دروس في الکفایة المجلد 3

هویة الکتاب

دروس في الکفایة

شارح: محمدي بامیاني، غلامعلي

كاتب: آخوند خراساني، محمدکاظم بن حسین

تعداد جلد: 7

لسان: العربية

الناشر: دار المصطفی (ص) لاحياء التراث - بیروت لبنان

سنة النشر: 1430 هجری قمری|2009 میلادی

رمز الكونغرس: 1430 /آ3 ک7028 159/8 BP

موضوع: اصول

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة المقصد الثانى

تتمة فصل فى اجتماع الامر و النهى

اشارة

و ينبغي التنبيه على أمور

الأول:

أنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام و إن كان يوجب ارتفاع حرمته (1)، و العقوبة

=============

تنبيهات مسألة اجتماع الأمر و النهي

اشارة

(1) مجمل الكلام في المقام: إنّه لا إشكال في ارتفاع الحرمة بالاضطرار؛ لكونه مسقطا لها عقلا عن قابليّة الزجر و الردع، مضافا إلى ما دلّ نقلا على ذلك كحديث الرفع و غيره، بل يمكن الاستدلال بالأدلة الأربعة على رفع الحكم بالاضطرار.

أما العقل: فلقبح التكليف حال الاضطرار، لأنّ قوام التكليف إحداث الداعي لتحقق الزجر عن الفعل في مورد النهي، و هذا مما لا يتحقق مع الاضطرار.

أمّا الإجماع: فواضح.

أمّا الكتاب: فلقوله تعالى: إِلاّٰ مَا اُضْطُرِرْتُمْ . الأنعام: 119.

أمّا السنة: فلحديث الرفع.

فإذا ارتفع التكليف تبعه العقاب فلا عقاب في البين، كما أشار إليه: «و العقوبة عليه» يعني: الاضطرار إلى ارتكاب الحرام يوجب ارتفاع العقوبة على الحرام، كما يوجب ارتفاع نفس الحرمة.

هذا مما لا إشكال فيه، و إنّما الإشكال في صحّة العبادة مع كون الفعل مبغوضا في نفسه و محرّما لو لا الاضطرار إليه.

و كيف كان؛ فتوضيح ما أفاده المصنف من اضطرار المكلف إلى ارتكاب الحرام يتوقف على مقدمة و هي: بيان ما يتصوّر في الاضطرار من صور و هي أربعة:

الأولى: أن لا يكون المضطر إليه بسوء الاختيار، بل يكون الاضطرار إليه قهريا مع عدم ملاك الوجوب فيه، كالارتماس المجرّد عن قصد الغسل، و الحكم فيها صحّة الصوم، لارتفاع حرمته المانعة عن صحة الصوم بالاضطرار.

الصورة الثانية: نفس هذه الصورة الأولى، لكن مع مصلحة الوجوب في الحرام

ص: 5

عليه مع بقاء ملاك وجوبه - لو كان - مؤثرا له؛ كما إذا لم يكن بحرام بلا كلام (1)، إلاّ إنه (2) إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار، بأن (3) يختار ما يؤدّي إليه لا محالة، فإنّ (4) الخطاب بالزجر عنه حينئذ و إن كان ساقطا، إلاّ إنّه حيث يصدر عنه المضطر إليه؛ كالارتماس المقرون بنيّة الغسل، و الحكم فيها صحّة الصوم و الغسل؛ لارتفاع حرمته المانعة عن صحته، و تأثير مصلحة الوجوب في الغسل، فيصحان معا.

=============

الصورة الثالثة: أن يكون الحرام المضطر إليه خاليا من مصلحة الوجوب مع كون الاضطرار بسوء الاختيار؛ كما إذا ألقى نفسه من شاهق ليقع في الماء مع كونه صائما، فإنّ الاضطرار لمّا كان بسوء الاختيار لا يرفع أثر الحرمة و هي المبغوضيّة، و الحكم فيها بطلان الصوم بالارتماس.

الصورة الرابعة: أن يكون الحرام المضطر إليه واجدا لمصلحة الوجوب، مع كون الاضطرار بسوء الاختيار، و الحكم فيها البطلان أيضا؛ إذ لا يصلح ملاك الوجوب للتأثير في الوجوب بعد كون الفعل مبغوضا و ارتكابه عصيانا للنهي. هذه الصور كلها مما لا إشكال في حكمها.

«و إنّما الإشكال فيما إذا كان ما اضطر إليه بسوء اختياره ممّا ينحصر به التخلّص عن محذور الحرام»، كما يأتي في كلام المصنف فانتظر.

(1) أي: الاضطرار إلى ارتكاب الحرام و إن كان يوجب ارتفاع حرمته و العقوبة...

«بلا كلام»، فيكون «بلا كلام» متعلقا بقوله: «يوجب».

(2) أي: تأثير ملاك الوجوب في وجوب الحرام المضطر إليه منوط بعدم كون الاضطرار بسوء الاختيار، فلا يؤثر ملاك الوجوب مع كون الاضطرار بسوء الاختيار.

(3) بيان للاضطرار بسوء الاختيار يعني: بأن يختار ما يؤدّي إلى ارتكاب الحرام.

(4) هذا الكلام من المصنف تمهيد لبيان وجه عدم ثبوت الوجوب فيما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار. و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 145» -:

أنّ خطاب حرمة المضطر إليه و إن كان ساقطا لأجل الاضطرار؛ لكنّه مع ذلك لا يصلح المضطر إليه لتعلق الوجوب به؛ لأنّ الاضطرار إليه لمّا كان بسوء الاختيار صار المضطر إليه مبغوضا، و ارتكابه عصيانا للنهي، فلا يصلح ملاك وجوبه لتأثير الوجوب فيه.

هذا ممّا لا إشكال فيه، و إنّما الكلام فيما إذا كان الاضطرار إليه بسوء الاختيار، و انحصر التخلّص عن الحرام فيه كالخروج عن المكان المغصوب - إذا لم يمكن التخلّص عن التصرف المحرم في مكان الغير إلاّ بالخروج عنه - فهل يكون هذا الخروج مأمورا به، لكونه مقدمة للتخلّص الواجب، أم يكون منهيا عنه، لكونه تصرّفا في مال الغير بدون إذنه، أم

ص: 6

مبغوضا عليه، و عصيانا لذلك الخطاب، و مستحقا عليه العقاب لا يصلح لأن يتعلق به الإيجاب، و هذا في الجملة (1) ممّا لا شبهة فيه و لا ارتياب.

و إنّما الإشكال (2) فيما إذا كان ما اضطر إليه بسوء اختياره، ممّا ينحصر به التخلّص عن محذور الحرام، كالخروج عن الدار المغصوبة فيما إذا توسّطها بالاختيار في كونه منهيا عنه، أو مأمورا به، مع جريان حكم المعصية عليه أو بدونه، فيه أقوال، هذا على الامتناع.

يكون مأمورا به فعلا مع جريان حكم المعصية من استحقاق العقوبة عليه أم بدون جريان حكمها عليه ؟ فيه أقوال ستأتي الإشارة في قول المصنف إليها.

=============

و كيف كان؛ فالمكلف كان قادرا على حفظ نفسه من الدخول إلى الدار المغصوبة؛ بأن لا يدخل حتى يحتاج إلى الخروج، فلو لم يحفظ نفسه حتى دخل فاضطر إلى التخلّص من الحرام بالخروج كان معاقبا على الدخول و الخروج، أمّا على الدخول:

فواضح؛ لأنّه كان باختياره، و أمّا على الخروج: فلأنّه و إن كان مضطرا إليه إلاّ إنّه كان بسوء اختياره.

(1) قوله: «في الجملة» مقابل للصورة الآتية المشار إليها بقوله: «و إنما الإشكال...» إلخ.

الامر الاول
الأقوال في التنبيه الأول على القول بالامتناع

(2) المقصود الأصلي من عقد هذا التنبيه الأول: بيان حكم الخروج شرعا من الأرض المغصوبة إذا توسطها المكلف بسوء اختياره، و توقف التخلّص من الحرام على الخروج، فيكون مقدمة للواجب و هو التخلّص من الحرام فنقول: إنّ بيان حكم الخروج شرعا - على رأي المصنف - يتوقف على ذكر ما في المسألة من الأقوال، و هي على القول بالامتناع أربعة:

أحدها: أنه مأمور به فقط، و لا يجري عليه حكم المعصية، و هو خيرة الشيخ الأنصاري، و في التقريرات: «و قد نسبه بعضهم إلى قوم، و لعلّه الظاهر من العضدي كالحاجبي، حيث اقتصروا على كونه مأمورا به فقط».

ثانيها: ما في التقريرات أيضا من: «أن بعض الأجلة ذهب إلى أنّه مأمور به، و لكنه معصية بالنظر إلى النهي السابق، و عليه حمل الكلام المنقول من الفخر الرازي».

ثالثها: أنّه مأمور به و ليس بمنهي عنه مع جريان حكم المعصية عليه، و هو المحكي عن الفخر الرازي، و مال إليه بعض المتأخرين كصاحب الفصول.

رابعها: أنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار، و ليس بمأمور به. و هذا الأخير هو مختار المصنف «قدس سره»، و كيف كان؛ فهذا الخلاف الواقع بينهم في

ص: 7

و أمّا على القول بالجواز (1): فعن أبي هاشم (2): أنّه مأمور به و منهي عنه، و اختاره تعيين الحكم الفعلي مبني على القول بالامتناع كما أشار إليه بقوله: «هذا على الامتناع».

=============

(1) أي: على القول بالجواز و إمكان اجتماع الأمر و النهي فلا بدّ من الالتزام بفعلية كلا الحكمين - أعني: الوجوب و الحرمة - لعدم تزاحمهما مع تعدد الموضوع و كون جهتي الأمر و النهي تقييديتين، لا تعليليتين.

(2) قال في التقريرات: «و هو المحكي عن أبي هاشم على ما نسب إليه العلامة، حيث أفاد في محكي النهاية: أطبق العقلاء كافة على تخطئة أبي هاشم في قوله: بأن الخروج تصرف في المغصوب، فيكون معصية، فلا تصح الصلاة و هو خارج سواء تضيق الوقت أم لا»(1).

قال في التقريرات أيضا: «و اختاره المحقق القمي «قدس سره» ناسبا له إلى أكثر أفاضل متأخري أصحابنا، و ظاهر الفقهاء، و الوجه في النسبة المذكورة هو قولهم بوجوب الحج على المستطيع و إن فاتت الاستطاعة الشرعية»(2)؛ لكن قول الفقهاء بوجوب الحج على المستطيع و إن فاتت الاستطاعة الشرعية لا يدلّ على الاجتماع؛ بل وجوب الحج على من فاتت استطاعته تكليف بما لا يطاق، لكنه لمّا كان تأخير الحج عن سنة الاستطاعة باختياره لم يكن به بأس. و ما نحن فيه أيضا كذلك؛ لأنّ الاضطرار إلى الغصب لمّا كان باختياره، فلا مانع من اجتماع الوجوب و الحرمة فيه و إن كان ذلك تكليفا بما لا يطاق.

وجه عدم الدلالة: إنّ الاستطاعة الشرعية ليست شرطا حدوثا و بقاء حتى يلزم من انتفائها مع بقاء الوجوب تكليف ما لا يطاق؛ بل يكفي مع التأخير عمدا القدرة العقلية.

فاستظهار اجتماع الوجوب و الحرمة في مسألتنا من العبارة المزبورة في غير محلّه؛ لأنّ المشهور بين الأصحاب: هو القول بالامتناع، و مجرد التزام كثير منهم بصحة صلاة الغاصب حين الخروج لا يدل على كونها مأمورا بها و منهيا عنها؛ بل لا يدل على كونها مأمورا بها أيضا؛ لاحتمال كفاية الملاك في صحة الصلاة، و عدم الحاجة إلى الأمر، فيمكن أن لا يكون المضطر إليه بسوء الاختيار مع الانحصار مأمورا به، و لا منهيا عنه فعلا كما اختاره المصنف «قدس سره».

و المتحصل: أنّ الحق هو: امتناع اجتماع الأمر و النهي، و قد اختار المصنف القول الرابع الّذي أشار إليه بقوله: «و الحق: أنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث

ص: 8


1- مطارح الأنظار، ج 1، ص 707، عن نهاية الوصول، ص 117.
2- مطارح الأنظار، ج 1، ص 707.

الفاضل القمي(1) ناسبا له إلى أكثر المتأخرين و ظاهر الفقهاء. و الحق: أنه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه و عصيان له بسوء الاختيار، و لا يكاد يكون مأمورا به كما إذا لم يكن هناك توقف عليه، أو بلا انحصار به، و ذلك (1) ضرورة: إنّه حيث كان قادرا على ترك الحرام رأسا لا يكون عقلا معذورا في مخالفته الاضطرار إليه و عصيان له بسوء الاختيار، و لا يكاد يكون مأمورا به؛ كما إذا لم يكن هناك توقف عليه».

=============

و حاصل ما أفاده المصنف: من أنّ الحق عنده: «أنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه».

وجه السقوط: عدم جواز التكليف بالمحال؛ بأن يقال: لا تخرج و لا تبق، فهذا الخروج كما لا يكون منهيا عنه فعلا كذلك لا يكون مأمورا به، فلا يكون واجبا، و إن كان مقدمة للواجب - و هو التخلّص من الحرام - و كان الطريق منحصرا به؛ بل مثل هذا الخروج مثل الخروج الّذي لم يكن مقدمة أو كان مقدمة، و لكن لم يكن مقدمة منحصرة، فكما إنّ الخروج في هذين الموردين ليس بواجب كذلك في المورد الأول.

(1) إشارة إلى ما هو الوجه لمختاره و حاصله: أنّه لمّا كان مدعاه مركبا من جزءين:

أحدهما: كون الخروج منهيا عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار.

ثانيهما: عدم كونه مأمورا به. و قد تصدّى لإثبات كليهما:

أما الأوّل: فبأنّ مخالفة الحرام مع القدرة على تركه توجب عقلا استحقاق العقوبة، و مع هذه القدرة لا يرى العقل الاضطرار الناشئ عن سوء الاختيار عذرا في ارتكاب المضطر إليه. نعم يوجب الاضطرار سقوط الخطاب، لعدم صلاحيته مع الاضطرار للزجر و الردع، فالخطاب ساقط و العقاب ثابت.

و أمّا الثاني: - و هو الذي أشار إليه بقوله: «و لا يكاد يجدى» - فبأنّ توهم كون المضطر إليه مأمورا به إنّما هو لأجل توقف الواجب - و هو التخلّص عن الحرام عليه - مندفع بأنّ هذا الوجه لا يصلح لإثبات وجوب الخروج، و ذلك لأن الاضطرار الناشئ عن سوء الاختيار لا يرفع مبغوضية الخروج، و لا يوجب محبوبيّته، هذا ما أشار إليه بقوله: «لكونه بسوء الاختيار»، فيكون الاضطرار الناشئ عن سوء الاختيار هو علّة عدم كون الخروج مأمورا به على ما هو ظاهر كلام المصنف، و لكن كان الأولى على المصنف أن يعلّل عدم كون الخروج مأمورا به بأنّ الأمر يستدعي المصلحة في متعلقه، فإن كانت

ص: 9


1- قوانين الأصول، ج 1، ص 153، س 21.

فيما اضطر إلى ارتكابه بسوء اختياره، و يكون معاقبا عليه، كما إذا كان ذلك بلا توقف عليه، أو مع عدم الانحصار به، و لا يكاد يجدي توقف انحصار التخلّص عن الحرام به لكونه بسوء الاختيار.

إن قلت (1): كيف لا يجديه، و مقدمة الواجب واجبة ؟

قلت (2): إنّما يجب المقدمة لو لم تكن محرمة، و لذا لا يترشح الوجوب من الواجب إلا على ما هو المباح من المقدمات دون المحرمة، مع اشتراكهما في المقدميّة.

نفسية فالوجوب نفسي، و إن كانت مقدمية فالوجوب غيري، و كلتاهما مفقودتان في الخروج.

=============

أمّا الأوّل: فلتوقف مصلحته النفسية على انطباق عنوان حسن شرعا عليه، و العنوان المتصوّر انطباقه على الخروج ليس إلاّ التخلّص عن الغصب الموجب لكونه ذا مصلحة نفسية، و واجبا نفسيا، و ذلك لا يصلح لجعل الخروج معنونا بهذا العنوان، حيث إن التخلّص عن الغصب عبارة عن تركه المتحقق بانتهاء الحركة الخروجية إلى الكون في خارج المغصوب، فليس الخروج مصداقا للتخلّص حتى يكون محبوبا، و واجبا؛ بل هو مصداق للغصب المبغوض المحرم، فلا مصلحة فيه حتى يكون واجبا نفسيا.

و أمّا الثاني: فلعدم كون الحركات الخروجية مقدمة للتخلّص و التخلية الواجبة حتى تتصف بالوجوب المقدمي، بل الحركات الخروجيّة مقدمة للكون في خارج المكان المغصوب و هو ليس بواجب؛ بل ملازم للواجب أعني: التخلية، فالخروج ليس بواجب لا نفسيا و لا مقدميا، بل هو باق على المبغوضية، فيعاقب عليه لكون الاضطرار بسوء الاختيار و إن ارتفعت حرمته؛ لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا. كما في هامش «منتهى الدراية، ج 3، ص 152» مع تصرّف منّا بالتوضيح و الاختصار.

(1) حاصل الإشكال على عدم وجوب الخروج مع انحصار التخلّص عن الحرام الواجب به: أنّ الخروج مقدمة للواجب و مقدمة الواجب واجبة فالخروج واجب، فكيف يقال: إنّه لا يجدي انحصار التخلّص عن الحرام بالخروج في اتصافه بالوجوب الغيري مع إن مقدمة الواجب واجبة ؟ فيكون الخروج واجبا، هذا مضافا إلى أن وجوب المقدمة عقلي غير قابل للتخصيص، فكيف يحكم بعدم وجوب الخروج مع إنه مقدمة للتخلّص الواجب ؟

(2) توضيح ما أفاده المصنف في الجواب: يتوقف على مقدمة: و هي بيان أقسام مقدمة الواجب و أحكامها، و أما أقسامها فهي ثلاثة: فإنّها تارة: تكون منحصرة في المباح، و أخرى: تكون منحصرة في الحرام. و ثالثة: تكون غير منحصرة في أحدهما؛ بأن

ص: 10

و إطلاق (1) الوجوب بحيث ربّما يترشّح منه الوجوب عليها مع انحصار المقدمة بها تكون ذات فردين مباح و حرام. أما أحكامها: فلا ريب في وجوب القسم الأول منها على القول بوجوب المقدمة.

=============

و أمّا إذا كانت من القسم الثاني: فيقع التزاحم بين مقتضى الحرمة و مقتضى وجوب ذيها، فيؤخذ بما هو الأقوى عند ترجيح أحدهما على الآخر، و يتخيّر مع تساويهما.

هذا إذا لم يكن انحصار المقدمة في الحرام بسوء الاختيار. و أمّا معه فلا تتغيّر المقدمة عما هي عليه من الحرمة و المبغوضية، و لا يكاد يترشّح إليها الوجوب من ذيها. كما عرفت غير مرّة.

و أمّا إن كانت من القسم الثالث: فيثبت الوجوب للفرد المباح لا للفرد المحرم.

إذا عرفت هذه المقدمة؛ فالمقام من القسم الثاني؛ لا من القسم الثالث حتى تكون المقدمة واجبة.

فخلاصة الكلام في المقام: أن وجوب المقدمة مختصّ بالمقدمات المباحة، فلا يترشّح الوجوب من وجوب ذي المقدمة على مقدماته المحرمة، و إن كانت مشتركة مع المقدمات المباحة في أصل التوقف و المقدميّة، كركوب الدابة المغصوبة، فإنّه كركوب الدابة المباحة في المقدميّة، «و لذا لا يترشح الوجوب».. إلخ، أي: و لاختصاص وجوب المقدمة بغير المحرّمة لا يترشّح الوجوب من الواجب إلاّ على المقدمات المباحة، فلا يتّصف ما عدا المحرمة منها بالوجوب.

(1) جواب عن توهّم وجوب المقدمة المحرّمة: بتقريب: أن وجوب المقدمة لا يختصّ بالمقدمة المباحة في صورة انحصار المقدمة بالمحرمة، نعم إنّما يختصّ بالمقدمة المباحة في غير صورة انحصارها بالمحرمة؛ بأن يكون لها فردان محرم و مباح. و أمّا إذا كانت المقدمة منحصرة بالحرمة، فيترشّح الوجوب عليها. و على هذا: فلو انحصر التخلّص عن الحرام بالخروج الذي هو أيضا حرام - لكونه غصبا - اتصف بالوجوب لكونه مقدمة للتخلّص الواجب.

و بعبارة أخرى: أنّ الواجبات مختلفة، فبعضها يسقط عن الوجوب إذا كانت مقدمته منحصرة في المحرم، و بعضها يقتضي وجوب مقدمته المحرمة لأهميته في نظر الشارع كما لو توقف حفظ النفس على توسط الأرض المغصوبة، و ما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ التخلّص عن الغصب أهم من الغصب في الخروج، فيكون الخروج واجبا. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب التوهم المزبور.

و حاصل الجواب: أن إطلاق الوجوب في ذي المقدمة بحيث ربّما يترشّح منه

ص: 11

إنّما هو فيما إذا كان الواجب أهم من ترك المقدمة المحرّمة، و المفروض هاهنا و إن كان الوجوب على المقدمة و إن كانت محرمة إنّما هو مشروط بشروط ثلاثة:

=============

1 - انحصار المقدمة في المقدمة المحرمة. 2 - كون الواجب أهم. 3 - عدم كون الانحصار بسوء الاختيار.

و الخروج في محلّ البحث و إن كان واجدا للشرط الأوّل و الثاني، إلاّ إنّه فاقد للشرط الثالث. فإن انتفى الشرط ينتفي المشروط - و هو وجوب الخروج - من باب المقدمة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية». قوله: «إنّما هو فيما إذا كان الواجب» خبر لقوله: «و إطلاق الوجوب»، و دفع للتوهم المزبور الذي تقدم تقريبه مع الجواب عنه.

قوله: «و إلاّ لكانت الحرمة معلقة على إرادة المكلف» يعني: لو تغيّرت حرمة المقدمة و انقلبت المقدمة عن الحرمة إلى الوجوب حتى يقال بوجوب المقدمة في صورة الانحصار و لو بسوء الاختيار لكانت الحرمة معلّقة على إرادة المكلف، و الغرض من هذا الكلام:

إقامة البرهان على عدم ارتفاع الحرمة عن المقدمة المنحصرة.

توضيح ذلك: أنّه يلزم من ارتفاع حرمة المقدمة محذوران لا يمكن الالتزام بهما:

المحذور الأول: تعليق حرمة المقدمة و وجوبها على إرادة المكلف و اختياره، ضرورة:

أن الخروج لا يتصف بالحرمة إلاّ مع إرادة عدم التصرف في المكان المغصوب دخولا و خروجا.

و أما مع إرادة الدخول فيه و اختياره: فلا يكون الخروج حراما؛ بل يتصف بالوجوب.

و كيف كان؛ فالخروج مع اختيار الدخول في المغصوب يكون واجبا، و مع اختيار عدمه يكون التصرّف فيه دخولا و خروجا حراما.

هذا ما أشار إليه بقوله: «و هو كما ترى» يعني: ما ذكر من تعليق الحرمة على إرادة عدم الدخول في المغصوب ممّا لا ينبغي التفوّه به، لأنّ إرادة المكلف ليست من شرائط التكليف كما هو واضح.

و أمّا المحذور الثاني: فلأنّ تعليق الحكم بالحرمة أو الوجوب على الإرادة خلاف الفرض - كما أشار إليه بقوله: «مع إنه خلاف الفرض» - لأنّ المفروض: عدم حرمة الخروج لأجل المقدمية للتخلّص؛ لا لإرادة الدخول، فالخروج مع الغضّ عن مقدميته للتخلّص يكون حراما، لأنّه من أفراد الغصب المحرم، فإذا كان عدم حرمته لأجل إرادة عدم الدخول لم يتحقق الاضطرار إلى الحرام؛ إذ لا حرام حتى يتحقق الاضطرار إليه.

و هذا خلاف ما فرضناه من الاضطرار إلى الحرام بسوء الاختيار.

ص: 12

ذلك إلاّ إنه كان بسوء الاختيار، و معه لا يتغيّر عمّا هو عليه من الحرمة و المبغوضية، و إلا لكانت الحرمة معلّقة على إرادة المكلف و اختياره لغيره، و عدم حرمته مع اختياره له، و هو كما ترى، مع إنه خلاف الفرض، و إنّ الاضطرار يكون بسوء الاختيار.

إن قلت (1): إنّ التصرّف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول و البقاء حرام بلا إشكال و لا كلام، و أمّا التصرّف بالخروج الذي يترتّب عليه رفع الظلم و يتوقف عليه و المتحصّل: أن تعليق الحرمة على إرادة عدم الدخول في المغصوب، و تعليق عدم الحرمة على إرادة الدخول و اختياره باطل قطعا؛ لأن إرادة المكلف ليست من شرائط التكليف؛ إذ الشرط يقتضي تقدمه على الحكم، و لازمه: إناطة الحكم بالإرادة، فلو لم يرد الغصب أو شرب الخمر أو غيرهما من المحرمات لم يكن حراما، و هذا واضح الفساد؛ لأنّ الحكم علّة لحدوث الداعي في العبد. فالإرادة في رتبة معلول الحكم، فكيف تكون علّة له ؟

=============

هذا مضافا إلى: أنّ تعليق الحرمة و عدمها على الإرادة خلاف الفرض؛ لأنّ المفروض:

تحقق الاضطرار إلى الحرام بسوء الاختيار، فلو علق عدم الحرمة على إرادة الدخول و اختياره لا يتحقق الاضطرار إلى الحرام أصلا، فضلا عن كونه بسوء الاختيار. هذا خلاف ما هو المفروض من كون الاضطرار إلى الحرام بسوء الاختيار.

الدليل على وجوب الخروج بلا جريان حكم المعصية عليه

الدليل على وجوب الخروج بلا جريان حكم المعصية عليه(1)

المقصود من هذا الإشكال: هو الإشارة إلى كلام الشيخ الأنصاري «قدس سره»، القائل بكون المحرم المضطر إليه بسوء الاختيار مع الانحصار مأمورا به فقط، على ما يظهر من التقريرات(1) المنسوبة إليه. و هو أحد الأقوال في المسألة. و هو كون الخروج عن الغصب واجبا، مع عدم جريان حكم المعصية عليه و إن كان الدخول بسوء الاختيار كما هو مفروض البحث.

و حاصل الدليل على وجوب الخروج بلا جريان حكم المعصية عليه يتوقف على مقدمة و هي: أنّ التصرّف في مال الغير بدون إذنه لا يخلو عن ثلاثة أنحاء أعني: 1 - الدخولي. 1 - البقائي. 3 - الخروجي.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنّ المحرم من هذه الأقسام هو الأوّل و الثاني. و أمّا الثالث - و هو التّصرف الخروجي - و إن كان من مصاديق الغصب لكنه ليس بحرام لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ الغصب ليس كالظلم علّة تامّة للقبح؛ بل مقتضي له، فلا يقبح إذا

ص: 13


1- راجع: مطارح الأنظار، ج 1، ص 709.

التخلّص عن التصرّف الحرام فهو ليس بحرام في حال من الحالات؛ بل حاله حال مثل شرب الخمر المتوقف عليه النجاة من الهلاك في الاتصاف بالوجوب في جميع الأوقات.

و منه (1): ظهر المنع عن كون جميع أنحاء التصرّف في أرض الغير مثلا حراما قبل الدخول، و أنّه يتمكّن من ترك الجميع حتى الخروج؛ و ذلك (2) لأنّه لو لم يدخل لما كان متمكّنا من الخروج و تركه، و ترك (3) الخروج بترك الدخول رأسا ليس في الحقيقة ترتب عليه عنوان حسن كترتّب التخلّص عن الغصب على الخروج، فالخروج التخلّصي لم يكن بحرام في زمان؛ بل واجب، فلا مجال لأن يقال إنّه كان حراما قبل الدخول و قد عصى به، فيجري عليه حكم المعصية.

=============

الوجه الثاني: أنّ التصرّف الخروجي لكونه مقدمة للواجب - و هو التخلّص عن الحرام - لا يتصف بالحرمة في حال من الحالات، نظير شرب الخمر، فإنّه حلال مع توقف النجاة من الهلاك عليه، و لا يتصف بالحرمة أصلا، فعليه لا وجه لحرمة جميع التصرّفات من الدخولية و البقائية و الخروجية؛ بدعوى: أنّ المكلف قبل الدخول كان متمكّنا من جميع هذه التصرّفات، فهي بأسرها محرمة و ذلك لما عرفت من عدم حرمة الخروج أصلا، فيكون مأمورا به فقط من دون أن يجري حكم المعصية عليه.

(1) أي: و من منع حرمة التصرّف الخروجي: ظهر المنع عن حرمة جميع التصرّفات بتوهّم: أنّ الغاصب قادر على ترك الخروج و لو بواسطة ترك الدخول، فلا بدّ من أن يكون الخروج حراما أيضا.

أما وجه ظهور المنع: فلأنّه قد عرفت آنفا: أنّ المحرم من التصرّفات في المغصوب هو التصرّف الدخولي و البقائي، و أمّا التصرّف الخروجي فهو خارج عن حيّز الحرمة لكونه مثل شرب الخمر المتوقف عليه النجاة من الهلاك.

(2) بيان لظهور المنع و حاصله: - على ما في «منتهى الدارية، ج 3، ص 158» - أنّ القدرة شرط التكليف، و الخروج فعلا و تركا قبل الدخول غير مقدور، فترك الخروج قبل الدخول لا يصدق عليه إلا ترك الدخول، فلا يصدق عرفا ترك الخروج على من لم يدخل إلاّ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

و عليه: فلا يكون ترك الخروج حقيقة مقدورا له، فلا يصير قبل الدخول موضوعا للحكم بالحرمة.

(3) قوله: «و ترك الخروج...» إلخ إشارة إلى توهم كون ترك الخروج قبل الدخول

ص: 14

إلاّ ترك الدخول، فمن لم يشرب الخمر لعدم وقوعه في المهلكة الّتي يعالجها به مثلا لم يصدق عليه إلاّ إنّه لم يقع في المهلكة، لا إنّه ما شرب الخمر فيها إلاّ على نحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، كما لا يخفى.

و بالجملة: لا يكون الخروج - بملاحظة كونه مصداقا للتخلّص (1) عن الحرام أو سببا له - إلاّ مطلوبا، و يستحيل أن يتصف بغير المحبوبية و يحكم عليه بغير المطلوبية.

مقدورا بواسطة القدرة على ترك الدخول، و من المعلوم: أن المقدور بالواسطة مقدور، فلا يصغى إلى ما ذكر من عدم كون ترك الخروج قبل الدخول مقدورا فلا يصير قبل الدخول موضوعا للحكم بالحرمة؛ بل يكون مقدورا فيكون موضوعا للحكم بالحرمة.

=============

و قد أشار إلى جواب هذا التوهم بقوله: «و ترك الخروج بترك الدخول رأسا ليس في الحقيقة إلاّ ترك الدخول».

و حاصل الدفع: أنّ المقدور الذي يصحّ تعلق التكليف به: ما تكون القدرة على وجوده و عدمه على حد سواء، و من المعلوم: أن الخروج قبل الدخول غير مقدور، فكذا ترك الخروج، فترك الخروج بدون الدخول لا يصدق إلا على نحو السالبة بانتفاء الموضوع، و الصدق الحقيقي منوط بالدخول، فإذا دخل المكان المغصوب و لم يخرج منه يصدق عليه أنّه ترك الخروج، نظير مثال شرب الخمر بدون المرض المهلك؛ إذ لا يصدق على من لم يشرب الخمر أنه لم يشرب الخمر لأجل النجاة عن الهلاك إلاّ على نحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، كما أشار إليه بقوله: «لم يصدق عليه إلاّ إنه لم يقع في المهلكة»، و لا يصدق عليه أنه لم يشرب الخمر في التهلكة؛ بل يصدق عليه أنه لم يقع في التهلكة.

و كيف كان؛ فالخروج قبل الدخول غير مقدور، فلا يجب فعله و لا يحرم تركه.

(1) فيكون الخروج حينئذ واجبا نفسيا لأنّه مصداق للتخلّص من الحرام الواجب بالوجوب النفسي، إلاّ إنّه مجرد فرض إذ لم يقل أحد بأن الخروج مصداق للتخلّص؛ بل هو مصداق للغصب، فالخروج سبب و علّة للتخلّص لا نفسه كما أشار إليه بقوله: «أو سببا له» أي: للتخلّص؛ فيكون الخروج حينئذ واجبا غيريا.

و كيف كان؛ فكان الخروج مطلوبا إمّا لكونه مصداقا للتخلّص أو سببا له، و على كلا التقديرين: يستحيل أن يتصف بغير المحبوبية، فيمتنع اتصافه بالحرمة و المبغوضية، هذا ما تقدم من الشيخ الأنصاري من أن الخروج ليس بحرام في حال من الحالات.

ص: 15

قلت: هذا (1) غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلّص مأمورا به، و هو موافق لما أفاده شيخنا العلامة «أعلى اللّه مقامه» على ما في تقريرات بعض الأجلّة، لكنه (2) لا يخفى: أنّ ما به التخلّص عن فعل الحرام أو ترك الواجب إنّما يكون حسنا عقلا و مطلوبا شرعا بالفعل و إن كان قبيحا ذاتا إذا لم

=============

(1) أي: ما ذكرناه. غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون المضطر إليه بسوء الاختيار - مع انحصار التخلّص عن الحرام به - مأمورا به.

الجواب عما في التقريرات للشيخ من كون الخروج المضطر إليه مأمورا به

(2) جواب عن استدلال التقريرات على كون الحرام المضطر إليه بسوء الاختيار مع الانحصار مأمورا به، و الضمير في قوله: «لكنه» للشأن.

ثم هذا الجواب يرجع إلى جوابين: أحدهما: حلّي و الآخر نقضي، و الأول: ما أشار إليه بقوله: «إذا لم يتمكّن المكلّف من التخلّص بدونه، و لم يقع بسوء اختياره»، و الثاني:

ما أشار إليه بقوله: «كما هو الحال في البقاء».

و أمّا الجواب الحلّي فهو: أنّ المقدميّة لا ترفع حرمة ما يكون مقدمة لفعل واجب كالتخلّص عن الغصب، و لا توجب ترشّح الوجوب المقدمي على المقدمة المحرمة.

و توضيح ذلك: يتوقف على مقدمة و هي: أنّ ترشّح الوجوب المقدمي على المقدمة المحرمة، و انقلاب المحرم إلى الواجب مشروط بشرطين

الشرط الأوّل: هو انحصار المقدمة في خصوص المحرمة بأن يكون التخلّص منحصرا بالحرام؛ كانحصار طريق الإنقاذ الواجب في المكان المغصوب، إذ لو لا الانحصار و كان له مقدمة مباحة أيضا لا يترشّح الوجوب الغيري من ذي المقدمة على المقدّمة المحرمة؛ بل يترشّح على خصوص المباحة فلم يصير المحرم واجبا؟

الشرط الثاني: أن لا يكون الاضطرار إلى المقدمة المحرمة بسوء الاختيار. فلو كان بسوء الاختيار - كما لو دخل الدار المغصوبة مع العلم بانحصار طريق الخروج في المحرم - لم يترشّح الوجوب المقدميّ إلى المقدمة المحرمة؛ بل تبقى على حرمتها إلى ما بعد الاضطرار أيضا فلم يصير المحرم واجبا؟

ثم فسّر المصنف سوء الاختيار: بأنّه عبارة عن إيقاع النفس في أمر لا محيص معه عن ارتكاب أحد محرمين:

المحرّم الأول: الاقتحام في ترك الواجب أو فعل الحرام، و الاقتحام في ترك الواجب كما إذا اختار البقاء في المكان المغصوب؛ حيث إن البقاء ترك للتخلّص الواجب.

و الاقتحام في فعل الحرام كالبقاء في المغصوب حيث إنّه حرام لكونه غصبا، فالبقاء يمكن

ص: 16

يتمكّن المكلّف من التخلّص بدونه، و لم يقع بسوء اختياره؛ إمّا في الاقتحام في ترك الواجب أو فعل الحرام، و إمّا في الإقدام على ما هو قبيح و حرام؛ لو لا أنّ به التخلّص أن يكون اقتحاما في ترك الواجب أو اقتحاما في فعل الحرام لكونه مصداقا للغصب، فيكون ترك الواجب أو فعل الحرام على البدل ذا المقدمة، و الاقتحام بكلا قسميه مقدمة للحرام، و من المعلوم: أنّ مقدّمة الحرام حرام.

=============

المحرّم الثاني: هو الإقدام على ما هو قبيح عقلا و حرام شرعا، أعني به: المقدمة المحرّمة كالخروج الذي لو لم يكن مقدمة للتخلّص الواجب كان حراما لكونه غصبا.

فقوله: «و إمّا في الإقدام..» إلخ عدل لقوله: «إمّا في الاقتحام في ترك الواجب أو فعل الحرام».

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: «إنّ ما به التخلّص عن فعل الحرام» كالخروج الموجب للتخلّص عن الغصب، فيكون مقدّمة لفعل واجب و هو التخلّص عن الغصب، أو ما به التخلّص عن ترك الواجب، كشرب الخمر الموجب للتخلّص عن ترك حفظ النفس - و هو واجب - «إنّما يكون حسنا عقلا و مطلوبا شرعا بالفعل» لكونه واجبا بالوجوب المقدّمي؛ لأنّ التخلّص عن فعل الحرام أو التخلّص عن ترك الواجب واجب فيما به التخلّص واجب بالوجوب الغيري لكونه مقدمة للواجب، و إن كان كل من الخروج و شرب الخمر قبيحا ذاتا لحرمتهما شرعا «إذا لم يتمكّن المكلّف من التخلّص بدونه» أي: بدون ما به التخلّص عن فعل الحرام أو ترك الواجب، أي: ما به التخلّص عن فعل الحرام، و ترك الواجب و إن كان قبيحا ذاتا يعني: مع الغض عن مقدميّته لفعل واجب أو ترك حرام.

هذا إشارة إلى الشرط الأوّل و هو انحصار المقدمة في المقدمة المحرّمة. و قد أشار إلى الشرط الثاني بقوله: «و لم يقع بسوء اختياره» أي: لم يكن الوقوع في الحرام و الاضطرار إليه بسوء الاختيار.

و حاصل الكلام في المقام: أن الشرط الأول و إن كان موجودا و متحققا في محل الكلام إلاّ إنّ الشرط الثاني - و هو عدم الاضطرار بسوء الاختيار - غير ثابت، لأنّ المفروض: كون الاضطرار إلى ارتكاب الحرام بسوء الاختيار، فحينئذ المقدميّة لا ترفع حرمة ما يكون مقدمة لفعل واجب، فلا يكون الخروج الذي يكون مقدمة للواجب - أعني التخلّص عن الغصب - مأمورا به كما زعمه الشيخ الأعظم «قدس سره»، بل هو منهي عنه كما هو مختار المصنف «قدس سره». كما أشار إليه بقوله: «هو قبيح و حرام لو لا أن به التخلّص بلا كلام».

ص: 17

بلا كلام كما هو المفروض في المقام (1)، ضرورة: تمكّنه منه قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره.

و بالجملة (2): كان قبل ذلك متمكّنا من التصرّف خروجا كما يتمكّن منه دخولا، غاية الأمر: يتمكّن منه بلا واسطة، و منه بالواسطة. و مجرّد عدم التمكّن منه إلاّ بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدورا (3)، كما هو الحال في البقاء (4)، فكما يكون

=============

(1) «كما هو المفروض» أي: الوقوع في أحد المحرمين بسوء الاختيار «المفروض في المقام»، و إنّما يكون الخروج محرّما إذا كان الدخول بسوء الاختيار، «ضرورة: تمكنه منه» أي: تمكّن المكلّف من التخلّص عن الحرام «قبل اقتحامه فيه» قبل اقتحام المكلف في الحرام، الصادر هذا الاقتحام «بسوء اختياره»، فقوله: «ضرورة» تعليل لكون الوقوع في الحرام بسوء الاختيار.

(2) هذا ردّ لما يتوهم من الفرق بين الدخول في المكان المغصوب و الخروج عنه بتقريب: أن الدخول حرام لكونه مقدورا للمكلف، بخلاف الخروج حيث إنه غير مقدور له، إذ لو لم يدخل لما كان متمكّنا منه، فلا يكون حراما لأنّ التكليف مشروط بالقدرة.

و حاصل الرّد: أنّ التكليف و إن كان مشروطا بالتمكّن و القدرة إلاّ إنّ القدرة المعتبرة فيه أعمّ من أن تكون بلا واسطة أو معها، و من المعلوم: أن الخروج مقدور للمكلّف بواسطة الدخول، و هذا المقدار من القدرة كاف في صحّة توجه النهي إليه، فيصير الخروج منهيا عنه لكونه مقدورا بواسطة الدخول.

و كيف كان؛ فيتمكّن المكلف من الدخول بلا واسطة، و من الخروج بالواسطة.

(3) لأن المقدور بالواسطة مقدور.

(4) هذا إشارة إلى الجواب النقضي و هو نقض الخروج بالبقاء، بمعنى: أن كلاّ من البقاء في الدار المغصوبة و الخروج عنها متوقف على الدخول، و قد اعترف الخصم بحرمة البقاء بقوله: «إنّ قلت: إنّ التصرّف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول و البقاء حرام بلا إشكال».

و توضيح النقض: أن البقاء عبارة عن استمرار الغصب، و هو متفرع على أصل الغصب بالدخول كتفرع الخروج عليه، فلا فرق بين البقاء و الخروج في الفرعية على الدخول، و كونهما مقدورين بالواسطة، فلو لم تكف القدرة بالواسطة في صحة توجه التكليف بالنهي إلى الخروج لم تكف القدرة بالواسطة في صحة توجه التكليف بالنهي إلى البقاء أيضا، فما أجاب به الخصم عن الإشكال الوارد على البقاء نجعله جوابا عن الإشكال الذي أورده على الخروج، و النقض في الحقيقة تكثير في الإشكال.

ص: 18

تركه مطلوبا في جميع الأوقات، فكذلك الخروج، مع إنّه (1) مثله في الفرعية على الدخول، فكما لا تكون الفرعية (2) مانعة عن مطلوبيّته قبله و بعده، كذلك لم تكن مانعة عن مطلوبيّته (3) و إن كان العقل يحكم بلزومه (4) إرشادا إلى اختيار أقلّ المحذورين و أخف القبيحين.

و من هنا (5): ظهر حال شرب الخمر علاجا و تخلّصا عن المهلكة، و أنّه (6) إنّما يكون مطلوبا على كل حال لو لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار، و إلاّ (7) فهو فكل من الخروج و البقاء محكوم بحكم واحد لما هو المعروف من أنّ حكم الأمثال فيما يجوز و لا يجوز واحد.

=============

(1) أي: مع إنّ الخروج مثل البقاء في الفرعية على الدخول.

(2) يعني: كما لا تكون الفرعية للبقاء مانعة عن مطلوبيّة ترك البقاء قبل الدخول و بعده.

(3) يعني: عن مطلوبية الخروج.

(4) أي: يحكم العقل بلزوم الخروج. غرضه: إثبات الفرق بين البقاء و الخروج نظرا إلى حكم العقل حيث يحكم العقل برجحان اختيار الخروج مع كونه حراما كالبقاء.

و حاصل وجه الرجحان: أن الخروج لمّا كان أقل محذورا من البقاء لحصول التخلّص به عن الغصب المحرم دون البقاء؛ بل يزيد به الحرام حكم العقل بلزوم الخروج، و اختياره على البقاء إرشادا إلى اختيار أقل المحذورين، و أخفّ القبيحين، و لكن هذا الفرق غير موجب للفرق بينهما بالنسبة إلى ما هو المقصود في المقام من حرمة كليهما.

الاضطرار إلى شرب الخمر بسوء الاختيار لا يوجب رفع حرمة الشرب

(5) من اعتبار عدم كون الاضطرار بسوء الاختيار في انقلاب الحرمة إلى الوجوب، ظهر حال شرب الخمر تخلّصا عن المهلكة فيقال: إن مطلوبيّة شرب الخمر لأجل التخلّص عن المهلكة منوطة بعدم كون الاضطرار بسوء الاختيار، إذ معه لا يتصف شرب الخمر بالمطلوبيّة.

(6) معطوف على «حال»، يعني: و ظهر أنّ شرب الخمر علاجا إنما يكون مطلوبا شرعا في كل حال، من غير فرق بين ما قبل الاضطرار و ما بعده بشرط أن لا يكون الاضطرار إليه بسوء الاختيار، و إلاّ فشرب الخمر باق على الحرمة، و لا تتبدل حرمته بالوجوب بالاضطرار الناشئ عن سوء الاختيار.

(7) أي: و إن كان الاضطرار إلى شرب الخمر بسوء الاختيار، فهذا الشرب باق على ما هو عليه من الحرمة، و لم يخرج عن عموم دليل حرمة شرب الخمر و لم يصر مطلوبا بسبب توقف نجاة النفس عن الهلاك عليه، لكون الاضطرار إليه بسوء الاختيار، فحرمة

ص: 19

على ما هو عليه من الحرمة، و إن كان العقل يلزمه إرشادا إلى ما هو أهم و أولى بالرعاية من تركه؛ لكون الغرض فيه أعظم، فمن (1) ترك الاقتحام فيما يؤدّي إلى شرب الخمر أو الخروج من المكان المغصوب باقية على حالها، فإنّ حكم العقل بلزوم اختيارهما إنما هو من باب الإرشاد إلى الأخذ بأقل المحذورين فلا منافاة بين حرمته و مبغوضيّته، و بين حكم العقل بلزوم اختياره من باب اختيار أقلّ المحذورين.

=============

و حاصل الكلام في المقام: أنّ الشرب يكون حراما «و إن كان العقل يلزمه» بالشرب في صورة سوء الاختيار أيضا «إرشادا إلى ما هو أهمّ » أعني: حفظ النفس، «و أولى بالرعاية من تركه» أي: ترك الشرب، فإنّ المكلّف بعد سوء الاختيار و إيقاع نفسه في المهلكة يتردّد بين حرامين: ترك الشرب المؤدي إلى الهلكة المحرّمة، و الشرب المحرم الموجب لعدم الهلكة، و العقل يلزمه بالشرب إبقاء على حفظ النفس لكون الغرض فيه أعظم. فقوله: «لكون الغرض فيه أعظم» تعليل للأهميّة و الأولوية.

(1) هذا إشارة إلى جواب ما ذكره الشيخ الأعظم «قدس سره» بقوله: «فمن لم يشرب الخمر... إلخ». و هذا ما ذكره الشيخ «قدس سره» مؤيّدا لعدم كون الخروج مقدورا للمكلف من دون الدخول، و حاصله: أن الخروج قبل الدخول غير مقدور، فكذا ترك الخروج، فصدق ترك الخروج بدون الدخول ليس إلاّ من باب السالبة بانتفاء الموضوع؛ نظير صدق ترك شرب الخمر بدون المرض حيث إنّه لا يصدق أنّه لم يشرب الخمر في التهلكة إلاّ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

و حاصل جواب المصنف عنه: أنّ «من ترك الاقتحام فيما يؤدّي إلى هلاك النفس، أو شرب الخمر لئلاّ يقع في أشدّ المحذورين منهما، فيصدق أنّه تركهما». يعني: ما ذكره الشيخ «قدس سره» سابقا من عدم صدق «ما شرب» على من لم يقع في المهلكة غير تام، لبداهة: أنّه إذا ترك الشخص المهلكة بأن لم يعرض نفسه للهلاك يصدق عليه أنّه تارك للهلاك، أو تارك لشرب الخمر، لأنّ شرب الخمر مقدور له نظير الفعل التوليدي.

فكما أنّ ترك الإحراق - في الفعل التوليدي - مقدور بواسطة ترك الإلقاء في النار.

كذلك ترك الشرب الناجي مقدور بواسطة القدرة على ترك إلقاء النفس في المرض الذي لا يعالج إلا بشرب الخمر: و كما يصدق على تارك الإلقاء في النار أنّه تارك الإحراق؛ كذلك يصدق على تارك حفظ النفس أنّه تارك الشرب الناجي، و أنّه لم يشرب الخمر.

فليس السلب بانتفاء الموضوع - كما زعم الشيخ «قدس سره» - إذ ليس إيقاع النفس في المهلكة موضوع الشرب؛ بل مقدمة له.

و المتحصل: أن ترك شرب الخمر يصدق مع عدم التعريض أصلا كما يصدق مع

ص: 20

هلاك النفس أو شرب الخمر لئلا يقع في أشدّ المحذورين منهما، فيصدق أنّه تركهما و لو بتركه ما لو فعله لأدى لا محالة إلى أحدهما، كسائر الأفعال التوليديّة حيث يكون العمد إليها (1) بالعمد إلى أسبابها و اختيار تركها بعدم العمد إلى الأسباب.

و هذا يكفي في استحقاق العقاب على الشرب للعلاج و إن كان لازما عقلا للفرار عمّا هو أكثر عقوبة.

و لو سلم (2) عدم الصدق إلاّ بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع فهو غير ضائر الوقوع في المهلكة. هذا تمام الكلام في جواب المصنف «قدس سره» عما ذكره الشيخ الأعظم «قدس سره» بقوله: «فمن لم يشرب الخمر...» إلخ.

=============

ثم أشار المصنف إلى الجواب الثاني عنه بقول: «كسائر الأفعال التوليديّة»، و حاصله:

النقض بالأفعال التوليدية التي تتولد من الأفعال المباشرية كالإحراق مثلا، حيث إنّه ليس فعلا مباشريا للمكلّف بل يتولد من الإلقاء في النار، فإن الخروج و شرب الخمر «كسائر الأفعال التوليدية، حيث يكون العمد إليها» أي: إلى تلك الأفعال «بالعمد إلى أسبابها، و اختيار تركها بعدم العمد إلى الأسباب»، فكما يحرم الإحراق قبل الإلقاء في النار يحرم الخروج قبل الدخول، و كما لا يصح أن يقال: الإحراق قبل الإلقاء ليس مقدورا للعبد فلا يحرم، كذلك لا يصح أن يقال: الخروج قبل الدخول ليس مقدورا للعبد فلا يحرم و هكذا حال شرب الخمر قبل الوقوع في المهلكة.

(1) «و هذا» أي: كون الأفعال التوليدية مقدورة بواسطة القدرة على أسبابها يكفي في توجه التكليف إلى تلك الأفعال، و استحقاق العقاب عليها. و عليه: فيستحق العقاب على شرب الخمر من أوقع نفسه في المرض المؤدّي إلى الهلاك لو لم يشرب الخمر.

و الموجب لاستحقاقه هو قدرته على الشرب المزبور و لو بواسطة قدرته على إيجاد سببه و هو المرض. و هذا الشرب بعد ما أوقع نفسه في المهلكة «و إن كان لازما عقلا للفرار عما هو أكثر عقوبة» أعني: الموت، فالإلزام العقلي لا ينافي التحريم الشرعي، فقوله: «و إن كان لازما عقلا...» إلخ إشارة إلى دفع التنافي بين حكم العقل بلزوم الشرب للعلاج، و بين استحقاق العقوبة عليه. فيقال في تقريب التنافي: إنّه مع لزوم الارتكاب كيف يعاقب عليه ؟

و حاصل الدفع: إنّ الحكم بلزوم الارتكاب ليس لأجل مصلحة في نفسه موجبة للزوم الفعل؛ بل لأجل كون الشرب موجبا للفرار من العقوبة الزائدة في ترك الشرب.

(2) هذا جواب آخر عمّا في كلام الشيخ الأعظم «قدس سره» من عدم صدق تارك الخروج على من لم يدخل بعد إلاّ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

ص: 21

بعد تمكّنه من الترك و لو على نحو هذه السالبة، و من الفعل بواسطة تمكّنه ممّا هو من قبيل الموضوع في هذه السالبة، فيوقع نفسه بالاختيار في المهلكة، أو يدخل الدار فيعالج بشرب الخمر، و يتخلّص بالخروج، أو يختار (1) ترك الدخول و الوقوع فيهما (2) لئلاّ يحتاج إلى التخلّص و العلاج.

إن قلت (3): كيف يقع مثل الخروج و الشرب ممنوعا عنه شرعا و معاقبا عليه عقلا و حاصل الجواب: إنّه لو سلمنا عدم صدق تارك الخروج على من لم يدخل بعد إلاّ بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع فنقول: إنّه لا ضير في ذلك بعد فرض تمكّن المكلف من ترك الخروج بسبب ترك الدخول، و من فعله بالقدرة على الدخول فهو قادر من الفعل و الترك، و هذا المقدار من القدرة كاف في التكليف، فإنّ العقل يجوّز التكليف بمطلق المقدور من دون فرق بين أن تكون القضية السالبة سالبة بانتفاء الموضوع أو المحمول: و بهذا تبين: أنّ كلاّ من شرب الخمر و الخروج تحت القدرة فعلا و تركا.

=============

قوله: «فيوقع نفسه بالاختيار في المهلكة، أو يدخل الدار» - بيان لكيفية تمكّن المكلّف من الفعل و الترك.

أمّا الأوّل: فباختيار دخول الدار المغصوبة الموجب للتخلّص عنها بالخروج، أو باختيار المهلكة الملجئة إلى شرب الخمر.

و أمّا الثاني: فباختيار ترك الدخول في المكان المغصوب، و ترك الوقوع في المهلكة المتوقف علاجها على شرب الخمر.

و المراد من قوله: «من قبيل الموضوع» هو الدخول، حيث إنّه من قبيل الموضوع للخروج، و ليس نفس الموضوع له، ضرورة: عدم ترتّب الخروج قهرا على الدخول حتى يكون الدخول موضوعا له؛ لوضوح كون ترتّب الخروج على الدخول بالإرادة و الاختيار، لا قهرا.

(1) عطف على «يوقع»، فيكون بيانا للقدرة على الترك.

(2) أي: في المهلكة و الدار، يعني: يختار ترك الدخول في الدار و ترك الوقوع في المهلكة، لئلاّ يحتاج إلى التخلّص عن الغصب بالخروج، و عن المهلكة بالعلاج.

(3) هذا إشكال من جانب الشيخ الأعظم و من يقول بمقالته، من كون الخروج مأمورا به على المصنف و غيره ممن يقول بحرمة الخروج و الشرب، فيكون دليلا آخر على وجوب الخروج و كونه مأمورا به فقط كما يقول به الشيخ الأعظم «قدس سره».

و حاصل الإشكال: - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 170» - أنّ الالتزام

ص: 22

مع بقاء ما (1) يتوقف عليه على وجوبه (2)، و وضوح (3) سقوط الوجوب مع امتناع المقدمة المنحصرة و لو كان بسوء الاختيار، و العقل قد استقل بأنّ الممنوع شرعا كالممتنع عادة أو عقلا؟

قلت (4): أولا: إنّما كان الممنوع كالممتنع إذا لم يحكم العقل.........

=============

بالحرمة يوجب ارتفاع الوجوب عن ذي المقدمة و هو التخلّص عن الغصب و حفظ النفس، حيث إنّ المقدمة - و هي الخروج و الشرب - ممنوعة شرعا، و موجبة لاستحقاق العقوبة عقلا، و من المقرر: كون الممنوع شرعا كالممتنع عقلا، فالتكليف بذي المقدمة - مع امتناع مقدمته الوجودية - تكليف بغير مقدور؛ إذ لا يمكن الجمع بين حرمة المقدمة و وجوب ذيها، فلا بد إمّا من سقوط الوجوب عن ذي المقدمة و هو التخلّص و حفظ النفس؛ لكونه مع حرمة المقدمة تكليفا بغير مقدور.

و إمّا من سقوط حرمة المقدمة، فلا يكون الخروج و الشرب محرمين.

و الالتزام بسقوط الوجوب كما ترى؛ إذ لم يلتزم أحد بسقوط وجوب حفظ النفس و وجوب التخلّص عن الغصب، فلا محيص عن الالتزام بسقوط الحرمة عن المقدمة و هي الخروج و الشرب و هو المطلوب، فيكون هذا دليلا على وجوب الخروج و الشرب، و عليه:

فالخروج و الشرب واجبان و إن كانا بسوء الاختيار.

(1) المراد بالموصول: ذو المقدمة؛ كالتخلّص عن الغصب و حفظ النفس عن الهلاك.

(2) أي: مع بقاء ذي المقدمة على وجوبه، يعني: كيف تكون المقدمة كالخروج و الشرب حراما شرعا مع بقاء ذي المقدمة على الوجوب كما يقول به المصنف، في مقابل الشيخ القائل بوجوب الخروج و الشرب ؟

(3) مفاده: عدم إمكان اجتماع حرمة المقدمة كما يقول بها المصنف مع وجوب ذي المقدمة؛ بتقريب: أنّ الامتناع الشرعي كالعقلي، فالمقدمة الممنوعة شرعا كالممتنعة عقلا في عدم القدرة على الإتيان بها، و بامتناعها يمتنع بقاء ذي المقدمة على الوجوب المشروط بالقدرة على إيجاد متعلقه.

الامتناع شرعا كالممتنع عقلا

(4) قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال - أو الدليل على وجوب الخروج و الشرب - بجوابين:

أحدهما: ما أشار إليه بقوله: «أوّلا» و حاصل هذا الجواب الأوّل: أنّ حرمة المقدمة إنما ترفع وجوب ذيها فيما إذا لم يحكم العقل بلزوم فعل المقدمة، و أمّا مع حكمه بلزومه، فلا بأس ببقاء وجوب ذي المقدمة بحاله، إذ لا يكون التكليف به حينئذ من التكليف بالممتنع و غير المقدور، بعد وضوح حكم العقل بلزوم المقدمة، لكون مخالفة حرمتها

ص: 23

... بلزومه (1) إرشادا إلى ما هو أقلّ المحذورين؛ و قد عرفت: لزومه (2) بحكمه، فإنه مع لزوم الإتيان بالمقدمة عقلا لا بأس في بقاء ذي المقدمة على وجوبه، فإنّه حينئذ ليس من التكليف بالممتنع، كما (3) إذا كانت المقدمة ممتنعة.

و ثانيا (4): لو سلّم، فالساقط إنما هو الخطاب فعلا بالبعث و الإيجاب لا لزوم إتيانه أخفّ المحذورين، و أقلّ القبيحين، فلا منافاة بين وجوب ذي المقدمة؛ كالتخلّص عن الغصب، و بين كون الخروج الذي هو مقدمته ممنوعا عنه شرعا بالنهي الساقط بالامتناع بسوء الاختيار، و مستحقا عليه العقاب.

=============

(1) أي: بلزوم الممنوع شرعا كالخروج عن المكان المغصوب، فإنّ الخروج و إن كان مصداقا للغصب المحرم لكنّه أقلّ محذورا من البقاء، لحصول التخلّص عن الحرام به.

(2) أي: قد عرفت لزوم الخروج بحكم العقل سابقا حيث قال: «و إن كان العقل يحكم بلزومه إرشادا إلى اختيار أقل المحذورين و أخف القبيحين»، و قال أيضا «و إن كان العقل يلزمه إرشادا إلى ما هو أهمّ و أولى بالرعاية من تركه».

(3) يعني: ليس بقاء ذي المقدمة على وجوبه من التكليف بالممتنع كصورة امتناع المقدمة عقلا. فيكون قوله: «كما إذا كانت» قيدا للمنفي.

(4) هذا هو الجواب الثاني عن الإشكال، و حاصله: أنّه لو سلّمنا سقوط وجوب ذي المقدمة - لكونه منافيا لحرمة مقدمته حتى في صورة حكم العقل بلزومها - فيقال في الجواب: أنّ الساقط هو فعلية البعث و الإيجاب بحفظ النفس عن الهلاك، و التخلّص عن الغصب. و أمّا حكم العقل بلزومها لتنجز التكليف بهما قبل الاضطرار فهو باق على حاله، و مع هذا الحكم العقلي لا حاجة إلى الخطاب الفعلي الشرعي، و عليه: فحرمة المقدمة مانعة عن فعلية وجوب ذي المقدمة دون ملاكه؛ لتماميّته و عدم قصور فيه، و لذا يحكم العقل بلزوم استيفائه، فيجب التخلّص عن الغصب و حفظ النفس عن الهلاك بالخروج و شرب الخمر بحكم العقل، و إن لم يكن وجوب فعلي شرعا بحفظ النفس و التخلّص عن الغصب لكفاية حكم العقل في ذلك كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 172» مع تصرّف منّا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية»: قوله: «لا لزوم إتيانه عقلا» يعني:

أنّ الساقط هو الخطاب الفعلي؛ لا لزوم الإتيان بالمقدمة عقلا.

قوله: «خروجا» تعليل للزوم الإتيان عقلا.

قوله: «سابقا» يعني: قبل الاضطرار. فمعنى العبارة: أنّه يجب بحكم العقل الإتيان بالحرام المضطر إليه بسوء الاختيار لأجل الخروج عن عهدة التكليف الذي تنجّز عليه قبل الاضطرار.

ص: 24

قوله: «ضرورة» تعليل لعدم سقوط الوجوب العقلي؛ بمعنى: أنّه لو لم يأت بالحرام المضطر إليه كالخروج عن الغصب و شرب الخمر للتخلّص عن الغصب و حفظ النفس عن الهلاك لوقع في المحذور الأشدّ و هو تلف النفس و البقاء في الغصب.

قوله: «حيث إنّه الآن» تعليل للوقوع في المحذور الأشدّ و ضمير «إنّه» راجع إلى ذي المقدمة.

قوله: «الآن» يعني: بعد الاضطرار و حاصله: أنّ حفظ النفس عن الحرام - كالهلكة و البقاء في المغصوب - باق على ما كان عليه قبل الاضطرار من الملاك و المحبوبية، و لم يحدث فيه بسبب الاضطرار قصور أصلا. نعم سقط خطابه لأجل المانع و هو حرمة مقدمته كالخروج و شرب الخمر، فالمقدّمة باقية على حرمته التي كانت ثابتة قبل الاضطرار، فيعاقب عليها لذلك و إن ألزمه العقل بإتيانها لكونها أخفّ القبيحين.

و بالجملة: فالمقدمة باقية على حرمتها، و ذو المقدمة باق على محبوبيّته الثابتة له قبل حدوث الاضطرار، و لم يسقط عنه إلاّ فعلية الإيجاب.

«لأجل المانع» و هو حرمة المقدمة المنافية لوجوب ذيها.

«و إلزام العقل به لذلك» مبتدأ و خبره «كاف» و معنى العبارة: و إلزام العقل بالإتيان بالمقدمة المحرمة كالخروج و شرب الخمر للخروج عن عهدة ما تنجّز عليه سابقا من باب الإرشاد كاف في لزوم الإتيان، و لا حاجة مع هذا الحكم العقلي إلى بقاء الخطاب الفعلي البعثي، فقوله: «لذلك» إشارة إلى الخروج عن العهدة.

قوله: «فعلا» قيد للبعث و الإيجاب، و ضمير «معه» راجع إلى إلزام العقل و ضميرا «إليه، له» راجعان إلى ذي المقدمة كالتخلّص عن الهلاك و الغصب.

و المتحصّل من جميع ما أفاده المصنف: أنّ المقدمة المحرّمة المنحصرة، المضطر إليها بسوء الاختيار - كالخروج عن المكان المغصوب و شرب الخمر لحفظ النفس عن الهلاك - باقية على حرمتها، و لا ترفع حرمتها وجوب ذيها أوّلا، و على فرض تسليم ارتفاع وجوبه يكفي حكم العقل بلزوم التخلّص عن الغصب و الهلاك، و لا حاجة معه إلى الإيجاب الفعلي الشرعي ثانيا. فالنتيجة: أنّ الساقط هو الوجوب المولوي الشرعي بالنسبة إلى ذي المقدمة - و هو التخلّص - و أمّا الوجوب العقلي الإرشادي بالنسبة إليه فهو باق على حاله لبقاء ملاكه بعد الاضطرار بسوء الاختيار إلى إتيان المقدمة المحرمة - و هي الخروج و شرب الخمر - و إلزام العقل بالتخلّص بعد الاضطرار المذكور كاف في استحقاق العقاب على

ص: 25

عقلا، خروجا عن عهدة ما تنجّز عليه سابقا ضرورة: أنّه لو لم يأت به لوقع في المحذور الأشدّ، و نقض الغرض الأهمّ حيث إنّه الآن كما كان عليه من الملاك و المحبوبيّة، بلا حدوث قصور أو طروء فتور فيه أصلا، و إنّما كان سقوط الخطاب لأجل المانع، و إلزام العقل به لذلك إرشادا كاف؛ لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه و الإيجاب له فعلا، فتدبّر جيدا.

و قد ظهر مما حققناه (1): فساد القول بكونه مأمورا به مع إجراء حكم المعصية عليه تركه، فلا حاجة حينئذ إلى البعث الشرعي المولوي إلى التخلّص، و كذا الكلام في الشرب و وجوب حفظ النفس. قوله: «فتدبّر جيّدا» تدقيقيّ فقط.

=============

إشكال المصنف على صاحب الفصول

(1) يعني: «قد ظهر مما حققناه» - في جواب الشيخ القائل بكون الخروج مأمورا به فقط، و قلنا: ببقاء الخروج المضطر إليه بسوء الاختيار على حكمه من الحرمة - أي: ظهر «فساد القول بكونه مأمورا به مع إجراء حكم المعصية عليه».

هذا الكلام من المصنف شروع في الرّد على صاحب الفصول القائل بكون الخروج مأمورا به، مع إجراء حكم المعصية عليه. أما كونه مأمورا به: فنظرا إلى كونه مقدمة لواجب.

و أمّا إجراء حكم المعصية عليه: فنظرا إلى النهي السابق قبل الاضطرار.

أما وجه ظهور فساد قول الفصول ما تقدم من المصنف؛ من أن الخروج باق على حرمته و ليس مأمورا به لكون الاضطرار بسوء الاختيار، و إنّما العقل ملزم للإتيان به هذا «مع ما فيه» أي: في هذا القول «من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب و الحرمة».

و حاصل الكلام في المقام: أنّ المصنف لمّا فرغ عن جواب الشيخ القائل بأنّ الخروج مأمور به فقط شرع في ردّ الفصول القائل بكونه مأمورا به مع جريان حكم المعصية عليه من العقاب و غيره و قد أورد المصنف على الفصول بوجهين:

أمّا الوجه الأوّل: فحاصله: أنّه قد ظهر ممّا بينّاه في القول المختار من بقاء النهي المتعلق بالمقدمة - كالخروج - على حاله، و عدم صيرورتها مأمورا بها بالاضطرار فساد القول بكون الخروج مأمورا به مع جريان حكم المعصية عليه للنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار.

وجه الظهور: ما تقدم من أنّ الخروج باق على حرمته و ليس بمأمور به لكون الاضطرار بسوء الاختيار، فالخروج حرام حتى بعد حدوث الاضطرار؛ و ذلك لكونه بسوء الاختيار، غاية الأمر: أنّ العقل إرشادا إلى أقلّ المحذورين يحكم بلزوم الخروج.

ص: 26

نظرا إلى النهي السابق، مع ما فيه من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب و الحرمة. و لا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم و الإيجاب قبل الدخول و بعده كما في الفصول(1) مع اتحاد زمان الفعل المتعلق لهما، و إنّما المفيد اختلاف زمانه و لو مع اتحاد زمانهما.

أمّا الوجه الثاني: فحاصله: أنّ لازم هذا القول اجتماع الضدّين - و هما الوجوب و الحرمة - في فعل واحد بعنوان واحد، حيث إن الخروج حرام لكونه تصرّفا في مال الغير بدون إذنه، و واجب لكونه كذلك مقدمة للتخلّص الواجب، فيلزم أن يكون الخروج مع وحدة عنوانه حراما و واجبا.

=============

و ما تشبث به الفصول في دفع التضاد باختلاف زمان الحرمة و الوجوب و أنّ الحرمة كانت في السابق و الأمر به يكون في اللاحق مما لا يجدي مع اتحاد زمان الفعل و موطنه؛ إذ التضاد يلزم مع وحدة زمان الفعل، نظير قولك في يوم الأربعاء: أكرم زيدا يوم الجمعة، و قولك في يوم الخميس: لا تكرم زيدا يوم الجمعة، فهما متناقضان من حيث وحدة زمان الفعل.

و إن كان زمان الإيجاب و التحريم متعددا: فالمجدي لدفع التناقض و التضاد هو تعدد زمان الفعل لا تعدد زمان الإيجاب و التحريم مع وحدة زمان الفعل.

و كيف كان؛ فقوله: «و لا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم و الإيجاب»: إشارة إلى ما تفطنه صاحب الفصول من اجتماع الضدين، و لكن دفعه باختلاف زمان التحريم - و هو ما قبل الدخول في المغصوب - و زمان الإيجاب و هو ما بعد الدخول، فلا يلزم اجتماع الضدين المحال؛ لأنّ المستحيل هو اجتماعهما في زمان واحد و هو مفقود هنا.

و قد أفاد المصنف في ردّه بما حاصله: من إنّ اختلاف زماني الإيجاب و التحريم لا يجدي في ارتفاع غائلة اجتماعهما ما لم يختلف زمان الفعل المتعلق لهما، كما إذا قال في زمان واحد: أكرم زيدا يوم الجمعة و لا تكرم زيدا يوم السبت، فإنّه ممّا لا إشكال فيه مع وحدة زمان إنشاء الإيجاب و التحريم، و أمّا إذا قال يوم الأربعاء: أكرم زيدا يوم الجمعة، و قال في يوم الخميس: لا تكرم زيدا يوم الجمعة فلا إشكال في عدم الصحة؛ للزوم اجتماع الحكمين مع اختلاف زمان إنشائهما، فالمدار في ارتفاع غائلة الاجتماع إنما هو على اختلاف زمان المتعلق للحكمين لا اختلاف زمان إنشائهما.

قوله: «كيف ؟» يعني: كيف يرتفع غائلة الاجتماع باختلاف زماني الإيجاب

ص: 27


1- الفصول الغروية، ص 13، س 26.

هذا أوضح من أن يخفى، كيف ؟ و لازمه وقوع الخروج بعد الدخول عصيانا للنهي السابق و إطاعة للأمر اللاحق فعلا (1)، و مبغوضا و محبوبا كذلك (2) بعنوان واحد (3)، و هذا مما لا يرضى به القائل بالجواز فضلا عن القائل بالامتناع.

كما لا يجدي (4) في رفع هذه الغائلة: كون النهي مطلقا و على كل حال، و كون الأمر مشروطا بالدخول، ضرورة (5): منافاة حرمة شيء كذلك (6) مع وجوبه في بعض الأحوال (7).

و التحريم، و الحال أنّ لازمه وقوع الخروج بعنوانه إطاعة و عصيانا، و محبوبا و مبغوضا أمّا الإطاعة و المحبوبيّة الفعليتان: فللأمر اللاحق المتعلق بالخروج بعد الدخول. و أمّا العصيان و المبغوضية: فللنهي السابق الساقط بالاضطرار.

=============

(1) قيد «للأمر اللاحق»؛ إذ المفروض: كون الخروج بعد الدخول مأمورا به فعلا.

(2) يعني: محبوبا فعلا كفعلية الأمر به.

(3) و هو التصرّف الخروجي، فإنّه بهذا العنوان حرام لكونه بدون إذن المالك، و واجب لتوقف ترك الغصب عليه، و قد تقدم سابقا: أنّ المقدميّة جهة تعليلية، فمعروض الوجوب المقدمي هو ذات المقدمة أعني: الخروج، فهو المتصف بالوجوب و الحرمة.

«و هذا مما لا يرضى به القائل بالجواز... إلخ» يعني: اتصاف الخروج بالوجوب و الحرمة و المحبوبية و المبغوضية مما لا يرضى به القائل بجواز اجتماع الأمر و النهي، لأنّه يرى إجداء تعدد العنوان فيه فضلا عن القائل بالامتناع.

(4) إشارة إلى دفع توهم آخر لدفع غائلة اجتماع الوجوب و الحرمة في الخروج.

و حاصل التوهم قبل الدفع: أن النهي تعلق بالغصب على نحو الإطلاق، فيشمل الدخول و البقاء و الخروج؛ إذ مفاد: لا تغصب حرمة الدخول و البقاء و الخروج، و الأمر بالخروج مشروط بالدخول؛ إذ لا يصح الأمر به قبل الدخول فيتعدد متعلق الأمر و النهي بسبب الإطلاق و التقييد، فيرتفع التنافي بينهما.

و حاصل الدفع: هو عدم إجداء الإطلاق و التقييد في ارتفاع الغائلة.

و ملخّص وجه عدم الإجداء: إنّ النهي لمّا لم يكن مقيدا بزمان فلا محالة يكون في زمان القيد موجودا، فالخروج منهي عنه و مأمور به بشرط الدخول، فيلزم اجتماع الوجوب و الحرمة فيه، و لم ترتفع غائلة الاجتماع.

(5) تعليل لعدم إجداء الإطلاق و التقييد في ارتفاع الغائلة، و قد تقدم توضيحه.

(6) أي: على نحو الإطلاق و على كل حال.

(7) يعني: مع وجوب الخروج في بعض الأحوال أي: بعد الدخول.

ص: 28

و أمّا القول بكونه مأمورا به و منهيا عنه (1):

ففيه - مضافا (2) إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع فيما إذا كان بعنوانين، فضلا عما إذا كان بعنوان واحد كما في المقام، حيث كان الخروج بعنوانه سببا للتخلّص، و كان (3) بغير إذن المالك، و ليس التخلّص (4) إلاّ منتزعا عن ترك الحرام المسبّب عن

=============

(1) إشارة إلى ما هو مختار المحقق القمي «قدس سره» و المنسوب إلى المشهور من كون الخروج مأمورا به و منهيا عنه.

جواب صاحب الكفاية عن القول بكون الخروج مأمورا به و منهيا عنه

(2) و قد أجاب عنه المصنف بوجوه:

الوجه الأوّل ما أشار إليه بقوله: «مضافا إلى ما عرفت»، و ملخصه: أنّه قد تقدم في بيان مختاره امتناع اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد بعنوانين.

الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «فضلا عما إذا كان بعنوان واحد كما في المقام» و خلاصة هذا الوجه: أنّه بعد تسليم جواز الاجتماع يقال: إنّ مورده هو تعدد العنوان، و ذلك مفقود في المقام ضرورة: أنّ متعلق الأمر و النهي - و هو الخروج الشخصي - واحد، و هو بعنوانه الأوّلي - أعني: التصرف في مال الغير بدون إذنه - قد تعلق به الحكمان المتضادان لجهتين تعليليتين إحداهما عدم اقترانه بإذن المالك الموجب لتعلق النهي به، و الأخرى: توقف التخلّص عن الحرام عليه الموجب لتعلق الأمر به، و من المعلوم: أن الجهات التعليلية وسائط ثبوتية لترتّب الأحكام على موضوعاتها، و خارجة عن الموضوعات و غير مرتبطة بها. كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 180» مع تصرف ما.

(3) يعني: كان الخروج بعنوانه الأولي بدون إذن المالك، فالخروج بعنوانه الأولي الواحد متعلقا للوجوب و الحرمة.

(4) إشارة إلى توهم و دفعه. و حاصل التوهم: أن العنوان هنا متعدد؛ بمعنى: أنّ للخروج عنوانين أحدهما: التصرف في مال الغير بلا إذن منه، و الآخر: التخلّص عن الحرام، فيندرج بهما في مسألة اجتماع الأمر و النهي لتعدد متعلق الأمر و النهي.

و حاصل الدفع: إنّ التخلّص ليس عنوانا للخروج؛ بل وصف منتزع من ترك الحرام المسبب عن الخروج بمعنى: أنّه لمّا كان الخروج سببا لترك البقاء المحرم انتزع عن هذا الترك عنوان التخلّص. و إن شئت فقل: الخروج سبب لترك البقاء، و التخلّص منتزع عن المسبب و لا ربط له بالسبب.

و كيف كان؛ فلا يكون عنوان التخلّص واجبا نفسيا مطبقا على الخروج، ثم لو سلّم كون التخلّص واجبا نفسيا؛ لكنّه لا ينطبق على الخروج، و لا يكون عنوانا له، لأنّ

ص: 29

الخروج مقدمة لترك الحرام الذي هو سبب للتخلّص، و قد مرّ غير مرّة: أنّ المقدميّة جهة تعليلية للمقدمة، و ليست جهة تقييدية لها.

و الموجب لصغروية شيء لمسألة اجتماع الأمر و النهي هو تعدد الجهة التقييدية فيه.

فالعنوانان تعليليان لا تقييديان؛ بمعنى: إنّه ليس متعلق الأمر و النهي عنواني التصرف و التخلّص؛ بل هو الخروج علّة للتخلّص.

فالنتيجة: أنّ الخروج - لوحدة عنوانه - أجنبيّ عن مسألة اجتماع الأمر و النهي.

الوجه الثالث: ما أشار إليه بقوله: «إنّ الاجتماع هاهنا لو سلّم أنّه» أي: الاجتماع لا يكون بمحال لتعدد العنوان من التخلّص الواجب و الغصب الحرام.

و حاصل هذا الوجه: أنّه - بعد تسليم تعدد العنوان هنا الموجب لجواز الاجتماع، و الغضّ عن الوجهين المتقدمين في الجواب - لا يمكن الالتزام بالاجتماع هنا أيضا، لأنّ جوازه عند القائلين به مشروط بوجود المندوحة، كالصلاة في المكان المغصوب مع إمكان فعلها في مكان مباح، و أمّا بدون المندوحة فلا يجوز كالمقام، لانحصار طريق التخلّص عن الحرام بالخروج.

و عليه، فوجوب الخروج و حرمته تكليف بالمحال، و هو قبيح عقلا فلا يصدر عن الحكيم، فلا بد للقائل بجواز الاجتماع إمّا من الالتزام بعدم الحرمة، و إمّا من الالتزام بسقوط الوجوب.

و المتحصّل: أنّه لو سلم عدم استحالة اجتماع الأمر و النهي لأجل تعدد العنوان المجدي في دفع الاستحالة كان الاجتماع محالا من جهة أخرى و هي طلب المحال فيما لا مندوحة فيه، لأنّه مع الانحصار - كالخروج الذي ينحصر التخلّص عن الحرام به - يلزم من اجتماع الوجوب و الحرمة فيه طلب المحال لعدم القدرة على فعل الخروج و تركه في آن واحد.

قوله: «و ذلك لضرورة...» إلخ تعليل لمحالية الاجتماع في مورد عدم المندوحة و حاصله: أنّ الغرض من التكليف - و هو إحداث الداعي إلى الفعل أو الترك - لا يترتب إلاّ في ممكن الوجود، فإن وجب الفعل لوجود علّة وجوده، أو امتنع لعدم علّة وجوده فلا يتعلق به البعث، لقصوره عن إحداث الداعي و تحريك العبد نحو الفعل أو الترك، فإنّ الوجوب أو الامتناع العرضيين و إن لم يكن منافيا للإمكان الذاتي، و لكنه مناف للتكليف بعثا أو زجرا، و في المقام لمّا صار الخروج بسوء الاختيار مضطرا إليه، لانحصار التخلّص

ص: 30

الخروج، لا عنوانا له - أنّ الاجتماع هاهنا لو سلم إنّه لا يكون بمحال لتعدد العنوان، و كونه مجديا في رفع غائلة التضاد، كان محالا لأجل كونه طلب المحال، حيث لا مندوحة هنا، و ذلك لضرورة: عدم صحة تعلق الطلب و البعث حقيقة بما هو واجب أو ممتنع، و لو كان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختيار.

و ما قيل (1): إنّ الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار إنّما هو في قبال عن الحرام به، فيصير واجب الوجود بالعرض، فلا يتعلق به بعث و لا زجر، و عليه: فلا يكون مأمورا به و لا منهيا عنه فعلا كما هو مختار المصنف؛ لأنّ الغرض من التكليف هو البعث أو الزجر، و لا يمكن الأمر حقيقة بفعل واجب الصدور، لأنّه تحصيل للحاصل، أو ممتنع كالجمع بين الخروج و تركه لأنّه لغو.

=============

(1) إشارة إلى توهم و حاصله: إنّ الوجوب و الامتناع إن كانا بسوء الاختيار فلا يمنعان عن التكليف لما قيل: من أنّ الممتنع بالاختيار اختياري صحّ التكليف به، و عليه:

فلا مانع من تعلق البعث و الزجر بالخروج المضطر إليه بسوء الاختيار. و قد أشار إلى دفع هذا التوهم بقوله: «إنّما هو في قبال».

و حاصل الدفع: أنّ قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» أجنبية عن المقام، و هو: تعلق التكليف بالممكن الذي صار واجبا أو ممتنعا بالعرض، و غير مرتبطة به، حيث إنّ موردها اختياريّة الأفعال الصادرة من العباد في مقابل الأشاعرة القائلين بالجبر، استنادا إلى أنّ الفعل مع الإرادة واجب، و بدونها ممتنع، فيلزم الجبر و انتفاء الاختيار.

و كيف كان؛ فقاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» التي أجاب بها العدلية عن استدلال الأشاعرة على الجبر أجنبيّة عن المقام.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: بيان الفرق بين المقام و بين ما أجاب به العدلية عن استدلال الأشاعرة على غير اختياريّة الأفعال «بقضية: أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد».

و توضيح الفرق يحتاج إلى بيان أمرين:

الأول: نقل كلام الأشاعرة و استدلالهم على الجبر.

الثاني: جواب العدلية عنهم.

«أما الأول»: فقد ذهبت الأشاعرة إلى أنّ الأفعال كلها غير اختيارية؛ بل العباد مجبورون في الأفعال، و استدلوا لذلك بقاعدة مسلّمة عند الحكماء، و هي: «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد»، و معنى العبارة: إنّ كل ممكن ما لم تتم علّته التامّة لم يوجد في

ص: 31

الخارج، فإن وجدت العلّة التامّة وجد الممكن؛ و إلاّ فلا يوجد، و وجه استدلالهم بهذه القاعدة: أن كل فعل يصدر من فاعل لا بدّ و أن توجد علّته التامّة، و إذا وجدت كان ذلك الفعل واجب الوجود بالعرض، و إذا وجب الفعل لم يكن العبد مختارا فيه، و بهذه المقدمات تمسكوا بكون العباد محبورين في جميع الأفعال.

«و أمّا الثاني»: فيقال: إنّه قد أجاب الأصحاب عن هذا الاستدلال بأنّا نسلّم أنّ الفعل بعد وجود علّته التامّة واجب، و لكنّا نقول: إنّ العبد إنّما يوجد علّة الفعل بالإرادة و الاختيار، فإن أراد الفعل و سائر مقدماته وجب، و إن لم يرد لم يجب، فإيجاب الفعل و عدمه تحت اختيار المكلف، و من البديهي: «أن الإيجاب و الامتناع بالاختيار لا ينافي» أي: إيجاب بإرادة مقدماته، و امتناعه بعدم إرادة مقدماته لا ينافيان الاختيار.

و بهذا تبيّن: أن العباد ليسوا مجبورين في أفعالهم. و اتّضح أيضا: أن قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار في قبال استدلال الأشاعرة بالجبر.

إذا عرفت هذين الأمرين فنقول: إنّ الفرق بين المقام و بين ما أجاب به العدلية من القاعدة يمكن بوجوه يستدلّ بها على عدم كون المقام داخلا في كبرى عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار:

الوجه الأول: أنّ الفعل في مورد القاعدة مستند إلى الإرادة و الاختيار؛ لأنّ وجوبه و امتناعه إنّما يكون من قبل العلّة و إرادة الفاعل و اختياره علّة للفعل أو تركه، فالوجوب و الامتناع ناشئان من اختياره.

و من المعلوم: أن الوجوب و الامتناع الناشئين عن الاختيار مؤكّدان له لا منافيان، هذا بخلاف المقام الذي يسلب فيه الاختيار عن الفعل بواسطة اختيار شيء آخر - و هو الدخول - فليس الفعل - و هو الخروج - قابلا للصدور بالإرادة و الاختيار؛ بل المكلف مضطر إليه بسوء اختياره، فلا يقدر على تركه تشريعا و إن كان قادرا عليه تكوينا.

الوجه الثاني: أنّ ما يكون داخلا في كبرى هذه القاعدة لا بدّ أن يكون ممّا عرضه الامتناع باختيار المكلف و إرادته؛ كالحجّ يوم عرفة لمن ترك مقدمته باختياره و قدرته، و كحفظ النفس المحترمة لمن ألقى نفسه من شاهق، و نحوهما من الأفعال الاختيارية الّتي يعرض عليها الامتناع بالاختيار.

و من الواضح: إنّ الخروج من الدار المغصوبة ليس كذلك، فإنّه باق على ما هو عليه

ص: 32

استدلال الأشاعرة؛ للقول بأنّ الأفعال غير اختيارية، بقضية أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

فانقدح بذلك (1): فساد الاستدلال لهذا القول، بأنّ الأمر بالتخلّص و النهي عن من كونه مقدورا للمكلف فعلا و تركا بعد دخوله فيها و لم يعرض عليه الامتناع بمعنى عدم القدرة عقلا عليه.

=============

الوجه الثالث: أنّ محل الكلام في هذه القاعدة إنّما هو فيما إذا كان ملاك الوجوب تاما في ظرفه و مطلقا أي: من دون فرق في ذلك بين أن تكون مقدمته الإعدادية موجودة في الخارج أو غير موجودة، و أن يكون وجوبه مشروطا بمجيء زمان متعلقه أو لا، و ذلك كوجوب الحج فإنه و إن كان مشروطا بمجيء يوم عرفة إلاّ إنّ ملاكه يتمّ بتحقق الاستطاعة، و لا يتوقف على مجيء زمان متعلقه و هو يوم عرفة، و عليه: فمن ترك المسير إلى الحج بعد وجود الاستطاعة يستحق العقاب على تركه و إن امتنع عليه الفعل في وقته؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

هذا هو الملاك في جريان هذه القاعدة، و من المعلوم: أن هذا الملاك غير موجود في المقام، بل هو في طرف النقيض مع مورد القاعدة، و ذلك، لأنّ الخروج قبل الدخول في الدار المغصوبة لم يكن مشتملا على الملاك، فالدخول فيها من المقدمات الّتي لها دخل في تحقق القدرة على الخروج و تحقق ملاك الحكم فيه، ضرورة: أنّ الداخل فيها هو الّذي يمكن توجيه الخطاب إليه بفعل الخروج أو بتركه دون غيره، فإذن: لا يمكن أن يكون الخروج داخلا في موضوع القاعدة.

إذا عرفت هذه المقدمة الطويلة يتّضح لك كون القاعدة أجنبيّة عن المقام، لأنّ نتيجة الوجوه المذكورة هي: أنّ الخروج عن الدار المغصوبة غير داخل في كبرى تلك القاعدة، فلا يصح الاستدلال بها على كون الخروج مأمورا به و منهيا عنه بحجّة أنّ كون الخروج مأمورا و منهيا عنه، و إن كان مستلزما للتكليف بما لا يطاق و بما هو الممتنع إلاّ إنّ ذلك نشأ من سوء الاختيار، فيقال: إنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار. و قد عرفت أجنبيّة القاعدة عن المقام.

(1) أي: فانقدح بما ذكرنا ردّا - لما يقول به المحقق القمي من كون الخروج مأمورا و منهيا عنه من عدم صحّة تعلّق الطلب الحقيقي بالواجب و الممتنع و إن كان الوجوب و الامتناع بالاختيار - «فساد الاستدلال لهذا القول» يعني: فانقدح بعدم صحة الطلب الحقيقي بالواجب و الممتنع فساد استدلال صاحب القوانين على وجوب الخروج و حرمته، فلا بد أولا من تقريب هذا الاستدلال، و ثانيا: من بيان وجه فساده.

ص: 33

استدلال القوانين على وجوب الخروج و حرمته معا

و أما تقريب استدلال القوانين على وجوب الخروج و حرمته. فحاصله: أنّ الأمر بالتخلّص من الحرام و النهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما و لا موجب لتقييد الأمر بأن يقال بوجوب المقدمة الغير التخلّصي، أو تقييد النهي بأن يقال بحرمة الغصب الغير الخروجي؛ لأنّ منشأ التقييد هو الاستحالة الناشئة من أحد أمرين: و هما اجتماع الضدين - أعني: الوجوب و الحرمة - في فعل واحد كالخروج و التكليف بما لا يطاق لعدم قدرة المكلف على امتثال كليهما، و لا يلزم شيء من هذين الأمرين:

أمّا الأوّل: فلتعدد الجهة، فإنّ الخروج من حيث إنه غصب فهو حرام، و من حيث إنّه مقدمة للتخلّص عن الحرام فهو واجب.

و أمّا الثاني: فلكونه بسوء الاختيار، و الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

و الحاصل: أنّ الموجب للتقييد لزوم الاستحالة، و لا يلزم حتى يحبب عقلا تقييد أحد الدليلين بأن يقال: الغصب حرام إلاّ إذا كان تصرّفا خروجيّا، أو مقدمة الواجب واجبة إلاّ إن تكون مقدمة للتخلّص عن الحرام.

قوله: «لعدم استحالة...» إلخ تعليل لقوله: «و لا موجب للتقييد».

و قوله: «إذ منشأ الاستحالة...» إلخ تعليل للاستحالة يعني: أنّ منشأ الاستحالة الموجبة للتقييد عقلا أحد أمرين: اجتماع الضدين، و التكليف بما لا يطاق. و الأول غير لازم نظرا إلى تعدد الجهة، و الثاني: ليس بمحال لكونه بسوء الاختيار. و قد عرفت غير مرة: «إن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار». فلا مانع من القول بكون الخروج واجبا نظرا إلى الأمر، و حراما نظرا إلى النهي عملا بكلا الدليلين.

هذا تمام الكلام في تقريب الاستدلال.

و أمّا الجواب عن هذا الاستدلال و بيان فساده: فقد أشار إليه بقوله: «و ذلك لما عرفت من ثبوت الموجب للتقييد عقلا...» إلخ، و حاصل الجواب: أنّه لا بدّ من تقييد أحد الدليلين لئلاّ يلزم اجتماع الضدين.

أما وجه فساد الاستدلال: فلما عرفت سابقا من استحالة اجتماع الضدين، سواء تعدد عنوان المجمع أم اتحد، فلا بد من تقييد أحدهما بالأهم منهما، فإن كان الأهم هو الخروج: يقيّد دليل حرمة الغصب بغير الخروج، و إن كان الأهم هو البقاء: يقيّد دليل وجوب المقدمة بغير الغصب. هذا مجرّد فرض و إلاّ فالأهمّ هو التخلّص من البقاء المحرم بالخروج.

ص: 34

الغصب دليلان يجب إعمالهما، و لا موجب للتقييد عقلا، لعدم استحالة كون الخروج واجبا و حراما باعتبارين مختلفين، إذ منشأ الاستحالة: إمّا لزوم اجتماع الضدين و هو غير لازم مع تعدد الجهة، و إمّا لزوم التكليف بما لا يطاق و هو ليس بمحال إذا كان مسبّبا عن سوء الاختيار؛ و ذلك لما عرفت: من ثبوت الموجب للتقييد عقلا و لو كان بعنوانين، و أنّ اجتماع الضدين لازم و لو مع تعدد الجهة، مع عدم تعددها هاهنا، و التكليف بما لا يطاق محال على كل حال.

نعم؛ لو كان بسوء الاختيار لا يسقط العقاب بسقوط التكليف بالتحريم أو الإيجاب.

ثم لا يخفى: أنّه لا إشكال في صحة الصلاة مطلقا (1) في الدار المغصوبة على و كيف كان؛ فعلى الفرض الأوّل: يكون الخروج واجبا فقط، و على الفرض الثاني:

=============

يكون حراما فقط. هذا أوّلا. و ثانيا: أن التكليف بما لا يطاق قبيح عقلا سواء كان مسبّبا عن سوء الاختيار أم لم يكن. نعم؛ لو كان مسبّبا عن سوء الاختيار سقط التكليف و لا يسقط العقاب؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا لا خطابا بمعنى: إن المضطرّ إلى الحرام بالاختيار غير مخاطب فعلا، و لكن هو معاقب. فيصحّ عقابه عليه عقلا، و لا يصحّ خطابه به فعلا للاضطرار المسقط للتكليف، فالقول بكون الخروج مأمورا، به و منهيا عنه لا يرجع إلى محصل صحيح.

قوله: «نعم لو كان بسوء الاختيار...» إلخ استدراك على عدم الفرق في استحالة التكليف بما لا يطاق بين كونه بسوء الاختيار و عدمه و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 187» - أنّ الفارق بينهما هو استحقاق العقوبة إذا كان بسوء الاختيار، و عدم استحقاقها إذا لم يكن كذلك. و أمّا سقوط الخطاب: فهو مشترك بين الصورتين، و لذا اختار المصنف كون الخروج منهيا عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار، و عدم كونه مأمورا به.

في ثمرة الأقوال

(1) أي: في حالتي الاضطرار و الاختيار.

بعد ما فرغ المصنف من ذكر الأقوال و ما فيها من الردّ و الإشكال، شرع في بيان ثمرة تلك الأقوال فقال: «إنّه لا إشكال في صحة الصلاة مطلقا في الدار المغصوبة»، من غير فرق بين كون الصلاة مع الاضطرار إلى الغصب بأن حبسه الظالم فيها، أو بدون الاضطرار إليه بأن دخل فيها بسوء الاختيار، و بين كونها في حال الخروج أو في حال

ص: 35

البقاء فيها، ففي جميع هذه الصور تصحّ الصلاة فيها على القول بجواز الاجتماع؛ لعدم سراية كل واحد من الأمر و النهي إلى متعلق الآخر، فيتعدد المتعلق كما هو رأي المجوّزين.

هذا مجمل الكلام.

و أمّا تفصيل ذلك فيتبين من خلال الجواب عن الإشكال الذي أورده بعضهم على ما أفتى به المشهور من صحّة الصلاة في ضيق الوقت و بطلانها في السعة.

و حاصل الإشكال: أنّهم إن كانوا من المجوّزين للاجتماع: لكان لازم ذلك صحة الصلاة مطلقا حتى في سعة الوقت.

و إن كانوا من المانعين: فإن قدّموا الأمر على النهي: فاللازم أيضا صحة الصلاة مطلقا. و إن قدّموا النهي على الأمر، أو رأوا تساوي الأمر و النهي: فاللازم بطلان الصلاة حتى في ضيق الوقت. و على جميع التقادير: لا وجه للقول بالتفصيل أعني: بطلان الصلاة في السعة و صحّتها في الضيق؛ بل يدور أمر الصلاة بين الصحة مطلقا حتى في سعة الوقت، و بين بطلانها كذلك.

و أمّا الجواب الّذي تعلم منه ثمرة الأقوال: فتوضيح ذلك يتوقف على بيان حكم ما هنا من صور و احتمالات على القول بالامتناع.

و أمّا على القول بالجواز: ففي جميع الصور يحكم بالصحة من غير فرق بين ضيق الوقت وسعته، و لا بين كون الاضطرار بسوء الاختيار و عدمه و لا بين كون وقوع الصلاة في حال الخروج أو الدخول أو البقاء، لأن البناء على جواز اجتماع الأمر و النهي يستلزم الصحة في جميع الصور.

و أما على القول بالامتناع: فهناك صور يكون موردها ضيق الوقت. أما السعة:

فسيأتي حكمها في كلام المصنف: «أمّا مع السعة فالصحة و عدمها مبنيان على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضّد و اقتضائه» فانتظر. أمّا الصور الّتي يكون موردها ضيق الوقت فهي ثلاث صور:

الصورة الأولى: تغليب الأمر على النهي مطلقا؛ سوءا كان الاضطرار بسوء الاختيار أو لا، و سواء وقعت الصلاة في حال الخروج أو في غير حال الخروج، و لا إشكال في صحة الصلاة في جميع الفروض و الصور المزبورة؛ لأن حال الصلاة على الامتناع و ترجيح الأمر مطلقا حالها على القول بالجواز، فكما لا إشكال في صحة الصلاة في جميع الصور - على القول بالجواز - فكذلك على القول بالامتناع و ترجيح الأمر مطلقا.

ص: 36

الصورة الثانية: تغليب الأمر في الجملة، كما إذا كان الاضطرار لا بسوء الاختيار أو بسوئه؛ لكن وقعت الصلاة في حال الخروج، فإنّ الصلاة حينئذ صحيحة أيضا بناء على القول بكون الخروج مأمورا به بدون جريان حكم المعصية عليه إذ معه يكون مبغوضا، و لا يصلح للمقربيّة، فلا تصح الصلاة. «أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت».

و ما في «منتهى الدراية» حيث قال: «و هذا» أي: مع غلبة ملاك الأمر على النهي «إشارة إلى الصورة الثالثة: المتقدمة آنفا» واضح الفساد لأنّ الصورة الثالثة التي ذكرها في منتهى الدراية «هي تغليب النهي على الأمر مطلقا» لا غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت، بل هذا من مصاديق الصورة، الثانية: و هي تغليب الأمر على النهي «في الجملة»، يعني: في بعض الموارد. و من تلك الموارد: ما أشار إليه بقوله: «مع الاضطرار إلى الغصب لا بسوء الاختيار». و وجه الصحة: عدم النهي لسقوطه بالاضطرار لا بسوء الاختيار.

و منها: ما أشار إليه بقوله: «أو معه» أي: مع الاضطرار بسوء الاختيار، و لكن وقعت الصلاة في حال الخروج بناء على كونه مأمورا به؛ إمّا لكونه مصداقا للتخلّص الواجب، أو لكونه مقدمة له.

فعلى الأوّل: يكون الخروج واجبا نفسيا، و على الثاني: يكون واجبا غيريا و لكن مع عدم جريان حكم المعصية عليه، كما هو أحد الأقوال فيه.

«أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت» يعني: أنّ ضيق الوقت - كالاضطرار - رافع للحرمة، و المستفاد من هذه العبارة: صحّة الصلاة في المكان المغصوب بشرطين: الأوّل: غلبة مصلحة الأمر على مفسدة النهي، إذ مع غلبة مفسدته على مصلحة الأمر لا وجه لصحة الصلاة في المكان المغصوب عمدا.

الثاني: أن تكون الصلاة في ضيق الوقت.

الصورة الثالثة: هي تغليب النهي على الأمر، و لا إشكال في بطلان الصلاة مطلقا في صورة العمد و العلم؛ و لكن تصح الصلاة في صور تقديم النهي أو التساوي من ذوي الأعذار كالمحبوس ظلما في الغصب؛ أو الناسي للغصب أو الحرمة، أو الغافل عن الحرمة، أو الجاهل بها قصورا لا تقصيرا.

و المتحصّل: أن حكم الصلاة مع ضيق الوقت هي الصحة في جميع الصور إلاّ في صورة تقديم النهي على الأمر مع العمد و العلم، فما أورده البعض على فتوى المشهور بصحّة الصلاة في حال الضيق غير وارد. هذا تمام الكلام مع ضيق الوقت.

ص: 37

و أمّا مع سعة الوقت: «فالصّحة و عدمها مبنيّان على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضّد و اقتضائه».

و حاصل الكلام في المقام: أن في حكم الصلاة - مع غلبة ملاك الأمر على النهي في حال سعة الوقت - تفصيلا:

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة مشتملة على أمور: منها: كون الصلاة في المغصوب ضدا للصلاة في المباح بمعنى: أن كلاّ منهما واف بالغرض الداعي إلى إيجاب الصلاة، فلا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال، لسقوط الأمر بإتيان إحداهما و عدم بقاء المجال لإتيان الأخرى.

و منها: أن الصلاة في حال سعة الوقت فاقدة لمقدار من المصلحة المقابلة للمفسدة بسبب الكسر و الانكسار مثلا: إذا كانت مصلحة الصلاة في المباح عشر درجات، و في المكان المغصوب خمس درجات: فلو صلّى في غير هذا المكان لحصلت العشر، و لو صلّى فيه حصلت الخمس، فحينئذ مع وقوع التضاد بينهما - كما هو المفروض - لا يبقى مجال لاستيفاء الخمسة مع استيفاء الخمس الأولى بإتيانها في الغصب، و نظرا إلى عدم جواز تفويت المصلحة يتوجه الأمر إلى خصوص الصلوات الواقعة في غير الغصب، و تبقى الصلاة الواقعة فيه بلا أمر؛ لعدم جواز التخيير بين ما تفوت به المصلحة المهمة، و بين ما يفي بتمامها لكونه تفويتا للمصلحة.

و منها: اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد و عدم اقتضائه، مثلا: إن لم يكن الأمر بالفرد المباح مقتضيا للنهي عن الصلاة في الغصب صحت الصلاة لعدم مبغوضيّتها، و إن كان مقتضيا له بطلت.

إذا عرفت هذه المقدمة فاتضح لك أمران:

الأول: التفصيل: و هو صحة الصلاة على القول بعدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ، و بطلانها على القول بالاقتضاء.

الثاني: صحة ما نسب إلى المشهور من التفصيل بين الضيق و السعة.

و الصحة في الأول و البطلان في الثاني، إذ يمكن أن يقال: إن المشهور قائلون بالامتناع مع تقديم الأمر و التضاد و اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ.

فيصح حينئذ ما نسب إليهم من الحكم بصحة الصلاة مع ضيق الوقت، و البطلان مع سعة الوقت.

ص: 38

و المتحصل: أنه على الامتناع و تقديم الأمر تصحّ الصلاة في حال ضيق الوقت مطلقا، من غير فرق بين الاضطرار و غيره، و بين الخروج و البقاء.

و أمّا مع السعة: فيبتني القول بالبطلان و عدمه على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد و عدمه. و من الممكن أن يكون المشهور قائلين بالامتناع و تقديم الأمر على النهي و اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ، فيصح التفصيل المنسوب إليهم.

و قبل بيان ثمرة الأقوال نذكر توضيح بعض عبارات المصنف طبقا لما في «منتهى الدراية»:

قوله: «فإنّ الصلاة في الدار المغصوبة» إشارة إلى وجه بطلان الصلاة في المغصوب مع غلبة مصلحتها على ما فيها من المفسدة، و كون غلبة المصلحة مقتضية للصحة و مانعة عن تأثير المفسدة المغلوبة في البطلان. و أن وجه البطلان هو النهي الغيري الناشئ عن الأمر بالضدّ و هو الصلاة في المباح، فالفساد ناشئ عن النهي الغيري، لا عن عدم المصلحة، و لذا بنى البطلان على مسألة اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ الّتي هي مبنية على وجود الملاك و المصلحة في الضّد، و لم يبنه على عدم المصلحة. و قد أشار بقوله: «و إن كانت مصلحتها غالبة» إلى اندراجها في مسألة اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ.

قوله: «أنّ الصلاة في غيرها تضادّها» يعني: أنّ الصلاة في غير الدار المغصوبة تضاد الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة. و قد تقدم التضاد بينهما.

قوله: «بناء على أنّه..» إلخ قيد للتضاد، يعني: أنّ التضاد مبني على سقوط الغرض الداعي إلى الأمر بالإتيان بأحد الفردين و عدم بقائه حتى يكون الفرد الآخر وافيا به.

قوله: «مع كونها أهم منها» يعني: مع كون الصلاة الأخرى - و هي الصلاة في غير المغصوب - أهم من الصلاة في المغصوب. و وجه الأهميّة: خلوها عن المنقصة الناشئة من اتحادها مع الغصب.

قوله: «لخلوها» تعليل للأهمية. و الضمير في «لكنه» للشأن.

قوله: «فالصلاة في الغصب» متفرع على ما اختاره من عدم الاقتضاء «في سعة الوقت صحيحة، و إن لم تكن مأمورا بها»؛ لما تقدم في مبحث الضدّ من: أن الأمر بالشيء و إن لم يقتض النهي عن ضدّه؛ لكنه يقتضي عدم الأمر بالضدّ، فالساقط هو الأمر الفعلي دون الملاك و المحبوبية، فلا مانع من فعل الضّد العبادي بداعي الملاك من دون حاجة في تصحيحه إلى الأمر.

ص: 39

القول بالاجتماع، و أمّا على القول بالامتناع، فكذلك، مع الاضطرار إلى الغصب، لا

=============

بقي الكلام في ثمرة الأقوال

و هي: صحة الصلاة في الدار المغصوبة على القول بجواز الاجتماع مطلقا.

و أمّا على الامتناع: فكذلك لا إشكال في صحة الصلاة مع الاضطرار إلى الغصب لا بسوء الاختيار، أو مع سوء الاختيار إذا وقعت الصلاة في حال الخروج على القول بكون الخروج مأمورا به بدون إجراء حكم المعصية عليه.

أما وجه الصحة فيما إذا لم يكن الاضطرار بسوء الاختيار فهو: عدم النهي لسقوطه بالاضطرار.

أما وجه الصحة فيما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار و وقوع الصلاة حال الخروج:

فلكون الخروج إمّا واجبا نفسيا، لكونه مصداقا للتخلّص الواجب، أو واجبا غيريا لكونه مقدمة للواجب، «أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت». يعني: لا إشكال في صحة الصلاة مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت. و أمّا لو كان في السعة فلا تصحّ الصلاة إذ مع السعة يكون الأمر متوجها إلى غير هذه الصلاة أعني:

الصلاة في غير الغصب.

و المتحصّل: أنّ صحة الصلاة في المكان المغصوب مشروط بشرطين:

الأول: غلبة مصلحة الأمر على مفسدة النهي.

الثاني: أن تكون الصلاة في ضيق الوقت.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - الاضطرار إلى الحرام قد يكون قهريا أي: لا يكون بسوء الاختيار، و قد يكون بسوء الاختيار، فإن كان من القسم الأول استلزم رفع الحرمة و المبغوضية، فلا يكون ملاك التحريم مؤثرا، فيكون ملاك الأمر بلا مزاحم، فيؤثر و يلزم صحة العمل العبادي الّذي به يتحقق الحرام لارتفاع المانع.

و إن كان من القسم الثاني: فالاضطرار و إن كان مستلزما لرفع الحرمة لامتناع التكليف بغير المقدور عقلا إلاّ أن الفعل يبقى مبغوضا و ذا مفسدة مؤثرة في مبعديّته؛ فلا يكون المجمع صحيحا لوجود المانع عن المقربيّة. هذا ممّا لا إشكال فيه و لا كلام.

و إنّما محلّ الكلام الذي عقد له المصنف هذا التنبيه هو: ما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار، و اتّفق كون الفعل المضطرّ إليه مقدمة لواجب كالخروج عن الدار المغصوبة،

ص: 40

بسوء الاختيار أو معه، و لكنها وقعت في حال الخروج على القول بكونه مأمورا به فيما إذا توسطها المكلف بسوء الاختيار، فيقع الكلام في حكم الخروج عن الدار المغصوبة بعد دخولها بالاختيار.

=============

و فيه على القول بالامتناع أقوال:

1 - أنّه مأمور به فقط من دون جريان حكم المعصية عليه.

2 - أنّه مأمور به مع جريان حكم المعصية عليه.

3 - أنّه مأمور به لكنّه معصية بالنظر إلى النهي السابق.

4 - أنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار و ليس مأمورا به و هو مختار المصنف «قدس سره».

2 - بيان ما هو الوجه لمختار المصنف:

أما وجه كون الخروج منهيا عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار - و لازمه ثبوت العقاب - فلأنّ مخالفة الحرام مع القدرة على تركه توجب عقلا استحقاق العقوبة، لأنّ المكلف من الأوّل كان قادرا على ترك الغصب دخولا و بقاء و خروجا بواسطة ترك الدخول فعصى في الكل، و ليس الاضطرار بسوء الاختيار عذرا في ارتكاب المضطر إليه الحرام.

و أمّا عدم كون الخروج مأمورا به: فلأنّ الاضطرار طرأ بسوء الاختيار، فلا يتصف الخروج بالوجوب مقدمة للتخلّص الواجب، فلا يجدي في وجوب الخروج انحصار التخلّص عن الحرام به.

و توهّم: أن الخروج مقدمة للواجب، و مقدمة الواجب واجبة، فالخروج واجب فكيف لا يجدي انحصار التخلّص عن الحرام بالخروج في اتصافه بالوجوب الغيري ؟ مدفوع؛ بأنّ الخروج و إن كان مقدمة للواجب و مقدمة الواجب واجبة إلاّ إنّ مقدمة الواجب واجبة لو لم تكن محرمة.

و توهم وجوب المقدمة المحرمة - بتقريب: أنّ وجوب المقدمة لا يختص بالمقدمة المباحة في صورة انحصار المقدمة في المحرمة: ففي صورة الانحصار تكون المقدمة المحرمة واجبة، و المفروض: هو انحصار المقدمة في المحرمة، فتكون واجبة - مدفوع: بأن ترشح الوجوب الغيري إلى المقدمة المحرمة في صورة الانحصار إنّما هو مشروط بشروط:

1 - انحصار المقدمة في المحرمة.

2 - كون الواجب أهمّ .

ص: 41

بدون إجراء حكم المعصية عليه، أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت، 3 - عدم كون الانحصار بسوء الاختيار، و الخروج في محل الكلام فاقد للشرط الثالث.

=============

3 - «إن قلت: إن التصرف في أرض الغير...» إلخ. هذا من المصنف إشارة إلى ما في تقريرات الشيخ الأعظم؛ من كون الخروج عن الغصب واجبا و مأمورا به فقط، و إن كان الدخول بسوء الاختيار كما هو مفروض البحث.

و حاصل استدلال الشيخ على كون الخروج واجبا و مأمورا به من دون جريان حكم المعصية عليه:

إنّ التصرف بدون الإذن على ثلاثة أنحاء:

1 - الدخولي. 2 - البقائي، 3 - الخروجي. فيقال: إنّ المحرم من هذه الأقسام هو الأوّل و الثاني، و أمّا الثالث: فلا يكون محرما لوجهين:

الأول: أنّ الغصب ليس كالظلم علّة تامّة للقبح بل مقتضى له، فلا يقبح إذا ترتّب عليه عنوان حسن كترتّب التخلّص عن الحرام على الخروج.

الثاني: أن التصرف الخروجي لكونه مقدمة للواجب لا يتصف بالحرمة، نظير شرب الخمر فإنّه حلال مع توقف النجاة عن الهلاك عليه، فيكون الخروج مأمورا به من دون جريان حكم المعصية عليه.

«و منه: ظهر المنع...» إلخ أي: و من منع حرمة التّصرف الخروجي ظهر المنع عن حرمة جميع التصرفات، فلا بد أولا من تقريب حرمة جميع التصرفات حتى يتضح المنع عن حرمة جميع التصرّفات.

أما حرمة جميع التصرّفات أعني: التصرف الدخولي و البقائي و الخروجي: فلأنّ المكلف يتمكّن من ترك الجميع حتى الخروج فيكون جميع التصرفات محكوما بالحرمة.

أمّا وجه ظهور منع حرمة الجميع: فلأنّ التكليف مشروط بالقدرة، و المقدور هو التصرف الدخولي. و أما التصرف الخروجي فغير مقدور قبل الدخول؛ إذ لا يصدق عرفا تارك الخروج على من لم يدخل بعد إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، و عليه: فلا يكون ترك الخروج حقيقة مقدورا كي يكون موضوعا للحكم بالحرمة.

و المتحصّل: أن التصرف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول و البقاء و إن كان حراما بلا إشكال، إلاّ إن التصرف بالخروج ليس بحرام بحال من الحالات، لكونه مقدمة للواجب، و مقدمة الواجب واجبة.

و من هنا ظهر المنع عن حرمة جميع التصرفات حتى الخروج لما عرفت: من منع حرمة

ص: 42

أمّا مع السعة: فالصحة و عدمها مبنيان على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الخروج؛ بل هو واجب من باب المقدمة، نظير شرب الخمر للنجاة عن الهلاك، و لعدم كونه مقدورا حتى يكون موضوعا للحكم بالحرمة.

=============

و توهم: كون الخروج قبل الدخول مقدورا بواسطة القدرة على ترك الدخول و المقدور بالواسطة مقدور، فيكون الخروج محكوما بالحرمة لكونه مقدورا بالواسطة مدفوع: بأنّ المقدور الذي يصحّ تعلق التكليف به ما تكون القدرة على وجوده و عدمه على حدّ سواء، و من المعلوم: أن الخروج قبل الدخول غير مقدور؛ إذ لا يتمكّن المكلف منه قبل الدخول، فكذا ترك الخروج، فلا يكون موضوعا للحرمة لكونه غير مقدور.

و المتحصّل: أن الخروج قبل الدخول غير مقدور، فلا يكون موضوعا للحرمة.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلّص - كالخروج - مأمورا به كما في تقريرات الشيخ الأنصاري «قدس سره».

4 - جواب المصنف عن استدلال الشيخ:

و قد أجاب المصنف بجوابين أحدهما: حلّي و هو ما أشار إليه بقوله: «إذا لم يتمكّن المكلف من التخلّص..» إلخ، و الآخر: نقضيّ أشار إليه بقوله: «كما هو الحال في البقاء».

و أمّا ملخص الجواب الحلّي فهو: أن ترشح الوجوب الغيري على المقدمة المحرمة و انقلاب المحرم إلى الواجب مشروط بشرطين:

الأول: انحصار المقدمة في خصوص المحرمة.

الثاني: أن يكون الاضطرار إليها لا بسوء الاختيار، و الخروج فاقد للشرط الثاني. فلا يترشّح الوجوب الغيري إليه و لا ينقلب إلى الواجب و هو حرام.

أمّا الجواب النقضي: فهو نقض الخروج بالبقاء؛ إذ كلّ منهما يتوقف على الدخول، و الحال أن الشيخ اعترف بحرمة البقاء بقوله: «إن قلت: إنّ التصرّف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول و البقاء حرام بلا إشكال».

و حاصل النقض: أنّه لا فرق بين البقاء و الخروج في الفرعية على الدخول و كونهما مقدورين بالواسطة، فكل منهما محكوم بحكم واحد، لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز و لا يجوز واحد، فكل ما أجاب به الشيخ عن إشكال البقاء نجعله جوابا عن إشكال الخروج.

فإنّ النقض في الحقيقة تكثير للإشكال.

و من هنا ظهر حال شرب الخمر حيث يقال: إنّ مطلوبية شرب الخمر تخلّصا عن المهلكة منوطة بعدم كون الاضطرار بسوء الاختيار، و معه لا يتصف بالمطلوبيّة.

5 - قوله: «لو سلّم عدم الصدق إلاّ بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع»: جواب

ص: 43

الضدّ و اقتضائه، فإنّ الصلاة في الدار المغصوبة و إن كانت مصلحتها غالبة على ما آخر عما في كلام الشيخ من عدم صدق تارك الخروج على من لم يدخل بعد إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

=============

و ملخّص الجواب: أنّه لا ضير في ذلك بعد فرض تمكّن المكلف من ترك الخروج بسبب ترك الدخول و فعله بواسطة الدخول، فهو قادر على الفعل و الترك بالواسطة، و هذا كاف في التكليف؛ لأن العقل يجوّز التكليف بمطلق المقدور من دون فرق بين كون القضية سالبة بانتفاء الموضوع أو المحمول، فلا يكون الخروج غير مقدور حتى لا يتعلّق به الحكم بالحرمة.

قوله: «إن قلت كيف يقع مثل الخروج...» إلخ إشكال من الشيخ على المصنف القائل بحرمة الخروج و الشرب، فيكون دليلا على وجوب الخروج و كونه مأمورا به فقط.

و ملخص الإشكال: أنّ الالتزام بالحرمة يوجب ارتفاع الوجوب عن ذي المقدمة و هو التخلّص عن الحرام و حفظ النفس؛ لأنّ المقدمة - و هي الخروج و الشرب على فرض الحرمة - ممنوعة شرعا، و الممنوع شرعا كالممتنع عقلا، فالتكليف بذي المقدمة مع امتناع مقدمته الوجودية تكليف بغير مقدور؛ إذ لا يمكن الجمع بين حرمة المقدمة و وجوب ذيها. فلا بد إمّا من سقوط الوجوب عن ذي المقدمة، و إمّا من سقوط حرمة المقدمة، و الالتزام بسقوط الوجوب ممّا لم يلتزم به أحد، فلا محيص عن الالتزام بسقوط الحرمة عن المقدمة و هو المطلوب، و عليه: فالخروج و الشرب واجبان و إن كانا بسوء الاختيار.

و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بوجهين:

الأوّل: ما أشار إليه بقوله: «قلت: أوّلا:»، و حاصله: أنّ حرمة المقدمة إنّما ترفع وجوب ذيها فيما إذا لم يحكم العقل بلزوم فعل المقدمة، و أما مع حكمه بلزومها: فلا بأس ببقاء وجوب ذيها بحاله إذ لا يكون التكليف به حينئذ من التكليف بالممتنع عقلا.

فلا منافاة بين وجوب ذي المقدمة و بين كون المقدمة - كالخروج - ممنوعة شرعا بالنهي الساقط مع حكم العقل بلزومها من باب الأخذ بأقلّ القبيحين.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و ثانيا: لو سلم...» إلخ، و حاصله: أنّه لو سلّمنا سقوط وجوب ذي المقدمة لكونه منافيا لحرمة مقدمته - حتى في صورة حكم العقل بلزوم المقدمة - كان الساقط هو فعلية البعث و الإيجاب بحفظ النفس عن الهلاك و التخلّص عن الغضب، و أمّا حكم العقل لتنجّز التكليف بهما قبل الاضطرار فهو باق، و معه لا حاجة إلى الخطاب الشرعي الفعلي، و عليه: فحرمة المقدمة مانعة عن فعلية وجوب ذي المقدمة دون ملاكه لتماميّته و عدم قصور فيه. و لذا يحكم العقل بلزوم استيفائه. و عليه:

ص: 44

فيها من المفسدة، إلاّ إنّه لا شبهة في أنّ الصلاة في غيرها تضادّها، بناء على أنّه لا فيجب التخلّص عن الغصب، و حفظ النفس عن الهلاك بالخروج و الشرب بحكم العقل و إن لم يكن هناك وجوب فعلي شرعا بالتخلّص عن الغصب و حفظ النفس.

=============

فساد ما نسب إلى المحقق القمّي من كون الخروج مأمورا به و منهيا عنه

6 - «و قد ظهر مما حققناه: فساد القول بكونه مأمورا به مع إجراء حكم المعصية عليه». هذا من المصنف ردّ على صاحب الفصول القائل بكون الخروج مأمورا به مع إجراء حكم المعصية عليه.

أمّا كونه مأمورا به: فلكونه مقدمة لواجب.

و أمّا إجراء حكم المعصية عليه: فللنهي السابق قبل الاضطرار.

أمّا وجه فساد هذا القول: فلما تقدم من أنّ الخروج باق على حرمته لكون الاضطرار بسوء الاختيار، فليس مأمورا به إنّما العقل ملزم للإتيان به من باب الأخذ بأقل المحذورين، هذا مع ما في قول الفصول من لزوم اجتماع الضدّين و هما - الوجوب و الحرمة - في فعل واحد بعنوان واحد، فيلزم أن يكون الخروج مع وحدة عنوانه حراما و واجبا.

و ما تشبث به صاحب الفصول في دفع التضاد باختلاف زمان الحرمة و الوجوب - بكون الحرمة سابقا و الوجوب لاحقا - لا يجدي في دفع اجتماع الضدّين مع اتحاد زمان الفعل؛ إذ التضاد يلزم مع وحدة زمان الفعل و هي متحققة.

7 - و أمّا ما نسب إلى المحقق القمي من كون الخروج مأمورا به و منهيا عنه فمردود بوجوه: الأول: ما عرفت في بيان مختار المصنف من امتناع اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد بعنوانين، فضلا عمّا إذا كان بعنوان واحد.

الثاني: أنّه لو سلّمنا جواز الاجتماع لكان ذلك في مورد تعدد العنوان لا في مورد وحدته كما في المقام؛ حيث إن متعلق الأمر و النهي هو الخروج الشخصي بعنوانه الأوّلي أعني: التصرف في مال الغير بدون إذنه، فالنتيجة: أن الخروج لوحدة عنوانه أجنبي من مسألة اجتماع الأمر و النهي.

الثالث: أنه لا يمكن الالتزام بالاجتماع في المقام، لأن جوازه مشروط بوجود المندوحة كالصلاة في المكان المغصوب مع إمكان فعلها في مكان مباح. و هذا الشرط مفقود في المقام لانحصار طريق التخلّص عن الحرام بالخروج.

قوله: «و ما قيل: إن الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار» دفع لتوهم بتقريب: إنّ الوجوب و الامتناع إن كانا بسوء الاختيار لا يمنعان عن التكليف لما قيل من إنّ الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار، فصح تعلق التكليف به لكونه بالاختيار.

و حاصل الدفع: أنّ قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار أجنبيّة عن المقام و هو

ص: 45

يبقى مجال مع إحداهما للأخرى، مع كونها أهمّ منها؛ لخلوّها من المنقصة الناشئة من تعلق التكليف الذي صار واجبا أو ممتنعا بسوء الاختيار؛ بل موردها اختيارية الأفعال الصادرة عن العباد في مقابل الأشاعرة القائلين بالجبر استنادا إلى أن الفعل مع الإرادة واجب، و مع عدمها ممتنع، و لازم ذلك: هو الجبر و انتفاء الاختيار.

=============

و قد أجاب العدلية عن ذلك: بأنّ الفعل بعد وجود علته التامّة و منها الإرادة و إن كان واجبا، و مع انتفائها كان ممتنعا إلاّ إن الإيجاب بالاختيار و الامتناع كذلك لا ينافي الاختيار، فالفعل مع جميع مباديه و منها الإرادة و إن كان واجبا إلاّ إنّه ليس غير اختياري حتى يلزم الجبر، و كذلك مع انتفاء الإرادة، و إن كان ممتنعا إلاّ إنّه ليس بجبر، لأنّ وجود الفعل في الأول و عدمه في الثاني مستند إلى الاختيار. فهذه القاعدة أجنبيّة عن المقام.

8 - «فانقدح بذلك فساد الاستدلال لهذا القول» يعني: فظهر بما ذكرنا - ردّا لما يقول به المحقق القميّ من كون الخروج مأمورا به و منهيا عنه من عدم صحّة تعلق الطلب الحقيقي بالواجب، و الممتنع و إن كان كل منهما بالاختيار - فساد استدلال المحقق القمي على وجوب الخروج و حرمته بأنّ الأمر بالتخلّص عن الغصب و النهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما بلا تقييد أصلا، و لازمه هو: الحكم بوجوب الخروج و حرمته معا عملا بإطلاق كلا الدليلين.

أمّا وجه فساد الاستدلال: فلما عرفت سابقا من استحالة اجتماع الضدّين سواء تعدد عنوان المجمع أم اتحد، فلا بدّ من تقييد أحد الدليلين بما هو الأهمّ منهما، فالقول بكون الخروج مأمورا به و منهيا عنه لا يرجع إلى محصل صحيح.

9 - ثمرة الأقوال: و هي صحة الصلاة في الدار المغصوبة على القول بالجواز مطلقا.

و أمّا على القول بالامتناع: فكذلك مع الاضطرار إلى الغصب لا بسوء الاختيار، أو مع سوء الاختيار إذا وقعت الصلاة في حال الخروج.

أما وجه الصحة في الفرض الأول: هو عدم النهي لسقوطه بالاضطرار.

و أمّا وجه الصحة في الفرض الثاني: فلكون الخروج واجبا إمّا لكونه مصداقا للتخلّص الواجب أو مقدمة له.

و كذا تصح الصلاة مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت.

و أمّا مع سعته فصحة الصلاة مبنية على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ.

رأي المصنف «قدس سره» في مسألة اجتماع الأمر و النهي:

هو الامتناع. و أمّا في الخروج فلكونه منهيا عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار، و لا يكون مأمورا به.

ص: 46

قبل اتّحادها مع الغصب؛ لكنّه عرفت عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه، فالصلاة في الغصب اختيارا في سعة الوقت صحيحة، و إن لم تكن مأمورا بها.

الأمر الثاني:

قد مرّ (1) في بعض المقدمات: أنّه لا تعارض بين مثل خطاب «صل» و خطاب «لا تغصب» على الامتناع تعارض (2) الدليلين بما هما دليلان حاكيان (3)، كي يقدم الأقوى منهما دلالة أو سندا؛ بل إنّما هو من باب تزاحم المؤثرين و المقتضيين، فيقدم الغالب منهما (4)، و إن كان الدليل على مقتضى الآخر أقوى من دليل مقتضاه.

=============

الأمر الثاني
الكلام في صغروية مسألة الاجتماع لكبرى التزاحم أو التعارض

(1) يعني: قد مرّ في المقدمة الثامنة و التاسعة ما مفاده: من أنّ مسألة الاجتماع من صغريات كبرى التزاحم.

و كيف كان؛ فالغرض من عقد هذا الأمر الثاني: إنه ليس مسألة الاجتماع من باب التعارض حتى يرجع فيها إلى المرجحات السندية او الدلالية أو الجهتية؛ بل من باب التزاحم الذي يكون مرجحه أهمية أحد الملاكين على الآخر، فيقدم ما هو الأهم ملاكا على الأضعف ملاكا. فلا تعارض بين خطاب «صل» و خطاب «لا تغصب» مطلقا، يعني: لا على القول بالجواز، و لا على القول بالامتناع.

أما على القول بالجواز: فعدم التعارض لتعدد الجهة الموجب لتعدد المتعلق، و أما على القول بالامتناع: فيكون مثل: «صلّ و لا تغصب» من باب التزاحم، فيقدم ما هو الأهم منهما على الآخر لوجود المقتضى لتشريع الحكم في كل منهما.

(2) مفعول مطلق نوعي لقوله: «لا تعارض...» إلخ.

(3) قوله: «بما هما دليلان حاكيان» إشارة إلى: أنّ التعارض على مذهب المصنف يكون في ناحية الكشف و الحكاية؛ لا في ناحية المدلول.

(4) أي: الغالب من المؤثرين، فالتزاحم عند المصنف عبارة عن تزاحم الملاكين الداعيين إلى تشريع الحكمين، و ليس عبارة عن تزاحم الحكمين الفعليين في مقام الامتثال.

و حاصل الكلام في المقام: أن الغالب من المؤثرين يقدم على الآخر، و إن كان الآخر بحسب الدليل أقوى منه، فيكون قوله: «و إن كان الدليل على مقتضى الآخر أقوى من دليل مقتضاه» إشارة إلى لزوم إعمال مرجح باب التزاحم - و هو تقديم ما هو الأهم ملاكا - و عدم إعمال مرجحات باب التعارض - و هو تقديم ما هو أقوى دلالة أو سندا أو جهة -.

ص: 47

هذا (1) فيما إذا أحرز الغالب منهما، و إلاّ (2) كان بين الخطابين تعارض، فيقدّم الأقوى منهما دلالة أو سندا، و بطريق الإنّ يحرز به: أنّ مدلوله أقوى مقتضيا.

=============

(1) أي: تقديم الغالب من الملاكين على الآخر إنّما يكون فيما إذا أحرز الغالب منهما.

(2) أي: و إن لم يحرز الغالب منهما كان الخطابان متعارضين؛ للعلم الإجمالي بكذب أحدهما في دلالته على فعلية مؤداه، فيقدم ما هو الأقوى منهما دلالة أو سندا.

هذا مجمل الكلام في المقام، و أمّا تفصيل ذلك: فإنّ الواقع لا يخلو عن ثلاثة أوجه، و بعبارة أخرى: إن صور عدم إحراز أقوى المقتضيين ثلاثة:

الأوّل: أن يكون كلاهما لبيان الحكم الفعلي، و قد أشار إليه بقوله: «فيقدم الأقوى منهما».

الثاني: أن يكون كلاهما لبيان الحكم الاقتضائي.

الثالث: أن يكون أحدهما متكفّلا للحكم الفعلي، و الآخر للحكم الاقتضائي.

و على الأوّل: يتعيّن الأخذ بالأهمّ إذا كان معلوما، و إلاّ يرجع إلى المرجحات السندية أو الدلالية إن كان المرجح موجودا، و إلاّ يحكم بالتخيير بينهما كما في باب تعارض الدليلين.

و على الثاني: يرجع إلى الأصول العملية كما أشار إليه بقوله: «و إلاّ فلا محيص عن الانتهاء إلى ما تقتضيه الأصول العملية».

و على الثالث: يؤخذ بالحكم الفعلي، و يطرح الحكم الاقتضائي كما أشار إليه بقوله:

«و إلاّ فلا بدّ من الأخذ بالمتكفل لذلك منهما».

قوله: «و بطريق الإنّ » إشارة إلى أنّ المراد بالطريق الإنّي هنا ليس ما هو المصطلح من العلم بالعلة من طريق العلم بالمعلول؛ إذ ليست قوّة الدلالة معلولة لقوّة المدلول، و هما معلولتان لعلة ثالثة حتى يندرج في الطريق الإنّي المصطلح؛ لعدم اللزوم بينهما، إذ قد يكون الأقوى دلالة أضعف مدلولا من الدليل الذي يكون أضعف دلالة، و أقوى مدلولا؛ بل المراد بالطريق الإنّي هنا: أنّ الأقوى لما دل مطابقة على فعلية مؤداه، فقد دل التزاما على أقوائية ملاكه. كما أنّ الدليل الأضعف كذلك، فإذا دلّ دليل الترجيح على حجيّة أقوى الدليلين المتعارضين؛ و عدم حجية الآخر فقد دلّ على ثبوت مدلولي الدليل الأقوى المطابقي و الالتزامي معا، و نتيجة ذلك: ثبوت أقوائية ملاكه ظاهرا، مثلا: إذا دل دليل بالدلالة المطابقية على وجوب الصلاة، و بالالتزام على أقوائية ملاكه - و قدم هذا الدليل لأقوائية دلالته على دليل حرمة الغصب - فببركة أدلة ترجيح الدلالة تصير دلالة دليل

ص: 48

هذا (1) لو كان كل من الخطابين متكفلا لحكم فعلي، و إلاّ (2) فلا بد من الأخذ بالمتكفل لذلك منهما لو كان، و إلاّ فلا محيص عن الانتهاء إلى ما تقتضيه الأصول العملية.

ثم لا يخفى (3): أن ترجيح أحد الدليلين و تخصيص الآخر به في المسألة، لا وجوب الصلاة على ملاكه أقوى من دلالة دليل حرمة الغصب على ملاكه؛ الذي هو لازم مدلوله المطابقي؛ كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 196» مع تصرّف ما.

=============

(1) أي: أنّ التعارض بين الدليلين الموجب للأخذ بالأرجح منهما سندا أو دلالة يكون في الصورة الاولى، و هي كون كلا الدليلين لبيان الحكم الفعلي.

(2) أي: و إن لم يكن كلّ منهما متكفلا للحكم الفعلي، فإن كان أحدهما فعليا و الآخر اقتضائيا، فلا بد من الأخذ بما هو متكفل للحكم الفعلي؛ إذ لا منافاة بين الحكم الفعلي و الاقتضائي، و إن كان كل منهما اقتضائيا؛ فالمرجع حينئذ الأصول العملية كما عرفت.

و قد أشار إليه بقوله: «و إلاّ فلا محيص عن الانتهاء إلى ما تقتضيه الأصول العملية» يعني: و إن لم يكن أحدهما متكفلا للحكم الفعلي بأن كان مدلول كل منهما حكما اقتضائيا، فلا محيص عن الرجوع إلى الأصول العملية كما عرفت.

(3) هذا هو المقصود الأصلي من عقد هذا الأمر الثاني، و الغرض منه: دفع الإشكال الّذي أورده الشيخ في التقريرات على الحكم بصحة الصلاة في المغصوب مع الجهل العذري و سائر الأعذار، و ترجيح النهي على الأمر.

فلا بد أوّلا: من تقريب الإشكال، و ثانيا: من توضيح دفع ذلك.

و أما تقريب الإشكال: فإنّ ترجيح النهي على الأمر يقتضي عدم صحة الصلاة في موارد العذر لخلو الصلاة بعد تقييدها بالنهي عن المصلحة - فضلا عن الوجوب - كما هو شأن التقييد في سائر الموارد، فإنّ تقييد الرقبة مثلا بالإيمان يقتضي خلو عتق الكافرة عن المصلحة، و عدم إجزاء عتقها حتى حال الجهل و النسيان لخلوها عن الملاك و الوجوب الناشئ منه.

فيقال: في المقام إن دلالة الأمر - في خطاب «صلّ » - بالإطلاق و إن كان على مطلوبيّة محل الاجتماع، إلاّ إنّ دلالة النهي بالعموم على مبغوضيته شاملة لجميع الأفراد.

و بعد ملاحظة الترجيح في جانب النهي - كما هو المفروض - لا بدّ من المصير إلى أنّ مورد الاجتماع خارج عن المطلوب بجميع أحواله و أطواره، و لازم ذلك: فساد المجمع بواسطة ارتفاع المطلوبية و الأمر و لو حال الجهل و النسيان و الغفلة عن الحرمة. و هذا ينافي

ص: 49

يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأسا، كما هو قضيّة التقييد و التخصيص في غيرها ممّا لا يحرز فيه المقتضي لكلا الحكمين؛ بل قضيّته ليس إلا خروجه فيما كان الحكم الذي هو مفاد الآخر فعليا؛ و ذلك لثبوت المقتضي في كل ما تقدم من صحة الصلاة في المغصوب - بناء على الامتناع و تقديم النهي أو التساوي - من ذوي الأعذار كالمحبوس ظلما في الغصب، و الناسي للغصب، أو الحرمة، و الغافل عنها، و الجاهل بها قصورا. هذا تمام الكلام في تقريب الإشكال.

=============

دفع إشكال ترجيح النهي على الأمر

و أما دفعه: فيتوقف توضيحه على مقدمة و هي: الفرق بين تخصيص أحد الدليلين في مسألة باب التزاحم، و بين تخصيصه في باب التعارض.

و حاصله: أنّ مناط التعارض هو وجود ملاك أحد الحكمين، و مناط التزاحم هو وجود ملاك كلا الحكمين، و لازم هذا الفرق: أن تخصيص أحد الدليلين أو تقييده في باب التعارض يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الدليل الآخر رأسا، كما في مثل:

«أكرم العلماء و لا تكرم النحاة»، فإنّ العالم النحوي - بعد تخصيص العلماء بالنحاة - يخرج عن حيّز «أكرم العلماء» ملاكا و وجوبا، فلا مصلحة و لا وجوب له.

هذا بخلاف باب التزاحم، كما في إنقاذ زيد و عمرو مع عجز المكلّف عن إنقاذهما معا، فإذا رجّح إنقاذ زيد لقوّة ملاكه يبقى إنقاذ عمرو على وجوبه الاقتضائي.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن مسألة اجتماع الأمر و النهي إنّما هي من باب التزاحم.

فحاصل دفع الإشكال:

إنّ ترجيح النهي على الأمر في مسألة الاجتماع ليس من باب التخصيص المصطلح الّذي يوجب اختصاص الملاك و الحكم بغير مورد التخصيص - كما عرفت - فيوجب خروج الخاص عن العام رأسا، هذا بخلاف مسألة الاجتماع، فإنّ ترجيح أحد الدليلين على الآخر يوجب خروج الآخر عن الحكم الفعلي فقط مع بقاء ملاكه، فالصلاة في المغصوب خرجت عن حيّز الوجوب الفعلي دون ملاكه، فمصلحتها باقية على حالها، و حينئذ يؤثر الملاك بارتفاع فعلية النهي عن الغصب بسبب عذر من الأعذار الرافعة له، و نتيجة ذلك: صحة الصلاة في موارد العذر؛ إذ لا مانع من تأثير ملاك الأمر.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية»:

قوله: «لا يوجب» جواب عن إشكال التقريرات، و قد تقدم توضيح ذلك فلا حاجة إلى التكرار.

ص: 50

واحد من الحكمين فيها، فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثّرا لها؛ لاضطرار أو جهل أو نسيان، كان المقتضى لصحة الصلاة مؤثرا لها فعلا كما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى، أو لم يكن واحد من الدليلين دالاّ على الفعلية أصلا.

قوله: «رأسا» يعني: فعلية و اقتضاء، و المراد بالاقتضاء: هو الملاك، و الخروج عن الفعلية و الاقتضاء معا شأن التخصيص المصطلح، و أمّا التخصيص في مسألة الاجتماع: فهو الخروج عن الفعلية فقط كما عرفت.

=============

«كما هو قضية التقييد و التخصيص في غيرها» أي: الخروج رأسا قضية التقييد و التخصيص في غير مسألة اجتماع الأمر و النهي من الموارد الّتي لا يحرز فيها وجود المقتضي لكلا الحكمين، اللّذين هما مدلولا الدليلين، و ضمير «غيرها» راجع إلى المسألة.

«بل قضيته» أي: قضية ترجيح أحد الدليلين على الآخر في مسألة الاجتماع ليس إلاّ خروج مورد الاجتماع عن فعلية حكم أحد الدليلين فيما إذا كان مؤدى الدليل الآخر - كحرمة الغصب - فعليا، فيكون الخروج عن الفعلية مع بقاء الملاك، و ضمير «خروجه» راجع إلى مورد الاجتماع، و حق العبارة: أن تكون هكذا: «بل قضيته ليست إلاّ خروج مورد الاجتماع عن الفعلية فيما كان الحكم الذي هو مفاد الدليل الآخر فعليا».

قوله: «و ذلك لثبوت المقتضى» تعليل لعدم كون ترجيح أحد الدليلين على الآخر في مسألة الاجتماع مخرجا لمورد الاجتماع عن حيّز الدليل الآخر رأسا، بل عن الحكم الفعلي.

و حاصل التعليل: أنّ مسألة الاجتماع من باب التزاحم المنوط بثبوت المناط في كل واحد من الحكمين حتى في ظرف الاجتماع؛ لا من باب التعارض الذي يكون الملاك في أحدهما فقط. و ضمير «فيها» راجع إلى مسألة الاجتماع.

قوله: «فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثرا لها» إشارة إلى ثمرة الخروج عن الحكم الفعلي فقط. و ملخصها: أنه إذا لم يؤثر مفسدة النهي في الحرمة لاضطرار أو جهل أو نسيان كان المقتضي لصحة الصلاة مؤثرا و موجبا لصحتها؛ إذ المفروض: ارتفاع مزاحمها - أعني: الحرمة الفعلية - بالاضطرار و نحوه. و ضمير «فيها» راجع إلى الصحة، و الأولى: لها بدل فيها.

قوله: «كما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى» تمثيل للمؤثر الفعلي، يعني: أنّ ملاك الصحة يؤثر في الصحة الفعلية فيما إذا منع ملاك الحرمة عن التأثير فيها؛ كتأثيره في الصحة الفعلية فيما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى، أو لم يكن الدليلان دالّين على الفعلية؛ بأن كانا دالّين على الحكم الاقتضائي أو الإنشائي.

ص: 51

فانقدح (1) بذلك: فساد الإشكال في صحة الصلاة في صورة الجهل أو النسيان و نحوهما (2)؛ فيما إذا قدم خطاب «لا تغصب» (3)، كما هو الحال (4) فيما إذا كان الخطابان من أوّل الأمر (5) متعارضين، و لم يكونا من باب الاجتماع أصلا؛ و ذلك (6) لثبوت المقتضي في هذا الباب (7)، كما إذا لم يقع بينهما تعارض، و لم يكونا (8)

=============

(1) أي: ظهر - بوجود المقتضي للصحة في مورد الاجتماع المستلزم لصحة الصلاة في موارد العذر، لوجود ملاك الأمر بلا مزاحم - فساد الإشكال الذي مرّ توضيحه، و حاصل الإشكال: أنّه مع تقديم النهي على الأمر كيف تصحّ الصلاة في موارد العذر كالجهل و النسيان و نحوهما؟ إذ مع تغليب النهي على الأمر و إخراج المجمع عن حيّز دليل وجوب الصلاة لا يبقى فيه ما يقتضي صحته؛ كما هو شأن التعارض في سائر الموارد.

(2) يعني: كالاضطرار و الغفلة.

(3) يعني: فيما إذا بنى على الامتناع و ترجيح النهي.

(4) يعني: كما أنّ هذا الإشكال ثابت فيما إذا كان الخطابان متعارضين لا متزاحمين؛ لعدم الملاك المقتضي للصحة حينئذ حتى يحكم بالصحة في موارد العذر.

(5) يعني: من أوّل زمان التشريع، كما إذا قال: «صلّ و لا تصلّ في المغصوب»، فإنّ الصلاة في المغصوب لا مصلحة لها حتى يمكن تصحيحها بالملاك. و هذا بخلاف ما بعد زمان التشريع؛ كما إذا بلغنا مثل: «صل و لا تصل في المغصوب»، فإنّه لا تنافي بينهما من زمان التشريع؛ بل الملاك في كل منهما موجود، و إنّما التنافي يكون في فعلية الحكمين في مورد الاجتماع.

قوله: «و لم يكونا من باب الاجتماع أصلا» بيان للتعارض كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 200».

(6) بيان لفساد الإشكال المذكور. و حاصله: أن المستشكل و المتوهم خلط بين التعارض و التزاحم، و ما ذكره من الإشكال في صحة الصلاة في موارد العذر إنّما يتمّ و يتّجه في فرض التعارض؛ لا في فرض التزاحم الذي يكون منوطا بوجود الملاك في كلّ واحد من المتزاحمين، و مسألة الاجتماع تكون من باب التزاحم، فغلبة النهي على الأمر لا توجب خلو الأمر عن الملاك، كما توجب خلوه عنه - بناء على التعارض - لخلو المورد فيه عن كلّ من الحكم الفعلي و ملاكه، فلا مصحّح له أصلا.

(7) أي: في باب اجتماع الأمر و النهي.

(8) بيان لعدم التعارض، بمعنى: أنه لو كانا متكفلين للحكم الفعلي وقع بينهما

ص: 52

متكفلين للحكم الفعلي، فيكون (1) وزان التخصيص في مورد الاجتماع وزان التخصيص العقلي الناشئ من جهة تقديم أحد المقتضيين، و تأثيره فعلا المختص (2) بما إذا لم يمنع عن تأثيره مانع (3) المقتضي لصحة مورد الاجتماع مع الأمر (4)، أو بدونه (5) فيما كان هناك مانع عن تأثير المقتضي للنهي له (6) أو عن فعليته (7) كما مرّ تفصيله.

التعارض؛ للعلم الإجمالي بكذب أحدهما في حكايته. و أمّا إذا لم يكونا متكفلين للحكم الفعلي فلم يكونا متعارضين.

=============

(1) أي: هذا متفرع على وجود المقتضي في كلا الدليلين، الذي هو مقوم باب التزاحم، فإنّ تقديم أحد المقتضيين على الآخر لا يرفع ملاكه، و لذا يحكم بصحة الواجب المهم العبادي مع ترك الواجب الأهم، فلو كان المهم خاليا عن الملاك لم يكن صحيحا عند ترك الأهم.

(2) صفة ل «تقديم»، فمعنى العبارة: أن هذا التقديم العقلي يختص بما إذا لم يمنع - عن تأثير المقتضي الذي يقدم بحكم العقل - مانع، و إلاّ فلا يحكم العقل بتقديمه على صاحبه. ففيما نحن فيه يكون حكم العقل بتقديم ملاك النهي و تأثيره في الحرمة الفعلية منوطا بعدم مانع عن تأثيره، و إلاّ فلا يحكم بذلك؛ بل يؤثر ملاك الأمر حينئذ، فتصح العبادة في المغصوب مع عذر مانع عن تأثير ملاك النهي في فعلية الحرمة.

(3) هذا إشارة إلى وجه المماثلة بين التخصيص العقلي و التخصيص في مورد الاجتماع، فلا يؤثر إذا منعه مانع.

«المقتضي» صفة ل «تقديم» أيضا يعني: كما أنّ «المختص» صفة له.

(4) يعني: كما إذا كان العذر الاضطرار الرافع للنهي، فإذا لم يكن هناك نهي أصلا، فملاك الأمر يؤثر في فعلية الوجوب بلا مزاحم.

(5) أي: بدون الأمر، كما في موارد الجهل و النسيان، لكونهما رافعين لفعلية النهي لا أصله، فلا يثبت حينئذ أمر بالصلاة؛ و إلاّ يلزم اجتماع الحكمين.

(6) أي: للنهي. أي: إذا كان هناك مانع للنهي كالاضطرار حيث إنّه مانع عن تأثير المفسدة المقتضية للنهي في أصل النهي، و بعد ارتفاع النهي يؤثر المصلحة المقتضية للأمر في الأمر، فيكون المجمع موردا للأمر الفعلي، و يقع صحيحا مع وجود الأمر. إذ لا نهي أصلا و الأولى تبديل «له» ب «فيه» لتعلق «له» ب «تأثير».

(7) أي: كان هناك مانع عن فعلية النهي كالجهل و النسيان المانعين عن فعلية النهي، لا عن مجرّد إنشائه، «كما مر تفصيله» في عاشر الأمور المتكفل لبيان ثمرة النزاع، حيث قال فيه: «و قد انقدح بذلك الفرق بين: ما إذا كان دليلا الحرمة و الوجوب

ص: 53

و كيف كان (1)؛ فلا بدّ في ترجيح أحد الحكمين من مرجّح. و قد ذكروا لترجيح النهي وجوها:

منها: أنّه أقوى دلالة؛ لاستلزامه انتفاء جميع الأفراد، بخلاف الأمر.

و قد أورد عليه (2): بأنّ ذلك فيه من جهة إطلاق متعلّقه بقرينة الحكمة؛ كدلالة الأمر على الاجتزاء بأيّ فرد كان.

متعارضين...»؛ إلى أن قال: «و قد ظهر بما ذكرناه: وجه حكم الأصحاب بصحة الصلاة في الدار المغصوبة..» إلخ كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 202».

=============

في مرجحات النهي على الأمر

(1) أي: سواء كان الخطابان في مسألة الاجتماع من باب التزاحم أم التعارض لا بد في ترجيح النهي أو الأمر من مرجح يختلف في التزاحم و التعارض.

الأول من مرجحات النهي على الأمر: هو كونه أقوى دلالة منه - لاستلزامه انتفاء جميع الأفراد - لأن النهي عن طبيعة يقتضي مبغوضيتها، فيكون كل فرد من أفرادها مبغوضا؛ لأنه بمعنى وجود الطبيعة الموصوفة بالمبغوضية، هذا بخلاف الأمر؛ حيث إن مفاده هو طلب إيجاد الطبيعة، و يكفي في إيجادها إيجادها في فرد أيّ فرد من أفراد الطبيعة المأمور بها كان.

و المتحصل: أنّ دلالة الأمر على الإطلاق البدلي، و الاجتزاء بأيّ فرد من أفراد الطبيعة المأمور بها تكون بمقدمات الحكمة، و دلالة النهي على الإطلاق الشمولي - لكونها لفظية - أقوى من دلالة الأمر على الإطلاق البدلي، لكونها بمقدمات الحكمة، فيقدم النهي عليه في المجمع، و يحكم بفساد الصلاة في المغصوب.

(2) قد أورد على هذا الوجه الأوّل بما حاصله: من أن دلالة كل من الأمر و النهي على العموم البدلي و الشمولي تكون بمقدمات الحكمة، فهما متساويان في الدلالة على العموم بمقدمات الحكمة؛ و ذلك لأنّ العموم المستفاد من النهي إنّما يكون من جهة إطلاق متعلقه الثابت بمقدمات الحكمة؛ إذ لو كان المتعلق مقيدا بقيد من زمان أو زماني كان على المتكلم بيانه، فلما كانت دلالة كل من الأمر و النهي على العموم بمعونة مقدمات الحكمة بلا فرق بينهما إلاّ من جهة شمولية العموم في النهي و بدليّته في الأمر، و هذا المقدار من الفرق لا يوجب أقوائيّة النهي من الأمر، فلا وجه لتقديم النهي عليه، و المشار إليه في قوله: «بأنّ ذلك» هو انتفاء جميع الأفراد في النهي بقرينة الحكمة من جهة إطلاق متعلقه، كما أنّ دلالة الأمر على الاجتزاء بأيّ فرد كان بقرينة الحكمة، فلا

ص: 54

و قد أورد عليه (1): بأنّه لو كان العموم المستفاد من النهي بالإطلاق بمقدمات الحكمة، و غير مستند إلى دلالته عليه بالالتزام (2) لكان استعمال مثل: «لا تغصب» في بعض أفراد الغصب حقيقة، و هذا واضح الفساد، فتكون (3) دلالته على العموم من جهة أنّ وقوع الطبيعة في حيّز النفي أو النهي يقتضي عقلا سريان الحكم إلى جميع الأفراد، ضرورة (4): عدم الانتهاء عنها أو انتفائها إلاّ بالانتهاء عن الجميع أو انتفائه (5).

تكون دلالة النهي أقوى من دلالة الأمر حتى يقدّم النهي عليه.

=============

(1) قد أورد على الإيراد المذكور بما حاصله: أن دلالة النهي على العموم إنّما تكون من ذات النهي لا بمقدمات الحكمة؛ إذ لو كان العموم مستفادا من مقدمات الحكمة لزم أن يكون استعمال «لا تغصب» في خصوص فرد من أفراده على نحو الحقيقة، لما تقرر في محلّه: من أنّ إطلاق المطلق و إرادة فرد من أفراده يكون على نحو الحقيقة، مع إنّ إطلاق «لا تغصب» على فرد خاص من أفراده يكون مجازا، فلا يكون العموم في النهي مستفادا من مقدمات الحكمة؛ بل العموم مستفاد من ذات النهي.

(2) يعني: دلالة النهي على العموم تكون بالدلالة الالتزامية؛ لأن النهي يدل على ترك الطبيعة بالدلالة المطابقية، و على انتفاء جميع الأفراد بالدلالة الالتزامية؛ لأن الطبيعة متحققة في جميع الأفراد، فلا تنتفي إلاّ بانتفاء جميعها، فيدل على العموم أعني: انتفاء جميع الأفراد بالالتزام.

قوله: «و هذا واضح الفساد» أي: كون استعمال «لا تغصب» في بعض الأفراد حقيقة واضح الفساد؛ لأن المتبادر من اللفظ عرفا: هو الإطلاق و عدم الخصوصية، فلا بدّ أن يكون الاستعمال في الخصوصيّة مجازا.

(3) هذا متفرع على إبطال كون العموم مستندا إلى مقدمات الحكمة.

و حاصل التفريع: أن دلالة النهي على العموم ليست بمقدمات الحكمة؛ بل بذاته يدل على العموم التزاما؛ بمعنى: أن لازم وقوع الطبيعة في حيّز النفي أو النهي الدّال على مبغوضية وجودها هو سريان الحكم إلى جميع أفراد الطبيعة؛ لتوقف ترك الطبيعة على ترك جميع أفرادها، فالنهي بالالتزام العقلي يدلّ على العموم و الاستيعاب. و على هذا:

فأقوائية دلالة النهي على العموم الاستغراقي من دلالة الأمر على العموم البدلي في محلّها، فلا إشكال في تقديم النهي على الأمر.

(4) تعليل لسريان الحكم إلى جميع الأفراد.

(5) أي: انتفاء الجميع.

ص: 55

قلت: دلالتهما (1) على العموم و الاستيعاب ظاهرا مما لا ينكر؛ لكنّه من الواضح:

=============

و المتحصّل: أنّه قد ظهر بما ذكر الفرق بين الأمر و النهي، و يتبين كون النهي أقوى دلالة، فيقدم على الأمر عند التعارض، فتكون الصلاة في الدار المغصوبة باطلة.

(1) أي: دلالة النفي و النهي، أو دلالة الطبيعة الواقعة في حيّز النفي و النهي على ما في بعض النسخ من إفراد ضمير الدلالة «دلالتها».

و كيف كان؛ فالغرض من هذا الكلام هو: تأييد الإيراد الأوّل و هو: كون النهي كالأمر في كون العموم فيهما مستندا إلى مقدمات الحكمة.

و حاصل ما أفاده المصنف: أن النفي و النهي و إن كانا دالين على العموم بلا كلام، إلاّ إنّ استفادة العموم منوطة بكل من العقل و مقدمات الحكمة، بمعنى: أن أداة العموم لا تدل على استيعاب جميع أفراد الطبيعة المطلقة إلاّ إذا أريد بها الإطلاق، و لمّا لم يكن نفس متلوّ أداة العموم دالا على هذا الإطلاق، فلا بدّ في إثباته من التشبث بمقدمات الحكمة، مثلا: إذا ورد «لا تغصب» لا يمكن الحكم بحرمة جميع أفراد طبيعة الغصب إلاّ بعد إثبات الإطلاق لهذه الطبيعة، و من المعلوم: أن المتكفل له هو مقدمات الحكمة، فبها يحكم بأن المراد بالغصب هي الطبيعة المطلقة؛ إذ لو كان المراد به الطبيعة المقيدة بقيد كان على المتكلم بيانه.

و المتحصّل: أن الحكم بحرمة جميع أفراد الغصب منوط بإطلاق متلوّ أداة العموم، و قد علمت: توقفه على مقدمات الحكمة، و بعد جريانها فيه يكون المنفي أو المنهي عنه الطبيعة غير المقيدة، و من المعلوم: أن العقل يحكم حينئذ بلزوم استيعاب جميع أفراد طبيعة في كل زمان و حال، فاستفادة العموم لجميع الأفراد منوطة أوّلا: بإطلاق متلو أداة العموم، و ثانيا: بحكم العقل المتقدم، فلو لم تكن الطبيعة مطلقة - بأن كانت مهملة أو مقيدة - لا يدل النفي و النهي على استيعاب جميع أفرادها؛ بل بعضها الذي أريد منها؛ كما لا يخفى

و الضمير في قوله: «لكنّه» للشأن، و غرضه من هذه العبارة: دفع المنافاة بين وضع النفي و النهي للعموم، و بين احتياج استيعاب جميع الأفراد إلى إطلاق متعلقهما المنوط بمقدمات الحكمة.

وجه عدم التنافي: أنّ الموضوع له في النفي و النهي هو نفس العموم في الجملة، و أما سعة دائرته و ضيقها فتابعتان للمتعلق من حيث الإطلاق و التقييد و الإهمال، فالعموم يحتاج إلى الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة فلا منافاة بين وضع كل من النفي و النهي للعموم، و بين حاجة استيعاب جميع الأفراد إلى إطلاق متعلقهما الثابت بمقدمات

ص: 56

أن العموم المستفاد منهما كذلك إنّما هو بحسب ما يراد من متعلّقهما، فيختلف (1) سعة و ضيقا، فلا يكاد يدل على استيعاب جميع الأفراد إلاّ إذا أريد منه الطبيعة مطلقة و بلا قيد، و لا يكاد يستظهر ذلك مع عدم دلالته عليه بالخصوص إلاّ بالإطلاق و قرينة الحكمة؛ بحيث لو لم يكن هناك قرينتها بأن يكون الإطلاق في غير مقام البيان لم يكد يستفاد استيعاب أفراد الطبيعة (2)، و ذلك (3) لا ينافي دلالتهما على استيعاب الحكمة؛ المشار إليه في قوله: «كذلك» هو العموم الاستيعابي. و ضمير «منهما» يعود إلى النفي و النهي.

=============

(1) أي: فيختلف العموم سعة و ضيقا، فلا يدل على استيعاب جميع الأفراد «إلاّ إذا أريد منه» أي: المتعلق «الطبيعة مطلقة و بلا قيد، و لا يكاد يستظهر ذلك» أي: إطلاق الطبيعة الّتي تعلق بها النفي و النهي «مع» فرض «عدم دلالته عليه» أي: عدم دلالة المتعلق على الإطلاق إلاّ بقرينة الحكمة، «بحيث لو لم يكن هناك قرينتها» أي: قرينة الحكمة.

قوله: «بأن يكون الإطلاق» بيان لمورد عدم قرينة الحكمة؛ إذ من شرائط جريان قرينة الحكمة: كون المتكلم في مقام البيان.

(2) أي: لم يكد يستفاد من اللفظ استيعاب أفراد الطبيعة المطلقة و بلا قيد؛ لأنّ استيعاب أفرادها موقوف على إطلاقها المنوط بجريان مقدمات الحكمة.

و توضيح المقام - على ما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 2، ص 443» - أن العموم المستفاد من النهي إنّما هو بأمرين: الإطلاق و العقل؛ إذ لو لم يكن المتعلق مطلقا - بأن كان مهملا أو مقيدا - لم يحكم العقل إلاّ بانتفاء أفراد ذاك المهمل أو المقيد لا العموم.

مثلا: «لا تغصب في يوم الجمعة» لا يدل عقلا إلاّ على استيعاب أفراد الطبيعة المقيدة بيوم الجمعة، و بهذا تبيّن: أنّ دلالة العقل وحدها غير كافية في الحكم بعموم المتعلق، و إنما يحتاج العموم إلى الإطلاق علاوة على العقل، فكون النهي عن المطلق يفهم من المقدمات، و كون المطلق يستلزم الاستيعاب يفهم من دلالة العقل بالسراية.

(3) يعني: و عدم استظهار إطلاق الطبيعة إلاّ من مقدمات الحكمة لا ينافي دلالة النفي و النهي على استيعاب أفراد ما يراد من المتعلق.

و خلاصة الكلام: أنّه لا منافاة بين احتياج استظهار استيعاب الجميع إلى مقدمات الحكمة، و بين كون النفي و النهي للعموم و الاستيعاب.

وجه عدم المنافاة: أنهما وضعا لاستيعاب ما أريد من متعلّقهما سواء كان مطلقا أم

ص: 57

أفراد ما يراد من المتعلق؛ إذ الفرض: عدم الدلالة على أنه (1) المقيد أو المطلق.

اللّهم إلاّ أن يقال (2): إن في دلالتهما على الاستيعاب كفاية و دلالة على أنّ المراد مقيدا أم مهملا، فإطلاق المتعلق كتقييده و إهماله أجنبيّ عن وضع النفي و النهي للاستيعاب الذي هو من الأمور الإضافية المختلفة سعة و ضيقا باختلاف المتعلق.

=============

فالمتحصل: أنّ النفي و النهي يدلان على الاستيعاب في الجملة أي: بلا تعيين أنّه بنحو الإطلاق أو التقييد. أمّا دلالتهما على العموم الشمولي فهي بمقدمات الحكمة، كما أنّ دلالة الأمر على العموم البدلي ليست إلاّ بمقدمات الحكمة، فلا تكون دلالة النهي أقوى من دلالة الأمر حتى يقدم عليه.

(1) أي: إذ المفروض: عدم دلالة النفي و النهي على أنّ ما يراد من المتعلق هو المقيد أو المطلق.

(2) اللّهم إلاّ أن يقال: إنّنا لا نحتاج في إثبات إطلاق المتعلق إلى مقدمات الحكمة؛ بل نقول: بكفاية نفس النفي و النهي في إثبات إطلاق المتعلق، بمعنى: أنهما يدلان على كلا الأمرين - و هما: - الاستيعاب و إطلاق المتعلق.

أمّا الأوّل: فلكون النفي و النهي موضوعين للعموم و الاستيعاب.

و أمّا الثاني: فلأنّ أسماء الأجناس موضوعة للطبائع المهملة و بلا شرط، فإذا ورد عليها ما يدل على العموم فلا محالة يراد بسببه جميع أفرادها.

«كما ربما يدّعى ذلك» أي: كفاية الدلالة على الاستيعاب في إرادة الإطلاق من المتعلق في مثل: «كل» الدال على العموم، فإذا دخل على اسم جنس كرجل تكون دلالة لفظ كل على العموم قرينة على إرادة جميع أفراد طبيعة رجل.

لا يقال: إنّ الطبيعة الّتي هي مدخول كل لا تخلو عن ثلاثة أحوال:

الأوّل: الإطلاق. الثاني: التقييد. الثالث: الإهمال. فإذا أريد منها قبل دخول كل الإطلاق تمت مقدمات الحكمة، و لا مجال للقول بإفادة كل له، و إن أريد التقييد فلا إطلاق حتى يقع الكلام فيما يفيده، و إن أريد الإهمال فليس هناك إطلاق أصلا.

و على جميع التقادير و الأحوال: فليس هناك إطلاق مستفاد من لفظ «كل» فإنّه يقال:

إنّ المراد من المتعلق هو الطبيعة المهملة، و ببركة دخول كل ينعقد لها الإطلاق، هذا ما أشار إليه بقوله: «بل يكفي إرادة ما هو معناه» أي: معنى مدخول كل «من الطبيعة المهملة»، فالطبيعة قبل دخول كل مهملة و بعد دخوله ينعقد لها الإطلاق، كما أنّ قبل تماميّة مقدمات الحكمة يكون اللفظ مهملا و لا بشرط، و بعد تماميّتها ينعقد الإطلاق.

ص: 58

من المتعلق هو المطلق، كما ربما يدّعى ذلك في مثل: كل رجل، و أنّ مثل: لفظة «كل» تدل على استيعاب جميع أفراد الرجل، من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله و قرينة الحكمة؛ بل يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة و لا بشرط في دلالته (1) على الاستيعاب، و إن كان لا يلزم مجاز (2) أصلا لو أريد منه خاص بالقرينة؛ لا فيه لدلالته على استيعاب أفراد ما يراد من المدخول، و لا فيه إذا كان بنحو تعدد الدال و المدلول؛ لعدم استعماله إلاّ فيما وضع له، و الخصوصية مستفادة من دال آخر، فتدبر (3).

=============

(1) أي: في دلالة كل على الاستيعاب، و «في» متعلقة بقوله: «يكفي» يعني: يكفي في دلالة (كل) على الاستيعاب إرادة معنى المدخول و هو الطبيعة المهملة كما عرفت.

(2) قوله: «و إن كان لا يلزم مجاز» تعريض بما أورده المورد الثاني من: أنّ العموم لو استفيد من مقدمات الحكمة كان استعمال «لا تغصب» في بعض أفراده حقيقة، و إن استفيد من نفس النهي كان مجازا.

و حاصل التعريض: - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 210» - أن المجاز لا يلزم - و إن استند العموم إلى نفس النهي - بشرط أن تكون إرادة الخاص بالقرينة كما في «أكرم العلماء العدول»، فإن إرادة خصوص العالم العادل من العلماء بقرينة العدول لا تكون بنحو المجاز لتعدد الدال و المدلول، حيث إن كلاّ من العلماء و العدول قد استعمل في معناه الحقيقي، فلا يلزم مجاز، لا في أداة العموم حيث إنها مستعملة في عموم ما أريد من المتعلق، و لا في متلوها لاستعماله في معناه الحقيقي، و هو الطبيعة المهملة كما مرّ.

فقوله: «أصلا» إشارة إلى عدم لزوم المجاز أصلا لا في أداة العموم و لا في مدخولها.

قوله: «لا فيه لدلالته على استيعاب...» إلخ إشارة إلى عدم لزوم المجاز في مثل «كل»، لأنّ أداة العموم مستعملة فيما وضعت هي له من استيعاب ما يراد من المدخول.

و قوله: «و لا فيه» إشارة إلى عدم لزوم المجاز في المدخول.

قوله: «لعدم استعماله...» إلخ تعليل لعدم لزوم المجاز في المدخول، و ضمير «استعماله» يعود إلى المدخول.

(3) لعلّه إشارة إلى عدم تسليم ما ذكره بقوله: «اللّهم إلاّ أن يقال..» إلخ فيبقى إشكال تقديم النهي على الأمر على حاله.

أو إشارة إلى الإشكال في إلحاق النفي و النهي و قياسهما بلفظ «كل» فيقال: إنّ قياس النفي و النهي بلفظ «كل» قياس مع الفارق، فيكون باطلا.

ص: 59

و منها: أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

و قد أورد عليه (1) في القوانين(1): بأنه مطلقا ممنوع، لأنّ في ترك الواجب أيضا مفسدة إذا تعين.

و لا يخفى ما فيه (2)؛ فإنّ الواجب و لو كان معيّنا، ليس إلاّ لأجل أنّ في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها؛ من دون أن يكون في تركه مفسدة، كما أنّ الحرام ليس إلا لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه.

=============

أولوية دفع المفسدة من جلب المنفعة

الوجه الثاني من وجوه ترجيح النهي على الأمر: أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة بمعنى: أنّ النهي عن الغصب يكشف عن المفسدة فيه، و الأمر بالصلاة يكشف عن المصلحة فيها، و أولوية دفع المفسدة عن جلب المصلحة ترجح النهي على الأمر.

و عليه: فترك الصلاة دفعا لمفسدة الغصب أولى من جلب المنفعة بفعلها، فحينئذ لا بدّ من ترك الصلاة في المغصوب؛ لأنّ دفع المفسدة أولى من جلب مصلحة الصلاة، فترك الحرام أولى من فعل الواجب، فيسقط أمر الصلاة عن الفعلية في المكان المغصوب، و يبقى النهي على الفعلية. و لازم ذلك: بطلان الصلاة؛ لأنّ النهي في العبادات يقتضي فسادها.

