دروس في الکفایة المجلد 4

هویة الکتاب

دروس في الکفایة

شارح: محمدي بامیاني، غلامعلي

كاتب: آخوند خراساني، محمدکاظم بن حسین

تعداد جلد: 7

لسان: العربية

الناشر: دار المصطفی (ص) لاحياء التراث - بیروت لبنان

سنة النشر: 1430 هجری قمری|2009 میلادی

رمز الكونغرس: 1430 /آ3 ک7028 159/8 BP

موضوع: اصول

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

المقصد السادس (1) في بيان الأمارات المعتبرة شرعا أو عقلا (2)

ص: 7

ص: 8

و قبل الخوض في ذلك (3)، لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الأحكام (4)، و إن كان خارجا من مسائل الفن (5)، و كان...

=============

(1) لمّا كان المقصد السابع في الأصول العملية، فلا بأس ببيان الفرق بين الأمارات و الأصول العملية، فيقال: إن ما له جهة كشف و حكاية عن الواقع هو أمارة سواء كانت معتبرة كخبر الثقة، أم لم تكن معتبرة كخبر الفاسق مثلا.

و ما ليس له جهة كشف و حكاية عن الواقع أصلا؛ بل كان مجرد وظيفة للجاهل في ظرف الشك و الحيرة كقاعدتي الطهارة و الحل، و أصالة البراءة، أو كانت له جهة كشف و حكاية؛ و لكن الشارع لم يعتبره من هذه الجهة - كما قيل ذلك في الاستصحاب و التجاوز و الفراغ - فهو أصل عملي.

أو يقال: إن الفرق بينهما - بعد كون الجميع وظائف مقررة للجاهل في وعاء الجهل بالواقع - أن الأول لم يؤخذ الجهل و الشك في لسان دليله. و الثاني قد أخذ ذلك في لسان دليله، كما في قوله: «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر»، أو «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام»، أو «لا ينقض اليقين بالشك» إلى غير ذلك من الأصول العملية.

(2) أي: مثل حجيّة الظن الانسدادي بناء على الحكومة.

ثم ما كان معتبرا شرعا على قسمين:

أحدهما: أن يكون تأسيسيّا؛ كجعل الحجيّة لخبر العادل مثلا.

و ثانيهما: أن يكون إمضائيّا مثل حجيّة خبر الثقة الذي يكون حجة عند العقلاء.

(3) أي: في بيان الأمارات المعتبرة شرعا.

(4) أي: كالبحث عن كون حجيّته ذاتية أو مجعولة، و كونه حجة مطلقا، أو فيما إذا كان مطابقا للواقع فقط.

(5) أي: عن مسائل علم الأصول. و توضيح خروج مبحث القطع عنها يتوقف -

ص: 9

على مقدمة و هي: أن المسائل الأصولية - على ما هو مختار المصنف كما تقدم - في أوّل الكتاب - على قسمين:

الأول: أن المسألة الأصولية تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعي الفرعي، كبحث حجيّة خبر الواحد، حيث أن نتيجة البحث هي الحجيّة، فتقع في طريق الاستنباط، فيقال: إن هذا ما دل خبر العادل على وجوبه، و كل ما دل خبر العادل على وجوبه فهو واجب، فهذا واجب.

و بعبارة أخرى: المسألة الأصولية يصحّ جعلها كبرى للصغريات الوجدانية حتى تنتج الحكم الفرعي مثل أن يقال: هذه مقدمة الواجب، و كل مقدمة الواجب واجبة، فهذه واجبة.

الثاني: ما ينتهي إليه الفقيه في مقام العمل؛ كالاستصحاب و البراءة و نحوهما مما يعمل بها عند اليأس عن الدليل الاجتهادي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن أحكام القطع ليست كذلك، أي: لا تقع في طريق الاستنباط، و لا ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل.

و أما عدم كونها من القسم الأول: فلأنه لا يصح أن يقال: الخمر معلوم الحرمة، و كل معلوم الحرمة حرام، فالخمر حرام؛ إذ يلزم منه كون الشيء سببا لنفسه لأنه صار العلم بحرمة الخمر سببا للعلم بحرمة الخمر.

و إن عكست و قلت: هذا معلوم الخمرية، و كل معلوم الخمرية حرام، فهذا حرام يلزم أن يكون العلم جزء الموضوع، و يكون التحريم عارضا على معلوم الخمرية لا على نفس الخمر، و هو خلف؛ لأن التحريم يعرض نفس الخمر حيث قال الشارع: الخمر حرام كما في قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ (1)، يعني: يجب الاجتناب عن الخمر لا عن الخمر المعلوم.

فالمتحصل: أنه يلزم من جعل مسائل القطع كبرى أحد المحذورين، إما اتحاد السبب و المسبب، و إمّا الخلف، و كلاهما محال و باطل.

و أما عدم كونها من القسم الثاني: فلأن هذه المباحث ليست مما ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل بعد الفحص و البحث عن الأدلة الاجتهادية؛ لأن حجيّة القطع ليست منوطة بالفحص و البحث عن الدليل الاجتهادي، بخلاف ما ينتهي إليه الفقيه كالاستصحاب

ص: 10


1- المائدة: 90.

أشبه (1) بمسائل الكلام؛ لشدّة مناسبته مع المقام.

فاعلم: أن البالغ الذي وضع عليه القلم (2): إذا التفت إلى حكم فعلي (3) واقعي (4) أو ظاهري، متعلق به أو بمقلديه، فإمّا أن يحصل له القطع به أو لا، و على و البراءة و التخيير و الاحتياط، حيث إنها كلها تتوقف على الفحص و اليأس عن الدليل الاجتهادي. فالنتيجة: أن بحث القطع خارج عن المسائل الأصولية.

=============

(1) توضيح كون بحث القطع أشبه بمسائل الكلام: يتوقف على مقدمة و هي: أن المسائل الكلامية مرتبطة بأحوال المبدأ و المعاد، و من أحوال المبدأ و المعاد: أن الله تعالى - و هو المبدأ و المولى الحقيقي - يثيب عباده على الإطاعة و الانقياد، و يعاقبهم على العصيان و المخالفة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه يبحث في القطع عما يترتب على فعل المقطوع به أو تركه من استحقاق الثواب و العقاب.

و من الواضح: أنّ البحث عن ذلك من المسائل الكلامية، فحينئذ تعبير المصنف بالأشبه لا يخلو من المسامحة، بعد وضوح كون بحث القطع من المسائل الكلامية.

إلاّ أن يقال: إن مسائل الكلام ليست عبارة عن مطلق المسائل العقلية؛ بل ما يرتبط بالعقائد، و من الواضح: أن مسائل القطع ليست مما يرتبط بالعقائد، فكان بحث القطع أشبه بمسائل الكلام لا نفسها.

و إنما ذكر بحث القطع في الأصول - مع أنّه ليس منه - «لشدة مناسبته مع المقام»، فقوله: «لشدة...» الخ تعليل لقوله: «لا بأس».

أمّا وجه المناسبة: فلاشتراك الأمارات مع القطع في الطريقيّة، و في جواز إحراز الوظيفة من الفعل أو الترك.

و أما شدّة المناسبة: فلأن المقصود بالأصالة في المقصد السادس هو: البحث عن الأمارات المعتبرة، كما أن المقصود في المقصد السابع هو البحث عن الأصول العملية، و هما حجتان لمن لا قطع له، فناسب أن يبحث أولا عن أحكام القطع، ثم عن أحكام ما ليس فيه القطع، و أضربنا عن تطويل الكلام في المقام رعاية للاختصار.

(2) أي: قلم التكليف.

(3) أي: لا ما إذا التفت إلى الحكم الاقتضائي أو الإنشائي، فإنه لا يوجب الالتفات إليهما شيئا.

(4) و هو الحكم الثابت للعناوين من حيث هي هي، و الحكم الظاهري هو الحكم الثابت للعناوين بوصف كونها مشكوكة؛ كالحليّة الثابتة على الشيء المشكوك حكمه

ص: 11

الثاني: لا بد من انتهائه إلى ما استقل به العقل من اتّباع الظن لو حصل له، و قد تمت مقدمات الانسداد - على تقدير الحكومة - و إلا فالرجوع إلى الأصول العقلية من البراءة و الاشتغال و التخيير، على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

=============

الواقعي من الحرمة و الحلية.

و قد عدل المصنف عما في رسائل الشيخ الأنصاري إلى ما هو الموجود في المتن.

فلا بد من الكلام في وجه عدول المصنف حيث عدل من «المكلف» إلى «البالغ»، و من «حكم شرعي» إلى «حكم فعليّ واقعي أو ظاهري»، و من التقسيم الثلاثي إلى التقسيم الثنائي، أو ثلاثي آخر.

فنقول: إن توضيح وجه العدول يتوقف على مقدمة و هي: بيان الفرق بين ما في كلام الشيخ «قدس سره» و ما في كلام المصنف «قدس سره» و الفرق بينهما بوجهين:

أحدهما: أن المراد من المكلف في ظاهر كلام الشيخ «قدس سره» هو المكلف الفعلي، فلا يصح تقسيمه إلى جميع الأقسام التي منها الشاك في الحكم الواقعي، غير المنجز الذي تجري فيه البراءة؛ لأن الشّاك في الحكم ليس مكلّفا فعليا، مع أن مقتضى التقسيم الثلاثي هو: وجود المقسم في جميع الأقسام؛ بأن يكون كل قسم عين المقسم مع زيادة قيد. هذا بخلاف البالغ لشموله جميع الأقسام.

و ثانيهما: أن متعلّق القطع في كلام المصنف أعم من الحكم الواقعي و الظاهري، و في كلام الشيخ «قدس سره» مختص بالحكم الواقعي بعد اشتراكهما في كون الحكم فعليا؛ لعدم ترتب شيء من أحكام القطع و لا الظن و لا الشك على الحكم الإنشائي الذي لم يبلغ مرتبة الفعلية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه قد عدل المصنف عما في كلام الشيخ «قدس سره» بوجوه: أولها و ثانيها: راجعان على بيان وجه العدول عن التقسيم الثلاثي إلى الثنائي، و ثالثها: راجع على وجه العدول عن تثليث الشيخ إلى تثليث آخر.

و أما الوجه الأوّل: فلما عرفت في المقدمة من عدم صحة تقسيم المكلف الفعلي إلى جميع الأقسام التي منها الشاك في الحكم الواقعي، فلا بد من جعل التقسيم ثنائيا و هو أنه إما قاطع بالحكم أو لا، «و على الثاني: لا بد من انتهائه إلى ما استقل به العقل...» الخ.

و أما ثانيها: فما أشار إليه بقوله: «و إنما عمّمنا متعلق القطع» إلى قوله: «و خصصنا بالفعلي» و حاصله: أنه لا وجه لتخصيص متعلق القطع بالحكم الواقعي؛ بل لا بد من تعميمه للواقعي و الظاهري؛ لأن الحكم الظاهري الثابت في موارد الأمارات و الأصول

ص: 12

و إنما عمّمنا متعلق القطع؛ لعدم اختصاص أحكامه بما إذا كان متعلقا بالأحكام الواقعية، و خصصنا بالفعلي؛ لاختصاصها بما إذا كان متعلقا به - على ما ستطلع عليه - و لذلك عدلنا عما في رسالة شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه» من تثليث الأقسام.

=============

العملية يندرج في الحكم المقطوع به.

هذا مع اختصاص الحكم بالفعلي؛ لأن القطع بغيره - سواء كان اقتضائيا أم إنشائيا - لا يترتب عليه أثر فضلا عن الظّن به أو الشك فيه. و لذا يقول المصنف: «و لذلك عدلنا...» الخ أي: لأجل ما ذكر من تعميم متعلق القطع للحكم الواقعي و الظاهري و تخصيصه بالفعلي - «عدلنا عما في رسالة شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه»» - من تثليث الأقسام.

و حاصل الكلام: أن وجه العدول عن تثليث الشيخ «قدس سره» للأقسام إلى تثنيتها هو: عموم أحكام القطع من جهة، و اختصاصها بالحكم الفعلي من جهة أخرى.

و أما ثالثها: فما أشار إليه بقوله: «و إن أبيت إلا عن ذلك» أي: و إن أبيت التقسيم إلا عن كونه ثلاثيا بدعوى: أنه أقرب إلى الاعتبار العرفي المأخوذ من الحالة الوجدانية، فيكون المراد بالحكم خصوص الحكم الواقعي الذي هو مورد للحالات الثلاث: 1 - القطع، 2 - الظن، 3 - الشك، فيتم تثليث الأقسام، «فالأولى أن يقال: إن المكلف...» الخ.

و حاصل الأولوّية: أنه بناء على تثليث الشيخ الأعظم «قدس سره» يلزم تداخل موارد الأمارات و الأصول العملية؛ و ذلك لأن الشيخ «قدس سره» قد جعل ملاك الرجوع إلى الأمارات هو الظن، و ملاك الرجوع إلى الأصول العملية هو الشّك، مع أن الأمر ليس كذلك؛ بل المعيار في الرجوع إلى الأصول العملية هو: عدم الدليل المعتبر و إن حصل الظن بالحكم الواقعي من أمارة غير معتبرة لا خصوص الشك المتساوي طرفاه.

هذا بخلاف تثليث المصنف، فإنّه لا يلزم منه تداخل أصلا؛ لأن المعيار في الرجوع إلى الأمارة - كخبر العادل - هو الدليل المعتبر لا الشك، فلا يتداخل شيء من موارد الأمارات في شيء من موارد الأصول العملية.

فالمتحصل: أن المصنف إنما نهج هذا النهج في التقسيم الثلاثي فرارا عن محذور التداخل الثابت في تثليث الشيخ «قدس سره» هذا خلاصة الكلام في المقام، و تركنا ما في المقام من تطويل الكلام رعاية للاختصار.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية» و «الوصول إلى كفاية الأصول»:

ص: 13

و إن أبيت إلا عن ذلك، فالأولى (1) أن يقال: إن المكلف إما أن يحصل له القطع أو لا، و على الثاني: إمّا أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا؛ لئلا يتداخل (2) الأقسام فيما قوله «لا بد من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل من اتباع الظن لو حصل له، و قد تمت مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة» إشارة إلى انتهاء البالغ إلى ما استقل به العقل من اتباع الظن و هو مشروط بثلاثة أمور:

=============

أحدها: حصول الظن له.

ثانيها: تمامية مقدمات انسداد بالعلم و العلمي.

ثالثها: كون تماميتها على نحو يحكم العقل باعتبار الظن؛ لا أن يكشف عن حكم الشارع باعتباره، فإذا انتفى أحد هذه الأمور لم ينته إلى الظن؛ بل يرجع إلى الأصول العقلية كما أشار إليه بقوله: «و إلا فالرجوع إلى الأصول العقلية» يعني: و إن لم تتم مقدمات الانسداد أو تمت و لم يحصل الظن، و أما لو حصل الظن بعد تماميتها - على تقدير الكشف لا الحكومة - كان الظن بمنزلة القطع؛ إذ هو قطع بالحكم الظاهري و كيف كان؛ فهنا احتمالات:

الأول: أن تتم مقدمات الانسداد و يحصل الظّن على الحكومة، و عليه: فاللازم اتباع هذا الظن لحكومة العقل بحجيّته عند التعذر عن القطع.

الثاني: أن تتم مقدمات الانسداد و يحصل الظن على الكشف و هذا داخل في القسم الأول المذكور في كلام المصنف أعني: القطع بالحكم؛ لأنه قطع بالحكم الظاهري.

الثالث: أن تتم مقدمات الانسداد و لم يحصل الظن، و هذا داخل في الشك بالحكم الذي يكون المرجع فيه الأصول العملية.

و قيد الأصول بالعقلية حيث قال: «و إلا فالرجوع إلى الأصول العقلية»؛ لأن الأصول الشرعية داخلة في القسم الأول؛ لأن بها يحصل العلم بالحكم الشرعي الظاهري، بخلاف الأصول العقلية إذ ليس في موردها إلا الحكم العقلي من الاشتغال و التخيير و البراءة.

(1) و قد عرفت أولوية تثليث المصنف على تثليث الشيخ، فلا حاجة إلى التكرار.

(2) إذ على تقسيم الشيخ «قدس سره» يتداخل حكم الظن و الشك؛ إذ جعل الشيخ «قدس سره» مجرى الأصول مختصا بصورة الشك، و محل الأمارات في صورة الظن، مع العلم بأن الظن الذي لا يعتبر شرعا كان حكمه حكم الشك، فيجب الرجوع فيه إلى الأصول. فقد حصل التداخل في حكم الشك و الظن الغير المعتبر.

ص: 14

يذكر لها من الأحكام، و مرجعه على الأخير (1) إلى القواعد المقررة عقلا أو نقلا لغير القاطع، و من يقوم عنده الطريق على تفصيل يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى حسبما يقتضي دليلها (2).

و كيف كان (3)؛ فبيان أحكام القطع و أقسامه يستدعي رسم أمور:

=============

(1) أي: المكلف الذي لم يحصل له القطع، و لا الطريق المعتبر. أي: مرجع المكلف على هذا الفرض إلى القواعد الثابتة عقلا؛ كالبراءة بمناط قبح العقاب بلا بيان. «أو نقلا» كالبراءة بمناط عدم العلم بالحكم الواقعي.

(2) أي دليل تلك القواعد، حيث إن دليل أصالة البراءة يقتضي الرجوع إليها في مورد الشك في نفس التكليف، و دليل أصالة الاشتغال يقتضي الرجوع إليها في مورد الشك في المكلف به أو في الفراغ و هكذا.

(3) أي: سواء كان التقسيم ثنائيا أو ثلاثيا، فبيان أحكام القطع يستدعي رسم أمور سبعة.

المقدمة الاولى فى بعض احكام القطع

في حجيّة القطع و طريقيّته إلى الواقع

فيقال: القطع طريق - القطع حجة، و قد تعرّض الشيخ الأنصاري «قدس سره» لكلا الأمرين حيث قال: «لا إشكال في وجوب متابعة القطع»، هذا إشارة إلى حجية القطع.

إلى أن قال: «لأنه بنفسه طريق إلى الواقع، و ليست طريقيته قابلة لجعل الشارع إثباتا و نفيا». هذا بيان لطريقيته.

إلا إن المصنف اكتفى بذكر حجية القطع بقوله: «لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا»، و لعل ذلك لوضوح: أن طريقيّة القطع ذاتية إما بذاتي باب الإيساغوجي أو البرهان؛ لأن الانكشاف عن الواقع إما نفس ماهية القطع؛ بحيث لا يرى القاطع إلا الواقع المنكشف و إما لازم لماهيته.

و على الأول: كانت طريقيته ذاتية بذاتي باب إيساغوجي، و على الثاني: كانت ذاتية بذاتي باب البرهان؛ كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة. و على التقديرين: لا تكون طريقيته قابلة للجعل لا إثباتا و لا نفيا. أما الأول: فلأن ثبوت الشيء لنفسه ضروري. و أما الثاني:

فلأن سلب الشيء عن نفسه مستحيل، هذا على تقدير كون الطريقية ذاتية بذاتي باب الإيساغوجي.

و أما على تقدير كونها ذاتية بذاتي باب البرهان: فلأن ثبوت لازم الشيء له ضروري، و سلبه عنه مستحيل.

ص: 15

الأمر الأول: وجوب العمل على وفق القطع

اشارة

الأمر الأول:

لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع و لزوم الحركة على طبقه جزما، هذا خلاصة الكلام في طريقية القطع حيث تكون ذاتية غير قابلة للجعل أصلا.

=============

فيقع البحث في حجّية القطع و يقال: إن الحجية على أقسام: الحجية بالمعنى المنطقي، و الحجية بالمعنى الأصولي، و الحجية بالمعنى اللغوي.

إذا عرفت هذه الأقسام فاعلم: أن ما يصح إطلاقه هو الحجة بالمعنى اللغوي لا بالمعنى المنطقي و لا بالمعنى الأصولي؛ لأن الحجة بالمعنى اللغوي: عبارة عن كل ما يصلح أن يحتج به من دون فرق بين احتجاج المولى على العبد أو العبد على المولى، أو احتجاج شخص على شخص آخر. و من الواضح: أن القطع من أوضح ما يصح أن يحتج به عقلا بعد حصول القطع بالتكليف.

فالحجية بالمعنى اللغوي من الأحكام العقلية الصادرة من العقل في مورد القطع بحكم المولى و هو وجوب متابعة القطع و لزوم العمل على وفقه، كما أشار إليه المصنف بقوله:

«لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا»، و مثل ذلك لا يكون مجعولا شرعيا لاستغنائها عن الجعل بعد استقلاله بصحة الاحتجاج.

و كيف كان؛ فحجية القطع و إن لم تكن ذات القطع و لا ذاتياته إلاّ إنها تكون من لوازمه الذاتية، فهي غير مجعولة شرعا؛ لضرورة ثبوت لوازم الذات كالذاتيات من الأمور الضرورية غير قابلة للجعل أصلا.

عدم إطلاق الحجة بالمعنى الأصولي على القطع

و أما عدم إطلاق الحجة بالمعنى المنطقي على القطع: فلأن الحجة المنطقية عبارة عن الوسط الذي يوجب العلم بثبوت الأكبر للأصغر، و لا بد أن تكون بين الأوسط و الأكبر علاقة العلية و المعلولية، و يكون الأوسط واسطة في الإثبات دائما، و مع ذلك قد يكون واسطة في الثبوت أيضا، فالبرهان لميّ إن كان الأوسط علّة للأكبر، و إنّي أن كان الأمر على عكس ذلك.

و من المعلوم: إن القطع الطريقي لا يتصف بالحجية، بهذا المعنى؛ لأن المفروض: أن الحكم مترتب على الموضوع بما هو هو لا بما أنه مقطوع، فلا يصح أن يقال: هذا مقطوع الخمرية و كل مقطوع الخمرية حرام فهذا حرام؛ لأن الكبرى كاذبة لأن الحرام هو الخمر لا مقطوع الخمرية.

و أما عدم إطلاق الحجة بالمعنى الأصولي على القطع: فلأن الحجة الأصولية عبارة عن الأدلة الشرعية التي اعتبرها الشارع حجة لإثبات متعلقاتها، من دون أن تكون هناك

ص: 16

و كونه موجبا لتنجز التكليف الفعلي فيما أصاب باستحقاق الذّم و العقاب على مخالفته، و عذرا فيما أخطأ قصورا، و تأثيره في ذلك (1) لازم، و صريح الوجدان به شاهد و حاكم، فلا حاجة إلى مزيد بيان و إقامة برهان.

=============

ملازمة بينها و بين متعلقاتها؛ كالظن و البينة و نحوهما. و الحجة بهذا المعنى من خصائص الأمارات الظنيّة المعتبرة شرعا. و لا تطلق على القطع لعدم حاجة إلى جعل الشارع في العمل بالقطع؛ إذ عرفت أن طريقيته ذاتية تامة عند القاطع، و حجّيته عقلية فليس من الأدلة الشرعية التي اعتبرها الشارع حجة لإثبات متعلقاتها.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية» و «الوصول إلى كفاية الأصول»:

قوله: «عقلا» قيد لقوله: «وجوب العمل». و قوله: «و لزوم الحركة» عطف تفسير على قوله: «وجوب العمل على وفق القطع عقلا»، فمعنى وجوب العمل على وفق القطع هو:

لزوم الحركة على طبقه جزما بمعنى: لزوم ترتيب آثار المقطوع بمجرد القطع، مثلا: إذا قطع بوجود الأسد حكم العقل بلزوم الفرار منه.

و قوله: «و كونه موجبا لتنجز التكليف الفعلي» - لا الشأني و الاقتضائي - عطف على وجوب العمل «و عذرا» عطف على «موجبا» بمعنى: معذرا.

(1) أي: و تأثير القطع في وجوب العمل على طبقه لازم لا ينفك عنه، «و صريح الوجدان» بلزوم العمل على وفقه شاهد و حاكم.

و حاصل الكلام: أن صريح الوجدان شاهد على أن القطع بالوجوب أو الحرمة مثلا يحرك القاطع نحو الفعل في الأول أو الترك في الثاني؛ بحيث يرى نفسه مذموما على مخالفة قطعه و مأمونا من الذم و العقوبة عند موافقته، من غير فرق في ذلك بين أقسام القطع و أسبابه، خلافا لجمع من المحدثين. على ما نسب إليهم. من عدم اعتبار القطع الحاصل من المقدمات العقلية؛ لكن هذا الخلاف على تقدير صحة النسبة إليهم في غاية الضعف.

و كيف كان؛ فظاهر كلام المصنف: أن للقطع أثرين عقليين أحدهما: وجوب متابعته و ثانيهما: منجّزيته بمعنى: استحقاق العقاب على مخالفته، و النسبة بين الأثرين هي عموم مطلق؛ إذ لزوم العمل و الحركة على وفق القطع أعم من منجزيته بحجيته؛ لأن الحجية التي تترتب عليها المنجزية و المعذريّة ثابتة لبعض أفراد القطع أعني: القطع المطابق للواقع أو المخطئ عن قصور دون المخطئ عن تقصير، بخلاف لزوم العمل على طبقه حيث إنه ثابت لكل فرد من أفراده.

ص: 17

و لا يخفى: أن ذلك (1) لا يكون بجعل جاعل؛ لعدم جعل تأليفي حقيقة بين الشيء و لوازمه؛ بل عرضا يتبع جعله بسيطا.

=============

في امتناع جعل حجيّة القطع

(1) أي: وجوب العمل على وفق القطع: لا يكون بجعل جاعل...» الخ. و المقصود من هذه العبارة: إثبات امتناع جعل حجية القطع إثباتا و نفيا.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: إن الجعل على قسمين:

أحدهما: هو الجعل البسيط.

و ثانيهما: هو الجعل المركب و التأليفي.

و الفرق بينهما: أن الأول: هو الإيجاد بمفاد «كان» التامة، فمعنى جعل شيء: هو إيجاده و الثاني: هو الإيجاد بمفاد «كان» الناقصة بمعنى جعل شيء لشيء.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن القطع و إن كان مجعولا بالجعل البسيط ضرورة:

كونه حادثا لا قديما إلا إن الجعل البسيط ليس موردا للبحث، و إنما الكلام في الجعل التأليفي أعني: جعل الحجية للقطع، و لا يتحقق ذلك إلا في الأعراض المفارقة و المحمولات غير الضرورية؛ كجعل زيد عالما، و جعل جسم أبيض، و لا يتصور في اللوازم الذاتية و المحمولات الضرورية؛ إذ لا يعقل الجعل التركيبي بين الشيء و لوازمه الذاتية كالنار و الإحراق و الأربعة و الزوجية، و قد عرفت: أن حجية القطع كانت من لوازمه الذاتية، فلا تكون بجعل جاعل لا إثباتا و لا نفيا؛ لما عرفت من: أن ثبوت لازم الشيء له ضروري، و سلبه عنه مستحيل.

و من هنا يظهر امتناع المنع عن حجيّة القطع؛ و ذلك لاستحالة المنع عن الأثر الذاتي و هو معنى قولهم: القطع حجة بنفسه لا تناله يد الجعل لا نفيا و لا إثباتا.

ثم إن تأثير القطع في تنجّز التكليف به عند الإصابة و عذريته عند الخطأ عن قصور حيث كان لازما ذاتيا له صحّ أن يقال: إن القطع حجة ذاتا.

و حيث إن الأثر مما يدركه بنفسه أو يحكم بنفسه بلزوم ترتبه على المقطوع، من غير حاجة تصريح الشرع به صح أن يقال: إن القطع حجة عقلا، في قبال الأمارات الظنية المنصوبة من قبل الشارع كخبر الثقة و نحوه مما لا يدرك العقل حجيّته بنفسه و إنما هو صار حجة بجعل الشارع الحجيّة له جعلا تأليفيا.

نعم؛ يكون جعل اللازم بالعرض و المجاز و بتبع جعل ملزومه؛ كما أشار إليه بقوله: «بل عرضا بتبع جعله بسيطا».

ص: 18

و بذلك (1) انقدح: امتناع المنع عن تأثيره أيضا، مع أنه يلزم منه اجتماع الضدّين اعتقادا و حقيقة في صورة الإصابة، كما لا يخفى.

=============

و المتحصل: أن المحمولات - التي هي من لوازم موضوعاتها - غير قابلة للجعل أصلا؛ كالزوجيّة للأربعة، حيث إنها مجعولة بجعل نفس الأربعة، و لا يعقل جعلها لها لا تكوينا و لا تشريعا لا إثباتا و لا نفيا.

(1) أي: و بامتناع الجعل التأليفي بين الشيء و لوازمه ظهر امتناع سلب الحجية عن القطع كامتناع إثباتها له؛ لأنه بعد فرض كون المحمول - أعني: الحجية - من لوازم الموضوع - و هو القطع - فكما لا يمكن إثبات الحجيّة له بالجعل كذلك لا يمكن نفيها عنه، و إلا لزم أن لا تكون من لوازم ذات القطع و هذا خلاف الفرض. هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الوجهين اللذين استدل به على امتناع جعل الحجية للقطع إثباتا و نفيا.

و أما الوجه الثاني: فهو ما أشار إليه بقوله: «مع أنه يلزم منه اجتماع الضدين...» الخ.

و حاصل هذا الوجه: أن نفي الحجية عن القطع مستلزم لاجتماع الضدين اعتقادا مطلقا أي: في صورتي إصابة القطع و خطئه.

غاية الأمر: يلزم اجتماع الضدين بحسب اعتقاد القاطع لا واقعا عند الخطأ؛ كما إذا تعلق قطعه بحرمة شرب ماء الشعير مع فرض حليته واقعا، حيث إن مقتضى هذا القطع حرمة شربه، و إذا ردع عن حجيته الشارع كان مقتضى ردعه جواز شربه، و من المعلوم:

أن الحرمة و الجواز متضادان، فلا يمكن صدورهما من الشارع. و يلزم اجتماع الضدين واقعا و حقيقة في صورة إصابة القطع؛ كما إذا قطع بحرمة شرب الخمر مع أن المفروض حرمته واقعا، فإذا نهى الشارع عن متابعة قطعه هذا يلزم اجتماع الضدين واقعا و اعتقادا؛ كما أشار إليه بقوله: «و حقيقة في صورة الإصابة».

و خلاصة الكلام: أن امتناع سلب الحجيّة عن القطع مستند إلى وجهين:

الأول: امتناع انفكاك اللازم عن ملزومه.

الثاني: لزوم اجتماع الضدين من نفي الحجية عن القطع اعتقادا مطلقا، و حقيقة في صورة الإصابة.

و قد ظهر من كلام المصنف: أن القطع علة تامة للحجية، و لذا يستحيل ردع الشارع عن حجيته، فلا يكون اعتباره موقوفا على عدم المانع أعني: الردع.

ص: 19

ثم لا يخفى عليك (1): أن التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث و الزجر لم يصر فعليا، و ما لم يصر فعليا لم يكد يبلغ مرتبة التنجز، و استحقاق العقوبة على المخالفة و إن كان

=============

(1) إشارة إلى تفصيل ما أفاده إجمالا من أن أحكام القطع مترتبة على القطع بمرتبة فعلية الحكم.

مراتب الحكم و ترتّب استحقاق العقوبة على مخالفة الحكم الفعلي

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن للحكم مراتب أربع: الأولى: الاقتضاء، الثانية: الإنشاء، الثالثة: الفعلية، الرابعة: التنجز. و هذه المراتب طولية لا عرضية بمعنى: أنه ما لم تتحقق المرتبة السابقة لا يعقل تحقيق المرتبة اللاحقة.

فما لم تتحقق مرتبة الاقتضاء - و هي شأنية الحكم للوجود لأجل ملاك الحكم في متعلقه و هي عبارة عن مصلحة أو مفسدة - لا يعقل وصوله إلى المرتبة الثانية - و هي مرتبة الإنشاء - و هي جعل الحكم مجردا عن البعث و الزجر، بمعنى: أن المولى بعد ملاحظة المصلحة ينشئ الوجوب و بعد ملاحظة المفسدة ينشئ الحرمة قانونا، فالحكم حينئذ موجود إنشاء و قانونا من دون بعث للمولى أو زجر فعلا كأكثر أحكام الشرع مما لم يؤمر الرسول «صلى الله عليه و آله و سلم» بتبليغه؛ لعدم استعداد المكلفين لها. فهذه المرتبة كالمرتبة السابقة لا تلازم الإرادة و الكراهة.

المرتبة الثالثة: و المراد بهذه المرتبة: بعث المولى و زجره نحو الحكم بأن يقول: «افعل» أو «لا تفعل» مع عدم وصوله إلى المكلف بحجة معتبرة من علم أو علمي، فلا تكون مخالفته حينئذ موجبة للعقاب و الذّم.

المرتبة الرابعة: - و هي مرتبة التنجز - المراد بها: وصول الحكم الفعلي إلى المكلف بالحجة الذاتية أو المجعولة، و علمه بالمرتبة الثالثة، و يكون في موافقته ثواب و في مخالفته عقاب.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن ما تقدم آنفا من كون القطع منجّزا للتكليف في صورة الإصابة إنما فيما إذا كان التكليف الذي تعلق به القطع فعليا لا إنشائيا محضا.

و حاصل الكلام في المقام: أن وجوب العمل بالقطع عقلا، و قضاء الضرورة و الوجدان باستحقاق العقوبة على مخالفته و المثوبة على موافقته إنما هو فيما إذا تعلق القطع بالمرتبة الثالثة و هي البعث و الزجر؛ ليكون الحكم منجّزا بسبب وصوله إلى العبد بالقطع به، فلو لم يتعلق القطع بهذه المرتبة، بل تعلق بما قبلها من الاقتضاء و الإنشاء لم يكن هذا القطع موضوعا للحجيّة في نظر العقل؛ لعدم صدق الإطاعة و العصيان على موافقته و مخالفته.

ص: 20

ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة؛ و ذلك لأن الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقة بأمر و لا نهي، و لا مخالفته عن عمد بعصيان؛ بل كان (1) مما سكت الله عنه، كما في الخبر، فلاحظ و تدبر.

نعم؛ في كونه (2) بهذه المرتبة موردا للوظائف المقررة شرعا للجاهل إشكال لزوم و على هذا: فالقطع لا يكون موضوعا للأثرين المذكورين - و هما - وجوب العمل على طبقه و كونه منجّزا للتكليف إلا إذا تعلق بمرتبة الفعلية.

=============

و كيف كان؛ فقد ظهر من جميع ما ذكر وجه تقييد المصنف الحكم بالفعلي في قوله: «إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري...».

فالمتحصل: أن الحكم ما لم يبلغ مرتبة الفعلية لم يكن حقيقة بأمر و لا نهي؛ إذا الحكم إنما يسمى أمرا أو نهيا حتى يدخل تحت قوله تعالى: - مٰا آتٰاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا - إذا وصل مرتبة الفعلية. و أما إذا لم يبلغ مرتبة الفعلية: فلم يكن في موافقته ثواب و لا في مخالفته عقاب.

مثلا: لو علم بعض المسلمين في أول ظهور الإسلام بالمفسدة في الخمر و إنشاء المولى الحرمة؛ و لكن لم يكن هناك زجر فعلي كان شربها غير موجب للعقاب.

قوله: «و إن كان ربما يوجب موافقته» أي: موافقة ما لم يصر فعليا و هو الإنشائي المحض «استحقاق المثوبة» إذا أتى به بعنوان كونه محبوبا للمولى؛ لانطباق عنوان الانقياد عليه. فالمثوبة حينئذ مرتبة على مجرد الانقياد للمولى لا على نفس الفعل حتى يكون من الإطاعة الحقيقية، فاستحقاق المثوبة يفترق عن استحقاق العقوبة.

و حاصل الفرق: أن موافقة الحكم غير الفعلي توجب استحقاق المثوبة؛ و لكن مخالفته لا توجب استحقاق العقوبة. قوله: «لأن الحكم» تعليل لاختصاص حجية القطع بما إذا تعلق بالحكم الفعلي.

(1) أي: بل كان الحكم غير الفعلي مما سكت الله عنه، كما في الخبر المروي عن أمير المؤمنين «عليه الصلاة و السلام»: «إن الله تعالى حدد حدودا فلا تعتدوها، و فرض فرائض فلا تعصوها و سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم»، فلاحظ و تدبر حتى تستفيد منه عدم العقوبة على مخالفة الحكم المسكوت عنه و إن كان العمل به ليس محرما بقرينة قوله: «عليه السلام»: «فلا تتكلفوها». و قوله «رحمة من الله لكم» كما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 3، ص 288».

(2) أي: في الحكم و التكليف «بهذه المرتبة» أعني: الفعلية «موردا للوظائف المقررة

ص: 21

اجتماع الضدين أو المثلين، على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى، مع ما هو التحقيق في دفعه في التوفيق بين الحكم الواقعي و الظاهري فانتظر.

=============

شرعا للجاهل» من الأمارات و الأصول الشرعية «إشكال لزوم اجتماع الضدين أو المثلين»، الأول: في صورة مخالفة الأمارات و الأصول الشرعية للواقع؛ كما إذا كان شرب التتن حراما في الواقع و أدت الأمارة إلى حليته أو تقتضي أصالة الحلية إباحته، يلزم اجتماع الضدين و هو مستحيل.

و الثاني: في صورة الموافقة؛ بأن طابقت الأمارة أو الأصل مع الحكم الواقعي؛ بأن كان شرب التتن في المثال المذكور حلالا في الواقع، فيلزم اجتماع المثلين يعني: إباحة واقعية و إباحة ظاهرية، و من المعلوم: أن اجتماع المثلين مثل اجتماع الضدين في الاستحالة.

و كيف كان؛ فقوله: «نعم» استدراك عما اختاره المصنف من جعل الأحكام التي هي متعلقات الأمارات و الأصول فعلية، فحينئذ: يلزم إشكال اجتماع الضدين أو المثلين كما عرفت.

و سيأتي التعرض لهذا الإشكال مع جوابه في أول بحث الظن في الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري فانتظر.

هذا تمام الكلام في حجية القطع.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - الأمارات المعتبرة عقلا كحجية الظن الانسدادي بناء على الحكومة.

الأمارات المعتبرة شرعا كحجية خبر العادل مثلا.

2 - خروج بحث أحكام القطع عن المسائل الأصولية؛ لأن المسائل الأصولية على قسمين:

الأول: ما يصح جعلها كبرى للصغريات الوجدانية حتى تنتج الحكم الفرعي؛ كالبحث عن حجية خبر الواحد مثلا.

الثاني: ما ينتهي إليه الفقيه في مقام العمل كالاستصحاب و البراءة و نحوهما.

و البحث عن أحكام القطع ليس من القسمين.

3 - بحث القطع أشبه بمسائل الكلام؛ و ذلك لأنه من مسائل الكلام كون الله تعالى يثيب عباده على الطاعات و يعاقبهم على المعاصي، و يبحث في القطع عن العقاب أو

ص: 22

الثواب على فعل المقطوع به أو تركه، فيكون بحث القطع من المسائل الكلامية. و أما تعبير المصنف بالأشبهيّة: فلعله لأجل أن المسألة الكلامية ليست مطلق المسائل العقلية؛ بل ما يرتبط بالعقائد، و بحث القطع غير مرتبط بالعقائد.

4 - و أما عدول المصنف عما في كلام الشيخ الأنصاري من التقسيم الثلاثي إلى التقسيم الثنائي أو إلى ثلاثي آخر فلوجوه:

الأول: لا يصح تقسيم المكلف الفعلي إلى القاطع و الظان و الشاك؛ بل المكلف الفعلي إما قاطع بالحكم و إما ليس بقاطع، فلا بد حينئذ من جعل التقسيم ثنائيا.

الوجه الثاني: أنه لا بد من تعميم الحكم للواقعي و الظاهري؛ لأن الحكم الظاهري الثابت في موارد الأمارات و الأصول العملية يندرج في الحكم المقطوع به، و لازم ذلك:

كون المكلف قاطعا بالحكم الظاهري، فهو إما قاطع بالحكم أو لا.

الوجه الثالث: هو وجه العدول عن تثليث الشيخ الأنصاري إلى تثليث آخر هو: أن تثليث الشيح مستلزم لتداخل موارد الأمارات و الأصول العملية، هذا بخلاف تثليث المصنف فإنه لا يلزم منه تداخل أصلا.

و كيف كان؛ فالمصنف إنما نهج هذا النهج في التقسيم الثلاثي فرارا عن محذور التداخل الثابت في تثليث الشيخ «قدس سره».

5 - أن القطع حجة بمعنى: وجوب العمل على وفقه، و حجيته بهذا المعنى ذاتية غير قابلة للجعل إثباتا و نفيا، سواء كانت ذاتية باب البرهان أو الإيساغوجي؛ لأن ثبوت الذاتي بكلا المعنيين ضروري، و سلبه مستحيل. ثم ما يطلق على القطع من الحجة هو الحجة بالمعنى اللغوي لا الحجة بالمعنى المنطقي أو الأصولي. و الحجية بالمعنى اللغوي من الأحكام العقلية الصادرة من العقل في مورد القطع بحكم المولى، فيترتب عليه ما تقدم من الأثرين و هما: وجوب العمل على طبق القطع و كونه منجزا للتكليف الفعلي فيما أصاب، و عذرا فيما أخطأ عن قصور.

6 - أن للحكم مراتب أربع: 1 - الاقتضاء 2 - الإنشاء 3 - الفعلية 4 - التنجز.

ثم وجوب العمل بالقطع عقلا و قضاء الضرورة و الوجدان باستحقاق العقوبة على المخالفة، و المثوبة على الموافقة إنما هو فيما إذا تعلق القطع بالمرتبة الفعلية؛ لا بما قبلها من المرتبة الاقتضائية أو الإنشائية؛ لأن الحكم ما لم يبلغ مرتبة الفعلية لم يكن حقيقة بأمر و لا نهي، فلا يكون في موافقته ثواب و لا في مخالفته عقاب.

ص: 23

الأمر الثاني: أن القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة

اشارة

الأمر الثاني (1):

قد عرفت إنه لا شبهة في أن القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة، و المثوبة على الموافقة في صورة الإصابة، فهل يوجب استحقاقها في صورة عدم الإصابة على التجري بمخالفته، و استحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته، أو لا يوجب شيئا؟

=============

7 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - الصحيح هو التقسيم الثنائي لا الثلاثي.

2 - حجية القطع ذاتية غير قابلة للجعل لا إثباتا و لا نفيا.

3 - أن للحكم مراتب أربع.

4 - أن الأثر يترتب على القطع بالحكم إذا تعلق بالمرتبة الفعلية دون ما قبلها من المرتبة الاقتضائية أو الإنشائية.

في التجري

(1) الغرض من عقد هذا الأمر: التعرض لأمرين:

الأول: حكم مخالفة القطع غير المصيب و إنها هل توجب استحقاق العقوبة أم لا؟ و هذا هو المسمى بالتجري.

الثاني: حكم موافقة القطع غير المصيب، و أنها هل توجب استحقاق المثوبة أم لا؟ و هو المسمى بالانقياد، و لعل وجه تسمية هذا البحث بالتجري لا الانقياد هو: سهولة الأمر في ترتب الثواب على الانقياد، دون استحقاق العقوبة على التجري، حيث إنه محل الكلام و النقض و الإبرام.

و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان أمرين:

الأول: بيان الفرق بين التجري و المعصية من جهة، و بين الانقياد و الإطاعة من جهة أخرى.

الثاني: بيان جهات ثلاث في بحث التجري.

الجهة الأولى: كلامية. الثانية: أصولية. الثالثة: فقهية.

أما الأمر الأول: فنقول: إن التجري لغة و إن كان أعم من المعصية؛ لأنه من الجرأة بمعنى: إرادة مخالفة المولى، سواء كانت هناك في الواقع مخالفة أم لا، فيكون شاملا للمعصية. هذا بخلاف الانقياد لغة: فإنه بمعنى: إرادة موافقة المولى، سواء كانت هناك موافقة في الواقع أم لا. فيكون شاملا للإطاعة. هذا بحسب اللغة.

ص: 24

و أما بحسب الاصطلاح الأصولي: فيكون التجري مباينا للعصيان، و كذلك يكون الانقياد مباينا للإطاعة.

و ذلك أن التجري في الاصطلاح الأصولي هو: مخالفة القطع غير المصادف للواقع، أو مخالفة مطلق الحجة غير المصادف للواقع. هذا بخلاف المعصية فإنها عبارة عن مخالفة القطع المصادف للواقع. و كذلك بالنسبة إلى الانقياد و الإطاعة، فالأول: هو موافقة القطع غير المصادف للواقع. و الثاني: موافقة القطع المصادف للواقع.

هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل.

و أما الأمر الثاني: فنقول: إن مسألة التجري يمكن تكون من المسائل الكلامية، فيبحث فيها عن استحقاق المتجري للعقاب و عدم استحقاق له، و يمكن أن تكون من المسائل الفقهية، فيبحث فيها عن أن الفعل المتجري به هل يكون محرما أم لا؟

و يمكن أن تجعل من المسائل الأصولية، فيبحث فيها عن أن التجري هل يوجب قبح الفعل المتجري به فيترتب عليه الحكم بالحرمة، فتقع في طريق استنباط الحكم الشرعي، فتكون من المسائل الأصولية.

إذا عرفت هذين الأمرين فيقع الكلام في بيان ما هو محل الكلام في المقام فيقال: إن الظاهر هو عدم الخلاف في حجية القطع، بمعنى: صحة الاحتجاج من المكلف على الشارع في مورد الإطاعة و الانقياد، و من الشارع على المكلف في مورد المعصية، و إنما الخلاف في حجية القطع للشارع على المكلف في مورد التجري هل يكون قطعه هذا حجة حتى يعاقب المكلف على المخالفة أم لا؟

بمعنى: أنه كان للشارع أن يحتج به عليه و يعاقبه عند مخالفته لقطعه و إن كان جهلا مركبا. و هناك أقوال:

قال المصنف: إن التجري يوجب استحقاق العقوبة لانطباق عنوان الطغيان و التمرد عليه، كما أشار إليه بقوله: «الحق أنه يوجبه لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته».

و قال الشيخ الأنصاري: إن التجري لا يقتضي شيئا سوى الكشف عن سوء سريرة الفاعل و خبث باطنه الذي لا يترتب عليه سوى اللوم.

و قيل: باقتضائه لاستحقاق العقوبة على مجرد العزم على العصيان محضا لا على الفعل المتجري به نظرا إلى أن التجري من المحرمات الجنانية لا الجوارحية.

قوله: «قد عرفت إنه لا شبهة في أن القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة».

ص: 25

الحق: أنه (1) يوجبه؛ لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته، و ذمه على تجريه، و هتكه لحرمة مولاه، و خروجه عن رسوم عبوديته، و كونه بصدد الطغيان، و عزمه على العصيان، و صحة مثوبته، و مدحه على قيامه بما هو قضية عبوديته، من العزم على موافقته و البناء على إطاعته.

=============

يعني: تقدم في الأمر الأول حيث قال: لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع؛ إلى أن قال: «باستحقاق الذم و العقاب على مخالفته»؛ و لكن ما سبق في الأمر الأول هو خصوص استحقاق العقاب على المخالفة، دون استحقاق المثوبة على الموافقة. فعطف المصنف قوله: «و المثوبة على الموافقة» على قوله: يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة مما لا يخلو عن مسامحة.

إلا أن يقال: أن المراد بما تقدم في الأمر الأول هو قوله «و إن كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة» فإنه يفهم منه ترتب استحقاق الثواب على القطع بالحكم الفعلي بالأولوية القطعية من استحقاقه على القطع بالحكم الإنشائي.

(1) أي: القطع يوجب الاستحقاق.

و حاصل ما أفاده المصنف في المقام: إنه لا فرق في استحقاق العقوبة عقلا على مخالفة القطع بين إصابته و خطئه، و إن عصيان المولى و التجري الذي هو قصد مخالفته يرتضعان من ثدي واحد؛ لكون المناط فيهما - و هو هتك حرمة المولى و العزم على عصيانه و الخروج عن رسوم عبوديته - واحدا، ضرورة: إن مجرد ترك الواقع لا يوجب ذما و لا عقوبة ما لم يكن عن إرادة العصيان و الطغيان على المولى، و لذا لا عقاب قطعا على ترك الواقع في مورد الشبهات البدوية المستند إلى ترخيص الشارع.

و كيف كان؛ فتوضيح استحقاق المتجري للعقاب يتوقف على مقدمة و هي: إن للفعل الخارجي - مثل شرب الخمر - عناوين ثلاث:

الأول: عنوان الشرب من حيث هو شرب بلا إضافته إلى شيء.

الثاني: كون هذا الشرب مضافا إلى الخمر الذي هو مبغوض المولى. بحيث يصح أن يقال هذا شرب الخمر.

الثالث: كونه مخالفة لما نهاه الشارع عنه بعد تنجّزه عليه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: إن مناط استحقاق العقاب ليس هو الأول، و لا الثاني.

أما الأول: فلأن استحقاقه لو كان لصدق عنوان الشرب بما هو شرب للزم استحقاقه على شرب كل مائع و هو بديهي الفساد.

ص: 26

و إن قلنا: بأنه لا يستحق مؤاخذة أو مثوبة؛ ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة، بمجرد سوء سريرته أو حسنها، و إن كان مستحقا للوم أو المدح بما يستتبعانه (1)، كسائر الصفات و الأخلاق الذميمة أو الحسنة.

و بالجملة (2): ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحق بها إلا مدحا أو لوما، و إنما يستحق الجزاء بالمثوبة أو العقوبة مضافا إلى أحدهما (3)، إذا صار بصدد الجري على و أما الثاني: فلأنه لو كان الموجب لاستحقاق العقاب مجرد عنوان شرب الخمر للزم استحقاقه على شربه حال الجهل به أو الغفلة عنه؛ كاستحقاقه على الشرب حال العلم و الالتفات، لصدق عنوان شرب الخمر في الجميع، مع إنه ليس كذلك قطعا، فتعيّن أن يكون المناط في استحقاق العقاب هو العنوان الثالث - أي: شرب الخمر المعلوم تعلق النهي به - إذ به يصير العبد خارجا عن رسوم العبودية، و يكون بصدد الطغيان على مولاه، و من المعلوم: أن هذا المناط موجود في حق المتجري كوجوده في حق العاصي، فإن المتجري أيضا في مقام الطغيان على مولاه و هتك حرمته؛ لفرض اعتقاده جزما بأن ما يشربه هو الخمر المبغوض للمولى؛ و إن صادف كونه خلا أو ماء، فلا بد من القول باستحقاقه للعقاب لاشتراكه مع العاصي فيما هو الملاك لاستحقاق العقوبة، هذا بالنسبة إلى التجري.

=============

و يجري الكلام بعينه في الانقياد، فإن الانقياد هو: العزم على موافقة المولى كالإطاعة و هو المناط في استحقاق المثوبة، فهما مشتركان في المناط.

(1) الضمير راجع على «ما» الموصولة المقصود به العزم على الموافقة أو المخالفة.

و ضمير التثنية راجع على سوء السريرة أو حسنها و الباء للسببية. يعني: إن سبب اللوم و المدح ليس نفس هاتين الصفتين - أعني: سوء السريرة و حسنها - بل ما يترتب عليهما من العزم على المخالفة و تمرد المولى، و العزم على الموافقة و الانقياد للمولى؛ «كسائر الصفات و الأخلاق الذميمة أو الحسنة» كالشجاعة و الجبن و الجود و البخل، فإنها و إن كانت لا توجب ثوابا أو عقابا، و لكنها موجبة للمدح و الذم فيقال: «فلان كريم» في مقام المدح، «أو بخيل» في مقام الذم.

(2) هذا حاصل ما أفاده آنفا من عدم ترتب المثوبة أو العقوبة على مجرد سوء السريرة أو حسنها.

(3) أي: المدح و الذم. و الضمير في «بها» و «طبقها» و «وفقها» راجع إلى الصفة الكامنة.

ص: 27

طبقها و العمل على وفقها و جزم و عزم (1)؛ و ذلك (2) لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء سريرته من دون ذلك، و حسنها معه، كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال في مثل باب الإطاعة و العصيان، و ما يستتبعان من (3) استحقاق النيران أو الجنان.

و لكن ذلك (4) مع بقاء الفعل المتجرى به أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن

=============

(1) هما من مقدمات الإرادة، و الجزم حكم القلب بأنه ينبغي صدور الفعل بدفع الموانع، و العزم هو الميل السابق على الشوق المؤكد، فالعزم مترتب على الجزم، كما أن الجزم مترتب على التصديق بغاية الفعل، و التصديق بالغاية مترتب على العلم بها، كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 41».

(2) تعليل لعدم صحة المؤاخذة بمجرد سوء السريرة و صحتها مع العزم على المخالفة و حاصله: أن الوجدان الذي هو الحاكم في باب الإطاعة و العصيان و توابعهما يشهد بصحة المؤاخذة على العزم على المخالفة، و عدم صحتها على مجرد سوء السريرة، و المشار إليه في قوله: «من دون ذلك» هو العزم و الضمير في «مؤاخذته» و «سريرته» راجع على العبد.

(3) بيان للموصول في «و ما يستتبعان»، و ضمير التثنية راجع على الإطاعة و العصيان.

و حاصل الكلام: أن استحقاق النيران و الجنان مترتب على العصيان و الإطاعة.

(4) أي: الذي ذكرنا من كون التجري موجبا للعقاب و الانقياد موجبا للثواب، «مع بقاء الفعل المتجرى به أو المنقاد به على ما هو عليه، قبل عروض عنواني التجري و الانقياد عليه «من الحسن أو القبح و الوجوب أو الحرمة واقعا»، هذا إشارة إلى جهة كون مسألة التجري أصولية أو فقهية.

و أما الجهة الأصولية فهي: أن القطع بوجوب فعل أو حرمته هل يوجب حدوث مصلحة أو مفسدة فيه تقتضي وجوبه أو حرمته شرعا أم لا؟

و يقول المصنف: إن الفعل المتجرى به باق على ما كان عليه واقعا من المحبوبية أو المبغوضية بتعلقه به، و ليس كالضرر و الاضطرار من العناوين المغيّرة للأحكام الأولية.

و عليه: فلا يصير شرب الماء مبغوضا للشارع بسبب القطع بخمريته، كما لا يصير قتل ولد المولى محبوبا له بسبب علم العبد بكونه عدوّا للمولى.

و كذا يقال في الجهة الفقهية: إن تعلق القطع بالمحبوبية أو المبغوضية لا يوجب اتصاف

ص: 28

أو القبح و الوجوب أو الحرمة واقعا، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم و الصفة، و لا يغير (1) حسنه أو قبحه بجهة أصلا، ضرورة (2): أن الفعل بالوجوب أو الحرمة، فالقطع بهما لا يؤثر في صفة الفعل المتجرى به واقعا من الحسن أو القبح، و لا في حكمه الشرعي من الوجوب أو الحرمة.

=============

(1) يعني: و لا يغيّر تعلق القطع بغير ما عليه الفعل المتجرى به من الحكم و الصفة حسن الفعل المتجرى به أو قبحه أصلا.

(2) هذا برهان لما ادعاه من عدم كون القطع مغيّرا لحسن الفعل و قبحه، و لا لحكمه من الوجوب أو الحرمة أو غيرهما.

و حاصل ما أفاده يرجع إلى وجهين:

أحدهما: حكم الوجدان بعدم تأثير القطع في الحسن أو القبح و الوجوب أو الحرمة؛ إذ ليس القطع من الوجوه و الاعتبارات الموجبة للحسن أو القبح عقلا، و عدم كونه ملاكا للمحبوبية و المبغوضية شرعا ليغيّر الحكم الواقعي بسبب تعلق القطع بخلافه. و أما حكم الوجدان بذلك: فلما نجده من قبح قتل ابن المولى و إن قطع العبد بكونه عدوّا له، و حسن قتل عدوّه و إن قطع العبد بأنه صديقه.

و ثانيهما: ما أشار إليه بقوله: «مع أن الفعل المتجرى به».

و حاصله: أنه لو سلمنا كون عنوان «مقطوع المبغوضية» من العناوين المغيّرة للواقع و موجبا للقبح؛ لكنه في خصوص المقام لا يصلح لتغيير الواقع؛ و ذلك لأن اتصاف فعل بالحسن أو القبح الفعليين منوط بالاختيار - و إن لم يكن اتصافه بالحسن أو القبح الاقتضائيين منوطا به - فإن الحسن و القبح من الأحكام العقلية المترتبة على العناوين و الأفعال الاختيارية و هذا الشرط - أعني: الاختيار - مفقود هنا؛ إذ العنوان الذي يتوهم كونه مقبحا هو القطع بالحكم كالحرمة أو الوجوب، أو بالصفة كالقطع بخمرية مائع، و من المعلوم: أن القاطع لا يقصد ارتكاب الفعل إلا بعنوانه الواقعي؛ لا بعنوان كونه مقطوعا به، فإذا قطع بخمرية مائع و شربه فقد قصد شرب الخمر و لم يقصد شرب مقطوع الخمرية، و مع انتفاء هذا القصد الكاشف عن عدم الاختيار لا يتصف هذا الشرب بالقبح؛ لانتفاء مناط القبح فيه و هو قصد شرب معلوم الخمرية؛ بل يمكن أن يقال: بانتفاء الالتفات إلى هذا العنوان الطارئ - أعني: معلوم الخمرية - بعد وضوح كون القطع كالمرآة طريقا محضا إلى متعلقه، و مع عدم الالتفات إلى هذا العنوان يستحيل القصد إليه، و مع امتناعه لا يتصور القصد المقوّم للاختيار.

ص: 29

القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه و الاعتبارات التي بها يكون الحسن و القبح عقلا و لا ملاكا للمحبوبية و المبغوضية شرعا، ضرورة: عدم تغير الفعل عما هو عليه من المبغوضية و المحبوبية للمولى، بسبب قطع العبد بكونه محبوبا أو مبغوضا له، فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضا له و لو اعتقد العبد بأنه عدوه، و كذا قتل عدوه مع القطع بأنه ابنه لا يخرج عن كونه محبوبا أبدا، هذا مع (1) أن الفعل المتجرى به أو المنقاد بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريا، فإن (2) القاطع لا يقصده إلا بما قطع أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي لا بعنوانه الطارئ الآلي (3)؛ بل لا يكون (4) غالبا بهذا العنوان مما يلتفت إليه، فكيف يكون (5) من جهات الحسن أو القبح عقلا، و من مناطات الوجوب أو الحرمة شرعا؟ و لا (6) يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلاّ إذا كانت اختيارية.

=============

و بالجملة: فلا يصلح عنوان «مقطوع المبغوضية» لأن يكون موجبا لقبح الفعل؛ لكونه غير اختياري للفاعل المتجرّي على كل حال؛ إما للغفلة عن عنوان «المقطوعيّة»، و إما لعدم تعلق غرض عقلائي بقصد عنوان المقطوعية، كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 145».

(1) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الوجهين اللذين ذكرهما المصنف على ما اختاره من عدم كون القطع مغيّرا لحسن الفعل و قبحه، و قد تقدم تفصيل ذلك فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار.

(2) تعليل لقوله: «لا يكون اختياريا»، و قد عرفت بيان ذلك.

(3) و هو كونه مقطوعا به كشرب معلوم الخمرية، و التعبير بالآلية لأجل أن العلم آلة للحاظ متعلقه، و طريق إليه في قبال لحاظه مستقلا، و ضمير بعنوانه راجع على الفعل المتجرى به أو المنقاد به.

(4) أي: بل لا يكون الفعل المتجرى به أو المنقاد به بعنوانه الطارئ الآلي مما يلتفت إليه، فلا يكون ارتكابه بهذا العنوان اختياريا له، و قصد المصنف بذلك: إن انتفاء الاختيار غالبا لأحد أمرين: أحدهما: انتفاء القصد، و الآخر: انتفاء الالتفات، و قد يكون من وجه واحد و هو انتفاء القصد.

(5) أي: لا يكون الفعل المتجرى به أو المنقاد به بهذا العنوان الطارئ الآلي - مع كونه مغفولا عنه - من جهات الحسن أو القبح.

(6) الواو للحال، يعني: و الحال أنه لا يكاد يكون صفة موجبة لذلك - أي: للحسن

ص: 30

إن قلت: إذا لم يكن الفعل كذلك (1)، فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع، و هل كان العقاب عليها إلا عقابا على ما ليس بالاختيار؟

قلت (2): العقاب إنما يكون على قصد العصيان، و العزم على الطغيان؛ لا على و القبح أو الوجوب و الحرمة - إلا إذا كانت تلك الصفة اختيارية لا غير اختيارية كما في المقام، حيث كان عنوان «المقطوع به» مغفولا عنه، فلا يترتب عليه حسن و لا قبح و لا وجوب و لا حرمة لعدم كونه اختياريا.

=============

فالمتحصل: إن القطع ليس من العناوين المحسّنة و المقبحة أوّلا، و على تقدير تسليم كونه من تلك العناوين: ليس موجبا للحسن و القبح في خصوص المقام؛ لعدم الالتفات إليه، فلا يكون اختياريا حتى يكون محسنا أو مقبحا.

(1) أي: إذا لم يكن الفعل المتجرى به بما هو مقطوع الحرمة اختياريا لعدم الالتفات إلى هذا العنوان، «فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع»؛ لأن المائع المزعوم كونه خمرا بعنوان أنه مقطوع الخمرية ليس اختياريا حتى يوجب العقاب، فحينئذ ليس العقاب على مخالفة القطع إلا عقابا على ما ليس بالاختيار؛ إذ ما قصده من شرب الخمر لم يقع، و الذي وقع من شرب معلوم الخمرية لم يكن باختيار، فلا يصح العقاب، و عليه:

فلا بدّ من رفع اليد عما تقدم من استحقاق العقوبة على الفعل المتجرى به، أو الالتزام بصحة العقوبة على ما ليس باختياري. فهذا الإشكال ناظر إلى قوله: «و لا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلا إذا كانت اختيارية». و قد تقدم توضيح الإشكال.

و كيف كان؛ فالالتزام بعدم كون الفعل المتجري به - بعنوان كونه معلوم الوجوب أو الحرمة - اختياريا و بقائه على ما هو عليه واقعا من الملاك ينافي ما اعترف به سابقا من استحقاق العقوبة عليه؛ إذ من لوازم عدم اختيارية عنوان معلوم الحرمة أو الوجوب عدم استحقاق العقوبة على الفعل المتجرى به المتصف بهذا العنوان الغير الاختياري، و المفروض أيضا: عدم كون الفعل بنفسه موجبا لاستحقاق العقوبة.

(2) هذا دفع للإشكال فيقال في دفع هذا الإشكال: إنه وارد لو قلنا بأن العقاب على الفعل و ليس كذلك حتى يقال بأن الفعل المتجرّى به ليس اختياريا لأجل الغفلة، فكيف يوجب استحقاق العقوبة عليه ؟

بل نقول: إن استحقاق العقوبة إنما هو على قصد المخالفة و الطغيان و الخروج عن رسوم العبودية، فلا أساس لهذا الإشكال أصلا؛ إذ لو كان الاستحقاق على نفس الفعل توجّه إشكال المنافاة المتقدم بيانه.

ص: 31

الفعل الصادر بهذا العنوان (1) بلا اختيار.

إن قلت (2): إن القصد و العزم إنما يكون من مبادئ الاختيار، و هي ليست باختيارية؛ و إلا لتسلسل.

قلت (3): - مضافا إلى إن الاختيار و إن لم يكن بالاختيار، إلا إن بعض مباديه غالبا و أما إذا ترتب الاستحقاق على مجرّد القصد لم يلزم منافاة بين الاستحقاق و بين عدم اختيارية عنوان «معلوم الوجوب أو الحرمة» مثلا.

=============

(1) أي: بعنوان أنه مقطوع حتى يقال: إنه «بلا اختيار»، و لا يصح العقاب على الأمر الغير الاختياري.

(2) و هذا الإشكال راجع على الجواب عن الإشكال السابق بتقريب: أنه لا بد أن يكون استحقاق العقوبة على نفس الفعل المتجرى به؛ لا على قصد العصيان كما قلتم في الجواب عن الإشكال المتقدم؛ لأن العقاب على قصد العصيان عقاب على أمر غير اختياري، فإن القصد يكون أمرا غير اختياريّ بتقريب: أن القصد من مبادئ الفعل الاختياري الذي يتوقف على العزم و الإرادة اللذين إن كانا اختياريين يجب أن يكونا مسبوقين بعزم و إرادة آخرين، فيلزم الدور أو التسلسل؛ إذ لو كانت الإرادة الثانية بالإرادة الأولى لزم الدور، و إن كانت بالإرادة الثالثة و الثالثة بالإرادة الرابعة إلى ما لا نهاية لزم التسلسل، و كلاهما باطل.

و إن كانت الإرادة الثانية اضطرارية: لكانت الإرادة الأولى أيضا اضطرارية؛ لأنهما مثلان و حكم الأمثال فيما يجوز و لا يجوز واحد، و لازم ذلك: أن يكون العقاب بالآخرة على أمر غير اختياري.

فالنتيجة: أنه لا يصح العقاب على القصد، كما في الجواب عن الإشكال.

(3) و قد أجاب المصنف عن الإشكال المزبور بوجهين: أحدهما: حلي، و الآخر:

نقضي.

و قد أشار إلى الوجه الأول بقوله: «مضافا». و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 50» - أن الاختيار و إن لم يكن بجميع مباديه اختياريا؛ لاستلزامه الدور أو التسلسل كما تقدم، إلا إنه لما كان بعض مباديه اختياريا صحّت إناطة الثواب و العقاب به، و توضيحه: إن ما يرد على القلب قبل صدور الفعل في الخارج أمور:

الأول: حديث النفس، و هو خطور العمل كشرب الخمر و يسمى بالخاطر.

الثاني: خطور فائدته.

ص: 32

يكون وجوده بالاختيار، للتمكن من عدمه بالتأمل فيما يترتب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة و اللوم و المذمة - يمكن أن يقال: إن حسن المؤاخذة و العقوبة إنما يكون من تبعة بعده عن سيده بتجرّيه عليه كما كان من تبعته بالعصيان في صورة المصادفة، فكما أنه يوجب البعد عنه.

=============

الثالث: التصديق بترتب تلك الفائدة عليه.

الرابع: هيجان الرغبة إلى ذلك الفعل، و هو المسمى بالميل.

الخامس: الجزم و هو: حكم القلب بأن هذا الفعل مما ينبغي صدوره بدفع موانع وجوده أو رفعها عنه.

السادس: القصد، و قد يعبر عنه بالعزم و هو: الميل أعني: عقد القلب على إمضاء صدور الفعل.

السابع: أمر النفس و تحريكها للعضلات - التي هي عوامل النفس - نحو صدور الفعل.

إذا عرفت هذه الأمور السبعة فاعلم: أن الأربعة الأولى بالترتيب - أعني: حديث النفس، و تصور الفائدة، و التصديق بترتبها، و الميل - ليست باختيارية. و أما الجزم و القصد فهما من حيث الاختيار و الاضطرار مختلفان بحسب اختلاف حالات الإنسان في القدرة على الصرف و الفسخ بسبب التأمل فبما يترتب عليه من التبعات، و في عدم القدرة على الفسخ لشدة ميله إلى الفعل بحيث لا يلتفت إلى تبعاته، أو لا يعتني بها، و المؤاخذة تحسن على الاختياري منه دون الاضطراري.

و بالجملة: فالمتجري و المنقاد إنما يعاقب و يثاب على بعض مقدمات الاختيار من القصد و الجزم؛ لا على نفس العمل.

فالمراد من بعض مبادئ الاختيار في قوله: «بعض مباديه» هو الجزم و القصد و التصديق بالفائدة.

قوله: «يمكن أن يقال» إشارة إلى الوجه الثاني و هو الجواب النقضي.

و حاصله: يرجع إلى منع قبح استحقاق العقاب على ما لا يرجع إلى الاختيار.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن استحقاق العقوبة تارة: يكون لأجل المعصية، و أخرى: لأجل بعد العبد عن مولاه الحقيقي و هو الله تعالى. و هذا البعد معلول للتجري كما هو معلول للمعصية الحقيقية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن حسن المؤاخذة في المعصية معلول للبعد الناشئ عن

ص: 33

كذلك (1) لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة، فإنه و إن لم يكن باختياره، إلا إنه بسوء سريرته و خبث باطنه بحسب نقصانه و اقتضاء استعداده ذاتا و إمكانا.

=============

العصيان الذي لا يكون اختياريا؛ لأن العصيان عبارة عن المخالفة العمدية، و العمد ليس باختياري؛ بل الاختياري هو نفس المخالفة التي لا يترتب عليها استحقاق العقوبة؛ و إلا لكان يترتب عليها استحقاق العقوبة في موارد الأصول العملية.

فالحاصل: أن استحقاق العقوبة إنما هو من تبعات بعد العبد عن مولاه، و هذا البعد معلول للتجري كما هو معلول المعصية.

فالنتيجة: أن العقاب في كل من التجري و المعصية معلول للبعد الناشئ من إرادة المخالفة و الطغيان، و هي تنشأ من العزم المعلول للجزم الناشئ من الميل إلى القبح المعلول للشقاوة و هي سوء السريرة، المستند إلى ذات العبد، و من المعلوم: أن الذاتيات ضرورية الثبوت للذات، و بعد انتهاء الأمر إلى الذاتي ينقطع السؤال بلم، فلا يقال: «إن الكافر لما ذا اختار الكفر» و «لم اختار العاصي المعصية»، و كذا يقال في جانب الإطاعة و الإيمان، فإنّ كل ذلك لما كان منتهيا إلى الخصوصية الذاتية فلا مجال للسؤال عنه؛ لأنه مساوق للسؤال عن «أن الإنسان لم صار ناطقا و الحمار لم صار ناهقا»، فكما لا مجال لمثل هذا السؤال، فكذا في المقام لا مجال للسؤال عن اختيار الكفر و العصيان و الإطاعة و الإيمان، و تقدم بسط الكلام في الجزء الأول في بحث اتحاد الطلب و الإرادة فراجع.

قوله: «إن حسن المؤاخذة»: تقريب الجواب.

(1) أي: فكما أن التجري يوجب البعد عن السيد فكذلك «لا غرو...» الخ، يعني:

لا عجب في أن يكون التجرّي موجبا لاستحقاق العقوبة و حسن المؤاخذة.

فالمتحصل من مجموع ما أفاده المصنف في المتن و حاشيته عليه: هو دفع الإشكال بوجهين:

أحدهما: النقض بالمعصية بمعنى: أن العقوبة في التجري كالعقوبة في المعصية من لوازم سوء السريرة الراجع على نقصان الذات الذي هو من الذاتيات التي لا تفارق الذوات، و ليس بالجعل؛ لعدم جعل تأليفي بين الشيء و ذاتياته؛ كما تقدم في أوّل مباحث القطع، فليس العقاب على ارتكاب المعاصي للتشفي المستحيل في حقه «تبارك و تعالى»؛ بل لما يقتضيه ذات العاصي، و إذا انتهى الأمر إلى ذاتي الشيء ارتفع الإشكال و انقطع السؤال بأنه لم اختار العاصي المعصية...

و ثانيهما: الحل؛ لأن الاختيار و إن لم يكن بجميع مبادئه اختياريا إلا إنه اختياري و لو

ص: 34

و إذا انتهى الأمر إليه (1) يرتفع الإشكال و ينقطع السؤال بلم، فإن الذاتيات ضروري (2) الثبوت للذات، و بذلك (3) أيضا ينقطع السؤال عن أنه لم اختار الكافر و العاصي الكفر و العصيان و المطيع و المؤمن الإطاعة و الإيمان ؟ فإنه يساوق السؤال عن أن الحمار لم يكون ناهقا و الإنسان لم يكون ناطقا (4)؟

=============

ببعض مباديه، و هذا المقدار يكفي في رفع الإشكال المذكور.

(1) أي: إلى الذاتي.

(2) الصواب: ضرورية الثبوت.

(3) أي: بانتهاء الأمر إلى النقصان الذاتي ينقطع السؤال أيضا بأن المؤمن و المطيع و العاصي و الكافر لم اختاروا الإيمان و الإطاعة و الكفر و العصيان؛ لانتفاء الأمر في الجميع إلى الكمال و النقصان الذاتيين اللذين لا ينفكان عن الذات؛ كناطقية الإنسان و ناهقية الحمار؛ و لكن هذا الكلام من المصنف «قدس سره» مناف لأصول مذهب أتباع أهل البيت القائلين بنفي الجبر و التفويض، و إثبات الأمر بين الأمرين.

(4) و في هامش «منتهى الدراية، ج 4، ص 54-55» - ما لفظه:

«لا يخفى: أن مرجع ما ذكره دعويان لا يمكن الالتزام بشيء منهما.

الأولى: إن الفعل الصادر تجريا ليس بعنوان كونه مقطوع الحرمة اختياريا؛ لأنه بهذا العنوان مغفول عنه.

الثانية: أن مناط استحقاق العقوبة - و هو العزم على التمرد و الطغيان - غير اختياري، لانتهائه إلى الشقاوة الذاتية التي لا تعلل.

و في كلتا الدعويين ما لا يخفى؛ إذ في الأولى: أن الملتفت إليه أولا و بالذات هو نفس القطع، و الالتفات إلى المقطوع به إنما يكون بواسطته، فالقطع كالنور في كونه هو المرئي أولا و بالذات و أن الأشياء ترى بسببه، و مع أصالته في إضاءة الأجسام كيف يغفل عنه ؟ نعم؛ لا بأس بإنكار الالتفات التفصيلي غالبا؛ لكنه ليس إنكارا لأصل الالتفات و لو إجمالا، بل الالتفات التفصيلي في بعض الموارد كالأحكام الشرعية مما لا يقبل الإنكار.

و بالجملة: فالفعل المتجرى به من جهة مصداقيته لهتك حرمة المولى قبيح عقلا، و منع قبحه لعدم كونه بعنوان مقطوع الحرمة اختياريا، حيث إنه بهذا العنوان مغفول عنه غير سديد؛ لما مر آنفا.

و في الثانية: أن مناط استحقاق العقوبة هو نفس الفعل المتجرى به الذي هو فعل صادر

ص: 35

و بالجملة: تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه تعالى و البعد عنه، سبب لاختلافها في استحقاق الجنّة و درجاتها و النار و دركاتها، و موجب لتفاوتها في نيل الشفاعة و عدم نيلها، و تفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتيا، و الذاتي لا يعلل.

و إن قلت: على هذا (1) فلا فائدة في بعث الرسل و إنزال الكتب و الوعظ و الإنذار.

قلت: ذلك (2) لينتفع به من حسن سريرته و طابت طينته لتكمل به نفسه، و يخلص مع ربه أنسه، ما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله، قال الله «تبارك و تعالى»:

=============

بإرادة الفاعل و اختياره؛ لما في نفسه من القيومية و القدرة على الفعل و الترك، فهذه الإرادة من أفعال النفس، و قائمة بها نحو قيام صدوري، فإن الله «تعالى شأنه» خلقها مختارة فيما تشاء من فعل شيء أو تركه، و ليس المراد بالإرادة هنا هو الشوق المؤكد التي هي صفة نفسانية قائمة بها قياما حلوليا و خارجة عن الاختيار و منتهية إلى الشقاوة الذاتية.

و الحاصل: أن مناط اختيارية الفعل هو صدوره عن إرادة ناشئة من قيومية النفس التي هي بحسب خلقتها قادرة على الفعل و الترك، و متعلق التكاليف هو: الفعل الصادر عن هذه الإرادة؛ لا الإرادة المنتهية إلى الشقاوة الذاتية كما ذكره المصنف «قدس سره» و أوقع نفسه الشريفة في حيص و بيص، هذا.

مضافا إلى: «إن الإرادة المتوقفة على مباديها لا توجب خروج النفس عن قدرتها على كل من الفعل و الترك؛ بحيث يصدر الفعل قهرا كصدور الإحراق من النار، بل قيومية النفس باقية أيضا، غايته: أن هذه الإرادة تكون مرجحة للفعل على الترك، فتختاره النفس لأجلها على الترك، و قد لا تكون مرجحة له فلا تختاره، فهذه الإرادة - بعد تسليم كونها مرادة هنا - لا تسلب قدرة النفس و فاعليتها كما هو ظاهر».

(1) أي: على الذي ذكرتم من أن الكفر و العصيان و الإطاعة و الإيمان من تبعات الذات، «فلا فائدة في بعث الرسل...» الخ؛ إذ المؤمن و المطيع يؤمن بنفسه و يطيع، كما أن النار تحرق بنفسها من غير حاجة إلى الإرشاد.

و بعبارة أخرى: يكون بعث الرسل و إنزال الكتب لغوا؛ إذ المفروض: ذاتية الخبث و الشقاوة، و الذاتي لا يزول و لا ينفك عن الذات، فلا يؤثر إرسال الرسل في ارتفاع الذاتي.

(2) أي: ما ذكر من بعث الرسل و إنزال الكتب لا يكون لغوا، بل تترتب عليه فائدتان: إحداهما: انتفاع من حسنت سريرته به، لتكمل به نفسه.

ثانيتهما: إتمام الحجة على من ساءت سريرته و خبثت طينته لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؛ بل كان له الحجة البالغة؛ كما أشار إليه بقوله: «و ليكون حجة على

ص: 36

وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ اَلذِّكْرىٰ تَنْفَعُ اَلْمُؤْمِنِينَ (1) ، و ليكون حجة على من ساءت سريرته و خبثت طينته ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حيّ عن بيّنة كيلا يكون للناس على الله حجة، بل كان له حجة بالغة.

و لا يخفى (1): أن في الآيات و الروايات، شهادة على صحة ما حكم به الوجدان من ساءت سريرته».

=============

و يمكن أن يقال: بعدم ترتب الفائدة الثانية على بعث الرسل؛ إذ المفروض: كون الشقاوة ذاتية، و الذاتيات ضرورية الثبوت للذات، فيمتنع زوال الخبث الذاتي بإرسال الرسل، فتنحصر فائدة البعث في انتفاع المؤمن، و تلغو بالنسبة إلى الكافر و العاصي، و هذا مخالف لضرورة من الدين.

إلا أن يقال: إن المراد بالذاتي هو المقتضي لا العلة التامة، و من المعلوم: أن الأثر يترتب على المقتضي عند عدم المانع، و مع قدرة المكلف على إيجاد المانع ينتفع الكافر و الفاسق أيضا ببعث الرسل، فلا تلزم لغوية الفائدة الثانية.

دلالة الآيات و الروايات على استحقاق المتجرّي للعقاب

دلالة الآيات و الروايات على استحقاق المتجرّي للعقاب(2) أي: يشهد ما في الآيات و الروايات على صحة ما حكم به الوجدان من حرمة التجري و العقاب عليه - كحرمة المعصية و العقاب عليها - لوحدة المناط فيهما، و هذا الكلام من المصنف إشارة إلى ما أفاده الشيخ الأنصاري في الرسائل من حرمة التجري بالقصد إلى المعصية حيث قال: «نعم؛ لو كان التجري على المعصية بالقصد إلى المعصية فالمصرّح به في الأخبار الكثيرة العفو عنه؛ و إن كان يظهر من أخبار أخر العقاب على القصد أيضا...»(1) الخ، و حاصل ما أفاده الشيخ «قدس سره» أن التجري على قسمين:

القسم الأول: هو التجري من حيث العمل.

القسم الثاني: هو التجري من حيث القصد، و هنا طائفتان من الأخبار، فالمصرّح به في طائفة منها: هو عدم العقاب؛ إذ يكون مضمون هذه الطائفة: أن من قصد المعصية ثم لم يفعل لا يعاقب على قصده، و من قصد ثم عصى يعاقب عقابا واحدا.

و طائفة منها تدل على عقاب التجري بالقصد. و يذكرها الشيخ «قدس سره» واحدا بعد واحد إلى أن يقول: و يؤيده قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا مٰا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحٰاسِبْكُمْ بِهِ اَللّٰهُ (3) فلا بدّ أوّلا من ذكر هذه الطائفة من الأخبار مع توضيح دلالتها

ص: 37


1- الذاريات: 55.
2- فرائد الأصول 46:1.
3- البقرة: 284.

على عقاب المتجري بالقصد، ثم توضيح تأييدها بجملة من الآيات.

فأما الأخبار التي يظهر منها العقاب على القصد فمنها: قوله «صلى الله عليه و آله» «نيّة الكافر شرّ من عمله»(1) فيقال في دلالة هذه الرواية على العقاب بالقصد: أن الشرّ من أفعل التفضيل يدل على الزيادة، فمعناها: أن الكافر يعاقب بالمعصية عملا، فإذا قصدها يعاقب بطريق أولى، لأن نيّته شرّ من عمله.

و منها: «إنما يحشر الناس على نياتهم»(2)علل الشرائع 4/461:2، الوسائل 20184/148:15، مسند أحمد 401:4، صحيح البخاري 13:1، صحيح مسلم 170:8، كنز العمال 39916/26:15.(3) إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا، فالنيّة توجب العقاب إن كانت شرا و الثواب إن كانت خيرا».

و منها: «ما ورد من تعليل خلود أهل النار في النار، و خلود أهل الجنة في الجنة، بعزم كل من الطائفتين على الثبات على ما كان عليه من المعصية و الطاعة لو خلدوا في الدنيا»(4)، فالكفار عزموا الدوام على ما فعلوه في الدنيا لو خلدوا فيها، و هذا العزم يوجب أن يكونوا مخلدين في النار.

و منها: ما ورد من أنه إذا التقى المسلمان بسيفهما «فالقاتل و المقتول في النار»، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال «صلى الله عليه و آله و سلم»: «لأنه أراد قتل صاحبه»(4)، فالمقتول في النار لقصده القتل المحرم(5). و نكتفي بهذا المقدار رعاية للاختصار.

فالحاصل من الجميع: أن قصد المعصية معصية. و أما الآيات المؤيّدة لهذه الأخبار فمنها:

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ (6).

وجه التأييد: أن العذاب على حبّ شيء يؤيد العذاب على قصده، و لا يدل عليه لضعف القصد عن الحبّ .

و منها: قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا مٰا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحٰاسِبْكُمْ بِهِ اَللّٰهُ (7)،

ص: 38


1- الكافي 2/84:2، الوسائل 95/5:1.
2- المحاسن 125/262:1، الكافي 20:5 /جزء من ح 1، تهذيب الأحكام 135:6 /جزء من ح 228، الوسائل 87/48:1.
3- البقرة: 225.
4- المحاسن 94/330:2، الكافي 5/85:2، علل الشرائع 1/523:2، الوسائل 96/5:1.
5- ذكر هذه الأمثلة الشيخ في فرائد الأصول 45:1.
6- النور: 19.
7- البقرة: 284.

الحاكم على الإطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة و المثوبة، و معه (1) لا حاجة إلى ما يعني: إن تبدوا ما في أنفسكم أي: تظهروه بالعمل، أو تخفوه يحاسبكم به الله، بتقريب: أنه من المحتمل أن يكون المراد من الموصول العموم فيشمل القصد، فيكون دليلا على المقام. و يحتمل أن يكون المراد منه خصوص الحسد أو الكفر مثلا فلا يرتبط بالمقام، فلذا يكون مؤيدا لا دليلا.

=============

و منها: قوله تعالى: لاٰ يُؤٰاخِذُكُمُ اَللّٰهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمٰانِكُمْ وَ لٰكِنْ يُؤٰاخِذُكُمْ بِمٰا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ (1).

فالحاصل: أن في الآيات و الروايات شهادة على صحة ما حكم به الوجدان من استحقاق المتجري للعقاب كاستحقاق العاصي له.

(1) أي: مع حكم الوجدان باستحقاق المتجري للعقاب كالعاصي، و شهادة الآيات و الروايات على صحة حكمه بذلك: «لا حاجة إلى ما استدل»، و المستدل هو: المحقق السبزواري في الذخيرة - على ما حكي - حيث استدل على استحقاق المتجري للعقاب كالعاصي؛ بالدليل العقلي الذي نقله الشيخ الأعظم عنه بقوله: «و قد يقرر دلالة العقل على ذلك بأنا إذا فرضنا...» الخ.

قال المحقق السبزواري على ما في «الرسائل»(2): «بأنا إذا فرضنا شخصين قاطعين؛ بأن قطع أحدهما بكون مائع معيّن خمرا، و قطع الآخر بكون مائع آخر خمرا، فشرباهما فاتفق مصادفة أحدهما للواقع، و مخالفة الآخر»؛ بأن يكون أحد المائعين خمرا واقعا و الآخر خلا كذلك. و حينئذ: فإما أن يستحقا العقاب، أو لا يستحقاه كلاهما، أو يستحقه من صادف قطعه الواقع و هو شارب الخمر دون الآخر الذي هو شارب الخل مثلا «أو العكس»، أي:

يستحقه من لم يصادف قطعه الواقع و لا يستحقه من يصادف قطعه الواقع، و الصور منحصرة عقلا في أربع، لدوران الأمر بين النفي و الإثبات، «و لا سبيل إلى الثاني» عقلا و هو عدم استحقاقهما؛ لأن معناه: أن العاصي لا يعاقب، و عدم استحقاق من يشرب الخمر للعقاب مخالف لضرورة من الدين؛ بل هو تشجيع للعاصي على عصيانه.

و كذا لا سبيل إلى «الرابع» و هو: عدم استحقاق العقاب لمن شرب الخمر، و استحقاقه لمن شرب المائع باعتقاد أنه خمر، لأنه مستلزم لعقاب غير العاصي و عدم عقاب العاصي.

هذا مضافا إلى ما تقدم في الثاني من كونه مخالفا لضرورة من الدين، و تشجيعا للعاصي

ص: 39


1- البقرة: 225.
2- فرائد الأصول 38:1.

استدل على استحقاق المتجري للعقاب بما حاصله: أنه لولاه مع استحقاق العاصي له يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار، من مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته و اختياره مع بطلانه و فساده؛ إذ (1) للخصم أن يقول: بأن استحقاق العاصي دونه (2) إنما هو لتحقق سبب الاستحقاق فيه (3) و هو (4) مخالفته عن عمد على عصيانه. و منافيا لمقتضى العدل و الحكمة.

=============

و «الثالث»: و هو استحقاق من صادف قطعه الواقع للعقاب دون من لم يصادف قطعه الواقع، و هذا أيضا باطل؛ لاستلزامه العقاب بما هو خارج عن القدرة و الاختيار و هو المصادفة، و العقاب بأمر غير اختياري قبيح و مناف لمقتضى العدل، فالمتعين هو الأول و هو: أن كليهما يستحق العقاب، فتعيّن المصير إلى استحقاق كليهما له و هو المقصود.

و حاصل ما أفاده المصنف: أنه لا حاجة - مع حكم الوجدان و الآيات و الروايات باستحقاق المتجري للعقاب - إلى التشبّث بهذا الدليل العقلي الذي هو باطل في نفسه، كما سيأتي بيانه.

(1) تعليل لقوله: «بطلانه و فساده»، و هذا شروع في الجواب عن الدليل العقلي، و قد أجاب عنه بوجهين، أشار إلى أولهما بقوله: «إذ للخصم» و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 64» -: أنه يمكن الالتزام باستحقاق من صادف قطعه الواقع للعقاب دون من لم يصادف، يعني: أن العاصي يستحق العقوبة دون المتجري.

توضيحه: أن سبب استحقاق المؤاخذة مؤلف من أمرين:

أحدهما: قصد المخالفة و الطغيان عن علم و عمد.

و الآخر: مصادفة قطعة للواقع.

و الأول أمر اختياري، و الثاني غير اختياري، و لا ضير في استحقاقه للعقوبة؛ إذ الأمر غير الاختياري الذي يمتنع إناطة استحقاق العقاب به هو ما يكون بتمامه غير اختياري لا جزؤه، فإذا كان السبب مركبا من أمر اختياري و غيره فلا مانع منه، و من المعلوم: أن العلة في المعصية الحقيقية بكلا جزأيها متحققة؛ بخلاف التجري، فإن الجزء الثاني - و هو المصادفة - غير متحقق فيه، و إن كان عدم تحقق فيه خارجا عن اختياره، فلا وجه لاستحقاقه العقاب، و عدم العقاب على أمر غير اختياري - و هو عدم المصادفة للواقع - لا قبح فيه، فهذا الدليل العقلي قاصر عن إثبات استحقاق المتجري للعقاب.

(2) أي: دون المتجري.

(3) أي: دون المتجري.

(4) أي: سبب الاستحقاق مخالفة العاصي عن عمد و اختيار.

ص: 40

و اختيار، و عدم تحققه (1) فيه لعدم مخالفته (2) أصلا و لو بلا اختيار (3)؛ بل (4) عدم

=============

(1) أي: و عدم تحقق سبب الاستحقاق في المتجري إنما هو لعدم تحقق المخالفة.

(2) أي: المتجري، و هذا تعليل لعدم تحقق سبب الاستحقاق في المتجري.

و حاصله: أن المتجرى لا يستحق العقوبة؛ لعدم مخالفته أصلا، كما إذا شرب الخل باعتقاد كونه من المحرمات الشرعية، ثم تبين له أنه لم يكن حراما شرعا، فحينئذ: صدر منه فعل اختياري و هو شرب الخل بقصد كونه شرب الخمر؛ لكن ليس شربه له مخالفة لحكم المولى، لعدم ارتكابه للحرام و لو كان عدم مخالفته لتكليف المولى لأمر غير اختياري و هو خطأ قطعه.

(3) أي: لا باختيار و لا بغير اختيار، إذ المفروض: أنه شرب الخل فلم يشرب باختياره و لم يشربها بغير اختياره، فإنه لم يتحقق شرب الخمر أصلا حتى يقال: إنه باختيار أو بغير اختيار.

(4) عطف على قوله: «لعدم» و إضراب عنه، و هذا إشارة إلى الجواب الثاني عن الدليل العقلي المزبور، و حاصله: أن الدليل العقلي المذكور لما كان كان مورده صدور الفعل عن المتجري و استحقاق العقاب على الفعل، أراد أن يزيّفه بأنه أخص من المدعي؛ إذ قد يتفق عدم صدور فعل اختياري من المتجري حتى يقال بترتب استحقاق العقوبة عليه؛ و ذلك كما إذا اعتقد انطباق عنوان محرم كالخمر مثلا على مائع شخصي، فشربه بقصد الخمرية، ثم ظهر كونه خلا، فإن ما أراده من شرب الخمر لم يتحقق في الخارج كما هو المفروض، و ما تحقق في الخارج من شرب الخل لم يكن مقصودا له، فلم يصدر منه فعل اختياري، و هذا مطرد في الموضوعات دون الأحكام، فإذا شرب الخل بعنوان شرب الخل معتقدا بحرمته - و ظهر عدم حرمته - فإن شرب الخل فعل اختياري له.

و الفرق بين الجوابين: أن الأول: يجري في مطلق التجري، و الثاني: يختص بالشبهات الموضوعية؛ إذ المفروض: كونه متجريا في تطبيق الموضوع المعلوم الحرمة - كالخمر في المثال المذكور - على الخل، كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 66» مع تصرف منّا.

قوله: «كما في التجري بارتكاب...» إلخ، إشارة إلى الخطأ في الموضوعات.

قوله: «فيحتاج إلى إثبات...» الخ، إشارة إلى إثبات سببية المخالفة الاعتقادية لاستحقاق العقوبة؛ كالمخالفة الواقعية الاختيارية، يعني: بعد إثبات عدم صدور فعل اختياري في بعض أفراد التجري، فلا بدّ في الحكم باستحقاق العقوبة حينئذ من إثبات

ص: 41

صدور فعل منه في بعض أفراده بالاختيار؛ كما في التجري بارتكاب ما قطع أنّه من مصاديق الحرام، كما إذا قطع مثلا بأن مائعا خمر، مع أنه لم يكن بالخمر، فيحتاج إلى إثبات أن المخالفة الاعتقادية سبب كالواقعية الاختيارية، كما عرفت بما لا مزيد عليه.

ثم (1) لا يذهب عليك: أنه ليس في المعصية الحقيقية إلاّ منشأ واحد لاستحقاق كون المخالفة الاعتقادية كالواقعية الاختيارية سببا لاستحقاق العقوبة، و هو أول الكلام في المقام، فالمتعيّن: الاستدلال بما ذكرناه من حكم الوجدان و شهادة الآيات و الروايات؛ لعدم تماميّة الدليل العقلي المذكور «كما عرفت»، يعني: عرفت حكم العقل بسببيّة المخالفة الاعتقادية كالواقعية لاستحقاق العقوبة مع شهادة الآيات و الروايات بذلك.

=============

كلام صاحب الفصول في تداخل العقابين و الرد عليه

(1) إشارة إلى ردّ صاحب الفصول القائل بتداخل العقاب فيما إذا صادف التجري للمعصية الواقعية؛ بأن اجتمع التجري مع المعصية، فعلى القول بثبوت العقاب على التجرّي يقع الكلام في أنه هل يتعدد العقاب أو يتحد في مورد مصادفة التجري للمعصية. و المنسوب إلى صاحب الفصول: القول بوحدة العقاب بالتداخل، حيث قال في بعض كلماته: «إن التجري إذا صادف المعصية الواقعية تداخل عقابهما». و مقصوده من تصادف التجرّي مع المعصية الواقعية: أن يعتقد حرمة شيء من جهة، ثم ينكشف حرمته من غير تلك الجهة، كما إذا اعتقد بخمرية مائع فشربه، ثم ظهر كونه مغصوبا لا خمرا، فيكون هذا الفعل تجريا بالنسبة إلى شرب الخمر، و معصية بالنسبة إلى الحرمة.

و بعبارة واضحة: القطع بالخمرية غير مصادف للواقع، فمخالفته يكون تجرّيا، و القطع بالحرمة مصادف للواقع فمخالفته معصية، فهنا عقابان: أحدهما: لكونه تجرّيا، و الآخر:

لكونه معصية؛ إلا إنهما يتداخلان بمعنى: وحدة العقاب مع تعدد السبب من باب التداخل.

و حاصل جواب المصنف: أنه لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما؛ إذ المراد بالتداخل: إن كان اشتداد العقوبة فهذا ليس من التداخل؛ بل هو جمع بينهما، و إن كان المراد وحدة العقاب حقيقة: فلا وجه للالتزام بعقابين حتى نقع في محذور التداخل بأنّه كيف يسقط أحد العقابين عند اجتماع سببين. فالحق: وحدة العقاب لوحدة سببه كما يظهر من كلام المصنف، أو تعدد العقاب لتعدد سببه.

و على كل حال: لا وجه لتداخل العقابين.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية»:

ص: 42

العقوبة - و هو هتك واحد - فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهّم، مع (1) ضرورة: أن المعصية الواحدة لا توجب إلا عقوبة واحدة، كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما كما لا يخفى.

و لا منشأ لتوهمه (2) إلا بداهة: أنه ليس في معصية واحدة إلاّ عقوبة واحدة، مع الغفلة (3) عن أن وحدة المسبب تكشف بنحو الإنّ عن وحدة السبب.

=============

قوله: «لا يذهب عليك أنه ليس...» الخ. ردّ لكلام صاحب الفصول، و حاصل الردّ: أن منشأ استحقاق العقوبة في المعصية الحقيقية لما كان أمرا واحدا - و هو الهتك الواحد - فلا موجب لتعدد العقوبة، و على تقدير تعددها: لا وجه للتداخل، و لعل الداعي إلى الالتزام، بالتداخل هو الجمع بين حكم العقل باقتضاء تعدد السبب تعدد المسبب إذ كل من المعصية و التجري سبب مستقل لاستحقاق العقاب، و بين ما ادعي الإجماع و ضرورة المذهب عليه من وحدة العقاب في المعصية الحقيقية، فيجمع بالتداخل بين حكم العقل و بين الضرورة المزبورين.

(1) هذا ردّ آخر على الفصول القائل بتعدد العقاب، و حاصله: أنه كما أن المعصية الحقيقية ليس لها إلا منشأ واحد، فلا موجب لتعدد العقاب، كذلك قامت الضرورة على أن هذه المعصية الواحدة لا توجب إلا عقوبة واحدة، فلا موجب أيضا لتعدد العقاب.

(2) أي: لتوهم التداخل. و قوله: «إلا بداهة» إشارة إلى ما ذكرناه من دعوى الإجماع و ضرورة المذهب على وحدة العقاب في المعصية الحقيقية، فجعل صاحب الفصول وحدة العقوبة كاشفة عن تداخل المسبب أي: العقابين.

(3) هذا ردّ لما توهمه صاحب الفصول من كشف وحدة العقوبة المدعى عليها الإجماع و ضرورة المذهب عن تداخل العقابين، و حاصل الردّ: أنه لم لا يجعل وحدة المسبب كاشفة إنّا عن وحدة السبب، يعني: أن سبب الاستحقاق واحد لا تعدد فيه حتى نلتجئ إلى القول بتداخل المسبب أعني: العقابين.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من هذا الأمر الثاني:

هو بيان حكم مخالفة القطع غير المصيب و حكم موافقته، و الأول يسمى تجريا و الثاني: انقيادا، فيقال إن الانقياد يوجب استحقاق الثواب، فهل التجري يوجب استحقاق العقاب أم لا؟

ص: 43

و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان الفرق بين التجري و المعصية، و بين الانقياد و الطاعة.

و خلاصة الفرق: أن التجري هو مخالفة القطع غير المصادف للواقع، و المعصية مخالفة القطع المصادف للواقع، و كذلك الإطاعة موافقة القطع المصادف للواقع، و الانقياد موافقة القطع غير المصادف للواقع.

2 - جهات بحث التجري: و هي ثلاث:

الأولى: أصولية حيث يبحث فيه عن أن التجري هل يوجب قبح الفعل المتجرى به فيترتب عليه الحكم بالحرمة، فيقع في طريق استنباط الحكم الشرعي.

الثانية: كلامية. حيث يبحث فيه عن استحقاق المتجرى للعقاب و عدم استحقاقه له.

الثالثة: فقهية حيث يبحث عن حرمة الفعل المتجرى به و عدمها.

3 - حاصل كلام المصنف في التجري:

أنه يوجب استحقاق العقاب لانطباق عنوان الطغيان و التمرد عليه، فلا فرق بين المعصية و التجري في استحقاق العقوبة، و لازم ذلك: حجّية القطع و إن كان مخالفا للواقع، فيكون قبح التجري فعليا لا فاعليا؛ كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري «قدس سره»، و الدليل على استحقاق عقاب المتجري: هو الوجدان، فإنه يشهد بصحة المؤاخذة على العزم على المخالفة، و عدم صحتها على مجرد سوء السريرة.

ثم التجري لا يغير ما عليه الفعل المتجرى به واقعا من الحكم و الصفة؛ إذ ليس القطع من الوجوه و الاعتبارات الموجبة للحسن و القبح عقلا.

هذا مع أن الفعل المتجرى به أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريا، و الموجب للحسن و القبح لا يصح أن يكون إلا من الأمور الاختيارية.

4 - و توهّم: عدم استحقاق العقوبة على الفعل المتجري به بما هو مقطوع الحرمة؛ لكونه غير اختياري، فينافي العقاب لما تقدم من كون المتجري مستحقا للعقوبة مدفوع:

بأنّ العقاب إنما هو على قصد المخالفة و الطغيان؛ لا على نفس الفعل المتجرى به.

5 - و توهّم: أن القصد و العزم إنما يكون من مبادئ الاختيار و هي غير اختيارية، فيلزم أن يكون العقاب على العزم و القصد عقابا على أمر غير اختياري و هو باطل عند العدلية مدفوع بأحد وجهين:

الأول: أن بعض مبادئ الاختيار - كالقصد و العزم - يكون اختياريا فيصح أن يعاقب عليه.

ص: 44

الثاني: هو منع قبح استحقاق العقاب على ما لا يرجع إلى الاختيار، فإن حسن المؤاخذة على التجري معلول للبعد الناشئ من إرادة المخالفة و الطغيان، و هي تنشأ من العزم الناشئ من الجزم الناشئ من الميل إلى القبيح المعلول للشقاوة المستندة إلى الذات و الذاتي، ثم الذاتي لا يعلل، و بعد انتهاء الأمر إلى الذاتي ينقطع السؤال بلم، فلا يقال:

«لم اختار الكافر و المؤمن الإيمان»؟

6 - توهّم لغوية إرسال الرسل و إنزال الكتب على ما ذكر؛ من كون الكفر و الإيمان من تبعات الذات فلا يتغير مدفوع بأحد وجهين:

الأول: انتفاع من حسنت سريرته بذلك لتكمل به نفسه.

الثاني: هو إتمام الحجة على من ساءت سريرته.

و يمكن أن يقال: إن المراد بالذاتي هو المقتضي لا العلة التامة، و المقتضي إنما يؤثر عند عدم المانع، و مع قدرة العبد على إيجاد المانع ينتفع الكافر و الفاسق أيضا ببعث الرسل و إنزال الكتب، فلا تلزم لغويتهما.

7 - أن في الآيات و الروايات دلالة على عقاب التجري بالقصد. مثل قوله «صلى الله عليه و آله و سلم»: «نيّة الكافر شر من عمله»، حيث يدل على عقاب من قصد المعصية بالأولوية.

و مثل: ما ورد من قوله: «إنما يحشر الناس على نياتهم» إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا، حيث يدل على أن النيّة توجب العقاب إن كانت شرّا، و الثواب إن كانت خيرا.

و قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا مٰا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحٰاسِبْكُمْ بِهِ اَللّٰهُ حيث إن المراد من الموصول: العموم فيشمل القصد.

8 - قد عرفت حكم الوجدان باستحقاق التجري للعقاب، فلا حاجة معه إلى ما استدل به المحقق السبزواري من الدليل العقلي على عقاب المتجري.

إذ على تقدير عقاب العاصي دون المتجري: يلزم أن يكون العقاب لأمر خارج عن الاختيار أعني: المصادفة.

و هذا الاستدلال مما لا حاجة إليه مع حكم الوجدان، هذا مع الفرق بين التجري و المعصية بأن سبب العقاب و هو قصد المخالفة مع المصادفة موجود في المعصية دون

ص: 45

الأمر الثالث: أقسام القطع

اشارة

الأمر الثالث (1): إنه قد عرفت أن القطع بالتكليف أخطأ أو أصاب، يوجب عقلا استحقاق المدح و الثواب، أو الذّم و العقاب، من دون أن يؤخذ شرعا في خطاب.

=============

التجري؛ لانتفاء المصادفة فيه.

9 -

تداخل عقابين عند مصادفة التجري مع المعصية الواقعية:

كما نسب إلى صاحب الفصول، و مقصوده من تصادف التجري مع المعصية: هو اعتقاد حرمة مائع بعنوان كونه خمرا ثم ظهر كونه مغصوبا فهو معصية بالنسبة إلى اعتقاد الحرمة، و تجري بالنسبة إلى اعتقاد الخمرية.

و حاصل جواب المصنف: أنه لا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين بعد اتحاد المنشأ و هو هتك واحد، و على تقدير استحقاق عقابين لا وجه لتداخلهما أصلا.

10 -

رأي المصنف «قدس سره»:

1. أن التجري يوجب استحقاق العقوبة كالمعصية.

2. إن القطع ليس من العناوين المحسنة أو المقبحة.

3. عدم تداخل العقاب عند مصادفة التجري مع المعصية؛ إذ ليس هناك إلا سبب واحد و هو هتك المولى.

و على فرض تعدد السبب فلا بدّ من الالتزام بعقابين.

4. أن مسألة التجري من المسائل الكلامية يبحث فيها عن استحقاق المتجري للعقاب؛ لا الأصولية و لا الفقهية.

القطع الموضوعي و أقسامه الأربعة و الفرق بين هذه الأقسام

(1) المقصود من عقد هذا الأمر الثالث بيان أمرين:

أحدهما: أقسام القطع.

و الآخر: قيام الأمارات الظنيّة المعتبرة، بل و بعض الأصول مقام بعض أقسام القطع.

و أما أقسام القطع: فهي خمسة.

و حاصل الكلام في توضيح تلك الأقسام: أن القطع إما طريقي محض بمعنى: عدم دخله في متعلقه دخلا موضوعيا، سواء كان متعلقه موضوعا خارجيا كالقطع بخمرية مائع مثلا، أم حكما شرعيا تكليفيا كالقطع بوجوب صلاة الجمعة، و حرمة الغيبة. أو وضعيا؛ كالقطع بصحة الصلاة مع الطهارة الظاهرية مثلا.

و أما موضوعي؛ بأن يكون تمام الموضوع أو جزءه، و على كلا التقديرين: إمّا أن يؤخذ على وجه الصفتية أي: بلحاظ كونه صفة قائمة بالقاطع أو المقطوع به و إما على وجه الطريقية. فأقسام القطع الموضوعي أربعة، و بعد ضم القطع الطريقي المحض إليها يصير

ص: 46

المجموع خمسة.

ثم إن هذه الأقسام الخمسة المذكورة في القطع تجري في الظن أيضا حرفا بحرف كما في «الرسائل».

و أما الفرق بين أقسام القطع الموضوعي فيتلخّص في جهتين:

الأولى: الفرق بين ما يؤخذ على نحو الصفتية، و ما يؤخذ على وجه الطريقية.

الثانية: الفرق بين ما يؤخذ تمام الموضوع و ما يؤخذ جزؤه.

و أما الفرق من الجهة الأولى: فلأن معنى أخذ القطع في الموضوع بعنوان الصفتية أنه يؤخذ في الموضوع باعتبار وجوده الخاص الذي هو من مقولة الكيف النفساني، و معنى أخذه بعنوان الطريقية: أنه يؤخذ فيه باعتبار كونه طريقا إلى ما تعلق به و كاشفا عنه.

و أما الفرق من الجهة الثانية: فلأن لازم القطع تمام الموضوع هو تحقق الحكم حين وجود القطع لتحقق موضوعه، من دون فرق بين كون القطع مطابقا للواقع أو غير مطابق له؛ لأن الموضوع هو نفس القطع من دون دخالة الواقع في ثبوت الحكم أصلا؛ كالقطع المأخوذ في موضوع جواز الاقتداء بالعادل، فيجوز الاقتداء عند القطع بالعدالة؛ و إن لم يكن الإمام عادلا في الواقع، فإذا انكشف الخلاف لا يجب عليه القضاء.

هذا بخلاف القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الجزئية، حيث يكون معناه أن القطع أحد جزءي الموضوع، و جزؤه الآخر هو الواقع، فيكون لازمه ثبوت كلا الأمرين - في ثبوت الحكم - أي: القطع و الواقع معا.

فإذا لم يكن مطابقا للواقع ينتفي الحكم؛ إذ يكفي في انتفاء الحكم انتفاء جزء الموضوع، و مثال ذلك: هو القطع المأخوذ في موضوع جواز الطلاق عند العدلين، فلا بد للمطلق أن يقطع بالعدالة، و يكون قطعه مطابقا للواقع. هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل أعني: بيان أقسام القطع كما أشار إليه بقوله: «و قد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف متعلقه»؛ كما إذا قال: «إذا علمت بوجوب الصلاة وجب عليك التصدق»، حيث إن العلم بوجوب الصلاة أخذ في موضوع حكم آخر و هو وجوب التصدق يعني: قد أخذ القطع - في المثال المزبور - موضوعا لحكم غير الحكم الذي تعلق به القطع و هو وجوب الصلاة. و هذا الحكم الذي تعلق به القطع مخالف للحكم الآخر الذي أخذ القطع في موضوعه لا يماثله و لا يضاده، فأما عدم المماثلة: لتغاير الحكمين من حيث المتعلق. و أما عدم المضادة: فلأن ضد الوجوب هو الحرمة لا الوجوب.

ص: 47

نعم؛ إذا قيل: إذا علمت بوجوب الصلاة حرمت عليك الصلاة كان من اجتماع الضدين. و كيف كان؛ فهذا تمام الكلام في الأمر الأول.

و أما الأمر الثاني: - و هو قيام الأمارات مقام بعض أقسام القطع - فسيأتي تفصيل الكلام في قوله: «ثم لا ريب في قيام الطرق و الأمارات المعتبرة بدليل حجيتها».

و حاصل الكلام فيه: أنه لما كان القطع طريقا محضا، و موضوعيا على نحو الطريقية و موضوعيا على نحو الصفتية جعل المصنف «قدس سره» البحث عن قيام الأمارات مقام القطع في مقامات ثلاثة:

أحدها: قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض.

ثانيها: عدم قيامها مقام القطع الموضوعي على وجه الصفتية.

ثالثها: عدم قيامها مقام القطع الموضوعي على وجه الكشف و الطريقية.

و جعل البحث عن قيام الأصول مقامه في مقام واحد، و هو عدم قيام الأصول مقام القطع مطلقا حتى الطريقي المحض عدا الاستصحاب، كما سيأتي. فالمقامات أربعة.

و قبل الخوض في البحث لا بد من بيان محل الكلام في قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض فنقول: إن محل الكلام هو قيام الأمارات مقام القطع هو قيامها مقامه بنفس الأدلة الدالة على اعتبارها، إذ لا كلام في قيامها مقامه بالدليل الخاص. فيقع الكلام في أن الأمارات بنفس الأدلة الدالة على اعتبارها هل تقوم مقام القطع أم لا؟

إذا عرفت محل الكلام فاعلم: أنه لا ريب في قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض؛ لأن مفاد أدلة اعتبارها هو إلغاء احتمال مخالفتها للواقع، فتنزل الأمارات بعد إلغاء احتمال الخلاف بأدلة الاعتبار بمنزلة القطع و العلم، فيترتب عليها ما يترتب عليه من الحكم العقلي - و هو التنجيز في صورة الإصابة، و التعذير عند الخطأ؛ لأن المراد بقيامها مقامه هو ترتب أثره عليها.

و عليه: فمقتضى أدلة اعتبار الأمارات - سواء كان مفادها جعل الحكم التكليفي و هو وجوب العمل على طبق الأمارة كما عن الشيخ الأنصاري «قدس سره»، أم جعل الحجية كما يظهر من المصنف «قدس سره» - هو قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض؛ لأن البناء على كون الأمارة طريقا محرزا للواقع يقتضي تنجيز مؤداها مع الإصابة، و التعذير عند الخطأ، و إلا فلا معنى لحجيّة الأمارات، فترتب أثر القطع - و هو الحجية - بمعنى:

التنجيز و التعذير على الأمارات المعتبرة مما لا بد منه، و هذا مما لا ينبغي إطالة الكلام فيه.

ص: 48

و قد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف متعلقه لا يماثله و لا يضاده؛ كما إذا ورد مثلا في الخطاب: أنه (إذا قطعت بوجوب شيء يجب عليك التصدق بكذا)، تارة بنحو: يكون تمام الموضوع بأن يكون القطع بالوجوب مطلقا و لو أخطأ موجبا لذلك، و أخرى: بنحو يكون جزءه و قيده؛ بأن يكون القطع به في خصوص ما أصاب موجبا هذا تمام الكلام في المقام الأول.

=============

عدم قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي مطلقا

و أما المقام الثاني: - و هو عدم قيام الأمارات مقام القطع الموضوع المأخوذ على نحو الصفتية - فلأن مفاد دليل اعتبار الأمارة هو ترتيب آثار القطع بما أنه كاشف و طريق على الأمارة؛ إذ قد عرفت: أن تلك الآثار مترتبة على القطع بلحاظ كشفه عن الواقع؛ لأنه بهذا اللحاظ منجّز للواقع مع الإصابة، و معذر مع الخطأ، و لا تترتب الآثار على القطع بلحاظ صفة من الصفات النفسانية، ضرورة: أنه بهذا اللحاظ يكون كسائر الصفات النفسانية؛ كالشجاعة و السخاوة و العدالة في أجنبية الحجية المتقومة بالكشف؛ إذ الأدلة الدالة على اعتبار الأمارات لا تجعلها صفة القطع؛ بل تجعلها كالقطع في الطريقية. نعم؛ يمكن قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي على نحو الصفتية بالدليل الخاص و هو خارج عن محل الكلام؛ فقيام الأمارات مقام القطع الموضوعي الملحوظ صفة منوطة بدليل آخر غير الأدلة العامة الدالة على حجيّة الأمارات.

و أما المقام الثالث: - و هو عدم قيام الأمارات بمجرد أدلة اعتبارها مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية - فلأن أدلة اعتبار الأمارات لا تثبت لها أزيد من كونها كالقطع في الكشف عن الواقع حكما كان أم موضوعا، فإذا كان للقطع حيثية أخرى غير الكشف و الطريقية - ككونه مأخوذا في موضوع الحكم على وجه الطريقية - فأدلة اعتبارها قاصرة عن إثبات هذه الحيثية لها، فقيام الأمارات مقام القطع الموضوعي الطريقي كقيامها مقام القطع الموضوعي الصفتي في عدم ثبوته بنفس أدلة اعتبارها.

و أما خلاصة الكلام في المقام الرابع: و هو قيام الأصول مقام القطع، فما عدا الاستصحاب من الأصول العملية لا يقوم مقام القطع الطريقي المحض؛ لأن مفاد هذه الأصول ليس إلا وظائف للجاهل بالأحكام، فموضوع هذه الأصول هو الجهل بالأحكام، فلا وجه لقيامها مقامه؛ إذ مع الجهل لا نظر لها إلى الأحكام الواقعية أصلا، و مع عدم النظر إليها كيف يعقل ترتيب أثر الطريقية إلى الواقع - من التنجيز و التعذير - على الأصول ؟

هذا تمام الكلام في المقامات الأربعة.

ص: 49

له، و في كل منهما يؤخذ طورا بما هو كاشف و حاك عن متعلقه و آخر بما هو صفة خاصة للقاطع أو المقطوع به، و ذلك (1) لأن القطع لما كان من الصفات الحقيقية ذات الإضافة (2) - و لذا كان العلم نورا لنفسه و نورا لغيره - صح أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصة و حالة مخصوصة، بإلغاء (3) جهة كشفه، أو اعتبار (4) خصوصية أخرى (5) فيه توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

=============

(1) أي: الأخذ بأحد النحوين، و غرضه بيان وجه انقسام القطع إلى الطريقي و الصفتي و قد عرفت توضيح كلا النحوين.

(2) أي: الصفات المتأصلة التي تحتاج في تحققها إلى طرف آخر كالعلم و القدرة المضافين إلى المعلوم و المقدور، في قبال الصفات الحقيقية المحضة و هي الصفات المتأصلة القائمة بالنفس التي لا تحتاج في تحققها إلى إضافتها إلى شيء آخر؛ كالشجاعة و الحياة و القوة، و في قبال الصفات الانتزاعية؛ كالفوقية و التحتية و نحوهما التي لا وجود لها في الخارج، و إنما الوجود لمنشا انتزاعها، «و لذا كان العلم نورا لنفسه...» الخ. أي: و لكون القطع من الصفات الحقيقية ذات الإضافة «كان العلم...» الخ فيكون العلم من الحقائق الموجودة الخارجية.

قوله: «نورا لغيره» إشارة إلى كون العلم كاشفا عن غيره و هو متعلق العلم، فيكون قوله: «نورا» بمعنى: «منورا لغيره».

قوله: «صح» جواب «لما» في قوله «لما كان...» الخ.

(3) متعلق بقوله: «يؤخذ»، و المراد بإلغاء جهة كشفه عدم لحاظها، و إلا فالكاشفية ذاتية للعلم، فكيف يعقل إلغاؤها و سلبها عنه ؟ فكان الأولى أن يقول: «بلا لحاظ جهة كشفه».

(4) معطوف على «إلغاء»، و حق العبارة أن تكون هكذا: «مع اعتبار خصوصية أخرى فيه معها أو بدونه»؛ إذ المقصود: كون القطع مأخوذا في الموضوع بما أنه صفة؛ لا بما أنه كاشف، غاية الأمر: أنه قد يلاحظ مع صفتية القطع خصوصية أخرى؛ مثل: تقييد القطع بسبب خاص أو شخص مخصوص.

(5) كاعتبار كون العلم ناشئا من سبب خاص، كما قيل: إن جواز تقليد العالم موضوعه العالم بالأحكام الشرعية عن الأدلة المعروفة؛ لا من كل سبب، أو اعتبار شخص خاص؛ ككون العالم بالأحكام الذي يجوز تقليده خصوص الإمامي لا غيره.

و الضمير في «معها» راجع إلى صفتية القطع.

ص: 50

معها، كما صح أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلقه و حاك عنه، فتكون أقسامه أربعة.

مضافا إلى ما هو طريق محض (1) عقلا غير مأخوذ في الموضوع شرعا.

=============

و قوله: «كما صح أن يؤخذ» إشارة إلى القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الكشف و الطريقية لا الصفتية، و لو قال: «و صح أن يؤخذ» ليكون عطفا على قوله: «صحّ » كان أولى؛ لأن أخذ القطع على وجه الصفتية و الكاشفية مترتب على قوله: «لما كان من الصفات الحقيقية...» الخ.

(1) إشارة إلى القسم الأول أعني: القطع الطريقي المحض، فيصير المجموع خمسة أقسام.

ثم ظاهر كلام المصنف «قدس سره» هو: إمكان جميع الأقسام المتصورة في القطع الموضوعي من دون محذور.

إلا إنه يظهر من المحقق النائيني «قدس سره» امتناع أخذ القطع تمام الموضوع على وجه الطريقية.

و ملخص ما أفاده في وجه الامتناع: هو أن أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية مستلزم للجمع بين متنافيين؛ و ذلك فإن معنى أخذه في الموضوع على وجه الطريقية أن لثبوت الواقع المنكشف دخلا في تحقق الحكم، و معنى كونه تمام الموضوع: عدم دخل الواقع في تحقق الحكم؛ بل الحكم يترتب على القطع سواء كان هناك واقع أم لم يكن، و ليس هذا إلا الجمع بين المتناقضين.

و بعبارة أخرى: أن أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية يستدعي لحاظ الواقع، و يكون النظر إليه في الحقيقة، و كونه تمام الموضوع يقتضي عدم لحاظ الواقع أصلا، و ليس هذا إلا الجمع بين المتناقضين. و يمكن أن يقال: إن هذا المحذور لا يختص بأخذ القطع تمام الموضوع على نحو الطريقية؛ بل يلزم على تقدير أخذه جزء الموضوع على نحو الطريقية لاستلزامه أيضا الجمع بين اللحاظين الآلي و الاستقلالي؛ إذ لحاظ القطع نظرا إلى كونه جزء الموضوع استقلالي، و نظرا إلى كونه طريقا إلى الواقع آلي. فتدبر. و هذا يرجع إلى النقض فيكون جوابا نقضيا عن المحذور المذكور.

و هناك جواب آخر بالحل توضيحه: أن مورد امتناع اجتماع اللحاظين مصداق العلم و هو العلم الخارجي المتعلق بالأشياء لا مفهومه، فإن القاطع بخمرية مائع لا يرى إلا ذلك المقطوع به مع الغفلة عن قطعه، فضلا عن لحاظه استقلالا، نظير الناظر في المرآة لرؤية وجهه، فإنه لا يلتفت في هذا النظر إلى نفس المرآة هذا في مصداق العلم الذي لا شأن

ص: 51

له إلا إراءة الواقع و رفع الحجاب عنه.

و أما مفهوم العلم: فهو قابل لاجتماع اللحاظين فيه؛ بأن يجعل مفهومه - و هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الكاشف عنه كشفا تاما - موضوعا لحكم من الأحكام، إذ لا مانع من أن يلاحظه الحاكم مع هذا الكشف التام موضوعا لجواز الشهادة مثلا، فوقع الخلط بين المفهوم و المصداق.

و عليه: فما عن المشهور من انقسام القطع الموضوعي إلى أقسام أربعة لا يخلو من وجه، كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 83».

ثم الاحتمالات و الصور المتصورة في القطع المأخوذ في الموضوع هي: اثنتان و ثلاثون صورة؛ و ذلك إن القطع الموضوعي على أربعة أقسام، و على جميع هذه الصور قد يكون ما يتعلق به القطع موضوعا و قد يكون حكما.

ثم صور تعلق القطع بالموضوع هي أربعة بمعنى: أن القطع قد يؤخذ في موضوع حكم متعلقه، و قد يؤخذ في موضوع مثل حكم متعلقه، و قد يؤخذ في موضوع ضد حكم متعلقه، و قد يؤخذ في موضوع مخالف حكم متعلقه. و حاصل ضرب الأربعة في الأربعة هي ستة عشرة صورة. و كذلك ما إذا كان متعلق القطع حكما، فقد يؤخذ في موضوع نفس حكم متعلقه، و قد يؤخذ في موضوع مثل حكم متعلقه، و قد يؤخذ في موضوع ضد حكم متعلقه، و قد يؤخذ في موضوع مخالف حكم متعلقه. فحاصل ضرب الأربعة في الأربعة هي ستة عشرة صورة.

فهناك ثمانية جداول أربعة منها جداول تعلق القطع بالموضوع، و أربعة منها جداول تعلق القطع بالحكم و عليك بالجداول.

ص: 52

في جداول أقسام القطع

الجدول الأوّل في كون متعلق القطع موضوعا

ص: 53

الجدول الثاني في كون متعلق القطع موضوعا

ص: 54

الجدول الثالث في كون متعلق القطع موضوعا

ص: 55

الجدول الرابع في كون متعلق القطع موضوعا

ص: 56

الجدول الأوّل في كون متعلق القطع حكما

ص: 57

الجدول الثاني في كون متعلق القطع حكما

ص: 58

الجدول الثالث في كون متعلق القطع حكما

ص: 59

الجدول الرابع في كون المتعلق القطع حكما

ص: 60

ثم لا ريب (1) في قيام الطرق و الأمارات المعتبرة - بدليل حجيتها و اعتبارها - مقام هذا القسم (2)، كما لا ريب في عدم قيامها (3) بمجرد ذلك الدليل مقام ما أخذ في الموضوع على نحو الصفتية من تلك الأقسام.

بل لا بد من دليل آخر (4) على التنزيل، فإن (5) قضية الحجية و الاعتبار ترتيب ما فجميع الصور و الاحتمالات في القطع المأخوذ في الموضوع هي اثنتان و ثلاثون صورة. فما في «منتهى الدراية» من أنها أربع و ستون صورة غير صحيح.

=============

ثم الصحيحة منها اثنتا عشرة صورة، و الممتنعة منها عشرون صورة.

(1) هذا إشارة إلى الأمر الثاني، الذي عرفت بعض الكلام فيه - و هو التعرض لبيان قيام الأمارات مقام بعض أقسام القطع - الفرق بين الطرق و الأمارات: أن الطرق كثيرا ما تطلق على الأدلة المثبتة للأحكام الكلية كخبر الثقة مثلا، و الأمارات على الحجج المثبتة للموضوعات الخارجية كالبيّنة مثلا. و كيف كان؛ فغرض المصنف من هذا الكلام هو:

التعرّض لحكم من أحكام القطع و هو قيام الأمارات و الأصول مقامه و عدم قيامهما مقامه.

قيام الأمارات المعتبرة مقام القطع الطريقي المحض لا إشكال فيه

(2) أي: القطع الطريقي المحض، فكما أنه إذا قطع بأن صلاة الجمعة واجبة وجب الإتيان بها، كذلك إذا قام خبر الواحد على وجوبها وجبت، و كما أنه لو علم بنجاسة مائع معين وجب الاجتناب عنه، كذلك إذا قامت البيّنة على نجاسته وجب الاجتناب عنه؛ إذ معنى جعل الطريق و الأمارة بمنزلة القطع ترتيب آثار الواقع على مؤدياتهما، فدليل اعتبارهما يجعلهما بمنزلة القطع الطريقي.

(3) أي: الطرق و الأمارات. هذا إشارة إلى ما تقدم من المقام الثاني و هو بيان عدم قيام الأمارات بنفس أدلة اعتبارها مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الصفتية، فلا بد لإثبات قيامها مقامه من دليل آخر غير دليل اعتبارها. و قد تقدم وجه ذلك فراجع.

و المراد من الأقسام في قوله: «تلك الأقسام» هي الأقسام الأربعة للقطع الموضوعي.

(4) يعني: غير دليل حجيتها، حتى يدل ذلك الدليل الخاص على تنزيل الأمارات منزلة القطع الموضوعي على نحو الصفتية.

(5) تعليل لقوله: «كما لا ريب في عدم قيامها» و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 87» - أن مقتضى دليل حجية الأمارة كون الأمارة كالقطع في الحجية التي لا تترتب إلا على حيثية طريقية القطع؛ لا على حيثية كونه صفة من الصفات النفسانية، فدليل الحجية قاصر عن إثبات جواز قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي على وجه الصفتية.

ص: 61

للقطع بما هو حجة من (1) الآثار، لا له بما هو صفة (2) و موضوع، ضرورة (3): أنه كذلك يكون كسائر الموضوعات و الصفات.

و منه قد انقدح: عدم قيامها بذلك الدليل مقام (4) ما أخذ في الموضوع (5) على نحو

=============

(1) بيان للموصول في قوله: «ما للقطع».

(2) أي: لا ترتيب ما للقطع بما هو صفة من الآثار؛ بل ترتيب ما له بما هو كاشف من التنجيز و التعذير كما عرفت غير مرّة.

(3) تعليل لعدم ترتيب آثار القطع بما هو صفة على الأمارات، يعني: ضرورة: أن القطع بما هو صفة يكون كسائر الموضوعات و الصفات في عدم حجيتها و محرزيتها للواقع، فإذا فرض أن الشارع أخذ العلم في موضوع جواز الشهادة بما هو صفة خاصة؛ كما ورد عن النبي «صلى الله عليه و آله و سلم»، و قد سئل عن الشهادة أنه قال: «هل ترى الشمس، على مثلها فاشهد أو دع». و في موضوع حكم الركعتين الأوليين: العلم بما هو صفة خاصة أيضا، فلا يقوم في هذين الموردين شيء من الأمارات أو الظنون مقامه إلا بدليل خاص، كرواية حفص بن غياث الدالة على جواز الشهادة استنادا إلى اليد، و هي من الروايات المشهورة، رواها حفص بن غياث عن أبي عبد الله «عليه السلام»، قال له رجل: إذا رأيت شيئا في يد رجل أ يجوز لي أن أشهد أنه له ؟ قال «نعم» قال الرجل: أشهد أنّه في يده، و لا أشهد أنّه له، فلعله لغيره، فقال أبو عبد الله «عليه السلام»: «أ فيحلّ الشراء منه ؟» قال: نعم، قال أبو عبد الله «عليه السلام»: «فلعله لغيره، من أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكا لك، تقول بعد الملك: هو لي و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك ؟»، ثم قال أبو عبد الله «عليه السلام»: «و لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»(1).

فالمستفاد من هذه الرواية: هو ثبوت التلازم بين جواز العمل و هو الشراء، و بين جواز الشهادة، فدلالة الرواية على جواز الاستناد إلى اليد في الشهادة واضحة.

(4) أي: مما ذكرنا من عدم قيام الأمارات و الطرق بمجرد دليل اعتبارها مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الصفتية؛ قد ظهر: عدم قيامها بذاك الدليل مقام ما أخذ في الموضوع على نحو الكشف و الطريقية. هذا الكلام من المصنف إشارة إلى ما تقدم من المقام الثالث. و قد عرفت وجه ذلك، فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار.

(5) يعني: ظهر عدم قيام الأمارات بمجرد دليل حجيتها مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الكشف.

ص: 62


1- الكافي 1/383:7، الوسائل 33780/292:27.

الكشف، فإن القطع المأخوذ بهذا النحو (1) في الموضوع شرعا كسائر ما لها (2) دخل في الموضوعات أيضا (3)، فلا يقوم مقامه شيء بمجرد حجيته، و قيام دليل على اعتباره ما لم يقم دليل على تنزيله، و دخله في الموضوع كدخله.

و توهم (4): كفاية دليل الاعتبار الدال على إلغاء احتمال خلافه و جعله بمنزلة

=============

(1) أي: الكشف و الطريقية.

(2) يعني: كسائر الصفات التي لها دخل في موضوعات الأحكام، فكما أن دليل اعتبار الأمارة قاصر عن إثبات قيامها مقام هذه الصفات، فكذلك قاصر عن إثبات قيامها مقام القطع الموضوعي على نحو الكشف.

(3) و في منتهى الدراية: الأولى تقديم هذه الكلمة على «في الموضوعات»؛ إذ المقصود: إن كان تنظير القطع الموضوعي بسائر ما له دخل في الموضوع في عدم قيام الأمارة مقامه، فحق العبارة أن تكون هكذا: «فإن القطع الموضوعي أيضا كسائر الصفات التي لها دخل في الموضوعات في عدم كفاية دليل اعتبار الأمارة لإثبات تلك الصفات»، بل لا حاجة إلى هذه الكلمة بعد تضمن الكلام لهذا التنظير بقوله: «كسائر ما لها دخل في الموضوعات».

و إن كان المقصود - كما هو الظاهر - تنظير المقام الثالث بالمقام الثاني، فكان المناسب أن يقال: «كسائر ما لها دخل في الموضوعات على نحو الكشف أيضا». انتهى.

و الضمير في «كدخله» راجع على القطع.

و حاصل الكلام في المقام: أنه لا يقوم مقام القطع الموضوعي شيء ما لم يقم دليل خاص غير دليل الحجية على تنزيل ذلك الشيء منزلة القطع الموضوعي على الكشف أو منزلة غير القطع، مما له دخل في موضوع الحكم.

فالمتحصل مما ذكر: أن مختار المصنف هو عدم قيام الأمارات بنفس أدلة حجيتها مقام القطع الموضوعي بأقسامه الأربعة؛ لأن أدلة حجية الأمارات لا تثبت إلا طريقية الشيء للموضوع أو الحكم، و إثبات الموضوعية للأمارة لا بد و أن يكون بدليل آخر.

(4) لعله إشارة إلى ما ذكره الشيخ الأنصاري «قدس سره» بقوله: «بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعية، فإنه تابع لدليل ذلك الحكم، فإن ظهر منه أو من دليل خارج اعتباره على وجه الطريقية للموضوع كالأمثلة المتقدمة قامت الأمارات و الأصول العملية مقامه...» الخ، فلا بد أولا من توضيح هذا التوهّم من الشيخ الأنصاري و ثانيا:

من توضيح ردّه.

ص: 63

القطع، من جهة كونه موضوعا و من جهة كونه طريقا فيقوم مقامه طريقا كان أو موضوعا: فاسد جدا.

=============

و أما توضيح التوهم فحاصله: أنه لا وجه لتخصيص دليل تنزيل الأمارة منزلة القطع بحيثية الطريقية فقط، فإنه خلاف إطلاق دليل التنزيل، بمعنى: أن الأمارة بنفس دليل اعتبارها قد تقوم مقام القطع الموضوعي مطلقا - أي: سواء كان أخذه على نحو الطريقية أو الصفتية - بدعوى إطلاق دليل تنزيلها منزلة القطع الشامل ذلك الإطلاق لجميع آثار القطع؛ من الطريقية التي أثرها تنجيز الواقع، و الموضوعية التي أثرها وجود الموضوع و تحققه، فإن إطلاق دليل اعتبار الأمارة ينزل الأمارة منزلة القطع في جميع آثاره و لوازمه المترتبة عليه؛ من كونه طريقا محضا و موضوعا بنحو الطريقية.

و الحاصل: أن محل النزاع بين الشيخ و المصنف «قدس سرهما» هو القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الطريقية، حيث إن الشيخ يرى قيام الأمارة مقامه بنفس دليل اعتبارها، و المصنف لم يلتزم به؛ بل أورد عليه بما سيأتي توضيحه.

و أما القطع الطريقي المحض فلا خلاف في قيام الأمارة مقامه، كما لا إشكال في عدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الصفتي بنفس دليل اعتبارها. هذا تمام الكلام في توضيح التوهم.

و أما دفعه: فقد أشار إليه بقوله: «فاسد جدا».

و حاصل الدفع: أن مقتضى إطلاق دليل التنزيل و إن كان تنزيل الأمارة منزلة القطع في كل ما للقطع من الموضوعية و الطريقية؛ إلا إن هذا الإطلاق ممتنع في المقام لاستلزامه اجتماع الضدين.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن تنزيل شيء بمنزلة شيء آخر يتوقف على لحاظ كل من المنزل و المنزل عليه معا، و المنزل في المقام هو الأمارة، و المنزل عليه هو القطع، و حينئذ: فتنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي موقوف على لحاظ القطع استقلالا؛ لأن مقتضى موضوعية الشيء هو استقلاله في اللحاظ، من دون كونه تبعا للغير، و تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي موقوف على لحاظه آلة للغير و هو الواقع المنكشف به، فيكون الواقع هو الملحوظ بالاستقلال و هو المنزل عليه في الحقيقة حينئذ، فلحاظ القطع آلي، و من الواضح: أن هذين اللحاظين متضادان، فيمتنع اجتماعهما في إنشاء واحد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي الطريقي يستلزم لحاظ المنزل عليه - و هو القطع - بلحاظين متضادين في إنشاء واحد بمعنى: أن

ص: 64

فإن الدليل الدال على إلغاء الاحتمال، لا يكاد يكفي إلا بأحد التنزيلين، حيث (1) لا بد في كل تنزيل منهما (2) من لحاظ المنزل و المنزل عليه، و لحاظهما (3) في أحدهما آلي، و في الآخر استقلالي، بداهة (4): أن النظر في حجيته و تنزيله منزلة القطع في طريقيته في (5) الحقيقة إلى الواقع و مؤدى (6) الطريق، و في كونه (7) بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما، و لا يكاد يمكن الجمع بينهما.

=============

لحاظ القطع - و هو المنزل عليه - استقلالي نظرا إلى موضوعيته، و آلي نظرا إلى طريقيته، و هو محال لبداهة: استحالة اجتماع الضدين.

فالنتيجة: أن دليل حجية الأمارة قاصر عن إثبات التنزيلين معا، فلا بد أن يكون ناظرا إلى أحدهما، فلا وجه حينئذ للتشبث بإطلاق دليل التنزيل لإثبات قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح فساد التوهم المذكور، و قد أشار إلى فساده بقوله: «فإن الدليل الدال...» الخ.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) تعليل لعدم وفاء الدليل إلا بأحد التنزيلين.

(2) أي: من التنزيلين.

(3) يعني: و لحاظ المنزل و المنزل عليه في أحد التنزيلين - و هو تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي - آلي، لأن لحاظهما حينئذ يكون بلحاظ الغير و هو المؤدى في الأمارة و الواقع في القطع، و في الآخر - و هو تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي - استقلالي كما هو مقتضى الموضوعية، فتنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي الطريقي يستلزم اجتماع لحاظين متضادين كما عرفت و هو محال.

(4) تعليل لكون النظر في أحدهما استقلاليا، و في الآخر آليا.

(5) متعلق بقوله: «النظر».

(6) عطف على «الواقع» يعني: أن المنزل عليه في الحقيقة حينئذ هو الواقع و المنزل هو مؤدى الأمارة، فلحاظ القطع و الأمارة يكون آليا، حيث إن لحاظهما آلة للحاظ الواقع و المؤدى.

(7) عطف على «حجيته»، و الضمير راجع إلى الشيء. يعني: و بداهة أن النظر في كون الشيء بمنزلة القطع الموضوعي إلى نفس الأمارة و القطع، فيكون النظر حينئذ استقلاليا. و الضمير في «أنفسهما» راجع على الشيء - و هو الأمارة و القطع - يعني: أن

ص: 65

نعم؛ لو كان في البين (1) ما بمفهومه جامع بينهما يمكن أن يكون دليلا على التنزيلين، و المفروض: إنه ليس، فلا يكون دليلا على التنزيل إلا بذاك اللحاظ الآلي، فيكون حجة موجبة لتنجز متعلقه، و صحة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته (2) و خطئه (3) بناء (4) على استحقاق المتجري، أو...

=============

النظر بناء على هذا التنزيل يكون إلى ذاتهما لا إلى متعلقهما.

و الضمير في «بينهما» راجع إلى النظر الآلي و الاستقلالي أي: لا يمكن الجمع بينهما كما عرفت غير مرة.

(1) أي: نعم؛ لو كان في البين - على فرض مستحيل - «ما بمفهومه جامع بينهما» أي: بين التنزيلين، حتى يكون عند التنزيل النظر إلى الجامع «يمكن أن يكون» دليل واحد للتنزيل ناظر إلى الجامع «دليلا على التنزيلين»؛ تنزيل المؤدى منزلة الواقع، و تنزيل الأمارة منزلة القطع، «و المفروض: أنه ليس» ما بمفهومه جامع بينهما؛ بل لا يعقل أصلا، «فلا يكون» دليل حجية الأمارة «دليلا على التنزيل إلا بذاك اللحاظ الآلي».

و الحاصل: أن قوله: «نعم» استدراك على ما ذكره من امتناع اجتماع اللحاظين، و حاصله: أن ما ذكر من لزوم محذور اجتماع اللحاظين إنما هو فيما إذا لم يكن هناك جامع مفهومي، و أما إذا كان بينهما جامع مفهومي، فلا يلزم هذا المحذور، و يكون الدليل الواحد دليلا على التنزيلين؛ لصحة إطلاقه الشامل لكلا النظرين هذا.

و لكن وجود الجامع مجرد فرض؛ لأن لسان دليل الاعتبار - سواء كان تصديق الخبر أم حجيته أم إلغاء احتمال الخلاف، أم الوسطية في الإثبات أم غيرها - يكون موضوعه خبر العادل أو الثقة مثلا، و من المعلوم: أن الخبر إما ملحوظ طريقا و كاشفا أو موضوعا، و لا يعقل اجتماع لحاظي الموضوعية و الطريقية في شيء واحد، فلا بد من أن يكون مسوقا بأحد اللحاظين.

قوله «يمكن» جواب «لو كان». و ضمير «إنه ليس» راجعا إلى الجامع و ليس هنا التامة، و معناها مجرد النفي يعني: و المفروض أن الجامع المفهومي معدوم.

(2) أي: بأن كانت صلاة الجمعة واجبة، و قامت الأمارة على وجوبها.

(3) أي: بأن لم تكن صلاة الجمعة واجبة مع قيام الأمارة على وجوبها.

(4) قيد لخطئه يعني: أن الاستحقاق في كلتا الصورتين مبني على كون المتجرّي مستحقا للعقاب؛ و إلا كان استحقاق العقوبة مختصا بصورة الإصابة و ضميرا إصابته و خطئه راجعان إلى الشيء المراد به الأمارة.

ص: 66

بذلك (1) اللحاظ الآخر الاستقلالي، فيكون (2) مثله في دخله في الموضوع، و ترتيب ما له عليه من الحكم الشرعي.

لا يقال (3): على هذا لا يكون دليلا على أحد التنزيلين، ما لم يكن هناك قرينة في البين.

فإنه يقال (4): لا إشكال في كونه دليلا على حجيته،...

=============

فالمتحصل: أن صحة العقوبة في صورة الإصابة واضحة لتنجز الواقع بقيام الدليل عليه. و أما صحة العقوبة في صورة المخالفة فإنما تكون بناء على استحقاق المتجري للعقاب.

(1) عطف على قوله: «بذاك اللحاظ الآلي».

(2) أي: فيكون الشيء - و هو الأمارة - مثل القطع في كونه دخيلا في الموضوع.

(3) غرض المستشكل: إثبات إجمال دليل اعتبار الأمارة، و عدم صحة التمسك به أصلا. توضيح ذلك يتوقف على مقدمة؛ و هي أن المفروض: عدم كفاية دليل واحد لتنزيلين؛ بل لا بد من كون المراد بدليل التنزيل أحد التنزيلين لئلا يلزم اجتماع اللحاظين المتضادين في إنشاء واحد، و حينئذ: يلزم أن يكون دليل التنزيل مجملا إذ التنزيل الواحد مردد بين التنزيلين - و هما تنزيل المؤدى منزلة الواقع و تنزيل الأمارة منزلة القطع - فلا يعلم أن أيهما مراد من الدليل.

إذا عرفت هذه المقدمة. فاعلم أنه لا يصح التمسك بدليل التنزيل على إثبات أحد التنزيلين؛ و ذلك لإجماله الناشئ من عدم قرينة على تعيين أحد اللحاظين، فيسقط عن الاستدلال به على قيام الأمارة مقام القطع الطريقي أيضا.

نعم؛ إذا قامت قرينة على خصوص أحد التنزيلين: صح التمسك به على ذلك، فالنتيجة: أنه لا وجه لما ذكر من أن دليل التنزيل إنما ينزل المؤدى منزلة الواقع.

(4) هذا دفع للإشكال، و توضيح الدفع يتوقف على مقدمة: و هي أن الأثر الظاهر للقطع هو طريقيته و حجيته لا موضوعيته، و لهذا كلما نزل منزلته يكون ظاهرا في أنه نزل بلحاظ كاشفيته و طريقيته.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن إشكال إجمال الدليل غير وارد في المقام، ضرورة:

أن الأثر الظاهر للقطع هو الكشف و المرآتية، فدليل تنزيل الأمارة منزلة القطع يكون ظاهرا في تنزيلها منزلته في الطريقية لا في الموضوعية كما عرفت في المقدمة، فحينئذ: يترتب بنفس دليل اعتبار الأمارة آثار طريقية القطع عليها دون موضوعيته، فلا إجمال في دليل

ص: 67

فإن (1) ظهوره في إنه بحسب اللحاظ الآلي مما لا ريب فيه و لا شبهة تعتريه، و إنما يحتاج تنزيله (2) بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي من نصب دلالة عليه، فتأمل في المقام، فإنه دقيق و مزال الأقدام للأعلام.

و لا يخفى: أنه لو لا ذلك (3)، لأمكن أن يقوم الطريق بدليل واحد - دال على إلغاء احتمال خلافه - مقام القطع بتمام أقسامه، و لو فيما (4) أخذ في الموضوع على نحو حجية الأمارة أصلا، و لا نرفع اليد عن هذا الظهور ما لم تقم قرينة على خلافه. و حينئذ:

=============

فلا إشكال في كون دليل الاعتبار دليلا على حجية الشيء و هو الأمارة.

(1) تعليل لقوله: «لا إشكال» يعني: فإن ظهور دليل اعتبار الأمارة و تنزيلها منزلة القطع في أن التنزيل إنما هو بحسب اللحاظ الآلي دون الاستقلاليّ مما لا شك فيه، و قد عرفت وجه الظهور و هو: أن أظهر آثار القطع الكشف و الطريقية، و هو يوجب ظهور الدليل في كون التنزيل بلحاظ الطريقية لا الموضوعية.

(2) أي: تنزيل ذلك الشيء - أي: الأمارة - إلى نصب قرينة.

قوله: «من» متعلق بقوله: «يحتاج»، و الصواب تبديل كلمة «من» ب «إلى» بأن يقال:

«إلى نصب دلالة عليه»، و ضمير «عليه» راجع على تنزيله بحسب اللحاظ الآخر.

(3) أي: لو لا محذور امتناع اجتماع اللحاظين الآلي و الاستقلالي «لأمكن أن يقوم الطريق...» الخ.

و حاصل الكلام: أن المانع من قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي هو هذا المحذور و لولاه لأمكن القول بقيام الأمارة مقام القطع بأقسامه الخمسة بنفس دليل اعتبارها؛ إذ بعد فرض إمكان الإطلاق في دليل الاعتبار لا يتفاوت الحال بين أقسام القطع. و ضمير «خلافه» راجع على الطريق.

