلال بهذه الصحيحة على حجية الاستصحاب مبني على أن يكون المراد باليقين هو اليقين بالطهارة قبل الظن بالإصابة - و هو الاحتمال الثاني - لا اليقين بها الحاصل بالنظر و الفحص - الزائل بالشك، كما هو مقتضى الاحتمال الأول؛ إذ لو أريد به هذا اليقين لم ينطبق على الاستصحاب؛ بل على قاعدة اليقين لزواله بسريان الشك إليه، بخلاف اليقين قبل النظر و الفحص، فإنه بعد الصلاة باق أيضا كسائر موارد الاستصحاب.

و المصنف استظهر من قوله: «فلم أر شيئا» هذا الاحتمال، و لعله لأجل عدم استلزام عدم الوجدان لعدم الوجود دائما أو غالبا حتى يكون الاستلزام العادي أو الغالبي قرينة على إرادة اليقين الحاصل بسبب الفحص، و عدم الظفر بالنجاسة.

ص: 165

قبل ظن الإصابة كما هو الظاهر (1)، فإنه لو كان المراد منه اليقين الحاصل بالنظر و الفحص بعده (2) الزائل (3) بالرؤية بعد الصلاة، كان (4) مفاده قاعدة اليقين كما لا يخفى.

ثم إنه أشكل على الرواية (5): بأن الإعادة بعد انكشاف وقوع الصلاة ليست نعم؛ قد يحصل اليقين بالفحص؛ لكن إرادته منوطة بالقرينة. و عليه: فقوله «عليه السلام»: «لأنك كنت على يقين من طهارتك» ينطبق على الاستصحاب، فالاستدلال به من هذه الجهة تام.

=============

(1) لعدم دلالة «فلم أر شيئا» على حصول اليقين بعدم الإصابة حتى يكون مقصوده «عليه السلام» من قوله: «لأنك كنت على يقين» هذا اليقين الحاصل بالنظر كي ينطبق على قاعدة اليقين؛ بل المراد هو: اليقين بالطهارة قبل ظن الإصابة.

(2) أي: بعد ظن الإصابة، و ضمير «منه» راجع على «اليقين» و «الفحص» عطف على «بالنظر».

(3) صفة ل «اليقين» يعني: اليقين الزائل بالرؤية بعد الصلاة.

(4) جواب «لو كان».

(5) إن الإمام «عليه السلام»: علل عدم وجوب الإعادة بأنها نقض لليقين بالشك، فأشكل الأمر بأنه ليس من نقض اليقين بالشك؛ بل هو نقض اليقين باليقين؛ لأن الإعادة مستندة إلى وجدان النجاسة بعد الصلاة.

و حاصل الجواب: أن إحراز الطهارة - و لو بالاستصحاب - كاف في صحة الصلاة، فلو جرى الاستصحاب كان كافيا في الحكم بصحة الصلاة، فلو أمر بالإعادة كان معناها عدم جريان الاستصحاب، فتكون الإعادة نقضا لليقين بالشك و هو منهي عنه بقوله: «لا تنقض اليقين بالشك»، فيجري الاستصحاب، و لازم ذلك: صحة الصلاة و عدم وجوب الإعادة.

و قد يقال في توضيح الإشكال المذكور: إن الإعادة ليست نقضا لليقين بالشك حتى تحرم بالنهي عنه في قوله «عليه السلام»: «لا تنقض اليقين بالشك»؛ بل هي نقض اليقين باليقين؛ إذ المفروض: حصول العلم بالنجاسة و وقوع الصلاة فيها، فتكون الإعادة نقضا لليقين بالطهارة باليقين بالنجاسة، فلا ينطبق - قوله «عليه السلام»: - «لا تنقض اليقين بالشك» - على المقام؛ بل المقام مما ينطبق عليه قوله «عليه السلام»: «و انقضه بيقين آخر»، فلا يرتبط المعلل - و هو عدم وجوب الإعادة - بالعلة - و هي حرمة نقض اليقين بالشك -

ص: 166

مع وضوح كون العلة بمنزلة الكبرى للحكم المعلل؛ بحيث يصح تأليف قياس من العلة و المعلل، كما في تعليل حرمة الخمر بكونه مسكرا، لصحة أن يقال: «الخمر مسكر و كل مسكر حرام فالخمر حرام»، و لا يصح تأليف قياس هنا فلا يقال: «الإعادة نقض اليقين بالشك و كل نقض اليقين بالشك حرام فالإعادة حرام»؛ لعدم صدق الصغرى، و ذلك لما عرفت من: عدم كون الإعادة نقضا لليقين بالشك، بل باليقين، و عليه: فلا يصلح «لا تنقض» لتعليل عدم وجوب الإعادة به.

نعم؛ يصح أن يكون قوله «عليه السلام»: «لأنك كنت على يقين» علّة لجواز الدخول في الصلاة؛ لأن زرارة كان حال افتتاحها شاكا في الطهارة بعد العلم بها سابقا، فعدم جواز الدخول في الصلاة نقض لليقين بالطهارة بالشك فيها، فتعليل جواز الدخول في الصلاة بقوله: «لا تنقض اليقين بالشك» في محله كما لا يخفى.

فالنتيجة هي: سقوط الاستدلال بالرواية على حجية الاستصحاب. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الإشكال بعبارة أخرى.

و أما الجواب عن هذا الإشكال: فتوضيحه يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين الطهارة الحدثية و الطهارة الخبثية مع اشتراكهما في الشرطية للصلاة.

و حاصل الفرق: أن الطهارة الحدثية تكون شرطا واقعيا للصلاة بخلاف الطهارة الخبثية فإنها شرط علمي لها بمعنى كفاية إحراز الطهارة - و لو بأصل معتبر - في صحة الصلاة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المكلف المريد للصلاة إما ملتفت إلى الطهارة الخبثية، و إما غافل عنها، و على كلا التقديرين: يحكم بصحة صلاته. و أما الصحة على التقدير الأول: فلأجل كون الشرط حينئذ هو إحراز الطهارة لا وجودها الواقعي، و المفروض هو: إحرازها و لو بأصل عملي كالاستصحاب أو أصالة الطهارة.

و على الثاني: فلأجل عدم اعتبارها في حقه حال عدم العلم و الالتفات.

و على هذا: فيصح التعليل المزبور، ضرورة: أنه بعد البناء على كون الشرط للملتفت هو إحراز الطهارة - لا نفسها - يحسن تعليل وجوب الإعادة بكون الإعادة نقضا لليقين بالشك، حيث إنه في حال الصلاة كان شاكا في بقاء الطهارة بعد ما كان متيقنا بها قبل الدخول في العبادة، ثم ظن إصابة النجاسة.

و حيث إن هذا الظن ملحق بالشك حكما لعدم الدليل على اعتباره فهو شاك في بقاء

ص: 167

نقضا لليقين بالطهارة بالشك (1) فيها؛ بل باليقين بارتفاعها (2)، فكيف يصح أن يعلل عدم الإعادة بأنها نقض اليقين بالشك (3)؟

نعم (4)؛ إنما يصح أن يعلل به (5) جواز الدخول في الصلاة كما لا يخفى، و لا يكاد يمكن التفصي عن هذا الإشكال إلا بأن يقال (6): إن الشرط في الصلاة...

=============

الطهارة، و من المعلوم: أن الاستصحاب أوجب إحراز الطهارة في حال الصلاة، فالإعادة تكون منافية للاستصحاب المحرز للطهارة، و موجبة لجعل هذا الإحراز الاستصحابي كالعدم، ضرورة: أن منشأ الإعادة حينئذ هو كون الصلاة فاقدة للشرط؛ و إلاّ فلا وجه لها.

و خلو العبادة عن الشرط موقوف على عدم العبرة باليقين السابق على الصلاة، و جواز نقضه بالشك اللاحق؛ إذ مع اعتباره و عدم جواز نقضه بالشك يكون الشرط - أعني إحراز الطهارة - موجودا، فالصلاة واجدة للشرط، فلا وجه للإعادة.

و بالجملة: فتعليل عدم الإعادة بحرمة نقض اليقين بالشك - بناء على كون الشرط للملتفت - إحراز الطهارة في غاية المتانة. هذا غاية ما يمكن أن يقال في حل هذا الإشكال.

(1) متعلق ب «نقضا». و قوله: «باليقين» أي: بل هو نقض اليقين باليقين. توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(2) هذا الضمير و ضمير «فيها» راجعان على الطهارة.

(3) مع أنه نقض اليقين باليقين، و عليه: يسقط الاستدلال بالرواية.

(4) استدراك على قوله: «فكيف يصح ؟». و غرضه: إثبات صحة التعليل بلحاظ جواز الدخول في الصلاة، و قد عرفته بقولنا: «نعم؛ يصح أن يكون قوله «عليه السلام»...» الخ.

(5) أي: بقوله «عليه السلام»: «و ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك».

(6) لا يخفى: أنه قد تفصّي عن هذا الإشكال بالالتزام بإجزاء الأمر الظاهري، و سيأتي بيانه عند تعرض المصنف له، إلاّ إنه لعدم صحته اختار «قدس سره» وجها آخر لإثبات التعليل أفاده في حاشية الرسائل و أثبته في المتن. و قال في آخر كلامه: «إن الإشكال على فرض تسليمه لا يقدح في الاستدلال بالرواية على الاستصحاب».

و توضيح ما أفاده في حل الإشكال بقوله: «إن الشرط في الصلاة فعلا» هو: أن الطهارة الخبثية شرط علمي للصلاة، بمعنى: كفاية إحرازها - و لو بأصل معتبر - في صحة الصلاة، و ليست شرطا واقعيا كالطهارة الحدثية التي تدور صحة الصلاة مدارها وجودا

ص: 168

فعلا (1) حين الالتفات إلى الطهارة هو إحرازها و لو بأصل أو قاعدة، لا نفسها (2)، فتكون (3) قضية استصحاب الطهارة حال الصلاة عدم إعادتها (4) و لو انكشف وقوعها في النجاسة بعدها (5).

=============

و عدما، و عليه: فالمكلف المريد للصلاة إما ملتفت إلى الطهارة الخبثية، و إما غافل عنها، فإن كان غافلا عنها و صلى فصلاته صحيحة؛ لعدم اعتبار هذه الطهارة في حقه كما صرح به في حاشية الرسائل، و إن كان ملتفتا إلى الطهارة الخبثية فالشرط حينئذ هو إحراز الطهارة لا وجودها الواقعي، فإن أحرزها الملتفت بعلم أو علمي أو أصل عملي و لو أصالة الطهارة و صلى صحت صلاته و إن انكشف وقوعها في النجس، إذ الشرط للملتفت هو إحراز الطهارة لا نفسها، و المفروض: تحققه بأحد الوجوه المحرزة. و على هذا: فيصح التعليل المزبور، ضرورة: أنه بعد البناء على كون الشرط للملتفت هو إحراز الطهارة - لا نفسها - يحسن تعليل عدم وجوب الإعادة بكون الإعادة نقضا لليقين بالشك، حيث إنه في حال الصلاة كان شاكا في بقاء الطهارة بعد ما كان متيقنا بها قبل الدخول في العبادة، ثم ظن إصابة النجاسة، و حيث إن هذا الظن ملحق بالشك حكما - لعدم الدليل على اعتباره - فهو شاك في بقاء الطهارة، و من المعلوم: أن الاستصحاب أوجب إحراز الطهارة في حال الصلاة، فالإعادة تكون منافية للاستصحاب المحرز للطهارة، و موجبة لجعل هذا الإحراز الاستصحابي كالعدم، ضرورة: أن منشأ الإعادة حينئذ هو كون الصلاة فاقدة للشرط، و إلاّ فلا وجه لها. و خلو العبادة عن الشرط موقوف على عدم العبرة باليقين السابق على الصلاة، و جواز نقضه بالشك اللاحق؛ إذ مع اعتباره و عدم جواز نقضه بالشك يكون الشرط - أعني: إحراز الطهارة - موجودا، فالصلاة واجدة للشرط فلا وجه للإعادة. و بالجملة: فتعليل عدم الإعادة بحرمة نقض اليقين بالشك بناء على كون الشرط للملتفت إحراز الطهارة في غاية المتانة.

ثم إنه «قدس سره» أشكل على هذا الحل بوجهين، و أجاب عنهما و سيأتي بيانهما.

(1) قيد ل «إن الشرط» و هو في قبال الشرط الاقتضائي المجعول في حق الغافل، يعني:

أن الشرط الفعلي للملتفت إلى الطهارة هو إحرازها لا الطهارة الواقعية.

(2) يعني: لا نفس الطهارة كي تبطل الصلاة بفقدانها، كما تبطل بفقدان الطهارة الحدثية.

(3) هذا متفرع على كون الشرط في حق الملتفت إحراز الطهارة.

(4) لفرض إحراز الطهارة باستصحابها أو بقاعدتها إن لم يكن يقين سابق بالطهارة.

(5) قيد لقوله: «انكشف» و متعلق به، يعني: و لو انكشف بعد الصلاة وقوعها في

ص: 169

كما أن إعادتها بعد الكشف تكشف (1) عن جواز النقض و عدم حجية الاستصحاب حالها (2)، كما لا يخفى، فتأمل جيدا.

ص: 170

تكن (1) شرطا لم تكن موضوعا لحكم، مع أنه ليس بحكم (2)، و لا محيص (3) في الاستصحاب عن كون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم فإنه يقال (4): إن الطهارة و إن لم تكن شرطا فعلا (5)؛ إلا إنها غير منعزلة عن الشرطية رأسا، بل هي منعزلة عن الشرطية تماما حتى يمتنع جريان الاستصحاب فيها؛ بل هي شرط واقعي اقتضائي أي: فيها مقتضى الشرطية، و الداعي إلى الالتزام بكون الطهارة الواقعية شرطا اقتضائيا هو الجمع بين ما دل على اعتبار الطهارة لظهوره في اعتبار الطهارة الواقعية خاصة، و بين ما دل - كهذه الصحيحة - على صحة الصلاة مع فقدانها واقعا فيما إذا جرى فيها الاستصحاب، فإن مقتضى الجمع بين هاتين الطائفتين هو حمل الطائفة الأولى على الشرطية الاقتضائية، و الثانية على الشرطية الفعلية. فالنتيجة هي: أن الطهارة شرط فتكون موضوعا ذا حكم، فيجري فيها الاستصحاب.

=============

و ثانيهما: أنه لا يعتبر في جريان الاستصحاب أزيد من كونه دخيلا في الشرط؛ و إن لم يكن المستصحب بنفسه شرطا كاستصحاب طهارة الماء الذي يتوضأ به، و إباحة الساتر الذي يصلّى فيه، فإن شرط الصلاة هو الوضوء و الساتر، و أما طهارة الماء و إباحة الساتر فهما قيدان لشرط الصلاة.

و عليه: فإذا فرض كون الشرط في المقام إحراز الطهارة تصير الطهارة قيدا للإحراز الذي هو الشرط، و هذا المقدار يكفي في جريان الاستصحاب في الطهارة.

توضيح بعض العبارات: قوله: «حينئذ» أي: حين كون الشرط إحراز الطهارة لا نفسها.

(1) أي: إذا لم تكن الطهارة شرطا لم تكن موضوعا لحكم، كما أنها ليست بحكم مع أنه يعتبر في المستصحب أن يكون حكما أو موضوعا ذا حكم، فلا يجري الاستصحاب لانتفاء ما يعتبر فيه.

(2) يعني: أن الطهارة ليست حكما شرعيا أيضا حتى يصح جريان الاستصحاب فيها بلحاظ نفسها، فلا وجه لاستصحابها كما عرفت.

(3) أي: و الحال أن اللازم في التعبد الاستصحابي كون المستصحب حكما أو موضوعا له، لأن ما يكون في حيطة تصرف الشارع بما هو شارع حكمه ببقاء الحكم الشرعي السابق أو بقاء موضوعه بلحاظ حكمه، فدليل الاستصحاب قاصر عن إثبات ما ليس حكما أو موضوعا له؛ لخروجه عن دائرة التعبد.

(4) هذا جواب عن الإشكال، و قد تقدم توضيح ذلك.

(5) هذا إشارة إلى الجواب الأول، كما أن قوله: «مع كفاية...» الخ إشارة إلى الجواب الثاني.

ص: 171

شرط واقعي اقتضائي (1)، كما هو (2) قضية التوفيق بين الإطلاقات (3) و مثل هذا الخطاب، هذا مع كفاية كونها (4) من قيود الشرط، حيث إنه كان إحرازها بخصوصها لا غيرها شرطا.

لا يقال (5): سلمنا ذلك؛ و لكن قضيته أن يكون علة عدم الإعادة...

=============

(1) أي: فيها مقتضى الشرطية حتى في حال الاستصحاب الخطائي، و ليست كالأشياء الأجنبية التي لا ترتبط بالصلاة إطلاقا.

(2) أي: ما ذكرنا من أنه شرط اقتضائي؛ و إن لم يكن شرطا فعلا.

(3) نحو قوله: «لا صلاة إلا بطهور». و مثل هذا الخطاب الوارد في هذه الرواية: بأنه لا يعيد.

(4) هذا الضمير و ضمير «إحرازها، بخصوصها» ترجع إلى الطهارة.

و النتيجة: أن المصنف صحح بهذين الجوابين جريان الاستصحاب في نفس الطهارة لأجل إحرازها، و به يتجه انطباق التعليل ب «لأنك كنت على يقين من طهارتك» على المورد.

فالمتحصل: أن الطهارة من قيود الشرط، و كل قيد للشرط يجري فيه الاستصحاب، أما أنها من قيود الشرط: فلأن شرط الصلاة إحراز الطهارة، فالطهارة صارت من قيود الشرط، و أما أن كل قيد للشرط يجري فيه الاستصحاب. فلأن الاستصحاب يجري في الحكم و في كل ما له في الحكم.

و من المعلوم: أن قيود الشرط مما له دخل في الحكم، و لذا يجري استصحاب طهارة الماء المتوضأ به، مع أن الطهارة قيد لشرط الصلاة و هو الوضوء، فالطهارة هنا كذلك «حيث إنه كان إحرازها» أي: الطهارة «بخصوصها لا غيرها شرطا» للصلاة.

(5) هذا ثاني الإشكالين على شرطية إحراز الطهارة و حاصله: أنه لو سلمنا كون شرط الصلاة للملتفت هو إحراز الطهارة - لأنه مقتضى التوفيق بين الأخبار - لا نفس الطهارة، لكان اللازم أن يعلل عدم وجوب الإعادة بالإحراز بأن يقال: «لا تجب الإعادة لأنك أحرزت الطهارة حال الصلاة»؛ لا أن يقال: «لأنك كنت على يقين من طهارتك» الظاهر في أن زرارة كان على طهارة واقعية أحرزها تعبدا بالاستصحاب؛ إذ على هذا يكون الشرط الطهارة الواقعية المحرزة بالاستصحاب لإحرازها كما هو واضح.

و بعبارة أخرى: كان من المناسب أن يعلل الإمام «عليه السلام» عدم الإعادة بأنه واجد للشرط الذي هو إحراز الطهارة لا أن يعلل بوجود الطهارة كما هو مقتضى قوله

ص: 172

«عليه السلام»: «لأنك كنت على يقين...» الخ، حيث يكون ظاهرا في أن وجه الصحة نفس الطهارة لا إحرازها.

و بالجملة: فالتعليل بالصغرى أعني: «لأنك كنت على يقين من طهارتك»، و الكبرى و هي: «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» ينتج كون الشرط نفس الطهارة لا إحرازها، ضرورة: أن اليقين في الاستصحاب طريق محض، فالمدار على الواقع الذي تعلق به اليقين، و المفروض: انكشاف خلافه، و لا يبقى مجال لإحراز الشرط بالاستصحاب.

و على مبنى شرطية إحراز الطهارة يكون اليقين بالطهارة موضوعا للحكم؛ كموضوعية اليقين بحياة الولد لوجوب التصدق؛ إذا نذر والده أن يتصدق كل يوم بدرهم ما دام متيقنا بها، و انتفاء الوجوب بمجرد الشك فيها، بخلاف تعليق النذر على نفس الحياة؛ لإمكان إحرازها حينئذ بالاستصحاب.

فالمتحصل: أن التعليل بثبوت نفس الطهارة كما هو ظاهر القضية يكشف عن عدم صحة جعل الشرط إحراز الطهارة، فلا بد أن يكون الشرط الطهارة الواقعية؛ لكن يعود الإشكال و هو: أنه مع فرض فقدان الطهارة من الخبث كيف حكم الإمام «عليه السلام» بعدم وجوب الإعادة بقوله: «لا تعيد»؟

و قد أجاب عن هذا الإشكال: بقوله: «فإنه يقال: نعم»، و محصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 7، ص 155» - أن ما ذكره المستشكل من كون المناسب لشرطية إحراز الطهارة تعليل عدم وجوب الإعادة بالإحراز لا بنفس الطهارة المستصحبة، و إن كان صحيحا؟ لكنه مبني على كون التعليل بلحاظ حال الانكشاف، لا بلحاظ حال الصلاة.

توضيحه: أن في التعليل احتمالين:

أحدهما: أن يكون الإمام «عليه السلام» في مقام تعليل عدم وجوب الإعادة بعد الفراغ من الصلاة، و المناسب لهذا الفرض هو: التعليل بإحراز الطهارة، يعني: «أنك كنت مع إحراز الطهارة بالاستصحاب»، و لا سبيل حينئذ للتعليل بوجود الطهارة المستصحبة؛ إذ المفروض: أن زرارة علم بعد الصلاة بانتفاء الطهارة و وقوع الصلاة في الثوب المتنجس، فلا يصح أن يقال بعد انكشاف الخلاف: «إنك كنت على طهارة مستصحبة»، و على هذا يتجه الإشكال المذكور في المتن بقوله: «لا يقال».

ثانيهما: أن يكون الإمام «عليه السلام» في مقام تصحيح الصلاة بلحاظ الحال التي

ص: 173

حينئذ (1) بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة، هو إحراز الطهارة حالها (2) باستصحابها؛ لا الطهارة المحرزة بالاستصحاب (3)، مع أن (4) قضية التعليل أن تكون افتتح زرارة صلاته عليها، فيقول «عليه السلام»: «إنك كنت حين افتتاح الصلاة على يقين من طهارتك، ثم شككت فيها، و لا ينبغي نقض اليقين بالشك»، فهو «عليه السلام» علل جواز افتتاح الصلاة مع الجهل بطهارة الثوب بأنه كان على طهارة أحرزها بالاستصحاب.

=============

و يشهد لكون التعليل بهذا اللحاظ: أنه لو كان بلحاظ حال الفراغ من الصلاة لم تكن الإعادة نقضا لليقين بالشك؛ بل باليقين بوقوع الصلاة في النجس.

لكن يبعده أجنبية العلة عن المعلل؛ إذ السؤال إنما هو عن علة عدم وجوب الإعادة لا عن علة جواز الشروع في الصلاة.

إلاّ أن يقال: إن تعليل جواز الدخول في الصلاة «بأنك كنت على يقين من طهارتك» يراد به: إحراز الطهارة بالاستصحاب تعبيرا عن الإحراز بملزومه و هو الاستصحاب تنبيها على اعتباره، و الاقتصار على عدم نقض اليقين بالشك في مقام تعليل عدم وجوب الإعادة دليل على كون لازمه - و هو الإحراز - علة لعدم وجوب الإعادة.

و الإشكال على استصحاب الطهارة مع عدم كونها شرطا فعلا مندفع بكفاية كونها شرطا اقتضائيا كما أفاده؛ و إن كان لا يخلو من التأمل.

و بالجملة: فبهذا التقريب يستقيم تعليل عدم وجوب الإعادة بعدم نقض اليقين بالشك؛ إذ المستفاد منه - و هو الإحراز - كما يكون علة لجواز الشروع في الصلاة، كذلك يكون علة لعدم وجوب إعادتها؛ إذ المفروض: أن الإحراز الثابت بالاستصحاب شرط للصلاة بالنسبة إلى الجاهل حدوثا و بقاء، فلا وجه للإعادة و لو مع انكشاف وقوعها في الثوب المتنجس، و ليست الطهارة شرطا في حق الجاهل؛ و إلاّ كان اللازم إعادة الصلاة في صورة انكشاف وقوعها في النجس كما لا يخفى.

توضيح بعض العبارات.

(1) أي: حين كون مقتضى التوفيق بين الأخبار شرطية الإحراز لا الطهارة المحرزة.

(2) أي: حال الصلاة، و قوله: «حالها، باستصحابها» ظرفان لقوله: «إحراز الطهارة»، و قوله: «الطهارة المحرزة» عطف على «إحراز».

(3) التي هي مفاد قوله «عليه السلام»: «لأنك كنت على يقين من طهارتك».

(4) أي: و الحال أن مقتضى التعليل وجود الطهارة الواقعية التي أحرزت

ص: 174

العلة له (1) هي نفسها لا إحرازها (2)، ضرورة (3): أن نتيجة قوله: «لأنك كنت على يقين...» إلى آخره أنه على الطهارة لا أنه مستصحبها (4)، كما لا يخفى.

فإنه يقال (5): نعم (6)؛ و لكن التعليل إنما هو بلحاظ حال قبل انكشاف الحال، لنكتة (7) التنبيه على حجية الاستصحاب، و أنه (8) كان هناك استصحاب، مع (9) بالاستصحاب؛ إذ اليقين في الاستصحاب طريق محض إلى المتيقن.

=============

(1) أي: لعدم وجوب الإعادة.

(2) هذا الضمير و ضمير «نفسها» راجعان على الطهارة.

(3) تعليل لقوله: «مع أن قضية التعليل...» الخ و حاصله: أنه بعد ما تقدم من كون اليقين في الاستصحاب آليا لا استقلاليا يكون التعليل مشيرا إلى قياس مؤلف من صغرى وجدانية و هي «إنك ممن تيقن الطهارة و شك فيها»، و كبرى تعبدية و هي: «كل من تيقن الطهارة و شك فيها فهو متطهر»، و ينتج «أنك متطهر»، فالعلة في الحقيقة هي وجود الطهارة الواقعية لا استصحابها.

(4) يعني: فرق بين أن يقول «عليه السلام»: «كانت الطهارة حال الصلاة تعبدا بالاستصحاب» كما هو ظاهر الرواية، و بين أن يقول: «كان استصحاب الطهارة في حال الصلاة» الظاهر في كون الشرط إحراز الطهارة لا وجودها.

(5) هذا جواب عن الإشكال الثاني، و قد تقدم توضيحه، فلا حاجة إلى التكرار.

(6) يعني: سلمنا أن مقتضى التعليل كون الشرط الطهارة الواقعية لا إحرازها، و لكن إنما يتم إن كان التعليل بملاحظة حال الفراغ من الصلاة، مع أنه ليس كذلك، و إنما هو بالنظر إلى حال افتتاح الصلاة، و أن زرارة في تلك الحالة واجد للطهارة الخبثية الواقعية ببركة الاستصحاب.

(7) تعليل لقوله: «إنما هو بلحاظ»، و قد عرفته بقولنا: «إلا أن يقال: إن تعليل جواز الدخول في الصلاة...» الخ.

(8) عطف على «حجية»، و قوله: «هناك» أي: قبل انكشاف الحال.

(9) غرضه: أن لحاظ حال الجهل بالطهارة في التعليل يكون لوجهين:

أحدهما: التنبيه على اعتبار الاستصحاب، و الآخر أن المجدي في عدم وجوب الإعادة بعد انكشاف الحال هو استصحاب الطهارة و إلاّ فلا وجه لعدم وجوب الإعادة بعد الانكشاف؛ إذ لا محرز للطهارة حينئذ سواه، و المفروض: انكشاف خلافه، فتجب الإعادة؛ لعدم كونها من نقض اليقين بالشك؛ بل باليقين، فكون الإعادة نقضا لليقين بالشك لا يتصور إلا بالنسبة إلى ما قبل الانكشاف. و قوله: «ذلك» أي: التعليل.

ص: 175

وضوح استلزام ذلك لأن يكون المجدي بعد الانكشاف هو ذاك الاستصحاب لا الطهارة (1)، و إلاّ (2) لما كانت الإعادة نقضا (3) كما عرفت في الإشكال (4).

ثم إنه لا يكاد يصح التعليل لو قيل باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء (5) كما قيل، ضرورة (6): أن العلة...

=============

(1) إذ الاستناد إلى الطهارة الواقعية لا ينفي وجوب الإعادة؛ بل يقتضي وجوبها، فالمجدي لنفي وجوب الإعادة هو إحراز الطهارة الثابت بذاك الاستصحاب لا نفس الطهارة.

(2) أي: و إن لم يكن التعليل بلحاظ حال قبل الانكشاف - بل بلحاظ ما بعده - لما كانت الإعادة نقضا لليقين بالشك؛ بل باليقين، لوضوح: أن التعليل بنفس الطهارة لا يقتضي عدم وجوب الإعادة بعد انكشاف الخلاف؛ بل مقتضاه وجوب الإعادة لانكشاف خلوّ الصلاة عن الشرط، أعني الطهارة الخبثية، فلا بد أن يكون التعليل بلحاظ ما قبل الانكشاف.

(3) يعني: نقضا لليقين بالشك بل نقضا له باليقين.

(4) بقوله: «ثم إنه أشكل على الرواية: بأن الإعادة...» الخ. هذا تمام تحقيق المصنف فيما اختاره في تطبيق التعليل على قوله: «تغسله و لا تعيد».

(5) هذا أحد الوجوه التي وجّه بها التعليل المذكور في الرواية، و المصنف لم يذكر من تلك الوجوه إلا وجهين: أحدهما: ما تقدم من كون التعليل مبنيا على شرطية الإحراز. ثانيهما: ما تعرض له هنا، و قد عزا هذا الوجه إلى شريف العلماء «قدس سره»، و ذكر الشيخ بقوله: «و ربما يتخيل حسن التعليل لعدم الإعادة بملاحظة اقتضاء امتثال الأمر الظاهري للإجزاء، فتكون الصحيحة من حيث تعليلها دليلا على تلك القاعدة و كاشفة عنها».

و حاصله: ابتناء التعليل على اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، حيث إنه على هذا المبنى تكون الطهارة الظاهرية الثابتة بالاستصحاب بمنزلة الطهارة الواقعية في ترتب صحة العمل عليها واقعا؛ و إن انكشف خلافها و خطأ الاستصحاب.

(6) تعليل لقوله: «لا يكاد».

و توضيح إشكال المصنف على هذا الوجه هو: أن تعليل عدم وجوب الإعادة باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء خلاف ظاهر الصحيحة لظهورها؛ بل صراحتها في كون علته حرمة نقض اليقين بالشك، حيث إن الإعادة تكون نقضا له به؛ لا قاعدة اقتضاء

ص: 176

عليه (1) إنما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهري حال الصلاة للإجزاء و عدم إعادتها؛ لا لزوم (2) النقض من الإعادة كما لا يخفى.

اللهم إلا أن يقال: إن التعليل به (3) إنما هو بملاحظة ضميمة اقتضاء الأمر الظاهري الأمر الظاهري للإجزاء، فلو كان المناط في التعليل إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي، و مبنى المكلف على الإعادة لم يوجب ذلك أن يقال له: «إن الإعادة نقض لليقين بالشك»؛ لأنه من نقض اليقين باليقين.

=============

و عليه: فمسألة الإجزاء أجنبية عن المقام.

(1) أي: بناء على اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء؛ يكون ذلك مقتضيا للإجزاء و عدم الإعادة.

(2) عطف على «اقتضاء» يعني: أن تعليل الإعادة بكونها نقضا لليقين بالشك أجنبي عن مسألة الإجزاء؛ إذ المقتضي بالفرض هو الأمر الظاهري.

(3) أي: بقوله «عليه السلام»: «لأنك كنت على يقين...».

و غرضه: توجيه كلام القائل بأن التعليل بلحاظ الإجزاء بنحو لا يرد عليه الإشكال المتقدم و غيره.

و توضيحه: أن تعليل عدم الإعادة بعدم جواز نقض اليقين بالشك إن كان بلحاظ ما قبل الانكشاف و قلنا باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، فلا محيص عن الالتزام بعدم وجوب الإعادة، ضرورة: أن وجوبها و لو بعد الانكشاف يكشف عن بقاء الأمر الواقعي بالمشروط بالطهارة، و عدم سقوطه، و هو خلاف البناء على قاعدة الإجزاء في الأوامر الظاهرية.

و العدول عن التعليل بقاعدة الإجزاء إلى عدم جواز نقض اليقين بالشك للتنبيه على ما يكون علة للأمر الظاهري في المقام من أنه الاستصحاب؛ لتولد أمر ظاهري بالصلاة من استصحاب طهارة الثوب، و لمّا كان التعبد الاستصحابي علة لإنشاء هذا الأمر صح التعليل بمنشإ الأمر الظاهري أعني: الاستصحاب: و إلاّ فالعلة حقيقة لعدم وجوب الإعادة هي قاعدة الإجزاء في الأوامر الظاهرية، و هي مطوية، فهناك قياس كبراه تلك القاعدة بأن يقال: «الاستصحاب أمر ظاهري، و كل أمر ظاهري يقتضي الإجزاء، فينتج:

أن الاستصحاب يقتضي الإجزاء».

و عليه: فتعليل عدم وجوب إعادة الصلاة بعد الانكشاف بالاستصحاب يكون تعليلا بما هو سبب العلة و مدلول لها كما لا يخفى.

ص: 177

للإجزاء (1)، بتقريب: أن (2) الإعادة لو قيل بوجوبها كانت موجبة لنقض اليقين بالشك في الطهارة قبل الانكشاف (3) و عدم (4) حرمته شرعا، و إلاّ (5) للزم عدم اقتضاء ذلك الأمر (6) له مع اقتضائه شرعا (7) أو عقلا (8)، فتأمل (9).

=============

(1) بأن تكون العلة لعدم وجوب الإعادة مجموع الصغرى - و هي حرمة نقض اليقين بالطهارة بالشك فيها - و الكبرى و هي اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء.

(2) يعني: أن القول بوجوب الإعادة يستلزم أن يكون إما لأجل انتفاء الصغرى و هي جواز نقض اليقين بالشك بالنسبة إلى ما قبل الانكشاف، و إما لأجل انتفاء الكبرى و هي اقتضاء الأمر الظاهري الناشئ عن الاستصحاب للإجزاء، و المفروض: اقتضاؤه له.

(3) إذ بعد الانكشاف يكون من نقض اليقين باليقين، و لذا وجب غسل الثوب.

(4) عطف على «نقض» أي: موجبة لعدم النقض شرعا.

(5) يعني: و إن لم تكن الإعادة لنقض اليقين بالشك؛ بل كان نقض اليقين بالشك حراما، و مع ذلك كانت الإعادة واجبة للزوم أن تكون الإعادة لأجل عدم اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، و هو خلاف الفرض من اقتضائه له.

و بالجملة: فغرضه أن وجوب الإعادة إما مستند إلى جواز نقض اليقين بالشك، و إما إلى عدم اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء.

(6) أي: الظاهري للإجزاء، و ضمير «له» راجع على الإجزاء.

(7) كما إذا فرض اشتمال المأتي به على مقدار من المصلحة الداعية إلى التشريع، مع كون الفائت بمقدار الإلزام و ممكن التدارك، فإن الإجزاء حينئذ لا بد و أن يكون بحكم الشارع؛ فيكون الإجزاء شرعيا.

(8) كما إذا فرض اشتمال المأتي به على تمام مصلحة المأمور به، أو معظمها؛ و لكن لم يكن الفائت بمقدار الإلزام، أو كان بذلك المقدار و لكن لم يمكن استيفاؤه، فإن الإجزاء حينئذ يكون عقليا، لسقوط الأمر بارتفاع ملاكه الداعي إلى تشريعه.

و بالجملة: فاقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء إمّا شرعي و إما عقلي.

(9) وجه التأمل: ما أفاده في الهامش. و ما في بعض الشروح من «أن المصنف ضرب على هذه الحاشية مؤخرا»، كأنه نشأ من خلط هذه بحاشية أخرى على قوله: «ثم أشكل»، حيث ضرب عليها في النسخة المصححة بقلمه بعد طبعتها الأولى.

و يمكن بيان وجه آخر للتأمل، و هو: أن مقتضى تعليل عدم الإعادة باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء بطلان صلاة من علم بالطهارة الخبثية و صلى عالما بها، ثم انكشف

ص: 178

و لعل ذلك (1) مراد من قال بدلالة الرواية على إجزاء الأمر الظاهري. هذا (2) غاية ما يمكن أن يقال في توجيه التعليل.

مع (3) أنه لا يكاد يوجب الإشكال فيه - و العجز عن التفصي عنه - إشكالا في بعد الصلاة خلافه، و أن صلاته وقعت في النجس؛ إذ ليس هنا أمر ظاهري يقتضي الإجزاء، بخلاف ما إذا كان الشرط الفعلي إحراز الطهارة، لصحة صلاة من علم بعدم النجاسة و صلى ثم انكشف الخلاف، لأنه أحرز الطهارة.

=============

و قيل في وجه التأمل: إن اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء ليس بذلك الوضوح كي يحسن بملاحظته التعليل بلزوم النقض من الإعادة كما لا يخفى.

(1) أي: و لعل ما ذكرناه بقولنا: «اللّهمّ إلاّ أن يقال...» الخ. هو مراد القائل «بدلالة الرواية...» الخ. و إلاّ فليس في موضع آخر منها دلالة على ذلك كما لا يخفى.

(2) أي: ما تقدم من كون المعتبر في حق الملتفت إحراز الطهارة من الخبث، و من إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي بناء على توجيه المصنف له. «غاية ما يمكن أن يقال في توجيه التعليل».

(3) هذا هو الوجه الثاني الذي أفاد المصنف «قدس سره» في دفع إشكال عدم مناسبة التعليل للحكم المعلل. و حاصله: أنه لو سلم العجز عن تصحيح مطابقة التعليل مع السؤال في الرواية الشريفة، فلا يكاد يوجب ذلك قدحا في دلالتها على الاستصحاب، فإن إشكال عدم مطابقة التعليل مع السؤال هو إشكال لازم على كل حال، سواء كان مفاد الرواية هو قاعدة الاستصحاب بأن كان المراد من اليقين فيه اليقين بطهارة الثوب من قبل ظن الإصابة كما تقدم، أو قاعدة اليقين بأن كان المراد من اليقين فيه اليقين بالطهارة الحاصل بالنظر في الثوب - «و لم ير شيئا» - الزائل برؤية النجاسة بعد الصلاة، و ليس هذا الإشكال مختصا بما إذا كان مفاد الرواية قاعدة الاستصحاب و حجيتها كي يكون ذلك قدحا في دلالتها عليها.

فاللازم هو حمل الرواية على ظاهرها الذي هو الاستصحاب.

هذا تمام الكلام في الاستدلال بالصحيحة الثانية على حجية الاستصحاب.

خاتمة فيما يستفاد من هذه الصحيحة الثانية: علم أنه يستفاد منها اعتبار قواعد:

منها: قاعدة اليقين إن كان المراد من اليقين بالطهارة في قوله «عليه السلام»: «لأنك كنت على يقين» هو اليقين الحاصل بها بالفحص بعد ظن الإصابة؛ إلاّ إن هذا الاستظهار و هذا المعنى يكون خلاف الظاهر منها، بل الظاهر منها هو اليقين بالطهارة قبل ظن الإصابة.

ص: 179

دلالة الرواية على الاستصحاب، فإنه لازم على كل حال، كان مفاده قاعدته أو قاعدة اليقين مع بداهة عدم خروجه منهما، فتأمل جيدا.

=============

و منها: لزوم الموافقة القطعية في العلم الإجمالي من حكمه «عليه السلام» بغسل تمام الناحية التي علم بوصول النجاسة إليها.

و منها: عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية من قوله «عليه السلام»: «لا و لكنك إنما تريد أن تذهب بالشك الذي وقع في نفسك».

و منها: أن الطهارة الواقعية ليست شرطا للصلاة و لا النجاسة الواقعية مانعة عنها؛ بل للعلم بالطهارة و النجاسة دخل في الصحة و الفساد، كما يستفاد ذلك من قوله «عليه السلام»: «و غسلته ثم بنيت على الصلاة».

و منها: أن الشك الطارئ يعني: الاستصحاب، و يستدل بها عليه بفقرتين منها، و قد عرفت الاستدلال بهما على حجية الاستصحاب. فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - أن هذه الصحيحة تشتمل على ست فقرات، كل فقرة منها مسألة مستقلة. إلاّ إن الاستدلال على حجية الاستصحاب إنما هو بالفقرة الثالثة و السادسة فقط؛ إذ قد علل الإمام «عليه السلام» عدم وجوب إعادة الصلاة فيهما باندراج اليقين و الشك تحت القضية الكلية الارتكازية، و هو مما يكشف عن إمضائه لها و رضائه بها، و لازم ذلك حجية الاستصحاب.

2 - الإشكال على الرواية: بأن الإمام «عليه السلام» علل عدم وجوب الإعادة بأنها نقض اليقين بالشك، فأشكل الأمر بأنه ليس من نقض اليقين بالشك؛ بل هو نقض اليقين باليقين؛ لأن الإعادة مستندة إلى وجدان النجاسة بعد الصلاة.

و الجواب عن هذا الإشكال: أن إحراز الطهارة - و لو بالاستصحاب - كاف في صحة الصلاة، فالاستصحاب كاف في الحكم بصحة الصلاة؛ إذ تكون الإعادة نقضا لليقين بالشك، و هو منهي عنه بقوله: «لا تنقض اليقين بالشك»، فيجري الاستصحاب، و لازم ذلك صحة الصلاة و عدم وجوب الإعادة.

3 - «لا يقال: لا مجال حينئذ...» الخ. توضيح هذا الإشكال يتوقف على مقدمة و هي: أنه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم.

ص: 180

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الطهارة حال الصلاة ليست حكما شرعيا و لا موضوعا ذا حكم، و أما عدم كونها حكما: فواضح؛ إذ ليست الطهارة واحدة من الأحكام الخمسة و هي الوجوب و الحرمة و الاستحباب و الكراهة و الإباحة.

و أما عدم كونها موضوعا: فلأن الموضوع هو شرط الواجب، و أن الشرط فيما نحن فيه هو إحراز الطهارة لا نفسها، فلا يجري الاستصحاب فيها لانتفاء ما يعتبر في جريانه.

4 - و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بوجهين:

أحدهما: أن الشرط و إن كان هو إحراز الطهارة؛ إلاّ إن نفس الطهارة ليست منعزلة عن الشرطية رأسا بل هي شرط واقعي اقتضائي، فتكون موضوعا ذا حكم فيجري فيها الاستصحاب.

ثانيهما: أنه لا يعتبر في جريان الاستصحاب أزيد من كونه دخيلا في الشرط، و عليه: فإذا فرض كون الشرط في المقام إحراز الطهارة تصير الطهارة قيدا للإحراز الذي هو الشرط، و هذا المقدار يكفي في جريان الاستصحاب في الطهارة.

5 - «لا يقال: سلمنا ذلك»، هذا هو الإشكال الثاني على شرطيته إحراز الطهارة و حاصله: أنه سلمنا أن الشرط في الصلاة هو إحراز الطهارة لا نفسها؛ و لكن مقتضى ذلك هو: تعليل عدم وجوب الإعادة بالإحراز بأن يقال: لا تجب الإعادة «لأنك أحرزت الطهارة حال الصلاة»؛ لا أن يقال: «لأنك كنت على يقين من طهارتك» الظاهر في الطهارة الواقعية، حيث يكون وجه صحة الصلاة نفس الطهارة لا إحرازها.

6 - و حاصل الجواب عن هذا الإشكال: أن ما ذكره المستشكل من كون المناسب لشرطية إحراز الطهارة تعليل عدم وجوب الإعادة بالإحراز لا بنفس الطهارة؛ و إن كان صحيحا، لكنه مبني على كون التعليل بلحاظ حال الانكشاف لا بلحاظ حال الصلاة، و التعليل في المقام إنما هو بلحاظ حال افتتاح الصلاة، فيكون في محله؛ لأن الإمام «عليه السلام» يكون في مقام تصحيح الصلاة بلحاظ حال الافتتاح فيقول: «إنك كنت حين افتتاح الصلاة على يقين من طهارتك ثم شككت فيها، و لا ينبغي نقض اليقين بالشك»، فيصح التعليل و لازمه جريان الاستصحاب.

و توهم: أن التعليل لعدم الإعادة إنما هو بملاحظة اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء مدفوع؛ بأن تعليل عدم وجوب الإعادة باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء خلاف ظاهر

ص: 181

صحيحة ثالثة لزرارة
اشارة

و منها (1): صحيحة ثالثة لزرارة: «و إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع، و قد أحرز الصحيحة؛ لظهورها في كون علته حرمة نقض اليقين بالشك، لا قاعدة اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء فمسألة الإجزاء أجنبية عن المقام.

=============

7 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو تمامية دلالة الرواية على حجية الاستصحاب.

(1) أي: و من الأخبار المستدل بها على اعتبار الاستصحاب: صحيحة ثالثة لزرارة، و لا إشكال في سندها فإنها صحيحة.

و أما تقريب الاستدلال بها على حجية الاستصحاب، ثم بيان ما يرد عليها فيتوقف على ذكرها تماما.

فنقول: روى زرارة عن أحدهما «عليهما السلام» قال: (قلت له: من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين و قد أحرز الثنتين.

قال: «يركع ركعتين و أربع سجدات و هو قائم بفاتحة الكتاب، يتشهد و لا شيء عليه، و إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع و قد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أخرى، و لا شيء عليه، و لا ينقض اليقين بالشك و لا يدخل الشك في اليقين، و لا يخلط أحدهما بالآخر، و لكنه ينقض الشك باليقين و يتم على اليقين فيبني عليه و لا يعتد بالشك في حال من الحالات»(1).

و محل الاستشهاد هو: قوله «عليه السلام»: «و لا ينقض اليقين بالشك» فإنه «عليه السلام» قد حكم بنحو القضية الكلية بعدم نقض اليقين بالشك. و منهما اليقين و الشك في المورد أي: اليقين بعدم الإتيان بالرابعة بالشك في إتيانها و هو المطلوب.

و أما تقريب الاستدلال بها على حجية الاستصحاب: فهو مبني على أمور:

1 - أن يكون المراد باليقين في قوله «عليه السلام»: «و لا ينقض اليقين بالشك» هو اليقين بعدم الإتيان بالركعة الرابعة قبل دخوله في الركعة المشكوك كونها ثالثة أو رابعة.

2 - أن يكون قوله «عليه السلام»: «و لا ينقض اليقين بالشك» بمنزلة الكبرى الكلية، و كانت صغراها مطوية في الكلام، فكأنه قال: إنه كان على يقين بعدم إتيان الركعة الرابعة، «و لا ينقض اليقين بالشك».

3 - أن يكون المراد بالركعة المضافة إلى الركعات السابقة: هي الركعة الموصولة؛ لا

ص: 182


1- الكافي 3/351:3، تهذيب الأحكام 740/186:2، الاستبصار 416/373:1، الوسائل 10471/219:8.

الثلاث، قام فأضاف إليها أخرى و لا شيء عليه، و لا ينقض اليقين بالشك؛ و لا يدخل الشك في اليقين، و لا يخلط أحدهما بالآخر، و لكنه ينقض الشك باليقين، و يتم على اليقين فيبني عليه و لا يعتد بالشك في حال من الحالات».

و الاستدلال بها (1) على الاستصحاب مبني على إرادة اليقين بعدم الإتيان بالركعة الركعة المفصولة عنها إذ على الثاني لا تنطبق الرواية على الاستصحاب، و ذلك لأن المراد من قوله «عليه السلام»: «لا ينقض اليقين بالشك» - حينئذ -: هو قاعدة البناء على اليقين بفراغ الذمة، أي: يجب على المكلف إذا يعمل أن يحصل على اليقين بالفراغ، و اليقين بفراغ الذمة في الشك في عدد الركعات إنما يحصل بالبناء على الأكثر، ثم الإتيان بركعة الاحتياط منفصلة، كما هو المستفاد من أخبار أخر كقوله «عليه السلام»: «أ لا أعلّمك شيئا إذا فعلته ثم ذكرت أنك نقصت أو أتممت لم يكن عليك شيء؟»(1).

=============

هذا تمام الكلام في تقريب الاستدلال بالصحيحة الثالثة على حجية الاستصحاب.

و بقي شيء واحد و هو: تفسير قوله «عليه السلام»: «و لا يدخل الشك في اليقين».

و الظاهر: أن إدخال الشك في اليقين هو عبارة أخرى عن نقض اليقين بالشك و الاعتناء بالشك، فإذا نقض اليقين بعدم الإتيان بالرابعة بالشك فيها و اعتنى بالشك، و لم يأت بالرابعة المشكوكة فقد أدخل الشك في اليقين، و خلط أحدهما بالآخر، كما أن الظاهر أن نقض الشك باليقين هو عبارة أخرى عن عدم الاعتناء بالشك، فإذا لم ينقض اليقين السابق بالشك اللاحق و لم يعتن بالشك أبدا فقد نقض الشك باليقين، و تم على اليقين و بنى عليه و لم يعتد بالشك في حال من الحالات.

(1) هذا إشارة إلى تقريب دلالة الرواية على حجية الاستصحاب، و قد ذكرنا توضيح ذلك.

و توضيحه بعبارة أخرى: أن ظاهر السؤال هو إحراز المصلي للركعة الثالثة أي: علمه بإتيانها، و إنما الشك في وجود الرابعة. و ظاهر جوابه «عليه السلام» أنه يبني على عدم الإتيان بالرابعة، فإن المصلي قبل عروض الشك عالم بعدم تحقق الركعة الرابعة، حيث إنه قبل الشروع في الصلاة، و بعد افتتاحها لم يكن آتيا بشيء من الركعات، ثم قطع بانتقاض العدم في الركعات الثلاث، و شك في انتقاض عدم الإتيان بالرابعة، فيستصحب عدمه. و لو لم يبن على يقينه السابق بعدم تحقق الرابعة، و لم يأت بها فعلا كان عدم إتيانه بها نقضا لليقين بالشك.

ص: 183


1- تهذيب الأحكام 349:2 /صدر ح 1448، الوسائل 213:8 /صدر ح 10453.

الرابعة سابقا (1)، و الشك في إتيانها. و قد أشكل (2) بعدم إمكان إرادة ذلك على و عليه: فقوله «عليه السلام»: «و لا ينقض اليقين بالشك». بمنزلة العلة للجواب، و هو قوله «عليه السلام»: «قام فأضاف إليها أخرى»، يعني: أن علة الحكم بوجوب إضافة ركعة إليها - في الشك بين الثلاث و الأربع - هو التعبد الشرعي الاستصحابي؛ لأن عدم إضافة ركعة نقض لليقين بالشك. ثم أكد «عليه السلام» حجيّة كبرى الاستصحاب بقوله: «و لا يدخل الشك في اليقين و لا يخلط أحدهما بالآخر».

=============

(1) قيد لعدم الإتيان، و ضمير «إتيانها» راجع على الركعة الرابعة، و ضمير «بها» إلى الرواية.

(2) المستشكل هو الشيخ الأنصاري «قدس سره»، حيث قال بعد ذكر الصحيحة الثالثة: «و فيه تأمل»(1).

و حاصل كلامه في توضيح الإشكال: أن يقال: إن المراد من قوله «عليه السلام»:

«قام فأضاف إليها أخرى»: إن كان هو القيام إلى ركعة أخرى موصولة، و كان المراد من اليقين فيها اليقين بعدم الإتيان بالرابعة، فالصحيحة تكون من باب الاستصحاب، و لكنها حينئذ مخالفة لمذهب الشيعة و موافقة لقول العامة، و مخالفة للفقرة الأولى منها الظاهرة في الإتيان بركعتين منفصلتين، حيث إن ظاهرها بقرينة تعيين الفاتحة إرادة ركعتين منفصلتين أعني: صلاة الاحتياط، فيتعين أن يكون المراد من القيام فيها: القيام بعد التسليم إلى ركعة أخرى مفصولة، و يكون المراد من اليقين فيها اليقين بالبراءة الحاصلة بالبناء على الأكثر، و الإتيان بركعة مستقلة، فتكون الصحيحة الثالثة حينئذ أجنبية عن الاستصحاب؛ بل يكون المراد تحصيل اليقين بالبراءة بالبناء على الأكثر و الإتيان بصلاة الاحتياط، و فعل صلاة مستقلة قابلة لتدارك ما يحتمل نقصه، فلا تكون الصحيحة الثالثة دليلا على حجية الاستصحاب.

إلا أن يقال - كما في الكفاية - بأن الاحتياط كذلك لا يأبى عن إرادة اليقين بعدم الركعة المشكوكة؛ بل كان أصل الإتيان باقتضائه، غاية الأمر: إتيانها مفصولة ينافي إطلاق حرمة النقض، و قد قام الدليل على التقييد في الشك في الرابعة و غيره، و أن المشكوكة لا بد أن يؤتى بها مفصولة.

و توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية. و المشار إليه في قوله: «ذلك» هو:

إرادة اليقين بعدم الإتيان بالرابعة المجدي لإثبات اعتبار الاستصحاب. هذا مما ليس مرادا

ص: 184


1- فرائد الأصول 62:3.

مذهب الخاصة، ضرورة: أن قضيته (1) إضافة ركعة أخرى موصولة، و المذهب قد استقر على إضافة ركعة بعد التسليم مفصولة. و على هذا (2): يكون المراد باليقين:

اليقين بالفراغ بما علّمه الإمام «عليه السلام» من (3) الاحتياط بالبناء على الأكثر و الإتيان (4) بالمشكوك بعد التسليم مفصولة.

و يمكن ذبّه (5): بأن الاحتياط كذلك لا يأبى عن إرادة اليقين بعدم الركعة «على مذهب الخاصة» من البناء على الأكثر بالتسليم على الثالثة المتيقنة، و الإتيان بصلاة الاحتياط مفصولة لا موصولة.

=============

«ضرورة»: تعليل لقوله: «عدم إمكان».

(1) يعني: أن مقتضى اليقين بعدم الإتيان بالرابعة و الشك فيه - الذي هو الاستصحاب - الإتيان بركعة موصولة، مع أن المذهب قد استقر على خلافه و الإتيان بها مفصولة. و عليه: فالواو و في «و المذهب» للحال.

(2) أي: و بناء على استقرار المذهب على وجوب فعل صلاة الاحتياط مستقلة، فلا محيص عن إرادة اليقين بالفراغ الحاصل بالبناء على الأكثر - الذي علّمه الإمام «عليه السلام» - حتى لا يخالف المذهب كما عرفت؛ لا اليقين بعدم الإتيان بالرابعة؛ إذ مع حمل الرواية على الاستصحاب الموافق لرأي المخالفين يسقط الاستدلال بها - على حجية الاستصحاب - عندنا عن الاعتبار؛ لعدم العبرة بالحكم الصادر تقية. و على كل: فهذه الرواية أجنبية عن الاستصحاب.

(3) بيان ل «ما» الموصول، و مبيّن لليقين بالفراغ.

(4) عطف على «الأكثر»، يعني: و على الإتيان بالمشكوك، و الأولى إلحاق «فيه» بالمشكوك بأن يقال: «بالمشكوك فيه».

(5) و حاصل الكلام في دفع الإشكال: أن يقال: بأن الاحتياط بالبناء على الأكثر و الإتيان بركعة أخرى مفصولة مما لا ينافي إرادة اليقين بعدم الإتيان بالرابعة، بمعنى: أن أصل الإتيان بالرابعة يكون بمقتضى الاستصحاب، و الإتيان بها مفصولة يكون بأخبار أخر دالة على الإتيان بها كذلك، مثل: ما رواه في الوسائل في باب وجوب البناء على الأكثر، عن عمار عن أبي عبد الله «عليه السلام» أنه قال له: يا عمار «أجمع لك السهو كله في كلمتين: متى شككت فخذ بالأكثر، فإذا سلّمت فأتم ما ظننت أنك نقصت»(1). و ما رواه في الباب أيضا عن عمار بن موسى الساباطي قال: (و سألت أبا

ص: 185


1- الفقيه 992/340:1، الوسائل 10451/212:8.

المشكوكة؛ بل (1) كان أصل الإتيان بها باقتضائه، غاية الأمر: إتيانها مفصولة ينافي إطلاق النقض (2)، و قد قام الدليل على التقييد في الشك في الرابعة و غيره، و أن عبد الله «عليه السلام» عن شيء من السهو في الصلاة فقال: «أ لا أعلّمك شيئا إذا فعلته ثم ذكرت أنّك أتممت أو نقصت لم يكن عليك شيء؟» قلت بلى. قال: «إذا سهوت فابن على الأكثر، فإذا فرغت و سلمت فقم و صل ما ظننت أنك نقصت...»(1) الحديث و نحوهما، فتكون هذه الأخبار كلها مقيدة لإطلاق قوله «عليه السلام» في الصحيحة:

=============

«و لا ينقض اليقين بالشك» المقتضي للإتيان بالرابعة مطلقا، سواء كانت موصولة أو مفصولة.

و بهذه الأخبار يرفع اليد أيضا عن ظهور قوله «عليه السلام»: «قام فأضاف إليها أخرى» في الإتيان بها موصولة.

فالمتحصل: أنه لا ينبغي الإشكال في كون الصحيحة من باب الاستصحاب، و إن المراد من اليقين فيها هو اليقين بعدم الإتيان بالرابعة لا اليقين بالبراءة كما احتمله الشيخ(2) فإنه بعيد جدا.

قوله: «بأن الاحتياط كذلك» أي: بإتمام الصلاة و إتيان ركعة مفصولة.

(1) إضراب على قوله «لا يأبى» و حاصله: أن استقرار المذهب على الإتيان بالركعة المشكوكة منفصلة لا ينافي و لا يمنع عن الاستدلال بهذه الصحيحة على حجية الاستصحاب، حتى نلتجئ إلى حمل «اليقين» على اليقين بالفراغ بالبناء على الأكثر؛ لا اليقين بعدم الركعة المشكوكة؛ بل يمكن أن يقال: إن وجوب أصل الإتيان بالركعة المشكوكة إنما هو لأجل استصحاب الإتيان بها، غاية الأمر: أن الدليل على الخاص دل على إتيانها مفصولة، و هو لا ينافي أصل وجوب الإتيان بها بالاستصحاب.

و بالجملة: فلا تنافي بين دلالة الصحيحة على الاستصحاب المقتضي إطلاقه لزوم فعل الركعة المشكوكة موصولة، و بين ما دل على وجوب فعلها مفصولة؛ إذ التنافي بينهما إنما هو بالإطلاق و التقييد.

(2) إذ ظاهر إطلاق «لا ينقض» إتيانها موصولة. و ضميرا «بها، إتيانها» راجعان على الركعة، و ضمير «باقتضائه» راجع على «اليقين بعدم الركعة».

ص: 186


1- تهذيب الأحكام 1448/349:2، الوسائل 10453/213:8.
2- فرائد الأصول 63:3.

المشكوكة لا بد أن يؤتى بها مفصولة، فافهم (1).

و ربما أشكل أيضا (2): بأنه لو سلّم دلالتها على الاستصحاب كانت من الأخبار

=============

(1) لعله إشارة إلى أن أصل الإتيان بالرابعة لو كان بمقتضى الاستصحاب أي:

استصحاب عدم الإتيان بها لوجب الإتيان بها حينئذ موصولة، كما إذا قطع بعدم الإتيان بها لا الإتيان بها مفصولة.

(2) أي: كالإشكال المتقدم المانع عن أصل دلالة الرواية على الاستصحاب. هذا هو الإشكال الثاني على الاستدلال بالصحيحة الثالثة على حجية الاستصحاب، و هذا يفترق عن الإشكال الأوّل.

و الفرق بينهما: أن الإشكال الأول كان موهنا لأصل الدلالة، و هذا الإشكال ناظر إلى منع عموم حجية الاستصحاب؛ لأن الصحيحة تكون أخص من المدعى أعني اعتبار الاستصحاب في جميع الموارد، فإن هذه الصحيحة واردة في المورد الخاص أي: الصلاة فتدل على حجية الاستصحاب في باب الصلاة، و في الشك في عدد الركعات، ضرورة: ظهور الفقرات في كونها مبنية للفاعل بقرينة العطف على «قام فأضاف»، و مرجع الضمير فيها هو المصلي الشاك، فلا يكون دليلا على اعتبار الاستصحاب على نحو الكلية إلغاء خصوصية المورد ليس في الوضوح، مثل الصحيحتين الأولتين، حيث إن التعليل فيهما يكون بأمر ارتكازي، فيستفاد منهما كبرى كلية، بخلاف هذه الصحيحة، حيث ليس فيها تعليل حتى يقال: إن التعليل يكون بأمر ارتكازي فيستفاد منها كبرى كلية.

و قد أجاب عن هذا الإشكال بأمرين:

أحدهما: أن تطبيق قضية «لا ينقض اليقين بالشك» على غير مورد كما في الصحيحتين المتقدمتين، مما يؤيد إلغاء خصوصية المورد في الصحيحة الثالثة؛ لأن التعبير بعنوان «لا ينقض اليقين بالشك» المذكور في غيرها يجعلها ظاهرة في القضية الكلية.

ثانيهما: أن الظاهر من نفس القضية أن ملاك حرمة النقض إنما هو ما في نفس اليقين، و الشك لا لما في المورد من الخصوصية كي يختص الحكم به دون غيره.

«في خصوص المورد» و هو الشك بين الثلاث و الأربع، و ضمير «عليه» يرجع إلى الاستصحاب. «لا العامة» عطف على الخاصة أي: لا تكون الصحيحة من الأخبار العامة كما كانت الصحيحتان المتقدمتان من الأخبار العامة.

ص: 187

الخاصة الدالة عليه في خصوص المورد، لا العامة لغير مورد (1)، ضرورة (2): ظهور الفقرات في كونها مبنية للفاعل (3)، و مرجع الضمير فيها هو المصلي الشاك، و إلغاء خصوصية المورد ليس بذاك الوضوح (4)، و إن كان (5) يؤيده تطبيق قضية «لا ينقض

=============

(1) يعني: لا لمورد واحد؛ بل لكل مورد كما هو المدعى.

(2) تعليل لكون هذه الصحيحة من الأخبار الخاصة، و منشأ الظهور: ما عرفته من قوله «عليه السلام»: «قام فأضاف إليها أخرى»، و هكذا سائر الفقرات.

(3) بقرينة العطف، و لو كانت الأفعال من «لا ينقض، و لا يدخل، و لا يخلط» مبنية للمفعول كانت ظاهرة في حجية الاستصحاب في جميع الموارد؛ لأن شأن اليقين أن لا ينقض بالشك، و هذا بخلاف البناء للفاعل؛ لظهوره في حكم اليقين بعدم الرابعة لا غيره، مضافا إلى أنه «عليه السلام» في مقام تعليم السائل وظيفة الشك بين الركعات، فلا دلالة لها على حكم اليقين و الشك في موارد أخرى.

(4) لتوقفه على قرينة قطعية، حيث إنه لا سبيل إلى إحراز الملاك من الخارج إلا بقرينة قطعية، و هي مفقودة.

(5) كلمة «إن» وصلية، و ضمير «يؤيده» راجع على إلغاء الخصوصية، و هذا جواب الإشكال المتقدم، و هو يرجع إلى وجهين:

أوّلهما: الذي مرجعه إلى تنقيح المناط من الخارج، و حاصله: أن تطبيق «لا ينقض اليقين» في غير هذه الصحيحة على موارد - كالصحيحتين المتقدمتين اللتين طبّق الإمام «عليه السلام» «لا تنقض اليقين» في أولاهما على الطهارة الحدثية، و في ثانيتهما على الطهارة الخبثية، و كذا في غيرهما كبعض الأخبار الآتية - يؤيد إرادة العموم هنا و عدم الاختصاص بالمورد أعني: الصلاة.

ثانيهما: الذي مرجعه إلى تنقيح المناط اللفظي؛ بحيث يوجب اندراج الخبر في الأخبار العامة، و محصله: أنه يمكن دعوى ظهور نفس «لا تنقض» في العموم عرفا؛ لا أنه ظاهر في اختصاصه بباب الصلاة حتى يحتاج استفادة العموم منه إلى إلغاء خصوصية المورد.

و توضيح ظهوره في العموم: أن المناسب لاستناد النقض إلى اليقين هو: كون اليقين أمرا مبرما و شيئا مستحكما، و هذه المناسبة تقتضي عدم دخل مورد اليقين و الشك - أي:

المتيقن و المشكوك - في الحكم بعدم نقض اليقين بالشك.

ص: 188

اليقين» و ما يقاربها (1) على غير مورد (2)؛ بل دعوى (3): أن الظاهر من نفس القضية (4) هو أن مناط حرمة النقض إنما يكون لأجل ما في اليقين و الشك (5) لا لما في المورد من الخصوصية، و أن (6) مثل اليقين لا ينقض بمثل الشك غير بعيدة.

=============

فالمستفاد من الرواية حينئذ: أن المصلي الشاك في إتيان الركعة الرابعة لا ينقض اليقين - بما هو اعتقاد جزمي - بالشك لكونه موهونا، لا لخصوصية تعلق اليقين بعدم الركعة الرابعة. و على هذا فيكون «و لا ينقض اليقين» في هذه الصحيحة ظاهرا - لأجل مناسبة الحكم و الموضوع - في عدم نقض اليقين من حيث هو بالشك، و أن المناط هو اليقين و الشك، فيستفاد منه: حجية الاستصحاب مطلقا من دون خصوصية المورد، و هذه الاستفادة تنشأ من نفس ألفاظ الرواية لا من القرينة الخارجية، هذا مضافا إلى اقتضاء نفس التعليل كون المعلل به حكما كليا كي يصلح تعليل الأمر التعبدي به، و عليه فلا خصوصية لليقين بالركعات الثلاث.

وجه التعبير بالتأييد - في قوله: «يؤيده» - دون الدلالة هو: أن ورود جملة «لا تنقض» بنحو العموم أو في موارد خاصة كباب الطهارة و صوم شهر رمضان و نحوهما لا يقتضي إلغاء خصوصية المورد في هذه الرواية، لعدم انعقاد ظهوره في العموم مع احتفافه بقرينة المورد. فالعمدة في إثبات العموم هو الوجه الثاني أعني: تنقيح المناط.

(1) أي: ما يقارب قضية «لا تنقض» في المضمون كقوله «عليه السلام» في الروايات الآتية: «فإن الشك لا ينقض اليقين»، أو «بأن اليقين لا يدفع بالشك»، أو «اليقين لا يدخل فيه الشك».

(2) أي: على غير مورد واحد، بل بعضها في الطهارة و بعضها مطلقة.

(3) مبتدأ «غير بعيدة» خبره، و هذا هو الوجه الثاني المتقدم بيانه بقولنا: «ثانيهما...».

(4) أي: مع الغض عما يتحد معها لفظا أو يقاربها معنى الرواية في سائر الأخبار.

(5) يعني: ما في اليقين من الإبرام و الاستحكام، و ما في الشك من الوهن، فلا ينبغي نقض الأمر المبرم بما ليس فيه إبرام، و من المعلوم: عدم دخل مورد اليقين فيه أصلا.

(6) عطف على «أن مناط» يعني: أن الظاهر من نفس الجملة أن مثل اليقين مما فيه إبرام و إتقان لا ينقض بالشك.

و على هذا: فهذه الصحيحة تدل على الاستصحاب بصورة عامة، و تركنا ما في المقام من تطويل الكلام رعاية للاختصار.

ص: 189

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - أما تقريب الاستدلال بالصحيحة الثالثة على حجية الاستصحاب فهو مبني على أمور:

1 - أن يكون المراد باليقين في «لا ينقض اليقين بالشك» هو: اليقين بعدم الإتيان بالرابعة.

2 - أن يكون قوله: «لا ينقض اليقين بالشك» بمنزلة الكبرى الكلية، و كانت صغراها مطوية في الكلام، و التقدير: «أنه كان على اليقين بعدم إتيان الرابعة و لا ينقض اليقين بالشك».

3 - أن يكون المراد بالركعة المضافة هي الركعة الموصولة لا المفصولة.

إذا عرفت هذه الأمور فنقول: إن محل الاستشهاد هو قوله «عليه السلام»: «و لا ينقض اليقين بالشك»، فإنه «عليه السلام» قد حكم بنحو القضية الكلية بعدم نقض اليقين بالشك، و من اليقين و الشك هو اليقين بعدم الإتيان بالرابعة بالشك في إتيانها، و هو المطلوب في المقام.

2 - إشكال الشيخ على الاستدلال بهذه الرواية:

و حاصل الإشكال: أن المراد بقوله «عليه السلام»: «قام فأضاف إليها أخرى» إن كان هو القيام إلى ركعة أخرى موصولة، و كان المراد من اليقين فيها اليقين بعدم الإتيان بالرابعة: فالصحيحة و إن كانت من باب الاستصحاب؛ إلاّ إنها حينئذ مخالفة لمذهب الشيعة و موافقة لقول العامة، و مخالفة للفقرة الأولى منها الظاهرة في الإتيان بركعتين منفصلتين أعني: صلاة الاحتياط، فيتعين أن يكون المراد من القيام فيها هو: القيام بعد التسليم إلى ركعة أخرى مفصولة. و يكون المراد باليقين فيها: اليقين بالبراءة بالبناء على الأكثر و الإتيان بصلاة الاحتياط مفصولة.

فالصحيحة أجنبية عن الاستصحاب أصلا.

3 - و الجواب عن هذا الإشكال: أن الاحتياط بالبناء على الأكثر و الإتيان بركعة أخرى مفصولة لا ينافي اليقين بعدم الإتيان بالرابعة، بمعنى: أن أصل الإتيان بالرابعة كان بمقتضى الاستصحاب، و الإتيان بها مفصولة كان بأخبار أخر دالة على الإتيان بها مفصولة.

ص: 190

و منها خبر من كان على يقين...

و منها (1): قوله: «من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه، فإن الشك لا ينقض اليقين» أو «فإن اليقين لا يدفع بالشك».

=============

فالمتحصل: أنه لا ينبغي الإشكال في كون الصحيحة دليلا على الاستصحاب، و أن المراد باليقين فيها هو اليقين بعدم الإتيان بالرابعة لا اليقين بالبراءة، كما احتمله الشيخ فإنه بعيد جدا.

4 - الإشكال بأن الرواية على تقدير تسليم دلالتها على حجية الاستصحاب لا تعم جميع الموارد؛ بل خاصة بباب الصلاة، فتكون من الأخبار الخاصة لا العامة.

و الفرق بين هذا الإشكال و الإشكال الأول هو: أن الإشكال الأول موهن لأصل الدلالة، و هذا الإشكال ناظر إلى منع عموم حجيّة الاستصحاب، فإن هذه الصحيحة واردة في المورد الخاص أعني: باب الصلاة، فتدل على حجية الاستصحاب في باب الصلاة.

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

إن دلالة هذه الرواية على حجية الاستصحاب في جميع الموارد غير بعيدة.

(1) أي: و من الأخبار المستدل بها على الاستصحاب قوله: «من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه فإن الشك لا ينقض اليقين»(1)، أو «فإن اليقين لا يدفع بالشك»، فإن قوله: «فإن اليقين لا يدفع بالشك» إشارة إلى الرواية الأخرى، و تمام الرواية الثانية: «من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه، فإن اليقين لا يدفع بالشك»(2).

و هذه روايتان قد جمع بينهما المصنف بلفظ واحد.

و كيف كان؛ فالبحث في هذه الرواية يقع في جهتين: الأولى: في السند، و الثانية:

في الدلالة.

و أما الجهة الأولى: فإنه ليس في سند هذه الرواية من يناقش فيه سوى القاسم بن يحيى، فإنه لا توثيق له؛ بل ضعفه ابن الغضائري(3) و العلامة(4)، و لذا عدّت الرواية من الضعاف، كما في تقرير سيّدنا الأستاذ الإمام الخوئي «قدس سره»؛ «مصباح الأصول

ص: 191


1- الخصال: 619، ضمن حديث الأربعمائة، الوسائل 636/246:1.
2- الإرشاد 302:1، بحار الأنوار 2/272:2.
3- رجال ابن الغضائري: 112/86.
4- خلاصة الأقوال: 6/389.

قسم الاستصحاب ص 75». مع أنه حكم بوثاقة الرجل في كتاب رجاله لوقوعه في إسناد كامل الزيارات(1).

و على هذا ينبغي عد هذه الرواية معتبرة لا ضعيفة.

و أما الجهة الثانية - و هي دلالة الرواية - فيقال في تقريب الاستدلال بهاتين الروايتين:

إن قوله «عليه السلام»: «فإن الشك لا ينقض اليقين» في الرواية الأولى، و قوله «عليه السلام»: «فإن اليقين لا يدفع بالشك» في الرواية الثانية يدل على حجية الاستصحاب؛ إذ المستفاد منهما هي قاعدة كلية عامة؛ بل العموم فيهما أولى و أوضح من العموم في الصحاح المتقدمة، و ذلك لعدم تطرق كون «اللام» للعهد هاهنا؛ إذ لم يذكر لليقين و الشك متعلق حتى يكون «اللام» إشارة إلى ذلك، فدلالة هاتين الروايتين على حجية الاستصحاب إذا أوضح من دلالة الصحاح المتقدمة.

و مع ذلك رجح المصنف ابتداء قاعدة اليقين من الرواية، حيث قال: «لظهوره في اختلاف زمان الوصفين، و إنما يكون ذلك في القاعدة دون الاستصحاب».

فالمصنف وافق الشيخ في دعوى ظهورها البدوي في قاعدة اليقين، و في ختام البحث استفاد كل منهما حجية الاستصحاب.

و توضيح ظهور الرواية في قاعدة اليقين يتوقف على مقدمة و هي: بيان الفرق بين قاعدة اليقين و الاستصحاب، و الفرق بينهما يحتاج إلى مقدمة و هي: أن الشك و اليقين مما لا يمكن اجتماعهما في زمان واحد على متعلق واحد؛ و ذلك لتنافيهما مفهوما، فوجودهما معا لا يمكن إلا بالاختلاف و التعدد من جهة متعلقيهما أو من جهة زمان الوصفين.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن المعتبر في الاستصحاب هو الاختلاف و التعدد في متعلق الشك و اليقين و إن اتحد زمان الوصفين، بينما في قاعدة اليقين هو الاختلاف و التعدد في زمان الوصفين مع وحدة المتعلق كاليقين بعدالة زيد يوم الجمعة، ثم شك يوم السبت في عدالته يوم الجمعة، فالشك - حينئذ - يسري إلى متعلق اليقين. هذا تمام الكلام في الفرق بين القاعدتين.

و أما بيان ظهور الرواية في قاعدة اليقين: فلأن صريحها هو اختلاف زمان الوصفين و ظاهرها وحدة متعلقيهما، و قد عرفت: أن اختلاف الوصفين زمانا مع وحدتهما متعلقا هو المعتبر و المناط في قاعدة اليقين دون الاستصحاب.

ص: 192


1- معجم رجال الحديث 9589/67:15.

و هو (1) و إن كان يحتمل قاعدة اليقين لظهوره في اختلاف زمان الوصفين، و إنما و بعبارة أخرى: أن لفظ «كان» - في قوله «عليه السلام»: «من كان على يقين» في كلتا الروايتين - ظاهر في انعدام اليقين حين الشك، و هذا هو المناط في قاعدة اليقين، و ذلك لأن اليقين في قاعدة الاستصحاب لا ينعدم زمان الشك و لا ينافيه، لاختلافهما في المتعلق كما مرّ.

=============

فالمتحصل من الجميع هو: أن المراد من الروايتين هي قاعدة اليقين دون الاستصحاب؛ لأنهما تدلان على اختلاف زمان الوصفين.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) أي: و قوله «عليه السلام»: «و إن كان يحتمل...» الخ شروع في دلالة الرواية على حجية الاستصحاب.

و حاصل ما أفاده المصنف «قدس سره»: أن الروايتين يحتمل فيهما كل من قاعدة اليقين و الاستصحاب.

أما الأول: فلأن قوله «عليه السلام»: «فأصابه شك» أو «فشك» ظاهر في اختلاف زمان حصول وصفي اليقين و الشك، حيث إن الفاء العاطفة ظاهرة في التعقيب، و من المعلوم: أن اختلاف زمان الوصفين مع اتحاد متعلقيهما يكون في قاعدة اليقين دون الاستصحاب؛ لعدم اعتبار اختلاف زمانهما فيه؛ بل المعتبر فيه اختلاف زمان الموصوفين أعني: المتيقن و المشكوك، دون زمان الوصفين؛ لإمكان اتحاد زمانهما فيه، بل إمكان تقدم زمان الشك على زمان اليقين أيضا - كما إذا فرض أنه حصل يوم السبت الشك في عدالة زيد، و في يوم الأحد صار عالما بعدالته يوم الجمعة - كما هو واضح. هذا بخلاف قاعدة اليقين، فإن الشك يكون ساريا إلى اليقين و مزيلا له و موجبا لتبدله بالشك، و لازمه اتحاد زماني المتيقن و المشكوك، و اختلاف زمان حصول الوصفين؛ لامتناع وحدة أزمنة الوصفين و متعلقيهما، كما إذا علم بعدالة زيد في يوم الجمعة و اقتدى به، و في يوم السبت شك في عدالته، و سرى هذا الشك إلى ذلك اليقين، حتى صارت العدالة في يوم الجمعة مشكوكة بعد أن كانت معلومة، و مقتضى البناء على اليقين و عدم نقضه لزوم ترتيب آثار اليقين على المتيقن، بمعنى: عدم قضاء الصلاة في المثال.

و الحاصل: أن الشك في القاعدة يتعلق بالحدوث، و لأجله سمي بالشك الساري؛ لسرايته إلى حدوث اليقين، بخلاف الاستصحاب، فإن الشك طارئ متعلق بالبقاء، و لا يهدم اليقين بالحدوث لعدم سرايته إليه. هذا تمام الكلام في الأول أي: في احتمال قاعدة اليقين من الروايتين.

ص: 193

و أما الثاني - أعني: احتمال الاستصحاب منهما - فلوجهين:

أحدهما: أن المتعارف في التعبير عن مورد الاستصحاب هو مثل هذه العبارة الظاهرة في اختلاف زمان الوصفين، و لعل الوجه في التعبير عن الاستصحاب بالعبارة الظاهرة في اختلاف زمان الوصفين، مع عدم اعتباره فيه هو: اتحاد الوصفين مع متعلقيهما من المتيقن و المشكوك اللذين هما مختلفان زمانا في الاستصحاب، فإن اليقين لمرآتيته للمتيقن و فنائه فيه فناء الحاكي في المحكي يتحد مع متعلقه، فيسري اختلاف زماني الموصوفين إلى الوصفين، بحيث يصح أن يعبر عن الاستصحاب بمثل هذه العبارة الظاهرة في اختلاف زمان الوصفين، فيكون إسناد التأخر إلى الشك مجازا و بالعرض بملاحظة تأخر المشكوك عن المتيقن كما إذا قال: «كنت على يقين من عدالة زيد فشككت الآن فيها»، فإنه ظاهر في إرادة اليقين بها قبل هذا اليوم، و قد شك في عدالته اليوم.

ثانيهما: أن الذيل قرينة على إرادة الاستصحاب من الصدر، حيث إن قوله «عليه السلام»: «فإن الشك لا ينقض اليقين» هو القضية الارتكازية التي أريد بها الاستصحاب في غير واحدة من روايات الباب فهذا الذيل الذي هو كالنص في الاستصحاب بملاحظة وروده في سائر الروايات يصير قرينة على إرادة الاستصحاب من الصدر.

فالنتيجة: أنه ينبغي عد هذه الرواية من الأخبار الدالة على الاستصحاب؛ إلاّ أن يناقش في سندها بقاسم بن يحيى.

قوله: «لظهوره» تعليل لكون المنسبق إلى الذهن - بدوا - من الرواية قاعدة اليقين أي:

لظهور قوله «عليه السلام»: «من كان على يقين فشك...»، حيث إن صريح الرواية اختلاف زمان الوصفين، و ظاهرها اتحاد زمان متعلقهما تعيّن حملها على قاعدة اليقين؛ إذ لا يقين في زمان حدوث الشك، و لا شك في حال حدوث اليقين، و هذا شأن قاعدة اليقين.

إلاّ إن الصحيح ما أفاده في آخر كلامه من دلالة الرواية على الاستصحاب لورود مثل هذه التعبير في صحاح زرارة، مما لا يراد منه إلاّ الاستصحاب دون القاعدة. و على هذا: فلا ينطبق المضمون إلاّ على الاستصحاب، و ذلك لظهور الكلام في وجوب المضي على اليقين الموجود فعلا، فإن قوله «عليه السلام»: «فليمض على يقينه» ظاهر في بقاء وصف اليقين السابق على فعليته في ظرف الشك الذي هو زمان وجوب المضي عليه أي: لزوم ترتيب الآثار و الجري العملي على طبق اليقين السابق، و هذا غير متصور في

ص: 194

يكون ذلك في القاعدة دون الاستصحاب، ضرورة (1): إمكان اتحاد زمانهما، إلاّ (2) إن المتداول في التعبير عن مورده هو: مثل هذه العبارة، و لعله (3) بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين و سرايته (4) إلى الوصفين، لما بين اليقين و المتيقن من نحو من الاتحاد فافهم (5).