(1) أي: اعترض صاحب القوانين على هذا المرجّح الثاني بما حاصله: من إنّه لا كليّة في ذلك؛ إذ قد يكون في ترك الواجب أيضا مفسدة لو كان الواجب معينا لا بدل له؛ بحيث انحصر في فرد واحد كالصلاة في ضيق الوقت فإنّ في ترك هذا الواجب أيضا مفسدة كفعل المحرمات، فيدور الأمر حينئذ بين المفسدتين؛ مفسدة الغصب المحرم و مفسدة ترك الصلاة، فلا بد من ملاحظة الأهم منهما، و بما أنّ مفسدة ترك الصلاة أهم فتقدم، فلا بدّ من فعل الصلاة و هو معنى تقديم الأمر على النهي. نعم لا مفسدة في ترك الواجب المخير شرعا كخصال الكفارة إذا أتى ببعض الأبدال. فإنّه لا مفسدة في ترك الصوم إذا أطعم ستين مسكينا، أو عقلا كأفراد الطبيعة المأمور بها، فإذا أتى بالصلاة «في المسجد» فلا مفسدة في ترك الصلاة في الدار مثلا.

قوله: «لأنّ في ترك الواجب» تعليل للمنع.

و المتحصل: أنّ في ترك الواجب مفسدة إذا كان تعيينيا لا تخييريا؛ إذ لا مفسدة في ترك الواجب التخييري سواء كان التخيير شرعيا أو عقليا.

(2) أي: لا يخفى ما في كلام صاحب القوانين من الإشكال و حاصله: أن مقتضى

ص: 60


1- قوانين الأصول، ج 1، ص 153، س 8.

تبعيّة الأحكام للمصالح و المفاسد في متعلّقاتها ليس إلاّ ترتّب المفسدة على فعل الحرام، و المصلحة على فعل الواجب، فلا مفسدة في ترك الواجب، كما لا مصلحة في ترك الحرام.

نعم؛ ترك الواجب يوجب فوات المصلحة التي يلزم استيفاؤها؛ كما إذا كان في فعل الحرام مفسدة يحبب الاجتناب عن الوقوع فيها.

و عليه: فلا يدور الأمر في الواجب و الحرام بين المفسدتين حتى يخرج ما نحن فيه عن قاعدة أولويّة دفع المفسدة من جلب المصلحة؛ بل ما نحن فيه من صغريات تلك القاعدة.

و المتحصّل: أنه تكون في فعل الواجب مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن تكون في تركه مفسدة، كما تكون في فعل الحرام مفسدة من دون أن تكون في تركه مصلحة، فلا يتم ما أفاده المحقق القمي «قدس سره» من الإيراد.

و المصنف «قدس سره» بعد الجواب عن إيراد المحقق القمي أورد على المرجح الثاني بوجوه:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «و لكن يرد عليه: أن الأولوية مطلقا ممنوعة».

و حاصله: أنّ هذه الأولوية في جميع موارد دوران الأمر بين دفع المفسدة و بين جلب المنفعة ممنوعة، فمرجع هذا الوجه: هو منع كلية الكبرى لعدم الدليل على أولويّة دفع المفسدة مطلقا من جلب المنفعة، بعد وضوح: اختلاف المصالح و المفاسد الداعية إلى تشريع الأحكام قوّة و ضعفا؛ إذ ربّ واجب تكون مصلحته في غاية القوّة، و حرام تكون مفسدته في كمال الضعف، فلا شبهة حينئذ في تقدم الواجب على الحرام عند الدوران بينهما، كما سيأتي.

و المراد من «مطلقا» أي: في جميع الموارد؛ حتى في صورة أقوائيّة مصلحة الواجب - كالصلاة - من مفسدة الحرام كالنظر إلى الأجنبية؛ بل الأولويّة المذكورة مختصّة بما إذا كانت المفسدة أقوى من المصلحة.

قوله: «كما يشهد به» أي: كما يشهد بكون العكس أولى مقايسة فعل بعض المحرمات - كالتصرف في مال الغير بدون إذنه - مع ترك بعض الواجبات كإنقاذ غريق، أو إطفاء حريق، فإن من المعلوم: أقوائية مصلحة هذين الواجبين من مفسدة الغصب.

ص: 61

و لكن يرد عليه: أن الأولويّة مطلقا ممنوعة؛ بل ربما يكون العكس أولى، كما يشهد به مقايسة فعل بعض المحرمات مع ترك بعض الواجبات، خصوصا مثل: الصلاة و ما يتلو تلوها (1).

و لو سلّم (2) فهو أجنبي عن المقام؛ فإنّه فيما إذا دار بين الواجب و الحرام.

و لو سلّم (3)، فإنّما يجدي فيما لو حصل به القطع.

=============

(1) أي: ما يتلو تلو الصلاة كالحج و الصوم و غيرهما مما بني عليه الإسلام، فإنّ مصلحة الصلاة مثلا أقوى من مفسدة النظر إلى الأجنبيّة.

(2) هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الّتي أوردها المصنف على المحقق القمي «قدس سره».

و حاصل هذا الوجه الثاني: لو سلّمنا كلية قاعدة أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة نمنع صغروية المقام لها؛ بل هي أجنبية عن المقام، و ليس المقام من صغريات تلك الكبرى، و ذلك، لأن موردها هو التخيير بعد عدم الأخذ بالترجيح، مثل: ما لو دار الأمر بين وجوب شيء و حرمته بأن يكون هناك شيء واحد لا يعلم أنّه واجب أو حرام؛ كما لو ترددت المرأة بين الأجنبية التي يحرم وطؤها و بين الزوجة رأس أربعة أشهر التي يجب وطؤها، فإنّ ترك الوطء الذي فيه دفع مفسدة الزنا المحتمل أولى من الوطء الذي فيه جلب منفعة الوجوب المحتمل، هذا مثال الشبهة الموضوعية.

و أما مثال الشبهة الحكمية: فكما لو ترددت صلاة الجمعة بين الوجوب و الحرمة، فإنّ الحكم فيها - بعد عدم إمكان ترجيح أحد الحكمين - هو التخيير، هذا بخلاف المقام حيث قام الدليلان على الوجوب و الحرمة، و حكم العقل بامتناع الاجتماع و لم يعلم ترجيح أحدهما على الآخر من الخارج.

و كيف كان؛ فلا موضوع حينئذ لتلك القاعدة إذ موضوعها و موردها هو: ما إذا دار أمر الفعل بين الواجب و الحرام كصلاة الجمعة في عصر الغيبة، فعند القائل بحرمتها فيها مفسدة ملزمة، و عند القائل بوجوبها فيها مصلحة ملزمة و لا يتمكّن المكلف من دفع الأولى و جلب الثانية معا في مقام الامتثال؛ لأنّه إمّا أنّ يفعلها فيجلب المصلحة و لا يدفع المفسدة، و إمّا أن يتركها فيدفع المفسدة و لا يجلب المصلحة.

(3) هذا إشارة إلى الوجه الثالث من الوجوه الّتي أوردها المصنف على المحقق القمي «قدس سره» و حاصله: أنّ هذه القاعدة بعد تسليمها إنّما تجدي فيما إذا حصل القطع بالأولويّة و ذلك ممنوع؛ لأنّ غاية ما يحصل من هذه القاعدة هو الظنّ بالأولويّة، و ذلك لا يجدي لأنّ الأصل عدم اعتباره، فالأولويّة الظنيّة لا تجدي في الترجيح؛ لأنّ المعتمد

ص: 62

و لو سلّم أنّه (1) يجدي و لو لم يحصل فإنّما يجدي (في نسخة يجري) فيما لا في الترجيح هو أولويّة قطعية، و المفروض: عدم حصولها.

=============

و هناك تطويل في الكلام بذكر الأقسام و الاحتمالات في المقام تركنا ذكرها رعاية للاختصار، و تجنّبا عن التطويل الممل.

(1) هذا إشارة إلى الوجه الرابع الّتي أوردها المصنف على المحقق القمي «قدس سره».

و حاصل هذا الوجه: أنّه لو سلم أنّ الظنّ بالأولويّة يجدي في مقام الترجيح - و إن لم يحصل القطع - فذلك يختصّ بما إذا لم تجر فيه أصالة البراءة أو الاشتغال؛ كما في دوران الأمر بين المحذورين أي: الوجوب و الحرمة التعيينيين، حيث لا مجال للبراءة فيه للعلم بالتكليف الإلزامي المانع عن شمول أدلة البراءة، و لا مجال فيه للاشتغال لتعذر الموافقة القطعية و المخالفة، كذلك فلا أثر له مع عدم القدرة على الموافقة القطعية بالفعل أو الترك، فلا محالة يكون مخيّرا بينهما عقلا؛ لعدم المرجح لأحدهما على الآخر. و قد مثل لما لا يكون فيه مجال لأصالة البراءة و الاشتغال بقوله: «كما في دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة التعيينيين»؛ مثل: ما لو لم يعلم بحرمة صلاة الجمعة أو وجوبها فإنّه لا مجال لأصل البراءة للعلم بالتكليف الإلزامي المانع عن جريان أصل البراءة، و إنّما تجرى البراءة فيما لم يعلم بالتكليف الإلزامي أصلا.

و كذلك لا مجال لأصالة الاشتغال و الاحتياط؛ لعدم التمكن من الموافقة القطعية، و إنّما تجري فيما يمكن فيه الموافقة القطعية، و مع عدم قاعدة شرعية يحكم العقل بالتخيير بين الفعل و الترك. هذا بخلاف المقام لإمكان جريان أصل البراءة في حرمة المجمع؛ إذ لا يعلم بثبوت خصوص الحرمة في المجمع فيحكم بصحّته ببركة الأصل، حتى على القول بمرجعيّة الاشتغال عند الشك في أجزاء المركّب الارتباطي و شرائطه؛ إذ ليست شرطيّة الإباحة على حذو شرطيّة غيرها لكون الإباحة شرطا تزاحميا، و من المعلوم: توقف التزاحم على تنجز التكليف فما لم يعلم بفعلية النهي - كما في المقام - لا تكون الحرمة مانعة لعدم منافاتها لقصد القربة، فمع ارتفاع فعلية النهي تصحّ الصلاة واقعا؛ لخلوها عن المانع حقيقة.

هذا بخلاف مشكوك الجزئية و الشرطية في غير الإباحة؛ كالشك في جزئية الاستعاذة أو شرطية إباحة مكان المصلي، فإنّه إذا جرت فيها البراءة حكم بصحة الصلاة ظاهرا لا واقعا؛ إذ مع ثبوت الجزئية أو انتفاء الشرطية لا تصحّ الصلاة واقعا، و لذا قيل بالاشتغال في المركب الارتباطي؛ للشك في براءة الذّمة بالفاقد.

ص: 63

يكون هناك مجال لأصالة البراءة أو الاشتغال؛ كما في دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة التعيينيين، لا فيما تجري؛ كما في محل الاجتماع (1) لأصالة البراءة عن فالمتحصل: أنّه فرق بين المقام و بين الدوران بين المحذورين و حاصله: هو العلم بثبوت أحد الحكمين الإلزاميين في مورد الدوران بين المحذورين، و لكن الشك في الثابت منهما واقعا، هذا بخلاف المقام حيث لا يعلم بثبوت ذلك؛ بل يحتمل أن يكون أحد الوجوب و الحرمة أقوى مقتضيا، فيثبت، و أن يكونا متساويين من أجل الاقتضاء فيتساقطان معا لعدم المرجّح في البين، فحيث لم يعلم الإلزام بالفعل أو الترك كان احتمال ثبوت الحرمة مجرى لأصالة البراءة، فندفع بها الحرمة الفعلية، و نحكم بصحة الصلاة في الدار المغصوبة؛ إذ المانع من صحة الصلاة هي الحرمة الفعلية الموجبة لصدق عنوان المعصية، فلا يمكن التقرّب المعتبر في العبادة، أمّا بعد نفي الحرمة الفعلية بأصالة البراءة فأمكن التقرب لعدم كون المجمع حينئذ معصية.

=============

(1) بين الصلاة و الغصب حيث لا مانع عن جريان البراءة في الحرمة، و مع جريان البراءة عن الحرمة يحكم بصحة الصلاة، كما أشار إليه بقوله: «فيحكم بصحته» أي:

بصحة محل الاجتماع، و هذا الحكم الوضعي مترتب على جريان البراءة عن حرمة الغصب، لأن المانع عن الصحّة هو فعلية الحرمة المرفوعة بالأصل.

لا يقال: إن جريان البراءة في محل الكلام إنّما يتمّ لو لم نقل بقاعدة الاشتغال في الشك في الأجزاء و الشرائط.

و أما لو قيل بقاعدة الاشتغال في الشك في الأجزاء و الشرائط لكان ما نحن فيه مجرى للاشتغال لا للبراءة، فاللازم حينئذ: هو الحكم ببطلان الصلاة في المجمع. فإنّه يقال: فرق بين ما نحن فيه و بين الشك في الأجزاء و الشرائط، فجريان قاعدة الاشتغال في الشك في الجزئية و الشرطية لا يستلزم جريانها في مورد الاجتماع و الشك في فعلية الحكم.

و توضيح الفرق: أنّ الصحة الثابتة بأصل البراءة في الشك في الجزئية و الشرطية ظاهرية، لأنّه - على فرض ثبوتهما واقعا - يكون الفاقد لهما بمقتضى ارتباطيّة الأجزاء و الشرائط فاسدا واقعا.

و هذا بخلاف مانعية الغصب - في محل الكلام - حيث إنّها مترتبة على فعلية حرمته، فإذا جرت البراءة في نفي فعليتها انتفت المانعية حقيقة، و صحّت الصلاة واقعا.

فالصحة فيه واقعية، و في الشك في الجزئية و الشرطية ظاهرية، و لذا بنى غير واحد في الأقل و الأكثر الارتباطيين على الاشتغال.

ص: 64

حرمته، فيحكم بصحته، و لو قيل بقاعدة الاشتغال في الشك في الأجزاء و الشرائط فإنّه لا مانع عقلا إلاّ فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها (1) عقلا و نقلا.

نعم؛ لو قيل (2): بأن المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية، و لو لم تكن الغلبة بمحرزة، فأصالة البراءة غير جارية؛ بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب - لو قوله: «فإنّه لا مانع» تعليل لقوله: «فيحكم بصحته»، يعني: أنّه لا مانع من الحكم بصحة مورد اجتماع الأمر و النهي إلاّ فعلية الحرمة المنافية للتقرب به، فإذا انتفت فعلية الحرمة صلح المجمع للقربيّة.

=============

(1) أي: عن فعلية الحرمة، فلا مانع عن صحة الصلاة بعد جريان البراءة الشرعية و العقلية؛ لأنّ المانع عن صحة المجمع هي الحرمة الفعلية، و لا حرمة فعلية بعد أدلّة البراءة من العقل و النقل.

و تركنا ما في المقام من طول الكلام رعاية للاختصار.

(2) هذا استدراك على قوله: «لا فيما تجري كما في محل الاجتماع...» إلخ يعني: أنّ المصنف «قدس سره» قد أثبت صحة المجمع بسبب البراءة العقلية و النقلية عن حرمته الفعلية، ثم استدرك عليه و قال: نعم؛ لو قلنا بأن مفسدة الغصب واقعية لا علمية، و غالبة في الواقع على مصلحة الصلاة في الأرض المغصوبة فهي مؤثر في فعلية المبغوضيّة المانعة عن إمكان التقرّب بالمجمع؛ و إن لم تحرز غلبتها، فمع احتمال تأثيرها فيها لا تنفع البراءة عن حرمته الفعلية لأنّها رافعة للحرمة الفعلية و ليست برافعة لاحتمال غلبة المفسدة الواقعية المؤثرة في المبغوضيّة، بل لا مجال للبراءة لعدم إحراز موضوعها - و هو عدم البيان - ضرورة: أنّ العلم بالمفسدة - على تقدير غلبتها - صالح للبيانية، و عليه: فأصالة الاشتغال هنا محكمة لو كان الواجب عبادة؛ للشك في الفراغ الذي يرجع فيه إلى قاعدة الاشتغال؛ و لو قلنا بالبراءة العقلية و النقلية في صورة الشك في الأجزاء و الشرائط.

مثلا: إذا شككنا في اعتبار شيء على نحو الشرطية أو الشطرية في المأمور به و عدم اعتباره إمّا لفقدان النص، و إما لإجماله، أو لتعارض النصين. فقد تجري البراءة في هذا المورد؛ لكون الشك في التكليف، و لكون الشبهة حكمية. هذا بخلاف المقام؛ فإنّ الشك فيه إنّما هو في حصول ما يعتبر قطعا في المأمور به و هو قصد القربة، فكان الشك في المحصل و هو مجرى الاشتغال بحكم العقل، فلا بد من إتيان الصلاة خارج الدار المغصوبة تحصيلا لليقين بالبراءة.

ص: 65

كان عبادة - محكمة، و لو قيل بأصالة البراءة في الأجزاء و الشرائط، لعدم (1) تأتّي قصد القربة مع الشك في المبغوضية فتأمل.

=============

(1) تعليل لجريان قاعدة الاشتغال. و حاصله: أنّ الشك في صحة الصلاة الواقعة في المغصوب مسبّب عن الشك في غلبة كل من المصلحة أو المفسدة على الأخرى في نظر الشارع، و هذا المقدار من الشك كاف في عدم تمشي قصد القربة منه؛ و ذلك لأن أحد طرفي هذا الشك احتمال غلبة المفسدة، و مع هذا الاحتمال كيف يتمشى منه قصد القربة. و حينئذ فلا تجري البراءة، فيجرى الاشتغال، و ذلك يكشف عن فساد الصلاة؛ لأنّ الأصل: عدم غلبة المصلحة على المفسدة، و احتمال غلبة المفسدة يمنع عن تمشّي قصد القربة منه، و لازم ذلك: بطلان الصلاة.

قوله: «فتأمّل» لعلّه إشارة إلى ما ذكره المصنف في الحاشية، و حاصل ما في الحاشية:

أن هذا القول و إن لم يكن في نفسه بعيدا كما يشهد به أنّ العلم بالحرمة يوجب تنجّزها بما لها من المرتبة الشديدة، و لذا يستحق العقوبة على تلك المرتبة و إن لم تعلم، لكنه لا ينفع مع إحراز المصلحة الّتي يحتمل مزاحمتها للمفسدة و غلبتها عليها؛ إذ حينئذ يكون الفعل كما إذا لم يحرز أنّه ذو مصلحة أو ذو مفسدة، فلا يستقل العقل بحسنه أو قبحه، و لا مانع من التقرب به. و بعبارة واضحة: أن إحراز الحرمة الذاتية بإحراز المفسدة إحراز للمقتضي، و من المعلوم: إنّه لا يؤثر إلاّ مع عدم المانع، و المفروض: إحراز الوجوب الذاتي بإحراز المصلحة المقتضية له، و هو مانع عن تأثير المفسدة.

لا يقال: إن حرمة الغصب في المجمع محرزة، و إحرازها يكفي في تنجّز مرتبتها الغالبة إذا كانت قويّة غالبة واقعا، فغلبتها محتملة في المجمع، و عليه: فنحتمل مبغوضيّته، و مع احتمالها لا يتمشى من المصلّي في الدار المغصوبة قصد التقرب على نحو الجزم، فلا يجوز الحكم بصحة الصلاة فيها.

فإنّه يقال: إنّ للحرمة مراتب قوية متوسطة ضعيفة و مجرّد إحرازها يكفي في تنجّزها إذا كانت قويّة واقعا، و هذا يدفع بأصالة العدم أي: عدم كونها قويّة غالبة.

هذا مضافا إلى أنّه لا يعتبر في العبادة أزيد من إتيانها قربة إلى المولى الجليل، و لا يعتبر كونها راجحة ذاتا خاصة من شائبة احتمال الفساد، نعم يعتبر أن لا تقع من المكلف في حالة كونها مبغوضة، و هذا غير معلوم للمكلف؛ لأن الأصل عدم كونها مبغوضة، و كيف كان؛ فالصلاة صحيحة على رأي المصنف «قدس سره».

ص: 66

و منها: الاستقراء، فإنّه يقتضي ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب؛

=============

الاستقراء

الوجه الثالث: من الوجوه الّتي ذكروها لترجيح النهي على الأمر: هو الاستقراء، بدعوى: أنّنا إذا تتبعنا موارد دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة في المسائل الشرعية نجد:

أن الشارع قدّم جانب الحرمة على جانب الوجوب، فقد حرّم الفعل الذي يدور أمره بين الوجوب و الحرمة.

و قد ذكر المصنف «قدس سره» موردين من موارد تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب.

الأوّل: ما أشار إليه بقوله: «كحرمة الصلاة: في أيّام الاستظهار».

و الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و عدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين».

و أما توضيح المورد الأول: فيتوقف على مقدمة و هي: أن الشارع قد حكم بترك الصلاة في أيّام الاستظهار، و هي - في ذات العادة - الأيام الّتي ترى المرأة دما بعد تمام العادة قبل العشرة، فإنّ أمرها دائر في هذه الأيّام بين وجوب الصلاة عليها إذا انقطع الدم دون العشرة، و بين حرمتها عليها، إذا استمرّ الدم إلى العشرة، مثلا: لو كانت عادة المرأة في كلّ شهر ثلاثة أيّام، ثم رأت الدم بعدها، فبين الثلاثة و العشرة تسمّى أيام الاستظهار، و الدم في أيّام الاستظهار استحاضة إن تجاوز العشرة، و حيض إن انقطع فيها، هذا في ذات العادة. أمّا المرأة المبتدئة و هي الّتي لم تستقر بعد لها العادة فأيام الاستظهار في حقها أول رؤية الدم إلى ثلاثة أيّام، فهي تستظهر إلى ثلاثة أيّام، فإن لم ينقطع فيها الدم حكم بكونه حيضا و إلاّ فهو استحاضة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه يدور أمر الصلاة في أيّام الاستظهار بين الحرمة لاحتمال الحيضية، و بين الوجوب لاحتمال الاستحاضة، إلاّ إنّ الشارع المقدس قدّم جانب الحرمة على الوجوب حيث أمرها بترك الصلاة في هذه الأيّام، فيكون حكم الشارع بحرمة الصلاة دليلا على ترجيح النهي على الأمر. هذا تمام الكلام في توضيح المورد الأول.

و أما المورد الثاني: فلأن حكم الشارع بعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين اللذين اشتبه طاهرهما بمتنجّسهما، مع وجوب الوضوء بالماء الطاهر. يكشف عن تقدم النهي على الأمر في جميع الموارد، فحكم الشارع و أمره بإراقة المشتبهين، و التيمم للصلاة - مع دوران الأمر بين وجوب الوضوء مقدمة للصلاة و حرمته لنجاسة الماء - يكون دليلا على تقديم الحرمة على الوجوب.

ص: 67

كحرمة الصلاة في أيّام الاستظهار، و عدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين.

و فيه: أنّه (1) لا دليل على اعتبار الاستقراء ما لم يفد القطع، و لو سلّم (2): فهو لا يكاد يثبت بهذا المقدار (3).

و لو سلّم (4): فليس حرمة الصلاة في تلك الأيام، و لا عدم جواز الوضوء منهما

=============

(1)

قد أورد المصنف على الاستقرار بوجوه:

الوجه الأول: إنّه لا دليل على حجية الاستقراء تعبّدا ما لم يفد القطع، فاعتباره منوط بإفادته العلم و هو غير حاصل؛ لأن غاية ما يفيده الاستقراء هو الظنّ الذي لا يغني من الحق شيئا.

(2) الوجه الثاني الذي أورده المصنف على الاستقراء هو: إنّ الاستقراء لا يثبت بهذا المقدار حتى الاستقراء الناقص، فضلا عن الاستقراء التام، و الفرق بينهما: أن الاستقراء الناقص هو تتبع أكثر الجزئيات و الأفراد ليفيد الظنّ بثبوت كبرى كلية في مقابل الاستقراء التام - و هو تتبع تمام الجزئيات و الأفراد، - و ذلك يفيد العلم و القطع بثبوت كبرى كلية على فرض تحققه، فنقول في المقام: إنه بعد تسليم اعتبار الاستقراء الظنّي لا يحصل الاستقراء الناقص المفيد للظنّ بهذين الموردين؛ بل لا بد من تتبع موارد كثيرة حتى يحصل الظّن من الكثرة و الغلبة.

(3) لا يثبت الاستقراء بهذين الموردين، يعني: لا يحصل الظن بالموردين المذكورين.

(4) هذا هو الوجه الثالث الذي أورده المصنف على الاستقراء. و حاصل هذا الوجه الثالث: أنّه - بعد تسليم كفاية الظّن الاستقرائي، و تحقق الاستقراء الناقص المفيد للظّن بالموردين المذكورين - لا يكون الموردان المذكوران من موارد ترجيح الحرمة على الوجوب؛ بل هما أجنبيان عنها.

أما المورد الأوّل - و هو حرمة الصلاة في أيام الاستظهار - فلأن حرمة الصلاة فيما بعد العادة لذات العادة مستندة إلى أصل موضوعي، و هو استصحاب حدث الحيض الموجب لترتب أحكامه في أيّام الاستظهار، فليس هناك أمر حتى يدور الأمر بين الوجوب و الحرمة.

و أمّا حرمة الصلاة بالنسبة إلى غير ذات العادة: فلقاعدة الإمكان المثبتة تعبدا لكون الدم حيضا، فلا يكون هناك أمر أصلا، كي يدور الأمر بين الوجوب و الحرمة، فحرمة الصلاة في أيّام الاستظهار أجنبيّة عن مورد البحث، أعني: ترجيح النهي على الأمر.

قوله: «لأنّ حرمة الصلاة...» إلخ تعليل لعدم ارتباط حرمة الصلاة في أيّام الاستظهار بما نحن فيه من ترجيح النفي على الأمر.

ص: 68

مربوطا بالمقام؛ لأنّ حرمة الصلاة فيها إنّما تكون لقاعدة الإمكان و الاستصحاب المثبتين لكون الدم حيضا، فيحكم بجميع أحكامه

و منها (1): حرمة الصلاة عليها؛ لا (2) لأجل تغليب جانب الحرمة كما هو المدعى.

هذا (3) لو قيل بحرمتها الذاتية في أيام الحيض؛ و إلاّ فهو خارج عن محل الكلام.

=============

(1) أي: و من أحكام الحيض حرمة الصلاة على الحائض.

(2) أي: حرمة الصلاة إنّما هي لأجل قاعدة الإمكان و استصحاب حدث الحيض؛ لا لأجل تغليب جانب الحرمة كما هو المدعى، فحرمة الصلاة في أيّام الاستظهار أجنبيّة عما نحن فيه. هذا تمام الكلام في خروج المورد الأوّل عن مورد البحث.

و أمّا المورد الثاني: فلما يأتي من عدم كون حرمة الوضوء من الماء النجس ذاتيا، حتى يكون عدم جوازه من الماءين المشتبهين من ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب؛ بل حرمته منهما ليس إلا تشريعيا، حيث إنّه باطل لانتفاء شرطه و هو طهارة الماء، فقصد التعبد به يكون تشريعا، و لا تشريع إذا توضأ منهما احتياطا و برجاء أن يدرك التوضؤ بالماء الطاهر.

(3) أي: الدوران بين الوجوب و الحرمة في مثال الصلاة في أيام الاستظهار مبنيّ على: كون حرمة الصلاة ذاتيّة حتى يدور حكم فعلها بين الوجوب و الحرمة.

و أمّا على فرض حرمتها التشريعية - كما تنسب إلى المشهور - فيخرج مثال الصلاة في أيام الاستظهار - عن محل الكلام، ضرورة: أنّ مجرد فعلها لا يكون حراما، بل المحرم حينئذ هو التشريع الذي لا يتحقق بمجرّد فعلها، بل بقصد كونها عبادة واردة في الشرع، و من المعلوم: أنه حينئذ مخالفة قطعية، لكونه تشريعا محرما و لا يحتمل الامتثال في هذه الصورة أصلا.

و أمّا الإتيان بالصلاة برجاء المطلوبية و إدراك الواقع، فهو حسن لكونه احتياطا، و لا مخالفة حينئذ و لو احتمالا.

فقد اتضح ممّا ذكرنا: إنّه بناء على الحرمة التشريعية لا يدور أمر الصلاة بين الوجوب و الحرمة؛ بل على تقدير قصد التشريع يكون فعلها حراما، و على تقدير الإتيان بها برجاء المطلوبيّة: يكون فعلها احتياطا، و على كلا التقديرين: لا يدور الأمر بين الوجوب و الحرمة حتى يكون من محل الكلام.

«و إلاّ فهو خارج عن محل الكلام» أي: و إن لم تكن حرمة الصلاة ذاتية بأن كانت تشريعية كان خارجا عن محل الكلام؛ لعدم الدوران بين الوجوب و الحرمة، و عدم تقديم أحدهما على الآخر كما هو مورد البحث؛ بل إتيانها إمّا مخالفة قطعية بلا موافقة و لو احتمالية، و إمّا احتياط بلا مخالفة أصلا.

ص: 69

و من هنا (1) انقدح: أنّه ليس منه (2) ترك الوضوء من الإناءين، فإنّ حرمة الوضوء من الماء النجس ليس إلاّ تشريعيا، و لا تشريع (3) فيما لو توضأ منهما احتياطا، فلا حرمة في البين غلب جانبها، فعدم جواز الوضوء منهما و لو كذلك؛ بل إراقتهما كما في النص ليس إلاّ من باب التعبّد، أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهرا بحكم

=============

(1) أي: مما ذكرنا - من أنه إذا كانت الحرمة تشريعية فهو خارج عن محل الكلام - اتضح حال المورد الثاني - و هو عدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين - و ظهر خروجه من محل الكلام، لأنّ الوضوء بالماء المتنجس ليس حراما ذاتيا كالغصب حتى يدور حكم الوضوء بين الوجوب و الحرمة؛ بل حرمته تشريعية.

(2) أي: إنه ليس من دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة «ترك الوضوء من الإناءين»، و قد بيّن وجه الانقداح بقوله: «فإنّ حرمة الوضوء...» إلخ.

(3) أي: لأنّ الاحتياط ضدّ للتشريع، و مع الاحتياط ليس هناك حرمة ذاتية حتى يقدّم جانبها على الوجوب، «فعدم جواز الوضوء منهما و لو كذلك» أي: و لو بقصد الاحتياط؛ «بل إراقتهما كما في النص» أي: إراقة الإناءين و التيمّم للصلاة إنما هو للنّص و هو خبر عمار عن الصادق «عليه السلام»: «سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء، وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو، و ليس يقدر على ماء غيرهما، قال «عليه السلام»:

«يهريقهما جميعا و يتيمّم»(1).

قوله: «ليس إلاّ من باب التعبد» خبر لقوله: «فعدم جواز الوضوء».

ص: 70


1- الوسائل، ج 1، ب 8 من أبواب الماء المطلق، ج 2 و 4. و مثله موثق سماعة. نفس المصدر.

الاستصحاب؛ للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضئ من الإناء الثانية إمّا بملاقاتها أو بملاقاة الأولى، و عدم (1) استعمال مطهر بعده؛ و لو طهر بالثانية مواضع الملاقاة بالأولى.

نعم (2)؛ لو طهرت على تقدير نجاستها بمجرّد ملاقاتها بلا حاجة إلى التعدد أو انفصال الغسالة (3) لا يعلم تفصيلا بنجاستها (4) و إن علم بنجاستها حين ملاقاة الأولى أو الثانية إجمالا (5) فلا مجال لاستصحابها (6)، بل كانت قاعدة الطهارة محكمة.

=============

(1) الأولى أن يقول المصنف: و عدم العلم باستعمال مطهر لا نفي استعماله واقعا لاحتماله مع كون ماء الآنية نجسا واقعا. فمعنى العبارة حينئذ: مع عدم العلم باستعمال مطهر بعده حتى لو طهّر بالثانية مواضع الملاقاة بالآنية الأولى؛ إذ لو كان ماء الآنية الثانية متنجسا فتنجس المواضع بها لا أنّها تطهر بها.

كلمة «لو» في قوله: «و لو طهر بالثانية» وصلية.

و قيل: أنّ الظاهر هو وزان الإناءين المشتبهين وزان الثوبين المشتبهين في إمكان الاحتياط؛ لوضوح: إمكان العلم بالصلاة مع الوضوء الصحيح الواقعي؛ بأن يصلي عقيب كل وضوء كالإتيان بها في كل من الثوبين المشتبهين، فإنّه يحصل العلم حينئذ بوجود صلاة صحيحة واقعا كالعلم بحصولها في الثوبين المشتبهين.

(2) استدراك على قوله: «أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهرا».

و حاصله: منع جريان استصحاب النجاسة فيما إذا كان الماء الثاني كرّا فإنّه - على تقدير طهارته - تطهر الأعضاء، و لا يحصل العلم بنجاستها حين ملاقاتها له؛ بل على تقدير نجاستها تطهر لمجرّد ملاقاتها له؛ لعدم احتياج طهارتها بالماء الكرّ إلى التعدد و انفصال الغسالة، فالعلم التفصيلي حينئذ بنجاسة الأعضاء حين ملاقاتها للماء الثاني مفقود، فلا يجري استصحاب نجاستها.

(3) كالماء الجاري، و عدم الحاجة إلى التعدد كالكرّ.

(4) أي: نجاسة مواضع الملاقاة، و عدم العلم التفصيلي بنجاستها إنّما هو لأجل اعتصام الماء الثاني المانع عن انفعاله بمجرّد ملاقاة النجس، فلو تنجست الأعضاء قبل ملاقاة الماء الثاني طهرت بملاقاتها له، فلا يحصل العلم التفصيلي بنجاستها بملاقاة الماء الثاني، كما كان ذلك حاصلا حين ملاقاتها له على تقدير كونه ماء قليلا.

(5) قيد لقوله: «و إن علم» أي: و إن علم إجمالا بنجاسة الأعضاء إمّا بملاقاة الأولى أو الثانية على تقدير كون الماء النجس هو الماء البالغ كرّا.

(6) أي: فلا مجال لاستصحاب نجاسة مواضع الملاقاة، فيكون قوله: «فلا

ص: 71

الأمر الثالث (1):
اشارة

الظاهر لحوق تعدد الإضافات، بتعدد العنوانات و الجهات، في أنّه لو كان تعدد الجهة و العنوان كافيا مع وحدة المعنون وجودا في جواز الاجتماع، كان تعدد مجال» متفرعا على عدم العلم التفصيلي بنجاسة مواضع الملاقاة، و حاصله: - كما في «منتهى الدراية، ج، 3 ص 229» - إنّه لا يعلم تفصيلا بنجاسة الأعضاء حين ملاقاتها للماء الثاني حتى تستصحب؛ بل يعلم بورود الماء الطاهر و المتنجس على الأعضاء، فيكون المقام من تعاقب الحالتين، فلا يجري الاستصحاب لعدم إحراز شروطه التي منها اتصال زمان المشكوك بزمان المتيقن؛ إذ لعلّ الماء المتنجس كان هو الماء الأوّل الموجب لتيقن تنجّس الأعضاء، و حينئذ: فالماء الثاني قاطع لزمان الشكّ في التنجس عن زمان التيقن به، و لا أقل من احتمال القطع، فلا يعلم باجتماع شروطه فلا يجري الاستصحاب، غاية الأمر: يشك في الزمان الثالث في الطهارة و النجاسة، فيحكم بالطهارة بعد عدم جريان الاستصحاب النجاسة. إلاّ إن يقال: بعدم جريان قاعدة الطهارة في أطراف العلم الإجمالي بتحقق النجاسة، فتختص قاعدة الطهارة بغير مورد العلم الإجمالي.

=============

إلحاق تعدد الإضافات بتعدد الجهات و العنوانات

(1) و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان الفرق بين الإضافات و العنوانات و الجهات؛ كي يتضح إلحاق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات و الجهات أو عدم إلحاقها بها.

و حاصل الفرق بينهما: أن المقصود من العنوانات هو متعلق الأمر و النهي؛ كالصلاة و الغصب مثلا في قول الشارع: «صلّ و لا تغصب»، و أمّا المقصود من الإضافات: فهو إضافة متعلّقي الأمر و النهي إلى متعلّقيهما أي: موضوعات الأحكام؛ كإضافة الإكرام إلى العلماء في «أكرم العلماء»، و إضافة الإكرام إلى الفساق في «لا تكرم الفساق».

إذا عرفت هذا الفرق فاعلم: أنّه يكون المعنى لدى الحقيقة هكذا: هل يلحق تعدد متعلّقي المتعلّقين كالعلماء و الفساق مثلا بتعدد المتعلّقين كالصلاة و الغصب مثلا، فكما أنّ الثاني يكون من باب الاجتماع - لكون النسبة بين متعلّقي الأمر و النهي عموما من وجه - فكذلك الأوّل يكون من باب الاجتماع لكون النسبة بين متعلّقي المتعلقين عموما من وجه أم لا يلحق ؟

فيقول المصنف: «الظاهر لحوق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات».

ص: 72

و غرض المصنف من عقد هذا الأمر هو: الإشارة إلى وجه معاملة المشهور مع مثل:

«أكرم العلماء و لا تكرم الفساق»، مما يكون متعلقي الأمر و النهي واحدا ذاتا و متعددا بسبب الإضافة - كإكرام العالم و إكرام الفاسق - معاملة تعارض العامين من وجه، و حيث إنهم يرجعون فيه إلى مرجحات باب التعارض، مع إنّه ينبغي أن يعاملوا معه معاملة باب التزاحم؛ لأنّه من باب اجتماع الحكمين بعنوانين مثل: «صلّ و لا تغصب»، و أنّه إن كان لكليهما ملاك: فعلى الامتناع: يرجعون إلى مرجحات باب التزاحم، و على الجواز:

يرجح جانب الأمر أو النهي؛ بل لا تعارض و لا تزاحم على الجواز؛ لأنّ تعدد الإضافة كتعدد العنوان موجب لتعدد المتعلق.

نعم؛ لو لم يكن لأحدهما ملاك لكان من باب التعارض فيرجع إلى مرجّحات التعارض.

و حاصل ما أفاده المصنف في وجه ما يتراءى من المشهور من معاملتهم - مع مثل أكرم العلماء و لا تكرم الفساق - معاملة تعارض العامين من وجه في مادة الاجتماع: أنّ معاملتهم معاملة تعارض العامين من وجه إمّا مبنيّة على الامتناع، و إمّا على إحراز المقتضى لأحد الحكمين في المجمع.

قوله: «ضرورة: أنّه» تعليل للحوق تعدد الإضافات - كالإكرام المضاف إلى العالم و الفاسق في المثال - بتعدد العنوانات المتغايرة ذاتا؛ كالصلاة و الغصب.

و حاصل التعليل: أنّ الإضافات تؤثر في المصلحة و المفسدة؛ بداهة: إن الإكرام المضاف إلى العالم ليس كالإكرام المضاف إلى الفاسق؛ لحسن الأول و كونه ذا مصلحة، و قبح الثاني و كونه ذا مفسدة؛ كتأثير العناوين كالصلاة و الغصب في الحسن و القبح و المصلحة و المفسدة.

قوله: فيكون مثل: «أكرم العلماء و لا تكرم الفساق» مثال لتعدد الإضافات، يعني:

فيكون متعلق الأمر و النهي واحدا ذاتا و متعددا بسبب الإضافة؛ كالإكرام المتحد ذاتا المتعدد بحسب إضافته تارة إلى العالم و أخرى إلى الفاسق، فيكون هذا المثال من باب الاجتماع الذي هو من صغريات باب التزاحم «كصلّ و لا تغصب»؛ لا من باب التعارض كما ذهب إليه المشهور، حيث أجروا عليهما أحكام تعارض العامين من وجه، «إلاّ إذا لم يكن للحكم في أحد الخطابين في مورد الاجتماع مقتض» يعني: لا يعامل مع مثل: «أكرم العلماء و لا تكرم الفساق» معاملة التعارض إلاّ إذا لم يكن لأحد الحكمين

ص: 73

الإضافات مجديا، ضرورة: أنّه يوجب أيضا اختلاف المضاف بها بحسب المصلحة و المفسدة، و الحسن و القبح عقلا، و بحسب الوجوب و الحرمة شرعا، فيكون مثل:

«أكرم العلماء و لا تكرم الفساق» من باب الاجتماع ك «صلّ و لا تغصب» لا من باب التعارض؛ إلاّ إذا لم يكن للحكم في أحد الخطابين في مورد الاجتماع مقتض، كما هو الحال أيضا في تعدد العنوانين، فما يتراءى (1) منهم من المعاملة مع مثل:

«أكرم العلماء و لا تكرم الفساق» معاملة تعارض العموم من وجه إنّما يكون بناء على الامتناع، أو عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع.

في مورد الاجتماع مقتض، فحينئذ يخرجان عن باب اجتماع الأمر و النهي، كما هو الحال في نفس تعدد العنوانين إذا لم يكن في أحدهما مقتض، فإنّه يعامل معهما أيضا معاملة التعارض، و قد أشار إليه بقوله:

=============

«كما هو الحال أيضا في تعدد العنوانين» يعني: كما يجري التعارض في تعدد العنوانين إذا لم يكن في أحدهما ملاك الحكم في مورد الاجتماع حتى على القول بجواز الاجتماع.

(1) هذا شروع في توجيه كلام المشهور حيث أجروا أحكام تعارض العامين من وجه على مثال تعدد الإضافة في مثل: «أكرم العلماء و لا تكرم الفساق»، و قد عرفت وجه كلام المشهور فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة.

فالمتحصل من كلام المصنف: هو لحوق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات، فكما أنّ تعدّد العنوان - بناء على الجواز - مما يجدي في تعدّد المتعلق، فكذلك تعدد الإضافة بناء عليه مما يجدي في تعدده أيضا، فيكون مثل: أكرم العلماء و لا تكرم الفساق من باب الاجتماع كصلّ و لا تغصب عينا، فعلى الجواز لا تعارض و لا تزاحم في المجمع، و على الامتناع: يكون المجمع من باب التزاحم.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

1 - إنّ مسألة اجتماع الأمر و النهي ليست من باب التعارض حتى يرجع فيها إلى المرجحات السندية أو الدلالية أو الجهتية؛ بل هي من صغريات كبرى التزاحم، فيرجع فيها إلى مرجحات باب التزاحم من تقديم ما هو الأهم على غيره، فيقدم ما هو الغالب و الأقوى ملاكا من غيره، و إن لم يحرز الغالب منهما كان الخطابان متعارضين للعلم الإجمالي بكذب أحدهما في دلالته على فعلية مؤدّاه، فيقدم ما هو الأقوى دلالة أو سندا؛ نعم: هناك صور لا يخلو الواقع عنها:

ص: 74

1 - أن يكون كلا الدليلين لبيان الحكم الفعلي.

2 - أن يكون كلاهما لبيان الحكم الاقتضائي.

3 - أن يكون أحدهما متكفلا للحكم الفعلي، و الآخر للحكم الاقتضائي.

و على الأوّل: يتعين الأخذ بالأهم إن علم ما هو الأهم منهما.

و إلاّ يرجع إلى المرجحات السندية أو الدلالية إن كان هناك مرجح، و إلاّ يحكم بالتخيير بينهما.

و على الثاني: يرجع إلى الأصول العملية.

و على الثالث: يؤخذ بالحكم الفعلي، و يطرح الحكم الاقتضائي.

2 - إنّ ترجيح أحد الدليلين و تخصيص الآخر به في مسألة الاجتماع لا يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأسا - كما زعمه الشيخ في التقريرات - حيث أورد على الحكم بصحة الصلاة في المغصوب مع الجهل العذري و سائر الأعذار في فرض ترجيح النهي على الأمر.

و ملخص ما في التقريرات من الإشكال: من أن ترجيح النهي على الأمر يقتضي عدم صحة الصلاة في موارد العذر لخلو الصلاة بعد تقييدها بالنهي عن المصلحة فضلا عن الوجوب؛ نظير تقييد الرقبة مثلا بالإيمان، حيث لخلو عتق الرقبة الكافرة عن المصلحة؛ و عدم إجزاء عتقها حتى حال الجهل و النسيان.

و توضيح الإشكال: أنّ دلالة الأمر في خطاب «صل» بالإطلاق. و إن كان على مطلوبيّة محلّ الاجتماع إلا إنّ دلالة النهي بالعموم على المبغوضية شاملة لجميع الأفراد، و بعد ملاحظة ترجيح النهي على الأمر لا بد من المصير إلى أن مورد الاجتماع خارج عن المطلوب بجميع أحواله و أطواره، و لازم ذلك: فساد المجمع بواسطة ارتفاع المطلوبيّة و الأمر و لو حال الجهل و النسيان و الغفلة عن الحرمة، و هذا ينافي ما تقدم من صحة الصلاة في المغصوب على القول بالامتناع، و تقديم النهي أو التساوي من ذوي الأعذار كالمحبوس ظلما في الغصب، و الناسي للغصب؛ أو الحرمة، أو الغافل عنها، و الجاهل بها قصورا.

هذا تمام الكلام في توضيح الإشكال على صحة الصلاة في المغصوب. و موارد العذر الشرعي.

ص: 75

و حاصل الجواب: يتضح بعد الفرق بين تخصيص أحد الدليلين في مسألة باب التزاحم، و بين تخصيصه في باب التعارض.

و حاصل الفرق: أنّ مناط التعارض هو وجود ملاك أحد الحكمين، و مناط التزاحم هو وجود ملاك كلا الحكمين.

إذا عرفت هذا الفرق فاعلم: أنّ لازمه أنّ تخصيص أحد الدليلين أو تقييده في باب التعارض يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الدليل الآخر رأسا؛ كما في «أكرم العلماء و لا تكرم النحاة»، فإنّ العالم النحوي - بعد تخصيص العلماء بالنحاة - يخرج عن حيّز «أكرم العلماء» ملاكا و وجوبا؛ فلا مصلحة و لا وجوب له.

هذا بخلاف باب التزاحم كما في إنقاذ زيد و عمرو مع عجز المكلف عن إنقاذهما معا، فإذا رجّح إنقاذ زيد لقوّة ملاكه يبقى إنقاذ عمرو على وجوبه الاقتضائي.

ثم مسألة اجتماع الأمر و النهي لمّا كانت من باب التزاحم؛ فترجيح النهي على الأمر لا يوجب خروج المجمع عن الدليل الآخر رأسا؛ بل يوجب خروج المجمع عن الحكم الآخر الفعلي فقط مع بقاء ملاكه، فالصلاة في المغصوب خرجت عن حيّز الحكم الفعلي دون ملاكه، و حينئذ يؤثر الملاك بعد ارتفاع فعلية النهي و الحرمة بسبب عذر من الأعذار الشرعية، و نتيجة ذلك: صحّة الصلاة في موارد العذر الشرعي، إذ لا مانع من تأثير ملاك الأمر.

3 - وجوه ترجيح النهي على الأمر:

أنّ النهي أقوى دلالة من الأمر، لاستلزامه انتفاء جميع الأفراد دون الأمر.

و قد أورد عليه بما حاصله: أنّ دلالة كل من الأمر و النهي على العموم البدلي و الشمولي تكون بمقدمات الحكمة من جهة إطلاق متعلقهما الثابت بمقدمات الحكمة، فهما متساويان، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

الإشكال على هذا الإيراد: بأن دلالة النهي على العموم الشمولي ليست بمقدمات الحكمة، بل بذاته و نفسه، غاية الأمر: يدل النهي على العموم الشمولي بالدلالة الالتزامية؛ مدفوع: بأن دلالة النهي على العموم الشمولي منوطة بكل من العقل و مقدمات الحكمة، بمعنى: أن أداة العموم لا تدل على استيعاب جميع أفراد الطبيعة المطلقة إلاّ إذا أريد بها الإطلاق، فلا بد في إثباته من التشبث بمقدمات الحكمة، فلا فرق حينئذ بين الأمر و النهي؛ حيث إن العموم البدلي في الأمر، و العموم الشمولي في النهي

ص: 76

مستفادان من مقدمات الحكمة، فالإشكال على ترجيح النهي على الأمر في محله؛ إذ ليست دلالة النهي أقوى من دلالة الأمر بعد كونهما بمقدمات الحكمة.

4 - اللّهم إلاّ إن يقال: إنّنا لا نحتاج في إثبات إطلاق المتعلق إلى مقدمات الحكمة؛ بل نفس النهي و النفي يكفي في إثبات إطلاق المتعلق، و حينئذ: يكون النهي أقوى دلالة من الأمر.

توضيح ذلك: أنّ النهي في دلالته على العموم الشمولي مثل: لفظة «كل» في «كل رجل»؛ حيث تدل على استيعاب جميع أفراد الرجل من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله بمقدمات الحكمة، فيكون النهي أقوى دلالة من الأمر فيقدم عليه.

«فتدبر» لعلّه إشارة إلى عدم تسليم ما ذكره بقوله: «اللّهم إلاّ أن يقال...» الخ، أو إشارة إلى الإشكال في إلحاق النهي و النفي بلفظ «كل»، بأن يقال: إن قياس النهي و النفي بلفظ «كل» قياس مع الفارق فيكون باطلا.

5 - الوجه الثاني من وجوه ترجيح النهي على الأمر هو: أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة، و عليه: فترك الصلاة في المغصوب دفعا لمفسدة الغصب أولى من جلب المصلحة بفعلها، و لازمه بطلان الصلاة؛ لأنّ النهي في العبادات يقتضي فسادها.

أما اعتراض المحقق القمّي على هذا الترجيح - بعدم كلّية هذا الترجيح إذا كان الواجب معيّنا لا بدل له: فلا بد من ملاحظة الأهم من المفسدتين؛ مفسدة ترك الواجب و مفسدة فعل الحرام - فمدفوع بما حاصله: من أنّ مقتضى تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد في متعلقاتها ليس إلاّ ترتب المفسدة على فعل الحرام، و المصلحة على فعل الواجب، و عليه: فلا يدور الأمر في الواجب و الحرام بين المفسدتين؛ بل يدور الأمر بين المفسدة و المصلحة، فيصح الترجيح بأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

6 - إيراد المصنف على هذا الوجه الثاني من الترجيح بوجوه:

1 - ما أشار إليه بقوله: «و لكن يرد عليه: أن الأولوية مطلقا ممنوعة»، و خلاصة هذا الإشكال: أن الأولويّة في جميع موارد دوران الأمر بين دفع المفسدة و جلب المنفعة ممنوعة؛ إذ ربّ واجب تكون مصلحته في غاية القوّة، و حرام تكون مفسدته في غاية الضعف، فلا شبهة حينئذ في تقديم الواجب على الحرام عند دوران الأمر بينهما.

ص: 77

2 - ما أشار إليه بقوله: «فلو سلم فهو أجنبيّ عن المقام» يعني: لو سلّمنا كليّة قاعدة أولويّة دفع المفسدة على جلب المنفعة نمنع صغروية المقام لها؛ لأنّ موردها هو التخيير بعد عدم الأخذ بالترجيح؛ مثل: ما لو دار الأمر بين وجوب شيء و حرمته كتردد صلاة الجمعة بين الوجوب و الحرمة، حيث إنّ الحكم فيها بعد عدم ترجيح أحد الحكمين على الآخر هو التخيير، فيقع التزاحم في مقام الامتثال بين المفسدة و المصلحة، فيقال: إن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة، هذا بخلاف المقام حيث قام الدليلان على الوجوب و الحرمة، و حكم العقل بالامتناع و لم يعلم ترجيح أحدهما على الآخر من الخارج، فلا تجري قاعدة الأولوية.

هذا مضافا إلى عدم الدليل على اعتبار هذه القاعدة.

3 - ما أشار إليه بقوله: «و لو سلم فإنّما يجدي فيما لو حصل القطع».

و حاصل هذا الوجه الثالث من الإشكال: أنّ هذه القاعدة - بعد تسليمها - إنّما تجدي فيما إذا حصل القطع بالأولوية، و لا يجدي الظّن بها لعدم الدليل على اعتبار الظنّ و الأصل عدم اعتباره.

4 - ما أشار إليه بقوله: «و لو سلم أنّه يجدي و لو لم يحصل...» إلخ يعني: أنّه لو سلّم أنّ الظن بالأولويّة يجدي في مقام الترجيح فذلك يختصّ بما إذا لم تجر فيه أصالة البراءة أو الاشتغال؛ كدوران الأمر بين الوجوب و الحرمة التعيينيين، هذا بخلاف المقام لإمكان جريان البراءة في مورد الاجتماع أي: تجري أصل البراءة في حرمة المجمع، لعدم العلم بخصوص الحرمة، فيحكم بصحته ببركة الأصل حتى على القول بالاشتغال في الشك في الأجزاء و الشرائط، فلا تكون الحرمة مانعة عن صحة الصلاة بعد ارتفاع فعليتها؛ إذ مع ارتفاع فعلية الحرمة بالأصل تصح الصلاة واقعا.

هذا بخلاف مشكوك الجزئية أو الشرطية حيث لا تصح الصلاة واقعا مع ثبوت الجزء أو الشرط واقعا، و لذا قيل بالاشتغال للشك في براءة الذّمة بالفاقد.

7 - «نعم؛ لو قيل بأنّ المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية»: هذا استدراك على قوله: «لا فيما تجري كما في محل الاجتماع...» إلخ.

و خلاصة الاستدراك: أنّ المصنف قد أثبت صحة المجمع بسبب البراءة عن حرمته الفعلية، ثم استدرك عليه و قال: نعم؛ لو قلنا بأن مفسدة الغصب واقعية لا علمية، و غالبة في الواقع على مصلحة الصلاة في الغصب فهي مؤثرة في فعلية

ص: 78

المبغوضية المانعة عن إمكان التقرّب بالمجمع، فلا تجري البراءة مع العلم بالمفسدة؛ لاحتمال غلبتها على المصلحة الواقعية، فتكون مؤثرة في المبغوضية، و عليه: فأصالة الاشتغال محكمة للشك في براءة الذّمة عند الإتيان بالمجمع؛ إذ لا يحصل قصد القربة مع الشك في المبغوضية.

8 - 3 - الوجه الثالث من وجوه ترجيح النهي على الأمر: هو الاستقراء، و قد اكتفى المصنف بذكر موردين من موارد تقديم الشارع جانب الحرمة على الوجوب:

1 - قد حكم بحرمة الصلاة أيّام الاستظهار مع تردّدها بين الحرمة، لاحتمال الحيضية و بين الوجوب؛ لاحتمال الاستحاضة.

2 - قد حكم الشارع بعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين، مع تردّده بين الحرمة و الوجوب.

و قد أورد المصنف على الاستقراء بوجوه:

1 - لا دليل على حجيّة الاستقراء تعبّدا ما لم يفد القطع.

2 - أنّ الاستقراء لا يثبت بالموردين المذكورين؛ على فرض اعتبار الظّن من الاستقراء.

3 - بعد تسليم حصول الاستقراء و حجيّة الظن الحاصل منه لا يكون الموردان المذكوران من موارد ترجيح الحرمة على الوجوب؛ لأنّ حرمة الصلاة في أيّام الاستظهار ليست لأجل تقديم الحرمة على الوجوب؛ بل لقاعدة الإمكان و الاستصحاب.

مضافا إلى أنّ محل الكلام هي الحرمة الذاتية و الحرمة في الموردين تشريعية، فيخرج كلا الموردين عن محل الكلام.

9 - إلحاق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات:

و الفرق بينهما: أنّ المقصود من العنوانات هو: متعلق الأمر و النهي؛ كالصلاة و الغصب.

و المقصود من الإضافات: هو إضافة متعلقي الأمر و النهي إلى متعلقيهما، أي:

موضوعات الأحكام؛ كإضافة الإكرام إلى العلماء في: «أكرم العلماء»، و إضافته إلى الفساق في: «لا تكرم الفساق».

إذا عرفت الفرق بينهما فيقال هكذا: هل يلحق تعدد متعلقي المتعلقين كالعلماء و الفساق بتعدد المتعلقين؛ كالصلاة و الغصب، فكما أنّ الثاني من باب الاجتماع لكون النسبة بين متعلقي الأمر و النهي عموما من وجه فكذلك الأول أم لا يلحق ؟

ص: 79

فيقول المصنف «قدس سره»: الظاهر لحوق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات، فكما أن الثاني من باب الاجتماع، فكذلك الأول، فكما أن تعدد العنوان بناء على القول بالجواز مما يجدي في تعدّد المتعلق فكذلك تعدد الإضافة - بناء عليه - مما يجدي أيضا في تعدّده.

10 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - أن مسألة اجتماع الأمر و النهي من صغريات كبرى التزاحم.

2 - يستشم من كلام المصنف: تقديم جانب النهي على الأمر.

3 - لحوق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات.

ص: 80

فصل في أن النهي عن الشيء هل يقتضي فساده أم لا؟ و ليقدم أمور (1):

الأول (2):

أنّه قد عرفت في المسألة السابقة: الفرق بينها و بين هذه المسألة، و أنّه لا دخل للجهة المبحوث عنها في إحداهما بما هو جهة البحث في الأخرى، و أنّ البحث في هذه المسألة في دلالة النهي بوجه يأتي تفصيله على الفساد، بخلاف تلك المسألة فإنّ

=============

فصل هل النهي يقتضي الفساد أم لا

اشارة

(1) يعني: قبل الخوض في أصل البحث لا بدّ من تقديم أمور ثمانية.

و ليقدم امور

الأمر الأول بيان الفرق بين المسألة السابقة و بين هذه المسألة.

و خلاصة الفرق: إنّه ليس الامتياز بين المسائل بمجرّد تعدد الموضوع؛ بل إنّما هو بتعدد الجهة المقصودة بالبحث و لو مع وحدة الموضوع.

فالجهة المبحوث عنها في مسألة الاجتماع هي: سراية كلّ من الأمر و النهي إلى متعلق الآخر؛ لاتحاد متعلقيهما - كعنوان الصلاة مع عنوان الغصب - وجودا، و عدم سراية كلّ منهما إلى متعلق الآخر لتعددهما كذلك.

و أمّا الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة: فهي مفسدية النهي للعبادة أو المعاملة و عدمها؛ بعد الفراغ عن أصل توجهه و سرايته إليهما.

و من الواضح: أن الجهة المقصودة في تلك المسألة أجنبيّة عن الجهة المقصودة بالبحث في مسألة دلالة النهي على الفساد و عدمها عليه.

و بعبارة أخرى: أن النزاع في هذه المسألة كبروي؛ بمعنى: أن المبحوث عنه فيها هو ثبوت الملازمة بين النهي عن العبادة و فسادها، و عدم ثبوت هذه الملازمة بعد الفراغ عن ثبوت الصغرى و هي تعلق النهي بالعبادة قطعا.

و أما النزاع في المسألة السابقة فهو صغرويّ بمعنى: أن البحث فيها إنّما هو عن سراية النهي في مورد الاجتماع إلى متعلق الأمر و عدم سرايته إليه.

فالفرق بين المسألتين واضح، و هذا الفرق هو مختار المصنف.

ص: 81

البحث فيها في أنّ تعدد الجهة يجدي في رفع غائلة اجتماع الأمر و النهي في مورد الاجتماع أم لا؟

الثاني أنّ عدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ لأجل أنّه في الأقوال قولا بدلالته على الفساد في المعاملات

الثاني (1):

أنّه لا يخفى: أن عدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ، إنّما هو لأجل أنّه في الأقوال قول بدلالته على الفساد في المعاملات، مع إنكار الملازمة بينه و بين الحرمة و لكن قال المحقق القمي «قدس سره»(1) بفرق آخر بين المسألتين و هو: أن النسبة بين متعلق الأمر و متعلق النهي عموم من وجه في مسألة الاجتماع؛ إذ بين الصلاة و الغصب مصداقا عموم من وجه نحو «صلّ و لا تغصب»، و في هذه المسألة تكون النسبة بين متعلقي الأمر و النهي عموما مطلقا؛ إذ بين الصلاة و الصلاة المقيدة بكونها في الدار المغصوبة تكون النسبة عموما مطلقا، نحو «صلّ و لا تصل في الدار المغصوبة»، و هناك فرق آخر من صاحب الفصول(2) و هو: اعتبار تغاير متعلق الأمر و النهي واقعا و حقيقة في مسألة الاجتماع، و اعتبار وحدتهما حقيقة، و لحاظ تغايرهما بالإطلاق و التقييد في هذه المسألة. و تركنا تفصيل الكلام رعاية للاختصار.

=============

(1) قال المصنف في المسألة السابقة: إنّها عقلية. ثم يقول: إنّ عدّ هذه المسألة لفظية لاقتضاء جعل عنوان المسألة في لسان بعض الأصوليين دلالة النهي على فساد المنهي عنه كونها لفظية؛ لأن الدلالة من أحوال اللفظ.

و كيف كان؛ ففي الأقوال في المسألة قول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات، مع إنكار هذا البعض الملازمة بين الفساد و بين الحرمة التي هي مفاد النهي في المعاملات.

و الغرض من عقد هذا الأمر الثاني - التنبيه على فساد ما ذكره بعض المحققين من:

أنّ النزاع في هذه المسألة كالمسألة السابقة عقلي و ليس بلفظي؛ لأن النزاع إنّما هو في حكم العقل بالملازمة بين الحرمة و الفساد و عدمه سواء كان الدال على الحرمة صيغة النهي أم الإجماع أم الضرورة، فالنزاع في هذه المسألة عقلي لا لفظي؛ لعدم ارتباطها باللفظ، و المصنف أشار إلى إمكان كون المسألة لفظية لإنكار بعض الأصوليين الملازمة بين الحرمة و الفساد، و اعترافه بدلالة النهي على الفساد في المعاملات، فلو كان النزاع في

ص: 82


1- الفصول الغروية، ص 140، س 21.
2- مطارح الأنظار، ج 1، ص 727.

الّتي هي مفاده فيها، و لا ينافي ذلك أن الملازمة - على تقدير ثبوتها في العبادة - إنّما تكون بينه و بين الحرمة و لو لم تكن مدلولة بالصيغة، و على تقدير عدمها تكون منتفية بينهما؛ لإمكان (1) أن يكون البحث معه في دلالة الصيغة بما تعمّ دلالتها بالالتزام، الملازمة العقلية التي لا مساس لها بالدلالة اللفظية لكان هذا القائل من النافين، مع أنّهم عدّوه من المثبتين، فيستكشف من هذا: أنّ النزاع في دلالة اللفظ لا في الملازمة العقلية، هذا ما اشار إليه بقوله:

=============

«إن عدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ إنّما هو لأجل أنّه في الأقوال قول بدلالته على الفساد» أي: في الأقوال قول بدلالة النهي على الفساد، فالتحفظ على إدراج هذا القول في حريم النزاع أوجب تحرير البحث في دلالة اللفظ.

قوله: «و لا ينافي ذلك أن الملازمة...» إلخ إشارة إلى ردّ ما في التقريرات المنسوبة إلى الشيخ الأنصاري من التوهم حيث قال ما لفظه: «قد عرفت في المسألة السابقة الفرق بينها و بين هذه المسألة على وجه التفصيل، و محصله هو: أن المسئول عنه في تلك المسألة هو إمكان اجتماع هذين النحوين من الطلب في مورد واحد و امتناعه، و المسئول عنه في هذه المسألة هو ثبوت الملازمة بين تعلق النهي بشيء و بين فساد ذلك الشيء(1) - إلى أن قال - و من هنا يظهر: إن المسألة لا ينبغي أن تعدّ من مباحث الألفاظ، فإنّ هذه الملازمة - على تقدير ثبوتها - إنّما هي موجودة بين مفاد النهي المتعلق بشيء و بين فساد ذلك الشيء، و إن لم يكن ذلك النهي مدلولا بالصيغة اللفظية، و على تقدير عدمها إنّما يحكم بانتفائها بين المعنيين»(2).

و محصل ما في التقريرات - مع طوله - أن محل الكلام في المسألة نفيا و إثباتا إنّما هو الملازمة بين الحرمة و الفساد عقلا؛ و إن لم تكن الحرمة مستفادة من اللفظ أصلا، كما إذا كانت مستفادة من عقل أو إجماع أو نحوهما.

و عليه: فالمسألة ليست لفظية؛ بل عقلية، لأنّ البحث إنما هو في الملازمة، لا في الدلالة اللفظية.

(1) تعليل لقوله: «و لا ينافي»، و ردّ للتوهم المذكور و هو التنافي بين جعل هذه المسألة من مباحث الألفاظ، و بين التزام العلماء بالملازمة بين الحرمة و الفساد في العبادات، و التنافي بين القول بالملازمة بين الحرمة و الفساد في العبادات و بين القول بدلالة النهي

ص: 83


1- مطارح الأنظار، ج 1، ص 727.
2- السابق، ص 728.

فلا تقاس (1) بتلك المسألة الّتي لا يكاد يكون لدلالة اللفظ بها مساس. فتأمل جيّدا.

الأمر الثالث (2): ظاهر لفظ النهي و إن كان هو النهي التحريمي؛ إلاّ إن ملاك البحث يعمّ التنزيهي،
اشارة

لفظا واضح.

=============

و حاصل ردّ المصنف على التوهم المذكور: إنّه لا ينافي ذلك أن يكون النزاع مع ذلك في دلالة الصيغة على الفساد و عدمها، غاية الأمر: أنّها تدل على الحرمة بالمطابقة، و على الفساد الملازم للحرمة بالالتزام، قوله: «معه» أي: مع القائل بدلالة النهي في المعاملات على الفساد مع إنكاره الملازمة بين الحرمة و الفساد.

و بعبارة أخرى: أنّه يمكن إرجاع النزاع إلى حال اللفظ، و تعميم الدلالة و جعلها أعم من الالتزامية، بأن يقال: إن النهي يدل بالمطابقة على الحرمة و بالالتزام على الفساد؛ لما بين الحرمة و الفساد من التلازم. و على هذا: فلا مانع من جعل هذه المسألة من مباحث الألفاظ مع التلازم بين الحرمة المستفادة من الصيغة و الفساد. فينتفي التنافي بين القول بالملازمة نظرا إلى الدلالة الالتزامية، و بين القول بدلالة لفظ النهي على الفساد نظرا إلى الدلالة المطابقية.

(1) أي: فلا تقاس مسألة اقتضاء النهي للفساد الممكن عدّها لفظية «بتلك المسألة» أي: مسألة اجتماع الأمر و النهي «التي» كان الكلام فيها في إمكان الاجتماع و عدمه عقلا بحيث «لا يكاد يكون لدلالة اللفظ بها مساس» أصلا. «فتأمل جيدا» حتى تعرف أنّه يمكن عدّ مسألة الاجتماع لفظية أيضا.

فغرض المصنف من قوله: «فلا تقاس»: إنه بعد إمكان إرجاع البحث في هذه المسألة إلى مباحث الألفاظ فلا تقاس بالمسألة السابقة، و هي اجتماع الأمر و النهي؛ لأنّ مسألة الاجتماع عقلية لا مساس لها بالألفاظ، بخلاف هذه المسألة حيث يمكن جعلها لفظية و إن كانت عقلية.

في شمول ملاك البحث للنهي التنزيهي

(2) الغرض من هذا الأمر الثالث: تحرير محل النزاع. و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: بيان أقسام النهي فنقول: إنّ النهي ينقسم إلى التكليفي و الإرشادي؛ كالنهي عن نكاح العبد بدون إذن سيّده، حيث يكون إرشادا إلى فساد النكاح، ثم النهي التكليفي له أقسام:

ص: 84

و معه (1) لا وجه لتخصيص العنوان، و اختصاص عموم ملاكه بالعبادات لا يوجب التخصيص به كما لا يخفى، كما لا وجه لتخصيصه بالنفسي، فيعمّ الغيري إذا كان 1 - التحريمي، نحو: «لا تأكل أموال اليتامى ظلما».

=============

2 - التنزيهي، نحو: «لا تكن في مواضع التهمة».

3 - النفسي، نحو: «لا تشرب الخمر».

4 - الغيري، كالنهي عن فعل الصلاة بعد الأمر بالإزالة، حيث يكون تركها واجبا مقدمة للإزالة، ففعلها يكون منهيا عنه بالنهي الغيري.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المتبادر من لفظ النهي و إن كان هو خصوص النهي المولوي التحريمي النفسي دون الإرشادي و التنزيهي و الغيري؛ و لكن المراد به في هذه المسألة أعم منه، فيشمل التنزيهي و الغيري، و القرينة على إرادة الأعم هو عموم ملاك البحث؛ و هو منافاة المرجوحية لصحة العبادة، و ذلك لاقتضاء العبادة المحبوبية، و الكراهة المبغوضية، و من المعلوم: تضادّ الحب و البغض، فلا تجتمع الصحة في العبادة مع الكراهة، هذا ما أشار المصنف إليه بقوله: «إلاّ إن ملاك البحث يعمّ التنزيهي»، و المراد بالملاك هنا هو: التنافي بين ما يقتضيه النهي - أعني: المرجوحية - و بين الصحة، و هذا الملاك يكون قرينة على إرادة خلاف ظاهر النهي أعني: التحريمي المولوي، و أنّ المراد به هنا ما يعمّ التنزيهي.

(1) أي: و مع عموم ملاك البحث للنهي التنزيهي لا وجه لتخصيص العنوان بالنهي التحريمي، كما صنعه في التقريرات، قال فيها في أوائل بحث اقتضاء النهي للفساد:

«الثاني: ظاهر النهي المأخوذ في العنوان. هو النهي التحريمي، و إن كان مناط البحث في التنزيهي موجودا؛ و ذلك لا يوجب تعميم العنوان»(1). و المصنف يقول ردّا على التقريرات: إنّه لا وجه لتخصيص العنوان بالتحريمي مع عموم ملاك البحث.

قوله: «و اختصاص عموم ملاكه...» إلخ إشارة إلى توهم، و تقريب التوهم: - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 248» - أن عموم الملاك يختصّ بالعبادات؛ لأن المرجوحية المستكشفة عن النهي - تحريميّا كان أو تنزيهيّا - إنّما تنافي صحة العبادة لأنّها تستدعي المحبوبية المنافية للمرجوحية، دون المعاملة، إذ لا ملازمة قطعا بين النهي التنزيهي و بين الفساد فيها، فلا تنافي مرجوحيتها صحتها، و حيث لا يشمل عموم الملاك المعاملات، فبما أنّ النهي التحريمي مطرد في العبادات و المعاملات، فيكون عدم اطّراد عموم الملاك في المعاملات قرينة على إرادة التحريمي من النهي المذكور في العنوان.

ص: 85


1- مطارح الأنظار، ج 1، ص 728.

فالنتيجة: أنّ المراد بالنهي هو خصوص التحريمي.

هذا تمام الكلام في تقريب التوهم، و قد أشار إلى دفعه بقوله: «لا يوجب التخصيص به»، و حاصله: إنّ اختصاص عموم الملاك بالعبادات لا يصلح لأن يكون قرينة على إرادة النهي التحريمي في العنوان حتى يكون قرينة على تخصيص النهي في العنوان بالتحريمي، و ذلك لكفاية عموميّة الملاك في صحة إرادة الأعم من التحريمي.

فلا وجه لتخصيص العنوان بالنهي التحريمي، كما لا وجه لتخصيص النهي بالنفسي كما أشار إليه بقوله: «كما لا وجه لتخصيصه بالنفسي فيعم الغيري إذا كان أصليا» و غرضه من هذا الكلام هو: تعميم النهي في مورد البحث للنهي الغيري الأصلي.

و حاصله: أن النهي و إن كان ظاهرا في النفسي - كما تقدم في محلّه - إلاّ إنّ المراد به هنا ما يعمّ الغيري.

ثم إن النهي الغيري على قسمين:

أحدهما: أن يكون أصليا، بأن يدل عليه خطاب مستقل من الشارع، فإنّه لكونه مسوقا لبيان المانعية يدل على الفساد قطعا؛ كالنهي عن الصلاة في غير المأكول، أو الحرير و الذهب للرجال، فإنّ المأمور به المقيد بقيد عدمي إذا أتى فاقدا للقيد العدمي وقع فاسدا لا محالة.

ثانيهما: أن يكون تبعيا، بأن لا يكون مدلولا للخطاب بحيث يكون مقصودا من اللفظ؛ بل كان لازما للمراد باللزوم العقلي، الذي يحكم به العقل بملاحظة الخطاب، و شيء آخر و هو مقدمية ترك الضدّ لفعل الضدّ الآخر، كما إذا أمر بإزالة النجاسة عن المسجد المتوقفة على مقدمات منها ترك الصلاة، فيقال: إنّ الصلاة حينئذ تكون منهيا عنها بالنهي الغيري التبعي.

أمّا القسم الأول: فهو داخل في محل النزاع.

و أمّا القسم الثاني: فهو و إن كان خارجا عن حيّز النزاع عنوانا لعدم نهي لفظي في البين حتى يبحث عن دلالته على الفساد و عدمها؛ لكنّه داخل فيه ملاكا، لملازمة الحرمة مطلقا - و إن لم تكن مدلولة للصيغة - للفساد، و قد أشار إلى دخوله ملاكا بقوله: «إلاّ إنّه داخل...» إلخ أي: إلاّ إن النهي التبعي داخل فيما هو ملاك البحث و هو التنافي بين المرجوحية و الصحة، و قد أشار إلى دلالة النهي التبعي على الفساد بقوله: «فإنّ دلالته على الفساد...» إلخ بتقريب: أن النهي إذا لم يكن للإرشاد إلى

ص: 86

أصليا، و أمّا إذا كان تبعيا، فهو و إن كان خارجا عن محل البحث، لما عرفت أنه في دلالة النهي و التبعي منه من مقولة المعنى، إلاّ إنه داخل فيما هو ملاكه، فإنّ دلالته على الفساد على القول به فيما لم يكن للإرشاد إليه، إنّما يكون لدلالته على الحرمة، من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته في ذلك (1)، كما توهمه القمّي «قدس سرّه»(2).

و يؤيد ذلك (2): أنّه جعل ثمرة النزاع في أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه فساده إذا كان عبادة(3)، فتدبر (3) جيّدا.

الفساد - كما في المعاملات - إنما تكون دلالته على الفساد لأجل دلالته على الحرمة التي هي موجودة في النهي التبعي؛ لا لأجل استحقاق العقوبة على مخالفته حتى يقال إنه منتف في النهي التبعي، كما ذهب إليه المحقق القميّ «قدس سره» مدعيا لعدم اقتضاء التبعي الفساد قطعا؛ لانحصار مورد النزاع فيما يترتب عليه العقاب المعلوم انتفاؤه في التبعي.

=============

(1) أي: في الدلالة على الفساد كما توهمه المحقق القمّي «قدس سره» حيث قال في ذيل المقدمة السادسة من مقدمات بحث مقدمة الواجب: «إنّ النهي المستلزم للفساد ليس إلاّ ما كان فاعله معاقبا». ثم قال في المقدمة السابعة: «لعدم ثبوت العقاب على الخطاب التبعي»(1). و من المعلوم: أنّ المستفاد من العبارتين المذكورتين: أن النهي التبعي لا يستلزم الفساد لعدم العقاب على مخالفته.

(2) أي: كون النهي التبعي داخلا في محل النزاع يعني: يؤيد تعميم النزاع للنهي الغيري التبعي «أنه جعل ثمرة النزاع...» إلخ. و وجه التأييد: أنّهم جعلوا ثمرة نزاع اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه فساد الضدّ إذا كان عبادة، فتبطل صلاة من ترك الإزالة المأمور بها، مع إنّ النهي المتعلق بالضدّ - كالصلاة في المثال - غيري تبعي، فيظهر من هذا: دخول النهي التبعي في حريم النزاع، فما ذكره المحقق القمي «قدس سره» من عدم دخول النهي التبعي في محل النزاع لا يلائم هذه الثمرة.

ثم التعبير بقوله: «و يؤيد» دون «و يدّل» لعلّه لإمكان استناد بطلان الضدّ العبادي إلى عدم الأمر؛ لا إلى النهي التبعي.

(3) قوله: «فتدبر جيّدا» تدقيقي بقرينة كلمة «جيّدا». أو إشارة إلى سائر أقسام

ص: 87


1- قوانين الأصول، ج 1، ص 102.
2- قوانين الأصول، ج 1، ص 102، في المقدمة السادسة و السابعة.
3- قوانين الأصول، ج 1، ص 101، س 24.
الأمر الرابع بيان المراد بالعبادة التي يتعلق بها النهي
اشارة

الرابع (1):

ما يتعلق به النهي، إمّا أن يكون عبادة أو غيرها، و المراد بالعبادة هاهنا: ما يكون النهي، بمعنى أنّه كلّما كان من أقسامه واجدا لملاك البحث كان داخلا في النزاع، و كلما لم يكن فيه الملاك لم يجر فيه النزاع.

=============

في تعيين المراد بالعبادة في المسألة الغرض من عقد هذا الأمر الرابع هو: بيان المراد بالعبادة التي يتعلق بها النهي.

في تعيين المراد بالعبادة في المسألة(1) الغرض من عقد هذا الأمر الرابع هو: بيان المراد بالعبادة التي يتعلق بها النهي.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن العبادة قد عرفت بتعاريف عديدة؛ منها:

ما يكون بذاته عبادة من دون إناطة عباديتها بأمر، فالعبادة حينئذ فعلية ذاتية، كالسجود و الركوع و نحوهما مما يكون بنفسه عبادة، فإذا تعلق النهي بهذا القسم من العبادات لا يخرج عن العبادية - لكون عباديته ذاتية - بل يخرج بسبب النهي عن المقربيّة.

و منها: ما تكون عباديته تعليقيّة بمعنى: أنّه لو أمر به لصار عبادة، و كان أمره عباديا بحيث لا يسقط إلاّ إذا أتى به على وجه قربي؛ كصوم العيدين و الصلاة في أيّام الحيض، بداهة: أنّه لو تعلق بهما الأمر كان عباديا لا توصليا.

و منها: ما يكون الأمر به لأجل التعبد به فعلا، كما في «التقريرات».

و منها: ما تكون صحته متوقفة على النية كما في «القوانين». قال المحقق القمّي: في المقدمة الأولى من مقدمات دلالة النهي على الفساد ما لفظه:

«المراد بالعبادة هنا: ما احتاج صحتها إلى النيّة، و بعبارة أخرى: ما لم يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء سواء لم يعلم المصلحة أصلا أو علمت في الجملة»(1).

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنّ المراد بالعبادة عند المصنف في هذه المسألة أحد معينين - و هما - المعنى الأول، و الثاني: لا المعنى الثالث و الرابع.

الأوّل: ما أشار إليه بقوله: «المراد بالعبادة هاهنا ما يكون بنفسه و بعنوانه عبادة له تعالى»، سواء أمر به أو نهى عنه أم لا؟ نعم يكون «موجبا بذاته للتقرب من حضرته لو لا حرمته» فإنّ القرب يدور مدار المحبوبية، فلا يكون التقرب بشيء محرم مبغوض، نعم؛ إنّ الحرمة مانعة عن المقربية لا عن صدق العبادة «كالسجود و الخضوع...» إلخ.

و الثاني: ما أشار إليه بقوله: «أو ما لو تعلق الأمر به كان أمره أمرا عباديا...» إلخ يعني: أنّ المراد بالعبادة: ما تكون عباديته تعليقية، و قد عرفت توضيح ذلك.

ص: 88


1- قوانين الأصول، ج 1، ص 154، س 22.

بنفسه و بعنوانه عبادة له تعالى، موجبا بذاته للتقرب من حضرته لو لا حرمته؛ كالسجود و الخضوع و الخشوع له و تسبيحه و تقديسه، أو ما لو تعلق الأمر به كان أمره أمرا عباديا لا يكاد يسقط إلاّ إذا أتى به بنحو قربي كسائر أمثاله، نحو: صوم العيدين، و الصلاة في أيّام العادة؛ لا ما أمر به لأجل التعبد به، و لا ما يتوقف صحته على النيّة، و لا ما لا يعلم انحصار المصلحة فيه في شيء كما عرّف بكل منها العبادة، ضرورة (1): أنها بواحد منها لا يكاد يمكن أن يتعلق بها النهي. مع ما أورد عليها (2) بالانتقاض طردا أو عكسا، أو بغيره (3) كما يظهر من مراجعة المطولات، و إن كان الثالث: ما أشار إليه بقوله: «ما أمر به لأجل التعبد به».

=============

و الرابع: ما أشار إليه بقوله: «ما يتوقف صحته على النيّة».

(1) تعليل لعدم إرادة ما عدا المعنيين الأولين من معاني العبادة في هذه المسألة بتقريب: أنه يمتنع تعلق النهي بالعبادة بأحد هذه المعاني عدا المعنيين الأولين؛ إذ المفروض:

وجود الأمر الفعلي فيما عداهما، و معه يستحيل تعلق النهي به لاستلزامه اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد بعنوان واحد، هذا بخلاف المعنيين الأولين لعدم الأمر الفعلي فيهما. و من هنا ظهر الفرق بينهما و بين سائر المعاني للعبادة و هو وجود الأمر الفعلي فيها دونهما.

و الضمير في «أنّها» و «بها» يعود إلى العبادة، و في «منها» و «عليها» راجع إلى التعريفات المستفادة من العبارة.

(2) يعني: أورد على التعريفات المزبورة بالانتقاض طردا - أي: بعدم كونها مانعة - كانتقاض تعريف المحقق القمّي «قدس سره» - كما في الفصول - طردا بالتوصليات الّتي لا نعلم مصلحتها كتوجيه الميّت إلى القبلة، و عكسا - أي: عدم كونها جامعة - بالوضوء الّذي علم انحصار المصلحة فيه في الطهارة، مع إنّه عبادة، فتعريف العبادة بما ذكره المحقق القمّي «قدس سره» لا يكون جامعا و لا مانعا؛ لخروج الوضوء الذي هو عبادة قطعا عنه، و دخول مثل توجيه الميّت إلى القبلة من التوصليات فيه مع عدم كونه عبادة، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 245» مع تصرف ما.

(3) أي: كالدور الذي أورده في التقريرات على تعريف العبادة «بأنّها ما يتوقف صحته على النيّة» قال المقرر: «إنّ أخذ الصحة في التعريف يوجب الدور - بتقريب: - أن معرفة العبادة موقوفة على معرفة الصحة، لوقوعها جزءا لحدّها، و معرفة الصحة موقوفة على معرفة العبادة؛ لأنّ الصحة في العبادات معناها سقوط القضاء لا الصحة على وجه

ص: 89

الإشكال بذلك فيها في غير محلّه؛ لأجل كون مثلها من التعريفات ليس بحدّ، و لا برسم؛ بل من قبيل شرح الاسم، كما نبهنا عليه غير مرة، فلا وجه لإطالة الكلام بالنقض و الإبرام في تعريف العبادة، و لا في تعريف غيرها كما هو العادة.

الأمر الخامس تعيين المراد من المعاملة التي يقع البحث عن اقتضاء النهي فسادها و عدمه
اشارة

الخامس (1):

أنّه لا يدخل في عنوان النزاع إلاّ ما كان قابلا للاتصاف بالصحة و الفساد؛ بأن الإطلاق، و معرفة المقيد موقوفة على معرفة القيد و التقيّد». قوله «المطولات» كالتقريرات و الفصول.

=============

«و إن كان الإشكال بذلك» أي: بالانتقاض طردا و عكسا، أو بغيره في التعريفات المذكورة «في غير محلّه»؛ لعدم اعتبار الطرد و العكس في غير التعريفات الحقيقية، قوله:

«لأجل كونها مثلها...» إلخ تعليل لعدم كون الإشكال على التعريفات المذكورة في محلّه.

و حاصل التعليل: أنّ التعريفات المذكورة ليست حدودا حقيقيّة حتى يراعى كونها مطردة و منعكسة؛ بل هي تعاريف لفظية يطلب بها شرح اسم المعرف لا حقيقته، و من المعلوم هو: عدم اعتبار الطرد و العكس في التعاريف اللفظية.

في تحرير محل النزاع و تعيين المراد من المعاملة

(1) المقصود من عقد هذا الأمر الخامس هو: تعيين المراد من المعاملة التي يقع البحث عن اقتضاء النهي فسادها و عدمه.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أنّه لا شك في اتصاف العبادات بالصحة تارة و الفساد أخرى، لكونها مركبة من الأجزاء و الشرائط، فهي داخلة في النزاع بلا نزاع.

و أمّا المعاملات، فهي على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما يتصف بالصحة و الفساد؛ كالعقود و الإيقاعات و غسل النجاسات.

الثاني: ما لا يتصف بالصحة و الفساد مع ترتّب الأثر الشرعي عليه؛ كالغصب و الإتلاف و اليد و الجنايات و نحوها.

أمّا وجه عدم اتصاف هذا القسم الثاني بالصحة و الفساد، مع كونه ممّا يترتّب عليه الأثر الشرعي فهو: عدم تركبه من أجزاء و شرائط كي يكون قابلا لطروء النقص و التمام عليه، بخلاف مثل العقود و الإيقاعات و غسل النجاسات، فإنّها مركبة من أمور خاصة

ص: 90

يكون تارة تامّا يترتب عليه ما يترقب عنه من الأثر، و أخرى لا كذلك (1)، لاختلال بعض ما يعتبر في ترتبه، أمّا ما لا أثر له شرعا، أو كان أثره ممّا لا يكاد ينفك عنه - كبعض أسباب الضمان - فلا يدخل في عنوان النزاع؛ لعدم طروّ الفساد عليه كي ينازع في أنّ النهي عنه يقتضيه أو لا، فالمراد بالشيء في العنوان: هو العبادة بالمعنى الذي تقدم.

و المعاملة بالمعنى الأعم ممّا يتصف بالصحة و الفساد عقدا (2) كان أو...

=============

حتى مثل الغسل لما يعتبر فيه من التعدد و لو في بعض النجاسات كالبول، و يعتبر فيه العصر فيما يقبل العصر، و انفصال الغسالة إذا كان بالقليل و نحو ذلك.

الثالث: ما لا يتصف بالصحة و الفساد مع عدم ترتّب أثر شرعي عليه أصلا كالغلبة في باب القمار.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنّ المراد بالمعاملة هي المعاملة بالمعنى الأعم مع قابليّتها للاتصاف بالصحة و الفساد؛ إذ مع عدم قابلية الاتصاف بالصحة و الفساد لا وجه للبحث عن اقتضاء النهي للفساد فيه و عدمه.

أمّا وجه تعميم المعاملة لمطلق ما يقبل الاتصاف بالصحة و الفساد؛ كغسل النجاسات فهو أحد أمرين: أحدهما: عموم الأدلة.

و ثانيهما: ما ذكره الشيخ في محكي المبسوط من الاستدلال على عدم حصول الطهارة، فيما لو استنجى بالمطعوم و نحوه ممّا تعلق النهي بالاستنجاء به بما هذا لفظه: قال «كل ما قلنا لا يجوز استعماله لحرمته أو لكونه نجسا إن استعمل في ذلك و نقي به الموضع لا يجزي؛ لأنّه منهي، و النهي يقتضي الفساد».

قال في التقريرات: «و قد نقله في المعتبر و لم يعترض عليه بخروجه عن محل الكلام كغيره، و إنّما اعترضوا عليه بعدم اقتضاء النهي للفساد».

ثم المصنف قد تابع التقريرات فاختار: أن الداخل في عنوان النزاع هو القسم الأول من الأقسام الثلاثة المتقدمة، كما في «عناية الأصول، ج 2، ص 138» مع تصرف منّا.

(1) أي: لا يكون تامّا، و وجه عدم تماميته: اختلال بعض ما يعتبر في ترتّب الأثر عليه، مثل: كونه فاقدا لبعض الشرائط المعتبرة فيه كالعربية مثلا على القول باعتبارها في العقد، قوله: «لاختلال...» إلخ تعليل لعدم التمامية.

و المراد بالمعنى الذي تقدم هو العبادة الذاتية أو التقديرية، دون سائر المعاني المذكورة لها.

(2) أي: كالبيع، فإن صحيحه ما يجمع الشرائط؛ كالصرف المقرون بالقبض في

ص: 91

.. إيقاعا (1) أو غيرهما (2) فافهم (3).

المجلس، و فاسده ما لا يكون جامعا لها؛ كالصرف غير المقرون بالقبض.

=============

(1) كالطلاق الواقع مع الشرائط و بدونها، فإنّ الأوّل: صحيح، و الثاني: فاسد.

(2) مثل حيازة المباحات فإنها صحيحة مع نية التملك - بناء على اعتبارها في ملكية الحيازة - كما هو الأصح، و فاسدة بدونها.

(3) لعلّه إشارة إلى ما قيل: من إمكان دعوى عموم النزاع لما لو أمر به لصح إتيانه عبادة، فيصح اتصافه بهذا الاعتبار بالصحة و الفساد و إن ترتّب عليه أثره التوصلي بمجرد إتيانه؛ و لو بلا تعلق أمر به، فلا يصح اتصافه بهذا الاعتبار بالصّحة و الفساد؛ بل بالوجود مرة و بالعدم أخرى إذ عدم الاتصاف بهما بالإضافة إلى الأثر التوصلي لا يمنع من دخوله في محل النزاع بالإضافة إلى الأثر التعبّدي، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 249».

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»:

يتلخّص البحث في أمور:

1 - الفرق بين المسألة السابقة و بين هذه المسألة، و خلاصة الفرق بينهما إنّما هو بالجهة المبحوث عنها و هي في مسألة الاجتماع سراية كل من الأمر و النهي إلى متعلق الآخر؛ لاتحاد متعلقيهما، و عدم سراية كل منهما إلى متعلق الآخر لتعددهما. و أمّا الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة: فهي مفسدية النهي للعبادة أو المعاملة و عدمها، بعد الفراغ عن أصل توجهه و سرايته إليهما.

فالجهة المبحوث عنها في كل منهما مغايرة للأخرى؛ و لكن قال المحقق القمّي «قدس سره» بفرق آخر بين المسألتين و هو: أن النسبة بين متعلق الأمر و النهي عموم من وجه في مسألة الاجتماع و عموم مطلق في هذه المسألة.

2 - قال المصنف في المسألة السابقة: إنّها عقلية: ثم يقول: في هذه المسألة إنّ عدّ هذه المسألة لفظية لاقتضاء جعل عنوان المسألة في لسان بعض الأصوليين دلالة النهي على فساد المنهي عنه كونها لفظية؛ لأنّ الدلالة من أحوال اللفظ.

و كيف كان؛ فالغرض من عقد هذا الأمر الثاني هو: التنبيه على ما ذكره بعض المحققين من: أن النزاع في هذه المسألة كالمسألة السابقة عقلي لا لفظي؛ لأنّ النزاع إنّما هو في حكم العقل بالملازمة بين الحرمة و الفساد و عدمه سواء كان الدال على الحرمة لفظا أو غيره.

ص: 92

و المصنف قد أشار إلى إمكان كون المسألة لفظية لإنكار بعض الأصوليين الملازمة بين الحرمة و الفساد. و اعترافه بدلالة النهي على الفساد في المعاملات، فلو كان النزاع في الملازمة العقلية الّتي لا مساس لها بدلالة اللفظ لكان هذا القائل من النافين، مع إنّهم عدّوه من المثبتين، فهذا كاشف عن أنّ النزاع في دلالة اللفظ لا في الملازمة العقلية.

3 - و توهم التنافي بين جعل هذه المسألة من مباحث الألفاظ، و بين التزام العلماء بالملازمة بين الحرمة و الفساد في العبادات مردود، و حاصل الرد: إنّه لا ينافي ذلك أن يكون النزاع - مع القول بالملازمة بين الحرمة و الفساد - في دلالة الصيغة على الفساد و عدمها، غاية الأمر: أنها تدل على الحرمة بالمطابقة، و على الفساد الملازم للحرمة بالالتزام، فينتفي التنافي بين القول بالملازمة نظرا إلى الدلالة الالتزامية، و بين القول بدلالة لفظ النهي على الفساد نظرا إلى الدلالة المطابقية.

و بعد إمكان إرجاع البحث في هذه المسألة إلى مباحث الألفاظ لا تقاس بالمسألة السابقة و هي مسألة الاجتماع؛ لأن مسألة الاجتماع عقلية بخلاف هذه المسألة حيث يمكن جعلها لفظية.

4 - شمول ملاك البحث للنهي التنزيهي بتقريب: أن المتبادر من لفظ النهي و إن كان هو خصوص النهي المولوي التحريمي النفسي إلاّ إن المراد به في هذه المسألة أعم منه، فيشمل التنزيهي و الغيري بقرينة عموم ملاك البحث أعني: منافاة المرجوحية لصحة العبادة؛ لاقتضاء العبادة المحبوبيّة و الكراهة المبغوضية. و من المعلوم: أن التضاد بين الحبّ و البغض أوضح من أن يخفى.

و مع عموم ملاك البحث للنهي التنزيهي لا وجه لتخصيص العنوان بالنهي التحريمي.

و توهم اختصاص عموم الملاك بالعبادات: لأن المرجوحيّة المستكشفة بالنهي إنّما تنافي صحة العبادة دون المعاملة - إذ لا ملازمة بين النهي التنزيهي و بين الفساد فيها، فيكون عدم الملاك في المعاملات قرينة على إرادة النهي التحريمي من النهي المذكور في العنوان - مدفوع بما حاصله: من أن اختصاص عموم الملاك بالعبادات لا يصلح لأن يكون قرينة على إرادة النهي التحريمي في العنوان حتى يكون قرينة على تخصيص النهي في العنوان بالتحريمي؛ و ذلك لكفاية عمومية الملاك في صحة إرادة الأعم من التحريمي، فلا وجه

ص: 93

لتخصيص العنوان بالنهي التحريمي، كما لا وجه لتخصيصه بالنفسي فيعم الغيري و التنزيهي.

و يؤيد دخول النهي التبعي في محل النزاع: جعلهم ثمرة النزاع في أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه فساده؛ لأن النهي المتعلق بالضدّ غيري تبعي، فيظهر من هذا:

دخول النهي التبعي في محل النزاع.

5 - في تعيين ما هو المراد بالعبادة في المسألة فيقال: إن للعبادة تعاريف عديدة و أقسام متعددة:

1 - ما يكون بذاته عبادة؛ كالسجود و الركوع و نحوهما.

2 - ما تكون عباديته تقديرية بمعنى: لو أمر به لصار عبادة، و كان أمره عباديا لا توصليا؛ كصوم العيدين، و الصلاة في أيام الحيض.

3 - ما يكون الأمر لأجل التعبّد به فعلا.

4 - ما تكون صحته متوقفة على النيّة.

و لكن المراد بالعبادة في هذه المسألة أحد المعنيين الأوليين، ثم الإشكال على التعاريف المذكورة بالانتقاض طردا و عكسا أو بغيره في غير محلّه؛ لأن التعاريف المذكورة لها تعاريف لفظية لا يعتبر فيها الطرد و لا العكس، فلا مجال للإشكال، و إنّما يتم الإشكال على فرض كون تلك التعاريف تعاريف حقيقية، و ليس الأمر كذلك.

6 - في تعيين المراد بالمعاملة الّتي يقع البحث عن اقتضاء النهي فسادها و عدمه، فلا يدخل في محل النزاع إلاّ ما يتصف بالصحة و الفساد؛ و لا شك في اتصاف العبادات بالصحة و الفساد، فتدخل في محلّ النزاع بلا إشكال.

و أمّا المعاملات فعلى ثلاثة أقسام: قسم منها يتصف بالصحة و الفساد؛ كالعقود و الإيقاعات، و قسم منها لا يتصف بهما أصلا، و هذا القسم على قسمين:

أحدهما: ما يترتّب عليه الأثر الشرعي كالغصب و الإتلاف و نحوهما، و الآخر ما لا يترتّب عليه الأثر الشرعي أصلا.

إذا عرفت هذه الأقسام فاعلم: أنّ المراد بالمعاملة هي المعاملة بالمعنى الأعم مع قابليّتها للاتصاف بالصحة و الفساد.

«فافهم» لعلّه إشارة إلى أن هناك قسما ثالثا يصح اتّصافه بالصحة و الفساد باعتبار؛ و إن لم يصح اتّصافه بهما باعتبار آخر، و ذلك مثل الشيء الذي لو أمر به لصح اتّصافه

ص: 94

الأمر المراد من الصّحة و الفساد
اشارة

السادس (1): أن الصّحة و الفساد و صفان إضافيان يختلفان بحسب الآثار و الأنظار، فربما يكون بالعبادية، فإنّه باعتبار أثره التعبّدي يتصف بهما، و باعتبار أثره التوصلي لا يتصف بهما؛ بل بالوجود مرة و العدم أخرى.

=============

رأي المصنف «قدس سره»:

1 - الفرق بين هذه المسألة و المسألة السابقة إنّما هو من حيث الجهة المبحوث عنها.

2 - صحّة جعل هذه المسألة لفظية نظرا إلى وجود قول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات، مع إنكار الملازمة بين الحرمة و الفساد فيها.

3 - المراد بالنهي في العنوان هو: الأعم من التحريمي و التنزيهي نظرا إلى عموم ملاك البحث.

4 - المراد بالعبادة في هذه المسألة: ما يكون بذاته عبادة؛ كالسجود للّه تعالى، أو ما لو أمر به لكان أمره عباديا.

5 - المراد بالمعاملة هي: المعاملة بالمعنى الأعم مع قابليتها للاتصاف بالصحة و الفساد.

هذا تمام الكلام في خلاصة البحث.

الكلام في بيان معنى الصحة و الفساد
المقصود من هذا الأمر السادس هو بيان أمرين:

الأول: أنّ الصّحة و الفساد وصفان إضافيان يختلفان بحسب الآثار و الأنظار.

الثاني: أنّ اختلاف الفقيه و المتكلم في تعريف الصحة و الفساد لا يوجب اختلافهما في المعنى. هذا مجمل الكلام في المقام.

و أمّا تفصيل ذلك فيقال: إنّه لمّا كان الفساد المقابل للصحّة من الألفاظ الواقعة في عنوان هذه المسألة فقد عقد المصنف هذا الأمر السادس في تفسيرهما، و حاصل ما أفاده المصنف فيه هو بيان أمرين:

الأول: أنّ الصحة و الفساد وصفان إضافيان يختلفان بحسب الآثار و الأنظار بمعنى:

أنّ عملا واحدا صحيح بالنسبة إلى أثر دون أثر آخر، بل يكون فاسدا بالنسبة إلى أثر آخر، أو يكون صحيحا بالنسبة إلى نظر و فاسدا بالنسبة إلى نظر آخر، و ذلك كالمأمور به بالأمر الظاهري كالأمر بالصلاة مع الوضوء المستصحب، أو بالأمر الواقعي الثانوي كالأمر بالوضوء منكوسا في حال التقية، فإن المأمور به في هذين الموردين صحيح

ص: 95

شيء واحد صحيحا بحسب أثرا و نظر، و فاسدا بحسب آخر، و من هنا صحّ أن يقال: إنّ الصحة في العبادة و المعاملة لا تختلف؛ بل فيهما بمعنى واحد و هو التمامية، و إنّما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما من الآثار الّتي بالقياس عليها تتصف بالتمامية و عدمها.

و هكذا (1) الاختلاف بين الفقيه و المتكلم في صحة العبادة إنّما يكون لأجل الاختلاف فيما هو المهم لكل منهما من الأثر بعد الاتفاق ظاهرا على أنّها بمعنى التمامية كما هي معناها لغة و عرفا، فلمّا كان غرض الفقيه هو وجوب القضاء أو بحسب أثر - و هو موافقة الأمر و الشريعة - و فاسد بحسب أثر آخر - و هو سقوط القضاء و الإعادة - و كذا يكون صحيحا بالنظر إلى أمره و هو الأمر الثانوي أو الظاهري، و فاسدا بالنظر إلى أمر آخر و هو الأمر الواقعي الأوّلي، أو يكون صحيحا بنظر العرف كبيع المنابذة أو النقدين بلا قبض في المجلس و فاسدا بنظر الشرع.

=============

و بالجملة: أن الصحة و الفساد من الأمور الإضافية لا الحقيقية الّتي يكون لها بحسب الواقع حدّ معيّن في نفسه لا يتعدّاه، فربما يكون عمل واحد صحيحا بالنسبة إلى أثر أو نظر أو أمر دون آخر، مثلا: الصلاة جالسا صحيحة بالنسبة إلى المريض، و فاسدة بالنسبة إلى السليم، و الصلاة مع الطهارة الاستصحابية صحيحة بعد كشف الخلاف بالنسبة إلى القضاء، و فاسدة بالنسبة إلى الأداء و صحيحة في نظر القائل بالإجزاء، و فاسدة في نظر غيره. صحيحة بالنسبة إلى موافقة الأمر الظاهري لا الواقعي.

الأمر الثاني: أن اختلاف المتكلم و الفقيه في تعريف الصحة و الفساد لا يوجب اختلافهما في المعنى و هو التمامية و عدم التمامية، فالأوّل عرّف الصحة في العبادات بما يوافق الأمر أو الشريعة. و الثاني، بما يسقط معه القضاء و الإعادة؛ و هذا الاختلاف في تفسيرهما بين الفقيه و المتكلم إنّما هو بحسب الأثر المهم عند كل منهما، فإنّ المهم في نظر الفقيه هو سقوط القضاء و الإعادة في العبادات، ففسّر صحّتها بذلك.

و في نظر المتكلم هو: موافقة الأمر الموجبة لاستحقاق المثوبة، ففسّر صحة العبادة بذلك.

و المتحصّل: أنّ مفهوم الصحة و الفساد واحد عند الكل؛ و هو معناهما اللغوي و العرفي أعني: الصحة بمعنى: التمامية، و الفساد بمعنى: عدم التمامية، و الاختلاف في التفسير ناشئ عن الاختلاف فيما هو المهم في نظر كلّ منهما.

(1) هذا إشارة إلى الأمر الثاني من الأمرين اللّذين تقدم ذكرهما تفصيلا.

ص: 96

الإعادة أو عدم الوجوب فسّر صحة العبادة بسقوطهما، و كان غرض المتكلم هو حصول الامتثال الموجب عقلا لاستحقاق المثوبة فسّرها بما يوافق الأمر تارة، و بما يوافق الشريعة أخرى، و حيث (1) إن الأمر في الشريعة يكون على أقسام (2) من

=============

(1) شروع في بيان كيفيّة اختلاف الصحة و الفساد بحسب الآثار و الأنظار.

في تقسيم الأمر إلى أقسام

(2) غرضه من هذا التقسيم: تحقيق النسبة بين التعريفين، و هي - على ما اشتهر بينهم - عموم مطلق؛ لأنّ كل ما يسقط الإعادة و القضاء موافق للأمر و الشريعة و لا عكس، و ذلك كما في الصلاة بالطهارة المستصحبة فإنّها موافقة للأمر و ليست مسقطة للإعادة و القضاء مع انكشاف الخلاف.

و لمّا كان تحقيق ذلك منوطا بمعرفة أقسام الأمر قدّم ذلك على بيان حال النسبة المذكورة، فقال: الأمر على ثلاثة أقسام:

1 - الواقعي الأوّلي: كقوله تعالى: أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ .

2 - الواقعي الثانوي: كالأمر بالصلاة متكتّفا تقية.

3 - الظاهري: كالصلاة مع الطهارة المستصحبة.

إذا عرفت هذه الأقسام فيقال: إن كون النسبة بين التعريفين عموما مطلقا منوط بأمرين: أحدهما: أن يكون المراد بالأمر في تعريف المتكلم ما يعمّ أقسامه الثلاثة المذكورة.

ثانيهما: بناء الفقيه على عدم الإجزاء بموافقة الأمر الظاهري، فحينئذ يصدق أنّ كلّما يسقط الإعادة و القضاء موافق للأمر الواقعي الأوّلي أو الثانوي، و كلاهما مراد للمتكلم.

و لا عكس، أي: لا يصدق أن كل ما هو موافق للأمر مسقط للإعادة أو القضاء، و ذلك لأن المأمور به بالأمر الظاهري و إن كان موافقا للأمر عند المتكلم - لأن المفروض: أنّ المراد بالأمر ما يعمّ أقسامه الثلاثة - لكنّه ليس مسقطا للإعادة أو القضاء؛ لأنّ الفقيه لا يقول بمسقطيّة الأمر الظاهري لهما.

و بالجملة: أن كون النسبة بين التعريفين عموما مطلقا مبني على الأمرين، و هما كون المراد بالأمر: ما يعمّ أقسامه الثلاثة، و عدم إجزاء الأمر الظاهري، و حينئذ فبانتفاء أحد الأمرين تنتفي النسبة المذكورة بين التعريفين، و تكون النسبة بينهما هي التساوي؛ لأنّ موافقة مطلق الأمر مسقطة للإعادة أو القضاء، و كذا كل مسقط لهما موافق للأمر.

فالنتيجة: هي المنع عن كون النسبة بينهما عموما مطلقا لما عرفت من توقفها على

ص: 97

الواقعي الأوّلي و الثانوي و الظاهري و الأنظار تختلف في أنّ الأخيرين يفيدان الإجزاء، أو لا يفيدان، كان (1) الإتيان بعبادة موافقة لأمر و مخالفة لآخر، أو مسقطا للقضاء و الإعادة بنظر، و غير مسقط لهما بنظر آخر.

فالعبادة (2) الموافقة للأمر الظاهري تكون صحيحة عند المتكلم و الفقيه بناء على أنّ ثبوت الأمرين المذكورين اللّذين بانتفاء أحدهما تنقلب النسبة إلى التساوي، و حيث إنّهما غير ثابتين، لاختلاف الأنظار فيهما فلم يثبت كون النسبة بينهما هي العموم المطلق؛ بل ربما تكون هي التساوي كما عرفت، كما يمكن أن يكون تعريف الفقيه أعم من تعريف المتكلم على خلاف ما هو المشهور؛ و ذلك إذا أريد بالأمر في تعريف المتكلم خصوص الأمر الواقعي، مع بناء الفقيه على الإجزاء بموافقة الأمر الظاهري؛ إذ يصدق حينئذ أن كل ما يوافق الأمر الواقعي مسقط للإعادة و القضاء؛ و لا عكس، إذ المفروض:

=============

أن المأمور به بالأمر الظاهري مسقط لهما. و ليس موافقا للأمر عند المتكلم.

(1) جواب «حيث» في قوله: «و حيث إنّ الأمر...» إلخ و غرضه: ما يترتّب على أقسام الأمر، و اختلاف الأنظار في الإجزاء بالنسبة إلى الأمر الثانوي و الظاهري.

(2) هذا شروع في بيان صور النسبة بين نظر المتكلم و الفقيه: الصورة الأولى: هي التساوي. و قد أشار إليها بقوله: «فالعبادة الموافقة للأمر الظاهري تكون صحيحة عند المتكلم و الفقيه»، فيما إذا كان مراد المتكلم من الأمر في تعريف الصحة بموافقة الأمر أعمّ من الأمر الظاهري و الواقعي، مع كون الفقيه قائلا باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، و حينئذ يتحقق التساوي بين القولين بمعنى: أنّ كلّ ما يوافق الأمر مسقط للإعادة أو القضاء، و كل ما يسقط الإعادة أو القضاء موافق للأمر.

و كذا يتحقق التساوي بين القولين فيما لو كان مراد المتكلم من الأمر خصوص الأمر الواقعي، و لم يقل الفقيه بالإجزاء إلاّ في الأمر الواقعي؛ إذ حينئذ كلّما وافق الأمر الواقعي كان مجزئا، و كلّما لم يوافق الأمر الواقعي لم يكن مجزئا. و أمّا الصورة الثانية: - و هي العموم المطلق مع كون العموم من طرف المتكلم - فهي ما أشار إليه بقوله: «و عدم اتصافها بها» أي: عدم اتّصاف العبادة بالصحة عند الفقيه بموافقة الأمر الظاهري يعني:

الفقيه يقول بعدم الإجزاء في الأمر الظاهري مع قول المتكلم بأنّ المراد بالأمر في تفسير الصحة بموافقة الأمر أعم من الظاهري و الواقعي، فإنّه حينئذ كلّما أجزأ كان موافقا للأمر، و ليس كلّما وافق الأمر كان مجزئا، فالإجزاء - و هو قول الفقيه - أخصّ من موافقة الأمر و هو قول المتكلم.

ص: 98

الأمر في تفسير الصحة بموافقة الأمر أعمّ من الظاهري، مع اقتضائه للإجزاء؛ و عدم اتصافها بها عند الفقيه بموافقته، بناء على عدم الإجزاء و كونه مراعى بموافقة الأمر الواقعي و عند المتكلم بناء على كون الأمر في تفسيرها خصوص الواقعي.

تنبيه (1)، و هو: أنه لا شبهة في أن الصحة و الفساد عند المتكلم وصفان اعتباريان و أمّا الصورة الثالثة - و هي العموم المطلق، مع كون العموم من طرف الفقيه - فهي ما أشار إليه بقوله: «و عند المتكلم...» إلخ أي: عدم اتصاف العبادة بالصحة عند المتكلم مع اتصافها بها عند الفقيه، بناء على كون الأمر في تفسير الصحة بموافقة الأمر هو خصوص الأمر الواقعي عند المتكلم، مع كون الفقيه قائلا بالإجزاء في مطلق الأمر، فحينئذ كلّما كان موافقا للأمر كان مجزئا، و ليس كلما كان مجزئا موافقا للأمر عند المتكلم.

=============

فالمتحصل: أنّ النسبة بين القولين لا تنحصر في العموم المطلق، مع كون العموم من طرف المتكلم كما هو المشهور؛ بل يمكن التساوي لو قال كلّ من الفقيه و المتكلم بعموم الأمر أو بالخصوص، أو العموم المطلق مع كون العموم من طرف الفقيه عكس ما هو المشهور. هذا و عبارة المصنف في المقام لا تخلو عن الإجمال.

هل الصحة و الفساد حكمان شرعيان أم اعتباريان

(1) الغرض من عقد هذا التنبيه: تحقيق كون الصحة و الفساد من الأحكام الشرعية الوضعية الاستقلالية أو التبعية، أو من الأحكام العقلية، أو من الأمور الاعتبارية.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الصحة و الفساد تارة: تلاحظان بالإضافة إلى الأمر الواقعي الأوّلي من حيث كون المأتي به مطابقا للمأمور به كمّا و كيفا، و من حيث عدم كونه مطابقا له كذلك.

و أخرى: تلاحظان بالنسبة إلى الأمر الظاهري و الواقعي الثانوي من حيث كون المأتى به مطابقا له شطرا و شرطا، و من حيث عدم كونه مطابقا له كذلك.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنّ الصحة و الفساد عند المتكلم أمران انتزاعيان ينتزعان عن مطابقة المأتي به للمأمور به و عدم المطابقة.

و لا فرق في ذلك بين إرادة المتكلم خصوص الأمر الواقعي و بين إرادة ما يعمّ الظاهري، فلا تكون الصحة و الفساد حينئذ من الأحكام الشرعية الوضعية و لا من الأحكام العقلية؛ بل من الأمور الاعتبارية الانتزاعية.

و أمّا الصحة و الفساد عند الفقيه فهما من الأحكام العقلية بالإضافة إلى الأمر الواقعي

ص: 99

ينتزعان من مطابقة المأتي به مع المأمور به و عدمها، و أمّا الصّحة - بمعنى سقوط القضاء الأوّلي، و من الأحكام الشرعية الوضعية أو الأحكام العقلية بالإضافة إلى الأمر الظاهري، أو الواقعي الثانوي.

=============

و أمّا كونهما من الأحكام العقلية بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأوّلى: فلأن الصحة عند الفقيه بالنسبة إلى الأمر الواقعيّ الأولي إنّما هي من اللوازم العقلية المترتّبة على الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي، لأنّه بعد انطباق المأمور به على المأتي به يحكم العقل بسقوط الأمر، فلا موجب للإعادة و القضاء بعد سقوطه بملاكه، فليست الصحة أمرا انتزاعيا، كما عن التقريرات حيث قال فيها: «إنّ الصحة و الفساد وصفان اعتباريان ينتزعان من الموارد بعد ملاحظة العقل انطباق المورد لما هو المأمور به، أو لما هو المجعول سبّبا و عدمه مطلقا سواء كان في العبادات أو في المعاملات، سواء فسّرت الصحة بما فسّرها المتكلمون أو بما فسرها الفقهاء» انتهى.

و حاصل ما في التقريرات: أنّ الصحة و الفساد سواء كانا في العبادات أو المعاملات سواء كانا بتفسير المتكلم أو بتفسير الفقيه هما وصفان انتزاعيان، غاية الأمر: أنّه في العبادات ينتزعان من مطابقة المورد لما هو المأمور به، و في المعاملات من مطابقته لما هو المجعول سبّبا، هذا في نظر الشيخ الأنصاري في التقريرات.

و أمّا المصنف: فقد فصّل في العبادات بين تفسيريّ المتكلم و الفقيه، فعلى تفسير المتكلم هما وصفان اعتباريان ينتزعان من مطابقة المأتي به لما هو المأمور به، كما عرفت.

و أمّا على تفسير الفقيه أي: سقوط الإعادة و القضاء: ففي المأمور به الواقعي الأوّلي فهي لازم عقلي، بمعنى أنّ العقل يحكم بأنه مسقط للإعادة و القضاء كما عرفت أيضا.

و أمّا الصحة بالنسبة إلى الأمر الظاهري أو الواقعي الثانوي: فتتصوّر على وجهين:

أحدهما: أن تكون الصحة فيهما حكما وضعيا شرعيا، بمعنى: أن الشرع يحكم بأنّه مسقط للقضاء و الإعادة منّة منه على العباد، و تخفيفا عنهم مع ثبوت المقتضى لهما لفوت الواقعي الأوّلي.

و بعبارة أخرى: كما إذا بقي من الملاك الداعي إلى الأمر الواقعي الأوّلي مقدار يقتضي تشريع وجوب الإعادة أو القضاء، لكنّه تبارك و تعالى تخفيفا على العباد لم يشرّع وجوب شيء منهما و اكتفى بالمأمور به بالأمر الثانوي أو الظاهري تفضّلا عليهم، فالصحة حينئذ تكون حكما وضعيا شرعيا لا عقليا و لا انتزاعيا.

و ثانيهما: أن تكون الصحة حكما عقليا، كما إذا فرض وفاء المأمور به بالأمر الثانوي

ص: 100

و الإعادة عند الفقيه - فهي من لوازم الإتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الأوّلي عقلا، حيث لا يكاد يعقل ثبوت الإعادة أو القضاء معه جزما، فالصحة بهذا المعنى (1) فيه و إن كان ليس بحكم وضعي مجعول بنفسه (2)، أو بتبع تكليف، إلاّ إنّه (3) ليس بأمر أو الظاهري بتمام ملاك المأمور به الواقعي الأوّلي أو بمعظمه، بحيث لا يقتضي الباقي تشريع وجوب الإعادة أو القضاء، فإنّ وزان الصحّة حينئذ وزان الصحة في الأمر الواقعي الأوّلي في كونها من اللوازم العقلية للإتيان بالمأمور به.

=============

فالمتحصّل مما ذكرنا أمران:

الأوّل: أنّ الصحة عند المتكلم أمر انتزاعي، منشؤه انطباق المأمور على المأتى به.

الثاني: أنّ الصحة عند الفقيه بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأوّلي من اللوازم العقلية، و بالنسبة إلى الأمر الثانوي أو الظاهري: إمّا حكم وضعي شرعي، و إمّا حكم عقلي قوله:

«حيث لا يكاد يعقل ثبوت الإعادة... الخ»، تعليل لكون الصحة لازما عقليا، لأنّها مترتبة عقلا على انطباق المأمور به على المأتي به، الموجب لسقوط الأمر بملاكه، و معه لا موجب للإعادة و القضاء، فلا يعقل ثبوت الإعادة أو القضاء مع الإتيان بالمأمور به.

وجه عدم المعقولية: عدم تصوّر الامتثال عقيب الامتثال فإنّه لو أتى ثانيا فإمّا أن يحصل عين الأوّل فهو تحصيل الحاصل، أو غيره فهو غير المأمور به.

(1) أي: بمعنى سقوط القضاء و الإعادة «فيه» أي: في المأمور به بالأمر الواقعيّ الأوّلي، و كيف كان؛ فقد فسّروا صحة العبادة بسقوط القضاء و الإعادة، و هذا المعنى له احتمالان:

أحدهما: عدم وجوب الإتيان ثانيا بمعنى: أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي مسقط للأمر الواقعي، و الظاهري للظاهري، و الاضطراري للاضطراري، و هذا السقوط من اللوازم العقلية للإتيان؛ لامتناع الامتثال بعد الامتثال.

ثانيهما: أن إتيان المأمور به الظاهري أو الاضطراري مسقط للأمر الواقعي الاختياري و هذا السقوط مجعول للشارع، كما اشار إليه بقوله: «و في غيره فالسقوط ربّما يكون مجعولا»، و قد تقدم توضيحه في قولنا: «أحدهما: أن تكون الصحة فيهما حكما...» الخ.

(2) أي: الحكم الوضعي المجعول بنفسه كالملكية و الزوجية، و المجعول بتبع التكليف كالنجاسة المجعولة بتبع الأمر بالاجتناب عنها.

(3) أي: إلاّ إنّ المعنى المزبور للصحة «ليس بأمر اعتباري ينتزع كما توهّم» في محكي التقريرات.

ص: 101

اعتباري ينتزع كما توهّم؛ بل ممّا يستقل به العقل، كما يستقل باستحقاق المثوبة به (1).

و في غيره (2): فالسقوط ربما يكون مجعولا، و كان الحكم به تخفيفا و منّة على العباد، مع ثبوت المقتضي لثبوتهما كما عرفت في مسألة الإجزاء كما ربّما يحكم

=============

(1) أي: بسبب تحقق المعنى المذكور للصحة، و حيث يرى العقل الموافقة يحكم بسقوط الأمر المستلزم لسقوط القضاء و الإعادة.

(2) أي: الصحة بمعنى سقوط القضاء و الإعادة في غير المأمور به بالأمر الواقعي أعني: في المأمور به بالأمر الاضطراري و الظاهري، «فالسقوط ربما يكون مجعولا» أي:

فالصحة المستلزمة للسقوط ربّما يكون مجعولا. و ربما لا يكون مجعولا بمعنى: أنّ إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري و الظاهري مسقط للقضاء و الإعادة بالنسبة إلى أمرهما قطعا، فحينئذ ليست الصحة بمعنى مسقط القضاء و الإعادة مجعولة شرعا؛ بل من لوازم الإتيان عقلا كما في إتيان المأمور به بالأمر الواقعي.

و أما مسقطية الاضطراري و الظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي: فهو مجعول، «و كان الحكم به» أي: بسقوط القضاء و الإعادة بالنسبة إلى الأمر الواقعي «تخفيفا و منّة على العباد، مع ثبوت المقتضى لثبوتهما» أي: ثبوت القضاء و الإعادة.

و كيف كان؛ فالمأمور به بالأمر الاضطراري و الظواهري - بحسب مقام الثبوت - إذا كان وافيا بتمام مصلحة المأمور به الواقعي الاختياري، أو بقي مقدار غير لازم الاستيفاء، أو مستحيل الاستيفاء يحكم العقل بالإسقاط، و إن بقى مقدار لازم الاستيفاء مع إمكانه يحكم بعدم المسقطية. و أمّا بحسب مقام الإثبات: إن قام دليل على عدم السقوط في الفرض الأوّل، أو على السقوط في الفرض الثاني تخفيفا و منّة: فالصحة و الفساد مجعولان شرعيان.

فقد تحصل مما ذكرنا في الأوامر الاضطرارية و الظاهرية: أن إسقاطهما على ثلاثة أقسام:

الأوّل: إسقاط أمرهما، و هذا عقلي.

الثاني: إسقاط الأمر الواقعي في صورة عدم وفائهما بمعظم مصلحة الواقع، و هذا شرعي امتناني.

الثالث: إسقاط الأمر الواقعي في صورة وفائهما بمعظم مصلحة الواقع؛ بحيث لا يبقى مقدار قابل للتدارك، و هذا عقلي أيضا.

ص: 102

بثبوتهما، فيكون الصحة و الفساد فيه حكمين مجعولين لا وصفين انتزاعيين (1).

نعم؛ الصحة و الفساد في الموارد الخاصة لا يكاد يكونان مجعولين؛ بل إنّما هي تتصف بهما بمجرد الانطباق على ما هو المأمور به.

هذا (2) في العبادات.

=============

(1) أي: لفقدان منشأ انتزاعهما و هو المطابقة للمأمور به؛ لأن المأمور به بالأمر الظاهري و الاضطراري ليس مطابقا للمأمور به بالأمر الواقعي، حتى تكون الصحة أمرا انتزاعيا.

و كان الكلام إلى هنا في الكليات، بمعنى: أنه يحكم الشرع أو العقل بالصحة فيما لو توافق المأتي - بعنوانه الكلي - للمأمور به، و يحكمان بالفساد في صورة عدم الموافقة، أمّا شخص هذه الصلاة الخارجية الّتي هي فرد من أفراد المأتي به الكلي: فالمدار في صحتها و فسادها ما أشار إليه بقوله: «نعم الصحة و الفساد في الموارد الخاصّة». فقوله: «نعم» استدراك على قوله: «فيكون الصحة و الفساد فيه» أي: في غير الأوامر الواقعية - أعني:

الأوامر الاضطرارية و الظاهرية - «حكمين مجعولين».

و حاصل الاستدراك: أن ذلك إنّما يكون في الطبيعي المأمور به، دون تطبيقاته و أفراده الّتي يؤتى بها في الخارج؛ لأن انطباق الكلي على الأفراد قهري غير قابل للجعل، فالصحة في الجزئيات الخارجية الّتي يوجدها المكلف تحصل بمجرّد هذا الانطباق، فلا تتصف الموارد الجزئية بالصحة و الفساد المجعولين بالاستقلال، بل اتصافها بهما إنّما يكون بتبع اتصاف كلّيها بهما كما أشار إليه بقوله: «بل إنّما هي» أي: الموارد الخاصة التي تتصف بالصحة و الفساد بمجرّد انطباق المأمور به عليها، فإذا انطبق الكلي على الفرد الخارجي كان صحيحا، و متى لم ينطبق كان فاسدا، و من البديهي: أن انطباق الكلي على الفرد و عدمه ليس بمجعول شرعي؛ بل هو أمر قهري، و اتصاف الموارد الشخصية بهما ليس أمرا مستقلا في قبال اتصاف الكلي.

و كيف كان؛ فالمراد بالصحة و الفساد في الموارد الجزئية هو انطباق المأمور به الكلي و عدمه عليها، فلا يناط الصحة و الفساد في الأفراد الخارجية بسقوط الإعادة و القضاء و ثبوتهما؛ لإمكان عدم وجوب الإعادة و القضاء كصلاة الجمعة في ضيق الوقت؛ إذ ليست صحتها بمعنى إسقاط الإعادة و القضاء، كما إن فسادها ليس بمعنى ثبوتهما؛ و كذا كل مضيق لم يشرع له القضاء، كصوم كل يوم غير صوم شهر رمضان. فالمراد بالصحة و الفساد في الأفراد الخارجية هو انطباق المأمور به عليها و عدمه.

(2) أي: ما ذكرنا من كون الصحة أمرا انتزاعيا أو لازما عقليا تارة. و حكما شرعيا

ص: 103

و أمّا الصحة في المعاملات: فهي تكون مجعولة، حيث كان ترتّب الأثر على معاملة إنّما هو بجعل الشارع، و ترتيبه عليها و لو إمضاء (1) ضرورة (2): أنّه لو لا جعله لما كان يترتب عليه لأصالة (3) الفساد.

نعم (4)؛ صحة كل معاملة شخصية و فسادها ليس إلاّ لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سببا و عدمه، كما هو (5) الحال في التكليفية من الأحكام، ضرورة: أن اتّصاف المأتي به بالوجوب أو الحرمة أو غيرهما (6) ليس إلاّ لانطباقه مع ما هو الواجب أو الحرام.

وضعيا أخرى إنّما هو في العبادات. أمّا الصحة في المعاملات فهي حكم وضعي شرعي، فالملكية و الزوجية و الحرية و غيرها لا تترتب على المعاملة إلاّ بجعل الشارع و لو إمضاء، حيث إن غالب المعاملات أمور عرفية أمضاها الشارع، فليست الصحة فيها حكما عقليا و لا أمرا انتزاعيا.

=============

(1) قيد لجعل الشارع، يعني: و لو كان الجعل بنحو الإمضاء لا التأسيس.

(2) تعليل لكون الصحة مجعولا شرعيا. بيان ذلك: إن الصحة لو لم تكن حكما شرعيا لما ترتّب الأثر على المعاملة؛ لأنّها بمقتضى أصالة الفساد محكومة بالفساد، فلا يحكم بصحّتها إلاّ بحكم الشارع الحاكم على أصالة الفساد.

(3) تعليل لقوله: «لما كان يترتّب»، و الضمير في «عليه» يرجع إلى المعاملة، فالأولى تأنيثه.

(4) يعني: حال صحة كل فرد من أفراد كلّي المعاملة حال صحة كل فرد من أفراد العبادات في عدم كونها حكما مستقلا مجعولا؛ بل هي لأجل انطباق الكلي على أفراده، فالمجعول بالاستقلال هو صحة كلي المعاملة كالعبادة.

و صحة الأفراد الخارجية إنّما هي لأجل انطباق الكلي العبادي أو المعاملي عليها.

فالمجعول هو الكلي دون الجزئي.

(5) أي: كما أنّ انطباق الكلي على الفرد يوجب اتّصاف الأفعال الخارجية الّتي يأتي بها المكلف بالأحكام التكليفية من الوجوب و الحرمة.

(6) أي: كالكراهة و الاستحباب و الإباحة «ليس إلاّ لانطباقه» أي: انطباق الفرد «مع ما» أي: الكلي الذي «هو الواجب أو الحرام».

ص: 104

السابع (1):

لا يخفى: أنه لا أصل في المسألة يعول عليه، لو شك في دلالة النهي على الفساد.

نعم (2)؛ كان الأصل في المسألة الفرعية الفساد لو لم يكن هناك إطلاق أو عموم

=============

السابع في تحقيق حال الأصل في المسألة

(1) المقصود من عقد هذا الأمر: إنّه لو فرض عدم دلالة النهي على الفساد، أو الشك في دلالته عليه؛ لعدم نهوض دليل عليها أو لعدم تماميّته، فهل يكون هناك أصل يثبت الدلالة عليه أو عدمها أم لا؟

و حاصل الكلام في المقام: أنّه إذا أثبتنا في المسألة الأصولية أنّ النهي يدل على الفساد، أو أنّه لا يدّل عليه فهو، و نأخذ به.

و أمّا لو عجزنا عن ذلك نفيا و إثباتا، و شك في دلالته على الفساد و عدمها فلا أصل لنا في المسألة يقتضي دلالة النهي على الفساد، أو عدم دلالته عليه.

و السر على ذلك: أن النهي حين حدوثه إمّا كان دالاّ على الفساد و إمّا لم يكن دالاّ عليه، و حيث لم يعلم شيء منهما، فليس له حالة سابقة معلومة حتى تستصحب، و لا مجال لأصالة عدم وضع اللفظ لما يوجب الفساد، لمعارضتها لأصالة عدم وضعه لما لا يستلزمه.

(2) أي: نعم، يجري الأصل في المسألة الفقهية، ففي المعاملات تجري أصالة الفساد بعد فرض عدم عموم، أو إطلاق يقتضي الصحة فيها، و المراد من الفساد هو عدم ترتّب الأثر المقصود من المعاملة كالملكية و الزوجية و نحوهما، فيستصحب عدم حصول الأثر عند الشك في حصوله، و هذا هو معنى أصالة الفساد المشتهرة على الألسن في المعاملات، ففساد البيع المنهي عنه هو: عدم ترتّب النقل و الانتقال عليه، و بقاء كل من المالين على ملك مالكه، إلاّ إن يكون هناك إطلاق أو عموم يدل على صحتها، فلا يجري الأصل حينئذ لحكومتهما على أصالة عدم ترتب الأثر.

و كذلك تجرى أصالة الفساد المراد بها قاعدة الاشتغال في العبادات أيضا؛ لأنّ الشك في فراغ الذّمة - بعد القطع باشتغالها بالتكليف - يوجب لزوم تحصيل اليقين بالفراغ. هذا ما أشار إليه بقوله: «و أما في العبادة فكذلك» يعني: أن الأصل فيها الفساد كالمعاملات، غاية الأمر: أن الفساد في المعاملات يكون مقتضى الاستصحاب، و في العبادات يكون مقتضى قاعدة الاشتغال.

قوله: «لعدم الأمر بها» تعليل لكون الأصل في العبادات الفساد.

ص: 105

يقتضي الصحة في المعاملة، و أمّا في العبادة فكذلك؛ لعدم الأمر بها مع النهي عنها كما لا يخفى.

و حاصل التعليل: - على ما في «منتهى الدراية، ج، 3 ص 266» - أن الفساد إنّما هو لأجل عدم الأمر الذي هو الموجب للصحة، مضافا إلى وجود ضدّه و هو النهي.

=============

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - أنّ الصحة و الفساد وصفان إضافيان يختلفان بحسب الآثار و الأنظار، بمعنى: أنّ عملا واحدا صحيح بالنسبة إلى أثر دون أثر آخر، مثلا: المأمور به بالأمر الظاهري كالصلاة مع الطهارة الاستصحابية صحيح بالنسبة إلى أثر و هو موافقة الأمر و الشريعة، و فاسد بحسب أثر آخر و هو سقوط القضاء و الإعادة عند كشف الخلاف. هذا في العبادات.

و أمّا في المعاملات: فبيع النقدين بلا قبض في المجلس صحيح في نظر العرف، و فاسد في نظر الشرع.

2 - اختلاف المتكلم و الفقيه في تعريف الصحة و الفساد لا يوجب اختلافهما في المعنى اللغوي أعني: التمامية و عدم التمامية، مثلا: الصحة عند المتكلم ما يوافق الأمر و الشريعة و إن كان مخالفا للصحة عند الفقيه و هو ما يوجب سقوط الإعادة و القضاء، إلاّ إن هذا الاختلاف إنّما هو بحسب الأثر المهم عند كل منهما، فإنّ المهم في نظر الفقيه هو: سقوط القضاء و الإعادة في العبادات، و في نظر المتكلم هو: موافقة الأمر الموجبة لاستحقاق الثواب.

3 - النسبة بين التعريفين لا تنحصر في العموم المطلق مع كون العموم من طرف المتكلم كما هو المشهور؛ بل يمكن إن تكون النسبة عموما مطلقا مع كون العموم من طرف تعريف الفقيه، و يمكن التساوي بينهما.

توضيح ذلك يتوقف على بيان أقسام الأمر، فنقول: إنّ الأمر على ثلاثة أقسام:

1 - الأمر الواقعي الأوّلي.

2 - الأمر الواقعي الثانوي.

3 - الأمر الظاهري.

إذا عرفت هذه الأقسام فنقول:

إن كون النسبة عموما مطلقا، مع كون العموم من طرف تعريف المتكلم كما هو المشهور مبنيّ على أمرين:

ص: 106

أحدهما: أن يكون المراد بالأمر في تعريف المتكلم ما يعمّ أقسامه الثلاثة المذكورة.

ثانيهما: مع بناء الفقيه على عدم الإجزاء بموافقة الأمر الظاهري؛ فحينئذ الصحة في نظر المتكلم أعم من الصحة في نظر الفقيه؛ إذ يصدق كلما يسقط الإعادة و القضاء موافق للأمر و لا عكس، أي: لا يصدق كلّما كان موافقا للأمر كان مسقطا للقضاء و الإعادة؛ لأن المأمور به بالأمر الظاهري موافق للأمر عند المتكلم، و لا يكون مسقطا للإعادة و القضاء عند الفقيه.

و حينئذ: فبانتفاء أحد الأمرين تنتفي النسبة المذكورة، و تنقلب إلى التساوي، فإنّ موافقة مطلق الأمر مسقط للإعادة و القضاء، و كلّ مسقط لهما موافق للأمر. و يمكن أن تكون النسبة عموما مطلقا، مع كون العموم من طرف تعريف الفقيه. و ذلك فيما إذا أريد بالأمر في تعريف المتكلم: خصوص الأمر الواقعي، مع بناء الفقيه على الإجزاء بموافقة الأمر الظاهري؛ إذ يصدق حينئذ أن كل ما يوافق الأمر الواقعي مسقط للإعادة و القضاء و لا عكس؛ إذ المفروض: أن المأمور به بالأمر الظاهري مسقط لهما، و ليس موافقا للأمر عند المتكلم.

4 - الصحة و الفساد عند المتكلم: أمران انتزاعيان ينتزعان عن مطابقة المأتي به للمأمور به و عدم المطابقة، فهما من الأمور الاعتبارية؛ لا من الأحكام الشرعية الوضعية، و لا من الأحكام العقلية.

و أمّا الصحة و الفساد عند الفقيه: ففيهما تفصيل بمعنى: أنهما من الأحكام العقلية بالإضافة إلى الأمر الواقعي الأوّلي، و من الأحكام الشرعية الوضعية أو الأحكام العقلية بالنسبة إلى الأمر الظاهري، أو الواقعي الثانوي.

أما كونهما من الأحكام العقلية بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأوّلي: فلأن الصّحة عند الفقيه حينئذ إنما هي من اللوازم العقلية المترتبة على الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي؛ لأنه بعد انطباق المأمور به على المأتي به يحكم العقل بسقوط الأمر، فلا موجب للإعادة و القضاء بعد سقوطه بملاكه.

و أما الصحة و الفساد بالنسبة إلى الأمر الظاهري أو الثانوي: فعلى وجهين:

أحدهما: أن تكون الصحة فيهما حكما شرعيا وضعيا بمعنى: أن الشرع يحكم بأنه مسقط للقضاء و الإعادة منّة منه على العباد، و تخفيفا عنهم مع ثبوت المقتضي لهما.

و ثانيهما: أن تكون الصحة حكما عقليا؛ كما إذا فرض وفاء المأمور به بالأمر الظاهري

ص: 107

أو الثانوي بتمام ملاك المأمور به الواقعي الأوّلي أو بمعظمه؛ بحيث لا يقتضي الباقي تشريع وجوب القضاء أو الإعادة، فتكون الصحة حينئذ من اللوازم العقلية للإتيان بالمأمور به.

5 - الصحة و الفساد في الموارد الخاصة لا يكونان مجعولين، بل الصحة تحصل بمجرد انطباق الكلي المأمور به على الفرد الخارجي.

فإذا انطبق الكلي على الفرد الخارجي كان صحيحا؛ و إلاّ كان فاسدا، و من البديهي:

أن انطباق الكلي على الفرد، و عدم انطباقه عليه ليس بمجعول شرعي، بل هو أمر قهري، فاتصاف الموارد الجزئية بهما ليس أمرا مستقلا في قبال اتصاف الكلي بهما.

6 - أما الصحة في المعاملات: فهي تكون مجعولة؛ لأن الملكية و الزوجية و الحرّية و غيرها لا تترتّب على المعاملة؛ إلاّ بجعل من الشارع و لو إمضاء، فليست الصحة فيها حكما عقليا و لا أمرا انتزاعيا.

7 - لا أصل في المسألة الأصولية عند الشك في دلالة النهي على الفساد؛ لعدم حالة سابقة معلومة؛ لأن النهي عند حدوثه إمّا دال على الفساد، و إمّا لم يكن دالاّ عليه.

نعم؛ كان الأصل في المسألة الفقهية هو الفساد؛ بمعنى: عدم ترتّب الأثر المقصود من المعاملة عليها. هذا في المعاملات.

و أمّا الفساد في العبادات: فهو بمعنى: وجوب القضاء أو الإعادة بقاعدة الاشتغال.

فالفساد في المعاملات هو مقتضى أصالة عدم ترتّب النقل و الانتقال، و بقاء كل من المالين على ملك مالكه.

و في العبادات: هو مقتضى قاعدة الاشتغال مع عدم الأمر الموجب للصحة فيها.

8 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - الصحة و الفساد من الأمور الإضافية و الاعتبارية.

2 - النسبة بين تعريفي المتكلم و الفقيه لا تكون منحصرة بعموم مطلق، مع كون العموم من طرف تعريف المتكلم؛ بل يمكن أن تكون النسبة هي التساوي، أو العموم المطلق مع كون العموم من طرف تعريف الفقيه.

3 - الصحة و الفساد عند المتكلم أمران انتزاعيان.

أمّا الصحة و الفساد عند الفقيه: ففيهما تفصيل؛ بمعنى: أنّهما من الأحكام العقلية بالنسبة إلى الأمر الواقعي و من الأحكام الشرعية أو العقلية بالنسبة إلى الأمر الظاهري.

4 - و أما الصحة في المعاملات فهي مجعولة شرعا.

ص: 108

الثامن: أن متعلق النهي إما أن يكون نفس العبادة أو جزئها،...
اشارة

أن متعلق النهي إما أن يكون نفس العبادة أو جزئها، أو شرطها الخارج عنها، أو 5 - لا أصل في المسألة الأصولية.

=============

6 - و الأصل في المسألة الفقهية هو: الفساد؛ من دون فرق بين المعاملات و العبادات.

في أقسام تعلق النهي بالعبادة

(1) المقصود من عقد هذا الأمر الثامن: بيان أقسام تعلق النهي بالعبادة، و بيان حكم كل قسم من تلك الأقسام من حيث الدخول في محلّ النزاع و عدمه، فالغرض الأصلي من عقد هذا الأمر هو: تحرير محل النزاع، و هو يتوقف على مقدمة و هي بيان أقسام تعلق النهي بالعبادة.

فنقول: إنّ النهي المتعلّق بالعبادة يتصوّر على أقسام:

1 - ما يتعلق بذات العبادة؛ كالنهي عن الصلاة حال الحيض، و الصوم في العيدين.

2 - ما يتعلق بجزء منها؛ كالنهي عن قراءة العزائم في حال الصلاة.

3 - ما يتعلق بشرط منها؛ كالنهي عن الوضوء بالماء المغصوب.

4 - ما يتعلق بوصفها الملازم للعبادة؛ كالنهي عن الجهر و الإخفات للقراءة أعني:

الجهر بالقراءة في الظهرين، و إخفاتها في العشاءين و الصبح، فإنّ القراءة لا تنفكّ عن أحد الوصفين، و لا توجد إلاّ جهرا أو إخفاتا، فتتحد مع أحدهما، و لذا عبر المصنف عن الجهر و الإخفات بالوصف الملازم.

5 - ما يتعلق بوصفها غير الملازم للعبادة؛ كالنهي عن الكون الغصبي حال الصلاة، فالنهي عنه نهي عن الوصف الغير الملازم؛ لأنّه قد ينفك عن أكوان الصلاة؛ كما إذا وقعت في غير المغصوب، و قد يتحد معها كما إذا وقعت فيه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: إنه لا ريب في دخول القسم الأول في محل النزاع، و قد أشار إليه بقوله: «لا ريب في دخول القسم الأول في محل النزاع»، و يكون قوله:

«لا ريب...» إلخ، إشارة إلى بيان أحكام الأقسام الخمسة المذكورة لمتعلق النهي من حيث الدخول في محل النزاع و عدمه.

و حاصل الكلام في المقام: أن القسم الأول داخل في محل النزاع؛ إذ قال البعض:

بدلالة النهي المتعلق بنفس العبادة على الفساد، و قال البعض الآخر: بعدم دلالته عليه، كما سيأتي. هذا حكم القسم الأول.

ص: 109

وصفها الملازم لها؛ كالجهر و الإخفات للقراءة، أو وصفها الغير الملازم كالغصبية لأكوان الصلاة المنفكّة عنها؛ لا ريب في دخول القسم الأول في محل النزاع، و كذا القسم الثاني بلحاظ (1): أن جزء العبادة عبادة، إلاّ إن (2) بطلان الجزء لا يوجب بطلانها؛ إلاّ مع الاقتصار عليه، لا مع الإتيان بغيره مما لا نهي عنه إلاّ إن يستلزم محذورا آخر.

و أمّا القسم الثالث (3): فلا يكون حرمة الشرط و النهي عنه موجبا لفساد العبادة و أمّا القسم الثاني: فهو أيضا داخل في محل النزاع بلحاظ: أن جزء العبادة عبادة، لأنّ الكل هو عين أجزائه، فإذا كان الأمر بالكل عباديا كان كل واحد من الأوامر الضمنية المتعلقة بكل واحد من الأجزاء عباديا.

=============

فالمتحصل: أنه لا ريب في دخول القسمين الأوّلين في محل النزاع.

(1) الباء للسببية و قوله: «بلحاظ أن جزء العباد عبادة» تعليل لدخول القسم الثاني في محلّ النزاع.

و حاصل التعليل: أن جزء العبادة كتمامها عبادة؛ إذ ليس الكل إلاّ نفس الأجزاء فكل جزء من المركب العبادي عبادة و النهي عنه نهي عن العبادة، و النهي يدل على الحرمة، و لا يمكن اجتماعها مع الصحة عند المتكلم و الفقيه كليهما؛ لأن العبادة مع الحرمة ليست موافقة الأمر و الشريعة، و كذا ليست مسقطة للإعادة و القضاء.

(2) إشارة إلى الفرق بين القسم الأول و الثاني، و حاصل الفرق بينهما بعد اشتراكهما في أصل البطلان بالنهي: أنّ النهي المتعلق بنفس العبادة يقتضي بطلانها، و لا علاج لصحتها كصلاة الحائض. هذا بخلاف النهي المتعلق بجزء العبادة؛ كقراءة العزائم فيها، فإنّ النهي عنه لا يقتضي إلاّ فساد ذلك الجزء، و لا يقتضي فساد أصل العبادة إلاّ إذا اقتصر على ذلك الجزء الفاسد، فإن الاقتصار عليه يوجب بطلان أصل العبادة؛ لأجل النقيصة العمدية، كما أشار إليه بقوله: «إلاّ إن يستلزم محذورا آخر»، و ليس بطلانها لأجل اقتضاء النهي عن الجزء فساد الكل كما هو قضية النهي عن نفس الكل كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 268» مع تصرّف و توضيح منّا.

(3) و هو ما يتعلق النهي بشرط العبادة، فحرمته لا تستلزم الفساد؛ لا فساد الشرط و لا فساد العبادة المشروطة به. و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الشرط على قسمين: أحدهما: أن يكون عبادة كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.

و ثانيهما: أن يكون توصليا - و هو الغالب في شرائط العبادات - كطهارة البدن و الثوب عن النجاسة.

ص: 110

إلاّ فيما كان عبادة كي تكون حرمته موجبة لفساده، المستلزم لفساد المشروط به.

و بالجملة: لا يكاد يكون النهي عن الشرط موجبا لفساد العبادة المشروطة به، لو لم يكن موجبا لفساده؛ كما إذا كانت عبادة.

و أما القسم الرابع (1): فالنهي عن الوصف اللازم مساوق للنهي عن موصوفه، فيكون النهي عن الجهر في القراءة مثلا مساوقا للنهي عنها؛ لاستحالة (2) كون إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: إن النهي عن الشرط إذا كان من القسم الثاني لا يوجب فساده - فضلا عن فساد العبادة المشروطة به - لأن الشرط خارج عن المشروط، و ليس عبادة حتى يسري بطلانه إلى المشروط.

=============

و كيف كان؛ فالوجه في ذلك: أن الغرض من الشرط التوصلي يحصل بمجرّد إيجاده في الخارج، و إن كان إيجاده في ضمن فعل محرّم شرعا نحو: تطهير البدن و الثوب عن النجاسة بماء مغصوب، فإذا طهّرهما به و صلّى فهي صحيحة تامّة لا إشكال فيها. هذا بخلاف ما إذا كان الشرط عباديا؛ كالوضوء و الغسل لأن النهي عنه موجبا لفساده؛ لاستحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى.

و من البديهي: أن فساد الشرط العبادي يستلزم فساد العبادة المشروطة به، فإذا توضأ بماء مغصوب و صلى كانت صلاته فاسدة؛ لفساد شرطها المستلزم لفساد العبادة المشروطة به، كما أشار إليه بقوله: «كما إذا كانت عبادة» يعني: كما إذا كان الشرط المنهي عنه عبادة فيفسد حينئذ، و يسري فساده إلى العبادة المشروطة به و تأنيث ضمير «كانت» إنما هو باعتبار الخبر.

(1) أي: ما يتعلق النهي بالوصف الملازم للعبادة، فالنهي عنه كالنهي عن العبادة.

توضيح ذلك: أن النهي عن الوصف الملازم المتحد وجودا مع العبادة - كالجهر بالقراءة في الظهرين - نهي عن العبادة لاتحاده معها، و عدم المغايرة بينهما وجودا؛ إذ ليس للوصف وجود مستقل بدون وجود موصوفه، فالنهي عنه لا ينفك عن النهي عن الموصوف الذي هو عبادة بالفرض، و عليه: فلا يعقل أن يكون أحدهما منهيا عنه و الآخر مأمورا به؛ لاستحالة كون شيء واحد مصداقا لهما، فالنهي في هذا القسم يندرج في النهي عن جزء العبادة فيلحقه حكمه، فالمنهي عنه حقيقة هو الموصوف، كما أشار إليه بقوله: «فيكون النهي عن الجهر في القراءة مثلا مساوقا للنهي عنها» أي: عن نفس القراءة الجهرية.

(2) تعليل لكون النهي عن الوصف الملازم المتحد مع الموصوف مساوقا للنهي عن الموصوف.

ص: 111

القراءة الّتي يجهر بها مأمورا بها، مع كون الجهر بها منهيا عنه فعلا كما لا يخفى.

و هذا بخلاف ما إذا كان مفارقا (1) كما في القسم الخامس، فإن النهي عنه لا يسري إلى الموصوف، إلاّ فيما إذا اتحد معه وجودا، بناء (2) على امتناع الاجتماع، و أمّا بناء على الجواز، فلا يسري إليه كما عرفت في المسألة السابقة (3).

هذا (4) حال النهي المتعلق بالجزء أو الشرط أو الوصف.

و أمّا النهي عن العبادة لأجل أحد هذه الأمور (5): فحاله حال النهي عن أحدها إن كان من قبيل الوصف بحال المتعلق.

توضيح وجه الاستحالة: أن الاتحاد الوجودي بين القراءة و الجهر يوجب امتناع كونها مأمورا بها مع تعلق النهي بالجهر بها فعلا، فيلزم اجتماع الأمر و النهي الفعليين في شيء واحد.

=============

و كيف كان؛ فلا يعقل أن يكون أحد المتلازمين واجبا و الآخر حراما.

(1) أي: القسم الخامس: - و هو ما يتعلق النهي بوصف العبادة الغير الملازم لها - خارج عن مسألة النهي عن العبادة، و داخل في مسألة اجتماع الأمر و النهي.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن هذا الوصف يمكن أن يكون متحدا وجودا مع موصوفه في مورد الاجتماع، و يمكن أن يكون غير متحد معه وجودا و خارجا عنه في مورد الاجتماع، و لم نقل بسراية الحكم من أحدهما إلى الآخر.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنّه على الفرض الأول يدخل هذا القسم تحت كبرى مسألة النهي عن العبادة، و لا بدّ من القول بالامتناع للزوم اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد.

و على الفرض الثاني: فلا يدخل هذا القسم تحت كبرى مسألة النهي عن العبادة؛ لعدم سراية النهي إلى الموصوف الذي يكون عبادة، و لا مناص حينئذ من القول بالجواز.

(2) قيد للسراية في ظرف الاتحاد الوجودي، يعني: أن السراية حينئذ مبنية على امتناع اجتماع الأمر و النهي، و أمّا بناء على جواز الاجتماع: فلا يسري النهي عن الوصف إلى الموصوف.

(3) يعني: مسألة اجتماع الأمر و النهي.

(4) أي: ما ذكرناه من دلالة النهي على الفساد هو: ما إذا كان متعلّقه نفس الجزء أو الشرط أو الوصف بكلا قسميه الملازم و المفارق.

حكم النهي المتعلق بالجزء أو الشرط أو الوصف

(5) لمّا فرغ المصنف من تعلّق النهي بنفس الجزء أو الشرط أو الوصف بكلا قسميه؛

ص: 112

أراد أن يبين حال النهي عن العبادة لأجل أحد هذه الأمور، نحو: «لا تصل و أنت تقرأ العزائم»؛ و «لا تصل و أنت لابس الحرير»، و «لا تصلّ الظهورين و أنت تجهر القراءة»، و «لا تصل و أنت في المكان المغصوب».

و الأول: مثال لتعلق النهي بالعبادة لأجل الجزء.

و الثاني: مثال لتعلق النهي بها باعتبار الشرط.

و الثالث: مثال لتعلق النهي بها باعتبار الوصف الملازم.

و الرابع: مثال لتعلق النهي بها باعتبار الوصف المفارق. إذا عرفت هذه الأمثلة فاعلم:

أن النهي عن العبادة لأجل الجزء أو الشرط أو الوصف يتصور على وجهين:

أحدهما: أن تكون هذه الأمور واسطة في العروض، بأن يكون متعلق النهي حقيقة نفس هذه الأمور، و يكون النهي عن العبادة بالعرض و المجاز، كالنهي عن قراءة العزائم في الصلاة، و عن الجهر بالقراءة في الظهرين، و عن الغصب في الصلاة و الطواف و السعي و التقصير، فإن النهي حقيقة نهي عن المكان المغصوب في الصلاة، و عن غصب الثوب في الطواف و السعي، و عن غصب المقراض في التقصير.

و عليه: فالنهي عن هذه الأمور يكون من قبيل الوصف بحال الموصوف؛ لأنها منهي عنها حقيقة، و يكون النهي عن الصلاة من قبيل الوصف بحال المتعلق، فيكون بالعرض و المجاز، فالحرمة أوّلا و بالذات تعرض على الجزء أو الشرط أو الوصف، و ثانيا و بالعرض على الصلاة، فاتصاف الصلاة بالحرمة إنما هو بالتبع؛ نظير الوصف بحال متعلق الموصوف نحو: «زيد القائم أبوه»؛ إذ وصف القيام يعرض أولا و بالذات على الأب، و ثانيا و بالعرض يعرض على زيد.

فتكون حرمة الصلاة من قبيل الوصف بحال متعلق الموصوف.

و بعبارة أخرى: أن حرمة الجزء أو الشرط أو الوصف واسطة في العروض لحرمة الصلاة، نظير حركة السفينة لجالسها؛ إذ الحركة تعرض أولا و بالذات على السفينة؛ و ثانيا و بالعرض على جالسها، فكما أن حركة السفينة واسطة في العروض لحركة جالسها فكذا حرمة الجزء أو الشرط أو الوصف واسطة في العروض لحرمة الصلاة. هذا ما أشار إليه بقوله: «إن كان من قبيل الوصف بحال المتعلق».

ثانيهما: أن تكون هذه الأمور واسطة في الثبوت - أي: علّة لتعلق النهي بالعبادة - بحيث يكون النهي متعلّقا حقيقة بنفس العبادة لأجل تلك الأمور، فالمنهي عنه نفس

ص: 113

و بعبارة أخرى: كان النهي عنها بالعرض، و إن كان النهي عنها على نحو الحقيقة و الوصف بحاله، و إن كان بواسطة أحدها، إلاّ أنه من قبيل الواسطة في الثبوت لا العروض (1) كان (2) حاله حال النهي في القسم الأول (3)، فلا تغفل (4).

و مما ذكرنا في بيان أقسام النهي في العبادة، يظهر حال الأقسام في المعاملة (5)، فلا يكون بيانها على حدة بمهم.

العبادة، فيكون من الوصف بحال الموصوف، نظير: «جاء زيد العالم» فإن كان النهي من قبيل الأوّل - بأن كان متعلّقا حقيقة بنفس هذه الأمور - فقد عرفت حكمه من حيث الدخول في محل النزاع و عدمه، و قد تقدم دخول القسم الأول و الثاني و الرابع - إذا كان النهي عن الوصف الملازم - في محل النزاع.

=============

و أمّا إذا كان من قبيل الثاني أي: بأن كان المقصود هو تحريم نفس العبادة و إن كان السبب لتحريمها مبغوضيّة جزئها أو شرطها أو وصفها بحيث كان أحد هذه الأمور واسطة في الثبوت؛ كالنار لحرارة الماء، لا واسطة في العروض؛ كالماء في إسناد الجري إلى الميزاب، فحال هذا النهي حال النهي في القسم الأول من الأقسام الخمسة المتقدمة أي: النهي عن نفس العبادة؛ بل هو عينه حقيقة.

و أمّا استظهار أحد الوجهين المذكورين فمنوط بخصوصيّات الموارد.

(1) أي: ليست الأمور المذكورة واسطة في العروض؛ حتى يكون المنهي عنه في الحقيقة هو نفس تلك الأمور، و يكون النهي عن العبادة بالعرض و المجاز.

(2) جواب «إن» الشرطية في قوله: «و إن كان النهي عنها»، و كلمة «إن» في قوله:

«و إن كان بواسطة أحدها» وصلية، و معنى العبارة حينئذ: أن المنهي عنه نفس العبادة و إن كان النهي بسبب أحد تلك الأمور؛ إلاّ إن أحدها من قبيل العلّة لتعلق النهي بالعبادة.

(3) يعني: تعلّق النهي بنفس العبادة، و قد أشار إليه في أول الأمر الثامن بقوله: «أنّ متعلق النهي إمّا أن يكون نفس العبادة». و كونه كالقسم الأول لرجوعه إليه حقيقة؛ لأنّ مناط الفساد هو المبغوضية مطلقا سواء كانت ذاتية أم عرضية ناشئة عن أحد هذه الأمور.

(4) أي: فلا تغفل عن انقسام النهي عن العبادة لجزئها أو شرطها أو وصفها.

(5) يعني: أقسام النهي في المعاملات مثل: أقسامه في العبادات و أمثلة النهي في المعاملات هي حسب ما يلي على نحو الإيجاز و الاختصار:

1 - المعاملة المنهي عنها لذاتها هي: كالبيع الربوي.

ص: 114

كما أن تفصيل الأقوال (1) في الدلالة على الفساد و عدمها، التي ربما تزيد على العشرة - على ما قيل - كذلك (2).

إنّما المهم بيان ما هو الحق في المسألة، و لا بد في تحقيقه على نحو يظهر الحال في الأقوال من بسط المقال في مقامين:

الأول (3) في العبادات:

فنقول، و على اللّه الاتكال: أن النهي المتعلق بالعبادة بنفسها و لو كانت جزء 2 - أما المنهي عنها لجزئها فهو: كبيع الشاة بالخنزير، حيث يكون بيع الشاة منهيا عنه بلحاظ ثمنه، و هو الجزء المقوّم للبيع؛ إذ قوام البيع بأمور أربعة: 1 - البائع. 2 - المشتري.

=============

3 - المثمن. 4 - الثمن. و باقي الأمور المذكورة في علم الفقه يكون من شرائطه.

3 - و أما المعاملة المنهي عنها لشرطها فهي كالنكاح بشرط كون الطلاق بيد الزوجة، و بيع العنب بشرط أن يعمل خمرا.

4 - و أما المنهي عنها لوصفها اللازم فهي كبيع الحصاة و المنابذة.

5 - و أما المنهي عنها لوصفها المفارق فهي كنكاح المرأة المحرمة؛ مثل: نكاح الأمة من غير إذن سيّدها و مالكها، و أكل لحم الشاة، فأكل لحمها منهي عنه بلحاظ عنوان الجلالية. و من المعلوم: أن عنوان الجلاّلية يزول عنها بالاستبراء المقرر شرعا. و قد ظهر حكم هذه الأقسام من حكم أقسام النهي في العبادات، «فلا يكون بيانها على حدة بمهم».

(1) أي: كما أن تفصيل أقوال الأصوليين في دلالة النهي على الفساد و عدم دلالته عليه ليس بمهم؛ لأنّها تزيد على العشرة، و المقام لا يسع تفصيلها، مضافا إلى أن أكثرها مردود عند المصنف «قدس سره»، فلا فائدة في النقض و الإبرام فيها، و إنّما المهم هو بيان قول الحق في المسألة، و تحقيق الحق على نحو يظهر الحال في الأقوال يتوقف على بسط المقال في مقامين.

(2) أي: ليس بمهمّ .

المقام الأوّل في العبادات

اشارة

(3) يعني: المقام الأول: في اقتضاء النهي عن العبادة للفساد، و تقديم بحث العبادات على بحث المعاملات لأشرفيّتها عليها.

ص: 115

عبادة (1) بما هو عبادة - كما عرفت - مقتض لفسادها؛ لدلالته على حرمتها ذاتا، و لا يكاد يمكن اجتماع الصحة بمعنى موافقة الأمر أو الشريعة مع الحرمة، و كذا بمعنى

=============

(1) كالنهي عن قراءة العزائم في الصلاة «بما هو عبادة» قيد لجزء العبادة، و يدل عليه تذكير الضمير

و كيف كان؛ فإن النهي المتعلق بالعبادة سواء كان المنهي عنه عبادة مستقلّة كقوله:

«لا تصلّ في الدار المغصوبة»، أم جزءا لها كقوله: «لا تقرأ العزائم في الصلاة»، أم شرطا لها كقوله: «لا تتوضأ بالماء المغصوب» يقتضي الفساد، فإنّ العبادة - بوصف كونها عبادة - لا فرق في فسادها بالنهي المتعلق بها بين هذه الأقسام الثلاثة؛ لوجود ملاك الفساد - و هو دلالة النهي بطبعه مجرّدا عن القرينة على الحرمة الذاتية الملازمة للفساد - في العبادات؛ لأن الحرمة تكشف عن المبغوضية المضادة للمحبوبية المقوّمة للعبادة، و من البديهي: أن المحبوبية لا تجتمع مع المبغوضية في شيء واحد، فلا محالة يكون النهي رافعا للأمر فيفسد المنهي عنه، سواء كان نفس العبادة أم جزئها أم شرطها، غاية الأمر: أن سراية فساد الجزء أو الشرط إلى نفس العبادة منوطة بالاكتفاء به و عدم تداركه كما سبق.

قوله: «لدلالته على حرمتها ذاتا» تعليل لاقتضاء النهي للفساد.

و قوله: «و لا يكاد يمكن اجتماع الصحة...» إلخ تقريب لملازمة الحرمة للفساد في العبادات، و امتناع اجتماع الصحة عند المتكلم و الفقيه مع النهي الدّال على الحرمة الذاتية.

أمّا الصحّة عند المتكلم: فلأنّه مع الحرمة لا أمر حتى يتحقق موافقة الأمر أو الشريعة، ضرورة: أن الإتيان بالحرام الذاتي معصية، و معها كيف يكون المنهي عنه موافقا للأمر أو الشريعة ؟

و أمّا الصحة عند الفقيه: فلما أفاد المصنف بقوله: «و كذا بمعنى سقوط الإعادة»؛ لأن سقوط الإعادة مترتّب على إتيان العبادة بقصد القربة، و كانت العبادة ممّا يصلح لأن يتقرب بها.

و حاصل ما أفاده المصنف في المقام: أن الصحة عند الفقيه منوطة بأمرين:

أحدهما: إتيان العمل بقصد القربة؛ إذ بدونه لا تصحّ العبادة حتى تسقط الإعادة.

و ثانيهما: كونه صالحا لأن يقرّب العبد إلى مولاه، فإن لم يكن كذلك - كما إذا كان حراما و مبغوضا - فلا يصلح للمقربيّة، و بالتالي فلا تصح العبادة.

قوله: «و لا يتأتّى قصدها» عطف على «يصلح» أي: لا يكاد يتأتّى قصد القربة من

ص: 116

سقوط الإعادة، فإنّه مترتّب على إتيانها بقصد القربة، و كانت ممّا يصلح لأن يتقرّب به، و مع الحرمة لا تكاد تصلح لذلك، و لا يتأتّى قصدها من الملتفت إلى حرمتها كما لا يخفى.

لا يقال: هذا (1) لو كان النهي عنها دالا على الحرمة الذاتية، و لا يكاد يتّصف بها العبادة؛ لعدم (2) الحرمة بدون قصد القربة، و عدم القدرة عليها مع قصد القربة بها إلاّ الملتفت إلى حرمة العبادة؛ لما عرفت من تضاد الحرمة مع صحة العبادة، و إن أمكن قصد القربة بها مع عدم الالتفات إلى الحرمة؛ إلاّ إنّ مجرّد قصدها مع عدم صلاحية الفعل بنفسه للمقربيّة لا يكفي في سقوط الإعادة.

=============

(1) أي: الذي ذكر من دلالة النهي على الفساد إنّما يتمّ فيما لو كان النهي عن العبادة دالاّ على الحرمة الذاتية، كما اعترف المستدل بقوله:

«لدلالته على حرمتها ذاتا».

و حاصل ما أفاده المصنف في تقريب الإشكال: أن النهي لا يدل على الفساد إلاّ إذا دل على الحرمة الذاتية، و المفروض: عدم دلالته على ذلك؛ لامتناع اتصاف العبادة بالحرمة الذاتية، لأنّه إن أتى بالعمل بدون القربة كصلاة الحائض لتمرين الصبيّ فلا يتصف بالحرمة؛ لأنّ المحرم هو العبادة الّتي تتقوّم بقصد القربة، و بدون قصدها لا يكون العمل عبادة حتى تفسد بحرمتها الناشئة من النهي.

و إن أتى بالعمل مع قصد القربة كان مشرّعا؛ إذ لا أمر به مع حرمته، فلا يقدر على نيّة القربة إلاّ بتشريع أمر ليقصد التقرّب به، و حينئذ يحرم العمل للتشريع، و مع هذه الحرمة التشريعية يمتنع اتصافه بالحرمة الذاتية لاجتماع المثلين المستحيل.

و ملخص الكلام في المقام: أنّ النهي عن العبادة لمّا لم يدل على الحرمة الذاتية لامتناع اتصاف العبادة بها، فلم يدل على الفساد أيضا، فلا يصح الالتزام بدلالته على فساد العبادة، كما التزموا بها. هذا غاية ما يقال في تقريب الإشكال.

(2) تعليل لعدم اتصاف العبادة بالحرمة الذاتية.

و حاصل التعليل: أنه بدون قصد القربة لا موضوع للحرمة؛ لأن المفروض: كون المنهي عنه هي العبادة المتقومة بقصد القربة. و مع قصد القربة تحرم تشريعا؛ إذ لا أمر بها إلا بالتشريع المحرم، و مع حرمة التشريع لا تتصف بحرمة أخرى و هي الحرمة الذاتية؛ لامتناع اجتماع المثلين، كما أشار إليه بقوله: «لا تتصف بحرمة أخرى» أي: الحرمة الذاتية.

ص: 117

تشريعا، و معه تكون محرّمة بالحرمة التشريعية. لا محالة، و معه لا تتصف بحرمة أخرى، لامتناع اجتماع المثلين كالضدين.

فإنّه يقال (1): لا ضير في اتّصاف ما يقع عبادة لو كان مأمورا به بالحرمة الذاتية،

=============

في جواب المصنف عن الإشكال المذكور

(1) و قد أجاب المصنف عن الإشكال بوجوه:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «لا ضير في اتّصاف ما يقع عبادة...» إلخ. و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن العبادة تارة: تكون شأنية بمعنى: أنه لو أمر به كان عبادة و كان أمره عباديا لا توصليا و لا يسقط أمره إلاّ بقصد القربة نحو: «لا تصم يومي العيدين»؛ بناء على حرمته ذاتا، فصوم العيدين عبادة شأنية، بحيث لو فرضنا ورود الأمر من قبل الشارع لكان أمره أمرا عباديا؛ كالأمر بصوم سائر الأيام.

و أخرى: تكون العبادة عبادة ذاتية فعلية؛ كالسجود و التحميد للّه تعالى.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المراد من العبادة في العنوان هو العبادة الشأنية لا العبادة الذاتية الفعلية. فما ذكره المستشكل من امتناع اتّصاف العبادة بالحرمة الذاتية ممنوع؛ إذ لا مانع من اتصاف العبادة الشأنية بها، فإنّ صوم العيدين عبادة شأنية، و يمكن أن يكون في صومهما مفسدة ملزمة أوجبت حرمته الذاتية؛ كحرمة شرب الخمر. هذا هو الوجه الأول في الجواب.

أمّا الوجه الثاني الذي أشار إليه بقوله: «مع إنّه لا ضير في اتصافه بهذه الحرمة» فحاصله: أنّ ما ذكره المستشكل من «أنّه مع الحرمة التشريعية يمتنع اتصافه بالحرمة الذاتية؛ للزوم اجتماع المثلين الذي هو محال كاجتماع الضدين» فحاصله: ممنوع؛ لأن مورد اجتماع المثلين المحال هو اتحاد الموضوع، و أما مع تعدده فلا يلزم محذور اجتماع المثلين أصلا، و المقام من هذا القبيل، ضرورة: أن موضوع حرمة التشريع هو الالتزام بكون شيء من الدين، مع العلم بعدم كونه من الدين، أو لا يعلم أنّه منه.

و من المعلوم: أن الالتزام فعل قلبي، و موضوع الحرمة الذاتية نفس الفعل الخارجي؛ كالسجود من الجنب، أو الحائض، و مع تعدد الموضوع لا تجتمع الحرمتان حتى يلزم اجتماع المثلين المحال.