(4) و الظاهر أن هذا الكلام تعريض بما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس سره»؛ من التفصيل بين القطع الموضوعي الطريقي في قيام الأمارة مقامه، و بين القطع الموضوعي الصفتي في عدم قيامها مقامه، حيث قال: «و إن ظهر من دليل الحكم اعتبار صفة القطع في الموضوع من حيث كونها صفة خاصة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيره...» الخ.

و وجه التعريض هو: أن المانع من قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي مطلقا هو ما تقدم من امتناع اجتماع اللحاظين الاستقلالي و الآلي، و هذا المحذور موجود في كل من القطع الموضوعي الصفتي و الطريقي، فلا وجه للتفصيل المزبور بين الموضوعي الطريقي

ص: 68

الصفتية، كان تمامه (1) أو قيده و به (2) قوامه.

فتلخص مما ذكرنا (3): أن الأمارة لا تقوم بدليل اعتبارها إلا مقام ما ليس بمأخوذ في الموضوع أصلا.

و أما الأصول (4): فلا معنى لقيامها مقامه (5) بأدلتها أيضا غير الاستصحاب، لوضوح (6): أن المراد من قيام المقام ترتيب ما له من الآثار و الأحكام من تنجز التكليف و غيره - كما مرت إليه الإشارة (7) - و هي ليست إلا وظائف مقررة للجاهل في مقام العمل شرعا أو عقلا.

=============

و الموضوعي الصفتي بتجويز قيام الأمارة بنفس دليل اعتبارها مقام الأول دون الثاني، كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 97».

(1) أي: سواء كان القطع تمام الموضوع أم قيد الموضوع.

(2) أي: بالقطع قوام الموضوع.

(3) أي: من امتناع اجتماع اللحاظين، فلا يصلح دليل الاعتبار إلا لإثبات قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض كما عرفت.

(4) هذا إشارة إلى المقام الرابع، و هو بيان قيام الأصول مقام القطع.

عدم قيام غير الاستصحاب من الأصول مقام القطع الطريقي

و حاصل الكلام في المقام: إن ما عدا الاستصحاب من الأصول العملية لا يقوم مقام القطع الطريقي المحض؛ لأن مفاد هذه الأصول ليس إلا وظائف للجاهل بالأحكام، فموضوع هذه الأصول هو الجهل بالأحكام، و مع الجهل لا نظر لها إلى الأحكام الواقعية أصلا، و مع عدم النظر إليها كيف يعقل ترتيب أثر الطريقية إلى الواقع - الثابتة للعلم - من التنجيز و التعذير على الأصول ؟

(5) يعني: فلا معنى لقيام الأصول مقام القطع بأدلة الأصول أيضا، أي كما لا تقوم الأمارات و الطرق مقام القطع الموضوعي «غير الاستصحاب»؛ فإنه يقوم مقام القطع الطريقي المحض كسائر الأمارات.

(6) تعليل لقوله: «فلا معنى لقيامها مقامه».

(7) حيث إن معنى قيام الأمارة مقام القطع باعتبار أنها طريق إلى الواقع.

كما أن القطع طريق إليه، و من المعلوم: أن البراءة و التخيير و الاحتياط ليست طرقا أصلا، و لا كاشفية لها ناقصا حتى تقوم مقام الكاشف الحقيقي؛ إذ «هي ليست إلا وظائف مقررة للجاهل في مقام العمل شرعا أو عقلا».

و بعبارة أوضح: أن الأمارات و الطرق كواشف جعلية عن الواقع، و لذا تقوم مقام

ص: 69

لا يقال (1): إن الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه في تنجز التكليف لو كان.

فإنه يقال (2): أما الاحتياط العقلي: فليس إلا نفس حكم العقل بتنجز التكليف القطع الطريقي المحض؛ بخلاف الأصول فإنها لا طريقية لها، بل أحكام عملية للجاهل بالواقع يعمل على طبقها حين اليأس عن وصول يده إلى الواقع علما أو علميّا، فلو شك في مائع أنه حرام أم لا قالت البراءة العقلية و الشرعية: إن مرتكبه معذور، و لا تعيّن البراءة أنه خمرا و ليس بخمر، بخلاف خبر الواحد فإنه يقول: إنه خمر أو ليس بخمر و الاستصحاب مثل الأمارات لكشفه عن الواقع ناقصا، و لذا يقوم مقام القطع إذ ينزل الشك في البقاء منزلة اليقين بالبقاء في ترتيب ما له من الآثار، فهو واسطة بين الأصول و الأمارات، و لذا يعبر عنه بعرش الأصول و فرش الأمارات، فيقدم على الأصول و يؤخر عن الأمارات، كما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 3، ص 323» مع تصرف منّا.

=============

(1) و حاصل الإشكال: أن القطع كما أنه مما يتنجز به التكليف فكذلك الاحتياط مما يتنجز به التكليف، فصح القول بقيام الاحتياط مقام القطع، كما صح ذلك في الاستصحاب، فيكون هذا الإشكال ناظرا إلى ما منعه المصنف «قدس سره» من قيام غير الاستصحاب مقام القطع، فيقال: إن الاحتياط يقوم مقامه كالاستصحاب؛ إذ كما يتنجز التكليف الواقعي بالقطع به و يستحق العقوبة على مخالفته و المثوبة على موافقته، كذلك يتنجز بإيجاب الاحتياط فيقوم مقامه لفرض اشتراكه معه في أثره المهم و هو التنجيز، غاية الأمر: المراد بالقطع الذي يقوم بعض الأصول مقامه هو خصوص القطع الطريقي. و كلمة كان في قوله: «لو كان» التامة.

(2) هذا دفع للإشكال. و حاصل الدفع: أن الاحتياط إما عقلي و إما شرعي. و أما توضيح الجواب على الأول فيتوقف على مقدمة، و هي: أنه لا بد في قيام شيء مقام شيء و تنزيل أحدهما منزلة الآخر من لحاظ كل واحد من المنزل و المنزل عليه، و لازم ذلك: هو تعددهما و مغايرة المنزّل و المنزّل عليه، و كذلك لا بد من المغايرة بين المنزّل و بين حكم المنزّل عليه الثابت للمنزل بسبب التنزيل؛ كتنزل «الطواف بالبيت» منزلة «الصلاة»، فإن الطواف مغاير لأحكام الصلاة الثابتة له ببركة التنزيل كمغايرته لنفس الصلاة، و كذا الحال في قيام خبر الثقة مقام القطع في التنجيز مثلا، فإن الخبر غير التنجيز الثابت له بتنزيله منزلة القطع، فلو كان المنزّل نفس حكم المنزّل عليه لم يصح التنزيل.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا يصح تنزيل الاحتياط العقلي منزلة القطع؛ إذ ليس الاحتياط العقلي إلاّ نفس حكم العقل يتنجز التكليف و صحة العقوبة على المخالفة، و ليس شيئا آخر يقوم مقام القطع في هذا الحكم، فلا مغايرة بين الاحتياط العقلي و بين

ص: 70

و صحة العقوبة على مخالفته لا شيء يقوم مقامه في هذا الحكم (1).

و أما النقلي: فإلزام الشارع به - و إن كان مما يوجب التنجز و صحة العقوبة على المخالفة كالقطع - إلا إنه لا نقول به في الشبهة البدوية، و لا يكون بنقلي في المقرونة بالعلم الإجمالي، فافهم (2).

ثم لا يخفى (3) أن دليل الاستصحاب...

=============

التنجيز، و قد عرفت اعتبارها في المقدمة.

فالمتحصل: أنه ليس الاحتياط العقلي إلاّ نفس التنجيز الثابت المقطع، فالمغايرة المعتبرة في التنزيل مفقودة في الاحتياط العقلي.

و أما الاحتياط الشرعي فحاصل الكلام فيه: أن إلزام الشارع بالاحتياط و إن كان موجبا لتنجز التكليف به و صحة العقوبة على مخالفته، و كان هذا الإلزام الشرعي مغايرا للتنجيز أيضا، و لذا صح تنزيله منزلة القطع على خلاف الاحتياط العقلي، حيث إنه عين التنجيز كما مر، إلاّ إن هذا الإلزام الشرعي بالاحتياط مجرد فرض، و لا وجود له في الخارج؛ إذ لا نقول بوجوب الاحتياط شرعا في الشبهات البدوية و إن قال به الأخباريون في الشبهات التحريمية الناشئة من فقدان النص.

و أما في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي: فالاحتياط فيها و إن كان ثابتا، لكنه عقلي و ليس بشرعي و قد عرفت وجه عدم قيام الاحتياط العقلي مقام القطع.

(1) أي: التنجيز و صحة العقوبة على المخالفة.

(2) لعله إشارة إلى: إن عدم التزامنا بالاحتياط الشرعي لا يمنع عن قيامه مقام القطع عند من يقول به في الشبهات البدوية.

أو إلى: أن الاحتياط الشرعي ثابت في بعض الموارد، كما في تردد القبلة في الجهات الأربع، فإن الاحتياط الموجب للقطع بالامتثال يوجب تكرار الصلاة إلى أكثر من أربع جهات؛ بأن يأتي بها إلى نفس النقاط أيضا، لكن رواية خراش تدل على الاكتفاء بالأربع فهذا احتياط حكم به الشرع.

أو إشارة إلى قيام جميع الأصول العملية مقام القطع، بمعنى: أن البراءة تقوم مقام القطع بعدم التكليف، و الاحتياط يقوم مقام القطع بالتكليف و التخيير يقوم مقام القطع بالتخيير.

(3) هذا بيان لما أجمله بقوله: «غير الاستصحاب» من قيام الاستصحاب مقام القطع، و إنه كالأمارة يقوم مقام القطع الطريقي المحض فقط.

و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 102» - أن دليل الاستصحاب لا يفي بقيامه مقام القطع الموضوعي بأقسامه الأربعة؛ كعدم وفاء دليل اعتبار الأمارة بذلك

ص: 71

أيضا (1) لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ في الموضوع مطلقا (2)، و أن مثل (لا تنقض اليقين) لا بد من أن يكون مسوقا إما بلحاظ المتيقن (3)، أو بلحاظ نفس اليقين (4).

و ما ذكرنا في الحاشية (5) - في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقع كما تقدم، فدليل الاستصحاب مثل قوله: «عليه السلام»: «و لا تنقض اليقين أبدا بالشك»(1) لا بد أن يكون ناظرا إلى تنزيل الشك في البقاء منزلة القطع به، أو إلى تنزيل المشكوك منزلة المتيقن، و لا يعقل أن يكون ناظرا إلى كلا التنزيلين؛ لاستلزامه اجتماع اللحاظين على ما تقدم.

=============

(1) أي: كدليل اعتبار الأمارة.

(2) أي: سواء كان تمام الموضوع أم جزؤه، و سواء كان أخذه على نحو الصفتية أم على نحو الطريقية.

(3) فيكون لحاظ القطع آليا.

(4) فيكون لحاظ القطع استقلاليا، و على الأول: يكون استصحاب وجوب الصلاة - في مثال: إذا قطعت بوجوب الصلاة وجب عليك التصدق - موجبا للإتيان بالصلاة فقط و لا يكون موجبا للتصدق. هذا بخلاف الفرض الثاني - و هو لحاظ القطع استقلاليا - حيث يكون استصحاب وجوب الصلاة موجبا للتصدق فقط؛ لا للإتيان بالصلاة، و إنما نقول بلزوم كون التنزيل بأحد اللحاظين لما عرفت غير مرّة من: استحالة الجمع بينهما في لحاظ واحد، و إنما نقول بالأول دون الثاني لظهور كون التنزيل بلحاظ الطريقية و الكاشفية لا الموضوعية.

(5) مقصوده: تصحيح قيام الأمارة و الاستصحاب مقام القطع الموضوعي و الطريقي بنفس دليل اعتبارهما.

و حاصل ما أفاده المصنف: هو أن أدلة الأمارات متكفلة لتنزل المؤدى منزلة الواقع فقط، فلا يلزم هناك إلا لحاظ واحد آلي، غايته: تلك الأدلة بالدلالة الالتزامية العرفية تدل على تنزيل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع، من دون احتياج اللحاظ الاستقلالي، فيترتب تحقق كلا جزءي الموضوع المأخوذ فيه القطع على تنزيل واحد من حيث المؤدى فقط. ثم قال: بأن هذا لا يخلو من تكلف بل تعسف.

فقوله: «لا يخلو من تكلف» خبر لقوله: «و ما ذكرنا في الحاشية»، فلا بد أولا من

ص: 72


1- علل الشرائع 361:2 /ب 80، جزء من ح 1، تهذيب الأحكام 421:1 م جزء من ح 1325، الوسائل 4192/466:3.

تقريب ما ذكره في حاشيته على الرسائل في وجه تصحيح لحاظ واحد لإثبات صحة كلا التنزيلين من دون حاجة إلى اللحاظين الآلي و الاستقلالي.

و ثانيا: من بيان وصفه هذا الوجه بالتكليف أولا و التعسف ثانيا.

و أما حاصل ما أفاده في الحاشية في وجه تصحيح قيام الأمارة أو الاستصحاب مقام القطع الموضوعي إذا كان جزء الموضوع فيتوقف على مقدمة، و هي: أن الموضوع المقيد بالقطع - كما هو المفروض في مورد قيام الأمارة مقام القطع - يكون مركبا من جزءين و هما - القطع و الواقع - فحينئذ: إثبات كلا التنزيلين و إن لم يصح بالدلالة المطابقية؛ بأن يكون التنزيلان في عرض واحد إلا إنه يصح بالدلالة الالتزامية؛ بأن يكون أحد التنزيلين في طول الآخر بمعنى: أن لدليل اعتبار الأمارة دلالتين إحداهما: مطابقية، و الأخرى:

التزامية.

أما الأولى: فهي دلالته بالمطابقة على تنزيل المؤدى في الأمارة و المستصحب في الاستصحاب منزلة الواقع.

أما كون هذا التنزيل مطابقيا: فلما عرفت من: أن أظهر آثار القطع هو الكشف و الطريقية، و هذا يوجب ظهور دليل التنزيل في كون التنزيل بحسب الطريقية و الكاشفية، فيكون المنزل عليه هو الواقع و المنزل هو المؤدى و المستصحب.

و أما الأخرى: فيه دلالته بالالتزام على تنزيل الأمارة منزلة القطع الذي له دخل في الموضوع، بدعوى الالتزام العرفي بين تنزيل المؤدى و المستصحب منزلة الواقع، و بين تنزيل الأمارة و الشك منزلة القطع، حيث إن التنزيل لما كان شرعيا - و بدون الأثر الشرعي يصير لغوا - فلا بد من الالتزام بدلالة دليل تنزيل المؤدى و المستصحب منزلة الواقع على تنزيل الأمارة و الشك في البقاء منزلة القطع بالواقع الحقيقي دلالة التزامية من باب دلالة الاقتضاء؛ لتوقف صون دليل التنزيل عن اللغوية على هذه الدلالة الالتزامية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه على فرض تعدد الدلالة لا يلزم اجتماع اللحاظين، لأن لزوم اجتماعهما مبني على وحدة الدلالة. و إليك توضيح ذلك في ضمن مثال:

إذا شككنا في مائية مائع مع كريته، فاستصحاب مائيته لا يغني عن استصحاب كريته، كما أن استصحاب كريته لا يغنى عن استصحاب مائيته فهناك احتمالات:

1 - ما أحرز الجزءان بالوجدان.

2 - ما أحرز بالتعبد لكن كان التعبد بكل في عرض التعبد بالآخر.

ص: 73

3 - ما أحرز أحدهما بالتعبد الملازم عرفا لإحراز الآخر.

و المقام من هذا القبيل بمعنى: أن الدليل لو نزل مؤدى الأمارة أو المستصحب منزلة الواقع فقد دل بالالتزام العرفي على تنزيل الأمارة - و هي القطع الجعلي - منزلة القطع الحقيقي، فيكون دليل التنزيل دالا بالمطابقة على تنزيل المؤدى منزلة الواقع، و بالالتزام على تنزيل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع، من دون احتياج إلى اللحاظ الاستقلالي، فلا يلزم هناك إلا لحاظ واحد آلي فيترتب تحقق كلا جزءي الموضوع المأخوذ فيه القطع على تنزيل واحد من حيث المؤدى فقط.

فإذا قام خبر الواحد أو الاستصحاب على وجوب الصلاة يترتب عليه وجوب التصدق الذي يكون موضوعه وجوبها مع القطع به فتدبر.

فالمتحصل: أنه لا يلزم حينئذ الجمع بين اللحاظين المختلفين في آن واحد لكون أحد اللحاظين في طول الآخر. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما في الحاشية. و تركنا تطويل الكلام في المقام تجنبا عن التطويل الممل.

بقى الكلام في وجه وصف هذا الوجه في الكفاية بالتكلف أولا، و بالتعسف ثانيا.

و أما وجه التكلف: فهو عدم الملازمة العرفية بين تنزيل المؤدى منزلة الواقع، و بين تنزيل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع؛ و ذلك لوجهين:

الأول: أن التنزيل الثاني ليس من قبيل اللازم البيّن للتنزيل الأوّل، و لا من قبيل اللازم غير البيّن و إنما هو نتيجة صون فعل الحكيم عن اللغوية، و هو فرع شمول دليل الاستصحاب للمورد؛ بل هو أول الكلام لاحتمال اختصاصه بما إذا كان القطع طريقا محضا كما هو مورد بعض الروايات.

الثاني: هو إمكان دعوى عدم انسباق هذا اللزوم إلى أذهان العرف، فليس هناك لزوم عرفي حتى تصح دعوى الملازمة العرفية، فلا يدل دليل الاعتبار إلا على ترتيب آثار القطع - بما هو طريق و كاشف - على الأمارة أو الاستصحاب.

و أما التعسف فوجهه: لزوم الدور الذي أشار إليه بقوله: «فإنه لا يكاد يصح...» إلخ.

و أما توضيح الدور: فيتوقف على مقدمة و هي بيان أمور:

الأول: أن التنزيل الشرعي لا يصح إلا في ظرف ترتب الأثر الشرعي على المنزل.

الثاني: إذا كان الأثر مترتبا على الموضوع المركب كالماء الكر، فلا بد في ترتيب الأثر الشرعي عليه من إحراز الموضوع بكلا جزأيه بالوجدان، أو أحدهما بالوجدان و الآخر

ص: 74

بالتعبد، أو كليهما بالتعبد. و الأول واضح. و أما الثاني: فكما إذا أحرز المائية بالوجدان و الكرّية بالتعبد بأن شك في الكرية، فتحرز باستصحاب الكرّية.

و أما الثالث - بأن يحرز الجزءان بالتعبد في عرض الآخر - فكما إذا كانت المائية و الكرّية مشكوكتين فيستصحب كل في عرض الآخر؛ لعدم المانع من شمول الدليل للجزءين في عرض واحد؛ لكن هذا في غير المقام. و أما في المقام: فشمول الدليل للجزءين في عرض واحد محال؛ لما عرفت من: استلزامه الجمع بين اللحاظين.

الثالث: إذا كان أحد التنزيلين في طول الآخر؛ بأن يكون التنزيل الثاني منكشفا بالدلالة العرفية من التنزيل الأول.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا يصح في المقام شمول الدليل للجزءين في عرض واحد؛ لاستلزامه المحال و هو الجمع بين اللحاظين.

و أما إذا كان التنزيلان طوليين؛ بأن كان تنزيل أحد الجزءين مستلزما لتنزيل الجزء الآخر، فلا يصح أيضا؛ لاستلزامه الدور حينئذ في مقام دلالة الدليل، فإن إجراء الأصل أو الأمارة - لإحراز الجزء الأول - متوقف على كون هذا الجزء ذا أثر؛ لما عرفت في الأمر الأول من عدم إجرائهما فيما لا أثر له، و كون هذا الجزء ذا أثر يتوقف على وجود الجزء الآخر، إذ ما لم يجتمع الجزءان لم يتحقق المركب الذي هو ذو أثر، و وجود الجزء الآخر متوقف على إجراء الأصل أو الأمارة - لفرض أن الجزء الثاني يثبت بالجزء الأول المفاد للأصل أو الأمارة للملازمة بينهما - و هو دور ظاهر.

مثلا: إذا كان الأثر لمقطوع الخمرية، فاستصحاب الخمرية متوقف على كونه ذا أثر، و كونه ذا أثر متوقف على ثبوت الجزء الآخر و هو القطع بالخمر التعبدي، و ثبوت القطع بالخمر التعبدي موقوف على إجراء الاستصحاب في الخمر، فإجراء الاستصحاب في الخمر موقوف على إجراء الاستصحاب في الخمر بالواسطة، فهو دور مضمر.

و المتحصل: أن تنزيل المستصحب منزلة الواقع يتوقف على تنزيل القطع التعبدي منزلة العلم بالواقع؛ لكون الأثر مترتبا على المركب من الواقع و العلم به، و المفروض: أن تنزيل القطع التعبدي منزلة العلم بالواقع يتوقف على تنزيل المستصحب منزلة الواقع، فيكون أحد التنزيلين موقوفا على الآخر.

و تطويل الكلام في المقام إنما هو لعدم خلوّ عبارة المصنف عن الإغلاق.

و كيف كان؛ فدعوى كفاية دليل اعتبار الأمارة لكلا التنزيلين في غير محلها.

ص: 75

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية»:

قوله: «فإنه لا يكاد...» الخ تعليل لعدم خلو ما ذكره في الحاشية من التكلّف؛ بل التعسّف. و الضمير للشأن قوله: «أو قيده بما هو كذلك» أي: بما هو جزؤه أو قيده، مثل تقييد الذات بالعدالة بالنسبة إلى جواز الاقتداء و الشهادة و غيرهما من الآثار.

قوله: «بلحاظ أثره» يعني: حال كون التنزيل بلحاظ أثر الموضوع.

قوله: «إلا فيما كان جزؤه الآخر أو ذاته محرزا بالوجدان».

ففي مثال: «إذا قطعت بوجوب الصلاة وجب عليك التصدق» لا يحكم بوجوب التصدق بمجرد إحراز وجوب الصلاة إلا بعد حصول القطع بوجوبها؛ لأن الأثر الشرعي - و هو وجوب التصدق - مترتب على وجوب الصلاة المقطوع به. و في الموضوع المقيد - مثل عدالة زيد - لا يجري استصحاب العدالة إلا بعد إحراز ذات الموضوع و هو زيد الحيّ ، مثلا، إذ لو لم يحرز ذاته فلا فائدة في استصحاب عدالته؛ لكون الأثر و هو جواز الاقتداء مترتبا على الحي العادل، و كذلك جواز التقليد.

قوله: «أو بتنزيله في عرضه» عطف على الوجدان.

قوله: «و أما إذا لم يكن كذلك» استدراك على قوله: «فيما كان جزؤه الآخر...» الخ، و اسم «يكن» ضمير راجع على جزئه الآخر، و المشار إليه بقوله: «كذلك» هو كونه محرزا بالوجدان أو التنزيل.

و المقصود: أنه لا بدّ في صحة تنزيل جزء الموضوع أو قيده - بلحاظ ترتب الأثر الشرعي عليه - من أحد أمرين إما إحراز جزئه الآخر أو ذاته - أي: المقيد - بالوجدان، أو إحرازه بالتعبد أي: بتنزيله في عرض تنزيل جزئه الأول أو قيده. و أما إذا لم يكن جزؤه الآخر أو ذاته - أعني المقيد - محرزا بالوجدان أو محرزا بالتنزيل عرضا؛ بأن كان محرزا في طول الجزء الأول و من لوازمه، كما في مثال القطع بوجوب الصلاة إذا جعل موضوعا لوجوب التصدق، فلا يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب الذي هو دليل على تنزيل جزء الموضوع أو قيده دليلا على تنزيل جزئه الآخر أو ذاته، فيما إذا لم يكن هذا الجزء الآخر أو الذات محرزا بالوجدان، أو محرزا بالتعبد أو بدليل آخر مستقلا.

و على هذا: فحق العبارة أن تكون هكذا: «فلا يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلا على جزئه الآخر ما لم يكن هناك دليل آخر على تنزيله فيما لم يكن محرزا...» الخ.

ص: 76

و قد تحصل من جميع ما ذكر: أنه لا بد في صحة تنزيل جزء الموضوع أو قيده بلحاظ ترتب الأثر الشرعي عليه من إحراز جزئه الآخر أو ذاته - أعني: المقيد - إما بالوجدان، و إما بدليل يدل على تنزيلهما معا بالمطابقة، فيما إذا كان جزؤه الآخر أو الذات في طول الجزء الأول أو القيد، و إلا - فإن لم يحرز الجزء الآخر أو الذات بالوجدان و لا بدليل يدل على تنزيلهما معا و لا بدليل آخر مستقل - لم يمكن إحرازه بدليل الأمارة التي مؤداها كوجوب الصلاة في المثال المتقدم، الذي هو الجزء الأول من الموضوع؛ لاستلزامه الدور كما تقدم توضيحه.

قوله: «فلا يكاد» جواب قوله: «و أما إذا لم يكن كذلك».

قوله: «فيما لم يكن» متعلق بقوله: «فلا يكاد يكون»، و المراد بالموصول هو الموضوع، و اسم «يكن» ضمير راجع إلى الجزء الآخر، يعني: إذا لم يكن الجزء الآخر من الموضوع أو ذاته محرزا لا حقيقة و لا تعبدا، و لم يكن دليل مستقل على إحرازه لم يكن دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلا على إحرازه؛ لما عرفت من استلزامه الدور لو أريد إحرازه بنفس دليل الأمارة أو الاستصحاب.

و من هنا ظهر: أن قوله «قدس سره»: «فيما لم يكن محرزا» إلى قوله: «دليلا عليه أصلا» مستدرك و تكرار، كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 114».

قوله: «لم يكن دليل الأمارة» جواب قوله: «و فيما لم يكن دليل...» الخ.

يعني: أنه إن كان هناك دليل يدل مطابقة على تنزيل كلا الجزءين فلا إشكال، و إلا فدليل الأمارة لا يدل على تنزيل الجزء الآخر التزاما؛ لما عرفت: من إشكال الدور.

قوله: «فإن دلالته» تعليل لقوله: «لم يكن»، يعني: فإن دلالة دليل الأمارة على تنزيل مؤداها منزلة الواقع «تتوقف على دلالته...» الخ.

قوله: «بالملازمة» متعلق بقوله: «دلالته»، يعني: أن دلالة دليل الأمارة على تنزيل المؤدى منزلة الواقع تتوقف على دلالته بالملازمة على تنزيل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع الحقيقي.

وجه الملازمة: أن الأثر الشرعي مترتب على القطع بالواقع الحقيقي؛ لا على المؤدى بما هو، و حينئذ فدلالة الدليل على أن المؤدى كالواقع تستلزم دلالته على أن المؤدى كالقطع بالواقع الحقيقي، ليترتب الأثر الشرعي عليه، و تنزيل القطع كذلك يتوقف على تنزيل نفس الأمارة منزلة القطع، فيكون مفاد دليل التنزيل جعل الأمارة قطعا تعبديا بالواقع

ص: 77

و القطع، و أن دليل الاعتبار إنما يوجب تنزيل المستصحب و المؤدى منزلة الواقع، و إنما كان تنزيل القطع فيما له دخل في الموضوع بالملازمة بين تنزيلهما، و تنزيل القطع بالواقع تنزيلا و تعبدا منزلة القطع بالواقع حقيقة - لا يخلو من تكلّف؛ بل تعسّف.

فإنه لا يكاد يصح تنزيل جزء الموضوع أو قيده، بما هو كذلك بلحاظ أثره، إلا فيما كان جزؤه الآخر أو ذاته محرزا، أو تنزيله في عرضه و أما إذا لم يكن كذلك:

فلا يكاد يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلا على تنزيل جزء الموضوع، ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر، فيما لم يكن محرزا حقيقة، و فيما لم يكن دليل على تنزيلهما بالمطابقة، كما في ما نحن فيه على ما عرفت - لم يكن دليل الأمارة دليلا عليه أصلا، فإن دلالته على تنزيل المؤدى تتوقف على دلالته على تنزيل القطع بالملازمة. و لا دلالة كذلك إلا بعد دلالته على تنزيل المؤدى، فإن الملازمة إنما تكون بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي، و تنزيل المؤدى منزلة الواقع كما لا يخفى، فتأمل جيدا، فإنه لا يخلو عن دقة.

ثم لا يذهب عليك أن هذا لو تم لعم، و لا اختصاص له بما إذا كان القطع مأخوذا على نحو الكشف (1).

=============

التنزيلي، فمعنى تعلق الأمارة بالمؤدى: تعلق القطع بالواقع، فدلالة الدليل على تنزيل المؤدى موقوفة على دلالته التزاما على تنزيل الأمارة منزلة القطع، هذا إثبات التوقف من أحد الطرفين.

و أما إثباته من الطرف الآخر فقد أشار إليه بقوله: «فإن الملازمة» الخ يعني: و لا دلالة لدليل الأمارة على تنزيل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع الحقيقي؛ إلا بعد دلالته على تنزيل المؤدى. وجه هذا التوقف - أي: توقف دلالته على تنزيل القطع على دلالته على تنزيل المؤدى - ظاهر؛ لأن الأولى التزامية و الثانية مطابقية، و ضمير «دلالته» راجع إلى دليل التنزيل.

(1) المشار إليه هو التوجيه المذكور في حاشية الرسائل، أي: لو تم التوجيه المذكور نظرا إلى الإشكال المذكور لعم جميع أقسام القطع، و قوله: «لو» إشارة إلى امتناع تمامية التوجيه المذكور، نظرا إلى الإشكال المزبور من استلزامه الدور على ما عرفته، و مع الغض عن هذا الإشكال و تسليم تمامية ذلك التوجيه فمقتضاه: قيام الأمارة و الاستصحاب مقام القطع الطريقي المحض و الموضوعي بأقسامه الأربعة؛ لأنه بعد فرض تكفل دليل الاعتبار لتنزيلين - أحدهما: بالمطابقة، و الآخر: بالالتزام - لا مانع من التعميم المزبور أصلا. هذا.

ص: 78

ثم إن قوله: «و لا اختصاص له...» الخ، قرينة على أن المراد بالقطع الذي جعله موردا لقيام الأصول مقامه، و عدمه هو القطع الطريقي.

و قد تحصل مما ذكره المصنف: صحة قيام الأمارة بنفس أدلة اعتبارها مقام القطع الطريقي المحض، و عدم صحة قيامها بها مقام القطع الموضوعي بأقسامه الأربعة، كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 117».

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - أقسام القطع خمسة؛ لأن القطع الموضوعي على أربعة أقسام:

1 - تمام الموضوع. 2 - جزء الموضوع. 3 - على نحو الطريقية. 4 - على نحو الصفتية.

و بعد ضم القطع الطريقي المحض إليها يصير المجموع خمسة أقسام.

و أما الفرق بين أقسام القطع الموضوعي فهو من جهتين:

الأولى: الفرق بين القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية، و بين ما أخذ فيه على نحو الصفتية.

الثانية: بين ما أخذ تمام الموضوع و ما أخذ جزء الموضوع.

أما الفرق من الجهة الأولى: فمعنى أخذ القطع على نحو الطريقية: أخذه فيه باعتبار كونه طريقا إلى ما تعلق به، و كاشفا عنه.

و أما أخذه على نحو الصفتية فمعناه: أخذه في الموضوع بوجوده الخاص.

و أما الفرق من الجهة الثانية: فمعنى أخذ القطع تمام الموضوع هو ثبوت الحكم عند وجود القطع، سواء كان مطابقا للواقع أو مخالفا.

و أما معنى أخذه جزء الموضوع: فهو ثبوت الحكم عند كون القطع مطابقا للواقع؛ لأن المفروض: أن القطع هو جزء الموضوع، و جزؤه الآخر هو الواقع.

2 - قيام الأمارات و بعض الأصول مقام القطع.

فيقع البحث في مقامات:

1 - قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض.

2 - عدم قيامها مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الصفتية.

3 - عدم قيامها مقام القطع المأخوذ فيه على نحو الطريقية.

ص: 79

4 - عدم قيام الأصول العملية مقام القطع الموضوعي أصلا.

فأما البحث في المقام الأول: فلا شك في قيام الأمارات بنفس أدلة اعتبارها مقام القطع الطريقي المحض؛ لأن مفاد أدلة اعتبارها هو إلغاء احتمال مخالفتها للواقع، فتنزل الأمارات بعد إلغاء احتمال الخلاف بأدلة اعتبارها بمنزلة القطع، فيترتب عليها ما يترتب عليه من الحكم العقلي و هو التنجيز في صورة الإصابة، و التعذير في صورة الخطأ؛ لأن المراد بقيامها مقامه هو ترتيب أثره عليها.

و أما المقام الثاني: - أعني: عدم قيامها مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الصفتية - فلأن مفاد دليل اعتبار الأمارة هو ترتيب آثار القطع بما أنه كاشف و طريق على الأمارة، فلا يجعل الأمارة صفة القطع؛ بل دليل اعتبار الأمارة يجعلها كالقطع في الطريقية لا في الصفتية.

نعم؛ يمكن قيامها مقامه بالدليل الخاص، لا بدليل الاعتبار. و هذا خارج عن محل الكلام.

و أما المقام الثالث: - أعني: عدم قيام الأمارات بنفس أدلة اعتبارها مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية - فلأن أدلة اعتبار الأمارات لا تثبت لها أزيد من كونها كالقطع في الكشف عن الواقع، فلا تثبت كونها موضوعات للأحكام.

و أما المقام الرابع: - أعني: قيام الأصول مقام القطع الطريقي المحض - فما عدا الاستصحاب لا يقوم مقام القطع الطريقي المحض؛ لأن مفاد هذه الأصول ليس إلا وظائف للجاهل بالأحكام، فلا وجه لقيامها مقامه؛ إذ مع الجهل لا نظر لها إلى الأحكام الواقعية أصلا. و مع عدم النظر إليها كيف يعقل ترتيب أثر الطريقية إلى الواقع - من التنجيز و التعذير - على الأصول ؟

3 - الاحتمالات و الصور المتصورة في القطع الموضوعي هي: اثنتان و ثلاثون صورة؛ و ذلك لأن القطع الموضوعي على أربعة أقسام، و على جميع هذه الصور قد يكون ما يتعلق به القطع موضوعا، و قد يكون حكما.

ثم صور تعلق القطع بالموضوع هي أربعة، بمعنى: أن القطع قد يؤخذ في موضوع نفس حكم متعلقه، و قد يؤخذ في موضوع مثل حكم متعلقه، و قد يؤخذ في موضوع ضد حكم متعلقه، و قد يؤخذ في موضوع مخالف حكم متعلقه. و حاصل ضرب الأربعة في الأربعة هي ستة عشرة صورة.

ص: 80

و كذلك ما إذا كان متعلق القطع حكما، فمجموع الصور و الاحتمالات هي اثنتان و ثلاثون صورة بين صحيحة و ممتنعة فراجع الجداول.

4 - توهّم: أنه لا وجه لتخصيص دليل تنزيل الأمارة منزلة القطع من حيث الطريقية، فإنه خلاف إطلاق دليل التنزيل، و مقتضى الإطلاق: هو قيامها مقام القطع مطلقا فاسد جدا؛ لأن مقتضى إطلاق دليل التنزيل و إن كان تنزيل الأمارة منزلة القطع في كل ما للقطع من الموضوعية و الطريقية، إلا إن هذا الإطلاق ممتنع في المقام؛ لاستلزامه اجتماع الضدين، فإن تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي يستدعي لحاظ القطع استقلالا، و تنزيلها منزلة القطع الطريقي يستدعي لحاظه آلة للغير، و هو الواقع المتكشف به.

و من الواضح: أن هذين اللحاظين متضادان، فيمتنع اجتماعهما في إنشاء واحد.

نعم؛ لو كان في البين على فرض مستحيل ما بمفهومه جامع بينهما يمكن أن يكون دليل واحد دليلا على التنزيلين؛ و لكن وجود الجامع مجرد فرض؛ إذ لا يعقل بين الضدين.

5 - لا يقال: إنه لا يصح على هذا التمسك بدليل التنزيل على إثبات أحد التنزيلين؛ لإجماله الناشئ من عدم قرينة على تعيين أحد التنزيلين، فيسقط عن الاستدلال به على قيام الأمارة مقام الطريق أيضا.

فإنه يقال: إن الظاهر للقطع طريقيته لا موضوعيته، فكلما نزل منزلته يكون ظاهرا في أنه نزّل بلحاظ كاشفيته و طريقته، فإشكال إجمال الدليل غير وارد في المقام، ضرورة: أن الأثر المترتب على القطع هو باعتبار الكشف و الطريقية، فدليل تنزيل الأمارة منزلة القطع يكون ظاهرا في تنزيلها منزلته في الطريقية لا في الموضوعية.

6 - توهّم: قيام الاحتياط مقام القطع في تنجز التكليف، فالاحتياط كالاستصحاب يقوم مقام القطع؛ لاشتراكه مع القطع في أثره المهم و التنجيز؛ مدفوع: بأن الاحتياط العقلي ليس إلا نفس حكم العقل بتنجز التكليف، و ليس شيئا آخر يقوم مقامه في هذا الحكم العقلي.

مع أنه يعتبر في التنزيل المغامرة بين المنزل و المنزل عليه، و هذا مفقود في الاحتياط العقلي.

و أما الاحتياط الشرعي - و هو إلزام الشارع به - فهو و إن كان موجبا للتنجيز فصح تنزيله منزلة القطع؛ إلا إن الاحتياط الشرعي مجرد فرض لا يقول بوجوبه أحد من

ص: 81

الأصوليين في الشبهات البدوية.

7 - خلاصة ما أفاده المصنف في الحاشية في تصحيح قيام الأمارات و الاستصحاب مقام القطع الموضوعي و الطريقي بلحاظ واحد في التنزيل، من دون حاجة إلى لحاظين:

الآلي و الاستقلالي، كي لا يمكن الجمع بينهما: أن دليلي اعتبار الأمارة و الاستصحاب ينزلان المؤدى و المستصحب منزلة الواقع بالمطابقة، فإذا نزّلا منزلة الواقع بالمطابقة نزّل القطع بهما منزلة الواقع بالملازمة، فيترتب على القطع بهما ما يترتب على القطع بالواقع، فإذا قامت الأمارة مثلا على وجوب صلاة الجمعة، و قد نزل دليل اعتبار الأمارة هذا الوجوب الذي قامت عليه الأمارة منزلة الوجوب الواقعي بالمطابقة، فالقطع بهذا الوجوب التنزيلي يكون منزّلا منزلة القطع بالوجوب الواقعي بالملازمة، فيترتب عليه ما يترتب على القطع بالوجوب الواقعي من التصدق بدرهم في المثال المعروف. و المصنف وصف ما في الحاشية في الكفاية بالتكلف و التعسف.

أما وجه التكلف: فهو عدم الملازمة العرفية بين تنزيل المؤدى منزلة الواقع، و بين القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع؛ إذ التنزيل الثاني ليس من قبيل اللازم البيّن و لا غير البين.

و أما وجه التعسف: فهو لزوم الدور، بتقريب: أن تنزيل مؤدى الأمارة أو المستصحب منزلة الواقع يتوقف على تنزيل القطع التعبدي منزلة العلم بالواقع؛ لكون الأثر مترتبا على المركب من الواقع و العلم به، و المفروض: أن تنزيل القطع التعبدي منزلة القطع بالواقع يتوقف على تنزيل المستصحب أو المؤدى منزلة الواقع، فيكون أحد التنزيلين موقوفا على الآخر. هذا دور واضح.

8 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - أقسام القطع خمسة.

2 - وقوع الأمارات المعتبرة و الاستصحاب من الأصول العملية مقام القطع الطريقي المحض.

3 - عدم وقوع الأمارات المعتبرة و الأصول العملية مقام القطع الموضوعي مطلقا.

4 - عدم صحة أخذ القطع الموضوعي في موضوع نفس حكم متعلقه و لا في موضوع مثل حكم متعلقه، و لا في موضوع ضد حكم متعلقه.

5 - صحة أخذ القطع الموضوعي في موضوع حكم مخالف لحكم متعلقه.

6 - عدم صحة أخذ القطع الموضوعي المتعلق بالحكم في موضوع ذلك الحكم، أو في

ص: 82

الأمر الرابع: أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضدّه

اشارة

الأمر الرابع (1):

لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم للزوم الدور، و لا مثله (2) للزوم اجتماع المثلين، و لا ضده للزوم اجتماع الضدين.

=============

موضوع مثله أو ضده.

7 - صحة أخذ القطع الموضوعي المتعلق بالحكم في موضوع مخالف ذلك الحكم.

امتناع أخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم

(1) الغرض من بيان هذا الأمر: بيان امتناع أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم كأن يقال: «إذا علمت بحرمة الخمر فالخمر حرام»، و لا فرق في ذلك بين أقسام القطع الموضوعي، فإن جميع هذه الأقسام الأربعة ممتنعة؛ للزوم الدور بتقريب: أن الحرمة - في المثال المذكور - موقوفة على العلم بها لكونه موضوعا لها، و توقف كل حكم على موضوعه بديهيّ ، و العلم بها موقوف على وجودها قبل تعلق العلم بها؛ إذ لا بد من وجود حكم يتعلق به العلم أو الجهل، فالعلم موقوف على الحكم، و هو موقوف على العلم، و هذا دور و نتيجته: توقف الشيء على نفسه، فالحرمة موقوفة على نفسها و هو مستحيل.

(2) يعني: لا يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع مثل ذلك كأن يقال: «إذا علمت بحرمة الخمر فالخمر حرام بمثل تلك الحرمة المعلومة لا نفسها»، بمعنى: أن الحرمة المجعولة ثانيا ليست نفس الحرمة المجعولة لذات الخمر أولا؛ بل مثلها، و ذلك للزوم اجتماع المثلين، و هو في الاستحالة كاجتماع الضدين.

فقوله: «للزوم اجتماع المثلين» تعليل لعدم إمكان أخذ العلم بحكم في موضوع مثل هذا الحكم.

توضيح اجتماع المثلين - في المثال المذكور - أن العلم بحرمة الخمر إذا جعل موضوعا لحرمة أخرى مثلها لزم اجتماع حكمين متماثلين في موضوع واحد و هو الخمر و اجتماع المثلين ممتنع.

و كذلك لا يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع ضد هذا الحكم؛ بأن يكون العلم بحرمة شيء موضوعا لضد حرمته و هو حليته مثلا، كأن يقال: «إذا علمت بحرمة الخمر فالخمر لك حلال»؛ للزوم اجتماع الضدين، بتقريب: أن الخمر المعلوم حرمتها إذا جعل لها حكم ضد الحرمة كالحلية لزم تعلق حكمين متضادين - و هما الحرمة و الحلية - بموضوع واحد و هو الخمر، و من البديهي: امتناع اجتماع المتضادين في موضوع واحد،

ص: 83

نعم (1)؛ يصح أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه أو مثله أو ضده.

و أما الظن (2) بالحكم: فهو و إن كان كالقطع في عدم جواز أخذه في موضوع و قد أشار إليه بقوله: «و لا ضده؛ للزوم اجتماع الضدين».

=============

(1) استدراك على ما ذكره من امتناع أخذ القطع بحكم موضوعا لنفس ذلك الحكم أو مثله أو ضده.

و توضيح ذلك بعد مقدمة قصيرة و هي: أن للحكم مراتب و هي: مرتبة الاقتضاء و مرتبة الإنشاء و مرتبة الفعلية و مرتبة التنجز.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن ما ذكر من عدم الإمكان إنما هو في الحكم الفعلي؛ بأن يكون العلم بالحرمة مثلا موضوعا لنفس هذه الحرمة الفعلية أو مثلها أو ضدها. و أما إذا كان الحكم المعلوم إنشائيا فلا مانع من أخذ القطع بالحكم بهذه المرتبة الإنشائية موضوعا لنفس ذلك الحكم في المرتبة الفعلية، كأن يقال: «إذا علمت بإنشاء وجوب الجهر أو الإخفات أو القصر على المسافر وجبت عليك فعلا هذه الأمور»، فيكون العلم بالحكم بمرتبته الإنشائية موضوعا لنفس هذا الحكم بمرتبته الفعلية، و كذا الحال في المثل و الضد، فيصح أن يقال: «إذا علمت بإنشاء حرمة الخمر فالخمر حرام عليك فعلا حرمة مماثلة»، أو «إذا علمت بحرمة الخمر إنشاء يباح لك فعلا شربه»، و كما إذا قال: «إذا علمت بإنشاء الحرمة لشرب التتن فهو ذلك حلال فعلا»، و لا يلزم شيء من المحاذير المتقدمة من الدور أو اجتماع المثلين أو الضدين أصلا لتعدد المرتبة.

ثم إن المناط في مثلية الحكم الذي تعلق به القطع هو: كون الحكم المماثل ناشئا عن ملاك غير ملاك الحكم الذي تعلق به القطع.

و قد تحصل من كلمات المصنف «قدس سره» أمران:

الأول: عدم صحة أخذ القطع موضوعا لحكم يكون نفس متعلقه و لا مثله و لا ضده.

الثاني: صحة أخذ القطع بمرتبة حكم موضوعا لمرتبة أخرى من نفس ذلك الحكم أو مثله أو ضده. هذه جملة مما يتعلق بأخذ القطع بحكم في موضوع ذلك الحكم أو مثله أو ضده، كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 120».

(2) الغرض من هذا الكلام: بيان حال الظن بالحكم، و أنه كالقطع به في استحالة أخذه في موضوع نفس ذلك الحكم؛ و لكنه يفترق عن القطع بجواز أخذه - إذا تعلق بحكم - موضوعا لمثل ذلك ذلك أو ضده، لعدم لزوم محذور اجتماع المثلين أو الضدين، و توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 121» - أن الظن بالحكم و إن كان

ص: 84

نفس ذاك الحكم المظنون، إلا إنه لما كان معه مرتبة الحكم الظاهري محفوظة كان جعل حكم آخر في مورده مثل الحكم المظنون أو ضده بمكان من الإمكان.

إن قلت (1): إن كان الحكم المتعلق به الظن فعليا أيضا؛ بأن يكون الظن متعلقا كالقطع به في عدم جواز أخذ الظن به موضوعا لنفس ذلك الحكم المظنون، كأن يقال:

=============

«إذا ظننت بحرمة الخمر فالخمر حرام بنفس تلك الحرمة»؛ للزوم الدور الذي عرفت تقريبه في القطع، إلا إن جعل حكم آخر مثل الحكم المظنون أو ضده ممكن، و ذلك للفرق الواضح بين الظن و القطع، و هو: أن القطع لما كان موجبا لانكشاف الواقع بتمامه؛ بحيث لا يبقى معه احتمال الخلاف أصلا لم يمكن حينئذ جعل حكم آخر مثلا كان أو ضدا كما لا يخفى.

و هذا بخلاف الظن بالحكم، فإنه لما لم يكن كاشفا عن الواقع كشفا تاما، فلا محالة تكون مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة، فيمكن جعل حكم آخر مماثل للحكم المظنون أو مضادّ له، فيصح أن يقال: إذا ظننت بحرمة الخمر، فالخمر حرام بحرمة مماثلة للحرمة المظنونة، أو مباح. و الضمير في «معه» راجع على الظن بالحكم، و كذلك الضمير «في مورده» راجع على الظن بالحكم.

(1) هذا إشكال على دعوى جواز الظن بحكم موضوعا لحكم آخر مثله أو ضده، نظرا إلى محفوظية مرتبة الحكم الظاهري مع الظن، فيكون ناظرا إلى ما ذكر من الفرق بين القطع و الظن في إمكان أخذ الظن بحكم موضوعا لمثل ذلك الحكم أو ضده، دون القطع.

و حاصل الإشكال: هو عدم الفرق بين الظن و القطع، فكما لا يصح جعل مثل الحكم المقطوع أو ضده إذا كان فعليا؛ لاستلزامه اجتماع المثلين أو الضدين، فكذلك لا يصح جعل مثل الحكم المظنون أو ضده فيما إذا كان الحكم المظنون فعليا؛ لاستلزامه اجتماع الحكمين الفعليين المتماثلين أو المتضادين في موضوع واحد و هو محال، مثلا: إذا كانت الحرمة المظنونة للخمر حكما فعليا له، فلا يعقل أن يؤخذ الظن بهذه الحرمة الفعلية موضوعا لحرمة مماثلة أو للإباحة المضادة لها؛ لاجتماع المثلين أو الضدين؛ إذ الخمر مثلا يصير ذا حكمين متماثلين أو متضادين. نعم؛ لا بأس بأخذ الظن بحكم فعلي لموضوع في موضوع حكم آخر مماثل له أو مضاد، كأن يقال: «إذا ظننت بحرمة الخمر فالخلّ لك حلال أو حرام»، كإمكان أخذ القطع بحكم لموضوع في موضوع حكم آخر كقوله: «إذا علمت بوجوب الصلاة فالتصدق واجب».

فالمتحصل: أنه لا يصح أخذ الظن بحكم فعلي موضوعا لحكم آخر فعلي مثله أو

ص: 85

بالحكم الفعلي لا يمكن أخذه في موضوع حكم فعلي آخر مثله أو ضده؛ لاستلزامه الظن باجتماع الضدين أو المثلين، و إنما يصح أخذه في موضوع حكم آخر كما في القطع طابق النعل بالنعل.

قلت (1): يمكن أن يكون الحكم فعليا، بمعنى: أنه لو تعلق به القطع على ما هو ضده؛ لكونه مستلزما لاجتماع المثلين أو الضدين كمورد القطع؛ النعل بالنعل.

=============

(1) هذا جواب عن الإشكال المذكور. توضيح الجواب يتوقف على مقدمة: و هي:

أن الفعلية تتصور على قسمين:

أحدهما: أن يكون الحكم بمثابة لو تعلق به العلم لتنجز على العبد، و صارت مخالفته موجبة لاستحقاق المؤاخذة عقلا، مع عدم إرادة المولى أو كراهته به، و تسمى هذه المرتبة من الفعلية بالفعلية غير التامة، و تكون برزخا بين الإنشائية التي لا يتنجز معها الحكم بقيام الحجة عليه، و بين الفعلية التامة التي يكون معها الإرادة و الكراهة.

ثانيهما: أن يكون الحكم مقرونا بالإرادة و الكراهة، فيكون تاما في البعث و الزجر، و تسمى هذه المرتبة بالفعلية التامة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الظن كالقطع بالنسبة إلى الحكم الفعلي التام، فكما لا يمكن أخذ القطع بالحكم الفعلي في موضوع مثله أو ضده فكذلك لا يمكن أخذ الظن بالحكم الفعلي التام في موضوع مثله أو ضده، فلا فرق بين القطع و الظن كما عرفت في الإشكال.

و أما الفعلي غير التام: فيمكن أخذ الظن بحكم في موضوع مثله أو ضده؛ لأن الحكم المظنون إن كان فعليا بالمعنى الثاني - و هو المقرون بالإرادة و الكراهة - لكان تعلق الإرادة و الكراهة بهذا الحكم الفعلي منافيا لتعلق إرادة أو كراهة أخرى به. و أما إذا كان المراد بالفعلية المعنى الأول - «أعني: لو تعلق به القطع لتنجز» من دون إرادة أو كراهة - فيمكن أن يؤخذ الظن بحكم في موضوع مثله أو ضده؛ إذ لا ضير حينئذ في اجتماع الحكمين الفعليين - كما هو المفروض في المقام - مثلا: إذا كانت الحرمة المظنونة للخمر فعلية - بمعنى: تنجزها بالقطع من دون كراهة الشارع - فلا بأس باجتماعها مع الإباحة أو الكراهة الفعلية.

فالمتحصل: أنه لا مانع من أخذ الظن بحكم فعلي موضوعا لحكم آخر فعلي مثله أو ضده، فإن الفعلي الذي تعلق به الظن و إن كان على فرض وجوده فعليا، بمعنى: أنه حكم لو تعلق به العلم لتنجز، و لكنه غير منجز لعدم تعلق العلم به، و الفعلي الذي قد

ص: 86

عليه (1) من الحال لتنجز، و استحق على مخالفته العقوبة، و مع ذلك (2) لا يجب على الحاكم رفع عذر المكلف برفع جهله لو أمكن، أو بجعل لزوم الاحتياط عليه فيما أمكن؛ بل يجوز جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه تارة، و إلى ضده أخرى.

=============

أخذ الظن موضوعا له فعليّ منجز لتحقق موضوعه، فلا تنافي بينهما من جهة اختلاف المرتبة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) الضمير راجع على الموصول في «ما هو»، و المراد به: الحال يعني: أن الحكم المظنون فعلي بفعلية غير منجزة، و تنجزه يكون بالعلم به، بخلاف الحكم الثاني الذي موضوعه الحرمة المظنونة، فإنه حكم فعلي بفعلية منجزة، و لا تنافي بين الحكم المنجز و غيره حتى يلزم محذور اجتماع المثلين أو الضدين، و على هذا فعبارة المتن لا تفي بالمقصود، فالأولى سوقها هكذا: «قلت: إنما يمتنع أخذ الظن بحكم فعلي موضوعا لحكم فعلي مثله أو ضده إذا كانت الفعلية في كليهما بمعنى واحد، و هو كون الحكم بحيث إذا تعلق به القطع لتنجز و استحق على مخالفته العقوبة... و أما إذا اختلف معناها فيهما؛ بأن أريد بها في الحكم المظنون الفعلية غير المنجزة، و في الثاني الفعلية المنجزة، فلا يلزم محذور اجتماع المثلين أو الضدين لتعدد الرتبة فيهما.

(2) أي: مع كون الحكم المظنون فعليا بالمعنى الأول - و هو أنه لو تعلق به العلم لتنجز - «لا يجب على» المولى «الحاكم» بهذا الحكم الفعلي «رفع عذر المكلف برفع جهله لو أمكن» رفع جهله، «أو بجعل لزوم الاحتياط عليه»، يعني: لا يجب رفع عذر المكلف برفع جهله تكوينا مع الإمكان، أو بجعل وجوب الاحتياط عليه حفاظا على الواقع فيما أمكن الاحتياط، كما في غير موارد دوران الأمر بين المحذورين؛ «بل يجوز» مع عدم رفع عذره، و عدم جعل الاحتياط عليه «جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه» أي: إلى ذلك الحكم الفعلي «تارة، و إلى ضده أخرى».

و وجه الترقي بكلمة «بل»: أنه قد يكله المولى إلى الأصول العقلية بلا تصرف جديد، و هذا أوهن من جعل الأصل كوجوب الاحتياط كما لا يخفى.

و كيف كان؛ فلا يلزم اجتماع المثلين أو الضدين؛ فيما لو جعل الظن بالحكم الفعلي غير التام موضوعا لحكم فعلي مماثل أو مضاد للحكم المظنون، فيكون قوله: «بل يجوز» إشارة إلى آثار الفعلية بالمعنى الأول - و هو كون الحكم بمثابة لو علم به لتنجز - إذ بعد فرض عدم تعلق إرادة المولى أو كراهته به، و عدم وجوب رفع جهله تكوينا على المولى،

ص: 87

و لا يكاد يمكن مع القطع به (1) جعل حكم آخر مثله أو ضده كما لا يخفى فافهم (2).

إن قلت (3): كيف يمكن ذلك و هل هو إلاّ إنه يكون مستلزما لاجتماع المثلين أو الضدين ؟

=============

و لا جعل وجوب الاحتياط على المكلف لا مانع من جعل أصل مرخص في الارتكاب، أو أمارة كذلك - مخطئة كانت أم مصيبة - إلى الحكم الواقعي الفعلي بهذا المعنى، فلا منافاة بين هذا الفعلي و بين جعل حكم آخر مثله أو ضده، و بهذا المعنى من الفعلية جمع المصنف بين الحكم الواقعي و الظاهري كما سيجيء إن شاء الله تعالى فانتظر.

و يمكن أن يكون قوله: «و مع ذلك...» الخ إشارة إلى دفع ما ربما يتوهم من أن الحكم الذي تعلق به الظن إذا كان فعليا؛ بحيث لو علم به لتنجز، فلما ذا لا يرفع الحاكم عذر المكلف برفع جهله تكوينا لو أمكن كي يأتي به و يمتثله، أو يجعل له الاحتياط فيما أمكن كي يدركه و لا يفوته ؟

و حاصل الدفع: أنه لا يجب على الحاكم رفع ذلك الجهل، مع أن الحكم فعلي لا نقص فيه سوى أنه لم يتعلق به العلم ليتنجز؛ بل يجوز للحاكم جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه تارة، و إلى خلافه أخرى؛ و ذلك لحكمة مقتضية للجعل هي أهم من درك الواقع.

(1) أي: بالحكم الفعلي يعني: لا يمكن مع القطع جعل حكم آخر مثله أو ضده.

و الوجه في عدم إمكان جعل حكم آخر، مع تعلق القطع بالحكم هو: عدم كون رتبة الحكم الظاهري محفوظة مع القطع؛ لانكشاف الواقع به فجعل حكم آخر معه مستلزم لاجتماع المثلين أو الضدين. بخلاف الظن، فإن رتبة الحكم الظاهري معه محفوظة، فجعله حينئذ غير مستلزم لاجتماع الضدين أو المثلين؛ لتعدد رتبتهما باختلاف الفعلية فيهما.

(2) لعله إشارة إلى عدم صحة فعلية الحكم بالمعنى الأول، أو إشارة إلى عدم إجدائها - بعد تسليمها - في دفع التنافي المذكور، نظرا إلى نظر العرف السطحي؛ و إن كان مجديا في دفع التنافي عقلا، لاختلاف رتبتهما بحسب النظر العقلي الدقي.

(3) يعني: كيف يمكن أن يكون الحكم الواقعي فعليا مع جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه تارة و إلى ضده أخرى ؟ و هل هو إلا مستلزم لاجتماع المثلين أو الضدين ؟ المشار إليه بقوله: «ذلك» هو جعل حكم آخر يعني: كيف يمكن جعل حكم آخر يقتضيه أصل أو أمارة مؤدية إلى الحكم المظنون تارة و إلى ضده أخرى ؟ و ليس هذا إلا مستلزما لاجتماع

ص: 88

قلت (1): لا بأس باجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى (2) - أي لو قطع به من باب الاتفاق (3) لتنجز - مع حكم آخر فعلي في مورده (4) بمقتضى الأصل أو الأمارة (5)، أو دليل أخذ في موضوعه الظن بالحكم بالخصوص به؛ على ما سيأتي من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري و الواقعي.

=============

المثلين في صورة الإصابة، و اجتماع الضدين في صورة الخطأ.

(1) دفع للإشكال المذكور، و حاصل الدفع: ما تقدم في الجواب عن الإشكال السابق من أن اختلاف معنى الفعلية مانع عن لزوم اجتماع المثلين أو الضدين؛ لأن الحكم الواقعي فعلي غير منجز، و الحكم الآخر الذي في مورده بمقتضى الأصل أو الأمارة أو بمقتضى دليل قد أخذ في موضوعه الظن بالحكم فعلي منجز، فلا تنافي بينهما.

(2) أي: الفعلي غير التام.

(3) أي: بدون عناية من المولى لرفع جهل المكلف، أو إيجاب الاحتياط عليه.

(4) أي: في مورد الحكم.

(5) أي: لعدم استلزامه اجتماع إرادتين أو إرادة و كراهة، فإن الفعلي غير التام بمقتضى الواقع لا ينافي الفعلي التام بمقتضى الأمارة و الأصل. و بتعبير آخر: أن مؤدى الأمارة و الأصل حكم فعلي، و يمكن أن يكون الحكم الواقعي فعليا أيضا بمعنى: تنجزه لو علم به، و لا منافاة بين الحكمين الفعليين إذا كانت فعلية أحدهما بهذا المعنى.

و كيف كان؛ فإن الحكم الفعلي غير التام لا ينافي حكم الأصل و الأمارة، و لا حكما أخذ في موضوعه الظن بالحكم الواقعي الفعلي غير التام. و ضمير «به» راجع على الحكم، و «من التحقيق» بيان للموصول في «ما سيأتي».

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من بيان هذا الأمر: بيان امتناع أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم أو مثله أو ضده.

مثال الأول: كأن يقال: «إذا علمت بحرمة الخمر فالخمر حرام».

وجه الامتناع: لزوم الدور؛ لأن الحرمة موقوفة على العلم بها لكونه موضوعا لها، و العلم بها موقوف على وجودها قبل العلم بها، فالعلم موقوف على الحكم، و هو موقوف على العلم، و هذا دور واضح.

و مثال الثاني: كأن يقال: «إذا علمت بحرمة الخمر فالخمر حرام مثل تلك الحرمة المعلومة».

ص: 89

وجه الامتناع: لزوم اجتماع المثلين و هو في الاستحالة كاجتماع الضدين.

و مثال الثالث: كأن يقال: «إذا علمت بحرمة الخمر فالخمر لك حلال».

وجه الامتناع: لزوم اجتماع الضدين.

2 - يصح أخذ القطع بمرتبة من الحكم - كالقطع بالحكم الإنشائي - في موضوع مرتبة أخرى منه - كالمرتبة الفعلية - كأن يقال: إذا علمت بإنشاء وجوب القصر على المسافر وجب عليك فعلا القصر.

و كذا الحال في المثل و الضد؛ بأن يقال: «إذا علمت بإنشاء حرمة الخمر فالخمر حرام عليك فعلا حرمة مماثلة»، أو «إذا علمت بحرمة الخمر إنشاء يباح لك فعلا شربه».

3 - بيان حال الظن بالحكم و أنه كالقطع في استحالة أخذه في موضوع نفس ذلك الحكم، و لكنه يفترق عن القطع بجواز أخذه في موضوع مثل ذلك الحكم أو ضده؛ لعدم لزوم محذور اجتماع المثلين أو الضدين، لأن القطع لما كان موجبا لانكشاف الواقع بتمامه؛ بحيث لا يبقى معه احتمال الخلاف أصلا لم يمكن حينئذ جعل حكم آخر مثلا كان أو ضدا.

هذا بخلاف الظن بالحكم، فإنه لما لم يكن كاشفا عن الواقع كشفا تاما، فلا محالة تكون مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة، فيمكن جعل حكم آخر مماثل للحكم المظنون أو مضاد له، فيصح أن يقال: «إذا ظننت بحرمة الخمر فالخمر حرام مماثلة للحرمة المظنونة أو مباح».

4 - و إشكال عدم الفرق بين الظن و القطع في استلزام كليهما لاجتماع المثلين أو الضدين، فكما لا يصح جعل مثل الحكم المقطوع أو ضده إذا كان فعليا؛ لاستلزامه اجتماع المثلين أو الضدين، فكذلك لا يصح جعل الحكم المظنون أو ضده فيما إذا كان فعليا؛ لاستلزامه اجتماع المثلين أو الضدين؛ مدفوع: بأنه لا مانع من أخذ الظن بحكم فعليّ موضوعا لحكم آخر فعلي مثله أو ضده؛ لاختلاف الحكمين الفعليين.

فإن الفعلي الذي تعلق به الظن و إن كان على فرض وجوده فعليا بمعنى: أنه لو تعلق به العلم لتنجز، و لكنه غير منجز؛ لعدم تعلق العلم به، و الفعلي الذي قد أخذ الظن موضوعا له فعلي منجز لتحقق موضوعه، فلا تنافي بينهما من جهة اختلاف المرتبة، فلا يلزم اجتماع المثلين أو الضدين.

5 - إن قلت: كيف يمكن أن يكون الحكم الواقعي فعليا مع جعل أصل أو أمارة

ص: 90

الأمر الخامس: في وجوب الموافقة الالتزامية

اشارة

الأمر الخامس (1):

هل تنجز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملا يقتضي موافقته التزاما، و التسليم له اعتقادا و انقيادا؟ كما هو اللازم في الأصول الدينية و الأمور الاعتقادية؛ مؤدية إليه تارة، و إلى ضده أخرى؛ إذ ليس هذا إلا مستلزما لاجتماع المثلين أو الضدين ؟

=============

قلت: لا بأس باجتماع الواقعي الفعلي بالمعنى التعليقي مع حكم آخر فعلي في مورده بمقتضى الأصل أو الأمارة.

وجه عدم البأس: هو ما تقدم من اختلاف الرتبة بين الحكمين الفعليين، فلا يلزم اجتماع المثلين أو الضدين؛ إذ يعتبر في استحالة اجتماع المثلين أو الضدين: اتحاد الحكمين المتماثلين أو المتضادين من حيث الرتبة أيضا؛ كاتحادهما من حيث الزمان و الموضوع و نحوهما كما في علم الميزان.

6 -

رأي المصنف «قدس سره»:

1 - عدم إمكان أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم، و لا في موضوع مثل ذلك الحكم، و لا في موضوع ضده؛ للزوم الدور و اجتماع المثلين أو الضدين، و الكل محال عقلا.

2 - جواز أخذ القطع بحكم في مرتبة في موضوع نفس ذلك الحكم أو مثله أو ضده في مرتبة أخرى.

3 - عدم أخذ الظن بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم.

4 - إمكان أخذ الظن بحكم في موضوع مثل ذلك الحكم أو ضده.

في وجوب الموافقة الالتزامية

(1) الغرض من عقد هذا الأمر: هو التعرض لوجوب الموافقة الالتزامية و عدمه بعد حكم العقل بوجوب الموافقة العملية.

و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام من الالتزام فنقول: إنه لا شك في وجوب الالتزام بمعنى: الإيمان بما جاء به النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» أي:

الالتزام بكل ما جاء به النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» من الأصول و الفروع إنما هو من لوازم الإيمان بنبوّته و رسالته «صلى الله عليه و آله و سلم»، و هذا مما لا نزاع فيه.

و إنما النزاع بوجوب الالتزام بمعنى: عقد القلب على الأحكام الشرعية؛ كالوجوب و الحرمة و غيرهما من الأحكام الخمسة. ثم ما ذكره المصنف - حيث قال: في تفسير الموافقة الالتزامية: «و التسليم له اعتقادا و انقيادا» - و إن كان ينطبق على المعنى الأول؛ إلا

ص: 91

بحيث كان له امتثالان و طاعتان، إحداهما: بحسب القلب و الجنان، و الأخرى:

بحسب العمل بالأركان، فيستحق العقوبة على عدم الموافقة التزاما و لو مع الموافقة عملا، أو لا يقتضي ؟ فلا يستحق العقوبة عليه؛ بل إنما يستحقها على المخالفة العملية.

الحق هو الثاني لشهادة الوجدان (1) الحاكم في باب الإطاعة و العصيان بذلك، إنه يريد منه الالتزام بالمعنى الثاني و هو عقد القلب؛ و ذلك لخروج المعنى الأول عن محل النزاع قطعا. هذا مخلص الكلام في تحرير ما هو محل الكلام في المقام.

=============

ثم الفرق بين الموافقة العملية و الموافقة الالتزامية هو: اختصاص الأولى بالأحكام الإلزامية كالوجوب و الحرمة، هذا بخلاف الموافقة الالتزامية، فإنها لا تختص بالأحكام الإلزامية، بل تجري في غيرها.

و كيف كان؛ فيقع الكلام في أنه هل تجب الموافقة الالتزامية كما تجب الموافقة العملية عقلا؛ «بحيث كان له امتثالان و طاعتان، إحداهما: بحسب القلب و الجنان، و الأخرى:

بحسب العمل بالأركان، فيستحق العقوبة على عدم الموافقة التزاما و لو مع الموافقة عملا، أو لا يقتضي ؟».

فحاصل كلام المصنف في المقام هو: أن تنجز التكليف هل يقتضي عقلا وجوب إطاعتين إحداهما: عملية و الأخرى: التزامية، و حرمة مخالفتين كذلك أم لا يقتضي إلا وجوب إطاعة واحدة و هي العملية و حرمة مخالفة كذلك ؟

و قد اختار المصنف عدم وجوب الموافقة الالتزامية حيث قال: «الحق هو الثاني» يعني:

عدم اقتضاء تنجز التكليف وجوب الموافقة الالتزامية.

(1) هذا استدلال على ما اختاره المصنف من عدم اقتضاء تنجز التكليف لوجوب الموافقة الالتزامية. و حاصله: أن مناط استحقاق العقوبة - و هو هتك حرمة المولى و الطغيان عليه - مفقود في المخالفة الالتزامية؛ إذ المفروض: أن الغرض من التكليف - و هو إحداث الداعي في نفس العبد إلى إيجاد ما فيه المصلحة الداعية إلى التشريع - متحقق على فرض الموافقة العملية و إن لم تتحقق الموافقة الالتزامية؛ لأن العقل لا يرى العبد الممتثل عملا تحت الخطر و إن لم يكن ملتزما لحكم المولى اعتقادا.

نعم؛ عدم التزامه اعتقادا بتكليف المولى يوجب نقصانه عن كمال العبودية؛ لا انحطاطه عن أصلها؛ لكن النقصان عن مزايا العبودية و عدم الفوز بها لا يوجب استحقاق العقوبة، لما عرفت من أن سبب استحقاقها هو الهتك و عدم المبالاة بأحكام المولى، و هو مفقود في من يمتثل أحكام المولى عملا، و لا يوافقها التزاما. و هذا ما أشار

ص: 92

و استقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سيده إلا المثوبة دون العقوبة، و لو لم يكن مستسلما و ملتزما به و معتقدا و منقادا له، و إن (1) كان ذلك يوجب تنقيصه و انحطاط درجته لدى سيده؛ لعدم اتصافه بما يليق أن يتصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه و الانقياد لها، و هذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لأمره أو نهيه التزاما مع موافقته عملا، كما لا يخفى.

ثم لا يذهب عليك (2): أنه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية، لو كان المكلف إليه بقوله: «و استقلال العقل بعدم استحقاق العبد...» الخ.

=============

(1) كلمة «إن» وصلية، يعني: «و إن كان ذلك» أي: عدم التسليم و الالتزام و الانقياد «يوجب تنقيصه و انحطاط درجته» أي: العبد «لدى سيده» المطلع على حاله. هذا ما يظهر من كلام المصنف؛ و لكن الظاهر من الآيات و الروايات هو لزوم الالتزام شرعا.

فمن الآيات: قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتٰابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتٰابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ (1)، فإن الإيمان بالكتاب عبارة عن الالتزام بأحكامه أصولا و فروعا.

و من الروايات: ما عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله تعالى: إِنَّ اَللّٰهَ وَ مَلاٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً قال:

«الصلاة عليه و التسليم له في كل شيء جاء به»(2).

و من المعلوم: أن أحدا لو قال: أنا ملتزم بأحكام النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و لكن أوافقه عملا لم يكن ممن يسلم له «صلى الله عليه و آله و سلم»؛ إلا إن المستفاد من الآيات و الروايات: هو لزوم الالتزام بالمعنى الأول أعني التسليم بكل ما جاء به النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و هو خارج عن محل الكلام كما عرفت.

(2) المقصود من هذا الكلام: هو عدم الملازمة بين وجوب الموافقة الالتزامية - على تقدير تسليمه - و بين وجوب الموافقة العملية و انفكاكهما في بعض الموارد، كما في دوران الأمر بين المحذورين، ضرورة: أن الموافقة القطعية العملية غير مقدورة للعبد مع تمكنه من الموافقة الالتزامية فيه؛ لإمكان الالتزام بما هو حكم الله تعالى في الواقعة؛ إذ لا يشترط في الموافقة الالتزامية معرفة الحكم الملتزم به بعينه؛ بل يكفي في تحققها معرفة الحكم و لو إجمالا، فيعقد القلب عليه، فلا ملازمة بين الإطاعتين، فتجب الموافقة

ص: 93


1- النساء: 136.
2- بحار الأنوار 88/204:2، عن المحاسن.

متمكنا منها (1) لوجب، و لو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعية عملا، و لا يحرم المخالفة القطعية عليه كذلك أيضا لامتناعهما؛ كما إذا علم إجمالا بوجوب شيء أو حرمته للتمكن من الالتزام بما هو الثابت واقعا، و الانقياد له و الاعتقاد به بما هو الواقع و الثابت؛ و إن لم يعلم أنه الوجوب أو الحرمة.

و إن أبيت (2) إلا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه، لما كانت موافقته القطعية الالتزامية حينئذ ممكنة، و لما (3) وجب عليه الالتزام بواحد قطعا، فإن محذور الالتزام الالتزامية، و لا تجب الموافقة العملية القطعية، و لا تحرم المخالفة كذلك، لعدم القدرة عليهما.

=============

(1) أي: من الموافقة الالتزامية. قوله: «لامتناعهما» تعليل لعدم وجوب الامتثال القطعي العملي، و عدم الحرمة كذلك يعني: أن عدم القدرة أوجب ارتفاع الوجوب عن الموافقة العملية القطعية و الحرمة عن المخالفة، كذلك قوله: «للتمكن» تعليل لقوله: «تجب» يعني: تجب الموافقة الالتزامية - و لو مع عدم التمكن من الموافقة العملية - للقدرة على الموافقة الالتزامية؛ بأن يلتزم بالحكم الثابت واقعا و إن لم يعلم أنه خصوص الوجوب أو الحرمة؛ بل يكفي الالتزام بما هو عليه واقعا.

(2) المقصود من هذا الكلام: هو فرض عدم تمكن العبد من الموافقة الالتزامية كما لا يتمكن من الموافقة العملية، و ذلك فيما إذا وجب الالتزام بحكم بخصوص عنوانه الخاص من الوجوب أو الحرمة، و لا يكفي الالتزام بالجامع بين الوجوب و الحرمة، و لا بما هو الثابت بالواقع.

و بعبارة أخرى: و إن أبيت إلا عن لزوم الموافقة الالتزامية التفصيلية لم تجب حينئذ الموافقة الالتزامية في دوران الأمر بين المحذورين، و ذلك لعدم تمكن المكلف منها؛ إذ المفروض: عدم كفاية الالتزام الإجمالي و اعتبار العلم التفصيلي بالحكم الموجب؛ لانتفاء القدرة على كل من الموافقة الالتزامية و العملية، فتسقط الموافقة الالتزامية كالعملية.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(3) عطف على قوله: «لما كانت»، و قد ذكر المصنف جملة من اللوازم المترتبة على وجوب الالتزام بخصوص الحكم الواقعي، الأول: ما أشار إليه بقوله: «لما كانت موافقته...» الخ. و الثاني: ما أشار إليه بقوله: «لما وجب عليه الالتزام بواحد قطعا».

و حاصله: أنه لا يجب على المكلف الالتزام بشيء من الحكمين لا خصوص الوجوب و لا خصوص الحرمة؛ لإمكان أن يكون الحكم الملتزم به ضد الحكم الواقعي، و من

ص: 94

بضد التكليف عقلا (1) ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به بداهة (2)، مع (3) ضرورة: أن التكليف - لو قيل باقتضائه للالتزام - لم يكد يقتضي إلا الالتزام بنفسه عينا لا الالتزام به أو بضده تخييرا.

=============

المعلوم: أن محذور الالتزام بضد الحكم الواقعي - و هو التشريع - ليس بأقل من محذور عدم الالتزام بحكم رأسا؛ بل لا محذور في عدم الالتزام، لارتفاع وجوبه بعدم القدرة عليه، فكما يكون الالتزام بحكم الله حسنا، فكذلك يكون الالتزام بغير حكمه تعالى قبيحا؛ لأنه تشريع محرم.

(1) قيد لمحذور الالتزام، و المراد من المحذور: هو التشريع.

(2) قيد «ليس»، و المراد بمحذور عدم الالتزام به: هو المعصية.

(3) هذا إشارة إلى اللازم الثالث من اللوازم المترتبة على وجوب الالتزام بخصوص الحكم الواقعي، و حاصله: أنه يرد على وجوب الأخذ بأحدهما المعين من خصوص الوجوب أو الحرمة إشكالان:

أحدهما: محذور التشريع؛ لاحتمال كون الحكم الملتزم به ضد الحكم الواقعي، و هو الذي أشار إليه بقوله: «فإن محذور الالتزام...» الخ.

ثانيهما: أن التكليف إذا اقتضى وجوب الالتزام فلا يقتضي إلا الالتزام بنفسه عينا؛ لا الالتزام به أو بضده تخييرا.

و الحاصل: أنه - بناء على عدم كفاية الموافقة الالتزامية الإجمالية - لا بد من الالتزام بارتفاع وجوبها؛ كارتفاع وجوب الموافقة العملية.

و توهّم: أنه لا بد إما من وجوب الالتزام بكلا الحكمين في الدوران بين المحذورين - الوجوب و الحرمة - لتوقف الموافقة القطعية الالتزامية عليه، أو الالتزام بأحدهما بالخصوص تخييرا؛ لإناطة الموافقة الاحتمالية به فاسد.

أما الأول: فلعدم معقوليته؛ إذ مع العلم بعدم كون أحدهما مرادا له «سبحانه و تعالى» لا ينقدح في نفس العاقل التزام جدي بكل واحد منهما بعينه، هذا مضافا إلى استلزامه - بعد تسليمه - للمخالفة القطعية؛ لعلمه بعدم كون أحدهما حكما له تعالى.

و أما الثاني: فلدورانه بين المحذورين؛ لأنه إذا اختار الوجوب و التزم به بعينه، فإن كان الحكم الواقعي هو الوجوب أيضا، فلا بأس بهذا الالتزام، و لم يتوجه إليه محذور، و إن كان هو الحرمة فقد شرع و وقع في محذور التشريع. و كذا القول إذا اختار الحرمة و التزم بها، فالالتزام بأحد الحكمين عينا إما واجب و إما حرام.

ص: 95

و من هنا (1) قد انقدح: إنه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الأصول الحكمية (2) أو الموضوعية (3) في أطراف العلم لو كانت (4) جارية مع قطع النظر عنه.

كما لا يدفع بها (5) محذور عدم الالتزام به؛ بل الالتزام بخلافه لو قيل بالمحذور فيه

=============

جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي

(1) يعني: و من اقتضاء التكليف المعلوم وجوب الالتزام بنفسه و بعنوانه - بناء على أصل الاقتضاء - دون التخيير بينه و بين ضده قد ظهر: أن وجوب الالتزام ليس مانعا عن جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي، إذا كانت بنفسها - مع قطع النظر عن وجوب الموافقة الالتزامية - جارية فيها؛ بأن تمت أدلتها بحيث تشمل أطراف العلم الإجمالي، و لم يمنع عن جريانها مانع آخر.

و الوجه فيه ما عرفته من سقوط وجوب الالتزام بامتناع امتثاله.

و بالجملة: فبعد البناء على اختصاص وجوب الالتزام بالحكم المعلوم تفصيلا لا يكون وجوب الالتزام - فيما لا يعلم التكليف تفصيلا - ثابتا؛ حتى يمنع عن جريان الأصول.

(2) كأصالة الإباحة فيما أمره بين الوجوب و الحرمة؛ كالدعاء عند رؤية الهلال إذا فرض دوران حكمه الكلي بين الوجوب و الحرمة.

(3) كاستصحاب عدم تعلق الحلف لا فعلا و لا تركا بوطء المرأة المعيّنة في زمان معيّن، فيما إذا ترددت من وجب وطيها بالحلف من وجب ترك وطيها به.

(4) فلو لم تجر فيها الأصول لمانع آخر غير وجوب الالتزام - كالعلم الإجمالي على قول أو المخالفة العملية - كان عدم جريانها مستندا أيضا إلى ذلك المانع؛ لا إلى وجوب الالتزام، فوجوب الالتزام ليس مانعا عن جريان الأصول؛ «لو كانت جارية، مع قطع النظر عنه» أي: عن وجوب الالتزام.

(5) أي: بالأصول الحكمية و الموضوعية. هذا إشارة إلى ضعف ما صنعه الشيخ الأنصاري «قدس سره» في المقام؛ من دفع محذور عدم الالتزام بالحكم الواقعي في دوران الأمر بين المحذورين بوسيلة الأصول العملية.

و حاصل ما أفاده الشيخ «قدس سره»: أنه فرق بين الأصول في الشبهة الحكمية، و بين الأصول في الشبهة الموضوعية - بناء على لزوم الالتزام بالحكم - بأن الأصول الحكمية لا تجري في أطراف العلم الإجمالي؛ لأن جريانها موجب للمخالفة العملية.

هذا بخلاف الأصول الموضوعية، فإنها تجري و تخرج مجراها عن تحت وجوب الالتزام؛ لأنها رافعة لموضوع وجوب الالتزام، و هو الحكم الذي يجب الالتزام به، مثلا:

المرأة المردّدة بين من حرم وطيها بالحلف و بين من وجب وطيها به تخرج عن موضوع

ص: 96

حينئذ أيضا إلا على وجه دائر (1)؛ لأن جريانها موقوف على محذور في عدم الالتزام اللازم من جريانها، و هو موقوف على جريانها بحسب الفرض.

=============

حكمي التحريم و الوجوب رأسا بوسيلة أصالة عدم تعلق الحلف وطيها، و عدم تعلقه بترك وطيها.

فلا يلزم من جريانها طرح الحكم و رفعه عن موضوعه حتى يترتب عليه محذور عدم الالتزام به بسبب طرحه؛ بل يلزم من جريانها ارتفاع الموضوع، حيث إن الأصول الموضوعية ناظرة إلى موضوعاتها بإثباتها أو نفيها، و من المعلوم: قصور أدلة الأحكام عن هذا النظر، حيث إنها في مقام الحكم للموضوع على فرض وجوده.

و عليه: فإذا جرى استصحاب عدم تعلق الحلف بوطء المرأة المعيّنة، أو استصحاب عدم تعلقه بتركه لم يكن ذلك طرحا لدليل وجوب الوفاء باليمين؛ بل تخرج المرأة حينئذ عن المرأة التي تعلق بها، كما عرفت. فالأصول الموضوعية رافعة لموضوع وجوب الالتزام.

هذا بخلاف الشبهة الحكمية، فإن الأصل فيها معارض لنفس الحكم المعلوم بالإجمال، و ليس مخرجا لمجراه عن موضوعه حتى لا ينافيه جعل الشارع. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما أفاده الشيخ «قدس سره» من الفرق بين الأصول الحكمية و الموضوعية.

(1) هذا ردّ من المصنف على الشيخ الأنصاري «قدس سره».

و حاصل ما أفاده المصنف في ردّ الشيخ الأنصاري: أن محذور عدم الالتزام بالحكم الواقعي - بناء على وجوب الالتزام - لا يدفع بإجراء الأصول الحكمية أو الموضوعية؛ لأن جريان الأصل لدفع محذور عدم الالتزام بالتكليف مستلزم للدور؛ و ذلك لأن جريان الأصل موقوف على عدم ترتب محذور في عدم الالتزام بالحكم الواقعي، بسبب جريان الأصل؛ إذ لو ترتب على عدم الالتزام به محذور لم تجر الأصول للعلم حينئذ بمخالفة بعضها للواقع.

و عدم المحذور موقوف أيضا على جريانها: إذ المقصود: نفي المحذور بجريانها الرافع لموضوع وجوب الالتزام، فجريان الأصول موقوف على عدم المحذور، و عدم المحذور متوقف على جريانها.

فالمتحصل: أن جريان الأصل يتوقف على عدم وجوب الالتزام؛ لأنه مناف له و عدم ثبوته يتوقف على جريان الأصل فيلزم الدور.

ص: 97

اللهم إلا أن يقال (1): إن استقلال العقل بالمحذور فيه إنما يكون فيما إذا لم يكن هناك ترخيص في الإقدام و الاقتحام في الأطراف، و معه لا محذور فيه؛ بل و لا في الالتزام بحكم آخر.

إلاّ إن الشأن (2) في جواز جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي، مع عدم ترتب أثر عملي عليها، مع أنها أحكام عملية كسائر الأحكام الفرعية.

=============

(1) هذا استدراك على قوله: «كما لا يدفع بها محذور عدم الالتزام به»، و دفع للدور المذكور، و تصحيح لكلام الشيخ الناظر إلى ارتفاع حكم العقل بلزوم الالتزام بالتكليف المحتمل.

و حاصل ما أفاده في هذا الاستدراك - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 141» - أن حكم العقل بلزوم الموافقة الالتزامية إن كان منجزا غير معلق على شيء؛ بأن يكون العلم الإجمالي بالتكليف علّة تامة لفعليته الحتمية الموجبة لحكم العقل بلزوم الالتزام به كان للدور المذكور حينئذ مجال. و أما إذا كان حكم العقل بلزوم الموافقة الالتزامية معلقا على عدم مانع؛ كالترخيص في ارتكاب الأطراف و جعل الحكم الظاهري على خلاف الحكم المعلوم بالإجمال ارتفع محذور عدم الالتزام ببركة الأصول بدون غائلة الدور؛ لأن الأصول ترفع موضوع حكم العقل بلزوم الالتزام؛ إذ موضوع حكم العقل معلق على عدم جريان الأصول.

و أما جريان الأصول: فلا يتوقف على شيء أصلا فلا دور أصلا.

و لهذا قال المصنف: «و معه لا محذور فيه» أي: و مع الترخيص الكاشف عن عدم فعلية الواقع لا محذور في عدم الالتزام؛ بل و لا محذور في الالتزام بحكم آخر مغاير للحكم الواقعي، و هو الحكم الظاهري الذي يقتضيه الأصل؛ كالالتزام بحلية شرب التتن التي هي حكم فعلي ظاهري يقتضيه الأصل مع فرض حرمته واقعا.

(2) و حاصل الكلام في المقام: أنه لا إشكال في جريان الأصول من ناحية حكم العقل بلزوم الالتزام؛ لكون حكم العقل بلزوم الالتزام تعليقيا، لكن إنما الإشكال في جريان الأصول لأجل عدم المقتضي في أطراف العلم الإجمالي؛ و ذلك لما ثبت في محله من اعتبار الأثر العملي في جريان الأصول؛ لأنها أحكام عملية كسائر الأحكام الفرعية، فبدون الأثر العملي لا مقتضي لجريانها، و من المعلوم: عدم ترتب أثر عملي على جريانها في المقام؛ لأن المكلف في موارد دوران الأمر بين المحذورين إما فاعل و إما تارك، و على كل واحد منهما يحتمل كل من الموافقة و المخالفة، فلا يوجب جريان الأصل أمرا زائدا

ص: 98

مضافا: إلى عدم شمول أدلتها لأطرافه (1)؛ للزوم التناقض في مدلولها (2) على تقدير شمولها، كما ادّعاه شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه»، و إن كان (3) محل تأمل و نظر، فتدبر جيدا.

=============

على ما يكون المكلف عليه تكوينا من الفعل أو الترك، فلا أثر للأصول فيما دار حكمه بين الوجوب و الحرمة.

و قد أشار إلى وجه عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي بقوله: «مع عدم ترتب أثر عملي عليها».

(1) أي: لأطراف العلم الإجمالي. هذا إشارة إلى وجه آخر لعدم جريان الأصول، و مرجع هذا الوجه إلى قصور أدلة الأصول عن الشمول لأطراف العلم الإجمالي.

و حاصل هذا الوجه: هو لزوم التناقض بين صدر أدلة الاستصحاب و ذيلها، على فرض شمولها لأطراف العلم الإجمالي؛ لأن مقتضى مقتضى الصدر - و هو قولهم «عليهم السلام» -: «لا تنقض اليقين بالشك» - عدم جواز نقض اليقين بالطهارة، فيما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد أطراف العلم الإجمالي، و مقتضى الذيل - و هو قولهم «عليهم السلام»: «لكن تنقضه بيقين آخر - هو وجوب نقض اليقين بالطهارة بالعلم الإجمالي المذكور؛ لكونه فردا ليقين آخر، و من المعلوم: أن الإيجاب الجزئي - و هو النقض في الجملة - يناقض السلب الكلي و هو عدم نقض شيء من أفراد اليقين بالشك، مثلا: إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين، فاستصحاب طهارة كل منهما - بمقتضى عدم جواز نقض اليقين بها بالشك في نجاسة أحدهما - يناقض وجوب البناء على نجاسة واحد منهما بمقتضى العلم الإجمالي بها، و مع تناقض الصدر و الذيل و عدم مرجح لأحدهما يسقطان معا، فيبقى جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي خاليا عن الدليل.

(2) أي: مدلول الأدلة.

(3) أي: و إن كان ما ذكره الشيخ «قدس سره» «محل تأمل و نظر»؛ لإمكان أن تكون فعلية الأحكام الواقعية موقوفة على العلم التفصيلي، و يكون حال العلم الإجمالي حال الشبهة البدوية، كما التزموا به في مورد الشبهة غير المحصورة، فإنه مع العلم الإجمالي بوجود الحكم قد أذن الشارع بارتكاب الأطراف. و قال المصنف في تعليقته على الكتاب: بجريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي.

ص: 99

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان ما هو محل الكلام من الالتزام: لا شك في وجوب الالتزام بمعنى التسليم و الإيمان بما جاء به النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» من الأصول و الفروع؛ لأنه من لوازم الإيمان بنبوّته و رسالته، و إنما الكلام و النزاع في وجوب الالتزام بمعنى عقد القلب على الأحكام الشرعية؛ كالوجوب و الحرمة و نحوهما من الأحكام الخمسة.

ثم الفرق بين الموافقة العملية و الموافقة الالتزامية هو: اختصاص الأولى بالأحكام الالتزامية دون الثانية.

2 - هل تجب الموافقة الالتزامية كما تجب الموافقة العملية عقلا؛ بأن يكون هناك امتثالان و طاعتان إحداهما: بحسب القلب و الجنان، و الأخرى: بحسب العمل بالأركان، فيستحق العقوبة على عدم الموافقة التزاما؛ و لو مع الموافقة عملا. أو لا؟

و قد اختار المصنف عدم وجوب الموافقة الالتزامية، و استدل عليه: بشهادة الوجدان؛ لأن مناط استحقاق العقوبة - و هو هتك حرمة المولى و الطغيان عليه - مفقود في المخالفة الالتزامية.

و ما يظهر من بعض الآيات و الروايات من وجوب الالتزام هو الالتزام بالمعنى الأول، الخارج عن محل الكلام؛ دون الالتزام بالمعنى الثاني.

3 - إنه لا ملازمة بين وجوب الموافقة الالتزامية، و بين الموافقة العملية - بناء على وجوب الموافقة الالتزامية - و ذلك لانفكاكهما في بعض الموارد كدوران الأمر بين المحذورين، حيث لا تجب الموافقة العملية لكونها غير مقدورة للمكلف، و تجب الموافقة الالتزامية لكونها مقدورة له.

نعم؛ لا يقدر المكلف على الموافقة الالتزامية أيضا فيما إذا وجب الالتزام بكل حكم بعنوانه الخاص من الوجوب أو الحرمة أو نحوهما، فلا تجب حينئذ الموافقة الالتزامية في دوران الأمر بين المحذورين؛ لعدم قدرة المكلف على الموافقة الالتزامية، فتسقط كالموافقة العملية.

4 - أن لزوم الالتزام - على تقدير لزومه - لا يكون مانعا عن إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي لو كانت جارية، مع قطع النظر عنه بأن تمت أدلتها بحيث تشمل أطراف العلم الإجمالي، و لم يمنع عن جريانها مانع آخر كالمخالفة العملية. و الوجه فيه ما عرفت؛ من سقوط وجوب الالتزام بامتناع امتثاله. نعم؛ لو كان هناك مانع آخر

ص: 100

عن جريانها كان عدم جريانها مستندا إلى ذلك المانع لا إلى وجوب الالتزام.

5 - الإشكال على ما ذكره الشيخ الأنصاري في المقام؛ من دفع محذور عدم الالتزام بالحكم الواقعي في دوران الأمر بين المحذورين بوسيلة الأصول العملية الجارية، فتخرج هذه الأصول مجراها عن موضوع الحكم ففي المرأة المردّدة بين من حرم وطيها بالحلف و بين وجب وطيها به تجري أصالة عدم تعلق الحلف بوطيها، و عدم تعلقه في ترك وطيها، و تخرج المرأة عن موضوع حكمي التحريم و الوجوب، فينتفي الحكم بوجوب الالتزام بانتفاء موضوعه.

و حاصل إشكال المصنف عليه: أن إجراء الأصول لا يكاد يدفع محذور عدم الالتزام بالحكم الواقعي؛ لأن جريان الأصل مستلزم للدور؛ لأن جريان الأصل يتوقف على عدم المحذور، و عدم المحذور يتوقف على جريان الأصل.

6 - و يمكن أن يقال في دفع الدور المذكور: إن للدور المذكور مجال إذا كان حكم العقل بلزوم الالتزام منجزا غير معلق على شيء.

و أما إذا كان حكم العقل بلزوم الموافقة الالتزامية معلقا على عدم مانع؛ كالترخيص من الشارع في ارتكاب أطراف العلم الإجمالي، فيرتفع محذور عدم الالتزام ببركة الأصول بدون لزوم الدور؛ لأن الأصول حينئذ ترفع موضوع حكم العقل بلزوم الالتزام؛ إذ موضوع حكم العقل معلق على عدم جريان الأصل.

إلا إن الشأن في جواز جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي؛ لعدم شمول أدلة الأصول أطراف العلم الإجمالي؛ «للزوم التناقض في مدلولها»، بتقريب: أنه لو شمل قوله «عليه السلام»: «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه» لأطراف العلم الإجمالي بأن كان كل من المشتبهين داخلا في صدر الرواية؛ - لكونه مشكوك الحرمة - لزم أن يكون كل منهما حلالا للشك في حرمته و حراما للعلم الإجمالي بالحرمة، فيشمله الصدر و الذيل فيلزم التناقض.

7 -

رأي المصنف «قدس سره»:

1 - عدم وجوب الموافقة الالتزامية.

2 - بناء على وجوب الموافقة الالتزامية وجبت الموافقة الالتزامية؛ حتى مع عدم لزوم الموافقة العملية، كما في دوران الأمر بين المحذورين.

3 - جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي كما في تعليقته على الكتاب.

ص: 101

الأمر السادس: في قطع القطاع

اشارة

الأمر السادس (1):

لا تفاوت في نظر العقل أصلا فيما يترتب على القطع من الآثار عقلا، بين أن يكون حاصلا بنحو متعارف، و من سبب ينبغي حصوله منه، أو غير متعارف لا ينبغي

=============

في قطع القطّاع

(1) المقصود من عقد هذا الأمر السادس: هو التنبيه على أمرين:

أحدهما: أنه لا فرق في حجية القطع الطريقي المحض بين قطع القطاع و بين غيره.

ثانيهما: أنه لا فرق في حجية القطع الطريقي بين الحاصل من المقدمات العقلية و بين غيره.

و قبل الخوض في البحث عن حال قطع القطاع لا بد من تحرير محل النزاع، و تعيين ما هو المراد من القطاع.

فنقول: إن للقطّاع معنيين:

أحدهما: هو المعنى المبالغي؛ لأن القطاع صيغة مبالغة كضرّاب مثلا، فيكون بمعنى كثير القطع، كما تقتضيه صيغة المبالغة.

ثانيهما: بمعنى سريع القطع بمعنى: من يحصل له القطع من أسباب لا ينبغي حصوله منها، يعني: من يحصل له القطع من الأسباب غير المتعارفة. و كلمة القطاع و إن كانت ظاهرة في المعنى الأول؛ و لكن المراد منه في المقام هو المعنى الثاني.

إذا عرفت ما هو المراد من قطع القطاع فاعلم: أن المصنف يقول: لا تفاوت في نظر العقل فيما يترتب على القطع من الآثار عقلا - و هي التنجيز عند الإصابة و التعذير عند الخطأ - بين أن يكون القطع حاصلا من أسباب متعارفة ينبغي حصوله منها، أو غير متعارفة لا ينبغي حصوله منها؛ لأن العقل يحكم بوجوب متابعة القطع على كلا التقديرين.

فالقطع الطريقي المحض يكون حجة في نظر العقل، من دون فرق في ذلك بين أسبابه المتعارفة و غيرها؛ لأن المناط في ترتب آثار الحجية على القطع هو انكشاف الواقع تمام الانكشاف.

فالمتحصل: أن موضوع حكم العقل بالحجية هو مطلق العلم سواء حصل من سبب ينبغي حصوله منه لمتعارف الناس، أم حصل من سبب لا ينبغي حصوله منه للمتعارف.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية»:

قوله: «عقلا» قيد «للآثار» و المراد بالآثار العقلية المترتبة على القطع: هي تنجيز

ص: 102

حصوله منه؛ كما هو الحال غالبا في القطّاع، ضرورة (1): أن العقل يرى تنجز التكليف بالقطع الحاصل مما لا ينبغي حصوله، و صحة مؤاخذة قاطعه على مخالفته، و عدم صحة الاعتذار عنها بأنه حصل كذلك (2)، و عدم صحة المؤاخذة مع القطع بخلافه، و عدم حسن الاحتجاج عليه بذلك، و لو مع التفاته إلى كيفية حصوله.

=============

التكليف و إيجابه المثوبة على الطاعة عند الإصابة، و كونه عذرا عند الخطأ، و سببيّته لاستحقاق العقوبة على المخالفة عند الإصابة.

وجه التقييد بقوله: «غالبا»: هو إمكان حصول القطع للقطاع من الأسباب المتعارفة، التي ينبغي حصول القطع منها، فيكون القطاع كغيره من القاطعين في أنه لا إشكال في حجية قطعه، كعدم الإشكال في حجية قطع غيره.

(1) تعليل لقوله: «لا تفاوت»، و حاصله: أن العقل الحاكم بحجية القطع لا يفرق في اعتباره بين أفراده و أسبابه، فيرى تنجز التكليف بالقطع من أي سبب حصل؛ إذ المناط في الحجية عند العقل هو انكشاف الواقع، و هو حاصل للقطاع بحسب نظره كحصوله لغيره من القاطعين.

(2) أي: حصل القطع من أمر لا ينبغي حصوله منه، و الحاصل: أن العقل يرى عدم صحة اعتذار العبد عن مخالفة القطع بكونه حاصلا من سبب غير متعارف، فلو كان القطع الطريقي المعتبر خصوص ما يحصل من الأسباب المتعارفة لكان هذا الاعتذار صحيحا.

قوله: «و عدم صحة المؤاخذة» عطف على «تنجز التكليف»، و هو أثر آخر من آثار حجية القطع الطريقي و حاصله: أن القطع إذا أخطأ كان عذرا في فوات الواقع، و هذا الأثر مترتب على قطع القطاع.

قوله: «و عدم حسن الاحتجاج عليه بذلك» أيضا عطف على «تنجز التكليف» يعني:

أن العقل يرى عدم صحة احتجاج المولى على القاطع العامل بقطعه الحاصل من سبب غير متعارف بأنك لما ذا عملت به مع حصوله من سبب غير متعارف ؟ «و لو مع التفاته» أي: و لو مع التفات القاطع إلى كيفية حصول قطعه بأنه حصل من سبب غير متعارف؛ لأن المناط في حجيته عقلا هو كشفه عن الواقع، و هذا المناط موجود في قطع القطاع.

هذا كله في قطع القطاع إذا أخذ طريقا إلى الحكم.

و أما إذا أخذ في موضوع الحكم فلا يكون حجة مطلقا؛ بل إنه يتبع في اعتباره دليل ذلك الحكم الذي أخذ القطع في موضوعه. هذا ما أشار إليه بقوله: «نعم ربما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع».

ص: 103

نعم؛ ربما يتفاوت الحال (1) في القطع المأخوذ في الموضوع شرعا، و المتبع في عمومه و خصوصه دلالة دليله (2) في كل مورد، فربما يدل على اختصاصه (3) بقسم في مورد (4)، و عدم اختصاصه (5) به في آخر على اختلاف (6) الأدلة، و اختلاف

=============

(1) أي: حال حجية القطع المأخوذ في الموضوع شرعا، فقوله: «نعم؛ ربما...» الخ.

استدراك على ما ذكره من عدم التفاوت في حجية القطع في نظر العقل بين أسبابه المتعارفة و غيرها، و حاصل الاستدراك: أنه قد يتفاوت حال حجية القطع المأخوذ في موضوع الحكم شرعا، فلا يكون حجة مطلقا أي: من أي سبب حصل و إن كان سببا غير متعارف؛ بل إنما يكون حجة إذا حصل من سبب متعارف أو على وجه مخصوص، و المدار في عموم و خصوص سبب القطع الموجب لحجيته هو دلالة الدليل الذي أخذ القطع دخيلا في موضوع الحكم؛ و لو كانت تلك الدلالة بمعونة القرائن التي منها مناسبة الحكم و الموضوع.

(2) أي: دليل الحكم. و الضمير في عمومه و خصوصه راجع على السبب.

(3) يعني: فربما يدل دليل الحكم على اختصاص الحكم بموضوع أخذ فيه القطع الحاصل من سبب خاص، لا من كل سبب، كما في العلم بالأحكام الشرعية - الناشئ من أدلة الفقه المعهودة - المأخوذ في موضوع جواز التقليد، فإن مطلق العلم بالأحكام الشرعية - و لو من الرمل و الجفر - ليس موضوعا لجواز التقليد؛ بل الموضوع له هو القسم الخاص من القطع.

(4) أي: في مورد جواز التقليد.

(5) أي: و عدم اختصاص الحكم بالقطع الحاصل من سبب خاص في مورد آخر.

و حاصل الكلام في المقام: أنه ربما يدل دليل الحكم في مورد آخر على عدم اختصاص الحكم بموضوع أخذ فيه القطع الحاصل من سبب خاص؛ بل يدل على ترتب الحكم على الموضوع الذي حصل القطع به من أي سبب كان كالعلم بالأحكام الشرعية، فإنه موضوع لحرمة تقليد العالم بها لغيره، فإن دليل الحرمة يدل على أن موضوعها هو العلم بالأحكام من أي سبب حصل؛ إذ بعد فرض حصوله من أي سبب كان ليس العالم بها جاهلا حتى يجوز له التقليد، و المفروض: أن القطع الطريقي المحض - من أي سبب حصل - حجة على نفس القاطع.

(6) قيد لقوله: «فربما يدل...» الخ.

فالمتحصل: أن القطع المأخوذ في الموضوع يتفاوت الحال فيه، فقد يكون مطلق القطع

ص: 104

المقامات بحسب مناسبات الأحكام و الموضوعات، و غيرها (1) من الأمارات.

و بالجملة (2): القطع فيما كان موضوعا عقلا لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع، و لا من حيث المورد، و لا من حيث السبب لا عقلا - و هو واضح - و لا شرعا؛ لما عرفت: من أنه لا تناله يد الجعل نفيا و لا إثباتا.

و إن نسب (3) إلى بعض الأخباريين أنه لا اعتبار بما إذا كان بمقدمات عقلية؛ إلا إن مأخوذا في موضوع الحكم، و قد يكون القطع الخاص من جهة السبب أو من جهة شخص القاطع مأخوذا فيه. و من يريد تفصيل ذلك فعليه الرجوع إلى الكتب المبسوطة.

=============

(1) أي: و غير مناسبات الأحكام و الموضوعات من الأمارات و القرائن التي يعتمد عليها في مقام استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها الشرعية فاختلاف المقامات في عموم القطع الموضوعي و خصوصه قد يعرف بمناسبات الأحكام و الموضوعات، و قد يعرف بغيرها من الأمارات كالقرائن الحالية و المقالية.

(2) هذا تمهيد لبيان الأمر الثاني الذي تقدمت الإشارة إليه في أول البحث، و هو حجية القطع الطريقي المحض مطلقا يعني: القطع الطريقي لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع و لا من حيث المورد أي: الأمر المقطوع به، و لا من حيث السبب الحاصل به القطع لا عقلا و هو واضح بعد ما تقدم من أن المنجزية و المعذرية أثران للقطع، لا يكاد ينفكان عنه «و لا شرعا» بعد ما تقدم من أن القطع مما لا تناله يد الجعل لا نفيا و لا إثباتا.

فالقطع الطريقي من أي سبب حصل و بأي مورد تعلق من الموضوع و الحكم التكليفي و الوضعي و لأي شخص تحقق يكون حجة عقلا و شرعا.

في القطع الحاصل من المقدمات العقلية

(3) هذا شروع في الأمر الثاني من الأمرين اللذين قد انعقد هذا الأمر السادس للتنبيه عليهما، و هو عدم التفاوت في حجية القطع الطريقي بين أن يكون حاصلا من المقدمات العقلية و غيرها.

نعم؛ نسب إلى بعض الأخباريين كالأمين الاسترابادي و السيد الجزائري و صاحب الحدائق «قدس سرهم»: أنه لا اعتبار بما إذا كان القطع حاصلا من مقدمات عقلية؛ و لكن هذه النسبة غير ثابتة؛ إذ «مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة».

و حاصل ما أفاده المصنف في كذب النسبة هو: أن كلماتهم التي لا تساعد على النسبة إما ناظرة إلى منع الملازمة بين حكم العقل و الشرع، فيكون ردا على القاعدة المشهورة أعني: «كلما حكم به العقل حكم به الشرع، و كلما حكم به الشرع حكم به

ص: 105

العقل»، فلا ملازمة بين حكم العقل بحسن شيء أو قبحه، و بين حكم الشرع بوجوبه أو حرمته.

و إما في مقام عدم جواز الاستناد في الأحكام الشرعية إلى المقدمات العقلية؛ لعدم إفادتها العلم. هذا مجمل الكلام في التوجهين اللذين يمكن حمل كلماتهم عليهما.

و أما التوجيه الأول: فقد ادعى المصنف صراحة كلام السيد الصدر المحكي عن شرح الوافية في ذلك، بدعوى: أن مراده من كلامه هو: إن العقل لا يدرك ما هو العلة التامة للحكم الشرعي؛ بل غايته أن يدرك بعض الجهات المقتضية له، و من المعلوم: عدم كفاية ذلك في العلم بالحكم الشرعي؛ بل يتوقف - مضافا إلى ذلك - على العلم بعدم مانع من جعله شرعا، و لازم ذلك: انتفاء الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع.

و أما التوجيه الثاني: فحاصله: - على ما سيأتي تصريح المحدث الاسترابادي «قدس سره» - أن العقل و إن أمكن أن يدرك بمقدماته جميع الجهات المقتضية للحكم الشرعي، لا أنها لا تفيد إلا الظن به دون القطع، و الظن مما لا يجوز الاعتماد عليه، سواء حصل من المقدمات العقلية أو من غيرها. و هذان الكلامان لا ينافيان ما هو مورد البحث و الكلام أعني: حجية القطع الطريقي المحض مطلقا أي: و لو فرض حصوله من مقدمات عقلية فلا يتم حينئذ ما نسب إلى الأخباريين من التفاوت بين أسباب القطع؛ بأن لا يكون القطع الحاصل من المقدمات العقلية حجة، و اختصاص الحجية بالقطع الحاصل من الكتاب و السنة، كما يظهر من عبارة المحدث الاسترابادي حيث قال: «الرابع: أن كل مسلك غير ذلك المسلك - يعني التمسك بكلامهم «عليهم السلام» - إنما يعتبر من حيث إفادته الظن بحكم الله تعالى، و قد أثبتنا سابقا أنه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها».

و حاصل الكلام في المقام: أنه يدل على عدم جواز الاعتماد على الظن، سواء حصل من المقدمات العقلية أم غيرها مواضع ثلاثة من كلامه.

و قد ذكر المصنف هذه المواضع.

الموضع الأول: قوله: «لا اعتماد على الظن المتعلق...» الخ و ما ذكره صريح في عدم اعتبار الظن في أحكامه «تبارك و تعالى» إثباتا و نفيا.

الموضع الثاني: قوله: «أنه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه تعالى».

الموضع الثالث: قوله: في فهرست فصول فوائده «الأول: في إبطال جواز التمسك

ص: 106

مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة؛ بل تشهد بكذبها، و أنها إنما تكون إما في مقام منع الملازمة بين حكم العقل بوجوب شيء، و حكم الشرع بوجوبه، كما ينادي به بأعلى صوته ما حكي عن السيد الصدر في باب الملازمة، فراجع.

و إما في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدمات العقلية؛ لأنها لا تفيد إلا الظن، كما هو صريح الشيخ المحدث الأمين الاسترابادي «رحمه الله» حيث قال - في جملة ما استدل به في فوائده على انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين «عليهم السلام» -: «الرابع: أن كل مسلك غير ذلك المسلك يعني:

التمسك بكلامهم «عليهم الصلاة و السلام» إنما يعتبر من حيث إفادته الظن بحكم الله تعالى، و قد أثبتنا سابقا أنه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها».

و قال في جملتها أيضا بعد ذكر ما تفطن بزعمه من الدقيقة ما هذا لفظه: «و إذا عرفت ما مهدناه من المقدمة الدقيقة الشريفة، فنقول: إن تمسكنا بكلامهم «عليهم السلام» فقد عصمنا من الخطأ، و إن تمسكنا بغيره لم نعصم عنه و من المعلوم: أن العصمة عن الخطأ أمر مرغوب فيه شرعا و عقلا، أ لا ترى أن الإمامية استدلوا على وجوب العصمة بأنه لو لا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتباع الخطأ، و ذلك الأمر محال؛ لأنه قبيح، و أنت إذا تأملت في هذا الدليل علمت أن مقتضاه أنه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه تعالى». انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و ما مهده من الدقيقة هو الذي نقله شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - في الرسالة و قال في فهرست فصولها أيضا: «الأول: في إبطال جواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه «تعالى شأنه»، و وجوب التوقف عند فقد القطع (1) بحكم بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه «تعالى شأنه»...»(1) الخ.

=============

(1) أي: مقتضى إطلاق القطع هو: اعتبار كل قطع تعلق بحكم الله تعالى، سواء كان ناشئا من المقدمات العقلية أو من غيرها، فالمستفاد من مجموع كلمات المحدث الاسترابادي: أنه كان في مقام إثبات عدم جواز الاعتماد على الظن في الأحكام الشرعية، و أن عدم جواز الخوض في المقدمات العقلية لأجل عدم إفادتها إلا الظن الذي لا يجوز الركون إليه في الأحكام الإلهية، و ليس في مقام المنع عن حجية القطع بالحكم الشرعي الحاصل من المقدمات العقلية.

ص: 107


1- الفوائد المدنية: 32.

الله تعالى شأنه، أو بحكم ورد عنهم (1) «عليهم السلام». انتهى.

و أنت ترى أن محل كلامه، و مورد نقضه و إبرامه هو العقلي الغير المفيد للقطع، و إنما همه إثبات عدم جواز اتباع غير النقل فيما لا قطع (2).

و كيف كان (3)؛ فلزوم اتباع القطع مطلقا (4)، و صحة (5) المؤاخذة على مخالفته

=============

(1) أي: عن الأئمة المعصومين «عليهم السلام»، و من المعلوم: أن الحكم الذي ورد عنهم «عليهم السلام» هو أيضا حكم الله تعالى، فلا معنى للعطف بكلمة أو إلا إن يقال: أن المراد بالأول هو حكم الله تعالى الثابت بالكتاب، و المراد بالثاني: هو حكمه تعالى الثابت بالسنة.

(2) كما هو ظاهر مواضع من كلامه. و صريح قوله: «و وجوب التوقف عند فقد القطع بحكم الله تعالى»، فالمستفاد من مجموع كلماته هو: أنه في مقام منع حجية ما عدا القطع من غير النقل، و ليس بصدد التفصيل في حجية القطع بالحكم الشرعي بين ما يحصل من مقدمات عقلية و بين غيره؛ بأن يقول بحجية الثاني دون الأول؛ كي يتم التفصيل المنسوب إلى الأخباريين.

و يؤيد ذلك دليله الخامس حيث قال فيه: «إنه قد تواترت الأخبار عن الأئمة «عليهم السلام» بأن مراده تعالى من قوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ ، و من نظائرها من الآيات الشريفة: أنه يجب سؤالهم في كل ما لا نعلم»، فإن هذا الكلام يشعر بعدم وجوب السؤال منهم «عليهم السلام» فيما علمناه؛ و لو كان العلم حاصلا من مقدمات عقلية.

(3) أي: سواء صحت نسبة التفصيل في حجية القطع إلى الأخباريين أم لا، فالحق هو حجية القطع الطريقي مطلقا.

(4) أي: من أي سبب حصل و في أي مورد كان و لأي شخص حصل، فلا فرق في حجية القطع بين قطع القطاع الحاصل من سبب لا ينبغي حصوله منه، و بين غيره، و كذا لا فرق في الحجية بين القطع الناشئ من المقدمات العقلية و بين غيره.

(5) عطف على «لزوم»، فيكون من آثار القطع عقلا كلزوم متابعة القطع، و من آثاره:

كون العبد معذورا عند الخطأ، و قد أشار إليه بقوله: «و كذا ترتب سائر آثاره عليه عقلا»، فقوله: «عقلا» قيد ل «آثاره».

فحاصل الكلام في المقام: أن القطع الطريقي حجة عقلا مطلقا أي: سواء حصل من الأسباب المتعارفة و غيرها، أو من المقدمات العقلية و غيرها، و لأي شخص حصل و بأي مورد

ص: 108

عند إصابته، و كذا ترتب سائر آثاره عليه عقلا بما لا يكاد يخفى على عاقل فضلا عن فاضل.

فلا بد فيما يوهم خلاف ذلك (1) في الشريعة من (2) المنع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي؛ لأجل منع بعض مقدماته الموجبة له و لو إجمالا (3)، فتدبر جيدا.

=============

تعلق، فلا بد فيما يوهم عدم حجية القطع الطريقي من الموارد التي تعرض لبعضها الشيخ الأعظم «قدس سره» في الرسائل؛ من حمله على عدم حصول القطع التفصيلي بالحكم الفعلي حتى يكون حجة، و إلا فحجية القطع كما عرفت من الأحكام العقلية المستقلة التي لا تقبل التخصيص كما قرر في محله؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 157».

(1) أي: خلاف اعتبار القطع مطلقا.

(2) متعلق بقوله: «فلا بد» يعني: لا بد من المنع عن حصول القطع بالحكم الفعلي في الموارد الموهمة له.

(3) يعني: و لو منعا إجماليا؛ بأن يمنع العلم بالحكم الفعلي بمنع بعض ما له دخل في حصوله؛ بأن يقال: إن شرط فعليته - و هو إما كذا و إما كذا - مفقود، أو أن المانع عن فعليته - و هو إما كذا و إما كذا - موجود لأن العلم حاصل، لكنه ليس بحجة، فالمقدمة الممنوعة مرددة بين أمرين أو أمور، و ليست معينة، و هذه التكلفات إنما هي لأجل عدم تعقل انفكاك الحجية العقلية عن القطع الطريقي؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 160».

و قد أضربنا عن تطويل الكلام في المقام رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - المراد من قطع القطاع: ما يحصل من أسباب لا ينبغي حصوله منها لا بمعنى كثير القطع، و المصنف يقول: بحجية القطع الطريقي مطلقا، من دون فرق بين قطع القطاع و غيره؛ لأن العقل يحكم بوجوب متابعة القطع على التقديرين؛ إذ المناط في الحجية و ترتب آثار الحجية على القطع هو: انكشاف الواقع به تمام الانكشاف، و هذا المناط موجود في قطع القطاع. هذا فيما إذا كان القطع طريقيا محضا.

و أما القطع المأخوذ في الموضوع شرعا: فيتفاوت الحال فيه، فلا يكون حجة مطلقا؛ بل تابع لدليل الحكم الذي أخذ القطع في موضوعه.

فقد يكون المأخوذ في الموضوع مطلق القطع، كما إذا كان الحكم عقليا، و قد يكون

ص: 109

الأمر السابع (1):

أنه قد عرفت: كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي علّة تامة لتنجزه لا تكاد تناله يد الجعل إثباتا أو نفيا.

=============

المأخوذ في الموضوع هو الخاص سببا أو شخصا؛ بأن يكون القطع حاصلا من سبب خاص أو لشخص خاص.

2 - في القطع الحاصل من المقدمات العقلية: يقول المصنف: بعدم التفاوت في حجية القطع الطريقي المحض بين أن يكون حاصلا من المقدمات العقلية و غيرها.

نعم؛ نسب إلى الأخباريين: أنه لا اعتبار بما إذا كان حاصلا من المقدمات العقلية، و لكن هذه النسبة غير ثابتة؛ لأن كلماتهم إما ناظرة إلى منع الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع بمعنى: أنه لا ملازمة بين حكم العقل بحسن شيء أو قبحه و بين حكم الشرع بوجوبه أو حرمته.

و إما في مقام عدم جواز الاستناد في الأحكام الشرعية إلى المقدمات العقلية، كما يظهر هذا من مجموع كلمات المحدث الاسترابادي؛ لأن المستفاد من كلماته: أنه كان في مقام إثبات عدم جواز الاعتماد على الظن في الأحكام الشرعية، و أن المقدمات العقلية لا تفيد إلا الظن الذي لا يجوز الركون إليه في الأحكام الشرعية. و ليس في مقام المنع عن حجية القطع بالحكم الشرعي الحاصل من المقدمات العقلية.

3 - فلا بد فيما يوهم خلاف اعتبار القطع مطلقا في الشريعة من المنع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي؛ لأجل منع بعض مقدماته الموجبة له، و اعتبار العلم الإجمالي محل كلام كما سيأتي في الأمر السابع. فانتظر.

4 -

رأي المصنف «قدس سره»:

1 - عدم الفرق في حجية القطع الطريقي بين قطع القطاع و غيره.

2 - عدم الفرق في حجية القطع الطريقي بين حصوله من المقدمات العقلية و غيرها.

3 - حجية القطع المأخوذ في موضوع الحكم تابع لدليل ذلك الحكم في العموم و الخصوص و الإطلاق و التقييد.

الامر السابع في العلم الإجمالي

(1) المقصود من هذا الأمر السابع: هو التكلم حول العلم الإجمالي. و فيه مقامان:

المقام الأول: في حجية العلم الإجمالي في إثبات التكليف، بمعنى: كونه منجزا للتكليف كالعلم التفصيلي.

ص: 110

المقام الثاني: في اعتباره في مقام إسقاط التكليف، بمعنى: إسقاط التكليف بالامتثال الإجمالي أي: الاحتياط بإتيان أطراف العلم الإجمالي. هذا مجمل الكلام في المقامين.

و قبل الخوض في تفصيل الكلام فيهما ينبغي بيان أمرين:

الأول: بيان ما هو المراد من العلم الإجمالي في المقام، فنقول: إنّ المراد منه ليس العلم بالأفراد من العلم بالكلي، كما يقول به المنطقيون، و كذا ليس المراد من العلم الإجمالي العلم بالمعلول من العلم بالعلة كما يقول به الفلاسفة: و لا بمعنى الارتكازي الغير الملتفت إليه؛ بل المراد به: ما هو المصطلح عند الأصوليين و ذلك يتضح بعد مقدمة و هي: انّ التكليف يتوقف على أمرين:

أحدهما: ما يتعلق به التكليف الوجوبي كالصلاة، أو التحريمي كالخمر مثلا.

و ثانيهما: من يتوجه إليه التكليف، و هو المكلف، ثم أضف إلى هذين الأمرين نفس التكليف، فهنا ثلاثة أمور: المتعلق، المكلف، التكليف.

ثم المكلف تارة: يعلم بالجميع، و هذا العلم منه يسمّى بالعلم التفصيلي، و أخرى: لا يعلم بشيء منها، و هذا الجهل منه يسمى بالجهل البسيط، و ثالثة: يعلم ببعضها دون بعض.

فتارة: يعلم بالتكليف فقط مثل: من يرى المني في ثوب مشترك بينه و بين غيره، فإنه يعلم بوجوب الغسل فقط؛ لأن المكلف مردد بين شخصين كما أن المكلف به مردد بين غسل هذا أو غسل ذاك.

و أخرى: يعلم بالتكليف و المكلف و لا يعلم بمتعلق التكليف هل إنه صلاة الجمعة يومها أو صلاة الظهر؟

و ثالثة: يعلم بالمكلف و المتعلق، و لا يعلم بالتكليف؛ كمن لا يعلم بأن حكم صلاة الجمعة هو الوجوب أو الحرمة ؟.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المراد من العلم الإجمالي: هو أن يكون المعلوم مرددا بين أمرين أو أكثر، فيكون المعلوم مجملا.

و من هنا ظهر: أن اتصاف العلم بالإجمال يكون من قبيل وصف الشيء بحال متعلقه؛ لأن الإجمال في الحقيقة صفة للمعلوم لا للعلم.

الأمر الثاني: بيان الثمرة بين القولين: و هي جواز الاحتياط بترك الاجتهاد و التقليد على القول باعتبار العلم الإجمالي في المقامين، أي: مقام إثبات التكليف و مقام إسقاطه،

ص: 111

فهل القطع الإجمالي كذلك (1)؟

فيه إشكال (2)، لا يبعد أن يقال: إن التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف، و كانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة، جاز الإذن من الشارع و عدم جواز العمل بالاحتياط و وجوب الرجوع إلى الاجتهاد أو التقليد على القول بعدم اعتباره في المقامين.

=============

(1) يعني: علّة تامة لتنجز التكليف كالعلم التفصيلي.

(2) هذا إشارة إلى المقام الأول. و قد وقع الكلام بين الأعلام، و هناك أقول متعددة:

منها: أنه علة تامة لتنجز التكليف كالعلم التفصيلي، بلا فرق بين حرمة المخالفة و وجوب الموافقة.

و منها: أنه علة تامة لحرمة المخالفة القطعية فقط، و ليس علة و لا مقتضيا لوجوب الموافقة القطعية.

و منها: أنه كالشك البدوي فتجري في أطرافه أصالة البراءة، كما يجري في الشبهة البدوية، كما يظهر من العلامة المجلسي «قدس سره».

و منها: أنه علة تامة لحرمة المخالفة القطعية و وجوب الموافقة الاحتمالية.

و منها: أنه يجب التخلص عن المشتبه بالقرعة كما نسب إلى السيد ابن طاوس، مستدلا بعموم «القرعة لكل أمر مشكل».

و منها: ما اختاره المصنف بقوله: «لا يبعد أن يقال...» الخ، من أن العلم الإجمالي مقتض بالنسبة إلى كل من وجوب الموافقة و حرمة المخالفة القطعيتين، فلا ينافي الإذن في مخالفتهما ظاهرا. و توضيح ما أفاده المصنف في وجهه يتوقف على أمور من باب المقدمة:

الأمر الأول: أن العلم لا يكون منجزا إلا إذا تعلق بحكم فعلي تام الفعلية من جميع الجهات.

الأمر الثاني: أن الجمع بين الأحكام الواقعية و الظاهرية إنما هو بالالتزام بأن الحكم الواقعي فعلي؛ لكن لا من جميع الجهات الذي عبر عنه: بأنه لو علم به لصار فعليا و تنجز، فيكون حينئذ كل من الأصل و الأمارة مانعا عن فعلية الحكم الواقعي فيما إذا كان على خلاف الواقع. فإذا لم تقم الأمارة على الخلاف فقد ارتفع المانع فتتحقق الفعلية.

و كيف كان؛ فمع وجود الأصل أو الأمارة على خلاف الواقع لا يكون الواقع فعليا

ص: 112

من جميع الجهات، و إنما يكون فعليا من جهة دون جهة.

الأمر الثالث: أن مرتبة الحكم الظاهري - و هي الجهل بالواقع - محفوظة في موارد العلم الإجمالي؛ إذ كل من الطرفين مشكوك الحكم، فيكون موردا للأمارة و موضوعا للأصل لعدم انكشاف الواقع به تمام الانكشاف، و يمكن حينئذ الإذن في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال، و لا مانع من الترخيص إلا محذور منافاة الحكم الظاهري للحكم الواقعي، و هذا التنافي لا يختص بالمقام؛ بل يعم الشبهة غير المحصورة و الشبهة البدوية؛ إذ الإذن في الارتكاب مناف للحكم الواقعي، و سيأتي عدم التنافي بين الحكم الواقعي و الظاهري في الجمع بينهما.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة فيتضح لك ما ذهب إليه المصنف «قدس سره»؛ من عدم كون العلم الإجمالي علة تامة للتنجيز؛ بل هو مؤثر في التنجيز بنحو الاقتضاء، بمعنى: أنه قابل للترخيص في أطرافه كلا أو بعضا؛ إذ مع شمول دليل الأصل للطرفين و ثبوت حكم ظاهري - كما هو مقتضى الأمر الثالث - لا يكون الحكم الواقعي المعلوم تام الفعلية - كما هو مقتضى الأمر الثاني - و عليه: فلا يكون العلم به منجزا - كما هو مقتضى الأمر الأول -.

فالمتحصل: أن العلم الإجمالي مقتض لتنجز التكليف، و ليس علة تامة له، و لا كالشك بحيث لا يؤثر في التنجيز أصلا؛ لكونه مؤثرا فيه بالوجدان مع عدم المانع؛ بحيث تصح مؤاخذة العبد على مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما ذهب إليه المصنف؛ من كون العلم الإجمالي مقتضيا لتنجز التكليف، و قد تركنا تطويل الكلام في المقام رعاية للاختصار.

قوله: «جاز الإذن» جواب «حيث» في قوله: «حيث لم ينكشف».

قوله: «احتمالا» قيد «بمخالفته» و كذا قوله: «قطعا»، يعني: جاز الإذن من الشارع بمخالفة التكليف احتمالا، كما إذا أذن بارتكاب بعض الأطراف؛ بل يجوز الإذن في ارتكاب جميع الأطراف الموجب لجواز المخالفة القطعية، و هذه العبارة كالصريحة في نفي العلية التامة، و أن العلم الإجمالي مقتض بالنسبة إلى كل من وجوب الموافقة و حرمة المخالفة القطعيتين.

و كيف كان؛ فقوله: «و ليس محذور مناقضة مع المقطوع إجمالا...» الخ شروع في الجواب عن المناقضة فلا بد أولا من تقريب المناقضة، و ثانيا من توضيح الجواب عنها.

ص: 113

بمخالفته احتمالا بل قطعا، و ليس محذور مناقضته مع المقطوع إجمالا إلا محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي في الشبهة الغير المحصورة؛ بل الشبهة البدوية، ضرورة: عدم تفاوت في المناقضة بين التكليف الواقعي و الإذن بالاقتحام في مخالفته و أما تقريب التناقض: فلأنه لا يمكن الإذن من الشارع بالمخالفة؛ و ذلك لمنافاة إذن الشارع و ترخيصه في ارتكاب أطراف العلم الإجمالي للحكم الواقعي المعلوم إجمالا، كما إذا علم إجمالا حرمة أحد شيئين، فإن الإذن في ارتكابهما ينافي الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال؛ لأن المفروض: أن الشارع لم يرفع يده عن الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال.

=============

فلو قال: يجب عليك اجتناب الخمر المشتبه بين الإناءين و يجوز لك شرب كليهما كان مناقضا، و هو محال هذا غاية ما يمكن أن يقال: في تقريب المناقضة.

و أما توضيح الجواب عنها: فلأنه لا مانع من الترخيص و الإذن إلا منافاة الحكم الظاهري للواقعي، و قد تقدم إن هذا التنافي لا يختص بالمقام؛ بل يعم الشبهة غير المحصورة و الشبهة البدوية؛ إذ الإذن في الارتكاب مناف للحكم الواقعي في جميع هذه الموارد.

و كيف كان؛ فهذا الجواب يرجع إلى النقض بالترخيص في الشبهات الغير المحصورة و الشبهات البدوية.

و حاصله: أن المناقضة هنا بين إذن الشارع في ارتكاب بعض الأطراف، و بين العلم الإجمالي بالتكليف وجوبا أو حرمة بعينها موجودة بين الحكم الظاهري و الواقعي في الشبهات الغير المحصورة و الشبهات البدوية، من غير تفاوت بين المقامين، فإنه لو كان المشتبه بالشبهة البدوية مخالفا للواقع - مثل أن يكون مشكوك الطهارة نجسا - كان قاعدة «كل شيء لك نظيف»(1) الشاملة لهذا النجس مستلزما للتناقض؛ لأن المولى لم يرفع اليد عن نجاسته؛ لكونه بولا مثلا. و مع ذلك: أجاز في ارتكابه، و كذا لو اشتبه النجس بين أفراد غير محصورة، و أجاز المولى ارتكاب بعض الأطراف، و كان في الواقع هذا الطرف الذي يرتكبه المكلف نجسا، أو ارتكب جميع الأطراف تدريجا - على القول بجوازه - فإنه يوجب المناقضة، فما يدفع به محذورها هناك يدفع به محذورها هنا.

ص: 114


1- المستند إلى الرواية الطويلة التي رواها عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام): تهذيب الأحكام 832/284:1.

بين الشبهات أصلا، فما به التفصّي عن المحذور فيهما كان (1) به التفصي عنه في القطع به في الأطراف المحصورة أيضا (2) كما لا يخفى، و قد أشرنا إليه (3) سابقا و يأتي (4) إن شاء الله مفصلا.

نعم (5)؛ كان العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرد الاقتضاء لا في العلية التامة.

فيوجب تنجز التكليف أيضا (6) لو لم يمنع عنه مانع عقلا، كما كان في أطراف كثيرة

=============

(1) خبر قوله: «فما به التفصي»، و المراد بالموصول هو الوجه الذي يجمع به بين الحكم الظاهري و الواقعي.

(2) قيد لقوله: «كان به التفصي».

(3) أي: إلى ما به التفصي، و قد تقدمت الإشارة إليه في أواخر الأمر الرابع، حيث قال: «لا بأس باجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى...» الخ.

(4) أي: يأتي في أوائل البحث عن حجية الأمارات، و خلاصة الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري هو: حمل الحكم الواقعي على الفعلي التعليقي، و الظاهري على الفعلي الحتمي، فلا تنافي حينئذ بين الحكمين؛ بل هما من الخلافين اللذين يجتمعان.

(5) هذا استدراك على ما ذكره من كون رتبة الحكم الظاهري محفوظة مع العلم الإجمالي؛ لمحفوظيتها في الشبهة البدوية و غير المحصورة، أنه يتراءى منه: كون العلم الإجمالي حينئذ كالشك البدوي، فاستدرك على ذلك بقوله: «نعم» و حاصله: أن العلم الإجمالي ليس كالشك البدوي في عدم الاقتضاء للتنجيز؛ بل هو مقتضى لتنجز التكليف بالنسبة إلى كل من وجوب الموافقة القطعية و حرمة المخالفة كذلك، و هذا هو القول الذي اختاره المصنف هنا، و لكن عدل عنه في بحث الاشتغال و في حاشيته التي ستتلى عليك.

(6) أي: كالعلم التفصيلي، و الضمير في «عنه» راجع على تنجز التكليف، يعني:

فيوجب العلم الإجمالي تنجز التكليف كالعلم التفصيلي، بشرط عدم المانع عن تأثيره فيه، ففي المقام يكون العلم الإجمالي مقتضيا لتنجز التكليف إن لم يكن هناك مانع عنه عقلا؛ كعدم القدرة على الاحتياط، كما في أطراف الشبهة غير المحصورة، حيث إن عدم القدرة على الاحتياط فيها مانع عقلي عن تنجز التكليف.

فقوله: «كما كان في أطراف كثيرة» إشارة إلى وجود المانع العقلي عن تنجز التكليف بالعلم الإجمالي.

كما أن قوله: «كما فيما أذن الشارع في الاقتحام فيها» إشارة إلى المانع الشرعي

ص: 115

غير محصورة، أو شرعا كما فيما أذن الشارع في الاقتحام فيها كما هو (1) ظاهر «كل شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه».

و بالجملة (2): قضية صحة المؤاخذة على مخالفته، مع القطع به بين أطراف محصورة، و عدم صحتها مع عدم حصرها، أو مع الإذن في الاقتحام فيها هو كون القطع الإجمالي مقتضيا للتنجز لا علة تامة.

و أما احتمال (3) أنه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية و بنحو العلية يعني: إذن الشارع في ارتكاب الأطراف مانع شرعا عن تنجز التكليف بالعلم الإجمالي.

=============

بمعنى: أن الشارع إذا أذن في الاقتحام في أطراف الشبهة المحصورة كان ذلك مانعا شرعيا عن تنجيز العلم الإجمالي، فمنافاة الإذن في ارتكاب بعض الأطراف، مع احتمال وجود الحكم الواقعي في المقام كمنافاة الإذن في الشبهة البدوية، فالوجه الذي يدفع المنافاة هناك يدفعها في المقام أيضا.

(1) أي: الإذن في الاقتحام؛ إذ ظاهر الرواية بقرينة قوله «عليه السلام»: «بعينه» - هو جواز ارتكاب الأطراف؛ لعدم معرفة الحرام بعينه منها.

اقتضاء العلم الإجمالي للحجية

(2) المقصود من هذا الكلام: إثبات كون العلم الإجمالي مقتضيا لتنجز التكليف بما يترتب عليه من اللوازم؛ كعدم صحة المؤاخذة على المخالفة إذا لم تكن الأطراف منحصرة، أو كانت محصورة، و لكن أذن في الاقتحام فيها، فتنجيز العلم الإجمالي معلق على عدم المانع عقلا أو شرعا؛ فيكون مقتضيا للتنجيز، لا علة تامة. و ضمير «صحتها» راجع على المؤاخذة، و ضمير «حصرها» راجع على الأطراف. و «هو كون القطع» خبر لقوله: «قضية».

(3) هذا إشارة إلى القول بالتفصيل في حجية العلم الإجمالي، و حاصل التفصيل: أن حجية العلم الإجمالي بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية و بنحو العلية التامة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية، و قد ذكرنا هذا القول في ضمن نقل الأقوال، و المصنف لم يتعرض إلا إلى قولين، و تقدم الكلام فيما اختاره في المقام، و هذا هو إشارة إلى قول آخر من تلك الأقوال، و قد أشار المصنف إلى رد هذا القول بقوله: «فضعيف جدا»، و حاصله: أنه لا وجه للتفصيل بين وجوب الموافقة القطعية و بين حرمة المخالفة كذلك، بدعوى: الاقتضاء في الأولى و العلية في الثانية؛ و ذلك لأن محذور الإذن في ارتكاب جميع الأطراف - و هو التناقض بين الترخيص و بين التكليف المعلوم إجمالا الذي دعا الشيخ الأعظم و غيره إلى الالتزام بالعلية بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية - موجود

ص: 116

بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية و ترك المخالفة القطعية، فضعيف جدا. ضرورة (1): أن احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة، فلا (2) يكون عدم القطع بذلك معهما موجبا لجواز الإذن في الاقتحام؛ بل لو صح معهما الإذن في المخالفة بعينه في الترخيص في بعض الأطراف أيضا؛ لأن المعلوم بالإجمال إذا انطبق على مورد الإذن لزم التناقض أيضا، غاية الأمر: أن التناقض في صورة الترخيص في جميع الأطراف قطعي، و في صورة الترخيص في بعضها احتمالي، و احتمال صدور التناقض من العاقل - فضلا عن الحكيم - كالقطع بصدوره في استحالته، فإذا جاز الإذن في ارتكاب بعض الأطراف جاز في الكل. و عليه: فيكون العلم الإجمالي مقتضيا مطلقا، و بلا تفاوت بين الموافقة القطعية و بين حرمة المخالفة القطعية؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 181» مع تلخيص منّا.

=============

(1) تعليل لقوله: «فضعيف جدا»، ثم المراد بالمتناقضين: الحكم المعلوم بالإجمال، و الحكم الظاهري الذي هو مقتضى الأصل يعني: أن احتمال ثبوت المتناقضين من حيث الاستحالة كالقطع بثبوت المتناقضين، و ذلك في الإذن في ارتكاب جميع الأطراف الموجب للإذن في المعصية القطعية، فكما أن مناقضة الحكم الإلزامي المعلوم إجمالا للترخيص في جميع الأطراف ضرورية، فكذلك مناقضته للترخيص في بعض الأطراف.

(2) هذا متفرع على التساوي بين المناقضة القطعية و بين المناقضة الاحتمالية في الاستحالة.

و حاصل الكلام في المقام: أن مجرد عدم القطع بالمناقضة في الإذن بارتكاب بعض الأطراف لا يوجب جواز الإذن فيه؛ بل يكون احتمال التناقض كالعلم به في الاستحالة، فلا يجوز الإذن في ارتكاب شيء من الأطراف، و المشار إليه في قوله: «بذلك» هو ثبوت المتناقضين، و ضمير «معهما» راجع على الموافقة الاحتمالية و ترك المخالفة القطعية. و في بعض النسخ «معها»، فمرجع الضمير حينئذ: المناقضة الاحتمالية المستفادة من العبارة.

و كيف كان؛ فلا فرق بين احتمال ثبوت المتناقضين اللازم من المخالفة الاحتمالية، و بين القطع بثبوت المتناقضين اللازم من المخالفة القطعية في الاستحالة؛ إذ كما نقطع بأن المولى لا يتناقض في حكمه كذلك لا نحتمل أن يتناقض المولى؛ إذ التناقض المحتمل مثل التناقض المقطوع في الاستحالة، فما كان مستلزما لاحتمال تناقض المولى - كالإذن في المخالفة الاحتمالية - مثل ما كان مستلزما للقطع بتناقض المولى كالإذن في المخالفة القطعية - مستحيل، فقد تبيّن أن التناقض المحتمل كالتناقض المتيقن غير متصور صدوره

ص: 117

الاحتمالية صح في القطعية أيضا فافهم (1).

و لا يخفى: أن المناسب (2) للمقام هو البحث عن ذلك، كما أن المناسب في باب البراءة و الاشتغال بعد الفراغ هاهنا عن أن تأثيره في التنجز بنحو الاقتضاء لا العلية عن المولى، فالنتيجة أنهما من واد واحد، فلا وجه للتفصيل.

=============

(1) لعله إشارة إلى الفرق بين الإذن في بعض الأطراف، و بين الإذن في جميع الأطراف؛ و الفرق بينهما لوجهين:

الأول: أن الإذن في جميع الأطراف إذن في المخالفة القطعية، فلا يقع موردا لتصديق العبد لما يرى من المناقضة، هذا بخلاف الإذن في بعض الأطراف، حيث إنه إذن في المخالفة الاحتمالية، فيمكن تصديق العبد جواز المخالفة الاحتمالية؛ لاحتمال كون الواقع في الطرف الآخر.

الثاني: أن الإذن في ارتكاب بعض الأطراف يمكن أن يكون بنحو جعل البدل عن الواقع؛ بأن يجعل الشارع الباقي - و هو البعض الآخر الذي لم يرتكبه المكلف - بدلا عن الحرام الواقعي، كما هو مذهب من جوّز ارتكاب ما عدا ما يساوي مقدار الحرام الواقعي أو أزيد كالمحقق القمي «قدس سره» في القوانين، فلا محذور فيه حينئذ، و هذا بخلاف الإذن في جميع الأطراف، فإن الإذن كذلك ينافي حفظ الواقع.

(2) المقصود من هذا الكلام: بيان ما يناسب من بحث العلم الإجمالي للمقام، الذي هو مقام البحث عن أحوال القطع، و للمقام الذي يبحث عنه في باب البراءة و الاشتغال.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن للعلم الإجمالي كشف ناقص عن الواقع، فيكون علما من جهة و جهلا من جهة أخرى، فكل ما يعد من شئون كونه علما ينبغي البحث عنه في مبحث القطع، و كل ما يعد من شئون كونه جهلا و شكا ينبغي البحث عنه في باب البراءة و الاشتغال.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المناسب للمقام هو البحث عن تأثير العلم الإجمالي في تنجز التكليف بنحو العلية التامة، أو بنحو الاقتضاء، أو عدم تأثيره فيه أصلا.

و على القول بتأثيره فيه بنحو العلية التامة مطلقا - يعني: بالنسبة إلى كل من وجوب الموافقة القطعية و حرمة المخالفة كذلك - لا يبقى مجال للبحث عنه في باب البراءة و الاشتغال؛ لكونه حينئذ كالقطع التفصيلي في عدم إمكان التعبد بشيء من الأصول معه، و على القول بتأثيره فيه بنحو الاقتضاء؛ بأن يكون قابلا لترخيص الشارع في أطرافه كلا أو بعضا، فيبحث عنه في باب الاشتغال عن وجود المانع و عدمه؛ إذ ورود الترخيص

ص: 118

شرعا مانع عن تأثير العلم الإجمالي في تنجزّ التكليف، فلا بد من القول بالبراءة حينئذ؛ لأن المانع مقتض للبراءة، و مع عدم المانع لا بد من القول بالاشتغال و الإتيان بجميع الأطراف.

و أما على القول بعدم تأثير العلم الإجمالي في تنجز التكليف أصلا؛ بل إنه كالشك البدوي، فمقتضى الأصل هو البراءة فقط.

و كيف كان؛ فالمناسب للمقام - الذي هو مقام البحث عن أحوال القطع - هو البحث عن تأثير القطع في التنجيز بنحو العلية التامة، المستلزم لوجوب الموافقة القطعية، أو بنحو الاقتضاء المستلزم لحرمة المخالفة القطعية؛ لا أن يجعل وجوب الموافقة القطعية في باب - أعني: باب الاشتغال و البراءة - و حرمة المخالفة القطعية في باب آخر - أعني: بحث القطع - كما صنعه الشيخ الأنصاري «قدس سره»، حيث جعل البحث في المقام في حرمة المخالفة القطعية، و في البراءة و الاشتغال في وجوب الموافقة القطعية، فما أفاده المصنف في المقام تعريض بالشيخ الأنصاري بوجهين:

الأول: أنه تكلم في العلم الإجمالي من مباحث القطع عن حرمة المخالفة القطعية و أوكل البحث عن وجوب الموافقة القطعية أو كفاية الموافقة الاحتمالية إلى مباحث الاشتغال. و حاصل تعريض المصنف به: أن المناسب هو البحث عن كل من حرمة المخالفة القطعية و وجوب الموافقة كذلك في مباحث القطع لرجوعهما إلى تنجيزه، فلا وجه لتأخير البحث عن وجوب الموافقة القطعية و عدمه إلى البراءة و الاشتغال اللذين موضوعهما الشك.

الثاني: أن الشيخ «قدس سره» تعرض لعلية العلم الإجمالي لكل من حرمة المخالفة و وجوب الموافقة القطعيتين في بحث الاشتغال، حيث عقد للشبهة المحصورة مقامين:

فقال: «أما المقام الأول: فالحق فيه عدم الجواز و حرمة المخالفة القطعية، و حكي عن بعض جوازها، لنا على ذلك وجود المقتضي للحرمة و عدم المانع عنها»(1).

و قال في المقام الثاني: «فالحق فيه وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين وفاقا للمشهور...»(2) الخ.

و حاصل التعريض به: أنهما من آثار العلم لا الشك، فالمناسب هو البحث عنهما هنا

ص: 119


1- فرائد الأصول 200:2.
2- فرائد الأصول 210:2.

هو البحث عن ثبوت المانع شرعا أو عقلا، و عدم ثبوته، كما لا مجال بعد البناء على أنه بنحو العلية للبحث عنه هناك (1) أصلا كما لا يخفى. هذا (2) بالنسبة إلى إثبات التكليف أو تنجزه به.

و أما سقوطه (3) به بأن يوافقه إجمالا: فلا إشكال فيه في التوصليات، و أما في و ما يناسب البحث عنه في الاشتغال هو التعرض لثبوت الترخيص عقلا أو شرعا في بعض الأطراف أو كلها، بعد البناء على أن العلم الإجمالي مقتض لكلتا المرتبتين، كما أنه لا وجه للبحث عن الترخيص بعد البناء على عليته التامة للتنجيز مطلقا.