=============

القاعدة؛ لتبدل اليقين بالشك فيها.

و مما ذكرنا - من الفرق بينهما - ظهر: عدم إرادة الجامع بين القاعدة و الاستصحاب من الرواية؛ إذ المطلوب في القاعدة هو البناء على صحة الأعمال الصادرة حال اليقين، و عدم وجوب تداركها في حال الشك، لا ترتيب الآثار في ظرف الشك و تنزيل شكه منزلة اليقين كما هو المطلوب في الاستصحاب، و حيث لا يصلح الجزاء لإرادة الجامع فلا محالة لا يراد من الشرط إلا الاستصحاب.

و المشار إليه في «ذلك» هو: اختلاف زمان الوصفين.

(1) تعليل لقوله: «و إنما يكون ذلك في القاعدة...»، حيث إنه يمكن حصول العلم بعدالة زيد و الشك فيها في آن واحد مع اختلاف زمان المتعلقين و هما كون العدالة في يوم الجمعة و مشكوكة في يوم السبت مثلا، فالعلم و الشك يحصلان في زمان واحد مع اختلاف زمان متعلقيهما في الاستصحاب.

(2) استدراك على قوله: «و إن كان يحتمل».

و غرضه: استظهار الاستصحاب من الرواية و ذلك لوجهين تقدم بيانهما. و ضمير «مورده» راجع على الاستصحاب.

(3) أي: و لعل التعبير عن الاستصحاب - بالعبارة الظاهرة في قاعدة اليقين - إنما هو «بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين...»، و هذا إشارة إلى أول الوجهين المتقدم بقولنا «أحدهما...».

(4) أي: سراية اختلاف زمان الموصوفين إلى الوصفين، و هذه السراية لأجل الربط الوثيق بين اليقين و المتيقن ربط الكاشف بالمنكشف و الحاكي بالمحكي.

(5) لعله إشارة على ضعف قوله: «و لعله بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين و سرايته إلى الوصفين..» الخ، فإن السر في تداول التعبير عن الاستصحاب بمثل تلك العبارة:

«من كان على يقين فشك أو فأصابه شك» ليس هو اختلاف زمان الموصوفين و سرايته إلى الوصفين؛ بل السر هو اتحاد متعلقي اليقين و الشك في الاستصحاب عرفا كما في قاعدة اليقين عينا. غايته: أنه في الاستصحاب متحد عرفا و في قاعدة اليقين متحد دقة

ص: 195

هذا مع (1) وضوح: أن قوله: «فإن الشك لا ينقض...» الخ. هي القضية المرتكزة الواردة مورد الاستصحاب في غير واحد من أخبار الباب (2).

=============

و عرفا، فإذا اتحد متعلق اليقين و الشك في الاستصحاب عرفا كما في قاعدة اليقين فقهرا يختلف زمان اليقين و الشك فيه، كما يختلف فيها، فيكون اليقين سابقا و الشك لاحقا، و يحسن التعبير في كليهما جميعا بمثل «من كان على يقين فشك أو فأصابه شك».

أو لعله إشارة إلى أن هذا التعليل لا يخرج الفاء عن ظاهرها الذي هو ترتب الزمان بين اليقين و الشك؛ الذي هو معيار قاعدة اليقين.

(1) هذا هو الوجه الثاني لاستظهار الاستصحاب من الرواية، و قد تقدم بقولنا:

«ثانيهما...».

(2) و هذا قرينة على إرادة الاستصحاب من العبارة؛ لا إرادة القاعدة. هذا تمام الكلام في هذه الرواية التي اشتهرت برواية الخصال.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - هناك روايتان جمعهما المصنف بلفظ واحد.

و تقريب الاستدلال بهما على حجية الاستصحاب: أن قوله «عليه السلام»: «فإن الشك لا ينقض اليقين» في إحداهما، و قوله «عليه السلام»: «فإن اليقين لا يدفع بالشك» في الأخرى يدل على حجية الاستصحاب؛ إذ المستفاد منهما هي: قاعدة كلية عامة، فدلالة هاتين الروايتين على حجية الاستصحاب أوضح من دلالة الصحاح المتقدمة. و مع ذلك رجح المصنف ابتداء قاعدة اليقين، حيث قال بظهور الرواية في قاعدة اليقين.

نعم؛ رجح في ختام البحث حجية الاستصحاب منهما.

2 - و أما توضيح ظهور الرواية في قاعدة اليقين فيتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين القاعدة و الاستصحاب.

و حاصل الفرق: أن المناط و المعتبر في الاستصحاب هو الاختلاف و التعدد في متعلق الشك و اليقين و إن اتحد زمان الوصفين، بينما في قاعدة اليقين هو الاختلاف و التعدد في زمان الوصفين مع وحدة المتعلق.

و بعد هذه المقدمة و بيان الفرق بينهما، فنقول في ظهور الرواية في القاعدة: إن صريح الرواية هو اختلاف زمان الوصفين و ظاهرها وحدة متعلقيهما، و قد عرفت: أن اختلاف الوصفين زمانا مع وحدتهما متعلقا هو المعتبر و المناط في قاعدة اليقين دون الاستصحاب.

ص: 196

و منها خبر الصفار

و منها (1): خبر الصفار عن علي بن محمد القاساني، قال: (كتبت إليه - و أنا بالمدينة - عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب: «اليقين لا فالمتحصل: أن المراد من الروايتين هي قاعدة اليقين دون الاستصحاب؛ لأنهما تدلان على اختلاف زمان الوصفين. هذا تمام الكلام في احتمال قاعدة اليقين من الروايتين.

=============

3 - و أما احتمال الاستصحاب من الروايتين فلوجهين:

أحدهما: أن المتعارف في التعبير عن مورد الاستصحاب هو مثل هذه العبارة الظاهرة في اتحاد زمان الوصفين، و هو مناط الاستصحاب.

و ثانيهما: أن الذي قرينة على إرادة الاستصحاب من الصدر. حيث إن قوله «عليه السلام»: «فإن الشك لا ينقض اليقين» هو القضية الارتكازية التي أريد بها الاستصحاب في غير واحدة من روايات الباب. فهذا الذيل الذي هو كالنص في الاستصحاب بملاحظة وروده في سائر الروايات يصير قرينة على إرادة الاستصحاب.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو ترجيح احتمال الاستصحاب على القاعدة. فتكون الروايتان من أدلة الاستصحاب.

(1) أي: من الأخبار المستدل بها على الاستصحاب: خبر الصفار.

و البحث في هذه المكاتبة يقع في جهتين:

الأولى: السند.

الثانية: الدلالة.

و أما الجهة الأولى فمحصلها: أن الظاهر عدم صحة السند لأجل علي بن محمد القاساني(1)؛ إذ لا توثيق له حتى بنحو العموم؛ بل حكي تضعيف الشيخ إياه(2).

و أما الجهة الثانية - و هي دلالة المكاتبة - فتوضيحها يتوقف على مقدمة: و هي إن في يوم الشك احتمالين:

أحدهما: يشك في إنه هل هذا اليوم من شعبان أو من رمضان ؟

ثانيهما: يشك في إنه هل هو آخر رمضان أو أول شوال ؟

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول في تقريب دلالة المكاتبة على الاستصحاب: إن المراد

ص: 197


1- هو علي بن محمد بن شيرة القاساني - القاشاني -، قال عنه النجاشي: «كان فقيها، مكثرا من الحديث، فاضلا، غمز عليه أحمد بن محمد بن عيسى، و ذكر أنه سمع منه مذاهب منكرة، و ليس في كتبه ما يدل على ذلك». رجال النجاشي: 669/255.
2- رجال الطوسي: 5712/388.

بقوله «عليه السلام»: «اليقين لا يدخل فيه الشك» هو اليقين بشعبان إن كان يوم الشك في أول رمضان، فإن اليقين بشعبان أو بعدم دخول رمضان لا ينقض بالشك في دخول رمضان؛ بل ينقض بالعلم بدخوله.

فالمستفاد منه: الحكم ببقاء شعبان عند الشك في دخول الشهر المبارك، أو اليقين بشهر رمضان إن كان يوم الشك في آخره، فإنه يبني على بقائه حتى يحصل العلم بدخول شوال.

و على كلا التقديرين: تدل المكاتبة على اعتبار الاستصحاب، فلا يجوز الصوم بنيّة شهر رمضان إلاّ بالعلم بدخول الشهر، و يحرم الإفطار إلاّ بالعلم بدخول شوال؛ لأن الإمام «عليه السلام» حدّد وجوب الصوم برؤية هلال رمضان و وجوب الإفطار برؤية هلال شوال بعد قوله: «اليقين لا يدخل فيه الشك»، فإنه كبرى. و قوله «عليه السلام»:

«صم للرؤية و أفطر للرؤية» صغرى، و الإمام فرّع الصغرى على الكبرى، فهذا التفريع و التحديد لا يستقيم؛ إلاّ أن يراد من قوله: «اليقين لا يدخل فيه الشك»: أن اليقين السابق لا ينقض بالشك اللاحق، و لا يكون اليقين السابق مدخولا به، فيكون معنى الرواية: لا تصم فيما شككت في أنه أوّل رمضان، استصحابا لليقين بعدم وجوبه، و لا تفطر فيما إذا شككت في أنه آخر رمضان استصحابا لوجوب الصوم.

ثم لا يخفى: أن الاستدلال بهذه المكاتبة يكون مبنيا على أن يكون المراد من اليقين:

هو اليقين بشهر شعبان، و عدم دخول شهر رمضان، فتكون المكاتبة حينئذ دليلا على الاستصحاب.

و أما إذا كان المراد من اليقين أنه يعتبر في صحة الصوم بعنوان شهر رمضان القطع بكونه شهر رمضان، فلا ربط لها بالمقام، و مع هذا الاحتمال الثاني تكون المكاتبة مجملة لا ظهور لها في واحد من الاحتمالين، فقول الشيخ في الرسائل - حيث قال: «الإنصاف أن هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب». «دروس في الرسائل، ج 4، ص 390» - غير وجيه؛ بل يؤكد الاحتمال الثاني بعض الآيات، و مجموعة من الأخبار.

و أما الآية: فقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (1). و أما الأخبار التي تشرف الفقيه على القطع بلزوم إحراز رمضان فهي كثيرة، و لكن نكتفي بذكر جملة منها:

ص: 198


1- البقرة: 185.

الأولى: رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر «عليه السلام» قال: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، و إذا رأيتموه فأفطروا، و ليس بالرأي و لا بالتظني و لكن بالرؤية»(1).

الثانية: رواية محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا «عليه السلام» في حديث قال: «صوموا للرؤية، و افطروا للرؤية»(2).

الثالثة: رواية سماعة أو رفاعة عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال: «صيام شهر رمضان بالرؤية و ليس بالظن»(3).

الرابعة: رواية إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله «عليه السلام» أنه قال: «في كتاب علي «عليه السلام»: صم لرؤيته و أفطر لرؤيته، و إياك و الشك و الظن، فإن خفي عليكم فأتموا الشهر الأول ثلاثين»(4).

و هكذا سائر روايات الباب، و لا بعد في دعوى تواتر جملة «صم للرؤية و أفطر للرؤية»، فقد تكررت في أكثر أخبار الباب البالغة ثمانية و عشرين خبرا. و نظرا إلى وجود جملة «صم للرؤية و أفطر للرؤية» في كثير من أخبار الباب لا ينعقد لقضية «اليقين لا يدخل فيه الشك». ظهور في الاستصحاب، فضلا عن أظهريتها فيه؛ لاحتفاف الكلام بقوله «عليه السلام»: «صم للرؤية و أفطر للرؤية»؛ لأن المفروض: اعتبار اليقين في فريضة صوم رمضان بدوا و ختاما، و عدم إدخال اليوم المشكوك كونه من رمضان في المتيقن و هو الزمان المعلوم كونه شهر رمضان.

و بعبارة أخرى: أن مفاد «اليقين لا يدخل فيه الشك» هو عدم قيام الشك مقام اليقين في ترتيب آثار رمضان من الالتزام بالصوم بنيّة كونه من رمضان، فيكون الإتيان به بهذا العنوان منوطا باليقين بدخول شهر رمضان، و كذلك الكلام في منتهاه.

و عليه: فالرواية تكون بصدد بيان الحكم الواقعي من أحكام صوم رمضان، و لا مساس لها بالحكم الظاهري، و هو استصحاب شعبانية يوم الشك، أو استصحاب رمضانية يوم الشك في آخره.

ص: 199


1- تهذيب الأحكام 433/156:4، الاستبصار 203/63:2. الوسائل 1334/252:10.
2- تهذيب الأحكام 474/166:4، الوسائل 13375/263:10.
3- تهذيب الأحكام 432/156:4، الاستبصار 202/63:2، الوسائل 253:10 / 13344.
4- تهذيب الأحكام 441/158:4، الاستبصار 2208/64:2، الوسائل 255:10 / 13349.

يدخل فيه الشك، صم للرؤية (1) و أفطر للرؤية»(1) حيث دل على أن اليقين بشعبان لا يكون مدخولا بالشك في بقائه و زواله بدخول شهر رمضان، و يتفرع عليه عدم وجوب الصوم إلاّ بدخول شهر رمضان.

و ربما يقال (2): إن مراجعة الأخبار الواردة في يوم الشك يشرف (3) على القطع بأن المراد باليقين (4) هو: اليقين بدخول شهر رمضان (5)، و أنه (6) لا بد في وجوب الصوم و الإفطار من اليقين بدخول شهر رمضان و خروجه، و أين هذا من الاستصحاب ؟ فراجع ما عقد في الوسائل لذلك من الباب (7)...

=============

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) الظاهر: أن اللام في الموضعين للتوقيت، بمعنى: «عند» فالصوم للرؤية ناظر إلى حكم يوم الشك في أوّل رمضان، و الإفطار للرؤية ناظر إلى حكم آخر الشهر أي: الشك في إنه يوم الثلاثين من رمضان أو عيد الفطر. و ليس اللام بمعنى «إلى»؛ إذ ينعكس الأمر و يصير المعنى: «صم إلى الرؤية و أفطر إلى الرؤية»، فتكون الجملة الأولى ناظرة إلى حكم يوم الشك في آخر رمضان، و من المعلوم: مخالفته لظهور سؤال الكاتب «هل يصام» في أنه شاك في دخول شهر رمضان، و يشهد له كلام ابن هشام في المغني من كون التوقيت أحد معاني اللام، فراجع مغني اللبيب، ص 281، الطبعة الحديثة.

قوله: «حيث دل...» الخ شروع في تقريب دلالة المكاتبة على الاستصحاب، و قد تقدم توضيح ذلك.

قوله: «بدخول» متعلق ب «زواله» و ضميره و ضمير «بقائه» راجعان على شعبان.

و ضمير «عليه» راجع على عدم دخول الشك في اليقين.

(2) إشارة إلى ما ذكر من إشكال منع دلالة هذه المكاتبة على الاستصحاب، و قد تقدم توضيح الإشكال، فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار.

(3) الأولى أن يقال: تشرف الفقيه على القطع.

(4) في قوله «عليه السلام»: «اليقين لا يدخل فيه الشك».

(5) لا اليقين بشعبان الذي هو مبنى الاستصحاب.

(6) عطف على «أن المراد» و مفسر له و ضمير «أنه» للشأن.

(7) الظاهر: أن مراده هو عنوان الباب الثالث الذي استظهره الشيخ الحر العاملي «قدس سره» من مجموع الأخبار الواردة بهذا المضمون، فقال: «باب أن علامة شهر

ص: 200


1- تهذيب الأحكام 445/159:4، الاستبصار 210/64:2، الوسائل 13351/255/1.

تجده شاهدا عليه (1).

=============

رمضان و غيره رؤية الهلال، فلا يجب الصوم إلاّ للرؤية أو مضي ثلاثين، و لا يجوز الإفطار في آخره إلاّ للرؤية أو مضي ثلاثين، و أنه يجب العمل في ذلك باليقين دون الظن»(1).

و عليه: فلا وجه للإيراد على المصنف «بعدم وجود خبر بهذا المضمون»؛ لما عرفت من: أن الظاهر إرادة عنوان الباب الذي هو فتوى المحدث العاملي. و أخبار الباب تدل عليه بوضوح كما عرفت بعضها.

(1) أي: على أن المراد باليقين في المكاتبة هو اليقين بدخول شهر رمضان، و تركنا ما في المقام من تطويل الكلام رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - توضيح الاستدلال بالمكاتبة على الاستصحاب: أن المراد بقوله «عليه السلام»:

«اليقين لا يدخل فيه الشك» هو اليقين بشعبان إن كان يوم الشك في أوّل رمضان، أو اليقين بشهر رمضان إن كان يوم الشك في آخره، و على كلا التقديرين: تدل المكاتبة على اعتبار الاستصحاب؛ إذ معنى الرواية: «لا تصم فيما شككت في أنه أول رمضان، استصحابا لليقين بعدم وجوبه»، «و لا تفطر فيما إذا شككت في أنه آخر رمضان استصحابا لوجوب الصوم».

2 - الإشكال على هذا الاستدلال: أن هذا الاستدلال يكون مبنيا على أن يكون المراد من اليقين هو اليقين بشهر شعبان و عدم دخول شهر رمضان، فتكون الرواية حينئذ دليلا على الاستصحاب.

و أما إذا كان المراد من اليقين أنه يعتبر في صحة الصوم بعنوان شهر رمضان القطع بكونه من رمضان؛ فلا ربط لها بالمقام.

و مع هذا الاحتمال الثاني تكون المكاتبة مجملة لا ظهور لها في واحد من الاحتمالين؛ بل يؤكد الاحتمال الثاني بعض الآيات و مجموعة من الروايات. و قد تقدم ذكرهما. فيكون مفاد «اليقين لا يدخل فيه الشك» هو عدم قيام الشك مقام اليقين في ترتيب آثار رمضان من الالتزام بالصوم بنيّة كونه من رمضان، فيكون الإتيان به بهذا العنوان منوطا باليقين بدخول رمضان، و كذلك الكلام في منتهاه.

ص: 201


1- الوسائل 252:10 /ب 3.
و منها كل شىء طاهر حتى تعلم انه قذر

و منها (1): قوله «عليه السلام»: «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر»، و قوله: «الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس»، و قوله: «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام»(2).

=============

و عليه: فالرواية تكون بصدد بيان الحكم الواقعي من أحكام صوم رمضان، و لا مساس لها بالحكم الظاهري و هو استصحاب شعبانية يوم الشك، أو استصحاب رمضانية يوم الشك.

3 - رأي المصنف «قدس سره»:

عدم تمامية دلالة المكاتبة على حجية الاستصحاب، مضافا إلى ضعفها سندا.

(1) أي: من الأخبار الدالة على حجية الاستصحاب هي: الروايات الثلاث المعروفة بأخبار الحل و الطهارة.

الرواية الأولى هي: قوله «عليه السلام»: «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر»، و هذا التعبير هو الجاري في لسان الفقهاء، و لعله متخذ مما رواه عمار عن أبي عبد الله «عليه السلام»: «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر فإذا علمت فقد قذر، و ما لم تعلم فليس عليك»(1).

و الثانية: قوله «عليه السلام»: «الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس»(3).

و الثالثة: قوله «عليه السلام»: «كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام».

تقريب الاستدلال بهذه الروايات الثلاث: يتوقف على مقدمة و هي بيان أمرين:

الأول: قد يقال: باستفادة ثلاث قواعد منها: الأولى: كون كل شيء طاهرا أو حلالا واقعا.

الثانية: كون كل شيء طاهرا أو حلالا ظاهرا، أي: ما شك في طهارته و نجاسته طاهر ظاهرا، و ما شك في حليته و حرمته حلال ظاهرا.

الثالثة: الاستصحاب، فكل مشكوك في طهارته و نجاسته و له سابقة الطهارة تستصحب طهارته، و كل مشكوك في حليته و حرمته و له سابقة الحلية تستصحب حليته.

ص: 202


1- تهذيب الأحكام 284:1 /ذيل ح 832، الوسائل 4195/417:3.
2- الكافي 314:5 /صدر ح 40، تهذيب الأحكام 226:7 /صدر ح 989، الوسائل 17: 89 /صدر ح 22053.
3- الكافي 2/1:3-3، تهذيب الأحكام 619/215:1، و فيهما: «حتى يعلم أنه قذر»، الوسائل 326/134:1.

و المصنف قد اختلف كلامه، ففي بعض كلامه لم يستبعد استفادة الأمور الثلاثة من الرواية؛ لكن هنا استقرب استفادة أمرين فقط و هما الطهارة الواقعية و الحلية الواقعية و استصحابهما، و أنكر استفادة قاعدتي الطهارة و الحلية منها. هذا تمام الكلام في الأمر الأول من باب المقدمة.

الثاني: أن الاحتمالات و الأقوال في الروايات المذكورة و إن كانت كثيرة و لكن عمدتها هي خمسة، و توضيح هذه الأقوال يتوقف على مقدمة و هي: أن هنا نوعين من الطهارة و الحلية: أحدهما: الطهارة الواقعية و الحلية كذلك. ثانيهما: الطهارة الظاهرية و الحلية الظاهرية.

ثم الظاهرية بنفسها على قسمين:

الأول: الطهارة أو الحلية المستفادة من قاعدة الطهارة، أو الحلية التي لا تلاحظ فيها الحالة السابقة.

الثاني: الطهارة أو الحلية المستفادة من قاعدة الاستصحاب التي تلاحظ فيها الحالة السابقة. ثم البحث في ما نحن فيه في أنه هل هذه الطهارة أو الحلية واقعية أو ظاهرية ؟ و على الثاني هل هي من باب تطبيق قاعدة الطهارة أو الحلية أو من باب تطبيق قاعدة الاستصحاب ؟

ثم لا يخفى: أن هذا القبيل من الروايات إنما تفيدنا في المقام إذا كانت الطهارة أو الحلية فيها ظاهرية أولا، و من باب قاعدة الاستصحاب ثانيا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن عمدة الأقوال في المسألة خمسة:

1 - قول صاحب الكفاية في حاشية الرسائل: بأنها ناظرة إلى الواقعية و الظاهرية بكلتا قسميها، و إلى الظاهرية بقسميها أيضا بمعنى: أن المستفاد منها الحكم بالطهارة الواقعية و الحلية كذلك و الطهارة و الحلية الظاهرتين و استصحابهما.

2 - قول صاحب الكفاية في الكفاية: بأنها ناظرة إلى الطهارة الواقعية أو الحلية الواقعية بصدرها، و استصحابهما بذيلها، و لا نظر لها إلى قاعدة الحلية أو قاعدة الطهارة.

فالمستفاد منها قاعدتان لا قواعد ثلاث.

3 - قول صاحب الفصول: بأن يكون صدرها ناظرا إلى قاعدة الطهارة أو قاعدة الحلية، و ذيلها يكون ناظرا إلى قاعدة الاستصحاب.

4 - قول المشهور: بأن تكون الروايات ناظرة إلى قاعدة الطهارة أو الحلية فحسب.

ص: 203

هذا مبني على أن تكون الغاية فيها و هي قوله «عليه السلام»: «حتى تعلم، و حتى تعرف» قيدا للموضوع لا قيدا للحكم.

5 - قول الشيخ «قدس سره» في الرسائل، و هو التفصيل بين حديث «الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر»، فيكون ناظرا إلى الحكم الواقعي و الاستصحاب، و بين حديثين آخرين حديث «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر»، و حديث «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام»، فيكونان ناظرين إلى خصوص القاعدة.

إذا عرفت هذه الأقوال و الاحتمالات في الروايات الثلاث فيقال في تقريب الاستدلال بها على حجية الاستصحاب: إن كل واحد من هذه الأخبار مشتمل على أمرين: هما مغيّا و غاية. أما المغيّى - أعني: كل شيء طاهر مثلا - فيدل على أن الموضوع المحكوم عليه بالطهارة هو الشيء، و هو عنوان مشير إلى الماهيات الخارجية كالماء و التراب و الحنطة و غيرها، و هذا العموم الأفرادي مدلول عليه بلفظ وضع للعموم - أي: كل - و حيث إن المراد بكل واحد من الذوات الخارجية عنوانها الأولي، لا العنوان الثانوي - ككونه مشكوك الحكم - فالطهارة أو الحلية الثابتة له حكم واقعي لا ظاهري، فالحنطة حلال واقعا و الحديد طاهر كذلك، و هكذا. هذا مدلول المغيّى. و أما الغاية المدلول عليها بكلمة حتى: فتدل على مجرد استمرار الطهارة الواقعية المذكورة في المغيّى إلى زمان حصول العلم بالنجاسة، و الغاية تدل على استمرار المحمول واقعا و انقطاعه بمجرد حصول الغاية فيما إذا لم تكن علما أو علميا؛ كقوله: «الماء كله طاهر حتى يلاقي النجس»، أو «المسافر يجب عليه التقصير إلى أن يدخل الترخص»، أو «الوضوء واجب إلى أن يصير ضرريا»، أو «الحنطة حلال إلى أن تصير مغصوبة»، و غير ذلك مما ينقطع الحكم الأولي إما لتبدل الموضوع و إما لطروء عنوان ثانوي عليه.

و أما إذا كانت الغاية علما كالمقام تعيّن جعل ما قبلها حكما ظاهريا؛ لئلا يلزم التصويب من دخل العلم في الحكم.

فطهارة الماء القليل واقعا تزول بمجرد ملاقاة النجس علم بها المكلف أم لا.

و عليه: فهذه الروايات تدل على أمرين:

أحدهما: أن الحكم الواقعي لكل شيء هو الحلية و الطهارة إلاّ ما خرج بالدليل كالخمر و الخنزير.

ثانيهما: استمرار ذلك الحكم الواقعي ظاهرا، و حيث دلت الغاية على استمرار المغيّى

ص: 204

و تقريب دلالة (1) مثل (2) هذه الأخبار على الاستصحاب أن يقال: إن الغاية فيها (3) إنما هو لبيان استمرار ما حكم (4) على الموضوع واقعا (5) من (6) الطهارة و الحلية ظاهرا ما لم (7) يعلم بطروء...

=============

تعبدا في حال الشك كان مدلول المغيّى الدال على القاعدة الاجتهادية بضميمة الغاية الظاهرة في بقاء الحكم المذكور في المغيّى هو الاستصحاب، فإن حقيقته إبقاء ما ثبت لا غير و هو المطلوب، فالاستدلال بهذه الأخبار على حجية الاستصحاب واضحة؛ إلاّ إن هذه الأخبار من الأخبار الخاصة، حيث تدل على حجية الاستصحاب في الموارد الخاصة و هي موارد الطهارة و الحلية، و قد أشار إلى هذا بقوله: «و لا يذهب عليك أنه بضميمة عدم القول بالفصل قطعا بين الحلية و الطهارة و بين سائر الأحكام لعم الدليل و تم» فانتظر.

و تركنا تطويل الكلام في المقام رعاية للاختصار.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) و قد تقدم تقريب دلالة الأخبار على حجية الاستصحاب. فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار.

(2) التعبير بالمثل لأجل عدم انحصار الأخبار - المشتملة على الغاية و المغيّى مما يصلح لاستفادة الاستصحاب منها - بما ذكره في المتن، لتعدد أخبار قاعدة الحل كصحيح عبد الله بن سنان و موثقة مسعدة و نحوهما.

نعم؛ لم أظفر في أخبار طهارة كل شيء و خصوص الماء على لفظ مشتمل على الغاية كي يستظهر منها الاستصحاب، و إن كان ما يدل على التوسعة في باب الطهارة و مانعية النجاسة المعلومة عن الصلاة موجود، لكن اللفظ يغاير ما في المتن بكثير، فراجع.

(3) أي: في هذه الأخبار.

(4) أي: ما حكم به على الموضوع و هو «شيء».

(5) بيان للموصول في: «ما حكم» يعني: أن الطهارة و الحلية الواقعيتين حكمان لكل شيء، و قد تقدم توضيح هذا فيما ذكرناه حول مفاد المغيّى بقولنا: «و أما المغيّى...».

(6) بيان ل «ما حكم» أي: أن الغاية قيد للمحمول و هو «طاهر» لا للموضوع و هو «شيء».

و قوله: «ظاهرا» قيد للاستمرار أي: استمرار الطهارة الواقعية ظاهرا، و من المعلوم: أن إبقاء الحكم الواقعي في ظرف الشك لا ينطبق إلاّ على الاستصحاب.

(7) قيد ل «ظاهرا»، فإن الطهارة الظاهرية منوطة بعدم اليقين بخلاف الحالة السابقة؛ إذ معه يكون نقضها لليقين باليقين.

ص: 205

ضده (1) أو نقيضه (2)؛ لا (3) لتحديد الموضوع كي يكون الحكم بهما قاعدة مضروبة لما شك في طهارته أو حليته؛ و ذلك (4) لظهور المغيّى فيها (5) في بيان الحكم للأشياء بعناوينها (6)، لا بما هي مشكوكة الحكم (7) كما لا يخفى، فهو (8) و إن لم يكن له بنفسه (9) مساس...

=============

(1) أي: ضد ما حكم به على الموضوع، و ذلك كالعلم بحرمة شيء بعد العلم بحليته، و التعبير بالضد لأجل أن الحرمة و الحلية أمران وجوديان و حكمان مجعولان لا يمكن اجتماعهما على موضوع واحد.

(2) أي: نقيض ما حكم؛ كالعلم بنجاسة شيء بعد العلم بطهارته، و التعبير بالنقيض بلحاظ كون الطهارة أمرا عدميا و هي عدم القذارة، و قد حكي أن المصنف «قدس سره» اختار هذا لا كونها أمرا وجوديا حتى تكون ضد النجاسة.

(3) عطف على «إنما هو» يعني: أن الغاية ليست لتحديد الموضوع، و غرضه من هذا الكلام: أن استظهار الاستصحاب من هذه الروايات الثلاث مبني على كون كلمة «حتى» قيدا للمحمول و هو الطهارة و الحلية؛ إذ لو كانت قيدا للموضوع - أي: الماء و الشيء - لم يكن لها مساس بالاستصحاب أصلا؛ لأن مفادها حينئذ: أن كل شيء مشكوك الحل أو الطهارة حلال أو طاهر، و هذا المعنى هو مفاد قاعدتي الحل و الطهارة كما هو أحد الأقوال و الوجوه المحتملة في الروايات.

(4) تعليل لقوله: «لا لتحديد الموضوع».

(5) أي: في هذه الأخبار، و المراد بالمغيّا هو المحمول أعني الحلية و الطهارة.

(6) يعني: بعناوينها الأولية بقرينة قوله: «لا بما هي مشكوكة»، فتكون الحلية و الطهارة حينئذ حكمين واقعيين.

(7) المأخوذ في موضوع قاعدتي الحل و الطهارة حتى تكونا حكمين ظاهريين.

(8) أي: فالحكم للأشياء بعناوينها الأولية.

و غرضه من هذا الكلام: أن المغيّى و إن دل على خصوص الحلية و الطهارة الواقعيتين، و لا تعلق له بقاعدتي الحل و الطهارة - لدخل الشك في موضوعيهما كما هو شأن كل حكم ظاهري - و لا بالاستصحاب، لأنه إثبات حكم واقعي في مرحلة الظاهر تعبدا، لكن لا تتوهم أجنبية الأخبار عن الاستصحاب، و ذلك لدلالة الغاية على استمرار ذلك الحكم الواقعي ظاهرا و هو الاستصحاب.

(9) هذا الضمير و ضمير «له» و المستتر في «يكن» كضمير «هو» راجع على الحكم للأشياء، و يمكن عوده إلى المغيّى و المعنى واحد.

ص: 206

بذيل (1) القاعدة و لا الاستصحاب؛ إلاّ (2) إنه بغايته دل على الاستصحاب، حيث إنها (3) ظاهرة في استمرار ذاك الحكم الواقعي ظاهرا (4) ما لم يعلم بطروء ضده أو نقيضه (5)، كما أنه (6) لو صار مغيّا لغاية مثل الملاقاة بالنجاسة، أو ما يوجب الحرمة (7) لدل على استمرار ذاك الحكم (8) واقعا، و لم يكن له (9) حينئذ بنفسه و لا بغايته دلالة على الاستصحاب.

و لا يخفى: أنه (10) لا يلزم على ذلك استعمال اللفظ في معنيين أصلا، و إنما

=============

(1) يعني: بنفس القاعدة، و قد عرفت وجه عدم مساس المغيّى بالقاعدة و الاستصحاب.

(2) استدراك على «و إن لم يكن»، و ضميرا «أنه، بغايته» راجعان على الحكم للأشياء بعناوينها الأولية الذي هو مفاد المغيّى، و لو قال: «إلاّ إنها» أي: الأخبار «بغاياتها دلت...» كان أولى.

(3) أي: أن الغاية و هذا تقريب دلالة الغاية على الاستصحاب، و قد عرفته.

(4) قيد للاستمرار، و المراد بذاك الحكم هو: المغيّى أعني: الطهارة و الحلية الواقعيتين.

(5) فإذا علم بضد الحل و هو الحرمة و بنقيض الطهارة و هو القذارة لم يستمر ذاك الحكم الواقعي؛ لأن رفع اليد عنه نقض لليقين باليقين، و قوام الحكم الظاهري هو الشك.

(6) الضمير للشأن، و ضمير «صار» راجع على الحكم الواقعي،

و غرضه: أن الغاية تدل على استمرار المغيّى، غاية الأمر: أن الغاية إن كانت هي العلم بالنقيض أو الضد - كما في هذه الروايات الثلاث - كانت دالة على استمرار الحكم الواقعي ظاهرا. و إن كانت شيئا آخر كالملاقاة للنجس أو غيره، كما إذا قال: «الماء القليل طاهر إلى أن يلاقي النجس»، أو «العصير العنبي حلال إلى أن يغلي بالنار فيحرم» دلت على استمرار الحكم واقعا، و لا دلالة لشيء من المغيّى و الغاية على الاستصحاب؛ لتمحضه في إفادة استمرار الحكم الواقعي واقعا.

(7) كمثال غليان العصير، و قوله: «لدل» جواب «لو صار».

(8) و هو الحكم المغيّى كحلية العصير و طهارة الماء القليل المتقدمين آنفا.

(9) هذا الضمير و ضميرا «بنفسه، بغايته» راجعة على الحكم الواقعي.

و قوله: «حينئذ» يعني: حين كون الغاية مثل الملاقاة مما يكون غير العلم. و الوجه في عدم دلالته على الاستصحاب واضح، ضرورة: كون الاستمرار واقعيا كنفس المغيّى.

(10) الضمير للشأن، و هذا الكلام من المصنف دفع للإشكال الذي أورده الشيخ

ص: 207

على صاحب الفصول، فلا بد أولا من توضيح الإشكال. و ثانيا من توضيح دفع هذا الإشكال.

و أما توضيح الإشكال فيتوقف على مقدمة و هي: أن في الرواية احتمالات و أقوال و قال صاحب الفصول: إن مفاد الرواية هي قاعدة الطهارة و الحلية و استصحابهما معا.

بمعنى: أن المقصود من القاعدة هو مجرد إثبات الطهارة في المشكوك و في الاستصحاب هو خصوص إبقائها في معلوم الطهارة سابقا و لا جامع بينهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه يلزم محذور استعمال اللفظ في معنيين و ذلك لتباين المعنيين تباينا كليا، لأن المناط في قاعدة الطهارة نفس الشك في الطهارة، فتكون الغاية أعني: «حتى تعلم» من قيود الموضوع، و المعنى حينئذ: «كل مشكوك الطهارة طاهر»، «و كل مشكوك الحلية حلال»، فالحكم المنشأ هو الحكم بأصل الطهارة و الحلية.

و المناط في الاستصحاب هو اليقين السابق و هو العلة للحكم بالطهارة، و الحكم المنشأ فيه هو استمرار الطهارة، فالغاية فيه قيد للحكم لا للموضوع، فلو دل الحديث على القاعدة و الاستصحاب معا - كما يقول به صاحب الفصول - لزم استعمال اللفظ في معنيين أي:

بمعنى كون الغاية قيدا للموضوع في دلالة الرواية على القاعدة. و بمعنى كونها قيدا للحكم في فرض دلالتها على الاستصحاب. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح إشكال الشيخ على صاحب الفصول.

و أما توضيح دفع هذا الإشكال: فقد دفع المصنف «قدس سره» هذا الإشكال: بأن محذور استعمال اللفظ في معنيين إنما يلزم إذا أريد إثبات الطهارة الظاهرية و الاستصحاب بالرواية، و أما إذا أريد إثبات طهارة الأشياء واقعا و استصحابها فلا يتجه الإشكال المتقدم، لوضوح: أن المغيّى - و هو كل شيء طاهر - متكفل لحكم الأشياء واقعا، و الغاية - و هي حتى تعلم - ظاهرة في الاستصحاب، فهاتان القاعدتان مستفادتان من الرواية بتعدد الدال و المدلول، و الدال على القاعدة هو المغيّى، و الدال على الاستصحاب هو الغاية، فلا يلزم حينئذ استعمال اللفظ في معنيين أصلا.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح دفع إشكال الشيخ على صاحب الفصول.

و تركنا ما في المقام من تطويل الكلام رعاية للاختصار.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله: «و لا يخفى أنه لا يلزم على ذلك استعمال اللفظ في معنيين أصلا»، يعني: لا

ص: 208

يلزم (1) لو جعلت الغاية مع كونها من حدود الموضوع و قيوده (2) غاية (3) لاستمرار حكمه ليدل على القاعدة و الاستصحاب من غير تعرض لبيان الحكم الواقعي للأشياء أصلا.

مع (4) وضوح: ظهور مثل «كل شيء حلال» أو «طاهر» في أنه (5) لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية، و هكذا «الماء كله طاهر» (6)، و ظهور (7) الغاية في كونها حدا للحكم لا لموضوعه كما لا يخفى، فتأمل جيدا.

و لا يذهب عليك: أنه (8) بضميمة عدم القول بالفصل قطعا بين الحلية و الطهارة و بين سائر الأحكام، لعمّ الدليل و تم.

=============

يلزم - بناء على استفادة الطهارة و الحلية الواقعتين من المغيّى و الاستصحاب من الغاية - استعمال اللفظ في معنيين أصلا. و قد تقدم وجه ذلك.

(1) يعني: و إنما يلزم استعمال اللفظ في معنيين فيما إذا جعلت الغاية قيدا لكل من الموضوع و الحكم ليستفاد منها قاعدتان ظاهريتان إحداهما الاستصحاب و الأخرى قاعدة الطهارة، و قد عرفت توضيح الإشكال.

(2) يعني: يكون الشك حيثية تقييدية في قاعدة الطهارة، لأن موضوعها الشيء بعنوان المشكوك حكمه، لا بعنوانه الأولي أي: ذات الشيء.

(3) مفعول ثان ل «جعلت» يعني: جعلت الغاية من قيود الحكم - و هو طاهر و حلال - لتدل الرواية على الاستصحاب، و ضمير «حكمه» راجع على الموضوع.

(4) قيد لقوله: «لو جعلت» أي: و الحال أن الروايات ظاهرة في بيان الحكم الواقعي لكل موضوع إلاّ ما خرج بالدليل. و هذا إشكال أورده المصنف على الفصول من أنه مع الغض عن إشكال الشيخ يكون استظهار أصالة الطهارة من الرواية خلاف ظهورها في إفادة الحكم الواقعي.

(5) أي: مثل: «كل شيء حلال أو طاهر».

(6) فيدل على طهارة الماء واقعا كدلالة حديث الحل على الحلية الواقعية.

(7) عطف على «ظهور» يعني: و مع وضوح ظهور الغاية في كونها حدا للحكم فيفيد الاستصحاب، لا حدا لموضوع الحكم حتى تدل على أصالة الطهارة أو الحل.

(8) هذا الضمير للشأن، و هذا الكلام إشارة إلى عدم عموم اعتبار الاستصحاب المستفاد من هذه الأخبار لجميع الأبواب، و دفع إشكال أخصيتها من المدعى؛ لكونها واردة في بابي الحل و الطهارة، فالاستصحاب حجة في هذين البابين خاصة.

ص: 209

ثم لا يخفى: أن (1) ذيل موثقة عمار: «فإذا علمت فقد قذر و ما لم تعلم فليس عليك» يؤيد (2) ما استظهرنا منها من كون الحكم المغيّى واقعيا ثابتا للشيء بعنوانه (3)، لا ظاهريا ثابتا له بما هو مثبته؛ لظهوره (4) في أنه متفرع على الغاية وحدها، و أنه بيان و محصل ما أفاده في وجه تعميم اعتبار الاستصحاب في جميع الموارد هو: أنه بضميمة عدم القول بالفصل تعم الروايات جميع الأبواب و الموارد؛ إذ لم يظهر قول بالفصل بين استصحاب الطهارة و الحل، و بين استصحاب غيرهما، فالقائل باعتباره يقول به مطلقا و النافي له ينفي اعتباره في جميع الأبواب، و ليس من الأقوال المتشتتة في الاستصحاب تخصيص حجيته ببابي الحل و الطهارة.

=============

(1) بعد أن أثبت المصنف دلالة الروايات الثلاث على اعتبار الاستصحاب تصدى لتأييد مقالته بما في ذيل موثقة عمار من قوله «عليه السلام»: «فإذا علمت فقد قذر، و ما لم تعلم فليس عليك»، فإن هذا الذيل مشتمل على حكمين أحدهما: إيجابي و هو استمرار الحكم السابق في غير صورة العلم بالضد أو النقيض، و الآخر سلبي و هو عدم استمراره في صورة العلم بالخلاف. و هذان الحكمان مترتبان على الغاية و مبيّنان لها، غاية الأمر: أن أحدهما مفهومها و هو قوله «عليه السلام»: «و إذا علمت»، و الآخر منطوقها، و هو قوله «عليه السلام»: «و ما لم تعلم...»، و الظاهر كون هذين الحكمين مترتبين على الغاية وحدها لقربهما بها، فيكون الحكم بالطهارة في المشكوك فيه مستندا إلى العلم بها سابقا، فيدل على استمرار الحكم الواقعي ظاهرا، و هذا بخلاف ما إذا كان الذيل مترتبا على مجموع الغاية و المغيّى؛ إذ الحكم بالطهارة حينئذ يكون مترتبا على نفس الشك كما هو مفاد قاعدة الطهارة، لا على ثبوت الطهارة سابقا كما هو مقتضى الاستصحاب.

(2) لعل وجه التعبير بالتأييد دون الدلالة هو: أن ظهور الذيل في تفرعه على الغاية وحدها ليس بذلك الوضوح، فإن ظهور قوله «عليه السلام»: «و ما لم تعلم» في ترتب الطهارة على نفس الشك الذي هو موضوع قاعدة الطهارة مما لا ينكر، فليس الذيل مؤيدا لما استظهره من كون الغاية قيدا للحكم حتى يستفاد منه الاستصحاب. و ضمير «منها» راجع على الموثقة؛ كما في منتهى الدراية، ج 7، ص 230.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(3) الأولي. و ضمير «له» راجع على الشيء، و «لا ظاهريا» معطوف على «واقعيا».

(4) تعليل ل «يؤيد»، و ضميره كضميري «أنه، و أنه» راجع على الذيل.

ص: 210

لها (1) وحدها منطوقها و مفهومها (2) لا لها مع المغيّى كما لا يخفى على المتأمل.

=============

(1) أي: للغاية «وحدها» بلا مشاركة المعنى في إفادته؛ بل الذيل مجمل من الغاية.

(2) المراد بالمنطوق الذي اشتمل عليه الذي هو: قوله «عليه السلام»: «فإذا علمت فقد قذر»، و المراد بالمفهوم هو: قوله «عليه السلام»: «و ما لم تعلم فليس عليك».

و كيف كان؛ فقد عرفت: أن الذيل قد تضمن حكمين أحدهما مثبت و هو قوله:

«فإذا علمت فقد قذر»، و الآخر منفي و هو قوله: «و ما لم تعلم فليس عليك»، و ظاهر هذا التفريع كونه تفريعا على الغاية التي هي «حتى تعلم»، فيدل ذلك على أن الغاية تضمنت حكمين أيضا، أحدهما: مفاد الاستصحاب الذي هو استمرار الحكم المنفي في الذيل، و على الثاني الحكم المثبت.

و من هذا يتبيّن: أن صدر الحديث - و هو قوله: «كل شيء طاهر» - حكم واقعي للأشياء بما لها من العناوين، لا أنه ضرب للقاعدة لدى الشك، فإن التفريع بيان للغاية وحدها «لا لها مع المغيّى...» الخ. حتى يقال: بأن المنفي - و هو «ما لم تعلم فليس عليك» بيان للمغيّا.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان ما في الروايات الثلاث من الاحتمالات و الأقوال:

أ - قول صاحب الكفاية في حاشية الرسائل: بأنها ناظرة إلى الطهارة و الحلية الواقعيتين، و الطهارة و الحلية الظاهريتين، و استصحابهما.

ب - قول صاحب الكفاية في الكفاية: بأنها ناظرة إلى الطهارة الواقعية أو الحلية الواقعية بصدرها و استصحابها بذيلها، و لا نظر لها إلى قاعدة الطهارة و الحلية.

ج - قول صاحب الفصول: بأن يكون صدرها ناظرا إلى قاعدة الطهارة أو الحلية، و ذيلها يكون ناظرا إلى قاعدة الاستصحاب.

د - قول المشهور: بأن تكون الروايات ناظرة إلى قاعدة الطهارة و الحلية فحسب.

ه - قول الشيخ: و هو التفصيل بين حديث «الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر»، فيكون ناظرا إلى الحكم الواقعي و الاستصحاب، و بين حديثين آخرين حديث «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر»، و حديث «كل شيء لك حلال...».

ص: 211

ثم إنك إذا حققت ما تلونا عليك مما هو مفاد الأخبار (1)، فلا حاجة في إطالة الكلام في بيان سائر الأقوال، و النقض و الإبرام فيما ذكر لها من الاستدلال.

=============

2 - تقريب الاستدلال بهذه الروايات على حجية الاستصحاب:

أن كل واحد من هذه الأخبار مشتمل على غاية و مغيّا.

و أما المغيّى: فيدل على أن الموضوع المحكوم عليه بالطهارة أو الحلية هو الشيء بعنوانه الأولي و مفاده هو الحكم الواقعي.

و أما الغاية: فتدل على مجرد استمرار الطهارة الواقعية أو الحلية كذلك و هذا هو معنى الاستصحاب، فدلالة الروايات الثلاث على حجية الاستصحاب واضحة.

3 - إشكال الشيخ على صاحب الفصول: بأنه يلزم استعمال اللفظ في معنيين على ما ذهب إليه صاحب الفصول من: أن مفاد الروايات هو قاعدة الطهارة أو الحلية و استصحابهما معا؛ إذ الاستصحاب و القاعدة معنيان متباينان، فيلزم من استعمال اللفظ فيهما استعمال اللفظ في معنيين.

و دفع المصنف هذا الإشكال: بأن محذور استعمال اللفظ في معنيين إنما يلزم إذا أريد إثبات الطهارة الظاهرية و الاستصحاب معا بالرواية.

و أما إذا أريد إثبات طهارة الأشياء واقعا و استصحابها فلا يلزم الإشكال المذكور أصلا؛ لتعدد الدال و المدلول إذ الدال على القاعدة هو المغيّى، و الدال على الاستصحاب هو الغاية، فأين هذا من استعمال اللفظ في معنيين ؟

4 - إشكال كون هذه الروايات من الروايات الخاصة: حيث تدل على الاستصحاب في خصوص بابي الحل و الطهارة فقط مدفوع؛ بأن مفاد تلك الأخبار و إن كان كذلك إلاّ إنه بضميمة عدم القول بالفصل تعم الروايات جميع الأبواب؛ إذ لم يظهر قول بالفصل بين استصحاب الطهارة أو الحل و بين استصحاب غيرهما.

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

تمامية دلالة الروايات الثلاث على حجية الاستصحاب في جميع الأبواب بضميمة عدم القول بالفصل.

(1) حيث تم الدليل المعتبر سندا و دلالة على حجية الاستصحاب، و العمدة صحاح زرارة، و كذا خبر الخصال عن مولانا أمير المؤمنين «عليه أفضل صلوات المصلين» لو لم يناقش في سنده، و كذا روايات الحل و الطهارة فلا حاجة معه إلى التعرض للقول بعدم حجيته مطلقا.

ص: 212

و لا باس بصرفه الى تحقيق الوضع..

اشارة

و لا بأس بصرفه (1) إلى تحقيق الوضع،...

=============

بقي الكلام في التفصيل بين الحكم الوضعي و التكليفي بجريانه في الأول دون الثاني؛ كما نسب إلى الفاضل التوني «قدس سره».

(1) أي: صرف الكلام و الداعي إلى التعرض للأحكام الوضعية هنا هو الوقوف على تفصيل منسوب إلى الفاضل التوني «قدس سره» من حجية الاستصحاب في الأحكام الوضعية دون التكليفية.

في تفصيل الفاضل التوني بين التكليف و الوضع

و توضيح هذا التفصيل صحة و فسادا يتوقف على ذكر أمور:

من باب المقدمة.

الأمر الأول: هو الفرق بين الحكم التكليفي و الوضعي مفهوما، و لا خلاف في أن المفهوم من لفظ الوضع يخالف ما هو المفهوم من التكليف.

و قال بعض المحققين في مقام الفرق بينهما: إن الأحكام التكليفية عبارة عن المجعولات الشرعية التي تتعلق بأفعال العباد أولا و بالذات من حيث الاقتضاء و التخيير، و هي تنحصر في خمسة، أربعة منها تقتضي البعث و الزجر و هي: الوجوب و الحرمة و الاستحباب و الكراهة. و واحدة منها تقتضي التخيير و هي الإباحة، و الأحكام الوضعية عبارة عن المجعولات الشرعية التي لا تتضمن البعث و الزجر و لا تتعلق بالأفعال ابتداء أولا و بالذات، و إن كان لها نحو تعلق بها و لو باعتبار ما يستتبعها من الأحكام التكليفية، سواء تعلق الجعل الشرعي بها ابتداء تأسيسا أو إمضاء أو تعلق الجعل الشرعي بمنشإ انتزاعها الأول كالملكية و الزوجية و الولاية و السببية كما في قوله «تبارك و تعالى»:

وَ اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا (1) حيث اعتبر السرقة سببا لقطع اليد، و المانعية كما في قوله «صلى الله عليه و آله و سلم» «لا يرث من المال القاتل شيئا»(2)، حيث اعتبر القتل مانعا من الإرث، أو تعليق الجعل الشرعي بمنشإ انتزاعها كالجزئية و الشرطية، فإذا اعتبر وجودا في المأمور به فينتزع منه الشرطية كالاستقبال و يقال: إن الاستقبال شرط للصلاة، و كالاستطاعة حيث اعتبر شرطا لوجوب الحج كما في قوله تعالى: وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (3)، و كالمانعية في بعض الموارد، فإذا اعتبر

ص: 213


1- المائدة: 38.
2- الكافي 141:6 /جزء من ح 1.
3- آل عمران: 97.

في المأمورية شيء عدما تنتزع منه المانعية، و يقال: «إن أجزاء غير مأكول اللحم مانعة من الصلاة».

و يظهر من الشيخ الأنصاري «قدس سره»: أن جميع الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية لا أنها مستقلات.

و يرد عليه: أن الصبي إذا لم يكن عليه أحكام تكليفية فكيف يكون عليه حكم وضعي ؟ حيث يجوز تزويجه و تملكه، و ليست الأحكام الوضعية مرفوعة عنه؛ لأن رفع القلم عنه محمول على الأحكام التكليفية.

و خلاصة الكلام: أن بين مفهوم التكليف و الوضع تباين كلي، و أما بين مصداقهما فالنسبة هي عموم من وجه مادة الاجتماع كأكثر الموارد كالملكية و إباحة التصرف، و مادة الافتراق من جانب التكليف كجواز أكل الضيف من طعام المضيف مع أنه ليس مالكا. و مادة الافتراق من جانب الوضع كمن كان محجورا عن التصرف في ماله شرعا، فلا يجوز له التصرف مع كونه مالكا.

هذا تمام الكلام في الأمر الأول، و هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «لا إشكال في اختلاف التكليف و الوضع مفهوما».

و الأمر الثاني: ما أشار إليه بقوله: «كما لا ينبغي النزاع في صحة تقسيم الحكم إلى التكليفي و الوضعي».

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن للحكم الشرعي معان و لا يصح تقسيمه إلى التكليفي و الوضعي بجميع ما له من المعاني؛ بل ببعض المعاني دون البعض، فإن الحكم بمعنى ما هو المجعول اقتضائيا أو تخييريا لا يطلق على الحكم الوضعي، فلا يصح تقسيمه إلى التكليفي و الوضعي؛ لأن المراد بالاقتضائي: ما يكون له اقتضاء الفعل كالوجوب و الندب أو الترك كالحرمة و الكراهة فيشمل الوجوب و الندب و الحرمة و الكراهة. و المراد بالتخييري: ما ليس له اقتضاء للفعل أو الترك و هي المباحات، و الحكم بهذا المعنى لا يصح تقسيمه إلى التكليفي و الوضعي، فإنه لا يطلق على الحكم الوضعي.

نعم؛ الحكم الشرعي بمعنى ما يؤخذ من الشارع بما هو شارع و ما جعله الشارع تأسيسا أو إمضاء يصح تقسيمه إلى التكليفي و الوضعي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا ينبغي النزاع في صحة تقسيم الحكم الشرعي ببعض معانيه على التكليفي و الوضعي.

ص: 214

و الشاهد على ذلك: كثرة إطلاق الحكم على الحكم الوضعي في كلماتهم. هذا تمام الكلام في الأمر الثاني.

و الأمر الثالث: في حصر الأحكام الوضعية و عدم حصرها. و هذا ما أشار إليه بقوله:

«لا وقع للنزاع في أنه محصورا في أمور مخصوصة».

و حاصل الكلام في هذا الأمر الثالث: أن الأحكام التكليفية محصورة في الخمسة و هي: الوجوب و الحرمة و الندب و الكراهة و الإباحة.

و أما الأحكام الوضعية فقيل: إنها محصورة في أمور مخصوصة كالشرطية و السببية و المانعية كما هو المحكي عن العلامة، أو مع زيادة العلية و العلاميّة كما هو مع الإباحة المحكي عن الشهيد الثاني، أو مع زيادة الصحة و البطلان و العزيمة و الرخصة كما هو المحكي عن الآمدي، أو زيادة غير ذلك. و قيل: إنها غير محصورة كما هو ظاهر المصنف «قدس سره».

و بعد ذكر هذه الأمور من باب المقدمة شرع المصنف في تحقيق الحكم الوضعي.

و حاصل ما أفاده المصنف «قدس سره»: أن الحكم الوضعي على أقسام ثلاثة:

أحدها: ما لا يقبل الجعل الشرعي أصلا؛ لا استقلالا و لا تبعا.

ثانيها: ما يقبله تبعا للتكليف و لا يقبله أصالة و استقلالا.

ثالثها: ما يقبل كلا من الجعل الاستقلالي و التبعي.

هذا مجمل الكلام.

و أما تفصيل الكلام في كل واحد من الأقسام فيقال: إن معنى ما لا يقبل الجعل الشرعي استقلالا: بأن يجعله الشارع ابتداء. «و لا تبعا» بأن يجعل شيئا آخر فينجعل هذا بتبع ذاك، كما يقال: إن الزوجية مجعولة - تكوينا - تبعا بمعنى: أن الجاعل و المكوّن يجعل و يوجد الأربعة، فتوجد الزوجية بتبعها. هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «و إن كان مجعولا تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه كذلك» أي: تكوينا.

و هذا القسم من الحكم الوضعي عبارة عن السببية و الشرطية و المانعية و الرافعية لما يكون سببا و شرطا و مانعا و رافعا لأصل التكليف، كعلية الدلوك لإيجاب الشارع الصلاة عنده، فإن كون الدلوك سببا لوجوب الصلاة ليس بجعل تشريعي استقلالي و لا تبعي، و إنما هو لأن الشارع كوّن و أوجد فيه خصوصية سببت تلك الخصوصية المجعولة فيه

ص: 215

تكوينا أن يكون له سببية لوجوب الصلاة، فهو مجعول تكويني عرضي تبعا لجعل موضوعه تكوينا.

و أما عدم كون هذا القسم مجعولا تبعا: فلما أشار إليه المصنف بقوله: «حيث إنه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخر عنها ذاتا حدوثا و ارتفاعا».

قوله: «حدوثا» إشارة إلى السببية و الشرطية. و قوله: «ارتفاعا» إشارة إلى المانعية و الرافعية، فهذا القسم لا يكون مجعولا أصلا لا استقلالا و لا تبعا. و أما عدم كونه مجعولا مستقلا: فلما عرفت من كون الدلوك سببا لوجوب الصلاة تكوينا لا تشريعا.

و أما عدم كونه مجعولا تبعا للتكليف: فلأن التكليف متأخر عن السببية و الشرطية، فلا يعقل أن يكون مجعولا بتبع ما هو متأخر عنه؛ إذ يلزم تقدم شيء على نفسه، و كذلك يكون التكليف متأخرا عن المانعية لأن المانعية متقدمة على عدم التكليف، فتكون متقدمة على نفس التكليف حفظا لاتحاد مرتبة النقيضين، كما يكون التكليف متأخرا عن الرافعية لأن الرافعية متقدمة على عدم التكليف بقاء، فتكون متقدمة على بقائه حفظا لاتحاد مرتبة النقيضين، فيكون التكليف في البقاء متأخرا عن الرافعية و كيف كان فالتكليف متأخر عن السببية و الشرطية و المانعية و الرافعية، فلو كان الوضع أي: هذه الأمور منتزعة عن التكليف يلزم تقدم التكليف على هذه الأمور، و ذلك مستلزم لتقدم الشيء على نفسه، و هو محال باطل.

و أما وجه القسم الثاني - و هو ما يقبل الجعل تبعا كجزئية السورة - فواضح لا يحتاج إلى البيان و التوضيح.

و أما وجه القسم الثالث - و هو ما يقبل الجعل استقلالا و تبعا - فهو كالملكية مثلا، حيث يقبل الجعل بكلا قسميه، أما استقلالا فمثل جعل الشارع و إمضائه الملكية عند تحقق عقد، فالملكية مجعولة استقلالا لا تبعا، و إلا لزم أن لا يقع ما قصد و يقع ما لم يقصد، فإن مقصود ولي المال من قوله: «بعته أو ملّكته المال الكذائي» هو إيجاد الملكية لغيره لا الحكم بإباحة التصرف، فإن كانت الملكية مجعولة تبعا و منتزعة عن الحكم الذي في موردها يلزم أن يتحقق بقوله: «ملّكتك» جواز التصرف لا الملكية حيث إن الملكية على الانتزاع و التبعية لا تحصل بصرف الجعل و الإنشاء، بل بتبعية الآثار و الأحكام الحاصلة بقوله: «ملكتك»، و تلك الآثار و الأحكام غير مقصودة من هذا القول، فيلزم ما ذكرناه من أنه لا يقع ما قصد و يقع ما لم يقصد.

ص: 216

و أما تبعا: فكانتزاع الملكية كما قيل من الحكم بإباحة تصرف كل من البائع و المشتري في العوضين بعد العقد.

و لكن أورد صاحب الكفاية على هذا القول بقوله: «لا ينبغي أن يشك في عدم صحة انتزاعها عن مجرد التكليف في موردها...». و لعل مقصوده: أن الحكم الوضعي مثل الملكية و الزوجية يكون موضوعا للحكم التكليفي أعني: إباحة التصرف و جواز الوطء، و الموضوع متقدّم بحسب المرتبة على الحكم كتقدم العلة على المعلول، فلا يمكن انتزاع مثل هذا الوضع عن التكليف لاستلزامه غائلة الدور، و يمكن أن يكون مقصوده أنه لا وجه لانتزاع مثل هذا الوضع عن التكليف، لأنك قد عرفت: أن النسبة بين الوضع و التكليف مصداقا و موردا هي أعم من وجه و أنهما قد يجتمعان مثل ما إذا كان للإنسان ملك و لم يكن محجورا عن التصرف فيه، و قد يكون التكليف دون الوضع مثل إباحة الأكل للضيف من طعام المضيف. و قد تكون الملكية من دون التكليف، كما إذا كان للإنسان ملك و كان محجورا عن التصرف فيه.

فيقال بعد الفراغ عن هذه الأمور من باب المقدمة: إنه لا يجري الاستصحاب في جميع أقسام الوضع، بل يجري فيما هو مجعول استقلالا بلا إشكال كما هو في القسم الثالث، أو فيما هو مجعول تبعا مع إشكال، و لا يجري فيما لا يتطرق إليه الجعل أصلا كالقسم الأول من أقسام الوضع. إذ المناط في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب مجعولا شرعا أو موضوعا ذا حكم شرعي، و هذا المناط لا يوجد في القسم الأول، فيما ذهب إليه الفاضل التوني من جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية على إطلاقه غير صحيح؛ بل الحق أن يقال بحجية الاستصحاب في بعض الأحكام الوضعية.

هذا مع حجية الاستصحاب في الأحكام التكليفية لوجود المناط - و هو كون المستصحب مجعولا - فيها.

هذا هو حق الكلام في المقام.

و أما ما ذكره المصنف فلا يخلو عن مناقشة إذا كان قصده من تطويل الكلام ردّ التفصيل الفاضل التوني؛ إذ لم يتعرض المصنف للاستصحاب في الأحكام التكليفية لا نفيا كي يكون كلامه إشكالا على الفاضل التوني، و لا إثباتا كي يكون هذا الكلام منه موافقا للفاضل التوني.

فالمتحصل: أن نتيجة تطويل الكلام في المقام هو جريان الاستصحاب في الأحكام

ص: 217

و أنه (1) حكم مستقل بالجعل (2) كالتكليف، أو منتزع (3) عنه و تابع له في الجعل، أو فيه (4) تفصيل حتى يظهر (5) حال ما ذكر هاهنا بين التكليف و الوضع من التفصيل (6)، فنقول و بالله الاستعانة: لا خلاف (7) كما لا إشكال في اختلاف التكليف و الوضع مفهوما، و اختلافهما (8) في الجملة موردا (9)،...

=============

الوضعية في الجملة، و ليس في كلام المصنف عدم جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية كي يكون ردا على الفاضل التوني.

فالحق أن يقال: إنه لا فرق في جريان الاستصحاب بين الأحكام الوضعية و التكليفية لوجود ما يعتبر في الاستصحاب فيهما معا.

فيكون ردا على التفصيل المنسوب إلى الفاضل التوني.

و كيف كان؛ فكلام المصنف لا يخلو عن الإجمال.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) عطف على «حال الوضع» و مفسر له، و ضمير «أنه» راجع على «الوضع».

(2) يعني: مطلقا و بجميع أقسامه، بقرينة قوله: «أو فيه تفصيل».

(3) عطف على «حكم» و ضميرا «عنه، له» راجعان على الحكم، و المراد التبعية مطلقا.

(4) أي: في الوضع.

(5) قيد لقوله: «لا بأس بصرفه» يعني: لا بأس بصرف الكلام إلى بيان حقيقة الحكم الوضعي حتى يظهر حال التفصيل المعزى إلى الفاضل التوني «رحمه الله» صحة و سقما.

(6) من اعتبار الاستصحاب في التكليف خاصة دون الوضع. و قوله: «من التفصيل» بيان «ما» الموصول.

(7) ذكر المصنف قبل بيان ماهية الحكم الوضعي أمورا ثلاثة هذا أوّلها، و حاصله: أن مفهوم التكليف يغاير مفهوم الوضع، إذ المراد بالتكليف أحد الأحكام الخمسة و هي:

الوجوب و الندب و الحرمة و الكراهة و الإباحة.

و المراد بالوضع: إيجاد صفة لشيء فعلا كان أو غيره أو إمضاء الشارع لتلك الصفة، و عرفت توضيح الفرق بينهما مفهوما و مصداقا، فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة.

(8) بالجر عطف على «اختلاف»، و غرضه: بيان اختلافهما في المصداق بنحو العموم من وجه، فلا يمتنع صدقهما على بعض الأمور كما تقدم.

(9) كقولنا: «الإفطار سبب لوجوب القضاء»، فإن مورد السببية هو الإفطار، و مورد الوجوب هو القضاء.

ص: 218

لبداهة (1) ما بين مفهوم السببية أو الشرطية و مفهوم مثل الإيجاب أو الاستحباب من المخالفة و المباينة.

كما لا ينبغي (2) النزاع في صحة تقسيم الحكم الشرعي إلى التكليفي و الوضعي، بداهة (3): أن الحكم و إن لم يصح تقسيمه إليهما ببعض (4) معانيه، و لم يكد يصح

=============

(1) تعليل لقوله: «لا خلاف» و «من المخالفة» بيان للموصول في «ما بين».

(2) هذا إشارة إلى الأمر الثاني، و الغرض منه: إدراج جملة مما عدّ من الأحكام الوضعية في الحكم الشرعي، بيانه: أن الحكم الشرعي يطلق تارة: على خطاب الله المتعلق بأفعال العباد من حيث الاقتضاء و التخيير، و أخرى: على مطلق ما يصح أخذه من الشارع بما هو شارع و جاعل للقوانين، فعلى الأول: لا يصح تقسيم الحكم إلى التكليفي و الوضعي؛ لعدم تعلق مثل الملكية و الزوجية و سببية الدلوك بفعل المكلف بلا واسطة، و إن تعلق به مع الواسطة مترتب على جواز أنحاء التصرفات على الملكية الحاصلة بأسبابها، فعلى هذا المعنى: تخرج الوضعيات عن كونها أحكاما شرعية؛ إذ ليس فيها جهة الاقتضاء - بعثا و زجرا - و التخيير.

و على الثاني: يصح تقسيم الحكم الشرعي إليهما؛ لأن المناط فيه كونه مما تناله يد الجعل التشريعي، و من المعلوم: صدقه على الحكم الوضعي كالتكليفي، فكما يمكن اعتبار لا بدّية فعل و حرمان آخر بقوله: أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ (1)، و حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ (2)كذلك له جعل الملكية للحائز بقوله: «من حاز ملك»، فإن ملكية المحوز للحائز من المجعولات الشرعية.

و عليه: فلا إشكال في صحة انقسام الحكم الشرعي إلى التكليفي و الوضعي، و لا مجال لإنكارها و التشكيك فيها.

(3) تعليل لقوله: «لا ينبغي»، و قد عرفت توضيحه.

(4) و هو كونه خصوص «الخطاب المتعلق بفعل العبد من حيث الاقتضاء و التخيير»؛ إذ على هذا المعنى يختص الحكم بما فيه اقتضاء الفعل من الوجوب و الاستحباب أو الترك من الحرمة و الكراهة، و ما ليس فيه اقتضاء أحدهما أصلا، أو فيه اقتضاءان متكافئان و هو الإباحة. و ضميرا «تقسيمه، معانيه» راجعان على الحكم.

ص: 219


1- الإسراء: 78.
2- المائدة: 3.

إطلاقه (1) على الوضع؛ إلاّ (2) إن صحة تقسيمه بالبعض الآخر إليهما، و صحة إطلاقه عليه بهذا المعنى (3) مما لا يكاد ينكر كما لا يخفى.

و يشهد به (4) كثرة إطلاق الحكم عليه في كلماتهم. و الالتزام بالتجوز فيه (5) كما ترى.

و كذا (6) لا وقع للنزاع في أنه محصور في أمور مخصوصة كالشرطية و السببية و المانعية كما هو المحكي عن العلامة (7)، أو مع زيادة العلية...

=============

(1) أي: إطلاق الحكم ببعض معانيه و هو الخطاب المتعلق «بفعل العبد...» الخ.

(2) متعلق ب «و إن لم يصح» يعني: أن الحكم الشرعي - بمعنى مطلق ما يؤخذ من الشارع في وعاء التشريع - يصح تقسيمه إلى التكليفي و الوضعي؛ لكونه مشتركا معنويا بينهما، و كذا بمعنى المحمولات الشرعية المنتسبة إلى الموضوعات، فضمير «تقسيمه» راجع على الحكم، و ضمير «إليهما» راجع على التكليفي و الوضعي».

(3) أي: إطلاق الحكم الشرعي على الوضعي بهذا المعنى، و هو ما يصح أخذه من الشارع.

(4) يعني: يشهد بصحة تقسيم الحكم إلى التكليفي و الوضعي كثرة إطلاق الحكم على الوضعي في كلمات العلماء، حيث عدوا الملكية و الزوجية و الحرية أحكاما شرعية.

و توهم: كون هذا الإطلاق في كلماتهم على نحو التجوز لاختصاص التكليف فاسد؛ لأنه خلاف الأصل و منوط بقرينة مفقودة في المقام.

(5) أي: في إطلاق الأصحاب الحكم على الوضعي، و «كما ترى» خبر و الالتزام.

و قد تقدم توضيحه بقولنا: «و توهم كون هذا الإطلاق...»، و ضمير «عليه» راجع على الوضعي.

(6) هذا بيان للأمر الثالث، و هو كون الأحكام الوضعية محصورة في عدد معين و عدمه، و حاصله: أنه وقع الخلاف في أن الأحكام الوضعية هل هي محصورة أم لا؟ و على الأول: وقع الخلاف أيضا في عددها، و المصنف «قدس سره» يدعي أنه لا مسرح لهذا الخلاف لوجهين: أحدهما: عدم الوجه في تخصيص الحكم الوضعي بما ذكروه بعد وضوح إطلاق الحكم على غيره أيضا كالحرية و الرقية. و الآخر: عدم ترتب ثمرة علمية و لا عملية على حصر الحكم الوضعي و عدمه، فالحق حينئذ أن يقال: إن كل ما لا يكون تكليفا سواء كان له دخل في التكليف أو متعلقه أم لم يكن له دخل فيهما مع فرض إطلاق الحكم عليه في كلماتهم يكون ذلك هو الحكم الوضعي.

(7) و غيره، و الظاهر: أن المراد الشرطية و السببية و المانعية للتكليف.

ص: 220

و العلامية (1)، أو مع زيادة الصحة و البطلان (2)، و العزيمة و الرخصة (3)، أو زيادة غير ذلك (4) كما هو المحكي عن غيره (5)،...

=============

(1) كما هو المحكي عن الشهيد الثاني، و مثال العلامية: خفاء الجدران المجعول علامة على حدّ الترخص، و جعل الجدي خلف المنكب الأيمن علامة لقبلة أهل العراق؛ لكن حكي عنه احتمال رجوعهما إلى السبب، و العلامية إلى الشرط.

(2) مطلقا كما عن ظاهر الحاجبي و العضدي، أو في خصوص المعاملات كما عن بعض الشافعية، و أما في العبادات: فقد حكم بكونهما عقليين. و اختار المصنف «قدس سره» في مسألة اقتضاء النهي للفساد و عدمه قولا آخر، فذهب إلى كونهما مجعولين في المعاملات، و في العبادات الثابتة بأمر ظاهري أو اضطراري كالصلوات العذرية المحرزة شرائطها بالأمارات الشرعية كالإتيان بها إلى الجهة التي شهدت البيّنة بكون القبلة فيها، و كفعلها في لباس مستصحب الطهارة أو في آخر الوقت خالية عن السورة، فإن حكم الشارع بتماميتها في هذه الصور و نظائرها مع عدم وفائها بتمام مصلحة الواقع هو المقصود من مجعولية الصحة.

و أما إذا كان المأمور به الاضطراري أو الظاهري وافيا بتمام ملاك المأمور به الاختياري أو بمعظمه؛ بحيث لا يقتضي الباقي تشريع وجوب الإعادة أو القضاء، فالصحة غير مجعولة، بل هي أمر واقعي.

(3) حكي زيادتهما عن الحاجبي و العضدي، و الأولى عن الآمدي، و قد يقال بكونهما حكمين تكليفيين؛ إذ العزيمة لزوم فعل شيء كالركعتين الأخيرتين من الرباعية للمسافر المقيم، أو لزوم تركه كهاتين الركعتين للمسافر غير المقيم في غير مواطن التخيير.

و الرخصة جواز الفعل أو الترك كسقوط الأذان في موارده. لكنها غير الإباحة، ضرورة:

أن الأذان عبادة، و لا معنى لجواز العبادة بمعنى الإباحة؛ إذ لا بد في العبادة من الرجحان، فلا يعقل تساوي فعل العبادة و تركها.

(4) كزيادة التقدير - أي: فرض شيء مكان شيء مثل تنزيل الموجود منزلة المعدوم؛ كتنزيل الماء الموجود المحتاج إلى شربه منزلة عدمه في تشريع جواز التيمم، أو العكس كتنزيل المقتول منزلة الحي في ملكية الدية لتورث؛ إذ لا يرث الوارث إلا ما ملكه الميت حال حياته، و المفروض: أن الدية تجب بالموت لا قبله فينزل الموت منزلة الحياة.

و زيادة الحجج و هي التي يستند إليها القضاة من بيّنة و يمين و نحوهما.

(5) أي: غير العلامة و هو صلاح الدين.

ص: 221

أو ليس (1) بمحصور؛ بل كل ما ليس بتكليف مما له دخل فيه (2) أو في متعلقه (3) و موضوعه (4)، أو (5) لم يكن له دخل مما أطلق عليه الحكم في كلماتهم، ضرورة (6):

أنه لا وجه للتخصيص بها (7) بعد كثرة إطلاق الحكم في الكلمات على غيرها، مع أنه (8) لا تكاد تظهر ثمرة مهمة علمية أو عملية للنزاع في...

=============

(1) قوله: «أو ليس بمحصور» عطف على «محصور» يعني: لا وقع للنزاع في الحصر و عدمه.

(2) أي: في التكليف، و الدخيل في نفس الحكم هو ما سيأتي في القسم الأول في كلام المصنف، و ذلك كالاستطاعة الدخيلة في توجه خطاب وجوب الحج إلى المكلف.

(3) أي: في متعلق التكليف، و هو القسم الثاني، كالجزئية و الشرطية للمكلف به كالصلاة و الحج، فشرطية الاستقبال في الصلاة و مانعية لبس ما لا يؤكل فيها حكمان شرعيان وضعيان، و هكذا.

(4) أي: في موضوع التكليف كالزوجية و الملكية اللّتين يترتب عليهما آثار شرعية من جواز الاستمتاع و وجوب النفقة و غيرهما من الآثار المترتبة على الزوجية، و جواز الهبة و شراء المملوك للعتق الواجب، و غيرهما من الآثار المترتبة على الملكية.

(5) عطف على «كان» المقدر الذي يتعلق به «مما»، يعني: كان مما له دخل أو لم يكن مما له دخل.

و غرضه: أن بعض الأحكام الوضعية مع عدم دخلها في موضوع الحكم التكليفي و لا في متعلقه يصح عدّها من الأحكام الوضعية و إن لم يترتب عليها التكليف، و ذلك كحجية الأدلة غير العلمية، فإنها - بناء على استقلالها في الجعل و عدم انتزاعها عن حكم تكليفي - تكون حكما وضعيا، و كذا الوكالة على ما قيل.

قوله: «ما أطلق عليه...» الخ بيان للموصول في «ما ليس بتكليف» و حاصله: أنه لا وجه للنزاع في حصر الحكم الوضعي و عدمه كما عرفت. و ضمير «عليه» راجع على الموصول في «مما».

(6) تعليل لقوله: «و كذا لا وقع للنزاع»، و هو إشارة إلى أول الوجهين، و قد تقدم بقولنا: «أحدهما عدم وجه في تخصيص...» الخ.

(7) هذا الضمير و ضمير «غيرها» راجعان على المذكورات أو إلى أمور مخصوصة.

(8) الضمير للشأن، و هذا إشارة إلى الوجه الثاني المتقدم بقولنا: «و الآخر عدم ترتب ثمرة عملية...». و يمكن أن تكون الثمرة جريان الأصل فيما يعدّ من الأحكام الوضعية، و عدم جريانه فيما لا يعد منها.

ص: 222

ذلك (1) و إنما المهم (2) في النزاع هو أن الوضع كالتكليف في أنه مجعول تشريعا بحيث يصح انتزاعه بمجرد إنشائه، أو غير مجعول كذلك (3)؛ بل إنما هو منتزع عن التكليف و مجعول بتبعه و بجعله (4).

و التحقيق: أن ما عدّ من الوضع على أنحاء منها: ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعا أصلا لا استقلالا و لا تبعا و إن كان مجعولا تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه كذلك (5).

=============

(1) أي: في الحصر و عدمه.

(2) بعد أن فرغ من الأمور الثلاثة شرع في تحقيق الحكم الوضعي و التفصيل بين أقسامه.

و حاصل ما أفاده: أنه لا وقع للنزاع في حصر الحكم الوضعي و عدمه لعدم كونه مهما؛ بل المهم تحقيق كون الوضع كالتكليف في صحة جعله و إنشائه بالاستقلال، و عدم كونه كالتكليف في قابليته للإنشاء بالاستقلال. و المصنف «قدس سره» اختار التفصيل في ذلك بين الأمور المعدودة من الأحكام الوضعية، و حاصله: أن تلك الأمور على أقسام ثلاثة:

أحدها: ما لا يقبل الجعل الشرعي أصلا لا استقلالا و لا تبعا.

ثانيهما: ما يقبله تبعا للتكليف و لا يقبله أصالة و استقلالا.

ثالثها: ما يقبل كلا من الجعل الاستقلالي و التبعي، و قد تقدم تفصيل كل من هذه الأقسام.

(3) أي: تشريعا، و إن كان مجعولا تكوينيا للشارع بما هو خالق هويات الممكنات.

(4) الضميران راجعان على التكليف. ثم إن هذا مبني على مختاره من كون الحكم التكليفي من الاعتبارات الجعلية، و المعاني الإنشائية التي تنالها يد التشريع، سواء كان بلفظ الإنشاء كصيغة «افعل»، أم بلفظ الإخبار مثل «هذا واجب» و «ذاك حرام».

و أما بناء على كون حقيقة الحكم مجرد العلم بالصلاح و الفساد من دون استتباعه للشوق المحرك للعضلات الباعث على إيجاد الفعل أو على الأمر بإيجاده، أو كونه هو الشوق المؤكد المعبر عنه بالحالة النفسانية البعثية، فلا يبقى إنشاء؛ بل جميع الخطابات إخبار عن المصالح و المفاسد و الترجحات النفسية.

(5) أي: تكوينا، كجعل دهنية الدهن، فإنها مجعولة تكوينا بجعل الدهن و إيجاده.

ثم إنه قد يتوهم التنافي بين ما أفاده المصنف «قدس سره» في أول البحث من صدق

ص: 223

و التحقيق ان ما عد من الوضع على انحاء
اشارة

و منها: ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل التشريعي إلاّ تبعا للتكليف (1).

و منها: ما يمكن فيه الجعل استقلالا بإنشائه و تبعا (2) للتكليف بكونه (3) منشأ لانتزاعه؛ و إن كان الصحيح انتزاعه من إنشائه و جعله، و كون التكليف من آثاره و أحكامه على ما يأتي الإشارة إليه.

اما النحو الاول (4)

: فهو كالسببية و الشرطية و المانعية و الرافعية...

=============

الحكم ببعض معانيه على الوضع، و بين ما أفاده هنا من إخراج القسم الأول من الأحكام الوضعية طرا، لأنها غير مجعولة لا استقلالا و لا تبعا؛ إذ لا يتمشى صدق الحكم الشرعي على ما لا يقبل الجعل أصلا؛ لكنه مندفع: بأن حقيقة الحكم الوضعي و إن كانت متقومة بأحد نحوي الجعل؛ إلاّ إن ذكر القسم الأول - الخارج عن الأحكام الوضعية حقيقة - إنما هو للمماشاة مع القوم، حيث عدّوا السببيّة للتكليف مثلا من الوضعيات؛ مع وضوح عدم صدق ضابط الحكم بمعنى المجعول الشرعي التأسيسي أو الإمضاء عليها، و لأجل التنبيه على هذه النكتة قال المصنف «قدس سره»: «إن ما عد من الوضع على أنحاء...»، و لم يقل «الأحكام الوضعية على أنحاء...».(1) كانتزاع الجزئية لجزء المركب كالسورة من الصلاة، فإن إيجاب مركب خاص يوجب قهرا اتصاف كل واحد من أجزائه بالجزئية للواجب.

(2) عطف على «استقلالا» و الجعل الاستقلالي في هذا القسم كأن يقول من بيده الاعتبار: «هذه الدار ملك لزيد»، و التبعي كأن يقول: «يجوز لزيد أن يتصرف في هذه الدار بما يتوقف على مالكيته لها».

(3) أي: بكون التكليف منشأ لانتزاع الوضع؛ كانتزاع حجية الأمارة من وجوب العمل بها على ما قيل. و الضمائر في «إنشائه، إلى أحكامه» راجعة إلى الوضع.

(4) و هو ما لا تناله يد التشريع لا أصالة و لا تبعا.

و محصل ما أفاده فيه: أنهم اختلفوا في مجعولية سببية شيء للتكليف - و كذا أخواتها الثلاث - على أقوال ثلاثة:

الأول: أنها مجعولة بالاستقلال كما نسبه الشيخ إلى المشهور، حيث قال: «إن الحكم الوضعي حكم مستقل مجعول كما اشتهر في ألسنة جماعة أولا»(1).