و أما الوجه الثالث الذي أشار إليه بقوله: «مع إنه لو لم يكن النهي فيها...» إلخ فحاصله: أنّه يمكن البناء على فساد العبادة المنهي عنها و إن لم نقل بدلالة النهي على الحرمة؛ إذ لا أقلّ من دلالته على عدم كون الفرد المنهي عنه مأمورا به، إذ لا معنى للنهي مع الأمر الفعلي، و بدون الأمر يكون حراما تشريعيا فاسدا؛ لكفاية الحرمة التشريعية في الفساد، فيخرج هذا الفرد المنهي عنه عن إطلاق الدليل أو عمومه الدال على صحة كل فرد فرض وجوده من أفراد طبيعة العبادة.

ص: 118

مثلا: صوم العيدين كان عبادة منهيا عنها، بمعنى: إنه لو أمر به كان عبادة لا يسقط الأمر به إلاّ إذا أتى به بقصد القربة كصوم سائر الأيّام.

هذا فيما إذا لم يكن ذاتا عبادة؛ كالسجود للّه و نحوه، و إلاّ كان محرّما مع كونه فعلا عبادة، مثلا: إذا نهى الجنب أو الحائض عن السجود له «تبارك و تعالى» كان عبادة محرّمة ذاتا حينئذ، لما فيه من المفسدة و المبغوضيّة في هذا الحال (1).

مع أنّه (2) لا ضير في اتّصافه بهذه الحرمة (3) مع الحرمة التشريعية، بناء على أن الفعل فيها لا يكون في الحقيقة متصفا بالحرمة؛ بل إنّما يكون المتصف بها ما هو من أفعال القلب (4)، كما هو الحال في التجري و الانقياد (5) فافهم (6).

و بالجملة: وزان النهي عن عبادة خاصة - فيما إذا كان هناك عموم أو إطلاق يقتضي صحتها لو خلّي و طبعه - وزان الأمر الواقع عقيب الحظر، فكما لا يدل الأمر هناك على الوجوب الذي هو مدلوله لغة أو عرفا؛ بل يكون إرشادا إلى رفع الحظر السابق، فكذلك النهي في المقام، فإنّه لا يدل على الحرمة التي هي مدلوله اللغوي أو العرفي؛ بل يكون إرشادا إلى فساد هذا الخاص من بين الخصوصيّات المشمولة للعام، أو المطلق لو خلّي و طبعه، و عدم كونه محبوبا عند المولى. و عليه فيستحيل التقرّب بإكرام العالم الظالم الذي ليس فيه ملاك وجوب الإكرام، أو أنّ ملاكه مغلوب لملاك حرمته و إن كان مشمولا أوّلا لقوله: «أكرم العلماء»، فقد ظهر: أن التقرب بالملاك أيضا غير ممكن؛ لمغلوبيته بملاك النهي كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 283».

=============

(1) أي: حال الجنابة و الحيض.

(2) الضمير للشأن، و هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الوجوه الّتي أجاب بها المصنف عن الإشكال، و قد تقدم توضيح ذلك، فلا حاجة إلى التكرار.

(3) أي: الحرمة الذاتية، و ضمير «اتصافه» راجع إلى السجود، و الضمير في «فيها» راجع إلى العبادة المحرّمة بالحرمة التشريعية، و في «بها» راجع إلى الحرمة التشريعية.

(4) لأن التشريع عبارة عن البناء على حكم الواقعة كذا، و الالتزام بدخول ما لا يعلم أنّه من الدين في الدين.

(5) في كونهما من أفعال القلب، فإنّ الأوّل عصيان قلبي، و الثاني: طاعة قلبيّة.

و على هذا: فلا تجتمع الحرمة الذاتية مع الحرمة التشريعية في موضوع واحد؛ لأن موضوع الحرمة الذاتية هو الفعل من أفعال الجوارح، و موضوع الحرمة التشريعية هو القصد القلبي، فيكون من أفعال الجوانح.

(6) لعلّه إشارة إلى عدم دفع اجتماع المثلين: لأن الحرمة التشريعية - و إن كانت

ص: 119

هذا مع أنّه (1) لو لم يكن النهي فيها دالا على الحرمة لكان دالا على الفساد؛ لدلالته على الحرمة التشريعية، فإنّه لا أقل من دلالته على إنّها ليست بمأمور بها و إن عمّها إطلاق دليل الأمر بها أو عمومه.

نعم (2)؛ لو لم يكن النهي عنها إلاّ عرضا، كما إذا نهي عنها فيما كانت ضدّ الواجب مثلا، لا يكون مقتضيا للفساد، بناء (3) على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ إلاّ كذلك - أي: عرضا - فيخصّص (4) به أو يقيّد.

متقوّمة بالقصد - إلاّ إنّ الفعل يتصف بها، و حينئذ يجتمع المثلان كما ذكره المستشكل.

=============

فمراده: حرمة نفس الفعل بحرمتين، و اتصافه بهما.

(1) الضمير للشأن، و هذا إشارة إلى الوجه الثالث من الوجوه الّتي أجاب بها المصنف عن الإشكال، و قد تقدم حاصل ما أفاده المصنف من الجواب.

و حاصل هذا الوجه بعبارة أخرى: أنّه سلّمنا أن النهي عن العبادة لا تكون نهيا ذاتيا؛ إلاّ إنّه لا أقلّ من كونه إرشادا إلى الفساد لانتفاء ملاك العبادية من أمر أو مصلحة، فيخرج عن عمومات حسن العبادة و إطلاقاته، فيكون التقرب تشريعا مفسدا؛ إلاّ إنّ هذا يتمّ في مثل الصوم المتوقف عباديّته على الأمر لا في مثل السجود للّه تعالى، فإنّه عبادة ذاتية من دون حاجة إلى أمر، فالنهي عنه إرشادا إلى عدم الأمر به لا يدل على فساده.

(2) هذا استدراك على قوله: «لكان دالا على الفساد»، و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 284» -: أن ما ذكرناه من دلالة النهي على الفساد لدلالته على الحرمة التشريعية إنّما هو فيما إذا لم يكن النهي عرضيا؛ كالنهي عن ضدّ الواجب كالصلاة المضادة للإزالة بناء على كون النهي عن ضدّ الواجب عرضيا، حيث إن المنهي عنه حقيقة هو ترك الإزالة مثلا، فالنهي عن الصلاة و نحوها ممّا يلازم ترك الإزالة يكون عرضيا لا حقيقيا، و النهي العرضيّ لا يقتضي الفساد.

(3) يعني: أنّ كون النهي عن ضدّ الواجب عرضيا مبنيّ على أن لا يكون النهي الذي يقتضيه الأمر بالشيء إلاّ نهيا عرضيا.

(4) يعني: فيخصّص أو يقيّد بهذا النهي العرضي عموم أو إطلاق النهي الدّال على الفساد.

فالمتحصّل: أنّ النهي بأنحائه الثلاثة - من الذاتي و التشريعي و الإرشادي - يدلّ على فساد العبادة المنهي عنها بأحد هذه الأنحاء الثلاثة.

ص: 120

المقام الثاني: في المعاملات، و نخبة القول: أن النهي الدّال على حرمتها لا يقتضي الفساد؛ لعدم الملازمة فيها لغة و لا عرفا بين حرمتها و فسادها (1) أصلا، كانت الحرمة متعلقة بنفس المعاملة بما هو فعل بالمباشرة، أو بمضمونها بما هو فعل بالتسبيب، أو بالتسبّب بها إليه و إن لم يكن السبب و لا المسبّب - بما هو فعل من الأفعال - بحرام،

=============

المقام الثانى فى المعاملات
في عدم اقتضاء النهي الفساد في المعاملات

(1) أي: فساد المعاملة. و معنى فسادها: هو عدم ترتّب الأثر المقصود منها كالملكية و الزوجية و نحوهما عليها، و صحّتها عبارة عن ترتّب الأثر المزبور عليها، و من المعلوم:

عدم المنافاة بين حرمة المعاملة و بين ترتّب الأثر المقصود عليها عقلا، هذا بخلاف حرمة العبادة؛ حيث إنّها لا تجتمع مع الصحة، لعدم صلاحية المبغوض للمقربيّة، فلا يجدي قصد الأمر المغلوب بالنهي في نظر المولى، كما إنه لا يدل النهي لغة و لا عرفا على فساد المعاملة؛ لوضوح: أن مدلول النهي هو التحريم، و الفساد - أعني: عدم ترتّب الأثر - ليس مدلولا مطابقيا و لا التزاميا له أصلا، فالدلالة على الفساد بأنحائها مفقودة.

و كيف كان؛ فلا ملازمة لغة و لا عرفا بين حرمة المعاملة و فسادها؛ سواء كانت الحرمة متعلقة بنفس السبب بما هو فعل مباشري كالإيجاب و القبول في وقت النداء، على نحو كان المبغوض هو نفس الإيجاب و القبول، من دون أن يكون الأمر المترتب عليهما مبغوضا شرعا، أو كانت الحرمة متعلقة بالمسبّب بما هو فعل تسبيبي على نحو كان المبغوض شرعا هو نفس الأمر المترتّب على السبب دون السبب بنفسه؛ كتمليك المسلم من الكافر الحاصل بهذا السبب، أو المصحف منه فإنّه فعل تسبيبي حاصل بالسبب الخاص، فالسبب و إن كان حراما شرعا غيريا و لكن المبغوض النفسي هو نفس تمليك المسلم أو المصحف من الكافر الحاصل بهذا السبب الخاص كما أشار إليه بقوله: «أو بمضمونها بما هو فعل بالتسبيب» حيث إن النهي في هذا القسم من البيع كبيع المسلم و المصحف من الكافر قد تعلق بالمضمون، و هو تمليكهما من الكافر لا بالمعاملة بما هي فعل مباشري.

أو كانت الحرمة متعلقة بالتسبّب بسبب خاص؛ كما إذا نهى عن تمليك الزيادة بالبيع الربوي على نحو كان المبغوض هو التمليك بهذا السبب الخاص، فلو حصل التمليك بسبب آخر غير البيع الربوي كالهبة و نحوها لم يبغضه الشارع.

و بعبارة أخرى: أن نفس إنشاء البيع الربوي، و كذا تملّك الزيادة ليس منهيا عنه؛ لجواز تملّكها بناقل شرعي كالهبة، بل المنهي عنه هو التسبّب بالبيع لتملك الزيادة.

ص: 121

و إنّما يقتضي الفساد فيما إذا كان دالا على حرمة ما لا يكاد يحرم مع صحتها (1)، مثل النهي عن أكل الثمن أو المثمن في بيع، أو بيع شيء.

نعم (2)؛ لا يبعد دعوى ظهور النهي عن المعاملة في الإرشاد إلى فسادها، كما أن

=============

(1) أي: مع صحة المعاملة، بمعنى: أن الشارع نهى عن شيء، و كان ذلك بحيث يلزم من تحريمه فساد المعاملة، و لا يعقل صحة المعاملة مع تحريم ذلك الشيء لأجل التلازم الواقع بين حرمته و فساد المعاملة؛ إمّا تلازما حقيقيا أو تلازما عرفيا أو تلازما شرعيا.

فالنهي حينئذ يدل على الفساد بضميمة ذلك التلازم المعلوم خارجا «مثل النهي عن أكل الثمن أو المثمن في بيع» كقولهم «عليهم السلام»: «ثمن العذرة «سحت»(1)، و قولهم:

«عليهم السلام»: «ما ثمن الجارية المغنّية إلاّ كثمن الكلب»(2)، و نحو ذلك، «أو» النهي عن «بيع شيء» كقوله: «عليه السلام»: «لا تبع ما ليس عندك»(3).

و كيف كان؛ فالوجه في دلالة هذا القسم من النهي على الفساد أنّه لو كان بيع العذرة و الجارية المغنّية و البيع الربوي صحيحا لكان ثمنه ملكا للبائع و مثمنه ملكا للمشتري، للتلازم بين الصحة و المملوكية و يترتّب عليه جواز التصرف، و حيث علم من النهي عدم جواز التصرف كشف عن فساد البيع.

فتحصل من جميع ذلك: إن النهي على خمسة أقسام:

1 - النهي عن السبب، 2 - النهي عن المسبّب، 3 - النهي عن جعل شيء خاص سببا لمسبّب خاص، 4 - النهي الدال على حرمة الثمن، 5 - النهي الدّال على حرمة المثمن.

و الثلاثة الأولى لا تدل على الفساد، و القسمان الأخيران يدلان على الفساد.

(2) هذا استدراك على نفي الملازمة لغة و عرفا بين الحرمة و الفساد في باب المعاملات إلاّ فيما إذا كان النهي دالا على حرمة الثمن أو المثمن كما عرفت. و حاصله: إنّه لا يبعد دعوى كون النهي عن المعاملة ظاهرا في الإرشاد إلى فسادها، لنقص شرط أو خبر، أو

ص: 122


1- التهذيب، ج 6، ص 372، ح 201.
2- الكافي، ج 5، ص 120، ح 4 /التهذيب، ج 6، ص 357، ح 140 /الاستبصار، ج 3، ص 61، ح 2.
3- الرواية في التهذيب، ج 7، ص 232، ح 25 هكذا: عن سليمان بن صالح، عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال: «نهى رسول اللّه «صلى الله عليه و آله» عن سلف، و عن بيعين في بيع، و عن بيع ما ليس عندك، و عن ربح ما لم يضمن». و كذلك في الفقيه، ج 4، ص 3، ح 4968 عن الحسين بن زيد في حديث المناهي الطويل.

الأمر بها يكون ظاهرا في الإرشاد إلى صحّتها؛ من دون دلالته على إيجابها أو استحبابها كما لا يخفى.

لكنّه (1) في المعاملات بمعنى العقود و الإيقاعات، لا المعاملات (2) بالمعنى الأعم وجود مانع بلا دلالة على حكم تكليفيّ . كما أن الأمر بها ظاهر في الإرشاد إلى الصحة بلا دلالة على حكم تكليفي.

=============

أما وجه نفي البعد عن ظهور النهي عن المعاملة في الإرشاد إلى فسادها - لا في الحرمة التكليفية الّتي هي ظهوره الأوّلي - فلأنّ الغرض الأصلي في المعاملات هو بيان صحتها و فسادها، و لذا يكون الأمر بها إرشادا إلى صحتها من دون دلالته على وجوبها أو استحبابها، فلا يدل مثل: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ إلاّ على صحّة العقود لا على وجوبها أو استحبابها، فالنهي عن المعاملة نظير نهي الطبيب ظاهر في الإرشاد إلى ما يضر المريض، و أمره ظاهر في الإرشاد إلى ما ينفعه من رفع مرضه و عود صحته. و نظير النواهي الشرعية لإفادة المانعية في العبادات، كالنهي عن التكتّف، و قول آمين في الصلاة.

و كيف كان؛ فالنهي عن المعاملة نظير الأمر الواقع عقيب الحظر، فكما إن الأمر حينئذ لا يدل على الوجوب؛ بل على رفع المنع، فكذلك النهي عنها لا يدل إلاّ على رفع الصحة الّتي تقتضيها أدلة الإمضاء مثل: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .

(1) أي: لكن نفي البعد عن ظهور النهي في الإرشاد إلى الفساد إنّما يكون في المعاملات بالمعنى الأخص و هي العقود و الإيقاعات، لا بمعناها الأعمّ ، و هو ما لا يعتبر فيه قصد القربة، لو أمر به كان أمره توصليا كالأمر بتطهير الثوب و البدن، فإنّ النهي عن المعاملة بالمعنى الأعم يحمل على ما تقتضيه القرينة الخارجية إن كانت، و إلاّ فيحمل على معناه الحقيقي و هو الحرمة، لكنّها لا تدل على الفساد؛ لما مرّ من عدم الملازمة بين الحرمة و الفساد لا لغة و لا عرفا.

(2) أي: ليست النواهي في المعاملات التي تقابل العبادات ظاهرة في الإرشاد كما أن الأوامر فيها توصلية؛ إذ لا يعتبر فيها قصد القربة فإذا لم يكن الظهور للنواهي في الإرشاد فيها، فلا بدّ من الرجوع إلى القرائن في خصوص المقامات، فيؤخذ بمفادها إمّا الإرشادية و إمّا المولوية. و على تقدير فقدها: فلا محيص عن الأخذ بمقتضى ظاهر صيغة النهي من حرمة المنهي عنه، و قد عرفت: إنها لا تستلزم للفساد في المعاملات لا لغة و لا عرفا.

فالمتحصل: هو عدم ظهور النهي في المعاملات بالمعنى الأعم في الإرشاد إلى الفساد.

و قال المصنف مفرّعا عليه: «فالمعوّل هو: ملاحظة القرائن...» إلخ. فقوله: «فالمعول» متفرع

ص: 123

المقابل للعبادات، فالمعوّل هو ملاحظة القرائن في خصوص المقامات، و مع عدمها لا محيص عن الأخذ بما هو قضية صيغة النهي من الحرمة، و قد عرفت أنّها (1) غير مستتبعة للفساد لا لغة و لا عرفا.

نعم (2)؛ ربّما يتوهم استتباعها له شرعا من جهة دلالة غير واحد من الأخبار عليه.

منها: ما رواه في الكافي(1) و الفقيه(2) عن زرارة عن الباقر «عليه السلام»: سأله عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده، فقال: «ذلك إلى سيّده، إن شاء أجازه و إن شاء فرّق بينهما»، قلت: - أصلحك اللّه تعالى - إنّ حكم بن عتيبة و إبراهيم النخعي و أصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد و لا يحلّ إجازة السيّد له، فقال أبو جعفر «عليه السلام»: «إنّه لم يعص اللّه، إنّما عصى سيّده، فإذا أجاز فهو له جائز»، حيث دل بظاهره على أن النكاح لو كان مما حرّمه الله تعالى عليه كان فاسدا.

على عدم ظهور النهي في المعاملات بالمعنى الأعم في الإرشاد إلى الفساد، فحينئذ إذا كانت هناك قرينة على إرادة معنى خاص منه، فلا إشكال في لزوم حمل النهي عليه، و إلاّ فلا بدّ من إرادة ظاهره و هو الحرمة.

=============

كما أشار إليه بقوله: «و مع عدمها لا محيص عن الأخذ بما هو قضية صيغة النهي من الحرمة». و كلمة «من» في قوله: «من الحرمة» بيان للموصول في قوله: «بما هو».

(1) أي: قد عرفت: أن الحرمة لا تستتبع الفساد لا لغة و لا عرفا؛ فحرمة التصرف في الماء المغصوب بتطهير الثوب و البدن به لا تدل على الفساد أي: بقاء النجاسة.

الاستدلال بالرواية على دلالة النهي على الفساد

(2) استدراك على عدم استتباع الحرمة للفساد لغة و عرفا، لكنّها تستتبعه شرعا لأجل الأخبار الواردة في هذا الباب منها: ما في المتن بتقريب: أن تعليل عدم فساد نكاح العبد الفاقد لإذن سيّده ب «إنه لم يعص اللّه»، يقتضي فساد كل ما يكون عصيانا له «تبارك و تعالى»، فالحرمة التكليفية تقتضي الفساد، لأنّ عدم فساد النكاح في الرواية إنّما هو لأجل عدم كونه معصية له «تبارك و تعالى»؛ إذ مفهوم «إنه لم يعص اللّه إنّما عصى سيّده» هو فساد النكاح إذا كان مما حرّمه تعالى.

و هناك بعض الروايات الأخرى في نحو هذا الحكم.

و كيف كان؛ فالمستفاد من الروايات: أن الحرمة الإلهية تستلزم الفساد.

ص: 124


1- الكافي، ج 5، ص 478، ح 3 /التهذيب، ج 7، ص 351، ح 63.
2- الفقيه، ج 3، ص 541، ح 4862.

و لا يخفى (1): أنّ الظاهر أن يكون المراد بالمعصية المنفية هاهنا: أنّ النكاح ليس ممّا لم يمضه اللّه و لم يشرعه كي يقع فاسدا، و من المعلوم: استتباع المعصية بهذا المعنى للفساد كما لا يخفى.

=============

(1) أي: لا يخفى أن الاستدلال بنحو هذه الرواية للمطلب فاسد صغرى و كبرى، أما صغرى: فلعدم دلالة هذه الرواية على المدعى، و هو دلالة النهي على الفساد لأجل الملازمة بين الحرمة و الفساد، و الفساد في مورد الرواية ليس لأجل نهي الشارع عن النكاح؛ بل لأجل عدم إمضائه و عدم تشريعه. و استتباع العصيان بمعنى: عدم الإمضاء و التشريع للفساد، و البطلان يكون من البديهيات، و لا ربط له بالعصيان المبحوث عنه و هو إتيان ما نهى عنه الشارع من المعاملة.

و أما كبرى: فلأنه - مع فرض الدلالة - لا يثبت بمثل هذه الموارد الجزئية كبرى كلية في جميع أبواب العقود و الإيقاعات و سائر التوصليات؛ على تلازم النهي و الفساد شرعا.

و حاصل الجواب عن الاستدلال بالرواية: أن المعصية - و هي مخالفة الحرمة الّتي هي المقصودة في المقام - أجنبيّة عن المعصية المرادة من هذه الروايات، توضيحه: يتوقف على مقدمة و هي: أنّ المعصية على قسمين:

الأول: المعصية التابعة لعدم إمضاء الشارع و عدم إجازته، مثلا: لو لم يجز اللّه تعالى و لم يمض جعل العقد المعلق على شرط سببا لحلية الفرج، ثم جعل شخص ذلك العقد سببا للحلية كان عاصيا له تعالى.

الثاني: المعصية التابعة للنهي، مثلا: لو نهى اللّه تعالى عن المعاملة الربوية، ثم عامل شخص بهذه المعاملة كان عاصيا له تعالى.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنّه ليس المراد بالمعصية في الجملتين الموجبة و السالبة - و هما قوله «عليه السلام»: «إنه لم يعص اللّه و إنّما عصى سيّده» - مخالفة الحرمة التكليفية حتى يصحّ الاستدلال به و يقال بدلالة النهي على الفساد؛ إذ لو كان المراد بها الحرمة التكليفية لم يستقم معنى الحديث؛ إذ لا إشكال في كون مخالفة السيّد عصيانا له «تبارك و تعالى»؛ ضرورة: وجوب إطاعة العبد للمولى شرعا، فهو حكم إلهي، فمخالفته مخالفة للّه تعالى و عصيان له، مع إنّ الإمام «عليه السلام» قال: «لم يعص الله»، فنفي المعصية عن مخالفته لسيّده قرينة على ما ذكرنا من عدم كون المراد بالمعصية مخالفة الحرمة التكليفية، و على إن العبد لم يرتكب حراما. و ذلك أن ما صدر منه لم يكن مما لم يمضه الشارع و لم يشرعه، كتزويج المحارم أو التزويج في العدة؛ بل كان مما أمضاه و أجازه.

ص: 125

و لا بأس بإطلاق المعصية على عمل لم يمضه الله تعالى و لم يأذن به، كما أطلق عليه (1) بمجرد عدم إذن السيّد فيه أنّه معصية.

و بالجملة: لو لم يكن (2) ظاهرا في ذلك لما كان ظاهرا فيما توهم. و هكذا حال سائر الأخبار الواردة في هذا الباب (3) فراجع و تأمل.

تذنيب (4):

حكي عن أبي حنيفة و الشيباني: دلالة النهي على الصحة، و عن الفخر: أنه وافقهما في ذلك.

فالمراد بالمعصية المنفية: هو القسم الأوّل، و هو خارج عن محلّ النزاع؛ إذ لا نزاع في فساد ما لم يجزه الشارع و لم يمضه.

=============

و الحاصل: أن الرواية تدل بمفهومها على أن العصيان الناشئ عن عدم الإجازة موجب للفساد، و لا تدل على محل البحث و هو أنّ العصيان الناشئ عن النهي موجب للفساد.

(1) أي: على العمل يعني: كما أطلق على العمل بأنّه معصية إذا كان من دون إذن السيّد.

(2) أي: لو لم يكن هذا الحديث المذكور في المتن ظاهرا في عمل لم يمضه اللّه تعالى «لما كان ظاهرا فيما توهم» من دلالة النهي على الفساد.

(3) أي: سائر الأخبار الواردة في هذا الباب أيضا لا تدل على إفادة النهي للفساد.

في دلالة النهي على صحة متعلقه

(4) تذنيب: في دفع توهم دلالة النهي عن المعاملات على الصحّة مطلقا.

«حكي عن أبي حنيفة» و تلميذه محمد بن الحسن الشيباني «دلالة النهي على الصحة، و عن الفخر» أي: فخر المحققين نجل العلامة الحلّي «قدس الله سرّهما» «أنّه وافقهما في ذلك»؛ لأن النهي تكليف، و التكليف مشروط بالقدرة؛ بمعنى: أن يكون كل من الفعل و الترك تحت قدرة المكلف، إذ كل حكم تكليفي لا يتعلق إلاّ بما هو مقدور للمكلف.

ثم لا يكون متعلّق النهي مقدورا إلاّ إذا كان بجميع أجزائه و شرائطه الّتي هي مورد النهي مقدورا، لو فرض أن المكلف خالف و أتى بالمنهي عنه كذلك - أي: بجميع أجزائه و شرائطه يترتب عليه الأثر بالضرورة، و هذا هو معنى كونه صحيحا. و حينئذ فالنهي عن الشيء يدل على صحته لا محالة.

ص: 126

و التحقيق: أنه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبّب أو التسبيب، لاعتبار (1) القدرة في متعلّق النهي كالأمر، و لا يكاد يقدر عليهما إلاّ فيما كانت المعاملة مؤثرة صحيحة.

و أمّا إذا كان عن السّبب: فلا (2)، لكونه مقدورا و إن لم يكن صحيحا. نعم؛ قد هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب دلالة النهي على الصحة؛ و لكن المصنف اختار التفصيل في المقام حيث قال: «و التحقيق أنّه في المعاملات...» إلخ.

=============

و حاصل الكلام في المقام: أنّ المصنف قال بدلالة النهي على الصحة في مورد من العبادات، و في موردين من المعاملات.

أحدهما: تعلق النهي بالمسبب؛ كالنهي عن بيع المصحف من الكافر، فلو لم يكن قادرا على التمليك - بأن يوجد البيع بحيث يترتّب الأثر أعني: الملكية - لما صحّ النهي عنه.

ثانيهما: تعلق النهي بالتسبّب كالظهار، فإنّ التسبّب به إلى الفراق بين الزوجين مبغوض، بخلاف التسبّب بالطلاق إلى البينونة بينهما، فإن لم يترتّب الفراق على الظهار كان النهي عنه لغوا؛ إذ المفروض: كون النهي إنما هو بلحاظ ترتّب الأثر عليه، لا بلحاظ كونه فعلا مباشريا كالبيع وقت النداء.

ففي هذين الموردين من المعاملات لا محيص عن دلالة النهي على الصحة؛ لأن المنهي عنه هو المؤثر الذي يتوقف تأثيره على كونه صحيحا؛ إذ الفاسد لا يصلح للسببية.

أما دلالة النهي على الصحة في مورد من العبادات: فهو فيما إذا كانت العبادة ذاتية - أي: غير متوقفة على قصد القربة - كالسجود مثلا، فإنّ النهي عن هذا القسم من العبادات يدل على الصحة، كما في المعاملات، لأنّ متعلقه مقدور للمكلف، لقدرته على إيجاد السجود مثلا و عدمه، فلو فرض أنه أتى بالسجود المنهي عنه لكانت عبادة صحيحة؛ إذ لا تتوقف عباديّته على الأمر به حتى لا يمكن إيجاده مع النهي عنه.

(1) تعليل لدلالة النهي على الصحة في الموردين المذكورين.

(2) أي: و أما إذا كان النهي عن السبب فلا يدل على الصحة، و هذا إشارة إلى القسم الثالث من أقسام المعاملة.

و الغرض من هذا الكلام: أنّ النهي عن المعاملة إن كان عن السبب بما أنّه فعل مباشري - كالبيع وقت النداء، حيث إن المنهي عنه هو العقد المفوّت لصلاة الجمعة لا العقد المؤثر في الملكية - فلا يدل على الصحة؛ إذ المبغوض هو إيجاد ذات السبب، لكونه من أفعاله المباشرية لا لكونه مؤثرا في الملكية و سببا لها، فالملحوظ هو المعنى

ص: 127

عرفت: أن النهي عنه (1) لا ينافيها.

أمّا العبادات (2): فما كان منها عبادة ذاتية - كالسجود و الركوع و الخشوع و الخضوع له تبارك و تعالى - فمع النهي عنه يكون مقدورا، كما إذا كان مأمورا به و ما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مأمورا به، فلا يكاد يقدر عليه إلاّ إذا قيل باجتماع الأمر و النهي في شيء و لو بعنوان واحد، و هو محال.

المصدري؛ لا معنى اسم المصدر، و من المعلوم: أنّ المنهي عنه - و هو إيجاد ذات السبب مع الغضّ عن سببيّته و تأثيره في المسبب - مقدور للمكلف من دون توقف للقدرة على صحته. و هذا ما أشار إليه بقوله: «لكونه مقدورا و إن لم يكن صحيحا». و هذا تعليل لعدم دلالة النهي عن السبب على الصحة. و حاصل التعليل: لكون السبب مقدورا و إن لم يكن صحيحا.

=============

(1) يعني: أن النهي عن السبب لا ينافي صحته، كما تقدم في البيع وقت النداء فإنه صحيح مع كونه منهيا عنه.

فالحاصل: أن النهي عن السبب يجتمع مع كل من الصحة و الفساد، فيكون السبب المنهي عنه مقدورا مطلقا سواء كان صحيحا أو فاسدا.

(2) لمّا فرغ المصنف من بحث المعاملات شرع في بحث العبادات و النهي عنها.

و حاصل ما أفاده في النهي عنها: هو أن العبادات على قسمين:

الأول: ما تكون عباديته ذاتية، مع قطع النظر عن الأمر بها، و من غير توقف عباديتها على قصد القربة؛ نحو: السجود و الخشوع و الخضوع، و النهي في هذا القسم يدل على الصحة، كما في المعاملات، لأن متعلقه مقدور للمكلف، فإنه قادر على إيجاد السجود و على عدم إيجاده، فلو أتى بالسجود المنهي عنه لكان عبادة صحيحة؛ إذ لا تتوقف صحته على الأمر به كي لا يمكن إيجاده مع النهي عنه.

فالمتحصّل: أن عباديّة السجود لا تتوقف على الأمر به حتى يقال بأنّه لا يمكن إيجاده مع النهي عنه لاستحالة اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد.

الثاني: ما لا تكون عباديته ذاتية؛ بل تتوقف على قصد القربة إذا تعلق به أمر، و حيث إنّ عباديته متوقفة على قصد القربة المتوقف على الأمر به، فإذا تعلق به نهي منع عن تعلق الأمر به، لما مرّ في مبحث اجتماع الأمر و النهي من امتناع اجتماعهما في واحد بعنوانين فضلا عن عنوان واحد كما في المقام. و حينئذ فإذا لم يتعلق به الأمر كان غير مقدور؛ لأنّ المفروض: توقف عباديته على تعلق الأمر به، فإذا فرض تعلق النهي به و أتى به

ص: 128

و قد عرفت (1): أنّ النهي في هذا القسم إنّما يكون نهيا عن العبادة، بمعنى: أنّه لو المكلّف لم يكن صحيحا؛ لأنّ الأمر لم يتعلق به حتى يصير عبادة صحيحة، و النهي عنه لا يدل على صحته.

=============

نعم؛ لو فرض إمكان اجتماع الأمر و النهي في واحد بعنوان واحد كان النهي عنه دالاّ على صحته.

و كيف كان؛ فالنهي عن العبادات يوجب عدم كون المكلف قادرا على إيجادها عبادة؛ إذ إيجادها عبادة يتوقف على قصد القربة، و قصد القربة يتوقف على الأمر العبادي، و الأمر العبادي لا يجتمع مع النهي عنها؛ لاستلزامه اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد بعنوان واحد.

فالمتحصل من الجميع: أن النهي أمّا في المعاملات: فيدل على الصحة في قسمين منهما. و أما في العبادات: فدلالته على الصحة في غير الذاتية منها مجرّد فرض، إذ المراد بالعبادة المنهي عنها حينئذ هي العبادة الشأنية - أي: ما لو تعلق به أمر لكان عبادة - كصوم العيدين، و صلاة الحائض، و معلوم: أن النهي عن العبادة بهذا المعنى لا يدل على صحتها إلاّ بفرض المحال أي: لو فرض محالا تعلق النهي بها لكان النهي دالاّ على صحتها. كما في «منتهى الدراية ج 3، ص 296».

و أما لو كانت العبادة ذاتية: فالنهي عنها يدل على صحتها إذ لا تتوقف عباديتها على الأمر بها كي يقال إن الأمر لا يجتمع مع النهي.

(1) أي قد عرفت سابقا: أن النهي في هذا القسم من العبادة المحتاجة في عباديّتها إلى قصد القربة لا يتعلق بالعبادة الفعلية حتى يدل على صحتها، و يلزم منه اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد بعنوان واحد؛ بل إنّما يكون نهيا عن العبادة الشأنية بمعنى: أنه لو كان مأمورا به كان الأمر به أمر عبادة أي: لا يسقط إلا بقصد القربة، فالنهي حينئذ لا يكشف عن صحتها؛ لأن النهي و إن كان مشروطا بالقدرة إلاّ إن القدرة على العبادة الشأنية لا تتوقف على قصد القربة حتى يتوقف على الأمر الملازم للصحة.

و يمكن أن يكون قوله: «و قد عرفت أنّ النهي...» إلخ إشارة إلى توهم و هو: أنّه إذا كان اجتماع الأمر العبادي و النهي محالا كما سبق في قوله: «و هو محال» فيسقط البحث عن النهي في العبادة رأسا، لأنّ العبادة الفعلية غير الذاتية المتقوّمة بقصد الأمر منوطة بالأمر، فكيف يتعلق بها النهي إذا كان اجتماع الأمر و النهي محالا فلازم ذلك سقوط البحث عن النهي في العبادة.

ص: 129

كان مأمورا به كان الأمر به أمر عبادة لا يسقط إلاّ بقصد القربة فافهم (1).

و قد أجاب المصنف عن هذا التوهم بقوله: «أن النهي في هذا القسم إنّما يكون نهيا عن العبادة بمعنى: أنه لو كان مأمورا به كان الأمر به أمر عبادة».

=============

و حاصل الجواب: أن المراد بالعبادة فيما يمكن تعلق النهي به هو العبادة التقديرية، و هي ما لو أمر به لكان عبادة، لا العبادة الفعلية الّتي تكون مأمورا بها فعلا، كما تقدم.

(1) يمكن أن يكون إشارة إلى: أن النهي في المعاملات لا يدل على الصحة حتى ما كان عن المسبب أو التسبيب، و ذلك: لاحتمال أن يكون إرشادا إلى عدم ترتب الأثر بمعنى: أن هذه المعاملة العرفية التي يرتب العرف عليها الأثر لا يترتب عليها الأثر في نظر الشارع؛ بل يمكن أن يكون إشارة إلى لزوم التناقض لو دل النهي على الصحة؛ لأنّ الصحة ملازمة للإمضاء الشرعي، و النهي ملازم لعدم الإمضاء الشرعي.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتخلص البحث في أمور:

1 - أقسام تعلق النهي بالعبادة مع أحكامها:

أما أقسامه فهي خمسة:

1 - ما يتعلق النهي بذات العبادة؛ كالنهي عن الصلاة حال الحيض.

2 - ما يتعلق بجزئها؛ كالنهي عن قراءة العزائم في الصلاة.

3 - ما يتعلق بشرطها؛ كالنهي عن الوضوء بالماء المغصوب.

4 - ما يتعلق بوصفها الملازم؛ كالنهي عن الجهر و الإخفات في القراءة كالجهر في الظهرين، و الإخفات في العشاءين و الصبح.

5 - ما يتعلق بوصفها غير الملازم؛ كالنهي عن الكون الغصبي حال الصلاة؛ إذ قد تقع الصلاة في غير المغصوب.

أمّا أحكام هذه الأقسام: فلا إشكال في دخول القسم الأول و الثاني في محلّ النزاع؛ لأن جزء العبادة عبادة، و النهي عنه نهي عنها.

و الفرق بينهما بعد اشتراكهما في أصل البطلان بالنهي: إنه لا يقتضي النهي عن الجزء إلاّ فساد ذلك الجزء، و لا يقتضي فساد أصل العبادة إلاّ بالاقتصار على ذلك الجزء الفاسد؛ لأن الاقتصار عليه يوجب بطلان أصل العبادة من أجل النقيصة العمدية، هذا بخلاف النهي عن نفس العبادة، حيث يقتضي بطلانها، و لا علاج لصحتها أصلا.

ص: 130

و أما القسم الثالث: فحرمته لا تستلزم الفساد لا فساد الشرط و لا فساد العبادة المشروطة به؛ لأن الغالب في شرائط العبادة هو التوصلية كطهارة البدن و الثوب عن النجاسة، فالنهي عن الشرط لا يوجب فساد الشرط فضلا عن فساد العبادة المشروطة به.

و أما القسم الرابع: فالنهي عنه ملازم للنهي عن العبادة؛ فالنهي عن الوصف الملازم يندرج في النهي عن جزء العبادة، إذ المنهي عنه حقيقة هو الموصوف أعني: القراءة و هو جزء العبادة كالصلاة.

و أما القسم الخامس: فخارج عن مسألة النهي عن العبادة، و داخل في مسألة اجتماع الأمر و النهي.

2 - النهي عن العبادة لأجل أحد هذه الأمور: مثل: «لا تصلّ و أنت تقرأ العزائم» و «لا تصلّ و أنت لابس الحرير» و «لا تصل الظهرين و أنت تجهر القراءة»، و «لا تصل و أنت في المكان المغصوب». و الأول مثال لتعلق النهي بالعبادة لأجل تعلقه بالجزء، و الثاني: لأجل الشرط، و الثالث: لأجل الوصف الملازم، و الرابع: لأجل الوصف المفارق.

ثم النهي عن العبادة لأجل الجزء أو الشرط أو الوصف يتصوّر على قسمين:

أحدهما: أن تكون هذه الأمور واسطة في العروض؛ بأن يكون متعلق النهي في الحقيقة نفس هذه الأمور، و كان النهي عن العبادة بالعرض و المجاز، و عليه: فالنهي عن هذه الأمور يكون من قبيل الوصف بحال الموصوف بمعنى: أن الحرمة أولا و بالذات تعرض على الجزء أو الشرط أو الوصف، و ثانيا و بالعرض على الصلاة.

و ثانيهما: أن تكون هذه الأمور واسطة في الثبوت - أي: علّة لتعلق النهي بالعبادة - بحيث يكون النهي متعلّقا حقيقة بنفس العبادة لأجل تلك الأمور. فإن كان النهي من قبيل الأوّل بأن كان متعلقا حقيقة بنفس هذه الأمور فقد عرفت حكمه من حيث الدخول في محل النزاع و عدمه، و قد تقدم دخول القسم الأوّل و الثاني و الرابع إذا كان النهي عن الوصف الملازم.

و أمّا إذا كان من قبيل الثاني أي: بأن كان المقصود هو تحريم نفس العبادات، و هذه الأمور كانت واسطة في الثبوت: فحال هذا النهي حال النهي في القسم الأول من الأقسام الخمسة أعني: النهي عن نفس العبادة.

أما استظهار أحد الوجهين المذكورين فمنوط بخصوصيات الموارد.

3 - أقسام النهي في المعاملات مثل أقسامه في العبادات، و هي خمسة:

ص: 131

1 - المعاملة المنهي عنها لذاتها هي: كالبيع الربوي.

2 - المعاملة المنهي عنها لجزئها؛ كبيع الشاة بالخنزير، حيث يكون بيع الشاة منهيا عنه باعتبار ثمنه و هو الجزء المقوّم للبيع.

3 - المعاملة المنهي عنها لشرطها هي: كالنكاح بشرط كون الطلاق بيد الزوجة، و بيع العنب بشرط أن يعمل خمرا.

4 - المعاملة المنهي عنها لوصفها اللازم هي: كبيع الحصاة و المنابذة.

5 - المعاملة المنهي عنها لوصفها المفارق هي: كنكاح الأمة من غير إذن سيّدها و مالكها.

و قد ظهر حكم هذه من حكم أقسام النهي في العبادات، فلا يكون بيانها ثانيا و على حدة بمهم.

4 - المقام الأول: في اقتضاء النهي عن العبادة للفساد:

و حاصل الكلام في المقام: أنّ النهي المتعلق بالعبادة - سواء كان المنهي عنه عبادة مستقلة نحو: «لا تصل في الدار المغصوبة» أم جزئها نحو: «لا تقرأ العزائم في الصلاة»، أم شرطها نحو: «لا تتوضأ بالماء المغصوب» - يقتضي الفساد لوجود الملاك و هو الحرمة الكاشفة عن المبغوضية المضادة للمحبوبيّة المقوّمة للعبادة. و من المعلوم: أن المحبوبية لا تجتمع مع المبغوضية في شيء واحد، فلا محالة يكون النهي رافعا للأمر، فيفسد المنهي عنه سواء كان نفس العبادة أم جزئها أو شرطها.

و المتحصّل: أن هناك ملازمة بين الحرمة و الفساد و امتناع اجتماع الصحة عند المتكلم و الفقيه مع النهي الدّال على الحرمة الذاتية.

أما الصحة عند المتكلم: فلعدم وجود أمر حتى يتحقق الموافقة للأمر أو الشريعة.

و أما الصحة عند الفقيه: فلعدم تمكن المكلف من قصد القربة مع النهي الدال على الحرمة، فإنّ الصحة بمعنى سقوط الإعادة مترتب على إتيان العبادة بقصد القربة.

5 - الإشكال على دلالة النهي على الفساد: بأن يقال: إن النهي لا يدل على الفساد إلاّ إذا دل على الحرمة الذاتية. و المفروض: عدم دلالته على ذلك - لامتناع اتصاف العبادة بالحرمة الذاتية - لأن المكلّف إن أتى بالعمل بدون قصد القربة - كصلاة الحائض لتمرين الصبي - فلا يتصف بالحرمة؛ لأنّ المحرم هو العبادة الّتي تتقوّم بقصد

ص: 132

القربة و بدون قصدها لا يكون العمل عبادة حتى تفسد بحرمتها الناشئة من النهي. و إن أتى بالعمل مع قصد القربة كان مشرّعا؛ إذ لا أمر به مع حرمته، فلا يقدر على نيّة القربة إلاّ بتشريع ليقصد التقرب به، و حينئذ يحرم العمل للتشريع، و مع هذه الحرمة التشريعية يمتنع اتصافها بالحرمة الذاتية؛ لاجتماع المثلين المستحيل.

و خلاصة الكلام في المقام: أن النهي عن العبادة لما لم يدل على الحرمة الذاتية لامتناع اتصاف العبادة بها فلم يدل على الفساد أيضا.

فلا يصح الالتزام بدلالته على فساد العبادة.

و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بوجوه:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «لا ضير في اتصاف ما يقع عبادة...» إلخ.

توضيح ذلك: أن العبادة تارة: تكون شأنية بمعنى: أنه لو أمر به كان عبادة كصوم العيدين بناء على حرمته ذاتا، فهو عبادة شأنية بحيث لو ورد الأمر به من الشارع لكان أمره عباديا كالأمر بصوم سائر الأيّام.

و أخرى: تكون العبادة عبادة ذاتية فعلية؛ كالسجود مثلا، ثم المراد بالعبادة في العنوان هو العبادة الشأنية لا العبادة الذاتية الفعلية، فما ذكره المستشكل من امتناع اتصاف العبادة بالحرمة الذاتية ممنوع؛ إذ لا مانع من اتصاف العبادة الشأنية بالحرمة الذاتية، فإن صوم العيدين عبادة شأنية فيه مفسدة ملزمة أوجبت حرمته الذاتية.

أمّا الوجه الثاني في الجواب فحاصله: منع ما ذكره المستشكل من امتناع الاتصاف بالحرمة الذاتية مع الحرمة التشريعية لاجتماع المثلين المستحيل، لأن مورد اجتماع المثلين المحال هو اتحاد الموضوع، و أمّا مع تعدده فلا يلزم اجتماع المثلين و المقام من هذا القبيل؛ ضرورة: أنّ موضوع حرمته التشريعية هو الالتزام بكون شيء من الدين مع عدم العلم بأنه منه، و من المعلوم: أن الالتزام فعل قلبي، و موضوع الحرمة الذاتية هو نفس الفعل الخارجي؛ كالسجود من الجنب، و مع تعدد الموضوع لا تجتمع الحرمتان حتى يلزم اجتماع المثلين المحال.

أمّا الوجه الثالث فحاصله: أنّه يمكن البناء على فساد العبادة المنهي عنها و إن لم نقل بدلالة النهي على الحرمة؛ إذ لا أقلّ من دلالته على عدم الفرد المنهي عنه مأمورا به؛ إذ لا معنى للنهي مع الأمر الفعلي، و بدون الأمر يكون حراما تشريعيا، فيكون فاسدا لكفاية الحرمة التشريعية في الفساد.

ص: 133

«فافهم» لعله إشارة إلى عدم دفع اجتماع المثلين؛ لأن الحرمة التشريعية ممّا يتصف به الفعل الخارجي، فيلزم اجتماع المثلين.

قوله: «نعم لو لم يكن النهي» استدراك على قوله: «لكان دالا على الفساد»، و حاصله: أن ما ذكرناه من دلالة النهي على الفساد لدلالته على الحرمة التشريعية إنّما هو فيما إذا لم يكن النهي عرضيا؛ كالنهي عن ضدّ الواجب كالصلاة المضادّة للإزالة بناء على كون النهي عن ضدّ الواجب عرضيا، حيث إن المنهي عنه حقيقة هو ترك الإزالة، فالنهي عن الصلاة عرضي، و النهي العرضي لا يقتضي الفساد.

6 - عدم اقتضاء النهي للفساد في المعاملات: إذ لا منافاة بين حرمة المعاملة و بين صحتها بمعنى: ترتب الأثر المقصود عليها؛ كالملكية و الزوجية و نحوهما. هذا بخلاف حرمة العبادة، حيث إنّها لا تجتمع مع الصحة كما عرفت.

و كيف كان؛ فلا ملازمة لغة و عرفا بين حرمة المعاملة و فسادها سواء كانت الحرمة متعلقة بنفس السبب بما هو فعل مباشري، كالإيجاب و القبول في وقت النداء. أو كانت متعلقة بالمسبّب بما هو فعل تسبيبي؛ كتمليك المصحف من الكافر الحاصل بالسبب الخاص.

نعم؛ يدل النهي على الفساد إذا كان المنهي عنه أكل الثمن نحو قولهم «عليهم السلام» «ثمن العذرة سحت»، أو كان النهي عن شيء لا يكون عند البائع نحو «لا تبع ما ليس عندك»؛ للتلازم بين الحرمة و الفساد - في هذه الموارد.

قوله: «لا يبعد دعوى ظهور النهي عن المعاملة في الإرشاد إلى فسادها» استدراك على نفي الملازمة لغة و عرفا بين الحرمة و الفساد في باب المعاملات و حاصله: أنّه لا يبعد دعوى كون النهي عن المعاملة ظاهرا في الإرشاد إلى فسادها؛ لنقص شرطها أو جزئها، أو لوجود مانع بلا دلالة على حكم تكليفي أصلا، كما أن الأمر بها ظاهر في الإرشاد إلى الصحة.

أما وجه نفي البعد: فلأنّ الغرض الأصلي في المعاملات هو: بيان صحتها و فسادها، و لذا يكون الأمر بها إرشادا إلى صحتها، فلا يدل مثل: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ إلاّ على صحة العقود لا على وجوبها أو استحبابها، و لكن نفي البعد عن ظهور النهي في المعاملة في الإرشاد إلى الفساد إنّما يكون في المعاملات بالمعنى الأخص، و هي العقود و الإيقاعات لا بالمعنى الأعم، و هو ما لا يعتبر فيه قصد القربة.

ص: 134

7 - «نعم؛ ربما يتوهم استتباعها له شرعا من جهة دلالة غير واحد من الأخبار عليه»، و قال المصنف سابقا: إنّ الحرمة لا تستتبع الفساد شرعا، ثم يستدرك و يقول: لكن الحرمة تستتبع الفساد شرعا لأجل الأخبار الواردة في هذا الباب.

منها: ما في المتن بتقريب: أن تعليل عدم فساد نكاح العبد الفاقد لإذن سيّده ب «إنه لم يعص الله» يقتضي: فساد كل ما يكون عصيانا له تعالى، فالحرمة التكليفية تقتضي الفساد بمقتضى مفهوم: «إنّه لم يعص الله»؛ إذ مفهومه: فساد النكاح إذا كان ممّا حرّمه اللّه تعالى، فالمستفاد من الرواية: أن الحرمة الإلهية تستلزم الفساد.

و قد أجاب المصنف عنه بقوله: «و لا يخفى: أن الظاهر»، و حاصل الجواب عن الاستدلال بالرواية: أن المعصية على قسمين:

1 - المعصية التابعة لعدم إمضاء الشارع.

2 - المعصية التابعة للنهي و مخالفة الحرمة التكليفية ثم محلّ الكلام هو المعصية بالمعنى الثاني، و مورد الرواية هو المعصية بالمعنى الأول، فهي أجنبيّة عن المقام؛ إذ لو كان المراد بها الحرمة التكليفية لم يستقم معناها؛ لأن مخالفة السيّد شرعا مخالفة للّه تعالى، فالمراد بالمعصية المنفية فيها: هو القسم الأول، و هو خارج عن محل النزاع؛ إذ لا نزاع في فساد ما لم يجزه الشارع و لم يمضه.

8 - تذنيب: في دلالة النهي على صحّة متعلقه، كما حكي عن أبي حنيفة و الشيباني بتقريب: أن النهي تكليف، و التكليف مشروط بالقدرة؛ إذ كل حكم تكليفي لا يتعلق إلاّ بما هو مقدور، و لا يكون متعلق النهي في المعاملات مقدورا إلاّ إذا كان المنهي عنه بجميع أجزائه و شرائطه - الّتي هي مورد النهي - مقدورا.

فلو فرض: أن المكلف أتى بالمنهي عنه، و خالف النهي يعني: أتى بالمنهي عنه بجميع الأجزاء و الشرائط يترتب عليه الأثر بالضرورة، و هذا معنى كونه صحيحا، و حينئذ فالنهي يدل على الصحة.

إلاّ إن المصنف اختار التفصيل و قال: بدلالة النهي على الصحة في مورد من العبادات، و في موردين من المعاملات.

أحدهما: تعلق النهي بالمسبب كالنهي عن بيع المصحف من الكافر، فلو لم يكن قادرا على التمليك لم يصح النهي عن البيع.

ثانيهما: تعلق النهي بالتسبيب؛ كالظهار، فإنّ التسبيب فيه إلى الفراق بين الزوجين

ص: 135

مبغوض، بخلاف التسبيب بالطلاق، فإن لم يترتب الفراق و البينونة على الظهار كان النهي عنه لغوا؛ لأن النهي إنما هو بلحاظ ترتب الأثر عليه؛ لا بلحاظ كونه فعلا مباشريا.

ففي هذين الموردين من المعاملات لا محيص عن دلالة النهي على الصحة.

أما دلالة النهي على الصحة في مورد من العبادات: فهو فيما إذا كانت العبادة ذاتية غير متوقفة على قصد القربة؛ كالسجود مثلا، فإن النهي عن هذا القسم من العبادات يدل على الصحة؛ لأن متعلقه مقدور للمكلف لقدرته على إيجاد السجود، فلو أتى بالسجود المنهي عنه لكانت عبادة صحيحة؛ إذ لا تتوقف عباديته على الأمر به حتى لا يمكن إيجاده مع النهي عنه.

9 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - النهي عن العبادة أو جزئها أو وصفها الملازم يقتضي فسادها؛ دون النهي عن شرطها أو وصفها المفارق.

2 - النهي عن المعاملات لا يدل على الفساد؛ إلا فيما إذا كان النهي عن الثمن أو المثمن فيدلّ على الفساد.

3 - يدل النهي على الصحة في المعاملات فيما إذا كان متعلقا بالمسبب أو التسبيب.

4 - يدل النهي على الصحة في العبادة فيما إذا كانت ذاتية.

ص: 136

المقصد الثالث في المفاهيم

اشارة

ص: 137

ص: 138

في المفاهيم (1)

مقدمة (2):

و هي: أن المفهوم (3) - كما يظهر من موارد إطلاقه - هو عبارة عن حكم إنشائي أو

=============

في بحث المفاهيم

مقدمة فى تعريف المفهوم

اشارة

(1) كان الأولى أن يقول المصنف: المقصد الثالث في المنطوق و المفهوم، و لعل التعبير الموجود إنما هو لأجل الفرار عن تعرّض حال المنطوق؛ لأنّ المهم هو بيان حال المفهوم، و لذا قال: «المقصد الثالث في المفاهيم».

(2) مقدمة في بيان معنى المفهوم، و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محلّ الكلام في المقام فنقول: إنّه قد يطلق المفهوم و يراد منه كل ما يفهم من اللفظ من المعنى، في مقابل المنطوق بمعنى الملفوظ، فكل لفظ منطوق بهذا المعنى. هذا هو المعنى اللغوي للمفهوم و المنطوق.

و قد يطلق و يراد منه مطلق ما يفهم من الشيء؛ سواء كان ذلك الشيء لفظا أم كان غيره؛ كالإشارة و الكتابة، و لعلّ هذا هو المعنى العرفي للمفهوم، و هذان الإطلاقان خارجان عن محلّ الكلام، فإن محل الكلام هو المفهوم الاصطلاحي في مقابل المنطوق الاصطلاحي، و قد وقع الخلاف في تعريف كل من المنطوق و المفهوم في اصطلاح الأصوليين.

و قد عرّف الحاجبي المنطوق: «بما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق». و المفهوم: «بما دل عليه اللفظ لا في محل النطق»، و تبعه صاحب القوانين.

و قال العضدي في تعريف المنطوق: «أن يكون حكما لمذكور و حالا من أحواله»، و في تعريف المفهوم: «أن يكون حكما لغير مذكور و حالا من أحواله»، و قد أطيل فيهما الكلام بالنقض و الإبرام طردا و عكسا. و تركنا ما فيه من النقض و الإبرام رعاية للاختصار.

(3) و الحق عند المصنف: «أن المفهوم إنّما هو حكم غير مذكور؛ لا أنّه حكم لغير مذكور».

ص: 139

إخباري، تستتبعه خصوصيّة المعنى الّذي أريد من اللفظ بتلك الخصوصيّة و لو بقرينة الحكمة (1)، و كان يلزمه (2) لذلك، وافقه في الإيجاب و السلب أو خالفه. فمفهوم إن و منه يعرف المنطوق فيكون حكما مذكورا.

=============

و حاصل الكلام في المقام: أن المفهوم - كما يظهر من موارد إطلاقه - هو: عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري؛ مثل: عدم وجوب الإكرام المستفاد من قولنا: «إن جاءك زيد فأكرمه» حيث إنّه حكم إنشائي لازم لخصوصية من خصوصيّات المعنى المراد من كلمة «إن»، و مثل عدم وجوب الإكرام المستفاد من قولنا: «إن جئتني أكرمك»، هذا مثال للحكم الإخباري كما أن الأول مثال للحكم الإنشائي.

فمنطوق قولنا: «إن جاءك زيد فأكرمه» هو وجوب إكرام زيد على تقدير المجيء، و مفهومه هو الانتفاء عند الانتفاء، و منطوق قولنا: «إن جئتني فأكرمك»: هو وجوب إكرام المخاطب على تقدير المجيء، و مفهومه عدم وجوب إكرامه على تقدير عدم المجيء.

(1) خصوصية معنى الجملة الشرطية هي تعليق الجزاء بالشرط، و هي مستلزمة للمفهوم أعني: الانتفاء عند الانتفاء الذي أريد من اللفظ بتلك الخصوصية، و استفادة تلك الخصوصية إمّا تكون بالوضع، و إمّا بالانصراف، و إمّا بمقدمات الحكمة، فحينئذ:

مفهوم جملة «إن جاءك زيد فأكرمه» - على القول به - قضية شرطية سالبة بشرطها و جزائها، و هي: «إن لم يجئك زيد فلا تكرمه».

ثم المفهوم على قسمين:

أحدهما: أن يكون المفهوم مخالفا للمنطوق في الإيجاب و السلب كالمثالين المذكورين.

و ثانيهما: أن يكون موافقا للمنطوق في الإيجاب و السلب كقوله تعالى: فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ (1) حيث يكون المفهوم حرمة الشتم و الضرب، فيكون موافقا للمنطوق - و هو حرمة التأفّف - في الإيجاب.

قوله: «بقرينة الحكمة» متعلق بقوله: «أريد من اللفظ» يعني: و لو كان الدّال على تلك الخصوصية قرينة الحكمة لا الوضع.

(2) يعني: كان الحكم الإنشائي أو الإخباري من لوازم ذلك المعنى المنطوقي لأجل تلك الخصوصية. فالأولى تبديل «لذلك» ب «لأجلها».

و المتحصل: أنه يعتبر أن يكون ذلك الحكم الإنشائي أو الإخباري مما تستلزمه

ص: 140


1- الإسراء: 23.

جاءك زيد فأكرمه مثلا - لو قيل به - قضية شرطية سالبة بشرطها و جزائها، لازمة للقضية الشرطية التي تكون معنى القضية اللفظية، و تكون لها (1) خصوصية بتلك الخصوصية كانت مستلزمة لها. فصح (2) أن يقال: إن المفهوم إنما هو حكم غير مذكور، لا إنه (3) حكم لغير مذكور - كما فسر به (4) - و قد وقع فيه (5) النقض خصوصية المعنى المنطوقي، بحيث لو لم تكن تلك الخصوصية لم يدل المنطوق على ذلك الحكم الإنشائي أو الإخباري المسمى بالمفهوم، فلا بد أن تكون تلك الخصوصية المعتبرة في المنطوق مدلولا عليها باللفظ حتى يخرج المفهوم عن المداليل الالتزامية، كوجوب المقدمة و حرمة الضد، فإن اللفظ لا يدل فيهما إلا على ذي الخصوصية و هو وجوب ذي المقدمة، و وجوب الضد الآخر، و نفس الخصوصية تستفاد من الخارج، لا من اللفظ.

=============

(1) أي: للقضية الشرطية الموجبة في المنطوق «خصوصية بتلك الخصوصية» أي:

بسبب تلك الخصوصية كانت القضية اللفظية «مستلزمة لها» أي: للقضية المفهومية.

(2) هذا متفرع على ما أفاده من كون المفهوم عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري غير مذكور في القضية تقتضيه خصوصية المعنى المنطوقي، إذ يصح حينئذ أن يقال: إن المفهوم حكم غير مذكور في القضية اللفظية، ضرورة: أن حرمة إكرام زيد غير مذكورة في قولنا: «إن جاءك زيد فأكرمه»، و كذا حرمة الضرب و الشتم فإنها غير مذكورة في قوله تعالى: فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ .

فالمتحصل: هو أن نفس المفهوم - و هو الحكم الإنشائي أو الإخباري - غير مذكور في المنطوق بلا واسطة و إن كان مدلولا عليه بذكر الخصوصية المشتملة له في المنطوق.

(3) أي: لا أن المفهوم حكم لموضوع غير مذكور في المنطوق. فالفرق بين المفهوم و المنطوق على هذا التعريف: أن الموضوع في المنطوق مذكور، و في المفهوم غير مذكور، كالضرب و الشتم الموضوعين للحرمة فإنهما غير مذكورين في المنطوق.

(4) أي: كما فسر المفهوم بأنه حكم لغير مذكور كما عرفت ذلك عن الحاجبي و العضدي.

(5) أي: في هذا التفسير «النقض و الإبرام بين الأعلام».

و حاصل الكلام: أن تعريف المفهوم بكونه حكما لغير مذكور لا يكون جامعا لأفراده، و لا مانعا لغير أفراده. و أما عدم كونه جامعا للأفراد: فلخروج مفهوم الشرط و مفهوم الغاية عن المفهوم بالمعنى المذكور، فإن الموضوع في مفهوم الشرط - في مثل: «إن

ص: 141

و الإبرام بين الأعلام، مع أنه لا موقع له (1) كما أشرنا إليه في غير مقام، لأنه من قبيل شرح الاسم كما في التفسير اللغوي (2).

و منه (3) قد انقدح حال غير هذا التفسير مما ذكر في المقام، فلا يهمنا التصدي لذلك، كما لا يهمنا بيان أنه (4) من صفات المدلول أو الدلالة و إن كان بصفات جاءك زيد فأكرمه» - هو زيد المذكور في المنطوق، و كذا الموضوع في مفهوم الغاية - في مثل «صم إلى الليل» - هو الليل المذكور في المنطوق.

=============

و أما عدم كونه مانعا لغير أفراده: فلدخول مثل مقدمة الواجب فيه؛ لأن وجوب المقدمة المستفاد من وجوب ذيها حكم لغير مذكور، إذ المقدمة لم تذكر في القضية المفيدة لوجوب ذيها، و دخول نحو: وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ (1) فيه، لأن السؤال حكم لغير مذكور و هو «الأهل»، مع إنه ليس من باب المفهوم و إنما هو من باب المجاز في الحذف، فهو من باب المنطوق.

و كيف كان؛ فلازم ما ذكروه في تعريفي المنطوق و المفهوم هو: خروج بعض أفراد المنطوق، و دخوله في تعريف المفهوم.

(1) أي: لا موقع لما ذكر من النقض و الإبرام، كما أشار المصنف إلى عدم موقع للنقض و الإبرام في غير مورد من الموارد.

و كيف كان؛ فقوله: «مع إنه لا موقع له» جواب عن الإشكالات التي أوردوها على تعريفي المنطوق و المفهوم طردا و عكسا.

و حاصل الجواب: أن تلك الإشكالات لا موقع لها، لعدم كون هذه التعريفات حدودا حقيقية، بل من قبيل شرح الاسم فلا تجب فيها مراعاة ما تجب مراعاته في التعاريف الحقيقية من الطرد و العكس.

(2) أي: الذي يكون الغرض منه المعرفة في الجملة، و لذا قد يقع التعريف منهم بالأعم، كقول اللغوي: «سعدانة نبت»، و قد يقع بالأخص، كقول النحوي: «الفاعل ما صدر عنه الفعل».

(3) أي: و من كون التفسير المزبور من قبيل شرح الاسم ظهر: حال سائر تفاسير المفهوم، فلا يعتبر فيها الطرد و العكس لكونها من قبيل شرح الاسم، «فلا يهمنا التصدي لذلك» أي: لغير هذا التفسير المنسوب إلى العضدي من سائر التفاسير.

(4) أي: ليس المهم بيان أن المفهوم من صفات المدلول أو الدلالة. هذا الكلام من

ص: 142


1- يوسف: 82.

المدلول أشبه، و توصيف الدلالة أحيانا كان من باب التوصيف بحال المتعلق (1).

المصنف إشارة إلى نزاع آخر في باب المفهوم و هو: أنه هل المفهوم من صفات المعني و المدلول، أو من صفات الدلالة ؟ و ليس هنا قول: بأنه من صفات الدال.

=============

المفهوم من صفات المدلول عند المصنف

و توضيح ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدمة و هي: أن الصفات على ثلاثة أقسام:

الأول: صفات المدلول كالكلية و الجزئية و نحوهما، مثلا: لفظ الإنسان ليس كليا، و كذا دلالة لفظ الإنسان على معناه ليست كلية، و إنما الكلي هو مدلول الإنسان، و على هذا: فلو اتصف لفظ الإنسان أو دلالته على معناه بالكلية كان من قبيل الوصف بحال متعلق الموصوف، إذ الموصوف الحقيقي هو المعنى لا اللفظ و الدلالة.

الثاني: صفات الدال كالثلاثية و الرباعية و المجردية و المزيدية. فإنها صفات الألفاظ الدالة على المعاني، لا صفات مدلولها، و لا صفات دلالتها، و لو اتصف أحدهما بهذا النحو من الأوصاف كان مجازا.

الثالث: صفات الدلالة كالنصوصية و الصراحة و الظهور، فإنها صفات دلالة الألفاظ على معانيها، لأن اللفظ بما هو لفظ لا يكون نصا و كذلك المعنى بما هو معنى، و إنما النص هو دلالة اللفظ على معناه حتى لو اتصف اللفظ أو المعنى بإحدى هذه الأوصاف كان مجازا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه قد وقع النزاع في المفهوم بأنه من صفات المدلول، إذ المفهوم حكم ملازم لخصوصية المعنى، فلا بد من أن يكون من صفات المدلول، و قد أشار إليه المصنف بقوله: «و إن كان بصفات المدلول أشبه»، لما عرفت من: أن المفهوم من لوازم خصوصية المعنى المنطوقي، فالمدلول إما منطوق و إما مفهوم، و يشهد له بعض التفاسير كقولهم: «إن المفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق»، و المراد بالموصول أعني: ما في قوله: «ما دل» هو المدلول، فالمتصف بالمفهوم هو المدلول.

قوله: «أو الدلالة» إشارة إلى قول آخر. و الوجه في ذلك: أنه لا يتصف بالمفهوم المعنى، و المدلول من حيث هو المعنى، و إنما يتصف به بلحاظ الدلالة - بمعنى: أن الدلالة لو كانت تابعة سميت مفهوما - يقول المصنف: لا يهمنا التعرض للنزاع تفصيلا، و لكن كون المفهوم بصفات المدلول أشبه حيث قيل في تفسير المنطوق بأنه حكم لموضوع مذكور، و المفهوم حكم لموضوع غير مذكور، أو المنطوق هو حكم مذكور، و المفهوم هو حكم غير مذكور، و من البديهي: أن الحكم هو المدلول لا الدلالة.

(1) يعني: توصيف الدلالة أحيانا بالمفهوم كما يقال: الدلالة المفهومية و المنطوقية «كان من باب التوصيف بحال المتعلق» و هو المدلول لا من التوصيف بحال الموصوف.

ص: 143

و قد انقدح من ذلك (1): أن النزاع في ثبوت المفهوم و عدمه في الحقيقة إنما يكون في أن القضية الشرطية أو الوصفية أو غيرهما هل تدل بالوضع أو بالقرينة العامة على تلك الخصوصية المستتبعة لتلك القضية الأخرى (2) أم لا؟

و بعبارة واضحة: أن توصيف الدلالة بالمفهوم إنما يكون بلحاظ متعلق الدلالة - و هو المدلول - لا باعتبار نفسها، فتوصيف الدلالة بالمفهومية يكون بالعناية و المجاز، فالوصف حينئذ بحال المتعلق لا الموصوف.

=============

(1) أي: ظهر من كون المفهوم ناشئا من خصوصية المعنى المنطوقي، و لازما لها: أن النزاع في ثبوت المفهوم و عدمه يرجع إلى: أن تلك الخصوصية المستتبعة للمفهوم ثابتة بالوضع أو بالقرينة العامة أي: مقدمات الحكمة أم لا، فإن دل المنطوق على تلك الخصوصية لزمه المفهوم، و إلا فلا، و بعد ثبوت دلالة المنطوق على تلك الخصوصية لا إشكال في دلالته على المفهوم الذي هو لازمه، فالنزاع في حجية المفهوم يرجع حقيقة إلى النزاع في ثبوته، لا إلى حجيته، فقولهم: «مفهوم الشرط حجة» مبني على المسامحة، إذ الصحيح أن يقال: هل للشرط مفهوم أم لا؟ لأن النزاع في الحقيقة في الصغرى و هو ثبوت المفهوم لا في الكبرى أعني: حجيته.

يعني: ليس النزاع في حجية المفهوم بعد ثبوته كالنزاع في حجية خبر الواحد.

و كيف كان؛ فالنزاع إنما هو في أصل الدلالة لا في الحجية بعد الدلالة.

فقولهم: هل المفهوم حجة أم لا؟ يراد به ما ذكرناه من أنه هل للقضية الشرطية مفهوم أم لا؟

(2) أي: القضية المفهومية. ثم معادل القرينة العامة و الوضع هو القرينة الخاصة الدالة على المفهوم، فإن كان الدال على تلك الخصوصية هو الوضع أو القرينة العامة: فلا إشكال في ثبوت المفهوم، لدلالة تلك الخصوصية المدلول عليها بالوضع أو القرينة على الثبوت عند الثبوت، و الانتفاء عند الانتفاء، و لا نعني بالمفهوم إلا هذا.

و إن كان الدال على تلك الخصوصية قرينة خاصة: فلا يترتب عليه المفهوم في جميع الموارد، لاختصاص تلك القرينة بموردها، نظير قرينة تدل على إرادة الوجوب من الأمر الواقع عقيب الحظر في بعض الموارد، بعد كون وقوعه عقيب الحظر قرينة عامة على إرادة رفع المنع من الأمر، فإن تلك القرينة الخاصة - التي تدل على إرادة الوجوب من الأمر الواقع عقيب الحظر في بعض الموارد - تختص بموردها، و لا تكون قرينة على إرادة الوجوب منه في كل مورد يقع الأمر بعد الحظر، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 310» مع تصرف منا.

ص: 144

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - محل الكلام: هو المفهوم بالمعنى الاصطلاحي، و قد عرف بتعاريف عديدة، قال الحاجبي: المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق، و المفهوم «ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق» (1) العضدي: المنطوق: «أن يكون حكما لمذكور و حالا من أحواله.

و المفهوم «أن يكون حكما لغير مذكور و حالا من أحواله».

و الحق عند المصنف: أن المفهوم إنما هو حكم غير مذكور، لا إنه حكم لغير مذكور.

فالمفهوم هو حكم إنشائي، كعدم وجوب الإكرام المستفاد من نحو: «إن جاءك زيد فأكرمه»، أو حكم إخباري، كعدم وجوب الإكرام المستفاد من نحو «إن جئتني أكرمك»، فمفهوم الأول: هو انتفاء وجوب الإكرام عند انتفاء الشرط، و مفهوم الثاني هو: عدم وجوب الإكرام عند عدم المجيء.

ثم ذلك الحكم الإنشائي أو الإخباري مما تستلزمه خصوصية المعنى المنطوقي، بحيث لو لم تكن تلك الخصوصية لم يدل المنطوق على ذلك الحكم الإنشائي أو الإخباري المسمى بالمفهوم.

2 - خلاصة ما أورده البعض على تعريف العضدي للمفهوم: بأنه حكم لغير مذكور و حال من أحواله. فيرد عليه تارة: بعدم كونه جامعا. و أخرى: بعدم كونه مانعا.

أما عدم كونه جامعا: فلخروج مفهوم الشرط و الغاية عنه، فإنّ الموضوع في مفهوم الشرط في مثل: «إن جاءك زيد فأكرمه» مذكور في المنطوق و هو زيد، و كذا الموضوع في مفهوم الغاية في مثل: «صم إلى الليل» هو الليل مذكور في المنطوق.

و أما عدم كونه مانعا: فلدخول مثل مقدمة الواجب فيه، لأن وجوب المقدمة المستفاد من وجوب ذيها حكم لغير مذكور، إذ المقدمة لم تذكر في القضية المفيدة لوجوب ذيها، إلاّ إن المصنف يقول: إنه لا مجال للإشكال بعد كون هذه التعاريف لفظية لا حقيقية، إذ لا تجب فيها مراعاة ما تجب مراعاته في التعاريف الحقيقية من الطرد و العكس.

3 - هل المفهوم من صفات المعنى و المدلول، أو من صفات الدلالة ؟ و ليس هنا قول:

بأنه من صفات الدال.

التوضيح بعد تمهيد مقدمة و هي: إن الصفات على ثلاثة أقسام:

1 - صفات المدلول كالكلية و الجزئية، كمدلول لفظ الإنسان، فلو اتصف لفظ

ص: 145

الإنسان أو دلالته على معناه بالكلية لكان ذلك من قبيل الوصف بحال متعلق الموصوف، إذ الموصوف حقيقة هو المدلول لا اللفظ.

2 - صفات الدال، كالثلاثية و الرباعية فإنهما من صفات الألفاظ الدالة على المعاني، لا من صفات مدلولها، و لا من صفات دلالتها، و لو اتصف أحدهما بهذا النحو من الأوصاف كان مجازا.

3 - صفات الدلالة، كالنصوصية و الظهورية، فإنهما من صفات دلالة الألفاظ، لأن اللفظ بما هو لفظ لا يكون نصا و لا ظاهرا، فلو اتصف اللفظ بهما كان مجازا.

فنقول بعد هذه المقدمة: إنه قد وقع النزاع في كون المفهوم من صفات المدلول أو من صفات الدلالة.

و ظاهر المصنف: أنه من صفات المدلول، لأن المدلول إما منطوق و إما مفهوم، و الشاهد على ذلك: ما ذكر في تعريف المفهوم، بأنه حكم غير مذكور في المنطوق. و من البديهي: أن الحكم هو المدلول لا الدلالة.

4 - أن النزاع في المفهوم حقيقة يكون صغرويا لا كبرويا، بمعنى: أن النزاع إنما هو في ثبوت المفهوم و عدمه لا في حجيته و عدمها، فقولهم: «مفهوم الشرط حجة» مبني على المسامحة، إذ الصحيح أن يقال: «هل للشرط مفهوم أم لا؟».

و كيف كان؛ فالنزاع إنما هو في أصل الدلالة لا في الحجية.

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - المفهوم حكم إنشائي أو إخباري غير مذكور في المنطوق.

2 - المفهوم من صفات المدلول لا من صفات الدلالة.

3 - النزاع في بحث المفهوم يكون صغرويا لا كبرويا.

ص: 146

فصل: الجملة الشرطية (1)

اشارة

هل تدل على الانتفاء عند الانتفاء - كما تدل على الثبوت عند الثبوت بلا كلام - أم لا؟ فيه خلاف (2) بين الأعلام. لا شبهة في استعمالها، و إرادة الانتفاء عند الانتفاء

=============

في مفهوم الشرط

اشارة

(1) الكلام في مفهوم الشرط بمعنى: أنه إذا قال المولى لعبده: «إن جاءك زيد فأكرمه» فهل تدل هذه الجملة الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء، كما تدل على الثبوت عند الثبوت بلا كلام بحيث لو قال بعد ذلك: «و إن أحسن زيد إليك فأكرمه» كان ذلك مخصصا لمفهوم «إن جاءك زيد فأكرمه»، أم لا؟ بل لا تدل الجملة الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء، فيه خلاف.

(2) يعني: اختلف الأصحاب في دلالة القضية الشرطية على المفهوم و عدم دلالتها عليه، و قد أشار إلى محل النزاع بقوله: «لا شبهة في استعمالها» أي: الجملة الشرطية، «و إرادة الانتفاء عند الانتفاء في غير مقام» واحد، و هذا خارج عن محل الكلام، إذ لا خلاف فيه، و لا إشكال، و إنما الخلاف و الإشكال في أن هذا الاستعمال هل هو بالوضع أو بقرينة عامة، كوقوع الأمر عقيب الحظر الذي هو قرينة عامة على عدم الوجوب منه، فإنه يحمل الأمر على ذلك إلا إذا قامت قرينة خاصة على إرادة الوجوب منه، بأن يكون المقام من هذا القبيل قامت قرينة عامة كمقدمات الحكمة على المفهوم، بحيث لا بد من الحمل على المفهوم لو لم تقم قرينة على خلافه من حال أو مقال.

و كيف كان؛ فدلالة الجملة الشرطية على المفهوم مبنية على أمور:

الأول: أن يكون الشرط و القيد في القضية الشرطية راجعا إلى مفاد الهيئة دون المادة، بأن يكون مفادها تعليق مضمون جملة على مضمون جملة أخرى، و التعليق هو ربط أحد الشيئين بالآخر بنحو لا يتخلف عنه و لا يمكن تحققه بدونه، فهو يساوق العلية المنحصرة، بمعنى: أن ترتب الجزاء على الشرط يكون من قبيل ترتب المعلول على علته المنحصرة.

الثاني: أن تكون ملازمة بين الجزاء و الشرط.

الثالث: أن تكون القضية الشرطية ظاهرة في أن ترتب الجزاء على الشرط من باب ترتب المعلول على العلة، لا من باب ترتب العلة على المعلول، و لا من ترتب أحد المعلولين على الآخر لعلة ثالثة.

الرابع: أن تكون القضية الشرطية ظاهرة في كون الشرط علة منحصرة للحكم فيها،

ص: 147

في غير مقام، إنما الإشكال و الخلاف في أنه بالوضع أو بقرينة عامة، بحيث لا بد من الحمل عليه لو لم يقم على خلافه قرينة من حال أو مقال، فلا بد للقائل بالدلالة من إقامة الدليل على الدلالة بأحد الوجهين على تلك الخصوصية المستتبعة لترتب الجزاء على الشرط، نحو ترتب المعلول على علته المنحصرة، و أما القائل بعدم الدلالة: ففي فسحة، فإن له منع دلالتها على اللزوم، بل على مجرد الثبوت عند الثبوت و لو من باب الاتفاق، أو منع دلالتها على الترتب، أو على نحو الترتب على العلة أو العلة فمتى تحققت هذه الأمور: تمت دلالتها على المفهوم، فلا بد للقائل من إثبات هذه الأمور.

=============

قوله: «بأحد الوجهين» أي الوضع و القرينة العامة.

«و أما القائل بعدم الدلالة ففي فسحة» عن إقامة الدليل على العدم، «فإن له» منع دلالة القضية الشرطية من جهات كثيرة:

1 - منع دلالة القضية الشرطية على اللزوم بأن يقال: لا نسلم الملازمة بين الشرط و الجزاء حتى يكون انتفاء الشرط سببا لانتفاء الجزاء، بل الجملة الشرطية إنما تدل على مجرد الثبوت عند الثبوت و لو من باب الاتفاق، نحو: «إن كان الإنسان ناطقا فالحمار ناهق»، فإن التلازم بين الطرفين من باب الاتفاق، يعني: لا علية في البين، و عليه: فلا يلزم الانتفاء عند الانتفاء.

2 - منع دلالة الشرطية على الترتب بأن يقال: لا نسلم ترتب الجزاء على الشرط - و إن سلمنا الملازمة بينهما - بل الجملة الشرطية إنما تدل على عدم الانفكاك بينهما، و من الممكن أن يكونا موجودين في عرض واحد نحو: «إن كان الخمر حراما كان بيعه باطلا»، مع إنه كلا منهما معلول للإسكار مثلا.

3 - منع دلالة القضية الشرطية على نحو الترتب على العلة، بعد تسليم الدلالة على الترتب بأن يقال: لا نسلم دلالة الشرطية على كون الجزاء مترتبا على الشرط بنحو الترتب على العلة التامة؛ بل تدل على كون المقدم علة، أما أنها تامة فلا، إذ من المحتمل كونه علة ناقصة.

4 - منع دلالتها على ترتب الجزاء على الشرط نحو الترتب على العلة المنحصرة، بعد تسليم الأمور السابقة أي: اللزوم أو الترتب أو العلية، و ذلك لاحتمال أن يكون لشيء واحد علل تامة متبادلة نحو: «إن كانت الشمس طالعة كانت الغرفة مضيئة»، فإنه لا يدل على عدم إضاءة الغرفة حين عدم طلوع الشمس لاحتمال كونها مضيئة بالسراج أو النار أو الكهرباء.

ص: 148

المنحصرة (1) بعد تسليم اللزوم أو العلية، لكن منع دلالتها (2) على اللزوم، و دعوى كونها اتفاقية في غاية السقوط، لانسباق اللزوم منها قطعا.

و أمّا المنع عن أنه (3) بنحو الترتب على العلة فضلا عن كونها منحصرة فله مجال واسع.

=============

(1) يعني: أو منع دلالة القضية الشرطية على كون الترتب بنحو العلة المنحصرة.

و المتحصل: أن ثبوت المفهوم منوط بما ذكر من الجهات الثلاث، و بدلالة القضية الشرطية على كون ترتب الجزاء على الشرط بنحو الترتب على العلة المنحصرة، لا مطلق العلة و لو لم تكن منحصرة، فإنكار دلالة القضية الشرطية على كون الترتب بهذا النحو كاف في عدم ثبوت المفهوم.

(2) هذا إشارة إلى دفع المنع الأول الذي أشار إليه بقوله: «فإن له منع دلالتها على اللزوم»، و معنى العبارة: أن كون الجملة الشرطية اتفاقية لا لزومية في غاية السقوط، لانسباق اللزوم من الجملة الشرطية قطعا، فإنه لو لم تكن قرينة في البين فهم منها التلازم بين الشرط و الجزاء. فقوله: «لانسباق اللزوم...» إلخ تعليل لكون القضية الشرطية لزومية لا اتفاقية، كما هو مقتضى المنع الأول.

و حاصل التعليل: تبادر اللزوم من القضية الشرطية قطعا، و التبادر علامة الوضع، فلا وجه لمنع دلالتها على اللزوم.

(3) أي: المنع عن أن اللزوم بنحو الترتب أو المنع عن كون الترتب بنحو الترتب على العلة - فضلا عن كون الشرط علة منحصرة للجزاء - في محله، و له مجال واسع، إذ لم تثبت دلالة الجملة الشرطية على كون الشرط علة للجزاء - فضلا عن دلالتها على الانحصار - و إن كان بينهما تلازم في الوجود غالبا، فإن التقصير في مثل «المسافر إذا قصر الصلاة أفطر» ليس علة للإفطار، بل هما حكمان متلازمان ثابتان للمسافر غير الناوي لإقامة عشرة أيام، و عليه: فليس للقائل بالمفهوم دعوى تبادر اللزوم، و ترتب الجزاء على الشرط بنحو الترتب على العلة المنحصرة، إذ استعمالها في الترتب على العلة غير المنحصرة يكون مثل استعمالها في العلة المنحصرة بلا عناية و مجاز، و بلا رعاية علاقة من العلائق المصححة للتجوز، و معه كيف تصح دعوى التبادر المزبور؟

و كيف كان؛ فالغرض هو إنكار المفهوم لأجل المنع عن كون اللزوم بنحو الترتب على العلة و من أنكر المفهوم للقضية الشرطية ينبغي له أن ينكر الأمر الثالث من الأمور الأربعة و هو: ترتب الجزاء على الشرط على نحو العلية يعني: لا يكون الترتب المذكور بالعلية، و لا ينبغي أن ينكر اللزوم و أصل الترتب، إذ هما أمران مسلمان لا يقبلان الإنكار.

ص: 149

و دعوى: تبادر اللزوم و الترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة - مع كثرة استعمالها (1) في الترتب على نحو الترتب على الغير المنحصرة منها؛ بل (2) في مطلق اللزوم - بعيدة (3) عهدتها (4) على مدعيها، كيف ؟ و لا يرى في استعمالها فيهما (5)

=============

(1) أي: استعمال الجملة الشرطية «في الترتب على نحو الترتب على» العلة «الغير المنحصرة منها» أي: من العلة نحو: «إذا كانت الشمس طالعة فالغرفة مضيئة»، إذ لإضاءة الغرفة أسباب عديدة غير طلوع الشمس.

قوله: «مع كثرة استعمالها» في الحقيقة تعليل لبعد هذه الدعوى.

(2) أي: بل كثيرا ما تستعمل الجملة الشرطية في مطلق اللزوم. و بعبارة واضحة: بل كثرة استعمال الجملة الشرطية في مطلق اللزوم دون اللزوم الخاص - و هو الترتب بنحو العلية - ثابتة، و مع هذه الكثرة لا تصح دعوى تبادر اللزوم و الترتب بنحو العلة المنحصرة الذي هو أساس المفهوم.

(3) خبر قوله: «و دعوى»، و دفع لها، و قد عرفت وجه بعدها في قوله: «مع كثرة استعمالها..» إلخ.

(4) أي: عهدة الدعوى المذكورة على من يدعيها، فاللازم عليه: إما الجواب عن هذه الموارد، و إما رفع اليد عن الدعوى المذكورة.

(5) أي: كيف تصح دعوى تبادر العلة المنحصرة، مع كون الاستعمال في مطلق اللزوم، و الترتب بنحو العلة المنحصرة على نهج واحد؟ إذ لو صح تبادر العلة المنحصرة من الجملة الشرطية لكان استعمالها في مطلق اللزوم استعمالا في غير الموضوع له، و كان بالعناية و المجاز، لأن التبادر علامة الوضع، مع إنه ليس كذلك، لما عرفت: من أن الاستعمال في مطلق اللزوم كالاستعمال في العلة المنحصرة على نهج واحد بلا عناية أصلا، فاستعمال الجملة الشرطية في الموردين على نهج واحد كاشف عن عدم صحة دعوى التبادر.

فقوله: «كيف ؟ و لا يرى..» إلخ دليل على عدم صحة الدعوى المذكورة. نعم؛ قد تستعمل الجملة الشرطية في اللزوم و الترتب على نحو الترتب على العلة المنحصرة نحو: «كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود»، إذ طلوع الشمس علة منحصرة لوجود النهار.

و قد تستعمل في اللزوم و الترتب على نحو الترتب على العلة غير المنحصرة نحو:

«كلما كان هذا الشيء إنسانا كان حيوانا»، فاللزوم و الترتب بين الشرط - و هو كون الشيء إنسان - و بين الجزاء - و هو كون الشيء حيوانا - و إن كان ثابتا و لكن ليس الترتب

ص: 150

عناية و رعاية علاقة، بل إنما تكون إرادته (1) كإرادة الترتب على العلة المنحصرة بلا عناية، كما يظهر على من أمعن النظر و أجال البصر في موارد الاستعمالات، و في عدم الإلزام و الأخذ بالمفهوم في مقام المخاصمات و الاحتجاجات.

و صحة الجواب بأنه لم يكن لكلامه مفهوم، و عدم صحته (2) لو كان له ظهور فيه معلوم.

و أما (3) دعوى الدلالة بادعاء انصراف إطلاق العلاقة اللزومية إلى ما هو أكمل على العلة المنحصرة، بل على العلة غير المنحصرة، إذ كون الشيء فرسا أيضا علة لكونه حيوانا.

=============

و قد تستعمل في اللزوم الاتفاقي و الترتب الاتفاقي نحو: «كلما كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا»، و نستكشف من استعمالها في هذه الموارد على نهج واحد أنها وضعت لمطلق اللزوم بين الشرط و الجزاء، و عليه: فليس لها مفهوم في جميع موارد استعمالها بل لها مفهوم في بعض الموارد لوجود الأمور المقوّمة للمفهوم.

فالحق هو: التفصيل في المقام و القول بالمفهوم في بعض الموارد، كما يظهر هذا التفصيل لمن أمعن النظر و أجال البصر في موارد استعمالات الجملة الشرطية. و من هنا يظهر: أن القائل بالمفهوم لا يتمكن من إلزام الخصم بالمفهوم في مقام المخاصمات و المرافعات و الاحتجاجات، فلو كان لها مفهوم لألزم الخصم به، و صح أن يقول في جواب الخصم: «ليس لكلامي مفهوم»، فلو كان كلامه ظاهرا في المفهوم لما صح الجواب بنفي المفهوم.

(1) أي: تكون إرادة مطلق اللزوم بلا عناية، مثل إرادة الترتب على العلة المنحصرة.

«كما يظهر على من أمعن النظر» و الغرض من هذا الكلام هو: الاستشهاد على استعمال الجملة الشرطية في الجامع بين العلة المنحصرة و مطلق اللزوم، و كون الاستعمال في كل منهما بلا عناية بوجهين، أحدهما: موارد الاستعمالات، و الآخر: عدم الإلزام بمفهوم الجملة الشرطية في مقام المخاصمات، و لو كان لها مفهوم لم يكن لعدم الإلزام المزبور وجه، لأن المفهوم كالمنطوق حجة، فإنكار المفهوم مخالف للحجة، فلا يقبل إذ مخالفة الحجة غير مقبولة.

(2) أي: عدم صحة الجواب بنفي المفهوم لو كان لكلامه ظهور في المفهوم، فصحته تدل على عدم ظهور الكلام في المفهوم عند أبناء المحاورة.

(3) إشارة إلى دليل آخر أمكن الاستدلال به للقول بالمفهوم، و هو الانصراف.

ص: 151

أفرادها و هو اللزوم بين العلة المنحصرة و معلولها ففاسدة (1) جدا، لعدم كون الأكملية موجبة للانصراف إلى الأكمل، لا سيما مع كثرة الاستعمال في غيره، كما لا يكاد يخفى.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن اللزوم بين الشرط و الجزاء على أقسام:

=============

1 - أدنى 2 - أوسط 3 - أعلى و أكمل.

فالأول: هو اللزوم الاتفاقي، كما بين نطق الإنسان و نهق الحمار في نحو: «إن كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا».

و الثاني: هو اللزوم على نحو الترتب على العلة غير المنحصرة، كما بين طلوع الشمس و ضياء العالم في مثل: «إن كانت الشمس طالعة فالعالم مضيء».

و الثالث: هو اللزوم على نحو الترتب على العلة المنحصرة، كما بين طلوع الشمس و وجود النهار في مثل: «إن كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا».

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن إطلاق العلاقة اللزومية - التي تدل عليها القضية الشرطية - منصرف إلى القسم الثالث، لأن الشيء إذا ذكر مطلقا ينصرف إلى الفرد الكامل، فالأكملية توجب انصراف اللزوم إلى خصوص اللزوم الحاصل بين العلة المنحصرة و معلولها، و من المعلوم: أن العلة المنحصرة تستتبع الانتفاء عند الانتفاء، الذي يتقوم به المفهوم.

و كيف كان؛ فثبت المفهوم للجملة الشرطية لأجل اللزوم بينهما على نحو الترتب على العلة المنحصرة. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال للقول بالمفهوم.

(1) أي: «و أما دعوى الدلالة...» إلخ ففاسدة جدا. و حاصل ما أفاده المصنف في فسادها وجوه:

1 - أن الموجب للانصراف المفيد للإطلاق هو أنس اللفظ بالمعنى الناشئ عن كثرة الاستعمال، دون الأكملية، فإنها لا توجب الانصراف المعتد به. هذا ما أشار إليه بقوله:

«لعدم كون الأكملية موجبة للانصراف..» إلخ.

2 - أن الانصراف المزبور - بعد تسليم كون الأكملية موجبة له - ممنوع في خصوص المقام، إذ يعتبر في الانصراف أن يكون الفرد المنصرف إليه هو الغالب من حيث الاستعمال، و هو مفقود في محل الكلام، إذ ليس الاستعمال في الفرد الأكمل أغلب من غيره و هو العلة الغير المنحصرة.

3 - منع أكملية اللزوم الثابت بين العلة المنحصرة و معلولها من اللزوم الثابت بين العلة

ص: 152

هذا مضافا إلى منع كون اللزوم بينهما أكمل مما إذا لم تكن العلة بمنحصرة، فإن الانحصار لا يوجب (1) أن يكون ذاك الربط الخاص الذي لا بد منه في تأثير العلة في معلولها آكد و أقوى.

الغير المنحصرة و معلولها، هذا ما أشار إليه بقوله: «مضافا إلى منع كون اللزوم بينهما» أي: بين العلة المنحصرة و معلولها «أكمل مما إذا لم تكن العلة بمنحصرة».

=============

توضيح ذلك: على - ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 319» -: أن العلة المنحصرة عبارة عن السبب المجامع مع الشرط و عدم المانع مع عدم سبب آخر، و من المقرر في محله: تفاوت دخل أجزاء العلة في ترتب المعلول عليها، ففي السبب خصوصية تقتضي وجود المعلول، و ليست هذه الخصوصية في غير السبب، و الشرط و عدم المانع دخيلان في تأثير السبب، و إلا فوجود المعلول يستند إليه لا إلى سائر أجزاء العلة، و تلك الخصوصية مقدمة لسببية السبب سواء وجد معه سائر أجزاء العلة أم لا، و سواء كان هناك سبب آخر أم لا. فليس انحصار العلة من الذاتيات المنوّعة للسبب، و لا من الصفات اللازمة له - كالضحك للإنسان - بل ينتزع الانحصار و عدمه من وجود سبب آخر و عدمه، فليس الانحصار موجبا لأكملية الخصوصية التي يتقوم بها السبب و يستند إليها المسبب، بل إن تحققت في المسبب أثر السبب آثره في وجود المعلول سواء كان منحصرا أم لا، و إن لم تتحقق فيه: فلا يؤثر في وجوده أصلا، بل الانحصار أجنبي عن سببية السبب.

ثم إن الأولى تقديم هذا الوجه على الوجه الأول بأن يقال: أما أولا: فلا أكملية، و أما ثانيا: فبعد تسليمها لا توجب الانصراف فيرجع جواب المصنف عن الدعوى المذكورة إلى منعها صغرى و كبرى.

أما صغرى: فلعدم كون العلاقة بين العلة المنحصرة و معلولها آكد و أقوى من العلاقة بين العلة الغير المنحصرة و معلولها، لما عرفت: من أن الانحصار ينتزع من عدم سبب آخر، لا عن نفس الخصوصية المقوّمة للسبب حتى يكون اللزوم بين العلة المنحصرة و معلولها أكمل من اللزوم بين العلة الغير المنحصرة و معلولها.

و أما كبرى: فلعدم كون الأكملية موجبة للانصراف، سيما مع كثرة الاستعمال في غير الأكمل أيضا، كما في المقام، ضرورة: كثرة استعمال الجملة الشرطية في غير العلة المنحصرة لو لم يكن بأكثر.

(1) أي: الانحصار لا يوجب أن يكون الربط بين العلة المنحصرة و معلولها آكد و أقوى من الربط بين العلة الغير المنحصرة و معلولها، بل يمكن ادعاء: إن اللزوم لا يتصف بالكمال و النقص أصلا.

ص: 153

إن قلت: نعم (1)، و لكنه قضية الإطلاق بمقدمات الحكمة، كما أن قضية إطلاق صيغة الأمر هو الوجوب النفسي.

قلت: أولا: هذا (2) فيما تمت هناك مقدمات الحكمة، و لا تكاد تتم فيما هو مفاد

=============

الاستدلال على مفهوم الشرط بمقدمات الحكمة و الجواب عنه

(1) هذا إشارة إلى الاستدلال لإثبات المفهوم بطريق آخر، و هو: التمسك بالإطلاق.

و حاصل الاستدلال: أن ما تقدم من عدم دلالة الجملة الشرطية بالوضع على انحصار العلة في الشرط و إن كان صحيحا، إلا إن مقتضى مقدمات الحكمة هو الانحصار، نظير صيغة الأمر حيث إن مقتضى إطلاقها - ببركة مقدمات الحكمة - هو كون الوجوب نفسيا عينيا تعيينيا لا غيريا كفائيا تخييريا، فكذلك في المقام مقتضى إطلاق العلاقة اللزومية ببركة مقدمات الحكمة كونها على نحو العلة المنحصرة لا غيرها، بتقريب: أنه لو كان للشرط المذكور عدل لكان على المتكلم بيانه بأن يقول - بدل «إن جاءك زيد فأكرمه»: «إن جاءك زيد أو أرسل كتابا فأكرمه»، فعدم بيان العدل - مع كونه في مقام البيان - يقتضي كون الشرط علة منحصرة، فيستفاد المفهوم حينئذ من الإطلاق، كما يستفاد من إطلاق صيغة الأمر كون الوجوب نفسيا، لأن الوجوب الغيري يحتاج إلى مئونة بيان، إذ كون الوجوب للغير يكون قيدا زائدا، فلا بد من بيانه بعد فرض كون المتكلم في مقام البيان.

و المتحصل: أن مقدمات الحكمة تقتضي انحصار العلة الذي يترتب عليه المفهوم.

(2) أي: التمسك بالإطلاق لإثبات انحصار العلة في الشرط إنما يصح «فيما تمت هناك مقدمات الحكمة».

و حاصل الكلام في المقام: أن المصنف قد أجاب عن الاستدلال المذكور لإثبات المفهوم بوجهين:

الأول: عدم جريان مقدمات الحكمة في المقام، توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن مقدمات الحكمة إنما تجري فيما يكون قابلا للإطلاق، و لا ينعقد الإطلاق في معنى أدوات الشرط لأنها حروف، و قد ثبت في محله: أن المعنى الحرفي جزئي غير قابل للتقييد، فما يدل على الخصوصية المستتبعة للمفهوم هو «إن» الشرطية مثلا غير قابلة للتقييد، فلا ينعقد الإطلاق، لأن التقابل بين الإطلاق و التقييد - على ما سيأتي إن شاء الله - هو تقابل العدم و الملكة، فالإطلاق دائما يمتنع بامتناع التقييد، فمورد مقدمات الحكمة حينئذ هو: المعنى القابل للإطلاق و التقييد، فينحصر موردها في المعاني الاسمية، لأنها قابلة للإطلاق و التقييد.

ص: 154

الحرف، كما هاهنا، و إلا (1) لما كان معنى حرفيا كما يظهر وجهه بالتأمل.

و ثانيا: تعينه (2) من بين أنحائه بالإطلاق المسوق في مقام البيان بلا معيّن، و مقايسته (3) مع تعين الوجوب النفسي بإطلاق صيغة الأمر مع الفارق، فإن النفسي

=============

(1) أي: و إن تمت مقدمات الحكمة، و جرت في المعنى الحرفي لما كان معنى حرفيا، و انقلب إلى المعنى الاسمي، إذ مورد مقدمات الحكمة هو المعنى الملحوظ استقلالا، لأن جريانها يستدعي لحاظ المعنى الذي تجري فيها مستقلا حتى يحكم عليه بالإطلاق، و لحاظ الاستقلالية ينافي لحاظ الآلية المقوّمة للمعنى الحرفي.

(2) أي: تعين اللزوم بين العلة المنحصرة و معلولها من بين أنحاء اللزوم بالإطلاق بلا معيّن،

و هذا هو الوجه الثاني الذي أجاب به المصنف عن إثبات المفهوم بمقدمات الحكمة، و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية ج 3، ص 322» -: أنه بعد تسليم جريانها في المعنى الحرفي، و الإغماض عن الجواب الأول لا يمكن أيضا تعيين العلة المنحصرة بمقدمات الحكمة، و ذلك لأن للعلة المنحصرة خصوصية في مقابل الخصوصيات الأخر، و فرد للعلة المطلقة التي نسبتها إلى أفرادها نسبة واحدة. فإثبات إحدى الخصوصيات بالإطلاق الذي نسبته إلى جميع هذه الخصوصيات على حد سواء تعيين لأحد الأفراد المتساوية بلا معيّن، و ذلك لتساوي العلة المطلقة بالنسبة إلى جميع أفرادها من العلة المنحصرة و غيرها.

(3) أي قياس تعين العلة المنحصرة بتعيين الوجوب النفسي بإطلاق صيغة الأمر قياس مع الفارق، فيكون باطلا بالإجماع. فقوله: «و مقايسته» ناظر إلى قوله: «كما أن قضية إطلاق صيغة الأمر هو الوجوب النفسي».

و حاصل الفرق: أن الوجوب النفسي وجوب مطلق، بمعنى: أن النفسي واجب مطلقا أي: سواء كان هناك واجب آخر أم لا. فلا مانع من تعيينه بالإطلاق، هذا بخلاف الوجوب الغيري، فإنه مشروط بوجوب الغير، فيحتاج إلى مئونة زائدة مثل: «إذا وجبت الصلاة عليك فتوضأ».

أما العلة المنحصرة فليست كالوجوب النفسي، لما عرفت من أنها خصوصية في مقابل الخصوصيات الأخر - يعني: أنها فرد متساوي لسائر أفرادها - و نسبة الإطلاق إلى جميع الخصوصيات واحدة من دون مرجح لخصوص العلة المنحصرة، فلا يمكن إثباتها بالإطلاق، فالفرق بينها و بين الوجوب النفسي ظاهر، و قد أشار إليه بقوله: «فإن الوجوب النفسي هو الواجب على كل حال». فنتيجة الفرق: أنه لا مانع من إثبات الوجوب

ص: 155

هو الواجب على كل حال، بخلاف الغيري فإنه واجب على تقدير دون تقدير، فيحتاج بيانه إلى مئونة التقييد بما إذا وجب الغير، فيكون الإطلاق في الصيغة مع مقدمات الحكمة محمولا عليه (1)، و هذا بخلاف اللزوم و الترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة، ضرورة: أن كل واحد من أنحاء اللزوم و الترتب محتاج في تعينه إلى القرينة مثل الآخر بلا تفاوت أصلا، كما لا يخفى.

ثم إنه ربما يتمسك للدلالة على المفهوم بإطلاق الشرط (2) بتقريب: أنه لو لم يكن النفسي بإطلاق صيغة الأمر، هذا بخلاف اللزوم و الترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة في المقام، إذ الإطلاق لا يقتضي كون العلة منحصرة حتى يحمل الإطلاق عليه.

=============

و المتحصل: أن الظاهر من الجملة الشرطية هو: مطلق اللزوم و الترتب، الأعم من كونه على العلة المنحصرة و غير المنحصرة، و الإطلاق ظاهر في الجامع، فكل منهما بالخصوص يحتاج إلى قرينة معينة بلا تفاوت بين العلة المنحصرة و غيرها.

(1) أي: على الوجوب النفسي.

(2) هذا إشارة إلى التقريب الثاني من التمسك بالإطلاق للقول بالمفهوم.

و حاصل الكلام: أن المصنف لمّا فرغ من بيان دعوى تبادر اللزوم، و دعوى الانصراف، و مقتضى الإطلاق بمقدمات الحكمة لإثبات المفهوم أخذ بالاستدلال الرابع - و هو التقريب الثاني من التمسك بالإطلاق - و قال: إن مقتضى إطلاق الشرط في مثل:

«إن جاءك زيد فأكرمه» هو علية الشرط - أعني: المجيء وحده - لوجوب الإكرام، و هذا يستلزم الانتفاء عند الانتفاء، لأنه لو لم يكن شرط وجوب الإكرام منحصرا في المجيء لما كان هذا الشرط علة و سببا للجزاء، بل العلة و السبب هو مع غيره، فكان على المولى بيانه و تقييده بذلك الغير.

و الحال: أن إطلاق الشرط يقتضي كونه علة منحصرة لوجوب الإكرام، و الفرق بين الوجه الثالث و هذا الوجه الرابع هو: أن مصب الإطلاق في الوجه الثالث كان في معنى أدوات الشرط مثل: «إن و إذا» و غيرهما، و مصبه هنا كان في نفس الشرط، كالمجيء في المثال المتقدم، فهذا الإطلاق إطلاق أحوالي للشرط بتقريب: أن المقدم إن كان علة منحصرة صح أن يقال: كلما تحقق المقدم ترتب عليه التالي، و إن لم يكن كذلك لم يصح ذلك، ففي المثال المذكور: إن لم يكن شرط وجوب الإكرام منحصرا في المجيء، بل كان له شرط آخر كالسلام كان الجامع بين الشرطين هو المؤثر في وجود التالي، مع إن إطلاق الشرط - أعني: المجيء - من حيث الأحوال يقتضي أن يكون في

ص: 156

بمنحصر يلزم تقييده، ضرورة: أنه لو قارنه أو سبقه الآخر لما أثر وحده، و قضية إطلاقه أنه يؤثر كذلك مطلقا (1).

و فيه (2): إنه لا تكاد تنكر الدلالة على المفهوم مع إطلاقه كذلك، إلا إنه من المعلوم ندرة تحققه لو لم نقل بعدم اتفاقه.

حال انفراده و عدم انضمامه إلى غيره مؤثرا، كما أشار إليه بقوله: «و قضية إطلاقه أنه يؤثر كذلك مطلقا» أي: مقتضى إطلاق الشرط تأثيره وحده، سواء كان قبله أو بعده أو معه شيء آخر أم لا. فلو لم يكن هذا الإطلاق مرادا للمتكلم لكان عليه البيان و التنبيه على خلافه.

=============

(1) أي: سواء كان قبله أو بعده أو معه شيء آخر أم لا.

و المتحصل: أن إطلاق الشرط من حيث الأحوال دليل على حصر وجوب الإكرام في المثال المتقدم على المجيء، فينتفي بانتفائه، فهذا الوجه أيضا من القرائن العامة على ثبوت المفهوم.

(2) أجاب المصنف عن هذا الاستدلال بقوله: «و فيه: إنه لا تكاد تنكر الدلالة على المفهوم»، و هو الانتفاء عند الانتفاء، لأن الإطلاق - بالمعنى المزبور - لو تم لدل على المفهوم قطعا، لكن الكلام في تماميته.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن إطلاق الشرط - كالمجيء في المثال المذكور - يتصور على وجهين:

أحدهما: الإطلاق في مقام حدود العلة، فيرجع إليه عند الشك و التردد في أنها واحدة أو أكثر، و يسمى بالإطلاق الأحوالي و المقامي.

و ثانيهما: الإطلاق في مقام بيان أنه علة تامة أو بعض العلة، بحيث يحتاج إلى انضمام أمر آخر متقدما أو مقارنا، و يسمى بالإطلاق اللفظي، كإطلاق الرقبة في «أعتق رقبة».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الإطلاق الذي لو تم لدل على المفهوم و ينفع المستدل هو القسم الأول، إلاّ إنه قليل جدا، إذ الغالب كون المتكلم في مقام الحاجة إلى الضميمة و عدمها، لا في مقام حصر العلة و عدمه، لأن إحراز المتكلم في مقام بيان انحصار الشرط و ترتب الجزاء عليه فقط مشكل جدا، إذ الظاهر أنه في مقام كون الجزاء مترتبا على الشرط من دون بيان كون الترتب عليه بنحو الترتب على العلة المنحصرة.

و المتحصل: أنه لو فرض في مورد تمامية الإطلاق فلا مجال لإنكار المفهوم فيه.

ص: 157

فتلخص (1) بما ذكرناه: أنه لم ينهض دليل على وضع مثل «إن» على تلك الخصوصية المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء، و لم تقم عليها قرينة عامة. أما قيامها أحيانا كانت مقدمات الحكمة أو غيرها مما لا يكاد ينكر، فلا يجدي القائل بالمفهوم أنه قضية الإطلاق في مقام من باب الاتفاق.

و أما توهم (2): أنه قضية إطلاق الشرط، بتقريب: أن مقتضاه تعينه، كما أن مقتضى إطلاق الأمر تعين الوجوب.

=============

(1) أي: فتلخص مما ذكرناه من ردّ أدلة إثبات المفهوم للجملة الشرطية: أنه لم يقم دليل متين على وضع أدوات الشرط مثل: «إن» و «لو» الشرطيتين و غيرهما للخصوصية المستلزمة لانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط، إذ هي وضعت لمطلق السببية و اللزوم، لا لخصوص السببية المنحصرة، و لم تقم على العلة المنحصرة قرينة عامة و مقدمات الحكمة و الانصراف من إطلاقها إلى الفرد الكامل و هو ترتب الجزاء على الشرط، على نحو الترتب على العلة المنحصرة منتف جدا.

أما قيام القرينة العامة أحيانا سواء كانت مقدمات الحكمة أم غيرها كالانصراف: و إن كان غير قابل للإنكار، و لكنه لا يجدي في إثبات المفهوم في جميع القضايا الشرطية كما هو المدعى، لأن المثبت للمفهوم كذلك إما وضع أدوات الشرط للعلة المنحصرة المستتبعة للمفهوم، و إما القرينة العامة بأنحائها - الثلاثة من الانصراف، و الإطلاق الناشئ من جريان مقدمات الحكمة في نفس أدوات الشرط، و إن كانت موضوعة لمطلق الربط بين الشرط و الجزاء، و الإطلاق الجاري في حالات الشرط - فهي غير موجودة في جميع الموارد، و وجودها في بعض الموارد غير مفيد لإثبات ما هو المقصود في المقام.

و المتحصل: أن قيام القرينة العامة النادرة أحيانا في بعض الموارد لا ينفع بحال القائل بالمفهوم في جميع موارد استعمال الجملة الشرطية، لأنه من الأصولي، و الأصولي يبحث عن المسائل الأصولية على نحو الكلي الجاري في جميع الموارد.

(2) أي: هذا أيضا تمسك بإطلاق الشرط لإثبات تعينه في العلية و التأثير، و نفي العدل عنه كما أشار إليه بقوله: «أن مقتضاه تعينه» أي: مقتضى الإطلاق تعين الشرط في التأثير، و لازم تعينه هو الانتفاء عند الانتفاء، فالتمسك بإطلاق الشرط لإثبات تعينه في التأثير و نفي العدل نظير التمسك بإطلاق صيغة الأمر لإثبات الوجوب التعييني و نفي العدل عنه.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الإطلاق في المقام يمكن أن يكون نافيا للانضمام الذي يقتضيه العطف بالواو، و يعبر عنه بالإطلاق الواوي أي: لو كان شيء

ص: 158

ففيه: أن التعين ليس في الشرط نحوا يغاير نحوه فيما إذا كان متعددا، كما كان في الوجوب كذلك، و كان الوجوب في كل منهما متعلقا بالواجب بنحو آخر لا بد في التخييري منهما من العدل، و هذا بخلاف الشرط فإنه - واحدا كان أو متعددا - دخيلا في تأثير الشرط لكان معطوفا عليه بالواو مثل: «إن جاءك زيد و حفظ درسه فأكرمه».

=============

و يمكن أن يكون الإطلاق نافيا للعدل الذي يقتضيه العطف ب «أو» و يعبر عنه بالإطلاق الأوي. أي: لو كان شيء آخر أيضا علّة لتحقق الجزاء لكان معطوفا على الشرط ب «أو» نحو: «إن جاءك زيد أو سلم عليك فأكرمه». و الفرق بين الإطلاق هنا و الإطلاق السابق الذي تقدم في قوله: «ربما يتمسك..» إلخ هو: أن الإطلاق السابق انضمامي، و الإطلاق هنا عدلي، فيكون مثبتا لتعين الشرط في العلية و المؤثرية، و نافيا لوجود عدل للشرط، نظير إطلاق صيغة الأمر في كونه معينا للوجوب التعييني، فإن الوجوب التخييري و إن كان من أقسام الوجوب إلا إنه محتاج إلى بيان زائد على أصل الوجوب، كأن يقول: «صم أو أطعم». فالإطلاق في المقام كإطلاق صيغة الأمر مثبت للتعيين و الانحصار، و ناف للعدل.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن مقتضى الإطلاق هو: عدم وجود عدل للشرط مؤثر وحده في تحقق الجزاء، و لو كان لعطفه المتكلم ب «أو» و يقول: «إن جاءك زيد أو سلم عليك فأكرمه»، فمن الإطلاق و عدم العطف نستكشف كون الشرط علة منحصرة للجزاء. غاية الأمر: أن الإطلاق العدلي مترتب على الإطلاق الانضمامي بمعنى: أن الإطلاق الانضمامي ينفي الانضمام و يثبت الاستقلال في العلية. و هذا الإطلاق ينفي العدل و يثبت بأن العلة المستقلة واحدة، و ليس له عدل أصلا.

و حاصل ما أفاده المصنف في الجواب عن هذا التوهم هو: فساد قياس العلة المنحصرة بالوجوب التعييني، لكونه مع الفارق.

و حاصل الفرق: أن الوجوب التعييني مغاير للوجوب التخييري ثبوتا و إثباتا. أما مغايرتهما ثبوتا: فلأن مصلحة الوجوب التعييني غير مصلحة الوجوب التخييري، حيث إن المصلحة في الوجوب التعييني قائمة بنفس الواجب، و في الوجوب التخييري قائمة بالجامع بين الأمرين مثل: «صم أو أعتق»، أو قائمة بكل منهما مع عدم إمكان الجمع بين المصلحتين، لسقوط الوجوب بإتيان أحد الشيئين اللذين تقوم بهما المصلحتان.

و أما مغايرتهما إثباتا: فلاحتياج الوجوب التخييري إلى بيان العدل بمثل كلمة «أو»

ص: 159

كان نحوه واحدا. و دخله (1) في المشروط بنحو واحد لا تتفاوت الحال فيه ثبوتا كي تتفاوت عند الإطلاق إثباتا، و كان الإطلاق مثبتا لنحو لا يكون له عدل لاحتياج (2) كأن يقول: «صم أو أعتق» بخلاف التعييني فإنه لا يحتاج إلى بيان زائد على بيان أصل الوجوب مثل: «صل»، و لما كان الإطلاق أمرا عدميا، فمقتضاه: عدم جعل العدل، و ليس الوجوب التعييني إلا ذلك و هذا بخلاف العلة المنحصرة و غيرها، فإنه لا تفاوت بينهما في التأثير في المعلول، لأن صفة الشرطية منتزعة عن خصوصية ذاتية محضة، و الذاتيات لا تقبل التخيير، لأنها لا تتخلف، فالشرطية قائمة بالشرط الواحد، و المتعدد على وزان واحد، لا أنها قائمة بالمتعدد تخييرا، و بالواحد تعيينا حتى يكون الإطلاق مقتضيا للثاني، كإطلاق صيغة الأمر.

=============

و كيف كان؛ فاتضح فساد قياس العلة المنحصرة و غيرها بالوجوب التعييني و التخييري بعد ما ذكرناه من الفرق.

و المتحصل: أنه ليست الشرطية في الشرط المتحد مغايرة للشرطية في الشرط المتعدد، بل كلتاهما على نحو واحد كما أشار إليه بقوله: «و ليس في الشرط نحوا يغاير نحوه»، كما كان في الوجوب كذلك أي: نحوا مغايرا، و كان الوجوب في كل من الواجب التعييني و التخييري متعلقا بالواجب بنحو يغاير تعلق الوجوب بالواجب بنحو آخر، بمعنى: أنه لا بد في الوجوب التخييري منهما من العدل، دون الوجوب التعييني، فإن الوجوب فيه يتعلق بالواجب بغير عدل.

(1) أي: و دخل الشرط في المشروط بنحو واحد لا تتفاوت الحال في النحو الواحد.

أو المتعدد ثبوتا، فلا تتفاوت الحال إثباتا أيضا لتفرع الإثبات على الثبوت و تبعيته له، فلا يكون للشرطية سنخان كالوجوب كي يكون أحدهما موافقا للإطلاق أي: ما لا يكون له العدل كالوجوب التعييني يثبت بالإطلاق، إذ فرق واضح بين الوجوب التعييني و التخييري، و بين الشرط الواحد و المتعدد، إذ الأولان سنخان متغايران من الوجوب ثبوتا و إثباتا.

و لذا يمكن إثبات التعيينية بالإطلاق دون الأخيرين، لكون الشرطية فيهما بنحو واحد ثبوتا و إثباتا، بحيث يكون الإطلاق بالنسبة إليهما على حد سواء. فلا يمكن إثبات العلة المنحصرة بإطلاق الشرط، و يمكن إثبات الوجوب التعييني بإطلاق صيغة الأمر، فقياس الشرط بإطلاق صيغة الأمر يكون قياسا مع الفارق.

(2) تعليل لإثبات الإطلاق للوجوب التعييني. و حاصله: أن ما له العدل - كالوجوب التخييري - محتاج إلى زيادة مئونة ثبوتا و إثباتا على أصل الوجوب، و من المعلوم: أن

ص: 160

ما له العدل إلى زيادة مئونة، و هو ذكره بمثل: أو كذا، و احتياج ما إذا كان الشرط متعددا إلى ذلك إنما يكون لبيان التعدد، لا لبيان نحو الشرطية، فنسبة إطلاق الشرط إليه لا تختلف، كان هناك شرط آخر أم لا، حيث (1) كان مسوقا لبيان شرطيته بلا مقتضى الإطلاق هو عدم التقييد، و العدل قيد للوجوب التخييري و الإطلاق ينفيه، فيثبت به كون الوجوب تعيينيا.

=============

قوله: «و احتياج» إشارة إلى توهم و هو: أن حال العلة المنحصرة و غيرها حال الوجوب التعييني و التخييري في احتياج كليهما إلى البيان، فإن كان الشرط منحصرا لم يحتج إلى العدل، و كان مطلقا، كقوله: «إن سافرت فقصّر الصلاة»، كعدم احتياج الوجوب التعييني إلى البيان، و كفاية الإطلاق في إثباته.

و إن لم يكن منحصرا: احتاج إلى بيان العدل، كقوله: «إن سافرت أو خفت على نفسك فأفطر الصوم»، كاحتياج الوجوب التخييري إلى بيان العدل، فبيان العدل يكشف عن اختلاف الشرطية في الشرط المنحصر و غيره سنخا، كاختلاف الوجوب التعييني و التخييري كذلك.

و قد أجاب المصنف عن هذا التوهم بقوله: «إنما يكون لبيان التعدد، لا لبيان نحو الشرطية».

و حاصل هذا الجواب: أن بيان تعدد الشرط في مورده إنما يكون لبيان أن للجزاء شرطين يكون كل منهما بالاستقلال مؤثرا تاما مع كون الشرطية في كل منهما على نهج واحد، من دون تفاوت بينهما في التأثير، فكل منهما شرط مطلق من غير تقييد في شرطية كل منهما بالآخر. هذا بخلاف الوجوب التخييري، حيث إنه مقيد إثباتا ببيان العدل، كتقييده ثبوتا بسبب المصلحة كما تقدم، فبيان العدل في الوجوب التخييري ينافي الإطلاق، بخلاف ذكر العدل في الجملة الشرطية كالمثال: «إذا سافرت أو خفت على نفسك فأفطر الصوم». فإفطار الصوم لا ينافي إطلاق شرطية السفر للإفطار، فإطلاق الشرطية يصدق على كل من الشرطين بوزان واحد، بخلاف الوجوب، فإن التخييري منه ينافي إطلاق الوجوب، إذ لا يصدق عليه إلا الوجوب المقيد بالعدل، فالنتيجة - كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 333» -: أن بيان العدل في الجملة الشرطية لا ينافي الإطلاق أي إطلاق الشرطية و المؤثرية بخلاف بيان العدل في الوجوب التخييري، فإنه ينافي الوجوب ثبوتا و إثباتا.

(1) تعليل لقوله: «لا تختلف» يعني: لمّا كان كل من الشرط المنحصر و غيره تاما في شرطيته كان الإطلاق بالنسبة إلى كل منهما على حد سواء، و لذا لا يكون عدم ذكر

ص: 161

إهمال و لا إجمال. بخلاف إطلاق الأمر، فإنه لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني، فلا محالة يكون في مقام الإهمال أو الإجمال، تأمل تعرف.

هذا، مع إنه لو سلم (1) لا يجدي القائل بالمفهوم، لما عرفت: أنه لا يكاد ينكر فيما إذا كان مفاد الإطلاق من باب الاتفاق.

ثم إنه ربما استدل المنكرون للمفهوم بوجوه:

=============

الشرط الآخر - على تقدير وجوده واقعا - مخلا بالإطلاق، و لا موجبا للإهمال، بل يكون الشرط المذكور في الكلام مؤثرا تاما. بخلاف إطلاق الوجوب، فإنه لو لم يكن في مقام الوجوب التعييني كان الكلام مهملا، و لا يستفاد منه خصوص التعييني و لا التخييري.

و المتحصل: أنه إذا قال المولى: «إن سافرت فأفطر الصوم»، و لم يذكر موجبا آخر للإفطار - أعني الخوف على النفس - كان هذا الإطلاق صحيحا، إذ مقتضاه كون السفر علة للإفطار مطلقا، بمعنى: إنه ليس هناك بعض أفراد السفر غير موجب للإفطار. و هذا الإطلاق لا ينافي إيجاب الخوف على النفس للإفطار أيضا، إذ شرطية الشرط موجودة حتى في صورة التعدد، و لا تتفاوت شرطية الشرط حين الوحدة مع شرطيته حين التعدد.

و هذا بخلاف الوجوب، فإن المولى إذا كان في مقام البيان لا بد له أن يبين العدل - لو كان - فلو قال: «أطعم» مطلقا فيما كان الواجب أحد الأمرين - الصيام أو الإطعام - فلا بد و أن يكون في مقام الإهمال، إذ وجود العدل ينافي وجود الإطلاق مطلقا.

و بالجملة: أن إطلاق الشرط لا ينافي وجود شرط آخر، و إطلاق الواجب ينافي وجود العدل. فإطلاق الشرط لا يدل على عدم شرط آخر حتى يدل على المفهوم، بخلاف الواجب فإن إطلاقه يدل على عدم واجب آخر الموجب لكون الواجب تعيينيا.

قوله: «فتأمل تعرف» إشارة إلى دقة النظر حتى يعرف حال قياس إطلاق الشرط بإطلاق صيغة الأمر بأنه قياس مع الفارق، إذ لا يمكن إثبات كون الشرط علة منحصرة للجزاء بسبب الإطلاق، كما يمكن إثبات كون الواجب تعيينيا من جهة إطلاق صيغة الأمر.

(1) أي: لو سلم كون الشرطية مختلفة بحسب السنخ كاختلاف الوجوب سنخا، و قيل: بأن إطلاق الشرط يكون مثبتا للشرطية المنحصرة، كإثبات الإطلاق للوجوب التعييني كان هذا المقدار غير مجد للقائل بالمفهوم، لكون هذا الإطلاق نادرا، و اتفاقيا لعدم كونه بمقتضى الوضع أو القرينة العامة، كما يدعيه القائل بالمفهوم، و قد عرفت سابقا: أن إطلاق الشرط قد يكون لبيان كون الشرط علة منحصرة للجزاء.

ص: 162

أحدها (1):

ما عزي إلى السيد من أن تأثير الشرط إنما هو تعليق الحكم به، و ليس بممتنع أن يخلفه و ينوب منابه شرط آخر يجري مجراه، و لا يخرج عن كونه (2) شرطا، فإن قوله تعالى (3): وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ (4) يمنع من قبول الشاهد الواحد حتى ينضم إليه شاهد آخر، فانضمام الثاني إلى الأول شرط في القبول، ثم علمنا أن

=============

أدلة المنكرين للمفهوم

أدلة المنكرين للمفهوم(1) أحد الوجوه التي استدل بها المنكرون للمفهوم: ما نسب إلى السيد المرتضى «قدس سره»(1)، و حاصل هذا الوجه: أن فائدة الشرط هو تعليق الحكم به كتعليق وجوب الإكرام بالمجيء في نحو: «إن جاءك زيد فأكرمه»، فمعنى كون المجيء شرطا لوجوب الإكرام هو: توقف الحكم بوجوب الإكرام على وجود المجيء و لا يدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، إذ من الممكن أن يقوم شرط آخر مقام هذا الشرط، فلا ينتفي المشروط عند انتفاء الشرط المذكور في القضية، لأنه ليس بممتنع أن يكون للحكم في الجزاء شروط متعددة ينوب بعضها عن بعض، و لا يخرج الشرط الأول عن كونه شرطا حين نابه شرط آخر، فالنتيجة: إن تعليق الحكم بالشرط لا يدل على المفهوم الذي هو الانتفاء عند الانتفاء، إذ يمكن أن يخلفه شرط آخر، و الأمثلة لذلك كثيرة شرعا و عقلا و شرعا و عرفا.(2) أي: لا يخرج الشرط الأول عن كونه شرطا، و عدم الخروج يكشف عن عدم كونه علة منحصرة حتى يدل على المفهوم.

(3) سورة البقرة، آية 282.

(4) هو من أمثلة قيام شرط آخر مقام الشرط الأول شرعا، لأن المستفاد من قوله تعالى هو: تعليق الحكم أعني: قبول قول الشاهد الواحد بانضمام شاهد آخر إليه، فانضمام الشاهد الثاني إلى الشاهد الأول شرط في قبول الشاهد الأول. ثم علمنا من جملة أخرى في الآية - و هي قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتٰانِ (2)- أن ضم امرأتين إلى الشاهد الأول شرط في القبول أيضا، ثم علمنا من الرواية: أن ضم يمين المدعي يقوم مقام الثاني، فقيام بعض الشروط مقام بعضها مما لا إشكال فيه، فحينئذ

ص: 163


1- الذريعة إلى أصول الشريعة، ق 1، ص 406.
2- البقرة: 282.

ضم امرأتين إلى الشاهد الأول شرط في القبول، ثم علمنا أن ضم اليمين يقوم مقامه أيضا، فنيابة بعض الشرط عن بعض أكثر من أن تحصى، مثل الحرارة، فإن انتفاء الشمس لا يلزم منه انتفاء الحرارة لاحتمال قيام النار مقامها، و الأمثلة لذلك كثيرة شرعا و عقلا.

و الجواب (1):

أنه «قدس سره» إن كان بصدد إثبات إمكان نيابة بعض الشروط عن بعض في لا ينتفي الجزاء عند انتفاء الشرط لقيام آخر مقامه، و هذا دليل على عدم كون الشرط علة منحصرة حتى يدل على الانتفاء عند الانتفاء.

=============

و كيف كان، فنيابة بعض الشروط عن بعض كثيرة شرعا و عقلا و عرفا. أما شرعا:

فكنيابة غسل الجنابة و التيمم عن الوضوء و أما عقلا: فكنيابة شق البطن عن قطع الرأس، إذ كلاهما شرط عقلي لزهوق الروح.

أما عادة فكنيابة الدرج عن السلم في الصعود إلى السطح. ثم إن المراد بالشرط في الآية المباركة هو جملة: إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى (1) فمعنى الآية «إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاستشهدوا شهيدين من رجالكم».

فالحاصل: إنه مع قيام بعض الشروط مقام بعض لا ينتفي المشروط عند انتفاء الشرط حتى يقال: بأن الشرط يدل على الانتفاء عند الانتفاء.

(1) توضيحه: يتوقف على مقدمة و هي: أن إمكان نيابة بعض الشروط عن بعض تارة: يكون بحسب مقام الثبوت و في الواقع. و أخرى: بحسب مقام الإثبات و دلالة القضية الشرطية عليه.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن مراد السيد المرتضى «قدس سره» بإمكان نيابة بعض الشروط عن بعض: إن كان إمكانها بحسب مقام الثبوت فهو غير قابل للإنكار، و لا ينكره المدعي للمفهوم، و إنما يدعي دلالة القضية الشرطية على عدم وقوع هذا الممكن الذاتي في مقام الإثبات. و من البديهي: إن مجرد إمكان قيام بعض الشروط مقام بعض في القضية الشرطية لا ينفي المفهوم بعد دلالة القضية على عدم قيامه مقامه في مقام الإثبات.

و أما إن كان مراده: احتمال وقوع شرط مقام الشرط المذكور في القضية الشرطية في

ص: 164


1- البقرة: 282.

مقام الثبوت، و في الواقع: فهو مما لا يكاد ينكر ضرورة: أن الخصم يدعي عدم وقوعه في مقام الإثبات، و دلالة القضية الشرطية عليه و إن كان بصدد إبداء احتمال وقوعه: فمجرد الاحتمال لا يضره ما لم يكن بحسب القواعد اللفظية راجحا أو مساويا (1)، و ليس فيما أفاده ما يثبت ذلك أصلا كما لا يخفى.

ثانيها (2):

أنه لو دل لكان بإحدى الدلالات، و الملازمة - كبطلان التالي - ظاهرة.

مقام الإثبات ففيه: أن مجرّد هذا الاحتمال لا يضر بدعوى القائل بالمفهوم، لأنه يدعي ظهور الجملة الشرطية في الانتفاء عند الانتفاء، و عدم نيابة شرط مقام الشرط المذكور فيها، و من البديهي: أن الاحتمال لا يصادم الظهور و إلا لا يبقى اعتبار للظهور أصلا.

=============

و عليه: فلا مانع عن حجية الظهور في المفهوم و الأخذ به، و عدم الاعتناء بالاحتمال على خلاف الظهور في المفهوم في القضية الشرطية.

(1) أي: لو كان احتمال قيام شرط مقام الشرط المذكور في الجملة الشرطية راجحا أو مساويا للدلالة على المفهوم، لمنع ذلك عن الأخذ بالمفهوم في القضية الشرطية، و لكن ليس في كلام السيد ما يثبت رجحان الاحتمال أو مساواته للدلالة على المفهوم.

(2) و هذا الوجه الثاني - من الوجوه التي استدل بها المنكرون - استدلال بالقياس الاستثنائي على نفي المفهوم للشرط.

و الاستدلال بالقياس الاستثنائي إنما يتم بعد ثبوت أمرين: هما الملازمة و بطلان التالي.

فيقال في تقريب القياس الاستثنائي: أنه لو دل الشرط على المفهوم - الانتفاء عند الانتفاء - لكان بإحدى الدلالات الثلاث أي: المطابقة أو التضمن أو الالتزام، و التالي باطل فالمقدم مثله.

فأما الملازمة بين المقدم و التالي: فظاهرة لانحصار الدلالة اللفظية في الدلالات الثلاث.

و أما بطلان التالي: فلأن الانتفاء عند الانتفاء ليس مدلولا مطابقيا و لا تضمنيا و لا التزاميا للجملة الشرطية، إذ ليس الانتفاء عند الانتفاء تمام الموضوع له، و لا جزؤه لأن الجملة الشرطية موضوعة للثبوت عند الثبوت. و من البديهي: أن بين الثبوت كذلك و الانتفاء عند الانتفاء بون بعيد، و ليس أحدهما عين الآخر كي تكون الدلالة بالمطابقة، و ليس جزؤه حتى تكون تضمنية، فبطلانهما ظاهر.

ص: 165

و قد أجيب عنه: بمنع بطلان التالي (1)، و أن الالتزام ثابت، و قد عرفت (2) بما لا مزيد عليه: ما قيل أو يمكن أن يقال في إثباته أو منعه، فلا تغفل.

ثالثها (3):

قوله تبارك و تعالى: وَ لاٰ تُكْرِهُوا فَتَيٰاتِكُمْ عَلَى اَلْبِغٰاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً (4).

و أما الدلالة الالتزامية: فلأنها مشروطة باللزوم العقلي كما بين العمى و البصر، أو باللزوم العرفي كما بين الحاتم و الجود، و لا ملازمة عقلا و لا عرفا بين الثبوت، و بين الانتفاء عند الانتفاء فإذا فات الشرط فات المشروط، فانتفت الدلالة الالتزامية. هذا معنى بطلان التالي. و بطلان التالي - أعني انتفاء الدلالات الثلاث - ينتج بطلان المقدم، و هو دلالة الشرط على المفهوم بإحدى الدلالات الثلاث.

=============

فالنتيجة هي: عدم دلالة الجملة الشرطية بشيء من الدلالات الثلاث على المفهوم.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا الوجه الثاني على نفي المفهوم.

(1) و حاصل الجواب عن هذا الوجه هو: أن الشرط و إن كان لم يدل على المفهوم بالمطابقة أو التضمن إلا إنه يدل عليه بالالتزام، فالمفهوم مدلول التزامي للقضية الشرطية، إذ لازم الثبوت عند الثبوت هو: الانتفاء عند الانتفاء، و إلا فلا معنى لتعليق حكم الجزاء على الشرط.

(2) أي: عرفت عند أدلة القائل بالمفهوم ما قيل في الدلالة على المفهوم، أو يقال في منع الدلالة عليه أي: الجملة الشرطية لا تدل على الانتفاء عند الانتفاء لا وضعا و لا انصرافا و لا إطلاقا.

تقريب الاستدلال على عدم المفهوم بقوله تعالى: وَ لاٰ تُكْرِهُوا فَتَيٰاتِكُمْ عَلَى اَلْبِغٰاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً 166

(3) تقريب الاستدلال بهذا الوجه الثالث من وجوه المنكرين هو: أن الجملة الشرطية قد استعملت في هذه الآية الشريفة، و لا مفهوم لها، إذ لو كان لها مفهوم لكان المعنى جواز الإكراه على البغاء حين عدم إرادة التحصن، و من المعلوم: حرمة الإكراه على البغاء و الزنا مطلقا أردن التحصن أم لا. فيثبت المدعي و هو عدم دلالة الجملة الشرطية على المفهوم؛ إذ آية القرآن أقوى شاهد على المدعى.

و بعبارة أخرى: أنه لو كان للشرط مفهوم لدل على جواز إكراههن على الزنا إن لم يردن التحصن، مع إنه من الضروري: حرمة إكراههن على البغاء مطلقا من دون فرق بين إرادة التحصن و عدمها، فلا محيص عن إنكار المفهوم و الالتزام بعدم دلالة الجملة الشرطية عليه.

(4) سورة النور آية: 33.

ص: 166

و فيه (1): ما لا يخفى، ضرورة: إن استعمال الجملة الشرطية فيما لا مفهوم له - أحيانا و بالقرينة - لا يكاد ينكر كما في الآية و غيرها.

و إنما القائل به إنما يدعي ظهورها فيما له المفهوم وضعا أو بقرينة عامة كما عرفت (2).

=============

(1) و حاصل ما أجاب به المصنف عن هذا الوجه الثالث: إن عدم دلالة الشرط على المفهوم أحيانا و بالقرينة الخاصة الدالة على عدم المفهوم مما لا يكاد ينكر. و القائل بالمفهوم إنما يدعي دلالة الشرط عليه وضعا أو انصرافا أو إطلاقا بمقدمات الحكمة، و من المعلوم: أن تلك القرينة الخاصة على عدم المفهوم لا تنافي دلالة الشرط عليه بالوضع أو الانصراف أو الإطلاق. هذا ملخص الجواب عن الاستدلال بالآية المباركة.

و أما تفصيل ذلك فيتوقف على مقدمة و هي: أن الشرط على قسمين:

1 - ما يكون شرطا للحكم من دون دخل له في تحقق موضوع الحكم أيضا؛ بحيث إذا انتفى الشرط فالموضوع باق على حاله كما في نحو: «إن جاءك زيد فأكرمه».

2 - ما يكون شرطا للحكم مع دخله في تحقق موضوع الحكم أيضا؛ بحيث إذا انتفى الشرط فلا حكم و لا موضوع للحكم أصلا كما في نحو: «إن رزقت ولدا فاختنه»، و «إن ركب الأمير فخذ ركابه»، و يعبر عن هذا القسم الثاني بالشرطية المسوقة لبيان تحقق الموضوع.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل النزاع بين الأعلام من حيث ثبوت المفهوم و عدمه إنما هو القسم الأول من الشرط، و أما القسم الثاني الذي إذا انتفى الشرط ينتفي موضوع الحكم فهو خارج عن محل البحث و الكلام، لأنه إذا لم يرزق الولد أو لم يركب الأمير فلا ولد كي يجب ختانه أو لم يجب، أو لا ركاب حتى يجب الأخذ به أو لم يجب، و الشرط في الآية من القسم الثاني دون الأول؛ حيث إن الإكراه لا يتحقق إلا على ما لا يريده النفس، ففي الآية المباركة: لا يتحقق الإكراه موضوعا في صورة إرادة البغاء، فإن الفتيات إذا لم يردن التحصن فلا إكراه هناك كي يحرم أو لا يحرم، فوزان الآية الشريفة وزان إن رزقت ولدا فاختنه، فالجملة الشرطية فيها سيقت لبيان تحقق الموضوع، فالآية الشريفة خارجة عن محل الكلام، فلا وجه للتمسك بها لنفي المفهوم أصلا.

و المراد من غيرها في قوله: «و غيرها» هي: القضايا الشرطية المسوقة لبيان تحقق الموضوع كمثال: «إن رزقت ولدا فاختنه».

(2) أي: كما عرفت عند نقل أدلة المثبتين للمفهوم.

ص: 167

بقي هاهنا أمور:

الأمر الأول (1):

أن المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشرط عند انتفائه، لا انتفاء شخصه، و حاصل الكلام في المقام: أن القائل بالمفهوم إنما يدعي ظهور الجملة الشرطية في المفهوم وضعا أو إطلاقا ناشئا عن مقدمات الحكمة التي هي قرينة عامة، و من المعلوم: أنه لا يدعي الدلالة الوضعية أو الإطلاقيّة على المفهوم حتى في موارد قيام القرينة الخاصة على عدمه، فهو كمن يدعي وضع صيغة الأمر للوجوب، مع اعترافه باستعمالها كثيرا في الندب بالقرائن.

=============

(1) في قانون أخذ المفهوم، و المقصود من عقد هذا الأمر الأول: بيان ما هو ضابط كلي لأخذ المفهوم: هل هو انتفاء شخص الحكم الحاصل بإنشائه في القضية المنطوقة أو انتفاء سنخ الحكم و نوعه.

و قد توهم بعض: أن المناط فيه هو انتفاء شخصه لا نوعه، و استدل عليه بأن الشرط الواقع في القضية المنطوقة - في: مثل «إن جاءك زيد فأكرمه» - إنما وقع شرطا بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه في تلك القضية، و قضيتها هو: انتفاء ذاك الحكم الشخصي بانتفاء شرطه لا سنخه و نوعه، لأن الشرط في ظاهر القضية لم يقع شرطا لسنخ الحكم.

و قد أورد عليه المصنف بقوله: «لا انتفاء شخصه، ضرورة: انتفائه عقلا...» إلخ.

و حاصل إيراد المصنف: أن انتفاء شخص الحكم قطعي عقلا، لأن الحكم الشخصي ينتفي بانتفاء الشرط بضرورة العقل، و ليس انتفاؤه من باب المفهوم، بل من باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، و لذا ينتفي شخص الحكم في اللقب أيضا مع إنه لا مفهوم له بالاتفاق، مثلا: إذا قيل: «أكرم زيدا» ينتفي شخص هذا الحكم بانتفاء زيد بحكم العقل، و ليس ذلك من باب المفهوم، و لذا لو قيل: «أكرم عمروا» لا ينافي ذلك قوله: «أكرم زيدا»، لأن إثبات الشيء كوجوب إكرام زيد لا ينفي ما عداه كوجوب إكرام عمرو.

و كيف كان؛ فالحق عند المصنف: أن المعيار في كون القضية الشرطية ذات مفهوم هو انتفاء طبيعة الحكم المعلقة في المنطوق على شرط.

و الوجه في ذلك: أنه لو لم يكن المعلق طبيعة الحكم، بل كان شخصه لما كان انتفاؤه من باب المفهوم، بل كان انتفاؤه بانتفاء موضوعه عقليا، كانتفاء العرض بانتفاء موضوعه، نظير القضية المسوقة لبيان وجود الموضوع مثل: «إن رزقت ولدا فاختنه»، فإن مثل هذه القضية لا مفهوم لها و ليست موردا للنفي و الإثبات عند القائلين للمفهوم

ص: 168

ضرورة: انتفائه عقلا بانتفاء موضوعه و لو ببعض قيوده، فلا يتمشى الكلام (1) في أن و المنكرين له، فلا بد أن يكون مورد النزاع هو الحكم الذي يمكن وجوده مع انتفاء ما علق عليه من الشرط، كوجوب الإكرام الذي يمكن وجوده حين انتفاء المجيء أيضا، فلا محيص حينئذ عن كون الحكم المعلق في المنطوق على الشرط كليا ذا أفراد حتى يمكن بقاؤه بعد انتفاء ما علق عليه، و يصح البحث عن كون انتفاء الشرط موجبا لانتفاء الحكم أم لا، فلو كان الحكم شخصيا، فلا معنى لهذا النزاع فيه، إذ لا يعقل بقاء الحكم الشخصي بعد انتفاء موضوعه حتى ينازع في بقائه، و انتفائه بانتفاء ما علق عليه.

=============

و المتحصل: أنه ليس المعيار في المفهوم كون المنفي شخص الحكم، بل المعيار فيه كون المنفي سنخ الحكم، بحيث إذا قام دليل على ثبوت الحكم في صورة انتفاء الشرط كان معارضا للمفهوم، فإذا دل دليل على وجوب الإكرام عند انتفاء المجيء كان معارضا للمفهوم، و هو عدم وجوب الإكرام عند انتفاء المجيء.

فقد ظهر من هذا البيان: أنه يعتبر في المفهوم إمكان بقاء الحكم عند ارتفاع ما علق عليه من الشرط، فلو لم يمكن بقاؤه كذلك فهو خارج عن المفهوم كما في مثل: «إن رزقت ولدا فاختنه»، مما ينتفي الحكم بانتفاء موضوعه عقلا، و كما في مثل الوقف أو الوصية أو النذر على الأولاد إن كانوا فقراء، أو الفقهاء إن كانوا متهجدين، فإذا انتفى الفقر أو التهجد عنهم انتفت الوقفية و الوصية و غيرهما، لكن لا من ناحية المفهوم، بل من جهة عدم قابلية مال إنشاء الوقف له ثانيا، فبعد حكم الشارع بعدم جعل الوقفية لمال مرتين يكون الحكم بها شخصيا، و قد عرفت: أن انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عقلي، و ليس من باب المفهوم أصلا.

نعم، يكون الفرق بين مثل: «إن رزقت ولدا فاختنه»، و بين مثل: «وقفت داري على أولادي إن كانوا فقراء» في أن تشخص الموضوع في الأول حقيقي لا يحتاج إلى جعل و إنشاء بخلاف الثاني، فإن عدم قابلية مال لإنشاء الوقفية له مرتين إنما هو بحكم الشارع، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 341» مع توضيح و تصرف منا.

(1) أي: فلا يتمشى النزاع في المفهوم، و إنما يعقل النزاع فيما إذا كان الشرط دخيلا في الحكم لا في الموضوع كما في المثال المعروف، فإن المجيء دخيل في الوجوب لا في الإكرام؛ فإنه معقول و ممكن جاء أو لم يجئ، فيعقل النزاع في المفهوم أي: انتفاء سنخ الحكم بانتفاء المجيء، و أما إذا كان دخيلا في الموضوع أيضا كما في قولك: «إن رزقت ولدا فاختنه» حيث إن رزق الولد دخيل في الوجوب و في الختان، إذ لو لا الولد لا مورد للختان، فلا يعقل النزاع في المفهوم، إذ هذا الحكم ينتفي بانتفاء الولد بضرورة العقل،

ص: 169

للقضية الشرطية مفهوما، أو ليس لها مفهوم إلا في مقام كان هناك ثبوت سنخ الحكم في الجزاء و انتفاؤه عند انتفاء الشرط ممكنا (1). و إنما وقع النزاع في أن لها (2) دلالة على الانتفاء عند الانتفاء، أو لا يكون لها دلالة.

و من هنا (3) انقدح: أنه ليس من المفهوم و دلالة القضية على الانتفاء عند الانتفاء و إنشاء وجوب آخر غير معقول لانتفاء المورد و الموضوع.

=============

(1) خبر «كان» في قوله: كان هناك ثبوت سنخ الحكم في الجزاء ممكنا.

(2) أي: «إنما وقع النزاع في أن» للجملة الشرطية «دلالة على الانتفاء عند الانتفاء» كما يدعيه القائل بالمفهوم، «أو لا يكون لها دلالة» كما يدعيه من لا يقول بالمفهوم.

فتحصل من جميع ما ذكر: أن الجزاء لو كان شخصيا لم يعقل النزاع في المفهوم، إذ الحكم الشخصي تابع لموضوعه، فليس ارتفاعه عند انتفاء الشرط من جهة المفهوم، بل من جهة ارتفاع الحكم الشخصي برفع موضوعه. هذا بخلاف ما لو كان الجزاء كليا فإنه يمكن أن يقع النزاع في أن هذا اللفظ المعلق فيه الكلي على الشرط هل يدل على انتفاء الكلي أم لا يدل ؟ بل ساكت عن وجوده و عدمه.

(3) أي: من اعتبار كون المنفي في المفهوم سنخ الحكم لا شخصه انقدح: أنه إذا قيل مثلا: «وقفت أو ملكت أو أوصيت أو نذرت داري لأولادي إن كانوا فقراء» ينتفي الحكم عند انتفاء الشرط، و لا يجوز إعطاؤها لغيرهم، و لكن ليس ذلك من باب المفهوم كما توهم، بل بضرورة العقل كما عرفت، حيث تكون دلالة الجملة الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء من باب انتفاء شخص الحكم عقلا بسبب انتفاء موضوعه، و المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم و نوعه في الموارد التي يمكن فيها ثبوت سنخ الحكم في الجزاء عند ثبوت الشرط منطوقا حتى يمكن نفيه مفهوما. و في الأمور المذكورة لا يمكن ثبوت سنخ الحكم كي يمكن نفيه بالمفهوم.

و الوجه في ذلك: إن قصد الواقف الوقف على خصوص الفقراء من أولاده، فكان الوقف بالقصد المذكور وقفا على خصوص الفقراء منهم، و ليس وقفا على غيرهم لا بهذا الوقف المشخص لانتفائه بانتفاء موضوعه، و لا بالوقف الشخصي الآخر لامتناع اجتماع وقفين على مال واحد، مثلا: الدار إذا صارت وقفا على الفقراء فهي لا تقبل أن تصير وقفا على غيرهم بإنشاء آخر، لتحقق التعارض بين «وقفت داري على أولادي الفقراء» مثلا، و بين «وقفت داري على أولادي مطلقا» أي: و إن كانوا أغنياء.

فتوهم: أن دلالة الشرطية في مثل الوقف و الوصية التمليكية و النذر على المفهوم فاسد جدا، لأن الدلالة المفهومية إنما تتحقق في الموارد التي يمكن فيها تعليق سنخ الحكم في

ص: 170

في الوصايا و الأوقاف و النذور و الأيمان، كما توهم بل عن الشهيد (1) في تمهيد القواعد: أنه لا إشكال في دلالتها على المفهوم.

و ذلك (2) لأن انتفائها عن غير ما هو المتعلق لها من الأشخاص التي تكون بألقابها أو بوصف شيء أو بشرطه مأخوذة في العقد (3) أو مثل العهد ليس (4) بدلالة الشرط الجزاء عند ثبوت الشرط حتى يمكن نفيه بالمفهوم، و لكن العين الموقوفة كالدار لا تقبل أن تصير وقفا بإنشاء آخر لغير الموقوف عليهم، و كذلك العين الموصى بها أو المنذورة لا تقبل أن تصير وصية لغير الموصى لهم بإنشاء آخر، أو أن تصير نذرا لغير المنذور لهم. فليس ضابط المفهوم بموجود فيها، إذ لا يمكن ثبوت سنخ الحكم فيها، فلا تكون الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء من باب المفهوم.

=============

(1) أي: حكي عن الشهيد «قدس سره» في كتاب «تمهيد القواعد»: دلالة القضية الشرطية على المفهوم في الأوقاف و الوصايا و النذور حيث قال: لا إشكال في دلالتها في مثل الوقف و الوصايا و النذور و الأيمان، كما إذا قال: - «وقفت داري هذه على أولادي الفقراء»، أو «إن كانوا فقراء»، أو نحو ذلك(1)، و لعل الوجه في تخصيص المذكور هو:

عدم دخول غير الفقراء في الموقوف عليهم، و فهم التعارض فيما لو قال بعد ذلك:

«وقفت على أولادي مطلقا».

(2) تعليل لقوله: «و من هنا انقدح» يعني: لأن انتفاء تلك الأمور أي: الأوقاف و الوصايا و أخواتهما «عن غير ما هو المتعلق لها»، أي: لتلك الأمور «من الأشخاص التي تكون بألقابها» نحو «وقفت داري على أولادي»، «أو بوصف شيء» نحو: «وقفت داري على أولادي الفقراء»، «أو بشرطه» أي: بشرط شيء نحو: «وقفت داري على أولادي إن كانوا فقراء».

(3) أي: في عقد الوقف و الوصية و نحوهما أي: تكون الأشخاص «بألقابها..» إلخ «مأخوذة في العقد، أو مثل العهد»، كالنذر و اليمين.

(4) أي: ليس الانتفاء «بدلالة الشرط أو الوصف أو اللقب عليه» أي: على الانتفاء.

و حاصل الكلام: أن انتفاء الوصايا و أخواتها عن غير الأشخاص الذين تعلقت بهم ليس من باب مفهوم الشرط أو الوصف أو اللقب، بل لأجل عدم قابلية شيء للوقف أو الوصية أو النذر مرتين، و من المعلوم: أن الانتفاء حينئذ عقلي، لكون الحكم المعلق شخصيا فيكون انتفاؤه بانتفاء موضوعه، و قد عرفت: أن صلاحية الحكم المعلق في

ص: 171


1- تمهيد القواعد، ق 25، ص 110.

أو الوصف أو اللقب عليه، بل لأجل أنه إذا صار شيء وقفا على أحد، أو أوصى به أو نذر له (1) إلى غير ذلك لا يقبل أن يصير وقفا على غيره، أو وصية أو نذرا له، و انتفاء شخص الوقف أو النذر أو الوصية عن غير مورد المتعلق قد عرفت: أنه عقلي (2) مطلقا، و لو قيل (3) بعدم المفهوم في مورد صالح له.

إشكال و دفع:

لعلك تقول: كيف (4) يكون المناط في المفهوم هو سنخ الحكم، لا نفس شخص المنطوق على الشرط أو الوصف للإنشاء ثانيا - حتى يكون المنفي في المفهوم طبيعة الحكم لا شخصه - معتبرة في المفهوم.

=============

(1) أي: نذر ذلك الشيء لأحد و كل من «أوصى» و «نذر» يكون مبنيا للمفعول.

(2) لأنه من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، نظير: انتفاء العرض بانتفاء محله.

(3) بيان للإطلاق. و معنى العبارة: أن انتفاء شخص الوقف و نحوه عن غير متعلقه يكون عقليا، و لو قيل بعدم المفهوم في مورد يمكن أن يكون له مفهوم، فالانتفاء هنا ليس من باب المفهوم، بل هو عقلي، فيكون أجنبيا عن المفهوم.

و المتحصل: أن مورد النزاع هو: ما علق السنخ و النوع لا الشخص. أما لو علق الشخص: فلا إشكال في الانتفاء عند الانتفاء، لكنه ليس من باب المفهوم، بل من جهة حكم العقل بانتفاء الحكم لأجل انتفاء موضوعه.

في الإشكال و دفعه

(4) الاستفهام إنكاري أي: لا يكون المناط في المفهوم هو سنخ الحكم و نوعه، فهذا الإشكال إشكال على ما تقدم من المصنف من: أن المناط في المفهوم هو انتفاء نوع الحكم المعلق لا انتفاء شخصه. توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الحكم المنفي في المفهوم يمكن أن يكون كليا، و يمكن أن يكون جزئيا.

إذا عرفت هذه المقدمة فيقال في تقريب الإشكال: إنّنا لا نسلم كون المفهوم انتفاء نوع الحكم المعلق، بل انتفاء شخصه، فيكون الحكم المنفي في المفهوم جزئيا.

و الوجه في ذلك: أن الشرط مما علق عليه شخص الحكم لا سنخ الحكم و نوعه، لأن الموجود في قضية «إن جاءك زيد فأكرمه» هو الحكم المنشأ شخصيا، و الشرط إنما هو شرط لهذا الحكم المذكور المنشأ و ليس شرطا للنوع حتى يستلزم انتفاؤه انتفاء سنخ الحكم، إذ ليس في القضية ذكر عن النوع.

ص: 172

الحكم في القضية (1)، و كان الشرط في الشرطية إنما وقع شرطا بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه دون غيره (2)، فغاية (3) قضيتها: انتفاء ذاك الحكم بانتفاء شرطه، لا انتفاء سنخه، و هكذا الحال في سائر القضايا التي تكون مفيدة للمفهوم.

و لكنك غفلت (4) عن أن المعلق على الشرط إنما هو نفس الوجوب الذي هو مفاد فالنتيجة هي: منع اعتبار كلية الحكم المنفي في المفهوم، لأن الحكم المنشأ في المنطوق بالإنشاء الخاص شخصي لا كلي، و الشرط إنما جعل قيدا لذلك الحكم الشخصي، فلو كان للقضية الشرطية مفهوم لكان مفهومها انتفاء ذلك الحكم الشخصي، فأين الحكم الكلي حتى ينفى في المفهوم ؟

=============

فدعوى: اعتبار كون الحكم المنفي طبيعة الحكم و سنخه لا شخصه خالية عن الدليل.

(1) أي: في القضية المنطوقية، و تشخص الحكم إنما يكون بسبب الإنشاء. و الواو في قوله: «و كان الشرط..» إلخ للحالية، يعني: و الحال: أن الشرط في القضية الشرطية إنما هو شرط للحكم الجزئي الحاصل بالإنشاء. كما أشار إليه بقوله: «إنما وقع شرطا بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه».

و من المعلوم: أن إنشاء الحكم عبارة عن إيجاده الموجب لتشخصه، لما ثبت في محله من: إن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد، فلا يتصور كلية الحكم المنشأ حتى ينفى في المفهوم، بل انتفاء الشرط يوجب انتفاء ذلك الحكم الشخصي.

(2) أي: دون غير ذلك الحكم المنشأ، بل الحكم المعلق في المنطوق هو شخص ذلك المنشأ.

(3) يعني: فغاية ما تقتضيه القضية الشرطية هو: انتفاء ذلك الحكم الشخصي المنطوقي بانتفاء شرطه، لا انتفاء سنخ الحكم و نوعه، هذه نتيجة كون الشرط في القضية الشرطية شرطا بالنسبة إلى الحكم المنشأ في المنطوق.

دفع الإشكال عن كون المناط في المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم

(4) دفع للإشكال: توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أنه لا فرق بين المعاني الاسمية و الحرفية على ما هو مختار المصنف «قدس سره»، لما عرفت في بحث معنى الحرف من: أن المعنى في كل من الاسم و الحرف واحد.

و إنما الاختلاف في اللحاظ، حيث إن المعنى في الاسم ملحوظ استقلالا، و في الحرف آلة، و هذان اللحاظان من خصوصيات الاستعمال لا المستعمل فيه حتى يصير المعنى جزئيا، فالتشخص و الخصوصية من أطوار الاستعمال و شئونه.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن المعلق على الشرط كالمجيء في نحو: «إن جاءك

ص: 173

الصيغة و معناها، و أما الشخص (1) و الخصوصية الناشئة من قبل استعمالها فيه لا تكاد تكون من خصوصيات معناها المستعملة فيه كما لا يخفى (2)، كما لا تكون الخصوصية الحاصلة من قبل الإخبار به من خصوصيات ما أخبر به و استعمل فيه إخبارا لا إنشاء.

و بالجملة: كما لا يكون المخبر به المعلق على الشرط (3) خاصا بالخصوصيات الناشئة من قبل الإخبار به كذلك المنشأ بالصيغة المعلق عليه. و قد عرفت بما حققناه زيد فأكرمه» هو نفس الوجوب الكلي الذي وضعت له الصيغة لا الشخص، و ذلك لما عرفت في المقدمة من: أن التشخص و الخصوصية من شئون الاستعمال، فلا تكون الخصوصية من قيود معنى صيغة الأمر حتى يقال: إن معنى الصيغة من حيث الهيئة هو:

=============

الوجوب الجزئي، إذ من المعلوم: عدم إمكان دخل الخصوصيات الناشئة من الاستعمال في المعنى المستعمل فيه لتأخرها عنه على ما تقدم تفصيله من المصنف في بحث المعنى الحرفي فراجع.

(1) الأولى أن يقال: «و أما التشخص»، لأن الشخص هو الجزئي، و الغرض بيان وجه تشخصه لا بيان شخصيته، كما أن الأولى تبديل الضمير في قوله: «معناها» بالصيغة، بأن يقال: «من خصوصيات معنى الصيغة المستعملة فيه»، حيث إن المستعملة صفة للصيغة لا للضمير، فإن توصيف الضمير بالظاهر غير معهود.

(2) يعني: أنه لا فرق بين الإنشاء و الإخبار في أنهما من خصوصيات الاستعمال لا من خصوصيات المستعمل فيه.

و حاصل الكلام في المقام: أنه كما لا تكون الخصوصية الحاصلة من قبل الإخبار به دخيلة في المعنى المخبر به، و موجبة لشخصه كذلك لا تكون الخصوصية الناشئة من ناحية الاستعمال دخيلة في المستعمل فيه المنشأ بالصيغة و موجبة لتشخصه، بل المعنى باق على كليته في كلا الموردين، فالمتحصل: أن الخصوصية الحاصلة من قبل الإنشاء لا تكون من خصوصيات المستعمل فيه.

(3) أي: لا فرق بين الإنشاء و الإخبار في عدم دخل لهما في تخصيص المستعمل فيه، فكما لا يكون المخبر به المعلق على الشرط - في قولنا: «إن جاءك زيد فإكرامه واجب» - «خاصا بالخصوصيات الناشئة من قبل الإخبار به»، بل هو على حاله قبل الاستعمال من الكلية، فكذلك المنشأ بالصيغة المعلق على الشرط لا يكون خاصا بالخصوصيات الناشئة من قبل الإنشاء. فالإخبارية و الإنشائية ليستا من خصوصيات نفس المعنى حتى توجبا جزئيته، بل هما من خصوصيات الاستعمال.

ص: 174

في معنى الحرف (1) و شبهه: أن ما استعمل فيه الحرف عام كالموضوع له، و أن خصوصية لحاظه بنحو الآلية - و الحالية لغيره - من خصوصية الاستعمال، كما أن خصوصية لحاظ المعنى بنحو الاستقلال في الاسم كذلك (2)، فيكون اللحاظ الآلي كالاستقلالي من خصوصيات الاستعمال لا المستعمل فيه.

و بذلك (3) قد انقدح: فساد ما يظهر من التقريرات في مقام التفصي عن هذا

=============

(1) يعني: قد تقدم من المصنف في المعنى الحرفي كون الموضوع له في الحروف كليا كالموضوع له في أسماء الأجناس، و لحاظ الآلية في الحروف كلحاظ الاستقلالية في الأسماء لا يوجب تشخص المعنى. و عليه: فالمعلق على الشرط في القضية الشرطية حكم كلي سواء كان بنحو الإنشاء أو الإخبار، و هذا تعريض بما في التقريرات. كما سيأتي في قوله: «و بذلك قد انقدح فساد ما يظهر من التقريرات» فانتظر.

(2) يعني: من خصوصية الاستعمال، «فيكون اللحاظ الآلي» في الحروف كاللحاظ الاستقلالي في الأسماء من خصوصيات الاستعمال، لا المستعمل فيه حتى يصير المعنى بسبب ذلك اللحاظ خاصا. و كأن القائل بالجزئية توهم كون الوجوب في الجزاء مقيدا بقيد الإنشاء، و عليه: فالوجوب المقيد بهذا القيد جزئي؛ إذ إنشاء الوجوب معناه إيجاده، و من المعلوم: أن كل موجود جزئي حقيقي؛ إذ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد.

و قد غفل المتوهم عن: أن الإنشاء كالإخبار ليس قيدا للموضوع له بل من كيفية الاستعمال، فإن الإنسان قد يستعمل بلباس الإنشاء فيقول: «افعل»، و قد يستعمله بلباس الإخبار فيقول: «يجب عليك».

(3) أي: بما ذكرناه من كون المعنى في الحرف - كالمعنى في الاسم - كليا، و عدم صيرورته باللحاظ الآلي و الاستقلالي اللذين هما من خصوصيات الاستعمال جزئيا. قد انقدح و اتضح فساد ما ذكره في التقريرات(1) في مقام دفع الإشكال المذكور، فلا بد من ذكر ما في التقريرات في مقام دفع الإشكال حتى يتضح فساده، و حاصل ما أفاده في التقريرات في مقام دفع الإشكال و الجواب عنه: هو أنه فرّق في التقريرات بين قوله: «إن جاءك زيد وجب إكرامه»، و قوله: «إن جاءك زيد فأكرمه»، بأن الوجوب المخبر به في الأول كلي، فانتفاء السنخ بانتفاء الشرط معقول فيه. و أما الوجوب المنشأ بالهيئة في المثال الثاني جزئي خارجي؛ لأن المنشأ المتحقق بالإنشاء هو شخص الوجوب، إذ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد. و بعبارة أخرى: أن الوجوب المعلق على الشرط إن كان

ص: 175


1- مطارح الأنظار، ج 2، ص 39.

الإشكال من التفرقة بين الوجوب الإخباري و الإنشائي بأنه كلي في الأول و خاص في الثاني، حيث دفع الإشكال (1) بأنه لا يتوجه في الأول (2): لكون الوجوب كليا، بالإخبار، كقولك: «إن جاءك زيد وجب إكرامه» فلا يرد عليه إشكال، لكون الوجوب فيه كليا، فيكون الحكم المعلق على الشرط كليا لا شخصيا، حيث إن المادة قد استعملت في معناها الكلي. و إن كان بالإنشاء، كما في قولك: «إن جاءك زيد فأكرمه» فالحكم المعلق على الشرط - كوجوب إكرام زيد - و إن كان جزئيا لكونه معنى الهيئة الذي يكون معنى حرفيا، لأنها موضوعة لإنشاء النسبة الطلبية بين المادة - كالإكرام - و المخاطب، و النسبة قائمة بالطرفين فهي معنى حرفي إلا إن المنفي هو سنخ الحكم بانتفاء الشرط على القول بالمفهوم، لأن أداة الشرط مثل كلمة «إن» تدل على انحصار علة سنخ الحكم و طبيعته بالشرط المذكور في المنطوق، و إن كان الحكم المذكور فيه فردا من أفراد طبيعة الحكم، فأداة الشرط قرينة على انحصار علية الشرط لسنخ الحكم لا لشخصه.

=============

و الوجه في قرينيّة الشرط على ذلك: أنه لو كان الحكم جزئيا لا كليا، كان انتفاؤه بانتفاء الشرط عقليا و أجنبيا عن باب المفهوم، و إلا كان للقضية اللقبية أيضا مفهوم، لانتفاء شخص الحكم فيها بانتفاء موضوعه و هو باطل بالضرورة؛ لما عرفت من: أن انتفاء شخص الحكم في كل قضية بانتفاء موضوعه عقلي و أجنبي عن المفهوم.

فالنتيجة هي: دلالة القضية الشرطية على المفهوم مطلقا أي: سواء كان الحكم المذكور في المنطوق بلسان الإخبار أم الإنشاء.

(1) حق العبارة أن تكون هكذا: «حيث دفع الإشكال على الأول: بكون الوجوب كليا، و على الثاني: بأن ارتفاع مطلق الوجوب في الوجوب الإنشائي من فوائد العلية المستفادة من الجملة الشرطية»، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 350».

هذا تمام الكلام فيما أفاده في التقريرات في الجواب عن الإشكال، و أما وجه فساد هذا الجواب ظهر مما ذكره المصنف من أنه لا فرق بين المعنى الحرفي و المعنى الاسمي في الكلية، و إنما الجزئية فيهما تكون من ناحية الاستعمال لا دخل لها في الموضوع له.

(2) الأولى تبديل «في» ب «على» حتى يكون مع قوله «و على الثاني» على نسق واحد، و المراد من الأول: هو الوجوب الإخباري، قوله: «لكون الوجوب كليا» علة لعدم توجه الإشكال عليه، فحاصل دفع الإشكال على الأول: بكون الوجوب كليا. و على الثاني: بأن ارتفاع مطلق الوجوب في الوجوب الإنشائي من فوائد العلية المستفادة من الجملة الشرطية، فتدل القضية الشرطية على المفهوم على كلا التقديرين، فيرتفع الإشكال من البين.

ص: 176

و على الثاني: بأن ارتفاع مطلق الوجوب فيه من فوائد العلّية المستفادة من الجملة الشرطية، حيث كان ارتفاع شخص الوجوب ليس مستندا إلى ارتفاع العلة المأخوذة فيها، فإنه (1) يرتفع و لو لم يوجد في حيال أداة الشرط كما في اللقب و الوصف.

و أورد (2) على ما تفصّي به عن الإشكال بما ربما يرجع إلى ما ذكرناه بما حاصله:

=============

(1) أي: شخص الوجوب، و هذا تعليل لقوله: «ليس مستندا...» إلخ و معنى العبارة:

أن ارتفاع شخص الوجوب بارتفاع موضوعه لا يختص بالقضية الشرطية، بل يكون في غيرها كالقضية اللقبية و الوصفية، مع عدم كون ارتفاع شخص الحكم فيها من المفهوم، فلا بد أن يكون للشرط خصوصية تستتبع المفهوم، و ليست تلك الخصوصية إلا دلالة أداة الشرط على انحصار العلية في مدخولها.

(2) يعني: أورد صاحب التقريرات(1) على ما أجيب به عن الإشكال المتقدم في قوله: - «إشكال و دفع» - بجواب يرجع إلى ما أجاب به المصنف من عدم الفرق بين الوجوب في الكلام الخبري و الإنشائي من حيث كلية المعنى بمعنى: أنه كما أن الوجوب في الكلام الخبري كلي فكذلك في الكلام الإنشائي. و كما أن قصد خصوص الحكاية عن تحقق المعنى الخبري في الخارج يكون من خصوصيات الاستعمال؛ فكذلك قصد خصوص إيجاد معنى الكلام الإنشائي في الخارج يكون من خصوصيات الاستعمال و أطواره، و قد أورد على هذا الجواب صاحب التقريرات بما حاصله: من إنه لا حاجة إلى هذا التكلف و التعسف، بل الصواب في المقام ما ذكرناه في الجواب من: أن الوجوب في الكلام الإنشائي و إن كان جزئيا إلا إن انتفاء الوجوب الكلي عند انتفاء الشرط من نتائج انحصار علة سنخ الحكم الثابت في الجزاء في الشرط، هذا مضافا إلى أنه لا دليل على كون الموضوع له في الإنشاء عاما كليا، بل قام الدليل على خلافه، حيث إن الخصوصيات من حيث هي هي مستفادة من ألفاظ الإنشاء، إذ الغرض منه: إيجاد المنشأ في الخارج بصيغة الأمر، فلا يستفاد الوجوب الكلي من صيغة الأمر؛ لأن الشيء الموجود في الخارج جزئي و ليس بكلي، هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب إيراد صاحب التقريرات على ما تفصي به عن الإشكال.