=============

فالمتحصل: أنه بناء على تأثير العلم الإجمالي بنحو الاقتضاء مطلقا يبحث في الاشتغال عن وجود المانع و عدمه، و بناء على عدم تأثيره مطلقا يبحث في البراءة عن جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي.

و كيف كان؛ فكل ما يعدّ من شئون العلم كاستحقاق العقوبة على مخالفته يناسب البحث عنه هنا، و كل ما يعد من شئون الجهل ينبغي البحث عنه في باب البراءة و الاشتغال.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في بيان مناسبة بحث العلم الإجمالي بالنسبة إلى المقامين.

و لكن ما ذكره المصنف من الفرق بين المقامين هو أنسب و أصحّ فتدبر.

(1) أي: في بحث البراءة و الاشتغال.

(2) أي: ما تقدم إلى هنا من كون العلم الإجمالي علة تامة أو مقتضيا إنما هو بالنسبة إلى إثبات التكليف و تنجزه به. و بقي الكلام في المقام الثاني، و هو اعتبار العلم الإجمالي في مقام إسقاط التكليف به.

(3) أي: سقوط التكليف بالعلم الإجمالي. هذا إشارة إلى المقام الثاني من الكلام في العلم الإجمالي.

في الامتثال الإجمالي

و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام في المقام، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي بيان أمور:

منها: أن الواجب على قسمين:

أحدهما: هو الواجب التوصلي. و هو ما لا يتوقف امتثاله على قصد القربة، و لا يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد الإطاعة.

ثانيهما: هو الواجب التعبدي و هو ما يحتاج امتثاله و سقوط التكليف فيه إلى قصد

ص: 120

القربة و الإطاعة، فالفرق بينهما: أن الغرض من الأول: هو مجرد تحقق المأمور به كيف اتفق. هذا بخلاف الثاني، فإن الغرض منه لا يحصل إلا بإتيان الواجب بقصد القربة و الإطاعة.

و منها: أن المكلف تارة: يتمكن من الامتثال التفصيلي، و أخرى: لا يتمكن منه.

و منها: أن الاحتياط في كل منهما تارة: يحتاج إلى التكرار، و أخرى: لا يكون كذلك.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل الكلام هو الامتثال الإجمالي المعبّر عنه بالاحتياط، فيما إذا تمكن المكلف من الامتثال التفصيلي، و كان الاحتياط مستلزما للتكرار، و كان الواجب تعبديا.

و أما إذا لم يتمكن المكلف من الامتثال التفصيلي، و كان الواجب توصليا و لم يكن الاحتياط محتاجا إلى التكرار: فلا إشكال في سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي.

و حاصل الكلام في المقام: أنه مع التمكن من تحصيل العلم التفصيلي بالامتثال هل يكفي العلم الإجمالي بالامتثال؛ بأن يحتاط في أطراف العلم الإجمالي أم لا؟ فإذا علم مثلا بوجوب أحد الأمرين إما الظهر و إما الجمعة في الشبهة الحكمية، أو بوجوب الصلاة إلى إحدى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة في الشبهة الموضوعية، فهل يكفي العلم الإجمالي بالامتثال بإتيان كل من الظهر و الجمعة في المثال الأول، أو بإتيان الصلاة إلى كل من الجهات الأربع في المثال الثاني، مع التمكن من تحصيل العلم التفصيلي بالامتثال باستعلام الحال؛ إما بالفحص و التتبع، أو بالسؤال عن الموضوع و معرفة الواجب بعينه على التفصيل و الإتيان به بخصوصه، أم لا يكفي إلا عند تعذر العلم التفصيلي به.

توضيح بعض العبارات قوله: «فلا إشكال فيه في التوصليات»، يعني: فلا إشكال في سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي في التوصليات، و هي التي يكون المطلوب فيها نفس وجودها في الخارج بأي داع كان؛ إذ الغرض من التوصلي يحصل بمجرد حصوله في الخارج كيفما اتفق، سواء علم حين الإتيان به أنه هو الواجب بخصوصه أم لم يعلم، قصد الإطاعة أم لم يقصد، توقف على التكرار أم لا.

«و أما في العباديات»: ففيها موضعان للكلام: الأول: في الاحتياط الذي لا يحتاج إلى التكرار. و الثاني: في الاحتياط الذي يحتاج إلى التكرار. و قد أشار إلى الموضع الأول: بقوله: «و أما في العبادات: فكذلك فيما لا يحتاج إلى التكرار...» بمعنى: أن

ص: 121

العباديات: فكذلك فيما لا يحتاج إلى التكرار، كما إذا تردد أمر عبادة بين الأقل و الأكثر؛ لعدم الإخلال بشيء مما يعتبر أو يحتمل اعتباره في حصول الفرض منها. مما لا يمكن أن يؤخذ فيها، فإنه نشأ من قبل الأمر بها؛ كقصد الإطاعة و الوجه و التمييز الاحتياط في العبادات إذا لم يتوقف على التكرار فلا إشكال في سقوط التكليف به، كما إذا ترددت العبادة - كالصلاة - بين عشرة أجزاء و تسعة، فإن الاحتياط فيها يتحقق بإتيان عشرة، و لا يتوقف على التكرار، و يسقط التكليف به، سواء كان المشكوك فيه جزءا أم شرطا. فالمشار إليه في قوله: «فكذلك» هو نفي الإشكال عن سقوط التكليف بالاحتياط «فيما لا يحتاج إلى التكرار». قوله: «لعدم الإخلال...» الخ تعليل لمشروعية الاحتياط في العبادات إذا لم يتوقف على التكرار، و عدم الإشكال في سقوط التكليف به.

=============

و حاصل الكلام في المقام: أنه إذا أتى بالأكثر، فلا يقدح ذلك في الامتثال و سقوط الأمر؛ لعدم كونه موجبا للإخلال بما يعتبر قطعا في حصول الغرض من العبادة من القيود التي لا يعقل أن تؤخذ في نفس العبادة، كقصد القربة و الوجه، و التمييز، لتأخرها عن الأمر و لنشوئها عنه، فكيف يمكن أخذها في موضوع الأمر؟

نعم؛ يكون الاحتياط مخلا بقصد الجزئية أو الشرطية بالنسبة إلى المشكوك فيه؛ إلا إن دخل قصدها في حصول الغرض من العبادة في غاية الضعف و السقوط. و على هذا:

فلا إشكال في مشروعية الاحتياط في العبادات فيما لا يلزم منه التكرار كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 187» مع توضيح و تصرف منّا.

قوله: «فإنه نشأ» تعليل لقوله: «لا يمكن أن يؤخذ».

قوله: «كقصد الإطاعة» مثال لما يعتبر قطعا في حصول الغرض من العبادة، و لا يمكن أخذه في نفس العبادة. «و الوجه و التمييز» مثالان لما يحتمل اعتباره في حصول الغرض منها، مع عدم إمكان أخذهما في نفس العبادة.

قوله: «فيما إذا أتى بالأكثر» متعلق بقوله: «لعدم الإخلال».

و حاصل الكلام: أن الاحتياط في العبادة - إذا لم يلزم منه تكرار - لا مانع عنه أصلا؛ لأنه ليس مخلا بشيء مما يعتبر في نفس العبادة من الأجزاء و الشرائط، إذ المفروض:

الإتيان بتمامها ضرورة: إمكان قصد القربة و إمكان قصد الوجه و التمييز أيضا، و ما يلزم إخلاله كقصد جزئية المشكوك فيه لا يكون موجبا للإخلال في نفس العبادة، كما أشار إليه بقوله: «و لا يكون إخلال».

ص: 122

فيما إذا أتى بالأكثر، و لا يكون إخلال حينئذ إلا لعدم إتيان ما احتمل جزئيته على تقديرها بقصدها، و احتمال دخل قصدها (1) في حصول الغرض ضعيف (2) في الغاية، و سخيف إلى النهاية.

=============

(1) أي: الجزئية. هذا دفع توهّم بتقريب: أن دخل قصد جزئية المشكوك فيه في حصول الغرض على فرض جزئيته واقعا مانع عن الامتثال الاحتياطي بإتيان الأكثر؛ لكونه مخلا بالقصد المزبور و مفوّتا له.

(2) دفع للتوهّم المذكور و حاصله: أن احتمال دخل قصد الجزئية في حصول الغرض في غاية الوهن، فالإخلال بقصد الجزئية لا يضر بالاحتياط أصلا. و الوجه في وهن احتمال دخل قصد الجزئية في حصول الغرض هو: عدم الدليل على دخله في معلوم الجزئية، فضلا عن محتملها؛ بل الدليل قائم على عدم اعتباره؛ لاقتضاء الإطلاقات المقامية لعدم الاعتبار، فقصد مشكوك الجزئية أو الشرطية حينئذ يكون تشريعا محرما.

و على فرض تسليم قصد الجزئية: فهو مختص بمعلوم الجزئية، و أما مع الجهل بها فلا دليل على اعتباره فيه؛ إذ لا إطلاق في دليله، و المتيقن منه هو صورة العلم بها. هذا تمام الكلام في الموضع الأول، و هو ما لا يكون الاحتياط مستلزما للتكرار.

و بقى الكلام في الموضع الثاني، و هو ما يكون الاحتياط مستلزما للتكرار. و قد أشار إليه بقوله: «و أما فيما احتاج إلى التكرار فربما يشكل...» الخ، و في هذا الموضوع الثاني:

جهتان:

الأولى: في الامتثال الاحتياطي مع التمكن من الامتثال التفصيلي.

الثانية: في الامتثال الإجمالي، مع عدم التمكن من الإطاعة العلمية، و هي ما سيأتي الكلام فيها.

و أما الجهة الأولى: - كالصلاة إلى جهتين أو أزيد في اشتباه القبلة، أو تمييز الثوب الطاهر عن المتنجس في اشتباه الثوب الطاهر بالمتنجّس - فقد استشكل فيها بوجوه ثلاثة:

الأول: أن الاحتياط المستلزم للتكرار مخلّ بقصد الوجه - و هو الوجوب، إذ يجب على المكلف أن يقصد الوجوب في الواجبات و الندب في المندوبات - حيث إنه حين الإتيان بكل واحدة من الصلاتين لا يعلم بوجوبها حتى يقصد الوجوب؛ بل كل منهما محتمل الوجوب، فلا يمكن قصد الوجوب بالنسبة إلى واحدة منهما بعينها، مع أن قصد الوجوب دخيل في تحقق الامتثال حسب الفرض، و لا فرق في ذلك بين كون الاحتياط

ص: 123

و أما فيما احتاج إلى التكرار؛ فربما يشكل من جهة الإخلال بالوجه تارة، و بالتمييز أخرى، و كونه لعبا و عبثا ثالثة.

و أنت (1) خبير بعدم الإخلال بالوجه بوجه في الإتيان مثلا بالصلاتين المشتملتين المستلزم للتكرار في الشبهات الموضوعية كالمثالين المذكورين و نظائرهما، و بين كونه في الشبهات الحكمية؛ كدوران الوظيفة في بعض الموارد بين القصر و الإتمام، مع التمكن في الجميع من إزالة الشبهة و الامتثال العلمي التفصيلي كما هو المفروض، فالنتيجة هي: عدم جواز الاحتياط؛ لأنه مفوّت لقصد الوجه.

=============

الثاني: أن تكرار العبادة بالاحتياط يوجب الإخلال بالتمييز و هو إحراز عنوان المأمور به الواقعي؛ بأن يميز الواجب عن غيره.

و المعلوم في مورد التكرار: هو عدم العلم بكون هذا المأتي به هو المأمور به الواقعي؛ بحيث ينطبق عليه عنوان المأمور به الواقعي، و يكون هذا المأتي به مصداقه، فالتمييز كقصد الوجه يفوت في الامتثال الإجمالي المعبّر عنه بالاحتياط.

الثالث: أن التكرار لعب و عبث بأمر المولى، و لا يكون إطاعة له بنظر العقلاء فالمحتاط بتكرار العبادة يعد لاعبا بأمر المولى عند العقلاء؛ إذ الواجب - في الأمثلة المذكورة - صلاة واحدة فلا وجه لتكرارها. و هناك وجوه لم يذكرها المصنف، و اكتفينا بما ذكره المصنف رعاية للاختصار.

(1) هذا شروع في رد الوجوه الثلاثة المذكورة في كلام المصنف «قدس سره».

و حاصل الكلام في ردّ الوجه الأول: أنه لا يلزم من التكرار إخلال بقصد الوجه حيث إن الداعي إلى فعل كل واحد واحد من المحتملين، أو المحتملات هو: الأمر المتعلق بالواجب، فإتيانه بكل منهما أو منها منبعث عن ذلك الأمر، فلا محالة يكون قاصدا للواجب، فقصد الوجه - أعني: الوجوب - موجود قطعا و حينئذ: فيقصد الوجوب بنحو الغاية تارة: بأن ينوي «أصلي صلاة الظهر لوجوبها»، و بنحو الوصف أخرى: بأن يقصد «أصلي الصلاة الواجبة»، و على كلا التقديرين ليس التكرار مخلا بقصد الوجه.

نعم؛ يكون التكرار مخلا بالتمييز؛ لعدم تمييزه للمأمور به عن غيره، لأن احتمال انطباق المأمور به على كل واحد من المحتملين أو المحتملات موجود؛ و لكن عدم التمييز ليس مخلا بالإطاعة و مانعا عن صدق الامتثال؛ إذ لا دليل على اعتباره، كما أشار إليه بقوله: «و احتمال اعتباره أيضا في غاية الضعف».

و حاصل ردّ اعتبار التمييز: أن إخلال الاحتياط بالتمييز و إن كان مسلما، لكنه غير

ص: 124

على الواجب لوجوبه، غاية الأمر: أنه لا تعيين له (1) و لا تمييز، فالإخلال إنما يكون به، و احتمال اعتباره أيضا في غاية الضعف، لعدم (2) عين منه و لا اثر في الأخبار، مع أنه قادح؛ لأن احتمال اعتباره ضعيف جدا كضعف اعتبار قصد الوجه.

=============

قوله: «لوجوبه» متعلق بقوله، الإتيان، و تقريب لجعل قصد الوجه غاية.

(1) أي: لا تعيين للمأمور به «و لا تمييز».

و حاصل الكلام: أنه لا إشكال من جهة قصد الوجه؛ بل الإشكال يكون من جهة التمييز؛ لعدم تمييز المأمور به عن غيره ؟ و المراد من عدم تعيّن المأمور به الواقعي و عدم تميزه عند المكلف و إن كان له تعيّن و تميّز في الواقع.

(2) تعليل لقوله: «في غاية الضعف».

و حاصل الكلام في المقام: أن المصنف قد ذكر لضعف اعتبار التمييز وجهين:

أحدهما: قوله: «في غاية الضعف» حيث إنه خبر لقوله: «و احتمال اعتباره» بتقريب:

أن تمييز المأمور به غير لازم على المكلف حين الامتثال؛ و ذلك لعدم الدليل على اعتباره في الأخبار.

و ثانيهما: قوله: «مع أنه مما يغفل عنه غالبا»، و توضيحه يتوقف على مقدمة و هي: إن الشيء الذي يكون له دخل في الغرض على قسمين: تارة: يكون مما هو مركوز في أذهان عامة الناس، و أخرى: لا يكون كذلك، بل مما يغفل عنه العامة، فإن كان من قبيل الأول لم يلزم على المتكلم بيانه لكفاية تنبّه العامة له و ارتكازه لديهم في عدم فوات الغرض، فيصح الاعتماد على هذا الارتكاز، و عدم تعرض المتكلم لبيانه نظير اعتبار السلامة في البيع؛ فإنه مرتكز عند المتعاقدين، و لذا لا يصرح به في العقد و يكتفي في اعتبارها على هذا الارتكاز.

و إن كان من قبيل الثاني: لزم على المتكلم بيانه، و إلا لأخل بغرضه؛ إذ ليس هنا ارتكاز يعقد عليه عند عدم بيانه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن التمييز من القسم الثاني، لغفلة عامة الناس عن دخله في الغرض، فلو كان دخيلا فيه لزم التنبيه عليه و إلا لأخل بالغرض اللازم استيفائه، و قد عرفت الإشارة إلى خلوّ الأخبار عن اعتبار التمييز، فيحصل العلم حينئذ بعدم دخله في الغرض. هذا تمام الكلام في رد الوجه الثاني.

بقي الكلام في ردّ الوجه الثالث، و هو كون التكرار لعبا بأمر المولى و قد ردّ المصنف هذا الوجه بوجوه:

ص: 125

مما يغفل عنه غالبا، و في مثله لا بد من التنبيه على اعتباره و دخله في الغرض، و إلا لأخل بالغرض كما نبهنا عليه سابقا.

و أما (1) كون التكرار لعبا و عبثا: فمع أنه ربما يكون لداع عقلائي، إنما يضر إذا كان لعبا بأمر المولى (2)، لا في كيفية إطاعته (3) بعد حصول الداعي إليها (4)، كما لا يخفى.

=============

الأول: أن التكرار مطلقا لا يكون لعبا بأمر المولى؛ بل التكرار الكثير يكون لعبا بأمر المولى كالصلاة إلى أكثر من أربع جهات في اشتباه القبلة.

الثاني: أن التكرار يمكن أن يكون لداع عقلائي يخرجه عن اللغوية و العبث، كما إذا كان تحصيل العلم التفصيلي موجبا لمشقة أو مستلزما لمنّة؛ بحيث يكون التكرار أهون من تحملهما، فيكرر الصلاة لذلك، أو نحوه من الأغراض العقلائية المخرجة لتكرير العبادة عن اللغوية و العبث، فلا يكون التكرار عبثا و لعبا بأمر المولى بعد انبعاث العبد عن أمره بالنسبة إلى جميع الأفراد.

إجزاء الاحتياط المستلزم للتكرار

الثالث: أن عدم صدق الإطاعة مع فرض اللعب بأمر المولى و الاستهزاء به لا يختص بصورة التكرار؛ بل لا يصح المأتي به و لا يكون مجزيا حتى مع العلم التفصيلي بالمأمور به، أو عدم استلزام الاحتياط للتكرار؛ كدوران المأمور به بين الأقل و الأكثر إذا أتى به مستهزئا و لاعبا بالأمر.

و بعبارة واضحة: أنه إذا كان أصل العمل منبعثا عن أمر المولى، و لم يكن له داع سواه غاية الأمر: أنه لاعب في طريق الإطاعة و كيفيتها، لا في نفس الإطاعة التي هي عبارة عن الانبعاث المترتب على بعث المولى، فالعبث في هذه المرتبة ليس قادحا في تحقق الإطاعة.

فالمتحصل: أن التكرار ليس عبثا أولا، لإمكان اقترانه بغرض عقلائي، و على تقديره ليس عبثا في نفس الإطاعة ثانيا؛ بل إنما هو كيفيتها، و هو غير قادح.

قوله: «و إلا لأخل بالغرض كما نبهنا عليه سابقا» يعني: و إن لم ينبه عليه لأخل بالفرض، كما نبهنا على لزوم التنبيه على ما يغفل عنه عامة الناس مع دخله في الغرض في بحث التعبدي و التوصلي.

(1) شروع في ردّ الوجه الثالث و قد تقدم توضيح ذلك، فلا حاجة إلى الإعادة.

(2) أي: اللعب بأمر المولى هو الاستهزاء به، فالداعي إلى الفعل حينئذ شيطاني لا رحماني.

(3) أي: إطاعة الأمر، و الضمير في «إذا كان» راجع على التكرار.

(4) أي: إلى الطاعة، و المراد بالداعي إلى الطاعة هو الأمر.

ص: 126

هذا (1) كله في قبال ما إذا تمكن من القطع تفصيلا بالامتثال. و أما إذا لم يتمكن إلا من الظن به كذلك (2) فلا إشكال في تقديمه على الامتثال الظني؛ لو لم يقم دليل على اعتباره إلا فيما إذا لم يتمكن منه.

=============

(1) أي: هذا كله بيان حكم الامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي، و به تم الكلام في الجهة الأولى.

و أما مع عدم التمكن من تحصيل العلم التفصيلي بالامتثال، و دوران الأمر بين الامتثال الظني التفصيلي و بين الامتثال القطعي الإجمالي، فيقع الكلام حينئذ في تقديم أحدهما على الآخر.

(2) أي: إذا لم يتمكن المكلف إلا من الظن بالامتثال تفصيلا، و هذا شروع في الجهة الثانية و هي: جواز الاحتياط عند تعذر الامتثال العلمي التفصيلي؛ و لكن يتمكن المكلف من الامتثال الظني التفصيلي

في الامتثال الظنّي التفصيلي

و أما حاصل ما أفاده المصنف في الامتثال الظني التفصيلي: فله صور و شقوق. و ذلك فإن ذلك الظن إما ظن خاص - و هو ما ثبت اعتباره بدليل خاص - و إما ظن مطلق - و هو ما ثبت اعتباره بدليل الانسداد - و كل منهما على قسمين؛ لأن الظن الخاص قد يكون معتبرا بشرط عدم التمكن من الامتثال العلمي الإجمالي أي: الاحتياط، و قد يكون معتبرا مطلقا يعني: مع التمكن من الاحتياط، و الظن المطلق الثابت اعتباره بدليل الانسداد قد يبنى على أن من مقدمات دليل اعتباره هو عدم وجوب الاحتياط، و قد يبنى على أن من مقدمات دليل اعتباره هو عدم جواز الاحتياط، فالصور و الشقوق حينئذ أربعة:

الأولى: الظن الخاص المشروط اعتباره بعدم التمكن من الاحتياط، و لا إشكال حينئذ في عدم جواز الامتثال الظني إذا تمكن من الامتثال العلمي الإجمالي، و وجوب تقديمه على الامتثال الظني؛ لعدم اعتباره حسب الفرض.

الثانية: الظن الخاص المعتبر مطلقا حتى مع التمكن من الامتثال العلمي الإجمالي؛ بأن يكون مقتضى دليل اعتباره حجيته في عرض الاحتياط و رتبته، و لا إشكال في جواز الاجتزاء بكل من الامتثال الظني و الاحتياطي حينئذ.

الثالثة: الظن المطلق، مع البناء على أن من مقدماته عدم وجوب الاحتياط، و لا إشكال أيضا في جواز الاجتزاء بالامتثال الظني في عرض الامتثال العلمي الإجمالي، كما في الصورة الثانية؛ لأن الظن المطلق حينئذ كالظن الخاص المعتبر مطلقا في جواز كل من الامتثال الظني و الاحتياطي.

ص: 127

و أما لو قام (1) على اعتباره مطلقا: فلا إشكال في الاجتزاء بالظن، كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الإجمالي في قبال الظني بالظن المطلق المعتبر بدليل الانسداد، بناء على أن يكون من مقدماته عدم وجوب الاحتياط. و أما لو كان من مقدماته بطلانه لاستلزامه (2) العسر المخل بالنظام، أو لأنه (3) ليس من وجوه الطاعة و العبادة؛ الرابعة: الظن المطلق مع البناء على أن من مقدماته عدم جواز الاحتياط؛ لاستلزامه العسر و الحرج، أو أنه ليس طاعة بل هو لعب بأمر المولى فيما إذا توقف على التكرار، و لا إشكال هنا في تعين الامتثال الظني التفصيلي، لبطلان الاحتياط حسب الفرض. و على هذه الصورة الرابعة يبتني بطلان عبادة تارك طريقي الاحتياط و التقليد؛ إذ لا يوجب الاحتياط سقوط الأمر لما عرفت من عدم كونه امتثالا؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 199» مع توضيح منّا.

=============

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «الوصول إلى كفاية الأصول».

(1) أي: لو قام الدليل على اعتبار الظن مطلقا، حتى مع إمكان الامتثال القطعي الإجمالي، و هذا مقابل لقوله: «لو لم يقم...» الخ، و ذلك مثل خبر الواحد و الظواهر و خبر العدلين و نحوها، «فلا إشكال في الاجتزاء» بالامتثال الإجمالي، فيصلي الظهر و الجمعة، كما يصح الاجتزاء بالظن التفصيلي بأن يأخذ بدليل وجوب الجمعة، فيصلي صلاة الجمعة يومها فقط.

«كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الإجمالي في قبال» الامتثال «الظني بالظن المطلق المعتبر بدليل الانسداد»، مقابل الظن الخاص المعتبر بالأدلة الخاصة، «بناء على أن يكون من مقدماته» أي: من مقدمات دليل الانسداد «عدم وجوب الاحتياط»، فيختار إما الامتثال الظني الانسدادي، أو العلمي الإجمالي؛ إذ الاحتياط ليس بواجب عليه؛ لا أنه ليس بجائز له. هذا ما تقدمت الإشارة إليه في الصورة الثالثة.

(2) أي: لاستلزام الاحتياط العسر المخل بالنظام. هذا أحد الوجوه التي يستدل بها على بطلان الاحتياط في العبادات، و هو يعم ما لو كان مستلزما للتكرار، و ما لم يكن كذلك. كما سيأتي التعرض له مفصلا في مبحث الاشتغال إن شاء الله تعالى.

(3) أي: لأن الاحتياط، و هو عطف على قوله: «لاستلزامه» و هذا وجه آخر لبطلان الاحتياط، و حاصله: عدم كون الاحتياط من وجوه الطاعة؛ إما لحكم العقل بذلك لفوات التمييز، أو قصد الوجه أو كليهما، و إما لحكم الشرع بعدم كون الاحتياط من وجوه الطاعة؛ لما ادّعي من الإجماع على عدم مشروعية الامتثال الاحتمالي و الرجائي.

ص: 128

بل هو نحو لعب (1) و عبث بأمر المولى فيما إذا كان بالتكرار كما توهم (2)، فالمتعين هو التنزل عن القطع تفصيلا إلى الظن كذلك (3).

و عليه (4): فلا مناص عن الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد و الاجتهاد؛ و إن احتاط فيها (5) كما لا يخفى.

هذا بعض الكلام في القطع مما (6) يناسب المقام، و يأتي بعضه الآخر (7) في البراءة و الاشتغال، فيقع المقال فيما هو المهم من عقد هذا المقصد و هو (8) بيان ما قيل

=============

(1) أي: هذا الوجه مختص بالاحتياط المتوقف على التكرار.

(2) أي: كما توهّم عدم جواز الاحتياط.

(3) أي: تفصيلا. قوله: «فالمتعين» جواب «أما لو كان»:

و حاصل الكلام: أنه لو كان من مقدمات دليل الانسداد بطلان الاحتياط فالمتعين هو التنزل عن القطع تفصيلا إلى الظن تفصيلا، بمعنى: أنه لا واسطة بينهما، إذ المفروض:

بطلان الامتثال الاحتياطي، فالمتعين هو الامتثال الظني؛ إذ يدور الأمر بين الامتثال العلمي التفصيلي، و بين الامتثال الظني كذلك، فإن تمكن المكلف من الامتثال التفصيلي العلمي فهو، و إن لم يتمكن وجب الامتثال التفصيلي الظني، و لا يجوز له الامتثال الإجمالي العلمي.

(4) أي: بناء على عدم جواز الامتثال العلمي الإجمالي، و التنزل عن القطع التفصيلي إلى الظن التفصيلي - لبطلان الاحتياط - «فلا مناص عن الذهاب...» الخ.

(5) أي: في العبادات، لفرض بطلان الاحتياط.

(6) أي: من المباحث المتعلقة بتنجيز العلم الإجمالي؛ لما عرفت: من أن المناسب لمبحث القطع هو البحث عن تنجيزه بنحو العلّية أو الاقتضاء، أو عدم تنجيزه مطلقا كما مر تفصيل ذلك.

(7) أي: المراد بالبعض الآخر هو المباحث المتعلقة بجريان الأصل و عدمه في أطراف العلم الإجمالي، فإن المناسب لهذه المباحث هو المقصد المتكفل لأحكام الشك، فعلى القول بالاقتضاء: يبحث في أصل البراءة عن وجود المانع عن جريان البراءة في أطراف العلم الإجمالي و عدمه، و على القول بالعلية يبحث في أصل الاشتغال عن عدم جريان الأصول؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 202».

(8) أي: المهم و المشار إليه في قوله: «ذلك» ما هو المهم أي: قبل الخوض فيما هو المهم «ينبغي تقديم أمور».

ص: 129

باعتباره من الأمارات، أو صح أن يقال، و قبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم أمور:

أحدها (1): أنه لا ريب في أن الأمارة الغير العلمية ليست كالقطع، فيكون الحجيّة من لوازمها و مقتضياتها بنحو العلية؛ بل مطلقا، و أنّ ثبوتها (2) لها محتاج إلى جعل أو ثبوت مقدمات و طروء حالات موجبة لاقتضائها الحجية عقلا، بناء على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومة، و ذلك (3) لوضوح: عدم اقتضاء غير القطع

=============

المقدمة الثانية فى بعض احكام مطلق الامارات

في عدم اقتضاء الأمارة غير العلمية للحجية ذاتا

(1) المقصود من عقد هذا الأمر الأول: هو بيان أن الأمارة الغير العلمية ليست الحجية من لوازمها - كما في القطع - لا بنحو العلية و لا بنحو الاقتضاء؛ بل إنها ممكنة الثبوت لها.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن إقامة البرهان على إثبات محمول لموضوع إنما تتم إذا لم يكن ذلك من لوازم الموضوع أي: لم يكن ثبوته له ضروريا، و كذلك لم يكن المحمول ممتنع الثبوت للموضوع، ضرورة: عدم صحة إقامة البرهان في هاتين الصورتين؛ إذ في الصورة الأولى لا حاجة إلى البرهان؛ لفرض: كون المحمول من لوازم الموضوع التي لا تنفك عنه، فإقامة البرهان على ثبوته للموضوع من قبيل تحصيل الحاصل، و هو محال.

و في الصورة الثانية: لا يمكن الحمل؛ لفقدان مصحّح الحمل - و هو الاتحاد الوجودي بينهما - بعد فرض امتناع ثبوته له.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الأمارة غير العلمية ليست علة تامة للحجية - كما في القطع - و لا مقتضية لها؛ إذ لا كشف تاما لها عن الواقع؛ بل الحجية ممكنة الثبوت لها ذاتا، و حينئذ فلا بدّ في ثبوت اعتبارها من جعل الحجية لها شرعا؛ كجعل الحجية لخبر الواحد أو الإجماع المنقول، أو من حصول مقدمات توجب الحجية لها كالظن المطلق إما عقلا بناء على تمامية مقدمات الانسداد على تقرير الحكومة، و إما شرعا بناء على تماميتها بنحو الكشف كما سيأتي؛ فانتظر.

قوله: «بل مطلقا» إضراب عن قوله: «بنحو العلية» يعني: أن الأمارة لا تكون مقتضية للحجية؛ لا بنحو العلية التامة، و لا بنحو الاقتضاء.

(2) أي: أن ثبوت الحجية للأمارة غير العلمية «محتاج إلى جعل...» الخ، هذا إشارة إلى أن الحجية ممكنة الثبوت للأمارة، و ليست ضرورية لها.

(3) أي: ما ذكرنا من الأمارات ليست كالقطع في الحجية، «لوضوح: عدم اقتضاء

ص: 130

للحجية بدون ذلك ثبوتا (1) بلا خلاف، و لا سقوطا (2) و إن كان ربّما يظهر فيه من بعض المحققين: الخلاف و الاكتفاء بالظن بالفراغ (3)، و لعله (4) لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل، فتأمل (5).

=============

غير القطع للحجية بدون ذلك» أي: بدون الجعل أو ثبوت مقدمات. فيكون قوله:

«لوضوح» تعليلا لما ذكره من عدم كون الأمارات علة تامة للحجية، و لا مقتضية لها، و حاصله: أن الوجدان و بناء العقلاء شاهدان على عدم حجية الظن و منجزيته، و عدم كون العبد تحت الخطر لو خالف ظنه كما هو واضح.

(1) أي: في مقام إثبات التكليف، بمعنى: أنه لا يثبت التكليف بالظن «بلا خلاف» من أحد.

(2) أي: في مقام امتثال التكليف و سقوطه، فلا يكفي الظن بفراغ الذمة، «و إن كان ربما يظهر فيه» أي: في سقوط التكليف بالظن «من بعض المحققين»؛ كالمحقق الخوانساري أو البهبهاني على ما قيل.

(3) فإذا علم بوجوب صلاة الظهر عليه ثم ظن بإتيانها لا يجب الإتيان بها ثانيا.

(4) أي: و لعل الاكتفاء بالظن، و هذا توجيه للاكتفاء بالظن في مرحلة الفراغ و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 206» - أن المقام من صغريات قاعدة دفع الضرر المحتمل، ببيان: أن عدم الاكتفاء بالظن بالفراغ ملازم لاحتمال بقاء التكليف و عدم سقوطه، و بقاؤه مستلزم للضرر على مخالفته، و دفع الضرر المحتمل لازم، فعدم الاكتفاء بالظن بالفراغ لازم؛ و لكن حيث ثبت عدم لزوم دفع الضرر المحتمل فلا تجب مراعاة احتمال بقاء التكليف؛ حتى لا يكتفى بالظن بالفراغ؛ بل يكتفى به.

و بعبارة أخرى: لو كان دفع الضرر المحتمل واجبا لم يجز الاكتفاء بالظن بالفراغ عن التكليف؛ لاحتمال بقائه المستلزم للضرر على مخالفته؛ لكن دفع الضرر المحتمل غير لازم، فعدم جواز الاكتفاء بالظن بالفراغ غير ثابت، فيجوز الاكتفاء به و هو المطلوب.

(5) لعله إشارة إلى أن هذه القاعدة لا تثبت ما أراده ذلك البعض؛ من اقتضاء الظن للحجية، و جواز الاكتفاء به في مرحلة الفراغ؛ إذ التعليل بقاعدة عدم لزوم دفع الضرر المحتمل تعليل بما هو خارج عن مقام الذات، و المدعى اقتضاء الظن ذاتا للحجية المستلزمة لجواز الاكتفاء به في مرحلة الفراغ؛ لا اقتضاؤها لها بما هو خارج عن ذاته، فلا يصلح عدم لزوم دفع الضرر المحتمل لأن يكون علة لاقتضاء الأمارات ذاتا - كما عبر به بعض - للحجية.

ص: 131

ثانيها (1): في بيان إمكان (2) التعبد بالأمارة الغير العلمية شرعا و عدم لزوم محال أو إشارة إلى عدم صغروية الفراغ لتلك القاعدة؛ إذ موردها هو الشك في ثبوت التكليف لا سقوطه الذي يكون المرجع فيه قاعدة الاشتغال، فدعوى اقتضاء الأمارة ذاتا للحجية في مرحلة الفراغ في غير محلها؛ بل المرجع عند الشك في الفراغ قاعدة الاشتغال.

=============

و في بعض الحواشي ما لفظه: «و لعل وجه التأمل أن اكتفاء بعض المحققين بالظن بالفراغ نظرا إلى عدم لزوم دفع الضرر المحتمل غير مربوط هو بحجية الظن في مقام السقوط، فإن شأن الحجة أن يقطع معها بعدم الضرر لا أنه يحتمل معها الضرر، و لا يجب دفعه بحكم العقل، و هذا أيضا واضح».

في إمكان التعبد بالأمارة الغير العلمية

(1) المقصود من عقد هذا الأمر الثاني - بطوله -: هو بيان إمكان التعبد بما سوى العلم و جعله طريقا للوصول إلى الواقع كما في الأمارات الظنية، أو جعله وظيفة مضروبة للجاهل يعمل بها في ظرف الشك و الحيرة كما في الأصول العملية.

(2) و قبل الخوض في البحث تفصيلا لا بد من بيان ما هو المراد بالإمكان في محل الكلام فنقول: إن الإمكان و إن كان له معان كثيرة - كما في شرح المنظومة - إلا إن ما هو المناسب في المقام أحد معان ثلاثة:

1 - الإمكان الذاتي في مقابل الامتناع الذاتي، و هو من صفات الماهية بمعنى: سلب الضرورة عن الطرفين، أو عن الطرف المقابل؛ كإمكان الإنسان في مقابل امتناعه كامتناع اجتماع الضدين أو النقيضين.

2 - الإمكان الوقوعي في مقابل الامتناع الوقوعي، بمعنى: ما لا يلزم من وقوعه محال في مقابل الامتناع الوقوعي، و هو ما يلزم من وقوعه محال خارجا، كما يظهر من دليل ابن قبة.

3 - الإمكان الاحتمالي، بمعنى: عدم الجزم بامتناع الشيء بمجرد سماعه، و هو الذي أشار إليه الشيخ الرئيس في كلامه:

«كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان».

و الفرق بين المعاني الثلاثة واضح؛ حيث إن المراد من الأول: ملاحظة نفس ماهية الشيء و سلب الضرورة من الطرفين، أو من الطرف المخالف، و إنه مما لا يجب و لا يمتنع وجوده.

ص: 132

منه (1) عقلا، في قبال دعوى استحالته (2) للزومه، و ليس الإمكان بهذا المعنى (3)؛ بل مطلقا أصلا متبعا عند العقلاء في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع؛ لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان عند الشك فيه، و منع حجيتها - لو سلم ثبوتها - و المراد من الثاني: ما لم يترتب على وقوعه محذور عقلي و إن كان في حد ذاته ممكنا.

=============

و المراد بالثالث: هو احتمال الإمكان و الامتناع، فالإمكان هناك بمعنى: نفس الاحتمال أي: احتمال وجوده و احتمال امتناعه، و عدم القضاء بشيء من الطرفين حتى يتبين الحال و لو بالدليل و البرهان.

إذا عرفت هذه المعاني للإمكان فاعلم: أن المراد بالإمكان في المقام هو الإمكان بالمعنى الثاني؛ إذ لا شك في أنه ليس الإمكان بالمعنى الثالث محلا للنزاع؛ لما عرفت:

من أنه ليس أزيد من عدم القضاء بشيء من الطرفين حتى يتضح الحال، و مثل ذلك لا يليق أن يقع موردا للنزاع و الجدال.

كما أن الإمكان بالمعنى الأول ليس بأمر خفي حتى يقع فيه النزاع، بداهة: قابلية الظن للأمر بالاتباع، و ليس كاجتماع الضدين أو النقيضين اللذين يقتضيان الامتناع بالذات، و ليس التعبد بالظن ممتنعا بالذات بشهادة الخصم إمكانه عند انسداد باب العلم.

(1) أي: من التعبد بالظن.

(2) أي: استحالة التعبد بالظن؛ للزوم المحال من التعبد به على ما نسب إلى ابن قبة.

و الحاصل: أن الإمكان المتنازع فيه هو الإمكان الوقوعي؛ إذ لا مجال لتوهم أن التعبد بالظن ممتنع ذاتي كشريك الباري.

فالمتحصل: أن المحال على قسمين:

محال ذاتي: كاجتماع الضدين مثلا، و محال وقوعي كما يظهر من ابن قبة، فإنه قد ادعى عدم الإمكان الوقوعي، فابن قبة و المشهور يتفقان في دعوى الإمكان الذاتي لحجية الأمارات غير العلمية، و يختلفان في أن المشهور يدعون الإمكان الوقوعي لها أيضا، و ابن قبة يدعي الامتناع الوقوعي لها؛ لما تخيله من ترتب محال أو باطل على التعبد بالأمارات.

(3) أي: الوقوعي «بل مطلقا»، يعني: سواء كان ذاتيا أم وقوعيا.

أي: ليس الإمكان بمعنى عدم لزوم محال منه و هو الإمكان الوقوعي؛ بل مطلقا و لو بمعنى الإمكان الذاتي أصلا متبعا عند العقلاء؛ بحيث إذا شكّوا في إمكان شيء بأحد

ص: 133

لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها، و الظن به لو كان، فالكلام الآن في إمكان التعبد المعنيين بنوا على إمكانه بذاك المعنى، و هذا الكلام في الحقيقة تعريض؛ بل ردّ على الشيخ الأنصاري «قدس سره».

=============

فلا بد أولا: من بيان ما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس سره».

و ثانيا: من ذكر ما أفاده المصنف في ردّه.

و أما ما أفاده الشيخ «قدس سره» فقال - بعد ذكره استدلال المشهور على الإمكان «بأنّا نقطع بأنه لا يلزم من التعبد به محال» - ما هذا لفظه: «و في هذا التقرير نظر؛ إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسنة و المقبحة، و علمه بانتفائها، و هو غير حاصل فيما نحن فيه، فالأولى أن يقرّر هكذا: إنا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة، و هذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان»، و ظاهر كلامه هذا: أن الإمكان أصل متبع عند العقلاء عند الشك في إمكان شيء و امتناعه، فجعل الشيخ «قدس سره» الأصل عند الشك في الإمكان هو الإمكان، و حكم بأن طريقة العقلاء هو الحكم بإمكان الشيء الذي لا يجدون وجها على استحالته».

هذا بيان ما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس سره».

و قد أورد عليه المصنف «قدس سره» بوجوه:

الأول: هو المنع من ثبوت سيرة العقلاء على ترتيب آثار الإمكان عند الشك في إمكان شيء و امتناعه. و هذا ما أشار إليه بقوله: «لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان عند الشك فيه».

هذا مضافا إلى أنه لو ثبت ما نسبه إلى العقلاء لكان ذلك في مورد الإمكان الاحتمالي، و قد عرفت: أنه خارج عن مورد البحث، و ما هو محل الكلام هو الإمكان بالمعنى الثاني - أعني: الإمكان الوقوعي - و ليس هنا أصل عقلائي.

فالمتحصل: أن النزاع في الإمكان بالمعنى الثاني، و لا يثبت إلا بالبرهان لا بالأصل العقلائي.

الثاني: منع حجية سيرة العقلاء على تقدير ثبوتها. بمعنى: أن السيرة - على تقدير ثبوتها - لا اعتبار لها؛ لعدم دليل قطعي على حجيتها، و الظن باعتبارها لا يكفي في الحجية؛ لأن الشأن في اعتبار الظن، فلا يمكن إثبات حجية الظن بالظن بالحجية لاستلزامه الدور. هذا ما أشار إليه بقوله: «و منع حجيتها لو سلم ثبوتها».

ص: 134

بها و امتناعه، فما ظنّك به ؟ لكن دليل وقوع التعبد بها من طرق إثبات إمكانه، حيث يستكشف به عدم ترتب محال من تال باطل فيمتنع مطلقا، أو على الحكيم (1) تعالى، فلا حاجة معه في دعوى الوقوع إلى إثبات الإمكان، و بدونه لا فائدة في إثباته، كما هو واضح.

=============

الثالث: ما حاصله: أنه مع فعلية التعبد لا حاجة إلى البحث عن الإمكان، كما لا فائدة في إمكان إثبات التعبد بالظن بدون دليل الوقوع، لوضوح: أن الأثر العملي مترتب على فعلية التعبد؛ لا على مجرد إمكانه. هذا ما أشار إليه بقوله: «فلا حاجة معه».

و كيف كان؛ فالمتحصل: أن الصحيح في مقام الاستدلال على الإمكان أن يستدل عليه بوقوع التعبد بالأمارات الغير العلمية شرعا؛ لأن وقوع الشيء أقوى الدليل على إمكانه كما لا يخفى؛ لا بما استدل به المشهور؛ كي يرد عليه ما أورده الشيخ الأنصاري «قدس سره»، و لا بما استدل به الشيخ الأنصاري؛ كي يرد عليه ما أورده المصنف «قدس سره». قال الأستاذ السيد الخوئي «قدس سره» ما هذا لفظه: «و أما ما أورده في الكفاية من الوجوه الثلاثة: فكلها مبتنية على أن يكون مراد الشيخ «قدس سره» من بناء العقلاء على الإمكان بناءهم على ذلك مطلقا؛ و لكن المحتمل بل المطمئن به أن يكون مراده هو البناء على ذلك عند قيام دليل ظني معتبر عليه، فإذا اقتضى ظهور كلام المولى حجية ظن، و شككنا في إمكان ذلك فالعقلاء لا يعتنون باحتمال الاستحالة في رفع اليد عن العمل بالظهور، فما لم يثبت استحالة شيء كان ظهور كلام المولى حجة فيه، و هذا نظير ما إذا أمر المولى بوجوب إكرام العلماء، و شككنا في أن إكرام العالم الفاسق ذو مصلحة ليكون الحكم بوجوبه ممكنا من الشارع الحكيم، أو أنه ليس فيه مصلحة ليكون ذلك مستحيلا، فهل يشك أحد في لزوم الأخذ بظهور كلام المولى حينئذ و عدم الاعتناء باحتمال الاستحالة ؟ و هذا الذي ذكرناه في بيان كلام الشيخ هو المناسب للبحث عنه في المقام فإنه هو الذي يترتب عليه الأثر العملي، و على ذلك فلا يرد شيء بما أورد عليه في الكفاية» كما في «دراسات في علم الأصول، ج 3، ص 106».

(1) كما إذا كان اللازم محالا عرضيا كقبحه عقلا، نظير تفويت المصلحة و الإلقاء في المفسدة، فإن صدور القبيح من الحكيم تعالى محال لمنافاته لحكمته، فدليل فعلية التعبد كاشف عن عدم المحال بقسميه.

«و بدونه لا فائدة في إثباته» أي: بدون الوقوع لا فائدة في إثبات الإمكان؛ إذ مجرده لا يدل على الوقوع.

ص: 135

و قد انقدح بذلك (1): ما في دعوى شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه» من كون الإمكان عند العقلاء مع احتمال الامتناع أصلا.

و الإمكان (2) في كلام الشيخ الرئيس: «كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان»، بمعنى الاحتمال المقابل للقطع و الإيقان، و من الواضح: أن لا موطن له (3) إلا الوجدان، فهو المرجع......

=============

(1) أي: و قد ظهر بما تقدم من الإشكال على السيرة من عدم تمامية الاستدلال على إمكان المشكوك إمكانه بالسيرة العقلائية، «ما في دعوى شيخنا العلامة من كون الإمكان عند العقلاء مع احتمال الامتناع أصلا» أي: ليس الإمكان أصلا؛ بل إثباته يحتاج إلى الدليل و البرهان.

(2) دفع لما يتوهم من أن كلام الشيخ الرئيس دليل على ما ادعاه الشيخ الأنصاري «قدس سره» من الحكم بالإمكان عند الشك، و أنه طريق يسلكه العقلاء، فكلام الشيخ الرئيس دال على أن الأصل فيما شك في إمكانه هو الإمكان حتى يثبت امتناعه بالبرهان.

و حاصل الدفع: أن الإمكان في كلام الشيخ الرئيس ليس بمعنى الإمكان الذاتي و لا الوقوعي، حتى يكون هذا الكلام دليلا على أن الأصل المتبع عند العقلاء - لو سلّم - هو الإمكان بأحد هذين المعنيين، أما أنه ليس بمعنى الإمكان الذاتي: فلأن الإمكان الذاتي مما لا نزاع فيه فيما نحن فيه، مع أنه بمجرده لا يفيد الوقوع الذي هو محل البحث.

و أما أنه ليس بمعنى الإمكان الوقوعي حتى يكون أصلا متبعا يستند إليه في المقام:

فلأنه لو كان بمعنى الإمكان الوقوعي لما احتاج المشهور القائلون بإمكان التعبد إلى التمسك في وقوعه؛ بما سيأتي من الأدلة، بل الإمكان في كلام الشيخ الرئيس بمعنى الاحتمال المقابل للقطع الشامل لجميع أقسام الممكن، فمعنى كلام الشيخ الرئيس: «كلما قرع سمعك من الغرائب» فاحتمل أنت وقوعه في الخارج على طبق ما قرع سمعك؛ ما لم يمنعك واضح البرهان لا أنه كلما قرع سمعك من الغرائب فاحكم بأنه أمر ممكن مع الشك في إمكانه ثبوتا.

(3) أي: لا موطن للإمكان بمعنى الاحتمال «إلا الوجدان»، و الأمر الوجداني لا يقع محلا للنزاع، فالإمكان بمعنى الاحتمال من الأمور الوجدانية غير المحتاجة إلى إقامة برهان، و لعل هذا الكلام دفع لما ربما يتوهم في المقام، فلا بد أولا من تقريب التوهم، و ثانيا من توضيح دفعه.

ص: 136

فيه (1) بلا بيّنة و لا برهان.

و كيف كان (2)؛ فما قيل أو يمكن (3) أن يقال في بيان ما يلزم التعبّد بغير العلم من المحال، أو الباطل و لو لم يكن بمحال أمور:

أحدها (4): اجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين مثلا فيما أصاب، أو ضدين من و أما تقريب التوهم فيقال: إن حمل الإمكان في كلام الشيخ الرئيس على الاحتمال لا ينافي كونه أصلا في المقام؛ لاحتمال أن يكون مورد النزاع بين ابن قبة و المشهور في التعبد بالأمارات و عدمه هو الاحتمال بمعنى: أن ابن قبة يكون مدعيا لعدم احتمال التعبد بغير العلم، و المشهور يكونون مدعين لاحتماله.

=============

و أما توضيح الدفع: فإن الإمكان بمعنى الاحتمال أمر وجداني غير قابل للإنكار حتى يحتاج في إثباته إلى إقامة بيّنة و برهان، مع أن المشهور أقاموا البرهان على ذلك، فيعلم أن مرادهم بالإمكان ليس هو الاحتمال.

(1) يعني: أن الوجدان هو المرجع في الإمكان بمعنى الاحتمال.

توضيح العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(2) أي: سواء كان الإمكان بمعنى الاحتمال، أو بمعنى الإمكان الوقوعي.

في محاذير التعبد بالأمارة الغير العلمية

(3) هذا شروع في بيان ما استدل به على امتناع وقوع التعبد بالأمارات غير العلمية، و أنه يترتب عليه محاذير، و قد ذكر منها ثلاثة أوجه؛ لأن ما يترتب عليه إما محذور خطابي و ملاكي معا، أو خطابي فقط، أو ملاكي فقط.

و المراد بالمحذور الخطابي هو: اجتماع الحكمين المتماثلين أو المتضادين في محلّ واحد؛ كاجتماع وجوبين أو وجوب و حرمة في موضوع واحد.

و المراد بالمحذور الملاكي: أن يكون التنافي بين نفس الملاكين أعني: ما يكون مبدأ للحكم و متقدما عليه تقدّم العلة على المعلول؛ كالمصلحة و المفسدة.

(4) و حاصل ما أفاده المصنف في هذا الوجه من امتناع التعبد بالطريق غير العلمي هو: ترتب المحذور الخطابي و الملاكي معا عليه، أما الأول - و هو المحذور الخطابي -:

فلاستلزامه اجتماع المثلين فيما إذا أدت الأمارة إلى الحكم المماثل للحكم الواقعي، نظير أدائها إلى الوجوب أو الحرمة أو الإباحة مثلا، مع كون الحكم الواقعي مثل مؤدى الأمارة، فيلزم اجتماع المثلين من الوجوبين أو الحرمتين أو الإباحتين؛ كطهارة العصير العنبي بعد الغليان واقعا مع قيام الأمارة عليها أيضا.

و اجتماع الضدين من الوجوب و الحرمة، أو الوجوب و الإباحة فيما إذا أدت الأمارة

ص: 137

إيجاب - و تحري (1)، و من إرادة و كراهة، و مصلحة و مفسدة ملزمتين (2) بلا كسر و انكسار في البين فيما أخطأ، أو التصويب (3)، و أن لا يكون هناك غير مؤديات الأمارات أحكام.

ثانيها (4): طلب الضدين فيما إذا أخطأ، و أدى إلى وجوب ضد....

=============

إلى الحكم المخالف للحكم الواقعي؛ كما إذا فرض وجوب الاستعاذة قبل القراءة واقعا، مع قيام الأمارة على استحبابها.

و أما الثاني - و هو المحذور الملاكي -: فللزوم اجتماع الضدين من الإرادة و الكراهة فيما أخطأت الأمارة؛ لنشوء الأمر عن الإرادة، و الحرمة عن الكراهة، و من المصلحة و المفسدة المؤثرتين في الإرادة و الكراهة فيما إذا لم يكن بينهما كسر و انكسار؛ إذ معهما لا يكون كل من الإرادة و الكراهة متصفة بالملزمية حتى يتحقق التضاد بينهما؛ لعدم تأثير كل منهما بالاستقلال في الإرادة و الكراهة حتى تحدث إرادة بالاستقلال أو كراهة كذلك؛ بل تتحقق إحداهما، فلا يحصل التضاد بينهما؛ لصيرورة الحكم على طبق ما هو الغالب منهما، و هو - أي تحقق إحداهما - خلاف المفروض؛ إذ الفرض: وجود الإرادة و الكراهة المستقلتين اللتين هما تابعتان للمصلحة و المفسدة الملزمتين، اللتين يكون اجتماعهما من اجتماع الضدين.

و بالجملة: ففي صورة الخطأ يلزم اجتماع الضدين في كل من الخطاب و الملاك.

(1) إشارة إلى المحذور الخطابي.

(2) إشارة إلى المحذور الملاكي.

(3) عطف على قوله: «اجتماع المثلين» يعني: أن ما ذكرنا من اجتماع المثلين أو الضدين مبني على كون الحكم الواقعي الموافق لمؤدى الأمارة أو المخالف له محفوظا و باقيا على حاله.

و أما بناء على عدم محفوظا بل منقلبا إلى ما تؤدي إليه الأمارة، فيلزم التصويب و انحصار الحكم في مؤديات الأمارات، و من المعلوم: أن التصويب إما محال و إما باطل كما قرر في محله.

قوله: «و أن لا يكون هناك...» الخ تفسير للتصويب.

(4) أي: ثاني الأمور المترتبة على التعبد بغير العلم طلب الضدين، و هو نظير قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة، مع كون الواجب الواقعي هو الظهر بعد فرض التضاد - و لو شرعا - بين الظهر و الجمعة، و طلب الضدين إما محال إن قلنا بسراية التضاد من

ص: 138

الواجب (1).

ثالثها (2): تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فيما (3) أدى إلى عدم وجوب ما هو واجب، أو عدم حرمة ما هو حرام، و كونه (4) محكوما بسائر الأحكام.

=============

المطلوب إلى نفس الطلب، فلا يمكن انقداح الإرادتين المتعلقتين بالمتضادين في نفس المولى، فهو من قبيل اجتماع الإرادة و الكراهة.

و إن قلنا بعدم السراية - كما قيل - كان قبيحا بالعرض؛ لعدم قدرة العبد على الانبعاث عنهما.

و إن شئت فقل: إن طلب الضدين يكون من باب التزاحم لا التعارض على ما تقرر في محله من ضابط التعارض و التزاحم.

و قد ظهر من هذا البيان: الفرق بين هذا الوجه و سابقه، حيث إن متعلق التكليف في هذا الوجه متعدد كصلاتي الظهر و الجمعة. بخلاف الوجه الأول، فإن المتعلق فيه واحد كاجتماع الوجوب و الحرمة على فعل واحد، كما إذا فرض حرمة شرب التتن واقعا، و قامت الأمارة على حليته.

(1) كما إذا قامت الأمارة أو الأصل العملي على وجوب صلاة الجمعة، و قد أخطأت الأمارة أو خالف الأصل مع الواقع، و كان الواجب واقعا الظهر لزم وجوب الضدين شرعا أحدهما: ظاهري و الآخر: واقعي؛ إذ ليس الواجب إلا أحدهما.

(2) أي: ثالث الأمور اللازمة من التعبد بغير العلم هو فوات المصلحة، أو الإلقاء في المفسدة. و الأول: كما إذا أدت الأمارة إلى عدم وجوب صلاة الجمعة يومها مع فرض وجوبها واقعا، فلزم من جعل هذه الأمارة المخطئة تفويت المصلحة على المكلف، فإن التعبد بها حينئذ موجب لفوات مصلحة الوجوب عن المكلف. و الثاني - و هو الوقوع في المفسدة -: فيما إذا أدت الأمارة إلى عدم حرمتها في زمان الغيبة، و كانت في الواقع حراما، فلزم من جعل هذه الأمارة المخطئة إلقاء المكلف في المفسدة، و كل منهما باطل قبيح يمتنع صدوره عن الحكيم و لو عرضا لا ذاتا؛ لمنافاته لحكمته. فهذا المحذور الملاكي و إن لم يكن بمحال كاجتماع الضدين؛ إلا إنه قبيح على الحكيم كما عرفت.

(3) أي: فيما إذا أدت الأمارة إلى عدم وجوب ما هو واجب. هذا إشارة إلى مثال تفويت المصلحة، كما أن قوله: «أو عدم حرمة ما هو حرام» إشارة إلى مثال الإلقاء في المفسدة.

(4) أي: كون مؤدى الأمارة يعني: أن الأمارة لم تؤدي إلى وجوب ما هو واجب

ص: 139

و الجواب (1): أن ما ادّعي لزومه إما غير لازم أو غير باطل؛ و ذلك لأن التعبد بطريق غير علمي إنما هو بجعل حجيته، و الحجية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق؛ بل إنما تكون موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب، و صحة الاعتذار به إذا أخطأ، و لكون مخالفته و موافقته تجريا و انقيادا، مع واقعا، أو إلى حرمة ما هو حرام كذلك؛ بل أدت إلى كون مؤداها محكوما بسائر الأحكام كما عرفت في المثالين المذكورين. و الأولى أن يقول هكذا: «و كونه محكوما بغير الوجوب أو الحرمة من سائر الأحكام».

=============

جواب المصنف على تلك المحاذير

(1) و هناك أجوبة كثيرة؛ لكن نكتفي بما أجاب به المصنف رعاية للاختصار.

و ما أجاب به المصنف هو بين ما لا يلزم؛ و إن كان باطلا، و بين ما ليس بباطل و إن كان لازما، فاللازم منه غير باطل، و الباطل منه غير لازم.

أما الباطل الغير اللازم: فهو اجتماع المثلين أو الضدين. و أما اللازم الغير الباطل: فهو تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة. هذا مجمل الكلام في الجواب.

و أما توضيح ذلك: فلأن ما أفاده المصنف في الجواب عن المحاذير المتقدمة إما راجع على منع الصغرى و هي لزوم ما ادّعي لزومه؛ كاجتماع المثلين أو الضدين، و إليه أشار بقوله - «إن ما ادّعي لزومه إما غير لازم» و إما راجع على منع الكبرى - و هي بطلان اللازم - و إليه أشار بقوله: «أو غير باطل».

و أما منع الصغرى: فلأن الحجية من الاعتبارات القابلة للجعل كالملكية و الزوجية و نحوهما، و معنى جعلها ترتيب آثار الحجية الذاتية - و هي العلم - من التنجيز و التعذير على الأمارة غير العلمية التي صارت حجة بالتعبد، و ليس معنى جعل الحجية جعل الحكم التكليفي لمؤدى الأمارة، حتى يلزم اجتماع المثلين عند الإصابة أو الضدين عند المخالفة بمعنى: أنه إذا قام خبر الواحد على وجوب صلاة الجمعة كان معنى حجيته تنجيز الواقع عند الإصابة، و تعذير المكلف عند المخالفة لا أن معنى حجيته وجوب صلاة الجمعة حتى يلزم اجتماع المثلين فيما إذا كانت واجبة واقعا، أو الضدين فيما إذا لم تكن واجبة واقعا.

و عليه: فليس في مورد الأمارة المعتبرة حكم غير الحكم الواقعي حتى يلزم اجتماع المثلين في صورة توافقهما، أو اجتماع الضدين في صورة تخالفهما.

و من هنا ظهر: عدم لزوم التصويب أيضا؛ إذ لزومه يتوقف على ثبوت أمرين:

أحدهما: كون مؤدى الأمارة حكما مجعولا.

ص: 140

ثانيهما: خلو الواقع عن الحكم، و المفروض: بطلانهما، أما بطلان الأول: فلما قلنا:

من عدم استتباع حجية الأمارة للحكم الشرعي.

و أما بطلان الثاني: فلوضوح: أن لكل واقعة حكما يشترك فيه العالم و الجاهل. هذا تمام الكلام في منع الصغرى.

و أما منع الكبرى - و هي ما أشار إليه بقوله: - «أو غير باطل» فحاصله: أن تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة و إن كان يلزم من التعبد بالأمارة عند مخالفتها للواقع، إلا إنه لا محذور فيه، و لا يكون باطلا؛ لأنه مع وجود المصلحة في التعبد بالأمارة يتدارك المصلحة الواقعية الفائتة، أو المفسدة الملقى فيها، نعم؛ إذا لم يكن في التعبد بالأمارة مصلحة يتدارك بها المصلحة الفائتة أو المفسدة الملقى فيها كان المحذور المتقدم لازما.

و كيف كان؛ فقد ذكر المصنف وجوها ثلاثة للتخلص عن المحاذير المتقدمة.

الوجه الأول: أن المجعول في مورد التعبد بالأمارة ليس حكما شرعيا تكليفيا؛ بل المجعول هو الحجية من دون أن يكون هناك أيّ حكم ظاهري مجعول في موردها، و أثر ذلك هو التنجيز و التعذير، و عليه: فليس لدينا وجوبان - مثلا - أو وجوب و حرمة و لا مصلحة و لا مفسدة و لا إرادة و كراهة؛ كي يلزم ما تقدم من المحذور الخطابي و الملاكي معا، أو المحذور الخطابي فقط، أو الملاكي كذلك.

و أما محذور تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة: فيرتفع بوجود مصلحة في التعبد غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء في المفسدة.

الوجه الثاني: أنه لو التزم بوجود حكم ظاهري تكليفي في موارد الأمارات؛ إما بدعوى استتباع جعل الحجية لذلك، أو بدعوى إنه لا معنى لجعل الحجية إلا جعل الحكم التكليفي، بمعنى: أنها منتزعة عن الحكم التكليفي الظاهري، فلا محذور أيضا و إن اجتمع الحكمان، و ذلك لأن الحكم الظاهري حكم طريقي، بمعنى: أنه ناشئ عن مصلحة في نفسه أوجبت إنشاءه المستلزم للتنجيز و التعذير. و الحكم الواقعي حكم فعلي ناشئ عن مصلحة في متعلقه.

و نظرا إلى اختلاف مركز المصلحتين في الحكمين لا يلزم اجتماع المثلين و لا اجتماع الضدين؛ لأن تضاد الحكمين من جهة تضاد مبدئهما و هو الإرادة و الكراهة و المصلحة و المفسدة، و المفروض: أن ما فيه المصلحة في الحكم الظاهري نفس الحكم لا المتعلق الذي فيه المفسدة الموجبة للحكم الواقعي، فمركز المصلحة و المفسدة مختلف، و باختلافه

ص: 141

عدم إصابته (1)، كما هو شأن الحجة الغير المجعولة (2)، فلا يلزم (3) اجتماع حكمين مثلين أو ضدين، و لا طلب الضدين، و لا اجتماع المفسدة و المصلحة، و لا الكراهة و الإرادة، كما لا يخفى.

و أما تفويت (4) مصلحة الواقع، أو الإلقاء في مفسدته (5): فلا محذور فيه أصلا، إذا كانت في التعبد به (6) مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.

=============

يختلف متعلق الإرادة و الكراهة؛ إذ هما يتبعان المصلحة و المفسدة، فلا تتعلق الإرادة بمتعلق الحكم الظاهري؛ بل بنفس الحكم؛ لأنه مركز المصلحة.

و أما نفس الحكمين بما هما إنشاءان، مع قطع النظر عن مبدئهما فلا تضاد و لا تماثل بينهما، فإن الإنشاء خفيف المئونة كما قيل.

الوجه الثالث: الالتزام بعدم كون الواقع فعليا تام الفعلية و من جميع الجهات، ببيان:

أن الحكم الفعلي هو الحكم الواصل إلى مرحلة البعث و الزجر، و ذلك إنما يكون إذا كانت على طبقة الإرادة و الكراهة فعلا، فيلتزم بأن إرادة الواقع معلقة على صورة عدم ثبوت الإذن على خلافه، فإذا كان هناك إذن فعلي - كما في موارد أصالة الإباحة - لم يكن الحكم الواقعي فعليا من جميع الجهات؛ إذ هو فعلي على تقدير و لم يتحقق التقدير لفرض ثبوت الإذن.

و كيف كان؛ فالالتزام بعدم فعلية الواقع التامة لتعليقها على عدم الإذن يوجب عدم اجتماع الضدين؛ لعدم الإرادة و الكراهة في شيء واحد، إذ الواقع ليس مرادا، كما أنه ليس بذي مصلحة ملزمة فعلا، فلا تنافي بين الحكمين حينئذ، كما في «منتقى الأصول، ج 4، ص 143» مع توضيح و تصرف منّا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) هذا الضمير و ضميرا «مخالفته و موافقته» راجع إلى الطريق غير العلمي.

(2) أي: القطع، إذ حجيته ذاتية غير مجعولة، كما عرفت في بحث القطع.

(3) لما عرفت من عدم كون الحجية مستتبعة لأحكام تكليفية، مع وضوح: أن منشأ الاجتماع المزبور هو جعل الحكم التكليفي في التعبد بالأمارات، و المفروض عدمه.

(4) هذا بيان لمنع الكبرى، و قد عرفت توضيح ذلك، فلا حاجة إلى الإعادة.

(5) أي: مفسدة الواقع، كما إذا أدت الأمارة إلى حلية شرب التتن، مع فرض حرمته واقعا، و ضمر «فيه» راجع على ما ذكر من التفويت أو الإلقاء.

(6) أي: بالطريق غير العلمي.

ص: 142

نعم؛ لو قيل باستتباع (1) جعل الحجية للأحكام التكليفية أو بأنه لا معنى لجعلها إلا جعل تلك الأحكام، فاجتماع حكمين و إن كان يلزم، إلا إنهما ليسا بمثلين أو ضدين؛ لأن أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه موجبة لإنشائه الموجب للتنجز، أو

=============

(1) إشارة إلى أحد القولين في باب حجية الأمارات اللذين بني عليهما إشكال اجتماع الحكمين. و قوله «نعم» استدراك على ما ذكره في الجواب عن الإشكال الأول و الثاني من عدم لزوم المحذور الخطابي و الملاكي، و المقصود من هذا الاستدراك: الإشكال ثانيا على وقوع التعبد بالأمارات غير العلمية؛ بلزوم محذور اجتماع حكمين مثلين أو ضدين أيضا، و هذا الإشكال مبني على أحد و قولين. و توضيحه: أن في باب حجية الأمارات غير العلمية قولين آخرين:

أولهما: أن الحجية التي هي من الأحكام الوضعية و إن كانت قابلة للجعل بنفسها؛ لكنها مستتبعة لأحكام تكليفية؛ كوجوب العمل بمؤدى الأمارة.

ثانيهما: أن الحجية غير مجعولة بنفسها؛ و لكنها مجعولة بتبع جعل منشأ انتزاعها أعني: الأحكام التكليفية. و هو وجوب العمل كما هو مذهب الشيخ الأنصاري «قدس سره». فالحجية نظير الملكية في انتزاعها من جواز تصرف المالك في ماله و عدم جواز تصرف غيره فيه بدون إذنه، و كانتزاع الزوجية من جواز الاستمتاع و وجوب الإنفاق و غيرهما من أحكامها، فحجية الأمارات منتزعة من جعل الشارع المؤدى هو الواقع.

و بناء على كل من هذين القولين: يلزم اجتماع الحكمين المثلين أو الضدين؛ و ذلك لأن الأمارة غير العلمية إذا قامت على وجوب صلاة الجمعة مثلا، و فرض وجوبها واقعا اجتمع فيها وجوبان؛ أحدهما: وجوبها واقعا، و ثانيهما: وجوب مؤدى الطريق، و من المعلوم: أن اجتماع المثلين ممتنع كاجتماع الضدين فيما إذا فرض عدم وجوبها واقعا، فلا يمكن التعبد بالطريق غير العلمي حذرا عن المحاذير المتقدمة.

و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بما حاصله: إن الحكم على قسمين:

الأول: حقيقي ناش عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه، بناء على مذهب مشهور العدلية من تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد في المتعلقات.

الثاني: طريقي ناش عن مصلحة في نفس الحكم لا في متعلقه؛ كالأوامر الامتحانية في عدم مصلحة في متعلقاتها. و حينئذ: فحيث إن الأمر الطريقي غير كاشف عن مصلحة في متعلقه، و لا عن إرادة له؛ بل المصلحة في جعل نفس الطريقية للأمارة، و الحكم الحقيقي كاشف عن المصلحة و المفسدة و الإرادة و الكراهة في نفس متعلقه؛ لم

ص: 143

لصحة الاعتذار بمجرده من دون إرادة نفسانية، أو كراهة كذلك (1) متعلقة (2) بمتعلقه فيما يمكن هناك انقداحهما، حيث (3) إنه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل، يلزم اجتماع حكمين مثلين أو ضدين في مورد واحد؛ إذ المفروض: إنه ليس في مورد الأمارات حكم حقيقي كاشف عن مصلحة أو مفسدة و إرادة أو كراهة حتى يلزم اجتماع في الخطابين و الملاكين؛ بل المصلحة أو المفسدة، و كذا الإرادة أو الكراهة منحصرة في الحكم الواقعي.

=============

و المتحصل: أنه لا يلزم محذور اجتماع المثلين أو الضدين في شيء من الخطاب و الملاك على كلا القولين في باب حجية الأمارات غير العلمية - أي: القول بأن المجعول في بابها هو خصوص الحكم الوضعي أعني: الحجية دون الحكم التكليفي، و القول بأن المجعول فيه هو الحكم التكليفي الطريقي - غاية الأمر: أنه حينئذ يلزم اجتماع حكمين حقيقي و طريقي، و لا محذور فيه، لكونهما نوعين مختلفين، و الممتنع إنما هو اجتماع فردين من نوع واحد؛ كاجتماع الوجوبين الحقيقيين أو الطريقيين أو الفعليين أو الإنشائيين، هذا ملخص ما أفاده المصنف؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 222» مع تلخيص و توضيح منّا.

قوله: «أو بأنه لا معنى لجعلها...» الخ إشارة إلى ثاني القولين اللذين بني عليهما إشكال الاجتماع. و يبتني هذا القول على إنكار الجعل في الوضعيات و الالتزام بانتزاعها من الأحكام التكليفية.

(1) أي: نفسانية. و الحاصل: أن الإرادة و الكراهة و المصلحة و المفسدة مختصة بالحكم الواقعي، دون الطريقي الظاهري الذي منه حجية الأمارات.

(2) صفة «إرادة أو كراهة»، يعني: جعل الحجية للأمارة لا يوجب إرادة و لا كراهة بالنسبة إلى متعلق الطريق و هو المؤدى، فجعل الحجية لخبر الواحد الدال على وجوب صلاة الجمعة لا يوجب تعلق كراهة أو إرادة بنفس الوجوب.

(3) تعليل لما ذكره بقوله: «فيما يمكن...» الخ و ضمير «أنه» للشأن، و مقصوده: أن الإرادة و الكراهة مفقودتان في الحكم الطريقي الظاهري، و إنما تتحققان في الحكم الحقيقي، فإذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة، فهذا الوجوب يدل على تعلق إرادة بها ناشئة من مصلحة في نفس وجوب الصلاة؛ و لكن هذه الإرادة لا تتحقق في ذات الباري «تعالى شأنه»؛ لتوقفها على مقدمات من خطور الشيء بالبال، و تصوّر نفعه و ميل النفس إليه، و غيرها من مبادئ الإرادة الممتنعة في حقه تعالى.

ص: 144

و إن لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى (1) إلا إنه تعالى إذا أوحى بالحكم الشأني (2) من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» أو ألهم به الولي فلا محالة ينقدح في نفسه الشريفة بسببهما (3) الإرادة أو الكراهة الموجبة للإنشاء بعثا أو زجرا، بخلاف (4) ما ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلق؛ بل إنما كانت في نفس إنشاء الأمر به طريقيا (5).

و الآخر واقعي حقيقي عن مصلحة (6) أو مفسدة في متعلقه موجبة لإرادته، أو تحصل الإرادة و الكراهة في الحكم الحقيقي في المبادئ العالية، و هي النفس المقدسة النبوية الولوية «صلوات الله و سلامه عليهما و آلهما الطاهرين»، فإنه تتحقق الإرادة و الكراهة فيهما، و تترتبان على المصلحة و المفسدة الثابتتين في المتعلقات.

=============

(1) لعدم كونه تعالى محلا للحوادث.

(2) المراد من الحكم الشأني: هو الحكم الإنشائي، و هو مرتبة من مراتب الحكم.

و ضمير «به» راجع على الحكم.

(3) أي: بسبب المصلحة أو المفسدة تنقدح الإرادة أو الكراهة في نفس النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» أو الولي «عليه السلام»؛ لأنهما يريدان ما يجعله الله على العباد من الواجبات، و يكرهان المحرمات.

فيريد أن الواجب «بعثا»، «أو» يكرهان الحرام «زجرا».

و كيف كان؛ فإن الإرادة إن كانت بمعنى الشوق المؤكد: فهي ممتنعة في حقه تعالى، و إن كانت عبارة عن العلم بالنفع كما هو ظاهر عبارة المحقق الطوسي في التجريد في الكيفيات النفسانية حيث قال فيها: «و هما - أي: الإرادة و الكراهة - نوعان من العلم»، فليست ممتنعة في الباري تعالى، و ظاهر المصنف «قدس سره» هنا: أن الإرادة هي العلم بالنفع و الصلاح، و الكراهة هي بالضرر و الفساد دون الشوق المؤكد، و قد أثبت العلم المذكور له تعالى بقوله فيما سيأتي: «و إن لم يكن في المبدأ الأعلى إلا العلم بالمصلحة أو المفسدة».

(4) أي: «بخلاف ما» أي: الحكم الطريقي الذي «ليس هناك مصلحة أو مفسدة»، بمعنى: أن الإرادة و الكراهة تحدثان في نفس النبي و الولي عند وجود المصلحة و المفسدة في المتعلق، و لا تحدثان إذا لم توجد المصلحة و المفسدة في المتعلق.

(5) أي: طريق للتنجيز و الإعذار، فإنه ليس في نفس النبي و الولي إرادة أو كراهة.

(6) أي: ناشئ عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه، و هذا هو الحكم حقيقة في مقابل الطريقي الثابت للأمارة.

ص: 145

كراهته الموجبة لإنشائه (1) بعثا أو زجرا في بعض المبادئ العالية، و إن لم يكن في المبدأ الأعلى إلا العلم بالمصلحة أو المفسدة - كما أشرنا - فلا يلزم أيضا اجتماع إرادة و كراهة، و إنما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثا و زجرا، و إنشاء حكم آخر طريقي، و لا مضادة بين الإنشاءين فيما إذا اختلفا (2)، و لا يكون من اجتماع المثلين المستحيل فيما اتفقا (3)، و لا إرادة و لا كراهة أصلا (4) إلا بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي، فافهم (5).

=============

(1) هذا الضمير و ضمير «متعلقه» راجعان إلى الحكم، و ضميرا إرادته و كراهته راجعان إلى المتعلق.

(2) أي: الحكمان؛ بأن كان الحكم الواقعي الحرمة و الطريقي الوجوب، فإنه لا بأس باجتماعهما لكونهما إنشائيين، و إنما يلزم اجتماع الضدين فيما إذا كانا فعليين.

(3) بأن كان كل من الحكم الواقعي و الطريقي الوجوب، فإنه ليس من اجتماع المثلين المستحيل؛ لاختلاف الحكمين نسخا؛ إذ المفروض: كون أحدهما واقعيا و الآخر طريقيا ظاهريا.

(4) أي: و لا إرادة و لا كراهة بالنسبة إلى الطريقي، و إنما هما ثابتتان بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي؛ لأنه الحكم النفسي التابع للمصلحة و المفسدة المستتبعتين للإرادة و الكراهة، بخلاف الصوري الذي منه الطريقي، فإنه في نفسه فاقد للمصلحة و المفسدة، المستتبعتين للإرادة و الكراهة، المتوقفتين على مبادئ خاصة.

(5) لعله إشارة إلى: أن ظاهر ما تقدم في دفع غائلة الاجتماع المذكور بقاء الحكم الواقعي على الفعلية الحتمية، المستلزمة لانقداح الإرادة و الكراهة في صورتي إصابة الأمارة و خطئها، و حينئذ: يقع الإشكال في أنه يسوغ الإذن في خلافه، فإن الحكم الطريقي إن كان هو الإباحة مثلا كان منافيا قطعا للحرمة أو الوجوب الحقيقي، فمجرد الالتزام بالحكم الطريقي و إن كان يدفع غائلة اجتماع المثلين أو الضدين؛ لكنه لا يدفع منافاة الإرادة أو الكراهة للإذن؛ لأنه مساوق لعدمهما و إن كان صوريا. و لكن سيأتي من المصنف «قدس سره» دفع هذه المنافاة في الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي فانتظر.

أو إشارة إلى ضعف قوله: «و لا إرادة و لا كراهة أصلا إلا بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي.

و حاصل الضعف: أنه كما أن الحكم الواقعي يكون عن مصلحة نفسية في الفعل موجبة لإرادته، أو عن مفسدة كذلك موجبة لكراهته، فكذلك الحكم الظاهري الطريقي

ص: 146

نعم (1)؛ يشكل الأمر في بعض الأصول العملية كأصالة الإباحة الشرعية، فإن أي: المقدمي يكون عن مصلحة غيرية في الفعل، و هي الوصول إلى الواقعيات غالبا موجبة لإرادته أو كراهته، فيجتمع حينئذ الإرادة و الكراهة جميعا، فلا يدفع إشكال لزوم اجتماع الإرادة و الكراهة في مورد واحد.

=============

دفع محذور اجتماع الحكمين

(1) هذا استدراك على ما ذكره في دفع غائلة اجتماع الحكمين في الأمارات بجعل أحد الحكمين حقيقيا، و الآخر طريقيا.

و حاصل الاستدراك - على ما في «منتهى الدراية»، ج 4، ص 229 -: أن ظاهر أدلة بعض الأصول العملية كقوله «عليه السلام»: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه» جعل الإباحة الشرعية الواقعية، و هي تنافي الحرمة الواقعية، و يلزم اجتماع المثلين إذا كان الحكم هو الإباحة أيضا. و عليه: فلا يندفع محذور اجتماع الحكمين المتماثلين أو المتضادين في مثل أصالة الإباحة بما دفع به في حجية الأمارات.

و لتوضيح ذلك يقال: إن الإباحة على قسمين:

أحدهما: الإباحة الاقتضائية، و هي الإباحة الناشئة عن مصلحة في متعلق الإباحة أو نفسها.

ثانيهما: الإباحة اللااقتضائية، و هي الإباحة الناشئة عن عدم المصلحة و المفسدة في المتعلق؛ إذ لو كان فيه إحداهما كان الحكم الوجوب أو الحرمة إن كانت ملزمة، أو الاستحباب أو الكراهة إن لم تكن ملزمة، و غالب الإباحات الظاهرية؛ بل تمامها من قبيل الأول، و الإباحات الواقعية من قبيل الثاني، و لذا تتغير بالعناوين كالنذر و أخويه.

إذا عرفت هذين القسمين من الإباحة تعرف لزوم الإشكالات المتقدمة من اجتماع المثلين و الضدين في الحكم بالإباحة ظاهرا، و إن كانت لمصلحة في نفس الإباحة، غاية الأمر: أن محذور الإباحة الناشئة عن عدم المقتضي في المتعلق أكثر من الإباحة الناشئة عن المصلحة في نفس الإباحة؛ إذ الإباحة الناشئة عن عدم المصلحة و المفسدة في المتعلق تستلزم اجتماع الضدين في الحكم؛ لتضاد الوجوب أو الحرمة للإباحة، و كذا في مبادئ الحكم من الإرادة و الكراهة و المصلحة و المفسدة، لكشف الإباحة عن عدم الإرادة و الكرامة، و عن عدم المصلحة و المفسدة و هذا بخلاف الإباحة الاقتضائية الناشئة عن مصلحة في نفس الإباحة، فإن محذورها أقل من الإباحة اللااقتضائية؛ إذ يلزم حينئذ اجتماع الضدين في الحكم و الإرادة و الكراهة، دون المصلحة و المفسدة لكشف الإباحة الاقتضائية عن عدمهما، فإشكال الإباحة الاقتضائية أقل من محذور الإباحة الناشئة عن

ص: 147

الإذن في الإقدام و الاقتحام ينافي (1) المنع فعلا كما فيما صادف الحرام؛ و إن كان الإذن فيه (2) لأجل مصلحة فيه؛ لا لأجل عدم مصلحة أو مفسدة ملزمة في المأذون فيه.

=============

عدم المصلحة و المفسدة في المأذون فيه؛ لكن أقلية المحذور لا توجب ارتفاع اجتماع الضدين.

و الحاصل: أن الالتزام بكون الإباحة المجعولة في أصالة الإباحة من الإباحة الناشئة عن مصلحة في نفس الإباحة؛ لا عن عدم المصلحة و المفسدة في المأذون فيه لا يدفع الإشكال، و إن كان أقل محذورا من الإباحة الناشئة عن عدم المصلحة و المفسدة في المتعلق.

(1) يعني: فإن الإذن في الإقدام بجعل الإباحة الظاهرية ينافي الحرمة الواقعية الفعلية، و هذه المنافاة لا تختص بالإباحة الظاهرية؛ بل هي ثابتة مطلقا، سواء كان الإذن لمصلحة في نفس الإباحة، أم كان لعدم مصلحة أو مفسدة في المتعلق.

نعم؛ محذور المنافاة في الإباحة الاقتضائية أكثر من الإباحة اللااقتضائية؛ و ذلك لأن التضاد بين الحكم الواقعي - و هو الحرمة - و بين الإباحة الظاهرية لا تختص بالخطاب؛ بل يسري إلى الملاك أيضا؛ لوقوع التضاد بين مفسدة الحرمة الواقعية و مصلحة الإباحة الظاهرية.

هذا يتناقض ما تقدم من كون محذور الإباحة الاقتضائية أقل من اللااقتضائية راجع «منتهى الدراية، ج 4، ص 230-231».

(2) أي: كان الإذن في الفعل لأجل مصلحة في الإذن. هذا إشارة إلى القسم الأول من الإباحة، كما أن قوله: «لا لأجل عدم مصلحة...» الخ. إشارة إلى القسم الثاني من الإباحة.

بقي الكلام في وجه تخصيص الإشكال ببعض الأصول العملية، و لعل وجه ذلك: أن مثل الاستصحاب و قاعدة التجاوز و قاعدة الفراغ و أشباه ذلك من الأصول العلمية - التي لها نظر إلى الواقع - يمكن الالتزام فيها بجعل أحكام ظاهرية طريقية كما في الأمارات عينا، فيكون حالها كحال الأمارات من حيث جريان الجواب الثاني فيها حرفا بحرف، و هذا بخلاف مثل قاعدة الحل و أصل البراءة و نحوهما مما لا نظر له إلى الواقع أصلا، فيختص الإشكال به دون ما له نظر إلى الواقع.

ص: 148

فلا محيص (1) في مثله (2) إلا عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أيضا كما في المبدأ الأعلى؛ لكنه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي، بمعنى: كونه على صفة و نحو لو علم به المكلف لتنجز عليه؛ كسائر التكاليف الفعلية التي تتنجز بسبب القطع بها، و كونه فعليا إنما يوجب البعث أو الزجر في النفس النبوية أو الولوية؛ فيما إذا لم ينقدح فيها الإذن لأجل مصلحة فيه.

=============

(1) هذا هو الجواب الثالث عن محذور اجتماع الحكمين، أو طلب الضدين، و هو جواب عن محذور الاجتماع في جميع الأحكام الظاهرية، سواء ثبتت بالأمارة أم بالأصل.

(2) أي: في مثل بعض الأصول، و أشار بقوله: «في مثله» إلى جريان الوجه الذي سيذكره في الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري - في غير أصالة الإباحة؛ بل كل حكم ظاهري نفسي، سواء كان في الأمارات على القول به، أم في غيرها كالاستصحاب على ما يظهر منه «قدس سره» في باب الاستصحاب من التزامه بجعل الحكم المماثل.

و كيف كان؛ فمحصل مرامه في هذا الجمع هو إنكار انقداح الإرادة و الكراهة في بعض المبادئ العالية، و توقفه على عدم الإذن لمصلحة فيه؛ لما عرفت: من أنه على تقدير انقداحهما يلزم اجتماع النقيضين، فضلا عن اجتماع الضدين في نفس الحكمين؛ لتضاد الإباحة مع الحرمة أو الكراهة، و مناقضة الإرادة أو الكراهة مع الإباحة لعدمهما المنكشف بالإباحة الظاهرية. و بالجملة: فلا بعث و لا زجر في الحكم الواقعي و لا تنجز له أيضا، و فعليته - أي: تنجزه - معلقة على قيام الأمارة عليه.

و أما الحكم الظاهري: فهو فعلي حتمي، فيجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري بأن كلا الحكمين فعلي، غاية الأمر: أن الواقعي فعلي تعليقي، و الظاهري فعلي حتمي، و لا مضادة بينهما؛ لاختلاف رتبتهما؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 231».

و كيف كان؛ فقوله: «فلا محيص في مثله إلا عن الالتزام» إشارة إلى الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري الذي يجري في موارد الأصول و الأمارات على حد سواء، و حاصله: عدم كون الأحكام الواقعية فعلية، فلا تكون معها إرادة أو كراهة كما أشار إليه بقوله: «بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية» كالنبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و الولي «عليه السلام» «أيضا، كما في المبدأ الأعلى» كالله تعالى، فلا يلزم اجتماع إرادة و كراهة، و لا إيجاب و تحريم واقعيين. و بهذا يرتفع الإشكال في الجمع بين الأصول و الأمارات و بين الأحكام الواقعية المنافية لهما.

ص: 149

فانقدح (1) بما ذكرنا: إنه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد قوله: «لكنه لا يوجب الالتزام...» الخ دفع لما ربما يتوهم، فلا بد من تقريب التوهم، و ثانيا من توضيح دفعه.

=============

و أما تقريب التوهم: فيقال: إنه إذا لم يكن الحكم الواقعي فعليا بل كان إنشائيا محضا: فاللازم هو القول بعدم تنجزه بقيام الأمارة عليه؛ إذ الواقعي الفعلي يتنجز بالأمارة لا الواقعي الإنشائي، فليس هنا إلا حكم واحد و هو الحكم الظاهري، فلا معنى للجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري.

و بعبارة أخرى: أن الالتزام بعدم وجود الإرادة و الكراهة في المبادئ العالية يوجب الالتزام بعدم فعلية الحكم الواقعي؛ لغرض: أنه لم تتعلق الإرادة أو الكراهة به، و إذا لم يصر الحكم الواقعي فعليا انهدم أساس الجمع المذكور؛ لانحصار الحكم في الظاهري فقط.

و الحاصل: أن ما أفاده المصنف بقوله: بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة صار منشأ لتوهم عدم فعلية الحكم الواقعي، فأورد عليه بعدم وجود حكمين فعليين حينئذ حتى يجمع بينهما بما ذكره المصنف «قدس سره»؛ بل ليس هنا إلا الحكم الظاهري الذي هو مقتضى الأمارة أو الأصل.

و أما توضيح الدفع فحاصله: إن الفعلية على قسمين:

الأول: الفعلية المنجزة، و هي بالنسبة إلى الحكم الذي قامت الحجة من علم أو علمي عليه.

الثاني: الفعلية المعلقة، و هي بالنسبة إلى الحكم الذي كان بنحو لو علم به لتنجز، و المراد بالفعلية في المقام: هو المعنى الثاني، فالحكم الواقعي يكون فعليا معلقا، و لا منافاة بينه و بين الحكم الظاهري الذي هو فعلي منجز بأمارة أو أصل.

و كيف كان؛ فإن وصول الحكم الواقعي إلى مرتبة الفعلية بالمعنى الثاني لا يستلزم البعث أو الزجر مطلقا؛ بل إنما يستلزمهما فيما إذا لم ينقدح في النفس النبوية أو الولوية الإذن في الإقدام لأجل مصلحة في نفس الإذن فيه، فإذا انقدح الإذن في نفسهما المقدسة، فلا تتحقق فعلية الحكم بمعنى إيجابها للبعث و الزجر؛ إذ الإذن مانع عنهما.

كما أشار إليه بقوله: «و كونه فعليا إنما يوجب...» الخ.

(1) أي: ظهر بما ذكرناه - في دفع الإشكالات الواردة على التعبد بالأمارات غير العلمية و الأصول العملية، و في مقام الجمع بين الحكمين الواقعي و الظاهري من حمل

ص: 150

الأصول و الأمارات فعليا؛ كي يشكل تارة: بعدم لزوم الإتيان حينئذ بما قامت الأمارة على وجوبه، ضرورة: عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائية ما لم تصر فعلية، و لم تبلغ مرتبة البعث و الزجر، و لزوم الإتيان به مما لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.

=============

الحكم الواقعي على الفعلي التعليقي، الذي لو علم به لتنجز، و الظاهري على الفعلي التنجيزي - أنه لا يلزم من التعبد بالأمارات غير العلمية الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأصول و الأمارات فعليا، و الالتزام بأنه شأني؛ كما أفاده الشيخ الأنصاري في الرسائل في الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي بقوله: «الثاني: أن يكون الحكم الفعلي تابعا لهذه الأمارة... إلى أن قال... فالحكم الواقعي فعلي في حق غير الظان بخلافه، و شأني في حقه...». «دروس في الرسائل، ج 1، ص 117».

و الحاصل: إن مراد المصنف من نفي فعلية الحكم الواقعي ليس نفي الفعلية بكلا معنييها المتقدمين، و الالتزام بالشأنية كما ذكره الشيخ «قدس سره»؛ بل مراد المصنف من نفي الفعلية: نفي الفعلية التنجيزية، و إثبات الفعلية التعليقية، و هي بمعنى لو علم به لتنجز.

و المتحصل: أن ما أفاده الشيخ «قدس سره» من حمل الأحكام الواقعية على الإنشائية يستلزم ورود إشكالين عليه، أشار إلى أولهما بقوله: «تارة: بعدم لزوم الإتيان...» الخ.

و إلى ثانيهما: بقوله: «و أخرى: بأنه...» الخ.

و حاصل الإشكال الأول: أن لازم الإنشائية عدم لزوم امتثال مؤديات الأمارات؛ إذ المفروض: كون مؤدياتها أحكاما إنشائية، و من المعلوم: أن الحكم الإنشائي لا يجب عقلا امتثاله إذا علم به، فضلا عما إذا قامت عليه الأمارة غير العلمية، و من البديهي خلافه؛ للزوم امتثال مؤديات الأمارات.

و أما الإشكال الثاني فحاصله: احتمال اجتماع المتنافيين، حيث إن المحتمل فعلية الحكم الواقعي الذي يكون في مورد الأصل أو الأمارة، و المفروض: فعلية الحكم الظاهري أيضا، فيلزم اجتماع الحكمين الفعليين المتنافيين، و احتمال المتنافيين كالقطع بثبوتهما محال. و لازم هذا الإشكال: عدم جواز الرجوع إلى الأمارات و الأصول إلا مع القطع بعدم فعلية الحكم الثابت في موردهما، و دعوى هذا القطع مما لا وجه لها؛ لاحتمال تمامية مقتضى الحكم و عدم مانع له؛ إذ لا إحاطة لنا بمقتضيات الأحكام و موانعها، فاحتمال وجود المقتضي و عدم المانع بالنسبة إلى الحكم الواقعي المساوق لفعليته لا دافع له، و معه لا يمكن الرجوع إلى الأمارات و الأصول؛ و ذلك لاحتمال اجتماع الحكمين الفعليين المتنافيين، و هو في الاستحالة كالقطع بثبوتهما.

ص: 151

لا يقال: لا مجال لهذا الإشكال (1)، لو قيل بأنها كانت قبل أداء الأمارة إليها إنشائية؛ لأنها (2) بذلك تصير فعلية، تبلغ تلك المرتبة.

فإنه (3) يقال: لا يكاد يحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم إنشائي لا قوله: «ضرورة» تعليل لقوله: «بعدم لزوم».

=============

(1) أي: لا مجال لإشكال عدم لزوم الإتيان بما قامت الأمارة على وجوبه، يعني: لا مجال للإشكال الأول على الشيخ الأنصاري، بتقريب: أن هذا الإشكال - بناء على إنشائية الأحكام الواقعية - مبني على بقائها على الإنشائية، حتى بعد قيام الأمارات عليها.

و أما بناء على أن قيام الأمارات سبب لوصولها إلى مرتبة الفعلية؛ فلا وجه للإشكال المزبور؛ لصيرورتها بواسطة الأمارة فعلية، فلا يتوجه إشكال عدم لزوم امتثال مؤديات الأمارات على مبنى إنشائية الأحكام الواقعية؛ كما يستفاد من كلام الشيخ «قدس سره».

(2) تعليل لقوله: «لا مجال لهذا الإشكال»، و الضمائر في «لأنها، بأنها، إليها» راجعة على الأحكام الواقعية.

(3) دفع للإشكال المذكور و حاصله: أن موضوع الفعلية - على ما ذكره المستشكل من أنه الحكم الإنشائي المتصف بكونه مؤدى الأمارة - مؤلف من الإنشائية و الوصف المزبور، و من المعلوم: توقف أثر المركب على وجود جميع أجزائه كالاستيلاء غير المأذون فيه الموضوع للضمان، فما لم يحرز الموضوع بتمام أجزائه بالوجدان أو بالتعبد أو بالاختلاف لم يترتب عليه الأثر. و في المقام كذلك، فإنه لا يترتب أثر الفعلية على الحكم الإنشائي الذي أدت إليه الأمارة، و ذلك لانتفاء إحراز الموضوع وجدانا و تعبدا، أما وجدانا: فلأن إصابة الأمارة غير معلومة، فلا يعلم أن مؤداها هو الحكم الإنشائي. و أما تعبدا؛ فلأن دليل حجية الأمارة لا يقتضي إلا التعبد بوجود مؤداه، و أن مؤداها هو الواقع، فلا يتكلف إلا تنزيل المحكي بالأمارة منزلة الواقع، و لا يمكن أن يتكفل الجزء الثاني من الموضوع، و هو كون هذا الحكم الإنشائي المحكي مؤدى الأمارة، و ذلك لأن اتصاف المحكي بهذا الوصف متأخر عن قيام الأمارة عليه، فلو فرض تقدمه على قيام الأمارة عليه - لفرض أنه جزء الموضوع، و الموضوع بجميع أجزائه مقدم على الحكم - لزم الدور كما هو واضح.

و منه يظهر: عدم إحراز جزأي الموضوع بالاختلاف، بأن يحرز أحدهما بالوجدان و الآخر بالتعبد؛ و ذلك لأن المحرز وجدانا إن كان نفس الحكم كالوجوب؛ فلا مجال

ص: 152

حقيقة و لا تعبدا إلا حكم إنشائي لا حكم إنشائي أدت إليه الأمارة، أما حقيقة:

فواضح، و أما تعبدا: فلأن قصارى ما هو قضية حجية الأمارة كون مؤداها هو الواقع تعبدا؛ لا الواقع (1) الذي أدت إليه الأمارة، فافهم (2).

اللهم إلا أن يقال (3): إن الدليل على تنزيل المؤدى منزلة الواقع الذي صار مؤدى حينئذ لحجية الأمارة؛ إذ لا شك في الواقع حتى يحرز بالتعبد. و إن كان قيد الحكم الواقعي - أعني: مؤدى الأمارة - فلا يتصور كونه مؤدى الأمارة بالوجدان؛ إذ هذا الإحراز منوط بإحراز الواقع؛ إذ لا يعقل إحراز القيد وجدانا مع عدم إحراز نفس المقيد أعني: الواقع كذلك، و حيث إن نفس المقيد لم يحرز؛ إذ لو كان محرزا لم يبق مجال لحجية الأمارة كما تقدم، فلا يعقل إحراز قيده فقط كما لا يخفى.

=============

و بالجملة: فلا يمكن تكفل دليل التعبد لإحراز قيد الحكم الإنشائي، و هو اتصافه بكونه مؤدى الأمارة.

نعم؛ لو فرض دليل آخر غير دليل حجية الأمارات يدل على اعتبار قيام الأمارة في فعلية الأحكام الإنشائية، فيصير الحكم الذي قامت عليه الأمارة فعليا لوجود القيد - أعني: قيام الأمارة بالوجدان - لكن ذلك الدليل مفقود. «منتهى الدراية، ج 4، ص 238».

قوله: «حكم» في «إلا حكم» نائب فاعل «يحرز»، و قوله: «لا حقيقة و لا تعبدا» قيد لقوله: «يحرز».

(1) يعني: أن الأمارة تؤدي إلى الواقع بما هو واقع؛ لا الواقع المتصف بكونه مؤدى الأمارة، لأن الأمارة لا تزيد على العلم الوجداني، فإن العلم يتعلق بنفس الواقع لا الواقع بعنوان كونه معلوما.

و المتحصل: إن ما نحن فيه كالماء الكر حيث لا يكون مطهرا إلا أن يتحقق جزءاه - المائية و الكرية - إما علما أو تنزيلا و تعبدا، أو بالاختلاف حتى يتحقق كونه مطهرا، فإذا لم يثبت أحدهما لا حقيقة و لا تعبدا لم يثبت كونه مطهرا.

(2) لعله إشارة إلى: أنه لو فرض إمكان دلالة دليل غير الأمارة على كون مؤداها هو الواقع المتصف بكونه مؤدى الأمارة؛ لم يكف ذلك أيضا في الحكم بالفعلية؛ لأن الحكم بها منوط بدلالة دليل على هذا الوصف، و لم يثبت، فالقول بصيرورة الأحكام الإنشائية فعلية بمجرد قيام الأمارة عليها خال عن الدليل.

(3) و حاصل الكلام في المقام: أن دليل تنزيل المؤدى منزلة الواقع كاف في ثبوت

ص: 153

لها هو دليل الحجية بدلالة الاقتضاء؛ لكنه لا يكاد يتم إلا إذا لم يكن للأحكام بمرتبتها الإنشائية أثر أصلا؛ و إلا لم تكن لتلك الدلالة مجال، كما لا يخفى.

=============

الجزءين؛ إذ ما تقتضيه أدلة اعتبار الأمارة و إن كان تنزيل مؤداها منزلة الواقع و هو الإنشائي المحض لا منزلة الواقع الذي أدت إليه الأمارة، و لكن بدلالة الاقتضاء و صون كلام الحكيم من اللغوية لا بد من حمل دليل الحجية على تنزيل المؤدى منزلة الواقع الذي أدت إليه الأمارة أي: منزلة الأحكام الفعلية؛ لا منزلة الواقع الصرف، و هو الإنشائي المحض؛ كي يكون التنزيل بلا ثمرة و فائدة، بعد عدم وجوب الإتيان بالأحكام الإنشائية المحضة، فيكون غرض المصنف من هذا الكلام: تصحيح ما أنكره - من عدم تكفل دليل التنزيل لإثبات كون مؤدى الأمارة هو الحكم الإنشائي الموصوف بكونه مؤدى الأمارة - بدلالة الاقتضاء.

بمعنى: أن نفس دليل حجية الأمارة يوجب اتصاف مؤداها بالوصف المذكور - و هو كونه مؤدى الأمارة - بدلالة الاقتضاء، بمعنى: أن دليل اعتبار الأمارة لو لم يثبت الوصف المذكور، و هو كونه مؤدى الأمارة - لزم لغويته، لعدم ترتب الأثر إلا على الحكم الإنشائي المتصف بالوصف المزبور، فصون كلام الحكيم عن اللغوية يقتضي اتصاف الحكم الإنشائي بوصف كونه مؤدى الأمارة.

فالمتحصل: أنه لو نزل المولى جزأ من مركب منزلة الواقع يعلم منه أنه نزل الجزء الآخر أيضا؛ و إلا كان تنزيله الأول لغوا. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تصحيح ما أنكره المصنف.

و لكن أورد عليه المصنف بقوله: «لكنه لا يكاد يتم»، و حاصل الإيراد: أن دلالة الاقتضاء إنما تتم و تثبت الفعلية إذا لم يكن للأحكام الإنشائية أثرا أصلا. و أما إذا كان لها أثر - و لو بملاحظة العنوان الثانوي كالنذر و نحوه - فلا يبقى مجال لدلالة الاقتضاء؛ لعدم لزوم اللغوية حينئذ لكفاية مثل هذا الأثر في الحجية.

و كيف كان؛ فقد علم مما ذكرنا إلى الآن: أنه لا يلزم من الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأصول و الأمارات فعليا؛ كي يشكل تارة: بعدم لزوم الإتيان بمؤدى الأمارة لأنه غير فعلي، و قد عرفت تفصيل الكلام فيه. و تارة «أخرى: بأنه كيف»، و قد تقدم توضيح الكلام فيه أيضا، فلا حاجة إلى الإعادة.

قوله: «و إلا لم يكن» إشارة إلى عدم اللغوية مع الأثر، يعني: و إن كان للأحكام

ص: 154

و أخرى (1): بأنه كيف يكون التوفيق (2) بذلك ؟ مع احتمال أحكام فعلية بعثية أو زجرية في موارد الطرق و الأصول العملية المتكفلة لأحكام فعلية، ضرورة: أنه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين، كذلك لا يمكن احتماله.

فلا (3) يصح التوفيق بين الحكمين بالالتزام؛ كون الحكم الواقعي الذي يكون في مورد الطرق و الأصول العملية إنشائيا غير فعلي.

كما لا يصح (4) التوفيق بأن الحكمين ليسا في مرتبة واحدة؛ بل في مرتبتين، ضرورة: تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين.

=============

بمرتبتها الإنشائية أثر كالنذر و نحوه - بأن يقول: «إن قامت الأمارة على إنشائية حكم.

فلله علي أن أتصدق بدرهم». فلا يبقى مجال لدلالة الاقتضاء أصلا.

(1) عطف على قوله: «تارة بعدم لزوم الإتيان حينئذ»، و إشارة إلى ثاني الإشكالين الواردين على جعل الأحكام الواقعية إنشائية. و قد تقدم توضيحه فلا حاجة إلى الإعادة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «الوصول إلى كفاية الأصول».

(2) أي: التوفيق بين الحكم الظاهري و الواقعي «بذلك» الذي ذكرتم من كون الحكم الواقعي إنشائيا، و الحكم الظاهري فعليا، «مع احتمال» كون «أحكام» واقعية «فعلية بعثية» في الأوامر، «أو زجرية» في النواهي؛ إذ ما ذكرتم من احتمال كون الأحكام الواقعية إنشائية لا يكفي في رفع المنافاة؛ إذ كما يحتمل كونها إنشائية يحتمل كونها فعلية «في موارد الطرق و الأصول العملية المتكفلة لأحكام» ظاهرية «فعلية»، فيلزم حينئذ - و لو احتمالا - اجتماع حكمين فعليين متنافيين، و احتمال اجتماع المتنافيين محال كالقطع به.

قوله: «ضرورة» تعليل للإنكار المستفاد من قوله: «كيف يكون» و حاصل التعليل:

«ضرورة أنه» يبقى حينئذ احتمال التنافي، و من المعلوم: أن احتمال التنافي في الاستحالة كالقطع به. فكما لا يمكن الثاني فكذلك لا يمكن الأول.

(3) هذه نتيجة ما ذكره من عدم لزوم الالتزام بما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس سره» في إمكان التعبد بالأمارات غير العلمية؛ لورود الإشكالين السابقين عليه، يعني: فبعد توجه هذين الإشكالين عليه لا يصح ما ذكره «قدس سره» في الجمع بين الحكمين الواقعي و الظاهري بالتزام كون الحكم الواقعي إنشائيا غير فعلي في مورد الطرق و الأمارات غير العلمية و الأصول العملية.

(4) هذا إشارة إلى جمع آخر بين الحكم الواقعي و الظاهري قد ينسب إلى السيد المحقق المسدد السيد محمد الأصفهاني «قدس سره»، و يظهر أيضا من كلمات الشيخ

ص: 155

و ذلك (1) لا يكاد يجدي، فإن الحكم الظاهري و إن لم يكن في تمام مراتب الواقعي؛ إلا إنه يكون في مرتبته أيضا، و على تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في «قدس سره» في أول مبحث البراءة، و أول مبحث التعادل و الترجيح فراجع؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 244».

=============

و هذا الجمع في قبال الجمعين المزبورين، و توضيحه: أن محذور اجتماع المتنافيين مختص بما إذا كانا في رتبة واحدة، دون ما إذا كانا في رتبتين كما في المقام.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين الحكم الواقعي و الحكم الظاهري من حيث الموضوع، و هو أن موضوع الحكم الواقعي هو نفس الشيء بعنوانه الأولي، مع الغض عن تعلق العلم أو الجهل به، و موضوع الحكم الظاهري هو الشيء بوصف أنه مشكوك في حكمه الواقعي، و حينئذ: فالحكم الظاهري متأخر عن الشك في الحكم الواقعي تأخّر الحكم عن الموضوع، و الشك في الحكم الواقعي متأخر أيضا عن نفس الحكم الواقعي تأخّر العارض عن المعروض و الوصف عن الموصوف، فيكون الحكم الظاهري متأخرا عن الحكم الواقعي بمرتبتين: الأولى: تأخره عن موضوع، و الأخرى:

تأخر موضوعه - و هو الشك - عن الحكم الواقعي الذي هو متعلق الشك، و لا محذور في اجتماع حكمين فعليين مع تعدد رتبتهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه يصح التوفيق بين الحكمين الواقعي و الظاهري إذا كانا في رتبتين؛ إذ لا يلزم محذور اجتماع حكمين فعليين مع تعدد رتبتهما.

(1) أي: الجمع المذكور غير صحيح؛ إذ هو لا يكاد يجدي في رفع المنافاة بين الحكم الواقعي و الظاهري، و ذلك لإن الحكم الظاهري و إن كان متأخرا عن الواقعي بمرتبتين، و ليس هو في مرتبته؛ و لكن الحكم الواقعي موجود محفوظ في مرتبة الحكم الظاهري لوضوح: أنه لا يكاد يضمحل الحكم الواقعي المشترك بين الكل بمجرد الشك فيه و قيام الأمارة أو الأصل على خلافه، فإذا تحقق الحكم الظاهري بقيام الأمارة أو الأصل على خلاف الحكم الواقعي، و كان الحكم الواقعي محفوظا في مرتبته و رتبته لزم اجتماع الضدين من إيجاب و تحريم أو ندب و كراهة و هكذا.

و بعبارة واضحة: إن الحكم الظاهري - لمكان تأخر موضوعه عن الحكم الواقعي - و إن لم يكن مع الواقعي في جميع المراتب؛ لكن الحكم الواقعي يكون معه في رتبة الشك؛ إذ المفروض: إطلاق الحكم الواقعي و وجوده في كلتا صورتي العلم و الجهل به، و إلا لزم التصويب لو اختص الحكم الواقعي بالعالم به، ففي هذه المرتبة يجتمع الحكمان المتنافيان،

ص: 156

هذه المرتبة (1)، فتأمل فيما ذكرنا من التحقيق في التوفيق (2)، فإنه دقيق و بالتأمل حقيق.

ثالثها (3): أن الأصل فيما لا يعلم اعتباره - بالخصوص - شرعا، و لا يحرز التعبد به فهذا الجمع لا يرفع محذور اجتماع الحكمين المتنافيين لوجود الحكم الواقعي في مرتبة الحكم الظاهري أيضا، أي: كما أنه موجود قبل رتبة الحكم الظاهري.

=============

(1) أي: في مرتبة الحكم الظاهري.

(2) أي: بين الحكم الواقعي و الظاهري، «فإنه دقيق و بالتأمل حقيق».

المتحصل من جميع ما أفاده المصنف في المقام: انه لا يلزم - من حجية الأمارات غير العلمية - محذور أصلا لا اجتماع المثلين و لا الضدين، و لا تفويت مصلحة؛ إذ معنى حجية الأمارة الغير العلمية عند المصنف هو: التنجيز عند الإصابة و التعذير عند المخالفة، و ليس هناك حكم إلا الحكم الواقعي حتى يلزم اجتماع المثلين أو الضدين.

و أما بناء على القول باستتباع الحجية لجعل الحكم الظاهري: فاجتماع الحكمين الواقعي و الظاهري و إن كان يلزم إلا إنهما ليسا بمثلين و لا بضدين؛ لأن الحكم حقيقة الذي ناش عن مصلحة أو مفسدة إرادة أو كراهة ليس إلا الحكم الواقعي، و يعتبر الحكم المفاد بلسان الأمارة حكما صوريا لا تأصل له، و لم ينبعث عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه، و إنما انبعث عن مصلحة في نفس إنشائه؛ كالأوامر الامتحانية، و لم تتعلق عليه إرادة و لا كراهة، فلا مماثلة و لا مضادة بينه و بين الحكم الواقعي حتى يلزم اجتماع المثلين أو الضدين، و لا إرادة و لا كراهة بالنسبة إليه حتى يلزم اجتماعهما.

هذا لبّ ما أفاده المصنف في الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري؛ بناء على القول بكون حجية الأمارة الغير العلمية مستتبعة لجعل الحكم. و هناك وجوه و أقوال للجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري تركناها تجنبا عن التطويل الممل.

مقتضى الأصل فيما شك في اعتباره

(3) أي: الثالث من الأمور التي ينبغي تقديمها قبل الخوض في الأمارات في بيان الأصل الذي هو المرجع عند الشك في حجية الأمارة الغير العلمية، يعني: بعد أن أثبت في الأمرين الأولين إمكان حجية الأمارة ذاتا و وقوعا، صار بصدد بيان مقتضى الأصل عند الشك في الحجية، فالمقصود من عقد هذا الأمر الثالث هو: بيان مقتضى الأصل فيما إذا شك في اعتبار الظن شرعا، فإن الأمارة الظنية قد يعلم بحجيتها، و قد يعلم بعدم حجيتها، و قد يشك في حجيتها. و محل الكلام هو ما إذا وقع الشك في اعتبارها، فهل

ص: 157

واقعا عدم حجيته جزما، بمعنى: عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجية عليه (1) قطعا، فإنها (2) لا تكاد تترتب إلا على ما اتصف بالحجية فعلا، و لا يكاد يكون الاتصاف بها (3) إلا إذا أحرز التعبد به و جعله (4) طريقا متبعا،...

=============

الأصل حجيتها أو عدم حجيتها؟

يقول المصنف «قدس سره»: إن الأصل عدم حجيتها، بمعنى: أنه بمجرد أن نشك في حجية أمارة ثبوتا يقطع بعدم حجيتها إثباتا أي: لا يترتب عليها آثار الحجية في مقام الإثبات، و ذلك لأن آثار الحجية من المنجزية عند الإصابة و العذرية عند الخطأ، و حكم العقل بوجوب المتابعة لا تكاد تترتب إلا على ما اتصف بالحجية الفعلية، أي: المحرزة بالعلم في مقام الإثبات، لا على ما اتصف بمطلق الحجية و لو ثبوتا و إن لم يعلم بها إثباتا.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: إن الحجية شرعا على قسمين:

أحدهما: الحجية الإنشائية.

الثاني: الحجية الفعلية و هي العلم بالحجية الإنشائية.

ثم الآثار الشرعية أو العقلية على قسمين:

قسم: يترتب على نفس وجود الشيء واقعا، علم به العبد أم لم يعلم؛ كحرمة شرب الخمر، حيث تترتب على الخمر الموجود، سواء علم به المكلف أم لم يعلم.

و قسم: يترتب على وجوده العلمي أي: بوصف كونه معلوما مثل آثار الحجية حيث تترتب على الحجية الفعلية المعلومة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه يكفي في عدم الحجية الشك في الحجية و عدم العلم بها، و لازم ذلك: عدم الحاجة في إثبات عدم ترتب آثار الحجية على الأمارة المشكوكة حجيتها إلى إجراء أصالة عدم الحجية؛ بل لا يعقل إجراؤها؛ لاستلزامها إحراز ما هو المحرز وجدانا بالتعبد. و هو محال لكونه بمثابة تحصيل ما هو حاصل.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) هذا الضمير و ضمير «حجيته» راجعان إلى الموصول في «ما لا يعلم»، فالحجية الفعلية تتوقف على العلم بها، و أما الإنشائية: فلا تتوقف على العلم بها.

(2) أي: فإن الآثار المرغوبة، و هذا تعليل لقوله: «عدم ترتب».

(3) أي: بالحجية بمعنى: إن الآثار المرغوبة لا تترتب إلا على ما ثبت حجيته فعلا، و لا تثبت الحجية الفعلية إلا بعد إحراز التعبد به و جعله طريقا متبعا.

(4) عطف تفسيري ل «التعبد»، و ضميره و ضمير «به» راجعان على الموصول، المراد به

ص: 158

ضرورة (1): أنه بدونه (2) لا يصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد إصابته، و لا يكون (3) عذرا لدى مخالفته مع عدمها، و لا يكون (4) مخالفته تجرّيا، و لا يكون موافقته بما هي موافقة انقيادا؛ و إن كانت بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك (5) إذا الأمارة الغير العلمية يعني: أن موضوع آثار الحجية مؤلف من أمرين: أحدهما: إنشاء الحجية و التعبد بالأمارة، و الآخر: إحراز هذا الإنشاء، و المراد بالآثار المترتبة على الحجية الفعلية التي لا تنفك عنها هي: المنجزية و المؤمنية، فإن العقل ما لم يحرز حجية الطريق لا يحكم بصحة المؤاخذة على مخالفته، و لا كونه عذرا و مؤمنا له.

=============

(1) تعليل لكون موضوع آثار الحجة هو الحجة المعلومة.

(2) أي: بدون إحراز التعبد بالظن «لا يصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد إصابته» أي: إصابة ما لم يعلم اعتباره، يعني: أن العقل لا يحكم بحسن المؤاخذة على مخالفة الواقع بمجرد كون الطريق المعتبر مصيبا له، مع عدم إحراز العبد اعتباره، و غرضه:

أن الحجية الإنشائية المحضة لا يترتب عليها أثر من صحة المؤاخذة إن كان الطريق مصيبا، و كونه مؤمنا و عذرا إن كان مخطئا.

(3) عطف على «لا يصح»، و هذا أثر آخر للأمارة المعتبرة، أي و ضرورة أنه لا يكون الطريق الذي لم يحرز التعبد به عذرا عند مخالفة العبد للتكليف في صورة عدم إصابة ذلك الطريق، مثلا: إذا قامت أمارة غير معتبرة على عدم وجوب صلاة الجمعة، مع فرض وجوبها واقعا، و اعتمد عليها العبد في ترك صلاة الجمعة، فإن هذه الأمارة غير المعتبرة لا توجب عذرا للعبد في ترك الواقع.

(4) عطف على «لا يصح»، و هذا أيضا أثر آخر للأمارة المعتبرة، أي: و لا يكون مخالفة ما لم يعلم اعتباره تجريا، لإناطة صدق التجري على مخالفة ما هو حجة عنده، و المفروض في المقام: عدم إحراز حجية هذا الطريق فلا يكون مخالفته تجريا.

(5) أي: انقيادا، يعني: إن كانت موافقة الطريق غير المعتبر برجاء، موافقته للواقع انقيادا، مثلا: لو كان في الواقع الشهرة حجة؛ لكن لم يعلم المكلف حجيتها. ثم قامت الشهرة على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، فدعا المكلف برجاء مصادفة الواقع - و الحال أنها لم تصادف الواقع - كان هذا العمل انقيادا إذا وقعت الموافقة للشهرة في المثال «برجاء إصابته» الواقع.

هذا بخلاف ما إذا علم حجية الشهرة، فإنه يجب عليه متابعتها و إن كانت في الواقع أدت إلى وجوب ما ليس في الواقع واجبا.

ص: 159

وقعت برجاء إصابته، فمع الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته و عدم ترتيب شيء من الآثار عليه (1) للقطع (2) بانتفاء الموضوع معه، و لعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان و إقامة برهان.

و أما صحة الالتزام (3) بما أدى إليه من الأحكام، و صحة نسبته إليه تعالى: فليسا

=============

(1) هذا الضمير و ضمائر «إصابته و حجيته» راجعة على الموصول في «ما لا يعلم».

و قوله: «فمع الشك» نتيجة ما ذكره من كون موضوع آثار الحجة هو الحجة الفعلية، و أنه يقطع بانتفائها بالشك في الحجية؛ لما عرفت: من بداهة انتفاء الحكم بارتفاع الموضوع كلا أو بعضا.

(2) تعليل لقوله: «يقطع بعدم حجيته»، و ضمير «معه» راجع إلى الشك، يعني:

حيث كان موضوع الحجية مؤلفا من التعبد و العلم به، فإذا شك في التعبد فقد انتفى العلم الذي هو جزء موضوع الحجية، و لا فرق في القطع بانتفاء الموضوع بين ارتفاع تمام الموضوع و جزئه. و المشار إليه في قوله: «هذا» هو عدم ترتب آثار الحجة على مشكوك الحجية «واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان و إقامة برهان». هذا الكلام تعريض بالشيخ الأنصاري «قدس سره» حيث إنه تمسك لإثبات عدم جواز ترتيب آثار الحجة على مشكوك الحجية بالأدلة الأربعة حيث قال ما هذا لفظه: «فنقول: التعبد بالظن الذي لم يدل على اعتباره دليل محرم بالأدلة الأربعة»، فراجع «دروس في الرسائل ج 1، ص 222».

(3) ردّ على الشيخ الأنصاري «قدس سره»، فلا بد أولا من بيان ما أفاده الشيخ «قدس سره» في المقام؛ كي يتضح ما أورده المصنف عليه.

و حاصل ما أفاده الشيخ في المقام: أنه جعل الأصل فيما لا يعلم اعتباره من الظن حرمة التعبد به حيث قال: «التعبد بالظن الذي لم يدل دليل على أن التعبد به محرم بالأدلة الأربعة».

ثم استنتج من الأدلة الأربعة: حرمة الالتزام بما أدت إليه الأمارة، و حرمة إسناده إليه تعالى؛ لأنهما أثران شرعيان يترتبان على مشكوك الحجية، كما أن جوازهما أثر شرعي مترتب على معلوم الحجية.

فصحة الالتزام بما أدى إليه الظن من الأحكام، و صحة نسبته إليه تعالى من آثار الحجية؛ بأن يقال: إنه لا يصح الالتزام بشيء و لا نسبته إلى الله تعالى؛ إلا إذا ثبت كونه حجة، فما لم تثبت حجيته لا يصح الالتزام به، و لا نسبته إليه تعالى هذا خلاصة ما

ص: 160

من آثارها؛ ضرورة: أن حجية الظن عقلا - على تقرير الحكومة في حال الانسداد - لا توجب صحتهما، فلو فرض صحتهما (1) شرعا مع الشك في التعبد به؛ لما كان يجدي في الحجية شيئا، ما لم يترتب عليه ما ذكر من آثارها (2)، و معه (3) لما كان يضر يستفاد من كلام الشيخ «قدس سره» في المقام.

=============

و قد أورد المصنف «قدس سره» على ما ذكره الشيخ بوجهين:

الأول: إن صحة الالتزام بما أدى إليه الظن من الأحكام، و صحة نسبته إليه تعالى ليسا من آثار الحجية، و الشاهد على ذلك: أن الظن الانسدادي - بناء على حكومة العقل بحجيته - لا يصح استناده إلى الله تعالى مع أنه حجة، و لا يصح الالتزام بما أدى إليه الظن الانسدادي، مع أنه حجة.

و كيف كان؛ فصحة الالتزام و صحة النسبة ليستا من آثار الحجية حتى يكون عدمهما كاشفا عن عدم الحجية، فقد نفى المصنف هذا الترتب و يقول: إن ذلك لا ربط له بالحجية. هذا خلاصة الإيراد الأول من المصنف على الشيخ، و قد أشار إليه بقوله:

«ضرورة: أن حجية الظن عقلا...» الخ، فقوله: «ضرورة» تعليل لبيان عدم كون صحة الالتزام و الإسناد من آثار الحجية.

الثاني: أنّا لو فرضنا وجود أمارة مشكوكة؛ لكن الشارع أجاز نسبتها إلى الله تعالى، و أجاز الالتزام بمؤداها لم تصر بذلك حجة.

و من هنا يتبين: أن الحجية لا تدور مدار هذين الأثرين، أعني: صحة الالتزام و صحة الإسناد.

(1) أي: صحة الالتزام و النسبة «شرعا، مع الشك في التعبد به» أي: بالظن مثلا «لما كان يجدي في الحجية شيئا»، فقد ترتب الأثر مع عدم وجود الحجية، فقوله: «فلو فرض صحتهما» تفريع على ما تقدم من أن صحة الالتزام و النسبة ليستا من آثار الحجية. يعني:

بعد أن ثبت عدم كون جواز الالتزام و الإسناد من لوازم الحجية، فلا يكون جوازهما - على فرض ثبوته - دليلا على الحجية فيما إذا شك فيها.

(2) أي: آثار الحجية، و المراد بالآثار هي: التنجيز و التعذير و التجري و الانقياد، فلوازم الحجية الكاشفة عن الحجية وجودا و عدما هي هذه الآثار الأربعة، دون صحة الالتزام و الإسناد.

(3) أي: و مع ترتب تلك الآثار عليه لا يضر عدم صحة الالتزام و الإسناد بالحجية أصلا.

ص: 161

عدم صحتهما أصلا، كما أشرنا إليه آنفا (1).

فبيان عدم صحة الالتزام مع الشك في التعبد، و عدم جواز إسناده إليه تعالى غير مرتبط بالمقام (2).

فلا يكون الاستدلال عليه بمهم، كما أتعب به شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه» نفسه الزكية؛ بما أطنب من النقض و الإبرام، فراجعه (3) بما علقناه عليه و تأمل.

و قد انقدح - بما ذكرنا -: أن الصواب فيما هو المهم في الباب ما ذكرنا في تقرير الأصل، فتدبر جيدا.

=============

(1) أي: تقدمت الإشارة في قوله: «ضرورة أن حجية الظن...» إلخ.

(2) أي: غير مرتبط بالمقام الذي هو بيان الدليل على حجية شيء؛ لأنه بعد ما عرفت من عدم كون صحة الالتزام و الإسناد من اللوازم المساوية للحجية أو الأعم منها، فالاستدلال على عدم حجية مشكوك الاعتبار بحرمتها - كما صنعه الشيخ الأنصاري «قدس سره» - أجنبي عن محل البحث، و هو عدم حجية مشكوك الحجية.

(3) أي: فراجع استدلال الشيخ: اعلم: أن الشيخ «قدس سره» بعد ما ذكر أن الأصل في الظن عدم الحجية استدل عليه بأنه لا يمكن الالتزام به و لا يمكن نسبته إلى الله تعالى، بما دل من الآيات و الأخبار، على أن ما لم يعلم أنه من قبل الله يكون افتراء عليه و نحو ذلك، و المصنف «قدس سره» لما أشكل على كون الأثرين من آثار الحجية: أبطل الاستدلال على عدم حجية الظن بالآيات الدالة على أنه افتراء و نحوه؛ إذ حجية الظن و عدمه لا تدور مدار صحة النسبة إليه تعالى، و صحة الالتزام و عدمهما؛ حتى يستدل بعدمهما على عدم الحجية.

و هناك كلام من بعض لعدم صحة إيراد المصنف على الشيخ «قدس سره» تركناه رعاية للاختصار.

و كيف كان؛ فتقرير الأصل على الوجه الذي ذكره المصنف أولى؛ لما مر أولا: من عدم دلالة انتفاء جواز الالتزام و الإسناد على انتفاء الحجية.

و ثانيا: من أن البحث عن جواز الالتزام و الإسناد و عدمه، و الاستدلال عليهما بالأدلة الأربعة فقهي لا أصولي، و المناسب للبحث الأصولي هو: البحث عن نفس الحجية؛ لا عما يترتب عليها من الأحكام الشرعية؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 276».

ص: 162

إذا عرفت ذلك، فما خرج موضوعا عن تحت هذا الأصل (1) أو قيل بخروجه يذكر في ذيل فصول.

=============

(1) يمكن أن يكون الخروج عن تحت هذا الأصل خروجا موضوعيا مثل ما لا يكون من الأمارات، فيكون خروجه من باب التخصص و يمكن أن يكون الخروج عن هذا الأصل من باب التخصيص، سواء كان خرج إجماعا كما في بعض الأمارات الغير العلمية، أو قيل بخروجه كبعضها الآخر، و ما خرج أو قيل بخروجه يذكر في ضمن فصول.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - العلم الإجمالي في مقام إثبات التكليف: هل هو كالعلم التفصيلي علة تامة لتنجز التكليف به، بمعنى: أنه إذا تعلق العلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين أو بحرمته لم يكن الترخيص في أطرافه لا كلا و لا بعضا أم لا؟

أي: ليس علة تامة لتنجز التكليف؛ بل هو مؤثر في تنجز التكليف بنحو الاقتضاء، بمعنى: أنه قابل للترخيص في أطرافه كلا و بعضا، فإن لم يرد الترخيص من الشرع في أطرافه لا كلا و لا بعضا؛ بأن لم يكن لنا أصل عملي يصلح بدليله للجريان فيها أثر العلم الإجمالي في التنجيز لا محالة؛ و إلا فيمنعه الأصل العملي عن التأثير في التنجيز.

يقول المصنف «قدس سره»: بتأثير التعلم الإجمالي في التنجيز بنحو الاقتضاء، فيكون مورد العلم الإجمالي قابلا للترخيص شرعا؛ لأن مرتبة الحكم الظاهري - و هي الجهل بالواقع - محفوظة في مورد العلم الإجمالي؛ إذ كل من الطرفين مشكوك الحكم، فيكون موردا للأمارة و موضوعا للأصل، فيمكن حينئذ: الإذن في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال، و لا مانع من الترخيص إلا محذور منافاة الحكم الظاهري للحكم الواقعي، و هذا التنافي لا يختص بالمقام؛ بل يعم الشبهة غير المحصورة و الشبهة البدوية.

فالمتحصل: أن العلم الإجمالي مقتض لتنجز التكليف، و ليس علة تامة له، و لا كالشك بحيث لا يؤثر في التنجيز أصلا.

2 - العلم الإجمالي في مقام إسقاط التكليف بمعنى: كفاية الامتثال الإجمالي المعبر عنه بالاحتياط، فيما إذا تمكن المكلف من الامتثال التفصيلي و كان الواجب تعبديا، و كان الاحتياط مستلزما للتكرار؛ إذ لا إشكال في الاحتياط في التوصليات، و لا فيما إذا لم يكن الاحتياط مستلزما للتكرار.

ص: 163

و أما الاحتياط في العبادات فيما إذا كان مستلزما للتكرار: فقد استشكل فيه بوجوه:

الأول: كون الاحتياط مخلا بقصد الوجه، و هو قصد الوجوب في الواجب و الندب في المندوب.

الثاني: أن تكرار العبادة بالاحتياط يوجب الإخلال بالتمييز أعني: تمييز الواجب عن غيره.

الثالث: أن التكرار لعب و عبث بأمر المولى، فلا يكون إطاعة بنظر العقلاء.

و قد ردّ المصنف هذه الوجوه الثلاثة:

و حاصل ما رد به الوجه الأول: أنه لا دليل على اعتبار قصد الوجه أصلا، و على فرض تسليم ذلك: يمكن قصد الوجه بمعنى: أن المكلف يقصد بكل من الطرفين ما هو الواجب واقعا.

أما رد قصد التمييز: فيقال: إن اعتباره في غاية الضعف؛ لعدم الدليل على اعتباره، إذ لو كان دخيلا في حصول الغرض لزم على الشارع التنبيه عليه، مع غفلة عامة الناس عنه، و لا يوجد في الأخبار الإشارة إلى اعتباره، فيحصل العلم بعدم اعتباره في الغرض.

أما رد الوجه الثالث: - و هو كون التكرار لعبا بأمر المولى فيمكن أولا: أن التكرار مطلقا لا يكون لعبا بأمر المولى؛ بل التكرار الكثير يكون لعبا بأمر المولى.

و ثانيا: أن التكرار إذا كان بداعي عقلائي لا يكون لعبا بأمر المولى؛ بل الغرض العقلائي يخرجه عن العبث و اللعبية.

و ثالثا: أن التكرار لو كان لعبا بأمر المولى لكان المكلف لاعبا في طريق الإطاعة و كيفيتها؛ لا في نفس الإطاعة، و العبث و اللعب في كيفية الإطاعة لا يكون قادحا في تحقق الإطاعة.

و ظاهر المصنف هو: الاكتفاء بالامتثال الإجمالي، مع التمكن من الامتثال التفصيلي باستعلام الحال بالفحص و التتبع أو بالسؤال عن الموضوع، و معرفة الواجب بعينه، و الإتيان به بخصوصه.

3 - في دوران الأمر بين الامتثال التفصيلي الظني و بين الامتثال القطعي الإجمالي، فيقع الكلام في تقديم أحدهما على الآخر.

و محصل ما أفاده المصنف «قدس سره»: إن الظن بالامتثال التفصيلي لا يخلو عن صور و أقسام:

ص: 164

1 - الظن الخاص، المشروط اعتباره بعدم التمكن من الاحتياط العلمي الإجمالي.

و لا إشكال حينئذ في عدم جواز الامتثال الظني مع التمكن من الاحتياط؛ لعدم اعتباره حسب الفرض.

2 - الظن الخاص المعتبر مطلقا، حتى مع التمكن من الامتثال الإجمالي بالاحتياط، و لا إشكال في جواز الاجتزاء بكل من الامتثال الظني و الاحتياطي.

3 - الظن المطلق، مع البناء على أن من مقدماته عدم وجوب الاحتياط، و لا إشكال في الاجتزاء بكل من الامتثال الظني و الاحتياطي.

4 - الظن المطلق، مع البناء على أن من مقدماته عدم جواز الاحتياط؛ لاستلزامه العسر و الحرج، و لا إشكال هنا في تقديم الامتثال الظني التفصيلي و تعيّنه؛ لبطلان الاحتياط حسب الفرض.

4 - في الفرق بين حجية القطع و حجية الأمارة الغير العلمية.

و خلاصة الفرق: أن الحجية في الأولى ذاتية، فلا حاجة في إثباتها إلى إقامة البرهان؛ بل إثبات الحجية من قبيل تحصيل الحاصل و هو محال. هذا بخلاف حجية الأمارة الغير العلمية، حيث إنها ليست لوازمها؛ بل إنها ممكنة الثبوت لها.

و حينئذ: فلا بد في اعتبارها من جعل الحجية لها شرعا، أو ثبوت مقدمات و طرو حالات كالانسداد.

5 - في إمكان التعبد بالأمارة الغير العلمية، ثم المراد بالإمكان هو: الإمكان الوقوعي، بمعنى: ما لا يلزم من وقوعه محال في مقابل الامتناع الوقوعي، بمعنى: ما يلزم من وقوعه في الخارج محال كما يظهر من ابن قبة.

و ليس المراد بالإمكان: الإمكان الذاتي أو الإمكان بمعنى: الاحتمال، كما أشار إليه الشيخ الرئيس بكلامه:

«كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان».

و كيف كان؛ فحاصل الكلام في المقام أن الكلام تارة: في بيان ما هو مقتضى الأصل عند الشك في الإمكان. و أخرى: في وجوه استحالة التعبد بالظن.

و أما ملخص الكلام فيما هو مقتضى الأصل عند الشك في الإمكان، بمعنى: أنه إذا لم يقم دليل على إمكان شيء و لا على استحالته، و كان كل منهما محتملا، فما هو

ص: 165

المتبع عند العقلاء؟ ذكر الشيخ الأنصاري «قدس سره»: أن الإمكان أصل لدى العقلاء، مع احتمال الامتناع و عدم الدليل عليه، فإنهم يرتبون آثار الممكن على مشكوك الامتناع، يقول المصنف ردا عليه: «و ليس الإمكان بهذا المعنى، بل مطلقا أصلا متبعا».

و قد أورد المصنف عليه بوجوه:

الأول: أنه لم يثبت بناء العقلاء على ذلك.

الثاني: لو سلّم بناء العقلاء فلا دليل قطعيا على هذا البناء، و الدليل الظني لا يجدي في حجية بناء العقلاء و سيرتهم؛ إذ الكلام في إمكان حجية سيرتهم و امتناعها.

الثالث: أنه مع فعلية التعبد لا حاجة إلى البحث عن الإمكان، كما لا فائدة في إمكان التعبد بالظن بدون دليل الوقوع، لوضوح: أن الأثر العملي مترتب على فعلية التعبد لا على مجرد إمكانه.

فالمتحصل: أنه لا وجه لما ذكره الشيخ «قدس سره» من أن الإمكان أصل لدى العقلاء عند احتمال الامتناع؛ بل الصحيح الالتزام بالإمكان الوقوعي؛ لأن وقوع التعبد بالأمارة الغير العلمية أقوى دليل على إمكانه.

6 - أما وجوه استحالة التعبد بالأمارة الغير العلمية، فهي أمور تالية:

الأول: لزوم اجتماع المثلين فيما إذا أدت الأمارة إلى الحكم المماثل للحكم الواقعي.

أو اجتماع الضدين من الوجوب و الحرمة مثلا، فيما إذا أدت الأمارة إلى الحكم المخالف للحكم الواقعي.

الثاني: لزوم طلب الضدين، و هو نظير قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة، مع كون الواجب في الواقع هو الظهر، بعد فرض التضاد - و لو شرعا - بينهما، و طلب الضدين محال.

الثالث: لزوم تفويت المصلحة أو الإبقاء في المفسدة.

الأول: كقيام الأمارة على عدم وجوب صلاة الجمعة يومها، مع فرض وجوبها واقعا.

و الثاني: كقيام الأمارة على حرمة صلاة الجمعة مع حرمتها واقعا، فيلزم من جعل حجية الأمارة الغير العلمية تفويت المصلحة في المثال الأول، و الإلقاء في المفسدة في المثال الثاني، و كل منهما قبيح يمتنع صدوره عن الحكيم.

ص: 166

7 - و ما أجاب به المصنف عن الوجوه المذكورة بين ما لا يلزم و إن كان باطلا، و بين ما ليس بباطل بمعنى: أن ما أفاده المصنف في الجواب إما راجع إلى منع الصغرى أو منع الكبرى.

و أما منع الصغرى: فلأن الحجية من الاعتبارات القابلة للجعل كالملكية و الزوجية و نحوهما، و معنى جعلها: ترتيب آثار الحجية الذاتية - و هي العلم - من التنجيز و التعذير على الأمارة الغير العلمية التي صارت حجة بالتعبد، و ليس معنى الحجية جعل الحكم التكليفي لمؤدى الأمارة حتى يلزم اجتماع المثلين عند الموافقة، أو الضدين عند المخالفة.

و عليه: فليس في مورد الأمارة المعتبرة حكم غير الحكم الواقعي؛ حتى يلزم اجتماع المثلين أو الضدين.

و أما منع الكبرى فحاصله: أن تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة و إن كان يلزم من التعبد بالأمارة عند مخالفتها للواقع؛ إلا إنه غير باطل، و لا محذور فيه؛ إذ مع وجود المصلحة في التعبد بالأمارة يتدارك بها المصلحة الواقعية الفائتة أو المفسدة الملقى فيها.

و أما بناء على الالتزام بوجود حكم ظاهري تكليفي في مورد الأمارات؛ إما بدعوى استتباع جعل الحجية جعل الحكم الظاهري فلا محذور أيضا؛ و إن اجتمع الحكمان.

و ذلك لأن الحكم الظاهري حكم طريقي، بمعنى: أنه ناش عن مصلحة في نفسه أوجبت إنشاءه المستلزم للتنجيز و التعذير، و الحكم الواقعي حكم فعلي ناشئ عن مصلحة في متعلقه، فنظرا إلى اختلاف مركز المصلحتين في الحكمين لا يلزم اجتماع المثلين، و لا اجتماع الضدين؛ لاعتبار اتحاد المحل في استحالة اجتماع المثلين أو الضدين.

8 - الإشكال في بعض الأصول العملية: كقوله «عليه السلام»: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه»، بتقريب: أن ظاهر هذا الدليل هو جعل الإباحة الشرعية في مورد أصالة الحلية، و هي تنافي الحرمة الواقعية، و يلزم اجتماع المثلين إذا كان الحكم الواقعي هو الإباحة أيضا، و عليه: فلا يندفع محذور اجتماع الحكمين المتماثلين أو المتضادين - في مورد أصالة الإباحة و الحلية - بما دفع به في حجية الأمارات.

و حاصل الكلام في الإشكال: أن إذن الشارع في الإقدام بجعل الإباحة الظاهرية ينافي الحرمة الواقعية، سواء كان الإذن لأجل مصلحة في نفس الإباحة، أم كان لأجل عدم مصلحة أو مفسدة في المتعلق.

و أما وجه تخصيص الإشكال ببعض الأصول العملية: فلأن مثل الاستصحاب

ص: 167

و قاعدة الفراغ و قاعدة التجاوز التي لها نظر إلى الواقع يمكن الالتزام فيها بجعل أحكام ظاهرية طريقية؛ كما في الأمارات عينا، فيكون حالها حال الأمارات من حيث جريان الجواب الثاني فيها.

هذا بخلاف مثل قاعدة الحل و أصل البراءة و نحوهما مما لا نظر إلى الواقع أصلا، فيختص الإشكال به دون ما له نظر إلى الواقع.

و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بقوله: «فلا محيص في مثله إلا عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة». و هذا الجواب يمكن تقريبه على نحو يجري في جميع الأمارات و الأصول طرّا، و به يحصل الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي في كل من الأصول و الأمارات، و به تندفع المحاذير المتقدمة كلها.

و حاصل الجمع بينهما: أن الأحكام الواقعية المشتركة بين الكل هي فعلية غير منجزة عند قيام الأمارة أو الأصل على خلافها، و الأحكام الظاهرية فعلية منجزة، فحينئذ: لا تنافي بينهما لعدم الإرادة أو الكراهة على طبق الحكم الفعلي الغير المنجز، فإن الأحكام الخمسة لا ينافي بعضها مع بعض إلا من جهة الإرادة و الكراهة، و الحكم الواقعي إذا كان فعليا غير منجّز فلا إرادة و لا كراهة على طبقه، كي ينافي الحكم الظاهري.

9 - إشكال المصنف على الشيخ الأنصاري: حيث التزم بعدم الحكم الواقعي فعليا في مورد الأصول و الأمارات، و التزم بأنه إنشائي فقال المصنف: ظهر بما ذكرناه - في دفع الإشكالات الواردة على التعبد بالأمارات غير العلمية و الأصول العملية - أنه لا يلزم من التعبد بالأمارات غير العلمية الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأصول و الأمارات فعليا؛ بل إنه شأني كي يلزم تارة: عدم لزوم الإتيان بما قامت الأمارة على وجوبه حينئذ؛ إذ لا يحبب امتثال الحكم الإنشائي عقلا إذا علم به، فضلا عما إذا قامت الأمارة غير العلمية عليه، مع أنه خلاف الضرورة؛ للزوم امتثال مؤديات الأمارات بالضرورة.

و أخرى: باحتمال اجتماع المتنافيين و هو في الاستحالة كالقطع باجتماع المتنافيين، بتقريب: إن المحتمل هو فعلية الحكم الواقعي الذي يكون في مورد الأصل و الأمارة و المفروض: فعلية الحكم الظاهري أيضا، فيلزم اجتماع الحكمين الفعليين المتنافيين و هو محال. و لازم هذا الإشكال: عدم جواز الرجوع إلى الأمارة و الأصول إلا مع القطع بعدم فعلية الحكم الثابت في موردهما، و هو بعيد جدا.

ص: 168

10 - و ما يقال: بأنه لا مجال للإشكال الأول على الشيخ الأنصاري «قدس سره»؛ بتقريب: أن هذا الإشكال - بناء على إنشائية الأحكام الواقعية - مبنيّ على بقائها على الإنشائية حتى بعد قيام الأمارات عليها.

و أما بناء على أن قيام الأمارات سبب لوصولها إلى مرتبة الفعلية، فلا وجه للإشكال المزبور؛ إذ يحب حينئذ امتثال مؤديات الأمارات؛ لأنها صارت فعلية بعد قيام الأمارة عليها مدفوع بما حاصله: من أن موضوع الفعلية - على ما ذكره المستشكل من أنه الحكم الإنشائي المتصف بكونه مؤدى الأمارة - مؤلف من الإنشائية و الوصف المزبور، و من المعلوم: توقف أثر المركب على وجود جميع أجزائه، فما لم يحرز الموضوع بتمام أجزائه بالوجدان أو التعبد أو بالاختلاف لم يترتب عليه الأثر.

و في المقام يكون الأمر كذلك؛ فإنه لا يترتب أثر الفعلية على الحكم الإنشائي الذي أدت إليه الأمارة، و ذلك لانتفاء إحراز الموضوع وجدانا و تعبدا.

أما وجدانا: فلأن إصابة الأمارة غير معلومة. و أما تعبدا: فلأن دليل حجية الأمارة لا يقتضي إلا التعبد بوجود مؤداه، و لا يتكفل الجزء الثاني من الموضوع و هو كون هذا الحكم الإنشائي المحكي مؤدى الأمارة و ذلك لأن اتصاف المحكي بهذا الوصف متأخر عن قيام الأمارة عليه، فلو فرض تقدمه على قيام الأمارة عليه لزم الدور و هو محال.

«فافهم» لعله إشارة إلى أنه لو فرض إمكان دلالة دليل غير الأمارة على كون مؤداها هو الواقع المتصف بكونه مؤدى الأمارة لم يكف ذلك أيضا في الحكم بالفعلية؛ لأن الحكم بها منوط بدلالة دليل على هذا الوصف، و لم يثبت، فما قيل: من صيرورة الأحكام الإنشائية فعلية بمجرد قيام الأمارة عليها خال عن الدليل.

11 - إثبات كون الأحكام التي أدت إليها الأمارات فعلية بدلالة الاقتضاء بمعنى: أن مقتضى أدلة اعتبار الأمارات و إن كان تنزيل مؤداها منزلة الواقع و هو الحكم الإنشائي المحض؛ لا منزلة الواقع الذي أدت إليه الأمارة، و لكن بدلالة الاقتضاء و صون كلام الحكيم عن اللغوية لا بد من حمل دليل الحجية على تنزيل المؤدى منزلة الواقع الذي أدت إليه الأمارة، أي: منزلة الأحكام الفعلية، كي لا يكون التنزيل بلا ثمرة و فائدة.

فالمتحصل: أنه لو نزل المولى جزءا من المركب منزلة الواقع يعلم منه أنه نزل الجزء الآخر أيضا، و إلا كان تنزيله الأول لغوا. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تصحيح ما أنكره المصنف «قدس سره»، و لكن أورد عليه المصنف بقوله: «لكنه لا يكاد يتم».

ص: 169

و خلاصة الإيراد: أن دلالة الاقتضاء إنما تتم و تثبت الفعلية إذا لم يكن للأحكام الإنشائية أثر أصلا، و أما إذا كان لها أثر - و لو بالعنوان الثانوي كالنذر و نحوه - فلا يبقى مجال لدلالة الاقتضاء؛ لعدم لزوم اللغوية حينئذ، فالنتيجة هي: عدم صحة ما ذكره الشيخ الأنصاري «قدس سره» في الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري، بحمل الحكم الواقعي على الإنشائي في مورد الطرق و الأمارات.