الثاني: أنها منتزعة عن التكليف المترتب على موضوعاتها كانتزاع السببيّة عن

ص: 224


1- فرائد الأصول 125:3.

وجوب الصلاة المترتب على الدلوك في مثل: أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ (1)، و لهذا اشتهر في ألسنة الفقهاء سببيّة الدلوك و مانعية الحيض، و لم يرد من الشارع إلا إنشاء طلب الصلاة عند الأول، و طلب تركها عند الثاني.

الثالث: أنها منتزعة عن الخصوصية التكوينية القائمة بما هو سبب أو شرط أو مانع، فليست مجعولة بالاستقلال و لا منتزعة عن التكليف.

و المصنف اختار الوجه الأخير و أبطل الأوّليين.

و أما بطلان ما هو المشهور - و هو الوجه الأول - فلأن هذه الأمور لو كانت مجعولة بالاستقلال لزم الخلف؛ إذ لو كانت السببيّة و أخواتها دائرة مدار الجعل المستقل فاللازم امتناع انتزاعها من غيرها، مع وضوح بطلانه لصحة انتزاعها و إن لم تنشأ السببيّة للدلوك مثلا، بل أنشأ الوجوب عند الدلوك بأن يقال: «إذا زالت الشمس فصلّ »، فإن المنشأ هو الوجوب عند الدلوك، و يصح انتزاع السببية من نفس هذا الإنشاء، و لزم عدم صحة انتزاعها له إن لم يترتب وجوب الصلاة عليه؛ و إن أنشئت السببية له.

و أما بطلان القول الثاني: فلأن لازمه تأثير المتقدم في المتأخر، حيث إن أجزاء العلة متقدمة على المعلول، فإذا فرض توقف بعض أجزائها على وجود المعلوم لزم تأثير المتأخر - أعني: المعلول - في المتقدم، و هذا غير معقول.

و تطبيقه في المقام: أن الأمر الانتزاعي متأخر عن منشأ الانتزاع؛ إذ لو لا وجود المنشأ لا معنى لانتزاع شيء منه، مع أن مقتضى سببية شيء للتكليف هو تقدمه عليه لكون السبب في مرتبة العلة و التكليف في مرتبة المعلول، و عليه: فالالتزام بانتزاع السببية عن التكليف يستلزم كون المتأخر عن التكليف متقدما عليه و المتقدم عليه متأخرا عنه، و هذا معنى اجتماع المتقابلين المستحيل. هذا في السببية.

و كذا الحال في الشرطية و المانعية، فإن شرط التكليف و مانعة في رتبة متقدمة على المشروط و الممنوع، فالالتزام بانتزاعيتهما يقتضي تأخرهما و هو تأخر ما هو المتقدم، و ذلك باطل.

و بعد وضوح بطلان هذين القولين يتعين المصير إلى كون منشأ انتزاع السببية و غيرها هي الخصوصية الذاتية القائمة بذات السبب و الشرط و نحوهما من أجزاء العلة؛ إذ لو لم

ص: 225


1- الإسراء: 78.

لما (1) هو سبب التكليف و شرطه و مانعة و رافعه، حيث إنه (2) لا يكاد يعقل انتزاع هذه تكن تلك الخصوصية الموجبة للربط الخاص بين السبب و المسبب المقتضي لتأثير السبب فيه لأثر كل شيء في كل شيء، كتأثير الماء في الإحراق و النار في التبريد، و من المعلوم فساده، بداهة: وجود الربط التكويني الخاص بين أجزاء العلة به تؤثر في المعلوم.

=============

و حيث إن المناط في السببية تلك الخصوصية الذاتية المقتضية للتأثير، فلا يعقل تحققها بالإنشاء و الجعل، لعدم كونها من سنخ الاعتبارات المتقومة باعتبار من بيده الأمر، فإنشاؤها لا يؤثر في وجود تلك الخصوصية تكوينا، فقوله: «الدلوك سبب لوجوب الصلاة» لا يقتضي حدوث السببية له تعبدا؛ لأن سببية شيء للتكليف لا تختلف عن سببية مثل النار للإحراق، و شرطية شيء له لا تختلف عن شرطية مثل المجاورة و المحاذاة بين النار و المحترق له، و مانعية شيء له كمانعية الرطوبة عن الإحراق، فهي أمور تكوينية، فكما لا يعقل صيرورة شيء حجرا بمجرد الجعل و التشريع، فكذا سببية مثل بلوغ المتعاقدين لتأثير العقد في إفادة ملكية الثمن و المثمن للبائع و المشتري لأجل خصوصية فيه يفقدها الصبي المميز الذي يقل سنه عن البلوغ بساعة مثلا.

فالمتحصل: أن السببية لا تنزع عن التكليف المترتب على موضوعه لتأخره عن السببية، و إلا يلزم تأثير المتأخر في المتقدم.

و عليه: فلا مجال للالتزام لما ذهب إليه الشيخ من انتزاعها من التكليف، كما لا تكون مجعولة بالاستقلال، فلا محيص عن الذهاب إلى كون منشأ انتزاع السببية و نحوها من أجزاء العلة هي الخصوصية الذاتية التي تكون ثابتة لها تكوينا بتبع تكوّن نفس السبب و الشرط و غيرهما كما لا يخفى:

1 - مثال السببية: نظير الدلوك لوجوب الصلاة.

2 - مثال الشرطية: نظير الاستطاعة الشرعية لوجوب الحج.

3 - مثال المانعية: كالعجز المانع عن التكليف بالطهارة المائية.

4 - مثال الرافعية: كالمرض الطارئ على من تمكن من الحج مباشرة مع كون المرض مما لا يرجى زواله، فإنه رافع لوجوب الحج مباشرة و موجب للاستنابة.

(1) متعلق بالسببية و أخواتها.

(2) الضمير للشأن، و هذا شروع في إبطال كون السببية و نحوها منتزعة عن الحكم التكليفي لتكون مجعولة تشريعا تبعا، كما ذهب إليه بعض، و قد عرفت توضيحه، و قد عرفت توضيحه بقولنا: «أما بطلان القول الأول فلأن لازمه تأثير...».

ص: 226

العناوين لها من التكليف (1) المتأخر عنها ذاتا حدوثا (2) و ارتفاعا (3)، كما أن اتصافها بها ليس إلاّ لأجل ما عليها من (4) الخصوصية المستدعية لذلك (5) تكوينا؛ للزوم (6) أن يكون في العلة بأجزائها ربط خاص به (7) كانت مؤثرة في معلولها...

=============

(1) متعلق ب «انتزاع»، و ضميرا «لها، عنها» راجعان على السببية و أخواتها.

(2) كما في السبب و الشرط و المانع، أما الأولان: فلترتب الحكم عليهما ترتب المعلول التكويني على سببه و شرطه. و أما الأخير: فلتقدمه على عدم التكليف، لاستناد هذا العدم إليه بعد فرض تحقق كل ما له دخل في وجود المعلول إلاّ عدم المانع، فإذا كان عدم التكليف متأخرا عن وجود المانع فلا محالة يكون وجود التكليف متأخرا عنه حفظا لمرتبة النقيضين، فالمانعية كالسببية و الشرطية مقدمة على حدوث التكليف كما هو واضح.

(3) كما في الرافع، فإنه مقدم على بقاء التكليف، لاستناد بقائه إلى عدم الرافع كاستناد حدوثه إلى عدم المانع، و إذا كان عدم الرافع مقدما على بقاء التكليف فوجوده أيضا مقدم عليه، حفظا لمرتبة النقيضين. و ما في بعض الحواشي من إرجاع الارتفاع إلى كل من المانع و الرافع لا يخلو من شيء، فإن المانع يزاحم المقتضي في مقام تأثيره، فهو كالسبب، و الشرط مقدم على نفس الشيء، بخلاف الرافع. و لعل الأولى تبديل «ارتفاعا» ب «بقاء»، و إن كان الرفع دالا على البقاء في قبال الحدوث.

و بالجملة: فالمانع يمنع الحدوث، و الرافع يرفع البقاء. فالأول دفع و الثاني رفع.

و قوله: «كما أن اتصافها...» يعني: اتصاف المذكورات - من سبب التكليف و شرطه و مانعة و رافعه - بالسببية و الشرطية و المانعية و الرافعية.

غرضه: الإشارة إلى مذهبه من كون منشأ انتزاع هذه الأمور نفس الخصوصية التكوينية التي تكون في السبب و أخواته، دون الجعل الشرعي. و قد عرفت توضيحه.

(4) بيان للموصول في «ما عليها»، و الضمير راجع على السبب و الشرط و المانع و الرافع، و الأولى ذكر ضمير «هي» بين «ما» و «عليها» كما لا يخفى.

(5) أي: لاتصاف هذه الأمور بالسببية و الشرطية و المانعية و الرافعية، و الأولى تبديل «المستدعية» ب «المقتضية».

(6) تعليل لقوله: «ليس إلاّ لأجل» و قوله: «تكوينا» قيد ل «الخصوصية»، يعني: أن الخصوصية التكوينية اقتضت الاتصاف المزبور.

(7) أي: بذلك الربط الخاص كانت العلة مؤثرة. و ضمير «أجزائها» راجع على العلة،

ص: 227

لا في غيره (1) و لا غيرها (2) فيه، و إلاّ لزم أن يكون كل شيء مؤثرا في كل شيء، و تلك الخصوصية لا يكاد توجد فيها (3) بمجرد إنشاء مفاهيم العناوين (4)، و مثل (5) قول: دلوك الشمس سبب لوجود الصلاة إنشاء (6) لا إخبارا، ضرورة: بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السببية له من كونه واجدا لخصوصية مقتضية لوجوبها،..

=============

و المراد بالأجزاء هو المقتضي و الشرط و عدم المانع.

(1) أي: في غير هذا المعلول الخاص من سائر معاليل العلل الأخرى.

(2) أي: و لا غير العلة في المعلول، فالربط الخاص يقتضي عدم تأثير كل علة في معلول معين، للزوم السنخية، فسخونة الماء و الإحراق لا تؤثر فيهما إلاّ علة معيّنة و هي النار.

قوله: «و إلاّ لزم أن يكون كل شيء مؤثرا في كل شيء» يعني: و إن لم يكن في أجزاء العلة ربط خاص لزم أن يكون كل شيء مؤثرا في كل شيء؛ لما عرفت من: أن تأثير كل جزء من أجزاء العلة سواء كان سببا أم غيره لا بد من استناده إلى خصوصية ذاتية فيه بها يؤثر في المعلول، و تلك الخصوصية لا تقبل الجعل الشرعي لا أصالة و لا تبعا.

(3) يعني: تلك الخصوصية التكوينية لا توجد في السبب و الشرط و المانع و الرافع بمجرد الإنشاء مع قصد حصولها، لفرض عدم كونها كالأحكام التكليفية و بعض الوضعيات من الأمور الاعتبارية، فإن التكوين لا يوجد بالتشريع، فاندفع بقوله: «و تلك الخصوصية» احتمال الجعل الاستقلالي للسببية و أخواتها كما نسب إلى المشهور.

(4) يعني: مفهوم السببية و أخواتها.

(5) عطف على «إنشاء» يعني: بمجرد «مثل قول:...».

(6) و هو قصد حصول المعنى باللفظ أو بآلة أخرى كالفعل في المعاطاة، و المراد بالإخبار: هو الحكاية عن تحقق المعنى في موطنه المناسب له. و مقصوده «قدس سره»: أن ما تقدم من امتناع إيجاد خصوصية السببية في مثل الدلوك بقوله: «الدلوك سبب لوجوب الصلاة» إنما هو إذا كان الكلام إنشاء أي: قصد به تحقق أحد هذه العناوين كالسببية بمجرد هذا الجعل ممن بيده أمر التشريع، و أما إذا قصد بهذا الكلام الإخبار عن ثبوت الخصوصية الذاتية للدلوك و نحوه؛ فعدم تحقق السببية بهذا الكلام واضح؛ لعدم اقتضاء الإخبار و الحكاية تحقق هذه العناوين أصلا؛ إذ لو كانت موجودة في الواقع كان الإخبار صدقا و إلاّ فهو كذب، و ليس شأن الخبر إيجاد ما ليس بموجود، و إنما هو شأن الإنشاء.

ص: 228

أو فاقدا لها (1)، و إن (2) الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما (3) يدعو إلى وجوبها، و معه (4) تكون واجبة لا محالة و إن لم ينشأ السببية للدلوك أصلا.

و منه (5) انقدح أيضا عدم صحة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده (6)؛ لعدم اتصافه (7) بها بذلك ضرورة.

نعم (8)؛ لا بأس...

=============

قوله: «ضرورة» تعليل لقوله: «لا يكاد توجد»، و هذا إشارة إلى بطلان القول المنسوب إلى المشهور من كون السببية و أخواتها مجعولة بالاستقلال و قد تقدم توضيحه.

(1) أي: للخصوصية، فلو كان الدلوك واجدا لتلك الخصوصية لم يؤثر الإنشاء في جعل السببية، و لو كان فاقدا لها فكذلك؛ إذ لا معنى لتأثير التشريع في التكوين بإعطاء ما هو فاقد له.

(2) عطف على «بقاء» و هو متمم التعليل.

(3) المراد بالموصول هو: تلك الخصوصية القائمة بالدلوك. و ضمير «وجوبها» راجع على الصلاة.

(4) الضمير راجع على الموصول المراد به الخصوصية، يعني: و مع تلك الخصوصية تكون الصلاة واجبة لا محالة و إن لم تنشأ السببية للدلوك أصلا.

(5) يعني: - و من عدم كون منشأ انتزاع السببية إلاّ الخصوصية الذاتية دون إنشاء السببية له - ظهر: عدم صحة انتزاع السببية حقيقة للدلوك من مثل إيجاب الصلاة عنده بدون تلك الخصوصية حتى تكون السببية مجعولة.

و هذا إشارة إلى بطلان القول بكون السببية و أخواتها مجعولة بتبع التكليف، و قد عرفت توضيحه.

و هذا و إن تقدم بيانه في المتن؛ لكنه لا بأس بإعادته لأجل التمهيد لأمر آخر و هو بيان ما يراد من إطلاق السبب على الدلوك في الأخبار، و سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

(6) هذا الضمير و ضمير «له» راجعان على الدلوك.

(7) أي: لعدم اتصاف الدلوك بالسببية بسبب إيجاب الصلاة عنده.

(8) استدراك على «عدم صحة انتزاع السببية له حقيقة».

و غرضه: أنه لا مانع من إطلاق السبب على الدلوك مجازا و لو بلحاظ تلازمهما في الوجود؛ لعدم انفكاك وجوب الصلاة عن الدلوك، فإنهما متلازمان وجودا، و لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ كعدم انفكاك المسبب عن سببه، و إلاّ فلا سببية و لا مسببية حقيقة،

ص: 229

باتصافه (1) بها عناية و إطلاق (2) السبب عليه مجازا، كما لا بأس (3) بأن يعبر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك - مثلا - بأنه سبب لوجوبها، فكنى به (4) عن الوجوب عنده.

فظهر بذلك (5): أنه لا منشأ لانتزاع السببية و سائر ما لأجزاء العلة (6) للتكليف إلاّ ما هي عليها (7) من الخصوصية الموجبة لدخل كل (8) فيه على نحو غير دخل الآخر (9)، فتدبر (10).

=============

لكون سببية الدلوك و وجوب الصلاة معا معلولين لتلك الخصوصية التكوينية، فاتصاف الدلوك بالسببية بإيجاب الصلاة عنده من دون تلك الخصوصية يكون مجازا، أو لإناطة المجعول التشريعي به، فيكون ثابتا بثبوته التشريعي و من خصوصياته، فينسب الجعل إليه مجازا.

(1) أي: باتصاف الدلوك بالسببية بعناية التلازم في الوجود.

(2) عطف على «اتصافه» و مفسر له.

(3) هذا دفع لما قد يتوهم - من دلالة بعض النصوص على كون الشيء الفلاني سببا للحكم الفلاني - من أن السببية قابلة للجعل الشرعي حقيقة كقابلية الأحكام التكليفية له.

و حاصل وجه الدفع: أن هذا التعبير كناية عن إنشاء الوجوب للصلاة مثلا عند الدلوك؛ لا أن المجعول حقيقة هو السببية كما ربما يكون ذلك ظاهر الكلام.

(4) أي: بكونه سببا، و ضمير «عنده» راجع على الدلوك.

(5) أي: فظهر - ببطلان انتزاع السببية و أخواتها من الخطاب أصلا لا استقلالا و لا تبعا - أنه ينحصر منشأ انتزاع السببية في الخصوصية الذاتية.

(6) كالشرط و أخويه.

(7) الضمير راجع على الموصول المراد به الخصوصية، و ضمير «هي» راجع على أجزاء العلة.

(8) أي: كل واحد من أجزاء العلة في التكليف.

(9) لدخل بعضها سببيا و الآخر شرطيا. و هكذا.

(10) لعله إشارة إلى أن كلام المصنف لا يخلو من الإشكال؛ لأن ما أفاده المصنف - من انتزاع السببية من ذات السبب و كونها من خارج المحمول - لا يخلو من شيء؛ لما أفيد من أنه خلط بين موضوعات التكاليف و ملاكاتها، فإن الخصوصية التكوينية المقتضية لتشريع الحكم و إن امتنع انتزاعها عن الحكم، لتأخره عنها، إلاّ إنه ليس محل البحث، إذ

ص: 230

و أما النحو الثاني (1):

فهو كالجزئية و الشرطية و المانعية لما هو جزء المكلف به و شرطه و مانعة و قاطعه، و حيث إن اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما لا يكاد يكون إلاّ بالأمر بجملة أمور مقيدة بأمر وجودي أو عدمي، و لا يكاد الكلام في سبب المجعول لا الجعل، و من المعلوم: عدم ترتب الحكم على موضوعه إلاّ بعد وجوده و فعليته، و يكون تأخره عنه رتبيا لا زمانيا، و هو بمنزلة المعلول في عدم انفكاكه عن العلة زمانا، و حينئذ يكون منشأ انتزاع السببية - أعني: الحكم - مقارنا لوجود الموضوع لا متأخرا عنه حتى يلزم تأخر ما هو المتقدم.

=============

و هنا كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(1) يعني: ما لا يمكن الجعل فيه إلاّ تبعا للحكم التكليفي، و هو كل ما له دخل في المكلف به؛ بأن يكون جزءا أو شرطا أو مانعا أو قاطعا له.

و حاصل ما أفاده في هذا القسم هو: أن جزئية شيء للمأمور به و أخواتها لا تنتزع إلاّ من أمر يتعلق بأمور متعددة تقوم مصلحة واحدة تدعو الشارع أو غيره ممن بيده الاعتبار إلى إنشاء أمر واحد و حكم فارد بتلك الأمور، و ما لم يتعلق أمر وحداني بها لا يتصف شيء منها بالجزئية للمأمور و المكلف به، بداهة: أن اتصاف شيء بكونه مأمورا به منوط بتعلق الأمر به، فاتصاف ما له دخل في متعلق الأمر بالجزئية و نحوها موقوف أيضا على تعلق الأمر بجملة تلك الأمور.

فالمتحصل: أن الجزئية للمأمور به و كذا الشرطية و المانعية و القاطعية له منتزعة عن الأمر المتعلق بعدة أمور متشتتة يجمعها غرض واحد مقيدة بأمر وجودي كالطهارة في الصلاة، أو عدمي كعدم لبس الحرير و ما لا يؤكل فيها.

و عليه: فالقسم الثاني من الأحكام الوضعية لا يكون إلا مجعولا بتبع الحكم التكليفي، و لا جعل لها بالاستقلال؛ لأن جزئية السورة مثلا لا تنتزع إلاّ عن الأمر المتعلق بجملة أمور، فبدون هذا الأمر لا تنتزع جزئيتها للمأمور به، و إن قال الشارع: «جعلت السورة جزءا للصلاة» لما عرفت من توقف جزئية شيء للمأمور به على تعلق الأمر بعدة أمور.

و كيف كان؛ فالأشياء الأربعة المذكورة في المتن قابلة للجعل تبعا و ليست قابلة للجعل استقلالا: و أما أن هذه الأمور قابلة للجعل تبعا فلأنه إذا ورد أمر بجملة أمور تدريجية متصلة مقيدة بوجود شيء و عدم شيء آخر كانت تلك الأمور أجزاء، و ما يقطع هذا الاتصال قاطعا، و ما أخذ وجوده قيدا شرطا، و ما أخذ عدمه قيدا مانعا، فإذا ورد

ص: 231

يتصف شيء بذلك - أي: كونه جزءا أو شرطا (1) للمأمور به - إلاّ بتبع ملاحظة الأمر بما (2) يشتمل عليه مقيدا بأمر (3) آخر، و ما لم يتعلق بها (4) الأمر كذلك لما كاد اتصف (5) بالجزئية (6) أو الشرطية؛ و إن أنشأ الشارع...

=============

الأمر بالتكبير و القراءة و الركوع و السجود بشرط الاتصال مقيدة بالطهارة و عدم لبس غير المأكول؛ كانت الأربعة - التكبير و أخواتها - أجزاء، و الضحك المنافي للاتصال قاطعا، و الطهارة شرطا، و لباس غير المأكول مانعا.

و أما أن هذه الأمور غير قابلة للجعل استقلالا: فلأنه لو لم يأمر الشارع بالصلاة ثم قال: الركوع جزء أو الطهارة شرط لم يفد قوله هذا في تشريع الجزئية و الشرعية؛ إذ لا شيء مأمور به حتى يكون له جزء و شرط.

ثم إن المصنف «قدس سره» بيّن وجه إمكان الجعل التبعي بقوله: «حيث إن اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما» كمانعيته و قاطعيته «لا يكاد يكون إلاّ بالأمر بجملة أمور» كالركوع و السجود و التكبير «مقيدة بأمر وجودي» كالطهارة «أو عدمي» كالضحك و لبس غير المأكول.

(1) أو مانعا أو قاطعا، و إن أمكن شمول الشرط - بمعنى أوسع - للمانع و القاطع؛ بأن يراد بالشرط مطلق ما لخصوصيته دخل في المشروط وجوديا كان أو عدميا.

(2) متعلق بالأمر، و ضمير «عليه» راجع على «شيء»؛ و الضمير الفاعل المستتر في «يشتمل» راجع على الأمر، و «مقيدا» حال من فاعل «يشتمل».

ص: 232

له (1) الجزئية أو الشرطية.

و جعل (2) الماهية و أجزائها ليس إلاّ تصوير ما فيه المصلحة المهمة الموجبة للأمر بها، فتصورها بأجزائها و قيودها لا يوجب اتصاف شيء منها بجزئية المأمور به أو شرطيته قبل الأمر بها (3)، فالجزئية للمأمور به أو الشرطية له إنما ينتزع لجزئه أو شرطه (4) و أوامر الأجزاء و إن كانت ارتباطية، لتقيد وجوب السورة بوقوعها بعد التكبير و قبل الركوع، فكل منها ملحوظ بشرط شيء، لكن هذه المتكثرات قد عرض عليها الوحدة بتعلق أمر واحد نفسي بالمركب منها، و لا يتوقف انتزاع الجزئية على تقيد ذلك الأمر بالمركب بشيء آخر، و إنما يتوقف انتزاع الشرطية على التقيد بأن يقال: «صلّ متطهرا».

=============

(1) أي: لذلك الشيء، و حاصله: أن إنشاء الجزئية و نحوها بالاستقلال لا يجدي في اتصاف شيء بالجزئية و نحوها ما لم يتعلق أمر بجملة أمور قائمة بمصلحة واحدة كالنهي عن الفحشاء بالنسبة إلى الأمر بماهية الصلاة، لما عرفت من: كون اتصاف مركب بعنوان المأمور به متقوما بتعلق الأمر و الطلب به، فما لم يتعلق أمر بمركب لا يتصف أجزاؤه بكونها أجزاء المأمور به؛ و إن اتصفت بكونها أجزاء المركب و الماهية و ذي المصلحة كما لا يخفى.

(2) دفع لما يتوهم من أن الشارع إذا جعل ماهية و اخترع أمرا مركبا من عدة أمور مقيدة بأمور خاصة فبمجرد جعله لها و اختراعه لكل جزء من أجزائها عنوان الجزئية، و لكل قيد من قيودها عنوان الشرطية من قبل أن يأمر بها و يتعلق بها التكليف، و عليه:

فلا تكون الجزئية أو الشرطية مجعولة بتبع التكليف.

و حاصل الدفع: أن جعل الماهية و اختراعها ليس إلاّ تصورها بأجزائها و قيودها، و أنها مما فيه مصلحة ملزمة مقتضية للأمر بها. و من المعلوم: أن مجرد تصورها كذلك مما لا يوجب اتصاف شيء من أجزائها و لا شرائطها بالجزئية للمأمور به أو الشرطية له؛ ما لم يؤمر بتلك الماهية و يتعلق التكليف بها.

و بالجملة: ما لم يتعلق الأمر بالماهية المركبة لم يتصف شيء من أجزائها و لا شرائطها بكونه جزءا أو شرطا للمأمور به؛ و إن اتصف بكونه جزءا أو شرطا للماهية المتصورة أو المشتملة على المصلحة الملزمة. فقوله: «و جعل» مبتدأ خبره «ليس إلاّ».

(3) الضمائر المؤنثة من «بها» إلى هنا راجعة على الماهية، و «قبل الأمر» ظرف ل «اتصاف».

(4) هذا الضمير و ضميرا «له، لجزئه» راجعة على المأمور به.

ص: 233

بملاحظة الأمر بلا حاجة إلى جعلها (1) له، و بدون الأمر به (2) لا اتصاف بها أصلا و إن اتصف بالجزئية أو الشرطية للمتصور أو لذي المصلحة (3) كما لا يخفى.

و أما النحو الثالث

(4): فهو كالحجية و القضاوة و الولاية و النيابة و الحرية و الرقية

=============

(1) أي: بلا حاجة إلى جعل الجزئية و الشرطية لذلك الشيء جعلا مستقلا، فإن منشأ الانتزاع تعلّق الأمر بالكل الموجب لاتصاف جزئه و شرطه بالجزئية و الشرطية، و ضمير «جعلها» راجع على الجزئية و الشرطية.

(2) يعني: و بدون الأمر بالمأمور به لا اتصاف بالجزئية لأجزائه أصلا.

(3) و هو خارج عن محل البحث، لما عرفت من: أن منشأ انتزاع جزئية السورة مثلا للصلاة ليس دخلها في الوفاء بالغرض و لا في كونها بعض الملحوظ و إنما هو اتصاف الكل بالمطلوبية الناشئة من تعلق الطلب به المنبسط على كل جزء منه.

فتحصل مما ذكره المصنف في القسم الثاني: أن الشيء الذي له دخل في متعلق الأمر لا ينتزع عنوان الجزئية و نحوها له إلاّ بعد تعلق الأمر بجملة أمور مؤثرة في غرض واحد و ملاك فارد، فهذا القسم الثاني من الأحكام الوضعية ليس مجعولا بالاستقلال، بل بالتبع و العرض؛ لكونها منتزعة عن التكليف، فافترقت عن القسم الأول غير القابل للجعل أصلا و الأجنبي عن الحكم الوضعي قطعا، و عن القسم الثالث الآتي بيانه؛ لأنه مما يصح تطرق كل من الجعل الاستقلالي و العرضي إليه.

(4) من أنحاء الحكم الوضعي، و هو الذي يصح جعله استقلالا و يصح جعله تبعا للتكليف.

و بعبارة أخرى: أنه ما يكون قابلا للجعل أصالة بإنشائه مستقلا و تبعا للتكليف، و إن كان الصحيح كونه مجعولا بالاستقلال.

و ضابط هذا القسم: كل أمر اعتباري له أثر شرعا و عرفا كالحجية لخبر الواحد مثلا، «و القضاوة» بأن يكون لفرد حق فصل الخصومات و يكون أمره نافذا فيها، «و الولاية» بأن يكون لأحد حق التصرف في الشئون الاجتماعية أو في شئون القصّر و الغيّب.

و الأموات، «و النيابة» بأن يكون شخص نائبا عن الإمام «عليه السلام» مثلا فيجوز له أن يتصرف فيما لا يجوز لغير الإمام التصرف فيه من أمور الحسبة و الجهاد و إجراء الحدود، «و الحرية» بأن يكون شخص مختارا فيما يفعل مما أباحه الشرع. «و الرقية» بأن يكون شخص مقيدا لغيره في جميع الشئون باستثناء ما ألزمه الشارع، «و الزوجية» بأن يحل لأحد الوطء و النظر و تجب النفقة و تجب الإطاعة، «و الملكية» بأن يكون لأحد التصرف

ص: 234

في شيء كما أراد باستثناء ما منعه الشارع، «إلى غير ذلك» كجعل الوكالة لشخص، فإن الوكيل نائب عن الموكل فيما و كل فيه.

و كيف كان؛ فإن هذا النحو من الأحكام الوضعية يحتمل فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون منتزعا عن الحكم التكليفي؛ لإمكان انتزاعه عن الأحكام الشرعية التي تكون في مواردها، فيقال: الزوجية مثلا منتزعة عن جواز المباشرة و النظر و اللمس و نحوها، و إليه ذهب الشيخ «قدس سره» حيث أنكر جعل هذه الأمور الاعتبارية أصالة، و ادعى كونها منتزعة من التكليف.

و ثانيهما: أن يكون مجعولا بالاستقلال، يعني: جعل كل واحد من هذه الأمور الاعتبارية بالذات، و جعل أحكامها المترتبة عليها تبعا، فإن هذا القسم من الوضعيات لما كان من الأمور الاختراعية التي يدور وجودها في وعاء الاعتبار مدار لحاظ معتبرها و جعله، كان المهم في ترتب أحكامها عليها إنشاءها، سواء كان بعقد أم إيقاع على اختلافها، فتنتزع الملكية الواقعية من جعله تعالى شيئا ملكا لأحد كأمره «جلّ و علا» رسوله «صلى الله عليه و آله و سلم» بإعطاء فدك لبضعته الطاهرة سيدة نساء العالمين «عليها الصلاة و السلام»، و من إجازة التصرف و إباحته بأنحائه في مال معين، فإن كل واحد من هذين النحوين منشأ لانتزاع الملكية.

و اختار المصنف «قدس سره» الوجه الثاني. و عليه: فمدعاه مؤلف من عقدين إيجابي، و هو كون هذا القسم الثالث مجعولا بالاستقلال كالأحكام التكليفية، و سلبي و هو عدم كونه مجعولا بتبع الحكم التكليفي و منتزعا منه.

و استدل على العقد الإيجابي بوجه واحد، و على السلبي بوجوه ثلاثة.

و أما الدليل على العقد الإيجابي: فهو ما أشار إليه بقوله الآتي: «إلاّ إنه لا يكاد يشك في صحة انتزاعها من مجرد جعله تعالى»، و محصله - على ما في «منتهى الدراية، ج 7، ص 28» -: عدم الإشكال في صحة انتزاع الملكية و الزوجية و الحرية و نحوها من مجرد جعله تعالى أو من جعل من بيده الاعتبار بإنشاء مفاهيمها، من دون إناطتها بتكليف يصلح لانتزاعها منه، بل توجد هذه الاعتبارات بصرف إنشائها، كوجود الأحكام التكليفية بنفس إنشائها كإنشاء الملكية بالبيع أو الهبة و غيرهما من النواقل، و كإنشاء الزوجية بعقد النكاح و هكذا. و من المعلوم: أن المنشأ بالعقد و غيره نفس المفاهيم بلا دخل للحكم التكليفي.

ص: 235

و أما الوجه الأول من الوجوه الثلاثة التي استدل بها على العقد السلبي، فهو ما أشار إليه بقوله: «كما تشهد به ضرورة صحة انتزاع الملكية...»، و هذا شروع في إثبات العقد السلبي بوجوه يستفاد منها صحة العقد الإيجابي أيضا.

و حاصل هذا الوجه الأول: أنه لو كانت الزوجية منتزعة عن التكليف للزم عدم صحة اعتبارها إلا بملاحظة ذلك التكليف؛ كجواز النظر إلى الزوجة و اللازم باطل بالضرورة، فالملزوم مثله؛ إذ لا شبهة في صحة اعتبار الزوجية من إنشاء مفهومها بقوله:

«زوجتك فلانة»، من دون ملاحظة جواز النظر و وجوب الإنفاق و غيرهما من الأحكام التكليفية؛ بل و مع عدم التفاته إليها كما هو واضح و أما الملازمة فواضحة؛ إذ المفروض:

أنه لا منشأ لاعتبار الزوجية إلاّ التكليف فلا وجود لها بدونه.

و الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و للزم أن لا يقع ما قصد و وقع ما لم يقصد» و حاصله: أنه - بناء على مجعولية الملكية مثلا بتبع التكليف - يلزم أن يكون المقصود غير واقع و الواقع غير مقصود؛ إذ المقصود من قوله: «بعتك داري» مثلا هو إنشاء مفهوم البيع أعني: التمليك دون التكاليف الثابتة للملك كجواز التصرف، و المفروض: أن التمليك لا يتحقق بمجرد الجعل و الإنشاء؛ بل يتبع الأحكام، فاللازم حينئذ أن يكون الواقع بقوله:

«بعت» هو التكليف و المفروض: عدم قصده؛ إذ المقصود هو إيجاد الملكية و المفروض عدم وقوعها، لكونها تابعة للتكليف، فيلزم تخلف قاعدة تبعية العقود للمقصود، فلا محيص عن الالتزام بكون الملكية و نحوها من الأمور المجعولة أصالة لا تبعا.

و أما الوجه الثالث: فهو ما أشار إليه بقوله: «كما لا ينبغي أن يشك في عدم صحة انتزاعها عن مجرد التكليف»، و يحتمل فيه إرادة أحد أمرين:

الأول: أنه لا يصح انتزاع الملكية مثلا من التكليف؛ إذ قد يكون التكليف موجودا و لا يصح انتزاع الملكية منه كإباحة التصرفات في الإباحات الأصلية، و قد لا يكون التكليف موجودا فعلا مع وجود الملكية قطعا كما في شراء الولي متاعا للمولّى عليه من الصغير أو المجنون أو السفيه، فإن المولّى عليه يملك، مع عدم جواز التصرف له فعلا لمحجوريته.

و كذا الزوجية، فإنها لا تنتزع عن جواز المباشرة و نحوه من أحكامها، ضرورة:

جوازها في الأمة المملوكة و المحللة مع عدم كونها زوجة، و بداهة: وجود الزوجية مع حرمة المباشرة كما في الصغيرة و الحائض.

ص: 236

و الزوجية و الملكية، إلى غير ذلك حيث إنها و إن كان من الممكن (1) انتزاعها من الأحكام التكليفية التي تكون في مواردها - كما قيل - و من (2) جعلها بإنشاء أنفسها؛ إلاّ (3) إنه لا يكاد يشك في صحة انتزاعها من مجرد جعله تعالى أو من بيده الأمر (4) الثاني: أن هذه الاعتبارات كالزوجية و الملكية و نحوهما قد أخذت في الخطابات الشرعية موضوعات لأحكام كوجوب الإنفاق على الزوجية و حرمة التصرف في مال الغير بدون إذنه و نحو ذلك، و من المعلوم: أن الموضوع مقدم على الحكم رتبة، فإذا فرض تبعيته له لزم الدور، لترتب الزوجية حينئذ على الحكم لانتزاعها عنه، و تقدمها على الحكم؛ لكونها موضوعا له.

=============

و الفرق بين هذين الوجهين ظاهر، فإن الأول منهما ناظر إلى امتناع الانتزاع في بعض الموارد، فالدليل أخص من المدعى، و هو كاف في منع دعوى الانتزاع كلية، و الثاني ناظر إلى امتناع الانتزاع بالمرة لمحذور الدور الذي عرفته، فإنه برهان على استحالة الانتزاع عقلا حتى في مورد واحد؛ إذ لا معنى لانتزاع الملزوم من لازمه المتأخر عنه.

و تعبير المصنف ب «عدم صحة انتزاعها» و إن كان أوفق بالتقريب الثاني؛ لأنه يمنع الانتزاع كلية إلاّ إن إرادة التقريب الأول لعلها أقرب إلى مقصود المصنف، لإمكان تقريب الانتزاع بوجه لا يترتب عليه محذور الدور، و ذلك بعدم انتزاع الملكية و الزوجية من مطلق الأحكام التكليفية المتأخرة عن نفسها رتبة؛ بل أراد حكم خاص و هو ما أفاده في حاشية الرسائل بقوله: «معنى ما ذكرنا أنه يصح انتزاعه من الآثار التكليفية للمورد بما فيه من الخصوصيات المقتضية لها، لا عما اعتبر آثارا له منها كي يستلزم انتزاع الملزوم عن لازمه المساوق لتقدم المعلول على علته» كما في «منتهى الدراية، ج 7، ص 283».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) أي: و من المحتمل و إن كان هذا الاحتمال ضعيفا كما أشار إليه بقوله: «كما قيل»، و في هذا تعريض بما تقدم عن الشيخ «قدس سره» من انتزاع الوضع من التكليف حتى مثل ضمان الصبي لما أتلفه مع عدم مخاطبته بوجوب الأداء فعلا.

(2) عطف على «من الأحكام»، و ضمائر «أنها، جعلها، أنفسها، انتزاعها» راجعة على المذكورات من الحجية و ما تلاها.

(3) هذا شروع في إثبات العقد الإيجابي، و قد تقدم توضيح ذلك.

(4) و هو النفس المقدسة النبوية و الولوية «صلوات الله و سلامه عليهما».

ص: 237

من قبله «جلّ و علا» لها (1) بإنشائها؛ بحيث يترتب عليها آثارها، كما تشهد به (2) ضرورة صحة انتزاع الملكية و الزوجية و الطلاق و العتاق بمجرد العقد أو الإيقاع ممن (3) بيده الاختيار بلا ملاحظة (4) التكاليف و الآثار، و لو (5) كانت منتزعة عنها لما كاد يصح اعتبارها إلاّ بملاحظتها، و للزم (6) أن لا يقع ما قصد و وقع ما لم يقصد.

كما لا ينبغي (7) أن يشك في عدم صحة انتزاعها (8) عن مجرد التكليف في

=============

(1) هذا، و «بإنشائها» متعلقان ب «جعله»، و هذان الضميران كضميري «عليها، آثارها» راجعان على المذكورات في القسم الثالث من الحجية و غيرها. و «بحيث» بيان لإنشائها بأنفسها.

(2) أي: بما ذكر من صحة انتزاعه من مجرد جعله، و هذا شروع في إثبات العقد السلبي بوجوه يستفاد منها صحة العقد الإيجابي أيضا، و قد تقدم الكلام في الوجوه الثلاثة فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار رعاية للاختصار.

(3) و هو المالك في الأول، و الزوجة في الثاني، و الزوج في الثالث، و السيد في الرابع.

(4) متعلق ب «صحة انتزاع»، و المراد بالآثار: الأحكام الشرعية المترتبة على هذه العناوين الأربعة.

(5) أي: و الحال أن هذه الأمور لو كانت منتزعة عن التكاليف في مواردها امتنع اعتبارها بدون ملاحظة تلك التكاليف، مع أنه يصح الانتزاع بدون ملاحظتها؛ بل قد لا يكون في مورد الوضع تكليف أصلا كما في ملكية الصبي و المجنون لما انتقل إليهما بمثل الإرث؛ إذ ليس إباحة التصرف و نفوذه في مالها إلا للولي، و ليس لهما هذه الإباحة حتى تكون هي منشأ الانتزاع.

و انتزاع الملكية الفعلية لهما من جواز تصرفهما بعد البلوغ و الإفاقة مشكل جدا، ضرورة: أن فعلية الأمر الانتزاعي - و هي الملكية مثلا - تستدعي فعلية المنتزع عنه، و المفروض: عدم فعليته؛ إذ قلم التكليف مرفوع عنهما.

(6) هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة، و قد تقدم توضيحه.

(7) هذا هو الوجه الثالث، و قد تقدم تفصيل هذا الوجه الثالث، فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار حفاظا على ما هو المقصود من الاختصار.

(8) أي: الحجية و القضاوة و أخواتها مما تقدم، و ضمير «موردها» راجع على الحجية و أخواتها، و الأولى أن يقال: «في مواردها».

ص: 238

موردها، فلا (1) ينتزع الملكية عن إباحة التصرفات، و لا الزوجية عن جواز الوطء، و هكذا سائر الاعتبارات في أبواب العقود و الإيقاعات (2).

فانقدح بذلك (3): أن مثل هذه الاعتبارات إنما تكون مجعولة بنفسها يصح انتزاعها بمجرد إنشائها (4) كالتكليف، لا مجعولة بتبعه و منتزعة عنه.

وهم و دفع: أمّا الوهم (5) فهو: أن الملكية كيف جعلت من الاعتبارات الحاصلة

=============

(1) متفرع على عدم صحة انتزاع القسم الثالث من الأمور الوضعية عن التكاليف.

(2) فلا ينتزع الضمان من وجوب الغرامة بدفع بدل التالف، و لا الحجية من وجوب العمل بقول الثقة أو العادل أو المفتي، و لا البينونة في الطلاق من وجوب الاعتداد، و هكذا و الوجه في ذلك كله هو انفكاك الوضع عن التكليف، و عدم استلزام التكليف له دائما.

(3) أي: بما ذكرناه من الوجوه الثلاثة الدالة على بطلان انتزاع هذه الأحكام الوضعية من التكاليف في مواردها، و قوله: «فانقدح» نتيجة تلك الوجوه الثلاثة، حيث إن مقتضاها كون الاعتبارات المزبورة مجعولة بالاستقلال.

(4) هذا هو المراد بجعلها استقلالا و أصالة في قبال انتزاعها من التكليف. و ضميرا «بتبعه، عنه» راجعان على «التكليف».

(5) أما الوهم: فهو إشكال على جعل الملكية من الاعتباريات القابلة للجعل أصالة كالحجية و القضاوة و الولاية و نحوها.

فيقال في تقريب الإشكال و الوهم: إن عدّ الملكية من الاعتبارات القابلة للجعل غير سديد بل غير صحيح؛ و ذلك لأن الملكية من مقولة الجدة التي يكون لها ما يحاذيها في الخارج، فهي من المقولات المحمولات بالضميمة يعني: أنها توجد في الخارج كالهيئة الحاصلة من التعمم و نحوها؛ و من المعلوم: أن الملكية التي لها ما يحاذيها في الخارج أجنبية عن الملكية المجعولة بالإنشاء التي لا تكون إلا محض الاعتبار و لا وجود لها في الخارج، و لا ريب في أن الموجود الخارجي التكويني لا يوجد بالأمر الاعتباري؛ بل بالسبب التكويني كالتعمم.

و الحاصل: أن الملكية لا توجد بصرف الإنشاء، لأنها متأصلة و المتأصل لا يقبل الجعل الاعتباري فينبغي إخراج الملكية عن هذا السنخ من الأمور الوضعية.

و أما الدفع فتوضيحه يتوقف على مقدمة و هي أن الملك مشترك بين معنيين أحدهما:

هي المقولة التي يعبر عنها بالجدة و هي من المقولات التسع، و ثانيهما: هي الإضافة التي

ص: 239

بمجرد الجعل و الإنشاء التي تكون من خارج المحمول، حيث ليس بحذائها في الخارج شيء، و هي إحدى المقولات المحمولات بالضميمة (1) التي لا تكاد تكون بهذا السبب (2)؛ بل بأسباب أخر كالتعمم و التقمص و التنعل (3)، فالحالة الحاصلة منها قد تحصل بالعقد و قد تحصل بغيره من إرث و نحوه، فالذي هو من الأحكام الوضعية و الاعتبارات الحاصلة بالجعل و الإنشاء و يكون من خارج المحمول هو الملك بالمعنى الثاني و الذي هو من الأعراض المتأصلة، و يكون من المحمولات بالضميمة، أي: التي لا تحصل بالجعل و الإنشاء هو الملك بالمعنى الأول.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المراد بالملك في المقام هو المعنى الثاني و هو يقبل الجعل و الإنشاء و الملك الذي لا يقبل الإنشاء هو معناه الأوّل فلا ينبغي أن يشتبه أحدهما بالآخر حتى يقال: بعدم صحة اعتبار الملكية بمجرد الإنشاء.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

قوله: «خارج المحمول» و قد فسر الخارج المحمول بما ينتزع عن ذات الشيء بدون ضم ضميمة إليه كالإنسانية المنتزعة عن ذات الإنسان بدون ضم شيء إليها كما يشهد له قول الحكيم السبزواري:

«و الخارج المحمول من صميمه *** يغاير المحمول بالضميمة»

و يطلق على كل ما لا يحاذيه شيء في الخارج، فالملكية المجعولة بقوله: «بعت» لا يطلق عليها الخارج المحمول لوجود ما بحذائها في الخارج، «حيث» تعليل لكون الاعتبارات المذكورة من الخارج المحمول الذي لا يحاذيه شيء في الخارج؛ إذ ليس لتلك الأمور الاعتبارية ما يحاذيها في الخارج. و الواو في قوله: «و هي إحدى...». للحال من نائب «جعلت»، يعني: و الحال أن الملكية إحدى المقولات التسع، فكيف تعدّ أمرا اعتباريا؟ كما هو حال الأحكام الشرعية.

(1) و هي باصطلاح أهل المعقول المحمولات المنتزعة عن الشيء مع ضميمة كالأسودية المنتزعة عن الجسم المتلون بالسواد، فالمحمول بالضميمة هو ما يحاذيه شيء في الخارج كالهيئة الحاصلة من التعمم و نحوه.

(2) أي: بالجعل و الإنشاء، بل بأسباب أخر تكوينية كالتعمم و التقمص و نحوهما.

(3) و هي هيئة تحصل بسبب كون جسم في محيط بكله أو بعضه بحيث ينتقل المحيط بانتقال المحاط، فتلك الهيئة الحاصلة بلبس القميص المنتقل بانتقال لابسه هو الملك، و هذا المعنى الخارجي أجنبي عن الملكية الاعتباريّة الحاصلة بالعقد.

ص: 240

للإنسان هو الملك، و أين هذه (1) من الاعتبار الحاصل بمجرد إنشائه ؟

و أما الدفع (2) فهو: أن الملك يقال بالاشتراك على ذلك و يسمي بالجدة أيضا (3)، و على (4) اختصاص شيء بشيء خاص و هو (5) ناش إما من جهة إسناد وجوده إليه؛ ككون العالم ملكا للباري «جلّ ذكره» (6)، أو من جهة الاستعمال و التصرف فيه؛ ككون الفرس لزيد بركوبه له (7) و سائر تصرفاته فيه (8)، أو من جهة إنشائه (9) و العقد مع من اختياره (10) بيده؛ كملك الأراضي و العقار البعيدة للمشتري بمجرد عقد البيع

=============

(1) أي: و أين هذه الحالة المسماة بالملك و الجدة من الاعتبار الحاصل بالإنشاء.

(2) محصل ما أفاده في دفع التوهم المزبور: أن الملك مشترك لفظي بين معنيين:

أحدهما: إطلاقه على الجدة و هذا ليس بمراد هنا.

ثانيهما: إطلاقه على اختصاص شيء بشيء الذي هو من مقولة الإضافة، و هذا هو المراد هنا. و الذي يقبل الإنشاء هو المعنى الثاني المقصود في المقام، و الذي لا يقبل الإنشاء هو المعنى الأول الذي لا يكون مرادا هنا.

(3) يعني: كما يسمى بالملك.

(4) عطف على «ذلك»، و هذا شروع في بيان المعنى الثاني للملك. و قد عرفت توضيحه.

(5) أي: و الاختصاص ناش إما من إسناد وجود شيء إلى شيء... الخ.

(6) فمن جهة إفاضة الوجود يكون العالم مضافا إليه تعالى و ملكا له. و قد يكون هذا الاختصاص من جهة كون المختص به واسطة في انفتاح أبواب الفيض و البركات على الشيء المختص؛ ككون الأرض و ما فيها ملكا للنبي و الإمام «عليهما السلام» لما ورد عن عاشر أئمة أهل البيت «عليهم الصلاة و السلام»: «بكم فتح الله و بكم يختم و بكم ينزل الغيث و بكم يمنع السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه»(1).

(7) الأولى تبديله ب «عليه».

(8) كسقي الزرع به و حمل الأثقال عليه، و مثل هذه التصرفات حيازة المباحات، فإن حيازتها بالتصرف فيها توجب الاختصاص كركوب الفرس.

(9) أي: إنشاء الاختصاص و «أو من» كسابقه عطف على «إما من».

(10) الظرف متعلق بالعقد، و الضمير راجع على الشيء، و «للمشتري، بمجرد» متعلقان ب «الملك». و المراد به «من» الموصولة: من له ولاية التصرف في المال سواء كان

ص: 241


1- الفقيه 615:2، تهذيب الأحكام 99:6.

شرعا و عرفا (1)، فالملك الذي يسمى بالجدة أيضا (2) غير الملك الذي هو اختصاص ناش من سبب اختياري كالعقد أو غير اختياري كالإرث (3) و نحوهما (4) من الأسباب الاختيارية و غيرها.

فالتوهم إنما نشأ من إطلاق الملك على مقولة الجدة أيضا (5) و الغفلة (6) عن أنه مالكا له أم نائبا عن المالك بنحو من أنحاء النيابة أم وليا عليه. و التقييد بالبعيدة لإخراج الاختصاص الناشئ من التصرف و الاستعمال كركوب الفرس؛ بأن تمحّض منشؤه في العقد و الإنشاء، و لذا خصه بالمشتري، مع أن البائع أيضا يملك الثمن، لكن يمكن أن يكون منشأ اختصاصه بالثمن هو التصرف فيه؛ إذ الغالب في المعاملات كون الثمن من النقدين و نحوهما مما هو مورد التصرف و الابتلاء غالبا.

=============

و الحاصل: أن الاختصاص قد يحصل بعقد من له الولاية على التصرف، فالمشتري يملك العقار مثلا بسبب العقد مع ولي التصرف في العقار كالمالك أو وليه أو وكيله.

(1) قيدان للملك، و الفرق بينهما واضح؛ إذ قد يحصل الملك عرفا فقط. كما في بيع الخمر و الخنزير، فحصول الملك شرعا و عرفا بالبيع منوط بكون المال صالحا للانتقال شرعا كالأعيان المحللة نظير الحنطة.

(2) يعني: كما يسمى بالملك.

(3) المراد به: الموت، فالأولى تبديله به؛ لأنه السبب غير الاختياري للملك بمعنى الاختصاص في مقابل السبب الاختياري له كالعقد.

(4) الضمير يرجع إلى خصوص العقد و الإرث بقرينة قوله: «و من الأسباب الاختيارية و غيرها».

(5) كما يطلق على الأمر الاعتباري، و هو الاختصاص الذي يكون من مقولة الإضافة.

(6) عطف على «إطلاق»، و ضمير «أنه» راجع على «إطلاق» يعني: أن منشأ التوهم هي الغفلة عن كون الملك مشتركا لفظيا بين الجدة و الإضافة و هي الاختصاص، فعن صدر المتألهين - بعد ذكر مقولة الجدة و إطلاق الملك عليها - ما لفظه: «و قد يعبر عن الملك بمقولة له، فمنه طبيعي ككون القوى في النفس، و منه اعتبار خارجي ككون الفرس لزيد، ففي الحقيقة الملك يخالف هذا الاصطلاح، فإن هذا من مقولة المضاف لا غير»(1).

ص: 242


1- الحكمة المتعالية 223:1.

بالاشتراك بينه (1) و بين الاختصاص الخاص و الإضافة الخاصة الإشراقية كملكه تعالى للعالم، أو المقولية (2) كملك غيره تعالى لشيء بسبب من تصرف و استعمال أو إرث أو عقد أو غيرهما من الأعمال (3)، فيكون (4) شيء ملكا لأحد بمعنى، و لآخر بالمعنى الآخر، فتدبر.

إذا عرفت اختلاف الوضع في الجعل (5)، فقد عرفت أنه لا مجال لاستصحاب

=============

(1) يعني: بين الملك المقولي و بين الإضافة الخاصة الحاصلة بإحدى الموجبات المذكورة، و الأولى أن يقال: «بينهما» لرجوع الضمير إلى مقولة الجدة حقيقة.

(2) عطف على: «الإشراقية» و هي في غيره تعالى.

(3) الموجبة للملكية الاختيارية أو الاضطرارية، و قد تقدم تفصيل ذلك.

(4) هذا متفرع على اختلاف معنى الملك و تعدده، فإن ملكية العين التي استولى الغاصب عليها متصرفا فيها تصرفا خارجيا تكون بمعنى الجدة؛ لأنها - كما تقدم - هي الهيئة الخاصة الحاصلة من إحاطة شيء بشيء كالعمامة و القميص المحيطين بالبدن، و ملكية تلك العين كالعمامة لمالكها الشرعي تكون بمعنى الاختصاص الذي هو إضافة مقولية.

«فتدبر» لعله إشارة على منع كون الملك مشتركا لفظيا بين الجدة و الاختصاص الذي هو من الإضافة الإشراقية أو المقولية لإمكان أن يقال: إن الملك بمعنى الاختصاص القابل للإنشاء هو الملك بمعنى الجدة.

غاية الأمر: أن الملك الإنشائي هو الجدة ادعاء فتدبر.

أو إشارة إلى الإشكال في أصل المطلب و أن الملك و نحوه من الأحكام الوضعية ليست هي في الحقيقة أشياء في مقابل الأحكام التكليفية، و إنما هي عبارة مجملة من عدة من الأحكام التكليفية. و في المقام كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(5) يعني: إذا عرفت أن قسما منه غير قابل للجعل الشرعي لا أصالة و لا تبعا؛ بل هو أمر تكويني ذاتي كالسببية و غيرها من أجزاء علة التكليف و قسما منه ليس إلاّ مجعولا بتبع التكليف و هو الجزئية و غيرها مما يكون دخيلا في متعلق التكليف، و قسما منه مجعول بالاستقلال، تعرف حال التفصيل المنسوب إلى الفاضل التوني «رحمه الله» في اعتبار الاستصحاب بين التكليف و الوضع بجريانه في الثاني دون الأول، حيث إن القسم الأول من الوضع لا يجري فيه الاستصحاب أصلا لعدم كونه حكما شرعيا و لا موضوعا له. و مجرد ترتب الحكم الشرعي كوجوب الصلاة على السبب كالدلوك لا يصحح جريان الاستصحاب في السببية؛ إذ ليس ترتب الحكم الشرعي على سببه شرعيا

ص: 243

دخل ما له الدخل (1) في التكليف، إذا شك في بقائه على ما كان من الدخل (2)؛ لعدم (3) كونه حكما شرعيا، و لا يترتب عليه أثر شرعي. و التكليف (4) و إن كان مترتبا عليه؛ إلاّ إنه ليس بترتب شرعي (5) فافهم (6).

=============

بل هو عقلي، و من المعلوم: أن اتصاف الحكم بكونه شرعيا منوط بأمرين: أحدهما: أن يكون مما أنشأه الشارع، و الآخر: أن يكون ترتبه شرعيا أيضا، كما إذا قال: «المستطيع يجب عليه الحج»، فإن ترتب وجوب الحج على المستطيع شرعي؛ لأن المستطيع موضوع في لسان الخطاب للوجوب. و هذا بخلاف سببية الدلوك، فإن ترتب الوجوب عليها ليس شرعيا لأن ترتب الوجوب عليه مستند إلى الخصوصية الذاتية الكامنة فيه، و ليس كترتب وجوب الحج على المستطيع حتى يصح استصحاب سببية الدلوك إذا شك في بقائها كصحة استصحاب الاستطاعة إذا شك في بقائها، ففرق واضح بين استصحاب الاستطاعة و استصحاب سببية الدلوك.

و الحاصل: أن الاستصحاب لا يجري في القسم الأول من الأحكام الوضعية و هو ما لا تناله يد الجعل أصلا. و يجري في القسم الثاني و هو ما يكون مجعولا بالتبع كالجزئية المنتزعة عن الحكم التكليفي المتعلق بجملة أمور. كما يجري في القسم الثالث أيضا بالأولوية، لكونه كالحكم التكليفي مجعولا مستقلا.

(1) كالسببية و الشرطية و المانعية للتكليف.

(2) تفسير للموصول في «ما كان» و المراد به السببية و نحوها.

(3) تعليل لقوله: «لا مجال» و عدم كون مثل السببية حكما شرعيا واضح؛ لأنها أمر ذاتي تكويني غير قابل للجعل التشريعي.

(4) الأولى أن يقال: «و لا ما يترتب...»، و المقصود: أنه ليس موضوعا لحكم شرعي حتى يندرج في استصحاب الموضوعات ذوات الآثار الشرعية.

(5) يعني: أن هذا الترتب الشرعي مما لا بد منه في استصحاب الموضوعات، فإذا علمنا بوجوب المقتضي لوجوب الصلاة و بوجود مانعة، ثم علمنا بارتفاع المانع و شك في بقاء المقتضي لم يجر استصحاب بقاء المقتضي، لعدم كون المقتضى بنفسه حكما شرعيا و لا موضوعا له، و إنما هو داع للشارع إلى إنشاء الوجوب عند تحققه، على تقدير بقائه يترتب عليه الحكم؛ لكن الإشكال كله في عدم كون هذا الترتب شرعيا، فإن ترتب المسبب على سببه ليس بيد الشارع و إنما هو أمر واقعي.

(6) لعله إشارة إلى إمكان عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين الموضوع و السببية بأن يقال: إن مجرد كون السببية أمرا ذاتيا لا يمنع عن جريان الاستصحاب و إلاّ لما جرى

ص: 244

و أنه (1) لا إشكال في جريان الاستصحاب في الوضع المستقل بالجعل. حيث إنه كالتكليف (2)، و كذا ما كان مجعولا بالتبع (3)، فإن أمر وضعه و رفعه بيد الشارع و لو بتبع منشأ انتزاعه (4)، و عدم (5) تسميته حكما شرعيا - لو سلم - غير ضائر بعد كونه مما تناله يد التصرف شرعا.

=============

في الموضوع أيضا؛ لأن موضوعية الموضوع تكون أيضا بما فيه من الملاك تكوينا، و إلاّ يلزم الجزاف.

أو إشارة إلى: أنه لو تم هذا لأشكل في استصحاب عامة الموضوعات الشرعية، فإن ترتب التكليف عليها ليس إلاّ لخصوصية ذاتية فيها. على أنه يمكن أن يقال: بعدم تسليم كون السبب و نحوه حقيقيا بل هو أمر صوري و إنما العلّة إرادة الشارع، فليس ترتب وجوب الصلاة على الدلوك مثلا من قبيل ترتب المعلول على العلة.

(1) عطف على «أنه لا مجال» و قد عرفت توضيحه، و ضمير «أنه» للشأن.

(2) في جريان الاستصحاب فيه بالبداهة، فإن القسم الثالث مجعول بالأصالة، و ضمير «أنه» راجع على «الوضع».

(3) و هو القسم الثاني من الأقسام التي ذكرها في الأحكام الوضعية، و لذا أجرى المصنف البراءة الشرعية في الجزئية في بحث الأقل و الأكثر الارتباطيين؛ لأنها مما تنالها يد الجعل و لو تبعا لجعل منشأ انتزاعها.

(4) هذا الضمير و ضميرا «وضعه، رفعه» راجعة على الموصول في «ما كان» المراد به الحكم الوضعي، و حاصله: أن الجزئية يجري فيها الاستصحاب وجودا و عدما باعتبار منشأ انتزاعها و هو الأمر الضمني المتعلق بالسورة مثلا.

(5) مبتدأ خبره «غير ضائر»، و هو إشارة إلى توهم و دفعه.

أما التوهم فحاصله: أن عدم تسمية المجعول التبعي - كالجزئية للمأمور به - حكما شرعيا في الاصطلاح يقدح في جريان الاستصحاب فيه.

و أما الدفع فملخصه: أن ذلك غير قادح في جريانه، لأن مناط صحة جريانه ليس هو صدق الحكم اصطلاحا على المستصحب بل مناطها هو كونه مما يؤخذ من الشارع و إن لم يصدق عليه الحكم اصطلاحا كالماهيات المخترعة الشرعية كالصلاة و الحج و غيرهما، ضرورة: جريان الأصول العملية فيها مع عدم صدق الحكم عليها.

هذا مضافا إلى: أن منع صدق الحكم على كل ما يكون أمر وضعه و رفعه بيد الشارع غير مسلم، و إليه أشار بقوله: «لو سلم».

ص: 245

نعم؛ لا مجال لاستصحابه (1) لاستصحاب سببه و منشأ انتزاعه (2) فافهم (3).

=============

(1) أي: لاستصحاب ما كان مجعولا بالتبع، و هذا استدراك على جريان الاستصحاب في المجعول التبعي، و حاصله: أن الاستصحاب و إن لم يكن مانعا من جريانه فيه؛ إلاّ إنه لا تصل النوبة إلى جريانه فيه لوجود الأصل الحاكم، و هو استصحاب الحكم التكليفي الذي ينتزع عنه الجزئية و نحوها.

(2) هذا الضمير و ضمير «سببه» راجعان على المجعول التبعي، و المراد به بالسبب و منشأ الانتزاع هو الحكم التكليفي كما عرفت آنفا.

(3) لعله إشارة إلى جريان الاستصحاب في المجعول التبعي إذا كان للأصل الحاكم معارض يمنع عن جريانه في السبب كاستصحاب عدم وجوب الأقل نفسيا المعارض لاستصحاب عدم الأكثر كذلك، فإنه يجري حينئذ استصحاب عدم جزئية المشكوك بلا مانع إذا فرض ترتب أثر شرعي على هذا الاستصحاب في نفسه، و إلاّ فلا، كما إذا قلنا: إن الجزئية و نحوها من الأمور الانتزاعية ليست موضوعات للآثار؛ لعدم قيام المصلحة بأمر انتزاعي، و على هذا فيكون المجعول التبعي كالقسم الأول و هو السببية و نحوها للتكليف في عدم جريان الاستصحاب فيه.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

و يتلخص البحث في أمور:

1 - في التفصيل المنسوب إلى الفاضل التوني، و هو جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية دون الأحكام التكليفية.

توضيح هذا التفصيل صحة و فسادا: يتوقف على ذكر أمور من باب المقدمة:

الأول: هو الفرق بين الحكم التكليفي و الحكم الوضعي مفهوما، فلا ريب في أن مفهوم الوضع يخالف مفهوم التكليف على نحو التباين الكلي، و أما مصداقا: فالنسبة بينهما هي عموم من وجه مادة الاجتماع كالملكية و إباحة التصرف، و مادة الافتراق من جانب التكليف؛ كجواز أكل الضيف من طعام المضيف.

و مادة الافتراق من جانب الوضع: كمن كان محجورا عن التصرف في ماله شرعا كالمجنون و السفيه.

الثاني: صحة تقسيم الحكم ببعض معانيه إلى التكليفي و الوضعي، و الشاهد على ذلك: كثرة إطلاق الحكم على الحكم الوضعي في كلماتهم.

الثالث: أن الأحكام التكليفية محصورة في الخمسة و هي: الوجوب و الحرمة

ص: 246

و الاستحباب و الكراهة و الإباحة بلا خلاف أصلا، و لكن الأحكام الوضعية ففي كونها محصورة خلاف قيل: إنها محصورة، و قيل: إنها غير محصورة.

2 - الكلام في تحقيق حال الوضع:

فيقال: إن الحكم الوضعي على ثلاثة أقسام:

منها: ما لا يقبل الجعل الشرعي أصلا لا استقلالا و لا تبعا للتكليف.

و منها: ما يقبله تبعا للتكليف لا استقلالا.

و منها: ما يقبل الجعل بكلا قسميه أي: استقلالا و تبعا.

و القسم الأول: كالسببية و الشرطية و المانعية و الرافعية.

فإن هذه الأمور أمور تكوينية توجد بأسبابها التكوينية لا بالجعل و الإنشاء.

و الثاني: كجزئية السورة تقبل الجعل تبعا للتكليف المتعلق بأمور منها السورة.

و الثالث: كالملكية حيث تقبل الجعل بكلا قسميه، إما استقلالا: فمثل جعل الشارع و إمضائه الملكية عند تحقق عقد.

و إما تبعا: فكانتزاع الملكية من الحكم بإباحة تصرف كل من البائع و المشتري في العوضين بعد العقد.

3 - نتيجة هذه الأمور: فيقال بعد هذه الأمور من باب المقدمة: أنه لا يجري الاستصحاب في جميع أقسام الوضع؛ بل يجري في القسم الثالث المجعول استقلالا، و لا يجري في القسم الأول أصلا و أما في القسم الثاني و هو المجعول تبعا للتكليف فيجري الاستصحاب على ما هو ظاهر كلام المصنف.

فالحكم بجريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية مطلقا دون الأحكام التكليفية كما هو ظاهر الفاضل التوني «رحمه الله» غير سديد بل غير صحيح؛ لما عرفت من:

جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية لكونها مجعولات شرعية بلا إشكال، فيوجد فيها ما هو المناط في جريان الاستصحاب من كون المستصحب من مجعولات شرعية، هذا مضافا إلى: عدم جريان الاستصحاب في جميع أقسام الوضع؛ لأن القسم الأول لا يقبل الجعل أصلا، فكيف يجري فيه الاستصحاب ؟

4 - وهم و دفع - و حاصل الوهم: أن الملك من مقولة «الجدة» التي لا تحصل إلا بأسبابها الخاصة مثل التعمم و التقمص و نحوهما، و له تأصل في الخارج، فكيف قلتم:

بأنه من الأمور الجعلية التي توجد بالإنشاء.

ص: 247

ثم إن هاهنا تنبيهات (1).

=============

و حاصل الدفع: إن للملك إطلاقين:

الأول: إطلاقه على «الجدة» و هذا ليس بمراد هنا.

الثاني: إطلاقه على اختصاص شيء بشيء الذي هو من مقولة الإضافة، و هذا هو المراد هنا فلا تنافي بينهما أصلا؛ إذ المراد في المقام هو الملك بالمعنى الثاني و هو مما يقبل الجعل.

و المعنى الأول الذي لا يقبل الجعل ليس بمراد في المقام حتى يرد الإشكال.

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية.

2 - جريان الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام الوضع.

3 - جريان الاستصحاب في القسم الثاني المجعول تبعا للتكليف.

4 - عدم جريان الاستصحاب في القسم الأول الذي لا يقبل الجعل و الإنشاء أصلا لا استقلالا و لا تبعا.

في تنبيهات الاستصحاب

اشارة

(1) لما فرغ المصنف «قدس سره» من الاستدلال على القول المختار تعرض تبعا - للشيخ الأنصاري «قدس سره» - لتنبيهات الاستصحاب الباحثة إما عن أحوال اليقين و المتيقن كالستة الأولى.

و إما عن أحوال الشك كالتنبيه الرابع عشر و غيره.

و إما عن الأثر العملي المترتب على الاستصحاب كالتنبيه السابع و الثامن و التاسع.

لكن المصنف خالف الشيخ في عدد التنبيهات و الأمور المبحوث فيها؛ لأنه أسقط ما عنونه الشيخ في التنبيه الثالث - من عدم جريان الاستصحاب في المستقلات العقلية - تعويلا على ما أفاده في أوائل الاستصحاب من عدم الفرق في جريانه في الحكم الشرعي بين أن يكون مستنده النقل أو قاعدة الملازمة.

كما أن المصنف زاد التنبيه الأول و الثاني و العاشر، فبلغ المجموع أربعة عشر تنبيها.

و كيف كان؛ فهذه التنبيهات تتضمن مطالب هامة لا يسع الطالب إهمالها و الغض عنها؛ كما في «منتهى الدراية، ج 7، ص 303» مع تصرف ما.

ص: 248

الأول (1): أنه يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك و اليقين، فلا استصحاب مع

=============

التنبيه الأول: اعتبار فعلية الشك و اليقين

(1) الغرض من هذا الأمر الأول: هو بيان اعتبار فعلية اليقين و الشك اللذين هما ركنا الاستصحاب، و عدم كفاية وجودهما التقديري فيه.

فهذا التنبيه متكفل لأصل و هو اعتبار فعلية اليقين و الشك، و فرع و هو الحكم بصحة صلاة من أحدث ثم غفل و صلى و شك بعد الفراغ في أنه تطهر أم لا؟ و ذلك لعدم جريان استصحاب الحدث حال الغفلة عنه؛ لعدم الشك الفعلي، فيحكم بصحة الصلاة لقاعدة الفراغ.

و كيف كان؛ فتوضيح ما ذكر في هذا التنبيه - من اعتبار فعلية اليقين و الشك في الاستصحاب - يتوقف على مقدمة، و هي التنبيه على أمور مسلمة:

أحدهما: أن كل حكم تابع لوجود موضوعه حدوثا و بقاء حتى قيل: «إن فعلية الحكم - أي: وجوده - بوجود موضوعه» فلا حكم بدونه.

ثانيها: أن الشك و اليقين و كذا الظن من الحالات الوجدانية، و الصفات النفسانية التي لا يعقل تحققها للغافل، بداهة: أن الإنسان في حال الغفلة لا يصدق عليه العالم و لا الظان و لا الشاك، بل يصدق عليه نقيضها؛ و إلاّ يلزم ارتفاع النقيضين أو اجتماعهما، و من المعلوم: أن فعلية هذه الصفات عين وجودها، و عدم فعليتها عين عدمها.

ثالثها: أن موضوع الأصول العملية و منها الاستصحاب - التي هي أحكام ظاهرية و وظائف للشاك و المتحير في الأحكام الواقعية - هو الشك الذي قد عرفت أنه كاليقين و الظن من صفات الإنسان الملتفت، و لذا قيّد الشيخ في أول الرسائل المكلف بالملتفت.

و من هنا يظهر: أن موضوع الحكم الواقعي يخالف موضوع الحكم الظاهري؛ لعدم تقيّد الأول بالالتفات، بخلاف الثاني، فإن قوامه بالالتفات الشكي، و بدون الشك لا وجود للحكم الظاهري حقيقة.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة يتضح لك من هذه الأمور: وجه اعتبار فعلية الشك و اليقين في الاستصحاب كوضوح اعتبار فعلية الشك في سائر الأصول العملية؛ بل ينبغي عدّه من القضايا التي قياساتها معها.

فالنتيجة: أنه مع الغفلة لا تحير في الحكم الواقعي؛ لعدم الشك المتقوم بالالتفات، فلا يجري فيه الاستصحاب الرافع للتحير، فوجود الشك الفعلي - و كذا اليقين - مما لا بد منه في جريان الاستصحاب، و لا عبرة بالتقديري منهما؛ إذ ليس التقدير إلاّ فرض الوجود

ص: 249

الغفلة؛ لعدم (1) الشك فعلا، و لو (2) فرض أنه يشك لو التفت، ضرورة: أن الاستصحاب وظيفة الشاك، و لا شك مع الغفلة أصلا (3)، فيحكم (4) بصحة صلاة للعدم، و قد عرفت: أن العبرة بوجودهما الفعلي كسائر موضوعات الأحكام، و التقدير لا يخرج المقدر عن العدم الذي ليس موضوعا للحكم.

=============

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) تعليل لعدم جريان الاستصحاب مع الغفلة، و مرجع التعليل إلى عدم الموضع للاستصحاب مع الغفلة؛ لما عرفت من: أن الشك كاليقين و الظن متقوم بالالتفات؛ فلا وجود لها مع الغفلة، و لذا يحمل عليه العدم بالحمل الشائع.

(2) وصلية، يعني: و لو فرض أنه يشك لو التفت و زالت غفلته، و هذا هو الشك التقديري الذي لا عبرة به؛ لأنه فرض الوجود، و المعتبر هو الوجود الفعلي، و لا يجدي فرضه.

(3) لما عرفت آنفا من: عدم تعقل الشك كاليقين و الظن مع الغفلة، و هذا من غير فرق فيه بين حجية الاستصحاب من باب الأخبار و حجيته كشفا من باب الأمارات العقلائية؛ لما عرفت من: كون توقف الاستصحاب على فعلية اليقين و الشك من باب توقف الحكم على موضوعه.

(4) هذا متفرع على اعتبار فعلية اليقين و الشك في جريان الاستصحاب، و عدم كفاية وجودهما التقديري في جريانه.

توضيحه: أن من تيقن بالحدث أول الزوال مثلا، و غفل و صلى غافلا عن الحدث، و شك بعد الصلاة في أنه تطهر - بعد القطع بالحدث - حتى يكون قد أتى بها متطهرا، أو لم يتطهر و صلى محدثا حكم بصحة صلاته؛ إذ لم يحصل له شك فعلي قبل الصلاة حتى يحكم ببطلانها لأجل استصحاب الحدث. و الشك التقديري مع الغفلة و إن كان موجودا قبل الصلاة، لكنه لا أثر له، لإناطة الاستصحاب كسائر الأصول العملية بالشك الفعلي المفقود في المقام، فالمرجع حينئذ قاعدة الفراغ التي موردها الشك الفعلي الحادث بعد العمل كما هو المفروض في المقام، حيث إن الشك الفعلي حدث بعد الصلاة.

نعم؛ بناء على كفاية الشك التقديري في الاستصحاب تبطل الصلاة و لا يمكن تصحيحها بقاعدة الفراغ؛ إذ المفروض: جريان استصحاب الحدث قبل الصلاة القاضي بوقوعها حال الحدث، و من المعلوم: بطلان الصلاة مع الحدث الاستصحابي كبطلانها مع الحدث القطعي، فكما لا تجري قاعدة الفراغ مع الحدث القطعي فكذلك لا تجري مع الحدث الاستصحابي.

ص: 250

من أحدث ثم غفل و صلى، ثم شك (1) في أنه تطهر قبل الصلاة؛ لقاعدة الفراغ (2)، بخلاف من التفت قبلها (3) و شك ثم غفل و صلى، فيحكم بفساد صلاته فيما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشك (4)؛ لكونه (5) محدثا قبلها بحكم الاستصحاب (6)، مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي.

=============

فالمتحصل: أن الصلاة في الفرض المزبور صحيحة بناء على اعتبار فعلية اليقين و الشك في الاستصحاب، و باطلة بناء على كفاية التقديري منهما فيه.

(1) يعني: بعد الفراغ حصل له الشك في أنه تطهر قبل الصلاة أو لا.

(2) تعليل لصحة الصلاة؛ لكن لا بد من فرض احتمال التوضؤ قبل الصلاة؛ و إلاّ فلا تجري فيها القاعدة.

(3) أي: قبل الصلاة، فإذا التفت قبلها و شك، ثم عرض له الغفلة و صلى غافلا بطلت صلاته؛ لأنه قبل الصلاة صار بحكم الاستصحاب - مع هذا الشك الفعلي - محدثا فصلى محدثا، فالمعيار في جريان الاستصحاب قبل الصلاة هو الشك الفعلي، و معه تبطل الصلاة؛ لعدم جريان قاعدة الفراغ فيها. و بدون الشك الفعلي قبل الصلاة تصح الصلاة؛ لجريان قاعدة الفراغ فيها بلا مانع؛ إذ المانع هو الاستصحاب، و المفروض:

عدم جريانه؛ لعدم موضوعه و هو الشك الفعلي، و مع وجود المقتضي و عدم المانع تجري القاعدة المصححة للصلاة.

(4) و أما إذا احتمل التطهير بعد الشك قبل الصلاة فيحكم بصحة صلاته؛ إذ يجري بالنسبة إليه قاعدة الفراغ أيضا. فإنه حين الشك و إن كان محكوما بالحدث بمقتضى الاستصحاب و لكن استصحاب الحدث ليس بأقوى من القطع بالحدث، فكما أنه إذا قطع بالحدث ثم غفل و صلى و احتمل بعد الصلاة أنه تطهر بعد القطع بالحدث قبل الصلاة صحت صلاته لقاعدة الفراغ، فكذلك فيما إذا استصحب الحدث ثم غفل و صلى و احتمل بعد الصلاة أنه تطهر بعد استصحاب الحدث قبل الصلاة صحت صلاته بطريق أولى.

(5) تعليل للحكم بفساد الصلاة.

(6) ضرورة: أنه مع الالتفات و الشك الفعلي - كما هو المفروض - يجري استصحاب الحدث، و معه لا يمكن تصحيح الصلاة بقاعدة الفراغ؛ لما مر من أن الحدث المستصحب كالحدث المعلوم في إبطال الصلاة و عدم جريان قاعدة الفراغ معه. و ضمير «قبلها» راجع على «صلاته».

ص: 251

لا يقال (1): نعم؛ و لكن استصحاب الحدث في حال الصلاة بعد ما التفت بعدها يقتضي أيضا فسادها.

=============

(1) هذا إشكال على صحة الصلاة في الفرض الأول و هو عدم الشك الفعلي قبل الصلاة، و محصله: أن استصحاب الحدث قبل الصلاة و إن لم يكن جاريا لعدم الشك الفعلي؛ لكن جريانه بعدها لمكان الشك الفعلي يقتضي بطلان الصلاة، حيث إن مقتضى هذا الاستصحاب هو كونه محدثا قبل الصلاة و في أثنائها؛ لأن زمان الصلاة من الأزمنة المتخللة بين زمان اليقين بالحدث و الشك في ارتفاعه.

و عليه: فلا فرق بين الصورتين في بطلان الصلاة و عدم جريان قاعدة الفراغ فيها.

فقوله: «نعم» تصديق لعدم جريان الاستصحاب في الفرض الأول؛ لعدم الشك الفعلي قبل الصلاة، لكن الاستصحاب الجاري بعدها - لفرض الشك الفعلي حينئذ - كاف في بطلانها.

و المتحصل في تقريب الإشكال: أنه نعم من أحدث ثم غفل و صلى ثم شك في أنه تطهر قبل الصلاة أم لا لم يكن شاكا قبل الصلاة كي يجري في حقه استصحاب الحدث؛ و لكن بعد ما صلى و شك في ذلك يجري في حقه استصحاب الحدث من حين اليقين به إلى حال الصلاة و بعدها، فتبطل صلاته قهرا.

و قد دفع المصنف هذا الإشكال بقوله: «فإنه يقال».

و توضيح الدفع: أن مقتضى الاستصحاب الجاري بعد الصلاة - لزوال الغفلة و فعلية الشك - و إن كان هو بطلان الصلاة كبطلانها في صورة الالتفات و فعلية الشك قبل الصلاة؛ لكن المانع عن البطلان في صورة حصول الالتفات بعد الصلاة هو جريان قاعدة الفراغ فيها، دون صورة حصول الالتفات قبل الصلاة؛ لعدم جريانها فيها؛ إذ مناط جريانها - و هو حدوث الشك بعد العمل - موجود في صورة الالتفات و حصول الشك بعد الصلاة و مفقود في فرض حدوث الشك قبلها.

نعم؛ يجدي هذا الاستصحاب في لزوم تحصيل الطهارة لما يأتي بعد ذلك مما يشترط فيه الطهارة.

قوله: «بعد» متعلق بقوله: «استصحاب»، يعني: لكن استصحاب الحدث حال الصلاة الجاري ذلك الاستصحاب حين الالتفات الحاصل بعد الصلاة يقتضي فسادها؛ كاقتضاء الاستصحاب الجاري قبل الصلاة لفسادها. و ضميرا «بعدها، فسادها» راجعان على الصلاة.

ص: 252

فإنه يقال: نعم؛ لو لا قاعدة الفراغ المقتضية لصحتها (1) المقدمة (2) على أصالة فسادها (3).

الثاني (4): أنه هل يكفي في صحة الاستصحاب الشك في بقاء شيء على تقدير

=============

(1) أي: لصحة الصلاة.

و حاصل الجواب: أنه نعم يجري استصحاب الحدث فعلا بعد الصلاة و يقتضي بطلانها؛ لكن لو لا تقدم قاعدة الفراغ عليه المقتضية لصحتها.

(2) «هذا» و «المقتضية» نعتان ل «قاعدة الفراغ»، و ضميرا «صحتها، فسادها» راجعان على الصلاة.

(3) هذا الفساد هو مقتضى استصحاب الحدث، و الأولى أن يقال: «المقدمة على استصحاب الحدث المقتضي لفسادها»؛ إذ لم يعهد إطلاق أصالة الفساد في العبادات.

و أضربنا عما في المقام من التطويل رعاية للاختصار.

خلاصة البحث:

هو اعتبار فعلية اليقين و الشك في الاستصحاب. و هذا هو رأي المصنف «قدس سره».

التنبيه الثاني: استصحاب مؤديات الأمارات

(4) و هذا التنبيه مما زاده المصنف على التنبيهات التي تعرض لها الشيخ في الرسائل.

و قبل البحث تفصيلا في هذا التنبيه الثاني ينبغي بيان ما هو محل الكلام فيه، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن اليقين و الشك من أركان الاستصحاب؛ بحيث لولاهما لما جرى الاستصحاب أصلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا كلام و لا إشكال فيما إذا علمنا وجدانا بحدوث شيء ثم شككنا في بقائه، فهذا هو القدر المتيقن من مورد الاستصحاب؛ لما عرفت من:

أن اليقين بالحدوث من أركان الاستصحاب، ففيما إذا كان المتيقن محرزا باليقين يكون هذا الركن محرزا. و إنما الكلام و الإشكال فيما إذا كان محرزا بالأمارة و شك في بقائه، كما إذا قامت الأمارة على الطهارة أو العدالة، ثم شككنا في بقائها. فهل يحكم بالبقاء أم لا؟ فيه إشكال.