و قد قال في التقريرات - بعد ذكر الإشكال المتقدم - ما هذا لفظه: «و قد يذب عنه:

بأن الوجوب المنشأ في المنطوق هو الوجوب مطلقا من حيث كون اللفظ موضوعا له بالوضع العام و اختصاصه و شخصيته من فعل الآمر، كما أن شخصية الفعل المتعلق

ص: 177


1- مطارح الأنظار، ج 2، ص 38.

إن التفصّي لا يبتني على كلية الوجوب لما أفاده، و كون الموضوع له في الإنشاء عاما لم يقم عليه دليل لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه حيث إن الخصوصيات بأنفسها مستفادة من الألفاظ.

و ذلك (1) لما عرفت: من أن الخصوصيات في الإنشاءات و الإخبارات إنما تكون ناشئة من الاستعمالات بلا تفاوت أصلا بينهما (2).

للوجوب من فعل المأمور، فيحكم بانتفاء مطلق الوجوب في جانب المفهوم». هذا هو الجواب الذي ذكره صاحب التقريرات، ثم أورد عليه بما عرفت توضيحه فلا حاجة إلى تكرار ذلك.

=============

فالمتحصل: أن التفصّي عن الإشكال المذكور لا يبتني على كون الوجوب كليا من ناحية الوضع، لإمكان استفادة كليته من علية الشرط، كما عرفت توضيح ذلك.

(1) بيان لانقداح فساد ما في التقريرات و تعليل له أي: قد عرفت سابقا: أن الموضوع له في كل من الاسم و الحرف كلي، و أن الآلية و الاستقلالية و الإخبارية و الإنشائية من خصوصيات الاستعمال، و خارجة عن نفس المعنى، فالوجوب كلي و هو المعلق على الشرط، و انتفاؤه بانتفاء شرطه يكون من باب المفهوم.

(2) يعني: الإنشاء و الإخبار من حيث الكلية سيان «بلا تفاوت بينهما أصلا»، فالتفصيل بينهما بكون المعنى في الإنشاء جزئيا، و في الإخبار كليا - كما في التقريرات - غير وجيه، و لذا تعجب منه المصنف و قال: «و لعمري لا يكاد ينقضي تعجبي..» إلخ يعني: أني أقسم ببقاء حياتي لا ينقضي تعجبي من صاحب التقريرات كيف جعل خصوصيات الإنشاء من قيود المعنى المستعمل فيه، مع إنها كخصوصيات الإخبار ناشئة من قبل الاستعمالات ؟ و لا يعقل أن يدخل في المعنى المستعمل فيه ما ينشأ من قبل الاستعمال، لأن الاستعمال متأخر عن المستعمل فيه برتبة، فالخصوصية الناشئة من قبل الاستعمال المتأخر عن المستعمل في الإخبار و الإنشاء لا يعقل أن تكون من خصوصيات المعنى المستعمل فيه المتقدم فيهما.

و حاصل وجه تعجب المصنف هو: أن خصوصية الإنشائية كخصوصية الإخبارية في إمكان الدخل في نفس المعنى و امتناعه، و لا وجه للتفرقة و التفكيك بينهما أصلا بالتزام كلية المعنى الخبري، فيكون انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط فيه من باب المفهوم، هذا بخلاف الإنشاء حيث تكون خصوصية الإنشائية فيه داخلة في المعنى الإنشائي، و لذا تشبث في استفادة المفهوم حينئذ من القضية الشرطية بدلالة أداة الشرط على انحصار العلية بالشرط، و كيف كان؛ فالتفرقة بين الإخبار و الإنشاء غير سديدة.

ص: 178

و لعمري لا يكاد ينقضي تعجبي كيف تجعل خصوصيات الإنشاء من خصوصيات المستعمل فيه مع إنها كخصوصيات الإخبار تكون ناشئة من الاستعمال، و لا يكاد يمكن أن يدخل في المستعمل فيه ما ينشأ من قبل الاستعمال، كما هو واضح لمن تأمّل.

الأمر الثاني (1):

أنه إذا تعدد الشرط مثل: (إذا خفي الأذان فقصر)(1) و (إذا خفي الجدران فقصر)(2) فبناء على ظهور الجملة الشرطية في المفهوم لا بدّ من التصرف و رفع اليد

=============

في تعدد الشرط و وحدة الجزاء

(1) محل البحث في هذا الأمر الثاني هو: ما إذا تعدد الشرط و اتحد الجزاء في الشرطين لفظا و مفهوما نحو: «إذا خفي الأذان فقصر، و إذا خفي الجدران فقصر»، فالقائل بعدم المفهوم في راحة، إذ شرط التقصير عنده هو خفاء كليهما نظرا إلى منطوق القضيتين، و لا تعارض بينهما حينئذ أصلا.

و أما القائل بالمفهوم بالوضع أو بالقرينة العامة، فلا بد له من التصرف فيهما بأحد الوجوه الأربعة لحل التعارض بين منطوق كل منهما و مفهوم الآخر، لأن مقتضى مفهوم «إذا خفي الأذان فقصر» هو: عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان و إن خفي الجدران، و مقتضى منطوق «و إن خفي الجدران فقصر» هو: عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الجدران و إن خفي الأذان، فيقع التعارض بين منطوق كل منهما و مفهوم الآخر كما عرفت.

و قد تعرض المصنف للتصرف في ظهور كل منهما في المفهوم بأحد الوجوه الأربعة:

1 - ما أشار إليه بقوله: «إما بتخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر»، لأن المنطوق أقوى دلالة من المفهوم فيقال: «إذا لم يخف الأذان فلا تقصر» إلا إذا خفي الجدران. و كذا يخصص مفهوم إذا خفي الجدران بمنطوق الآخر فيقال: «إذا لم يخف

ص: 179


1- الرواية في التهذيب، ج 4، ص 230، ح 50 هكذا: عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال: سألته عن التقصير. قال: «إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتم، و إذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصر، و إذا قدمت من سفر فمثل ذلك».
2- الرواية كما في الكافي، ج 3، ص 434، ح 1 /التهذيب، ج 2، ص 120، ح 1 /الفقيه، ج 1، ص 435، ح 1266: عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله «عليه السلام»: الرجل يريد السفر متى يقصر؟ قال: «إذا توارى من البيوت...».

عن الظهور، إما بتخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر فيقال: بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطين (1).

الجدران فلا تقصر» إلا إذا خفي الأذان، و مقتضى تخصيص المفهومين هو: عدم انحصار الشرط في كل من الخفاءين و أن كلا من الشرطين عدل للآخر، إذ المتحصل بعد تخصيص المفهومين بالمنطوقين هو: «إذا خفي الأذان أو الجدران وجب القصر»، و مفهومه: «إذا لم يخفيا لا يجب القصر»، و أما إذا خفي أحدهما وجب القصر، لأنه مقتضى ثبوت العدل للشرط في إحدى القضيتين، فيكون مرجع هذا الوجه إلى رفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في عموم المفهوم، و نتيجته: إثبات عدلية كل من الشرطين للآخر، و نفي الجزاء عند انتفاء كليهما، فينتفي وجوب القصر بانتفاء الخفاءين.

=============

(1) يعني: خفاء الأذان و الجدران في المثال المذكور، لأن المفهوم حينئذ هو انتفاء وجوب القصر عند انتفاء الخفاءين.

2 - ما أشار إليه بقوله: «و إمّا برفع اليد عن المفهوم فيهما»، و هذا الوجه هو ثاني الوجوه الأربعة و حاصله: هو رفع اليد عن المفهوم في الشرطيتين، بأن تكون القضيتان الشرطيتان كالقضية اللقبية في عدم الدلالة على المفهوم، فيكون كل منهما من قبيل زيد قائم، حيث لا يدل على نفي القيام عن عمرو، لأن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفي ذلك الشيء عن غيره، فإثبات وجوب القصر عند خفاء الأذان لا يدل على نفيه عند خفاء الجدران، بمعنى: أن خفاء الأذان بالاستقلال موجب للقصر، و خفاء الجدران كذلك موجب للقصر، فمفادهما: مجرد الثبوت عند الثبوت، بلا دلالة على الانتفاء عند الانتفاء، فالنتيجة حينئذ: إنكار المفهوم، إذ لا تدل القضية الشرطية في كل منهما على عدم دخل شيء آخر في ثبوت الجزاء.

و الفرق بين هذا الوجه و الوجه الأول هو: أن هذا الوجه لا يدل على المفهوم أصلا يعني: لا تدل الشرطيتان على عدم دخل شيء آخر في ثبوت الجزاء فلا يقع بينهما تعارض أصلا، هذا بخلاف الوجه الأول، فإن فيهما الدلالة على المفهوم و عدم مدخلية شيء آخر في الجزاء، فيقع التعارض بينهما و يخصص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر كما عرفت، فالوجه الأول من قبيل أكرم زيدا و لا تكرم غيره، و أكرم عمروا و لا تكرم غيره، و الوجه الثاني من قبيل أكرم زيدا و أكرم عمروا.

و كيف كان؛ فحاصل هذا الوجه الثاني هو: الالتزام بعدم المفهوم في كل منهما.

3 - ما أشار إليه بقوله: «و إما بتقييد إطلاق الشرط في كل منهما بالآخر». هذا هو

ص: 180

و إما برفع اليد عن المفهوم فيهما، فلا دلالة لهما على عدم مدخلية شيء آخر في الجزاء، بخلاف الوجه الأول فإن فيهما الدلالة على ذلك.

و إما بتقييد إطلاق الشرط في كل منهما بالآخر، فيكون الشرط هو خفاء الأذان و الجدران معا، فإذا خفيا وجب القصر، و لا يجب عند انتفاء خفائهما و لو خفي أحدها.

ثالث الوجوه الأربعة و حاصله: أن تكون العلة لوجوب القصر مجموع خفاء الأذان و الجدران معا، لا كل منهما بنحو الاستقلال.

=============

توضيح ذلك بعد تمهيد مقدمة و هي: أن الشرط له دخل في موضوع الحكم، فتارة:

يكون تمام الموضوع للحكم المذكور في الجزاء، و أخرى: يكون جزء الموضوع، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن إطلاق الشرط في كل منهما يدل على كون الشرط تمام الموضوع للحكم المذكور في الجزاء، فخفاء الأذان موضوع تام لوجوب القصر، و كذا خفاء الجدران، و نرفع اليد عن هذا الإطلاق اللفظي، و نقيّد إطلاق كل منهما بالآخر، و نتيجة ذلك: صيرورة كل من الشرطين جزء الموضوع، بمعنى: أن خفاء الأذان مع الجدران يوجب القصر، و يكون مفادهما وجوب القصر بخفاء كليهما، فكأنه قيل: «إذا خفي الأذان و توارى عنه البيوت وجب عليه القصر»، و عليه: يجب القصر عند تحققهما جميعا، و لا يجب عند انتفاء أحدهما فضلا عن انتفاء كليهما، لأن الحكم في الجزاء مترتب على كلا الشرطين، و لا يترتب على أحدهما، فمرجع هذا الوجه إلى رفع اليد عن ظهور كل من الشرطين في الاستقلال، و جعل كل منهما جزء الموضوع و المجموع شرطا واحدا نافيا لدخل غيرهما في الجزاء، و لازم ذلك: أن يكون القصر واجبا عند خفاء الأذان و الجدران معا، و لا يجوز القصر عند خفاء الأذان فقط، أو خفاء الجدران فقط، أو عند عدم خفاء كليهما، فهذا الوجه عكس الوجهين الأولين في النتيجة، حيث إن الشرط فيهما هو تمام الموضوع للحكم في الجزاء، و في هذا الوجه جزء الموضوع.

4 - ما أشار إليه بقوله: «و إما بجعل الشرط هو القدر المشترك بينهما»، هذا هو رابع الوجوه الأربعة و حاصله: أن يكون الشرط هو الجامع بين الشرطين، للقاعدة المشهورة بين الفلاسفة و هي: أن الواحد لا يصدر إلا من الواحد، و هي مبنية على مقدمتين:

إحداهما: اعتبار الربط و السنخية بين العلة و المعلول، كالسنخيّة بين النار و الإحراق مثلا، و إلا لصدر كل شيء من كل شيء و هو غير معقول.

و أخراهما: إن الشيء الواحد من حيث هو واحد لا يمكن أن يكون مرتبطا و متسنخا

ص: 181

و إما بجعل الشرط هو القدر المشترك بينهما، بأن يكون تعدد الشرط قرينة على إن الشرط في كل منهما ليس بعنوانه الخاص، بل بما هو مصداق لما يعمهما من العنوان.

بالأمور المتعددة من حيث هي متعددة، مختلفة عنوانا و أوصافا، و إلاّ لزم اجتماع الأضداد فيه، مثلا: الحرارة لو كانت مرتبطة بالنار و الماء من حيث هما نار و ماء للزم اجتماع الحر و البرد فيها، و هو محال عقلا، فتعدد الشرط في المقام قرينة عقلية واضحة على أن الشرط في كل من الجملتين ليس مؤثرا في الجزاء بعنوانه الخاص المعين و هو خفاء الأذان و خفاء الجدران، و إلا لزم أن يكون الشيء الواحد - و هو وجوب القصر - مرتبطا بالشيئين بما هما شيئان، بل المؤثر فيه هو القدر الجامع بينهما، و هو البعد الخاص عن محل السكنى، و جعل الشارع المقدس خفاءهما علامة لذلك البعد الخاص تسهيلا على العباد، فيكون كل منهما مصداقا لذلك.

=============

و مرجع هذا الوجه إلى رفع اليد عن تأثير كل من الشرطين بعنوانه الخاص في الجزاء، فيثبت الجزاء بأحدهما، و ينتفي بانتفائهما، و يدلان على عدم دخل شيء في ثبوت الجزاء، و هذا الوجه على عكس الوجه الأول حيث إن مرجع الوجه الأول إلى التصرف في الإطلاق العدلي، و رفع اليد عنه مع انحفاظ خصوصية كل من الشرطين بعنوانه الخاص، بخلاف هذا الوجه الرابع حيث يكون مرجعه إلى رفع اليد عن خصوصية كل من الشرطين، و جعل الشرط ما يعمهما و يصدق عليهما - هذا تمام الكلام في الصور و الاحتمالات بحسب مقام الثبوت -.

و أما بحسب مقام الإثبات: فقد أشار إلى استظهار ما هو مختاره فيه بقوله: «و لعل العرف يساعد على الوجه الثاني» أي: العرف يساعد الوجه الثاني و هو انتفاء المفهوم عند تعدد الشرط، لأن الجملة الشرطية تكون ظاهرة في المفهوم لديهم إذا لم تكن هناك قرينة على الخلاف، و ذلك أن المفهوم - كما تقدم - تابع للخصوصية التي يدل عليها المنطوق، و تلك الخصوصية لما كانت بالوضع أو بالإطلاق المتقوم بعدم البيان على خلافه.

و من المعلوم: كون تعدد الشرط بيانا أو قرينة على المجاز، فلا تدل القضية الشرطية مع تعدد الشرط و وحدة الجزاء على تلك الخصوصية حتى تدل على المفهوم، فالنتيجة: أن العرف يساعد على رفع اليد عن المفهوم في كلتا القضيتين، و عدم دلالتهما على المفهوم أصلا، فانتفاء خفاء الأذان و الجدران معا لا يدل على انتفاء سنخ الحكم، لإمكان قيام شرط آخر لثبوت الجزاء.

و كيف كان؛ فيساعد العرف على الوجه الثاني، «كما أن العقل ربما يعيّن هذا الوجه» أي: الوجه الرابع و هو كون الشرط هو الجامع، إذ الواحد كوجوب القصر لا يصدر إلا

ص: 182

و لعل العرف يساعد على الوجه الثاني، كما أن العقل ربما يعيّن هذا الوجه، بملاحظة: إن الأمور المتعددة بما هي مختلفة لا يمكن أن يكون كل منها مؤثرا في واحد، فإنه لا بدّ من الربط الخاص بين العلة و المعلول، و لا يكاد يكون الواحد بما هو واحد مرتبطا بالاثنين بما هما اثنان، و لذلك (1) أيضا لا يصدر من الواحد إلاّ الواحد، من الواحد و هو الجامع، إذ لا بد من السنخية بين العلة و المعلول، و إلا كان كل شيء علة لكل شيء، و الشيء الواحد - كوجوب القصر - لا يعقل أن يكون مسانخا لشيئين متباينين أعني: خفاء الأذان و خفاء الجدران، بل يكون مسانخا لشيء واحد و هو الجامع، فلا بد من رفع اليد عن خصوصية كل من الشرطين، و جعل الشرط ما يعمهما و هو الجامع بينهما.

=============

و قد أشار إلى تقريب حكم العقل بتعيّن هذا الوجه، و حاصله: أن قاعدة عدم صدور الواحد إلا عن الواحد تقتضي عدم تأثير الشرطين المختلفين بما أنهما متعددان في واحد و هو الجزاء، بل لا بد من إرجاع المتعدد إلى الواحد حتى يكون هو المؤثر، فكل من الشرطين إنما يؤثر بلحاظ الجامع الذي هو الشرط حقيقة و ينطبق عليه. و الحاصل: أن هذه القاعدة تعيّن الوجه الرابع، و تجعل الشرط المؤثر الجامع الوحداني المنطبق على كل واحد من الشرطين.

(1) أي: و لاعتبار الربط الخاص بين العلة و المعلول لا يصدر من الواحد أيضا إلا الواحد

يعني: لا يصدر من العلة الواحدة إلا معلول واحد.

فالمتحصل: أن السنخية المخصوصة بين العلة و المعلول و الربط الخاص بينهما تقتضي صدور الواحد عن الواحد، لا عن المتعدد بما هو متعدد لعدم السنخية بين الواحد و المتعدد، كما تقتضي أن لا يصدر من الواحد إلا الواحد، و على هذا فيمتنع تأثير الشرطين بما هما اثنان، بل لا بد أن يستند الأثر الواحد إلى الواحد و هو الجامع بين الشرطين.

قوله: «فلا بد من المصير..» إلخ متفرع على حكم العقل بعدم صدور الواحد إلا من الواحد، و على قوله: «و لعل العرف يساعد على الوجه الثاني» و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 364» - أنه - بعد بناء العرف على الوجه الثاني و هو رفع اليد عن المفهوم في كلتا الشرطيتين، و جعلهما كالقضية اللقبية بالتقريب المتقدم سابقا، و بعد بناء العقل على امتناع تأثير كل من الشرطين بعنوانه الخاص في الجزاء - لا بد من الجمع بين القول بعدم المفهوم للقضية الشرطية عند التعدد، لبناء العرف على ذلك كما عرفت

ص: 183

فلا بد من المصير إلى أن الشرط في الحقيقة واحد و هو المشترك بين الشرطين بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم، و بقاء إطلاق الشرط في كل منهما على حاله، و إن كان بناء العرف و الأذهان العامية على تعدد الشرط و تأثير كل شرط بعنوانه الخاص، فافهم (1).

آنفا، و بين القول بثبوت المفهوم لها، لكون الشرط هو الجامع بين الشرطين للقاعدة العقلية و هي عدم صدور الواحد عن الاثنين، برفع اليد عن المفهوم، و بقاء إطلاق الشرط في كل من الشرطين على حاله، فيقال في المثال المذكور: بوجوب القصر عند خفاء الأذان مطلقا و إن لم يخف الجدران، و بالعكس، فالمراد بإطلاق الشرط: كون كل من الشرطين تمام السبب لا جزؤه. انتهى هذا عين ما في «حقائق الأصول» ج 1، ص 461 «للسيد محسن الحكيم قدس سره».

=============

و لكن ما في «حقائق الأصول» إنما يتم مع بقاء إطلاق الشرط بحيث يؤثر كل بسبب وجود الجامع في ضمنه، حتى لا ينافي القاعدة العقلية، و يستقيم كلام المصنف، «فلا بد من المصير..» إلخ، لأن مقتضى القاعدة العقلية هو: أن الشرط في الحقيقة واحد و هو الجامع بين الشرطين، و أن المؤثر في ترتب الجزاء هو هذا الجامع لا كل شرط بخصوصه و عنوانه الخاص.

(1) لعله إشارة إلى عدم تمامية القاعدة العقلية و هي «عدم صدور الواحد إلا من الواحد» كما ذكر في محله، لأن تلك القاعدة العقلية لو تمت فهي مختصة بالعلل الطبيعية في التكوينيّات، فلا تجري في الأحكام التي هي من الاعتباريات، و على فرض عدم اختصاصها بالتكوينيات فهي لا تجري في المقام، لأن المراد بالواحد في موردها - أصلا و عكسا - هو الواحد الشخصي، و الواحد في المقام هو الواحد النوعي، إذ المفروض: كون سنخ الخفاء في المنطوق مرادا، كما أن سنخ الوجوب مراد في ناحية الجزاء، و على طبيعة الحال يصدر الواحد النوعي من المتعدد، كما يصدر المتعدد من الواحد النوعي، و الأول: كضياء البيت فإنه يتولد من نور القمر و الكهرباء و المصباح، و الثاني: كتولد نمو الإنسان و الشاة و النبات من الحرارة، سواء كانت من الشمس أو الرحم أو غيرهما، فيصح في المقام أن يكون وجوب القصر مستندا إلى الشرطين.

و المتحصل من الجميع: أنه قد رجح المصنف الوجه الثاني بلحاظ النظر العرفي فقال:

إن العرف يساعد على الوجه الثاني، و رجح الوجه الرابع بحسب النظر الدقي العقلي، فذهب إلى أن العقل يعيّنه لاستحالة تأثير المتعدد بما هو متعدد في واحد، فوحدة الجزاء تكشف عن وحدة المؤثر، و هو يقتضي أن يكون المؤثر هو الجامع بين الشرطين.

ص: 184

الأمر الثالث:

إذا تعدد الشرط و اتحد الجزاء (1) فلا إشكال على الوجه الثالث، و أما على سائر

=============

في تداخل الأسباب أو المسببات و عدمه

(1) و قبل الخوض في أصل البحث - و تحقيق المصنف فيه - ينبغي تقديم أمور:

1 - بيان ما هو المقصود بالبحث في هذا الأمر الثالث فنقول: إن المقصود الأصلي بالبحث في هذا الأمر الثالث هو: التداخل و عدمه، كما أن المقصود الأصلي بالبحث في الأمر الثاني هو دلالة القضية الشرطية على المفهوم، فيقع التعارض بين منطوق كل منهما و مفهوم الأخرى، و عدم دلالتها عليه فلا موضوع للتعارض، فالنزاع هنا إنما هو في تداخل المنطوقين مع قطع النظر عن المفهوم.

و لو لا هذا التفاوت لكان كلا الأمرين من باب واحد و هو تعدد الشرط و وحدة الجزاء إلاّ أن يقال: إن الأمر الثاني بمنزلة الصغرى، و الأمر الثالث بمنزلة الكبرى، بمعنى: أن البحث في الأمر السابق عن أصل سببية كل من الشرطين في الجزاء، و أن كلا منهما سبب مستقل أم لا؟ هذا بخلاف البحث في الأمر الثالث، فإن البحث هنا في السببين المستقلين هل يتداخلان في المسبب بأن يستتبعا مسببا واحدا - كوضوء واحد عقيب النوم و البول - أم لا؟

2 - إن التداخل على قسمين، أحدهما: التداخل في الأسباب. و ثانيهما: التداخل في المسببات. و أما الفرق بينهما: فلأن التداخل في الأسباب معناه عدم تأثير الشرط الثاني في الوجوب مثلا.

و تداخل المسببات بمعنى: أن الشرط الثاني قد أثر في الوجوب كالأول، غير إنه يندك الوجوب الثاني في الوجوب الأول، و يتأكد الأول بالثاني، فيكون هناك وجوب مؤكد متعلق بالجزاء، فيكتفي بإتيانه مرة واحدة، و يمكن أن يقصد بتداخل الأسباب: أن مقتضى القاعدة في مورد تعدد الشرط هل هو تعدد الجزاء أم عدم تعدده ؟ و يقصد بتداخل المسببات: أنه لو ثبت تعدد المسببات فهل مقتضى القاعدة تحقق امتثال الجميع بواحد أم لا؟ بل لا يتحقق إلا بالإتيان بالمتعلق بعدد أفراد الأسباب.

3 - إن محل الكلام في التداخل أو عدمه إنما هو: فيما إذا لم يعلم من الخارج ذلك، و إلا فهو خارج عن محل الكلام، كما هو الحال في الوضوء و الغسل حيث علم من الخارج أنه لا يجب على المكلف عند اجتماع أسبابه إلا وضوء واحد، و كذا الحال في الغسل، و منشأ هذا العلم هو الروايات الدالة على ذلك في كلا البابين.

ص: 185

الوجوه فهل اللازم لزوم الإتيان بالجزاء متعددا حسب تعدد الشروط، أو يتداخل و يكتفي بإتيانه دفعة واحدة فيه أقوال، و المشهور عدم التداخل، و عن جماعة منهم أما في باب الوضوء: فلأن الوارد في لسان عامة رواياته هو التعبير بالنقض مثل: «لا ينقض الوضوء إلا حدث»، و من الطبيعي أن صفة النقض لا تقبل التكرار و التكثر، فالنتيجة هي: أن التداخل في باب الوضوء إنما هو في الأسباب دون المسببات.

=============

و أما في باب الغسل: فلأن الوارد في لسان عدة من رواياته هو: إجزاء و كفاية غسل واحد من المتعدد، كصحيحة زرارة: «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة و الجمعة و عرفة و النحر و الحلق و الذبح و الزيارة، فإذا جمعت عليك حقوق الله أجزأها عنك غسل واحد». ثم قال: و لذلك «المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها و إحرامها و جمعتها و غسلها من حيضها وعيدها».

و كيف كان؛ فالنتيجة: أن المستفاد من هذه الروايات هو أن التداخل في باب الغسل إنما هو في المسببات لا في الأسباب.

هذا فيما إذا علم بالتداخل في الأسباب أو المسببات، و أما إذا لم يعلم بذلك، كما إذا أفطر الصائم في نهار شهر رمضان بالأكل أو الشرب أو الجماع مرات عديدة، فالمرجع فيه ما تقتضيه القاعدة. و تفصيل البحث في محله.

4 - يعتبر في موضوع بحث التداخل أمران:

أحدهما: قابلية الجزاء للتكرار، فيخرج من محل النزاع ما إذا لم يكن الجزاء قابلا للتكرار كالقتل مثلا، فإذا قال الشارع: «من زنى بمحصنة فاقتله، و من ارتد عن الدين فاقتله»، إذ لا يمكن قتل من زنى بمحصنة و ارتد عن الدين مرتين.

و ثانيهما: سببية كل واحد من الشرطين لترتب الجزاء عليه حتى يصح البحث عن التداخل فيقال: إن تعدد السبب هل يوجب التداخل في المسبب حتى يجوز الاكتفاء، بمسبب واحد أم لا يوجبه ؟ فيجب عقيب كل سبب من مسبب.

الأقوال في التداخل و عدمه

5 - الأقوال:

1 - عدم التداخل: و هو المشهور بين العلماء، و عليه: فيتعدد الجزاء و يتكرر العمل.

2 - التداخل: و هو المنسوب إلى جماعة منهم المحقق الخوانساري، و عليه: فلا يتعدد الجزاء، و يكفي الإتيان به مرة واحدة.

3 - التفصيل بين اختلاف جنس الشرطين كالبول و النوم، فيتعدد العمل و اتحاد جنسهما كالبول مرتين فيتداخل. هذا هو المنسوب إلى الحلي «قدس سره».

4 - هناك قول رابع لم يذكره المصنف و هو منسوب إلى نجل العلامة الحلي «قدس سره».

ص: 186

المحقق الخوانساري «رحمه الله» التداخل، و عن الحلي التفصيل بين اتحاد جنس الشروط و تعدده.

و التحقيق: أنه لمّا كان ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه أو بكشفه عن سببه، و كان قضيته تعدد الجزاء عند تعدد الشرط، كان الأخذ أن التداخل و عدمه يتفرعان على كون العلل الشرعية من قبيل الأسباب أو من قبيل المعرفات، فعلى الأول: لا يمكن التداخل؛ لعدم إمكان اجتماع العلل المتعددة على المعلول الواحد كما برهن عليه في علم الفلسفة.

=============

و على الثاني: يمكن التداخل، لأن جواز اجتماع معرفات عديدة على شيء واحد بمكان من الإمكان، و لا يحتاج إلى إقامة البرهان.

إذا عرفت هذه الأمور فيقع الكلام فيما هو التحقيق عند المصنف حيث قال:

«و التحقيق: أنه لمّا كان ظاهر الجملة الشرطية، حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه، أو بكشفه عن سببه» يعني: ظاهر الجملة الشرطية في كون الشرط علة و سببا للجزاء، و هو حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسبب الشرط، فيما إذا كان الشرط سببا حقيقيا للجزاء مثل قول الشارع: «إذا سافرت فقصر»، أو بكشف الشرط عن سببه فيما إذا كان معرّفا و مشيرا إلى ما هو الشرط حقيقة؛ كخفاء الأذان الذي يكون يكون أمارة على الشرط أعني به: البعد الخاص الذي هو حد الترخص.

و لا يخفى: أن الوجه الثالث من الوجوه المذكورة في الأمر الثاني خارج عن القول بالتداخل و عدمه كما أشار إليه بقوله: «فلا إشكال على الوجه الثالث»؛ لأن الإشكال في تداخل المسبب و عدمه لا يتمشى على ثالث الوجوه، إذ الوجه الثالث كان مبنيا على تقييد الإطلاق في كل من الشرطين، بحيث يكون المجموع شرطا واحدا، فلا مورد حينئذ لإشكال تداخل المسببات جوازا و منعا؛ لأن الشرط الواحد لا يقتضي إلا جزاء واحدا، فنفي التداخل على هذا الوجه الثالث يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع؛ إذ ليس في البين إلا مسبب واحد.

نعم؛ إن الإشكال في التداخل و عدمه يتمشى على سائر الوجوه الثلاثة الأخرى، المبنية على استقلال كل شرط في التأثير في الجزاء، و استتباع كل شرط جزاء مستقلا، و لازم ذلك: تعدد الجزاء بتعدد الشرط، فيجري النزاع حينئذ في التداخل و عدمه، أنه هل يكتفي بجزاء واحد أم لا بد من تعدده بتعدد الشرط؟ و كيف كان؛ فيقع الكلام فيما أفاده المصنف تحت عنوان «و التحقيق».

و توضيح ما أفاده يتوقف على مقدمة و هي: أن القضية الشرطية ظاهرة في حدوث

ص: 187

بظاهرها إذا تعدد الشرط حقيقة أو وجودا محالا، ضرورة: أن لازمه أن يكون الحقيقة الواحدة - مثل الوضوء - بما هي واحدة في مثل: (إذا بلت فتوضأ، و إذا نمت فتوضأ)، أو فيما إذا بال مكررا، أو نام كذلك، محكوما بحكمين متماثلين، و هو واضح الاستحالة كالمتضادين.

الجزاء عند حدوث الشرط؛ إذ هو مقتضى علية الشرط للجزاء، لأن أدوات الشرط وضعت لسببية الأول للثاني.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه لا بد من الالتزام بعدم التداخل، حيث إن التداخل مستلزم لاجتماع المثلين؛ لما عرفت في المقدمة: من علية الشرط للجزاء المستلزمة لحدوثه عند حدوث الشرط، و مقتضى هذا الاستلزام: تعدد الجزاء بتعدد الشرط. و الأخذ بهذا الظاهر محال؛ للزوم اجتماع حكمين مثلين - كوجوبين - في موضوع واحد و هو الجزاء كالوضوء - في مثل: «إذا بلت فتوضأ، و إذا نمت فتوضأ» - إذ المفروض: أن الوضوء حقيقة واحدة. و من المعلوم: أن اجتماع المثلين كاجتماع الضدين محال، و يلزم هذا المحذور على القول بالتداخل.

عدم لزوم اجتماع المثلين على القول بعدم التداخل

و أما على القول بعدم التداخل: فلا يلزم اجتماع المثلين، و لا التصرف في ظاهر القضية الشرطية؛ من حدوث الجزاء بحدوث الشرط بأن يقال: إن المسبب في كل واحد من الشرطين هو وجود من الطبيعة مغاير لوجودها في الشرط الآخر.

و أما على القول بالتداخل: فيلزم المحذور المذكور، و حينئذ: فلا بد من التصرف في ظاهر القضية الشرطية، إذ لا يمكن التفصي عن محذور اجتماع المثلين إلا بالتصرف بأحد وجوه ثلاثة:

1 - ما أشار إليه بقوله: «إما بالالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث»، و مرجع هذا الوجه إلى التصرف في ظهور الشرط في كونه علة لحدوث الجزاء برفع اليد عن ظهوره في ذلك، و إرادة ثبوت الجزاء عند ثبوته، و الثبوت أعم من الحدوث و البقاء، ففي صورة تقارن الشرطين زمانا يستند ثبوت الجزاء إلى الجامع بينهما، و في صورة ترتبهما و تقدم أحدهما على الآخر زمانا يستند ثبوت الجزاء إلى المتقدم منهما، فقوله: «إذا نمت فتوضأ» يدل على ثبوت وجوب الوضوء عند ثبوت النوم، فإن لم يسبقه البول مثلا استند حدوث الجزاء إلى النوم، و إن سبقه استند إليه، و إن قارنه استند إلى الجامع بينهما. فمعنى العبارة: إما بالالتزام بعدم دلالة الجملة الشرطية في حال تعدد الشرط على كون وجود الجزاء ناشئا من قبل الشرط مستقلا.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول - أما الوجه الثاني من وجوه التصرف - فقد أشار إليه

ص: 188

فلا بد على القول بالتداخل من التصرف فيه: إما بالالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث، بل على مجرد الثبوت، أو الالتزام بكون متعلق الجزاء و إن كان واحدا صورة، إلا أنه حقائق متعددة حسب تعدد الشرط متصادقة على واحد، فالذمة و إن اشتغلت بتكاليف متعددة حسب تعدد الشروط، إلا إن الاجتزاء بواحد لكونه مجمعا لها، كما في (أكرم هاشميا، و أضف عالما)، فأكرم العالم الهاشمي بالضيافة، ضرورة: أنه بضيافته بداعي الأمرين يصدق أنه امتثلهما، بقوله: «أو بالالتزام بكون متعلق الجزاء و إن كان واحدا صورة...» إلخ؛ لأن الجزاء في كلتا الجملتين هو قوله: «فتوضأ» «إلا إنه حقائق متعددة حسب تعدد الشروط» حقيقة، كأن نام وبال، أو وجودا، كأن نام مرتين أو بال كذلك، «متصادقة على» جزاء «واحد»؛ بأن بال و نام مرارا ثم توضأ وضوء واحدا، فهذا الوضوء و إن كان شيئا واحدا صورة إلا إنه حقائق متعددة حسب تعدد الشرط، مثلا: إن وجد الشرط مرتين كان هذا الوضوء حقيقتين، و إن وجد الشرط ثلاث مرات كان الوضوء حقائق متعددة، و هكذا، «فالذمة» حين تعدد الشرط «و إن اشتغلت بتكاليف متعددة حسب تعدد الشرط إلا إن الاجتزاء بواحد لكونه مجمعا لها» أي: للتكاليف المتعددة. فقوله: «لكونه» تعليل للاجتزاء بواحد، يعني: لكون الواحد مجمعا للتكاليف المتعددة، فالاكتفاء بوضوء واحد في المثال المذكور إنما هو لتصادق الوضوءات العديدة الواجبة بموجبات مختلفة عليه، و صدق الامتثال بالنسبة إلى الجميع.

=============

قوله: «ضرورة» تعليل للاجتزاء بالواحد الذي هو المجمع.

و حاصل التعليل: أن الإتيان بالمجمع بداعي الأمرين يوجب صدق امتثال الأمرين الموجب لسقوطهما.

و كيف كان؛ فمرجع هذا الوجه الثاني - من وجوه التصرف - إلى إبقاء الشرط على ظاهره من كونه علة لحدوث الجزاء، و إلغاء ظهور الجزاء في كونه بعنوانه موضوعا للحكم، فيقال: إن الوضوء مثلا الذي وجب تارة: بالنوم، و أخرى: بالبول و ثالثة: بمس الميت مثلا ليس حقيقة واحدة، بل هو حقائق متعددة حسب تعدد الشرط، حيث إن ظاهر كل شرط عليته لحدوث تكليف غير التكليف المسبب عن شرط آخر، فيكون الوضوء كالغسل من حيث وحدته صورة و تعدده حقيقة، لكنه مع كونه حقائق متعددة يصدق على واحد، كوجوب إكرام هاشمي، و ضيافة عالم، فإن الذمة و إن اشتغلت بتكليفين - و هما وجوب إكرام الهاشمي و وجوب إضافة العالم - إلا إنه إذا أضاف عالما هاشميا، فقد برئت ذمته من كليهما؛ لأنه يصدق حينئذ امتثالهما معا.

ص: 189

و لا محالة يسقط الأمر بامتثاله و موافقته، و إن كان له امتثال كل منهما على حدة، كما إذا أكرم الهاشمي بغير الضيافة، و أضاف العالم الغير الهاشمي.

إن قلت (1): كيف يمكن ذلك - أي: الامتثال بما تصادق عليه العنوانان - مع استلزامه (2) محذور اجتماع الحكمين المتماثلين فيه ؟

قلت (3): انطباق عنوانين واجبين على واحد لا يستلزم اتصافه بوجوبين، بل غايته أن انطباقهما عليه يكون منشأ لاتصافه بالوجوب و انتزاع صفته له، مع إنه - على

=============

(1) و حاصل الإشكال: أنه لا يندفع محذور اجتماع المثلين فيما إذا تصادق على المصداق الخارجي طبيعتان كصدق طبيعة الإكرام و طبيعة الضيافة على الإكرام بالضيافة؛ إذ يلزم اجتماع وجوبين في الضيافة الخارجية التي هي مصداق للطبيعتين المزبورتين، فيجتمع فيها وجوبان متماثلان، فجعل الجزاء حقائق عديدة لا يجدي في دفع إشكال اجتماع المثلين في المصداق الخارجي. و الضمير في قوله: «فيه» يعود إلى ما الموصولة أعني: ما في قوله: «بما تصادق عليه».

(2) أي: مع استلزام الامتثال بما تصادق عليه العنوانان محذور اجتماع المثلين، حيث يلزم أن يكون ضيافة العالم الهاشمي واجبا بوجوبين و هو مستحيل.

(3) هذا دفع للإشكال المذكور و حاصله: أن انطباق عنوانين واجبين على شيء واحد لا يوجب اتصافه بوجوبين؛ إذ العقل لا يجوّز اجتماع المثلين في محل واحد لاستحالته عقلا. فلا بد من كون هذا المصداق محكوما بوجوب واحد مؤكد؛ لكون منشأ انتزاعه شيئين و هما وجوب الإكرام و وجوب الضيافة، و لا يتصف بالوجوبين للمحذور العقلي و هو لزوم اجتماع المثلين في محل واحد، هذا مضافا إلى القول بجواز اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد ذي عنوانين، فلا مانع من اتصاف ضيافة العالم الهاشمي بالوجوبين لتعدد العنوان فيها و هما العالمية و الهاشمية.

و بعبارة أخرى: أنه لا محذور في اجتماع وجوبين في شيء واحد إذا كان فردا لعنوانين؛ لأن تعدد العنوان يكفي في رفع محذور اجتماع المثلين، فلا يلزم اجتماع المثلين في محل واحد على القول بجواز الاجتماع، و هذا الجواب الثاني، ما أشار إليه بقوله:

«مع إنه على القول بجواز الاجتماع».. إلخ.

و كيف كان؛ فالجواب الأول ناظر إلى عدم لزوم اجتماع المثلين بمجرد انطباق عنوانين.

و الثاني: ناظر إلى عدم لزوم محذور في الاجتماع إذا كان بعنوانين.

ص: 190

القول بجواز الاجتماع - لا محذور في اتصافه بهما، بخلاف ما إذا كان بعنوان واحد (1)، فافهم (2).

أو الالتزام (3) بحدوث الأثر عند وجود كل شرط، إلا أنه وجوب الوضوء في المثال عند الشرط الأول و تأكد وجوبه عند الآخر.

و لا يخفى (4): أنه لا وجه لأن يصار إلى واحد منها، فإنه رفع اليد عن الظاهر بلا

=============

(1) أي: كما هو ظاهر القضيتين في المثال المتقدم؛ لوحدة الجزاء فيهما في نحو: «إذا نمت فتوضأ، و إذا بلت فتوضأ».

(2) لعلة إشارة إلى لزوم اجتماع المثلين حتى على القول بجواز الاجتماع؛ إذ جواز الاجتماع إنما يصح في متعدد العنوان لا في متحد العنوان كالمثال المذكور، حيث إن الوضوء الواقع عقيب شرطين ليس إلا عنوانا واحدا، فيلزم اجتماع وجوبين في فرد واحد بعنوان واحد، و هو مستحيل حتى عند القائل بالجواز، فالجواب الثاني لا يخلو عن الضعف، بل عن الإشكال.

(3) هذا ثالث الوجوه من وجوه التصرف، و مرجعه إلى رفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في كون الشرط سببا مستقلا لوجود الجزاء، فيكون الشرط الأول مؤثرا في وجود الجزاء في الجملة، و الشرط الثاني مؤثرا في تأكّده الذي هو مرتبة شديدة من مراتب وجوده، فكل مرتبة من مراتب وجود الجزاء مستندة إلى أحد الشرطين، مع المحافظة على ظهورها في كون موضوع الجزاء بعنوانه موضوعا للحكم.

فالمتحصل: أن وجوب الوضوء - في المثال المذكور - ثابت عند حدوث الشرط الأول كالنوم مثلا، و لكن يتأكد وجوبه عند حدوث الشرط الآخر، كالبول مثلا، و لا يتولد وجوب آخر مثل الوجوب الأول عند حدوثه حتى يلزم اجتماع حكمين متماثلين فيه.

هذا تمام الكلام في الوجوه الثلاثة التي يمكن بها التفصي عن محذور اجتماع المثلين على القول بالتداخل.

(4) أي: لا يخفى ورود الإشكال في الوجوه الثلاثة المذكورة بأنه لا وجه لأن يصار إلى واحد منها؛ لأنها احتمالات في مقام الثبوت، و هي لا تجدي في دفع إشكال اجتماع المثلين ما لم يقم دليل عليها في مقام الإثبات؛ بل هي على خلاف الدليل إثباتا لكونها خلاف ظاهر الجملة الشرطية، فلا يصار إلى واحد منها لكونه رفع اليد عن الظاهر بلا وجه يوجبه كما أشار إليه بقوله: «فإنه رفع اليد عن الظاهر بلا وجه» يعني:

فإن المصير إلى واحد منها رفع اليد عن الظاهر بلا وجه.

ص: 191

وجه، مع ما في الأخيرين (1) من الاحتياج إلى إثبات أن متعلق الجزاء متعدد متصادق على واحد، و إن كان صورة واحدا سمي باسم واحد، كالغسل، و إلى (2) إثبات أن الحادث بغير الشرط الأول تأكد ما حدث بالأول، و مجرد الاحتمال (3) لا يجدي، ما لم يكن في البين ما يثبته.

إن قلت (4): وجه ذلك هو لزوم التصرف في ظهور الجملة الشرطية لعدم إمكان

=============

(1) أي مع ما في الوجه الثاني و الثالث من الإشكال، مضافا إلى الإشكال المشترك بينهما و بين الوجه الأول، و حاصل الإشكال المختص بالوجهين الأخيرين اللذين يكون أحدهما: التصرف في ظاهر الجزاء بجعله حقائق متعددة بتعدد الشرط متصادقة على واحد، و ثانيهما: الالتزام بكون الأثر الحادث في الشرط الأول نفس الوجوب، و في الشرط الثاني: تأكده.

الإشكال في الوجوه الثلاثة لحلّ التعارض بين منطوق شرط و مفهوم الآخر

و ملخص الإشكال المختص بهما هو: أنه لا بد في التصرف الأول منهما من إثبات كون الوضوء في قوله: «إذا نمت فتوضأ و إذا بلت فتوضأ» متعددا حقيقة، حتى يكون الوضوء الخارجي مصداقا لطبيعتين، و إثبات ذلك مشكل جدا، لعدم نهوض دليل عليه.

كما أنه لا بد في التصرف الثاني منهما من إثبات دلالة الشرط الأول على حدوث أصل الوجوب، و دلالة الشرط الثاني على تأكد الوجوب، و إثبات ذلك أيضا في غاية الإشكال.

و من المعلوم: أن مجرد احتمال هذين التصرفين لا يجدي في دفع محذور اجتماع المثلين، و حيث إنه لا دليل على شيء من التصرفات المذكورة فهي ساقطة عن الاعتبار، و لا يندفع بها غائلة اجتماع المثلين.

قوله: «كالغسل» مثال لما يكون واحدا صورة و متعددا حقيقة، فإن الغسل واحد صورة متعدد حقيقة، لتغاير آثاره الكاشف عن تعدد ماهيته.

(2) عطف على قوله: «إلى إثبات»، و المعطوف عليه راجع إلى التصرف في متعلق الجزاء بجعله حقائق متعددة، و المعطوف راجع إلى التصرف في ظهور الجملة الشرطية في حدوث الأثر عند وجود كل شرط، بجعل الأثر عقيب الشرط الأول نفس الوجوب، و عقيب الشرط الثاني تأكده، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 378».

(3) أي: مجرد احتمال التصرفات المذكورة لا يجدي في دفع اجتماع المثلين ما لم يثبتها دليل.

(4) هذا اعتراض على قول المصنف: «أنه لا وجه لأن يصار إلى واحد منها»، فيقال في تقريبه: إن وجه المصير إلى أحد الوجوه المتقدمة - على القول بالتداخل مع كونها

ص: 192

الأخذ بظهورها، حيث إن قضيته (1): اجتماع الحكمين في الوضوء في المثال، كما مرت الإشارة إليه (2).

قلت: نعم (3) إذا لم يكن المراد بالجملة - فيما إذا تعدد الشرط كما في المثال - هو وجوب الوضوء، مثلا بكل شرط غير ما وجب بالآخر (4)، و لا ضير (5) في كون فرد محكوما بحكم فرد آخر أصلا، كما لا يخفى.

خلاف الظاهر - هو لزوم الخروج عما هو ظاهر الشرطية من لزوم اجتماع المثلين المستحيل عقلا، فيجب التصرف في ظهور الجملة الشرطية لئلا يلزم محذور اجتماع الوجوبين في فعل واحد، و من المعلوم: أن الاستحالة العقلية قرينة جلية على ارتكاب خلاف الظاهر، فليس المصير إليه بلا وجه.

=============

(1) أي: قضية ظهور الجملة الشرطية في اجتماع الحكمين المتماثلين في الوضوء، و هو مستحيل.

فتجنّبا عن المحذور المذكور لا بد من الالتزام بإحدى التصرفات الثلاثة المذكورة.

(2) أي: مرت الإشارة إليه في أوائل البحث حيث قال: «ضرورة: أن لازمه أن يكون الحقيقة الواحدة - مثل الوضوء - بما هي واحدة... محكوما بحكمين متماثلين و هو واضح الاستحالة كالمتضادين».

(3) هذا جواب عن لزوم التصرف في ظهور الجملة الشرطية في اجتماع الحكمين المتماثلين.

و حاصل الجواب: أن التصرف و إن كان مسلّما إلا إنه لا يتعيّن أن يكون بأحد الوجوه المذكورة؛ بل يمكن صرف الجمل الشرطية عن ظاهرها بوجه آخر، و هو أن يكون متعلق الحكم في الجزاء في إحدى الجمل الشرطية فردا غير الفرد المتعلق له في الأخرى، فالوضوء الواجب في قوله: «إذا نمت فتوضأ» غير الفرد الواجب منه في قوله: «إذا بلت فتوضأ»، فالواجب في كل شرطية فرد لا نفس الطبيعة حتى يجتمع فيها الوجوبان، فيقال بلزوم اجتماع المثلين المستحيل عقلا، و على هذا الفرض - أعني: تعدد الوضوء في المثال المزبور - لا يلزم اجتماع المثلين أصلا، و ذلك لتباين الوضوء الواجب بشرط للوضوء الواجب بشرط آخر.

و بهذا التصرف يرتفع محذور اجتماع المثلين مع المحافظة على ظهور الشرطية في الحدوث عند الحدوث، بلا حاجة إلى ارتكاب إحدى التصرفات المذكورة.

(4) أي: غير الوضوء الذي وجب بالشرط الآخر، فالآخر صفة للشرط المقدر.

(5) أي: لا ضير في كون فردين من طبيعة محكومين بالوجوب؛ لعدم استلزام ذلك

ص: 193

إن قلت: نعم (1)، لو لم يكن تقدير تعدد الفرد على خلاف الإطلاق.

قلت: نعم (2)، لو لم يكن ظهور الجملة الشرطية - في كون الشرط سببا أو كاشفا عن السبب (3) - مقتضيا لذلك أي: لتعدد الفرد، و بيانا لما هو المراد من الإطلاق.

و بالجملة: لا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء (4)، و ظهور الإطلاق، اجتماع الحكمين المتماثلين في محل واحد لتعدد متعلق الوجوب و تباينه لتباين أفراد طبيعة. كما لا يخفى.

=============

(1) يعني: نعم يجب الحمل على تعدد الجزاء بتعدد الفرد، حتى لا يحتاج إلى التصرفات المذكورة، لو لم يكن فرض تعدد الفرد على خلاف إطلاق مادة الجزاء، أما لو كان على خلاف إطلاق مادة الجزاء: فاللازم هو التحفظ على الإطلاق، و الذهاب إلى إحدى التصرفات المذكورة، فجعل متعلق الحكم في الجزاء الفرد دون الطبيعة ليكون الوضوء الواجب بالشرط الأول مغايرا للوضوء الواجب بالشرط الثاني، و إن كان دافعا لمحذور اجتماع المثلين إلا إنه خلاف الظاهر أيضا، حيث إن ظاهر إطلاق مادة الجزاء أعني: قوله: «إذا بلت فتوضأ» هو وجوب مطلق الوضوء لا وجوب وضوء آخر، فإن تقييد الوضوء الواقع في الجزاء بقيد خلاف الإطلاق، فهذا الاحتمال كالاحتمالات السابقة مما لا يصار إليه، لكونه خلاف الظاهر.

(2) و حاصل ما أفاده المصنف في الجواب هو: منع الإطلاق المذكور المقتضي لتعلق الحكم بطبيعة الجزاء؛ لأن الإطلاق يتوقف على مقدمات الحكمة منها: عدم البيان، و عدم ما يصلح للبيانية، و من المعلوم: كون ظهور الجملة الشرطية في حدوث الجزاء عند وجود الشرط - المستلزم لتعدد أفراد الجزاء عند تعدد الشرط بيانا - يكون مانعا عن انعقاد الإطلاق الموجب لإرادة الطبيعة في الجزاء، فلا بد من إرادة وجودات الطبيعة لا نفسها، و لازم ذلك تعدد الجزاء بتعدد الفرد؛ إذ كل فرد يحدث عقيب شرط مغاير لفرد يحدث عقيب شرط آخر، فلا يتحد الجزاء حتى يلزم اجتماع مثلين.

(3) أي: كما إذا كان الشرط معرّفا لما هو المؤثر كخفاء الجدران على فرض كونه أمارة، على البعد الذي هو الشرط حقيقة لوجوب القصر.

(4) أي: المقتضي للتعدد، بمعنى: أن كل شرط يقتضي جزاء غير الجزاء الذي يقتضيه شرط آخر، و لازم هذا الظهور هو: تعدد الجزاء بتعدد الشرط أي: لا دوران بين ظهور الجملة الشرطية في حدوث الجزاء المقتضي لتعدده بتعدد الشرط، و بين ظهور إطلاق مادة الجزاء كالوضوء في نفس الطبيعة المقتضي لوحدة الجزاء، الموجبة لاجتماع المثلين على واحد.

ص: 194

ضرورة: أن ظهور الإطلاق يكون معلقا على عدم البيان، و ظهورها في ذلك صالح لأن يكون بيانا، فلا (1) ظهور له مع ظهورها، فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرف (2) أصلا، بخلاف القول بالتداخل كما لا يخفى.

فتلخص بذلك، أن قضية ظاهر الجملة الشرطية هو القول بعدم التداخل عند تعدد الشروط.

و قد انقدح مما ذكرناه (3): أن المجدي للقول بالتداخل هو أحد الوجوه التي وجه عدم الدوران بينهما: ما تقدم من عدم الإطلاق بعدم تمامية مقدمات الحكمة التي منها عدم البيان؛ لأن ظهور الجملة الشرطية في حدوث الجزاء عند وجود الشرط صالح لأن يكون بيانا لما هو المراد من الجزاء و هو الفرد لا الطبيعة، فلا وجه مع هذا الظهور لإرادة الطبيعة حتى يلزم اجتماع الحكمين المتماثلين في واحد. و كيف كان؛ فلا دوران أصلا بعد ما يصلح للبيانية و توقف الإطلاق على عدم ما يصلح للبيانية.

=============

(1) هذا متفرع على كون ظهور الشرط مقتضيا للتعدد، و بيانا لما أريد من إطلاق متعلق الحكم في الجزاء، فمع هذا الظهور لا ينعقد ظهور إطلاق الجزاء في إرادة نفس الطبيعة.

(2) فلا يلزم تصرف في ظهور الجملة الشرطية بأحد الوجوه المتقدمة أصلا، و ذلك لتعدد الجزاء بتعدد الشرط الذي يقتضيه ظاهر الشرط من حدوث الجزاء عند كل شرط، فالحادث عند كل شرط جزاء غير الجزاء الذي يقتضيه شرط آخر.

هذا بخلاف القول بالتداخل، حيث لا بد من التصرف في ظاهر الشرطية بأحد الوجوه المتقدمة، لئلا يلزم اجتماع المثلين في واحد.

فتلخص بما ذكر؛ من عدم الدليل على شيء من التصرفات المذكورة: أن مقتضى ظاهر الجملة الشرطية هو حدوث الجزاء عند كل شرط، بحيث يكون لكل شرط جزاء مستقل، و هذا يقتضي عدم التداخل عند تعدد الشرط.

(3) أي من ظهور القضية الشرطية في تعدد المسبب بتعدد السبب، فلا بد من أحد وجوه التصرفات المتقدمة على القول بالتداخل. هذا هو المجدي للقول بالتداخل، «لا مجرد كون الأسباب الشرعية معرفات لا مؤثرات».

و هذا من المصنف إشارة إلى ردّ ما نسب إلى الفخر و غيره من ابتناء القول بالتداخل و عدمه على كون الأسباب الشرعية معرفات أو مؤثرات، فعلى القول بأنها معرفات:

يلتزم بالتداخل، و على القول بأنها مؤثرات: يلتزم بعدم التداخل، فيقع الكلام تارة: في توضيح ما نسب إلى الفخر من ابتناء القول بالتداخل على المعرفية و عدمه على المؤثرية.

ص: 195

ذكرناها، لا مجرد كون الأسباب الشرعية معرفات لا مؤثرات، فلا وجه لما عن الفخر و غيره، من ابتناء المسألة على أنها معرفات أو مؤثرات، مع إن الأسباب و أخرى: فيما أفاده المصنف في ردّ كلام الفخر «قدس سره».

=============

و أما توضيح ما نسب إلى الفخر فيتوقف على مقدمة و هي: بيان الفرق بين كون الأسباب الشرعية معرفات، و بين كونها مؤثرات.

و خلاصة الفرق: أنه يجوز أن يكون لشيء واحد معرفات عديدة و علامات متعددة كالإنسان مثلا، حيث إنه قد يعرف بالحيوان الناطق، و قد يعرف بالحيوان الضاحك، و قد يعرف بالناطق أو الضاحك وحده. و لا يجوز أن يكون لشيء واحد مؤثرات كثيرة، و ذلك لاستحالة توارد المؤثرين المستقلين على أثر واحد كما برهن عليه في محله.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه لا بد من الالتزام بالتداخل بناء على المعرفية؛ لإمكان أمارية أمور متعددة على مؤثر واحد و حكايتها عنه بأن يقال: إن ما جعله الشارع سببا لشيء ليس في الحقيقة مؤثرا و إنما كاشف عن مؤثر حقيقي واقعي، مثلا: خفاء كل من الأذان و الجدران و إن كان في ظاهر الدليل سببا لوجوب القصر، و لكن في الحقيقة إنما هما معرفان عن البعد الخاص عن محل السكنى، و كذا جعل كل من النوم و البول سببا لوجوب الوضوء في مثل: «إذا نمت فتوضأ، و إذا بلت فتوضأ» ليس على نحو الحقيقة، بل هما كاشفان عن السبب الحقيقي. و هكذا غيرهما من سائر الأمثلة، فالمؤثر في الواقع يكون واحدا، و كان كل من النوم و البول من علامات ذلك المؤثر، و مع احتمال وحدة المؤثر واقعا لا وجه للحكم بتعدد المسبب هذا هو معنى التداخل.

و أما بناء على المؤثرية: فلا بد من الالتزام بعدم التداخل؛ لاقتضاء كل مؤثر أثرا مستقلا.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما نسب إلى الفخر؛ من ابتناء القول بالتداخل و عدمه على المعرفية و المؤثرية.

و أما ما أفاده المصنف في ردّ كلام الفخر فحاصله: أن كلام الفخر مخدوش بوجهين، الوجه الأول: ما أشار إليه بقوله: «و قد انقدح مما ذكرناه: أن المجدي للقول بالتداخل هو أحد الوجوه التي ذكرناها». و الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «مع إن الأسباب الشرعية حالها حال غيرها».

و خلاصة الكلام في الوجه الأول: أن مجرد معرفية الأسباب الشرعية لا تقتضي المصير إلى التداخل؛ لإمكان معرفية الأسباب الشرعية المتعددة لأسباب حقيقية متعددة، و يكفي في إرادة احتمال تعدد السبب الحقيقي من الأسباب الشرعية المتعددة: ظهور

ص: 196

الشرعية حالها حال غيرها في كونها معرفات تارة، و مؤثرات أخرى، ضرورة (1): أن الشرطية في تعدد المسبب بتعدد السبب، فإن هذا الظهور يدل على تعدد السبب الحقيقي.

=============

فالنتيجة: أن مجرد كون الأسباب الشرعية معرفات لا يوجب القول بالتداخل؛ إذ تعدد الكاشف مستلزم لتعدد المنكشف، فإذا كشف النوم عن ظلمة باطنية - و هي موجبة للوضوء - كشف البول عن ظلمة باطنية أخرى و هي أيضا موجبة له، فتعدد الظلمات يقتضي تعدد المسبب. أعني: وجوب الوضوء، فلا مجال للتداخل. و المراد بقوله:

«المسألة» هو مسألة التداخل. هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

و أما الوجه الثاني: فحاصله: أنه لا فرق بين السبب الشرعي و العرفي، فإنهما قد يكونان كاشفين كما في قوله: «إن لبس الأمير أصفر فاحذره و إذا أذن المؤذن فصلّ »، و قد يكونان مؤثرين كما في قوله: «إن غضب الأمير فاحذره، و إن كثر الماء لا ينفعل بالملاقاة»، و إن كان ظاهر التعليق في كليهما المؤثرية.

و كيف كان؛ فمرجع هذا الوجه الثاني إلى ضعف المبنى و هو كون الأسباب الشرعية مطلقا معرفات لا غير.

وجه الضعف: أنه لا دليل على كون الأسباب الشرعية معرفات، و أنه لا أصل لما اشتهر: من أن الأسباب الشرعية معرفات، بل هي على نوعين كما عرفت كالأسباب الغير الشرعية، فالسبب الشرعي المؤثر كالاستطاعة الموجبة للحج، و المعرف كخفاء الأذان الذي هو معرّف لما هو المؤثر في وجوب القصر، و هو البعد الخاص. و السبب الغير الشرعي المؤثر كطلوع الشمس المؤثر في ضوء العالم، و المعرف كضوء العالم الذي هو المعرف لطلوع الشمس.

كما أشار إليه بقوله: «في كونها معرفات تارة، و مؤثرات أخرى».

ردّ المصنف على القول بأن التداخل مبني على كون الأسباب الشرعية المعرفات لا المؤثرات 196

(1) تعليل لكون الأسباب الشرعية كغيرها في كونها معرفات تارة، و مؤثرات أخرى و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 384» - أنه قد يكون شرط الحكم الشرعي مؤثرا في ترتب الحكم عليه؛ بحيث لولاه لما وجدت للحكم علة، كقوله: «إذا شككت فابن على الأكثر»، و قد يكون أمارة على ما هو المؤثر في الحكم، كخفاء الجدران الذي هو أمارة على التجاوز عن حد الترخص الذي يترتب عليه وجوب القصر.

كما أنه قد يكون شرط الحكم غير الشرعي مؤثرا؛ كطلوع الشمس بالنسبة إلى وجود النهار، و قد يكون أمارة على ما هو المؤثر؛ كضوء العالم الذي هو أمارة طلوع الشمس، الذي هو المؤثر في وجود النهار.

ص: 197

الشرط للحكم الشرعي في الجمل الشرطية، ربما يكون مما له دخل في ترتب الحكم، بحيث لولاه لما وجدت له علة، كما أنه في الحكم الغير الشرعي قد يكون أمارة على حدوثه بسببه، و إن كان ظاهر التعليق أن له الدخل فيهما، كما لا يخفى.

نعم (1)؛ لو كان المراد بالمعرفية في الأسباب الشرعية إنها ليست بدواعي الأحكام التي هي في الحقيقة علل لها (2)، و إن كان لها دخل في تحقق موضوعاتها، بخلاف الأسباب الغير الشرعية، فهو و إن كان له وجه إلا إنه مما لا يكاد يتوهم أنه يجدي فيما همّ و أراد.

و الحاصل: أن الشرط الشرعي كغيره قد يكون مؤثرا، و قد يكون أمارة، فجعل الأسباب الشرعية معرفات دائما مما لا وجه له.

=============

و الضمائر في «لولاه» «أنه» «له» ترجع إلى الشرط، و في قوله: «فيهما» يرجع إلى الحكم الشرعي و غيره. كما أن الضمير في «حدوثه» يرجع إلى الحكم الغير الشرعي.

(1) استدراك على الإشكال الثاني الذي أفاده بقوله: «مع إن الأسباب الشرعية حالها حال غيرها».

و حاصل الاستدراك: أن المعرف في الأسباب الشرعية إن أريد به ما لا يكون ملاكا للحكم - أعني به: المصالح و المفاسد التي هي من الخواص الثابتة في الأشياء - فالمعرف حينئذ يكون نفس موضوع الحكم، أو مما هو دخيل في قوامه كأجزائه و شرائطه، لا خارجا عنه و أمارة عليه. فإن كان المراد بالمعرف هذا المعنى: فلا مانع من دعوى الإيجاب الكلي و هو كون الأسباب الشرعية طرّا معرفات بمعنى: عدم كونها مصالح و مفاسد.

(2) أي: للأحكام. و وجه عدم كون الأسباب الشرعية دواعي الأحكام: أن الداعي هو الملاك الموجب لترجح وجود فعل المكلف على عدمه، و يعبر عنه بالمصلحة، أو ترجح عدم فعله على وجوده، و يعبر عنه بالمفسدة، و السبب الشرعي الواقع في حيّز أداة الشرط حاك عن الملاك الذي بوجوده العلمي دخيل في تشريع الحكم، فلا يمكن أن يكون ملاك الحكم و كاشفا عنه، ضرورة: أن الأسباب الشرعية الواقعة عقيب أدوات الشرط دائما إما بنفسها موضوعات الأحكام، و إما دخيلة في موضوعاتها كأجزائها و شرائطها، فهي حينئذ متأخرة رتبة عن ملاكات الأحكام، فلا يعقل أن تكون هي ملاكات لها، و كواشف عنها؛ و إلا لزم كون ما هو متأخر رتبة متقدما، فإذا قال: «إذا قرأت آية السجدة فاسجد، و إذا سهوت في الصلاة فاسجد» فإن قضية الشرطية لزوم الإتيان

ص: 198

ثم إنه (1) لا وجه للتفصيل بين اختلاف الشروط بحسب الأجناس و عدمه، و اختيار عدم التداخل في الأول، و التداخل في الثاني إلا توهم عدم صحة التعلق بعموم بالسجدة مرتين، و من المعلوم: عدم كون القراءة و السهو في هاتين القضيتين سببا واقعيا أي: ملاكا لوجوب السجود، و لا لازما للسبب الواقعي؛ بل لهما دخل في الموضوع الذي تقوم به المصلحة الداعية إلى إيجاب السجود، فالمصلحة مترتبة على الموضوع، و متأخرة عنه وجودا، و ليست في عرضه، فيمتنع أن يكون الموضوع بقيوده لازما متأخرا وجودا عن العلة الغائية، بعد وضوح كون العلة الغائية متأخرة وجودا عن الموضوع و قيوده، فلا يكون الموضوع المتقدم عليها كاشفا عنها. نعم؛ إيجاب الشارع كاشف عن العلة الغائية، ككشف سائر المعلولات عن عللها.

=============

و بالجملة: لو كان المراد بكون السبب الشرعي معرفا: إنه ليس علة غائية للحكم و إن كان علة مادية له؛ بأن يكون موضوعا له، أو مما له دخل في موضوعه كان له وجه، لكنه لا يجدي فيما أفاده الفخر «قدس سره» كما سيأتي، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 387».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية: و الضمير في قوله: «لها دخل» يعود إلى الأسباب الشرعية، فمعنى العبارة: و إن كان للأسباب الشرعية دخل في تحقق موضوعات الأحكام، بخلاف الأسباب غير الشرعية التي هي علل لأحكامها.

«فهو و إن كان له وجه» أي: فكون المراد بالمعرفية عدم كون الأسباب الشرعية دواعي الأحكام و إن كان له وجه، حيث إن الأسباب الشرعية حينئذ لا تكون مصالح و مفاسد حتى تستتبع آثارا متعددة بتعددها، فلا يتحقق التداخل، لكنه لا يجدي فيما أراده من ابتناء التداخل على المعرفية، و ذلك لأن المراد بالمعرف حينئذ هو موضوع الحكم الشرعي، و من المعلوم: أن كل موضوع يقتضي حكما، و كل شرط يقتضي حدوث جزاء «إلاّ إنه مما لا يكاد يتوهم أنه يجدي فيما همّ و أراد» أي: إلاّ إن كون المراد بالمعرفية عدم كونها علل الأحكام و دواعيها لا يجدي فيما أراد من التداخل بناء على معرفية الأسباب الشرعية.

فالنتيجة: أنه بناء على معرفية الأسباب الشرعية لا يلزم القول بالتداخل.

عدم صحة التفصيل بين اختلاف الشروط بحسب الأجناس و عدمه

(1) الضمير للشأن. هذا إشارة إلى ما اختاره ابن ادريس الحلي «قدس سره» من التفصيل بين اتحاد جنس الشروط: كالبول مرتين أو مرات، و بين اختلاف جنس الشروط، كالبول و النوم و الجنابة، فقال بالتداخل في الأول، و بعدمه في الثاني. قال في السرائر في مسألة وطء الحائض ما لفظه: «فإذا كرر الوطء فالأظهر أن عليه تكرار

ص: 199

اللفظ في الثاني، لأنه من أسماء الأجناس، فمع تعدد أفراد شرط واحد لم يوجد إلا الكفارة، لأن عموم الأخبار يقتضي أن عليه بكل دفعة كفارة، و الأقوى عندي و الأصح:

=============

أن لا تكرر في الكفارة، لأن الأصل براءة الذمة و شغلها بواجب يحتاج إلى دلالة شرعية. فأما العموم فلا يصح التعلق به في مثل هذه المواضع، لأن هذه أسماء الأجناس و المصادر، أ لا ترى أن من أكل في شهر رمضان متعمدا، و كرر الأكل لا يجب عليه تكرار الكفارة بلا خلاف». و قال في بحث موجبات سجدتي السهو من كتاب السرائر:

«فإن سها المصلي في صلاته بما يوجب سجدتي السهو مرات كثيرة في صلاة واحدة، أ يجب عليه في كل مرة سجدتا السهو أو سجدتا السهو عن الجميع ؟ قلنا: إن كانت المرات من جنس واحد فمرة واحدة بحسب سجدتا السهو، مثلا: تكلم ساهيا في الركعة الأولى، و كذلك في باقي الركعات، فإنه لا يجب عليه تكرار السجدات، بل يجب عليه سجدتا السهو فحسب، لأنه لا دليل عليه». إلى أن قال: «فأما إذا اختلف الجنس، فالأولى عندي؛ بل الواجب الإتيان عن كل جنس بسجدتي السهو، لأنه لا دليل على تداخل الأجناس، بل الواجب إعطاء كل جنس ما تناوله اللفظ.» إلخ.

و أما وجه هذا التفصيل فهو: أن الشرط فيما إذا كان من أسماء الأجناس هي نفس الطبيعة، و لا يتعدد بتعدد أفرادها، فإذا كانت واحدة فالشرط واحد و كان المسبب و المشروط أيضا واحدا، و هذا معنى التداخل.

و أما إذا كان جنس الشرط مختلفا: فمقتضى ظاهر الجملة الشرطية هو كون الشرط طبيعتين أو طبائع، فإذا كان الشرط متعددا كان المسبب و المشروط متعددا قهرا، و هذا معنى عدم التداخل.

و المتحصل: أنه لا وجه لهذا التفصيل إلا توهم عدم صحة التشبّث بعموم اللفظ في الثاني - كما أشار إليه بقوله: «إلا توهم..» إلخ.

و توضيح هذا التوهم: أن اسم الجنس قد وضع لنفس الطبيعة المهملة التي لا تدل على العموم، فالنوم مثلا الذي هو مادة «نمت» في قوله: «إذا نمت فتوضأ»(1) لا يدل إلا على نفس الطبيعة، فإذا علق عليها حكم - كوجوب الوضوء - لا يفهم منه إلا كون صرف الوجود من الطبيعة موضوعا لذلك الحكم؛ لا كل وجود من وجوداتها، فموضوعية كل وجود من وجوداتها للحكم منوطة بالدليل. و هذا بخلاف الشروط المختلفة جنسا، فإن صرف الوجود من كل طبيعة من طبائع الشروط المتعددة شرط

ص: 200


1- في التهذيب، ج 1، ص 7، ح 7: «.. إذا نام مضجعا فعليه الوضوء».

السبب الواحد، بخلاف الأول، لكون (1) كل منها سببا فلا وجه لتداخلها، و هو فاسد، فإن قضية إطلاق الشرط في مثل إذا بلت فتوضأ هو حدوث الوجوب عند كل مرة لو بال مرات، و إلا فالأجناس المختلفة لا بد من رجوعها إلى واحد، فيما جعلت شروطا و أسبابا لواحد، لما مرت إليه الإشارة من أن الأشياء المختلفة بما هي مختلفة لا تكون أسبابا لواحد، هذا كله فيما إذا كان موضوع الحكم في الجزاء قابلا للتعدد.

مستقل للحكم، له أثر مستقل، فلا وجه للتداخل بخلاف الشروط المتحدة جنسا، فإنه لا بد من التداخل فيها، و لا يصح نفي التداخل بعموم اللفظ، و هذا التوهم فاسد كما أشار إليه بقوله: «و هو فاسد»، لأن مقتضى إطلاق الشرط في مثل: «إذا بلت فتوضأ» هو حدوث الوجوب للوضوء عند كل مرة إذا بال المكلف مرتين أو مرات على طبق الشرطين المختلفين جنسا كالنوم و البول، و إن لم يكن الأمر كذلك فيقال:

=============

يجب في الشروط المختلفة - كالنوم و البول و الجنابة مثلا - أن يرجع إلى قدر جامع بينها يكون هو الشرط و المؤثر واقعا، فلا بد من القول بالتداخل، لاستحالة صدور الواحد عن المتعدد؛ بل لا يصدر الواحد إلا من الواحد كما هو المعروف بين الفلاسفة.

فإذا قال الحلي بالتداخل: فليقل به في كلا الموردين، و إذا قال بعدمه: فليقل به فيهما، فلا يصح التفكيك بينهما.

و هذا البحث إنما يصح فيما إذا كان موضوع الحكم في الجزاء قابلا للتكرار و التعدد كالوضوء و الغسل و التيمم مثلا، و أما ما لا يكون قابلا للتعدد: فلا بد من القول بتداخل الأسباب، بأن تكون الأسباب المتعددة سببا واحدا لئلا يلزم اجتماع العلل المتعددة على المعلول الواحد، و معنى رجوع الأسباب المتعددة إلى سبب واحد هو: كون المؤثر هو الجامع بينها المنطبق على الجميع.

(1) تعليل لتعدد الجزاء، و حاصله: أن كل قضية تقتضي جزاء مستقلا، فقوله:

«إذا نمت فتوضأ، و إذا بلت فتوضأ» يدل على وجوب وضوء عقيب كل من الشرطين المختلفين حقيقة، فإن صرف الوجود من كل شرط يقتضي جزاء على حدة.

هذا ما أشار إليه بقوله: «فلا وجه لتداخلها» أي: فلا وجه لتداخل الأجناس إذا كانت الشروط من الأجناس المختلفة.

قوله: «فإن قضية» تقريب لفساد التوهم المزبور، و قد عرفت ذلك، فلا حاجة إلى التكرار. و في المقام بحث طويل أضربنا عنه تجنبا عن التطويل الممل.

ص: 201

و أما ما لا يكون قابلا لذلك (1): فلا بد من تداخل الأسباب فيما لا يتأكد المسبب، و من التداخل فيه (2) فيما يتأكد.

=============

(1) كما إذا قال: «إذا ارتد زيد فاقتله، و إن لاط فاقتله»، حيث لا يكون القتل قابلا للتكرار، «فلا بد من تداخل الأسباب»، لئلا يلزم اجتماع العلل المتعددة على المعلول الواحد.

(2) أي: لا بد من التداخل في المسبب فيما يتأكد، مثل تأكد الوجوب الأول بالوجوب الثاني في بعض الأمثلة. و من أمثلة تأكد المسبب: كما لو مات في البئر حيوانان، فإن النجاسة و إن لم تكن قابلة للتعدد إلا إنها قابلة للتاكد، كما ذهب إليه قدماء الأصحاب.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - إنه لا خلاف في استعمال القضية الشرطية و إرادة الانتفاء عند الانتفاء منها - و هو المفهوم - و إنما الخلاف في كون هذا الاستعمال بالوضع أو بقرينة عامة كمقدمات الحكمة، بحيث لا بد من الحمل على المفهوم لو لم تقم قرينة على خلافه من حال أو مقام.

و دلالة الشرطية على المفهوم مبنية على أمور:

الأول: أن يكون الشرط راجعا إلى مفاد الهيئة، بأن يكون مفاد الشرطية تعليق مضمون جملة على جملة أخرى؛ بأن يكون ترتب الجزاء على الشرط من قبيل ترتب المعلول على علته المنحصرة.

الثاني: أن تكون الملازمة بين الشرط و الجزاء ثابتة.

الثالث: أن تكون الشرطية ظاهرة في أن ترتب الجزاء على الشرط ترتب المعلول على العلة.

الرابع: أن تكون الشرطية ظاهرة في كون الشرط علة منحصرة.

فعلى القائل بالمفهوم إثبات هذه الأمور حتى تمت دلالتها عليه.

و أما القائل بعدم الدلالة: فلا يحتاج إلى إقامة الدليل، بل يكفي له منع دلالة الشرطية على المفهوم بعدم ثبوت واحد من هذه الأمور بأن يقول بمنع الملازمة، أو منع ظهور الشرطية في ترتب الجزاء على الشرط، أو منع ظهورها في كون الترتب من قبيل الترتب على علته المنحصرة.

ص: 202

2 - هناك وجوه استدل بها على المفهوم:

الأول: دعوى تبادر اللزوم و الترتب على العلة المنحصرة من الشرطية.

و حاصل الجواب عن هذه الدعوى: أن هذه الدعوى مع كثرة استعمالها في الترتب على العلة الغير المنحصرة بل في مطلق اللزوم بعيدة؛ إذ كيف تصح هذه الدعوى مع كون الاستعمال في مطلق اللزوم و الترتب على نحو العلة الغير المنحصرة و العلة المنحصرة على نهج واحد و ليس استعمالها في مطلق اللزوم بالعناية و المجاز.

و عليه: فليس لها مفهوم في جميع موارد استعمالها؛ بل لها مفهوم في بعض الموارد لوجود الأمور المقومة للمفهوم.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و أما دعوى الدلالة بادعاء انصراف إطلاق العلاقة اللزومية إلى ما هو أكمل أفرادها»، و هو اللزوم على نحو الترتب على العلة المنحصرة؛ لأنه أكمل أفراد العلاقة اللزومية، فيثبت المفهوم لأجل هذا اللزوم.

إلا إن هذه الدعوى فاسدة بوجوه:

1 - أن الموجب للانصراف المفيد للإطلاق هو أنس اللفظ بالمعنى الناشئ عن كثرة الاستعمال دون الأكملية.

2 - أن الانصراف المزبور بعد تسليم كون الأكملية موجبة له ممنوع في خصوص المقام، لانتفاء ما يعتبر في الانصراف من كون الفرد المنصرف إليه هو الغالب من حيث الاستعمال، و ليس الأمر في المقام كذلك.

3 - منع أكملية اللزوم الثابت بين العلة المنحصرة و معلولها، من اللزوم بين العلة الغير منحصرة و معلولها..

و كيف كان؛ فالانحصار لا يوجب أن يكون بين العلة المنحصرة و معلولها أقوى من الربط بين العلة الغير المنحصرة و معلولها.

الثالث: ما أشار إليه بقوله: «إن قلت: نعم، و لكنه قضية الإطلاق بمقدمات الحكمة».

تقريب هذا الوجه الثالث على المفهوم أن يقال: إن ما تقدم من عدم دلالة الشرطية بالوضع على انحصار العلة في الشرط و إن كان صحيحا إلاّ إن مقتضى مقدمات الحكمة هو الانحصار؛ إذ لو كان هناك شرط آخر لكان على المتكلم بيانه فيقول: بدل «إن جاءك زيد فأكرمه»: «إن جاءك زيد أو أرسل كتابا فأكرمه»، فعدم بيان العدل مع كونه في مقام البيان يقتضي كون الشرط علة منحصرة، فيستفاد المفهوم حينئذ من الإطلاق.

ص: 203

و حاصل جواب المصنف: أن التمسك بالإطلاق لإثبات انحصار العلة في الشرط المذكور في القضية الشرطية إنما يتم فيما جرت فيه مقدمات الحكمة؛ بأن يكون قابلا للإطلاق و التقييد، و ليس معنى أدوات الشرط قابلا للتقييد لأنها حروف. و ثانيا إن تعيّن اللزوم بين العلة المنحصرة و معلولها من بين أنحاء اللزوم بلا معيّن.

و قياسه بتعيّن الوجوب النفسي بإطلاق صيغة الأمر قياس مع الفرق. و الفرق: أن الوجوب النفسي ثابت على كل حال، و الوجوب الغيري ثابت على تقدير وجوب آخر فيحتاج إلى بيان.

هذا بخلاف اللزوم و الترتب، فإن كل قسم من أقسام اللزوم يحتاج في تعيّنه إلى بيان و قرينة بلا تفاوت بينها أصلا.

الرابع: ما أشار إليه بقوله: «ثم إنه ربما يتمسك للدلالة على المفهوم بإطلاق الشرط، بتقريب أنه لو لم يكن منحصرا يلزم تقييده»، فعند الإطلاق يعلم أنه يؤثر مطلقا فيكون علة منحصرة.

و حاصل الجواب عن هذا الوجه الرابع: أنه لو تم الإطلاق لدل على المفهوم، و لكن الكلام في تماميته؛ إذ محل الكلام هو الإطلاق الأحوالي و المقامي، لا الإطلاق اللفظي بأن يكون المتكلم في مقام بيان حدود العلة، و لم يعلم كون المتكلم في بيان انحصار الشرط، غاية ما علم أنه في مقام بيان كون الجزاء مترتبا على الشرط؛ من دون بيان كون الترتب عليه بنحو العلة المنحصرة.

فالنتيجة: أنه لم يقم دليل على وضع أدوات الشرط للخصوصية المستلزمة للمفهوم.

3 - «أما توهم: أنه قضية إطلاق الشرط»، يعني: مقتضى إطلاق الشرط هو: تعيّن الشرط في التأثير، و لازم تعيّنه كذلك هو: الانتفاء عند الانتفاء، كما أن مقتضى إطلاق الأمر هو تعيّن الوجوب التعييني في مقابل الوجوب التخييري.

توضيح ذلك: أن الإطلاق في المقام يمكن أن يكون نافيا للانضمام الذي يقتضيه العطف بالواو، و يعبر عنه بالإطلاق الواوي، و يمكن أن يكون نافيا للعدل الذي يقتضيه العطف بأو و يعبر عنه بالإطلاق الأوي، و الفرق بين هذا الإطلاق و الإطلاق المتقدم الذي تقدم في قوله: «ربما يتمسك..» إلخ هو: أن الإطلاق هناك هو الإطلاق الواوي و الإطلاق هنا هو الإطلاق الأوي، فيكون مثبتا لتعيّن الشرط في العلة و المؤثرية، و نافيا لوجود عدل للشرط، نظير إطلاق صيغة الأمر حيث كان نافيا للعدل و مثبتا للوجوب

ص: 204

التعييني - و كيف كان؛ فمقتضى الإطلاق هو: عدم عدل للشرط، فيكون علة منحصرة للجزاء، فينتفي الجزاء عند انتفاء الشرط و هو المفهوم.

و حاصل ما أفاده المصنف في الجواب عن هذا التوهم هو: فساد قياس العلة المنحصرة بالوجوب التعييني، لكونه مع الفارق، و الفرق بينهما: أن الوجوب التعييني مغاير للوجوب التخييري ثبوتا و إثباتا.

أما ثبوتا: فلأن مصلحة الوجوب التعييني غير مصلحة الوجوب التخييري حيث إن المصلحة في الأول قائمة بنفس الواجب، و في الثاني قائمة بالجامع بين أمرين أو أمور.

و أما إثباتا: فلأن دليل الوجوب التخييري متضمن لبيان العدل، بخلاف الوجوب التعييني، حيث لا يحتاج إلى بيان أمر زائد على بيان أصل الوجوب.

هذا بخلاف العلة المنحصرة و غيرها، فإنه لا تفاوت بينهما في التأثير في المعلول؛ لأن الشرط في المشروط بنحو واحد، سواء كان الشرط واحدا أو متعددا، فالشرطية المنتزعة عن خصوصية ذاتية قائمة بالشرط الواحد و المتعدد على وزان واحد، لا أنها قائمة بالواحد تعيينا و بالمتعدد تخييرا حتى يكون الإطلاق مقتضيا للأول، و كان نظير إطلاق صيغة الأمر.

فالمتحصل: أنه ليست الشرطية في الشرط المتحد مغايرة للشرطية في الشرط المتعدد؛ بل كلتاهما على نحو واحد، فثبت بطلان قياس العلة المنحصرة بالوجوب التعييني.

4 - أدلة المنكرين للمفهوم:

الأول: ما نسب إلى السيد المرتضى حيث قال في مقام الاستدلال: إن فائدة الشرط هو تعليق حكم الجزاء به فقط، كتعليق وجوب الإكرام بالمجيء في قولك: «إن جاءك زيد فأكرمه»، و معناه: ثبوت وجوب الإكرام عند ثبوت المجيء، و لا يدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط - لإمكان قيام شرط آخر مقام هذا الشرط - إذ ليس من الممتنع أن يكون للحكم في الجزاء شروط متعددة ينوب بعضها عن بعض، فتعليق الحكم بالشرط لا يدل على المفهوم أعني: الانتفاء عند الانتفاء، إذ يمكن أن يخلفه شرط آخر.

و حاصل جواب المصنف: أن مراد السيد المرتضى بإمكان نيابة بعض الشروط عن بعض إن كان إمكانها بحسب مقام الثبوت فهو صحيح، و لا ينكره المدعي للمفهوم، و إنما يدعي المفهوم في مقام الإثبات، و من البديهي: أن مجرد إمكان قيام بعض الشروط عن بعض لا ينفي المفهوم بعد دلالة الشرطية على عدم قيامه مقامه في مقام الإثبات.

ص: 205

أما لو كان مراده: احتمال وقوع شرط آخر مقام الشرط المذكور في القضية في مقام الإثبات، ففيه: أن مجرد هذا الاحتمال لا يضر بدعوى القائل بالمفهوم، لأنه يدعي عدم قيام شرط آخر مقام الشرط المذكور، و ظهور الشرطية في الانتفاء عند الانتفاء.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و ثانيها: أنه لو دل لكان بإحدى الدلالات»، فيقال في تقريب الاستدلال بالقياس الاستثنائي: أنه لو دل الشرط على المفهوم لكان بإحدى الدلالات الثلاث - المطابقة أو التضمن أو الالتزام - و التالي باطل فالمقدم مثله، و الملازمة ثابتة لانحصار الدلالة اللفظية في الدلالات الثلاث. و أما بطلان التالي: فلأن الانتفاء عند الانتفاء ليس مدلولا مطابقيا و لا تضمنيا و لا التزاميا للقضية الشرطية، فالنتيجة هي:

عدم الدلالة على المفهوم.

و حاصل جواب المصنف عن هذا الاستدلال: أن الشرط و إن كان لم يدل على المفهوم بالمطابقة أو التضمن إلاّ إنه يدل عليه بالالتزام، فالمفهوم مدلول التزامي للشرطية، إذ لازم الثبوت عند الثبوت هو الانتفاء عند الانتفاء، و إلا فلا معنى لتعليق حكم الجزاء على الشرط.

الثالث: ما أشار إليه بقوله: وَ لاٰ تُكْرِهُوا فَتَيٰاتِكُمْ عَلَى اَلْبِغٰاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ، بتقريب: أن الجملة الشرطية قد استعملت في هذه الآية المباركة، و لا مفهوم لها، إذ لو كان لها مفهوم لكان المعنى جواز الإكراه على البغاء حين إرادة عدم التحصن، و من الضرورة من الدين: حرمة الإكراه على البغاء مطلقا، فيثبت المدعى و هو: عدم دلالة الشرطية على المفهوم.

و حاصل الجواب: أن الشرط في الآية المباركة لبيان تحقق الموضوع، و الشرط إذا كان كذلك لا مفهوم له؛ لانتفاء الحكم حينئذ بانتفاء الموضوع، فلا وجه للتمسك بها لنفي المفهوم أصلا، لأن الجملة الشرطية فيها مسوقة لبيان تحقق الموضوع يعني: لا يتحقق الإكراه مع إرادة البغاء.

بقي هاهنا أمور:

5 - الأمر الأول: في مقام بيان قانون أخذ المفهوم: و الضابط الكلي في أخذ المفهوم هل هو انتفاء شخص الحكم الحاصل بإنشائه في القضية الشرطية، أو انتفاء سنخ الحكم و نوعه ؟

ص: 206

و قد توهم بعض: أن المعيار فيه هو انتفاء شخص الحكم لا نوعه؛ لأن الشرط الواقع في المنطوق إنما هو الشرط للحكم الحاصل بالإنشاء، و ما يحصل بالإنشاء هو الشخص لا النوع، لأن الشرط في ظاهر الشرطية شرط لشخص الحكم لا لنوعه و سنخه، و لازم ذلك هو: انتفاء الشخص بانتفاء شرطه.

و قد أورد عليه المصنف بما حاصله: من أن انتفاء شخص الحكم قطعي عقلا، فيكون انتفاؤه بضرورة من حكم العقل من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، لا من باب المفهوم، فالحق عند المصنف: أن المعيار في كون الشرطية ذات مفهوم هو: انتفاء طبيعة الحكم المعلقة في المنطوق على الشرط، لا شخص الحكم.

و من هنا يظهر: أنه يعتبر في المفهوم إمكان بقاء الحكم عند ارتفاع ما علق عليه من الشرط، بأن لا يكون الشرط مسوقا لبيان تحقق الموضوع نحو: «إن رزقت ولدا فاختنه»، مما ينتفي الحكم بانتفاء موضوعه عقلا و كذلك الوقف أو الوصية أو النذر على الأولاد، إذ لا يكون المال قابلا للوقف ثانيا، و كذا الوصية و النذر، فيكون الحكم في الموارد المذكورة شخصيا كان انتفاؤه من باب انتفاء الموضوع لا المفهوم.

إشكال و دفع: أي: الإشكال على أن المناط في المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم و نوعه بأن يقال: إن الحكم المنفي في المفهوم و إن كان يمكن أن يكون كليا كما يمكن أن يكون جزئيا، و لكن لا نسلم أن يكون المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم و نوعه، بل هو انتفاء شخص الحكم، فيكون الحكم المنفي في المفهوم جزئيا.

و الدفع: أن المعلق على الشرط إنما هو نفس الوجوب الذي هو مفاد الصيغة، و معناها، و أما الشخص و الخصوصية الناشئة من قبل استعمالها فيه لا تكاد تكون من خصوصيات معناها المستعملة فيه.

6 - فساد ما في التقريرات في مقام دفع الإشكال المذكور: فلا بد أولا من ذكر ما في التقريرات في دفع الإشكال حتى يتضح فساده بما ذكره المصنف، و خلاصة ما في التقريرات هو: الفرق بين الإنشاء مثل: «إن جاءك زيد فأكرمه»، و بين الإخبار مثل: «إن جاءك زيد فوجب إكرامه» بأن الوجوب المنشأ بالهيئة في المثال الأول جزئي خارجي؛ لأن المنشأ المتحقق بالإنشاء هو شخص الحكم لكونه معنى الهيئة الذي يكون جزئيا. و أما الوجوب المخبر به في المثال الثاني فهو كلي، فانتفاء السنخ بانتفاء الشرط معقول فيه؛ لكونه معنى المادة الذي يكون اسميا، و لا يرد عليه الإشكال لكون الوجوب كليا لا

ص: 207

شخصيا، و أداة الشرط قرينة على انحصار علية الشرط لسنخ الحكم لا لشخصه، و الوجه في قرينية الشرط لذلك: أنه لو كان الحكم جزئيا كان انتفاؤه بانتفاء الشرط عقليا أجنبيا عن باب المفهوم.

فالنتيجة هي: انتفاء الحكم بانتفاء الشرط مطلقا، سواء كان جزئيا أو كليا. غاية الأمر: على الأول: يكون الانتفاء من فوائد الشرط، و على الثاني: يكون من باب المفهوم.

و أما وجه فساد ما في التقريرات من دفع الإشكال المذكور: فقد ظهر مما ذكره المصنف من: أنه لا فرق بين المعنى الحرفي و المعنى الاسمي في الكلية، و إنما الجزئية فيهما تكون من ناحية الاستعمال لا دخل لها في الموضوع له.

هذا و قد أورد صاحب التقريرات على ما أجيب عن الإشكال المذكور في قوله:

«إشكال و دفع» بجواب يرجع إلى ما أجاب به المصنف، من عدم الفرق بين الوجوب في الكلام الخبري و الإنشائي من حيث كلية المعنى، و قد أورد صاحب التقريرات على هذا الجواب بما حاصله: من أنه لا حاجة إلى هذا التكلف و التعسف؛ بل الصواب في المقام ما ذكرناه في الجواب من: أن الوجوب في الكلام الإنشائي و إن كان جزئيا إلاّ إن انتفاء الوجوب الكلي عند انتفاء الشرط من نتائج انحصار علة سنخ الحكم الثابت في الجزاء في الشرط، فالتفصي عن الإشكال المذكور لا يبتني على كلية الوجوب. هذا مضافا إلى أنه لا دليل على كون الموضوع له في الإنشاء عاما كليا، بل قام الدليل على خلافه، حيث إن الخصوصية من حيث هي هي مستفادة من ألفاظ الإنشاء؛ إذ الغرض منه إيجاد المنشأ في الخارج بصيغة الأمر، فلا يستفاد الوجوب الكلي من صيغة الأمر، لأن الشيء الموجود في الخارج جزئي و ليس بكلي. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب إيراد التقريرات على ما تفصي به عن الإشكال.

و قد ظهر: فساد ما في التقريرات بما ذكره المصنف من: أن الموضوع له في كل من الاسم و الحرف كلي، و الخصوصيات - كالإنشائية و الإخبارية - تكون ناشئة من الاستعمالات بلا تفاوت بين الإنشاء و الخبر.

قوله: «و ذلك» بيان لانقداح فساد ما في التقريرات و تعليل له.

فالمتحصل: أن الإنشاء و الإخبار من حيث الكلية سيّان بلا تفاوت بينهما أصلا.

فالفرق بينهما بكون المعنى جزئيا في الإنشاء و كليا في الإخبار - كما في التقريرات - غير

ص: 208

وجيه بل غير صحيح، و لذا تعجب منه المصنف و قال: «و لعمري لا يكاد ينقضي تعجبي».

7 - في تعدد الشرط و وحدة الجزاء: نحو: «إذا خفي الأذان فقصر، و إذا خفي الجدران فقصر»، و لا إشكال على القول بعدم المفهوم حيث إن الشرط عليه هو خفاء كليهما نظرا إلى منطوق القضيتين، فلا تعارض بينهما أصلا، و إنما الإشكال على القول بالمفهوم، حيث يقع التعارض بين منطوق كل منهما و بين مفهوم الأخرى، فلا بد من التصرف فيهما بأحد وجوه أربعة:

الأول: تخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر فيقال: إذا لم يخف الأذان فلا تقصر إلا إذا خفي الجدران، و كذا إذا لم يخف الجدران فلا تقصر إلا إذا خفي الأذان، و لازم تخصيص المفهومين: عدم انحصار الشرط في كل من الخفاءين، و أن كل منهما عدل للآخر.

الثاني: رفع اليد عن المفهوم فيهما، بأن تكون القضيتان الشرطيتان كالقضية اللقبية في عدم الدلالة على المفهوم. فالنتيجة هي: إنكار المفهوم فلا يقع بينهما تعارض أصلا.

الثالث: تقييد إطلاق كل منهما بالآخر؛ بأن تكون العلة لوجوب القصر مجموع خفاء الأذان و الجدران معا، لا كل منهما بنحو الاستقلال، و لازم ذلك كون كل من الشرطين جزء الموضوع، فكأنه قيل: «إذا خفي الأذان و الجدران وجب القصر».

الرابع: جعل الشرط هو القدر المشترك بينهما، و ذلك لقاعدة: أن الواحد لا يصدر إلا من الواحد، فالمؤثر في وجوب القصر هو الجامع بينهما و هو البعد الخاص عن محل السكنى، و جعل الشارع خفاءهما علامة لذلك البعد الخاص تسهيلا على العباد. هذا بحسب مقام الثبوت. و أما بحسب مقام الإثبات: فقد أشار إلى استظهار ما هو مختاره بقوله: «و لعل العرف يساعد على الوجه الثاني» و هو عدم المفهوم للشرط، كما أن العقل ربما يعيّن الوجه الرابع نظرا إلى قاعدة: إن الواحد لا يصدر إلا من الواحد..

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى عدم تمامية القاعدة العقلية، حيث إنها لو تمت لكانت مختصة بالعلل الطبيعية في الأمور التكوينية، فلا تجري في الأحكام التي هي من الأمور الاعتبارية.

8 - في تداخل الأسباب أو المسببات أو عدمه:

لمّا فرغ المصنف عن بيان تنقيح الصغرى، شرع في بيان تطبيق الكبرى عليها فقال:

ص: 209

إذا تعدد الشرط و اتحد الجزاء نحو: «إذا بلت فتوضأ، و إذا نمت فتوضأ» فلا إشكال على الوجه الثالث من الوجوه المتقدمة - في الأمر الثاني - و هو رفع اليد عن المفهوم في كلتا الشرطيتين.

و أما على سائر الوجوه الباقية ففيه أقوال، و عن جماعة - و منهم المحقق الخوانساري - التداخل، و عليه: فلا يتعدد الجزاء، و يكفي الإتيان به مرة واحدة. و عن الحلي: التفصيل بين اتحاد جنس الشروط كالبول مرتين أو مرات، و بين تعدده و اختلافه كالبول و النوم فيتعدد الجزاء.

و أما ما أفاده المصنف تحت عنوان: «و التحقيق» فحاصله: أن القضية الشرطية ظاهرة في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط؛ إذ هو مقتضى علية الشرط للجزاء، فلا بد عندئذ من الالتزام بعدم التداخل، حيث إن التداخل مستلزم لاجتماع المثلين، فالأخذ بظاهر الشرطية محال، لاستلزامه اجتماع حكمين مثلين - كوجوبين - في موضوع واحد و هو الوضوء في مثل: «إذا بلت فتوضأ، و إذا نمت فتوضأ»، و حينئذ فلا بد من التصرف في ظاهر الشرطية، إذ لا يمكن التفصي عن محذور اجتماع المثلين إلا بالتصرف بأحد وجوه ثلاثة:

الأول: الالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث، و مرجع هذا الوجه إلى التصرف في ظهور الشرط في كونه علة لحدوث الجزاء، برفع اليد عن ظهوره بذلك و إرادة ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط.

الثاني: الالتزام بكون متعلق الجزاء متعددا حقيقة؛ و إن كان واحدا صورة، فالوضوء في المثال المذكور و إن كان شيئا واحدا صورة إلاّ إنه حقائق متعددة حسب تعدد الشرط، فلا يلزم حينئذ اجتماع حكمين مثلين في موضوع واحد.

«إن قلت»:

و حاصل الإشكال هو: عدم اندفاع محذور اجتماع المثلين فيما إذا تصادق على المصداق الخارجي طبيعتان - كصدق طبيعة الإكرام و طبيعة الضيافة على الإكرام بالضيافة - يلزم اجتماع وجوبين في الضيافة الخارجية التي هي مصداق للطبيعتين، فيجتمع فيها وجوبان متماثلان، فجعل الجزاء حقائق عديدة لا يجدي في دفع إشكال اجتماع المثلين.

و حاصل الدفع: أن انطباق عنوانين واجبين على شيء واحد لا يوجب اتصافه

ص: 210

بوجوبين؛ إذ العقل لا يجوّز اجتماع المثلين في محل واحد، فلا بد من كون هذا المصداق محكوما بوجوب واحد مؤكد. هذا مضافا إلى القول بجواز الاجتماع في شيء واحد ذي عنوانين؛ إذ تعدد العنوان يكفي في دفع محذور اجتماع المثلين.

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى لزوم اجتماع المثلين حتى على القول بجواز الاجتماع؛ إذ جوازه إنما يصح في متعدد العنوان لا في متحد العنوان كالمثال المذكور.

الثالث: الالتزام بحدوث الأثر عند وجود كل شرط، بأن يكون الشرط الأول مؤثرا في وجود الجزاء في الجملة، و الثاني: مؤثرا في تأكده الذي هو مرتبة شديدة من مراتب وجوده، فكل مرتبة من مراتب وجود الجزاء مستندة إلى أحد الشرطين، مع المحافظة على ظهور الشرطية في كون موضوع الجزاء بعنوانه موضوعا للحكم، هذا تمام الكلام في التفصي عن محذور اجتماع المثلين على القول بالتداخل.

و قد أورد المصنف على هذه الوجوه الثلاثة المتقدمة بقوله: «و لا يخفى أنه لا وجه لأن يصار إلى واحد منها»، لأنها مجرد احتمالات في مقام الثبوت، فلا تجدي في دفع إشكال اجتماع المثلين ما لم يقم دليل عليها في مقام الإثبات - و لا دليل عليها؛ بل الدليل على خلافها - لأن تلك الوجوه على خلاف ظاهر الجملة الشرطية.

9 - إيراد المصنف على نفسه بوجهين و جوابه عنهما:

الوجه الأول: أن وجه المصير إلى أحد الوجوه المتقدمة على القول بالتداخل مع كونها خلاف الظاهر هو لزوم الخروج عما هو ظاهر الشرطية من لزوم اجتماع المثلين المستحيل عقلا، فيجب المصير إلى أحد الوجوه المذكورة لئلا يلزم اجتماع المثلين فليس المصير إليه بلا وجه.

و حاصل الجواب عن هذا الوجه: أن التصرف و إن كان مسلما إلا إنه لا يتعين أن يكون بأحد الوجوه المذكورة، بل يمكن صرف الجمل الشرطية عن ظاهرها بوجه آخر و هو: أن يكون متعلق الحكم في الجزاء في إحدى الجملة الشرطية فردا، و في الأخرى فردا آخر، و بهذا التصرف يرتفع محذور اجتماع المثلين مع المحافظة على ظهور الشرطية في الحدوث عند الحدوث، بلا حاجة إلى ارتكاب إحدى التصرفات المذكورة.

الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «إن قلت: نعم لو لم يكن تقدير تعدد الفرد على خلاف الإطلاق» يعني: نعم يجب الحمل على تعدد الجزاء بتعدد الفرد، حتى لا

ص: 211

يحتاج إلى التصرفات المذكورة لو لم يكن فرض تعدد الفرض على خلاف إطلاق مادة الجزاء، و أما لو كان على خلاف الإطلاق فالواجب هو التحفظ على الإطلاق، و الذهاب إلى ارتكاب إحدى التصرفات المذكورة، فجعل متعلق الحكم في الجزاء الفرد خلاف الظاهر أيضا؛ إذ ظاهر إطلاق مادة الجزاء هو: وجوب مطلق الوضوء، لا وجوب وضوء آخر، فهذا الاحتمال كالاحتمالات السابقة مما لا يصار إليه، لكونه خلاف الظاهر.

و حاصل الجواب عنه: هو منع الإطلاق المذكور، المقتضي لتعلق الحكم بطبيعة الجزاء؛ لأن الإطلاق يتوقف على تمامية مقدمات الحكمة منها عدم ما يصلح للبيانية، و من المعلوم: كون ظهور الشرطية في حدوث الجزاء عند وجود الشرط المستلزم لتعدد أفراد الجزاء عند تعدد الشرط بيانا، فيكون مانعا عن انعقاد الإطلاق الموجب لإرادة الطبيعة في الجزاء.

10 - ردّ ما نسب إلى الفخر و غيره، من ابتناء القول بالتداخل على المعرفية و عدمه على المؤثرية، بتقريب: أنه يجوز أن يكون لشيء واحد معرفات عديدة و علامات متعددة، و لا يجوز أن يكون لشيء واحد مؤثرات كثيرة؛ لاستحالة توارد المؤثرين المستقلين على أثر واحد، و عليه: فلا بد من الالتزام بالتداخل على المعرفية، و بعدم التداخل بناء على المؤثرية.

و قد أفاد المصنف في ردّ كلام الفخر بما حاصله: أن كلام الفخر مخدوش بوجهين:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «و قد انقدح مما ذكرناه أن المجدي للقول بالتداخل هو أحد الوجوه التي ذكرناها».

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «مع إن الأسباب الشرعية حالها حال غيرها».

و خلاصة الكلام في الوجه الأول هو: أن مجرد معرفية الأسباب الشرعية لا تقتضي المصير إلى التداخل؛ لإمكان معرفية الأسباب الشرعية المتعددة لأسباب حقيقية متعددة، و يكفي في إرادة احتمال تعدد السبب الحقيقي من الأسباب الشرعية المتعددة: ظهور الشرطية في تعدد المسبب عند تعدد السبب؛ إذ تعدد الكاشف مستلزم لتعدد المنكشف، فحينئذ مجرد كون الأسباب الشرعية معرفات لا يوجب القول بالتداخل.

و أما خلاصة الوجه الثاني: فلأنه لا فرق بين السبب الشرعي و العرفي، فإنهما قد يكونان كاشفين، كما في قوله: «إذا لبس الأمير أصفر فاحذره، و إذا أذّن المؤذن فصل»،

ص: 212

و قد يكونان مؤثرين كما في نحو: «إن غضب الأمير فاحذره، و إن كثر الماء لا ينفعل بالملاقاة»، فلا أصل لما اشتهر من أن الأسباب الشرعية معرفات، بل هي على نوعين كما عرفت، فجعل الأسباب الشرعية معرفات دائما مما لا وجه له أصلا.

قوله: «نعم لو كان المراد بالمعرفية..» إلخ استدراك على الوجه الثاني الذي أفاده بقوله:

«مع إن الأسباب الشرعية حالها حال غيرها».

و حاصل الاستدراك: أن المعرف في الأسباب الشرعية إن أريد به ما لا يكون ملاكا للحكم أعني: به المصالح و المفاسد، التي هي من الخواص الثابتة في الأشياء فله وجه؛ إذ حينئذ لا مانع من دعوى الإيجاب الكلي و هو كون الأسباب الشرعية طرّا معرفات، بمعنى: عدم كونها مصالح و مفاسد؛ و لكنه لا يجدي فيما أفاده الفخر من ابتناء القول بالتداخل على المعرفية؛ لأن المراد بالمعرف حينئذ هو موضوع الحكم الشرعي، و كل موضوع يقتضي حكما، و كل شرط يقتضي حدوث جزاء.

11 - التفصيل بين اتحاد جنس الشرط؛ كالبول مرتين أو مرات، و بين اختلاف جنس الشرط، كالبول و النوم و الجنابة، فقال ابن ادريس الحلي: بالتداخل في الأول، و بعدمه في الثاني.

و هذا التفصيل فاسد، فتوهم التفصيل بين اتحاد الجنس و اختلافه لا يرجع إلى محصل صحيح؛ لأن مقتضى إطلاق الشرط في مثل: «إذا بلت فتوضأ» هو: حدوث الوجوب للوضوء عند كل مرة، فلا فرق بين الشرطين المتحدين جنسا و بين الشرطين المختلفين جنسا، فإذا قال الحلي بالتداخل فليقل به في كلا الموردين، و إذا قال بعدمه فليقل به فيهما، فلا يصح التفكيك بينهما.

12 - نظريات المصنف «قدس سره»:

1 - لا مفهوم للقضية الشرطية.

2 - المنفي بالمفهوم على القول به هو سنخ الحكم و نوعه، لا شخص الحكم.

3 - حكم تعدد الشرط و وحدة الجزاء هو رفع اليد عن المفهوم فيهما عرفا، و جعل الجامع بين الشرطين شرطا عقلا. هذا هو مختار المصنف من بين الوجوه الأربعة.

4 - عدم الإشكال على الاحتمال الثالث المتقدم في الأمر الثاني و على سائر الوجوه الباقية، فالحق عند المصنف هو: عدم التداخل، و تعدد الجزاء بتعدد الشرط؛ لئلا يلزم اجتماع المثلين في شيء واحد.

ص: 213

ص: 214

فصل (1)

الظاهر: أنه لا مفهوم للوصف و ما بحكمه مطلقا، لعدم ثبوت الوضع، و عدم لزوم

=============

فصل في مفهوم الوصف

اشارة

(1) و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل النزاع، و تنقيح محل النزاع يحتاج إلى ذكر أمور:

الأمر الأول: أن الوصف من حيث المعنى على أقسام:

1 - الوصف بمعنى: كل ما تتصف به ذات، و هو المشتق بالمعنى الذي تقدم في مبحث المشتق الشامل لمثل العبد و الزوج من الجوامد.

2 - الوصف بمعنى: كل ما يكون قيدا للموضوع، سواء كان نعتا أو حالا أو غيرهما ما عدا الغاية و الاستثناء.

3 - الوصف بمعنى: النعت النحوي نحو: «أكرم زيد العالم»، حيث يكون العالم نعتا لزيد.

الأمر الثاني: أن الوصف من حيث اعتماده على موصوفه و عدم اعتماده عليه على قسمين:

1 - الوصف المعتمد على الموصوف: ما يكون موصوفه مذكورا في الكلام نحو: «أكرم رجلا عالما».

2 - الوصف غير المعتمد على الموصوف: ما لا يكون موصوفه مذكورا في القضية نحو: «أكرم عالما».

الأمر الثالث: الوصف من حيث لحاظ النسبة بينه و بين موصوفه على أقسام:

1 - أن يكون مساويا لموصوفه كقولنا: «أكرم إنسانا ضاحكا».

2 - أن يكون الأعم منه مطلقا كقولنا: «أكرم إنسانا ماشيا».

3 - أن يكون أخص منه كذلك كقولنا: «أكرم إنسانا عالما».

4 - أن يكون أعم منه من وجه كقوله «عليه السلام»: «في الغنم السائمة زكاة».

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم: أن الداخل في محل النزاع هو القسم الثالث من

ص: 215

الأقسام المذكورة في الأمر الأول.

و القسم الأول من القسمين المذكورين في الأمر الثاني.

و القسم الثالث و الرابع من الأقسام المذكورة في الأمر الثالث.

و أما القسم الأول من الأقسام المذكورة في الأمر الأول، و القسم الثاني من القسمين المذكورين في الأمر الثاني، و القسم الأول و الثاني من الأقسام المذكورة في الأمر الثالث، فلا إشكال في خروجها؛ و ذلك لأن المعيار في دخول الوصف في محل النزاع أن يكون موجبا للتضييق في ناحية الموصوف، و من المعلوم: أن الوصف المساوي للموصوف أو الأعم منه لا يوجب تضييقا في ناحية الموصوف، حتى يكون له دلالة على المفهوم.

و أما القسم الثاني من الأقسام المذكورة في الأمر الأول - أعني الوصف بمعنى ما يكون قيدا للموضوع - فيمكن دخوله أيضا في محل النزاع.

و قد أشار إليه بقوله: «و ما بحكمه» أي: كالحال مثلا في مثل: «أكرم العالم عادلا»، فقوله: «و ما بحكمه» يشمل الوصف الضمني كقوله: «صلى الله عليه و آله»: «لئن يمتلئ بطن الرجل قيحا خير من أن يمتلئ شعرا»، حيث إن امتلاء البطن كناية عن الشعر الكثير، فمفهومه - بناء على القول بمفهوم الوصف - عدم البأس بالشعر القليل. هذا تمام الكلام في تحرير محل النزاع في المقام.

و يقول المصنف: «الظاهر أنه لا مفهوم للوصف»، بحيث يفيد انتفاء الحكم بانتفاء الوصف «مطلقا» يعني: سواء كان الوصف معتمدا على الموصوف كقوله «عليه السلام»:

«و في الغنم السائمة زكاة»، أم لا كقوله: «في السائمة زكاة». و سواء كان الوصف مساويا للموصوف، أو أعم منه مطلقا أو من وجه، أو أخص منه، و سواء كان الوصف مثبتا أم منفيا كقوله: «لا تصل في أجزاء الحيوان غير مأكول اللحم». نعم، لو كان الوصف علة منحصرة للحكم نحو: صل خلف العادل، لزم انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف، و لكن ليس ذلك من جهة المفهوم؛ بل من جهة كون العلة منحصرة. و قد أشار إلى بعض الوجوه التي استدل بها على عدم مفهوم الوصف بقوله: «لعدم ثبوت الوضع»، و بقوله: «و عدم لزوم اللغوية بدونه».

و حاصل الاستدلال بالوضع على المفهوم: أن الوصف قد وضع للدلالة على العلية المنحصرة التي هي الخصوصية المستلزمة لانتفاء الحكم عند انتفاء الوصف، و يقول المصنف في رد هذا الاستدلال لعدم ثبوت الوضع.

ص: 216

اللغوية بدونه، لعدم انحصار الفائدة به، و عدم قرينة أخرى ملازمة له، و عليته (1) فيما إذا استفيدت غير مقتضية له كما لا يخفى، و مع كونها بنحو الانحصار - و إن كانت و حاصل الاستدلال بلزوم اللغوية لو لم يكن للوصف مفهوم: أنه لو لم يكن للوصف مفهوم، و لم يدل على المفهوم لكان ذكره لغوا، إذ لا فائدة فيه إلا ذلك، فلا بد من الالتزام بالمفهوم صونا لكلام الحكيم عن اللغوية.

=============

و حاصل ما أفاده المصنف في ردّ هذا الاستدلال: أن فائدة الوصف ليست منحصرة بالمفهوم، حتى يكون ذكره - مع عدم دلالته على المفهوم - لغوا موجبا للالتزام بدلالته عليه صونا لكلام الحكيم عن اللغوية؛ بل لذكر الوصف فوائد أخرى، كالاهتمام بشأن الموصوف ببيان فضائله و مزاياه.. إلى غير ذلك من الفوائد المقصودة من ذكر الأوصاف.

الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها على عدم المفهوم: ما أشار إليه بقوله:

«و عدم قرينة أخرى ملازمة له»، و حاصل هذا الوجه هو: إثبات المفهوم للوصف، بدعوى الانصراف إلى كون الوصف علة منحصرة لثبوت الحكم، فيلزم انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الوصف.

و قد أجاب عنه المصنف: بمنع الانصراف بعد فهم العرف في كثير من الموارد فوائد أخرى غير كون الوصف علة منحصرة للحكم، حتى يقال بدلالته على المفهوم فليست هناك قرينة أخرى ملازمة للمفهوم.

(1) يعني: و علية الوصف في موارد عليته - نحو: أكرم زيدا لأنه عالم - غير مقتضية للمفهوم. هذا من المصنف إشارة إلى تضعيف تفصيل العلامة «قدس سره» بين الوصف الذي يكون علة نحو: «أكرم زيدا لأنه عالم»، و بين الوصف الذي لا يكون علة، نحو:

«أكرم زيد العالم»، حيث ذهب العلامة إلى المفهوم في الأول، و عدمه في الثاني.

و حاصل تضعيف التفصيل المذكور و ردّه: أن علية الوصف فيما إذا استفيدت لا تقتضي المفهوم - أعني انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف - ما لم يحرز كونها علة منحصرة، و مع إحراز كونها كذلك فهو ليس من باب مفهوم الوصف، بل من باب اقتضاء العلية المنحصرة المستفادة من القرينة عليها بالخصوص. كما أشار إليه بقوله: «و مع كونها بنحو الانحصار و إن كانت مقتضية له، إلا إنه لم يكن من مفهوم الوصف» يعني:

و مع كون العلية بنحو الانحصار و إن كانت مقتضية للمفهوم، إلاّ إنه أجنبي عن محل الكلام، بل عن موضوع البحث إذ موضوعه كون الوصف بنفسه دالا على الانحصار المستلزم للمفهوم، لا بقرينة خارجية.

ص: 217

مقتضية له - إلا إنه لم يكن من مفهوم الوصف، ضرورة: (1) أنه قضية العلية الكذائية المستفادة من القرينة عليها في خصوص مقام، و هو (2) مما لا إشكال فيه و لا كلام، فلا وجه لجعله تفصيلا في محل النزاع، و موردا للنقض و الإبرام.

و لا ينافي ذلك ما قيل: من أن الأصل في القيد أن يكون احترازيا، لأن (3)

=============

(1) أي: المفهوم، و قوله: «ضرورة» تعليل لعدم كونه من مفهوم الوصف المقصود في محل النزاع، بل هو مقتضى العلة المنحصرة المستفادة من القرينة الخارجية في خصوص مقام قامت القرينة على كون الوصف علة منحصرة فيه، فإن قيام قرينة في مورد خاص على ذلك لا يثبت المدعى و هو دلالة الوصف بنفسه على المفهوم.

(2) أي: كون المفهوم مقتضى القرينة مما لا إشكال فيه؛ لكنه غير مراد من المفهوم في بحث المفهوم، إذ المقصود دلالة الوصف بنفسه على المفهوم.

و كيف كان؛ فقد أشار إلى ردّ هذا التفصيل بقوله: «فلا وجه لجعله تفصيلا في محل النزاع».

و حاصل الردّ: أن ما ذكره العلامة «قدس سره» ليس تفصيلا في محل النزاع من بحث مفهوم الوصف؛ إذ محل البحث هو دلالة الوصف بنفسه على المفهوم، فدلالته عليه بالقرينة خارجة عن محل البحث؛ لعدم استناد هذه الدلالة إلى الوصف من حيث هو بنفسه و بلا قرينة.

الوجه الرابع من الوجوه التي استدل بها على عدم المفهوم: ما أشار إليه بقوله: «و لا ينافي ذلك ما قيل من أن الأصل في القيد أن يكون احترازيا».

توضيح هذا الوجه قبل جواب المصنف عنه: أن الأصل في القيد - كما اشتهر على الألسنة - أن يكون احترازيا، و لا يكون احترازيا إلا بدلالته على المفهوم، فإذا قال المولى لعبده: «أكرم رجلا عالما» كان مفهومه: عدم وجوب إكرام رجل غير عالم، هذا معنى انتفاء الحكم بانتفاء الوصف، فلازم كون القيد احترازيا هو: انتفاء الحكم بانتفائه، و هو ينافي قولكم بعدم المفهوم للوصف.

و يقول المصنف في الجواب: إنه لا ينافي عدم المفهوم للوصف ما قيل من: أن الأصل في القيد أن يكون احترازيا لا توضيحيا.

(3) تعليل لعدم منافاة الاحترازية، لما ذكر من عدم المفهوم للوصف.

و حاصل ما أفاده المصنف في الجواب: أن احترازية القيد لا تدل على المفهوم للوصف؛ إذ أقصى ما تقتضيه الاحترازية هو: تضييق دائرة موضوع الحكم مثل أن يقول من الأول: «أكرم عالما من الرجال»، فيكون انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف من باب

ص: 218

الاحترازية لا توجب إلا تضييق دائرة موضوع الحكم في القضية، مثل ما إذا كان بهذا الضيق بلفظ واحد (1)، فلا فرق أن يقال: جئني بإنسان أو بحيوان ناطق، كما أنه (2) لا يلزم في حمل المطلق على المقيد، فيما وجد شرائطه إلا ذلك (3)، من دون انتفائه بانتفاء الموضوع، لأن انتفاء حكم قيد الموضوع كانتفاء تمامه في ارتفاع شخص الحكم الثابت للموضوع، و قد عرفت غير مرة: أن انتفاء شخص الحكم بعد انتفاء موضوعه يكون عقليا، و لا يكون مرتبطا بالمفهوم، لأن الحكم المنفي في المفهوم هو السنخ لا الشخص، و المنفي بانتفاء القيد هو الشخص لا السنخ، فانتفاء الحكم بانتفاء القيد يكون أجنبيا عن باب المفهوم.

=============

(1) يعني: أن القيد يوجب تضييق دائرة موضوع الحكم، مثل: ما إذا كان الضيق حاصلا من الأول بلفظ واحد، مثل: «جئني بإنسان» بدل أن يقال: «جئني بحيوان ناطق»، فإن قوله: «جئني بإنسان» الذي هو من قبيل اللقب المسلم عدم دلالته على المفهوم، فلا فرق بين هذا التعبير المشتمل على لفظ واحد، و بين التعبير المشتمل على لفظين كقوله: «جئني بحيوان ناطق» يعني: لا فرق بين التعبيرين في عدم الدلالة على المفهوم، و فائدتهما: حصول ضيق دائرة الموضوع.

(2) إشارة إلى ما نسب إلى الشيخ البهائي «قدس سره» من استدلاله على مفهوم الوصف بلزوم حمل المطلق على المقيد مع اتحاد الموجب، كما إذا قيل: «إن ظاهرت فأعتق رقبة، و إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة». و حاصل ما أفاده الشيخ البهائي: إنه لا ريب في وجوب حمل المطلق على المقيد في المثال المذكور، كما لا ريب في أن ذلك ليس إلا من جهة التنافي و المعارضة بينهما، و هي مبتنية على القول بالمفهوم، و دلالة الوصف على الانتفاء عند الانتفاء؛ إذ لو قال: «أعتق رقبة» كان مقتضاه: إجزاء كل رقبة و إن كانت كافرة، و إذا قال: «أعتق رقبة مؤمنة» كان مفهومه: عدم إجزاء الرقبة الكافرة، فلو لم يكن للوصف مفهوم لم يحصل التنافي الموجب لحمل المطلق على المقيد.

و قد أجاب المصنف «قدس سره» عن ذلك بقوله: «كما أنه لا يلزم في حمل المطلق على المقيد فيما وجد شرائطه» بأن يكون الموجب فيهما متحدا.

(3) أي: لا يلزم من حمل المطلق على المقيد إلا التضييق المتقدم، فيكون مفاد المطلق و المقيد معا وجوب الرقبة المؤمنة، كما لو لم يكن مطلق في البين أصلا، فيكون حاصلهما وجوب المقيد و السكوت عن المطلق «من دون حاجة فيه» أي: في هذا الحمل «إلى دلالته» أي: المقيد «على المفهوم» المستفاد من الوصف، فالنتيجة هي: إن الحمل ليس من باب مفهوم الوصف حتى ينافي قولهم بعدم المفهوم.

ص: 219

حاجة فيه إلى دلالته على المفهوم، فإنه من المعلوم: أن قضية الحمل ليس إلا أن المراد بالمطلق هو المقيد، و كأنه لا يكون في البين غيره (1)، بل ربما قيل (2): إنه لا وجه و بعبارة أخرى - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 403» - أن حمل المطلق على المقيد ليس من دلالة الوصف على المفهوم؛ بل لأجل كون المطلوب صرف الوجود من الطبيعة، لا مطلق الوجود، فدليل التقييد قرينة على المراد، و إن موضوع الحكم ليس مطلقا؛ بل هو مقيد بقيد الإيمان في المثال المزبور، فبانتفاء القيد ينتفي شخص الحكم عن موضوعه. و قد مر أن انتفاءه عن موضوعه عقلي، و أجنبي عن المفهوم الذي هو انتفاء سنخ الحكم، فالتنافي بين المطلق و المقيد الموجب للتقييد ناش عن كون الموضوع صرف الوجود المنطبق على أول الوجود، سواء كان مؤمنا أم كافرا على ما يقتضيه الأمر بالمطلق كالرقبة. و دليل القيد يدل على تقييد المطلق بحيث لا يسقط الأمر بفاقد القيد.

=============

فوجه حمل المطلق على المقيد هو: تضييق دائرة الموضوع، و مطلوبية صرف الوجود الواجد للقيد، فالفاقد له غير محكوم بحكم الواجد، لعدم كونه موضوعا، فانتفاء الحكم عن الفاقد أجنبي عن المفهوم.

فالنتيجة: أن باب تقييد الاطلاقات أجنبي عن مفهوم الوصف، و ليس دليلا على ثبوت المفهوم للوصف. و قد أشار إلى هذا الجواب بقوله: «فإن من المعلوم أن قضية الحمل ليس إلاّ إن المراد بالمطلق هو المقيد» بمعنى: أن القيد يكون جزء الموضوع؛ بحيث يصير دليل القيد قرينة على المراد، و هو كون الموضوع مركبا من الرقبة و الإيمان في المثال، و من المعلوم: أن انتفاء جزء الموضوع أو قيده يوجب انتفاء شخص الحكم القائم به، لا السنخ الذي هو قوام المفهوم.

(1) أي: غير المقيد. و الضمير في قوله: «كأنه» للشأن.

(2) القائل هو: صاحب التقريرات، و حاصل ما في التقريرات: أن حمل المطلق على المقيد لو كان لأجل مفهوم الوصف، لزم من ذلك عدم صحة الحمل المزبور، و ذلك لأن الدلالة المفهومية ليست بأقوى من الدلالة المنطوقية لو لم نقل بأقوائيتها من الدلالة المفهومية، و حيث إن مقتضى المنطوق عدم اعتبار الإيمان في الموضوع، و إجزاء عتق الرقبة الكافرة وجب تقديمه لأظهريته على مفهوم القيد، فإن تقديم الأظهر على الظاهر مما استقر عليه بناء أبناء المحاورة.

و كيف كان؛ فإن البناء على ثبوت المفهوم للوصف يقتضي تقديم المطلق على مفهوم المقيد، و الاجتزاء بعتق الكافرة، و لا أقل من تعارضهما و تساقطهما. فلا وجه حينئذ للحمل المزبور.

ص: 220

للحمل لو كان بلحاظ المفهوم، فإن (1) ظهوره فيه ليس بأقوى من ظهور المطلق في الإطلاق كي يحمل عليه لو لم نقل بأنه الأقوى لكونه بالمنطوق، كما لا يخفى.

و أما الاستدلال على ذلك (2) - أي: عدم الدلالة على المفهوم - بآية وَ رَبٰائِبُكُمُ اَللاّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ (3). ففيه (4): أن الاستعمال في غيره أحيانا مع القرينة مما لا يكاد ينكر كما في الآية قطعا.

=============

(1) تعليل لقوله: «لا وجه للحمل»، أي: لا وجه لتقديم المقيد على المطلق بحمل المطلق على المقيد، لأن ظهور المقيد في المفهوم ليس أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق كي يحمل المطلق على المقيد «لو لم نقل بأنه أقوى» يعني: ظهور المطلق أقوى لكونه بالمنطوق. هذا تمام الكلام في ما في التقريرات.

و يمكن أن يقال في دفع ما في التقريرات: بأن الملاك في تقدم دليل على دليل آخر عند التنافي بينهما ليس لأجل قوة المنطوق على المفهوم، بل لأجل كون أحدهما أظهر من الآخر، و من المعلوم: أن المقيد أظهر من المطلق.

(2) تقريب الاستدلال بالآية المباركة على عدم المفهوم: أنه لو كان للوصف مفهوم لزم عدم حرمة الربيبة التي لا تكون في حجر الزوج على زوج أمها؛ إذ كلمة ربائبكم موصوف، و كلمة «اللاتي» مع صلتها صفة لها، و هو خلاف الضرورة من الدين؛ إذ لا خلاف في حرمة الربيبة بلا فرق بين كونها في الحجر و عدمه، فحينئذ لا بد من الالتزام بعدم المفهوم للوصف، لئلا يلزم عدم حرمة الربائب اللاتي لسن في حجور الأزواج، و هو مخالف الضرورة.

(3) سورة النساء: 23.

(4) و قد أجاب المصنف عنه بوجهين:

الوجه الأول: أن حرمة الربيبة مطلقا و إن لم تكن في حجر زوج أمها ليست لأجل عدم المفهوم للوصف؛ بل لأجل قرينة خارجية و هي إجماع المسلمين على تحريم نكاح الربيبة على زوج أمها المدخول بها، سواء كانت في الحجر و تحت تربيته أم لم تكن فيه، و هذه القرينة الخارجية تقتضي عدم المفهوم لا الوصف من حيث هو هو، و من المعلوم: أن موارد القرينة على ثبوت المفهوم للوصف أو نفيه عنه خارجة عن محل النزاع الذي هو دلالة الوصف بنفسه على المفهوم و عدمها عليه؛ إذ القائل بالمفهوم لا ينكر عدم المفهوم لأجل القرينة، كما أن المنكر له يعترف به لأجل القرينة أيضا.

و المتحصل: أن الوصف في الآية الشريفة قد استعمل في عدم إرادة المفهوم قطعا، لكن مجرد الاستعمال لا يدل على الحقيقة لكونه أعم منها.

ص: 221

مع أنه يعتبر في دلالته عليه عند القائل بالدلالة: أن لا يكون واردا مورد الغالب كما في الآية، و وجه الاعتبار واضح، لعدم دلالته معه (1) على الاختصاص، و بدونها لا يكاد يتوهم دلالته على المفهوم فافهم (2).

(تذنيب) (3): لا يخفى أنه لا شبهة في جريان النزاع، فيما إذا كان الوصف أخص الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «مع إنه يعتبر في دلالته عليه..» إلخ.

=============

و حاصله: أن القائل بدلالة الوصف على المفهوم يشترط أن لا يكون الوصف واردا مورد الغالب كما في الآية المباركة، حيث إن الغالب كون الربائب في حجور الأزواج لكونها مع أمها غالبا كالأولاد.

و وجه الاعتبار: أنه لا دلالة للوصف منطوقا مع وروده مورد الغالب على اختصاص الحكم بمورده؛ كي يدل مفهوما على انتفاء الحكم عن غير مورده لفقدان شرط الدلالة على الاختصاص، و بدون الدلالة المذكورة لا ينبغي أن يتوهم دلالة الوصف على المفهوم؛ لأن وروده مورد الغالب قرينة عامة على صرف الوصف عما كان ظاهرا فيه بالمنطوق من تضييق دائرة الموضوع به و اختصاص الحكم بمورده، فلا يكون الوصف حينئذ علة منحصرة لثبوت الحكم للموصوف، فلا دلالة للوصف على المفهوم.

فالنتيجة: أن الوصف الغالبي لا يدل على المفهوم.

(1) أي: لعدم دلالة الوصف - مع وروده مورد الغالب - على اختصاص علة الحكم بالوصف، و بدون الدلالة على الاختصاص المزبور لا يدل الوصف على المفهوم.

(2) لعله إشارة إلى أن ورود الوصف مورد الغالب يمنع عن أخذ المفهوم لو لم يكن إفادته المفهوم بالوضع، بل كان لمحذور اللغوية، أو كان بالوضع و لم تكن أصالة الحقيقة حجة مطلقا - و لو مع عدم الظن - و أما إذا كان بالوضع، و كانت أصالة الحقيقة حجة بالظن النوعي فلا يمنع عنه.

في تحرير محل النزاع

(3) المقصود من عقد هذا التذنيب: تحرير محل النزاع، و قد تقدم في أول البحث:

أن نسبة الوصف مع الموصوف لا تخلو من أربعة أقسام:

1 - أن يكون مساويا معه نحو الإنسان الضاحك.

2 - أن يكون أعم منه مطلقا، نحو: الإنسان الماشي.

3 - أن يكون أخص منه مطلقا، نحو: الإنسان العالم.

4 - أن يكون أخص منه من وجه، نحو: الرجل العادل. و هذا أيضا على قسمين،

ص: 222

من موصوفه و لو من وجه، في مورد الافتراق من جانب الموصوف، و أما في غيره (1)، ففي جريانه إشكال أظهره عدم جريانه، و إن كان يظهر مما عن بعض الشافعية، حيث فإنه قد يكون الافتراق من جانب الموصوف كالرجل الغير العادل، و قد يكون من جانب الوصف كالعادل الغير الرجل، فمجموع الأقسام خمسة. إذا عرفت هذا فاعلم: «أنه لا شبهة في جريان النزاع» نفيا و إثباتا، «فيما إذا كان الوصف أخص من موصوفه» مطلقا كالإنسان العادل، «و لو من وجه» كالإنسان الأبيض، فإنه «في مورد الافتراق من جانب الموصوف» بأن يكون الموصوف و لا يكون الوصف كالرجل غير العادل.

=============

و كيف كان؛ فالنزاع يجري في قسمين من الأقسام المتقدمة.

أولهما: كون الوصف أخص مطلقا من الموصوف، كالعالم بالنسبة إلى الإنسان، فإن الوصف - و هو العلم - ينتفي مع بقاء الموصوف أعني: الإنسان.

ثانيهما: كون الوصف أخص من وجه من الموصوف، مع كون الافتراق من جانب الموصوف كالرجل العادل، و المراد بالافتراق من جانب الموصوف بقاؤه مع انتفاء الوصف كما في المثال، فإن العدالة تنتفي مع بقاء الموصوف و هو الرجل، و الضابط في ثبوت المفهوم للوصف: انتفاؤه مع بقاء الموصوف.

(1) أي: في غير ما كان الوصف أخص - و هو القسمان الأولان - أو ما كان الوصف أخص من وجه؛ و لكن لا في مورد الافتراق من جانب الموصوف، بل من جانب الصفة كالعادل غير الرجل أو الأبيض غير الإنسان، أو افتراق الوصف و الموصوف اللذين بينهما عموم من وجه، بحيث لا يصدق عليه واحد منهما كالإبل المعلوفة في قوله: «في الغنم السائمة زكاة»، حيث إن كلا من الوصف و الموصوف - و هما الغنم و السوم - مفقود في معلوفة الإبل و لا يصدق عليها واحد منهما «ففي جريانه» أي: النزاع و عدم جريانه إشكال أظهره عدم جريان نزاع مفهوم الوصف.

و الوجه في عدم الجريان: أن المفهوم هو نقيض المنطوق، و يعتبر في التناقض اتحاد المتناقضين في أمور أحدها: الموضوع كقولنا: «الإنسان ناطق و ليس بناطق»، و من المعلوم:

أنّه ليس عدم الزكاة في معلوفة الإبل مفهوم قولنا: «في الغنم السائمة زكاة» لاختلاف الموضوع، فإن موضوع وجوب الزكاة هو الغنم السائمة، و هذا الوجوب لم يرتفع عن الغنم حتى يتحد الموضوع في المنطوق و المفهوم كي يتحقق التناقض؛ بل رفع عن الإبل، و اختلاف الموضوع من أشد أنحاء عدم المطابقة. نعم؛ عن بعض الشافعية جريان نزاع مفهوم الوصف في مورد افتراق الوصف و الموصوف معا.

ص: 223

قال: (قولنا في الغنم السائمة زكاة يدل على عدم الزكاة في معلوفة الإبل) جريانه فيه، و لعل وجهه (1): استفادة العلية المنحصرة منه.

و عليه (2): فيجري فيما كان الوصف مساويا أو أعم مطلقا أيضا (3)، فيدل (4) على انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه، فلا وجه في التفصيل بينهما (5)، و بين ما إذا كان أخص من وجه، فيما إذا كان الافتراق من جانب الوصف (6)، بأنه لا وجه

=============

(1) أي: وجه جريان نزاع مفهوم الوصف في مورد الافتراق المزبور هو: استفادة العلية المنحصرة من الوصف كالسوم في المثال، فينتفي وجوب الزكاة عن معلوفة الإبل و غيرها من الأنعام التي ليست بسائمة، إذ المفروض: كون السوم علة منحصرة لسنخ الوجوب، بمعنى: أن علة الزكاة مطلقا هي السوم، فكلما لم يجد السوم غنما كان أو إبلا أو بقرا لم يحكم بالزكاة.

(2) أي: على هذا الوجه الذي ذكرنا، من استفادة انحصار العلة الموجبة للمفهوم فيجري النزاع أيضا في الوصف المساوي كالضاحك بالنسبة إلى الإنسان، و الأعم مطلقا كالماشي بالنسبة إليه؛ إذ مع كون الوصف علة تامة منحصرة يدور الحكم مداره وجودا و عدما، فحينئذ لا فرق بين كون الوصف مساويا للموصوف و بين كونه أعم منه أو أخص منه، فلا محالة تدل الصفة على انتفاء الحكم بانتفائها و لو في غير موصوفها؛ إذ المفروض: عدم موصوف خاص في اعتبار المفهوم، فباعتبار هذا المفهوم لا فرق بين أقسام الوصف، و باعتبار المفهوم - الذي هو محل النزاع - يختص بما إذا كان الوصف أخص من الموصوف مطلقا كالإنسان العالم، أو من وجه كالرجل العادل.

(3) أي: كجريان النزاع في الوصف الأخص من وجه من موصوفه، مع الافتراق وصفا و موصوفا كما عرفته عن بعض الشافعية في معلوفة الإبل، حيث إن كلا من الصفة و الموصوف - و هما الغنم و السوم - مفقود في الإبل المعلوفة.

(4) أي: فيدل الوصف المساوي أو الأعم على انتفاء سنخ الحكم عن غير الموصوف من الموضوعات المباينة للموصوف عند انتفائه، لفرض عليته التامة.

(5) أي: بين الوصف المساوي و الأعم، و بين ما هو داخل في محل النزاع قطعا من الوصف الأخص من وجه، مع الافتراق من جانب الوصف «كالرجل العادل». إذا افترق وصف العدالة عنه مع بقاء الموصوف، و قوله: «فلا وجه» متفرع على كون الوصف علة تامة للحكم، من دون دخل الموصوف فيه.

(6) الأولى أن يقول: من جانب الوصف و الموصوف؛ لأن ضمير «فيه» في قوله: «و استظهار جريانه من بعض الشافعية فيه» يرجع إلى الافتراق من جانب الوصف و الموصوف معا.

ص: 224

للنزاع فيهما، معللا بعدم الموضوع، و استظهار جريانه من بعض الشافعية فيه، كما لا يخفى، فتأمل جيدا (1).

قوله: «بأنه» متعلق ب «التفصيل»، و حاصل التفصيل المنسوب إلى التقريرات(1): هو عدم جريان النزاع في الوصف المساوي و الأعم، لانتفاء الموضوع فيهما بانتفاء الوصف، و إمكان جريانه في الوصف الأخص من وجه من موصوفه، مع الافتراق من جانب الموصوف و الوصف معا، كما يستظهر من بعض الشافعية؛ كالسوم الذي هو أخص من وجه من الغنم.

=============

قوله: «لا وجه للنزاع فيهما» علل بقوله: «معللا بعدم الموضوع» أي: لا وجه للنزاع في الأعم و المساوي، لانتفاء الموضوع فيهما، حيث إنه ينتفي الإنسان - الذي هو الموضوع في قولنا: «أكرم الإنسان الضاحك أو الماشي» - بانتفاء الضحك و المشي، فلا وجه أيضا لاستظهار جريان النزاع من بعض الشافعية فيما إذا كان الوصف أخص من وجه، كما تقدم من مثال «في الغنم السائمة زكاة»، حيث إن المفهوم منه عدم الزكاة في معلوفة الإبل.

(1) تدقيقي بقرينة كلمة الجيد أي: دقّق في كلام المصنف، و يحتمل أن يكون إشارة إلى أنه إذا لاحظنا الوصف من حيث هو هو، فالأقسام الثلاثة خارجة عن مورد النزاع؛ لاشتراكها في انتفاء الموضوع بانتفاء الوصف. أما المساوي و الأعم مطلقا فواضحان كما عرفت. و أما الأخص من وجه فظاهر؛ لفرض افتراق الموصوف و الوصف معا عن الآخر؛ هذا تمام الكلام في مفهوم الوصف.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - تحرير محل النزاع: و هو الوصف بمعنى النعت النحوي المعتمد على الموصوف، ثم النسبة بين الوصف و الموصوف لا تخلو عن أحد أقسام أربعة:

الأول: أن يكون مساويا للوصف، نحو: الإنسان الضاحك.

الثاني: أن يكون أعم منه مطلقا، نحو: الإنسان الماشي.

الثالث: أن يكون أخص منه مطلقا، نحو: الإنسان العادل.

الرابع: أن يكون بينهما عموم من وجه، نحو: الرجل العادل.

و ما هو الداخل في محل النزاع منها هو القسم الثالث و الرابع لو كان الافتراق من

ص: 225


1- مطارح الأنظار، ج 2، ص 80.

جانب الموصوف، و المراد بقوله: «و ما بحكمه» كل ما كان قيدا للموضوع سواء كان نعتا أم حالا أم غيرهما، فيشمل الوصف الضمني.

إذا عرفت محل النزاع فالظاهر: أنه لا مفهوم للوصف مطلقا أي: سواء كان مساويا للموصوف أو أخص منه مطلقا، أو أعم منه كذلك، أو أخص من وجه.

2 - أمور استدل بها على مفهوم الوصف، مع ذكر جواب المصنف عن كل واحد منها:

الأول: أنه استدل على مفهوم الوصف بوضعه للدلالة على العلية المنحصرة المستلزمة لانتفاء الحكم عند انتفاء الوصف.

و قد أجاب المصنف عنه بقوله: «لعدم ثبوت الوضع».

الثاني: أنه لو لم يدل الوصف على المفهوم لكان ذكره لغوا، فلا بد من الالتزام بالمفهوم صونا لكلام الحكيم عن اللغوية.

و قد أجاب المصنف عنه بقوله: و عدم لزوم اللغوية، لأن فائدة الوصف ليست منحصرة بالمفهوم حتى يكون ذكره مع عدم دلالته على المفهوم لغوا.

الثالث: المفهوم، بدعوى الانصراف إلى كون الوصف علة منحصرة لثبوت الحكم، فيلزم انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الوصف.

و قد أجاب عنه بما حاصله: من منع الانصراف.

و قد أشار إلى ردّ تفصيل العلامة «قدس سره» بقوله: «و عليته فيما إذا استفيدت..» إلخ. و قد فصل العلامة «قدس سره» بين الوصف الذي يكون علة و الذي لا يكون علة بذهابه إلى المفهوم في الأول، و عدمه في الثاني.

و حاصل الردّ: أن العلية لا تقتضي المفهوم ما لم تكن منحصرة، و مع الانحصار أجنبي عن موضوع البحث، إذ موضوعه كون الوصف بنفسه دالا على الانحصار المستلزم للمفهوم لا بقرينة خارجية، و من المعلوم: أن الانحصار لا يكون إلا بالقرينة.

الرابع: إثبات المفهوم من طريق أن الأصل في القيد الاحترازية التي لازمها: انتفاء الحكم بانتفائه.

و أجاب عنه بقوله: «لأن الاحترازية لا توجب إلا تضييق دائرة موضوع الحكم في القضية».

توضيح ذلك: أن احترازية القيد لا تدل على ثبوت المفهوم للوصف؛ لأن مقتضى

ص: 226

الاحترازية تضييق دائرة الموضوع، و من المعلوم: أن انتفاء الحكم بانتفاء قيد الموضوع كانتفائه بانتفاء تمام الموضوع يكون عقليا، و ليس من باب المفهوم.

الخامس: إثبات المفهوم للوصف من طريق لزوم حمل المطلق على المقيد في نحو:

«أعتق رقبة، و أعتق رقبة مؤمنة» فيقال: إن حمل المطلق على المقيد يشهد بثبوت المفهوم للوصف؛ إذ لو لم يكن للوصف مفهوم لم يحصل التنافي الموجب لحمل المطلق على المقيد.

و أجاب عنه بما حاصله: من أن حمل المطلق على المقيد ليس لأجل دلالة الوصف على المفهوم؛ بل لازم حمل المطلق على المقيد هو: تضييق دائرة موضوع الحكم، فيكون مفاد المطلق و المقيد معا هو وجوب عتق الرقبة المؤمنة، فيكون حاصلهما: وجوب المقيد و السكوت عن المطلق، فالنتيجة: أن باب تقييد الإطلاقات أجنبي عن موضوع مفهوم الوصف، و ليس دليلا على ثبوت المفهوم.

بقي الكلام فيما في التقريرات حيث قال ما حاصله: إنه لا وجه لحمل المطلق بلحاظ المفهوم، لأن المنطوق - و هو إطلاق المطلق - أقوى من المفهوم، فلا معنى لرفع اليد عنه بمفهوم المقيد.

3 - الاستدلال على عدم دلالة الوصف على المفهوم بآية وَ رَبٰائِبُكُمُ اَللاّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ ، بتقريب: أنه لو كان للوصف مفهوم لزم عدم حرمة الربائب اللاتي لسن في حجور الأزواج، و هو مخالف للضرورة.

و قد أجاب عنه المصنف بوجهين:

الأول: أن حرمة الربيبة مطلقا - و إن لم تكن في حجر زوج أمها - ليست لعدم المفهوم للوصف، بل لأجل قرينة خارجية و هي النصوص الدالة على حرمة الربيبة مطلقا، و إن لم تكن في الحجر، و من المعلوم: أن موارد القرينة على ثبوت المفهوم للوصف أو نفيه عنه خارجة عن حريم النزاع.

الثاني: أن من شرائط ثبوت المفهوم للوصف عدم وروده مورد الغالب و الوصف و القيد وارد مورد الغالب، لأن الغالب كون الربائب في حجور أزواج أمهاتها، فإذا فات الشرط فات المشروط، و هو المفهوم للوصف.

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى: أن ورود الوصف مورد الغالب يكون مانعا عن الأخذ بالمفهوم لو كان الأخذ بالمفهوم لدفع محذور اللغوية، لا لدلالة الوصف عليه بالوضع.

ص: 227

4 - تذنيب في تحرير محل النزاع: و لا شبهة في جريان النزاع فيما إذا كان الوصف أخص من موصوفه و لو من وجه في مورد الافتراق من جانب الموصوف؛ بأن يكون الموصوف موجودا بدون الوصف، كالرجل بدون العلم مثلا. «و أما في غيره» - و هو مورد افتراق كل من الصفة و الموصوف بحيث لا يصدق واحد منهما كالإبل المعلوفة في نحو: «في الغنم السائمة زكاة» - «ففي جريانه إشكال أظهره عدم جريانه».

و خلاصة الكلام في وجه عدم الجريان: أن المفهوم نقيض للمنطوق، و لا يتحقق التناقض إلا في اتحاد المتناقضين موضوعا مثل: «زيد عالم و زيد ليس بعالم»، فلا تكون معلوفة الإبل مفهوما لقولنا: «في الغنم السائمة زكاة» لاختلاف الموضوع.

و لعل وجه جريان نزاع المفهوم في مورد الافتراق من جانب الوصف و الموصوف هو:

استفادة العلية المنحصرة من الوصف كالسوم في المثال، فينتفي وجوب الزكاة عن معلوفة الإبل و غيرها من الأنعام التي ليست سائمة، و عليه: فيجري النزاع في جميع الأقسام الأربعة أي: سواء كان الوصف مساويا للموصوف، أو أخص منه مطلقا أو من وجه، أو أعم منه مطلقا.

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - لا مفهوم للوصف.

2 - جريان النزاع فيما كان الوصف أخص من الموصوف مطلقا، أو من وجه مع الافتراق من جانب الموصوف.

ص: 228

فصل

هل الغاية في القضية تدل على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية، بناء على دخول الغاية في المغيّى، أو عنها و بعدها بناء على خروجها أو لا؟ فيه خلاف، و قد نسب إلى

=============

فصل في مفهوم الغاية

اشارة

و قبل الخوض في البحث لا بد من تحرير محل النزاع، و التحقيق في مفهوم الغاية فنقول: إن الغاية قد تطلق على نهاية الشيء و المراد بها آخره.

و قد تطلق على المسافة كقول النحاة «من» لابتداء الغاية، و «إلى» لانتهاء الغاية.

و قد تطلق على علة الشيء و المراد بها الغرض الذي يقع لأجله الشيء، و يعبر عنها بالعلة الغائية أيضا، كجلوس السلطان على السرير، فإنه الغرض الذي يصنع لأجله السرير.

إذا عرفت هذه المعاني للغاية فاعلم: أن المراد بها في المقام هو المعنى الأول، لأن الأدوات - و هي: حتى و إلى - موضوعة لبيان النهاية كقوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيٰامَ إِلَى اَللَّيْلِ (1)، و كقوله تعالى: كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ (2).

فيقع البحث في مقامين:

1 - في دخول الغاية في المغيّى. 2 - في مفهومها.

و أما البحث في دخول الغاية في المغيّى و عدم دخولها فيه فيحرر هكذا:

هل الغاية داخلة في المغيّى أو خارجة عنه، مثلا: إذا قال المولى لعبده: «صم من الأحد إلى الجمعة» فهل يجب صوم الجمعة أم لا؟

فإن قلنا بدخول الغاية في المغيّى فيجب صومها، و إن قلنا بأنها خارجة عنه فلا يجب صومها.

و أما البحث في مفهوم الغاية فيحرر هكذا: هل الغاية تدل على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية - بناء على دخولها في المغيّى - أو تدل على ارتفاعه عن الغاية و عن بعدها بناء

ص: 229


1- جزء من آية: 187 من سورة البقرة.
2- جزء من آية: 187 من سورة البقرة.

المشهور: الدلالة على الارتفاع، و إلى جماعة - منهم السيد و الشيخ - عدم الدلالة عليه (1).

و التحقيق (2): أنه إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربية قيدا للحكم، كما في على خروج الغاية عن المغيّى أو لا؟ فيه خلاف، و قد نسب إلى المشهور: دلالتها على ارتفاع الحكم عن الغاية بناء على دخولها في المغيّى، أو عنها و بعدها بناء على خروجها عنه. و إلى جماعة منهم: السيد المرتضى، و الشيخ الطوسي «قدس سرهما» عدم دلالتها على الارتفاع المذكور - و قد يأتي الكلام في المقام الأول عند تعرض المصنف له.

=============

«تنبيه» إن السيد و الشيخ إذا ذكرا مطلقين في علم الأصول و علم الفقه فالمراد من السيد هو السيد المرتضى، و من الشيخ هو الشيخ الطوسي(1) «قدس سرهما».

كما أن الشيخ إذا ذكر مطلقا في المنطق و الفلسفة: فالمراد منه: الشيخ أبو علي ابن سينا.

و إذا ذكر مطلقا في الصرف و النحو: فالمراد هو الشيخ ابن الحاجب.

و إذا ذكر مطلقا في علم المعاني و البيان: فالمراد هو الشيخ عبد القادر الجرجاني. و إذا ذكر مطلقا في الرياضي: فالمراد الشيخ البهائي «رحمه الله».

و إذا ذكر مطلقا في علم الحديث: فالمراد هو: الشيخ الصدوق «قدس سره».

و إذا ذكر مطلقا في علم الرجال: فالمراد هو: الشيخ النجاشي «قدس سره».

(1) أي: على الارتفاع، يعني: فلا تدل الغاية على المفهوم.

(2) و قد اختار المصنف «قدس سره» التفصيل في المقام بذهابه إلى دلالة الغاية على المفهوم إن كانت قيدا للحكم، و حالها حال الوصف في عدم الدلالة على المفهوم إن كانت قيدا للموضوع.

و توضيح التفصيل يتوقف على مقدمة و هي: أن الغاية بحسب القواعد العربية و متفاهم أهل اللسان تارة تكون قيدا للحكم، كقيدية الشرط له، بحيث يكون الحكم معلقا عليها كما في قول المعصوم «عليه السلام»: «كل شيء هو لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك»(2)، أو «كل شيء نظيف حتى تعرف أنه قذر فإذا علمت فقد قذر، و ما لم تعلم فليس عليك»(3).

ص: 230


1- حيث قال: فأما تعليق الحكم بغاية؛ فإنما يدل على ثبوته إلى تلك الغاية، و ما بعدها يعلم انتفاؤه بدليل، العدة في أصول الفقه، ج 2، ص 478.
2- الكافي، ج 5، ص 313، ح 40 /التهذيب، ج 2، ص 226، ح 9.
3- التهذيب، ج 1، ص 285، ح 119.

قوله: «كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام»، و «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» كانت دالة على ارتفاعه عند حصولها، لانسباق ذلك منها، كما لا يخفى، و كونه (1) قضية تقييده بها، و إلا لما كان ما جعل غاية له بغاية، و هو واضح إلى النهاية.

و أخرى: تكون بحسبها قيدا للموضوع، يعني به: متعلق الحكم كالسير في قولك:

=============

«سر من البصرة إلى الكوفة».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الغاية تدل على المفهوم - و هو انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الغاية - فيما إذا كانت قيدا للحكم كما في الخبرين المذكورين في المتن، حيث إن الغاية فيهما و هو قوله: «عليه السلام» «حتى تعرف أنه حرام»، و «حتى تعلم أنه قذر» قيد للحكم أعني: الحلية و الطهارة، لاتصالهما بالحلال و الطاهر، فكأنه قيل: إن هذين الحكمين منوطان بعدم العلم بالحرمة و القذارة، فإذا علمتا ارتفعت الحلية و الطهارة الثابتتان للمنطوق؛ إذ العلم بهما غاية لهما، فإذا حصل ارتفعتا.

و الوجه في ارتفاعهما بحصول الغاية هو: التبادر لأن المتبادر من جعل شيء غاية لحكم هو ارتفاعه بحصول ذلك الشيء، كارتفاع وجوب الصوم بمجيء غايته - و هي الليل - إذ لو لم يرتفع به لزم أن لا يكون ما جعل غاية و آخرا للحكم غاية له، و هو خلف.

هذا بخلاف ما إذا كانت الغاية قيدا للموضوع بحسب القواعد العربية، فلا تدل على المفهوم أعني: انتفاء سنخ الحكم بحصول الغاية؛ بل يكون انتفاؤه بحصولها عقليا من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

فالحاصل: أن الغاية إذا كانت قيدا للموضوع فهي كالوصف في عدم الدلالة على المفهوم.

(1) أي: لكون ارتفاع الحكم بحصول الغاية مقتضى تقييده بالغاية، و «كونه» عطف على «انسباق».

و حاصل الكلام في المقام: أن مقتضى تقييد الحكم بالغاية هو ارتفاع الحكم عند حصولها و هو المفهوم، «و إلا» أي: و إن لم تكن قضية التقييد بالغاية ارتفاع الحكم عند حصولها الذي هو المفهوم لزم الخلف، و هو عدم كون ما جعل غاية للحكم غاية له؛ إذ مع عدم ارتفاع الحكم بحصولها يكون ما جعل غاية وسطا لا غاية و آخرا، فتتوقف غائيته على ارتفاع الحكم بحصولها.

ص: 231

و أما (1) إذا كانت بحسبها قيدا للموضوع، مثل: (سر من البصرة إلى الكوفة (2)، فحالها (3) حال الوصف في عدم الدلالة، و إن (4) كان تحديده بها بملاحظة حكمه، و تعلق الطلب به، و قضيته ليس إلا عدم الحكم فيها إلا بالمغيّا، من دون دلالة لها أصلا على انتفاء سنخه عن غيره، لعدم ثبوت وضع لذلك، و عدم (5) قرينة ملازمة لها

=============

(1) عطف على قوله: «إذا كانت» يعني: و أما إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربية قيدا للموضوع فلا تدل على المفهوم، كما عرفت.

(2) فإلى غاية و قيد للموضوع، لا لوجوب السير، فكأنه قيل: «السير المتصف بكون أوّله البصرة و آخره الكوفة واجب»، حيث إن «من و إلى» متعلقان بمادة «سر» لا بهيئته، إذ ليس ما بين مبدأ السير و منتهاه مكانا للحكم، فلا يصح تعلقهما بالهيئة. هذا مضافا إلى أن المتبادر من معنى الجملة المذكورة هو: أن السير بين الحدين متعلق الوجوب.

(3) جواب «أما» في قوله: «و أما إذا كانت..» إلخ و معنى العبارة: أنه إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربية قيدا للموضوع فحال الغاية حينئذ حال الوصف في عدم الدلالة على المفهوم، و أن المنفي بحصول الغاية - كالمنفي بانتفاء الوصف - هو شخص الحكم لا سنخه، الذي هو المطلوب في المفهوم.

(4) كلمة «إن» وصلية يعني: و إن كان تحديد الموضوع بالغاية و تقييده بها موجبا لانتفاء الحكم بحصول الغاية، لكنه ليس من باب المفهوم؛ لأنه من انتفاء الحكم الشخصي بارتفاع موضوعه، لا من ارتفاع سنخ الحكم الذي هو المفهوم. و كيف كان؛ فمحل النزاع ما إذا كانت الغاية غاية للحكم، لا للموضوع، كما هو الظاهر من لفظ الغاية؛ إذ لو أريد تحديد الموضوع كان المناسب ذكره وصفا لا غاية.

و المتحصل: أن تحديد الموضوع بالغاية و إن كان هو بملاحظة حكم الموضوع، و يكون مرجعه إلى تحديد الحكم بها إلا إنه لا تدل على ارتفاع سنخ الحكم بحصولها، و مقتضى تحديد الموضوع بالغاية ليس إلا عدم الحكم في القضية إلا بالمغيّا، من دون دلالة لها على المفهوم و ارتفاع سنخ الحكم بحصول الغاية. فالضمير في قوله: «فيها» يرجع إلى القضية.

قوله: «لعدم ثبوت وضع لذلك» تعليل لعدم الدلالة و حاصله: عدم ثبوت وضع لدلالة الغاية التي تكون قيدا للموضوع على انتفاء سنخ الحكم عن غير المغيّى، و الأولى أن يقول: لها بدل «لذلك».

(5) عطف على «عدم» في قوله: «لعدم ثبوت..» إلخ يعني: و لعدم قرينة ملازمة للدلالة على انتفاء سنخ الحكم عن غير المغيّى، و لو كانت الملازمة غالبية؛ بحيث دلت

ص: 232

و لو غالبا (1)، دلت على اختصاص الحكم به، و فائدة التحديد بها كسائر أنحاء التقييد، غير منحصرة بإفادته كما مر في الوصف.

ثم إنه في الغاية خلاف آخر (2) - كما أشرنا إليه - و هو أنها هل هي داخلة في تلك القرينة على اختصاص الحكم بالمغيّا، بأن تكون الغاية علة منحصرة، فغرض المصنف من قوله: «لعدم ثبوت. و عدم قرينة..» إلخ نفي ما يوجب الدلالة على المفهوم من وضع الغاية له، أو قرينة دالة عليه، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 420».

=============

(1) كلمة لو وصلية، قوله: «و لو غالبا» قيد لقوله: «ملازمة». و معنى العبارة: و لو كانت القرينة ملازمة لدلالة الغاية على المفهوم غالبية لا دائمية. و ضمير «لها» يرجع إلى الدلالة.

قوله: «دلت» صفة لقرينة، و ضمير «به» راجع إلى المغيّى، يعني: عدم قرينة دلت على اختصاص الحكم بالمغيّا بأن تكون الغاية علة منحصرة مستتبعة للمفهوم.

قوله: «و فائدة التحديد بها» دفع لتوهم دلالة الغاية على المفهوم من جهة لزوم اللغوية، لو لا دلالتها على المفهوم و انتفاء الحكم عن غير المغيّى.

و حاصل الدفع: أن محذور اللغوية إنما هو فيما إذا انحصرت فائدة الغاية في دلالتها على المفهوم، و أما مع عدم الانحصار و وجود فوائد أخرى لها التي تخرجها عن اللغوية:

فلا وجه للالتزام بالمفهوم لها، إذ للغاية فوائد كثيرة كشدة الاهتمام بما قبل الغاية في قولك: «أكثر قراءة القرآن إلى سلخ رمضان»، أو دفع توهم انتفاء الحكم قبل الغاية في قولك: «أحسن إلى عدوك حتى يحبك».

هل الغاية داخلة في المغيّى أم لا؟

(2) و قد ذكرنا في أول البحث أن في الغاية خلافين:

أما الخلاف الأول: ففي دلالتها على المفهوم، و عدم دلالتها عليه.

و أما الخلاف الثاني: هو في بيان أن الغاية داخلة في المغيّى بحسب الحكم حتى يكون الليل الذي جعل غاية للصوم الواجب داخلا في المغيّى، فيجب صوم الليل كالنهار، أم خارجة عنه فلا يجب الصوم في الليل. و الأظهر عند المصنف: خروج الغاية، فلا يجب صوم الليل لكون الغاية من حدود المغيّى، و الحد خارج عن المحدود، كما يقال في العرف: إن حد المسجد هو الشارع العام، و هو خارج عن المسجد.

و كيف كان؛ فالغاية - بمعنى: مدخول إلى و حتى - خارجة عن المغيّى على ما هو

ص: 233

المغيّى بحسب الحكم، أو خارجة عنه ؟ و الأظهر: خروجها لكونها من حدوده فلا تكون محكومة بحكمه، و دخولها (1) فيه في بعض الموارد إنما يكون بالقرينة، و عليه (2): تكون كما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الأول، كما أنه على القول الآخر (3) تكون محكومة بالحكم منطوقا، ثم لا يخفى: إن هذا الخلاف (4) لا يكاد يعقل جريانه فيما إذا كان قيدا للحكم فلا تغفل.

الأظهر عند المصنف «قدس سره»، لكونها من حدود المغيّى، و الحد خارج عن المحدود.

=============

(1) أي: دخول الغاية في المغيّى في بعض الموارد نحو:

ألقى الصحيفة كي يخفف رحله *** و الزاد حتى نعله ألقاها

إنما يكون بالقرينة الخاصة لا بالقرينة العامة حتى توجب ظهور الغاية في الدخول.

(2) يعني: و بناء على خروج الغاية عن المغيّى تكون الغاية كما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الأول؛ و هو الخلاف في دلالة الغاية على المفهوم و عدمها. فإن قلنا في الخلاف السابق: بالمفهوم و ارتفاع سنخ الحكم بحصول الغاية فالحكم مرتفع عنها كما بعدها. و إن قلنا: بعدم دلالة الغاية على المفهوم فلا دليل على كونها محكومة بحكم المغيّى، بل هي ساكتة عن نفسها كما بعدها، بل لا يمكن أن تكون محكومة بحكم المنطوق - أي:

المغيّى - و يمكن أن تكون محكومة بضده.

(3) أي: على القول بدخول الغاية في المغيّى، تكون الغاية محكومة بحكم المنطوق بالدلالة المنطوقية، فعلى القول بالمفهوم يكون محل الحكم المفهومي ما بعد الغاية.

(4) أي: الخلاف في دخول الغاية و عدمه. و لا يعقل جريان هذا الخلاف إذا كانت الغاية قيدا للحكم، و وجه عدم المعقولية: أن دخول الغاية في المغيّى فيما إذا كانت الغاية قيدا للحكم مستلزم لاجتماع الضدين، ضرورة: أنه إذا كان مثل قوله: عليه السلام «حتى تعلم أنه قذر» داخلا في المغيّى - و هو طهارة مشكوك النجاسة - لزم منه طهارة معلوم النجاسة، فيلزم اجتماع الطهارة و النجاسة في معلوم النجاسة، و لا يكون ذلك إلا اجتماع الضدين.

هذا مضافا إلى عدم السنخية بين الغاية و المغيّى، إذ لا مناسبة بين الطهارة المشكوكة و النجاسة المعلومة، و لا تجتمعان أصلا.

فالخلاف في دخول الغاية في المغيّى و عدمه لا بد أن يكون مورده ما إذا كانت الغاية قيدا للموضوع، و لعل هذا ما أشار إليه بقوله: «فلا تغفل».

ص: 234

خلاصة البحث: مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - محل النزاع: هي الغاية بمعنى نهاية الشيء لا بمعنى المسافة أو الغرض، فيقع الكلام في مقامين، الأول: في مفهوم الغاية، و الثاني: في دخولها في المغيّى و عدمه فيه، بمعنى: أن الغاية - و هي مدخول حتى و إلى نحو: أَتِمُّوا اَلصِّيٰامَ إِلَى اَللَّيْلِ - هل هي داخلة في المغيّى فيجب الصوم في الليل أيضا أو لا فلا يجب الصوم في الليل ؟ هذا سيأتي في كلام المصنف «قدس سره».

2 - دلالة الغاية على المفهوم و هو انتفاء سنخ الحكم عند حصول الغاية.

و التحقيق عند المصنف هو: التفصيل، بمعنى: أنها تدل على المفهوم إذا كانت قيدا للحكم نحو: «كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام»، و لا تدل عليه إذا كانت قيدا للموضوع بحسب القواعد العربية نحو: «سر من البصرة إلى الكوفة»، و الوجه في ارتفاع الحكم بحصولها في الأول هو: التبادر لأن المتبادر من جعل شيء غاية لحكم هو: انتفاء ذلك الحكم بحصول ذلك الشيء، و إلا لزم الخلف. هذا بخلاف ما إذا كانت قيدا للموضوع حيث يكون ارتفاع الحكم عند حصولها حينئذ عقليا من باب السالبة بانتفاء الموضوع، و ليس من باب المفهوم.

3 - الخلاف في دخول الغاية في المغيّى. و الأظهر عند المصنف: عدم دخولها فيه، و خروجها عنه لأن الغاية من حدود المغيّى و حد الشيء خارج عنه.

و على القول بخروج الغاية عن المغيّى: تكون الغاية كما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الأول و هو الدلالة على المفهوم و عدمها، فإن قلنا في الخلاف السابق بالمفهوم و ارتفاع الحكم بحصول الغاية كان الحكم مرتفعا عنها كما بعدها. و إن قلنا بعدم المفهوم للغاية فالغاية ساكتة عن حكم نفسها كما بعدها، فلا دليل على كونها محكومة بحكم المغيّى.

و أما على القول بدخول الغاية في المغيّى: فتكون الغاية محكومة بحكم المغيّى منطوقا.

4 - عدم معقولية الخلاف الثاني - أعني: الخلاف في دخول الغاية في المغيّى و عدمه

ص: 235

فيه - فيما إذا كانت الغاية قيدا للحكم، و وجه عدم جريان الخلاف هو: محذور لزوم اجتماع الضدين كما عرفت.

فالخلاف في دخولها في المغيّى و عدمه لا بد أن يكون مورده: ما إذا كانت قيدا للموضوع.

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - أن للغاية مفهوم إذا كانت قيدا للحكم، دون ما إذا كانت قيدا للموضوع.

2 - الغاية خارجة عن المغيّى.

ص: 236

فصل

لا شبهة في دلالة الاستثناء (1) على اختصاص الحكم سلبا أو إيجابا بالمستثنى منه (2).

و لا يعم (3) المستثنى، و لذلك (4) يكون الاستثناء من النفي إثباتا، و من الإثبات نفيا،

=============

فصل فى مفهوم الحصر

اشارة

(1) الكلام في أداة الحصر منها: كلمة «إلا»، و قبل الخوض في البحث لا بد من تحرير محل النزاع في الحصر بكلمة «إلا» فيقال: إن محل النزاع ما إذا استعملت كلمة «إلا» بمعنى الاستثناء، لا ما إذا استعملت صفة بمعنى الغير نحو: «لا إله إلا الله» أي: غير الله تعالى.