12 - و هناك جمع آخر بين الحكم الواقعي و الظاهري، و هو الفرق بين الحكمين من حيث الموضوع؛ لأن موضوع الحكم الواقعي هو نفس الشيء بعنوانه الأولي، و موضوع الحكم الظاهري هو الشيء بوصف أنه مشكوك الحكم، فيكون الحكم الظاهري متأخرا عن الحكم الواقعي بمرتبتين: الأولى: تأخره عن موضوعه، و الأخرى: تأخر موضوعه، و هو الشك عن الحكم الواقعي الذي تعلق به الشك، و لا محذور في اجتماع حكمين فعليين متنافيين مع تعدد رتبتهما.

و حاصل إشكال المصنف على هذا الجمع: هو وجود الحكم الواقعي في مرتبة الحكم الظاهري؛ إذ لا يرتفع الحكم الواقعي بمجرد الشك فيه، فإذا تحقق الحكم الظاهري بقيام الأمارة أو الأصل على خلاف الحكم الواقعي لزم اجتماع الضدين من إيجاب و تحريم مثلا.

فالمتحصل من جميع ما أفاده المصنف في المقام: أنه لا يلزم من حجية الأمارات غير العلمية محذور أصلا.

13 - مقتضى الأصل فيما شك في اعتباره من الأمارات هو: عدم حجيتها بمعنى:

أنه بمجرد أن شك في حجية أمارة ثبوتا يقطع بعدم حجيتها إثباتا أي: لا يترتب عليها أثار الحجية في مقام الإثبات؛ لأن آثار الحجية لا تترتب إلا على ما اتصف بالحجية الفعلية - أي: المحرزة بالعلم - في مقام الإثبات. هذا هو الصحيح عند المصنف؛ لا ما ذكره الشيخ الأنصاري «قدس سره»، حيث جعل الأصل حرمة التعبد بالظن، و استدل عليها بالأدلة الأربعة.

14 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - العلم الإجمالي مقتض بالنسبة إلى كل من وجوب الموافقة القطعية، و حرمة المخالفة كذلك.

2 - كفاية الامتثال الإجمالي المعبر عنه بالاحتياط مطلقا.

ص: 170

فصل

لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده (1) في الجملة، 3 - إمكان التعبد بالظن بالإمكان الوقوعي.

=============

4 - ليس الإمكان أصلا متبعا عند العقلاء عند الشك في إمكان شيء و امتناعه.

5 - ليس معنى جعل حجية الأمارة جعل الحكم التكليفي لمؤداها.

6 - آثار الحجية هي المنجزية و المعذرية.

7 - الأصل فيما شك في اعتباره هو عدم الحجية.

فصل في حجية الظواهر

اشارة

(1) أي: مراد الشارع «في الجملة» أي: بنحو الإيجاب الجزئي في قبال التفاصيل الآتية.

و غرض المصنف هو: نفي الشبهة عن حجية ظواهر الألفاظ الكاشفة عن المرادات بنحو الإيجاب الجزئي، في قبال السلب الكلي.

و قد عرفت: أن الأصل فيما لا يعلم اعتباره هو عدم الحجية؛ إلا ما خرج بالدليل، و مما خرج بالدليل عن تحت ذلك الأصل هو ظاهر الكلام، و لذا يقول المصنف: إنه «لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة»، و الوجه في ذلك هو: أن بناء العقلاء قد استقر على اتّباع ظهور الكلام في تعيين مراد المتكلم، و الحكم بأن هذا هو مراده من طريق ظاهر كلامه.

و من الواضح: أن الشارع جرى في كلامه على طبق هذه الطريقة العقلائية، و لم يخترع طريقة أخرى مخالفة لطريقة العقلاء؛ و إلا لنقلت إلينا تلك الطريقة، و حيث لم تنقل إلينا تلك الطريقة المختصة بالشارع نقطع بعدم ردع الشارع عن الطريقة العقلائية، و قد استدل المصنف بهاتين المقدمتين على حجية الظواهر، حيث أشار إلى المقدمة الأولى بقوله: «لاستقرار طريقة العقلاء...» الخ. و إلى الثانية: بقوله: «مع القطع بعدم الردع عنها...» الخ، و عدم الردع يوجب القطع بالإمضاء، بعد وضوح عدم مانع عن الردع، و لا ريب في تمامية المقدمتين.

ص: 171

لاستقرار طريقة العقلاء على اتباع الظهورات (1) في تعيين المرادات، مع القطع بعدم الردع (2) عنها، لوضوح (3): عدم اختراع طريقة أخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه، كما هو واضح.

و الظاهر (4): أن سيرتهم على اتباعها، من غير تقييد بإفادتها للظن فعلا، و لا بعدم الظن كذلك على خلافها قطعا.

=============

أما تمامية الأولى: فلبداهة: بناء العقلاء على الأخذ بالظواهر، و كشفها عن المرادات الجدية للمتكلم، و لذا لا يقبل اعتذار العبد الذي يخالف ظاهر كلام مولاه بعدم علمه بكون الظاهر مرادا جديا له.

و أما تمامية الثانية - و هي إمضاء الشارع طريقة العقلاء بعدم الردع عنها - فلوضوح:

كون الطريق الموصل لجل الأحكام هو الألفاظ، فلو كانت هذه الطريقة مردوعة عنده لكان اللازم إحداث طريقة أخرى، و التالي باطل، فالمقدم مثله.

و كيف كان؛ فهذا البناء العقلائي على اتباع الظاهر لا يختص بصورة حصول الظن الشخصي بالوفاق، و لا بصورة عدم حصول الظن الشخصي بالخلاف؛ إذ لا يحق للعبد الاعتذار عن مخالفة الأمر الصادر من قبل المولى المبين بكلام ظاهر فيه - الاعتذار - بأنه لم يكن ظانا بثبوته، أو كان ظانا بعدم ثبوته.

(1) و قد عبر الشيخ الأنصاري «قدس سره» عن الظهورات بالأصول المعمولة لتشخيص مراد المتكلم.

(2) أي: ردع الشارع عن طريقة العقلاء.

(3) تعليل لقوله: «مع القطع بعدم الردع».

(4) هذا شروع في الإشارة إلى الأقوال في مسألة حجية الظواهر، و هناك تفاصيل؛ بل أقوال أشار إليها المصنف:

الأول: أنها حجة مطلقا يعني: سواء أفادت الظن الشخصي أو النوعي بإرادة المتكلم لها أم لا، و سواء كان ظنّ شخصي أو نوعي بخلافها أم لا، من غير فرق في ذلك كله بين من قصد إفهامه بها و من لم يقصد، و لا بين ظواهر الكتاب و غيره، فهي منوطة بنفس وضع اللفظ و حجة من غير شرط؛ لكن ما لم يحصل العلم بإرادة خلافها، هذا القول هو الذي استظهره المصنف «قدس سره»، و اختاره بقوله: «و الظاهر أن سيرتهم على اتباعها...» الخ.

الثاني: أنها حجة بشرط عدم قيام الظن غير المعتبر على خلافها.

ص: 172

ضرورة (1): أنه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها بعدم إفادتها للظن بالوفاق، و لا بوجود الظن بالخلاف.

كما أن (2) الظاهر عدم اختصاص ذلك بمن قصد إفهامه، و لذا لا يسمع اعتذار الثالث: أنها حجة بشرط إفادتها - بنفسها أو من خارج - الظن بإرادة المتكلم لها.

=============

و قد استدل المصنف «قدس سره» على مختاره بإطلاق السيرة العقلائية، القائمة على الأخذ بالظواهر و اتباعها إلى أن يعلم بالخلاف، و الدليل على هذا الإطلاق: هو عدم صحة الاعتذار عن مخالفتها بعدم إفادتها الظن بالوفاق، و لا بوجود الظن بالخلاف، و هذا كاشف قطعي عن إطلاق السيرة و عدم تقييدها بأحد هذين القيدين، و هما الظن بالوفاق و عدم الظن بالخلاف.

الرابع: التفصيل بين قصد إفهامه و غيره بمعنى: اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه دون غيره، و هذا القول منسوب إلى المحقق القمي «قدس سره»، و قد ظهر بطلانه بعموم دليل اعتبار الظواهر أعني: سيرة العقلاء الثابتة في الظواهر مطلقا، حتى بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه. و الشاهد على إطلاق بنائهم هو: أنه لا يسمع اعتذار من لم يقصد إفهامه بأني لم أكن مقصودا بالإفهام، فلا يكون اعتبار الظواهر مختصا بمن قصد إفهامه.

الخامس: التفصيل في حجية الظواهر بين الكتاب و غيره، و هذا القول منسوب إلى جماعة من المحدثين و الأخباريين حيث قالوا بحجية غير ظواهر الكتاب و عدم حجية ظواهر الكتاب، فانتظر تفصيل ذلك في كلام المصنف «قدس سره».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية» و غيره.

(1) تعليل لعدم تقييد حجية الظواهر بإفادتها للظن الفعلي بالوفاق و لا بعدم الظن بالخلاف، فيكون ردا للقول الثاني و الثالث، و دليلا لما هو مختار المصنف من حجية الظواهر مطلقا.

التفصيل بين من قصد إفهامه و غيره

(2) إشارة إلى التفصيل بين من قصد إفهامه و غيره. و حاصل هذا التفصيل المنسوب إلى المحقق القمي: اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه دون غيره. و حاصل رد المصنف عليه: هو عدم اختصاص اتباع الظواهر و حجيتها بمن قصد إفهامه، و الشاهد على عدم الاختصاص: ما أشار إليه بقوله: «و لذا لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه...» الخ، أي: لأجل عدم اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه «لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر كلام المولى»؛ بأن يقول: لم يقصد

ص: 173

من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر كلام المولى، من تكليف يعمه أو يخصه (1)، و يصح (2) به الاحتجاج لدى المخاصمة و اللجاج، كما تشهد به (3) صحة الشهادة بالإقرار من كل من سمعه و لو قصد عدم إفهامه، فضلا عما إذا لم يكن بصدد إفهامه.

و لا فرق في ذلك (4) بين الكتاب المبين و أحاديث سيّد المرسلين و الأئمة الطاهرين.

و إن ذهب بعض الأصحاب إلى عدم حجية ظاهر الكتاب، إما بدعوى اختصاص المولى إفهامي، و لذا لم يكن الظاهر حجة بالنسبة إلى، و لذا خالفت الأمر.

=============

(1) الضميران في «يعمه أو يخصه» راجعان على من في قوله: «من لم يقصد إفهامه». و مثال الأول: أن يقول المولى لأحد عبيده أن يفعل مع سائر العبيد كذا و كذا، فيكون التكليف عاما شاملا لمن لم يقصد إفهامه؛ لأن المقصود بالإفهام هو أحد العبيد حسب الفرض.

و مثال الثاني: أن يقول المولى في غياب المكلف بطور علني: ليذهب فلان، و ليأتي بكذا و كذا.

(2) عطف على «لا يسمع» أي: و لذا «يصح به» أي: بظاهر كلام المتكلم «الاحتجاج لدى المخاصمة و اللجاج»، يعني: و يصح احتجاج المولى بظاهر كلامه على العبد التارك للعمل به، مع كونه غير مقصود بالإفهام، فصحة الاحتجاج بظاهر الكلام عند المخاصمة و اللجاج تكشف عن حجية الظواهر مطلقا.

(3) أي: «كما تشهد» - بعدم سماع الاعتذار و صحة الاحتجاج بظاهر الكلام - «صحة الشهادة بالإقرار... الخ».

و حاصل مقصود المصنف: أنه لو أقر زيد على نفسه بشيء مثل: كونه مديونا لعمر و بكذا، و قد سمعه - و هو لم يكن مقصودا بالإفهام؛ و لكن علم على إقرار زيد لعمرو - صح لبكر أن يشهد عليه عند الحاكم و إن لم يكن مقصودا بالإفهام؛ بل كان مقصودا بعدم الإفهام.

فالنتيجة: أن ظاهر الكلام حجة بالنسبة إلى كل أحد، من غير فرق بين كونه مقصودا بالإفهام و عدمه. و تركنا تطويل الكلام في المقام رعاية للاختصار.

(4) أي: في لزوم اتباع الظواهر و كونها حجة «بين الكتاب المبين...» الخ. هذا إشارة إلى تفصيل جماعة من الأخباريين، و هو التفصيل في حجية الظواهر بين ظواهر الكتاب فليست بحجة، و بين ظواهر غير الكتاب فهي حجة.

ص: 174

فهم القرآن و معرفته بأهله و من خوطب به، كما يشهد به ما ورد في ردع أبي حنيفة و قتادة عن الفتوى به؛ أو بدعوى أنه لأجل احتوائه على مضامين شامخة و مطالب غامضة عالية لا يكاد تصل إليها أيدي أفكار أولي الأنظار غير الراسخين العالمين

=============

في التفصيل بين ظواهر الكتاب و غيره

و قد ذكر الشيخ الأنصاري «قدس سره» للأخباريين وجهين(1): حيث قال: «و أقوى ما يتمسك لهم على ذلك وجهان أحدهما: الأخبار المتواترة المدعى ظهورها في المنع ذلك»، ثم ذكر طوائف كثيرة من الأخبار مفادها المنع عن العمل بظواهر القرآن، من دون ما يرد التفسير و كشف المراد عن الأئمة المعصومين «صلوات الله عليهم أجمعين».

إلى أن قال: «الثاني من وجهي المنع: إنّا نعلم بطروّ التقييد و التخصيص و التجوز في أكثر ظواهر الكتاب، و ذلك مما يسقطها عن الظهور». راجع «دروس في الرسائل، ج 1، ص 250-267». و ذكر المصنف «قدس سره» لهم وجوها خمسة و هي بين ما يرجع إلى منع الصغرى - و هي الظهور - و بين ما يرجع إلى منع الكبرى - أعني: منع حجية ظواهر القرآن - فنذكرها على ترتيب المتن.

و أما الوجه الأول: فقد أشار إليه بقوله: «إما بدعوى اختصاص فهم القرآن و معرفته بأهله و من خوطب به». و حاصل هذا الوجه: هو منع الصغرى، و اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به، و الشاهد عليه: «ما ورد في ردع أبي حنيفة و قتادة عن الفتوى به» أي:

بالكتاب.

قال أبو عبد الله «عليه السلام» لأبي حنيفة: «أنت فقيه أهل العراق ؟» قال: نعم، قال:

«فبم تفتيهم ؟» قال: بكتاب الله و سنة نبيه، قال: «يا أبا حنيفة: تعرف كتاب الله حق معرفته و تعرف الناسخ و المنسوخ ؟» قال: نعم، قال: «يا أبا حنيفة: لقد ادّعيت علما، ويلك ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك و لا هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا محمد «صلى الله عليه و آله و سلم»، و ما ورثك الله من كتابه حرفا»(2).

و أما ما ورد في ردع قتادة فهو و إن كان في حديث طويل و لكن نكتفي بذكر ما هو محل الشاهد في المقام. و قد ورد في رواية زيد الشحام قال: دخل قتادة على أبي جعفر «عليه السلام» فقال له: «أنت فقيه أهل البصرة ؟» فقال: هكذا يزعمون، فقال: «بلغني

ص: 175


1- فرائد الأصول 139:1.
2- علل الشرائع 89:1 /ذيل ح 5، بحار الأنوار 292:2 /ذيل ح 13.

بتأويله، كيف (1)؟ و لا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل إلا الأوحدي من أنك تفسر القرآن» قال: نعم، إلى أن قال: «يا قتادة إن كنت قد فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت، و إن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت و أهلكت، ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به»(1).

=============

و هاتان الروايتان تدلان على اختصاص فهم القرآن بالأئمة المعصومين «عليهم السلام»، و مفادهما: أنه ليس للقرآن ظهور بالنسبة إلى غير المعصومين «عليهم السلام» حتى يجوز العمل به، فيكون راجعا إلى منع الصغرى.

و أما الوجه الثاني: فقد ذكره بقوله: «أو بدعوى أنه لأجل احتوائه» أي: الكتاب و حاصل هذا الوجه: منع الصغرى أيضا - و هي الظهور - كالوجه الأول؛ إذ كون اشتمال الكتاب على تلك المعاني الغامضة يكون مانعا عن معرفة أبناء المحاورة بتلك المعاني الشامخة، و جهلهم بها يمنع عن انعقاد الظهور، و يشهد لهذا الوجه بعض الروايات:

منها: ما رواه العياشي في تفسيره عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سمعت أبا عبد الله «عليه السلام» يقول: «ليس شيء أبعد من عقول الرجال عن القرآن»(2).

و الحاصل: أنه لأجل علو مضامين الكتاب العزيز لا يبلغ أحد كنه معانيه إلا النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و أوصياؤه «عليهم السلام»؛ لأنهم راسخون عالمون بتأويل الكتاب العزيز.

و منها: ما رواه عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال: «الراسخون في العلم أمير المؤمنين «عليه السلام» و الأئمة من ولده «عليهم السلام»(3).

و منها: ما رواه عمر بن قيس عن أبي جعفر «عليه السلام» قال: سمعته يقول: «إن الله «تبارك و تعالى» لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله «صلى الله عليه و آله و سلم»...» الحديث.

و مفاده هذه الروايات: أنه لا يفهم القرآن إلا الراسخون في العلم و هم المعصومون «صلوات الله عليهم أجمعين».

(1) أي: كيف تصل أيدي أفكار أولي الأنظار إلى مضامين الكتاب العزيز العالية، و الحال: أنه «لا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل...» الخ.

ص: 176


1- الكافي 485/311:8، الوسائل 33556/185:27.
2- تفسير العياشي 5/18:1.
3- الكافي 213:1، و فيه «من بعده» بدل «من ولده» الوسائل 33538/179:25.

الأفاضل ؟ فما ظنك بكلامه تعالى مع اشتماله على علم ما كان و ما يكون و حكم كل شيء (1).

=============

(1) كما في قوله تعالى: وَ لاٰ رَطْبٍ وَ لاٰ يٰابِسٍ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (1) بناء على تفسيره بالقرآن الكريم؛ و كذا بعض الروايات «الأخر الدالة على ذلك منها: ما رواه مرازم عن أبي عبد الله «عليه السلام»: «قال: إن الله «تبارك و تعالى» أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى و الله ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن إلا و قد أنزله الله فيه»(2).

و منها: ما رواه عمر بن قيس...» الخ. هذا تمام الكلام في الوجه الثاني.

و أما الوجه الثالث: فقد ذكره بقوله: «أو بدعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر»، و هذا الوجه الثالث للسيد الصدر شارح الوافية؛ إلا إن السيد لم يدع شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه الظاهر، و إنما احتمله له لتشابه المتشابه.

و كيف كان؛ فقد ذكر الشيخ الأنصاري «قدس سره» كلام السيد الصدر، و ملخص كلام السيد «قدس سره»: «أن المتشابه كما يكون في أصل اللغة، كذلك يكون بحسب الاصطلاح مثل أن يقول أحد: أنا استعمل العمومات، و كثيرا ما أريد الخصوص من غير قرينة، و ربما أخاطب أحدا و أريد غيره، و نحو ذلك، فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده و لا يحصل لنا الظن به، و القرآن من هذا القبيل، لأنه نزل على اصطلاح خاص ثم قال: قال سبحانه: مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتٰابِ وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ (3) ذمّ على اتباع المتشابه و لم يبين لهم المتشابهات ما هي و كم هي؛ بل لم يبين لهم المراد من هذا اللفظ و جعل البيان موكولا إلى خلفائه، و النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» نهى الناس عن التفسير بالآراء، و جعلوا الأصل عدم العمل بالظن و لم يستثنوا ظواهر القرآن...».

و حاصل ما أفاده المصنف في تقريب هذا الوجه هو: منع الكبرى - و هي حجية ظواهر القرآن - بدعوى إجمال المتشابه، و احتمال شموله للظاهر. بتقريب: أن المتشابه هو ما يحتمل فيه وجهان أو وجوه يشبه بعضها بعضا في احتمال إرادته من اللفظ، فهو مقابل الصريح الذي لا يحتمل فيه الخلاف، فيعم الظواهر، و لا أقل من احتماله فيكون مجملا، و يسري إجماله إلى جميع الآيات لكونه من قبيل القرينة المتصلة، فلا يصح

ص: 177


1- الأنعام: 59.
2- الكافي 1/59:1.
3- آل عمران: 7.

أو بدعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر، لا أقل من احتمال شموله له، لتشابه (1) و إجماله.

أو بدعوى أنه و إن لم يكن منه ذاتا، إلا إنه صار منه عرضا، للعلم (2) الإجمالي بطروّ التخصيص و التقييد و التجوز في غير واحد من ظواهره (3) كما هو الظاهر (4).

=============

التمسك بظواهر القرآن بعد ذلك؛ إذ احتمال اندراج الظاهر في المتشابه يوجب الشك في حجيته، و قد عرفت: أن مقتضى الأصل في مشكوك الحجية عدم جواز العمل به.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا الوجه الثالث.

(1) تعليل لقوله: «لا أقل...»، و «إجماله» عطف تفسير للمتشابه، يعني: بعد كون المتشابه مجملا فيحتمل شموله للظاهر أيضا.

و أما الوجه الرابع: فقد ذكره بقوله: «أو بدعوى أنه و إن لم يكن منه ذاتا إلا إنه صار منه عرضا»، يعني: أن ظاهر الكتاب و إن لم يكن من المتشابه ذاتا فإنه لا تشابه فيه، بل إنه من المحكم القسيم للمتشابه؛ إلا إن الظاهر صار من المتشابه عرضا. و هذا الوجه هو الوجه الثاني من الوجهين اللذين ذكرهما الشيخ الأنصاري «قدس سره» للأخباريين و هذا الوجه كالوجه الأول و الثاني يرجع إلى منع الصغرى - و هي الظهور - و محصله: أن ظاهر الكتاب و إن لم يكن ذاتا مندرجا في المتشابه إلا إنه مندرج فيه عرضا، بمعنى أن الكتاب لا ينعقد له ظهور، لأجل العلم الإجمالي بطرو التخصيص و التقييد و التجوز في الكتاب، فيسقط عن الظهور، لأن هذا العلم الإجمالي يمنع عن الرجوع إلى الأصول المرادية، كأصالة عدم التخصيص و غيرها، و المفروض أن حجية الظاهر منوطة بجريان الأصول المرادية، و مع عدم جريانها - كعدم جريان الأصول العملية في أطراف الشبهة المحصورة - يسقط الظاهر عن الحجية، فيكون الظاهر حينئذ بحكم المتشابه في عدم الحجية أي:

ليس له ظهور كي يكون حجة.

(2) تعليل لصيرورة الظاهر من المتشابه عرضا و إن لم يكن ذاتا متشابها.

(3) أي: ظواهر الكتاب.

(4) و الصواب «كما هو ظاهر» بإسقاط اللام، لأن غرضه بيان وضوح طرو الإجمال عرضا على ظواهر الكتاب بسبب التخصيص و التقييد و غيرهما. و هذا لا يلائم التعبير عنه ب «الظاهر»، لأنه يوهم الترديد فيه، و هو ينافي جزمه الناشئ من العلم الإجمالي بكثرة التخصيص و التقييد كما في هامش «منتهى الدراية، ج 4، ص 294».

و أما الوجه الخامس: فقد ذكره بقوله: «أو بدعوى شمول الأخبار الناهية...».

ص: 178

أو بدعوى شمول الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي؛ لحمل الكلام الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى.

=============

و حاصل هذا الوجه أيضا هو منه الكبرى - و هي حجية ظواهر القرآن - بدعوى: شمول الأخبار الناهية عن التفسير بالرأي لحمل الكلام على ظاهره بمعنى: إنه لا يجوز حمل الكتاب على ما هو ظاهر فيه من المعنى؛ لأنه مصداق للتفسير بالرأي المنهي عنه.

قوله: «لحمل» متعلق ب «شمول». و قوله: «على إرادة» متعلق ب «حمل»، و المراد بالمعنى في قوله: «هذا المعنى» هو المعنى الظاهر، فمعنى العبارة: أن حمل الكلام الظاهر في معنى على إرادة المعنى الذي يكون الكلام ظاهرا فيه مشمول للأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي، فيحرم حمل الكلام على ما هو ظاهر فيه؛ لأنه من التفسير بالرأي.

و كيف كان؛ فالروايات الناهية عن التفسير بالرأي و إن كانت كثيرة جدا؛ إلا إنا نكتفي بذكر جملة منها رعاية للاختصار:

مثل النبوي: «من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»(1).

و في رواية أخرى: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار»(2).

و في نبوي ثالث: «من فسر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب»(3).

و عن أبي عبد الله «عليه السلام»: «من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر و إن أخطأ سقط أبعد من السماء»(4).

و عن تفسير العياشي عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال: «من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر، و من فسر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر»(5).

هذه جملة من الأخبار الناهية عن التفسير بالرأي. فمفاد الجميع هي الكبرى الكلية، و هي حرمة التفسير بالرأي على نحو القضية الموجبة الكلية، فإذا كان حمل القرآن على ظاهره من التفسير بالرأي لكان من صغريات تلك الكبرى، و بالتالي فيتم استدلال الأخباريين بهذه الروايات على عدم حجية ظواهر الكتاب.

ص: 179


1- عوالي اللآلي 154/104:4، أصول السرخسي 137:1.
2- التوحيد: 90 /من ح 5، الوسائل 33566/189:27، مسند أحمد 233:1، سنن الترمذي 4022/268:4، المصنف لابن شيبة 3/179:7، الخ.
3- كمال الدين: 256 /جزء من ح 1، الوسائل 33568/19:27.
4- تفسير العياشي 4/17:1، الوسائل 33597/202:2727.
5- تفسير العياشي: 6/18:1، الوسائل 33195/60:27.

و لا يخفى (1): أن النزاع يختلف صغرويا و كبرويا بحسب الوجوه، فبحسب غير الوجه الأخير و الثالث يكون صغرويا، و أما بحسبهما: فالظاهر أنه كبروي، و يكون المنع (2) عن الظاهر إما لأنه من المتشابه قطعا أو احتمالا، أو لكون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي.

و كل هذه الدعاوى فاسدة (3):

أما الأولى: فإنما المراد مما دل على اختصاص فهم القرآن و معرفته بأهله اختصاص فهمه (4) بتمامه بمتشابهاته و محكماته، بداهة: أن فيه (5) ما لا يختص به، كما لا يخفى.

=============

(1) هذا إشارة إلى اختلاف مقتضى الوجوه المذكورة، فالنزاع صغروي بحسب الوجه الأول و الثاني و الرابع. و كبروي بحسب الوجهين الثالث و الخامس. و قد عرفت توضيح ذلك فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة.

(2) يعني: يكون سبب منع الكبرى - و هي كل ظاهر حجة - إما لأن ظاهرا من المتشابه، و إما لكونه من التفسير بالرأي.

(3) هذا شروع في جواب المصنف عن الوجوه الخمسة المذكورة.

(4) أي: الدليل على اختصاص فهم و معرفته بأهله قد دل على اختصاص فهم القرآن بتمامه بأهله و من خوطب به.

و حاصل الكلام في المقام: أنه قد أجاب المصنف عن الدعوى الأولى بوجوه:

الوجه الأول: ما أشار إليه بقوله: «فإنما المراد مما دل...» الخ.

جواب المصنف عن أدلة الأخبار بين عدم حجيّة ظواهر الكتاب

توضيح ذلك: أن المراد من الأخبار الدالة على اختصاص فهم القرآن بأهله هو فهم مجموعة من حيث المجموع، من متشابهه و محكمه و ناسخه و منسوخه و عامه و خاصه و ظاهره و باطنه و تأويله و تفسيره، و أنه نزل في ليل أو نهار في سهل أو في جبل، إلى غير ذلك من الخصوصيات؛ لا فهم كل آية آية لوضوح: أن في القرآن ما لا يختص علمه و فهمه بهم «عليهم السلام»، و هو ما يكون صريحا في معناه كقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ ... (1) فإنها صريحة في التحريم.

(5) أي: أن في القرآن آيات لا يختص فهمها بأهله. هذا خلاصة الكلام في الوجه الأول.

و أما الوجه الثاني: فقد أشار إليه بقوله: «و ردع أبي حنيفة...» الخ.

ص: 180


1- المائدة: 3.

و ردع أبي حنيفة و قتادة عن الفتوى به: إنما هو لأجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه (1) من دون مراجعة أهله، لا عن (2) الاستدلال بظاهره مطلقا، و لو مع الرجوع إلى رواياتهم و الفحص عما ينافيه، و الفتوى به مع اليأس عن الظفر به.

كيف (3)؟ و قد وقع في غير واحد من الروايات الإرجاع إلى الكتاب و الاستدلال بغير واحد من آياته.

=============

و حاصل الكلام في الوجه الثاني: أن ردع الإمام «عليه السلام» لأبي حنيفة و قتادة عن الفتوى به إنما لأجل استقلالهما بالفتوى، من دون مراجعة الروايات الواردة عن أهل البيت في تفسيره؛ لا عن الاستدلال بظاهره بعد المراجعة إليها و عدم الظفر فيها بما ينافيه. و عليه: فردعهما عنه مما لا يدل على عدم جواز الاستدلال بظاهره؛ و لو بعد المراجعة على رواياتهم و الفحص عما ينافيه بحد اليأس.

فيراد من الردع عن العمل بالظواهر: العمل بها استقلالا؛ لا مطلقا حتى بعد الفحص عما ورد منهم «عليهم السلام» من المخصص و المقيد و غيرهما، و يشهد له سؤال الإمام «عليه السلام» لأبي حنيفة: «أ تعرف الناسخ من المنسوخ ؟»؛ إذ السؤال يدل على كون المانع عن التمسك بظواهر القرآن و الاستدلال بها هو: عدم معرفة الناسخ و المنسوخ و غيرهما، فإذا عرف ذلك بعد الفحص فقد ارتفع المانع، فجاز التمسك بها.

فالمتحصل: أن ردع أبي حنيفة لا يمنع عن العمل بالظواهر مطلقا كما هو مقصود المستدل؛ بل يمنع عن العمل بها استقلالا و بدون الرجوع إلى ما ورد عنهم عليهم من المخصص و المقيد و غيرهما.

(1) أي: إلى ظاهر الكتاب.

(2) و المقصود من هذا الكلام: أن ردع الإمام «عليه السلام» لأبي حنيفة و قتادة ليس ردعا عن الفتوى مطلقا؛ و لو كان بالرجوع إليهم «عليهم السلام»؛ بل ردعهم «عليهم السلام» إنما هو عن الإفتاء المستند إلى ظاهر الكتاب، من دون رجوع أبي حنيفة و أمثاله إلى الأئمة «عليهم السلام».

(3) أي: كيف يكون الردع عن الاستدلال بظاهر الكتاب مع الرجوع إلى رواياتهم ؟ مع أنه قد وقع... الخ. هذا هو الوجه الثالث، عن الدعوى الأولى و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 298» - أنه لا بد من إخراج الظواهر عما دل على اختصاص فهم كل آية من الآيات بهم «عليهم السلام»؛ إذ مقتضى التوفيق بينه و بين الأخبار الكثيرة الآمرة بالرجوع إلى الكتاب العزيز في موارد متفرقة؛ كالأخبار الدالة على عرض الروايات

ص: 181

و أما الثانية: فلأن احتواءه (1) على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمنة للأحكام و حجيتها (2)، كما هو محل الكلام.

=============

المتعارضة على الكتاب، و ما دل على بطلان الشرط المخالف للكتاب، و ما دل على وجوب الرجوع إلى الكتاب، و غير ذلك، فإنه لا يمكن طرح تلك الأخبار الكثيرة لأجل ما دل على اختصاص فهم القرآن بأهله «عليهم السلام». و النسبة بين تلك الأخبار و بين ما يدل على هذا الاختصاص و إن كانت عموما من وجه؛ لاجتماعهما في الظواهر و افتراقهما في النصوص و المتشابهات؛ إلا إن الجمع العرفي بينهما يقتضي حمل الأخبار الكثيرة على الظواهر، و حمل غيرها على غير الظواهر و على الظواهر قبل الفحص.

فالمتحصل: أن ظواهر الكتاب حجة كحجية ظواهر الأخبار، غاية الأمر: أن ظاهر الكتاب كظاهر السنة لا يجوز العمل به قبل الفحص عن المخصص و غيره.

قال الشيخ الأعظم: «هذا كله مع معارضة الأخبار المذكورة بأكثر منها مما يدل على جواز التمسك بظاهر القرآن، مثل: خبر الثقلين المشهور بين الفريقين، و غيرها مما يدل على الأمر بالتمسك بالقرآن، و العمل بما فيه...». «دروس في الرسائل، ج 1، ص 259».

و أما الجواب عن الدعوى الثانية - و هي اشتمال الكتاب على المطالب الغامضة المانعة عن انعقاد الظهور له - فحاصله: أنه لا يمنع عن حجية الظواهر في الآيات المتضمنة للأحكام الشرعية كما أشار إليه بقوله.

(1) «فلأن احتواءه...» الخ. أي: احتواء الكتاب «على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره...» الخ. توضيح ذلك: إن الكتاب العزيز لا يحتوي على المضامين العالية بتمام آياته؛ بل في بعضها، فلا ينافي غموضها حجية غيرها من الظواهر التي لا غموض فيها.

و بعبارة أخرى: الكلام إنما هو في ظواهر الكتاب لا في المعاني الكنائية، التي تكون في بطون الآيات؛ إذ لا ربط لها بالمعاني التي تكون الألفاظ ظاهرة فيها عند أبناء المحاورة.

فالمتحصل: أن محل الكلام هو حجية ظواهر آيات الأحكام.

و من المعلوم: أنه لا مجال لإنكار وجود ظواهر في آياتها.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(2) أي: حجية الظواهر. و ضمير «هو» راجع على فهم ظواهر آيات الأحكام؛ لأن محل الكلام هو فهم ظواهر آيات الأحكام، و لا ارتباط بين تعذر فهم الغوامض و إمكان فهم ظواهر آيات الأحكام، فلا منافاة بين فهم بعض الآيات - كآيات الأحكام مثلا -

ص: 182

و أما الثالثة: فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه، فإن الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل، و ليس (1) بمتشابه و مجمل.

=============

لوضوح معانيها، و بين تعذر فهم آيات أخرى لإجمالها، كما هو الشأن أيضا في بعض الروايات المشتملة على جمل يكون بعضها مجملا و بعضها ظاهرا، فإن إجمال مجملها لا يسري إلى الجمل التي هي ظاهرة في معانيها.

هذا تمام الكلام في الجواب عن الدعوى الثانية.

و أما الجواب عن الدعوى الثالثة - و هي كون الظاهر من المتشابه - فحاصله: منع كون الظاهر من المتشابه، لأن الظاهر هو ما يتضح معناه و هو خلاف المتشابه الخفي معناه، فالمتشابه الممنوع اتباعه هو خصوص المجمل لا ما يعم المجمل و غيره حتى يقال بعدم حجية الظاهر لاحتمال كونه من المتشابه. كما أشار إليه بقوله: «فإن الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل» قوله: «فإن الظاهر» تعليل لمنع شمول المتشابه للظاهر.

(1) أي: و ليس لفظ «المتشابه» من الألفاظ المجملة، بل هو من الألفاظ المبينة؛ لأن معناه هو المجمل، فقوله: «و مجمل» عطف تفسير للمتشابه. هذا تمام الكلام في الجواب عن الدعوى الثالثة. و قد أشار إلى الجواب عن الدعوى الرابعة بقوله: «و أما الرابعة...» الخ - و هي كون الظاهر متشابها بالعرض - فقد أجاب عنها المصنف بوجهين: أحدهما:

ما أشار إليه بقوله: «فلان العلم إجمالا...»، و الآخر ما أشار إليه بقوله: «مع أن دعوى...» الخ.

و توضيح الوجه الأول: أن العلم الإجمالي - بإرادة خلاف الظاهر في جملة من الآيات - و إن كان موجبا للإجمال إلا أنه مشروط بعدم انحلاله بالظفر في الروايات بالمخصصات و غيرها من موارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالإجمال، و مع الانحلال لا إجمال، كما إذا علم إجمالا بأن موارد إرادة خلاف الظاهر عشرة مثلا، و ظفرنا في الروايات بمقدارها، فحينئذ: ينحل العلم الإجمالي بالنسبة إلى الموارد الباقية، و يجوز الرجوع إلى الأصول اللفظية المرادية.

و بعبارة أخرى: إن العلم الإجمالي بطرو ما يخالف الظاهر من مخصص و غيره و إن كان مما لا ريب فيه إلا أنه لا يوجب الإجمال؛ بحيث لا يجوز العمل بالظاهر أصلا؛ إذ بعد التفحص و الظفر بمقدار المعلوم بالإجمال ينحل العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي و الشك البدوي، فلا مانع من الأخذ بالظاهر بعد انحلال العلم الإجمالي بالفحص و التتبع.

ص: 183

و أما الرابعة: فلأن العلم إجمالا بطرو إرادة خلاف الظاهر إنما يوجب الإجمال فيما إذا لم ينحل بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالإجمال. مع أن دعوى (1) اختصاص أطرافه بما إذا تفحص عما يخالفه لظفر به، غير بعيدة (2)، فتأمل جيدا.

=============

(1) هذا إشارة إلى الوجه الثاني في الجواب عن الدعوى الرابعة، و حاصله: أن دائرة المعلوم بالإجمال ليست مطلق الأمارات حتى يقال ببقاء احتمال التخصيص و نحوه حتى بعد الفحص و الظفر بمخصصات و نحوها، فيما بأيدينا من الروايات و غيرها؛ بل خصوص ما لو تفحصنا عنه لظفرنا به و هذا العلم الإجمالي يمنع عن التمسك بالظواهر قبل الفحص لا بعده، فبعد الفحص إذا لم يظفر بما يخالف ظاهر الكتاب من تخصيص أو تقييد أو قرينة مجاز يكون ذلك مما علم خروجه تفصيلا عن أطراف العلم الإجمالي، فلا مانع حينئذ من إجراء أصالة الظهور فيه؛ لخروج ذلك الظاهر عن دائرة المعلوم بالإجمال.

(2) خبر «إن» في قوله: «مع أن دعوى...» الخ. فالنتيجة هي: عدم جواز التمسك بالظاهر قبل الفحص، و أما بعد الفحص و الظفر بما يخالف بعض الظواهر: فيجوز التمسك بالظاهر الذي يعلم خروجه عن دائرة المعلوم بالإجمال.

فالمتحصل: أن العلم الإجمالي مردد بين الأمارات التي لو تفحصنا عنها لظفرنا به؛ لا أن متعلقه مردد بين ما بأيدينا و غير ما بأيدينا حتى لا ينحل بعد الفحص. هذا تمام الكلام في الجواب عن الدعوى الرابعة.

و أما الجواب عن الدعوى الخامسة - و هي شمول الأخبار الناهية عن التفسير بالرأي لحمل الكلام على ظاهره - فيرجع إلى وجوه ثلاثة:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «فيمنع كون حمل الظاهر...» الخ.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و لو سلم فليس...» الخ.

الثالث: ما أشار إليه بقوله: «مع أنه لا محيص...» الخ.

و أما توضيح الوجه الأول فيتوقف على مقدمة و هي: بيان معنى التفسير، و معنى التفسير - على ما في مجمع البيان - هو «كشف المراد عن اللفظ المشكل»(1)، فالتفسير عبارة عن كشف المراد و القناع و رفع الحجاب و الستار.

ص: 184


1- مجمع البيان 39:1. و أيضا: تفسير غريب القرآن: 269، جامع البيان 10:1، تفسير ابن كثير 150:1، البرهان للزركشي 149:2، تفسير الثعالبي 40:1، الخ.

و أما الخامسة: فيمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير، فإنه كشف القناع و لا قناع للظاهر. و لو سلم فليس من التفسير بالرأي؛ إذ الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار الظني الذي لا اعتبار به، و إنما كان منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره لرجحانه (1) بنظره، أو حمل المجمل على محتمله بمجرد مساعدة ذاك الاعتبار عليه (2)، من دون (3) السؤال عن الأوصياء، و في بعض الأخبار (4): «إنما هلك الناس في المتشابه؛ لأنهم لم يقفوا على معناه، و لم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم و استغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرفونهم».

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن حمل الكلام على معناه الظاهر ليس تفسيرا أصلا؛ إذ شيء من المعاني المذكورة للتفسير لا يصدق على حمل الألفاظ على ظواهرها، فالعمل بالظواهر خارج عن هذه الأخبار؛ إذ الظاهر لا قناع له و لا سترة.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الجواب.

و أما الجواب بالوجه الثاني فحاصله: أن المنهي عنه - بعد تسليم شمول التفسير لحمل الكلام على ظاهره - هو: التفسير بالرأي؛ إذ المراد بالرأي: هو الاعتبار العقلي الظني الراجع على الاستحسان الذي لا اعتبار به كحمل اللفظ على غير معناه لرجحانه بنظره، و التفسير بالرأي لا يشمل المقام؛ إذ لا يكون حمل الكلام على ظاهره تفسيرا بالرأي؛ لأن هذا الحمل ليس مستندا إلى الأمر الظني الاستحساني؛ بل مستند إلى العلم بالوضع أو القرينة مما يعتمد عليه أبناء المحاورة في باب استفادة المعاني من الألفاظ.

فالمتحصل: أنه لو سلم إطلاق التفسير على حمل الكلام على ظاهره، فليس من التفسير بالرأي الممنوع في الأخبار؛ لأن التفسير بالرأي هو: حمل اللفظ على خلاف ظاهره أو على أحد محتملاته بمجرد الاعتبار الظني و الاستحسان العقلي.

(1) تعليل لقوله: «إنما كان منه» أي: لرجحان خلاف الظاهر - بنظر من يفسر القرآن برأيه - على الظاهر بنظر غيره.

(2) أي: على حمل المجمل على محتمله، بمجرد مساعدة ذلك الأمر الاستحساني الظني الذي لا اعتبار به.

(3) متعلق بقوله: «و إنما كان منه حمل».

(4) الغرض من نقله بعض الأخبار هو: الاستشهاد على عدم كون حمل اللفظ على ظاهره من التفسير بالرأي؛ إذ ما ورد في المتشابه من التعليل «بأنهم لم يقفوا على معناه» لا يتأتى في حمل الكلام على ظاهره؛ لأن المعنى الظاهر مما يقف عليه أبناء المحاورة.

ص: 185

هذا مع أنه (1) لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير به على ذلك، و لو سلم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره، ضرورة (2): أنه قضية التوفيق بينها و بين ما دل على جواز التمسك بالقرآن، مثل: خبر الثقلين، و ما دل على التمسك به و العمل بما فيه، و عرض الأخبار المتعارضة عليه، و رد الشروط المخالفة له، و غير ذلك مما

=============

(1) هذا هو الوجه الثالث من وجوه الجواب عن الدعوى الخامسة.

و حاصله: أنه لو سلم شمول الروايات الناهية عن التفسير بالرأي لحمل الظاهر على ظاهره؛ فلا محيص عن حمل التفسير بالرأي فيها على ما ذكرناه من حمل اللفظ على خلاف ظاهره، أو على أحد محتملاته بمجرد الاعتبار الظني و الاستحسان العقلي، و إخراج حمل الظاهر على ظاهره عن تحت تلك الروايات؛ و ذلك بمقتضى الجمع بينها و بين ما دل على جواز التمسك بالقرآن مثل خبر الثقلين، و ما دل على التمسك به و العمل بما فيه و عرض الأخبار المتعارضة عليه، و برد الشروط المخالفة له، و غير ذلك مما لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره لا خصوص نصوصه.

فحمل الظاهر على ظاهره خارج عن تحت الأخبار الناهية عن التفسير بالرأي بحسب جميع الوجوه الثلاثة المذكورة في الجواب.

غاية الأمر: يكون حمل الظاهر على ظاهره بحسب الوجه الأول و الثاني موضوعا، و بحسب هذا الوجه الثالث تخصيصا جمعا بين الروايات.

(2) تعليل لقوله: «لا محيص» عن يعني: لا محيص عن حمل الروايات الناهية عن التفسير بالرأي على غير الظاهر لأجل الجمع بين الروايات، أي: أن حمل الأخبار الناهية على غير الظاهر هو مقتضى الجمع بينها و بين الأخبار التي يستفاد منها حجية ظواهر الكتاب.

منها: حديث الثقلين المتواتر بين الخاصة و العامة عن النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» أنه قال: «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا كتاب الله و عترتي أهل بيتي، و إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(1).

و منها: ما رواه حفص المؤذن و إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله «عليه السلام» في رسالة طويلة كتبها إلى جماعة من الشيعة، و فيها: «قد أنزل الله القرآن و جعل فيه تبيان كل شيء و جعل للقرآن و لتعلم القرآن أهلا...»(2).

و منها: ما دل على عرض الأخبار على القرآن، مثل: ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: قال الصادق «عليه السلام»: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما

ص: 186


1- الكافي 1/414:2.
2- الكافي 5:8 /جزء من ح 1.

لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره لا خصوص نصوصه، ضرورة: أن الآيات التي يمكن أن تكون مرجعا في باب تعارض الروايات أو الشروط، أو يمكن أن يتمسك بها و يعمل بما فيها، ليست إلا ظاهرة في معانيها، ليس فيها ما كان نصا، كما لا يخفى.

و دعوى العلم الإجمالي (1) بوقوع التحريف فيه بنحو، إما بإسقاط أو بتصحيف؛ على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، و ما خالف كتاب الله فردوه، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه، و ما خالف أخبارهم فخذوه»(1).

=============

و منها: ما رواه هشام بن الحكم عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال: «خطب النبي «صلى الله عليه و آله» بمنى، فقال: أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته، و ما جاءكم يخالف كتاب فلم أقله»(1).

و منها: صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال: سمعته يقول:

«من اشترط شرطا مخالفا لكتاب الله فلا يجوز له، و لا يجوز على الذي اشترط عليه، و المسلمون عند شروطهم مما وافق كتاب الله عزّ و جل»(2). و هذه الروايات تدل بوضوح على أن الأئمة «عليهم السلام» ارجعوا الرواة إلى القرآن الكريم، و لا بد أن يكون إرجاعهم إلى ظواهر الكتاب لا خصوص نصوصه و محكماته؛ إذ الآيات المتكفلة للأحكام ليست إلا ظاهرة في معانيها. فمفاد جميع الروايات المذكورة حجية ظواهر القرآن.

و من هنا يظهر: إنه لا مجال لدعوى الأخباريين، بل ظواهر الكتاب حجة كغيرها.

فالمتحصل من جميع ما ذكرناه: أن حجية الظواهر مما تسالم عليها العقلاء في محاوراتهم، و بنوا عليها في جميع أمورهم، و حيث لم يكن للشارع طريق خاص في محاوراته؛ بل كان يتكلم بلسان القوم، و لم يردع عن طريقة العقلاء فهي ممضاة عنده أيضا.

في العلم الإجمالي بوقوع التحريف

في العلم الإجمالي بوقوع التحريف(3) العلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن يمكن أن يكون وجها آخرا لإسقاط ظاهر الكتاب عن الحجية؛ و لكن لم يتمسك به أحد من الأخباريين، و لذا لم يذكره الشيخ الأنصاري «قدس سره» في عداد أدلة الأخباريين على عدم حجية ظواهر القرآن؛ بل تعرض له في التنبيه الثالث من التنبيهات.

ص: 187


1- المحاسن 130/221:1، الوسائل 33348/111:27.
2- الكافي 1/169:5، تهذيب الأحكام 94/22:7، الوسائل 23040/16:18.
3- الوسائل 33362/118:27، عن الراوندي في رسالته في أحوال الحديث.

و إن كانت غير بعيدة كما شهد به بعض الأخبار و يساعده (1) الاعتبار؛ إلا إنه لا يمنع عن حجية ظواهره، لعدم العلم بوقوع الخلل فيها بذلك أصلا.

و لو سلم؛ فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام و العلم بوقوعه فيها أو في غيرها من و كيف كان؛ فلا بد من تحرير محل النزاع؛ لأن التحريف على أقسام، قسم منه: قد وقع في القرآن باتفاق المسلمين كتحريف القرآن من حيث حمله على غير حقيقته، كما نرى كثيرا من أهل المذاهب الباطلة الذين قد حرفوا القرآن بتأويلهم آياته على طبق أهوائهم، و كنقص أو زيادة في الحروف أو الحركات.

=============

و قسم منه: لم يقع باتفاق المسلمين كالتحريف بالزيادة مثل أن يقال: بأن بعض القرآن الموجود ليس من الكلام المنزل من الله تعالى على النبي «صلى الله عليه و آله».

و قسم منه: قد وقع فيه الخلاف مثل: التحريف بالنقيصة، بمعنى: أن القرآن الموجود بين أيدينا لا يشتمل على جميع القرآن، بل قد ضاع بعضه على المسلمين. هذا القسم الثالث هو محل النزاع و لكن المعروف بين المسلمين هو: عدم وقوع التحريف في القرآن.

و قد صرح بذلك كثير من الأعلام كالصدوق «قدس سره»، حيث عد القول بعدم التحريف من معتقدات الإمامية، و منهم الشيخ الطوسي «قدس سره» و السيد المرتضى «رحمة الله عليه» و غيرهم، نعم؛ ذهب جماعة من المحدثين من الشيعة، و عدة من علماء أهل السنة إلى وقوع التحريف.

يقول المصنف: إن «دعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف فيه» أي: في الكتاب العزيز «بنحو، إما بإسقاط» منه «أو بتصحيف» أي: بتغيير فيه «و إن كانت غير بعيدة كما شهد به بعض الأخبار، و يساعده الاعتبار»، و من الأخبار ما روي عن أمير المؤمنين «عليه السلام» أنه قال للزنديق: - لما أنكر المناسبة بين قوله تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتٰامىٰ ، و بين قوله تعالى: فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسٰاءِ (1) الآية - ما مضمونه: أسقط المنافقون من القرآن - بين القول: في اليتامى و بين نكاح النساء - من الخطاب و القصص أكثر من ثلث القرآن.. الحديث. احتجاج الطبرسي، ج 1، ص 377.

(1) أي: وقوع التحريف يساعده «الاعتبار» أي: اعتبار المناسبة بين الآيات، حيث لا توجد مناسبة و ارتباط بين جملتين في بعض آيات القرآن مما يحتمل إسقاط شيء بينهما، و أوجب ذلك عدم المناسبة و الارتباط بين الجملتين من الآية كما ترى ذلك بين الجملتين من الآية المذكورة؛ إذ قد عرفت: عدم المناسبة بين الشرط و الجزاء فيها؛ لأن الشرط -

ص: 188


1- النساء: 3.

و هو قوله تعالى: - وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتٰامىٰ ، لا ينسجم مع الجزاء - و هو قوله تعالى: - فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسٰاءِ .

و حاصل ما أفاده المصنف في المقام: أن وقوع التحريف في الكتاب العزيز بإسقاط بعض الآيات و الجمل أو بتصحيف و تغيير موضع بعضها و إن كان يوجب سقوط الظهور عن الاعتبار أو يمنع عن انعقاد الظهور؛ إلا إن ذلك لا يمنع عن حجية ظواهر الكتاب.

و قبل الجواب عن الاستدلال بالعلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن على سقوط ظواهره عن الحجية، نذكر توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية» و «الوصول إلى كفاية الأصول». فنقول: إن التحريف بالإسقاط عبارة عن إسقاط بعض الآيات أو بعض الجمل منها. و أما التحريف بالتصحيف فهو إما بمعنى تغيير موضع الآيات أو الجمل منها، و إما بمعنى التبديل، فإن التصحيف حينئذ هو تبديل نقطة أو حركة أو ما شابههما؛ كقراءة رَبَّنٰا بٰاعِدْ بَيْنَ أَسْفٰارِنٰا (1) المشتهرة بصيغة الأمر من المفاعلة مرادا بها الدعاء، و قراءة «باعد» بصيغة الماضي من المفاعلة مرادا بها الإخبار.

و أما الجواب عن ذلك فيمكن بوجوه:

الأول: هو عدم وقوع التحريف في القرآن أصلا، فإن القرآن لم ينقص منه شيء، و إنما هذا الموجود بأيدينا هو القرآن الحكيم الذي نزل على رسول الله «صلى الله عليه و آله»؛ بل ادعى جماعة: الإجماع على ذلك.

قال شيخ الطائفة في التبيان: «و أما الكلام في زيادته و نقصانه فمما لا يليق به أيضا؛ لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانه، و النقصان منه بالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه، و هو الأليق بالصحيح من مذهبنا، و هو الذي نصره المرتضى «رحمة الله عليه»، و هو الظاهر في الروايات، غير أنه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة و العامة بنقصان كثير من آي القرآن، و نقل شيء منه من موضع إلى موضع طريقها الآحاد التي لا توجب علما و لا عملا، و الأولى الإعراض عنها، و ترك التشاغل بها. انتهى، التبيان للشيخ الطوسي، ج 1، ص 3. ط بيروت؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 3، ص 418».

هذا مضافا إلى أن هناك بعض الروايات الدالة على أن المراد بتلك الروايات التي دلت على النقصان في التأويل و التفسير، فإن قرآن الإمام «عليه السلام» كان مع شرح بعض

ص: 189


1- سبأ: 19.

آياته تفسيرا و تأويلا مما أنزله الله تعالى؛ لا بعنوان القرآن. و كيف كان؛ فوقوع التحريف في القرآن بمعنى الإسقاط بعيد جدا، و ذلك لوجوه:

الأول قوله تعالى: إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ (1).

الثاني: حفظ عشرات من الصحابة له، و تعليمهم إياه للصدر الأول من المسلمين، حتى بلغ من الشيوع أن نقص كلمة منه يوجب إلفات كافة الأنظار إليه وردها عليه.

الثالث: أن دواعي التحريف مفقودة إلا في الأمور الحسّاسة، نظير موضوع الخلافة، و لم يدع أحد من الإمامية أن كذا آية نزلت في حق علي «عليه السلام» بهذا اللسان و أخفاها القوم بالتباني منهم و من جميع الناس الواقعين تحت سيطرتهم؛ إلا أن يكون المدعي شاذا مبتدعا أو غاليا ممقوتا. و لا قيمة بنقل هؤلاء؛ إذ لو صح هذا المعنى لتشدد الأئمة «عليهم السلام» بالنسبة إليه؛ حتى يبلغ من الوضوح و الاشتهار مبلغ الضروريات المذهبية، نظير المسح على القدمين مثلا، فحينئذ: لا يعتد ببعض ما هو غير معلوم النسبة إلى الأئمة «عليهم السلام» من الأخبار.

بقي الكلام في المناسبة بين الشرط و الجزاء في الآية المتقدمة، و قد ذكر وجه المناسبة الشيخ الطبرسي في مجمع البيان(2)، و المحقق البلاغي في تفسير آلاء الرحمن فراجع.

و أما حاصل ما أفاده المصنف «قدس سره» في الجواب، فيرجع إلى وجهين:

الوجه الأول: ما أشار إليه بقوله: «لعدم العلم بوقوع الخلل فيها...» الخ، أي: لعدم العلم بوقوع الخلل في الظواهر «بذلك» أي: بسبب التحريف.

و توضيح ذلك: أن التحريف لا يوجب العلم بخلل في الظواهر؛ إذ من المحتمل:

وقوع التحريف في المتشابه، فتبقى ظواهر الكتاب سليمة عن الخلل، فمجرد العلم الإجمالي بالتحريف لا يسقط الظهور عن الاعتبار.

الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و لو سلم، فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام».

و حاصل هذا الوجه: أنه - بعد تسليم العلم بوقوع الخلل في الظواهر المانع عن حجيتها - لا علم بوقوع الخلل في آيات الأحكام التي هي مورد البحث و الابتلاء؛ لاحتمال وقوع الخلل في ظواهر غير آيات الأحكام مما يرتبط بالولاية و غيرها، و من المعلوم: إنه لا أثر للعلم الإجمالي الذي يكون بعض أطرافه خارجا عن مورد الابتلاء،

ص: 190


1- الحجر: 9.
2- مجمع البيان 14:3-15.

الآيات غير ضائر بحجية آياتها؛ لعدم حجية ظاهر سائر الآيات، و العلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنما يمنع عن حجيتها إذا كانت كلها حجة؛ و إلا (1) لا يكاد ينفك ظاهر عن ذلك (2) فافهم (3).

نعم (4)؛ لو كان الخلل فيه أو في غيره بما اتصل به، لأخل بحجيته لعدم انعقاد ظهوره له حينئذ، و إن انعقد له الظهور لو لا اتصاله.

=============

كما إذا علم إجمالا بخلل في إحدى الصلوات الأربع التي صلاها إلى الجهات الأربع لاشتباه القبلة فيها، فلو كان الخلل في غير الصلاة الواقعة إلى القبلة لم يكن له أثر.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية»:

و الغرض من قوله: - «و العلم الإجمالي بوقوع الخلل...» الخ - بيان مانعية العلم الإجمالي بوقوع التحريف عن التمسك بظواهر القرآن؛ إذا فرض حجية جميع ظواهر الكتاب من غير فرق في ذلك بين آيات الأحكام و غيرها؛ لأن العلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر في الجملة مانع عن أصالة الظهور، فلا يمكن الأخذ بشيء من ظواهر الكتاب، سواء كانت من آيات الأحكام أم غيرها؛ لكون الجميع حينئذ موردا للابتلاء.

(1) أي: و إن لم تكن ظواهر الكتاب كلها حجة - بأن كانت ظواهر خصوص آيات الأحكام حجة - و مع ذلك كان العلم الإجمالي مانعا عن حجيتها لزم سقوط جميع الظواهر عن الحجية؛ إذ ما من ظاهر إلا و يحتمل وقوع الخلل فيه، و من المعلوم: أن الالتزام بسقوط جميع الظواهر عن الحجية ينافي ما سبق من الإرجاع إلى بعض آيات الأحكام.

(2) أي: عن وقوع الخلل فيه؛ لكونه طرفا للعلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن. و ضميرا «حجيتها، كلها» راجعان على الظواهر.

(3) لعله إشارة إلى منع خروج غير آيات الأحكام - من سائر الآيات - عن مورد الابتلاء؛ إذ يكفي في الابتلاء بها: جواز الاعتماد عليها في الإخبار عن مضامينها، فلا تختص أصالة الظهور بآيات الأحكام. و عليه: فالعلم الإجمالي بوقوع الخلل في بعض الظواهر في الجملة يمنع عن حجية أصالة الظهور في جميع الآيات، فالصواب حينئذ:

منع التحريف الموجب للخلل في الظواهر.

(4) هذا استدراك على قوله: «لا يمنع عن حجية ظواهره»، و كان اللازم تأنيث الضمائر في قوله: «فيه، غيره، به».

و حاصل الاستدراك: هو التفصيل في الإخلال بظواهر الكتاب بين القرائن المتصلة و المنفصلة؛ بأن يقال بالإخلال في الأولى دون الثانية، بمعنى: أن الخلل المحتمل في آيات

ص: 191

ثم إن التحقيق أن الاختلاف (1) في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور مثل:

يَطْهُرْنَ بالتشديد و التخفيف، يوجب الإخلال بجواز التمسك و الاستدلال؛ لعدم إحراز ما هو القرآن، و لم يثبت تواتر القراءات و لا جواز الاستدلال بها و إن نسب إلى المشهور تواترها؛ لكنه مما لا أصل له، و إنما الثابت: جواز القراءة بها، و لا ملازمة بينهما، كما لا يخفى.

=============

القرآن إن كان بما اتصل بها لأخل بحجيتها قهرا؛ إذ الخلل المحتمل بالتحريف يكون حينئذ موجبا لاختلال أصل الظهور، و عدم انعقاده. فإذا احتمل احتفاف ظاهر آيات الأحكام بما يكون مانعا عن انعقاد الظهور لم تجر فيه أصالة الظهور، إذ مجراها هو الظهور المعلوم، و أما مشكوك الظهور: فلا مجال لجريانها فيه.

هذا بخلاف احتمال القرائن المنفصلة، فلا يكون مضرا بحجية أصالة الظهور بالنسبة إلى ظواهر آيات الأحكام، فالحق هو التفصيل في الإخلال لا عدم الإخلال مطلقا.

فالمتحصل: أن مجرد العلم الإجمالي بالخلل المردد بين آيات الأحكام و غيرها مما لا يخل بحجيتها؛ ما لم يرجع إلى الشك في قرينية الموجود المتصل بالكلام، دون الشك في أصل وجود القرينة، سواء كانت متصلة أو منفصلة، و دون الشك في قرينية الموجود إذا كانت منفصلة.

في اختلاف القراءات

في اختلاف القراءات(1) هل الاختلاف في القراءة يوجب سقوط حجية القرآن في الآية المختلف في قراءتها أم لا؟ فنقول: إنه بعد ما أثبت المصنف «قدس سره» حجية ظواهر آيات الأحكام نبّه على ثبوت الإخلال بالتمسك بظواهر الكتاب بسبب اختلاف القراءات، الموجب لعدم إحراز ما هو القرآن، و باختلافها لا يمكن الاستدلال بظاهر القرآن؛ إذ المفروض:

اختلاف الظهور تبعا للقراءة.

و قبل الخوض في البحث عن حكم اختلاف القراءات ينبغي بيان ما هو محل الكلام.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: إن الاختلاف في القراءة على أقسام:

الأول: هو الاختلاف من حيث الصورة فقط، دون المادة و المؤدى مثل: مٰالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ (1)، و ملك يوم الدّين، و الفرق بينهما بالعموم و الخصوص: إذ المالك أعم من الملك.

ص: 192


1- الفاتحة: 3.

و لو فرض جواز الاستدلال بها، فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها، بعد كون الأصل في تعارض الأمارات هو: سقوطها عن الحجية في خصوص المؤدى، بناء على اعتبارها من باب الطريقية، و التخيير بينها بناء على السببية، مع عدم دليل على الترجيح في غير الروايات من سائر الأمارات، فلا بد من الرجوع حينئذ إلى الأصل أو العموم، حسب اختلاف المقامات.

=============

الثاني: هو الاختلاف من حيث المادة دون الصورة، كقوله تعالى: كيف ننشرها(1) حيث قرء بالزاء و الراء كما في مجمع البيان في ذيل آية 259 من سورة البقرة.

الثالث: الاختلاف في الصورة و المؤدى دون المادة، كقوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا اَلنِّسٰاءَ فِي اَلْمَحِيضِ وَ لاٰ تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰى يَطْهُرْنَ (2) حيث قرئ - قوله تعالى: - يَطْهُرْنَ بالتشديد و التخفيف، فعلى الأول: يحرم الجماع و المقاربة قبل الغسل، و على الثاني: قبل النقاء.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل النزاع مختص بما إذا كان الاختلاف في القراءة موجبا للاختلاف في المؤدى، سواء كان موجبا للاختلاف في المادة و الصورة أم لا؛ كما هو ظاهر المصنف حيث قال: «إن الاختلاف في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور»، و هذا احتراز عن الاختلاف غير الموجب لاختلاف الظهور مثل:

اَلصِّرٰاطَ * و «السراط».

و أما حكم اختلاف القراءات الموجب لاختلاف الظهور: فهو منع التمسك بالقرآن؛ و ذلك لعدم إحراز ما هو القرآن حتى يستدل بظاهره لإثبات الحكم الشرعي.

و توضيح جميع جوانب مسألة اختلاف القراءات يتوقف على مقدمة و هي: بيان الاحتمالات و الصور المتصورة في القراءات من حيث التواتر و عدمه، و جواز الاستدلال بكل منها و عدمه فهناك صور:

الصورة الأولى: هي ثبوت تواترها.

الصورة الثانية: هي جواز الاستدلال بكل منها على تقدير عدم ثبوت تواترها.

الصورة الثالثة: هي جواز القراءة على طبق كل قراءة فقط، من دون ثبوت التواتر و لا جواز الاستدلال بها، بمعنى: أن جواز القراءة على طبق قراءة لا يلازم جواز الاستدلال بتلك القراءة.

ص: 193


1- البقرة: 259.
2- البقرة: 222.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن اختلاف القراءات بحسب الصورة الثالثة: يوجب الإخلال بجواز التمسك و الاستدلال؛ و ذلك لعدم إحراز ما هو القرآن؛ إذ لا وجه للاستدلال بإحدى القراءتين ما لم تثبت قرآنيتها، و الثابت هو جواز القراءة على طبق كل قراءة كما في بعض الروايات عن الإمام الصادق «عليه السلام»: «اقرأ كما يقرأ الناس»، و لا ملازمة بين جواز القراءة و جواز الاستدلال بها. هذا في صورة عدم التعارض بين القراءتين و أما في صورة التعارض - كتعارض القراءة بالتشديد و التخفيف في قوله تعالى:

يَطْهُرْنَ - فلا بد من التوقف و الرجوع إلى الأصل العملي، أو العموم حسب اختلاف المقامات.

و مقتضى الأصل في - يَطْهُرْنَ - هو: حرمة المقاربة، و مقتضى العموم هو الجواز؛ إذ الأمر يدور بين استصحاب حكم المخصص - و هو قوله تعالى: - فَاعْتَزِلُوا اَلنِّسٰاءَ فِي اَلْمَحِيضِ ، حيث يكون مخصصا للعموم الزماني - و هو قوله تعالى: - نِسٰاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّٰى شِئْتُمْ (1)، و بين الرجوع إلى عموم العام من حيث الزمان، بناء على أن يكون أَنّٰى بمعنى الزمان لا بمعنى المكان حتى لا يرتبط بالمقام، ف أَنّٰى شِئْتُمْ يفيد العموم من حيث الزمان، و قد خرج منه زمان الحيض، فنتمسك به على جواز المقاربة بعد حصول النقاء من الحيض.

أو نستصحب حكم المخصص و هو حرمة المقاربة و الجماع عند الشك في بقاء الحرمة بعد النقاء و قبل الغسل، فيجري استصحاب الحرمة و يحكم بها. هذا معنى قول المصنف: «فلا بد من الرجوع حينئذ إلى الأصل أو العموم...» الخ. هذا تمام الكلام في حكم الصورة الثالثة.

و أما حكم الصورة الأولى و هي تواتر القراءات من النبي «صلى الله عليه و آله» فهو:

أن كل قراءة بمنزلة آية و تكون القراءتان المختلفتان بمنزلة آيتين، فربما يقع التعارض بينهما كما في الآية المتقدمة.

و تقريب التعارض بين القراءة بالتشديد و التخفيف: أن مقتضى القراءة بالتشديد منطوقا هو حرمة المقاربة إلى تحصيل الطهارة أي: الاغتسال، و مقتضى مفهومها: هو جواز المقاربة بعد الاغتسال، ثم مقتضى القراءة بالتخفيف منطوقا هو حرمة المقاربة إلى

ص: 194


1- البقرة: 223.

النقاء، يعني: حرمة المقاربة قبل انقطاع دم الحيض، فيكون مفهومها هو: جواز المقاربة بعد انقطاع الدم و إن لم تغتسل. فيقع التعارض في المقاربة بعد النقاء و قبل الغسل، حيث يكون مقتضى القراءة بالتشديد بحسب المنطوق الحرمة، و مقتضى القراءة بالتخفيف بحسب المفهوم الجواز، فتقدم القراءة بالتشديد؛ لأن الدلالة المنطوقية أقوى من الدلالة المفهومية؛ لأنها بالنص أو اظهر، و دلالة القراءة بالتخفيف نفرضها بالظهور، فيجمع بينهما بحمل الظاهر على النص أو على الأظهر.

و أما مع التكافؤ و التساوي بين القراءتين؛ بأن تكونا ظاهرتين أو نصين: فلا بد من التوقف و الرجوع إلى الأصل العملي، أو العموم حسب اختلاف المقامات كما عرفت في الصورة الأولى.

و لا تجري هنا مرجحات تعارض الروايات؛ إذ لا دليل لنا على الترجيح بتلك المرجحات في غير الروايات.

أما الصورة الثانية: فحكمها حكم الصورة الأولى النعل بالنعل، و هو التوقف عند التعارض، و الرجوع إلى الأصل العملي أو العموم.

و المتحصل من الجميع: أنه لا يخلو الأمر من الصور الثلاث: إما أن نقول: بتواتر القراءات كلها كما هو المشهورة و إما أن لا نقول بتواترها كما هو مذهب جماعة، فعلى الأول: فقراءة يَطْهُرْنَ بالتشديد و التخفيف بمنزلة آيتين متعارضتين، فلا بد من الجمع بينهما بحمل الظاهر على النص أو على الأظهر، و مع التكافؤ لا بد من الحكم بالتوقف و الرجوع إلى غيرهما. و على الثاني: - أعني: عدم التواتر - فإن ثبت جواز الاستدلال بكل قراءة، كما ثبت بالإجماع جواز القراءة بكل قراءة كان الحكم كما تقدم، و إلا فلا بد من التوقف و الرجوع إلى القواعد، مع عدم المرجح أو مطلقا بناء على عدم ثبوت الترجيح هنا كما هو الظاهر، فيحكم باستصحاب الحرمة قبل الاغتسال؛ إذ لم يثبت تواتر التخفيف أو بالجواز بناء على عموم قوله تعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّٰى شِئْتُمْ من حيث الزمان خرج منه أيام الحيض.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله: «لو فرض جواز الاستدلال بها» إشارة إلى ما احتمله الشيخ الأنصاري حيث

ص: 195

قال: «فإن ثبت جواز الاستدلال بكل قراءة كان الحكم كما تقدم؛ و إلا فلا بد من التوقف في محل التعارض، و الرجوع إلى القواعد مع عدم المرجح، أو مطلقا بناء على عدم الترجيح هنا»(1).

و المصنف أورد عليه بقوله: «فلا وجه لملاحظة...» الخ. و حاصله: أن مقتضى الأصل في تعارض الطرق هو التساقط، و ملاحظة الترجيح و التخيير في المتعارضين من الأخبار إنما هي لأجل الأخبار العلاجية.

و بالجملة: فمقتضى القاعدة بناء على الطريقية هو التساقط، و بناء على السببية هو التخيير كما يأتي في باب التعارض إن شاء الله تعالى.

فالمتحصل: أنه - بناء على جواز الاستدلال بكل قراءة - يكون مقتضى القاعدة في تعارض القراءتين على الطريقية: التساقط، و على الموضوعية: التخيير، و لا وجه لملاحظة الترجيح و التخيير بينهما أصلا؛ لاختصاصها بالروايات المتعارضة.

لكن يمكن إجراء حكم تعارض الخبرين في القراءتين المتعارضتين بدعوى: كون القارئ راويا للقرآن، فتندرج القراءتان المتعارضتان في الروايتين المتعارضتين، فيعامل معهما معاملتهما.

قوله: «هو سقوطهما عن الحجية في خصوص المؤدى...» الخ. أي: يتساقطان في المدلول المطابقي؛ لا المدلول الالتزامي، و هو نفي الثالث.

قوله: «مع عدم دليل على الترجيح» قيد لقوله: «سقوطها»، و ضمير «سقوطها، اعتبارها» راجعان على الأمارات.

و حاصل الكلام: أن كون مقتضى الأصل في تعارض القراءتين هو التساقط بناء على الطريقية، و التخيير على الموضوعية مبني على اختصاص دليل الترجيح بالخبرين المتعارضين، و عدم شموله لسائر الأمارات المتعارضة.

و أما بناء على عدم اختصاصه بهما: فلا بد من الرجوع إلى الأخبار العلاجية، و ترجيح ما تقتضي تلك الأخبار ترجيحه، و لا وجه للتساقط أو التخيير كما لا يخفى.

قوله: «فلا بد من الرجوع» إشارة إلى أن غرض المصنف من هذا الكلام هو: الرجوع إلى الأصل أو العموم، بناء على الطريقية بعد تساقط القراءتين المختلفتين في الظهور على اختلاف المقامات، ففي المرأة الحائض التي انقطع عنها الدم، و شك في جواز وطئها قبل

ص: 196


1- فرائد الأصول 158:1.

الاغتسال بعد تساقط قراءتي يَطْهُرْنَ بالتشديد و التخفيف؛ هل يبني على عدمه لاستصحاب الحرمة، أو على جوازه لقوله تعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّٰى شِئْتُمْ لدلالته على جواز الوطء في كل زمان وجود الدم قطعا، و خروج غيره مشكوك فيه فيشك في التخصيص الزائد، فيرجع إلى العام ؟ أو لا يتمسك بشيء منهما؛ بل يتشبث بأصل البراءة المقتضي للجواز، فلا بد من التأمل في الموارد حتى يعلم أن المورد من موارد الرجوع إلى العموم أو الأصل. هذا تمام الكلام في حكم اختلاف القراءات.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - و مما خرج بالدليل عن الأصل - و هو: عدم حجية ما لا يعلم اعتباره - هو ظاهر الكلام، و لذا يقول المصنف: «و لا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة»، أي: على نحو الإيجابي الجزئي، ثم الظاهر عبارة: عن تجلي المعنى من اللفظ و انسباقه إلى الذهن؛ بحيث إذا ألقي اللفظ إلى العرف حملوه عليه، سواء حصل منه الظن بالمراد أم لا، فإن تحقق الظهور مما لا يدور مدار الظن بالمراد، كما أن الظن بالمراد مما لا يدور مدار الظهور.

2 - الدليل على تعيين مراد الشارع من طريق ظاهر كلامه هو: بناء العقلاء، حيث استقر على اتباع ظهور الكلام في تعيين مراد المتكلم، و الشارع لم يخترع طريقة أخرى مخالفة لطريقة العقلاء، و لم يردع عنها؛ و إلا لنقل إلينا ذلك الردع. ثم هذا البناء العقلائي على اتباع الظاهر لا يختص بصورة الظن بالوفاق، و لا بعدم الظن بالخلاف.

3 - هناك تفاصيل:

1 - اعتبار الظن بالوفاق.

2 - اعتبار عدم الظن بالخلاف.

3 - التفصيل بين من قصد إفهامه و غيره، و اختصاص حجية الظواهر بالأول.

4 - التفصيل بين ظاهر الكتاب و غيره، و اختصاص حجية الظواهر بالثاني دون الأول كما هو مذهب جماعة من الأخباريين.

و يقول المصنف بحجية الظواهر مطلقا؛ لأن سيرة العقلاء ثابتة في الظواهر مطلقا حتى بالنسبة إلى من لم يكن مقصودا بالإفهام.

ص: 197

و الشاهد على إطلاق بنائهم هو: أنه لا يسمع اعتذار من لم يقصد إفهامه «بأني لم أكن مقصودا بالإفهام»، و كذلك صحة الاحتجاج بظاهر الكلام عند المخاصمة تكشف عن حجية الظواهر مطلقا.

كما تشهد صحة الشهادة بالإقرار بصحة الاحتجاج بظاهر الكلام، مثلا: إذا أقر زيد على نفسه بأنه مديون لعمرو بألف دينار، و قد سمعه بكر صح لبكر أن يشهد عليه عند الحاكم؛ و إن لم يكن مقصودا بالإفهام.

4 - التفصيل بين ظاهر الكتاب و ظاهر السنة، و القول بحجية ظواهر السنة دون الكتاب، فلا بد أولا: من بيان ما استدل به على هذا التفصيل. و ثانيا: من الجواب عنه.

و قد استدل على عدم حجية ظواهر الكتاب بأمور تالية:

1 - دعوى اختصاص فهم القرآن و معرفته بأهله و من خوطب به، فليس للقرآن ظهور، فهذا الوجه يرجع إلى منه الصغرى.

و الشاهد عليه: ما ورد في ردع أبي حنيفة و قتادة، و مفاده: أنه ليس للقرآن ظهور بالنسبة إلى غير الأئمة المعصومين «عليهم السلام».

2 - دعوى: عدم وصول أفكار أولي الأنظار إلى ما في القرآن من المضامين العالية الغامضة. و هذا الوجه الثاني كالوجه الأول راجع على منع الصغرى.

3 - دعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر.

و حاصل هذا الوجه الثالث: منع الكبرى - و هي حجية ظواهر القرآن - بدعوى:

إجمال المتشابه، و احتمال شموله للظاهر، بتقريب: أن المتشابه مقابل الصريح الذي لا يحتمل الخلاف فيه، فيعم الظاهر، و لا أقل من احتماله، فيكون المتشابه مجملا، و يسري إجماله إلى جميع الآيات، فلا يصح التمسك بظواهر القرآن بعد ذلك؛ لاحتمال اندراج الظاهر في المتشابه، و هذا يوجب الشك في حجيته.

و قد عرفت: أن الأصل في مشكوك الحجية هو عدم جواز العمل به. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا الوجه الثالث.

4 - دعوى: أن ظاهر الكتاب و إن لم يكن من المتشابه ذاتا إلا إنه صار منه عرضا، و هذا الوجه أيضا كالوجه الأول، و الثاني راجع على منع الصغرى أعني: الظهور، بمعنى:

أن الكتاب لا ينعقد له ظهور لأجل العلم الإجمالي بطروّ التخصيص و التقييد و التجوز، فيسقط عن الظهور؛ لأن هذا العلم الإجمالي يمنع عن الرجوع إلى الأصول المرادية؛

ص: 198

كأصالة عدم التخصيص و غيرها، و مع عدم جريانها يسقط الظاهر عن الحجية، أي: ليس له ظهور؛ كي يكون حجة.

5 - دعوى: شمول الأخبار الناهية عن تفسير القرآن لحمل الكلام الظاهر على إرادة ظاهره، و هذا الوجه أيضا - أي: كالوجه الثالث - راجع على منع الكبرى - و هي حجية ظواهر القرآن، بمعنى: أنه لا يجوز حمل الكتاب على ما هو ظاهر فيه من المعنى.

6 - فساد هذه الدعاوى:

أما فساد الدعوى الأولى: فلأن المراد من الأخبار الدالة على اختصاص فهم القرآن بأهله هو: فهم مجموع القرآن من حيث المجموع، بما فيه من المتشابه و المحكم و العام و الخاص و الناسخ و المنسوخ و الظاهر و الباطن؛ لا فهم كل آية، لوضوح: أن في القرآن ما لا يختص علمه و فهمه بالمعصومين «عليهم السلام».

و أما ردع الإمام «عليه السلام» لأبي حنيفة و قتادة عن الفتوى به: فهو إنما هو لأجل استقلالهما بالفتوى، من دون مراجعة الروايات الواردة عن أهل البيت «عليهم السلام»؛ لا عن الاستدلال بظاهر الكتاب مطلقا.

و أما فساد الدعوى الثانية - و هي اشتمال الكتاب على المطالب الغامضة - فحاصله:

أنه لا يمنع عن حجية الظواهر في آيات الأحكام؛ إذ الكتاب لا يحتوي على المضامين الغامضة في تمام آياته؛ بل في بعضها.

فالمتحصل: أن محل الكلام هو حجية ظواهر آيات الأحكام، و من المعلوم: أنه لا مجال لإنكار وجود ظواهر في آياتها.

و أما فساد الدعوى الثالثة: فحاصله: منع كون الظاهر من المتشابه و هو خصوص المجمل فلا يشمل الظاهر.

و أما فساد الدعوى الرابعة - و هي كون الظاهر من المتشابه بالعرض - فيمكن بأحد وجهين:

الأول: أن العلم الإجمالي بإرادة خلاف الظاهر في جملة من الآيات و إن كان موجبا للإجمال؛ إلا إنه ما لم ينحل العلم الإجمالي بالفحص عن المخصص و المقيد و الظفر بالمخصصات و المقيدات بمقدار المعلوم بالإجمال، و مع الانحلال لا إجمال في البين.

الثاني: أن دائرة المعلوم بالإجمال ليست مطلق الأمارات كي يقال: ببقاء احتمال

ص: 199

التخصيص حتى بعد الفحص؛ بل خصوص ما لو تفحصنا عنه لظفرنا به، فلا مانع من التمسك بالظواهر بعد الفحص و اليأس عن المخصص و المقيد؛ إذ العلم الإجمالي مانع عنه قبل الفحص.

7 - و أما فساد الدعوى الخامسة: فبوجوه:

الأول: أن حمل الكلام على معناه الظاهر ليس تفسيرا، و الممنوع هو تفسير القرآن.

الثاني: لو سلمنا صدق التفسير عليه؛ لكنه ليس تفسيرا بالرأي، و الممنوع بمقتضى حمل المطلق على المقيد هو: التفسير بالرأي و هو الاعتبار العقلي الظني الراجع على الاستحسان، الذي لا اعتبار به أصلا.

الثالث: لو سلمنا شمول الروايات الناهية عن التفسير بالرأي لحمل اللفظ على ظاهره، فلا محيص عن حمل التفسير بالرأي فيها على حمل اللفظ على خلاف ظاهره، أو على أحد محتملاته بمجرد الاستحسان العقلي، و إخراج حمل اللفظ على ظاهره عن تحت تلك الروايات، و ذلك بمقتضى الجمع بينها و بين ما دل على جواز التمسك بالقرآن مثل خبر الثقلين.

8 - العلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن: هل يوجب سقوط ظاهر القرآن عن الحجية حتى يكون وجها آخرا لإسقاط ظاهره عن الحجية أم لا؟ و محل الكلام هو:

التحريف بالنقيصة بمعنى: أن القرآن ضاع بعضه.

و حاصل ما أفاده المصنف في هذا المقام: هو إن وقوع التحريف في الكتاب العزيز؛ و إن كان يوجب سقوط الظهور عن الاعتبار، أو يمنع عن انعقاد الظهور إلا إن ذلك لا يمنع عن حجية ظواهر الكتاب و ذلك لوجوه:

الأول: لعدم العلم بوقوع الخلل في الظواهر؛ لاحتمال نقصان بعض الآيات بكاملها.

الثاني: ليس لنا علم بوقوع التحريف بآيات الأحكام، و العلم الإجمالي بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات لا يمنع عن حجية آيات الأحكام؛ لعدم حجية سائر الآيات، و العلم الإجمالي يمنع عن حجية ظواهر آيات الأحكام لو كانت الآيات كلها حجة.

«فافهم» لعله إشارة إلى منع خروج غير آيات الأحكام عن مورد الابتلاء؛ حتى يقال:

إنها ليست حجة لخروجها عن مورد الابتلاء؛ إذ يكفي في الابتلاء بها: جواز الاعتماد عليها في الإخبار عن مضامينها، فالصواب حينئذ: منع التحريف الموجب للخلل في الظواهر.

ص: 200

9 - اختلاف القراءات هل يوجب سقوط حجية القرآن في الآية المختلف في قراءتها أم لا؟

محل الكلام هو: الاختلاف في الصورة و المؤدى دون المادة مثل: قوله تعالى:

يَطْهُرْنَ بالتشديد و التخفيف، و هنا احتمالات:

1 - تواتر القراءات.

2 - جواز الاستدلال بكل منها على تقدير عدم ثبوت تواترها.

3 - جواز القراءة على طبق كل قراءة فقط.

و على الاحتمال الأخير: اختلاف القراءات يوجب الإخلال بجواز التمسك؛ و ذلك لعدم إحراز ما هو القرآن، فلا معنى للاستدلال بإحدى القراءتين ما لم تثبت قرآنيتها.

هذا على فرض عدم تعارض القراءتين.

و أما على فرض تعارضهما - كالتعارض بين القراءة بالتشديد و التخفيف - فلا بد من التوقف و الرجوع إلى الأصل، و هو استصحاب حكم المخصص، أو الرجوع إلى عموم العام من حيث الزمان؛ بناء على أن يكون أَنّٰى بمعنى: الزمان.

و أما حكم الصورة الأولى - و هو تواترها - فهو: أن كل قراءة بمنزلة آية مستقلة، ففي التعارض بينهما - كما هو المفروض في الآية المذكورة - يجمع بينهما بحمل الظاهر على الأظهر على فرض تحققهما و مع التكافؤ و التساوي بين القراءتين فلا بد من التوقف و الرجوع إلى الأصل العملي، أو العموم حسب اختلاف المقامات؛ كما في الصورة السابقة.

و أما حكم الصورة الثانية: فكحكم الصورة الأولى. أعني: التوقف و الرجوع إلى الأصل العملي أو العموم.

و لا تجري هنا مرجحات باب تعارض الروايات؛ إذ لا دليل لنا على الترجيح بتلك المرجحات في غير الروايات.

10 - نظريات المصنف «قدس سره»:

1 - حجية الظواهر مطلقا، من دون فرق بين ظواهر الكتاب و غيرها، و لا بين من قصد إفهامه و غيره.

2 - وقوع التحريف في القرآن و إن لم يكن بعيدا؛ إلا إنه لا يوجب سقوط ظواهر آيات الأحكام عن الحجية.

ص: 201

3 - عدم ثبوت تواتر القراءات، و لا جواز الاستدلال بها، و إنما الثابت جواز القراءة طبق كل منها.

4 - عدم جريان مرجحات باب الروايات المتعارضة في تعارض القراءات على فرض جواز الاستدلال بها.

ص: 202

فصل

قد عرفت حجيّة ظهور الكلام في تعيين المرام (1)، فإن أحرز بالقطع و أن المفهوم منه جزما - بحسب متفاهم أهل العرف - هو ذا فلا كلام، و إلا فإن كان لأجل احتمال وجود قرينة فلا خلاف في أن الأصل عدمها؛ لكن الظاهر: أنه معه يبني على

=============

فصل في حجية قول اللغوي

اشارة

(1) لما فرغ المصنف في الفصل السابق عن بحث كبرى حجية ظواهر الألفاظ؛ تعرض في هذا الفصل للبحث عن الصغرى و هي: إحراز الظهور بأن يقال: إن هذا اللفظ ظاهر في هذا المعنى أم لا؟ فبأي شيء يثبت الظهور؟ فإن لم يثبت فما هو المرجع عند الشك فيه ؟ و قبل الخوض في البحث لا بد من تحرير ما هو محل الكلام في المقام، و لا شك في خروج ما إذا أحرز الظهور بالقطع و الوجدان عن محل الكلام؛ و إنما الكلام فيما إذا لم يحرز به، فللمسألة حينئذ صور:

الصورة الأولى: إذا كان الشك في مادة اللغة كمادة الكنز أو الغنيمة، و كان الشك في الوضع، و أن الموضوع له هل هو المعنى المعين أم غيره ؟

الصورة الثانية: إذا كان الشك في هيئة المفرد، كما إذا شككنا في معنى الطهور، فهل هو بمعنى الطاهر في نفسه و المطهّر لغيره، أو بمعنى شديد الطهارة في نفسه بمقتضى صيغة المبالغة ؟

الصورة الثالثة: إذا كان الشك في هيئة الجملة كالشك في الجملة الشرطية، و أنها هل تدل على العلية المنحصرة حتى يكون لها مفهوم أم لا؟

الصورة الرابعة: إذا كان الشك في وجود قرينة توجب الاختلاف في الظهور.

الصورة الخامسة: إذا كان الشك في قرينية الموجود كقرينية الاستثناء ب إلا للجمل السابقة، فيما إذا تعقبت الجمل المتعددة باستثناء واحد.

إذا عرفت هذه الصور فاعلم: أن محل الكلام هي الصورة الأولى، و هي: الشك في مادة اللغة، فالمعروف و المشهور: أن المرجع فيها هو قول اللغوي و أنه حجة فيها.

ص: 203

المعنى الذي لولاها كان اللفظ ظاهرا فيه ابتداء؛ لا أنه يبني عليه بعد البناء على عدمها، كما لا يخفى، فافهم (1).

=============

و أما الصورة الثانية: - و هي الشك في هيئة المفردات - فالمرجع فيها هو علم الصرف؛ كالبحث عن الفرق بين اسم الفاعل و اسم المفعول أو الثلاثي المزيد و المجرد و غيرهما.

و أما الصورة الثالثة: - و هي الشك في هيئة الجملة - فالمرجع فيها هو علم النحو و المعاني و البيان.

و أما الصورة الرابعة: - و هي الشك في وجود قرينة - فلا إشكال و لا كلام في أن الأصل فيها عدم وجود القرينة.

و أما الصورة الخامسة: - و هي الشك في قرينية الموجود - فبناء على كون أصالة عدم القرينة حجة تعبدا: فلا إشكال في الأخذ بالعمومات السابقة على العام الأخير، و أما بناء على أصالة الظهور: فيصبح الكلام مجملا، و تسقط العمومات السابقة عن الحجية لاحتفافها بما يحتمل القرينية.

و كيف كان؛ فمحل الكلام هي الصورة الأولى، و المشهور: أن المرجع فيها قول اللغوي، و أنه حجة فيها؛ بل ادعى فيه إجماع العلماء؛ لكن خالفهم فيه المصنف و قال بعدم حجيّة قول اللغوي، حيث قال: «فالأصل يقتضي عدم حجية الظن فيه».

(1) لعله إشارة إلى أن أصالة عدم القرينة من المرتكزات العرفية، و العرف و إن لم يعرف ذلك تفصيلا إلا إن الارتكاز كاف في كونه مستندا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله: «و إلا» أي: و إن لم يحرز ظهور الكلام بالقطع، «فإن كان» أي: عدم الإحراز و هو إشارة إلى الصورة الرابعة حسب ما ذكرناه من الترتيب - و هي كون الشك في الظهور ناشئا من احتمال وجود القرينة - و حاصل ما أفاده فيها: أنّه لا خلاف في أنّ الأصل عدم القرينة، و البناء على كون اللفظ ظاهرا فيما هو الموضوع له؛ إنما الكلام في أن البناء على المعنى الموضوع له هل يكون بعد البناء على عدم القرينة لأصالة عدمها؛ بأن يثبت أولا ببركة هذا الأصل ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي، ثم حجيته بأصالة الظهور كما قال به بعض، أم تكون أصالة الظهور حجة عند احتمال وجود القرينة، بلا حاجة إلى أصل عدمي كما عليه المصنف ؟ أم ليس في البين إلا أصالة عدم القرينة، و أن مرجع أصالة العموم و الإطلاق و الحقيقة إلى أصالة عدم القرينة كما عليه الشيخ الأعظم ؟ حيث قال في مقام ما خرج عن عموم حرمة العمل بالظن ما لفظه: «منها: الأمارات المعمولة

ص: 204

و إن كان لاحتمال قرينية الموجود فهو، و إن لم يكن بخال عن الإشكال - بناء على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد - إلا إن الظاهر أن يعامل معه معاملة المجمل، و إن كان لأجل الشك فيما هو الموضوع له لغة أو المفهوم منه عرفا، فالأصل يقتضي عدم حجية الظن فيه، فإنه ظن في أنه ظاهر، و لا دليل إلا على حجية الظواهر.

نعم؛ نسب إلى المشهور: حجية قول اللغوي بالخصوص في تعيين الأوضاع (1)، في استنباط الأحكام الشرعية من ألفاظ الكتاب و السنة، و هي على قسمين: القسم الأول: ما يعمل لتشخيص مراد المتكلم عند احتمال إرادته خلاف ذلك؛ كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز، و أصالة العموم و الإطلاق، و مرجع الكل إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بإرادة المتكلم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة».

=============

انتهى مورد الحاجة. «دروس في الرسائل، ج 1، ص 243-244».

و من هنا يظهر الفرق بين ما ذكره المصنف؛ من التزامه بأصالة الظهور التي هي أصل وجودي، و ما ذكره الشيخ من إرجاع أصالة العموم و نحوها إلى أصل عدمي أعني: به أصالة عدم القرينة، فلاحظ.

قوله: «لكن الظاهر أنه معه...» الخ أي: مع احتمال وجود القرينة، تعريض بما أفاده الشيخ في عبارته المتقدمة.

و حاصل ما أفاده الشيخ: أن الأخذ بظاهر الكلام منوط بأحد أمرين:

الأول: القطع بعدم وجود القرينة على خلافه.

الثاني: البناء على عدم القرينة - فيما إذا شك في وجودها - بأصالة عدم القرينة.

و حاصل إيراد المصنف على الأمر الثاني: هو حمل الكلام على ظاهره ابتداء عند احتمال وجود القرينة، بلا حاجة إلى التمسك بأصالة عدم القرينة، يعني: يكفي في العمل بالظاهر في مورد احتمال وجود القرينة: الاستناد إلى أصل واحد و هو أصالة الظهور، كما هو مختار المصنف، من دون حاجة إلى أصلين: الأول: أصالة عدم القرينة، و الثاني: أصالة الظهور كما هو مختار الشيخ.

و هناك فرق آخر بينهما و هو: أن حمل اللفظ على معناه الظاهر متوقف على الفحص عن القرينة عند احتمالها على مذهب الشيخ، و لا يتوقف عليه على مذهب المصنف.

(1) فإذا قال اللغوي: إن معنى الصعيد كذا، أو معنى الغناء كذا ثبت المعنى بمجرد قول اللغوي، من غير فرق بين إفادة قوله الظن و عدمها؛ إذ الحجية من باب الظن النوعي

ص: 205

و استدل لهم باتفاق العلماء؛ بل العقلاء على ذلك، حيث لا يزالون يستشهدون بقوله في مقام الاحتجاج بلا إنكار من أحد، و لو مع المخاصمة و اللجاج، و عن بعض:

دعوى الإجماع على ذلك.

و فيه (1): أن الإجماع - لو سلم اتفاقه - فغير مفيد، مع أن المتيقن منه: هو الرجوع - أي: أن نوع الناس يحصل لهم من قول اللغوي الظن - و عليه: فهو حجة و إن حصل الظن على خلافه.

=============

و حاصل الكلام في المقام: أنه إن حصل القطع أو الاطمئنان العادي من قول اللغوي، أو اجتمع فيه ما يعتبر في باب الشهادة من العدد و العدالة: فلا إشكال في التمسك بقوله، و ليس ذلك من باب أنه قول اللغوي؛ بل من باب حصول القطع الذي هو حجة بنفسه، و كذا الاطمئنان، أو من باب حصول شرائط الشهادة الموجبة لحجية متعلقها.

و أما إذا لم يحصل شيء من الأمور المذكورة - بأن شك أو ظن أو ظن على خلافه - فالمشهور حجية قوله أيضا.

الاستدلال على حجيّة قول اللغوي بوجوه

الأول: إجماع العلماء؛ بل جميع العقلاء على ذلك، فإنهم قديما و حديثا يرجعون في استعلام اللغات إلى كتب أهل اللغة، و لذلك ينقلون في الفقه قول اللغوي عند المخاصمة و النزاع، فإنه لو تنازع اثنان في أن الصعيد هل هو مطلق وجه الأرض أو التراب فقط، فقال أحدهما بالأول و الآخر بالثاني، ثم تحاكما إلى اللغة و خرج المعنى مما يؤيد أحدهما اقتنع الآخر، و ليس ذلك إلا لارتكاز حجية قول اللغوي، فإنه لو لم يكن حجة لم يكن وجه للتحاكم إليه و لا لإقناع الخصم.

(1) هذا جواب عن الوجه الأول أعني: - اتفاق العلماء - و الثاني أعني: - اتفاق العلماء.

و حاصل الكلام: أنه يمكن الجواب عن الاستدلال المذكور بوجوه:

الأول: عدم ثبوت الاتفاق العملي على الرجوع إلى قول اللغوي لا من العلماء و لا من العقلاء.

الثاني: أنه على تقدير ثبوت الاتفاق المزبور: لا يفيد ذلك الاتفاق شيئا، إذ مناط حجيته هو الكشف عن قول المعصوم «عليه السلام»، أو عن دليل معتبر، و هو غير ثابت؛ لاحتمال عدم ثبوت السيرة في زمان المعصوم «عليه السلام» حتى يكون عدم ردعها مع إمكانه دليلا على إمضائه.

ص: 206

إليه مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد و العدالة. و الإجماع المحصل غير حاصل (1)، و المنقول منه غير مقبول، خصوصا في مثل المسألة مما احتمل قريبا أن يكون وجه ذهاب الجل لو لا الكل، هو اعتقاد أنه مما اتفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة (2) من كل صنعة فيما اختص بها.

=============

الثالث: أن السيرة لما كانت دليلا لبيا، فلا بد من الأخذ بالقدر المتيقن منها و هو صورة اجتماع شرائط الشهادة من التعدد و العدالة في اللغوي، و مع الشك في اجتماع الشرائط - كما هو محل البحث - لا تكون السيرة حجة.

(1) هذا جواب عن الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها على ما هو المشهور من حجية قول اللغوي، و هو دعوى الإجماع عليه.

و حاصل ما أفاده المصنف في الجواب: إن الإجماع إما محصل و إما منقول، و أما المحصل منه و إن كان حجة إلا إنه غير حاصل؛ إذ بعد احتمال استناد المجمعين إلى بناء العقلاء لا يتحقق الإجماع المحصل الكاشف عن قول المعصوم «عليه السلام»:

و أما المنقول: فهو مردود بوجهين:

أحدهما: أن الإجماع المنقول ليس حجة، كما أشار إليه بقوله: «و المنقول منه غير مقبول».

ثانيهما: أنه مع احتمال استناد المجمعين إلى بناء العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة من كل صنعة: لا يبقى وثوق بكون الإجماع تعبديا، فلو سلم حجية الإجماع المنقول في سائر الموارد لا يمكن الاعتماد عليه هنا؛ لاحتمال مدركيته، و قد أشار إليه بقوله:

«خصوصا في مثل المسألة».

(2) هذا إشارة إلى الوجه الرابع من الوجوه التي استدل بها على حجية قول اللغوي، بتقريب: استقرار بناء العقلاء و سيرتهم قديما و حديثا و في كل عصر و زمان و مكان على الرجوع إلى أهل الخبرة، و هذا أهم الوجوه في المقام، فقول اللغوي حجة؛ لأنه من أهل الخبرة فيما يختص به، فيكون الرجوع إلى اللغوي من باب الرجوع إلى أهل الخبرة.

و قد أورد المصنف على هذا الوجه بإيرادين:

و حاصل الإيراد الأول: أن المتيقن من هذه السيرة العقلائية: هو ما إذا حصل الوثوق و الاطمئنان بقول أهل الخبرة، و لا يحصل ذلك من قول اللغوي، و مع عدم حصوله لا دليل على اعتبار قوله و إن كان من أهل الخبرة.

هذا ما أشار إليه بقوله: «و المتيقن من ذلك» أي: من الرجوع إلى أهل الخبرة.

ص: 207

و المتيقن من ذلك: إنما هو فيما إذا كان الرجوع يوجب الوثوق و الاطمئنان و لا يكاد يحصل من قول اللغوي بالأوضاع، بل لا يكون اللغوي من أهل خبرة ذلك؛ بل إنما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال، بداهة (1): أن همّه ضبط موارده، لا تعيين أن أيا منها كان اللفظ فيه حقيقة أو مجازا، و إلا لوضعوا لذلك (2) علامة، و ليس ذكره أولا علامة كون اللفظ حقيقة فيه للانتقاض بالمشترك.

=============

و الإيراد الثاني: ما أشار إليه بقوله: «بل لا يكون اللغوي من أهل الخبرة».

و حاصله: - أنه لو سلمنا حجية قول أهل الخبرة - أن الرجوع إلى قول اللغوي أجنبي عن الرجوع إلى أهل الخبرة، ضرورة: أن اللغوي ليس من أهل الخبرة بالأوضاع؛ بل شأنه ضبط موارد الاستعمال لا تعيين حقائقها و مجازاتها، فاللغوي خبير بموارد الاستعمال، من دون أن يميز الحقائق عن المجازات، فلا يكون اللغوي «من أهل خبرة ذلك» أي:

الأوضاع.

و كان الأولى أن يقال: من أهل الخبرة بها، كما كان الأولى تقديم هذا الإيراد الثاني على الأول؛ بأن يقال: «ليس اللغوي من أهل الخبرة أولا، و لم يقم دليل على اعتبار قوله - بعد تسليم كونه من أهل الخبرة - ثانيا».

(1) تعليل لعدم كون اللغوي من أهل الخبرة بالأوضاع.

(2) أي: لتعيين الحقيقة من المجاز علامة.

غرض المصنف من هذا الكلام: هو إثبات عدم كون اللغوي خبيرا بالأوضاع؛ إذ لو كان خبيرا بكل من المعاني الحقيقية و المجازية لكان اللازم وضع علامة لتشخيص الحقائق عن المجازات، و عدم وضعها له دليل على عدم اطلاعه على الأوضاع.

إن: قلت لعل ذكر المعنى أولا علامة الحقيقة.

قلت: «ليس ذكره أولا علامة كون اللفظ حقيقة فيه».

و حاصل الكلام: أن قوله: «ليس ذكره...» الخ. إشارة إلى دفع وهم، فلا بد أولا من توضيح الوهم، و ثانيا من توضيح الدفع.

أما الوهم: فهو أن اللفظ إذا كان له معنى حقيقي و مجازي، فما يذكره اللغوي أولا هو المعنى الحقيقي، فتقديم أحد المعنيين أو المعاني بالذكر علامة كونه هو المعنى الحقيقي.

و أما الدفع: فهو أن ذكر أحد المعاني أولا ليس علامة كون اللفظ حقيقة فيه و مجازا في سائر المعاني؛ لانتقاضه بالمشترك؛ إذ من المسلم: أن جميع المعاني المذكورة له قد وضع بإزائها اللفظ، فلو كان المذكور أولا هو المعنى الحقيقي: لزم أن يكون ما عداه من

ص: 208

و كون (1) موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن يحصى؛ لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالبا؛ بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه و إن كان المعنى معلوما في الجملة لا يوجب (2) اعتبار قوله، ما دام انفتاح باب العلم بالأحكام، كما لا يخفى.

=============

المعاني الموضوع لها اللفظ المشترك مجازات، و هذا خلاف ما تسالموا عليه من وضع اللفظ بإزاء جميع المعاني.

و عليه: فلا يمكن الالتزام بأن المعنى المذكور أولا هو المعنى الحقيقي، حتى يكون اللغوي لأجله عالما بالأوضاع، مضافا: إلى علمه بموارد الاستعمال.

قوله: «للانتقاض بالمشترك» تعليل لقوله: «ليس ذكره...» الخ.

(1) هذا إشارة إلى الوجه الخامس من الوجوه التي استدل بها على حجية قول اللغوي، و هو التمسك بالانسداد الصغير، و هو انسداد باب العلم و العلمي بتفاصيل اللغات، مقابل الانسداد الكبير، الذي هو عبارة عن انسداد باب العلم و العلمي بالنسبة إلى معظم الأحكام. و هذا الانسداد يوجب اعتبار الظن الحاصل في اللغات بقول اللغوي؛ للاحتياج إلى معرفة معانيها.

فالمتحصل: أن قول اللغوي و إن لم يكن حجة من باب الظن الخاص؛ إلا إنه حجة من باب الظن المطلق لأجل الانسداد.

(2) خبر لقوله: «و كون موارد الحاجة...» الخ، و جواب عن الاستدلال بالانسداد على حجية قول اللغوي.

و حاصل الجواب: أن المعيار في حجية الظن المطلق هو: انسداد باب العلم بالأحكام، سواء انفتح باب العلم بسائر الخصوصيات المرتبطة بالأحكام؛ كعلم الرجال و علم اللغة و نحوهما، فإذا كان باب العلم بالأحكام مفتوحا لم يعتبر الظن المطلق و لو فيما انسد فيه باب العلم من اللغة، و إذا كان باب العلم بالأحكام منسدا اعتبر الظن و لو فيما لم ينسد فيه باب العلم.

فخلاصة الكلام في المقام: أن فرض الانسداد في تفاصيل اللغات مع انفتاح باب العلم أو العلمي في الأحكام الشرعية لا يجدي في حجية قول اللغوي؛ إذا لا يلزم من الاحتياط أو جريان أصل البراءة في موارد انسداد باب العلم و العلمي بتفاصيل اللغات العسر و الحرج، أو الخروج من الدين.

و بعبارة واضحة: أنه لا يلزم من الاحتياط في موارد اللغات العسر و الحرج، كما لا

ص: 209

و مع الانسداد كان قوله معتبرا إذا أفاد الظن من باب حجية مطلق الظن؛ و إن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها فيما عدا المورد (1).

نعم (2)؛ لو كان هناك دليل على اعتباره، لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجبا له على نحو الحكمة لا العلة (3).

=============

يلزم من إجراء أصل البراءة في موارد الجهل بتفاصيل اللغات محذور الخروج عن الدين، و مع عدم لزوم أحد هذين المحذورين لا يتم دليل الانسداد لإثبات حجية الظن الحاصل من قول اللغوي.

نعم؛ إذا ترتب أحد المحذورين المتقدمين: ثبت انسداد باب العلم و العلمي في معظم الأحكام، فيصير مطلق الظن - الذي منه الظن الحاصل من قول اللغوي - حجة.

فالنتيجة: أنه لا تتم مقدمات الانسداد الصغير لإثبات حجية قول اللغوي.

(1) أي: فيما عدا المورد الذي لا يعلم تفصيل المعنى اللغوي فيه.

(2) استدراك على ما أفاده من أن انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات غالبا مما لا يوجب اعتبار قول اللغوي، و أن المناط هو الانسداد في الأحكام.

و حاصل الاستدراك: أن الانسداد في اللغات و إن لم يترتب اعتبار قول اللغوي عليه؛ لعدم كونه دليلا على ذلك، لكن يمكن أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات حكمة لاعتبار قول اللغوي من باب الظن الخاص إذا قام هناك دليل خاص على اعتباره، فيكون حينئذ من الظنون الخاصة؛ و إن كانت الحكمة في اعتبارها انسداد باب العلم في غالب مواردها؛ كما في الرسائل. «دروس في الرسائل، ج 1، ص 313».

الفرق بين الحكمة و العلة

(3) توضيح الفرق بين الحكمة و العلة: إن الحكمة لا يلازم ثبوتها وجود الحكم، فلا يدور الحكم مدارها؛ كاستحباب غسل الجمعة، حيث كانت حكمته إزالة الأوساخ، مع أن الاستحباب ثابت و إن لم يكن هناك وسخ أصلا.

هذا بخلاف علة الحكم؛ فإنها تلازم ثبوت الحكم، فالحكم دائما يدور مدارها وجودا و عدما؛ كانسداد باب العلم و العلمي في الأحكام الشرعية يكون علة لاعتبار الظن المطلق. فالحكم في مورد الحكمة أوسع من حكمته، فالانسداد بتفاصيل اللغات و إن كان حكمة في اعتبار هذه الظنون الخاصة؛ و لكن مجرد انسداد باب العلم في غالب مواردها لا يصير سببا لكونها ظنونا مطلقة؛ بل المناط في كونها مطلقة: أن تكون علة جعلها حجة انسداد باب العلم في الأحكام الشرعية، و ليس الأمر كذلك.

ص: 210

لا يقال (1): على هذا لا فائدة في الرجوع إلى اللغة.

فإنه يقال (2): مع هذا لا يكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها (3)؛ فإنه (4) ربما فالمتحصل: أن الانسداد حكمة لحجية قول اللغوي، فيكون حجة و لو في حال انفتاح باب العلم.

=============

و الداعي إلى جعل الانسداد حكمة لا علة هو: منافاة إطلاق دليل حجيته الشامل لحالتي إمكان العلم و عدمه لعلية الانسداد، المقتضية لاختصاص حجيته بحال الانسداد.

و ضمير «له» راجع على اعتبار قول اللغوي. و ضمير «اعتباره» راجع على قول اللغوي.

(1) أي: على هذا الذي ذكرتم من عدم حجية قول اللغوي «لا فائدة في الرجوع إلى اللغة»، مع أنه خلاف ما هو البديهي من سيرة العقلاء.

فقوله: «لا يقال:» إشكال على ما تقدم في الجواب عن الاستدلال على حجية قول اللغوي بكونه من أهل الخبرة بالأوضاع.

و حاصل الإشكال: إنه على ما ذكرت - من عدم حجية قول اللغوي لعدم كونه من أهل الخبرة بالأوضاع - لا يبقى فائدة في الرجوع إلى اللغة؛ لعدم إحراز الأوضاع بأقوال اللغويين حسب الفرض.

(2) هذا دفع للإشكال المذكور، و توضيحه: أن ما أنكرناه هو اعتبار قول اللغوي من حيث كونه ظنيا، و أما إذا أفاد الوثوق و الاطمئنان: - خصوصا مع كون اتفاق كلهم أو جلّهم على معنى - فلا إشكال في اعتباره من هذه الحيثية؛ إذ قول اللغوي حينئذ: يكون من مناشئ الحجة، و هي - الحجة - العلم العادي أو الوجداني؛ لا أنه بنفسه حجة، و لا منافاة بين هذا - أي حصول الوثوق بقول اللغوي أحيانا - و بين ما تقدم سابقا بقوله: «و لا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع»؛ إذ ما ذكره هناك راجع على عدم الوثوق بقوله: في الأوضاع في كل مورد، فيمكن تحقق الوثوق بالوضع من قوله: في بعض الموارد كما هو ظاهر؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 338».

(3) أي: إلى كتب اللغة؛ إذ الفائدة ليست منحصرة.

(4) فإن الرجوع إلى قول اللغوي «ربما يوجب القطع بالمعنى» أي: بالمعنى الحقيقي، كما أنه ربما يوجب القطع في مورد بظهور اللفظ في معنى أعم من أن يكون حقيقيا أو مجازيا، و هذا المقدار - أعني القطع بظهور اللفظ في معنى من المعاني - كاف في مقام الافتاء؛ لعدم توقفه على معرفة أن المعنى حقيقي أو مجازي، كما أشار إليه بقوله: «و هو

ص: 211

يوجب القطع بالمعنى، و ربما يوجب القطع بأن اللفظ في المورد ظاهر في معنى - بعد يكفي في الفتوى» يعني: أن القطع بظهور اللفظ في معنى - و إن لم يعلم بأنه معنى حقيقي له - كاف في مقام استنباط الحكم؛ إذ المدار على الظهور، و هو حاصل بالفرض، دون تمييز كونه حقيقيا أو مجازيا كما عرفت.

=============

فالمتحصل: أن قول اللغوي حجة من باب الظن المطلق، بناء على تمامية مقدمات الانسداد في الأحكام، و غير حجة بناء على عدم تماميتها؛ و إن فرض انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات؛ إذ لا يكفي مجرد ذلك في إثبات حجية قوله كما عرفت.

و قد أضربنا عما في المقام من تطويل الكلام رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - تحرير محل النزاع في المقام: و لا شك في خروج ما إذا أحرز الظهور بالقطع و الوجدان عن محل الكلام؛ و إنما الكلام فيما إذا لم يحرز به. ثم محل الكلام فيما إذا كان الشك في الوضع و أن الموضوع له هل هو المعنى المعيّن أم غيره.

و أما إذا كان الشك في وجود قرينة على المجاز: فلا إشكال و لا كلام في أن الأصل هو عدم القرينة، و البناء على كون اللفظ ظاهرا فيما هو الموضوع له، و إنما الكلام في البناء على المعنى الموضوع له هل يكون بعد البناء على عدم القرينة لأصالة عدمها؟ بأن يثبت أولا ببركة هذا الأصل ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي، ثم حجيته بأصالة الظهور كما قال به بعض، أم تكون أصالة الظهور حجة عند احتمال وجود القرينة، بلا حاجة إلى أصل عدمي كما عليه المصنف. أم ليس في البين إلا أصالة عدم القرينة و أن مرجع أصالة العموم و الإطلاق و الحقيقة إلى أصالة عدم القرينة ؟ كما عليه الشيخ الأنصاري.

2 - المشهور: أن المرجع هو قول اللغوي في تعيين ما هو الموضوع له عند الشك.

و قد استدل لحجية قول اللغوي بوجوه:

الأول و الثاني: إجماع العقلاء و العلماء على ذلك، حيث يرجعون إلى اللغة عند المخاصمة و النزاع في معنى لفظ من الألفاظ، و ليس ذلك إلا لأجل حجية قول اللغوي، فإنه لو لم يكن حجة لم يكن وجه للرجوع إلى اللغة.

و قد أجاب المصنف عن هذين الوجهين بوجوه:

الأول: عدم ثبوت الاتفاق العملي على الرجوع إلى قول اللغوي؛ لا من العلماء و لا من العقلاء.

ص: 212

الظفر به و بغيره في اللغة - و إن لم يقطع بأنه حقيقة فيه أو مجاز، كما اتفق كثيرا، و هو يكفي في الفتوى.

=============

الثاني: أنه على تقدير ثبوت الاتفاق المزبور لا يفيد ذلك شيئا؛ إذ مناط حجيته: هو الكشف عن قول المعصوم، أو عن دليل معتبر، و هو غير ثابت، لاحتمال عدم ثبوت السيرة في زمان المعصوم «عليه السلام»، حتى يكون عدم الردع عنها دليل على حجية قول اللغوي.

الثالث: أن المتيقن من السيرة هو صورة اجتماع شرائط الشهادة من العدد و العدالة في اللغوي.

الوجه الثالث: دعوى الإجماع على حجية قول اللغوي.

الجواب عنه: أن الإجماع المحصل غير حاصل، و المنقول غير مقبول، فلا يكون حجة.

3 - الوجه الرابع: استقرار بناء العقلاء في كل عصر و مكان على الرجوع إلى أهل الخبرة، فيكون الرجوع إلى أهل اللغة من هذا الباب.

و قد أورد عليه المصنف:

أولا: بأن المتيقن من هذه السيرة هو: ما إذا حصل الوثوق و الاطمئنان بقول اللغوي، و لا يحصل ذلك من قوله، و لو حصل لكان المعتبر هو الاطمئنان؛ لا قول اللغوي.

و ثانيا: أن اللغوي ليس من أهل الخبرة بالأوضاع؛ بل خبير بموارد الاستعمالات، من دون أن يميز الحقيقة من المجاز.

4 - الوجه الخامس: هو التمسك بالانسداد على حجية قول اللغوي و المراد بالانسداد هو الانسداد الصغير - أعني: انسداد باب العلم و العلمي بتفاصيل اللغات - في مقابل الانسداد الكبير و هو انسداد باب العلم و العلمي بالنسبة إلى معظم الأحكام.

و حاصل هذا الوجه: هو حجية قول اللغوي من باب الظن المطلق الثابت بالانسداد.

و قد أجاب المصنف عن هذا الوجه: بأن المعيار في حجية الظن المطلق هو: انسداد باب العلم و العلمي بالأحكام؛ لا بتفاصيل اللغات.

و إشكال عدم الفائدة في الرجوع إلى اللغة مدفوع؛ بوجود الفائدة في موارد يحصل القطع بظهور اللفظ في معنى أعم من أن يكون حقيقيا أو مجازيا، و هذا المقدار من الفائدة كاف في مقام الإفتاء؛ لعدم توقفه على معرفة المعنى الحقيقي من المجازي.

ص: 213

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

عدم حجية الظن الحاصل من قول اللغوي؛ إذ لا دليل إلا حجية الظواهر.

ص: 214

فصل

الإجماع (1) المنقول بخبر الواحد حجة عند كثير ممن قال باعتبار الخبر بالخصوص،

=============

فصل في الإجماع المنقول

اشارة

(1) المقصود من عقد هذا الفصل: هو البحث عن الملازمة بين حجية خبر الواحد و حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد و عدمها، بمعنى: أن الإجماع المنقول بخبر الواحد هل هو من مصاديق خبر الواحد فتشمله أدلته حتى تستلزم حجية خبر الواحد حجيته أم لا؟ فحينئذ: يرجع البحث عن حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد إلى صغروية الإجماع المنقول لكبرى الخبر الواحد.

و عليه: كان الأولى تأخير بحث حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد عن بحث حجية خبر الواحد؛ لترتبه عليه؛ لأنه من متمماته، فإنه بعد إثبات حجية خبر الواحد يبحث عن اختصاصها بنقل رأي المعصوم «عليه السلام»، بعنوان الرواية أو عمومه للنقل بعنوان الإجماع.

و كيف كان؛ فقبل الدخول في البحث تفصيلا لا بد من تحرير ما هو محل الكلام في المقام.

و توضيح ذلك يتوقف على بيان أمرين:

الأمر الأول: أن مناط حجية الإجماع عند العامة مخالف لما هو مناط الحجية عند الخاصة؛ و ذلك أن مناط الحجية عند العامة هو نفس الاتفاق، فللإجماع موضوعية عندهم، و هو دليل مستقل في قبال سائر الأدلة. هذا بخلاف ما هو المناط عند الخاصة الإمامية؛ لأن مناطه عندهم هو قول المعصوم «عليه السلام»، و لما كان الإجماع كاشفا عنه كان حجة، فيكون من السنة، و لا يكون دليلا مستقلا في مقابل سائر الأدلة. و لهذا كان الأنسب تأخير هذا البحث عن بحث حجية خبر الواحد؛ لترتبه على حجية خبر الواحد كما عرفت.

ص: 215

من جهة أنه من أفراده، من دون أن يكون عليه دليل بالخصوص (1)، فلا بد في اعتباره: من شمول أدلة اعتباره (2) له، بعمومها أو إطلاقها و تحقيق القول فيه يستدعي رسم أمور:

الأول (3): أن وجه اعتبار الإجماع هو القطع برأي الإمام «عليه السلام»، الأمر الثاني: هو إن الإجماع على قسمين:

=============

أحدهما: هو الإجماع المحصل.

و الآخر: هو الإجماع المنقول.

و الفرق بينهما أن الأول: ما يحصل بالتتبع بمعنى: أن المتتبع لأقوال العلماء يحصل اتفاقهم على حكم من الأحكام الشرعية، ثم ينقله إلى الغير، فهذا الإجماع بالنسبة إلى الناقل يكون إجماعا محصلا، و يكون حجة بلا إشكال. و أما بالنسبة إلى ذلك الغير - و هو المنقول إليه - يكون الإجماع منقولا، و هو قد يكون منقولا بالتواتر، و قد يكون منقولا بخبر الواحد المحفوف بما يوجب القطع بصدقه، و قد يكون منقولا بخبر الواحد المجرد عن القرينة.

إذا عرفت هذين الأمرين فاعلم: أن محل الكلام هو الإجماع المنقول بخبر الواحد المجرد عن القرينة.

(1) أي: أن كون الإجماع المنقول من أفراد خبر الواحد كاف في حجيته.

(2) أي: اعتبار خبر الواحد، و ضميرا «في اعتباره، له» راجعان على الإجماع المنقول. و لا تتوقف حجيته على وجود دليل يدل على اعتباره بالخصوص، مع الغض عن أدلة حجية خبر الواحد، فلا بد في اعتبار الإجماع المنقول من شمول أدلة اعتبار خبر الواحد له بعمومها أو إطلاقها.

في ملاك حجية الإجماع

(3) الغرض من عقد هذا الأمر: بيان مناط حجية الإجماع المحصل، و أنه القطع برأي الإمام «عليه السلام». و منشأ هذا القطع أحد أمور أربعة:

الأول: هو العلم بدخول الإمام «عليه السلام» في المجمعين بشخصه، و لا يعرفه المحصّل للإجماع عينا، فيخبر بالحكم عنه بصورة الإجماع، فملاك حجيته دخول المعصوم بنفسه في المجمعين، و لذلك قال المحقق في المعتبر: «فلو خلا المائة من فقهائنا من

ص: 216

و مستند القطع به لحاكية - على ما يظهر من كلماتهم - هو: علمه بدخوله «عليه قوله «عليه السلام» لما كان حجة، و لو حصل في اثنين كان قولهما حجة»(1).

=============

و لا إشكال في هذا النوع من الإجماع من ناحية الكبرى، و إنما الكلام في الصغرى؛ لأن الاجماعات المنقولة الموجودة في الكتب الفقهية ليست من هذا القبيل قطعا، فإن الناقل لم يسمع الحكم من جماعة يعلم بأن الإمام «عليه السلام» أحدهم قطعا.

نعم؛ هذا المعنى كان ممكنا في عصر حضور الإمام «عليه السلام»؛ و لكن نقلة الإجماع و أصحاب الكتب الفقهية متأخرون عن ذلك العصر يقينا. و هذا القسم من الإجماع ما أشار إليه بقوله: «هو علمه بدخوله».

الثاني: قاعدة اللطف التي يستكشف بها قول المعصوم «عليه السلام»، و هذا القسم من الإجماع يسمى بالإجماع اللطفي، و صاحب هذا المسلك هو الشيخ الطوسي «قدس سره» و أتباعه.

و تقريبه: أن وجود الحكم الواقعي في أقوال أهل عصر واحد لطف، و هو واجب على الإمام «عليه السلام» عقلا؛ إذ يكون على الإمام البيان لو كان الحكم المجمع عليه على خلاف الواقع؛ و لو بإلقاء الخلاف.

قال الشيخ الطوسي «قدس سره»: فيما حكى عنه: أن اجتماع الأصحاب على الباطل و على خلاف حكم الله الواقعي خلاف اللطف، فيجب لطفا إلقاء الخلاف بينهم بإظهار الحق و لو لبعضهم، فلو حصل إجماع و اتفاق من الكل نستكشف بقاعدة اللطف أنه حق، و هو حكم الله الواقعي، و اللطف عبارة عما يقرب العبد نحو الطاعة، و يبعده عن المعصية، و هذا القسم من الإجماع قد أشار إليه بقوله: «من باب اللطف».

الثالث: ما يسمى بالإجماع الحدسي، و هو حصول العلم بقول الإمام «عليه السلام» من الإجماع حدسا، فإن الحدس هو العلم الحاصل من غير طريق الحواس الظاهرية، فيقال في تقرير وجه الحدس: إن العلماء الذين يتقيدون بالشرع و لا يخالفونه قيد شعرة إذا اجتمعوا على أن الحكم الكذائي هو حكم الله تعالى ينتقل الذهن من هذا الإجماع إلى أن الإمام «عليه السلام» موافق لهم؛ و إلا لم ينسبوا هذا الحكم إلى الشرع، كما أن التلاميذ الذين يتقيدون برأي أستاذهم إذا رأيناهم اجتمعوا على رأي ينتقل الذهن بنا من رأيهم إلى أنه رأي أستاذهم.

و حاصل الكلام: إن اتفاق علمائنا الأعلام على قول، و تسالمهم عليه مع ما يرى من

ص: 217


1- المعتبر 31:1.

السلام» في المجمعين شخصا و لم يعرف عينا، أو قطعه باستلزام ما يحكيه لرأيه «عليه السلام» عقلا من باب اللطف، أو عادة (1)، أو اتفاقا من جهة حدس رأيه، و إن لم اختلاف أنظارهم و تباين أفكارهم؛ مما يؤدي بمقتضى العقل و العادة عند أولي الحدس الصائب إلى العلم بأن ذلك قول أئمتهم، و أنهم أخذوه منهم: إما بتنصيص أو بتقرير.

=============

هذا ما أشار إليه بقوله: «من جهة حدس رأيه»؛ بأن يحصل العلم برأي الإمام «عليه السلام» من اتفاق جماعة، مع عدم الملازمة بين اتفاقهم و رأيه «عليه السلام» من باب الصدفة و الاتفاق؛ بأن يكون الكشف عن قول الإمام من جهة الحدس.

الرابع: ما يسمى بالإجماع التشرفي، و هو تشرف بعض الأوحديين من العلماء بمحضر الإمام «عليه السلام» في زمان الغيبة، و سؤالهم بعض المسائل المشكلة، ثم إعلانهم رأي الإمام «عليه السلام» بعنوان الإجماع خوفا من التكذيب و عدم القبول، فيقول: هذا ثابت بالإجماع،

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) عطف على قوله: - «عقلا»، و هذا هو الطريق الثالث، و يسمى بالإجماع الحدسي، و هو على وجهين:

الأول: أن يحصل العلم برأي الإمام «عليه السلام» من اتفاق جماعة على نظر واحد، مع الملازمة عادة بين اتفاقهم و بين رأيه «عليه السلام»؛ و ذلك لأن اتفاق جمع على مطلب - مع اختلاف الأنظار و الأفكار - يكشف عن كون ذلك المطلب الذي اتفقوا عليه من رئيسهم، و هذا الكشف عادي لا عقلي؛ إذ لا ملازمة عقلا بينهما.

الثاني: أن يحصل العلم برأيه «عليه السلام» من اتفاق جماعة، مع عدم الملازمة بين اتفاقهم و رأيه «عليه السلام»، فالكشف عن رأيه «عليه السلام» يكون من باب الصدفة و الاتفاق، فاتفاق العلماء على حكم كاشف - في نظر الناقل - عن رأي الإمام من باب الاتفاق، بلا استلزام عقلي أو عادي له، و يكون هذا الكشف من جهة الحدس الذي هو عبارة عن العلم الناشئ عن غير الحواس الخمس الظاهرة، الشامل للاستلزام العقلي و العادي.

لكن جرى اصطلاحهم في هذا المقام على إطلاق الحدس على العلم غير الحاصل من الإجماع الدخولي و التشرفي، و الملازمة العقلية الثابتة بقاعدة اللطف، و الملازمة الشرعية الناشئة من التقرير، و هو إمضاؤه «عليه السلام» لقول أو فعل صدر بمحضره الشريف، مع

ص: 218

تكن (1) ملازمة بينهما (2) عقلا و لا عادة، كما هو (3) طريقة المتأخرين في دعوى الإجماع، حيث إنهم مع عدم الاعتقاد بالملازمة العقلية و لا الملازمة العادية غالبا (4)، و عدم العلم بدخول جنابه «عليه السلام» في المجمعين عادة، يحكون الإجماع كثيرا، كما أنه يظهر ممن اعتذر عن وجود المخالف بأنه معلوم النسب (5)، أنه استند في عدم مانع من ردعه، فإن سكوته «عليه السلام» تقرير لذلك القول أو الفعل، و عليه:

=============

فالحدس المصطلح عليه في الإجماع المنقول هو العلم الحاصل عادة أو اتفاقا.

قوله: «أو اتفاقا» عطف على قوله: «عقلا»، فكأنه قيل: أو قطعه باستلزام ما يحكيه لرأيه «عليه السلام» عقلا أو عادة أو اتفاقا من جهة الحدس، فمنشأ هذا القطع الاتفاقي هو الحدس.

و الفرق بين العادة و الاتفاق: أن الأول غالبي - بمعنى: أنه معتاد عند الناس، و الثاني أحياني.

(1) قيد لقوله: «اتفاقا» و بيان له، يعني: أن هذا القطع الاتفاقي الحاصل من جهة الحدس يكون في صورة عدم الملازمة بين ما يحكيه مدعي الإجماع و بين رأيه «عليه السلام»؛ إذا مع الملازمة بينهما لا يكون حصوله اتفاقيا؛ بل هو عقلي أو عادي كما تقدم.

و بالجملة: فمستند القطع برأي الإمام «عليه السلام» كما يكون علم الحاكي بدخوله «عليه السلام» في المجمعين، أو قطعه باستلزام ما يحكيه لرأيه «عليه السلام» عقلا أو عادة، للملازمة العقلية أو العادية، كذلك قد يحصل علمه به من جهة حدسه برأيه «عليه السلام» من باب الاتفاق و الصدفة؛ لا من جهة الملازمة بينهما عقلا أو عادة.

(2) أي: بين ما يحكيه مدعى الإجماع، و بين رأي الإمام «عليه السلام».

(3) أي: الاستلزام الاتفاقي طريقة المتأخرين في دعوى الإجماع، فإن الظاهر من كلمات المتأخرين - بقرينة عدم اعتقادهم بالملازمة العادية و العقلية، و عدم العلم بدخول المعصوم «عليه السلام» في المجمعين - هو كشف اتفاق المجمعين عن رأيه «عليه السلام» اتفاقا و تصادفا.

(4) قيد لعدم «الملازمة» يعني: حيث إنهم - مع عدم اعتقادهم بوجود الملازمة العقلية و العادية في غالب الموارد - يحكون الإجماع، فقوله: «يحكون» خبر «إنهم».

(5) هذا إشارة إلى إثبات الإجماع الدخولي، استظهارا من كلمات الناقلين باعتبار

ص: 219

دعوى الإجماع إلى العلم بدخوله «عليه السلام» و ممن (1) اعتذر عنه بانقراض عصره (2)، أنه استند إلى قاعدة اللطف.

هذا (3) مضافا إلى تصريحاتهم بذلك، على ما يشهد به (4) مراجعة كلماتهم، و ربما يتفق (5) لبعض الأوحدي وجه آخر من تشرفه برؤيته «عليه السلام» و أخذه الفتوى من جنابه، و إنما لم ينقل عنه (6)؛ بل يحكى الإجماع لبعض دواعي الإخفاء.

=============

الإجماع؛ لدخول الإمام «عليه السلام» في المجمعين و حاصله: أن الظاهر - ممن اعتذر عن وجود المخالف بأنه معلوم النسب - أن مستند علم ناقل الإجماع هو علمه بدخول الإمام «عليه السلام» في المجمعين؛ و ذلك لعدم قدح خروج معلوم النسب في العلم الإجمالي بدخوله «عليه السلام» في المجمعين؛ و إلا فخروجه قادح في ثبوت الإجماع.

(1) عطف على قوله: «ممن اعتذر»، و الغرض منه: استظهار الإجماع اللطفي من كلمات الأصحاب، و توضيحه: أنه يكفي - في استلزام ما يحكيه مدعي الإجماع لرأي الإمام «عليه السلام» بقاعدة اللطف - اتفاق أهل عصر واحد، فلا يقدح خروج من انقرض عصره - و إن كان مجهول النسب - فيما تقتضيه قاعدة اللطف؛ بخلاف الإجماع الدخولي، فإن خروج المجهول نسبه قادح في العلم الإجمالي بدخول الإمام «عليه السلام» في المجمعين، و كذا يقدح في ثبوت الملازمة العادية؛ بل الاتفاقية أيضا.

(2) أي: عصر المخالف، و ضمير «عنه» راجع إلى وجود المخالف، و ضمير «أنه» راجع إلى المعتذر.

(3) أي: هذا الاستكشاف من اعتذاراتهم ليس وحده دليلا على مشاربهم في وجه حجية الإجماع، بل إنه يدل على تلك المشارب، «مضافا إلى تصريحاتهم بذلك» أي:

بموردي الاستظهار، و هما الإجماع الدخولي و اللطفي.

(4) أي: يشهد بتصريحاتهم مراجعة كلماتهم، و تذكير الضمير باعتبار «ما» الموصول المراد به تصريحات الأصحاب بما عرفت من الإجماع الدخولي و اللطفي.

(5) هذا إشارة على الطريق الرابع من طرق استكشاف رأي الإمام «عليه السلام» و القطع به، و مستند هذا القطع تشرف مدعي الإجماع بحضوره «عليه السلام»، و يسمى بالإجماع التشرفي كما عرفت توضيح ذلك.

(6) أي: و إنما لم ينقل حاكي الإجماع الحكم عن الإمام «عليه السلام» بعنوان الرواية و الحديث؛ بأن يقول: «سمعته»، أو «قال»: بل ينقله بعنوان الإجماع لبعض دواعي

ص: 220

الأمر الثاني (1): إنه لا يخفى اختلاف نقل الإجماع، فتارة: ينقل رأيه «عليه السلام» في ضمن نقله حدسا كما هو الغالب (2)، أو حسا و هو نادر جدا، الإخفاء؛ كالتقية كما في بعض الأزمان، أو لما ورد من تكذيب من يدعي رؤيته «عليه السلام» في زمان الغيبة.

=============

في اختلاف الألفاظ الحاكية للإجماع

(1) المقصود من عقد هذا الأمر الثاني: هو بيان كيفية النقل في حكاية الإجماع من نقل المسبب و السبب أو السبب فقط؛ لأن نقل الإجماع على نوعين:

الأول: بنقل قول الإمام «عليه السلام» في ضمن حكاية الإجماع، كما إذا قال ناقل الإجماع: أجمع المسلمون عامة، أو المؤمنون كافة، أو أمة محمد «صلى الله عليه و آله و سلم»، أو أهل الحق قاطبة، أو نحو ذلك مما ظاهره إرادة الإمام «عليه السلام» معهم، و قد اشتهر هذا النوع بنقل السبب و المسبب جميعا، فالسبب هو قول من عدا الإمام «عليه السلام»، فإنه السبب لكشف قول الإمام «عليه السلام»، و المسبب هو نفس قول الإمام «عليه السلام»: المكشوف بقول من عداه.

الثاني: ينقل قول من عدا الإمام «عليه السلام»، كما إذا قال: أجمع علماؤنا أو أصحابنا أو فقهاؤنا، أو نحو ذلك مما ظاهره من عدا الإمام «عليه السلام»، و قد اشتهر هذا النوع بنقل السبب فقط، و لكل هذين النوعين أقسام ثلاثة تأتي الإشارة إليها في الأمر الثالث فانتظر.

و كيف كان؛ فالعمدة في الأمر الثاني: هي بيان جهتين:

إحداهما: ثبوتية، و الأخرى: إثباتية.

و أما الجهة الثبوتية: فهي التي أشار إليها بقوله: «إنه لا يخفى اختلاف نقل الإجماع»، و قد عرفت أنه يتصور على نوعين: الأول: نقل السبب و المسبب جميعا.

و الثاني: نقل السبب فقط.

أما الجهة الثانية الإثباتية فسيأتي بيانها.

توضيح بعض العبارات

(2) يعني: أن نقل رأي الإمام حدسي غالبا؛ لما عرفت من ندرة الإجماع الدخولي و التشرفي.

ص: 221

و أخرى: لا ينقل إلا ما هو السبب عند ناقله (1)، عقلا أو عادة (2) أو اتفاقا (3)، و اختلاف (4) ألفاظ النقل أيضا صراحة و ظهورا و إجمالا في ذلك، أي: في أنه نقل السبب أو نقل السبب و المسبب.

=============

(1) أي: كما في الإجماع اللطفي.

(2) كما في الإجماع الملازم عادة لرأي المعصوم «عليه السلام».

(3) كما في الإجماع الحدسي، الموجب لقطع حاكيه برأي الإمام «عليه السلام» صدفة و اتفاقا.

(4) عطف على «اختلاف نقل الإجماع»، و هو إشارة إلى الجهة الثانية الإثباتية، و هي استظهار أنحاء الإجماع من اختلافهم في التعبير، و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية» - أن ألفاظ نقل الإجماع تختلف - صراحة و ظهورا و إجمالا - في نقل السبب و المسبب معا أو السبب فقط، فإذا قال مثلا: «اتفق جميع العلماء حتى الإمام» كان صريحا في نقل كل من السبب و المسبب، و إذا قال: «اتفقت الأمة» كان ظاهرا في نقل السبب و المسبب معا.

و إذا قال: «أجمع الأصحاب» كان ظاهرا في نقل السبب فقط. و إذا قال: «أجمع فقهاؤنا» فربما كان مجملا؛ إذ لا يعلم أن المراد من الفقهاء أعم من المعصوم و غيره؛ كي يكون نقل السبب و المسبب معا، أم المراد منهم غير المعصوم؛ حتى يكون نقل السبب فقط.

فالمتحصل: أن نقل الإجماع يختلف في أنه نقل السبب فقط. أو نقل السبب و المسبب معا.

ص: 222

الأمر الثالث (1): أنه لا إشكال في حجية الإجماع المنقول بأدلة حجية الخبر إذا

=============

في حجية الإجماع المنقول الكاشف عن رأي المعصوم

(1) المقصود من عقد هذا الأمر الثالث: هو بيان الحجة من أقسام الإجماع المنقول أي: بيان أنه أي قسم من أقسام نقل الإجماع حجة شرعا بأدلة حجية خبر الواحد، نظرا إلى كونه من أفراده و مصاديقه، فتشمله أدلة اعتباره، و إن أي قسم منها لا يكون حجة شرعا؛ لعدم كونه من أفراده و مصاديقه، فلا تشمله أدلة اعتباره.

و حاصل ما أفاده المصنف في هذا الأمر الثالث: إن نقل الإجماع باعتبار كل من السبب و المسبب معا، أو السبب فقط على ستة أقسام:

1 - أن ناقل الإجماع ينقل السبب و المسبب جميعا عن حسّ ؛ كما إذا حصل السبب و هو قول من عدا الإمام «عليه السلام»، و هكذا المسبب و هو قول الإمام «عليه السلام» بالسمع من المنقول عنه شخصا فقال: أجمع المسلمون أو المؤمنون أو أهل الحق قاطبة، أو نحو ذلك مما ظاهره إرادة الإمام «عليه السلام» معهم. و هذا القسم حجة قطعا نظرا إلى كونه من أفراد خبر الواحد و من مصاديقه، فتشمله أدلة اعتباره؛ إذا لا فرق في الإخبار عن قول الإمام «عليه السلام» بين أن يكون إخبارا عنه بالمطابقة - كما في خبر الواحد - أو بالتضمن كما في الإجماع.

و قد أشار إليه بقوله: «إذا كان نقله متضمنا لنقل السبب و المسبب عن حسّ ».

2 - ينقل السبب و المسبب جميعا، و لكن المسبب - و هو قول الإمام «عليه السلام» - ليس عن حس؛ بل بملازمة ثابتة عند الناقل و المنقول إليه جميعا، كما إذا حصل مثلا أقوال العلماء من الأول إلى الآخر عن حسّ ، و قطع برأي الإمام «عليه السلام» للملازمة العادية بينهما، فقال: أجمع المسلمون أو المؤمنون قاطبة أو نحوهما مما ظاهره إرادة الإمام «عليه السلام» معهم، و كان المنقول إليه أيضا يرى أن قول الإمام «عليه السلام»: لازم عادي؛ لاتفاق الكل من الأول إلى الآخر. و هذا القسم أيضا حجة، و قد أشار إليه بمفهوم قوله: «و أما إذا كان نقله للمسبب لا عن حس»؛ بأن كان نقل حاكي الإجماع السب عن حس، و المسبب لا عن حس، و مفهومه: أن نقله للمسبب يكون عن حس أيضا؛ للملازمة بين اتفاق العلماء و بين المسبب عادة؛ لكن لما لم يكن هذا السبب سببا بنظر المنقول إليه فيكون مسببه مسببا عن حدس، و فيه إشكال أظهره عدم نهوض أدلة اعتبار خبر الواحد على حجيته.

و كيف كان؛ فلو لم يكن المسبب عن حس؛ بل بملازمة ثابتة عند الناقل و المنقول إليه

ص: 223

جميعا فلا إشكال في حجيته؛ لأن الإخبار عن الشيء و لو لم يكن عن حس، إذا كان مستندا إلى أمر محسوس لو أحسه المنقول إليه لحصل له القطع أيضا بالمخبر به كالناقل، فهو حجة كالإخبار عن حس.

3 - ينقل السبب و المسبب جميعا، و المسبب ليس عن حس؛ بل بملازمة ثابتة عند الناقل دون المنقول إليه؛ كما إذا حصل أقوال علماء عصر واحد أو أقوال جماعة منهم عن حس، و قطع برأي الإمام «عليه السلام» إما للملازمة العقلية أو الاتفاقية، ثم نقل الإجماع على نحو يشمل قول الإمام «عليه السلام»، و كان المنقول إليه ممن لا يرى الملازمة التي رآها الناقل، «و هذا القسم» حجيته محل إشكال؛ بل منع. و قد أشار إليه بقوله: «و أما إذا كان نقله للمسبب لا عن حس...» الخ.

أما وجه الإشكال: فلأنه إخبار عن حدس غير مستند إلى أمر محسوس؛ لو أحسه المنقول إليه لحصل له القطع أيضا كالناقل، و الروايات الدالة على حجية خبر الثقة منصرفة إلى الإخبار عن حس، و كذا الآيات على تقدير دلالتها على حجية الخبر؛ كآية النبأ مثلا.

فالمتحصل: أن هذا القسم من نقل السبب و المسبب جميعا حجيته محل إشكال؛ بل منع.

4 - ينقل السبب فقط و نقله عن حس، و كان السبب تاما بنظر الناقل و المنقول إليه جميعا؛ كما إذا نقل اتفاق الكل من الأول إلى الآخر عن حس، و المنقول إليه أيضا يرى أن لازمه العادي هو قول الإمام «عليه السلام»، «و هذا القسم» حجة قطعا كالقسمين الأولين، فإن المخبر في هذا القسم و إن لم يخبر إلا عن السبب فقط، و لكن السبب حيث كان بنظر المنقول إليه تاما تماما ملزوما لقول الإمام «عليه السلام» عادة، فهو مخبر عن قوله: بالالتزام. و من المعلوم: إنه لا فرق في نقل قول الإمام «عليه السلام» بين أن يكون بالمطابقة كما في الروايات المصطلحة، أو بالالتزام كما في المقام، أو بالتضمن كما في الأقسام الثلاثة المتقدمة، فالكل إخبار عن قوله: و حكاية لرأيه، فتشمله أدلة حجية الخبر، و قد أشار إليه بقوله: «و كذا إذا لم يكن متضمنا له».

5 - ينقل السبب فقط عن حسي؛ و لكن السبب لا يكون تاما بنظر المنقول إليه، كما إذا نقل أقوال علماء عصر واحد عن حس، و المنقول إليه لا يراه سببا لكشف قول المعصوم؛ لعدم تمامية قاعدة اللطف بنظره، «و حكم هذا القسم» أن يضم إليه المنقول إليه ما يتم به السبب في نظره،؛ بأن يحصل أقوال بقية الأعصار، و يرتب على المجموع لازمه

ص: 224

كان نقله متضمنا لنقل السبب و المسبب عن حسّ لو لم نقل بأن نقله كذلك (1) في زمان الغيبة موهون جدا (2).

و كذا إذا لم يكن متضمنا له (3)؛ بل كان محضا لنقل السبب عن حسّ ؛ إلا إنه (4) كان سببا بنظر المنقول إليه أيضا عقلا أو عادة أو اتفاقا، فيعامل حينئذ (5) مع المنقول العادي و هو: قول الإمام «عليه السلام».

=============

6 - ينقل السبب فقط؛ لكن نقله عن حدس، كما إذا حصّل أقوال جمع من مشاهير الأصحاب، فحصل له الحدس باتفاق الكل، و ادعي الإجماع في المسألة؛ كما هو الحال في كثير من الإجماعات المنقولة في ألسنة المتأخرين، «و حكم هذا القسم» أن يؤخذ بالمتيقن من هذا الحدس و هو اتفاق المشاهير مثلا، و يضم إليه أقوال بقية العلماء ليتم به السبب، و يحكم بثبوت اللازم و هو قول الإمام «عليه السلام».

و يحتمل أن يكون قول المصنف: «فإن كان بمقدار تمام السبب و إلا فلا يجدي ما لم يضم إليه مما حصله...» الخ. إشارة إلى هذا القسم السادس.

هذا تمام الكلام في أحكام الأقسام الستة المتصورة في نقل الإجماع، باعتبار كل من السبب و المسبب جميعا، أو السبب فقط.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) أي: متضمنا لنقل السبب و المسبب عن حس.

(2) لندرة هذا النحو من الإجماع، أي: الدخولي، و كذا التشرفي كما تقدم، فما تشمله أدلة حجية الخبر - و هو نقل الإجماع متضمنا لنقل السبب و المسبب معا عن حس - نادر جدا، و ما ليس بنادر - و هو نقله المسبب و هو رأي الإمام «عليه السلام» عن حدس - لا تشمله أدلة حجية الخبر؛ لاختصاصها بالأخبار الحسية كما سيأتي.

(3) أي: لنقل السبب و المسبب عن حس، يعني: و كذا لا إشكال في حجية الإجماع إذا لم يكن نقل الإجماع متضمنا لنقل السبب و المسبب معا عن حس؛ بل كان نقلا للسبب فقط عن حس.

(4) أي: أن نقل السبب فقط عن حس «كان سببا بنظر المنقول إليه أيضا».

أي: كما كان سببا عند الناقل «عقلا» كما في الإجماع اللطفي، «أو عادة» كما في الإجماع الحدسي من باب الملازمة العادية، «أو اتفاقا» كما في الإجماع الحدسي المجرد عن الملازمة العقلية و العادية.