وجه الإشكال: أنه لا يقين بالحدوث فكيف يحكم بالبقاء، فإذا لم يكن يقين بالحدوث فلا شك أيضا؛ لأن الشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو الشك في بقاء المتيقن لا مطلق الشك، و ليس في المقام شك في بقاء المتيقن؛ بل الشك في البقاء

ص: 253

ثبوته، و إن لم يحرز ثبوته فيما (1) رتب عليه أثر شرعا أو عقلا؟ إشكال...

=============

على تقدير الحدوث، فلا يجري الاستصحاب لانتفاء كل من اليقين و الشك المأخوذين في موضوعه.

و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بما حاصله: من أن دليل الاستصحاب يتكفل التعبد بالبقاء على تقدير الحدوث، فنظره إلى بيان بقاء الحادث و أن الحادث يدوم بلا خصوصية لليقين به؛ بل لوحظ طريقا إلى متعلقه.

فمرجع ما أفاده المصنف في دفع الإشكال هو: أن موضوع الاستصحاب - على ما يستفاد من أدلته - ليس هو الشك في البقاء الفعلي حتى يتوقف حصوله على اليقين بالثبوت؛ بل البقاء التقديري، و هو البقاء على فرض الثبوت.

فمفاد أدلة الاستصحاب جعل الملازمة بين ثبوت شيء و بقائه.

و بعبارة أخرى: أن دليل الاستصحاب يتكفل جعل الملازمة الظاهرية بين الحدوث و البقاء و أن كل ما هو حادث باق تعبدا، فالحدوث أخذ موضوعا للتعبد بالبقاء، و اليقين لوحظ طريقا لإحراز الموضوع كاليقين بسائر موضوعات الأحكام، فالمجعول هو البقاء على تقدير الحدوث واقعا.

و عليه: فإذا قامت الأمارة على الحدوث كانت حجة على البقاء كما هي حجة على الحدوث نظير سائر الأمارات القائمة على الموضوعات فإنها تكون حجة على الحكم المترتب عليها.

و ما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنه بعد أن كان المجعول هو البقاء ظاهرا على تقدير الحدوث واقعا، كان الحدوث الواقعي موضوعا للحكم الظاهري بالبقاء، فإذا قامت الحجة على الحدوث كانت حجة على حكمه و أثره و هو البقاء الظاهري، فتكون الأمارة مثبتة لموضوع الحكم الاستصحابي.

هذا غاية ما يقال في توضيح ما أفاده في دفع هذا الإشكال، و هناك إيرادات عديدة على جواب المصنف عن الإشكال المذكور تركنا التعرض لها رعاية للاختصار.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) متعلق ب «بقاء»، يعني: في المورد الذي رتب على البقاء التقديري أثر شرعي كاستصحاب الموضوع ذي الأثر الشرعي كالملكية و غيرها من الموضوعات ذوات الآثار الشرعية، أو أثر عقلي كاستصحاب نفس الحكم الشرعي كالوجوب و الحرمة اللذين يترتب عليهما أثر عقلي و هو وجوب الإطاعة.

ص: 254

من (1) عدم إحراز الثبوت فلا يقين، و لا بد منه (2)، بل و لا شك (3)، فإنه (4) على تقدير (5) لم يثبت و من (6) أن اعتبار اليقين إنما هو لأجل أن التعبد و التنزيل شرعا إنما و أما إذا كان الأثر مترتبا على البقاء الفعلي، فلا يجري فيه الاستصحاب؛ لعدم أثر ترتب على مؤداه. و ضميرا «ثبوته» في الموضعين راجعان على «شيء». و ضمير «عليه» راجع على «بقاء».

=============

(1) هذا أحد وجهي الإشكال و هو وجه عدم الكفاية.

توضيحه: أن أول ركني الاستصحاب و هو اليقين بالثبوت مفقود في باب الأمارات غير العلمية، ضرورة: عدم العلم بكون مؤدياتها أحكاما واقعية كعدم العلم بكونها أحكاما ظاهرية أيضا، إذ المفروض حجية الأمارات غير العلمية بناء على الطريقية المحضة التي لا أثر لها إلاّ تنجيز الواقع مع الإصابة و التعذير مع الخطأ، و من المعلوم: عدم جريان الاستصحاب لعدم اليقين بالثبوت؛ بل ركنه الآخر و هو الشك في البقاء أيضا مفقود، لأنه شك في بقاء المتيقن ثبوته، و بدون اليقين بثبوته لا يتصور الشك في بقائه.

نعم؛ يتصور احتمال البقاء فيما احتمل ثبوته، لكنه غير مقصود في الشك في البقاء في باب الاستصحاب.

(2) أي: من اليقين كما هو مقتضى مثل: «لا تنقض اليقين بالشك».

(3) يعني: بل الركن الثاني و هو الشك في البقاء أيضا مفقود؛ لأن الشك في البقاء في مؤديات الأمارات إنما هو على فرض ثبوتها، و هو غير معلوم، فالشك في بقاء المتيقن هنا غير ثابت، فيختل كلا ركني الاستصحاب في مؤديات الأمارات.

(4) هذا تعليل لقوله: «و لا شك»، و قد أشرنا إلى بيانه بقولنا: «لأن الشك في البقاء...» الخ. و ضمير «فإنه» راجع على «شك».

(5) و هو فرض كون مؤديات الأمارات أحكاما واقعية، و هذا الفرض لم يثبت حتى يكون الشك في بقائها.

(6) هذا ثاني وجهي الإشكال و هو وجه الكفاية، و محصله: أن اليقين في أدلة الاستصحاب لم يؤخذ موضوعا و إنما أخذ طريقا إلى الثبوت حتى يترتب عليه الشك في البقاء الذي هو مورد التعبد، فدليل الاستصحاب يدل على جعل الملازمة بين الثبوت الواقعي و البقاء، و قد عبّر عن الثبوت باليقين مع عدم دخله في الحكم؛ لأنه أجلى الطرق المحرزة للثبوت. و عليه: فلا مانع من جريان الاستصحاب في البقاء على تقدير الثبوت.

ص: 255

هو في البقاء لا في الحدوث (1)، فيكفي (2) الشك فيه على تقدير الثبوت، فيتعبد به على هذا التقدير (3) فيترتب عليه الأثر فعلا (4) فيما كان هناك أثر (5).

و هذا (6) هو الأظهر (7)، و به (8) يمكن أن يذب...

=============

(1) يعني: أن التعبير باليقين إنما هو للتنبيه على أن مورد التعبد و جعل الحكم المماثل هو البقاء؛ إذ لو عبر بغير ذلك التعبير مثل: «ابن على المشكوك» أو «اعمل بالشك» و نظائرهما لم يفهم منها كون محل التعبد هو الحدوث أو البقاء؛ لكن التعبير المزبور يدل على أن مورد التعبد هو البقاء؛ لأنه متعلق الشك دون الحدوث؛ إذ لا وجه للتعبد بشيء مع اليقين به.

(2) هذه نتيجة عدم موضوعية اليقين، يعني: فيكفي الشك في البقاء على تقدير الثبوت في جريان الاستصحاب؛ إذ المفروض: جعل الملازمة بين الثبوت الواقعي و البقاء، فيتعبد بالبقاء على تقدير الثبوت. و ضمائر «فيه، به، عليه» راجعة على البقاء.

(3) أي: تقدير الثبوت.

(4) لزوم ترتب الأثر فعلا على البقاء إنما يكون فيما إذا قام دليل على وجوب الشيء كصلاة الجمعة مثلا، و شك في بقائه، فإن التعبد الاستصحابي ببقاء شيء - على تقدير ثبوته - يوجب ترتيب الأثر فعلا على وجوب صلاة الجمعة، و إلاّ فمجرد التعبد بالبقاء على تقدير الثبوت لا يكفي في ترتيب الأثر الفعلي على البقاء، فيكون هذا الدليل بمنزلة الصغرى لكبرى الاستصحاب.

(5) بحيث كان ذلك الأثر مترتبا على البقاء التقديري كما مر في مثل صلاة الجمعة.

(6) أي: الوجه الثاني، و هو قوله «و من أن اعتبار اليقين إنما هو لأجل...» الخ. و قد عرفت تقريبه بقولنا: «و توضيحه: أن أول ركني الاستصحاب و هو اليقين بالثبوت مفقود...» الخ.

(7) لعل وجه الأظهرية هو: تعارف التعبير عن وجود الموضوع باليقين به من دون دخل لنفس اليقين فيه أصلا.

(8) أي: بهذا الوجه الثاني - الذي هو الأظهر - يمكن دفع إشكال جريان الاستصحاب في الأحكام التي هي مؤديات الأمارات المعتبرة، و قد مر تقريب الإشكال، و حاصله: اختلال اليقين بالثبوت فيها؛ لعدم كون الأمارات الغير العلمية موجبة لليقين بمؤدياتها، فلا يقين فيها حتى يجري الاستصحاب في بقائها. و يدفع هذا الإشكال: بأن مفاد أدلة الاستصحاب هو التعبّد بالبقاء على تقدير الحدوث.

ص: 256

عما (1) في استصحاب الأحكام التي قامت الأمارات المعتبرة على مجرد ثبوتها (2) و قد شك في بقائها على تقدير ثبوتها من الإشكال (3) بأنه لا يقين بالحكم الواقعي، و لا يكون هناك حكم (4) آخر فعلي بناء على ما هو التحقيق من (5) أن قضية حجية و هذا الدفع هو ثاني وجهي الإشكال الذي تقدم توضيحه.

=============

(1) الأولى إبداله ب «و به يمكن أن يدفع ما في استصحاب الأحكام...» الخ؛ إذ الذب عن الشيء هو تثبيته و إحكامه لا دفعه، و هو من الأغلاط المشهورة الموجودة في غير واحد من الكتب.

(2) أي: ثبوت الأحكام، و غرضه من قوله: «على مجرد ثبوتها» هو: أن تلك الأمارات تدل على مجرد الثبوت، و لا إطلاق لها بالنسبة إلى الحالات؛ و إلاّ لم يقع شك في البقاء؛ لوضوح حكمه من نفس تلك الأمارات، فلا حاجة إلى الاستصحاب، فالشك في البقاء إنما يكون في صورة إجمال الدليل بالنسبة إلى حكم البقاء. و ضميرا «بقائها، ثبوتها» راجعان على «الأحكام».

(3) بيان للموصول في قوله: «عما». قوله: «بأنه» متعلق ب «الإشكال» و تقريب له، و حاصله: بعد ما تقدم من تفصيله هو: عدم اليقين بالحدوث الذي لا بد منه في جريان الاستصحاب، حيث إن خطأ الأمارة الغير العلمية و عدم إصابتها للواقع محتمل، فالحكم الواقعي في الأمارات غير معلوم، و المفروض: عدم حكم آخر فيها أيضا بناء على حجية الأمارات على الطريقية، و باختلال اليقين بالحدوث في الأمارات لا يجري الاستصحاب فيها.

(4) يعني: غير الحكم الواقعي و هو الحكم الظاهري، حيث إنه بناء على حجية الأمارات على السببية تكون مؤدياتها أحكاما ظاهرية، فيجتمع فيها حينئذ أركان الاستصحاب من اليقين بالحدوث و الشك في البقاء، فلا إشكال في جريانه في مؤديات الأمارات بناء على السببية، بمعنى: كون قيام الأمارة سببا لحدوث ملاك في المؤدى يستتبع حكما على طبقه.

(5) بيان ل «ما» الموصول، و قد عرفت مقتضى طريقية الأمارات و هو تنجزّ الحكم مع الإصابة و العذر مع المخالفة، فالأمارات غير العلمية بناء على الطريقية ليست إلاّ كالحجية العقلية من العلم و الظن الانسدادي على الحكومة، حيث إنهما ينجزان الواقع إن كان، و إلاّ فيعذران فلا حكم في موردهما من حيث العلم و الظن، بل هما طريق محض.

ص: 257

الأمارة ليست إلاّ تنجز التكاليف مع الإصابة. و العذر مع المخالفة كما هو (1) قضية الحجة المعتبرة عقلا كالقطع و الظن في حال الانسداد على الحكومة؛ لا إنشاء (2) أحكام فعلية شرعية ظاهرية كما هو ظاهر الأصحاب.

و وجه الذب بذلك (3): أن الحكم الواقعي الذي هو مؤدى الطريق حينئذ (4) محكوم بالبقاء، فتكون (5) الحجة على ثبوته حجة على بقائه تعبدا (6)؛ للملازمة (7)

=============

(1) الضمير راجع على ما يفهم من العبارة من التنجز مع الإصابة و العذر مع المخالفة.

(2) عطف على قوله: «ليست» يعني: لا أن قضية حجية الأمارات أحكام فعلية شرعية ظاهرية، و الأولى أن تكون العبارة هكذا: «من أن قضية حجية الأمارات تنجز التكاليف مع الإصابة... لا إنشاء أحكام فعلية...» الخ، و قد عرفت جريان الاستصحاب في مؤديات الأمارات بناء على السببية.

(3) أي: بكفاية الشك في البقاء على تقدير الثبوت.

توضيحه: أن مفاد دليل الاستصحاب هو جعل الملازمة بين ثبوت الشيء و بقائه من دون نظر إلى تيقن حدوثه.

نعم؛ في مقام تطبيق الاستصحاب على مورد لا بد من إحراز الثبوت حتى يحكم تعبدا ببقائه عند الشك، ففرق بين الجعل و التطبيق، ففي مقام إجراء الاستصحاب يكفي الشك في البقاء على تقدير الثبوت، فمؤدى الأمارة على فرض ثبوته يحكم ببقائه؛ لكونها دليلا على أحد المتلازمين، إذ المفروض: ثبوت الملازمة بالاستصحاب بين الحدوث و البقاء، فالشك في البقاء على تقدير الثبوت كاف في جريان الاستصحاب في مؤديات الطرق.

(4) أي: حين كفاية الشك في البقاء على تقدير الثبوت.

(5) هذه نتيجة الدفع المزبور، و حاصله: أنه بعد البناء على كفاية الثبوت التقديري في الحكم بالبقاء يكون مؤدى خبر الواحد كوجوب صلاة الجمعة لاحتمال مصادفته للواقع محكوما بالبقاء؛ لما مر من الملازمة بين الحدوث و البقاء بمقتضى الاستصحاب، و دليل أحد المتلازمين دليل على الآخر، و ضميرا «ثبوته، بقائه» راجعان على الحكم الواقعي.

(6) قيد لقوله: «بقائه»؛ إذ بقاؤه في حال الشك يكون بالتعبد الاستصحابي.

(7) تعليل لكون الحجة على الثبوت حجة على البقاء، و حاصله: أن الملازمة بين حدوث الشيء و بقائه أوجبت كون الحجة على الحدوث حجة على البقاء؛ لما مر مرارا من أن الدليل على أحد المتلازمين دليل على الآخر، و هذه الملازمة ظاهرية؛ لكونها ثابتة بالاستصحاب الذي هو من الأصول العملية التي موضوعها الشك.

ص: 258

بينه و بين ثبوته واقعا (1).

إن قلت (2): كيف (3)؟ و قد أخذ اليقين بالشيء في التعبد ببقائه في الأخبار، و لا يقين في فرض تقدير الثبوت.

قلت: نعم (4)؛ و لكن الظاهر أنه أخذ كشفا عنه و مرآة لثبوته؛ ليكون (5) التعبد في

=============

(1) قيد لقوله: «ثبوته» يعني: للملازمة بين بقاء الحكم و بين ثبوته الواقعي.

(2) هذا إشكال على كفاية البقاء على تقدير الثبوت.

و حاصل الإشكال: أنه يكفي في صحة الاستصحاب الشك في بقاء الشيء على تقدير ثبوته و قد أخذ اليقين بالشيء في التعبد ببقائه في الأخبار، و لا يقين في فرض تقدير الثبوت، فلا يجري الاستصحاب لانتفاء اليقين و هو من أركان الاستصحاب.

و حاصل الجواب: أنه نعم قد أخذ اليقين بالشيء في التعبد ببقائه في الأخبار؛ و لكنه قد أخذ بما هو كاشف عن الواقع، فيكون التعبد في مرحلة البقاء فقط دون الثبوت، و التعبد مع فرض ثبوته بالحجة في مرحلة بقائه أيضا.

فالمتحصل: أن المقصود هو ثبوت الشيء سواء كان باليقين أو بغيره من الحجة كالأمارات المعتبرة.

توضيح بعض العبارات:

(3) يعني: كيف يجري الاستصحاب و يثبت به الحكم و الحال أنه لم يتم ركنه و هو اليقين السابق ؟ و الحال أن اليقين بالثبوت دخيل في الحكم بالبقاء على ما هو ظاهر أخبار الاستصحاب، و من المعلوم: أن فرض الثبوت - كما هو المفروض في الأمارات لعدم اليقين بمصادفتها للواقع - ليس يقينا بالثبوت، فلا يشمل دليل الاستصحاب مؤديات الأمارات.

(4) هذا تصديق للإشكال و هو أخذ اليقين بالشيء دخيلا بحسب أدلة الاستصحاب في التعبد بالبقاء، و المفروض: انتفاء اليقين في الأمارات.

و لكن أورد عليه: بأن الظاهر أن اليقين في أخبار الاستصحاب لم يؤخذ موضوعا؛ بل أخذ كشفا عن متعلقه و مرآة لثبوته؛ ليكون التعبد و جعل الحكم المماثل في بقائه.

و ضمير «أنه» راجع على «اليقين»، و ضمائر «عنه، لثبوته، بقائه» راجعة على «الشيء».

(5) تعليل لأخذ اليقين مع دخله الموضوعي في التعبد بالبقاء.

و حاصل التعليل: الإشارة إلى أن التعبد في الاستصحاب إنما يكون في البقاء فقط دون الثبوت، و الشك في بقاء شيء متفرع على حدوثه، فلا بد من إحرازه حتى يكون بقاؤه موردا للتعبد الاستصحابي.

ص: 259

بقائه، و التعبد (1) مع فرض ثبوته إنما يكون في بقائه، فافهم (2).

=============

(1) يعني: و من المعلوم أن التعبد بشيء مع ثبوته بحجة يقينا كانت أو غيره يكون في مرحلة بقائه، دون ثبوته المفروض قيام الحجة عليه. و ضميرا «ثبوته، بقائه» راجعان على الشيء.

(2) لعله إشارة إلى أن حمل اليقين على الطريقية خلاف الظاهر الذي لا يصار إليه بلا قرينة، بداهة: أن الأصل في كل عنوان يؤخذ في حيّز خطاب من الخطابات الشرعية هو الموضوعية لا الطريقية، فالوجه في الدفع: أن المؤدى للأمارة منزّل منزلة الواقع و لذا يصح استصحابه أو إشارة إلى أن المراد باليقين ليس هو خصوص الاعتقاد الجازم؛ بل مطلق الحجة سواء كانت ذاتية كاليقين أم جعلية كالأمارات الشرعية، حيث إنها بدليل حجيتها تصير كالعلم في الاعتبار و عدم الاعتناء باحتمال الخلاف فيها، فإن هذا الاحتمال ملغى في العلم عقلا و في الأمارات نقلا.

كما أن المراد باليقين الناقض في قوله «عليه السلام»: في صحيحة زرارة «و لكنه ينقضه بيقين آخر» هو مطلق الحجة لا خصوص العلم.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان محل الكلام: أن اليقين و الشك من أركان الاستصحاب و لا يجري مع انتفاء أحدهما فضلا عن انتفائهما معا.

و عليه: فلا كلام و لا إشكال فيما إذا علمنا وجدانا بحدوث شيء ثم شككنا في بقائه، فيجري الاستصحاب بلا كلام و لا إشكال.

و إنما الكلام و الإشكال فيما إذا قامت الأمارة على حدوث شيء كالطهارة مثلا، ثم شك في بقائها.

وجه الإشكال: انتفاء اليقين بحدوث الطهارة لأن الأمارة ليست من اليقين فكيف يجري الاستصحاب ؟

2 - جواب المصنف عن هذا الإشكال: أنه لا يقين سابقا كما هو مفروض الإشكال؛ و لكن الظاهر كون أخذ اليقين من باب المرآة إلى الثبوت و الحدوث حتى يرد التعبد على البقاء، فدليل الاستصحاب على جعل الملازمة بين الثبوت الواقعي و البقاء يكفي في التعبد بالبقاء بالاستصحاب، و عليه: فلا مانع من استصحاب الحكم بقاء على تقدير ثبوته و لو بالأمارة المعتبرة.

ص: 260

الثالث (1): أنه لا فرق في المتيقن السابق بين أن يكون خصوص أحد...

=============

3 - و إشكال: أنه كيف يجري الاستصحاب و الحال أنه لم يتم ركنه و هو اليقين السابق بالحدوث ؟ مدفوع؛ بأن الظاهر أن اليقين في أخبار الاستصحاب لم يؤخذ موضوعا؛ بل أخذ كشفا عن متعلقه و مرآة لثبوته ليكون التعبد و جعل الحكم المماثل في بقائه عند ثبوت الحكم سابقا بالحجة، سواء كانت يقينا أو غيره من الأمارات المعتبرة شرعا.

«فافهم» لعله إشارة إلى أن المراد باليقين هو مطلق الحجة لا الاعتقاد الجازم، فحينئذ دليل الاستصحاب يشمل مورد الأمارات.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

كفاية الشك في البقاء في الاستصحاب فيجري الاستصحاب في موارد الأمارات المعتبرة.

التنبيه الثالث: في استصحاب الكلّي

التنبيه الثالث: في استصحاب الكلّي(1) قبل الخوض في تفصيل البحث في أقسام استصحاب الكلي و أحكامها من حيث الصحة و البطلان، ينبغي بيان أمرين:

أحدهما: ما هو محل الكلام في هذا التنبيه.

ثانيهما: بيان عدم اختصاص استصحاب الكلي بما إذا كان المستصحب حكما كما يظهر من كلام المصنف؛ بل يعم ما إذا كان متعلقا للحكم كما صنعه الشيخ «قدس سره»، حيث قال: في أول التنبيهات التي عقدها بعد الفراغ من أدلة الأقوال: «إن المتيقن السابق إن كان كليا في ضمن فرد و شك في بقائه»(1) فهذه العبارة ظاهرة في الأعم من الحكم و المتعلق.

هذا ملخص الكلام في الأمر الأول.

الأمر الثاني: أن محل الكلام ما إذا كان المستصحب كليا لا ما إذا كان جزئيا؛ إذ لا إشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان المستصحب جزئيا، و لذا يقول المصنف:

إنه لا فرق في حجية الاستصحاب بين كون المستصحب جزئيا كوجوب صلاة الجمعة إذا شك في بقائه حال الغيبة، و بين كونه كليا كالطلب الراجح المشترك بين الوجوب و الندب.

إذا عرفت هذين الأمرين فيقع الكلام في مقامين:

ص: 261


1- فرائد الأصول 191:3.

المقام الأول: في بيان أقسام استصحاب الكلي.

المقام الثاني: في بيان أحكام هذه الأقسام صحة و فسادا.

فأما المقام الأول فقد ذكر المصنف «قدس سره» للاستصحاب الكلي ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد ثم يشك في بقاء الكلي للشك في بقاء ذلك الفرد الذي تحقق الكلي في ضمنه.

هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «فإن كان الشك في بقاء ذاك العام من جهة الشك في بقاء الخاص الذي كان في ضمنه».

القسم الثاني: أن يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد مردد بين طويل العمر و قصيره كوجود الحيوان في مكان مردد بين البق و الفيل، و المثال الشرعي هو ما إذا علم بصدور الحدث المردد بين الأكبر و الأصغر، ثم يشك بعد الوضوء في بقاء الكلي لأجل الشك في أن الحادث هو الطويل - أعني الحدث الأكبر - فيكون بقاؤه مقطوعا، أو القصير - أعني الحدث الأصغر - فيكون ارتفاعه مقطوعا. هذا ما أشار إليه بقوله: «و إن كان الشك فيه من جهة تردد الخاص الذي في ضمنه، بين ما هو باق أو مرتفع قطعا».

القسم الثالث: أن يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد ثم يعلم بزوال ذلك الفرد؛ و لكنه يشك في بقاء الكلي لأجل الشك في حدوث فرد آخر مقارن لزوال الفرد الأول.

و هذا على قسمين، فتارة: يقع الشك في وجود فرد آخر مقارن لوجود الفرد الأول.

و أخرى: يقع الشك في وجود فرد آخر مقارن لارتفاع الفرد الأول، كما إذا علم بوجود الإنسان في الدار في ضمن وجود زيد، ثم حصل القطع بخروج زيد عنها و شك في وجود عمرو مقارنا لوجود زيد في الدار، أو مقارنا لخروجه عنها.

و قد أشار إليهما بقوله: «و أما إذا كان الشك في بقائه من جهة الشك في قيام خاص آخر في مقام ذاك الخاص الذي كان في ضمنه بعد القطع بارتفاعه». هذا تمام الكلام في المقام الأول و هو بيان أقسام استصحاب الكلي.

و أما المقام الثاني: - و هو بيان أحكام هذه الأقسام - فلا إشكال في جريان استصحاب القسم الأول لو كان موردا للأثر العملي، كما لا إشكال في جريان استصحاب الفرد لترتيب أثر الفرد.

نعم؛ هناك بحث آخر أشار إليه المصنف في حاشيته على الرسائل و هو: أنه هل يغني استصحاب الفرد في إثبات أثر الكلي أو استصحاب الكلي في إثبات أثر الفرد، و هذا

ص: 262

البحث لا أثر عملي له فيما نحن فيه لإمكان إجراء الاستصحاب في كل من الفرد و الكلي، فيترتب عليه الأثر المطلوب.

و أما القسم الثاني - و هو أن يكون الشك في بقاء الكلي من جهة تردد الفرد الذي كان الكلي متحققا في ضمنه بين ما هو مرتفع قطعا و ما هو باق جزما - فقد التزم جمع من الأعلام كالشيخ و المصنف و غيرهما بجريان الاستصحاب في الكلي في مثل ذلك؛ و ذلك لتمامية أركانه من اليقين بالحدوث و الشك في البقاء، فيكون مشمولا لإطلاق دليل الاستصحاب، و يترتب على جريان الاستصحاب في الكلي الآثار المترتبة على وجوده؛ كحرمة مسّ المصحف الشريف في مثال الحدث لترتبها على عنوان المحدث.

و هناك إشكالان على استصحاب القسم الثاني ذكرهما المصنف:

أحدهما: ما أشار إليه بقوله: «و تردد ذاك الخاص الذي يكون الكلي موجودا في ضمنه...» الخ.

و ثانيهما: ما أشار إليه بقوله: «و توهم كون الشك في بقاء الكلي الذي في ضمن ذاك الفرد المردد مسببا...» الخ.

و حاصل الإشكال الأول: هو انعدام أحد ركني الاستصحاب فيه حيث إن الفرد الذي وجد في ضمنه الكلي إن كان هو الفرد القصير فهو معلوم الارتفاع، فالركن الثاني و هو الشك في البقاء مفقود. و إن كان هو الفرد الطويل فهو مشكوك الحدوث من الأول، فالركن الأول و هو اليقين بالحدوث غير متحقق.

و على كلا التقديرين: لا مجال للاستصحاب لانتفاء أحد ركني الاستصحاب.

و ببيان أوضح: المقصود من الكلي في هذا البحث ليس هو الكلي العقلي و المنطقي اللذين لا وجود لهما في الخارج؛ بل المراد هو الكلي الطبيعي الموجود في الخارج، ثم وجوده في الخارج هو بعين وجود أفراده، فلا وجود له إلاّ بوجودها بحيث ينتفي بانتفاء فرده وجدانا أو تعبدا.

و عليه: فلا يجري استصحاب الكلي في المقام لكونه محكوما بالعدم إما وجدانا لو كان الموجود هو الفرد القصير، و إما تعبدا لو كان هو الفرد الطويل؛ لكون الأصل عدم حدوثه، و على كلا التقديرين لا مجال لجريان الأصل في الكلي لانتفاء الشك فيه. هذا تمام الكلام في توضيح الإشكال الأول.

و الإشكال الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و توهم كون الشك في بقاء الكلي الذي في

ص: 263

ضمن ذاك المردد مسببا عن الشك...» الخ. و محصله: أن استصحاب الكلي و إن كان في حد نفسه جاريا لتمامية موضوعه من اليقين و الشك؛ إلاّ إنه محكوم بأصل سببي؛ لأن الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل، فأصالة عدم حدوث الفرد الطويل حاكمة على أصالة بقاء الكلي لحكومة الأصل السببي على الأصل المسببي، ففي المثال المذكور: يكون الشك في بقاء الحدث مسببا عن الشك في حدوث الجنابة، فتجري أصالة عدم حدوث الجنابة، و بانضمام هذا الأصل إلى الوجدان يحكم بارتفاع الحدث، فإن الحدث الأصغر مرتفع بالوجدان، و الحدث الأكبر منفي بالأصل.

هذا تمام الكلام في توضيح الإشكال الثاني.

و قد أجاب المصنف عن كلا الإشكالين، و قد أشار إلى دفع الإشكال الأول بقوله:

«غير ضائر» و حاصله: أن اختلال ركني الاستصحاب بالتقريب المذكور في الإشكال إنما يقدح في استصحاب الفرد من حيث كونه ذا مشخصات فردية، و لا يقدح في استصحاب الكلي لاجتماع أركانه فيه عرفا من اليقين و الشك أي: اليقين بوجود الكلي و الشك في بقائه؛ و لو لأجل الشك في سنخ الفرد، فإنه لا يضر بوحدة القضية المتيقنة و المشكوكة التي يدور عليهما رحى الاستصحاب، فإنه يصح أن يقال: علم بوجود الكلي كمطلق الحدث و شك في بقائه؛ و إن كان الشك في البقاء ناشئا عن احتمال حدوث الفرد الطويل كحدث الجنابة.

و قد أجاب المصنف عن الإشكال الثاني بوجوه:

الوجه الأول: منع السببية التي تكون مانعة عن جريان الاستصحاب في المسبب، و يكون التوهم مبنيا عليها.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن المناط في الأصل السببي و المسببي هو تعدد الحادثين في الخارج، و كان الشك في حدوث أحدهما مسببا عن الشك في حدوث الآخر؛ كطهارة اليد التي غسلها بماء مشكوك الكرية مسبوقا بكونه كرّا، فإن وجود الطهارة و عدمها منوط بالكرية و عدمها، فاستصحاب الكرية سببي، و استصحاب طهارة اليد بعد غسلها بما هو مشكوك الكرية مسببي، فبعد جريان استصحاب الكرية لا يجري استصحاب الطهارة؛ لانتفاء الشك فيها بعد استصحاب الكرية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، فإن الشك في بقاء الكلي مسبب عن كون الحادث هو الفرد الطويل، و الشك في ارتفاعه مسبب عن

ص: 264

كون الحادث هو الفرد القصير.

و من المعلوم: أنه لا أصل يعيّن الفرد الحادث و أنه طويل أو قصير حتى يكون ذلك الأصل سببا، و استصحاب الكلي مسببا، فليس هناك أصل سببي و مسببي في البين أصلا؛ لعدم كون بقاء الكلي و ارتفاعه من لوازم حدوث الفرد الطويل و عدم حدوثه؛ بل كل من بقاء الكلي و ارتفاعه يترتب على أحد أمرين، بمعنى: أن ارتفاع الكلي من لوازم كون الحادث المتيقن هو الفرد القصير، و بقاءه من لوازم كون الحادث المتيقن هو الفرد الطويل.

الوجه الثاني: أن بقاء الكلي ليس مسببا عن بقاء الفرد الطويل حتى يكون من باب السببي و المسببي؛ بل بقاء الكلي بعين بقاء الفرد الطويل لا من لوازمه؛ لأن وجود الكلي بعين وجود أفراده، و ليس له وجود منحاز عن وجود أفراده حتى يكون أحدهما سببا و الآخر مسببا في جانب الوجود و العدم.

فالمتحصل: أن بقاء الكلي هو عين بقاء الفرد الطويل، فإن الكلي عين الفرد لا أنه من لوازمه، فلا تكون هناك سببية و مسببية.

الوجه الثالث: أنه لو سلم كون بقاء الكلي مسببا عن حدوث الفرد الطويل، فلا ينفع في الحكومة المدعاة؛ إذ الحكومة تتوقف على أن يكون اللزوم و السببية شرعية ناشئة من جعل الشارع أحد الأمرين أثرا للآخر و حكما له.

و من الواضح: أن الملازمة بين بقاء الكلي و بين حدوث الفرد الطويل لو سلمت فهي عقلية لا شرعية، فلا تصحح دعوى الحكومة.

هذا تمام الكلام في القسم الأول و الثاني من استصحاب الكلي.

أما الكلام في استصحاب القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي هو: ما إذا علم بوجود الكلي في ضمن فرد معين، ثم علم بزوال ذلك الفرد و شك في بقاء الكلي لاحتمال حدوث فرد آخر مقارن لزوال الفرد الأول، نظير ما لو علم بوجود الإنسان في الدار لوجود زيد فيها، ثم علم بخروج زيد من الدار و احتمل دخول عمرو فيها مقارنا لخروج زيد.

و هذا لا يمكن أن يكون مجرى الاستصحاب؛ لأن الوجود المتيقن للكلي قد علم بارتفاعه، و المشكوك و هو وجود آخر غير الوجود الأول المتيقن؛ لأن وجود الكلي يتعدد بتعدد أفراده، فالشك في الحقيقة ليس شكا في بقاء ما هو المتيقن؛ بل في الحدوث،

ص: 265

و مثله غير مجرى للاستصحاب. و هذا ما هو مختار المصنف «قدس سره» حيث قال:

«أظهره عدم جريانه».

و توضيح هذا القسم و ما فيه من الأقوال يتوقف على مقدمة و هي: بيان ما يتصور فيه من وجوه و احتمالات:

الاحتمال الأول: أن يكون الفرد الآخر موجودا من الأول مع الفرد المعلوم حدوثه و ارتفاعه، كما إذا علم بوجود زيد في الدار يوم الجمعة و علم بخروجه عنها يوم السبت مثلا. و احتمل وجود عمرو في الدار حال وجود زيد فيها من الأول، فيحتمل بقاء الإنسان فيها بوجود عمرو بعد خروج زيد عنها.

الاحتمال الثاني: أن لا يكون الفرد الآخر موجودا من الأول مع الفرد المعلوم؛ بل احتمل حدوثه بعده.

ثم هذا القسم يكون على قسمين:

أحدهما: أن يكون الفرد الآخر المحتمل بقاؤه فردا مباينا في الوجود مع الفرد المعلوم و إن اشتركا في النوع؛ كبقاء الإنسان في ضمن عمرو الذي دخل في الدار مقارنا لخروج زيد عنها.

ثانيهما: أن يكون الفرد الآخر من مراتب الموجود السابق كالسواد الضعيف المحتمل قيامه مقام السواد الشديد.

فالاحتمالات المتصورة في القسم الثالث بحسب الحقيقة هي ثلاثة، و قد أشار المصنف إليها.

إذا عرفت هذه المقدمة ففي استصحاب القسم الثالث من الكلي وجوه و أقوال:

1 - جريان الاستصحاب مطلقا.

2 - عدم جريانه كذلك كما هو مختار المصنف.

3 - التفصيل بين القسم الأول فيجري فيه الاستصحاب، و بين القسمين الأخيرين فلا يجري فيهما كما هو مختار الشيخ «قدس سره».

وجه القول الأول: تمامية أركان الاستصحاب من اليقين و الشك بالنسبة إلى الكلي.

فحاصل الكلام: أن الوجه في جريان الاستصحاب مطلقا هو وجود مناط الاستصحاب في جميع الأقسام المذكورة؛ لأن المناط في جريان الاستصحاب هو كون شيء متيقن الوجود في السابق و مشكوك البقاء في اللاحق، و هذا المعنى متحقق بالنسبة

ص: 266

إلى وجود الكلي بنفسه، مع قطع النظر عن وجود الفرد؛ إذ من المعلوم: أن وجود الكلي بنفسه كان متيقنا سابقا و لم يعلم ارتفاعه، فلا بد من البناء عليه، و تعدد الوجودات لا ينافي صدق البناء عليه؛ و إن كان منافيا بالنسبة إلى الفرد.

و بالجملة: أن أركان الاستصحاب حاصلة بالنسبة إلى نفس الكلي؛ لأنا نعلم بالوجدان بوجود الكلي سابقا، و نشك في بقائه لاحقا.

و إن لم تكن الأركان حاصلة بالنسبة إلى كل واحد من الفردين؛ لأنه قد علم بارتفاع بعض وجوداته و شك في حدوث ما عداه؛ إلاّ إن عدم حصول الأركان بالنسبة إلى الأفراد مانع من إجراء الاستصحاب في الأفراد دون الكلي كما تقدم نظيره في القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه القول الأول و هو جريان الاستصحاب في القسم الثالث مطلقا.

و يرد عليه بما حاصله: من أن الوجود المتيقن للكلي قد علم بارتفاعه و المشكوك هو وجود آخر غير الوجود الأول المتيقن؛ لأن وجود الكلي يتعدد بتعدد أفراده، فالشك في الحقيقة ليس شكا في بقاء ما هو المتيقن؛ بل في الحدوث، و مثله غير مجرى الاستصحاب.

فالمتحصل: أنه يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون الشك في بقاء ما علم حدوثه؛ بأن يكون وجوده البقائي عين وجوده الحدوثي، من دون تفاوت بينهما إلاّ في الزمان.

و من المعلوم: أن الكلي لا وجود له إلاّ بوجود فرده، فإذا علم بوجوده في ضمن فرد، و علم بارتفاع ذلك الفرد فقد علم لا محالة بارتفاع الكلي أيضا، فلا يجري الاستصحاب أصلا؛ لأن العلم بوجود الكلي في فرد معين يوجب العلم بوجود الكلي المتخصص بخصوصية هذا الفرد.

و أما وجود الكلي المتخصص بخصوصية فرد آخر، فلم يكن معلوما لنا، فما هو المعلوم لنا قد ارتفع يقينا، و ما هو محتمل البقاء لم يكن معلوما لنا، فلا يكون الشك متعلقا ببقاء ما تعلق به اليقين، فلا يجري فيه الاستصحاب. هذا غاية ما يمكن أن يقال في الجواب عن القول الأول.

ص: 267

و أما وجه القول بالتفصيل الذي اختاره الشيخ «قدس سره»: فهو أن وجود الكلي في القسم الأول - على تقدير ثبوته في الزمان اللاحق - هو عين وجوده في السابق، و ذلك لأن الكلي في هذا القسم مردد من الأول بين حصوله في ضمن فرد فقط كالإنسان في زيد، و بين حصوله في ضمن فردين كحصول الإنسان في ضمن زيد و عمرو، و على الثاني: يستعد الإنسان للبقاء بعد موت زيد ثم الباقي على فرض البقاء هو عين الموجود سابقا، فيصدق في هذا القسم بقاء ما هو الموجود سابقا و هو معنى الاستصحاب.

هذا بخلاف القسمين الأخيرين، حيث يعلم فيهما ارتفاع الوجود الأول المتيقن، و إنما الشك في قيام وجود آخر مقامه، فلا يصدق فيهما بقاء ما هو الموجود سابقا كي يكون مجرى الاستصحاب.

و خلاصة وجه التفصيل بين القسم الأول و بين القسمين الأخيرين من القسم الثالث:

أنه في القسم الأول يحتمل أن يكون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقا؛ بخلاف القسمين الأخيرين، فلا يحتمل فيهما ذلك، فيجري الاستصحاب في الأول دون الأخيرين.

و يكفي في رد هذا التفصيل: ما أفاده المصنف من عدم جريان الاستصحاب في شيء من الأقسام الثلاثة في القسم الثالث.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن وجود الطبيعي و إن كان بوجود فرده و لكن وجوده في ضمن فرد غير وجوده في ضمن فرد آخر.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه إذا علمنا بارتفاع الفرد الأول فقد علمنا بارتفاع الطبيعي الذي كان متحققا في ضمنه، و مع القطع بارتفاعه كيف يستصحب وجوده في الآن اللاحق في ضمن الفرد الثاني؛ لأن وجوده في الفرد الثاني لم يكن متيقنا من الأول، فيختلف متعلق اليقين و الشك، إذ الحصة التي تحققت في ضمن هذا الفرد المحتمل بقاؤه غير الحصة المتحققة في ضمن ذلك الفرد المرتفع قطعا.

فالحق ما ذهب إليه المصنف من عدم جريان الاستصحاب مطلقا حيث قال: «أظهره عدم جريان».

وجه الظهور: أن مجرد بقاء الكلي في ضمن فرده مما لا يجدي في الاستصحاب، و إنما المجدي هو احتمال بقاء عين ما تيقنا به سابقا في الآن اللاحق، و هو مفقود في جميع أقسام القسم الثالث؛ إذ ليس في هذا القسم احتمال بقاء عين ما تيقنا به أصلا.

ص: 268

الأحكام (1) أو ما يشترك بين الاثنين منها (2) أو الأزيد (3) من أمر عام.

فإن كان (4) الشك في بقاء ذاك العام من جهة الشك في بقاء الخاص الذي كان هذا تمام الكلام في استصحاب الكلي.

=============

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) كوجوب صلاة الجمعة مثلا.

(2) أي: من الأحكام مثل: الطلب الجامع بين الوجوب و الندب مثلا، و كالجواز المشترك بينهما و بين الإباحة و الكراهة.

قوله: «ما» عطف على «خصوص»، و هذا بيان للحكم الكلي، و المعطوف عليه بيان للحكم الجزئي.

(3) عطف على «الاثنين»، و كلمة «من» بيان ل «ما» الموصول.

و مثال الأزيد من الاثنين: ما تقدم من الجواز الجامع بين ما عدا الحرمة من الأحكام الخمسة.

(4) هذا شروع في بيان أقسام استصحاب الكلي و أحكامها، و هذا هو القسم الأول من تلك الأقسام.

و توضيحه: أن الشك في بقاء الكلي تارة: ينشأ من احتمال ارتفاع الفرد المعيّن الذي وجد الكلي في ضمنه، كما إذا علم بوجوب صلاة الجمعة مثلا، و شك في ارتفاعه زمان الغيبة، فإن الشك في بقاء الطلب الجامع بين وجوب صلاة الجمعة و غيرها ناش من الشك في بقاء فرده المعلوم حدوثه و هو وجوب الجمعة.

و أخرى: ينشأ من تردد الفرد الذي وجد الكلي في ضمنه بين معلوم البقاء إن كان طويل العمر، و بين معلوم الارتفاع إن كان قصير العمر، كما إذا فرض أن الوجوب إن كان متعلقا بالجمعة فقد ارتفع بعد مضي ساعة من الزوال، و إن كان متعلقا بالظهر فهو باق إلى غروب الشمس، فالشك في بقاء طبيعي الوجوب ناش من تردد الوجوب الحادث بين ما هو معلوم البقاء و بين ما هو معلوم الزوال.

و ثالثة: ينشأ من احتمال حدوث فرد آخر من أفراد الكلي مقارنا لوجود فرده الذي علم بحدوثه و ارتفاعه، أو مقارنا لارتفاعه فالشك في بقاء الكلي ناش عن احتمال حدوث فرد آخر غير الفرد المعلوم حدوثا و ارتفاعا. ففي هذا القسم لا شك في ناحية الفرد المتيقن، حيث إنه معلوم الحدوث و الزوال، فالشك في بقاء الكلي حينئذ ناش عن احتمال حدوث فرد آخر من أفراد الكلي.

ص: 269

في ضمنه و ارتفاعه (1) كان (2) استصحابه كاستصحابه (3) بلا كلام.

و إن كان (4) الشك فيه من جهة تردد الخاص الذي في ضمنه بين ما هو باق أو مرتفع قطعا، فكذا (5) لا إشكال في استصحابه، فيترتب عليه كافة ما يترتب عليه

=============

(1) عطف على «بقاء الخاص» و ضميرا «ضمنه، ارتفاعه» راجعان إلى «الخاص»، و اسم «كان» ضمير مستتر فيه راجع إلى «العام».

(2) جزاء «فإن كان»، و هذا إشارة إلى حكم القسم الأول و هو صحة جريان الاستصحاب في كل من الكلي و الفرد، فيصح استصحاب زيد و كلي الإنسان فيما إذا علم بوجود زيد و شك في بقائه إن كان لهما أثر مشترك كحرمة المسّ بالنسبة إلى كل من الحدث الأصغر و الأكبر بناء على موضوعية كلي الحدث في الأدلة لأحكام شرعية، و ذلك لاجتماع ركني الاستصحاب من اليقين بالحدوث و الشك في البقاء في كل من الفرد و الكلي.

و إن كان لخصوصية الخاص أثر فجريان استصحاب الكلي لا يجدي في ترتيب ذلك الأثر؛ لتوقفه على حجية الأصل المثبت؛ لكون بقاء الفرد لازما عقليا لبقاء الكلي.

و من المعلوم: قصور دليل الاستصحاب عن إثبات اللوازم العقلية و العادية للمستصحب. و عليه: فلا بد من إجراء الاستصحاب في الفرد لترتيب أثر نفسه.

(3) أي: كاستصحاب الخاص. و ضمير «استصحابه» راجع إلى «العام».

و بالجملة: ففي القسم الأول يجري استصحاب الكلي عند الشيخ و المصنف «قدس سرهما» بلا إشكال.

(4) هذا إشارة إلى القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي و تقدم توضيحه.

و ضمير «فيه» راجع إلى «بقاء ذاك العام» يعني: و إن كان الشك في بقاء العام من جهة تردد الخاص - الذي يكون العام في ضمنه - بين الخاص الذي هو باق قطعا إن كان طويل العمر، و بين الخاص الذي هو مرتفع قطعا إن كان قصير العمر، فلا إشكال أيضا في استصحاب العام.

و قوله: «قطعا» قيد لكل من «باق، أو مرتفع».

(5) هذا جزاء «و إن كان» و هو إشارة إلى حكم القسم الثاني.

و محصله: أنه لا إشكال في جريان استصحاب الكلي فيه كجريانه في القسم الأول، فيترتب على استصحاب الكلي جميع الأحكام المترتبة عليه. و ضمائر «استصحابه، عليه» في الموضعين راجعة إلى «العام».

ص: 270

عقلا أو شرعا (1) من (2) أحكامه و لوازمه. و تردد (3) ذاك الخاص الذي يكون الكلي موجودا في ضمنه (4) - و يكون وجوده (5) بعين وجوده - بين متيقن الارتفاع و مشكوك الحدوث المحكوم (6) بعدم حدوثه غير ضائر (7) باستصحاب الكلي المتحقق في ضمنه، مع (8) عدم إخلاله باليقين و الشك في حدوثه و بقائه، و إنما كان التردد بين الفردين

=============

(1) الأول كوجوب الإطاعة المترتب على كلي الوجوب المتعلق بصلاة الجمعة أو الظهر، فإنه يترتب على استصحاب كلي الوجوب بعد مضي وقت الجمعة وجوب الإطاعة عقلا بفعل الظهر، و الثاني: كوجوب المقدمة و حرمة الضد بناء على اقتضاء الوجوب النفسي لهما و كونهما شرعيين، و كاستصحاب كلي الحدث المترتب عليه حرمة المسّ .

(2) بيان ل «ما» الموصول، و ضميرا «أحكامه، لوازمه» راجعان إلى «العام».

(3) هذا شروع في بيان بعض الإشكالات الواردة على جريان الاستصحاب في القسم الثاني، و قد تقدم توضيح هذا الإشكال فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار؛ لأن الإعادة و التكرار ينافي الاختصار المقصود من هذا الشرح.

(4) أي: في ضمن وجود الخاص.

(5) أي: وجود الكلي بعين وجود الخاص، و «بين» متعلق ب «تردد».

(6) صفة ل «مشكوك الحدوث» يعني: أن الفرد الطويل العمر المفروض كونه مشكوك الحدوث يجري فيه استصحاب العدم، و الفرد القصير على تقدير حدوثه معلوم الارتفاع، فلا وجه لجريان استصحاب الكلي مع كون منشئه و هو الفرد معدوما وجدانا أو تعبدا، و وضوح: أنه لا وجود للكلي إلاّ بوجود فرده. هذا حاصل إشكال جريان الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي.

(7) خبر «و تردد» و دفع للإشكال، و قد تقدم توضيح دفع الإشكال فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار رعاية للاختصار.

(8) متعلق ب «ضائر». و ضمير «ضمنه» راجع إلى «الخاص»، و ضمير «إخلاله» إلى «تردد»، و ضميرا «حدوثه، بقائه» راجعان إلى الكلي، يعني: أن تردد ذلك الخاص... غير ضائر باستصحاب الكلي المتحقق في ضمن ذلك الخاص؛ لعدم إخلال ذلك التردد باليقين و الشك في حدوث الكلي و بقائه، فيجري الاستصحاب في الكلي، و يترتب عليه أثره؛ لاجتماع أركانه، فإذا علم بحدث مردد بين الأكبر و الأصغر و توضأ، ثم شك في بقاء الحدث لاحتمال كونه أكبر لا يرتفع إلاّ بالغسل استصحب كلي الحدث بناء على

ص: 271

ضائرا باستصحاب أحد الخاصين اللذين كان أمره مرددا بينهما؛ لإخلاله (1) باليقين الذي هو أحد ركني الاستصحاب كما لا يخفى.

نعم (2)؛ يجب رعاية التكاليف المعلومة إجمالا المترتبة على الخاصين فيما علم تكليف في البين.

و توهم (3): كون الشك في بقاء الكلي الذي في ضمن ذاك المردد مسببا عن كون طبيعي الحدث موضوعا للحكم، و رتب عليه آثاره من حرمة مسّ كتابة القرآن و الدخول في الصلاة و غيرها مما يشترط فيه الطهارة.

=============

نعم؛ لا يجري الاستصحاب في الفرد؛ لأنه على تقدير لا يقين بالحدوث، و على تقدير آخر لا شك في البقاء، فينهدم أحد ركني الاستصحاب على سبيل منع الخلو.

(1) أي: لإخلال التردد، و هذا تعليل لكون التردد ضائرا باستصحاب أحد الفردين اللذين كان أمر الكلي دائرا بينهما.

و محصل التعليل: أن تردد الفرد بين مقطوع البقاء و معلوم الارتفاع يمنع عن حصول اليقين الذي هو أول ركني الاستصحاب، خصوصا مع كون الفرد الطويل العمر محكوما بالعدم للاستصحاب.

و بالجملة: فالتردد قادح في استصحاب الفرد دون الكلي. و ضمير «أمره» راجع إلى «الكلي»، و ضمير «بينهما» إلى «الخاصين».

(2) استدراك على كون التردد ضائرا بجريان استصحاب أحد الخاصين و محصله:

أن الاستصحاب و إن لم يجر في شيء من الخاصين حتى يثبت به الحكم المختص به؛ لكنه إذا كان لهما أثر شرعي، فلا بد من ترتيبه؛ للعلم الإجمالي بوجوده الموجب لتنجزه، فالرطوبة المرددة بين البول و المني مع عدم العلم بالحالة السابقة أو العلم بكونها هي الطهارة توجب الجمع بين الوضوء و الغسل؛ للعلم الإجمالي بخطاب مردد بينهما. و كذا يجب ترتيب سائر الآثار المختصة بكل منهما كغسلها مرتين؛ لاحتمال كونها بولا و عدم اللبث في المساجد، و عدم قراءة العزائم و غيرهما من أحكام الجنب؛ لاحتمال كونها منيا. و بالجملة: فالعلم الإجمالي بثبوت حكم لكل واحد من الخاصين - مع عدم ما يصلح لتعيين أحدهما من أصل جار في نفسهما، و لا في الكلي حتى يغني عنهما لكونه مثبتا - يوجب الاحتياط بترتيب أثر كل واحد من الخاصين.

(3) هذا إشكال آخر على جريان استصحاب الكلي في القسم الثاني، و حاصله: أن استصحاب الكلي هنا محكوم بالاستصحاب السببي، و من المقرر في محله: عدم جريان الأصل المسببي مع وجود الأصل السببي، و قد تقدم توضيحه فراجع.

ص: 272

الشك في حدوثه الخاص المشكوك حدوثه (1) المحكوم بعدم الحدوث بأصالة عدمه (2)؛ فاسد (3) قطعا؛ لعدم (4) كون بقائه و ارتفاعه من لوازم حدوثه و عدم حدوثه؛ بل من لوازم كون الحادث المتيقن ذلك المتيقن الارتفاع أو البقاء.

مع (5) أن بقاء القدر المشترك إنما هو بعين بقاء الخاص الذي في ضمنه لا أنه من لوازمه.

=============

و الفرق بين هذا الإشكال و الإشكال السابق هو: أن ملاك السابق اختلال ركني الاستصحاب من اليقين بالحدوث و الشك في البقاء؛ لأجل تردد الحادث بين معلوم البقاء و معلوم الارتفاع.

و ملاك هذا الإشكال عدم جريان استصحاب الكلي، لحكومة الأصل الجاري في حدوث الفرد عليه كسائر موارد تقدم الأصل السببي على المسببي.

(1) المفروض كونه طويل العمر، و منشأ للشك في بقاء الكلي. و ضمير «حدوثه» راجع إلى «الخاص».

(2) أي: استصحاب عدمه لاجتماع ركنيه من اليقين و الشك و «المحكوم» صفة ل «الخاص»، و ضمير «عدمه» راجع إلى «الحدوث».

(3) خبر «توهم»، و قد دفع المصنف هذا التوهم بوجوه ثلاثة، و قد تقدم ذكر هذه الوجوه فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار حفاظا على الاختصار.

(4) تعليل للفساد، و إشارة إلى الجواب الأول، و حاصله: ما عرفت من منع السببية حيث إن بقاء الكلي و ارتفاعه ليس مستندا إلى وجود حادث معين حتى يتوقف بقاؤه و ارتفاعه على حدوثه، و عدم حدوثه كي يجري الاستصحاب في عدمه، و يحكم بعدم الكلي، و لا يجري استصحاب وجود الكلي في ضمن ما هو مقطوع البقاء على تقدير حدوثه أو في ضمن ما هو مقطوع الارتفاع على فرض حدوثه، و مع العلم الإجمالي بوجود أحد هذين الحادثين و عدم اعتبار الاستصحاب فيهما للمعارضة لا محيص عن جريان الأصل في نفس المسبب و هو الكلي، فيستصحب بلا مانع، و ضميرا «بقائه، ارتفاعه» راجعان إلى «الكلي»، و ضميرا «حدوثه» في كلا الموضعين راجع إلى «الخاص».

(5) هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة التي دفع بها التوهم المزبور، و هذا الوجه أيضا يرجع إلى منع السببية ببيان آخر و هو: أن السببية الموجبة لتقدم الأصل السببي على الأصل المسببي إنما تكون بين الملزوم و لازمه، فتعدد اللازم و الملزوم في الشك السببي و المسببي كما هو مبني التوهم المزبور مما لا بد منه.

ص: 273

على أنه (1) لو سلم أنه من لوازم حدوث المشكوك فلا شبهة في كون اللزوم و هذا مفقود في المقام لعدم مغايرة وجود الفرد حتى يكون استصحابه مغنيا عن استصحاب الكلي؛ بل الكلي موجود بعين وجود الفرد. فملاك هذا الجواب عدم تعدد السبب و المسبب وجودا في المقام حتى يندرج في ضابط الشك السببي و المسببي، كما أن ملاك الجواب المتقدم عدم جريان الأصل السببي؛ للتعارض الموجب لجريان الأصل في المسبب. و ضمير «ضمنه» راجع إلى «الخاص» يعني: الخاص الذي يكون الكلي في ضمنه، فحذف الضمير العائد إلى الموصول، و العبارة هكذا «الذي هو في ضمنه».

=============

و بالجملة: فبقاء الكلي عين بقاء الفرد الطويل العمر، لا أنه لازمه حتى يتطرق فيه قاعدة الشك السببي و المسببي، كما أشار إليه بقوله: «لا أنه من لوازمه» يعني: لا أن بقاء القدر المشترك من لوازم الخاص الطويل العمر حتى يندرج في كبرى الشك السببي و المسببي، فضمير «أنه» راجع إلى «القدر المشترك»، و ضمير «لوازمه» راجع إلى «الخاص».

(1) الضمير للشأن، هذا ثالث وجوه دفع التوهم المزبور، و مرجع هذا الوجه إلى تسليم كون الكلي من لوازم وجود الخاص المشكوك الحدوث و أنه من صغريات الشك السببي و المسببي، و الغض عن أن وجود الكلي عين وجود الفرد؛ إلاّ إنه مع ذلك لا يجري هنا الأصل في السبب حتى يغني عن جريانه في المسبب و هو الكلي، لفقدان شرطه و هو كون المسبب من لوازم السبب شرعا كالمثال المعروف و هو طهارة الثوب المتنجس المغسول بماء مستصحب الطهارة، فإن طهارة الثوب حينئذ من آثار طهارة الماء شرعا، فإن الترتب هنا ليس شرعيا، حيث إن وجود الكلي من لوازم وجود الفرد عقلا لا شرعا، و لا محيص في إغناء الأصل السببي عن الأصل المسببي عن كون اللزوم شرعيا.

و عليه: فلا يغني جريان الأصل في الحادث الطويل العمر عن جريانه في الكلي.

و لا يخفى: أن الترتب الطبيعي يقتضي تقديم الجواب الثاني على الجوابين الآخرين، بأن يقال: «فيه أولا: عدم الترتب و التعدد بين وجود الكلي و الفرد حتى يندرج تحت ضابط السبب و المسبب.

و ثانيا: بعد تسليم الترتب و عدم العينية يتعارض الأصلان في الحادثين و يسقطان، فيجري الأصل في المسبب و هو الكلي.

و ثالثا: بعد الغض عن التعارض لا يجري الأصل في حدوث الحادث الطويل العمر؛ لفقدان شرطه و هو كون المسبب شرعيا؛ إذ اللزوم هنا عقلي».

قوله: «لو سلم أنه» يعني: لو سلم أن القدر المشترك من لوازم حدوث الخاص

ص: 274

عقليا، و لا يكاد يترتب بأصالة عدم الحدوث إلاّ ما هو من لوازمه شرعا (1).

و أما (2) إذا كان الشك في بقائه، من جهة الشك في قيام خاص آخر في مقام ذاك الخاص الذي كان في ضمنه بعد القطع بارتفاعه (3)، ففي (4) استصحابه إشكال (5) أظهره عدم جريانه.

=============

المشكوك الحدوث حتى يكون من صغريات قاعدة الشك السببي و المسببي ليجري الأصل في الفرد دون الكلي، و أغمض عن الجواب الثاني، و هو دعوى العينية على التفصيل الذي عرفته آنفا. فلا يجدي أيضا؛ لفقدان الشرط و هو كون اللزوم شرعيا، حيث إن عدم الكلي من لوازم عدم الفرد عقلا لا شرعا، فإجراء الأصل في الفرد لا يمنع إجراءه في الكلي. و ضمير «أنه» راجع إلى «القدر المشترك».

(1) يعني: أن شرط جريان الأصل في السبب - و هو كون المسبب من أحكام السبب شرعا كمثال غسل الثوب المتنجس بماء محكوم بالطهارة شرعا - مفقود هنا؛ لما مر آنفا من أن ترتب الكلي على الفرد عقلي لا شرعي، فمجرد تسليم اللزوم بين الكلي و الفرد و إنكار العينية لا يمنع عن جريان الأصل في الكلي، و ضمير «هو» راجع إلى حدوث المشكوك. و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(2) معطوف على قوله: «فإن كان الشك في بقاء ذاك العام». و مقتضى السياق إبدال «و أما إذا» ب «و إن كان...» الخ.

و كيف كان؛ فقد أشار بهذه العبارة إلى ثالث أقسام استصحاب الكلي، و هو أن يكون الشك في بقاء الكلي ناشئا من احتمال وجود فرد آخر غير الفرد المعلوم الحدوث و الارتفاع و هو على ثلاثة أقسام، و قد تقدم توضيح الكلام في أقسام هذا القسم و ما فيه من الأقوال مع بيان وجه كل قول من تلك الأقوال، فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار حفاظا على الاختصار.

(3) هذا الضمير و ضمير «ضمنه» راجعان إلى «ذاك الخاص»، و ضميرا «بقائه» و المستتر في «كان» راجعان إلى الكلي.

(4) جواب «و أما»، و ضمير «استصحابه» راجع إلى الكلي.

(5) ناش من صدق الشك في بقاء الكلي و إن لم يصدق ذلك بالنسبة إلى الفرد؛ لرجوع الشك فيه إلى الحدوث دون البقاء، فيجري فيه استصحاب الكلي، لاجتماع ركنيه و هما اليقين بالحدوث و الشك في البقاء. و من عدم صدق الشك في البقاء حقيقة، ضرورة: أنه يعتبر في صدقه أن يكون الموجود بقاء عين الموجود حدوثا مع اختلافهما

ص: 275

فإن (1) وجود الطبيعي و إن كان بوجود فرده، إلاّ إن وجوده في ضمن المتعدد من أفراده ليس من نحو وجود واحد له (2)؛ بل متعدد حسب تعددها، فلو قطع بارتفاع ما علم وجوده منها (3) لقطع بارتفاع وجوده منها و إن (4) شك في وجود فرد آخر مقارن (5) لوجود ذاك الفرد أو لارتفاعه (6) بنفسه (7)...

=============

زمانا فقط، كعدالة زيد المعلومة يوم الجمعة المشكوكة يوم السبت، و من المعلوم: انتفاء هذا الشرط في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي، ضرورة: أن وجوده المتحقق في ضمن الفرد المعلوم حدوثه مقطوع الارتفاع، و وجوده في ضمن فرد آخر مشكوك الحدوث، فاليقين تعلق بوجود ليس مشكوك البقاء، و الشك تعلق بوجود ليس معلوم الحدوث، فأركان الاستصحاب مختلة، فلا يجري الاستصحاب.

و هذا الوجه هو الذي جعله المصنف أظهر وجهي الإشكال فقال: «أظهره عدم جريانه» أي الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي.

فقوله: «أظهره عدم جريانه» تعريض بما قوّاه الشيخ «قدس سره» من جريان الاستصحاب في القسم الأول من أقسام القسم الثالث، و قد تقدم وجه ما أفاده الشيخ من التفصيل مع الجواب عنه فراجع.

(1) هذا إشارة إلى وجه ما اختاره المصنف من عدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام الكلي مطلقا.

و قد تقدم توضيح وجه ما اختاره المصنف من عدم جريان الاستصحاب في جميع أقسام القسم الثالث من أقسام الكلي، فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار رعاية للاختصار.

(2) أي: للطبيعي حتى يجري الاستصحاب باعتبار هذا الوجود الواحد؛ بل يتعدد وجود الطبيعي بتعدد وجود أفراده. و قوله: «بل متعدد» معطوف على «ليس».

(3) أي: من الأفراد، و ضمير «وجوده» الثاني راجع إلى «الطبيعي»، و ضمير «وجوده» الأول راجع إلى «ما» الموصول، و «منها» مبيّن للموصول، و ضميره راجع إلى «أفراده».

(4) وصلية، و غرضه: بيان أن الشك في وجود فرد آخر من الكلي مع القطع بارتفاع الفرد الأول ليس شكا في بقاء الكلي حتى يجري فيه الاستصحاب؛ بل هو شك في الحدوث و الأصل عدمه.

(5) هذا إشارة إلى القسم الأول من أقسام القسم الثالث من استصحاب الكلي.

(6) معطوف على «لوجود» و هذا إشارة إلى القسم الثاني من تلك الأقسام.

(7) متعلق بقوله: «وجود فرد آخر».

ص: 276

أو بملاكه (1)؛ كما إذا شك في الاستحباب (2) بعد القطع بارتفاع الإيجاب بملاك (3) مقارن أو حادث.

=============

(1) معطوف على «بنفسه» يعني: و إن شك في وجود فرد آخر مقارن لوجود الفرد المعلوم الحدوث و الزوال، أو مقارن لارتفاع ذلك المعلوم الارتفاع، سواء كان المشكوك الحدوث نفس وجود الفرد فقط مع العلم بملاكه، أم هو مع ملاكه.

فيظهر من العبارة صور ثلاث:

إحداها: احتمال وجود الفرد الآخر مقارنا لوجود الفرد المعلوم الارتفاع، و في هذه الصورة يتعلق الشك بنفس الفرد فقط دون ملاكه؛ إذ لا يتصور وجود الفرد كالاستحباب مثلا بدون ملاك.

ثانيتها: احتمال وجوده مقارنا لارتفاع المعلوم الزوال، و هذا يتصور على وجهين:

أحدهما: كون المشكوك فيه وجود الفرد فقط للعلم بملاكه ذاتا لا حدا في ضمن ملاك الفرد المرتفع.

ثانيهما: كون المشكوك فيه كلا من الفرد و ملاكه، بأن يكون ملاكه حادثا معه، فالشك في وجود فرد آخر مقارن لارتفاع ذلك الفرد ينقسم إلى هذين القسمين.

و قد ظهر مما ذكرنا: أن الباء في «بملاكه» بمعنى «مع»، فكأن العبارة هكذا: «و إن شك في وجود فرد آخر... بنفسه أو مع ملاكه». فقوله: «بنفسه أو بملاكه» إشارة إلى القسم الثاني - و هو الشك في حدوث فرد آخر مقارن لارتفاع الفرد المعلوم الحدوث - ينقسم على قسمين:

أحدهما: أن يكون الشك في نفسه دون ملاكه كما إذا علم بوجوده بنحو الاندكاك في ملاك الفرد المعلوم الزوال.

و الآخر: أن يكون الشك في حدوث كل من الفرد و ملاكه حين ارتفاع الفرد المعلوم.

(2) هذا مقال للقسم الثاني و هو ما إذا كان الشك في حدوث الفرد مقارنا لارتفاع الفرد المعلوم؛ إذ المفروض: حصول الشك في حدوث الاستحباب مقارنا للقطع بارتفاع الإيجاب.

(3) متعلق ب «الاستحباب» يعني: كما إذا شك في الاستحباب بملاك مقارن لوجود الوجوب، أو بملاك حادث مع حدوث الفرد؛ بحيث يكون كل من الاستحباب و ملاكه حادثا بعد ارتفاع الوجوب.

ص: 277

لا يقال (1): الأمر و إن كان كما ذكر إلاّ إنه (2) حيث كان التفاوت بين الإيجاب و الاستحباب و هكذا (3)، بين الكراهة و الحرمة ليس إلاّ بشدة الطلب بينهما و ضعفه (4)؛ كان (5) تبدل أحدهما بالآخر مع عدم تخلل العدم غير موجب لتعدد

=============

(1) غرض المستشكل: إيراد إشكال صغروي لا كبروي، توضيحه: أن جريان استصحاب الكلي فيما إذا علم بارتفاع الفرد المعلوم الحدوث و شك في فرد آخر و إن كان صحيحا؛ لعدم كون الشك في البقاء، بل في الحدوث، إلاّ إن التمثيل له بالشك في حدوث الاستحباب بعد القطع بارتفاع الوجوب غير سديد؛ لأن الاستحباب ليس وجودا مغايرا للوجوب حتى يكون الشك فيه شكا في وجود فرد آخر، لا شكا في بقاء الوجود السابق، حيث إن الوجوب و الاستحباب نظير السواد من الأعراض الخارجية، فكما لا يكون السواد الضعيف مغايرا للسواد الشديد؛ بل يعدان موجودا واحدا لا يتفاوتان إلاّ بالشدة و الضعف، فكذلك الوجوب و الاستحباب، فإنهما لا يتفاوتان إلاّ بشدة الطلب و ضعفه، فإذا ارتفعت شدته و هي الوجوب تبقى مرتبته الضعيفة و هي الاستحباب، فوجود الاستحباب بعد ارتفاع الوجوب ليس إلاّ بقاء لوجود الجامع بينهما و هو الطلب، فلا مانع من استصحابه.

و عليه: فالقسم الثالث و هو الشك في حدوث فرد مقارنا لارتفاع غيره و إن قلنا بعدم جريان الاستصحاب فيه؛ إلاّ إنه إذا كان من قبيل الوجوب و الاستحباب بأن كان المشكوك بقاء من مراتب المعلوم المرتفع صح استصحابه.

قوله: «كما ذكر» في وجه عدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث من مغايرة وجود الطبيعي في ضمن الفرد الزائل لوجوده في ضمن الفرد المشكوك الحدوث، و مع هذه المغايرة لا يكون الشك في بقاء الوجود السابق حتى يجري فيه الاستصحاب؛ بل يكون الشك في حدوث وجود فرد آخر للطبيعي.

(2) الضمير للشأن، هذا بيان الإشكال الصغروي و هو المناقشة في المثال، و قد تقدم تفصيله آنفا بقولنا: «إلاّ إن التمثيل له بالشك في حدوث الاستحباب...» الخ.

(3) يعني: و هكذا كان التفاوت بين الكراهة و الحرمة بشدة الكراهة في الحرمة و ضعفها في الكراهة.

(4) يعني: ضعف الطلب في الاستحباب و شدته في الوجوب. و ضمير «بينهما» راجع إلى الإيجاب و الاستحباب.

(5) جواب «حيث» و غرضه من قوله: «مع عدم تخلل العدم» إثبات أن الشك في

ص: 278

وجود الطبيعي بينهما، لمساوقة (1) الاتصال مع الوحدة، فالشك في التبدل حقيقة شك في بقاء الطلب (2) و ارتفاعه لا في حدوث وجود آخر.

فإنه يقال (3): الأمر و إن كان كذلك، إلاّ إن العرف حيث يرى الإيجاب وجود المرتبة الضعيفة ليس شكا في وجود الطبيعة في ضمن فرد آخر مغاير لوجودها في ضمن الفرد المعلوم الارتفاع حتى يكون شكا في الحدوث و لا يجري فيه الاستصحاب.

=============

بيانه: أن المرتبة الضعيفة متصلة بالمرتبة الشديدة، و الاتصال مساوق للوحدة كما ثبت في محله، و تعدد وجود المرتبتين منوط بتخلل العدم بينهما، و مع الاتصال المحقق للوحدة يكون الشك في وجود المرتبة الضعيفة شكا في بقاء ما علمنا به لا شكا في حدوث فرد آخر حتى لا يجري فيه الاستصحاب.

و ضمير «أحدهما» راجع إلى «الإيجاب و الحرمة»، و المراد ب «الآخر» هو الاستحباب و الكراهة.

(1) تعليل لعدم كون التبدل موجبا لتعدد وجود الطبيعي بين الإيجاب و الاستحباب و الحرمة و الكراهة. و قد مر آنفا توضيحه بقولنا: بيانه: أن المرتبة الضعيفة متصلة بالمرتبة الشديدة.

(2) أي: طبيعة الطلب التي كانت متيقنة، لا أنه شك في حدوث طلب في ضمن فرد آخر، هذا في الطلب الوجوبي المتبدل بطلب استحبابي، و كذا طبيعة الكراهة في ضمن الحرمة المرتفعة مع الشك في تبدلها بالكراهة المصطلحة. و ضمير «ارتفاعه» راجع على الطلب.

(3) هذا دفع الإشكال و محصله: أن الاستحباب و إن كان بحسب الدقة العقلية من مراتب الوجوب، و كذا الكراهة بالنسبة إلى الحرمة؛ لكن العرف يرى الإيجاب و الاستحباب فردين متباينين لكلي الطلب، نظير زيد و عمرو في كونهما فردين متباينين من أفراد كلي الإنسان، و كذا الحرمة و الكراهة، و لذا اشتهر تضاد الأحكام الخمسة، و لا يرى العرف الإيجاب و الاستحباب فردا واحدا مختلفا بالشدة و الضعف حتى يصح استصحابه عند الشك في بقاء الطلب مع القطع بارتفاع الإيجاب، نظير استصحاب السواد عند العلم بارتفاع شدته و الشك في بقاء مرتبته الضعيفة.

و لما كان المدار في وحدة القضيتين موضوعا و محمولا في نظر العرف فلا يجري الاستصحاب في الطلب بعد ارتفاع الوجوب و الشك في تبدله بالاستحباب.

نعم؛ يجري في مثل السواد من الأعراض الخارجية إذا شك في تبدل مرتبته الشديدة

ص: 279

و الاستحباب المتبادلين فردين متباينين (1) لا واحدا مختلف الوصف في زمانين لم يكن (2) مجال للاستصحاب؛ لما (3) مرت الإشارة إليه (4) و يأتي (5) من أن قضية إطلاق بالضعيفة، لوحدة القضيتين المتيقنة و المشكوكة فيه عرفا كوحدتهما عقلا.

=============

و المشار إليه في قوله: «كذلك» هو كون التفاوت بين الإيجاب و الاستحباب بشدة الطلب و ضعفه، و كذا الحرمة و الكراهة، و لازم ذلك: رجوع الشك في التبدل بالاستحباب إلى الشك في بقاء الطلب، لا إلى الشك في حدوث فرد آخر حتى لا يجري فيه الاستصحاب؛ لكنه بنظر العرف ليس كذلك؛ لكون الإيجاب و الاستحباب بنظره متباينين.

(1) يعني: فلا يجري الاستصحاب، لانتفاء شرطه و هو وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة؛ إذ المفروض: كون الوجوب و الاستحباب عرفا فردين متباينين كتباين زيد و عمرو، و عدم كون وجود أحدهما وجودا للآخر، فالشك في تبدل الوجوب بالاستحباب ليس شكا في البقاء؛ بل يكون شكا في حدوث فرد آخر؛ لكون وصفي الوجوب و الاستحباب من مقومات الطلب الموجبة لتعدد الموضوع المانع عن جريان الاستصحاب، لا من الحالات المتبادلة التي لا تنثلم بها وحدة الموضوع كالفقر و الغنى و الصحة و المرض و أمثالها العارضة لزيد مثلا، فإنه في جميع هذه العوارض لا يتعدد؛ بل وحدته محفوظة فيها، و هذا هو المراد بقوله: «لا واحد مختلف الوصف» لجريان الاستصحاب في هذا الواحد الشخصي.

(2) جواب «حيث يرى» و قد مر توضيحه.

(3) تعليل لعدم المجال لجريان الاستصحاب، و حاصله: اعتبار وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة عرفا.

(4) مرّ ذلك في أوائل الاستصحاب، حيث قال: «و كيف كان؛ فقد ظهر مما ذكرنا في تعريفه اعتبار أمرين في مورده... و لا يكاد يكون الشك في البقاء إلاّ مع اتحاد القضية المشكوكة و المتيقنة بحسب الموضوع و المحمول».

(5) يعني: في الخاتمة و كلمة «من» بيان ل «ما» الموصول، و محصله: أن مقتضى إطلاق أخبار الاستصحاب لإلقائها إلى العرف أن المعيار في جريان الاستصحاب هو صدق إبقاء الحالة السابقة عرفا على العمل بها حال الشك، و صدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عنها، و هذا الصدق العرفي يتوقف على وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة عندهم؛ إذ مع تعدد القضية لا يصدق النقض و الإبقاء حقيقة.

ص: 280

أخبار الباب أن العبرة فيه بما يكون رفع اليد عنه مع الشك بنظر العرف نقضا (1)؛ و إن لم يكن (2) بنقض بحس الدقة، و لذا (3) لو انعكس الأمر و لم يكن نقض عرفا، لم يكن الاستصحاب جاريا و إن كان هناك نقض عقلا.

و مما ذكرنا في المقام (4) يظهر أيضا حال الاستصحاب في متعلقات الأحكام في و عليه: فإذا كان الوجوب و الاستحباب فردين متغايرين بحيث يعدان موضوعين لا يصح إجراء الاستصحاب لإثبات الاستحباب بعد ارتفاع الوجوب؛ لعدم كون الشك حينئذ في البقاء، بل في حدوث فرد غير ما علم بارتفاعه، فلا يكون استصحاب الاستحباب إبقاء للمتيقن السابق، كما لا يكون عدم إجرائه فيه نقضا. و سيأتي في الخاتمة إن شاء الله تعالى مزيد توضيح لذلك.

=============

(1) خبر «يكون» و «لا بنظر العرف» متعلق به، و ضمير «فيه» راجع إلى الاستصحاب.

(2) يعني: و إن لم يكن رفع اليد عن اليقين السابق نقضا بحسب الدقة العقلية كالتدريجيات من الزمان كالليل و النهار و الأسبوع و الشهر و السنة، و الزماني كنبع الماء و سيلان الدم و التكلم و نحوها، فإن رفع اليد عن اليقين بها حال الشك نقض عرفا لا عقلا؛ لأن المتدرج في الوجود يكون وجوده اللاحق مغايرا للسابق؛ لتوقف وجوده على انعدام ما قبله، و مع تعدد الوجود لا يصدق النقض بحسب النظر الدقي العقلي، و أما بحسب النظر العرفي فيصدق النقض على رفع اليد عن اليقين السابق في التدريجيات، و لذا يجري الاستصحاب فيها كما سيأتي تفصيله في التنبيه الرابع إن شاء الله تعالى؛ بل ادعى المصنف فيه صدق بقاء الأمر التدريجي حقيقة في بعض الموارد.

(3) أي: و لأجل كون العبرة في جريان الاستصحاب بنظر العرف لا يجري الاستصحاب فيما لا يصدق النقض عرفا على رفع اليد عن اليقين السابق لمغايرة المشكوك فيه للمتيقن وجودا و إن صدق عليه النقض عقلا كالاستحباب المشكوك حدوثه عند ارتفاع الوجوب، فإن الاستحباب بنظر العرف مغاير للوجوب، فرفع اليد عنه ليس نقضا لليقين بالشك، لكنه نقض بحسب النظر العقلي.

(4) من انقسام استصحاب الكلي في الأحكام إلى ثلاثة أقسام:

غرضه: أن ما تقدم من أقسام استصحاب الكلي في الأحكام يجري في متعلقاتها أي: موضوعاتها، فاستصحاب الكلي بأقسامه لا يختص بالأحكام؛ بل يجري في كل من الموضوعات و الأحكام كما هو ظاهر الشيخ على ما مر في صدر التنبيه، بخلاف المصنف فإنه جعل العنوان جريان استصحاب الكلي في الأحكام.

ص: 281

الشبهات الحكمية (1) و الموضوعية (2) فلا تغفل (3).

=============

ثم إن المراد بالمتعلق: هو ما لا يتعلق به الجعل الشرعي مطلقا من التأسيسي كالأحكام الخمسة التكليفية و الطهارة و النجاسة و الولاية من الأحكام الوضعية، و الإمضائي كتنفيذ العقود و الإيقاعات؛ إذا لو كان مما يتعلق به الجعل الشرعي اندرج في الحكم الذي صدّر به التنبيه.

(1) يعني: كالموضوع الذي شك في بقائه للشبهة الحكمية، كالشك في كرّية ماء أخذ منه مقدار لأجل الشك في أن الشارع جعل الكر ألفا و مائتي رطل عراقي أو تسعمائة رطل مدني، و كالشك في تحقق الرضاع المحرّم بعشر رضعات أو خمس عشر رضعة، فيستصحب الكرية و عدم الحرمة.

(2) كما لو علم أن السفر مما ينتهي شرعا بمشاهدة جدران البلد لا محالة؛ و لكن لم يعلم أن هذه هي جدران البلد قد انتهى السفر بمشاهدتها أم لا. و الحكمية هي ما إذا شك في بقاء السفر شرعا عند مشاهدة الجدران بحيث لم يعلم أن السفر هل هو ينتهي بمشاهدتها أم يبقى إلى سماع الأذان.

كما مثل للشبهة الحكمية بأنه إذا شك في أن الواجب في الكفارة مد أو مدان.

و هناك أمثلة كثيرة تركنا ذكرها رعاية للاختصار.

(3) لعله إشارة إلى ما تقدم آنفا من عدم وضوح جريان استصحاب الكلي في متعلقات الأحكام كوضوح جريانه في نفس الأحكام.

و الفرق بينهما من الوضوح على حد لا يحتاج إلى البيان و التوضيح.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - محل الكلام: ما إذا كان المستصحب كليا؛ لا ما إذا كان جزئيا؛ إذ لا خلاف في جريان الاستصحاب فيما إذا كان جزئيا كوجوب صلاة الجمعة فيما إذا شك في بقائه زمان الغيبة.

فيقع الكلام في مقامين: المقام الأول: في أقسام الكلي.

المقام الثاني: في أحكام هذه الأقسام.

و أما أقسام الكلي فهي ثلاثة:

1 - أن يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد، ثم يشك في بقاء الكلي للشك في بقاء ذلك الفرد الذي تحقق الكلي في ضمنه.

ص: 282

2 - أن يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد مردد بين طويل العمر و قصيره؛ كوجود الحدث في ضمن فرد مردد بين الأصغر و الأكبر، فيشك في بقاء الكلي بعد الوضوء.

3 - أن يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد، ثم علم بزوال ذلك الفرد و لكنه يشك في بقاء الكلي لأجل الشك في حدوث فرد آخر مقارن لزوال الفرد الأول.