ثم محل النزاع: ما إذا كان مفاد الاستثناء انتفاء سنخ الحكم و نوعه عن المستثنى منه، لا انتفاء شخص الحكم الذي أنشأه المتكلم، حيث إنه مختص بالمستثنى منه بلا كلام؛ لأن مفاد الاستثناء هو: تضييق دائرة موضوع الحكم، و الحكم لا يشمل إلا موضوعه.

و كذا محل الحكم المفهومي - على القول بالمفهوم - هو طرف المستثنى لا المستثنى منه؛ إذ لا شك في أن حكم المستثنى منه إنما هو بالمنطوق لا بالمفهوم.

(2) يعني: اختصاص سنخ الحكم و نوعه لا شخصه؛ لما مر غير مرة من أن المدار في المفهوم هو: ارتفاع السنخ لا الشخص، سواء كان الحكم سلبا نحو: لا تكرم الأمراء إلا عادلهم، أو إيجابا نحو: «أكرم العلماء إلا فساقهم» يعني: لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص حرمة إكرام الأمراء، بالمستثنى منه، و انتفائها عن المستثنى في المثال الأول، و اختصاص وجوب إكرام العلماء بالمستثنى منه، و انتفاؤه عن المستثنى في المثال الثاني.

(3) الأولى تبديل «و لا يعم» ب «و انتفائه عن المستثنى»، و ذلك قوله: «و لا يعم» أعم من عدم البيان و بيان العدم، و من المعلوم: أن المقصود هنا هو الثاني؛ إذ المفروض: دعوى دلالة الاستثناء على انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى، فعدم الشمول إنما هو لبيان العدم، لا لقصور في الشمول، بداهة: أن المستثنى منه بطبعه يشمل المستثنى موضوعا و حكما، إلاّ إن الاستثناء يدل على انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى، و لذا يكون الاستثناء من النفي إثباتا، و من الإثبات نفيا، كما في هامش «منتهى الدراية، ج 3، ص 426».

(4) أي: لدلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه يكون الاستثناء من

ص: 237

و ذلك (1) للانسباق عند الإطلاق قطعا، فلا يعبأ بما عن أبي حنيفة من عدم الإفادة محتجا بمثل: «لا صلاة إلا بطهور»(1).

النفي إثباتا، و من الإثبات نفيا، كما هو مقتضى الاختصاص.

=============

(1) هذا استدلال من المصنف على مدعاه بالتبادر إلى الأذهان من إطلاق أداة الاستثناء، و تجردها عن القرينة الدالة على هذا الاختصاص، فلذا يقول: «و ذلك» أي:

الوجه في دلالة الاستثناء على الاختصاص المزبور هو التبادر، حيث إنه لا شبهة في وجوده هنا عند أرباب المحاورة، و هذا التبادر كاف في إثبات الاختصاص المزبور، و الدلالة على انتفاء الحكم عن المستثنى؛ لأن التبادر معلول للوضع، و لذا يكون من علامات الحقيقة.

فالمتحصّل: أن الاستثناء يدل بحكم التبادر على اختصاص سنخ الحكم بالمستثنى منه، و لازمه: ثبوت نقيضه للمستثنى، فمفاد «أكرم العلماء إلا فساقهم» هو: اختصاص سنخ وجوب الإكرام بغير فاسقهم، فلا يجب إكرامهم. و مع وضوح هذا المعنى - في الاستثناء - ذهب أبو حنيفة إلى عدم دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه، و احتجّ أبو حنيفة لمدعاه بمثل: «لا صلاة إلا بطهور» بتقريب: أن الاستثناء لو كان دالا على اختصاص الحكم بالمستثنى منه و انتفائه عن المستثنى لكان دالا على أن صلاة فاقد الطهور ليست بصلاة مطلقا أي: و إن كانت واجدة لما عدا الطهور من الأجزاء، و الشرائط، و الواجدة له صلاة مطلقا أي: و إن كانت فاقدة لما عداه من الأجزاء و الشرائط، و الواجدة له صلاة مطلقا أي: و إن كانت فاقدة لما عداه من الأجزاء و الشرائط، و هو باطل قطعا، ضرورة: انتفاء الصلاة بفقدان ركن من أركانها - كالركوع - مع وجود الطهور، فهذا كاشف عن عدم دلالة الاستثناء على انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى؛ إذ مقتضى مفهوم الاستثناء: كون الطهور وحده صلاة، و هو مما لم يقل به أحد.

و قد أجاب المصنف عن استدلال أبي حنيفة بوجهين:

الوجه الأول: ما أشار إليه بقوله: «أولا: بكون المراد من مثله».

و حاصله: أن المراد من المستثنى منه في هذا التركيب هي الصلاة التامة الجامعة لجميع الأجزاء و الشرائط عدا الطهارة؛ فالصلاة الفاقدة لها إما ليست بصلاة أصلا - بناء على وضع ألفاظ العبادات للصحيح - و إما ليست بصلاة تامة - بناء على وضعها للأعم - فالمفهوم حينئذ هو الواجد لجميع الأجزاء و الشرائط حتى الطهور. و على هذا: فالمنطوق

ص: 238


1- التهذيب، ج 1، ص 49، ح 83 /الفقيه، ج 1، ص 33، ح 67 /تحفة الأحوذي، ج 1، ص 93.

ضرورة (1): ضعف احتجاجه.

أولا: بكون المراد من مثله (2): أنه لا تكون الصلاة التي كانت واجدة لأجزائها و شرائطها المعتبرة فيها صلاة إلا إذا كانت واجدة للطهارة (3) و بدونها لا تكون صلاة على وجه (4)، و صلاة تامة مأمورا بها على آخر (5).

و ثانيا (6): بأن الاستعمال مع القرينة، كما في مثل التركيب، مما علم فيه هو: نفي الصلاتية عما هو واجد لجميع ما يعتبر في الصلاة إلا الطهور، و المفهوم: إثبات الصلاتية لواجد جميع الأجزاء و الشرائط حتى الطهور، فالحكم بعدم الصلاتية مختص بالمستثنى منه و هو الواجد لجميع الأجزاء و الشرائط إلا الطهور، و منفي عن المستثنى و هو الجامع لجميع الأجزاء و الشرائط حتى الطهور، فدلالة مثل: «لا صلاة إلا بطهور» على اختصاص الحكم - أعني: عدم الصلاتية - بالمستثنى منه و انتفائه عن المستثنى واضحة.

=============

(1) تعليل لقوله: «فلا يعبأ» يعني: بعد ما ثبت بالتبادر دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه، فلا يعتنى بما عن أبي حنيفة؛ من إنكاره هذه الدلالة. و قد تقدم توضيح استدلاله على إنكار مفهوم الاستثناء.

(2) أي: مثله من التراكيب على اعتبار شيء شطرا أو شرطا في الصلاة كقوله «عليه و آله السلام»: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» مثلا.

(3) و الشاهد على كون المراد هذا المعنى: أن قوله: «عليه و آله السلام» «لا صلاة إلا بطهور» قد ورد في مقام جعل الطهارة شرطا للصلاة، و من المعلوم: أن الصلاة التي جعلت الطهارة شرطا لها هي خصوص التامّة لا غير.

(4) يعني: على القول بوضع ألفاظ العبادات للصحيح: فلا تكون فاقدة للطهارة صلاة.

(5) و هو القول بوضع ألفاظ العبادات للأعم.

فالصلاة بدون الطهارة إما لا تكون صلاة، و إما لا تكون مأمورا بها.

(6) هذا هو الوجه الثاني من الوجهين اللذين أجاب بهما عن استدلال أبي حنيفة، و حاصل هذا الوجه: أنه إذا ثبت بسبب القرينة عدم دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه، و انتفائه عن المستثنى، لما كان ذلك قادحا في وضع أداة الاستثناء للدلالة على الاختصاص المزبور؛ لما تقرر في محله من: إنه لا يقدح الاستعمال في المعنى المجازي مع القرينة في ظهور اللفظ في معناه الحقيقي بدون القرينة.

و خلاصة الكلام في المقام: أن عدم دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه لا يقدح في الدلالة على الاختصاص بلا قرينة.

ص: 239

الحال (1) لا دلالة له (2) على مدعاه أصلا، كما لا يخفى.

و منه (3) قد انقدح: إنه لا موقع للاستدلال على المدعي بقبول رسول الله «صلى الله عليه و آله» إسلام من قال كلمة التوحيد؛ لإمكان دعوى أن دلالتها على التوحيد كان بقرينة الحال أو المقال.

و الإشكال في دلالتها عليه (4): بأن خبر لا إما يقدّر ممكن أو موجود، و على كل تقدير لا دلالة لها عليه.

و كيف كان؛ فقد علم مما ذكر: أن أدوات الاستثناء قد وضعت لاختصاص الحكم بالمستثنى منه، و استعمالها في غير الاختصاص المذكور مجاز لغوي، فلا دلالة لهذا الاستعمال على مدعى أبي حنيفة و هو عدم الدلالة على الاختصاص.

=============

(1) يعني: عدم دلالة الاستثناء على الاختصاص.

(2) أي: لا دلالة للاستعمال في المعنى المجازي على ما يدعيه أبو حنيفة؛ من عدم دلالة الاستثناء على الاختصاص، فقوله: «لا دلالة» خبر قوله: «بأن الاستعمال مع القرينة»، و معنى العبارة حينئذ: إن استعمال أداة الاستثناء مع القرينة في المعنى المجازي لا يدل على ما يدعيه أبو حنيفة من عدم دلالة الاستثناء على الاختصاص.

(3) أي: من الجواب الثاني عن استدلال أبي حنيفة - و هو كون الاستعمال المجازي مع القرينة غير قادح في دلالة الاستثناء وضعا على الاختصاص - قد ظهر «إنه لا موقع للاستدلال على المدعي» و هو دلالة الاستثناء على الاختصاص.

و مقصود المصنف من هذا الكلام هو: التعريض بمن استدل بكلمة التوحيد على دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه، و انتفائه عن المستثنى.

(4) أي: الإشكال في دلالة كلمة الإخلاص على التوحيد.

تقريب الإشكال على الاستدلال بكلمة الإخلاص على التوحيد يتوقف على مقدمة و هي: أن المراد من التوحيد هو إثبات وجود إله واحد و هو الله «تبارك و تعالى»، و امتناع غيره.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: إن كلمة الإخلاص أعني: لا إله إلا الله لا تدل على التوحيد، سواء كان الخبر المقدر لكلمة «لا» النافية للجنس هو لفظ «ممكن» أو «موجود».

و أمّا على الأول فلا تدل كلمة الإخلاص إلا على إمكانه تعالى؛ إذ معناها حينئذ: لا إله بممكن إلا الله، فالمستثنى منه هي نفي الإمكان، و المستثنى هو: ثبوت الإمكان، و من المعلوم: إن الإمكان لا يستلزم الوجود و الفعلية؛ لأن الإمكان أعم من الوجود، و الأعم لا يدل على الأخص، فكلمة الإخلاص لا تدل على وجوده تعالى فعلا فضلا عن توحيده.

ص: 240

أما على الأول: فإنه حينئذ لا دلالة لها إلا على إثبات إمكان وجوده «تبارك و تعالى»، لا وجوده.

و أما على الثاني: فلأنها و إن دلت على وجوده تعالى؛ إلا إنه لا دلالة لها (1) على عدم إمكان إله آخر - مندفع (2)؛ بأن المراد من الإله هو: واجب الوجود، و نفي ثبوته و وجوده في الخارج، و إثبات فرد منه فيه - و هو الله - يدل بالملازمة البيّنة على امتناع تحققه في ضمن غيره «تبارك و تعالى»، ضرورة: إنه لو لم يكن ممتنعا لوجد لكونه من أفراد الواجب.

و أما على الثاني: فكلمة الإخلاص و إن كانت تدل على وجوده تعالى؛ لأن معناها حينئذ: لا إله بموجود إلا الله تعالى إلا إنها لا تدل على ما هو المقصود منها و هو نفي إمكان غيره تعالى، و إثبات امتناع غير الله تعالى لا نفي وجوده فقط.

=============

لأن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان، لأن الوجود أخص من الإمكان العام، و من المعلوم: أن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام، مع إن المعتبر في التوحيد هو نفي إمكان إله آخر.

و هذا الإشكال نشأ من جعل لفظ «لا» لنفي الجنس ليحتاج إلى الخبر، لأنه من النواسخ الداخلة على المبتدأ و الخبر.

(1) أي: لا دلالة لكلمة الإخلاص على عدم إمكان إله آخر.

و وجه عدم الدلالة: أن العقد السلبي - و هو المستثنى منه - يدل على عدم وجود طبيعة الإله و منها الواجب الوجود «تبارك و تعالى»، و العقد الإيجابي - و هو المستثنى - يدل على وجود فرد منها و هو الله تعالى، و شيء من العقدين لا يدل على امتناع غيره سبحانه، مع إن امتناع غيره هو المعتبر في التوحيد.

(2) هذا دفع للإشكال: أي: يندفع الإشكال: بأن المراد من الإله واجب الوجود لذاته، و الخبر المقدّر هو «موجود»، فتدل كلمة الإخلاص حينئذ على انحصاره في فرد منه و هو الله «تبارك و تعالى»، فمعنى كلمة الإخلاص: لا واجب وجود بموجود إلا الله، و من المعلوم: أن نفي طبيعة واجب الوجود و إثبات فرد منها - و هو الله تعالى - يدل على عدم إمكان واجب غيره؛ إذ لو كان ممكنا لوجد قطعا، ضرورة: أن فرض إمكانه مساوق لوجوده؛ لكون وجوده واجبا حسب الفرض، و المفروض: انتفاء وجوبه إلا في فرد واحد، و لازم ذلك: امتناع غيره؛ إذ لو لم يكن ممتنعا لوجد حتما في الخارج لكونه من أفراد الواجب الوجود الذي يقتضي ذاته الوجود، و يستحيل عليه العدم.

ص: 241

ثم إن الظاهر (1): أن دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم، و أنه لازم خصوصية الحكم (2) في جانب المستثنى منه التي دلت عليها الجملة الاستثنائية هذا معنى التوحيد المقصود من كلمة الإخلاص.

=============

و في المقام بحث طويل تركناه تجنبا عن التطويل الممل.

(1) مقصود المصنف من هذا الكلام: بيان الخلاف في أن انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى هل هو بالدلالة المنطوقية أم المفهومية ؟ و الثاني: هو مختار المصنف تبعا للمشهور، بتقريب: أن أداة الاستثناء توجب تضييق دائرة موضوع سنخ الحكم المتعلق بالمستثنى منه، و لازم هذا التضييق هو: انتفاء سنخ الحكم عن المستثنى، و هذا هو المفهوم، فليس مفاد أداة الاستثناء نفي حكم المستثنى منه عن المستثنى حتى تكون الدلالة بالمنطوق؛ بل الجملة الاستثنائية تدل على خصوصية مستتبعة للمفهوم كما أشار إليه بقوله «و أنه لازم خصوصية الحكم..» إلخ.

(2) و قد أراد بهذا قياس المقام بباب الشرط و الوصف، فكما أن المفهوم فيهما - على القول به - كان من لوازم خصوصية المعنى في المنطوق و هي علية الشرط أو الوصف بنحو الانحصار؛ فكذلك في المقام ثبوت نقيض الحكم في المستثنى يكون من لوازم خصوصية الحكم في المستثنى منه. و المراد بها: ما يستتبع انتفاء سنخ حكم المستثنى منه عن المستثنى.

و كيف كان؛ فلا خلاف في أن الدلالة على حكم المستثنى منه هو بالمنطوق، و إنما الخلاف في أن الدلالة على حكم المستثنى هل هي بالمنطوق أيضا أو بالمفهوم ؟ قال المصنف بالثاني.

و استدل من قال بالمنطوق: بأن العامل في المستثنى ليس هو العامل في المستثنى منه، و ذلك مثل: «جاءني» في نحو: «جاءني القوم إلا زيدا»؛ بل العامل فيه هو الأداة و هي كلمة «إلا» في المثال؛ لقيامها مقام الفعل و هو استثني، كقيام حرف النداء مقام «أدعو» و «أطلب» في نحو «يا زيد» أي: أدعوه، فهي تدل مطابقة على خروج المستثنى عن حكم المستثنى منه حقيقة إذا كان متصلا، أو حكما إذا كان منقطعا، فيكون الحكم في طرفه بالمنطوق.

هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «نعم لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة كانت بالمنطوق». فقوله: «نعم» استدراك على قوله: «ثم إن الظاهر»، و حاصله: أنه يمكن أن تكون دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمنطوق لا بالمفهوم؛ بأن يكون الدال عليه نفس أداة الاستثناء كما عرفت لا الجملة المشتملة عليها.

ص: 242

نعم؛ لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة كانت بالمنطوق، كما هو (1) ليس ببعيد، و إن كان تعيين ذلك (2) لا يكاد يفيد.

و مما يدل على الحصر و الاختصاص: إنما (3)، و ذلك لتصريح أهل اللغة بذلك، و تبادره منها قطعا عند أهل العرف و المحاورة.

و دعوى - أن الإنصاف أنه لا سبيل لنا إلى ذلك (4)، فإن (5) موارد استعمال هذه

=============

(1) أي: كون الدلالة على الحكم في المستثنى بالمنطوق غير بعيد، بل في غاية القرب، و لذا قيل بتعيّنه؛ إلا إن تعيين ذلك لا يجدي و لا يثمر في مقام التعارض؛ لأن الدلالة على كلا التقديرين قوية من دون رجحان أحدهما على آخر.

(2) أي: تعيين أنه بالمنطوق أو المفهوم «لا يكاد يفيد»؛ و ذلك لعدم أثر شرعي يترتب على عنوان المنطوق أو المفهوم حتى نحتاج إلى تعيين موضوعه ثم يثمر هذا النزاع في باب التعارض كما لو قال: «أكرم العلماء إلا زيدا»، ثم ورد «أكرم زيدا» بناء على أضعفية الدلالة المفهومية من المنطوقية، فإنه يقدم المنطوق حينئذ على المفهوم للأقوائية، و يخرجان عن التعارض موضوعا؛ للزوم حمل الظاهر على الأظهر عرفا، بخلاف ما إذا لم يكن بينهما أظهرية، و كانت الدلالتان متساويتين في الظهور؛ إذ لا بد حينئذ من معاملة التعارض بينهما.

و لمّا كانت أظهرية الدلالة المنطوقية من المفهومية عند المصنف غير ثابتة: حكم بعدم فائدة في كون دلالته على انتفاء الحكم بالمنطوق أو المفهوم.

في سائر الأدوات الدالة على الحصر

(3) قد نصّ أهل الأدب أنها من أداة الحصر، و تدل عليه، هذا مضافا إلى أنه المتبادر منها أيضا، «و لذا قال المصنف: «و ذلك لتصريح أهل اللغة بذلك»، و قد استدل المصنف على إفادة كلمة «إنما» للحصر بوجهين:

الوجه الأول: هو تصريح أهل اللغة بإفادتها للحصر، و هو حجة لنا، و يعدّ من علائم الحقيقة، كما أن عدم التصريح و التنصيص من علائم المجاز.

الوجه الثاني: هو تبادر الحصر من كلمة «إنّما» قطعا عند أبناء المحاورة، مثلا: إذا قيل:

«إنما زيد شاعر» فيتبادر منه حصر وصف زيد في الشاعرية أي: ليس له وصف آخر غير وصف الشاعرية، و إذا قيل: «إنما شاعر زيد» فيتبادر حصر الشاعرية لزيد أي: ليس وصف الشاعرية لعمر و بكر مثلا.

(4) أي: التبادر.

(5) تعليل لعدم السبيل إلى دعوى تبادر الحصر. و قوله: «و لا يعلم بما هو مرادف لها

ص: 243

اللفظة مختلفة، و لا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا، حتى يستكشف منها ما هو المتبادر منها - غير مسموعة (1)، فإن السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا، فإن الانسباق إلى أذهان أهل العرف أيضا سبيل.

و ربما يعد مما دل على الحصر: كلمة بل الإضرابية، و التحقيق أن الإضراب على أنحاء (2):

في عرفنا» بيان لإثبات دعوى عدم السبيل إلى التبادر المزبور من كلمة «إنما».

=============

و الدعوى المذكورة من صاحب التقريرات و حاصلها: منع التبادر المزبور.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الألفاظ في اللغة العربية على قسمين:

أحدهما: ما له مرادف في اللغة الفارسية كلفظة «إن» من أداة الشرط، حيث إن ما يرادفها في لغة الفرس هو: لفظة «اگر» و ثانيهما: ما ليس له مرادف في اللغة الفارسية كلفظ «إنما»، فهي من الألفاظ التي لا يعلم لها مرادف في لغة الفرس.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الألفاظ التي نعلم بما يرادفها في اللغة الفارسية كلفظة «إن» صحّ فيها دعوى التبادر.

و أما الألفاظ التي لا نعلم بما يرادفها ك «إنّما» فلا يصح لنا دعوى التبادر فيها، ببيان:

أن استعمالها في العرف السابق مختلف، لاستعمالها في الحصر و غيره، و لم يعلم بما يراد فيها حتى يراجع إليه في تشخيص معناها.

فالنتيجة: أنه لا سبيل إلى دعوى التبادر أصلا «حتى يستكشف منها» أي: من الكلمة المرادفة لها في لغة الفرس «ما هو المتبادر منها» أي: من كلمة «إنّما» في لغة العرب. و تفسير بعضهم لها - اينست و جز اين نيست - غير معلوم المطابقة.

(1) خبر دعوى و دفع لها. و حاصل الدفع: أن السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا أي: العرف الخاص، فإن الانسباق إلى أذهان أهل العرف العام أيضا سبيل واضح إلى التبادر؛ كالانسباق إلى أذهاننا بلا فرق بينهما من هذه الناحية، فعدم الانسباق إلى أذهاننا لا يقدح في دعوى التبادر، فالحق: أنه لا قصور في دعوى التبادر.

(2) و حاصل الكلام في الإضراب: أنه على أقسام:

1 - أن يكون لإصلاح ما أتى به غفلة و اشتباها؛ كما في «خرج زيد، بل عمرو»، أو سبق لسانه به كما في «اشتريت دارا، بل دكانا»، فلا يفيد الحصر؛ لأن المضرب عنه حينئذ كالعدم، و كأنّه لم يؤت به أصلا، و لم يخبر من أول الأمر إلا بما أخبر به بعد

ص: 244

منها: ما كان لأجل أن المضرب عنه، إنما أتى به غفلة أو سبقه به لسانه، فيضرب بها (1) عنه إلى ما قصد بيانه، فلا دلالة له (2) على الحصر أصلا، فكأنّه أتى بالمضرب إليه ابتداء، كما لا يخفى.

و منها: ما كان لأجل التأكيد، فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة و التمهيد لذكر المضرب إليه، فلا دلالة له عليه أيضا.

و منها: ما كان في مقام الردع، و إبطال ما أثبت أولا، فيدل عليه و هو واضح.

و مما يفيد الحصر - على ما قيل - تعريف المسند إليه (3) باللام، و التحقيق: أنه لا يفيده كلمة «بل»، ففي المثالين كأنه قال: «خرج عمرو» و «اشتريت دكانا»، و من المعلوم: أنهما من اللقب الذي لا مفهوم له.

=============

2 - أن يكون لأجل التأكيد نحو قول الفقهاء: «طهارة ماء الغسالة مشهور، بل قام عليها الإجماع»، و المراد بالتأكيد المبالغة، فيكون ذكر المضرب عنه توطئة و تمهيدا لبيان المضرب إليه، من دون دلالتها على الحصر أصلا.

3 - أن يكون للردع و إبطال ما أثبت أولا؛ كأن يقال: «تقليد الأعلم أحوط، بل واجب»، و كقوله تعالى: وَ قٰالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمٰنُ وَلَداً سُبْحٰانَهُ بَلْ عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ (1).

و هذا القسم يدل على الحصر لدلالته على نفي الحكم عن المضرب عنه، و إثبات حكم آخر له مع الانحصار؛ كإثبات العبودية فقط في الآية المباركة لمن اتخذه الرحمن بزعمهم ولدا له، «سبحانه و تعالى».

فالقسم الثالث و إن كان مما يدل على الحصر؛ إلاّ أن تعيين هذا القسم من الأقسام محتاج إلى القرينة؛ إذ المفروض: تعدد أنحاء الاستعمال.

(1) أي: بل الإضرابية عن المضرب عنه إلى الشيء الذي قصد بيانه و هو المضرب إليه، و ضمير «به» في الموردين يرجع إلى المضرب عنه.

(2) أي: لكلمة «بل» الإضرابية، و الأولى تأنيث الضمير.

(3) قبل الخوض في البحث ينبغي تقديم أمور:

1 - أن المراد بالمسند إليه في المقام هو: خصوص المبتدأ مثل: «الأمير زيد» مثلا فيدل على انحصار الإمارة في زيد، و على نفيها عن غيره من عمرو و بكر.

2 - أن المسند إليه إما أن يكون مساويا للمسند أو أخص منه أو أعم منه مطلقا أو من وجه، و لا إشكال في خروج القسمين الأولين عن محل النزاع للعلم بالحصر حينئذ، إذ

ص: 245


1- البقرة: 116.

إلا فيما اقتضاه المقام، لأن الأصل في اللام أن تكون لتعريف الجنس، كما أن الأصل في الحمل في القضايا المتعارفة هو: الحمل المتعارف الذي ملاكه مجرد الاتحاد في الوجود، فإنه (1) الشائع فيها؛ لا الحمل الذاتي الذي ملاكه الاتحاد بحسب المفهوم لو لم ينحصر المساوي في المساوي لم يتحقق التساوي بينهما هذا خلف، و هكذا لا ينفك العام عن الخاص في فرض كون المسند إليه أخص من المسند، و هكذا لا يصح حصر العام في الخاص في الفرض الثالث؛ و إلا يلزم أن لا يكون العام عاما و هو خلف.

=============

هذا كله مع العلم بالنسبة، فمحل الكلام: فيما إذا كان المسند إليه أعم مطلقا أو من وجه، مع عدم العلم بالأعمية مصداقا. فيقع الكلام في أنه هل يستكشف منه أنه لا فرد له غير المسند أم لا؟

3 - أن ظاهر الحمل هو الشائع لا الحمل الذاتي؛ إلاّ إن تقوم قرينة عليه.

إذا عرفت هذه الأمور فالتحقيق: أن مجرد تعريف المسند إليه باللام لا يفيد الاختصاص و الحصر، لعدم ثبوت وضع له، و لا القرينة العامة عليه، فلا بد من دلالته على الحصر من قيام قرينة خاصة عليه من مقام أو حال، كما أشار إليه بقوله: «إلا فيما اقتضاه المقام» يعني: قرينة المقام؛ كحصر الحمد بالله تعالى في نحو: «الحمد لله»، فإن القرينة المقامية - و هي كون الحمد واردا في مقام الشكر على نعمه و آلائه - تقتضي انحصار جنس الحمد بالله «سبحانه و تعالى».

و حاصل ما أفاده المصنف «قدس سره» في التحقيق من عدم إفادة تعريف المسند إليه باللام للحصر هو: أن هذه الإفادة إمّا من ناحية اللام و إمّا من ناحية الحمل، و شيء منهما لا يفيد الحصر.

أما الأول: فلأن الأصل في اللام أن تكون لتعريف الجنس، و من المعلوم: إن الجنس بنفسه لا يفيد الحصر إلاّ إن يقوم دليل على كونه بنحو الإطلاق حتى يكون الجنس المطلق منحصرا في فرد؛ كانحصار جنس العالم المطلق في زيد في مثال:

«العالم زيد».

و أما الثاني: فلأن الأصل في القضايا: كون الحمل فيها شائعا، و من المعلوم: أن ملاكه هو التغاير المفهومي و الاتحاد الوجودي، و ذلك لا يقتضي الحصر أصلا، فقولنا: «الإنسان زيد» حمل متعارف؛ لتغاير مفهوميهما و اتحادهما وجودا، و لا يفيد الحصر قطعا؛ إذ لا يمنع هذا الاتحاد عن اتحاد الإنسان مع غير زيد من سائر أفراده أيضا.

(1) أي: فإنّ الحمل المتعارف هو الشائع في القضايا المتعارفة.

ص: 246

كما لا يخفى. و حمل شيء على جنس و ماهية كذلك (1) لا يقتضي اختصاص تلك الماهية به، و حصرها عليه.

نعم (2)؛ لو قامت قرينة على أن اللام للاستغراق، أو أن مدخوله أخذ بنحو الإرسال و الإطلاق، أو على أن الحمل عليه كان ذاتيا لأفيد حصر مدخوله على محموله، و اختصاصه به.

=============

(1) أي: حملا متعارفا، كقولك: «الإنسان زيد» لا يقتضي انحصار تلك الماهية في ذلك الشيء؛ فإن مجرد حمل شيء على ماهية لا يوجب انحصار تلك الماهية في ذلك الشيء؛ بعد ما عرفت من كون الأصل في الحمل هو: الشائع الذي لا يفيد الحصر، لا الحمل الذاتي الذي ملاكه الاتحاد المفهومي المفيد للحصر.

و الحاصل: إنه لا سبيل إلى استفادة الحصر لا من نفس اللام؛ لما مرّ آنفا من: أن الأصل فيه الجنس، و هو لا يفيد الحصر إلا مع القرينة.

و لا من الحمل؛ لما مر أيضا من: أن الأصل فيه هو: الشائع الذي لا يفيد الحصر، كما في «منتهى الدراية ج 3، ص 441-442» مع تصرّف ما.

(2) استدراك على قوله: «و التحقيق إنه لا يفيده».

و حاصل الاستدراك: أن تعريف المسند إليه باللام إنّما يفيد الحصر في موارد.

1 - أن تقوم قرينة على كون اللام للاستغراق، فيكون مفاد قولنا: «الإنسان زيد» بمنزلة أن يقال: كل فرد من أفراد الإنسان زيد، فليس للإنسان فرد غير زيد.

2 - أن تقوم قرينة على كون مدخول اللام هي الطبيعة المرسلة لا المهملة، فلا يكون للإنسان - في المثال المذكور - وجود غير وجود زيد.

3 - أن تقوم قرينة على كون الحمل ذاتيا، فيدل المسند إليه المعرف بلام التعريف على الحصر.

و كيف كان؛ فالمسند إليه المعرف باللام لا يدل بنفسه على الحصر، و مع القرينة، و إن كان يدل على الحصر إلاّ إنه خارج عن محل النزاع.

فالمتحصّل: أن مجرد تعريف المسند إليه باللام لا يفيد حصر أفراده في المسند؛ بل يتوقف ذلك على القرينة؛ بأن تقوم القرينة على أن اللام للاستغراق كما في «الحمد لله»، أو اقتضت قرينة الحكمة كون الطبيعة مأخوذة بنحو الإرسال، أو قامت القرينة على أن الحمل ذاتي نحو: «الإنسان حيوان ناطق».

ص: 247

و قد انقدح بذلك (1): الخلل في كثير من كلمات الأعلام في المقام، و ما وقع منهم من النقض و الإبرام و لا نطيل بذكرها. فإنه بلا طائل كما يظهر للمتأمل. فتأمّل جيدا.

=============

(1) أي: و قد ظهر - بما ذكر من عدم دلالة اللام، و لا الحمل على الحصر لكون الأصل في الأول: أن يكون لتعريف الجنس، و في الثاني: أن يكون شائعا - «الخلل في كثير من كلمات الأعلام»، حيث أنهم أطالوا الكلام في ذلك بالنقض و الإبرام. و من يريد الوقوف على ذلك فعليه الرجوع إلى التقريرات، و الفصول، و القوانين، و غيرها من المطولات.

ص: 248

فصل

لا دلالة للقب (1) و لا للعدد على المفهوم، و انتفاء سنخ الحكم عن غير موردهما

=============

فصل في مفهوم اللقب و العدد

(1) و قبل الخوض في البحث لا بد من تحرير محل النزاع، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين اللقب المصطلح أي: العلم المتضمن للمدح كالجواد، أو الذم كعبد البطن. و بين اللقب في باب المفهوم.

و حاصل الفرق بينهما: أن المراد باللقب المصطلح هو: العلم المشعر بالمدح أو الذم، في مقابل الكنية و هي العلم المصدّر بأب أو أم كأبي الحسن و أمّ كلثوم، أو في مقابل العلم المحض كأحمد و محمود، و أما المراد باللقب في باب المفهوم فهو: مطلق ما يقابل الوصف أي: ما لا يكون وصفا، سواء كان فاعلا أو مفعولا أو حالا، و سواء كان اسم جنس: كالرجل و المرأة، أو كان علما لشخص: كمحمد و علي، أو كنية: كأبي ذر و ابن عمير، أو كان لقبا مصطلحا: كالفاضل و الجواد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل النزاع هو اللقب في مقابل الوصف، و هو الأعم من اللقب المصطلح.

و حاصل الكلام في المقام: أنه لا مفهوم للقب، فقولنا: «أكرم زيدا» لا يدل على انتفاء سنخ وجوب الإكرام من غيره؛ لأن الحكم الثابت له شخصي، و انتفاؤه بانتفاء اللقب عقلي، و قد عرفت: أن المناط في المفهوم: أن يكون المنفي في جانب المفهوم سنخ الحكم لا شخصه.

و كذا العدد ليس له مفهوم، فإذا أمر المولى بصوم ثلاثين يوما فقضية التحديد و التقييد بالعدد المعيّن منطوقا هو: عدم جواز الاقتصار في مقام الامتثال على ما دونه كالعشرين في المثال المذكور؛ لأن العشرة الباقية مأمور بها، فلا يجوز تركها، لكنه بالدلالة المنطوقية لا بالدلالة المفهومية، فلو اقتصر المكلف على ما دون العدد المذكور لما امتثل الأمر؛ إذ ما دونه ليس بذلك العدد الخاص. هذا بالنسبة إلى النقيصة.

و أما الزيادة: فكالنقيصة إذا كان التحديد و التقييد بالعدد الخاص بالإضافة إلى كلا

ص: 249

أصلا، و قد عرفت: أن انتفاء شخصه ليس بمفهوم، كما إن قضية التقييد بالعدد منطوقا عدم جواز الاقتصار على ما دونه؛ لأنه ليس بذاك الخاص و المقيّد، و أما الزيادة: فكالنقيصة إذا كان التقييد به للتحديد بالإضافة إلى كلا طرفيه.

نعم (1)؛ لو كان لمجرّد التحديد بالنظر إلى طرفه الأقل لما كان في الزيادة ضير أصلا، بل ربما كان فيها (2) فضيلة و زيادة، كما لا يخفى، و كيف كان (3)؛ فليس عدم الطرفين نحو قول الطبيب للمريض: «اشرب من هذا الدواء ست حبات في كل يوم» يكون للتحديد من كلا الطرفين، بحيث لا ينفع الأقل منه و يضر الأكثر.

=============

و كيف كان؛ فإذا كان العدد في مقام التحديد بالنسبة إلى كلا طرفي الزيادة و النقيصة كانت الزيادة كالنقيصة قادحة؛ لعدم كونها مأمورا بها.

و الاحتمالات في التحديد و التقييد بالعدد المعيّن هي ثلاثة:

1 - أن يكون ناظرا إلى طرفي الزيادة و النقيصة معا، كتسبيح الزهراء «عليها السلام»، و قد عرفت قدح كل من الزيادة و النقيصة فيه.

2 - أن يكون التحديد و التقييد بالعدد المعيّن ملحوظا بالنسبة إلى الأقل فقط؛ كالعشرة بالنسبة إلى الإقامة للمسافر، و الثلاثة في الحيض، و غيرهما من التحديدات الناظرة إلى الطرف الأقل، مع عدم لحاظها بشرط لا بالإضافة إلى الزيادة؛ فلا تقدح الزيادة في هذا القسم على العدد المقرر؛ لأنه تحديد في جانب الأقل دون الأكثر.

3 - أن يكون ناظرا إلى طرف الأكثر فقط، بحيث يكون العدد بالنسبة إلى الزيادة بشرط لا؛ كتحديد الحيض في طرف الكثرة بالعشرة، فلا مانع من كونه أقل منها، كأن يكون تسعة أو ثمانية إلى أن ينتهي إلى ثلاثة أيام.

إذا عرفت هذه الاحتمالات و الموارد فاعلم: أن المتبع في كل مورد من هذه الأقسام الثلاثة هو ظاهر الدليل.

(1) يعني: قدح الزيادة يختص بما إذا كان التحديد بلحاظ الزيادة أيضا كالقسم الأول، و أما إذا كان بالنسبة إلى الطرف الأقل فقط - كالقسم الثاني - فلا ضير في الزيادة.

(2) أي: في الزيادة فضيلة و زيادة؛ كما إذا كانت من المستحبات النفسية كذكر الركوع و السجود.

(3) يعني: و التحديد بالعدد الذي تضمنه الدليل - من أي قسم من الأقسام المذكورة كان هذا العدد - لا يكون عدم الاجتزاء بغيره من باب دلالة المفهوم عليه؛ بل من جهة عدم الموافقة لما أخذ في المنطوق متعلقا للحكم. فالنتيجة هي: عدم دلالة العدد على المفهوم.

ص: 250

الاجتزاء بغيره من جهة دلالته على المفهوم، بل إنما يكون لأجل عدم الموافقة مع ما أخذ في المنطوق، كما هو معلوم.

=============

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان محل النزاع في الحصر بكلمة «إلا» ما إذا استعملت بمعنى الاستثناء، لا ما إذا استعملت صفة بمعنى الغير.

ثم محل الكلام ما إذا كان مفاد الاستثناء نفي سنخ الحكم و نوعه عن المستثنى، و كذا محل النزاع في الحكم المفهومي هو طرف المستثنى لا المستثنى منه.

و خلاصة الكلام: أنه لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه، و عدم عمومه للمستثنى سواء كان الحكم إيجابيا نحو: «أكرم العلماء إلا فساقهم»، أو سلبيا نحو: «لا تكرم الأمراء إلا عدولهم»، فيدل الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه، و ثبوت نقيضه في المستثنى.

الدليل على ذلك: هو التبادر.

2 - إنكار أبي حنيفة دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه، محتجا بمثل قوله «صلى اللّه عليه و آله»: «لا صلاة إلا بطهور»، حيث إن منطوقه هو: انتفاء الصلاة بانتفاء الطهور، فمفهومه - على القول به - هو: وجود الصلاة بوجود الطهور فقط - و لو مع فقدان جميع الأجزاء و الشرائط عدا الطهور، و هو مما لم يقل به أحد، فيكون باطلا بالضرورة.

و قد أجاب المصنف عن استدلال أبي حنيفة بوجهين:

الأول: أن المراد من الصلاة: هي الصلاة الواجدة للأجزاء، و الشرائط، فمعنى الحديث حينئذ: لا صلاة واجدة للأجزاء و الشرائط إلا بالطهور، فالطهور مقوّم لصدق الصلاة على الواجدة لجميع الأجزاء و الشرائط؛ لا أن الصلاة هي الطهور فقط حتى يقال إنه ممّا لم يقل به أحد، فهذا الحديث لا يدل على المدّعى.

الثاني: و لو سلّم عدم دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه لكان ذلك بالقرينة، و الاستعمال مع القرينة لا يدل على المدّعى و هو الدلالة على الاختصاص بالوضع.

3 - دفع الإشكال عن الاستدلال بكلمة الإخلاص على دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه.

ص: 251

أما تقريب الاستدلال بها على الاختصاص فيقال: إنه كان رسول الله «صلى الله عليه و آله» يقبل إسلام من يقول: «لا إله إلا الله»، و لم يكن ذلك إلا لأجل دلالة الاستثناء على الاختصاص و هو حصر الألوهية بالله تعالى و نفيها عن غيره، و لذلك تدل كلمة الإخلاص على التوحيد.

أما تقريب الإشكال: فهي لا تدل على التوحيد سواء كان الخبر المقدر لكلمة «لا» النافية للجنس لفظ ممكن أو موجود؛ إذ معنى التوحيد هو: امتناع إله غير الله تعالى، فعلى الأول معناها: «لا إله بممكن إلا الله»، و من المعلوم: أن الإمكان لا يستلزم الوجود فعلا فضلا عن التوحيد، و أما على الثاني: فمفادها نفي وجود غير الله تعالى؛ و لا تدل على نفي إمكان غيره تعالى؛ لأن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان؛ لعدم دلالة نفي الخاص على نفي العام، مع إن المقصود هو نفي الإمكان، و إثبات امتناع غيره تعالى.

هذا تمام الكلام في الإشكال.

و أجاب المصنف عنه بما حاصله: بأن المراد من الإله هو: واجب الوجود - أي: ليس واجب الوجود إلا الله - و حينئذ فتقدير موجود نافع لإفادة التوحيد؛ لأن نفي واجب الوجود مطلقا و إثباته لله تعالى يدل بالملازمة البيّنة على امتناع وجود غيره تعالى و هو معنى التوحيد، فكلمة الإخلاص تدل على التوحيد.

4 - انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى بالدلالة المفهومية لا بالمنطوق، فقد ذهب المصنف - تبعا للمشهور - إلى أن انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى بالدلالة المفهومية بتقريب: أن أداة الاستثناء توجب تضييق دائرة موضوع سنخ الحكم المتعلّق بالمستثنى منه، و لازم هذا التضييق هو: انتفاء سنخ الحكم عن المستثنى و هو معنى المفهوم.

نعم؛ يمكن أن تكون دلالة الاستثناء على انتفاء الحكم في طرف المستثنى بالمنطوق، لا بالمفهوم فيما إذا كان الدال عليه نفس أداة الاستثناء لا الجملة المشتملة عليها، و هذا ليس ببعيد، بل إنه متعين على ما قيل.

5 - من أدوات الحصر: كلمة «إنّما»، لتصريح أهل اللغة، و تبادر الحصر منها، و من المعلوم: أن التنصيص و التبادر من علائم الحقيقة.

و دعوى: أن الإنصاف أنه لا سبيل لنا إلى تبادر الحصر من كلمة «إنّما»؛ لعدم مرادف لها في لغة الفرس، حتى يستكشف من كونها للحصر غير مسموعة؛ بل مدفوعة بأن

ص: 252

السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا: أي العرف الخاص؛ بل هناك طريق واضح و هو الانسباق إلى أذهان أهل العرف العام، فالحق: أنه لا قصور في دعوى التبادر.

6 - من أدوات الحصر: كلمة «بل» الإضرابية إذا كان الإضراب للردع، و إبطال ما أثبت أوّلا؛ كأن يقال: «تقليد الأعلم أحوط؛ بل واجب»، و هذا القسم من الإضراب يدل على الحصر؛ لدلالته على نفي الحكم عن المضرب عنه و إثبات حكم آخر له مع الانحصار، و أما الإضراب لأجل إصلاح ما أتى به غفلة، أو لأجل التأكيد فلا يدل على الحصر.

7 - و ممّا يدل على الحصر: تعريف المسند إليه بلام التعريف مثل: «الأمير زيد»، فيدل على انحصار الإمارة في زيد، و على نفيها عن غيره.

و التحقيق عند المصنف: أن مجرّد تعريف المسند إليه باللام لا يفيد الاختصاص و الحصر، لعدم ثبوت وضع له، فلا بد من دلالته على الحصر من قيام قرينة خاصة عليه.

و خلاصة الكلام: أن الحصر إمّا من ناحية اللام، و إمّا من ناحية الحمل و شيء منهما لا يفيد الحصر؛ لأن الأصل في اللام أن يكون لتعريف الجنس، و الجنس بنفسه لا يفيد الحصر إلاّ إن يقوم دليل على كونه بنحو الإطلاق.

و أما الحمل: فالأصل فيه: أن يكون شائعا لا ذاتيا، فلا يقتضي الحصر، و المقتضي له هو الحمل الذاتي.

نعم؛ المسند إليه المعرف يفيد الحصر مع القرينة؛ بأن تقوم القرينة على كون اللام للاستغراق، أو على أن مدخول اللام هي الطبيعة المرسلة لا المهملة، أو على كون الحمل ذاتيا، إلاّ إن مورد القرينة خارج عن محل النزاع.

8 - لا مفهوم للّقب و لا للعدد:

المراد باللقب: ما يقابل الوصف: أي ما ليس بوصف سواء كان اسم جنس أو علما أو لقبا مصطلحا، فزيد في: «أكرم زيدا» لقب لا يدل على المفهوم و هو انتفاء سنخ وجوب الإكرام عن غيره، بل انتفاء الحكم عند انتفاء زيد عقلي من قبيل انتفاء شخص الحكم بانتفاء موضوعه.

و كذلك لا مفهوم للعدد، مثلا: إذا أمر المولى بصوم ستين يوما، و اكتفى المكلف بصوم عشرين يوما لم يحصل الامتثال - لعدم الاتيان بالمأمور به - لأن الأقل ليس بذاك

ص: 253

العدد الخاص، و عدم جواز الاجتزاء بالأقل إنما هو بالمنطوق لا بالمفهوم هذا في النقيصة، و أما الزيادة: فكالنقيصة إذا كان التحديد بالعدد الخاص بالنسبة إلى كلا الطرفين.

نعم؛ لو كان التحديد بالعدد الخاص بالنسبة إلى الأقل فقط فلا ضير في الزيادة. بل فيها فضيلة إذا كانت من المستحبات كزيادة الذكر في الركوع و السجود.

9 - رأي المصنف «قدس سره» حسب ما يلي:

1 - دلالة الاستثناء على المفهوم.

2 - محل الحكم المفهومي هو المستثنى.

3 - دلالة «إنّما» على المفهوم بالحصر.

4 - دلالة «بل» الإضرابية على المفهوم إذا كان الإضراب للردع.

5 - عدم دلالة المسند إليه المعرّف باللام على المفهوم بالحصر.

6 - عدم دلالة اللقب على المفهوم.

7 - عدم دلالة العدد على المفهوم.

ص: 254

المقصد الرابع في العام و الخاص

اشارة

ص: 255

ص: 256

فصل (1)

قد عرّف العام بتعاريف، و قد وقع من الأعلام فيها النقض بعدم الاطراد تارة و الانعكاس أخرى بما لا يليق بالمقام، فإنها تعاريف لفظية، تقع في جواب السؤال عنه ب (ما) الشارحية، لا واقعة في جواب السؤال عنه ب (ما) الحقيقية.

=============

(1) و عمدة البحث في هذا الفصل هو بيان أمور:

الأول: بيان ما هو المسمى لهذين الاسمين أعني: العام و الخاص.

الثاني: بيان أن التعاريف الواقعة للعام في كلمات القوم هل هي حقيقية أو لفظية ؟

الثالث: بيان تقسيم العام إلى الاستغراقي، و المجموعي و البدلي، و الفرق بين تلك الأقسام.

و خلاصة الكلام في الأمر الأول: أن الظاهر: كون العام و الخاص - في اصطلاحهم - اسمين للّفظ دون المعنى و إن كان أصل التسمية باعتبار عموم المعنى و خصوصه، كما تشهد بذلك تعريفاتهم لهما.

فنذكر بعض التعريفات التي هي ظاهرة في كونهما اسمين للفظ دون المعنى منها: ما عن الغزالي - في تعريف العام - من: «أنه اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا»(1).

و منها: ما عن أبي الحسن البصري من: «أنه اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له».

و منها: ما عن المحقق في المعارج من «أنه اللفظ الدال على اثنين فصاعدا من غير حصر(2)».

و منها: ما عن العلامة في النهاية من: «أنه اللفظ الواحد المتبادل بالفعل لما هو صالح له بالقوة، مع تعدد موارده»(3).

و منها: ما عن الشيخ البهائي من: «أنه اللفظ الموضوع لاستغراق أجزاء معناه، أو

ص: 257


1- المستصفى من علم الأصول، ج 2، ص 47، 237.
2- معارج الأصول، ص 309.
3- زبدة الأصول، ص 309، عن نهاية الوصول.

لاستغراق جزئيات معناه»، و الأول: نحو: «قرأت القرآن كله لا نصفه و لا ثلثه»، و الثاني:

نحو «جاء القوم كلهم» أي: جاء جميع أفرادهم.

و كيف كان؛ فالظاهر من هذه التعاريف: أن المراد بالعام هو اللفظ الموضوع لاستغراق أجزاء معناه، أو لاستغراق جزئياته(1).

و أما الأمر الثاني: فتوضيحه يتوقف على مقدمة و هي: بيان الفرق بين التعاريف الحقيقية و التعاريف اللفظية، و الفرق بينهما من جهات:

الأولى: أن التعاريف اللفظية هي: عبارة عن تبديل لفظ بلفظ أعرف عند السؤال عن الشيء ب «ما» الشارحية، مثلا: إذا سمعنا لفظ «السعدانة» نسأل عن معناه ب «ما» الشارحية، فيجاب: هي نبت.

و أما التعاريف الحقيقية فهي عبارة عن بيان حقيقة المعرّف - بالفتح - عند السؤال عنها ب «ما» الحقيقية، كقول السائل: «ما هو الإنسان» فيجاب «حيوان ناطق».

الثانية: يعتبر في التعاريف الحقيقية: أن يكون المعرّف - بالكسر - مساويا للمعرّف - بالفتح - من حيث النسبة، و أجلى منه من حيث الظهور و الخفاء، فلا يصح التعريف بما هو الأعم أو أخفى من المعرف - بالفتح - كما في علم الميزان. و لا يعتبر ذلك في التعاريف اللفظية.

الثالثة: يعتبر في التعاريف الحقيقية أن يكون التعريف جامعا و مانعا، و قد يعبّر عن الجامع بالانعكاس، و عن المانع بالاطراد.

توضيح ذلك: أنه إذا كان الحد مساويا للمحدود نحو: «الإنسان حيوان ناطق»، فينحل قولنا: «حيوان ناطق» إلى قضيتين موجبتين كليتين تسمى إحداهما أصلا و الأخرى عكسا بالمعنى اللغوي كقولنا: «كل إنسان حيوان ناطق، و كل حيوان ناطق إنسان»، فيكون التعريف جامعا لشموله جميع أفراد المعرّف - بالفتح - و مانعا لمنعه عن غير أفراد المعرف كالفرس و البقر و غيرهما من أنواع الحيوان.

و أما إذا لم تصدق القضية الأولى - و هي الأصل - فلا يكون التعريف جامعا، كقولنا:

«الإنسان كاتب بالفعل»، فلا يصدق «كل إنسان كاتب بالفعل»، إذ ليس كل إنسان كاتبا بالفعل، فليس التعريف جامعا لعدم شموله جميع أفراد المعرّف و هو الإنسان.

و أما إذا لم تصدق القضية الثانية - و هي العكس - فلا يكون التعريف مانعا، كقولنا:

ص: 258


1- زبدة الأصول، ص 309.

«الإنسان حيوان»، فلا يصدق كل حيوان إنسان؛ إذ ليس كل حيوان إنسانا، فليس التعريف مانعا؛ لعدم منعه عن دخول غير الإنسان في تعريف الإنسان كالفرس و البقر و غيرهما.

و من هنا ظهر: وجه تسمية عدم مانعية الأغيار بعدم الاطراد، و تسمية عدم جامعية الأفراد بعدم الانعكاس.

إذا عرفت الفرق بين التعاريف الحقيقية و التعاريف اللفظية فنقول: إنه قد وقع من الأعلام في التعاريف المذكورة النقض بعدم الاطراد أعني: عدم مانعية الأغيار تارة، و بعدم الانعكاس أعني: عدم جامعية الأفراد أخرى، و لازم هذا النقض: كون هذه التعاريف حقيقية، لما عرفت: من عدم اعتبار الاطراد و الانعكاس في التعاريف اللفظية.

و أما النقض بعدم الاطراد: فلدخول أسماء العدد و المثنى و الجمع في تعريف العام «بأنه اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له»، لأن أسماء العدد كلفظ العشرة قد وضع لمفهوم يصلح لاستغراق جزئياته نحو: «أكرم عشرة رجال»، و دخول المثنى و الجمع نحو:

«أطعم مؤمنين» بصيغة التثنية، أو «أطعم مؤمنين» بصيغة الجمع؛ لأن لفظ المثنى و الجمع قد وضعا لمفهوم يصح انطباقه على جميع ما يصلح له فيقال: هذان من المؤمنين، و هؤلاء من المؤمنين.

و لدخول المشترك في التعريف المذكور كلفظ العين؛ لأنه يشمل جميع ما يصلح له أعني: جميع أفراد واحد من معانيه.

هذا تمام الكلام في النقض بعدم الاطراد.

و أما النقض بعدم الانعكاس: فلخروج الجمع المعرّف باللام نحو: اَلرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى اَلنِّسٰاءِ (1) عن تعريف العام؛ لأنه لا يشمل جميع ما يصلح له؛ إذ لفظ الرجال جمع، و الجمع لا يصلح للمفرد، فلا يشمل رجلا رجلا، بل يشمل رجالا رجالا. هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «و قد عرّف العام بتعاريف، و قد وقع من الأعلام فيها النقض بعدم الاطراد تارة، و الانعكاس أخرى بما لا يليق بالمقام».

وجه عدم لياقته بالمقام: أن العام من موضوعات مسائل علم الأصول لا نفس مسائله، فتعريفه يكون من المبادئ التصورية لعلم الأصول، و حيث كان تعريف العام من المبادئ التصورية: فالنقض و الإبرام لا يناسب الأصولي.

ص: 259


1- النساء: 34.

و كيف كان؛ فالنقض بعدم الاطراد و الانعكاس كاشف عن كون هذه التعاريف حقيقية لا لفظية؛ إذا لا يرد النقض المذكور على فرض كونها لفظية، و لذا أجاب المصنف عن الإشكال بقوله: «فإنها تعاريف لفظية».

و حاصل ما أفاده المصنف في المقام: أن النقض بعدم الاطراد تارة و الانعكاس أخرى إنما يتم فيما إذا كانت التعاريف المذكورة حقيقية، لكنها لفظية لا يراد بها إلا تعريف الشيء في الجملة؛ كتعريف «سعدانة» ب «أنها نبت»، و عليه: فلا مجال للإشكال على تلك التعاريف بعدم الاطراد و الانعكاس أصلا؛ لعدم كونها تعاريف حقيقية. هذا تمام الكلام في الأمر الثاني. بقي الكلام في الأمر الثالث و هو أقسام العام.

و ينقسم العام إلى الاستغراقي و المجموعي و البدلي.

و حاصل ما أفاده المصنف في المقام هو: أن انقسام العام إلى الأقسام الثلاثة إنما هو بلحاظ تعلق الحكم لا بلحاظ نفس العام، فيكون نظير الوصف باعتبار المتعلق، فالعموم في جميعها بمعنى واحد، و هو شمول المفهوم لجميع ما يصلح لأن ينطبق عليه، و من المعلوم: أن هذا المعنى موجود في جميع الأقسام بوزان واحد، من دون تفاوت في نفسه، نعم يتفاوت باعتبار الحكم المتعلق به بمعنى: أنه قد يلحظ كل فرد فرد موضوعا مستقلا للحكم، و قد يلحظ مجموع الأفراد من حيث المجموع موضوعا للحكم، و قد يلحظ فرد من الأفراد على سبيل البدل موضوعا للحكم.

فالأول: هو العام الاستغراقي، و الثاني: هو المجموعي، و الثالث: هو البدلي، فهناك لحاظ واحد تشترك فيه جميع الأقسام و هو لحاظ شمول المفهوم لجميع ما يصلح له.

و لحاظ آخر تختلف فيه الأقسام و هو لحاظ كيفية تعلق الحكم، و لازم القسم الأول هو:

حصول الإطاعة و المعصية لو أتى ببعض الأفراد دون بعضها الآخر، و لازم القسم الثاني:

هو حصول الإطاعة بفعل الجميع، و المعصية بترك فرد واحد. و لازم القسم الثالث: هو حصول الإطاعة بفعل واحد، و المعصية بترك الجميع.

و هناك احتمال آخر و هو: أن يكون منشأ الأقسام الثلاثة للعام لحاظ نفس المفهوم، فإن طبيعة الرجل مثلا يمكن أن يلاحظ في ضمن فرد أيّ فرد كان، فيسمّى بالعام البدلي، و قد وضع له لفظ «أيّ و من و ما»، و يمكن أن يلاحظ في ضمن جميع أفرادها من دون اعتبار الوحدة فيها، فيسمّى العام بالعام الاستغراقي، و قد وضع له مثل: لفظ كل، و يمكن

ص: 260

كيف (1)؟ و كان المعنى المركوز منه في الأذهان أوضح ممّا عرّف به مفهوما و مصداقا، و لذا (2) يجعل صدق ذلك المعنى على فرد و عدم صدقه المقياس في أن يلاحظ في ضمن جميع أفرادها باعتبار كونها شيئا واحدا فيسمى بالعام المجموعي، و اللفظ الموضوع له مثل: لفظ المجموع.

=============

فالمتحصل: أن تقسيم العام إلى الأقسام الثلاثة يمكن أن يكون بلحاظ كيفية تعلق الحكم، و يمكن أن يكون بلحاظ مفهوم العام، و الحق عند المصنف: هو الأول. هذا تمام الكلام في الأمر الثالث.

(1) استدل المصنف على إثبات ما ادّعاه - من كون التعاريف المذكورة في كتب القوم لفظية - بوجهين.

توضيح الوجه الأول يتوقف على مقدمة - و هي: أنه يعتبر في التعاريف الحقيقية أن يكون المعرّف - بالكسر - أوضح و أجلى من المعرّف - بالفتح - فلا يصح التعريف إذا كان الأمر بالعكس.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه كيف يمكن أن تكون تلك التعاريف حقيقية لا لفظية ؟ و الحال أن المعنى المذكور في أذهان أهل اللسان من لفظ العام - و هو الشمول لغة و عرفا - أوضح و أجلى مفهوما و مصداقا مما عرّف به من التعاريف المذكورة، فلو كان تعريف العام بها حقيقيا للزم أن يكون المعرف أجلى من المعرّف و هو باطل، فيكون تعريف العام بتلك التعريفات باطلا، فلا محيص عن ذلك إلا بالالتزام بكون التعاريف المذكورة لفظية؛ إذ لا يعتبر في التعريف اللفظي ما يعتبر في التعريف الحقيقي من الاجلائية؛ بل يجوز مطلقا و إن كان المعرّف أخفى من المعرّف كما في التعاريف المذكورة، فلا بد أن تكون لفظية.

الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «فالظاهر: أنّ الغرض من تعريفه»، و حاصل هذا الوجه: أنه لا يترتب على فهم العام بكنهه ثمرة عملية، فلا وجه لجعل التعاريف المذكورة حقيقية، و تجشّم إصلاحها طردا و عكسا، فلا بد أن يكون الغرض من تعريف العام: بيان مفهوم جامع بين ما هو من أفراد العام قطعا، الذي كان شاملا لجميع الأفراد ليشار بذلك المفهوم إلى العام في مقام إثبات ما له من الأحكام.

(2) يعني: و لأجل كون معنى العام المركوز في الأذهان أوضح من تعريفات القوم للعام؛ جعلوا صدق ذلك المعنى المركوز في الأذهان و عدمه على شيء مقياسا للإشكال على تلك التعريفات بعدم الاطراد و الانعكاس؛ كالإشكال على بعض التعاريف المذكورة بخروج الجمع المعرّف باللام عنه، و دخول أسماء العدد و المثنى و الجمع فيه.

ص: 261

الإشكال عليها (1) بعدم الاطراد أو الانعكاس بلا ريب فيه، و لا شبهة تعتريه من أحد.

و التعريف (2) لا بد أن يكون بالأجلى، كما هو أوضح من أن يخفى. فالظاهر (3): أن الغرض من تعريفه إنما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعا بين ما لا شبهة في أنها أفراد العام ليشار به إليه في مقام إثبات ما له من الأحكام، لا بيان ما هو حقيقته و ماهيته، فصدق المعنى العام المركوز في الأذهان عليها مقياس للإشكال على هذا التعريف، و من المعلوم: عدم صحة هذا المقياس إلا بسبق العلم بمعنى العام على تعريفاته، و إلا لزم الدور لتوقف العلم بمعنى العام على التعريف، و توقف التعريف على العلم به؛ لما عرفت: من أن المقياس المزبور متوقف على العلم بمعنى العام قبل التعريف؛ لئلا يلزم الدور.

=============

و كيف كان؛ فصحة هذا المقياس تشهد بسبق العلم بمعنى العام على تعريفه و استغنائه عنه، فحينئذ لو عرّف العام بشيء كان التعريف لفظيا؛ إذ لو كان حقيقيا كان أجلى، و ليس الأمر كذلك، هذا بخلاف التعريف اللفظي إذ يجوز أن يكون المعرّف أخفى أو مساويا للمعرّف في الخفاء و الظهور.

(1) أي: على التعاريف: توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(2) الواو للحالية، بعد أن أثبت وضوح معنى العام، و استغناءه عن التعريف؛ أو عن تلك التعريفات بعدم كونها حقيقية، لو كانت حقيقية لكانت أجلى، مع إنّ المعرّف - بالفتح - في المقام، و هو المعنى المرتكز في الأذهان أوضح من تلك المعرفات المذكورة، و إذن: فهي معرفات لفظية كما تقدم.

(3) لمّا أنكر التعريف الحقيقي - لاستغناء معنى العام عنه - أمكن أن يتوهم إنه لا داعي حينئذ إلى التعرّض لتعريفه بالتعريفات المذكورة في كتب القوم، فدفع المصنف هذا التوهم بقوله: «فالظاهر»، و حاصله: أن الغرض الداعي لهم إلى تعريف العام هو:

بيان مفهوم جامع بين ما هو من أفراد العام قطعا التي هي موضوعات لأحكام في مثل قولهم: «إذا خصص العام فهل يكون حجة في الباقي أم لا؟» أو «أن العام المخصص بالمجمل هل يصير مجملا أم لا؟»، أو «أن العام هل يقدم على المطلق عند التعارض أم لا؟»، و نحوها من الأحكام، ليشار بذلك الجامع إلى ما يقع موضوعا لتلك الأحكام؛ لا بيان ما هو حقيقته و ماهيته، لعدم ثمرة فقهية أو أصولية على تعريف مفهومه.

و كيف كان؛ فالغرض من تعريف العام: بيان عنوان مشير إلى مصاديقه التي أخذت موضوعات لأحكام.

ص: 262

لعدم (1) تعلق غرض به بعد وضوح ما هو محلّ الكلام بحسب الأحكام من أفراده ما و مصاديقه، حيث لا يكون بمفهومه العام محلا لحكم من الأحكام.

ثم الظاهر (2): أن ما ذكر له من الأقسام - من الاستغراقي و المجموعي و البدلي - إنّما هو باختلاف كيفيّة تعلق الأحكام به، و إلا فالعموم في الجميع بمعنى واحد، و هو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه.

غاية الأمر: أن تعلق الحكم به (3) تارة: بنحو يكون كل فرد موضوعا على حدة للحكم، و أخرى: بنحو يكون الجميع موضوعا واحدا، بحيث لو أخلّ بإكرام واحد في «أكرم كل فقيه» مثلا، لما امتثل أصلا، بخلاف الصورة الأولى، فإنه أطاع و عصى، و ثالثة بنحو: يكون كل واحد موضوعا على البدل، بحيث لو أكرم واحدا منهم، لقد أطاع و امتثل، كما يظهر لمن أمعن النظر و تأمل.

و قد انقدح (4): أن مثل شمول عشرة و غيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من

=============

(1) تعليل لقوله: «لا بيان ما هو حقيقته». و حاصل التعليل: إن الغرض لم يتعلق ببيان حقيقة العام؛ لعدم ترتب أثر عليها حتى يعرّف بالتعريف الحقيقي، كما أن قوله:

«حيث» تعليل لعدم تعلق غرض بما هو حقيقة العام يعني: حيث لا يكون العام بمفهومه العام محلا لحكم من الأحكام فإن الحكم مترتب على الأفراد؛ لا على المفهوم.

فصل أقسام العموم

(2) قد تقدم تفصيل الكلام في أقسام العموم، مع إشارة إلى الفرق بينها في مقام الثبوت و السقوط، و مقصود المصنف من انقسام العام إلى ثلاثة أقسام: بيان منشأ تلك الأقسام، و قد عرفت: أن منشأ هذه الأقسام إنما هو اختلاف كيفية تعلق الأحكام به - لا اختلاف مفهوم العام على ما قيل - لما عرفت من: أن مفهوم العام في جميع الأقسام واحد، و هو شموله لجميع ما يصلح له.

(3) أي: بالعام إشارة إلى العام الاستغراقي، و «أخرى»: إشارة إلى العام المجموعي، و «ثالثة»: إشارة إلى العام البدلي.

و الفرق بينها في مقام الامتثال: أن العام الاستغراقي يطاع بفعل واحد، و يعصى بترك آخر، و العام المجموعي يطاع بفعل الجميع و يعصى بترك واحد، و العام البدلي يطاع بفعل واحد من الأفراد و يعصى بترك الجميع، فالعام المجموعي و البدلي متعاكسان في الإطاعة و المعصية.

(4) أي: قد اتضح من قوله: «و إلا فالعموم في الجميع بمعنى واحد..» إلخ أن أسماء

ص: 263

العموم، لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كل واحد منها، فافهم (1).

العدد مثل: عشرة و مائة ليسا من العموم؛ إذ ليس لها معنى قابل للانطباق على فرد فرد من الأفراد؛ لأن اسم العدد وضع لمعنى منطبق على جميع الآحاد.

=============

و بعبارة أخرى: أن العام عبارة عما يكون بمفهومه صالحا للانطباق على كل واحد من الآحاد المندرجة تحته، و هذا مفقود في أسماء العدد، ضرورة: إن - العشرة بما لها من المفهوم - لا تنطبق على كل واحد من آحادها، بل تنطبق على مجموعها، فلا يصح أن يقال: الواحد عشرة، بخلاف الإنسان مثلا، فإنه بماله من المفهوم يصدق على زيد و عمرو و غيرهما، فيصح أن يقال: زيد أو عمرو أو بكر إنسان، ثم التعبير بالمثل - في قوله - «مثل شمول عشرة» إنّما هو للتنبيه على عدم اختصاص ما ذكره بهذا العدد الخاص، بل هو جار في سائر الأعداد أيضا.

و الضمائر في غيرها، و آحادها، و تحتها، و صلاحيتها، و مفهومها: راجعة إلى العشرة.

و في «منها» راجع إلى الآحاد.

(1) لعلّه إشارة إلى: أنّ المناط في خروج أسماء العدد عن العام إن كان عدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على الآحاد المندرجة تحتها، لزم منه خروج الجمع المحلى باللام عن العام؛ لعدم انطباقها بمفهومها على كل واحد من الآحاد المندرجة تحته، فإنّ العلماء بمفهومه لا ينطبق على فرد من أفراد العلماء؛ بل ينطبق على كل واحد من الجموع، لأن الجمع لا يصدق على أقل من ثلاثة أو اثنين على اختلاف في أقل الجمع، مع إن الجمع المحلّى باللام من صيغ العموم بالإجماع إذا كان اللام للاستغراق، و يمكن أن يكون إشارة إلى: أن تعريف العام ينطبق على العشرة؛ لأن لفظة العشرة بالنسبة إلى العشرات التي هي من مصاديقها كعشرة أثواب، و عشرة أفراس، و عشرة أغنام من قبيل العام؛ لأن كل عشرة مصداق لها، فلفظة العشرة بالنسبة إلى العشرات عام، و بالنسبة إلى آحادها ليست بعام.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - أن الظاهر كون العام و الخاص - في اصطلاحهم - اسمين للفظ دون المعنى، كما يظهر من تعريف العام «بأنه اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له».

ثم إن التعاريف المذكورة في كتب القوم للعام لفظية لا حقيقية، و ذلك أن المعنى المرتكز من العام في الأذهان أوضح مفهوما و مصداقا ممّا عرّف به العام في كلماتهم،

ص: 264

فوضوح معنى العام قبل التعريف و ارتكازه في الأذهان كاشف عن عدم كون تلك التعريفات له حقيقية - بل يدل على كونها لفظية - إذ لا يعتبر في التعريف اللفظي ما يعتبر في التعريف الحقيقي؛ من كون المعرّف أجلى من المعرّف، فلو كانت تلك التعريفات حقيقية لكان المعرّف فيها أجلى و أوضح من المعرّف، مع إن الأمر هنا بالعكس، فلا بد أن تكون لفظية، و حينئذ لا مجال للإشكال عليها بعدم الاطراد تارة، و عدم الانعكاس أخرى؛ إذ لا يعتبر الاطراد و الانعكاس في التعاريف اللفظية.

2 - الظاهر: أن الغرض من تعريف العام: «هو: بيان ما يكون لمفهومه جامعا بين ما لا شبهة في أنها أفراد العام ليشار به إليه في إثبات ما له من الأحكام».

الغرض من هذا الكلام هو: دفع توهم لغوية التعاريف المذكورة للعام، إذا كان معنى العام المرتكز في الأذهان واضحا قبل التعريف؛ إذ حينئذ لا داعي إلى التعرض لتعريفه بتلك التعريفات المذكورة في كتب القوم.

فدفع المصنف هذا التوهم بما حاصله: من أن الغرض الداعي لهم إلى تعريف العام هو: بيان مفهوم جامع بين ما هو من أفراد العام قطعا التي هي موضوعات لأحكام مثل:

حجيّة العام في الباقي، و سراية إجمال المخصص إليه، و تقديمه على المطلق عند التعارض، و نحوها من الأحكام، فعرّف العام بمفهوم جامع بين أفراده ليشار بذلك الجامع إلى ما يقع موضوعا لتلك الأحكام.

و ليس الغرض من تعريف العام: بيان ما هو حقيقته و ماهيته؛ لعدم ترتب ثمرة فقهية و لا أصولية على تعريف مفهومه بالتعريف الحقيقي.

فالمتحصل: أن الغرض من تعريف العام: بيان عنوان مشير إلى مصاديقه التي أخذت موضوعات لأحكام، فلا يكون التعريف لغوا و بلا فائدة أصلا.

3 - بيان أقسام العام: ينقسم بلحاظ مقام تعلق الحكم به إلى: العام الاستغراقي، و المجموعي، و البدلي، و العموم في جميعها بمعنى واحد - و هو الشمول - و الاختلاف إنما هو في كيفية أخذه في موضوع الحكم.

توضيح ذلك: أن مفهوم العام يلاحظ بنحو الشمول و استيعاب جميع الأفراد، ثم إنه بعد ذلك تارة: يلاحظ كل فرد فرد من أفراده موضوعا مستقلا للحكم. و أخرى:

يلاحظ جميع الأفراد موضوعا للحكم. و ثالثة: يلاحظ فرد من أفراده على سبيل البدل موضوعا للحكم.

ص: 265

فالأول: هو العام الاستغراقي، و الثاني: هو العام المجموعي، و الثالث: هو البدلي.

فهناك لحاظ تشترك فيه جميع الأقسام؛ و هو لحاظ مفهوم العام بمعنى: الشمول لجميع ما يصلح له. و لحاظ آخر تختلف فيه الأقسام؛ و هو لحاظ كيفية تعلق الحكم به.

و الفرق بين الأقسام الثلاثة: أن العام الاستغراقي يطاع بفعل واحد، و يعصى بترك آخر، و العام المجموعي يطاع بفعل الجميع و يعصى بترك واحد، و العام البدلي يطاع بفعل واحد و يعصى بترك الجميع.

و قد اتضح - بكون العام هو شموله لجميع ما ينطبق عليه من الأفراد - خروج أسماء العدد كالعشرة مثلا من العام؛ لأن العشرة بما لها من المفهوم لا تنطبق على كل واحد من آحادها، فلا يصح أن يقال: الواحد عشرة.

و العام بمفهومه يكون صالحا للانطباق على واحد من الآحاد المندرجة تحته.

«فافهم» لعله إشارة إلى تعريف العام ينطبق على أسماء العدد، لأن لفظة العشرة عام بالنسبة إلى العشرات؛ و إن لم تكن عاما بالنسبة إلى الآحاد.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - معنى العام عنده هو: شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه.

2 - التعاريف المذكورة للعام لفظية لا حقيقية.

3 - انقسام العام إلى الأقسام الثلاثة إنما هو باعتبار اختلاف كيفية تعلّق الحكم به؛ لا باعتبار اختلاف مفهوم العام.

ص: 266

فصل

لا شبهة في أن للعموم صيغة تخصّه - لغة و شرعا - كالخصوص (1)، كما يكون (2)

=============

فصل في ألفاظ العموم

و قبل الخوض في البحث لا بد من تحرير محل النزاع فيقال: إنه لا خلاف في وجود لفظ موضوع للخصوص؛ كالأعلام الشخصية، و لا خلاف أيضا في وجود لفظ مشترك بين الخصوص و العموم؛ و ذلك كالمعرف باللام، فإنها لو كانت للاستغراق كانت للعموم نحو: إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ (1) و إن كانت للعهد كانت للخصوص، من دون فرق بين أن يكون العهد خارجيا نحو: «جاءني القاضي»، أم ذهنيا نحو: إِذْ هُمٰا فِي اَلْغٰارِ (2)، أم ذكريا نحو:

فَعَصىٰ فِرْعَوْنُ اَلرَّسُولَ (3) ، أم حضوريا نحو: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (4) و إنما الخلاف في وجود ألفاظ موضوعة للعموم فقط.

إذا عرفت محل النزاع فاعلم: أنه قد اختلفوا في صيغة تخص العموم على أقوال:

قول: بأن للعموم صيغة تخصّه، و قول: بأن الصيغ المدّعاة للعموم موضوعة لخصوص الخصوص، و قول: بأنها مشتركة لفظا بين العموم و الخصوص، و قول: بالتوقف.

و الحق عند المصنف هو القول الأول، و لذا يقول: «لا شبهة في أن للعموم صيغة تخصّه لغة و شرعا»، أما لغة: فواضح. و أما شرعا: فبمعنى: إمضاء الشارع، و عدم تصرفه في العمومات اللغوية في مقام تشريع الأحكام لها.

(1) أي: كما لا شبهة في أن للخصوص صيغة تخصّه؛ كالأعلام الشخصية.

(2) أي: كما يكون هناك لفظ مشترك بين العموم و الخصوص، فيكون استعماله في كل من العموم و الخصوص على نحو الحقيقة؛ و ذلك كالمعرّف باللام؛ لما عرفت: من أنه مع العهد للخصوص، و مع الاستغراق للعموم.

ص: 267


1- العصر: 2.
2- التوبة: 40.
3- المزمل: 16.
4- المائدة: 3.

ما يشترك بينهما و يعمهما، ضرورة (1): أن مثل لفظ (كل) و ما يرادفه في أيّ لغة كان يخصّه (2)، و لا يخصّ الخصوص و لا يعمّه، و لا ينافي اختصاصه (3) به استعماله في الخصوص عناية؛ بادعاء أنه العموم، أو بعلاقة العموم و الخصوص.

و معه (4) لا يصغى إلى أن إرادة الخصوص متيقّنة و لو في ضمنه بخلافه، و جعل اللفظ حقيقة في المتيقّن أولى.

=============

(1) تعليل لقوله: «لا شبهة».

و حاصل التعليل: أن اختصاص بعض الألفاظ بالعموم - كلفظة «كل و ما يرادفه» - مثل: «هر» في الفارسية يكون أمرا بديهيا، لا يقبل الانكار بحيث لو استعمل في الخصوص لكان مجازا.

(2) أي: يختص بالعموم، و لا يكون مختصا بالخصوص، و لا مشتركا بينه و بين العموم، كما أشار إلى عدم اشتراكه بينهما بقوله: «و لا يعمه».

و حاصل ما أفاده المصنف: أن لكل من العموم و الخصوص ألفاظا تخصه، كما أنّهما يشتركان في بعض الألفاظ بحيث يراد به العموم تارة و الخصوص أخرى.

(3) يعنى: و لا ينافي اختصاص لفظ «كل» بالعموم «استعماله في الخصوص عناية، بادّعاء أنه العموم».

و الغرض من هذا الكلام هو: دفع المنافاة بين اختصاص بعض الألفاظ كلفظ «كل» بالعموم، و بين استعماله أحيانا في غيره، فلا بد أولا من توضيح المنافاة حتى يتضح وجه عدم المنافاة.

أما توضيح المنافاة: فيمكن أن يقال: إن الاختصاص ينافي الاستعمال في الخصوص، و مع الاستعمال في كل من الخصوص و العموم لا يصح القول باختصاص لفظ «كل» بالعموم.

أمّا وجه عدم المنافاة: أن التنافي ثابت لو أريد بالاختصاص استعماله في العموم دون غيره يعني: عدم استعماله في غير العموم و لو بالعناية و المجاز، و أما إذا أريد به ظهور اللفظ في العموم، و كونه حقيقة فيه، بحيث لا تتوقف إرادة العموم منه على عناية فلا ينافي استعماله في الخصوص؛ بادّعاء أنه العموم كما هو مذهب السكاكي في الاستعارة، أو مجازا بعلاقة العموم و الخصوص التي هي من العلائق المجازية، و مرجع هذا الكلام إلى أعمّية الاستعمال من الحقيقة.

(4) أي: و مع ما ذكر من قيام الضرورة، على اختصاص بعض الألفاظ بالعموم لا وجه لدعوى اختصاص وضع ذلك البعض بالخصوص.

ص: 268

و لا إلى أن التخصيص قد اشتهر و شاع، حتى قيل: ما من عام إلا و قد خصّ ، و الظاهر: يقتضي كونه (1) حقيقة لما هو الغالب تقليلا للمجاز، مع إن تيقّن إرادته لا يوجب اختصاص الوضع به، مع كون العموم كثيرا ما يراد.

و حاصل الكلام: أن - مع ما تقدم من كون ألفاظ العموم للعموم بالضرورة - لا مجال للاستدلال على وضعها للخصوص بوجهين:

=============

أحدهما: ما أشار إليه بقوله: «أن إرادة الخصوص متيقّنة».

و خلاصة هذا الوجه: أن البعض - و هو الخصوص - متيقن الإرادة دائما و على كل حال، إما استقلالا فيما إذا استعمل اللفظ في الخصوص، و إما في ضمن العموم فيما إذا استعمل في العموم.

أما على الأول - و هو إرادة الخصوص - فظاهر، و أما على الثاني - و هو إرادة العموم - فلأن الخصوص بعض العموم، و إرادة الكل تقتضي إرادة البعض قطعا، هذا بخلاف إرادة العموم فإنها احتمالية، فتيقن إرادة الخصوص يكون مرجحا لوضع الصيغة له لا للعموم؛ إذ كونها حقيقة في المتيقّن أولى.

و ثانيهما: ما أشار إليه بقوله: «و لا إلى أن التخصيص قد اشتهر..» إلخ، و حاصله: أن الغالب هو استعمال العام في الخاص؛ و ذلك لشيوع التخصيص في الاستعمالات حتى قيل: «ما من عام إلا و قد خصّ »، فعلى القول بوضع الصيغة للخصوص: لا يلزم محذور كثرة المجازات، بخلاف القول بوضعها للعموم فإنه مستلزم لكثرة المجازات، و من المعلوم:

أن قلّة المجازات أولى من كثرتها، فرجحان تقليل المجاز يرجّح وضع الصيغة للخصوص؛ إذ مع الوضع للعموم يلزم المجاز في جميع موارد التخصيص.

(1) يعني: كون اللفظ حقيقة لما هو الغالب - و هو الخصوص - لئلا يلزم المجاز في الغالب.

و أجاب المصنف عن هذين الوجهين: بقوله: «لا يصغى..» إلخ. يعني: لا يصغى إلى هذين الوجهين لأمرين، أحدهما: مشترك بينهما، و الآخر: خاص بكل واحد منهما.

و أما الأول: فلما تقدم من قيام الضرورة على وضعها للعموم، و عليه: فلا مجال للتمسك بالوجهين المذكورين لإثباته للخصوص؛ لأنهما يصلحان لذلك في ظرف الشك في الموضوع له. و المفروض: هو العلم بالموضوع له و هو العموم، فيكون هذان الوجهان من قبيل الشبهة في مقابل البديهة.

ص: 269

و اشتهار التخصيص لا يوجب كثرة المجاز؛ لعدم الملازمة بين التخصيص و المجازيّة، كما يأتي توضيحه.

و لو سلّم، فلا محذور فيه أصلا إذا كان بالقرينة كما لا يخفى.

و أما الثاني: فلعدم سلامة كل من الوجهين من الخلل و الإشكال.

=============

أما الخلل و الإشكال في الوجه الأول: فقد أشار إليه بقوله: «مع إن تيقّن إرادته» أي الخصوص «لا يوجب اختصاص الوضع به» أي: بالخصوص.

و حاصل الإشكال: أنّ تيقّن إرادة الخصوص مجرد استحسان لا يصلح لإثبات اختصاص وضع الصيغة بالخصوص؛ إذ لا اعتبار بالوجوه الاستحسانية التي لا تفيد إلا الظن الذي لا يغني عن الحق شيئا. هذا مع إن إرادة العموم ليست نادرة حتى يلزم قلة الفائدة المترتبة على الوضع للعموم، و يختص الوضع بالخصوص، كما أشار إليه بقوله:

«مع كون العموم كثيرا ما يراد»، فلا ملازمة بين تيقّن إرادة الخصوص، و بين وضع اللفظ له، فالاستدلال بهذا التيقّن على الوضع للخصوص غير سديد.

و أما الإشكال المختص بالوجه الثاني: فقد أشار إليه بقوله: «و اشتهار التخصيص لا يوجب كثرة المجاز».

و حاصل الإشكال: أن الاستدلال بهذا الوجه على وضع الصيغة للخصوص مبني على ثبوت الملازمة بين التخصيص و المجازية حتى يكون شيوع التخصيص ملازما لكثرة المجازات، لكن هذه الملازمة ممنوعة، لابتنائها على استعمال العموم في الخصوص حتى يكون مجازا، و هو ممنوع جدّا، إذ إرادة الخصوص إنما تكون من باب تعدد الدال و المدلول، لا من باب الاستعمال العام في الخاص.

قوله: «لعدم الملازمة..» إلخ تعليل لقوله: «لا يوجب كثرة المجاز»، هذا مضافا إلى إشكال آخر على الوجه الثاني و هو: ما أشار إليه بقوله: «و لو سلّم فلا محذور فيه أصلا».

و حاصل هذا الإشكال: أنه لو سلمنا الملازمة بين التخصيص و المجازية فلا بأس بكثرة المجاز إذا كان مع القرينة، على كثرة الاستعمالات المجازية.

و كيف كان؛ فتحصّل مما أفاده المصنف من الإشكال على الوجهين اللذين استدل بهما على اختصاص الوضع بالخصوص: أنه يرد عليهما إشكال مشترك بينهما، هو: أنه لا يصح الاستدلال بهما إلا مع الشك في الوضع للخصوص أو العموم، و مع العلم بالوضع للعموم - كما هو المفروض - لا وجه للتمسك بهما، لاختصاص الوضع بالخصوص. و يرد على الوجه الأول ما يختص به من الإشكال، و على الوجه الثاني كذلك.

ص: 270

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - محل النزاع هو وجود صيغة للعموم، و لا نزاع في وجود لفظ موضوع للخصوص، و لا في وجود لفظ مشترك بينهما. و هناك أقوال:

الأول: وجود لفظ يخص العموم.

الثاني: كل لفظ يدعى وضعه للعموم موضوع للخصوص.

الثالث: كل لفظ يدعى أنه للعموم مشترك بينهما.

الرابع: التوقف. و الحق عند المصنف هو الأول.

2 - لا منافاة بين اختصاص بعض الألفاظ بالعموم، و بين استعماله في الخصوص بالعناية و المجاز؛ إما بادّعاء كون الخاص هو العام؛ كما هو مذهب السكاكي، و إما بعلاقة العموم و الخصوص التي هي من العلائق المجازية.

3 - قد استدل على وضع ألفاظ العموم للخصوص بوجهين:

الأول: أن الخصوص متيقن الإرادة على كل حال؛ إما بإرادة الخصوص أو بإرادة الخصوص في ضمن العموم، و من المعلوم: أن كون الألفاظ حقيقة في المتيقّن أولى.

الثاني: أن الغالب هو استعمال العام في الخاص، لشيوع التخصيص حتى قيل: «ما من عام إلا و قد خصّ »، فيلزم من وضع الألفاظ للعموم كثرة المجازات، و من المعلوم: أن قلة المجاز أولى من كثرته، و لازم ذلك وضع الصيغة للخصوص.

4 - جواب المصنف عن الوجهين: أولا: بما هو مشترك بينهما، و هو أنه لا يصح الاستدلال بهما إلا مع الشك في الوضع للخصوص أو العموم، و أما مع العلم بالوضع للعموم بقيام الضرورة عليه: فلا وجه للتمسك بهما على اختصاص الوضع للخصوص.

أما الجواب المختص بالوجه الأول: فلأن مجرد تيقّن إرادة الخصوص لا يصلح لإثبات اختصاص وضع الصيغة بالعموم.

هذا مع إن إرادة العموم ليست نادرة حتى يلزم قلة الفائدة المترتبة على وضع الصيغة للعموم، فحينئذ لا ملازمة بين تيقّن إرادة الخصوص، و بين وضع اللفظ له.

أما الجواب المختص بالوجه الثاني: فلأن الاستدلال بهذا الوجه مبني على الملازمة بين التخصيص و المجازية حتى يكون شيوع التخصيص ملازما لكثرة المجازات؛ لكن الملازمة ممنوعة.

ص: 271

هذا مضافا إلى: أنه لو سلمنا الملازمة المذكورة فلا بأس بكثرة المجازات إذا كان الاستعمال في المعاني المجازية مع القرينة.

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

أن للعموم صيغة تخصه لغة و شرعا.

ص: 272

فصل

ربما عدّ من الألفاظ الدالة على العموم؛ النكرة في سياق النفي أو النهي (1)،

=============

فصل حول النكرة في سياق النفي أو النهي

اشارة

(1) و قبل الدخول في أصل البحث ينبغي بيان أمرين:

أحدهما: بيان ما هو المقصود من عقد هذا الفصل، بعد ما عرفت في الفصل السابق:

أن للعموم صيغة تخصه، و لا يعتد بخلاف من خالف.

و ثانيهما: بيان ما هو محل النزاع في النكرة التي تفيد العموم.

و أما تفصيل الأمر الأول فيقال: إن المقصود من الكلام في الفصل السابق هو: إثبات الإيجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي، و يجعل المصنف في هذا الفصل النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي من موارد الإيجاب الجزئي المذكور في الفصل السابق، فقد عدّ من صيغ العموم و الأدوات الدالة عليه لفظة: كل، و جميع، و كافة و قاطبة. و قد عدّ أيضا ممّا يفيد العموم: النكرة في سياق النفي أو النهي، كما في قولك: «ما ظلمت أحدا أو لا تظلم أحدا» هذا خلاصة الكلام في الأمر الأول.

و أما توضيح الأمر الثاني: - و هو بيان محل النزاع - فيتوقف على مقدمة و هي: أن النكرة تارة: يراد بها معناها المصطلح عند النحاة، و هو اسم الجنس إذا دخل عليه التنوين و أفاد الوحدة نحو: «جاء رجل من أقصى المدينة»، و أخرى: يراد بها مطلق اسم الجنس، سواء كان مع التنوين نحو: «ما رأيت أحدا»، أو بلا التنوين نحو: «لا رجل في الدار».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المراد بالنكرة في محل الكلام هو مطلق اسم الجنس إذا اخذت في الكلام مرسلة أي: مطلقة لا مبهمة و مهملة: لأن المهملة - كما في علم الميزان - في قوّة الجزئية، فسلبها لا يقتضي عموم النفي لجميع أفرادها، و إنما يقتضي عموم ما أريد منها يقينا و هو البعض.

و كيف كان؛ فيقع الكلام في النكرة الواقعة في سياق النفي من جهات:

الأولى: في أصل دلالة النكرة في سياق النفي على العموم: الظاهر عدم الإشكال فيها، كما أشار إليه بقوله: «دلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر».

ص: 273

الثانية: في أنها هل هي بالوضع أو العقل ؟ وجهان: ظاهر المصنف «قدس سره» هو الثاني؛ بتقريب: أن كلمة «ما» النافية موضوعة للنفي، و اسم الجنس كلفظ «رجل» مثلا موضوع لنفس الطبيعة لا بشرط - على ما حققه سلطان العلماء «قدس سره» - و لا وضع لمجموع الكلمتين على حدة؛ و لكن لمّا كان انتفاء الطبيعة حاصلا بانتفاء جميع وجوداتها - و إلا لم يصدق عليها أنها معدومة - يحكم بالعموم عقلا. هذا معنى دلالة النكرة في سياق النفي على العموم.

إلاّ إن هذه الدلالة مشروطة بأن تكون الطبيعة مطلقة حتى يكون نفيها منوطا بانتفاء جميع أفرادها؛ إذ لو كانت الطبيعة المنفية أو المنهي عنها مقيدة لم يقتض دخول النفي عليها عموم النفي لأفراد الطبيعة المطلقة؛ بل يقتضي عموم نفي ذلك المقدار المقيّد فقط.

و كذا إذا كانت الطبيعة مهملة، فإن نفيها كنفسها مهمل، فيكون متردّدا بين السعة و الضيق، و لا يتعين نفي أحدهما - أعني: جميع أفراد المطلقة أو المقيدة - إلا بالقرينة. ثم إحراز إرسال الطبيعة و إطلاقها إنما هو بمقدمات الحكمة، فلولاها كانت مهملة، و هي في قوة الجزئية، فلا تفيد إلا نفي الطبيعة في الجملة؛ و لو في ضمن صنف منها.

هذا ما أشار إليه المصنف في هامش الكتاب حيث قال: «و إحراز الإرسال فيما أضيفت إليه إنما هو بمقدمات الحكمة، فلولاها كانت مهملة، و هي ليست إلا بحكم الجزئية، فلا تفيد إلا نفي هذه الطبيعة في الجملة و لو في ضمن صنف منها». انتهى مورد الحاجة.

و قد أشار إلى أمرين؛ أحدهما: تقييد الطبيعة بالإرسال، و الآخر: طريق إحراز الإرسال و هو مقدمات الحكمة، حيث إنها تثبت إطلاق الطبيعة، فحينئذ يكون نفيها عاما لجميع أفراد الطبيعة المطلقة.

فالمتحصل: أن الطبيعة الواقعة في سياق النفي على ثلاثة أقسام:

1 - الطبيعة المطلقة أي: التي تمت فيها مقدمات الإطلاق، فلا شك في إفادة هذا القسم العموم.

2 - الطبيعة المقيّدة: و هذا القسم يفيد العموم بالنسبة إلى مورد القيد.

ص: 274

و دلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر عقلا، لضرورة: أنه لا يكاد يكون طبيعة معدومة، إلا إذا لم يكن فرد منها بموجود، و إلا كانت موجودة.

لكن لا يخفى: أنها تفيده إذا أخذت مرسلة لا مبهمة قابلة للتقييد، و إلا (1) فسلبها 3 - الطبيعة المهملة: بأن لم يكن المقام مقام البيان، فهذا القسم - و إن كان في مقام الثبوت يرجع إلى أحد الأولين لأن المتكلم إمّا يريد المطلق أو المقيّد - إلاّ إنه في مقام الإثبات مجمل مردّد، فلا يفيد العموم أصلا.

=============

الثالثة: أن العموم المستفاد من الطبيعة في المقام تابع في السعة و الضيق لما أريد من المدخول - أعني: مدخول النفي أو النهي - كما عرفت من الأقسام الثلاثة للطبيعة، فإن أريد منه الشياع كان الشمول و السريان في جميع أفراده، و إن أريد منه صنف خاص كان في جميع أفراد هذا الصنف من غير فرق في ناحية العموم.

و لكن هل يحتاج إحراز الشياع إلى جريان مقدمات الحكمة في المدخول، حتى يكون العموم وسيعا أو لا بل كلمة «ما» قرينة عند العرف على إرادة العموم ؟

ظاهر المصنف هو: عدم الحاجة إلى مقدمات الحكمة في عموم ما أريد من المدخول، فالنكرة في سياق النفي تفيد العموم بالنسبة إلى الأفراد المرادة إن مطلقا فمطلق، و إن مقيدا فمقيد.

و أما بالنسبة إلى ما يصلح انطباق الطبيعة عليه من أفرادها: فالعموم فيها يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في المدخول ليحرز به المطلق.

و من هنا ظهر: أن استيعاب السلب لخصوص ما أريد من المدخول لا ينافي كون دلالة النكرة في حيّز النفي أو النهي على العموم عقلية؛ لأن الدلالة العقلية على العموم إنّما هي بالنسبة إلى ما يراد من النكرة، فإن أريد بها نفي الطبيعة المرسلة: كان المسلوب عموم أفراد الطبيعة المطلقة، و إن أريد بها نفي الطبيعة المقيدة بقيد: كان المسلوب خصوص أفراد الطبيعة المقيدة، لا جميع أفراد التي تصلح الطبيعة المطلقة للانطباق عليها.

فحينئذ يندفع توهم التنافي بين كون دلالة النكرة في سياق النفي على العموم عقلية، و بين استيعاب السلب لخصوص ما يراد منها لا غيره من سائر الأفراد؛ بتقريب: أن الدلالة العقلية تقتضي عموم السلب لجميع افراد الطبيعة لا خصوص ما أريد منها، و قد عرفت عدم التنافي.

(1) أي: و إن لم تؤخذ الطبيعة مرسلة و مطلقة، بل أخذت مبهمة و مهملة، فسلبها لا

ص: 275

لا يقتضي إلا استيعاب السلب لما أريد منها يقينا، لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها، و هذا (1) لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية، فإنها بالإضافة إلى أفراد ما يراد منها؛ لا الأفراد التي يصلح لانطباقها عليه، كما لا ينافي (2) دلالة مثل: لفظ كل على العموم وضعا كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله.

و لذا (3) لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة.

يقتضي عموم النفي لجميع أفرادها، و إنما يقتضي عمومه لما أريد منها يقينا و هو البعض؛ لأن المهملة - كما في علم الميزان - في قوة الجزئية.

=============

(1) يعني: استيعاب السلب لخصوص ما أريد منها يقينا لا ينافي كون دلالة النكرة في سياق النفي على العموم عقلية، و قد عرفت عدم التنافي.

(2) أي: كما لا ينافي دلالة مثل: لفظ «كل» على العموم وضعا كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله إن عاما فعام و إن خاصا فخاص نحو: «أكرم كل عالم، و أكرم كل عالم عادل»، لأن كلمة «كل» قد وضعت لإفادة عموم أفراد ما أريد من مدخوله.

فغرض المصنف من تنظير النكرة في حيّز النفي بلفظ «كل» هو: التنبيه على عدم الفرق بين كون الدلالة على العموم عقلية كالنكرة في سياق النفي، أو وضعية كدلالة لفظ «كل»، أي: لا فرق بينهما في الدلالة على عموم ما يراد من المدخول، و إنما الفرق بينهما تارة: أن الدلالة في أحدهما عقلية، و في الآخر: وضعية كما عرفت، و أخرى: بأن مدخول أداة النفي إذا كان مهملا من حيث العموم و الخصوص لا يفيد العموم أصلا، هذا بخلاف مدخول لفظ «كل»، حيث إن كلمة «كل» رافعة لإهماله، و موجبة لإطلاقه مع عدم اقترانه بما يقتضي تقييده أو إطلاقه.

(3) أي: لأجل كون العموم بحسب ما أريد من مدخوله لا منافاة بين العموم المستفاد من العقل؛ كما في النكرة المنفية أو المنهي عنها، و بين تقييد المدخول بقيود كثيرة نحو: «لا تكرم رجلا فاسقا أمويا»؛ فإن تقييد الرجل بهذين القيدين لا يقدح في العموم المستفاد من النكرة في سياق النفي أو النهي، كما أن تقييد مدخول «كل» بقيود كثيرة - نحو: «أكرم كل رجل عالم فقيه عادل» - لا يقدح في العموم المستفاد من لفظ «كل».

فالمتحصل: أن إطلاق المدخول و تقييده لا يوجبان التفاوت في معنى العموم.

ص: 276

نعم (1)؛ لا يبعد أن يكون (2) ظاهرا عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها،

=============

(1) استدراك على ما ذكره من اشتراك أداة النفي، و مثل لفظ «كل» في تبعية دلالتهما على العموم لإطلاق المدخول و تقييده، و عرفت غير مرة: أن العموم إنما هو بالنسبة إلى ما أريد من المدخول سعة و ضيقا.

و حاصل الاستدراك: أن لفظ «كل» يفترق عن أداة النفي بأنه مع إهمال مدخوله و عدم اقترانه بما يقتضي تقييده أو إطلاقه يرفع احتمال التقييد، و يثبت إطلاقه من دون حاجة إلى جريان مقدمات الحكمة فيه، فإذا قال: «أكرم كل عالم»، و احتمل تقييده بالعدالة أو غيرها حكم بالإطلاق، و وجوب إكرام كل فرد من أفراد طبيعة العالم، فكلمة «كل» ترفع احتمال تقييد المدخول، و هذا بخلاف الأداة فإنها لا ترفع إهمال مدخولها، و لذا يكون النفي مهملا من حيث العموم و الخصوص، و لا يثبت إطلاق مدخولها إلا بمقدمات الحكمة، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 473».

(2) يعني: أن يكون مثل لفظ «كل» ظاهرا عند إطلاق النكرة في استيعاب جميع أفراد النكرة.

إفادة المحلى باللام العموم

و قبل البحث عن المحلى باللام لا بد من تحرير محل الكلام، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن كلمة «ال» على أقسام:

1 - أن تكون زائدة كالداخلة على بعض الأعلام؛ كالحسن و الحسين و نحوهما.

2 - أن تكون موصولة بمعنى الذي؛ كالداخلة على أسماء الفاعلين و المفعولين و نحوهما كقولك: جاء الظالم أو المظلوم و نحوهما.

3 - أن تكون حرف تعريف؛ كالداخلة على الجمع المنكر، و المفرد المنكر و هي على نوعين: عهدية و جنسية.

أما العهدية: فهي على أقسام: العهد الذكري، و الخارجي، و الذهني، و الحضوري.

و أما الجنسية: فهي على قسمين:

الأول: أن تكون للإشارة إلى الأفراد و المصاديق الخارجية، و يقال لها: لام الاستغراق.

الثاني: أن تكون للإشارة إلى الماهية و الطبيعة كقولنا: «الرجل خير من المرأة»، و يعرف الفرق بين الجنس و الاستغراق بمناسبة الحكم و الموضوع.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل النزاع هو «ال» الجنسية، فإذا كانت للاستغراق فهي للعموم قطعا.

ص: 277

و هذا (1) هو الحال المحلى باللام جمعا كان أو مفردا - بناء على إفادته للعموم - و لذا (2) لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف و غيره، و إطلاق (3) التخصيص على تقييده و أما إذا كانت لمجرّد الإشارة إلى الماهية و الطبيعة فهي للعموم أيضا، لكن إذا اقتضته مقدمات الحكمة مثل: أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبٰا

=============

، أي: أحلّ الله كل فرد من أفراد البيع إلا ما خرج بالدليل، و حرّم كل فرد من أفراد الربا إلا ما خرج بالدليل.

(1) أي: ما ذكر في النكرة الواقعة في سياق النفي و النهي، و لفظ «كل»؛ من كون العموم و الاستيعاب تابعا للمدخول جار بعينه في المحلّى باللام، جمعا كان أو مفردا - بناء على إفادته العموم - فإذا قال: «أكرم العلماء» وجب إكرام كل فرد من أفراد العلماء، و إذا قال: «أكرم العلماء العدول» وجب إكرام كل منهم إذا اتصف بالعدالة؛ لا كل عالم و إن لم يتصف بها. و كذا المفرد المحلى باللام، فإن كان مطلقا نحو: أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ كان كل فرد من أفراد البيع حلالا.

(2) يعني: و لأجل تبعية العموم لما أريد من المدخول لا ينافي العموم تقييد المدخول بالوصف؛ كالعدول في المثال المزبور، و غير الوصف كقوله: «أكرم العلماء إن كانوا عدولا»، أو «إلا الفساق منهم»، كما أشار إليه بقوله «و غيره».

(3) قوله: «و إطلاق التخصيص على تقييده» دفع لما يتوهم من: أنه لو كان اللام لعموم المراد من أفراد المدخول لم يصدق في مثل: «أكرم العلماء العدول» أنه مخصّص؛ لأن التخصيص عبارة عن تضييق دائرة العموم في فرض ثبوته، فإنّ التخصيص فرع أن يكون هناك عموم و شمول أوسع من المخصص، و الحال إنه ليس الأمر كذلك؛ إذ المفروض: أنه ليس هناك عموم أوسع من المقيد و المخصص حتى تتضيق دائرته بذكر التقييد بالوصف، فكيف يطلق عليه التخصيص ؟

و حاصل الدفع: إن إطلاق التخصيص على تقييده ليس إلا من قبيل «ضيّق فم الركية» أي: البئر، فكما أن معنى «ضيّق» في المثال: إحداثه ضيّقا من الأول - لا تضييقه بعد ما كان موسعا - فكذلك في المقام، فإن معنى تخصيص المحلى - إذا كان مقيدا بالوصف - حدوثه مخصصا من الأول؛ لا أنه مما يطرأ عليه التخصيص بعد العموم، فليس المراد من التخصيص المعنى المصطلح أعني: التضييق بعد ثبوت العموم و السعة؛ بل معناه: أن المحلى باللام المقيّد بالوصف مضيّق من الأول، فإطلاق التخصيص بهذا المعنى لا ينافي القول بأن المحلّى باللام لعموم المراد من المدخول، فلا منافاة بين كون اللام لعموم المراد من أفراد المدخول، و بين صدق أنه مخصص و مقيّد فيما إذا كان المحلى باللام مقيدا بالوصف، كما في المثال المذكور.

ص: 278

ليس إلا من قبيل ضيّق فم الركية، لكن (1) دلالته على العموم وضعا محلّ منع، بل إنما يفيده فيما إذا اقتضته الحكمة أو قرينة أخرى، و ذلك (2) لعدم اقتضائه (3) وضع

=============

(1) استدراك على قوله: «بناء على إفادته للعموم».

و مقصود المصنف من الاستدراك: أن المحلى باللام و إن اشتهر «دلالته على العموم وضعا» لكنه لا يفيد العموم إلا بالقرينة من مقدمات الحكمة أو غيرها من القرائن الخاصة، و هذا من المصنف إنكار لدعوى وضع المحلى باللام للعموم.

و حاصل كلام المصنف في منع الوضع للعموم: أن ما وضع للعموم إما نفس اللام، و إمّا مدخوله، و إما مجموعهما، و لم يثبت شيء من ذلك، فلا بد أن تكون الدلالة على العموم بمعونة قرينة من مقدمات الحكمة؛ كما لو كان المولى في مقام البيان و قال: «أكرم العلماء»، أو أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ ، أو كانت هناك قرينة أخرى خاصة غير مقدمات الحكمة مثل: الاستثناء؛ كقوله تعالى: إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ، فإن كلمة «إلا» الاستثنائية تدل على عمومية الإنسان، و إلا لم يصح الاستثناء.

(2) تعليل لعدم الدلالة الوضعية.

(3) الأولى أن يقال: لعدم اقتضاء وضع اللام و لا مدخوله و لا المركب منهما للعموم. ثم إن «اقتضائه» مصدر أضيف إلى المفعول المراد به العموم.

قوله: «وضع» فاعله. يعني: لعدم اقتضاء وضع اللام للعموم».

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - المقصود من عقد هذا الفصل: بيان بعض الصيغ و الأدوات التي تدل على العموم، و قد عدّ مما يفيد العموم: النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي، ثم محل النزاع من النكرة هو: مطلق اسم الجنس، سواء كان مع التنوين أو دونه لا النكرة المصطلحة عند النحاة، و هو اسم الجنس إذا دخل عليه التنوين، و أفاد الوحدة، فالمراد من النكرة هي:

مطلق اسم الجنس و لكن إذا أخذت مرسلة لا مبهمة و مهملة لأن المهملة في قوّة الجزئية، فسلبها لا يقتضي عموم النفي لجميع أفرادها.

ثم دلالة النكرة الواقعة في سياق النفي على العموم عقلية؛ لأن انتفاء الطبيعة ليس عقلا إلا بانتفاء جميع أفرادها. إلاّ إن هذه الدلالة مشروطة بأن تكون الطبيعة مطلقة؛ إذ لو كانت مقيدة لم يقتض دخول النفي عليها عموم النفي لأفراد الطبيعة المطلقة؛ بل يقتضي عموم نفي ذلك المقدار المقيد.

ص: 279

اللام و لا مدخوله، و لا وضع آخر للمركب منهما، كما لا يخفى، و ربما يأتي في المطلق و المقيد بعض الكلام مما يناسب المقام.

2 - و استيعاب السلب لخصوص ما أريد من النكرة يقينا - عند عدم كونها مطلقة - لا ينافي كون دلالتها على العموم عقلية، لأن الدلالة العقلية على العموم حينئذ إنما هي بالإضافة إلى ما يراد من النكرة إن مطلقا فمطلق، و إن مقيدا فمقيد.

=============

و كذا لفظ «كل» يفيد عموم ما يراد من مدخوله، فلا فرق بين أداة النفي و بين لفظ «كل» في إفادة عموم ما أريد من مدخولهما.

و إنما الفرق بينهما بوجهين آخرين:

أحدهما: دلالة الأداة على العموم عقلية، و دلالة لفظ «كل» علية وضعية.

و ثانيهما: أن مدخول الأداة عند عدم القرينة على التقييد أو الإطلاق يكون مهملا و مجملا، و مدخول «كل» يكون مطلقا؛ لأن لفظ كل رافع لإهماله و موجب لإطلاقه فيفسّر مدخوله بإرادة الإطلاق منه.

3 - المحلى باللام أيضا يفيد عموم ما أريد من مدخوله، كالنكرة الواقعة في سياق النفي، و لفظ «كل»، فيختلف بين عموم نحو: «أكرم العلماء»، و «أكرم العلماء العدول»، إذ العموم في الأول أوسع منه في الثاني.

قوله: «و إطلاق التخصيص على تقييده» دفع لما يتوهم من: أنه لو كانت اللام - في المثال الثاني - لعموم المراد من المدخول لم يصدق أنه مخصص؛ لأن التخصيص فرع ثبوت العموم بأن يكون المفهوم قبل التخصيص موسعا ثم بالتخصيص صار مضيّقا؛ و ليس الأمر كذلك في المثال المذكور، فكيف يطلق عليه التخصيص ؟

و حاصل الدفع: أن ما ذكر - من أن: التخصيص تضييق لما هو أوسع - إنما هو في التخصيص المصطلح، و التخصيص في مثل: «أكرم العلماء العدول» ليس بمعناه الاصطلاحي، بل بمعنى كون المحلى باللام المقيد بالوصف مضيّقا من الأول كما في قوله: «ضيّق فم الركية»، فالمحلى باللام و إن كان مما يدل على العموم إلا إن دلالته عليه ليس بالوضع؛ بل بقرينة مقدمات الحكمة، أو قرينة أخرى خاصة.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - دلالة النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي على العموم؛ لكن بشرط أن تكون مطلقة.

2 - عدم دلالة المحلى باللام على العموم وضعا؛ بل يفيده بمعونة القرينة.

ص: 280

فصل

لا شبهة (1) في أن العام المخصّص بالمتصل أو المنفصل حجة فيما بقي، فيما علم

=============

فصل في حجية العام المخصص بالمتصل أو المنفصل في الباقي

اشارة

و قبل الخوض في البحث لا بد من تحرير محل النزاع، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن العام قد يخصّص بدليل متصل كأن يقول: «أكرم العلماء إلا الفساق منهم».

و قد يخصّص بدليل منفصل كأن يقول: «أكرم العلماء»، ثم يقول: بعد مدة «لا تكرم الفساق من العلماء»، و على كلا التقديرين: أفراد العام المخصص على أقسام:

1 - الفرد المعلوم دخوله في المخصص؛ كالعالم الفاسق.

2 - الفرد المعلوم بقاؤه في العام، كالعالم العادل.

3 - الفرد المحتمل دخوله في المخصص؛ بأن يكون مفهوم الفسق مرددا بين ارتكاب مطلق المعاصي، و بين ارتكاب المعاصي الكبيرة فقط، فمرتكب الكبيرة فاسق يقينا، و أما مرتكب الصغيرة فهو مردد بين الدخول في المخصص، و بين البقاء في العام؛ إذ لو كان المراد من الفاسق من ارتكب مطلق المعاصي فهو داخل في المخصص؛ و إلا فهو باق في العام.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل النزاع هو حجية العام في الباقي فيما علم بقاؤه فيه مطلقا أي: سواء كان المخصص متصلا أو منفصلا، و فيما احتمل دخوله في المخصص فيما إذا كان المخصص منفصلا كالمثال الثاني، فيما إذا كان الفاسق مرددا بين مرتكب مطلق المعاصي، و بين مرتكب الكبيرة فقط. هذا هو ظاهر المصنف.

و هناك احتمالات كثيرة تركنا ذكرها لكونها أجنبية عما هو ظاهر كلامه.

(1) المقصود من عقد هذا البحث هو: تحقيق حال العام المخصص بمخصص متصل أو منفصل من حيث كونه حجة في الباقي و عدمها، بمعنى: أن العام إذا خصص بشيء فهل يوجب تخصيصه به سقوطه عن الحجية بالنسبة إلى الباقي، أم لا يوجب ذلك: فيه

ص: 281

عدم دخوله في المخصص مطلقا و لو كان متصلا، و ما احتمل دخوله فيه أيضا إذا كان منفصلا، كما هو المشهور بين الأصحاب، بل لا ينسب الخلاف إلا إلى بعض أهل الخلاف (1).

و ربما فصّل بين المخصص المتصل (2)، فقيل بحجيّته فيه، و بين المنفصل فقيل بعدم حجيته.

أقوال؛ «قول» بالسقوط عن الحجية بمجرد التخصيص، و «قول» بعدم السقوط - و هو المشهور بين الأصحاب - و «قول» بالتفصيل بين المخصص المتصل فيكون العام حجة في الباقي، و بين المنفصل فلا يكون حجة فيه.

=============

(1) أي: بعض العامة؛ كأبي ثور على ما في التقريرات.

(2) و قبل بيان أحكام أقسام العام المخصص ينبغي بيان ما هو الضابط في الاتصال و الانفصال، فيقال: الضابط فيهما وحدة الجملة و تعددها، فقول القائل: لا تكرم الفساق من العلماء من مثل: «أكرم العلماء لا تكرم الفساق من العلماء» منفصل لتعدد الجملتين و إن اتصلت الثانية بالأولى حسّا، كما أن وصف العدول و نحوه مما يكون من الملابسات كالحال و البدل و الشرط من قولنا: «أكرم العلماء العدول» أو «عادلين»، أو «الفقهاء» أو «إن كانوا عدولا» متصل و إن انفصل عن الجزء الأول حسا، و الأول: مثال للوصف، و الثاني: للحال، و الثالث: للبدل، و الرابع: للشرط.

و كيف كان؛ فضابط الاتصال و الانفصال هو استقلال الجزء و عدم استقلاله، فإن لم يستقل بأن كان الكلام جملة واحدة، و كان أحد أجزائها قيدا أو شرطا لها فهو متصل و إن كان منفصلا حسّا، و إن استقل بأن كان بنفسه جملة على حدة مثل: لا تكرم الفساق من العلماء في المثال المذكور فهو منفصل و إن كان متصلا حسا، و لازم الضابط المذكور في الاتصال و الانفصال هو: انعقاد الظهور في العموم فيما إذا كان منفصلا دون ما إذا كان متصلا.

و أما بيان أحكام أقسام العام المخصص على رأي المصنف تبعا للمشهور:

1 - حجيّة العام في الباقي، مع العلم بعدم دخوله في المخصص إذا كان متصلا.

2 - حجيّة العام في الباقي مع العلم بعدم دخوله في المخصص إذا كان منفصلا، فيجوز التمسك بالعام في هاتين الصورتين.

و أما في المخصص المتصل: فلعدم ظهور الكلام في غير الباقي، فإن العام كان ظاهرا في الجميع، فبعد خروج بعض الأفراد لا ينثلم ظهوره في الباقي، فيكون حجة فيه.

ص: 282

و احتج النافي (1) بالإجمال؛ لتعدد المجازات حسب مراتب الخصوصيات، و تعيين الباقي من بينها بلا معيّن ترجيح بلا مرجّح.

و أما في المنفصل: فلعدم مانع عن حجيّته في الباقي، ضرورة: أن ظهور العام في العموم قد انعقد و صار حجة فيه، فلا ترفع اليد عن حجيّته فيه إلا بحجة أقوى، و هي ظهور المخصص المنفصل بمقدار يزاحمه فيه و هو ما علم دخوله في المخصص.

=============

و هناك صورة ثالثة، و هي: ما احتمل دخوله في المخصص فيما إذا كان منفصلا و صورة رابعة و هي: ما احتمل دخوله في المخصص فيما إذا كان متصلا، و قد حكم المصنف بحجيّة العام في الباقي في الصورة الثالثة دون الصورة الرابعة؛ و ذلك لانعقاد ظهور العام في العموم في الصورة الثالثة، و عدم انعقاد ظهوره في العموم في الصورة الرابعة.

فالمتحصل: أن المخصص إما متصل و إما منفصل، و على التقديرين: إما معلوم عدم دخوله في المخصص، و إما محتمل دخوله فيه، فالحاصل من ضرب الاثنين في الاثنين هو أربعة، فقد حكم المصنف بحجيّة العام في الباقي في ثلاثة منها.

(1) يعني: احتج النافي للحجيّة مطلقا: بأنّ العام حقيقة في العموم، و بعد تخصيصه لم يكن العام - و هو المعنى الحقيقي - مرادا، فيصير مجازا، و حيث إن المجازات متعددة - حسب مراتب الخاص - يصير اللفظ مجملا، فلا يحمل على شيء منها؛ للزوم الترجيح بلا مرجّح، فيبقى اللفظ مترددا بين جميع مراتب الخاص، و بعضها فيسقط عن الحجية أي: فلا يكون حجة في شيء منها، من غير فرق في ذلك بين كون المخصص متصلا أو منفصلا.

قوله: «لتعدد المجازات» تعليل للإجمال؛ إذ بعد تعدد المجازات و عدم مرجّح لبعضهما على الآخر يصير العام مجملا، إذ لم يعلم ما أريد منه بعد التخصيص، فيسقط عن الحجية.

لا يقال: إنه إذا تعذرت الحقيقة و تعددت المجازات فأقرب المجازات إلى الحقيقة أولى بالإرادة من غيره، و عليه: يكون تمام الباقي أولى بالإرادة؛ إذ هو أقرب إلى الحقيقة، فيكون حجة في تمام الباقي.

فإنه يقال: إن تعيين تمام الباقي من بين مراتب الخاص بلا معيّن و ترجيح بلا مرجّح؛ إذ لا فرق بينه و بين غيره من مراتب الخاص من حيث المجازية. هذا مضافا إلى: أن أولوية

ص: 283

و التحقيق في الجواب (1) أن يقال: إنه لا يلزم من التخصيص كون العام مجازا، أمّا في التخصيص بالمتصل: فلما عرفت من: إنه لا تخصيص أصلا، و أنّ أدوات العموم قد استعملت فيه، و إن كان دائرته - سعة و ضيقا - تختلف باختلاف ذوي (2) الأدوات، فلفظة كل في مثل: كل رجل (3) و كل رجل عالم قد استعملت في العموم، و إن كان أفراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر؛ بل في نفسها في غاية القلّة.

الأقرب لا يفيد إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، لأن الأصل حرمة العمل به إلا ما خرج بالدليل كالظن الحاصل من ظاهر الكتاب مثلا.

=============

التحقيق في الجواب عن استدلال النافي

(1) و التحقيق في الجواب عن استدلال النافي: أن يقال ببقاء الظهور العرفي في الباقي لهذا الفرد من المجاز من المجازات المحتملة، فلا يلزم التعيين بلا معيّن، و لا الترجيح بلا مرجّح.

هذا على القول بالمجازية، و إلا فنقول: إنه لا يلزم من التخصيص كون العام مجازا بمعنى: إن التخصيص لا يستلزم المجازية في العام أصلا، من دون فرق في ذلك بين كون المخصص متصلا أو منفصلا.

أما في المتصل: فلما مرّ في بحث «كل» و النكرة الواقعة في سياق النفي - من إنه لا تخصيص حقيقة، و أن إطلاق التخصيص عليه مسامحة؛ لأن أدوات العموم لا تستعمل إلا في العموم، غاية الأمر: دائرته ضيّقة في بعض الموارد حيث إن قولنا: «أكرم كل رجل عالم» ليس مثل قولنا: «أكرم كل رجل» في سعة الدائرة و كثرة الأفراد، و من المعلوم:

عدم التفاوت في مثل: لفظ كل من حيث استعماله في العموم بين كثرة أفراد مدخوله و بين قلّتها.

(2) أي: المدخولات لأدوات العموم. و هي الموضوعات التي تقع بعد الأدوات المقتضية لعمومها.

(3) أي: الموسع، «و كل رجل عالم» المضيّق «قد استعملت في العموم» الذي هو معناه الحقيقي.

و حاصل الكلام: أن لفظ «كل» - و أمثاله من أدوات العموم - لم يستعمل في غير معناه الموضوع له حتى يلزم تعدده، فلا فرق في استعماله في العموم بين «كل رجل» و بين «كل رجل عالم»، و إنما الفرق بين المثالين هو في كثرة أفراد الأول، و قلّة أفراد الثاني، و هذا الفرق نشأ من إطلاق الرجل في المثال الأول، و تقييده بالعالم في المثال الثاني، و هذا لا يقدح في دلالة لفظ «كل» على العموم في مدخوله.

ص: 284

و أما في المنفصل (1): فلأن إرادة الخصوص واقعا لا تستلزم استعماله (2) فيه، و كون الخاص قرينة عليه، بل من الممكن قطعا استعماله (3) معه في العموم قاعدة،

=============

(1) يعني: و أما عدم لزوم المجاز في التخصيص بالمخصص المنفصل فتوضيحه يتوقف على مقدمة و هي: أن ذكر العام و إرادة الخاص يتصور على قسمين:

1 - أن يستعمل العام في الخاص ابتداء على نحو المجاز؛ بأن يستعمل «العلماء» في «أكرم العلماء» في العدول منهم، ثم ينصب قرينة على هذا الاستعمال المجازي.

2 - أن يستعمل العام في العموم - أعني: معناه الحقيقي، و لكن أراد المولى الخاص بالإرادة الجديّة؛ إذ قد يكون للمولى حين الاستعمال إرادة جدية و إرادة استعمالية، فيريد بالإرادة الاستعمالية: المعنى الحقيقي - و هو تمام الموضوع له - و بالإرادة الجدية: المعنى المجازي - و هو بعض الموضوع له كالخاص.

ثم العبرة في الحقيقة و المجاز إنما هي بالإرادة الاستعمالية التي هي إفناء اللفظ في المعنى؛ دون الإرادة الجدّية الباعثة على تشريع الأحكام.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن العام المراد به الخاص يكون مجازا على التصوير الأول و هو استعماله في الخاص مجازا بالإرادة الاستعمالية.

و أما على التصوير الثاني و هو استعمال العام في العموم بالإرادة الاستعمالية: فلا يكون مجازا؛ لما عرفت في المقدمة من: أن العبرة في الحقيقة و المجاز إنما هي بالإرادة الاستعمالية، و المفروض: هو استعمال العام في العموم بالإرادة الاستعمالية، فيكون على نحو الحقيقة لا على نحو المجاز. هذا خلاصة الكلام في عدم لزوم المجاز فيما إذا كان المخصص منفصلا.

(2) أي: استعمال العام في الخصوص، «و كون الخاص قرينة عليه» أي: على استعمال العام في الخاص. يعني: أن إرادة الخصوص واقعا لا تستلزم الإرادة الاستعمالية، أي: استعمال العام فيما أريد به واقعا - و هو المخصص المنفصل - لا تستلزم كون الخاص قرينة على الاستعمال المزبور حتى يكون الاستعمال مجازا فيلزم المجاز.

(3) أي: استعمال العام مع المخصص المنفصل «في العموم قاعدة» ليتمسك بها في مقام الشك، فلا يراد من استعمال العام في العموم إلا تأسيس قاعدة يرجع إليها في ظرف الشك؛ لا أن العموم مراد جدي للمتكلم.

و كيف كان؛ فلا مانع من استعمال العموم في معناه الموضوع له، من دون إرادته الجدية، بل لجعل العموم ضابطا كليا ليرجع إليه في مقام الشك في خروج بعض أفراده بالمخصص.

ص: 285

و كون الخاص مانعا عن حجيّة ظهوره (1) تحكيما (2) للنص أو الأظهر على الظاهر، لا مصادما لأصل ظهوره، و معه لا مجال للمصير إلى أنّه قد استعمل فيه مجازا كي يلزم الإجمال.

لا يقال: هذا (3) مجرد احتمال، و لا يرتفع به الإجمال لاحتمال الاستعمال في خصوص مرتبة من مراتبه.

فإنه يقال: مجرد احتمال استعماله (4) فيه لا يوجب إجماله بعد استقرار ظهوره

=============

(1) يعني: كون الخاص مانعا عن حجية ظهور العام لا مانعا عن أصل ظهوره؛ لوضوح: أن الخاص المنفصل لا يمنع عن ظهور العام في العموم؛ بل عن حجيته.

(2) هذا إشارة إلى وجه كون الخاص المنفصل مانعا عن حجية ظهور العام لا أصل الظهور، فيسقط العام عن الحجية بالنسبة إلى مورد الخاص لتقديم الخاص عليه؛ لأن المقرر في محله هو: تقديم النص، أو الأظهر على الظاهر، و عدّه من الجمع العرفي بين الدليلين، و عدم معاملة التعارض بينهما.

قوله: «لا مصادما لأصل ظهوره» إشارة إلى أن الخاص لا يوجب انقلاب ظهور العام في العموم إلى ظهوره في الخصوص، المردد بين مراتبه حتى يصير مجملا؛ كما يقول به النافي للحجية مطلقا، و مع هذا الاحتمال - الذي أشار إليه بقوله: «بل من الممكن قطعا».. إلخ - «لا مجال للمصير إلى أنه قد استعمل فيه مجازا».

(3) أي: ما ذكر من تقديم الخاص على العام تحكيما للنص، أو الأظهر على الظاهر، و كون المراد الاستعمالي هو العموم و إن كان ممكنا في مقام الثبوت إلا إنه مما لا دليل عليه في مقام الإثبات؛ بل هو مجرد احتمال لا يرتفع به الإجمال؛ إذ من المعلوم: أن مجرد الاحتمال ثبوتا لا يكفي في رفع الإجمال مع احتمال استعمال العام في مرتبة خاصة، و كون الخاص قرينة عليه.

فحاصل الإشكال: أنه و إن احتمل كون المراد الاستعمالي هو العموم إلاّ إن الإجمال لا يرتفع بهذا الاحتمال؛ إذ يحتمل أيضا كون المراد الاستعمالي هو الخصوص أعني:

مرتبة من المراتب الباقية، فإذا استعمل العام في الخاص فقد صار المعنى مجملا؛ لتردده حينئذ بين مراتب الخصوصيات، و عدم تعيّن الباقي من بينها.

(4) أي: مجرّد استعمال العام في الخاص لا يوجب إجمال العام بعد استقرار ظهور العام في العموم بحسب الإرادة الاستعمالية، و عليه: فالخاص المنفصل يصادم و يزاحم حجية الظاهر؛ لا أصل الظهور فيقدم على ظهور العام في مورد الخاص بالأقوائية، و يكون العام حجة في غير مورد الخاص؛ لعدم مانع عن حجيته فيه.

ص: 286

في العموم، و الثابت من مزاحمته بالخاص إنما هو بحسب الحجيّة تحكيما لما هو الأقوى، كما أشرنا إليه أنفا.

و بالجملة: الفرق بين المتصل و المنفصل (1)، و إن كان بعدم انعقاد الظهور في الأول إلا في الخصوص، و في الثاني إلا في العموم؛ إلا إنه لا وجه لتوهم استعماله مجازا في واحد منهما أصلا، و إنما اللازم الالتزام بحجيّة الظهور في الخصوص في الأول، و عدم حجيّة ظهوره في خصوص ما كان الخاص حجة فيه في الثاني، فتفطن.

و كيف كان؛ فإن العام قد استقر له الظهور في العموم قبل ورود الخاص، ثم الخاص لا يوجب انقلاب هذا الظهور؛ بل يوجب انقلاب حجيّته أي حجيّة العام على المراد الجدي، بمعنى: أن العام مستعمل في معناه الحقيقي - و هو العموم - لكنه ليس مرادا بالإرادة الجدية.

=============

و حاصل الجواب: أن العام لانفصاله عن المخصص ينعقد له الظهور في العموم، غاية الأمر عدم حجية هذا الظهور لمزاحمته بالخاص الأقوى دلالة عنه.

(1) يعني: المخصص المتصل يفترق عن المخصص المنفصل في شيء، و يشترك معه في شيء آخر.

و أما الأول: فلأن العام في المخصص المتصل لا ينعقد له ظهور في العموم، و لذا لا يكون حجة إلا في الأفراد التي علم بعدم دخولها في الخاص، و لا يكون حجة في الأفراد المشكوكة؛ إذ المفروض: عدم ظهور العام في جميع الأفراد حتى يكون حجة في تمامها إلا ما علم بخروجه كما في المخصص المنفصل.

هذا بخلاف المخصص المنفصل؛ فإن العام فيه ينعقد له ظهور في جميع الأفراد حتى الخاص؛ لكن نرفع اليد عن حجية هذا الظهور بالنسبة إلى ما علم كونه من أفراد الخاص لأقوائية ظهوره من ظهور العام، و أما فيما عدا ذلك: فحجية ظهور العام سليمة عن المانع، فيكون حجة حتى فيما احتمل خروجه و دخوله في الخاص.

و أما الثاني: و هو اشتراك المخصص المتصل مع المخصص المنفصل في شيء، فلأن العام في كليهما استعمل في المعنى الحقيقي، فلا يلزم المجاز أصلا.

فالفارق بينهما هو: انعقاد الظهور للعام في العموم في المنفصل دون المتصل، و الجامع بينهما هو: عدم لزوم المجاز بالتخصيص. هذا ما أشار إليه بقوله: «لا وجه لتوهم استعماله مجازا»، كما أشار إلى الفرق بينهما بقوله: «و إنما اللازم الالتزام بحجية الظهور في الخصوص في الأول».

ص: 287

و قد أجيب عن الاحتجاج (1): بأن الباقي أقرب المجازات.

و فيه (2): إنه لا اعتبار في الأقربية بحسب المقدار، و إنما المدار على الأقربية بحسب زيادة الأنس الناشئة من كثرة الاستعمال، و في تقريرات بحث شيخنا الأستاذ «قدس سره» في مقام الجواب عن الاحتجاج (3) ما هذا لفظه:

و الأولى (4) أن يجاب بعد تسليم مجازية الباقي: بأن دلالة العام على كل فرد من

=============

(1) هذا جواب عن الاحتجاج المذكور - أعني: تعدد مراتب المجاز و لزوم الإجمال - بعد تسليم مجازية العام بالتخصيص.

و حاصل هذا الجواب: أنه لو سلمنا مجازية العام المخصص، و تعدّد المجاز و لكن لا يلزم الإجمال؛ لأن الإجمال يلزم فيما إذا لم يتعين أحد المجازات، و أما إذا كان هناك معيّن لأحدها فلا يلزم الإجمال أصلا.

و المفروض في المقام: وجود ما يعيّن و هو تمام الباقي؛ لأنه أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي بعد تعذر حمل اللفظ عليه، فإذا فرضنا عدد العلماء - في مثل: «أكرم العلماء» - مائة، و خصص بالنحويين الذين كان عددهم عشرة، فالباقي - و هو تسعون - أقرب إلى المعنى الحقيقي من خصوص الفقهاء الذين عددهم أيضا عشرة مثلا.

و هذه الأقربية توجب تعيّن الباقي، فلا إجمال في البين حتى يكون مانعا عن التمسك بالعام.

(2) أي: ما في هذا الجواب من الإشكال: أن الأقربية الكمية لا تجدي في ظهور العام في تمام الباقي، و إنما الموجب للظهور هي الأقربية الأنسية الناشئة من كثرة الاستعمال، فالأقربية المرجحة لبعض المجازات هي الأقربية الأنسية الناشئة في أذهان المخاطبين من كثرة استعمال لفظ العام في ذلك البعض، فلا عبرة بالأقربية الكمية الناشئة من كثرة الأفراد بدون استعمال اللفظ فيها، فإن هذه الأقربية لا توجب تعيّن تمام الباقي، بحيث يصير العام ظاهرا فيه.

فالمتحصل: أن ما هو المعلوم من الأقربية الكمية لا يجدي في ظهور العام في تمام الباقي، و ما هو المجدي في تعيين بعض المجازات من الأقربية الأنسية غير معلوم، فتصل النوبة إلى أصالة عدم كثرة الاستعمال عند الشك في كثرة الاستعمال في الباقي و عدمها، فتبقى حجة النافي بحالها.

(3) أي: عن احتجاج النافي للحجية بالإجمال الناشئ عن تعدد المجازات.

(4) يعني: أجاب صاحب التقريرات(1) بعد أن ردّ بما ذكره بقوله: «و أجيب» - بما

ص: 288


1- مطارح الأنظار، ج 2، ص 132.

أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده و لو كانت دلالة مجازية؛ إذ (1) هي بواسطة عدم شموله للأفراد المخصوصة، لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله، فالمقتضي للحمل على الباقي موجود، و المانع مفقود؛ لأن المانع في مثل المقام إنما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله، و المفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغيره، فلو شك فالأصل عدمه (2). انتهى موضع الحاجة(1).

قلت (3): لا يخفى: أن دلالته على كل فرد إنما كانت لأجل دلالته على العموم حاصله: أنّا نسلم أن الباقي مجاز كسائر مراتب الخصوصيات و لكنه متعيّن من بينها لا من جهة كونه أقرب المجازات، بل من جهة وجود المقتضي للحمل عليه و فقد المانع عنه، و أما وجود المقتضي فهو دلالة على فرد آخر، لأن المناط في دلالته على كل واحد من أفراده هو: انطباق معناه عليه، و هو موجود في دلالة العام عليه؛ لأنّ دلالة العام على كل فرد من أفراده، فإذا لم يدل على فرد لخروجه عنه بدليل خاص لم يستلزم ذلك عدم دلالته على بقية الأفراد، فلو كان للعام مائة فرد و خرج عنه عشرون فردا لم يقدح ذلك في دلالته على الباقي، و إن كانت الدلالة على الباقي مجازية. كما هو مدعى النافي فإنه يدعي كون استعمال العام في الباقي مجازا.

=============

وجه عدم القدح: أن المجازية لم توجب إلا قصور دلالة العام على أفراد الخاص، فلا يشمل الأفراد الخارجة عنه بالتخصيص، و أما دلالته على غير ما خرج عنه من الأفراد فهي باقية على حالها؛ إذ ليس المعنى الحقيقي - و هو العموم - مباينا للمعنى المجازي حتى تتفاوت الدلالة فيهما.

فالمتحصل: أن المقتضي لدلالة العام على كل فرد من أفراده بالاستقلال - و هو الانطباق - موجود، و المانع مفقود، و مع الشك في وجوده يرجع إلى الأصل. هذا ما أشار إليه بقوله: «فالمقتضي للحمل على الباقي موجود و المانع مفقود».

(1) تعليل لقوله: «و لو كانت»، و ضمير «هي» راجع إلى المجازية، و معنى العبارة: أن المجازية إنما تنشأ من ناحية خروج أفراد المخصص عن العام؛ و لا تنشأ من دخول غير أفراد المخصص في مدلول العام حتى يكون المعنى المجازي مباينا للمعنى الحقيقي، و تكون مباينتهما موجبة لتفاوت دلالة العام قبل التخصيص و بعده.

(2) يعني: عدم ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله.

(3) و حاصل جواب المصنف عن التقريرات: هو أن دلالة العام على أفراده إنما كان

ص: 289


1- مطارح الأنظار، ج 2، ص 132.

و الشمول، فإذا لم يستعمل فيه و استعمل في الخصوص - كما هو المفروض - مجازا، و كان إرادة كل واحد من مراتب الخصوصيات مما جاز انتهاء التخصيص إليه، و استعمال العام فيه مجازا ممكنا، كان (1) تعيّن بعضها بلا معيّن ترجيحا بلا مرجح، و لا مقتضي (2) لظهوره فيه، ضرورة (3): أن الظهور إمّا بالوضع، و إمّا بالقرينة، و المفروض:

إنه ليس بموضوع له، و لم يكن هناك قرينة، و ليس له موجب آخر (4).

و دلالته (5) على كل فرد على حدة - حيث كانت في ضمن دلالته على العموم - في ضمن دلالة العام على المعنى، و في ضمن استعماله في المعنى الحقيقي، فالمناط في دلالته على فرد من أفراده هو استعماله في معناه الحقيقي - و هو العموم و الشمول - فإذا لم يستعمل في المعنى الحقيقي كما هو المفروض في المقام لأنه قد استعمل في الخصوص مجازا، و المفروض أيضا: أن المعاني المجازية كثيرة، فلا بد من تعيين أحدها بمرجح؛ لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح، و المفروض: عدمه؛ إذ لا قرينة على تعيين تمام الباقي بالخصوص، فلا محالة يصير العام المخصص حينئذ مجملا؛ إذ لا مقتضي لظهوره في الباقي؛ لأن منشأ الظهور و مقتضيه إما الوضع، و إما القرينة، و كلاهما مفقود.

=============

أما الأول: فواضح، لأن المفروض: عدم كون الباقي معنى حقيقيا للعام.

و أما الثاني: فلعدم قرينة في البين إلا الخاص و هو قرينة صارفة، لا معيّنة، فالموجب لظهور العام في الباقي مفقود.

و كيف كان؛ فالمانع عن حمل العام على الباقي و إن كان مفقودا إلاّ إن المقتضي لحمله عليه لم يكن موجودا.

(.1) جواب «إذا» في قوله: فإذا لم يستعمل.

(2.) هذا ناظر إلى ردّ ما في التقريرات(1) من قوله: «فالمقتضي للحمل على الباقي موجود».

(3) تعليل لعدم المقتضي لظهور العام في العموم.

(4) أي: ليس لظهور العام في الباقي موجب آخر غير الوضع و القرينة.

(5) هذا ناظر إلى ما في التقريرات(2): «من: أن دلالة العام على كل فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر».

و حاصل ردّ المصنف - على ما في التقريرات - أن دلالة العام على كل فرد من أفراده منوط باستعماله في معناه الحقيقي و هو العموم، فدلالته على كل فرد من أفراده قبل

ص: 290


1- مطارح الأنظار، ج 2، ص 132.
2- مطارح الأنظار، ج 2، ص 132.

لا يوجب ظهوره في تمام الباقي بعد عدم استعماله في العموم، إذا لم تكن هناك قرينة على تعيينه، فالمانع عنه (1) و إن كان مدفوعا بالأصل، إلا إنه لا مقتضي له بعد رفع اليد عن الوضع. نعم (2)؛ إنّما يجدي إذا لم يكن مستعملا إلا في العموم، كما فيما حققناه في الجواب (3)، فتأمل جيدا.

التخصيص لا تقتضي دلالته على الباقي بعده؛ و ذلك لأن الدلالة على كل واحد من الأفراد قبل التخصيص كانت مستندة إلى استعمال العام في معناه الحقيقي، فالدلالة على كل واحد منها ضمنية لا استقلالية، و مع فرض عدم استعمال العام في العموم لا مقتضي لظهوره في تمام الباقي؛ لانتفاء الدلالة الضمنية بانتفاء الدلالة المطابقية.

=============

فالمتحصل: أن دلالة العام قبل التخصيص لا توجب ظهوره في الباقي بعد التخصيص إذا لم تكن هناك قرينة على تعيين الباقي.

(1) أي: فالمانع عن الظهور في الباقي و إن كان منتفيا بأصالة عدم المانع؛ لكنها تجري بعد إحراز المقتضي و الشك في وجود المانع، و قد عرفت: عدم وجود المقتضي هنا للظهور في الباقي، فلا مجال لأصالة عدم المانع على فرض عدم المقتضي كما هو المفروض؛ لأن المقتضي للظهور هو الوضع، و المفروض: رفع اليد عنه. لعدم استعمال العام في العموم بعد التخصيص.

(2) يعني: أن أصل عدم المانع إنما يجدي فيما إذا استعمل العام في العموم، و شك في تخصيصه، ضرورة: أن هذا الأصل يجدي حينئذ لوجود المقتضي و هو الاستعمال في العموم، و كون الشك في وجود المانع، فيجري الأصل، و يترتب عليه حجية العام في تمام مدلوله.

(3) المراد من الجواب ما تقدم في قوله: «و التحقيق في الجواب أن يقال..» إلخ، و حاصل ما أفاده: أن العام لم يستعمل في الخاص مجازا أصلا؛ بل استعمل في معناه الموضوع له و هو العموم، غاية الأمر: دائرته تختلف سعة و ضيقا باختلاف الموارد.

و كيف كان؛ فمختار المصنف هو: حجية العام في الباقي لا من باب المجازية، بل من باب الحقيقة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - محل النزاع: هو حجية العام في الباقي فيما علم عدم دخوله في المخصص مطلقا، و ما احتمل دخوله فيما إذا كان المخصص منفصلا، و قد اختلفوا على أقوال؛ قول:

ص: 291

بحجية العام في الباقي مطلقا أي: سواء كان المخصص متصلا أو منفصلا.

و قول: بسقوط الحجية مطلقا. و قول: بالتفصيل بين المتصل و المنفصل، فيكون العام حجة في الباقي في الأول دون الثاني.

ثم الضابط في الاتصال و الانفصال هو: وحدة الجملة و تعددها، بمعنى: أنه إذا كان العام و المخصص كلاما واحدا كان المخصص متصلا كقولنا: «أكرم العلماء العدول»، أو «إن كانوا عدولا»، و إذا كانا كلامين كان منفصلا كقولنا: «أكرم العلماء»، «و لا تكرم الفساق من العلماء».

2 - حجة القول بحجية العام في الباقي مطلقا:

أما في المتصل: فلعدم ظهور الكلام في غير الباقي؛ لأن العام كان ظاهرا في الجميع، فبعد خروج بعض الأفراد لا ينثلم ظهوره في الباقي، فيكون حجة فيه.

و أما في المنفصل: فلعدم مانع عن حجيته في الباقي ضرورة: أن ظهور العام في العموم قد انعقد و صار حجة فيه، فلا ترفع اليد عن حجيته فيه إلا بحجة أقوى و هي ظهور المخصص بمقدار ما يزاحمه فيه، و هو ما علم دخوله في المخصص.

3 - احتجاج النافي للحجيّة مطلقا: أن العام حقيقة في العموم، و بعد التخصيص يصير مجازا في الباقي و حيث إن المجازات متعددة، فيصير العام مجملا فيسقط عن الحجية، بلا فرق بين كون المخصص متصلا أو منفصلا، و تعيين إرادة تمام الباقي كتعيين إرادة سائر المراتب يحتاج إلى قرينة خاصة.

و قد أجاب المصنف عن احتجاج النافي بما حاصله: من أن التخصيص لا يستلزم المجازية في العام أصلا.

أما عدم المجازية في المتصل: فلما عرفت: من أن أدوات العموم لا تستعمل إلا في العموم.

و أما عدم المجازية في المنفصل: فلأن المجازية تابعة للإرادة الاستعمالية، و المفروض: أن العام قد استعمل في العموم بالإرادة الاستعمالية، فيكون حقيقة، و لم يستعمل في الخاص بالإرادة الاستعمالية حتى يكون مجازا، فيصير العام مجملا لأجل تعدد المجازات، نعم؛ كان المراد بالإرادة الجدية الخاص.

و استعمال العام في العموم مع المخصص المنفصل يكون من باب تأسيس قاعدة كلية؛ ليتمسك بها عند الشك في خروج بعض أفراده عنه.

ص: 292

فلا مانع حينئذ من استعمال العام في العموم من دون الإرادة الجدّية، بل لجعل العموم قاعدة يرجع إليها عند الشك، فيكون الخاص مانعا عن حجية ظهور العام في الخصوص، لا عن أصل ظهوره في العموم.

4 - الإشكال بأن المراد الاستعمالي هو العموم حتى لا يلزم المجاز مجرد احتمال لا يرتفع به الإجمال؛ لاحتمال كون المراد الاستعمالي هو الخصوص، فيصير العام مجملا لتعدد المجاز كما سبق في دليل النافي للحجية.

مدفوع: بأن مجرد احتمال استعمال العام في الخاص لا يوجب إجمال العام؛ لأن العام - لانفصاله عن المخصص - قد انعقد له الظهور في العموم؛ إلا إن هذا الظهور لا يكون حجة لمزاحمته بالخاص الأقوى دلالة منه.

فالمتحصل: أنه لا فرق بين المتصل و المنفصل في عدم لزوم المجاز، و إنما الفرق بينهما في انعقاد الظهور للعام في العموم في المنفصل دون المتصل.

5 - الجواب عن الاحتجاج المذكور: - أعني: تعدد المجاز المستلزم للإجمال - بأن تمام الباقي أقرب المجازات، فلا يلزم من حمل العام عليه الترجيح بلا مرجح، لأن الأقربية مرجّح و معيّن لتمام الباقي مدفوع: بأن الأقربية الكمية لا تجدي في ظهور العام في تمام الباقي، و إنما الموجب للظهور هو الأقربية الأنسية الناشئة في الأذهان من كثرة الاستعمال في تمام الباقي، و هي غير معلومة، و مقتضى الأصل: عدم كثرة الاستعمال في تمام الباقي، فتبقى حجة النافي بحالها.

6 - قد أجاب صاحب التقريرات عن الأقربية بجواب آخر و هو: أن تمام الباقي متعين من بين المجازات؛ لكن لا لأجل كونه أقرب المجازات، بل لأجل وجود المقتضي للحمل عليه، و عدم المانع عنه.

و أما وجود المقتضي: فهو دلالة العام على العموم، فإن دلالة العام على كل فرد من أفراده ليس منوطا بدلالته على فرد آخر، فإذا لم يستعمل في العموم و لم يدل على فرد لخروجه عنه بدليل خاص لم يستلزم ذلك عدم دلالته على بقية الأفراد، فخروج بعض الأفراد عن العام لا يقدح في دلالته على الباقي، و إن كانت الدلالة على الباقي مجازية.

وجه عدم القدح: أن المجازية لم توجب إلا قصور دلالة العام على أفراد الخاص.

و أما دلالته على الباقي: فهي باقية على حالها، فيكون العام حجة في تمام الباقي لوجود المقتضي و عدم المانع.

ص: 293

و حاصل الجواب: أن دلالة العام على أفراده إنما هي كانت في ضمن دلالته على المعنى الحقيقي و استعماله فيه، فإذا لم يستعمل في معناه الحقيقي - كما هو المفروض في المقام - ينتفي ظهوره في تمام الباقي، و ذلك لعدم المقتضي الذي هو استعماله في العموم، فعدم حمل العام على تمام الباقي إنما هو لأجل عدم المقتضي، فما ذكره صاحب التقريرات من وجود المقتضي غير صحيح.

7 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - حجيّة العام المخصص في الباقي فيما علم عدم دخوله في المخصص مطلقا.

2 - حجيته في الباقي فيما احتمل دخوله فيه إذا كان المخصص منفصلا.

ص: 294

فصل (1)

إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملا، بأن كان دائرا بين الأقل و الأكثر و كان

=============

فصل كون الخاص مجملا مع دورانه بين الأقل و الأكثر

اشارة

(1) لمّا فرغ المصنف من بيان حكم المخصص المبيّن مفهوما و مصداقا - في الفصل السابق - شرع في بيان حكم المخصص المجمل مفهوما أو مصداقا في هذا الفصل، فالغرض من عقد هذا الفصل هو: بيان حكم العام المخصص بالمخصص المجمل مفهوما أو مصداقا، و هذا من أهم مباحث العام و الخاص، و قبل الخوض في البحث لا بد من بيان ما هو محل النزاع، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي:

أن الخاص إما أن يكون مجملا بحسب المفهوم، أو يكون مجملا بحسب المصداق، و على التقديرين: إما أن يكون متصلا أو منفصلا، و على التقادير الأربعة: إما أن يكون المخصص دائرا بين الأقل و الأكثر، أو يكون دائرا بين المتباينين، فصور الاحتمالات هي ثمانية، فنصنع جدولا مشتملا على تلك الصور الثمانية، مع ذكر أمثلة لها و بيان أحكامها تسهيلا للمحصلين: (انظر الجدول في الصفحة التالية):

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل النزاع: هو الصورة الثالثة و الرابعة من صور المجمل المصداقي على ما هو ظاهر كلام المصنف «قدس سره» ثم ان الشبهة في موارد الإجمال المفهومي تسمى بالشبهة المفهومية، و في موارد الإجمال المصداقي تسمى بالشبهة المصداقية..

و الفرق بينهما: أن الشبهة المفهومية ما كان الشك فيها في شمول العام للفرد أو الصنف ناشئا من الاشتباه في مفهوم الخاص أي: دورانه بين السعة و الضيق، كما إذا ورد: «أكرم كل عالم»، ثم ورد «لا تكرم الفساق منهم»، و فرضنا أن مفهوم الفاسق مجمل يدور أمره بين السعة - أعني: مرتكب مطلق المعاصي - و بين الضيق - أعني:

مرتكب الكبائر فقط - و الشك إنما هو في شمول حكم العام لمرتكب الصغائر و منشؤه إنما هو إجمال مفهوم الخاص، و لا إجمال في مفهوم العام.

ص: 295

و بيان أحكامها تسهيلا للمحصلين:

صور المجمل المفهومي\الأمثلة\الأحكام

الصورة الأولى\ما إذا كان المخصص متصلا مترددا بين الأقل و الأكثر: نحو «أكرم العلماء إلا الفساق منهم»، حيث يتردد الفاسق بين مرتكب الكبيرة و مرتكب مطلق المعصية كبيرة كانت أو صغيرة. \و حكم هذه الصورة هو: سراية إجمال المخصص إلى العام حقيقة بمعنى: أنه يمنع عن انعقاد ظهور العام في العموم، فلا يصح التمسك به، كما لا يصح التمسك بالخاص، لإجمالها.

الصورة الثانية\ما إذا كان المخصص متصلا مردّدا بين المتباينين نحو: «أكرم العلماء إلا زيدا» و تردد «زيد» بين شخصين لكون لفظ «زيد» مشتركا بينهما. \الحكم في هذه الصورة هو نفس الحكم في الصورة الأولى.

الصورة الثالثة\ما إذا كان المخصص منفصلا، مردّدا بين الأقل و الأكثر نحو:

«أكرم العلماء»، ثم ورد، «لا تكرم الفساق من العلماء». \و حكم هذه الصورة هو: عدم سراية إجمال المخصص لا حقيقة و لا حكما، فيصح التمسك به في مورد الشك لانعقاد ظهوره في العموم، و مقتضاه حجيته في جميع أفراده إلا ما علم دخوله في المخصص.

الصورة الرابعة\ما إذا كان المخصص منفصلا مردّدا بين المتباينين نحو: «لا تكرم النحويين»، ثم ورد «أكرم العدول من النحويين» و يتردد مفهوم العدالة بين ترك المعصية عن ملكة و بين حسن الظاهر فقط. \و حكم هذه الصورة هو: سراية إجمال المخصص إلى العام حكما لا حقيقة بمعنى: أن العام ينعقد له ظهور في العموم إلا أن الخاص لقوة دلالته يزاحم حجيته، و لما كان مرددا بينا لمتباينين و ليس هناك منهما عن الحجية، و يرجع إلى الأصل.

ص: 296

صور المجمل المفهومي\الأمثلة\الأحكام

الصورة الأولى\ما إذا كان المخصص متصلا مرددا بين الأقل و الأكثر نحو: «لا تصل خلف أحد إلى العدول»، و كان معنى العدالة واضحا مبينا، ثم نعلم بعدالة زيد و عمرو و بكر و نشك في عدالة غيرهم لا لأجل الشك في مفهوم العدالة؛ بل لأجل عدم الاطلاع على حالهم. \حكم هذه الصورة هو عدم جواز التمسك بالعام؛ لعدم انعقاده ظهوره إلا في الخصوص المعلوم بقاؤه تحت العام.

الصورة الثانية\ما إذا كان المخصص متصلا مرددا بين المتباينين نحو: «صل خلف كل من زيد و عمرو إن كانا عادلين»، ثم لا نعلم أن زيدا عادل أو عمرو، مع العلم بعدالة أحدهما فقط. \و حكم هذه الصورة هو: عدم جواز التمسك بالعام؛ لأن الفرد المشكوك المردد بين المتباينين و إن كان مصداقا للعام بما هو عام إلا إنه ليس مصداقا له بما هو حجة.

الصورة الثالثة\ما إذا كان المخصص منفصلا مرددا بين الأقل و الأكثر نحو: «لا تصل خلف أحد»، ثم ورد: «صل خلف العدول»، و نعلم بعدالة زيد و عمرو و بكر دون غيرهم لعدم العلم بحالهم. \و في حكم هذه الصورة خلاف، قيل: بجواز التمسك بالعام، و لكن الحق عند المصنف:

عدم الجواز؛ إذ لا يعلم كون الفرد المشكوك مصداقا للعام بما هو حجة.

الصورة الرابعة\ما إذا كان المخصص متصلا مرددا بين المتباينين نحو: «صل خلف كل من زيد و عمرو»، ثم ورد: لا تصل خلف فاسق من زيد أو عمرو مع العلم بفسق أحدهما. \و حكم هذه الصورة هو حكم الصورة الثالثة: طابق النعل بالنعل

ص: 297

منفصلا فلا يسري إجماله (1) إلى العام، لا حقيقة و لا حكما، بل كان العام متبعا فيما لا يتبع فيه الخاص لوضوح (2) أنّه حجة فيه بلا مزاحم أصلا، ضرورة (3): أنّ الخاص إنما يزاحمه فيما هو حجة على خلافه تحكيما للنص، أو الأظهر على الظاهر؛ لا فيما لا يكون كذلك (4) كما لا يخفى.

و أما الشبهة المصداقية فهي: ما كان الشك فيها في شمول العام للفرد أو الصنف ناشئا من الاشتباه في الأمور الخارجية؛ كما إذا دل دليل على إكرام العلماء، و دلّ دليل آخر على حرمة إكرام الفساق منهم، و شككنا في أن زيدا العالم هل هو فاسق أم لا؟

=============

(1) أي: فلا يسري إجمال الخاص إلى العام «لا حقيقة» بأن يرتفع ظهوره، «و لا حكما» بأن ترتفع حجيّته فالعام باق على ظهوره، و حجيته جميعا في القدر الزائد على الأقل، فهو غير مجمل بالنسبة إليه لا حقيقة و لا حكما، و هذا إشارة إلى الصورة الثالثة من صور الإجمال المفهومي، فلا يصير العام - في هذه الصورة - مجملا بإجمال الخاص لا حقيقة - بمعنى: ارتفاع ظهوره - و لا حكما - بمعنى: ارتفاع حجية ظهوره -.

(2) تعليل لبقاء العام على حجيته في الفرد المشكوك دخوله تحت الخاص.

و حاصل التعليل: أن العام قد انعقد له ظهور في العموم؛ إذ المفروض: انفصال الخاص عنه الذي لا يمنع عن ظهور العام في العموم؛ بل يزاحمه في الحجية فقط، و من المعلوم: أن الخاص حجة في خصوص الفرد المعلوم دخوله تحته كمرتكب الكبيرة في المثال المذكور في الجدول، و ليس حجة فيما يحتمل كونه فردا له - كمرتكب الكبيرة - للشك في فرديته للخاص - أعني: الفاسق - و من المعلوم: صحة التمسك بدليل في مورد مع الشك في موضوعيته لذلك الدليل. ففي المقام لما كانت فردية مرتكب الصغيرة للخاص مشكوكة، فلا يصح التمسك بدليل الخاص لإثبات حرمته، فلا مزاحم حينئذ لحجية العام في هذا الفرد المحتمل دخوله تحت الخاص، و عليه: فمزاحمة الخاص لحجية العام مختصة بما علم فرديته للخاص - كمرتكب الكبيرة - فيقدم الخاص عليه تقديما للنص أو الأظهر على الظاهر، كما هو المتداول عند أبناء المحاورة. و أما الفرد المحتمل: فمزاحمة الخاص للعام فيه من مزاحمة اللاحجة بالحجة، كما في «منتهى الدراية»، ج 3، ص 498».

(3) تعليل لحجية العام في الفرد المحتمل دخوله تحت الخاص. يعني: أن الخاص إنما يزاحم العام في الفرد المعلوم دخوله تحت الخاص، فيكون حجة على خلاف العام، و يقدّم عليه تحكيما للنص أو الأظهر على الظاهر.

(4) أي: لا يزاحم الخاص العام فيما لا يكون حجة فيه من الفرد المحتمل دخوله تحته، كما في المقام.

ص: 298

و إن لم يكن كذلك (1) بأن كان دائرا بين المتباينين مطلقا، أو بين الأقل و الأكثر فيما كان متصلا، فيسري إجماله (2) إليه حكما في المنفصل المردّد بين المتباينين، و حقيقة في غيره (3): أمّا الأول (4): فلأن العام (5) - على ما حققناه - كان ظاهرا في عمومه؛ إلا أنه لا يتبع ظهوره في واحد من المتباينين اللذين علم تخصيصه بأحدهما.

=============

(1) أي: بأن لم يكن الخاص مردّدا بين الأقل و الأكثر، مع انفصاله عن العام «بأن كام دائرا بين المتباينين مطلقا» أي: سواء كان المخصص متصلا أو منفصلا، أو كان مردّدا بين الأقل و الأكثر مع اتصال المخصص.

(2) يعني: فيسري إجمال الخاص إلى العام حكما، و لكن فيما إذا كان المخصص المردد بين المتباينين منفصلا، فترتفع حجية العام بمعنى: أن العام و إن انعقد له ظهور في العموم إلاّ إن هذا الظهور ليس بحجة؛ لعدم كونه مرادا بعد العلم الإجمالي بالتخصيص بأحد المتباينين. هذا إشارة إلى الصورة الرابعة من صور المجمل المفهومي.

(3) يعني: و يسري إجمال الخاص إلى العام حقيقة في غير المخصص المنفصل يعني:

في المخصص المتصل، سواء كان مرددا بين المتباينين أو بين الأقل و الأكثر.

فلا ينعقد ظهور العام في العموم. و هذا إشارة إلى الصورة الأولى و الثانية من صور المجمل المفهومي.

(4) يعني: قوله: «فيسري إجماله إليه حكما في المنفصل المردد بين المتباينين».

(5) تعليل لسراية إجمال الخاص إلى العام، فلا يجوز التمسك بالعام.

و حاصل التعليل: أن وجه عدم جواز التمسك بالعام - مع انعقاد ظهوره في العموم - هو العلم الإجمالي بتخصيص العام بأحد المتباينين، مع عدم تيقّن تخصيصه بأحدهما بالخصوص، و عدم مرجّح لأحدهما، فلا محالة يسقط العام عن الحجية، لعدم جريان أصالة الحقيقة حينئذ في العام مع هذا العلم الإجمالي و إن كان نفس الظهور باقيا، فإجمال الخاص لا يسري إلى نفس الظهور حتى يرفعه، بل يسري إلى حجيته فيرفعها.

هذا معنى السراية حكما.

و بعبارة أخرى: أنه لا إشكال في عدم حجية العام في كلا المتباينين إذا كان المخصص المنفصل مرددا بين المتباينين؛ و ذلك لوجهين:

أحدهما: أن حجية العام إنما تكون ببناء العقلاء المعبّر عنها بأصالة العموم، و هي لا تجري بالنسبة إلى كلا الفردين لتعارض الأصلين فيهما للعلم الإجمالي بخروج أحدهما عن عموم العام. و عليه: فلا دليل على ثبوت حكم العام في أحد الفردين.

و ثانيهما: أن التخصيص يكشف عن تضييق دائرة حجية العام و اختصاصها بغير

ص: 299

و أما الثاني (1): فلعدم انعقاد ظهور من رأس للعام، لاحتفاف الكلام بما يوجب احتماله لكل واحد من الأقل و الأكثر، أو لكل واحد من المتباينين؛ لكنه حجة في الأقل، لأنه المتيقن في البين:

فانقدح بذلك (2): الفرق بين المتصل و المنفصل، و كذا في المجمل بين المتباينين «زيد» المردد بين شخصين، فالعام حجة في غير «زيد»، و عليه: فكل من المتباينين يشك في انطباق العام بما هو حجة عليه.

=============

(1) أعني: قوله: «و حقيقة في غيره»، يعني: سراية إجمال الخاص إلى العام حقيقة في غير المنفصل المردد بين المتباينين و هو الخاص المتصل المردد بين المتباينين، و المتصل المردد بين الأقل و الأكثر، و الوجه في سراية إجمال الخاص إلى العام حقيقة هو: ما أشار إليه بقوله: «لاحتفاف» يعني: احتفاف العام بالخاص المجمل يوجب إجمال العام، و عدم انعقاد ظهور له في العموم، فيرجع في المردد بين الأقل و الأكثر إلى المتيقن - و هو الاجتناب عن جميع المعاصي - في نحو: «أكرم العلماء إلا الفساق منهم»؛ لأنه المتيقن من مفهوم الفسق، و قوله: «لاحتفاف» تعليل لعدم انعقاد الظهور للعام.

و أما الخاص المردد بين المتباينين: فليس فيه متيقن حتى يكون العام حجة فيه، كزيد المشترك بين شخصين في نحو: «أكرم العلماء إلا زيدا»، فيرجع فيه إلى ما تقتضيه الأصول العملية، فيترك إكرامهما احتياطا لعدم جريان البراءة في مورد العلم الإجمالي.

(2) أي: انقدح و ظهر - بما ذكر من بيان أحكام الصور الأربع في الشبهة المفهومية - الفرق بين المخصص المتصل و بين المخصص المنفصل.

و حاصل الفرق بينهما: هو سراية الإجمال إلى العام، المانع عن انعقاد ظهور له في العموم في المتصل، و ارتفاع الحجية عن ظهوره في العموم، مع تحقق أصله في المنفصل، و كذلك انقدح بما ذكرنا - من حكم الصور الأربع - الفرق بين المخصص المردد بين المتباينين و المخصص المردد بين الأقل و الأكثر.

و حاصل الفرق: أنه لا يجوز التمسك بالعام في المجمل المردد بين المتباينين مطلقا و إن كان منفصلا؛ لما عرفت: من سراية الإجمال إلى العام حقيقة في المتصل، و حكما في المنفصل.

بخلاف المجمل المردد بين الأقل و الأكثر، حيث يجوز التمسك بالعام فيما إذا كان المخصص منفصلا، لانعقاد الظهور له في العموم، و عدم مانع عن حجيته في الأفراد التي يشك في انطباق الخاص عليها.

ص: 300

و الأقل و الأكثر، فلا تغفل (1).

نعم؛ لا يجوز التمسك بالعام فيما إذا كان المخصص متصلا لكونه مانعا عن انعقاد ظهور له من الأول.

=============

(1) الظاهر: أنه إشارة إلى دفع ما يتوهم من عدم الفرق بين المتصل و المنفصل تارة، و بين المتباينين و الأقل و الأكثر أخرى.

أما عدم الفرق بين المتصل و المنفصل: فلأن المخصص المنفصل في نحو: «لا تكرم فساق العلماء» و إن لم يكن رافعا لظهور العام - أعني: «أكرم العلماء» - إلاّ إنه يقيد المراد الواقعي بغير الفاسق، بحيث يصير موضوع وجوب الإكرام: العالم غير الفاسق، فإذا كان مفهوم الفاسق مرددا بين الأقل و الأكثر - كما هو المفروض - فلا محالة يصير من يجب إكرامه من العلماء بحسب المراد الواقعي مرددا بين الأقل و الأكثر أيضا، فلا يجوز التمسك بأكرم العلماء لوجوب إكرام الأفراد التي لا يعلم فسقها و عدالتها، فلا فرق في عدم جواز التمسك بالعام بين الخاص المتصل و المنفصل، إذ المدار في جواز التمسك بكل دليل على إحراز موضوعه و بدونه لا يجوز ذلك قطعا.

و أما عدم الفرق بين الخاص المردد بين المتباينين، و بين الخاص المردد بين الأقل و الأكثر: فلأن الأصول اللفظية لمّا كان اعتبارها لكشفها عن المرادات الواقعية، و مع دوران الخاص بين الأقل و الأكثر، لا تكون أصالة العموم التي هي من تلك الأصول كاشفة عن كون الأكثر محكوما بحكم العام، فلا محالة يكون الأكثر موردا للأصول العملية. و عليه: فوزان الأقل و الأكثر وزان المتباينين في عدم جواز الرجوع إلى العام في إحراز الحكم، بل المرجع فيه الأصول العملية.

لكنك خبير باندفاع كلا التوهمين:

أما الأول: فبأن دليل العام يشمل كل فرد من أفراد الموضوع، و إطلاقه الأحوالي يعم كل زمان و زماني يمكن أن يكون قيدا له. فمثل: «أكرم العلماء» يشمل كل فرد من أفراد العلماء، و يدفع احتمال كل ما يصلح لأن يكون قيدا له، و لا نرفع اليد عن هذا الإطلاق الأحوالي إلا بالمقدار الذي علم بشمول دليل الخاص له؛ إذ ليس دليل المخصص بمفهومه مقيدا لدليل العام حتى يسري إجماله إليه، و يصير المراد من العام مجملا: بل المقيد بمفهومه الحاكي عن الحقيقة يقيّد الإطلاق.

فالنتيجة: أن الإطلاق محكم في غير ما علم تقييد المراد الواقعي بالنسبة إليه، ففي مثل: «لا تكرم فساق العلماء» إذا أجمل مفهوم الفاسق لا نرفع اليد عن العلماء إلا بالنسبة إلى مرتكب الكبيرة، فمرتكب الصغيرة داخل في العام فيجب إكرامه. و لا يقدح

ص: 301

و أما (1) إذا كان مجملا بحسب المصداق، بأن اشتبه فرد و تردّد بين أن يكون فردا له (2) أو باقيا تحت العام؛ فلا كلام في عدم جواز التمسك بالعام لو كان متصلا به، ضرورة (3): عدم انعقاد ظهور للكلام إلا في الخصوص، كما عرفت.

إجمال مفهوم الفاسق في الأخذ بإطلاق العام لحالاته و طواريه التي يصح تقييده بها. هذا تمام الكلام في اندفاع التوهم الأول.

=============

و أما الثاني: فلوضوح الفرق بين المتباينين و الأقل و الأكثر، حيث إن الشك في التخصيص بالأكثر شك في التخصيص الزائد على ما علم تخصيصه به، و لا إشكال حينئذ في الرجوع إلى أصالة العموم، و معه لا تصل النوبة إلى الأصول العملية.

و هذا بخلاف المخصص المردد مفهومه بين المتباينين، فإن العلم الإجمالي بتخصيص العام بأحدهما مانع عن الرجوع إلى أصالة العموم، و هذا المانع مفقود في الأقل و الأكثر، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 503» مع تصرّف و توضيح منا. هذا تمام الكلام في أحكام صور الشبهة المفهومية.

الكلام في الشبهة المصداقية

(1) هذا عطف على قوله في أول الفصل: إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملا، فالأولى إسقاط «أما» بأن يقول: و إذا كان الخاص مجملا بحسب المصداق.

(2) يعني: أن يكون ما يتردد فردا للخاص، كما إذا اشتبه لأجل الأمور الخارجية فرد الخاص بغيره كتردد زيد العالم بين زيد العادل و الفاسق لظلمة أو غيرها من الأمور الخارجية.

و حاصل ما أفاده المصنف: إنه لمّا فرغ عن بيان الشبهة المفهومية شرع في بيان أحكام الشبهة المصداقية، و لها أربع صور كما عرفت، و توضيح ذلك: أنه إن كان الخاص متصلا بالعام فلا كلام في عدم جواز التمسك بالعام لإثبات حكم هذا الفرد المشتبه؛ لعدم انعقاد ظهور له في العموم، بل لا ظهور للكلام إلا في الخصوص، فإذا قال: «أكرم العلماء إلا فساقهم» فكأنه قال: «لا تكرم فساق العلماء»، فإذا كان الفرد الخارجي كزيد العالم مشتبها بين كونه عادلا أو فاسقا لا يجوز التمسك بالعام لإثبات حكمه لهذا الفرد المردد، إذ لا عموم للعام بالنسبة إلى الفرد المشتبه المشكوك عدالة و فسقا، و المانع عن التمسك به هو عدم إحراز فردية ما يحتمل انطباق الخاص عليه للعام.

(3) تعليل لعدم جواز التمسك بالعام في المصداق المشتبه.