(5) فيعامل - حين كون السبب فقط عن حس، مع استلزامه لرأيه «عليه السلام» في

ص: 225

إليه معاملة المحصل (1) في الالتزام بمسببه بأحكامه (2) و آثاره.

و أما إذا كان نقله (3) للمسبب لا عن حس؛ بل بملازمة ثابتة عند الناقل بوجه (4) دون المنقول إليه (5) ففيه (6) إشكال، أظهره عدم نهوض تلك الأدلة (7) على حجيته؛ إذ (8) المتيقن من بناء العقلاء غير ذلك (9)، كما أن المنصرف من الآيات و الروايات - على تقدير دلالتهما - ذلك (10)، خصوصا فيما إذا رأى المنقول إليه نظر المنقول إليه - مع هذا الإجماع المنقول معاملة الإجماع المحصل؛ لأنه بعد أن ثبت حجية السبب بأدلة اعتبار الخبر كان كتحصيل الإجماع للمنقول إليه، فيترتب على هذا الإجماع المنقول ما يترتب على الإجماع المحصل من الالتزام بمسببه، و هو رأي المعصوم «عليه السلام».

=============

(1) لأن نقله للسبب - الذي هو سبب بنظر المنقول إليه أيضا - نقل للمسبب عن حس؛ لكن بدلالة التزامية لا مطابقية.

(2) بدل عن «بمسببه»، و ضمائر «بمسببه، بأحكامه، آثاره» راجعة على المحصل.

(3) أي: نقل الناقل للمسبب لا عن حس؛ بأن نقل حاكي الإجماع السبب عن حس، فيكون نقله للمسبب عن حس أيضا؛ للملازمة بين اتفاق العلماء و بين المسبب عادة، أو بملازمة ثابتة عند الناقل اتفاقا لا عادة؛ لكن لما لم يكن هذا السبب سببا بنظر المنقول إليه فيكون مسببه مسببا عن حدس، فلا تشمله أدلة حجية الخبر؛ لما عرفت من اختصاصها بالأخبار الحسية، و لذا قال المصنف: «ففيه إشكال أظهره عدم نهوض تلك الأدلة على حجيته».

(4) أي: بوجه من الوجوه السابقة؛ كقاعدة اللطف و غيرها.

(5) أي: كانت الملازمة ثابتة بوجه من الوجوه المذكورة عند الناقل، و لم تكن ثابتة عند المنقول إليه.

(6) جواب «أما إذا كان».

(7) أي: أدلة حجية الخبر على حجية الإجماع، المتضمن لنقل السبب عن حدس.

(8) تعليل لقوله: «عدم نهوض».

(9) أي: غير الخبر الحدسي، فإن العقلاء إنما يرون حجية خبر الثقة إذا كان عن حس؛ لا ما إذا كان عن حدس، كما فيما نحن فيه.

(10) أي: حجية الخبر عن حس لا عن حدس. و المشار إليه غير ذلك، فالمراد: إن المنصرف من الآيات و الروايات هو غير الخبر الحدسي؛ بل هو الخبر الحسي.

ص: 226

خطأ الناقل (1) في اعتقاد الملازمة.

هذا (2) فيما انكشف الحال.

و أما فيما اشتبه (3): فلا يبعد أن يقال بالاعتبار، فإن (4) عمدة أدلة حجية الأخبار:

هو بناء العقلاء، و هم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم أنه عن حس، يعملون به فيما يحتمل كونه عن حدس، حيث إنه ليس بناؤهم إذا أخبروا بشيء على التوقف و التفتيش عن أنه عن حدس أو حس؛ بل العمل على طبقه و الجري على وفقه بدون ذلك (5).

=============

(1) وجه الخصوصية هو: عدم كشف مثل هذا النقل عن قول المعصوم «عليه السلام»، و عدم دلالته عليه بوجه، فلا يكون إخبارا عن رأيه «عليه السلام» حتى تشمله أدلة حجية الخبر؛ بل على تقدير شمول أدلتها لكل خبر من الحسي و الحدسي لا يكون المورد مشمولا لها أيضا؛ إذ المفروض: عدم كشف هذا النقل الحدسي عن رأي الإمام «عليه السلام» للمنقول إليه، حتى يكون من الأخبار الحدسية لتشمله أدلة اعتبار الخبر مطلقا.

(2) يعني: ما ذكرناه من أحكام الأقسام الثلاثة المتقدمة للإجماع المنقول، «فيما انكشف الحال» بأنه نقل لقول الإمام «عليه السلام» عن حدس أو عن حس.

(3) بأن لا يعلم أن الناقل للإجماع الذي ينقل رأي الإمام «عليه السلام» هل هو عن حس أو عن حدس، فلا يبعد القول باعتباره؛ لأن بناء العقلاء قد استقر على العمل بالخبر المشكوك كونه عن حس؛ كاستقراره على العمل بالخبر المعلوم كونه عن حس، و لذا لو اعتذر شخص عن عدم العمل بخبر؛ باحتمال كونه عن حدس لم يقبل ذلك منه، و ليس إلا لأجل بنائهم على العمل بالمشكوك كونه عن حس كبنائهم على العمل بالمعلوم كونه عن حس.

و من هنا يظهر: إن مستند حجية الخبر إن كان هو الآيات و الروايات، و ادعي انصرافهما إلى خصوص الخبر الحسي لم يقدح ذلك في الاعتماد على بناء العقلاء المقتضي لإلحاق المشكوك كونه عن حس بالمعلوم كذلك، لوضوح: أن الآيات و الروايات لا تتكفل حكم الشك؛ بخلاف بناء العقلاء، فإنه يتكفل ذلك، فلا تنافي بين عدم دلالتهما إلا على اعتبار الخبر الحسي، و بين بناء العقلاء على إلحاق المشكوك بالمعلوم.

(4) تعليل لقوله: «فلا يبعد»، و الضمير في «أنه» للشأن، و الضمائر في «أنه عن حس» و «به» و «كونه» راجعة إلى الخبر.

(5) أي: بدون التفتيش و الضميران في «طبقه وفقه» راجعان إلى الإخبار.

ص: 227

نعم (1)؛ لا يبعد أن يكون بناؤهم على ذلك فيما لا يكون هناك أمارة على الحدس، أو اعتقاد الملازمة فيما لا يرون هناك ملازمة.

هذا لكن (2) الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب غالبا مبنية على حدس الناقل، أو اعتقاد الملازمة عقلا، فلا اعتبار (2) لها ما لم ينكشف أن نقل السبب كان مستندا على الحس.

=============

(1) استدراك على ما ذكره من بناء العمل على طبق ما أخبروا به بلا توقف و تفتيش، و توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 362» - إن بناء العقلاء على إلحاق الخبر المشكوك كونه عن حس، بالخبر المعلوم كونه كذلك لا يبعد أن يكون في غير صورة وجود الأمارة على الحدس، أو اعتقاد الناقل بالملازمة بين السبب و المسبب، مع عدم ثبوتها عند المنقول إليه، فإذا كان هناك أمارة على الحدس أو على اعتقاد الناقل بالملازمة فيما لم يعتقدها فيه المنقول إليه؛ لم يحرز بناء العقلاء في هاتين الصورتين على معاملة الخبر الحسيّ مع المشكوك كونه عن حس. و المشار إليه في قوله «ذلك»: هو العمل بدون التوقف و التفتيش، إلحاقا منهم للخبر المشكوك كونه عن حس بالخبر المعلوم كونه عن حس.

يعني: لا يبعد أن يكون بناء العقلاء على العلم بلا تفتيش فيما لا يكون أمارة على الحدس، أو على اعتقاد الناقل بالملازمة بين السبب و المسبب فيما لا يعتقد المنقول إليه تلك الملازمة بينهما، و أما فيما كان أمارة على الحدس، أو على اعتقاد الناقل بالملازمة المذكورة دون المنقول إليه فلا يعملون به.

(2) استدراك على قوله: «فلا يبعد أن يقال». و حاصله: إن البناء المزبور ليس ثابتا في الإجماعات المنقولة؛ لوجود أمارة الحدس فيها، و هي الغلبة الموجبة لإلحاق النادر بالغالب، لوضوح: ابتناء غالب الإجماعات المنقولة على حدس الناقل، أو اعتقاده الملازمة بين اتفاق الفتاوى و بين رأي المعصوم «عليه السلام» عقلا؛ كما في قاعدة اللطف.

(3) هذا تفريع على ما ذكره من عدم ثبوت بناء العقلاء على إلحاق الخبر المشكوك كونه عن حس بالمعلوم كونه عن حس، فيما إذا كان هناك أمارة على حدسيته، أو على اعتقاد الملازمة فيما لا يعتقدها فيه المنقول إليه، كالإجماعات المنقولة. و عليه، فمقتضى ما تقدم هو البناء على عدم شمول أدلة اعتبار خبر الواحد للإجماعات المنقولة؛ ما لم يحرز نقل السبب فيها عن حسّ ، حتى يكون نقل المسبب عن حسّ أيضا بوجه من وجوه الملازمة بينهما.

ص: 228

فلا بد (1) في الإجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة (2): من استظهار مقدار دلالة ألفاظها و لو بملاحظة حال الناقل (3) و خصوص موضع النقل، فيؤخذ بذلك المقدار، و يعامل معه كأنه المحصل.

فإن كان (4) بمقدار تمام السبب، و إلا فلا يجدي، ما لم يضم إليه مما حصله أو نقل

=============

(1) المقصود من هذا الكلام: أنه بعد أن ثبت عدم بناء العقلاء على إلحاق المشكوك بالمعلوم حسا، فيما إذا كان فيه أمارة الحدس؛ كما في الإجماعات المنقولة، فمجرد نقل الإجماع لا يكون حجة، لعدم كشفه عن رأيه «عليه السلام» حسا؛ بل لا بد حينئذ من ملاحظة مقدار دلالة ألفاظ الإجماع صراحة و ظهورا؛ و لو بقرينة حال الناقل لسعة باعه و وفور اطلاعه و تثبته في النقل، و أنه يتتبع و لا يعتمد على ظاهر كلمات من ينقل الإجماع، و لا على بعض المسالك التي سلكها الناقل في إحراز اتفاق الأصحاب المبتنية على الحدس.

و قيل: إن الجامع لهذه الصفات لا يبعد أن يكون جماعة من المتأخرين؛ كالفاضلين و الشهيدين و المحقق الثاني، و أضرابهم كالفاضل الهندي و غيره «رضوان الله عليهم أجمعين»؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 363».

(2) كقول ناقل الإجماع: «اتفق أو أطبق أو أجمع علماؤنا أو أصحابنا أو فقهاؤنا»، فإنه كالصريح في اتفاق الكل؛ بخلاف قوله: «لا خلاف فيه»، أو «لا نعرف فيه خلافا»، أو «لم يظهر فيه خلاف»، فإنه ظاهر في اتفاق الكل.

(3) أي: حين نقله من جهة ضبطه و تورعه في النقل، و مقدار بضاعته في العلم، و وقوفه على الكتب، و تتبعه للأقوال، و غير ذلك من الأوصاف الدخيلة في الضبط و الإتقان، «و خصوص موضع النقل» ككونه من المسائل المحررة في كتب الأصحاب، أو المهملة في جملة منها، «فيؤخذ بذلك المقدار» أي: المقدار الذي يدل عليه لفظ الإجماع، مع ملاحظة القرائن الأخر من رعاية حال الناقل و موضع النقل، و يعامل مع ذلك المقدار مع ملاحظة تلك القرائن معاملة المحصل، فكأن المنقول إليه بنفسه قد حصّل تلك الأقوال التي هي مورد الإجماع.

(4) أي: فإن كان ذلك المقدار المنقول بمقدار تمام السبب للكشف عن رأي المعصوم «عليه السلام» فهو المطلوب؛ «و إلا» أي: و إن لم يكن ذلك المقدار المنقول بمقدار تمام السبب لم يجد ذلك المقدار في الاستناد إليه في مقام الفتوى.

ص: 229

له من سائر الأقوال، أو سائر الأمارات (1) ما به تم فافهم (2).

فتلخص بما ذكرنا (3): أن الإجماع المنقول بخبر الواحد، من جهة حكايته رأي الإمام «عليه السلام» بالتضمن أو الالتزام، كخبر الواحد في الاعتبار إذا كان من نقل إليه ممن يرى الملازمة بين رأيه «عليه السلام» و ما نقله من الأقوال، بنحو الجملة

=============

(1) من شهرة أو رواية مرسلة أو غيرهما؛ مما يتم به سببية ذلك المقدار المنقول، بمعنى: صيرورة المجموع من المنقول و ما انضم إليه سببا لكشف قول المعصوم «عليه السلام»، و على هذا: يكون الإجماع المنقول جزء السبب الكاشف. و إن لم يصر المنقول و المنضم إليه سببا فلا يكون جزء السبب أيضا.

(2) لعله إشارة إلى: أن اعتباره حينئذ لا يكون من حيث كونه إجماعا؛ بل من حيث كونه كاشفا عن رأي المعصوم «عليه السلام»؛ و لو من باب تراكم الظنون الموجب للقطع.

فالنتيجة: أن الإجماع المنقول لا يكون بنفسه حجة؛ ما لم يكن موجبا للقطع بقول المعصوم «عليه السلام»، فالمدار على هذا القطع، سواء حصل من نقل فتاوى جماعة فقط، أو مع ضمائم أخر.

فالمتحصل من الجميع: أنه لو دل لفظ الإجماع - و لو بقرينة - على اتفاق يكون تمام السبب في الكشف عن قول المعصوم «عليه السلام» أخذ به؛ كقول الناقل: «أجمع أصحابنا»، أو «أجمع فقهاء أهل البيت»، أو «اتفقت الإمامية».

و إن لم يكن نقل الإجماع تمام السبب في استكشاف رأي الإمام «عليه السلام»، فيضم إليه مما حصله من سائر الأقوال و الأمارات مقدارا يوجب سببيته للكشف عن رأي المعصوم «عليه السلام».

و كيف كان؛ فلا اعتبار بنقل الإجماع في هذه الأعصار؛ بحيث يكون دليلا في المسألة على حذو سائر الأدلة؛ بل لا بد من ملاحظة أن هذا النقل بالنسبة إلى السبب هل هو حسي أم لا، فإن كان حسيّا: فهل يكون سببا تاما للكشف عن رأيه «عليه السلام» أم لا؟ فإن كان تاما فلا إشكال فيه، و إلا فلا بد في الاعتماد عليه من ضم أمارات إليه إلى أن يتم كونه سببا.

(3) أي: فتلخص بما ذكرنا أمران:

الأول: نقل الإجماع المنقول من جهة نقل المسبب، و حكاية رأي المعصوم «عليه السلام».

ص: 230

و الإجمال، و تعمه أدلة اعتباره، و ينقسم بأقسامه، و يشاركه (1) في أحكامه؛ و إلاّ (2) لم يكن مثله في الاعتبار من جهة الحكاية (3).

=============

الثاني: نقل الإجماع من جهة نقل السبب، كما أشار إليه بقوله: «و أما من جهة نقل السبب».

و حاصل الكلام في الأمر الأول: أن الإجماع المنقول من حيث حكايته عن رأي الإمام «عليه السلام» - تضمنا، كما في الإجماع الدخولي، أو التزاما كما في الإجماع اللطفي و الحدسي، و قد أشار إلى الأول بقوله: «بالتضمن»، و إلى الثاني بقوله: «أو الالتزام» - حجة كخبر الواحد، بشرط أن يكون المنقول إليه ممن يرى الملازمة بين رأيه «عليه السلام» و بين ما نقله الناقل من الأقوال إجمالا، فإن أدلة اعتبار خبر الواحد تشمل الإجماع المنقول في هاتين الصورتين. أما صورة التضمن: فلكون نقل السبب فيها كالسبب حسا. و أما صورة الالتزام: فلأن المفروض: أن نقل السبب فيها عن حس مستلزم - في نظر المنقول إليه - لرأيه «عليه السلام» و سبب للقطع به عقلا أو عادة. و هاتان الصورتان مشمولتان لأدلة الاعتبار كما أشار إليه بقوله: «و تعمه أدلة اعتباره، و ينقسم بأقسامه»؛ من الصحيح و الحسن و الموثق و المسند و المرسل، كما إذا قال: «حكي عليه الإجماع»، فهذا الإجماع كالرواية المرسلة، و عليه: فإن كان الناقل عدلا إماميا اتصف الإجماع بالصحة، و إن كان إماميا ممدوحا بمدح لا يفيد العدالة: اتصف بالحسن و هكذا. و ذلك لأن هذا النحو من الإجماع يصير من مصاديق خبر الواحد، فينقسم بأقسامه.

(1) يعني: يشارك الإجماع خبر الواحد في أحكامه؛ من كونه منجزا عند الإصابة و معذرا عند الخطأ، و كذا إجراء أحكام تعارض الخبرين على الإجماعين المتعارضين.

(2) أي: و إن لم يكن نقل الإجماع غير الدخولي في نظر المنقول إليه مستلزما لرأيه «عليه السلام»، لم يكن مثل خبر الواحد في الحجية و الحكاية لرأيه «عليه السلام»؛ إذ المفروض: عدم كشفه عن رأيه «عليه السلام»، الذي هو مناط حجيته.

(3) يعني: أن ما ذكرناه كان من حيث الحكاية عن المسبب. هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

و أما ملخص الكلام في الأمر الثاني - و هو الحكاية من جهة نقل السبب - فلأن الإجماع المنقول - الذي هو نقل الأقوال على الإجماع - يكون مثل نقل الأقوال تفصيلا في الاعتبار و الحجية، فإن كان هو مع ما ينضم إليه من الأقوال و الأمارات سببا تاما للقطع برأيه «عليه السلام»، كان المجموع كالإجماع المحصل في الاعتبار؛ و إلا فلا.

ص: 231

و أما من جهة نقل السبب: فهو في الاعتبار بالنسبة إلى مقدار من الأقوال التي نقلت إليه (1) على الإجمال بألفاظ نقل الإجماع، مثل: ما إذا نقلت على التفصيل، فلو ضم إليه مما حصله أو نقل له - من أقوال السائرين أو سائر الأمارات - مقدار كان المجموع منه (2) و ما نقل بلفظ الإجماع بمقدار السبب التام، كان المجموع كالمحصل، و يكون حاله (3) كما إذا كان كله منقولا، و لا تفاوت (4) في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه، أو ما له دخل فيه و به قوامه، كما يشهد به (5) حجيته بلا ريب في

=============

(1) أي: إلى المنقول إليه.

(2) أي: من المحصل، و ما نقل إليه بلفظ الإجماع بمقدار السبب التام كان المجموع كالمحصل في إحراز جميع الفتاوى و اتفاق الكل الذي هو السبب؛ و لكنه كالمنقول في الحجية للملازمة بينه و بين رأي الإمام «عليه السلام». فقوله: «كان المجموع» جواب قوله:

«فلو ضم».

(3) أي: يكون حال المجموع من الإجماع و ما ضم إليه أو نقل إليه حال الإجماع الذي يكون كله منقولا. و الحاصل: أن الإجماع الذي يكون جزء السبب الكاشف كالإجماع المنقول الذي يكون تمام السبب في الحجية.

(4) دفع توهم: فلا بد أولا من توضيح التوهم. و ثانيا من بيان دفعه.

أما التوهم: فحاصله: أن دليل اعتبار الخبر يشمل الإجماع المنقول الذي يكون تمام السبب لرأي المعصوم «عليه السلام»، و لا يشمل الإجماع المنقول الذي يكون جزء السبب؛ لعدم ترتب رأيه «عليه السلام» - الذي هو الأثر الشرعي - على هذا الإجماع، و إنما يترتب على المجموع منه، و مما ضم إليه، و المفروض: أن الحجية تكون بلحاظ الأثر الشرعي كما لا يخفى.

و أما الدفع: فحاصله: أن ترتيب الأثر الضمني كاف في صحة التعبد و الحجية كما في البينة، فإن الأثر الشرعي يترتب على مجموع قول الشاهدين؛ لا على كل منهما بالاستقلال. و كما في الإخبار عن بعض الخصوصيات الدخيلة في الحكم على ما سيأتي في محله؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 370» مع تصرف و توضيح منا.

(5) أي: بعدم التفاوت، و ضمير «حجيته» راجع على الجزء، يعني: أنه يشهد بما ذكرناه من عدم التفاوت المذكور في الاعتبار و الحجية حجية الخبر في تعيين حال السائل، كما إذا كان الراوي مرددا بين عدل أو ثقة أو ضعيف، فلو أخبر حينئذ ثقة بأن الراوي يكون ذلك العدل أو الموثق دون الضعيف، فلا إشكال في اعتبار خبره مع أنه

ص: 232

تعيين حال السائل، و خصوصية (1) القضية الواقعة المسئول عنها، و غير ذلك (2) مما له دخل في تعيين مرامه «عليه السلام» من كلامه.

=============

ليس تمام الموضوع للأثر الشرعي كما لا يخفى.

(1) عطف على قوله: «تعيين». و حاصله: أن قول الراوي حجة في الواقعة التي سأل حكمها عن الإمام «عليه السلام»، كما إذا سأل عن حكم الفأرة التي وقعت في بئر كذا، فأجابه الإمام «عليه السلام» بنزح ثلاث دلاء منها، فإنه لو لم يكن قول الراوي حجة في إثبات الواقعة المسئول عنها لم يمكن استفادة الحكم الشرعي من كلامه «عليه السلام» أصلا، فالأسئلة الواقعة في الروايات دخيلة في إثبات الحكم الشرعي.

(2) كما إذا أخبر الراوي المضمر للخبر بقوله: «سألته» بأن مقصودي: هو الإمام الصادق «عليه السلام»، فإن هذا الخبر ليس تمام الموضوع للحكم الشرعي كما هو واضح؛ و لكنه دخيل في تعيين مرام السائل. هذا إذا كان ضمير «مرامه» راجعا إلى السائل.

و أما إذا أريد به الإمام خصوصا بقرينة تعقيبه برمز «عليه السلام» كما في بعض النسخ، فهو كما إذا قال «عليه السلام» بالزاد و الراحلة و تخلية السرب و غيرها، فإن في هذه الرواية خصوصية معينة لمرام الإمام من موضوع الحكم، أعني: المستطيع.

ص: 233

و ينبغي التنبيه على أمور:

الأول (1): أنه قد مر أن مبنى دعوى الإجماع غالبا، هو اعتقاد الملازمة عقلا

=============

في تنبيهات الإجماع

1 - بطلان الطرق المذكورة لاستكشاف قول الإمام:

(1) المقصود من عقد هذا الأمر: هو بطلان الطرق المتقدمة لاستكشاف قول المعصوم «عليه السلام» و من الإجماع. 1 - قاعدة اللطف. 2 - الحدس. 3 - العلم بدخول الإمام في المجمعين. 4 - التشرّف بمحضر الإمام «عليه السلام» في زمان الغيبة.

و أما بطلان الإجماع المبني على قاعدة اللطف: فيتوقف على مقدمة: و هي أن اللطف هو ما يكون المكلف معه أقرب إلى فعل الطاعة، و أبعد من فعل المعصية، و اللطف واجب على الله تعالى؛ لتوقف غرضه «سبحانه و تعالى» عليه.

فحينئذ: إذا اتفق العلماء على شيء، و كان حكم الله تعالى خلافه لزم بمقتضى قاعدة اللطف أن ينبّه الله «سبحانه تعالى» العباد على الحق، و لا يكون ذلك إلا بإيجاد الخلاف بينهم؛ حتى يكون الحق بينهم، فلا يضل العباد، فإذا لم يفعل ذلك كشف عن أنه يطابق الحكم الواقعي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن اللطف بهذا المعنى مختص بأصول الدين؛ كإرسال الرسول و نصب الإمام «عليه السلام» لهداية الناس و إرشادهم إلى الحق.

فقاعدة اللطف و إن كانت صحيحة في أصول الدين؛ لا في المسائل الفرعية، لأنها لا تدل على أكثر من وجوب إرشاد الله سبحانه عباده في الجملة. أما كونها عامة بحيث تقتضي كل إرشاد حتى في الفروع فلا. و ذلك لوجوه:

الأول: نحن السبب للحرمان من فيوضاته، فلا يجب عليه اللطف حينئذ؛ بل يجب علينا رفع المانع عن غيبته «عجل الله تعالى فرجه الشريف»، و لا يجب بيان الأحكام بغير الطرق المتعارفة، فالاختفاء عرض بسوء أعمالنا، و لذا قيل: «وجوده لطف، و تصرفه لطف آخر، و عدمه منا».

الثاني: أن إلقاء الإمام الخلاف بين العلماء لا يكفي في هداية الكل؛ إذ العلماء المخالفون و من يأخذ برأيهم لا يرون الرأي الواقعي، فأحد الرأيين مخالف للواقع، و لا فرق في الوقوع على خلاف الواقع بين الكل و البعض.

الثالث: إذا فرضنا إجماعين متعارضين في عصرين يخالف أحدهما الآخر، كان ذلك على خلاف قاعدة اللطف قطعا.

ص: 234

لقاعدة اللطف، و هي باطلة، أو اتفاقا بحدس رأيه «عليه السلام» من فتوى جماعة، و هي غالبا غير مسلمة.

و أما كون (1) المبنى: العلم بدخول الإمام بشخصه في الجماعة، أو العلم برأيه فالمتحصل: أن قاعدة اللطف و إن كانت صحيحة في الجملة؛ لكنها لا تعم ما نحن فيه. هذا تمام الكلام في بطلان قاعدة اللطف.

=============

و أما الملازمة الاتفاقية الناشئة عن الحدس فهي غير مسلمة، و ذلك لعدم كشف اتفاق جماعة عقلا و لا عادة عن رأيه «عليه السلام»؛ لأن الحدس الذي يراد به هنا هو الحدس القطعي، الذي هو من أسباب البرهان؛ كالحدس باكتساب نور القمر من نور الشمس، كما تقرر في المنطق. و مثل هذا الحدس نادر فيما نحن فيه؛ إذ مع هذه الاستنادات الموجودة في مختلف أبواب الفقه كيف يمكن أن نقطع بأن فتوى المجمعين ليس إلا لفتوى الإمام «عليه السلام»؟ مع أن الغالب أنّا نرى استنادهم «قدست أسرارهم» إلى الأصول اللفظية أو العملية في الأحكام التي لا دليل صريح عليها.

و أما بطلان الإجماع الدخولي فحاصله: أن هذا القسم من الإجماع نادر جدا في زمان الغيبة؛ بل معدوم؛ إذ يبعد صحة دعوى العلم بدخوله «عليه السلام» في المجمعين في ذلك الزمان، فالإجماع الدخولي غير معلوم التحقق في زمان الغيبة.

و أما تشرف بعض الأكابر بخدمته «عليه السلام»: فلا يتجاوز عن الاحتمال، و مجرد الاحتمال لا يجدي في حجيته؛ لعدم كشفه عن مناط الحجية، و هو رأي الإمام «عليه السلام».

هذا تمام الكلام في بطلان الطرق المتقدمة لاستكشاف قول الإمام «عليه السلام».

توضيح بعض العبارات.

قوله: «أو اتفاقا» عطف على قوله: «عقلا»، و الباء في قوله: «بحدس» للسببية، يعني:

أو يكون مبنى دعوى الإجماع اعتقاد الملازمة الاتفاقية بسبب حدس رأيه «عليه السلام» من اتفاق جماعة على حكم.

(1) هذا إشارة إلى بطلان الإجماع الدخولي، و قد تقدم توضيحه فلا حاجة إلى التكرار.

قوله: «أو العلم برأيه...» الخ إشارة إلى بطلان الإجماع الحدسي؛ لندرة حصول القطع برأي الإمام «عليه السلام» من اتفاق جماعة على حكم شرعي.

قوله: «للاطلاع» تعليل لقوله: «العلم برأيه»، و الضمير المستتر في «يلازمه» راجع على الموصول المراد به فتاوى العلماء، و الضمير البارز راجع على رأي الإمام «عليه السلام».

ص: 235

للاطلاع بما يلازمه عادة من الفتاوى، فقليل جدا في الإجماعات المتداولة في ألسنة الأصحاب كما لا يخفى؛ بل (1) لا يكاد يتفق العلم بدخوله «عليه السلام» على نحو الإجمال في الجماعة في زمان الغيبة، و إن احتمل تشرف (2) بعض الأوحدي بخدمته و معرفته أحيانا، فلا يكاد (3) يجدي نقل الإجماع إلا من باب نقل السبب بالمقدار الذي أحرز من لفظه، بما (4) اكتنف به من حال أو مقال، و يعامل معه معاملة المحصل.

الثاني (5): أنه لا يخفى: أن الإجماعات المنقولة إذا تعارض اثنان منها أو أكثر، فلا يكون التعارض إلا بحسب المسبب.

=============

(1) إضراب عن قوله: «فقليل جدا» يعني: أن الإجماع الدخولي لا يكاد يتفق في زمن الغيبة، فضلا عن كونه قليلا.

(2) يعني: أن الإجماع الدخولي غير معلوم التحقق في عصر الغيبة، و تشرّف بعض الأكابر بخدمته «عليه السلام» و إن كان محتملا و لكن قد عرفت أن مجرد الاحتمال لا يجدي في حجيته.

(3) هذا تفريع على جميع ما ذكره من بطلان الملازمة العقلية المبنية على قاعدة اللطف، و الملازمة الاتفاقية، و ندرة الإجماع الدخولي و التشرفي و الإجماع المستلزم عادة للعلم برأيه «عليه السلام»، لوضوح: عدم حجية نقل الإجماع من حيث المسبب في جميع الأقسام؛ لفقدان جهة الكشف عن رأيه «عليه السلام».

(4) الباء بمعنى «مع»، و المراد بالموصول: هي القرينة الحالية المقالية المكتنفة بالإجماع، كما أشار إليه بقوله: «من حال أو مقال». و غرضه أنه بعد ما تقدم - من أن نقل الإجماع لا يجدي من حيث المسبب؛ بل يجدي من حيث السبب فقط - نقول: إن كان ظاهر النقل - و لو بمعونة القرائن المكتنفة به حالية أو مقالية - اتفاق جماعة يوجب العلم برأيه «عليه السلام» كان حجة و كاشفا عن قوله: «عليه السلام»، و إن كان ظاهره ما لا يوجب العلم برأيه «عليه السلام»، فإن حصل له ما يوجب ضمه إلى النقل المزبور القطع برأيه «عليه السلام»، فلا إشكال في حجيته أي: كونه جزء السبب الكاشف عن قول المعصوم «عليه السلام»، و إلا فلا فائدة في هذا النقل أصلا. و الضمير في «معه» راجع إلى السبب المراد به الإجماع.

2 - في تعارض الإجماعات المنقولة

(5) الغرض من عقد هذا الأمر: بيان حكم تعارض الإجماعات المنقولة، كما إذا قام إجماع منقول على وجوب شيء، و قام إجماع آخر على استحباب ذلك الشيء،

ص: 236

و أما بحسب السبب: فلا تعارض في البين (1)؛ لاحتمال صدق الكل؛ لكن نقل و قام ثالث على إباحته، فهذه الإجماعات متعارضة بعضها مع بعض من جهة تضاد متعلقاتها، و في الحقيقة يكون التعارض في المسبب - أعني: رأي الإمام «عليه السلام» دون السبب - و هو نفس أقوال المجمعين - و ذلك لأن التعارض هو تنافي مدلولي الدليلين ثبوتا؛ بحيث لا يمكن اجتماعهما في نفس الأمر كوجوب صلاة الجمعة و حرمتها مع وحدة الموضوع؛ إذ مرجع التعارض إلى التناقض أو التضاد، و مع عدم إمكان اجتماعهما يعلم إجمالا بكذب أحدهما، و من المعلوم: تحقق التعارض بالنسبة إلى المسبب، إذ لا يمكن تعدد رأيه «عليه السلام» في واقعة واحدة، فالاجماعان المتعارضان يكونان متنافيين من حيث المسبب بلا إشكال.

=============

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الأمر - في مورد الإجماع - لا يخلو من أربعة أحوال؛ لأن الإجماعين إما يحكيان عن الحكم الواقعي أو عن قول المعصوم، و على كل تقدير: فالمراد بالإجماع: إما اتفاق الكل أو البعض، فإن كان الإجماعان حاكيين عن الواقع: وقع التعارض في المسبب؛ إذ لا يمكن حكمان واقعيان متضادان، و إن كان المراد بالإجماعين اتفاق الكل: وقع التعارض في السبب، إذ لا يمكن اتفاق الكل على أمر و على ضده.

و حيث إن المصنف بنى على أن الإجماع هو اتفاق البعض في الجملة، و هو الحاكي عن الحكم الواقعي فقال: إنه لا يكون التعارض إلا بحسب المسبب.

(1) و حاصل الكلام في المقام: أن نقل الإجماع إن كان ظاهرا في حكاية آراء جماعة حصل منها للناقل القطع برأي المعصوم «عليه السلام» لحسن ظنه بهم؛ أمكن صدق كل من ناقلي الإجماع، فلا يكون النقلان متعارضين؛ لإمكان صدق كلا النقلين مع أن المناط في التعارض هو العلم الإجمالي بكذب أحدهما، و حيث فقد هذا المناط - كما هو المفروض - فلا يتحقق التعارض بين النقلين.

و أما إن كان النقل ظاهرا في اتفاق جميع العلماء - كما إذا كان مبنى الناقل قاعدة اللطف - فلا محالة يقع التعارض بين النقلين أيضا؛ لامتناع اتفاق الكل على حكمين متناقضين.

و من هنا ظهر أنه لا وجه لحصر التعارض في المسبب، كما لا وجه لنفي التعارض بحسب السبب على الإطلاق.

ص: 237

الفتاوى على الإجمال بلفظ الإجماع حينئذ لا يصلح لأن يكون سببا (1)، و لا جزء سبب، لثبوت (2) الخلاف فيها، إلاّ (3) إذا كان في أحد المتعارضين خصوصية موجبة لقطع المنقول إليه برأيه «عليه السلام» لو اطّلع عليها، و لو مع اطلاعه على الخلاف، و هو (4) و إن لم يكن مع الاطّلاع على الفتاوى على اختلافها مفصلا ببعيد (5)؛ إلا إنه و لعل ما أفاده المصنف من حصر التعارض في المسبب مبني على ما هو الغالب في نقل الإجماع؛ من عدم كون مبنى الناقل قاعدة اللطف، حتى يتصور التعارض في كل من السبب و المسبب؛ بل مبناه الحدس، فينحصر التعارض حينئذ في المسبب دون السبب؛ «لاحتمال صدق الكل»؛ لأن كلا من الناقلين رأى الملازمة بين ما نقله من الفتاوى و بين رأي المعصوم «عليه السلام».

=============

قوله: «لكن نقل الفتاوى على الإجمال» إشارة إلى أن مجرد نفي التعارض في السبب - أعني: نقل الفتاوى لاحتمال صدق الكل - لا يوجب صلاحيته لأن يكون سببا للكشف عن رأيه «عليه السلام»؛ لتحقق الخلاف في الفتاوى، المانع عن حصول العلم برأيه «عليه السلام»؛ إلا إذا كان في أحد النقلين خصوصية موجبة لقطع المنقول إليه برأيه «عليه السلام»، فحينئذ: يكون ذلك النقل حجة.

(1) أي: في صورة عدم خصوصية في أحد النقلين و ذلك واضح؛ لأنه مع اختلاف النقلين و عدم الخصوصية لا يكون شيء منهما سببا للقطع برأيه «عليه السلام».

(2) تعليل لقوله: «لا يصلح»، و ضمير «فيها» راجع على الفتاوى أو الإجماعات المنقولة.

و الحاصل: أنه لا يصلح أن يكون نقل الفتاوى إجمالا سببا لثبوت الخلاف فيها.

(3) استثناء من قوله: «لا يصلح» يعني: أنه قد يكون في أحد النقلين خصوصية باعتبار المورد أو الناقل توجب القطع برأي الإمام «عليه السلام»، فيكون سببا للقطع برأيه «عليه السلام».

قوله: «لو اطلع عليها» إشارة على أن الخصوصية تكون بنحو توجب حصول القطع للمنقول إليه برأي المعصوم «عليه السلام» مطلقا؛ حتى مع اطلاعه على الخلاف في الفتاوى، فهذه الخصوصية توجب ترجيح الإجماع ذي الخصوصية عند المنقول إليه.

(4) أي: اشتمال أحد الإجماعين على خصوصية موجبة للقطع برأي الإمام «عليه السلام».

(5) خبر لقوله: «و إن لم يكن...» الخ.

ص: 238

مع عدم الاطّلاع عليها كذلك (1) إلا مجملا بعيد. فافهم.

الثالث: أنه ينقدح مما ذكرنا في نقل الإجماع: حال (2) نقل التواتر، و أنه من حيث و حاصل ما أفاده المصنف في المقام: أن المنقول إليه تارة: لا يطلع على الخلاف، و أخرى: يطلع عليه.

=============

و على الثاني: قد يكون اطّلاعه عليه بالتفصيل، و قد يكون بالإجمال، فإن لم يطلع على الخلاف أصلا: فلا ريب في إيجاب الخصوصية لحصول القطع برأي الإمام «عليه السلام» من أحد الإجماعين المنقولين.

و إن اطلع على الخلاف تفصيلا: فلا يبعد أن تكون تلك الخصوصية موجبة لحصول القطع للمنقول إليه برأيه «عليه السلام»؛ كما إذا كان أرباب الفتاوى المنقولة من الطبقة العليا من الفقهاء و أعلام الدين، و إن اطلع عليه إجمالا، فيبعد أن توجب تلك الخصوصية حصول القطع له برأيه «عليه السلام»؛ لاحتمال أن تكون تلك الفتاوى التي لم يطلع عليها تفصيلا بمثابة مانعة لتلك الخصوصية عن أن توجب القطع للمنقول إليه برأيه «عليه السلام».

(1) أي: مفصلا. و الضمير في «عليها» راجع على الفتاوى.

قوله: «إلا» استثناء من عدم الاطلاع عليها مفصلا، أي: أنه مع الاطلاع الإجمالي يبعد أن تكون تلك الخصوصية موجبة للقطع برأي الإمام «عليه السلام»، و من هنا ظهر زيادة قوله: «كذلك»، أو قوله: «إلا مجملا»؛ إذ لا معنى لأن يقال: «إلا إنه مع عدم الاطّلاع عليها مفصلا إلا مجملا بعيد». إلا أن تكون نسخة الأصل «بل» بدل «إلا» كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 379».

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى: أن دعوى الإجماع بمعنى اتفاق الكل مجازفة، بداهة:

أن الإحاطة بفتاوى علماء عصر واحد مع كثرتهم، و انتشارهم في البلاد و البوادي من المحالات العادية، خصوصا في الأعصار السابقة، التي كانت فاقدة لوسائل نقل الأشخاص و الارتباطات، و طبع الكتب و نشر الفتاوى، فلا محيص حينئذ عن حمل نقل الإجماع و تحصيله على نقل الشهرة و تحصيلها، فلا يبقى مجال لتعارض الإجماعين؛ لأن البحث عن نقله و تحصيله من الأبحاث الفريضة، التي لا وجود لها خارجا.

3 - في نقل التواتر بخبر الواحد

(2) و قبل الخوض في البحث تفصيلا ينبغي بيان أمرين:

ص: 239

المسبب لا بد في اعتباره من كون الإخبار به إخبارا على الإجمال بمقدار يوجب قطع أحدهما: لما ذا بحث المصنف عن نقل المتواتر بعد الفراغ عن نقل الإجماع ؟

=============

و ثانيهما: بيان ظهور عدم حجية الخبر المتواتر بنقل التواتر فيه.

و أما الأمر الأول فنقول: إن بحث المصنف عن نقل التواتر بعد الفراغ عن نقل الإجماع يكون لمناسبة بينهما، و هي كون كل واحد منهما نقل أقوال و إخبار جماعة توجب العلم بالحكم الصادر عن الإمام «عليه السلام» للناقل، غاية الأمر: أن ناقل الإجماع ينقل أقوالهم بعنوان الإجماع و الاتفاق في الفتوى، و ناقل المتواتر ينقل أخبارهم بعنوان التواتر و الاتفاق في الرواية.

و أما الأمر الثاني: فحاصل ما أفاده المصنف هو: إن الحديث في نقل التواتر الخبر كالحديث في نقل الإجماع؛ في عدم كونه مشمولا لأدلة حجية خبر الواحد من حيث المسبب؛ إذ لا ملازمة عادة بين إخبار جماعة و بين صدور الحكم عن الإمام «عليه السلام»، كما كان الإجماع المنقول كذلك، فكما لا ملازمة بين حجية خبر الواحد و حجية نقل الإجماع، كذلك لا ملازمة بين حجيته و حجية نقل التواتر.

فنقل التواتر في خبر لا يثبت حجيته و لو قلنا بحجية خبر الواحد؛ لأن حجية نقل التواتر من حيث المسبب - و هو رأي الإمام «عليه السلام» - منوطة بالملازمة بين السبب و المسبب عند المنقول إليه، ليدل نقل السبب - و هو التواتر - بالالتزام على نقل المسبب - و هو رأي الإمام «عليه السلام» -، فنقل التواتر إنما يثبت المسبب إذا تحققت الملازمة في نظر المنقول إليه و إلا فلا يكون حجة في إثبات المسبب. هذا تمام الكلام في حجيته من حيث المسبب.

و أما حجيته من حيث السبب - و هو الذي أشار إليه بقوله: «و من حيث السبب» - فحاصله: أنه إن كان التواتر المنقول الذي هو نقل أخبار جمع إجمالا مقدارا يعتبر في تحقق التواتر لو نقل آحاد تلك الأخبار تفصيلا كان التواتر حجة؛ لأنه سبب تام، فيثبت به مسببه إذا كانت الأخبار المنقولة إجمالا متواترة بزعم الناقل بمقدار التواتر المعتبر عند المنقول إليه في حصول العلم له بمسببه.

و أما إذا لم يكن بهذا المقدار عند المنقول إليه: لم يكن حجة؛ لأنه حينئذ سبب ناقص، فلا يثبت به مسببه، فلا بد في إثبات مسببه من تتميمه بضم مقدار آخر من الأخبار إليه؛ بحيث يبلغ المجموع الحد المعتبر في تحقق التواتر عند المنقول إليه، فلو فرض أن الناقل قصد - بقوله مثلا: «قد تواتر الأخبار بقدوم الحاج» - إخبار عشرة أشخاص به،

ص: 240

المنقول إليه بما أخبر (1) به لو علم به، و من حيث السبب يثبت به كل مقدار كان إخباره بالتواتر دالا عليه، كما إذا أخبر به على التفصيل، فربما لا يكون إلا دون حد التواتر (2)، فلا بد في معاملته معه معاملته من لحوق مقدارا آخر من الأخبار يبلغ المجموع ذاك الحدّ.

نعم (3)؛ لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة - و لو عند المخبر - لوجب ترتيبه و كان الحد المعتبر في تحقق التواتر عند المنقول إليه إخبار عشرة أشخاص أيضا؛ كان ما نقله الناقل سببا تاما فهو حجة، و لو فرض في المثال: أن الحد المعتبر عند المنقول إليه في تحقق التواتر خمسة عشر شخصا كان ما نقله الناقل سببا ناقصا، فلا يكون حجة؛ بل لا بد من ضم إخبار خمسة أشخاص آخرين إليه؛ ليتحقق السبب التام عند المنقول إليه، و يحصل له العلم بالمسبب.

=============

(1) بصيغة المجهول. و نائب الفاعل ضمير راجع على المنقول إليه، و المراد بالموصول:

المسبب، و ضمير «به» في «لو علم به» راجع على المقدار، يعني: لو علم المنقول إليه بذلك المقدار الذي نقل إليه، و كان كافيا في حصول القطع برأي الإمام «عليه السلام»، فهذا التواتر حجة، و إن لم يكن ذلك المقدار الذي أخبر به الناقل كافيا في حصول القطع بالمسبب؛ لو علم به المنقول إليه: لم يكن هذا التواتر حجة؛ بل لا بد من ضم ما يتم به السبب التام إليه.

(2) عند المنقول إليه؛ كما لو كان الناقل يعتقد حصول التواتر بإخبار عشرة أشخاص، و المنقول إليه لا يرى حصول التواتر بأقل من العشرين، «فلا بد من معاملته» أي المنقول إليه «معه» أي: مع المقدار المنقول بعنوان التواتر، و هو دون حد التواتر عنده «معاملته» أي: الخبر المنقول تفصيلا من ضم و لحوق مقدار آخر من الأخبار، حتى يبلغ المجموع حد التواتر الموجب للعلم؛ بأن ضم إلى المنقول الذي يكون مرآة لإخبار عشرة أشخاص إخبار عشرة آخرين، حتى يفيد العلم عند المنقول إليه.

(3) استدراك على ما ذكره من عدم ثبوت التواتر، و عدم ترتب الأثر عليه إذا كان نقل الأخبار إجمالا دون حد التواتر عند المنقول إليه.

و حاصله: أنه إذا فرض أن أثرا شرعيا مترتب على التواتر في الجملة، أي: و لو عند الناقل، وجب ترتيب هذا الأثر الشرعي على هذا المتواتر؛ إذ المفروض: كونه متواترا عند الناقل؛ و إن لم يكن متواترا عند المنقول إليه.

ص: 241

عليه (1)؛ و لو لم يدل على ما بحدّ التواتر من (2) المقدار.

=============

(1) أي: لوجب ترتيب الأثر على الخبر المتواتر في الجملة.

(2) بيان للموصول في قوله: «ما بحد التواتر» يعني: و لو لم يدل هذا المقدار المنقول على المقدار المعتبر في التواتر عند المنقول إليه؛ كما إذا فرض أن حد التواتر عند الناقل إخبار عشرة أشخاص، و عند المنقول إليه إخبار عشرين شخصا.

و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان محل الكلام في الإجماع: يتوقف على مقدمة و هي: إن الإجماع على قسمين:

1 - المحصل. 2 - المنقول.

ثم المنقول على أقسام: المنقول بالتواتر، و المنقول بخبر الواحد المقرون بالقرينة على الصدق، و المنقول بخبر الواحد المجرد عن القرينة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل الكلام هو الإجماع المنقول بخبر الواحد المجرد عن القرينة، ثم المناط في حجية الإجماع عند الإمامية هو: قول المعصوم «عليه السلام»، و لما كان الإجماع كاشفا عنه كان حجة؛ لكونه حينئذ من مصاديق خبر الواحد الحاكي عن قول المعصوم «عليه السلام».

2 - أقسام الإجماع: باعتبار كونه كاشفا عن قول المعصوم «عليه السلام»:

الأول: الإجماع الدخولي؛ بأن يعلم بدخول الإمام في المجمعين؛ و إن لم يعرف بعينه و شخصه.

الثاني: الإجماع اللطفي، المبني على قاعدة اللطف، التي يستكشف بها قول المعصوم «عليه السلام»؛ إذ لو كان الإجماع مخالفا للواقع لكان على الإمام إظهار الحق؛ و لو بإلقاء الخلاف بينهم.

الثالث: الإجماع الحدسي، و هو العلم بقول الإمام من طريق الحدس.

الرابع: الإجماع التشرّفي، و هو تشرّف بعض الأكابر بمحضر الإمام في زمان الغيبة، ذلك بأن يأخذ منه بعض المسائل المشكلة ثم ينقلها بعنوان الإجماع خوفا من التكذيب، و قد أشار المصنف إلى هذه الأقسام في المتن.

3 - اختلاف الألفاظ الحاكية للإجماع: لأن نقل الإجماع قد يكون بلفظ ظاهر في

ص: 242

نقل السبب و المسبب معا؛ كما إذا قال ناقل الإجماع: أجمع المسلمون عامة، مما ظاهره إرادة الإمام «عليه السلام» معهم، و قد اشتهر هذا القسم بنقل السبب و المسبب.

و قد يكون لفظ الإجماع ظاهرا في نقل السبب فقط؛ كما إذا قال ناقل الإجماع:

أجمع علماؤنا أو أصحابنا أو نحوهما مما ظاهره من عدا الإمام «عليه السلام»، و لكل من هذين القسمين أقسام ثلاثة تأتي الإشارة إليها في كلام المصنف «قدس سره».

4 - في بيان ما هو الحجة من أقسام الإجماع المنقول بأدلة حجية خبر الواحد، نظرا إلى كونه من أفراده و مصاديقه، فتشمله أدلة اعتباره.

و ملخص الكلام في المقام: إن نقل الإجماع باعتبار كل من السبب و المسبب معا أو السبب فقط على أقسام:

الأول: أن ناقل الإجماع ينقل السبب و المسبب جميعا عن حسّ ؛ كالإجماع الدخولي، و هذا القسم حجة نظرا إلى كونه من مصاديق خبر الواحد.

الثاني: ينقل السبب و المسبب جميعا؛ و لكن المسبب ليس عن حس؛ بل بملازمة ثابتة عند الناقل و المنقول إليه جميعا. و هذا القسم أيضا حجة.

الثالث: ينقل السبب و المسبب جميعا، و المسبب ليس عن حس؛ بل بملازمة ثابتة عند الناقل دون المنقول إليه، و هذا القسم اعتباره محل إشكال بل منع؛ لأنه إخبار عن حدس، فلا تشمله أدلة حجية خبر الواحد.

الرابع: ينقل السبب فقط عن حسّ ، و كان السبب تاما بنظر الناقل و المنقول إليه جميعا، و هذا القسم حجة كالقسمين الأوليين.

الخامس: ينقل السبب فقط عن حسّ ، و لكن ليس تاما بنظر المنقول إليه. و حكم هذا القسم أن يضم المنقول إليه ما يتم به السبب إليه حتى يترتب على المجموع لازمه العادي، و هو قول الإمام «عليه السلام».

السادس: ينقل السبب فقط؛ لكن كان نقله عن حدس، و حكم هذا القسم: أن يؤخذ بالمتيقن من هذا القسم، و هو اتفاق مشاهير الفقهاء، ثم يضم إليه ما بقى من أقوال العلماء؛ ليتم به السبب، و يحكم بثبوت اللازم و هو قول الإمام «عليه السلام».

فالمتحصل من الجميع: إنه لو دل لفظ الإجماع على اتفاق: يكون تمام السبب لقول الإمام «عليه السلام» أخذ به؛ و إلا فيضم إليه مما حصله المنقول إليه مقدارا يوجب سببيته للكشف عن رأي الإمام.

ص: 243

5 - تلخص مما ذكرناه أمران:

أحدهما: أن الإجماع المنقول من حيث حكايته عن رأي الإمام «عليه السلام» تضمنا أو التزاما يكون حجة؛ كخبر الواحد، بشرط أن يكون المنقول إليه ممن يرى الملازمة بين رأيه «عليه السلام» و بين ما نقله الناقل من الأقوال إجمالا، فأدلة حجية خبر الواحد تشمل الإجماع المنقول في هاتين الصورتين، فينقسم بأقسام خبر الواحد من الصحيح و الحسن و الموثق و المسند و المرسل.

و ثانيهما: نقل الإجماع و حكايته من حيث السبب يكون مثل نقل الأقوال تفصيلا في الاعتبار و الحجية، فإن كان سببا تاما - و لو مع ما ينضم إليه من الأقوال و الأمارات - كان المجموع كالمحصل في الحجية؛ و إلا فلا يكون حجة.

6 - بطلان الطرق المتقدمة لاستكشاف قول الإمام «عليه السلام» أعني: قاعدة اللطف، الحدس، الدخول، التشرف.

أما بطلان قاعدة اللطف: فلأن القاعدة مختصة بالأمور الاعتقادية، و لا تجري في الأحكام الفرعية.

و أما بطلان الحدس: فلأن الملازمة الاتفاقية الناشئة عن الحدس غير مسلمة.

و أما الإجماع الدخولي و التشرفي: فبطلانهما واضح؛ إذ كل منهما نادر بل معدوم، و مجرد احتمالهما لا يجدي في حجية الإجماع؛ لعدم كشفه عن رأي الإمام «عليه السلام».

7 - في تعارض الإجماعات المنقولة: كما إذا قام إجماع على وجوب شيء، و إجماع آخر على استحباب ذلك الشيء، و إجماع ثالث على إباحته، فهذه الإجماعات متعارضة من جهة تضاد متعلقاتها، و في الحقيقة يكون التعارض في المسبب دون السبب؛ لأن التعارض هو تنافي مدلولي الدليلين ثبوتا؛ بحيث لا يمكن اجتماعهما في نفس الأمر؛ كوجوب صلاة الجمعة و حرمتها؛ إذ لا يمكن تعدد رأيه «عليه السلام» في واقعة واحدة.

و أما بحسب السبب: فلا تعارض في البين؛ لاحتمال صدق كلا النقلين، فلا يتحقق التعارض بين النقلين.

8 - في نقل التواتر:

و حاصل الكلام في المقام: أن الحديث في نقل التواتر كالحديث في نقل الإجماع

ص: 244

في عدم كونه مشمولا لأدلة حجية خبر الواحد من حيث المسبب؛ لأنه نقل قول المعصوم عن حدس.

و أما من حيث السبب: فإنه حجة بالمقدار الذي يدل عليه نقل التواتر، من كونه تمام السبب أو جزئه، فينضم إليه ما يتم به السبب عند المنقول إليه.

نعم؛ لو كان الأثر الشرعي أثرا للتواتر في الجملة لكان مترتبا على مطلق التواتر؛ و لو عند الناقل.

9 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - عدم حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد؛ لبطلان الطرق التي يستكشف بها قول الإمام «عليه السلام».

2 - عدم ثبوت التواتر بنقل التواتر.

ص: 245

ص: 246

فصل

مما قيل باعتباره بالخصوص (1): الشهرة في الفتوى، و لا يساعده دليل.

و توهم (2) دلالة أدلة حجية خبر الواحد عليه بالفحوى؛ لكون الظن الذي تفيده

=============

فصل في الشهرة الفتوائية

(1) أي: بعنوانه الخاص؛ لا باعتبار كونه مفيدا للظن.

و قبل الخوض في البحث لا بد من بيان و تحرير ما هو محل الكلام في المقام، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: إن الشهرة على أقسام:

الأول: الشهرة بحسب اللغة و العرف تكون بمعنى الظهور و البروز، كما يقال: شهر فلان سيفه.

الثاني: الهرة العملية، كعمل كثير من الفقهاء برواية من الروايات.

الثالث: الشهرة في الرواية؛ بأن تكون الرواية مشهورة بين الأصحاب، المبحوث عنها في باب الترجيح.

الرابع: الشهرة في الفتوى أعني: اشتهار الفتوى بحكم بين الفقهاء.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المراد بالشهرة في المقام هي الشهرة في الفتوى؛ لا الشهرة في الرواية، و لا الشهرة العملية، و لا اللغوية. و المقصود من حجيتها: حجيتها بعنوانها الخاص بدليل خاص؛ لا بدليل الانسداد.

ثم البحث عن حجية الشهرة إنما هو في طول البحث عن حجية الإجماع بخبر الواحد؛ إذ مع نفي حجية الإجماع لا مجال للالتزام بحجية الشهرة؛ لأن الشهرة هي اتفاق الجل، و الإجماع هو اتفاق الكل، فلا مجال لحجية اتفاق الجل، مع عدم حجية اتفاق الكل.

(2) و قد استدل المتوهم على حجية الشهرة في الفتوى بأمرين:

الأول: الأولوية، و هي ما أشار إليه بقوله: «بالفحوى».

الثاني: الرواية، و هي ما أشار إليه بقوله: «دلالة المشهورة...» الخ.

أما توضيح الأمر الأول فيتوقف على مقدمة و هي: أن الظن الحاصل من الشهرة أقوى

ص: 247

أقوى مما يفيده الخبر فيه (1) ما لا يخفى، ضرورة: عدم دلالتها على كون مناط اعتباره من الظن الحاصل من الخبر، هذا أولا. و ثانيا: أن مناط حجية الخبر هو الظن.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن أدلة حجية خبر الواحد تدل بالأولوية على اعتبار الشهرة؛ لما عرفت من: أن الظن الحاصل منها أقوى من الظن الحاصل منه، فتكون هي أولى بالاعتبار منه.

(1) خبر لقوله: «و توهم»، و دفع له. و توضيحه يتوقف على مقدمة و هي: أن الاستدلال بالأولوية المذكورة موقوف على أمور:

منها: أن يكون المناط لحجية خبر الواحد هو الظن.

و منها: أنه لا بد من القطع بأن مناط اعتبار خبر الواحد هو الظن، و لا يكفي الظن بكون مناط الحجية هو الظن.

و منها: أن يكون الظن الحاصل من الشهرة أقوى من الظن الحاصل من الخبر.

و منها: أن يكون هذا المناط علّة للجعل لا حكمة له؛ إذ لو كان حكمة له لم يتعد منه إلى غيره؛ لما قيل: من عدم اطّراد الحكمة، بخلاف العلة، فإن الحكم يدور مدارها وجودا و عدما. فإذا انتفى أحد هذه الأمور ينتفى الحكم بحجية الشهرة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الاستدلال المذكور غير صحيح؛ و ذلك لانتفاء الأمرين من الأمور المذكورة و هما الأمر الأول و الثاني.

أما انتفاء الأمر الأول - و هو كون مناط الحجية في خبر الواحد هو الظن - فحاصله:

منع كون مناط الحجية هو الظن؛ بل يمكن أن يكون اعتباره من باب التعبد فقط أو الظن النوعي دون الظن الفعلي؛ إذ لم يحصل القطع بأن المناط في اعتبار الخبر هو الظن، فأدلة اعتبار خبر الواحد لا دلالة لها على أن المناط في حجيته ذلك، فلا بد من استنباط هذه العلة من الخارج، كما أشار إليه بقوله: «غايته تنقيح ذلك بالظن» أي: غاية الأمر: تنقيح المناط بالظن، فتنقيح المناط ظني بمعنى: إنّا نظن أن وجه اعتبار خبر الواحد حصول الظن الفعلي منه، «و هو» أي: هذا التنقيح الظني «لا يوجب إلا الظن بأنها» أي: الشهرة «أولى بالاعتبار» من خبر الواحد، «و لا اعتبار به» أي: و لا اعتبار بالظن بالأولوية؛ بل لا بد من القطع بالأولوية، فإن الظن لا يغني من الحق شيئا، فالنتيجة: أنه لا اعتبار بهذا المناط المظنون.

هذا تمام الكلام في انتفاء الأمر الأول.

ص: 248

إفادته الظن، غايته تنقيح ذلك بالظن، و هو لا يوجب إلا الظن بأنها أولى بالاعتبار، و لا اعتبار به، مع أن دعوى القطع بأنه ليس بمناط غير مجازفة (1).

=============

(1) إشارة على انتفاء الأمر الثاني - و هو القطع بأن مناط اعتبار الخبر هو الظن.

و حاصل الكلام: إنّا نقطع بعدم كون مناط اعتبار الخبر هو الظن؛ إذ لو كان المناط الظن لزم دوران الحجية مداره، و ليس الأمر كذلك، و ذلك لحصول الظن من غير الخبر أيضا؛ كفتوى الفقيه الموجبة لظن فقيه آخر بالحكم الشرعي، مع أنها ليست حجة عليه حتى لتكون سندا له على الحكم الشرعي، و كعدم حصول الظن من الخبر أحيانا، مع كونه حجة.

و الانفكاك بين الظن و الحجية كاشف عن عدم كون مناط اعتبار الخبر هو الظن.

قوله: «غير مجازفة» خبر «دعوى». و وجه عدم المجازفة: ما عرفته من تخلف الحجية عن الظن. هذا تمام الكلام في الجواب عن الدليل الأول للقائل بحجية الشهرة.

و قد أشار إلى الوجه الثاني - و هو الاستدلال بالرواية - بقوله: «و أضعف منه توهم دلالة المشهورة و المقبولة عليه»، يعني: و أضعف من الوجه الأول - و هو الاستدلال بالأولوية - توهم دلالة الرواية على اعتبار الشهرة في الفتوى.

فلا بد أولا: من تقريب الاستدلال بالرواية على حجية الشهرة، و ثانيا: من الجواب عنه.

فنقول: إن هناك روايتين استدل بهما على حجية الشهرة.

الأولى: المشهورة. و الثانية: المقبولة.

أما الرواية الأولى: فهي المروية في غوالي اللآلئ عن العلامة، مرفوعة إلى زرارة قال:

«سألت أبا جعفر «عليه السلام» فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ قال «عليه السلام»: «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر...»(1) الحديث.

و تقريب الاستدلال بها يتوقف على مقدمة: و هي أن المراد بالموصول و هو «ما» في «خذ بما اشتهر» مطلق المشهور، سواء كان في الرواية كما هو مورد الرواية، أو في الفتوى، و لازم هذا التعميم في الموصول: هو وجوب الأخذ بكل شيء مشهور.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن معنى الرواية حينئذ هو: خذ بكل شيء مشهور بين أصحابك، و من المعلوم: أن الشهرة في الفتوى من مصاديق الشيء المشهور، فيجب الأخذ بها، و هو المطلوب.

ص: 249


1- عوالي اللآلي 229/133:4، بحار الأنوار 57/245:2.

و أما الرواية الثانية: فهي الرواية المقبولة التي تلقاها الأصحاب بالقبول، و هي ما رواه المشايخ الثلاثة، عن عمر بن حنظلة، الواردة في الروايتين المتعارضتين، قال «عليه السلام»: - بعد فرض السائل تساوي الراويين في العدالة - «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه...» الحديث.

و الاستدلال بهذه الرواية الواردة في تعارض القضاءين، الناشئ عن تعارض الروايتين على حجية الشهرة في الفتوى يحتاج إلى بيان أمور:

منها: فرض إحدى الروايتين اللتين استند إليهما الحاكمان المتعارضان في الحكم مشهورة، و الأخرى شاذة.

و منها: إثبات كون المراد من المجمع عليه المذكور في الموضعين من المقبولة هو المشهور؛ لا الإجماع الحقيقي.

و منها: بيان ما يدل على أن المراد من المجمع عليه في الموضعين هو المشهور؛ لا الإجماع الاصطلاحي.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم: أن الأمر الأول يكون ثابتا حيث قال الإمام «عليه السلام»: «فيؤخذ به، و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور»، ففرض الإمام «عليه السلام» إحدى الروايتين مجمعا عليها و مشهورة، ثم حكم بوجوب الأخذ بها و ترك ما ليس كذلك.

ثم الأمر الثاني - أيضا - يكون ثابتا؛ لأن المراد من المجمع عليه في الموضعين: هو المشهور؛ لا المجمع عليه الحقيقي حتى لا يرتبط بالمقام.

و أما الأمر الثالث - و هو بيان الدليل و الشاهد على كون المراد من المجمع عليه هو المشهور؛ لا المجمع عليه الاصطلاحي - فنقول: هناك شاهدان على أن المراد بالمجمع عليه هو المشهور.

الشاهد الأول: هو إطلاق المشهور على المجمع عليه، حيث قال «عليه السلام»:

«و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور»، فسلب الشهرة عما يكون مقابلا للمجمع عليه - و هو الشاذ - يكون أقوى شاهد على أن المراد منه هو المشهور؛ و إلا كان المناسب أن يقول:

و يترك الشاذ الذي ليس بمجمع عليه.

الشاهد الثاني: هو المستفاد من مفهوم التعليل، حيث علل الإمام «عليه السلام»

ص: 250

و أضعف منه: توهّم دلالة المشهورة و المقبولة عليه؛ لوضوح (1): أن المراد بالموصول الحكم بوجوب الأخذ بالمجمع عليه بقوله: «فإن المجمع عليه لا ريب فيه»، فيكون مفهومه: ثبوت الريب في مقابله أعني: الشاذ.

=============

و من المعلوم: أن ما فيه ريب يكون مقابلا للمشهور؛ لا المجمع عليه الحقيقي؛ لأن مقابله مما لا ريب في بطلانه أصلا؛ إذ الإجماع يكون مقطوع الصحة، فيكون مقابله مقطوع البطلان. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال بالرواية على حجية الشهرة.

(1) تعليل لقوله: «و أضعف منه»، و جواب عن الاستدلال بالرواية على حجية الشهرة الفتوائية.

و حاصل الجواب عن الاستدلال بالروايتين هو: منع الإطلاق فيهما؛ لأن المراد بالمشهور و المجمع عليه في المرفوعة و المقبولة: هو خصوص الرواية. و ذلك لوجهين:

أحدهما: مشترك بينهما و الآخر: مختص بكل واحد منهما.

و أما الوجه المشترك فهو: التبادر الناشئ عن السؤال عن حكم تعارض الخبرين و الروايتين، فيكون المراد من الجواب: ما هو المشهور من الرواية، بقرينة السؤال؛ ليكون الجواب مطابقا للسؤال، كما هو الظاهر من قولك: «ما كان الاجتماع فيه أكثر» جوابا عن السؤال «بأي المسجدين أحب إليك ؟».

فالسؤال عن حكم تعارض الروايتين في المرفوعة و المقبولة قرينة على أن المراد من الشهرة في الروايتين هو خصوص الرواية المشهورة؛ لا كل مشهور.

و أما الوجه المختص بالمرفوعة فهو فرض السائل الشهرة في كلا الخبرين، حيث قال:

«يا سيدي إنهما مشهوران». و من المعلوم: أن الشهرة في الفتوى لا يعقل تحققها في طرفي المسألة.

و أما الشهرة في الرواية: فهي مما يمكن اتصاف الروايتين المتعارضتين بها؛ لأن المراد منها فيها: هو اتفاق المحدثين جميعا أو أكثر على تدوين الرواية في كتب الأحاديث، فلا مانع من تحقق الشهرة في كلتا الروايتين المتعارضتين، بمعنى: تدوينهم إياهما في كتب الأحاديث.

و كيف كان؛ ففرض السائل الشهرة في الطرفين يكون شاهدا على أن المراد من المشهور هو خصوص الشهرة في الرواية، فلا ترتبط بالمقام أصلا.

و أما الوجه المختص بالمقبولة: فللتصريح بذلك بقوله «عليه السلام»: «من روايتهم

ص: 251

في قوله: في الأولى: «خذ بما اشتهر بين أصحابك»، و في الثانية: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به» هو الرواية لا ما يعم الفتوى، كما هو أوضح من أن يخفى.

نعم (1)؛ بناء على حجية الخبر ببناء العقلاء، لا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم على حجيته؛ بل على حجية كل أمارة مفيدة للظن أو الاطمئنان؛ لكن دون إثبات ذلك (2) خرط القتاد.

=============

عنا»، فهذا المقطع من الرواية صريح بأن المراد بالمجمع عليه بأي معنى كان هو خصوص الرواية.

فالمتبادر من قوله «عليه السلام»: «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» هو الرواية التي تكون معروفة بين الأصحاب، و يترك ما لا يعرفه إلا الشاذ.

و أما وجه أضعفية التمسك بالروايتين من التمسك بالأولوية - بناء على أن مورد الاستدلال فيهما هو إطلاق الموصول - فواضح؛ إذ مناط الاستدلال حينئذ: هو جعل الموصول كل مشهور و هو خارج عن طريقة أبناء المحاورة في الاستظهار؛ لما عرفت: من وجود قرينة على أن المراد بالموصول هو خصوص الرواية.

و هذا بخلاف الفحوى و مفهوم الموافقة؛ إذ حجية المفهوم الموافق مما لا كلام فيه، غاية الأمر: منع إناطة حجية الخبر بالظن.

(1) هذا استدراك على ما تقدم من توهم الاستدلال بفحوى أدلة حجية الخبر على اعتبار الشهرة الفتوائية.

و توضيحه: أنه - بناء على أن يستند في حجية خبر الواحد إلى بناء العقلاء - لا تبعد دعوى حجية الشهرة و غيرها، و عدم اختصاص بنائهم على اعتبار خبر الواحد، حيث إن منشأ حجية الخبر عندهم هو إحراز الواقع الذي تعلق غرضهم بحفظه، و من المعلوم: أن ملاك التحفظ على الواقع لا يختص بإحرازه بالخبر؛ بل هو موجود في كل ما يكون طريقا إليه من الظن بجميع مراتبه، أو خصوص الاطمئناني منه.

فكل ما يوجب إحراز الواقع - و لو ظنا - يكون حجة، فمرجع هذا الوجه إلى دعوى الملازمة بين حجية الخبر ببناء العقلاء، و بين حجية الشهرة و غيرها مما يوجب الوصول إلى الواقع مطلقا، خبرا كان أو شهرة أو غيرهما؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 402» مع تصرف منا.

(2) يعني: دون إثبات عدم اختصاص بناء العقلاء على الحجية بالخبر خرط القتاد.

ص: 252

و بعبارة أخرى: إثبات عموم بناء العقلاء لكل أمارة ظنية أصعب من خرط القتاد.

فالمتحصل من الجميع: أن وجه حجية الشهرة أحد الأمور المذكورة؛ و لكن شيئا منها لا يصلح للاستناد إليه؛ لما عرفت: من المناقشة و الإشكال في الجميع.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص في أمور:

1 - المقصود من الشهرة المبحوث عنها: هي الشهرة الفتوائية أعني: اشتهار الفتوى بحكم بين الفقهاء؛ لا الشهرة الروائية، التي هي اشتهار الرواية بين الأصحاب المبحوث عنها في باب الترجيح.

2 - فقد توهم اعتبار الشهرة و استدل على حجيتها بوجوه:

الأول: دلالة أدلة حجية خبر الواحد على حجيتها بالفحوى؛ إذ ملاك حجية الخبر - و هو الظن - موجود في الشهرة بنحو أقوى.

الثاني: مرفوعة زرارة حيث قال: قلت: جعلت فداك يأتي منكم الخبران المتعارضان فبأيهما نعمل ؟ قال «عليه السلام»: «خذ بما اشتهر بين أصحابك»، فإن مقتضى عموم الموصول: لزوم الأخذ بكل مشهور خبرا كان أو فتوى.

الثالث: مقبولة ابن حنظلة حيث جاء فيها: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به، و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه»، تمسكا بعموم التعليل، بضميمة أن المراد بالمجمع عليه هو المشهور لإطلاق المشهور عليه، و لازم ذلك: هو الأخذ بمطلق المشهور.

3 - الجواب عن هذه الوجوه:

فقد أجاب المصنف عن هذه الوجوه:

أما الوجه الأول: فقد أجاب المصنف عنه أولا بأنه لا دليل على كون ملاك حجية خبر الواحد هو الظن، نعم؛ ذلك مظنون و لا دليل على حجية مثل هذا الظن.

و ثانيا: أنه يمكن القطع بعدم كون الملاك هو الظن، و دعوى القطع على ذلك غير مجازفة، لوضوح: أن كثيرا من الموارد التي يثبت كون الخبر فيها حجة لا يفيد الظن.

و أما الجواب عن الاستدلال بالمرفوعة: فلأن الظاهر كون المراد من الموصول في

ص: 253

قوله: «خذ بما اشتهر» هو خصوص الرواية المشهورة لا مطلق المشهور. و من هنا ظهر الجواب عن الاستدلال بالمقبولة، حيث إن المراد بالمجمع عليه فيها بأي معنى كان هو خصوص الرواية.

رأي المصنف «قدس سره»:

هو عدم حجية الشهرة الفتوائية.

ص: 254

فصل

المشهور بين الأصحاب: حجية خبر الواحد في الجملة (1) بالخصوص، و لا يخفى:

=============

فصل في حجية خبر الواحد

اشارة

(1) أي: بنحو الإيجاب الجزئي، في مقابل السلب الكلي بدليل خاص في مقابل حجيته بدليل الانسداد.

و قبل الدخول في البحث لا بد من تحرير محل النزاع، و توضيح ذلك يتوقف على تقديم أمور من باب المقدمة:

الأول: أن المراد في خبر الواحد هو ما يكون مقابلا للمتواتر، أعني: ما لا يفيد العلم بالمخبر به ذاتا، و لا يكون مقطوع الصدور، في مقابل ما يفيد العلم بالمخبر به ذاتا من جهة كثرة المخبرين، فيكون مقطوع الصدور.

ثم الواحد وصف للراوي لا للخبر أي: ما يكون راويه واحدا، فتعريف «خبر» باللام بأن يقال: الخبر الواحد المشعر بكون الواحد صفة للخبر يكون غلطا و غير صحيح؛ لأن الخبر الواحد - حينئذ - يكون في مقابل الاثنين فزائدا، لا في مقابل المتواتر، الذي يكون راويه الكثير.

فالحاصل: أن المراد من خبر الواحد في مقابل المتواتر، فخرج بقوله: - خبر الواحد - المتواتر.

الثاني: أن ما هو الخارج عن الأصل - أعني: عدم حجية الظن - هو خبر الواحد في الجملة، أعني: على نحو موجبة جزئية، في مقابل سالبة كلية. فالخارج عن الأصل هو صنف خاص، و هو خبر العادل على قول، و خبر الثقة على قول آخر، و هكذا.

الثالث: أن البحث عن حجية خبر الواحد يكون من أهم المسائل الأصولية؛ إذ غالب الأحكام و أجزاء العبادات و شرائطها إنما تثبت بأخبار الآحاد، ثم دخول هذا البحث في علم الأصول واضح على قول المصنف - و هو عدم حصر موضوع علم الأصول بالأدلة الأربعة - و أما على القول بانحصاره فيها: فيشكل في كون البحث عن حجية خبر الواحد من المسائل الأصولية؛ لأن البحث عن حجيته حينئذ: لم يكن عن أحوال الأدلة

ص: 255

أن هذه المسألة من أهم المسائل الأصولية، و قد عرفت في أوّل الكتاب (1): أن الملاك في الأصولية: صحة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط، و لو لم يكن البحث فيها عن الأدلة الأربعة؛ و إن اشتهر في ألسنة الفحول كون الموضوع في علم الأصول هي الأدلة.

=============

الأربعة؛ بل عن أحوال حاكي السنة و هو خبر الراوي، كقول زرارة مثلا، لا عن أحوال نفس السنة و هو قول المعصوم أو فعله أو تقريره.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة فاعلم: أن محل النزاع هو البحث عن حجية خبر الواحد، الذي يكون في مقابل المتواتر على نحو الإيجاب الجزئي، في مقابل السلب الكلي بدليل خاص في مقابل حجيته بدليل الانسداد، فتكون مسألة خبر الواحد من أهم المسائل الأصولية؛ إذ الملاك في أصولية المسألة عند المصنف «قدس سره» صحة وقوع نتيجة البحث في طريق الاستنباط؛ و إن لم يكن البحث فيها عن أحوال الأدلة الأربعة.

(1) أي: في بيان موضوع علم الأصول حيث قال: «إن موضوع علم الأصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة؛ لا خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة؛ بل و لا بما هي هي».

و توضيح الكلام في المقام: يتوقف على مقدمة و هي: بيان منشأ الاختلاف في تعيين موضوع علم الأصول فنقول: إن منشأ الاختلاف في موضوع علم الأصول أنه لم يرد في بيان موضوع علم الأصول آية و لا رواية، و ما قيل في ذلك فروض و تصورات.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه قد وقع البحث و النزاع بين الأعلام في موضوع علم الأصول. فهناك أقوال:

الأول: أن موضوع علم الأصول هو: خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة كما عليه المشهور، و اختاره المحقق القمي «قدس سره».

الثاني: أن موضوع علم الأصول هي: ذوات الأدلة الأربعة كما عليه صاحب الفصول.

الثالث: ما ذهب إليه المصنف «قدس سره» من عدم اختصاص موضوع علم الأصول بالأدلة الأربعة؛ كي يجب أن تكون المسألة الأصولية باحثة عن أحوالها و عوارضها؛ بل إنه الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة، و الملاك في كون المسألة أصولية أن تقع نتيجتها في طريق الاستنباط، و المراد بالاستنباط هو: استخراج الأحكام الكلية الفرعية من أدلتها المعهودة، دون الأحكام الجزئية التي يستنبطها العامي من المسائل

ص: 256

الفرعية التي استنبطها الفقيه؛ كحرمة شرب الخمر مثلا، فإن العامي يستنبط حكم الخمر الشخصي من قول المجتهد: «كل خمر حرام».

و كيف كان؛ فقد يرد على ما هو المشهور - من جعل موضوع علم الأصول خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة - إشكالان، و على ما ذهب إليه صاحب الفصول من أن موضوعه هي ذوات الأدلة الأربعة إشكال واحد.

إشكال المصنف على من جعل موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة

و أما الإشكال الأول على المشهور: فلأن دليلية الأدلة الأربعة على قول المشهور جزء الموضوع؛ إذ المفروض: هو جعل موضوع علم الأصول هي الأدلة الأربعة بوصف كونها أدلة، فالبحث عن حجية خبر الواحد معناه: هو البحث عن أنه دليل أم لا؟ أعني: هل الدليلية ثابتة له أم لا؟ و حيث إن وصف الدليلية جزء الموضوع حسب الفرض، فالبحث عن وجود جزء الموضوع كالبحث عن وجود نفس الموضوع داخل في المبادئ لا في المسائل.

و قد أجاب صاحب الفصول عن هذا الإشكال بجعله موضوع علم الأصول ذوات الأدلة الأربعة، فتندرج مسألة حجية خبر الواحد في المسائل الأصولية؛ إذ الموضوع حينئذ: هو نفس خبر الواحد مثلا، فيكون البحث عن حجيته بحثا عن عوارضه بمفاد «كان» الناقصة، بمعنى: أن خبر الواحد الذي هو دليل من الأدلة الأربعة هل يكون حجة أم لا؟

و أما الإشكال الثاني على قول المشهور - و هو الإشكال على قول صاحب الفصول - فلأن البحث عن حجية خبر الواحد على ما هو مختار الفصول، و عن دليلية خبر الواحد على ما هو المشهور ليس بحثا عن أحوال السنة و عوارضها لأنها عبارة عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره، و خبر الواحد - على تقدير حجيته أو دليليته - يكون حاكيا عن السنة، لا نفس السنة، و من المعلوم: أن الحاكي غير المحكي، و البحث عن عوارض الحاكي ليس بحثا عن عوارض المحكي، أعني: السنة التي هي من الأدلة الأربعة، فلا يكون البحث عن حجية خبر الواحد من المسائل الأصولية.

و قد أشار إليه بقوله: «و أن الملاك في الأصولية صحة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط، و لو لم يكن البحث فيها عن الأدلة الأربعة»، فيكون هذا الكلام من المصنف «قدس سره» تعريضا بمن جعل موضوع علم الأصول خصوص الأدلة الأربعة، سواء كانت بما هي أدلة كما عليه المشهور، أم ذواتها كما عليه صاحب الفصول.

ص: 257

و عليه (1): لا يكاد يفيد في ذلك - أي: كون هذه المسألة أصولية - تجشم دعوى و حاصل التعريض: أنه بناء على جعل موضوعه خصوص الأدلة الأربعة يلزم خروج مسألة حجية خبر الواحد عن مسائل علم الأصول - كما عرفت - مع أنها من أهم مسائله، فلا بد دفعا لهذا الإشكال من رفع اليد عما اشتهر من جعل الموضوع خصوص الأدلة الأربعة، و البناء على كون الموضوع كليا منطبقا على موضوعات المسائل، و متحدا معها اتحاد الكلي مع أفراده، فكل قضية لها دخل في الاستنباط يكون موضوعها متحدا مع موضوع علم الأصول، و إن لم يعرف باسم مخصوص و عنوان خاص، و بعد جعل الموضوع كليا منطبقا على موضوعات المسائل كما هو رأي المصنف «قدس سره» يندفع الإشكال عن مسألة حجية خبر الواحد؛ إذ مسألة خبر الواحد حينئذ تكون من المسائل الأصولية؛ إذ لها دخل في الاستنباط.

=============

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) أي: على ما هو المشهور من كون موضوع الأصول خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة؛ «لا يكاد يفيد في ذلك» أي: في كون هذه المسألة من المسائل الأصولية ما ارتكبه في الفصول من «تجشم دعوى أن البحث عن دليلية الدليل بحث عن أحوال الدليل».

و حاصل جواب الفصول عن الإشكال الوارد على قول المشهور: أن هذا الإشكال إنما يلزم إذا جعل موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة بوصف كونها أدلة و ليس كذلك؛ بل البحث في هذا العلم عن ذوات الأدلة الأربعة، حتى يكون البحث عن حجية خبر الواحد من هذه الأدلة الأربعة بحثا عن العوارض، بمفاد «كان» الناقصة، بمعنى: أن خبر الواحد الذي هو دليل من الأدلة الأربعة هل يكون حجة أم لا؟ فتندرج مسألة حجية خبر الواحد في المسائل الأصولية؛ و لكن لا يفيد ما ارتكبه صاحب الفصول من التجشم في كون حجية خبر الواحد من المسائل الأصولية؛ بل يرد عليه:

أولا: أنه خلاف ظاهر كلام العلماء، حيث يجعلون الأدلة الأربعة بما هي أدلة، لا بما هي هي - موضوع علم الأصول.

و ثانيا: أنه جواب عن أحد الإشكالين على قول المشهور - و هو الإشكال الأول - و يبقى الإشكال الثاني على حاله.

و حاصل الإشكال الثاني: أن ما ارتكبه صاحب الفصول لإدراج مسألة حجية خبر الواحد في المسائل الأصولية بالتقريب المتقدم غير مفيد؛ لما عرفت: من أنه بعد تسليم أن

ص: 258

أن البحث عن دليلية الدليل بحث عن أحوال الدليل، ضرورة (1): إن البحث في الموضوع ذوات الأدلة ليس البحث عن حجية خبر الواحد بحثا عن عوارض الأدلة الأربعة.

=============

أما عدم كونه عن الثلاثة غير السنة: فواضح. و أما عدم كونه من السنة: فلما عرفت من أن السنة هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره، و خبر الواحد على تقدير حجيته يكون حاكيا عن السنة، فلا يكون البحث عن حجية خبر الواحد بحثا عن عوارض السنة؛ كي تكون مسألة خبر الواحد من المسائل الأصولية.

(1) تعليل لقوله: «لا يكاد يفيد»، و إيراد على الفصول. و قد تقدم توضيح الإيراد.

و بعد ما فرغ المصنف عن جواب صاحب الفصول، و عن الإشكال عليه أشار إلى جواب الشيخ الأنصاري «قدس سره» عن الإشكال الوارد على قول المشهور بقوله:

«كما لا يفيد عليه» - أي: بناء على أن موضوع علم الأصول خصوص الأدلة الأربعة - ما ذكره الشيخ الأنصاري من «تجشم دعوى أن مرجع هذه المسألة...» الخ، فلا بد أولا:

من بيان جواب الشيخ الأنصاري، و ثانيا: من بيان ما يرد عليه.

و أما جواب الشيخ الأنصاري عن الإشكال الوارد على قول المشهور: فحاصله: أنه بناء على مذهب المشهور لا يلزم خروج بحث حجية خبر الواحد عن المسائل الأصولية، و دخوله في المبادئ؛ لأن البحث عن حجية خبر الواحد حينئذ: بحث عن عوارض السنة؛ إذ معنى «أن خبر الواحد حجة أم لا؟» أنه هل تثبت السنة - و هو قول المعصوم، أو فعله، أو تقريره - بخبر الواحد أم لا؟

و من المعلوم: أن ثبوت السنة به و عدم ثبوتها من حالات السنة و عوارضها، فيكون البحث عن حجية خبر الواحد بحثا أصوليا، فلا يلزم - من جعل موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة بما هي أدلة كما عليه المشهور - خروج مسألة حجية خبر الواحد عن مسائل علم الأصول؛ إلا إن هذا التجشم كتجشم صاحب الفصول لا يفيد في دفع الإشكال عن قول المشهور.

و أما ما يرد على جواب الشيخ الأنصاري: فقد أشار إليه بقوله: «فإن التعبد بثبوتها»، هذا تعليل لقوله: «كما لا يكاد يفيد...» الخ، و جواب عن مختار الشيخ الأنصاري في دفع الإشكال عن المشهور.

و كيف كان؛ فقد أجاب المصنف عما أفاده الشيخ الأنصاري بوجهين:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «فإن التعبد...» الخ. و الثاني: ما أشار إليه بقوله: «مع أنه لازم...» الخ.

ص: 259

المسألة ليس عن دليلية الدليل؛ بل عن حجية الخبر الحاكي عنها، كما لا يكاد يفيد عليه تجشم دعوى أن مرجع هذه المسألة إلى أن السنة - و هي قول الحجة أو فعله أو تقريره - هل تثبت بخبر الواحد، أو لا تثبت إلا بما يفيد القطع من التواتر أو القرينة ؟

فإن التعبد بثبوتها مع الشك فيها لدى الإخبار بها ليس من عوارضها؛ بل من عوارض مشكوكها (1)، كما لا يخفى.

مع أنه (2) لازم لما يبحث عنه في المسألة من (3) حجية الخبر، و المبحوث عنه في أما توضيح الوجه الأول: فإن ضابط المسألة الأصولية كغيرها - و هو ما يكون نفس محمول المسألة من عوارض موضوع العلم؛ و إلا فلا يكون من مسائله - لا ينطبق على مسألة حجية خبر الواحد؛ و ذلك لأن البحث عن ثبوت السنة بالخبر بحث عن عوارض السنة المشكوكة؛ لا عن نفس السنة الواقعية، فقولنا: «هل خبر الواحد حجة أم لا؟» معناه: أنه هل تثبت السنة المشكوكة بخبر الواحد أم لا؟ و من المعلوم: أن موضوع علم الأصول هو السنة الواقعية لا المشكوكة، و حينئذ: فما يكون من الأدلة - و هو السنة الواقعية - لا يكون حجية الخبر من عوارضه، و ما يكون حجية الخبر من عوارضه - و هو السنة المشكوكة - لا يكون من الأدلة، فلا يكون البحث عن حجية الخبر بحثا عن عوارض موضوع علم الأصول، حتى يكون من مسائله.

=============

(1) هذا الضمير و الضمائر الأربعة المتقدمة راجعة على السنة.

(2) أي: مع أن التعبد بثبوت السنة لازم لما هو المبحوث عنه و هو الحجية، و الملاك الذي تعد به المسألة من مسائل العلم هو: كون نفس المبحوث عنه من عوارض الموضوع، لا أن يكون لازمه من العوارض.

و توضيح هذا الوجه الثاني: أن الضابط في كون قضية من مسائل علم هو: أن يكون نفس المبحوث عنه - أعني: المحمول في تلك القضية - من عوارض موضوع العلم، فلا تعد تلك القضية من مسائل العلم إذا كان لازم محمولها من عوارض موضوع العلم، فإذا كان هناك قضية، و كان لازم محمولها من عوارض موضوع العلم لم تعد تلك القضية من مسائل ذلك العلم، و المقام كذلك، فإن المبحوث عنه هو حجية الخبر و من لوازمها ثبوت السنة، فليس ثبوت السنة بالخبر في مسألة حجية الخبر نفس المبحوث عنه، و إنما هو من لوازمه.

(3) بيان للموصول في «لما يبحث»، و ضمير «عنه» راجع على الموصول، يعني: أن التعبد بثبوت السنة لازم لحجية الخبر الذي يبحث عنه في هذه المسألة.

ص: 260

المسائل إنما هو الملاك في أنها (1) من المباحث أو من غيره (2)، لا ما هو لازمه (3) كما هو واضح.

و كيف كان (4)؛ فالمحكي عن السيد و القاضي و ابن زهرة و الطبرسي و ابن إدريس:

=============

(1) أي: في أن المسائل من المباحث.

(2) عطف على المباحث، و الضمير في «غيره» راجع على المباحث، فالصواب تأنيثه كما في بعض النسخ، و الواو في «و المبحوث عنه» للحال يعني: أن الملاك في عد قضية من مسائل علم كون محمولها - و هو المبحوث عنه فيها أولا و بالذات من عوارض موضوع ذلك العلم، فلا يكفي في عدها من مسائله كون لازم المبحوث عنه فيها من عوارضه، كالتعبد بثبوت السنة - الذي هو لازم السنة - بحجية الخبر التي هي محمول مسألة حجية الخبر.

(3) أي: لازم المبحوث عنه، و المراد باللازم هناك: ثبوت السنة.

و كيف كان؛ فالأنسب سوق العبارة هكذا: «مع أنه لازم لحجية الخبر المبحوث عنها، و الملاك في أن القضية من مسائل العلم هو كون المحمول نفس المبحوث عنه لا ما هو لازمه»؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 414» مع تصرف منا.

(4) أي: سواء كان موضوع علم الأصول هو الكلي - على ما هو مختار المصنف - أم خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة؛ كما هو المشهور، فقد وقع الخلاف في حجية خبر الواحد، «فالمحكي عن السيد» المرتضى، «و القاضي» ابن البراج، «و ابن زهرة، و الطبرسي، و ابن إدريس»، و بعض آخر أي: فالمحكي عن هؤلاء «عدم حجية الخبر، و استدل لهم» بالأدلة الثلاثة و هي الكتاب و السنة و الإجماع.

الاستدلال بالآيات و الروايات على عدم حجية خبر الواحد

و أما الكتاب: فقد استدل بالآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم كقوله تعالى:

وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (1) ، و قوله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنَّ اَلظَّنَّ لاٰ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً (2)، و غير ذلك من الآيات الدالة على ذم اتباع الظن و عدم الاعتماد عليه.

و أما السنة: فهناك أخبار كثيرة تدل على المنع من العمل بالخبر غير معلوم الصدور، و رد ما لم يعلم أنه من قولهم «عليهم السلام» إليهم.

و الروايات المانعة عن العمل بغير العلم على طوائف:

ص: 261


1- الإسراء: 36.
2- النجم: 28.

عدم حجية الخبر و استدل لهم بالآيات الناهية عن اتباع غير العلم، و الروايات الدالة على ردّ ما لم يعلم أنه قولهم «عليهم السلام»، أو لم يكن عليه شاهد من كتاب الله أو شاهدان، أو لم يكن موافقا للقرآن إليهم، أو على بطلان ما لا يصدقه كتاب الله، و نكتفي بذكر رواية واحدة من كل طائفة:

=============

1 - الرواية الدالة على رد ما لم يعلم أنه قولهم «عليهم السلام»، مثل: ما رواه في بصائر الدرجات عن محمد بن عيسى قال: «أقرأني داود بن فرقد الفارسي كتابه إلى أبي الحسن الثالث «عليه السلام» و جوابه بخطه «عليه السلام»، فقال: نسألك عن العلم المنقول إلينا عن آبائك و أجدادك قد اختلفوا علينا فيه، فكيف العمل به على اختلافه ؟ فكتب «عليه السلام» بخطه و قرأته: «ما علمتم أنه قولنا فألزموه، و ما لم تعلموه فردوه إلينا»(1).

2 - الرواية الدالة على رد ما «لم يكن عليه شاهد من كتاب الله(2) أو شاهدان».

مثل ما رواه في الوسائل مسندا عن أبي جعفر «عليه السلام» في حديث قال: «إذا جاءكم حديث عنا فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به، و إلا فقفوا عنده ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم»(3).

3 - الرواية الدالة على رد ما «لم يكن موافقا للقرآن إليهم»، مثل: قول أبي جعفر «عليه السلام»: «انظروا أمرنا و و ما جاءكم عنا فإن وجدتموه موافقا للقرآن فخذوا به، و إن لم تجدوه موافقا فردوه، و إن اشتبه الأمر عندكم فقفوا عنده و ردوه إلينا حتى نشرح من ذلك ما شرح لنا»(4).

4 - الرواية الدالة «على بطلان ما لا يصدقه كتاب الله» مثل: قول الإمام الصادق «عليه السلام»: «ما جاءكم من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو باطل»(5).

5 - الرواية الدالة «على أن ما لا يوافق كتاب الله زخرف»، كقول الصادق «عليه السلام»: «كل شيء مردود إلى كتاب الله و السنة، و كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف»(6).

ص: 262


1- بصائر الدرجات 26/544.
2- المحاسن 145/235:1، بحار الأنوار 43/243:2.
3- الكافي 4/222:2، بحار الأنوار 21/73:72.
4- أمالي الطوسي: 231 /ذيل ح 410، بحار الأنوار 239:2 /ذيل ح 21.
5- المحاسن 229/221:1، بحار الأنوار 38/242:2.
6- المحاسن 228/220:1، بحار الأنوار 37/242:2.

أو على أن ما لا يوافق كتاب الله زخرف، أو على النهي عن قبول حديث إلا ما وافق الكتاب أو السنة، إلى غير ذلك (1).

و الإجماع المحكي عن السيد (2) في مواضع من كلامه، بل (3) حكي عنه: أنه جعله 6 - الرواية الدالة «على النهي عن قبول حديث إلا ما وافق الكتاب أو السنة»، مثل صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله «عليه السلام»: «لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق الكتاب و السنة، أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة، فإن المغيرة بن سعيد «لعنه الله» دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها، فاتقوا الله و لا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا و سنة نبينا»(1).

=============

(1) كالأخبار الآمرة بطرح ما خالف كتاب الله و سنة نبيه، و الأخبار بهذا المضمون كثيرة جدا.

و حاصل الكلام في المقام: أن هذه الروايات بألسنتها المتشتتة تنفي اعتبار خبر الواحد المجرد عن أحد القيود المزبورة فيها من وجود شاهد أو شاهدين من كتاب الله أو غيرهما، فإن الرد كناية عن عدم الحجية.

قال الشيخ الأنصاري في تقريب الاستدلال بالروايات المتقدمة: - «و المراد من المخالفة للكتاب في تلك الأخبار الناهية عن الأخذ بمخالفة الكتاب و السنة ليس هي المخالفة على وجه التباين الكلي؛ بحيث يتعذر أو يتعسر الجمع؛ إذ لا يصدر من الكذابين عليهم «عليهم السلام» ما يباين الكتاب و السنة كلية؛ إذ لا يصدقهم أحد في ذلك، فما كان يصدر عن الكذابين من الكذب لم يكن إلا نظير ما كان يرد من الأئمة «عليهم السلام» في مخالفة ظواهر الكتاب و السنة». راجع «دروس في الرسائل، ج 1، ص 445».

(2) أما الإجماع فقد ادعاه السيد المرتضى «قدس سره» في مواضع من كلامه حيث قال: على ما حكي عنه: إن أصحابنا لا يعملون بخبر الواحد - إلى أن قال - إن علماء الشيعة الإمامية يذهبون إلى إن أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشريعة، و لا التعويل عليها، و أنها ليست بحجة؛ بل جعل العمل بخبر الواحد بمنزلة العمل بالقياس، حيث يكون ترك العمل به معروفا من مذهب الإمامية؛ كمعروفية ترك العمل بالقياس عندهم(2).

(3) إضراب عن حكاية الإجماع، و الغرض جعل بطلان العمل بخبر الواحد فوق كونه إجماعيا؛ بل من المسلمات.

ص: 263


1- اختيار معرفة الرجال 401/489:2، بحار الأنوار 62/249:2.
2- انظر جواب المسائل التبانيات: رسائل المرتضى 44:1، أيضا حكاه في معالم الدين، 194.

بمنزلة القياس، في كون تركه معروفا من مذهب الشيعة.

و الجواب: أما عن الآيات (1): فبأن الظاهر منها أو المتيقن من إطلاقاتها هو: اتباع غير العلم في الأصول الاعتقادية؛ لا ما يعم الفروع الشرعية. و لو سلّم عمومها لها؛ فهي مخصصة بالأدلة الآتية على اعتبار الأخبار.

و أما عن الروايات (2): فبأن الاستدلال بها خال عن السداد، فإنها أخبار آحاد.

=============

(1) قد أجاب المصنف «قدس سره» عن الاستدلال بالأدلة الثلاثة: و أما عن الاستدلال بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم: فقد أجاب بوجوه ثلاثة:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «فبأن الظاهر». الثاني: ما أشار إليه بقوله: «أو المتيقن من إطلاقاتها». و الثالث: ما أشار إليه بقوله: «و لو سلم عمومها».

أما الوجه الأول: فحاصله: أن ظاهر الآيات الناهية بقرينة المورد هو اختصاص النهي عن اتباع غير العلم بأصول الدين و الأمور الاعتقادية، فإن قوله تعالى - في مقام ذمّ الكفار: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ - ورد عقيب قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ اَلْمَلاٰئِكَةَ تَسْمِيَةَ اَلْأُنْثىٰ * وَ مٰا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ (1) إلى قوله تعالى:

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنَّ اَلظَّنَّ لاٰ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً (2) . هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الوجوه الثلاثة.

و أما الوجه الثاني: فحاصله: أن المورد إن لم يكن قرينة موجبة لظهور الآيات في الاختصاص بأصول الدين؛ فلا أقل من كونه موجبا لإجمالها من باب احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية، فلا بد حينئذ: من الأخذ بالقدر المتيقن من إطلاقها، و هو خصوص أصول الدين، فالآيات الناهية أجنبية عن محل الكلام، و هو حجية الظن في الأحكام الفرعية.

و أما الوجه الثالث: فحاصله: أنه - بعد تسليم عمومها للفروع، و بعد عدم كون موردها أعني: أصول الدين قرينة موجبة لظهورها في الاختصاص بأصول الدين، و لا موجبة لإجمالها - يمكن أن يقال: إنّ ما دلّ على حجّية خبر الواحد أخص من تلك الآيات فيخصص به عموم الآيات، فيخرج خبر الواحد في الفروع عن عموم الآيات الناهية بالتخصيص، و لازم ذلك: عدم حجية خبر الواحد في أصول الدين بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم.

(2)

قد أجاب المصنف عن الاستدلال بالروايات بوجوه:

ص: 264


1- النجم: 27 و جزء من 28.
2- النجم: 28.

الأول: أنها أخبار آحاد، فالاستدلال بها على عدم حجية أخبار الآحاد ليس إلا من باب المصادرة بالمطلوب، و هو جعل نفس المدعى دليلا.

الثاني: أن الاستدلال بها بعد فرض كونها أخبار الآحاد مستلزم للمحال، و هو الاستدلال بهذه الروايات على عدم حجية أخبار الآحاد يستلزم عدم حجية نفسها، فيلزم من وجودها عدمها، و ما يلزم من وجوده عدمه محال و باطل.

الثالث: أن هذه الأخبار ليست حجة، لا عند المثبتين و لا عند النافين. و أما عدم حجيتها عند المثبتين فلأنهم يرون حجية أخبار الآحاد، فلا بد لهم من القول بعدم حجية أخبار الآحاد الدالة على عدم حجية أخبار الآحاد.

و أما عدم حجيتها عند القائلين بعدم حجية أخبار الآحاد: فواضح؛ لأنهم لا يقولون بحجية أخبار الآحاد، فكيف يستدلون بها على عدم حجية أخبار الآحاد؟

الرابع: أن الأخبار المذكورة على اختلاف مضامينها «هي بين ما لا يقبل التخصيص»، مثل: قول المعصوم «عليه السلام»: «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف»، أو «كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف»، أو «ما جاءكم من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو باطل»، أو «ما جاءكم عني يخالف كتاب الله فلم أقله».

«و بين ما يقبل التخصيص»، مثل: قوله «عليه السلام»: «و ما لم تعلموه فردوه إلينا»، أو «إذا جاءكم عنا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به؛ و إلا فقفوا عنده حتى يتبين لكم»، أو «لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق الكتاب و السنة».

إذا عرفت كون الأخبار المذكورة على طائفتين فاعلم: أن الطائفة الأولى يجب حملها على ما خالف نص الكتاب؛ إذ قد علم بصدور كثير من الأخبار المخالفة لظواهر الكتاب عن الأئمة «عليهم السلام».

و أما الطائفة الثانية القابلة للتخصيص: فهي محمولة على خبر غير الثقة المأمون عن الكذب، جمعا بين هذه الطائفة من الأخبار، و بين ما سيأتي من الأخبار المتواترة الدالة على حجية قول الثقة المأمون عن الكذب، من غير تقييد فيها بشيء مع ورودها في مقام البيان فانتظر.

و أن اعتبار العلم بأنه قولهم «عليهم السلام»، أو اعتبار موافقة الكتاب و السنة إنما هو في ظرف عدم كون الراوي ثقة مأمونا على الدين و الدنيا؛ كزرارة و محمد بن مسلم.

ص: 265

لا يقال (1): إنها و إن لم تكن متواترة لفظا و لا معنى؛ إلا إنها متواترة إجمالا؛ للعلم الإجمالي بصدور بعضها لا محالة.

=============

(1) المقصود من هذا الإشكال هو: الرد على ما ادعاه المصنف من عدم جواز الاستدلال النافين بالأخبار المذكورة، المانعة عن العمل بأخبار الآحاد، نظرا إلى كونها أخبار آحاد.

و حاصل الرد: أن مجموع تلك الروايات؛ و إن لم تكن متواترة لفظا و لا معنى لعدم تطابقها على لفظ و لا على معنى، و لكنها متواترة إجمالا بمعنى: حصول العلم بصدور بعض هذه الأخبار من المعصوم «عليه السلام».

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين أقسام التواتر.

و حاصل الفرق:

أن التواتر اللفظي: عبارة عن إخبار جماعة بلفظ واحد عن واقعة واحدة يوجب حصول العلم مثل قول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم»: «إنما الأعمال بالنيات».

التواتر المعنوي: عبارة عن إخبار جماعة بألفاظ مختلفة، مع اشتمال كل منها على معنى مشترك بينها، سواء كان ذلك المعنى المشترك مدلولا عليه بالدلالة المطابقية كالإخبار بأن «الهرة طاهرة»، أو «أنها نظيفة»، أو «السنور نظيف»، و هكذا حيث إن المتواتر في كل قضية هو معناها المطابقي أعني: طهارة الهرة.

أم بالدلالة الالتزامية كالأخبار الواردة في غزوات مولانا أمير المؤمنين «عليه السلام» و حروبه، فإن كل واحد من تلك الحكايات خبر واحد؛ لكن اللازم المترتب على مجموعها و هي شجاعته «عليه السلام» متواتر بالتواتر المعنوي.

التواتر الإجمالي: عبارة عن العلم بصدور بعض الروايات عن المعصوم «عليه السلام»، و استحالة أن يكون كلها كاذبة عادة، و الضابط في التواتر الإجمالي: أن يؤخذ بأخص الأخبار التي يقطع بصدور البعض في جملتها ليتوافق عليه الكل.

فالمتحصل: أن التواتر الإجمالي هو صدور جملة من الأخبار، مع اختلافها عموما و خصوصا، و العلم إجمالا بصدور بعضها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الأخبار المتقدمة و إن لم ينطبق عليها حد التواتر اللفظي و لا المعنوي؛ و لكن تندرج في المتواتر الإجمالي للعلم بصدور بعضها، فيثبت بمجموعها ما هو الجامع بين الكل، و هو ما هو أخص مضمونا؛ كعنوان المخالف للكتاب الذي تضمنه جميع الطوائف المتقدمة، فليست تلك الأخبار بالنسبة إلى هذا القدر

ص: 266

فإنه يقال: إنها و إن كانت كذلك (1)؛ إلا إنها لا تفيد إلا فيما توافقت عليه، و هو الجامع أخبارا آحادا، حتى يتجه إشكال إثبات عدم حجية خبر الواحد بخبر الواحد، و عليه: فالمقام ليس من قبيل إنكار حجية خبر الواحد بخبر الواحد؛ بل من باب إنكار حجية ما لا يفيد إلا الظن بما يفيد العلم.

=============

قوله: «للعلم الإجمالي» تعليل لقوله: «أنها متواترة إجمالا».

(1) أي: متواترة إجمالا.

توضيح ما أفاده المصنف في الجواب عن استدلال المنكرين لحجية خبر الواحد يتوقف على مقدمة، و هي: أن مقصود المنكرين تارة: يمكن على نحو السلب الكلي أي:

ليس شيء من خبر الواحد بحجة، و أخرى: يمكن على نحو السلب الجزئي أي: بعض خبر الواحد ليس بحجة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن مقصود المنكرين هو إثبات السلب الكلي لا السلب الجزئي، فحينئذ يقال: إن إشكال كونها أخبارا آحادا و إن كان مندفعا يعني: ليس الاستدلال بها على عدم حجية خبر الواحد من الاستدلال بأخبار الآحاد حتى يقال بأنه لا يجوز الاستدلال بأخبار الآحاد على عدم حجية خبر الواحد؛ إلا إنها لا تفيد المنع عن حجية مطلق خبر الواحد على نحو السلب الكلي، كما هو مراد المنكرين فلا يثبت مراد المنكرين؛ إذ مضمون هذه الأخبار أخص من مدعاهم، فيكون دليلهم أخص من مدعاهم؛ لأن مقتضى العلم الإجمالي بصدور بعضها: هو الأخذ بالمتيقن منها، و هو أخصها مضمونا، و هو المخالف للكتاب و السنة معا. و هذا لا يضر بمدعى المثبتين الذي هو اعتبار خبر الواحد في الجملة، أي: بنحو الإيجاب الجزئي، فيكفي لهم القول بحجية ما عدا المخالف للكتاب و السنة، فالالتزام بعدم حجية خبر الواحد المخالف للكتاب و السنة ليس بضائر؛ إذ لا منافاة بين ما دل على عدم حجية خبر الواحد على نحو السلب الجزئي، و بين ما دل من الروايات على حجية خبر الواحد بنحو الإيجاب الجزئي.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

و ضمير «عليه» راجع إلى الموصول في «فيما توافقت» المراد به الخبر المخالف للكتاب و السنة معا؛ إذ هو الذي توافقت الأخبار المتقدمة على عدم حجيته بنحو السلب الجزئي.

«و هو غير مفيد» أي: و ما توافقت الأخبار عليه غير مفيد في إثبات المدعى، و هو عدم حجية أخبار الآحاد مطلقا، و قد عرفت وجه عدم الفائدة، و هو كون الدليل أخص من المدعى.

ص: 267

غير مفيد في إثبات السلب كليا، كما هو محل الكلام و مورد النقض و الإبرام، و إنما تفيد عدم حجية الخبر المخالف للكتاب و السنة، و الالتزام به (1) ليس بضائر؛ بل لا محيص عنه (2) في مقام المعارضة.

و أما عن الإجماع (3): فبأن المحصل منه غير حاصل، و المنقول منه للاستدلال غير «كما هو محل الكلام»، يعني: كما أن السلب كليا محل الكلام و مورد البحث.

=============

(1) أي: و الالتزام بعدم حجية الخبر المخالف للكتاب و السنة ليس بضائر؛ لما عرفت:

من عدم المنافاة بين ما دل على عدم الحجية بنحو السلب الجزئي، و بين ما دل من الروايات على الحجية بنحو الإيجاب الجزئي.

(2) أي: لا محيص عن عدم حجية الخبر المخالف للكتاب و السنة عند المعارضة.

يعني: أنه لا بد للقائل بحجية خبر الواحد من الالتزام أيضا بعدم حجية الخبر المخالف للكتاب و السنة في صورة التعارض؛ لما سيأتي في باب التعادل و الترجيح من تسالمهم على تقديم الخبر الموافق للكتاب و طرح المخالف له، و عليه: فطرح الخبر المخالف للكتاب عند التعارض أمر مفروغ عنه، سواء قلنا بحجية خبر الواحد في الجملة أم لم نقل، و قد اتضح وجه الإضراب عن قوله: «و الالتزام به ليس بضائر»، و أن وجهه تسالمهم على ذلك في باب التعارض، فإنه مما لا محيص عنه هناك.

فالمتحصل من الجميع: أن الالتزام بالتواتر الإجمالي في الأخبار المشار إليها، الدالة على عدم حجية خبر الواحد غير قادح بحجيته في الجملة.

(3)

و قد أجاب عن دعوى الإجماع على عدم حجية خبر الواحد بوجوه:

الوجه الأول: ما أشار إليه بقوله: «فبأن المحصل...» الخ.

و حاصل الكلام في هذا الوجه: أن الإجماع المدعى إما محصل و إما منقول.

أما المحصل: فغير حاصل، لوجهين: الأول: أنه يمتنع تحصيل الإجماع مع مخالفة جمع من الأساطين.

الثاني: أنه بعد فرض تحقق الإجماع لا يمكن الاستناد إليه؛ لاحتمال استناد المجمعين إلى الوجوه المتقدمة المستدل بها على عدم حجية خبر الواحد؛ إذ الإجماع حينئذ يصير مدركيا و لو احتمالا، و الإجماع المدركي لا يكون حجة.

و أما الإجماع المنقول: فلا يصلح للاستدلال به في شيء من المقامات لعدم حجيته رأسا هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «خصوصا في المسألة»، و هذا إشكال على خصوص

ص: 268

قابل، خصوصا في المسألة، كما يظهر وجهه (1) للمتأمل. مع أنه (2) معارض بمثله، و موهون بذهاب المشهور إلى خلافه.

و قد استدل للمشهور بالأدلة الأربعة:

=============

الإجماع المنقول، بتقريب أنه لا يمكن الالتزام بحجيته في خصوص المقام لو سلمنا حجيته في بعض المقامات؛ و ذلك للزوم المحال على كلا تقديري حجية خبر الواحد و عدم حجيته.

أما على تقدير عدم حجية خبر الواحد: فواضح؛ لأن هذا الإجماع المنقول به أيضا من أفراده، فلا يكون حجة؛ إذ البناء على عدم حجية خبر الواحد معناه الالتزام بعدم حجية الإجماع المنقول به أيضا، فكيف يثبت هو عدم حجية خبر الواحد؟!

و بعبارة أخرى: إثبات عدم حجية خبر الواحد بالإجماع المنقول به - على هذا التقدير - تحصيل للحاصل و هو محال.

و أما على تقدير حجية خبر الواحد: فلأنه يلزم حينئذ حجية الإجماع المنقول؛ لكونه من أفراد خبر الواحد، فيثبت بحجيته حجية كل خبر واحد و منه نفس هذا الإجماع، فالتمسك به - على هذا التقدير - مبطل لنفسه و هو محال أيضا.

و المتحصل: أن التمسك بالإجماع المنقول بالخبر الواحد لإثبات عدم حجية خبر الواحد باطل على كل تقدير؛ لأنه مبطل لنفسه.

(1) أي: وجه عدم قابلية الإجماع للاستدلال به في خصوص المسألة، كما عرفت.

(2) أي: مع أن الإجماع الذي ادعاه السيد و غيره معارض بمثله، و هذا هو وجه الثالث من وجوه الجواب عن الإجماع، بتقريب: وهن هذا الإجماع بسبب معارضته بالإجماع الذي نقله الشيخ و جماعة على حجية خبر الواحد، فلو كان الإجماع المنقول حجة في نفسه لم يكن حجة في المقام لأجل المعارضة كما لا يخفى.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - تحرير محل النزاع و هو يتوقف على أمور:

الأول: بيان ما هو المراد من خبر الواحد.

الثاني: المقصود حجية خبر الواحد بنحو الموجبة الجزئية؛ لا الموجبة الكلية.

الثالث: بيان كيفية إدراج مسألة خبر الواحد في مسائل علم الأصول.

و أما الأمر الثاني: فلا يحتاج إلى البيان.

ص: 269

و أما المراد من خبر الواحد: فهو ما يكون مقابلا للمتواتر.

و أما كيفية إدراج مسألة خبر الواحد في علم الأصول: فهو واضح على ما هو مختار المصنف، من عدم حصر موضوع علم الأصول في الأدلة الأربعة.

2 - الأقوال في موضوع علم الأصول ثلاثة:

الأول: هو خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة، كما هو المشهور.

الثاني: هي ذوات الأدلة الأربعة، كما عليه صاحب الفصول.

الثالث: هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله، كما هو مختار المصنف «قدس سره»، فلا يرد عليه ما يرد على القولين.

فهناك إشكال مشترك بين القولين، و إشكال خاصّ على قول المشهور، و هو أن وصف الدليلية جزء الموضوع، فيكون البحث عنه داخلا في المبادئ لا في المسائل.

و أما الإشكال المشترك بينهما: فلأن البحث عن دليلية خبر الواحد على قول المشهور، و عن حجيته على قول صاحب الفصول بحث في الحقيقة عن أحوال حاكي السنة؛ لا عن أحوالها، فلا يكون البحث عن حجية خبر الواحد من المسائل الأصولية على كلا القولين.

و أما على قول المصنف: فيكون البحث عن حجية خبر الواحد من المسائل الأصولية كما عرفت.

3 - جواب الشيخ الأنصاري عن الإشكال الثاني على المشهور غير مفيد في دفع الإشكال المذكور عن المشهور.

فلا بد أولا: من بيان جواب الشيخ عن الإشكال المذكور و ثانيا: بيان ما يرد على جواب الأنصاري «قدس سره».

و خلاصة جواب الشيخ «قدس سره»: إن البحث عن حجية خبر الواحد بحث عن عوارض السنة؛ لأن معنى قولنا: «هل خبر الواحد حجة أم لا؟» هو «هل تثبت السنة به أم لا؟». و من المعلوم: أن ثبوت السنة به و عدم ثبوتها من حالات السنة و عوارضها، فيكون البحث عن حجية خبر الواحد من المسائل الأصولية، فلا يلزم خروج مسألة خبر الواحد من المسائل الأصولية.

و أما خلاصة الإيراد عليه: فلأن ضابط المسألة الأصولية هو: ما يكون محمول المسألة من عوارض موضوع علم الأصول، و موضوع علم الأصول هو السنة الواقعية، و البحث عن حجية خبر الواحد بمعنى: ثبوت السنة هو من عوارض السنة المشكوكة،

ص: 270

فلا يكون البحث عن حجية خبر الواحد بحثا عن عوارض موضوع علم الأصول، حتى يكون من مسائله. هذا أولا.

و ثانيا: أن الملاك الذي تعد به المسألة من مسائل العلم هو: كون نفس المبحوث عنه من عوارض الموضوع؛ لا أن يكون لازمه من العوارض، و المقام من قبيل اللازم، فإن المبحوث عنه هو حجية الخبر، و من لوازمها ثبوت السنة، فليس ثبوت السنة بالخبر نفس المبحوث عنه؛ بل لازمه، فلا يكون بحث حجية خبر الواحد من المسائل الأصولية.

4 - استدلال المنكرين لحجية أخبار الآحاد بالكتاب و السنة و الإجماع.

أما الكتاب: فقد استدلوا بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم، مثل: قوله تعالى:

وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و قوله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنَّ اَلظَّنَّ لاٰ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً .

و أما السنة: فهي طوائف من الأخبار تنفي اعتبار خبر الواحد بألسنتها المتشتتة، مثل رد ما لم يعلم أنه من قول الأئمة «عليهم السلام».

و مثل رد ما لم يكن عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله إليهم «عليهم السلام».

و مثل رد ما لم يكن موافقا للقرآن إليهم «عليهم السلام».

و مثل ما دل على بطلان ما لم يصدقه كتاب الله.

أو ما دل على أن ما لم يوافق كتاب الله زخرف.

و أما الإجماع: فقد ادعاه السيد المرتضى، حيث قال على ما حكي عنه: إن أصحابنا لا يعملون بخبر الواحد. إلى أن قال: بل جعل العمل بخبر الواحد بمنزلة العمل بالقياس، حيث يكون ترك العمل به معروفا.

5 - الجواب:

أما عن الآيات الناهية فبوجوه:

الأول: أن الظاهر منها بقرينة المورد هو اختصاص النهي عن العمل بغير العلم بأصول الدين لا الأحكام الفرعية.

الثاني: أن المتيقن من إطلاقها هو خصوص أصول الدين.

الثالث: أن عموم الآيات الناهية يخصص بما دل على حجية خبر الواحد، فيخرج خبر الواحد في الفروع عن عمومها بالتخصيص، و لازم ذلك: عدم حجية خبر الواحد في أصول الدين فقط.

ص: 271

و أما الجواب عن الاستدلال بالروايات: فأيضا بوجوه:

الأول: أنها أخبار آحاد، فالاستدلال بها على عدم حجية أخبار الآحاد ليس إلا من باب المصادرة بالمطلوب، و هو جعل المدعى دليلا.

الثاني: الاستدلال بها على عدم حجية أخبار الآحاد مستلزم للمحال؛ إذ الاستدلال بها على عدم حجية أخبار الآحاد يستلزم عدم حجية نفسها، فيلزم من وجودها عدمها، و ما يلزم من وجوده عدمه محال.

الثالث: أن ما لا يقبل التخصيص منها يحمل على ما يكون مخالفا لنص الكتاب، و ما يقبل التخصيص منها يحمل على خبر غير الثقة المأمون عن الكذب.

6 - و ما يقال: من أن الاستدلال بالأخبار المذكورة ليس من الاستدلال بأخبار الآحاد على عدم حجية أخبار الآحاد؛ بل من الاستدلال بالأخبار المتواترة؛ لأنها متواترة إجمالا، بمعنى: حصول العلم بصدور بعضها من المعصوم «عليه السلام»؛ مدفوع بأن كونها متواترة إجمالا لا يفي بما هو مقصود المنكرين من السلب الكلي أعني: «لا شيء من خبر الواحد بحجة»؛ بل ما يثبت بها هو السلب الجزئي أعني: «بعض خبر الواحد ليس بحجة»، مثل خبر الواحد المخالف للكتاب مثلا.

هذا لا يضر بما هو مدعى المثبتين، و هو اعتبار خبر الواحد بنحو الإيجاب الجزئي.

و أما الجواب عن الاستدلال بالإجماع: فالمحصل منه غير حاصل، و المنقول منه غير مقبول؛ لأنه لا يكون حجة.

و أما عدم حصول الإجماع المحصل: فلأجل مخالفة جمع من الأساطين، و أما عدم حجية الإجماع المنقول: فلأن الإجماع المنقول إذا كان مدركيا لا يكون حجة، و المقام من هذا القبيل؛ لاحتمال استناد المجمعين إلى الوجوه المتقدمة المستدل بها على عدم حجية خبر الواحد.

هذا مضافا إلى كونه موهونا؛ لأجل معارضته بمثله و هو الإجماع الذي نقله الشيخ و جماعة على حجية خبر الواحد.

7 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - بحث خبر الواحد من أهم المسائل الأصولية من دون إشكال أصلا.

2 - خبر الواحد حجة بنحو الموجبة الجزئية.

ص: 272

فصل في الآيات التي استدل بها:

فمنها: آية النبأ، قال الله «تبارك و تعالى»: إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا(1).

و يمكن تقريب الاستدلال بها من وجوه (1): أظهرها: أنه من جهة مفهوم الشرط، و أن

=============

فصل في الآيات التي استدل بها على حجية خبر الواحد

في آية النبأ

تقريب الاستدلال بآية النبأ على حجية خبر الواحد من طريق مفهوم الشرط

(1) منها: أن التبين المأمور به بقوله تعالى: فَتَبَيَّنُوا هو التبين العرفي المفيد للاطمئنان؛ و إن لم يفد القطع الوجداني بالواقع، و من المعلوم: أن خبر العادل - بما أنه خبر العادل - مفيد للاطمئنان، و معه فلا يبقى موضوع لوجوب التبين عرفا بالنسبة إليه، فكأنه قيل: «إن أخبركم من لا يفيد قوله: الاطمئنان فَتَبَيَّنُوا »، فيكون مفهومه «إن أخبركم من يفيد قوله الاطمئنان - و هو خبر العادل - لم يجب التبين فيه»، فالآية المباركة حينئذ: تكون في مقام وجوب التبين في خبر الفاسق، لأجل تحصيل الاطمئنان بصدق خبره، و عدم وجوبه في خبر العادل؛ لأن الاطمئنان بصدق خبره حاصل، فلا موضوع لوجوب التبين في خبر العادل؛ بل هو تحصيل ما هو حاصل.

و منها: من جهة التعليل في الآية الشريفة بخوف الوقوع في الندم، فإنه يقتضي اعتبار خبر العادل؛ إذ لا يترتب الندم إلا على ما لا يحسن ارتكابه عند العقلاء، و منه الاعتماد على خبر الفاسق بدون التبين.

و هذا بخلاف الاعتماد على خبر العادل بدونه، فإنه ليس مما لا يحسن ارتكابه، حتى إذا انكشف خطؤه؛ إذ لا يزيد خبر العادل على العلم الذي يعتمد عليه العالم، ثم ينكشف خطؤه، فكأنه قيل: «إن أخبركم من لا يوجب الاعتماد على خبره خوف الوقوع في الندم - و هو العادل - فلا يجب التبين عنه».

و منها: من جهة مفهوم الوصف على القول به، بأن يقال: إن تعليق وجوب التبين على كون الخبر نبأ الجائي الفاسق يقتضي انتفاءه عند انتفاء وصف الجائي، أعني: فسقه،

ص: 273


1- الحجرات: 6.

فكأنه قيل: «خبر الجائي الفاسق يجب التبين عنه»، فيكون مفهومه: «أن خبر الجائي غير الفاسق - هو العادل - لا يجب التبين عنه».

و منها: من جهة مفهوم الشرط. هذا ما أشار إليه بقوله: أظهرها أنه من جهة مفهوم الشرط.

و تركنا ما في الوجوه المذكورة من النقض و الإبرام رعاية للاختصار في المقام.

و قبل الخوض في بيان الاستدلال بمفهوم الشرط على حجية خبر الواحد ينبغي بيان أمرين:

أحدهما: بيان شأن نزول الآية.

و ثانيهما: بيان ما هو محل الكلام في مفهوم الشرط.

و أما الأمر الأول: ففي مجمع البيان قال الطبرسي فيه: نزلت الآية في الوليد بن عقبة، بعثه رسول الله «صلى الله عليه و آله و سلم» في جباية صدقات بني المصطلق، فخرجوا يتلقونه فرحا به - و كانت بينه و بينهم عداوة في الجاهلية - فظن أنهم هموا بقتله، فرجع إلى رسول الله «صلى الله عليه و آله و سلم» و قال: إنهم منعوا صدقاتهم - و كان الأمر بخلافه - فغضب رسول الله «صلى الله عليه و آله و سلم» و همّ أن يغزوهم، فنزلت الآية. ثم ذكر قولا آخر في شأن نزولها(1).

و أما الأمر الثاني - و هو بيان محل الكلام في مفهوم الشرط - فيتوقف على مقدمة و هي: بيان ضابط به يتميز ما يكون الشرط محققا للموضوع عما يكون من حالاته و أوصافه. و حاصله: أن القضايا الشرطية - مثل قولك: إن جاءك زيد فأكرمه، يشتمل على موضوع و هو: زيد، و شرط و هو: المجيء، و جزاء و هو: «أكرمه».

ثم الفرق بين الشرط المسوق لبيان تحقق الموضوع، و بين الشرط الذي يكون من أوصافه و حالاته هو أن الموضوع لو كان باقيا مع عدم الشرط و انتفائه - مثل: زيد في المثال المزبور - فالشرط يعد من حالات الموضوع و أوصافه، فهذه القضية الشرطية تعد من القضايا ذات المفهوم عند القائل بدلالتها عليه.

و أما إذا كان الموضوع غير باق لدى ارتفاع الشرط كما في قولك: «إن رزقت ولدا فاختنه»، فإن رزق الولد ليس شيئا زائدا وراء وجود الولد، فينعدم الولد بانعدامه، فالشرط

ص: 274


1- مجمع البيان 230:9.

حينئذ: يعد محققا للموضوع، فلا مفهوم للقضية الشرطية؛ لأن مفهومها قضية سالبة بانتفاء الموضوع.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل الكلام هي القضية الشرطية التي ليست مسوقة لبيان الموضوع.

و بعبارة أخرى: أن محل الكلام ما إذا كان تعليق الحكم على الشرط - في القضية الشرطية - شرعيا لا عقليا، كقوله: «إن رزقت ولدا فاختنه».

و كيف كان؛ فتقريب الاستدلال بآية النبأ على حجية خبر الواحد من طريق مفهوم الشرط يتوقف على مقدمة و هي: بيان بعض الوجوه و الاحتمالات في تقرير مفهوم الشرط في الآية الكريمة في مقام الثبوت.

الأول: أن يكون الموضوع هو النبأ المفروض وجوده على نحو القضية الحقيقية، كما هو ظاهر كلام المصنف حيث قال: «و إن تعليق الحكم بإيجاب التبين عن النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق»، فالموضوع هو النبأ الذي جيء به، و الشرط مجيء الفاسق به، و الجزاء وجوب التبين.

فيكون المعنى: النبأ المفروض وجوده «إن جاء به الفاسق فيتبين عنه». و مفهومه: «إن لم يجئ به الفاسق فلا يتبين عنه»، فالمفهوم يصدق على خبر العادل؛ لأنه خبر لم يجئ به الفاسق، فيجب العمل به من دون التبين عنه و هو المطلوب.

و بعبارة أخرى: إن الموضوع هو النبأ، و له حالتان:

إحداهما: كون الجائي به فاسقا.

و الأخرى: عدم كون الجائي به فاسقا.

و وجوب التبين حيث علق على إتيان الفاسق به ينتفي بانتفائه، فتكون القضية الشرطية ذات مفهوم؛ لكون تعليق الحكم على الشرط شرعيا لا عقليا.

الثاني: أن يكون الموضوع هو «الجائي بالنبإ»، فكأنه قيل: «الجائي بالنبإ إن كان فاسقا وجب التبين عن خبره»، و مفهومه: «إن لم يكن فاسقا فلا يجب التبين عنه».

الثالث: أن يكون الموضوع هو: «نبأ الفاسق» كما هو المشهور، فكأنه قيل: «إن جاءكم نبأ الفاسق فتبينوا»، و مفهومه: «إن لم يجئكم نبأ الفاسق فلا تبينوا»، ثم مجيء الخبر عبارة أخرى عن الإخبار لا أنه شيء آخر غير النبأ، فمعنى الآية الشريفة حينئذ: «إن أخبركم فاسق فتبينوا»، و مفهومه: «إن لم يخبركم فاسق فلا تبينوا».

ص: 275

تعليق الحكم بإيجاب التبين عن النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق، يقتضي انتفاءه عند انتفائه.

و لا يخفى: أنه على هذا التقرير لا يرد (1): أن الشرط في القضية لبيان تحقق إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا مفهوم للشرط على الاحتمال الثالث؛ لأن القضية الشرطية - على هذا الاحتمال - مسوقة لبيان تحقق الموضوع، فيكون انتفاء وجوب التبين لأجل انتفاء موضوعه و هو مجيء الفاسق بنبإ. هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.

=============

و أما في مقام الإثبات: فالظاهر من هذه الاحتمالات: هو الاحتمال الثالث - و هو الاحتمال الأخير - و ذلك لأن وقوع مجيء الفاسق موقع الفرض و التقدير فهو المعلق عليه لوقوعه تلو أداة الشرط.

و عليه: فتكون القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع، نظير «إن ركب الأمير فخذ ركابه»، و «إن أعطاك زيد درهما فتصدق به».

و أما على الاحتمال الأول - و هو مختار المصنف - فالقضية الشرطية ذات مفهوم، و لا يرد عليه ما قيل من أن الشرط في القضية لبيان تحقق الموضوع فلا مفهوم له، أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع.

(1) وجه عدم الورود: إن الموضوع - بناء على هذا التقرير - هو النبأ بما هو نبأ، و هو باق بعد انتفاء الشرط و هو مجيء الفاسق؛ لا إنه النبأ الذي جاء به الفاسق حتى يكون الشرط - أعني: مجيء الفاسق - جزء الموضوع و محققا له لينتفي الموضوع بانتفائه، و لا يثبت له مفهوم، أو يكون مفهومه قضية سالبة بانتفاء الموضوع. كما أشار إليه بقوله: «فلا مفهوم له أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع»، يعني: بعد أن كان الشرط مسوقا لبيان الموضوع، فلا يبقى للآية دلالة على المفهوم؛ لأن المفهوم عبارة عن نفي المحمول - هو الحكم - عن الموضوع المذكور في القضية إذا لم يتحقق الشرط مثلا، كنفي وجوب الإكرام عن زيد عند عدم تحقق الشرط - و هو المجيء - في قولنا: «إن جاء زيد وجب إكرامه»، الراجع على قولنا: «زيد واجب الإكرام إن جاء»، فإن مفهومه «زيد غير واجب الإكرام إن لم يجئ».

و على هذا: فالآية المباركة لا تدل على المفهوم؛ لأن الموضوع فيها خصوص نبأ الفاسق على الاحتمال الثالث - و هو منتف - لا طبيعة النبأ حتى يكون باقيا لتدل القضية الشرطية على المفهوم كما هو مختار المصنف.

ص: 276

الموضوع، فلا مفهوم له أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع. فافهم (1).

نعم (2)؛ لو كان الشرط هو نفس تحقق النبأ و مجيء الفاسق به: كانت (3) القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع.

مع أنه يمكن أن يقال: إن القضية و لو كانت مسوقة (4) لذلك؛ إلا إنها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبين في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي (5) انتفاء

=============

(1) لعله إشارة إلى أنه لو فرض كون الشرط مسوقا لتحقق الموضوع تعين أن لا يكون له مفهوم؛ لا الترديد بينه و بين أن يكون له مفهوم، و هو قضية سالبة بانتفاء الموضوع؛ لعدم انطباق ضابط المفهوم على السالبة بانتفاء الموضوع كما عرفت.

(2) استدراك على قوله: «لا يرد». و حاصله: - على في «منتهى الدراية، ج 4، ص 444» - أنه بناء على كون شرط وجوب التبين مؤلفا من النبأ و مجيء الفاسق به - كما عليه شيخنا الأعظم - يرد إشكال كون القضية مسوقة لبيان تحقق الموضوع، و أن مفهومه سالبة بانتفاء الموضوع، فلا يصلح للاستدلال بمفهومه على حجية خبر العادل؛ لأنه نظير:

«إن رزقت ولدا فاختنه» حيث إن عدم وجوب الختان لأجل عدم موضوعه - و هو الولد - فبناء على تقرير الشيخ «قدس سره» من تركب موضوع وجوب التبين من النبأ، و مجيء الفاسق به يكون الموضوع النبأ الذي جاء به الفاسق؛ لا مطلق النبأ حتى لا يجب التبين فيما إذا جاء به العادل، فإذا انتفى أحد جزأي الموضوع - و هو مجيء الفاسق به - انتفى الموضوع رأسا، فلا ينعقد للقضية مفهوم؛ لأنها حينئذ: من باب السالبة بانتفاء الموضوع؛ لانتفاء المركب بانتفاء أحد جزءيه، فعدم وجوب التبين يكون لعدم بقاء موضوعه.

(3) جواب «لو كان».

(4) يعني: مسوقة لبيان تحقق الموضوع. كما يقول الشيخ الأنصاري «قدس سره»؛ «إلا إنها» مع ذلك تفيد حجية خبر العادل بالمفهوم، فالغرض من هذا الكلام: إثبات المطلوب - أعني: حجية خبر العادل - حتى بناء على كون الشرط محققا للموضوع، بأن يقال: إن الشرط في القضية المسوقة لتحقق الموضوع يستفاد منه التعليق و الانحصار، و إن الموضوع المنحصر لوجوب التبين هو نبأ الفاسق، فينتفي عند انتفائه و وجود موضوع آخر و هو نبأ العادل، فإن القضية الشرطية في قوله تعالى: أَنْ جٰاءَكُمْ * «ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبين في النبأ الذي جاء به الفاسق». و معنى ذلك أنه ليس مجال للتبين إذا انتفى هذا الموضوع، و وجود موضوع آخر الذي هو نبأ العادل.

(5) أي: فيقتضي انحصار السبب - و هو الفسق - «انتفاء وجوب التبين عند انتفائه...» الخ.

ص: 277

وجوب التبين عند انتفائه و وجود موضوع آخر. فتدبر (1).

و لكنه يشكل (2): بأنه ليس لها هاهنا مفهوم، و لو سلّم أن أمثالها ظاهرة في المفهوم؛ لأن التعليل بإصابة القوم بالجهالة المشترك بين المفهوم و المنطوق يكون قرينة على أنه ليس لها مفهوم.

=============

(1) لعله إشارة إلى أن الظاهر من القضية التي سيقت لبيان تحقق الموضوع هو: كون الغرض بيان الموضوع فقط، فتكون القضية الشرطية التي سيقت لبيان تحقق الموضوع حينئذ بمنزلة الجملة اللقبية في عدم دلالتها على الانحصار أصلا.

و يمكن أن يكون إشارة إلى عدم انطباق ضابط المفهوم على القضية الشرطية المسوقة لبيان تحقق الموضوع؛ لأن المفهوم هو نقيض المنطوق، فلا بد أن يكون الجزاء و نقيضه ثابتين لنفس الموضوع المذكور في المنطوق، فلو كان نقيض الجزاء ثابتا لغير الموضوع المذكور في المنطوق لم يكن ذلك من المفهوم.

(2) مجمل الكلام في الإشكال قبل التفصيل: أن المفهوم في الآية الشريفة على تقدير ثبوته و إن كان دالا على حجية خبر العادل الغير المفيد للعلم؛ إلاّ إنه معارض لعموم التعليل - أعني: قوله تعالى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ - فإن مقتضى عموم التعليل عدم حجية الخبر، الذي لا يؤمن من الوقوع في الندم من العمل به و لو كان المخبر عادلا؛ لأن الجهالة بمعنى: عدم العلم بالواقع مشترك بين خبري العادل و الفاسق، و من المعلوم: أن عموم التعليل يقدم على المفهوم؛ لكونه أقوى منه و آبيا عن التخصيص و كونه منطوقا لا مفهوما.

و أما تفصيل الكلام فيه: فيتوقف على مقدمة و هي: أن الحكم إذا كان معللا بعلة:

كان يدور مدارها وجودا و عدما، فالعلة قد تعمم، كما أنها قد تخصص، ففي مثل قول الطبيب للمريض: «لا تأكل الرمان لأنه حامض» تعمم العلة، و تشمل غير الرمان، فلا يجوز أكل كل حامض رمانا كان أو غيره، و تخصّص: فيخرج الرمان الحلو، فهذه العلة كانت تخصص فيخرج الرمان الحلو، و تعمم فيدخل الحامض من غيره.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الله تعالى قد حكم في صدر الآية المباركة بوجوب التبين في خبر الفاسق، ثم علله باحتمال الوقوع في الندم، و هذا التعليل يجري في خبر العادل الغير المفيد للعلم، فيقتضي وجوب التبين فيه كخبر الفاسق، لما عرفت من: أن الحكم يدور مدار علته سعة و ضيقا، فالحكم بوجوب التبين يجري في خبر العادل لوجود علته فيه، فلا يكون حجة، و المفهوم الدال على الحجية يكون معارضا مع عموم التعليل،

ص: 278

و لا يخفى: أن الإشكال إنما يبتني على كون الجهالة (1) بمعنى عدم العلم، مع أن فيقدم عموم التعليل على المفهوم؛ لأن دلالته على عدم الحجية يكون بالمنطوق، و من المعلوم: أن المنطوق أقوى من المفهوم فيقدم عليه.

=============

قوله: «لأن التعليل بإصابة القوم...» الخ تعليل لقوله: «يشكل»، و تقريب للإشكال، و قد عرفت توضيح ذلك، فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة.

(1) غرض المصنف من هذا الكلام: هو دفع الإشكال المذكور، و إثبات المفهوم للآية، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الجهالة تارة: تكون بمعنى الجهل المقابل للعلم، و أخرى: تكون بمعنى السفاهة التي هي عبارة عن فعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن مبنى الإشكال المذكور على أن تكون الجهالة المذكورة في الآية بمعنى: عدم العلم كما هو مقتضى مادة الاشتقاق لغة كالجهل؛ إذ يكون عدم العلم مشتركا بين خبر العادل و الفاسق. و أما إذا كانت بمعنى السفاهة: فلا يرد الإشكال؛ لاختصاص التعليل حينئذ بخبر الفاسق؛ لأنه الذي يكون الاعتماد عليه بدون تبين عملا سفهيا؛ لاحتمال تعمده الكذب، و هذا بخلاف خبر العادل: فإن الاعتماد عليه لا يكون سفهيا؛ لعدم احتمال تعمده للكذب؛ بل نعلم بعدم تعمده له، فالركون إليه بلا تبين لا يكون سفهيا.

و كيف كان؛ فالجهالة في الآية و إن كانت ظاهرة بمعنى: عدم العلم؛ لأنها من الجهل المقابل للعلم إلا إنها في الآية لم تكن بمعنى الجهل؛ بل تكون بمعنى: السفاهة، و هي فعل ما لا يجوز فعله عند العقلاء، فالجهالة حقيقة عرفا في السفاهة، و من المعلوم: تقدم المعنى العرفي على اللغوي عند الدوران بينهما، و الشاهد على كون المراد من الجهالة السفاهة هو: قوله تعالى: فَتُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ ؛ لأن الوقوع في الندم إنما يكون في العمل عن سفاهة لا في العمل عن جهل، فإن أعمال الناس يوميا يكون أكثرها عن جهل و لا ندامة فيها، فالتعليل لا يشمل خبر العادل؛ لأن العمل بخبره ليس عن سفاهة، فيرتفع التعارض بين المفهوم و التعليل.

فالمتحصل: أن مرجع مفاد الآية إلى أن العمل بخبر الفاسق من دون تبين يكون من أفعال السفهاء، فيجب التبين فيه؛ لئلا يكون العمل به عن سفاهة، فيكون المفهوم: أن العمل بخبر العادل لا يعد عند العقلاء عملا عن السفاهة؛ و إن لم يتبين أصلا، فيكون حجة من دون التبين بمقتضى المفهوم.

ص: 279

دعوى أنها (1) بمعنى السفاهة، و فعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة.

ثم إنه لو سلم تمامية دلالة الآية على حجية خبر العدل (2): ربما أشكل شمول مثلها (3) للروايات الحاكية لقول الإمام «عليه السلام» بواسطة (4) أو وسائط، فإنه

=============

(1) أي: مع أن دعوى أن الجهالة بمعنى السفاهة غير بعيدة.

(2) أي: بناء على ما هو مختار المصنف «قدس سره» من أن موضوع وجوب التبين هو نفس النبأ - لا نبأ الفاسق - حتى يصح الاستدلال بمفهوم الشرط على حجية خبر العادل.

الإشكال على عدم شمول الآية للروايات مع الواسطة

(3) أي: مثل آية النبأ من أدلة حجية خبر الواحد، و هذا إشكال آخر على الاستدلال بجميع أدلة حجية خبر الواحد، من دون اختصاص له بآية النبأ، و قد أشار إلى عدم اختصاص هذا الإشكال بآية النبأ بقوله: «مثلها».

(4) إشارة إلى مورد الإشكال.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي إن الخبر على قسمين:

1 - بلا واسطة، كما إذا أخبر الصفار عن الإمام العسكري «عليه السلام» أنه قال بوجوب نفقة الزوجة على الزوج.

2 - بواسطة، من دون فرق بين الواسطة الواحدة أو الوسائط المتعددة، كما أخبر محمد بن مسلم بأن زرارة روى عن الإمام الصادق «عليه السلام» حرمة لحم أرنب مثلا، و مثال الوسائط كما إذا أخبر الشيخ الطوسي عن الشيخ المفيد، و هو أخبر عن الشيخ الصدوق، و هو يروي عن الصفار، و الصفار عن المعصوم «عليه السلام» يروى وجوب نفقة الزوجة على الزوج.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المقصود من حجية خبر الواحد هو إثبات السنة بالأخبار التي وصلت إلينا عن الأئمة المعصومين «عليهم السلام» بواسطة أو وسائط؛ كالأخبار المتداولة بيننا، فإنها أخبار عن الحكم الصادر عن الإمام «عليه السلام» بوسائط عديدة.

و كيف كان؛ فيمكن تقرير الإشكال على الخبر مع الواسطة بوجوه، قد ذكرها الشيخ الأنصاري في الرسائل فراجع «دروس في الرسائل، ج 2، ص 42-43».

و قد أشار المصنف إلى وجهين منها، و هما لزوم اتحاد الحكم و الموضوع، و كون الحكم مثبتا لموضوعه.

و توضيح الوجه الأول يتوقف على مقدمة و هي: أن قصارى مفاد أدلة الحجية على

ص: 280

كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق الذي ليس إلا بمعنى وجوب ترتيب ما للمخبر به اختلافها هو: قضية واحدة، و هي «صدق العادل»، ثم هذه القضية تنحل إلى حكم و هو: الوجوب، و موضوع و هو: تصديق العادل، و لا إشكال فيما إذا كان خبر العادل بلا واسطة، و يترتب عليه أثر شرعي؛ إذ معنى وجوب التصديق هو: ترتب الأثر الشرعي الثابت في المرتبة السابقة عن هذا الحكم على المخبر به بخبر العادل؛ إذ لو لم يكن له أثر شرعي كذلك كانت حجيته لغوا، فإذا أخبر العادل مثلا بعدالة زيد يترتب على المخبر به و هو عدالة زيد الأثر الشرعي، الثابت قبل الإخبار بالعدالة، و هو جواز الاقتداء به، و صحة الطلاق عنده، فوجوب تصديق العادل في إخباره عن عدالة زيد لا بد أن يكون بلحاظ الأثر الشرعي الثابت شرعا، مع قطع النظر عن الحكم بوجوب التصديق؛ كما في المثال المذكور.

=============

و حينئذ: فوجوب التصديق المستفاد من دليل حجية الخبر حكم و المخبر به و هو عدالة زيد موضوع، و جواز الاقتداء أو الطلاق عنده أثر شرعي، فلا يرد عليه إشكال أصلا؛ إذ لا يلزم اتحاد الحكم مع الأثر، و لا اتحاد الحكم و الموضوع. إذ في المثال المذكور: وجوب التصديق المستفاد من دليل حجية الخبر حكم، و المخبر به و هو عدالة زيد، و أثره الشرعي و هو جوار الاقتداء به موضوع، و من المعلوم: لزوم تغاير كل حكم مع موضوعه، و عدم إمكان اتحادهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه إذا لم يكن في مورد أثر شرعي للخبر إلا نفس وجوب التصديق الثابت بدليل حجية الخبر - كما هو الحال في الخبر إذا كان مع واسطة أو وسائط - لم يمكن ترتيب هذا الأثر على وجوب تصديق المخبر؛ لأنه يلزم اتحاد الحكم و الموضوع؛ إذ يلزم أن يكون وجوب التصديق بلحاظ وجوب التصديق، و هذا معنى اتحاد الحكم و الموضوع، مع أنه يعتبر تغايرهما كما عرفت.

و كيف كان؛ فيلزم اتحاد الحكم و الموضوع فيما إذا كان الخبر مع الواسطة أو الوسائط، و ذلك إذا أخبر الشيخ عن المفيد، و المفيد عن الصدوق، و الصدوق عن الصفار، و الصفار عن الإمام «عليه السلام» لم يترتب على المخبر به أعني: إخبار المفيد سوى وجوب التصديق؛ لأن نفس السنة - و هو قول الإمام «عليه السلام» - أثر للخبر الأخير الذي يكون بلا واسطة و هو خبر الصفار مثلا، و حينئذ: فوجوب تصديق خبر الشيخ بمقتضى أدلة الحجية حكم، و نفس خبر الشيخ و المخبر به و هو خبر المفيد و أثره الشرعي - و هو وجوب تصديقه - موضوع؛ إذ المفروض: وجوب تصديق خبر المفيد أيضا بمقتضى

ص: 281

أدلة الحجية، و أنه لا أثر لوجوب تصديق الشيخ سوى تصديق المفيد، فيلزم اتحاد الحكم و الموضوع؛ إذ موضوع الحكم هو: تصديق العادل المقيد بكونه بلحاظ أثر، و هو ليس إلا وجوب التصديق، فيلزم ما ذكرنا من اتحاد الحكم و الموضوع و هو باطل؛ بل محال؛ لكونه مستلزما لتقدم الحكم على الموضوع المستلزم لتقدم الشيء على نفسه. هذا تمام الكلام في الإشكال الأول.

الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «إنه لا مجال بعد اندفاع الإشكال بذلك للإشكال...» الخ، و هو لزوم إيجاد الموضوع بالحكم مع أنه لا بد من وجود الموضوع قبل الحكم؛ لئلا يلزم تقدم الحكم على الموضوع.

توضيح ذلك من طريق الاستدلال بالقياس الاستثنائي بأن يقال: لو شمل دليل الحجية - أي: صدق العادل - الواسطة لزم تقدم الحكم على موضوعه، و التالي باطل، فالمقدم مثله.

بيان الملازمة: أن خبر المفيد في المثال المذكور يتحقق بسبب وجوب تصديق خبر الشيخ عن المفيد، ثم يصير خبر المفيد عن الصدوق موضوعا لوجوب التصديق بعد تحققه به، فيكون الحكم سببا و محققا لموضوعه، فيلزم كونه متقدما على الموضوع، حتى يكون سببا لتحققه و هو نفس تقدم الحكم على الموضوع، و هو تال باطل، و بطلانه لا يحتاج إلى بيان، إذ الحكم يجب أن يكون متأخرا عن الموضوع تأخر المعلول عن علته، فيكون تقدمه على الموضوع مستلزما لتقدم الشيء على نفسه و هو محال باطل.

و هناك وجه ثالث، و هو: لزوم اتحاد الحكم و الأثر؛ إذا لو شمل دليل الحجية خبر الشيخ عن المفيد لكان معناه: وجوب ترتب الأثر على ما أخبر به الشيخ و هو خبر المفيد، و المفروض: أنه ليس هناك أثر سوى وجوب تصديق المفيد، فيلزم اتحاد الحكم و الأثر و هو باطل؛ لما عرفت من أن الأثر الشرعي يجب أن يكون موجودا قبل الحكم بوجوب التصديق؛ ليكون الحكم لأجل ذلك الأثر، و ليس هناك أثر شرعي في سلسلة الرواة؛ إلا للخبر الأخير و هو خبر الصفار عن الإمام «عليه السلام» بوجوب شيء أو حرمته.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى «الدراية».

قوله: «بواسطة» خطأ، و الصواب أن يقال: «بواسطتين أو وسائط»؛ و ذلك لأن مناط الإشكال في أخبار الوسائط، و هو عدم الأثر الذي هو موضوع دليل الاعتبار - مفقود في خبر الواسطة كزرارة الراوي عن الإمام «عليه السلام»؛ لأنه إذا نقل زرارة كلامه «عليه

ص: 282

من الأثر الشرعي بلحاظ نفس هذا الوجوب، فيما (1) كان المخبر به خبر العدل أو عدالة المخبر؟ لأنه (2) و إن كان أثرا شرعيا لهما، إلا إنه (3) بنفس الحكم في مثل الآية بوجوب تصديق خبر العدل حسب الفرض.

نعم (4)؛ لو أنشئ هذا الحكم ثانيا؛ فلا بأس في أن يكون بلحاظه أيضا، حيث إنه السلام» للصفار مثلا، فيكون لخبر زرارة أثر شرعي، و هو قول الإمام «عليه السلام»، فيشمله دليل اعتبار خبر الواحد بلا تكلف، كسائر الموضوعات ذوات الآثار.

=============

إلا أن يقال: إن المراد هو الواسطة بين الراوي عن الإمام «عليه السلام» و بيننا؛ لا بينه «عليه السلام» و بيننا.

(1) متعلق بالحكم في قوله: «كيف يمكن الحكم ؟» أي: كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق بلحاظ نفس هذا الوجوب في مورد يكون المخبر به خبر العدل أو عدالة الراوي ؟

و بعبارة أخرى: إذا كان المخبر به خبر عدل كالمفيد، أو عدالة مخبر، فلا يمكن ترتيب هذا الأثر عليه، بمعنى: الحكم بوجوب تصديق هذا الخبر - الثابت هذا الوجوب بنفس دليل وجوب تصديق الخبر - و ذلك كخبر الصدوق الثابت بقول المفيد للشيخ، حيث قال الشيخ: «حدثني المفيد»، فإن المخبر به هو قول المفيد: «حدثني الصدوق»، و هذا خبر عدل لا أثر له إلا وجوب التصديق الثابت، هذا الوجوب بنفس دليل وجوب تصديق المخبر و هو الشيخ «قدس سره».

«أو عدالة المخبر»، كما إذا أخبر معلوم العدالة بعدالة بعض المؤرخين كصاحب ناسخ التواريخ، أو أبي مخنف أو نحوهما، فإن عدالة أمثالهما لا أثر لها إلا وجوب التصديق و البناء على صدقهم في نقلهم.

(2) أي: لأن وجوب تصديق خبر العدل و إن كان أثرا شرعيا لخبر العدل و عدالة المخبر، إلا إنه ثابت بنفس الحكم بوجوب تصديق خبر العدل.

(3) أي: إلا إن وجوب التصديق ثابت بسبب نفس الحكم بوجوب تصديق خبر العدل، المستفاد من أدلة الحجية.

و المتحصل: أنه يلزم أن يكون وجوب التصديق موضوعا و حكما، و هذا هو معنى اتحاد الحكم و الموضوع.

(4) استدراك على لزوم اتحاد الحكم و الموضوع.

و حاصل الاستدراك: أن محذور وحدة الحكم و الموضوع يندفع فيما إذا تعدد

ص: 283

صار أثرا بجعل آخر، فلا يلزم اتحاد الحكم و الموضوع، بخلاف ما إذا لم يكن هناك إلا جعل واحد، فتدبر.

=============

الإنشاء، حيث إن وجوب التصديق الذي أنشئ أولا يصير موضوعا للوجوب المنشأ ثانيا، فلا يلزم اتحاد الحكم و الموضوع. نعم، يلزم اتحادهما نوعا و هو غير قادح.

و لإثبات اختلاف الحكم عن الموضوع ثلاثة طرق:

1 - بالقضية الخارجية: بأن يكون «صدق العادل» قضية خارجية، بتقريب: أنه ينشأ وجوب التصديق لخبر الشيخ، حيث قال: «حدثني المفيد»، فيقال: «صدق العادل» أعني:

الشيخ، ثم ينشأ وجوب التصديق لخبر المفيد عن الصدوق، فيقال: «صدق العادل» أعنى: المفيد، ثم ينشأ وجوب التصديق لخبر الصدوق فيقال: «صدق العادل» أعني:

الصدوق إلى آخر السلسلة، فلا يلزم اتحاد الحكم و الموضوع لتعدد كل منهما؛ إذ كل حكم لاحق يكون أثرا و موضوعا للحكم السابق؛ لأن الحكم السابق إنما هو بلحاظ الحكم اللاحق، فوجوب تصديق خبر الشيخ إنما هو بلحاظ ترتب وجوب التصديق على ما هو المخبر به بخبره، و هو خبر المفيد. و هكذا.

2 - بالقضية الحقيقية: بأن يكون «صدق العادل» قضية حقيقية، بتقريب: أن الموضوع في القضية الحقيقية هو مفروض الوجود في طول الزمان، فمعنى «صدق العادل» «كلما وجد خبر و كان مخبره عادلا وجب تصديقه»، فينحل الحكم - و هو:

وجوب التصديق - إلى أحكام متعددة بمقدار تعدد موضوعاتها، فهناك وجوبات متعددة بعدد الأخبار و هي الوسائط، فيثبت بوجوب تصديق الشيخ ما أخبره المفيد، فيصير خبر المفيد موضوعا لوجوب التصديق، و يثبت بوجوب تصديق المفيد ما أخبره الصدوق، فيصير خبر الصدوق موضوعا لوجوب التصديق. و هكذا إلى أن ينتهي إلى قول المعصوم «عليه السلام»، حيث يترتب الحكم الشرعي على وجوب تصديق الخبر الأخير، و هو خبر الصفار عن الإمام «عليه السلام».

3 - بالقضية الطبيعية: بأن يكون «صدق العادل» قضية طبيعية؛ بأن يكون الملحوظ في كل من الموضوع و الأثر هو الطبيعة أعني طبيعة الأثر و طبيعة الخبر، فيكون الملحوظ موضوعا لوجوب التصديق هو طبيعة الأثر المتقدمة رتبة على الوجوب المدلول عليه بأدلة الحجية و منها: آية النبأ. فإذا صارت الطبيعة موضوع الأثر سرى حكمها - و هو موضوعيتها للحكم بوجوب التصديق - إلى أفرادها التي منها نفس وجوب التصديق، فليس الملحوظ موضوعا فرد الطبيعة - أعني: نفس وجوب التصديق - حتى يتحد

ص: 284

الموضوع و الحكم، فالمتقدم هو الطبيعة، و المتأخر هو الفرد.

فقضية «صدق العادل» نظير «كل خبري صادق»، فإن هذه القضية طبيعية شاملة لنفس هذه الجملة أيضا؛ إذ المراد ب «كل خبري» طبيعة الخبر، و من المعلوم: شمولها لنفس هذه القضية كشمولها لسائر إخباراته.

و الحاصل: أن إشكال اتحاد الحكم و الموضوع إنما يلزم إذا جعل «صدق العادل» قضية خارجية واحدة، ترتب الحكم الواحد فيها على خصوص أفراد الموضوع الموجودة في الخارج فعلا بلحاظ نفس ذلك الحكم.

و أما إذا جعل قضية حقيقية: ترتب الحكم فيها على طبيعة الموضوع - و منها يسري إلى أفرادها الخارجية المحققة أو المقدرة - فلا يلزم الإشكال المذكور. هذا ما أشار إليه بقوله: «و يمكن الذب عن الإشكال». الصواب أن يقال: و يمكن دفع الإشكال؛ لأن الذب عن الشيء هو حفظه و الدفع عنه؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 458».

بقي الكلام في الجواب عن إشكال كون الحكم مثبتا و محققا لموضوعه.

توضيح ذلك بعد مقدمة: و هي أن ثبوت الحكم لفرد من العام تارة: يكون واسطة في الثبوت لفرد آخر منه، و أخرى: يكون واسطة في الإثبات.

و الأول: مثل قول القائل بعد إخباره بألف خبر: «كل خبري صادق»، فيشمل هذا الخبر كل ما أخبره قبله، و لا يشمل نفسه؛ لأن الحكم فيه و هو «صادق» يكون واسطة في الثبوت لهذا الخبر، أي: يكون علة له؛ إذ الخبر المركب من الموضوع و المحمول لا يتحقق إلا بهما معا؛ لا بالموضوع فقط، فلا بد من ضم المحمول و هو «صادق»، فيلزم من شموله نفسه تقدم الشيء على نفسه.

الثاني: ما إذا كان الحكم لبعض الأفراد واسطة في الإثبات لفرد آخر - كما نحن فيه، حيث يكون ثبوت الحكم لخبر الشيخ سببا للعلم بفردية خبر المفيد - لكان شاملا لفرد آخر أيضا.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن ثبوت الحكم - أعني: وجوب التصديق - لخبر الشيخ يكون سببا للعلم بفردية خبر المفيد من دون أن يكون سببا لفرديته و تحققه في الواقع، و يكون الواسطة في الإثبات لا في الثبوت، فلا يلزم من شمول الحكم خبر المفيد محذور إيجاد الموضوع بالحكم؛ إذ خبر المفيد يكون ثابتا في الواقع، مع قطع النظر عن الحكم بوجوب تصديق خبر الشيخ، فيكون الموضوع - و هو خبر المفيد - ثابتا في الواقع

ص: 285

و يمكن الذب (1) عن الإشكال: بأنه إنما يلزم إذا لم يكن القضية طبيعية، و الحكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر؛ بل بلحاظ أفراده، و إلا (2) فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه سراية (3) حكم الطبيعة إلى أفراده (4)، بلا محذور لزوم اتحاد الحكم و الموضوع.

هذا مضافا إلى القطع (5) بتحقق ما هو المناط في سائر الآثار في هذا الأثر - أي:

=============

قبل الحكم، فلا يلزم كون الحكم مثبتا للموضوع.

قوله: «فتدبر» لعله إشارة إلى أن الإشكال إنما هو في الإنشاء الأول؛ إذ لا مصحح له بعد فرض عدم أثر للخبر إلا نفس وجوب التصديق الجائي من قبل مثل الآية؛ و إلا فلو فرض صحته فلا مانع من شمول الوجوب الثاني له، و به يندفع إشكال تولد الموضوع من الحكم بالنسبة إلى خبر الواسطة و الخبر الحاكي عنه، ضرورة: أن وجوب تصديق خبر الشيخ حينئذ غير وجوب تصديق الخبر المحكي به، فلا يلزم الاتحاد؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 458».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

دفع الإشكال

(1) هذا جواب عن إشكال لزوم اتحاد الحكم و الموضوع.

و حاصل ما أجاب به عنه: أن الأثر الشرعي الملحوظ موضوعا لوجوب التصديق و مصححا له إن كان مصاديق الأثر و أفراده، توجه الإشكال المذكور؛ إذ لا يمكن أن يكون وجوب التصديق بلحاظ نفسه؛ لأن هذا الوجوب الشخصي الملحوظ موضوعا لا يتأتى إلا من قبل نفسه، فكيف يمكن أن يؤخذ هذا الوجوب موضوعا و حكما لنفسه ؟ و إن كان هو طبيعة الأثر فلا يرد الإشكال كما عرفت توضيح ذلك.

(2) أي: و إن لم يكن الحكم بوجوب التصديق بلحاظ أفراد الأثر - بل كان بلحاظ الطبيعة - لم يلزم إشكال اتحاد الحكم و الموضوع.

(3) مفعول مطلق نوعي لقوله: يسري، و ضمير «إليه» راجع على الأثر المراد به الحكم بوجوب التصديق، و حاصله: أنه يسري حكم طبيعة وجوب التصديق إلى أفراد وجوب التصديق سراية حكم الطبيعة إلى أفرادها، يعني: أن كل فرد من أفراد وجوب التصديق يصير موضوعا لوجوب تصديق العادل؛ لسراية حكم الطبيعة - و هو الموضوعية - إلى أفرادها، و هي الآثار التي يكون وجوب التصديق منها.

(4) الأولى تأنيث الضمير لرجوعه إلى «الطبيعة».

(5) هذا هو الوجه الثاني من وجوه الجواب عن الإشكال المذكور حسب ما هو ظاهر كلام المصنف.

ص: 286

وجوب التصديق - بعد تحققه (1) بهذا الخطاب؛ و إن كان (2) لا يمكن أن يكون ملحوظا لأجل المحذور، و إلى عدم (3) القول بالفصل بينه (4) و بين سائر الآثار، في وجوب الترتيب لدى الإخبار بموضوع، صار أثره الشرعي وجوب التصديق و هو (5) خبر العدل و لو (6) بنفس الحكم في الآية. فافهم (7).

=============

و توضيحه: أن المناط في شمول دليل الاعتبار للخبر هو كون الخبر ذا أثر شرعي، من دون تفاوت بين كون ذلك الأثر وجوب التصديق أو غيره، غاية الأمر: أن دليل الاعتبار لا يشمل الأثر الأول - أعني: وجوب التصديق - لفظا؛ للزوم محذور الاتحاد، و لكن يشمله مناطا، و من المناط يستكشف تعدد الإنشاء كاستكشافه من كون القضية طبيعية؛ كما هو مقتضى الوجه الأول، و من المعلوم: أن المناط في شمول دليل اعتبار خبر العادل لخبره كونه ذا أثر شرعي.

(1) أي: بعد تحقق الأثر - و هو وجوب التصديق - بآية النبأ الدالة على اعتبار خبر العادل.

(2) و إن كان لا يمكن أن يكون الأثر - و هو وجوب التصديق - ملحوظا و شاملا لوجوب التصديق لفظا؛ لأجل محذور اتحاد الحكم و الموضوع؛ و لكن يشمله مناطا كما عرفت.

(3) إشارة إلى الوجه الثالث من وجوه الجواب عن الإشكال.

و حاصله: أنه لم يوجد قول بالفصل بين وجوب التصديق و بين غيره من الآثار في وجوب ترتيبه على خبر العادل، فيجب ترتيب كل أثر شرعي على خبره؛ و إن كان هو وجوب تصديقه.

(4) أي: بين الأثر المذكور - و هو وجوب التصديق - و بين سائر الآثار؛ كجواز الائتمام و تحمل الشهادة و قبولها عند أدائها، و غيرها من آثار العدالة.

(5) أي: الموضوع الذي صار أثره الشرعي وجوب التصديق هو خبر العدل.

(6) قيد ل «صار أثره»، أي: لو كانت صيرورة أثره الشرعي وجوب التصديق بسبب نفس وجوب التصديق، المستفاد من الآية الشريفة، فوجوب التصديق الذي صار موضوعا يكون نظير جواز الائتمام بالعادل في موضوعيته؛ لوجوب تصديق العادل الذي أخبر بعدالة زيد، و لا فرق في وجوب ترتيب هذه الآثار بين أثر و أثر آخر.

(7) لعله إشارة إلى أن عدم القول بالفصل راجع على الإجماع، و الإجماع، غير حجة في المقام؛ لاحتمال كون مدركه أحد الوجهين المتقدمين أو العلم به، فلا يكون دليلا على حدة.

ص: 287

و لا يخفى: أنه لا مجال بعد اندفاع الإشكال بذلك (1) للإشكال (2) في خصوص الوسائط (3) من الأخبار؛ كخبر الصفار المحكي بخبر المفيد مثلا، بأنه (4) لا يكاد يكون خبرا تعبدا إلا بنفس الحكم بوجوب تصديق العادل الشامل للمفيد.

فكيف (5) يكون هذا الحكم المحقق لخبر الصفار تعبدا مثلا حكما له.....

=============

و بعبارة أخرى: أن الإجماع إذا كان مدركيا لا يكون حجة. أو إشارة إلى أن أدلة الحجية أعني: «صدق العادل» يدل على وجوب ترتيب الأثر الشرعي، الثابت للمخبر به الواقعي قبل هذا الأثر، أعني: وجوب تصديق العادل لا ترتيب هذا الأثر.

(1) أي: بما ذكر من الوجوه الثلاثة المتقدمة في دفع الإشكال.

(2) «للإشكال» متعلق بقوله «لا مجال».

(3) يعني: - بعد دفع الإشكال المذكور عن الأخبار الواسطة بجميع مراتبها - لا مجال لإيراده على خصوص الوسائط، دون مبدأ سلسلة السند و منتهاها؛ بأن يقال: إن الإشكال لا يرد على مبدأ السلسلة كالشيخ الطوسي «قدس سره»؛ لأنه يخبرنا عن حس، و لا على منتهاها كالصفار لترتب الأثر الشرعي - و هو حكم الإمام «عليه السلام» - عليه؛ بل يرد على ما بين المبدأ و المنتهى، فهو مختص بالوسائط، و هم ما بين من روى عن الإمام «عليه السلام» كالصفار مثلا، و بين الشيخ الطوسي «قدس سره»، فإن ثبوت خبر المفيد و غيره إنما هو بالتعبد - أي بوجوب تصديق خبر الشيخ - فيتحد الحكم و الموضوع، كما أنه لا أثر له غير وجوب التصديق الآتي من قبل الآية الشريفة.

(4) متعلق ب «للإشكال» و بيان له، و ضميره راجع على خبر الصفار.

و حاصل الإشكال: أن أدلة الحجية - كالآية و نحوها - لا تشمل الخبر مع الواسطة؛ إذ بوجوب تصديق الشيخ المستفاد من «صدق العادل» - المدلول عليه بآية النبأ - يثبت «حدثني المفيد» تعبدا، فهذه الجملة - أعني: «حدثني المفيد» قد تولدت من «صدق العادل»، فهي متأخرة عنه، فلا يمكن أن يشملها «صدق العادل»؛ لأن مقتضى شموله لها ترتبه عليها، و هو يقتضي تقدمها عليه؛ لأنها تكون بمنزلة الموضوع للحكم المستفاد من «صدق العادل»، و الموضوع مقدم رتبة على الحكم، فلو شمل «صدق العادل» المستفاد من الآية الأخبار الواسطة لزم تقدم الحكم على الموضوع، و من المعلوم: استحالته؛ لتأخر الحكم عن الموضوع رتبة.

(5) هذا هو منشأ الإشكال، و هو استحالة تولد الموضوع - أعني نفس خبر العدل كخبر المفيد - من الحكم، أعني: وجوب التصديق، فالإشكال حينئذ يكون من جهة

ص: 288

أيضا (1)، و ذلك (2) لأنه إذا كان خبر العدل ذا أثر شرعي حقيقة بحكم الآية وجب ترتيب أثره عليه عند إخبار العدل به، كسائر ذوات الآثار من الموضوعات، لما عرفت: من شمول مثل الآية للخبر الحاكي للخبر بنحو (3) القضية الطبيعية، أو لشمول الحكم فيها له مناطا (4)؛ و إن لم يشمله لفظا، أو لعدم القول بالفصل (5)، فتأمل جيدا.

و منها: آية النفر، قال الله «تبارك و تعالى»: فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ علّية الحكم لوجود الموضوع و لو تعبدا، و ما يتولد منه الموضوع كيف يكون حكما له ؟ و بعبارة أخرى: كيف يكون «صدق العادل» حكما لما يتولد هو منه و هو «حدثني المفيد»؟

=============

(1) يعني: ككونه محققا لموضوعيته، و بتعبير آخر: وجوب التصديق - الذي يحقق خبرية خبر الصفار مثلا و يجعله موضوعا - لا يمكن أن يكون بنفسه حكما له أيضا، و حق العبارة أن تكون هكذا: «المحقق لخبر الصفار مثلا حكما له تعبدا أيضا».

(2) تعليل لقوله: «لا مجال»، و دفع للإشكال المزبور على خصوص الوسائط و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 464» - أن ما تقدم من الوجوه الثلاثة في الجواب عن الإشكال المزبور جار بعينه هنا؛ لأن منشأ الإشكال هو لحاظ أفراد الأثر موضوعا لوجوب التصديق، دون ما إذا كان الملحوظ طبيعة الأثر، فإذا لوحظت طبيعة الأثر موضوعا لم يرد الإشكال؛ لأن طبيعة الأثر لا تكون ناشئة من نفس الحكم بوجوب التصديق، حتى يلزم محذور اتحاد الحكم و الموضوع.

كما أننا نقطع بعدم الفرق بين الآثار الأخرى المترتبة على ما أخبر به العادل، و بين هذا الأثر أعني: وجوب التصديق. هذا مضافا إلى عدم القول بالفصل في ترتيب الآثار بين أثر و أثر آخر.

(3) متعلق بقوله: «الحاكي». و المراد بالخبر هنا: «صدق العادل» المستفاد من آية النبأ.

(4) أي: شمول الحكم في الآية للخبر الحاكي مناطا؛ و إن لم يشمل الخبر الحاكي لفظا كما هو مقتضى الوجه الثاني.

(5) كما هو مقتضى الوجه الثالث. و حاصل عدم القول بالفصل: أنه كل من قال بحجية أحدهما قال بحجية الآخر، فالتفكيك بينهما بأن يكون الخبر بدون الواسطة حجة، و الخبر مع الواسطة ليس حجة خرق للإجماع المركب.

ص: 289

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان أمرين أحدهما: شأن نزول الآية. قال الطبرسي «قدس سره»: نزلت الآية في الوليد بن عقبة، بعثه رسول الله «صلى الله عليه و آله» في جباية صدقات بني المصطلق، فخرجوا يتلقونه فرحا به، فظن أنهم هموا بقتله، فرجع إلى رسول الله «صلى الله عليه و آله»، و قال: إنهم منعوا صدقاتهم، و كان الأمر بخلافه، فغضب رسول الله «صلى الله عليه و آله» و همّ أن يغزوهم، فنزلت الآية.

و ثانيهما بيان محل النزاع في مفهوم الشرط فيقال: إن للشرط مفهوم إذا لم يكن مسوقا لبيان تحقق الموضوع؛ بأن يكون الموضوع في القضية الشرطية باقيا عند انتفاء الشرط، مثل: «إن جاءك زيد فأكرمه».

هذا بخلاف الشرط المسوق لبيان تحقق الموضوع مثل: «إن رزقت ولدا فاختنه»، فلا مفهوم له، فمحل النزاع هو القسم الأول لا القسم الثاني.

2 - تقريب الاستدلال بمفهوم الشرط على حجية خبر الواحد هو: أن يكون الموضوع هو النبأ المفروض وجوده على نحو القضية الحقيقية، و الشرط مجيء الفاسق به، و الجزاء وجوب التبين، فلا يكون الشرط حينئذ مسوقا لبيان تحقق الموضوع؛ إذ لا ينتفي الموضوع عند انتفاء الشرط. فلا يرد عليه ما قيل: من أن الشرط في هذه القضية الشرطية لبيان تحقق الموضوع.

هذا بخلاف ما إذا كان الموضوع هو نبأ الفاسق كما هو المشهور، فلا مفهوم له لكونه مسوقا لبيان تحقق الموضوع.

«فافهم» لعله إشارة إلى عدم صحة الترديد بين عدم مفهوم للشرط - حين كونه لبيان تحقق الموضوع - و بين كون مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع؛ بل المتعين هو عدم المفهوم للشرط.

و يمكن أن يكون للشرط مفهوم حتى على فرض كونه مسوقا لبيان تحقق الموضوع بأن يقال: إن وجوب التبين منحصر في خبر الفاسق، فينتفي عند وجود موضوع آخر و هو خبر العادل.

«فتدبر» لعله إشارة إلى أن الظاهر من القضية الشرطية المسوقة لبيان تحقق الموضوع هو: بيان الموضوع فقط، فتكون بمنزلة الجملة اللقبية في عدم دلالتها على المفهوم.

ص: 290

3 - الإشكال على مفهوم آية النبأ: بعموم التعليل فيقال في تقريب الإشكال: إن المفهوم في الآية الشريفة على تقدير ثبوته و إن كان دالا على حجية خبر الواحد الغير المفيد للعلم؛ إلا أنه معارض لعموم التعليل أعني: قوله تعالى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ ، فإن مقتضى عموم التعليل عدم حجية الخبر الذي لا يؤمن من الوقوع في الندم من العمل به؛ و لو كان المخبر عادلا؛ لأن الجهالة بمعنى: عدم العلم بالواقع مشترك بين خبري العادل و الفاسق، و عموم التعليل يقدم على المفهوم؛ لكونه أقوى منه لأجل كونه منطوقا، و المنطوق أقوى من المفهوم.

و حاصل الجواب عن هذا الإشكال: هو أن مبنى الإشكال المذكور على أن تكون الجهالة بمعنى: عدم العلم بالواقع المشترك بين خبري العادل و الفاسق، و أما إذا كانت الجهالة بمعنى السفاهة، و فعل ما لا ينبغي صدوره عن العاقل: فلا يرد الإشكال؛ لأن العمل بخبر العادل ليس عن سفاهة، فلا يجب التبين، فيكون حجة من دون التبين، و العمل بخبر الفاسق من دون التبين يكون عن سفاهة، فلا يجوز من دون التبين.

4 - إشكال عدم شمول أدلة حجية أخبار الآحاد للروايات الحاكية لقول الإمام «عليه السلام» بواسطتين أو وسائط: بتقريب: أن قصارى مفاد أدلة الحجية على اختلافها هي قضية واحدة، و هي: «صدق العادل»، فيلزم اتحاد الحكم و الموضوع في الوسائط؛ إذ يلزم أن يكون وجوب التصديق بلحاظ وجوب التصديق، فإذا أخبر الشيخ عن المفيد، و المفيد عن الصدوق، و الصدوق عن الصفار، و الصفار عن الإمام «عليه السلام» لم يترتب على المخبر به بخبر الشيخ - و هو خبر المفيد - سوى وجوب التصديق؛ لأن قول الإمام و هو السنة أثر للخبر الأخير، و حينئذ: فوجوب تصديق خبر الشيخ بمقتضى «صدق العادل» حكم، و نفس خبر الشيخ و المخبر به - و هو خبر المفيد - و أثره الشرعي - و هو وجوب تصديقه - موضوع، فيلزم اتحاد الحكم و الموضوع، و هو باطل لكونه مستلزما لتقدم الشيء على نفسه.

5 - إشكال لزوم إيجاد الموضوع بالحكم: لأن خبر المفيد إنما يتحقق بوجوب تصديق خبر الشيخ، ثم يصير موضوعا لوجوب التصديق، و ليس هذا إلا إثبات الموضوع بالحكم.

و الجواب عن كلا الإشكالين حاصل بعد فرض «صدق العادل» قضية حقيقية، التي يكون موضوعها مقدر الوجود، فالحكم فيها ينحل إلى أحكام متعددة بمقدار عدد

ص: 291

طٰائِفَةٌ (1) الآية، و ربما يستدل بها (1) من وجوه:

أحدها: إن كلمة «لعل» و إن كانت مستعملة على التحقيق في معناه الحقيقي، و هو الترجي الإيقاعي الإنشائي، إلاّ إن الداعي إليه حيث يستحيل في حقه تعالى أن الوسائط، فهناك وجوبات متعددة، فمع تعدد كل من الحكم و الموضوع لا يلزم اتحاد الحكم و الموضوع، و لا إيجاد الموضوع بالحكم.

=============

و إن شئت فقل في الجواب عن الإشكال الثاني و هو إيجاد الموضوع بالحكم: بأن خبر الشيخ واسطة في الإثبات بالنسبة إلى خبر المفيد، يعني: سبب للعلم به و لا واسطة في الثبوت، أي: علة ثبوته و وجوده في الواقع؛ إذ خبر المفيد موجود في الواقع قبل الحكم.

6 - رأي المصنف «قدس سره»:

عدم تمامية الاستدلال بمفهوم آية النبأ على حجية خبر الواحد للإشكال عليه. و ما ذكره المصنف من وجوه الجواب لا يتجاوز عن الفرض و التقدير.

في آية النفر

تقريب الاستدلال بآية النفر على حجية خبر الواحد

(1) أي: يستدل بآية النفر من وجوه.

و الاستدلال بهذه الآية الشريفة يتوقف على أمور:

منها: أن يكون المراد من النفر: النفر إلى طلب العلم، و تعلّم الأحكام الشرعية؛ لا النفر إلى الجهاد.

و منها: أن يكون المراد من الإنذار: إنذار كل واحد من النافرين قومه؛ لا إنذار مجموعهم - مجموع القوم - حتى يقال: إن إخبار المجموع للمجموع يفيد العلم، فيخرج عن محل الكلام.

و منها: أن يكون المراد من الحذر: الحذر العملي لا مجرد الخوف النفساني، بمعنى:

وجوب التحذر و العمل على كل شخص عقيب إنذار كل منذر، سواء حصل من قوله العلم أم لا، فيثبت حجية قول المنذر.

و منها: أن يكون الحذر بالمعنى المذكور واجبا عند إنذار المنذر. و تحقق هذه الأمور غير الأمر الأخير واضح.

أما الأمر الأول: فقد صرح به بعض المفسرين، حيث قال: إن المراد بالنفر: هو النفر إلى طلب تعلّم الأحكام الشرعية.

ص: 292


1- التوبة: 122.

و أما الثاني: فلأن تقابل الجمع بالجمع ظاهر في التوزيع، أي: تقسيم الأفراد على الأفراد، فمثلا: إذا جاء أمر لألف رجل مسلم بقتل ألف رجل كافر: كان معناه أن كل رجل مسلم يقتل كافرا، فيكون معنى قوله تعالى: لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ أي: لينذر كل واحد من النافرين قومه، كما هو مقتضى العادة؛ لأن النافرين للتفقه بعد تعلّم الأحكام لا يجتمعون عادة في محل واحد ليرشدوا الناس مجتمعين؛ بل يذهب كل واحد منهم إلى ما يخصه من البلد و الوطن، ثم يرشد من حوله من الناس.

و أما الأمر الثالث: فلأن ظاهر الحذر: هو أخذ المأمن من الهلكة و العقوبة، و هو العمل لا مجرد الخوف النفساني، فيكون المراد من الحذر: هو العمل، و إنما الكلام في الأمر الرابع، و هو إثبات وجوب الحذر، و قد أشار إليه بقوله: أحدها، ثانيها، ثالثها.

و حاصل الكلام في المقام: أن إثبات وجوب الحذر يمكن بأحد وجوه:

الوجه الأول: من جهة كلمة «لعل».

الوجه الثاني: من جهة لزوم لغوية وجوب الإنذار لو لا وجوب الحذر.

الوجه الثالث: من جهة جعل الحذر غاية للواجب.

و أما توضيح الوجه الأول: فيتوقف على مقدمة و هي: إن كلمة «لعل» فيها قولان:

الأول: - و هو المشهور - أنها حقيقة في إنشاء الترجي الحقيقي، الذي معناه: إظهار الرغبة في الشيء مع الجهل بمستقبله، و عدم القدرة عليه فعلا، و هذا المعنى مستحيل في حقه تعالى.

الثاني: - و هو مختار المصنف - أنها حقيقة في الترجي الإيقاعي الإنشائي، غاية الأمر:

الاختلاف في مرحلة الداعي بمعنى: أن الداعي قد يكون هو الترجي الحقيقي، و قد يكون هو محبوبية العمل.

و أما إذا وقعت كلمة «لعل» في كلامه تعالى: فيستحيل أن يكون الداعي هو الترجي الحقيقي، فلا بد من أن يكون الداعي هو المحبوبية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن كلمة «لعل» الواردة في آخر الآية في قوله تعالى:

لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ لا يمكن أن يراد بها الترجي الحقيقي على كلا القولين؛ لما عرفت من: استحالته على الله تعالى، فيراد بها الدلالة على محبوبية العمل، فكلمة «لعل» حينئذ: تكون مستعملة بداعي محبوبية التحذر.

و إذا ثبتت محبوبية التحذر: ثبت وجوبه شرعا و عقلا.

ص: 293

يكون هو الترجي الحقيقي، كان هو محبوبية التحذر عند الإنذار، و إذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه شرعا؛ لعدم الفصل، و عقلا لوجوبه مع وجود ما يقتضيه عدم حسنه؛ بل عدم إمكانه بدونه.

ثانيها (1): أنه لما وجب الإنذار لكونه غاية للنفر الواجب، كما هو قضية (لو لا) التحضيضية، وجب التحذر؛ و إلا لغى وجوبه.

=============

«أما شرعا»: فللإجماع المركب، فإن كل من قال بمحبوبيته قال بوجوبه؛ لأن الأمة بين من لا يجوّز العمل بخبر الواحد أصلا، و بين من يجوّزه و يلتزم بوجوبه، فالقول بجواز العمل به و رجحانه دون وجوبه قول بالفصل و خرق للإجماع المركب.

«و أما عقلا»: فلأنه لا معنى لحسن الحذر و رجحانه؛ لأنه إما أن يكون هناك مقتض للعقاب أو لا، فإن كان مقتض للعقاب: وجب الحذر و إلا لم يحسن أصلا؛ بل لا يمكن الحذر بدون المقتضي أصلا. و هذا التقريب مشترك بين من يذهب إلى أن «لعل» موضوعة للترجي الحقيقي، كما هو ظاهر المشهور، و بين من يذهب إلى أنها موضوعة للترجي الإيقاعي الإنشائي؛ إلا إن الداعي هنا هو مجرد المحبوبية و كيف كان؛ فالنتيجة هي وجوب الحذر بمعنى العمل بقول المنذر. هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

و أما الوجه الثاني: فلأن النفر واجب بمقتضى كلمة «لو لا» التحضيضية، فإن التحضيض هو الطلب بعث و إزعاج؛ لأن حروف التحضيض - و هي لو لا، لو ما، هلاّ - إذا دخلت على المضارع أفادت طلب الفعل و الحث و الترغيب عليه، و إذا دخلت على الماضي - كما في الآية - أفادت الذم و التوبيخ على تركه، و من المعلوم: إنه لا يحسن الذم و التوبيخ على ترك شيء إلا أن يكون واجبا، فلا بد من أن يكون النفر واجبا لتوجه الذم على تركه، فإذا وجب النفر وجب الإنذار؛ لكونه غاية للنفر الواجب.

و إذا وجب الإنذار وجب التحذر و القبول من المنذر؛ و إلا لغى وجوب الإنذار، فالحاصل هو: وجوب الحذر.

(1) أي: ثاني تلك الوجوه التي استدل بها على حجية خبر الواحد من الآية الكريمة و قد ذكرنا توضيح ذلك، فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة.

و أما الوجه الثالث: فلأن التحذر قد جعل غاية للإنذار في الآية الكريمة و هو واجب، و غاية الواجب واجبة، فيكون التحذر واجبا.

«و الفرق» بين هذا الوجه و سابقه: أن في الوجه السابق أثبت المستدل وجوب الإنذار لكونه غاية للنفر الواجب، و أثبت وجوب الحذر للملازمة بين وجوب الإنذار و وجوب

ص: 294

ثالثها (1): أنه جعل غاية للإنذار الواجب و غاية الواجب واجبة و يشكل (2) الوجه التحذر و القبول؛ و إلا لغى وجوب الإنذار.

=============

و في هذا الوجه قد أثبت وجوب الإنذار لكونه غاية للنفر الواجب، و أثبت وجوب التحذر أيضا؛ لكونه غاية للإنذار الواجب.

(1) أي: ثالث وجوه الاستدلال بآية النفر، و قد عرفت توضيح ذلك. و حاصل ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 470» من الفرق بين هذه الوجوه الثلاثة: أن الوجه الأول:

ناظر إلى دعوى الملازمة بين محبوبية الحذر عند الإنذار، و بين وجوبه شرعا و عقلا.

و الثاني: ناظر إلى لزوم لغوية وجوب الإنذار لو لم يجب الحذر.

و الثالث: إلى دعوى الملازمة بين وجوب الإنذار و وجوب الحذر؛ لكونه غاية للإنذار؛ كوجوب نفس الإنذار لكونه غاية للنفر الواجب.

و هذه الثلاثة ذكرها المصنف ثم استشكل فيها.

(2) توضيح الإشكال يتوقف على مقدمة و هي: أن الوجه الأول لإثبات وجوب الحذر يرجع إلى شقين:

الشق الأول: هو التلازم بين محبوبية الحذر و حسنه، و بين وجوبه عقلا.

و الشق الثاني: هو التلازم بينهما شرعا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الملازمة العقلية بينهما لا تكون ثابتة مطلقا؛ بل إذا كان الحذر عن العقوبة لا عن الملاك أعني: فوت المصلحة أو الابتلاء بالمفسدة؛ لأن الحذر عن العقوبة إنما هو لوجود المقتضي له و هو تنجز التكليف بقيام حجة على ثبوته، سواء كان علما أو علميا.

و أما إذا كان الحذر عن ملاك التكليف: فالملازمة بين حسن الحذر و وجوبه عقلا ممنوعة؛ و ذلك لعدم العقوبة عند عدم تنجز التكليف؛ لكون العقوبة حينئذ بلا بيان؛ إذ لا دليل على وجوب الحذر عن مجرد الملاكات من دون مطالبة المولى لها و إن كان حسنا؛ بل مقتضى البراءة العقلية في الشبهات البدوية عدم وجوب الحذر و لو علم العبد بالملاك؛ إذ مجرد علمه بالملاك لا يوجب الإتيان بما فيه الملاك.

و كيف كان؛ فمجرد حسن الحذر لا يلازم عقلا وجوبه؛ لكونه لازما أعم، ضرورة:

حسن الحذر في الشبهات البدوية، مع عدم وجوب الحذر فيها قطعا.

هذا تمام الكلام في ردّ الشق الأول، و هي الملازمة العقلية بين حسن الحذر و وجوبه.

و أما، رد الشق الثاني: و هي الملازمة بينهما شرعا، و هي عدم الفصل بين حسن الحذر

ص: 295

الأول، بأن التحذر لرجاء إدراك الواقع، و عدم الوقوع في محذور مخالفته (1) من (2) فوت المصلحة، أو الوقوع في المفسدة حسن (3)، و ليس (4) بواجب فيما لم يكن هناك حجة على التكليف، و لم يثبت هاهنا (5) عدم الفصل، غايته (6): عدم القول بالفصل.

و الوجه (7) الثاني و الثالث بعدم انحصار فائدة الإنذار بإيجاب التحذر تعبدا؛ و وجوبه: فعدم الفصل بين حسن الحذر و وجوبه غير ثابت فيما لم يقم حجة على التكليف، فإن الثابت في المقام عدم القول بالفصل لا عدم الفصل في الواقع؛ إذ لعل في الواقع فصل لم يقل به أحد.

=============

و كيف كان؛ فدعوى الملازمة الشرعية بين حسن الحذر و بين وجوبه كدعوى الملازمة العقلية بينهما ممنوعة جدا، فحينئذ: يكون الحذر - على تقدير عدم حجية قول المحذر - حسنا من دون أن يكون واجبا. هذا تمام الكلام في الإشكال في الوجه الأول.

(1) أي: مخالفة الواقع.

(2) بيان ل «محذور».

(3) خبر لقوله: «بأن التحذر...».

(4) أي: و ليس التحذر بواجب؛ إذا لم يكن هناك حجة على التكليف كموارد البراءة؛ لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلا مانع.

(5) أي: في صورة عدم قيام الحجة على التكليف. و هذا إشارة إلى نفي الملازمة الشرعية بين حسن الحذر و وجوبه، و اختصاص الملازمة بموارد قيام الحجة على التكليف.

(6) أي: غاية الأمر أو غاية ما ثبت هو: عدم القول بالفصل، و غرضه: أن المجدي في ثبوت الملازمة الشرعية بين حسن الحذر في صورة عدم الحجة على التكليف، و بين وجوبه هو الإجماع على عدم الفصل، و ليس ذلك ثابتا في المقام؛ بل الثابت فيه هو:

عدم القول بالفصل، و هو غير مفيد؛ إذ ليس ذلك إجماعا بل المجدي هو: ثبوت عدم الفصل.

و كيف كان؛ فالمحصل من الإجماع غير حاصل، و المنقول منه غير تام؛ بل لا يكون حجة خصوصا فيما إذا كان محتمل الاستناد.

(7) عطف على الوجه الأول أي: و يشكل الوجه الثاني و الثالث.

و حاصل الإشكال: أن الملازمة بين وجوب الإنذار و وجوب الحذر في الجملة؛ و إن كانت مسلمة، و لكنها بين وجوب الإنذار و وجوب الحذر مطلقا تعبدا، و لو لم يحصل العلم من قول المنذر ليكون مساوقا لحجية خبر الواحد ممنوعة؛ إذ لا تنحصر فائدة الإنذار

ص: 296

لعدم (1) إطلاق يقتضي وجوبه على الإطلاق (2)، ضرورة (3): أن الآية مسوقة لبيان بالتحذر تعبدا، و لعل وجوب الإنذار لأجل أن يكثر المنذرون، فيحصل العلم من قولهم للمنذرين - بالفتح - فيعملون بعلمهم لا بقول المنذرين - بالكسر - تعبدا.

=============

فالمتحصل: أنه لا تنحصر فائدة الإنذار بوجوب التحذر تعبدا و لو لم يحصل العلم؛ بل يمكن أن تكون فائدته هو حصول التحذر و وجوبه عند حصول العلم بالمنذر به، فيختص وجوب العمل بقول المنذر بما إذا أفاد العلم هذا الإشكال مخصوص بالوجه الثاني، فإن المستدل لم يستدل في الوجه الثالث بالملازمة بين وجوب الإنذار و وجوب الحذر؛ لئلا يكون الإنذار لغوا.

و ما ذكرنا من ترتب الفائدة عليه عند حصول العلم يكفي في عدم لغوية وجوب الإنذار.

و أما في الوجه الثالث: فقد استدلّ لوجوب الحذر بكونه غاية للإنذار الواجب، و غاية الواجب واجبة.

و يقال في تقريب الإشكال عليه: أنه لا إطلاق يقتضي وجوب التحذر مطلقا أي:

سواء حصل العلم أم لا؛ إذ ليس المتكلم في مقام بيان غايتية الحذر، كي يتمسك بإطلاق الكلام من هذه الجهة؛ بل في مقام بيان وجوب النفر، فلا ينفع في إثبات الإطلاق في الغاية؛ إذ انعقاد مقدمات الإطلاق من جهة لا ينفع في إثباته من جهة أخرى؛ إذ من المحتمل أن تكون الغاية هو الحذر عند حصول العلم.

هذا مع وجود القرينة على التقييد بحصول العلم؛ إذ الإنذار المطلوب هو الإنذار بأمور الدين التي تعلمها بواسطة النفر، فإذا لم يعرف المنذر - بالفتح - أن الإنذار وقع بالأمور الدينية من المنذر - بالكسر - لم يجب الحذر.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) تعليل لعدم الانحصار و ضمير «وجوبه» راجع على «التحذر».

(2) يعني: سواء أفاد العلم أم لا حتى يدل على حجية خبر الواحد غير العلمي.

(3) تعليل لنفي الإطلاق، و إشارة إلى دفع توهم.

أما التوهم: فهو أن إطلاق الآية يقتضي عدم اختصاص وجوب الحذر بصورة إفادة الإنذار العلم، فيجب العمل بقول المنذر مطلقا - يعني: سواء حصل العلم بقوله للمنذر - بالفتح - أم لا.

و أما الدفع: فهو أنه لا إطلاق للآية من هذه الجهة، حتى يدل على حجية قول المنذر

ص: 297

وجوب النفر؛ لا لبيان غايتية التحذر (1)، و لعل وجوبه كان مشروطا بما إذا أفاد العلم لو لم نقل (2) بكونه مشروطا به، فإن النفر (2) إنما يكون لأجل التفقه، و تعلّم معالم الدين، و معرفة ما جاء به سيد المرسلين «صلى الله عليه و آله و سلم» كي ينذروا بها المتخلفين أو النافرين، على الوجهين (4) في تفسير الآية؛ لكي يحذروا (5) إذا أنذروا مطلقا؛ إذ الآية غير مسوقة لبيان غائية التحذر، حتى يكون لها إطلاق من هذه الجهة؛ بل مسوقة لبيان وجوب النفر، و من المعلوم: أنه مع عدم إحراز الإطلاق من جهة لا يمكن التمسك به من تلك الجهة كما قرر في محله، فلعل وجوب الحذر كان مشروطا بما إذا أفاد الإنذار العلم كما هو واضح.

=============

(1) كي يجب التحذر مطلقا حتى في صورة عدم حصول العلم بصدق المنذر.

(2) هذا إشكال ثان على الاستدلال بالآية، تعرض له الشيخ الأعظم أيضا.

و محصل هذا الإشكال: إحراز عدم الإطلاق في الآية، و ظهورها في اشتراط وجوب الحذر بإفادة الإنذار للعلم.

توضيحه: أن ظاهر الآية هو الإنذار بما تفقهوا فيه من معالم الدين، فلا بد أن يكون وجوب الحذر مترتبا على هذا النحو من الإنذار، فما لم يحرز أن الإنذار إنذار بما تفقهوا فيه لم يجب الحذر، و لا يجوز الحكم بوجوبه - عند الشك في أنه إنذار بما تفقهوا فيه أم لا - تمسكا بهذه الآية، لأنه حينئذ تمسّك بها مع الشك في الموضوع، و هو غير جائز على ما حرر في محله.

و بالجملة: فمقتضى هذا التقريب اشتراط وجوب العمل بقول المنذر بما إذا علم المنذر - بالفتح - أن المنذر - بالكسر - أنذر بما علمه من الأحكام الشرعية، و مع الشك فيه لا يجب التحذر؛ لعدم إحراز موضوعه. و ضمير «كونه» في قوله: «لو لم نقل بكونه مشروطا به» راجع على التحذر يعني: لو لم نقل بكون التحذر مشروطا بما أفاد العلم.

(3) بيان لاستظهار كيفية اشتراط وجوب التحذر بإفادة الإنذار العلم.

(4) متعلق بمحذوف - أي: كائنا هذا الترديد بين المتخلفين أو النافرين على الوجهين في تفسير الآية - و الوجهان أحدهما: إن المتفقهين رَجَعُوا هم النافرون. و الآخر إن المتفقهين هم المتخلفون، فعلى الأول: يرجع ضمير يتفقّهون، و لينذروا، رجعوا» إلى النافرين، و ضمير إليهم، لعلّهم إلى المتخلفين، و على الثاني، ينعكس الأمر إلا في رجعوا.

(5) أي: يحذر المتخلفون بناء على الوجه الأول، و يحذر النافرون بناء على الوجه

ص: 298

بها، و قضيته (1) إنما هو وجوب الحذر عند إحراز أن الإنذار بها (2) كما لا يخفى.

ثم أنه أشكل (3) أيضا: بأن الآية لو سلم دلالتها على وجوب الحذر مطلقا، فلا الثاني، و ضمير «بها» راجع إلى معالم الدين.

=============

(1) أي: و مقتضى كون وجوب النفر لأجل التفقه في الدين أنه لا بد من إحراز أن الإنذار كان بما تفقهوا فيه من معالم الدين حتى يجب التحذر، و ليس هذا إلا اشتراط وجوب التحذر بحصول العلم بأن الإنذار إنذار بمعالم الدين.

(2) خبر «أن الإنذار»، و ضميره راجع إلى معالم الدين.

(3) هذا إشكال على أصل الاستدلال بالآية بتقاريبها الثلاثة.

و توضيحه، يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين الإنذار و الإخبار، و حاصله: أن الإنذار عبارة عن الإخبار المشتمل على التخويف، المتوقف على فهم معنى للكلام؛ كي يخوف به، فالإنذار هو الإبلاغ مع التخويف كما في صحاح اللغة(1). هذا بخلاف الإخبار و الحكاية من الراوي، فإنه عبارة عن نقل الرواية إلى غيره، من دون إنذار و تخويف.

ثم الإبلاغ مع التخويف يرجع إلى الاجتهاد و الاستنباط؛ إذ لو لم يفهم من الخبر حكما تحريميا أو وجوبيا لم يخوف عليه، فيختص بالمجتهد و الواعظ، حيث صح أن يقال على وجه الافتاء أو الإرشاد: «يا أيها الناس اتقوا الله في شر الخمر، فإنه محرم يوجب استحقاق العقاب»، أو يقال: «من لم يصلّ كان جزاؤه جهنم».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الآية المباركة لا تصلح لإثبات حجية الخبر من حيث كونه خبرا، و إن سلمنا وجوب التحذر مطلقا، و إن لم يفد الإنذار علم المنذر - بالفتح - بصدق المنذر بالكسر - و ذلك لأن شأن الراوي نقل الرواية إلى غيره، من دون إنذار و تخويف، و الآية إنما تثبت حجية الخبر فيما إذا كان مع التخويف.

و من المعلوم: أن التوعيد و التخويف شأن الواعظ الذي وظيفته الإرشاد، و شأن المجتهد بالنسبة إلى العوام، فالآية لا تدل على اعتبار الخبر بما هو خبر؛ بل تدل على اعتباره بما هو إنذار.

فالأولى: الاستدلال بها على اعتبار الفتوى و الوعظ و الإرشاد، فالتخوف و التحذر يجب على المقلدين عقيب الإفتاء من المجتهدين، و على المتعظين و المسترشدين عقيب الوعظ و الإرشاد.

ص: 299


1- انظر: الصحاح 825:2 - نذر، الفروق اللغوية: 310/78، لسان العرب 203:5 - نذر، مختار الصحاح: 335 - نذر.

دلالة على حجية الخبر بما هو خبر، حيث إنه ليس شأن الراوي إلا الإخبار بما تحمله؛ لا التخويف و الإنذار، إنما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلد.

قلت (1): لا يذهب عليك أنه ليس حال الرواة في الصدر الأول في نقل ما تحملوا من النبي «صلى الله عليه و على أهل بيته الكرام» أو الإمام «عليه السلام» من الأحكام إلى الأنام، إلا كحال نقلة الفتاوى إلى العوام.

و لا شبهة في أنه يصح منهم التخويف في مقام الإبلاغ و الإنذار و التحذير بالبلاغ، فكذا من الرواة (2)، فالآية لو فرض دلالتها على حجية نقل الراوي إذا كان مع التخويف كان نقله حجة بدونه (3) أيضا؛ لعدم الفصل بينهما (4) جزما، فافهم (5).

=============

(1) جواب عن الإشكال المتقدم و حاصله: أن الرواة في الصدر الأول كانوا ممن يفهمون معاني الكلمات الصادرة عن المعصومين «عليهم السلام»، نظير نقلة الفتاوى في هذا العصر، فكما يصح التخويف من نقلة الفتاوي، فكذلك يصح من نقلة الروايات، فإذا كان نقل الرواية مع التخويف حجة كان نقلها بدونه حجة أيضا؛ لعدم القول بالفصل بينهما، فنقل الرواية يصير حجة مطلقا، سواء كان مع التخويف أو بدونه و هو المطلوب.

قوله: «كحال» خبر «ليس»، «و من الأحكام» بيان للموصول في «ما تحملوا»، يعني:

أن نقلة الروايات لا يخرجون عن كونهم نقلة؛ كعدم خروج نقلة الفتاوى عن عنوان النقلة بسبب الإنذار.

(2) أي: من غير الصدر الأول، و ضمير «منهم» راجع إلى نقلة الفتاوى.

(3) أي: بدون التخويف، و «أيضا» يعني: ككونه حجة مع التخويف.

(4) أي: بين نقل الراوي مع التخويف، و نقله بدون التخويف.

(5) لعله إشارة إلى إن مقوّم الحجية إذا كان هو الإنذار بمدلول الخبر، مع النظر و إعمال الفكر، فلا مجال لتسرية الحكم إلى الخبر من حيث كونه خبرا لاختلاف الموضوع، نعم؛ إن كان التخويف ظرفا للحجية لا مقوّما لها: فلا بأس بدعوى عدم الفصل بينهما، أو إشارة إلى أن التخويف أعم من أن يكون بالدلالة المطابقية أو الالتزامية، مثلا: إذا نقل الراوي أن الإمام «عليه السلام» قال: «تجب صلاة الجمعة» أو «يحرم شرب المسكر» فإن هذا النقل واجد للإنذار بالدلالة الالتزامية؛ لأن الإخبار عن الملزوم - و هو الوجوب أو الحرمة - إخبار التزاما عن اللازم، و هو استحقاق العقوبة على المخالفة؛ لكنه أخص من المدعى، و هو حجية الخبر مطلقا، سواء كان مفاده حكما إلزاميا

ص: 300

و منها: آية الكتمان: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا(1) الآية.

=============

أم غيره، و من المعلوم: أن الرواية التي لا تتضمن حكما إلزاميا ليس فيها إخبار عن العقاب؛ حتى يكون إنذارا، أو إشارة إلى أن وجوب الحذر مترتب على الإنذار الواجب؛ لا على مجرد صحة الإنذار، و من المعلوم: عدم وجوب الإنذار على الرواة من حيث إنهم رواة كعدم وجوبه على نقلة الفتاوى، و المفروض: وجوب الحذر في خصوص ما إذا وجب الإنذار؛ دون ما إذا صح و إن لم يكن واجبا.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - ما يتوقف عليه الاستدلال بآية النفر على حجية خبر الواحد و هو حسب ما يلي:

الأول: أن يكون المراد من النفر: هو النفر إلى طلب العلم لا إلى الجهاد.

الثاني: أن يكون المراد من الإنذار: إنذار كل واحد من النافرين قومه لا مجموعهم مجموع القوم حتى يفيد العلم.

الثالث: أن يكون المراد من الحذر: هو العمل بقول المنذر لا الخوف النفساني.

الرابع: أن يكون الحذر بمعنى العمل واجبا.

و هذه الأمور ثابتة إلا الأمر الرابع، و هو وجوب الحذر.

2 - إثبات وجوب الحذر بأحد وجوه:

الأول: أن كلمة «لعل» لا يمكن أن يراد بها الترجي الحقيقي في المقام؛ لاستحالته على الله تعالى، فيراد بها الدلالة على محبوبية العمل، و عليه: فالآية تدل على محبوبية الحذر، و هو ملازم لوجوبه شرعا؛ لعد الفصل، فكلّ من قال بمحبوبيته قال بوجوبه.

و عقلا: لأنه إما أن يكون هناك مقتض للعقاب أو لا.

فعلى الأول: وجب الحذر، و على الثاني: لم يحسن أصلا.

و هذا التقريب مشترك بين من يذهب إلى أن «لعل» موضوعة للترجي الحقيقي، و قد أريد بها هنا المحبوبية مجازا، كما هو المشهور، و بين من يذهب إلى أنها موضوعة للترجي الإيقاعي الإنشائي و الاختلاف إنما هو بحسب الداعي كما هو مختار المصنف.

الثاني: أن الإنذار واجب بظاهر الآية المباركة؛ لأنه غاية للنفر الواجب، فإذا لم يجب الحذر عند الإنذار كان وجوبه لغوا، فلا بد من الالتزام بوجوب الحذر؛ لئلا يكون الإنذار لغوا.

ص: 301


1- البقرة: 159.

الثالث: أن التحذر قد جعل غاية للإنذار الواجب، و غاية الواجب واجبة، فيكون التحذر واجبا. هذا خلاصة الكلام في وجوب الحذر.

3 - الإشكال على الوجه الأول: هو منع الملازمة بين حسن الحذر و وجوبه عقلا و شرعا؛ لأن الملازمة عقلا إنما هي فيما إذا كان الحذر عن العقوبة بقيام الحجة على التكليف، فيكون منجزا حتى يكون على مخالفته عقوبة، و المفروض: عدم قيام الحجة على التكليف، فلا ملازمة عقلا بين حسن الحذر و وجوبه؛ و ذلك لحسن الحذر من باب الاحتياط، من دون أن يكون واجبا.

و أما عدم الفصل بين حسن الحذر و وجوبه شرعا: فغير ثابت فيما لم يقم حجة على التكليف، فإن الثابت في المقام: هو عدم القول بالفصل؛ لا عدم الفصل في الواقع، و لعل في الواقع فصل لم يقل به أحد، فحينئذ: يكون الحذر حسنا من دون أن يكون واجبا.

4 - الإشكال على الوجه الثاني و الثالث:

أما على الوجه الثاني: فلأنه لا تنحصر فائدة الإنذار بوجوب التحذر تعبدا، و لو لم يحصل العلم؛ بل يمكن أن تكون فائدته هو وجوب التحذر عند حصول العلم بالمنذر به.

و أما على الوجه الثالث: فلأنه لا إطلاق يقتضي وجوب التحذر مطلقا، سواء حصل العلم أم لا؛ إذ ليس المتكلم في مقام بيان غايتية الحذر، كي يتمسك بإطلاق الكلام من هذه الجهة؛ بل في مقام بيان وجوب النفر، فلا ينفع في إثبات الإطلاق في الغاية؛ إذ من المحتمل أن تكون الغاية هو الحذر عند حصول العلم.

5 - الإشكال على جميع الوجوه الثلاثة: بأن غاية المدلول الآية المباركة هو حجية الإنذار، و هو الإبلاغ مع التخويف، هذا أجنبيّ عن حجية خبر الواحد بمعنى: مجرد نقل الرواية إلى الغير من دون أن يكون مشتملا على التخويف، فالآية لا تدل على اعتبار الخبر بما هو خبر؛ بل تدل على اعتباره بما هو إنذار، فالتوعيد و التخويف شأن الواعظ في مقام الإرشاد و شأن المجتهد في مقام الإفتاء. فالأولى الاستدلال بها على اعتبار الفتوى.

و خلاصة الجواب عن هذا الإشكال: أن الرواة في الصدر الأول كانوا نظير نقلة الفتاوى في هذا العصر، فكما يصح التخويف من نقلة الفتاوى، فكذلك يصح من نقلة الروايات.

ص: 302

و تقريب الاستدلال بها (1): أن حرمة الكتمان تستلزم القبول عقلا؛ للزوم لغويته بدونه.

=============

فإذا كان نقل الرواية مع التخويف حجة، كان نقلها بدونه حجة أيضا؛ لعدم القول بالفصل بينهما.

«فافهم» لعله إشارة إلى أن وجوب الحذر مترتب على الإنذار الواجب؛ لا على مجرد صحة الإنذار، و من المعلوم: عدم وجوب الإنذار على الرواة من حيث إنهم رواة كعدم وجوبه على نقلة الفتاوى، و المفروض: وجوب الحذر في خصوص ما إذا وجب الإنذار، دون ما إذا صح و إن لم يكن واجبا.

6 - رأي المصنف «قدس سره»:

عدم تمامية دلالة الآية على حجية خبر الواحد، كما يظهر من وجوه الإشكال من دون الجواب المقنع.

في آية الكتمان

(1) تقريب الاستدلال بآية الكتمان: يتوقف على أمور:

الأول: أن معاني القرآن عامة شاملة، لا تختص بطائفة دون طائفة، و لا تنحصر بعصر دون آخر، فهذه الآية المباركة و إن كان مورد نزولها علماء اليهود، الذين يكتمون ما كان موجودا في التوراة من البينات و الشواهد الدالة على نبوة نبينا محمد «صلى الله عليه و آله و سلم»؛ إلا إن ما يستفاد منها من حرمة كتمان الحق لا يختص بهم.

الثاني: هو كون المراد من البينات و الهدى أعم من الأصول و الفروع.

الثالث: أن الروايات الصادرة عن الأئمة «عليهم السلام» حق.

الرابع: أن حرمة الكتمان و وجوب الإظهار ملازم عقلا لوجوب القبول؛ و إلا كان وجوب الإظهار لغوا.

إذا عرفت هذه الأمور فنقول: إن تقريب هذه الآية على حجية خبر الواحد يكون نظير ما ذكر في آية النفر حيث قلنا هناك: بأن وجوب الإنذار كان يستلزم لوجوب الحذر و العمل بقول المنذر مطلقا، فيقال في تقريب هذه الآية: إن حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عند الإظهار مطلقا، فالآية تدل على حرمة كتمان البينات و الهدى بعد العلم بها، و من جملة البينات و الهدى: هي الأخبار الصادرة عن الأئمة «عليهم السلام»؛

ص: 303

و لا يخفى: أنه لو سلمت هذه الملازمة لا مجال (1) للإيراد على هذه الآية بما أورد على آية النفر من دعوى الإهمال، أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم، فإنها (2) تنافيهما، كما لا يخفى.

لكنها (3) ممنوعة، فإن اللغوية غير لازمة؛....

=============

إذ المراد من الهدى: كل ما يوجب الهداية. و الأخبار الصادرة عنهم «عليهم السلام» تكون موجبة للهداية، و كذا الأخبار تكون شواهد على تكاليف العباد، فحينئذ: يحرم على الرواة كتمان الروايات بعد سماعها من الأئمة «عليهم السلام»، فيجب القبول و العمل بها مطلقا عند إظهارهم بالنقل؛ إذ لو لا وجوب القبول عند الإظهار لكان وجوب الإظهار لغوا. هذا ما أشار إليه بقوله: «للزوم لغويته» أي: لغوية وجوب الإظهار، المستفاد من حرمة الكتمان «بدونه» أي: بدون قبول السامع؛ لأنه إنما أمر بالإظهار ليقبل السامع؛ و إلا فما فائدة الإظهار المأمور به.

(1) دفع لما أورده الشيخ - من الإشكالين الأولين في آية النفر - على الاستدلال بهذه الآية، حيث قال: «و يرد عليها ما ذكرنا من الإيرادين الأولين في آية النفر، من سكوتها و عدم التعرض فيها لوجوب القبول؛ و إن لم يحصل العلم عقيب الإظهار، أو اختصاص وجوب القبول المستفاد منها بالأمر الذي يحرم كتمانه و يجب إظهاره، فإن من أمر غيره بإظهار الحق للناس ليس مقصوده إلا عمل الناس بالحق، و لا يريد بمثل هذا الخطاب تأسيس حجية قول المظهر تعبدا و وجوب العمل بقوله؛ و إن لم يطابق الحق». «دروس في الرسائل، ج 2، ص 83».

و حاصل هذين الإيرادين: هو التشكيك في الإطلاق المثبت لحجية الخبر؛ و إن لم يفد العلم، كما هو المطلوب في حجيته و دعوى استظهار اشتراط الحجية بما إذا أفاد العلم.

و حاصل دفعهما: أنه - بعد تسليم الملازمة العقلية بين وجوب الإظهار و وجوب القبول - لا مجال لدعوى الإهمال، أو استظهار الاختصاص؛ إذ لا يعقل الإهمال في موضوع حكم العقل؛ لأنه إذا أحرز موضوع حكمه حكم به بنحو الإطلاق؛ و إلا لم يحكم أصلا.

(2) أي: الملازمة بين الإظهار، و بين وجوب القبول. «تنافيهما» أي: تنافي هذين الإشكالين.

(3) أي: و لكن الملازمة التي هي قوام دلالة الآية على الحجية «ممنوعة»، و هذا إشكال من المصنف على الاستدلال بالآية على حجية خبر الواحد و حاصله: منع الملازمة؛ لعدم

ص: 304

لعدم (1) انحصار الفائدة بالقبول تعبدا، و إمكان أن تكون حرمة الكتمان (2) لأجل وضوح الحق بسبب كثرة من أفتاه و بيّنه، لئلا يكون للناس على الله حجة بل كان له عليهم الحجة البالغة.

=============

انحصار الفائدة في القبول تعبّدا كما هو المطلوب لتثبت الملازمة، و يتم الاستدلال بها على حجية الخبر غير العلمي؛ لإمكان أن تكون الفائدة في وجوب الإظهار إفشاء الحق و إتمام الحجة؛ لا لأجل حجيته تعبدا.

(1) تعليل لعدم لزوم اللغوية، و قوله: «فإن اللغوية» تقريب لمنع الملازمة.

(2) الأولى أن يقال: «حرمة الكتمان و وجوب الإظهار يتضح الحق...» الخ.

فالمتحصل: أنه يجب الإظهار حتى يوضح الحق و يعرفه الناس، و هذا غير قبول خبر الواحد كي يكون حجة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - ما يتوقف عليه الاستدلال بآية الكتمان على حجية خبر الواحد و هي أمور:

الأول: عدم اختصاص حرمة كتمان الحق بعلماء اليهود؛ و إن كان مورد نزول الآية ذمهم لأجل كتمانهم ما في التوراة من شواهد نبوّة نبينا محمد «صلى الله عليه و آله و سلم».

الثاني: أن المراد من البينات و الهدى أعم من الأصول و الفروع، فالروايات الصادرة عن الأئمة «عليهم السلام» تكون من البينات و الهدى، و من مصاديق الحق الذي يجب إظهاره.

الثالث: أن حرمة الكتمان و وجوب الإظهار ملازم عقلا لوجوب القبول؛ لئلا يكون الإظهار لغوا.

و تقريب الاستدلال بها على حجية خبر الواحد - بعد هذه الأمور - أنه يحرم على الرواة كتمان الروايات، فيجب عليهم إظهارها بالنقل إلى غيرهم، و يجب على غيرهم القبول و العمل بها مطلقا؛ لئلا يلزم كون الإظهار بالنقل لغوا.

2 - دفع ما أورده الشيخ من الإشكالين على الاستدلال بها على الحجية:

الإشكال الأول: الإهمال و السكوت في الآية، و الإشكال الثاني: «اختصاص وجوب القبول بالأمر الذي يحرم كتمانه...» الخ.

و حاصل الإيرادين: التشكيك في الإطلاق المثبت لحجية الخبر و إن لم يفد العلم،

ص: 305

و منها: آية السؤال عن أهل الذكر: فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ (1).

و تقريب الاستدلال بها (1) ما في آية الكتمان.

=============

و دعوى استظهار الحجية بما إذا أفاد العلم.

و حاصل الدفع: أنه لا يعقل الإهمال في حكم العقل، و المفروض: هي الملازمة عقلا بين الإظهار و وجوب القبول.

3 - إشكال المصنف على الاستدلال بها على حجية خبر الواحد: بمنع الملازمة بين الإظهار و وجوب القبول مطلقا تعبدا و ذلك لعدم انحصار الفائدة في القبول تعبدا؛ لإمكان أن تكون الفائدة في وجوب إظهار لأجل إفشاء الحق بين الناس، و إتمام الحجة عليهم. و هذا غير قبول خبر الواحد تعبدا؛ كي يكون حجة.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

عدم تمامية الاستدلال بهذه الآية على حجية خبر الواحد؛ لما عرفت من الإشكال على الاستدلال بها على الحجية.

في آية السؤال

(1) أي: بآية السؤال. و الاستدلال بها يتضح بعد بيان أمور:

الأول: أن يكون المراد من أهل الذكر في الآية: مطلق أهل العلم، الشامل لعلماء أهل الكتاب كما هو ظاهرها موردا، و الأئمة «عليهم السلام» كما في الروايات الواردة في تفسير الآية: إن المراد بأهل الذكر هم الأئمة «عليهم السلام» و الرواة و الفقهاء، فأهل الذكر عنوان عام يشمل الجميع، يختلف باختلاف الموارد، ففي مقام إثبات النبوة الخاصة لنبينا محمد «صلى الله عليه و آله و سلم» يكون المراد من أهل الذكر علماء اليهود و النصارى.

و في زمان الأئمة «عليهم السلام»، بعد النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» يكون المراد منهم الأئمة «عليهم السلام»، فيجب السؤال منهم «عليهم السلام» فيما يتعلق بالأحكام الشرعية.

كما إن أهل الذكر في زمان الغيبة هم الرواة بالنسبة إلى الفقهاء، و الفقهاء بالنسبة إلى العوام، و المعنى في الجميع واحد، و إنما الاختلاف في المصاديق بحسب الموارد.

الثاني: أن يكون مورد السؤال أعم من الأصول و الفروع.

ص: 306


1- النحل: 43، الأنبياء: 7.

و فيه (1): أن الظاهر منها إيجاب السؤال لتحصيل العلم؛ لا للتعبد بالجواب.

و قد أورد عليها (2): بأنه لو سلّم دلالتها على التعبد بما أجاب أهل الذكر فلا دلالة الثالث: أن يكون وجوب السؤال ملازما لوجوب القبول مطلقا تعبدا؛ بأن لا يكون للسؤال فائدة إلا القبول تعبدا.

=============

الرابع: أن يكون حجية الخبر سببا لوجوب السؤال، بمعنى: أن الشارع أوجب السؤال من جهة كون الخبر حجة دون العكس، أي: لم يكن وجوب السؤال و القبول سببا لحجية الخبر حتى يقال: إن مقتضى الآية - حينئذ - هو حجية الإخبار المسبوقة بالأسئلة لا مطلقا.

إذا عرفت هذه الأمور يتضح لك: حجية مطلق الخبر، سواء كان مفيدا للعلم أم لا، و سواء كان مسبوقا بالسؤال أم لا، و هو المطلوب، هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال.

(1) أي: الإشكال في الاستدلال بآية السؤال، «أن الظاهر منها إيجاب السؤال لتحصيل العلم»؛ لأن السؤال ظاهر في طلب العلم عما لا يعلم، فالأمر به ظاهر في وجوب تحصيل العلم؛ إذ الظاهر من وجوب السؤال في صورة الجهل - كما يقتضيه قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ - هو كون السؤال لتحصيل العلم و يؤيده قول القائل:

«سل إن كنت جاهلا».

و ما قيل من: «إن لكل داء دواء و دواء الجهل السؤال» فإن الدواء رافع للمرض، فالسؤال يوجب ارتفاع مرض الجهل، و صيرورة الجاهل عالما، فلا تدل الآية على وجوب الأخذ بقول أهل الذكر تعبدا؛ بل في خصوص صورة إفادة العلم.

فالمتحصل: أن تعليق السؤال على عدم العلم يدل بالدلالة العرفية على كونه لأجل حصول العلم؛ لا لأجل العمل بالجواب تعبدا، و إن لم يفد العلم فلا ربط للآية بالمقام.

(2) أي: على الاستدلال بالآية، أعني: أورد الشيخ في «الرسائل» حيث قال: «إن المراد من أهل العلم ليس مطلق من علم و لو بسماع رواية من الإمام «عليه السلام»...» الخ.

و حاصل الإيراد: أن الآية - بعد تسليم دلالتها على وجوب القبول تعبدا - تدل على حجية قول أهل العلم؛ لا حجية ما يروي الراوي الذي لا يكون - من حيث كونه راويا - من أهل العلم؛ و ذلك لأن المراد من أهل العلم الذين يجب السؤال منهم ليس مطلق من علم، و لو من طريق الحواس الظاهرية، حتى تشمل الرواة؛ بل المراد بهم: من علم بالأدلة

ص: 307

لها على التعبد بما يروي الراوي، فإنه بما هو راو لا يكون من أهل الذكر و العلم، فالمناسب إنما هو الاستدلال بها على حجية الفتوى لا الرواية.

و فيه (1): أن كثيرا من الرواة يصدق عليهم أنهم أهل الذكر و الاطّلاع على رأي الإمام «عليه السلام»؛ كزرارة و محمد بن مسلم و مثلهما (2)، و يصدق على السؤال عنهم أنه (3) السؤال عن أهل الذكر و العلم، و لو كان السائل من...

=============

بعد إعمال الفكر و الاجتهاد بما يستفاد منها. و أهل العلم بهذا المعنى هم الفقهاء، فالآية تدل على وجوب حجية الفتوى، و وجوب التقليد؛ لا على وجوب العمل بالخبر و حجيته بما هو خبر لعارف بألفاظ الإمام «عليه السلام»؛ لعدم صدق أهل العلم عليه؛ لأن أهل العلم يطلق على من علم بالقوة الناطقة، و لا يصدق على من علم بالقوة الباصرة و السامعة.

فالمناسب جعل الآية من أدلة حجية الفتوى لا الرواية.

(1) جواب عن الإيراد المذكور، توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 489» - إن أهل العلم و إن كان لا يطلق اصطلاحا على من علم من طريق الحواس الظاهرية كما في المقام، حيث إن الراوي يعلم كلام المعصوم «عليه السلام» بالسمع، فلا يطلق عليه أهل العلم، و إنما يطلق على خصوص من علم بالقوة الناطقة؛ إلا إن عدة من الرواة كانوا واجدين لمرتبتين: الفتوى و الرواية، فالآية تدل على حجية قوله من حيث إنه من أهل الذكر، و يثبت اعتبار قوله من حيث كونه راويا: بعدم الفصل في اعتبار الرواية بينه و بين من لا يكون إلا راويا، كجملة من الرواة الذين لم يكونوا من أهل الذكر، يعني: كل من قال باعتبار رواية من كان واجدا لمرتبتين قال باعتبار رواية الواجد لمرتبة الرواية فقط.

كما يثبت اعتبار قول الراوي مطلقا بعدم الفصل أيضا بين ما يكون مسبوقا بسؤال، و بين غيره، فإن مقتضى هذه الآية و إن كان حجية قول أهل الذكر - دون الرواة - في خصوص ما يكون مسبوقا بالسؤال، فيكون أخص من المدعى؛ و لكن بعدم الفصل المزبور يتم المطلوب، و يندفع إشكال الأخصية.

(2) الأولى أن يقال: «أمثالهما». و ضمائر الجمع من قوله: «عنهم» إلى «غيرهم» راجعة على زرارة و محمد بن مسلم و مثلهما.

(3) فاعل «يصدق» أي: يصدق أن السؤال عنهم سؤال عن أهل الذكر.

لا يقال: إن سؤال الجهال عن مثل زرارة يعد سؤالا عن أهل الذكر، أما سؤال مثل محمد بن مسلم عن زرارة أو العكس، مما يكون السائل هو من العلماء لا يكون مشمولا

ص: 308

أضرابهم (1)، فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية وجب قبول روايتهم و رواية غيرهم من العدول مطلقا (2)؛ لعدم (3) الفصل جزما في وجوب القبول بين المبتدأ و المسبوق بالسؤال، و لا بين أضراب زرارة و غيرهم ممن لا يكون من أهل الذكر، و إنما يروي ما سمعه أو رواه، فافهم (4).

=============

للآية؛ لظهورها في سؤال الجهال من أهل الذكر؛ لا سؤال العلماء منهم، و بذلك تسقط جملة كبيرة من الرواة عن كونها مشمولة للآية؛ إذ الرواة كثير منهم علماء يسأل بعضهم من بعض، و يروي بعضهم عن بعض.

فإنه يقال: لا خصوصية في سؤال الجهال؛ فإن المعيار كون المسئول عنه أهل الذكر، فقوله حجة و لو كان السائل من أمثالهم.

(1) كهشام بن الحكم، و يونس بن عبد الرحمن، و أبان بن تغلب.

(2) يعني: سواء كان في مقام الجواب بما هو راو، أم بما هو مفت، و سواء كان مسبوقا بالسؤال أم لم يكن. فالصور أربع.

(3) تعليل لقوله «وجب قبول روايتهم». و الحاصل: أن الآية عامة تشمل جميع أخبار المطلع، سواء كان أهل الذكر من أهل كتاب، أم إمام معصوم، و سواء كان راويا أو مفتيا. و سواء كان في الأصول أو الفروع، و إنما نقول بوجوب العلم في أصول الدين لدليل آخر، و سواء كان علمه حاصلا من الحواس الظاهرة أم الباطنة، و كل تقييد في الآية يحتاج إلى دليل؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 4، ص 54».

(4) لعله إشارة إلى إن الآية ليست في صدد القبول إطلاقا، و إنما هي إرشاد إلى طريقة عقلائية في السؤال من أهل العلم، فلا تعبد شرعي في المقام لقبول قول الراوي مطلقا، فالقدر المتيقن هو كون المجيب من أهل الذكر و مسبوقا بالسؤال.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - تقريب الاستدلال بآية السؤال: يتوقف على أن يكون المراد بأهل الذكر مطلق أهل العلم، الشامل للرواة، و أن يكون مورد السؤال أعم من الأصول و الفروع، و حينئذ:

فيقال في تقريب الاستدلال: أن وجوب السؤال يستلزم وجوب القبول عند الجواب؛ و إلا لكان السؤال لغوا. و بضميمة العلم بعدم دخالة خصوصية السؤال في وجوب القبول؛ بل الموضوع هو نفس الجواب بما هو جواب يثبت وجوب قبول الخبر الابتدائي غير المسبوق بالسؤال.

ص: 309

2 - و فيه: أن ظاهر الآية لزوم السؤال لأجل تحصيل العلم؛ لا للقبول تعبدا، كما يقال عرفا: «سل إن كنت جاهلا»، فإنه ظاهر في كون السؤال طريقا إلى تحصيل العلم.

و يؤيد ذلك: أن مورد الآية هو معرفة النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و علاماته، فلا يعقل تكفلها جعل الحجية لقول المخبر. هذا مع إنه لا يكتفى في مثل ذلك بغير العلم؛ لأنه من أصول الدين.

3 - خلاصة ما أورده عليه الشيخ «قدس سره»: من إن موضوع السؤال أهل الذكر و هم أهل العلم، و بمناسبة الحكم و الموضوع يستكشف أن وجوب القبول من باب أنهم أهل علم و لجهة علمهم و معرفتهم، فلا تدل الآية على حجية خبر الراوي الذي لا ينقل سوى رواية ما صدر عن المعصوم «عليه السلام»، بدون أن يكون له معرفة بكلامه «عليه السلام».

4 - يمكن أن يقال في الجواب عن هذا الإيراد: بأن كثيرا من رواة الصدر الأول يصدق عليهم أنهم أهل العلم؛ كزرارة و محمد بن مسلم و غيرهما، فإذا وجب قبول روايتهم وجب قبول رواية غيرهم؛ لعدم الفصل جزما.

5 - «فافهم» لعله إشارة إلى عدم تمامية الاستدلال بها على حجية خبر الواحد بوجوه:

الأول: أن ظاهرها بحسب المورد و السياق هو: كون المراد من أهل الذكر علماء اليهود، فهي أجنبية عن حجية الخبر.

الثاني أن ظاهر بعض النصوص كون المراد من أهل الذكر أهل البيت «عليهم السلام».

الثالث: أن ما ذكر في الجواب عن الإيراد من عدم الفصل بين رواية مثل زرارة و بين رواية غيره غير سديد؛ لأن موضوع القبول ليس رواية العالم حتى يقال بعدم الفصل؛ بل موضوع القبول هو جواب أهل العلم لجهة علمهم؛ بحيث يكون لذلك دخل في القبول، و معه لا قطع بعدم الفصل بينهم و بين من لا يكون من أهل الذكر؛ لعدم ملاك القبول في خبره.

6 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو عدم تمامية الاستدلال بهذه الآية على حجية خبر الواحد؛ لما عرفت من وجوه الإشكال.

ص: 310

و منها: آية الأذن وَ مِنْهُمُ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلنَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ (1).

=============

في آية الأذن

قبل بيان تقريب الاستدلال بها على حجية خبر الواحد، ينبغي بيان وجه نزولها. عن القمي في تفسيره: «أنه نمّ منافق على النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» فأخبره الله ذلك، فأحضره النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و سأله، فحلف أنه لم يكن شيء مما ينمّ عليه، فقبل منه النبي «صلى الله عليه و آله و سلم»، فأخذ هذا الرجل بعد ذلك يطعن على النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و يقول: إنه يقبل كل ما يسمع، أخبره الله أني أنمّ عليه و أنقل أخباره، فقبل، فأخبرته أني لم أفعل فقبل» ز فمعنى الآية: من المنافقين من يؤذي النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» بالقول حيث يقول: هو أذن أي قوة سامعة؛ لأنه يستمع إلى كل ما يقال، و يصغي إليه و يقبله، و وصف الله تعالى نبيه «صلى الله عليه و آله و سلم» بقوله: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ (2) الآية.

و تقريب الاستدلال بها على حجية خبر الواحد: يتوقف على أمور:

الأول: أن يكون المراد من إيمانه للمؤمنين: هو التصديق الحقيقي بمعنى: ترتيب الأثر الواقعي على قولهم و كلامهم؛ لا التصديق الصوري بمعنى: إظهار القبول، و عدم المبادرة إلى التكذيب.

الثاني: أن يكون وجوب تصديقهم ملازما لحجية قولهم؛ إذ لا معنى لوجوب التصديق إلا الحجية.

الثالث: أن يكون مدحه تعالى لنبيه «صلى الله عليه و آله و سلم» بتصديقه للمؤمنين تصديقا حقيقيا، حتى يكون التصديق الحقيقي حسنا بسبب المدح، و العمدة هو: إثبات الأمر الأول، و هو: أن يكون التصديق حقيقيا.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة، فيقال في تقريب الاستدلال بها على حجية خبر الواحد: إن الله تعالى مدح نبيه «صلى الله عليه و آله و سلم» بأنه يصدق المؤمنين، و تسرية الحكم من النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» إلى غيره إما من جهة دلالة الآية على حسن التصديق مطلقا، من غير فرق بين النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و غيره، و إما من جهة ما دل على حسن المتابعة و التأسي بالنبي «صلى الله عليه و آله و سلم»،

ص: 311


1- التوبة: 61.
2- تفسير القمي 300:1، بحار الأنوار 48/95:22.

فإنه (1) «تبارك و تعالى» مدح نبيه بأنه يصدق المؤمنين، و قرنه (2) بتصديقه تعالى.

و فيه (3): أولا: أنه إنما مدحه بأنه أذن، و هو سريع القطع لا الأخذ بقول الغير تعبدا.

=============

و حسن التصديق يلازم حجية الخبر، و المصدق كل واحد من المؤمنين لا جميعهم بعنوان الاجتماع، فدلت الآية على حجية كل خبر مؤمن و إن لم يفد العلم، و لا يمكن حمله على ما إذا أفاد العلم؛ لأن التصديق في صورة إفادة العلم ليس من جهة تصديق المؤمن من حيث إنه مؤمن حتى يكون مدحا، و إنما هو من جهة العلم بالواقع، فلا يكون مدحا، و ظاهر الآية: أنها في مقام المدح، فيكون تصديق المؤمن بما هو تصديق المؤمن محبوبا، خصوصا مع اقترانه بتصديقه له «تبارك و تعالى».

و من المعلوم: أن تصديقه تعالى لازم، فكذا ما بعده من تصديق المؤمنين، فدلت الآية المباركة على حجية قول المؤمن.

قال الشيخ ما هذا لفظه: «مدح الله «عزّ و جل» رسوله بتصديقه للمؤمنين؛ بل قرنه بالتصديق بالله «جل ذكره»، فإذا كان التصديق حسنا يكون واجبا...» الخ. راجع «دروس في الرسائل، ج 2، ص 90».

(1) هذا تقريب الاستدلال بالآية على حجية خبر الواحد، و قد عرفت توضيح ذلك.

(2) أي: و قرن الله تصديق النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» للمؤمنين بتصديق النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» له «تبارك و تعالى»، فكما لا يتصف تصديق النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» لله تعالى إلا بالحسن، فكذا تصديق النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» للمؤمنين ليس إلا حسنا، و لازم ذلك: أن قول المؤمن لا بد أن يكون معتبرا في نفسه حتى يتصف بالحسن.

(3) أورد المصنف على الاستدلال بالآية بوجهين، ذكرهما الشيخ في الرسائل:

أولهما: ما تعرض له الشيخ بقوله: «إن المراد بالأذن سريع التصديق، و الاعتقاد بكل ما يسمع؛ لا من يعمل تعبدا بما يسمع من دون حصول الاعتقاد بصدقه، فمدحه بذلك بحسن ظنه بالمؤمنين و عدم اتهامهم».

و ملخص هذا الإيراد: أن الاستدلال بالآية مبني على أن يكون المراد من الأذن:

استماع القول ثم التصديق و العمل به، و إن لم يحصل العلم منه، فيرد عليه: بأن المراد بالأذن: ليس مجرد استماع الكلام؛ بل المراد به: سرعة الاعتقاد بالخبر، فمفاده - حينئذ - أن النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» كان سريع الاعتقاد، و كان يحصل له العلم من

ص: 312

و ثانيا (1): أنه إنما المراد بتصديقه للمؤمنين: هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم، إخبار المؤمنين، فيصدقهم بعد العلم بصدقهم، و من المعلوم: أن العلم حجة، فآية الأذن أجنبية عن المقام؛ لأن محل الكلام في المقام هو: اعتبار قول المؤمن تعبدا؛ لا لأجل حصول العلم بقوله.

=============

لا يقال: إن سرعة القطع و الاعتقاد ممدوحة في غير النبي «صلى الله عليه و آله و سلم»، فإنها فيه منافية للعصمة.

فإنه يقال: إن المدح على إبرازه نفسه الشريفة بمنزلة سريع القطع، أو إنه تعلق بأخلاقه الحميدة؛ و هي حسن معاملته و معاشرته مع المؤمنين، و حسن ظنه بهم، و عدم اتهامه بالكذب.

و كيف كان؛ فهذه الآية أجنبية عما نحن فيه، و لا ربط لها بالمقام أصلا.

(1) هذا هو الوجه الثاني الذي ذكره الشيخ بقوله: «و ثانيا: إن المراد من التصديق في الآية ليس جعل المخبر به واقعا...» الخ. و توضيح هذا الإيراد يتوقف على مقدمة و هي: إن التصديق على قسمين:

الأول هو الصوري.

و الثاني: هو الحقيقي. و الفرق بينهما: أن معنى التصديق الصوري: هو إظهار تصديق و قبول ما أخبر به المخبر؛ و لو مع العلم بكذبه في مقابل إظهار كذبه و ردّه.

و معنى التصديق الحقيقي: هو جعل المخبر به واقعا، ثم ترتيب آثار الواقع عليه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الاستدلال بالآية على حجية خبر الواحد يكون مبنيا على أن يكون المراد من التصديق هو المعنى الثاني؛ لأن التصديق الحقيقي يستلزم حجية قول المخبر، و التصديق الصوري لا يستلزم حجية قول المخبر؛ لأن المفروض: هو إظهار التصديق لا العمل بقول المخبر.

ثم التصديق مع قطع النظر عن القرينة و إن كان المتبادر منه التصديق الحقيقي؛ إلا إن المراد من التصديق في الآية بمقتضى القرائن: هو التصديق الصوري، و من القرائن: أن النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» قد جعل أذن خير لجميع الناس حتى المنافقين، كما يقتضيه عموم الخطاب بقوله تعالى: أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ، و كون النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» أذن خير لجميع الناس لا يصح إلا أن يكون المراد من التصديق التصديق الصوري؛ إذ على فرض التصديق الحقيقي لا يكون النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» أذن خير لجميع الناس؛ بل للمخبر فقط، مثلا: إذا أخبر شخص بأن بكرا شرب الخمر،

ص: 313

و لا تضر غيرهم؛ لا التصديق بترتيب جميع الآثار، كما هو المطلوب في باب حجية الخبر، و يظهر ذلك من تصديقه للنمّام بأنه ما نمّه، و تصديقه لله تعالى بأنه نمّه كما هو فإن التصديق المطلوب في حجية الخبر هو ترتيب آثار الصدق على إخباره؛ بأن يجري على بكر حد شرب الخمر، و من المعلوم: أنه ليس خيرا لبكر؛ بل هو خير للمخبر فقط لتصديقه.

=============

و من القرائن ما في تفسير العياشي عن الصادق «عليه السلام» من تعليل تصديق المؤمنين بقوله: «لأنه «صلى الله عليه و آله و سلم» كان رءوفا رحيما بالمؤمنين»(1) حيث إن الرأفة بجميع المؤمنين تنافي قبول قول أحدهم على الآخر بمعنى ترتيب الآثار على قوله: و إن أنكر المخبر عنه وقوع ما نسب إليه، فمع الإنكار لا بد من تكذيب أحدهما، فلا يكون أذن خير للجميع.

فكون النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» رأفة و رحمة للناس كافة لا يناسب التصديق الحقيقي؛ بأن يقبل النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» قول بعضهم على ضرر بعضهم الآخر.

فالمراد من التصديق بالنسبة إلى المؤمنين: هو التصديق الصوري، فلا تدل الآية على حجية خبر الواحد؛ لأن دلالتها على الحجية مبنية على أن يكون المراد من التصديق هو:

التصديق الحقيقي، و ليس الأمر كذلك؛ بل المراد منه هو الصوري لا التصديق بمعنى:

ترتيب جميع آثار الصدق.

و يؤيده أيضا - كما أفاده الشيخ - بل يشهد له ما في تفسير القمي «قدس سره»: من أن الآية الشريفة نزلت في عبد الله بن نفيل أو نوفل. أنه كان يسمع كلام النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و ينقله إلى المنافقين، فأوقف الله نبيه «صلى الله عليه و آله و سلم» على هذه النميمة، فأحضره النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و سأله عنها، فحلف له أنه لم يكن شيء مما نمّ عليه، فقبل منه النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» فرجع إلى أصحابه فقال: إن محمدا أذن، أخبره الله أني أنمّ عليه و أنقل أخباره، فقبل، و أخبرته أني لم أفعل ذلك فقبل، فأنزل الله على نبيه «صلى الله عليه و آله و سلم»: وَ مِنْهُمُ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلنَّبِيَّ ... (2) الآية».

و من المعلوم: أن تصديقه «صلى الله عليه و آله و سلم» للمنافق لم يكن إلا إظهارا

ص: 314


1- تفسير العياشي 83/95:2، بحار الأنوار 13/85:100.
2- تفسير القمي 300:1، بحار الأنوار 48/95:22.

المراد (1) من التصديق في قوله «عليه السلام»: «فصدّقه و كذبهم»، حيث قال - على ما في الخبر - «يا محمد كذّب سمعك و بصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة (2) أنه قال قولا، و قال: لم أقله، فصدقه و كذبهم»، فيكون مراده تصديقه بما ينفعه و لا يضرهم، و تكذيبهم فيما يضره و لا ينفعهم، و إلا (3) فكيف يحكم بتصديق للقبول و عدم مبادرته لتكذيبه، و هو معنى التصديق الصوري الظاهري، فيكون المراد من تصديقه بالله: هو التصديق الحقيقي، و من تصديقه «صلى الله عليه و آله و سلم» للمؤمنين هو التصديق الظاهري، و ربما يشهد بتغاير معنى الإيمان في الموضعين: تعديته في الأول:

=============

بالباء، و في الثاني: باللام.

و كيف كان؛ فبعد ملاحظة هذه القرائن و غيرها لا يبقى مجال لتوهم إرادة التصديق المطلوب في باب حجية الخبر، و هو التصديق الحقيقي بمعنى: ترتيب جميع آثار الصدق على المخبر به تعبدا من قوله تعالى: وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ، فلا تدل هذه الآية أيضا على حجية خبر الواحد.

(1) أي: ترتيب خصوص الآثار النافعة دون الضارة هو المراد من التصديق في قوله:

«فصدّقه و كذّبهم».

(2) القسامة: هو عدلان، فخمسون قسام مائة عادل، و في بعض الكتب: إن القسامة هم الجماعة الذين يحلفون خمسين حلفا على الدم في باب القتيل المجهول، بمعنى: إذا اجتمعت جماعة من أولياء القتيل، فادعوا على رجل أنه قتل صاحبهم، و معهم دليل دون البينة، فحلفوا خمسين يمينا أن المدعى عليه قتل صاحبهم، فهؤلاء الذين يقسمون على دعواهم يسمّون قسامة.

و كيف كان؛ فمعنى الرواية: أنه إن شهد عندك خمسون رجلا، مع حلفهم بالله أن مؤمنا فعل كذا أو قال كذا، و قال لك ذلك المؤمن إني لم أفعله أو لم اقله «فصدّقه»، أي:

ترتب على قوله ما يوجب نفعه، و قل له: إنك ما فعلت أو ما قلت بما شهد خمسون قسامة عليه و تعتبر هذه الشهادة منهم كأنها لم تكن، و هذا المعنى ينفعه و لا يضرهم، و يكون مراد الإمام «عليه السلام» من قوله: «و كذبهم» هو تكذيبهم فيما يضره أي: لا ترتب على شهادتهم أثرا بالنسبة إلى ذلك الأخ.

فالحاصل: إنه ليس المراد من تصديق الأخ هو: التصديق الحقيقي، كما إنه ليس المراد من تكذيب القسامة هو: التكذيب الحقيقي؛ لئلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح.

(3) أي: و إن لم يكن المراد بالتصديق في الآية الشريفة ترتيب خصوص الآثار النافعة

ص: 315

الواحد و تكذيب خمسين ؟ و هكذا المراد بتصديق المؤمنين في قصة إسماعيل (1) فتأمل جيدا.

=============

دون الضارة؛ بل كان المراد: ترتيب جميع الآثار الضارة و النافعة - كما هو مقتضى التصديق الحقيقي، و هو المطلوب في باب حجية خبر الواحد - فكيف يحكم بتصديق الواحد و تكذيب خمسين ؟ و الاستفهام إنكاري، يعني: لا يحكم بتصديق الواحد و تكذيب خمسين على فرض التصديق الحقيقي؛ لأنه مستلزم لترجيح المرجوح على الراجح.

(1) خلاصة قصة إسماعيل ابن الإمام الصادق «عليه السلام»: أنه كان لإسماعيل دنانير، و أراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن، فقال له الإمام «عليه السلام»: «يا بني:

أما بلغك أنه يشرب الخمر؟». قال: سمعت الناس يقولون. فقال: «يا بني إن الله «عزّ و جل» يقول: يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ، يقول يصدق الله و يصدق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المسلمون فصدقهم»(1). فإنه ليس المراد بتصديقهم في المقام ترتيب آثار شرب الخمر على الرجل؛ بل المراد: عدم ائتمانه، فليس المراد ترتيب الأثر الضار؛ بل ترتيب أثر ينفعه و لا يضر غيره، «فتأمل جيدا» حتى لا تقول: إن الرواية تؤيد ظاهر الآية من ترتيب جميع الآثار على قول المؤمنين، فتدل على حجية خبر الواحد. و تركنا بعض الكلام في المقام رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» و يتلخص البحث في أمور:

1 - تقريب الاستدلال بآية الأذن على حجية الواحد: يتوقف على أن يكون المراد بإيمان النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» للمؤمنين هو: التصديق الحقيقي، و أن يكون وجوب تصديقهم ملازما لحجية قولهم، و أن يكون مدحه تعالى للنبي «صلى الله عليه و آله و سلم» بتصديقه للمؤمنين تصديقا حقيقيا، ثم تسرية الحكم من النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» إلى غيره من جهة دلالة الآية على حسن التصديق مطلقا، من غير فرق بين النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و غيره، فتدل الآية على حجية خبر كل مؤمن؛ و إن لم يفد العلم.

ص: 316


1- الكافي 1/299:5، الفصول المهمة في أصول الأئمة «عليهم السلام» 964/611:1.

2 - الإشكال على الاستدلال بها بوجهين:

الأول: أن الأذن يكون بمعنى: سريع القطع، بمدحه الله تعالى بأنه سريع القطع لأجل حسن ظنه بالمؤمنين، و من المعلوم: أن القطع حجة، فلا ربط للآية بالمقام و هو أخذ قول الغير تعبدا.

الثاني: أن المراد بتصديقه للمؤمنين هو: التصديق الصوري الظاهري، بمعنى:

تصديقهم فيما ينفعهم و لا يضر غيرهم، و ليس المراد من تصديقهم: ترتيب جميع آثار الخبر، كما هو المطلوب في باب حجية الخبر.

و يشهد لذلك: أنه صدق النمام بأنه لم ينمّ عليه، في الوقت الذي أخبره الله بأنه نمّ عليه، فلا معنى لتصديقه إلا عدم ترتيب آثار النميمة الشخصية.

3 - المراد من التصديق في قوله «عليه السلام»: «فصدقه و كذبهم»، و ملخص ما ورد في الخبر: قال الإمام «عليه السلام»: «يا محمد كذّب سمعك و بصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة أنه قال قولا، و قال: لم أقله «فصدقه». أي: ترتّب على قوله:

ما يوجب نفعه و لا يضرهم، «و كذبهم» فيما يضره، فليس المراد من تكذيب القسامة هو التكذيب الحقيقي، كما إنه ليس المراد من تصديق الأخ هو التصديق الحقيقي.

و كذا الكلام في قصة إسماعيل ابن الإمام الصادق «عليه السلام»، قال: «يا بني إن الله «عزّ و جل» يقول: يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم»، فإنه ليس المراد بتصديقهم: ترتيب آثار شرب الخمر على الرجل؛ بل المراد عدم ائتمانه، فليس المراد ترتيب الأثر الضار؛ بل ترتيب أثر ينفعه و لا يضر غيره.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

عدم تمامية الاستدلال بآية الأذن على حجية خبر الواحد؛ لما عرفت من: الإشكال على الاستدلال، من دون جواب عنه أصلا.

ص: 317

ص: 318

فصل

في الأخبار التي دلت على اعتبار الآحاد.

و هي و إن كانت طوائف كثيرة (1)؛ كما يظهر من مراجعة الوسائل و غيرها؛ إلا إنه

=============

في الأخبار الدالة على حجية خبر الواحد

في الأخبار الدالة على حجية خبر الواحد(1) أي: كلها بين ما يدل على اعتبار خبر العادل، و خبر الثقة العادل، و خبر الثقة، و خبر الشيعة. و نكتفي بذكر بعض الروايات من كل طائفة رعاية للاختصار.

الطائفة الأولى هي الأخبار العلاجية، الدالة على أن حجية أخبار الآحاد في نفسها كانت مفروغا عنها عند الأئمة «عليهم السلام» و أصحابهم، و أنهم اتفقوا على العمل بها، و إنما توقفوا عن العمل بها من جهة المعارضة، و لذا سأل الأصحاب منهم «عليهم السلام» عن حكمها حال التعارض، فأرجعهم الأئمة «عليهم السلام» على العمل بالمرجحات إن كانت، أو التخيير إن لم تكن، فهذه الأخبار تدل على حجية الأخبار المتعارضة تعيينا أو تخييرا. فالمستفاد منها: هو كون أصل حجية الأخبار المتعارضة مسلّمة بين الأصحاب - و هو المطلوب - و إنما الكلام في التعيين أو التخيير عند التعارض؛ و إلا لم يكن معنى لبيان العلاج.

منها: مقبولة عمر بن حنظلة و فيها: «الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقهما و أصدقهما في الحديث»(1)، و موردها و إن كان في الحاكمين إلا إن الترجيح فيها يرجع إلى ترجيح إحدى الروايتين اللتين استند إليهما الحاكمان على الأخرى، فيجب الأخذ بالحكم المستند إلى ما له مرجّح.

و منها: صحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، إن على كل حق حقيقة و على كل صواب نورا،

ص: 319


1- الكافي 67:1 /جزء من ح 10، تهذيب الأحكام 301:6 /جزء من ح 845، الوسائل 106:27، جزء من ح 3334.

يشكل الاستدلال بها على حجية أخبار الآحاد بأنها (1) أخبار آحاد، فإنها غير متفقة فما وافق كتاب الله فخذوه، و ما خالف كتاب الله فدعوه»(1).

=============

الطائفة الثانية: التي تدل على حجية أخبار الآحاد هي: الأخبار الآمرة برجوع الناس إلى أشخاص معينين من الأصحاب و الرواة؛ كقول الإمام «عليه السلام»: «إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس» مشيرا إلى زرارة(2). و في رواية أخرى: «ما رواه زرارة عن أبي جعفر «عليه السلام» فلا يجوز رده»، و قوله «عليه السلام»: «عليك بزكريا بن آدم المأمون على الدين و الدنيا»(3).

الطائفة الثالثة: التي تدل على حجية أخبار الآحاد هي: الأخبار الآمرة بوجوب الرجوع إلى الثقات، و عدم جواز التشكيك فيما يروى عنهم؛ كقوله «عليه السلام»: «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يؤدّيه ثقاتنا»، و مثل قول الحجة «عجل الله فرجه الشريف»: «و أما الحوادث الواقعة: فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، و أنا حجة الله عليهم»(4).

الطائفة الرابعة: هي الأخبار الآمرة بحفظ الروايات و ضبطها و الاهتمام بشأنها، مثل:

موثقة عبيد بن زرارة قال: قال أبو عبد الله «عليه السلام»: «احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها»(5).

و مثل: النبوي المستفيض؛ بل المتواتر: «إنه من حفظ على أمتي أربعين حديثا بعثه الله فقيها عالما يوم القيامة»(6). و إطلاق هذا الحديث يدل على مطلوبية حفظ الحديث للعمل به، سواء كان خبرا واحدا أو متواترا.

فالمتحصل: أن دلالة هذه الأخبار على حجية أخبار الآحاد واضحة لا تحتاج إلى البيان و التوضيح.

(1) أي: بأن الأخبار المتقدمة أخبار آحاد، بيان للإشكال و متعلق ب «يشكل».

و حاصل الإشكال في المقام: أن الاستدلال بالأخبار المتقدمة على حجية أخبار

ص: 320


1- الوسائل 33368/119:27، عن رسالة الراوندي.
2- اختيار معرفة الرحال 347:1 /ذيل ح 216، الوسائل 33434/143:27.
3- اختيار معرفة الرحال 1112/858:2، الاختصاص: 870، بحار الأنوار 68/251:2.
4- كمال الدين: 383 /ذيل ح 4، الوسائل 33424/140:27.
5- الكافي 10/52:1، الوسائل 33262/81:27.
6- مسند زيد بن علي «عليه السلام»: 443، الأربعون للشهيد: 19، الوسائل 33317/99:27.

على لفظ و لا على معنى، فتكون (1) متواترة لفظا أو معنى.

و لكنه (2) مندفع بأنها و إن كانت كذلك؛ إلا إنها متواترة إجمالا،...

=============

الآحاد مستلزم للدور الباطل، بتقريب: أن هذه الأخبار في أنفسها أخبار آحاد، و ليست متواترة لا لفظا و لا معنى، فحينئذ: لو استدل بها على حجية أخبار الآحاد لزم الدور؛ لأنه استدلال بأخبار الآحاد على حجية أخبار الآحاد، فإن الاستدلال بهذه الأخبار يتوقف على حجية مطلق أخبار الآحاد بما فيها هذه الأخبار.

فلو كانت حجية مطلق أخبار الآحاد متوقفة على الاستدلال بهذه الأخبار لزم الدور؛ إذ لازمه: توقف حجية هذه الأخبار على أنفسها، و هو دور باطل.

(1) أي: ليست الأخبار المتقدمة متفقة على لفظ و لا على معنى؛ حتى تكون متواترة لفظا أو معنى.

(2) أي: و لكن الإشكال على الاستدلال مندفع.

و حاصل الدفع: إن الأخبار التي دلت على حجية أخبار الآحاد و إن كانت غير متفقة على لفظ و لا على معنى، كي تكون متواترة لفظا أو معنى؛ و لكنها متواترة إجمالا، بمعنى: أنه يعلم إجمالا بصدور بعضها على اختلاف مضامينها عن المعصوم «عليه السلام»، و قد عرفت شرح كل من التواتر اللفظي و المعنوي و الإجمالي عند الجواب عن المانعين.

و كيف كان؛ فحينئذ: يندفع إشكال الدور؛ لأنها ليست أخبار آحاد حتى يلزم الدور، غاية الأمر: مقتضى تواترها الإجمالي هو الأخذ بالمتيقن - و هو أخصها مضمونا و أضيقها دائرة - و هو خبر العدل الإمامي، فإنه الجامع بين الكل، فإذا دل بعضها مثلا على حجية خبر الثقة، و بعضها على حجية الثقة العدل، و بعضها على حجية الثقة العدل المشهور بين الأصحاب، فالحجة بين الكل هو ما دل على حجية خبر الثقة العدل المشهور، فإنه الذي توافقت عليه أخبار الحجية، و أطبقت على صحة مؤداه.

و هذا يكفي في إثبات ما هو المدعى، و هو حجية خبر الواحد في الجملة، يعني: على نحو الإيجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي، أو نقول: إن هذا المقدار و إن لم يكف بمعظم الفقه و لا بقليل منه لندرته جدا؛ و لكن إذا كان في أخبار الحجية خبر بهذه الخصوصيات الثلاث، و قد دل على حجية ما هو أعم و أوسع؛ كحجية خبر الثقة مطلقا، من غير ضمّ خصوصية أخرى إلى الوثاقة، فنتعدى عنه إلى الأعم الأوسع، و يكفي بمعظم الفقه لكثرته بلا كلام.

ص: 321

ضرورة (1): أنه يعلم إجمالا بصدور بعضها منهم «عليهم السلام»، و قضيته (2) و إن كان حجية خبر دل على حجية أخصها مضمونا؛ إلا إنه يتعدى عنه (3) فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصية (4)، و قد دل على حجية ما كان أعم (5)، فافهم (6).

=============

قوله: «كذلك» أي: غير متواترة لفظا أو معنى.

(1) تعليل لقوله: «إلا أنها متواترة إجمالا».

(2) أي: و مقتضى العلم الإجمالي بصدور بعض هذه الأخبار؛ «و إن كان حجية خبر دل...» الخ.

(3) أي: عن أخصها مضمونا.

(4) و هي كون المخبر ثقة عدلا.

(5) كصحيحة أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن «عليه السلام» قال: سألته و قلت:

من أعامل ؟ و عمن أخذ؟ و قول من أقبل ؟ فقال: «العمري ثقتي، فما أدّى إليك عني فعني يؤدي، و ما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له و أطع، فإنه الثقة المأمون»(1). فهذه الصحيحة وافية بإثبات المطلوب؛ إذ هي ظاهرة في حجية قول الثقة مطلقا، سواء كان إماميا أم غيره، فإن تعليل الإمام لوجوب قبول رواية العمري بأنه الثقة المأمون تعليل بمطلق الوثاقة و المأمونية لا الوثاقة المختصة بأمثال العمري، و من المعلوم: أن العبرة بعموم التعليل لا بخصوصية المورد، و مقتضاه: الالتزام بحجية خبر الثقة مهما كان مذهبه.

(6) لعله إشارة إلى عدم جواز التعدي عما هو أخصها مضمونا إلى غيره؛ لأن تلك القيود دخيلة في موضوع حجية خبر الواحد، و لا أقل من احتمال دخلها فيه، فمقتضى الاحتياط: اعتبارها.

أو إشارة إلى أن الأخبار الدالة على حجية خبر الثقة متواترة معنى لأنها كثيرة، فلا حاجة إلى الالتزام بالتواتر الإجمالي، ثم تعدى من أخصها مضمونا إلى ما كان أعم.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - الاستدلال بكل واحد واحد من الأخبار الدالة على حجية خبر الواحد لا محصل له؛ لكونه مستلزما للدور.

و إنما الصحيح هو الاستدلال بمجموعها بلحاظ تواترها لا لفظا؛ لعدم اتفاقها على

ص: 322


1- الكافي 329:1 /جزء من ح 1، الوسائل 33419/138:27.

لفظ واحد؛ بل لتواترها إما بالتواتر المعنوي لاتفاقها على حجية خبر العدل أو الثقة، أو بالتواتر الإجمالي للعلم الإجمالي بصدور بعضها عن المعصوم «عليه السلام»، فيؤخذ بأخصها مضمونا للعلم بثبوته.

2 - قد صنف الشيخ «قدس سره» هذه الروايات إلى أصناف:

منها: ما ورد في الخبرين المتعارضين من الأخذ بالأعدل و الأصدق و المشهور، و التخيير عند التساوي، مما يظهر منه: حجية الخبر غير المقطوع صدوره.

و منها: ما دل على إرجاع بعض الرواة إلى بعض أصحابهم؛ كإرجاعه إلى زرارة و محمد بن مسلم و أمثالهما، مما يظهر منه: حجية خبر هؤلاء و إن لم يكن مفيدا للعلم.

و منها: ما دل على وجوب الرجوع إلى الرواة و الثقات و العلماء.

و منها: ما دل على الأمر بحفظ الحديث و كتابته، مما يظهر منه: حجية قول حافظ الحديث؛ إذ لو لا ذلك لما كان معنى للحفظ و الكتابة.

3 - المتيقن هو الأخذ بأخصها مضمونا؛ لأنه الجامع بين الكل، فإذا دل بعضها مثلا على حجية خبر الثقة، و بعضها على حجية خبر الثقة العدل، و بعضها على حجية الثقة العدل المشهور بين الأصحاب، فالحجة بين الكل هو الأخير، و هذا المقدار يكفي لإثبات ما هو المطلوب من حجية خبر الواحد في الجملة.

«فافهم» لعله إشارة إلى أن الأخبار الدالة على حجية خبر الثقة متواترة بالتواتر المعنوي، فيتم الاستدلال بها على حجية خبر الثقة بلا إشكال أصلا.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

تمامية الاستدلال بالأخبار على حجية خبر الواحد.

ص: 323

ص: 324

فصل

في الإجماع على حجية الخبر.

و تقريره من وجوه (1):

أحدها: دعوى الإجماع من تتبع فتاوى الأصحاب على الحجية من زماننا إلى زمان الشيخ، فيكشف رضاه «عليه السلام» بذلك، و يقطع به، أو من تتبع الإجماعات المنقولة على الحجية.

=============

فصل في الإجماع على حجية خبر الواحد

اشارة

(1) و هي ستة على ما ذكره الشيخ «قدس سره»، و قد اقتصر المصنف على ذكر ثلاثة منها:

1 - الإجماع القولي.

2 - استقرار سيرة المسلمين على العمل بخبر الواحد.

3 - استقرار سيرة العقلاء على العمل بخبر الواحد.

و الثاني و الثالث إجماع عملي.

و الأول: ما أشار إليه بقوله: «أحدها: دعوى الإجماع من تتبع فتاوى الأصحاب على الحجية»، إلى قوله: «أو من تتبع الإجماعات المنقولة على الحجية»، و جعلهما الشيخ وجها واحدا من وجوه تقرير الإجماع.

و الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و ثانيها: دعوى اتفاق العلماء عملا - بل كافة المسلمين -...» الخ.

و الثالث: ما أشار إليه بقوله: «و هو دعوى استقرار سيرة العقلاء...» الخ.

هذا مجمل الكلام في الوجوه الثلاثة من وجوه تقرير الإجماع.

و أما تفصيل الكلام فيها: فالوجه الأول - و هو الإجماع القولي - ينقسم إلى محصل و منقول، و الأول: ما أشار إليه بقوله: «من تتبع فتاوى الأصحاب على الحجية من زماننا إلى زمان الشيخ...» الخ، أي: الشيخ الطوسي «قدس سره»، فيحصل بذلك التتبع:

القطع بالاتفاق الكاشف عن رضا الإمام «عليه السلام» بالحكم بحجية خبر الواحد،

ص: 325

و لا يخفى: مجازفة هذه الدعوى؛ لاختلاف الفتاوى فيما أخذ في اعتباره من «فيكشف» بالبناء للمجهول يعني: فيكشف هذا التتبع عن «رضاه بذلك» أي: عن رضا الإمام «عليه السلام» بحجية خبر الواحد، «و يقطع به» أي: و يقطع باعتبار خبر الواحد من باب الحدس، و ذلك لعدم وجود الإجماع الدخولي في زمان الغيبة، و بطلان الإجماع اللطفي عند المصنف «قدس سره». هذا ملخص الكلام في الإجماع المحصل.

=============

و أما الإجماع المنقول: فقد أشار إليه بقوله: «أو من تتبع الإجماعات المنقولة على الحجية»، فإن كثيرا من الفقهاء ادعى الإجماع على حجية خبر الواحد؛ بحيث يقطع بتحقق الإجماع الكاشف عن رضا الإمام «عليه السلام» من تظافر النقل في نفسه، أو بضميمة القرائن؛ إذ لو لا القطع بتحقق الإجماع لما صح الاستدلال به؛ لما عرفت من:

لزوم الدور؛ لأن الإجماع المنقول بخبر الواحد يكون من مصاديق خبر الواحد، فيلزم محذور الدور.

و كيف كان؛ فأورد المصنف على كلا القسمين من الإجماع القولي.

و أما الإجماع المحصل: فقد أشار إلى الإيراد عليه بقوله: «و لا يخفى مجازفة هذه الدعوي؛ لاختلاف الفتاوى...» الخ. و حاصل الإيراد على دعوى الإجماع المحصل على اعتبار خبر الواحد هو: اختلاف الفتاوى في الخصوصيات الدخيلة في حجية خبر الواحد؛ إذ العنوان في بعضها خبر الثقة كما نسب إلى مشهور القدماء، حيث قالوا باعتبار خبر الثقة، و في بعضها الآخر: خبر العدل الإمامي، كما حكي عن صاحب المعالم، حيث قال باعتبار خبر العدل الإمامي مع تعدد المزكي، أو كفاية تزكية واحد كما ذهب إليه العلامة في التهذيب، و في بعضها الآخر: شيء آخر ككونه مقبولا عند الأصحاب.

و مع هذا الاختلاف، و عدم وصول شيء من هذه العناوين إلى حد الإجماع كيف يمكن دعوى الإجماع و القطع برضا المعصوم «عليه السلام» باعتبار خبر الواحد.

و ضمير «معه» راجع على الاختلاف، و ضمير اعتباره راجع على خبر الواحد، و ضمير «تتبعها» راجع على الفتاوى.

هذا خلاصة الكلام في الإشكال على الإجماع المحصل.

و أما الإيراد على الإجماع المنقول: فقد أشار إليه بقوله: «و هكذا حال تتبع الإجماعات المنقولة» أي: الإيراد على الإجماعات المنقولة على حجية خبر الواحد كالإيراد على دعوى الإجماع المحصل؛ لأن بعضهم نقل الإجماع على حجية خبر

ص: 326

الخصوصيات، و معه لا مجال لتحصيل القطع برضاه «عليه السلام» من تتبعها، و هكذا حال تتبع الإجماعات المنقولة.

اللهم إلا أن يدعى تواطؤها (1) على الحجية في الجملة، و إنما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها؛ و لكن دون إثباته خرط القتاد.

=============

العدل الإمامي مثلا، و آخر على حجية خبر الثقة، و ثالث على حجية خبر العدل الضابط.

و هكذا.

فهذا الاختلاف في الفتاوى و في الإجماعات المنقولة مانع عن تحقق الإجماع المحصل و المنقول؛ لأن الملاك في حجية الإجماع هو: كشفه عن رضا المعصوم «عليه السلام»، و مع الاختلاف المزبور لا يكون كاشفا عن رضاه «عليه السلام»، فلا يكون حجة.

(1) أي: تواطؤ الفتاوى.

و المقصود من هذا الكلام: هو تصحيح التمسك بالإجماع على حجية خبر الواحد بأن يقال: إنهم يقولون بحجية خبر الواحد في الجملة، ثم يختلفون في الخصوصيات المعتبرة فيه، بنحو يكون القول بحجية الخبر الخاص بنحو تعدد المطلوب لا وحدته؛ بحيث كان أصل اعتبار الخبر مفروغا عنه لديهم، غاية الأمر: بعضهم يقول: إن الحجة هو الخبر الواجد لشرط كذا، و الآخر يقول: إنها هي الخبر الواجد لشرط كذا، على نحو إذا انكشف بطلان أحدهما لالتزم بصحة قول صاحبه.

فالاختلاف في الخصوصيات حينئذ لا يقدح في تحقق الإجماع؛ بعد اتفاقهم على أصله، «و لكن دون إثباته خرط القتاد» أي: و لكن دون إثبات ادعاء التواطؤ خرط القتاد؛ لأن الاختلاف في الفتاوى في مسألة حجية الخبر إن كان راجعا إلى الاختلاف في الخصوصيات دون أصل الحجية؛ فلا بد حينئذ من الأخذ بما هو أخص مضمونا؛ كأن يؤخذ بخبر العدل الإمامي الممدوح بما يفيد العدالة في كل طبقة، كما هو الحال في التواتر الإجمالي؛ للعلم بأن الاختلاف حينئذ راجع على تعيين ما هو الحجة عندهم، بعد تسليم أصلها.

و لكن الإشكال في إثبات هذه الدعوى؛ إذ ظاهر ترتّب الحجية على كل عنوان هو عدم حجية غيره على تقدير بطلانه. و عليه: فدعوى رجوع الاختلاف إلى الاختلاف في الخصوصية، دون أصل الحجية غير ظاهرة؛ بل الظاهر خلافها.

و كيف كان؛ فالنتيجة هي: عدم صحة التمسك بالإجماع.

ص: 327

ثانيها (1): دعوى اتفاق العلماء عملا - بل كافة المسلمين - على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها.

=============

في الإجماع العملي على حجية خبر الواحد

(1) الثاني: من وجوه تقرير الإجماع هو: «دعوى اتفاق العلماء عملا»، و هذا هو الإجماع العملي، المعبّر عنه بالسيرة، و المناط في اعتباره هو نفس ما هو المناط في اعتبار الإجماع القولي، و هو كشفه عن قول المعصوم «عليه السلام» أو فعله أو تقريره؛ لا أن الوجه في حجية الإجماع العملي هو كشفه عن الإجماع القولي كما قيل؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 511».

و كيف كان؛ فقد استقرت سيرة العلماء - بل كافة المسلمين - على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية.

أما العلماء: فإنا لا نزال نراهم يأخذون بخبر الواحد لاستنباط الحكم الشرعي، كما يظهر ذلك من كتبهم العلمية.

و أما المسلمون: فقد استقرت سيرتهم طرّا على استفادة الأحكام الشرعية من أخبار الثقات المتوسطة بينهم و بين الإمام «عليه السلام» أو المجتهد، حيث نرى استقرار سيرة المقلدين على أخذ الأحكام من الثقات المتوسطة بينهم و بين المجتهد، فإنهم لا يتوقفون في العمل بما يخبرهم الثقة عن المجتهد، و يأخذون فتاوى مجتهديهم عن الناقلين، و من المعلوم: أن الناقل ليس إلا واحدا.

فالمتحصل: أن جميع المسلمين يعملون بأخبار الثقات على حسب السيرة المستمرة بينهم. هذا تمام الكلام في الوجه الثاني من وجوه تقرير الإجماع؛ إلا إن المصنف قد أجاب عن هذا التقرير بوجوه:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «مضافا إلى ما عرفت».

و حاصل الوجه الأول: أن السيرة المتشرعة و إن كانت ثابتة على العمل بخبر الواحد؛ إلا إنه لما كان هؤلاء العاملون به مختلفين فيما هو وجه العمل و مناط اعتباره، حيث إن بعضهم يعمل به؛ لأنه خبر عدل إمامي، و بعضهم يعمل به لأنه خبر الثقة، و بعضهم يعمل به لأنه مقبول عند الأصحاب، و بعضهم يعمل به لوجود القرائن، و بعضهم يعمل به لأن أخبار الآحاد عنده قطعية الصدور، و بعضهم يعمل به من باب الظن الانسدادي.

و مع مثل هذا الاختلاف في وجه العمل و ملاكه لا يمكن أن يقال: بأن إجماعهم العملي كاشف عن رأي الإمام «عليه السلام» بالحجية؛ إذ مجرد عملهم به لم يكن

ص: 328

كاشفا عن السنة أعني: قول الإمام «عليه السلام» أو فعله أو تقريره.

الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «أنه لو سلّم اتفاقهم على ذلك» أي: على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية.

و حاصل هذا الوجه: هو منع تحقق الإجماع العملي على العمل بخبر الواحد مطلقا؛ و إن لم يفد العلم - كما هو المطلوب - و إنما المسلّم هو: عملهم بالأخبار الموجود في الكتب الأربعة و غيرها من الكتب المعتبرة؛ إلا إن مسالكهم في العمل بها متشتتة؛ إذ بعضهم يعمل بها لكونها متواترة عنده، و الآخر يعمل بها لكونها مقطوعة الصدور عنده، و الثالث يعمل بها لكونها في نظره محفوفة بالقرائن الموجبة للعلم بالصدور، و الرابع يعمل بها لكونها عنده أخبار الثقات، و هكذا.

فالمتحصل: أنه لا يتحقق الإجماع العملي على العمل بخبر الواحد بما هو كذلك؛ كما هو المطلوب في المقام.

الوجه الثالث: ما أشار إليه بقوله: «لم يحرز أنهم اتفقوا بما هم مسلمون...» الخ.

و حاصل هذا الوجه: أنه - بعد تسليم اتفاقهم على العمل بخبر الواحد مطلقا - لم يظهر أن إجماعهم إنما هو لأجل كونهم مسلمين، أو لكونهم عقلاء مع الغض عن تدينهم و التزامهم بدين، فيرجع إلى الوجه الثالث من وجوه تقرير الإجماع، و هو دعوى استقرار سيرة العقلاء عليه؛ إلا أن يقال: أن ظاهر تعبير مدعي الإجماع بقوله: «كافة المسلمين» أنهم بما هم مسلمون يعملون بالخبر، فدعوى عدم الإحراز خلاف التعبير بالمسلمين. هذا تمام الكلام في الجواب عن الوجه الثاني من وجوه تقرير الإجماع.

بقى الكلام في الوجه الثالث من وجوه تقرير الإجماع، و هو ما أشار إليه بقوله:

«دعوى استقرار سيرة العقلاء...» الخ. و هذا عمدة الوجوه الثلاثة من وجوه تقرير الإجماع التي ذكرها المصنف «قدس سره»؛ بل هو عمدة الأدلة التي أقيمت على حجية خبر الواحد بعد الأخبار؛ بل الظاهر من شدة اهتمام المصنف بهذا الوجه أنه في نظره عمدة الأدلة حتى بالنسبة إلى الأخبار.

و كيف كان؛ فحاصل هذا الوجه: هو دعوى استقرار سيرة العقلاء بما هم عقلاء، على العمل بخبر الثقة، و استمرارها إلى زماننا، و عدم ردع نبي و لا وصي نبي عنه؛ إذ لو كان هناك ردع عنه لبان و ظهر لنا، فعدم الردع عنه يكشف قطعا عن رضا المعصوم «عليه السلام» بالعمل بخبر الثقة في الشرعيات أيضا كعملهم به في أمورهم العادية،

ص: 329

و فيه: مضافا إلى ما عرفت مما يرد على الوجه الأول: إنه لو سلّم اتفاقهم على ذلك، لم يحرز أنهم اتفقوا بما هم مسلمون و متدينون بهذا الدين، أو بما هم عقلاء و لو لم يلتزموا بدين، كما هم لا يزالون يعملون بها في غير الأمور الدينية من الأمور العادية، فيرجع إلى ثالث الوجوه، و هو: دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان و غيرهم على العمل بخبر الثقة، و استمرت إلى زماننا، و لم يردع عنه نبي و لا وصي نبي، ضرورة (1): أنه لو كان لاشتهر و بان، و من الواضح: أنه يكشف عن رضاء الشارع به في الشرعيات أيضا.

إن قلت (2): يكفي في الردع الآيات الناهية، و الروايات المانعة عن اتباع غير و شذ من لا يعمل به؛ بل نرى العقلاء أنهم يعتمدون في أعز أشيائهم و هي نفوسهم على الثقة، فيركبون الطائرة التي يقودها ثقة عارف، مع أنه لو قصر لسقطت و هلكوا، فإذا عملوا على طبق نظر الثقة في مثل نفوسهم فكيف لا يعملون بخبره في سائر شئونهم ؟

=============

(1) تعليل لقوله: «و لم يردع عنه». و ضمير «عنه» راجع على العمل بخبر الثقة.

و ضمير «أنه» راجع على الردع المستفاد من العبارة. فمرجع الضمير حينئذ: معنوي، و ضمير «أنه» في قوله: «أنه عن رضا الشارع» راجع على عدم الردع، و ضمير «به» راجع على العمل بخبر الثقة.

قوله: «أيضا» أي: كما هو كاشف عن رضا الشارع في غير الشرعيات.

و هذا الوجه من تقرير الإجماع يتوقف على مقدمات أربع:

الأولى: عملهم بخبر الثقة.

الثانية: عدم ردع الشارع عنه.

الثالثة: وجود المقتضي للردع على تقدير عدم الحجية.

الرابعة: عدم المانع عن الردع.

و الفرق بين هذا الوجه و سابقه: أن الوجه السابق كان سيرة المسلمين خاصة على العمل بخبر الثقة في خصوص الأمور الشرعية، و هذا الوجه هو: دعوى سيرة العقلاء عامة على العمل بخبر الثقة في تمام أمورهم العادية، و منها الأمور الدينية، فهذا الوجه أوسع من سابقه، كما أن السابق كان أوسع من الأول.

(2) هذا إشكال على التمسك ببناء العقلاء، و حاصله: أن بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة في كافة أمورهم و إن كان مسلما و لكن من المعلوم أن التمسك به مشروط بإمضاء الشارع له، و عدم ردعه عنه؛ إذ ليس بنفسه حجة لو لا إمضاء الشارع، و لم يثبت

ص: 330

العلم، و ناهيك (1) قوله تعالى: وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (1) ، و قوله تعالى: إِنَّ اَلظَّنَّ لاٰ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً(2).

قلت (2): لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك، فإنه - مضافا إلى أنها وردت إمضاؤه له؛ بل ثبت ردعه عنه؛ لأن عموم أو إطلاق الآيات الناهية عن العمل بغير العلم، و كذا عموم الروايات المتقدمة في أدلة المانعين يشمل هذا البناء العقلائي أيضا، فيصير موردا للردع، و معه لا عبرة به حتى يتمسك به لحجية خبر الواحد.

=============

(1) أي: يكفيك في الردع قوله تعالى:... ناهيك اسم فاعل من «نهى ينهى» معناه: أن ما نذكره من الآيات و الروايات ينهاك عن تطلب غيره؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 514».

جواب المصنف على الآيات الناهية

(2) و جواب المصنف عن الآيات الناهية: و قد أجاب عن إشكال الردع بالآيات الناهية بوجوه ثلاثة:

الأول: أنها واردة لبيان عدم كفاية الظن في أصول الدين؛ لأن موردها هو ردع المشركين و اليهود و النصارى عن العمل على تقليد آبائهم، الذي ليس مستندا إلى العلم، فلا ربط بها بما نحن فيه أعني: إثبات حجية خبر الواحد في الفروع، فيكون النهي عن اتباع الظن في أصول الدين إرشادا إلى حكم العقل بعدم كفاية الظن فيها، و هو أجنبي عن المقام، و هذا ما أشار إليه بقوله: «مضافا...» الخ.

الثاني: أن المتيقن من الآيات الناهية - لو لا المنصرف إليه إطلاقها - هو الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة، فالأمارة المعمول بها عند العقلاء، أو صارت حجة بجعل الشارع خارجة عنها.

و بعبارة أخرى: أن النهي - بعد تسليم إطلاقه في الآيات - منصرف إلى خصوص الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة، أو هو مجمل، و المتيقن منه هو: الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل، و على التقديرين: لا يشمل بناء العقلاء الذي هو حجة عندهم، و المراد من الحجة في قوله: «لم يقم على اعتباره حجة» أعم من الحجة الشرعية و العقلائية، و من المعلوم: أن خبر الثقة مما قام على اعتباره حجة عقلائية، فلا يكون مشمولا للآيات الناهية، و هذا ما أشار إليه بقوله: «و لو سلّم...» الخ.

الثالث: و هو عمدة الوجوه الثلاثة في الجواب: أن رادعية الآيات الناهية عن سيرة

ص: 331


1- الإسراء: 36.
2- يونس: 36.

إرشادا إلى عدم كفاية الظن في أصول الدين، و لو سلّم فإنما المتيقن لو لا أنه المنصرف إليه إطلاقها هو خصوص الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة - لا يكاد يكون الردع بها إلا على وجه دائر، و ذلك لأن الردع بها يتوقف على عدم تخصيص عمومها، أو تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، و هو يتوقف على الردع عنها بها، و إلا لكانت مخصصة أو مقيدة لها كما لا يخفى.

=============

العقلاء على العمل بخبر الثقة دورية؛ لأن الردع هنا يتوقف على عدم تخصيص عمومها، أو عدم تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، و هو يتوقف على الردع عنها؛ و إلا لكانت السيرة مخصصة أو مقيدة للآيات الناهية، فلا يمكن أن تكون الآيات الناهية رادعة للسيرة العقلائية؛ لأن ردعها مستلزم للدور.

توضيح الدور: أن رادعية عموم الآيات الناهية عن السيرة موقوفة على حجية الآيات الناهية بوصف كونها عامة؛ إذ لو لا حجيتها بهذا الوصف لا تكون رادعة، و حجيتها بهذا المعنى موقوفة على عدم كون السيرة التي هي أخص منها مخصصة لعمومها؛ إذ لو كانت مخصصة لها لم يبق لها عموم حتى تكون بعمومها رادعة عن السيرة، و عدم تخصيصها بها موقوف على الردع؛ إذ لو لا الردع لكانت السيرة مخصصة؛ لكونها دليلا خاصا مقدما على العام، فيلزم توقف الردع على الردع و هو دور محال.

و بعبارة مختصرة: أن رادعية الآيات عن السيرة تتوقف على عدم مخصصية السيرة لها و عدم مخصصية السيرة لها يتوقف على رادعية الآيات عنها و هو دور واضح.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

«و لو سلم» يعني: و لو سلّم إطلاق النهي الوارد في الآيات و الروايات ليشمل العمل بخبر الواحد في فروع الدين أيضا، «فإنما المتيقن لو لا أنه المنصرف إليه إطلاقها»، يعني:

أن النهي بعد تسليم إطلاقه في الآيات و الروايات - منصرف إلى خصوص الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل و حجة، أو هو مجمل، و المتيقن منه هو ذلك - أي الذي لم يقم على اعتباره دليل - و على التقديرين: لا يشمل بناء العقلاء الذي هو حجة عندهم، فالمراد بالحجة في قوله: «لم يقم على اعتباره حجة» أعم من الحجة الشرعية و العقلائية؛ إذ لو كان المقصود خصوص الحجة الشرعية لكان بناء العقلاء مندرجا فيما لم تقم على اعتباره حجة شرعية، و لتم الإشكال المذكور على العمل بخبر الواحد ببناء العقلاء.

و بالجملة: فقوله: «لو سلّم». بحسب التحليل إشارة إلى جوابين: أحدهما: دعوى انصراف إطلاق الآيات إلى خصوص الأمارة غير المعتبرة.

ص: 332

لا يقال: على هذا (1) لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضا (2)، إلا على وجه و ثانيهما: دعوى تيقنها أي: تيقّن الأمارة غير المعتبرة من إطلاقها لو فرض إجمالها، و عدم وجود ما ينصرف إليه إطلاقها.

=============

و مثال الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة هو: الظن الحاصل من الشهرة الفتوائية.

قوله: «لا يكاد...» الخ، خبر «فإنه» في قوله: «فإنه مضافا...» الخ. و هذا هو الوجه الثالث، و هو الجواب الأصلي عن الإشكال، و قد عرفت توضيحه، فلا حاجة إلى التكرار، فالعمدة في الجواب هو إشكال الدور، بأن يقال: ردع الآيات عن السيرة متوقف على عدم كون السيرة مخصصة لها؛ إذ لو كانت مخصصة لها لم تردع عنها و عدم كون السيرة مخصصة لها متوقف على كون الآيات رادعة عنها؛ إذ لو لم تردع عنها كانت السيرة مخصصة لها، فردع الآيات عن السيرة متوقف على ردعها عن السيرة، و هو دور.

قوله: «و ذلك» بيان للدور، و ضمير «عنها» راجع على السيرة، و باقي الضمائر راجع على الآيات الناهية.

«و إلاّ لكانت...» الخ، أي: و إن لم تكن الآيات رادعة عن السيرة لكانت السيرة مخصصة أو مقيدة للآيات الناهية.

(1) أي: بناء على استلزام رادعية الآيات عن السيرة للدور «لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضا إلاّ على وجه دائرة».

و المقصود من هذا الإشكال: عدم إمكان التمسك بالسيرة لإثبات حجية خبر الثقة؛ لاستلزامه الدور المذكور أيضا.

توضيح الدور: أن حجية خبر الثقة موقوفة على حجية السيرة؛ لأنها - حسب الفرض - دليل على حجية خبر الثقة، و المفروض: أن حجية السيرة موقوفة على عدم رادعية الآيات عنها، و عدم رادعية الآيات عنها موقوف على مخصصية السيرة لها، و مخصصية السيرة لها موقوفة على حجية السيرة، و حجيتها، موقوفة على عدم رادعية عنها، و عدم رادعية الآيات عنها موقوف على حجيتها فحجية السيرة موقوفة على حجية السيرة، أو عدم رادعية الآيات موقوف على عدم رادعيّتها عنها، و هو دور، و لزوم هذا الدور مانع عن ثبوت حجية السيرة، و مع عدم حجيتها كيف يصح جعلها دليلا على اعتبار خبر الثقة ؟ يعني: فلا تكون السيرة دليلا على حجية خبر الثقة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(2) يعني: كما لم يكن ردع الآيات عن السيرة إلا على وجه دائر.

ص: 333

دائر، فإن اعتباره (1) بها فعلا يتوقف على عدم الردع (2) بها عنها، و هو (3) يتوقف على تخصيصها (4) بها، و هو يتوقف على عدم الردع بها عنها.

فإنه يقال (5): إنما يكفي في حجيته بها: عدم ثبوت الردع عنها؛ لعدم نهوض ما

=============

(1) فإن اعتبار خبر الثقة بالسيرة، و هذا تقريب للدور الذي تقدم توضيحه.

(2) أي: عدم الردع بالآيات عن السيرة.

(3) أي: و عدم الردع يتوقف على تخصيص الآيات بالسيرة.

(4) أي: و تخصيص الآيات بالسيرة يتوقف على عدم ردع الآيات عن السيرة.

(5) هذا جواب عن الإشكال.

و حاصل الجواب منع الدور بتقريب: أن حجية خبر الثقة و إن كانت متوقفة على حجية السيرة؛ إلا إن حجية السيرة لا تتوقف على عدم كونها مردوعة، و إنما تتوقف على عدم علمنا بالردع، و هو حاصل بنفسه من دون توقف على شيء، فالسيرة موجودة و لم نعلم بمردوعيتها، و حيث ثبت أن الآيات لا تصلح أن تكون رادعة عنها - للزوم الدور كما عرفت - بقيت السيرة حجة، فتكون دليلا على حجية خبر الثقة.

و بعبارة أخرى: أن اعتبار خبر الثقة بالسيرة لا يتوقف على عدم الردع الواقعي عن السيرة؛ بل يتوقف على عدم العلم بالردع عنها، فعدم العلم بالردع كاف في اعتبار السيرة، فيثبت بها اعتبار خبر الثقة.

كما أن عدم ثبوت الردع كاف أيضا في تخصيص العموم بالسيرة، فإذا لم يعلم بالردع كفى ذلك في اعتبار السيرة، و يثبت بها اعتبار خبر الثقة حينئذ، و عدم ثبوت الردع كاف في تخصيص العموم بالسيرة.

و كيف كان؛ فالوجه في جواز الركون إلى السيرة، مع عدم ثبوت الردع عنها: أن المناط في الإطاعة و المعصية - اللتين يحكم العقل بحسن الأولى و قبح الثانية - هو ما يكون عند العقلاء طاعة و عصيانا، و حينئذ: فإذا كان خبر الثقة حجة عندهم، إذ المفروض: عدم ثبوت ردع الشارع عنها كانت موافقته طاعة و مخالفته عصيانا بنظرهم، فإذا كانت موافقته طاعة وجبت عقلا لصدق الإطاعة عليها بنظر العقلاء، و كذا تحرم مخالفته عقلا لكونها معصية عندهم أيضا.

فالمتحصل: أن ما يكون عند العقلاء طاعة يجب عقلا، و ما يكون عندهم معصية يحرم كذلك.

قوله: «لعدم نهوض...» تعليل لعدم ثبوت الردع، و وجه عدم النهوض: ما عرفت

ص: 334

يصلح لردعها، كما يكفي في تخصيصها لها ذلك كما لا يخفى، ضرورة (1): أن ما جرت عليه السيرة المستمرة في مقام الإطاعة و المعصية، و في استحقاق العقوبة بالمخالفة، و عدم استحقاقها مع الموافقة و لو في صورة المخالفة للواقع يكون (2) عقلا في الشرع متبعا؛ ما لم ينهض (3) دليل على المنع عن أتباعه (4) في الشرعيات، فافهم و تأمل (5).

=============

من عدم صلاحية الآيات و الروايات الناهية عن اتباع غير العلم للردع عن السيرة؛ لاستلزامه الدور.

«إنما يكفي في حجيته» أي: خبر الثقة «ذلك» فاعل «يكفي»، و المشار إليه: عدم ثبوت الردع عن السيرة، أو عدم ثبوت كون السيرة مردوعة، فإذا لم يثبت كون السيرة مردوعة أفادت أمرين:

الأول: حجية الخبر.

الثاني: تخصيص عموم الآيات، فيكون الخبر حجة للسيرة ما دام لم يثبت ردع الشارع عن السيرة.

(1) تعليل ل «يكفي».

(2) خبر «أن ما جرت» و قوله: «و لو في صورة» قيد لقوله: «و في استحقاق العقوبة و عدم استحقاقها»، و هو إشارة إلى الفرد الخفي من الإطاعة و المعصية و هو صورة مخالفة مورد الإطاعة و المعصية للواقع، و الفرد الجلي منهما هو صورة إصابته للواقع، يعني: أن ما هو إطاعة و معصية عند العقلاء يكون عند الشرع كذلك، سواء كانتا حقيقتين كما في صورة إصابة موردهما للواقع، أم صورتين كما في صورة مخالفته للواقع.

(3) فإذا نهض دليل على المنع عن اتباعه كالقياس لم تكن السيرة على العمل به معتبرة حينئذ، فالمعيار في عدم حجية السيرة العقلائية قيام الدليل، على المنع عن اتباع ما جرت عليه، و وصوله إلى المكلف.

(4) أي: اتباع ما جرت عليه السيرة.

(5) قوله: «فافهم و تأمل» إشارة إلى كون خبر الثقة متبعا. و لو قيل: بسقوط كل من السيرة و الإطلاق عن الاعتبار بسبب دوران الأمر بين ردعها به و تقييده بها؛ و ذلك لأجل استصحاب حجيته الثابتة قبل نزول الآيتين.

فإن قلت: لا مجال لاحتمال التقييد بها، فإن دليل اعتبارها مغيّا بعدم الردع عنها، و معه لا تكون صالحة لتقييد الإطلاق مع صلاحيته للردع عنها كما لا يخفى.

ص: 335

قلت: الدليل ليس إلا إمضاء الشارع لها و رضاه بها، المستكشف بعدم ردعه عنها في زمان مع إمكانه و هو غير مغيّا، نعم؛ يمكن أن يكون له واقعا و في علمه تعالى أمر خاص كحكمه الابتدائي، حيث إنه ربما يكون له أمد فينسخ، فالردع في الحكم الإمضائي ليس إلا كالنسخ في الابتدائي، و ذلك غير كونه بحسب الدليل مغيا كما لا يخفى.

و بالجملة: ليس حال السيرة مع الآيات الناهية إلا كحال الخاص المقدم و العام المؤخر في دوران الأمر بين التخصيص بالخاص أو النسخ بالعام، ففيهما يدور الأمر أيضا بين التخصيص بالسيرة أو الردع بالآيات.

«فافهم و تأمل» حتى لا يشتبه عليك الأمر فتقول: فما ذا يصنع الشارع إذا أراد الردع عن السيرة ؟ و هل يمكن أن يقول في مقام الردع عنها بأصرح من الآيات و الروايات الناهية عن العمل بغير العلم، حتى نحتاج إلى الإجابة بأن الردع لا يكون بمثل هذه العمومات و إنما يكون بمثل ما ردع عن القياس ؟ فلو أراد الشارع الردع لزم أن تكون أدلة الردع نصا؛ كأن يقول: لا تعملوا بالخبر الواحد، أو تكون أظهر من السيرة؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 4، ص 71».

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - إما لإجماع على حجية خبر الواحد: فتقريره بوجوه:

الوجه الأول: هو الإجماع القولي، الحاصل من تتبع فتاوى العلماء بحجية خبر الواحد، أو من تتبع الإجماعات المنقولة على الحجية، فيستكشف بالإجماع عن رضا الإمام «عليه السلام» بحجية خبر الواحد.

و أورد المصنف عليه: بأن فتاوى العلماء في حجية خبر الواحد مختلفة من حيث الخصوصيات التي يعتبرونها فيما هو حجة، و معه لا يمكن استكشاف رضا الإمام «عليه السلام»؛ لعدم اتفاقهم على أمر واحد. هذا هو الإشكال على الإجماع المحصل، و هكذا الحال في الإجماع المنقول.

نعم لو علم أنهم يقولون بأجمعهم بحجيّة خبر الواحد في الجملة، ثم يختلفون في الخصوصيات المعتبرة فيه؛ بحيث يكون القول بحجية الخبر الخاص بنحو تعدد المطلوب لا وحدته - لو علم ذلك - تم ما ذكر؛ و لكن دون إثباته خرط القتاد.

ص: 336

2 - الوجه الثاني: هو الإجماع العملي من العلماء؛ بل من المسلمين كافة على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية.

و أورد عليه المصنف:

أولا: بنفس ما أورده على الإجماع القولي؛ من الاختلاف في المسالك و المشارب.

و ثانيا: بأنه لم يعلم أن اتفاقهم على ذلك بما أنهم متدينون؛ بل يمكن أن يكون بما أنهم عقلاء، فيرجع إلى الوجه الثالث من وجوه تقرير الإجماع، و هو قيام سيرة العقلاء من ذوي الأديان و غيرهم - ممن لا يلتزم بدين - على العمل بخبر الثقة. و هذا هو عمدة الوجوه.