و هذا على قسمين: فتارة: يقع الشك في وجود آخر مقارنا لارتفاع الفرد الأول؛ كما إذا علم بوجود الإنسان في الدار في ضمن وجود زيد، ثم حصل القطع بخروج زيد عنها، و شك في وجود عمرو مقارنا لوجود زيد في الدار من الأول.

و أخرى: يقع الشك في وجود فرد آخر مقارنا لخروج زيد عنها.

2 - حكم هذه الأقسام: جريان الاستصحاب في القسم الأول في كل من الكلي و الفرد.

و أما القسم الثاني فقد التزم بجريان الاستصحاب جمع من الأعلام و منهم الشيخ و المصنف؛ و ذلك لتمامية أركانه بالنسبة على الكلي.

3 - هناك إشكالان على استصحاب القسم الثاني من أقسام الكلي:

الإشكال الأول هو: انعدام أحد ركني الاستصحاب فيه، حيث إن الفرد الذي وجد في ضمنه الكلي إن كان الفرد القصير فهو معلوم الارتفاع، فالركن الثاني - و هو الشك في البقاء - مفقود. و إن كان الفرد الطويل فهو مشكوك الحدوث من الأول، فالركن الأول - و هو اليقين بالحدوث - غير متحقق.

و على كلا التقديرين: لا مجال للاستصحاب لانتفاء أحد ركنيه.

4 - و محصل الإشكال الثاني: أن استصحاب الكلي و إن كان جاريا في حد نفسه؛ إلاّ إنه محكوم بأصل سببي، لأن الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل، فأصالة عدم حدوث الفرد الطويل حاكمة على أصالة بقاء الكلي لحكومة الأصل السببي على الأصل المسببي.

5 - الجواب عن الإشكال الأول: أن اختلال ركني الاستصحاب إنما يقدح في استصحاب الفرد، و لا يقدح في استصحاب الكلي لاجتماع ركنيه عرفا من اليقين بوجود الكلي و الشك في بقائه.

6 - الجواب عن الإشكال الثاني يمكن بأحد وجوه:

الأول: منع السببية و المسببية؛ لأن الشك في بقاء الكلي و إن كان مسببا عن كون

ص: 283

الرابع (4): أنه لا فرق في المتيقن بين أن يكون من الأمور القارّة أو...

=============

الحادث هو الفرد الطويل؛ إلاّ إن الشك في ارتفاعه ليس مسببا عن عدم كون الحادث هو الفرد الطويل، بل يكون مسببا عن كون الحادث هو الفرد القصير.

الثاني: أن بقاء الكلي ليس مسببا عن بقاء الفرد الطويل حتى يكون من باب الشك السببي و المسببي؛ بل بقاء الكلي بعين بقاء الفرد الطويل، فليس للكلي وجود منحاز عن وجود فرده كي يكون أحدهما سببا و الآخر مسببا، فلا تكون هناك سببية و مسببية.

الثالث: أنه لو سلم كون بقاء الكلي مسببا عن حدوث الفرد الطويل فلا ينفع في الحكومة؛ لأنها تتوقف على أن يكون اللزوم و السببية شرعية لا عقلية، و في المقام الملازمة بين بقاء الكلي و بين حدوث الفرد الطويل لو سلمت فهي عقلية، فلا تصحح دعوى الحكومة.

7 - و أما حكم القسم الثالث ففيه أقوال:

1 - جريان الاستصحاب مطلقا.

2 - عدم جريانه كذلك.

3 - التفصيل بين القسم الأول فيجري فيه الاستصحاب.

و القسم الثاني فلا يجري فيه الاستصحاب كما هو مختار الشيخ «قدس سره».

8 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - جريان الاستصحاب في كل من القسم الأول و الثاني من أقسام الكلي.

2 - عدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث مطلقا.

يعني: لا يجري الاستصحاب في جميع أقسام القسم الثالث من أقسام الكلي.

التنبيه الرابع: استصحاب الأمور التدريجية

(1) الغرض من عقد هذا الأمر الرابع: هو التنبيه على حجية الاستصحاب في الأمور التدريجية كحجيته في الأمور القارّة، و دفع الإشكال الوارد على حجيته في الأمور التدريجية، فهذا التنبيه راجع إلى المتيقن، و أن الاستصحاب حجة فيه، من غير فرق بين كون المتيقن أمرا تدريجيا أم دفعيا و قارا.

و قبل الدخول في أصل البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الأمور تنقسم إلى قسمين:

الأول: الأمور القارة و هي التي تجتمع أجزاؤها.

في الوجود بحسب الزمان، من غير فرق بين الجواهر كزيد و عمر و غيرهما من نوع

ص: 284

الإنسان و الأعراض كالعلم و العدالة و السواد و البياض.

الثاني: الأمور غير القارة، و هي التي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود بحسب الزمان، بمعنى: أنه لا يوجد جزء منه إلاّ بعد انعدام الجزء الذي قبله كنفس الزمان فإن ساعات النهار لا توجد إلاّ تدريجا؛ بحيث يتوقف وجود كل ساعة منها على انعدام سابقتها، و كذا الليل و الأسبوع و الشهر و السنة و أمثالها في الأزمنة، و كذا الزماني كجريان الماء و سيلان الدم و التكلم و الكتابة و نحوها من الأمور المتدرجة في الوجود.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا إشكال في جريان الاستصحاب في القسم الأول و هي الأمور القارة؛ لأنها كانت موجودة بجميع أجزائها في الزمان الأول، و كان وجودها متيقنا فيه، و شك في بقائها في الزمان الثاني فيستصحب بقاؤها في الزمان اللاحق لوجود أركان الاستصحاب من اليقين و الشك.

و أما القسم الثاني فهو محل الكلام؛ إذ في جريان الاستصحاب فيه إشكال.

توضيح الإشكال: أن الجزء الأول السابق المتيقن قد زال يقينا فلا شك في بقائه حتى يجري فيه الاستصحاب.

و الجزء الثاني مشكوك الحدوث، و بأصالة عدمه محكوم بالعدم.

و أما تقريب الإشكال ببيان أوضح: أن شرط جريان الاستصحاب. و هو اتحاد القضيتين المتيقنة و المشكوكة مفقود في الأمور التدريجية؛ لأن هوية الموجود التدريجي متقومة بالتصرم و التجدد و عدم اجتماع أجزائه في الوجود، فذات الأمر غير القار متقوم بالأخذ و الترك أي: بوجود جزء منه و انعدامه، ثم وجود جزء آخر منه و هكذا، و من المعلوم: مغايرة أحد الكونين للآخر، فاليقين تعلق بوجود في حد معين، و قد زال و انعدم و الشك تعلق بحدوث كونه في حد آخر، و معه لا مجال للاستصحاب لانتفاء أحد ركنيه.

و قد أشار المصنف «قدس سره» إلى منشأ هذا الإشكال بقوله: «فإن الأمور الغير القارة و إن كان وجودها ينصرم...» الخ.

و حاصل الكلام في منشأ الإشكال: أن منشأه هو ملاحظة كل واحد من الأجزاء التدريجية شيئا مستقلا، و من المعلوم: أن لحاظ كل جزء بحياله يوجب هذا الإشكال.

و كيف كان؛ فمحل الكلام و الإشكال هو القسم الثاني - و هي الأمور غير القارة - و هي ثلاثة أقسام على ما جعله الشيخ «قدس سره»:

ص: 285

التدريجية (1) غير القارة، فإن الأمور غير القارة و إن كان (2) وجودها ينصرم و لا (3) يتحقق منه جزء إلاّ بعد ما انصرم منه جزء و انعدم؛ إلاّ إنه (4) ما لم يتخلل في البين 1 - الزمان كالليل و النهار و نحوهما.

=============

2 - الزماني الذي لا استقرار لوجوده؛ بل يتجدد شيئا فشيئا على التدريج؛ كالتكلم و الكتابة و المشي و نبع الماء و سيلان الدم و نحو ذلك.

3 - المستقر الذي يؤخذ الزمان قيدا له؛ كالصوم المقيد بيوم الجمعة أو الجلوس المقيد بيوم الخميس و نحوهما.

و أما صاحب الكفاية «قدس سره»: فجعل الأمور غير القارة على قسمين:

و هما الزمان و الزماني. هذا تمام الكلام فيما هو محل الكلام في هذا التنبيه الرابع.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) الفرق بين الأمور القارة و غير القارة: أن الأمور القارة هي ما تجتمع أجزاؤها في الوجود زمانا، و غير القارة هي ما لا تجتمع أجزاؤها فيه زمانا.

(2) هذا إشارة إلى منشأ الإشكال الذي أشرنا إليه في صدر هذا التنبيه في جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية.

أما نفس الإشكال فهو: اختلال أحد ركني الاستصحاب و هو الشك في البقاء فيها بالنسبة إلى الجزء المعلوم، و الشك في الحدوث بالنسبة إلى الجزء غير المعلوم، و قد تقدم توضيح الإشكال فراجع.

(3) هذا شروع في شرح و تفسير للأمور غير القارة و قد تقدم توضيحه. و ضمير «منه» في الموضعين راجع إلى «الأمور»، فالأولى تأنيثه.

(4) هذا إشارة إلى الجواب عن الإشكال، و قد أجاب المصنف «قدس سره»، عن إشكال جريان الاستصحاب في الأمور غير القارة بوجهين، و الغرض منهما إثبات وحدة القضيتين عقلا أو عرفا.

و بيان الوجه الأول منوط بتقديم أمر من باب المقدمة و هو: أن الأمور التدريجية من الزمان و الزمانيات التي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود موجودات متقومة في مرتبة ذواتها بالأخذ و الترك، و التركب من الوجود و العدم، فهي عين التجدد و الانقضاء و الخروج من القوة إلى الفعل، فالزمان هو سلسلة الآنات المتعاقبة على نهج الاتصال، فيوجد آن و ينعدم ثم يوجد آن آخر و ينصرم و هكذا، و ليس الزمان شيئا وراء هذه الآنات المتصلة.

ص: 286

و كذا الحال في الزماني كالتكلم و جريان الماء و نحوهما؛ فإن وجود كل جزء من الكلام يتوقف على انعدام جزئه السابق.

و على هذا فالأمر التدريجي سنخ وجود يتقوم في ذاته بالتركب من الوجود و العدم، و الاشتباك بينهما، و من المعلوم: أن هذا العدم المقوم للأمر التدريجي لا يعقل أن يكون رافعا له؛ لاستحالة كون مقوم الشيء رافعا له بل رافعه هو العدم البديل له أي: القاطع للحركة، كما إذا تحرك من داره إلى المسجد، فإن نفس حركته متقومة بالوجود و العدم أي: بوضع قدم و رفع أخرى، فهذا العدم دخيل في صميم الحركة و حاقها، و عادمها هو التوقف في الطريق أو الجلوس فيه للاستراحة مثلا، و ما لم يتحقق هذا العدم النقيض فالحركة واحدة حقيقة، فإذا شرع فيها فالتجددات المتصلة بالاتصال التعاقبي كلها بقاء ذلك الحادث الوحداني؛ لأن تعدد الوجود ينشأ من تخلل العدم بين الوجودات، و ما لم يتخلل العدم بينها لا يتعدد الأمر التدريجي.

إذا عرفت هذا اتضح جريان الاستصحاب في الأمور غير القارة كجريانه في الأمور القارة؛ لكون مدار حجية الاستصحاب على صدق نقض اليقين بالشك عرفا، و لما كان الأمر التدريجي واحدا بنظرهم؛ بحيث يعد أوله حدوثا و ما بعده بقاء كالأمر القار، فلا محالة يجري الاستصحاب؛ لاجتماع أركانه من اليقين بالحدوث و الشك في البقاء و اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة.

و لا يخفى: أن صدق النقض عرفا و إن كان كافيا في التمسك بدليل الاستصحاب؛ إلاّ إن المصنف «قدس سره» يدعي وحدة القضيتين عقلا في مثل الزمان لاتصال أجزائه و عدم تخلل العدم بينها أصلا، فيصدق بقاء ما هو المتيقن بحسب الدقة العقلية مع عدم تخلل العدم المضر بالوحدة بأن بقاء كل شيء يكون بحسبه و الوحدة الاتصالية باقية في الزمان و الزماني، فبعد أن يصدق البقاء عقلا يصدق ذلك عرفا أيضا، فالوجود التدريجي لا يمنع عن جريان الاستصحاب. هذا هو الوجه الأول في الجواب.

و أما الوجه الثاني: فقد أشار إليه بقوله: «هذا مع إن الانصرام و التدرج في الوجود في الحركة في الأين...» الخ.

و مرجع هذا الوجه الثاني إلى خروج الأمور غير القارة عن التصرم و اندراجها في الأمور القارة، و معه لا يبقى موضوع للإشكال لفرض وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة حقيقة.

ص: 287

و توضيح هذا الوجه الثاني من الجواب يتوقف على مقدمة و هي بيان أمرين:

الأمر الأول: أن الحركة تتوقف على أمور ستة:

الأول و الثاني: ما منه الحركة، و ما إليه الحركة، و هما المبدأ و المنتهى.

الثالث: ما به الحركة و هو السبب و العلة الفاعلية لوجودها.

الرابع: ما له الحركة و هو الجسم المتحرك الثابت له الحركة.

الخامس: ما فيه الحركة و هي المقولة التي تكون حركة الجسم في تلك المقولة.

السادس: الزمان الذي تقع فيه الحركة. هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

الأمر الثاني: أن الحركة كما نبه عليها المصنف على قسمين: قطعية و توسطية.

و الفرق بينهما: أن الحركة القطعية هي كون الشيء في كل آن في حد أو مكان إذا كانت الحركة في المكان كحركة السائر بين نقطتين، فإن مكانه في آن غير مكانه في الآن السابق، أو كون الشيء في حد غير الحد السابق إذا كانت الحركة في غير المكان، كما إذا كانت في الكم كحركة الجسم النامي كالشجر و الطفل إذا أخذا في النمو، أو في الكيف كصيرورة الماء البارد حارا أو الورق الأخضر من الشجر أصفر، و نحو ذلك، أو في الوضع كصيرورة القائم قاعدا أو العكس.

و عليه: فالحركة في أيّ مقولة كانت هي الصورة المرتسمة في الخيال المنتزعة عن الأكوان المتعاقبة الموافية للحدود الواقعة بين المبدأ و المنتهى، فهذه الأكوان أجزاء لهذه الحركة، و هي متفرقة في الخارج و مجتمعة في الخيال.

و أما الحركة التوسطية فهي عبارة عن كون الشيء بين المبدأ و المنتهى؛ كالسائر بين بلدين كالسائر بين البصرة و الكوفة، فإذا خرج زيد ماشيا من البصرة إلى الكوفة، فكونه في كل آن في مكان هي حركته القطعية، و كونه بين البصرة و الكوفة هي حركته التوسطية.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن الانصرام و التدرج في الوجود شيئا فشيئا المانع عن الاستصحاب. أما من ناحية تبدل الموضوع أو المحمول فإنما هو في الحركة القطعية، و هي كون الشيء في كل آن في حد أو مكان لا الحركة التوسطية، و هي كون الشيء بين المبدأ و المنتهى، فإن الحركة بهذا المعنى أمر مستمر قار.

و عليه: فلا مجال للإشكال في استصحاب الليل و النهار، فإن الليل عبارة عن كون

ص: 288

العدم؛ بل و إن تخلل بما لا يخل بالاتصال عرفا (1) و إن انفصل حقيقة (2) كانت (3) الشمس تحت الأرض بين المغرب و المشرق و النهار عبارة عن كونها على وجه الأرض بين المشرق و المغرب، فهما من مصاديق الحركة التوسطية، فإذا شك في بقاء الليل أو النهار فمرجعه إلى الشك في وصول الشمس إلى المنتهى، أو أنه بعد في البين فيستصحب عدم وصولها إليه، و هكذا الأمر في كل أمر تدريجي إذا كان الشك في بقائه من جهة الشك في انتهاء حركته التوسطية و وصوله إلى المنتهى أو أنه بعد في البين فيستصحب عدم وصوله إلى المنتهى و أنه بعد في البين.

=============

ففي مثال خروج زيد ماشيا من البصرة إلى الكوفة إذا شك في بقاء مشيه من جهة الشك في انتهاء حركته التوسطية و وصوله على الكوفة، فيستصحب عدم وصوله إليها.

و أنه بعد في البين.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الوجه الثاني من الجواب عن إشكال جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية الغير القارة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

قوله: «ما لم يتخلل في البين العدم» كقطعات الزمان من الليل و النهار و الأسبوع و الشهر، فإنه لا يتخلل بين أجزائها عدم.

(1) كتخلل التنفس في أثناء القراءة، و انقطاع الدم لحظة في الأيام الثلاثة، و نحو ذلك، فإن تخلل هذا المقدار من العدم لا يخل عرفا بالاتصال المساوق للوحدة و المراد ب «ما» الموصول هو العدم.

(2) أي: بالنظر الدقي العقلي، فإن تخلل العدم مطلقا مخلّ بالوحدة العقلية، لكونه مانعا عن تحقق الاتصال بنظره.

(3) جواب «ما» في «ما لم يتخلل»، يعني: كانت الأمور غير القارة في صورة عدم تخلل العدم أصلا أو العدم غير المخل بالاتصال عرفا باقية إما مطلقا أي: بنظر العقل و العرف معا؛ كما في صورة عدم تخلل العدم أصلا بين الأجزاء كما في الزمان على ما مر آنفا.

و إما بنظر العرف فقط؛ كما في صورة تخلل العدم غير المخل بالاتصال عرفا، كالسكوت اليسير المتخلل بين أجزاء القراءة و غيرها من التكلمات، و مع صدق الشك في البقاء في الأمور التدريجية يجري فيها الاستصحاب على حذو جريانه في الأمور القارة.

ص: 289

باقية مطلقا أو عرفا (1)، و يكون (2) رفع اليد عنها مع الشك في استمرارها و انقطاعها نقضا (3)، و لا يعتبر (4) في الاستصحاب بحسب تعريفه و أخبار الباب و غيرها من أدلته غير صدق النقض و البقاء كذلك (5) قطعا، هذا مع أن الانصرام (6) و التدرج في الوجود في الحركة في الأين و غيره (7) إنما هو في الحركة القطعية (8)، و هي كون الشيء في كل آن في حد أو مكان، لا التوسطية و هي كونه بين المبدأ و المنتهى، فإنه (9)

=============

(1) قد عرفت المراد بهاتين الكلمتين بقولنا: «إما مطلقا» أي: «بنظر العقل و العرف معا...» الخ.

(2) عطف على قوله: «كانت» و الأولى تبديله ب «و كان» أو «فيكون» يعني: بعد إثبات صدق الشك في البقاء على الأمور التدريجية يشمله دليل الاستصحاب؛ لصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن اليقين حال الشك في بقائها و استمرارها، و صدق إبقاء اليقين السابق على العمل بمقتضاه حين الشك، و مع صغروية الشك في بقاء الأمور التدريجية لكبرى: «لا تنقض اليقين بالشك» لا وجه للتوقف في إجراء الاستصحاب فيها.

(3) خبر «يكون». و ضمائر «عنها، استمرارها، انقطاعها» راجعة إلى «الأمور غير القارة».

(4) هذا بمنزلة الكبرى لما قبلها من صدق الشك في البقاء، فكأنه قيل: الشك في الأمور غير القارة شك في البقاء، و كلما كان كذلك يجري فيه الاستصحاب.

(5) أي: عرفا، و حاصله: أن ما يعتبر في الاستصحاب و هو صدق النقض و البقاء عرفا متحقق في الأمور غير القارة، فالمقتضي لجريانه فيها موجود و المانع مفقود.

ثم إن الأولى ذكر لفظ «عرفا» عقيب قوله: «نقضا» حتى يشار إليه بقوله: «كذلك».

و كيف كان؛ فالجواب المذكور عن الإشكال مما تعرض له الشيخ أيضا في الرسائل ببيان آخر مرجعه إلى ما أفاده المصنف «قدس سرهما».

(6) هو جواب آخر عن الإشكال المذكور، و مرجعه إلى خروج الأمور غير القارة عن التصرم، و اندراجها في الأمور القارة، و معه لا يبقى موضوع للإشكال؛ لفرض وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة حقيقة. و تقدم توضيح هذا الجواب مع المقدمة فراجع.

(7) من المقولات الأخر كالكم و الكيف و الوضع كما مر آنفا؛ بل الجوهر.

(8) و قد تقدم بيان الفرق تفصيلا بين الحركة القطعية و الحركة التوسطية.

(9) أي: فإن الحركة بهذا المعنى - و هو كون الشيء بين المبدأ و المنتهى - من الأمور القارة المستمرة؛ لا الأمور التدريجية المتصرمة.

ص: 290

بهذا المعنى يكون قارا مستمرا (1).

فانقدح بذلك (2): أنه لا مجال للإشكال في استصحاب مثل الليل أو النهار، و ترتيب ما لهما من الآثار (3).

=============

و الأولى تأنيث ضمير «فإنه»، و كذا المستتر في «يكون» و قوله: لا التوسطية معطوف على «القطعية».

(1) حقيقة عقلا أو عرفا، و معه لا حاجة إلى التصرف في معنى البقاء كما أفاده الشيخ في مقام حل الإشكال، قال «قدس سره»: «و إنما وقع التعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بملاحظة هذا المعنى في الزمانيات، حيث جعلوا الكلام في استصحاب الحال، أو لتعميم البقاء لمثل هذا مسامحة»(1).

و حاصله: حل الإشكال إما بالتصرف في المستصحب بجعل الليل و النهار أمرا خارجيا واحدا بنظر العرف، و المراد ببقائه: عدم تحقق جزئه الأخير، أو عدم حدوث جزء مقابله. و إما بالتصرف في لفظ البقاء بإرادة البقاء المسامحي، يعني: أن النهار و إن لم يصدق عليه البقاء حقيقة لتجدد الآنات و الأكوان، و كلها حدوثات، إلاّ إنه يصدق البقاء عليها مسامحة، هذا.

(2) أي: بكون الوحدة العرفية محفوظة في الأمور السيالة ما دامت متصلة.

اعلم: أن المصنف «قدس سره» بعد دفع إشكال الاستصحاب عن الأمور التدريجية أشار إلى ما تعرض له الشيخ «قدس سره» في مقامات ثلاثة:

الأول: جريان الاستصحاب في نفس الزمان كالليل و النهار و الأسبوع و الشهر و نحوها، و قد أشار إلى هذا المقام بقوله: «أنه لا مجال للإشكال...» الخ.

الثاني: جريانه في الزماني الذي لا استقرار لوجوده كالتكلم.

الثالث: جريانه في الفعل المقيد بالزمان، و الكلام فعلا في المقام الأول.

(3) فيما إذا كان الأثر الشرعي مترتبا على وجود الزمان بمفاد كان التامة أو على عدمه بمفاد ليس التامة؛ بأن يكون الزمان شرطا للوجوب، كما إذا نذر التصدق بدرهم أو زيارة إمام و نحوهما إذا كان النهار باقيا، فلو شك حينئذ في بقاء النهار جرى استصحابه، و ترتب عليه وجوب الوفاء بالنذر.

و أما إذا أخذ الزمان قيدا لمتعلق الحكم الشرعي؛ بحيث اعتبر وقوع الفعل فيه كوقوع الصوم في شهر رمضان، و وقوع الظهرين في النهار و نحو ذلك، فإجراء الاستصحاب فيه

ص: 291


1- فرائد الأصول 204:3.

و كذا (1) كلما إذا كان الشك في الأمر التدريجي من جهة...

=============

- لإحراز عنوانه من الرمضانية و النهارية - مشكل جدا؛ لأن المستصحب وجود محمول، و المقصود إحراز الوجود النعتي، و هو اتصاف الزمان المشكوك بالرمضانية و النهارية، حتى يحرز وقوع الصوم في شهر رمضان، و الصلاة في النهار و إثبات الوجود النعتي باستصحاب الوجود المحمولي منوط بحجية الأصل المثبت، و لذا تقل فائدة استصحاب الوقت و الزمان و تختص بمثل النذر كما أشرنا إليه.

و أما الأثر المهم و هو إثبات وقوع الموقتات في أوقاتها فلا يترتب على استصحاب الزمان بمفاد «كان» التامة؛ لأن ما يثبت به هو بقاء التكليف بالموقتات، و وجوب الإتيان بها، و أما إثبات وقوعها في أوقاتها ليترتب عليه الامتثال فلا؛ لعدم ثبوت نهارية الزمان الحاضر أو ليليته حتى يحرز وقوع الفعل الموقت به فيه، قال الشيخ «قدس سره» في أوائل التنبيه الثاني: «أما نفس الزمان فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه لتشخيص كون الجزء المشكوك فيه من أجزاء الليل و النهار، لأن نفس الجزء لم يتحقق في السابق فضلا عن وصف كونه نهارا أو ليلا»(1).

و في الوصول إلى كفاية الأصول، في شرح قول المصنف: «فانقدح بذلك» الذي ذكرنا من صحة استصحاب الأمور التدريجية: «أنه لا مجال للإشكال في استصحاب مثل الليل أو النهار» إما ببيان أن كلا منهما أمر واحد عرفا، فإذا شك في زواله استصحب لليقين السابق، و إما ببيان أن النهار عبارة عن كون الشمس بين المشرق و المغرب، و الليل عبارة عن كونها بين المغرب و المشرق، و هما أمران باقيان قاران لا متصرمان تدريجيان غير قارين، و عليه: يجب الاستصحاب «و ترتيب ما لهما من الآثار» الشرعية عليهما.

فحاصل الكلام: أنه لا إشكال في جريان الاستصحاب في نفس الزمان كالليل و النهار.

(1) يعني: و كذا لا إشكال في جريان الاستصحاب في الزماني.

و هذا إشارة إلى المقام الثاني و هو جريان الاستصحاب في الزماني الذي لا استقرار لوجوده، قال الشيخ «قدس سره»: «و أما القسم الثاني: أعني: الأمور التدريجية غير القارة كالتكلم و الكتابة و المشي و نبع الماء من العين و سيلان دم الحيض من الرحم فالظاهر جواز

ص: 292


1- فرائد الأصول 203:3.

الشك (1) في انتهاء حركته و وصوله إلى المنتهى، أو أنه بعد في البين.

=============

إجراء الاستصحاب فيما يمكن أن يفرض فيها أمرا واحدا مستمرا...»(1)، كالحركة التوسطية في المشي مثلا.

(1) و توضيح كلام صاحب الكفاية في المقام الثاني يتوقف على مقدمة و هي: أن الشك في الأمر التدريجي الذي يوجد تدريجا بحسب الزمان - كالأمثلة المذكورة في كلام الشيخ الأنصاري «قدس سره» - تارة: ينشأ من الشك في وجود الرافع. و أخرى:

من الشك في وجود المقتضي.

الأول: كما إذا أحرز أن في العين الكذائية استعداد جريان مائها إلى أول برج السرطان مثلا، و لكن يشك في برج الجوزاء في انقطاع مائها لمانع، و كذا إذا أحرز اقتضاء زمان خطبة الخطيب أو وعظ الواعظ أو قراءة قارئ القرآن مثلا إلى ساعة، و شك قبل انتهاء الساعة في انقطاع الكلام لمانع خارجي منع المقتضي عن دوام تأثيره و كذا في سائر الأمور التدريجية.

و الثاني: و هو الشك في وجود المقتضي على قسمين:

الأول: أن يكون منشأ الشك الجهل بالكميّة و المقدار.

الثاني: أن يكون منشؤه احتمال تكوّن مقدار زائد على المقدار المعلوم.

فالأول: كما إذا شك في جريان الماء و سيلان الدم من جهة الشك في بقاء شيء من الماء في المنبع، و من الدم في الرحم غير ما سال و جرى منهما. و كذا إذا شك في بقاء التكلم أو القراءة لأجل الشك في استعداد المتكلم أو القارئ و أنه هل كان فيهما اقتضاء التكلم و القراءة ساعة أم أقل ؟

و كذا في سائر الأمور التدريجية.

الثاني: كما إذا شك في جريان الماء من المنبع من جهة احتمال تكوّن مقدار من الماء زيادة على المقدار المعلوم أوّلا، كما إذا كانت كمية ماء المنبع ثلاثة أكرار مثلا، و قد جرى هذا المقدار، لكن يحتمل ورود مقدار آخر مقارنا لجريان هذا المقدار من المطر و غيره فيه، و على فرض وروده لم ينقطع جريان الماء على وجه الأرض.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا ينبغي الإشكال في جريان الاستصحاب في الصورة الأولى و هي صورة الشك في وجود الرافع لاجتماع أركان الاستصحاب فيها.

و أما القسم الأول من الصورة الثانية - و هي الشك في وجود المقتضي - فقد يشكل

ص: 293


1- فرائد الأصول 205:3.

جريان الاستصحاب فيه بما حاصله: من أن الشك الذي يجري فيه الاستصحاب هو الشك في البقاء دون الشك في الحدوث كما في هذا القسم، حيث إن الشك هنا إنما هو في جريان جزء آخر من الماء و الدم و التكلم و القراءة غير ما وجد منها قبل ذلك و انعدم قطعا؛ فالشك حينئذ تعلق بالحدوث لا بالبقاء، و من المعلوم: أن الشك المعتبر في الاستصحاب هو الشك في البقاء دون الحدوث.

و عليه: فثاني ركني الاستصحاب في الأمور التدريجية التي كون الشك فيها في المقتضي منهدم، فلذا يشكل الاستصحاب فيها.

و أما القسم الثاني من الصورة الثانية فهو في الحقيقة خارج عن الشك في المقتضي بمعناه المصطلح و هو العلم بمقدار استعداد الماء للجريان في مدة معينة، كما أنه خارج عن الشك في الرافع و الغاية أيضا للعلم بعدم طروء المانع.

و أما بالنسبة إلى جريان الاستصحاب فالظاهر جريانه فيه بلحاظ أن الجريان أمر واحد شخصي عرفا، سواء كان من المادة المعلومة أوّلا أم عن المادة المحتملة زيادتها، و اختلاف المبادئ لا يوجب تغيّرا في عنوان المستصحب و هو جريان الماء عرفا كي يعدّ الموجود اللاحق مغايرا للموجود السابق، فهذا نظير تبدل عمود الخيمة بعمود آخر من حيث عدم اقتضاء تعدد الأعمدة تغيّرا في هيئة الخيمة.

فالمتحصل: أن المقام الثاني ينقسم إلى ثلاثة أقسام، يجري الاستصحاب في القسم الأول و الثالث، دون القسم الثاني كما عرفت.

بقي الكلام في المقام الثالث - و هو ما أشار إليه بقوله: «و أما الفعل المقيد بالزمان» -.

و توضيح الكلام فيه يتوقف على مقدمة: و هي بيان ما يتصور فيه من الصور و الأقسام فيقال: إن الشك في بقاء وجوب الفعل المقيد بالزمان يتصوّر على وجهين، و كل وجه يتصور على وجهين: فالصور و الأقسام هي أربعة: و تفصيل تلك الصور و الأقسام: أن القسم الأول أن يكون الشك فيه ناشئا من الشك في بقاء قيده، كما إذا شك في بقاء النهار الموجب للشك في وجوب الإمساك المقيد به؛ إذ لو كان بقاء النهار معلوما كان وجوب الإمساك أيضا معلوما، فلا منشأ للشك في وجوبه إلاّ الشك في بقاء قيده و هو النهار.

و هذا قد يكون بنحو الشبهة الموضوعية؛ كما إذا شك في انتهاء النهار مع العلم بأنه ينتهي بغياب القرص و استتاره، و قد يكون بنحو الشبهة الحكمية؛ كما إذا لم يعلم أن

ص: 294

النهار ينتهي باستتار القرص أو بذهاب الحمرة.

فللشك في بقاء القيد صورتان:

إحداهما: كون الشك بنحو الشبهة الموضوعية. و ثانيتهما: كونه بنحو الشبهة الحكمية.

ثانيها: أن يكون الشك في الوجوب مع القطع بانقضاء الزمان، فمنشأ الشك في الحكم حينئذ هو احتمال كون الزمان قيدا للحكم بنحو وحدة المطلوب، فبانقطاع الزمان ينتفي الحكم، و احتمال كون الزمان قيدا له بنحو تعدد المطلوب؛ بأن يكون ذات الفعل مطلوبا، و وقوعه في زمان خاص مطلوبا آخر، فبانقضاء ذلك الزمان لا ينتفي الحكم بل هو باق، فللشك في بقاء الحكم في هذا الوجه و القسم و هو القطع بانتفاء الوقت أيضا صورتان:

إحداهما: كون الزمان قيدا بنحو وحدة المطلوب؛ لكن مع احتمال وجود ملاك آخر ملزم لمثل ذلك الحكم في غير ذلك الزمان، كما إذا فرض وجوب الجلوس في المسجد في النهار، و شك في وجوبه في الليل لاحتمال وجود مصلحة ملزمة للجلوس فيه.

ثانيتهما: كون الزمان قيدا للحكم بنحو تعدد المطلوب، بأن تكون ذات الجلوس مطلوبة، و إيقاعه في النهار مطلوبا آخر.

و عليه: فهذا القسم الثاني أيضا صورتان، فالصور و الأقسام هي أربعة.

هذا تمام الكلام في بيان الصور و الأقسام المتصورة في الفعل المقيد بالزمان.

و أما أحكام هذه الأقسام من جريان الاستصحاب و عدم جريانه فهي مختلفة، بمعنى:

أن الاستصحاب يجري في بعض الصور دون بعض.

و أما القسم الأول - و هو أن يكون الشك في الحكم ناشئا من الشك في بقاء قيده - فقد حكم المصنف فيه باستصحاب الزمان و ترتيب الأثر عليه، من دون فرق فيه بين كون الشبهة موضوعية أو حكمية، فكما يجوز إجراء الاستصحاب في نفس الزمان المأخوذ قيدا كالنهار فيثبت به المقيد و يترتب عليه حكمه، فإذا وجب الإمساك في النهار و شك في بقاء النهار و انقضائه جاز استصحابه، فيجب الإمساك و يحرم ارتكاب المفطرات في الزمان الذي ثبتت نهاريته بالاستصحاب، كما يجوز استصحاب الفعل المقيد بالزمان، فيقال: إن الإمساك قبل هذا الآن كان في النهار، و الآن كما كان فيجب.

ص: 295

و أما (1) إذا كان من جهة الشك في كميته و مقداره كما في نبع الماء و جريانه و كيف كان؛ ففي صورة كون الشك في الحكم ناشئا من الشك في بقاء الزمان يجوز جريان الاستصحاب في نفس الزمان و في الفعل المقيد به. هذا تمام الكلام في حكم القسم الأول المنقسم إلى قسمين، حيث يجري الاستصحاب فيهما.

=============

و قد أشار إليه بقوله: «فتارة يكون الشك في حكمه من جهة الشك في بقاء قيده»، و مقتضى إطلاق كلام المصنف «قدس سره» يشمل كلاّ من الشبهة الموضوعية و الحكمية، ضرورة: أن الشك في بقاء القيد يشمل كلتا الشبهتين، فحكمهما هو جريان الاستصحاب في نفس الزمان و في الفعل المقيد به كما عرفت.

و أما القسم الثاني: فقد أشار إليه بقوله: «و إن كان من الجهة الأخرى»، و قد ذكر المصنف فيه صورتين: إحداهما كون الزمان ظرفا لا قيدا مقوما لموضوع الحكم و دخيلا في ملاكه و الحكم فيها جريان الاستصحاب في نفس الحكم، فإذا وجب الجلوس مثلا في يوم الجمعة و لم يؤخذ يوم الجمعة قيدا بل ظرفا و شك في وجوب الجلوس يوم السبت جرى استصحابه؛ لعدم تعدد الموضوع.

ثانيتهما: كون الزمان قيدا مقوما لموضوع الحكم كتقييد الصوم بشهر رمضان في قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (1)، و الأصل الجاري فيه بعد انقضاء الزمان هو استصحاب عدم الحكم؛ لأن التقييد بالزمان يوجب تعدد الموضوع، و كون الصوم في غير رمضان مغايرا لصوم شهره، و مع تعدد الموضوع يكون الشك في حدوث التكليف، و هو مجرى استصحاب عدم التكليف؛ إذ المتيقن من انتقاض عدم وجوب الصوم هو الزمان الخاص - أعني: شهر رمضان - و يشك في انتقاضه في غير ذلك الزمان، فيستصحب عدم الوجوب، و لا يجري استصحاب الوجوب؛ إذ المفروض: تعدد الموضوع، و مع تعدد الموضوع لا يكون الشك شكا في البقاء حتى يجري فيه استصحاب الوجوب. هذا تمام الكلام في المقام الثالث.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) هذا في قبال قوله: «من جهة الشك في انتهاء حركته» المراد به: بيان الشك في الرافع؛ بأن يكون الشك في بقاء الأمر التدريجي لأجل الشك في وجود الرافع مع إحراز المقتضي. و قد تقدم توضيحه بقولنا: «تارة: من الشك في وجود الرافع...» الخ.

و أما قوله: «و أما إذا كان...» الخ، فهو إشارة إلى كون الشك في بقاء الأمور

ص: 296


1- البقرة: 185.

و خروج الدم و سيلانه فيما كان (1) سبب الشك في الجريان و السيلان الشك في أنه بقي في المنبع (2) و الرحم فعلا (3) شيء من الماء و الدم و غير ما سال و جرى منهما، التدريجية لأجل الشك في المقتضي، و هو بمنطوقه و مفهومه متكفل لبيان صورتين إحداهما: الشك في أصل استعداد الأمر التدريجي.

=============

و ثانيتهما: الشك في تكوّن مقدار زائد على المقدار المعلوم، و الصورة الأولى تستفاد من المنطوق. و الثانية من مفهوم قوله: «فيما كان سبب الشك».

و قد تقدم بيان الصورتين بقولنا: «و أخرى: من الشك في وجود المقتضي و هو على قسمين...»، و الضمير المستتر في «كان» راجع إلى الشك، و ضميرا «كميته، مقداره» راجعان إلى الأمر التدريجي.

(1) مفهوم هذا القيد هو الصورة الثالثة، أعني: ما إذا كان الشك في الجريان و السيلان غير ناش عن الشك في الكمية؛ للعلم بها حسب الفرض؛ بل كان ناشئا من احتمال تكوّن مادة زائدة على المقدار المعلوم.

و لو لم يكن قوله: «فيما كان» لإخراج هذه الصورة عن مصب الإشكال و جوابه الآتيين لكان تقييد الشك في المقتضي بقوله: «فيما كان» لغوا؛ لكفاية قوله: «من جهة الشك في كميته» في الدلالة على إرادة الشك في المقتضي. فدفع محذور اللغوية منوط بجعل هذه الكمية لإخراج الصورة الثالثة.

لكن يشكل حينئذ أنه لا وجه لتخصيص الإشكال الآتي و جوابه بالصورة الثانية مع جريانهما في الصورة الثالثة أيضا فتأمل.

(2) و هو عروق الأرض، و ضمير «أنه» للشأن، و هذا تقريب الشك في المقتضي و قد عرفته آنفا.

(3) لا حاجة إلى هذا القيد بعد ظهور قوله: «بقي» في بقاء الموجود الفعلي من الماء و الدم في المنبع و الرحم، لا فيما يمكن أن يوجد منهما فيهما.

و ضمير «منهما» راجع إلى الماء و الدم.

ثم إن الشك من جهة المقتضي في الأمور التدريجية ليس راجعا إلى الحركة القطعية، بل مورده الحركة التوسطية، كما إذا فرض كون المتحرك بين الكوفة و البصرة؛ و لكن لا يعلم أن مقدار المسافة بينهما عشرون فرسخا أو أكثر، فعلى الأول: تنتهي الحركة في ساعة، و على الثاني: تنتهي في ساعة و نصف مثلا، فالشك في انتهاء الحركة و وصول المتحرك إلى المنتهى ناش عن الشك في كمية المسافة، فالشك في بقاء الأمر التدريجي

ص: 297

فربما (1) يشكل في استصحابهما حينئذ (2)، فإن الشك ليس في بقاء جريان شخص ما كان جاريا؛ بل في حدوث جريان جزء آخر شك في جريانه من جهة الشك في حدوثه.

و لكنه (3) يتخيل بأنه لا يختل به ما هو الملاك في الاستصحاب بحسب تعريفه و دليله حسب ما عرفت (4).

ثم إنه (5) لا يخفى أن استصحاب بقاء الأمر التدريجي إما من قبيل استصحاب في الحركة التوسطية يتصور في كل من الشك في المقتضي و الرافع.

=============

(1) جواب قوله: «و أما». و قد تقدم آنفا تقريب الإشكال بقولنا: «و قد يشكل جريان الاستصحاب في هذا القسم بما حاصله...» الخ. و ضمير «استصحابهما» راجع إلى «الجريان و السيلان».

(2) أي: حين الشك في الكمية و الاستعداد، و قوله: «فإن الشك ليس...» الخ.

تقريب الإشكال و قد عرفته. و ضميرا «جريانه، حدوثه» راجعان إلى جزء آخر.

(3) أي: و لكن الإشكال يتخيل اندفاعه، و هذا إشارة إلى دفع الإشكال عن جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية إذا كان الشك في بقائها ناشئا من الشك في المقتضي؛ كعدم الإشكال في جريانه فيها إذا كان منشأ الشك في بقائها الشك في وجود الرافع.

توضيح دفع الإشكال هو: أن مناط جريان الاستصحاب - و هو وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة عرفا - منطبق هنا، ضرورة: أن اتصال الأمر التدريجي و عدم تخلل العدم بين أجزائه موجب لوحدته، و كون الشك شكا في بقائه عرفا لا في حدوثه؛ لعدم تعدده بنظر العرف الذي هو المدار في باب الاستصحاب، فلا وجه لعدم جريانه في الأمور التدريجية، مع كون الشك فيها شكا في البقاء عرفا. و ضمير «بأنه» للشأن، و ضمير «به» راجع على الإشكال المتصيد من العبارة، و «ما» الموصول فاعل «يختل»، و المراد ب «الملاك» هو وحدة الأمر التدريجي عرفا.

(4) من قوله: في أوائل هذا التنبيه: «إلاّ إنه ما لم يتخلل في البين العدم بل و إن تخلل بما لا يخل بالاتصال عرفا و إن انفصل...» الخ، و حاصله: أن المدار في جريان الاستصحاب - تعريفا و دليلا - على وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة عرفا، و الاتصال موجب لهذه الوحدة، و مع شمول تعريف الاستصحاب و دليله للأمور التدريجية كالأمور القارة لا وجه لعدم اعتبار الاستصحاب فيها.

(5) غرضه «قدس سره» بعد - تصحيح جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية -:

ص: 298

الشخص، أو من قبيل استصحاب الكلي بأقسامه (1)، فإذا شك (2) في أن السورة بيان إمكان جريان استصحاب الكلي بأقسامه الثلاثة فيها.

=============

و حاصل الكلام في المقام: إن الأقسام الأربعة للاستصحاب و هو الاستصحاب الشخصي، و الاستصحاب الكلي بأقسامه الثلاثة و هي ما كان الشك في الكلي من جهة الشك في بقاء الفرد المتحقق في ضمنه، و الشك في الكلي من جهة تردد الأمر بين الفرد القصير و الفرد الطويل، و الشك في الكلي من جهة الشك في أنه هل حدث فرد جديد عند ذهاب الفرد الأول أم لا؟ و إنما قلنا: بجريان الاستصحاب في جميع هذه الأقسام في الأمور التدريجية لما عرفت من: جريان دليل الاستصحاب و تعريفه فيها.

(1) أي: بأقسامه الثلاثة. و كيف كان؛ فيجري استصحاب الشخصي و الكلي بأقسامه في الأمور التدريجية على اختلاف مواردها، فإذا اشتغل بقراءة سورة تبارك مثلا و شك في فراغه عنها صح استصحاب قراءتها بنحو استصحاب الشخصي و الكلي؛ إن كان للكلي أثر شرعي و يكون هذا من قبيل القسم الأول من أقسام استصحاب الكلي.

من غير فرق بين كون منشأ الشك في بقائه الشك في المقتضي؛ بأن لا يحرز مقدار بقائه في عمود الزمان، و بين كونه الشك في وجود المانع مع إحراز مقدار بقائه كساعة مثلا، و كون الشك في ارتفاعها قبل انقضاء الساعة؛ لاحتمال وجود مانع.

هذا في استصحاب الشخص و القسم الأول من استصحاب الكلي.

و إذا اشتغل بسورة لم يعلم أنها سورة الروم أو القدر مثلا، فإن كانت هي الروم فلم يفرغ منها، و إن كانت هي القدر فقد فرغ منها، فيدور الأمر بين الفرد القصير و الفرد الطويل، و حينئذ يجوز استصحاب كلي القراءة، و لا يجوز استصحاب الفرد لعدم اليقين السابق الذي هو أحد ركني الاستصحاب، و استصحاب الكلي في هذه الصورة من قبيل القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي.

و إذا علم بأنه اشتغل بسورة القدر مثلا و تمت؛ و لكن شك في شروعه في سورة أخرى مقارنة لختمها، فلا يجوز استصحاب القراءة و هو من قبيل القسم الثاني من ثالث أقسام استصحاب الكلي.

و أما القسمان الآخران - أي: الأول و الثالث من أقسام القسم الثالث - فلا يتصوران في قراءة شخص و تكلمه كما لا يخفى.

(2) هذا إشارة إلى القسم الأول من استصحاب الكلي الجاري في الأمور التدريجية و قد تقدم توضيح ذلك.

ص: 299

المعلومة التي شرع فيها تمت أو بقي شيء منها صح فيه (1) استصحاب الشخص و الكلي.

فإذا شك فيه (2) من جهة ترددها بين القصيرة و الطويلة كان من القسم الثاني (3)، و إذا شك (4) في أنه شرع في أخرى مع القطع بأنه قد تمت الأولى كان من القسم الثالث (5).

هذا في الزمان و نحوه من سائر التدريجيات (6).

و أما الفعل المقيد بالزمان (7) فتارة: يكون الشك في حكمه من جهة الشك في بقاء قيده، و طورا (8) مع القطع بانقطاعه و انتفائه...

=============

(1) أي: في هذا الشك المتعلق ببقاء السورة، و ضميرا «فيها، منها» راجعان إلى السورة.

(2) أي: في بقاء السورة. أشار بهذا إلى جريان استصحاب الكلي من القسم الثاني، و هو تردد الكلي بين ما هو معلوم الارتفاع، و بين ما هو مقطوع البقاء.

و قد تقدم ذلك آنفا بقولنا: «و إذا اشتغل بسورة لم يعلم أنها سورة الروم أو القدر مثلا...» الخ.

(3) و هو تردد الكلي بين فردين أحدهما طويل العمر كالفيل و الآخر قصير العمر كالبق.

(4) هذا إشارة إلى جريان القسم الثالث من استصحاب الكلي في الأمور التدريجية.

و قد مر ذلك بقولنا: «و إذا علم بأنه اشتغل بسورة القدر و تمت و لكن شك في شروعه...» الخ. و ضمير «أنه» راجع إلى القارئ المستفاد من العبارة. و قوله: «أخرى» صفة لمحذوف و هي «سورة»، و ضمير «بأنه» للشأن، و «كان» في الموضعين جواب «إذا» في الموردين.

(5) و هو القطع بانتفاء الفرد المعلوم الوجود و الشك في وجود فرد آخر من الكلي، و قد عرفت: عدم جريان الاستصحاب فيه.

(6) و قد علمت: أنها كسائر الأمور القارة في جميع الخصوصيات و منها جريان الاستصحاب فيها كالأمور القارة.

(7) هذا إشارة إلى المقام الثالث أعني: الفعل المقيد بالزمان. و قد تقدم تفصيل الكلام فيه فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة.

(8) عطف على «فتارة»، و هذا إشارة إلى الوجه الثاني الذي تقدم بقولنا: «الثاني: أن يكون الشك في الوجوب مع القطع بانقضاء الزمان».

ص: 300

من (1) جهة أخرى (2)، كما إذا احتمل (3) أن يكون التعبد به إنما هو بلحاظ تمام المطلوب، لا أصله.

فإن كان (4) من جهة الشك في بقاء القيد فلا بأس باستصحاب قيده من الزمان (5) كالنهار الذي قيد به الصوم مثلا، فيترتب عليه (6) وجوب الإمساك و عدم جواز الإفطار ما لم يقطع بزواله (7)، كما لا بأس (8) باستصحاب نفس المقيد، فيقال:

إن الإمساك كان قبل هذا الآن في النهار، و الآن كما كان، فيجب، فتأمل (9).

=============

(1) متعلق ب «الشك» في قوله: «يكون الشك»، و ضميرا «بانقطاعه، انتفائه» راجعان إلى الزمان.

(2) يعني: غير الشك في بقاء القيد و هو الزمان؛ إذ المفروض: القطع بانتفائه.

(3) هذا بيان الجهة الأخرى، و حاصلها: الشك في كيفية قيدية الزمان، و أنه هل أخذ في الحكم بنحو وحدة المطلوب حتى ينتفي الحكم رأسا بانقطاعه، و هو المراد بقوله:

«لا أصله» أم أخذ فيه بنحو تعدد المطلوب حتى ينتفي المطلوب الأقصى بانقضاء الوقت؛ لا أصل المطلوب ؟ فالشك في بقاء الحكم بعد مضي الوقت ناش من كيفية التقييد بالزمان. و ضمير «به» راجع إلى «الزمان»، و ضمير «أصله» إلى «المطلوب».

(4) هذا شروع في بيان أحكام الوجوه المذكورة، و قد عرفت أحكام تلك الوجوه تفصيلا، فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة.

(5) هذا في قبال الشيخ الأنصاري «قدس سره»، حيث أجرى الاستصحاب في مفاد الهيئة و هو الحكم الشرعي المحمول على الفعل المقيد بالزمان قال: «فالأولى التمسك في هذا المقام باستصحاب الحكم المترتب على الزمان و لو كان جاريا فيه كعدم تحقق حكم الصوم و الإفطار عند الشك في هلال رمضان أو شوال».

(6) كترتب وجوب قبول شهادة الشاهد و جواز تقليد المجتهد على استصحاب العدالة و الاجتهاد و نحو ذلك.

(7) أي: زوال النهار، و ضمير «عليه» راجع على الاستصحاب.

(8) هذا إشارة إلى جريان الاستصحاب في الفعل المقيد بالزمان كالإمساك المقيد بالنهار، كما أن قوله: «فلا بأس باستصحاب قيده» إشارة إلى جريانه في القيد كالنهار، و قد مر توضيح كليهما.

(9) لعله إشارة إلى منع الوجه الأول أعني: قوله: «فلا بأس باستصحاب قيده»، كما أفاده أيضا في حاشية الرسائل، و حاصله: عدم جريان الاستصحاب في نفس الزمان؛ إذ

ص: 301

و إن كان (1) من الجهة الأخرى: فلا مجال إلا لاستصحاب الحكم في خصوص (2) المستصحب إن كان هو النهار بمفاد كان التامة فلا يثبت به وقوع الإمساك في النهار إلاّ على القول بالأصل المثبت، ضرورة: أن وقوع الإمساك في النهار لازم عقلي لبقاء النهار.

=============

و إن كان هو النهار بمفاد كأن الناقصة بأن يقال: «الإمساك في زمان هو نهار كان واجبا، و الآن كما كان» فلا مجال لاستصحابه، لعدم اليقين السابق، ضرورة أنه لا علم بأن الإمساك في هذا الزمان إمساك في زمان هو متصف بكونه نهارا.

و يمكن أن يكون إشارة إلى دفع توهم.

أما التوهم فهو: أن الإمساك قبل هذا الآن قد ارتفع قطعا، و الإمساك في هذا الآن لو شك في وجوبه كان شكا في حدوث وجوبه لا شكا في بقاء ما علم من وجوبه سابقا حتى يكون من موارد الاستصحاب؛ بل يكون من مجاري أصالة البراءة.

و أما الدفع، فحاصله: أن العرف الذي يكون نظره معتبرا في الاستصحاب يحكم بأن الإمساك في النهار موضوع وحداني، و الشك في شيء منه شك في جزء من أجزائه، لا في جزئي من جزئياته، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه. و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(1) معطوف على قوله: «فإن كان» يعني: و إن كان الشك في الحكم من جهة أخرى غير الشك في بقاء القيد؛ بأن يشك فيه مع القطع بانتفاء القيد، و قد عرفت: تعدد منشأ الشك في بقاء الحكم مع القطع بانقضاء الوقت من كون الزمان قيدا بنحو تعدد المطلوب أو وحدته، مع احتمال حدوث مصلحة ملزمة في الفعل أوجبت وجوبه بعد ذلك الزمان. و المصنف ذكر صورتين تقدم تفصيل الكلام فيهما فراجع.

(2) هذا إشارة إلى الصورة الأولى. و ضمائر «فيه، لثبوته، لموضوعه» راجعة إلى «الحكم».

ثم إن عدّ هذه الصورة الأولى و هي كون الزمان ظرفا من أقسام الفعل المقيد بالزمان مبني على المسامحة لمباينته الظرفية للقيدية؛ لوضوح: عدم كون الظرف قيدا إلاّ أن يقال:

إن مراده بقوله: «و أما الفعل المقيد بالزمان...» الخ الفعل المقترن بالزمان في لسان الدليل، كما إذا قال: «أكرم العلماء يوم الجمعة» مثلا، و قيدية الزمان أو ظرفيته تحرز من قرينة داخلية أو خارجية. و يؤيده تصريحه في «لا يقال:» بقوله: «يكون من قيود الموضوع و إن أخذ ظرفا لثبوت الحكم»، حيث إنه أراد بالتقييد مجرد الاقتران بالزمان؛ لكن الإنصاف تقابل القيدية و الظرفية و تغايرهما، و هو «قدس سره» أعلم بما قال.

ص: 302

ما لم يؤخذ الزمان فيه إلاّ ظرفا لثبوته لا قيدا مقوما لموضوعه، و إلاّ (1) فلا مجال إلاّ لاستصحاب عدمه فيما بعد ذلك الزمان، فإنه (2) غير ما علم ثبوته له، فيكون الشك في ثبوته له أيضا (3) شكا في أصل ثبوته بعد القطع بعدمه.

لا يقال (4): إن الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع و إن أخذ ظرفا لثبوت الحكم في دليله، ضرورة (5): دخل...

=============

(1) أي: و إن لم يؤخذ الزمان ظرفا بل أخذ قيدا مقوما لموضوع الحكم. و هذا إشارة إلى الصورة الثانية المتقدمة آنفا بقولنا: «ثانيتهما».

(2) هذا تعليل لقوله: «و إلاّ فلا مجال إلاّ لاستصحاب عدمه».

و حاصل التعليل: مغايرة الوجوب الذي يكون بعد زمان الفعل للوجوب الذي يكون في زمان الفعل، و مغايرة الوجوبين تمنع من جريان الاستصحاب؛ لكون الشك في حكم الفعل بعد ذلك الزمان شكا في حدوث التكليف؛ لا شكا في بقائه حتى يجري فيه استصحاب التكليف. و ضمائر «عدمه، ثبوته» في الموضعين راجعة إلى «الحكم»، و ضميرا «له» في الموضعين راجعان إلى «الفعل» المستفاد من الكلام، يعني: فإن الحكم الثابت بالاستصحاب فيما بعد ذلك الزمان غير الحكم الذي علم ثبوته للفعل قبل ذلك الزمان، و تغاير الفعلين يوجب تعدد الموضوع، و كون الحكم الثابت لما بعد ذلك الزمان مغايرا للحكم الثابت لما قبله، و كون الشك فيه شكا في حدوث الحكم لا بقائه.

(3) يعني: كما أن الشك في التكليف قبل تشريعه في ذلك الزمان يكون شكا في حدوث التكليف لا في بقائه حتى يجري فيه الاستصحاب؛ بل لا محيص عن جريان استصحاب عدم التكليف فيه. و ضميرا «ثبوته، بعدمه» راجعان إلى الحكم.

(4) هذا إشكال على التفصيل الذي أفاده من جريان استصحاب ثبوت التكليف فيما إذا كان الزمان ظرفا، و استصحاب عدم التكليف فيما إذا كان الزمان قيدا.

تقريب الإشكال: أن الزمان و غيره من الزماني مما أخذ في حيّز الخطاب يصير قيدا للموضوع و دخيلا في ملاك الحكم على مبنى تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح و المفاسد، و إذا صار الزمان من قيود الموضوع فانتفاؤه مانع عن جريان الاستصحاب؛ إذ لا أقل من كون انتفائه موجبا للشك في بقاء الموضوع، و من المعلوم: أنه مع هذا الشك لا يجري الاستصحاب، فلا فرق في عدم جريانه في ثبوت التكليف بين ظرفية الزمان و قيديته.

(5) تعليل لقوله: «لا محالة» و حاصله: أن قيديته للموضوع إنما هي لأجل دخله في ملاك الحكم، و ضمائر «دليله، لثبوته، و عدمه» راجعة إلى الحكم.

ص: 303

مثل (1) الزمان فيما هو المناط لثبوته، فلا (2) مجال إلاّ لاستصحاب عدمه.

فإنه يقال: نعم (3)؛ لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقة و نظر العقل و أما إذا كانت العبرة بنظر العرف (4): فلا شبهة في أن الفعل بهذا النظر موضوع واحد في الزمانين (5) قطع (6) بثبوت الحكم له في الزمان الأول، و شك في بقاء هذا الحكم له و ارتفاعه في الزمان الثاني، فلا يكون مجال إلاّ لاستصحاب ثبوته (7).

=============

(1) التعبير بالمثل للتنبيه على عدم خصوصيته في الزمان بل هو شأن كل قيد أخذ في موضوع الحكم و إن لم يكن زمانا كالتستر و الاستقبال في الصلاة.

(2) هذه نتيجة دخل الزمان في ملاك الحكم و كونه قيدا للموضوع؛ لأن انتفاء القيد يوجب تعدد الموضوع و انثلام وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة، فلا يجري استصحاب التكليف؛ بل يجري استصحاب عدمه، لأن المتيقن انتقاضه هو زمان التكليف، و ما بعده مشكوك الانتقاض فيستصحب عدمه. و ضمير «هو» راجع على الموصول المراد به المصلحة الداعية إلى الجعل.

(3) هذا دفع الإشكال المزبور و محصله: أن دخل كل قيد في الموضوع إنما هو بنظر العقل المبني على الدقة. و أما بنظر العرف المسامحي الذي هو المعيار في باب الاستصحاب فلا ريب في أن الفعل الذي أخذ الزمان ظرفا لا قيدا له يكون بهذا النظر العرفي في كلا الزمانين واحدا و لا تثلم وحدته باختلاف الزمان، فإذا شك في ثبوت الحكم بعد مضي الزمان المأخوذ ظرفا له لا يجري فيه إلاّ استصحاب التكليف المعلوم حدوثه في الزمان الأول؛ لكون الشك فيه شكا في بقاء التكليف لا في حدوثه، فإذا علم بوجوب إكرام العلماء مثلا يوم الجمعة مع العلم بظرفية الجمعة للحكم، و شك في بقاء الوجوب بعدها جرى استصحاب وجوب الإكرام بلا مانع؛ إذ المفروض: ظرفية يوم الجمعة للحكم لا قيديته له.

و بالجملة: فالعرف يحكم بوحدة القضية المتيقنة و المشكوكة في صورة ظرفية الزمان، و وحدة الفعل في الزمانين.

(4) يعني: كما هو كذلك في باب الاستصحاب، و أنه لا عبرة فيه بنظر العقل أصلا.

(5) أي: زمان الفعل و ما بعده.

(6) صفة ل «موضوع واحد» هذا تقريب الاستصحاب و تطبيقه على المقام و بيان ركنيه من اليقين و الشك.

(7) هذا الضمير و ضمير ارتفاعه راجعان إلى «الحكم». و ضميرا «له» في الموضعين

ص: 304

لا يقال (1): فاستصحاب كل واحد من الثبوت و العدم يجري لثبوت كلا النظرين (2)، و يقع التعارض بين الاستصحابين كما قيل (3).

فإنه يقال (4): إنما يكون ذلك لو كان في الدليل ما بمفهومه يعم النظرين،...

=============

راجعان إلى «الفعل» أو إلى «موضوع واحد» باعتبار قربه إلى الضمير و المعنى واحد، و قوله: «فلا يكون» تفريع على اعتبار النظر العرفي في الاستصحاب.

(1) غرض هذا المستشكل: إسقاط استصحاب ثبوت التكليف عن الاعتبار في صورة ظرفية الزمان بمعارضته لاستصحاب عدمه، ببيان: أن كلا من ثبوت التكليف و عدمه مسبوق باليقين و الشك، فكلا ركني الاستصحاب في كل من وجود التكليف و عدمه موجود، فيجري فيهما الاستصحاب، و يسقط بالتعارض.

توضيحه: أن وجود الحكم فيما بعد الزمان المأخوذ في دليله مشكوك فيه بعد القطع بوجوده في ذلك الزمان، كما أن عدم الحكم قبل التشريع كان معلوما و انتقض في قطعة من الزمان قطعا، و لم يعلم انتقاضه فيما بعده، فبعد انقضاء ذلك الزمان يشك في وجود الحكم، لاحتمال بقائه و عدم اختصاصه بذلك الزمان، فيستصحب وجوده كما أنه يشك في بقاء عدمه الأزلي حيث إن المعلوم انتقاضه هو العدم في خصوص تلك القطعة من الزمان، و انتقاضه في غيرها مشكوك فيه، فيستصحب عدمه، و يسقط الاستصحابان بالتعارض.

(2) و هما نظر العرف و نظر العقل، كما اعترف بوجود هذا النظر العقلي بقوله:

«نعم، لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقة...» الخ، فيجري الاستصحاب الوجودي للنظر العرفي و العدمي للنظر العقلي.

(3) القائل هو الفاضل النراقي «قدس سره» في المناهج، حيث قال فيما حكي عنه:

«إذا علم أن الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة، و علم أنه واجب إلى الزوال، و لم يعلم بوجوبه فيما بعده، فنقول: كان عدم التكليف بالجلوس قبل يوم الجمعة و فيه إلى الزوال و بعده معلوما قبل ورود أمر الشارع، و علم بقاء ذلك العدم قبل يوم الجمعة و علم ارتفاعه و التكليف بالجلوس فيه قبل الزوال، و صار بعده موضع شك، فهاهنا شك و يقينان، و ليس إبقاء حكم أحد اليقينين أولى من إبقاء حكم الآخر»(1). و حاصله: معارضة استصحاب وجود الحكم الثابت قبل زوال يوم الجمعة باستصحاب عدمه الأزلي.

(4) هذا دفع الإشكال: توضيحه: أن اعتبار نظري العقل و العرف في باب

ص: 305


1- نقله في فرائد الأصول 208:3.

و إلاّ (1) فلا يكاد يصح إذا سيق بأحدهما؛ لعدم (2) إمكان الجمع بينهما، لكمال المنافاة بينهما (3)، و لا يكون في أخبار الباب (4) ما بمفهومه يعمهما (5)، فلا يكون هناك إلاّ استصحاب واحد، و هو استصحاب الثبوت فيما إذا أخذ الزمان ظرفا، و استصحاب العدم فيما أخذ قيدا؛ لما (6) عرفت من: أن العبرة في هذا...

=============

الاستصحاب منوط بشمول أدلته لهما حتى يوجب شمولها لكلا النظرين وقوع التعارض بين النظرين؛ لكنه ليس فيها لفظ يشملهما و يجمعهما؛ بل يستحيل ذلك، لأنه بناء على القيدية لا يكون رفع اليد عن الحكم فيما بعد ذلك الزمان نقضا للحكم السابق، و بناء على الظرفية يكون رفع اليد عنه بعد ذلك الزمان نقضا له، فبناء على اعتبار النظرين يلزم التناقض؛ إذ رفع اليد نقض و ليس بنقض. فلا بد أن تكون العبرة بأحد النظرين و هو نظر العرف كما تقدمت الإشارة إليه، و يأتي تفصيله في خاتمة هذا الفصل إن شاء الله تعالى.

و ببيان آخر أفاده في حاشية الرسائل: أن لحاظ تقييد الجلوس بالزوال غير لحاظ إطلاقه، و هذان اللحاظان يمتنع اجتماعهما، فلا بد أن يكون الدليل بأحد اللحاظين، كما لا يمكن أن يكون مهملا؛ إذ لازمه سقوطه عن الاعتبار، قال: «و كأن المتوهم - أي:

الفاضل النراقي - نظر في كل استصحاب إلى لحاظ و غفل عن امتناع الجمع بينهما» و يستفاد هذا من عبارة الشيخ أيضا. و الحاصل: أنه بناء على ظرفية الزمان لا يجري إلاّ استصحاب الوجود، و لا يجري استصحاب العدم حتى يرد عليه إشكال المعارضة.

و المشار إليه «ذلك» تعارض الاستصحابين و تعارضهما إنما يكون فيما إذا عم الدليل بمفهومه كلا النظرين.

(1) أي: و إن لم يكن في الدليل ما بمفهومه يعم النظرين فلا يصح جريان الاستصحاب إلاّ بلحاظ أحد النظرين، و هو النظر العرفي؛ إذ الخطابات ملقاة إليهم.

(2) تعليل لقوله: «لا يكاد يصح».

(3) هذا الضمير و ضميرا «بينهما، بأحدهما» راجعة إلى النظرين، و وجه كمال المنافاة بين النظرين هو ما عرفت من التناقض.

(4) و لو فرض ظهور دليل في ذلك فلا بد من رفع اليد عنه؛ لما مر من امتناع الأخذ بكلا النظرين معا، و ضمير «بمفهومه» راجع إلى «ما» الموصول المراد به الخبر.

(5) أي: يعم النظر العرفي و العقلي.

(6) تعليل لقوله: «فلا يكون هناك استصحاب واحد».

ص: 306

الباب (1) بالنظر العرفي، و لا شبهة (2) في أن الفعل فيما بعد ذاك الوقت مع ما قبله في الأول (3)، و متعدد في الثاني (4) بحسبه، ضرورة (5): أن الفعل المقيد بزمان خاص غير الفعل في زمان آخر و لو (6) بالنظر المسامحي العرفي.

=============

و حاصل التعليل كما تقدم هو: أن العبرة في تعيين الموضوع في الاستصحاب هو العرف، ففيما إذا كان الزمان بنظره ظرفا يجري استصحاب الثبوت، و فيما إذا كان قيدا يجري استصحاب العدم.

و بالجملة: فالجاري في المقام استصحاب واحد و هو إما وجودي على تقدير، و إما عدمي على آخر، لا استصحابان حتى يتعارضان، فقوله: «إلاّ استصحاب واحد» تعريض بمن يجري استصحابين و يلقي بينهما التعارض، و قوله: «فلا يكون» نتيجة عدم دليل يعم بمفهومه النظرين.

(1) أي: الاستصحاب، و وجه العبرة بالنظر العرفي في ذلك هو كون الخطابات الشرعية ملقاة إلى العرف، فلا بد من الرجوع إليهم في فهم معانيها.

(2) غرضه: بيان ما يفهمه العرف في الفعل المقرون بالزمان من اتحاده في صورة الظرفية، و تعدده في صورة القيدية، فالفعل مع الزمان موضوع و بدونه موضوع آخر، فلا يجري فيه الاستصحاب، بخلاف ظرفية الزمان، فإن الفعل معه و بدون موضوع واحد، فيجري فيه الاستصحاب.

(3) و هو ما إذا أخذ الزمان ظرفا، و ضمير «قبله» راجع إلى «ذلك الوقت» و «متحد» خبر «أن الفعل».

(4) و هو ما إذا أخذ الزمان قيدا، و ضمير «بحسبه» راجع إلى العرف، يعني: و لا شبهة في أن الفعل بحسب نظر العرفي متحد في الأول، و متعدد في الثاني.

(5) تعليل للتعدد في صورة قيدية الزمان؛ و حاصله: أن القيد يضيق دائرة موضوع الحكم و يخرج الإطلاق عن تمام الموضوعية، فإذا قال الشارع: «الماء الكر لا ينفعل أو عاصم» اختص الحكم بعدم الانفعال بالماء البالغ كرّا دون غيره، فالموضوع و هو الماء الكر مغاير للماء غير الكر و لا يتحدان، و من القيود الزمان إذ لا فرق في القيد المأخوذ في لسان الدليل موضوعا للحكم بين الزمان و غيره.

(6) يعني: حتى بالنظر المسامحي العرفي فضلا عن النظر الدقي العقلي.

غرضه: أن العرف مع سعة نظره و مسامحته في تشخيص المفاهيم يحكم بتعدد الفعل المقيد بالزمان كالجلوس إلى الزوال إذا فرض تقيده بزمان آخر، فإن العرف يرى تعدده و تغايره باعتبار تقيده بزمانين.

ص: 307

نعم (1)؛ لا يبعد أن يكون بحسبه أيضا (2) متحدا فيما إذا كان الشك في بقاء حكمه من جهة الشك في أنه بنحو التعدد المطلوبي، و أن (3) حكمه بتلك المرتبة التي كان مع ذاك الوقت؛ و إن لم يكن باقيا بعده (4) قطعا، إلاّ إنه يحتمل بقاؤه بما دون تلك المرتبة (5) من مراتبه، فيستصحب (6)، فتأمل...

=============

(1) استدراك على قوله: «و متعدد في الثاني» و إشارة إلى الصورة الرابعة التي أشرنا إليها في صدر البحث عن الفعل المقيد بالزمان. بقولنا: «ثانيتهما: كون الزمان قيدا للحكم بنحو تعدد المطلوب...» الخ.

و توضيحه: أن التعدد المانع عن الاستصحاب في صورة قيدية الزمان إنما هو فيما إذا كان قيدا للحكم بنحو وحدة المطلوب، و أما إذا كان بنحو تعدد المطلوب؛ بأن يكون الجلوس مطلقا مطلوبا، و تقيده بزمان خاص مطلوبا آخر؛ بحيث لا تنثلم وحدة الموضوع و هو الجلوس بانقضاء ذلك الوقت، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه بعد كون الفعل واحدا عرفا؛ لكون الشك شكا في بقاء مطلوبيته و إن كانت مطلوبيته بقاء؛ لاستنادها إلى مصلحة في ذات المطلق غير المصلحة القائمة بالمقيد بالزمان الخاص.

و بالجملة: فتكون إحدى صورتي التقييد - و هي التقييد بنحو تعدد المطلوب - كصورة الظرفية في وحدة الموضوع.

(2) أي: كاتحاد الفعل في الزمانين بنظر العقل، و ضمير «بحسبه» راجع إلى «النظر المسامحي»، و الضمير المستتر في «يكون» راجع إلى الفعل.

(3) معطوف على «أنه» و مفسر له، و بيان لاحتمال كونه بنحو تعدد المطلوب.

و ضمائر «حكمه» في الموضعين و «أنه» راجعة إلى الفعل، يعني: إن حكم الفعل الذي كان مع ذلك الوقت بتلك المرتبة القصوى من المطلوبية و إن لم يكن باقيا بعد ذلك الوقت على تلك المرتبة من المطلوبية لدخل الوقت فيها؛ إلاّ إنه يحتمل بقاؤه بما دون تلك المرتبة؛ إذ مع القطع بعدم بقائه بانقضاء الوقت يكون من باب وحدة المطلوب دون تعدده.

(4) أي: بعد الوقت، و ضمير «بقاؤه» راجع إلى «حكمه».

(5) أي: المرتبة العليا من المراتب التي كان الحكم واجدا لها في ذلك الزمان.

(6) بدعوى: أن الحادث على فرض حدوثه يكون وجودا بقائيا بنظر العرف للموجود السابق نظير السواد الضعيف بالنسبة إلى الشديد منه، و لا يعد بنظرهم موجودا مباينا للموجود السابق، هذا في الأعراض الخارجية، و يمكن أن يكون منه وجوب صلاة

ص: 308

جيدا (1).

إزاحة وهم (2): لا يخفى أن الطهارة الحدثية و الخبثية و ما يقابلها يكون مما إذا الجمعة في عصر الغيبة بناء على وجوبها التخييري، بدعوى: أن هذا الوجوب عرفا وجود استمراري لوجوبها في عصر الحضور و إن كان ذلك الوجوب تعيينيا و هذا تخييرا، فتدبر.

=============

(1) لعله إشارة إلى منع جريان الاستصحاب فيما إذا أخذ الزمان قيدا، ضرورة: أن القيد دخيل في الموضوع أو المحمول، و انتفاؤه على كلا التقديرين قادح في وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة، و مع هذا القدح كيف يجري الاستصحاب ؟ و تشابه الحكمين لفعل في زمانين لا يوجب وحدة الموضوع المصححة لجريان الاستصحاب، فإن حكم الصلاة و الصوم و هو الوجوب متحد سنخا مع تغاير متعلقيهما و تباينهما؛ بل الشك في القدح أيضا يمنع عن جريان الاستصحاب؛ لكون الشك في وحدة الموضوع موجبا للشك في صدق النقض المانع عن صحة التمسك بدليل الاستصحاب، كما لا يخفى.

(2) هذا الوهم من الفاضل النراقي «قدس سره»، فإنه بعد بيان تعارض استصحابي الوجود و العدم في مثال وجوب الجلوس يوم الجمعة إلى الزوال على ما تقدم في عبارته؛ ذكر أمثلة أخرى للتعارض المزبور:

منها: ما إذا عرض للمكلف مرض يوجب الشك في وجوب الصوم عليه، فإنه استصحاب وجوب الصوم قبل عروض المرض و استصحاب عدمه الأصلي قبل تشريع وجوب الصوم يجريان و يتعارضان.

و منها: ما إذا خرج المذي من المتطهر، فإنه يجري فيه استصحاب الطهارة قبل خروجه، و استصحاب عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي، و يتعارضان.

و منها: ما إذا غسل ثوبه المتنجس مرة و شك في حصول الطهارة له بذلك، فإنه يجري فيه استصحاب النجاسة قبل الغسل، و استصحاب عدم كون ملاقاة البول مثلا سببا للنجاسة بعد الغسل مرة، فيتعارضان و يتساقطان.

ففي هذه الأمثلة و نظائرها تسقط الاستصحابات بالتعارض؛ إلاّ أن يكون هناك استصحاب آخر حاكم على استصحاب العدم؛ كاستصحاب عدم جعل مشكوك الرافعية رافعا، حيث إن منشأ الشك في بقاء الوضوء بعد خروج المذي هو الشك في رافعية المذي للطهارة، فإذا جرى الاستصحاب في عدم رافعيته منع ذلك عن جريان استصحاب عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي.

ص: 309

ثم قال الفاضل النراقي: «هذا في الأمور الشرعية، و أما الأمور الخارجية كاليوم و الليل و الحياة و الرطوبة و الجفاف و نحوها مما لا دخل لجعل الشارع في وجودها فاستصحاب الوجود فيها حجة بلا معارض؛ لعدم تحقق استصحاب حال عقل معارض باستصحاب وجودها»(1). هذا حاصل الوهم.

فالمتحصل: أنه ذكر الفاضل النراقي: أنه لو تطهر الإنسان ثم خرج منه مذي يشك في كونه ناقضا أم لا يتعارض، هنا استصحابان: استصحاب الطهارة، و استصحاب عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي، و هكذا إذا غسل الثوب النجس بالماء مرة - إذا شك في لزوم الغسل مرة أو مرتين - فإنه يتعارض استصحاب النجاسة و استصحاب عدم جعل الشارع الملاقاة سببا للنجاسة بعد الغسل مرة.

ثم جعل الفاضل «رحمه الله» استصحاب عدم الرافعية للمذي و الغسل مرة حاكما على ذينك الاستصحابين المتعارضين ثم ذكر أن التعارض و الحكومة إنما هو بالنسبة إلى الأمور الشرعية، أما الأمور الخارجية كالليل و النهار، فلا مجال إلاّ لاستصحاب الوجود فيها فلا يعقل التعارض.

و قد أجاب المصنف «قدس سره» بما ملخصه: أن الطهارة و النجاسة الحدثية و الخبثية مما ثبت في الشريعة أنها تدوم إذا حدثت، فلا مجال إلاّ لاستصحاب الطهارة بعد خروج المذي و استصحاب النجاسة بعد الغسل بالماء مرة؛ إذ «لا يخفى أن الطهارة الحدثية و الخبثية و ما يقابلها» أي: يقابل الطهارة - و هي النجاسة الحدثية و الخبثية - «يكون مما إذا وجدت بأسبابها» المقررة في الشريعة، «لا يكاد يشك في بقائها إلاّ من قبل الشك في الرافع لها»، فالمذي إذا خرج يشك في كونه رافعا للوضوء أم لا، لا أنه يشك في أن الوضوء له مقتض للبقاء بعده أم لا، و كذلك بالنسبة إلى الغسل مرة بعد النجاسة فإنه يشك في كون الغسل مرة رافعا أم لا، لا أنه يشك في كون النجاسة لها مقتض للبقاء بعد الغسل مرة أم لا؛ «لا من قبل الشك في مقدار تأثير أسبابها» أي: أسباب الطهارة و النجاسة، و أنه هل سبب الطهارة و النجاسة ذو مقتض طويل أم مقتض قصير.

ثم قوله: «إن الطهارة الحدثية» إشارة إلى المثال الثاني الذي ذكره الفاضل النراقي «قدس سره» من الوضوء المتعقب بالمذي.

قوله: «الخبثية» إشارة إلى المثال الثالث المذكور في كلام النراقي، و هو الشك في

ص: 310


1- نقله في فرائد الأصول 210:3.

وجدت بأسبابها، لا يكاد يشك في بقائها إلاّ من قبل الشك في الرافع لها، لا من قبل الشك في مقدار تأثير أسبابها، ضرورة (1) أنها إذا وجدت بها كانت تبقى ما لم يحدث رافع لها، كانت من الأمور الخارجية (2) أو الأمور الاعتبارية التي كانت لها طهارة الثوب المتنجس المغسول مرة، و لم يتعرض المصنف «قدس سره». للمثال الأول و هو وجوب الصوم بعد عروض المرض.

=============

(1) تعليل لكون الشك في بقائها لأجل الشك في وجود رافعها لا لأجل الشك في مقدار تأثير أسبابها.

و حاصل التعليل: الحكم ببقاء المسبب عند وجود سببه و عدم ارتفاعه إلاّ بحدوث رافع. و ضميرا «أسبابها، أنها» راجعان إلى الطهارة، و ضمير «بها» راجع إلى «أسبابها»، و ضمير «لها» إلى الطهارة.

(2) يعني: لا فرق فيما ذكرناه من بقاء الطهارة إذا وجدت بأسبابها و عدم ارتفاعها إلاّ بحدوث رافع بين كون الطهارة من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع، كما احتمله بعض، و بين كونها من الأمور الاعتبارية التي اعتبرها الشارع، و على الاحتمال الأول: تكون موضوعا لأحكام شرعية، و على الثاني: الذي هو مذهب الجلّ تكون بنفسها حكما شرعيا إن كان معتبرها الشارع، و إن كان معتبرها العرف كما هو ظاهر قوله: «أو الأمور الاعتبارية التي كانت لها آثار شرعية» تكون موضوعا لأحكام شرعية كالاحتمال الأول.

و كيف كان؛ فغرض المصنف «قدس سره» هو الإشارة إلى بطلان تفصيل الفاضل النراقي بين الأمور الشرعية و الخارجية بتعارض استصحابي الوجود و العدم في الأول، و جريان استصحاب الوجود فقط في الثاني من دون جريان استصحاب العدم فيه حتى يتعارضا.

و أما وجه البطلان: فلأن الشك في الأمثلة المذكورة كلها شك في الرافع و ليس الشك فيها شكا في المقتضي أي: في مقدار تأثير الشك. و عليه: فلا مجال لأصالة عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي، و لا لأصالة عدم جعل الملاقاة سببا للنجاسة بعد الغسل مرة، و لا يكون هاهنا أصل إلاّ أصالة الطهارة أو النجاسة يعني بها: استصحاب الطهارة من قبل المذي أو استصحاب النجاسة من قبل الغسل مرة.

و ذلك لم نعلم من أن الشارع جعل الوضوء سببا تاما للطهارة و ملاقاة البول سببا تاما للنجاسة لا قصور في سببيتهما أصلا و إنما يقع الشك في رافعية المذي للطهارة أو الغسل

ص: 311

آثار شرعية (1)، فلا أصل (2) لأصالة عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي، و أصالة عدم جعل الملاقاة سببا للنجاسة بعد الغسل مرة، كما حكي عن بعض الأفاضل (3)، و لا يكون هاهنا (4) أصل إلاّ أصالة الطهارة أو النجاسة.

=============

مرة للنجاسة. فليس الشك في مقدار سببية السبب و تأثير المؤثر حتى يستصحب عدم جعل جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة بعد المذي، و عدم كون ملاقاة البول سببا للنجاسة بعد الغسل مرة، و يعارض استصحاب الطهارة من قبل المذي و استصحاب النجاسة من قبل الغسل مرة.

فالنتيجة: أنه ليس هاهنا إلاّ استصحاب واحد فلا موضوع لتوهم تعارض الاستصحابين أصلا، و قد أضربنا عن التطويل رعاية للاختصار.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) هذا التقييد لتصحيح جريان الاستصحاب في الطهارة؛ إذ لو لم تكن موضوعا لآثار شرعية لم يجر فيها الاستصحاب.