و حاصل التعليل: أنه لا ظهور للعام في العموم حتى يصح التمسك به في الفرد

ص: 302

و أما إذا كان (1) منفصلا عنه، ففي جواز التمسك به خلاف.

المشتبه؛ بل لا ظهور له إلا في الخصوص أعني: العالم غير الفاسق و لم يحرز كون الفرد المشتبه فردا للعام بما هو حجة و لا يخفى: أنه كما لا يكون العام في الفرد المشتبه حجة كذلك لا يكون الخاص حجة فيه؛ لأن فردية المشتبه للخاص أيضا مشكوكة، و حينئذ فالمرجع فيه الأصول العملية.

=============

(1) أي: إذا كان المخصص المجمل مصداقا - سواء كان دائرا بين المتباينين أو الأقل و الأكثر - منفصلا عن العام؛ ففي جواز التمسك بالعام خلاف بين الأعلام، و المشهور هو جواز التمسك به بعد انعقاد ظهوره في العموم مع انفصال الخاص عنه، و لا مانع عن حجيته إلا بالنسبة إلى ما يكون الخاص حجة فعلية فيه؛ و هو الأفراد التي يعلم انطباق الخاص عليها - كمرتكب الكبيرة - فيما إذا كان الخاص دالا على حرمة إكرام فساق العلماء، ففي الأفراد التي لا يعلم انطباق مفهوم الخاص عليها - كمرتكب الصغيرة - لا يكون الخاص حجة فيها حتى يزاحم حجية العام فيها؛ لعدم إحراز موضوعه، و جواز التمسك بدليل منوط بإحراز موضوعه، و عليه: فيجوز التمسك بالعام في مرتكب الصغيرة، فلا يكون الخاص حجة فيما اشتبه أنه من أفراده كالفرد المشكوك دخوله تحت الخاص، فخطاب «لا تكرم فساق العلماء» لا يكون دليلا على حرمة إكرام من شك في فسقه من العلماء، فلا يزاحم نحو: «لا تكرم فساق العلماء» مثل: «أكرم العلماء» في الفرد المشكوك و لا يعارضه فيه، فإن الخاص لو زاحمه فيه أو عارضه فيه على الفرض فهو من قبيل مزاحمة غير الحجة بالحجة، و معارضة الدليل و الحجة بغير الدليل و الحجة في غاية البطلان و الفساد.

هذا غاية ما يمكن أن يستدل به على جواز التمسك بالعام بالنسبة إلى الفرد المشتبه؛ إلاّ إن الحق عند المصنف هو: عدم جواز التمسك بالعام بالنسبة إلى الفرد المشتبه حيث قال: «و التحقيق عدم جوازه».

و قد أجاب المصنف عن استدلال جواز التمسك بالعام بقوله: «و هو في غاية الفساد» بتقريب: أن الخاص المنفصل و إن لم يكن حجة فعلا في الفرد المشتبه - لعدم إحراز موضوعه - إلاّ إنه يوجب سقوط العام عن الحجية، و اختصاص الحجية بغير عنوان الخاص من الأفراد؛ لأن الخاص يوجب تعنون العام - كالعلماء - بغير عنوان الخاص - كالفاسق في المثال السابق - فيكون موضوع وجوب الإكرام في نحو: «أكرم العلماء» هو العالم غير الفاسق فقط، فكأنّه قيل من أول الأمر: «أكرم العلماء غير الفسّاق»، فالفاسق الواقعي قد خرج عن تحت العام يقينا، و المصداق المشتبه كزيد العالم و إن كان مصداقا للعام بما

ص: 303

و التحقيق: عدم جوازه؛ إذ غاية ما يمكن أن يقال في وجه جوازه: أن الخاص إنما يزاحم العام فيما كان فعلا حجة، و لا يكون حجة فيما اشتبه أنه من أفراده، فخطاب: لا تكرم فساق العلماء لا يكون دليلا على حرمة إكرام من شك في فسقه من العلماء، فلا يزاحم مثل: «أكرم العلماء» و لا يعارضه، فإنه يكون من قبيل مزاحمة الحجة بغير الحجة، و هو في غاية الفساد، فإنّ الخاص و إن لم يكن دليلا في الفرد المشتبه فعلا، إلى أنه يوجب اختصاص حجيّة العام في غير عنوانه من الأفراد، فيكون أكرم العلماء دليلا و حجة في العالم الغير الفاسق.

فالمصداق المشتبه و إن كان مصداقا للعام بلا كلام إلا إنه لم يعلم أنه من مصاديقه بما هو حجة، لاختصاص (1) حجيته بغير الفاسق.

و بالجملة: العام المخصّص بالمنفصل و إن كان ظهوره في العموم - كما إذا لم يكن هو عام إلا إنه لم يعلم كونه من مصاديق العام بما هو حجة؛ لاختصاص حجيته بغير الفاسق، فلا يكون العام حجة فيه لاحتمال كونه فاسقا حينئذ، كما يلتزم الخصم بعدم جواز التمسك بالعام المخصص بالمخصص المتصل في الأفراد المشتبهة التي لم يعلم انطباق الخاص عليها، فكذلك لا بد من أن يلتزم بعدم جوازه في المخصص المنفصل الموجب لتعنون العام به، فالعالم الذي يحتمل فسقه لا يندرج تحت العام و لا الخاص؛ للشك في موضوعيته لكل منهما، و مع الشك في الموضوع لا مجال للتمسك بالدليل، فلا يكون العام فيه حجة و لا الخاص، فالنتيجة هي: عدم الفرق في عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بين المخصص المتصل و المنفصل.

=============

(1) تعليل لعدم العلم بمصداقية الفرد المشتبه للعام بما هو حجة و حاصله: اختصاص حجية العام بغير الفاسق، ففي الفرد المردد بينه و بين العادل حيث إنه لم يحرز فرديته لغير الفاسق لا يشمله العام بما هو حجة؛ و إن شمله بذاته لكونه من العلماء.

و كيف كان؛ فإن العام المخصص بالمنفصل و إن كان ظاهرا في العموم كالعام الذي لم يخصص أصلا، بخلاف المخصص بالمتصل، حيث إنه كما مر لا ينعقد له ظهور في العموم، إلاّ إنه كالمتصل في الحكم، و هو عدم الحجية كالعام المخصص بالمتصل، فلا يكون حجة إلا في غير عنوان الخاص، كما أشار إليه بقوله: «إلاّ إنه في عدم الحجية إلا في غير عنوان الخاص مثله» أي: مثل العام المخصص بالمتصل.

فالعام المخصص بالمنفصل كالعام الذي لم يخصص أصلا من حيث انعقاد الظهور له في العموم؛ لكنه في عدم الحجية كالعام المخصص بالمتصل إلا في غير عنوان الخاص.

ص: 304

مخصصا - بخلاف المخصّص بالمتصل كما عرفت إلا أنه في عدم الحجيّة إلا في غير عنوان الخاص مثله، فحينئذ (1) يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجّتين، فلا بد من الرجوع إلى ما هو الأصل في البين.

هذا (2) إذا كان المخصص لفظيا.

و أما إذا كان لبيا (3)، فإن كان مما يصح أن يتكل عليه المتكلم - إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب - فهو كالمتصل، حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلا في

=============

(1) أي: حين كون المخصص بالمنفصل كالمخصص بالمتصل في عدم الحجية إلا في غير عنوان الخاص - كغير الفاسق في المثال السابق - يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجتين و هما العام و الخاص، فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي المنوط جريانه بفقدان الدليل الاجتهادي، كما في المقام.

هذا ملخص الكلام في المقام. و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار المطلوب في هذا الشرح.

(2) أي: ما ذكر من التفصيل بين أقسام الشبهات المفهومية و المصداقية؛ من جواز التمسك بالعام في بعض الأقسام، و عدم جواز التمسك به في بعضها الآخر حسب ما عرفت تفصيل ذلك إنما هو فيما إذا كان المخصص لفظيا.

الفرق بين المخصص اللفظي و اللبّي

(3) لمّا فرغ المصنف من بيان حكم المخصص اللفظي المجمل مفهوما أو مصداقا، شرع في بيان حكم المخصص إذا كان لبيّا كالإجماع و السيرة و غيرهما مما ليس بلفظ، بحيث لا يكون في الكلام إلا العام؛ لكن علم من الخارج أن المتكلم لا يريد بعض أفراد العام، فالمنسوب إلى جماعة - منهم الشيخ الأنصاري في التقريرات(1) - جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية؛ لكن المصنف فصل في ذلك، و اختار الجواز في صورة و عدمه في أخرى، و من هنا يظهر الفرق بين المخصص اللفظي في الشبهة المصداقية، و بين المخصص اللبّي فيها، و هو عدم جواز التمسك بالعام في الأول مطلقا، و جوازه في الثاني في الجملة.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الخاص اللّبي على قسمين:

القسم الأول: ما أشار إليه بقوله «فإن كان مما يصح أن يتكل عليه المتكلم».

ص: 305


1- مطارح الأنظار، ج 2، ص 136.

الخصوص، و إن لم يكن كذلك: فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيّته كظهوره فيه.

و حاصله: أن المخصص اللبّي إن كان واضحا بحيث يصح عرفا اعتماد المتكلم عليه إذا كان بصدد بيان غرضه في مقام التخاطب؛ بأن يكون حكما عقليا ضروريا، بحيث يعد عرفا من القرائن المتصلة المانعة عن انعقاد ظهور للعام في العموم فهو كالخاص المتصل اللفظي في عدم انعقاد ظهور للعام ابتداء إلا في الخاص.

=============

القسم الثاني: كما أشار إليه بقوله: «و إن لم يكن كذلك» أي: و إن لم يكن المخصص اللبّي كالقرينة المتصلة المانعة عن انعقاد ظهور للعام في العموم؛ بأن لم يكن حكما عقليا ضروريا؛ بل كان نظريا متوقفا على أمور يتوقف حصوله منها على نظر و تأمل.

و كيف كان؛ فالمخصص اللبّي إمّا ضروري أي: يحكم العقل بالتخصيص مستقلا، من دون توقف على مقدمات نظرية، و إما نظري يتوقف العلم بالخاص على مقدمات نظرية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: إنه لا يجوز التمسك بالعام في القسم الأول لإحراز حكم الفرد المشتبه، مثلا: إذا قال المولى لعبده: «اقتل كل من دخل داري» يحكم العقل حكما ضروريا بتخصيص أبناء المولى، فصار الكلام في قوة أن يقال: «اقتل كل من دخل داري إلا أبنائي»، فإذا اشتبه الفرد أنّه من أعدائه حتى يجب قتله أو أنّه من أبنائه كي يحرم قتله فلا يجوز التمسك بالعام فيه حتى يجري حكم العام عليه، فليس العام حجة فيه، فكذا ليس الخاص اللبي حجة فيه، للشك في انطباق الخاص عليه، فيرجع فيه إلى الأصل العملي على حسب ما يقتضيه المقام، فالكلام فيه هو كالكلام في المخصص المتصل اللفظي في عدم جواز التمسك بالعام لإثبات حكم الفرد المشكوك.

هذا بخلاف القسم الثاني من اللبي، حيث لم يكن المخصص اللبي فيه موجبا لصرف الكلام عن العموم إلى الخصوص؛ بل يكون الكلام قد انعقد له ظهور في العموم، فيجوز التمسك بالعام فيه، لأن ظاهر الكلام الصادر عن المتكلم في مقام البيان حجة ما لم يعلم بخلافه، فإذا قال المولى لعبده: «أكرم جيراني»، و علم من الخارج أنه لا يريد إكرام عدوّه منهم. و شك في عداوة واحد منهم بنحو الشبهة المصداقية جاز التمسك بالعام لإثبات وجوب إكرام هذا الفرد المشكوك في عداوته، و ذلك لما مر غير مرة من: أن العام ظاهر في كل فرد من أفراده، و هذا الظاهر حجة ما لم تقم قرينة على إرادة خلافه، فإذا علم بعداوة بعضهم كان ذلك العلم مانعا عن حجية العام فيه للقطع بعدم إرادته منه. و أما

ص: 306

و السّر في ذلك (1): أنّ الكلام الملقى من السيّد حجة ليس إلا ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم، فلا بد من اتّباعه ما لم يقطع بخلافه، مثلا:

إذا قال المولى: أكرم جيراني، و قطع بأنه لا يريد إكرام من كان عدوّا له منهم، كان أصالة العموم باقية على الحجيّة بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه (2) عن عموم الكلام: للعلم بعداوته؛ لعدم حجة أخرى بدون ذلك على خلافه.

بخلاف ما إذا كان المخصص لفظيا، فإن (3) قضية تقديمه عليه هو كون الملقى إليه احتمال العداوة فلا يمنع عن حجية العام. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح كلام المصنف في المخصص اللبي.

=============

(1) أي: الفرق المذكور بين المخصص اللبّي و اللفظي المنفصل في الشبهة المصداقية، بجواز التمسك بالعام في اللبّي دون اللفظي المنفصل، مع انعقاد ظهور العام في العموم في كلا الموردين أعني: السر و الوجه في هذا الفرق هو: أن الملقى من السيد إلى العبد في المخصص اللبّي ليس إلا كلاما واحدا و حجة كذلك نحو: «أكرم جيراني»، فيجب اتباع ظهوره إلى أن يعلم بخلافه فيصح التمسك به في غير معلوم الخروج؛ لأن ظهوره و حجيته باقيان على حالهما بالنسبة إلى غير معلوم الخروج عنه.

هذا بخلاف العام المخصص بالمخصص اللفظي المنفصل نحو: «أكرم جيراني»، و قال السيد في موضع آخر: «لا تكرم جاري العدو»؛ فإن الملقى من السيد إلى العبد كلامان و حجتان، فإذا قدّم الخاص على العام صار موضوع العام مقيدا بقيد وجودي - و هو الجوارية - و عدمي و هو عدم العداوة مثلا، فالفرد المشتبه لا يندرج تحت العام و لا الخاص، فلا يجوز التمسك لا بالعام و لا بالخاص، لأن جواز التمسك مشروط بإحراز موضوع الدليل، و المفروض: عدم إحراز اندراج الفرد المشتبه في العام و لا في الخاص.

(2) الضمير راجع إلى «من» الموصول. و معنى العبارة: أن العام حجة في جميع افراده إلا ما علم بخروجه عنه، فيكون جميع الجيران واجبي الإكرام إلا من علم بعداوته منهم، فالمانع عن حجية العام في مشكوك العداوة مفقود؛ إذ المانع عنها هو العلم بالعداوة، و ذلك مفقود في محتمل العداوة.

قوله: «لعدم حجة أخرى» متعلق بقوله: «باقية» و تعليل له يعني: أن أصالة العموم باقية على الحجية في الفرد المحتمل خروجه عن العام؛ لعدم حجة أخرى غير العلم بالخروج، فالعام حجة إلا مع العلم بخروج بعض الأفراد عنه، و من المعلوم: أن الفرد المشكوك غير معلوم الخروج عنه، فيرجع فيه إلى العام.

(3) تعليل لبيان الفرق بين المخصص اللّبي و اللفظي.

ص: 307

كأنّه (1) كان من رأس لا يعمّ الخاص؛ كما كان كذلك (2) حقيقة فيما كان الخاص و حاصل التعليل: أنه في المخصص اللفظي قد ألقى السيد إلى عبده حجتين، و هما العام و الخاص، و نسبة الفرد المشتبه إليهما متساوية، و لا مرجّح لاحتمال فرديته لأحدهما بالخصوص، فلا يصح التمسك بأحدهما لاندراجه تحته، و هذا بخلاف المخصص اللبي، فإن الحجة الملقاة من المولى واحدة و هي العام، و القطع بعدم إرادة بعض أفراده - و هو العدوّ - حجة عقلية أجنبية عن الحجة الملقاة من السيد، فالمخصص بحكم العقل هو العلم بالعداوة، فمشكوك العداوة لا يندرج في الخاص، بل هو داخل في العام و محكوم بحكمه.

=============

و كيف كان؛ فظهور العام في العموم، و كذا حجيته في المخصص اللبي لم ينثلما؛ بل هما باقيان على حالهما، بخلاف المخصص اللفظي، فإن الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت العام أو الخاص، و لذا لا يمكن إحرازه بشيء منهما.

(1) أي: كأن الملقى إلى العبد - و هو العام - لا يعم الخاص من رأس؛ لسقوط حجية ظهوره في أفراد الخاص و إن كان نفس الظهور باقيا.

(2) أي: لا يعم الخاص من رأس، و الضمير المستتر في «كان» راجع إلى العام، يعني:

لا يعم العام الخاص حقيقة لعدم انعقاد ظهور للعام في العموم في المخصص المتصل، فالعام من أوّل الأمر لا يشير إلى الخاص المتصل، و هذه التوضيحات مذكورة في «منتهى الدراية، ج 3، ص 527» مع تصرّف ما.

قوله: «و القطع بعدم إرادة العدوّ لا يوجب انقطاع حجيته» إشارة إلى توهم و دفعه، فأما التوهم - و هو عدم حجية العام في الفرد المشتبه بلا فرق بين كون العام المخصص بالمخصص اللبّي و اللفظي - فيقال في تقريبه: العام مخصص بالقطع، فيسقط عن الحجية في الفرد المشتبه، كسقوطه عنها فيه عند تخصيصه بالمخصص اللفظي، لأنّنا نعلم بعدم إرادة العدوّ في كلا الموردين، فلا يجوز العمل بالعام فيهما.

و حاصل الدفع: أن المخصص اللبي و هو القطع لا يمنع عن حجية ظهور العام إلا في الأفراد التي علم انطباق الخاص عليها، فهو في الأفراد المشتبه حجة بلا مانع، إذ الخاص هو العلم، و الشاهد على كون العام حجة في الفرد الذي يحتمل انطباق الخاص اللبّي عليه هو: صحة مؤاخذة المولى على مخالفة العبد له في عدم إكرام بعض جيرانه باحتمال كونه عدوا للمولى، و عدم صحة اعتذار العبد عن هذه المخالفة بمجرد احتمال العداوة، فصحة مؤاخذة المولى و عدم صحة اعتذار العبد يشهدان بحجية العام في الفرد المشتبه؛ إذ مخالفة غير الحجة لا توجب حسن المؤاخذة.

ص: 308

متصلا، و القطع بعدم إرادة العدوّ لا يوجب انقطاع حجيّته؛ إلا فيما قطع أنه عدوّه، لا فيما شكّ فيه، كما يظهر صدق هذا من صحة مؤاخذة المولى لو لم يكرم واحدا من جيرانه، لاحتمال عداوته له، و حسن عقوبته على مخالفته، و عدم صحة الاعتذار عنه بمجرّد احتمال العداوة، كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة، و السيرة المستمرة المألوفة بين العقلاء التي هي ملاك حجيّة أصالة الظهور.

و بالجملة: كان بناء العلماء على حجيّتها (1) بالنسبة إلى المشتبه هاهنا بخلاف هناك (2)، و لعلّه (3) لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما، بإلقاء حجّتين هناك، تكون قضيتهما (4) بعد تحكيم الخاص و تقديمه على العام، كأنّه لم يعمّه حكما من رأس، و كأنّه لم يكن بعام، بخلافه هاهنا فإن الحجة الملقاة ليست إلا واحدة، و القطع بعدم إرادة إكرام العدوّ في «أكرم جيراني» مثلا لا يوجب رفع اليد عن عمومه إلا فيما قطع بخروجه من تحته، فإنّه (5) على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه و مرامه، فلا بد من اتّباعه ما لم تقم حجة أقوى على خلافه (6).

و كيف كان؛ فإن السيرة المألوفة بين العقلاء قد استقرت على حجية أصالة الظهور، مع احتمال إرادة خلاف الظاهر، و عدم رفع اليد عنها بمجرد احتمال إرادة خلافه، و عليه: فتكون أصالة العموم في المقام في مشكوك العداوة في المثال هي المرجع.

=============

(1) أي: حجية أصالة الظهور بالنسبة إلى الفرد المشتبه كمحتمل العداوة.

(2) أي: بخلاف الخاص اللفظي الذي اشتبه مصداقه، و المراد بقوله: «هاهنا» المخصص اللبّي.

(3) أي: لعل بناء العقلاء على حجية أصالة الظهور بالنسبة إلى المشتبه هنا دون هناك، «لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما» أي: المخصص اللفظي و اللبي.

(4) أي: تكون قضية حجتين في المخصص اللفظي، بعد تحكيم الخاص و تقديمه على العام؛ كأن العام لم يعم الخاص الخارج حكما من رأس، و كأنّه لم يكن بعام، بخلاف العام في المخصص اللبّي، «فإن الحجة الملقاة ليست إلا واحدة».

(5) بيان لحجية العام في الفرد المشتبه في المخصص اللبّي بتقريب: أن غرض الحكيم إن كان حجية ظاهر كلامه إلا مع العلم بخلافه، فله إلقاء كلامه على وفق هذا الغرض، و حينئذ لا بد من اتباع ظاهره إلا إذا قامت حجة على خلافه، و من المعلوم: عدم قيام حجة على خلاف ظاهر العام في الفرد المشتبه، فلا بد من اتباع ظاهره في الفرد المشتبه.

(6) على خلاف كلام المتكلم الحكيم.

ص: 309

بل (1) يمكن أن يقال: إن قضية عمومه للمشكوك أنه ليس فردا لما علم بخروجه من حكمه بمفهومه، فيقال: في مثل «لعن اللّه بني أميّة قاطبة» أن فلانا و إن شكّ في إيمانه يجوز لعنه لمكان العموم (2)، و كلّ من جاز لعنه لا يكون مؤمنا، فينتج إنه ليس بمؤمن، فتأمل جيدا (3).

=============

(1) غرضه هو: الترقي من إخراج المشتبه عن حكم الخاص بسبب التمسك بالعام إلى إخراجه عن موضوعه و مصداقيته له بأن يقال: إن العام في مثل: «لعن الله بني أمية قاطبة» يدل على جواز لعن من شك في إيمانه منهم، و من المعلوم: عدم جواز لعن المؤمن، فلا بد أن يكون جائز اللعن غير مؤمن، فالعام كاشف عن عدم كون الفرد المشتبه من أفراد الخاص و هو المؤمن، فيصح تأليف قياس ينتج عدم كون المشتبه مصداقا للخاص، بأن يقال: إن فلانا جاز لعنه، و كل من جاز لعنه ليس بمؤمن، ففلان - مشكوك الإيمان - ليس بمؤمن، و يترتب عليه أحكام عدم فرديته للخاص.

و المتحصل: أنه قد استدل المصنف «قدس سره» على جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فيما إذا كان المخصص لبيّا بوجوه:

1 - صحة مؤاخذة المولى عبده إذا لم يكرم واحد من جيرانه، لاحتمال عداوته للمولى.

2 - حسن عقوبته على مخالفته.

3 - عدم صحة الاعتذار من العبد بمجرد احتمال العداوة.

(2) أي: «لعن الله بني أمية قاطبة» فيقال: إن فلانا - كعمر بن عبد العزيز - و إن شك في إيمانه يجوز لعنه لمكان عموم جملة «لعن الله بني أمية قاطبة» أي جميعا، و من جاز لعنه فليس بمؤمن، فينتج أن فلانا ليس بمؤمن و إلا لما جاز لعنه كما عرفت.

(3) لعله إشارة إلى أنه لو علمنا وجود المؤمن فيهم لما جاز لعنه قطعا، فلا يجوز التمسك بالعام في الفرد المشكوك إيمانه؛ إذ بعد العلم بوجود مؤمن فيهم تنحصر حجية العام بما سوى المؤمن منهم، فلا يستكشف حينئذ به أن الفرد المشكوك غير المؤمن حتى يجوز لعنه، فلا فرق حينئذ بين المخصص اللفظي و اللبّي في عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ إلاّ إن يقال: إن مجرد احتمال كون الفرد المشكوك من مصاديق الخاص غير كاف بعد جريان أصالة العموم ببناء العلماء في مشكوك الخروج.

ص: 310

إيقاظ

لا يخفى (1): أن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من

=============

ايقاظ استصحاب العدم الأزلي

(1) المقصود من هذا الكلام هو: إثبات حكم العام للفرد المشكوك بواسطة نفي عنوان الخاص عنه بالأصل إذا كان مسبوقا بالعدم، فالغرض هو: فتح باب لإجراء حكم العام في الفرد المشتبه في الخاص اللفظي المجمل مصداقا، الذي اختار المصنف فيه: عدم جواز التمسك بالعام لإحراز حكم المشتبه بالشبهة المصداقية، دون الخاص اللبي الذي اختار فيه جواز الرجوع إلى العام في الفرد المشتبه.

ص: 311

المتصل، لمّا كان غير معنون بعنوان خاص، بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد - إلاّ ما شذّ - ممكنا، المثال الثاني؛ لأن موضوع حكم العام في المثال الأول هو العالم الزاهد، و في المثال الثاني هو العالم اللامقبل على الدنيا. و حينئذ إذا شك في مورد في تحقيق عنوان العام؛ كالعلم، أو الزهد، أو عدم الإقبال على الدنيا؛ فإن أمكن إحراز المشكوك فيه بأصل موضوعي وجودي كاستصحاب زهد الفرد المشتبه في المثال الأول، و استصحاب عدم إقباله على الدنيا في المثال الثاني، فيحكم عليه بحكم العام أو استصحاب عدم زهد الفرد المشكوك، فينفي عنه حكم العام، و إن لم يمكن إحراز المشكوك فيه بأصل موضوعي - لعدم حالة سابقة له - فالمرجع فيه الأصول العملية من البراءة، و الاحتياط، و التخيير على حسب الموارد.

=============

و كيف كان؛ فهذا القسم من المخصص المتصل خارج عن محل الكلام؛ بل محل الكلام هو القسم الثاني؛ الذي أشار إليه بقوله: «كالاستثناء من المتصل»، مما يكون التخصيص فيه بلسان الإخراج عن العام كالغاية أو الشرط.

فالاستثناء مثل: «أكرم العلماء إلاّ إن يقبلوا على الدنيا»، و الغاية مثل: «أكرم العلماء إلى أن يقبلوا على الدنيا»، و الشرط مثل: «أكرم العلماء إن لم يقبلوا على الدنيا»، و تخصيص العام به كتخصيصه بالمنفصل لا يوجب تعنون العام بعنوان خاص، كما أشار إليه بقوله: «إن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل»، فالتخصيص لا يوجب تعنون العام بعنوان خاص، بل هو بعد التخصيص معنون بكل عنوان كان معنونا به قبل التخصيص كالهاشمية و العربية و العجمية و غيرها مما كان ثابتا للعام قبل التخصيص، من غير دخل لها في الموضوع و هو العالم، فلم يصر الباقي تحت العام معنونا بعنوان خاص.

الرابع: الفرق بين العدم المحمولي و العدم النعتي.

الفرق بينهما يمكن بأحد وجوه:

1 - الوجود و العدم إن لوحظت إضافتهما إلى الماهية بمعنى: أنها إما موجودة أو معدومة كان الوجود و العدم حينئذ محموليين، فيسمى الوجود و العدم بالمحموليين تارة، و بمفادي كان التامّة و ليس التامة أخرى.

و أمّا إذا كان لحاظ الوجود من قبيل لحاظ وجود العرض بالإضافة إلى وجود معروضه أو عدمه بالإضافة إليه كان الوجود و العدم حينئذ نعتيين، و يعبّر عنهما بالوجود و العدم

ص: 312

فبذلك يحكم عليه بحكم العام و إن لم يجز التمسك به بلا كلام، ضرورة: أنّه قلّما لا يوجد عنوان يجري فيه أصل ينقّح به أنه مما بقي تحته، مثلا: إذا شكّ أن امرأة النعتيين تارة، و بمفادي كان الناقصة و ليس الناقصة أخرى.

=============

2 - الوجود و العدم النعتيين يحتاجان في تحققهما إلى وجود موضوع محقق في الخارج، و يستحيل تحققهما بدونه؛ و ذلك لأن ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له.

هذا بخلاف الوجود و العدم المحموليين فإنهما لا يحتاجان إلى وجود موضوع محقق في الخارج قبل تحققهما، غاية الأمر: يحتاج الوجود المحمولي إلى وجود العلة و عدمه إلى عدمها.

3 - إنه يمكن ارتفاع الوجود و العدم النعتيين بارتفاع موضوعهما؛ من دون لزوم ارتفاع النقيضين المستحيل ذاتا، هذا بخلاف الوجود و العدم المحموليين حيث لا يمكن ارتفاعهما معا، فإنه من ارتفاع النقيضين. و الوجه في إمكان ارتفاع الوجود و العدم النعتيين بارتفاع موضوعهما: أن الشيء قبل وجوده لا يكون متصفا بوجود الصفة و لا بعدمها؛ لأن الاتصاف فرع وجود المتصف. هذا معنى ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما.

هذا بخلاف الوجود و العدم المحموليين حيث يكون ارتفاعهما مستلزما لارتفاع النقيضين المستحيل ذاتا.

إذا عرفت هذه الأمور: فاعلم: أن استصحاب العدم الأزلي إنما يتم بناء على أخذ عدم الخاص في موضوع الحكم بنحو العدم المحمولي الراجع إلى فرض موضوع الحكم مركبا من جزءين أحدهما عنوان العام و الآخر عدم عنوان الخاص؛ بأن يؤخذ عدم الخاص بما هو مفاد ليس التامة جزءا للموضوع فيقال: إن أحد الجزءين و هو الجزء الوجودي أعني: عنوان العام محرز بالوجدان، و الجزء الآخر و هو الجزء العدمي أعني: عدم الخاص محرز بالأصل، فيحرز بهذا الأصل دخول الفرد المشكوك في العام، و يحكم عليه بحكم العام.

و أما بناء على أخذ عدم الخاص في موضوع الحكم بنحو العدم النعتي الراجع إلى فرض الموضوع، و هو العام المتصف بعدم الخاص؛ بأن يكون عدم الخاص مأخوذا بما هو مفاد ليس الناقصة: فلا يتم إثبات العدم النعتي باستصحاب العدم الأزلي؛ و ذلك لعدم حالة سابقة له، و ذلك لعدم اتصاف الذات بعدم الخاص؛ لأنها حين توجد توجد إمّا متصفة به أو بعدمه. و لذا قال المصنف: «فلا أصل يحرز أنها قرشية»، يعني: لا يجري الأصل في العدم النعتي لعدم الحالة السابقة له. إذ لم يكن زمان وجدت فيه المرأة لا قرشية و لا غير قرشية حتى يستصحب.

ص: 313

تكون قرشية، فهي و إن كانت وجدت إمّا قرشية أو غيرها، فلا أصل يحرز أنها قرشية أو غيرها إلا أن أصالة عدم تحقق الانتساب بينها و بين قريش تجدي في تنقيح و لهذا نفى المصنف هذا الأصل و أبدله بأصالة عدم الانتساب الراجع إلى الأصل في العدم المحمولي؛ لدوران أمر الانتساب فيها حين وجودها بين الوجود و العدم، فعدم الانتساب عدم محمولي، و مفاد كان التامة لأجل لحاظه بالإضافة إلى الماهية أعني: ماهية الانتساب.

=============

ثم قد عرفت في المقدمة: أن ما أفاده من جريان الأصل في العدم المحمولي مبني على عدم تعنون العام بعنوان وجودي أو عدمي كالمثال المذكور، فإن المرأة التي ترى الدم إلى خمسين لم تقيد بقيد عدميّ و هو عدم قرشيتها، و الخاص إنما أخرج المرأة القرشية عن العام، فالباقي تحت العام بعد التخصيص المرأة المعلوم عدم قرشيتها، و التي لم يثبت انتسابها إلى قريش. فأصالة عدم الانتساب إليه تثبت فرديّة هذه المرأة للعام، فتصير محكوما بحكمه، فعلى هذا المبنى لا يقيد العام بقيد عدميّ إذا كان الخاص أمرا وجوديا كقوله: «كل امرأة ترى الحمرة إلى خمسين إلاّ إن تكون امرأة من قريش»، و كذا لا يقيّد بقيد وجودي إذا كان الخاص أمرا عدميا كقوله: «أكرم العلماء غير الفساق».

و كيف كان؛ فالتخصيص لا يوجب تعنون العام بعنوان خاص، فلو صح هذا المبنى لصح استصحاب العدم الأزلي لإحراز دخول الفرد المشكوك في العام، فيقال في مثال المتن: إن هذه المرأة لم يكن بينها و بين قريش انتساب، و بعد وجودها يشك في انتقاض عدم الانتساب، فيستصحب، و يكفي في إثبات حكم العام - أعني: تحيض المرأة إلى خمسين عاما - استصحاب عدم الانتساب بينها و بين قريش؛ إذ المفروض كما عرفت:

أن المرأة المحكومة بالتحيّض إلى خمسين لم تقيد بقيد، فالمرأة غير القرشية و المرأة التي لم يتحقق انتساب بينها و بين قريش مندرجتان تحت العام، و عدم الانتساب المزبور يكون بمفاد ليس التامة، و استصحابه كاف في إدراج المرأة المشكوكة القرشية فيمن تتحيّض إلى خمسين؛ لما عرفت غير مرّة: من عدم تعنون العام بعنوان خاص.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح استصحاب العدم الأزلي في المقام، و تركنا ما في المقام من تطويل الكلام رعاية للاختصار. فنكتفي بتوضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية:

قوله: «كان إحراز المشتبه» جواب لمّا في قوله: «لمّا كان غير معنون» المراد بالأصل الموضوعي هو الأصل المنقّح لموضوع العام لإجراء حكمه عليه، و بهذا الأصل يخرج المقام عن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأن هذا الأصل الموضوعي كالعلم بفردية شيء

ص: 314

إنّها ممّن لا تحيض إلا إلى خمسين، لأن المرأة التي لا يكون بينها و بين قريش انتساب أيضا (1) باقية تحت ما دلّ على أن المرأة إنّما ترى الحمرة إلى خمسين، و الخارج عن تحته هي القرشية، فتأمل تعرف (2).

للعام في لزوم ترتيب حكمه عليه.

=============

قوله: «إلا ما شذ» كموارد تعاقب الحالتين، كما إذا طرأ كل من الفسق و العدالة مثلا على شخص، و لم يعلم المتقدم منهما فإن الأصل لا يجري في شيء منهما، و لا يحكم فيه بحكم العام؛ لكن موارد تعاقب الحالتين في غاية الندرة، ففي غالب الموارد يمكن إحراز المصداق المشتبه بالأصل الموضوعي.

قوله: «فبذلك يحكم عليه بحكم العام» يعني: فبالأصل الموضوعي يحكم على الفرد المشتبه بحكم العام.

قوله: «و إن لم يجز التمسك به بلا كلام» يعني: و إن لم يجز التمسك بالعام بلا كلام، لكونه تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية، و قد عرفت: أنه مما لا يجوز؛ و إن جوّزه المصنف في خصوص ما إذا كان المخصص لبيّا.

و كيف كان؛ فالتمسك بالعام في الشبهة المصداقية مع الغض عن الأصل الموضوعي غير جائز، لكنه بعد إحراز فردية المشتبه للعام بالأصل الموضوعي لا مانع من التمسك بالعام؛ لخروجه حينئذ عن التمسك به في الشبهة المصداقية كما تقدم.

قوله: «فلا أصل يحرز أنها قرشية» يعني: الأصل الجاري في العدم النعتي، و وجه عدم جريان هذا الأصل واضح؛ لعدم الحالة السابقة له، و لذا نفي المصنف هذا الأصل و أبدله بأصالة عدم الانتساب الذي هو عدم محمولي.

(1) يعني: كالمرأة غير القرشية، فكل امرأة تحيض إلى خمسين، و الخارج هي المرأة القرشية.

(2) يعني: فتأمل تعرف، حتى لا تتوهم التعارض بين أصالة عدم الانتساب إلى قريش، و بين عدم الانتساب إلى غير قريش، و يسقط الأصل المزبور عن الاعتبار؛ و ذلك لأن التعارض فرع ترتب الأثر على كل من المتعارضين، و ليس المقام كذلك؛ إذ لا أثر لأصالة عدم الانتساب إلى غير قريش، بعد وضوح: كون موضوع الحكم بالتحيّض نفس المرأة؛ لا بقيد كونها من غير قريش حتى تصح دعوى جريان أصالة عدم الانتساب بينها و بين غير قريش.

فالمتحصل: أن موضوع الحكم بالتحيّض إلى خمسين سنة نفس المرأة، و المانع عن ذلك انتسابها إلى قريش، فإذا زال هذا المانع بالأصل حكم بتحيّضها إلى خمسين.

ص: 315

وهم (1) و إزاحة

ربما يظهر عن بعضهم: التمسك بالعمومات فيما إذا شك في فرد لا من جهة و كيف كان؛ فالأصل ينفي عنوان الخاص في الفرد المشتبه، و حينئذ فيشمله العام و يترتب عليه حكمه، و ليس المراد من نفي الأصل ترتيب آثار العام حتى يقال: إنه مثبت و المصنف لا يقول بحجيّة الأصل المثبت.

=============

وهم و إزاحة

(1) و قبل توضيح هذا الوهم لا بد من بيان مورد هذا الوهم فنقول: إن التمسك بالعام في المورد المشكوك على نحوين:

الأول: أن يكون الشك من جهة احتمال التخصيص؛ كأن يشك في شمول:

«و أوفوا بالنذور» مثلا للنذر، مع نهي الوالد، و من المعلوم: أن حال هذا القسم من الشك حال ما تقدم طابق النعل بالنعل.

الثاني: أن يكون الشك لا من جهة احتمال التخصيص، بل من جهة أخرى. هذا القسم الثاني هو مورد هذا الوهم.

و توضيح هذا الوهم يتوقف على مقدمة و هي: أن دليل الحكم تارة: يكون متعرّضا لحكم عنوان من العناوين الأوّلية، نظير الأمر بالوضوء مثلا، و أخرى: يكون متعرضا لحكم عنوان من العناوين الثانوية؛ كدليل النذر، أو وجوب إطاعة الوالدين أو السيد أو الزوج و غيرها من الموارد.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه إذا كان الوضوء موردا للنذر، و كان الأمر المتعلق به بعنوانه الأولي مجملا، فلا يعلم بأن الوضوء الواجب هل هو الوضوء بمطلق الماء و لو كان مضافا، أو بالماء المطلق فيشك في صحة الوضوء إذا كان بالماء المضاف، فيمكن رفع هذا الشك و الحكم بصحة الوضوء بعموم دليل مثبت لحكم لعنوان ثانوي، كدليل النذر، فيتمسك بعموم أدلة وجوب الوفاء بالنذر لصحة هذا الوضوء، و حكم ببراءة ذمة الناذر عن النذر، فإن مقتضى عموم أدلة وجوب الوفاء هو: وجوب هذا الوضوء وفاء بالنذر، فيجب إتيانه، و من المعلوم: أن كل ما يجب إتيانه فهو صحيح؛ للقطع بأن الباطل لا

ص: 316

احتمال التخصيص، بل من جهة أخرى، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف، فيستكشف صحته بعموم مثل: «أوفوا بالنذور» فيما إذا وقع متعلقا للنذر؛ بأن يقال (1): وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر للعموم، و كلّ ما يحبب الوفاء به لا محالة يكون صحيحا؛ للقطع (2) بأنه لو لا صحته لما وجب الوفاء به.

و ربّما يؤيد ذلك (3) بما ورد من صحة الإحرام و الصيام قبل الميقات، و في السفر إذا تعلق بهما النذر كذلك.

يجب إتيانه، و لهذا تمسك بعضهم بعموم أدلة وجوب الوفاء بالنذر لصحة الوضوء أو الغسل إذا تعلق به النذر، و قد عرفت وجه الصحة.

=============

(1) إشارة إلى ما ذكرناه من تقريب التمسك بعموم أدلة النذر على صحة الوضوء بالماء المضاف.

(2) تعليل لقوله: «و كل ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحا»، و هذا يكون أمرا واضحا و ضروريا، إذ لا معنى لوجوب الوفاء بالنسبة إلى العمل الفاسد الذي لا يتعلق به أمر حتى يجب امتثاله، و يمكن جعل الدليل بصورة القياس الاقتراني من الشكل الأول فيقال: الإتيان بهذا الوضوء واجب، و كلما كان الإتيان به واجبا كان صحيحا، فينتج الإتيان بهذا الوضوء كان صحيحا.

أما الصغرى: فلعموم وجوب الوفاء بالنذر، و أما الكبرى: فللتلازم بين وجوب الوفاء و الصحة.

(3) أي: التمسك بالعام في حكم الفرد المشكوك من غير ناحية الشك في التخصيص.

تقريب التأييد: أنه إذا صح الإحرام قبل الميقات، و الصوم في السفر بالنذر، مع القطع ببطلانهما بدون النذر، فصحة الوضوء بمائع مضاف بالنذر مع الشك في بطلانه بدون النذر تكون بطريق أولى.

و أما وجه تعبيره بالتأييد دون الدليل - أي: لم يقل: و ربما يدل على ذلك - لاحتمال أن تكون صحة الإحرام قبل الميقات، و صحة الصوم في السفر بالنذر من جهة الأدلة الخاصة كالروايات الواردة في باب نذر الإحرام قبل الميقات و نذر الصوم في السفر، و مع هذا الاحتمال لا يصح التعبير بالدليل؛ إذ ليس في الدليل احتمال آخر.

و من هنا ظهر الفرق بين الدليل و التأييد، و هو وجود احتمال الخلاف في التأييد دون الدليل.

و كيف كان؛ فينبغي لنا أن نتكلم في هذه المسألة في مقامين:

ص: 317

الأول: في صحة هذا النذر و فساده.

الثاني: في صحة الإحرام قبل الميقات، و الصوم في السفر بالنذر.

أما المقام الأول: فلا شبهة في أن صحة النذر مشروطة بكون متعلقه راجحا، فلا يصح فيما إذا تعلق بأمر مباح فضلا عن المرجوح؛ لأن ما كان لله تعالى لا بد من أن يكون راجحا حتى يصلح للتقرّب به إليه تعالى، فإن المباح لا يصلح أن يكون مقربا، فإذن: لا بد أن يكون متعلقه عملا صالحا لذلك.

و على ضوء ذلك: فإذا شك في رجحان عمله و عدمه لم يمكن التمسك بعموم «أوفوا بالنذور» لفرض: أن الشبهة هنا مصداقية، و قد عرفت فيما سبق: أنه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، بل هو من أظهر أفراد التمسك به فيها، و لعل من يقول به لم يقل بجوازه في المقام يعني: فيما إذا كان المأخوذ في موضوع حكم العام عنوانا وجوديا، كما هو المفروض هنا، فإن موضوع وجوب الوفاء بالنذر قد قيّد بعنوان وجوديّ و هو عنوان الراجح.

و عليه: فلا يمكن الحكم بصحة الوضوء بمائع مضاف من جهة التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر؛ لفرض: أن الشك في رجحان هذا الوضوء، و معه كيف يمكن التمسك به ؟ فالنتيجة: أنه لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بمائع مضاف من ناحية عموم وجوب الوفاء بالنذر.

و أما المقام الثاني: فلأن الالتزام بصحة الإحرام قبل الميقات، و صحة الصوم في السفر من جهة النذر ليس من ناحية التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر، بل هو من ناحية الروايات الخاصة الدالة على صحتها كذلك بالنذر، و على ذلك: فإما أن نجعل هذه الأدلة مخصصة لما دل على اشتراط صحة النذر برجحان متعلقه، و إما أن نقول بكفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر في صحته كما التزم بذلك السيد الطباطبائي «قدس سره» في العروة؛ كما في «محاضرات في أصول الفقه، ج 5، ص 234» مع تصرّف ما.

بقي الكلام في بيان الروايات فنقول: إن الروايات في الإحرام قبل الميقات و الصوم في السفر متعارضة؛ إذ هناك روايات تدل على صحة الإحرام قبل الميقات بالنذر، و روايات تدل على عدم جواز الإحرام قبل الميقات، و كذلك روايات الصوم في السفر.

و مما يدل على صحة الإحرام قبل الميقات بالنذر؛ ما رواه الشيخ في الاستبصار باسناده عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله «عليه السلام» عن رجل جعل لله عليه شكرا

ص: 318

و التحقيق (1) أن يقال: إنه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعموميات المتكفلة لأحكام أن يحرم من الكوفة. قال: «فليحرم من الكوفة و ليف لله بما قال»(1). و بهذا المضمون روايات أخرى تركناها رعاية للاختصار.

=============

و مما يدل على صحة الصوم في السفر بالنذر: رواية إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن الرضا «عليه السلام» قال: سألته عن الرجل يجعل لله عليه صوم يوم مسمى قال:

«يصوم أبدا في السفر و الحضر»(2).

و من الروايات الدالة على عدم جواز الإحرام قبل الميقات: ما رواه الصدوق بإسناده عن عبيد الله بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال «عليه السلام»: «الإحرام من مواقيت خمسة وقّتها رسول الله «صلى الله عليه و آله» لا ينبغي لحاجّ و لا معتمر أن يحرم قبلها و لا بعدها»(3).

و في معناه روايات أخرى. و مما يدل على حرمة الصوم في السفر: ما رواه محمد بن الحسن بإسناده عن عمار الساباطي قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يقول: لله عليّ أن أصوم شهرا أو أكثر من ذلك أو أقل، فعرض له أمر لا بد له من أن يسافر أ يصوم و هو مسافر، قال «عليه السلام»: «إذا سافر فليفطر لأنه لا يحل له الصوم في السفر فريضة كان أو غيرها و الصوم في السفر معصية».(4)

(1) هذا دفع الوهم المزبور و إزاحة له، توضيحه يتوقف على مقدمة و هي: أن الحكم الشرعي الثابت لموضوعه لا يخلو عن قسمين ينقسم الثاني إلى قسمين:

الأول: أن يكون ثابتا للشيء بعنوانه الأولي يعني: بالنظر إلى ذاته كالإباحة الثابتة لعنوان الماء و التمر و الحنطة، و نحوها من العناوين الأولية الذاتية.

الثاني: أن يكون ثابتا للشيء بعنوانه الثانوي يعني: بالنظر إلى ما هو خارج عن ذاته، كعنوان العسر و الحرج، و النذر، و الشرط، و الضرر، و إطاعة الوالدين و غيرها.

مثلا: إذا كان الوضوء ضرريا: فالحرمة العارضة عليه إنما هو بالنظر إلى عنوانه الثانوي و هو كونه ضرريا، و إلا فهو في ذاته مستحب، و كذا عدم الوجوب عارض على الصوم إذا صار حرجيّا و إلا فهو في ذاته واجب في شهر رمضان.

ص: 319


1- التهذيب، ج 5، ص 53، ح 8، الاستبصار، ج 2، ص 163، ح 8.
2- الاستبصار، ج 2، ص 101، ح 6.
3- الكافي، ج 4، ص 319، ح 2 /التهذيب، ج 5، ص 55، ح 13 /الفقيه، ج 2، ص 302، ح 22.
4- التهذيب، ح 4، ص 328، ح 90.

العناوين الثانوية - فيما شك من غير جهة تخصيصها - إذا أخذ في موضوعاتها أحد و كيف كان؛ فالحكم الثابت للشيء بعنوانه الثانوي على قسمين:

=============

أحدهما: أن يكون ثابتا له مطلقا أي: بدون أن يكون ثبوت الحكم الشرعي بالعنوان الثانوي، مشروطا بثبوت حكم خاص لذلك الشيء نظرا إلى ذاته و بعنوانه الأوّلي.

و ثانيهما: بأن يكون ثبوت الحكم بالعنوان الثانوي للشيء مشروطا بأن يكون ذلك الشيء نظرا إلى ذاته و بعنوانه الأولي محكوما بحكم خاص.

و الأول: كالحرمة الثابتة للغنم بعنوان ثانوي و هو عنوان كونها موطوءة، فإن ثبوتها لها بهذا العنوان غير مشروط بثبوت الإباحة مثلا لها بعنوانها الذاتي الأولي، يعني: لم تؤخذ الإباحة للغنم بعنوانها الأولي شرطا في ترتب الحرمة عليها بعنوانها الثانوي - و هو كونها موطوءة - بل الحرمة تترتب عليها إذا صارت موطوءة، و إن فرض عدم ثبوت أي حكم شرعي لها بعنوانها الأولي أي: قبل صيرورتها موطوءة.

و الثاني: كصحة الصوم، و وجوب صلاة الليل، و التصدق على الفقراء بالنذر، و كذا وجوب إطاعة الوالد فإن الحكم الشرعي الثابت للشيء بعنوانه الثانوي في هذه الموارد مشروط بأن يكون ذلك الشيء محكوما بحكم خاص نظرا إلى ذاته، و بعنوانه الأولي كالرجحان و الاستحباب في مثال صحة الصوم، و وجوب صلاة الليل و التصدق على الفقراء، و الإباحة في وجوب إطاعة الوالدين.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا مجال للتمسك بالعمومات المتكفلة لأحكام العناوين الثانوية إذا كانت الأحكام الثابتة بها للأشياء من القسم الثاني، و هو أن يكون الحكم الثابت للشيء بعنوانه الثانوي مشروطا؛ بأن يكون ذلك الشيء محكوما بحكم خاص نظر إلى ذاته و بعنوانه الأولي كمثال صحة الصوم بالنذور، و وجوب صلاة الليل، و التصدق على الفقراء به، و كذا وجوب إطاعة الوالد، و حينئذ فإذا تعلق النذر بفعل مشكوك الرجحان كالوضوء بالمائع المضاف كان أصل انعقاد النذر مشكوكا، و معه لا مجال للتمسك بعموم الوفاء بالنذر لإثبات صحة الوضوء، و كذا إذا أمر الوالد بفعل محتمل الحرمة كشرب التتن كان تحقق موضوع وجوب الإطاعة - و هو كون الفعل مباحا - مشكوكا، و معه لا معنى للتمسك بعموم الطاعة؛ لأن التمسك بعموم الوفاء بالنذر في المثال الأول موقوف على إحراز الرجحان. و بعموم الطاعة في المثال الثاني موقوف على إحراز الجواز قبل العموم؛ إذ لا يمكن إثبات الرجحان و الجواز بنفس العموم؛ لكونه مستلزما للدور الباطل.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما أفاده المصنف في إزاحة الوهم تحت عنوان

ص: 320

الأحكام المتعلقة بالأفعال بعناوينها الأولية كما هو الحال (1) في وجوب إطاعة الوالد، و الوفاء بالنذر و شبهه في الأمور المباحة أو الراجحة (2) ضرورة (3): إنه معه لا يكاد يتوهم (4) عاقل أنّه إذا شكّ في رجحان شيء أو حلّيته جواز التمسّك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حلّيته.

نعم (5)؛ لا بأس بالتمسك به في جوازه، بعد إحراز التمكّن منه و القدرة عليه فيما «و التحقيق»، و الضمير في قوله: «تخصيصها» يرجع إلى العمومات المتكلفة لأحكام العناوين الثانوية.

=============

فالمتحصل: أنه لا مجال للتمسك بعموم الوفاء بالنذر لإثبات صحة الوضوء بالمائع المضاف؛ لأن الشك في صحته بالمضاف يوجب الشك في انعقاد النذر، فيكون الشك في انطباق العنوان العام عليه لا في حكمه بعد إحراز عنوانه، فيمتنع التمسك به؛ لأن العمومات من قبيل الكبريات الشرعية فيتوقف استنتاج الحكم الشرعي منها على إحراز الصغرى، و مع الشك في الصغرى لا ينفع العلم بالكبرى في حصول العلم بالنتيجة.

(1) هذا إشارة إلى أمثلة لحكم العنوان الثانوي المشروط بثبوت حكم خاص للعنوان الأوّلي.

(2) أي الأمور المباحة. إشارة إلى شرط وجوب إطاعة الوالد، و الراجحة إشارة إلى شرط وجوب الوفاء بالنذر، و شبهه فإنه قد ثبت في محله: أن موضوع وجوب إطاعة الوالد هو المباح أو غير الحرام، و موضوع وجوب الوفاء بالنذر هو الأمر الراجح في نفسه.

(3) تعليل لقوله: «لا مجال لتوهم الاستدلال» ضرورة: أنه معه أي: مع أخذ أحد أحكام العناوين الأولية في موضوعات أحكام العناوين الثانوية، و قد عرفت توضيح ذلك، و الضمير في «رجحانه» و «حليته» يرجع إلى الشيء.

(4) وجه عدم التوهم ما مر سابقا من: أن إثبات رجحان المنذور بدليل وجوب الوفاء بالنذر، و كذا إثبات حلية ما أمر به الوالد بدليل وجوب إطاعته تشبّث بالدليل المتكفل للكبرى لإحراز الصغرى، نظير إحراز عالمية من شك في علمه بدليل وجوب إكرام العلماء، و هو باطل قطعا.

(5) استدراك على ما أفاده في التحقيق من عدم المجال لتوهّم الاستدلال بالعمومات «فيما إذا كان الشك من غير جهة تخصيصها» - أي: تخصيص العمومات المتكفلة لأحكام العناوين الثانوية.

و حاصل الاستدراك: أنه لا مانع من التمسك بعموم الدليل في إثبات جواز الشيء

ص: 321

لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلا، فإذا شك في جوازه صح التمسك بعموم دليلها (1) في الحكم بجوازها (2)، و إذا كانت (3) محكومة بعناوينها الأولية بغير بعد إحراز القدرة عليه في القسم الأوّل من قسمي ثبوت الحكم للشيء بعنوانه الثانوي و هو: ثبوت الحكم له بعنوانه الثانوي مطلقا أي: من دون اشتراطه بثبوت حكم خاص له بعنوانه الأولي كحرمة الفعل الضرري، حيث إنها ثابتة للضرر الذي هو عنوان ثانوي من دون اعتبار حكم خاص للفعل بعنوانه الأولي، فإذا فرضنا عدم دليل على دخل الرجحان في المنذور في انعقاد النذر، أو الإباحة في موضوع وجوب إطاعة الوالد، و شككنا في اعتبارهما فيهما، فلا مانع من التمسك بعموم دليلي وجوب الوفاء بالنذر، و إطاعة الوالد لوجوبهما؛ لكون الشك حينئذ شكا في التخصيص، فلا مانع من التمسك بعمومهما لنفي اعتبار الرجحان و الإباحة في موضوعيّ النذر و الإطاعة.

=============

و الضمائر في «جوازه» و «منه» و «عليه» راجعة إلى شيء، و في «به» راجع إلى عموم.

قوله: «لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلا» يعني: فيما لم يؤخذ في موضوعات الأحكام بعناوينها الثانوية حكم من الأحكام الخمسة أصلا. هذا إشارة إلى ثبوت الحكم للشيء بعنوانه الثانوي مطلقا، بلا اشتراط كونه محكوما بحكم خاص بعنوانه الأوّلي، بل الحكم الثانوي كان واردا على جميع الأحكام الأولية.

(1) يعني: بعموم دليل أحكام الموضوعات بعناوينها الثانوية «في الحكم بجوازها».

(2) أي بجواز الشيء - و كان الأولى تذكير الضمير - فلو فرض أنه شك في جواز الوضوء بمائع مضاف، و تعلق به النذر، و لم يثبت جوازه بالعنوان الأوّلي، فلا بأس حينئذ بالتمسك بعموم دليل وجوب الوفاء بالنذر، و إثبات جوازه به.

(3) يعني: و إذا كانت موضوعات الأحكام محكومة بعناوينها الأولية بغير الأحكام الثابتة لها بالعناوين الثانوية، و المقصود هو: بيان مطلب جديد غير ما تقدم و مضى.

و توضيح ذلك: أن الحكم بعنوانه الأولي قد يكون لا اقتضائيا فلا يعارض الحكم بعنوانه الثانوي الاقتضائي، مثلا: حلية الماء لا اقتضائي، و لهذا لا تعارض حرمته الطارئة لنهي الوالد عن شربه، أو وجوبه الطارئ لتوقف الحياة عليه، و هذا مما لا إشكال فيه إذ لا تعارض في البين.

و قد يكون الشيء بالعنوان الأوّلي مشكوك الحكم، فحينئذ يجوز ارتكابه بلحاظ الحكم الثابت له بالعنوان الثانوي بلا مزاحمة أصلا.

و قد يكون العنوان الأوّلي معلوم الحكم - كوجوب الوضوء - فإنه إذ طرأ عليه عنوان الضرر، و صار الوضوء ضرريا، فلا محالة يقع التزاحم بين مقتضي الوجوب و مقتضي

ص: 322

حكمها بعناوينها الثانوية وقع المزاحمة بين المقتضيين، و يؤثر الأقوى منهما لو كان في البين؛ و إلا (1) لم يؤثّر أحدهما، و إلاّ (2) لزم الترجيح بلا مرجح، فليحكم عليه حينئذ (3) بحكم آخر؛ كالإباحة إذا كان أحدهما مقتضيا للوجوب، و الآخر للحرمة مثلا.

و أما (4) صحة الصوم في السفر بنذره فيه - بناء على عدم صحته فيه بدونه - و كذا الحرمة يكون الحكم الفعلي تابعا لأقوى المقتضيين لو كان أحدهما أقوى من الآخر، و لو كانا متساويين: تساقطا لقبح الترجيح بلا مرجح عقلا، فيحكم عليه بحكم آخر غير ما يقتضيه الدليلان - كالإباحة - يعني: بها العقلية - و هي التخيير - فيما إذا كان أحدهما مقتضيا للوجوب، و الآخر مقتضيا للحرمة.

=============

(1) يعني: و إن لم يكن أحدهما أقوى، بل كانا متساويين «لم يؤثر أحدهما».

(2) يعني: لو أثّر أحدهما مع عدم كونه أقوى «لزم الترجيح بلا مرجح»، و هو باطل عقلا.

(3) يعني: فليحكم على الشيء حين تساوي المقتضيين بحكم آخر كالإباحة فيما إذا كان أحد المقتضيين مقتضيا للوجوب، و الآخر للحرمة.

(4) يعني: و أما الجواب عن التأييد الذي ذكره المستدل من «صحة الصوم في السفر..» إلخ، قوله: «و أما صحة الصوم في السفر..» إلخ. شروع في بيان الجواب عن التأييد الذي ذكره المستدل بالعمومات لإحراز حكم الفرد المشتبه من غير جهة التخصيص.

و قد أجاب المصنف عن هذا التأييد بوجوه:

الوجه الأول: ما أشار إليه بقوله: «فإنما هو لدليل خاص كاشف عن رجحانهما»، و حاصل هذا الوجه: يرجع إلى إثبات الرجحان في الصوم في السفر، و الإحرام قبل الميقات، و الكاشف عن هذا الرجحان هو: النص الخاص الدال على صحة الصوم في السفر، و الإحرام قبل الميقات بسبب النذر، بحيث لو لا هذا النص لكان كلاهما باطلا؛ لما دلّ من النص و الإجماع على بطلانهما.

و المتحصل: أن دليل صحة النذر فيهما يكشف عن رجحانهما؛ لا أنّ عموم دليل وجوب الوفاء بالنذر يدل على صحة النذر فيهما حتى يقال بصحة التمسك بالعام، و إن لم يكن الشك من جهة التخصيص.

الوجه الثاني من وجوه الجواب: هو ما أشار إليه بقوله: «و إما لصيرورتهما راجحين بتعلق النذر بهما»، و حاصله: صيرورة الصوم في السفر و الإحرام قبل الميقات راجحين حين تعلق النذر بهما؛ لانطباق عنوان راجح عليهما ملازم للنذر، أو مقارن له؛ إذ لو

ص: 323

الإحرام قبل الميقات، فإنّما هو لدليل خاص، كاشف عن رجحانهما ذاتا في السفر و قبل الميقات، و إنما (1) لم يؤمر بهما استحبابا أو وجوبا لمانع يرتفع مع النذر، و إما كان النذر علة لذلك العنوان لزم تأخر الرجحان عن النذر، و كونه ناشئا منه و هو ينافي ما دلّ على اعتبار الرجحان في متعلق النذر، فالجمع بينه و بين ما دل على صحة النذر في هذين الموردين يقتضي أن يكون الرجحان في المتعلق قبل النذر، أو في رتبته، فليسا خارجين عن عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر.

=============

الوجه الثالث من وجوه الجواب: ما أشار إليه بقوله: «هذا لو لم نقل بتخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر بهذا الدليل» يعني: ما دل على صحة نذر الصوم و الإحرام في السفر و قبل الميقات؛ لأنه أخص من عموم دليل اعتبار الرجحان في المنذور قبل تعلق النذر به، و مقتضى التخصيص به هو: الاكتفاء بالرجحان الطارئ عليهما من قبل النذر.

و حاصل هذا الوجه الثالث: هو الالتزام بتخصيص أدلة اعتبار الرجحان في متعلق النذر؛ بما دل على صحة الصوم في السفر، و الإحرام قبل الميقات بالنذر فيقال: إنه يعتبر في متعلق النذر الرجحان إلا في هذين الموردين؛ فيجمع بين عموم ما دل على اعتبار الرجحان في المنذور، و بين ما دل على صحة النذر في المثالين بعدم اعتبار الرجحان فيهما قبل النذر، و كفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر، فلو كان المنذور مرجوحا في نفسه لم ينعقد النذر و إن صار بسبب النذر راجحا إلا في هذين الموردين. فإنه ينعقد النذر فيهما على أن يؤتى بهما على وجه العبادة و التقرّب بهما منه تعالى.

و المصنف فصّل بين هذا الوجه الثالث، و بين الوجهين المتقدمين بالإشكال على الوجه الثاني، و كان الأفضل بل اللازم تعرضه لهذا الوجه الثالث بعد الوجهين بلا فصل، إلاّ إن يقال: إن الإشكال لا يختص بالوجه الثالث، بل يرد على الوجه الثاني أيضا، فلذا أخره عنه. توضيح العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) إشارة إلى توهم و هو: أن الرجحان الذاتي إن كان ملزما اقتضى تشريع الوجوب، و إن لم يكن ملزما اقتضى تشريع الندب، مع إنه ليس كذلك ضرورة:

حرمتهما لو لا النذر، و عدم تشريع الوجوب إلا بعد النذر، و هذا كاشف عن عدم الرجحان الذاتي لهما قبله أصلا.

و حاصل الدفع: «إنما لم يؤمر بهما استحبابا، أو وجوبا لمانع يرتفع مع النذر» أي:

يرتفع مقارنا لوجود النذر لا متأخرا عنه؛ بأن يكون معلولا له، و إلا يلزم حينئذ تعلق النذر بالمرجوح، فيرجع الإشكال.

ص: 324

لصيرورتهما (1) راجحين بتعلق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك (2)، كما ربما يدل عليه ما في الخبر، من كون الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت.

لا يقال (3): لا يجدي صيرورتهما راجحين بذلك في عباديتهما، ضرورة: كون و كيف كان؛ فخلاصة الكلام في دفع التوهم المزبور هو: أن مجرد وجود المقتضي - على فرض وجوده - لا يكفي في تشريع الحكم؛ بل لا بد من عدم المانع أيضا، فاقتران رجحان الصوم ذاتا في السفر، و كذا الإحرام قبل الميقات بوجود المانع يمنع عن تشريع الاستحباب قبل النذر بهما، فبالنذر يرتفع المانع و يؤثر المقتضي في التشريع بلا مانع بعد ارتفاع هذا المانع مقارنا لوجود النذر؛ لئلا يلزم تعلق النذر بالمرجوح، مع إنه لا بد من تعلقه بالراجح، و لذا قال المصنف: - على ما في أكثر النسخ - «مع النذر»، و لم يقل «بالنذر».

=============

(1) أي: صيرورة الصوم في السفر و الإحرام قبل الميقات راجحين قبل تعلق النذر بهما، و قد تقدم توضيح هذا الوجه الثاني من وجوه الجواب عن التأييد المذكور، فلا حاجة إلى التكرار.

(2) أي: راجحين، كما يدل على هذا الوجه الثاني: «ما في الخبر من كون الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت» في عدم الرجحان، فكما لا رجحان في الصلاة قبل الوقت، فكذلك في الإحرام قبل الميقات، فهذا الخبر يدل على عدم الرجحان في الإحرام قبل الميقات؛ بل الرجحان يحدث للمتعلق حين تعلق النذر بهما، و إنما عبّر المصنف بقوله: «كما ربما يدل» دون «كما يدل»؛ لأجل احتمال وجود الرجحان في ذات الصلاة قبل الوقت، غاية الأمر: أن هناك مانعا عن الجعل يرتفع ذلك المانع بدخول الوقت، فيرجع إلى الوجه الأول و هو ما ذكره بقوله: «فإنما هو لدليل خاص».

و من هنا يظهر الفرق بين الوجهين، و حاصله: أن الرجحان على الوجه الأول: يكون باقتضاء الإحرام قبل الميقات، و الصوم في السفر، و عدم الجعل فعلا على طبق الرجحان الذاتي إنما يكون لمانع يرتفع بالنذر. و على الوجه الثاني: لا يكون الرجحان في ذاتهما أصلا؛ بل يحدث الرجحان بطروّ عنوان راجح ملازم لوجود النذر المتعلق بهما، فيفترق الوجهان في كون الرجحان في ذاتيهما على الأول، و في الخارج عن ذاتيهما على الثاني، كما أنهما يشتركان في تلازم الرجحان الفعلي مع النذر.

(3) هذا إشكال على الوجه الثاني الذي تعرّض له بقوله: «و إما لصيرورتهما راجحين».

و حاصل الإشكال: أن الرجحان الناشئ من قبل النذر لا يجدي في عبادية الصوم و الإحرام اللذين هما من العبادات قطعا؛ إذ الأمر بالوفاء بالنذر توصلي لا تعبدي، فلا يندفع إشكال عبادية الصوم في السفر، و الإحرام قبل الميقات بهذا الوجه الثاني، لأن

ص: 325

وجوب الوفاء توصليا لا يعتبر في سقوطه إلا الإتيان بالمنذور بأيّ داع كان.

فإنه يقال (1): عباديتهما إنما تكون لأجل كشف (2) دليل صحّتهما عن عروض عنوان راجح عليهما، ملازم لتعلق النذر بهما.

هذا (3) لو لم نقل بتخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر بهذا الدليل (4)، و إلا (5) أمكن أن يقال: بكفاية الرجحان الطارئ عليهما من قبل النذر في عباديتهما، بعد تعلّق النذر بإتيانهما عباديا، و متقرّبا بهما منه تعالى، فإنه (6) و إن لم الرجحان الآتي من قبل النذر غير كاف في العبادية؛ إذ لا شبهة في لزوم الإتيان بهذا الصوم و الإحرام بعد النذر بقصد القربة.

=============

و من المعلوم: أن قصد القربة يلازم العبادة، و لا عبادية لهما؛ إذ قبل تعلق النذر لم يكونا عبادة، و بعد تعلق النذر لم يدل دليل على وجوب قصد القربة؛ لأن الدليل منحصر في «أوفوا بالنذور»، و هو لا يدل على لزوم قصد القربة، «ضرورة: كون وجوب الوفاء توصليا لا يعتبر في سقوطه الإتيان بالمنذور» فقط «بأيّ داع كان». هذا بخلاف ما لو ثبت رجحانهما قبل تعلق النذر كما هو مقتضى الوجه الأول.

قوله: «ضرورة» تعليل لقوله: «لا يجدي» يعني: أن وجوب الوفاء الناشئ عن الرجحان الآتي من قبل النذر توصلي، فلا يجدي في عبادية الصوم و الإحرام المنذورين إذ لا منشأ لها كما عرفت.

(1) هذا دفع للإشكال عن الوجه الثاني، و حاصل الدفع: أن العبادية لم تنشأ من الرجحان الآتي من قبل النذر، بل نشأت من انطباق عنوان راجح على الصوم و الإحرام ملازم لتعلق النذر، بحيث لا يتحقق ذلك العنوان إلا حين النذر، فعباديتهما ناشئة عن ذلك العنوان، لا عن النذر حتى يرد عليه بعدم كفاية الرجحان الناشئ عن النذر.

(2) هذا الكشف إنما يكون بدلالة الاقتضاء.

(3) إشارة إلى الوجه الثالث من الوجوه التي أجاب بها المصنف عن التأييد المزبور، و قد تقدم توضيح هذا الوجه فلا حاجة إلى التكرار رعاية للاختصار.

(4) أي: الدليل الدال على صحة الصوم في السفر و الإحرام قبل الميقات بالنذر.

(5) يعني: و لو قلنا بتخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر، قبل تعلق النذر به بالدليل الدّال على صحة نذرهما و الاكتفاء برجحانهما الناشئ من قبل النذر.

(6) أي: الناذر و هذا إشارة إلى إشكال بتقريب: أن القدرة على إيجاد المنذور شرط في صحة النذر قطعا و هذا الوجه الثالث - و هو الاكتفاء بالرجحان الناشئ من قبل النذر في صحة النذر - يستلزم عدم القدرة على المنذور، و ذلك لأنه قبل النذر لا رجحان و لا

ص: 326

يتمكّن من إتيانهما كذلك (1) قبله إلا أنه (2) يتمكن منه بعده، و لا يعتبر في صحة النذر إلا التمكن من الوفاء و لو بسببه، فتأمّل جيّدا.

بقي شيء (3) و هو: أنه هل يجوز التمسك بأصالة عدم التخصيص في إحراز عدم عبادية للصوم و الإحرام، فلا يتمكن من الإتيان بهما على وجه العبادة، فلا يتعلق به، لأنه غير مقدور و عدم تعلقه به يكشف عن كفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر في صحته.

=============

(1) أي: على وجه العبادة.

(2) إشارة إلى دفع الاشكال المزبور.

و حاصل الدفع: أن الإتيان بهما كذلك قبل النذر و إن كان غير مقدور، و لكن المعتبر في النذر عقلا هو: القدرة على المنذور حين العمل في ظرف الوفاء بالنذر؛ لا حين عقد النذر أو قبله، و من المعلوم: أنه حين العمل بالنذر يتمكن الناذر من الإتيان بهما متقربا إلى الله تعالى؛ و ذلك لوجوبهما بسبب النذر، فعدم القدرة حين النذر أو قبله لم يقدح في تعلق النذر بهما لكفاية القدرة الحاصلة لهما بعد تعلق النذر بهما، الموجبة لرجحانهما، و عباديتهما بعده، فيصح الإتيان بهما على وجه العبادة.

و قد أشار إليه بقوله: «و لو بسببه» أي: بسبب النذر؛ إذ المعتبر من الرجحان المقرّب ما يكون حاصلا في ظرف الفعل، إذ به يكون المنذور مقدورا في ظرف الوفاء بالنذر، و هذا المقدار من القدرة كاف في صحة النذر.

ثم الفرق بين الوجوه الثلاثة ظاهر؛ إذ الأول: ناظر إلى وجود الملاك قبل النذر، و الثاني: إلى وجوده حين النذر لا بسببه؛ بل بانطباق عنوان راجح على المنذور ملازم لتعلق النذر لكشف دليل صحة النذر عن ذلك العنوان، و هذان الوجهان مبنيان على الالتزام برجحان المنذور من غير ناحية النذر. و الثالث: ناظر إلى عدم اعتبار رجحان المنذور بتخصيص عموم ما دل على اعتبار الرجحان قبل النذر، و الاكتفاء برجحانه و بعده و لو بسببه.

قوله: «فتأمل جيدا» تدقيقي بقرينة «جيدا»، أو إشارة إلى: أن اعتبار القدرة على المنذور حين العمل مستلزم للدور؛ لأن النذر يتوقف على القدرة بإتيان المنذور حين العمل، و القدرة حين العمل تتوقف على النذر على حسب الفرض، فيلزم الدور الباطل.

في دوران الأمر بين التخصيص و التخصّص

(3) توضيح ذلك: أنه إذا قال المولى: «أكرم العلماء»، ثم علمنا من خطاب آخر أو

ص: 327

كون ما شك في أنه من مصاديق العام، مع العلم بعدم كونه محكوما بحكمه مصداقا (1) له، مثل: ما إذا علم أنّ زيدا يحرم إكرامه، و شكّ في أنه عالم، فيحكم عليه بأصالة عدم تخصيص أكرم العلماء إنه ليس بعالم، بحيث يحكم عليه بسائر ما لغير العالم من الأحكام (2)؟ فيه إشكال؛ لاحتمال (3) اختصاص حجيتها بما إذا شكّ إجماع و نحوه: حرمة إكرام زيد؛ و لكن نشك في أن زيدا من العلماء، و حرمة إكرامه تخصيص بالنسبة إلى العام أم ليس من العلماء فلا تخصيص، فالشك في التخصيص بعد العلم بمراد المولى، و الكلام حينئذ في أن أصالة عدم التخصيص هل تجري في المقام أم لا؟ و فائدته أنها لو جرت كشفت عن عدم علم زيد، فيجري على زيد أحكام الجهال، بخلاف ما لم تجري أصالة عدم التخصيص، فإن زيدا حينئذ محكوم بعدم الإكرام فقط، فلا يجري عليه حكم العلماء و لا حكم الجهال.

=============

و بعبارة أخرى: إذا دار الأمر بين التخصيص و التخصص و هو فيما علم بعدم كون زيد محكوما بحكم العام، لكن شك في أن عدم كونه محكوما بحكم العام هل هو لعدم كونه فردا للعام فهو خارج عن العام موضوعا هذا معنى التخصص. أو أنه فرد له لكنه غير محكوم بحكمه فهو خارج عنه حكما فقط. و هذا معنى التخصيص.

فيقع الكلام في أنه هل يجوز التمسك بالعام و إجراء أصالة عدم التخصيص ليثبت إن المشكوك ليس من أفراد العام أم لا يجوز؟ و هذا خلاف التمسك بالعام في سائر الموارد؛ لأن ذلك إنما هو لإحراز الحكم مع العلم بمصداقية الفرد المشكوك للعام، و هنا يكون الأمر بالعكس تماما.

و كيف كان؛ ففي إجراء أصالة عدم التخصيص في العام لإحراز عدم فردية المشتبه له إشكال، أشار إليه بقوله: «فيه إشكال».

(1) خبر «كون» في قوله: «عدم كون ما شك»، و ضمير «كونه» راجع إلى «ما» الموصول، و ضمير «بحكمه و له» راجعان إلى العام.

(2) كما إذا فرض أن للجاهل أحكاما، فإذا جرت أصالة عدم التخصيص في المثال ثبت أن زيدا جاهل، فتجري عليه أحكام الجاهل.

(3) إشارة إلى منشأ الإشكال بتقريب: أن أصالة عدم التخصيص - و إن كانت من الأصول العقلائية و مثبتاتها حجة - لكن القدر المتيقن من ديدن العلماء إجراؤها حين الشك في المراد؛ لا بعد العلم بالمراد و الشك في شيء آخر كما هو مفروض في المقام.

و تفصيل الكلام في توضيح الإشكال: أنه لمّا كان دليل اعتبار أصالة عدم

ص: 328

في كون فرد العام محكوما بحكمه، كما هو قضية عمومه، و المثبت (1) من الأصول اللفظية و إن كان حجة، إلا أنه لا بد من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل، و لا التخصيص بناء العقلاء، و لم يثبت بناؤهم عليها إلا في الشك في المراد، و لذا عدت من الأصول المرادية، فلا تجري إلا فيما إذا شك في المراد. و أما إذا علم المراد و شك في كيفية الإرادة، و أنها بنحو التخصيص أو التخصص، فلا تجري لإثبات كيفيتها، ففي مثال المتن يكون المراد - و هو عدم وجوب إكرام زيد - معلوما؛ لكن لا يعلم أن عدم وجوب إكرامه هل هو لعدم كون زيد فردا للعام - أي: ليس من العلماء - حتى يكون خروجه عن «أكرم العلماء» تخصصا، أو لعدم كونه بحكم العام مع كونه فردا له - أي: أنه من العلماء لكن لا يجب إكرامه - حتى يكون خروجه عن «أكرم العلماء» تخصيصا، فأصالة عدم التخصيص لا تجري هنا لإثبات كيفية إرادة المتكلم لعدم وجوب إكرام زيد، و أن عدم وجوب إكرامه بنحو التخصص - أي: لعدم كونه عالما - حتى يترتب عليه آثار ضدّه كما إذا كان للجاهل أحكام، فبأصالة عدم تخصيص العام لا يحرز إن زيدا ليس فردا للعام ليترتب عليه أحكام الجاهل.

=============

و المتحصل: أنه لمّا كان دليل اعتبار أصالة عدم التخصيص بناء العقلاء كانت مختصة بما علم كونه فردا للعام، و شك في خروجه عن حكمه، و لا أقل من احتمال اختصاصها بذلك، و مجرد الاحتمال كاف في عدم جريانها فيما شك في فرديته للعام.

و السر في ذلك واضح، فإن بناء العقلاء دليل لبّي، فلا بد من الاقتصار على المتيقن منه و هو إثبات حكم العام لما علم أنه من أفراده، فيختص جريان أصالة عدم التخصيص بهذا المورد، و أما ما عداه كمورد البحث فلا تجري فيه؛ لعدم ثبوت بناء العقلاء على عدم التخصيص فيه.

(1) إشارة إلى دفع توهم بتقريب: إن جريان أصالة عدم التخصيص و إثبات عدم فردية المشتبه للعام، و ترتيب أحكام ضد العام عليه نظرا إلى حجية مثبتات الأصول اللفظية - التي منها أصالة عدم التخصيص - لا يختص بما علم من أنه من أفراد العام؛ بل يجري في محل الكلام أيضا.

إلاّ إن هذا التوهم مدفوع؛ بأن أصالة عدم التخصيص - و هي أصالة العموم - و إن كانت من الأمارات التي تكون حجة في المداليل الالتزامية؛ إلاّ إن مقدار حجيتها تابع لدلالة اعتبارها، و من المعلوم: أن دليل الاعتبار في المقام ليس إطلاق اللفظ؛ بل هو لبّي، فلا بد من الأخذ بالمقدار المتيقّن، و هو ما إذا كان الشك في المراد لا في كيفية الإرادة.

قوله: «و لا دليل هاهنا» يعني: في أصالة العموم، أو أصالة عدم التخصيص.

ص: 329

دليل هاهنا إلا السيرة و بناء العقلاء، و لم يعلم استقرار بنائهم على ذلك، فلا تغفل.

قوله: «و لم يعلم استقرار بنائهم على ذلك» يعني: على إحراز أن ما شك في فرديته للعام ليس فردا له؛ بل استقر بناؤهم فقط على إحراز حكم العام لما علم كونه فردا له، و شك في خروجه عن حكمه بالتخصيص، فيرجعون فيه إلى أصالة عدم التخصيص.

=============

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من عقد هذا الفصل هو: بيان حكم العام المخصص بالمخصص المجمل مفهوما أو مصداقا، و هذا من أهم مباحث العام و الخاص، و الاحتمالات في المخصص المجمل ثمانية؛ أربع صور منها تسمى بالشبهات المفهومية، و أربع صور تسمى بالشبهات المصداقية.

أما صور الشبهات المفهومية فهي كالتالي:

الأولى: أن يكون المخصص متصلا مردّدا بين الأقل و الأكثر.

الثانية: أن يكون متصلا مرددا بين المتباينين.

الثالثة: أن يكون منفصلا مرددا بين الأقل و الأكثر.

الرابعة: أن يكون منفصلا مرددا بين المتباينين.

و حكم الصورة الأولى و الثانية: هو سراية إجمال المخصص إلى العام حقيقة، بمعنى:

أن المخصص يمنع عن انعقاد ظهور العام في العموم.

و أما حكم الصورة الثالثة: فهو عدم سراية إجمال المخصص إلى العام أصلا.

و حكم الصورة الرابعة: هو السراية حكما فقط، بمعنى: أن الخاص يزاحم حجية العام فيسقط العام عن الحجية.

أما صور الشبهات المصداقية: فحكم الصورة الأولى و الثانية: هو عدم جواز التمسك بعموم العام، و في جواز التمسك بالعام في الصورتين الأخيرتين خلاف، الحق عند المصنف عدم الجواز. هذا فيما إذا كان المخصص المجمل لفظيا.

2 - و أما إذا كان لبيا كإجماع أو سيرة أو حكم العقل: فلا يجوز التمسك بالعام إن كان المخصص في غاية الوضوح في اتكال المتكلم عليه؛ كما لو اجتمع أعداء المولى في داره ليقتلوه، و كان أبناؤه حاضرين عنده يدافع عنه بعضهم، فقال المولى لعبده: «اقتل كل من في الدار» فإن العقل يخصص الابن عن هذا الحكم، فهو كالمتصل لا ينعقد معه ظهور العام في العموم.

ص: 330

و إن لم يكن المخصص اللبي كذلك: فيجوز التمسك بالعام لانعقاد ظهور له، فهو كالمخصص المنفصل هذا على خلاف ما تقدم منه في المخصص اللفظي، حيث لم يجوّز المصنف التمسك بالعام في الشبهة المصداقية و لو كان المخصص منفصلا، و لكن يجوّز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية في المخصص اللبي إذا كان المخصص اللبي كالمنفصل، فهناك سؤال يطرح نفسه: ما الفرق بين هذا القسم من اللبي و اللفظي المنفصل أي: ما الفرق بين أن يقال: «أكرم جيراني»، و يحكم العقل بخروج العدوّ، و بين أن يقال: «أكرم جيراني» و يقال بعد ذلك: «لا تكرم جاري العدوّ»، حيث يتمسكون بالعام عند الشك في الأول دون الثاني.

فنقول في الجواب عن سؤال الفرق: إنه فرق بينهما و حاصله: أن الملقى من السيد في اللبي حجة واحدة، فلا بد من اتباعها فيما لا حجة على خلافها، و لا حجة على خلافها إلا القطع بأنه لا يريد إكرام عدوّه، فالخارج منه معلوم العداوة، و أما المشكوك عداوته: فلا بد من العمل فيه بالعموم؛ لعدم قيام حجة أخرى على خلاف العموم، هذا بخلاف المخصص اللفظي المنفصل فإن الملقى من السيد حجتان، و مقتضى تقديم الخاص على العام هو: أن العام لا يعم الخاص من الأول، فلا يكون حجة إلا فيما سوى الخاص.

و قد استدل المصنف على جواز التمسك بالعام في المشتبه فيما إذا كان المخصص لبيّا بوجوه.

الأول: صحة مؤاخذة السيد للعبد إذا ترك إكرام واحد من الجيران، لاحتمال العداوة.

الثاني: حسن عقوبته على مخالفته.

الثالث: عدم صحة اعتذار العبد بمجرّد احتمال العداوة.

3 - إحراز المشتبه بالأصل الموضوعي.

و ملخّص الكلام في الأصل الموضوعي هو: أن المخصص المنفصل أو المتصل بالاستثناء أو الشرط أو الغاية - مثل: «أكرم العلماء إلا فساقهم»، أو إن عدلوا، أو إلى أن يفسقوا - لم يوجب تعنون العام بعنوان خاص، فإذا شك في فرد أنه فاسق أو لا فباستصحاب عدم النسبة بينه و بين الفسق من الأزل يخرج الفرد المشتبه عن الخاص، و يبقى مندرجا تحت العام، و يترتب عليه حكمه.

ص: 331

و هكذا الأمر في المثال الذي ذكره المصنف من المرأة القرشية فيقال: إن لنا دليلا عاما دلّ على أن كل امرأة ترى الحمرة إلى خمسين سنة، و لنا دليل خاص دل على أن المرأة القرشية تحيض إلى ستين.

و نتيجة الجمع هي: «كل امرأة ترى الحمرة إلى خمسين إلاّ إن تكون امرأة من قريش»، فإذا شك في امرأة أنها قرشية أو غير قرشية؛ فباستصحاب عدم النسبة بينها و بين قريش تخرج المرأة عن تحت عنوان القرشية، و تبقى مندرجة تحت العام، و يكون حيضها إلى خمسين، فيمكن إحراز حكم المرأة المشكوكة قرشيتها بالأصل الموضوعي و هو الاستصحاب، ثم استصحاب العدم الأزلي بنحو العدم المحمولي أي: مفاد ليس التامة لا إشكال فيه لليقين السابق، و لكن بنحو العدم النعتي أي: ليس الناقصة مشكل؛ لعدم الحالة السابقة، لأن صفة القرشية غير مسبوقة بالعدم، لاستحالة الصفة من دون الموصوف.

4 - وهم و إزاحة:

تقريب الوهم: أن الوضوء بعنوانه الأوّلي محكوم بحكم خاص بالوجوب أو الاستحباب، فإذا تعلق به النذر كان له حكم آخر بعنوانه الثانوي أعني: عنوان النذر، فإذا فرض إجمال الدليل الدال على ثبوت الحكم للوضوء بعنوانه الأولي، و لا يعلم أن المراد به هو الوضوء بمطلق الماء و لو كان مضافا أو بالماء المطلق، فلا يصح الوضوء بالماء المضاف فالمتيقّن هو الوضوء بالماء المطلق، و إذا شك في صحته بالماء المضاف قال بعضهم: يجوز التمسك بعموم «أوفوا بالنذور» لإثبات صحة الوضوء بالمائع المضاف بتقريب: أنه يجب الإتيان به وفاء بالنذر، و كل ما يجب الإتيان به كان صحيحا لعدم وجوب إتيان الباطل. فالوضوء بالماء المضاف يكون صحيحا.

و يؤيده: ما ورد من صحة الإحرام و الصيام قبل الميقات و في السفر. فيقال: إنه إذا صح الإحرام قبل الميقات، و الصوم في السفر بالنذر مع القطع ببطلانهما بدون النذر، فصحة الوضوء بالمائع المضاف بالنذر مع الشك في بطلانه بدون النذر بطريق أولى.

أما وجه التعبير بالتأييد دون الدليل: فلاحتمال أن تكون صحة الإحرام قبل الميقات و الصوم في السفر من جهة الأدلة الخاصة كالروايات.

5 - إزاحة الوهم و دفعه:

و حاصل الدفع: أنه لا يصح التمسك بالعمومات المتكفلة لأحكام العناوين الثانوية،

ص: 332

فيما إذا شك في فرد من غير جهة احتمال التخصيص بل من جهة أخرى إذا كان موضوع الحكم الثانوي مقيدا بحكم من أحكام العناوين الأولية؛ كصحة الصوم في السفر بالنذر مثلا حيث يكون صحة الصوم بعنوانه الثانوي أعني: النذر مشروطة بأن يكون الصوم بعنوانه الأولي راجحا، فحينئذ لا مجال للتمسك بعموم الوفاء بالنذر؛ لإثبات صحة الوضوء بالماء المضاف بالنذر؛ لأن الشك في صحته بالماء المضاف يوجب الشك في أصل انعقاد النذر؛ لعدم إحراز الرجحان الذي هو شرط لانعقاد النذر.

6 - إذا كانت موضوعات الأحكام محكومة بعناوينها الأولية بغير الأحكام الثابتة لها بالعناوين الثانوية، فتقع المزاحمة بين المقتضيين، فيؤثّر أقوى منهما إن كان في البين، مثلا: إذا فرض وجوب الوضوء بعنوانه الأولي، و طرأ عليه عنوان الضرر فصار حراما بعنوانه الثانوي، فيقع التزاحم بين مقتضي الوجوب و مقتضي الحرمة، و يكون الحكم الفعلي تابعا لأقوى المقتضيين لو كان مقتضى في أحدهما أقوى منه في الآخر؛ و لو لم يكن كذلك بأن كانا متساويين تساقطا لقبح العقل بالترجيح بلا مرجح، فيحكم بحكم آخر كالإباحة يعني بها: الإباحة العقلية و هي التخيير في دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة.

7 - أما الجواب عن التأييد - يعني: صحة الصوم في السفر، و صحة الإحرام قبل الميقات - فهو بوجوه:

الأول: أن يكون ما دل على صحتهما كاشفا عن رجحانهما ذاتا، و إنما لم يؤمر بهما استحبابا أو وجوبا؛ لاقتران رجحانهما بمانع لا يرتفع إلا بالنذر.

الثاني: أن يكون ما دلّ على صحتهما بالنذر كاشفا عن صيرورتهما راجحين بالنذر، بعد ما لم يكونا راجحين ذاتا.

الثالث: أن يكون ما دل على صحتهما بالنذر مخصصا لما دل على اعتبار الرجحان في متعلق النذر، فيعتبر في متعلق النذر الرجحان إلا في هذين الموردين.

8 - الإشكال على الوجه الثاني و الوجه الثالث من الجواب بما حاصله: أنه لا ريب في أن الوجوب الحادث بالنذر توصلي يسقط بمجرد الإتيان بالمنذور بأيّ داع كان، كما لا ريب في أن كلا من الصوم و الإحرام بعد ما تعلّق بهما النذر يكون عباديا لا يسقط الأمر و لا يحصل الغرض إلا بقصد القربة.

ص: 333

فيقال في تقريب الإشكال: من أين نشأت عباديتهما؟ بعد الالتزام بعدم رجحانهما ذاتا كما هو المفروض في الوجه الثاني و الوجه الثالث.

و أما الجواب فحاصله: أن المقصود من صيرورتهما راجحين بتعلق النذر بهما هو:

عروض عنوان راجح عبادي لهما بسبب النذر، فالعبادية جاءت من هذه الجهة لا لمجرد صيرورتهما راجحين، كي يقال: إن الوجوب بالنذر توصلي، أو يقال: بأن قصد القربة فيهما ليس لصيرورتهما عباديين بالنذر؛ بل لأجل تعلق النذر بإتيانهما متقربا بهما إلى الله تعالى.

و من المعلوم: إنه إذا نذر إتيانهما على وجه خاص فلا محالة لا يحصل الوفاء به، إلا إذا أتى بهما على ذلك الوجه.

9 - دوران الأمر بين التخصيص و التخصّص:

إذا قال المولى لعبده مثلا: «أكرم العلماء»، و علمنا: إن زيدا لا يجب إكرامه قطعا؛ و لكن لا نعلم أنه هل هو عالم قد خرج عن العام بالتخصيص، أو أنه جاهل خارج عنه تخصّصا؟ فبأصالة العموم هل يحكم بأنه خارج تخصّصا، و أنه جاهل ليس بعالم على نحو يترتب عليه أحكام الجاهل أم لا.

يقول المصنف: إن بذلك الحكم إشكالا، و يظهر منه ترجيح عدم جريان و أصالة العموم؛ لاحتمال اختصاص حجيّتها فيما إذا شك في المراد لا في كيفية الإرادة، و أنها بنحو التخصيص أو التخصّص؛ لأن دليل اعتبارها هو بناء العقلاء المختص بما إذا شك في المراد، و المراد في مثال المتن - و هو عدم وجوب بإكرام زيد - معلوم.

10 - نظريات المصنف «قدس سره»:

1 - سراية إجمال المخصص المجمل إلى العام حقيقة في الصورة الأولى و الثانية من صور الشبهات المفهومية.

2 - و سرايته إليه حكما فقط في الصورة الرابعة.

3 - و عدم السراية أصلا في الصورة الثالثة.

4 - عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية مطلقا.

5 - إحراز المشتبه بالأصل الموضوعي إذا كان التخصيص بالمنفصل، أو كالاستثناء من المتصل.

6 - عدم جواز التمسك بالعمومات المتكفّلة لأحكام العناوين الثانوية لإثبات صحة

ص: 334

الفرد المشكوك، فيما إذا كان الشك من غير جهة احتمال التخصص.

7 - جواز التمسك بالعام في المصداق المشتبه في المخصص اللبّي، إذا لم يكن خروجه عن العام واضحا.

8 - عدم جواز التمسك بأصالة العموم؛ لإثبات خروج فرد عن العام تخصصا لا تخصيصا في دوران الأمر بين التخصيص و التخصّص.

ص: 335

ص: 336

فصل

هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص فيه خلاف ؟ و ربما نفي الخلاف عن عدم جوازه؛ بل ادعي الإجماع عليه، و الذي ينبغي أن يكون محلّ الكلام في

=============

فصل في جواز العمل بالعام قبل الفحص

اشارة

قبل الخوض في أصل البحث لا بد من تحرير محل النزاع. فيقال: إن محل النزاع هو:

وجوب الفحص عن المخصص أو عدم وجوبه إنما هو بعد الفراغ عن أمور:

1 - اعتبار أصالة العموم من باب الظن النوعي لا الشخصي.

2 - حجّيتها في حق المشافهين و غيرهم.

3 - عدم كون العام من أطراف العلم الإجمالي بالتخصيص، حتى يكون المانع عن اتباع العموم قبل الفحص منحصرا في احتمال وجود المخصص، ليكون البحث شاملا لجميع المباني.

و من هنا يظهر: إن الاستدلال على عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص بعدم حصول الظن الشخصي قبله، أو عدم إحراز حكم غير المشافه قبله، أو لأجل العلم الإجمالي المانع من جريان أصالة العموم ليس كما ينبغي، لأن البحث كما عرفت بعد الفراغ عن هذه الجهات الثلاثة. هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «و الذي ينبغي أن يكون محل الكلام في المقام..» إلخ.

و كيف كان؛ فقد اختلفوا في مبنى وجوب الفحص عن المخصص و عدم الحجية قبله على أقوال، فذهب بعض إلى عدم الحجية، من جهة أن حجية مثل أصالة العموم إنما تكون من باب الظن الفعلي. و من المعلوم: إنه لا يكاد يحصل الظن بإرادة العموم من العام قبل الفحص عن مخصصه.

و ذهب الشيخ الأنصاري «قدس سره» إلى أنه من جهة أن الأصل المذكور إنما يكون حجة؛ فيما إذا لم يعلم بتخصيص العام و لو إجمالا، و لا شبهة في حصول العلم بذلك إجمالا.

و ذهب المصنف «قدس سره»: إلى أنه من جهة حصر حجية العام بما إذا لم يكن

ص: 337

المقام: أنه هل يكون أصالة العموم متبعة مطلقا (1)، أو بعد الفحص عن المخصص و اليأس عن الظفر به ؟ بعد الفراغ عن اعتبارها (2) بالخصوص في الجملة من باب الظن النوعي للمشافه و غيره، ما لم يعلم بتخصيصه (3) تفصيلا، و لم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالا، و عليه (4): فلا مجال لغير واحد مما استدل به على عدم جواز العمل به قبل الفحص و اليأس.

معرضا للتخصيص، مثل العمومات الواقعة في لسان أهل المحاورات.

=============

و أما إذا كان معرضا لذلك مثل: عمومات الكتاب و السنّة، فلم تكن قبل الفحص بحجة أصلا، و ذلك لأن دليل اعتباره هو بناء العقلاء على العمل بالعام مقصورة على ما بعد الفحص، و إن أبيت عن ذلك و لا أقلّ من الشك، و معه لا دليل على اعتباره أصلا.

هذا مجمل الكلام في المقام. و أمّا تفصيل الكلام في المقام، فقد تأتي الإشارة إليه في كلام المصنف.

(1) أي: و لو قبل الفحص عن المخصّص.

(2) أي: اعتبار أصالة العموم «بالخصوص في الجملة» يعني: بدليل خاص، و هو بناء العقلاء، لا بدليل عام و هو دليل الانسداد. «في الجملة» يعني: في قبال التفاصيل التي ذكرت في حجية الظهورات من اختصاص حجيتها بالمشافهين، أو بمن قصد إفهامه.

(3) أي: بتخصيص العام.

و حاصل الكلام في المقام: أن أصالة العموم حجة ما لم يعلم تفصيلا بأنه مخصص، و إلا سقط عن الحجية، و كان الخاص هو المتبع، و ما لم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالا، و إلا وجب الفحص عن المخصص قبل العمل به قطعا؛ كما إذا علمنا إجمالا بتخصيص جملة من العمومات، و كان هذا العام من أطراف المعلوم بالإجمال، فإن أصالة العموم لا تجري فيه قبل الفحص عن المخصص.

(4) أي: و على ما ذكر من أن محل الكلام في المقام هو حجية أصالة العموم مطلقا، أو بعد الفحص عن المخصص و اليأس عن الظفر به، «فلا مجال لغير واحد مما استدل به على عدم جواز العمل قبل الفحص و اليأس»، فلا بد أولا من بيان ما استدل به على عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص، حتى يظهر وجه عدم المجال للاستدلال به فيقال: إنه قد استدل القائل بعدم جواز العمل قبل الفحص بأمور:

1 - عدم حصول الظن بالمراد إلا بعد الفحص عن المخصص.

2 - عدم الدليل على حجية أصالة العموم بالنسبة إلى غير المشافه إلا بعد الفحص عن المخصص.

ص: 338

فالتحقيق (1): عدم جواز التمسّك به قبل الفحص فيما إذا كان في معرض التخصيص، كما هو الحال في عمومات الكتاب و السنة، و ذلك لأجل أنه لو لا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله، فلا أقل من الشك.

3 - العلم الإجمالي بورود مخصصات كثيرة على العمومات الشرعية مانع عن العمل بها قبل الفحص.

=============

و أما وجه عدم المجال بالاستدلال بهذه الأمور فهو ما عرفت من: خروج هذه الموارد عن محل الكلام؛ لأن محل الكلام هو وجوب الفحص عن المخصص، أو عدم وجوبه بعد فرض حجية أصالة العموم من باب الظن النوعي مطلقا أي: بالنسبة إلى المشافهين و غيرهم إذا لم يكن العام من أطراف العلم الإجمالي بالتخصيص.

(1) يعني: فالتحقيق في المقام هو التفصيل بين ما يكون العام في معرض التخصيص، فلا يجوز التمسك به قبل الفحص عن المخصص، و بين ما لم يكن كذلك فيجوز التمسك به قبل الفحص، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن العمومات على قسمين:

1 - أن يكون في معرض التخصيص؛ كمعرضيّة العمومات الواردة في الكتاب و السنة للتخصيص.

2 - أن لا يكون العام في معرض التخصيص؛ كالعمومات الصادرة من الموالي العرفية إلى عبيدهم، حيث يكون الغرض منها: مجرّد العمل بها بعد الاطلاع عليها من دون تفحّص العبيد عن مخصّصاتها.

إذا عرفت هذه المقدمة فالتحقيق عند المصنف هو: التفصيل بين العمومات الواقعة في معرض التخصيص؛ كعمومات الكتاب و السنة، و بين العمومات الواردة في المحاورات العرفية بلزوم الفحص في الأول دون الثاني.

الوجه في عدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص في الأول، و جوازه قبله في الثاني هو: أن دليل حجية أصالة العموم هو: بناء العقلاء، و لم يثبت بناؤهم على جريان أصالة العموم فيما إذا كان العام في معرض التخصيص، و لا أقل من الشك في اعتبارها فيما إذا كان العام في معرض التخصيص، و هو كاف في عدم حجيتها.

و أما إذا لم يكن العام في معرض التخصيص: فلا إشكال في جواز التمسك به قبل الفحص؛ لاستقرار سيرة العقلاء عليه.

و قوله: «و ذلك لأجل أنه لو لا القطع..» إلخ تعليل لعدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص، يعني: عدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص هو: القطع

ص: 339

كيف (1)؟ و قد ادعي الإجماع على عدم جوازه فضلا عن نفي الخلاف عنه، و هو كاف في عدم الجواز كما لا يخفى.

و أما إذا لم يكن العام كذلك (2)، كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات، فلا شبهة في أن السيرة على العمل به بلا فحص عن مخصص، و قد ظهر لك بذلك: أن مقدار الفحص اللازم ما به يخرج عن المعرضية باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص.

=============

(1) أي: كيف يجوز العمل بالعام الذي يكون في معرض التخصيص قبل الفحص عن المخصص، مع دعوى الإجماع على عدم جواز العمل به فضلا عن نفي الخلاف عنه ؟ و هذا الإجماع كاف في عدم الجواز.

(2) أي: إذا لم يكن العام في معرض التخصيص فلا ينبغي الإشكال في جواز التمسك بالعام قبل الفحص، فقوله: «و أما إذا لم يكن العام كذلك» إشارة إلى القسم الثاني و هو ما تقدم في المقدمة؛ من عدم كون العام في معرض التخصيص كالعمومات الواقعة في ألسنة أبناء المحاورات، و لا شبهة في استقرار السيرة على العمل بالعام من دون فحص عن المخصّص.

و كيف كان؛ فيقع الكلام تارة: في أصل وجوب الفحص عن المخصص، و أخرى:

في مقدار الفحص، و قد أشار المصنف إلى مقدار الفحص بقوله: «و قد ظهر لك بذلك:

أن مقدار الفحص اللازم ما به يخرج عن المعرضية له» يعني: ظهر لك بسبب معرضية العام للتخصيص: أن مقدار الفحص اللازم هو: خروج العام عن معرضية التخصيص، هذا على مذهب المصنف من أن سبب وجوب الفحص هو: كون العام في معرض التخصيص.

و حاصل الكلام في المقام: أن مقدار الفحص اللازم تابع لدليل وجوبه، فإن كان دليله العلم الإجمالي: فالمقدار الواجب من الفحص ما ينحل به العلم الإجمالي و هو العلم بوجود مخصصات بمقدار المعلوم بالإجمال، حتى يخرج العام من أطراف العلم الإجمالي المانع عن جريان أصالة العموم. و إن كان دليل وجوب الفحص عدم حصول الظن بالمراد قبل الفحص عن المخصص: فالمقدار اللازم منه ما يوجب الظن بعدم التخصيص حتى يحصل الظن بإرادة المتكلم للعام.

و إن كان الدليل على وجوبه عدم الدليل على حجية الخطابات لغير المشافهين:

فاللازم حينئذ الفحص حتى يقوم الإجماع على الحجية، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 573» مع توضيح منّا.

ص: 340

له، كما أن مقداره اللازم منه بحسب سائر الوجوه التي استدل بها من العلم الاجمالي به أو حصول الظن بما هو التكليف، أو غير ذلك رعايتها (1)، فيختلف مقداره بحسبها كما لا يخفى.

ثم إن الظاهر (2): عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل، باحتمال أنه كان و لم يصل بل حاله (3) حال احتمال قرينة المجاز، و قد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقا و لو قبل الفحص عنها كما لا يخفى.

=============

(1) أي: رعاية الوجوه. فيختلف مقدار الفحص بحسب الوجوه المذكورة، و قد تقدم اختلاف مقدار الفحص باختلاف تلك الوجوه.

و المتحصل: أن العمل بالعام الذي لا يكون في معرض التخصيص جائز بلا فحص، و أما العام الذي يكون في معرض التخصيص: فلا يجوز العمل به قبل الفحص، لعدم إحراز بناء العقلاء على جريان أصالة العموم حينئذ كما عرفت غير مرّة.

(2) يعني: إذا احتمل إرادة خلاف الظاهر بقرينة متصلة لم تصل إلينا لا يجب الفحص عنها حسب بناء العقلاء، من دون فرق بين التخصيص و سائر قرائن المجازات، فمورد وجوب الفحص الذي وقع فيه الخلاف هو المخصص المنفصل. و أما المخصص المتصل المحتمل احتفاف العام به؛ كما إذا احتمل اكتناف العلماء في نحو: «أكرم العلماء» بالعدول مثلا، و اختفاؤه عنّا فلا يجب الفحص عنه؛ بل يجوز العمل بلا فحص، و الوجه في ذلك: أن احتمال المخصص المتصل كاحتمال قرينة المجاز يدفع بالأصل؛ بل يكون احتمال وجود الخاص المتصل عين احتمال قرينة المجاز؛ بناء على كون استعمال العام في الخاص مجازا، و يدفع ذلك بأصالة الحقيقة.

(3) أي: حال احتمال المخصص المتصل حال احتمال قرينة المجاز؛ بل عينه، فيشمله اتفاق كلماتهم على عدم الاعتناء باحتمال القرينة و لو قبل الفحص عنها.

ص: 341

إيقاظ (1) الفرق بين الفحص هاهنا و بينه في الأصول العملية

لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا و بينه في الأصول العملية، حيث إنه هاهنا عما يزاحم الحجة، بخلافه هناك، فإنه بدونه لا حجة، ضرورة: أن العقل بدونه يستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان، و المؤاخذة

=============

(1) الغرض من هذا الإيقاظ هو: التنبيه على الفرق بين الفحص هنا و بين الفحص في الأصول العملية، و حاصل الفرق: أن الفحص في المقام إنما هو عن المانع المزاحم لحجية الدليل، مع ثبوت المقتضي لها و هو: ظهور العام في العموم و هو حجة فعلية، فالفحص إنما لرفع احتمال وجود المانع عن الحجية، و هذا بخلاف الفحص في الشبهات البدوية في موارد التمسك بالأصول العملية فإنه لتتميم المقتضي.

أما بالإضافة إلى أصالة البراءة العقلية فواضح؛ لأن الفحص في الأصول العقلية محقق لموضوعها و هو عدم البيان المأخوذ موضوعا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، ضرورة: أن إحراز عدم البيان موقوف على الفحص، لأن الفحص في الأصل العقلي محقّق لموضوعه و هو عدم البيان، و كذا يجب الفحص في موارد الأصول العملية الشرعية؛ كأصالة البراءة، و ذلك لأن اطلاق أدلة البراءة الشرعية مثل: «رفع ما لا يعلمون» قيّد إجماعا بالفحص، بحيث يكون الفحص قيدا لجواز الرجوع إلى الأصل.

و كيف كان؛ فمحصل الفرق: أن الفحص في الأصول اللفظية ليس دخيلا في المقتضي للحجية، حيث إن مقتضيها محرز، و الفحص إنما يكون عن مانع الحجية؛ بخلاف الفحص في الأصول العملية، فإنه دخيل في المقتضي للحجية.

أما في الأصل العقلي: فلما عرفت من: أن الفحص محقق لموضوعه، و أما في الأصل الشرعي: فلأن الفحص دخيل في قيد موضوعه؛ إذ ليس عدم العلم بنحو الإطلاق موضوعا للبراءة الشرعية، و إنما موضوعها عدم العلم بعد الفحص؛ بل الفحص في كل من الأصل العقلي و الشرعي محقق للموضوع و هو: عدم الحجة في الأصل الشرعي، و عدم البيان على الحكم الشرعي في الأصل العقلي.

ص: 342

عليها (1) من غير برهان، و النقل (2) و إن دلّ على البراءة، أو الاستصحاب في موردهما مطلقا، إلا أنّ الإجماع بقسميه على تقييده به، فافهم (3).

=============

(1) أي: فلا يكون المؤاخذة على المخالفة من غير برهان؛ بل مع البرهان و هو الإجماع على وجوب الفحص.

(2) دفع لإشكال بأن يقال: إن إطلاق دليل الأصول الشرعية من البراءة و الاستصحاب ينفي وجوب الفحص فيها و ذلك فإنّ مثل «رفع ما لا يعلمون» مطلق و لم يقيد بالفحص، فحينئذ لو شك في دخله في التمسك بهما أمكن نفيه بالإطلاق المذكور.

و أما الدفع فحاصله: أن الإجماع بكلا قسميه من محصله و منقوله قد قام على تقييد إطلاق دليل الأصل الشرعي بالفحص.

(3) لعله إشارة إلى: أن مرجع تقييد إطلاق دليل الأصول النقلية بالإجماع إلى مانعية الدليل الاجتهادي عن حجية إطلاق أدلة الأصول، فيكون الفحص عن الدليل الاجتهادي في موارد الأصول الشرعية فحصا عما يزاحم الحجة و يمنعها؛ لا محققا لموضوعها لوجود الموضوع و هو الشك قبل الفحص.

فلا فرق بين الفحص في المقام، و بين الفحص في الأصول العملية؛ لأن الفحص في كلا الموردين فحص عما يزاحم الحجة إلا في خصوص البراءة العقلية فإنها بدون الفحص لا حجية لها أصلا؛ لعدم تحقق موضوعها و هو عدم البيان بدون الفحص.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - محل النزاع هو: وجوب الفحص عن المخصص، أو عدم وجوبه إنما هو بعد الفراغ عن اعتبار أصالة العموم من باب الظن النوعي لا الشخصي، و بعد الفراغ عن حجيتها في حق المشافهين و غيرهم، و بعد أن لا يكون العام من أطراف العلم الإجمالي بالتخصيص.

فالاستدلال على عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص بعدم حصول الظن الفعلي قبله، أو عدم إحراز حكم غير المشافه قبله، أو لأجل العلم الإجمالي بالتخصيص ليس كما ينبغي؛ لما عرفت من: أن محل النزاع هو: وجوب الفحص بعد الفراغ عن هذه الأمور الثلاثة.

2 - الاختلاف إنما هو في مبنى وجوب الفحص لا في أصل وجوبه، فاختلفوا على أقوال:

ص: 343

فذهب بعض: إلى عدم حجية العام قبل الفحص؛ من جهة أن حجية أصالة العموم من باب الظن الفعلي، و لا يحصل الظن الفعلي بالمراد إلا بعد الفحص. و ذهب الشيخ الأنصاري إلى أنه من جهة أن الأصل المذكور حجة فيما إذا لم يعلم بتخصيص العام و لو إجمالا، و قد علم ذلك إجمالا، فلا يكون حجة قبل الفحص.

و ذهب المصنف إلى: أنه من جهة حصر حجيّة العام بما إذا لم يكن في معرض التخصيص.

3 - التفصيل بين عمومات الكتاب و السنّة و بين غيرها؛ بلزوم الفحص في الأول لبناء العقلاء عليه، بخلاف العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات، فيجوز العمل بها بعد الاطلاع عليها، من دون وجوب فحص عن مخصّصها.

الدليل على التفصيل هو: بناء العقلاء.

4 - اختلاف مقدار الفحص باختلاف الوجوه و المباني؛ لأن المقدار اللازم من الفحص تابع لدليل وجوبه، فإن كان دليله العلم الإجمالي: فالمقدار اللازم ما ينحل به العلم الإجمالي، و إن كان دليل الوجوب عدم حصول الظن بالمراد قبل الفحص: فالمقدار الواجب منه: ما يوجب الظن بكون العام هو المراد.

و إن كان الدليل على وجوبه عدم الدليل على حجية الخطابات على غير المشافهين لها: فاللازم حينئذ الفحص حتى يقوم الدليل على الحجية.

و إن كان الدليل على وجوبه كون العام في معرض التخصيص: فالفحص الواجب ما يخرج به العام عن معرض التخصيص.

ثم مورد وجوب الفحص هو المخصص المنفصل، و لا يجب الفحص عن المخصص المتصل؛ لأن احتماله يدفع بالأصل، كما يدفع احتمال قرينة المجاز بأصالة الحقيقة.

5 - الفرق بين الفحص في المقام و بين الفحص في الأصول العملية هو: أن الفحص في المقام إنما هو عن وجود المانع، بعد ثبوت المقتضي و هو ظهور العام في العموم.

و الفحص في الأصول العملية محقق لموضوعها و هو عدم البيان في البراءة العقلية، و عدم الحجة في البراءة الشرعية.

«فافهم»: لعله إشارة إلى عدم الفرق بين الأصول اللفظية و الأصول العملية الشرعية؛ إذ الفحص في الأصول الشرعية أيضا عن المانع و هو الدليل الاجتهادي.

ص: 344

6 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - عدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص إذا كان في معرض التخصيص.

2 - مقدار الفحص اللازم: ما يخرج به العام عن معرض التخصيص.

3 - الفرق بين الأصول اللفظية و الأصول العملية من حيث الفحص: أن الفحص في الأول: إنما هو عن المانع، و الفحص في الثاني: محقق لموضوعها؛ إذ لو لا الفحص لم يتحقق عدم البيان و هو موضوع البراءة العقلية، و لا عدم العلم بالحجة و هو موضوع البراءة الشرعية.

ص: 345

ص: 346

فصل

هل الخطابات الشفاهية (1) مثل: (يا أيّها المؤمنون) تختص بالحاضر مجلس التخاطب، أو تعمّ غيره من الغائبين؛ بل المعدومين ؟

=============

فصل الخطابات الشفاهية

فصل الخطابات الشفاهية(1) المراد بالخطابات الشفاهية ظاهرا هو: الكلام المقرون بأداة الخطاب؛ كقوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا ، و يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ * و نحوهما، فما في كلام المصنف «قدس سره» من مثل: «يا أيها المؤمنون» مجرّد التمثيل، فلا تشمل مثل قوله تعالى:

وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (1) مما لا يكون مقرونا بأداة الخطاب، فالكلام في الخطابات الشفاهية غير المختصة بمخاطب خاص.

و كيف كان؛ فقد ذكر المصنف أن الكلام يمكن أن يقع في جهات ثلاثة:

الأولى: في صحة تعلق التكليف - الذي يشتمل عليه الخطاب - بالمعدومين بأن يقال:

إن التكليف - الذي يتضمنه الخطاب - هل يصح تعلقه بالمعدومين أم لا؟ فالنزاع حقيقة في صحّة تكليف المعدوم.

الثانية: في صحة مخاطبة غير الحاضرين من الغائبين و المعدومين بأن يقال: إن الخطاب بما هو خطاب أعني به: توجيه الكلام نحو الغير بالأداة - نحو: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ - هل يصح أن يتوجّه إلى المعدومين أم لا؟

الثالثة: في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب لغير الحاضرين من الغائبين، بل المعدومين، و عدم عمومها لهم بقرينة الأداة، بأن يقال: إن الألفاظ الواقعة عقيب أدوات الخطاب تشمل بعمومها المعدومين، أو تصير الأدوات قرينة على اختصاصها بالحاضرين في مجلس التخاطب.

ثم ذكر المصنف و قال: «إن النزاع على الوجهين الأوليين يكون عقليا، و على الوجه الأخير لغويا»، فإن الوجه الأخير - و هو شمول الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب

ص: 347


1- آل عمران: 197.

فيه خلاف (1)، و لا بد قبل الخوض في تحقيق المقام، من بيان ما يمكن أن يكون محلا للنقض و الإبرام بين الأعلام.

فاعلم: أنّه يمكن أن يكون النزاع في أن التكليف المتكفل له الخطاب هل يصح للغائبين و المعدومين - يرجع إلى المعنى الموضوع له، و المرجع في تشخيصه هو اللغة، و لذا يكون النزاع فيه لغويا.

=============

و حاصل ما أفاده المصنف في مقام تحقيق الجهات الثلاث: أن الجهة الأولى تتصور على وجوه ثلاثة:

الأول: عدم صحة تعلق التكليف الفعلي بالمعدوم عقلا، بمعنى: بعثه أو زجره فعلا حين كونه معدوما، و هذا محال بلا إشكال، لعدم قابلية المعدوم للانبعاث أو الانزجار فعلا.

الثاني: صحة التكليف الإنشائي غير المشتمل على البعث و الزجر، و لا استحالة في هذا الوجه؛ لأن الإنشاء خفيف المئونة، فلا مانع من تعلقه بالمعدوم، فإنّ المولى الحكيم ينشئ التكليف على وفق المصلحة بعنوان جعل قانون كلي للموجود و المعدوم، فيصير فعليا بعد تحقق الشرائط و فقدان الموانع؛ نظير إنشاء الملكية في باب الوقف للبطون اللاحقة، لتصير فعلية حين وجودها بنفس الإنشاء السابق.

الثالث: أن يتعلق به التكليف الفعلي بقيد الوجود بمعنى: أن يتعلق التكليف الفعلي بالموجود الاستقبالي بهذا القيد، حيث يكون إنشاء الطلب مقيّدا بوجود المكلف و وجدانه للشرائط، و إمكان هذا القسم أيضا بمكان من الإمكان. كما أشار إليه المصنف بقوله: «و أما إذا أنشئ مقيدا بوجود المكلف و وجدانه الشرائط، فإمكانه بمكان من الإمكان».

(1) أي: اختلفوا على أقوال:

الأول: ما عن الوافية من الشمول، من دون تصريح بكون على وجه الحقيقة أو المجاز.

الثاني: الشمول حقيقة لغة، و هو المحكي عن بعضهم.

الثالث: الشمول حقيقة شرعا، و نفى عنه البعد الفاضل النراقي.

الرابع: الشمول مجازا، و هو المحكي عن التفتازاني، و ظاهره: دعوى شمول الخطابات القرآنية للغائبين أو المعدومين على وجه المجاز فعلا.

الخامس: إمكان الشمول على وجه المجاز بنحو من التنزيل و الادعاء إذا كان فيه فائدة يتعلق بها أغراض أرباب المحاورة. و من أراد بسط الكلام في المقام فعليه الرجوع إلى الكتب المبسوطة.

ص: 348

تعلقه بالمعدومين، كما صح تعلقه بالموجودين، أم لا؟ أو في صحة المخاطبة معهم؛ بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة للخطاب، أو بنفس توجيه الكلام إليهم، و عدم صحتها (1)، أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين، بل المعدومين، و عدم عمومها لهما بقرينة تلك الأداة.

و لا يخفى: أن النزاع على الوجهين الأولين يكون عقليا، و على الوجه الأخير لغويا.

إذا عرفت هذا (2)، فلا ريب في عدم صحة تكليف المعدوم عقلا (3)، بمعنى: بعثه، أو زجره فعلا، ضرورة: أنه (4) بهذا المعنى يستلزم الطلب منه حقيقة و لا يكاد يكون الطلب كذلك إلا من الموجود ضرورة، نعم؛ هو (5) بمعنى مجرد إنشاء الطلب بلا بعث و لا زجر لا استحالة فيه أصلا، فإنّ (6) الإنشاء خفيف المئونة، فالحكيم «تبارك

=============

(1) أي: عدم صحة المخاطبة.

(2) أي: ما ذكر من الوجوه الثلاثة المتصورة في محل النزاع.

(3) هذا إشارة إلى الوجه الأول من الوجوه الثلاثة، و حاصل كلامه فيه:

أنه لا ريب في عدم صحة تكليف المعدومين عقلا إن أريد بالتكليف البعث أو الزجر الفعليين؛ لأن كلا من البعث و الزجر إنما يكونان لإحداث الداعي إلى الفعل في البعث، و إلى الترك في الزجر، و من المعلوم: عدم إمكان حصول هذا الداعي للمعدوم، فيكون تكليف المعدوم ممتنعا.

(4) أي: التكليف بهذا المعنى و هو البعث أو الزجر فعلا يستلزم الطلب الحقيقي من المعدوم، و هو ممتنع.

و المتحصل: أنه لا يصح تعلق التكليف الفعلي بالمعدوم؛ لأن التكليف الفعلي - بمعنى: بعثه أو زجره حين كونه معدوما - محال، و ذلك لعدم قابلية المعدوم للانبعاث و الانزجار فعلا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(5) أي: التكليف.

و حاصل هذا الاستدراك: أنه إن أريد بالتكليف مجرد إنشاء الطلب من غير فعلية بعث أو زجر، فلا استحالة في تعلقه بالمعدومين؛ لكونه صوريا كالتكاليف الامتحانية التي ليس فيها طلب حقيقي يوجب إحداث الداعي للمكلف إلى الفعل أو الترك.

(6) تعليل لعدم الاستحالة، توضيحه: أن الإنشاء المجرد عن الطلب الحقيقي لا يستلزم الطلب الفعلي حتى لا يصح تعلّقه بالمعدوم؛ بل تتوقف صحة الإنشاء على غرض

ص: 349

و تعالى» ينشئ على وفق الحكمة و المصلحة (1)، طلب شيء قانونا (2) من الموجود و المعدوم حين (3) الخطاب، ليصير فعليا بعد ما وجد الشرائط و فقد الموانع، بلا حاجة إلى إنشاء آخر، فتدبر.

عقلائي يخرجه عن اللغوية، و لو كان ذلك الغرض تقليل الإنشاءات، أو قلّة فرصة المولى لإنشاء الحكم لكل واحد من المكلفين، فينشئ الحكم بإنشاء واحد على الجميع بنحو القضية الحقيقية؛ لأن شأن القضية الحقيقية: فرض وجود الموضوع، و جعل الحكم له، من غير فرق في ذلك بين وجود الموضوع و عدمه. هذا ما أشار إليه بقوله: «فإن الإنشاء خفيف المئونة؛ لعدم توقفه على وجود المكلف أو قدرته؛ بل يكفي فيه مجرّد غرض عقلائي لئلا يلزم لغويته».

=============

(1) و هي الملاك الموجود في المطلوب الداعي إلى التشريع.

(2) أي: بنحو القضية الحقيقية التي تشمل المعدومين، فإن الطلب الإنشائي يشملهم من دون محذور؛ كما هو شأن القوانين الكلية العرفية.

(3) قيد للمعدوم، يعني: ينشئ الحكيم طلب شيء قانونا من الموجود و المعدوم حين الخطاب.

نعم؛ هناك وجود محاذير ثلاثة في مجموع الوجوه الثلاثة، قد نبه عليها المصنف «قدس سره»، و قد ذكرت هذه المحاذير في «منتهى الدراية، ج 3، ص 584». حيث قال ما هذا لفظه:

المحذور الأول: امتناع تعلّق البعث، أو الزجر الفعلي بالمعدومين؛ لاستلزامه الطلب منهم حقيقة، و الطلب الحقيقي من المعدوم غير معقول. و هذا المحذور مشترك الورود بين الوجه الأوّل و الثالث، أما في الأول: فواضح. و أما في الثالث: فلأنه لو فرض عموم الألفاظ الواقعة بعد الأدوات للمعدومين، فمعنى ذلك: توجّه التكليف إليهم، و من الواضح: امتناع بعث المعدوم إلى الصلاة و الصوم و نحوهما، أو زجره عن شرب الخمر مثلا.

المحذور الثاني: عدم صحة توجيه الكلام إلى الغير حقيقة إلا إذا كان موجودا، و ملتفتا إلى توجّه الكلام إليه، و هذا المحذور مشترك بين الوجهين الأولين. أما الأول: فلأن التكليف توجيه الكلام إلى الغير بالبعث أو الزجر، و هو ممتنع بالنسبة إلى المعدومين بالضرورة كما تقدم.

و أما الثاني: فلأن الخطاب معناه: توجيه الكلام إلى الغير، و هو أيضا ممتنع في حق المعدومين بالبداهة.

ص: 350

و نظيره (1) من غير الطلب: إنشاء التمليك في الوقف على البطون (2)، فإنّ المعدوم منهم يصير مالكا للعين الموقوفة بعد وجوده بإنشائه، و يتلقى لها من الواقف بعقده، فيؤثر في حق الموجود منهم الملكية الفعلية، و لا يؤثر في حق المعدوم فعلا (3)؛ إلا استعدادها لأن تصير ملكا له بعد وجوده، هذا (4) إذا أنشئ الطلب مطلقا.

المحذور الثالث: لزوم عدم استعمال الخطابات القرآنية في معانيها الحقيقية؛ لأن حقيقة الخطاب: توجيه الكلام نحو الغير الذي يكون قابلا للفهم، و من المعلوم: أن أدوات الخطاب وضعت لإنشاء حقيقة الخطاب، فمع إرادة عموم الألفاظ الواقعة عقيب أدوات الخطاب للمعدومين يلزم التجوّز في تلك الأدوات، بمعنى: عدم استعمالها في معانيها الحقيقية.

=============

و هذا المحذور يجري في الوجوه الثلاثة، أما في الأول: فلأنه لو قلنا بصحّة تعلق التكليف بالمعدومين: لزم استعمال أدوات الخطاب المتكفل للتكليف في غير معانيها الحقيقية، و قد عرفت وجهه.

و أما في الثاني: فلأن لازم صحة خطاب المعدومين: استعمال أدوات الخطاب في غير معانيها، كما مرّ أيضا. و أما في الثالث: فلأن عموم الألفاظ الواقعة عقيب أدوات الخطاب مستلزم أيضا لاستعمال الأدوات في غير معانيها الحقيقية، و هو واضح.

و قد أشار إلى المحذور الأول بقوله: «فلا ريب في عدم صحة تكليف المعدومين عقلا»، و إلى دفعه بقوله: «فإن الإنشاء خفيف المئونة».

و حاصل هذا الدفع: الالتزام بمرتبة إنشاء الحكم التي يشترك فيها العالم و الجاهل، و القادر و العاجز، و الموجود و المعدوم، و هذا الإنشاء بعد وجود الشرائط و فقد الموانع - يصير فعليا.

(1) أي: و نظير الإنشاء من غير الطلب: إنشاء التمليك في الوقف على البطون المعدومين حين الوقف، فكما يجوز إنشاء الملكية لهم مع عدمهم، فكذلك يجوز إنشاء الطلب للمعدومين، و صيرورته فعليا عند وجودهم.

(2) أي: الأعم من الموجودين و المعدومين، فإنشاء التمليك فعليّ بالنسبة إلى الموجودين، و إنشائي بالنسبة إلى المعدومين، و يصير فعليا بوجودهم، و لذا يتلقّون الملك من الواقف بعقد الوقف؛ لا من البطن السابق.

(3) قوله: «فعلا» قيد للمعدوم، فمعنى العبارة: أنه لا يؤثر إنشاء التمليك في حق المعدوم حين الإنشاء إلا استعداد الملكية لأن تصير العين الموقوفة ملكا للمعدوم بعد وجوده.

و الضمير في «استعدادها» يرجع إلى الملكية، و ضمير «له، و وجوده» راجعان إلى المعدوم.

(4) أي: شمول الإنشاء للمعدومين بنحو الشأنية إنما يكون فيما إذا أنشئ الطلب غير

ص: 351

و أما إذا أنشئ مقيّدا بوجود المكلف و وجدانه للشرائط؛ فإمكانه (1) بمكان من الإمكان.

و كذلك (2) لا ريب في عدم صحة خطاب المعدوم؛ بل الغائب حقيقة (3) و عدم إمكانه، ضرورة (4): عدم تحقق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة إلا إذا كان موجودا، و كان بحيث يتوجه إلى الكلام، و يلتفت إليه.

و منه (5) قد انقدح: أن ما وضع للخطاب - مثل: أدوات النداء - لو كان موضوعا مقيد بوجود المكلف. و أما إذا أنشئ مقيدا به، و بكونه جامعا للشرائط، فلا إشكال في إمكانه، كما إذا قيل: «إذا وجد مستطيع وجب عليه الحج» فإنه لا إشكال و لا ريب في صحة هذا الإنشاء.

=============

(1) أي: فإمكان إنشاء الطلب المنوط بوجود المكلف بمكان من الإمكان.

(2) هذا إشارة إلى المحذور الثاني من المحاذير الثلاثة، و حاصله: أنه كما لا ريب في عدم صحة تكليف المعدومين عقلا إلا إذا كان التكليف بمعنى مجرد إنشاء الطلب كما تقدم.

توضيح ذلك: كذلك لا ريب في عدم صحة الوجه الثاني، و هو مخاطبة المعدوم؛ بل الغائب، لأخذ تفهيم المخاطب في مفهوم الخطاب كما عن المجمع و غيره، قال في المجمع:

«الخطاب هو توجيه الكلام نحو الغير للإفهام»، فصحة الخطاب الحقيقي منوطة بوجود المخاطب، و قابليته لتوجه الخطاب إليه، فالمعدوم بل الغائب لا يكون قابلا لتوجيه الكلام إليه.

(3) يعني: لا يصح خطاب المعدوم؛ بل الغائب حقيقة، بل لا يمكن الخطاب كذلك.

(4) تعليل لعدم صحة خطاب المعدوم؛ إذ لا يتحقق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة «إلا إذا كان موجودا، و كان بحيث يتوجه إلى الكلام و يلتفت إليه» إلى: الكلام.

فالمتحصل: أن الوجه الثاني - و هو مخاطبة المعدومين - غير صحيح؛ لعدم خلوّه عن المحذور كعدم خلوّ الوجه الأول و هو تكليف المعدوم عنه.

(5) أي: و من عدم صحة خطاب المعدوم. و هذا إشارة إلى الوجه الثالث الذي أشار إليه بقوله: «أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين؛ بل المعدومين، و عدم عمومها لهما» يعني: مما ذكرناه من عدم صحة خطاب المعدوم قد ظهر: أن أدوات النداء و غيرها مما وضع للخطاب لو كانت موضوعة للخطاب الحقيقي و فرض استعمالها في الخطاب الحقيقي لكان العموم الواقع في تلو تلك الأدوات مختصا بالحاضرين، و لا يشمل المعدومين؛ لما ذكر من عدم صحة خطاب المعدوم، و المراد من

ص: 352

للخطاب الحقيقي لأوجب استعماله فيه (1) تخصيص ما يقع في تلوه بالحاضرين، كما أن قضية إرادة العموم منه لغيرهم استعماله في غيره (2).

«مثل أدوات النداء» هو ضمير الخطاب.

=============

(1) يعني: في الخطاب الحقيقي يعني: أوجب استعمال ما وضع للخطاب في الخطاب الحقيقي تخصيص متلوه أعني: العام بالحاضرين. فالنتيجة: أن أدوات الخطاب - بناء على وضعها للخطاب الحقيقي - لا تشمل المعدومين؛ إذ لا بد من تخصيص العموم بالحاضرين حتى لا يلزم استعمال الأداة في غير الموضوع له أعني به: الخطاب الحقيقي المختص بالحاضرين.

فقوله: «بالحاضرين» متعلق بقوله: «تخصيص»؛ لأن الحاضرين هم الذين يصح خطابهم حقيقة.

(2) أي: في غير الخطاب الحقيقي و ضمير «استعماله» راجع إلى «ما وضع للخطاب». و ضمير «منه» إلى «ما» في قوله: «ما يقع في تلوه». و ضمير «لغيرهم» إلى الحاضرين، يعني: كما أن قضية إرادة العموم من متلو أدوات الخطاب لغير الحاضرين استعمال تلك الأدوات في غير الخطاب الحقيقي، إذ لو استعملت في الخطاب الحقيقي لزم أن يكون إرادة غير الحاضرين منها بنحو المجاز أيضا.

و بالجملة: فمع لحاظ وضع الأدوات في الخطاب الحقيقي المختص بالحاضرين، و عموم الألفاظ الواقعة عقيبها لغير الحاضرين، لا بد من ارتكاب أحد التّجوزين؛ إما باستعمال الأدوات في غير المخاطب الحقيقي لتطابق معنى الألفاظ العامة الواقعة بعدها، و إما باستعمال الألفاظ الواقعة بعدها في غير العموم أي: في خصوص الحاضرين، لتطابق معنى الأدوات أعني: الخطاب الحقيقي، و كلا التجوّزين خلاف الأصل. فقوله:

«لأوجب استعماله فيه تخصيص..» إلخ إشارة إلى التجوّز الأول، و قوله: «كما أن قضية إرادة العموم..» الخ إشارة إلى التجوّز الثاني.

و كيف كان؛ فالوجه الثالث من وجوه مورد النزاع أيضا غير خال عن المحذور كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 589».

و قد أشار إلى تصحيح الوجه الثالث: بدفع التجوّزين المذكورين - أعني: تخصيص عموم الألفاظ الواقعة عقيب الأدوات بالحاضرين، أو تعميم الأدوات لغير الحاضرين - بقوله: «لكن الظاهر..» إلخ، و حاصل الدفع: أن هذين المحذورين مبنيان على وضع الأداة للخطاب الحقيقي القائم بالطرفين كالطلب القائم بهما. و أما بناء على وضعها للخطاب الإنشائي: فلا يلزم من إرادة غير الحاضرين منها، و من الألفاظ العامة الواقعة بعدها شيء

ص: 353

لكن الظاهر: أن مثل أدوات النداء لم يكن موضوعا لذلك؛ بل للخطاب الإيقاعي الإنشائي، فالمتكلم ربما يوقع الخطاب بها تحسّرا و تأسفا و حزنا مثل: يا كوكبا ما كان أقصر عمره، أو شوقا، و نحو ذلك، كما يوقعه (1) مخاطبا لمن يناديه حقيقة، فلا (2) يوجب استعماله في معناه الحقيقي - حينئذ - التخصيص بمن يصح مخاطبته.

نعم (3)؛ لا يبعد دعوى الظهور انصرافا في الخطاب الحقيقي كما هو (4) الحال في من التجوّزين أصلا، أما من ناحية الأدوات؛ فلاستعمالها في معناها الحقيقي حينئذ. و أما من ناحية الألفاظ الواقعة بعدها: فلشمولها لغير الحاضرين كشمولها لهم، و هو واضح.

=============

و بالجملة؛ فبناء على وضع الأدوات للخطاب الإنشائي يمكن استعمالها في الحاضرين و الغائبين و المعدومين على نسق واحد، بلا لزوم مجاز أصلا، غاية الأمر: أن الاختلاف بين موارد استعمالها يكون في دواعي الإنشاء، فقد يكون الإنشاء بداعي النداء، كقوله:

للحاضر عنده: «يا زيد احفظ كذا»، و قد يكون بداعي التأسف؛ كقوله: «يا كوكبا ما كان أقصر عمره»، و قد يكون بداعي الشوق، كقوله:

يا آل بيت رسول الله حبّكم *** فرض من الله في القرآن أنزله

(1) أي: يوقع الخطاب يعني: يوقع المتكلم الخطاب مخاطبا لمن يناديه حقيقة، نحو «أيا من لست أنساه» بلا تحسّر أو تأسّف أو غيرهما من دواعي إنشاء الخطاب، فأدوات الخطاب على هذا تستعمل دائما في معناها الحقيقي و هو إنشاء الخطاب بلا لزوم مجاز أصلا؛ لاختلاف الدواعي لا المعاني.

(2) متفرع على قوله: «لكن الظاهر..» الخ. يعني: بعد البناء على وضع أدوات الخطاب للخطاب الإنشائي سواء كان بداعي الحقيقة أو بسائر الدواعي؛ كاظهار الشوق، أو الحزن، أو الحسرة، أو الندبة، أو السخرية، أو غير ذلك، فلا يوجب استعمال مثل أدوات النداء في معناه الحقيقي حينئذ أي: حين لم تكن أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الحقيقي أي: لا يوجب «التخصيص بمن يصح مخاطبته» من الحاضرين فقط؛ بل يشمل المعدومين و الغائبين؛ لأنه لا مانع من تعلّق الخطاب الإنشائي بهما.

(3) استدراك على كون الأدوات موضوعة للخطاب الإنشائي الذي لا يلزم مجاز من استعمالها فيه، و إرادة المعدومين. و حاصله: أن الأدوات و إن وضعت للخطاب الإنشائي؛ لكن لا تبعد دعوى ظهورها انصرافا في الخطاب الحقيقي؛ لكون الغالب نشوء الخطاب الإنشائي عن داعي الخطاب الحقيقي، و عليه: فيكون الظاهر الناشئ عن الانصراف المزبور: أن الخطاب حقيقي، فيختص بالحاضرين.

(4) أي: الظهور الانصرافي حال غير أدوات الخطاب من حروف الاستفهام و الترجّي

ص: 354

حروف الاستفهام و الترجّي و التمنّي و غيرها (1) على ما حققناه في بعض المباحث السابقة (2) من كونها موضوعة للإيقاعي منها بدواع مختلفة، مع ظهورها في الواقعي منها انصرافا (3) إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه، كما يمكن دعوى وجوده (4) غالبا في كلام الشارع، ضرورة (5): وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل: يا أيّها النّاس اتّقوا، و يا أيّها المؤمنون بمن حضر مجلس الخطاب بلا شبهة و لا ارتياب.

و يشهد (6) لما ذكرنا: صحة النداء بالأدوات، مع إرادة العموم من العام الواقع تلوها بلا عناية، و لا للتنزيل و العلاقة رعاية.

و التمنّي و غيرها، حيث أنها وضعت أيضا لإنشاء الاستفهام و الترجي و غيرهما، غاية الأمر: أن دواعي الاستفهام مختلفة، فقد يكون طلب الفهم حقيقة كما إذا كان جاهلا و اراد الفهم، و قد يكون التقرير، و قد يكون الإنكار، إلى غير ذلك من الدواعي.

=============

(1) أي: كالعرض مثل «ألا تنزل بنا».

(2) و هو الجهة الرابعة من مباحث الأوامر، و ضمير «كونها» راجع إلى الاستفهام و ما بعده، كما أن الضمير «منها» في موردين راجع إلى الاستفهام و ما بعده، و ضمير «ظهورها» راجع إلى «حروف الاستفهام و الترجي و التمنّي و غيرها».

(3) قيد لقوله «ظهورها» يعني: هذا الظهور الانصرافي ناشئ عن قرينة تمنع عن الانصراف المزبور؛ كما إذا وقعت أدوات الاستفهام و الترجّي و غيرهما في كلامه «سبحانه و تعالى»، كقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ، و لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * و نحو ذلك، فإنه لا يمكن حملها على الحقيقي منها.

(4) أي: وجود المانع عن الانصراف إلى المعاني الحقيقية.

(5) تعليل لدعوى وجود المانع عن الانصراف المذكور، و حاصله: أن وضوح عدم اختصاص الأحكام الشرعية ببعض دون بعض، و كونها قانونية مانع عن الانصراف الموجب لظهور اختصاص الخطابات بالحاضرين في مجلس الخطاب.

(6) أي: و يشهد لما ذكرنا من عدم اختصاص الوضع بالخطاب الحقيقي، - بل للخطاب الإيقاعي الإنشائي - صحة النداء بالأدوات، مع إرادة العموم من الواقع تلوها للغائبين و المعدومين جميعا، مع عدم رعاية تنزيل الغائب و المعدوم منزلة الحاضر و الموجود، فهذا أقوى شاهد على كون أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الإنشائي لا الحقيقي، و إلا لما صحت إرادة العموم إلا بالتنزيل و العناية و رعاية قرينة المجاز، فلو كانت موضوعة للحاضرين لم يجز استعمالها في العموم بلا ملاحظة علاقة المجاز بين المعنى الحقيقي و المجازي.

ص: 355

و توهّم كونه (1) ارتكازيا، يدفعه عدم العلم به مع الالتفات إليه، و التفتيش عن حاله مع حصوله (2) بذلك لو كان مرتكزا، و إلا (3) فمن أين يعلم بثبوته كذلك ؟ كما هو واضح.

=============

(1) أي: توهم كون التنزيل الذي هو سبب صحة الاستعمال في العموم ارتكازيا.

و غرض هذا المتوهّم: هو إنكار وضع الأدوات للخطاب الإيقاعي الإنشائي الذي ادّعاه الخصم، و بنى صحة إرادة العموم منها لغير المشافهين على وضعها للخطاب الإنشائي.

توضيح التوهم: إن إرادة العموم من تالي الأدوات ليست لأجل وضعها للخطاب الإيقاعي - كما ادعاه الخصم - بل لأجل التنزيل الارتكازي المصحح لإرادة العموم من تاليها، مع وضعها للخطاب الحقيقي.

و على هذا: فلا تشهد صحة النداء بالأدوات - مع إرادة العموم من تاليها لغير المشافهين - بوضعها للخطاب الإنشائي.

قوله: «يدفعه» خبر «توهم» و دفع له.

و حاصل الدفع: أنه لو كان تنزيل غير الصالح للإفهام منزلة الصالح له ارتكازيا لزم حصول العلم به بعد التأمل و التفتيش عنه، مع إنه ليس كذلك، و الحاصل: أنه لو كان هناك تنزيل لالتفتنا إليه عند التفتيش، فعدم وجدان التنزيل حين التفتيش دليل على عدم التنزيل؛ إذ لا نرى في المقام تنزيلا حتى بعد التدبر؛ بل نرى استعمال النداء في المقام على حد استعماله في خصوص الحاضرين في عدم التنزيل و رعاية العلاقة.

و كيف كان؛ فعدم العلم بالتنزيل الارتكازي - حتى بعد التأمل و التفتيش - كاشف عن عدمه، و عدم توقف صحة إرادة العموم من الواقع تلو أدوات النداء على التنزيل، و لحاظ العلاقة كاشف عن وضع أدوات النداء للخطاب الإيقاعي الإنشائي. و الضمير في «حاله» راجع إلى التنزيل.

(2) أي: مع حصول العلم بالتنزيل «بذلك» أي: بسبب الالتفات و التفتيش لو كان التنزيل ارتكازيا.

(3) أي: و إن لم يحصل العلم بالتنزيل بالالتفات و التفتيش فمن أين يعلم بثبوت التنزيل ارتكازا؟ فضمير «بثبوته» راجع إلى التنزيل، و قوله: «كذلك» يعني: ارتكازيا.

و الحاصل: أنه لو لم يكن التفتيش سببا لظهور التنزيل و العلم به فمن أين نعلم بالتنزيل الارتكازي ؟

ص: 356

و إن أبيت (1) إلا عن وضع الأدوات للخطاب الحقيقي، فلا مناص عن التزام اختصاص الخطابات الإلهية بأداة الخطاب، أو بنفس (2) توجيه الكلام بدون الأداة كغيرها بالمشافهين (3)، فيما لم يكن هناك قرينة على التعميم (4).

و توهّم (5): صحة التزام التعميم في خطاباته تعالى لغير الموجودين، فضلا عن

=============

(1) يعني: إنك إن أبيت عما تقدم منّا من وضع الأدوات للخطاب الإيقاعي الإنشائي، و التزمت بوضعها للخطاب الحقيقي فلا مناص حينئذ عن الالتزام باختصاص ما يقع في تلوها بالحاضرين في مجلس الخطاب فقط، و أن الخطابات الإلهية كغيرها من الخطابات تختص بالمشافهين خاصة فيما لم تكن هناك قرينة على التعميم.

و كيف كان؛ فغرضه: إنه لو لم يلتزم الخصم بما قلناه - من وضع أدوات الخطاب للخطاب الإنشائي حتى يصح إرادة العموم من تاليها للغائبين و المعدومين، من دون عناية و علاقة، و التزم بوضع الأدوات للخطاب الحقيقي - فلا محيص حينئذ عن اختصاص الخطابات بالمشافهين، و عدم صحة شمولها للمعدومين إلا بوجود قرينة على التعميم موجبة للمجازية.

(2) عطف على أدوات الخطاب يعني: أن الخطابات الإلهية سواء كانت بأدوات الخطاب كقوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا ، أم بنفس توجيه الكلام كقوله تعالى:

وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً بناء على وضع الأدوات للخطاب الحقيقي تختص بالمشافهين، و لا تشمل الغائبين عن مجلس الخطاب - فضلا عن المعدومين - إلا بقرينة تدل على التعميم.

(3) أي: «اختصاص الخطابات..» إلخ بالمشافهين.

(4) و أما لو كانت قرينة على التعميم نحو غالب الخطابات التي علم عدم اختصاصها؛ فلا بد و أن نقول: بشمولها للجميع؛ و لو بنحو المجاز و العناية بتنزيلها منزلة الحاضرين.

(5) و الغرض من هذا التوهم هو: تصحيح توجه خطاباته تعالى لغير الحاضرين، و ذلك بالفرق بين خطابات الملوك، فلا بد من اختصاصها بالحاضرين، و بين خطاباته تعالى فلا تختص بالحاضرين.

توضيح ذلك: أن عدم صحة توجيه الخطاب الحقيقي إلى الغائبين و المعدومين يختص:

بما إذا كان المتكلم غير الله تعالى، و أما إذا كان هو الباري «عزّ و جل» فلا بأس به، و يصح منه خطاب المعدوم حقيقة، حيث إنه «جلّ و علا» محيط بالموجودات في الحال، و الموجودات في الاستقبال؛ لتساوي نسبة الممكنات إليه تعالى.

ص: 357

الغائبين؛ لإحاطته بالموجود في الحال، و الموجود في الاستقبال فاسد (1).

ضرورة: أن إحاطته تعالى لا توجب صلاحية المعدوم؛ بل الغائب للخطاب، و عدم صحة المخاطبة معهما لقصورهما لا يوجب نقصا في ناحيته تعالى (2)، كما لا يخفى. كما أن (3) خطابه اللفظي لكونه تدريجيا و متصرم الوجود كان قاصرا (4) عن أن يكون موجها نحو غير من كان بمسمع منه، ضرورة. هذا (5) لو قلنا بأن و يؤيد ذلك: قوله تعالى: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ

=============

(1)، فالكل في عرض واحد مشهود لديه «جلّ شأنه»، فيصح خطابه للمعدوم، كما يصح للموجود.

(1) خبر لقوله: «و توهّم» و دفع له. و حاصل فساد التوهم المذكور: - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 597» - أن محل الكلام خطاب المكلّفين بوجودهم الزماني الجسماني، لا بوجودهم المثالي أو العقلي، حيث إن التكليف المشروط بالاختيار القابل للإطاعة و العصيان لا يتوجه إلا إلى الموجود المختار القابل للإطاعة و المعصية، فالمعدوم قاصر و غير قابل لتوجيه الخطاب الحقيقي إليه، فالقصور في ناحيته؛ لا في ناحية المخاطب - بالكسر - حتى يقال: إنه تعالى محيط بالموجود و المعدوم على نهج واحد، و يصح له خطاب المعدوم، فإن إحاطته تعالى بهما لا توجب قابلية المعدوم للخطاب، و لا ترفع قصوره. كما أن قصوره لا يوجب نقصا في ناحيته «تبارك و تعالى»، نظير امتناع اجتماع الضدين، فإن امتناعه لا يوجب نقصا في قدرته «عزّ اسمه»، كما أن قدرته الكاملة و إحاطته التامة لا توجب قابلية الضدين للاجتماع.

(2) إذ عدم قابلية الظرف مثلا لأخذ ماء البحر ليس من جهة نقص في ماء البحر؛ بل من جهة نقص الظرف. و قد ورد في بعض من الروايات حين سئل الإمام عن تعلق قدرة الله تعالى بالمستحيل فأجاب «عليه السلام»: بأن «ربّنا لا يوصف بالعجز و لكن الطرف غير قابل».

(3) يعني: كما أن إحاطته تعالى بالمعدوم لا توجب صلاحيته للخطاب الحقيقي لقصوره؛ كذلك لا يكون نفس الخطاب اللفظي المتصرم وجوده قابلا لتوجهه إلى المعدوم؛ لأن المراد بالخطاب - و هو القرآن - وجوده اللفظي التدريجي المتصرم؛ لا وجوده في اللوح المحفوظ، و من المعلوم: انعدام الخطاب قبل وجود المعدومين.

(4) وجه قصوره تدريجية الكلام، و تصرّمه، و عدم وجود المخاطب حين الخطاب، فلو كان الخطاب أبديا كان توجهه إلى المعدوم بعد وجوده ممكنا.

(5) أي: اختصاص الخطابات بالمشافهين، و عدم شمولها للغائبين و المعدومين مبني

ص: 358


1- الأعراف: 172.

الخطاب بمثل: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اِتَّقُوا *(1) في الكتاب حقيقة إلى غير النبي «صلى الله عليه و آله» بلسانه (1)، و أما إذا قيل: بأنه المخاطب و الموجّه إليه الكلام حقيقة وحيا أو إلهاما (2)، فلا محيص (3) إلا عن كون الأداة في مثله للخطاب الإيقاعي و لو مجازا (4).

على كونها متوجهة حقيقة إليهم، ضرورة: امتناع توجه الخطاب الحقيقي إلى الغائب و المعدوم؛ لا إلى النبي «صلى الله عليه و آله»، بل هو «صلى الله عليه و آله» مبلّغ لتلك الخطابات عن الله «عزّ و جل» إليهم. و أما بناء على كون المخاطب نفسه المقدسة «صلى الله عليه و آله» حقيقة بالوحي أو الإلهام فلما لم يصح انطباق العنوان الواقع تلو أدوات الخطاب؛ كالناس و المؤمنين و نحوهما من ألفاظ العموم عليه «صلى الله عليه و آله»؛ لعدم انطباق الجمع المفرد، فلا بد من الالتزام بإرادة الخطاب الإيقاعي من أدواته حقيقة أو مجازا، كما يلتزم به القائل بوضع الأدوات للخطاب الحقيقي، و حينئذ فيشمل الخطاب الإنشائي الحاضر مجلس الخطاب و الغائب عنه و المعدومين بوزان واحد، فلا مانع حين استعمال الأدوات في الخطاب الإيقاعي من شمول العمومات الواقعة تلوها للكل حتى المعدومين، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 598» مع تصرف ما.

=============

(1) أي: بلسان النبي «صلى الله عليه و آله»؛ بأن يكون النبي «صلى الله عليه و آله» مبلّغا لتلك الخطابات إليهم.

(2) أي: أن الكلام يكون موجّها إلى النبي «صلى الله عليه و آله» بالوحي أو الإلهام.

(3) قوله: «فلا محيص» جواب «أمّا»، الظاهر زيادة كلمة «إلا» في قوله: «إلا عن كون الأداة»؛ لأن الغرض من هذه العبارة: أنه لا بد من الالتزام في هذا الفرض بالخطاب الإنشائي، و الكلام الدال على هذا المعنى أن يقال: فلا محيص عن كون الأداة في مثله للخطاب الإيقاعي، و إلا فمقتضى كون الاستثناء من النفي إثباتا وجود المحيص عن الالتزام بالخطاب الإنشائي، و هو خلاف المقصود؛ إذ مرجعه إلى إمكان عدم الأخذ و الالتزام بالخطاب الإنشائي، و الأخذ بالخطاب الحقيقي، مع إن الخطابات بصورة الجمع و المخاطب واحد.

(4) أي: على القول بوضع أدوات الخطاب للخطاب الحقيقي.

قوله: «و عليه» أي: و على ما ذكر من إنه لا محيص عن الالتزام بكون الأداة للخطاب الإيقاعي «لا مجال لتوهم اختصاص..» الخ؛ إذ الجميع غير موجّه إليهم الخطاب حسب

ص: 359


1- الحج: 1.

و عليه: لا مجال لتوهّم اختصاص الحكم المتكفل له الخطاب بالحاضرين، بل يعمّ المعدومين فضلا عن الغائبين.

الفرض، فالقول بشموله البعض فقط دون غيره تحكم.

=============

لا يقال: إنه يمكن أن يقال بعدم شمول الجميع، لأن الخطاب حقيقة موجه إلى النبي «صلى الله عليه و آله»، و لا وجه للقول بالمجازية، و أن الخطاب إيقاعي.

فإنه يقال: لا يمكن ذلك؛ لأنه يلزم عدم شمول الخطابات الشفاهية للحاضرين، و لم يقل به أحد.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - المراد بالخطابات الشفاهية - مثل: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ - ظاهرا: هو الكلام المقرون بأداة الخطاب.

و محل النزاع يمكن أن يكون في صحة تعلق التكليف الذي يشتمل عليه الخطاب بالمعدومين، كما يصح تعلقه بالموجودين.

و يمكن أن يكون في صحة مخاطبة غير الحاضرين من الغائبين و المعدومين، و يمكن أن يكون في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أدوات الخطاب لغير الحاضرين من الغائبين؛ بل المعدومين، و عدم عمومها لهم بقرينة الخطاب.

ثم النزاع على الوجهين الأولين يكون عقليا، و على الوجه الأخير يكون لفظيا.

إذا عرفت هذه الوجوه فاعلم: أنه لا يصح تعلق التكليف بالمعدوم عقلا، بمعنى: بعثه أو زجره فعلا؛ لعدم قابلية المعدوم للانبعاث و الانزجار فعلا.

نعم؛ يصح تعلق التكليف به بنحوين:

الأول هو: تعلق التكليف الإنشائي غير المشتمل على البعث و الزجر، فإنه خفيف المئونة، فيصير فعليا حين وجود المعدوم، و تحقق شرائطه.

نظير إنشاء الملكية في باب الوقف للبطون اللاحقة؛ لتصير فعليه حين وجودها بنفس الإنشاء السابق.

الثاني: التكليف الفعلي بقيد وجود المكلف بمعنى: أن يتعلق التكليف الفعلي بالموجود الاستقبالي، و قد أشار إليه المصنف «قدس سره» بقوله: «فإمكانه بمكان من الإمكان» أي: فإمكان الطلب المنوط بوجود المكلف بمكان من الإمكان.

2 - أن أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الإيقاعي الإنشائي؛ إذ لو كانت موضوعة

ص: 360

للخطاب الحقيقي، و فرض استعمالها في الخطاب الحقيقي لكان العموم الواقع في تلو تلك الأدوات مختصا بالحاضرين، و لا يشمل المعدومين؛ إذ لا يصح خطاب المعدوم بالخطاب الحقيقي إلا من باب المجاز بعد التأويل و التنزيل.

و كيف كان؛ فالظاهر - عند المصنف - عدم وضع أداة الخطاب للخطاب الحقيقي؛ بل للخطاب الإيقاعي الإنشائي، فيستعمل فيما وضع له أعني: الخطاب الإيقاعي بدواع مختلفة - كما في كلام المصنف - فلا يقتضي وضعا اختصاص المدخول بالحاضر.

نعم؛ لا يبعد اقتضاؤه إياه انصرافا لو لم يكن هناك مانع عن الانصراف، كما في خطابات الشرع، فإنه في مقام جعل القانون بنحو القضية الحقيقية.

و يشهد لما ذكره المصنف من عدم اختصاص الوضع بالخطاب الحقيقي - بل للخطاب الإيقاعي - صحة النداء بالأدوات مع إرادة العموم من الواقع تلوها للغائبين و المعدومين جميعا، مع عدم رعاية تنزيل الغائب و المعدوم منزلة الحاضر و الموجود، إذ على فرض الوضع للخطاب الحقيقي لما صحّت إرادة العموم إلا بالتنزيل و العناية، و رعاية قرينة المجاز.

3 - توهّم كون التنزيل - الذي هو سبب صحة الاستعمال - في العموم ارتكازيا، لأنّ إرادة العموم من تالي الأدوات ليست لأجل وضعها للخطاب الحقيقي، و على هذا فلا تشهد صحة النداء بالأدوات - مع إرادة العموم من تاليها لغير المشافهين - بوضعها للخطاب الإنشائي، و لازم هذا: إنكار وضع الأدوات للخطاب الإيقاعي الإنشائي الذي ادعاه المصنف مدفوع، بأنّه لو كان تنزيل غير الصالح للإفهام منزلة الصالح له ارتكازيا للزم حصول العلم به بعد التأمل و التفتيش عنه، مع إنّه ليس كذلك، فعدم حصول العلم بالتنزيل، و عدم وجدانه بالتفتيش دليل على عدم التنزيل؛ إذ لا نرى في المقام تنزيلا حتى بعد التأمل و التفتيش؛ بل نرى استعمال النداء في المعدوم و الغائب على حدّ استعماله في خصوص الحاضرين في عدم التنزيل و رعاية العلاقة، و هذا كاشف عن وضع أدوات النداء، للخطاب الإيقاعي الإنشائي.

نعم؛ من يقول: بمنع وضعها للخطاب الإنشائي، بل بوضعها للخطاب الحقيقي فلا مناص له حينئذ عن الالتزام باختصاص ما يقع في تلوها بالحاضرين في مجلس الخطاب فقط.

4 - و توهم: صحة التزام التعميم في خطاباته تعالى لغير الموجودين، فضلا عن الغائبين بلحاظ: إحاطته بكل من الموجود و المعدوم، فالكل بالنسبة إلى ساحته تعالى من

ص: 361

قبيل المشافه مدفوع؛ بأنه تعالى و إن كان محيطا للكل إلا إنّه لا يصح أن يكون الكل مخاطبا شفاهيا له تعالى، و ذلك ليس لقصور في إحاطته تعالى؛ بل لقصور فيهم و قصور الألفاظ؛ لأن المعدوم قاصر و غير قابل لتوجيه الخطاب الحقيقي إليه، فإن إحاطته به لا توجب قابلية المعدوم للخطاب الحقيقي، كما أن قصوره لا يوجب نقصا في ناحيته تعالى.

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - وضع أدوات الخطابات الشفاهية للخطاب الإيقاعي الإنشائي.

2 - عدم اختصاص الخطابات الشفاهية بالمشافهين؛ بل يشمل الغائبين و المعدومين حسب ما هو مبنى المصنف؛ من وضعها للخطاب الإنشائي دون الحقيقي.

ص: 362

فصل

ربما قيل: إنه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان.

الأولى (1):

حجيّة ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين.

و فيه (2): أنه مبني على اختصاص حجيّة الظواهر بالمقصودين بالإفهام، و قد حقق

=============

فصل ثمرة القول بعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين

(1) الثمرة الأولى: للمحقق القمّي «قدس سره»، فإنه ذكر في بحث الخطابات الشفاهية: أن ثمرة عموم الخطابات القرآنية للمعدومين و عدمه هي حجّية ظواهرها لهم و عدمها بمعنى: أنه على القول بعموم الخطابات للغائبين، بل المعدومين تكون ظواهرها حجة لهم كحجيّة ظواهرها للمشافهين، فيجوز لهم التمسك بعمومها و إطلاقها.

و أما على القول بعدم عمومها: لا تكون ظواهرها حجة لهم، فليس لهم التمسك بها لإثبات التكاليف في حقهم؛ بل لا سبيل لإثباتها لهم إلا الإجماع، و قاعدة اشتراك جميع المكلفين في التكاليف.

فالمتحصل: أن الخطابات إن كانت متوجهة إلى المعدومين - كالموجودين - فهم بأنفسهم مخاطبون كالموجودين، فظواهر الخطابات حجة لهم كحجيتها للمشافهين، و إن لم تكن متوجهة إلى المعدومين فلا تكون ظواهرها حجة لهم. و ضمير «لهم» راجع إلى المعدومين.

(2) توضيح الإشكال على هذه الثمرة يتوقف على مقدمة و هي: أن ترتب هذه الثمرة أعني: حجية ظواهر الخطابات للمعدومين مبني على مقدمتين:

الأولى: اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه، حيث إنهم بناء على شمول الخطابات لهم مقصودون بالإفهام، فالظواهر حجة لهم، و أما بناء على حجية الظواهر مطلقا حتى بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه: فلا تكون هذه الثمرة صحيحة، لشمول الخطابات للمعدومين؛ إذ المفروض: حجية الظواهر لهم و إن لم يكونوا مقصودين

ص: 363

عدم الاختصاص بهم. و لو سلّم، فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع؛ بل الظاهر: أن الناس كلهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك و إن لم يعمهم الخطاب، كما يومئ إليه غير واحد من الأخبار.

بالإفهام، و لم تشملهم الخطابات.

=============

الثانية: أن غير المشافهين للخطابات القرآنية لم يكونوا مقصودين بالإفهام؛ بأن لا يكون الكتاب العزيز من قبيل تصنيف المصنفين و تأليف المؤلفين؛ إذ بناء على كونه من قبيل تأليف المؤلفين لا تكون هذه الثمرة صحيحة، لكون المعدومين حينئذ كالموجودين مقصودين بالإفهام.

و إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه إذا تمت هاتان المقدمتان اختص قهرا حجية ظواهر الكتاب بالمشافهين فقط، فتتم حينئذ الثمرة الأولى في المقام؛ إذ يقال: إنه على القول بعموم الخطابات القرآنية و شمولها لغير المشافهين تكون هي حجة لنا و إلا فلا.

إلاّ إن المصنف ردّ على كلتا المقدمتين، و قد اشار إلى ردّ المقدمة الأولى بقوله: «و قد حقق عدم الاختصاص بهم» أي: بالمقصودين بالإفهام، فإن المحقق في محله: عدم اختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه؛ و إن ذهب البعض إلى الاختصاص.

و قد أشار إلى ردّ المقدمة الثانية بقوله: «و لو سلم: فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع»، و هذا الإشكال راجع إلى منع الصغرى بعد تسليم الكبرى و هي: التفصيل في حجية الظواهر بين المقصود بالإفهام و غيره، فيقال بحجيّتها في الأول دون الثاني، بتقريب: أنه كيف يكون المقصود بالإفهام خصوص المشافهين، مع كون المعدومين مكلّفين بتكاليف المشافهين كالموجودين ؟ فنفس الخطاب الحقيقي و إن كان لم يشمل المعدومين لكنهم مقصودون بالإفهام، كما أشار إليه بقوله: «بل الظاهر: أن الناس كلهم إلى يوم القيام يكون كذلك» أي: مقصودين بالإفهام، و الصواب «يكونون» بدل «يكون»؛ لرجوع ضميره إلى الناس و هو اسم جمع. «و إن لم يعمّهم الخطاب» بحيث يصح لهم التمسك به في إثبات تكاليفهم؛ و ذلك لما مر سابقا من: امتناع شمول الخطاب الحقيقي للمعدومين، و هو لا يستلزم عدم كونهم مقصودين بالإفهام أيضا؛ إذ لا ملازمة بين اختصاص الخطاب بشخص، و بين اختصاص من قصد إفهامه به «كما يومئ إليه غير واحد من الأخبار»؛ أي: كما يومئ إلى كونه مقصودين بالإفهام «غير واحد من الأخبار» كحديث الثقلين، فإن ظاهر الكتاب و السنة لو لم يكن حجة لما كان التمسك بهما مانعا عن الضلال، فالخطابات الواردة في الكتاب و السنة و إن لم نقل بشمولها للمعدومين؛ لكنهم مقصودون بالإفهام قطعا.

ص: 364

الثانية (1):

صحة التمسك بإطلاقات الخطابات القرآنية بناء على التعميم لثبوت الأحكام لمن وجد و بلغ من المعدومين و إن لم يكن (2) متحدا مع المشافهين في الصنف، و عدم و كالأخبار الآمرة بعرض الأخبار المتعارضة على الكتاب و السنّة، و الأخذ بما يوافقهما، و طرح ما يخالفهما، و غير ذلك من الأخبار الظاهرة في كون ظواهر الخطابات القرآنية و المعصومية حجة على المعدومين كحجيّتها على الموجودين، و غير ذلك من الروايات الدالة على عدم اختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بالإفهام، كما في «منتهى الدراية، ج 3. ص 602» مع تصرف ما.

=============

(1) هذه الثمرة الثانية المترتبة على النزاع في الخطابات الشفاهية مذكورة في القوانين و غيره و حاصلها: أنه - بناء على شمول الخطابات للمعدومين - يصح التمسك بإطلاقاتها لإثبات الأحكام للمعدومين بعد وجودهم و بلوغهم، إذ المفروض: أن الخطاب المتكفل لثبوت الحكم للعنوان المنطبق على المعدومين مثل: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ * و يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا * و نحو ذلك يدل بنفسه على ثبوت الحكم لهم؛ و إن لم يكونوا متحدين مع المشافهين في الصنف، فيمكن إثبات وجوب صلاة الجمعة مثلا للمعدومين بقوله تعالى:

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلاٰةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اَللّٰهِ (1) مع اختلافهم صنفا مع الموجودين؛ لكونهم حينذاك متنعمين بشرف حضور المعصوم «عليه السلام»؛ دون المعدومين الذين هم فاقدون لهذه النعمة، لكن لمّا كان نفس الخطاب شاملا لهم، فهم كالموجودين مكلّفون بصلاة الجمعة.

و أما بناء على عدم شمول الخطابات للمعدومين: لا يجوز لهم التمسك بها لإثبات ما تضمنته من الأحكام؛ إذ الدليل على ثبوت الأحكام حينئذ لهم هو الإجماع و هو دليل لبّي، فلا بد من الأخذ بالمتيقّن منه و هو اتحادهم مع الموجودين في الصنف.

قوله: «بناء على التعميم» أي: تعميم الخطابات للمعدومين، «و لثبوت» متعلق بقوله:

«التمسك».

(2) أي: و إن لم يكن من وجد و بلغ من المعدومين متحدا صنفا مع المشافهين؛ إذ انطباق العنوان كاف لإثبات الحكم على هذا الفرض.

ص: 365


1- الجمعة: 9.

صحته (1) على عدمه؛ لعدم كونها (2) حينئذ متكفلة لأحكام غير المشافهين.

فلا بد من إثبات اتحاده (3) معهم في الصنف حتى يحكم بالاشتراك مع المشافهين في الأحكام، و حيث (4) لا دليل عليه حينئذ (5) إلا الإجماع، و لا إجماع عليه (6) إلا فيما اتحد الصنف، كما لا يخفى.

و لا يذهب عليك (7)؛ أنه يمكن إثبات الاتحاد و عدم دخل ما كان البالغ

=============

(1) أي: عدم صحة التمسك بالإطلاق بناء على عدم التعميم.

(2) أي: لعدم كون الإطلاقات «حينئذ» أي: حين لم تكن تشمل المعدومين.

فقوله: «لعدم» تعليل لعدم صحة التمسك.

(3) أي: اتحاد غير المشافهين مع المشافهين «في الصنف»، بأن يكون رجلا لو كان المشافهون من الرجال مثلا.

وجه اللابدية: أن اتحاد الصنف شرط موضوع دليل الاشتراك، فلا يجري هذا الدليل إلا بعد إحراز شرطه المزبور، كما هو شأن كل دليل بالنسبة إلى مورده.

(4) تعليل لاعتبار الاتحاد في الصنف في الحكم باشتراك المعدومين مع المشافهين في الأحكام.

و حاصل التعليل: أن دليل الاشتراك - بناء على عدم شمول الخطابات للمعدومين - هو الإجماع، و حيث إنه لبّي فلا بد من الأخذ بالمتيقّن منه و هو اتحاد الصنف؛ إذ الإجماع في غيره مشكوك فيه.

(5) أي: حين عدم شمول الخطابات لغير المشافهين.

(6) أي: و لا إجماع على الاشتراك إلا في مورد الاتحاد في الصنف.

(7) أي: لا يخفى عليك: عدم صحة هذه الثمرة أيضا كالثمرة الأولى.

فالمقصود هو: ردّ هذه الثمرة الثانية - و هي: صحة التمسك بإطلاقات الخطاب بناء على شمولها للمعدومين، و عدم صحة التمسك بها بناء على عدم شمولها لهم.