و استمرت هذه السيرة إلى زمان المعصوم «عليه السلام»، و لم يردع عنها المعصوم؛ إذ لو كان لبان و اشتهر، و عدم الردع يكشف عن تقرير الشارع للسيرة، و إمضائه لها، فتثبت حجية الخبر في الشرعيات.

3 - الإشكال عليه: بأنه يكفي في ثبوت الردع وجود الآيات الناهية عن العمل بغير العلم و اتباع الظن؛ كقوله تعالى: وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، و إِنَّ اَلظَّنَّ لاٰ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً ، فإنها بعمومها تشمل هذه السيرة.

و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بوجوه ثلاثة:

الأول: أنها واردة لبيان عدم كفاية الظن في أصول الدين، فلا ربط لها بحجية الظن في الفروع.

الثاني: أنها راجعة على الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة، و المفروض في خبر الواحد خلافه.

الثالث: أن رادعية الآيات الناهية عن السيرة تستلزم الدور؛ لأن ردع الآيات عن السيرة متوقف على عدم كون السيرة مخصصة لها، و عدم كون السيرة مخصصة لها متوقف على كون الآيات رادعة عنها، فردع الآيات عن السيرة متوقف على ردعها عنها، و هو دور.

4 - إيراد المصنف على نفسه: بأن السيرة لا تصلح للتخصيص إلا على وجه دائر أيضا؛ إذ تخصيص السيرة يتوقف على عدم الردع بها عنها، و عدم الردع يتوقف على تخصيصها للآيات، فعدم تخصيصها للآيات يتوقف على عدم تخصيصها لها، و هو دور باطل.

ص: 337

جواب المصنف عن هذا الإيراد: أنه يكفي في اعتبار خبر الثقة بالسيرة عدم ثبوت الردع عنها؛ لا عدم الردع واقعا عنها، فإذا لم يعلم بالردع كفى ذلك في اعتبار السيرة، فيثبت بها اعتبار خبر الثقة، و أيضا عدم ثبوت الردع كاف في تخصيص العموم بالسيرة.

«فافهم و تأمل» إشارة إلى كون خبر الثقة حجة، و لو قيل بسقوط السيرة عن الاعتبار؛ و ذلك لأجل استصحاب حجية خبر الثقة الثابتة قبل نزول الآيات الناهية.

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - عدم تمامية الاستدلال بالإجماع القولي على حجية خبر الواحد.

2 - تمامية الاستدلال بالإجماع العملي، أعني: سيرة العقلاء على حجية خبر الثقة.

ص: 338

فصل

في الوجوه العقلية (1) التي أقيمت على حجية خبر الواحد:

أحدها (2): أنه يعلم إجمالا بصدور كثير مما بأيدينا من الأخبار من الأئمة الأطهار

=============

فصل في الوجوه العقلية على حجية خبر الواحد

اشارة

(1) قد جعلها المصنف في ضمن فصلين:

الوجه الأول: العلم الإجمالي بصدور جملة من الأخبار

الفصل الأول: في إثبات حجية خصوص خبر الواحد بالوجوه العقلية.

الفصل الثاني: في إثبات حجية مطلق الظن بها.

الفصل الأول يشتمل على ثلاثة وجوه.

و الفصل الثاني على أربعة وجوه:

فالوجوه العقلية هي سبعة وجوه، مفادها إما حجية خصوص خبر الواحد، أو حجية مطلق الظن.

(2) هذا هو الوجه الأول من الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية خصوص خبر الواحد. و توضيح هذا الوجه يتوقف على مقدمة و هي: إن هناك علمين إجماليين:

أحدهما: أنّا نعلم إجمالا بوجود تكاليف شرعية بين جميع الأمارات من الروايات و غيرها؛ كالشهرات و الإجماعات المنقولة، و الأولويات الظنية و غيرها. و هذا العلم الإجمالي يسمى بالعلم الإجمالي الكبير.

و ثانيهما: أنّا نعلم إجمالا أيضا بوجود أحكام شرعية في روايات صادرة عن الأئمة «عليهم السلام»، منقولة إلينا في ضمن مجموع ما بأيدينا من الأخبار المروية عنهم «عليهم السلام»، و هذا العلم الإجمالي الصغير، ثم تلك الأخبار المتضمنة للأحكام الشرعية ليست قليلة؛ بل هي من الكثرة بمقدار واف بمعظم الفقه؛ بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار الصادر قطعا لانحل علمنا الإجمالي الكبير - و هو علمنا إجمالا بثبوت الأحكام بين الروايات و سائر الأمارات - إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة عن الأئمة «عليهم السلام»، و الشك البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات غير المعتبرة.

ص: 339

«عليهم السلام» بمقدار واف بمعظم الفقه؛ بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار لانحل علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات و سائر الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلا، و الشك البدوي في ثبوت إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن لازم العلم الإجمالي الصغير هو وجوب العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة للتكليف الإلزامي، كالتي تقول بحرمة الخمر و الزنا، و وجوب الصلاة و الصيام إلى غير ذلك، و جواز العمل على طبق الأخبار النافية للتكليف الإلزامي، كالتي تقول بعدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، و عدم وجوب زيارة الإمام الحسين «عليه السلام»؛ لأن مقتضى العلم الإجمالي هو: لزوم الاحتياط بالنسبة إلى الأخبار المثبتة للتكليف لا النافية له.

=============

و لا تجب مراعاة أطراف العلم الإجمالي الكبير بعد انحلاله بالعلم الإجمالي الصغير، بمعنى: انحصار أطرافه في خصوص ما بأيدينا من الروايات، فإذا انحصرت التكاليف و الأحكام الشرعية في هذه الأطراف خرجت بقية الأمارات عن أطراف العلم الإجمالي، و كان الشك في ثبوت التكليف بالنسبة إليها بدويا، فيجوز الرجوع إلى الأصول النافية في الشبهات الحكمية في موارد بقية الأمارات؛ لعدم لزوم محذور من جريانها حينئذ من الخروج عن الدين مثلا.

و كيف كان؛ فمقتضى هذا الوجه العقلي هو: اعتبار الأخبار فقط.

فالمتحصل: أن العلم الإجمالي الصغير يوجب انحلال العلم الإجمالي الكبير، فيجب العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة للتكليف؛ لأن العلم الإجمالي منجّز للتكليف في أطرافه كالعلم التفصيلي، و إنما يجب الاحتياط في الأخبار المثبتة للتكليف دون النافية منها له؛ لأن العلم و لو إجمالا بالأخبار المثبتة علم بالتكليف الإلزامي، و التكليف الإلزامي لازم الامتثال. و أما العلم بالنافي من الأخبار فهو علم بغير التكليف، و العلم بما هو خارج عن التكليف الإلزامي لا يثبت في عهدة المكلف سوى أن يعتقد أنه ليس هناك حكم إلزامي.

أما في مرحلة العمل: فهو عقيم الأثر؛ لأن ما ليس بواجب و ليس بحرام لا يكون للعلم التفصيلي و الإجمالي فيه أقل أثر من حيث التنجز و لزوم الاحتياط؛ لأن التنجز و لزوم الاحتياط من لوازم التكليف كما هو واضح، و لذلك قال المصنف: «و جواز العمل على طبق النافي منها» أي: من الأخبار المتعلقة للعلم الإجمالي، «فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له».

ص: 340

التكليف في مورد سائر الأمارات الغير المعتبرة، و لازم ذلك: لزوم العلم على وفق جميع الأخبار المثبتة، و جواز العمل على طبق النافي منها، فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب، بناء على جريانه في أطراف ما أي: للتكليف؛ مثلا: لو قام خبر من الأخبار على نفي وجوب السورة و جزئيتها للصلاة؛ في حال أن الأصل في المسألة يقتضي وجوبها و جزئيتها فرضا؛ من باب لزوم الاشتغال في مقام الشك بعد إحراز التكليف، ففي مثل هذا الفرض: هل يجوز لنا العمل على طبق الخبر النافي، أو يجب علينا مراعاة قاعدة الاشتغال ؟

=============

و لا ريب أن الخبر النافي إذا ثبتت حجيته في نفسه بما أنه خبر صادر عن المعصوم «عليه السلام»: كان وجوده طاردا للأصل؛ إذ لا يجري الأصل العملي مع وجود الدليل الاجتهادي، لكن وجود الخبر النافي بين مجموعة الأخبار التي لا يعلم إلا بصدور بعضها الغير المعين لا يكون حجة، و مقتضى العلم الإجمالي بصدور بعضها من الإمام «عليه السلام» هو لزوم الاحتياط فيما إذا كان الخبر مثبتا للتكليف؛ لا نافيا له. فعلى هذا: لا يكون وجود الخبر النافي دليلا حتى يطرد الأصل؛ لأن غير ثابت الحجية لا اعتبار به، و العمل في مورده يكون على الأصل قطعا «من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب، بناء على جريانه» أي الاستصحاب، يعني: أن جريان الاستصحاب المثبت للتكليف في المقام، و تقديمه على الخبر النافي للحكم مبني على جريانه في أطراف العلم الإجمالي - إذا علم وجدانا بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف، أو علم الانتقاض في بعضها تعبدا، كما إذا قامت أمارة معتبرة عليه - فإذا بنينا على جريانه هناك جرى في المقام، و ثبت به التكليف السابق، و قدم على الخبر النافي للتكليف، و إلا لم يجر و بقي الخبر النافي للتكليف بلا معارض، فيعمل به، و حينئذ: فإذا علمنا إجمالا بصدور بعض الأخبار النافية للتكليف، فقد علمنا إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعض أطراف العلم الإجمالي المثبت له، فعلى القول بجريان الاستصحاب المثبت للتكليف في تلك الأطراف، مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعضها، أو قيام أمارة على الانتقاض:

يجري الاستصحاب هنا، و لا يجوز العمل بالخبر النافي.

و على القول بعدم الجريان: يختص جواز العمل بالنافي بما إذا لم يكن في مقابله قاعدة الاشتغال، مثلا: إذا علمنا إجمالا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة يومها، و دلت رواية - من الروايات المعلوم صدور جملة منها - على نفي وجوب الجمعة لم يجز العمل بهذا الخبر النافي؛ لوجود الأصل المثبت للتكليف و هو قاعدة الاشتغال المقتضية لوجوب

ص: 341

علم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعضها، أو قيام أمارة معتبرة على انتقاضها الجمعة، فيجب الإتيان بكلتا صلاتي الظهر و الجمعة - مع قطع النظر عن الإجماع على عدم وجوب أكثر من صلاة واحدة يوم الجمعة بعد الزوال و قبل صلاة العصر -.

=============

و هكذا الكلام بالنسبة إلى الاستصحاب إن قلنا بجريانه، فإنه لما علمنا إجمالا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة يومها، فلو دلت رواية من الروايات النافية التي علمنا بصدور جملة منها على نفي وجوب الجمعة، فقد علمنا بها بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف؛ للعلم الإجمالي بوجوب إحدى صلاتي الظهر أو الجمعة، فمقتضى جريان الاستصحاب مع العلم بالانتقاض: وجوب الإتيان بكلتيهما بمقتضى الاستصحاب، مع قطع النظر عن الإجماع على عدم وجوب الصلاتين معا و عدم جواز العمل بهذا الخبر النافي.

قوله: «و لازم ذلك» يعني: و لازم انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى ما في الأخبار «لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة». و هذا جواب عن ثالث إيرادات الشيخ الأنصاري «قدس سره» على الدليل العقلي المذكور حيث قال: «و ثالثا: أن مقتضى هذا الدليل: وجوب العمل بالخبر المقتضي للتكليف؛ لأنه الذي يجب العمل به، و أما الأخبار الصادرة النافية للتكليف: فلا يجب العمل بها...» الخ.

و توضيحه: أن مقتضى هذا الوجه العقلي: هو وجوب العمل بالخبر المثبت للتكليف فقط؛ لأنه الذي يجب العمل به.

و أما الأخبار النافية للتكليف: فلا يجب العمل بها؛ لأنا مكلفون بامتثال الأحكام الواقعية المعلومة إجمالا، و المفروض: العلم بصدور مقدار من الأخبار واف بتلك الأحكام، فيجب العمل امتثالا لتلك الأحكام، و عليه: فلا موجب للعمل بالروايات النافية، فهذا الدليل أخص من المدعى؛ إذ المقصود: إثبات حجية الأخبار مطلقا سواء كانت مثبتة للتكليف أو نافية له.

و قد أجاب المصنف عنه بقوله: «و لازم ذلك»، توضيحه: أن غرض المستدل إثبات وجوب العمل بالأخبار المثبتة، و جواز العمل بالروايات النافية؛ لا وجوب العمل بها، فلا يرد عليه ما ذكره الشيخ؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 528».

و الغرض من قوله «أصل مثبت له» هو: أن جواز العمل بالخبر النافي مشروط بعدم أصل مثبت للتكليف في مورده من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب المثبت كما عرفت ذلك.

ص: 342

فيه، و إلا (1) لاختص عدم جواز العمل على وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال.

و فيه (2): أنه لا يكاد ينهض على حجية الخبر؛ بحيث (3) يقدم تخصيصا أو تقييدا أو ترجيحا على غيره، من (4) عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم، و إن...

=============

(1) أي: و إن لم يجر الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي - فيما إذا علم بانتقاض الحالة السابقة في بعضها - كان عدم جواز العمل بالخبر النافي للتكليف مختصا بما إذا كان على خلاف مقتضى قاعدة الاشتغال؛ إذ المفروض حينئذ: أن الاستصحاب المثبت للتكليف غير جار حتى ينافي الخبر النافي.

(2) أي: في هذا الدليل من الإشكال أن هذا الوجه من الدليل العقلي لا يفيد حجية الخبر بما هو خبر؛ بل مقتضى هذا الدليل العقلي: هو لزوم العمل بالخبر المثبت للتكليف من باب الاحتياط، فلا ينهض لإثبات حجية الخبر؛ بحيث يقدم الخبر على العام تخصيصا، و على المطلق تقييدا، و على المفهوم ترجيحا، و على الأصول العملية حكومة أو ورودا؛ إذ المقصود من حجية الخبر: هو كونه دليلا متبعا في قبال الأصول اللفظية و العملية، و هذا المعنى لا يثبت بالدليل المذكور.

و هذا الإيراد إشارة إلى الإيراد الثالث مما أورده الشيخ «قدس سره» على هذا الوجوه، و قد ارتضاه المصنف فجعله ردا للدليل العقلي المذكور.

و حاصل الإيراد: أن مقتضى الدليل المذكور هو الأخذ بالأخبار احتياطا لا حجة؛ لأنه مقتضى العلم الإجمالي، و من المعلوم: أن الأخذ بها من باب الاحتياط يختلف عن الأخذ بها من باب الحجية، بمعنى: أن الأخذ من باب الاحتياط ينافي الأخذ بها من باب الحجية، فإن الحجة تخصص و تقيد و تقدم على معارضها مع الرجحان و المزية، بخلاف الأخذ بها احتياطا، فإنه لا تترتب هذه الآثار عليه.

و كيف كان؛ فهذا الوجه العقلي لا يقتضي حجية الأخبار التي هي المقصودة منه؛ بل يقتضي الأخذ بها من باب الاحتياط.

(3) بيان ل «حجية الخبر»؛ إذ من شأن حجيته: تخصيص العموم به و تقييد الإطلاق، و ترجيحه على غيره عند التعارض مع وجود مزية فيه.

(4) بيان ل «غيره» بنحو اللف و النشر المترتب. و التعبير بالمثل في قوله: «أو مثل مفهوم» إشارة إلى مطلق الدلالة الالتزامية، فإن المفهوم أحد أقسامها، فإن الخبر إذا كان الأخذ به من باب الاحتياط كان موردا بالدليل الاجتهادي؛ كعموم الكتاب أو إطلاقه أو

ص: 343

كان (1) يسلم عما أورد عليه من أن لازمه الاحتياط في سائر الأمارات؛ لا في خصوص الروايات؛ لما (2) عرفت من انحلال العلم الإجمالي بينهما بما (3) علم بين الأخبار بالخصوص و لو بالإجمال (4)، فتأمل (5) جيدا.

=============

مفهوم الآية، و معه كيف يمكن تخصيص العموم الكتابي مثلا، أو تقييد إطلاقه بالخبر الذي يؤخذ به من باب الاحتياط؟

(1) أي: و إن كان هذا الوجه العقلي بالتقريب المتقدم من المصنف سليما عن أول إيرادات الشيخ الأنصاري «قدس سره»، حيث كان حاصل إيراده الأول هو: لزوم مراعاة الاحتياط في جميع الأمارات لا في الروايات فقط.

(2) تعليل لقوله: «يسلم»، يعني: وجه كون هذا الوجه سليما عن إيراد الشيخ «قدس سره» ما عرفت؛ من انحلال العلم الإجمالي القائم على وجود أحكام «بينهما»، أي: بين الأمارات و الأخبار، «بما علم بين الأخبار بالخصوص»، فإنا قد بينا في الدليل السابق: أنه لو فرض تبين الأحكام الموجودة في الأخبار انحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي و شك بدوي. و مثل هذا يوجب عدم كون سائر الأمارات طرفا للعلم الإجمالي؛ إذ لو كان طرفا له لزم عدم الانحلال بحصول أحكام قطعية بين الأخبار فقط، و مع الانحلال لا تجب مراعاة الاحتياط في الأمارات حتى يرد هذا الإيراد أعني: عدم الاقتصار على العمل بالروايات احتياطا.

(3) متعلق بقوله: «انحلال»، يعني: ينحلّ العلم الإجمالي الكبير بما علم ثبوته من الأخبار، فيختص الاحتياط بالنسبة إلى العمل بالأخبار للعلم الإجمالي، و لا موجب له بالنسبة إلى سائر الأمارات؛ و ذلك لانتفاء العلم الإجمالي بالانحلال على ما هو المفروض.

(4) قيد ل «علم» أي: و لو كانت الأخبار التي انحل بها العلم الإجمالي الكبير غير معلومة بالتفصيل؛ بل كانت معلومة بنحو الإجمال؛ لكن معلوميتها كذلك كافية أيضا في الانحلال؛ لما مر في تقريب الدليل من عدم إناطة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم التفصيلي بالأخبار الصادرة.

نعم؛ انحلال العلم الإجمالي الصغير يتوقف على ذلك. هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الوجوه العقلية على حجية خصوص الأخبار.

(5) إشارة إلى دقة النظر بقرينة قوله: «جيدا».

ص: 344

ثانيهما (1): ما ذكره في الوافية، مستدلا على حجية الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة، مع عمل جمع به من غير رد ظاهر، و هو: «إنا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، سيما بالأصول الضرورية (2) كالصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و المتاجر و الأنكحة و نحوها (3)، مع أن جل أجزائها و شرائطها، و موانعها (4) إنما يثبت بالخبر غير القطعي؛ بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد، و من أنكر (5) فإنما ينكره باللسان

=============

الوجه الثاني: ما ذكره في الوافية

(1) أي: الثاني من الوجوه العقلية التي استدل بها على حجية الأخبار: «ما ذكره في» كتاب «الوافية مستدلا» به «على حجية الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة» و هي: 1 - الكافي. 2 - من لا يحضره الفقيه. 3 - التهذيب. 4 - الاستبصار.

و تقريب الاستدلال بهذا الوجه العقلي على حجية الأخبار: يتوقف على مقدمة و هي: أن هذا الدليل مركب من أمور:

الأول: إن في الشرع أمور ثابتة بضرورة من الدين من العبادات و المعاملات؛ كالصلاة و الصوم و الحج و الزكاة و الأنكحة و غيرها.

الثاني: أن التكاليف و الأحكام المتعلقة بهذه الأمور باقية إلى يوم القيامة.

الثالث: أن لها أجزاء و شرائط و موانع، و جل هذه الأجزاء و الشرائط و الموانع تثبت بالأخبار غير القطعية؛ بحيث لو اقتصر في معرفة أجزائها و شرائطها و موانعها على الكتاب العزيز و الأخبار المتواترة لخرجت هذه الأمور عن حقائقها؛ بحيث يصح سلبها عنها؛ و ذلك لقلة الأخبار القطعية الصدور و عدم كون الآيات غالبا إلا في مقام التشريع فقط.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا محيص عن العمل بالأخبار غير القطعية صدورا.

هذا معنى حجية الأخبار.

(2) و المراد بالأصول الضرورية: أمهات الأحكام الفرعية الثابتة بضرورة من الدين.

(3) أي: من الأحكام الرئيسية في فقه الإسلام.

(4) كالركوع و الطهارة و الحدث بالنسبة إلى الصلاة «إنما يثبت بالخبر غير القطعي».

و الضمير المؤنث في أجزائها و شرائطها و موانعها راجع إلى الأصول الضرورية.

(5) يعني: و من أنكر ما ذكرناه من خروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور - لو لم يعمل بأخبار الآحاد - فإنما ينكره بلسانه، و قلبه مطمئن بالاعتقاد بصحة ما ذكرناه.

ص: 345

و قلبه مطمئن بالإيمان»(1). انتهى (2).

و أورد عليه:

أولا (2): بأن العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء و الشرائط بين جميع الأخبار؛ لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره، فاللازم حينئذ: إما الاحتياط، أو العمل بكل ما دل على جزئية شيء أو شرطيته.

=============

(1) أي: انتهى ما في كتاب الوافية من الدليل العقلي.

(2) المورد هو: الشيخ الأنصاري «قدس سره» في «الرسائل»، فقد أورد على هذا الدليل بوجهين حيث قال «قدس سره»: «و يرد عليه أولا: أن العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء و الشرائط بين جميع الأخبار؛ لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره، و مجرد وجود العلم الإجمالي في تلك الطائفة الخاصة لا يوجب خروج غيرها من أطراف العلم الإجمالي...» الخ. إلى أن قال: «و ثانيا: بأن قضيته إنما هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية، دون الأخبار النافية لهما»(1).

و حاصل الإيراد الأول - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 535» -: أن العلم الإجمالي بوجود الأجزاء و الشرائط لا تنحصر أطرافه في الأخبار الواجدة لما ذكره من الشرطين أعني: كونها موجودة في الكتب المعتمد عليها عند الشيعة، و كونها معمولا بها عندهم لا معرضا عنها، لوجود هذا العلم الإجمالي أيضا في سائر الأخبار الفاقدة لهذين الشرطين، فلا بد مع الإمكان من الاحتياط التام بالأخذ بكل خبر يدل على الجزئية أو الشرطية؛ و إن لم يكن واجدا للشرطين المزبورين، و مع عدم الإمكان من الاحتياط التام لكونه مخلا بالنظام، أو موجبا للعسر لا بد من الأخذ بما يظن صدوره من الروايات؛ على ما سيأتي في دليل الانسداد.

و حاصل الإيراد الثاني: أن هذا الدليل أخص من المدعى؛ إذ مقتضاه هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية، دون الأخبار النافية لهما؛ لأن الموجب للحجية كان هو العلم الإجمالي بالأخبار المتضمنة لبيان الجزئية أو الشرطية أو المانعية، فأطراف العلم الإجمالي هو خصوص هذه الروايات المثبتة لها دون النافية، مع وضوح: إن البحث عن حجية الخبر لا يختص بالأخبار المثبتة للتكاليف، فيلزم أن يكون الدليل أخص من المدعى.

ص: 346


1- الوافية في أصول الفقه: 159.
2- فرائد الأصول 361:1-362.

قلت (1): يمكن أن يقال: إن العلم الإجمالي و إن كان حاصلا بين جميع الأخبار، إلا إن العلم بوجود الأخبار الصادرة عنهم «عليهم السلام» بقدر الكفاية بين تلك الطائفة، أو العلم باعتبار طائفة كذلك (2) بينها (3) يوجب انحلال ذاك العلم الإجمالي (4)، و صيرورة (5) غيره خارجا عن طرف العلم كما مرت إليه الإشارة في تقريب الوجه الأول (6).

=============

(1) هذا دفع لإيراد الشيخ «قدس سره» على الوافية، و حاصله: أن العلم الإجمالي بوجود الأجزاء و الشرائط و الموانع؛ و إن كان حاصلا في بدو الأمر بين جميع الأخبار إلا إن العلم الإجمالي بوجود الأخبار الصادرة بقدر الكفاية. بين تلك الأخبار المشروطة - بما ذكره صاحب الوافية - مما يوجب انحلال ذلك العلم الإجمالي الكبير، الذي تكون أطرافه جميع الأخبار، إلى العلم الإجمالي الصغير الذي تكون أطرافه خصوص الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة المعمول بها، و خروج غيرها عن أطراف العلم الإجمالي، و لازم ذلك: هو وجوب العمل بتلك الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة عند الشيعة احتياطا.

(2) أي: بقدر الكفاية، و المراد بتلك الطائفة هي: المشروطة بالشرطين المذكورين.

(3) أي: بين تلك الكتب المعتمدة.

(4) أي: العلم الإجمالي الكبير الواسع النطاق، الذي تكون أطرافه جميع الأخبار الواردة في الكتب المعتمدة و غيرها.

و الظاهر عدم الفرق بين العلم بوجود الأخبار و العلم باعتبارها، فالترديد في كلام المصنف لفظي، فإنه لا يتفاوت الواقع العملي بين أن نقول: علمنا بوجود خبر صادر عن الإمام في غسل الجمعة، أو نقول: علمنا باعتبار خبر ورد في غسل الجمعة.

و كيف كان؛ فالعلم الإجمالي بوجود أخبار بقدر الكفاية في الكتب المعتمدة موجب لانحلال العلم الإجمالي، الذي كان يشمل هذه الأخبار و غيرها.

(5) عطف على «انحلال»، و ضمير «غيره» راجع إلى تلك الطائفة، فالأولى تأنيث الضمير يعني: أن غير تلك الطائفة خارج عن أطراف العلم الإجمالي، أو الضمير راجع إلى غير ما في الكتب المعتمدة، فالمعنى: و صيرورة غير ما في الكتب المعتمدة «خارجا عن طرف العلم» على نحو الشبهة البدوية.

(6) حيث قال: «إنه يعلم إجمالا بصدور كثير... بمقدار واف بمعظم الفقه».

ص: 347

اللهم إلا أن يمنع عن ذلك (1)، و ادّعي عدم الكفاية فيما علم بصدوره، أو اعتباره من تلك الطائفة، أو ادعي العلم بصدور أخبار أخر بين غيرها (2)، فتأمل (3).

و ثانيا (4): بأن قضيته إنما هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية، دون الأخبار النافية لهما.

و الأولى (5): أن يورد عليه بأن قضيته إنما هو الاحتياط بالأخبار المثبتة، فيما لم تقم

=============

(1) أي: يمنع عن انحلال العلم الإجمالي بوجود هذا المقدار، و غرضه: منع الانحلال إما بدعوى كون معلوم الصدور أو الحجية أقل من المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير، و إما بدعوى علم إجمالي آخر بصدور أخبار أخر غير هذه الأخبار المذكورة في الكتب المعتمدة، فاللازم حينئذ: العمل بجميع الأخبار، و عدم جواز الاكتفاء بتلك الطائفة؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 537».

(2) أي: غير الأخبار الموجودة في الكتب الأربعة.

(3) لعله إشارة إلى منع كون معلوم الصدور أو الاعتبار أقل من المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير، فالصواب ما أفاده من الانحلال بقوله: «قلت: يمكن أن يقال...» الخ.

(4) و قد تقدم توضيح هذا الإيراد الثاني فراجع.

(5) أي: لما كان الإيراد الثاني على هذا الدليل العقلي غير وارد بالنسبة إلى الأخبار النافية؛ عدل المصنف «قدس سره» في الرد عليه عنه إلى ما في المتن، و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 538» - أن الدليل العقلي غير تام في نفسه، أما عدم تماميته بالنسبة إلى الأخبار المثبتة: فلأن العمل بها من باب الاحتياط - كما هو مقتضى العلم الإجمالي - إنما يتجه إذا لم يكن في مقابلها ما ينفي التكليف من عموم أو إطلاق؛ إذ الاحتياط أصل، و الدليل مقدم عليه، مثلا: إذا قامت البينة على طهارة إناء من الأواني التي علم إجمالا بنجاسة جملة منها، فالاحتياط بالاجتناب عن الجميع إنما هو فيما لم تقم حجة على طهارة بعضها، فلو قامت حجة على طهارة بعضها لم يجب الاحتياط بالاجتناب عن الجميع.

و بالجملة: فوجوب العمل بالخبر المثبت من باب الاحتياط مشروط بعدم قيام حجة على نفي التكليف في مورده؛ و لو بلسان العموم أو الإطلاق، فلو قامت حجة على نفي التكليف أخذ بها، و لم يكن الخبر المثبت له مخصصا لعمومها أو مقيدا لإطلاقها حتى يؤخذ به؛ إذ الأخذ بالخبر المثبت إنما هو من باب الاحتياط - كما تقدم - و ما يدل عموما أو إطلاقا على نفي التكليف مقدم عليه، و ليس الأخذ بالخبر المثبت للتكليف من باب

ص: 348

حجة معتبرة على نفيهما من عموم دليل أو إطلاقه؛ لا الحجية بحيث يخصص أو يقيد بالمثبت منها (1)، أو يعمل (2) بالنافي في قبال حجة على الثبوت، و لو كان أصلا (3) كما لا يخفى.

ثالثها (4): ما أفاده بعض المحققين بما ملخصه: إنا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع إلى الحجية حتى يعارض ما يدل على نفيه كي يخصص به عمومه، أو يقيد إطلاقه، هذا.

=============

و أما عدم تماميته بالنسبة إلى الأخبار النافية: فلأن جواز العمل بالنافي أيضا مشروط بما إذا لم يكن في مورده ما يثبت التكليف و لو كان أصلا كما تقدم.

(1) أي: من الأخبار التي ثبتت حجيتها بهذا الوجه العقلي.

(2) عطف على قوله: «يخصص» يعني: إن مقتضى الدليل المزبور ليس هو الحجية حتى يخصص بالمثبت، أو يعمل بالنافي في قبال حجة على ثبوت التكليف؛ بل مقتضاه الاحتياط، فوجوب العمل بالمثبت من باب الاحتياط منوط بعدم قيام حجة على نفي التكليف، كما أن جواز العمل بالنافي موقوف على عدم قيام حجة على ثبوت التكليف في مورده و لو كان أصلا كما لا يخفى.

(3) أي: لو كان تلك الحجة أصلا؛ لأن الأصل مقدم عليه.

حاصل الكلام: أن هذا الدليل أخص من المدعى. و في «منتهى الدراية»: الصواب إسقاط الواو من قوله: «و لو كان أصلا»؛ لأن المقصود: إثبات العمل بالنافي من هذه الأخبار لو كان الحجة على الثبوت أصلا كالاستصحاب؛ لوضوح: تقدم الخبر على الأصل العملي؛ إذا لو كان المثبت خبرا لم يقدم الخبر النافي عليه؛ بل يتعارضان، و يجري عليهما أحكام التعارض، فيختص تقديم الخبر النافي على المثبت بما إذا كان المثبت أصلا فقط.

الوجه الثالث: ما أفاده بعض المحققين

اشارة

(4) أي: الثالث من الوجوه العقلية على حجية خبر الواحد: «ما أفاده بعض المحققين» و هو الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين، و هذا الوجه و إن كان طويلا إلا إن المصنف لخصه بقوله: «أنا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع إلى الكتاب و السنة إلى يوم القيامة، فإن تمكنّا من الرجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه» أي:

ما بحكم العلم - و هو الظن الخاص المعلوم اعتباره المعبر عنه بالعلمي - و المراد بالحكم: هو الحكم الواقعي؛ لأنه مع العلم بالكتاب و السنة يحصل العلم بالحكم الواقعي، أو يحصل الظن الخاص بالحكم الواقعي، فإنه بمنزلة العلم به. و غرضه: أن الحكم الواقعي يحرز تارة:

بالعلم، و أخرى: بالظن الخاص الذي هو بمنزلة العلم و ذلك كخبر الواحد.

ص: 349

الكتاب و السنة إلى يوم القيامة، فإن تمكنا من الرجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه، فلا بد من الرجوع إليهما كذلك؛ و إلا (1) فلا محيص عن الرجوع على نحو يحصل الظن به في الخروج عن عهدة هذا التكليف (2)، فلو لم يتمكن (3) من القطع بالصدور أو الاعتبار فلا بد من التنزل إلى الظن بأحدهما (4).

=============

و حاصل ما أفاده المصنف «قدس سره»: في تقرير كلام صاحب الحاشية على نحو التلخيص هو: أنه قد ثبت بالإجماع بل بالضرورة و الأخبار القطعية - مثل حديث الثقلين - وجوب الرجوع إلى الكتاب و السنة، و من المعلوم: أن العقل يحكم حينئذ بلزوم الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم بهما، أو ما هو بمنزلة العلم كالظن الخاص الذي ثبت اعتباره المعبر عنه بالعلمي، فإن ثبت بالعلم أو العلمي أن ما رجعنا إليه كتاب أو سنة: فهو المطلوب.

و إن لم يثبت بهما ذلك، مع عدم التمكن من إحرازه بشيء منهما لانسداد بابهما، فلا محيص عن الرجوع في تمييز الكتاب و السنة إلى الظن؛ إذا المفروض: بقاء التكليف بالرجوع إليهما، ينحصر طريق امتثاله في الظن، فيجب العمل بالروايات التي يظن بصدورها؛ للظن بوجود السنة فيها، و هذا معنى حجية أخبار الآحاد.

و الفرق بين هذا الوجه و الوجهين السابقين: أن متعلق العلم الإجمالي في هذا الوجه:

هو ما ورد في الكتاب و السنة، و في الوجهين السابقين: هو الأحكام الواقعية.

قوله: «فلا بد من الرجوع إليهما كذلك» جواب قوله: «فإن تمكنا...» الخ، و ضمير «إليهما» راجع على الكتاب و السنة «كذلك» أي: على نحو يحصل العلم أو ما بحكم العلم، يعني: فإن تمكنا من الرجوع إلى الكتاب و السنة على نحو يحصل العلم أو الظن الخاص بالحكم الواقعي وجب الرجوع إليهما على هذا النحو، و إن لم نتمكن فلا محيص عن التنزل إلى حصول الظن المطلق بالحكم.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) أي: و إن لم يحصل العلم و لا الظن الخاص بالحكم الواقعي «فلا محيص...» الخ.

(2) أي: وجوب الرجوع إلى الكتاب و السنة الثابت بالضرورة. و ضمير «به» راجع على الحكم.

(3) هذه نتيجة ما أفاده من عدم التمكن من تحصيل العلم بالحكم، و لا الظن الخاص به، و قد مر توضيحه.

(4) أي: الظن بالصدور أو بالاعتبار. و الحاصل: أن صورة التمكن من القطع

ص: 350

و فيه (1): أن قضية بقاء التكليف فعلا بالرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنة، كما بالصدور أو الاعتبار هي فرض تحقق العلم بالحكم الواقعي، أو ما هو بحكم العلم به، و صورة عدم التمكن منهما هي فرض حصول الظن بهما.

=============

(1)

هذا رد لبعض المحققين

و توضيح هذا الرد من المصنف - على ما أفاده بعض المحققين - يتوقف على مقدمة و هي: بيان ما هو المراد من السنة التي يجب الرجوع إليها في كلام بعض المحققين، حيث قال: «إنا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع إلى الكتاب و السنة إلى يوم القيامة».

و هناك احتمالات:

الأول: أن يكون المراد من السنة في قول هذا المحقق: هو قول المعصوم و فعله و تقريره.

الثاني: أن يكون المراد منها هو الحاكي عن هذه الثلاثة قطعا.

الثالث: أن يكون المراد منها: مطلق الخبر الحاكي و لو لم يعلم المطابقة فتكون السنة حينئذ مطلق الأخبار الموجودة بأيدينا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه إن كان المراد المعنى الأول فإنه لا يرتبط بخبر الواحد إطلاقا كما واضح.

و إن كان المعنى الثاني: فهو أيضا أجنبيّ عن المقام؛ لفرض أنّا لا نعلم أن هذه الأخبار الموجودة حاكية قطعية عن السنة الواقعية.

فيبقى الاحتمال الثالث، و هو مراده من السنة كما هو ظاهر كلامه.

حيث قال: «للقطع برجوعنا اليوم في تفاصيل الأحكام إلى الكتب الأربعة»؛ إذ التعبير بالكتب الأربعة كالصريح في إرادة الحاكي من السنة دون المحكي.

و كيف كان؛ فقد أورد المصنف على هذا الوجه الثالث بوجهين: هذا أولهما.

و ثانيهما: ما سيأتي في كلامه «مع أن مجال المنع...» الخ.

و حاصل هذا الوجه الأول: أنه لا شك في عدم وصول النوبة إلى الامتثال الظني، مع التمكن من الامتثال العلمي التفصيلي أو الإجمالي، و عليه: فإن كان في الروايات ما هو متيقن الاعتبار، و كان وافيا بمعظم الفقه - بحيث لا يلزم من إجراء الأصول في باقي الموارد محذور إهمال الأحكام - وجب الأخذ به، و لا يجب العمل بغيره، و مع عدم وفائه به: يضم إليه ما هو متيقن اعتباره، فالإضافة إلى غيره كالخبر الصحيح، بالإضافة إلى الموثق و الموثق بالنسبة إلى الحسن، و هكذا لو كان هناك المتيقن اعتباره بالإضافة؛ و إلا بأن كانت الأخبار كلها متساوية، فاللازم هو: الاحتياط من وجوب الأخذ بالخبر المثبت

ص: 351

صرح بأنها المراد منها في ذيل كلامه «زيد في علو مقامه» إنما هي الاقتصار في الرجوع إلى الأخبار المتيقن الاعتبار، فإن وفى (1)، و إلاّ (2) أضيف إليه الرجوع إلى ما هو المتيقن اعتباره بالإضافة (3) لو كان (4)، و إلا فالاحتياط بنحو ما عرفت؛ لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره، و ذلك (5) للتمكن من الرجوع علما تفصيلا (6) أو إجمالا (7)، فلا وجه معه (8) من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظن اعتباره، هذا مع أن مجال المنع (9) عن للتكليف، و جواز العمل بالخبر النافي للتكليف على نحو تقدم في الوجه الأول و الثاني.

=============

و قد عرفت: أنه وجوب العمل بالأخبار من باب الاحتياط غير وجوب العمل بها لأجل حجيتها، و المدعى هو: حجيتها لا العمل بها احتياطا.

(1) أي: فإن وفى المتيقن الاعتبار بمعظم الفقه فهو المطلوب.

(2) أي: و إن لم يف المتيقن اعتباره بمعظم الفقه «أضيف إليه...» الخ.

(3) كخبر العدل الإمامي بالإضافة إلى الحسن، و هو بالإضافة إلى الموثق و هكذا.

و ضمير «إليه» راجع إلى المتيقن الاعتبار.

(4) أي: لو كان المتيقن الاعتبار موجودا؛ «و إلاّ» أي: و إن لم يكن المتيقن اعتباره بالإضافة موجودا، فيلزم الاحتياط بنحو ما عرفت في الإيراد على الوجه الثاني العقلي بقوله: «و الأولى أن يورد عليه: بأن قضيته هو الاحتياط...» الخ.

قوله: «لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره» عطف على قوله: «فالاحتياط» أي: فلا تصل النوبة إلى الرجوع إلى ما ظن اعتباره.

(5) تعليل لقوله: «فالاحتياط».

(6) بالرجوع إلى المتيقن الاعتبار إن كان وافيا بمعظم الفقه.

(7) في صورة الأخذ بالأخبار احتياطا.

(8) أي: مع التمكن من الرجوع إلى ما يوجب العلم.

(9) هذا هو الوجه الثاني من إيراد المصنف على بعض المحققين. و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية» - أن ما ذكره صاحب الحاشية من وجوب الرجوع إلى السنة - بل نسب إليه دعوى كونه ضروريا - ممنوع جدا؛ إذا أريد بالسنة: الأخبار الحاكية عنها، كما نسبه إليه المصنف بقوله: «كما صرح بأنها المراد»؛ إذ لا دليل على وجوب الرجوع إلى الأخبار الحاكية التي لا يعلم صدورها و لا اعتبارها بالخصوص، و أساس هذا البرهان العقلي: هو وجوب الرجوع إلى السنة بمعنى الحاكي، و حيث لا دليل عليه، فينهدم، نعم؛ لا بأس بدعوى وجوب الرجوع إلى السنة، بمعنى: قول المعصوم «عليه السلام» أو فعله أو

ص: 352

ثبوت التكليف بالرجوع إلى السنة بذاك المعنى فيما لم يعلم بالصدور و لا بالاعتبار بالخصوص واسع.

و أما الإيراد عليه (1) برجوعه إما إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه دعوى العلم الإجمالي بتكاليف واقعية، و إما الدليل الأول لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الأخبار.

=============

تقريره إجماعا و نصا ضرورة؛ لكنه ليس بمراده بعد تصريحه بخلافه؛ و أن مقصوده بالسنة نفس الأخبار، و من المعلوم: أنه لا يمكن الاستدلال - على وجوب العمل بقول زرارة مثلا الحاكي للسنة - بما دل من الإجماع و الضرورة على وجوب العمل بقول الإمام: «عليه السلام»؛ و ذلك لعدم التلازم بينهما مع احتمال مخالفته للواقع، و هذا الإشكال قد أورده الشيخ الأعظم على المحقق التقي - على تقدير أن يراد بالسنة الأخبار الحاكية لها - بقوله: «إن الأمر بالعمل بالأخبار المحكية المفيدة للقطع بصدورها ثابت بما دل على الرجوع إلى قول الحجة، و هو الإجماع و الضرورة الثابتة من الدين أو المذهب.

و أما الرجوع إلى الأخبار المحكية التي لا تفيد القطع بصدورها عن الحجة: فلم يثبت ذلك بالإجماع و الضرورة من الدين التي ادعاها المستدل... الخ.

قوله: «واسع» خبر «أن مجال»، و قد عرفت وجه المنع، فلا حاجة إلى التكرار.

(1) أي: و أما الإيراد على دليل المحقق صاحب الحاشية بما ذكره الشيخ الأنصاري «قدس سره» في «الرسائل»، بأن هذا الدليل إما أن يكون دليل الانسداد الآتي، و إما أن يكون دليل العقل المذكور أعني: الوجه الأول.

و حاصل ما أفاده الشيخ الأنصاري من الإيراد: أنه - بعد عدم دلالة الإجماع و الضرورة على وجوب الرجوع إلى الروايات الحاكية للسنة - إن ادعى المحقق التقي «قدس سره» وجوب العمل بالروايات الظنية؛ لأجل أن طرحها و عدم العمل بها يستلزم الخروج عن الدين فنقول: إن هذا الوجه ليس دليلا مستقلا على حجية الظن الحاصل من خبر الواحد؛ و ذلك لأنه إن استند في وجوب العمل بها إلى العلم بمطابقة كثير منها للتكاليف الواقعية التي يعلم بوجوب رعايتها، فمرجع ذلك: إلى دليل الانسداد الآتي بيانه، و مقتضاه: حجية كل أمارة كاشفة عن الواقع لا خصوص الخبر.

و إن استند في لزوم العمل بها إلى العلم الإجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار من الأئمة المعصومين «عليهم السلام» - حتى يختص اعتبار الظن بالواقع بالظن الحاصل من خصوص الخبر - فمرجع ذلك: إلى الوجه الأول المتقدم بيانه، و على كلا التقديرين: ليس هو دليل

ص: 353

ففيه: أن ملاكه إنما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة، فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه.

=============

مستقل؛ بل إما يرجع إلى دليل الانسداد الآتي، و إما يرجع إلى الوجه الأول المتقدم.

و قد أجاب المصنف عن هذا الإيراد بقوله: «ففيه: أن ملاكه إنما هو دعوى العلم بالتكليف...» الخ.

و حاصل ما أفاده المصنف في الجواب: إن ملاك دليل المحقق المذكور ليس هو العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية؛ ليرجع إلى دليل الانسداد، و لا العلم الإجمالي بصدور جملة من الروايات المدونة في الكتب المعتبرة؛ ليرجع إلى الدليل الأول العقلي؛ بل ملاكه العلم بوجوب الرجوع إلى هذه الروايات فعلا؛ حتى إذا لم يحصل علم إجمالي بصدور جملة منها، أو علم إجمالي بتكاليف واقعية يجب التوصل بها بالظن بعد تعذر الوصول إليها بالعلم أو ما هو بحكمه.

و عليه: فمؤديات هذه الروايات: أحكام فعلية لا بد من امتثالها، و لا فعلية للأحكام الواقعية مع الغض عن قيام الأمارات عليها.

و كيف كان؛ فهذا العلم شيء ثالث، فليس علما بالأحكام الواقعية، و ليس علما بصدور أخبار كثيرة؛ بل يمكن أن يجعل هذا العلم في المرتبة الثالثة بأن نقول: إنا نعلم بتكاليف واقعية، و نعلم أن هذه التكاليف الواقعية بينت في الكتاب و الأخبار الصادرة، و نعلم بأنا مكلفون بالرجوع إلى ما بأيدينا من الأخبار.

«فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه»؛ كي يتضح لك الفرق بين دليل الانسداد، و الدليل العقلي الأول، و بين الدليل العقلي الثالث.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - الوجه الأول: هو العلم الإجمالي بصدور جماعة كثيرة من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة، المشتملة على الأحكام الإلزامية الوافية بمعظم الفقه؛ بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار لانحل علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات و سائر الأمارات، إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعتبرة، و الشك البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات غير المعتبرة، و لازم ذلك: العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة للتكليف، و جواز العمل على طبق النافية منها؛ فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت للتكليف من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب.

ص: 354

2 - و ما يرد على هذا الوجه: أن هذا الوجه لا يفيد حجية الخبر بما هو خبر؛ بل مقتضى هذا الدليل العقلي هو: لزوم العمل بالخبر المثبت للتكليف من باب الاحتياط، فلا يصلح لإثبات حجية الخبر؛ بحيث يقدم على العام تخصيصا، و على المطلق تقييدا، و على المفهوم ترجيحا، و على الأصول العملية حكومة أو ورودا. و هذا المعنى لا يثبت بالدليل المزبور.

و لكن هذا الوجه يكون سليما عما أورده الشيخ الأنصاري عليه من مراعاة الاحتياط في جميع الأمارات؛ لا في الروايات فقط.

وجه السلامة: هو انحلال العلم الإجمالي الكبير، الذي تكون أطرافه جميع الأمارات إلى العلم الإجمالي الصغير، الذي تكون أطرافه الروايات فقط، و لازم ذلك:

لزوم الاحتياط في العمل بالروايات فقط، دون سائر الأمارات.

3 - الوجه الثاني: ما حكي عن صاحب الوافية من أنه لا شك في تكليفنا بالأحكام الشرعية، و خصوصا الواجبات الضرورية مثل: الصلاة و الحج و الصوم و الزكاة، و غير ذلك من الضروريات، و لا شك أيضا في بقاء التكليف بهذه الأمور إلى يوم القيامة. و من المعلوم: أن أجزاء هذه الأمور و شرائطها و موانعها لا تثبت إلا بخبر الواحد الموجود في الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة، فلو لم يكن خبر الواحد حجة، و جاز ترك العمل به لكان تخرج هذه الأمور عن حقائقها، فلا محيص حينئذ عن العمل بخبر الواحد، فيكون حجة.

4 - و أورد عليه الشيخ بوجهين:

و حاصل الوجه الأول: أن العلم الإجمالي بوجود الأجزاء و الشرائط حاصل في جميع الأخبار؛ لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكر. و مجرد العلم الإجمالي في تلك الطائفة الخاصة لا يوجب خروج غيرها من أطراف العلم الإجمالي، فلازم ذلك: هو الاحتياط بلزوم الأخذ بكل خبر يدل على الجزئية و الشرطية، و مع عدم إمكان الاحتياط - لأجل كونه مخلا بالنظام - لا بد من الأخذ بكل خبر ظن بصدوره؛ كما سيأتي في دليل الانسداد.

و حاصل الوجه الثاني من الإيراد: أن هذا الدليل أخص من المدعى؛ إذ مقتضاه:

العمل بالأخبار المثبتة للجزئية و الشرطية، دون الأخبار النافية لهما، مع أن المدعى هو مطلق الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة.

ص: 355

و قد دفع المصنف ما أورده الشيخ على الوافية بقوله: «قلت يمكن أن يقال».

و حاصل الدفع: هو انحلال العلم الإجمالي الذي تكون أطرافه جميع الأخبار، إلى العلم الإجمالي الصغير الذي تكون أطرافه الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة كالكتب الأربعة.

و لازم ذلك: هو وجوب العمل احتياطا بالأخبار الموجودة في الكتب الأربعة كما في الوافية؛ إلا أن يمنع انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى العلم الإجمالي الصغير، فيرد عليه ما أورده الشيخ الأنصاري «قدس سره».

5 - الوجه الثالث: ما نسب إلى صاحب حاشية المعالم حيث قال بما حاصله: إنا نقطع بأنا مكلفون بالرجوع إلى الكتاب و السنة إلى يوم القيامة، فيجب العمل بهما، ثم إن تمكنا من الرجوع إليهما - بنحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه - تعين ذلك، و إلا فلا محيص عن التنزل إلى الظن بالحكم، و لازم ذلك: حجية الظن.

و قد أورد المصنف عليه بوجهين.

و حاصل الوجه الأول: أن مقتضى وجوب الرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنة هو:

الاقتصار في الرجوع إلى الخبر المتيقن اعتباره؛ كالظن الخاص المقطوع اعتباره، فإن وفى بمعظم الفقه فهو المطلوب؛ و إلا أضيف الخبر المتيقن اعتباره بالإضافة إلى ما سواه كالخبر الصحيح، بالإضافة إلى الموثق، و هكذا لو كان هناك المتيقن بالإضافة؛ و إلا فاللازم هو:

الاحتياط بوجوب العمل بالخبر المثبت للتكليف؛ كما تقدم في الوجه الأول. فراجع،

و حاصل الوجه الثاني: أنه لا يجب الرجوع إلى الأخبار الحاكية عن السنة التي لا يعلم صدورها و لا اعتبارها بالخصوص؛ و ذلك لعدم وجوب الرجوع إلى السنة بمعنى الحاكي و إنما قام الدليل على وجوب الرجوع إلى السنة بمعنى السنة المحكية، و هي: قول المعصوم «عليه السلام» و فعله و تقريره.

و أما إيراد الشيخ الأنصاري «قدس سره» على دليل المحقق صاحب الحاشية: بأن هذا الدليل إما أن يكون دليل الانسداد الآتي. و إما أن يكون الدليل العقلي المذكور أعني: الوجه الأول. فمردود؛ بأن ملاكه ليس أحد الأمرين ليرجع إلى أحد الدليلين؛ بل ملاكه هو: العلم بالتكليف بالرجوع إلى ما بأيدينا من الأخبار.

6 - رأي المصنف «قدس سره»:

عدم تمامية الاستدلال بالوجوه العقلية المذكورة على حجية خصوص الأخبار.

ص: 356

فصل

في الوجوه التي أقاموها على حجية الظن و هي أربعة:

الأول (1): أن مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة للضرر، و دفع الضرر المظنون لازم.

=============

فصل في الوجوه العقلية على حجية مطلق الظن

الوجه الاول أن مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة للضرر

(1) توضيح هذا الوجه الأول يتوقف على مقدمة و هي: أن الظن بالحكم الإلزامي يلازم الظن بالضرر على مخالفته، سواء كان وجوبا، كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال، أم حرمة: كحرمة شرب التتن.

و من المعلوم: أن دفعه الضرر المظنون لازم عقلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن هذا الدليل العقلي مركب و مؤلف من «صغرى»، و هي كون الظن بالحكم الإلزامي ملازما للظن بالضرر على المخالفة، و «كبرى» و هي لزوم دفع الضرر المظنون عقلا.

فيقال: - عند قيام الظن على الحكم الإلزامي - إن في العمل بهذا الظن دفع للضرر و دفع الضرر المظنون لازم عقلا، فالعمل بالظن بالحكم الإلزامي لازم عقلا، فالنتيجة هي:

حجية الظن؛ إذ لا معنى للزوم العمل بالظن لو لم يكن حجة، و من المعلوم: أن نتيجة الشكل الأول بديهية، فحينئذ: لا إشكال في النتيجة بعد تمامية الصغرى و الكبرى، فيقع الكلام فيهما.

و أما الصغرى: فبتقريب: أن الظن بالحكم الإلزامي ملازم للظن بأمرين: أحدهما:

ترتب العقوبة على مخالفته، و الآخر: ترتب المفسدة عليها إن كان الحكم هو الحرمة، و فوات المصلحة إن كان هو الوجوب؛ بناء على مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد، فالحكم علة لاستحقاق المثوبة عند الموافقة، و العقوبة عند المخالفة، و من المعلوم: أن الظن بالعلة - و هي الحكم - يلازم الظن بالمعلول، و هو استحقاق المثوبة، أو العقوبة.

و عليه: فالظن بالحكم الإلزامي مستلزم للظن بالضرر الأخروي أو الدنيوي على مخالفته. أما الأول: فلنرتب الظن بالعقوبة على مخالفته.

ص: 357

أما الصغرى: فلأن الظن بوجوب شيء أو حرمته يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته، أو الظن بالمفسدة فيها بناء على تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد.

=============

و أما الثاني فلنرتب الوقوع في المفسدة، أو فوات المصلحة على مخالفته.

فالصغرى - و هي ترتب الضرر الأخروي أو الدنيوي على مخالفة الحكم المظنون - ثابتة.

و أما الكبرى: فحاصلها: أنه - بعد إثبات الملازمة بين الظن بالحكم و الظن بالضرر في الصغرى - يقال: إن دفع الضرر المظنون لازم؛ لاستقلال العقل به - كما عرفت في المقدمة - و هذا الحكم من العقل لا يكون مبنيا على القول بالتحسين و التقبيح العقليين لما هو مذهب العدلية؛ بل يحكم حتى على القول بعزل العقل عن حكمه بالتحسين و التقبيح كما هو مذهب الأشاعرة؛ لعدم ابتناء حكمه بلزوم دفع الضرر المظنون على القول بالتحسين و التقبيح؛ لأن لزومه من الأمور الفطرية المجبولة عليها النفوس، و لا ربط له بالعقل، ضرورة: أن ملاك وجوب دفع الضرر هو كونه منافرا للطبع، كما أن ملاك جلب المنفعة هو كونها ملائمة للطبع و هما مما اتفق عليه العقلاء حتى الأشعري المنكر للحسن و القبح، حيث إن ما أنكره هو إدراك العقل بعض الأفعال، على وجه يمدح أو يذم فاعله عليه؛ لا منافرة بعض الأشياء للطبع أو ملاءمته له، فإنهما مما لا ينكره ذو فطرة، و منه دفع الضرر و جلب المنفعة.

و كيف كان: فقد استقل العقل بلزوم دفع الضرر المظنون، سواء قلنا بالحسن و القبح العقليين أم لم نقل؛ فإن التحرز عن الضرر المظنون بل المحتمل جبلّي على كل عاقل؛ بل فطر عليه كل ذي شعور، فيجب العمل بالظن المتعلق بالحكم الإلزامي دفعا للضرر في مخالفته، و هذا معنى حجية مطلق الظن.

فالمتحصل: أن ملاك حكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ليس منحصرا في التحسين و التقبيح العقليين حتى ينتفي لزوم دفعه بانتفاء ملاكه، فالالتزام بلزوم دفع الضرر المظنون في عرض الالتزام بفعل ما استقل العقل بحسنه، و ترك ما استقل بقبحه بناء على قاعدة التحسين و التقبيح العقليين.

و لا يخفى: أنه لا تنافي بين أن يكون الشيء من مستقلات العقل، و بين أن يكون من الأمور الفطرية. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا الوجه من الوجوه العقلية على حجية مطلق الظن؛ إذ يجب العمل على طبق الظن بحكم من العقل من باب وجوب دفع الضرر المظنون، و لازم ذلك حجية مطلق الظن.

ص: 358

و أما الكبرى (1): فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون و لو لم نقل (2) بالتحسين و التقبيح؛ لوضوح: عدم انحصار ملاك حكمه بهما؛ بل يكون التزامه بدفع الضرر المظنون - بل المحتمل - بما هو كذلك و لو لم يستقل بالتحسين و التقبيح، مثل: الالتزام توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

=============

قوله: «أو الظن بالمفسدة فيها» عطف على «الظن بالعقوبة»، يعني: أن الظن بالوجوب أو الحرمة يلازم الظن بالعقوبة، و الظن بالمفسدة في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم، فكلمة «أو» هنا بمعنى الواو.

قوله: «بناء» قيد لقوله: «أو الظن بالمفسدة»؛ إذ بناء على عدم التبعية لا يكون الظن بالحكم ملازما للظن بالمفسدة كما هو واضح.

(1) و هي وجوب دفع الضرر المظنون، و قد عرفت توضيحه.

(2) هذا ردّ على ما أجاب به الحاجبي و غيره عن هذا الوجه العقلي من منع الكبرى - أعني: وجوب دفع الضرر المظنون - و قد حكاه عنه الشيخ «قدس سره» حيث قال: «و قد أجيب عنه بوجوه أحدها: ما عن الحاجبي و تبعه غيره من منع الكبرى، و أنه دفع الضرر المظنون إذا قلنا بالتحسين و التقبيح العقليين احتياط مستحب لا واجب»، فلا بد أولا من بيان ما أجاب به الحاجبي، و ثانيا: من بيان ردّ المصنف عليه.

و أما حاصل ما أفاده الحاجبي في الجواب فيقال: أن هذا الدليل العقلي مبني على قاعدة التحسين و التقبيح العقليين، و تلك ممنوعة أولا على ما ذهب إليه الأشاعرة.

و ثانيا: على فرض تسليمها كان مفادها استحباب الاحتياط لا وجوبه، فدفع الضرر المظنون مستحب و ليس بواجب، و من المعلوم: أن حجية الظن بالحكم الإلزامي إنما يكون مبنيا على وجوب الاحتياط، و لا يجب دفع الضرر المظنون عقلا.

هذا تمام الكلام في منع الكبرى على ما حكي عن الحاجبي.

و أما ردّ المصنف عليه: فلما عرفت من: عدم ابتناء هذا الدليل العقلي على قاعدة التحسين و التقبيح العقليين؛ لأن ملاك حكم العقل لا ينحصر بالتحسين و التقبيح كي يبتني حكمه بوجوب دفع الضرر المظنون على القول بالحسن و القبح العقليين؛ بل وجوب دفع الضرر من الأمور الفطرية؛ و إن فرض عدم إدراك العقل حسن الأشياء و قبحها، فالتزام العقل بدفع الضرر المظنون؛ بل المحتمل بما هو مظنون و محتمل و لو لم نقل بالتحسين و التقبيح هو: كالتزامه بفعل ما استقل بحسنه، أو بترك ما استقل بقبحه إذا

ص: 359

بفعل ما استقل بحسنه، إذا قيل باستقلاله، و لذا أطبق العقلاء عليه، مع خلافهم في استقلاله بالتحسين و التقبيح، فتدبر جيدا (1).

=============

قيل: بالتحسين و التقبيح.

و قد استشهد المصنف لذلك: بإطباق العقلاء كافة على دفع الضرر المظنون، مع خلافهم في التحسين و التقبيح العقليين.

فلو كان ملاك حكمه منحصرا بهما لم يطبقوا على الأول، مع خلافهم في الثاني.

(1) فإن الحق أنهما ضروريان، و أن من أنكرهما إنما هو لشبهة، فإن العقلاء لا يكادون يشكون في أن من قتل صديقا له بلا أي جرم فعل قبيحا، و من ألقى النار على أطفال أبرياء لتحرقهم فعل قبيحا، سواء كان هناك شرع أم لم يكن، و تفصيل الكلام في علم الكلام.

فالمتحصل: أنه قد أجاب الحاجبي عن هذا الدليل العقلي بأنه مبني على قاعدة التحسين و التقبيح العقليين و قد عرفت عدم الابتناء.

و كيف كان؛ فالصواب في الجواب هو: منع الصغرى - و هي قوله: «أن في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة للضرر».

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن المراد بالضرر المظنون المذكور في الصغرى: إما هو الضرر الأخروي أي: العقوبة، و إما هو الضرر الدنيوي أي: المفسدة كالسكر في الخمر، فهنا احتمالان: الأول: أن يراد بالضرر المذكور فيها العقوبة. الثاني:

أن يراد به المفسدة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه إن كان المراد هو الاحتمال الأول أعني: الضرر الأخروي، فنقطع بعدم الضرر؛ لأنه من العقاب بلا بيان و هو مرفوع بحديث الرفع، أو بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

و إن كان المراد من الضرر هو: الاحتمال الثاني أعني: الضرر الدنيوي، ففيه: أن الحكم لا يلازم الضرر الدنيوي الشخصي، ففي بعض الأحكام الواجبة أضرار شخصية؛ كدفع الزكاة، و في بعض الأحكام المحرمة منافع شخصية، كالقمار بالنسبة إلى الرابح، و الربا بالنسبة إلى الآخذ، و حينئذ: فالظن بالحكم لا يلازم الظن بالضرر. هذا تمام الكلام في منع الصغرى.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

ص: 360

و الصواب في الجواب: هو منع الصغرى (1)، أما العقوبة (2): فلضرورة عدم الملازمة بين الظن بالتكليف و الظن بالعقوبة على مخالفته؛ لعدم الملازمة بينه (3) و العقوبة على مخالفته، و إنما الملازمة بين خصوص معصيته و استحقاق العقوبة عليها؛

=============

(1) و قد عرفت توضيح ذلك، و بعبارة أخرى: أن مطلق مخالفة الحكم الواقعي لا يستلزم استحقاق العقوبة؛ بل المستلزم له هو خصوص مخالفة الحكم المنجز.

و إن شئت فقل: إن استحقاق العقوبة ليس من لوازم جميع مراتب الحكم؛ بل خصوص مرتبته الأخيرة - و هي التنجز - فاستحقاق العقوبة من لوازم المعصية، التي هي خصوص مخالفة الحكم المنجز، و من المعلوم: أن الظن بالحكم - مع الشك في اعتباره - لا يستلزم الظن باستحقاق العقوبة و لا الشك فيه؛ بل يقطع بعدم الاستحقاق؛ إذ مع عدم تنجز الحكم الواقعي لا تعد مخالفته معصية حتى يترتب عليها استحقاق العقوبة.

هذا كله في منع الصغرى بناء على الاحتمال الأول أعني: المراد بالضرر العقوبة.

و أما منعها بناء على الاحتمال الثاني، و هو: كون المراد به المفسدة، فسيأتي في كلام المصنف، و قد عرفت توضيح ذلك.

(2) أي: أما إذا كان المراد بالضرر العقوبة: فهي ممنوعة، «لضرورة عدم الملازمة...» الخ. و قد مرّ توضيحه.

(3) هذا الضمير و ضمير «مخالفته» راجع إلى التكليف، و كان الأولى تكرار كلمة «بين» بأن يقال: «بينه و بين العقوبة»، و غرضه: أنه لا ملازمة بين التكليف و بين العقوبة على مخالفته حتى تثبت الملازمة بين ظنيهما، ضرورة: تحقق الانفكاك بينهما في صورة الجهل بالتكليف.

و المراد من «معصيته» هي: مخالفة التكليف المنجز، و الضمير في «معصيته» راجع على التكليف.

قوله: «لا بين مطلق المخالفة و العقوبة بنفسها» عطف على «الملازمة» يعني: أن الظن بالعقوبة متفرع على ثبوت التلازم بين مطلق المخالفة و إن لم تكن معصية و بين نفس العقوبة، و ليس الأمر كذلك؛ بل الملازمة تكون بين المعصية و بين استحقاق العقوبة.

و كلمة «بنفسها» - في قوله: «و العقوبة بنفسها» - مستدركة؛ لأن المقصود: نفي الملازمة بين مطلق المخالفة و العقوبة، و هو يستفاد من العبارة، بلا حاجة إليها، و يمكن توجيه العبارة بجعل كلمة «بنفسها» صفة للعقوبة، و إرجاع ضميرها إلى المخالفة؛ بأن

ص: 361

لا بين مطلق المخالفة و العقوبة بنفسها، و بمجرد الظن به (1) بدون دليل على اعتباره لا يتنجز به، كي تكون مخالفته عصيانه.

إلا أن يقال (2): إن العقل و إن لم يستقل بتنجزه بمجرده؛ بحيث يحكم باستحقاق يكون المراد: نفي الملازمة بين مطلق المخالفة و العقوبة الناشئة عن مطلق المخالفة فيكون نفي العقوبة من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

=============

و المتحصل: أنه إذا لم يكن تلازم بين المخالفة و بين العقوبة لم يكن تلازم بين الظن بالحكم و الظن بالعقوبة.

(1) أي: بالتكليف، يعني: أن مجرد الظن بالحكم - إذا لم يثبت اعتبار ذلك الظن - لا يوجب الظن باستحقاق العقوبة؛ لأن الظن غير المعتبر بحكم الشك في عدم كون مخالفته سببا للاستحقاق، فيقطع بعدم الاستحقاق في الظن غير المعتبر.

«لا يتنجز به كي تكون مخالفته عصيانه» يعني: لا يتنجز التكليف بالظن الذي لا دليل على اعتباره، حتى يكون مخالفته عصيانا للتكليف الواقعي.

و ضميرا «اعتباره، مخالفته» راجعان على مجرد الظن، و ضمير «عصيانه» راجع على التكليف.

(2) غرضه: الإشكال على الجواب، و تصحيح الدليل العقلي، و أصل الإشكال من الشيخ الأنصاري «قدس سره»، و توضيحه: أن العقل و إن لم يحكم بتنجز التكليف بمجرد الظن به ليترتب عليه استحقاق العقوبة، إلا إنه لاحتمال بيانية الظن للحكم الواقعي لا يحكم أيضا بعدم استحقاق العقوبة، فتكون العقوبة محتملة، و حينئذ: فدعوى استقلال العقل بلزوم دفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدا.

لا يقال: إن مقتضى الظن بالحكم هو الظن بالعقوبة لا الشك فيها و احتمالها.

فإنه يقال: ليس غرض المصنف دعوى الملازمة بين الحكم بوجوده الواقعي، و بين العقوبة على مخالفته حتى يكون العلم بالتكليف و الظن به و الشك فيه موجبا للعلم بالعقوبة، و الظن بها و الشك فيها؛ إذ لا يتصور التفكيك بين المتلازمين في شيء من المراحل؛ بل غرضه: عدم استقلال العقل بقبح العقوبة، مع احتماله بيانية الظن، و مع هذا الاحتمال يحتمل العقوبة، فيحصل التفكيك بين الظن بالتكليف، و بين الظن بالعقوبة.

و بالجملة: يكون العقاب في المقام محتملا، و العقل يستقل بوجوب دفعه كالعقاب المظنون. نعم؛ قد تعرض الشيخ «قدس سره» لهذا الإشكال، و أجاب عنه؛ و لكن المصنف ارتضاه و لم يجب عنه.

ص: 362

العقوبة على مخالفته؛ إلا إنه لا يستقل - أيضا - بعدم استحقاقها معه، فيحتمل العقوبة - حينئذ - على المخالفة.

و دعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة (1) جدا، لا سيما (2) إذا كان هو العقوبة الأخروية، كما لا يخفى (3).

و أما المفسدة (4): فلأنها و إن كان الظن بالتكليف يوجب الظن بالوقوع....

=============

و الضمير في «بتنجزه» راجع على التكليف، و كذلك في «بمجرده» و «مخالفته».

قوله: «لا يستقل أيضا» يعني: أن العقل كما لا يستقل بالحكم بتنجز التكليف بمجرد الظن به؛ كذلك لا يستقل بعدم استحقاق العقوبة؛ بل يحتمل العقوبة معه؛ لما عرفت من: احتمال كون هذا الظن بيانا للحكم الواقعي، و معه لا يستقل العقل بعدم استحقاق العقوبة. و الضمير في «معه» راجع على الظن بالتكليف.

«حينئذ» أي: حين عدم استقلال العقل بعدم استحقاق العقوبة مع الظن.

(1) لاحتمال كون الظن بالحكم أو الشك فيه بيانا و منجزا له؛ كاحتمال التكليف المنجز في الشبهات البدوية قبل الفحص، حيث يستقل العقل بإيجابه الاحتياط.

(2) وجه الخصوصية: هو أهمية العقوبة الأخروية من الدنيوية بمراتب.

(3) اللهم إلا أن يقال: إنه لا احتمال للعقاب و إن ظن بالتكليف؛ لأن أدلة البراءة كقبح العقاب بلا بيان، و «رفع ما لا يعلمون» كافية في التأمين، و إن كان الإنسان ظن بالتكليف، فإن الظن لا يغني من الحق شيئا؛ لأن الظن المشكوك اعتباره بحكم المعلوم عدم اعتباره، و إن كان حجة واقعا، فإن البيان الرافع لموضوع البراءة العقلية، و المصحح للعقوبة هو الحجة الواصلة إلى المكلف، فلا يكفي في تصحيح العقوبة مجرد جعل الحجية لشيء، مع عدم وصوله إلى العبد كما هو واضح.

و عليه: فالظن بالتكليف ما لم يثبت اعتباره لا يستلزم العقوبة على مخالفته، فليست العقوبة محتملة حتى يحكم العقل بلزوم دفعها كحكمه بلزوم دفع الضرر المظنون. نعم؛ تصح هذه الدعوى في أطراف العلم الإجمالي.

(4) عطف على قوله: «أما العقوبة» أي: أما إذا كان المراد بالضرر المذكور في صغرى الدليل هو المفسدة «فلأنها...» الخ. و هذا هو الاحتمال الثاني في المراد من الضرر المذكور في صغرى الدليل، و قد أجاب عنه بوجهين: ثانيهما: ما سيذكره بقوله: «مع منع كون الأحكام تابعة...» الخ.

و أولهما: ما ذكره هنا بقوله: «فلأنها و إن كان الظن...» الخ.

ص: 363

فيها (1) لو خالفه، إلا إنها ليست بضرر على كل حال (2)، ضرورة (3): أن كل ما و حاصل هذا الوجه الأول: أن المفسدة و إن كانت مظنونة بظن التكليف، حيث إن الملاكات من قبيل الأمور التكوينية و الخواص المترتبة على الأشياء التي لا تنفك عنها، فالظن بالتكليف كالعلم به، و الشك فيه مستلزم للظن بالملاك أو العلم به أو الشك فيه، فإن الملازمة بين الحكم و بين ملاكه ثابتة في جميع المراحل، بخلاف العقوبة كما عرفت، فلا يمكن التفكيك بين الظن بالحكم و بين الظن بملاكه؛ إلا إن هذا التكليف إما أن يكون هو الحرمة، و إما أن يكون هو الوجوب، فإن كان هو الوجوب: كانت المفسدة المظنونة - لو خولف الوجوب المظنون - هو فوات المصلحة، و سيأتي التعرض له عند قول المصنف:

=============

«و أما تفويت المصلحة...» الخ.

و إن كان هو الحرمة: فالمفسدة و إن كانت مظنونة حينئذ إلا إن المفاسد على قسمين، فإنها قد تكون نوعية، و قد تكون شخصية. فإن كانت نوعية: لم توجب ضررا على الفاعل و إن كان ضررا على المؤمنين القاطنين في أقطار أعداء الدين، فالمفسدة النوعية توجب قبح الفعل؛ لكنها ليست ضررا على الفاعل حتى يجب عليه دفعه عند الظن به، فنفس عنوان المفسدة ليس ضررا و لا ملازما له.

و إن كانت المفسدة شخصية: فالعقل و إن حكم بوجوب دفعها؛ لأنه ضرر على شخص الفاعل؛ لكن لزوم دفعها منوط بإحرازها علما أو ظنا، و ما لم يحرز ذلك الضرر لم يحكم العقل بلزوم دفعه و التخلص منه، فإن المورد شبهة موضوعية تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان. هذا ما أفاده المصنف في منع الصغرى؛ و لكن الشيخ الأنصاري منعها بوجه آخر.

(1) أي: في المفسدة، للملازمة الواقعية بين التكليف بوجوده الواقعي و بين ملاكه، و من المعلوم: أن هذه الملازمة تتحقق في صورة العلم بالتكليف و الظن به و الشك فيه، و ضمائر «فلأنها، فيها، إنها» راجعة على المفسدة، و ضمير «خالفه» راجع على التكليف.

(2) أي: المفسدة ليست ضررا مطلقا و إن كانت نوعية؛ بل هي ضرر إن كانت شخصية فقط.

(3) تعليل لعدم كون المفسدة ضررا مطلقا، تقريبه: أن «القبيح» أعم من الضرر، فالمفسدة - و لو كانت نوعية - توجب قبح الفعل من دون أن تكون ضررا، فلا ملازمة بين القبح و بين الضرر الشخصي الذي هو مورد قاعدة دفع الضرر المظنون كما لا يخفى.

ص: 364

يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله (1)؛ بل ربما يوجب حزازة و منقصة في الفعل؛ بحيث يذم عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلا (2)، كما لا يخفى.

و أما تفويت المصلحة (3): فلا شبهة في أنه ليس فيه مضرة؛ بل ربما يكون في استيفائها (4) المضرة؛ كما في الإحسان بالمال، هذا مع منع (5) كون الأحكام تابعة

=============

(1) فإن الأحكام التحريمية إنما وضعت للأضرار الكامنة فيها، و لا تختص الأضرار بأشخاص الفاعلين، فكثير من الأحكام أضرارها نوعية تعود إلى النوع، و لذا حرمت؛ بل ربما كانت الأحكام الضررية ذات منافع على نفس الفاعل.

فإن في ترك الزكاة و أكل الربا و السرقة منافع مادية للمرتكب.

(2) لا على فاعله و لا على غيره، فإن الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد و لا دليل على أن المفسدة يجب أن تكون ضررا.

(3) غرضه: منع الصغرى - أعني: كون الظن بالحكم ملازما للظن بالضرر - مطلقا، سواء كان المظنون الحرمة أم الوجوب. أما الحرمة فقد تقدم الكلام فيها. و أما الوجوب - و هو المقصود بالذكر فعلا - فمحصل ما أفاده في وجهه: أن مخالفة الوجوب المظنون لا توجب إلا الظن بفوات المصلحة، و من المعلوم: أن فوات المصلحة ليس ضررا - أي نقصا - بل عدم نفع، و من الواضح: أن تحصيل النفع غير لازم حتى يجب العمل بالوجوب المظنون.

و قد تحصل من جميع ما ذكرنا في منع صغرى هذا الدليل العقلي: أن الملازمة المدعاة بين الظن بالحكم و الظن بالضرر ممنوعة، سواء كان الحكم المظنون وجوبا أم حرمة، و سواء أريد بالضرر الضرر الدنيوي - أعني المفسدة - أم الأخروي - أعني: العقوبة - و عليه: فلا يكون الظن بالحكم حجة.

و ضمير «فيه» راجع على تفويت المصلحة، و ضمير «أنه» للشأن.

(4) أي: استيفاء المصلحة، و غرضه: أن فوات المصلحة لا يكون مطلقا ضررا؛ لعدم كونه نقصا، بل قد يكون الضرر في استيفائها كما في استيفاء مصلحة الإحسان بالمال و الجهاد، فإن الأول موقوف على الضرر المالي، و الثاني على الضرر النفسي.

(5) هذا ثاني الوجهين اللذين ذكرهما في منع الصغرى، بناء على الاحتمال الثاني - أعني: ما إذا أريد بالضرر المذكور فيها المفسدة، - و هذا الوجه ناظر إلى إنكار أصل تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد، و كان الأولى تقديمه على الوجه الأول المتقدم بقوله: «فلأنها

ص: 365

للمصالح و المفاسد في المأمور بها و المنهي عنها، بل إنما هي تابعة لمصالح فيها كما حققناه في بعض فوائدنا.

و بالجملة (1): ليست المفسدة و لا المنفعة الفائتة اللتان في الأفعال و أنيط بهما الأحكام بمضرة (2)، و ليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة أو حسن ما فيه المصلحة من (3) الأفعال على القول باستقلاله بذلك (4):...

=============

و إن كان الظن...» الخ، لتقدمه عليه طبعا، فكان المناسب أن يقول هكذا: «أما المفسدة:

ففيها أولا: عدم تسليم كونها في الفعل، و ثانيا: منع كونها ضررا على كل حال».

و كيف كان؛ فتوضيح هذا الوجه الثاني: أن الظن بالحكم ليس ملازما للظن بالمفسدة أو فوات المصلحة؛ إذ هذه الملازمة مبنية على حصر المصالح و المفاسد في متعلقات التكاليف حتى تكون مخالفة العبد سببا للوقوع في المفسدة أو فوات المصلحة. و أما إذا كانتا في نفس الجعل، فهما حاصلتان بنفسه، و لا ربط لهما بمخالفة العبد و موافقته للحكم المظنون.

و ضمير «فيها» راجع على الأحكام، بمعنى أنه يكفي أن يكون نفس الإيجاب أو التحريم ذا مصلحة.

و حاصل ما حققه المصنف في بعض فوائده: أن الأحكام مما لا تتبع المصالح و المفاسد في الأفعال؛ كي يستلزم الظن بالوجوب أو الحرمة الظن بالمفسدة في المخالفة؛ بل تتبع المصالح و المفاسد في نفس الأحكام.

(1) هذا حاصل ما ذكره في الوجه الأول و مزيد توضيح له، فكان المناسب بيانه قبل قوله: «مع منع كون...» و توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية» - أنه ليس ملاك حكم العقل بحسن شيء أو قبحه هو كونه ذا نفع عائد إلى الفاعل أو ضرر وارد عليه؛ بل ملاك حكمه بهما أعم من ذلك.

فعلى القول باستقلال العقل بالحسن و القبح لا يتوقف حكمه بهما على النفع و الضرر الشخصيين؛ بل يكفي في اتصاف الفعل بالحسن و القبح المصلحة و المضرة النوعيتان كما لا يخفى.

(2) خبر «ليست المفسدة».

(3) بيان للموصول في الموضعين.

(4) أي: بقبح ما فيه المفسدة أو حسن ما فيه المصلحة. و ضمير «باستقلاله» راجع على العقل.

ص: 366

هو (1) كونه ذا ضرر وارد على فاعله أو نفع عائد إليه، و لعمري هذا (2) واضح، فلا مجال (3) لقاعدة دفع الضرر المظنون هاهنا أصلا.

و لا استقلال (4) للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة أو ترك ما فيه احتمال المصلحة. فافهم (5).

=============

(1) خبر «و ليس مناط»، و ضمير «كونه» راجع على الموصول في الموضعين المراد به الأفعال.

(2) أي: ما ذكرناه بقولنا: «و ليس مناط حكم العقل...» الخ، واضح.

(3) لما عرفت من: عدم كون الظن بالحكم من صغرياتها، و من غير فرق في ذلك بين الضرر الأخروي و الدنيوي، و من دون تفاوت أيضا فيه بين كون الحكم المظنون وجوبيا و تحريميا.

(4) غرضه: دفع ما قد يتوهم من أن المفسدة و إن لم تكن ملازمة للضرر حتى يكون الظن بها صغرى لكبرى وجوب دفع الضرر المظنون - بأن يقال: الظن بالمفسدة ظنّ بالضرر، و كل ضرر مظنون يجب دفعه، فالمفسدة المظنونة يجب دفعها - إلا إن هنا قاعدة أخرى يكون الظن بالمفسدة من صغرياتها، و هي: حكم العقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة، و ترك ما فيه احتمال المصلحة، فالظن بالحكم ملازم للظن بالمفسدة، و يصير من صغريات هذه القاعدة؛ بأن يقال: الظن بحرمة شيء مثلا مستلزم لاحتمال المفسدة في فعله، و كل ما احتمل المفسدة في فعله ففعله قبيح، فالظن بحرمة شيء مستلزم لقبح فعله، هذا.

و قد دفع المصنف «قدس سره» هذا التوهم بما حاصله: عدم تسليم هذه القاعدة، فإنه لم يظهر استقلال العقل بقبح ما فيه احتمال المفسدة.

نعم؛ هذا الحكم مسلم فيما إذا تنجز الحكم، كما في أطراف العلم الإجمالي، و ليس المقام منه.

فالمتحصل من جميع ما ذكره المصنف «قدس سره»: عدم حجية الظن بالحكم من حيث صغرويته لكبرى وجوب دفع الضرر المظنون، و لا لكبرى حكم العقل بقبح ما فيه احتمال المفسدة.

(5) لعله إشارة إلى ضعف ما أفاده بقوله: «فلا مجال لقاعدة دفع الضرر المظنون...» الخ؛ لما تقدم منه من أن المفسدة قد تكون من الأضرار أحيانا، و لازمه: أن الظن بالحرمة مستلزم لاحتمال الضرر، و قد تقدم منه: أن دفع الضرر المحتمل واجب كالضرر المظنون

ص: 367

الثاني (1): أنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح و هو قبيح.

و فيه (2): أنه لا يكاد يلزم منه ذلك؛ إلا فيما إذا كان الأخذ بالظن أو بطرفه لازما، عينا، حيث قال: «و دعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدا فتأمل جيدا».

=============

أو إشارة إلى أن الموارد مختلفة لديهم، فلا يصح إطلاق القول بأنهم يقتحمون محتمل الفساد، كما لا يصح إطلاق القول بأنهم يجتنبون عنه؛ بل لو كانت المفسدة المحتملة كبيرة لا يقدمون في الغالب، كما لو كان هناك تلف نفس أو ذهاب جميع المال أو ما أشبه ذلك، بخلاف ما لو كانت صغيرة كاحتمال ذهاب شيء يسير من المال مثلا، فإطلاق القول في كل من الجانبين غير تام.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الوجوه العقلية على حجية مطلق الظن.

الوجه الثاني من الوجوه العقلية أنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح و هو قبيح

في الوجه الثاني من الوجوه العقلية (1) و قد ذكره الشيخ في «الرسائل»، و توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 569» - أنه يدور الأمر بين العمل بالظن بالحكم، و بين العمل بالشك و الوهم فيه، و من المعلوم: تقدم الظن عليهما، و إلا لزم ترجيح المرجوح على الراجح، و فساده بمكان من الوضوح؛ بحيث لا يحتاج إلى البيان.

(2) أي: في هذا الوجه من الإشكال: أنه لا يلزم من عدم الأخذ بالظن ترجيح المرجوح على الراجح إلا فيما إذا تم هناك أمران:

الأمر الأول: بأن كان الأخذ بالظن أو بطرفه الذي هو الوهم لازما؛ إذ لو لم يلزم الأخذ بأحدهما لم يكن مجال للدوران، حتى يحتم العقل العمل بالظن ترجيحا على الوهم.

الأمر الثاني: هو عدم إمكان الجمع بينهما، أو عدم وجوب الجمع شرعا من باب الاحتياط.

أما الأول: فكما لو حلف بأن يكون يوم عرفة في كربلاء أو في مكة، و كان يظن أن الحلف تعلق بالأول، فإنه لا يمكن الجمع بين الأمرين عقلا.

و أما الثاني: فكما إذا كان الجمع بينهما احتياطا مستلزما لاختلال النظام أو العسر المنفي شرعا، و حينئذ: يدور الأمر بين ترجيح الظن أو ترجيح الوهم. و لا يدور الأمر بينهما إلا بعد تمامية مقدمات الانسداد؛ إذ توقف دوران الأمر بين العمل بالظن أو طرفه على مقدمات الانسداد واضح؛ لأنه - بعد أن وجب عقلا امتثال الأحكام، و لم يجب أو

ص: 368

مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلا، أو عدم وجوبه شرعا، ليدور الأمر بين ترجيحه (1) أو ترجيح طرفه، و لا يكاد يدور الأمر بينهما (2) إلا بمقدمات دليل الانسداد، و إلا لم يجز الاحتياط التام - يدور الأمر بين العمل بالمشكوكات و الموهومات و إهمال المظنونات، و بين العمل بهذه و طرح المشكوكات و الموهومات، فمقتضى المقدمة الأخيرة من مقدمات دليل الانسداد الآتي - و هي قبح ترجيح المرجوح على الراجح - هو تعين الأخذ بالظن، و طرح المشكوك و الموهوم، ففي الحقيقة يكون هذا الوجه و الدليل هي المقدمة الأخيرة من مقدمات الانسداد، و ليس دليلا آخر.

=============

(1) أي: ترجيح الظن «أو ترجيح طرفه»، أي: الذي هو الوهم، فإنه لو أمكن الجمع لم يلزم أحد الأمرين؛ حتى يلزم ترجيح المرجوح على الراجح.

(2) أي: و لكن لا يتم الأمران، أي: «لا يكاد» يلزم الأخذ بالظن أو طرفه، و لا «يدور الأمر بينهما إلا بمقدمات دليل الانسداد»، التي هي علمنا ببقاء التكليف، و عدم وجود العلم و العلمي بقدر الكافي بمعظم الأحكام، و لزوم العسر و الحرج من الرجوع إلى الاحتياط، و لزوم الخروج من الدين على تقدير الرجوع إلى البراءة. فإذا تمت هذه المقدمات: كان اللازم الرجوع إلى الظن لا الوهم؛ لئلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح، و هو قبيح عقلا.

و بهذا تحقق أن هذا الدليل الثاني ليس دليلا مستقلا، و إنما هو تقرير لجزء من دليل الانسداد الآتي.

قوله: «و إلا...» الخ، أي: و إن لم تتم مقدمات الانسداد لم يكن الأمر دائرا بين الظن و الوهم؛ بل «كان اللازم هو...» الخ عدم أي تكليف لو لم تتم المقدمة الأولى، أو «الرجوع إلى العلم و العلمي» لو لم تتم المقدمة الثانية، «أو» الرجوع إلى «الاحتياط» لو لم تتم المقدمة الثالثة، «أو» الرجوع إلى «البراءة» لو لم تتم المقدمة الرابعة، «أو غيرهما» من الرجوع إلى فتوى الفقيه، أو التبعيض «على حسب اختلاف الأشخاص، أو الأحوال في اختلاف المقدمات»، فإن بعضها يتم بالنسبة إلى بعض، و لا يتم بالنسبة إلى بعض آخر.

و كيف كان؛ فغرض المصنف «قدس سره»: أن دوران الأمر بين الأخذ و بين الأخذ بطرفه منوط بمقدمات الانسداد؛ إذ مع اختلالها و عدم تماميتها يجب الرجوع إلى العلم أو العلمي إن كانت إحدى مقدماتها - و هي انسداد باب العلم و العلمي - منتفية، بأن كان باب العلم أو العلمي مفتوحا، أو الرجوع إلى الاحتياط إن كانت مقدمة أخرى من مقدماته - و هي بطلان الاحتياط أو البراءة - منتفية بأن أمكن الاحتياط أو لم تبطل البراءة

ص: 369

كان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلمي، أو الاحتياط أو البراءة، أو غيرهما (1) على حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال في اختلاف المقدمات على ما ستطلع على حقيقة الحال.

الثالث: ما عن السيد الطباطبائي (2) «قدس سره» من: «أنه لا ريب في وجود واجبات و محرمات كثيرة بين المشتبهات، و مقتضى ذلك (3): وجوب الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل الوجوب و لو موهوما، و ترك ما يحتمل الحرمة كذلك».

و لكن مقتضى قاعدة نفي الحرج (4): عدم وجوب ذلك (5) كله؛...

=============

على ما سيأتي توضيحه في دليل الانسداد.

(1) كالاستصحاب و فتوى المجتهد، و الأولى «غيرها» كما في بعض النسخ لرجوع الضمير إلى جميع ما ذكر؛ لأنها ذكرت على نسق واحد؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 572».

و كيف كان؛ فجواز الرجوع إلى الظن منوط بثبوت مقدمات الانسداد، فهذا الوجه العقلي لا يثبت حجية الظن إلا بعد ضم سائر مقدمات الانسداد إليه، فلا وجه لعده دليلا مستقلا.

الوجه الثالث من الوجوه العقلية العلم بوجود واجبات و محرمات كثيرة بين المشتبهات، و مقتضاه الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل الوجوب

في الوجه الثالث من الوجوه العقلية (2) و هو السيد المجاهد «قدس سره» على ما في «منتهى الدراية ج 4، ص 572».

و توضيحه: أنّا نعلم بوجود واجبات و محرمات كثيرة بين المشتبهات، و مقتضى هذا العلم الإجمالي: الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل الوجوب و لو موهوما، و ترك كل ما يحتمل الحرمة كذلك؛ لكن لما كان هذا الاحتياط موجبا للعسر و الحرج: فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط و الحرج هو العمل بالاحتياط في المظنونات، و طرحه في المشكوكات و الموهومات؛ لأن الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات و إدخال بعض المشكوكات و الموهومات باطل إجماعا.

(3) أي: العلم الإجمالي، و قوله: «كذلك» أي: و لو موهوما؛ لأنه مقتضى العلم الإجمالي.

(4) كقوله تعالى: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1).

(5) أي: عدم وجوب الإتيان بجميع الأطراف المظنونة و المشكوكة و الموهومة.

ص: 370


1- الحج: 78،

لأنه (2) عسر أكيد و حرج شديد، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط و انتفاء الحرج: العمل بالاحتياط في المظنونات، دون المشكوكات و الموهومات؛ لأن الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات و إدخال بعض المشكوكات و الموهومات باطل إجماعا.

و لا يخفى ما فيه من القدح و الفساد، فإنه (3) بعض مقدمات دليل الانسداد و لا يكاد ينتج بدون سائر مقدماته، و معه (4) لا يكون دليلا (5) آخر؛ بل ذاك الدليل.

=============

و بعبارة أخرى: عدم وجوب الإتيان بكل ما يحتمل الوجوب، و ترك كل ما يحتمل الحرمة.

(2) أي: لأن وجوب الإتيان بكل ما يحتمل الوجوب، و ترك كل ما يحتمل الحرمة عسر أكيد.

(3) أي: فإن هذا الوجه بعض مقدمات الانسداد، و لا ينتج هذا البعض بدون سائر مقدمات الانسداد، و مع ضم سائر المقدمات: لا يكون هذا الدليل دليلا آخر؛ بل يكون نفس دليل الانسداد الآتي.

و حاصل ما أفاده المصنف في رد هذا الوجه: أن هذا الوجه هو أولى مقدمات الانسداد، و هي العلم الإجمالي بوجود واجبات و محرمات في الشريعة، و كذا يتضمن المقدمة الرابعة و هي: عدم وجوب الاحتياط التام؛ لكونه مستلزما للعسر و الحرج الشديدين، و للمقدمة الخامسة أيضا و هي العمل بالمظنونات، و رفع العسر بطرح المشكوكات و الموهومات، فليس هذا وجها آخر في قبال دليل الانسداد، و لذا قال الشيخ «قدس سره» في الجواب عنه «أنه راجع على دليل الانسداد الآتي».

ثم الفرق بين هذا الوجه و بين الوجه الثاني هو: أن هذا الوجه مؤلف من جملة من مقدمات الانسداد، و الوجه الثاني ليس فيه إلا مقدمة واحدة من مقدماته، و هي: قبح ترجيح المرجوح على الراجح.

(4) أي: و مع سائر المقدمات لا يكون هذا الدليل دليلا آخر غير دليل الانسداد.

(5) فما في بعض النسخ من «دليل» بالرفع سهو من الناسخ.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

حجية مطلق الظن بالوجوه العقلية

1 - أن الظن بالتكليف يلازم الظن بالضرر على مخالفته، و دفع الضرر المظنون لازم عقلا.

ص: 371

فهناك صغرى و كبرى.

أما الصغرى: فلأن مخالفة التكليف تستلزم العقوبة كما تستلزم الوقوع في المفسدة، بناء على تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد.

فالظن بالتكليف ملازم للظن بالعقوبة و المفسدة في مخالفته.

و أما الكبرى: فحكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون، و حكمه بذلك لا يستند إلى حكمه بالحسن و القبح؛ بل مع إنكار التحسين و التقبيح العقليين يلتزم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون؛ إذ لا ينكر الأشعري المنكر للحسن و القبح بأن العقل لا يقدم على مظنون الضرر؛ بل يدفع الضرر المظنون.

و كيف كان؛ فقد استقل العقل بلزوم دفع الضرر المظنون، سواء قلنا بالحسن و القبح العقليين أم لم نقل.

2 - و قد أجاب المصنف عن هذا الوجه: بمنع الصغرى فقال: إن الظن بالتكليف لا يستلزم الظن بالضرر على مخالفته، سواء كان المراد بالضرر الضرر الأخروي - العقوبة - أو الدنيوي - المفسدة أو فوات المصلحة -.

و أما العقوبة: فلأنها لا تترتب على مجرد مخالفة التكليف الواقعي؛ بل هي تترتب على المعصية، و هي لا تتحقق إلا إذا كان التكليف منجزا عقلا؛ إذ لو لا تنجز التكليف لما كان الظن بالتكليف ملازما للظن بالعقوبة على مخالفته.

اللهم إلا أن يقال: إن العقل كما لا يستقل بتنجز التكليف بمجرد الظن به لا يستقل بعدم العقاب على مخالفته أيضا، فتكون العقوبة محتملة، فيكون المورد من موارد دفع الضرر المشكوك المحتمل، و دعوى لزوم دفعه عقلا قريبة جدا.

و أمّا للمفسدة فلوجهين:

أحدهما: إنكار لزوم تبعية الأحكام للمصالح أو المفاسد في متعلقاتها؛ بل يمكن أن تكون تابعة للمصالح فيها، و هي تستوفى بمجرد الجعل.

و ثانيهما: أن التكليف إنما ينشأ عن مصلحة أو مفسدة نوعية في متعلقه لا شخصية، و لذا كان بعض الواجبات يستلزم أضرارا شخصية كالزكاة و الجهاد، كما أن بعض المحرمات يستلزم منافع شخصية كالقمار و السرقة و الغصب.

3 - الوجه الثاني: أنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح و هو قبيح عقلا.

ص: 372

الرابع: دليل الانسداد (1)، و هو مؤلف من مقدمات، يستقل العقل مع تحققها بكفاية الإطاعة الظنية حكومة أو كشفا على ما تعرف، و لا يكاد يستقل بها بدونها، و هي خمس:

=============

و خلاصة الإشكال على هذا الوجه: أنه إنما يتم لو فرض عدم قيام الحجة على خلاف الظن، و فرض أيضا لزوم العمل بالظن أو بالوهم و عدم جواز ترك العمل بإجراء البراءة، و فرض أيضا عدم إمكان الجمع بين الاحتمالين عقلا أو عدم جوازه شرعا بالاحتياط؛ لأجل لزوم العسر و الحرج المنفي شرعا، فهذا الدليل يتوقف على تمامية مقدمات الانسداد، و بدونها لا ينهض دليلا على حجية الظن، فيرجع إلى دليل الانسداد.

4 - الوجه الثالث: ما عن السيد الطباطبائي «قدس سره» من أنه لا ريب في وجود واجبات و محرمات كثيرة بين المشتبهات، و مقتضى ذلك: وجوب الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل الوجوب و لو موهوما، و ترك ما يحتمل الحرمة كذلك.

و لكن مقتضى قاعدة العسر و الحرج: عدم ذلك كله؛ لأنه عسر أكيد و حرج شديد، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط و انتفاء الحرج هو: العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات و الموهومات؛ لأن الجمع على غير هذا الوجه باطل إجماعا.

الإيراد عليه: أن هذا الوجه بعض مقدمات الانسداد، و لا ينتج بدون سائر المقدمات، و مع ضم سائر المقدمات لا يكون دليلا آخر؛ بل هو نفس دليل الانسداد.

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

عدم تمامية هذه الوجوه الثلاثة على حجية مطلق الظن؛ لما عرفت من الإيراد على كل واحد منها.

في دليل الانسداد

(1) قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام من الظن، الذي كون مستند حجيته دليل الانسداد.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين الظن الخاص و الظن المطلق، و حاصل الفرق: أن الظن الخاص ما قام على حجيته دليل خاص غير دليل الانسداد، و الظن المطلق ما يكون مستند حجيته دليل الانسداد، ثم الظن المطلق مطلق من حيث السبب، و الظن الخاص خاص من حيث السبب؛ بأن يكون سبب الظن خبر العادل أو الثقة مثلا.

ص: 373

أولها: أنه يعلم إجمالا بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة.

ثانيها: أنه قد انسد علينا باب العلم و العلمي إلى كثير منها.

ثالثها: أنه لا يجوز لنا إهمالها، و عدم التعرض لامتثالها أصلا.

رابعها: أنه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا؛ بل لا يجوز في الجملة، كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل في المسألة، من استصحاب و تخيير و براءة و احتياط (1)، و لا إلى فتوى العالم بحكمها.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن محل الكلام في المقام هو الظن المطلق؛ لأن الدليل المعروف بدليل الانسداد دليل على حجية الظن المطلق.

و هذا الدليل مركب من مقدمات يستقل العقل مع تحققها بكفاية الإطاعة الظنية، و بدون هذه المقدمات لا يستقل العقل بذلك و هي خمس:

الأولى: العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة في مجموع المشتبهات التي هي أطراف العلم الإجمالي الكبير.

الثانية: انسداد باب العلم و العلمي - أعني: الأمارات المعتبرة غير العلمية كخبر الواحد - إلى معظم الأحكام الشرعية.

و هذه هي المقدمة الأولى التي ذكرها الشيخ «قدس سره» و هي العمدة في الاستنتاج من هذا الدليل.

و كيف كان؛ فحاصل هذه المقدمة الثانية: أن لم نعلم الأحكام الشرعية. هذا معنى انسداد باب العلم. و لم يقم عليها دليل معتبر ينتهي إلى العلم، كأن نعلم أن قول زرارة حجة، ثم يخبرنا زرارة بشيء، فإن خبر زرارة علمي و ليس بعلم، أي: منسوب إلى العلم.

هذا - أي: عدم قيام دليل على الأحكام معنى انسداد باب العلمي.

الثالثة: عدم جواز إهمال التكاليف بالرجوع إلى أصالة البراءة، و عدم التعرض لامتثالها بالمرة. فإن في ذلك لزوم الخروج من الدين.

الرابعة: عدم جواز الرجوع إلى الوظائف المقررة للجاهل من الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة، أو الرجوع إلى الأصل في المسألة من البراءة و الاستصحاب و التخيير و الاحتياط، أو التقليد بأخذ فتوى الغير الذي يرى انفتاح باب العلم و العلمي، فليس له الرجوع و لا الإرجاع إلى المجتهد الانفتاحي؛ لأنه بنظر الانسدادي جاهل بالأحكام.

(1) المراد به: أصالة الاحتياط في المسألة؛ لا الاحتياط التام، الجاري فيها و في غيرها.

ص: 374

خامسها: أنه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحا (1)، فيستقل (2) العقل حينئذ (3) بلزوم الإطاعة الظنية لتلك التكاليف المعلومة، و إلا (4) لزم - بعد انسداد باب العلم و العلمي بها - إما إهمالها، و إما لزوم الاحتياط في أطرافها، و إما الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة، مع قطع النظر عن العلم بها، أو التقليد فيها، أو الاكتفاء بالإطاعة الشكية أو الوهمية مع التمكن من الظنية، و الفرض بطلان كل واحد منها.

=============

الخامسة: أن ترجيح المرجوح على الراجح قبيح عقلا، و هو: أن يؤخذ بالمشكوكات و الموهومات، و يترك الأخذ بالمظنونات.

فإذا تمت هذه المقدمات فلا محيص حينئذ عن الرجوع إلى الظن في امتثال التكاليف، فيجب الأخذ به و ترك العمل بالمشكوك و الموهوم؛ لئلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح و هو المطلوب في المقام. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب دليل الانسداد على حجية الظن المطلق.

(1) أي: لا يأمر به شرع و لا يحكم به عقل.

(2) هذا نتيجة المقدمات الخمس بنحو الإجمال، يعني: أنه بعد أن ثبت عدم جواز الإهمال، و عدم جواز الرجوع إلى الطرق المزبورة، و قبح ترجيح المرجوح على الراجح - أي: ترجيح الشك و الوهم على الظن - فلا محيص حينئذ عن الرجوع إلى الظن في امتثال التكاليف.

(3) أي: حين تمام المقدمات.

(4) أي: و إن لم يستقل العقل بلزوم الإطاعة الظنية لزم أحد هذه التوالي الباطلة التي سيأتي وجه بطلانها في شرح المقدمات، فهنا قضية منفصلة حقيقية مانعة الخلو ذات أطراف كثيرة، هكذا: إما أن يلزم - بحكم العقل - الإطاعة الظنية، أو إهمال الأحكام، أو الاحتياط في أطرافها، أو الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة أو التقليد فيها، أو الاكتفاء بالإطاعة الشكية و الوهمية، مع فرض التمكن من الظنية، و التوالي كلها باطلة؛ لما سيأتي، فالمقدم و هو عدم استقلال العقل بلزوم الإطاعة الظنية أيضا باطل، فالنتيجة هي لزوم الإطاعة الظنية، و هو المطلوب، فالمقام نظير أن يقال: هذا العدد إما فرد و إما زوج، لكنه ليس بزوج؛ لعدم انقسامه إلى متساويين، فهو فرد.

ص: 375

أما المقدمة الأولى (1): فهي و إن كانت بديهية؛ إلا إنه قد عرفت انحلال العلم الإجمالي بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين «عليهم السلام»، التي تكون فيما بأيدينا، من الروايات في الكتب المعتبرة، و معه (2) لا موجب للاحتياط إلا في

=============

الكلام في المقدمة الأولى

(1) هذا شروع من المصنف في البحث حول كل مقدمة على حدة؛ ليعلم صحيحها من فاسدها.

و حاصل الكلام في المقدمة الأولى: و هي العلم الإجمالي بثبوت تكاليف كثيرة في الشريعة في مجموع المشتبهات، «و إن كانت بديهية» لا نحتاج إلى الاستدلال؛ إلا إنك قد عرفت في الوجه الأول - من الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية خبر الواحد أن العلم الإجمالي الكبير الموجود في مجموع الأخبار و سائر الأمارات منحلّ إلى العلم الإجمالي الصغير في خصوص الأخبار، كما أنك قد عرفت في الوجه الثاني منها: أن العلم الإجمالي الموجود في مجموع الأخبار منحل إلى علم تفصيلي «بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين «عليهم السلام»، التي تكون فيما بأيدينا من الروايات في الكتب المعتبرة»، و إلى شك بدوي فيما في غير الأخبار.

(2) أي: مع هذا الانحلال «لا موجب للاحتياط إلا في خصوص ما في الروايات»؛ إذ العلم الإجمالي المنحل يقتضي العمل بما في الروايات، و من الواضح المعلوم: أن الاحتياط في مواردها بمعنى الأخذ بكل خبر منها دل على التكليف من وجوب أو حرمة، و هو مما لا يوجب العسر و الحرج فضلا عن الاختلال بالنظام.

و كيف كان؛ فيلزم الاحتياط في تمام أطراف العلم الإجمالي المتعلق بخصوص الروايات، و الاحتياط في أطراف الروايات غير مستلزم للعسر و الاختلال بالنظام؛ لأن الروايات منحصرة، فالعمل بها لا يلزم عسرا و لا اختلالا، و لا إجماع على عدم وجوب الاحتياط، فلو تمت هذه المقدمة مع سائر المقدمات لكانت النتيجة العمل بالروايات لا بمطلق الظن، و المطلوب هو الثاني دون الأول.

قوله: «و هو غير مستلزم...» الخ، دفع توهم، فلا بد أولا: من بيان التوهم، و ثانيا: من بيان دفعه.

أما التوهّم: فحاصله: أن العلم الإجمالي الصغير الموجود في الروايات لا يوجب انحلال العلم الإجمالي الكبير؛ إلا إذا كان مؤثرا في جميع أطرافه، و هي الروايات، و لا

ص: 376

خصوص ما في الروايات، و هو غير مستلزم للعسر فضلا عما يوجب الاختلال، و لا إجماع على عدم وجوبه و لو (1) سلم الإجماع على عدم وجوبه لو لم يكن هناك انحلال.

و أما المقدمة الثانية (2): أما بالنسبة إلى العلم: فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا بيّنة وجدانية، يعرف الانسداد كل من تعرض للاستنباط و الاجتهاد.

=============

يكون مؤثرا كذلك؛ للزوم الاختلال أو العسر، أو الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في جميع الروايات.

أما الدفع: فملخصه: أن الاحتياط في جميع الروايات لا يوجب عسرا فضلا عن لزوم الاختلال، و كذا لا إجماع على عدم وجوب الاحتياط في جميع الأخبار، و على هذا لا مانع من كون العلم الإجمالي الصغير موجبا لانحلال العلم الإجمالي الكبير، و مع الانحلال لا موجب للاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة، بل الموجب له إنما هو خصوص الروايات.

(1) كلمة «لو» وصلية، يعني: أنه لا نسلم الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في الروايات؛ و إن سلمنا في صورة عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير بما في الروايات.

و الحاصل: أنه لا ملازمة بين عدم وجوب الاحتياط في صورة عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير، و بين وجوبه في صورة الانحلال؛ إذ في صورة الانحلال لا مانع من وجوب الاحتياط في الروايات؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 579».

الكلام في المقدمة الثانية

(2) و هي: انسداد باب العلم و العلمي إلى كثير من الأحكام، و هي أهم المقدمات، و باعتبارها سمي هذا الوجه بدليل الانسداد؛ بل ادعي أنها مما تكفي في حجية الظن المطلق، بلا حاجة إلى سائر المقدمات أصلا، و عليه: فإذا بطلت هذه المقدمة فقد بطلت النتيجة من أصلها، و انهدم الأساس بتمامه.

و كيف كان؛ فحاصل كلام المصنف حول هذه المقدمة الثانية: أن دعوى انسداد باب العلم بمعظم المسائل الفقهية؛ و إن كانت هي مسلمة يعرفها كل من تصدى للاجتهاد و الاستنباط؛ و لكن دعوى انسداد باب العلمي - أي: الظن الخاص المعتبر بدليل قطعي - غير مسلمة، بعد ما عرفت نهوض الأدلة المتقدمة الثلاثة على حجية خبر الثقة من الأخبار المتواترة، و سيرة المسلمين على العمل به في أمورهم الدينية، و أخذهم المسائل

ص: 377

و أما بالنسبة إلى العلمي؛ فالظاهر: إنها غير ثابتة؛ لما عرفت من: نهوض الأدلة على حجية خبر يوثق بصدقه، و هو بحمد الله واف بمعظم الفقه، لا سيما بضميمة ما علم تفصيلا منها، كما لا يخفى.

و أما الثالثة (1): فهي قطعية؛ و لو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجزا مطلقا (1)، أو الشرعية، و سيرة العقلاء بما هم عقلاء كافة على العمل به في عامة أمورهم، و منها الأمور الدينية، و من الواضح المعلوم: أن خبر الثقة واف بمعظم الفقه، و عليه: فلا تنتج المقدمات شيئا مما يقصده الانسدادي أصلا.

=============

هذا كله مضافا إلى أنها لو تمت المقدمات لم تنتج إلا التبعيض في الاحتياط؛ لا حجية الظن، و فرق بين العمل به من باب الاحتياط و بين العمل به من باب الحجية، و نتيجة الانسداد هو الأول، و المطلوب هو الثاني.

الكلام في المقدمة الثالثة

(1) و هي: عدم جواز إهمال تلك الأحكام المعلومة إجمالا، «فهي قطعية»؛ لأن من ضروريات الشرع أن الشارع أراد الأحكام و لم يرض بإهمالها و تركها؛ إلا إن وجوب التعرض لامتثال الأحكام، و عدم جواز إهمالها ليس مستندا إلى العلم الإجمالي بوجوب تلك الأحكام في الشريعة المقدسة، حتى يمنع وجوب امتثالها إما بدعوى: عدم تنجيز العلم الإجمالي أصلا، كما هو مذهب بعض كالمحقق القمي و الخوانساري فيما نسب إليهما «قدس سرهما»، حيث جعلاه كالشك البدوي في عدم الحجية، أو بدعوى: عدم تنجزه في خصوص ما إذا لم يجب الاحتياط في جميع أطرافه، أو لم يجز الاحتياط، كما إذا كان مخلا بالنظام؛ بل هو - يعني: وجوب التعرض لامتثال الأحكام و عدم جواز إهمالها - مستند إلى وجهين آخرين:

أحدهما: الإجماع على عدم جواز الإهمال.

ثانيهما: استلزامه الخروج عن الدين؛ لأن إهمال معظم الأحكام مستلزم له، و من المعلوم: أن الشارع راغب عنه.

(2) أي: في جميع الموارد؛ بل يجوز ارتكاب جميع أطرافه أو بعضه، سواء في حال الاضطرار إليه أم لا.

و كيف كان؛ فقد اختلف في باب العلم الإجمالي، فبعض يقول: بعدم كونه منجزا مطلقا، فيجوز ارتكاب جميع الأطراف، و بعض يقول بجواز ارتكاب ما عدا المقدار المعلوم إجمالا، فلو اشتبه إناء حرام في عشرة أوان: فقال الأول: بجواز ارتكاب جميع

ص: 378

فيما جاز، أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه، كما في المقام حسب ما يأتي؛ و ذلك لأن إهمال معظم الأحكام و عدم الاجتناب كثيرا عن الحرام، مما يقطع بأنه مرغوب عنه شرعا، و مما يلزم تركه إجماعا.

إن قلت (1): إذا لم يكن العلم بها منجزا لها؛ للزوم الاقتحام في بعض الأطراف - تلك الأواني تدريجا، و قال الثاني: بجواز ارتكاب تسعة منها، و المشهور قالوا: بعدم جواز ارتكاب أي واحد منها؛ إلا إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء أو مضطرا إليه، فيجوز ارتكابه.

=============

فالمتحصل: أنه يمكن إثبات عدم جواز إهمال الأحكام بوجوه ثلاثة:

العلم الإجمالي، و الإجماع، و استلزام الخروج عن الدين.

فلو نوقش في العلم الإجمالي بعدم تنجيزه مطلقا، أو في خصوص ما جاز أو وجب الاقتحام في بعض الأطراف؛ كالاضطرار إلى بعض أطرافه إذا كان مقارنا للعلم الإجمالي أو متقدما عليه، حيث لا يجب الاجتناب عن سائر الأطراف مما لا اضطرار إليه، ففي الوجهين الآخرين غنى و كفاية.

قوله: «أو فيما جاز» عطف على «مطلقا»، يعني: «أو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجزا في خصوص ما جاز أو وجب الاقتحام...» الخ، «كما في المقام»، حيث إن الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة مخل بالنظام، أو سبب للمشقة المجوزة للاقتحام في بعض الأطراف، فيكون المقام كالاضطرار إلى بعض الأطراف، بل عينه؛ كما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 583».

قوله: «و ذلك لأن إهمال» تعليل لقوله: «فهي قطعية»، و أنه لا يجوز الإهمال؛ لما تقدم من الوجهين المذكورين.

(1) «إن قلت»: قوام هذه المقدمة العلم الإجمالي؛ لأنه هو الذي يمنع من إهمال تلك الأحكام، و حيث ثبت عدم تنجيز العلم الإجمالي لا يبقى مجال لهذه المقدمة الثالثة؛ إذ بعد سقوط العلم الإجمالي عن التأثير - لفرض وجوب الاقتحام أو جوازه في بعض الأطراف - تكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان في غير ما وجب أو جاز الاقتحام فيه من سائر الأطراف محكمة، فلو خالف الأحكام الإلزامية الواقعة في سائر الأطراف لزم أن لا يعاقب عليه؛ لكونه عقابا بلا بيان، مع أن المسلّم عقابه و صحة مؤاخذته.

قوله: «للزوم الاقتحام...» الخ. تعليل لعدم التنجيز، و ضمير «بها لها» راجعان على الأحكام.

ص: 379

كما أشير إليه (1) - فهل (2) كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف حينئذ (3) على تقدير المصادفة إلا عقابا بلا بيان، و المؤاخذة (4) عليها إلا مؤاخذة بلا برهان ؟!

قلت (5): هذا إنما يلزم لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط، و قد علم به بنحو اللمّ حيث

=============

(1) أي: بقوله: «فيما جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه».

(2) الاستفهام إنكاري، أي: لا يكون العقاب على المخالفة على تقدير المصادفة إلا عقابا بلا بيان.

(3) أي: حين لزوم الاقتحام في بعض الأطراف أو جوازه.

(4) عطف على «العقاب» أي: و هل كان المؤاخذة على المخالفة إلا مؤاخذة بلا برهان ؟

و حاصل الكلام: أنه إذا سقط العلم الإجمالي عن التنجيز، و لم يكن هناك دليل على التكليف غيره لم يكن بأس بارتكاب جميع الأطراف، أما بعضها: فلعدم تنجزها للزوم الاختلال، و أما الباقي: فلأن العلم بالنسبة إليه ينقلب شكا، و لا يجب متابعة الشك.

فالمتحصل: أن مقصود المستشكل من هذا الإشكال: أنه إذا لم نقل بكون العلم الإجمالي منجزا و لو في خصوص ما جاز أو وجب الاقتحام في بعض الأطراف كما في المقام لدفع العسر أو اختلال النظام، فما هو الموجب لمراعاة الاحتياط في بقية الأطراف، و عدم جواز الإهمال بالمرة ؟ و هل البراءة حينئذ في سائر الأطراف إلا بلا مزاحم ؟ لكون الشك فيها بدويا لاحتمال كون التكاليف المعلومة بالإجمال بأجمعها في الطرف المرخص فيه، نظير ما تقدم في العلم الإجمالي بوجود الحرام في أطراف نضطر إلى ارتكاب بعضها عينا، و هل العقاب حينئذ على المخالفة في سائر الأطراف على تقدير المصادفة إلا عقابا بلا بيان ؟ و ذلك لانتفاء العلم الإجمالي و انحلاله من أصله.

(5) و حاصل ما أفاده المصنف «قدس سره» في الجواب: أن العقاب بلا بيان إنما يلزم لو لم يعلم وجوب الاحتياط، فإذا علم وجوبه لم يلزم ذلك؛ بل كان عقابا مع البيان، و غرضه من هذا الكلام: منع جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان بإثبات البيان و هو إيجاب الاحتياط الرافع لموضوع هذه القاعدة في الأطراف التي لا اضطرار إليها، و المثبت لكون العقاب فيها مع البيان.

و حاصل ما أفاده في منع جريانها - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 585» - وجهان يستكشف من كل منهما وجوب الاحتياط:

أحدهما: أن الشارع لما اهتم بحفظ أحكامه حتى في حال الشك و انسداد باب

ص: 380

علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه؛ بحيث ينافيه (1) عدم إيجابه الاحتياط، الموجب للزوم المراعاة، و لو (2) كان بالالتزام ببعض المحتملات، مع صحة دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذا الحال (3)، و أنه مرغوب عنه شرعا قطعا.

و أما مع استكشافه (4): فلا يكون المؤاخذة و العقاب...

=============

العلم و العلمي إليها، لما تقدم من أن إهمال معظم الأحكام مستلزم للخروج عن الدين، و هو مرغوب عنه عنده، كان اهتمامه هذا بحفظ أحكامه علة لإيجاب الاحتياط و لو في بعض المحتملات - أي: غير الأطراف التي وجب الاقتحام فيها - فمن شدة هذا الاهتمام يحصل لنا العلم بإيجابه الاحتياط لحفظ الأحكام، و مع العلم بإيجابه الاحتياط لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان في غير ما وجب الاقتحام فيه؛ لورود قاعدة الاحتياط الشرعي عليها و كونها بيانا على التكاليف الفعلية الواقعية.

و ثانيهما: ما أشار إليه بقوله: «مع صحة دعوى الإجماع»، و حاصله: أن الإجماع على عدم جواز الإهمال في حال الانسداد - كما تقدم تقريبه - يكشف عن وجوب الاحتياط شرعا، و مع هذا الوجوب لا يكون العقاب بلا بيان.

فالمتحصل: أنه لا موجب لإهمال الأحكام؛ بل يجب ترك الإهمال إجماعا، و معه لا يكاد يبقى مجال لهذا الإشكال أصلا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله: «بنحو اللم» إشارة إلى الاستدلال على المعلول بوجود العلة؛ لما عرفت من: أن اهتمام الشارع علة لإيجاب الاحتياط، و قوله: «حيث علم» تقريب للدليل اللمي.

(1) هذا الضمير راجع إلى اهتمام الشارع، يعني: ينافي عدم إيجاب الشارع الاحتياط اهتمامه بحفظ أحكامه. و قوله: «الموجب» صفة للاحتياط.

(2) يعني: و لو كان الاحتياط بالالتزام ببعض المحتملات لإتمامها الموجب لحصول العلم بالواقع.

(3) أي: حال الانسداد.

(4) الظاهر أنه سهو من الناسخ، و يؤيده خلو بعض النسخ عنه؛ و ذلك للاستغناء عنه بقوله: «و قد علم به بنحو اللم»، فالحق إسقاطه، فيكون قوله: «فلا يكون» متصلا بقوله:

«قطعا»، و نتيجة لإيجاب الاحتياط الثابت بالدليل اللمي و بالإجماع المذكورين، راجع «منتهى الدراية، ج 4، ص 586».

ص: 381

حينئذ (1) بلا بيان و بلا برهان كما حققناه في البحث و غيره.

و أما المقدمة الرابعة (2): فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التام بلا كلام (3)

=============

(1) أي: حين وجوب الاحتياط شرعا. أو حين الاستكشاف كما في بعض الشروح و بهذا كله تبيّن تمامية المقدمة الثالثة، فمن ناحيتها لا يرد إشكال على دليل الانسداد.

الكلام في المقدمة الرابعة

اشارة

(2) و هي تشتمل على مطالب ثلاث.

الأول: عدم وجوب الاحتياط التام؛ بل عدم جوازه في الجملة.

الثاني: عدم جواز الرجوع في كل مسألة إلى الأصل العملي المناسب لها من استصحاب أو تخيير أو براءة أو اشتغال.

الثالث: عدم جواز الرجوع إلى فتوى مجتهد آخر انفتاحي.

(3)

المطلب الأول: عدم وجوب الاحتياط التام

هذا شروع في المطلب الأول، و حاصل ما أفاده فيه: إن الاحتياط إن كان عسره مخلا بالنظام، فلا كلام في عدم وجوبه؛ بل عدم جوازه عقلا و أما إذا كان الاحتياط مما يوجب العسر فقط، بلا إخلال بالنظام فعدم وجوبه محل نظر؛ بل منع نظرا إلى أن أدلة الحرج، و هكذا أدلة الضرر و إن كانت حاكمة على دليل التكليف و الوضع رافعة لهما فيما إذا كانا حرجيين أو ضرريين، و توجب حصرهما بما إذا لم يلزم منهما حرج أو ضرر. لكن ذلك إذا كان نفس متعلق التكليف حرجيا أو ضرريا كالوضوء أو الغسل في البرد الشديد، أو القيام في صلاة المريض، و أمثال ذلك. و أما إذا كان متعلق التكليف بنفسه في كمال السهولة؛ و لكن الجمع بين محتملاته احتياطا من جهة العلم الإجمالي هو الذي أوجب العسر أو الضرر؛ كما إذا تردد الماء المطلق للوضوء بين ألف إناء مثلا، فهاهنا لا تكون أدلة الحرج حاكمة على قاعدة الاحتياط؛ إذ العسر لازم من حكم العقل بالجمع بين المحتملات للعلم الإجمالي بالتكليف، و ليس لازما من التكليف الشرعي؛ كي يرتفع بالحرج أو الضرر.

نعم؛ لو كان الاحتياط بحكم الشرع، و قد أوجب العسر و الحرج لكثرة الأطراف أمكن القول حينئذ بسقوطه؛ و لكنه مجرد فرض، فإنه ليس إلا بحكم العقل دون الشرع.

و في «منتهى الدراية، ج 4، ص 587» ما هذا لفظه: «أن دليل نفي العسر و الضرر و نحوهما يحتمل فيه معان كثيرة، و قد وقع اثنان منها مورد البحث و النقاش بين الشيخ و المصنف «قدس سرهما»، فاختار الشيخ الأعظم: أن المنفي نفس الحكم الذي ينشأ منه الضرر و الحرج، بدعوى: أن الضرر و الحرج من صفات نفس الحكم؛ بحيث يصح حمل

ص: 382

كل منهما عليه، و يقال: «هذا الحكم ضرر أو حرج»، و عليه: فيكون نفي الضرر و الحرج بسيطا، و معنى بساطة نفيهما: نفي أنفسهما، فإن معنى بساطة النفي: نفي الشيء و سلبه، في قبال ترك النفي فإن معناه: نفي شيء عن شيء و سلبه عنه، كما هو الحال في الجعل البسيط و المركب.

و بالجملة: فنفي الضرر و الحرج هنا بسيط، لوروده على نفي الحكم الضرري و الحرجي، و معنى قوله «عليه السلام»: «لا ضرر أو لا حرج»: أن الحكم الذي هو ضرر أو حرج منفي، يعني: أنه لا جعل له، فالمنفي هو ما يتلو «لا» النافية حقيقة و بلا عناية.

و اختار المصنف «قدس سره» - كما سيأتي في قاعدة لا ضرر -: أن المنفي هو متعلق الحكم و موضوعه، و هو الفعل الضرري و الحرجي، فمعنى «لا ضرر»: أنه لا بيع ضرري مثلا؛ لكن بما أنه لا معنى لورود النفي التشريعي حينئذ على ما هو موجود تكوينا و بالوجدان؛ كالضرر و الحرج فيما نحن فيه، حيث إنهما موجودان في الخارج دائما، فلا محالة يتوجه النفي إلى الموضوع ظاهرا، و إلى الحكم واقعا و يقال: إن الفعل الضرري أو الحرجي لا حكم له، فمعنى قول الشارع: «لا ضرر» إن البيع الضرري منفي حكمه، كقوله: «لا شك لكثير الشك»، فإن معناه: أن الشك الكثير منفي حكمه، يعني: لا حكم له، فيكون نفي الضرر حينئذ من باب نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

و قد ظهر بما ذكرنا: أن ارتفاع الحكم الأولي - تكليفيا أو وضعيا - بالضرر أو الحرج منوط بكون متعلقه ضرريا أو حرجيا، فإذا لم يكن في المتعلق ضرر أو حرج لم يرتفع حكمه الأوّلي؛ و إن كان الحكم الأوّلي علة للوقوع في الضرر و الحرج.

هذا محصل الوجهين اللذين اختارهما الشيخ و المصنف «قدس سرهما»، و عليهما يترتب جريان قاعدة العسر في المقام و عدم جريانها، فبناء على المعنى الأول الذي اختاره الشيخ «قدس سره»: تجري القاعدة؛ لأن الاحتياط بالجمع بين المحتملات نشأ عن لزوم مراعاة الأحكام الواقعية، فالملقي في الحرج حقيقة هو تلك الأحكام، فهي منفية بدليل نفي الحرج، فالاحتياط الحرجي منفي بقاعدة الحرج الرافعة للأحكام الواقعية، التي نشأ منها الاحتياط الحرجي.

و بناء على المعنى الثاني الذي اختاره المصنف «قدس سره»: لا تجري القاعدة، ضرورة: أنه لا عسر في نفس متعلقات التكاليف الواقعية؛ إذ لو كانت معلومة لما كان فيها حرج أصلا، و إنما يكون الحرج في الجمع بين المحتملات من باب الاحتياط».

ص: 383

فيما (1) يوجب عسره اختلال النظام، و أما فيما لا يوجب: فحمل نظر بل منع؛ لعدم (2) حكومة قاعدة نفي العسر و الحرج على قاعدة الاحتياط، و ذلك لما حققناه في استدل الشيخ على بطلان الاحتياط بوجهين، حيث قال: «أما الاحتياط: فهو و إن كان مقتضى الأصل و القاعدة العقلية و النقلية عند ثبوت العلم الإجمالي بوجود الواجبات و المحرمات؛ إلا إنه في المقام غير واجب لوجهين:

=============

أحدهما: الإجماع القطعي على عدم وجوبه في المقام.. الثاني: لزوم العسر الشديد و الحرج الأكيد في التزامه لكثرة ما يحتمل موهوما بوجوبه...» الخ.

و لم يتعرض المصنف «قدس سره» للإجماع هنا، و قد ناقش فيه في حاشية «الرسائل».

(1) متعلق بقوله: «بلا كلام»، و ضمير «عسره» راجع على الاحتياط التام.

يعني: أن عدم وجوب الاحتياط التام مما لا إشكال فيه في كل مورد كان عسره موجبا لاختلال النظام، و أما الموارد التي لا يوجب عسره فيها لاختلال النظام: فعدم وجوبه محل نظر بل منع.

(2) تعليل لكون عدم وجوب الاحتياط - فيما إذا لم يوجب اختلال النظام - محل نظر؛ بل منع، و قد تقدم توضيحه.

و كيف كان؛ فعلى ما اختاره المصنف من استظهار كون قاعدتي الحرج و الضرر إنما هما بالنسبة إلى ما كان نفس الموضوع حرجيا أو ضرريا، فعدم وجوب الاحتياط في الأطراف - مما لا يبلغ الإخلال - محل نظر بل منع؛ «لعدم حكومة نفي الحرج و العسر على قاعدة الاحتياط»؛ و إن كانت القاعدة حاكمة على الأدلة الأولية فالوضوء إذا صار عسرا كان مرفوعا بالقاعدة، أما الوضوء إذا لم يكن ضرريا و إنما توجه الضرر من تكراره في صورة الجهل بالماء في البين، فإن قاعدة الضرر لا ترفع وجوب مثل هذا الوضوء.

و كيف كان؛ فحاصل الفرق بين مختار المصنف و مختار الشيخ «قدس سرهما»: إن المراد من الضرر و الحرج هو الموضوع الضرري و الحرجي على مختار المصنف، فيقصد نفي الحكم عنهما بلسان نفي الموضوع أعني: الموضوع الضرري و الحرجي.

و أما على مختار الشيخ: فالمراد هو: نفي الحكم الضرري و الحرجي، بمعنى: أن الحكم الناشئ من قبله الضرر و الحرج منفي بقاعدة لا ضرر و لا حرج، من باب نفي السبب بلسان نفي المسبب، و عليه: لا يكون مفاد نفي الحرج رافعا لوجوب الاحتياط العقلي على مختار المصنف؛ و ذلك لأن موضوع الحكم الشرعي الواقعي لا يستلزم الحرج و إنما المستلزم للحرج هو الاحتياط بالجمع بين محتملات التكليف، و هو ليس متعلقا للحكم

ص: 384

معنى ما دل على نفي الضرر و العسر من أن التوفيق بين دليليهما (1) و دليل التكليف (2) أو الوضع (3) المتعلقين بما يعمهما (4) هو (5): نفيهما عنهما بلسان نفيهما، فلا يكون له (6) حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل؛....

=============

الشرعي؛ بل هو عقلي فلا يقبل الرفع شرعا. و أما بناء على ما هو مختار الشيخ «قدس سره»: فأدلة نفي الحرج متكفلة لرفع الحكم الشرعي الواقعي؛ لأن العسر ينشأ من التكاليف المجهولة، فيرفعها دليل نفي الحرج، فلا يبقى مجال لقاعدة الاحتياط عقلا لارتفاع موضوعها.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) أي: دليل نفي الضرر و العسر «من أن التوفيق» بيان للموصول في قوله: «لما حققناه».

(2) كدليل وجوب الوضوء الذي له إطلاق بالنسبة إلى الضرر و الحرج و غيرهما، فإذا تردد الماء المطلق بين مائعات كثيرة يعسر الاحتياط بتكرار الوضوء بالجميع؛ لإحراز كونه بماء مطلق، فلا حكومة لمثل مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ على ما دل على وجوب تحصيل الطهارة المائية للدخول في الصلاة، و نحوها مما يشترط بها.

(3) كدليل لزوم العقد مثل أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .

(4) أي: بما يعم الضرر و الحرج، يعني: أن الدليل الأوّلي يعم الضرر و الحرج، فإن دليل وجوب الوضوء يشمل الوضوء الضرري و غيره، و كذلك دليل لزوم العقد و انعقاده، و وجه الشمول: إطلاق دليل الحكم الأوّلي من حيث الحالات، و دليل نفي الضرر و العسر يقول: لا ضرر و لا عسر، سواء كان في الوضوء أم البيع أو غيرهما، فالتوفيق بين هاتين الطائفتين من الأدلة «هو نفيهما» أي: نفي التكليف و الوضع، يعني: أن التكليف و الوضع يعني انعقاد البيع ينفيان عن الموضوع الضرري و الحرجي بلسان نفي نفس الضرر و الحرج، أي: لا تكليف و لا وضع في مورد الضرر و الحرج، و لذا يكون من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع؛ إذ قد نفى الشارع التكليف و الوضع و لكن بلسان أنه لا ضرر و لا عسر، فلم يقل لا وضوء و لا انعقاد للبيع؛ بل قال: لا ضرر و لا عسر. و يعبر عنه بأن الموضوع الضرري أو الحرجي لا حكم له.

(5) خبر «أن التوفيق»، و مرجعه إلى التوفيق، كما أن مرجع ضمير «نفيهما» هو التكليف و الوضع، و مرجع ضمير «عنهما» و «نفيهما» الثاني هو الضرر و الحرج.

(6) أي: فلا يكون لدليل نفي الضرر و الحرج «حكومة على الاحتياط العسر» إذا

ص: 385

لعدم (1) العسر في متعلق التكليف، و إنما هو في الجمع بين محتملاته احتياطا.

نعم (2)؛ لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر - كما قيل - لكانت قاعدة نفيه (3) محكمة على قاعدة الاحتياط؛ لأن العسر حينئذ (4) يكون من قبل التكاليف المجهولة، فتكون منفية بنفيه.

=============

كان الاحتياط بحكم العقل، فهنا أمران: الأول: وجه عدم الحكومة. و الثاني: تقييد الاحتياط بحكم العقل.

أما وجه عدم الحكومة: فلما تقدم من أن قاعدة العسر لا تجري إلا فيما إذا كان متعلق الحكم عسريا؛ كالوضوء حال شدة البرد لبعض الأشخاص، و أما إذا لم يكن في متعلقه عسر: فلا تجري، و المقام من هذا القبيل؛ إذ متعلقات التكاليف الواقعية إن كانت معلومة لنا لم يكن في امتثالها عسر أصلا، و إنما نشأ العسر من الجمع بين المحتملات و الوقائع المشتبهة، فلا موضوع لقاعدة نفي العسر هنا.

و أما التقييد بحكم العقل: فلإخراج الاحتياط الشرعي، فإن حكومة قاعدة العسر عليه حينئذ في محله؛ إذ متعلق وجوب الاحتياط الأشعري - و هو الجمع بين المحتملات - عسري.

(1) تعليل لقوله: «فلا يكون له حكومة»، و ضمير «هو» راجع على العسر، و ضمير «محتملاته» إلى التكليف.

(2) استدراك على قوله: «فلا يكون له حكومة»، و غرضه: حكومة قاعدة نفي الضرر و الحرج على قاعدة الاحتياط، بناء على ما اختاره الشيخ «قدس سره» في معنى نفي الضرر و الحرج من جعلهما عنوانين لنفس الحكم بمعنى: أن الحكم الضرري و الحرجي منفي بقاعدة نفي الضرر و الحرج؛ لأن العسر في مورد الاحتياط نشأ من الأحكام الواقعية، فتنفيها القاعدة؛ إذ الموجب للعسر و الملقي للعبد فيه هو تلك الأحكام.

(3) أي: نفي الضرر و العسر «محكمة على قاعدة الاحتياط»، كما أنها محكمة على الأدلة الأولية.

و ضمير «معناه» راجع إلى ما دل على نفي الضرر و العسر.

(4) أي: حين كون معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر «يكون من قبل التكاليف المجهولة، فتكون منفية بنفيه» أي فتكون التكاليف المجهولة منفية بنفي العسر. فقوله: لا عسر بمنزلة أن يقول: «لا تكاليف مجهولة».

ص: 386

و لا يخفى: أنه على هذا (1) لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الأطراف، بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها؛ بل لا بد من دعوى وجوبه شرعا كما أشرنا إليه (2) في بيان المقدمة الثالثة، فافهم و تأمل جيدا.

و أما الرجوع إلى الأصول (3): فبالنسبة إلى الأصول المثبتة من احتياط أو

=============

(1) أي: على ما ذكره الشيخ «قدس سره» في معنى نفي الضرر و الحرج، ثم قال بحكومة أدلة نفي الحرج على الاحتياط: «لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الأطراف»، يعني: هذا تعريض بالشيخ «قدس سره»، حيث إنه ذهب إلى وجوب الاحتياط في بقية الأطراف بعد ارتفاع وجوبه في جميعها بقاعدة نفي العسر، حيث قال بما حاصله: من أنه إذا كان مقتضى الاحتياط هو الإتيان بجميع المحتملات، و قام دليل شرعي على عدم وجوب إتيان بعض المحتملات في الظاهر تعين مراعاة الاحتياط في باقي المحتملات.

و ذهب المصنف: إلى عدم وجوب الاحتياط في بقية الأطراف بعد ارتفاع وجوبه في جميعها، فاعترض على الشيخ بما حاصله: من أنه لا موجب لرعاية الاحتياط في بقية الأطراف، حيث إن التكليف المعلوم إجمالا إن كان في مورد الاضطرار: فلا علم بالتكليف في غير ما اضطر إليه، و مع عدم العلم به لا موجب للاحتياط فيه، فلا وجه لدعوى استقلال العقل بلزوم الاحتياط في بعض الأطراف؛ بل لا بد من دليل آخر شرعي يقوم على وجوب الاحتياط، كما إذا استكشف وجوبه من اهتمام الشارع بحفظ أحكامه، حتى في ظرف الجهل و الانسداد؛ و إلا فلا وجه للاحتياط العقلي.

(2) أي: إلى وجوب الاحتياط شرعا في المقدمة الثالثة، حيث قال: «و قد علم به بنحو اللم، حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه»، فراجع تفصيل ذلك في المقدمة الثالثة. هذا تمام الكلام في المطلب الأول أعني: عدم وجوب الاحتياط بل عدم جوازه.

المطلب الثانى: لا مانع من الرجوع إلى الأصول المثبتة

(3) هذا شروع في المطلب الثاني - و هو - إبطال الرجوع إلى الأصل العملي في كل مسألة بخصوصها.

توضيح ذلك: أن الأصول على قسمين: 1 - الأصول المثبتة. 2 - الأصول النافية.

الأول: كالاحتياط و الاستصحاب المثبت.

الثاني: كالبراءة و الاستصحاب النافي، فالاستصحاب المثبت مطابق للاحتياط، و النافي مطابق للبراءة، فيقع الكلام في الأصول المثبتة تارة، و في الأصول النافية أخرى.

و قد استدل على بطلان الرجوع إلى الأصول المثبتة بوجهين:

ص: 387

استصحاب مثبت للتكليف، فلا مانع عن إجرائها عقلا، مع حكم العقل و عموم النقل.

=============

أحدهما: مشترك بين الاحتياط و الاستصحاب المثبت، و هو لزوم الحرج من العمل بالأصول المثبتة.

و الآخر: مختص بالاستصحاب المثبت، و هو لزوم التناقض في دليله بين الصدر و الذيل. و سيأتي توضيحه.

و أما حاصل ما أفاده المصنف في رد بطلان الرجوع إلى الأصول المثبتة: فلأنه يجوز الرجوع إلى الاحتياط و الاستصحاب المثبت المطابق له، و ذلك لوجود المقتضي و عدم المانع.

أما الأول: فلحكم العقل إن كان الأصل عقليا كالاحتياط، و عموم النقل إن كان شرعيا كالاستصحاب.

و أما الثاني: فلأن المانع عن الاحتياط هو: كونه مستلزما للمحذور كاختلال النظام أو الحرج، فيجوز الأخذ به إذا لم يكن مستلزما للمحذور المذكور.

و أما الاستصحاب: فلا مانع من جريانه في المقام على ما هو مبنى المصنف؛ و إن كان لا يجري على مذهب الشيخ «قدس سره». و إليك بيان الفرق بين القولين.

و حاصل الفرق: أن المانع من الاستصحاب عند المصنف هو: لزوم المخالفة العملية القطعية أو الاحتمالية، و عند الشيخ هو: لزوم التناقض في مدلول دليل الاستصحاب.

إذا عرفت هذا الفرق فاعلم: أنه إذا قلنا بما ذهب إليه المصنف من أن المانع هو لزوم المخالفة العملية، كما في الإناءين الطاهرين إذا علم بوقوع نجاسة في أحدهما، فإن استصحاب الطهارة في أحدهما أو كليهما يستلزم إحدى المخالفتين، فلو كان الوجه في عدم الجريان هو ذاك فلا مانع فيما إذا لم يستلزم المخالفة العملية؛ كما إذا كان الإناءان نجسين نعلم بطهارة أحدهما، فإن الاستصحاب فيهما لا يستلزم شيئا من المخالفة؛ لأن الأصلين موافقان للاحتياط.

و أما إذا قلنا بما ذهب إليه الشيخ من أن المانع من جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي هو: لزوم التناقض في مدلول الدليل، فلا يجري الاستصحاب حتى ما إذا كان موافقا للاحتياط؛ و ذلك للزوم التناقض في مدلول دليله، بداهة: أن حرمة النقض في كل منهما بمقتضى الاستصحاب ينافي لوجوب النقض في البعض كما هو مقتضى العلم الإجمالي بالنقض في بعض الأطراف.

ص: 388

هذا و لو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي؛ لاستلزام شموله دليله لها التناقض في مدلوله، بداهة: تناقض حرمة النقض في كل منها و إن شئت قلت: يلزم التناقض بين الصدر و الذيل، فإن لازم قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» هو: الحكم ببقاء الحالة السابقة؛ و لكن مقتضى ذيله - و هو قوله: «و لكن تنقضه بيقين آخر» هو عدم الحكم به، بناء على أن المراد من اليقين في الذيل هو الأعم من اليقين الإجمالي و التفصيلي، و المفروض: أن العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة مانع، فلا يجري الاستصحاب و إن لم تكن هناك مخالفة عملية.

=============

و كيف كان؛ فلا تصل النوبة إلى الظن، إما لعدم تمامية المقدمة الرابعة من مقدمات الانسداد، و أما لأن مرتبة الظن متأخرة عن مرتبة العلم و العلمي، فإن الأصل بين علم و علمي.

ثم المصنف حاول تصحيح جريان الاستصحاب حتى على مبنى الشيخ «قدس سره» قائلا: بأنه يلزم التناقض فيما إذا كان الشك في أطراف العلم الإجمالي فعليا. و أما إذا لم يكن الشك فعليا؛ بل لم يكن الشك موجودا بالفعل إلا في بعض أطرافه، و كان بعض الآخر غير ملتفت إليه أصلا، كما هو حال المجتهد في استنباط الأحكام فلا يكاد يلزم ذلك؛ لأن قضية لا تنقض ليست حينئذ إلا حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك، و ليس فيه علم بالانتقاض كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله: «و لو قيل بعدم جريان الاستصحاب...» الخ. إشارة إلى الوجه الثاني المختص بالاستصحاب.

قوله: «لاستلزام شمول...» الخ تعليل لعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي.

و حاصل الكلام في الوجه الثاني المختص بالاستصحاب: أنه لا يجري الاستصحاب المثبت للتكليف في أطراف العلم الإجمالي، مثلا: إذا علمنا إجمالا بوجوب بعض الأفعال في زمن حضور الإمام «عليه السلام»؛ كوجوب صلاة الجمعة و العيدين و وجوب الدعاء عند رؤية الهلال و غيرها، و علمنا إجمالا أيضا بانتقاض بعض هذه الأحكام في زمن الغيبة؛ لدخل حضوره «عليه السلام» في بعضها، و لكن لم نعلم ذلك بعينه، فإنه لا مجال حينئذ لاستصحاب كل واحد من تلك الأحكام؛ لعدم شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي؛ للمناقضة بين صدر الدليل و ذيله.

ص: 389

بمقتضى «لا تنقض» لوجوبه في البعض، كما هو قضية «و لكن تنقضه بيقين آخر»، و ذلك لأنه (1) إنما يلزم فيما إذا كان الشك في أطرافه فعليا.

و أما إذا لم يكن كذلك (2)؛ بل لم يكن الشك فعلا إلا في بعض أطرافه، و كان بعض أطرافه الأخر غير ملتفت إليه فعلا كما هو (3) حال المجتهد في مقام استنباط قوله: «بداهة» تعليل للتناقض بين صدر الدليل و ذيله.

=============

(1) أي: «لأن التناقض إنما يلزم..» الخ. و هذا تعليل لقوله: «فلا مانع عن إجرائها»، و غرضه: إثبات عدم المانع من جريان الاستصحاب المثبت للتكليف؛ حتى على القول بعدم جريانه في أطراف العلم الإجمالي من جهة التناقض المزبور.

توضيحه: أن التناقض بين صدر دليله و ذيله موقوف على جريان الاستصحاب في كل واحد من الأطراف؛ كما هو مقتضى صدره؛ لأنه المناقض للحكم بوجوب النقض في بعضها، و هو المعلوم بالإجمال كما هو مقتضى ذيله، و جريان الاستصحاب في كل واحد من الأطراف منوط بتحقق موضوعه - و هو اليقين و الشك الفعليان - و هو غير حاصل، لتوقفه على الالتفات إلى كل واحد من الأطراف، و لا يحصل هذا الالتفات للمجتهد إلا تدريجا كما هو واضح، و المدار في الاستصحاب على الشك الفعلي لا التقديري، و لازم عدم الالتفات فعلا إلى جميع الفروع هو: عدم العلم الإجمالي بالانتقاض، فقوله: «عليه السلام»: «و لكن تنقضه بيقين آخر» أجنبي عن المقام، مع فرض عدم الالتفات الفعلي، فيكون كل فرع يستنبط المجتهد حكمه موردا لصدر الدليل، أعني: «لا تنقض» فقط، و لا ينطبق عليه الذيل حتى يلزم التناقض المزبور؛ للغفلة عن سائر الأطراف المانعة عن تحقق الشك الفعلي، فإشكال التناقض غير وارد هنا.

و ببيان أوجز: أن التناقض يكون بين حرمة النقض و وجوبه، و هذان الحكمان كغيرهما من الأحكام منوطان بموضوعهما، و لا موضوع للحكم الثاني - أعني: وجوب النقض - لأن موضوعه الشك الفعلي، و هو مفقود؛ لعدم الالتفات دفعة إلى جميع الفروع حتى يحصل العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة فيها، و مع الالتفات التدريجي لا يحصل علم إجمالي حتى يتحقق موضوع وجوب النقض، فلا تناقض.

(2) أي: لم يكن الشك في جميع أطراف العلم الإجمالي فعليا، بل كان فعليا في بعض أطرافه و ضمير «أطرافه» في المواضع الثلاثة راجع إلى العلم الإجمالي.

و قوله: «بل لم يكن»... الخ، عطف تفسيري لقوله: «كذلك».

(3) مثال للنفي، و هو عدم الالتفات فعلا إلى بعض الأطراف.