(2) هذه نتيجة تأثير الأسباب في مسبباتها بنحو الإطلاق بحيث لا يشك في بقائها إلاّ من ناحية الشك في وجود الرافع لها، لا من جهة الشك في مقتضيها حتى يبقى مجال لمثل أصالة عدم الوضوء سببا للطهارة بعد المذي.

و الحاصل: أن غرض المصنف «قدس سره» منع جريان مثل هذا الأصل في الموارد المذكورة في كلام الفاضل؛ لكون الشك الموضوع في تلك الأصول شكا في المقتضي، و المفروض: أن الدليل الاجتهادي بمقتضى إطلاقه الأزماني ينفي هذا الشك، و يثبت استعداد الطهارة و نظائرها للبقاء في سلسلة الزمان، و أنها لا ترتفع إلاّ بحدوث رافع لها، فعدم جريان الاستصحاب العدمي في تلك الأمثلة و أشباهها إنما هو لعدم الموضوع أعني:

الشك؛ لا لكونه شكا في المقتضي حتى يقال بعدم قدح ذلك في جريان الاستصحاب فيه كما هو مذهب جماعة و منهم المصنف «قدس سره».

(3) و هو الفاضل النراقي و قد تقدم نقل كلامه.

(4) أي: في الطهارة الحدثية و الخبثية، فإنه بعد خروج المذي تستصحب الطهارة الحدثية، و بعد غسل الثوب المتنجس مرة تستصحب نجاسته، و كلاهما استصحاب وجودي و لا يجري فيهما استصحاب عدمي حتى يعارض الوجودي. و هنا كلام طويل حول كلام الفاضل النراقي تركناه رعاية للاختصار.

ص: 312

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان ما هو محل الكلام في المقام هي الأمور غير القارة التي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود في زمان واحد.

و في جريان الاستصحاب فيها إشكال؛ لأن الجزء الأول المتيقن قد زال يقينا، و الجزء الثاني مشكوك الحدوث، فلا شك في بقاء ما هو المتيقن سابقا حتى يجري فيه الاستصحاب.

ثم الأمور غير القارة على ثلاثة أقسام:

الأول: هو الزمان كالليل و النهار و نحوهما.

الثاني: الزماني الذي لا استقرار لوجوده بل يتجدد شيئا فشيئا على التدريج؛ كالتكلم و الكتابة و المشي و نبع الماء و سيلان الدم و نحو ذلك.

الثالث: المستقر الذي يؤخذ الزمان قيدا له كالصوم المقيد بشهر رمضان المبارك، و الجلوس المقيد بيوم الخميس. و هذا التقسيم الثلاثي هو مختار الشيخ الأنصاري «قدس سره». و أما المصنف: فجعل الأمور غير القارة على قسمين و هما: الزمان و الزماني.

2 - قد أجاب صاحب الكفاية عن إشكال جريان الاستصحاب في الأمور غير القارة بوجهين:

الوجه الأول: أن الأمور غير القارة هي عين التجدد و الانقضاء و الخروج من القوة إلى الفعل، فالزمان عبارة عن سلسلة الآنات المتعاقبة على نهج الاتصال، و كذا الحال في الزماني، فإن وجود كل جزء من الكلام يتوقف على انعدام جزئه السابق، و وجود كل شيء بحسبه، فالتجددات المتصلة بالاتصال التعاقبي موجود واحد و بقاء آخر الجزء بقاء للأمر التدريجي.

و عليه: فيجري فيه الاستصحاب كما يجري الاستصحاب في الأمور القارة؛ إذ مدار حجية الاستصحاب على صدق نقض اليقين بالشك عرفا، و لما كان الأمر التدريجي واحدا بنظرهم؛ بحيث يعدّ أوّله حدوثا و ما بعده بقاء كالأمر القار؛ فلا محالة يجري الاستصحاب، فالوجود التدريجي لا يمنع عن جريان الاستصحاب. هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

3 - و أما الوجه الثاني: أن التدرج في الوجود مانع عن جريان الاستصحاب في

ص: 313

الحركة القطعية، و هي كون شيء في كل آن في حد أو مكان لا في الحركة التوسطية و هي كون الشيء بين المبدأ و المنتهى، فإن الحركة بهذا المعنى أمر مستمر.

و عليه: فلا مجال للإشكال في استصحاب الليل و النهار فإن النهار عبارة عن كون الشمس تحت الأرض بين المغرب و المشرق، و النهار عبارة عن كونها على وجه الأرض بين المشرق و المغرب، فهما من مصاديق الحركة التوسطية التي يجري فيها الاستصحاب بلا إشكال أصلا، فيستصحب عدم وصول الأمر التدريجي إلى المنتهى و أنه بعد في البين.

4 - جريان استصحاب الكلي بأقسامه الثلاثة في الأمور التدريجية، فإذا اشتغل بقراءة سورة تبارك مثلا، و شك في الفراغ عنها صح استصحاب قراءتها بنحو استصحاب الشخص و الكلي إن كان للكلي أثر شرعا. هذا من القسم الأول.

و إذا اشتغل بقراءة سورة لم يعلم أنها سورة الروم أو القدر مثلا، فإن كانت الأولى لم يفرغ عنها، و إن كانت الثانية فقد حصل الفراغ منها، فيدور الأمر بين الطويل و القصير، فيجوز استصحاب كلي القراءة دون الفرد. هذا من استصحاب القسم الثاني من الكلي.

و إذا اشتغل بقراءة سورة القدر مثلا، و تمت و لكن شك في شروعه في سورة أخرى مقارنة لختمها، فلا يجوز استصحاب القراءة و هو من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي.

5 - أما الفعل المقيد بالزمان: فإن الشك في بقاء الفعل المقيد بالزمان يتصور على وجهين: و كل وجه يتصور على وجهين.

فالوجوه و الأقسام فيه هي أربعة:

الوجه الأول: أن يكون الشك فيه ناشئا من الشك في بقاء قيده؛ كالشك في وجوب الإمساك لأجل الشك في بقاء قيده و هو النهار.

ثم الشبهة فيه قد تكون موضوعية كالشك في انتهاء النهار مع العلم بأنه ينتهي بغياب قرص الشمس.

و قد تكون حكمية، كما إذا لم يعلم بأن النهار ينتهي باستتار القرص أو بذهاب الحمرة. فهذا الوجه وجهان.

الوجه الثاني: أن يكون الشك في الوجوب مع القطع بانقضاء الزمان، فللشك في بقاء الحكم في هذا الوجه - و هو القطع بانتفاء الوقت أيضا - وجهان:

أحدهما: كون الزمان قيدا بنحو وحدة المطلوب، فبانتفاء الزمان ينتفي الحكم.

ص: 314

ثانيهما: كون الزمان قيدا للحكم بنحو تعدد الحكم بأن تكون ذات الجلوس مطلوبة، و كونه في النهار مطلوبا آخر، فمجموع الوجوه و الأقسام هي أربعة.

6 - أما أحكام هذه الوجوه: فهي مختلفة بمعنى يجري الاستصحاب في بعضها دون البعض.

و أما الوجه الأول المنقسم إلى الوجهين: فيجري الاستصحاب فيهما، و أما الوجه الثاني: فيجري فيه الاستصحاب إذا كان الزمان ظرفا، و لا يجري إذا كان قيدا مقوّما للموضوع لتعدد الموضوع.

7 - تعارض استصحابي الوجود و العدم، و سقوطه بالتعارض كما يقول به الفاضل النراقي.

و حاصل الجواب: أنه بناء على ظرفية الزمان لا يجري إلاّ استصحاب الوجود، و لا يجري استصحاب العدم حتى يقع التعارض بين الاستصحابين.

و أما بناء على قيدية الزمان: فلا يجري إلاّ استصحاب العدم فلا تعارض في البين.

إزاحة وهم:

تقريب الوهم: هو تعارض استصحاب وجوب الصوم قبل عروض المرض باستصحاب عدم وجوب الصوم قبل التشريع.

و كذا تعارض استصحاب الطهارة قبل خروج المذي باستصحاب عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد خروج المذي.

و كذا تعارض استصحاب النجاسة قبل غسل الثوب النجس مرة باستصحاب عدم كون ملاقاة البول مثلا سببا للنجاسة بعد الغسل مرة، فتسقط هذه الاستصحابات بالتعارض.

و قد دفع المصنف هذا الوهم بما ملخصه: من أن الطهارة و النجاسة تدوم في الشرعية بعد حدوثهما، فليس هنا إلاّ استصحاب الطهارة بعد خروج المذي و استصحاب النجاسة بعد الغسل مرة.

و كذلك استصحاب وجوب الصوم بعد عروض المرض.

ففي كل مورد استصحاب واحد فلا مجال للتعارض و التساقط.

9 - رأي المصنف «قدس سره»:

جريان الاستصحاب في الأمور غير القارة. كما يجري في الأمور القارة بلا إشكال.

ص: 315

الخامس (1): إنه كما لا إشكال فيما إذا كان المتيقن حكما فعليا مطلقا، لا ينبغي

=============

التنبيه الخامس في الاستصحاب التعليقي

(1) و قبل الخوض في البحث ينبغي تحرير ما هو محل الكلام في هذا التنبيه الخامس.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الحكم تارة: يكون فعليا من جميع الجهات، و أخرى: يكون فعليا من بعض الجهات دون بعض، و يعبّر عن القسم الأول بالحكم التنجيزي.

و عن القسم الثاني يعبّر بالحكم التعليقي تارة؛ و بالحكم التقديري أخرى.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل الكلام في هذا التنبيه الخامس إنما هو في جريان الاستصحاب في الأحكام التعليقية و عدم جريانه بعد القول بجريان الاستصحاب في الأحكام التنجيزية.

و أما على القول بعدم جريان الاستصحاب في الأحكام: فلا يبقى مجال للبحث عن جريانه في الأحكام التعليقية؛ و ذلك لعدم جريانه حينئذ فيها قطعا كما لا يخفى.

و كيف كان؛ فقبل التكلم في جريان الاستصحاب التعليقي و عدمه لا بد من بيان مقدمة، و هي: أن العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام على أقسام:

فتارة: يكون أخذ العنوان لمجرد الإشارة إلى حقيقة المعنون بلا دخل للعنوان في ثبوت الحكم أي: بحيث يفهم العرف من نفس الدليل الدال على الحكم أن الحكم ثابت لهذا الموضوع، مع تبدل العنوان المأخوذ بعنوان آخر؛ كعنوان الحنطة و الشعير مثلا، فإنه إذا دل دليل على أن الحنطة حلال، و يستفاد منه عرفا أن الحلية ثابتة لحقيقة الحنطة - و لو مع تبدل هذا العنوان - كما إذا صار دقيقا ثم عجينا ثم خبزا، فيستفاد من حليتها الحلية في جميع هذه التبدلات، ففي مثل ذلك لا شك في بقاء الحكم في حال من الحالات، حتى نحتاج إلى الاستصحاب.

و أخرى: يكون الأمر بعكس ذلك - أي: يفهم العرف من نفس الدليل أن الحكم دائر مدار العنوان فيرتفع بارتفاعه - كما في موارد الاستحالة؛ كاستحالة الكلب ملحا و نحوها من موارد الاستحالات.

و قد يستفاد ذلك في غير موارد الاستحالة، كما في حرمة الخمر فإنها تابعة لصدق عنوانه، فإذا تبدل عنوانه لم يحتمل بقاء حكمه، ففي أمثال ذلك نقطع بارتفاع الحكم بمجرد تبدل العنوان فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب.

و ثالثة: لا يستفاد أحد الأمرين من نفس الدليل، فشك في بقاء الحكم بعد تبدل

ص: 316

العنوان؛ لاحتمال مدخلية العنوان في ترتب الحكم، و هذا كالتغير المأخوذ في نجاسة الماء، فإنه لا يعلم أن النجاسة دائرة مدار التغير التغير حدوثا و بقاء، أو أنها باقية بعد زوال التغير أيضا لكونه علة لحدوثها فقط. و هذا القسم هو محل الكلام في جريان الاستصحاب.

و ظهر بما ذكرنا من تحقيق موارد الاستصحاب التعليقي: أن تمثيلهم له بماء الزبيب غير صحيح، فإن الاستصحاب إنما هو فيما إذا تبدلت حالة من حالات الموضوع فشك في بقاء حكمه، و المقام ليس كذلك؛ إذ ليس المأخوذ في دليل الحرمة هو عنوان العنب ليجري استصحاب الحرمة بعد كونه زبيبا؛ بل المأخوذ فيه هو عصير العنب، و هو الماء المخلوق في كامن ذاته بقدرة الله تعالى، فإن العصير ما يعصر من الشيء من الماء، و بعد الجفاف و صيرورته زبيبا لا يبقى ماؤه الذي كان موضوعا للحرمة بعد الغليان.

و أما عصير الزبيب: فليس هو إلا ماء آخر خارج عن حقيقته و صار حلوا بمجاورته، فموضوع الحرمة غير باق ليكون الشك شكا في بقاء حكمه، فيجري فيه الاستصحاب.

و بعد الغض عن المناقشة في المثال نقول: إن البحث في الاستصحاب التعليقي ذو أثر كبير في باب الفقه للتمسك به في موارد كثيرة من الأحكام التكليفية و الوضعية، منها:

استصحاب حرمة العصير العنبي بعد غليانه إذا شك فيها بعد زوال عنوانه و تبدله إلى زبيب، فيقال: إنه لا إشكال في ماء العنب إذا غلى قبل أن يذهب ثلثاه يحرم و إنما الإشكال فيما إذا صار العنب زبيبا. هل كان استصحاب الحرمة التعليقية جاريا فيحرم عند تحقق الغليان أم لا؟ بل تستصحب الإباحة السابقة التي كانت لماء الزبيب قبل الغليان.

و كيف كان؛ فإثبات اعتبار الاستصحاب في الأحكام التعليقية منوط بالبحث في مقامين:

أحدهما: في وجود المقتضي له و هو عموم أو إطلاق أدلة الاستصحاب. و الآخر:

عدم المانع أعني: معارضة الاستصحاب التعليقي في كل مورد بالاستصحاب التنجيزي على خلاف الحكم المشروط، و ممن التزم بجريان الاستصحاب التعليقي لوجود المقتضي هو صاحب الكفاية «قدس سره»، و ذكر في تقريبه: أن قوام الاستصحاب من اليقين بالحدوث و الشك في البقاء متحقق في الأحكام التعليقية، لأن غاية ما يقال في نفيه: أن الحكم التعليقي لا وجود له قبل وجود ما علق عليه، فلا يقين بحدوثه، و هذا قول فاسد؛ لأنه لا وجود له فعلا قبل الشرط؛ لا أنه لا وجود له أصلا و لو بنحو التعليق، فإن وجوده

ص: 317

التعليقي نحو وجود يكون متعلقا لليقين و الشك، و لذا كان متعلقا للخطابات الشرعية من إيجاب و تحريم.

فالوجه في حجية الاستصحاب التعليقي هو اجتماع أركانه فيه من اليقين السابق و الشك اللاحق، و وجود الأثر الشرعي فيشمله عموم أو إطلاق أدلة الاستصحاب.

توضيحه: أن حرمة ماء العنب - و إن كانت مشروطة الغليان - لكنها من المجعولات الشرعية كمجعولية أحكامه المطلقة كالملكية و جواز البيع و الحلية، و تلك الحرمة المشروطة معلومة، و مع عروض حالته على العنب - كصيرورته زبيبا - تصير مشكوكة لاحتمال الحرمة بخصوص ماء العنب على تقدير الغليان، فيجتمع اليقين بالحرمة المشروطة التي هي حكم شرعي و الشك في بقائها الناشئ من عروض وصف الزبيبية عليه، فيشمله دليل الاستصحاب الموجب لحرمة ماء الزبيب أيضا إذا غلى.

و قد ظهر مما ذكرنا: ما هو الضابط في الاستصحاب التعليقي و هو كون المستصحب حكما ثابتا لموضوع منوطا بوجود شرط مفقود كالغليان الذي هو شرط حرمة العصير العنبي، أو منوطا بفقد مانع موجود كما إذا أوصى شخص بمال لزيد على تقدير ترك شرب التتن، فإن كان زيد فقيها و صار تاجرا مثلا قبل موت الموصي فإن الشك في ملكية زيد لتبدل حاله - و هو الاشتغال بالعلم - بالتجارة يكون من هذا القبيل فيقال: زيد مالك للمال الموصى به بعد موت الموصي الذي هو أحد جزئي موضوع الملكية على تقدير ترك الدخان و الآن كما كان هذا إذا لم يعلم و لو من الخارج أن للفقاهة دخلا موضوعيا، و إلاّ دار الحكم مدارها و خرج عن مورد البحث.

و هناك قول بعدم جريان استصحاب الحرمة التعليقية لوجوه؛ بعضها راجع إلى عدم المقتضي للجريان، و بعضها راجع إلى وجود المانع من الجريان.

الأول: أنه لا مقتضى للجريان من جهة عدم المتيقن السابق، حيث لا يكون ماء الزبيب حراما قبل الغليان، فيكون المرجع بعد الغليان هو استصحاب الإباحة و الحلية.

الثاني: أنه لا تكون القضية المشكوكة متحدة مع القضية المتيقنة، حيث إن الزبيب مباين مع العنب عرفا.

ص: 318

الرابع: أن استصحاب التعليقي يكون من الشك في المقتضي و الاستصحاب غير معتبر فيه.

الجواب عن هذه الوجوه:

و أما الوجه الأول: فهو مردود من جهة أن الملاك في جريان الاستصحاب كون الحكم المستصحب بيد الشارع، من دون فرق بين الشك في الرافع أو في المقتضي، فيقال في المقام: إنه كما أن الحكم المنجّز حكم و جعله يكون بيد الشارع، كذلك الحكم التعليقي المشروط أيضا يكون إنشاؤه بيده، حيث إن تحقق كل شيء يكون بحسبه، فتستصحب الحرمة التعليقية، حيث لا يعتبر في الاستصحاب إلاّ الشك في بقاء شيء كان على يقين من ثبوته و اختلاف نحو ثبوته لا يكاد يوجب تفاوتا في ذلك.

و خلاصة ما في الكفاية: هو أنه إن كان العموم أو الإطلاق لدليل الحكم فهو، و إلاّ يكون الاستصحاب متمما لدلالة الدليل على الحكم مطلقا كان الحكم أو معلقا، فبركته يعم الحكم للحالة الطارئة اللاحقة كالحالة السابقة. هذا بناء على أن يكون عنوان العنبية و الزبيبية من حالات الموضوع لا من مقوماته.

و أما الجواب عن الوجه الثاني: فمن جهة أنا نمنع عدم الاتحاد، حيث إن عنوان العنبية و الزبيبية يكون من حالات الموضوع لا من مقوماته، فالمقام يكون من قبيل مراتب وجود زيديّة زيد، حيث إن عناوينه من صغره و كبره و شبابيته و شيخوخته لا تكون من مقوماته حتى تكون موجبة لتعدده؛ بل تكون من حالاته، فهو باق على وحدته، فكذلك المقام يكون عنوان العنبية و الزبيبية من حالات ذلك الحب لا من مقوماته، فكما يصح استصحاب أحكامه المطلقة يصح استصحاب أحكامه المعلقة، فكما يحكم ببقاء ملكيته يحكم بحرمته على تقدير غليانه.

و ثانيا: على فرض تسليم عدم الاتحاد - في خصوص مثال العنب و الزبيب - لا يكون ذلك موجبا لعدم الاتحاد و مانعا عن جريان الاستصحاب التعليقي في جميع الموارد.

و أما الجواب عن الوجه الثالث: فقد يجاب عنه أولا: بأن استصحاب الحرمة التعليقية حاكم على استصحاب الإباحة و الحلية؛ لأن الشك في الإباحة يكون ناشئا عن الشك في الحرمة التعليقية، فبعد استصحاب الحرمة التعليقية لا شك في الحلية.

و يجاب ثانيا بمنع المعارضة بما حاصله: أن المستفاد من دليل العصير العنبي هو أن الحلية تكون مغيّا بالغليان، و الحرمة تكون بعد الغليان، فاستصحاب الحلية يثبت الحلية

ص: 319

الإشكال فيما إذا كان مشروطا معلقا (1)، فلو شك في مورد لأجل طروء بعض الحالات (2) عليه في (3) بقاء أحكامه؛ ففيما (4) صح استصحاب أحكامه المطلقة (5) إلى زمان الغليان، و استصحاب الحرمة التعليقية يثبت الحرمة بعد الغليان، فالموضوع متعدد فلا معارضة بعد تعدد الموضوع.

=============

و أما الجواب عن الوجه الرابع: فلأن الاستصحاب معتبر في الشك في المقتضي هذا أولا، و ثانيا نمنع كونه في المقتضي حيث إن جعل الشارع ذهاب الثلثين مطهرا كاشف عن أنه يكون في الرافع لا المقتضي.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) يعني كما لا إشكال في حجية الاستصحاب فيما إذا كان الحكم المتيقن فعليا من جميع الجهات، و هو المراد بقوله: «مطلقا» كملكية العنب و جواز بيعه و أكله، و غيرها من التصرفات الاعتبارية و الخارجية المجعولة له، مع وجود شرائطها، كذلك لا ينبغي الإشكال في حجية الاستصحاب فيما إذا كان الحكم المتيقن مشروطا معلقا.

قوله: «معلقا» بيان لقوله: «مشروطا»؛ و لكن الاقتصار على قوله: «مشروطا» أولى لإطلاق المعلق على المطلق، حيث إنه انقسم إلى المعلق و المنجز كما ذهب إليه صاحب الفصول.

(2) كعروض حالة الزبيبية على العنب في المثال المتقدم، فإن هذه الحالة منشأ الشك في بقاء الحرمة المعلقة على الغليان.

(3) متعلق ب «شك»، و ضمير «عليه»، و كذا ضمائر «أحكامه» في المواضع الثلاثة راجعة إلى «مورد».

(4) جواب «فلو»، و المراد بأحكامه المطلقة هي الفعلية غير المشروطة بشيء، سواء كانت تكليفية كجواز شربه و أكله و غيرهما من التصرفات الخارجية، أم وضعية كملكيته و صحة بيعه و هبته و صلحه و غيرها من التصرفات الاعتبارية، فكما يصح استصحاب أحكامه المطلقة - إذا فرض الشك في بقائها - كذلك يصح استصحاب أحكامه المشروطة التي لم يتحقق شرطها إذا شك في بقائها لطروء وصف على الموضوع.

(5) هذا ظاهر في اعتبار وجود جميع ما يعتبر في الموضوع بالنسبة إلى أحكامه المطلقة كالعنب في المثال، فإن أحكامه الفعلية التكليفية و الوضعية المتقدمة مترتبة عليه بلا قيد، و لذا يصح استصحاب أحكامه المطلقة إذا شك في بقائها، و الاستصحاب التعليقي يجري في هذا الموضوع الذي لم يحصل فيه القيد المعتبر في الحرمة و هو الغليان مع

ص: 320

صح استصحاب أحكامه المعلقة؛ لعدم (1) الاختلال بذلك فيما اعتبر في قوام الاستصحاب من (2) اليقين ثبوتا (3) و الشك بقاء.

و توهم (4): أنه لا وجود للمعلق قبل وجود ما علق عليه فاختل أحد ركنيه فاسد؛

=============

نشوء الشك في بقاء هذا الحكم المعلق على التغير الطارئ على الموضوع و هو العنب.

(1) تعليل لقوله: «صح استصحاب أحكامه المعلقة»، و المشار إليه بقوله: «بذلك» هو التعليق يعني: لعدم الاختلال بسبب التعليق.

توضيحه: أن أركان الاستصحاب من اليقين بالثبوت و الشك في البقاء و وجود الأثر الشرعي موجودة في الشك في الأحكام المعلقة؛ كوجودها في الأحكام المطلقة بناء على صحة جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية، و الوجه في اجتماع أركانه هنا هو: أن للحكم المعلق على وجود شرط مفقود أو على فقد مانع موجود نحو وجود لم يثبت لحكم موضوع آخر مثلا ليس للتمر حكم الحرمة إذا غلى، و يصدق عليه أنه فاقد للحرمة على تقدير الغليان.

بخلاف العنب فإنه واجد للحرمة على هذا التقدير، و اليقين بهذا الحكم المشروط و الشك في بقائه مما يصدق عليه اليقين بشيء و الشك فيه، فيشمله عموم أو إطلاق دليل الاستصحاب. و لا دليل على اعتبار فعلية الحكم المتيقن؛ بحيث تقدح تعليقيته في الاستصحاب.

و بالجملة: فالمقتضي لجريان الاستصحاب التعليقي موجود، و المانع مفقود، حيث إن ما ذكروه مانعا ليس صالحا للمانعية.

(2) بيان ل «ما» الموصول، فقوام الاستصحاب هو اليقين بالوجود و الشك في البقاء.

(3) التعبير بالثبوت دون الوجود للتعميم لجميع المستصحبات حتى العدمية، حيث إن لها نحو تقرر.

و بالجملة: مختار المصنف «قدس سره» هو ما نسب إلى المشهور من حجية الاستصحاب التعليقي خلافا لجماعة.

(4) إشارة إلى استدلال المنكرين لحجية الاستصحاب التعليقي استدلوا بوجوه؛ يرجع بعضها إلى عدم المقتضي للاستصحاب و بعضها إلى وجود المانع عنه، و تقدم تقريب هذه الوجوه مع الجواب، فلا حاجة إلى إعادتها و تكرارها.

و هذا التوهم إشارة إلى ما هو منقول عن المناهل من الإشكال على الاستصحاب التعليقي. و حاصله: أنه لا بد في الاستصحاب من اليقين بوجود شيء و الشك في بقائه،

ص: 321

فإن المعلق قبله إنما لا يكون موجودا فعلا (1) لا أنه لا يكون موجود أصلا...

=============

و الأول منتف في المقام؛ إذ لا وجود للمعلق قبل وجود ما علق عليه، فاختل أحد ركني الاستصحاب و هو اليقين بالثبوت.

و قد أجاب صاحب الكفاية عن هذا التوهم بقوله: «فاسد».

توضيح الفساد: يتوقف على مقدمة و هي: أن وجود كل شيء بحسبه؛ لأن الوجود على أقسام؛ كوجود الواجب، و وجود الممكن. ثم وجود الممكن على أقسام؛ كوجود مادي، و وجود مجرد، و وجود بالفعل، و وجود بالقوة.

و من أقسام وجود الممكن هو الوجود المنجز و الوجود المعلق.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الوجود المعلق نحو وجود و هو موجود قبل وجود المعلق عليه على نحو التعليق؛ لا أنه ليس بموجود أصلا فيقال: إن الحرمة التعليقية كانت موجودة قبل تحقق الشرط و هو الغليان على نحو التعليق، فتستصحب عند الشك في بقائها عند عروض حالة على الموضوع كعنوان الزبيبية على العنب؛ إذ لا يعتبر في الاستصحاب إلا اليقين بحدوث شيء و الشك في بقائه، و هذا موجود في الحكم المعلق.

فقوله: «فاسد» خبر «توهم» و دفع له و محصله: أنه يعتبر في الاستصحاب الوجودي أن يكون المستصحب موجودا في الوعاء المناسب له من الخارج أو الاعتبار، و من الفعلي و الإنشائي، و لا يعتبر خصوص الوجود الفعلي في كل استصحاب، فإذا كان المستصحب موجودا إنشائيا، و كانت فعليته منوطة بشرط غير حاصل و شك في بقائه بسبب طروء حالة على موضوعه جاز استصحابه لكون الوجود الإنشائي من الموجودات الاعتبارية المشروطة التي يصح استصحابها إذا شك في بقائها، و يشهد بكون الحكم المعلق موجودا جواز نسخها و إبقائها في لسان الدليل.

و بالجملة: فالوجود المعلق لا يعد معدوما، و لذا يصح أن يقال: إن الحرمة المعلقة على الغليان ثابتة لماء العنب و غير ثابتة لماء الرمان و غيره من مياه الفواكه.

و افتقار الحكم التعليقي من التكليفي و الوضعي إلى إنشاء من بيده الاعتبار أقوى شاهد على أن له خطا من الوجود في مقابل عدمه المطلق؛ إذ لو لم يوجد شيء بالإنشاء و لم ينتقض به العدم كان الإنشاء لقلقة اللسان.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) يعني: أن المنفي قبل وجود المعلق عليه كالغليان إنما هو الوجود الفعلي أي: غير المشروط بشيء دون مطلق الوجود و لو بنحو التعليق و الاشتراط، كما هو مقتضى

ص: 322

و لو (1) بنحو التعليق.

كيف (2)؟ و المفروض (3): أنه مورد فعلا للخطاب بالتحريم مثلا أو الإيجاب، فكان (4) على يقين منه قبل طروء الحالة، فيشك فيه بعده، و لا يعتبر (5) في الوجوب و الحرمة المشروطين بشرط على ما هو ظاهر الخطابات المشروطة، و مختار المصنف «قدس سره» كما تقدم في الواجب المشروط.

=============

و ضمير «قبله» راجع إلى «وجود ما علق عليه»، و ضمير «أنه» راجع على «المعلق» المراد به الحكم.

(1) كلمة «لو» وصلية و قيد للمنفي، يعني: لا أن الحكم المعلق ليس له حظ من الوجود أصلا حتى الوجود التعليقي.

(2) غرضه: إقامة الشاهد على كون الحكم المعلق موجودا لا معدوما يعني: كيف لا يكون للحكم المعلق وجود أصلا، مع وضوح تعلق الخطاب به بمثل قوله: «ماء العنب إذا غلى يحرم»، فبهذا الخطاب ينشأ الحكم التحريمي معلقا على الغليان، و من المعلوم: أن المنشأ قبل الإنشاء معدوم، فلو لم يوجد بالإنشاء كان الإنشاء لغوا. نعم؛ الموجود به وجود معلق، و هو في وعاء الاعتبار نحو وجود، و إذا تعلق اليقين و الشك بهذا النحو من الوجود صار من صغريات كبرى الاستصحاب فيشمله دليله.

(3) أي: أن الحكم المعلق يعني: و المفروض: أن الحكم المعلق مورد فعلا للخطاب الإنشائي بالتحريم كالحرمة المعلقة على الغليان، أو إنشاء الملكية لشخص بعد موت الموصي، فإن الملكية الفعلية للموصى له غير حاصلة؛ لكن الملكية المعلقة على موت الموصى موجودة في وعاء الاعتبار، و ربما توجب هذه الملكية المعلقة اعتبارا و وجاهة للموصى له عند العقلاء لم تكن له هذه الوجاهة قبل الوصية.

(4) بعد أن بيّن أن للحكم المعلق على وجود شرط نحو وجود و ليس من المعدوم المطلق أراد أن يذكر كيفيّة جريان الاستصحاب فيه، و قال: إنه كان على يقين من الحكم المعلق قبل طروء الحالة كالزبيبية على العنب، فيشك في ذلك الحكم المعلق بعد عروض تلك الحالة، فضميرا «منه، فيه» راجعان إلى «المعلق»، و يمكن رجوعهما إلى الخطاب بالتحريم مثلا أو الإيجاب، تحفظا على إرجاع الضمير إلى القريب، و إلا فالمفاد واحد.

و ضمير «بعده» راجع إلى «طروء».

(5) يعني: و لا يعتبر في صدق الاستصحاب غير اليقين بثبوت شيء و الشك في بقائه، و ذلك موجود في المقام، لليقين بالحكم المعلق على أمر غير حاصل، و الشك في بقائه لتغير حال من حالات الموضوع.

ص: 323

الاستصحاب إلا الشك في بقاء شيء كان على يقين من ثبوته. و اختلاف (1) نحو ثبوته لا يكاد يوجب تفاوتا في ذلك (2).

و بالجملة: يكون الاستصحاب متمما لدلالة الدليل (3) على الحكم فيما أهمل أو فغرضه من قوله «قدس سره»: «و لا يعتبر في الاستصحاب» تطبيق ما يعتبر في الاستصحاب من اليقين و الشك في البقاء في المقام، و أن المقتضي لجريان الاستصحاب في الحكم التعليقي موجود كالحكم الفعلي، و اختلاف كيفية ثبوت الحكم و وجوده من حيث الفعلية و التعليقية ليس مانعا عن جريان الاستصحاب في الأحكام المعلقة، فإن وجود كل شيء بحسبه.

=============

(1) إشارة إلى ما ذكرناه من عدم مانعية تعليقية الحكم عن جريان الاستصحاب التعليقي، و أن اختلاف نحو ثبوت الحكم من حيث الفعلية و التعليقية لا يوجب تفاوتا في أركان الاستصحاب، و ضمير «ثبوته» في الموضعين راجعان إلى «شيء».

(2) أي: في اليقين و الشك اللذين هما ركنا الاستصحاب. و في المقام تطويل في الكلام تركناه رعاية للاختصار.

(3) بعد إثبات جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي كجريانه في الحكم الفعلي نبّه على فائدة جريان الاستصحاب في جميع الموارد و منها المقام، و محصله: أنه إذا ثبت حكم مطلق أو مشروط لموضوع فاقد لإطلاق يشمل جميع حالاته، و شك في ثبوت ذلك الحكم لبعض حالاته المتبادلة، كان الاستصحاب متمما لقصور دلالة الدليل و مثبتا للحكم في ظرف عدم دلالة دليله، فالاستصحاب متمم شمولي لدلالة الدليل الاجتهادي المثبت لحكم لا يكون لدليله إطلاق يشمل جميع حالات الموضوع، فالاستصحاب بمنزلة إطلاق الدليل في إثبات الحكم الثابت بالدليل الاجتهادي لموضوع في الجملة لذلك الموضوع في حالاته المتبادلة.

و على هذا: فالحرمة المعلقة على غليان ماء العنب لو شك فيها - لأجل تبدل حال العنبية بالزبيبية و فرض عدم دلالة دليل الحرمة على شمول الحكم لحال الزبيبية - يجري فيها الاستصحاب، كما يجري في أحكامه المطلقة كالملكية و جواز الأكل و غيرهما من الأحكام الفعلية لو فرض شك فيها لطروء حال كالزبيبية على العنب.

و لا يخفى: أن ما أفاده بقوله: «و بالجملة» كان مما لا بد منه لإثبات حجية الاستصحاب في الأحكام المعلقة، و قد نبّه عليه في حاشية الرسائل أيضا بعنوان مقدمة الاستدلال، و لم يتعرض له الشيخ «قدس سره»، و لعله لوضوح الأمر.

ص: 324

أجمل (1) كان (2) الحكم مطلقا أو معلقا، فببركته يعم الحكم للحالة الطارئة (3) اللاحقة كالحالة السابقة، فيحكم - مثلا - بأن العصير العنبي يكون على ما كان عليه سابقا في حال عنبيته (4) من أحكامه المطلقة و المعلقة (5) لو شك فيها، فكما يحكم (6) ببقاء ملكيته يحكم بحرمته على تقدير غليانه.

=============

و كيف كان؛ فالأولى تبديل قوله: «و بالجملة» إلى ما يدل على التعليل، بأن يقال:

«لأن الاستصحاب متمم لدلالة الدليل على الحكم...» الخ. و ذلك بظهور: «بالجملة» في كونه خلاصة لما تقدم، مع أنه لم يسبق منه هذا المطلب حتى يكون «و بالجملة» خلاصة له.

(1) الإهمال هو: كون المتكلم في مقام الجعل و التشريع فقط، من دون تعرض للخصوصيات الدخيلة فيه، و الإجمال هو: عدم بيان المراد للمخاطب و تأديته بلفظ قاصر عن تأديته؛ كتكلمه بلفظ مجمل لاشتراكه بين معنيين أو معان مع عدم نصب قرينة معينة على مراده.

(2) يعني: سواء كان ذلك الحكم الثبات بالدليل المهمل أو المجمل مطلقا أي: فعليا، أم معلقا أي: مشروطا، فببركة الاستصحاب يصير الحكم عاما لحالات الموضوع، و ضمير «فببركته» راجع إلى الاستصحاب.

(3) كالزبيبية، و المراد بالحالة السابقة هي: الوصف الأوّلي كالعنبية.

و بالجملة: فالاستصحاب يثبت الحكم المطلق كالملكية أو المعلق كالحرمة للزبيب بعد أن كان نفس الدليل الاجتهادي قاصرا عن إثباتهما للزبيب لاختصاص دلالته بالعنب الذي هو مورده.

قوله «فيحكم» نتيجة تعميم الحكم ببركة الاستصحاب الذي هو بمنزلة الإطلاق الأحوالي للدليل الاجتهادي.

(4) التي هو مورد الدليل الدال على أحكامه المطلقة و المعلقة. و قوله: «من أحكامه» بيان ل «ما» الموصول.

(5) المطلقة كالملكية و جواز الأكل و غيرهما من التصرفات الاعتبارية و الخارجية، و المعلقة كالحرمة المشروطة بالغليان، و كوجوب الزكاة المشروط بالنصاب فيما إذا شك في وجوبها؛ لصيرورة النصاب كلا أو بعضا متعلقا للرهن.

(6) غرضه: أن وزان الحكم المعلق وزان الحكم المطلق في جريان الاستصحاب، و التعليقية من حيث هي ليست مانعة عن جريانه ما لم تقدح في أركان الاستصحاب من اليقين و الشك و غيرهما.

ص: 325

إن قلت: نعم (1)؛ و لكنه لا مجال لاستصحاب المعلق لمعارضته باستصحاب ضده المطلق، فيعارض استصحاب الحرمة المعلقة للعصير باستصحاب حليّته المطلقة (2).

قلت: (3) لا يكاد يضر استصحابه على نحو كان قبل عروض الحالة التي شك في هذا ما يتعلق بالوجه الأول على عدم حجية الاستصحاب التعليقي و جوابه. و هناك تطويل في الكلام تركناه رعاية للاختصار.

=============

(1) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الوجوه التي احتج بها المنكرون لحجية الاستصحاب التعليقي، و هو يرجع إلى وجود المانع عن حجيته، و محصله: أن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب الحكم الفعلي الذي هو ضد الحكم المعلق، فلا أثر لهذا الاستصحاب التعليقي مع ابتلائه دائما بالمعارض، ففي مثال العصير الزبيبي يكون حكمه الفعلي الثابت له قبل عروض الزبيبية للعنب هو الإباحة، و بعد عروضها كما تستصحب حرمته المعلقة على الغليان كذلك تستصحب حليته المطلقة الثابتة له قبل الزبيبية، و بعد تعارض الاستصحابين يرجع إلى قاعدة الحل.

ففي جميع موارد الاستصحابات التعليقية يكون الحكم الفعلي المعارض للحكم المعلق ثابتا؛ لعدم خلو الموضوع قبل حصول المعلق عليه عن الحكم لا محالة.

و عليه: فقوله: «نعم» تصديق لاجتماع أركان الاستصحاب في الاستصحاب التعليقي، و أن الثبوت التقديري لا يوجب تفاوتا في أركان الاستصحاب كما توهمه المتوهم.

و لكنه مع ذلك لا مجال لاستصحاب الحكم المعلق لابتلائه بالمعارض دائما، فهذا الوجه راجع إلى وجود المانع عن الحجية، كما أن الوجه السابق كان راجعا إلى عدم المقتضي لها، و ضمير «لكنه» للشأن، و ضمير «لمعارضته» راجع إلى «استصحاب»، و ضمير «ضده» إلى المعلق، و ضمير «حليته» إلى «العصير»، و قوله: «باستصحاب» متعلق ب «فيعارض».

(2) أي: غير المشروطة بشيء، و هي التي كانت ثابتة له قبل الغليان فتستصحب للشك في ارتفاعها بالغليان.

(3) هذا إشارة إلى دفع الوجه الثاني من الوجوه المانعة عن حجية الاستصحاب التعليقي، و الجواب عنه، و حاصله: أن كل حكمين متضادين أنيط أحدهما بشيء فلا بد أن يناط الآخر بنقيضه؛ لاقتضاء تضاد الحكمين ذلك، كحرمة النكاح المنوطة بالرضاع بشرائطه المقررة، فلا محالة تكون حلية النكاح منوطة بعدم الرضاع، فيكون الرضاع غاية لحلية النكاح بهذا النحو.

ص: 326

بقاء حكم المعلق بعده (1)، ضرورة (2): أنه (3) كان مغيّا بعدم ما علق عليه المعلق، و ما كان كذلك (4) لا يكاد يضر ثبوته بعده بالقطع فضلا عن الاستصحاب؛ لعدم (5) ففي مثال العنب كما يكون الغليان غاية لحليته في حال كونه عنبا، و شرطا لحرمته في تلك الحالة، كذلك يكون غاية و شرطا لهما في حال الزبيبية، فكما يصح اجتماع الحلية المغياة بالغليان مع الحرمة المعلقة عليه قطعا من دون تضاد بينهما في حال العنبية، فكذلك يصح بقاؤهما في حال الزبيبية استصحابا من غير تضاد بينهما أصلا.

=============

و عليه: فاستصحاب الحرمة المعلقة يوجب انتفاء الإباحة مع فرض وجود الغليان خارجا الذي هو شرط الحرمة، و غاية أمد الحلية، فليس حكم فعلي إلاّ الحرمة، فلا مجال لاستصحاب الحلية الفعلية حتى يعارض استصحاب الحرمة المعلقة.

(1) أي: بعد عروض الحالة.

و ضمير «استصحابه» راجع إلى «ضده» يعني: لا يكاد يضر استصحاب ضده المطلق - و هو الحلية - في مثال العنب على نحو كان قبل عروض حالة الزبيبية مثلا الموجبة للشك في بقاء الحكم المعلق و هو الحرمة بعد عروض حالة الزبيبية، و المراد بقوله: «على نحو» هو الحلية المغياة بالغليان، و من المعلوم: ارتفاع الحلية بهذا النحو بحصول غايته.

(2) تعليل لقوله: «لا يكاد يضر»؛ و حاصله: أن الضرر إنما يكون بين الحل و الحرمة إذا كانا مطلقين أو مشروطين بشيء واحد.

و أما إذا لم يكونا كذلك - بأن كان أحدهما مطلقا و الآخر مشروطا، أو كان أحدهما مشروطا بأمر وجودي و الآخر بنقيضه كمثال العنب، حيث إن حرمته مشروطة بالغليان و حليّته منوطة بعدم الغليان - فلا ضير في اجتماعهما؛ لعدم تضادهما أصلا، بداهة:

جواز اجتماع حلّية العنب منوطة بعدم الغليان مع حرمته المعلقة على الغليان، و عدم تنافيهما أصلا مع العلم بهما بهذا النحو فضلا عن ثبوتهما بالاستصحاب.

(3) أي: أن ضده المطلق و هو الحلية: يعني: أن الحلية كانت مغياة بعدم الغليان الذي علق عليه الحرمة، و الحكم المغيّى بعدم الغليان لا يضر ثبوته بعد عروض الحالة؛ كالزبيبية للعنب بالقطع الوجداني فضلا عن التعبد الاستصحابي.

(4) أي: كان مغيّا بعدم ما علق عليه الحكم بالحرمة.

و ضميرا «ثبوته، عليه» راجعان إلى «ما» الموصول، و ضمير «بعده» إلى عروض الحالة، و «بالقطع» متعلق ب «ثبوته»، و «المعلق» صفة للحكم المحذوف المراد به الحرمة في المثال.

(5) تعليل لقوله: «لا يكاد يضر ثبوته»، و قد اتضح آنفا وجه عدم المضادة بينهما؛

ص: 327

المضادة بينهما، فيكونان (1) بعد عروضها بالاستصحاب كما كانا (2) معا بالقطع قبل (3) بلا منافاة أصلا و قضية ذلك (4) انتفاء حكم المطلق بمجرد ثبوت ما علق عليه المعلق، فالغليان في المثال كما كان شرطا للحرمة كان غاية للحلية، فإذا شك (5) في حرمته المعلقة بعد عروض حالة عليه شك (6) في حليته المغياة لا محالة أيضا (7)، لاشتراط الحل بعدم الغليان و الحرمة بوجوده. و ضمير «بينهما» راجع على الحلية المغياة بعدم الغليان و الحرمة المعلقة على الغليان.

=============

(1) هذا متفرع على اشتراط الحكمين، يعني: فيكون الحل المغيّى بالغليان و الحرمة المشروطة به - بعد عروض وصف الزبيبية الموجب للشك - مجتمعين بالاستصحاب كما كانا مجتمعين بالقطع للعنب قبل عروض حالة الزبيبية عليه. و ضمير «عروضها» راجع إلى «الحالة»، و قوله: «بالاستصحاب» متعلق ب «فيكونان».

(2) خبر «فيكونان» يعني: فيكون وجود الحكمين بالاستصحاب بعد عروض حالة الزبيبية كوجودهما معا بالقطع قبل عروض وصف الزبيبية بلا منافاة بينهما أصلا كما مر آنفا، و «بالقطع» متعلق ب «كانا».

(3) أي: قبل عروض الحالة الزبيبية، و «بلا منافاة» متعلق ب «كانا».

(4) أي: كون الحل مغيّا بالغليان و الحرمة مشروطة به يقتضي انتفاء الحكم المطلق و هو الحل بمجرد ثبوت ما علق عليه الحرمة و هو الغليان، حيث إنه كما يكون شرطا للحرمة كذلك يكون غاية لأمد الحلية، فوجود الغليان رافع للحلية و موجب للحرمة.

(5) هذا من نتائج غائية الغليان للحلية و شرطيته للحرمة، و حاصله: أنه إذا شك في حرمته المعلقة على الغليان بعد طروء الزبيبية على العنب كان ذلك مساوقا للشك في بقاء حليته المغياة به؛ إذ مرجع الشك إلى أن الغليان في حال الزبيبية هل هو شرط و غاية كما كان كذلك في حال العنبية أم لا؟ ففي حال الزبيبية يشك في حليته و حرمته بعد الغليان للشك في شرطيته و غائيته في حال الزبيبية.

(6) جواب «إذا»، و الملازمة بين هذين الشكين نشأت من وحدة و زان شرطية الغليان للحرمة و غائيته للحلية، فإن كان ثبوتهما له في حال الزبيبية كثبوتهما له في حال العنبية فلا إشكال في ثبوت الحرمة الفعلية له بمجرد الغليان؛ و إلاّ بأن شك في ثبوتهما له في حال الزبيبية كان الحكم الفعلي من الحلية و الحرمة مشكوكا فيه.

(7) يعني: كالشك في الحرمة؛ لما عرفت: من الملازمة بين الشكين.

و قوله: «لا محالة» إشارة إلى الملازمة، و ضميرا «حليته، حرمته» راجعان إلى العصير،

ص: 328

فيكون الشك في حليته أو حرمته فعلا بعد عروضها متحدا (1) خارجا مع الشك في بقائه على ما كان عليه من الحلية و الحرمة بنحو كانتا (2) عليه، فقضية (3) استصحاب حرمته المعلقة بعد عروضها الملازم (4) لاستصحاب حليته المغياة حرمته فعلا بعد غليانه و ضمير «عروضها» إلى «حالة»، و «بعد عروضها» متعلق ب «شك».

=============

(1) يعني: أن الشك في الحكم الفعلي من الحلية و الحرمة - بعد طروء الزبيبية مثلا على العنب متحد خارجا مع الشك في بقاء العنب على ما ثبت له من الحلية المغياة و الحرمة المعلقة، و الاختلاف بينهما إنما هو في كون أحدهما بلحاظ الحالة السابقة دون الآخر.

و قوله: «متحدا» إشارة إلى ردّ الحكومة التي أفادها الشيخ «قدس سره» جوابا عن إشكال معارضة الاستصحاب التعليقي مع الاستصحاب التنجيزي، و سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى عند التعرض لحاشية المصنف على المقام.

(2) أي: كانت الحرمة و الحلية على النحو المزبور، و هو كون الحرمة معلقة على الغليان و الحلية مغياة به، و ضمير «بقائه» راجع إلى العصير، و ضمير «عليه» إلى «ما» في قوله: «ما كان عليه».

(3) هذه نتيجة شرطية الغليان للحرمة و غائيته للحلية، فإنه بعد عروض وصف الزبيبية للعنب و تحقق الغليان خارجا يكون مقتضى استصحاب حرمته المعلقة فعلية الحرمة و انتفاء الحلية؛ لأنه مقتضى استصحاب حليته المغياة بغاية متحققة خارجا كما هو المفروض.

و لا يخفى: أنه يستفاد من قوله: «فقضية استصحاب حرمته إلى قوله». «و انتفاء حليته» الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها المنكرون لحجية الاستصحاب التعليقي.

و محصله: أن الاستصحاب التعليقي من الأصول المثبتة التي لا نقول باعتبارها.

بيانه: أن الحرمة المعلقة حكم شأني، و ليست حكما فعليا حتى تكون بنفسها موردا للاستصحاب، و لا موضوعا ذا أثر شرعي حتى يجري فيه الاستصحاب. نعم؛ بقاء الحرمة المعلقة إلى أن يصير زبيبا غالبا مستلزم عقلا لفعلية الحرمة. و ضمير «حرمته» راجع إلى العصير، و ضمير «عروضها» إلى «حالة».

(4) صفة ل «استصحاب حرمته». وجه الملازمة: هو شرطية الغليان للحرمة و غائيته للحلية، و استصحاب الحلية المغياة يقتضي ارتفاعها بمجرد حصول الغاية، و كون الحكم الفعلي هي الحرمة.

ص: 329

و انتفاء (1) حليته، فإنه (2) قضية نحو ثبوتهما كان (3) بدليلهما أو بدليل الاستصحاب كما لا يخفى بأدنى التفات على ذوي الألباب، فالتفت و لا تغفل.

=============

(1) معطوف على «حرمته» التي هي خبر «فقضية». و ضمائر «حليته، غليانه، حليته» راجعة إلى العصير، و «بعد غليانه» قيد لفعلية حرمته.

(2) يعني: أن ما ذكر من ثبوت الحرمة الفعلية و انتفاء الحلية المغياة هو مقتضى كيفية جعل الحكمين؛ إذ لازم شرطية الغليان للحرمة و غائيته للحلية هو ذلك، و هذا إشارة إلى جواب الوجه الثالث، و محصله.

أن اللوازم على قسمين:

أحدهما: لوازم الشيء بوجوده الواقعي كحكم العقل بضدية الأضداد الوجودية للصلاة و استحالة اجتماعها معها كضدية النوم و الأكل مثلا للصلاة، فإن الصلاة بوجودها الواقعي مضادة لهما.

ثانيهما: لوازم الشيء بمطلق وجوده من الواقعي و الظاهري؛ كحكم العقل بلزوم الامتثال للتكليف الثابت و لو بأمارة غير علمية أو أصل، و وجوب المقدمة و حرمة الضد بناء على كونهما من الأحكام العقلية.

فإن كانت اللوازم العقلية من قبيل القسم الأول لم يكن الأصل الجاري في الملزوم مثبتا لها إلاّ على القول بحجية الأصل المثبت.

و إن كانت من قبيل القسم الثاني كان الأصل الجاري في ملزوماتها مثبتا لها بلا إشكال، و الحرمة الفعلية المذكورة و إن كانت من اللوازم العقلية، لكنها من القسم الثاني الثابت لما هو أعم من الواقع و الظاهر، فتترتب على الحرمة المعلقة بالغليان مطلقا، من غير فرق بين ثبوتها بالدليل كقوله: «ماء العنب إذا غلى يحرم»، أو بالأصل كاستصحاب حرمته المعلقة بعد صيرورته زبيبا، و سيأتي التفصيل إن شاء الله تعالى في الأصل المثبت.

(3) يعني: سواء كان ثبوت الحكمين - اللذين أحدهما مشروط و الآخر مغيّا - بدليل اجتهادي أم أصل عملي كالاستصحاب.

و غرضه: الإشارة إلى كون الحرمة الفعلية من اللوازم العقلية لمطلق وجود الحرمة المعلقة أي: الأعم من الوجود الواقعي و الظاهري فلا مانع من ترتبها على الحرمة المعلقة، الثابتة بالدليل الاجتهادي كما عرفت غير مرة.

و هناك تطويل في الكلام تركناه رعاية للاختصار.

ص: 330

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان ما هو محل الكلام في المقام فنقول: إن الحكم تارة: يكون فعليا من جميع الجهات، و أخرى: يكون فعليا من بعض الجهات دون بعض، و يعبّر عن الأول: بالحكم التنجيزي، و عن الثاني: بالحكم التعليقي تارة و بالحكم التقديري أخرى، و محل الكلام في هذا التنبيه الخامس هو: جريان الاستصحاب في القسم الثاني بعد القول بجريانه في القسم الأول و هو الحكم التنجيزي.

2 - العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام على ثلاثة أقسام:

الأول: أخذ العنوان لمجرد الإشارة إلى حقيقة المعنون بلا دخل للعنوان في ثبوت الحكم كقولنا: «الحنطة حلال»، فيفهم من الدليل الحكم بالحلية حتى مع تبدل حالات الحنطة كصيرورتها دقيقا أو خبزا أو نحوهما.

الثاني: أن يكون الأمر بعكس ذلك بمعنى يفهم من نفس الدليل: أن الحكم يدور مدار العنوان؛ كما في حرمة الخمر فإنها تابعة لصدق عنوان الخمر، فتنفي بانتفاء العنوان.

الثالث: لا يستفاد أحد الأمرين من نفس الدليل، فنشك في بقاء الحكم بعد تبدل العنوان لاحتمال مدخلية العنوان في ترتب الحكم؛ كالتغير المأخوذ في نجاسة الماء، فإنه لا يعلم أن النجاسة دائرة مدار التغير حدوثا و بقاء أو أنها باقية بعد زوال التغير أيضا؛ لكونه علة لحدوثها فقط. و هذا القسم هو محل الكلام في جريان الاستصحاب.

3 - أن البحث في الاستصحاب التعليقي ذو أثر كبير في باب الفقه للتمسك به في موارد كثيرة منها: استصحاب حرمة العصير العنبي بعد غليانه إذا شك فيها بعد زوال عنوانه و تبدله إلى زبيب، فيقال: إنه لا إشكال في حرمة ماء العنب إذا غلى قبل أن يذهب ثلثاه، و إنما الإشكال فيما إذا صار العنب زبيبا هل كان استصحاب الحرمة التعليقية جاريا فيحرم عند تحقق الغليان أم لا؟ بل تستصحب الإباحة السابقة التي كانت لماء الزبيب قبل الغليان.

4 - و في المسألة قولان؛ قول لصاحب الكفاية حيث يقول: بجريان الاستصحاب التعليقي، و ذكر في تقريبه: أن قوام الاستصحاب من اليقين بالحدوث و الشك في البقاء متحقق في الأحكام التعليقية؛ لأن غاية ما يقال في نفيه و عدم جريانه هو: أن الحكم التعليقي لا وجود له قبل وجود ما علق عليه فلا يقين بحدوثه، و هذا قول فاسد؛ لأنه لا

ص: 331

السادس (1):

=============

وجود له فعلا قبل الشرط لا أنه لا وجود له أصلا و لو بنحو التعليق فالوجه في حجية الاستصحاب التعليقي هو اجتماع أركانه فيه من اليقين السابق و الشك اللاحق.

5 - استدل القائل بعدم حجية الاستصحاب التعليقي بوجوه:

الأول: عدم المقتضي.

الثاني: عدم اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة.

الثالث: أنه معارض باستصحاب الإباحة و الحلية الثابتة قبل الغليان، فبعد التساقط بالتعارض يكون المرجع قاعدة الحل و الطهارة.

الرابع: أنه من الشك في المقتضي و الاستصحاب غير معتبر فيه.

6 - و أما الجواب عن هذه الوجوه: فإن الوجه الأول مردود من جهة أن الملاك في جريان الاستصحاب هو كون الحكم المستصحب بيد الشارع، من دون فرق بين الشك في الرافع أو في المقتضي.

و الحكم المستصحب في الاستصحاب التعليقي يكون جعله بيد الشارع، فيجري الاستصحاب لوجود الملاك.

و أما عن الوجه الثاني: فمن جهة منع عدم الاتحاد بين القضيتين؛ لأن عنوان العنبية و الزبيبية يكون من حالات الموضوع لا من مقوماته.

و أما الجواب عن الوجه الثالث: فبأن استصحاب الحرمة التعليقية حاكم على استصحاب الإباحة و الحلية؛ لأن الشك في الإباحة ناش عن الشك في الحرمة التعليقية، فبعد استصحاب الحرمة لا شك في الإباحة.

و أما الجواب عن الوجه الرابع: فلا اعتبار الاستصحاب في مورد الشك في المقتضي.

مع أن الشك يكون في الرافع لا في المقتضي.

7 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو حجية استصحاب الحكم التعليقي.

التنبيه السادس في استصحاب عدم النسخ

(1) الغرض من عقد هذا التنبيه السادس: هو تعميم حجية استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى كل حكم إلهي، سواء كان من أحكام هذه الشريعة أم من أحكام الشرائع السابقة.

و قبل الخوض في أصل البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام في المقام، و توضيح

ص: 332

ذلك يتوقف على مقدمة و هي بيان أمرين:

أحدهما: أن في أحكام الشرائع السابقة احتمالات:

الأول: أن يكون حكم من أحكامها مما قام الدليل على بقائه و عدم نسخه.

الثاني: أن يكون مما قام الدليل على نسخه و عدم بقائه في هذه الشريعة.

الثالث: أن يكون مما لا تعرّض له في هذه الشريعة لا نفيا و لا إثباتا.

هذا الأخير هو محل الكلام.

ثانيهما: أن حقيقة النسخ عندنا لما كانت تقييد الحكم زمانا و كان دليل النسخ كاشفا عن انتهاء أمده، فلا يجري استصحاب عدم النسخ إلاّ بعد فرض أمرين، أحدهما:

فقدان الإطلاق الأزماني لدليل الحكم، ثانيهما: ثبوت الحكم في الشريعة السابقة بنحو القضية الحقيقية لعامة المكلفين؛ لا لخصوص تلك الملة.

أما الأمر الأول: فلأنه لو كان لدليل الحكم إطلاق أزماني كان هو المرجع عند الشك في النسخ لا الاستصحاب، لحكومته على الاستصحاب.

و بيانه: أن حكم الشريعة السابقة إما أن يكون وافيا بإثباته لعامة المكلفين في جميع الأزمنة للتصريح بإطلاقه الأزماني، أو ما هو كالصريح فيه، و في مثله لا يحتمل النسخ، و هذا نظير وجوب أصل الصلاة و الصوم و نحوهما من الفرائض و إما أن يكون دليله وافيا بإثباته للعموم إلى الأبد بإطلاقه المستند إلى مقدمات الحكمة، و في مثله يحتمل النسخ بالشريعة اللاحقة، إلاّ إن الدافع لاحتمال النسخ هو الإطلاق لا الاستصحاب، و نسخه منوط بورود الناسخ الذي هو مقيد لإطلاق الخطاب زمانا.

و إما أن يكون متكفلا لثبوت الحكم في تلك الشريعة بنحو الإجمال كبعض الآيات الواردة لبيان أصل تشريع الأحكام بلا نظر خصوصياتها، كقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (1) حيث إنها ليست في مقام بيان تمام ما له الدخل في الصوم، فلو ثبت أصل الحكم في شريعة سابقة و شك في نسخه في الشريعة اللاحقة فيحث إنه لا إطلاق له حتى بمعونة المقدمات كان مورد النزاع في المقام من حيث جريان الاستصحاب فيه و عدمه.

و أما الثاني: - أعني: اعتبار أن يكون الحكم ثابتا بنحو القضية الحقيقية - فلأنه مع

ص: 333


1- البقرة: 183.

لا فرق أيضا (1) بين أن يكون المتيقن من أحكام هذه الشريعة أو الشريعة السابقة ثبوته للمكلفين بنحو القضية الخارجية لا يجري فيه الاستصحاب إذا شك في بقائه لأشخاص آخرين؛ لاختلاف الموضوع حينئذ، و كونه من تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر، و من المعلوم: أنه أجنبي عن الاستصحاب، فلا تعمه أدلته.

=============

مثلا: إذا ورد حكم في التوراة بعنوان «يا أيها اليهود» و نحوه، فليس للمسلم استصحاب ذلك الحكم؛ لتعدد الموضوع، إلاّ إذا أحرز كون اليهود عنوانا مشيرا إلى كل مكلف.

ثم إن الفرق بين هذا البحث و ما سيأتي في التنبيه الثاني عشر من استصحاب النبوة هو: أن المقصود بالبحث في هذا التنبيه استصحاب بعض أحكام الشريعة السابقة بعد اليقين بورود شريعة أخرى؛ للشك في أن المنسوخ جميع الأحكام أو بعضها، بخلافه في التنبيه الثاني عشر؛ إذ المقصود بالبحث فيه إثبات عدم منسوخية الشريعة السابقة، و إنكار تشريع دين آخر، كإنكار اليهود بعثة نبينا «صلى الله عليه و آله و سلم» اعتمادا على استصحاب نبوة موسى «عليه السلام»، على تقدير إرادة الأحكام الفرعية من النبوة لا نفس الصفة الملكوتية القائمة بنفس النبي، و سيأتي تفصيله هناك إن شاء الله تعالى.

و كيف كان؛ فيقع الكلام في أنه هل تستصحب أحكام الشرائع السابقة أم لا؟

فيه خلاف، و اختار صاحب الكفاية وفاقا للشيخ الأنصاري استصحاب أحكام الشريعة السابقة؛ و ذلك لتمامية أركان الاستصحاب من اليقين السابق بالحكم، و الشك اللاحق، فيستصحب لعدم اختصاص أدلة الاستصحاب بما إذا كان المستصحب حكما محتمل النسخ من شرائع الإسلام؛ بل يجري فيما إذا كان حكما محتمل النسخ من أحكام الشرائع السابقة أيضا، و ذلك لوجود المقتضي و فقد المانع على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى؛ و خالف فيه جمع كالمحقق في الشرائع و صاحبي القوانين و الفصول على ما حكي عنهما.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) يعني: كما لا فرق في اعتبار الاستصحاب بين كون المستصحب حكما فعليا و تعليقيا، كذلك لا فرق في اعتباره بين كون الحكم المشكوك نسخه من أحكام هذه الشريعة، و بين كونه من أحكام الشرائع السابقة إذا شك في نسخه في هذه الشريعة المقدسة.

ص: 334

إذا شك في بقائه و ارتفاعه بنسخه (1) في هذه الشريعة لعموم (2) أدلة الاستصحاب.

و فساد (3) توهم اختلال أركانه فيما كان المتيقن من أحكام الشريعة السابقة لا

=============

(1) متعلق بقوله: «و ارتفاعه» يعني: أن يكون الشك في ارتفاعه بسبب نسخه في هذه الشريعة، لا بسبب آخر كتبدل حال من حالات الموضوع مثلا، فإن ذلك أجنبي عن الشك في النسخ، فالشك في النسخ إنما يكون مع تمامية الموضوع و وجود جميع ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا.

(2) تعليل لقوله: «لا فرق»، و غرضه: إقامة الدليل على حجية استصحاب عدم النسخ في أحكام الشرائع السابقة؛ كحجيته في أحكام هذه الشريعة، فقد استدل المصنف بقوله: «لعموم أدلة الاستصحاب» على حجية الاستصحاب في أحكام الشرائع السابقة.

و محصله: أن أركان الاستصحاب - و هي اليقين السابق و الشك اللاحق و وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة و كون المستصحب حكما شرعيا - موجودة في استصحاب الشرائع السابقة، فتشمله أدلته، لكونه من أفراد عموم مثل: «لا تنقض اليقين بالشك».

و قد استدل الشيخ «أعلى الله مقامه» بوجود المقتضي و فقد المانع و هو حق.

و كيف كان؛ فالمصنف «قدس سره» يدعي عموم أدلة الاستصحاب و عدم المانع عن شمولها لاستصحاب الشرائع السابقة، و ينكر صحة الوجوه التي تمسك بها المنكرون لحجيته.

(3) عطف على «عموم» أي: «لفساد توهم...» الخ. هذا إشارة إلى أول الوجوه التي احتج بها المنكرون لحجية استصحاب عدم النسخ في أحكام الشرائع السابقة.

و حاصل هذا الوجه هو: أن المقتضي لجريان استصحاب عدم النسخ فيها مفقود؛ لاختلال أحد ركنيه من اليقين السابق أو الشك اللاحق. أما الأول: فإن من ثبت في حقه الحكم يقينا قد انعدم، و المكلف الموجود الشاك في النسخ لم يعلم ثبوت الحكم في حقه من الأول؛ لاحتمال نسخه، فالشك بالنسبة إليه شك في ثبوت التكليف لا في بقائه بعد العلم بثبوته، ليكون موردا للاستصحاب، فيكون إثبات الحكم له إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر، و هذا ينفي اليقين بثبوت أحكام تلك الشرائع بالنسبة إلينا، فإن احتمال اختصاصها بأهل تلك الشرائع كاف في عدم حصول اليقين بثبوتها في حقنا، و الإخلال بأول ركني الاستصحاب.

و أما الثاني - أعني: اختلال الركن الثاني و هو الشك في البقاء - فلأن الشك في البقاء

ص: 335

الذي هو مورد الاستصحاب مفقود في أحكام الشرائع السابقة؛ للقطع بارتفاعها بعد ورود هذه الشريعة حيث إنها ناسخة لتلك الشرائع، و مع القطع بارتفاعها يختل ما هو قوام الاستصحاب أعني: الشك في البقاء.

و بالجملة: فلا مقتضي لاستصحاب عدم نسخ أحكام تلك الشرائع، إما لعدم اليقين بالحدوث بناء على تعدد الموضوع، و إما لعدم الشك في البقاء بناء على النسخ.

فالمتحصل: أن كلا ركني الاستصحاب من اليقين و الشك مفقود، و قد أشار إلى انتفاء الركن الأول بقوله: «إما لعدم اليقين بثبوتها في حقهم» و إلى انتفاء الركن الثاني بقوله: «فلا شك في بقائها أيضا»، يعني: كاليقين بثبوتها. و قد أشار إلى جواب التوهم و فساده بقوله «و ذلك...» الخ.

و محصل ما أجاب به عن هذا التوهم هو: أن اختلال اليقين مبني على تشريعها لأهل تلك الشريعة بنحو القضية الخارجية كقوله: «أكرم هؤلاء العشرة» حيث إن الموضوع حينئذ أشخاص معينون، فتختص تلك الأحكام بالأفراد الموجودة حال تشريعها، و لا تسري إلى غيرهم؛ لأنه حينئذ من تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر، و هو أجنبي عن الاستصحاب المتقوم بوحدة الموضوع، فالإشكال على الاستصحاب من ناحية اختلال اليقين في محله.

و أما إذا كان تشريعها بنحو القضية الحقيقية بحيث لوحظ في مقام الجعل كلي المكلف الصادق على جميع أفراده المحققة و المقدرة كقوله تعالى: وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (1) فلا تختص أحكام شريعة بأهلها؛ بل تعم غيرهم أيضا، فإذا شك غير أهلها في نسخ حكم من تلك الأحكام جرى فيه الاستصحاب؛ لكونه من أفراد طبيعي المكلف الذين شملتهم الخطابات الصادرة في تلك الشرائع، فاليقين بثبوتها لأهل هذه الشريعة حاصل، فلا يختل الركن الأول و هو اليقين بالثبوت، فلا مانع من هذه الجهة من جريان استصحاب عدم نسخ حكم من أحكام الشرائع السابقة. و قد أشار الشيخ إلى هذا الجواب الذي جعله جوابا ثانيا بقوله: «و حله: أن المستصحب هو الحكم الكلي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه، فإن الشريعة اللاحقة لا تحدث عند انقراض أهل الشريعة الأولى؛ إذ لو فرض وجود اللاحقين في السابق عمهم الحكم، و مثل هذا لو أثر في الاستصحاب لقدح في أكثر

ص: 336


1- آل عمران: 97.

محالة، إما لعدم اليقين بثبوتها في حقهم و إن علم بثبوتها سابقا في حق آخرين، فلا شك في بقائها أيضا بل (1) في ثبوت مثلها كما لا يخفى.

و إما (2) لليقين بارتفاعها (3) بنسخ الشريعة السابقة بهذه الشريعة، فلا شك (4) في بقائها حينئذ (5).

و لو (6) سلم اليقين بثبوتها في حقهم؛ و ذلك (7) لأن الحكم الثابت في الشريعة السابقة حيث كان ثابتا لأفراد المكلف كانت (8) محققة وجودا أو مقدرة كما...

=============

الاستصحابات، بل في جميع موارد الشك من غير جهة الرافع».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) يعني: بل الشك يكون في ثبوت مثل تلك الأحكام في حقنا لا في بقائها؛ إذ لازم عدم اليقين بثبوتها في حق أهل هذه الشريعة هو عدم كون الشك فيها شكا في بقائها بالنسبة إليهم، و من المعلوم: أنه مجرى الاستصحاب دون الشك في الحدوث، و ضميرا «بقائها، ثبوتها» راجعان إلى «أحكام».

(2) عطف على قوله: «إما لعدم اليقين»، و هذا إشارة إلى ثاني وجهي التوهم أعني:

اختلال الركن الثاني و هو الشك في البقاء، و قد تقدم توضيح ذلك في قولنا: «و أما الثاني...» الخ، فراجع.

(3) أي: بارتفاع أحكام الشريعة السابقة. و «بنسخ» متعلق ب «بارتفاعها» و «بهذه» متعلق ب «بنسخ».

(4) هذا متفرع على نسخ الشرائع السابقة بهذه الشريعة، حيث إن نتيجة النسخ القطع بعدم بقاء تلك الأحكام، و مع هذا القطع لا مقتضي لجريان الاستصحاب فيها، لانتفاء الشك في البقاء، و ضمير «بقائها» راجع على «أحكام».

(5) أي: حين اليقين بارتفاع الأحكام بسبب النسخ بهذه الشريعة.

(6) وصلية، يعني: و لو سلم وجود أوّل ركني الاستصحاب و هو اليقين السابق بثبوت تلك الأحكام لأهل هذه الشريعة كثبوتها لنفس أهل الشريعة السابقة؛ لكن الركن الثاني و هو الشك في البقاء مفقود؛ للقطع بارتفاعها بسبب النسخ، و مع علم أهل هذه الشريعة بارتفاعها بالنسخ يرتفع الشك في البقاء الذي هو أحد ركني الاستصحاب.

(7) أي: فساد التوهم. و قد تقدم توضيح الفساد و الجواب بقولنا: «و محصل ما أجاب به عن هذا التوهم» فراجع.

(8) يعني: سواء كانت أفراد كلي المكلف محققة فعلا و موجودة خارجا، أم مقدرة

ص: 337

هو (1) قضية القضايا المتعارفة المتداولة، و هي قضايا حقيقية، لا خصوص (2) الأفراد الخارجية كما هو قضية القضايا الخارجية، و إلاّ (3) لما صح الاستصحاب في الأحكام أي: مفروضة الوجود، كالمستطيع الكلي الذي هو موضوع لوجوب الحج، فإنه شامل للمستطيع الموجود فعلا أي: حين الخطاب، و لمن يوجد بعد ذلك، فكل فرد فعلي و استقبالي من أفراد كلي المستطيع يجب عليه الحج.

=============

(1) أي: ثبوت الحكم للأفراد الموجودة و المقدّرة مقتضى القضايا المتعارفة.

(2) يعني: لا لخصوص الأفراد الخارجية، فقوله: «خصوص» معطوف على مقدر و هو «مطلقا» يعني: أن الحكم الثابت في الشريعة السابقة حيث كان ثابتا لأفراد المكلف مطلقا لا لخصوص الأفراد الخارجية... الخ.

(3) أي: و إن لم تكن الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقية؛ بل كانت من القضايا الخارجية ترتب عليه لازمان لا يمكن الالتزام بهما:

أحدهما: امتناع استصحاب عدم النسخ في أحكام هذه الشريعة أيضا بالنسبة إلى من لم يدرك صدر الإسلام؛ لتغاير الموضوع، فإن الموجود في الأعصار المتأخرة عن عصر صدوره مغاير موضوعا للموجود في صدر الإسلام بناء على القضية الخارجية، مع إن من الواضح صحة جريان الاستصحاب في أحكام هذه الشريعة في جميع القرون و الأعصار.

ثانيهما: امتناع النسخ بالنسبة إلى غير الموجود في وقت التشريع، و لو لم يكن موضوعا للحكم لم يصح النسخ في حقه، و موضوعيته للحكم منوطة بكون الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقية؛ إذ لو كانت من القضايا الخارجية لم يكن غير الموجود في صدر الإسلام موضوعا للحكم، و كان الموضوع خصوص المدرك لأوّل الشريعة، و لازم ذلك: امتناع النسخ و امتناع الاستصحاب بالنسبة إلى من لم يدرك صدر الإسلام؛ لعدم كونه موضوعا للحكم بناء على القضية الخارجية.

و أما بناء على القضية الحقيقية: فلا مانع من النسخ و الاستصحاب في حقه؛ لكونه موضوعا كموضوعية من أدرك صدر الإسلام.

و هذان اللازمان أي: امتناع النسخ و الاستصحاب باطلان، و بطلانهما يكشف عن بطلان الملزوم، و هو كون الأحكام من القضايا الخارجية، فقول المصنف «و إلاّ لما صح الاستصحاب» كما أنه إشارة إلى برهان إنّي على كون الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقية لا الخارجية، كذلك إشارة إلى ما أجاب به الشيخ نقضا عن إشكال اختلال

ص: 338

الثابتة في هذه الشريعة. و لا النسخ (1) بالنسبة (2) إلى غير الموجود في زمان ثبوتها كان (3) الحكم في الشريعة السابقة ثابتا لعامة أفراد المكلف ممن وجد أو يوجد، و كان (4) الشك فيه كالشك في بقاء الحكم الثابت في هذه الشريعة لغير من وجد في زمان ثبوته. و الشريعة السابقة (5) و إن كانت منسوخة بهذه الشريعة يقينا، إلاّ اليقين بثبوت أحكام الشرع السابق بالنسبة إلى أهل هذه الشريعة بقوله: «و فيه أوّلا: أنّا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين، فإذا حرم في حقه شيء سابقا و شك في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة، فلا مانع عن الاستصحاب أصلا. و فرض انقراض جميع أهل الشريعة السابقة عند تجدد اللاحقة نادر بل غير واقع».

=============

(1) معطوف على «الاستصحاب»، و هذا هو اللازم الباطل الثاني الذي أوضحناه بقولنا: «ثانيهما: امتناع النسخ...» الخ، كما أن قوله: «لما صح الاستصحاب» هو اللازم الباطل الأول الذي مر توضيحه بقولنا: «أحدهما: امتناع استصحاب عدم النسخ...» الخ.

(2) قيد لكل من الاستصحاب و النسخ، يعني: «لما صح كل منهما بالنسبة إلى غير الموجود في زمان...» الخ.

(3) جواب قوله: «حيث كان»، و ضمير «ثبوتها» راجع إلى «الشريعة» أو «الأحكام».

(4) معطوف على «كان الحكم»، و حاصله: أنه بناء على كون الأحكام الإلهية مطلقا، سواء كانت من أحكام هذه الشريعة أم من الشرائع السابقة من القضايا الحقيقية؛ لا فرق في اعتبار استصحاب عدم النسخ في حق غير الموجود في زمان التشريع بين أحكام هذه الشريعة و غيرها من الشرائع؛ و ذلك لاجتماع ركني الاستصحاب من اليقين و الشك في كلا الموردين، و عليه: فوزان استصحاب الشاك غير الموجود في زمان ثبوت الدين من الأمم السابقة في حكم من أحكام، وزان استصحاب الشاك غير الموجود من هذه الأمة في صدر الإسلام في بقاء حكم من أحكام هذه الشريعة في صحة جريانه في كلا الموردين؛ لاجتماع أركانه من اليقين و الشك.

و ضمير «فيه» راجع على الحكم في الشريعة السابقة، و ضمير «ثبوته» راجع إلى الحكم الثابت، و «لغير» قيد ل «بقاء» و «في زمان» متعلق ب «وجد».

(5) هذا إشارة إلى بطلان ثاني وجهي التوهم، و هو اختلال الركن الثاني أعني: به الشك في البقاء للقطع بالارتفاع بسبب النسخ.

توضيح وجه البطلان: أن انهدام الركن الثاني - و هو الشك في البقاء بسبب النسخ - منوط بنسخ جميع أحكام تلك الشرائع بهذه الشريعة؛ إذ يقطع حينئذ بارتفاعها، و لا يبقى

ص: 339

إنه (1) لا يوجب اليقين بارتفاع أحكامها بتمامها، ضرورة (2): أن قضية نسخ الشريعة ليس ارتفاعها كذلك (3)؛ بل عدم بقائها بتمامها،...

=============

شك في بقائها حتى تستصحب. و لكنه ممنوع؛ إذ ليس معنى نسخ شريعة رفع تمام أحكامها بنحو السلب الكلي؛ بل معنى نسخها رفعها بنحو رفع الإيجاب الكلي، فيصدق نسخ شريعة بنسخ جملة من أحكامها، ففي الحكم الذي لم يعلم نسخه يجري الاستصحاب.

ثم إن الشيخ «قدس سره» أجاب أيضا عن الإشكال بهذا الوجه، حيث قال: «و فيه أنه إن أريد نسخ كل حكم إلهي من أحكام الشريعة السابقة، فهو ممنوع. و إن أريد نسخ البعض، فالمتيقن من المنسوخ ما علم بالدليل، فيبقى غيره على ما كان عليه و لو بحكم الاستصحاب».

(1) يعني: إلاّ إن اليقين بالنسخ لا يوجب اليقين بارتفاع أحكام الشريعة السابقة بتمامها بحيث لا يبقى شك في بقاء حكم منها حتى لا يجري فيه الاستصحاب.

و ضمير «أحكامها» راجع إلى «الشريعة»، و ضمير «بتمامها» إلى «أحكامها».

(2) تعليل لعدم كون نسخ شريعة رفع جميع أحكامها بحيث لا يبقى شيء منها.

توضيحه: أن نسخ الشريعة و إن كان بمعنى رفعها، و رفع الشيء عن صفحة الوجود ظاهر في إعدامه بتمامه، فإذا كان الشيء مرآة لعدة أمور كالشريعة، فرفعه عبارة عن رفع تمام تلك الأمور، و ليس هذا كالمركب الذي ينتفي بانتفاء بعض أجزائه؛ لأن المنفي و هو المركب كما يصدق على انتفاء كله كذلك يصدق على انتفاء بعضه، بداهة: تقوّم عنوان المركب بتمام أجزائه، فإذا انتفى جزء منه صدق انتفاء المركب. و عليه: فنسخ الشريعة - التي هي عنوان مشير إلى عدة أحكام إلهية - عبارة عن رفع تمام أحكامها بنحو السلب الكلي كما أراده المستشكل.

لكنه يرفع اليد عن هذا الظاهر بلحاظ ما ورد في اتحاد بعض ما في هذه الشريعة مع ما في الشرائع السابقة من الأحكام، فإنه يدل على أن المراد مما دل على نسخ هذه الشريعة لما قبلها من الشرائع هو عدم بقاء تمام أحكام الشريعة المنسوخة بنحو رفع الإيجاب الكلي الذي لا ينافي الإيجاب الجزئي، لا أن المراد: رفع جميع أحكامها بنحو السلب الكلي بحيث علم بارتفاع جميعها حتى يختل ثاني ركني الاستصحاب، و هو الشك في البقاء كما يدعيه صاحب الفصول «قدس سره».

(3) أي: بتمامها، بل مقتضى نسخ الشريعة هو عدم بقاء الشريعة المنسوخة بتمامها، و من المعلوم: صدق نسخها برفع جملة من أحكامها و بقاء بعضها، فقوله: «بل» في

ص: 340

و العلم (1) إجمالا بارتفاع بعضها...

=============

مقابل «ليس ارتفاعها» و ضميرا «بقائها، بتمامها» راجعان إلى «الشريعة»، و قد عرفت: أن عدم بقائها بتمامها ليس هو معنى نسخ الشريعة؛ إذ نسخها ظاهر في رفع تمامها، بل عدم بقائها بتمامها يستفاد من الخارج كما مر آنفا. و هنا كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(1) هذا إشارة إلى ثاني الوجوه التي استدل المنكرون لحجية استصحاب عدم نسخ حكم من أحكام الشرائع السابقة، و مرجع هذا الوجه إلى وجود المانع عن حجيته، كما أن مرجع الوجه الأول إلى عدم المقتضي لها؛ لاختلال ركنيه و هما اليقين و الشك.

و تقريب هذه الوجه الثاني هو: أنه بعد تسليم وجود المقتضي و هو اليقين، و الشك في هذا الاستصحاب لا يجري أيضا؛ لوجود المانع و هو: أنه - بعد البناء على كون نسخ شريعة رفع جملة من أحكامها و عدم بقائها بتمامها لا رفع تمامها - يحصل علم إجمالي بنسخ بعضها، و حيث إن ذلك البعض غير معلوم لنا تفصيلا، فهو مانع عن جريان الاستصحاب في كل حكم شك في نسخه؛ لما ثبت في محله من عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي؛ إما للمعارضة مع الاستصحاب في الطرف الآخر، و إما لمنافاته لنفس العلم مع الغض عن المعارضة، على اختلاف المسلكين في الشبهة المحصورة.