و حاصل الردّ: أنه لا مانع من التمسك بإطلاقات الخطابات لإثبات اتحاد المعدومين مع المشافهين في الأحكام، و إن لم نقل بشمول الخطابات للمعدومين؛ و ذلك لأنه لو كان للوصف الثابت للموجودين - كحضور المعصوم «عليه السلام» - دخل في الحكم كوجوب صلاة الجمعة لزم تقييد الخطاب به، و المفروض: عدمه، فالإطلاق محكم، و مقتضاه: عدم دخل ذلك الوصف في الحكم، و عمومه لكل من المشافهين و المعدومين.

و لازم ذلك هو: صحة التمسك بالخطابات و إن لم تشمل المعدومين، فالثمرة الثانية أيضا ساقطة.

ص: 366

الآن (1) فاقدا له، مما كان المشافهون واجدين له (2)، بإطلاق الخطاب إليهم (3) من دون التقييد به، و كونهم (4) كذلك لا يوجب صحة الإطلاق مع إرادة المقيد معه فيما يمكن أن يتطرق الفقدان، و إن صحّ فيما لا يتطرق إليه ذلك، و ليس

=============

(1) أي: بعد زمان الخطاب «فاقدا له مما كان المشافهون واجدين له».

(2) كفقد البالغ في زماننا للنبي و الوصيّ ، و وجدان المشافهين لهما في مثال صلاة الجمعة.

(3) أي: إلى المشافهين، و قوله: «بإطلاق» متعلق بقوله: «إثبات»، فمعنى العبارة حينئذ: أنه يمكن إثبات الاتحاد بإطلاق الخطاب إلى المشافهين؛ إذ لو كان موضوع الخطاب في نحو: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ * مقيدا بالوصف الذي كان المشافهون واجدين له كان اللازم تقييده به؛ كأن يقول: «يا أيّها الناس المشرّفون بشرف الحضور»، فعدم التقييد دليل الإطلاق، و عدم دخل وصف الحضور في وجوب صلاة الجمعة على المشافهين.

فالنتيجة: هي صحة التمسك بالإطلاقات و إن لم تعم المعدومين. الضمير في «به» راجع إلى «ما» المراد به الأوصاف أي: من دون التقييد بوصف كان المشافهون واجدين له.

(4) أي: و كون المشافهين واجدين للوصف - كحضور المعصوم «عليه السلام» - المحتمل دخله في الحكم، كوجوب صلاة الجمعة، فهذا إشارة إلى توهم و هو: أنه لا وجه للتمسك بالإطلاق بعد البناء على عدم شمول الخطابات للمعدومين، و ذلك لأن اتصاف المشافهين بالوصف الخاص يصلح لأن يكون قرينة على التقييد، و دخل ذلك الوصف في الحكم، و من المعلوم: أن من مقدمات الإطلاق عدم وجود ما يصلح للقرينية، و احتمال دخل الوصف الذي كان المشافهون واجدين له صالح للقرينية، و معه لا يتم الإطلاق حتى يصح التمسك به.

فالنتيجة: أنه لا يصح التمسك بالإطلاقات مع عدم شمول الخطابات للمعدومين، و إنما يصح مع شمولها لهم، فالثمرة الثانية غير ساقطة عن الاعتبار؛ بل هي ثابتة، و قد أجاب عن هذا التوهم بقوله: «لا يوجب».

و حاصل الجواب: صحة التمسك بالإطلاقات، و اتصاف المشافهين بصفة يطرأ عليها الفقدان لا يكون دليلا على تقييد الإطلاق حتى لا يصح التمسك بالإطلاق كما زعمه المتوهم، فلو كان الوصف الموجود للمشافهين - كحضور المعصوم «عليه السلام» - معتبرا كان على المتكلم بيانه، فترك تقييده دليل على عدم اعتباره.

و على هذا: فالإطلاق محكم، و يصح التمسك به، فتبطل الثمرة الثانية، و هي: صحة

ص: 367

المراد (1) بالاتحاد في الصنف إلا الاتحاد فيما اعتبر قيدا في الأحكام، لا الاتحاد فيما كثر الاختلاف بحسبه، و التفاوت بسببه بين الأنام، بل في شخص واحد التمسك بإطلاقات الخطابات بناء على شمولها للمعدومين، و عدم صحته بناء على عدم الشمول؛ إذ يصح التمسك بالخطابات مطلقا سواء قلنا بشمولها للمعدومين أم لم نقل به.

=============

نعم؛ ما ذكره المتوهم من صحة الإطلاق - مع إرادة التقييد - إنما يتجه في الصفات التي لا يتطرف إليها الفقدان؛ إذ يصح حينئذ أن يعتمد المتكلم في تقييد الإطلاقات على بقاء تلك الصفات. كما أشار إليه بقوله: «و إن صح فيما لا يتطرق إليه ذلك» أي الفقدان. المراد من «ما» في قوله: «فيما يمكن» هي: الأوصاف التي يمكن أن يتطرق إليها الفقدان كما هو الغالب؛ كعنوان المسافر و الحاضر، و مدرك حضور المعصوم «عليه السلام»، فإن هذه العناوين و الأوصاف مما لا تبقى؛ بل تنعدم غالبا، فلا يصح الاعتماد على وجودها في تقييد إطلاق الدليل.

(1) إشارة إلى دفع توهم بتقريب: أنه - بناء على عدم شمول الخطابات للمعدومين - كيف يجوز التمسك بها للمعدومين، مع كثرة موجبات الاختلاف بين المشافهين و المعدومين ؟ مثل: كون المشافهين في المدينة، و المسجد، و مصاحبي النبي و الوصي «صلوات الله عليهما»، و غير ذلك مما يوجب الاختلاف: الفاحش المانع عن إحراز وحدة الصنف بين المشافهين و المعدومين، و مع هذا الاختلاف لا وجه للتمسك بالإطلاقات لوحدة الصنف.

و حاصل الدفع: أن المراد بالاتحاد ليس هو الاتحاد في جميع الأوصاف، ضرورة: أنها في غاية الكثرة؛ بل المراد الاتحاد في الأوصاف التي قيد بها الأحكام، و هي ليست كثيرة جدا كما أشار إليه بقوله: «لا الاتحاد»، يعني: ليس المراد بالاتحاد الاتحاد فيما يوجب كثرة الاختلاف بين المشافهين و المعدومين، مثل: كون المشافهين في المدينة و المسجد و إدراك صحبة النبي و الوصي «عليهما السلام»؛ بل المراد الاتحاد فيما يعتبر قيدا للحكم، ضرورة: أن موجبات الاختلاف كثيرة جدا، بل ربما يختلف شخص واحد باختلافها، فإن زيدا مثلا قد يكون غنيا، و قد يكون فقيرا، و قد يكون مسافرا، و قد يكون حاضرا،..

إلى غير ذلك من الأوصاف الكثيرة التي لا يحيط بها ضابط.

فالمتحصل: أن التمسك بالإطلاقات لإثبات وحدة الصنف في محله، فلا يتوهم عدم صحة التمسك بها لإثبات وحدة الصنف على تقدير عدم شمولها للمعدومين؛ لأجل كثرة ما بين المشافهين و المعدومين من موجبات الاختلاف، كما في «منتهى

ص: 368

بمرور الدهور و الأيام، و إلا (1) لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين - فضلا عن المعدومين - حكم من الأحكام.

و دليل الاشتراك (2) إنما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين، الدراية، ج، 3 ص 607-608» مع تصرف و توضيح منا.

=============

(1) أي: و إن لم يكن المراد الاتحاد فيما اعتبر قيدا في الأحكام؛ لما ثبت بقاعدة الاشتراك - كالإجماع - حكم للغائبين فضلا عن المعدومين؛ لكثرة الاختلاف في الخصوصيات التي لا دخل لها في الأحكام أصلا، و أجنبية عنها جزما.

(2) يمكن أن يكون دفعا لما قد يتوهم من: أنه لا حاجة في المقام إلى التمسك بالإطلاق للمشافهين كي يرتفع به دخل ما شك في دخله، و يثبت به اتحاد المعدومين معهم في الصنف، فيلحقهم الحكم بدليل الاشتراك؛ بل يكفي في تسرية الحكم من المشافهين إلى المعدومين نفس دليل الاشتراك فقط، بمعنى: كفاية دليل الاشتراك في إثبات الأحكام للغائبين و المعدومين، من دون حاجة إلى ضم الإطلاق لإثبات الاتحاد في الصنف إليه.

و حاصل الدفع: هو إثبات الحاجة إلى التمسك بالإطلاق، و عدم كفاية دليل الاشتراك في إثبات الأحكام للغائبين و المعدومين، و عدم تمامية الاستدلال بدليل الاشتراك إلا بضم الإطلاق إليه؛ لأن دليل الاشتراك لا يقتضي إلا ثبوت الحكم للمعدومين في خصوص ما إذا علم عدم دخل الخصوصية الثابتة للموجودين في الحكم؛ لأنه القدر المتيقن من دليل الاشتراك، و أما إذا شك في دخل تلك الخصوصية في ثبوت الحكم للمشافهين: فلا بد أولا من نفي احتمال دخلها في ثبوت الحكم، ثم إثباته للمعدومين، و من المعلوم: أن نفي الاحتمال المزبور منوط بالتمسك بالإطلاق؛ ليثبت به اتحاد المعدومين مع الموجودين في الصنف، كي يصح التمسك بدليل الاشتراك. فجعل ثمرة البحث التمسك بالإطلاق و عدمه: إنما يتجه فيما إذا كان دليل الاشتراك صالحا لأن يكون دليلا مستقلا على إثبات الحكم للمعدومين، على فرض اختصاص الخطابات بالحاضرين؛ إذ لا نحتاج حينئذ إلى إطلاق الخطاب.

و أما إذا كان دليل الاشتراك غير صالح لذلك - كما هو كذلك - فالتمسك بالإطلاق مما لا بد منه، فالفرق بين عموم الخطاب للمعدومين و عدمه بعد اشتراكهما في الحاجة إلى التمسك بالإطلاق إنما هو في الحاجة إلى ضم دليل الاشتراك، على تقدير اختصاص الخطابات بالمشافهين، حيث أن التمسك بالإطلاق يكون في حقهم، و تسرية الحكم إلى غيرهم إنما هي بالإجماع، و عدم الحاجة إلى ضم دليل الاشتراك

ص: 369

فيما لم يكونوا مختصين بخصوص عنوان، لو لم يكونوا معنونين به (1) لشكّ في شمولها لهم أيضا، فلو لا الإطلاق و إثبات عدم دخل ذلك العنوان (2) في الحكم لما أفاد دليل الاشتراك، و معه (3) كان الحكم يعم غير المشافهين و لو قيل باختصاص على تقدير عدم اختصاص الخطابات بالمشافهين؛ لأن غير المشافهين يتمسكون بالإطلاق ابتداء.

=============

(1) أي: لو لم يكن المشافهون معنونين بذلك العنوان لشك في شمول الخطابات لهم أيضا أي: كشمولها للمعدومين.

و المقصود من هذا الكلام: أن دليل الاشتراك يجدي في إثبات الحكم للمعدومين بالنسبة إلى العناوين التي يعلم بعدم دخلها في الحكم؛ ككون المشافهين متهجدين، أو لابسي الملابس العربية مثلا، دون العناوين التي لو سلبت عن المشافهين لشك في ثبوت الحكم لهم أيضا؛ ككونهم مدركين لحضور المعصوم «عليه السلام»، فإن دليل الاشتراك حينئذ لا يجري؛ إذ لو لم يكن المشافهون واجدين له لشك في وجوب الجمعة عليهم أيضا، فلا بد من التمسك بالإطلاق لنفي الشك.

(2) أي: العنوان الذي لو لم يكن المشافهون معنونين به لشك في شمول التكاليف لهم أيضا لما أفاد دليل الاشتراك شيئا؛ لأن شأنه تعميم الحكم المستفاد من الخطابات المختصة بالمشافهين لغيرهم من المعدومين، و من المعلوم: أنه متفرع على إحراز حكم المشافهين بالقطع أو الظهور عند فقدان العنوان المختص بهم، ليثبت ذلك الحكم للمعدومين الفاقدين لذلك العنوان أيضا، فمع انسداد باب القطع، و احتمال اختصاص المشافهين بخصوص عنوان لو لم يكونوا معنونين بذلك العنوان لشك في شمول الخطابات لهم، و عدم ما يرفع هذا الشك لم يكن لدليل الاشتراك فائدة و هي التعميم؛ إذ لم يحرز حكم المشافهين حينئذ حتى يعمه دليل الاشتراك، فلو لا الإطلاق النافي لاحتمال دخل ذلك العنوان الخاص في حكم المشافهين لما أفاد دليل الاشتراك شيئا، و مع الإطلاق لا حاجة إلى دليل الاشتراك؛ لأن الإطلاق حجة لغير المشافهين و لو على القول باختصاص الخطابات بالمشافهين؛ لكون المعدومين مقصودين بالإفهام و لو لم تعمهم الخطابات.

(3) أي: مع إطلاق الخطاب يعم الحكم غير المشافهين و لو قيل باختصاص الخطاب بالمشافهين؛ لما مر غير مرة من أنهم مقصودون بالإفهام حينئذ.

و كلمة «لو» وصلية، و ضمير «بهم» راجع إلى المشافهين، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 610-611» مع تصرف منّا.

ص: 370

الخطابات بهم فتأمل جيدا (1).

فتلخص: أنه لا يكاد تظهر الثمرة إلا على القول باختصاص حجية الظواهر لمن قصد إفهامه (2)، مع كون غير المشافهين غير مقصودين بالإفهام (3). و قد حقق عدم الاختصاص به في غير المقام (4).

و أشير إلى منع كونهم غير مقصودين به في خطاباته «تبارك و تعالى» في المقام (5).

=============

(1) أي: فتأمل جيدا حتى تعرف بطلان الثمرة الثانية، و أنه يصح التمسك بالإطلاقات مطلقا؛ و إن قلنا باختصاص الخطابات بالمشافهين، حيث إن غير المشافهين مقصودون بالإفهام أيضا.

(2) و هو مختار صاحب القوانين.

(3) أي: أنه لا يترتب على مسألة المشافهة ما ذكر من الثمرتين إلا على القول باختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه، مع عدم كون غير المشافهين مقصودين بالإفهام، «و قد حقق عدم الاختصاص به» أي: عدم اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه، و نمنع كون المعدومين غير مقصودين بالإفهام، كما اشار إليه بقوله: «و قد أشير إلى منع كونهم غير مقصودين به» يعني: قد أشار إلى كون غير المشافهين مقصودين بالإفهام بقوله: - سابقا - «كما يومئ إليه غير واحد من الأخبار».

(4) أي: غير مبحث الخطابات المشافهة و هو مبحث حجية الظواهر.

و كيف كان؛ فلا ثمرة لهذا النزاع أصلا.

(5) حيث قال المصنف: - في ردّ الثمرة الأولى - «و لو سلم فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع؛ بل الظاهر: أن الناس كلهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك» أي: مقصودين بالإفهام.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

ثمرة عموم الخطابات الشفاهية للمعدومين:

1 - الثمرة الأولى: هي حجية ظواهر الخطابات الشفاهية للمعدومين و عدمها، فعلى تقدير عمومها لهم: تكون ظواهرها حجة لهم، فيجوز لهم التمسك بعموم الخطابات و إطلاقها.

و أما على تقدير عدم عمومها لهم: فلا تكون ظواهرها حجة لهم، فلا يجوز لهم التمسك بعمومها لإثبات التكاليف في حقهم؛ بل لا سبيل لهم لإثبات التكاليف في

ص: 371

حقهم إلا قاعدة الاشتراك في التكليف.

و هذه الثمرة مبنية على اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه، و على عدم كون غير المشافهين مقصودين بالإفهام بالخطابات القرآنية، و كلا الأمرين مردود.

أما ردّ الأمر الأول: فقد ثبت في محله: عدم اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه.

و أما ردّ الأمر الثاني: فلمنع عدم كون غير المشافهين مقصودين بالإفهام، بالخطابات القرآنية؛ إذ كيف يكون المقصود بالإفهام خصوص المشافهين، مع إن المعدومين مكلفون بتكاليف المشافهين كالموجودين ؟

2 - الثمرة الثانية: أنه - بناء على شمول الخطابات للمعدومين - يصح التمسك بإطلاقها لإثبات الأحكام للمعدومين بعد وجودهم و بلوغهم؛ إذ المفروض: أن الخطاب المتكفل لثبوت الحكم للعنوان المنطبق على المعدومين مثل: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ * يدل بنفسه على ثبوت الحكم لهم، فيمكن إثبات وجوب صلاة الجمعة للمعدومين بقوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلاٰةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اَللّٰهِ .

و أما بناء على عدم شمول الخطابات للمعدومين: فلا يجوز لهم التمسك بها لإثبات ما تضمنته من الأحكام؛ لعدم كون الإطلاقات حينئذ متكفلة لأحكام غير المشافهين، فالدليل على ثبوت الأحكام لهم حينئذ هو: الإجماع، و المتيقّن منه: ما إذا كان المعدومون متحدين مع الموجودين في الصنف.

و حاصل ما أفاده المصنف في ردّ هذه الثمرة الثانية: أنه لا مانع من التمسك بإطلاقات الخطابات لإثبات اتحاد المعدومين مع المشافهين في الأحكام؛ و إن لم نقل بشمول الخطابات للمعدومين؛ إذ مقتضى الإطلاق: عدم دخل الوصف الثابت للموجودين - كحضور المعصوم «عليه السلام» - في ثبوت الحكم لهم؛ بل عمومه لكل من المشافهين و المعدومين.

3 - قوله: «و دليل الاشتراك إنما يجدي» دفع لما قد يتوهم من: أنه لا حاجة في المقام إلى التمسك بالإطلاق للمشافهين كي يرتفع به دخل ما شك في دخله، و يثبت به اتحاد المعدومين معهم في الصنف، فيلحقهم الحكم بدليل الاشتراك؛ بل يكفي في تسرية الحكم من المشافهين إلى المعدومين نفس دليل الاشتراك فقط.

و حاصل ما أفاده المصنف في دفع هذا التوهم: هو إثبات الحاجة إلى التمسك

ص: 372

بالإطلاق، و عدم كفاية دليل الاشتراك في إثبات الأحكام للغائبين و المعدومين، و عدم تمامية الاستدلال بدليل الاشتراك إلا بضم الإطلاق إليه؛ لأن دليل الاشتراك لا يقتضي إلا ثبوت الحكم للمعدومين في خصوص ما إذا علم عدم دخل الخصوصية الثابتة للموجودين في الحكم.

و أما إذا شك في دخل تلك الخصوصية في ثبوت الحكم للمشافهين: فلا بد من نفي دخلها في ثبوت الحكم لهم بالإطلاق، ليثبت به اتحاد المعدومين مع الموجودين في الصنف حتى يصح التمسك بدليل الاشتراك، فالتمسك بالإطلاق مما لا بد منه في تسرية الحكم من المشافهين إلى غيرهم بدليل الاشتراك.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو عدم الثمرة العملية للخطابات الشفاهية؛ إذ قد ردّ المصنف على كلتا الثمرتين.

ص: 373

ص: 374

فصل

هل تعقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده يوجب تخصيصه به أو لا؟

فيه خلاف بين الأعلام، و ليكن محل الخلاف ما إذا وقعا في كلامين، أو في كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام، كما في قوله تبارك و تعالى:

وَ اَلْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ ، إلى قوله: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ، و أما ما إذا كان مثل:

المطلقات أزواجهنّ أحق بردهنّ ، فلا شبهة في تخصيصه به.

=============

فصل في تعقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

و قبل الخوض في البحث لا بد من تحرير محل النزاع، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن العام تارة يكون مستقلا بالحكم، و يكون مستغنيا عن الضمير في مقام موضوعيته للحكم؛ بأن يكون العام في الكلام موضوعا لحكم، و يكون تعقّبه بضمير يرجع إليه محكوما بحكم آخر، ثم علم من الخارج اختصاص الحكم الثاني ببعض أفراد العام، من دون فرق بين أن يكون العام و الضمير في كلامين أو في كلام واحد.

فالأول: كقوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ (1)، و قوله تعالى: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ (2)، فالضمير في وَ بُعُولَتُهُنَّ يرجع إلى خصوص الرجعيات، مع إن كلمة اَلْمُطَلَّقٰاتُ تعم الرجعيات و البائنات.

و الثاني: كقول المولى لعبده: «أكرم العلماء و واحدا من أصدقائهم»، مع فرض عود الضمير في «أصدقائهم» إلى خصوص العدول من العلماء، فكأنّه قيل:

«أكرم العلماء و واحدا من أصدقاء العلماء العدول».

و أخرى: أن لا يكون العام مستقلا بالحكم؛ بل كان حكمه حكم الضمير، مثل:

«المطلقات أزواجهن أحقّ بردّهن»، حيث أن العام - مع الغض عن جملة «و أزواجهن» - لا يكون موضوعا للحكم و هو الأحقيّة بالرّد، إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل النزاع هو القسم الأول، و أما القسم الثاني: فلا نزاع في تخصيص العام بالضمير، فيكون

ص: 375


1- جزء من آية 228 من سورة البقرة.
2- جزء من آية 228 من سورة البقرة.

و التحقيق (1) أن يقال: إنه حيث دار الأمر بين التصرف في العام بإرادة خصوص ما أريد من الضمير الراجع إليه، أو التصرف في ناحية الضمير؛ إمّا بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه، أو إلى تمامه مع التوسّع في الإسناد بإسناد الحكم المسند إلى المراد بالمطلقات غير البائنات أعني: الرجعيات.

=============

(1) التحقيق في المقام: أنه يدور الأمر بين التصرّف في العام بالالتزام بتخصيصه بإرادة خصوص ما أريد من الضمير الراجع إليه يعني: الرجعيات، و بين التصرّف في ناحية الضمير إمّا بإرجاعه إلى بعض ما يراد من مرجعه - و هو العام - من باب الاستخدام فيكون من باب المجاز في الكلمة.

أو بإرجاعه إلى تمامه بنحو المجاز في الإسناد بمعنى: إسناد الحكم المسند حقيقة إلى البعض إلى الكل مجازا، فيكون من باب المجاز في الإسناد. و الفرق بين المجازين واضح.

فحينئذ يقع الكلام في أنّ المرجع في المقام هل هو أصالة العموم أم أصالة عدم الاستخدام أم لا هذا و لا ذاك وجوه و أقوال ؟ اختار المصنف القول الأخير.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة: و هي أن التصرّف في العموم يكون بالتخصيص و التصرف - في الضمير الظاهر في تطابقه مع المرجع في العموم و الخصوص و التذكير و التأنيث المعبّر عنه بأصالة عدم الاستخدام - إنما هو في ارتكاب خلاف هذا الظاهر إما بالاستخدام بإرجاع الضمير إلى بعض أفراد العام - أعني: الرجعيات - مع كون العام هو المراد في الحكم بالتربّص. و إما بارتكاب المجاز في الإسناد؛ بأن يكون المراد بالعام حقيقة هو الخاص، و إسناد الحكم إلى العام كان توسعا من باب المجاز في الإسناد.

هذا ثم إن أصالة الحقيقة و عدم الاستخدام إنما هي مختصة بما إذا كان الشك في المراد، و أما مع العلم بالمراد و الشك في كيفية الاستعمال بأنها على نحو الحقيقة أو المجاز فلا تجري.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا يمكن الرجوع في المقام إلى أصالة العموم، و لا إلى أصالة عدم الاستخدام و أصالة الحقيقة.

أما عدم صحة الرجوع إلى أصالة العموم: فلأن تعقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده يصلح أن يمنع عن انعقاد ظهوره فيه، حيث أنه داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية بنظر العرف، و معه لا ظهور له حتى يتمسك به إلا على القول باعتبار أصالة الحقيقة تعبّدا، و هو غير ثابت جزما.

و أما عدم صحة الرجوع إلى أصالة عدم الاستخدام: فلأن الأصل اللفظي إنما يكون متبعا ببناء العقلاء فيما إذا شك في مراد المتكلم من اللفظ، و اما إذا كان المراد

ص: 376

البعض حقيقة إلى الكل توسعا و تجوّزا، كانت أصالة الظهور في طرف العام سالمة عنها في جانب الضمير (1)، و ذلك (2) لأن المتيقّن من بناء العقلاء هو: اتّباع الظهور في تعيين المراد لا في تعيين كيفية الاستعمال، و أنه على نحو الحقيقة أو المجاز في معلوما - كما هو المفروض في المقام - و كان الشك في كيفية إرادته و أنها على نحو الحقيقة أو المجاز: فلا أصل هناك لتعيينها.

=============

فالنتيجة هي: عدم جريان كلا الأصلين في المقام؛ لكن كل بملاك، فإن أصالة العموم بملاك اكتناف العام بما يصلح للقرينية، و أصالة عدم الاستخدام بملاك أن الشك في المورد ليس في المراد و إنما هو في كيفية الاستعمال، فحينئذ لا مناص من القول بالإجمال، و الرجوع إلى ما تقتضيه الأصول العملية.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) أصالة الظهور في جانب العام سالمة عن أصالة الظهور في جانب الضمير، المعبّر عنها بأصالة عدم الاستخدام.

(2) تعليل لجريان أصالة الظهور في العام، و سلامتها عن معارضة أصالة عدم الاستخدام لها.

توضيحه: أن حجية الظواهر - و هو بناء العقلاء - لمّا كان لبيّا لزم الأخذ بالمتيقّن منه - و هو صورة عدم العلم بالمراد - دون ما إذا علم المراد و شك في أنه أريد على وجه الحقيقة أو المجاز، مثلا: إذا لم يعلم المراد من لفظ الأسد، و أنه معناه الحقيقي - و هو الحيوان المفترس - أو المجازي أعني: الرجل الشجاع، فهنا استقر بناء العقلاء على جريان أصالة الحقيقة فيه، و أن المراد منه معناه الحقيقي و هو الحيوان المفترس. و أما إذا علم المراد و أنه الرجل الشجاع؛ لكن لم يعلم أنه معنى حقيقي أو مجازي، فلا تجري أصالة الحقيقة هنا؛ لإحراز: أن اللفظ مستعمل في معناه على وجه الحقيقة، و أن الرجل الشجاع معناه الحقيقي.

نعم؛ لو كان الأصل في الاستعمال الحقيقة أحرز به كون المراد هو المعنى: الحقيقي، لكن ثبت في محله أن: الاستعمال أعم من الحقيقة فلا أصل لهذا الأصل.

و في المقام لمّا كانت إرادة الرجعيات من ضمير بُعُولَتُهُنَّ * معلومة، و كان الشك في كيفية إرادتها، و أن إرادتها منه على نحو الحقيقة؛ بأن أريد من مرجعه خصوص الرجعيات، أو على نحو المجاز بأن أريد من مرجعه جميع المطلقات - و التجوّز حينئذ في ناحية الضمير - فلا تجري أصالة الظهور أي: عدم الاستخدام في الضمير؛ بل تجري أصالة الظهور أي: العموم في العام، فيحكم بوجوب التربّص على جميع المطلقات و عليه: فلا

ص: 377

الكلمة أو الإسناد، مع القطع بما يراد، كما هو الحال في ناحية الضمير.

و بالجملة: أصالة الظهور إنما تكون حجة فيما إذا شك فيما أريد (1)، لا فيما إذا شك في أنه كيف أريد (2) فافهم (3)؛ لكنه إذا انعقد للكلام ظهور في العموم؛ بأن لا دوران بين الأصالتين حتى نحتاج إلى المرجّح، أو نتوقف؛ بل اللازم الحكم بتربّص جميع المطلقات إلا ما خرج بالدليل، مع الحكم بأحقية بعولة الرجعيات فقط.

=============

(1) أي: كالمطلقات في المقام، فإنه يشك في أن المراد بهن جميع المطلقات كما هو قضية أصالة العموم، أو خصوص الرجعيات كما هو مقتضى أصالة عدم الاستخدام في الضمير؛ حتى يكون مطابقا لمرجعه.

(2) كما في ضمير «و بعولتهن»؛ للعلم بأن المراد به خصوص الرجعيات، و الشك إنما هو في كيفية الإرادة، و أنها بنحو الحقيقة أو المجاز.

(3) لعله إشارة إلى تقوية جريان أصالة الظهور في المقام دون الضمير؛ على ما قيل من أن البناء على حجية أصالة الظهور حتى مع العلم بالمراد يستلزم أيضا تقديم أصالة الظهور في العام على أصالة الظهور في الضمير، حيث إن التصرف في العام يوجب التصرف في الضمير أيضا، و التصرف في الضمير لا يستلزم التصرف في العام.

فالتصرف في الضمير معلوم على كل حال، فلا يرجع فيه إلى أصالة الظهور، بخلاف التصرف في العام فإنه مشكوك فيه، فيرجع فيه إليه. أو إشارة إلى: أن أصالة الظهور في العام غير جارية أيضا أي: كما إنها غير جارية في الضمير؛ لاحتفاف الكلام بما يصلح أن يكون قرينة.

هذا ما أشار إليه بقوله: «لكنه» أي: ما ذكرنا من بقاء العام على ظهوره «إنما يكون إذا عقد للكلام ظهور في العموم» إلخ يعني: لكن جريان أصالة الظهور في طرف العام و تقديمها على أصالة الظهور في الضمير إنما يكون فيما إذا عقد للكلام ظهور في العموم، إذا اشتمل الكلام على حكمين مثل المقام، فإن وجوب التربّص ثابت للمطلقات، و الحكم بأحقية الرد ثابت لبعولتهن، ضرورة: أنه حينئذ ينعقد الظهور للعام أعني:

المطلقات في العموم؛ و أما إذا اشتمل على حكم واحد مثل: «المطلقات بعولتهن أحق بردّهن» فلا شك حينئذ في لزوم تخصيص العام بقرينة الضمير.

قوله: «بأن لا يعد..» إلخ بيان لصورة انعقاد الظهور في العموم، و توضيحه: أن انعقاد الظهور للعام لتجري فيه أصالة العموم مبني على عدم احتفاف العام بما يمنع ظهوره في العموم، كما إذا كان في الكلام ضمير راجع إلى العام، صالح لأن يمنع انعقاد العموم له، فإن أصالة العموم حينئذ لا تجري فيه.

ص: 378

يعد ما اشتمل على الضمير ممّا يكتنف به عرفا، و إلا (1) فيحكم عليه بالإجمال، و يرجع إلى ما يقتضيه الأصول؛ إلا أن يقال (2): باعتبار أصالة الحقيقة تعبدا، حتى فيما إذا احتف بالكلام ما لا يكون ظاهرا معه في معناه الحقيقي كما عن بعض الفحول.

و الحاصل: أنه إذا كان العام مكتنفا بضمير، و كان احتفافه به مما يعد عرفا صالحا للقرينية على عدم إرادة العموم منه، لم ينعقد له ظهور في العموم، فأصالة العموم لا تجري فيه حينئذ.

=============

(1) أي: و إن عدّ ما اشتمل على الضمير مما يكتنف به عرفا حكم عليه بالإجمال؛ لاقترانه بما يصلح للقرينية المانع عن انعقاد الظهور له، و عن جريان أصالة العموم في العام، فلا بد من تشخيص الوظيفة الظاهرية من الرجوع إلى الأصول العملية؛ لأنه بعد إجمال الكلام لا يكون دليل اجتهادي على الحكم.

(2) استدراك على قوله: «لكنه إذا عقد للكلام ظهور»، و حاصله: أنه يمكن إجراء أصالة الحقيقة حتى في صورة الاحتفاف بما يصلح للقرينية - بناء على كون حجية أصالة الحقيقة من باب التعبّد، بمعنى: عدم إناطتها بالظهور حتى لا ينعقد بسبب الاحتفاف بمحتمل القرينية - فمع الشك في إرادة المعنى الحقيقي تجري أصالة الحقيقة أيضا. كما أشار إليه بقوله: «باعتبار أصالة الحقيقة تعبّدا» يعني: لا من جهة ظهور اللفظ حتى لا تجري في موارد الاحتفاف بما يصلح للقرينية إلا إنه غير ثابت، و المراد من بعض الفحول هو صاحب الفصول أو الحاشية.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخّص البحث في أمور:

1 - تحرير محل النزاع و هو: ما إذا كان العام مستقلا بالحكم مستغنيا عن الضمير، من غير فرق بين أن يكون العام و الضمير في كلامين، أو في كلام واحد.

و أما إذا كان العام مما لا يكون مستقلا بالحكم؛ بل كان حكمه حكم الضمير فلا شبهة في تخصيصه به.

2 - الأمر في هذا المقام يدور بين التصرف في العام بالالتزام بتخصيصه بإرادة خصوص ما أريد من الضمير الراجع إليه، و بين التصرّف في ناحية الضمير إما بإرجاعه إلى بعض ما يراد من مرجعه - و هو العام - من باب الاستخدام، فيكون من باب المجاز في الكلمة، أو بإرجاعه إلى تمامه بنحو المجاز في الإسناد، فيكون من باب المجاز في الإسناد.

ص: 379

فحينئذ يقع الكلام في أن المرجع هل هي أصالة العموم، أم أصالة عدم الاستخدام، أم لا هذا و لا ذاك ؟ أقوال و الظاهر من المصنف ابتداء؛ و إن كان هو الرجوع إلى أصالة الظهور في طرف العام إلاّ إن المستفاد من آخر كلامه هو الحكم بالإجمال، و الرجوع إلى الأصول العملية.

«فافهم» لعله إشارة إلى: عدم جريان أصالة الظهور في طرف العام أيضا أي: كما لا تجري في جانب الضمير.

3 - رأي المصنف «قدس سره»:

أن تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده لا يوجب تخصيصه به.

ص: 380

فصل قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف (1)، مع الاتفاق على الجواز

=============

فصل تخصيص العام بالمفهوم المخالف

فصل تخصيص العام بالمفهوم المخالف(1) و قبل الخوض في البحث لا بد من تحرير محل النزاع.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين المفهوم المخالف و المفهوم الموافق، و حاصل الفرق: أن المفهوم الغير المطابق للمنطوق في الإيجاب و السلب يسمى بالمفهوم المخالف، و يعبر عنه بدليل الخطاب، و المفهوم المطابق للمنطوق في الإيجاب و السلب يسمى بالمفهوم الموافق، و يعبر عنه بلحن الخطاب، أو فحوى الخطاب.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا خلاف في جواز تخصيص العام بالمفهوم الموافق؛ كحرمة تزويج ذات البعل التي هي المفهوم الموافق بالأولوية لقوله «عليه الصلاة و السلام»:

«و الذي يتزوّج المرأة في عدتها و هو يعلم لا تحل له أبدا»(1)؛ إذ لا إشكال في أولوية حرمة تزويج ذات البعل من نكاح المعتدة، و هذا المفهوم يخصّص عموم قوله تعالى:

وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ (2) ، بعد ذكر حرمة نكاح عدة من النساء كالأمّ و البنت و الأخت و غيرهن، فكأنه قيل: و أحل لكم ما وراء المذكورات إلا ذات البعل. هذا مما لا خلاف فيه، و إنما الخلاف في المفهوم المخالف كما لو قال: «أكرم العلماء»، ثم قال:

«أكرم العلماء إن جاءوك»، فالمفهوم المخالف منه: عدم وجوب إكرامهم في صورة عدم المجيء.

و الوجه في اتفاق تخصيص العام بالمفهوم الموافق هو: رجوع التعارض في الحقيقة إلى التعارض بين المنطوق و العام، حيث لا يمكن رفع اليد عن مفهوم الموافقة، مع البناء على المنطوق؛ للقطع بثبوت المفهوم على تقدير ثبوت المنطوق، و إلا لم يكن مفهوم الموافقة،

ص: 381


1- في التهذيب، ج 7، ح 166: عن حمدان قال: سألت أبا جعفر «عليه السلام» عن امرأة تزوجت في عدتها بجهالة منها بذلك، فقال: «لا أرى عليها شيئا، و يفرق بينها و بين الذي تزوج بها، و لا تحل له أبدا...».
2- النساء: 24.

بالمفهوم الموافق على قولين، و قد استدل لكلّ منهما بما لا يخلو عن قصور (1).

و تحقيق المقام (2): أنّه إذا ورد العام و ما له المفهوم في كلام واحد أو كلامين؛ و لكن فيكون التعارض بينهما من قبيل التعارض بين الخاص المنطوق و العام، و لا ريب في وجوب تقديم الخاص على العام، أما مفهوم المخالفة: فيمكن رفع اليد عنه فقط مع الحكم بثبوت المنطوق، فيدور الأمر بين رفع اليد عنه و رفع اليد عن العموم، كما في «حقائق الأصول، ج 1، ص 530» مع تصرف منا.

=============

(1) فلا بد أولا: من ذكر كل من دليل الجواز و المنع. و ثانيا: من بيان ما فيهما من الإشكال بالقصور.

و أما دليل الجواز: فلأنّ كل من العام و المفهوم المخالف الخاص دليل شرعي عارض مثله. و في العمل بالخاص جمع بين الدليلين فيتعيّن؛ لكونه أولى من الطرح.

و أما دليل عدم الجواز: فبأن الخاص إنما يقدّم على العام لأقوائية دلالته، و المفهوم الخاص ليس بأقوى دلالة من المنطوق العام، فلا يصلح لمعارضته؛ إذ المفهوم أضعف دلالة، فلا يجب حمل العام عليه.

و أما الإشكال و القصور في دليل الجواز: فلأن مجرد الجمع بين الدليلين مما لا دليل على وجوبه، ما لم يكن أحدهما أقوى دلالة و أشدّ ظهورا، بحيث يوفّق بينهما عرفا بحمل الظاهر على الأظهر، أو على النص.

و أما الإشكال و القصور في دليل المنع: فلأن المفهوم و إن كان بمقتضى طبعه أضعف من المنطوق؛ و لكن ما لم تعرضه جهة تجعله أقوى دلالة و أشدّ ظهورا، و هي أخصيّة المدلول؛ و إلا فهو أقوى و أدل و أظهر دلالة، و لهذا قال المصنف: «و قد استدل لكل منهما بما لا يخلو عن قصور».

(2) تحقيق المقام: أنه إذا ورد عام و ما له مفهوم يصلح لتخصيص العام: فتارة: يكون العام و ما له المفهوم في كلام واحد، أو في كلامين يكونان بمنزلة كلام واحد؛ لاتصال كل منهما بالآخر.

و أخرى: يكون العام و ما له المفهوم في كلامين منفصلين، بحيث يكون بينهما فصل طويل.

فيقع الكلام في مقامين: المقام الأول: ما إذا كان العام و ما له المفهوم في كلام واحد أو في كلامين بمنزلة كلام واحد.

المقام الثاني: ما إذا كان العام و ما له المفهوم في كلامين منفصلين.

ص: 382

و توضيح ما هو التحقيق في المقام الأول يتوقف على مقدمة:

و هي: أن دلالة كل واحد منهما على مدلوله إما بالوضع، أو بالإطلاق و مقدمات الحكمة. أو أحدهما بالوضع و الآخر بالإطلاق و مقدمات الحكمة، فالصور هي ثلاث:

لا مفهوم و لا عموم في الصورة الأولى و الثانية و هما: أن تكون دلالتهما بالوضع، أو بالإطلاق و مقدمات الحكمة.

و أما الصورة الأولى: فلأن كل واحد منهما يصلح أن يكون قرينة على الآخر، فيقع التزاحم بين الظهورين، و يحكم بعدم اعتبار كليهما سواء كانا في كلام واحد أو في كلامين بمنزلة كلام واحد.

و الأول: كقوله تعالى: إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ (1)فإن مفهومه: عدم وجوب التبين في خبر العادل، و تلقّيه بالقبول. و مقتضى عموم التعليل أي: إصابة القوم بجهالة هو كون إصابتهم كذلك أمرا مرغوبا عنه؛ و لو من ناحية خبر العادل.

و الثاني: مثلا كقول المولى لعبده: «أكرم العلماء»، ثم قال بلا فصل: «أكرم العلماء إن كانوا عادلين»، فيدور الأمر بين تخصيص العام بالمفهوم المخالف، و بين بقاء العام على عمومه، فيكون المرجع هو الأصول العملية؛ إلا إذا كان أحدهما أظهر من الآخر، فلا بد حينئذ من تقديم الأظهر على الظاهر.

و أما الصورة الثانية: فلأن انعقاد الظهور في كل واحد منهما في مدلوله يتوقف على تمامية مقدمات الحكمة، و المفروض: عدم تماميّتها في شيء منهما - لتوقف تماميّتها في كل واحد منهما على عدم الآخر - إذ كل منهما مانع عن ظهور الآخر في الإطلاق، فلا يبقى منشأ للظهور.

و أما الصورة الثالثة: - و هي ما إذا كان ظهور أحدهما بالوضع، و ظهور الآخر بالإطلاق و مقدمات الحكمة - فلا إشكال في تقدم ما كان ظهوره بالوضع على ما ظهوره بالإطلاق و مقدمات الحكمة، سواء كان ما ظهوره بالوضع هو العام أو المفهوم المخالف.

و الوجه في ذلك: أن الظهور إذا كان بالوضع كان صالحا لأن يكون بيانا مانعا عن

ص: 383


1- الحجرات: 6.

على نحو يصلح أن يكون كل منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر، و دار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم، فالدلالة على كل منهما إن كانت بالإطلاق بمعونة مقدمات الحكمة (1)، أو بالوضع (2)، فلا يكون هناك عموم، و لا مفهوم؛ لعدم (3) تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما لأجل المزاحمة، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعا لظهور الآخر كذلك (4)، فلا بد من العمل بالأصول العملية فيما دار الظهور بالإطلاق الناشئ من مقدمات الحكمة، التي منها عدم البيان فيقدم عليه؛ إذ لا تجري مقدمات الحكمة، فإن ظهور ما ظهوره بالوضع مانع عن جريانها.

=============

هذا تمام الكلام في المقام الأول. و من هنا يظهر حكم ما في المقام الثاني من الصور و الاحتمالات.

ففي صورة دلالة كل منهما بالوضع أو بالإطلاق و مقدمات الحكم لا موجب لتقديم أحدهما على الآخر - لاستلزامه ما هو الترجيح بلا مرجح - إلاّ إن يكون أحدهما أقوى ظهورا من الآخر، فحينئذ يتقدم عليه من باب تقديم الأظهر على الظاهر، و كان الجمع عرفيا.

و أما في صورة دلالة أحدهما بالوضع، و الآخر بالإطلاق و مقدمات الحكمة: فلا بد من تقديم ما كانت دلالته بالوضع على ما كانت دلالته بالإطلاق و مقدمات الحكمة، هذا ما أشار إليه بقوله:

«و منه قد انقدح الحال: فيما إذا لم يكن بين ما دل على العموم و ما له المفهوم»، هذا الكلام إشارة إلى المقام الثاني.

و كيف كان؛ فنذكر توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) أي: كالنكرة في سياق النهي و النفي؛ بناء على كون دلالتها على الإطلاق بمعونة مقدمات الحكمة، و كمفهوم الشرط بناء على كونه كذلك، فدلالة كل من النكرة و المفهوم تكون بالإطلاق.

(2) كلفظة «كل» و نحوها من الألفاظ الموضوعة للعموم، و أداة الحصر و نحوها مما هي موضوعة للمفهوم.

(3) تعليل لعدم المفهوم و العموم فيما إذا كانت الدلالة فيهما بمقدمات الحكمة؛ و ذلك لأجل المزاحمة بين الظهورين، لتوقف تمامية مقدمات الحكمة في كل واحد منهما على عدم الآخر، فلا ينعقد ظهور شيء منهما لأجل المزاحمة، و العلم الإجمالي بإرادة خلاف الظاهر في أحدهما.

(4) أي: كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعا لظهور الآخر كذلك، أي: وضعا،

ص: 384

فيه بين العموم و المفهوم، إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر، و إلا (1) كان مانعا عن انعقاد الظهور، أو استقراره في الآخر.

و منه (2) قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دلّ على العموم، و ما له المفهوم ذاك الارتباط (3) و الاتصال، و أنه لا بد أن يعامل مع كل منهما (4) معاملة المجمل، لو لم أعني: مزاحمة ظهور العموم و المفهوم في الظهور الوضعي، فكما إنه لا يحصل الظهور للعموم و المفهوم فيما إذا كان منشأ الظهور مقدمات الحكمة، فكذلك لا يحصل لهما ظهور إذا كان منشأ الظهور فيهما الوضع.

=============

و كيف كان؛ فإن كانا متحدين وضعا أو إطلاقا، و كانا في كلام واحد فلا إشكال في تساقطهما؛ لصيرورتهما مجملين حقيقة.

و إن كانا متحدين كذلك، و كانا في كلامين يعامل معهما معاملة المجمل - إذ لا يكون شيء منهما حجة للمزاحمة، و العلم الإجمالي بإرادة خلاف الظاهر في أحدهما، و عدم مرجح لأحدهما - فيسقطان عن الحجية إلا إذا كان أحدهما أظهر فيقدم على الآخر.

و أما إذا لم يكن أحدهما أظهر: فلا بد من الرجوع إلى الأصول العملية و هي في المقام أصالة البراءة عن الحكم الإلزامي في مورد اجتماع العام و المفهوم.

(1) أي: الرجوع إلى الأصول العملية مشروط بعدم كون العام أو المفهوم أظهر من الآخر، و إن كان أحدهما أظهر كان مانعا عن انعقاد الظهور في الآخر فيما إذا كان الظهور مستندا إلى مقدمات الحكمة، أو مانعا عن استقراره بعد انعقاده فيما إذا كان الظهور مستندا إلى الوضع؛ لأن الوضع يوجب ظهور كل من العام و المفهوم بدوا، و أظهرية أحدهما تمنع عن استقرار ظهور الآخر كما أشار إليه بقوله: «أو استقراره» أي:

استقرار الظهور. هذا في الظهور الوضعي.

قوله: «انعقاد الظهور» في الظهور الإطلاقي المستند إلى مقدمات الحكمة.

(2) يعني: و من تزاحم الظهورين الوضعيين في الحجية بعد انعقادهما: ظهر الحال فيما إذا لم يكن بين ما يدل على العموم، و بين ما له المفهوم ذلك الارتباط الموجب لصلاحية كل منهما للقرينية على الآخر، فإن الظهور الوضعي في كل منهما و إن انعقد بدوا، إلا إنهما يسقطان عن الاعتبار لأجل التعارض. فيجري عليهما حكم المجمل، و هو الرجوع إلى الأصول العملية و إن لم يكونا من المجمل موضوعا لفرض وجود الظهور في كليهما.

(3) أي: الارتباط الموجب لقرينية أحدهما على الآخر.

(4) أي: ما دل على العموم، و ما دل على المفهوم لو لم يكن في البين أظهر.

ص: 385

يكن في البين أظهر، و إلا (1) فهو المعول، و القرينة على التصرف في الآخر بما (2) لا يخالفه بحسب العمل.

=============

(1) أي: و إن كان في البين أظهر، فهو المعوّل؛ لما تقرر في محلّه من تقدّم الأظهر على الظاهر لكونه جمعا عرفيا، فيكون الأظهر قرينة على التصرف في الآخر.

(2) أي: بتصرف لا يخالف الأظهر بحسب العمل، كالحمل على الكراهة في مثل قولهم: «يجوز إكرام الشعراء»، و «أكرم الشعراء العدول»، فإن مفهومه و هو: «لا تكرم الشعراء الفساق» يحمل على الكراهة حتى لا ينافي العام و هو «يجوز إكرام الشعراء» بحسب العمل. هذا تمام الكلام في تخصيص العام بالمفهوم المخالف.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - محل الخلاف هو المفهوم المخالف للمنطوق في الإيجاب و السلب.

و لا خلاف في تخصيص العام بالمفهوم الموافق، فإذا قال: «لا تقل أفّ للأبوين و لو كانا فاسقين» كان مفهومه الموافق: حرمة إهانتهما، فيخصّص به عموم: «أهن الفاسق» بلا خلاف أصلا، و إنما الخلاف في تخصيص العام بالمفهوم المخالف مثل: ما إذا قال:

«أكرم العلماء»، ثم قال: «أكرم زيدا العالم إن كان عادلا»، و مفهومه المخالف: أنّه «لا يجب إكرامه إن لم يكن عادلا»، فقيل: يخصّص به عموم «أكرم العلماء»؛ لأنهما دليلان شرعيان يجب العمل بهما بحمل العام على الخاص من باب الجمع بين الدليلين.

و فيه: أن الجمع بين الدليلين بحمل العام على الخاص إنما يتم فيما إذا كان الخاص أقوى دلالة من العام، و الخصوصية لا تستلزم القوة دائما؛ بل العام المنطوقي أقوى من الخاص المفهومي، هذا هو الإشكال في دليل الجواز.

و أما الإشكال في دليل المنع: فلأن المفهوم و إن كان بمقتضى طبعه أضعف من المنطوق، و لكن قد تعرضه جهة تجعله أقوى دلالة من المنطوق و هي أخصيّة المفهوم مدلولا، هذا ما أشار إليه بقوله: «و قد استدل لكل منهما..» إلخ.

2 - تحقيق المقام: أن ما له العموم و ما له المفهوم إن كانا بحيث يصلح كل منهما قرينة صارفة عن الآخر لوقوعهما في كلام واحد، أو في كلامين بمنزلة كلام واحد، و كانت دلالتهما بالوضع نحو: «أكرم العلماء و زيدا العالم إن كان عادلا»، أو «أكرم العلماء و أكرم زيدا العالم إن كان عادلا».

أو كانت دلالة كل منهما بمقدمات الحكمة، نحو: «أكرم العالم و زيدا العالم إن كان

ص: 386

عادلا»، أو «أكرم زيدا العالم و أكرم زيدا العالم إن كان عادلا» بناء على دلالة المفرد المعرف باللام على العموم بمقدمات الحكمة؛ فإن كانا متساويين في الدلالة: يقع التزاحم بين الظهورين الوضعيين في الأول.

و لا تتم مقدمات الحكمة في الثاني، فلا عموم و لا مفهوم، فالأصل: البراءة عن وجوب إكرام زيد على تقدير كونه فاسقا.

و أما إذا كان في كلامين منفصلين: فيعامل معهما معاملة المجمل لتكافئهما في الظهور إن لم يكن أحدهما أظهر؛ و إلا فيؤخذ به لكونه قرينة على التصرف في الآخر، بحيث لا يخالف الأظهر بحسب العمل؛ كالحمل على الكراهة في مثل قولهم: «يجوز إكرام الشعراء»، و «أكرم الشعراء العدول» فإن مفهومه: «لا تكرم الشعراء الفساق» يحمل على الكراهة حتى لا ينافي العام بحسب العمل.

3 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو الأخذ بما هو أقوى و أظهر من العام أو المفهوم إن كان الأقوى في البين؛ و إلا فالمرجع هو الأصول العملية.

ص: 387

ص: 388

فصل

الاستثناء المتعقب لجمل متعددة (1)، هل الظاهر هو رجوعه إلى الكل أو خصوص الأخيرة، أو لا ظهور له في واحد منهما، بل لا بد في التعيين من قرينة ؟ أقوال و الظاهر: إنه لا خلاف و لا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أيّ حال، ضرورة:

=============

فصل الاستثناء المتعقب بجمل متعددة

فصل الاستثناء المتعقب بجمل متعددة(1) الأولى: ما في «معالم الدين» من التعبير بقوله: «الاستثناء المتعقب للجمل المتعاطفة»(1)؛ و ذلك لدلالة «الجمل» على التعدد، فلا حاجة إلى التصريح بالتعدد؛ بخلاف التعاطف، فإن لفظ «الجمل» لا يدل عليه.

و كيف كان؛ فلا بد من تحرير محل النزاع قبل الخوض في أصل البحث. فنقول: إن هناك أربعة احتمالات:

1 - الرجوع إلى الأول فقط. 2 - ثم الرجوع إلى الأخير فقط. 3 - الرجوع إلى الكل. 4 - أن لا يرجع إلى واحد.

و لا خلاف في بطلان الاحتمال الأول و الرابع، و لا خلاف في الاحتمال الثاني أيضا؛ إذ العام الأخير مخصّص قطعا، سواء رجع الاستثناء إلى خصوص الأخير، أو إلى الكل.

و إنما الخلاف في الاحتمال الثالث؛ بمعنى: هل يرجع الاستثناء إلى الكل أو إلى خصوص الأخير؟

إذا عرفت ما هو محل النزاع فاعلم: أن هناك أقوالا:

الأول: رجوعه إلى الكل، و هو المنسوب إلى الشيخ و الشافعية.

الثاني: رجوعه إلى خصوص الأخيرة، و هو المنسوب إلى أبي حنيفة و أتباعه.

الثالث: أنه مشترك بينهما، فلا بد في التعيين من نصب قرينة معيّنة، و هو المنسوب إلى السيد مرتضى «قدس سره».

ص: 389


1- معالم الدين، ص 173.

أن رجوعه إلى غيرها بلا قرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة، و كذا في صحة رجوعه الرابع: التوقف.

=============

و قبل الإشارة إلى ما هو الصحيح أو الفاسد على ما هو مختار المصنف «قدس سره» ينبغي بيان أمور:

الأول: أنه لا فرق في هذا الحكم بين الاستثناء و بين غيره من أنواع المخصّصات؛ كالوصف، و الشرط، و الحال و الغاية.

الثاني: أن يصح عوده إلى الجميع عقلا و عرفا.

الثالث: أن تكون الجمل متعاطفة، بلا فرق بين أن يكون متعددا نحو: «أكرم العلماء و جالس الأمراء و أعط الفقراء إلا الفساق منهم»، أم كان واحدا نحو: «أكرم العلماء و أكرم الفقراء و أكرم رجال الأعمال إلا الفساق منهم».

و تعدد الحكم في المثال الأول إنما هو باعتبار تعدد متعلقه و هو الإكرام و المجالسة و الإعطاء. هذا بخلاف ما إذا لم تكن الجمل متعاطفة؛ إذ حينئذ يرجع إلى الجميع لعدم الفصل بينها بعاطف و كأنها في حكم الجملة الواحدة.

و إذا تحققت هذه الأمور، فالظاهر من المصنف «قدس سره»: أنه لا خلاف و لا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة، سواء رجع إلى الكل أم رجع إلى الأخيرة فقط، كما أشار إليه بقوله: «و لا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أي حال»؛ لأن رجوعه إلى غير الأخيرة بدون القرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة، فلا بد من نصب قرينة معيّنة - على فرض رجوعه إلى غير الأخيرة - إن قلنا بالاشتراك اللفظي بين رجوعه إلى الكل و بين رجوعه إلى الأخيرة.

ص: 390

إلى الكل، و إن كان المتراءى من كلام صاحب المعالم «رحمه الله»، حيث مهد مقدمة (1) لصحة رجوعه إليه: أنه محل الإشكال و التأمل.

و ذلك (2) ضرورة: إن تعدد المستثنى منه كتعدد المستثنى لا يوجب تفاوتا أصلا في صحة الرجوع إلى الكل عنده محل إشكال و تأمّل لم يمهد لها مقدمة طويلة خارجة عن وضع الكتاب.

=============

(1) قيل في بعض الحواشي: «الظاهر أنّ غرض صاحب المعالم «قدس سره» من تمهيد المقدمة: إثبات كيفية الرجوع إلى الكل لا إثبات أصل صحته؛ إذ من الأقوال صحة الرجوع إلى الكل للاشتراك اللفظي، فتصدى لبيان أن الرجوع إلى الكل ليس مبنيا على الاشتراك اللفظي؛ بل يمكن ذلك و إن لم نقل بالاشتراك اللفظي» فغرض صاحب المعالم «قدس سره»: هو إثبات ما اختاره من الاشتراك المعنوي؛ إذ أداة الاستثناء عنده وضعت للإخراج الكلي، فالإخراج عن الجميع أحد مصاديقه، فإذا استعمل فيه فقد استعمل في أحد مصاديقه و هو جائز كاستعمال الانسان في زيد مثلا.

فليس غرضه: إثبات صحة الرجوع إلى الكل حتى يكون منافيا لما ذكره المصنف من نفي الإشكال عن صحة رجوع الاستثناء إلى الكل.

(2) تعليل لقوله: «و كذا في صحة رجوعه إلى الكل»، و ظاهر كلام المصنف هو: أن مختاره عين ما اختاره صاحب المعالم من الاشتراك المعنوي بين الإخراج عن الجميع و الإخراج عن الأخيرة خاصة، غير إنه يثبته بطريق آخر - غير طريق صاحب المعالم - و هو: إن تعدد المستثنى منه كتعدد المستثنى مما لا يوجب تفاوتا في ناحية الأداة، سواء قلنا: بكون كل من الوضع و الموضوع له عاما كما تقدم في بحث المعاني الحرفية و هو مختار المصنف، أو قلنا: بكون الوضع عاما و الموضوع له خاصا كما أفاده صاحب المعالم؛ وفاقا لغير واحد من أهل اللغة العربية. هذا مما يظهر من المصنف.

كما يظهر منه: أن الاستثناء المتعقب لجمل متعددة لا يكون ظاهرا في الرجوع إلى الجميع، و لا في الرجوع إلى الأخيرة بعد صلوحه لكل منهما، و إن كان الرجوع إلى خصوص الأخيرة متيقنا، فإذا لم يكن ظاهرا في شيء منهما لم يكن ما سوى الأخيرة ظاهرا في العموم؛ لاكتنافه بما يصلح للرجوع إليه، فلا بد عند الشك من الرجوع إلى الأصل العملي.

و بعبارة أخرى: أن تعدد المستثنى و المستثنى منه و وحدتهما لا يوجبان اختلافا في ناحية أدوات الاستثناء بحسب المعنى و هو الإخراج، سواء كان الموضوع له في الحروف عاما كالوضع، أم خاصا؛ لأن أداة الاستثناء تستعمل دائما في معناها - أعني: الإخراج -

ص: 391

ناحية الأداة بحسب المعنى، كان الموضوع له في الحروف عاما أو خاصا، و كان (1) المستعمل فيه الأداة فيما كان المستثنى منه متعددا هو المستعمل فيه فيما كان واحدا، كما هو الحال في المستثنى (2) بلا ريب و لا إشكال. و تعدد المخرج أو المخرج عنه خارجا لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الإخراج مفهوما و بذلك (3) يظهر: إنه لا ظهور لها في الرجوع إلى الجميع أو خصوص الأخيرة؛ و إن كان الرجوع إليها متيقنا على كل تقدير (4).

و لا يتفاوت هذا المعنى بين تعدد المخرج و المخرج عنه و وحدتهما، فلو كان الموضوع له في الأدوات خاصا لما كان تعدد المستثنى و المستثنى منه مضرّا بالإخراج الشخصي، حيث إن نسبة الإخراج و إن كانت شخصية، لكنها باعتبار تعدد أطرافها تنحل إلى نسب ضمنية، إذ جزئية النسبة لا تنافي انحلالها. و عليه: فلا مانع من صحة رجوع الاستثناء إلى الكل و لو قيل بوضع الأدوات لجزئيات النسبة الإخراجية.

=============

(1) الظاهر: أنه عطف على قوله: «أن تعدد»، فيؤوّل بالمصدر، فكأنه قيل: ضرورة:

أن تعدد المستثنى منه.. إلخ، و ضرورة: كون المستعمل فيه الأداة في صورة تعدد المستثنى منه هو المستعمل فيه في صورة وحدة المستثنى منه.

(2) أي: كما لا فرق بين وحدة المستثنى و تعدده.

و حاصل الكلام في المقام: أن أداة الاستثناء تستعمل في نسبة الإخراج، سواء كانت هذه النسبة بين متحدين مثل: «أكرم العلماء إلا زيدا»، حيث إن كلا من المستثنى و المستثنى منه واحد، أم بين متعددين مثل: «أكرم العلماء و الصلحاء إلا الفساق و الشعراء»، أم بين مختلفين مثل: «أكرم العلماء إلا النحويين و الصرفيين و الفلاسفة».

و كيف كان؛ فتعدد المخرج و المخرج عنه يعني: المستثنى و المستثنى منه خارجا - كالأمثلة المذكورة - لا يوجب تعدد النسبة الإخراجية التي تستعمل فيها أداة الاستثناء بحسب المفهوم، و لا يصادم جزئيتها كما عرفت؛ بل مفهوم الأداة - و هي النسبة الإخراجية - واحد، سواء اتحد المستثنى و المستثنى منه، أم تعددا، أم اختلفا. و قد عرفت أمثلة ذلك.

(3) أي: و بعدم تفاوت في ناحية الأداة بين تعدد المستثنى و المستثنى منه و وحدتهما يظهر: إنه لا ظهور لأداة الاستثناء في الرجوع إلى الجميع، أو خصوص الأخيرة؛ إذ بعد وضوح صحة الرجوع إلى الجميع و إلى خصوص الأخيرة لا بد من إثبات ظهور الأداة في الرجوع إلى أحدهما من قرينة؛ لأن مجرد صلاحية الرجوع كذلك لا يثبت الظهور.

(4) أي: سواء قلنا بظهور أداة الاستثناء في الرجوع إلى الجميع أم لا. أما وجه تيقّن

ص: 392

نعم (1) غير الأخيرة أيضا (2) من الجمل لا يكون ظاهرا في العموم؛ لاكتنافه (3) بما لا يكون معه ظاهرا فيه (4)، فلا بد في مورد الاستثناء فيه من الرجوع إلى الأصول؛ اللهم إلا أن يقال: بحجيّة أصالة الحقيقة تعبدا (5)؛ لا من باب الظهور، فيكون المرجع الرجوع إلى الأخيرة: فلأجل اتصالها بالأداة، بحيث لو لم يكن غيرها من الجمل لم يكن ريب في الرجوع إلى الأخيرة، فلو كان الجميع مرادا كانت الأخيرة داخلة فيه. و إن كان المراد غير الجميع كانت الأخيرة مرادة أيضا. هذا معنى كون الأخيرة مرادة على كل تقدير.

=============

(1) أي: لا يكون تيقّن الأخيرة موجبا لظهور غيرها في العموم؛ بل هو كالأخيرة في عدم الظهور، فأصالة العموم في غير الأخيرة أيضا لا تجري لاحتفافه بما يصلح للقرينية، و معه لا ينعقد ظهور لغير الأخيرة أيضا في العموم، فلو كان المستثنى زيدا مثلا، و كان في كل من العمومات من يسمى بزيد، فكون زيد في الجملة الأخيرة متيقن الخروج عن الحكم لا يوجب سلامة أصالة العموم فيما عدا الأخيرة من العمومات، حتى يصح التمسك بها للحكم بعدم خروج زيد عنها؛ إذ المفروض: احتفافها بما يصلح للقرينة، و هذا مانع عن جريان أصالة العموم.

و الحاصل: أنه لا يحكم بظهور ما عدا الأخيرة من الجمل في العموم، كما لا يحكم بظهور الأخيرة فيه و إن كان المتيقن تخصيص الأخيرة.

(2) يعني: كما لا ظهور للجملة الأخيرة في العموم و إن كان رجوع الاستثناء إليها متيقّنا، كذلك لا ظهور لغير الجملة الأخيرة في العموم، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 633».

(3) تعليل لعدم ظهور ما عدا الجملة الأخيرة في العموم.

(4) أي: في غير الأخيرة، فيرجع في حكم زيد في المثال المذكور إلى الأصول العملية.

(5) أي: و إن لم يحصل الظن النوعي بإرادة العموم؛ لاكتناف الكلام بما يصلح للقرينية - كالاستثناء فيما نحن فيه.

و كيف كان؛ فغرضه: إمكان إجراء أصالة العموم في غير الأخيرة بالبناء على أن هذا الأصل حجة تعبّدا، فحينئذ لا مانع من جريان أصالة العموم و الحقيقة في غير الجملة الأخيرة.

فما عدا الأخيرة محكوم بحكم العمومات، و لا يجري فيه الأصول العملية.

ص: 393

عليه (1) أصالة العموم إذا كان وضعيا (2)؛ لا ما إذا كان بالإطلاق و مقدمات الحكمة، فإنه لا يكاد تتم تلك المقدمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع فتأمل (3).

=============

(1) أي: بناء على القول بحجيّة أصالة الحقيقة و العموم تعبّدا؛ لا من باب الظهور حتى يقال: بعدم انعقاد الظهور في العموم مع الاحتفاف بما يصلح للمخصصية.

(2) أي: إذا كان العموم وضعيا، و المقصود أن أصالة العموم إنما تجري إذا كان العموم وضعيا لا ما إذا كان إطلاقيا ناشئا عن مقدمات الحكمة، إذ لا تجري حينئذ أصالة العموم، ضرورة: أن من مقدمات الحكمة عدم القرينة، و كذا عدم ما يصلح لها، و مع وجودهما لا تتم تلك المقدمات. و من المعلوم: أن الاستثناء صالح للرجوع و تخصيص الكل به.

فالمتحصل: أن العموم المترتب على مقدمات الحكمة لا يتحقق مع صلاحية الاستثناء للرجوع إلى جميع الجمل؛ إذ صلاحية الاستثناء للقرينية موجبة لانتفاء إحدى مقدمات الإطلاق كما عرفت.

(3) لعلّه إشارة إلى أنه يكفي في منع جريان المقدمات صلوح الاستثناء لذلك؛ لاحتمال اعتماد المطلق حينئذ في التقييد عليه، لاعتقاد أنّه كاف فيه. اللهم إلاّ إن يقال:

إنّ مجرد صلوحه لذلك بدون قرينة عليه غير صالح للاعتماد ما لم يكن بحسب متفاهم العرف ظاهرا في الرجوع إلى الجميع، فأصالة الإطلاق مع عدم القرينة محكمة، لتمامية مقدمات الحكمة فافهم. من المصنف في الهامش ص 235. كفاية الأصول، طبعة مؤسسة آل البيت «عليهم السلام».

أو إشارة إلى أن من جملة مقدمات الحكمة أن لا يكون هناك قدر متيقن في مقام التخاطب؛ و لكن الاستثناء يوجب كون الخاص متيقنا في مقام التخاطب، و عليه: فلا تتم مقدمات الحكمة، فالنتيجة هي: عدم تحقق العموم المترتب على مقدمات الحكمة. ثم لا يخفى: أن حكم غير الاستثناء كالشرط و الوصف و غيرهما حكم الاستثناء إلا في بعض الخصوصيات.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - محل النزاع هو: رجوع الاستثناء إلى الكل، بعد فرض وجود المستثنى في جميع العمومات المذكورة في الجمل المتعاطفة.

و هناك أقوال:

الأول: رجوعه إلى الكل.

ص: 394

الثاني: رجوعه إلى خصوص الأخيرة.

الثالث: أنه مشترك بينهما.

الرابع: التوقف.

و الظاهر من المصنف: أنه لا خلاف و لا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على كل تقدير، فيما إذا كانت كل جملة من تلك الجمل مشتملة على المستثنى مثل: ما إذا ورد:

«أكرم العلماء و جالس الأمراء و أعط الفقراء إلا الفساق»، و قد فرض وجود الفساق في الجميع.

فاعتبار اشتمال كل واحد من هذه العمومات على المستثنى واضح؛ و إن كان المتراءى من صاحب المعالم حيث مهد مقدمة طويلة لصحة رجوعه إلى الكل أنه محل الإشكال و التأمل؛ إذ لو لم تكن صحة ذلك محل إشكال لم يمهد لها مقدمة طويلة.

2 - أن تعدد المستثنى و المستثنى منه و وحدتهما لا يوجبان تفاوتا و اختلافا في ناحية أداة الاستثناء بحسب المعنى - و هو الإخراج - سواء قلنا: بكون كل من الوضع و الموضوع له عاما، كما تقدم في أول الكتاب و هو مختار المصنف، أو قلنا: بكون الوضع عاما و الموضوع له خاصا على ما قيل؛ لأن أداة الاستثناء تستعمل دائما في معناها - أعني الإخراج - و لا يتفاوت هذا المعنى بين تعدد المخرج و المخرج عنه و وحدتهما، و عليه: فلا مانع من صحة رجوع الاستثناء إلى الكل؛ و لو قيل: بوضع الأدوات لجزئيات النسبة الإخراجية.

3 - و يظهر - من عدم التفاوت في ناحية الأداة بعد تعدد المستثنى و المستثنى منه - أنه لا ظهور لأداة الاستثناء في الرجوع إلى الجميع و لا إلى خصوص الأخيرة، فلا بد لإثبات ظهور الأداة في الرجوع إلى أحدهما من قرينة و إن كان الرجوع إلى الأخيرة متيقّنا، و لكن تيقن الرجوع إلى الأخيرة لا يكون موجبا لظهور غيرها في العموم؛ بل هو كالأخيرة في عدم الظهور، فلا تجري أصالة العموم في غير الأخيرة أيضا؛ لاحتفافه بما يصلح للقرينية، فلا بد من الرجوع إلى الأصول العملية.

4 - اللهم إلاّ أن يقال: بحجية أصالة الحقيقة تعبدا أي: و إن لم يحصل الظن النوعي بإرادة العموم؛ لاكتناف الكلام بما يصلح للقرينية، فحينئذ لا مانع من جريان أصالة الحقيقة و العموم في غير الجملة الأخيرة، فيكون المرجع أصالة الحقيقة إذا كان العموم وضعيا؛ لا ما إذا كان بالإطلاق و مقدمات الحكمة؛ إذ لا تجري حينئذ أصالة العموم؛

ص: 395

لأنّ من مقدمات الحكمة: عدم القرينة، أو عدم ما يصلح للقرينية، و الاستثناء صالح لأن يكون قرينة على الرجوع إلى الجميع، فتنتفي إحدى مقدمات الحكمة.

«فتأمل» لعلّه إشارة إلى أن من جملة مقدمات الحكمة: أن لا يكون هناك قدر متيقن في مقام التخاطب، و لكن الاستثناء يوجب كون الخاص متيقنا في مقام التخاطب، و عليه: فلا تتم مقدمات الحكمة، فلا يحصل العموم المترتب على مقدمات الحكمة.

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - أنه لا ظهور لأداة الاستثناء في الرجوع إلى الجميع، و لا إلى خصوص الأخيرة.

2 - لو قلنا: بحجية أصالة الحقيقة و العموم تعبّدا لكان المرجع هي أصالة العموم لو كان وضعيا، لا ما إذا كان بالإطلاق و مقدمات الحكمة.

ص: 396

فصل

الحق: جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص (1) كما جاز بالكتاب، أو بالخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة القطعية من خبر الواحد بلا (2) ارتياب؛

=============

فصل جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد

اشارة

و قبل الخوض في البحث لا بد من تحرير محل النزاع.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الخبر على أقسام:

1 - الخبر المتواتر. 2 - خبر الواحد المقرون بالقرينة القطعية. 3 - خبر الواحد المجرّد عن القرينة.

ثم الدليل على حجية القسم الثالث إما هو دليل الانسداد، أو الدليل الخاص؛ كآية النبأ مثلا على تقدير دلالتها على اعتبار خبر الواحد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل النزاع هو القسم الثالث من أقسام الخبر، فيما إذا كان اعتباره بالدليل الخاص لا بدليل الانسداد، بناء على كون نتيجة مقدمات الانسداد حجية مطلق الظن من باب الحكومة.

(1) أي: قال المصنف بجوازه.

و استدل على مدعاه بوجهين:

أحدهما: قيام سيرة لأصحاب على العمل بأخبار الآحاد من زمن النبي «صلى الله عليه و آله» إلى زماننا هذا، مع إنك لا تجد خبرا إلا و يوجد على خلافه عام كتابي، و لم يرد عن صاحب الشرع و لا عن أئمة أهل البيت «عليهم السلام» ردع عن هذه السيرة، فاتصال هذه السيرة بزمان الأئمة؛ بل النبي «صلى الله عليه و آله» من الكواشف القطعية عن رضاهم «سلام الله عليهم» بعمل الأصحاب.

و ثانيهما: لزوم إلغاء الخبر أو ما بحكم الإلغاء بمعنى: أنه لو لا العمل بخبر الواحد في قبال عمومات الكتاب لزم إلغاء الخبر عن الاعتبار بالمرة، أو ما بحكم الإلغاء ضرورة: أن خبر الواحد الذي لا يكون مخالفا لعموم الكتاب إما معدوم و إما نادر، و هو كالمعدوم.

(2) متعلق بقوله: «جاز». و قوله: «لما هو الواضح» تعليل لقوله: «الحق جواز..» إلخ.

ص: 397

لما هو الواضح من سيرة الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمة «عليهم السلام». و احتمال (1) أن يكون ذلك بواسطة القرينة واضح البطلان.

مع أنه (2) لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرّة، أو ما بحكمه، ضرورة (3): ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب، لو سلم (4) وجود ما لم يكن كذلك.

=============

(1) دفع لما يتوهم من الإشكال على الاستدلال بسيرة الأصحاب، و حاصل الإشكال: أنه يحتمل أن يكون عمل الأصحاب بأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب لأجل القرائن القطعية المحفوفة بتلك الأخبار، الموجبة للقطع بصدورها لا لأجل السيرة. و من المعلوم: أن التخصيص بالخبر المحفوف بالقرينة القطعية مما لا نزاع فيه أصلا، و تلك القرائن كانت عند الأصحاب و إن خفيت علينا.

و حاصل الدفع: أن احتمال أن يكون عملهم بواسطة القرينة واضح البطلان؛ إذ لو كان عملهم بأخبار الآحاد لأجل القرينة لعلم ذلك لكثرة موارد العمل بها في قبال عمومات الكتاب مع عدم علم، بل و عدم ظهور قرينة واحدة في مورد واحد. فالنتيجة:

إن عملهم بتلك الأخبار ليس لأجل القرينة؛ بل لحجية خبر الواحد.

(2) إشارة إلى الوجه الثاني من الوجهين اللذين استدل بهما على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد. و قد عرفت توضيح ذلك.

(3) تعليل لكونه بحكم الإلغاء.

و المتحصل: أن المصنف استدل لإثبات جواز تخصيص عمومات الكتاب بالأخبار التي ليست مقرونة بالقرائن القطعية بوجهين:

الأول: السيرة المستمرة إلى زمن الأئمة «عليهم السلام»، فهذه السيرة حجة لاجتماع الشرائط فيها، و هي كونها من المتدينين، و كونها متصلة بزمان المعصوم «عليه السلام»، و عدم ردع المعصوم «عليه السلام» عنها.

الثاني: لزوم إلغاء أخبار الآحاد بالمرة لو لم يخصص بها عموم الكتاب.

(4) أي: لو سلم وجود خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب كان ذلك في غاية الندرة، و الاقتصار على خصوص ما لا يخالفه عموم الكتاب يكون كإلغاء دليل حجية أخبار الآحاد.

و قد استدل المانعون على عدم جواز التخصيص بوجوه:

الأول: أن العام الكتابي قطعي الصدور، و خبر الواحد ظنّي الصدور و الدلالة، فلا

ص: 398

و كون العام الكتابي قطعيا صدورا، و خبر الواحد ظنيا سندا لا يمنع عن التصرف في دلالته الغير القطعية قطعا، و إلا لما جاز تخصيص المتواتر به أيضا، مع أنه جائز جزما.

يصلح لتخصيص القطعي. هذا ما أشار إليه بقوله: «و كون العام الكتابي قطعيا صدورا».

=============

و قد أجاب عنه المصنف بجوابين؛ أحدهما: نقضيّ ، و الآخر حلّي.

و أما الجواب النقضي فحاصله: أنه لو كانت قطعية صدور العام الكتابي مانعة عن تصرف الخبر الظني الصدور في دلالة العام الكتابي - التي هي ظنية - لزم عدم جواز تخصيص الخبر المتواتر الذي هو كالعام الكتابي في قطعية الصدور، بخبر الواحد الذي هو ظنّي الصدور أيضا، مع أن جوازه مجمع عليه و مسلم عند من ينكر تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد.

و هذا يدل على: أن قطعية الصدور لا تصلح لمنع التخصيص بظنّي الصدور.

و أما الجواب الحلّي فحاصله: أن الدوران و التعارض يقع في الحقيقة بين أصالة العموم في العام الكتابي، و بين دليل حجية خبر الواحد لا دلالته؛ لأن الخاص أقوى دلالة من العام، فلا شبهة في تقديمه عليه دلالة، فالكلام في حجية الخاص - إذ بدونها لا وجه لتقديمه على العام و لو كان نصّا - إذ لا بد أولا من إثبات صدوره حتى تكون دلالته معتبرة، حيث إن ظاهر كلام المعصوم حجة لا كلام غيره.

و المتحصل: أن طرفي المعارضة - هما - أصالة العموم في العام الكتابي، و دليل حجية خبر الواحد و بما أن الخبر بدلالته و سنده صالح للتصرف في أصالة العموم لحكومته، أو وروده عليها؛ لأنه رافع لموضوعها تعبّدا، و لذا لو تيقن بمضمون الخبر يرتفع موضوع أصالة العموم تكوينا كان الخبر مقدّما على العام، و أصالة العموم لا تصلح للتصرف في أصالة الحجية - في جانب الخبر - لأنها لا ترفع موضوعها كما لا يخفى.

فالنتيجة: أنه لا مانع عن جواز تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد، بعد إثبات حجيته بأدلتها من الكتاب و السنّة و بناء العقلاء؛ لأن جريان أصالة العموم منوط بعدم الدليل على خلافها. و أدلة حجية خبر الواحد تكون على خلافها فتقدم عليها. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الجواب الحلّي، الذي أشار إليه بقوله: «و السر أن الدوران في الحقيقة».

الثاني: أن ما يدل على حجية خبر الواحد هو الإجماع، و بما أنه دليل لبّي لا لسان له فلا بد من الأخذ بالمتيقن منه، و من المعلوم: أن المتيقن منه ما لا يوجد على خلافه دلالة و لو كان من عموم الكتاب، و إلا فلا يقين بتحقيق الإجماع على اعتباره في هذه الحال،

ص: 399

و السّر: أن الدوران في الحقيقة بين أصالة العموم و دليل سند الخبر، مع أن الخبر بدلالته و سنده صالح للقرينية على التصرف فيها بخلافها، فإنها غير صالحة لرفع اليد عن دليل اعتباره، و لا ينحصر الدليل على الخبر بالإجماع كي يقال: بأنه فيما لا و معه كيف يجوز رفع اليد عنه ؟ و هذا ما أشار إليه بقوله: «و لا ينحصر الدليل على الخبر بالإجماع»، و قد أجاب المصنف عن هذا الوجه: بأن الدليل لا ينحصر بالإجماع، كيف ؟ و قد عرفت: قيام السيرة على العمل بخبر الواحد في قبال عمومات الكتاب.

=============

الثالث: ما دل من الأخبار على وجوب طرح الخبر المخالف للكتاب من الأخبار، و ضربه عرض الجدار، و أنها زخرف، و مما لم يقله الإمام «عليه السلام»، و هي كثيرة جدا، و هذه الأخبار تشمل الأخبار المخالفة لعمومات الكتاب و مطلقاته أيضا، و عليه: فكيف يمكن تخصيصها أو تقييدها بها؟ و هذا ما أشار إليه بقوله: «و الأخبار الدالة»، و قد أجاب عن هذا الوجه بوجوه:

1 - أن المراد بالمخالفة هي غير المخالفة بنحو العموم و الخصوص؛ لأنها ليست مخالفة بنظر العرف. و لا يرى العرف تناف بين الدليلين إذا كانا كذلك.

2 - أنه لو سلّم صدق المخالفة - التي هي موضوع الأخبار الدالة على طرح ما خالف الكتاب - على المخالفة بالعموم و الخصوص، و لم نقل باختصاصها بالمخالفة على نحو التباين فلا بد من تخصيص المخالفة بغير المخالفة بالعموم و الخصوص؛ و ذلك للعلم بصدور أخبار كثيرة مخالفة للكتاب بالعموم و الخصوص، و جريان السيرة على العمل بها في مقابل عمومات الكتاب، و لا يكون ذلك إلا لتخصيص المخالفة بالمخالفة على نحو التباين و إخراج المخالفة بالعموم و الخصوص المطلق عن المخالفة؛ إذ لو لم نقل بهذا التخصيص يلزم طرح كثير من الأخبار التي علم بصدورها عن المعصومين «عليهم السلام»، فالنتيجة هي: أن الخبر المخالف للكتاب بغير المخالفة على نحو التباين ليس مشمولا للأخبار الدالة على طرح الخبر المخالف.

3 - «قوة احتمال أن يكون المراد أنهم لا يقولون بغير ما هو قول الله «تبارك و تعالى» يعني: أنه يحتمل أن يراد بالمخالفة في تلك الأخبار: المخالفة للحكم الواقعي الذي كتبه الله تعالى على عباده؛ بأن يكون الواجب طرحه هو الخبر المخالف للحكم الواقعي، لا المخالف لظاهر الكتاب، فخبر الواحد المخالف لظاهر الكتاب يحتمل أن يكون موافقا للحكم الواقعي، و مع هذا الاحتمال لا يحرز كونه مخالفا للحكم الواقعي حتى تشمله الأخبار الآمرة بطرح ما خالف الكتاب، فلا يصح التمسك بها لطرحه؛ لكونه من التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية، و هو غير جائز عند المحققين.

ص: 400

يوجد على خلافه دلالة، و مع وجود الدلالة القرآنية يسقط وجوب العمل به.

كيف ؟ و قد عرفت أن سيرتهم مستمرة على العمل به في قبال العمومات الكتابية، و الأخبار الدالة على أن الأخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها أو ضربها على الجدار، فالنتيجة هي: عدم صحة الاستدلال بتلك الأخبار على طرح الخبر المخالف للكتاب مخالفة العموم و الخصوص المطلق، و جواز تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد، فالأخبار الآمرة بطرح الخبر المخالف لا تمنع عن تخصيص خبر الواحد المخالف بالعموم و الخصوص لعموم الكتاب.

=============

الرابع: أنه لو جاز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد جاز نسخه به، و التالي باطل إجماعا فالمقدم مثله، و الاستدلال بالقياس الاستثنائي إنما يتم عند ثبوت الملازمة بين المقدم و التالي.

و أما الملازمة - في محل الكلام - فلأن مرجع النسخ أيضا إلى التخصيص لأنهما من واد واحد؛ إذ النسخ في الحقيقة تخصيص في الأزمان، و الفرق بين النسخ و التخصيص المصطلح: أن الأول: تخصيص في الأزمان، و الثاني: تخصيص في الأفراد.

و أما بطلان التالي: فلأن الإجماع قد قام على عدم جواز النسخ به، فيدل على عدم جواز التخصيص به.

و قد أجاب المصنف عن هذا الوجه بوجهين:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «ممنوعة» يعني: و الملازمة بين جواز التخصيص و جواز النسخ به ممنوعة؛ بأن عدم جواز النسخ به لقيام الإجماع، و هو لا يلازم الإجماع على عدم جواز التخصيص به و إن اشتركا في كونهما معا من التخصيص؛ لوجود الفرق و هو توفّر الدواعي إلى نقل النسخ و ضبطه دون التخصيص، فلا يكتفي في النسخ بالظن دون التخصيص.

و كيف كان؛ فالإجماع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد هو الفارق بين النسخ و التخصيص، بمعنى: أنه قام الإجماع على عدم جواز النسخ دون التخصيص.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي».

و حاصل هذا الوجه: أن قياس النسخ بالتخصيص مع الفارق، حيث أن الدواعي لضبط نواسخ القرآن كثيرة؛ بحيث تصدى لضبطها جلّ الأصحاب، فلذلك قلّ الخلاف في تعيين موارد النسخ، فموارد النسخ ثابتة بالتواتر الموجب لعدم الخلاف أو قلّته فيها؛ و بهذا التواتر يصير خبر الواحد موهونا في إثبات النسخ؛ إذ لو كان لنقل بالتواتر، بخلاف التخصيص، فإن دواعي ضبطه لما لم تكن كثيرة، فيحصل الوثوق بصدور الخبر

ص: 401

أو أنها زخرف، أو إنها ممّا لم يقل بها الإمام «عليه السلام»، و إن كانت كثيرة جدا، و صريحة الدلالة على طرح المخالف؛ إلا إنه لا محيص عن أن يكون المراد من المخالفة في هذه الأخبار غير مخالفة العموم؛ إن لم نقل بأنها ليست من المخالفة عرفا، كيف ؟ و صدور الأخبار المخالفة للكتاب بهذه المخالفة منهم «عليهم السلام» كثيرة جدا، مع قوة احتمال أن يكون المراد إنهم لا يقولون بغير ما هو قول الله «تبارك و تعالى» واقعا - و إن كان (1) هو على خلافه ظاهرا - شرحا لمرامه تعالى و بيانا لمراده من كلامه، فافهم (2).

و الملازمة (3) بين جواز التخصيص و جواز النسخ به ممنوعة - و إن كان مقتضى القاعدة جوازهما - لاختصاص النسخ بالإجماع على المنع، مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي إلى ضبطه، و لذا قلّ الخلاف في تعيين موارده، بخلاف التخصيص.

الذي يمكن تخصيص الكتاب به، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 646» مع تصرّف ما.

=============

(1) أي: و إن كان قول المعصومين «عليهم السلام» على خلاف قول الله تعالى ظاهرا؛ لكنه موافق له واقعا، و شارح لقوله تعالى، و مبيّن لمرامه من كلامه «تبارك و تعالى».

قوله: «شرحا» مفعول لأجله يعني: أن مخالفة قولهم «عليهم السلام» لظاهر كلامه تعالى إنما هو لأجل كونه شارحا لمراده الواقعي.

(2) لعله إشارة إلى: عدم وجاهة قوله: «مع قوة احتمال أن يكون المراد..» إلخ. إذ فيه - مضافا إلى بعده في نفسه لعدم انسباقه إلى الذهن و عدم قرينة عليه - أنه إحالة على المجهول الذي لا يمكن لنا معرفته إلا بدلالة المعصوم «عليه السلام»، ضرورة: إنه لا سبيل إلى إحراز الواقع حتى تحرم مخالفته، مع أن موافقة الكتاب جعلت معيارا لصدق الخبر بعد عرضه على الكتاب، و المسلّم عرضه على ظاهر الكتاب؛ إذ العرض على واقع الكتاب غير ممكن لنا بعد وضوح عدم السبيل إلى معرفته.

فالنتيجة: أن قوله: «فافهم» يمكن أن يكون إشارة إلى عدم استقامة هذا التوجيه؛ لأن جملة من هذه الأخبار صدرت لبيان الضابط لمعرفة الخبر و علاج المعارضة، و الرواة ليسوا عالمين بالواقعيات حتى يعلموا المخالف من الموافق، فلا بد من أن يكون مراد الأئمة «عليهم السلام» مخالفة ظاهر الكتاب؛ لا خلاف مقصود الله سبحانه.

(3) هذا رابع الوجوه التي استدل بها المانعون، و قد عرفت توضيح ذلك، فلا حاجة إلى التكرار.

ص: 402

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - أن محل النزاع هو خبر الواحد المجرّد عن القرينة القطعية، فيما إذا كان اعتباره من باب الظن الخاص؛ لا من باب الظن المطلق الثابت اعتباره بحكم العقل، بعد انسداد باب العلم.

2 - استدلال المصنف على جواز التخصيص بوجهين:

أحدهما: قيام السيرة من الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عموم الكتاب.

ثانيهما: لزوم إلغاء أخبار الآحاد بالمرة لو لم يخصّص بها عموم الكتاب؛ إذ وجود الخبر الذي لم يكن على خلافه عموم الكتاب في غاية الندرة، فالاقتصار عليه يكون كإلغاء دليل حجية أخبار الآحاد.

الوجوه التي استدل بها المانعون:

3 - الأول: أن العام الكتابي قطعي الصدور، و خبر الواحد ظني الصدور فلا يقاوم العام.

و قد ردّه المصنف:

أولا: بأن ذلك لا يمنع عن التصرف في دلالة العام الكتابي الظنية، و إلا لامتنع تخصيصه بالخبر المتواتر، مع أنه جائز بلا كلام.

و ثانيا: أن المعارضة في الحقيقة إنما هي بين أصالة العموم و دليل حجية الخبر، و بما أن الخبر بدلالته و سنده صالح للتصرف في أصالة العموم لحكومته أو وروده عليها - لأنه رافع لموضوعها تعبّدا - كان الخبر مقدما على العام. و أصالة العموم لا تصلح للتصرف في أصالة الحجية؛ لأنها لا ترفع موضوعها.

4 - الثاني: أن ما دل على حجية الخبر هو الإجماع، و القدر المتيقّن منه ما لا يوجد على خلافه عموم الكتاب.

و قد ردّه المصنف: بأن الدليل لا ينحصر بالإجماع؛ لما عرفت من سيرة الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عموم الكتاب.

5 - الثالث: ما دل من الأخبار على وجوب طرح المخالف للكتاب من الأخبار، و ضربه عرض الجدار، و أنها زخرف، و مما لم يقله الإمام «عليه السلام»، و هي كثيرة جدا.

ص: 403

و ردّه المصنف بوجوه:

1 - المراد بالمخالفة: هي غير المخالفة بنحو العموم و الخصوص؛ لأنها ليست مخالفة بنظر العرف.

2 - لا بد من تخصيص المخالفة بغير المخالفة بالعموم و الخصوص، للعلم بصدور أخبار كثيرة مخالفة للكتاب بالعموم و الخصوص؛ إذ لو لم نقل بهذا التخصيص يلزم طرح كثير من الأخبار التي علم بصدورها عن المعصوم «عليه السلام».

3 - قوة احتمال كون المراد بالمخالفة مخالفة الحكم الواقعي بأن الأئمة «عليهم السلام» لا يقولون بغير قول الله تعالى، و مع هذا الاحتمال لا يحرز كون الخبر المخالف ظاهرا مخالفا للحكم الواقعي حتى تشمله أخبار الطرح.

«فافهم» لعله إشارة إلى عدم استقامة هذا التوجيه؛ لأن الرواة غير عالمين بالواقعيات، فكيف يأخذون بما هو موافق للكتاب واقعا مع عدم علمهم بذلك ؟

6 - الرابع: عدم جواز تخصيص عموم الكتاب، لعدم جواز النسخ - لأنهما في الحقيقة تخصيص - لأن النسخ تخصيص في الأزمان.

و قد ردّه المصنف بعدم الملازمة تارة للفرق بينهما، و الفارق هو: الإجماع على عدم جواز النسخ دون التخصيص. و أخرى: توافر الدواعي إلى نقل النسخ و ضبطه دون التخصيص، و لذا لا يكتفي في النسخ بالظن؛ دون التخصيص فيجوز الاكتفاء بالظن فيه.

7 - رأي المصنف «قدس سره» هو: جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد.

ص: 404

فصل

لا يخفى: أن الخاص و العام المتخالفين (1)، يختلف حالهما ناسخا و مخصصا و منسوخا، فيكون الخاص: مخصصا تارة، و ناسخا مرّة، و منسوخا أخرى؛ و ذلك لأن

=============

فصل في دوران الأمر بين النسخ و التخصيص

اشارة

(1) نحو: «أكرم العلماء»، و «لا تكرم فساقهم». و توضيح ما في المتن يتوقف على بيان ما يتصور في المقام من صور و احتمالات.

فيقال: إنه إذا ورد عام و خاص متخالفان حكما - كالمثال المذكور - فإما أن يعلم تاريخهما أو لا. و الأول: إما مقترنان أو لا. و الثاني: إما أن يتقدم العام أو الخاص ثم المتأخر منهما إما أن يكون واردا قبل حضور وقت العمل بالآخر أو بعده.

فهذه ست صور:

1 - الاقتران: بأن يكون الخاص مقارنا للعام من حيث الصدور، كما إذا وردا من الإمامين في زمان واحد؛ بناء على حجية قول الإمام قبل زمان إمامته.

2 - أن يكون الخاص واردا بعد العام قبل حضور وقت العمل به، كما لو قال المولى في يوم الجمعة: «أكرم العلماء يوم الاثنين»، ثم قال يوم السبت: «لا تكرم فساقهم».

3 - أن يكون الخاص واردا بعد حضور وقت العمل بالعام بأن يقول المولى يوم الثلاثاء: «لا تكرم فساقهم» في المثال المذكور.

و هذه الصور تتصور على وجهين:

أحدهما: أن يكون العام واردا لبيان الحكم الظاهري، و تأسيس ضابط للشك ليرجع إليه في موارد الشك.

و ثانيهما: أن يكون واردا لبيان الحكم الواقعي.

4 - أن يكون العام واردا بعد الخاص قبل حضور وقت العمل بالخاص، كما قال المولى يوم الجمعة: «لا تكرم فساق العلماء يوم الاثنين»، ثم قال يوم السبت: «أكرم العلماء».

5 - أن يكون العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص، بأن يقول المولى يوم الثلاثاء: «أكرم العلماء» في المثال السابق.

ص: 405

الخاص إن كان مقارنا مع العام، أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل به، فلا محيص عن كونه مخصصا و بيانا له.

و إن كان بعد حضوره كان ناسخا لا مخصصا؛ لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي؛ و إلا (1) لكان الخاص أيضا 6 - أن يجهل التاريخ.

=============

هذه خلاصة الكلام في بيان ما يتصور من الصور.

أما أحكام هذه الصور: فقد يكون الخاص مخصصا للعام، و قد يكون ناسخا له، و قد يكون منسوخا. هذا مجمل الكلام في المقام.

و أما تفصيل ذلك: فهو بحسب ما ذكرناه من الترتيب بالأرقام.

و أما حكم الاقتران: فلا إشكال في كون الخاص مخصصا للعام بلا خلاف يعبأ به كما في معالم الدين، ص 307، ط. الجديدة، حيث قال: «و يجب حينئذ بناء العام على الخاص بلا خلاف يعبأ به».

و كذلك يكون الخاص مخصصا للعام فيما إذا كان واردا بعد العام قبل حضور وقت العمل به، و قد أشار إليهما بقوله: «إن كان الخاص مقارنا مع العام، أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل به؛ فلا محيص عن كونه مخصصا و بيانا له»، فيكون الخاص مخصصا للعام في صورتي المقارنة، و ورود الخاص بعد العام قبل حضور وقت العمل به.

و أما حكم الصورة الثالثة - و هي ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام - فهو أن يكون الخاص ناسخا لا مخصصا؛ «لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي».

قوله: «لئلا يلزم» تعليل لعدم المخصصية، كما أن قوله: «فيما إذا كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي» إشارة إلى ما هو شرط لناسخية الخاص.

و حاصل الكلام في المقام: أن ناسخية الخاص المتأخر عن وقت العمل بالعام مشروطة بكون العام واردا لبيان الحكم الواقعي - إذ لو كان واردا لبيان الحكم الظاهري كان الخاص مخصصا له - كصورة ورود الخاص بعد العام قبل وقت العمل به، و كصورة مقارنته للعام كما عرفت.

(1) أي: و إن لم يكن العام لبيان الحكم الواقعي - بأن كان لبيان الحكم الظاهري - «لكان الخاص أيضا مخصصا له» يعني: كصورة ورود الخاص قبل حضور زمان العمل بالعام، و صورة مقارنته للعام.

ص: 406

مخصصا له، كما هو (1) الحال في غالب العمومات و الخصوصات في الآيات و الروايات.

و إن كان العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص، فكما يحتمل أن يكون الخاص مخصصا للعام، يحتمل أن يكون العام ناسخا له، و إن كان الأظهر أن يكون الخاص مخصصا، لكثرة (2) التخصيص، حتى اشتهر: (ما من عام إلا و قد خص)، مع قلّة النسخ في الأحكام جدّا، و بذلك (3) يصير ظهور الخاص في الدوام - و لو كان

=============

(1) أي: ورود العام لبيان الحكم الظاهري، و كون الخاص مخصصا له حال غالب العمومات و الخصوصات في الآيات و الروايات المأثورة عن الأئمة «عليهم السلام».

و أما حكم الصورة الرابعة - و هي ورود العام بعد الخاص قبل حضور وقت العمل به - فهو تعيين الخاص للتخصيص؛ و لكن هذا الحكم مبني على اشتراط النسخ بحضور زمان العمل بالحكم المنسوخ، فلا يجوز النسخ قبل حضور وقت العمل بالحكم المنسوخ، و إلا فلا يتعين الخاص للتخصيص، يعني: و إن لم يكن النسخ مشروطا بحضور وقت العمل بالمنسوخ فلا يتعيّن الخاص للتخصيص؛ بل يدور أمره بين المخصصية و الناسخية فيما إذا ورد العام قبل حضور العمل بالخاص، أو كان الخاص واردا قبل حضور وقت العمل بالعام؛ لكن المشهور هو اشتراط النسخ بحضور وقت العمل، فكان الخاص مخصصا للعام على كلا التقديرين؛ لا ناسخا له. هذا ما أشار إليه بقوله: «أو ورد العام قبل حضور العمل به».

و أما حكم الصورة الخامسة - و هي ورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاص - ففيه احتمالان؛ الأول: أن يكون الخاص مخصصا للعام: الثاني: أن يكون العام ناسخا للخاص.

أما جواز التخصيص: فلعدم استلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة.

و أما جواز النسخ: فلكونه بعد حضور وقت العمل بالخاص، غير إن التخصيص هو أظهر من النسخ لما أشير إليه من شيوع التخصيص، و ندرة النسخ، فيوجب ذلك قهرا أقوائية ظهور الخاص في الدوام و الاستمرار و إن كان بالإطلاق و مقدمات الحكمة من ظهور العام في العموم. و إن كان بالوضع لا بالإطلاق فيتعين التخصيص دون النسخ.

(2) علّة لترجيح مخصصية الخاص على ناسخية العام له.

و حاصل التعليل: أظهرية التخصيص - لكثرة شيوعه - من النسخ لقلته.

(3) أي: بكثرة التخصيص و قلة النسخ، مع ورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاص يصير ظهور الخاص في الدوام - و لو كان هذا الظهور إطلاقيا يعني: ناشئا عن

ص: 407

بالإطلاق - أقوى من ظهور العام و لو كان بالوضع، كما لا يخفى هذا فيما علم تاريخهما (1).

و أما لو جهل، و تردد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام و قبل حضوره: فالوجه هو الرجوع إلى الأصول العملية.

و كثرة التخصيص، و ندرة النسخ - هاهنا - و إن كانا يوجبان الظن بالتخصيص أيضا (2)، مقدمات الحكمة - أقوى من ظهور العام في عمومه الأفرادي، و لو كان هذا الظهور وضعيا، فيقدم الخاص على العام من باب التخصيص، فالعلماء في قوله: «أكرم العلماء» مثلا ظاهر بحسب الوضع في كل فرد من أفراد العلماء، سواء كان عادلا أم فاسقا، و قوله: «و لا تكرم فساق العلماء» ظاهر - بالإطلاق الناشئ من مقدمات الحكمة - في الدوام و الاستمرار، فلو قدّم العام على الخاص كان مقتضى تقديمه عليه عدم استمرار حرمة فساقهم، و لو انعكس و قدم الخاص على العام فمقتضاه: انحفاظ ظهور الخاص في الاستمرار، و عدم بقاء العام على عمومه، و خروج بعض أفراده عن حيّزه، فيدور الأمر بين أحد هذين الأمرين، و حيث إن ظهور الخاص في الاستمرار - و إن كان بالإطلاق - معتضد بشيوع التخصيص، فيصير أقوى من ظهور العام في عمومه الأفرادي و لو كان بالوضع فيقدم على ظهور العام؛ لوضوح تقدم الأقوى ظهورا على الأضعف، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 652».

=============

(1) أي: تاريخ الخاص و العام، و لا يعلم أن الخاص وارد قبل حضور وقت العمل بالعام كي يكون مخصصا له، أو بعده كي يكون ناسخا له، أو يكون العام واردا بعد وقت العمل بالخاص حتى يكون ناسخا، أو مقارنا معه كي يكون الخاص مخصصا له.

فحينئذ يحكم بإجمالهما، و يرجع إلى الأصول العملية لا إلى التخصيص، و لا إلى النسخ كما هو الشأن في جميع موارد إجمال الدليل.

هذا ما أشار إليه بقوله: «فالوجه هو الرجوع إلى الأصول العملية»، فيرجع في مثال:

«أكرم الشعراء و لا تكرم فساقهم» إلى أصل البراءة عن حرمة إكرام الشاعر الفاسق.

(2) أي: كصورة تأخر العام عن العمل بالخاص.

و حاصل الكلام في المقام: أن قوله: «و كثرة التخصيص» دفع لما يتوهم من: أن كثرة التخصيص موجبة لترجيح احتمال التخصيص على النسخ كالصورة الخامسة المتقدمة - و هي تأخر العام عن العمل بالخاص - التي حكم المصنف فيها بالتخصيص؛ لشيوعه و ندرة النسخ؛ لأن الشيوع موجود هنا أيضا، فيكون مرجحا للتخصيص على النسخ و الأصول العملية، فلا فرق في الحكم بالتخصيص و بين الجهل بالتاريخ و بين العلم بتأخر

ص: 408

و أنه واجد لشرطه (1) إلحاقا له (2) بالغالب، إلا إنه لا دليل على اعتباره (3)، و إنما يوجبان الحمل عليه (4) فيما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص، لصيرورة (5) الخاص بذلك في الدوام أظهر من العام، كما أشير إليه فتدبر جيدا.

العام على العمل بالخاص. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح التوهم.

=============

و حاصل الدفع: هو الفرق بين الصورة السابقة و بين هذه الصورة.

و حاصل الفرق: أن كثرة التخصيص؛ و إن كانت موجبة للظن بالتخصيص مع ندرة السنخ إلاّ إنه لا دليل على اعتبار هذا الظن، هذا بخلاف الصورة السابقة، فإن شهرة التخصيص فيها تستلزم أقوائية ظهور الخاص في الدوام، و الاستمرار على ظهور العام في العموم و ليس الأمر كذلك في صورة الجهل بالتاريخ؛ لعدم الدوران بين الظهورين، و مجرد الظن بالتخصيص ما لم يوجب الأظهرية لا عبرة به أصلا. فقياس الخاص المجهول التاريخ بالخاص المعلوم تقدمه صدورا و عملا على العام في غير محله؛ لكونه قياسا مع الفارق - إذ في الثاني ينعقد الظهور للخاص في الدوام و الاستمرار، و يتقوى هذا الظهور بالظن الحاصل من شيوع التخصيص و ندرة النسخ، بخلاف الخاص في المجهول التاريخ فلا ينعقد له ظهور حتى يتقوى بالظن المزبور.

(1) أي: شرط التخصيص، و هو ورود الخاص بعد العام قبل حضور وقت العمل بالعام، أو وروده قبل العام، سواء كان قبل حضور وقت العمل به أو بعده.

(2) أي: إلحاقا للخاص مع الجهل بالتاريخ بالغالب و هو التخصيص.

«إلا إنه لا دليل على اعتباره» يعني: غلبة التخصيص و إن كانت موجبة للظن بالتخصيص - حتى في الخاص المجهول التاريخ - لكنه لا دليل على اعتباره في ترجيح التخصيص على النسخ ما لم يوجب الأظهرية؛ كصورة تأخر العام عن العمل بالخاص، حيث إنه قد انعقد للخاص ظهور في استمرار الحكم و لو بالإطلاق، و هذه الغلبة توجب أقوائية هذا الظهور، و من المعلوم: أن الأقوى ظهورا يتقدم على غيره، و هذا بخلاف الجهل بالتاريخ، فلم يتحقق فيه ظهور للخاص في الاستمرار، و من هنا يعلم: أن مجرّد الظن الحاصل من الغلبة غير مجد في إثبات التخصيص.

(3) أي: اعتبار الظن الحاصل من كثرة التخصيص، و ندرة النسخ فلا يترجح به التخصيص على النسخ.

(4) أي: على التخصيص في صورة ورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاص.

(5) تعليل لقوله: «يوجبان الحمل عليه» أعني: لصيرورة الخاص بالظن الحاصل من كثرة التخصيص «في الدوام أظهر من العام»، و قد أشار إليه بقوله: «و إن كان الأظهر أن

ص: 409

ثم إن تعيّن الخاص (1) للتخصيص إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام، أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به إنما يكون مبنيا على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل، و إلا فلا يتعين له بل يدور بين كونه مخصصا و ناسخا في الأول (2)، و مخصصا و منسوخا في الثاني (3)، إلا أن الأظهر كونه (4) مخصصا، و إن كان ظهور يكون الخاص مخصصا».

=============

قوله: «إنما يوجبان الحمل عليه» أي: إنما يوجب كثرة التخصيص و ندرة النسخ الحمل على التخصيص في خصوص الصورة الخامسة و هي: ما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص من جهة كونهما موجبين لأقوائية ظهور الخاص في العام، و الاستمرار من ظهور الدوام في العموم الأفرادي، هذا بخلاف الجهل بالتاريخ إذا أوجبا الظن بالتخصيص؛ لأن الظن حينئذ مما لا عبرة به كما عرفت غير مرة، فيرجع إلى الأصل العملي.

(1) أي: تعيّن الخاص للتخصيص - في الفرضين المذكورين في المتن - مبني على اشتراط النسخ بحضور زمان العمل بالحكم المنسوخ؛ إذ لو لم يشترط به لم يتعين الخاص في الصورتين المذكورتين للتخصيص؛ بل يدور أمره بينه و بين النسخ، كما أشار إليه بقوله: «و إلا فلا يتعين؛ بل يدور..» إلخ. يعني: و إن لم يكن النسخ مشروطا بحضور وقت العمل بالمنسوخ، فلا يتعيّن الخاص للتخصيص؛ بل يدور أمره بين المخصصية و الناسخية فيما إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام، فالخاص حينئذ إمّا مخصّص للعام، و إما ناسخ له، لكن المشهور اشتراط النسخ بحضور وقت العمل.

(2) أي: ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام.

(3) أي: ورود العام قبل حضور وقت العمل بالخاص، فإن الخاص حينئذ إما مخصص للعام، و إما منسوخ به لورود العام بعده و إن كان قبل العمل بالخاص.

(4) أي: كون الخاص مخصصا في كلتا الصورتين، و هما وروده قبل حضور وقت العمل بالعام، و ورود العام قبل حضور وقت العمل بالخاص؛ و ذلك لما تقدم من شيوع التخصيص و ندرة النسخ، و هذا الشيوع يوجب أقوائية ظهور الخاص في الدوام من ظهور العام في العموم، فيبني على المخصصية لا الناسخية. و تظهر الثمرة بين التخصيص و النسخ - على ما قيل - في موارد:

منها: ما إذا ورد مخصصان مستوعبان للعام، فعلى التخصيص يقع التعارض بينهما؛ لاستهجان استيعاب التخصيص، بخلاف النسخ.

و منها: أنه بناء على استهجان تخصيص الأكثر إذا ورد خاص مشتمل على حكم

ص: 410

العام في عموم الأفراد أقوى من ظهور الخاص في الدوام؛ لما أشير إليه من تعارف التخصيص و شيوعه، و ندرة النسخ جدّا في الأحكام. و لا بأس بصرف عنان الكلام إلى ما هو نخبة القول في النسخ (1).

أكثر الأفراد، فإنه على النسخ لا ضير فيه، بخلاف التخصيص.

=============

و منها: ما يمكن أن يكون من موارد ظهور الثمرة، و هو ما إذا كان الخاص ظنيا و العام قطعيا، و قلنا بعدم جواز نسخ القطعي بالظني، فإنه يحمل على التخصيص.

في النسخ

(1) و لمّا انجر الكلام إلى النسخ فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى ما هو منتخب القول في النسخ، فاعلم: أن النسخ في اللغة و إن كان الإزالة، و منه «نسخت الشمس الظل» أي: أزالته إلاّ إنه في الاصطلاح: بمعنى رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده و زمانه، من دون فرق بين أن يكون ذلك الأمر الثابت حكما تكليفيا، أو وضعيا، فارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه كارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها، و ارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان المبارك ليس من النسخ بشيء، فالنسخ و إن كان رفع الحكم الثابت بالدليل الأول «إثباتا» أي: بحسب ظاهر دلالة الدليل الثاني، «إلا إنه في الحقيقة» ليس رفعا؛ بل «دفع الحكم ثبوتا» أي: بحسب الواقع؛ لأن الدليل الناسخ كاشف عن عدم المقتضي لدوام الحكم ثبوتا، و أن أمده ينقضي، و إن كان ظاهر الدليل الأول يقتضي دوامه و استمراره؛ و لكن اقتضت الحكمة إخفاء أمد الحكم في بداية الأمر، مع إنه بحسب الواقع له أمد و غاية إذا كان النسخ بعد حضور وقت العمل، أو اقتضت الحكمة أصل إنشاء الحكم و إقراره، مع إنه في الواقع ليس للحكم قرار و ثبات إذا كان النسخ قبل حضور وقت العمل.

و كيف كان؛ فالنسخ دفع ثبوتا و إن كان رفعا إثباتا، و ذلك فإن النبي «صلى الله عليه و آله» الصادع أي: القاضي للشرع ربّما يلهم من قبل الله تعالى أو يوحى إليه أن يظهر الحكم، و أن يظهر استمراره للناس، مع علمه على حقيقة الحال، و أنه سينسخ في الاستقبال، أو مع عدم علمه على نسخ الحكم في الاستقبال لعدم إحاطة النبي «صلى الله عليه و آله» بتمام ما جرى في علم الله تعالى، فقد أمر الله تعالى إبراهيم الخليل بذبح ولده إسماعيل، مع عدم كون المأمور به مرادا جديا للمولى في الواقع، و مع عدم علم الخليل بالنسخ.

فالمتحصل: أن النسخ بحسب الحقيقة و الواقع يكون دفعا و إن كان بحسب الظاهر

ص: 411

فاعلم: أن النسخ و إن كان رفع الحكم الثابت إثباتا، إلا إنه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتا، و إنما اقتضت الحكمة إظهار دوام الحكم و استمراره، أو أصل إنشائه و إقراره، مع إنه بحسب الواقع ليس له قرار أو ليس له دوام و استمرار و ذلك (1) لأن النبي رفعا، فلا محذور فيه سواء كان قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ أم كان بعد وقت العمل به.

=============

و من هنا يعلم: أن الغرض الداعي إلى تعرّض المصنف لمعنى النسخ هو: التنبيه على خطأ ما اشتهر بينهم من اشتراط النسخ بحضور وقت العمل بالحكم المنسوخ.

و توضيح ما أفاده المصنف: أن النسخ و إن كان رفعا للاستمرار الذي اقتضاه إطلاق دليل الحكم في مقام الإثبات؛ لكنه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتا؛ لعدم المقتضي لاستمراره؛ إذ مع وجود المقتضي له لم يكن وجه لرفعه، فالناسخ كاشف عن عدم المقتضي لبقاء الحكم و دوامه. فقوله: «إثباتا» قيد للرفع، يعني: أن النسخ و إن كان رفع الحكم الواقعي الأولي أو الثانوي في مقام الإثبات؛ لكنه في الحقيقة دفع له؛ لكشفه عن عدم المقتضي لثبوته.

قوله: «و إنما اقتضت الحكمة إظهار دوام الحكم و استمراره» إشارة إلى: دفع توهم، فلا بد أولا من توضيح التوهم؛ كي يتضح ما أفاده المصنف في مقام الدفع عنه.

و أما توضيح التوهم: فهو أنه مع عدم المقتضي لتعلق الإرادة الجدّية باستمرار الحكم أو بأصل إنشائه لا فائدة لأمر النبي «صلى الله عليه و آله» أو الولي «عليه السلام» بإظهار الدوام لو كان النسخ بعد حضور وقت العمل، أو إظهار أصل إنشائه لو كان النسخ قبل حضور وقت العمل.

و حاصل ما أفاده المصنف في مقام الدفع: أن المقتضي لإظهار إنشاء الحكم أو دوامه موجود، فيكون أمر النبي «صلى الله عليه و آله» أو الولي «عليه السلام» بإظهار أصل إنشاء الحكم أو دوامه مع الحكمة و الفائدة المقتضية له، فليس أمر النبي «صلى الله عليه و آله» بإظهار الدوام أو أصل إنشاء الحكم بلا فائدة.

(1) هذا تقريب كون النسخ دفعا ثبوتا و رفعا إثباتا، و أن دليل النسخ شارح لدليل تشريع الحكم الظاهر في كون مدلوله مرادا بالإرادة الجدية، و مبيّن له، بأنه مراد بالإرادة الاستعمالية لمصلحة اقتضت ذلك، فربما يلهم النبي «صلى الله عليه و آله» أو يوحي إليه أن يظهر أصل تشريع الحكم أو استمراره، مع اطلاعه على أنه ينسخ في المستقبل، أو عدم اطلاعه على ذلك؛ لعدم إحاطته بتمام ما جرى في علم الله تعالى؛ لكونه «صلى الله عليه و آله» ممكن الوجود المستحيل أن يحيط بواجب الوجود، و من المعلوم: أن علمه

ص: 412

«صلى الله عليه و آله» الصادع للشرع ربما يلهم أو يوحى إليه أن يظهر الحكم أو استمراره، مع اطلاعه على حقيقة الحال، و أنه ينسخ في الاستقبال، أو مع عدم اطلاعه على ذلك؛ لعدم إحاطته بتمام ما جرى في علمه «تبارك و تعالى»، و من هذا القبيل (1) لعله (2) يكون أمر إبراهيم بذبح إسماعيل.

و حيث عرفت أن النسخ بحسب الحقيقة يكون دفعا (3)، و إن كان بحسب الظاهر رفعا، فلا بأس به مطلقا و لو كان قبل حضور وقت العمل؛ لعدم (4) لزوم البداء المحال تعالى عين ذاته، فيمتنع إحاطته «صلى الله عليه و آله» بعلمه تعالى أيضا، فبرهان امتناع إحاطته «صلى الله عليه و آله» بذات الباري تعالى برهان على امتناع إحاطته بعلمه أيضا، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 660».

=============

(1) أي: من قبيل إنشاء أصل الحكم مع عدم كونه مرادا جديا و إن كان بحسب ظاهر الدليل مرادا كذلك.

(2) هذا إشارة إلى أنه يمكن أن يكون من هذا القبيل الذي لم يكن النبي «صلى الله عليه و آله» يعلم بحقيقة الحال - أمر إبراهيم بذبح اسماعيل - إذ لو علم النسخ لم يكن له كثير ثواب و مدح؛ إذ الرجل العادي منّا لو علم بنسخ تكليف شاق لم يكن ممدوحا لأجل تهيئة المقدمات.

(3) أي: بيانا لعدم الحكم من أول الأمر إلا صوريا؛ «و إن كان بحسب الظاهر رفعا» للحكم الثابت.

قوله: «و لو كان قبل حضور وقت العمل» بيان للإطلاق في قوله: «مطلقا» - فلا يعتبر ما ذكره المشهور من الفرق بين النسخ و التخصيص من اشتراط حضور وقت العمل في النسخ.

(4) تعليل لقوله: «فلا بأس»، و لزوم البداء إشارة إلى أحد الوجوه التي استدل بها على عدم جواز النسخ، و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج، 3 ص 661» - أنه يلزم منه البداء المحال في حقه «تبارك و تعالى».

توضيحه: أنه يستحيل تعلق الإرادة الجدّية بفعل أولا، و تعلقها بتركه ثانيا، مع عدم تغيّر الفعل أصلا لا ذاتا، و لا جهة أي: الجهة التي لها دخل في المصلحة كالسفر و الحضر و الفقر و الغنى و حضور الإمام و غيبته. مثلا: إذا كانت صلاة الجمعة في عصر الحضور واجبة مطلقا؛ بحيث لا يكون لحضوره «عليه السلام» دخل في المصلحة الداعية إلى إيجابها و تعلق الإرادة بها، فلا يمكن تعلق النهي بها حينئذ؛ لاستلزامه تغيّر الإرادة مع عدم تغيّر في الفعل بما يوجب تغيّرها، و لذا أنكر بعض النسخ في الشرعيات.

ص: 413

في حقّه «تبارك و تعالى» بالمعنى المستلزم لتغيّر إرادته مع اتحاد الفعل ذاتا وجهة، و لا لزوم (1) امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ، فإن الفعل إن كان مشتملا على مصلحة موجبة للأمر به امتنع النهي عنه، و إلا (2) امتنع الأمر به،...

=============

و بالجملة: فالبداء المحال هو تعلق الإرادة الجدّية بفعل ما فيه مصلحة ملزمة لتعلق الوجوب به، ثم تعلق الإرادة الجدية أيضا بتركه مع وحدة الفعل ذاتا وجهة، و عدم تغيّر فيه بما يوجب الإرادة.

و كيف كان؛ فلا يلزم البداء المحال و هو البداء بالمعنى المتبادر منه أي: ظهور الأمر الخفي المستلزم لتغيّر إرادته تعالى؛ إذ لزوم البداء المحال إنما يلزم إذا لم يكن النسخ بمعنى الدفع، بخلاف ما إذا كان في الحقيقة دفعا.

و أما لزوم البداء المستلزم للجهل المستحيل في حقه «سبحانه و تعالى» إذا كان النسخ بمعنى الرفع؛ فلأن الله تعالى لو أمر بصلاة خمسين ركعة في اليوم و الليل حسب المصلحة الموجودة في الفعل بلا مفسدة أصلا، ثم نسخ ذلك قبل العمل، و جعلها عشر ركعات لكان أحد الأمرين خطأ لا محالة؛ إما الجعل الأول و إما الجعل الثاني و هو رفع الجعل الأول لكونه مستلزما للجهل.

ثم هذا الكلام بعينه آت فيما لو كان النسخ بعد حضور وقت العمل رفعا لا دفعا؛ إذ جعل الاستمرار حقيقة، ثم رفعه يستلزم أحد الخطأين.

و أما النسخ بمعنى الدفع: فلا يلزم منه محذور أصلا، من دون فرق بين كون النسخ حينئذ قبل حضور وقت العمل أو بعده، فتحصل إمكان النسخ قبل حضور وقت العمل، و جواز التخصيص بعد حضور العمل؛ و ذلك لعدم لزوم تأخير البيان القبيح في التخصيص، و لا لزوم البداء المحال في النسخ؛ لأن في الإظهار بعد الإخفاء مصلحة، و ذلك لا يستلزم تغيّر إرادته سبحانه، مع اتحاد الفعل ذاتا وجهة.

(1) هذا إشارة إلى وجه آخر من الوجوه التي احتج بها على امتناع النسخ.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الحكم تابع للملاك، إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه يلزم على تقدير كون النسخ بمعنى الرفع امتناع النسخ إن كان للحكم ملاك - و هو المصلحة - لامتناع النهي المشتمل على مصلحة موجبة للأمر، أو امتناع الحكم المنسوخ إن لم يكن في الفعل مصلحة مقتضية للأمر به.

(2) أي: و إن لم يكن الفعل مشتملا على مصلحة موجبة للأمر به امتنع الأمر به؛ لعدم المصلحة الداعية إلى الأمر، و قد عرفت امتناع الحكم بلا ملاك على ما مذهب العدلية.

ص: 414

.. و ذلك (1) لأن الفعل أو دوامه لم يكن متعلقا لإرادته، فلا يستلزم نسخ أمره بالنهي تغيير إرادته، و لم يكن الأمر بالفعل من جهة كونه مشتملا على مصلحة، و إنما كان إنشاء الأمر به، أو إظهار دوامه عن حكمة و مصلحة.

و أما البداء في التكوينيات - بغير ذلك المعنى (2) - فهو (3) مما دل عليه الروايات المتواترات (4)، كما لا يخفى.

و مجمله (5)، أن الله «تبارك و تعالى» إذا تعلّقت مشيئته تعالى بإظهار ثبوت ما فالمتحصل: هو عدم جواز النسخ بمعنى الرفع لأجل الوجهين المذكورين، و هما: لزوم البداء المحال، و لزوم امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ.

=============

و حاصل جواب المصنف: أن النسخ يكون بمعنى الدفع، فلا يلزم شيء من المحذورين المذكورين.

(1) تعليل لعدم لزوم البداء المستحيل، و عدم لزوم امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ.

و حاصله: أنه مع عدم تعلق الإرادة الجدية لا يلزم شيء من المحاذير.

فالنتيجة هي: أن النسخ - في التشريعيات - عبارة عن دفع الحكم ثبوتا و رفعه إثباتا، و عدم توقفه على حضور وقت العمل، و عدم لزوم تغيّر إرادة و لا امتناع نسخ و لا منسوخ منه.

البداء في التكوينيات

(2) أي: المعنى المستحيل في حقه «تبارك و تعالى»، الذي تقدمت استحالته لكونه مستلزما لتغيّر إرادته واقعا؛ كأن يخبر بعذاب قوم يونس، ثم لا يعذبهم، أو يخبر بموت العروس ليلة الزفاف ثم لا تموت، إلى غير ذلك.

(3) أي: البداء في التكوينيات بغير ذلك المعنى المحال، المستلزم للجهل، فقد رواه في الوافي في باب البداء عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال: «إن الله لم يبد له من جهل» و في نفس الباب عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال: «ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له».

(4) أي: التي ذكرت في الوافي في باب البداء. تركنا ذكرها رعاية للاختصار.

(5) أي: و مجمل معنى البداء في التكوينيات هو: إظهار ثبوت شيء لمصلحة مع عدم ثبوته واقعا، و عدم تعلق إرادة جدّية بثبوته، و النبي أو الولي المأمور بإظهاره قد يكون عالما بحقيقة الحال، و أنه لا ثبوت له واقعا، و قد لا يكون عالما بها؛ لعدم اتصاله إلا بلوح المحو و الإثبات.

ص: 415

يمحوه، لحكمة (1) داعية إلى إظهاره، ألهم (2) أو أوحى إلى نبيّه أو وليّه أن يخبر به، مع علمه (3) بأنه يمحوه، أو مع عدم علمه (4) به، لما أشير إليه من عدم الإحاطة بتمام ما جرى في علمه، و إنما يخبر به لأنه (5) حال الوحي أو الإلهام لارتقاء نفسه الزكية، و اتصاله بعالم لوح المحو و الإثبات اطلع على ثبوته، و لم يطلع على كونه معلقا على أمر غير واقع، أو عدم الموانع، قال الله «تبارك و تعالى»: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ (6) الآية.

نعم (7)؛ من شملته العناية الإلهية، و اتصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ

=============

(1) قيد لقوله: «بإظهار».

(2) جواب «إذا» في قوله: «إذا تعلقت». و الضمير في قوله «به» و «إظهاره» راجعان إلى «ثبوت ما يمحوه».

(3) أي: مع علم النبي أو الولي بأنه تعالى يمحو ما أخبر بثبوته. و ضمير «بأنه» راجع إليه تعالى. و ضمير «يمحوه» راجع إلى «ما أخبر بثبوته».

(4) أي: مع عدم علم النبي أو الولي بمحوه، و الغرض: أنه لا يعتبر في المخبر من النبي أو الوصي علمه بالمحو؛ إذ اللازم في الوحي و الإلهام: الاتصال بلوح المحو و الإثبات، و قد يكون ما فيه مطابقا لما في اللوح المحفوظ، و قد يكون مخالفا له و الأول قابل للتغيير دون الثاني، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 665».

(5) أي: لأن النبي «صلى الله عليه و آله» حال الوحي يعلم بثبوت أمر؛ و لكن لا يعلم بأنه معلق على أمر غير واقع، و الحاصل: أن قوله: «لأنه» تعليل لقوله: «و إنما يخبر به»، يعني: أن إخباره بثبوته إنما هو لأجل اطلاعه على ثبوته؛ لاتصال نفسه المقدسة بلوح المحو و الإثبات، و عدم اطلاعه على كون ثبوته معلقا على أمر غير واقع؛ أو معلقا على عدم الموانع؛ كإخبار النبي أو الولي بموت زيد بعد مدة معينة، أو موت شخص في وقت خاص؛ كموت العروس بالعقرب إن لم يتصدق عنها، و إلا فلا يقع الموت، فإن الإخبار بثبوت مثل هذه الأمور التكوينية المعلقة على أمر غير واقع، أو على عدم الموانع كعدم الصدقة مما لا ضير فيه؛ لعدم لزوم محذور منه؛ إذ ليس فيه إرادة جدّية حتى تغيّر الإرادة أو غيره من المحاذير.

(6) الرعد: 39.

(7) استدراك على ما ذكره من عدم اطلاع النبي أو الولي على كون ثبوت ما أخبر به معلقا على أمر غير واقع، و حاصله: أن بعض خالصي عباده بسبب اتصاله باللوح المحفوظ المعبّر عنه بأم الكتاب؛ ينكشف عنده الواقعيات بجملتها على ما هي عليها، فيطلع على

ص: 416

الذي هو من أعظم العوالم الربوبية، و هو أم الكتاب، يكشف عنده الواقعيات على ما هي عليها، كما ربما يتفق لخاتم الأنبياء، و لبعض (1) الأوصياء، كان عارفا بالكائنات كما كانت (2) و تكون.

نعم (3)؛ مع ذلك ربما يوحى إليه حكم من الأحكام، تارة: بما يكون ظاهرا في الاستمرار و الدوام، مع أنه في الواقع له غاية و أمد يعيّنها بخطاب آخر، و أخرى (4):

بما يكون ظاهرا في الجد، مع إنه لا يكون واقعا بجد؛ بل لمجرد الابتلاء و الاختبار، كما أنه يؤمر وحيا أو إلهاما بالإخبار بوقوع عذاب أو غيره ممّا لا يقع، لأجل حكمة في هذا الإخبار أو ذاك الإظهار، فبدا له تعالى بمعنى: أنه يظهر ما أمر نبيّه أو وليّه بعدم إظهاره أوّلا، و يبدي ما خفي ثانيا (5) و إنما نسب إليه تعالى البداء، مع أنه في المشروط و شرطه، و المقيد و قيده، و يكون عارفا بالكائنات من ماضيها و حالها و مستقبلها.

=============

(1) المراد به: الأئمة الاثني عشر عليهم صلوات الله الملك الأكبر.

(2) أي: كما كانت الكائنات الماضية، و تكون الكائنات في المستقبل و الحال. يعني:

يعلم بعض الأوصياء الكائنات لاتصاله باللوح المحفوظ.

(3) يعني: نعم؛ مع علمه بالواقعيات - على ما هي عليه - لا مانع من أن يوحى إليه حكم يكون ظاهرا في الاستمرار، مع كونه موقتا واقعا يعيّن أمده بخطاب آخر، فالغرض من قوله: «نعم مع ذلك»: أنه مع العلم بالواقعيات يمكن أن تكون مصلحة من وحي حكم يكون بحسب الدليل ظاهرا في الاستمرار، مع كونه موقتا بوقت يعيّنه بعد ذلك بخطاب آخر، كما أنه قد تكون المصلحة في أن يوحى إليه بحكم يكون ظاهرا في الجد، مع عدم كونه كذلك؛ بل لمجرد الابتلاء و الاختبار.

كما أنّه قد تكون المصلحة في الأمر وحيا أو إلهاما بالإخبار بوقوع عذاب أو غيره من الأمور التكوينية، مع عدم وقوعه في الخارج، ثم يظهر ما أمر نبيّه أو وليه بعدم إظهاره أولا، و يبدي ما خفي ثانيا، و يسمى إظهار ما خفي بداء، و لا ضير فيه أصلا من غير فرق في ذلك بين تعلق إظهار ما خفي بالتشريع و التكوين، فالبداء مطلقا سواء كان في التشريعيات أم التكوينيات هو إظهار ما خفي، و البداء بهذا المعنى لا يستلزم محذورا عقليا، كما في «منتهى الدراية ج 3، ص 667».

(4) يعني: و أخرى يوحي بحكم يكون ظاهرا في الجد، مع عدم كونه واقعا كذلك.

(5) أي: ما خفي أولا من عدم استمرار الحكم، أو عدم الإرادة الجدية في التشريعيات، أو عدم وقوع ما أخبر بثبوته أولا.

ص: 417

الحقيقة الإبداء، لكمال شباهة إبدائه تعالى كذلك (1) بالبداء في غيره، و فيما ذكرنا كفاية فيما هو المهم (2) في باب النسخ، و لا داعي بذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب كما لا يخفى على أولي الألباب.

ثم لا يخفى ثبوت الثمرة بين التخصيص و النسخ (3)، ضرورة: أنه على التخصيص و قوله: «ثانيا» قيد لقوله: «و يبدي».

=============

(1) أي: إظهار ما أخفاه أولا لمصلحة اقتضت إخفاءه، و إبراز خلافه و أما وجه شباهة بدائه تعالى ببداء غيره فهو: كون البداء إظهارا بخلاف الإظهار الأول في غيره تعالى، حيث إن الجاهل المركب يظهر شيئا يعتقد بكونه ذا مصلحة، و بعد ذلك حينما ينكشف له خلافه و عدم المصلحة فيه يظهر خلافه، فكما تكون المصلحة مخفية عليه، و تظهر له بعد ذلك، فكذلك المصلحة التي أخفاها الله تعالى على العبد ثم أظهرها له؛ لكن الإخفاء منه تعالى يكون للمصلحة، و من غيره تعالى للجهل.

فالحاصل: أن البداء المنسوب إليه تعالى ليس بمعناه الحقيقي أعني: ظهور الشيء الخفي، فإنه لا يخفى عليه تعالى شيء، فالمعقول في حقه تعالى هو الإبداء أي: إظهار الشيء الخفي، و المعقول في حق غيره هو الظهور بعد الخفاء، فنسب البداء إليه تعالى لشباهة الإبداء منه تعالى للبداء من غيره تعالى.

(2) و هو: عدم كون النسخ مشروطا بحضور وقت العمل بالحكم المنسوخ. و لا يخفى: إن البداء ليس له دخل في علم الأصول، و لذا تركنا تطويل الكلام في هذا المقام.

في بيان الثمرة بين التخصيص و النسخ

(3) أي: فيما إذا دار الخاص بين الناسخية و المخصصية.

و منها: ما أشير إليه سابقا من: أن الخاص الوارد بعد العام إن كان مخصصا خرج عن حكم العام من الأول، و إن كان ناسخا خرج عن حكمه من حين النسخ، و الوارد قبل العام إن كان مخصصا لا يدخل في حكم العام أبدا، و إن كان منسوخا دخل فيه بعد النسخ.

و منها: أن تخصيص الكتاب بالخبر جائز، و نسخه به ممنوع.

و منها: أن نسخ حكم العام عموما جائز، و تخصيص العام بالأكثر فضلا عن الكل ممنوع.

و منها: أنه لو أمر مثلا بالصلاة بلا تعيين مكان، فصلى في ملك الغير فنهي عنه، فعلى النسخ أجزأت، و على التخصيص يحتمل القضاء.

ص: 418

يبني على خروج الخاص عن حكم العام رأسا (1)، و على النسخ (2) على ارتفاع حكمه عنه من حينه، فيما دار الأمر بينهما في المخصص، و أما إذا دار بينهما في الخاص و العام؛ فالخاص على التخصيص غير محكوم بحكم العام أصلا، و على النسخ كان

=============

(1) فيقال في مثل: «أكرم العلماء و لا تكرم العلماء البصريين» إن العلماء البصريين محكومون بحكم الخاص، و هو حرمة الإكرام من زمان ورود العام قبل ورود الخاص، و إنهم لم يكونوا محكومين بحكم العام - و هو وجوب الإكرام - في زمان أصلا.

(2) أي: ناسخية الخاص كالخاص المزبور للعام أعني: قوله: «أكرم العلماء» فيقال: إن أفراد الخاص كالعلماء البصريين في المثال كانوا محكومين بحكم العام و هو وجوب الإكرام، ثم تغيّر الحكم و صاروا من زمان صدور الخاص محكومين بحرمة الإكرام، بخلاف التخصيص؛ لأنه يقتضي أن يكون حكمهم من أول الأمر حرمة الإكرام، فتظهر الثمرة بين زمان صدور العام المتقدم بالفرض على الخاص، و بين زمان صدور الخاص، فعلى مخصصية الخاص: يكون أفراد الخاص دائما محكومين بحرمة الإكرام. و على ناسخيته: يكون أفراد الخاص قبل وروده محكومين بحكم العام، و بعد وروده محكومين بضدّه و هو الحرمة.

قوله: «على ارتفاع حكمه عنه» أي: يبني على ارتفاع حكم الخاص عن حكم العام من حين ورود الخاص، «فيما دار الأمر بينهما في المخصص» أي: فيما دار الأمر بين النسخ و التخصيص في المخصص فقط، كما إذا ورد الخاص بعد العمل بالعام. «و أما إذا دار بينهما» أي: بين النسخ و التخصيص في الخاص و العام كما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص، فإن الأمر حينئذ يدور بين مخصّصية الخاص للعام، و بين ناسخية العام له.

فعلى التخصيص لا يكون الخاص محكوما بحكم العام أصلا، فالعلماء البصريون - في المثال المزبور - ليسوا محكومين بحكم العام و هو وجوب الإكرام أصلا.

و على النسخ يحرم إكرامهم إلى زمان صدور العام، و بعد صدوره تنقلب الحرمة إلى الوجوب؛ لكون العام ناسخا له، «و على النسخ كان محكوما به» أي: بحكم العام «من حين صدور دليله»: أي دليل العام، فإن كل حكم منسوخ يستمر إلى زمان ورود الناسخ، و بعد وروده ينقلب الحكم، فالخاص يستمر حكمه إلى زمان ورود العام، و بعد وروده ينقلب حكمه إلى حكم العام. ففرق واضح بين مخصّصية الخاص للعام و بين ناسخية العام له، فعلى الأول: لا يكون الخاص محكوما بحكم العام أصلا، و على الثاني: يصير محكوما بحكمه بعد ورود العام، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 675».

ص: 419

محكوما به من حين صدور دليله، كما لا يخفى.

=============

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - الصور المتصورة في دوران الأمر بين النسخ و التخصيص ست:

الأول: الاقتران. الثاني: أن يكون الخاص واردا بعد العام قبل حضور وقت العمل به.

الثالث: أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام.

الرابع: أن يكون العام واردا بعد الخاص قبل حضور وقت العمل به.

الخامس: أن يكون العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص.

السادس: أن يجهل التاريخ.

أما أحكام هذه الصور فتختلف.

فقد يكون الخاص مخصصا للعام، و قد يكون ناسخا له، و قد يكون منسوخا.

ففي صورة الاقتران: يكون الخاص مخصصا بلا شك، و كذا إذا ورد بعد العام قبل حضور وقت العمل به.

و يكون ناسخا للعام إذا ورد بعد حضور وقت العمل بالعام لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، غاية الأمر: ناسخية الخاص المتأخر مشروطة بكون العام واردا لبيان الحكم الواقعي؛ إذ لو كان لبيان الحكم الظاهري كان الخاص مخصصا له.

و أما لو كان العام بعد حضور وقت العمل بالخاص: كان الأمر يدور بين كون الخاص مخصصا للعام أو العام ناسخا له، و الأظهر: كون الخاص مخصصا لكثرة التخصيص و شيوعه.

و أما عند الجهل: فيحكم بإجمالهما و يرجع إلى الأصول العملية، كما هو شأن جميع موارد إجمال الدليل.

2 - النسخ في اللغة بمعنى الإزالة، و منه «نسخت الشمس الظل»، و في الاصطلاح:

بمعنى رفع أمر ثابت في الشريعة بارتفاع أمده و زمانه، من غير فرق بين أن يكون ذلك الأمر الثابت حكما تكليفيا أو وضعيا. و أما ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه كارتفاع وجوب الصلاة بخروج الوقت: فليس من النسخ بشيء.

ثم النسخ و إن كان رفع الحكم الثابت بالدليل الأول إثباتا إلا إنه في الحقيقة ليس رفعا؛ بل دفع، فلا محذور فيه سواء كان قبل حضور وقت المنسوخ أم بعده.

3 - بعض الوجوه التي استدل بها على عدم جواز النسخ:

الأول: النسخ مستلزم للبداء المحال في حقه تعالى؛ إذ يستحيل تعلق الإرادة الجدية

ص: 420

بفعل أولا و تعلقها بتركه ثانيا، مع عدم تغيّر الفعل أصلا لا ذاتا و لا جهة.

الثاني: لزوم امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ؛ لأن الحكم تابع للملاك و المصلحة، فيلزم امتناع النسخ إن كان مشتملا على الملاك، أو امتناع الحكم المنسوخ و إن لم يكن في الفعل مصلحة مقتضية للأمر به.

و الجواب عن كلا الوجهين: أن النسخ يكون بمعنى الدفع، فلا يلزم شيء من المحذورين.

4 - البداء في التكوينيات: هو: بمعنى إظهار ما خفي بمكان من الإمكان، و المستحيل في حقه تعالى هو: البداء بمعنى ظهور ما خفي، لكونه مستلزما للجهل.

فالحاصل: أن البداء في التكوينيات هو إظهار ثبوت شيء لمصلحة، مع عدم ثبوته واقعا، و عدم تعلق إرادة جدّية بثبوته، و النبي و الولي المأمور بإظهاره قد يكون عالما بحقيقة الحال و أنه لا ثبوت له واقعا. و قد لا يكون عالما بها.

5 - الثمرة بين التخصيص و النسخ فيما إذا دار الأمر بينهما من وجوه: منها: أن الخاص الوارد بعد العام إن كان مخصصا خرج عن حكم العام من الأول، و إن كان ناسخا خرج عن حكمه من حين النسخ.

و أما الخاص الوارد قبل العام: فيتردد بين كونه مخصصا و ناسخا، و إن كان مخصصا لا يدخل في حكم العام أبدا، و إن كان منسوخا دخل فيه بعد النسخ.

و منها: أن نسخ العام عموما جائز، و تخصيص العام أكثريا فضلا عن الكل ممنوع.

و منها: أن تخصيص الكتاب بالخبر جائز، و نسخه ممنوع.

6 - رأي المصنف «قدس سره» على ما يلي:

1 - كون الخاص مخصصا إن كان مقارنا مع العام، أو كان واردا بعده قبل حضور وقت العمل.

2 - كون الخاص ناسخا إن كان واردا بعد حضور وقت العمل بالعام.

3 - كون الخاص مرددا بين الناسخية و المخصصية إن كان العام واردا بعد وقت العمل بالخاص.

4 - الرجوع إلى الأصول العملية عند الجهل بتاريخهما.

5 - النسخ هو: الرفع إثباتا، و الدفع ثبوتا.

6 - البداء في التكوينيات هو: بمعنى إظهار ما خفي.

انتهى مبحث العام و الخاص، و يتلوه مبحث المطلق و المقيد.

ص: 421

ص: 422

المقصد الخامس في المطلق و المقيد و المجمل و المبيّن

اشارة

ص: 423

ص: 424

فصل

عرّف المطلق بأنه: ما دلّ على شائع في جنسه.

=============

فصل فى المطلق و المقيد

اشارة

قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو المراد بالمطلق و المقيد في المقام. فيقال: إن الظاهر أنه ليس للقوم اصطلاح خاص في هذين اللفظين، بل مرادهم بهما هو المعنى اللغوي أعني: «المرسل» و خلافه، و يتصف بكل منهما كل من اللفظ و المعنى، فيقال:

لفظ مطلق و معنى مطلق، أو لفظ مقيد و معنى كذلك.

و على هذا فلا وجه لتعريف المطلق و المقيد بما هو المذكور في كتب القوم، ثم الإشكال عليه بعدم الاطراد تارة و الانعكاس أخرى.

و كيف كان؛ فيقع الكلام تارة: في تعريف المطلق، و أخرى: في كيفية تقسيم اللفظ إلى المطلق و المقيد.

و ثالثة: فيما ذكروا للمطلق من أمثلة.

و أما الكلام في تعريف المطلق: فقد عرّفوا المطلق بأنه «ما دل على شائع في جنسه»، و المراد من الجنس ليس الجنس المنطقي و لا اسم الجنس النحوي؛ بل المراد معناه العرفي الشامل للحقائق الخارجية و الأمور الانتزاعية و الاعتبارية، فيكون المراد بالجنس كل كلّي له مصاديق و إن كان في اصطلاح أهل الميزان يسمى بالنوع أو غيره، و لذا قيل في تفسير التعريف المذكور: «إنه حصة محتملة لحصص كثيرة مما يندرج تحت أمر مشترك، فالمراد بالشائع - على هذا التفسير - هو الكلّي المضاف إلى قيد، كالنكرة، فإنّها تدل على طبيعة مقيدة بالوحدة المفهومية قابلة للانطباق على جميع الحصص المندرجة تحت هذه الطبيعة، ضرورة: أن الحصة هي الطبيعة مع قيد الإضافة إلى شيء من القيود كالوحدة، فيصدق هذا التعريف على النكرة الواقعة في حيّز الأوامر مثل: «أكرم عالما»، بداهة: أنّه يصدق على كل فرد من أفراد طبيعة العالم، غاية الأمر: أنّ صدقه على جميع الأفراد يكون على نحو البدلية لا العرضية؛ لمنافاة تقيّد الطبيعة بالوحدة لصدقها على الأفراد عرضا.

ص: 425

و قد أشكل عليه بعض الأعلام بعدم الاطراد (1) أو الانعكاس (2).

و أطال (3) الكلام في النقض و الإبرام، و قد نبهنا في غير مقام على أنّ مثله شرح الاسم و هو مما يجوز أن لا يكون بمطرد و لا بمنعكس، فالأولى الإعراض عن ذلك و هذا بخلاف النكرة الواقعة في تلو الأخبار، مثل قوله تعالى: وَ جٰاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ

=============

(1) فإنه لتعيّنه الواقعي لا يصلح للانطباق على حصص كثيرة حتى بنحو البدلية، إذ المعتبر هو الانطباق الواقعي، لا بنظر المتكلم و المخاطب.

و كيف كان؛ فأحسن ما يقال في تعريف المطلق بوجه واضح: «إن المطلق هو الدال على فرد غير معين من الطبيعة قابل للانطباق على أفراد كثيرة منها، مندرجة تحت جنس ذلك الفرد الشامل ذلك الجنس لهذا الفرد و غيره من الأفراد»، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 677».

و قد يرد على التعريف المذكور بما قيل: من إنّ التعريف المذكور لا يشمل جميع أنواع المطلق؛ بل ينطبق على خصوص النكرة، لأنها هي التي تدل على شائع في جنسه، و لا ينطبق على المطلق الشمولي كالعقود في قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ، و لا على المطلق المراد في الأعلام الشخصية كوجوب إكرام زيد الذي له إطلاق أحوالي، و كوجوب الطواف بالبيت، و الوقوف بمنى و المشعر، و غير ذلك من الأعلام الشخصية، فإن الإطلاق كما يكون في الطبائع الكلية؛ كذلك يكون في الأعلام الشخصية، فالأولى في تعريف المطلق أن يقال: «إنه عبارة عن المعنى الذي جعل موضوعا للحكم الشرعي بلا قيد، سواء كان ذلك المعنى كليا أم جزئيا» حيث أن الإطلاق ليس إلا عدم التقييد، و هو المراد بالإرسال الذي يكون معنى الإطلاق لغة.

(1) لشمول التعريف المزبور ل «من و ما و أي» الاستفهامية؛ لدلالتها على العموم البدلي وضعا، مع إنها ليست من أفراد المطلق.

(2) لعدم شموله للألفاظ الدالة على نفس الماهية كأسماء الأجناس، مع إنّهم يطلقون عليها لفظ «المطلق»، فإنّ لفظ «رجل» بدون التنوين اسم جنس وضع للدلالة على نفس الماهية من دون تقيّدها بقيد كالوحدة، فلا يصدق التعريف المذكور للمطلق عليه، مع إنّهم عدّوا أسامي الأجناس من المطلق.

(3) أي: أطال ذلك البعض «الكلام في النقض و الإبرام و قد نبهنا في غير مقام» أي:

في مقامات عديدة: على أن مثل التعريف المذكور شرح الاسم، فلا يعتبر فيه أن يكون

ص: 426


1- القصص: 20.

ببيان ما وضع له بعض الألفاظ التي يطلق عليها المطلق أو من غيرها (1) مما يناسب المقام.

فمنها (2): اسم الجنس، كإنسان و رجل و فرس و حيوان و سواد و بياض (3) إلى غير مطردا أو منعكسا، لا التعريف الحقيقي حتى يكون مجالا للنقض و الإبرام، إلاّ إن يقال:

=============

إن نفس الإشكالات الطردية و العكسية تشهد بعدم كون التعريف عندهم لفظيا.

(1) أي: غير الألفاظ التي يطلق عليها المطلق؛ كعلم الجنس و المعرّف باللام، فإنّهما لا يطلق عليهما المطلق، لكنهما يناسبانه، كما سيأتي. هذا تمام الكلام في تعريف المطلق.

و أما كيفية تقسيم اللفظ إلى المطلق و المقيد: فالظاهر من تعريف المطلق و المقيد و إن كان كل من الإطلاق و التقييد وصفين لنفس اللفظ بلحاظ المدلول، فإن كان مدلول اللفظ شائعا يسمّى اللفظ مطلقا، و إن لم يكن كذلك سمّي اللفظ مقيدا، و لكن التحقيق: أن التقسيم إليهما و الاتصاف بهما إنما هو بلحاظ الحكم؛ بمعنى: أن اللفظ الذي يكون لمدلوله شياع و انتشار ذاتا إذا صار موضوعا لحكم من الأحكام - سواء كان حكما وضعيا أم تكليفيا - فإن كان تمام الموضوع للحكم يسمى مطلقا، و إن لم يكن تمام الموضوع له - بل يكون في مقام الموضوعية مقيدا بقيود - سمّى مقيدا.

فالرقبة مع كونها لفظا واحدا إن جعلت تمام الموضوع للحكم اتصفت بالإطلاق، و إن جعلت مقيدة بقيد موضوعا له اتصفت بالتقييد، فالرقبة في قولنا: «أعتق رقبة» مطلقة، و في قولنا: «أعتق رقبة مؤمنة» مقيدة.

فالمتحصل: أن الاتصاف بهما يكون بلحاظ الموضوعية للحكم.

و قد ظهر مما ذكرنا: أن التقابل بين الإطلاق و التقييد من قبيل تقابل العدم و الملكة، فلا يتحقق الإطلاق إلا فيما من شأنه أن يكون قابلا للتقييد، فالإطلاق عبارة عن عدم تقييد ما له شأنية التقييد و قابليته.

هذا تمام الكلام في كيفية تقسيم اللفظ إلى المطلق و المقيد، و بقي الكلام في أمثلة المطلق.

الألفاظ التي يطلق عليها المطلق

(2) أي: فمن الألفاظ التي يطلق عليها المطلق «اسم الجنس».

(3) كل هذه الألفاظ أسماء أجناس، إذا كانت بلا تنوين التنكير؛ إذ معه تخرج عن كونها أسماء أجناس.

ثم لا فرق في اسم الجنس بين كونه نوعا كإنسان و فرس، أو جنسا كحيوان أو

ص: 427

ذلك من أسماء الكليات؛ من الجواهر و الأعراض؛ بل العرضيات (1).

و لا ريب (2) أنها موضوعة لمفاهيمها بما هي مبهمة مهملة بلا شرط أصلا ملحوظا معها، حتى لحاظ أنها كذلك.

غيرهما، و سواء كان جوهرا كالإنسان و الفرس، أو عرضا كالسواد و البياض، «بل العرضيات» و هي الأمور الاعتبارية التي لا حظّ لها من الوجود العيني و الذهني؛ بل موطنها وعاء الاعتبار كالملكية و الزوجية و الحرية.

=============

و الإضراب بقوله: «بل» إنما هو لدفع توهم اعتبار الوجود الخارجي في صدق المطلق، و إثبات صدقه على الاعتباريات التي لا تنالها يد الوجود العيني كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 681».

(1) الفرق بين العرض و العرضي في اصطلاح المصنف: أن الأول هو المتأصل من الأعراض التي بحذائها شيء في الخارج؛ كالسواد و البياض. و الثاني هو من الأمور الاعتبارية؛ كالملكية و الزوجية و نحوهما، فيكون اصطلاح المصنف على خلاف اصطلاح أهل المعقول، فإن العرض عندهم مبدأ الاشتقاق، و العرضي هو المشتق كما في المنظومة حيث قال السبزواري:

و عرضي الشيء غير العرض *** ذا كالبياض ذاك مثل الأبيض.

(2) المقصود من هذا الكلام هو: بيان معاني الألفاظ التي يطلق عليها المطلق. و هي أسماء الأجناس المذكورة في كلام المصنف.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: بيان اعتبارات الماهية، فنقول: إن للماهية اعتبارات، و ذلك لأن الماهية تارة تلاحظ بما هي هي بمعنى: أن النظر مقصور إلى ذاتها و ذاتياتها، و لم يلاحظ معها شيء زائد على ذاتها و ذاتياتها، و تسمى هذه الماهية بالماهية المهملة نظرا إلى عدم ملاحظة شيء من الخصوصيات المتعينة معها، فتكون مهملة بالإضافة إلى جميع تلك الخصوصيات حتى خصوصية كونها مقسما للأقسام الآتية، إذ الملحوظ حينئذ هو ذات الماهية، من دون أن يلاحظ معها شيء خارج عن ذاتها.

و عليه فلا يصح حمل شيء عليها إلا الذات مثل: «الإنسان حيوان ناطق» أو الذاتي مثل: «الإنسان حيوان أو ناطق»، و هذا يسمى باللابشرط المقسمي.

و أخرى: تلاحظ بما هي هي مبهمة مهملة؛ لكن مع لحاظ أنّها لا بشرط، و هذا يسمى باللاشرط القسمي، و الفرق بين المقسمي و القسمي - بعد كون كل منهما لا بشرط - أنّ لحاظ اللابشرطية مأخوذ في الثاني دون الأوّل؛ بمعنى: أن الأول قد لوحظت الماهية بما هي هي مبهمة مهملة من دون أن يلاحظ معها شيء حتى لحاظ أنها لا بشرط، هذا

ص: 428

و بالجملة: الموضوع له اسم الجنس هو نفس المعنى، و صرف المفهوم الغير الملحوظ معه شيء أصلا، الذي هو المعنى بشرط شيء، و لو كان ذاك الشيء هو الإرسال و العموم البدلي، و لا الملحوظ معه عدم لحاظ شيء معه الذي هو الماهية اللابشرط بخلاف الثاني فإنّ الماهية فيه قد لوحظ معها شيء خارج عن مقام ذاتها و ذاتياتها، و ذلك الشيء عبارة عن عنوان مقسميتها للأقسام التالية: و هي الماهية بشرط شيء، و بشرط لا، و لا بشرط، هذا مجمل الأقسام.

=============

و أما تفصيلها فهي:

أن الأول: أن تلاحظ الماهية بالإضافة إلى ما هو خارج عن ذاتها مقترنة بوجوده؛ كلحاظ ماهية الرقبة مقترنة بالإيمان.

الثاني: أن تلاحظ الماهية بالإضافة إليه مقترنة بعدمه؛ كلحاظ ماهية الرقبة مقترنة بعدم الكفر.

الثالث: أن تلاحظ غير مقترنة بوجوده أو عدمه؛ كلحاظ الإيمان مع الرقبة؛ بأن لم تقيد الرقبة بوجوده و لا بعدمه، و هذا الأخير يسمّى باللابشرط القسمي، و المقسم لهذه الأقسام الثلاثة يسمى باللابشرط المقسمي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه قد وقع النزاع فيما وضعت له أسماء الأجناس، و هناك أقوال ثلاثة:

«أحدها»: ما هو ظاهر كلام المصنف من أنّ معانيها ذوات المهيات العارية في حد ذاتها عن لحاظ الشياع و لحاظ التقييد و لحاظ التجرّد؛ بل عن لحاظ أنّها لا بشرط، فالموضوع له لأسماء الأجناس هي الماهية اللابشرط المقسمي.

«ثانيها»: ما نسب إلى المشهور من: أنّ معانيها هي المهيات المأخوذة بحدّ الإطلاق و الشياع و السريان، بحيث كان الشياع و السريان جزء المدلول، فيكون الموضوع له ماهية بشرط شيء، و لكن سيأتي في ذيل النكرة تصريح المصنف بأن الكلام في صدق النسبة، و أنّه لم يعلم ذلك منهم.

«ثالثها»: أن يكون اسم الجنس موضوعا للفرد المنتشر بحيث لا يبقى فرق بينه و ما سيأتي من النكرة بالمعنى الثاني؛ و هي الطبيعة المقيدة بالوحدة. هذا ملخص الكلام في الأقوال في اسم الجنس، و قد عرفت: أن الحق عند المصنف هو الأول.

و قد استدل على الدعوى المذكورة - و هي قوله: «و لا ريب أنها موضوعة لمفاهيمها» - بوجهين:

أحدهما: ما أشار إليه بقوله: «لوضوح صدقها»، و حاصله: صدق أسماء الأجناس

ص: 429

القسمي، و ذلك لوضوح صدقها بما لها من المعنى، بلا (1) عناية التجريد عما (2) هو قضية الاشتراط و التقييد فيها كما لا يخفى، مع بداهة: عدم صدق المفهوم بشرط العموم (3) على فرد من الأفراد و إن كان (4) يعم كل واحد منها بدلا أو استيعابا.

كالإنسان و الفرس و الماء و الحنطة و نحوها على أفرادها من دون تصرف في معانيها، و هو كاشف عن وضعها للمفاهيم المبهمة بما هي هي مجرّدة عن كل لحاظ حتى عن لحاظ كونها مهملة، و من المعلوم: أنها لو كانت موضوعة لغير المفاهيم المبهمة بأن كانت موضوعة للمفاهيم المشروطة بالشيوع، أو الحصة المقيدة بالوحدة لزم تجريدها حتى يصح حملها على أفرادها، لأنها بدون التجريد لا تصدق على أفرادها، ضرورة: أن المقيد بالشياع مثلا لا يصدق على الأفراد، لعدم كون كل فرد شائعا حتى يكون مصداقا للمعنى الشائع، مع إن المعلوم صدق الماهيات على أفرادها بدون التجريد المزبور كما أشار إليه بقوله: «لوضوح صدقها» أي: صدق أسماء الأجناس - بما لها من المعنى - على أفرادها.

=============

(1) متعلق بقوله: «صدقها».

(2) متعلق بقوله: «التجريد»، و المراد بقضية الاشتراط هو: قيد الماهية من الاستيعاب و البدلية و غيرهما من القيود، و ضمير «فيها» راجع إلى أسماء الأجناس.

و الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «مع بداهة عدم صدق المفهوم بشرط العموم على فرد من الأفراد» يعني: هذا هو الوجه الثاني لإثبات وضع أسماء الأجناس لنفس الماهيات المبهمة المهملة و حاصله: على ما - في «منتهى الدراية، ج 3، ص 687» -: أنه لو كانت أسماء الأجناس موضوعة للمفاهيم المشروطة بالعموم كان عدم صدقها على فرد من الأفراد من البديهيات، حيث إن الماهية المشروطة بالشياع، و كذا الماهية اللابشرطية لا تتحدان مع الأفراد خارجا حتى يصح حملها عليها. أما الشياع فلوضوح: أنّ كل فرد واحد لا شيوع فيه حتى يتحد معه الماهية المقيدة بالشياع. و أما اللابشرطية: فلأنها قيد ذهني، و من المعلوم: مباينة الموجود الذهني للعيني الموجبة لامتناع اتحادهما، و صدق كل منهما على الآخر خارجا.

فالنتيجة: عدم كون اسم الجنس موضوعا للماهية اللابشرط القسمي، و لا المشروطة بشرط شيء كالشياع؛ بل المعنى الموضوع له اسم الجنس هو نفس الماهية المبهمة المعبّر عنها باللاشرط المقسمي.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(3) إشارة إلى الماهية المشروطة بشرط الشياع.

(4) يعني: و إن كان يعمّ المفهوم المقيّد بشرط العموم كل واحد من الأفراد بنحو

ص: 430

و كذا (1) المفهوم اللابشرط القسمي، فإنه (2) كلي عقلي لا موطن له إلا الذهن لا يكاد يمكن صدقه و انطباقه عليها بداهة (3): أنّ مناطه الاتحاد بحسب الوجود خارجا، فكيف يمكن أن يتحد معها (4) ما لا وجود له إلا ذهنا؟

و منها (5): علم الجنس كأسامة، و المشهور بين أهل العربية: أنه موضوع للطبيعة لا البدلية أو الاستيعاب، لكنّه لا يصدق مع شرط العموم على فرد واحد من الأفراد.

=============

(1) معطوف على «عدم صدق» يعني: و مع بداهة عدم صدق المفهوم اللابشرط القسمي على فرد من الأفراد.

(2) قوله: «فإنه» تعليل لعدم صدق المفهوم اللابشرط على الفرد؛ لأن المقيد بالقيد الذهني - مثل المفهوم اللابشرط - يمتنع انطباقه على الموجود الخارجي؛ لمباينة الوجودين المانعة عن الاتحاد الوجودي الذي هو مناط صحة الحمل. و الضمير في قوله: «عليها» راجع إلى الأفراد.

(3) تعليل لعدم صدق المفهوم القسمي على الأفراد.

(4) أي: مع الأفراد، و «ما» الموصولة فاعل «يتحد»، و الحاصل: أنّ اللابشرط القسمي موجود ذهني فقط؛ لأنه مقيد بلحاظ التجرد، و حيث إن لحاظ التجرّد ذهني فالمقيد به أيضا ذهني، و الأمر الذهني لا يتعلق به التكليف، فإنّ التكليف يتعلق بما يمكن أن يكون خارجيا، و ما يكون مقيّدا بالذهن لا يمكن أن يصير خارجيا.

فالمتحصل: أن صدق الرجل و نحوه على الفرد بلا عناية يدل على شيئين:

الأول: أن الرجل ليس موضوعا للماهيّة بشرط الإرسال - أي بشرط شيء - و إلا لزم التجريد حين الحمل على الفرد.

الثاني: أنه ليس موضوعا للماهية المقيدة بلحاظ عدم شيء معه - أي: اللابشرط القسمي - و إلا لزم عدم صدق الرجل على الفرد أصلا؛ لأن اللابشرط القسمي ذهني، فلا يصدق على الخارجي، فيكون موضوعا للابشرط المقسمي و هو المطلوب عند المصنف «قدس سره».

(5) أي: و من الألفاظ التي يطلق عليها المطلق علم الجنس «كأسامة» فإنه علم لجنس الأسد. و المشهور: أنه موضوع للطبيعة بقيد تعيّنها في الذهن؛ لا الطبيعة المبهمة من حيث هي كما في اسم الجنس، فالفرق بين علم الجنس و اسمه واضح؛ حيث أن علم الجنس وضع للطبيعة مقيدة بالتعين الذهني كالمعرف بلام الجنس، بخلاف اسم الجنس فإنّه وضع لنفس الطبيعة المبهمة بلا قيد التعين، و نظرا إلى هذا التعين الذهني في علم الجنس يعامل معه معاملة المعرفة في جعله مبتدأ، نحو: «أسامة أقوى الحيوانات»، و وقوعه

ص: 431

بما هي هي، بل بما هي متعينة بالتعين الذهني و لذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة التعريف.

لكن التحقيق أنه موضوع لصرف المعنى بلا لحاظ شيء معه أصلا كاسم الجنس، ذا الحال نحو: «رأيت أسامة مقبلا». هذا ما أشار إليه بقوله: «و لذا يعامل معه معاملة المعرفة» يعني: و لأجل التعين الذهني في علم الجنس يعامل معه معاملة المعرفة بدون أدوات التعريف.

=============

فترتيب آثار المعرفة على علم الجنس مع عدم ما يوجب تعريفه من أدوات التعريف دليل إنّي على تعيّنه الذهني، الموجب لترتيب أحكام المعرفة عليه.

كما أن عدم ترتيبها على اسم الجنس دليل إنّي أيضا على عدم تعيّنه.

هذا تمام الكلام فيما هو المشهور بين أهل العربية في علم الجنس، و لكن المصنف قد خالفهم في ذلك حيث ذهب إلى وضع علم الجنس لصرف المعنى بلا لحاظ شيء معه أصلا، و أنّ التعريف فيه لفظي لا يؤثر في تعين المعنى كالتأنيث اللفظي، فلا فرق بينه و بين اسم الجنس في الموضوع له، و قد أشار إليه بقوله: «لكن التحقيق أنه موضوع لصرف المعنى».

و حاصل التحقيق: أنه لا فرق بين اسم الجنس و علمه في المعنى؛ لأنه في كليهما واحد و هو نفس الماهية المبهمة بدون لحاظ شيء معها، و الفرق بينهما إنما هو في اللفظ، حيث إنه تجري أحكام المعرفة على علم الجنس من وقوعه مبتدأ، و توصيفه بالمعرفة نحو:

«ائت أسامة الأقوى»، و وقوعه نعتا للمعرفة دون اسم الجنس؛ لعدم جريان أحكام المعرفة عليه.

نعم؛ لمّا كان تعريف علم الجنس لفظيا لا يؤثر في المعنى كالتأنيث اللفظي كما أشار إليه بقوله: «و التعريف فيه لفظي» يعني: و التعريف في علم الجنس لفظي؛ فلا يدل إجراء أحكام المعرفة عليه على وضعه للطبيعة المتعيّنة بالتعين الذهني، فالتعريف اللفظي كالتأنيث اللفظي في عدم تأثيره في المعنى.

و كيف كان؛ فقد نفى المصنف ما ذكره المشهور بوجهين:

الوجه الأول: ما أشار إليه بقوله: «و إلا لما صح حمله على الأفراد..» إلخ. أي: و إن لم يكن علم الجنس كاسمه موضوعا لصرف المعنى بدون تعيّنه ذهنا لما صحّ حمل علم الجنس على الأفراد بلا تأويل و تصرف، و حاصل هذا الوجه: أنه لو لم يكن علم الجنس موضوعا لنفس المعنى؛ بل كان موضوعا له بقيد التعين الذهني - كما هو المنسوب إلى المشهور - لزم عدم صحّة حمله على الأفراد إلا بالتصرف و التأويل بإلغاء التعين، ضرورة:

ص: 432

و التعريف فيه لفظي، كما هو الحال في التأنيث اللفظي، و إلا لما صح حمله على الأفراد بلا تصرف و تأويل؛ لأنه على المشهور كلي عقلي، و قد عرفت: إنّه لا يكاد صدقه عليها مع صحة حمله عليها بدون ذلك، كما لا يخفى.

ضرورة (1): أن التصرف في المحمول بإرادة نفس المعنى (2) بدون قيده تعسف، لا يكاد يكون بناء القضايا المتعارفة عليه (3)، مع (4) أن وضعه لخصوص معنى يحتاج إلى أن المقيّد بالتعين الذهني موجود ذهني، و من المعلوم: امتناع حمله على الموجود الخارجي لتغايرهما و تباينهما، فصحة حمله على الأفراد الخارجية تتوقف على التجريد عن القيد الذهني؛ ليتحقق الاتحاد المصحح للحمل، مع أنّ المسلّم صحّة الحمل بدون التجريد المزبور، و هذا يدل على عدم كون الموضوع له في علم الجنس هو المعنى مقيّدا بالتعين الذهني و المراد بالتأويل في قوله: «بلا تصرف و تأويل» هو التجريد المزبور. قوله: «لأنه على المشهور» تعليل لعدم جواز الحمل بدون التصرف.

=============

(1) تعليل لصحة الحمل بدون التأويل، و حاصله: أن التصرف في المحمول - و هو علم الجنس - بإرادة نفس المعنى بدون قيده - أعني تعيّنه الذهني - تعسف؛ لاستلزامه التصرف في المعنى الموضوع له بلا وجه يوجبه، و ليس بناء العرف في القضايا المتعارفة على هذا التصرف حتى يكون هذا البناء قرينة نوعية على التصرف المزبور، فلا دليل على هذا التصرف أصلا.

(2) بأن يقال للأسد الخارجي: «هذا أسامة».

(3) أي: على التصرف في المحمول بإرادة جزء معناه، و هو نفس الطبيعة، و إلغاء جزئه الآخر أعني تعيّنه الذهني.

(4) هذا إشارة إلى الوجه الثاني الذي استدل به المصنف على كون علم الجنس موضوعا لنفس المعنى مجرّدا عن قيد التعين الذهني، و حاصله: أنه يلزم لغوية الوضع، إذ حكمة الوضع هي تفهيم المعنى الموضوع له باللفظ، و جعل اللفظ حاكيا عنه في مقام الاستعمال، و حينئذ فإن وضع اللفظ لمعنى لا يستعمل فيه أصلا؛ بل يستعمل في جزئه مجازا كان هذا الوضع لغوا منافيا لحكمة الوضع، و من المعلوم: قبح صدوره عن الجاهل فضلا عن الواضع الحكيم. فلزوم اللغوية دليل أيضا على كون معنى علم الجنس - كاسمه - نفس الطبيعة من دون لحاظ شيء من التعين الذهني و غيره معها؛ كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 694».

و الضمير في «وضعه» راجع إلى علم الجنس يعني: أنّ وضع علم الجنس لخصوص معنى - أي: معنى - مقيد بخصوصية يحتاج عند الاستعمال دائما إلى تجريده عن

ص: 433

تجريده عن خصوصيته عند الاستعمال لا يكاد يصدر عن جاهل، فضلا عن الواضع الحكيم.