ص: 390

الأحكام كما لا يخفى (1).

فلا يكاد (2) يلزم ذلك، فإن (3) قضية «لا تنقض» ليس حينئذ (4) إلا حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك، و ليس فيه (5) علم بالانتقاض كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له، فافهم (6).

و منه (7) قد انقدح: ثبوت حكم العقل و عموم النقل بالنسبة إلى الأصول النافية

=============

(1) لوضوح: أن المتصدي للاستنباط غافل عن غير الحكم الذي يريد استنباطه من الأدلة الشرعية.

(2) جواب قوله: «و أما إذا لم يكن»، أي: فلا يكاد يلزم التناقض المزبور.

(3) تعليل لعدم لزوم التناقض.

(4) أي: حين كون بعض الأطراف غير ملتفت إليه.

(5) أي: في الطرف المشكوك حين عدم الالتفات إلى غيره.

(6) لعله إشارة إلى: أن فرض الغفلة عن بعض الأطراف الموجب لجريان الاستصحاب في المقام ينافي ما جعله المصنف مقدمة أولى لدليل الانسداد؛ من دعوى العلم الإجمالي بالتكاليف الفعلية في الشريعة المقدسة.

أو إشارة إلى ما ذكره المشكيني، ج 3، ص 404 حيث قال: «إنه يمكن فرض الالتفات للمجتهد في آن واحد إلى مقدار يحصل العلم الإجمالي بالانتقاض فيه، كما إذا سطر جميع موارد الأصول المثبتة في صحيفة ناظرا إليها أو مقدارا منها، بحيث علم إجمالا بالانتقاض، فلا يتم دعوى الكلية». انتهى.

هذا مضافا إلى أن الفقيه لو أجرى الأصل في المسائل تدريجا يعلم أخيرا بالانتقاض، فكيف يمكن إثبات تلك المسائل في رسالته للرجوع إليها؟

و كيف كان، فهذا تمام الكلام في الأصول المثبتة. و بقي الكلام في الأصول النافية.

(7) أي: و مما ذكرنا من عدم لزوم محذور من إجراء الأصول المثبتة في حال الانسداد - من غير فرق بين الاحتياط و الاستصحاب لعدم العلم الإجمالي بالانتقاض في مورد الاستصحاب، لأجل الغفلة عن بعض الأطراف - ظهر «ثبوت حكم العقل و عموم النقل بالنسبة إلى الأصول النافية أيضا»، فإن قوله «عليه السلام»: «لا تنقض اليقين»، أو قوله: «رفع ما لا يعلمون» أو حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان كما يشمل مواضع الأصول النافية في حال الانفتاح يشمل مواضعها في حال الانسداد، و كما يشمل «لا تنقض» الإثبات كذلك يشمل النفي.

ص: 391

و كيف كان، فحاصل مرام المصنف في المقام: أنه لا مانع من جريان الأصول النافية للتكليف أيضا؛ لعدم لزوم محذور التناقض لأجل الغفلة عن بعض الأطراف كما عرفت، فحكم العقل بجريان الأصل العقلي و عموم النقل بالنسبة إلى الأصل الشرعي باق على حاله.

و ما يتوهم: من كونه مانعا عن جريان الأصول النافية أحد أمور:

1 - العلم الإجمالي بثبوت التكاليف الموجب للتناقض لو أجرينا الأصول النافية.

2 - الإجماع على وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

3 - العلم باهتمام الشارع بالتكاليف الموجب للعلم بإيجابه الاحتياط.

و شيء من هذه الأمور الثلاثة لا يصلح للمانعية.

أما الأول: فلانحلاله بالعلم أو العلمي أو الأصول المثبتة التي عرفت عدم المانع من جريانها، و مع الانحلال لا مانع من جريان الأصول النافية.

و أما الأمر الثاني و الثالث: فلتوقف مانعيتهما على عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير؛ إذ المتيقن من الإجماع على وجوب الاحتياط، أو استكشاف وجوب الاحتياط من العلم باهتمام الشارع بالأحكام الشرعية: هو صورة عدم ثبوت مقدار معتد به من التكاليف - و أمّا مع ثبوته و إن لم يكن مساويا للمعلوم بالإجمال - فلا يثبت إجماع على وجوب الاحتياط في غيره، و لا علم باهتمام الشارع بما عدا ذلك المقدار المعلوم بالإجمال من التكاليف، ليستكشف به وجوب الاحتياط فيما عدا ذلك المقدار المعلوم.

و عليه: فلا مانع حينئذ من جريان الأصول النافية لا شرعا كالإجماع، و لا عقلا كالعلم الإجمالي، فظهر: عدم بطلان الرجوع إلى الأصول النافية، و قد كانت تمامية المقدمة الرابعة متوقفة على بطلانه.

فالمتحصل: أنه لا مانع من جريان الأصول النافية إذا كان مجموع موارد الأصول المثبتة للتكليف بضميمة ما علم حكمه تفصيلا، أو قام عليه الظن المعتبر بالخصوص بمقدار المعلوم بالإجمال؛ بل بمقدار لا يبقى معه شيء مهم يوجب استكشاف وجوب الاحتياط.

فالحاصل: هو عدم ثبوت المطلب الثاني - و هو عدم جواز الرجوع إلى الأصول - من مطالب المقدمة الرابعة. و بقي الكلام في المطلب الثالث و هو عدم جواز الرجوع إلى فتوى مجتهد آخر يقول: بانفتاح باب العلم و العلمي.

ص: 392

أيضا، و أنه لا يلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدليل لها لو لم يكن هناك مانع عقلا أو شرعا من إجرائها، و لا مانع كذلك لو كانت موارد الأصول المثبتة (1) بضميمة ما علم تفصيلا أو نهض عليه علمي (2) بمقدار المعلوم إجمالا؛ بل بمقدار (3) و قبل ذكر هذا المطلب الثالث نذكر توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

=============

قوله: «و لا مانع كذلك» أي: عقلا أو شرعا.

(1) غرضه: أن عدم المانع العقلي أو الشرعي من إجراء الأصول النافية موقوف على عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير بثبوت مقدار من التكاليف بالعلم التفصيلي الحاصل من الأخبار المتواترة و الضرورة و الإجماع القطعي بضميمة الأصول المثبتة، أو انحلاله بثبوت مقدار من التكاليف بالأمارات المعتبرة مع الأصول المثبتة؛ إذ مع انحلال العلم الإجمالي الكبير لا يبقى علم إجمالي حتى يلزم من جريان الأصول النافية في باقي أطرافه محذور عقلي و هو المخالفة القطعية الكثيرة، أو شرعي و هو مخالفة الإجماع على وجوب الاحتياط؛ إذ مع الانحلال المزبور لا يثبت إجماع حتى تحرم مخالفته.

كما لا سبيل حينئذ إلى العلم باهتمام الشارع بالتكاليف حتى يستكشف به وجوب الاحتياط شرعا.

(2) المراد به هنا: العلمي الوافي ببعض الأحكام، بحيث لا يؤثر في انحلال العلم الإجمالي بالأحكام إلا بعد ضم ما يثبت بالأصول المثبتة إليه، و عليه: فلا يتوهم منافاة قوله: «أو نهض عليه علمي»؛ لما ذكره في المقدمة الثانية من مقدمات دليل الانسداد من انسداد باب العلم و العلمي.

وجه عدم المنافاة: أن المقصود بانسداد باب العلمي في تلك المقدمة: هو العلمي الوافي بمعظم الأحكام؛ بحيث لا يلزم من إجراء البراءة في الموارد الباقية محذور المخالفة القطعية، بخلاف العلمي هنا، فإن المقصود به - كما عرفت - وفاؤه بمعظم الأحكام بضميمة الأصول المثبتة، لا بمجرده.

(3) عطف على «بمقدار»، و إضراب عن اعتبار كون موارد الأصول المثبتة للتكليف بمقدار أطراف العلم الإجمالي في انتفاء المانع العقلي أو الشرعي عن إجراء الأصول النافية، و يريد بهذا الإضراب: أنه لا مانع عقلا أو شرعا عن إجراء الأصول النافية حتى لو لم تكن موارد الأصول المثبتة بمقدار أطراف العلم الإجمالي أيضا؛ بأن كانت أقل منها، بحيث لم يكن مع هذا المقدار الأقل مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط، فالمناط في

ص: 393

لم يكن معه (1) مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط و إن لم يكن (2) بذاك المقدار، و من الواضح: أنه يختلف (3) باختلاف الأشخاص و الأحوال.

=============

انتفاء المانع عن إجراء الأصول النافية هو عدم استكشاف إيجاب الاحتياط؛ لا عدم كون المعلوم بمقدار جميع الأطراف.

و بعبارة أخرى: أن إجراء الأصول النافية و عدم وجوب الاحتياط قد يكون لأجل انحلال العلم الإجمالي بالظفر بمقدار جميع الأطراف المعلوم بالإجمال علما، أو علميا مع الأصول المثبتة، و قد يكون لأجل قيام الأمارات و الأصول على أكثر أطراف المعلوم بالإجمال، كما إذا فرضنا أن أطرافه عشرة، و استفيد حكم ثمانية منها بالأمارات المعتبرة و الأصول المثبتة، و لم يعلم حكم الطرفين الباقيين، فإنه لا مانع من إجراء الأصول النافية للتكليف بالنسبة إليهما، و لا يمكن استكشاف إيجاب الاحتياط فيهما من الإجماع أو العلم باهتمام الشارع.

(1) أي: مع هذا المقدار غير الوافي بجميع الأطراف.

(2) أي: و إن لم يكن هذا المقدار المعلوم بمقدار جميع الأطراف؛ بل كان وافيا بمعظم الأطراف.

(3) أي: يختلف ذلك المقدار باختلاف الأشخاص و الأحوال.

أما الاختلاف باختلاف الأشخاص: فرب شخص كان ما علمه تفصيلا، أو نهض عليه علمي هو بمقدار كثير لو انضم إلى موارد الأصول المثبتة، لانحل العلم الإجمالي بالتكاليف من أصله، و لم يبق له مانع عن الأصول النافية أصلا، بخلاف شخص آخر، و هكذا قد يتفق الاختلاف باختلاف الأحوال و الأزمات، فربّ حال و زمان أمكن فيه تحصيل العلم التفصيلي أو العلمي بمقدار لو انضم إلى الأصول المثبتة لانحل العلم الإجمالي بالتكاليف من أصله، بخلاف حال آخر.

و بعبارة أخرى: أنّ الشخص المتتبع لموارد السنة العارف بالطرق الحديثية ربما تتوفر عنده العلميّات، بخلاف غير المتتبع و غير العارف، فإن العلمي يقل عنده لاتّهامه الروايات بالضعف سندا أو دلالة، حيث لا يجد نفسه وثوقا بها، و هكذا بالنسبة إلى الأحوال التي تقترن بوجود أهل الفضل و المعرفة تعين و تساعد صاحبها على تفهم ما لا يستطيعه من يكون في حال فاقدة لأهل الفن و المعرفة.

و هذا التفاوت مما يوجب التفاوت في كمية موارد الأصول المثبتة، و ما يعلم بالتفصيل

ص: 394

و قد ظهر بذلك (1): أن العلم الإجمالي بالتكليف ربما ينحل ببركة جريان الأصول المثبتة و تلك الضميمة، فلا موجب حينئذ (2) للاحتياط عقلا و لا شرعا. أصلا، كما لا يخفى.

كما ظهر أنه لو لم ينحل بذلك (3) كان خصوص موارد الأصول النافية مطلقا و لو أو ينهض دليل علمي عليه ففي الأحوال المساعدة و عند العارفين و الماهرين قد تكثر الأدلة، فينحل العلم الإجمالي.

=============

و في عكس ذلك قد تقل الأدلة؛ إذ لا تتوفر له العلميّات و لا العلم التفصيلي، فلا ينحل العلم الإجمالي.

(1) أي: قد ظهر بذلك الذي ذكرنا من كفاية المقدار المحصل من الأحكام بالعلم و العلمي و الأصول المثبتة: «أن العلم الإجمالي بالتكاليف» في المظنونات و المشكوكات و الموهومات «ربما ينحل ببركة جريان الأصول المثبتة، و تلك الضميمة»، و هي العلم و العلمي، و غرضه: أنّه إذا كان المقدار الثابت من الأحكام - بالأصول المثبتة و غيرها - بمقدار المعلوم بالإجمال انحل العلم الإجمالي.

(2) أي: حين انحلال العلم الإجمالي لا موجب للاحتياط لا عقلا و لا شرعا، أما الاحتياط عقلا، فلأن موجبه هو العلم الإجمالي، و المفروض: انحلاله، و أما الاحتياط شرعا، فلأنه مع ثبوت هذا المقدار من الأحكام لا إجماع على الاحتياط، و لا علم باهتمام الشارع يحرز به وجوبه شرعا.

(3) يعني: كما ظهر مما تقدم في أول المقدمة الرابعة في قوله: «و أما فيما لا يوجب فمحل نظر، بل منع.. الخ، أنه لو لم ينحل العلم الإجمالي بالأصول المثبتة، و تلك الضميمة «كان خصوص موارد الأصول النافية مطلقا..».. الخ.

و بالجملة: ففي صورة عدم الانحلال يجب الاحتياط بمقتضى حجية العلم الإجمالي في موارد الأصول النافية. أما الأصول المثبتة فهي موافقة لقاعدة الاحتياط.

و لا يخفى: أن هذا تعريض بالمشهور القائلين: بأن نتيجة مقدمات الانسداد وجوب العمل بالظن و ترك الاحتياط في المشكوكات و الموهومات.

و حاصل التعريض: أنه لو لم ينحل العلم الإجمالي يجب الاحتياط عقلا، و لا يرفع اليد عنه إلا بمقدار يرفع اختلال النظام أو العسر، فإنّ الضرورات تتقدر بقدرها، فإن ارتفع الاختلال أو العسر بترك الاحتياط في بعض الموهومات اقتصر على ذلك، فلا وجه لترك الاحتياط في البعض الآخر من الموهومات فضلا عن تمام المشكوكات.

ص: 395

من مظنونات عدم التكليف (1) محلا للاحتياط فعلا، و يرفع اليد عنه (2) فيها كلا أو بعضا، بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر - على ما عرفت - لا محتملات (3) التكليف مطلقا.

=============

و بالجملة: فالمدار رفع العسر، و عليه: فلا بد في موارد الأصول النافية من الاحتياط، و إن كان احتمال التكليف فيها موهوما جدا فضلا عن كون التكليف فيها مشكوكا أو مظنونا، و لا يرتفع الاحتياط في شيء منها إلا بمقدار الاختلال أو العسر.

(1) أي: حتى لو ظن بعدم التكليف فضلا عما لو شك فيه أو توهم عدمه «محلا للاحتياط فعلا»، لأن الاحتياط وظيفة العالم الإجمالي. نعم؛ إنما لا يجوز الاحتياط في الموارد التي يوجب الاحتياط فيها اختلال النظام أو العسر.

قوله: «مطلقا» أي: سواء كان مظنونا أو مشكوكا أو موهوما، يعني: إذا لم ينحل العلم الإجمالي وجب الاحتياط في جميع الموارد التي يحتمل فيها التكليف و لو بالاحتمال الموهوم، بحيث كان عدم التكليف الإلزامي فيها مظنونا، فضلا عما إذا كان مشكوك التكليف أو مظنونه. هذا بناء على كون النسخة «عدم التكليف»، و في بعض النسخ: «مظنونات التكليف» بإسقاط كلمة «عدم» ليناسب الإتيان بكلمة «لو» فتكون كلمة «لو» للإشارة إلى الفرد الخفي من وجوب الاحتياط مطلقا، فإن الظن أقوى الاحتمالات، فلا حاجة إلى بيان وجوب الاحتياط في المظنونات بكلمة «لو».

قوله: «فعلا» أي: حين عدم الانحلال.

(2) أي: عن الاحتياط «فيها»، أي: في موارد الأصول النافية.

(3) عطف على «خصوص موارد الأصول النافية»، يعني: أن محل الاحتياط - حين عدم انحلال العلم الإجمالي - هو خصوص موارد الأصول النافية لا جميع محتملات التكليف مطلقا، يعني: حتى في موارد الأصول المثبتة له، كما أن رفع اليد عن الاحتياط في موارد الأصول النافية محلا للاحتياط، و المناط في رفع اليد عنه حينئذ: هو لزوم العسر أو اختلال النظام، فلو لم يرفع العسر أو الاختلال إلا بترك الاحتياط رأسا تركنا العمل به مطلقا، يعني: حتى في مظنونات التكليف، كما أنّه لو ارتفع العسر أو الاختلال برفع اليد عنه في بعض الموارد، تركنا العمل به كذلك و عملنا به في الباقي و إن كان مشكوك التكليف أو موهومه.

هذا تمام الكلام في المطلب الثاني من مطالب المقدمة الرابعة.

ص: 396

و أمّا الرجوع إلى فتوى العالم (1): فلا يكاد يجوز، ضرورة: أنه (2) لا يجوز إلاّ للجاهل لا للفاضل الذي يرى خطأ من يدعي انفتاح باب العلم أو العلمي، فهل يكون رجوعه إليه بنظره (3) إلا من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل ؟

و أما المقدمة الخامسة (4)، فلاستقلال العقل بها، و أنه لا يجوز التنزل - بعد عدم

=============

المطلب الثالث: عدم جواز الرجوع الى فتوى مجتهد آخر انفتاحى

و بقي الكلام في المطلب الثالث و هو المطلب الآخر، و قد أشار إليه بقوله: «و أما الرجوع إلى فتوى العالم».. الخ.

(1) و حاصل ما أفاده المصنف في المطلب الثالث: أن رجوع الانسدادي إلى المجتهد الانفتاحي باطل؛ إذ رجوعه إلى الانفتاحي تقليد له، و هو من باب رجوع الجاهل إلى العالم، و ليس المقام منه حتى يشمله دليل جواز التقليد، «ضرورة: أن الانسدادي يعتقد بخطإ الانفتاحي، و أن مستنده غير صالح للاعتماد عليه، فالانفتاحي جاهل بنظر الانسدادي، و ليس رجوعه إليه من رجوع الجاهل إلى العالم حتى يشمله دليله؛ بل من رجوع الفاضل إلى الجاهل، فيبطل رجوع الانسدادي إليه.

(2) أي: أن الرجوع إلى العالم لا يجوز إلا للجاهل، و ليس رجوع الانسدادي إلى الانفتاحي من رجوع الجاهل إلى العالم؛ بل من رجوع العالم إلى الجاهل، و هو غير جائز.

(3) أي: فهل يكون رجوع الانسدادي إلى من يدعي انفتاح باب العلم أو العلمي إلاّ من رجوع الفاضل إلى الجاهل ؟ فالاستفهام للإنكار، يعني: لا يكن رجوعه إليه إلاّ من باب رجوع الفاضل إلى الجاهل.

(4) و حاصل ما أفاده المصنف «قدس سره»: هو تسليم المقدمة الخامسة، و هي كون ترجيح المرجوح على الراجح قبيحا، و ذلك لاستقبال العقل بها و أنه لا يجوز التنزل من الإطاعة الظنية إلى الإطاعة الشكية و الوهمية بعد عدم التمكن من الإطاعة العلمية؛ و ذلك لبداهة مرجوحيتهما بالنسبة إليها.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة: و هي أن مراتب الإطاعة هي أربعة:

الأولى: العلمية التفصيلية.

الثانية: العلمية الإجمالية. المعبّر عنها بالاحتياط.

الثالثة: الظنية، و هي أن يأتي المكلف بما يظن أنه المكلف به.

الرابعة: الإطاعة الاحتمالية من الشكية و الوهمية، و هي التي لا توجب شيئا من العلم أو الظن بامتثال التكليف.

ص: 397

التمكن من الإطاعة العلمية أو عدم وجوبها - إلا إلى الإطاعة الظنية دون الشكية أو الوهمية، لبداهة (1) مرجوحيّتهما بالإضافة إليها، و قبح (2) ترجيح المرجوح على الراجح؛ لكنك عرفت: عدم وصول النوبة إلى الإطاعة الاحتمالية، مع (3) دوران إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن فقدان المرتبة الأولى و الثانية. واضح، و أمّا فقدان المرتبة الأولى؛ فلأن المفروض: هو انسداد باب العلم بالأحكام. و أما فقدان المرتبة الثانية: فلعدم وجوب الاحتياط؛ بل عدم جوازه؛ لما عرفت من كونه موجبا لاختلال النظام أو العسر.

=============

و من المعلوم أنه بعد فقدان المرتبتين المذكورتين تصل النوبة إلى المرتبة الثالثة، و هي الإطاعة الظنية دون الاحتمالية؛ لمرجوحيتها بالنسبة إلى الامتثال الظني فتقديمها عليه قبيح؛ لأنه ترجيح المرجوح على الراجح، فالمقدمة الخامسة و إن كانت مسلمة في نفسها إلاّ إنه لا تصل النوبة إلى دوران الأمر بين الإطاعة الظنية و الاحتمالية إلاّ بعد عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير، أعني: العلم الإجمالي بوجود التكاليف الإلزامية بين الوقائع المظنونة و المشكوكة و الموهومة؛ حتى يكون - بسبب عدم انحلاله مقتضيا للاحتياط التام؛ لكن لمّا لم يكن الاحتياط التام ممكنا أو لم يكن واجبا يرفع اليد عنه بالاحتياط في بعض الأطراف فيدور الأمر - في الامتثال - بين الأطراف المظنونة و بين المشكوكة و الموهومة، فيقال: لا تصل النوبة إلى الأطراف المشكوكة و الموهومة ما دامت المظنونة موجودة؛ لئلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح.

و أمّا بناء على انحلال العلم الإجمالي الكبير - بسبب العلم الإجمالي بصدور روايات كاشفة عن أحكام إلزامية موجودة في الكتب المعبّرة - فلا مجال للأطراف الاحتمالية؛ إذ لا تصل النوبة إليها؛ بل يجب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي الثاني أي الصغير، و لا وجه لرفع اليد عن هذا الاحتياط؛ لعدم لزوم عسر منه فضلا عن اختلال النظام.

(1) تعليل لقوله: «لا يجوز التنزّل».

(2) بالجر عطف على «بداهة» أي: لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

(3) يعني: و عدم دوران الأمر، فالأولى تبديل «مع» ب «و عدم» ليكون معطوفا على «عدم وصول».

و كيف كان، فتوضيح ما استدركه بقوله: «و لكنك عرفت» عن تسليم المقدمة الخامسة:

أن المقدمة الخامسة و إن كانت هي مسلمة لا ريب فيها، و ذلك لاستقلال العقل بها.

و أنه لا يجوز التنزل بعد عدم التمكن من الإطاعة العلمية أو عدم وجوبها إلاّ إلى الإطاعة الظنية دون الشكية و الوهمية؛ و لكنك عرفت عدم وصول النوبة، إلى الإطاعة

ص: 398

الأمر بين الظنية و الشكية و الوهمية من جهة (1) ما أوردناه على المقدمة الأولى من انحلال العلم الإجمالي بما في أخبار الكتب المعتبرة، و قضيته الاحتياط بالالتزام عملا (2) بما فيها من التكاليف، و لا بأس به (3) حيث لا يلزم منه عسر فضلا عما يوجب اختلال النظام.

=============

الاحتمالية كي تقدم الظنية على الشكية و الوهمية؛ و ذلك لما أورده المصنف على المقدمة الأولى من انحلال العلم الإجمالي الكبير الموجود في مجموع المشتبهات إلى العلم الإجمالي الصغير الموجود في خصوص أخبار الكتب المعتبرة، و أن الاحتياط فيها مما لا يوجب العسر فضلا عن اختلال النظام؛ بل «و ما أورده» على المقدمة الرابعة أيضا على المطلب الثاني منها، و هو عدم جواز الرجوع في كل مسألة إلى الأصل العملي المناسب لها - من جواز الرجوع إلى الأصول العملية مطلقا و لو كانت نافية إذا كان العلم الإجمالي بالتكاليف الشرعية منحلا من جهة كون موارد الأصول المثبتة، مع ما علم تفصيلا أو نهض عليه الظن الخاص بمقدار المعلوم بالإجمال من التكاليف؛ و إلا فيرجع إلى الأصول المثبتة فقط، و كان حينئذ خصوص موارد الأصول النافية محلا للاحتياط لا موارد الأصول العملية مطلقا و لو كانت مثبتة.

(1) تعليل لقوله: «عدم وصول النوبة...».. الخ.

(2) قيد لقوله: «الالتزام»، يعني: أن مقتضى الانحلال هو الاحتياط بالالتزام بالعمل بما فيها من التكاليف.

و قد تحصل مما ذكرنا: أن الأمر لا ينتهي إلى الدوران بين الإطاعة الظنية و الشكية و الوهمية، بعد ما عرفت من بطلان المقدمة الأولى بسبب انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير، و أطرافه هي الأخبار و لو كان احتمال التكليف فيها موهوما، و لا مانع حينئذ من الرجوع إلى الأصول النافية في غير مورد الأخبار، و لو كان التكليف فيها مظنونا.

و قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح أجنبية عن المقام، إذ موردها دوران الأمر بين الأخذ بالمرجوح و الأخذ بالراجح بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فيقع التزاحم بينهما، و من المعلوم أنه بعد فرض انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم إجمالا بصدور روايات متضمنة لأحكامه تعالى لا دوران أصلا، إذ المعين هو الاحتياط في خصوص الأخبار دون سائر الأمارات و لو أفادت الظن بالتكليف.

(3) أي: بالاحتياط التام في أطراف العلم الإجمالي الصغير، و هي الأخبار كما تقدم في بيان المقدمة الأولى.

ص: 399

و ما أوردناه (1) على المقدمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الأصول مطلقا، و لو كان نافية؛ لوجود المقتضي و فقد المانع عنه لو كان التكليف في موارد الأصول المثبتة و ما علم منه تفصيلا، أو نهض عليه دليل معتبر بمقدار (2) المعلوم بالإجمال، و إلاّ (3) فإلى الأصول المثبتة وحدها، و حينئذ (4) كان خصوص موارد الأصول النافية محلا لحكومة و ضمير «منه» راجع إلى الاحتياط التام.

=============

(1) عطف على قوله: «و ما أوردناه على المقدمة».

و توضيح ذلك - على ما في «منتهى الدراية» ج 4 ص 609 -: أن الدوران بين الإطاعة الظنية و ما دونها موقوف على تماميّة المقدمات، و المفروض: عدم تماميّتها؛ لما عرفت: من بطلان المقدمة الأولى بالانحلال، و بطلان المقدمة الرابعة؛ بما عرفت من جواز الرجوع إلى الأصول مطلقا من المثبتة و النافية؛ لوجود المقتضي له من حكم العقل إن كات عقلية، و عموم النقل إن كات شرعية.

و عدم المانع منه؛ على تقدير انحلال العلم الإجمالي بالأصول المثبتة، و العلم التفصيلي أو العلمي، كما إذا كان ذلك المقدار الثابت من الأحكام بها بمقدار المعلوم بالإجمال.

و على تقدير عدم انحلاله بذلك تجري الأصول المثبتة فقط.

و يجب الاحتياط بمقتضى العلم الإجمالي في موارد الأصول النافية، فإن كان الاحتياط في جميعها موجبا للعسر، فيؤخذ به في المظنونات، و يرفع اليد عنه في غيرها لئلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح.

(2) خبر «كان». و قوله: «ما علم» عطف على «التكاليف».

و قوله: «منه» بيان للموصول في «ما علم» المراد به التكليف.

و ضميرا «منه، عليه» راجعان إلى التكليف.

و قوله: «نهض» عطف على «علم» أي: ما علم أو نهض.

(3) أي: و إن لم يكن المقدار الثابت من الأحكام بالأصول المثبتة و غيرها بمقدار المعلوم بالإجمال، جاز الرجوع إلى الأصول المثبتة فقط، و يرجع في موارد الأصول النافية إلى الاحتياط، فيجب الاحتياط في جميعها إن لم يكن مستلزما للحرج؛ و إلاّ رفع اليد عنه بمقدار رفع الحرج، و وجب في الباقي.

و من المعلوم: تعين الاحتياط حينئذ في المظنونات، و عدم وصول النوبة إلى المشكوكات و الموهومات؛ لقبح ترجيح المرجوح على الراجع.

(4) أي: و حين الرجوع إلى الأصول المثبتة فقط «كان خصوص...».. الخ.

ص: 400

العقل، و ترجيح (1) مظنونات التكليف فيها على غيرها، و لو بعد استكشاف (2) وجوب الاحتياط في الجملة شرعا بعد عدم وجوب الاحتياط التام شرعا أو عقلا (3) على ما عرفت تفصيلا.

=============

(1) عطف على «حكومة العقل».

و ضميره فيها، راجع إلى «موارد الأصول النافية».

و ضميره غيرها، راجع إلى «مظنونات التكليف».

و قوله: «و لو بعد» قيد لقوله: «ترجيح» و بعد «عدم» قيد لقوله: «في الجملة».

(2) غرضه: أنه بناء على سقوط العلم الإجمالي عن التأثير - لأجل الاختلال أو العسر - يكفي في ثبوت الاحتياط استكشافه شرعا من الإجماع أو العلم بالاهتمام، و على كل حال يتعين جعل مورد الاحتياط خصوص المظنونات، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

(3) أما عدم وجوب الاحتياط التام شرعا: فلدلالة نفي الحرج، و أما عدم وجوبه عقلا: فللزوم الاختلال.

و كيف كان؛ فالمتحصل مما أفاده المصنف «قدس سره» في دليل الانسداد: عدم تمامية المقدمة الأولى و هو العلم الإجمالي؛ لانحلاله، و وجوب الاحتياط في خصوص الأخبار، و على تقدير تماميتها و عدم انحلاله: فإن كان المقدار الثابت بالأصول المثبتة و العلم التفصيلي و العلمي بمقدار المعلوم بالإجمال جرت الأصول مطلقا، سواء كانت مثبتة أم نافية؛ لوجود المقتضي و عدم المانع كما تقدم، و إن لم يكن بذلك المقدار جرت الأصول المثبتة فقط، و كانت الأصول النافية موردا للاحتياط العقلي إن لم يسقط العلم الإجمالي عن التأثير لأجل دليل الجرح. و إلا فللاحتياط الشرعي المستكشف بالإجماع أو العلم بالاهتمام.

و بالجملة: فعلى تقدري عدم انحلال العلم الإجمالي تكون نتيجة المقدمات لزوم الاحتياط التام في خصوص موارد الأصول النافية؛ إن لم يلزم منه حرج، و إن يلزم منه حرج تعين التبعيض في الاحتياط، و جعل مورده خصوص المظنونات. هذا تمام الكلام في دليل الانسداد.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

ص: 401

هذا هو التحقيق على ما يساعد عليه النظر الدقيق، فافهم و تدبر جيدا.

=============

1 - بيان محل الكلام من الظن الذي يكون مستند حجيته دليل الانسداد، و هو الظن المطلق في مقابل الظن الخاص، و الفرق بينهما: أن الأول ما يكون مستند حجيته دليل الانسداد، و الظن الخاص، ما قام على اعتباره دليل خاص غير دليل الانسداد، فالظن المطلق مطلق من حيث السبب، و الظن الخاص خاص من حيث السبب. بأن يكون خبر العادل أو الثقة.

ثم إن هذا الدليل المعروف بدليل الانسداد مؤلف من مقدمات يستقل العقل مع تحققها بكفاية الإطاعة الظنية - حكومة أو كشفا - و بدونها لا يستقل العقل بذلك، و هي خمسة:

الأولى: العلم الإجمالي بثبوت تكاليف فعلية في الشريعة.

الثانية: انسداد باب العلم و العلمي إلى كثير من هذه الأحكام.

الثالثة: عدم جواز إهمال الأحكام، و عدم التعرض لامتثالها بالمرة.

الرابعة: عدم جواز الرجوع إلى الأصل في كل مسألة بملاحظتها بنفسها من براءة أو تخيير أو استصحاب، و عدم جواز الرجوع إلى فتوى العالم بحكم المسألة.

الخامسة: قبح ترجيح المرجوح على الراجح، و حينئذ: يستقل العقل بلزوم الإطاعة الظنية لتلك الأحكام المعلومة بالإجمال.

و كيف كان، فهنا احتمالات:

الأول: أن نهمل الأحكام و هو ما نفى بالمقدمة الثالثة.

الثاني: أن نرجع إلى الاحتياط التام أو الأصل في كل مسألة أو التقليد فيها عن المجتهد الانفتاحي و هو ما نفي بالمقدمة الرابعة.

الثالث: أن نكتفي بالإطاعة الشكية و الوهمية، و هو ما نفي بالمقدمة الخامسة.

هذا خلاصة ما أفاده المصنف في بيان دليل الانسداد.

2 - أما المقدمة الأولى: فهي و إن كانت بديهية؛ لكن عرفت: انحلال العلم الإجمالي بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة «عليهم السلام» التي تكون فيما بأيدينا من الروايات الموجودة في الكتب المعتبرة، و مع الانحلال لا موجب للاحتياط إلا في خصوص ما في الروايات الموجودة في الكتب المعتبرة، و هو غير مستلزم للعسر فضلا عما يوجب الاختلال.

و حينئذ: لا تصل النوبة إلى دوران الأمر بين الإطاعة بالظنية و الشكية و الوهمية حتى

ص: 402

يقال: بتقديم الإطاعة الظنية على الإطاعة الشكية و الوهمية، و كانت نتيجة مقدمات الانسداد حجية مطلق الظن.

و أما المقدمة الثانية: - و هي أهم المقدمات - فهي و إن كانت بديهية بالنسبة إلى انسداد باب العلم، و أما بالنسبة إلى العلمي: فإنها غير ثابتة، إذ عرفت: قيام الأدلة على حجية خبر الثقة، و هو واف بمعظم الفقه، و عليه: فلا تنتج المقدمات شيئا مما يقصده الانسدادي أصلا.

و أما المقدمة الثالثة: و هي عدم جواز إهمال الأحكام الشرعية - فهي قطعية لا تقبل التشكيك.

و يمكن الاستدلال على إثبات هذه المقدمة بوجهين:

الأول: الإجماع القطعي على عدم جواز إهمال امتثال الأحكام بالمرة.

الثاني: استلزام الإهمال للمخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها بالخروج عن الدين، و من الواضح: أن الخروج عن الدين مما يقطع بعدم جوازه شرعا.

3 - و أما المقدمة الرابعة: فهي تتكفل نفي الرجوع إلى الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي، و نفي الرجوع إلى الأصل في كل مسألة بملاحظة نفسها، و نفي الرجوع إلى فتوى المجتهد العالم بحكم المسألة، فلا بد من البحث في كلّ جهة من هذه الجهات.

و أما الاحتياط التام: فإن كان موجبا لاختلال النظام: فلا كلام في عدم جوازه، و أما إذا كان موجبا للعسر و الحرج: فقد يحتمل عدم وجوبه استنادا إلى ما دل على نفي العسر و الحرج؛ إلا أن المصنف استشكل في ذلك، بل منعه ابتناء على ما اختاره في مفاد أدلة نفي الحرج و نفي الضرر.

و توضيح ذلك: أن في مفاد أدلة نفي الضرر و الحرج في المقام احتمالان:

أحدهما: ما بنى عليه المصنف «قدس سره» من أنهما يتكفلان نفي الحكم عن الموضوع الضروري أو الحرجي، فالمراد من الضرر و الحرج: هو الموضوع الضرري و الحرجي، فيقصد نفي الحكم عنهما بلسان نفيهما، فيكون نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

و الاحتمال الآخر ما نسب إلى الشيخ الأنصاري «قدس سره» من أنهما يتكفلان نفي الحكم الضرري أو الحرجي، بمعنى: أن الحكم الناشئ من قبله الضرر أو الحرج يكون منفيا، فهما يتكفلان نفي السبب بلسان نفي المسبب.

ص: 403

إذا عرفت هذين الاحتمالين في مفاد أدلة نفي الضرر و الحرج. فاعلم أنه بناء على ما اختار المصنف لا يكون دليل نفي الحرج رافعا لوجوب الاحتياط العقلي، و ذلك لأن موضوع الحكم الشرعي الواقع لا يستلزم الحرج و إنما المستلزم للحرج هو الاحتياط و الجمع بين محتملات التكليف و هو ليس متعلقا لحكم شرعي؛ بل يكون متعلقا لحكم عقلي فلا يقبل الرفع شرعا، فلا ترفعه أدلة نفي الحرج متكفلة لرفع الحكم الشرعي الواقعي؛ لأن العسر قد نشأ من قبل التكاليف المجهولة فيرفعهما دليل نفي العسر و الحرج، و برفعهما لا يبقى مجال لقاعدة الاحتياط عقلا؛ لارتفاع موضوعها.

و هنا خلاف آخر بين المصنف و الشيخ. يقول المصنف: إنه بناء على حكومة أدلة نفي الحرج في المقام و رفع وجوب الاحتياط التام بها لا وجه لدعوى استقلال العقل بلزوم الاحتياط في بعض الأطراف.

هذا بخلاف الشيخ «قدس سره» حيث يقول بالتبعيض في الاحتياط، بمعنى: وجوب الاحتياط في بعض الاطراف بعد رفع الاحتياط التام لأجل كونه موجبا للعسر و الحرج.

أما الرجوع إلى الأصول: فيجوز إذا كانت من الأصول المثبتة كالاحتياط و الاستصحاب المثبت المطابق له، و ذلك لوجود المقتضي و عدم المانع. أما المقتضي:

فحكم العقل إذا كان عقليا كالاحتياط، و عموم النقل إن كان شرعيا كالاستصحاب.

و أما المانع من الاحتياط: فهو لزوم الاختلال أو الحرج، فلا مانع عنه عند عدم لزوم المحذور المذكور.

و أما الاستصحاب: فلا مانع من جريانه عند المصنف، إذ المانع عن جريانه هو لزوم المخالفة العملية، فلا تلزم فيما إذا علم بطهارة أحد الإناءين بعد العلم بنجاستهما فاستصحاب النجاسة فيهما لا يستلزم المخالفة العملية في الإناءين؛ بل لا مانع من جريان الاستصحاب حتى على مذهب الشيخ، حيث يكون المانع عنده هو العلم بانتفاض الحالة السابقة من جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي؛ فيلزم التناقض في مدلول دليله؛ لأن التناقض يلزم فيما إذا كان الشك في جميع الأطراف فعليا. و أما إذا لم يكن فعليا إلا في بعض الأطراف فلا يلزم التناقض في مدلول دليله؛ إذ ليس هنا علم بانتقاض الحالة السابقة، كي يلزم التناقض.

«فافهم» لعله إشارة إلى لزوم العلم الإجمالي بالانتقاض لو أجرى المجتهد الأصل في جميع الأطراف. تدريجا.

ص: 404

و كيف كان؛ فالمتحصل: هو بطلان عدم جواز الرجوع إلى الأصول المثبتة، فتجري الأصول المثبتة.

5 - أما الأصول النافية: فلا مانع من جريانها أيضا.

إذ ما يتوهم من كونه مانعا أحد أمور:

1 - العلم الإجمالي بثبوت التكليف الموجب للتناقض لو أجرينا الأصول النافية.

2 - الإجماع على وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

3 - العلم باهتمام الشارع بالتكاليف الموجب للعلم بإيجابه.

و شيء من هذه الأمور لا يصلح للمانعية؛ لانحلال العلم الإجمالي، فلا يبقى علم إجمالي كي يكون مانعا عن الأصول النافية.

و أما الإجماع و الاهتمام بالتكاليف: فلتوقف مانعيّتها على عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير، و مع انحلاله و ثبوت مقدار من التكليف لا إجماع على وجوب الاحتياط في غير ذلك المقدار، و لا علم باهتمام الشارع بما عدا ذلك المقدار.

فالمتحصل: أنه لا مانع من جريان الأصول النافية إذا كان مجموع موارد الأصول المثبتة للتكليف بضميمة ما علم حكمه تفصيلا، أو قام عليه الظن المعتبر بالخصوص بمقدار المعلوم بالإجمال، فالحاصل هو جواز الرجوع إلى الأصول مطلقا.

نعم، لا يجوز الرجوع إلى فتوى العالم بالمسألة؛ لأن رجوع الانسدادي إلى المجتهد الانفتاحي تقليد له، و هو من باب رجوع الجاهل إلى العالم غير ثابت في المقام؛ لأن الانفتاحي جاهل بنظر الانسدادي، فرجوعه إليه يكون من رجوع العالم إلى الجاهل، و هو غير جائز.

6 - أما المقدمة الخامسة: فهي مسلمة، بل بديهية لاستقلال العقل بها، و أنه لا يجوز التنزل من الإطاعة الظنية إلى الإطاعة الشكية و الوهمية بعد عدم التمكن من الإطاعة العلمية.

و كيف كان، فبعد تمامية جميع مقدمات الانسداد يدور الأمر بين الإطاعة الظنية و الشكية و الوهمية، فالتنزل من الإطاعة الظنية إلى الشكية و الوهمية مستلزم لترجيح المرجوح على الراجح، و هو قبيح عقلا و لا يجوز شرعا.

فالمقدمة الخامسة و إن كانت مسلمة في نفسها إلاّ إنه لا تصل النوبة إليها بعد عدم تمامية المقدمة الأولى و المقدمة الرابعة كما عرفت توضيح ذلك.

ص: 405

7 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - المصنف لا يكون من القائلين بالانسداد؛ بل هو من القائلين بالانفتاح لانفتاح باب العلمي عنده.

2 - على فرض انسداد باب العلم و العلمي لا يكون مطلق الظن حجة، و ذلك لعدم تمامية جميع مقدمات الانسداد، و حجية الظن المطلق بدليل الانسداد يتوقف على تمامية جميع مقدمات الانسداد.

ص: 406

فصل (1)

هل قضية المقدمات، تقدير سلامتها هي حجية الظن بالواقع أو بالطريق، أو بهما؟ أقوال.

=============

فصل حول الظن بالطريق و الظن بالواقع

اشارة

الكلام فيما هو مقتضى مقدمات الانسداد على تقدير سلامتها من الإيراد و تماميتها، هل هو حجية الظن بالطريق أو الظن بالواقع أو كليهما معا؟

(1) المقصود من عقد هذا الفصل: هو بيان نتيجة مقدمات الانسداد.

توضيح ذلك: أنه قد وقع الخلاف في أن نتيجة مقدمات الانسداد - بعد تماميتها - هل حجية الظن بالواقع دون الظن بالطريق، فلا يجب العمل بخير العدل الواحد المظنون اعتباره الدال على حرمة شيء أو وجوبه إن لم يحصل الظن بنفس الحرمة أو الوجوب ؟ أم حجية الظن بالطريق، فيجب العمل بالطريق فيجب العمل بخبر العدل المظنون اعتباره و إن لم يحصل الظن بالحرمة أو الوجوب ؟ أم حجية كليهما؟.

الأقوال في المسألة ثلاثة

فيه أقوال ثلاثة:

الأول: حجية الظن بهما معا.

الثاني: حجية الظن بالواقع فقط.

الثالث: حجية الظن بالطريق فقط.

هذا خلاصة الاحتمالات و الأقوال و قد اختار المصنف القول الأول:

فلا بد من ذكر بعض ما استدل به على كل واحد من هذه الأقوال.

أما الاستدلال على ما هو مختار المصنف: فقد أشار إليه بقوله: «و التحقق أن يقال:

إنه لا شبهة في أن همّ العقل في كل حال إنما هو تحصيل الأمن من تبعة التكاليف المعلومة.... الخ.

توضيح الاستدلال على المختار يتوقف على مقدمة: و هي أن هناك مقدمتين تنتجان حجية الظن بكل من الواقع و الطريق:

الأولى: أنه لا ريب في أن همّ العقل الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة و العصيان،

ص: 407

و التحقيق أن يقال: إنّه لا شبهة في أن همّ العقل في كل حال إنما هو تحصيل الأمن من تبعة التكاليف المعلومة، من العقوبة على مخالفتها، كما لا شبهة في استقلاله في تعيين ما هو المؤمن منها، و في أن كلما كان القطع به مؤمنا في حال سواء كان في حال الانفتاح أم الانسداد هو تحصيل الأمن من تبعات التكاليف و عقوباتها المرتبة على مخالفتها. و هذه المقدمة كالتمهيد للصغرى في المقدمة الثانية.

=============

الثانية: مركبة من صغرى و كبرى. أما الكبرى فقد أشار إليها مجملا بقوله: «كما لا شبهة في استقلاله»، ثم فصلها بقوله: «و في أن كلما كان القطع به مؤمّنا في حال الانفتاح كان الظن به مؤمّنا في حال الانسداد جزما»، ثم تعيين ذلك المؤمّن أيضا يكون بنظر العقل إن لم يعيّنه الشارع.

و أما الصغرى: فقد أشار إليها بقوله: «و أن المؤمّن في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلف به الواقعي.

و كيف كان؛ فيقال: في تقريب الاستدلال بالقياس الاقتراني من الشكل الأول:

إن المؤمن في حال الانفتاح هو كل من القطع بإتيان المكلف به الواقعي و القطع بإتيان المكلف به الجعلي الظاهري، و كلما كان القطع مؤمّنا حال الانفتاح كان الظن مؤمّنا حال الانسداد، فينتج أن الظن حال الانسداد كالقطع حال الانفتاح، و من المعلوم: أن المؤمّن حال الانفتاح كان كل من القطع بإتيان المكلف به الواقعي و القطع بإتيان المكلف به الظاهري الجعلي، أي: مؤدى الطريق المجعول من قبل الشارع. فالمؤمّن في حال الانسداد أيضا هو كل من الظن بإتيان المكلف به الواقعي، و الظن بإتيان المكلف به الظاهري الجعلي و مقتضى ذلك هو حجية الظن في تعيين كل من الواقع و الطريق جميعا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاتضح لك: أن نتيجة المقدمتين هو حجية الظن بالطريق و الظن بالواقع معا، لا حجية الظن باحدهما فقط، هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على ما هو المختار من أن نتيجة مقدمات الانسداد هي حجية الظن بالطريق و الواقع معا.

و أما الدليل على القول الثاني - و هو اختصاص حجية الظن الثابتة بدليل الانسداد بالواقع و الفروع فقط - فلاختصاص المقدمات بالفروع فلا بد أن تكون نتيجتها أيضا مختصة بها.

توضيح ذلك: أن مصبّ المقدمات لما كان خصوص الفروع فمقتضى ذلك اختصاص

ص: 408

الانفتاح كان الظن به مؤمنا حال الانسداد جزما، و أن المؤمن في حال الانفتاح هو القطع باتيان المكلف به الواقعي بما هو كذلك، لا هو معلوم و مؤدى الطريق.

=============

نتيجتها - و هي اعتبار الظن - بنفس الحكم الشرعي كالوجوب و الحرمة مثلا، دون الظن بطريقه مثل خبر الثقة إلى الواقع؛ إذ محور المقدمات على الأحكام، و لازم ذلك: اختصاص حجية الظن بها، و معه لا موجب للتنزّل من تحصيل العلم باعتبار الطريق إلى الظن به بمجرد انسداد باب العلم بالأحكام الفرعية، مع انفتاحه في المسائل الأصولية.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب دليل من أوجب حجية الظن بالواقع و الفروع في حال انسداد باب العلم بها، و قد أشار إلى هذا القول بقوله: «و لا منشأ لتوهم الاختصاص بالظن بالواقع إلا توهّم أنه قضية اختصاص المقدمات بالفروع».

و توضيح جواب المصنف عن هذا الدليل. يتوقف على مقدمة و هي:

أن الحكم سواء كان تكليفيا كالوجوب و الحرمة مثلا، أو وضعيا كالحجية مثلا، يدور مدار ما هو الغرض و الملاك.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الغرض من جريان مقدمات الانسداد في الفروع هو حجية الظن في مقام تفريغ الذمة و تحصيل الأمن من العقوبة المرتبة على مخالفة التكاليف المعلومة إجمالا، و من المعلوم: أنه لا فرق حينئذ بين الظن بالواقع و الظن بالطريق؛ إذ لا تفاوت في نظر العقل بين الظن بالواقع و بين الظن بالطريق إذ كما لا فرق في حال الانفتاح بين القطع بالواقع أو الطريق، فكذلك لا فرق حال الانسداد بين الظن بالواقع و الظن بالطريق، فكما يرى العقل حجية القطع حال الانفتاح مطلقا، فكذلك يرى حجية الظن حال الانسداد مطلقا.

و بعبارة واضحة: أنه كما لا شبهة في حجية كل من العلم بالواقع و العلم بالطريق حال الانفتاح، بمعنى أن العلم منجز للواقع عند الإصابة و عذر لفوته عند الخطأ، فكذلك لا شبهة في حال الانسداد بكون كل من الظن بالواقع و الظن بالطريق الشرعي القائم على الواقع حجة، بمعنى: كونه منجزا للواقع عند الإصابة، و عذرا لفوته عند الخطأ، و ذلك لاستقلال العقل بأنه كلما كان العلم به حجة حال الانفتاح كان الظن به حجة حال الانسداد.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح جواب المصنف عن دليل اختصاص حجية الظن الانسدادي بالواقع.

و أما ما استدل به على اختصاص حجية الظن بالطريق فقط - أعني: القول الثالث - فهو أحد وجهين، و قد أشار إليه بقوله: «و أن منشأ توهّم الاختصاص بالظن بالطريق وجهان».

ص: 409

و أما الوجه الأول: فحاصله: إن هنا علمين، أحدهما: يتعلق بالأحكام الواقعية بمعنى:

أنّا نعلم بكوننا مكلفين في هذا الزمان بأحكام فعلية و لا سبيل لنا إليها لا بقطع وجداني و لا بطريق ثبت شرعا حجيته كخبر الواحد مثلا، و لا بطريق ثبت حجيّته دليل اعتباره كالإجماع المنقول بخبر الواحد، حيث ثبت شرعا حجية دليله، أعني: خبر الواحد.

و ثانيهما: يتعلق بالطرق، يعني: كما أنّا نعلم بأحكام فرعية فعلية كذلك نعلم بنصب الشارع طرقا إليها، بحيث صار تكليفنا الفعلي العمل بمؤديات تلك الطرق.

و ملخص هذا الوجه يرجع إلى أمرين: أحدهما: العلم الإجمالي بنصب طرق مخصوصة للوصول إلى الواقعيات. و انسداد باب العلم و العلمي بها، فلا بد من التنزل من العلم إلى الظن بها؛ إذ لا ريب في حكم العقل حينئذ بتعيين تلك الطرق بالظن؛ لأنه أقرب إلى العلم من الشك و الوهم.

و ثانيهما: أن التكاليف الواقعية بعد نصب الطرق للوصول إليها مصروفة عن الواقعيات إلى مؤديات الطرق، و لازم هذين الأمرين: هو حجية الظن بالطريق دون الظن بالواقع؛ لأن التكليف - بمقتضى انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف بالعلم بكوننا مكلفين بالعمل بمؤديات الطرق - هو العمل بالظن بالطريق.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الوجهين على اختصاص حجية الظن بالظن بالطريق فقط.

و قد أجاب المصنف عن الاستدلال بهذا الوجه بوجهين:

الوجه الأول: و هو متضمن لأربعة ردود:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصة»، و حاصله: أن العلم الإجمالي بالتكاليف الفعلية و إن كن ثابتا؛ إلا أن العلم الثاني - و هو العلم بنصب طرق خاصة غير ثابت، يعني: لا نسلم العلم بنصب الطرق الخاصة لإمكان إيكال الشارع إلى العقلاء، بمعنى: أن الشارع أوكل المكلفين إلى الطرق العقلانية الوافية بالأحكام، سواء كانت إمضائية كخبر الثقة، أم تأسيسية كالإجماع المنقول و الشهرة و نحوهما - كما هو الغالب في المشرعين - حيث إنهم لا يضعون طرقا خاصة لأحكامهم، و إذا كان الأمر موكولا إلى العقلاء فهم يعملون بالظن عند فقدان القطع، من دون فرق في ذلك بين الظن بالطريق أو الظن بالواقع، فلا وجه حينئذ لما أراده المستدل من حجية الظن بالطريق فقط.

ص: 410

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «باقية فيما بأيدينا، و حاصله: أنه - بعد تسليم العلم بنصب الطرق - يمكن دعوى عدم بقاء تلك الطرق إلى هذا الزمان، و مع عدم بقائها لا معنى للزوم مراعاتها حتى تصل النوبة إلى تعيينها بالظن كما يدعيه صاحب الفصول.

و بالجملة: أنّا سلمنا نصب الطرق، لكن بقاء تلك الطرق لنا غير معلوم، فلا مجال لتعيينها بالظن حال الانسداد.

الثالث: ما أشار إليه بقوله: «و عدم وجود المتيقن بينها أصلا، و حاصله: أنّه - بعد تسليم العلم بنصب الطرق و تسليم بقائها إلى زماننا هذا و لزوم رعايتها - لا نسلم لزوم رعايتها مطلقا حتى المظنون الاعتبار منها؛ لإمكان وجود ما هو متيقن الاعتبار فيها كالخبر الصحيح أو الموثوق صدوره، فتجب مراعاته فقط، و مع وجود المتيقن لا تصل النوبة إلى حجية مظنون الاعتبار من تلك الطرق إلاّ مع عدم كفايته بمعظم الفقه، فيتنزل إلى مظنون الاعتبار كالخبر الحسن بالنسبة إلى الصحيح.

الرابع: ما أشار إليه بقوله: «أنّ قضية ذلك»، و حاصله: أن مقتضى العلم الإجمالي بنصب الطرق - بعد تسليمه، و تسليم بقاء تلك الطرق و عدم وجود القدر المتيقن منها - هو الاحتياط في أطراف هذا العلم الإجمالي من الطرق المعلومة إجمالا، فكل شيء يحتمل أن يكون طريقا من مظنون الطريقية و مشكوكها و موهومها يؤخذ به، كسائر العلوم الإجمالية المقتضية للزوم الاحتياط عقلا بين جميع الأطراف، بلا فرق بين ما يظن انطباق المعلوم بالإجمال عليه و غيره.

و عليه: فلا تصل النوبة إلى تعيين الطرق بالظن، حتى يختص الظن الانسدادي بما إذا تعلق بالطريق دون الواقع.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الجواب.

و أما الوجه الثاني: فقد أشار إليه بقوله: «و ثانيا لو سلّم أنّ قضيته»، و حاصله: أنه لو سلم أن مقتضى دليل القائل باختصاص نتيجة الانسداد هو حجية الظن بالطريق؛ لكن لا نسلم حجية خصوص الظن بالطريق لا حجية الظن بالواقع.

توضيح ذلك بعد مقدمة و هي: إن هنا ظنونا ثلاث:

الأول: الظن بالطريق فقط كالظن بحجية خبر الواحد.

الثاني: الظن بالواقع فقط كالظن بحرمة شيء. كالظن بحرمة شرب التتن و إن لم يحصل الظن بأنها مؤدى طريق معبر.

ص: 411

الثالث: الظن بالواقع المظنون كونه مؤدى طريق معبر، من دون قيام ما هو مظنون الطريقية عليه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنّ هذه الظنون الثلاثة كلها حجة حال الانسداد، لا الظن بالطريق فقط، لأن هذه الظنون الثلاثة في رتبة واحدة ليس أولها أقرب إلى العلم من الأخيرين حتى يتعين في الحجية.

و بالجملة: أنا سلمنا أن مقتضى الدليل المذكور لزوم التنزل إلى الظن في تعيين الطرق المعلومة إجمالا؛ لكن لا وجه لحصر الحجية بالظن بالطريق فقط. كما عرفت.

هذا تمام الكلام في الجواب عن الوجه الأول من الوجهين اللذين يمكن الاستدلال بهما على اختصاص نتيجة مقدمات الانسداد بحجية الظن بالطريق فقط.

و أما الوجه الثاني: فهو ما أشار إليه بقوله: «ثانيهما: ما اختص بعض المحققين» أعني:

العلامة الشيخ محمد تقي صاحب حاشية المعالم. وجه اختصاص هذا الوجه به أنه لم يتبعه صاحب الفصول في هذا الوجه كما تبعه في الوجه الأول.

و أما الاستدلال بهذا الوجه على الاختصاص يتوقف على مقدمة مؤلفة من أمور:

الأول: العلم بأننا مكلفون بالتكاليف الواقعية و أنها لم تسقط عنا في حال الانسداد.

الثاني: أن همّ العقل في كل من حالي الانفتاح و الانسداد هو فراغ ذمة العبد عن التكليف الذي اشتغلت به.

الثالث: أن نصب الشارع الطريق إلى الواقع يستلزم القطع بحكمه بفراغ ذمة المكلف - إذا عمل على طبقه -.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الظن بالطريق المنصوب حال الانسداد كالعلم به حال الانفتاح، فإذا حصل للمكلف العلم بالطريق المنصوب - كما في حال الانفتاح - حصل له العلم بالفراغ إذا عمل على طبق علمه، فكذلك إذا حصل له الظن به - في حال الانسداد - حصل له الظن بالفراغ إذا عمل على طبقه.

فالنتيجة هي: حصر فراغ الذمة في الظن بالطريق بعد فرض نصبه. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الوجه الثاني على حجية الظن بالطريق فقط على وجه الاختصار.

و قد أجاب المصنف عن هذا الوجه الثاني بوجوه ثلاثة:

و حاصل الوجه الأول: أن الحاكم على الاستقلال في باب الإطاعة و تفريغ الذمة هو العقل لا الشرع؛ إذ ليس له حكم مولوي في باب الإطاعة و تفريغ الذمة، و لو حكم

ص: 412

الشارع فيه لكان إرشادا إلى ما استقل به العقل، فالحاكم بفراغ الذمة عند القطع بموافقة الواقع أو الطريق هو العقل لا الشرع، و كذلك الحاكم بوجوب القطع بتحصيل المؤمّن من عقوبة مخالفة التكليف هو العقل أيضا، لا الشرع، و لا ريب في أن القطع به يحصل عنده بموافقة كل من الطريق أو الواقع بما هو واقع لا بما هو معلوم، فالإتيان بالواقع مفرغ للذمة في حال انتفاح باب العلم و الظن بالمؤمّن عن العقوبة يقوم مقام القطع حال الانسداد، فالإتيان بالواقع تعبدا حال الانسداد مفرغ للذمة، فكما أن القطع بإتيان الواقع مؤمّن عن العقاب حال الانفتاح، كذلك الظن بإتيان الواقع مؤمّن من العقاب حال الانسداد، لأن العقل كما يستقل بأن الإتيان بالمكلف به الواقعي بما هو مفرغ للذمة حال الانفتاح، فكذلك يستقل بأن الإتيان بالمكلف به الظاهري الجعلي مفرغ للذمة. هذا تمام الكلام في الجواب الأول.

و أما الجواب الثاني: الذي أشار إليه بقوله: «و ثانيا» - فحاصله: أنه سلمنا أن للشارع في باب الإطاعة حكما مولويا؛ و لكن حكمه بتفريغ الذمة عند الإتيان بمؤدى الطريق المنصوب ليس بدعوى أن نصب الطريق مما يستلزم الحكم بالتفريغ، مع أن الإتيان بالواقع يستلزم حكم العقل بتفريغ الذمة بطريق أولى، و ذلك لكون الواقع أصلا و مؤدى الطريق بدلا عنه و منزلا منزلته، فترتب الحكم بالفراغ على إتيان الواقع أولى من ترتبه على إتيان مؤدى الطريق.

و أما الجواب الثالث: الذي أشار إليه بقوله: «و ثالثا سلمنا»، فحاصله: أنه سلمنا أن الظن بالواقع و إن كان مما لا يستلزم الظن بتفريغ الذمة في حكم الشارع؛ إلا إن مقتضى ذلك: أن يكون كلا من الظن بأنه مؤدى طريق معتبر إجمالا و الظن بالطريق حجة، لا خصوص الظن بالطريق فقط.

إذ كما أن الإتيان بمؤدى طريق ظن نصبه شرعا هو مما يوجب الظن بتفريغ الذمة في حكم الشارع، فكذلك الإتيان بما ظن كونه مؤدى طريق معتبر إجمالا - من دون ظن تفصيلي بالطريق الذي قام عليه خارجا - هو مما يوجب الظن بتفريغ الذمة في حكم الشارع أيضا، و لو لم نعرف ذلك الطريق بعينه، فلو علمنا من الإجماع أو الشهرة أن وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مؤدى طريق معتبر ظننا بالفراغ لدى الإتيان بالدعاء، و ذلك لما عرفت سابقا: من «أن الظن بالواقع لا ينفك عن الظن بأنه مؤدى الطريق غالبا».

و عليه: فلا ثمرة للنزاع بيننا و بين الخصم القائل بحجية الظن بالطريق فقط.

ص: 413

و متعلق (1) العلم، و هو (2) طريق شرعا و عقلا، أو بإتيانه (3) الجعلي؛ و ذلك، لأن (4) العقل قد استقل بأن الإتيان بالمكلف به الحقيقي بما هو، لا بما هو مؤدّى الطريق مبرئ للذمة قطعا (5).

=============

أصلا؛ إذ لا يبقى فرق بين الظن بالطريق أو الظن بالواقع من حيث حصول الظن بتفريغ الذمة في حكم الشارع.

هذا تمام الكلام في الأقوال في المقام من حيث النقض و الإبرام؛ فنذكر توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) عطف على قوله: «معلوم و مؤدى»، و غرضه: الإشارة إلى فساد توهم أن المعتبر هو الظن بالواقع لا من حيث هو، بل من حيث كونه مؤدى الطريق كما ينسب إلى صاحب الحاشية و سيأتي بيانه.

(2) الواو للحال، و الضمير راجع إلى العلم، و غرضه: إثبات عدم تقيد الواقع بالعلم بما حاصله: أن العلم ليس إلا طريقا محضا إلى الواقع و مرآة له، فلا يمكن تقييد المتعلق به؛ بحيث يكون العلم موضوعا له؛ لاستلزامه للدور كما تقدم في مبحث القطع، فالواجب مثلا في الصلاة هو السورة، لا السورة المعلوم وجوبها.

(3) عطف على «بإتيان»، و الضمير راجع إلى المكلف به، فالجعل صفة للضمير، و هو ضعيف من حيث الصناعة و إن قيل بوروده في قوله: «اللهم صل عليه الرءوف الرحيم» بجر الوصف.

(4) بيان لما ذكره بقوله: «و أن المؤمّن في حال الانفتاح هو القطع...» الخ، و لا يخفى أنه لم يذكر في هذا البيان أكثر مما ذكره بقوله: «و أن المؤمّن في حال الانفتاح» إلا إنه أبدل «المؤمّن» ب «المبرئ للذمة»، و أسقط القطع بإتيان الواقع الجعلي، و لا بأس به بعد كون ما أفاده في قوله: «و ذلك» تكرارا لما ذكره قبيل هذا.

و كيف كان؛ فإن العقل يحكم بأن المؤمّن هو الإتيان بالواقع الحقيقي أو الواقع الجعلي، بأن قامت أمارة أو أصل على الحكم فتعلق القطع بذلك.

(5) أي: من يقول بأن الأحكام قيدت بالطرق حتى إنها لا تكفي إلا إذا جاءت عن الطرق ليس لكلامه دليل، لما ذكرنا من أن العقل يرى وجوب إطاعة المولى بالإتيان بأحكامه، لا الإتيان بأحكامه المقيدة بطرق خاصة حتى نقول بمثل ذلك في حال الانسداد؛ بأن يكون المكلف به هو الواقع بقيد كونه مظنونا.

ص: 414

كيف (1)؟ و قد عرفت أن القطع بنفسه طريق لا يكاد تناله يد الجعل إحداثا و إمضاء، إثباتا و نفيا. و لا يخفى أن قضية ذلك (2) هو التنزل إلى الظن بكل واحد من الواقع و الطريق.

و لا منشأ لتوهم الاختصاص (3) بالظن بالواقع؛ إلا توهم أنه قضية اختصاص المقدمات بالفروع؛ لعدم (4) انسداد باب العلم في الأصول، و عدم إلجاء في التنزل إلى الظن فيها (5)، و الغفلة (6) عن أن جريانها في الفروع موجب لكفاية الظن بالطريق في مقام تحصيل الأمن من عقوبة التكاليف، و إن كان باب العلم في غالب (7) الأصول مفتوحا.

=============

(1) أي: يكون الإتيان بالمكلف به بما هو مؤدى الطريق - أي: بوصف أنه متعلق العلم - مبرئا للذمة لا بما هو هو و محض أنه الواقع ؟ مع أن القطع طريق محض؛ إذ قد عرفت في أول الكتاب: «أنّ القطع بنفسه طريق» إلى الأحكام لا جزء موضوع حتى يكون الواقع بما هو مقطوع موردا للإطاعة و المعصية «لا يكاد تناله» إلى القطع الطريقي يد الجعل إحداثا و إمضاء. إثباتا و نفيا»؛ بأن يحدث الشارع الطريقية للقطع أو يمضي طريقيته، أو ينفي الطريقية.

(2) أي: أن مقتضى كون القطع مؤمّنا بالواقع الحقيقي و الجعلي هو التنزل إلى الظن في حال الانسداد «بكل واحد من الواقع»؛ كأن يظن حرمة التبغ، «أو الطريق» كأن يظن حجية خبر الواحد الدال على حرمة التبغ؛ - «إن لم يظن بحرمة التبغ -، لأن الظن في حال الانسداد قائم مقام القطع، سواء تعلق الظن بالواقع أم بالطريق.

(3) هذا شروع في بيان وجه القول باختصاص الحجية الثابتة بدليل الانسداد بالظن بالواقع، و عدم شموله للظن بالطريق، و قد تقدم توضيحه فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة.

(4) هذا وجه اختصاص مصب المقدمات بالفروع.

(5) أي: في الأصول.

(6) جواب عن توهم القول باختصاص حجية الظن بالواقع، و قد تقدم توضيحه فراجع.

(7) المراد بغالب الأصول ما عدا الطرق الشرعية كخبر الواحد و الشهرة الفتوائية، حيث إن باب العلم فيها منسد؛ إذ لو كان باب العلم فيها أيضا مفتوحا لكان باب العلمي في الفروع مفتوحا، و لما تمت مقدمات الانسداد، إذ منها - كما تقدم - انسداد باب العلم و العلمي بالأحكام الشرعية.

ص: 415

و ذلك (1) لعدم التفاوت في نظر العقل في ذلك (2) بين الظنين.

كما أن منشأ توهم الاختصاص بالظن بالطريق وجهان (3):

منشأ توهم الاختصاص بالظن بالطريق وجهان

أحدهما: ما أفاده بعض الفحول (4)، و تبعه في الفصول، قال فيها: «إنّا كما نقطع (5) بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام فرعية كثيرة، لا سبيل لنا بحكم العيان و شهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع (6)، و لا بطريق (7) معين يقطع من السمع بحكم الشارع (8) بقيامه، أو قيام (9) طريقه مقام القطع و لو عند تعذره (10)، كذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طريقا

=============

(1) تعليل لقوله: «موجب لكفاية الظن بالطريق»، يعني: أن الوجه في كون جريان المقدمات في الفروع موجبا لكفاية الظن بالطريق هو وحدة المناط في الموردين، أعني:

الفروع و الأصول، و هو تحصيل المؤمّن من العقوبة لتساوي الظنين فيهما فيما هو هم العقل من تحصيل المؤمّن و الخروج عن عهد التكليف.

(2) أي: في مقام يحصل الأمن من العقوبة.

(3) و قد تقدم توضيح كلا الوجهين، مع جواب المصنف عنهما. فراجع.

(4) و هو المحقق الشيخ محمد تقي في حاشيته على المعالم، «و تبعه في الفصول».

و في بعض الحواشي: إن المراد ببعض الفحول هو المحقق المدقق الشيخ أسد الله الشوشتري، و تبعه في ذلك تلميذاه المحققان صاحبا الحاشية و الفصول.

(5) و قد عرفت تفصيل ذلك، فلا حاجة إلى الإعادة.

(6) متعلق بقوله: «تحصيل»، و ضمير «منها» راجع إلى الأحكام الفرعية.

(7) عطف على «بالقطع» «و يقطع من السمع» صفة ل «بطريق معين».

(8) متعلق ب «يقطع»، «و بقيامه» متعلق ب «بحكم الشارع»، و ضميره راجع إلى طريق معين؛ و ذلك كخبر الثقة القائم مقام القطع.

(9) أي: قيام طريق الطريق المعين؛ و ذلك كقيام خبر الثقة المفيد للظن على حجية الإجماع المنقول و القرعة، فخبر الثقة - الذي هو طريق الطريق - قام حينئذ مقام القطع.

(10) أي: تعذر القطع بالواقع؛ بأن كان جواز العمل كالطريق المنصوب مترتبا على تعذر القطع بالواقع؛ لا أنه في عرضه و رتبته، و هو ظرف لكل من «قيامه» و «قيام طريقه»، فيكون ظرفا لقيام الطريق، و قيام طريق الطريق.

يعني: أن نصب الشارع للطريق أو لطريق الطريق تارة: يكون في ظرف التمكن من العلم، و أخرى: مقيدا بحال التعذر من تحصيله و انسداد بابه.

ص: 416

مخصوصا (1).

و كلفنا تكليفا فعليا بالعمل على مؤدى طرق مخصوصة، و حيث إنه لا سبيل غالبا إلى تعيينها (2) بالقطع، و لا بطريق (3) يقطع من السمع بقيامه بالخصوص، أو قيام (4) طريقه كذلك مقام القطع و لو بعد تعذره، فلا ريب (5): أن الوظيفة في مثل ذلك (6) بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق إلى الظن الفعلي (7) الذي لا دليل على عدم حجيته (8)؛ لأنه (9) أقرب إلى العلم و إلى إصابة الواقع (10) مما عداه» (11).

=============

(1) المقصود من القطعين هو: القطع الإجمالي بالتكاليف، و القطع الإجمالي بالطرق المنصوبة، و مرجع هذين القطعين: إلى القطع بلزوم امتثال الأحكام الواقعية من هذه الطرق، أي: قناعة الشارع في امتثال أحكامه بالعمل بمؤديات هذه الطرق فحسب.

(2) أي: تعيين تلك الطرق المخصوصة المعلومة إجمالا.

(3) عطف على قوله: «بالقطع»، أي: و لا سبيل لنا إلى تعيين تلك الطرق بطريق نعلم اعتباره شرعا كخبر الثقة، و «بقيامه» متعلق بقوله: «يقطع».

(4) عطف على «بقيامه»، و ضمير «طريقه» راجع على الطريق، يعني: أو قيام طريق الطريق، و المراد بطريق الطريق: دليل اعتباره كخبر الثقة الدال على حجية القرعة مثلا، حتى تكون قاعدة القرعة طريقا إلى الأحكام. و قوله: «كذلك» يعني: بالخصوص، و ضمير «تعذره» راجع على القطع.

(5) جواب «حيث»، و نتيجة لحصول العلم بنفس الأحكام إجمالا و العلم بإقامة الشارع طرقا لتلك الأحكام، مع فرض انسداد باب العلم بهما.

(6) أي: فيما إذا انسد باب العلم بنفس الأحكام و بطرقها.

(7) أي: الظن الشخصي؛ لأن مقتضى مقدمات الانسداد - لو تمت - هو حجية الظن الشخصي، و قوله: «إلى الظن» متعلق بقوله: «هو الرجوع».

(8) هذا هو الصواب، كما في الفصول؛ لا ما في بعض النسخ «على حجيته».

(9) أي: لأن الظن الفعلي «أقرب إلى العلم»، و هذا تعليل لنفي الريب عن الرجوع إلى الظن الفعلي بحكم العقل.

(10) يعني: الواقع المقيد بكونه مؤدى الطريق، كما هو مقتضى ما أفاده الفصول من العلمين المزبورين، ضرورة: أن الظن بالطريق إلى الواقع لا يكون أقرب إلى الواقع من الظن بنفس الواقع؛ بل الأمر بالعكس.

(11) أي: مما عدا الظن الفعلي الذي لم يقم دليل على عدم حجيته، و ما عداه هو

ص: 417

و فيه: أولا (1): بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصة باقية فيما بأيدينا من الطرق الغير العلمية، و عدم وجود المتيقن بينها (2) أصلا أن قضية ذلك (3) هو الاحتياط في أطراف هذه الطرق المعلومة بالإجمال؛ لا تعيينها بالظن.

لا يقال: الفرض (4) هو عدم وجوب الاحتياط؛ بل عدم جوازه؛ لأن (5) الفرض إنما الظن النوعي المستفاد من القياس مثلا.

=============

و هناك شرح آخر لقوله: «لأنه أقرب إلى العلم...» الخ. أي: لأن الظن بالطريق «أقرب إلى العلم» بالطريق، «و إلى إصابة الواقع»، الذي انحصر في هذه الطرق المخصوصة، بسبب العلم الإجمالي الثاني «مما عداه». أي: من الوهم و الشك، فإذا علمنا أن الواقع انحصر في الطريق المخصوص، و لم نظفر بذلك الطريق - لا علما و لا علميا - كان الأمر في تحصيل ذلك الطريق المجعول منحصرا بين الأخذ بمظنون الطريق أو مشكوكه أو موهومه، و لا ريب: أن العقل يحكم بأن الظن أقرب؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 4، ص 134».

هذا تمام الكلام في الوجه الأول الذي استدل به صاحب الحاشية و الفصول على انحصار نتيجة دليل الانسداد في حجية الظن بالطريق.

(1) قد أجاب المصنف عن هذا الدليل بوجهين، و قد تقدم توضيح الجواب، فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار.

(2) أي: بين الطرق المحتملة.

(3) أي: أن مقتضى تعذر تحصيل العلم بكل من الواقع و الطريق ليس هو التنزل إلى الظن بالطريق، كما أفاده الفصول؛ بل مقتضاه الاحتياط في كل ما يحتمل كونه طريقا إلى الواقع.

(4) هذا إشارة إلى الإشكال في الوجه الرابع - و هو وجوب الاحتياط في الطرق المعلومة إجمالا - فيقال في تقريب الإشكال: أن الاحتياط في تلك الطرق يستلزم الاختلال المبطل للاحتياط، أو العسر الرافع لوجوبه، و عليه: فلا يجوز أو لا يجب الاحتياط في الطرق المعلومة إجمالا؛ بل يتعين العمل بالظن بما هو طريق، كما أفاده صاحب الفصول.

(5) هذا جواب عن الإشكال المزبور، فيقال في توضيحه: إن الاحتياط المخل بالنظام أو الموجب للعسر هو الاحتياط التام، أعني: الاحتياط في جميع أطراف العلم الإجمالي الكبير؛ لانتشار أطرافه في الوقائع المظنونة و المشكوكة و الموهومة، و الاحتياط فيها مخل

ص: 418

هو عدم وجوب الاحتياط التام في أطراف الأحكام، مما يوجب العسر المخل بالنظام؛ لا الاحتياط (1) في خصوص ما بأيدينا من الطرق.

فإن (2) قضية هذا الاحتياط هو: جواز رفع اليد عنه في غير مواردها، و الرجوع (3) إلى الأصل فيها؛ و لو كان نافيا للتكاليف.

و كذا فيما إذا انهض الكل (4) على نفيه.

=============

بالنظام، أو موجب للعسر، بخلاف الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي الصغير، و هو العلم بنصب الطرق، فإنه لا يوجب اختلالا و لا حرجا على المحتاط فيها؛ لقلة أطراف العلم الإجمالي بالطرق.

هذا و قد استشهد المصنف - لبيان عدم لزوم الاختلال أو العسر و الحرج من الاحتياط في أطراف هذا العلم الإجمالي الصغير - بموارد عديدة يجوز فيها رفع اليد عن هذا الاحتياط و سيأتي بيانها.

(1) عطف على «الاحتياط التام».

(2) هذا تعليل لنفي عدم وجوب الاحتياط، أي: لثبوته في خصوص الطرق، يعني:

فإن مقتضى الاحتياط في الطرق هو: جواز رفع اليد عن الاحتياط في غير موارد الطرق و هو نفس الأحكام.

(3) عطف على «جواز» أي: الرجوع إلى الأصل في نفس الأحكام و لو كان الأصل نافيا، و هذا شروع في بيان تلك الموارد التي استشهد المصنف بها على جواز رفع اليد عن الاحتياط بالرجوع إلى الأصل فيها.

فالأول منها: أنه إذا احتمل التكليف في مورد، و لم يكن موارد الطرق، فبما أنه يكون حينئذ من أطراف العلم الإجمالي الكبير لا يجب فيه الاحتياط، و ليس من أطراف العلم الإجمالي بالطرق حتى يجب فيه الاحتياط بمقتضى العلم الإجمالي بنصب الطرق؛ بل مقتضى القاعدة حينئذ الرجوع إلى الأصل و إن كان نافيا.

(4) أي: نهض كل ما هو من أطراف العلم الإجمالي بالطرق على نفي التكليف.

و هذا هو المورد الثاني من الموارد التي استشهد المصنف بها على جواز رفع اليد عن الاحتياط.

و توضيحه: أنه إذا دل جميع ما احتملت طريقيته على نفي التكليف في مورد؛ كما إذا فرض قيام خبر الثقة و الإجماع المنقول و الشهرة، و غيرها مما يحتمل كونه طريقا على عدم حرمة شرب التتن مثلا، فإنه يرفع اليد عن الاحتياط هنا أيضا من ناحية هذا العلم

ص: 419

و كذا (1) فيما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف فيه نفيا و إثباتا (2)، مع ثبوت المرجح للنافي (3)؛ بل (4) مع عدم رجحان المثبت في خصوص (5) الخبر منها، و مطلقا في الإجمالي الصغير؛ لكنه يجب بمقتضى العلم الإجمالي الكبير؛ لكون الحكم مشكوكا أو موهوما.

=============

(1) هذا هو المورد الثالث من الموارد التي استشهد بها المصنف على جواز رفع اليد عن الاحتياط؟

توضيحه: أنه إذا تعارض فردان من بعض الطرق: فإن كانا خبرين، و كان أحدهما مثبتا و الآخر نافيا؛ كما إذا دل أحدهما على وجوب سجدتي السهو لكل زيادة و نقيصه، و الآخر على عدمه، قدم النافي منهما إن كان أرجح من المثبت أو مساويا له، و لا مجال للاحتياط في الطريق لتنافيهما، فلا بد من رفع اليد عن الاحتياط في العلم الإجمالي الصغير في هذا المورد أيضا، فيكون خارجا عن الاحتياط الصغير، و داخلا في الاحتياط الكبير.

و إن كان الطريقان المتعارضان من غير الخبر، سواء كانا من سنخ واحد؛ كما إذا كانا شهرتين أو إجماعين، أم من سخين؛ كأن أحدهما خبرا و الآخر إجماعا مثلا، فإنه لا يجب الاحتياط فيهما مطلقا، سواء قلنا بالتخيير أم التساقط؛ إذ على الأول: يؤخذ بالنافي، و على الثاني: يسقط كلاهما عن الحجية، فيكون كما إذا لم يقم مظنون الاعتبار على ثبوت التكليف أصلا.

(2) كما إذا دل أحد الخبرين على وجوب تثليث التسبيحات الأربع، و الآخر على عدم وجوبه. و ضمير «فيه» راجع على الموصول في «فيما» المراد به التكليف.

(3) كرجحان خبر العدل الإمامي النافي للتكليف، على خبر الإمامي - الممدوح بما لا يفيد العدالة المعبر عنه بالحسن - المثبت للتكليف.

(4) إضراب عن قوله: «مع ثبوت»، يعني: بل يرجح النافي حتى في صورة انتفاء المرجح للخبر المثبت، و عليه: فالنافي للتكليف يقدم في صورتين:

الأولى: ثبوت المرجح له على المثبت كما تقدم في مثال الخبر الصحيح و الحسن.

و الثانية: عدم ثبوت المرجح للمثبت، أي: تكافؤ الخبرين في المرجحات، و تبقى لتقديم المثبت صورة واحدة فقط و هي: ثبوت المرجح على الخبر النافي.

(5) قيد لقوله: «مع ثبوت»، و غرضه: أن تقديم النافي - لرجحانه - يكون في خصوص الخبر الذي ثبت فيه الترجيح بالأخبار العلاجية، دون سائر الطرق المتعارضة؛

ص: 420

غيره (1)، بناء (2) على عدم ثبوت الترجيح على تقدير (3) الاعتبار في غير (4) الأخبار.

و كذا (5) لو تعارض اثنان منها في الوجوب و التحريم، فإن المرجع في جميع ما ذكر من موارد التعارض هو الأصل الجاري فيها (6) و لو كان نافيا؛ لعدم (7) نهوض طريق معتبر، و لا (8)...

=============

لعدم ثبوت الترجيح فيها؛ بل الحكم فيها هو التساقط بناء على الطريقية. و ضمير «منها» راجع إلى الأطراف المراد بها الطرق.

(1) أي: غير الخبر، يعني: أنه لا يكون مورد تعارض غير الخبر من سائر الطرق من موارد الاحتياط الصغير مطلقا، سواء كان لأحدهما - من المثبت أو النافي - يرجح أم لا بناء على اختصاص الترجيح بالخبرين المتعارضين؛ كما هو مقتضى الأخبار العلاجية.

و بالجملة: فالطريقان المتعارضان خارجان عن موارد الاحتياط الصغير، و داخلان في الاحتياط الكبير.

(2) لاختصاص الترجيح المدلول عليه بالأخبار العلاجية بالخبرين المتعارضين، و عدم شمولها لسائر الطرق المتعارضة.

(3) أي: على تقدير اعتبار الأخبار العلاجية في مواردها، و هو الأخبار المتعارضة، و عدم حملها على الاستحباب كما قيل.

(4) متعلق ب «عدم ثبوت» أي: عدم ثبوت الترجيح بالأخبار العلاجية في غير الأخبار المتعارضة.

(5) أي: و كذا لا يلزم الاحتياط في الطرق، و يرجع إلى الأصل، و هذا هو المورد الرابع، و حاصله: أنه إذا تعارض طريقان - من أطراف العلم الإجمالي بنصب الطريق - في الوجوب و الحرمة لم يجب فيه الاحتياط؛ لعدم إمكانه، حيث يدور الأمر بين المحذورين. و ضمير «منها» راجع على أطراف العلم الإجمالي بنصب الطرق.

(6) أي: في تلك الموارد و لو كان الأصل نافيا.

(7) تعليل لمرجعية الأصل في موارد تعارض الخبرين و عدم وجوب الاحتياط فيها.

(8) أي: و لا نهوض «ما هو من أطراف العلم به» أي: بطريق معتبر، يعني: لعدم وجود طريق معتبر من غير أطراف العلم الإجمالي على خلاف هذا الأصل النافي.

و الحاصل: أن إجراء الاحتياط في الطرق - التي وقعت أطرافا للعلم الإجمالي بحجية بعض الطرق - ليس بمنزلة الاحتياط في محتملات التكليف التي كانت أطرافا للعلم الإجمالي بالتكليف، فإن دائرة الاحتياط في الأول أصغر بكثير من دائرة الاحتياط في

ص: 421

ما هو من أطراف العلم به على خلافه فافهم (1).

و كذا (2) كل مورد لم يجر فيه الأصل المثبت؛ للعلم (3) بانتقاض الحالة السابقة فيه إجمالا بسبب العلم به، أو بقيام أمارة معتبرة عليه (4) في بعض أطرافه، بناء (5) على عدم جريانه بذلك.

=============

الثاني، فاستلزام الاحتياط في محتملات التكليف عسرا أو اختلالا لا يوجب أن يكون الاحتياط في محتملات الطريق كذلك؛ بل المسلّم أن في كثير مما كان مقتضى القاعدة الاحتياط - حسب العلم الإجمالي بمحتملات التكليف - لا يوجب الاحتياط حسب العلم الإجمالي بمحتملات الطريق.

(1) لعله إشارة إلى إن عدم وجوب الاحتياط في المورد الأخير و هو مورد تعارض الدليلين في الوجوب و الحرمة ليس خاصا بصورة لزوم الاحتياط في أطراف الطرق؛ بل إنه شامل لمورد وجوب الاحتياط في أطراف محتمل التكليف أيضا، فلا وجه لجعله من هذه الموارد؛ لأن الاحتياط في دوران الأمر بين المحذورين متعذر مطلقا، فلا يختص عدم إمكانه بتعارض الطريقين، فهذا المورد خارج عن موارد رفع اليد عن الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي بنصب الطرق. أو إشارة إلى: أن خروج هذه الموارد عن الاحتياط لا يكفي في الاحتياط في باقي الأطراف إذا لم يلزم حرج منه.

(2) عطف على «و كذا» المتقدم، و هو إشارة إلى المورد الخامس.

و توضيحه: أن المورد الذي لا يجري فيه الاستصحاب المثبت للتكليف - لأجل العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض أطرافه، أو لأجل قيام حجة قطعية الاعتبار على الانتقاض المزبور؛ للزوم التناقض بين صدر الدليل و ذيله - خارج أيضا عن الاحتياط في الطرق، و داخل في الاحتياط الكلي؛ لكونه أصلا لا ينافيه العلم بالخلاف.

(3) متعلق ب «لم يجر»، و ضمير «فيه» راجع على كل مورد.

(4) أي: على الانتقاض؛ كقيام البينة على انتقاض الحالة السابقة في بعض أطراف العلم الإجمالي. و قوله: بسبب متعلق - «بانتقاض» و ضمير «به» راجع إلى الانتقاض، و ضمير «أطرافه» راجع على «كل مورد».

(5) قيد لقوله: «لم يجر» يعني: أن عدم جريان الاستصحاب - بعد العلم بالانتقاض إجمالا - مبني على عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي؛ و إلا فلا تصل النوبة إلى الأصل النافي؛ بل يؤخذ بالاستصحاب المثبت للتكليف، فقوله «بذلك أي:

بالعلم بالانتقاض.

ص: 422

و ثانيا (1): لو سلم أن قضيته لزوم التنزل إلى الظن: فتوهم أن الوظيفة حينئذ (2) هو خصوص الظن بالطريق فاسد قطعا؛ و ذلك (3) لعدم كونه أقرب إلى العلم، و إصابة الواقع من الظن بكونه مؤدى طريق معتبر من دون الظن بحجية طريق أصلا، و من الظن بالواقع (4) كما لا يخفى.

لا يقال (5): إنما لا يكون أقرب من الظن بالواقع إذا لم يصرف التكليف الفعلي

=============

(1) هذا هو الجواب عما أفاده صاحب الفصول، و قد تقدم توضيحه، فلا حاجة إلى الإعادة.

و كيف كان؛ فإن مقتضى ما أفاده صاحب الفصول من حجية الظن بالطريق، و عدم وجوب الاحتياط في الطرق هو: لزوم التنزل إلى الظن.

(2) أي: حين لزوم التنزل - حال الانسداد - إلى الظن.

(3) بيان لفساد التوهم، و ضمير «كونه» راجع على الظن بالطريق أي: لعدم كون الظن بالطريق «أقرب إلى العلم و إصابة الواقع من» الظنيين الآخرين أي: من «الظن بكونه مؤدى طريق معتبر - من دون الظن بحجية طريق أصلا -»؛ كأن لم يظن بكون الشهرة و الخبر و الإجماع و السيرة حجة، و مع ذلك ظن بكون وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مؤدى طريق معتبر.

(4) كأن يظن بوجوب الدعاء «كما لا يخفي». و حينئذ: فلا وجه لاختصاص الحجية بالظن بالطريق، و أنه لا يجب اتباع القسمين الآخرين من الظن، فإن الظن حينئذ حاله حال العلم في زمان الانفتاح، فكما أنه لا فرق بين العلم بالحكم و بين العلم بالطريق المؤدى إلى الحكم، و بين العلم بكون هذا الحكم المؤدى طريق معتبر مجعول؛ كذلك الظن في حال الانسداد حجة بالبينة إلى الثلاثة.

(5) أي: لا يقال إنه لا يكون الظن بالطريق أقرب إلى الواقع من الظن بالواقع. هذا الإشكال من صاحب الفصول، و غرضه من هذا الإشكال: هو إثبات أقربية الظن بالطريق من غيره، و تعينه في مقام الحجية دون سائر الظنون.

و الحاصل: إن عدم أقربية الظن بالطريق من الظنين المذكورين إنما هو فيما إذا لم نقل بصرف الواقع إلى المؤدى، و أما مع صرفه إليه: فالمتبع هو مؤديات الطرق؛ إذ ليس غيرها أحكاما فعلية، فالظن بالواقع فقط غير مجد، إلا إذا كان الواقع مؤدى الطرق؛ لعدم تعلقه بالحكم الفعلي؛ إذ المفروض: عدم كون الواقع فعليا.

ص: 423

عنه (1) إلى مؤديات الطرق و لو بنحو التقييد (2)، فإن الالتزام به بعيد؛ إذ الصرف لو

=============

(1) أي: عن الواقع.

(2) أي: و لو كان الصرف بنحو التقييد، يعني: تقييد الواقع بكونه لا بد و أن يكون مؤدى الطريق، أما بعد تقييد الواقع بكونه مؤدى الطريق: فلا ينفع الظن بالواقع إذا لم يكن عن الطريق، لفرض كون الواقع ساقطا عن التكليف الفعلي.

و بعبارة أخرى - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 638» -:

إن صرف التكليف الفعلي عن الواقع على وجهين:

أحدهما: صرفه عنه لا بنحو التقييد، و المراد به: صرف التكليف الفعلي عن الواقع إلى مؤدى الطريق مطلقا - يعني بلا تقييد كون هذا المؤدى هو الواقع - فيكون المنجز في حق المكلف هو مؤدى الطريق، سواء صادف الواقع أم لا.

ثانيهما: صرفه عنه بنحو التقييد، و المراد به: صرف التكليف الفعلي عن الواقع - بما هو واقع - إلى الواقع المقيد بكونه مؤدى الطريق، فيكون المنجز في حق المكلف هو الواقع الذي أدى إليه الطريق؛ لا الواقع بما هو واقع.

و الفرق بين الوجهين: أنه على الأول: لا يوجد في الواقع - بالنسبة إلى من لم يصل إليه الطريق - حكم أصلا، يعني: لا بمرتبته الاقتضائية و لا الإنشائية و لا الفعلية و لا التنجز، و على الثاني: يوجد الحكم بمرتبته الإنشائية في حق من وصل إليه الطريق و من لم يصل إليه، و يصير في حق من وصل إليه الطريق فعليا و منجزا أيضا. و على كلا الوجهين:

لا يكون الظن بالحكم الواقعي بما هو حكم واقعي حجة؛ إذ ليس في الواقع حكم فعلي حتى يكون الظن به ظنا بالحكم الفعلي ليكون حجة، و إنما الحجة هو الظن بمؤدى الطريق مطلقا أو مقيدا به الواقع.

و بالجملة: فمع صرف التكليف الفعلي عن الواقع إلى مؤدى الطريق مطلقا، أو إلى الواقع المقيد بكونه مؤدى الطريق: يكون الظن بالطريق أقرب إلى الواقع من الظن بنفس الواقع، فلا بد من الالتزام به.

هذا تمام الكلام في توضيح الإشكال بقوله: «لا يقال»، و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بقوله: «فإن الالتزام به بعيد»، يعني: أن الالتزام بالصرف و لو بنحو التقييد بعيد.

و قد أورد المصنف على الصرف بوجوه:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا».

و حاصل كلام المصنف في هذا الوجه الأول: أن الالتزام بالصرف و لو بنحو التقييد

ص: 424

يستلزم أحد محذورين على سبيل منع الخلو؛ إما التصويب المحال، و إما التصويب المجمع على بطلانه.

توضيح ذلك: - على ما في «منتهى الدراية، ج 4، ص 641» - أنه بناء على الصرف المطلق - أي: لا بنحو التقييد - بمعنى: كون التكليف مصروفا عن الواقع إلى مؤدى الطريق من غير تقييده بالواقع بأن يكون المنجز على المكلف هو مؤدى الطريق و إن خالف الواقع يلزم التصويب المحال.

أما لزوم التصويب: فلفرض دوران الحكم وجودا و عدما مدار الطريق.

و أما أنه محال: فلأن كون شيء طريقا إلى شيء يقتضي تقدم وجود ذي الطريق على الطريق حتى يكون الطريق مؤديا إليه، و فرض ذي الطريق فيما نحن فيه مؤدى الطريق يقتضي تأخر وجوده عن الطريق؛ لأن مؤدى الطريق لا يتحقق إلا بعد قيام الطريق عليه، فيلزم أن يكون ذو الطريق - و هو هنا مؤداه - مقدما و مؤخرا في رتبة واحدة، و هو محال. و بناء على الصرف بنحو التقيد - بمعنى: كون التكليف الفعلي أو المنجز مصروفا عن الواقع إلى مؤدى الطريق؛ بأن يكون المنجز على المكلف هو الواقع المقيد بكونه مؤدى الطريق لا الواقع بما هو واقع - يلزم التصويب، و هو هنا و إن لم يكن محالا؛ لعدم دوران الحكم بجميع مراتبه الأربع مدار الطريق، و إنما يكون في بعض مراتبه و هو فعليته أو تنجزه دائرا مداره، و أما في مرتبته الاقتضائية و الإنشائية: فهو مشترك بين جميع المكلفين؛ لا أنه مختص بمن قام عنده الطريق إليه، لكن مجمع على بطلانه، فالقول بالصرف الذي هو مبنى اختصاص حجية الظن بالظن بالطريق ساقط عن الاعتبار.

هذا تمام الكلام في قسمين من التصويب، و قد أشار إليهما بقوله: «لو لم يكن محالا فلا أقل من كونه مجمعا على بطلانه».

قوله: «ضرورة» تعليل لبطلان الصرف و لو كان بنحو التقييد.

و توضيحه: أن الإجماع قائم على تنجز الواقع بالعلم و الاجتزاء به معه، مع أنه ليس طريقا مجعولا حتى يكون الاكتفاء بالواقع المعلوم لأجل كونه مؤدى طريق مجعول؛ بل لأجل كونه هو الواقع، فلو كان نصب الطريق صارفا عن الواقع - أي مقيدا له بكونه مؤدى الطريق - لم يجب العمل على متعلق القطع، و لم يكن الإتيان به مجزيا، مع أن الإتيان بالواقع مع الغض عن كونه مؤدى الطريق مجز قطعا، فالإجزاء دليل على عدم

ص: 425

الصرف و بقاء الواقع على حاله من الفعلية. هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «مع أن الالتزام بذلك غير مفيد»، أي: الالتزام بمطلق الصرف و لو بنحو التقييد لا يجدي في إثبات حجية الظن بالطريق؛ لأن الظن بالواقع - فيما يبتلي به المكلف من التكاليف - لا ينفك غالبا عن الظن بكونه مؤدى طريق معتبر. و هذه الملازمة الغالبية كافية في إثبات حجية الظن بالطريق المؤدية إلى الأحكام، و لا حاجة معها إلى الالتزام بالصرف و لو بنحو التقييد.

الوجه الثالث: ما أشار إليه بقوله: «و الظن بالطريق ما لم يظن بإصابة الواقع غير مجد بناء على التقييد»، و هذا الوجه مختص بالصرف بنحو التقييد، و لا يجري في الصرف لا بنحو التقييد؛ إذ المفروض في الصرف بنحو التقييد: أن الحكم الفعلي مؤلف من أمرين:

أحدهما وجود الحكم واقعا، و ثانيهما: كونه مؤدى طريق معتبر، و من المعلوم: أن هذين الأمرين مفقودان في الصرف لا بنحو التقييد لتقومه بخلو الواقع عن الحكم.

و كيف كان؛ فتوضيح ما أفاده المصنف: أنه - بنا على التقييد و أن موضوع فعلية الحكم هو الواقع المقيد بكونه مؤدى الطريق - لا يجدي في فعلية الحكم الظن بالطريق فقط؛ لأنه ظن بجزء موضوع الحجية لا تمامه، فلا بد في حجية الظن بالطريق من الظن بإصابة الواقع، حتى يكون المظنون هو الواقع المتصف بكونه مؤدى الطريق، ليتحقق الظن بكلا جزءي موضوع الفعلية، ليثبت اعتبار الظن بالطريق بتقييد فعلية الواقع بكونه مؤدى الطريق المعتبر؛ إذ من المعلوم: إن الظن بالطريق لا يستلزم الظن بالواقع دائما.

الوجه الرابع: ما أشار إليه بقوله: «مع عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف و لا على التقييد».

و حاصله: أن نصب الطريق - بعد تسليمه - لا يقتضي الصرف إلى مؤديات الطرق، و تقييد الواقعيات بها؛ بل غاية ما يقتضيه نصب الطريق بمثل قوله: «صدق العادل» هو اختصاص الحكم الواقعي المنجز بما أدى إليه الطريق، فلا يكون الواقع الذي لم يؤد إليه الطريق منجزا؛ لكن هذا الاختصاص منوط بمنجزية العلم الإجمالي بنصب الطريق، و المفروض عدمها؛ لكون الاحتياط التام في أطرافه - و هي مظنونات الطريقية و مشكوكاتها و موهوماتها - موجبا للاختلال، فيبطل، أو العسر فلا يجب.

و بناء على سقوط العلم الإجمالي عن التأثير لأجل الترخيص في أطرافه لا أثر للعلم الإجمالي بنصب الطرق، فيكون حال الأحكام الواقعية في كفاية الظن بها حال عدم

ص: 426

لم يكن تصويبا محالا (1)، فلا أقل (2) من كونه مجمعا على بطلانه، ضرورة (3): أن القطع بالواقع يجدي في الأجزاء بما هو واقع؛ لا بما هو مؤدى طريق القطع (4) كما عرفت (5).

و من هنا (6) انقدح: أن التقييد أيضا غير سديد، مع أن الالتزام بذلك (7) غير هذا العلم الإجمالي، و المفروض: أن العلم الإجمالي الكبير المتعلق بنفس الأحكام سقط عن التأثير أيضا؛ لعين ما ذكر من الاختلال أو العسر، فلا بد حينئذ في إثبات لزوم رعاية الأحكام الواقعية من استكشاف إيجاب الاحتياط شرعا على ما تقدم في المقدمة الرابعة، و لا شك حينئذ: في اعتبار الظن بالواقع لو لم يكن أولى من الظن بالطريق، لكونه أقرب إلى ما اهتم به الشارع من حفظ الواقعيان بإيجاب الاحتياط. هذا تمام الكلام في الوجوه التي أجاب بها المصنف عن «لا يقال».

=============

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) إشارة إلى القسم الأول من التصويب، و هو التصويب المحال.

(2) إشارة إلى القسم الثاني من التصويب، و هو ما قام الإجماع على بطلانه.

(3) تعليل لبطلان الصرف، و قد عرفت توضيح ذلك.

(4) هذا من إضافة الصفة إلى الموصوف مثل: «جرد قطيفة» مثلا، و كان الأولى أن يقال: «القطع الطريقي» أو «بما هو طريق».

(5) يعني: في أول هذا الفصل حيث قال: «و أن المؤمن في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلف به الواقعي بما هو كذلك؛ لا بما هو معلوم و مؤدى الطريق».

(6) يعني: و مما ذكرنا في وجه بطلان الصرف لا بنحو التقييد - من أن المجدي في الإجزاء هو الواقع بما هو واقع لا بما هو مؤدى الطريق - ظهر: أن تقييد الصرف - أي:

الصرف بنحو التقييد أيضا يعني: كالصرف لا بنحو التقييد - غير سديد في إثبات أقربية الظن بالطريق إلى إصابة الواقع من الظن بنفس الواقع؛ لما عرفت من: أن المجزي هو الواقع بما هو واقع لا بما هو مؤدى الطريق، و لا الواقع بما هو مؤدى الطريق؛ و ذلك لأن الطريق ليس دخيلا في فعلية الحكم بحيث يقيد فعلية الواقع بصيرورته مؤدى الطريق؛ إذ على تقدير الصرف - بحيث يقيد الواقع بنحو من الأنحاء بالطريق - لا يتصور إجزاء الواقع من حيث كونه واقعا بعد فرض تقييده بالطريق المنصوب؛ بل لا بد من القول بأنه من حيث كونه معلوما و مؤدى الطريق مجز، و قد عرفت أنه مجمع على بطلانه.

(7) أي بالصرف و لو بنحو التقييد غير مفيد، و قد عرفت توضيح ذلك.

ص: 427

مفيد، فإن الظن بالواقع فيما ابتلى به من التكاليف لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى طريق معتبر، و الظن بالطريق ما لم يظن بإصابة الواقع غير مجد، بناء على التقييد؛ لعدم استلزامه الظن بالواقع المقيد (1) به بدونه (2).

هذا مع (3) عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف و لا على التقييد، غايته (4):

أن العلم بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف الفعلية، و الانحلال (5) و إن كان يوجب عدم تنجز ما لم يؤدّ إليه الطريق من التكاليف الواقعية؛ إلا أنه (6) إذا كان

=============

(1) صفة للواقع، و ضمير «به» راجع على الطريق، و ضمير «استلزامه» راجع على الظن بالطريق.

(2) أي: بدون الظن بالإصابة. و محصله: أن الظن بالطريق لا يستلزم الظن بالواقع إلا مع الظن بالإصابة، و معه يكون الظن بكل من الواقع و الطريق موجودا. و بعبارة أخرى: الظن بالواقع يستلزم غالبا الظن بالواقع و الطريق المعتبر معا، بخلاف الظن بالطريق فقط - أي: من دون ظن بالإصابة - فإنه لا يستلزم الظن بالواقع، فلا يكفي الظن بالطريق فقط في تحقق الظن بالواقع.

(3) هذا هو الوجه الرابع، و قد عرفت توضيح ذلك، فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة.

(4) أي: غاية الأمر في نصب الطريق هو: «أن العلم الإجمالي بنصب طرق وافية» بالأحكام الواقعية، «يوجب انحلال العلم» الإجمالي «بالتكاليف الواقعية». - و هو العلم الإجمالي الكبير بالأحكام الواقعية، الذي كان مقتضاه الاحتياط في جميع المشكوكات و المظنونات و الموهومات - «إلى العلم» العلم «بما هو مضامين الطرق المنصوبة»، فلا يجب الاحتياط فيما عداها. فقوله «إلى العلم» متعلق ب «انحلال» أي: انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير.

(5) أي: و انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية بسبب العلم الإجمالي الصغير، و هو العلم الإجمالي بنصب الطرق و إن كان مقتضاه عدم تنجز الواقع الذي لن يؤدّ إليه الطريق؛ لكن هذا الانحلال مبني على منجزية العلم الإجمالي الصغير، و إيجابه للاحتياط في أطرافه.

(6) أي: عدم تنجز ما لم يؤد إليه الطريق إنما يكون «إذا كان رعاية العلم بالنصب لازما»، و المفروض: عدم لزومها.

ص: 428

رعاية العلم بالنصب لازما، و الفرض (1) عدم اللزوم، بل عدم الجواز.

و عليه (2): يكون التكاليف الواقعية؛ كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب في كفاية الظن بها حال انسداد بالعلم، كما لا يخفى.

=============

(1) الواو للحال، أي: و الحال أن رعاية الاحتياط غير لازم لأجل العسر؛ بل غير جائز لاختلال النظام.

و تفصيل الكلام في المقام: أن هذا العلم الإجمالي الصغير الذي هو منحصر في مؤديات الأمارات و الطرق غير لازم المراعاة، فلا يجب علينا العمل على طبق هذا العلم الإجمالي، و إذا لم يجب مراعاة هذا العلم الإجمالي الصغير، و علمنا بأن لنا تكاليف وجب الرجوع إلى الظن بمطلق الحكم، فيكون الظن بالحكم - سواء كان في دائرة العلم الإجمالي الصغير، أو دائرة العلم الإجمالي الكبير - لازم الاتّباع، و لا اختصاص لحجية الظن بكونه متعلقا بالأمارة و الطريق.

و أما أن رعاية هذا العلم الإجمالي الصغير غير لازم: فلأن الاحتياط في جميع الأمارات و الطرق يوجب العسر فلا يجب، أو الاختلال فلا يجوز، و الاحتياط في بعض الأمارات و الطرق غير لازم؛ لما تقدم من أن العلم الإجمالي إذا لم يجب أو لم يجز العمل في بعض أطرافه لم يجب العمل في البعض الآخر.

و أما أنه إذا لم يجب أو لم يجز مراعاة العلم الإجمالي الصغير كان اللازم اتباع الظن في دائرة العلم الإجمالي الكبير: فلأنه حيث لم يلزم مراعاة العلم الإجمالي الصغيرة و علمنا أن الشارع لم يرفع اليد عن تكاليفه لاهتمامه بها، و لم يحصل لنا القطع بالتكاليف قام الظن مقام القطع، و تنتج هذه المقدمات حجية الظن مطلقا بالواقع أو الطريق، و لا يثبت كلام الفصول القائل بحجية الظن بالطريق فقط.

فتحصل: أن انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى دائرة الأمارات غير مفيد لدعوى الفصول، و إلى ما تقدم شرحه أشار المصنف بقوله: «و الفرض عدم اللزوم» أي: عدم لزوم مراعاة العلم الإجمالي الصغير للزومه العسر؛ «بل عدم الجواز» للزومه الاختلال، و لا يتبعض الاحتياط في أطراف هذا العلم؛ لأنه إذا سقط بعض الأطراف لم ينجز العلم بعض الأطراف الأخر.

(2) أي و على ما ذكر من عدم لزوم مراعاة العلم الإجمالي في أطراف الطرق و الأمارات، فلا يجب أو لا يجوز «يكون التكاليف الواقعية، كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب».

ص: 429

و لا بد حينئذ (1) من عناية أخرى (2) في لزوم رعاية الواقعيات بنحو من الإطاعة، و عدم إهمالها رأسا كما أشرنا إليها (3). و لا شبهة في إن الظن بالواقع لو لم يكن أولى حينئذ (4) - لكونه (5) أقرب في التوسل به إلى ما به الاهتمام من فعل الواجب و ترك الحرام - من الظن بالطريق، فلا أقل من كونه مساويا (6) فيما يهم العقل من (7) للطرق و الأمارات أصلا حتى يجب الاحتياط كلا أو بعضا؛ لفرض سقوط العلم الإجمالي بالنصب عن التأثير، فوجوده كعدمه و ضمير «بها» راجع على التكاليف الواقعية، فيكون الظن بالتكليف الواقعي منجزا و لو لم يظن بطريق قائم عليه أصلا.

=============

(1) أي: حين سقوط العلم الإجمالي بنصب الطريق، فلا يجب الاحتياط أو لا يجوز في أطراف العلم الإجمالي الصغير؛ لعدم إمكان الاحتياط في أطرافه للاختلال أو الحرج.

(2) يعني: غير العلم الإجمالي في الأحكام و الطرق؛ لسقوطه في كليهما بالاختلال أو الحرج، أو سقوط العلم الإجمالي الكبير بالانحلال، أي: انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى العلم الإجمالي الصغير و العلم الإجمالي الصغير بالاختلال أو العسر و الحرج.

و مراده ب «عناية أخرى» هو إيجاب الاحتياط الشرعي المستكشف ببرهان اللم أعني:

اهتمام الشارع بالأحكام، و عدم إهمالها في حال الانسداد، فلا بد من رعاية الواقعيات «بنحو من الإطاعة».

(3) أي: أشرنا إلى هذه العناية في المقدمة الثالثة من مقدمات الانسداد، حيث قال:

«و قد علم به» يعني بإيجاب الاحتياط «بنحو اللم، حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه».

(4) أي: حين عدم لزوم رعاية العلم الإجمالي بنصب الطريق، و كونه كالعدم، و من المعلوم: أنه لا شبهة في أولوية الظن بالواقع من الظن بالطريق؛ لسقوط العلم بنصب الطرق عن الاعتبار، فلا مجال لرعاية الظن به.

(5) أي: لكون الظن بالواقع «أقرب في التوسل به» أي: بالظن بالواقع «من الظن بالطريق»، أو لا أقل: الظن بالواقع يكون مساويا «للظن بالطريق».

(6) و لا يخفى: أن المصنف من باب التنزل جعل الظن بالطريق مساويا للظن بالواقع؛ و إلا فعلى تقدير عدم لزوم رعاية العلم بنصب الطريق لا مجال لاعتبار الظن بالطريق، ما لم يستلزم الظن بالواقع.

(7) بيان للموصول «فيما يهم». و الحاصل: أن الظن بالواقع أقرب من الظن بالطريق؛

ص: 430

تحصيل الأمن من العقوبة في كل حال (1).

هذا (2) مع ما عرفت من أنه عادة يلازم الظن بأنه مؤدى طريق، و هو (3) بلا شبهة يكفي، و لو لم يكن هناك ظن بالطريق، فافهم فإنه دقيق.

ثانيهما (4): ما اختص به بعض المحققين، قال: «لا ريب في كوننا مكلفين بالأحكام الشرعية، و لم يسقط عنا التكليف بالأحكام الشرعية، و أن الواجب (5) علينا أولا هو:

=============

لأن احتمال الخطأ فيه أقل من احتماله في الظن بالطريق؛ لتطرق احتمال عدم الإصابة في الظن بالواقع، فإن احتمال الخطأ فيه أزيد؛ لأنه كما يكون من جهة عدم إصابة الظن بالطريق، كذلك يكون من جهة عدم إصابة المؤدى للواقع.

و عليه: فالظن بالواقع أقرب إلى ما اهتم الشارع به من الظن بالطريق القائم عليه، و بهذا كله تحقق أنه ليس نتيجة دليل الانسداد حجية الظن بالطريق فقط؛ بل لا فرق بين الظن بالواقع أو الظن بالطريق.

(1) أي: سواء في حال الانفتاح أم الانسداد.

(2) هذا تمام الكلام في رد صاحب الفصول القائل بحجية الظن بالطريق فقط، و لازم ما ذكر من الرّد: هو حجية الظن بالواقع أيضا؛ لما تقدم من أن الظن بالواقع عادة يلازم الظن بأنه مؤدى طريق، حيث قال قبل أسطر: «فإن الظن بالواقع فيما ابتلى به من التكاليف لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى طريق معتبر».

(3) يعني: و كون الظن بالواقع ملازما عادة للظن بأن هذا الواقع المظنون مؤدى طريق، يكفي بلا شبهة في الوصول إلى ما اهتم به الشارع من فعل الواجب و ترك الحرام، و حاصله: أنه لا تترتب ثمرة على اعتبار خصوص الظن بالطريق؛ إذ الظن بالواقع الذي يبتلي به المكلف لا ينفك عن الظن بأنه مؤدى طريق معتبر.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الوجهين اللذين استدل بهما صاحب الحاشية و صاحب الفصول على كون نتيجة دليل الانسداد حجية الظن بالطريق فقط.

(4) أي: ثاني ذينك الوجهين «ما اختص به بعض المحققين» و هو صاحب حاشية المعالم استدل بما حاصله: أن الظن بالطريق يوجب فراغ الذمة - سواء كان الطريق مطابقا للواقع أم لا - أما الظن بالواقع: فلا يوجب فراغها. و قد تقدم تفصيل الاستدلال بهذا الوجه، فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة.

(5) عطف على «كوننا» أي: و لا ريب في أن الواجب علينا «أولا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف».

ص: 431

تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف (1)؛ بأن يقطع معه (2) بحكمه بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به، و سقوط (3) تكليفنا عنا، سواء حصل العلم معه بأداء (4) الواقع أولا حسبما مر تفصيل القول فيه.

حينئذ (5) نقول: إن صح لنا (6) تحصيل العلم بتفريغ ذمتنا في حكم الشارع، فلا

=============

(1) بصيغة الفاعل و هو الشارع، و كلمة «في» بمعنى الباء، أو أنها متعلقة ب «تحصيل العلم»، و المقصود أن اللازم عقلا هو تحصيل العلم بحكم الشارع بتفريغ الذمة.

(2) الضمير راجع إلى الإتيان بالمكلف به المستفاد من سياق الكلام، و ضمير «بحكمه» راجع على المكلف - بالكسر - المراد به الشارع. و هذا القطع بحكم الشارع بالفراغ إنما يكون بالعمل على طبق الطريق المنصوب من قبل الشارع؛ و ذلك لأن نصب الشارع للطريق ملزوم لحكمه بفراغ ذمة المكلف العامل على طبقه عن الواقع الذي نصب لأجله الطريق، «سواء حصل العلم معه» أي: مع العلم بتفريغ الذمة «بأداء الواقع أو لا حسبما مرّ» في الوجه الأول «تفصيل القول فيه»، و أن نصب الطريق معناه تقيد الأحكام الواقعية بها، فيكون المهم لدى العقل الإتيان على طبق الطريق فحسب.

(3) عطف على «بتفريغ»، و الأولى تبديل السقوط ب «الإسقاط أو «التفريغ» ب «الفراغ» لتصح المقابلة بينهما.

(4) متعلق ب «العلم» يعني: سواء حصل مع حكم الشارع بتفريغ الذمة العلم بأداء الواقع أم لم يحصل؛ لأن مفاده تحصيل العلم بحكم الشارع بالفراغ، سواء حصل - مع هذا الحكم بالفراغ - العلم بوجود الواقع و تحققه أم لا؛ فإنه كالصريح في بقاء الواقع على ما هو عليه و عدم صرفه إلى مؤدى الطريق، و بهذا يفترق هذا الوجه عن الوجه الأول الذي ذكره صاحب الفصول تبعا لبعض الفحول.

(5) أي: حين تمامية المقدمات الثلاث - و هي: القطع بثبوت الأحكام - و كون المهم إحراز فراغ الذمة - و أن جعل الطريق ملزوم لفراغ الذمة، بخلاف جعل الواقع، فإنه ليس ملزوما لفراغ الذمة؛ لأن الحكم بالفراغ في صورة إتيان الواقع معلول للقطع بالواقع لا لنفس الواقع.

(6) هذا شروع في كيفية تحصيل فراغ الذمة، و هو الأمر الثالث، بتقريب: أنه مع العلم بالطريق المنصوب يجب تحصيل العلم به؛ لتوقف العلم بالفراغ عليه، و مع عدمه - لانسداد باب العلم بالطريق - يجب تحصيل الظن به؛ لأنه الأقرب إلى العلم بالطريق.

فالنتيجة حينئذ بعد العلم ببقاء التكليف و لزوم امتثاله بالطرق المنصوبة عليه هو: اعتبار الظن بالطريق.

ص: 432

إشكال في وجوبه و حصول البراءة به، و إن انسد علينا سبيل العلم كان الواجب علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكمه؛ إذ هو الأقرب إلى العلم به (1)، فيتعين الأخذ به عند التنزل من العلم في (2) حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم و القطع (3) ببقاء التكليف، دون (4) ما يحصل معه الظن بأداء الواقع كما يدعيه القائل بأصالة حجية الظن (5)»(1). انتهى موضوع الحاجة من كلامه «زيد في علوّ مقامه».

ردّ المصنف له بكلام طويل

و فيه (6): أولا: أن الحاكم على الاستقلال في باب تفريغ الذمة بالإطاعة و الامتثال إنما هو العقل، و ليس للشارع في هذا الباب (7) حكم مولوي يتبعه حكم العقل، و لو حكم (8) في هذا الباب كان يتبع حكمه إرشادا إليه، و قد عرفت: استقلاله (9) بكون و كلمة «في» في قوله «في حكم الشارع» بمعنى الباء و قد تقدم نظيره آنفا.

=============

و الضمير في «وجوبه» راجع إلى تحصيل العلم بالتفريغ، و ضمير «به» راجع على العلم بالتفريغ.

قوله: «إذ» تعليل لوجوب تحصيل الظن، و ضمير «هو» راجع إلى الظن.

(1) أي: إلى العلم بالتفريغ.

(2) متعلق بقوله: «فيتعين»، و الضمير في «الأخذ به» راجع إلى الظن بالطريق.

(3) عطف على قوله: «انسداد».

(4) قيد لقوله: «تحصيل الظن بالبراءة»، يعني: أن الواجب تحصيل الظن بالبراءة؛ لا تحصيل الظن بأداء الواقع.

(5) حيث إنه يرى أن الظن بالواقع أقرب.

(6) و قد أجاب المصنف عن دليل صاحب الحاشية بوجوه ثلاثة، و قد تقدم تفصيل الكلام فيها فراجع.

(7) أي: باب تفريغ الذمة، و قوله: «بالإطاعة» متعلق ب «الحاكم».

و حاصل الكلام في المقام: أنه ليس للشارع في باب تفريغ الذمة «حكم مولوي» حتى «يتبعه حكم العقل»، و يكون اللازم حينئذ: إفراغ الذمة شرعا حتى يقال: بأن الإفراغ الشرعي إنما يكون بمتابعة الطريق.

(8) أي: لو حكم الشارع في هذا الباب لكان حكمه تابعا لحكم العقل و إرشادا إليه؛ كحكمه في باب الإطاعة و المعصية، حيث يكون إرشادا إلى حكم العقل.

(9) أي: العقل «بكون الواقع بما هو» لا بما هو مؤدى الطريق «مفرغ» للذمة.

ص: 433


1- هداية المسترشدين 352:3.

الواقع بما هو مفرغ، و أن القطع به (1) حقيقة أو تعبدا مؤمّن جزما، و إن المؤمّن (2) في حال الانسداد هو الظن بما كان القطع به مؤمّنا حال الانفتاح، فيكون الظن أيضا (3) مؤمّنا حال الانسداد.

و ثانيا: سلمنا ذلك (4)؛ لكن حكمه بتفريغ الذمة - فيما (5) إذا أتى المكلف بمؤدى الطريق المنصوب - ليس (6) إلا بدعوى أن النصب يستلزمه (7)، مع أن دعوى أن الصواب نصب «مفرغ»؛ لأنه خبر لقوله: «بكون الواقع»، يعني: و قد عرفت استقلال العقل بكون الواقع بما هو واقع مفرغا للذمة.

=============

(1) أي: بالواقع «حقيقة أو تعبدا» بنصب أمارة مؤدية إليه «مؤمّن جزما».

فقوله: «أن القطع» مجرور محلا عطفا على «بكون الواقع» أي: و قد عرفت أيضا:

استقلاله بأن القطع بالواقع حقيقة...» الخ. و الأول و هو القطع بالواقع حقيقة ما إذا حصل القطع بإتيان الواقع. و الثاني: و هو القطع بالواقع تعبدا ما إذا حصل القطع بموافقة الطريق المنصوب شرعا، فهما قيدان ل «القطع».

(2) عطف على «و أن القطع أي: و قد عرفت أيضا: استقلال العقل بأن المؤمن في حال الانسداد هو الظن...» الخ.

(3) يعني: مثل مؤمنية الظن بالطريق؛ إذ المفروض: قيام الظن مقام العلم في حال الانسداد، و من المعلوم: أن العلم بكل من الواقع و الطريق في حال الانفتاح كان مؤمّنا، فالظن بكل منهما في حال الانسداد مؤمّن أيضا كما لا يخفى.

(4) أي: سلمنا أن للشارع في باب الإطاعة حكما مولويا، و هذا هو الوجه الثاني في الجواب عن دليل صاحب الحاشية، و حاصله: أنه - بعد تسليم الوجه الأول - نقول: إن جعل الطريق كما يكون مستلزما لجعل الفراغ، كذلك يستلزم جعل الحكم الواقعي لجعل الفراغ بالأولوية؛ لكون الواقع أصلا و مؤدى الطريق بدلا عنه و منزلا منزلته، فترتب الحكم بالفراغ على جعل الحكم الواقعي أولى من ترتبه على جعل الطريق.

(5) متعلق ب «حكمه بتفريغ الذمة»، و ضمير «حكمه» راجع على الشارع.

(6) خبر لقوله: «لكن حكمه».

(7) الضمير المستتر فيه راجع إلى «النصب»، و البارز راجع على حكم الشارع، يعني:

يستلزم النصب حكم الشارع بفراغ الذمة.

و توضيحه: أن جعل الحكم بالفراغ - لو سلم - فإنما هو لكونه من لوازم النصب؛ و إلا فليس الحكم بالفراغ مجعولا نفسيا مستقلا.

ص: 434

التكليف بالواقع يستلزم حكمه بالتفريغ، فيما إذا أتى به أولى (1) كما لا يخفى، فيكون الظن به ظنا بالحكم بالتفريغ أيضا (2).

إن قلت (3): كيف يستلزم (4) الظن بالواقع مع أنه ربما يقطع بعدم حكمه به معه، كما إذا كان من القياس ؟ و هذا (5) بخلاف الظن بالطريق، فإنه يستلزمه و لو كان من القياس.

قلت: الظن بالواقع أيضا (6) يستلزم الظن بحكمه بالتفريغ على الأقوى، و لا

=============

(1) خبر «أن دعوى» يعني: أن دعوى حصول الفراغ بالواقع أولى من حصوله من الظن بمؤدى الطريق؛ إذ لما كان الحكم بالفراغ من لوازم جعل الطريق، فكونه من لوازم الواقع أولى، كما تقدم تقريبه. فقوله: «مع أن دعوى» ليس وجها مستقلا؛ بل هو تتمة للوجه الثاني، فكأنه قال: «و الحال أن دعوى... أولى».

(2) يعني: إذ كان القطع بالواقع كالقطع بالطريق في الإفراغ، «فيكون الظن به» أي:

بالواقع كالظن بالطريق «ظنا بالحكم بالتفريغ أيضا»، فلا فرق بينهما.

(3) غرض المستشكل: منع لملازمة التي ادعاها المصنف بقوله: «أن التكليف بالواقع يستلزم حكمه بالتفريغ»، و تقريب المنع: أن الظن بالواقع قد لا يستلزم الظن بحكم الشارع بالفراغ؛ كما إذا حصل الظن به من القياس الذي يعلم بعدم كونه طريقا شرعا، و هذا بخلاف الظن بالطريق المنصوب.

فإنه مستلزم للظن بحكم الشارع بالفراغ؛ و إن كان الظن بطريقية شيء ناشئا من القياس.

(4) أي: كيف يستلزم الظن بالواقع للظن بحكم الشارع بالفراغ ؟ «مع أنه ربما يقطع بعدم حكمه» أي: بعدم حكم الشارع بالفراغ مع الظن بالواقع، «كما إذا كان» الظن الحاصل «من القياس»، فإنه لو قام القياس على شيء ظن الشخص بأنه الواقع - كما في قصة قطع أصابع المرأة - مع أنه يقطع بعدم حكمه بالفراغ.

(5) أي: و الظن بالواقع بخلاف الظن بالطريق، «فإنه» أي: الظن بالطريق «يستلزمه» أي: يستلزم حكمه بالفراغ و لو حصل الظن بالطريق من القياس؛ كالظن بطريقية الإجماع المنقول الحاصل من قياسه على خبر الواحد مثلا.

(6) أي: كالظن بالطريق في استلزامه الظن بالفراغ.

و توضيح ما أفاده في دفع الإشكال: أن الظن بالواقع يستلزم الظن بالفراغ مطلقا و إن نشأ الظن بالواقع من القياس؛ و ذلك لأن النهي عن القياس طريقي ناشئ عن

ص: 435

ينافي (1) القطع بعدم حجيته لدى الشارع، و عدم كون المكلف معذورا - إذا عمل به فيها - فيما (2) أخطأ؛ بل كان (3) مستحقا للعقاب و لو فيما أصاب لو بنى (4) على حجيته، و الاقتصار عليه لتجريه (5). فافهم (6).

=============

مخالفته أحيانا للواقع، فمع المصادفة تحصل براءة الذمة عن الواقع.

نعم؛ إذا كان النهي موضوعيا لحدوث مفسدة في سلوك القياس غالبة على مصلحة الواقع، فلا يكون حينئذ: ظنا بالفراغ؛ لصيرورة الواقع بسبب سلوك القياس مبغوضا؛ لكن ظاهر النهي عنه هو: الأول، فالظن بالواقع الناشئ من القياس يستلزم الظن بالفراغ حينئذ.

(1) هذا دفع لتوهم التنافي بين الظن بفراغ الذمة من الظن القياسي، و بين نهي الشارع عنه المستلزم لعدم اعتبار الظن الحاصل من القياس، و بينهما تناف واضح.

و حاصل الدفع: أن الظن بالفراغ لا ينافي القطع بعدم حجية الظن بالواقع الحاصل من مثل القياس؛ إذ الظن بالفراغ لا ينافي عدم الحجية؛ بل العقاب أيضا، فلو ظن الإنسان بالحكم من القياس ظن بالفراغ لو أتى بذلك الحكم المظنون، و هذا الظن لا ينافي عدم الحجية الشرعية؛ بل لا ينافي أن يعاقب على اتباعه للقياس، كما أشار إليه بقوله: «و عدم كون المكلف معذورا إذا عمل به» أي بذلك الظن غير المعتبر.

و الضمير في «فيهما» راجع إلى الظن بالواقع و الظن بالطريق الحاصلين من الظن الذي يقطع بعدم حجيته شرعا كالقياس.

(2) متعلق بقوله: «معذورا».

(3) أي: بل كان المكلف مستحقا للعقاب؛ لتفويته الواقع باختياره بما أخطأ.

(4) أي: لو بنى المكلف على حجية ذلك الظن غير المعتبر كالقياس؛ لكن العقاب حين الإصابة يكون على التشريع؛ إذ المفروض: أنه بنى على حجيته، و في صورة الخطأ يكون على تفويت الواقع و التشريع معا.

(5) علة لاستحقاق العقوبة في صورة الإصابة، و المراد بالتجري هو: التشريع.

(6) لعله إشارة إلى أن العقاب على سلوك القياس لا ينافي الحكم بالفراغ عن الواقع في صورة الإصابة. أو إشارة إلى ما ذكرناه من التنافي بين نهي الشارع عن القياس، و بين حكمه بفراغ الذمة فيما لو اتبع الظن القياسي؛ لأن مقتضى نهي الشارع عن القياس بقول مطلق: عدم ترتيبه أي أثر عليه، و حكمه بفراغ الذمة بالعمل بالقياس نقض لنهيه عن القياس مطلقا، فلا يوجب الظن القياسي ظنا بفراغ الذمة أصلا.

ص: 436

و ثالثا (1): سلمنا أن الظن بالواقع لا يستلزم الظن به؛ لكن قضيته ليس إلا التنزل إلى الظن بأنه مؤدى طريق معتبر؛ لا خصوص الظن بالطريق، و قد عرفت: أن الظن بالواقع لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى الطريق غالبا.

=============

لا يقال: إن النهي الطريق لا ينافي حكم الشارع بفراغ الذمة مع الإصابة، فينافي العقوبة معها؛ إذ الغرض من النهي الطريقي - كالأمر الطريقي - هو حفظ الواقع من دون وجود مفسدة في المنهي عنه توجب استحقاق العقوبة ارتكابه حتى في صورة الإصابة؛ كما هو شأن الموضوعية.

و عليه: فاستحقاق العقوبة في صورة الإصابة كاشف عن عدم كون النهي طريقيا؛ بل موضوعي.

فإنه يقال: العقاب إنما هو لأجل التشريع؛ إذ المفروض: أنه بنى على حجية القياس، و إسناده إلى الشارع، و من المعلوم: حرمة التشريع، فيستحق العقوبة حتى في صورة الإصابة.

(1) هذا هو الوجه الثالث في الجواب عن دليل صاحب الحاشية.

و حاصل الجواب الثالث: أنه سلمنا أن الظن بالواقع مما لا يستلزم الظن بتفريغ الذمة في حكم الشارع؛ و لكن مقتضى ذلك: أن يكون كلا من الظن بأنه مؤدى طريق معتبر إجمالا، و الظن بالطريق حجة قطعا لا خصوص الظن بالطريق فقط، فالدليل المتقدم لا ينتج حجية خصوص الظن بالطريق؛ لأنه بعد بنائه على عدم التصويب و التقييد بل بقاء الواقع على حاله و فعليته: فاللازم هو اعتبار الظن بواقع يظن بكونه مؤدى طريق معتبر.

و على هذا: فلا ينفك الظن بالواقع عن الظن بكونه كذلك، فالظن بالواقع حجة أيضا لا خصوص الظن بالطريق كما تخيله المستدل.

فتلخص: أنه لا دليل على اختصاص نتيجة مقدمات دليل الانسداد بحجية الظن بالطريق؛ إذ كما أن الإتيان بمؤدى طريق ظن نصبه شرعا هو مما يوجب الظن بتفريغ الذمة في حكم الشارع؛ فكذلك الإتيان بما ظن كونه مؤدى طريق معتبر إجمالا، من دون ظن تفصيلي بالطريق الذي قام عليه خارجا هو مما يوجب الظن بتفريغ الذمة في حكمه أيضا. و قد عرفت قبلا: أن الظن بالواقع لا يكاد ينفك عن الظن بكونه مؤدى طريق معتبر إجمالا، و عليه: فلا تبقى ثمرة للنزاع بيننا و بين الخصم أصلا؛ إذ لا يبقى فرق بين الظن بالطريق و الظن بالواقع من حيث حصول الظن بتفريغ الذمة في حكم الشارع.

ص: 437

قوله: «لا خصوص الظن بالطريق» عطف على «التنزل»، و ضمير «بأنه» راجع على الواقع.

قوله: «غالبا» يعني: في الأحكام المبتلى بها، و أما غيرها فلا يكون الظن فيه بالواقع ظنا بكونه مؤدى طريق معتبر؛ لاحتمال كونه مما سكت الله عنه.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان الأقوال و الاستدلال عليها:

القول الأول: حجية الظن بالطريق و الظن بالواقع معا.

القول الثاني: حجية الظن بالواقع فقط.

القول الثالث: حجية الظن بالطريق فقط.

و القول الأول هو مختار المصنف «قدس سره»، و توضيح الاستدلال عليه يتوقف على مقدمة و هي: أن هناك مقدمتين تنتجان حجية الظن بكل من الواقع و الطريق:

المقدمة الأولى: أن همّ العقل في باب الإطاعة و المعصية هو تحصيل الأمن عن العقوبة على مخالفة التكليف، من دون فرق بين الانفتاح و الانسداد، و هذه المقدمة كالتمهيد للصغرى في المقدمة الثانية.

و المقدمة الثانية: مركبة من صغرى و كبرى.

و أما الصغرى: فهي أن المؤمّن حال الانفتاح هو كل من القطع بإتيان المكلف به الواقعي، و القطع بإتيان المكلف به الجعلي الظاهري.

و أما الكبرى: فهي كلما كان القطع به مؤمّنا في حال الانفتاح كان الظن به مؤمّنا في حال الانسداد، فتنتجان: أن الظن حال الانسداد كالقطع حال الانفتاح.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المؤمّن حال الانفتاح هو كل من القطع بإتيان المكلف به الواقعي و المكلف به الجعلي و الظاهري، فالمؤمن حال الانسداد أيضا هو كل من الظن بإتيان المكلف به الواقعي و الظن بإتيان المكلف به الجعلي الظاهري، و مقتضى ذلك هو: حجية الظن في تعيين كل من الواقع و الطريق جميعا.

فنتيجة المقدمتين: حجية الظن بالطريق و الواقع معا؛ لا حجية الظن بأحدهما فقط.

2 - و أما الدليل على حجية الظن بالواقع و الفروع فقط: فلاختصاص المقدمات

ص: 438

بالفروع، فلا بد أن تكون نتيجتها أيضا هي مختصة بها؛ لأن المحور هي الأحكام، و لازم ذلك: اختصاص حجية الظن بها.

و قد أجاب المصنف عن هذا الدليل بما حاصله: من أن الحكم تكليفيا كان أم وضعيا يدور مدار ما هو الغرض و الملاك، ثم الغرض من جريان مقدمات الانسداد في الفروع هو حجية الظن في مقام تفريغ الذمة، و تحصيل الأمن من العقوبة على مخالفة التكليف المعلوم إجمالا، و لا فرق حينئذ: بين الظن بالواقع و الظن بالطريق؛ إذ كما لا فرق حال الانفتاح بين العلم بالواقع و العلم بالطريق، فكذلك لا فرق حال الانسداد بين الظن بالواقع و الظن بالطريق؛ و ذلك لاستقلال العقل بأنه كلما كان العلم به حجة حال الانفتاح كان الظن به حجة حال الانسداد.

3 - و أمّا الدليل على اختصاص حجية الظن بالطريق فقط: فهو أحد وجهين:

أما الوجه الأول: فحاصله: إن هنا علمين أحدهما: يتعلق بالأحكام الواقعية.

و ثانيهما: يتعلق بالطرق المنصوبة إليها يعني: كما أنّا نعلم بأحكام فرعية فعلية، فكذلك نعلم بنصب الشارع طرقا إليها؛ بحيث صار تكليفنا الفعلي العمل بمؤديات تلك الطرق، فهذا الوجه يرجع إلى أمرين:

الأول: العلم الإجمالي بنصب طرق مخصوصة للوصول إلى الواقعيات و انسداد باب العلم و العلمي بها يقتضي التنزل من العلم إلى الظن بها.

الثاني: أن التكاليف الواقعية بعد نصب الطرق إليها مصروفة إلى مؤديات الطرق، و لازم هذين الأمرين: هو حجية الظن بالطريق دون الظن بالواقع، فيجب العمل بالظن بالطريق.

4 - أما الجواب عن هذا الوجه: فلأن العلم الإجمالي بنصب الطرق الخاصة غير ثابت؛ لإمكان إيكال الشارع إلى العقلاء، و هم يعملون بالظن عند فقدان القطع، من دون فرق في ذلك بين الظن بالطريق أو الظن بالواقع. هذا أولا.

و ثانيا: أنه بعد تسليم العلم بنصب الطرق يمكن دعوى عدم بقاء تلك الطرق إلى هذا الزمان، فلا معنى لرعاية تلك الطرق حتى يقال بتعيينها بالظن.

و ثالثا: لو سلمنا نصب الطرق و بقائها إلى زماننا هذا، و لزوم رعايتها لا نسلم لزوم رعايتها مطلقا حتى مظنون الاعتبار منها؛ لإمكان وجود ما هو متيقن الاعتبار فيها كالخبر الصحيح أو الموثوق صدوره، فتجب مراعاة متيقن الاعتبار، فلا تصل النوبة إلى مظنون الاعتبار.

ص: 439

و رابعا: أن مقتضى العلم الإجمالي بعد تسليم ما ذكر هو الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي بنصب الطرق، فيؤخذ بكل ما يحتمل أن يكون طريقا من مظنون الطريقية و مشكوكها و موهومها.

و عليه: فلا تصل النوبة إلى تعيين الطرق بالظن حتى يختص الظن الانسدادي بما إذا تعلق بالطريق دون الواقع. هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الجواب عن الوجه الأول.

و هو يتضمن أربعة ردود كما عرفت.

أما الوجه الثاني من الجواب عن هذا الوجه فحاصله: أنه لو سلّم أن مقتضى دليل القائل باختصاص نتيجة الانسداد حجية الظن بالطريق؛ لكن لا نسلم حجية خصوص الظن بالطريق لا حجية الظن بالواقع؛ بل حجية مطلق الظن:

1 - الظن بالطريق. 2 - الظن بالواقع. 3 - الظن بالواقع المظنون كونه مؤدى طريق معتبر، من دون قيام ما هو مظنون الطريقية عليه.

5 - أما الوجه الثاني على اختصاص حجية الظن بالطريق فحاصله:

أولا: العلم بأننا مكلفون بالتكاليف الواقعية، و أنها لم تسقط حال الانسداد.

و ثانيا: أن همّ العقل هو فراغ ذمة العبد عن التكليف، من دون فرق بين حال الانفتاح و الانسداد.

و ثالثا: أن نصب الشارع الطريق إلى الواقع يستلزم القطع بحكم العقل بفراغ ذمة المكلف إذا عمل على طبق الطريق، و لازم ما ذكر: أن الظن بالطريق المنصوب حال الانسداد كالعلم به حال الانفتاح، فكما يحصل العلم بالفراغ بالعمل بالعلم حال الانفتاح فكذلك يحصل الظن بالفراغ بالعمل بالظن حال الانسداد، فالنتيجة هي: حصر فراغ الذمة في الظن بالطريق بعد فرض نصبه طريقا إلى الواقع.

6 - أما الجواب عن الوجه الثاني: فبوجوه ثلاثة:

الأول: أن الحاكم بتفريغ الذمة في باب الإطاعة هو العقل لا الشرع، و لا فرق في حكم العقل بين الإتيان بالواقع حقيقة عند الانفتاح أو تعبدا حال الانسداد، فإن العقل كما يستقل بأن الإتيان بالمكلف به الواقعي بما هو مفرغ للذمة حال الانفتاح، فكذلك يستقل بأن الإتيان بالمكلف به الظاهري الجعلي مفرغ للذمة.

الثاني: أنه لو سلمنا أن للشارع في باب الإطاعة حكما مولويا؛ و لكن حكمه بتفريغ الذمة عند الإتيان بمؤدى الطريق المنصوب لو كان مما يستلزم الحكم بتفريغ لكان الإتيان

ص: 440

بالواقع مما يستلزم حكم العقل بتفريغ الذمة بطريق أولى؛ لكون الواقع أصلا و مؤدى الطريق بدلا عنه و منزلا منزلته.

الثالث: أنه لو سلمنا أن الواقع و إن كان مما لا يستلزم الظن بتفريغ الذمة في حكم الشارع؛ إلا إن مقتضى ذلك: أن يكون كلا من الظن بأنه مؤدى طريق معتبر إجمالا و الظن بالطريق حجة؛ لا خصوص الظن بالطريق.

7 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - عدم تمامية مقدمات الانسداد.

2 - على فرض تماميتها: تكون نتيجتها حجية كل من الظن بالواقع و الظن بالطريق معا.

ص: 441

ص: 442

فهرس الجزء الرابع

مقدمة المؤلف 5

المقصد السادس 7

في بيان الأمارات المعتبرة شرعا أو عقلا 9

توضيح كون بحث القطع أشبه بمسائل علم الكلام 11

عدول صاحب الكفاية عما في رسائل الشيخ الأنصاري 12

في حجّية القطع و طريقيّته إلى الواقع 15

الأمر الأول: وجوب العمل على وفق القطع 16

عدم إطلاق الحجة بالمعنى الأصولي على القطع 16

في امتناع جعل حجّية القطع 18

مراتب الحكم و ترتّب استحقاق العقوبة على مخالفة الحكم الفعلي 20

خلاصة البحث مع رأي المصنف 22

الأمر الثاني: أن القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة 24

في التجري و الانقياد و الفرق بينهما 24

دلالة الآيات و الروايات على استحقاق المتجرّي للعقاب 38

كلام صاحب الفصول في تداخل العقابين و الرد عليه 42

خلاصة البحث مع رأي المصنف 43

الأمر الثالث: أقسام القطع 46

القطع الموضوعي و أقسامه الأربعة و الفرق بين هذه الأقسام 47

عدم قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي مطلقا 49

في جداول أقسام القطع 55

قيام الأمارات المعتبرة مقام القطع الطريقي المحض لا إشكال فيه 61

ص: 443

عدم قيام غير الاستصحاب من الأصول مقام القطع الطريقي 69

خلاصة البحث مع رأي المصنف 79

الأمر الرابع: أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضدّه 83

خلاصة البحث مع رأي المصنف 89

الأمر الخامس: في وجوب الموافقة الالتزامية 91

جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي 96

خلاصة البحث مع رأي المصنف 100

الأمر السادس: في قطع القطاع 102

في القطع الحاصل من المقدمات العقلية 105

خلاصة البحث مع رأي المصنف 109

الأمر السابع في العلم الإجمالي 110

اقتضاء العلم الإجمالي للحجية 116

في الامتثال الإجمالي 120

إجزاء الاحتياط المستلزم للتكرار 126

في الامتثال الظنّي التفصيلي 127

في عدم اقتضاء الأمارة غير العلمية للحجية ذاتا 130

في إمكان التعبد بالأمارة الغير العلمية 132

في محاذير التعبد بالأمارة الغير العلمية 137

جواب المصنف على تلك المحاذير 140

دفع محذور اجتماع الحكمين 145

مقتضى الأصل فيما شك في اعتباره 157

خلاصة البحث مع رأي المصنف 163

في حجية الظواهر 171

التفصيل بين من قصد إفهامه و غيره 173

جواب المصنف عن أدلة الأخبار بين عدم حجيّة ظواهر الكتاب 180

في العلم الإجمالي بوقوع التحريف 187

ص: 444

في اختلاف القراءات 192

خلاصة البحث مع رأي المصنف 197

في حجيّة قول اللغوي 203

الاستدلال على حجيّة قول اللغوي بوجوه 206

الفرق بين الحكمة و العلة 210

خلاصة البحث مع رأي المصنف 212

في الإجماع المنقول بخبر الواحد 215

في ملاك حجية الإجماع 216

في اختلاف الألفاظ الحاكية للإجماع 220

في حجية الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم 223

في تنبيهات مبحث الإجماع المنقول 234

في نقل التواتر بخبر الواحد 239

خلاصة البحث مع رأي المصنف 242

في الشهرة الفتوائية 247

جواب المصنف عما استدل به على حجية الشهرة 253

في حجيّة خبر الواحد 255

إشكال المصنف على من جعل موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة 257

الاستدلال بالآيات و الروايات على عدم حجية خبر الواحد 261

جواب المصنف عن الاستدلال بالروايات 264

جواب المصنف عن دعوى الإجماع على عدم حجيّة خبر الواحد 268

في الآيات التي استدل بها على حجية خبر الواحد 273

تقريب الاستدلال بآية النبأ على حجية خبر الواحد من طريق مفهوم الشرط 275

الإشكال على عدم شمول الآية للروايات مع الواسطة 280

دفع الإشكال 286

خلاصة البحث مع رأي المصنف 290

تقريب الاستدلال بآية النفر على حجية خبر الواحد 292

ص: 445

الإشكال على الاستدلال بآية النفر 302

تقريب الاستدلال بآية الكتمان على حجية خبر الواحد 303

خلاصة البحث مع رأي المصنف 305

الاستدلال بآية السؤال على حجية خبر الواحد 306

خلاصة البحث مع رأي المصنف 309

تقريب الاستدلال بآية الإذن على حجّية خبر الواحد 311

خلاصة البحث مع رأي المصنف 316

في الأخبار الدالّة على حجّية خبر الواحد 319

خلاصة البحث مع رأي المصنف 322

في الإجماع على حجية خبر الواحد 325

في الإجماع العملي على حجيّة خبر الواحد 328

جواب المصنف على الآيات الناهية 331

في الوجوه العقلية على حجّية خبر الواحد 339

الوجه الأول: العلم الإجمالي بصدور جملة من الأخبار 339

الوجه الثاني: ما ذكره في الوافية 345

الوجه الثالث: ما أفاده بعض المحققين 349

خلاصة البحث مع رأي المصنف 354

في الوجوه العقلية على حجّية مطلق الظن 357

الوجه الثاني 368

الوجه الثالث 370

خلاصة البحث مع رأي المصنف 371

في دليل الانسداد و الجواب عنه 373

الكلام في المقدمة الثالثة 378

الكلام في المقدمة الرابعة 382

لا مانع من الرجوع إلى الأصول المثبتة 387

خلاصة البحث مع رأي المصنف 401

ص: 446

حول الظن بالطريق و الظن بالواقع 407

الأقوال في المسألة ثلاثة 407

مختار المصنف هو حجّية الظن بالواقع و الطريق معا 407

منشأ توهم الاختصاص بالظن بالطريق وجهان 416

ردّ المصنف له بكلام طويل 433

خلاصة البحث مع رأي المصنف 438

الفهرس 443

ص: 447

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.