و الحاصل: أن النسخ بالمعنى المزبور و إن لم يكن قادحا في وجود المقتضي و هو اليقين و الشك؛ لكنه يوجد مانعا عن جريان الاستصحاب، و ذلك المانع هو العلم الإجمالي بنسخ بعض أحكام الشريعة السابقة كما عرفت، فإنه يمنع عن جريان.

و قد تعرض الشيخ «قدس سره» لهذا الوجه المانع عن حجية استصحاب عدم النسخ بقوله: «فإن قلت: إنا نعلم قطعا بنسخ كثير من الأحكام السابقة. و المعلوم تفصيلا منها قليل في الغاية، فيعلم بوجود المنسوخ في غيره». و الغرض من قوله «قدس سره»:

«و المعلوم تفصيلا منها قليل»: عدم انحلال العلم الإجمالي بالنسخ بما علم تفصيلا نسخه من الأحكام؛ لعدم كونه بمقدار المعلوم بالإجمال حتى ينحل به العلم الإجمالي، و يصير الشك في نسخ غير المعلوم بالتفصيل بدويا موردا للاستصحاب.

و عليه: فمقتضى عدم انحلال العلم الإجمالي عدم جريان استصحاب عدم النسخ في كل حكم شك في نسخه؛ لاحتمال كونه مما نسخ بهذه الشريعة، فإن كل علم إجمالي منجز مانع عن جريان الاستصحاب في أطرافه كما أشرنا إليه آنفا.

ص: 341

إنما (1) يمنع عن استصحاب ما شك في بقائه (2) منها فيما إذا كان من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالا؛ لا (3) فيما إذا لم يكن من أطرافه،...

=============

(1) هذا إشارة إلى دفع إشكال مانعية العلم الإجمالي بالنسخ عن جريان استصحاب عدمه فيما شك في نسخه من أحكام الشرائع السابقة.

و محصل ما أفاده في دفع الإشكال هو: أن تنجيز العلم الإجمالي حتى يمنع عن جريان الأصول في أطرافه منوط بأمرين:

أحدهما: كون مورد الأصل من أطرافه.

ثانيهما: عدم انحلاله بعلم تفصيلي، فمع اختلال هذين الأمرين لا يكون العلم الإجمالي مانعا عن جريان الأصول في أطرافه. و هذا الأمر الثاني مفقود في المقام، حيث إن العلم الإجمالي بالنسخ إنما يكون قبل مراجعة الأدلة، و تمييز الناسخ من أحكامنا لأحكام الشريعة السابقة. و أما بعد المراجعة إليها و حصول العلم بالناسخ من أحكامنا لها لا يبقى في دائرة المشكوكات علم إجمالي بالنسخ حتى يمنع عن جريان استصحاب عدم النسخ فيها؛ بل يكون الشك حينئذ في نسخ حكم بدويا.

و كيف كان؛ فخروج المشكوكات من أطراف العلم الإجمالي، سواء كان ابتداء أم بالانحلال يوجب جريان الأصل فيها بلا مانع، إذ لا معارض له بعد وضوح عدم جريانه فيما علم تفصيلا حرمته، و فيما نحن فيه يقال: إن المعلوم بالإجمالي من الأحكام المنسوخة هي التي ظفرنا بناسخها فيما بأيدينا من أحكام هذه الشريعة، فإذا شك في نسخ حكم من أحكام الشرع السابق مما لم نعثر على ناسخه في هذه الشريعة كان ذلك خارجا عن دائرة العلم الإجمالي، بمعنى: أنه لا علم لنا بوقوع النسخ في غير ما علم نسخه في شرعنا، فلا موجب للمنع عن جريان استصحاب عدم النسخ فيه؛ إذ الشك فيه بدوي، و ليس مقرونا بالعلم الإجمالي حتى يمنع عن جريان الأصل فيه.

(2) أي: بقاء ما شك فيه من أحكام الشريعة السابقة.

(3) هذا إشارة إلى أول شرطي تنجيز العلم الإجمالي المانع عن جريان الأصول في أطرافه، و قد أشرنا إليه بقولنا: «أحدهما: كون مورد الأصل من أطرافه»، ضرورة: أنه مع عدم كونه من أطراف العلم الإجمالي لا يكون الشك مقرونا بمنجّز حتى لا يجري فيه الأصل؛ بل الشك فيه بدوي، فيجري فيه الأصل بلا مانع، مثلا: إذا كان العلم الإجمالي بالنسخ في خصوص أحكام العبادات لا يجري استصحاب عدم النسخ في حكم من أحكام العبادات؛ لكونه من أطراف العلم الإجمالي. و أما إذا كان الحكم الذي شك في نسخه من أحكام المعاملات مثلا، فلا مانع من جريان استصحاب عدم النسخ

ص: 342

كما إذا (1) علم بمقداره تفصيلا، أو في (2) موارد ليس المشكوك منها، و قد (3) علم فيما إذا شك في نسخ حكم من أحكام العبادات؛ لكون الشك في نسخه بدويا لخروج مورده عن أطراف العلم الإجمالي. و الضمير المستتر في «يكن» راجع على «ما شك»، و ضمير «أطرافه» راجع إلى «ما علم».

=============

(1) بيان لعدم كونه من أطراف العلم الإجمالي، و قد ذكر له صورتين:

إحداهما: و هي المقصود بقوله: «كما إذا علم» انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بالنسخ في جملة من الأحكام بمقدار المعلوم بالإجمالي؛ بحيث لا يبقى في المشكوكات علم إجمالي؛ بل الشك في نسخها بدوي.

ثانيتهما: عدم كون المشكوك فيه من أطراف العلم الإجمالي من ابتداء الأمر، كما إذا كانت دائرة الأحكام المنسوخة - المعلومة إجمالا - في دائرة خصوص العبادات مثلا؛ بحيث كان العلم الإجمالي بالنسخ متعلقا بأحكامها، و كان النسخ في غيرها مشكوكا فيه بالشك البدوي. ففي كلتا الصورتين يجري استصحاب عدم النسخ بلا مانع، حيث إن المانع عن جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي - سواء كان هو نفس العلم أم تعارض الأصول - مفقود هنا.

أما العلم: فلأن المفروض فقدانه في المشكوكات، و أما الأصل: فلعدم جريانه فيما علم تفصيلا نسخه بالضرورة حتى يعارض الأصل الجاري في المشكوكات، فعليه يجري استصحاب عدم النسخ في المشكوكات بلا مانع.

و بالجملة: فغرض المصنف «قدس سره» هو: أن الاستصحاب في أحكام الشرائع السابقة يجري بلا إشكال؛ إذ العلم الإجمالي بنسخها بهذه الشريعة لا يصلح للمنع عنه، إما لانحلاله و خروج المشكوكات عن أطرافه بسبب الانحلال، و إما لخروج المشكوكات عن أطرافه ابتداء؛ لكون المعلوم بالإجمال في غير المشكوكات.

(2) معطوف على «بمقدار» يعني: أو علم النسخ إجمالا في موارد ليس كون المشكوك منها، و هذا إشارة إلى الصورة الثانية المتقدمة بقولنا: «ثانيتهما: عدم كون المشكوك من أطراف العلم الإجمالي من ابتداء الأمر...» الخ، فكأن العبارة هكذا: «لا فيما إذا لم يكن من أطرافه» إما بالانحلال و هو المقصود بقوله: «كما إذا علم تفصيلا».

و إما ابتداء و هذا مراده ظاهرا بقوله: «أو في موارد ليس المشكوك منها»، فعدم كون الحكم المشكوك النسخ من أطراف العلم الإجمالي إما حقيقي و إما انحلالي.

(3) هذا متمم لقوله: «أو في موارد...» الخ، و بيان للموارد التي ليس الحكم المشكوك منها.

ص: 343

بارتفاع ما في موارد الأحكام الثابتة في هذه الشريعة.

ثم لا يخفى: أنه يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا العلامة (1) «أعلى الله في الجنان توضيحه: أن دائرة العلم الإجمالي بالنسخ إنما هي الأحكام الثابتة في هذا الشرع بالكتاب و السنة؛ للقطع الإجمالي بارتفاع بعض أحكام الشرائع السابقة فيها، و أما في غيرها فلا علم فيه بالنسخ؛ بل هو مشكوك بدوي يجري فيه استصحاب عدم النسخ.

=============

و أما في مورد العلم الإجمالي بالنسخ - و هو الأحكام الثابتة في شرعنا - فلا يجري فيه الاستصحاب، إذ المفروض: ثبوت الحكم فيه في هذه الشريعة بالدليل، و كون وظيفتنا العمل على طبقه، فلا وجه لجريان استصحاب عدم النسخ فيه. و عليه: فيجري الاستصحاب في الأحكام التي شك في نسخها بلا معارض؛ لكون الشك فيها بدويا، إذ المفروض: خلوها عن العلم الإجمالي.

فغرض المصنف «قدس سره»: أن مشكوك النسخ خارج عن أطراف العلم، حيث إن أطرافه هي خصوص موارد الأحكام الثابتة في شرعنا المعلومة عندنا بالدليل، فالمشكوكات خارجة عن أطرافه من أول الأمر. و العلم بارتفاع الأحكام السابقة يمنع عن جريان الاستصحاب فيها؛ لما عرفت من: وجوب العمل بما ثبت في هذه الشريعة على كل حال، و لا أثر لاستصحاب عدم النسخ فيه. هذا كله بناء على إرادة خروج المشكوك النسخ من أول الأمر عن أطراف العلم الإجمالي بالنسخ، على أن يكون قوله: «في موارد» معطوفا على قوله: «بمقداره»، فيكون الخروج إما بالانحلال و إما بعدم كونه من أطراف العلم حقيقة كما بيّناه.

و تركناه ما في بعض التعاليق من الاحتمال رعاية للاختصار.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) غرضه: توجيه ما أفاده الشيخ «قدس سره» من الجواب الثاني عن إشكال تغاير الموضوع المانع عن جريان استصحاب عدم النسخ في حقنا؛ إذ الحكم الثابت في حق جماعة - و هم أهل الشرائع السابقة - لا يمكن إثباته في حق آخرين لتغاير الموضوع.

و أما عبارة الشيخ في الجواب الثاني فهي: «و ثانيا: أن اختلاف الأشخاص لا يمنع عن الاستصحاب، و إلا لم يجر استصحاب عدم النسخ.

و حله: أن المستصحب هو الحكم الكلي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه؛ إذ لو فرض وجود اللاحقين في السابق عمهم الحكم قطعا(1).

ص: 344


1- فرائد الأصول 226:3.

مقامه» في الذب (1) عن إشكال تغاير الموضوع في هذا الاستصحاب (2) من الوجه الثاني (3) إلى...

=============

و حاصله: أن الموضوع للأحكام مطلقا سواء كانت من الشرائع السابقة أم هذه الشريعة هو كلي المكلف الصادق على الموجودين في زمان تشريع الأحكام و المعدومين؛ لأن هذا الكلي ينطبق على الجميع من الموجود و المعدوم بوزان واحد، فإذا شك في بقاء حكم من أحكام الشرائع السابقة صح استصحابه، لوحدة الموضوع.

و أما توجيه المصنف لهذا الجواب فمحصله: أنه لما كان ظاهر كلام الشيخ ثبوت الحكم للكلي بنحو القضية الطبيعية - التي يكون الموضوع فيها نفس الطبيعة ك «الإنسان نوع أو كلي» أو غيرهما من المعقولات الثانية المحمولة على الطبائع؛ بحيث لا تكون الأفراد ملحوظة فيها؛ لعدم حظ لها من هذه المحمولات، حيث إن الأفراد لا تتصف بالكلية و النوعية و نحوهما - و لم يكن إرادة هذا الظاهر في المقام، ضرورة: أن البعث و الزجر و كذا ما يترتب على إطاعتهما و عصيانهما من الثواب و العقاب إنما هي من الآثار المترتبة على الأفراد دون الكلي نفسه، أي: من دون دخل للأشخاص فيها كما في مالكية كلي الفقير للزكاة، و الوقف على العناوين الكلية كعنوان الزائر و الفقيه و نحوهما من الكليات التي لا تلاحظ فيها خصوصيات الأفراد، في قبال الوقف على الجهات الخاصة كالوقف على الذرية حيث إن الملحوظ فيها هو الأفراد الخاصة، ألجأنا ذلك إلى ارتكاب خلاف الظاهر في كلام الشيخ بإرادة القضية الحقيقية منه حتى يسلم من هذا الإشكال، لا القضية الطبيعية التي عرفت حالها.

(1) متعلق ب «ما أفاده». و قد تكرر مثل هذا التعبير من المصنف «قدس سره» و الصواب أن يقال: «في ذب الإشكال» أي: دفعه.

(2) أي: استصحاب عدم نسخ أحكام الشرائع السابقة، و إشكال تغاير الموضوع هو الذي جعله الفصول من الوجوه المانعة عن جريان استصحاب تلك الشرائع، حيث إن الموضوع لتلك الأحكام خصوص تلك الأمم، و ليس أهل هذه الشريعة موضوعا لها و مخاطبا بها، فأول ركني الاستصحاب - و هو اليقين بالثبوت - مختل، و قد تقدم توضيحه سابقا.

(3) هذا بيان ل «ما» الموصول في قوله: «ما أفاده». و الوجه الثاني هو الجواب الثاني الذي ذكره الشيخ عن إشكال تغاير الموضوع بقوله: «و ثانيا: أن اختلاف الأشخاص لا يمنع عن الاستصحاب و إلاّ لم يجر...» الخ. و قد تقدم نقله عند شرح كلام المصنف «ثم لا يخفى أنه يمكن...».

ص: 345

ما ذكرنا (1) لا ما يوهمه ظاهر كلامه من (2) أن الحكم ثابت للكلي، كما أن الملكية له (3) في مثل باب الزكاة و الوقف العام، حيث لا مدخل للأشخاص فيها (4)، ضرورة (5): أن التكليف و البعث أو الزجر لا يكاد يتعلق به...

=============

(1) من كون الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الحقيقية لا ما يوهمه ظاهر الشيخ من كون الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الطبيعية التي تكون موضوعاتها نفس الطبائع، و محمولاتها المعقولات الثانية كالجنسية و النوعية و الكلية، مثلا: «الإنسان نوع» قضية طبيعية بمعنى: أن الحكم ثابت لنفس الطبيعة، و لا يسري إلى الأفراد أصلا؛ لعدم صحة حمل الكلية و النوعية على زيد و عمرو و غيرهما من أفراد الإنسان.

(2) بيان ل «ما» الموصول في قوله: «ما يوهمه»، و قد عرفت توضيحه، و إن ظاهر كلام الشيخ إرادة القضية الطبيعية.

(3) أي: للكلي، و «له» خبر ل «أن» يعني: «كما أن الملكية ثابتة للكلي في مثل باب الزكاة...» الخ.

(4) أي: في الملكية. استشهد بهذا على ثبوت الحكم الكلي ببيان: أن وزان جعل الأحكام للمكلفين وزان جعل الزكاة للفقراء، و الوقف على العناوين الكلية كالزوار و الفقهاء و نحو ذلك، فإن الملحوظ فيه هو الكلي دون الأفراد، و لذا لا يملك أفراد كلي الفقير و الفقيه و الزائر الزكاة و عوائد الوقف إلاّ بالقبض، و لو كان المالك هي الأفراد لجاز لهم أخذهما تقاصا ممن هما عليه و يمتنع عن أدائهما. و من المسلّم عدم جوازه إلاّ إذا أذن لهم وليهم و هو الحاكم الشرعي في التقاص.

ثم إن ما استظهره المصنف هنا من كلام الشيخ من إرادة تعلق الحكم بالكلي من دون سراية إلى الأفراد أفاده في الحاشية أيضا بقوله: «و بعبارة أخرى: أن المستصحب هو الحكم الكلي الثابت للعناوين الباقية و لو بالأشخاص المتبادلة، دون نفس الأشخاص كي يلزم تعدد الموضوع بمجرد ذلك، فالموضوع هنا كالموضوع في الأوقات كالفقير و الطلبة و غيرهما»، و لم يورد المصنف عليه بشيء، و ظاهره تسليم جواب الشيخ بناء على إرادة تعلق الحكم بالكلي بلا سراية إلى الأفراد. و من المعلوم: مغايرة هذا التوجيه لما أفاده في المتن من حمل كلام الشيخ على إرادة القضية الحقيقية، و لعله «قدس سره» عدل عما ذكره في الحاشية؛ لوضوح: كون الخطابات الشرعية من القضايا الحقيقية.

(5) تعليل لإمكان إرجاع كلام الشيخ إلى ما ذكره المصنف «قدس سره» من إرادة القضية الحقيقية.

ص: 346

كذلك (1)؛ بل لا بد (2) من تعلقه بالأشخاص، و كذلك الثواب أو العقاب المترتب على الطاعة أو المعصية (3).

و كأن غرضه (4) من عدم دخل الأشخاص عدم دخل أشخاص...

=============

و حاصل التعليل الذي تقدم بيانه بقولنا: «و أما توجيه المصنف لهذا الجواب فمحصله: أنه لمّا كان ظاهر كلام الشيخ...» الخ. هو: أنه لا يمكن إرادة القضية الطبيعية هنا لامتناع تعلق التكليف بعثا و زجرا بالطبيعة؛ إذ لا يعقل انبعاثها و انزجارها. و كذا ما يترتب عليهما من الثواب و العقاب، فإن كل ذلك من آثار أفراد الطبيعة و وجوداتها، لا نفس الطبيعة من حيث هي؛ إذ لا معنى لبعثها و زجرها من دون دخل للأشخاص فيها، فامتناع تعلق التكليف بها و كذا ما يتبعه من الثواب و العقاب المترتبين على الإطاعة و العصيان يلجئنا إلى إرجاع ظاهر كلام الشيخ و هو القضية الطبيعية إلى القضية الحقيقية.

هذا مضافا: إلى أن الملاكات الداعية إلى تشريع الأحكام قائمة بوجودات الطبيعة لا بالطبيعة من حيث هي كما هو واضح.

(1) يعني: بحيث لا يكون للأشخاص دخل في التكليف و ما يتبعه. و ضمير «به» راجع إلى الكلي.

(2) إضراب على قوله: «لا يكاد» يعني: لا يكاد يتعلق التكليف بالكلي بما هو كلي، بل لا بد من تعلقه بالأشخاص أي: أفراد الكلي الموجودة خارجا.

(3) إذ لا معنى لإطاعة الطبيعة و عصيانها بعد كونهما من الأفعال الاختيارية التي لا تصدر إلاّ من فاعل موجود خارجي، و لا يعقل صدورها من الطبيعة من حيث هي مع الغض عن وجودها خارجا، فإن وزان الإطاعة و العصيان وزان سائر الأفعال الإرادية كالبيع و الصلح و الهبة و نحوها من الأفعال الصادرة من الأشخاص.

(4) يعني: و كأن غرض الشيخ «قدس سره». و هذا تقريب التوجيه.

بيانه: أن غرض الشيخ من عدم دخل الأشخاص عدم دخل خصوص الأشخاص الموجودين في زمان تلك الشرائع، لا مطلقا حتى تكون القضية طبيعية.

و يرد عليه الإشكال المتقدم، فالمقصود حينئذ: أن الحكم ليس مختصا بالأشخاص الموجودين؛ بل يعم جميع الأفراد من الموجودين و المعدومين، و هذا هو القضية الحقيقية، حيث إنها عبارة عن قضية يكون موضوع الحكم فيها الأفراد النفس الأمرية، سواء كانت محققة أم مقدرة، فمعنى قولنا: «كل جسم مركب»، أو «كل مستطيع يجب عليه الحج»، أو «كل مالك لأربعين من الغنم يجب عليه الزكاة» هو: أن كل ما وجد و صدق

ص: 347

خاصة (1)، فافهم (2).

و أما ما أفاده من الوجه الأول (3)، فهو و إن كان وجيها بالنسبة إلى جريان عليه أنه جسم صدق عليه أنه مركب، أو كل من وجد و صدق عليه أنه مستطيع أو مالك لأربعين غنما وجب عليه الحج أو الزكاة.

=============

(1) و هم الموجودون في زمان تلك الشرائع مثلا حتى لا تصير القضية خارجية كما توهمه الخصم.

(2) لعله إشارة إلى إمكان إبقاء كلام الشيخ على ظاهره من إرادة القضية الطبيعية، و صحة تعلق التكليف بالكلي كصحة تعلق الوضع كالملكية به؛ لأنه بعيد؛ بل ممنوع، لوضوح الفرق بين التكليف و الوضع، حيث إنه لا يعقل تعلق البعث و الزجر و الإطاعة و العصيان بالكلي من حيث هو، مع الغض عن الأفراد بخلاف الوضع كالملكية، فإنه لا مانع من تعلقه بالكلي؛ إذ ليس فيه شيء من البعث و غيره مما ذكر، و لذا يصح اعتبار الملكية للميت، بخلاف التكليف، فإنه يسقط عن الشخص بمجرد موته و يبقى عليه الوضع على ما ثبت في محله.

أو إشارة إلى فساد تنظير المقام بمالكية كلي الفقير للزكاة؛ و ذلك لثبوت التكليف على الأشخاص بمجرد انطباق الكلي عليهم بلا توقفه على شيء، بخلاف مالكية الفقير للزكاة؛ لعدم كفاية مجرد انطباق كلي الفقير عليه في مالكيته لها؛ لتوقفها على القبض، مع أن غرض الشيخ «قدس سره»: ثبوت التكليف لنا كثبوته لهم بمجرد انطباق كلي المكلف علينا، و المفروض: عدم التفاوت في الانطباق المزبور.

أو إشارة إلى صعوبة هذا التوجيه و بقاء الإشكال على ظاهر كلام الشيخ. و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(3) و هو الجواب الأول الذي أفاده الشيخ عن إشكال صاحب الفصول «قدس سرهما» بقوله: «و فيه: أنا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين، فإذا حرم في حقه شيء سابقا و شك في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة فلا مانع عن الاستصحاب أصلا...» الخ.

و حاصله: أنه بناء على كون القضية خارجية - كما أفاده صاحب الفصول - يكون الموضوع و هو المدرك للشريعتين واحدا، فلا مانع من جريان استصحاب عدم النسخ في حقه.

قوله: «فهو...» الخ جواب «و أما» و إشكال على ما أفاده الشيخ.

ص: 348

الاستصحاب في حق خصوص المدرك للشريعتين (1)؛ إلاّ إنه (2) غير مجد في حق غيره من المعدومين، و لا يكاد (3) يتم الحكم فيهم بضرورة اشتراك أهل الشريعة و محصل الإشكال: أن هذا الجواب أخص من المدعى و هو حجية استصحاب عدم النسخ مطلقا في حق الجميع لا خصوص مدرك الشريعتين كما أفيد، و لا يجدي تعميم الحكم في المعدومين بما أفاده «قدس سره» من قيام الضرورة على اشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة؛ و ذلك لأن قاعدة الاشتراك سواء كانت جارية في حق أهل شريعة واحدة أم أهل شريعتين مشروطة بوحدة الموضوع و الاتحاد في الصنف، فمع انتفاء هذا الشرط لا تجري القاعدة في حق المعدومين و إن كانوا مع الموجودين من أهل شريعة واحدة، فضلا عن أهل شريعتين، و المفروض: انتفاء هذا الشرط في المقام؛ لأن مقتضى ما أفاده الشيخ من اختصاص اليقين السابق بمدرك الشريعتين بناء على القضية الخارجية التي هي مبنى جوابه الأول بقوله: «أنا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين...» الخ و هو عدم اليقين بالثبوت للمعدومين، و هذا يوجب التغاير بينهما، حيث إن المعدومين بناء على القضية الخارجية ليس لهم يقين بالثبوت؛ لاختصاص اليقين به بمدرك الشريعتين، و المفروض: أن الحكم الاستصحابي مختص بموضوعه و هو «من كان على يقين فشك»، و لا يثبت في حق من لا يقين و لا شك له.

=============

و بالجملة: فقاعدة الاشتراك لا تجري هنا لعدم الاشتراك في الموضوع حتى يجري الاستصحاب في حق المعدومين. و كذا لا يجري في حقهم ما استصحبه مدرك الشريعتين من الحكم؛ لاختصاص الحكم الظاهري بموضوعه و هو من جرى في حقه الأصل العملي دون غيره ممن لا يجري في حقه؛ لعدم كونه موضوعا له كالمعدومين، فإنه لا يقين لهم بالثبوت كما لا شك لهم في البقاء حتى يجري الاستصحاب في حقهم.

(1) إذ المفروض: تحقق ركني الاستصحاب من اليقين و الشك بالنسبة إليه.

(2) يعني: إلاّ إن ما أفاده في مدرك الشريعتين غير مجد في حق غيره من المعدومين، و هذا إشارة إلى إشكال الأخصية من المدعى.

(3) هذا إشارة إلى ضعف الوجه الذي تمسك به الشيخ لتتميم الحكم في المعدومين من قاعدة الاشتراك، و قد عرفت تقريبه بقولنا: «و لا يجدي تتميم الحكم في المعدومين بما أفاده...» الخ. و ضمير «فيهم» راجع إلى المعدومين، و المراد بالحكم في قوله: «يتم الحكم» هو الحكم المستصحب. و قوله: «لضرورة» متعلق ب «يتم».

ص: 349

الواحدة أيضا (1) ضرورة (2): أن قضية الاشتراك ليس إلاّ أن الاستصحاب حكم كل من كان على يقين فشك؛ لا أنه (3) حكم الكل و لو من لم يكن كذلك بلا شك، و هذا (4) واضح.

=============

(1) يعني: كعدم تمامية الحكم للمعدومين بالاستصحاب.

و غرضه: أنه كما لا يثبت الحكم للمعدومين بالاستصحاب؛ لعدم اليقين لهم الذي هو أول ركني الاستصحاب، كذلك لا يثبت لهم بقاعدة الاشتراك و إن زعمه الشيخ.

(2) تعليل لقوله: «و لا يكاد يتم الحكم»، و قد تقدم تفصيله آنفا بقولنا: «و ذلك لأن قاعدة الاشتراك سواء كانت جارية...» الخ و إجماله كما في حاشيته على الرسائل أيضا هو: «أن قضية قاعدة الاشتراك ليست إلاّ إن الاستصحاب حكم من كان على يقين فشك يكون حكم الكل و لو من لم يكن على يقين منه».

و حاصله: أن قاعدة الاشتراك لا تقتضي اعتبار الاستصحاب في حق المعدومين كاعتباره في حق الموجودين؛ إذ يعتبر في جريان قاعدة الاشتراك الاتحاد في الصنف كما عن الوحيد البهبهاني «قدس سره»، و من المعلوم: تقوّم الاستصحاب كغيره من الأصول العملية بموضوعه و هو اليقين بالثبوت و الشك في البقاء، و ذلك مفقود في المعدومين بناء على القضية الخارجية كما هو مبنى أول جوابي الشيخ عن إشكال صاحب الفصول؛ إذ الاحتياج إلى قاعدة الاشتراك لإتمام المدعي إنما هو في الجواب النقضي الذي تعرض له بقوله: «أنا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين...»، دون الجواب الحلي المبني على القضية الطبيعية أو الحقيقية؛ إذ بناء على الجواب الحلي لا حاجة إلى قاعدة الاشتراك، حيث إن للمعدومين أيضا يقينا و شكا كالموجودين فيجري في حقهم الاستصحاب بلا إشكال.

(3) أي: لا أن الاستصحاب، يعني: أن مقتضى الاشتراك ليس إلاّ إن للاستصحاب حكم المتيقن و الشاك، لا أن الاستصحاب حكم الكل و لو من لم يكن متيقنا و شاكا كما هو المفروض في المعدومين.

و عليه: فلا يمكن تتميم المدعى و هو جريان الاستصحاب في حق المعدومين بقاعدة الاشتراك.

(4) أي: و كون الاستصحاب متقوّما باليقين و الشك و عدم جريانه في حق غير المتيقن و الشاك واضح. هذا تمام الكلام في التنبيه السادس.

ص: 350

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من هذا التنبيه السادس هو: تعميم حجية عدم النسخ بالنسبة إلى كل حكم إلهي بلا فرق بين هذه الشريعة و الشرائع السابقة.

محل الكلام ما لم يكن هناك دليل على الحكم نفيا و إثباتا، ثم استصحاب عدم النسخ يتوقف على فرض أمرين: فقدان الإطلاق الأزماني لدليل الحكم، و ثبوت الحكم في الشريعة السابقة بنحو القضية الحقيقية لعامة المكلفين لا لخصوص تلك الأمة.

أما الأمر الأول: فلأنه لو كان لدليل الحكم إطلاق كان هو المرجع عند الشك في النسخ لا الاستصحاب.

و أما الأمر الثاني: فلأنه مع ثبوته للمكلفين بنحو القضية الخارجية لا يجري فيه الاستصحاب؛ لاختلاف الموضوع، و حينئذ: يكون من تسرية حكم الموضوع إلى موضوع آخر، و هو أجنبي عن الاستصحاب.

2 - يقع الكلام في أنه هل تستصحب أحكام الشرائع السابقة أم لا؟

فيه خلاف، و اختار المصنف وفاقا للشيخ استصحاب أحكام الشريعة السابقة، و ذلك لتمامية أركان الاستصحاب من اليقين و الشك، و خالف فيه جمع كالمحقق و صاحبي القوانين و الفصول.

3 - و استدل المنكرون لحجية استصحاب عدم النسخ في أحكام الشرائع السابقة بوجوه:

منها: عدم وجود المقتضى لاستصحاب عدم النسخ، و ذلك لاختلال أحد ركنيه من اليقين السابق أو الشك اللاحق.

أما الأول: فإن من ثبت في حقه الحكم يقينا قد انعدم، و المكلف الموجود الشاك في النسخ لم يعلم ثبوت الحكم في حقه من الأول لاحتمال نسخه.

و أما الثاني: أعني: اختلال الركن الثاني و هو الشك في البقاء: فلأن الشك في البقاء الذي هو مورد الاستصحاب مفقود في أحكام الشرائع السابقة؛ للقطع بارتفاعها بعد ورود هذه الشريعة، فإنها ناسخة لها، و مع هذا القطع يختل ما هو قوام الاستصحاب أعني: الشك في البقاء.

4 - و الجواب عن هذا الوجه: أن اختلال اليقين مبني على أن يكون تشريع الشريعة

ص: 351

السابقة لأهلها بنحو القضية الخارجية، فتختص تلك الأحكام بالأفراد الموجودين حال تشريعها، فلا يقين لأهل الشريعة اللاحقة بثبوت تلك الأحكام لهم، و ليس الأمر كذلك، بل كان تشريعها بنحو القضية الحقيقية، بحيث لوحظ في مقام الجعل كلي المكلف الصادق على أفراده المحققة و المقدرة، فلا تختص أحكام شريعة بأهلها؛ بل تعم غيرهم أيضا، فإذا شك غير أهلها في نسخ حكم من تلك الأحكام جرى فيه الاستصحاب.

5 - و منها: هو العلم الإجمالي بارتفاع بعض أحكام الشريعة السابقة بالنسخ، و هذا العلم الإجمالي مانع عن جريان استصحاب عدم النسخ في أحكام الشريعة السابقة، فمرجع هذا الوجه إلى الوجود المانع؛ إذ لا يجري الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي لأنه مانع عن جريانه.

و حاصل الجواب عن هذا الوجه هو: أن تنجيز العلم الإجمالي حتى يمنع عن جريان الأصول في أطرافه منوط بأمرين:

أحدهما: كون مورد الأصل من أطرافه.

ثانيهما: عدم انحلاله بالعلم التفصيلي، و مع اختلال أحد الأمرين لا يكون العلم مانعا عن جريان الأصول في أطرافه، و هذا الأمر الثاني مفقود في المقام، حيث إن العلم الإجمالي بالنسخ إنما يكون قبل مراجعة الأدلة، و أما بعد المراجعة إليها يحصل العلم التفصيلي بالنسخ، فيكون الشك حينئذ في نسخ غير ما علم تفصيلا نسخه بدويا، فيجري استصحاب عدم النسخ.

6 - توجيه المصنف لكلام الشيخ: أنه لمّا كان ظاهر كلام الشيخ هو ثبوت الحكم بنحو القضية الطبيعية التي يكون الموضوع فيها نفس الطبيعة، و لم يمكن إرادة هذا الظاهر في المقام؛ لأن البعث و الزجر و ما يترتب على إطاعتهما و عصيانهما من الثواب و العقاب إنما هي من الآثار المترتبة على الأفراد دون الكلي ألجأنا ذلك إلى ارتكاب خلاف الظاهر في كلام الشيخ بإرادة القضية الحقيقية منه؛ حتى يسلم من هذا الإشكال.

و ليس المراد ما هو الظاهر من القضية الطبيعية حتى يرد الإشكال المذكور.

7 - قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى توهم و دفعه.

أما التوهم: فمن الممكن أن يحمل كلام الشيخ على ظاهره، و هو إرادة القضية الطبيعية، و صحة تعلق التكليف بالكلي كصحة تعلق الوضع كالملكية به.

و حاصل الدفع: أنه بعيد، بل ممنوع للفرق بين التكليف و الوضع؛ إذ لا يعقل تعلق

ص: 352

السابع (1): لا شبهة في أن قضية أخبار الباب هو إنشاء حكم مماثل للمستصحب البعث و الزجر و الإطاعة و المعصية بالكلي، بخلاف الوضع، فإنه لا مانع من تعلقه بالكلي؛ إذ ليس فيه شيء من البعث و غيره، و لذا يصح اعتبار الملكية للميت و لا يصح تكليف الميت بل التكليف يسقط بمجرد الموت.

=============

8 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو جريان الاستصحاب في أحكام الشريعة السابقة كجريانه في أحكام هذه الشريعة عند الشك في بقائها، و عدم ارتفاعها بالنسخ

التنبيه السابع: في الأصل المثبت
اشارة

(1) الغرض من عقد هذا التنبيه السابع: هو البحث عن حجية الأصل المثبت و عدمها، و لذا اشتهر هذا بتنبيه الأصل المثبت. فيبحث في هذا التنبيه و التنبيه الثامن و التاسع و العاشر عن الأصل المثبت، و لمّا كان الأصل المثبت من أهم المباحث المتعلقة بالاستصحاب، و كانت له جوانب من البحث بحث المصنف في كل تنبيه من هذه التنبيهات عن جانب من جوانب الأصل المثبت.

و أما بيان ما هو محل الكلام في هذا التنبيه السابع فيتوقف على مقدمة و هي: أن المستصحب قد يكون بنفسه حكما شرعيا؛ كوجوب صلاة الجمعة في زمان غيبية الإمام «عليه السلام»، فلا خلاف في جريان الاستصحاب و حجيته و يسمى هذا الاستصحاب بالاستصحاب الحكمي.

و قد يكون موضوعا من الموضوعات و فيه احتمالات:

الأول: أن يكون الموضوع ذا أثر شرعي فقط، فيكون الاستصحاب حجة بلا خلاف.

الثاني: أن يكون ذا أثر غير شرعي فقط، فلا يكون الاستصحاب حجة بلا خلاف.

الثالث: أن يكون ذا أثر شرعي يترتب عليه الأثر العقلي مثل استصحاب حياة زيد يترتب عليه وجوب نفقة زوجته. ثم وجوب الإطاعة و هو من الآثار العقلية، فيكون الاستصحاب فيه أيضا حجة بلا خلاف كالاحتمال الأول.

الرابع: أن يكون ذا أثر عقلي أو عادي، و يترتب الأثر الشرعي بواسطة الأثر العقلي أو العادي على المستصحب.

إذا عرفت هذه الاحتمالات فاعلم: أن محل الكلام هو هذا الاحتمال الرابع، و الأصل حينئذ يكون مثبتا في اصطلاح الأصوليين.

ص: 353

و منشأ الخلاف في الأصل المثبت هو: ما من الاحتمالات في مفاد الأخبار على حجية الاستصحاب في مقام الثبوت.

توضيح ذلك: أنه لا شك في أن مفاد الأخبار هو تنزيل المشكوك بمنزلة المتيقن بلحاظ ما للمتيقن من الآثار و هي على أقسام، و فيما هو المراد من تلك الآثار احتمالات:

الأول: أن يكون المراد منها هو الأثر الشرعي فقط.

الثاني أن يكون المراد منها جميع الآثار عقلية أو عادية أو شرعية.

ثم الشرعية مع الواسطة أو بلا واسطة.

الثالث: أن يكون المراد منها الأثر الشرعي مطلقا، سواء كان بلا واسطة أو مع واسطة الآثار العقلية أو العادية.

ثم ما هو الحق من هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأول، فيكون مفاد أخبار الباب هو تنزيل المشكوك منزلة المتيقن كي يترتب على المشكوك الأثر الشرعي الذي لا واسطة له أصلا.

و كيف كان؛ فقد تعرض المصنف قبل الخوض في المقصود لأمرين:

الأول: بيان ما يستفاد من أخبار الاستصحاب.

الثاني: لزوم ترتيب كل أثر شرعي أو عقلي يترتب على المتيقن على الاستصحاب الجاري في الحكم أو الموضوع.

و أما ما أفاده في الأمر الأول بقوله: «لا شبهة في أن قضية أخبار الباب» فتوضيحه:

أنه بعد وضوح انتقاض اليقين وجدانا و كونه طريقا، و امتناع تعلق حرمة النقض به لا بد أن يراد من حرمة النقض و وجوب الإبقاء إنشاء حكم مماثل للمتيقن السابق إن كان حكما، كما إذا كان المتيقن وجوب الجلوس مثلا في المسجد إلى الزوال، و شك في بقاء هذا الوجوب فيما بعد الزوال، فالمجعول حينئذ وجوب مماثل لذلك الوجوب. أو إنشاء حكم مماثل لحكم المتيقن إن كان موضوعا، كما إذا كان المتيقن عدالة زيد يوم الجمعة و شك في بقائها يوم السبت، فإن المجعول حين الشك في بقائها مثل أحكام العدالة الواقعية كجواز الايتمام به و قبول شهادته، لا أن المجعول أحكام العدالة حقيقة؛ لأن موضوعها هو العدالة الواقعية، لا العدالة المشكوكة.

و من المعلوم: تقوّم جعل الحكم المماثل بالشك، و لذا يرتفع بارتفاع الشك.

و بالجملة: فمعنى وجوب إبقاء المتيقن هو جعل مثل ما له من الآثار الشرعية إن كان

ص: 354

المتيقن بنفسه حكما شرعيا، أو جعل مثل أحكامه إن كان المتيقن موضوعا ذا أثر شرعي كالعدالة و الفقاهة و الفقر و الغنى.

و أما الأمر الثاني - و هو لزوم ترتيب كل أثر شرعي أو عقلي على الاستصحاب - فقد أشار إليه بقوله: «كما لا شبهة»، و هو أن الأثر الشرعي تارة: يترتب على نفس الحكم الواقعي، و أخرى: على ما هو أعم منه و من الظاهري، و كذا الأثر العقلي، فالصور أربع.

لا إشكال في لزوم ترتيب الأثر الشرعي على الحكم الثابت بالاستصحاب في الصورتين الأوليين، كما إذا فرضنا أن لوجوب الجلوس في المسجد بعد الزوال أثرا شرعيا بعنوان ثانوي كوجوب صلاة ركعتين فيه بسبب النذر أو الحلف مثلا، أو بعنوان أوّلي كعدم جواز النافلة لمن عليه الفريضة، أو عدم جواز إجارة نفسه للصلاة عن الغير، أو الحج أو الصوم كذلك مع اشتغال ذمته بهذه الواجبات، فإذا ثبت بقاء وجوبها بالاستصحاب ترتبت عليه هذه الحرمات. أو ثبت بالاستصحاب وجوب الجلوس ترتب على هذا الوجوب وجوب صلاة ركعتين فيه، سواء كان موضوع وجوب هذه الصلاة وجوب الجلوس واقعا أم أعم منه؛ إذ الاستصحاب يثبت الحكم الواقعي ظاهرا في ظرف الشك، فكل أثر شرعي يترتب على الحكم الواقعي يترتب عليه باستصحابه لإحراز الموضوع تعبدا فيما كان الأثر مترتبا على الواقع، و إحرازه وجدانا فيما كان الأثر مترتبا على الأعم من الواقع و الظاهر.

كما لا إشكال في لزوم ترتب الأثر العقلي في الصورة الرابعة، و هي ترتبه على الحكم الواقعي بوجوده الأعم من الواقعي و الظاهري؛ كوجوب المقدمة و حرمة الضد بناء على عقليتهما، فإذا ثبت وجوب صلاة الجمعة مثلا بالاستصحاب ثبت وجوب مقدمتها و حرمة ضدها.

كما لا إشكال أيضا في عدم ترتب الأثر العقلي في الصورة الثالثة، و هي ترتبه على الحكم بخصوص وجوده الواقعي لا الأعم منه و من الظاهري؛ و ذلك لعدم إحراز موضوعه بالاستصحاب، فإذا كان الإجزاء مثلا حكما عقليا مترتبا على الوجوب الشرعي بوجوده الواقعي، فهو لا يترتب على وجوب صلاة الجمعة الثابت بالاستصحاب؛ إذ لا يثبت به إلاّ وجوبها تعبدا، و المفروض: أن إجزاء صلاة الجمعة عن الظهر منوط بوجوبها واقعا.

كما لا يثبت باستصحاب الطهارة الحدثية إجزاء الصلاة المأتي بها استنادا إلى استصحابها، حيث إن الإجزاء عقلا مترتب على الطهارة بخصوص وجودها الواقعي، لا

ص: 355

في استصحاب الأحكام (1) و لأحكامه (2) في استصحاب الموضوعات، كما لا شبهة (3) في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب من (4) الآثار الشرعية و العقلية.

و إنما الإشكال (5) في ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب...

=============

الأعم منه و من الظاهري، و لذا يقال: بعدم الإجزاء في الأحكام الظاهرية.

فتلخص: أنه إذا ثبت الحكم الواقعي تعبدا بالاستصحاب الجاري في الموضوع أو الحكم، و كانت له آثار شرعية أو عقلية مترتبة على وجوده الواقعي أو الأعم منه و من الظاهري ترتبت تلك الآثار بأجمعها عليه، إذ المفروض: أنه تمام الموضوع لها، سواء كانت عرضية كالحرمة و النجاسة للعصير المغلي إذا شك في ذهاب ثلثيه، فإن هذين الحكمين بناء على القول بالنجاسة يترتبان عرضا على استصحاب عدم ذهاب ثلثيه، أم طولية كما إذا فرض ترتب مانعية الحرير الخالص للرجال على حرمة لبسه تكليفا، فإذا شك في خلوصه و جرى فيه الاستصحاب و ثبت به تعبدا خلوصه ترتب عليه حرمة لبسه و ما يترتب عليها من المانعية.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) يعني: كما إذا كان المستصحب حكما كالوجوب، فوجوب إبقائه هو جعل وجوب مماثل له حال الشك.

(2) معطوف على «للمستصحب» يعني: إنشاء حكم مماثل لأحكام المستصحب في استصحاب الموضوعات ذوات الآثار الشرعية كالعدالة و الحرية و الحياة.

(3) هذا إشارة إلى الأمر الثاني، و هو لزوم ترتيب كل أثر شرعي أو عقلي على الاستصحاب، و قد تقدم توضيح ذلك فلا حاجة إلى الإعادة.

(4) بيان ل «ما» في قوله: «ما للحكم»، و قد تقدم تقريب ترتب الآثار الشرعية و العقلية على الحكم المستصحب، و أنه يترتب عليه جميع الأحكام الشرعية و العقلية؛ إلاّ الحكم العقلي المترتب على الحكم الواقعي بوجوده الواقعي.

(5) هذا شروع في المباحث المتعلقة بالأصل المثبت الذي هو المقصود الأصلي من عقد هذا التنبيه.

و حاصل الكلام في المقام: هو أن الإشكال كل الإشكال في أن الاستصحاب كما يثبت به نفس المستصحب و يترتب عليه آثاره الشرعية، فهل يثبت به لوازم المستصحب عادية كانت أو عقلية، أو ملزومة بحيث لو كان لهذه الأطراف من اللازم و الملزوم و الملازم آثار شرعية يجب ترتيبها عليها أم لا؟.

ص: 356

بواسطة (1) غير شرعية. عادية كانت أو عقلية (2) و منشؤه (3) أن مفاد الأخبار هل هو «و إذا شك مثلا» في حياة زيد و استصحبنا حياته، فكما يثبت بالاستصحاب حياته و يترتب عليها آثارها الشرعية من حرمة التصرف في أمواله و حرمة العقد على زوجته، و نحو ذلك من الآثار الشرعية، فهل يثبت باستصحاب الحياة ما هو لازم عادي كنبات لحيته مثلا حتى يترتب عليه آثاره الشرعية من حرمة حلقها، و استحباب تسريحها و تدويرها، مثلا أم لا يثبت ؟

=============

«و إذا قطع مثلا» جسد زيد بالسيف نصفين - و هو ملفوف باللحاف - ثم شك في حياته في حال القطع و استصحبنا حياته إلى تلك الحال فهل يثبت بذلك لازمها العقلي و هو القتل، و يترتب عليه أثره الشرعي من القصاص و نحوه أم لا؟

«و إذا استصحبنا النهار» مثلا فهل يثبت به ملزومه كطلوع الشمس، أو ملازمه كضوء العالم، و يترتب على الملزوم أو الملازم أثره الشرعي لو كان له أثر كذلك أم لا؟ و هذا هو النزاع المعروف بالأصل المثبت.

فالمتحصل: أنه إذا كان للمستصحب لازم عقلي أو عادي، و كان لذلك اللازم أثر شرعي، فهل يترتب ذلك الأثر الشرعي على مجرد استصحاب ملزومه أم لا؟ فمن قال بحجية الأصل المثبت يقول: نعم، و من قال بعدمها يقول: لا.

و الظاهر: أن المشهور عدم القول بحجية الأصل المثبت.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) احتراز عما إذا كانت الواسطة أثرا شرعيا، كما إذا كان للمستصحب آثار شرعية طولية؛ بحيث كان كل سابق منها موضوعا للاحقه، نظير استصحاب طهارة الماء التي يترتب عليها أولا: جواز الوضوء به، و ثانيا: جواز الدخول في الصلاة، و ثالثا: مالكية المصلي للأجرة إذا كانت صلاته استيجارية، و رابعا: جواز تبديل الأجرة بمال آخر، إلى غير ذلك من الآثار الشرعية، فإن جميع هذه السلسلة من المبدأ إلى المنتهى أحكام شرعية يترتب كل لاحق منها على سابقه، فكل مستصحب يكون كذلك يترتب عليه باستصحابه جميع أحكامه الشرعية و إن كانت في غاية الكثرة، إذ المفروض: أن كلها شرعي، و يترتب جميعها على المستصحب بلا وساطة أمر تكويني، و يكون مثل هذا الاستصحاب أجنبيا عن الأصل المثبت؛ لعدم كون شيء من الوسائط أمرا عقليا أو عاديا.

(2) قد عرفت مثال كل من الواسطة العادية و العقلية.

(3) أي: و منشأ الإشكال في حجية الاستصحاب المثبت و عدمها: «أن مفاد

ص: 357

الأخبار...» الخ، و توضيحه أن هنا مقامين أحدهما: ثبوتي و الآخر: إثباتي.

و أما المقام الأول: فمحصل ما أفاده فيه: أن الوجوه المحتملة في أخبار الاستصحاب التي هي منشأ اعتبار الأصل المثبت و عدمه ثلاثة:

الأول: أن مفاد «لا تنقض اليقين بالشك» هو التعبّد ببقاء المستصحب بلحاظ أثره الشرعي المترتب عليه بلا واسطة؛ كالتعبد بالطهارة الحدثية المشكوكة لجواز مس كتابة القرآن.

الثاني: أن مفاد الأخبار التعبد ببقائه بلحاظ أثره مطلقا و لو بواسطة، بمعنى: كون الملحوظ طبيعة الأثر المترتب على المستصحب، سواء كان بلا واسطة أم معها، كمثال نبات اللحية على ما تقدم آنفا.

فالمقصود من إطلاق دليل الاستصحاب هو: أنه كما يصدق نقض اليقين بالشك إذا لم يرتب المكلف أثر الحياة مثلا بلا واسطة - كوجوب الإنفاق و حرمة تقسيم ما له - على استصحاب الحياة كذلك يصدق نقض اليقين بالحياة بالشك فيها إذا لم يرتب أثر الحياة مع الواسطة؛ كحرمة حلق اللحية المترتبة على النبات الذي هو لازم عادي لبقاء الحياة.

و عليه: فالمطلوب بقوله «عليه السلام»: «لا تنقض الحياة بالشك فيها» ترتيب جميع آثار الحياة الشرعية، سواء ترتبت عليها بلا واسطة أم معها.

الثالث: أن مفاد الأخبار: تنزيل الشيء و التعبد به بماله من اللوازم العقلية و العادية؛ بحيث لا يختص التعبد بالملزوم كالحياة مثلا، بل يشمل كلا من الحياة و لازمها العادي، و من هنا يظهر الفرق بين هذا الوجه و بين الوجهين المتقدمين حيث إن التعبد في هذا الوجه وارد على كل من الملزوم و اللازم، فمعنى استصحاب حياة زيد مثلا: التعبد بها و بلازمها العادي معا كنبات اللحية. بخلاف الوجهين السابقين، فإن يد التعبد فيهما مقصورة على الأثر الشرعي، غاية الأمر: أن التعبد في الوجه الأول يكون بلحاظ الأثر المترتب على المستصحب بلا واسطة. و في الوجه الثاني يكون بلحاظ طبيعة الأثر المترتب على المستصحب و لو مع الواسطة، من دون أن تنال يد التعبد نفس الواسطة العقلية أو العادية التي هي على الفرض موضوع للأثر الشرعي كموضوعية نفس المستصحب له.

ثم إنه غير خفي على ذي فهم و مسكة اختلاف هذه الوجوه في اقتضاء الحجية للأصل المثبت و عدمه، حيث إنه بناء على الوجه الأول لا مقتضى لحجيته لاختصاص التعبد بالأثر المترتب على المستصحب بلا واسطة، و بناء على الوجهين الأخيرين يكون المقتضى

ص: 358

تنزيل المستصحب و التعبد به وحده بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة (1)، أو تنزيله (2) بلوازمه (3) العقلية أو العادية، كما هو (4) الحال في تنزيل مؤديات الطرق و الأمارات، أو بلحاظ (5) مطلق ما له من الأثر و لو بالواسطة، بناء على صحة التنزيل لحجية الأصل المثبت فيهما موجودا، تصل النوبة إلى علاج المانع و هو معارضة الأصل في الثابت للأصل في المثبت كما عن كاشف الغطاء «قدس سره».

=============

(1) هذا إشارة إلى الوجه الأول المذكور بقولنا: «الأول...» الخ، و ضميرا «به، وحده» راجعان إلى المستصحب.

(2) معطوف على «تنزيل» و ضميره راجع إلى «المستصحب».

و هذا إشارة إلى الوجه الثالث المذكور بقولنا: «الثالث...» الخ.

(3) أي: مع لوازم المستصحب من العقلية و العادية؛ بحيث تنالها يد التعبد و التنزيل كما تنال نفس المستصحب.

(4) يعني: أن تنزيل الشيء مع لوازمه حال تنزيل مؤديات الطرق و الأمارات، حيث إن تنزيلها لا يختص بنفس مؤدياتها؛ بل يعمها و لوازمها، فإن قيام البيّنة على كون اليوم من شهر رمضان مثلا كما تثبت أنه من رمضان كذلك تثبت ثانوية الغد للشهر، و هكذا فالآثار الشرعية من استحباب الغسل و الصلوات و الأدعية المترتبة على أيامها و لياليها المتصفة بوصف خاص من حيث الزوجية و الفردية، و كذا تعيين ليالي القدر تترتب على البيّنة المزبورة.

و بالجملة: فالتنزيل في الأصل المثبت نظير التنزيل في الأمارات التي لها كشف و حكاية عن الواقع.

(5) معطوف على قوله: «بلحاظ»، و هذا إشارة إلى الوجه الثاني الذي ذكرناه بقولنا «الثاني: أن يكون مفاد الأخبار التعبد ببقائه بلحاظ أثره مطلقا...» الخ. و كان الأولى ذكر هذا عقيب الوجه الأول؛ لأن هذا قسم منه، حيث إن تنزيل المستصحب وحده يكون تارة: بلحاظ أثر خاص بلا واسطة، و أخرى: بلحاظ مطلق الأثر و لو مع الواسطة، فمورد التعبد و التنزيل في كلا الوجهين هو نفس المستصحب فقط، و الاختلاف إنما هو في الأثر المترتب على تنزيله من كونه خصوص الأثر بلا واسطة أو مطلقا و لو مع الواسطة.

و عليه: فالأولى سوق العبارة هكذا: «بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة، أو بلحاظ مطلق ما له من الأثر و لو بالواسطة».

ص: 359

بلحاظ أثر الواسطة أيضا (1)، لأجل أن أثر الأثر أثر (2)، و ذلك (3) لأن مفادها لو كان هو تنزيل الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه لم يترتب عليه ما كان مترتبا عليها؛...

=============

(1) يعني: كصحة التنزيل بلحاظ أثر نفس الملزوم و هو ذو الواسطة. و قوله: «بناء على صحة التنزيل» إشارة إلى بعض وجوه اعتبار الأصل المثبت.

توضيحه: أن استصحاب بقاء الموضوع معناه جعل ما له من الآثار الشرعية مطلقا، سواء كانت ثابتة له بلا واسطة أم معها، حيث إن الأثر المترتب على أثر شيء يعدّ أثرا لذلك الشيء. فيترتب عليه باستصحابه و إن لم يترتب موضوعه و هو الواسطة بين المستصحب و أثر أثره؛ لعدم كونها أثرا شرعيا حتى تنالها يد التشريع.

فحاصل هذا الوجه: أنه بالتعبد الواحد يجعل مثل جميع الأحكام المترتبة على المستصحب، سواء كانت مع الواسطة أم بدونها.

و أما نفس الواسطة فلعدم قابليتها للجعل التشريعي لا تثبت بالاستصحاب.

(2) هذا تعليل لقوله: «بناء على صحة التنزيل» يعني: أن ثبوت أثر الأثر إنما هو لأجل كونه من آثار الشيء المستصحب، فاستصحابه كاف في تحققه من غير حاجة إلى جعل آثر و تبعد ثانوي؛ بل استصحاب نفس الشيء ذي الواسطة كاف في ثبوت أثرها الشرعي.

(3) بيان لمنشئية الاحتمالين اللذين ذكرهما في أخبار الاستصحاب لحجية الاستصحاب المثبت و عدمها، و محصله: أنه بناء على كون مفادها تنزيل الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه فقط لا يترتب على استصحاب الشيء إلا الآثار الشرعية المجعولة لنفسه، دون الأحكام الشرعية الثابتة للوازمه، فاستصحاب الحياة مثلا يثبت آثارها من حرمة تقسيم المال و حرمة تزويج الزوجة و نحوهما، دون أحكام لازمها كنبات اللحية.

و بناء على كون مفاد أخبار الاستصحاب تنزيل الشيء مع لوازمه؛ بحيث يشمل التعبد كليهما، أو تنزيله بلحاظ طبيعة الأثر المنطبقة على آثاره مطلقا و لو مع الواسطة، فالتعبد في هذه الصورة واحد و فيما قبلها متعدد؛ لشمول التنزيل لكل من الشيء و لوازمه، فكأنه قال: «نزلت الحياة المشكوكة مع ما لها من اللوازم منزلة الحياة المعلومة».

و ضمير «مفادها» راجع إلى الأخبار، و ضمير «هو» إلى «مفادها» و ضميرا «نفسه، عليه» راجعان إلى «الشيء» الذي يراد به المستصحب، و ضمير «عليها» إلى الواسطة، و المراد ب «ما» الموصول في «ما كان» الآثار الشرعية المترتبة على الواسطة.

ص: 360

لعدم (1) إحرازها حقيقة (2) و لا تعبدا، و لا يكون (3) تنزيله بلحاظه، بخلاف (4) ما لو كان تنزيله بلوازمه أو بلحاظ (5) ما يعم آثارها، فإنه (6) يترتب باستصحابه ما كان بوساطتها.

(1) تعليل لقوله: «لم يترتب»، و حاصله: أن وجه عدم ترتب أثر الواسطة على استصحاب ذي الواسطة فيما إذا كان مفاد الأخبار تنزيل الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه هو عدم إحراز الواسطة التي هي موضوع حكمها لا وجدانا كما هو واضح و لا تعبدا، إذ المفروض: اختصاص التعبد و التنزيل الاستصحابي بذي الواسطة، فلا وجه أصلا لترتيب حكم الواسطة باستصحاب ذيها.

(2) أي: وجدانا، و عدم إحراز الواسطة وجدانا واضح كما مر، و كذا عدم إحرازها تعبدا؛ لما عرفت من: اختصاص التنزيل بذي الواسطة و عدم شموله للواسطة.

(3) معطوف على «عدم» و متمم لعلة عدم ترتب أثر الواسطة على استصحاب ذيها يعني: أن علة عدم ترتب أثرها على استصحاب ذي الواسطة هي عدم إحراز الواسطة، و عدم كون تنزيل المستصحب بلحاظ مطلق آثاره و إن كانت مع الواسطة؛ إذ مع وجود أحد هذين الأمرين يترتب أثر الواسطة على استصحاب ذيها كما تقدم سابقا، و حق العبارة أن تكون هكذا: «و لعدم كون تنزيله بلحاظه»، و ضمير «تنزيله» راجع إلى «الشيء» و ضمير «بلحاظه» إلى «ما» الموصول المراد به أثر الواسطة.

(4) يعني: بخلاف ما لو كان تنزيل الشيء مع لوازمه كما هو مقتضى الاحتمال الثالث.

(5) معطوف على «بلوازمه» يعني: بخلاف ما لو كان تنزيل الشيء بلحاظ مطلق آثاره كما هو مقتضى الاحتمال الثاني، و حاصله: أن التنزيل إذا كان بأحد هذين النحوين ترتب على المستصحب آثار لوازمه كما مر تفصيله. و ضمير «آثارها» راجع إلى «الواسطة».

(6) متفرع على هذين الاحتمالين اللذين أشار إليهما بقوله: «بخلاف ما لو كان تنزيله بلوازمه...» الخ، ضرورة: أن لازمهما ترتب أحكام الواسطة باستصحاب ذيها كما مر تفصيله آنفا، و ضمير «فإنه» للشأن، و ضمير «باستصحابه» راجع إلى «الشيء»، و «ما» الموصول فاعل يترتب، و ضمير «بوساطتها» راجع إلى الواسطة العقلية أو العادية.

هذا تمام الكلام في المقام الأول المتكفل بحال الثبوت و بيان الوجوه المحتملة و بيان الوجوه المحتملة في أخبار الاستصحاب. و أما المقام الثاني فسيأتي.

ص: 361

و التحقيق (1): أن الأخبار إنما تدل على التعبد بما...

=============

(1) هذا شروع في المقام الثاني، و هو بيان أحد المعاني المذكورة؛ بحيث يكون هو المدار في مقام الاستدلال، و إجماله: تعيّن الاحتمال الأول، و هو كون التنزيل بلحاظ أثر نفس المتيقن بلا واسطة. و تفصيله منوط ببيان أمور:

الأول: أنه قد تقدم كون مفاد «لا تنقض» جعل حكم مماثل للمستصحب أو لحكمه، لا جعل حكم لغير المستصحب من اللوازم العقلية أو العادية؛ و ذلك لأن اليقين في باب الاستصحاب طريقيّ ، فالتعبد الاستصحابي لا بد أن يتعلق بما تعلق به اليقين، فإذا كانت الحياة مثلا متيقنة سابقا، و شك في بقائها كان مورد التعبد لا محالة نفس الحياة؛ لأن اليقين تعلق بها لا بغيرها من لوازمها.

فالنتيجة: أنه لا يترتب على استصحاب الحياة إلاّ أحكام نفسها، دون آثار لوازمها التي لم يتعلق بها يقين و شك.

الثاني: إن لوازم المستصحب على قسمين: أحدهما: أن تكون لازمة له حدوثا و بقاء؛ كضوء الشمس، و الآخر: أن تكون لازمة له بقاء فقط كنبات اللحية. و محل الكلام هو القسم الثاني؛ إذ لا أثر للقسم الأول بعد كونه بنفسه مجرى الاستصحاب؛ لتعلق اليقين و الشك به كملزومه.

الثالث: أن شرط التمسك بإطلاق الدليل أن لا يكون هناك قدر متيقن في مقام التخاطب؛ إذ الإطلاق منوط بعدم البيان، و من المعلوم: أنه صالح للبيانية كما ثبت في محله، فلا ينعقد معه إطلاق الدليل.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنه لا مجال لاستظهار الاحتمالين الأخيرين؛ لأن جواز الأخذ بهما منوط بإطلاق دليل التنزيل حتى يكون ناظرا إلى التعبد بالملزوم و اللوازم معا كما هو مقتضى الاحتمال الثاني، أو إلى لحاظ مطلق الأثر و لو كان أثر الواسطة كما هو مقتضى الاحتمال الثالث. و قد عرفت: توقف الإطلاق على عدم البيان الذي ينتقض بالقدر المتيقن التخاطبي، لصلاحيته للبيانية. و هذا موجود بما نحن فيه لأن المتيقن من «لا تنقض اليقين بالشك» بعد وضوح طريقيّة اليقين و عدم موضوعيته هو عدم نقض ما تعلق به اليقين أعني: الملزوم؛ كحياة الغائب، دون لوازمه المترتبة على بقائه؛ كنبات اللحية؛ إذ ليست نفس اللوازم متعلقة لليقين حتى يجري فيها الاستصحاب كي يثبت به آثارها الشرعية. كما أن مطلق الآثار الشرعية - و لو مع الواسطة - ليس ملحوظا في استصحاب الملزوم حتى يترتب باستصحابه تلك الآثار؛ لتوقف هذا اللحاظ على الإطلاق الذي

ص: 362

كان (1) على يقين منه فشك بلحاظ (2) ما لنفسه من آثاره و أحكامه، و لا دلالة لها (3) بوجه (4) على تنزيله (5) بلوازمه التي لا تكون كذلك (6) كما هي (7) محل ثمرة عرفت عدم تماميته لوجود القدر المتيقن.

=============

فالنتيجة: قصور أخبار الاستصحاب عن إثبات حجية الأصل المثبت، و أن المتعين من الاحتمالات الثلاثة المذكورة. فيها هو الاحتمال الأول الذي مقتضاه عدم اعتبار الاستصحاب المثبت.

(1) أي: بالمتيقن؛ لأن اليقين طريق إليه بالخصوص، فإن اليقين بالحياة لم يتعلق بلازمها كالنبات، و الاستصحاب لا يجري إلا فيما تعلق به اليقين و هو الحياة، فلا بد أن يكون التعبد بأثر نفس المتيقن أيضا؛ لأنه المتيقن و المشكوك دون غيره.

(2) متعلق ب «التعبد»، و «من آثاره» بيان ل «ما» الموصول، و قد عرفت آنفا: أن التعبد بآثار نفس المتيقن إنما هو لتيقنه في مقام التخاطب، و ضمائر «منه، لنفسه، آثاره» راجعة إلى الموصول.

(3) أي: للأخبار. وجه عدم دلالتها على تنزيل المستصحب مع لوازمه أو تنزيله بلحاظ مطلق آثاره و لو مع الواسطة - حتى يكون الاستصحاب المثبت حجة بلحاظ هذين الوجهين اللذين تقدما في المقام الأول، أعني به مرحلة الثبوت - هو ما مر من وجود القدر المتيقن المانع عن انعقاد الإطلاق للأخبار.

(4) يعني: لا صراحة كما هو واضح، و لا ظهورا إطلاقيا، لما عرفت من وجود القدر المتيقن التخاطبي.

(5) أي: تنزيل ما كان على يقين منه و هو المتيقن مع لوازمه التي لا تكون متيقنة سابقا، و لم يكن المكلف على يقين منها. و بهذا أشار إلى أمرين، أحدهما: منع الاحتمال الأول و هو تنزيل المتيقن مع لوازمه. و ثانيهما: تعيين اللوازم التي تكون محل البحث في الأصل المثبت، و هي ما تترتب على المستصحب بقاء فقط. و قد تقدم توضيحه في الأمر الثاني في توضيح قوله: «و التحقيق أن الأخبار...» الخ.

(6) أي: متيقنة سابقا؛ إذ لو كانت كذلك لجرى الاستصحاب في نفسها؛ لاجتماع ركني الاستصحاب من اليقين و الشك فيها.

(7) أي: اللوازم التي ليس المكلف على يقين منها محل ثمرة الخلاف في الأصل المثبت، دون مطلق اللوازم و لو كانت مترتبة على الحدوث و البقاء؛ لما عرفت: من أنها بنفسها كملزوماتها مورد الاستصحاب، فهنا استصحابان.

ص: 363

الخلاف، و لا على تنزيله (1) بلحاظ ما له مطلقا و لو (2) بالواسطة. فإن (3) المتيقن إنما هو لحاظ آثار نفسه، و أما آثار لوازمه فلا (4) دلالة هناك على لحاظها...

=============

(1) معطوف على «تنزيله»، يعني: و لا دلالة للأخبار على تنزيل المستصحب مع لوازمه بحيث تكون نفس اللوازم أيضا موردا للاستصحاب، و لا على تنزيل المستصحب بلحاظ مطلق آثاره و لو مع الواسطة؛ إذ لو كانت للأخبار دلالة على التنزيل بأحد هذين الوجهين كان الاستصحاب المثبت حجة؛ لكن تسميته بالأصل المثبت بناء على جريان الاستصحاب في نفس اللوازم كجريانه في الملزومات؛ كما هو مقتضى الوجه الأول أعني به قوله: «على تنزيله بلوازمه التي لا تكون كذلك» لا تخلو من المسامحة، و ضميرا «تنزيله، له» راجعان إلى «الشيء».

(2) بيان للإطلاق، و المراد بالواسطة هي العقلية و العادية. و هذا إشارة إلى منع الاحتمال الثاني.

(3) هذا تعليل لقوله: «و لا دلالة لها بوجه»، و قد اتضح مما مرّ، و حاصله: أنه لا إطلاق في الأخبار حتى تدل على أحد هذين التنزيلين اللذين بنى عليهما الاستصحاب المثبت؛ و ذلك لما عرفت: من أن المتيقن في مقام التخاطب - و هو تنزيل المتيقن بلحاظ آثار نفسه لا آثاره. مطلقا و لو مع الواسطة - مانع عن انعقاد الإطلاق في الأخبار، فلا سبيل إلى استظهار أحد هذين التنزيلين المبني عليهما اعتبار الاستصحاب المثبت؛ لابتنائه على إطلاقها المسدود بابه. و ضميرا «نفسه، لوازمه» راجعان إلى «ما كان على يقين منه» و هو الشيء المتيقن المستصحب.

(4) هذه نتيجة القدر المتيقن، يعني: بعد كون المتيقن من الأخبار هو تنزيل المستصحب بلحاظ آثار نفسه لا مطلق آثاره حتى آثار لوازمه يتضح: عدم دلالة تلك الأخبار على لحاظ آثار لوازمه، لما عرفت: من توقف دلالتها على ذلك على إطلاقها المنوط بعدم البيان، و المفروض: صلاحية القدر المتيقن للبيانية، فلا ينعقد معه إطلاق للأخبار.

و الحاصل: أن محذور حجية الأصل المثبت عند المصنف إثباتي، فقوله: «فلا دلالة» لا يخلو من تعريض بما أفاده الشيخ «قدس سره» من كون المحذور عنده ثبوتيا، قال:

«و وجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع لا يعقل إلاّ في الآثار الشرعية المجعولة من الشارع لذلك الشيء؛ لأنها القابلة للجعل دون غيرها من الآثار العقلية و العادية، فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد و إيجابه ترتيب آثار الحياة في زمان الشك هو حكمه بحرمة

ص: 364

أصلا (1)، و ما لم يثبت لحاظها بوجه أيضا (2) لما كان وجه لترتيبها عليه باستصحابه، كما لا يخفى.

=============

تزويج زوجته و التصرف في ماله، لا حكمه بنموه و نبات لحيته؛ لأن هذه غير قابلة لجعل الشارع».

و حاصله: امتناع شمول يد التشريع لغير الآثار الشرعية، فإن التنزيل من كل شخص لا بد أن يكون بلحاظ الآثار المتمشية من قبله، و من المعلوم: أن الأثر المتمشي من الشارع في مقام التشريع - لا التكوين - هو الأثر الذي تناله يد وضعه و رفعه، و حيث إن مثل نبات اللحية ليس في حيطة تصرف الشارع بما هو شارع، فالدليل - مثل: «لا تنقض اليقين بالشك» - غير ناظر إلى أثر الواسطة من أول الأمر، هذا.

و وجه التعريض هو: دعوى إمكان شمول «لا تنقض» لأثر الواسطة كاستحباب خضاب اللحية و إن لم يصلح لإثباته نفس الواسطة أعني: نبات اللحية؛ لعدم كونه مجعولا تشريعيا.

و عليه: فللشارع في استصحاب حياة زيد جعل مطلق ما يترتب عليها من الآثار الشرعية أعم من كونه بلا واسطة أو معها، إذ المفروض: مجعولية كل أثر يترتب على المستصحب سواء ترتب عليه بلا واسطة أو معها. لكن هذا الإطلاق الممكن تحققه غير متحقق؛ لما عرفت: من وجود القدر المتيقن التخاطبي المانع من الإطلاق هذا.

(1) يعني: لا بالصراحة كما هو واضح و لا بالإطلاق، لما عرفت: من عدم تحققه مع وجود القدر المتيقن. و يمكن أن يراد بقوله: «أصلا» كلا اللحاظين: يعني: تنزيل المستصحب مع لوازمه، و تنزيله بلحاظ آثاره مطلقا و لو مع الواسطة. و ضمير «لحاظها» راجع «آثار».

(2) يعني: كلحاظ لوازم المستصحب، فكما لا تترتب آثار نفس المستصحب إلا بلحاظ المستصحب و التعبد به، كذلك لا تترتب آثار لوازم المستصحب إلاّ بلحاظها و التعبد بتلك اللوازم، و المفروض: أنه قد ثبت عدم دلالة الأخبار على هذا اللحاظ و التعبد، فلا وجه لترتيبها. و قوله: «بوجه» يراد به أحد الاحتمالين من تنزيل المستصحب مع لوازمه أو تنزيله بلحاظ مطلق آثاره.

و غرضه: أن ترتيب آثار لوازم المستصحب على استصحابه منوط بدلالة الدليل في مقام الإثبات على لحاظها، و بدون دلالته عليه لا يترتب شيء من آثار لوازم المستصحب بمجرد استصحابه. و ضمير «ترتيبها» راجع إلى «آثار»، و ضميرا «عليه، باستصحابه»

ص: 365

نعم (1)؛ لا يبعد ترتيب خصوص ما كان منها محسوبا بنظر العرف من آثار نفسه لخفاء (2) ما بوساطته، بدعوى (3): أن مفاد الأخبار عرفا ما يعمه أيضا (4) حقيقة (5) راجعان إلى المستصحب المستفاد من قوله: «ما كان على يقين منه».

=============

فتلخص من جميع ما تقدم: عدم حجية الأصل المثبت عند المصنف «قدس سره»؛ لكن قد استثنى من هذه الكلية موارد ثلاثة يأتي التعرض لها عند شرح المتن. و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(1) هذا إشارة إلى المورد الأول من الموارد الثلاثة المستثناة من عدم حجية الأصل المثبت، و هذا المورد مما استثناه الشيخ «قدس سره» من الأصل المثبت.

و محصله: أنه إذا كانت الواسطة في غاية الخفاء؛ بحيث يعدّ أثرها أثرا لنفس المستصحب عرفا بلا واسطة، كاستصحاب رطوبة الثوب الذي ألقته الريح أو غيرها على أرض متنجسة جافة، فإن نجاسة الثوب ليست أثرا بلا واسطة لرطوبة الثوب الملاقي للأرض؛ بل هي أثر لسراية النجاسة من المتنجس إلى ملاقيه بواسطة الرطوبة، و السراية واسطة عقلية بين المستصحب و هي الرطوبة، و بين النجاسة التي هي أثر السراية؛ لكنه يترتب مع ذلك نجاسته باستصحاب بقاء رطوبة الثوب الملاقي للأرض المتنجسة بدعوى خفاء الواسطة و هي السراية؛ بحيث يرى العرف نجاسة الثوب من آثار ملاقاته مع الرطوبة للأرض، لا من آثار السراية، فإذا كانت النجاسة من آثار المستصحب عرفا فلا محالة يشمله دليل الاستصحاب؛ لاتباع نظر العرف في مقام الاستظهار من الخطابات.

قوله: «منها» أي: من آثار لوازم المستصحب إذا كانت تلك الآثار بنظر العرف من آثار نفس المستصحب؛ لخفاء الواسطة بحيث يعدّون الأثر أثرا لنفس المستصحب لا للواسطة، و ضمير «نفسه» راجع إلى المستصحب.

(2) تعليل لكون أثر الواسطة محسوبا بنظر العرف من آثار نفس المستصحب.

(3) متعلق ب «لا يبعد»، و دليل لنفي البعد، و محصله: أنه بعد كون أثر الواسطة لشدة خفائها مما يعدّ عرفا أثرا لنفس المستصحب يترتب على استصحابه ذلك؛ لأن مفاد أخبار الاستصحاب عرفا هو التعبد بآثار المستصحب التي منها آثار واسطته الخفية التي تعد آثارا لنفس المستصحب، و ضمير «يعمه» راجع إلى «ما» الموصول في «ما كان».

(4) يعني: كما أن مفاد الأخبار يشمل أثر نفس المستصحب حقيقة، كذلك يشمل أثر الواسطة الخفية.

(5) يعني: لا مسامحة في مرحلة التطبيق حتى يقال كما قيل: إنه لا عبرة

ص: 366

فافهم (1).

=============

بالمسامحات العرفية التطبيقية، بعد فرض وضوح المفاهيم بحدودها، ففيما نحن فيه يمكن أن يدعى أن أثر الواسطة الخفية أثر حقيقة لنفس الواسطة، و عدّه أثرا للمستصحب مبني على المسامحة العرفية في مقام التطبيق، و لا عبرة بها في هذه المرحلة و إنما هي معتبرة في مرحلة تشخص المفاهيم العرفية.

و عليه: فلا وجه لدعوى اعتبار الاستصحاب المثبت إذا كانت الواسطة خفية.

و المصنف «قدس سره» دفع هذا التوهم بعدم كون المقام من المسامحة في التطبيق، حيث إن رفع اليد عن أثر الواسطة الخفية مع جريان الاستصحاب في ذي الواسطة يكون من نقض اليقين بالشك حقيقة، كما إذا جرى استصحاب بقاء الرطوبة في المثال المزبور أعني: الثوب الملاقي للأرض الجافة المتنجسة، و لم يترتب أثر النجاسة على الثوب عدّ من نقض اليقين بالشك؛ لأن اليقين برطوبة الثوب الملاقي للأرض المزبورة يقتضي اليقين بنجاسته، فعدم ترتيب نجاسته نقض لليقين بالشك؛ لأن العرف يرون نجاسة الثوب الملاقي للأرض المتنجسة من آثار رطوبة الثوب؛ لا من آثار الواسطة و هي السراية.

(1) الظاهر: أنه إشارة إلى ما نبه عليه في حاشية الرسائل من إشكال بعض الأجلة من السادة - و هو على ما حكاه العلامة المشكيني عن المصنف السيد المحقق السيد حسين الكوه كمري - على الشيخ الأنصاري، من أن ترتيب أثر الواسطة الخفية على استصحاب ذي الواسطة يكون من باب تطبيق المفاهيم على مصاديقها العرفية مسامحة، و من المعلوم: عدم اعتبار مسامحات العرف في التطبيقات.

و قد دفع المصنف هذا الإشكال عن الشيخ بقوله: «بدعوى: أن مفاد الأخبار عرفا يعمه حقيقة» و قد تقدم تقريبه.

و بعبارة أخرى: لو استظهر الشيخ «قدس سره» من خطاب «لا تنقض» وجوب ترتيب الأثر بلا واسطة بالخصوص على المستصحب، و مع ذلك ألحق به ترتيب أثر الواسطة الخفية من باب المسامحة في التطبيق من دون انطباق «لا تنقض» عليه حقيقة، كان الإشكال عليه بعدم العبرة بمسامحات العرف في محله.

إلاّ إن الظاهر من كلام الشيخ وجوب ترتيب الأثر بلا واسطة عرفا، و من المعلوم: أنه كما يكون تطبيق هذا المعنى حقيقيا عند عدم وجود الواسطة أصلا، كذلك تطبيقه على ما إذا كان هناك واسطة؛ لكن لخفائها يترتب الأثر حقيقة عرفية على ذي الواسطة. و من الواضح: أجنبية هذا من المسامحات العرفية التطبيقية كي يشكله عليها بعدم اعتبارها،

ص: 367

كما لا يبعد (1) ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفا بينه و بين المستصحب تنزيلا، كما لا تفكيك بينهما واقعا (2)، أو بواسطة (3) ما لأجل وضوح و إنما هو توسعة في نفس مفهوم «لا تنقض» و صدقه حقيقة على مورد خفاء الواسطة.

=============

(1) هذا إشارة إلى المورد الثاني من الموارد الثلاثة المستثناة من عدم حجية الأصل المثبت، و لم أعثر على من تعرض له قبل المصنف، قال في حاشية الرسائل: «و يلحق بذلك - أي: خفاء الواسطة - جلاؤها و وضوحها فيما كان وضوحه بمثابة يورث الملازمة بينهما في مقام التنزيل عرفا؛ بحيث كان دليل تنزيل أحدهما دليلا على تنزيل الآخر كما هو كذلك في المتضايفين؛ لأن الظاهر: أن تنزيل أبوة زيد لعمر و مثلا يلازم تنزيل بنوة عمرو له، فيدل دليل تنزيل أحدهما على تنزيل الآخر و لزوم ترتيب ما له من الأثر».

و محصله: أن وضوح الواسطة و جلاءها إن كان بمثابة يمنع التفكيك بينهما و بين ذيها تنزيلا، كما يمنع التفكيك بينهما واقعا كالمتضايفين؛ كان التعبد بأحدهما تعبدا بالآخر، فالتعبد بأخوة بكر في الرضاع مثلا لبشر الذي هو ولد بطني للمرضعة ملازم للتعبد بأخوة بشر لبكر و هكذا بسائر الأمور المتضايفة، و قد أضاف المصنف الواسطة الجلية إلى الخفية.

ثم إن ما ذكره من الواسطة الجلية ينقسم إلى قسمين: الأول: ما أشار إليه بقوله: «ما لا يمكن التفكيك عرفا...» الخ، و هذا القسم يكون فيما إذا كان مورد الاستصحاب العلة التامة أو الجزء الأخير منها؛ إذ كما لا تفكيك بين العلة و معلولها واقعا، كذلك لا تفكيك بينهما تنزيلا بنظر العرف.

(2) قيد لقوله: «لا تفكيك» كما أن «تنزيلا» قيد لقوله: «لا يمكن التفكيك» يعني:

أن الارتباط بين المستصحب و الواسطة يكون بمثابة لا يمكن التفكيك بينهما لا واقعا و لا تنزيلا.

(3) معطوف على قوله: «بوساطة»، و هذا إشارة إلى القسم الثاني من الواسطة الجلية، و هو يكون في موردين: أحدهما: لازم الشيء، و الآخر: ملازمه.

أما الأول: فكضوء الشمس، فإذا جرى الاستصحاب في بقاء قرص الشمس في قوس النهار ترتب على لازمها - و هو الضوء - أثره الشرعي أعني: طهارة الأرض و الحصر و البواري المجففة بضوئها، فإن استصحاب بقاء الشمس ملازم لاستصحاب ضوئها الموجب لترتب أثره الشرعي و هو الطهارة المزبورة.

و كالجود بالنسبة إلى حاتم، فإن استصحاب حياته و التعبد ببقائها يستلزم التعبد ببقاء

ص: 368

لزومه له، أو ملازمته (1) معه بمثابة عدّ أثره أثرا لهما، فإن (2) عدم ترتيب مثل هذا جوده و ترتيب الأثر الشرعي المترتب عليه. و كالفوت الذي هو لازم عدم الإتيان بالفريضة في الوقت، فإن استصحاب عدم الإتيان بها في وقتها يوجب ترتب وجوب القضاء الذي هو الأثر الشرعي المترتب على الفوت، إلى غير ذلك من النظائر. و الفارق بين هذا القسم و القسم الأول المشار إليه بقوله: «بواسطة ما لا يمكن التفكيك عرفا» هو:

=============

امتناع التفكيك واقعا في الأول، و إمكانه في الثاني؛ لوضوح: عدم ملازمة الحياة للجود واقعا؛ بحيث يستحيل انفكاكهما، و إنما تكون الملازمة عرفية.

و أما الثاني: فهو على ما مثل له في حاشية الرسائل كالمتضايفين، فإن تنزيل أبوة زيد لعمرو مثلا يلازم تنزيل بنوة عمرو له. و كذا سائر المتضايفات.

(1) هذا الضمير و ضميرا «لزومه، أثره» راجعة إلى الموصول المراد به الواسطة، و قوله:

«لزومه» ناظر إلى لوازم المستصحب، و «ملازمته» ناظر إلى ملازماته، و ضميرا «له، معه» راجعان إلى المستصحب، و ضمير «لهما» راجع إلى المستصحب، و الواسطة التي عبر عنها ب «ما» الموصول و «بمثابة» متعلق ب «وضوح» أي: «وضوح اللزوم أو الملازمة بمثابة...» الخ.

و حاصل العبارة: «أو بوساطة واسطة عدّ أثرها لأجل وضوح لزومها للمستصحب، أو ملازمتها معه أثرا للمستصحب أيضا». و كلمة «بمثابة» مستغنى عنها ظاهرا.

إلاّ أن يقال: إن «مثابة» خبر ل «هو» المقدر العائد إلى «ما» الموصول فكأنه قيل: أو بواسطة ما هو بمثابة يعدّ أثره أثرا لهما لأجل وضوح لزومه...» الخ. لكن العبارة على كل حال لا تخلو عن مسامحة.

(2) الظاهر: أنه تعليل لترتيب أثر الواسطة الخفية و الجلية على المستصحب، بتقريب:

أن النهي عن نقض اليقين بالشك، كما يشمل أثر المستصحب بلا واسطة أصلا، كذلك يشمل أثره بلا واسطة عرفا و إن كان هناك حقيقة كنجاسة أحد المتلاقيين مع رطوبة أحدهما، فإن العرف يرى النجاسة من آثار الملاقاة مع الرطوبة، و إن كانت هي بالدقة من آثار سراية شيء من أجزاء المتنجس إلى ملاقيه؛ لكن المتبع في باب الاستصحاب هو النظر العرفي دون الدقي.

و عليه: ففي كل مورد يكون أثر الواسطة بنظر العرف أثرا للمستصحب يشمله إطلاق «لا تنقض اليقين بالشك» الثابت بمقدمات الحكمة، فهذا الدليل بنفسه يثبت أثرا الواسطة باستصحاب ذيها، و خفاء الواسطة و جلاؤها لزوما أو ملازمة للمستصحب منا شيء لكون أثر الواسطة أثرا له حتى يصح شمول «لا تنقض» له.

ص: 369

الأثر (1) عليه يكون نقضا ليقينه بالشك أيضا (2) بحسب (3) ما يفهم من النهي عن نقضه عرفا، فافهم (4).

ثم لا يخفى (5): وضوح الفرق بين الاستصحاب و سائر الأصول التعبدية، و بين

=============

(1) أي: أثر الواسطة الجلية أو هي مع الخفية.

(2) يعني: كما يكون عدم ترتيب أثر نفس المستصحب عليه نقضا ليقينه بالشك، كذلك يكون عدم ترتيب أثر الواسطة المذكورة على المستصحب نقضا ليقينه بالشك، و ضمير «عليه» راجع إلى المستصحب.

(3) متعلق بقوله: «نقضا» و إشارة إلى دفع ما توهم من أن التمسك بدليل الاستصحاب لترتيب آثار الواسطة الجلية، أو التي لا يمكن التفكيك بينها و بين المستصحب حقيقة و تنزيلا يكون من باب المسامحة العرفية في التطبيق التي لا عبرة بها أصلا، كما أشرنا إليه عند شرح قوله: «فافهم» فيما يتعلق بالواسطة الخفية.

(4) الظاهر: أنه إشارة إلى أجنبية المقام عن المسامحات التطبيقية العرفية، حيث إنه إن كان أثر الواسطة أثرا لنفس المستصحب عرفا بمعنى: توسعة العرف مفهوم موضوع الحكم؛ بحيث يصدق على كل من المستصحب و الواسطة، فإطلاق «لا تنقض» الثابت بمقدمات الحكمة يقتضي ترتيب أثر الواسطة على المستصحب و إن لم يكن أثرا لنفسه؛ لكن لا تنفك الواسطة عن المستصحب، فوجه ترتيب أثرها على المستصحب هو تنزيل ثانوي التزامي يقتضيه التنزيل الأوّلي المطابقي. فعلى التقديرين: لا يكون ثبوت أثر الواسطة للمستصحب بسبب المسامحة العرفية التطبيقية حتى يتوهم عدم اعتباره.

في الفرق بين مثبتات الأمارات و الأصول

(5) حيث إن المشهور بين الأصوليين هو حجية مثبتات الأمارات، دون مثبتات الأصول، فلا بد من بيان الفرق بين الأمارة و الأصل، ثم بيان وجه حجية مثبتات الأمارة دون الأصل و يقال: إنه ما هو الفرق بين مثبتات الأصول و مثبتات الأمارات مع اشتراكهما في التعبد في المؤدى.

و أما بيان الفرق بينهما فنقول: إن كلماتهم في ذلك و إن كانت مختلفة؛ إلاّ إن المشهور بينهم في الفرق بينهما هو: أن الجهل بالواقع و الشك فيه مأخوذ في موضوع الأصول دون الأمارات، بل الموضوع المأخوذ في لسان أدلة حجية الأمارات هو نفس الذات بلا تقييد بالجهل و الشك.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن في الحجج الشرعية - سواء كانت طرقا

ص: 370

إلى الأحكام الإلهية كأخبار الآحاد أم أمارات على الموضوعات مثل قيام البيّنة على موضوع خارجي كضوء الشمس أو غروبها - جهتين.

إحداهما: كشفها عن مدلولها؛ لأن شأن كل أمارة كشفها عن مؤداها كشفا ناقصا، و الكاشف عن شيء كاشف عما لا ينفك عنه تصوره من ملزوماته و لوازمه و ملازماته؛ بحيث يدل عليه اللفظ تبعا لدلالته على معناه المطابقي، فإن لفظ «الشمس» مثلا و إن وضع لنفس القرص، لكنه يدل على ضوئها أيضا لما بينه و بين نفس الشمس من العلقة اللزومية الموجبة للدلالة التبعية المزبورة.

و بالجملة: الدلالة الناقصة في الطرق و الأمارات بالنسبة إلى كل من المدلول المطابقي و الالتزامي ثابتة.

ثانيتهما: إطلاق دليل الحجية الثابت بمقدمات الحكمة، فإنه يدل على حجية الطرق و الأمارات في جميع ما لهما من الدلالة المطابقية و التضمنية و الالتزامية من دون تفاوت بينها، فإذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين، ثم قامت البيّنة على نجاسة أحدهما المعين، فقد دلت على لازمها أيضا و هو طهارة الإناء الآخر.

و هذا بخلاف الاستصحاب و غيره من الأصول العملية موضوعية كانت أم حكمية، فإنه لا دلالة فيها بوجه على الملزوم، فضلا عن اللازم حتى يدل دليل الاعتبار على حجيته؛ كدلالته على حجية الملزوم، فعليه: لا يقتضي دليل اعتبار الأصل إلاّ التعبد بنفس المشكوك بترتيب الأثر الشرعي المترتب على نفسه دون الآثار الشرعية المترتبة على لوازمه و ملزومه و ملازماته؛ لعدم دلالة عليها حتى يثبت اعتبارها بدليل حجية الأصل كثبوت اعتبارها في الحجج الشرعية الكشفية بدليل اعتبارها، فاستصحاب حياة زيد لا يقتضي إلاّ التعبد بالآثار الشرعية الثابتة للحياة الواقعية، دون الآثار الشرعية المترتبة على لوازمها كالنمو و نبات اللحية مثلا؛ إذ لم يدل على لوازم الحياة شيء حتى يقال بحجية هذه الدلالة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الجهة الأولى - و هي الكشف عن اللوازم - موجودة في الطرق و مفقودة في الأصول، و هي التي أوجبت حجية مثبتات الأمارات دون الأصول، و مع عدم ما يوجب الدلالة على وجود اللوازم في الأصول لا مقتضي لاعتبار مثبتاتها لتفرع الحكم على موضوعه، و المفروض: عدم ما يدل على وجود الموضوع، فإن الأصول إنما تحكم تعبدا بمفادها، فإذا قال: «كل شيء طاهر» فليس معنى ذلك إلاّ أن

ص: 371

الطرق و الأمارات، فإن (1) الطريق أو الأمارة حيث إنه كما يحكي (2) عن المؤدى و يشير إليه، كذا يحكي عن أطرافه من ملزومه و لوازمه و ملازماته، و يشير (3) إليها، هذا الشيء طاهر، و ليس هناك علم بلازمه و لا تعبد بالنسبة إليه، فلو كان لازم هذا الشيء نجاسته شيء آخر لم يكن دليل شرعي أو عقلي على ذلك اللازم، و لذا لا يقال بترتيب ذلك اللازم على مجرد هذا الأصل.

=============

و هذا بخلاف الطرق و الأمارات، فإنها جعلت كاشفة عن الواقع، ففي كون خبر الواحد حجة أن مفاده هو الواقع، كما أن معنى كون البيّنة حجة أن قولها هو الواقع، فإذا قاما على شيء كان ذلك الشيء ثابتا - تعبدا - و كما أنه يترتب على ذلك الشيء لازمه و ملازمه كذلك يترتب على وجوده التعبدي، فلو دل الدليل على أن صلاة الظهر يوم الجمعة واجبة، و هناك دليل آخر على أنه لا صلاتين في يوم واحد كان ذلك مقتضيا لعدم وجوب الجمعة، فكما أنه لو علمنا بمفاد هذين الخبرين لم تجب الجمعة، كذلك إذا كشف لنا الشارع عنهما بالتعبد.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الفرق بين مثبتات الأصول و مثبتات الأمارات.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) هذا شروع في بيان وجه الفرق بين الأصول العملية و بين الطرق و الأمارات، و قد مر توضيح ذلك مفصلا.

(2) حكايته إنما هي لأجل دلالته على المؤدى، و كشفه عنه، و الدلالة على الملزوم دلالة على اللازم، فكما يحكي الطريق عن المؤدى مطابقة فكذلك يحكي عن لوازمه و ملازماته و ملزومه التزاما، فالحكاية في الأمارة و إن كانت واحدة صورة لكنها تنحل إلى حكايات متعددة لبّا بحسب ما للمحكي من الملزوم و اللازم و الملازم.

و عليه: فيشمل دليل اعتبار الخبر كل واحدة من هذه الحكايات.

و ضمائر «إليه، أطرافه، ملزومه، لوازمه، ملازماته» راجعة إلى «المؤدى»، و الأولى تأنيثها، لرجوعها إلى المؤنث و هو «الأمارة و الطريق» التي هي أيضا مؤنث مجازي.

(3) معطوف على «يحكي»، و ضمير «إليها» راجع إلى «أطرافه»، و المراد بحكاية الطريق كما قيل هو دلالتها على المؤدى و كشفها عنه، لا ظاهره حتى يرد عليه: أنه ربما لا يكون المخبر ملتفتا إلى لوازم المؤدى، و مع عدم الالتفات كيف يحكي عنها؛ إلاّ إن تفسير الحكاية بالدلالة خلاف الظاهر.

و قوله: «كان مقتضى إطلاق...» الخ جواب: «حيث» و إشارة إلى الجهة الثانية

ص: 372

كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها، و قضيته (1) حجية المثبت منها كما لا يخفى. بخلاف (2) مثل دليل الاستصحاب...

=============

المذكورة في المقدمة. كما أن قوله: «حيث إنه كما يحكي عن المؤدى و يشير إليه» إشارة إلى الجهة الأولى المذكورة في المقدمة أيضا. و ضمائر «اعتبارها، تصديقها، حكايتها» راجعة إلى «الطريق أو الأمارة».

(1) يعني: و مقتضى لزوم تصديق الأمارة الحاكية عن أطراف مؤداها من ملزومه و لوازمه و ملازماته هو حجية مثبتات الأمارة؛ إذ المفروض: أنها تدل على جميعها و تحكي عنها كما تحكي عن نفس مؤداها، و حيث إن دليل اعتبارها مطلق لعدم ما يوجب تقييده من القدر المتيقن في مقام التخاطب و غيره - و هو يدل على اعتبارها من حيث الكشف و الطريقية - فلا محالة تكون حجة في كل ما ينكشف بها من أطراف مؤداها من الملزوم و اللازم و الملازم، سواء اعتقد المخبر بالأمارة باللزوم أم لا. فإذا أخبرت البيّنة بولادة المرأة الفلانية في تاريخ كذا، و انقضى من ذلك التاريخ إلى زمان شهادتها خمسون سنة ثبت لازمها و هو يأسها إذا كانت غير قرشية و إن لم تلتفت البيّنة إلى هذا اللازم، و يترتب على هذا اللازم عدم وجوب العدّة إذا طلّقت، و جواز تزويجها بعد الطلاق بلا فصل.

(2) يعني: بخلاف دليل الاستصحاب و غيره من الأصول العملية، فإنه يفارق دليل الأمارة من حيث إن الأمارة لما كانت حاكية عن جميع مداليلها المطابقية و التضمنية و الالتزامية كان مقتضى إطلاق دليل حجيتها اعتبار جميعها؛ إذ المفروض: فعلية دلالتها على الجميع، و عدم مانع عن إطلاق دليل حجيتها و أما دليل الاستصحاب و غيره من الأصول العملية فلا يقتضي حجيتها في لوازمها؛ إذ المفروض: عدم دلالة الأصول على مؤدياتها و كشفها عنها حتى تدل على لوازم مؤدياتها و تشملها أدلة الأصول، فتنزيل الحياة المشكوكة بسبب الاستصحاب عبارة عن التعبد بالأثر الشرعي المترتب على نفس الحياة، دون آثار لوازمها كنبات اللحية و البلوغ خمسين سنة مثلا؛ لأن التعبد بأحكام اللوازم منوط بإحراز موضوعها أعني: نفس اللوازم إما وجدانا و إما تعبدا، و كلاهما مفقود.

أما الأول: فواضح. و أما الثاني: فلأن مورد التعبد الاستصحابي هو نفس الحياة؛ لأنها المعلومة حدوثا المشكوكة بقاء، و التعبد بها لا يقتضي إلاّ التعبد بالحكم الشرعي المترتب على نفسها دون غيرها و إن كان من لوازمها كما هو واضح.

التعبير بالمثل في قوله: «مثل دليل الاستصحاب» إشارة إلى عدم اختصاص عدم

ص: 373

فإنه (1) لا بد من الاقتصار بما فيه من الدلالة على التعبد بثبوته (2)، و لا دلالة له إلاّ على التعبد بثبوت المشكوك بلحاظ أثره (3)، حسبما عرفت (4)، فلا (5) دلالة له على اعتبار المثبت منه كسائر الأصول التعبدية؛ إلاّ (6) فيما عدّ أثر الواسطة أثرا له، لخفائها أو شدة وضوحها و جلائها حسبما حققناه.

=============

حجية الأصل المثبت بالاستصحاب، و أن أدلة سائر الأصول العملية كدليل الاستصحاب لا تقتضي اعتبار مثبتات الأصول.

(1) هذا بيان ما يقتضيه الاستصحاب، يعني: فلا بد من الاقتصار على ما يدل عليه دليل الاستصحاب من التعبد بالمشكوك بلحاظ أثر نفسه بلا واسطة؛ لأنه مورد التعبد و التنزيل، فلا بد من الاقتصار على أثر نفس المستصحب دون غيره من لوازمه و ملزوماته و ملازماته.

(2) الأولى أن يقال: «بثبوت المشكوك، و لا دلالة إلاّ على التعبد بثبوته بلحاظ أثره»، حتى يكون مرجع ضمير «ثبوته» مذكورا في الكلام، فحق العبارة أن تكون هكذا «فإنه لا بد من الاقتصار بما فيه من الدلالة على التعبد بثبوت المشكوك، و لا دلالة له إلاّ على التعبد بثبوته بلحاظ أثره».

(3) هذا الضمير و ضمير «ثبوته» راجعان إلى المشكوك المستفاد من العبارة، و لو قال:

«بلحاظ أثر نفسه» كان أنسب بقوله: «و لا دلالة إلاّ على التعبد...» الخ، و ضمير «فيه» راجع إلى «دليل»، و «من الدلالة» بيان للموصول في «بما فيه»، و ضمير «له» راجع إلى «دليل الاستصحاب».

(4) حيث قال: «و التحقيق: أن الأخبار إنما تدل على التعبد بما كان على يقين منه فشك بلحاظ ما لنفسه من آثاره...» الخ.

(5) هذه نتيجة ما تقدم من عدم دلالة دليل الاستصحاب إلاّ على التعبد بالمشكوك، فإن لازم هذا التعبد الاقتصار على الحكم الشرعي المترتب على نفس المستصحب دون غيره و إن كان ذلك لازما أو ملزوما أو ملازما له؛ لاختصاص التعبد و التنزيل بما تعلق به اليقين و الشك. و ضمير «له» راجع إلى «دليل»، و ضمير «منه» إلى الاستصحاب.

(6) استثناء من قوله: «فلا دلالة له» يعني: فلا دلالة لدليل الاستصحاب على اعتبار المثبت منه إلاّ في الواسطة التي عد أثرها لخفائها أو جلائها أثرا للمستصحب، فحينئذ يكون دليل الاستصحاب دليلا على اعتبار المثبت منه بالتقرير المتقدم. و ضمائر «لخفائها، وضوحها، جلائها» راجعة إلى الواسطة، و ضمير «له» إلى «المشكوك».

ص: 374

فتلخص من جميع ما تقدم: أن المصنف «قدس سره» ينكر حجية الأصل المثبت إلاّ في موردين، أحدهما: خفاء الواسطة و هو الذي يقوله به الشيخ «قدس سره» أيضا.

ثانيهما: جلاء الواسطة، و له صورتان، إحداهما: أن يكون مورد التعبد الاستصحابي العلة التامة أو الجزء الأخير منها.

ثانيتهما: أن يكون مورد التعبد الاستصحابي من الأمور المتضايفة، و قد تقدم توضيح ذلك كله.

هذا تمام الكلام في التنبيه السابع.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من عقد هذا التنبيه السابع هو: البحث عن حجية الأصل المثبت.

و أما بيان ما هو محل الكلام: فلا خلاف في حجية الاستصحاب فيما إذا كان المستصحب حكما شرعيا، أو موضوعا ذا أثر شرعي، و إنما الكلام فيما إذا كان المستصحب موضوعا ذا أثر عقلي أو عادي يترتب عليه الأثر الشرعي بواسطة الأثر العقلي أو العادي و يسمى هذا الأصل بالأصل المثبت.

2 - و منشأ هذا الخلاف: هو مفاد الأخبار؛ إذ فيه احتمالات.

توضيح ذلك: أنه لا شك في أن مفاد الأخبار عبارة عن تنزيل المشكوك بمنزلة المتيقن بلحاظ ما للمتيقن من الآثار و هي على أقسام، و فيما هو المراد منها احتمالات:

الأول: أن يكون المراد منها هو الأثر الشرعي بلا واسطة فقط.

الثاني: أن يكون المراد منها جميع الآثار عقلية أو عادية أو شرعية. ثم الشرعية بلا واسطة أو معها.

الثالث: أن يكون المراد منها هو مطلق الأثر الشرعي بلا واسطة أو معها.

ثم الحق أن المراد هو الاحتمال الأول دون الأخيرين.

فيكون مفاد الأخبار: تنزيل المشكوك منزلة المتيقن كي يترتب على المشكوك الأثر الشرعي الذي لا واسطة له أصلا، و لازم ذلك: عدم حجية الأصل المثبت و هو ما يترتب على المستصحب الأثر الشرعي بواسطة الأثر العقلي أو العادي.

3 - الإشكال في أن الاستصحاب كما يثبت به نفس المستصحب و يترتب عليه

ص: 375

الأثر الشرعي كحرمة التصرف في المال في استصحاب الحياة، فهل يثبت به لوازم المستصحب كنبات اللحية في استصحاب حياة زيد حتى يترتب عليه آثاره الشرعية من حرمة حلقها و استحباب تسريحها أم لا يثبت ؟

فالمتحصل: أنه إذا كان للمستصحب لازم عقلي أو عادي؛ و كان لذلك اللازم أثر شرعي، فهل يترتب ذلك الأثر الشرعي على مجرد استصحاب ملزومه أم لا؟ فمن يقول بحجية الأصل المثبت يقول: نعم، و من قال بعدمها بقول: لا، و المشهور عدمها.

4 - المصنف ممن يقول بعدم حجية الأصل المثبت؛ لكن استثنى موارد ثلاثة:

المورد الأول: ما إذا كانت الواسطة خفية؛ بحيث يعد أثر الواسطة الشرعي أثرا للمستصحب عرفا بلا واسطة؛ كاستصحاب رطوبة الثوب الملاقي لأرض متنجسة و جافة لإثبات نجاسة الثوب الملاقي لها، فإن النجاسة ليست أثرا بلا واسطة؛ بل بواسطة سراية النجاسة من المتنجس إلى الملاقي، فالسراية واسطة عقلية بين المستصحب و هي الرطوبة، و بين النجاسة التي هي أثر السراية؛ لكنه يترتب على المستصحب بدعوى خفاء الواسطة؛ بحيث يرى العرف نجاسة الثوب من آثار ملاقاته مع الرطوبة للأرض المتنجسة لا من آثار السراية.

5 - المورد الثاني و الثالث هو: جلاء الواسطة و وضوحها فيما إذا كان الوضوح بمثابة يورث الملازمة بينهما في مقام التنزيل عرفا؛ بحيث كان دليل تنزيل أحدهما دليلا على تنزيل الآخر كما هو كذلك في المتضايفين هذا هو المورد الثاني، و العلة التامة و معلولها هذا هو المورد الثالث.

فإن جلاء الواسطة في هذين الموردين يمنع التفكيك بينها و بين ذيها تنزيلا، كما لا يمكن التفكيك بينهما واقعا.

6 - الفرق بين مثبتات الأصول و مثبتات الأمارات، حيث تكون الثانية حجة دون الأولى.

و خلاصة الفرق بينهما: أن الدلالة في الأمارات بالنسبة إلى كل من المدلول المطابقي و الالتزامي ثابتة، و إطلاق دليل حجيتها يدل على حجيتها في جميع ما لها من الدلالة المطابقية و الالتزامية من دون تفاوت بينهما، فإذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين، ثم قامت البينة بنجاسة أحدهما المعين، فقد دلت على لازمها أيضا و هو طهارة الإناء الآخر.

هذا بخلاف الاستصحاب و غيره من الأصول العملية، فإنه لا دلالة فيها بوجه على

ص: 376

الثامن (1): أنه لا تفاوت في الأثر المترتب على المستصحب بين أن يكون مترتبا الملزوم فضلا عن اللازم حتى يدل دليل الاعتبار على حجيته كدلالته على حجية الملزوم.

=============

فاستصحاب حياة زيد لا يقتضي إلاّ التعبد بالآثار الشرعية الثابتة للحياة الواقعية، دون الآثار الشرعية المترتبة على لوازمها كالنمو و نبات اللحية مثلا؛ إذ لم يدل على لوازم الحياة شيء حتى يقال بحجية هذه الدلالة.

7 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو عدم حجية الأصل المثبت إلاّ في موردين أحدهما: خفاء الواسطة، و الآخر:

جلاؤها.

التنبيه الثامن: في الموارد الثلاثة التي توهم كون الأصل فيها مثبتا
اشارة

(1) الغرض من عقد هذا التنبيه الثامن: دفع توهم مثبتية الأصل في موارد ثلاثة:

و قبل الخوض في توضيح هذه الموارد نقول: إن بحث الأصل المثبت في التنبيه السابع كان كبرويا بمعنى: أنه كان البحث في حجية الأصل المثبت فيقال: هل الأصل المثبت حجة أم لا؟

و قد ثبت في التنبيه السابع أنه ليس بحجة، ثم بحث الأصل المثبت في هذا التنبيه الثامن يكون صغرويا، و هذا البحث الصغروي ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما لا يكون الأصل فيه مثبتا بالاتفاق؛ كما إذا كان المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي.

القسم الثاني: ما يكون الأصل فيه مثبتا بالاتفاق؛ كما إذا كان الأثر الشرعي مترتبا على المستصحب بواسطة الأثر العادي أو العقلي.

القسم الثالث: ما وقع النزاع في كون الأصل الجاري فيه من الأصل المثبت، و هي ثلاثة موارد وقع النزاع بين الشيخ و صاحب الكفاية في كون الأصل الجاري فيها من الأصل المثبت.

و قبل البحث تفصيلا في هذه الموارد الثلاثة نقول: إنه قد ظهر من مباحث التنبيه السابع أمران:

أحدهما: أن مفاد أدلة الاستصحاب إنشاء حكم مماثل للمستصحب في استصحاب الأحكام و مماثل لأحكامه في استصحاب الموضوعات، سواء ترتب الأثر على المستصحب بلا وساطة شيء كاستصحاب عدالة زيد ليترتب عليه جواز الاقتداء به، أم بواسطة أثر شرعي كاستصحاب طهارة الماء لترتيب أثره الشرعي عليه، و هذا أعم من

ص: 377

ترتبه عليه بلا واسطة؛ كجواز الوضوء به، أو بواسطة أثر شرعي؛ كجواز الدخول في الصلاة المترتب على صحة وضوئه، و هكذا، فالأصل هنا ليس مثبتا بالاتفاق، فهنا كبرى كلية سلبية و هي عدم كون الأصل مثبتا بالاتفاق.

ثانيهما: أن الأثر الشرعي المترتب على المستصحب بواسطة لازمه أو ملازمه أو ملزومه أو مقارنه - فيما عدا خفاء الواسطة أو جلائها - لا يترتب عليه لعدم اعتبار الأصول المثبتة كما تقدم، و الأصل هنا مثبت بالاتفاق، فتكون هناك كبرى كلية إيجابية و هي كون الأصل مثبتا بالاتفاق.

و بعد وضوح حكم هاتين الكبريين قد وقع النزاع في بعض المقامات من جهة صغرويته للكبرى الثانية؛ حتى لا يجري فيها الاستصحاب لكونه مثبتا، أو للكبرى الأولى حتى يجري فيها الاستصحاب لعدم كونه مثبتا.

و كيف كان؛ فقد ذكر المصنف في هذا التنبيه موارد ثلاثة يتوهم كون الأصل فيها مثبتا.

الأول: الأصل الجاري في الموضوعات الخارجية لإثبات الأثر الشرعي لها.

الثاني: الأصل الجاري في الشرط و نحوه لإثبات الشرطية.

الثالث: الأصل الجاري في عدم استحقاق العقوبة لإثبات البراءة.

و أما المورد الأول - و هو جريان الاستصحاب في الفرد لإثبات الحكم المتعلق بالكلي له

- فهو على قسمين:

الأول: أن يكون اللازم العادي أو العقلي متحدا مع المستصحب وجودا.

الثاني: أن يكون مباينا و مغايرا له في الوجود، فقد قال الشيخ: بعدم الفرق بين القسمين في مثبتية الأصل، فالأصل مثبت في كلا القسمين، و المصنف دفع هذا التوهم، و قال بالتفصيل و هو الفرق بين كون الواسطة متحدة وجودا مع المستصحب، فلا يكون الأصل مثبتا و بين كونها مغايرة له وجودا، فيكون الأصل مثبتا.

و توضيح ما أفاده المصنف من التفصيل يتوقف على مقدمة و هي بيان أمرين:

الأول: أن يكون المحمول ذاتي الموضوع و حقيقته التي هي جنسه و فصله، و هي الذاتي في باب الإيساغوجي كحمل «الحيوان الناطق» على الإنسان.

الثاني: أن يكون المحمول عنوانا مشتقا من مبدأ قائم بذات الموضوع و منتزع عن نفس ذاته؛ بأن يكفي ذاته في انتزاعه، من دون حاجة إلى ضم ضميمة كالإمكان الذي ينتزع

ص: 378

من ذات الإنسان مثلا، و يحمل ما يشتق منه عليه فيقال: «الإنسان ممكن» و كذا الزوجية و نحوها من لوازم الماهيات، فيقال: «الأربعة زوج»، فإن ذات الإنسان كافية في انتزاع الإمكان له، و كذا ذات الأربعة لانتزاع الزوجية منها، و هذا المحمول هو الذاتي البرهاني المغاير للذاتي الإيساغوجي، حيث إن إمكان الممكن أمر اعتباري، و ليس مقوما، بخلاف الذاتي الإيساغوجي، فإنه مقوّم.

الثالث: أن يكون المحمول عنوانا مشتقا من مبدأ قائم بالموضوع قياما انضماميا أي:

من دون أن يكون المبدأ ذاتيا برهانيا و لا إيساغوجيا للموضوع، و هو إما لا وجود له في الخارج كالعلم و العدالة و الملكية و الزوجية و الأبوة و جميع الأمور الاعتبارية، و نحوها من الأمور الانتزاعية كالفوقية و التحتية.

و إما له وجود في الخارج؛ كالسواد و البياض و نحوهما من الأعراض الخارجية المنضمة إلى الأجسام الموجودة، فإن مفاهيم هذه العناوين الاشتقاقية كالعالم و العادل و الأسود و الأبيض و نظائرها ليست منتزعة عن نفس الذوات كالإمكان؛ بل منتزعة عنها بانضمام مبادئ الاشتقاق من المصادر الأصلية؛ كالعلم و العدل و السواد و البياض، أو المصادر الجعلية؛ كالحرية و الرقية و الزوجية و نحوها.

و ثانيهما: أن بعض أهل العقول اصطلح على بعض المحمولات بالخارج المحمول، و على بعضها بالمحمول بالضميمة، و الأول هو: الأمور الانتزاعية المحمولة على المعروض بعد انتزاعها من حاق الذات و صميمها كعوارض الماهية، و الثاني هو: الأمر المتأصل المحمول على المعروض بضميمة الوجود، أو بواسطته كعوارض الوجود كالأسود و الأبيض في الأجسام؛ و لكن ليس مقصود المصنف من هذين الاصطلاحين مفهومهما عند أهل المعقول؛ بل مراده بالخارج المحمول هو مطلق الأمور الاعتبارية؛ لا خصوص ما ينتزع عن حاق الشيء كإمكان الإنسان؛ بل يشمل الأعراض التي ليس لها ما يحاذيها في الخارج؛ كالعدالة و العلم و نحوهما من الاعتبارات على ما حكى المحقق المشكيني عن مجلس درس المصنف.

إذا عرفت هذين الأمرين، فاعلم: أن نقطة الخلاف بين الشيخ و المصنف «قدهما»: أن الشيخ حكم يكون الأصل مثبتا في جميع الاحتمالات المذكورة في الأمر الأول، و قال:

بعدم جريان استصحاب الفرد و إجراء أحكام الكلي عليه في جميع الأقسام الثلاثة المذكورة في الأمر الأول. و المصنف فصل بين القسمين الأوّلين و القسم الثالث، حيث

ص: 379

حكم بكون الأصل مثبتا في القسم الثالث دون القسم الأول و الثاني؛ و ذلك لتغاير الواسطة مع المستصحب في القسم الثالث دون القسم الأول و الثاني، فإن الواسطة متحدة مع المستصحب وجودا فيهما.

و الملاك في مثبتية الأصل عند المصنف: أن تكون الواسطة مغايرة وجودا للمستصحب؛ كالسواد و البياض و نحوهما من المحمولات بالضميمة التي لها ما بإزاء في الخارج؛ و إن كانت قائمة بمعروضاتها، فإن كان لسواد الجسم مثلا أثر شرعي لا يترتب على استصحاب الجسم أثر سواده.

و حاصل الكلام في المقام: أن مورد الأصل المثبت عند المصنف هو ما إذا كانت بين المستصحب و الواسطة مغايرة وجودا. و أما إذا كان بينهما اتحاد وجودي؛ بحيث تحمل الواسطة على المستصحب بالحمل الشائع لم يكن الاستصحاب لترتيب أثر الواسطة على المستصحب من الأصل المثبت أصلا، ضرورة: أن متعلق الحكم على ما ثبت في محله و إن كان هو الكلي؛ لكنه بلحاظ وجوده، لعدم قيام الملاكات الداعية إلى تشريع الأحكام بالطبائع بما هي هي؛ بل بلحاظ وجودها، و من المعلوم: أن الكلي موجود بعين وجود فرده، سواء كان منتزعا عن ذات الفرد كالإنسان المنتزع عن زيد مثلا، أم منتزعا عن اتصافه بعوارض ليس لها ما بإزاء في الخارج؛ بل هي متحدة وجودا مع معروضها كالعالم و العادل و نحوهما من العناوين الاشتقاقية التي لا يكون لمبادئها ما يحاذيها في الخارج.

و عليه: فإذا شككنا في بقاء مائع على خمريته، فاستصحاب خمريته لترتيب حرمة طبيعة الخمر عليه ليس مثبتا. و كذا استصحاب عدالة زيد مثلا لترتيب آثار طبيعة العادل عليه ليس مثبتا.

هذا كله بناء على تعلق الأحكام بالطبائع. و أما بناء على تعلقها بالأفراد فالأمر أوضح؛ لكون الفرد بخصوصيته موضوع الحكم، من دون حاجة في إثبات الحكم له إلى انطباق الطبيعي عليه.

و نتيجة البحث في المورد الأول: هي كون الأصل مثبتا عند الشيخ نظرا إلى وجود الواسطة و هي الكلي؛ لأن الحكم للفرد إنما هو بواسطة الكلي، و ليس الأصل مثبتا عند المصنف نظرا إلى اتحاد الواسطة مع المستصحب وجودا؛ لأن الكل لا يعدّ لازما عقليا للفرد كي يكون الاستصحاب من الأصل المثبت، بل هو عين الفرد وجودا و متحد معه خارجا، فلا يكون الأصل مثبتا. هذا تمام الكلام في المورد الأول من الموارد الثلاثة.

ص: 380

عليه بلا واسطة شيء (1)، أو بوساطة (2) عنوان كلي ينطبق و يحمل عليه بالحمل الشائع، و يتحد معه وجودا، كان منتزعا عن مرتبة ذاته (3)، أو بملاحظة (4) بعض عوارضه مما هو خارج المحمول (5) لا بالضميمة (6)،...

=============

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) كترتب جواز الايتمام على استصحاب عدالة زيد مثلا كما مر.

(2) معطوف على «بلا وساطة» يعني: كما لا يكون الاستصحاب لترتيب الأثر المترتب على المستصحب بلا واسطة مثبتا، كذلك لا يكون مثبتا لترتيب الأثر المترتب عليه بواسطة عنوان كلي ينطبق عليه و يتحد معه، و يحمل عليه بالحمل الشائع الذي ملاكه التغاير المفهومي و الاتحاد و الوجودي، سواء كان ذلك الكلي منتزعا عن مرتبة ذات المستصحب، أم بملاحظة اتصافه ببعض العوارض التي لا وجود لها في الخارج.

فقوله: «أو بوساطة عنوان كلي» إشارة إلى دفع ما يتراءى من كلام الشيخ «قدس سره» من عدم الفرق في مثبتية الأصل بين كون اللازم العادي متحد الوجود مع المستصحب و متغاير الوجود معه.

و حاصل وجه الدفع: أن تقدم تفصيله -: أن المعيار في مثبتية الأصل هو مغايرة اللازم وجودا للمستصحب؛ بحيث لا يتحدان وجودا، و أما مع اتحادهما كذلك فليس ترتيب اللازم باستصحاب الملزوم من الأصل المثبت.

(3) أي: ذات المستصحب؛ بأن يكون الكلي المنطبق عليه الذي هو موضوع الحكم حقيقة منتزعا عن ذات المستصحب كزيد، فإن الطبيعي المنتزع عن مرتبة ذاته هو الإنسان المركب من الجنس و الفصل، فاستصحاب زيد لترتيب الأثر المترتب على الإنسان المتحد معه وجودا ليس بمثبت، و ضميرا «عليه، معه» راجعان إلى «المستصحب».

(4) معطوف على «عن مرتبة» يعني: بأن يكون الكلي منتزعا بملاحظة بعض عوارض المستصحب من العوارض التي ليس لها ما يحاذيها في الخارج كالعلم و العدالة و الفقاهة و غيرها مما لا وجود لها في الخارج. فمن كان متصفا بأحد هذه الأوصاف كزيد مثلا، و شك في بقائه فاستصحابه لترتيب الأثر الشرعي المترتب عنوان العالم و العادل مثلا ليس بمثبت.

(5) المراد به: العوارض التي لا يحاذيها شيء في الخارج كالزوجية و الولاية و غيرهما مما عرفت، و ضمير «عوارضه» راجع على المستصحب، و «مما» بيان ل «بعض» يعني: أن المراد ببعض العوارض هو الخارج المحمول.

(6) معطوف على «خارج المحمول» يعني: لا المحمول بالضميمة، و هو الذي له ما

ص: 381

فإن (1) الأثر في الصورتين (2) إنما يكون له حقيقة، حيث (3) لا يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سواه، لا لغيره (4) مما كان مباينا معه،...

=============

يحاذيه في الخارج كالسواد و البياض و القيام و القعود، و غيرها من الأعراض التي لها وجود في الخارج غير وجود معروضاتها و إن كان قائما بها، فإن أثر هذا الكلي كالأبيض المتحد مع زيد مثلا لا يثبت باستصحاب زيد المنطبق عليه عنوان الأبيض و الأسود؛ لأن وجود البياض و السواد غير وجود زيد و إن كان قائما به، و هذه المغايرة الوجودية توجب مثبتية الاستصحاب.

(1) تعليل لقوله: «لا تفاوت».

توضيحه: أن الأثر الشرعي في الصورتين الأوليين - و هما انتزاع الكلي من ذات المستصحب، و انتزاعه بملاحظة عوارضه التي ليس لها ما بإزاء في الخارج - أثر لنفس المستصحب حقيقة، ضرورة: أن وجود الكلي عين وجود فرده، فوجود زيد المستصحب عين وجود الإنسان و عين وجود العادل و العالم و نحوهما مما هو من الخارج المحمول.

و هذا بخلاف الصورة الثالثة و هي المحمول بالضميمة، حيث إن الأثر فيها حقيقة للأعراض كالسواد و البياض و غيرهما مما يحاذيها شيء في الخارج لا للمستصحب كزيد مثلا، فاستصحابه لا يوجب ترتب الأثر الشرعي المترتب على عنوان السواد مثلا لتغايرهما وجودا، و عدم كون وجود زيد المستصحب عين وجود السواد مثلا؛ إلا بناء على حجية الأصل المثبت.

(2) و هما كون الكلي منتزعا عن مرتبة ذات المستصحب، و منتزعا عن المستصحب بملاحظة اتصافه ببعض العوارض التي تكون من الخارج المحمول.

(3) تعليل لكون الأثر في الصورتين للمستصحب.

و حاصله: أن موضوع الأثر حقيقة هو المستصحب؛ لأنه وجود الطبيعي الذي اتضح كونه هو الموضوع حقيقة لا مفهومه، فلا يكون بحذاء الكلي في الخارج سوى المستصحب. و عليه: فترتيب أثر الطبيعة باستصحاب الفرد ليس مثبتا. و ضميرا «له، سواه» راجعان إلى «المستصحب».

(4) معطوف على «له»، أي: لغير المستصحب.

غرضه: أن الأثر في الصورتين الأوليين إنما يكون للمستصحب حقيقة لا لغيره حتى يكون ترتيبه على المستصحب مبنيا على الأصل المثبت.

نعم؛ إن كان ذلك الغير مباينا للمستصحب و ملازما له وجودا؛ كما إذا كان

ص: 382

أو (1) من أعراضه مما كان محمولا عليه بالضميمة كسواده مثلا أو بياضه، و ذلك (2) لأن الطبيعي (3) إنما يوجد بعين وجود فرده. كما أن العرضي (4) كالملكية و الغصبية المستصحب - بالكسر - مستقبل القبلة في أواسط العراق، و كان الأثر مترتبا على استدبار الجدي لم يترتب هذا الأثر على استصحاب الاستقبال؛ لمباينة استقبال القبلة و استدبار الجدي، و إنما وجدا خارجا منضمين من باب الاتفاق.

=============

و قد أشار إلى هذه الصورة بقوله: «مباينا»، أو كان ذلك الغير من أعراضه المحمولة عليه بالضميمة، و هي التي يحاذيها شيء في الخارج كالسواد مثلا لزيد، فإنه لو كان لسواده أثر لم يترتب على استصحاب زيد، لمغايرتهما وجودا.

نعم؛ يترتب أثره باستصحاب نفس موضوعه و هو السواد مع اجتماع أركانه. ففي هاتين الصورتين لما كان للمحمول وجود خارجا - و إن كان منضما إلى وجود الموضوع - لا يجدي استصحاب الموضوع لإثبات أثر المحمول، و ضمير «معه» راجع إلى المستصحب.

(1) معطوف على «مباينا» يعني: لا لغير المستصحب مما كان مباينا مع المستصحب، أو كان محمولا عليه بالضميمة، فإن إثبات أثر ذلك الغير في هاتين الصورتين للمستصحب مبني على حجية الأصل المثبت. و ضمائر «أعراضه، عليه، كسواده، بياضه» راجعة إلى المستصحب.

(2) هذا تعليل حقيقة لقوله: «حيث لا يكون».

توضيحه: أنه بعد تعليل كون الأثر في الصورتين الأوليين - و هما الطبيعي و الخارج المحمول - للمستصحب بأنه لا يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سوى المستصحب، أراد أن يبيّن وجه هذا التعليل و قال في وجهه: إن المقام من صغريات كبرى الكلي الطبيعي الذي وجوده في الخارج عين وجود فرده، فيثبت أثر الكلي باستصحاب الفرد من دون لزوم إشكال مثبتية الأصل.

(3) كما هو كذلك في الصورة الأولى، و هي كون الكلي منتزعا عن مرتبة ذات المستصحب.

(4) كما هو كذلك في الصورة الثانية، و هي كون العرض من الخارج المحمول الذي لا وجود له في الخارج، و إنما الوجود لمنشا انتزاعه. و من هنا تندفع أيضا شبهة مثبتية استصحاب عدم رضا المالك باستيلاء الأجنبي على ماله لإثبات الضمان، بتقريب: أن موضوع الضمان هو الغصب، و إثباته باستصحاب عدم رضا المالك منوط بحجية الأصل المثبت.

ص: 383

و نحوهما لا وجود له إلاّ بمعنى وجود منشأ انتزاع، فالفرد (1) أو منشأ الانتزاع في الخارج هو عين (2) ما رتب عليه الأثر لا شيء آخر، فاستصحابه (3) لترتيبه لا يكون بمثبت. كما توهم (4).

=============

توضيح وجه اندفاع الشبهة: أنه ليس للغصب وجود في الخارج؛ بل هو منتزع عن وضع شخص يده على مال الغير بدون رضاه، فلا يكون استصحاب عدم إذن المالك مثبتا.

كما تندفع شبهة مثبتية استصحاب حياة الموقوف عليه في وقف المنفعة لملكية عائداته له؛ التي يترتب عليها عدم جواز تصرف غيره في حصته من الوقف، ضرورة: أن الملكية مما لا وجود له في الخارج غير وجود منشأ انتزاعه؛ فيكفي في ثبوت عدم جواز تصرف غيره في عوائده الذي هو أثر الملكية استصحاب حياته.

و بالجملة: فاستصحاب بعض الموضوعات لترتيب الأثر الشرعي المترتب على بعض الأمور الاعتبارية كالملكية و الرقية و الزوجية و نحوها ليس بمثبت.

(1) هذه نتيجة كون وجود الطبيعي عين وجود فرده، و كون وجود العرض الخارج المحمول بوجود منشأ انتزاعه، فالأثر الشرعي المترتب على الطبيعي أثر لفرده حقيقة؛ إذ لا وجود له إلاّ به، كما أن الأثر الشرعي المترتب على الأمر الانتزاعي مترتب حقيقة على منشأ انتزاعه؛ إذ لا وجود له إلاّ بوجود منشئه.

فقوله: «فالفرد» راجع على الصورة الأولى و هي الكلي الطبيعي المتحد مع المستصحب كزيد، فإن الكلي الطبيعي و هو الإنسان متحد معه. و قوله: «أو منشأ الانتزاع» راجع على الصورة الثانية و هي: كون موضوع الأثر ما لا وجود له في الخارج؛ كالغصب الذي منشأ انتزاعه هو الاستيلاء على مال الغير بدون إذنه، فاستصحاب عدم الإذن لترتيب حرمة الغصب ليس بمثبت كما تقدم آنفا.

(2) لأنه مقتضى كون وجود الطبيعي عين وجود الفرد، و عدم وجود للأمر الانتزاعي إلا بوجود منشئه.

(3) يعني: فاستصحاب الفرد أو منشأ الانتزاع - لترتيب الأثر المترتب على الطبيعي في الصورة الأولى، أو المترتب على العرض الذي لا وجود له خارجا في الصورة الثانية - لا يكون بمثبت؛ إذ المثبتية مترتبة على مغايرة المستصحب للواسطة وجودا، و هي مفقودة هنا، لفرض الاتحاد و العينية.

(4) هذا تعريض بما أفاده الشيخ «قدس سره» من عدم الفرق في مثبتية الأصل بين كون لازم المستصحب متحدا معه وجودا أو مغايرا له كذلك.

ص: 384

و كذا (1) لا تفاوت في الأثر المستصحب أو المترتب عليه (2) بين أن يكون مجعولا هذا تمام الكلام في المورد الأول من الموارد الثلاثة التي توهم كون الأصل فيها مثبتا.

=============

الكلام في المورد الثاني: و هو استصحاب الشرط لترتيب الشرطية عليه

(1) هذا إشارة إلى المورد الثاني من الموارد الثلاثة التي توهم كون الأصل فيها مثبتا، و المتوهم هو: الشيخ «قدس سره» في الأمر السادس من تنبيهات الاستصحاب.

و أما التوهم فحاصله: أن استصحاب وجود شرط شيء - كالوضوء أو طهارة البدن أو الثوب، أو استصحاب وجود ما لا يؤكل معه، أو استصحاب عدمه - من الأصول المثبتة؛ لأن هذه الاستصحابات ليست بذات أثر شرعي؛ بل إجراء الاستصحاب فيها إنما هو للكل و المشروط و الممنوع التي يترتب عليها الآثار.

و بعبارة أخرى: أن الجزئية و الشرطية و المانعية و عدمها من الأحكام الوضعية، و هي عند أرباب التحقيق غير مجعولة. و جواز الدخول في الكل أو المشروط، و عدم جواز الدخول حكمان عقليان مترتبان على وجود الجزء أو الشرط، و ليسا من الأحكام الشرعية حتى يصح ترتبهما على استصحاب وجود الجزء أو الشرط، و عليه: فلا وجه لجريان الاستصحاب في وجود جزء شيء أو شرطه أو مانعة وجودا و عدما؛ إذ المترتب عليه ليس حكما شرعيا.

و أما دفع التوهم فتوضيحه: أنه لا يعتبر في الاستصحاب مطلقا، سواء كان مجراه موضوعا، أم حكما أن يكون الحكم الثابت به مجعولا شرعا بالاستقلال؛ كالأحكام الخمسة التكليفية بناء على جريان الاستصحاب في الأحكام؛ بل يعتبر أن يكون الثابت به ما تناله يد التشريع، من غير فرق بين وقوعه بنفسه تحت يد الجعل، و بين وقوع منشأ انتزاعه تحتها؛ كالجزئية للمأمور به، و كذا الشرطية و المانعية له حيث إنها غير مجعولة بالاستقلال، و إنما المجعول كذلك هو منشأ انتزاعها كوجوب الصلاة و الأمر بالوضوء و النهي عن لبس ما لا يؤكل مثلا في الصلاة.

و عليه: فاستصحاب الشرط أو المانع لترتيب الشرطية أو المانعية ليس بمثبت.

و إن شئت فقل: إن الجزئية و الشرطية و المانعية أيضا من الآثار الشرعية، منتهى الأمر أنها وضعية لا تكليفية، فالاستصحاب في الجزء و الشرط و المانع ليس مثبتا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(2) هذا في استصحاب الموضوع، و ما قبله في استصحاب الحكم. و ضمير «عليه» راجع إلى «المستصحب»، و ضميرا «بنفسه» و المستتر في «يكون» راجعان إلى «الأثر».

ص: 385

شرعا بنفسه كالتكليف و بعض أنحاء الوضع (1)، أو بمنشإ (2) انتزاعه كبعض أنحائه كالجزئية و الشرطية و المانعية (3)، فإنه (4) أيضا (5) مما تناله يد الجعل شرعا، و يكون (6) أمره بيد الشارع وضعا و رفعا؛ و لو (7) بوضع منشأ انتزاعه و رفعه،...

=============

(1) أما الوضع: فكالحجية و القضاوة و الولاية و الحرية و الرقية، و غيرها مما تقدم في الأحكام الوضعية. و أما التكليف: فكالوجوب و الحرمة و غيرهما من الأحكام التكليفية التي هي مستقلة في الجعل. فيجوز استصحاب الولاية و الحجية و القضاوة التي يمكن فيها الجعل استقلالا و تبعا، كما يصح استصحاب الوجوب و الحرمة.

(2) معطوف على «بنفسه» و ضمير «انتزاعه» راجع على «الأثر»، و ضمير «أنحائه» إلى الوضع.

(3) و هي القسم الثاني من الوضعيات كما تقدم في تقسيم الأمور الوضعية إلى أقسام ثلاثة، و قد اتضح هناك: أن الجزئية و تاليتيها ليست مجعولة بالاستقلال، و إنما المجعول هو منشأ انتزاعها أعني: الأمر الضمني المتعلق بالجزء كالركوع مثلا. و الأمر المتعلق بالوضوء، و النهي المتعلق بلبس الحرير و ما لا يؤكل في الصلاة. لكن لا يخفى: أنه بناء على تعلق التكليف بنفس الجزء أو الشرط أو المانع لا حاجة إلى إثبات الجزئية و غيرها حتى يستشكل في مثبتية الاستصحاب بالنسبة إليها، ضرورة: أن الجزء و أخويه تكون حينئذ من الموضوعات ذوات الأحكام كالعدالة التي يترتب على استصحابها حكمها من جواز الاقتداء و قبول الشهادة و غيرهما، من دون لزوم إشكال مثبتية استصحابها أصلا. و عليه:

فيترتب على استصحاب وجود الجزء مثلا حكمه، و هو وجوب إتمام المركب.

(4) تعليل لقوله: «لا تفاوت»، و ضمير «فإنه» راجع إلى «الأثر».

و حاصله: أن وجه عدم التفاوت في الأثر الشرعي بين كونه مجعولا بنفسه أو بمنشإ انتزاعه هو اشتمال كل منهما على ما يعتبر في الاستصحاب؛ من كون الأثر الثابت به مما تناله يد التشريع، سواء كان تنالها له بالاستقلال أم بمنشإ الانتزاع كما في الجزئية و أخويها.

(5) أي: كالأثر المجعول بنفسه، يعني: فإن الأثر المجعول بمنشإ انتزاعه كالأثر المجعول بنفسه مما تناله يد الجعل شرعا.

(6) معطوف على «تناله»، يعني: و يكون أمر الأثر المجعول بمنشإ انتزاعه بيد الشارع.

(7) هذا بيان كيفية تناول يد الجعل للأثر المجعول بمنشإ انتزاعه. و ضمير «انتزاعه» راجع إلى «الأثر»، و ضمير «رفعه» راجع إلى «منشأ»، و الأولى إسقاط كلمة «و لو»

ص: 386

و لا وجه (1) لاعتبار أن يكون المترتب أو المستصحب (2) مجعولا مستقلا (3) كما لا يخفى.

فليس (4) استصحاب الشرط أو المانع لترتيب الشرطية أو المانعية بمثبت كما ربما لانحصار كيفية تناول يد التشريع لهذا الأثر بتناولها له؛ لا أن لتناولها له فردين يكون أحدهما أخفى من الآخر.

=============

(1) إشارة على منشأ توهم مثبتية استصحاب الجزء و أخويه.

و حاصله: أنه يعتبر في الحكم الثابت بالاستصحاب أن يكون بنفسه مجعولا شرعا، و لا يكفي مجعولية منشأ انتزاعه. و قد أشار المصنف إلى فساد هذا التوهم بقوله: «و لا وجه».

ص: 387

توهم (1)، بتخيّل أن الشرطية أو المانعية ليست من الآثار الشرعية؛ بل (2) من الأمور الانتزاعية، فافهم (3).

=============

(1) المتوهم: هو الشيخ «قدس سره». لا يخفى: أن الشيخ ممن صرح في غير موضع:

بأن الجزئية و الشرطية و المانعية ليست مجعولة بجعل مستقل مغاير للحكم التكليفي المتعلق بالمركب كالصلاة، قال عند نقل حجية القول السابع من أقوال الاستصحاب:

«و كذا الكلام في غير السبب، فإن شرطية الطهارة للصلاة ليست مجعولة بجعل مغاير لإنشاء وجوب الصلاة الواقعة حال الطهارة، و كذا مانعية النجاسة ليست إلاّ منتزعة من المنع عن الصلاة في النجس. و كذا الجزئية منتزعة من الأمر بالمركب»(1) و قريب منه عباراته في الأقل و الأكثر الارتباطيين، و في مسألة ترك الجزء سهوا.

(2) يعني: بل تخيل أن هذه الأمور الانتزاعية ليست من الآثار الشرعية، فلا تثبت بالاستصحاب إلاّ بناء على الأصل المثبت.

و الفرق بين الآثار الشرعية و الأمور الانتزاعية واضح؛ إذ المجعول الشرعي موجود في وعاء الاعتبار، بخلاف الأمر الانتزاعي، فإنه موجود تصوري محض ينعدم بمجرد الذهول عنه.

هذا بالنسبة إلى الشرطية و المانعية للمكلف به.

و أما شرط التكليف و مانعة إذا فرض الظفر بمقتضيه، و شك فيهما، ففي جريان الاستصحاب فيه إشكال تعرض له و لجوابه في الحاشية فراجع.

(3) لعله إشارة إلى أنه بعد تسليم اعتبار مجعولية الأثر بنفسه، و عدم كفاية كونه مجعولا بتبع منشأ انتزاعه نقول بعدم مانع أيضا من جريان استصحاب الجزء و الشرط و المانع، ضرورة: أن الأثر الشرعي المترتب على استصحابها هو التكليف النفسي المنتزع عنه الجزئية و الشرطية و المانعية.

أو إشارة إلى: أن مراد الشيخ من نفي مجعولية الجزئية و الشرطية و نحوهما هو نفي استقلال الجعل عنها لا نفي أصل الجعل و لو تبعا لمنشا انتزاعها، فيتحد حينئذ مراد الشيخ و المصنف «قدس سرهما»؛ لكنه بعيد؛ لأن كلام الشيخ في مسألة ترك الجزء سهوا يأبى عن هذا التوجيه حيث قال هناك: إن جزئية السورة ليست من الأحكام المجعولة لها شرعا؛ بل هي ككلية الكل، و إنما المجعول الشرعي وجوب الكل، ضرورة: أن كلية الكل منتزعة عن دخل اجتماع أمور في غرض كالمعاجين، من دون دخل للحكم الشرعي في

ص: 388


1- فرائد الأصول 126:3.

و كذا (1) لا تفاوت في المستصحب أو المترتب بين أن يكون ثبوت الأثر و وجوده ذلك، فتشبيه الجزئية بالكلية يدل على إنكار الجعل و لو بنحو التبعية للجزئية و نحوها.

=============

مضافا إلى: أن الحصر المستفاد من النفي و الإثبات عدم الجعل للجزئية أصلا، لا استقلالا و لا تبعا.

المورد الثالث: استصحاب البراءة من التكليف لنفي العقاب

(1) معطوف على قوله: «و كذا لا تفاوت في الأثر المستصحب»، و إشارة إلى المورد الثالث من الموارد التي توهم كون الأصل فيها مثبتا؛ كما يستفاد من كلام الشيخ في التمسك باستصحاب البراءة في أدلة البراءة.

و أما التوهم: فهو ينحل إلى إشكالين:

أحدهما: عدم كون المستصحب حكما و لا موضوعا ذا حكم، مع وضوح اعتبار كون المستصحب واحدا منهما.

و الآخر: كون الاستصحاب مثبتا.

توضيح ذلك - على ما في «منتهى الدراية، ج 7، ص 572» - أن بعض الأصوليين استدل على البراءة باستصحابها، و الشيخ في مبحث أصل البراءة ناقش في هذا الاستدلال بأنه يتوقف على حجية الأصل المثبت، حيث إن المستصحب أحد أمور ثلاثة:

براءة الذمة، أو عدم المنع عن الفعل، أو عدم استحقاق العقاب عليه. و الأثر المترتب على هذه المستصحبات أمران:

أحدهما: عدم ترتب العقاب على الفعل في الآخرة، و الآخر: الإذن في الفعل.

و أما عدم ترتب العقاب عليه في الآخرة: فليس من الأحكام المجعولة الشرعية لتلك المستصحبات حتى يثبت بالاستصحاب.

و أما الإذن في الفعل: فهو من المقارنات لتلك المستصحبات، فذلك - نظير إثبات وجود أحد الضدين بنفي الآخر بأصالة العدم، فملخص هذه المناقشة: أن استصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر لا يصح الاستدلال به على البراءة، لكونه مثبتا؛ إذ لا أثر له إلاّ عدم ترتب العقاب أو الترخيص في الفعل، و شيء منهما لا يثبت بالاستصحاب؛ إذ الأول ليس أثرا شرعيا، و الثاني من المقارنات لتلك المستصحبات؛ لأن عدم المنع - مع القطع بعدم خلو الواقعة عن أحد الأحكام الخمسة - يلازم الترخيص المستلزم لعدم العقوبة؛ لا أن الترخيص من لوازمها الشرعية، و عليه: فإثبات الترخيص باستصحابها نظير إثبات أحد الضدين بنفي الآخر بأصالة العدم.

ص: 389

أو نفيه و عدمه (1)، ضرورة (2): أن أمر نفيه بيد الشارع كثبوته،...

=============

و بالجملة: فاستصحاب البراءة سواء كان أثره عدم ترتب العقاب أم الترخيص في الفعل، يكون مثبتا، فلا مجال للاستدلال بالاستصحاب على البراءة.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح التوهم و الإشكال.

و المصنف «قدس سره» دفع الإشكال بقوله: «لا تفاوت في المستصحب...» الخ.

و محصله: أن المستصحب في استصحاب البراءة و عدم المنع ليس أجنبيا عن حكم الشرع؛ إذ كما أن ثبوت الحكم كالوجوب و الحرمة بيد الشارع، كذلك نفيه، فإن إبقاء العدم كنقضه بالوجود بيد الشارع و تحت قدرته، و إلاّ لخرجت الأحكام الشرعية عن كونها أفعالا اختيارية للشارع، فكما يصح استصحاب وجود الحكم على تقدير الشك في بقائه، فكذلك يصح استصحاب عدمه لو شك في انتقاضه بالوجود، فلا فرق في المستصحب بين كونه وجود الحكم و عدمه، فالإشكال على استصحاب البراءة من ناحية عدم كون المستصحب أثرا شرعيا و لا موضوعا لأثر شرعي مندفع.

و الحاصل: أن نقطة الخلاف في هذه المسألة بين الشيخ و المصنف «قدس سره» هي مجعولية عدم الحكم في أصالة البراءة و عدمها، فصريح الشيخ في ثاني تنبيهات «لا ضرر» هو: عدم مجعولية عدم التكليف، و أن حكمه بعدم الوجوب أو عدم الحرمة ليس إنشاء منه و جعلا؛ بل هو إخبار حقيقة، كما أنه لا أثر مجعول له، و من المعلوم: أن مورد الاستصحاب هو خصوص المجعول الشرعي أو موضوعه. و المصنف يدعي: أن عدم الحكم كعدم الوجوب و عدم الحرمة و نحوهما و إن لم يصدق عليه الحكم، لظهور الحكم في الإنشائي و الوجودي؛ إلاّ إن هذا العدم مجعول أيضا، و هذا المعنى و إن لم يصرح به هنا و لكنه صرح به في التنبيه العاشر بقوله: «فإنه و إن لم يكن بحكم مجعول في الأزل و لا ذا حكم؛ إلاّ إنه حكم مجعول فيما لا يزال».

و حيث كان عدم الحكم مجعولا صح جريان الاستصحاب فيه الموجب لترتب الأثر عليه، و هو عدم استحقاق العقوبة على المخالفة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) هذا الضمير و ضميرا «وجوده، أو نفيه» راجعة إلى «الأثر».

(2) تعليل لعدم التفاوت بين ثبوت الأثر و نفيه، و حاصله: أن ملاك شرعية الحكم هو كون أمر وضعه و رفعه بيد الشارع؛ و إن لم يطلق عليه الحكم؛ إذ لا دليل على اعتبار إطلاق الحكم عليه في جريان الاستصحاب؛ بل المعتبر في جريانه في كل مورد هو صدق نقض اليقين بالشك.

ص: 390

و عدم (1) إطلاق الحكم على عدمه غير ضائر؛ إذ (2) ليس هناك ما دل على اعتباره بعد (3) صدق نقض اليقين بالشك برفع (4) اليد عنه كصدقه (5) برفعها من طرف ثبوته كما هو واضح، فلا وجه (6) للإشكال في الاستدلال على البراءة باستصحاب (7) البراءة من التكليف و عدم المنع عن الفعل بما (8) في الرسالة من «أن عدم استحقاق

=============

(1) هذا إشارة إلى الإشكال الأول، و هو عدم كون المستصحب حكما.

و ضمائر «نفيه، كثبوته، عدمه» راجعة إلى الأثر.

(2) تعليل لقوله: «غير ضائر»، و قد مر تقريبه بقولنا: «إذ لا دليل على اعتبار إطلاق الحكم عليه...» الخ. و ضمير «اعتباره» راجع إلى إطلاق.

(3) غرضه: أن المعتبر في جريان الاستصحاب صدق نقض اليقين بالشك، و هو حاصل هنا، سواء أطلق الحكم على المستصحب أم لم يطلق.

(4) متعلق ب «صدق»، و ضمير «عنه» راجع على «عدمه».

(5) يعني: كصدق نقض اليقين بالشك برفع اليد من طرف ثبوت الأثر.

و غرضه: أن دليل الاستصحاب يشمل كلا من الأثر الوجودي و العدمي على نهج واحد.

(6) هذا إشارة إلى دفع الإشكال المذكور، و هو عدم كون عدم استحقاق العقاب من الآثار الشرعية حتى يترتب على استصحاب البراءة من التكليف و عدم المنع عن الفعل.

(7) متعلق ب «الاستدلال». و قوله: «عدم المنع» معطوف على «البراءة من التكليف».

(8) متعلق ب «للإشكال»، و المراد بالرسالة: هو رسالة البراءة من رسائل الشيخ الأنصاري «قدس سره»، قال بعد الفراغ من الدليل الرابع و هو الدليل العقلي الذي أقيم على البراءة: «و قد يستدل على البراءة بوجوه غير ناهضة، منها: استصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر و الجنون. و فيه: أن الاستدلال به مبني على اعتبار الاستصحاب من باب الظن...» إلى أن قال: «و أما لو قلنا: باعتباره من باب الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك؛ فلا ينفع في المقام؛ لأن الثابت بها - أي: بالأخبار - ترتب اللوازم المجعولة الشرعية على المستصحب، و المستصحب هنا ليس إلاّ براءة الذمة من التكليف و عدم المنع من الفعل و عدم استحقاق العقاب عليه، و المطلوب في الآن اللاحق هو القطع بعدم ترتب العقاب على الفعل، أو ما يستلزم ذلك؛ إذ لو لم يقطع بالعدم و احتمل العقاب احتاج إلى انضمام حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان إليه حتى يحصل الأمن من العقاب، و معه لا حاجة إلى الاستصحاب و ملاحظة الحالة السابقة، و من المعلوم: أن

ص: 391

العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشرعية»، فإن (1) عدم استحقاق العقوبة و إن كان غير مجعول، إلاّ إنه لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول في استصحاب عدم المنع، و ترتب (2) عدم الاستحقاق - مع كونه عقليا - على استصحابه (3) إنما (4) هو المطلوب المذكور لا يترتب على المستصحبات المذكورة؛ لأن عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشرعية حتى يحكم به الشارع في الظاهر»(1). و «من» قوله: «من أن عدم استحقاق العقاب» بيان ل «ما» الموصول.

=============

و حاصل الإشكال الذي تقدم توضيحه هو: إن عدم استحقاق العقاب ليس من الأحكام الشرعية حتى يستصحب بنفسه أو يترتب على المستصحب كالبراءة من التكليف.

(1) تعليل لقوله: «فلا وجه للإشكال»، و محصله: أن عدم استحقاق العقوبة و إن لم يكن مجعولا؛ إلاّ إنه لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول في استصحاب عدم المنع، لما عرفت: من أن نفس عدم المنع مما تناله يد التشريع؛ إذ كما أن وجود المنع بيده كذلك عدمه، و لا دليل على اعتبار أزيد من ذلك في الاستصحاب و إن لم يطلق عليه الحكم كما مر آنفا، و ضمير «أنه» للشأن.

(2) هذا إشارة إلى الإشكال الثاني، و هو توهم مثبتية الاستصحاب، و محصله: أن عدم المنع الذي هو المستصحب و إن كان مجعولا، و قلنا إنه لا يرد عليه عدم كون المستصحب أثرا شرعيا؛ لكنه لا يدفع إشكال المثبتية؛ و ذلك لأن الأثر المقصود من استصحاب عدم المنع هو الأمن من العقوبة، و من البديهي: أن هذا الأثر عقلي لا شرعي، فاستصحاب عدم المنع لإثباته مثبت. هذا تقريب التوهم.

(3) أي: على استصحاب عدم المنع، و ضمير «كونه» راجع إلى عدم الاستحقاق.

(4) هذا دفع التوهم المزبور: و هو مثبتية استصحاب عدم المنع، و توضيحه: أن الحكم بعدم استحقاق العقوبة و إن كان عقليا؛ لكنه لما كان من الأحكام العقلية المترتبة على الحكم مطلقا، سواء كان واقعيا أم ظاهريا؛ كوجوب الموافقة و حرمة المخالفة المترتبين على الحكم بوجوده الأعم من الواقعي و الظاهري، لم يكن ترتّبه على استصحاب عدم المنع ضائرا، حيث إن عدم استحقاق العقوبة من لوازم عدم المنع مطلقا و لو ظاهريا كالمقام؛ إذ الثابت بالاستصحاب عدم المنع ظاهرا.

ص: 392


1- فرائد الأصول 59:2.

لكونه لازم مطلق عدم المنع و لو في الظاهر، فتأمل (1).

=============

نعم؛ لو كان عدم استحقاق العقاب من لوازم عدم المنع الواقعي كان استصحاب عدم المنع قاصرا عن إثباته.

و بالجملة: فتوهم مثبتية استصحاب عدم المنع لعدم العقاب مندفع، فالاستدلال على البراءة باستصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر صحيح، و لا يرد عليه إشكال المثبتية، و ضمير «هو» راجع إلى «ترتب»، و ضمير «لكونه» إلى «عدم الاستحقاق».

(1) لعله إشارة إلى: أن البراءة المتيقنة حال الصغر عقلية، و الاستصحاب - بناء على كونه حجة من باب التعبد - حكم شرعي، فلا يجري فيما ليس له أثر شرعي. أو إلى:

أن عدم استحقاق العقوبة من آثار الترخيص و الإذن؛ لا من آثار عدم المنع كما هو مسلم عند العرف، ضرورة: أن مجرد عدم منع المالك من التصرف في ماله لا يمنع عن استحقاق المؤاخذة، و إنما المانع عنه هو إذنه في التصرف، و إثبات الترخيص باستصحاب البراءة و عدم المنع مبني على الأصل المثبت.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من عقد هذا التنبيه الثامن: دفع توهم مثبتية الأصل في موارد ثلاثة:

المورد الأول: جريان الاستصحاب في الفرد لإثبات الحكم المتعلق بالكلي له و هو على قسمين:

أحدهما: أن يكون اللازم العادي أو العقلي متحدا مع المستصحب وجودا.

ثانيهما: أن يكون مغايرا له في الوجود.

و قال الشيخ «قدس سره»: بعدم الفرق بين القسمين في مثبتية الأصل، و قال صاحب الكفاية بالتفصيل و هو الفرق بين كون الواسطة متحدة وجودا مع المستصحب، فلا يكون الأصل مثبتا، و بين كونها مغايرة له فيكون الأصل مثبتا.

2 - توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن العنوان الكلي الذي يحمل على الفرد بالحمل الشائع و يتحد معه وجودا على أقسام:

الأول: أن يكون العنوان منتزعا عن مرتبة ذاته.

الثاني: أن يكون العنوان منتزعا عنه بملاحظة بعض عوارضه مما يوصف بأنه الخارج عن حقيقة الشيء؛ لكنه المحمول عليه بلا ضم ضميمة.

الثالث: ما إذا كان منتزعا بملاحظة بعض عوارضه مما كان محمولا عليه بالضميمة.

ص: 393

و الأول: كالإنسانية بالنسبة إلى زيد، فاستصحابه يكفي في ترتيب أثرها. و الثاني:

كالغصبية و الملكية بالنسبة إلى العين المغصوبة و المملوكة، و كلتا الصورتين تشتركان في أنه لا يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سوى الذات.

و بعبارة أخرى: الطبيعي في القسم الأول إنما يوجد بعين وجود فرده، كما أن العرض في القسم الثاني لا وجود له إلا بمعنى وجود منشأ انتزاعه، فالفرد «كزيد» أو منشأ الانتزاع في الخارج هما نفس ما رتب عليه الأثر لا شيء آخر، فاستصحاب الفرد أو منشأ الانتزاع كاستصحاب بقاء زيد أو العين المغصوبة كاف في ترتيب ما رتب عليه الأثر كالإنسانية و الغصبية.

و أما الثالث: أعني: ما إذا كان المنتزع مغايرا مع المنشأ و يسمى المحمول بالضميمة كالسواد و البياض، فلا يصح استصحاب لغاية ترتيب آثارهما، و يعدّ أصلا مثبتا للمغايرة بين المستصحب و ما هو الموضوع للأثر.

3 - إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الأصل في القسم الأول و الثاني ليس بمثبت لاتحاد الواسطة مع المستصحب وجودا، و في القسم الثالث يكون مثبتا لتغايرهما وجودا.

و من هنا يعلم ما هو نقطة الخلاف بين الشيخ و المصنف و هي: أن الشيخ يرى كون الأصل مثبتا في جميع الأقسام المذكورة، و قال بعدم إجراء أحكام الكلي على الفرد في جميع الأقسام الثلاثة و المصنف يرى التفصيل بين القسمين الأولين و بين القسم الثالث، فيكون الأصل مثبتا في القسم الثالث فقط، دونهما.

4 - المورد الثاني من موارد توهم كون الأصل مثبتا: هو استصحاب الشرط و الجزء و المانع لإثبات الشرطية و الجزئية و المانعية.

و تقريب التوهم: أن الجزئية و الشرطية و المانعية عند أرباب التحقيق غير مجعولة شرعا و جواز الدخول في المشروط و الكل و عدم جوازه لمانع من الأحكام العقلية المترتبة على وجود الشرط و الجزء و المانع، و ليست من الأحكام الشرعية حتى يصح ترتبها على استصحاب وجود الشرط و الجزء، و عليه: فلا وجه لجريان الاستصحاب.

5 - و أما دفع هذا التوهم: فلأن الجزئية و الشرطية و المانعية و إن لم تكن مجعولة على نحو الاستقلال إلاّ إنها مجعولة بمنشإ انتزاعها كوجوب الصلاة و الأمر بالوضوء و النهي عن لبس ما لا يؤكل في الصلاة مثلا، و لا يعتبر في الاستصحاب أن يكون الأثر مجعولا مستقلا.

ص: 394

6 - المورد الثالث من موارد توهم كون الأصل فيها مثبتا هو استصحاب البراءة من التكليف لنفي العقاب.

أما التوهم: فهو ينحل إلى إشكالين:

أحدهما: عدم كون المستصحب حكما و لا موضوعا ذا حكم، مع وضوح اعتبار كون المستصحب واحدا منهما.

و الآخر: كون الاستصحاب مثبتا.

و أما تقريب الإشكال الأول: فلأن المستصحب إما هو براءة الذمة، أو عدم المنع من الفعل، أو عدم استحقاق العقوبة، و شيء منها ليس من الأحكام الشرعية.

و أما كون الاستصحاب مثبتا: فلأن الأثر المترتب على المستصحب إما عدم ترتب العقاب أو لترخيص، و شيء منهما ليس أثرا شرعيا، فيكون الأصل مثبتا لعدم ترتب الأثر الشرعي على المستصحب.

7 - و أما دفع الإشكال: فلأن المستصحب في استصحاب البراءة و عدم المنع ليس أجنبيا عن حكم الشرع؛ إذ كما أن ثبوت الحكم كالوجوب و الحرمة بيد الشارع كذلك نفيه، فكما يصح استصحاب وجود الحكم عند الشك في بقائه، فكذلك يصح استصحاب عدمه عند الشك في انتفاضه.

8 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - استصحاب الفرد لإثبات الأثر الشرعي المتعلق بالكلي له ليس بمثبت.

2 - استصحاب الشرط لإثبات الشرطية ليس بمثبت.

3 - استصحاب البراءة لإثبات عدم استحقاق العقوبة ليس بمثبت.

ص: 395

فهرس الجزء السادس

في شرائط الأصول العملية 5

في اشتراط البراءة العقلية بالفحص 10

في الإشكال على العقل 13

تقريب الاستدلال على وجوب الفحص بما دل على وجوب التعلم 15

حكم العمل بالبراءة قبل الفحص 18

الإشكال في الواجب المشروط 22

فتوى المشهور بصحة الإتمام موضع القصر و الجهل موضع الإخفات 33

الإشكال على الصلاة تماما موضع القصر مع الجواب 35

تصحيح كاشف الغطاء الإتمام موضع القصر بالترتب 42

خلاصة البحث مع رأي المصنف 43

ذكر الفاضل التوني شرطا للبراءة و هو أن لا تكون موجبة للضرر على شخص آخر 49

الإشكال على ما ذكره الفاضل التوني 51

قاعدة لا ضرر 54

دلالة قاعدة لا ضرر و معناها 61

تقديم قاعدة لا ضرر على أدلة الأحكام 70

في تعارض ضررين و أحكامه 78

خلاصة البحث مع رأي المصنف 82

معنى الاستصحاب لغة و اصطلاحا 87

الأقوال في الاستصحاب 90

ما يصح النزاع فيه من معاني الاستصحاب 94

كون الاستصحاب من المسائل الأصولية 100

ص: 396

بيان ما هو ركن الاستصحاب 103

جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف بحكم العقل 109

الإشكال على استصحاب حكم الشرع المستند إلى حكم العقل و الجواب عنه 113

اختلاف آراء الأصحاب في حجّية الاستصحاب و عدم الحجّية 117

أدلة حجّية الاستصحاب 118

رد المصنف على الاستدلال بالإجماع على حجّية الاستصحاب 121

خلاصة البحث مع رأي المصنف 122

توضيح كلام الشيخ في الأخبار التي استدل بها على حجّية الاستصحاب 129

إشكال المصنف على الشيخ تارة من جهة مادة النقض و أخرى من جهة الهيئة 141

الجواب على إشكال اختصاص حجّية الاستصحاب بالشك في الرافع 148

الوجوه و الاحتمالات في «لا تنقض اليقين بالشك» 149

الإشكال بأن جواز الدخول في الصلاة يترتب على الوضوء لا على اليقين فلا معنى للنهي عن نقض اليقين 152

تقدّم جواب المصنف عن الإشكال بقوله «و ذلك لسراية» 155

إثبات عموم الصحيحة لحجّية الاستصحاب في الموضوعات و الأحكام 156

خلاصة البحث مع رأي المصنف 157

تقريب الاستدلال بالصحيحة الثانية على حجّية الاستصحاب 160

في جواب الإمام عن السؤال في الفرع السادس احتمالان 162

الجواب عن الإشكال على الاستدلال بالصحيحة الثانية 166

الإشكال على استصحاب الطهارة و الجواب عنه 170

تعليل عدم وجوب الإعادة باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء خلاف ظاهر الرواية 176

خلاصة البحث مع رأي المصنف 180

تقريب الصحيحة الثالثة لزرارة على حجّية الاستصحاب 182

حاصل كلام المصنف في دفع الإشكال على الإشكال بالصحيحة الثالثة 185

جواب المصنف عن الإشكال الثاني على الاستدلال بالصحيحة الثالثة 187

خلاصة البحث مع رأي المصنف 190

ص: 397

تقريب الاستدلال بالرواية الرابعة على حجّية الاستصحاب 192

خلاصة البحث مع رأي المصنف 196

تقريب دلالة المكاتبة على الاستصحاب 197

خلاصة البحث مع رأي المصنف 201

في تفصيل الفاضل التوني بين التكليف و الوضع 213

الحكم الوضعي نظرا إلى كونه قابلا للجعل و عدم كونه قابلا له على أقسام 215

الخلاف في عدد الأحكام الوضعية 220

تحقيق المصنف في الحكم الوضعي من حيث الجعل و عدمه 223

ردّ المصنف على الشيخ بأن السببية منتزعة من الحكم التكليفي 227

القسم الثاني من الأحكام الوضعية ما لا يقبل الجعل إلا تبعا كالجزئية و الشرطية و المانعية و القاطعية 231

ضابط القسم الثالث من الأحكام الوضعية 234

الفرق بين المحمول بالضميمة و المحمول بالضميمة في اصطلاح الفلاسفة 240

عدم جريان الاستصحاب في القسم الأول من الأحكام الوضعية و هو ما لا يقبل الجعل أصلا 244

خلاصة البحث مع رأي المصنف 246

في تنبيهات الاستصحاب 248

التنبيه الأوّل: في اعتبار فعلية الشك و اليقين في الاستصحاب 249

التنبيه الثاني: في استصحاب مؤديات الأمارات 253

خلاصة البحث مع رأي المصنف 260

التنبيه الثالث: في استصحاب الكلي 261

الإشكال على استصحاب القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي 263

توضيح جواب المصنف عن الإشكال يتوقف على مقدمة 264

الكلام في استصحاب القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي 265

الإشكال على استصحاب القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي 267

الجواب عن الإشكال المذكور 270

ص: 398

وجه قول المصنف بعدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي 276

توهم جريان الاستصحاب في القسم الثالث إذا كان من قبيل الوجوب و الاستحباب 278

دفع التوهم المذكور 279

خلاصة البحث مع رأي المصنف 282

التنبيه الرابع: في استصحاب الأمور التدريجية 284

جواب المصنف عن الإشكال في جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية 288

لا إشكال في جريان الاستصحاب في نفس الزمان كالليل و النهار 291

الاستصحاب في الأمور التدريجية إما من قبيل استصحاب الشخصي أو الكلي بأقسامه 299

استصحاب الفعل المقيد بالزمان 300

الإشكال بأن الزمان قيد للموضوع فلا يجري الاستصحاب مع انتفاء الزمان 303

الجواب عن الإشكال أن الإشكال لو كان المناط في بقاء الموضوع هو نظر العقل و ليس الأمر كذلك بل المناط هو نظر العقل فلا إشكال 304

إشكال تعارض استصحاب وجود الحكم و عدمه و التحقيق في الجواب عنه 305

تعارض استصحاب الطهارة و استصحاب عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد خروج المذي 309

خلاصة البحث مع رأي المصنف 313

التنبيه الخامس: في الاستصحاب التعليقي 316

عدم جريان الاستصحاب التعليقي لأمور و الجواب عنها 318

توهم عدم جريان الاستصحاب التعليقي لعدم وجود المعلق مع توضيح فساد هذا التوهم 321

الإشكال بأن الاستصحاب التعليقي معارض باستصحاب الحكم الفعلي الذي هو ضد الحكم المعلق 326

خلاصة البحث مع رأي المصنف 331

توضيح محل الكلام في استصحاب عدم النسخ 333

ص: 399

توهم إشكال انتفاء أركان الاستصحاب مع جواب المصنف عنه 335

الإشكال بامتناع استصحاب عدم النسخ في أحكام هذه الشريعة 338

الإشكال بأن المانع من جريان استصحاب عدم النسخ هو العلم الإجمالي 341

محصل ما أفاده المصنف في دفع الإشكال 342

إرجاع المصنف كلام الشيخ الظاهر في القضية الطبيعية إلى ما ذكره من إرادة القضية الحقيقية 346

خلاصة البحث مع رأي المصنف 351

التنبيه السابع: في الأصل المثبت 353

توضيح كلام المصنف في معنى الأصل المثبت 354

قصور أخبار الاستصحاب عن حجّية الأصل المثبت 363

خلاصة الكلام في المقام هو: عدم حجّية الأصل المثبت عند المصنف 366

في الفرق بين مثبتات الأمارات و الأصول 370

خلاصة البحث مع رأي المصنف 375

التنبيه الثامن: في الموارد الثلاثة التي توهم كون الأصل فيها مثبتا 377

ما هو المعيار في كون الأصل مثبتا 380

الكلام في المورد الثاني 385

المورد الثالث: استصحاب البراءة من التكليف لنفي العقاب 389

خلاصة البحث مع رأي المصنف 393

الفهرس 396

ص: 400

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.