و منها (1): المفرد المعرف باللام، و المشهور: أنه (2) على أقسام: المعرف بلام الجنس، أو الاستغراق، أو العهد بأقسامه على نحو الاشتراك بينها لفظا أو معنى، و الظاهر: أن الخصوصية في كل واحد من الأقسام من قبل خصوص اللام، أو من قبل قرائن المقام، خصوصيته لا يكاد يصدر عن جاهل، و هذا إشارة إلى لغوية الوضع.

=============

و كيف كان؛ فالنتيجة: أن المعنى في اسم الجنس و علمه واحد، و الفرق بينهما إنما هو في اللفظ إذ يعامل مع اسم الجنس معاملة النكرة، و مع علم الجنس معاملة المعرفة، فيجيء منه الحال نحو: «هذا أسامة مقبلا»، و يمتنع دخول الألف و اللام عليه، فلا يجوز «الأسامة»، كما لا يجوز «الزيد»، و يمتنع توصيفه بالنكرة، فلا يجوز نحو: «مررت بأسامة مقبل»، كما لا يجوز «مررت بزيد عالم»، و يبتدأ به نحو: «أسامة أقوى من ثعالة».

المفرد المعرف باللام

المفرد المعرف باللام(1) يعني: و من الألفاظ التي يطلق عليها المطلق: المعرف باللام، مثل: الرجل خير من المرأة مثلا.

(2) أي: المفرد المعرف باللام على أقسام.

و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل النزاع، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن المفرد المعرف باللام على أقسام:

الأول: أن يكون المفرد معرّفا بلام الجنس مثل: «الرجل خير من المرأة».

الثاني: أن يكون معرّفا بلام الاستغراق كقوله تعالى: وَ اَلْعَصْرِ * إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ (1) فإنه بمنزلة قوله: كل إنسان لفي خسر.

الثالث: أن يكون معرّفا بلام العهد. و هو على أقسام:

1 - العهد الذهني: و هو المشار به إلى فرد ما مقيدا بحضوره في الذهن، نحو قول المولى لعبده: «ادخل السوق» بأن يكون اللام إشارة إلى السوق المعهود الحاضر في ذهن العبد.

2 - العهد الخارجي: و هو المشار به إلى فرد متعين حاضر عند المخاطب خارجا نحو:

«افتح الباب».

3 - العهد الذكري: و هو المشار به إلى فرد مذكور سابقا كقوله تعالى:...

ص: 434


1- العصر: 1-2.

كَمٰا أَرْسَلْنٰا إِلىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصىٰ فِرْعَوْنُ اَلرَّسُولَ (1) .

ثم اللام إما مشترك لفظا أو معنى بين هذه الأقسام الخمسة.

أما الأول: فبأن تكون اللام في المفرد تارة: وضعت لتعريف الجنس، و أخرى:

للاستغراق، و ثالثة: للعهد الذهني، و رابعة: للعهد الخارجي، و خامسة: للعهد الذكري.

و أما الثاني: فبأن يقال: إن اللام قد وضعت للتعريف الجامع بين الأقسام بأن يكون التعريف يستفاد من اللام، و الخصوصيات مستفادة من القرائن الخارجية.

و بعبارة أخرى: أن تكون اللام لمطلق الإشارة إلى المدخول الأعم من نفسه و من أفراده المعهودة خارجا أو ذهنا أو جميع الأفراد، فيكون استعمالها في كل واحد استعمالا لها في مصداق من مصاديق معناها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنّ محل الكلام هو المفرد المعرف بلام الجنس لا المعرف بلام الاستغراق و لا بلام العهد؛ إذ لام الاستغراق يكون للعموم قطعا، فالمعرف به من مصاديق العام لا المطلق، و كذلك ليس المعرّف بلام العهد من مصاديق المطلق؛ و ذلك لتعين مدخول لام العهد بجميع أقسامه.

فحينئذ يرد عليه ما أورده المصنف.

و توضيح ما أورده المصنف على المشهور يتوقف على مقدمة و هي: أنه ينبغي البحث في مقامين:

الأول: في مدخول اللام بما هو مدخول. و الثاني: في اللام الداخلة عليه. و أما البحث في المقام الأول فهو و إن كان يختلف و يتفاوت عن المجرّد عنها بالتعين و عدمه، و لكن التحقيق عند المصنف هو عدم التفاوت في المدخول، فلا فرق بين المعرّف باللام و المجرّد عنها و ذلك فإن الظاهر أن ما يستعمل فيه المدخول هو ما يستعمل فيه غير المدخول. أعني: ما يطلق عليه اسم الجنس بالحمل الشائع نحو: لفظ «رجل» مثلا؛ بل يكون المستعمل فيه في كليهما واحدا و هو نفس الماهية، و أما الخصوصيات أعني: الجنس و الاستغراق و العهد بأقسامه فهي إنما تستفاد من القرائن المقامية أو المقالية أو غيرهما بنحو تعدد الدال و المدلول.

و أما البحث في المقام الثاني فهو: أن المفرد المعرف باللام على ما هو المعروف و المشهور و إن كان على أقسام على ما عرفت، و اللام إنما تكون موضوعة للتعريف

ص: 435


1- المزمل: 15-16.

و مفيدة للتعيين في غير العهد الذهني من تلك الأقسام، لأنها إذا أشير بها إلى الأفراد بنحو الاستغراق أو إلى الفرد المذكور أو الحاضر أو المعهود، فقد أفادت التعيين و هو معنى كونها موضوعة للتعريف في غير العهد الذهني، و أما فيه فيراد من المعرف باللام فرد ما لا على التعيين، و لكن التحقيق عند المصنف: أن اللام إنما تكون للتزيين لا للتعريف، فعلى هذا: اللام لا يكون تحتها معنى و إنما هي لصرف التزيين كما في الحسن و الحسين؛ لأنك قد عرفت: أنه لا تعين في تعريف الجنس في الخارج لأن لام الجنس - كالعهد الذهني - هو ما يشار به إلى فرد ما بقيد حضوره في الذهن و لا تعين لفرد ما - فاللام لا تفيد التعيين مع أن التعريف فرع التعيين، فلا بد أن تكون اللام للتزيين لا للتعريف؛ لما عرفت من أن مدخول اللام هو اسم الجنس لا يختلف و لا يتفاوت، و الخصوصية مستفادة من القرينة الخارجية لا من اللام.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المصنف قد أورد على ما هو المشهور من كون اللام للتعريف بوجوه:

الوجه الأول: ما أشار إليه بقوله: «و لازمه أن لا يصح حمل المعرف باللام»، و حاصل هذا الوجه: أنّ الموجود الذهني يمتنع انطباقه على الموجود الخارجي، لاختلاف صقعي الوجودين المانع عن الاتحاد المسوّغ للحمل، و حينئذ فلا يصحّ الحمل إلا بعد التجريد عن قيد التعين الذهني، و مع التجريد لا فائدة في هذا التقييد أي: لا فائدة في تقييد الواضع المعنى بالخصوصية الذهنية، فلا يقيده لفرض كونه حكيما و الحكيم لا يذكر قيدا لا فائدة فيه.

و كيف كان؛ فمن الواضح: أن الموجود الذهني غير قابل للحمل على الموجود الخارجي إلا بالتجريد، فلازم ذلك هو: التصرّف و التأويل في القضايا المتعارفة المتداولة بين أهل العرف، حيث إنّ الحمل فيها على هذا غير صحيح بدون ذلك، مع إن التأويل و التصرف فيها لا يخلوان عن التعسف لصحة الحمل فيها بدونهما، فيلزم وضع اللام لذلك أن يكون لغوا محضا و ذلك لا يصدر من الواضع الحكيم، فاللام تدل على التزيين فقط من دون أن تكون موضوعة للدلالة على التعريف و التعيين.

و أما استفادة الخصوصيات من الجنس و الاستغراق و العهد بأقسامه فهي إنما تكون بالقرائن التي لا بد منها لتعيين الخصوصيات على كل حال أي: سواء قلنا بكونها للتزيين أو للإشارة إلى المعاني المذكورة.

و على الثاني: سواء قلنا باشتراكها معنويا أو لفظيا بين المعاني المذكورة، و مع استفادة

ص: 436

الخصوصيات من القرائن الخارجية لا حاجة إلى الالتزام بوضع اللام للإشارة إلى المعيّن من تلك المعاني حتى يقال: إن اللام موضوعة للتعريف.

الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «مع إن التأويل و التصرف..» إلخ و حاصل هذا الوجه: أن التصرف بإلغاء قيد التعين الذهني في مقام الحمل على الأفراد لو لم يكن فيه تعسف لم يكن به بأس، لكنه لا يخلو من التعسف؛ لعدم التفات أبناء المحاورة إلى هذا التصرف، بل بناؤهم على حمل المعرف بلام الجنس - كنفس اسم الجنس - على الأفراد - الخارجية، من دون تجريد و عناية، و قيل: إن هذا الإيراد ليس إيرادا مستقلا؛ بل هو من متممات الإيراد الأول: و هو قوله: «و لازمه أن لا يصح حمل المعرف باللام».

الوجه الثالث: ما أشار إليه بقوله: «مضافا إلى أن الوضع..» إلخ، و حاصله: أن الوضع لمعنى لا يستعمل اللفظ فيه لعدم كونه من المعاني المحتاجة إلى تفهيمها ينافي حكمة الوضع التي هي تفهيم المعنى باستعمال اللفظ فيه، فهذا الوضع لغو، و لا يصدر عن العاقل فضلا عن الحكيم.

الكلام في توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية»: قوله: «من باب تعدد الدال و المدلول» بمعنى: دلالة المدخول على نفس المعنى، و دلالة اللام أو القرينة على الخصوصية.

«لا باستعمال المدخول ليلزم فيه المجاز أو الاشتراك» يعني: لا أن الخصوصيات تستفاد باستعمال مدخول اللام بأن يستعمل «رجل» تارة: في الجنس، و أخرى: في الاستغراق، و ثالثة: في العهد حتى يلزم «المجاز»؛ بأن يكون حقيقة في الإشارة إلى الجنس و مجازا في غيره «أو الاشتراك فيه»؛ بأن تكون اللام لمطلق الإشارة إلى المدخول الأعم من نفسه و من أفراده المعهودة خارجا أو ذهنا، أو جميع الأفراد، فيكون استعمالها في كل واحد استعمالا لها في مصداق من مصاديق معناها.

فمعنى المدخول في كلتا صورتي دخول اللام عليه و عدمه واحد، فرجل مثلا يستعمل في معناه المبهم مطلقا حتى بعد دخول اللام عليه، و الخصوصيات الزائدة على معناه تستفاد من الدوال الخارجية، فلا يلزم في مدخول اللام مجاز و لا اشتراك، إذ «الرجل» حال كونه محلى باللام، و حال كونه خاليا عنها استعمل في معناه الذي وضع له؛ و هو كل ذات ثبت له الذكورية.

ص: 437

من باب تعدد الدال و المدلول؛ لا باستعمال المدخول ليلزم فيه المجاز أو الاشتراك، فكان المدخول على كل حال مستعملا فيما يستعمل فيه الغير المدخول (1).

و المعروف: أن اللام تكون موضوعة للتعريف و مفيدة للتعيين في غير العهد الذهني، و أنت خبير (2) بأنه لا تعين في تعريف الجنس إلا الإشارة إلى المعنى المتميّز بنفسه من بين المعاني ذهنا، و لازمه: أن لا يصح حمل المعرف باللام بما هو معرف على الأفراد؛ لما عرفت من امتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلا الذهن إلا (3) بالتجريد، و معه (4) لا فائدة في التقييد، مع (5) إن التأويل و التصرّف في القضايا المتداولة في العرف غير خال عن التعسف.

هذا مضافا (6) إلى أن الوضع لمّا لا حاجة إليه، بل لا بد من التجريد عنه و إلغائه في

=============

(1) يعني: غير مدخول اللام كرجل، فمعناه قبل وقوعه تلو اللام و بعده واحد و هو الماهية المهملة المبهمة.

(2) يعني: غرضه: ردّ ما هو المعروف بينهم من وضع اللام للتعريف، و عدم المساعدة عليه، لأن التعريف فرع التعين، و لا تعيّن في تعريف الجنس؛ إذ لا يتصور فيه تعين إلا تميّزه بما له من الحدود المميّزة له عن المعاني المتصورة الذهنية، و لا يصح أن تكون اللام لتمييز المعنى كذلك للوجوه السابقة التي عرفت توضيحها.

قوله: «لما عرفت من امتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلا الذهن» تعليل لعدم صحة الحمل، و قد عرفت توضيح ذلك.

قوله: «مع» متعلق بقوله: «الاتحاد» يعني: أنه يمتنع الاتحاد مع ما لا موطن له إلا الذهن و هو قيد التعين الذي هو من القيود الذهنية.

(3) استثناء من امتناع الاتحاد، يعني: أنّ هذا الامتناع يرتفع بالتجريد.

(4) أي: مع لزوم التجريد في الانطباق لا فائدة في التقييد بالتعين الذهني للزوم إلغائه في مقام الاستعمال و الحمل فيكون لغوا.

(5) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الوجوه السابقة، و قد عرفت توضيح ذلك سابقا، لأن تجريد المعنى عن جزئه في القضايا المتداولة في العرف بأن يقال: إنّهم يجرّدون معنى اللفظ عن القيد الذهني، ثم يحملونه على الفرد الخارجي غير خال عن التعسف؛ لأنّا إذا راجعنا وجداننا لم نجد هذا التصرف عند الاستعمال، فيكون هذا التصرف بعيدا عن مذاق العرف بحيث لا ينتقل أذهانهم إلى التصرف المزبور.

(6) هذا إشارة إلى ثالث الوجوه المذكورة، و قد سبق توضيح ذلك فراجع.

ص: 438

الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرّف (1) باللام أو الحمل عليه كان لغوا كما أشرنا إليه (2)، فالظاهر (3): أن اللام مطلقا (4) تكون للتزيين كما في الحسن و الحسين «عليهما السلام»، و استفادة الخصوصيات (5) إنّما تكون بالقرائن التي لا بد منها لتعيينها (6) على كل حال، و لو (7) قيل بإفادة اللام للإشارة إلى المعنى، و مع الدلالة عليه (8) بتلك الخصوصيات لا حاجة إلى تلك الإشارة (9)، لو لم تكن (10) مخلة، و قد عرفت إخلالها، فتأمل جيّدا.

=============

(1) أي: بأن يجعل المعرف باللام محمولا مثلا نحو: «زيد الرجل»، أو موضوعا مثل: «الرجل زيد».

(2) حيث قال في علم الجنس: «مع أن وضعه لخصوص معنى يحتاج إلى تجريده عن خصوصيته عند الاستعمال».

(3) هذا إشارة إلى حاصل ما أفاده من عدم إفادة اللام للتعيين، إذ بعد إنكار كون اللام للتعريف الذهني لا بد أن تكون اللام للتزيين، كاللام الداخلة على الأعلام كالحسن و الحسين، و نظائرهما من الأعلام الشخصية.

(4) أي: اللام بجميع أقسامها حتى العهد الذهني، و في جميع الموارد يكون للتزيين.

(5) أي: من العهد الخارجي و الحضوري و الذكري، و تعريف الجنس، و الاستغراق، و العهد الذهني، فإن هذه الخصوصيات إنما تستفاد من القرائن.

(6) أي: تعيين الخصوصيات على كل حال حتى على القول بوضع اللام للإشارة.

(7) لو وصلية، يعني: للاحتياج إلى القرائن لاستفادة الخصوصيات من العهد و غيره مما ذكر على جميع الأقوال؛ حتى على القول بإفادة اللام للإشارة إلى المعنى، غاية الأمر:

أنّه على القول باشتراك اللام لفظيا أو معنويا تكون القرينة معيّنة، و مع الحاجة إلى القرينة في استفادة الخصوصيات لا حاجة إلى وضع اللام للإشارة إلى المعنى؛ بل قد عرفت: أن وضعه للإشارة مخلّ بالحمل لاحتياج الحمل إلى التجريد.

(8) أي: على المعنى مقرونا بتلك الخصوصيات.

(9) أي: وضع اللام للإشارة إلى المعنى.

(10) أي: لو لم تكن الإشارة مخلّة، و قد عرفت إخلال الإشارة بالحمل، لتوقف صحة الحمل على التجريد.

فالمتحصل: أن تعيين الخصوصيات إنما تكون بالقرائن و لو قلنا بإفادة اللام للإشارة إلى المعنى؛ لأن اللام على هذا القول تكون مشتركة بين تلك الخصوصيات من الجنس و الاستغراق و العهد بأقسامه، و مع الاشتراك لا بد من قرائن تتعين بها تلك الخصوصيات،

ص: 439

و أمّا (1) دلالة الجمع المعرف باللام على العموم، مع عدم دلالة المدخول عليه: فلا دلالة فيها على أنها تكون لأجل دلالة اللام على التعيين حيث لا التعين إلا للمرتبة المستغرقة بجميع الأفراد، و ذلك لتعين المرتبة الأخرى و هي أقل مراتب الجمع كما لا يخفى.

و من المعلوم: أنه مع وجود تلك القرائن لا حاجة إلى الالتزام بكون اللام للإشارة؛ بل الالتزام بكونها للإشارة إلى المعنى مخلّ كما عرفت.

=============

قوله: «فتأمل جيّدا» لعلّه إشارة إلى: أن الالتزام بوضع اللام للإشارة إلى المعنى مما يلزم منه محذوران:

أحدهما: أن لا يصح حمل المعرف باللام على الفرد الخارجي؛ لأن المقيّد بالتميّز في الذهن لا موطن له إلا الذهن، و لا يمكن اتحاده مع الخارجيات و لا يحمل عليها إلا بالتجريد.

و ثانيهما: أنّ الوضع لمعنى مقيّد يحتاج عند الحمل إلى التجريد عن قيد الخصوصية الذهنية لغو، لا يكاد يصدر عن جاهل فضلا عن الواضع الحكيم.

الجمع المحلى باللام

(1) هذا: إشارة إلى دفع ما يتوهم في المقام، من التنافي بين ما ذكره المصنف من كون اللام للتزيين، و بين ما عن أئمة الأدب من إفادة الجمع المحلى باللام للعموم، فلا بد أولا: من تقريب التوهم، و ثانيا: من توضيح الدفع.

أمّا تقريب التوهم: فلأنه لا سبب للعموم إلا اللام؛ إذ المفروض: عدم دلالة نفس المدخول على العموم؛ لعدم وضعه لذلك، فلا بد أن تكون هذه الدلالة مستندة إلى نفس اللام، حيث إن مراتب الجمع عديدة و اللام تدل على التعيين، و لا تعين لشيء من تلك المراتب إلا الاستغراق فيتعين ببركة اللام.

فالنتيجة: أنّ دلالة اللام في الجمع المحلى بها على المعين - و هو الاستغراق - تنافي ما تقدم من المصنف؛ من جعل اللام للتزيين فقط.

و أما الدفع: فقد أجاب المصنف عن هذا التوهم بجوابين:

الجواب الأول: ما أشار إليه بقوله: «فلا دلالة فيها...» إلخ، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن دلالة اللام على الاستغراق و العموم - حسب التوهم المزبور - مبنية على أن اللام تدل على التعيين، و لا تعين إلا للمرتبة المستغرقة.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن المصنف يمنع تعين المرتبة المستغرقة لجميع الأفراد.

ص: 440

فلا بد (1) أن تكون دلالته عليه مستندة إلى وضعه كذلك (2) لذلك، لا إلى دلالة وجه المنع هو: تعين مرتبة أخرى من مراتب الجمع أيضا. و هي أقل مراتبه كالثلاثة؛ لأن أقل مراتبه متعيّنة من حيث الإرادة، و من المعلوم: أن الإشارة التي تقتضيها اللام إلى هذه المرتبة لا تفيد العموم، فلا بد من كون الدلالة على العموم مستندة إلى وضع مجموع اللام و الجمع للعموم؛ لا إلى دلالة اللام على الإشارة على المعين حتى يقال: إن اللام تدل على العموم بتوسط إشارتها إلى مرتبة معينة من مراتب الجمع و هي المرتبة المستغرقة لجميع الأفراد، فالنتيجة: أنه لم تثبت دلالة اللام في الجمع على التعيين. هذا تمام الكلام في الجواب الأول.

=============

و أما الجواب الثاني: فقد أشار إليه بقوله: «و إن أبيت إلا عن استناد الدلالة عليه إليه»، و حاصله: أنه - بعد تسليم استناد العموم إلى اللام - لا وجه لدلالة اللام على التعيين حتى يكون العموم مستندا إليها، بل لا بد من أن نقول بدلالة اللام على الاستغراق، من دون توسيط دلالتها على التعيين فلا تدل اللام على التعريف و التعيين أصلا؛ بل تدل على الاستغراق. و الفرق بين هذا الجواب و سابقه: أن هذا ناظر إلى دلالة نفس اللام على العموم من دون توسيط التعيين، و ما قبله كان ناظرا إلى دلالة مجموع اللام و المدخول على العموم.

و كيف كان؛ فالنتيجة: أن اللام و إن دلت على العموم، لكنها لا تدل على التعيين الذي يدعيه المتوهم، فلا يكون تعريف الجمع المحلى باللام إلا لفظيا، بمعنى: أنه في حكم المعرفة في اللفظ فقط.

قوله: «حيث لا تعين» تعليل لدلالة اللام على التعيين، و تقريب للتوهم المزبور، بمعنى: أن اللام تدل على التعيين، و المتعين هو المرتبة الأخيرة المستوعبة لجميع الأفراد، فبتوسط اللام المشيرة إلى المرتبة المتعيّنة يستفاد العموم، فلا تكون اللام في الجمع للتزيين. و قد عرفت جواب هذا التوهم.

قوله: «و ذلك» تعليل لقوله: «فلا دلالة فيها»، و قد عرفت توضيح ذلك في الجواب الأول عن التوهم. توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) أي: بعد منع دلالة اللام على التعيين، حتى يترتب عليه العموم - أعني الاستغراق - قال: فلا بد أن تكون دلالة الجمع المحلى باللام على العموم مستندة إلى وضع المجموع من اللام و الجمع للعموم، فضمير «دلالته و وضعه» راجعان إلى الجمع المحلى باللام، و ضمير «عليه» راجع إلى العموم.

(2) أي: وضع المجموع من اللام و الجمع للعموم، فقوله: «لذلك» إشارة إلى العموم.

ص: 441

اللام على الإشارة إلى المعين، ليكون به (1) التعريف.

و إن أبيت (2) إلا عن استناد الدلالة عليه إليه: فلا محيص عن دلالته (3) على الاستغراق بلا توسيط الدلالة على التعيين، فلا (4) يكون بسببه تعريف إلا لفظا، فتأمل جيّدا (5).

و منها (6): النكرة مثل: رجل في وَ جٰاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ (1) ، أو في جئني

=============

(1) أي: ليكون باللام التعريف، فضمير «به» راجع إلى اللام.

(2) إشارة إلى الجواب الثاني الذي تقدم توضيحه. و ضمير «عليه» راجع إلى العموم.

و ضمير «إليه» راجع إلى اللام.

(3) أي: دلالة اللام على العموم. و هو الاستغراق.

(4) هذه نتيجة الجواب الثاني، يعني: بعد منع دلالة اللام على التعريف و التعيين، فلا يكون تعريف الجمع المحلى باللام إلا لفظيا بمعنى: أنه بحكم المعرفة في اللفظ فقط.

و كيف كان؛ فالمستفاد من هذين الجوابين - و هو تسليم دلالة الجمع المحلى على العموم إمّا بالمجموع و إمّا بنفس اللام - ينافي ما تقدم عنه في العام و الخاص في الفصل المعقود لبيان صيغ العموم من منع دلالة المحلى باللام على العموم حيث قال: «و لكن دلالته على العموم وضعا محل منع» إلى أن قال: «و ذلك لعدم اقتضائه وضع اللام و لا مدخوله، و لا وضع آخر للمركب منهما».

(5) لعله إشارة إلى أن الخصوصيات من الجنس و الاستغراق، و العهد بأقسامه كلها تستفاد من القرائن الخارجية لا من اللام، إذ هو في كل تلك المواضع للتزيين فقط.

النكرة

(6) أي: من الألفاظ التي يطلق عليها المطلق: النكرة مثل «رجل». و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو المراد بالنكرة في المقام فيقال: إن النكرة تطلق تارة: في مقابل المعرفة، و أخرى: في مقابل اسم الجنس، و المراد بها في المقام هو الإطلاق الثاني، بدليل جعلها من أقسام الألفاظ التي يطلق عليها المطلق، فتكون النكرة حينئذ قسيما لاسم الجنس، هذا بخلاف النكرة في مقابل المعرفة حيث يكون اسم الجنس قسما منها لا قسيما لها.

و الفرق بين اسم الجنس و النكرة - على تقدير كونها في مقابل اسم الجنس - هو: أن

ص: 442


1- القصص: 20.

برجل، و لا إشكال أن المفهوم منها في الأول و لو بنحو تعدد الدال و المدلول هو:

الفرد المعين في الواقع المجهول عند المخاطب المحتمل الانطباق على غير واحد من أفراد اسم الجنس هو النكرة قبل دخول التنوين، و النكرة هي اسم الجنس الداخل عليه تنوين التنكير؛ لأن اسم الجنس قبل دخول التنوين عليه يدل على نفس الطبيعة، كما أن النكرة بلا تنوين تدل على نفس الطبيعة، و التنوين الداخل عليها يدل على الوحدة، فمفاد النكرة المنوّنة هو: الطبيعة المقيدة بقيد الوحدة، فيصح أن يقال: إن اسم الجنس هو النكرة قبل التنوين، و النكرة هي اسم الجنس الداخل عليه تنوين التنكير.

=============

فالمستفاد من اسم الجنس: هو نفس الطبيعة، و من التنوين الوحدة المفهومية، و مفاد المجموع هو الطبيعة المقيدة بالوحدة المفهومية بنحو تعدد الدال و المدلول، بمعنى: دلالة النكرة على نفس الطبيعة، و دلالة التنوين الداخل عليها على الوحدة.

إذا عرفت ما هو المراد بالنكرة فاعلم: أنه قد اختلفوا في مدلول النكرة - أي: ما يكون نكرة بالحمل الشائع كلفظ رجل مع التنوين - على أقوال؛ فذهب بعض: إلى أن مدلول النكرة مثل: «رجل» جزئي و شخصي، غاية الأمر: أنه لا يكون شخصا معيّنا؛ بل يكون مردّدا بين الأشخاص و الجزئيات، و إلا يخرج عن كونه نكرة، و يصير معرفة، و لذلك عبّر عنه بأنه فرد مردّد بين الأفراد، و الدليل على جزئيته هو: تقييده بالوحدة، فلا يصدق إلا على واحد من الأفراد، مع إن الكلي لا يمتنع صدقه على كثيرين.

و ذهب بعض آخر إلى أن مفاد النكرة مثل: لفظ «رجل» كلّي مطلقا، سواء كان متعلقا للأخبار كما في «جاء رجل»، أم متعلقا للإنشاء كما في «جئني برجل»؛ بلا تفاوت في نفس مدلول لفظ النكرة أصلا.

و الوجه في ذلك: أن مدلول لفظ «رجل» هو الطبيعة المقيّدة بمفهوم الوحدة، فلا فرق بين المقامين، و ما يتراءى من الفرق بينهما إنما يكون خارجا عن مفاد اللفظ و هو في مقام ثبوت الحكم له، فإن القضية الخبرية لما كانت حاكية عن ثبوت الحكم المحكي مثل المجيء لموضوع الحكم، و ثبوت المحمول للموضوع خارجا يكون بشخصه و وجوده يتراءى من لفظ «رجل» أنه خال من الشخص، مع إنه مستعمل في معناه الكلي، و هذا بخلاف القضية الإنشائية فإن الحكم الإنشائي فيها إنما يكون ثابتا للطبيعة في الذهن، و متعلقا بها قبل وجودها لنفسها و لو باعتبار وجودها، و هذان القولان متخالفان بالتباين.

و ذهب المصنف «قدس سره» على ما هو ظاهر كلامه: إلى التفصيل بين ما إذا وقعت النكرة في الإنشاء تلو الأمر مثلا: نحو: «جئني برجل»، فتبقى على كليتها، و تكون قابلة للانطباق على كثيرين، و بين ما إذا وقعت في الإخبار مثل: «جاء رجل من أقصى

ص: 443

الرجل، كما أنه في الثاني، هي الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة، فيكون (1) حصة من الرجل، و يكون كليا ينطبق على كثيرين لا فردا مرددا بين الأفراد.

المدينة»، أو «جاءني رجل»، أو «أي رجل جاءك» فتخرج عن القابلية المذكورة، و تعيّنت في فرد معين في الواقع المجهول عند المخاطب كما في المثال الأول، أو معين عند المتكلم كما في المثال الثاني. أو معين عند الخطاب كما في المثال الثالث.

=============

و الدليل على هذا التفصيل: أن الإخبار عن مجيء رجل في مثل: «جاءني رجل» يستلزم تعين فرد من طبيعة الرجل واقعا، و إن كان المخاطب جاهلا به، و لجهله به يكون الفرد المخبر بمجيئه محتمل الانطباق على غير واحد من الأفراد كزيد و عمرو و بكر. و من هنا يعلم: أن القول بوضع النكرة للفرد المردد في الخارج - و هو القول الأول - فاسد جدّا؛ إذ لا وجود للفرد المردد في الخارج نظرا إلى ما هو المعروف بين الفلاسفة من «أن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد»، فكل ما هو موجود في الخارج متعين لا مردد بين نفسه و غيره؛ لأنه غير معقول، هذا بخلاف ما إذا وقعت في الإنشاء نحو: «جئني برجل»، حيث إن المفهوم من «رجل» هو الطبيعة المقيدة بمفهوم الوحدة، و هو كلّي لكلية مفهوم الوحدة كنفس الطبيعة و انضمام كلي إلى مثله لا يوجب كون رجل جزئيا.

و من هنا يعلم: عدم التنافي بين القول الثاني و بين تفصيل المصنّف؛ لأن مقتضى الأول هو الكلية في مقام الثبوت و تعلق الحكم، و مقتضى الثاني: هو الجزئية في مقام الإثبات، و تحقق الحكم للموضوع في الخارج.

و كيف كان؛ فقد أشار المصنف إلى التفصيل بقوله: «و لا إشكال أن المفهوم منها في الأول» و هو «رجل» في «جاء رجل» هو الفرد المعين «و لو بنحو تعدد الدال و المدلول»؛ بأن تكون النكرة دالة على نفس الطبيعة، و التنوين الداخل عليها دالا على الوحدة، «كما أنه في الثاني» أي: كما أن المفهوم من النكرة «في الثاني» أي: في مثل: «رجل» في «جئني برجل» هي الطبيعة المقيدة بقيد الوحدة القابلة للانطباق على كل فرد على البدل؛ لا ما قيل من: أن النكرة هي الفرد المردد، ضرورة: أنها بمعنى الفرد المردد لا تنطبق على شيء من الأفراد، حيث إن كل فرد في الخارج هو نفسه لا هو أو غيره، كما هو قضية الفرد المردّد.

و عليه: فلا يتصوّر للفرد المردد مصداق؛ ضرورة: امتناع انطباق عنوان الفرد المردد - بما هو مردّد - على الخارجيات؛ لأن الأفراد الخارجية متعيّنة لا تردد فيها حتى تكون مصاديق لعنوان الفرد المردد.

(1) هذا متفرع على كون المفهوم من النكرة الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة. يعني:

ص: 444

و بالجملة: النكرة - أي: ما بالحمل الشائع يكون نكرة عندهم - إما هو فرد معين في الواقع غير معين للمخاطب أو حصة كلّية، لا الفرد المردّد بين الأفراد، و ذلك (1) لبداهة: كون لفظ رجل في «جئني برجل» نكرة، مع أنه (2) يصدق على كل من جيء به من الأفراد، و لا يكاد يكون واحد منها (3) هذا أو غيره كما هو قضية الفرد المردد، لو كان هو المراد منها، ضرورة: أن كل واحد هو هو (4) لا هو أو غيره، فلا بد (5) أن فيكون المراد ب «رجل» في قوله: «جئني برجل» حصة من الرجل، و الحصة كلية تنطبق على كثيرين، و ليس المراد بها فردا مردّدا؛ إذ لو كان كذلك لامتنع صدقه على الخارجيات كما عرفت.

=============

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية»: قوله: «أي ما بالحمل الشائع يكون نكرة» أي: الألفاظ التي تحمل النكرة عليها بالحمل الشائع مثل: «رجل، إنسان، ماء» فيقال: «رجل نكرة، و إنسان نكرة، و ماء نكرة»، فإن مفهوم رجل مغاير لمعنى المحمول أعني: نكرة، نظير: «زيد إنسان» في تغاير الموضوع و المفهوم مفهوما و اتحادهما وجودا كما هو الملاك في الحمل الشائع. و أما الحمل الأوّلي: فهو حمل النكرة على مفهومها مثل أن يقال: «الطبيعة المقيدة بالوحدة نكرة».

و بالجملة: فالنكرة إما فرد معين واقعا عند شخص و غير معين عند غيره كالمخاطب مثلا: «رجل» في وَ جٰاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ .. و لذا يحتمل عند المخاطب صدقه على زيد و عمرو و غيرهما. و إما حصة من الطبيعة مقيدة بالوحدة مثل: «رجل» إذا وقع في حيّز أمر أو نهى، كما في «جئني برجل»، و هذا كان يقبل الصدق على كثيرين.

بخلاف الأول، لأنه فرد معين لا يصدق على كثيرين. و احتمال انطباقه على كثيرين ناشئ عن جهل المخاطب.

(1) تعليل لكون النكرة أحد المعنيين المذكورين، لا الفرد المردد كما عرفت.

(2) أي: مع إن «رجل» يصدق على كل فرد جيء به.

(3) أي من الأفراد، يعني: لو كانت النكرة الفرد المردد لزم أن يصدق فرد - كزيد - أنه هذا أو غيره مع وضوح بطلانه؛ لأن كل فرد من الأفراد متعين لا مردد. و ضمير «منها» راجع إلى النكرة.

قوله «ضرورة» تعليل لقوله: «و لا يكاد يكون».

(4) أي: هو نفسه و شخصه، لا هو أو غيره، لأن التشخّص و التعين يمنع عن التردد.

(5) هذه نتيجة إبطال الفرد المردد، يعني: فبعد إثبات امتناع إرادة الفرد المردد من النكرة؛ لا بد من الالتزام بكون النكرة الواقعة في حيّز الأمر - كقوله: جئني برجل -

ص: 445

تكون النكرة الواقعة في متعلق الأمر هو الطبيعي المقيد بمثل مفهوم الوحدة، فيكون كليا قابلا للانطباق فتأمل جيّدا (1).

إذا عرفت ذلك (2) فالظاهر: صحة إطلاق المطلق عندهم حقيقة على اسم الجنس و النكرة بالمعنى الثاني (3)، كما يصح لغة (4) و غير بعيد (5) أن يكون جريهم في هذا هي الطبيعة المقيدة بمفهوم الوحدة القابل للانطباق على كثيرين. هذا بخلاف متعلق النهي حيث ليس متعلقه الطبيعة المقيدة بالوحدة، بل الطبيعة السارية مثل: «لا تجئني برجل».

=============

(1) لعله إشارة إلى: أن النكرة إذا وقعت عقيب النهي أو النفي فهي تدل على العموم و على الطبيعة السارية، فهي حينئذ ليست من الألفاظ التي يطلق عليها المطلق؛ بل هي من ألفاظ العموم.

(2) أي: إذا عرفت معنى النكرة و الألفاظ التي يطلق عليها المطلق و غرضه: التنبيه على صحة الإطلاق المزبور. و حاصله: أنه لا مانع من إطلاق المطلق على اسم الجنس الموضوع للماهية المبهمة اللابشرط المقسمي، و على النكرة التي يراد بها الحصة الكلية المقيدة بالوحدة المفهومية، القابلة للانطباق على أفراد كثيرة على البدل.

(3) و هو الماهية الكلية المقيدة بالوحدة، و أما المطلق المشهوري الأصولي فسيأتي.

(4) أي: أن النكرة في اللغة بمعنى المرسل، و معنى الإطلاق أيضا هو الإرسال.

(5) غرضه: أنه لا يبعد أن يكون مراد الأصوليين من المطلق: معناه اللغوي و هو الإرسال، فإن معنى: «أطلقت الدابة»: أرسلتها عن القيد أو الحبس، في مقابل تقييدها بقيد. و عليه: فلا وجه للإشكال على تعريف المطلق بعدم الطرد و العكس، لأنه متجه في التعريفات الحقيقية دون اللغوية، فيكون الإطلاق المبحوث عنه عند الأصوليين على وفق اللغة، «من دون أن يكون لهم فيه اصطلاح» يعني: ليس للأصوليين اصطلاح خاص في المطلق على خلاف اللغة، فيصدق المطلق بمعناه اللغوي على اسم الجنس و النكرة بمعنى الحصة الكلية.

أما الأول: فواضح؛ لعدم قيد فيه بعد البناء على وضعه للماهية المبهمة، فهو مرسل.

ص: 446

الإطلاق على وفق اللغة، من دون أن يكون لهم فيه اصطلاح على خلافها كما لا يخفى.

نعم (1)؛ لو صح ما نسب إلى المشهور: من كون المطلق عندهم موضوعا لما قيد بالإرسال و الشمول البدلي لما كان ما أريد منه الجنس أو الحصة (2) عندهم بمطلق؛ إلا أن الكلام في صدق النسبة (3).

و لا يخفى: إن المطلق بهذا المعنى لطروء القيد غير قابل، فإن (4) ما له من الخصوصية (5) ينافيه و يعانده، بل و هذا بخلافه بالمعنيين، فإن كلا منهما له قابل،

=============

(1) غرضه: أنه لو ثبت اصطلاح خاص للأصوليين في المطلق كما ادعي ذلك - و هو ما نسب إلى المشهور من كون المطلق عندهم موضوعا للماهية المقيدة بالإرسال و الشمول - لم يكن اسم الجنس و النكرة من مصاديق المطلق لفقدان قيد الشمول فيهما، حيث إن اسم الجنس وضع للماهية المبهمة من دون لحاظ قيد معها، و النكرة وضعت للماهية المقيدة بالوحدة، فلحاظ الشمول مفقود في كليهما.

(2) المراد بها: اسم النكرة، كما أن المراد بقوله: الجنس اسم الجنس.

(3) إذ لو كانت هذه النسبة صحيحة لم يكن وجه لجعل اسم الجنس و النكرة من المطلق، مع إنهم تعاملوا معهما معاملة المطلق، ضرورة: أن المطلق إذا كان هو الطبيعة المقيدة بالشيوع فلا تصدق على ما لم يقيد بالشيوع، و لذا اعترف بعض الأعاظم بعدم العثور في كلماتهم على الخلاف المزبور، و إنما خلافهم يكون في معنى اسم الجنس، و أنه موضوع للماهية المهملة كما عليه السلطان و جماعة، أو للماهية المقيدة بالإطلاق كما عليه المشهور.

هذا مضافا إلى: أن الإطلاق بمعنى الشيوع غير قابل للتقييد الموجب للتضييق، لأن السعة و الضيق متنافيان و متقابلان، و من الواضح: عدم قابلية أحد المتقابلين لقبول الآخر، و لا ريب في صحة تقييد المطلق عندهم، فلا بد أن يراد بالمطلق معنى يقبل التقييد، فلا مجال لصحة المطلق الذي ينسب إليه المشهور من أنه الماهية المقيدة بالشيوع، و قد أشار إليه المصنف بقوله: «و لا يخفى: أن المطلق بهذا المعنى» أي: المعنى المشهور و هو المقيد بالشمول، و قد عرفت أنه غير قابل للتقييد، مع إن المطلق قابل له، فلا يكون المطلق عندهم بهذا المعنى.

(4) وجه عدم القابلية للتقييد.

(5) و هي الإرسال و الشيوع أي: ما للمطلق من الخصوصية ينافي التقييد و يعانده، هذا

ص: 447

لعدم (1) انثلامهما بسببه أصلا، كما لا يخفى.

و عليه (2): لا يستلزم التقييد تجوّزا في المطلق لإمكان (3) إرادة معنى لفظه (4) منه، و إرادة قيده (5) من قرينة حال أو مقال، و إنما استلزمه (6) لو كان بذاك المعنى.

نعم (7)؛ لو أريد من لفظه المعنى المقيد كان مجازا مطلقا؛ كان التقييد بمتصل أو منفصل.

بخلاف المعنيين المذكورين لاسم الجنس و النكرة فإنهما قابلان للتقييد، لأن معنى اسم الجنس هو: صرف المفهوم و الطبيعة المهملة، و المعنى الثاني للنكرة هو: الطبيعة المقيدة بالوحدة المفهومية، و من المعلوم: قابلية كليهما للتقييد.

=============

(1) تعليل لقوله: «قابل»، و تقريبه: أن الماهية المهملة قابلة للتقييد، فإذا قال: «جئني برجل عالم» مثلا فالرجل قد استعمل في نفس الطبيعة، و قيده و هو العالمية قد أريد بدال آخر، فتقييده لا يوجب انثلامه أصلا.

و ضمير «انثلامهما» راجع إلى المعنيين، و ضمير «بسببه» إلى التقييد.

(2) أي: على ما ذكر - من معنيي اسم الجنس و النكرة - لا يلزم من التقييد مجاز في المطلق؛ لأن المولى أراد من المطلق معناه و من القيد معناه كقوله: «أكرم رجلا عالما»، فإن لفظ المطلق - أعني: رجلا - في المثال يدل على معناه - و هو الماهية المهملة - و لفظ المقيد - أعني عالما - يدل على القيد، فلا يلزم من تقييد المطلق مجاز بعد تعدد الدال و المدلول أصلا.

(3) أي: هذا تعليل لعدم لزوم المجاز من التقييد كما عرفت.

(4) أي: إرادة معنى لفظ المطلق من لفظ المطلق، و إرادة قيده من الخارج، فيراد المقيد بتعدد الدال و المدلول، و المراد بالإرادة: الاستعمال.

(5) أي: إرادة قيد المطلق من قرينة حال أو مقال.

(6) أي و إنما استلزم التجوّز لو كان المطلق بالمعنى المنسوب إلى المشهور و هو الماهية المقيدة بالشيوع و الإرسال؛ لاستلزام التقييد تجريده عن قيد الإرسال و الشيوع، فيكون مجازا لكون المطلق حينئذ مستعملا في جزء معناه. و الغرض من هذا الكلام: أنه لا يستلزم التقييد مجازا بناء على المعنى المذكور لاسم الجنس و النكرة.

(7) استدراك على قوله: «لا يستلزم التقييد تجوزا»: و حاصله: أنه يمكن استلزام التقييد للمجازية بناء على المختار أيضا من المعنيين المذكورين لاسم الجنس و النكرة.

بيانه: على ما في «منتهى الدراية، ج 3. ص 712»: أنه إذا استعمل المطلق في المقيد بأن أريد القيد من نفس لفظ المطلق لا من دال آخر، كما إذا أريد «الرقبة المؤمنة» من لفظ «الرقبة» كان مجازا على المختار و على مسلك المشهور، من غير فرق في ذلك بين اتصال القيد و انفصاله إذا أمكن استعمال لفظ المطلق في مجموع الرقبة المؤمنة مع انفصال القيد. و يكون قوله: «كان التقييد..» إلخ بيانا للإطلاق في قوله: «مطلقا»، و المراد بالمعنى المقيد في قوله: «المعنى المقيد»

ص: 448

مجموع المطلق و قيده؛ بحيث استعمل لفظ المطلق في هذا المجموع بأن يستعمل لفظ «الرقبة» في مثل «أعتق رقبة مؤمنة» في الرقبة المؤمنة، و يجعل قوله: «مؤمنة» قرينة على أن المراد من الرقبة: الرقبة مع الإيمان.

و مثال التقييد بمتصل بأن يقال: «أعتق رقبة مؤمنة»، و مثال التقييد بمنفصل أن يقال بعد مدة: «الرقبة التي تعتقها يجب أن تكون مؤمنة».

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان ما هو محل الكلام في المطلق و المقيد: و الظاهر: أنه ليس للقوم اصطلاح خاص في لفظ المطلق و المقيد؛ بل مرادهم بهما هو المعنى اللغوي - أعني: «المرسل» و خلافه - و عليه: فلا وجه لتعريف المطلق و المقيد بما هو المذكور في كتب القوم، ثم الإشكال عليه بعدم الإطراد و الانعكاس.

و كيف كان؛ فيقع الكلام تارة في تعريفهما. و أخرى: في كيفية تقسيم اللفظ إليهما.

و ثالثة: فيما ذكروا لهما من أمثلة.

2 - و المراد من الجنس في تعريف المطلق: «بأنه ما دل على شائع في جنسه»: معناه العرفي الشامل للحقائق الخارجية و الأمور الانتزاعية و الاعتبارية؛ لا الجنس المنطقي، و لا اسم الجنس النحوي، فيكون المراد بالجنس: كل كلّي له الأفراد و إن كان نوعا باصطلاح أهل الميزان، و لذا قيل في تفسير التعريف المذكور للمطلق: إنه حصة محتملة لحصص كثيرة مما يندرج تحت أمر مشترك، فيصدق هذا التعريف على النكرة الواقعة في حيّز الأمر نحو: «جئني برجل»، حيث يصدق الرجل على فرد من أفراد طبيعة الرجل على نحو البدلية.

هذا بخلاف النكرة الواقعة في الخبر نحو: وَ جٰاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ فإنه لتعيّنه الواقعي لا يصلح للانطباق على حصص كثيرة على نحو البدلية.

3 - كيفية تقسيم اللفظ إلى المطلق و المقيد:

و الظاهر من تعريفهما و إن كان كلّ من الإطلاق و التقييد وصفين لنفس اللفظ بلحاظ المدلول، فإن كان مدلوله شائعا يسمى مطلقا، و إن لم يكن كذلك يسمى مقيدا.

و لكن التحقيق: أن تقسيم اللفظ إليهما و اتصافه بهما إنما هو بلحاظ الحكم بمعنى: أن اللفظ الذي يكون لمدلوله شياع ذاتا إذا صار موضوعا للحكم، و كان تمام الموضوع له

ص: 449

يسمى مطلقا. و إن لم يكن تمام الموضوع؛ بل كان في مقام الموضوعية مقيدا بقيد يسمى مقيدا. فالرقبة إن جعلت تمام الموضوع - نحو «أعتق رقبة» اتصفت بالإطلاق، و إن جعلت مقيدة بقيد موضوعا له نحو: «أعتق رقبة مؤمنة» اتصفت بالتقييد.

و قد ظهر مما ذكرنا: أن التقابل بين الإطلاق و التقييد من قبيل تقابل العدم و الملكة بمعنى: أن المطلق ما من شأنه أن يكون قابلا للتقييد، فلا يتحقق فيما إذا لم يكن قابلا له.

4 - اسم الجنس معناه عند المصنف هو: نفس الماهية المبهمة المجردة في حد ذاتها عن لحاظ الشياع، و لحاظ التقييد، و لحاظ التجرّد، لا ما نسب إلى المشهور من: أن معنى اسم الجنس هو الماهية المأخوذة بحدّ الإطلاق و الشياع و السريان، فيكون الموضوع له ماهية بشرط شيء.

و لا ما قيل: من أنه موضوع للفرد المنتشر بحيث لا يبقى فرق بينه و بين النكرة بالمعنى الثاني على ما سيأتي في كلام المصنف، من أن النكرة بالمعنى الثاني على الطبيعة المقيدة بالوحدة المفهومية.

و قد استدل المصنف على وضع أسماء الأجناس للمفاهيم المبهمة بما هي هي بوجهين:

الوجه الأول: أنها لو كانت موضوعة لغير المفاهيم المبهمة بأن كانت موضوعة للمفاهيم المشروطة بالشياع، أو الحصة المقيدة بالوحدة لزم تجريدها حتى يصح حملها على الأفراد الخارجية؛ إذ بدون التجريد لا تصدق على الأفراد، ضرورة: أن المقيد بالشياع لا يصدق على الأفراد لعدم كل فرد شائعا، مع إن المعلوم: صدق الماهيات على أفرادها بدون التجريد، فتكون موضوعة لنفس الماهية لا المقيدة بالشيوع.

و الوجه الثاني: أن أسماء الأجناس ليست موضوعة للابشرط القسمي؛ إذ اللابشرطية قيد ذهني لا موطن لها إلا الذهن، فلا يصح الحمل إلا بالتجريد؛ لانتفاء الاتحاد في الوجود الخارجي في الحمل الشائع و الصناعي.

5 - (علم الجنس كأسامة للأسد):

فالمشهور: أنه موضوع للطبيعة بقيد تعيّنها في الذهن؛ لا الطبيعة المبهمة، و من هنا يعلم الفرق بين علم الجنس و اسمه، حيث إن الأول: وضع للطبيعة مقيدة بالتعين الذهني، و الثاني: وضع لنفس الطبيعة المبهمة، و لذا يعامل مع علم الجنس معاملة المعرفة في جعله مبتدأ و وقوعه ذا الحال. هذا هو المشهور.

ص: 450

و لكن التحقيق عند المصنف: أنه كاسم الجنس موضوع لصرف المعنى، و نفس الطبيعة المبهمة، فلا فرق بينهما إلا في اللفظ، حيث تجري أحكام المعرفة على علم الجنس لكونه معرفة لفظا فقط.

ثم ردّ المصنف ما ذكره المشهور من الفرق بينهما من حيث المعنى بوجهين:

الأول: لو لم يكن علم الجنس كاسمه موضوعا لصرف المعنى لما صح حمل علم الجنس على الأفراد الخارجية بلا تصرف بإلغاء التعين الذهني؛ إذ يمتنع حمل المقيد بالتعين الذهني على الموجود الخارجي، فلا بد من التجريد عن القيد الذهني ليصح الحمل، مع إن المسلّم صحة الحمل بدون التجريد، و هذا دليل على عدم كون الموضوع له في علم الجنس المعنى المقيد بالتعين الذهني.

الثاني: أن وضع اللفظ لمعنى لا يستعمل فيه أصلا؛ بل يستعمل دائما في جزئه مجازا لغو لا يصدر من الواضع الحكيم.

6 - المفرد المعرّف باللام:

بيان محل النزاع: أن المفرد المعرف باللام على أقسام:

الأول: المعرف بلام الجنس نحو: «الرجل خير من المرأة».

الثاني: المعرّف بلام الاستغراق نحو: وَ اَلْعَصْرِ إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ أي: كل إنسان لفي خسر.

الثالث: المعرف بلام العهد و هو على أقسام، ثم اللام إما مشترك لفظا أو معنى بين هذه الأقسام.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم: أن محل النزاع هو المعرف بلام الجنس لا الاستغراق و لا العهد؛ لأن الأول من مصاديق العموم. و مدخول الثاني بجميع أقسامه متعين، فلا يصدق عليه المطلق، فمحل النزاع هو: المعرف بلام الجنس. فيرد عليه ما أورده المصنف من أن اللام ليست للتعريف؛ إذ معنى المعرف بلام الجنس هو: فرد ما لا على التعيين، فتكون اللام للتزيين لا للتعريف.

هذا مضافا إلى عدم الحاجة إلى قيد لا بد من إلغائه حين الاستعمال، فالنتيجة: أن اللام للتزيين لا للتعريف.

7 - الجمع المحلى باللام:

قوله: «و أما دلالة الجمع المعرف باللام على العموم» دفع لما يتوهّم في المقام من:

ص: 451

التنافي بين ما ذكره المصنف من كون اللام للتزيين، و بين ما عن أئمة الأدب من إفادة الجمع المحلّى باللام للعموم؛ إذ المفروض: عدم دلالة المدخول على العموم لعدم وضعه لذلك، فتكون الدلالة على العموم مستندة إلى اللام.

و أما الدفع فهو بأحد وجهين:

الأول: أن دلالة اللام على العموم مبنيّة على دلالة اللام على تعيّن المرتبة المستغرقة، و المصنف يمنع تعيّن المرتبة المستغرقة بتعيّن مرتبة أخرى من مراتب الجمع أيضا و هي أقل مراتبه كالثلاثة، و هي لا تفيد العموم، فلا بد من أن تكون الدلالة على العموم مستندة إلى وضع مجموع الجمع، و اللام للعموم؛ لا اللام فقط.

الثاني: أنه لو سلمنا استناد العموم إلى اللام فيقال: بدلالة اللام على الاستغراق، من دون دلالتها على التعيين حتى يقال إنها للتعريف، فتكون اللام للتزيين حتى في الجمع.

8 - النكرة مثل رجل:

و المراد بها في المقام هي: النكرة في مقابل اسم الجنس لا في مقابل المعرفة، بدليل جعلهما من أقسام المطلق، فتكون النكرة حينئذ قسيما لاسم الجنس. هذا بخلاف النكرة في مقابل المعرفة حيث يكون اسم الجنس قسما منها لا قسيما لها.

ثم النكرة الواقعة في الإخبار مثل: وَ جٰاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ هو الفرد المعيّن في الواقع المجهول عند المخاطب. و في الإنشاء نحو: «جئني برجل» هو الطبيعة الكلية المقيدة بالوحدة المفهومية، و على كلا التقديرين: ليس معناها فردا مرددا بين الأفراد.

إذا عرفت معنى النكرة و اسم الجنس؛ فلا مانع من إطلاق المطلق على اسم الجنس، و على النكرة بالمعنى الثاني.

9 - لا يصح إطلاق المطلق بالمعنى المشهور أعني: الماهية المقيدة بالإرسال و الشمول على اسم الجنس و النكرة - لفقدان الشمول فيهما - حيث إن اسم الجنس وضع للماهية المبهمة من دون لحاظ معها أصلا، و النكرة وضعت للماهية المقيدة بقيد الوحدة، فلحاظ الشمول مفقود فيهما؛ إلاّ إن الكلام في صدق نسبة المطلق إلى المشهور، فهذه النسبة غير صحيحة؛ إذ لو كانت صحيحة لم يصح جعل اسم الجنس و النكرة من المطلق، مع إن المشهور تعاملوا معهما معاملة المطلق.

هذا مضافا إلى: أن المطلق بمعنى الشيوع غير قابل للتقييد الموجب للتضييق؛ لأن

ص: 452

السعة و الضيق متقابلان لا يقبل أحدهما الآخر، هذا بخلاف المعنيين المذكورين لاسم الجنس و النكرة، فإنهما قابلان للتقييد، فليسا من المطلق بالمعنى المشهور الغير القابل للتقييد، ثم على ما ذكر من معنيي اسم الجنس و النكرة: لا يلزم المجاز من التقييد، لأن المطلق قد استعمل في معناه الحقيقي، و القيد مستفاد من دال آخر.

نعم؛ يمكن استلزام التقييد للمجازية إذا استعمل المطلق في المقيد، فيلزم استعمال اللفظ في غير ما وضع له، فيكون مجازا.

10 - نظريات المصنف «قدس سره»:

1 - تعريف المطلق «بأنه ما دل على شائع في جنسه» لفظي، فلا يرد عليه الإشكال أصلا.

2 - معنى اسم الجنس هو: نفس الماهية بما هي مبهمة مهملة أعني: اللابشرط المقسمي.

3 - علم الجنس مثل اسم الجنس موضوع لنفس الماهية بما هي مبهمة، و التعريف فيه لفظي.

4 - اللام في المفرد المعرف باللام ليست للتعريف؛ بل للتزيين.

5 - النكرة نحو: «رجل» إذا وقعت في الإخبار كان معناها معينا في الواقع.

و إن وقعت في الإنشاء فمعناها: هي الطبيعة المقيدة بالوحدة المفهومية، و صدق المطلق عليها إنما هو بلحاظ المعنى الثاني.

ص: 453

ص: 454

فصل

قد ظهر لك: إنه لا دلالة لمثل: رجل إلا على الماهية المبهمة وضعا، و أن الشياع و السريان - كسائر الطوارئ - يكون خارجا عما وضع له، فلا بد في الدلالة عليه من قرينة حال أو مقال أو حكمة، و هي تتوقف على مقدمات (1):

=============

فصل في مقدمات الحكمة

اشارة

(1) و قبل الخوض في مقدمات الحكمة لا بد من بيان مورد الحاجة إليها فنقول: إنه لا حاجة إليها بناء على تفسير المطلق بالماهية المقيدة بالشيوع و الإرسال و السريان، المنسوب إلى المشهور. و إنما الحاجة إليها بناء على تفسيره بالماهية المبهمة المستفادة من تعريفه «بأنه ما دل على شائع في جنسه»، حيث فسره غير واحد بأنه حصة محتملة لحصص كثيرة مما يندرج تحت أمر مشترك، فالمطلق مفهوم كلي قابل للانطباق على الأفراد الخارجية على نحو البدلية، فلا يدل حينئذ على الشياع و السريان كسائر الأوصاف الطوارئ الخارجة عن معناه وضعا.

و أما الوجه في الحاجة إليها على التفسير الثاني دون الأول: فلأن تقييد المطلق يستلزم التجوّز على التفسير الأول و لا يستلزمه على التفسير الثاني، فيتمسك بأصالة الحقيقة في إحراز الإطلاق، مع احتمال التقييد المستلزم للمجازية على التفسير الأول.

هذا بخلاف التفسير الثاني؛ إذ لا مجال عليه للتمسك بأصالة الحقيقة في إحراز الإطلاق، لأن المطلق لو كان بحسب الواقع مقيدا لا يكون مجازا، فلا يكون مخالفا لما تقتضيه أصالة الحقيقة حتى يتمسّك بها لإحراز الإطلاق، فلا بد في إحراز الإطلاق في مقام الشك أن يتمسك بمقدمات الحكمة.

و كيف كان؛ فالمطلق على التفسير الثاني لا يدل على الشياع و السريان، فلا بد في الدلالة على الشياع و السريان من قرينة حال أو مقال أو حكمة.

و أما الأولان: فواضحان، و أمّا الثالث: فهو يتوقف على مقدمات. فقرينة الحكمة التي تسمى بالقرينة العامة مركبة من ثلاثة مقدمات فلا تتم إلا بها، إحداها: كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده لا في مقام بيان المراد في الجملة، كما إذا قال الطبيب للمريض:

ص: 455

إحداها:

كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد؛ لا الإهمال أو الإجمال.

ثانيتها (1):

انتفاء ما يوجب التعيين.

عليك بشرب الدواء، و لا في مقام الاجمال و الإهمال؛ إذ لو لم يكن في مقام بيان تمام مراده لا يلزم نقض الغرض بذكره مطلقا مع عدم نصب قرينة على تعيين مراده الخاص، فإذا قال المتكلم: «أعتق رقبة» و كان في مقام بيان مراده من وجوب عتق مطلق الرقبة يؤخذ بإطلاق كلامه، و يكون إطلاق كلامه حجة.

=============

و المقصود من كون المتكلم في مقام البيان: هو إفهامه تمام ما أراد بيانه سواء كان مرادا جدّيا له أم مرادا استعماليا لضرب قاعدة يرجع إليها عند الشك و عدم حجة أقوى على خلافه. فلو كان في مقام بيان أصل التشريع من دون نظر إلى الخصوصيات، كما إذا قال: «صوم رمضان واجب» و لم يتعرض لما يعتبر في وجوبه و صحته، فلا يصح التمسك بإطلاق كلامه و إثبات أن ما بيّنه هو تمام مراده، و أنه لا دخل لشيء آخر فيه.

و المتحصل: أنه ما لم يكن المتكلم في مقام البيان من الجهة التي يراد إثباتها لم يصح التمسك بالإطلاق لإثبات تلك الجهة، كما إذا كان في بيان حكم آخر كقوله تعالى:

فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ (1) الوارد في مقام بيان حلية ما اصطاده الكلب المعلم، فإنه لا يجوز التمسك بإطلاق الأمر بالأكل لإثبات طهارة موضع عضّ الكلب؛ لعدم إحراز كون المتكلم في مقام بيان الجهة التي يراد اثباتها بالإطلاق، فلو ورد دليل على التقييد لم يكن قبيحا لعدم كونه في مقام البيان بالإطلاق حتى يكون التقييد منافيا له.

(1) أي: و حاصل المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة: عدم القرينة المعيّنة للمراد، إذ معها يكون المراد متعينا، فلا وجه حينئذ للحمل على الإطلاق؛ إذ لا يلزم نقض الغرض من عدم الحمل على الإطلاق، إذ المفروض: أنه قد بيّن غرضه الذي هو المقيد بالقرينة المذكورة في الكلام.

و المقدمة الثالثة من مقدمات الحكمة ما أشار إليه بقوله: «و ثالثتها انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب» و حاصلها: - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 715» -: أن الإطلاق موقوف على انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب؛ إذ معه يصح أن يعتمد

ص: 456


1- المائدة: 4.

المتكلم في مقام البيان عليه إذا كان ذلك المتيقن منسبقا إلى ذهن المخاطب من اللفظ؛ بحيث يكون الكلام ظاهرا في كون ذلك البعض متيقّن الإرادة بالنسبة إلى أفراد المطلق، فهذا التيقّن يمنع عن إحراز إرادة الإطلاق من المطلق، فلو أراد البعض المتيقّن منه لم يكن التعبير بالمطلق مخلاّ بالغرض، لصحة الاتكال في بيان المتيقّن على تيقّنه بعد أن كانت وظيفته إفهام المخاطب باللفظ، و كان المتيقن منفهما من اللفظ، فكأنه صرح بأن مراده هو المتيقن.

و بالجملة: فالتيقّن صالح لأن يكون بيانا لإرادة ذلك المتيقن دون غيره، فلو أطلق المتكلم الكلام و أراد غير المتيقن، و لم ينصب قرينة على مراده كان ذلك مخلاّ بغرضه.

و لا بأس بذكر مثال للمتيقن عند التخاطب، و هو: كما إذا فرض أن المعصوم «عليه السلام» سئل عن حكم وقوع نجاسة في بئر معينة فأجاب «صلوات الله عليه»: بأن «ماء البئر واسع لا يفسده شيء»(1)، فإن تيقّن تلك البئر من الآبار في الحكم المذكور إنما هو بسبب وقوعها في السؤال، فالتيقن مستند إلى الكلام لا إلى الخارج.

و كذا إذا كان التيقن مستندا إلى ما يكتنف بالكلام من الخصوصيات، بحيث لا يخرج سبب التيقّن عن الكلام، كما إذا قال: «أكرم عالما»، فإن العالم و إن كان شاملا للمنجم إلاّ إن نفس العالم - خصوصا بمناسبة وجوب الإكرام - ينصرف إلى الفقيه؛ بحيث يصير هو متيقن الإرادة. هذا كله في القدر المتيقّن في مقام التخاطب.

و أما القدر المتيقن الخارج عن مقام التخاطب: فقد أشار إليه بقوله: «و لو كان المتيقن بملاحظة الخارج عن ذلك المقام».

و حاصل ما أفاده في ذلك: أن التيقّن إذا كان مستندا إلى ما هو خارج عن مقام التخاطب: فوجوده غير مضر بالإطلاق، فلا يكون عدمه شرطا في الإطلاق، ضرورة:

أن في جميع المطلقات أو جلّها قدرا متيقنا، فلو بنى على قدحه في الأخذ بالمطلقات لانسد باب التمسك بها.

قوله: «في البين» متعلق بقوله «المتيقن»، يعني: لو كان المتيقن في البين بملاحظة الخارج عن مقام التخاطب، بأن لا يكون التيقّن ناشئا عن ظهور اللفظ في الفرد المتيقن، «فإنه» أي: المتيقن الخارجي «غير مؤثر في رفع الإخلال بالغرض». فقوله: «فإنه» جواب «لو» في قوله: «و لو كان المتيقن..» إلخ.

ص: 457


1- الكافي؛ ج 3، ص 5، ج 2 /التهذيب، ج 1، ص 234، ج 7.

ثالثتها:

انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب، و لو كان المتيقّن بملاحظة الخارج عن ذاك المقام في البين، فإنه غير مؤثر في رفع الإخلال بالغرض - لو كان بصدد البيان - كما هو الفرض فإنه (1) فيما تحققت لو لم يرد الشياع لأخل بغرضه، حيث (2) إنّه لم ينبّه و توضيح ذلك - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 717»: - أن المتيقن - في غير مقام التخاطب - لو كان مرادا للمتكلم، و أطلق الكلام، و لم ينصب قرينة على كون ذلك المتيقن مراده لأخلّ بغرضه؛ إذ ليس له أن يعتمد في تفهيم مراده على هذا التيقّن، حيث إنه ليس كل متيقن صالحا للقرينية، و إنّما الصالح لها ما ينفهم من الكلام الملقى إلى المخاطب؛ إذ المفروض: كون المتكلم في مقام البيان بحسب مقام التخاطب، فالمؤثر في رفع الإخلال بالغرض لا بد أن يكون المتيقن بحسب هذا المقام أيضا؛ لا المتيقّن الخارجي الأجنبي عنه.

=============

و الحاصل: أن المتيقن في مقام التخاطب صالح للقرينية - بحيث لو أراده المتكلم و أطلق الكلام لم يلزم إخلال بغرضه - لصحة الاعتماد على هذا المتيقن لانفهامه عرفا من الكلام، بخلاف المتيقن الخارجي، فإنه لأجنبيته عن مقام التخاطب لا يصح الركون إليه في مقام التفهيم، فلو كانت الرقبة المؤمنة موضوعا للحكم، و كانت في مقام الامتثال مجزئة قطعا؛ لكن لم تكن متيقنة من نفس الكلام: كان الإطلاق حينئذ مخلا بالغرض؛ لعدم كون هذا التيقن بيانا لذلك الغرض هذا ما أشار إليه بقوله: «كما هو الفرض» يعني:

كما أن المفروض كون المتكلم في مقام البيان بالخطاب.

(1) يعني: فإن المتكلم فيما تحققت مقدمات الحكمة؛ لو لم يرد الشياع الذي هو المطلق لأخلّ بغرضه، بتقريب: أنه مع تمامية المقدمات الثلاث المذكورة لو لم يرد المتكلم الإطلاق، و أراد المقيّد لكان مخلا بغرضه، لما مرّ من عدم كون المطلق بيانا للمقيّد حتى يصح الاتكال عليه، و أن بيانية المطلق للمقيّد منحصرة بالمتيقّن التخاطبي كما عرفت.

و حيث إن الإخلال بالغرض قبيح فلا محيص عن إرادة الإطلاق.

(2) تعليل للإخلال بالغرض، بيانه: أن المتكلم مع كونه بصدد البيان إذا لم يبيّن المقيد و لم يكن المطلق بيانا له، فالإطلاق مراد في عالم الإثبات، و هو دليل إنّي على كونه مرادا في عالم الثبوت أيضا من دون تخصّصه بخصوصية خاصة، فيتطابق الإثبات و الثبوت. و الضمير في «يبينه» راجع إلى غرضه. و ضمير «إنه» و «بصدده» راجعان إلى المتكلم.

ص: 458

مع أنه بصدده، و بدونها (1) لا يكاد يكون هناك إخلال به حيث (2) لم يكن مع انتفاء الأولى (3) إلا في مقام الإهمال أو الإجمال، و مع انتفاء الثانية (4) كان البيان بالقرينة.

و مع انتفاء الثالثة (5): لا إخلال بالغرض لو كان المتيقّن تمام مراده، فإن الفرض أنه بصدد بيان تمامه (6) و قد بيّنه، لا بصدد بيان...

=============

(1) أي: و بدون مقدمات الحكمة المذكورة لا يلزم الإخلال بالغرض أصلا؛ لأن المتكلم إذا لم يكن في مقام البيان، بل كان في مقام أصل التشريع من دون نظر إلى الخصوصيات، لا يلزم ذكر المطلق إخلال بالغرض و هو المقيّد. و عليه: فالإخلال بالغرض مترتب على وجود المقدمات المزبورة، مع إرادة المقيد. و كذا الحال في انتفاء غير المقدمة من سائر المقدمات.

(2) بيان لوجه الحاجة إلى المقدمة الأولى.

(3) أي: بأن لم يكن المتكلم في مقام تمام المراد، بل كان في مقام الإهمال و الإجمال.

(4) أي: و هي انتفاء ما يوجب التعيين. و أما وجه عدم لزوم الإخلال بالغرض بانتفائها: فهو وجود القرينة المعيّنة للمراد، كقوله: «أعتق رقبة مؤمنة» فإن «المؤمنة» قرينة معيّنة، فلا يلزم من ذكر المطلق حينئذ إخلال بالغرض.

(5) و هي القدر المتيقن في مقام التخاطب، و مع انتفاء هذه المقدمة - بمعنى: وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب - لا يلزم من ذكر المطلق إخلال بالغرض و هو إرادة المقيد أعني: المتيقن التخاطبي؛ لما مر من صلاحية التيقّن المذكور للقرينية على المراد؛ بحيث يصح للمتكلم الاتكال عليه مع ذكر المطلق إذا كان المتيقن تمام مراد المتكلم، إذ لو كان بعض مراده لم يكن البيان تامّا، فيلزم الإخلال بالغرض من الاكتفاء بالمتيقن.

(6) أي: تمام مراده من المطلق. و قد بيّنه بالمتيقن الخطابي، فلو لم يرد الشياع منه لم يلزم إخلال بغرضه أصلا، فلا يقدح الإطلاق حينئذ؛ لكون المتيقن كالقرينة اللفظية الحافة بالكلام، المانعة عن إرادة الإطلاق.

نعم؛ إذا كان بصدد بيان وصف التمامية للمتيقن، و أنه موصوف بكونه تمام مراده من المطلق؛ بحيث لا يكون شيء وراء هذا المتيقن مرادا له منه، و مع ذلك أطلق الكلام و أمر بعتق رقبة مثلا، و لم ينصب قرينة على اتصاف المتيقن بوصف كونه تمام المراد لزم من ذكر المطلق الإخلال بالغرض، و هو إرادة المتيقّن بما هو تمام المراد، ضرورة: أن التيقن الخطابي قاصر عن إثبات هذا الوصف للمتيقن بعد إمكان أن يكون المتيقن مرادا في ضمن سائر الأفراد، و المفروض: أنه لم ينصب قرينة على ذلك، فلا ينفي تيقّن بعض

ص: 459

.. أنه (1) تمامه كي أخلّ ببيانه فافهم.

ثم لا يخفى عليك (2): أن المراد بكونه في مقام بيان تمام مراده، مجرّد بيان ذلك الأفراد مرادية سائر الأفراد حتى يتصف المتيقن بكونه تمام المراد، فتيقن الرقبة المؤمنة لا ينفي مطلوبية غيرها من أفراد الرقبة حتى يثبت لها وصف التمامية، فحينئذ لا مانع من التمسك بالإطلاق لإثبات كون الموضوع نفس الطبيعة المقيدة.

=============

(1) يعني: لا بصدد بيان أن المتيقن تمام المراد كي يلزم الإخلال ببيان مراده؛ لما عرفت من: أنه لو كان بصدد بيان وصف المتيقن بكونه تمام المراد و أطلق لزم الإخلال بغرضه، و هو بيان وصف التمامية للمتيقن، فلا بد من الأخذ بالإطلاق، فاتّضح المراد من قوله: «بصدد بيان تمامه»، و من قوله: «لا بصدد أنّه تمامه».

كما اتضح أيضا أن الصواب أن تكون العبارة هكذا «كي يخلّ » أو «كي يكون أخلّ »، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 720».

فحاصل الفرق - بين كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد و بين كونه في مقام بيان أن القدر المتيقن هو تمام المراد بوصف التمامية - أنه على الأول يصح الاعتماد على القدر المتيقن؛ إذ لا يفهم المخاطب إلا القدر المتيقن فقط و هو مراد المتكلم، فلو أطلق الكلام و لم يرد الشياع لم يخلّ بغرضه؛ لأن المفروض: أنه بصدد بيان تمام المراد، و قد بيّنه بواسطة المتيقن في مقام التخاطب.

هذا بخلاف كون المتكلم بصدد بيان أن القدر المتيقن تمام المراد بوصف التمامية، فلا يجوز الاعتماد على القدر المتيقن؛ لأن المخاطب إنما يفهم القدر المتيقن، و لا يفهم وصف التمامية، فلو أطلق الكلام لكان مخلا بغرضه.

«فافهم» لعله إشارة إلى ما ذكرناه من الفرق؛ بأن يقال: من كان بالفرض بصدد بيان كون المتيقن هو المراد كفى هذا بيانا لكون المتيقن هو تمام المراد، هذا بخلاف من كان بصدد بيان كون المتيقن تمام المراد بوصف التمامية، فلا يكفي هذا بيانا لكون القدر المتيقن تمام المراد بوصف التمامية. فالتيقن في الفرض الأول كما يفيد رفع الإخلال بالغرض؛ كذلك يكون بيانا لكون المتيقن هو تمام المراد.

(2) إشارة إلى دفع توهم. أما تقريب التوهم الناشئ عن عبارة الشيخ الأنصاري «قدس سره» في التقريرات - و هي قوله فيها: «و إنما حمل على الإطلاق و الإشاعة بواسطة عدم الدليل، فالإطلاق بمنزلة الأصول العملية في قبال الدليل»(1) - فحاصله: أنه لا

ص: 460


1- مطارح الأنظار، ج 2، ص 259.

و إظهاره و إفهامه، و لو لم يكن عن جد، بل قاعدة و قانونا لتكون حجة فيما لم تكن حجة أقوى على خلافه؛ لا البيان في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلا موضوع له مع الدليل على التقييد، كما لا موضوع لها مع الدليل الاجتهادي، فلا يجوز التمسك بالمطلقات بعد الظفر بمقيّد منفصل، لكشف المقيد عن عدم كون المتكلم بصدد بيان تمام مراده، و أنه كان في مقام الإهمال أو الإجمال، مع إن السيرة قد استقرت على التمسك بها بعد الظفر بالمقيد.

=============

و أما الدفع فقد أشار إليه بقوله: «إن المراد بكونه في مقام بيان تمام مراده مجرّد بيان ذلك..» إلخ.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن مجرى مقدمات الحكمة هل هو المراد الجدي الواقعي أو المراد الاستعمالي، بمعنى: أنها هل تجري في بيان و تنقيح ما هو المراد الجدي الواقعي بأن يكون المطلق هو المراد الجدي للمتكلم.

أو تجري في بيان و تنقيح المراد الاستعمالي بمعنى ما قصد المتكلم تفهيمه للمخاطب و إحضاره من المعنى في ذهن السامع؛ بأن يكون المراد الاستعمالي هو المطلق، لا ما أراده من نفس اللفظ جدّا؟

هذا هو الذي ذهب إليه المصنف خلافا للشيخ «رحمه الله»، حيث ذهب إلى الأول.

فالمتحصل: أن البيان على وجهين:

أحدهما: بيان المراد الجدي الواقعي، و هو المقصود في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة.

ثانيهما: ما هو أعم من بيان المراد الواقعي؛ بأن يظهر الواقع و إن لم يكن مرادا جديّا، بل يظهره و يلقيه إلى المخاطب بصورة القانون ليكون حجة و مرجعا عند الشك في التقييد، ما لم تقم حجة أقوى على خلافه و هي دليل التقييد، ثم المراد بالبيان في المقام هو هذا المعنى.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا يكون المقيد المنفصل كاشفا عن عدم كون المتكلم في مقام البيان - على ما هو مختار المصنف - حتى يقال: أنه لا يصح التمسك بالإطلاق لكشف المقيد عن عدم كون المتكلم في مقام البيان، و حينئذ فما جرت عليه السيرة من التمسك بالإطلاقات بعد الظفر بمقيد منفصل في غاية الصحة و المتانة.

هذا بخلاف ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري؛ من كون المتكلم في مقام بيان المراد

ص: 461

يكون الظفر بالمقيد - و لو كان مخالفا - كاشفا عن عدم كون المتكلم في مقام البيان، و لذا لا ينثلم به إطلاقه و صحة التمسك به أصلا، فتأمّل جيدا (1).

و قد انقدح بما ذكرنا (2): أن النكرة في دلالتها على الشياع و السريان أيضا (3) تحتاج فيما لا يكون هناك دلالة حال أو مقال إلى مقدمات الحكمة، فلا تغفل.

الجدي الواقعي، و هذا الكلام يلازم عدم إمكان التمسك بالمطلقات إذا قيدت واقعا بقيود منفصلة؛ لأنه يكشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان، فتنهدم المقدمة الأولى بورود المقيد المنفصل و هذا اللازم باطل إذ لا يلتزم به أحد، فيكشف عن بطلان المبنى الذي يبتني عليه.

=============

قوله: «فلا يكون الظفر بالمقيد - و لو كان - كاشفا..» إلخ، تعريض بما في التقريرات و ردّ عليه، و تفريع على كون المراد بالبيان إظهار تمام مراده و لو لم يكن عن جدّ، كما هو مختار المصنف.

و كيف كان؛ فقد اتضح مما تقدم - من أن المراد بالبيان مجرد إظهار تمام المراد حتى يكون حجة ظاهرا في الأفراد المشكوكة حتى تقوم حجة أقوى على خلافه - عدم كون دليل التقييد كاشفا عن عدم كون المتكلم في مقام البيان، و لذا لا ينثلم بالظفر بالمقيد إطلاق المطلق و صحة التمسك به، فلو قال: «أعتق رقبة»، ثم ورد: «لا تعتق رقبة كافرة» لا يكشف هذا التقييد عن عدم كون المتكلم في مقام البيان، و لذا يصح التمسك بالإطلاق في غير مورد التقييد، فلو شك في تقييده بغير الإيمان أيضا يتمسّك في نفيه بالإطلاق بلا إشكال.

(1) لعله إشارة إلى: إن المقيد إذا كان مخالفا للمطلق في النفي و الإثبات نحو:

«أعتق رقبة» و «لا تعتق رقبة كافرة» فلا ريب في كونه مقيدا له، أو يحمل المقيد على الاستحباب و الأفضلية، فانتظر تفصيل ذلك فيما سيأتي عن قريب.

(2) أي: من كون النكرة هي الطبيعة المقيدة بالوحدة المفهومية، و خروج الشيوع عن مفهومها ظهر: أن دلالتها على الشيوع لا بد أن تستند إلى قرينة حالية أو مقالية أو حكمية إن تمت مقدمات الحكمة، فإنّ النكرة و إن كانت دالة على الشيوع لكنه بدلي لا عرضي، فلا دلالة لها على الشيوع العرضي إلا بالقرينة و لو كانت مقدمات الحكمة.

(3) أي: مثل اسم الجنس الذي وضع للماهية المهملة، فلا يدل على الشياع إلا

ص: 462

بقي شيء (1): و هو أنه لا يبعد أن يكون الأصل فيما إذا شك في كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد، هو كونه بصدد بيانه، و ذلك لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات بالقرينة. قوله: «إلى» متعلق بقوله: «تحتاج» أي: دلالة النكرة مثل اسم الجنس على الشياع تحتاج إلى مقدمات الحكمة.

=============

الأصل كون المتكلم في مقام البيان

(1) الغرض منه هو: بيان ما هو الأصل عند الشك في كون المتكلم في مقام البيان، و قبل الخوض في بحث الأصل ينبغي بيان مورد هذا الأصل، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي أن هناك صور و احتمالات:

الصورة الأولى: هو إحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده.

الصورة الثانية: إحراز عدم كونه في مقام بيان تمام مراده؛ بل كان في مقام الإجمال أو الإهمال.

الصورة الثالثة: إذا شك في كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن مورد الأصل هو الصورة الثالثة؛ إذ لا شك في التمسك بالإطلاق في الصورة الأولى، كما لا ريب في عدم التمسك بالإطلاق في الصورة الثانية.

و إنما الكلام في التمسك بالإطلاق في الصورة الثالثة، بمعنى: أنه لمّا كان من مقدمات الحكمة التي يتوقف عليها الإطلاق: كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده، و كان إحرازه بالعلم في كثير من الموارد في غاية الصعوبة، صار المصنف بصدد إثبات ذلك في موارد الشك بالأصل بمعنى: أن مقتضى الأصل هو: كون المتكلم في مقام البيان عند الشك في ذلك، و يقول المصنف: لا يبعد أن يكون الأصل و القاعدة كون المتكلم في مقام البيان، فيصح التمسك بالإطلاق. و وجه هذا الأصل ما أشار إليه بقوله: «و ذلك لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات من التمسك بالإطلاقات».

و حاصل ما أفاده في ذلك: أن مقتضى الأصل كون المتكلم في مقام البيان فيما إذا شك في ذلك، و هذا أصل عقلائي جرت عليه سيرة أبناء المحاورة، حيث إنهم يتمسّكون بالإطلاقات مع عدم علمهم بكون المتكلم في مقام البيان، فهذه السيرة أقوى دليل على هذا الأصل العقلائي.

نعم؛ المتيقن من السيرة و بناء العقلاء على كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده هو: ما إذا جرت عادة المتكلم على الركون إلى القرائن المتصلة؛ بحيث يبيّن تمام

ص: 463

من التمسك بالإطلاقات، فيما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرف وجهها (1) إلى جهة خاصة، و لذا (2) ترى أن المشهور لا يزالون يتمسكون بها مع عدم إحراز كون مطلقها (3) بصدد البيان، و بعد (4) كونه؛ لأجل ذهابهم إلى أنها موضوعة للشياع مرامه في مجلس واحد، و لا يعتمد في بيان مراده على القرائن المنفصلة، فحينئذ إذا احتملنا عدم كون المطلق تمام الموضوع للحكم - كالرقبة - و أن الطبيعة جزء الموضوع، فلا بأس بالتمسك بالأصل العقلائي المزبور، و البناء على أن المطلق تمام مراده.

=============

و أما إذا جرى دأب المتكلم على الاعتماد على القرائن المنفصلة لمصالح توجب ذلك، فبناء العقلاء على جريان الأصل المذكور حينئذ غير ثابت، و الشك فيه يوجب التوقف عن إجرائه؛ بل لا بد في الأخذ بالإطلاق من الوثوق، و الاطمئنان بكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده بهذا الكلام.

(1) يعني: صرف وجه الإطلاقات إلى جهة خاصة، كانصراف إطلاق «ما لا يؤكل لحمه» إلى غير الإنسان من سائر الحيوانات التي لا يؤكل لحمها.

(2) أي: لأجل هذه السيرة. و ضمير «بها» يرجع إلى الإطلاقات.

(3) بصيغة اسم الفاعل يعني: أنت ترى أن المشهور يتمسكون بالإطلاقات، مع عدم إحراز كون مطلق المطلقات بصدد البيان، و ليس ذلك إلا لأجل الأصل المذكور.

(4) بضم الباء و سكون العين و كسر الدال عطف على «عدم» في قوله: «مع عدم إحراز..» إلخ يعني: مع بعد كون تمسّك المشهور بالإطلاقات لأجل ذهابهم إلى أنها موضوعة للشياع و السريان، فيكون دفعا لما يتوهّم من أن يتمسك المشهور بالإطلاق، مع عدم إحراز كون المتكلم في مقام البيان، ليس من جهة كون الأصل عندهم عند الشك هو كون المتكلم في مقام البيان؛ بل من جهة ذهابهم إلى وضع المطلق للشيوع و السريان، بحيث يكون الشياع جزء الموضوع له، فلا يحتاج انعقاد الإطلاق إلى مقدمات الحكمة، و منها كون المتكلم في مقام البيان لنحتاج في إحرازه إلى الأصل العقلائي المذكور.

و حاصل الدفع: أن ذهابهم إلى وضع المطلق للشيوع و السريان بعيد؛ لما مر سابقا من وضع ألفاظ المطلق للماهية المبهمة المهملة، التي لم يلاحظ شيء و لا قيد، فالشيوع و السريان خارجان عما وضعت له، و لعل وجه نسبة المطلق للمعنى المقرون بالشياع إلى المشهور: ملاحظة عدم الوجه في التمسك بالإطلاقات، بدون إحراز كون المتكلم في

ص: 464

و السريان، و إن كان ربما نسب ذلك إليهم، و لعل وجه النسبة ملاحظة أنه لا وجه للتمسك بها بدون الإحراز و الغفلة (1) عن وجهه (2)، فتأمل جيّدا.

ثم إنّه قد انقدح بما عرفت - من توقف حمل المطلق على الإطلاق فيما لم يكن هناك قرينة حالية أو مقالية على قرينة الحكمة المتوقفة على المقدمات المذكورة - أنه (3) مقام البيان، و قد عرفت: أن الوجه في ذلك هو سيرة العقلاء.

=============

(1) و غرضه: أن الداعي إلى نسبة وضع المطلق للماهية المقيدة بالشياع إلى المشهور أمران:

أحدهما: ملاحظة تمسكهم بالإطلاقات، مع عدم إحراز كون المتكلم في مقام البيان، مع لزوم إحرازه في التمسك بها.

ثانيهما: الغفلة عن وجه تمسكهم بها، و هو الأصل العقلائي المذكور.

فهذان الأمران أوجبا التوجيه المزبور - أعني: نسبة وضع المطلق المشروط بالشياع إلى المشهور - لكنك قد عرفت وجه تمسكهم بالمطلقات و هو: إحراز كون المتكلم في مقام البيان بسيرة أهل المحاورات، فالتوجيه المزبور غير سديد.

(2) قوله: «عن وجهه» أي: وجه تمسك المشهور و هو سيرة أهل المحاورات.

«فتأمل جيدا» لعله إشارة إلى ضعف التوجيه المزبور، و أنه كيف يمكن نسبة المطلق المقيد بالشياع إلى المشهور، و جعله وجها لتمسكهم بالإطلاقات، مع إن فيهم من ينكر وضع المطلق له، و يلتزم بكون الموضوع له نفس الماهية المهملة المعراة عن كل قيد من الشيوع و غيره كالسلطان و من تبعه، و مع ذلك يتمسك بالإطلاقات مع عدم العلم بكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 729».

لا إطلاق للمطلق فيما كان له الانصراف

(3) فاعل «انقدح»، و الغرض من قوله: «انقدح»: بيان الانصراف الذي يكون قرينة مانعة عن الإطلاق؛ إذ بعض أنواع الانصراف مما يوجب التعيين أو مما يوجب القدر المتيقن في مقام التخاطب، فلا يجوز حينئذ التمسك بالإطلاق لعدم تمامية مقدمات الحكمة التي منها انتفاء ما يوجب التعيين، و منها انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب.

و توضيح ذلك: يتوقف على بيان أنواع الانصراف حتى نعلم أن أيّا منها يقيد المطلق فيكون مانعا عن الإطلاق، و أيّا منها لا يقيده فلا يكون مانعا عن:

الأول: الانصراف الخطوري، الناشئ عن غلبة الوجود، الموجبة لانصراف المطلق إليه، كخطور ماء الفرات في ذهن أهل الكوفة، و ماء دجلة في ذهن أهل بغداد من لفظ ماء

ص: 465

لا إطلاق له فيما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد، أو الأصناف لظهوره إذا قيل: «جئني بماء»، و هذا الانصراف لا يقيد المطلق و لا يكون مانعا عن الإطلاق؛ للقطع بعدم كون المنصرف إليه مرادا قبل التأمل و بعده، و لا يزول بالتأمل.

=============

الثاني: الانصراف البدوي، الموجب للشك في إرادة المنصرف إليه، الزائل بالتأمل؛ مثل:

انصراف لفظ «رجل» في نحو: «جئني برجل» إلى رجل ذي رأس واحد، فهو لا يشمل رجلا ذا رأسين، فيكون موجبا للشك في إرادة المنصرف إليه، ثم يزول الشك بالتأمل.

و منشأ هذا الانصراف البدوي: غلبة استعمال المطلق في المنصرف إليه، الموجبة لأنس الذهن به، و هذا الانصراف أيضا لا يقيد المطلق، فلا يكون مانعا عن الإطلاق.

و الفرق بينهما: أن هذا القسم يوجب الشك البدوي في إرادة المنصرف إليه من المطلق و يزول بالتأمل، بخلاف سابقه فإنه لا يوجب الشك البدوي في إرادته منه، و لا يزول بالتأمل، فهما مشتركان في عدم تقييد المطلق، و مفترقان في استقرار الأول و زوال الثاني.

الثالث: الانصراف الناشئ عن التشكيك في الماهية في متفاهم العرف و هو على نحوين:

الأول: أن يكون التشكيك بمثابة يحكم العرف بخروج الفرد المنصرف عنه عن مصاديق المطلق، كانصراف لفظ «ما لا يؤكل لحمه» عن الإنسان، و عدم شموله له بنظرهم، و صيرورة لفظ «ما يؤكل» ظاهرا في غير الإنسان، و لذا جوّز الفقهاء الصلاة في شعره و ظفره و بصاقه. و لا إشكال في كون هذا الانصراف مقيدا للإطلاق بغير المنصرف عنه، لكون المطلق مع هذا التشكيك كاللفظ المحفوف بالقرينة اللفظية المتصلة في المنع عن انعقاد الظهور للمطلق في الإطلاق، و موجب لظهوره في المنصرف إليه.

الثاني: أن يكون التشكيك بمثابة يشك العرف في خروج الفرد المنصرف عنه عن مصاديق المطلق؛ كانصراف لفظ «الماء» عن ماء الزاج و النفط، و هذا الانصراف و إن لم يكن موجبا لظهور اللفظ في المنصرف إليه، - كما في الفرض السابق - إلاّ إنه من قبيل اللفظ المحفوف بما يصلح للقرينية، و معه لا يكون اللفظ ظاهرا في الإطلاق، لفقدان شرط الإطلاق و هو عدم احتفاف الكلام بالقرينة، و بالصالح للقرينية، فالانصراف في هذين الفرضين مانع عن التمسك بالإطلاق.

غاية الأمر: أن المطلق في الفرض الأول: ظاهر في المنصرف إليه، و في الثاني: مجمل، فيؤخذ بالمنصرف إليه من باب القدر المتيقّن؛ لا من باب الظهور اللفظي، كما في سابقه.

ص: 466

فيه، أو كونه متيقنا منه، و لو لم يكن ظاهرا فيه بخصوصه، حسب اختلاف مراتب الانصراف كما إنه منها (1) ما لا يوجب ذا و لا ذاك؛ بل يكون بدويا زائلا بالتأمل، كما أنه منها (2) ما يوجب الاشتراك أو النقل.

الرابع: الانصراف الناشئ عن بلوغ غلبة الاستعمال في فرد خاص أو صنف خاص حدّ المجاز المشهور عند تعارضه مع الحقيقة المرجوحة، و لهذا إذا ذكر هذا اللفظ مطلقا و بلا قرينة وجب التوقف في المجاز، و يحكم بالتقييد في المقام؛ لما مر من فقدان شرط الإطلاق، و مثال ذلك: كصيغة الأمر على القول بكونها حقيقة في الوجوب، و لكن استعمالها في الندب مجازا مشهورا؛ بحيث ساوى احتماله لاحتمال الحقيقة، أو يرجح عليه على اختلاف بين الأعلام.

=============

الخامس: الانصراف الناشئ عن بلوغ شيوع المطلق و غلبة استعماله في المنصرف إليه حد اشتراك لفظه بين المعنى الحقيقي الإطلاقي، و بين المعنى المنصرف إليه، قيل: بأنه لا يحمل على أحدهما إلا بالقرينة المعيّنة، فهذا الانصراف يمنع أيضا عن الأخذ بالإطلاق، كما إذا فرض: أن «الصعيد» وضع لمطلق وجه الأرض، ثم استعمل كثيرا في خصوص التراب الخالص بحيث صار مشتركا بينهما، فإذا قال المولى: «تيمم بالصعيد» لا يحمل على المطلق إلا بالقرينة؛ لكن فيه أنه يحمل على المنصرف إليه - و هو التراب الخالص - لأن كثرة الاستعمال قرينة أو صالحة للقرينية على الحمل على المعنى المنصرف إليه؛ كما تقدم من توقف الإطلاق على عدم ما يصلح للقرينية؛ فلا يجوز التمسك بالإطلاق.

السادس: الانصراف الناشئ عن بلوغ كثرة الاستعمال حدّ النقل و مهجورية المعنى المطلق، و مثال ذلك: لفظ الفعل فإنه وضع لغة للمعنى المصدري أعني: مطلق الحدث الصادر عن فاعل، ثم نقل في عرف النحاة إلى نوع خاص من الكلمة التي تدل على معنى في نفسها، مع اقتران معناها بأحد الأزمنة.

و يحمل اللفظ على المنصرف إليه، فيكون مانعا عن الإطلاق.

فالمتحصل: أن الانصراف بجميع أقسامه مانع عن الإطلاق إلا القسمين الأولين؛ لأن بعضها يقيّد المطلق، و بعضها مما يوجب التعيين، أو القدر المتيقن، أو الإجمال، فيسقط المطلق عن الإطلاق.

(1) أي: من مراتب الانصراف ما لا يوجب الظهور، و لا كونه متيقّنا من المطلق؛ كالقسم الأول و الثاني.

(2) أي: و من مراتب الانصراف ما يوجب الاشتراك أو النقل كالقسم الخامس و السادس.

ص: 467

لا يقال: كيف يكون ذلك (1)، و قد تقدم: أن التقييد لا يوجب التجوّز في المطلق أصلا؟

فإنّه يقال (2): - مضافا إلى أنه إنما قيل لعدم استلزامه له لا عدم إمكانه، فإن

=============

(1) أي: كيف يكون الانصراف موجبا لحصول الاشتراك أو النقل ؟ يعني: لا يكون الانصراف موجبا لحصولهما مع توقفهما على المجازية، و قد عرفت سابقا: أن استعمال المطلق و إرادة المقيّد لا يستلزم التجوّز أصلا.

و حاصل الإشكال: أن بلوغ الانصراف حدّ الاشتراك أو النقل إنما يعقل على مسلك من يرى التقييد مجازا، فيستعمل المطلق في المقيد مجازا، و يكثر الاستعمال فيه شيئا فشيئا إلى أن يصل حدّ الوضع التعيّني، فيحصل الاشتراك أو النقل بأن يصير مثل: لفظ الرقبة - لكثرة استعماله في الرقبة المؤمنة - مشتركا لفظيا بين مطلق الرقبة، و بين الرقبة المؤمنة؛ بل منقولا إلى الرقبة المؤمنة.

و أما على ما هو مختار المصنف - من عدم كون التقييد مجازا أصلا نظرا إلى وضع المطلق للماهية اللابشرط المقسمي و أنه مستعمل فيها دائما و أن الخصوصية تستفاد من القيد بنحو تعدد الدال و المدلول - فلا يكاد يعقل ذلك؛ إذ لا معنى لأن يكثر استعمال المطلق في معناه الموضوع له - و هو الماهية اللابشرط المقسمي - و يصير حقيقة في المقيد الذي لم يستعمل فيه المطلق أصلا.

فالانصراف المؤدي إلى الاشتراك أو النقل مجرد فرض له، لا تحقق له خارجا.

و قد أجاب عنه المصنف بجوابين:

الجواب الأول: ما أشار إليه بقوله: «مضافا»، و حاصله: أن ما تقدم من المختار هو: إن التقييد لا يستلزم التجوّز لا أنه لا يمكن التقييد على نحو يوجب التجوز؛ إذ من الممكن أن يستعمل المطلق في المقيد مجازا لا بنحو تعدد الدال و المدلول، و يكثر ذلك شيئا فشيئا إلى أن يصل حدّ الاشتراك أو النقل.

فالمتحصل: أن ما تقدم من أن التقييد لا يوجب التجوّز يراد به نفي استلزام التجوّز لا نفي إمكانه. بمعنى: إن التقييد لا يوجب التجوّز في المطلق، لا أن استعماله و إرادة المقيد منه يمتنع أن يكون على نحو التجوّز؛ بل يمكن فيه كل من الاستعمال الحقيقي و المجازي الأول في فرض تعدد الدال و المدلول، و الثاني في استعمال المطلق في المقيد مجازا، فلا وجه للإشكال المزبور لأنه مبنيّ على إمكان المجاز، و قد عرفت إمكانه.

الجواب الثاني: ما أشار إليه بقوله: «أن كثرة إرادة المقيد..» إلخ. و حاصله: منع توقف الاشتراك و النقل على المجازية؛ لأن كثرة إرادة المقيد من المطلق - و لو من باب تعدد

ص: 468

استعمال المطلق في المقيد بمكان من الإمكان - إن كثرة إرادة المقيد لدى إطلاق المطلق و لو بدال آخر ربّما تبلغ بمثابة توجب له (1) مزية أنس؛ كما في المجاز المشهور، أو تعيّنا (2) و اختصاصا به؛ كما في المنقول بالغلبة، فافهم.

الدال و المدلول مثل «أعتق رقبة مؤمنة» - ربما توجب مزية أنس للمقيد مع عدم استعمال اللفظ فيه مجازا، و يشتد هذا الأنس بالاستعمالات تدريجا إلى أن يصل إلى حد الحقيقة في المعنى الثاني، فيصير لفظ المطلق مشتركا بين معناه الأصلي، و بين معناه الثانوي الحاصل بالاستعمالات التدريجية، فإن هجر معناه الأول و بقي الثاني صار منقولا.

=============

فالنتيجة هي: أن يصل لفظ المطلق بواسطة كثرة الاستعمالات الواقعة بنحو تعدد الدال و المدلول إلى مرتبة الاشتراك أو النقل.

(1) أي: للمقيد، يعني: أن كثرة إرادة المقيد من المطلق بتعدد الدال توجب للمقيد مزية أنس، كما يحصل الأنس بسبب القرينة في المجاز المشهور، كما إذا استعمل لفظ الصلاة كثيرا مع القرينة في الأركان المخصوصة، و صارت كثرة الاستعمال مع القرينة الموجبة للأنس، بحيث صار لفظ الصلاة مجازا مشهورا في الأركان، و كلفظ الدابة الموضوع لمطلق ما يدب على الأرض، ثم استعمل كثيرا في الفرس مع القرينة المعيّنة حتى صار منقولا.

(2) عطف على «مزية» يعني: أن كثرة إرادة المقيد توجب مزية أنس بالمقيد، كما في المجاز المشهور، «أو تعيّنا و اختصاصا به» أي: بالمقيد، كما في المنقول بالغلبة.

و كيف كان؛ فالظاهر من المصنف هو: كون الانصراف البالغ حدّ المجاز المشهور و الاشتراك و النقل مقيّدا للإطلاق، و مانعا عن التمسك به.

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى الإشكال في حصول الاشتراك و النقل من كثرة استعمال لفظ المطلق في المقيد، بنحو تعدد الدال و المدلول؛ إذ لا وجه لاستعمال اللفظ في معناه الموضوع له، و صيرورته بذلك حقيقة في أمر آخر لم يستعمل فيه اللفظ أصلا، حتى يتحقق الاشتراك أو النقل.

أو إشارة إلى الفرق بين المجاز المشهور و المنقول بالغلبة، و هو: أن مزية الأنس بين اللفظ و المعنى الثاني لم تصل إلى حدّ الوضع و الحقيقة في المجاز المشهور، و لكن مزية الأنس بين اللفظ و المعنى المنقول إليه وصلت إلى حد الوضع و الحقيقة، و لذا يتوقف في المجاز المشهور، و لا يحمل اللفظ على معناه الحقيقي من باب أصالة الحقيقة، و لا يتوقف في المنقول فيحمل اللفظ على المعنى الثاني المنقول إليه بلا توقف أصلا.

ص: 469

تنبيه (1):

و هو أنه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة، كان واردا في مقام البيان من جهة منها، و في مقام الإهمال أو الإجمال من أخرى، فلا بد في حمله على الإطلاق بالنسبة إلى جهة من كونه بصدد البيان من تلك الجهة، و لا يكفي كونه بصدده من

=============

إذا كان للمطلق جهات عديدة

إذا كان للمطلق جهات عديدة(1) توضيح ما أفاده المصنف «قدس سره» في هذا التنبيه: أن القيد الذي يحتمل اعتباره في موضوع الحكم تارة: يكون واحدا، و أخرى: متعددا، فموضوع الحكم في الأول: يكون ذا جهة واحدة، و في الثاني: ذا جهات متعددة بمقدار تعدد القيود، و محل الكلام هو الاحتمال الثاني، فحينئذ إذا كان المتكلم في مقام البيان - بالنسبة إلى جميع الجهات و القيود، و لم تكن قرينة على أحدها كان الكلام مطلقا من جميع الجهات - فلا بد من التمسك بالإطلاق في جميعها إلا إن كون المتكلم في مقام البيان من جميع الجهات لم يتفق في شيء من إطلاقات الكتاب و السنّة.

و كيف كان؛ فإذا كان المتكلم في مقام البيان من جهة دون أخرى فلا مانع من التمسك بإطلاق كلامه من الجهة التي كان في مقام البيان من تلك الجهة دون الجهة الأخرى، فلا يجوز التمسك بإطلاق قوله تعالى: فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ (1) لطهارة موضع عضّ الكلب المعلم؛ و ذلك لأنه ليس في مقام بيان الطهارة و النجاسة حتى يصح التمسك بالإطلاق لطهارة موضع العض، و إنما هو لبيان الحلية فقط، فإنه إذا شك في اعتبار الإمساك من الحلقوم في التذكية و الحلية و عدم اعتباره، فلا مانع من التمسك بإطلاق الآية الكريمة من هذه الناحية، و الحكم بعدم اعتبار الإمساك من الحلقوم، فالنتيجة هي: نجاسة موضع العضّ و الحكم بالحلية و إن لم يكن الإمساك من الحلقوم، و لهذا أوردوا(2) على شيخ الطائفة «قدس سره» حيث استدل على طهارة موضع عضّ الكلب بإطلاق قوله تعالى: فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ مع وروده في مقام بيان الحلية، و لا يرتبط بجهة الطهارة و النجاسة.

ص: 470


1- المائدة: 4.
2- و ممن أورد عليه: الشهيد في المسالك، ج 11، ص 443، و الشيخ محمد حسن في الجواهر، ج 36، ص 67، و النراقي في المستند، ج 15، ص 360.

جهة أخرى (1)، إلا إذا كان بينهما (2) ملازمة عقلا أو شرعا أو عادة، كما لا يخفى.

=============

(1) يعني: أن كون المتكلم بصدد البيان من جهة - كالحلية في المثال المزبور - لا يكفي في الحمل على الإطلاق من الجهة الأخرى التي لم يكن المتكلم بصدد بيانها؛ كالطهارة في المثال المذكور.

(2) أي: إلا إذا كان بين الجهتين ملازمة؛ بحيث يكون البيان من إحداهما ملازما لثبوت الحكم من الجهة الأخرى التي هي غير مقصودة بالبيان، فيكون الكلام حجة في كلتا الجهتين؛ لأن الحجة على أحد المتلازمين حجة على الآخر، سواء كانت الملازمة عقلية أو شرعية أو عادية.

و مثال الأول: ما ورد في صحة الصلاة في ثوب فيه عذرة ما لا يؤكل لحمه من حيث النجاسة عند الجهل بها أو نسيانها؛ كقوله «عليه السلام»: «لا بأس بالصلاة في عذرة غير المأكول ناسيا»(1)، فإنّ نفي مانعيتها من حيث النجاسة ملازم لنفيها من حيث الجزئية لغير المأكول؛ بناء على جزئية العذرة للحيوان، فإنه يدل عقلا على صحة الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه عند النسيان أو الجهل، إذ - بناء على جزئية العذرة - لا فرق في نظر العقل في الحكم بصحة الصلاة بين الأجزاء من العذرة و غيرها، و إن كان الكلام مسوقا لبيان حكم العذرة.

و مثال الثاني: كما إذا كان دليل على وجوب قصر الصلاة على المسافر في مورد، فإنه يدل على وجوب الإفطار عليه في ذلك المورد أيضا؛ للملازمة الشرعية بينهما الثابتة بمثل قول أبي عبد الله «عليه السلام»: «إذا قصرت أفطرت، و إذا أفطرت قصرت»(2)، فالدليل على أحدهما دليل على الآخر.

و مثال الثالث: مثل ما إذا ورد «أنه لا بأس بالصلاة في جلد الميتة»(3)، و من المعلوم أن وقوع الصلاة في جلد الميتة ملازم غالبا و عادة لوقوعها في النجاسة إلا في جلد السمك، فالحكم بصحة الصلاة من حيث وقوعها في جلد الميتة ملازم للحكم بصحتها في النجاسة أيضا.

و مثل: ما ورد في طهارة سؤر الهرة، مع إن الغالب عدم خلو موضع السؤر عن

ص: 471


1- في الكافي، ج 3، ص 404، ح 2 /التهذيب، ج 2، ص 1359، ح 19: «... إن كان لم يعلم فلا يعيد».
2- التهذيب، ج 3، ص 220، ح 60 /الفقيه، ج 1، ص 437، ح 1269.
3- هناك روايات ترخص في الجلد المملوح: التهذيب، ج 9، ص 78، ح 67، و روايات تمنع من ذلك: الفقيه، ج 1، ص 247، ح 749.

النجاسة، فإن إطلاق ما دل على طهارة سؤر الهرة و إن كان ناظرا إلى حكم الهرة من حيث ذاتها - كما يظهر من النصوص - إلاّ إن النجاسة العرضية الحاصلة بملاقاة الميتة - لمّا كانت مقارنة لموضع السؤر غالبا - كان إطلاق دليل الطهارة مقتضيا لطهارة السؤر مطلقا و لو كان موضع السؤر قبل الملاقاة ملاقيا للنجاسة؛ و إلا لوجب التنبيه على نجاسته.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - في مقدمات الحكمة: و مورد الحاجة إليها إنما هو بناء على تفسير المطلق بالماهية المبهمة؛ إذ لا مجال عليه للتمسك بأصالة الحقيقة في إحراز الإطلاق، لأن المقيد لا يكون مخالفا لما تقتضيه أصالة الحقيقة، فلا بد في إحراز الإطلاق في مقام الشك أن يتمسك بمقدمات الحكمة و هي مركبة من ثلاثة مقدمات:

إحداهما: كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده، فإذا قال: «أعتق رقبة» و كان المتكلم في مقام بيان تمام مراده من وجوب مطلق الرقبة يؤخذ بإطلاق كلامه و يكون إطلاق كلامه حجة.

و المقصود من كون المتكلم في مقام البيان هو: إفهام تمام ما أراد بيانه، سواء كان مرادا جديا أم مرادا استعماليا لضرب قاعدة يرجع إليها عند الشك و عدم حجة أقوى على خلافه.

و ثانيتها: انتفاء ما يوجب التعيين؛ يعني: عدم القرينة المعيّنة للمراد؛ إذ معها يكون المراد متعينا، فلا حاجة إلى الإطلاق في إثبات ما هو المراد.

و ثالثتها: انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب؛ إذ معه يصح أن يعتمد المتكلم عليه في مقام التخاطب إذا كان ذلك القدر المتيقن متبادرا من اللفظ إلى ذهن المخاطب، نعم؛ إذا كان القدر المتيقن مستندا إلى ما هو خارج عن مقام التخاطب: فوجوده غير مضر بالإطلاق، فلا يكون عدمه شرطا للإطلاق.

2 - إذا تمت مقدمات الحكمة، و لم يرد المتكلم الإطلاق فقد أخلّ بغرضه، و حيث إن الإخلال بالغرض قبيح فلا محيص عن إرادة الإطلاق، و أما مع انتفاء إحدى المقدمات:

فلا يلزم الإخلال بالغرض لو لم يكن الإطلاق مرادا للمتكلم.

قوله: «فافهم» لعلّه إشارة إلى دفع توهم بتقريب: إنه لا موضوع للإطلاق مع الدليل

ص: 472

على التقييد، فلا يجوز التمسك بالإطلاق بعد الظفر بمقيد منفصل؛ لكشف القيد عن عدم كون المتكلم بصدد تمام مراده، و أنه كان في مقام الإهمال أو الإجمال، مع إن السيرة استقرت على التمسك بالإطلاقات بعد الظفر بالمقيد أيضا.

و حاصل الدفع: أن مجرى مقدمات الحكمة هو المراد الاستعمالي لا المراد الجدّي، و المطلق مراد بالإرادة الجدية، فلا يكون المقيد المنفصل كاشفا عن عدم كون المتكلم في مقام البيان حتى يقال: لا يصح التمسك بالإطلاق لكشف المقيد المنفصل عن عدم كون المتكلم في مقام البيان.

3 - أن الأصل هو: كون المتكلم في مقام البيان عند الشك في كونه في مقام البيان.

هذا أصل عقلائي جرت عليه سيرة أبناء المحاورة، حيث إنهم يتمسكون بالإطلاقات مع عدم علمهم بكون المتكلم في مقام البيان.

قوله: «و بعد كونه لأجل ذهابهم..» إلخ دفع لما يتوهم من: إن تمسك المشهور بالإطلاقات مع عدم إحراز كون المتكلم في مقام البيان ليس من جهة كون الأصل عندهم هو كون المتكلم في مقام البيان؛ بل من جهة ذهابهم إلى وضع المطلق للشيوع و السريان، بحيث يكون الشيوع جزء الموضوع له للمطلق، فلا حاجة حينئذ إلى مقدمات الحكمة - و منها كون المتكلم في مقام البيان - كي نحتاج في إحرازه إلى الأصل العقلائي.

و حاصل الدفع: أن ذهابهم إلى وضع المطلق للشيوع و السريان بعيد؛ لما مر سابقا من وضع المطلق للماهية المهملة التي لم يلاحظ معها شيء، و لعل وجه نسبة وضع المطلق للمعنى المقرون بالشياع إلى المشهور ملاحظة عدم الوجه في التمسك بالإطلاقات، بدون إحراز كون المتكلم في مقام البيان، و قد عرفت: أن الوجه في ذلك هو: سيرة العقلاء على كون المتكلم في مقام البيان عند الشك في كونه كذلك.

4 - لا إطلاق للمطلق فيما كان له الانصراف إلى بعض الأفراد، ثم الانصراف و إن كان على أقسام إلاّ إن المانع من الإطلاق هو بعض أقسامه؛ بأن يكون الانصراف موجبا لظهور المطلق في بعض أفراده، أو موجبا لتعيين بعض الأفراد، أو الموجب للاشتراك و النقل؛ إذ من مقدمات الحكمة: انتفاء ما يوجب التعيين، فإذا كان الانصراف مما يوجب تعيين بعض الأفراد كان مانعا عن التمسك بالإطلاق؛ لعدم تحقق الإطلاق مع انتفاء المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة.

ص: 473

5 - الإشكال على بلوغ الانصراف حد الاشتراك أو النقل.

و حاصل الإشكال: أن بلوغ الانصراف حدّ الاشتراك أو النقل إنما يعقل على مسلك من يرى التقييد مجازا؛ لأن الاشتراك أو النقل فرع للمجاز بأن يستعمل المطلق في المقيد مجازا، و يكثر الاستعمال فيه شيئا فشيئا إلى أن يصل حدّ الوضع، فيحصل الاشتراك أو النقل بأن يصير لفظ الرقبة لكثرة استعماله في الرقبة المؤمنة مشتركا لفظيا بين مطلق الرقبة و بين الرقبة المؤمنة؛ بل منقولا إلى الرقبة المؤمنة.

و أما على ما هو مختار المصنف من عدم كون التقييد مجازا أصلا: فلا يكاد يحصل ذلك؛ إذ لا معنى لأن يكثر استعمال المطلق في معناه الموضوع له، ثم يصير حقيقة في المقيد الذي لم يستعمل فيه المطلق أصلا.

فالانصراف المؤدي إلى الاشتراك أو النقل مجرد فرض لا تحقق له خارجا.

و قد أجاب المصنف عنه بوجهين:

الأول: أن ما تقدم من المختار هو: أن التقييد لا يستلزم التجوّز، لا أنه لا يمكن التقييد على نحو يوجب التجوّز، فمن الممكن أن يستعمل المطلق في المقيد مجازا و يكثر ذلك إلى أن يصل حدّ الوضع، فيحصل الاشتراك أو النقل.

الثاني: منع توقف الاشتراك و النقل على المجازية؛ لأن كثرة إرادة المقيد من المطلق - و لو بنحو تعدد الدال و المدلول - ربما توجب مزية أنس للمقيد، و يشتد هذا الأنس بالاستعمالات إلى أن يصل حدّ الحقيقة في المعنى الثاني، فيصير مشتركا بين المعنى الأول و الثاني، أو منقولا من المعنى الأول إلى المعنى الثاني.

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى الإشكال في حصول الاشتراك و النقل من كثرة استعمال لفظ المطلق في المقيد بنحو تعدد الدال و المدلول؛ إذ لا وجه لاستعمال اللفظ في معناه الموضوع له و صيرورته بذلك حقيقة في أمر آخر لم يستعمل فيه اللفظ أصلا حتى يحصل الاشتراك أو النقل.

6 - إذا كان للمطلق جهات عديدة، و كان المتكلم في مقام البيان من بعض الجهات دون الجميع فلا مانع من التمسك بالإطلاق من الجهة التي كان في مقام بيانها، دون الجهة الأخرى التي لم تكن مقصودة بالبيان، فلا يجوز التمسك بإطلاق قوله تعالى: فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ لطهارة موضع عضّ الكلب؛ و ذلك لأنه ليس في مقام بيان الطهارة و النجاسة حتى يصح التمسك بالإطلاق لطهارة موضع العض، و إنما هو لبيان الحليّة فقط.

ص: 474

و كيف كان؛ فإذا كان المتكلم بصدد البيان من جهة دون أخرى لا يصح التمسك بالإطلاق من الجهة الأخرى؛ إلا إذا كان بين الجهتين ملازمة بحيث يكون البيان من إحداهما ملازما لثبوت الحكم من الجهة الأخرى؛ لأن الحجة على أحد المتلازمين حجة على الآخر سواء كانت الملازمة عقلية أو شرعية أو عادية.

و أما مثال الملازمة العقلية: فكقوله «عليه السلام»: «لا بأس بالصلاة في عذرة غير المأكول ناسيا»، فإن نفي مانعيّتها من حيث النجاسة ملازم لنفيها من حيث الجزئية بناء على جزئية العذرة للحيوان؛ إذ لا فرق في نظر العقل في الحكم بصحة الصلاة بين الأجزاء من العذرة و غيرها، و إن كان الكلام مسوقا لبيان حكم العذرة.

و أما الملازمة الشرعية الثابتة بمثل قول الإمام الصادق «عليه السلام»: «إذا قصرت أفطرت، و إذا أفطرت قصرت»: فالدليل على أحدهما دليل على الآخر.

و أما الملازمة العادية: فمثل ما إذا ورد: «أنه لا بأس بالصلاة في جلد الميتة»، و من المعلوم: أن وقوع الصلاة في جلد الميتة ملازم عادة لوقوعها في النجاسة إلا في جلد السمك، فالحكم بصحة الصلاة من حيث وقوعها في جلد الميتة ملازم للحكم بصحتها في النجاسة.

7 - نظريات المصنف «قدس سره»:

1 - مقدمات الحكمة ثلاث.

2 - المراد بالبيان هو بيان القاعدة التي يرجع إليها عند الشك و عدم حجة اقوى على خلافه؛ لا بيان الواقع بالإرادة الجدّية.

3 - الأصل عند الشك في كون المتكلم في مقام البيان هو كونه في مقام البيان.

4 - لا يجوز التمسك بالإطلاق من جميع الجهات عند تعددها؛ بل يجوز التمسك به من الجهة التي كان المقصود بيانها.

ص: 475

ص: 476

فصل

إذا ورد مطلق و مقيّد متنافيين (1)، فإما يكونان مختلفين في الإثبات و النفي، و إما

=============

فصل في حمل المطلق على المقيّد

اشارة

(1) إشارة إلى محل الكلام، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن المطلق و المقيد تارة لا يكونان متنافيين مثل: ما إذا تعدد الحكم و لو بتعدد السبب نحو: «إن ظاهرت فأعتق رقبة، و إن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة» و مثل: ما إذا أمر المولى بإتيان الماء على نحو الإطلاق، و كان غرضه منه غسل الثوب مثلا، فقال: «جئني بالماء»، ثم أمر بإتيان الماء البارد لأجل الشرب، فلا ريب في عدم التنافي بينهما في المثالين.

و أخرى: يكونان متنافيين، و الضابط في التنافي بينهما: أن لا يمكن الجمع بينهما مع حفظ أصالة الظهور فيهما، و التنافي بهذا المعنى إنما هو فيما إذا كان الحكم واحدا مثل:

«إن ظاهرت فاعتق رقبة، و إن ظاهرت فلا تعتق رقبة كافرة»؛ لأن صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب، و صيغة النهي ظاهرة في الحرمة، فالأولى: تدل على وجوب عتق مطلق الرقبة مؤمنة كانت أم كافرة، و الثانية: تدل على حرمة عتق الرقبة الكافرة، فلا يمكن الحمل بين وجوب عتق الكافرة و حرمة عتقها للتنافي بينهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل النزاع هو القسم الثاني، ثم الصور و الاحتمالات في المقام و إن كانت كثيرة إلا إننا نكتفي بما ذكره المصنف من كونهما مختلفين في الإثبات و النفي، أو متوافقين فيهما.

فيقع الكلام تارة: في المقيد الذي يكون مخالفا للمطلق في الحكم كالمثال الأول المذكور في المتن.

و أخرى: في المقيد الذي يكون موافقا فيه كالمثال الثاني.

و أما الأول: فقد تسالم الأصحاب فيه على حمل المطلق على المقيد فيقيد الرقبة في المثال الأول بغير الكافرة

و أما الثاني: فالمشهور فيه هو حمل المطلق على المقيد، و هناك قول بحمل المقيد على أفضل الأفراد، هذا ما أشار إليه بقوله: «و قد أورد عليه بإمكان الجمع على وجه آخر..» إلخ.

ص: 477

يكونان متوافقين، فإن كانا مختلفين: مثل: أعتق رقبة و لا تعتق رقبة كافرة، فلا إشكال في التقييد.

و إن كانا متوافقين: فالمشهور فيهما الحمل و التقييد (1). و قد استدلّ بأنه (2) جمع بين الدليلين و هو أولى.

و قد أورد عليه (3) بإمكان الجمع على وجه آخر (4) مثل: حمل الأمر في المقيد على الاستحباب.

و أورد عليه (5): بأن التقييد ليس تصرفا في معنى اللفظ، و إنما هو تصرّف في

=============

(1) يعني: يحمل المطلق على المقيد، و يقال: إن المراد الجدّي هو المقيد، فالمطلق هو عتق الرقبة المؤمنة؛ لا كل رقبة.

(2) أي: أن الحمل و التقييد جمع بين الدليلين، و قد قيل: «إن الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح»، و أمّا كون التقييد جمعا بين المطلق و المقيّد؛ فلأنه يؤخذ بكل منهما، حيث أن المطلق يصير جزء الموضوع، ففي «أعتق رقبة» الظاهر في كون الرقبة تمام الموضوع لوجوب العتق يجعل الرقبة جزء الموضوع، و في «أعتق رقبة مؤمنة» يجعل المؤمنة جزءا آخر لموضوع وجوب العتق، فنتيجة الجمع بينهما: كون الموضوع مركبا من الرقبة و الإيمان. «و هو أولى» أي: الجمع بين الدليلين أولى من الطرح، و المقام من صغريات تلك القاعدة.

(3) أي: أورد على الجمع المذكور بإمكان الجمع على وجه آخر؛ كحمل الأمر فيهما على التخيير، أو حمل الأمر في المقيد على الاستحباب.

توضيح الإيراد - على ما في «منتهى الدراية» - أن الكبرى - و هي أولوية الجمع من الطرح - و إن كانت مسلّمة، إلاّ إن صغراه لا تنحصر في الجمع المزبور؛ بل يمكن الجمع بين المطلق و المقيد بوجه آخر، و هو حمل الأمر في المقيد كقوله: «أعتق رقبة مؤمنة» على الاستحباب لمزية فيها أوجبت ذلك؛ و إبقاء المطلق على إطلاقه، فيجزي حينئذ عتق الرقبة مطلقا و إن كانت كافرة؛ لكن عتق المؤمنة أفضل، و هذا جمع حكمي، كما أن سابقه جمع موضوعي.

(4) يعني: غير الجمع الأول الذي هو جمع موضوعي كما عرفت.

(5) أي: أورد على هذا الإيراد المذكور بما حاصله. من أن الجمع الأول - و هو حمل المطلق على المقيد - أولى من الجمع الثاني و هو حمل الأمر في المقيد على الاستحباب؛ و ذلك لأن حمل المطلق على المقيد ليس تصرفا في معنى لفظ المطلق؛ لما عرفت من أن

ص: 478

وجه (1) من وجوه المعنى (2) اقتضاه (3) تجرده عن القيد، مع تخيّل وروده في مقام بيان تمام المراد، و بعد الاطلاع على ما يصلح للتقييد نعلم وجوده على وجه الإجمال، فلا إطلاق فيه (4) حتى يستلزم تصرّفا، فلا يعارض ذلك (5) بالتصرف في المقيد بحمل أمره على الاستحباب.

إرادة المقيد إنما هو بتعدد الدال و المدلول؛ لا باستعمال المطلق في المقيد حتى يكون مجازا، فلا يلزم من حمل المطلق على المقيد تصرّف في معنى المطلق؛ بل يلزم منه تصرّف في وجه من وجوه المعنى، حيث إن تجرد لفظ المطلق الموضوع لنفس الطبيعة يقتضي سعة دائرة انطباقه على الأفراد، و التقييد تصرّف في هذا الوجه، و من المعلوم:

=============

عدم كونه تصرّفا في نفس المعنى الذي وضع له اللفظ و هو نفس الطبيعة؛ بل في وجهه الذي اقتضاه تجرّد اللفظ عن القرينة، حيث إن لفظ المطلق المجرد عن كل قيد يقتضي سعة الانطباق المعبر عنها بالسريان و الشيوع.

و هذا بخلاف حمل الأمر في المقيد على الاستحباب؛ لأنه تصرف في نفس معنى الأمر الذي هو حقيقة في الوجوب، فلا ينبغي الإشكال في تعيين حمل المطلق على المقيد عند الدوران بينه و بين حمل الأمر في المقيد على الاستحباب.

(1) أي: الإطلاق المقتضي للشيوع و السريان المسبّب عن تجرّد اللفظ عن القرينة.

(2) أي: معنى المطلق و هو نفس الطبيعة.

(3) أي: اقتضى ذلك الوجه تجرّد اللفظ عن القرينة.

(4) أي: فلا إطلاق في لفظ المطلق حتى يستلزم التقييد تصرفا فيه؛ بل كان الإطلاق أمرا خياليا، حيث تخيّل المخاطب ورود اللفظ المطلق في مقام بيان تمام المراد بزعم تمامية مقدمات الحكمة، مع إن المتكلم ليس في مقام بيان تمام المراد، و حينئذ فلا إطلاق أصلا، فلا يتعارض تقييد المطلق مع حمل الأمر في المقيد على الاستحباب.

وجه عدم المعارضة: انتفاء موضوعها؛ إذ موضوعها: دوران الأمر بين التصرفين و ارتكاب خلاف أحد الظاهرين، و قد عرفت: إن حمل المطلق على المقيد ليس تصرّفا في المطلق، و ليس التقييد مخالفا للظاهر. هذا بخلاف حمل الأمر في المقيد على الاستحباب، حيث إنه تصرف في نفس معنى اللفظ، حيث إن الأمر ظاهر في الوجوب، فيكون مخالفا للظاهر، فالجمع الأول لا يستلزم خلاف الظاهر، بخلاف الجمع الثاني فإنه مستلزم لارتكاب خلاف الظاهر، فمع إمكان الجمع الأول لا تصل النوبة إلى الجمع الثاني.

(5) أي: تقييد المطلق بالمقيد، و قد عرفت وجه عدم المعارضة.

ص: 479

و أنت (1) خبير بأن التقييد أيضا يكون تصرفا في المطلق. لما عرفت من إن الظفر و كيف كان؛ فقد أورد المصنف على من أورد على الإيراد الوارد على جمع المشهور بوجهين؛ و هما ما أشار إليه بقوله: «و أنت خبير»، و ما أشار إليه بقوله: «مع إن حمل الأمر في المقيد على الاستحباب».

=============

(1) ردّ المصنف جواب من أجاب عن الإشكال الوارد على قول المشهور بوجهين:

أحدهما: أن ما ذكره في دفع الإشكال على المشهور من أن التصرف بحمل أمر المقيد على الاستحباب تصرف في نفس المعنى، بخلاف التقييد حيث ليس التصرف فيه في نفس المعنى؛ بل في وجه من وجوه المعنى، فليس التقييد على خلاف الظاهر «مخدوش»؛ بأن التقييد أيضا خلاف الظاهر لأن الظاهر كون المطلق في مقام بيان الحكم الظاهري قاعدة و قانونا، نظير كلام المجري لقانون الدولة مثل أن يقال: «على كل من بلغ عمره عشرين عاما أن يحضر خدمة النظام»، فهذا البيان للحكم الظاهري قاعدة و ضربا للقانون، فالمطلق ظاهر في الإطلاق، و التقييد على خلاف الظاهر أيضا. أي: كما أن حمل أمر المقيد على الاستحباب على خلاف الظاهر. فالجواب عن الإيراد على المشهور ليس بتام.

و ثانيهما: و هذا الوجه ناظر إلى ما أفاده المورد من: أن حمل أمر المقيد تصرّف في معنى الأمر، فيلزم المجاز.

و حاصل هذا الوجه: إنكار مجازية حمل أمر المقيد على الاستحباب؛ و ذلك، لأن ملاك الوجوب في المقيد كالرقبة المؤمنة التي هي من أفراد المطلق - أعني الرقبة - يمنع عن اتصافه بالاستحباب؛ لاندكاك ملاكه في ملاك الوجوب. فالمراد بالاستحباب حينئذ:

أفضلية المقيد من سائر أفراد الواجب، دون الاستحباب المصطلح، كما هو الحال في استحباب الجماعة في الصلوات الواجبة، فإن صلاة الجماعة واجبة و استحبابها بمعنى أفضليتها من الفرادى.

و عليه: فلا مجال لترجيح التقييد على حمل الأمر في المقيد على الاستحباب، بدعوى: استلزام الثاني للمجاز دون الأول، فلا مرجّح للتقييد على صاحبه؛ لدوران الأمر بين هذين التصرفين من دون استلزام شيء منهما للمجاز.

و كيف كان؛ فحمل الأمر في المقيد على الاستحباب لا يوجب تجوّزا فيه أي: في الأمر، فإن الأمر مستعمل في الوجوب، و المقيد لا يكون مستحبا اصطلاحيا في مقابل الوجوب؛ بل بمعنى أفضل أفراد الواجب، فلا يلزم اجتماع الضدين في محل واحد؛ بل يلزم اجتماع الوجوب و الأفضلية في المقيد، نظير أفضلية صلاة الجماعة، فيكون المقيد من أفراد المطلق.

ص: 480

بالمقيد لا يكون كاشفا عن عدم ورود المطلق في مقام البيان؛ بل عن عدم كون الإطلاق الذي هو ظاهره بمعونة الحكمة، بمراد جدي، غاية الأمر: إن التصرف فيه بذلك (1) لا يوجب التجوّز فيه، مع إن (2) حمل الأمر في المقيد على الاستحباب لا يوجب تجوزا فيه، فإنه (3) في الحقيقة مستعمل في الإيجاب، فإن المقيّد إذا كان فيه ملاك الاستحباب كان من أفضل أفراد الواجب لا مستحبا فعلا، ضرورة (4): إن ملاكه لا يقتضي استحبابه إذا اجتمع مع ما يقتضي وجوبه.

نعم (5)؛ فيما إذا كان إحراز كون المطلق في مقام البيان بالأصل كان (6) من

=============

(1) أي: التصرف في المطلق بعدم كونه مرادا جديا لا يوجب التجوّز في المطلق.

(2) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من وجهي الجواب عن الإشكال المذكور، و قد عرفت كلا الوجهين، فلا حاجة إلى التكرار.

(3) تعليل لعدم التجوّز، كما أن قوله: «فإن المقيد إذا كان..» إلخ تعليل لكون الأمر مستعملا في الإيجاب، و حاصله: أن ما يكون فيه ملاك الوجوب كالرقبة المؤمنة التي تكون لفرديتها للرقبة المطلقة واجدة لملاك الوجوب يمتنع أن يتصف فعلا بالاستحباب؛ للزوم اجتماع الضدين - و هما الوجوب و الاستحباب - في شيء واحد و لو مع تعدد الحيثية فلا بد أن يراد بالاستحباب هنا: الأفضلية، فيكون عتق الرقبة المؤمنة أفضل أفراد الواجب.

(4) تعليل لعدم كون المقيد مستحبا فعلا؛ لأن ملاك الوجوب الموجود في جميع أفراد المطلق - التي منها الرقبة المؤمنة - يمنع عن تأثير ملاك الاستحباب في الاستحباب الفعلي؛ للزوم اجتماع الضدين، فاستحباب المقيد معناه أفضل أفراد الواجب، و ضمير «وجوبه» راجع إلى المقيد، كما أن ضمير استحبابه راجع إليه.

(5) يعني: يصح جواب المجيب القائل بأن التقييد ليس تصرفا في معنى اللفظ، فيرجّح تقييد المطلق على حمل أمر المقيد على الاستحباب في مورد واحد، و هو ما إذا أحرز بالأصل العقلائي كون المتكلم في مقام البيان، ثم علم بدليل المقيد، فلا مانع حينئذ من كشف دليل التقييد عن عدم كونه في مقام البيان؛ بل في مقام الإهمال أو الإجمال، فحينئذ يقدّم التقييد على حمل أمر المقيد على الاستحباب؛ إذ الأصل - و هو كون المتكلم في مقام البيان - متبع ما لم يقم ما يصلح للقرينية على خلافه، و قد قام ما يصلح للقرينية على خلاف الأصل المذكور؛ إذ دليل المقيد يكشف عن عدم كون المطلق في مقام البيان، فحينئذ يرجّح التقييد على حمل أمر المقيد على الاستحباب.

(6) جواب «إذا» يعني: «إذا كان إحراز كون المطلق» بكسر اللام أي: المتكلم «في

ص: 481

التوفيق بينهما حمله على أنه سيق في مقام الإهمال على خلاف مقتضى الأصل فافهم (1).

و لعل (2) وجه التقييد: كون ظهور إطلاق الصيغة في الإيجاب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق.

و ربّما يشكل (3): بأنه يقتضي التقييد في باب المستحبات، مع إن بناء المشهور على حمل الأمر بالمقيد فيها على تأكّد الاستحباب.

مقام البيان بالأصل، كان من «التوفيق» بين المطلق و المقيد «حمله» أي: المطلق على أنه سيق في مقام الإهمال، على خلاف الأصل العقلائي المذكور الذي يبنى عليه في إحراز كون المتكلم في مقام البيان عند الشك في ذلك».

=============

(1) لعله إشارة إلى: أن الحمل على الإهمال متجه فيما إذا كان المقيد واردا قبل وقت الحاجة، و أما إذا كان واردا بعدها فلا يصح الحمل على الإهمال؛ للزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة، أو إشارة إلى: أن اللازم مما ذكر: عدم جواز التمسك بهذا المطلق في غير مورد القيد، فيشكل الأمر في جميع المطلقات، نظرا إلى كون إحراز كون المتكلم في مقام البيان فيها غالبا بالأصل العقلائي، مع إنه قد وردت لها مقيدات بعدا.

(2) أي: لعل وجه التقييد هو شيء آخر غير ما تقدم و هو: تقديم جانب التعيين على التخيير.

توضيح ذلك: إن إطلاق الرقبة مثلا في «أعتق رقبة» لا يقتضي تعيّن فرد من الأفراد، فيكون المكلف مخيّرا بينها؛ إذ يجزى في الامتثال عتق أيّ فرد من أفراد الرقبة، بخلاف الرقبة المؤمنة في «أعتق رقبة مؤمنة» فإنه يقتضي تعيّن خصوص المؤمنة، فيدور الأمر بين التعيين و التخيير، و يحكم العقل بالأول لحصول اليقين بالبراءة به دون غيره.

و بعبارة أخرى: أنه بعد البناء على وحدة التكليف: يدور الأمر بين التصرف في ظهور إطلاق الصيغة في دليل التقييد في الوجوب التعييني، و عدم كفاية عتق غير الرقبة المؤمنة، و بين التصرف في ظهور المطلق في الإطلاق، و كفاية عتق مطلق الرقبة. و مع التنافي بين الظهورين لا بد في رفع التنافي من أخذ أقوى الظهورين و هو ظهور إطلاق الصيغة في دليل المقيد في الوجوب التعييني، و التصرف في ظهور المطلق بحمله على المقيد و تقييده به.

و النتيجة هي: وجوب عتق الرقبة المؤمنة معيّنا، و عدم كفاية عتق الرقبة الكافرة.

(3) توضيح الإشكال يتوقف على مقدمة و هي: التفاوت و الفرق بين المستحبات و الواجبات في باب المطلق و المقيد، و حمل المطلق على المقيد.

ص: 482

اللهم إلا أن يكون الغالب في هذا الباب (1) هو: تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبيّة، فتأمل.

و حاصل الفرق و التفاوت بينهما: أن المشهور بين الأصحاب هو: تخصيص حمل المطلق على المقيد بالواجبات دون المستحبات.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن حمل المطلق على المقيد يقتضي التقييد، و حمل المطلق على المقيد حتى في باب المستحبات، و التالي باطل فالمقدم مثله.

و أما بطلان التالي: فواضح؛ إذ لو لم يكن باطلا لزم الحكم باستحباب خصوص المقيد دون المطلق؛ فيما إذا ورد استحباب زيارة الإمام الحسين «عليه السلام» بنحو المطلق، ثم ورد استحبابها في أوقات خاصة كالعيدين و عرفة و نصفي رجب و شعبان، فإن مقتضى أقوائية ظهور إطلاق الصيغة في المقيد في الاستحباب التعييني من ظهور المطلق في الإطلاق هو: تقييد المطلق، و الحكم بتعين المقيد في الاستحباب، و لازم ذلك:

عدم استحباب المطلق، و هو زيارته «عليه السلام» في غير أوقات خاصّة و هو باطل؛ لأنه على خلاف المشهور، حيث إنهم لم يذهبوا إلى التقييد في المستحبات، و بنوا فيها على حمل المقيد على تأكد الاستحباب.

و أما الملازمة: فهي ثابتة؛ لأن الملاك في حمل المطلق على المقيد هو: كون دليل المقيد قرينة عرفية على التقييد من دون تفاوت بين الواجبات و المستحبات.

و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بوجهين راجعين إلى عدم ثبوت الملازمة، بعد التفاوت بين الواجبات و المستحبات:

الوجه الأول: ما أشار إليه بقوله: «اللهم إلاّ إن يكون..» إلخ.

(1) أي: في باب المستحبات، و حاصل هذا الوجه هو: التفاوت و الفرق بين الواجبات و المستحبات، و لازم هذا التفاوت و الفرق هو: أن عدم حمل المطلق على المقيد في المستحبات - مع كونه جمعا عرفيا - إنما هو لأجل ظهور أدلة المستحبات في محبوبية جميع أفرادها، و اشتمالها على الملاك مع تفاوتها غالبا في المحبوبية، و عدم اختصاص المقيد منها بالمحبوبية حتى يختص الاستحباب به، فمع وجود ملاك الاستحباب في جميع الأفراد لا بد من حمل المقيّد منها على تأكّد الاستحباب، فإذا دل دليل على استحباب مطلق الدعاء في القنوت، ثم ورد نصّ على استحباب كلمات الفرج فيه، فيحمل هذا على تأكد استحباب كلمات الفرج.

و الحاصل: أنه مع العلم باستحباب المطلق: لا وجه لحمله على المقيد؛ بل يحمل المقيد

ص: 483

أو أنه (1) كان بملاحظة التسامح في أدلة المستحبات، و كان عدم رفع اليد عن على تأكد الاستحباب، هذا بخلاف الواجبات فإنه لا ظهور لأدلتها في وجود ملاك المحبوبية في جميع أفرادها، بل الظاهر منها؛ اختصاص ملاكها بالمقيّد، فيجب حمل المطلق عليه لعدم وجود الملاك فيه.

=============

قوله: «فتأمل» لعله إشارة إلى ضعف هذا التوجيه الفارق بين الواجبات و المستحبات - لأن التفاوت بحسب المراتب موجود في غالب الواجبات أيضا - لأن الأحكام تابعة للمصالح الواقعية، و هي مختلفة ثبوتا، فاختلافها موجب لتفاوتها من حيث المحبوبية.

هذا مضافا إلى أن غلبة تفاوت مراتب المحبوبية في المستحبات لا توجب حمل المقيد على تأكّد الاستحباب؛ لأن المناط في الحمل هو الأظهرية، و كون الغلبة موجبة لظهور القيود الواقعة في المستحبات في تأكّد الاستحباب، بحيث يكون هذا الظهور أقوى من ظهور القيد في الدخل في أصل المطلوبية في حيّز المنع، و على هذا الاحتمال: فغلبة أفراد المستحبات في المحبوبية لا تكون قرينة نوعية على حمل المقيد على المحبوبية الزائدة على محبوبية المطلق؛ بل مقتضى قاعدة التقييد تعين المقيد في الاستحباب.

(1) أي: حمل المطلق في المستحبات على تأكّد استحبابه، و عدم حمل المطلق على المقيد «كان بملاحظة التسامح في أدلّة المستحبات».

و هذا هو الوجه الثاني و حاصله: أن وجه عدم حمل المطلق على المقيد في المستحبات هو صدق موضوع أخبار «من بلغ»(1) على المطلق في باب المستحبات، فإذا ورد بلوغ الثواب على زيارة الإمام الحسين «عليه السلام» صدق عليها بلوغ الثواب، فيشمله عموم أو إطلاق أخبار من بلغ، فيستحب المطلق؛ لصدق عنوان بلوغ الثواب عليه، لا لدليل استحبابه؛ إذ لو كان لذلك لزم تقييده، و الحكم بعدم استحبابه، و أن المستحب هو المقيد فقط كلزوم تقييد المطلق في الواجبات.

و الحاصل: أنه يحكم باستحباب المطلق مع وجود المقيد مسامحة من باب صدق بلوغ الثواب عليه؛ لا لدليل نفس المطلق حتى يلزم تقييده. و هذا التسامح مفقود في الواجبات، و لذا يقيّدون مطلقها بمقيدها.

ص: 484


1- مثل قول أي عبد الله «عليه السلام»: «من بلغه شيء من الثواب على شيء من خير فعله، كان له أجر ذلك، و إن كان رسول الله «صلى الله عليه و آله و سلم» ثواب الأعمال، ص 132. و عن أبي جعفر «عليه السلام» كذلك في الإقبال ص 627.

دليل استحباب المطلق بعد مجيء دليل المقيد، و حمله على تأكد استحبابه من التسامح فيها (1).

ثم إن الظاهر: إنه لا يتفاوت فيما ذكرنا (2) بين المثبتين و المنفيين بعد فرض كونهما متنافيين، كما لا يتفاوتان (3) في استظهار التنافي بينهما من استظهار اتحاد التكليف من وحدة السبب، و غيره من قرينة حال أو مقال حسبما يقتضيه النظر، فليتدبر (4).

=============

(1) أي: في أدلة المستحبات.

(2) من حمل المطلق على المقيّد بين كون المطلق و المقيد مثبتين أو منفيين.

هذا إشارة إلى ردّ من قال باختصاص النزاع ببعض الصور كالمختلفين دون المتوافقين في النفي و الإثبات؛ لأن المناط في الحمل هو التنافي بينهما المستكشف من وحدة التكليف، ففي كل مورد أحرز هذا المناط وجب الحمل من غير فرق بين موارده من المتوافقين أو المختلفين.

فالحاصل: أن حمل المطلق على المقيد لا يختص بنوع خاص منهما؛ بل يجري في جميع أنواعهما من كونهما مثبتين أو منفيين أو مختلفين.

(3) أي: المثبتين و المنفيين بمعنى: أنه لا تفاوت في حمل المطلق على المقيد في المثبتين و المنفيين بين إحراز وحدة التكليف فيهما التي هي شرط التنافي الموجب للحمل من وحدة السبب، كقوله: «إن ظاهرت فأعتق رقبة و إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة»، و بين إحراز وحدته من الإجماع مثلا.

و الحاصل: أنه إذا أحرز وحدة التكليف - سواء كان الإحراز من وحدة السبب - فإن وحدة السبب تكشف عن وحدة الحكم - أو من إجماع - كان اللازم حمل المطلق على المقيد؛ إذ مع وحدة التكليف يقع التنافي بين المطلق و المقيد؛ لأن دليل المقيد يقول بعدم كفاية المطلق و دليل المطلق يقول بكفايته، و حينئذ يلزم أحد الأمرين حمل المقيد على الاستحباب، أو حمل المطلق على المقيد و الثاني أولى على ما مرّ غير مرّة.

(4) لعلّه إشارة إلى خلاف من قال بالمنفيين بعدم حمل المطلق على المقيد و إن اتحد موجبهما، و هو كما ترى؛ إذ لا يرتفع التنافي إلا بالجمع العرفي و هو حمل المطلق على المقيد.

ص: 485

تنبيه (1): لا فرق فيما ذكر من الحمل في المتنافيين (2) بين كونهما (3) في بيان الحكم التكليفي، و في بيان الحكم الوضعي، فإذا ورد مثلا: أن البيع سبب و أن البيع الكذائي سبب (4)، و علم أن مراده (5) إما البيع على إطلاقه، أو البيع الخاص، فلا بد من التقييد لو كان ظهور دليله (6) في دخل القيد أقوى من ظهور دليل الإطلاق فيه.

كما هو (7) ليس ببعيد، ضرورة (8): تعارف ذكر المطلق و إرادة المقيد - بخلاف العكس (9) - بإلغاء القيد و حمله على أنه غالبي، أو على وجه آخر...

=============

في عدم اختصاص التقييد بالحكم التكليفي

(1) غرضه من هذا التنبيه: توسعة دائرة حمل المطلق على المقيّد، و عدم اختصاصها بالحكم التكليفي، و أن هذا البحث يعم الحكم الوضعي.

و كيف كان؛ فلا يختص حمل المطلق على المقيد بالأحكام التكليفية؛ بل يجري في الأحكام الوضعية أيضا.

(2) أي: المطلق و المقيد المتنافيين، سواء كانا مثبتين أم منفيين أم مختلفين مثل: «البيع حلال»، و «لا يحل البيع الربوي».

(3) أي: كون المطلق و المقيد المتنافيين في مقام بيان الحكم التكليفي، و في مقام بيان الحكم الوضعي.

(4) أي: البيع العربي سبب للنقل، فهذا المثال مثال للمثبتين.

(5) يعني: و علم أن مراد المتكلم واحد و هو سببية البيع المطلق أو الخاص، كي يحصل التنافي بينهما.

(6) أي: دليل التقييد، و غرضه: عدم كفاية مجرّد العلم بوحدة المراد في التقييد، بل لا بد من كون ظهور دليل التقييد أقوى من ظهور الإطلاق، و ضمير «فيه» راجع إلى الإطلاق.

(7) أي: كون ظهور دليل التقييد أقوى ليس ببعيد.

(8) تعليل لقوله: «ليس ببعيد» و حاصله: أن ذكر المطلق و إرادة المقيد منه متعارف، كما يشهد به مراجعة المحاورات العرفية على ما قيل، و هذا التعارف يؤيد دلالة المقيد، فيصير أقوى ظهورا في مدلوله من ظهور المطلق في الإطلاق.

(9) و هو ذكر المقيد و إرادة المطلق منه بإلغاء قيده، و عدم الاعتداد به، و حمله على بعض الوجوه من كونه غالبيا، أو لأنه مما يهتم به المتكلم، لدخله في تأكّد ملاك الحكم في المقيد، أو لندرته، أو غير ذلك من الوجوه الداعية إلى ذكر القيد مع عدم دخله في

ص: 486

... فإنه (1) على خلاف المتعارف.

تبصرة لا تخلو من تذكرة: و هي: إن قضية مقدمات الحكمة (2) في المطلقات تختلف حسب اختلاف المقامات فإنها (3) تارة: يكون حملها على العموم البدلي، و أخرى: على العموم الاستيعابي (4)، و ثالثة (5): على نوع خاص مما ينطبق عليه حسب موضوع الحكم. و من هنا يتضح المراد بقوله: «على وجه آخر» كما في «منتهى الدراية، ج، 3 ص 757».

=============

(1) أي: فإن العكس - و هو إرادة المطلق من المقيد بإلغاء قيده - خلاف المتعارف.

اختلاف نتيجة مقدمات الحكمة

لا ريب في أن مقدمات الحكمة توجب حمل المطلق على الإطلاق

(2) يعني: قضية مقدمات الحكمة في المطلقات تختلف باختلاف المقامات، فقد تقتضي العموم البدلي، و قد تقتضي العموم الاستيعابي و الاستغراقي، و قد تقتضي صنفا خاصا و قسما مخصوصا.

و حاصل الكلام في المقام: أن مقدمات الحكمة التي توجب حمل المطلق على الإطلاق تختلف نتيجتها باختلاف المقامات و المناسبات، فقد تكون هي حمل المطلق على العموم الاستغراقي كالبيع في قوله تعالى: أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ ، حيث إن حمله على فرد واحد لا يناسب مقام الامتنان، فمقدمات الحكمة - و هي كون المتكلم في مقام البيان، و عدم نصب قرينة على فرد خاص، و عدم متيقّن من الخطاب مع ورود الحكم مورد الامتنان - توجب حمل المطلق و هو البيع على العموم الاستغراقي؛ لأنه المناسب لتلك المقدمات.

(3) أي: فإن قضية المقدمات تارة: تكون حمل المطلقات على العموم البدلي نحو «جئني برجل»، فإن قضية المقدمات هي الحمل على الحصة المقيدة بالوحدة المفهومية، القابلة للانطباق على كل فرد من أفراد طبيعة الرجل على البدل.

(4) أي: مثل لفظ البيع المفيد للعموم الاستغراقي على ما عرفت.

(5) أي: و ثالثة تكون قضيّة المقدمات حمل المطلق على نوع خاص ينطبق المطلق عليه، كحمل الوجوب في مثل: «صلّ » على نوع خاص من أنواعه و هو الوجوب العيني التعييني النفسي؛ لاحتياج غيرها من الكفاية و التخييرية و الغيرية إلى مئونة زائدة، فالمتكلم مع كونه في مقام البيان لم ينصب قرينة على إرادة واحد من هذه الأنواع، إذ لم يقل:

«افعل أنت أو غيرك» حتى يكون الوجوب كفائيا، «أو صم أو أعتق» حتى يكون الوجوب تخييريا، أو «توضأ للصلاة» حتى يكون الواجب غيريا، فحينئذ نتيجة مقدمات

ص: 487

اقتضاء خصوص المقام، و اختلاف الآثار و الأحكام؛ كما هو الحال في سائر القرائن بلا كلام، فالحكمة (1) في إطلاق صيغة الأمر تقتضي أن يكون المراد خصوص الوجوب التعييني العيني النفسي، فإنّ إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان، و لا معنى (2) الحكمة هي كون الوجوب نوعا خاصا منه و هو الوجوب العيني التعييني النفسي، الذي ينطبق عليه المطلق.

=============

قوله: «حسب» متعلق بقوله: «اختلاف المقامات» يعني: أن اختلاف المقامات يكون لاختلاف المقتضيات و الآثار من حيث الحكم الوضعي و التكليفي، فإن حلّية البيع تناسب حلية كل بيع لا بيع مجهول عندنا معلوم عند الشارع، و لا بيع واحد على البدل، كما أن المناسب للطلب في مثل: «جئني برجل» هو الحمل على العموم البدلي، فنفس اختلاف الأحكام قرينة على ما يراد من المطلق؛ إذ لا يمكن إرادة الجامع بين أنواع الوجوب.

قوله: «و اختلاف الآثار..» إلخ عطف على «اقتضاء». أما اقتضاء خصوص المقام؛ فكصيغة الأمر، فإن إطلاق الصيغة في مقام الإيجاب يقتضي أن يكون مراد الموجب فردا معينا و هو الوجوب العيني التعييني. و أما اقتضاء الآثار و الأحكام: فكلفظ «الرقبة» الدال على موضوع حكم تكليفي في مثل: «أعتق رقبة»، و كلفظ «البيع» الدال على موضوع حكم وضعي في مثل أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ ، فالأثر الأول مع ضم مقدمات الحكمة الثلاث إلى العلم بعدم إرادة الاستغراق و إمكان إرادة الجامع البدلي يوجب حمل المطلق على العام البدلي؛ إذ لو لم يرده المتكلم لكان مخلاّ بغرضه.

و الأثر الثاني بعد ضمّ تلك المقدمات الثلاثة إلى إمكان إرادة الاستغراق، و عدم مناسبة إرادة الجامع البدلي لمقام الحكم الوضعي؛ إذ يلزم منه مجعولية بيع واحد، فإذا صدر عن واحد كان صحيحا، و إذا صدر ثانيا عنه أو عن غيره كان فاسدا، و هو كما ترى بديهي البطلان، «يوجب» حمل المطلق - أعني: البيع - على العموم الاستغراقي، و الحكم بنفوذ كل بيع صدر عن كل شخص.

و الحاصل: أن خصوصية المقامات و الأحكام التكليفية و الوضعية توجب اختلاف قضية مقدمات الحكمة كما عرفت، كاختلاف سائر القرائن، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 761».

(1) هذه نتيجة ما ذكره من اختلاف قضية المقدمات.

(2) أي: لا وجه لإرادة الشياع في الوجوب - إذ لا معنى لحمل الطلب على الجامع بين أنواع الوجوب - إذ لا جامع بينها لتضادّها و تباينها، و غرضه: إنه ليس قضية مقدمات

ص: 488

لإرادة الشياع فيه، فلا محيص عن الحمل عليه (1) فيما إذا كان بصدد البيان، كما أنّها (2) قد تقتضي العموم الاستيعابي كما في أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ ؛ إذ إرادة البيع مهملا أو مجملا ينافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان، و إرادة العموم البدلي لا يناسب المقام (3)، و لا مجال (4) لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلف - أيّ بيع كان - مع أنها (5) تحتاج إلى نصب دلالة عليها لا يكاد يفهم بدونها من الإطلاق.

و لا يصحّ قياسه (6) على ما إذا أخذ في متعلق الأمر، فإن العموم الاستيعابي لا الحكمة الحمل على الشياع في جميع الموارد؛ بل هي مختلفة باختلاف المقامات كما عرفت.

=============

(1) أي: على خصوص الوجوب التعييني.

(2) أي: كما أن الحكمة قد تقتضي العموم الاستيعابي كما في أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ ؛ لأن المفروض: كون المتكلم بصدد البيان، فحمل الكلام على الإهمال أو الإجمال ينافيه، و إرادة العموم البدلي لا تناسب الوضع الوارد في مقام الامتنان، فالحكمة تقتضي حمل المطلق - أعني البيع - على العام الاستغراقي، و نفوذ كل فرد من أفراد البيع.

(3) أي: مقام الامتناع؛ إذ المناسب له العموم الاستغراقي المفروض إمكانه، فتعيين إرادته.

(4) دفع لما يتوهم من إمكان إرادة بيع يختاره المكلف؛ بأن يكون المراد بالبيع في أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ هو البيع الذي يختاره المكلف أيّ بيع كان.

و أما وجه عدم المجال - دفعا للتوهم المزبور - فلعدم مناسبته لمقام الامتنان، إذا المناسب له حلية كل بيع بنحو العام الاستغراقي حتى يكون المكلف في سعة من أمره، فتقييده بما يختاره هو ينافي الامتنان و إن كان القيد راجعا إلى نفس المكلف. هذا مضافا إلى أنه إحالة على أمر مجهول؛ إذ لو أريد به كل ما يختاره المتعاملون فهو عموم استغراقي، و لا يناسب التعبير عنه بهذه العبارة.

و لو أريد به فرد واحد يختاره المكلف، ففيه: أن المقصود به مجمل، و لا يعلم أنه أيّ بيع، و هو مناف لما فرضناه من كونه في مقام البيان.

(5) أي: مع إن إرادة بيع مقيد بما اختاره المكلف تحتاج إلى دلالة عليها في مقام الإثبات؛ إذ لا يكاد يفهم البيع الذي اختاره المكلف بدون دلالة عليه، فإن الإطلاق الناشئ عن مقدمات الحكمة قاصر عن إثباته و الدلالة عليه.

(6) أي: قياس مثل: أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ مما يقع المطلق عقيب غير الأمر بالمطلق الواقع

ص: 489

يكاد يمكن إرادته، و إرادة غير العموم البدلي (1)، و إن كانت ممكنة؛ إلا إنّها منافية للحكمة، و كون (2) المطلق بصدد البيان كما لا يخفى.

عقيب الأمر مثل: «جئني برجل»، فلا بد أولا: من توضيح القياس، و ثانيا: من بيان عدم صحة القياس.

=============

أما وجه المقايسة: فلأن كل منهما مطلق، فكل معنى يراد من أحدهما لا بد أن يراد من الآخر، و من المعلوم: أنه لا يراد من «جئني بالرجل» العموم الاستغراقي فكذلك في أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ ، فالنتيجة: أن المطلق سواء كان في حيّز الحكم التكليفي أم الوضعي لا يدل على العموم الاستيعابي أصلا.

و أما بيان فساد المقايسة الذي أشار إليه بقوله - «فإن العموم الاستيعابي» - فلأنه قياس مع الفارق، و القياس مع الفارق يكون باطلا. و حاصل الفرق: أن إرادة العموم الاستغراقي من مطلق في المقيس عليه ممتنعة؛ لكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق، إذ لو كان المأمور به في قوله: «جئني برجل» مجيء جميع أفراد هذه الطبيعة بنحو العام الاستغراقي لزم التكليف بغير المقدور و هو قبيح لا يصدر من العاقل فضلا عن الحكيم، فلا بد من إرادة العام البدلي منه لئلا يلزم التكليف بالمحال.

و هذا بخلاف المطلق الواقع عقيب الحكم الوضعي كالبيع في الآية الكريمة، فإن مقتضى مقدمات الحكمة مع مناسبة الامتنان و إمكان إرادة العموم الاستغراقي منه هو العموم الاستغراقي، فالقياس المزبور نظرا إلى الفرق المذكور قياس فاسد.

(1) من المطلق الواقع عقيب الحكم التكليفي كفرد معيّن واقعا مبهم ظاهرا و إن كانت ممكنة ذاتا لكنها ممتنعة عرضا؛ لأنها منافية للحكمة؛ لعدم نصب قرينة على إرادة غير العموم البدلي أي: إرادة فرد معيّن واقعا مبهم ظاهرا.

(2) عطف على «الحكمة» و مفسّر لها، و المطلق - بكسر اللام - هو المتكلم.

و تركنا ما في المقام من طول الكلام رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخّص البحث في أمور:

1 - محل النزاع في حمل المطلق على المقيد هو: ما إذا كان بينهما تناف، و الضابط في التنافي بينهما: أن لا يمكن الجمع بينهما مع حفظ أصالة الظهور فيهما.

و التنافي بهذا المعنى إنما هو فيما إذا كان الحكم واحدا نحو: «إن ظاهرت فأعتق رقبة، و إن ظاهرت فلا تعتق رقبة كافرة»، لأن صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب، و صيغة النهي

ص: 490

ظاهرة في الحرمة، فالأولى تدل على: وجوب عتق مطلق الرقبة مؤمنة كانت أم كافرة.

و الثانية: تدل على: حرمة عتق الرقبة الكافرة، فلا يمكن الجمع بين وجوب عتق الرقبة و حرمة عتقها.

ثم لا خلاف في حمل المطلق على المقيد فيما إذا كانا مختلفين في الإيجاب و السلب مثل المثال المذكور.

و أما إذا كانا متوافقين - نحو: «أعتق رقبة، و أعتق رقبة مؤمنة» - فالمشهور هو حمل المطلق على المقيد.

2 - الإشكال على المشهور بإمكان الجمع بوجه آخر - و هو حمل الأمر في المقيد على الاستحباب و أفضل الأفراد، مع بقاء المطلق على إطلاقه مدفوع: بأن جمع المشهور أولى من الجمع الآخر؛ لأن حمل المطلق ليس تصرّفا في معنى اللفظ، بل تصرف في وجه من وجوه المعنى، هذا بخلاف حمل الأمر في المقيد على الاستحباب، فإنه تصرّف في معنى صيغة الأمر؛ لأنها حقيقة في الوجوب.

ثم أورد المصنف على دفع هذا الإشكال عن المشهور بوجهين:

أحدهما: أن التقييد في حمل المطلق على المقيد أيضا تصرّف في المعنى لا في وجهه؛ إذ التقييد على خلاف ظاهر المطلق في الإطلاق، كما أن حمل أمر المقيد على الاستحباب خلاف ظاهر الأمر في الوجوب.

و ثانيهما: أن حمل الأمر في المقيد على الاستحباب لا يستلزم المجاز؛ بل المقيد واجب كالمطلق، غاية الأمر: المقيد أفضل الأفراد، و ليس استحبابه استحبابا اصطلاحيا في مقابل الوجوب الاصطلاحي؛ بل هو أفضل أفراد الواجب، فلا يلزم التجوّز لأنه قد استعمل في الوجوب.

3 - يصح جواب المجيب القائل بأن التقييد ليس تصرّفا في معنى اللفظ - فيرجّح تقييد المطلق على حمل أمر المقيد على الاستحباب - في مورد واحد و هو ما إذا أحرز بالأصل العقلائي كون المتكلم في مقام البيان، ثم علم بدليل المقيد، فدليل التقييد حينئذ كاشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان، فيقدم التقييد على حمل أمر المقيد على الاستحباب؛ إذ الأصل كون المتكلم في مقام البيان يكون متبعا ما لم يقم ما يصلح للقرينية على خلافه، و قد قام ما يصلح للقرينية على خلافه.

«فافهم» لعله إشارة إلى أن الحمل على الإهمال متجه فيما إذا كان المقيد واردا قبل

ص: 491

وقت الحاجة. و أما إذا كان واردا بعده فلا يصح الحمل على الإهمال، للزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة و هو قبيح.

و كيف كان؛ فلعلّ وجه التقييد أن ظهور إطلاق الصيغة في الوجوب أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق فلا بد من تقديم ما هو الأقوى و التصرف في ظهور المطلق في الإطلاق بحمله على المقيد.

4 - الإشكال بأن حمل المطلق على المقيد يستدعي حمل المطلق على المقيد في المستحبات، و هو باطل قطعا لاستلزامه استحباب المقيد دون المطلق فيلزم استحباب زيارة الإمام الحسين «عليه السلام» في يوم عرفة و نصفي رجب و شعبان، دون غير تلك الأيام و لم يقل به أحد؛ مدفوع بأحد وجهين:

الأول: هو التفاوت و الفرق بين الواجبات و المستحبات.

و حاصل الفرق: أن عدم حمل المطلق على المقيد في المستحبات مع كونه جمعا عرفيا إنما هو لأجل ظهور أدلة المستحبات في محبوبية جميع الأفراد فيها، و عدم اختصاص المقيد بالمحبوبية حتى يختص الاستحباب به.

هذا بخلاف الواجبات فإنه لا ظهور لأدلتها في وجود ملاك المحبوبية في جميع أفرادها؛ بل الظاهر منها: اختصاص الملاك بالمقيد، فيجب حمل المطلق عليه لعدم وجود الملاك في المطلق.

«فتأمل» لعلّه إشارة إلى ضعف هذا التوجيه؛ لأن التفاوت بحسب المراتب موجود في الواجبات أيضا.

الثاني: أن وجه عدم حمل المطلق على المقيد في المستحبات هو صدق موضوع أخبار «من بلغ» على المطلق في باب المستحبات، فيكون المطلق مستحبا لأجل أخبار «من بلغ» لا لدليل استحبابه حتى يقال: إن مقتضى حمل المطلق على المقيد عدم استحباب المطلق.

5 - لا فرق فيما ذكر من حمل المطلق على المقيد بين الحكم التكليفي و الحكم الوضعي، فكما يحمل المطلق على المقيد في الحكم التكليفي فكذلك في الحكم الوضعي، فإذا ورد في الدليل: «البيع سبب للنقل»، ثم ورد: «البيع العربي سبب للنقل»، فمقتضى حمل المطلق على المقيد هو أن السبب للنقل هو البيع العربي لا مطلق البيع.

6 - اختلاف نتيجة مقدمات الحكمة باختلاف المقامات و المناسبات، فقد تكون

ص: 492

نتيجتها حمل المطلق على العموم البدلي نحو: «جئني برجل»؛ إذ قضية المقدمات هي الحمل على الحصة المقيدة بالوحدة المفهومية القابلة للانطباق على كل فرد من أفراد طبيعة الرجل على البدل، و قد تكون نتيجتها حمل المطلق على العموم الاستغراقي كالبيع في أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ ، حيث إن حمله على فرد واحد لا يناسب مقام الامتنان، فمقدمات الحكمة مع ورود الحكم مورد الامتنان توجب حمل المطلق على العموم الاستغراقي.

و قد تكون نتيجتها حمل المطلق على نوع خاص من الحكم؛ كالوجوب التعييني العيني النفسي في مقابل الوجوب التخييري الكفائي الغيري؛ لأن كلا من الوجوب التخييري و الكفائي و الغيري يحتاج إلى بيان زائد.

7 - لا مجال لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلف أيّ بيع كان من قوله تعالى: أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ ؛ لعدم مناسبة ما اختاره المكلف لمقام الامتنان.

و قياسه على ما أخذ في متعلق الأمر نحو: «جئني برجل» قياس مع الفارق، فيكون باطلا.

و حاصل الفرق: أن إرادة العموم الاستغراقي من المطلق في نحو: «جئني برجل» ممتنعة لاستلزامه التكليف بما لا يطاق؛ إذ لا يمكن الإتيان بجميع أفراد طبيعة الرجل، هذا بخلاف المطلق الواقع عقيب الحكم الوضعي في نحو: أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ ؛ إذ مقتضى مقدمات الحكمة مع مناسبة الامتنان و إمكان إرادة العموم الاستغراقي هو العموم الاستغراقي.

8 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - حمل المطلق على المقيد فيما إذا كانا مختلفين بالإثبات و النفي.

2 - عدم اختصاص حمل المطلق على المقيد بالأحكام التكليفية.

3 - اختلاف نتيجة مقدمات الحكمة لأجل اختلاف المقامات و المناسبات.

ص: 493

ص: 494

فصل: في المجمل و المبين

و الظاهر (1): أن المراد من المبين - في موارد إطلاقه - الكلام الذي له ظاهر، و يكون بحسب متفاهم العرف قالبا لخصوص معنى، و المجمل بخلافه، فما ليس له ظهور مجمل و إن علم بقرينة خارجيّة ما أريد منه (2)، كما أنّ ما له الظهور مبين و إن علم

=============

فصل في المجمل و المبيّن

فصل في المجمل و المبيّن(1) إشارة إلى بيان ما هو محل الكلام من المجمل و المبيّن. و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي بيان أمرين.

الأول: أنّ المجمل و المبيّن مستعملان في معناهما اللغوي و ليس للأصوليين فيهما اصطلاح خاص، فالمجمل هو ما لم تتضح دلالته و المبيّن ما تتضح دلالته.

الثاني: المجمل تارة: يكون في الكلام بأن لا يكون له ظهور في معنى. و أخرى:

يكون في المراد مع ظهور الكلام في معنى مع العلم بعدم إرادة ظاهره؛ كالعام الذي علم إجمالا بتخصيصه بمخصص مع عدم العلم بذلك المخصص تفصيلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنّ المراد بالمجمل ما يكون وصفا للكلام لا المراد فالمجمل هو الكلام الذي ليس له ظاهر و إن كان المراد منه معلوما، و المبيّن هو الكلام الذي له ظاهر و إن علم بعدم إرادة ظاهره مثل و جٰاءَ رَبُّكَ (1) فإنه مأول بتقدير مضاف أي:

«جاء أمر ربّك».(2) أي: من الكلام و مورد الاتصاف بالمجمل و المبيّن هو الكلام لا المراد؛ خلافا لما في التقريرات من أن المتصف بهما هو المراد لا الكلام، فالمبين عند الشيخ الأنصاري - على ما في التقريرات(2) - هو الواضح المراد و إن لم يكن له ظهور، كما إذا فرض إجمال صيغة الأمر، و عدم ظهوره في الوجوب؛ لكن علم بالقرينة إرادة الندب منها، و المجمل هو: ما لم يتضح المراد منه و إن كان له ظهور. «و إن» في قوله: «و إن علم» وصلية.

ص: 495


1- الفجر: 22.
2- مطارح الأنظار، ج 2، ص 296.

بالقرينة الخارجية أنّه ما أريد ظهوره و أنّه مأوّل، و لكل منهما في الآيات (1) و الروايات (2) و إن كان أفراد كثيرة لا تكاد تخفى؛ إلا أن لهما أفرادا مشتبهة وقعت محلّ البحث و الكلام للأعلام في أنّها من أفراد أيّهما؟ كآية السرقة (3)، و مثل:

=============

و كيف كان؛ فقوله: «و إن علم بقرينة خارجية ما أريد منه» اعتراض على ما في التقريرات حيث جعل المتصف بالمجمل و المبين المراد لا الكلام.

(1) كقوله تعالى: وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مٰا فَرَضْتُمْ إِلاّٰ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكٰاحِ (1) حيث إنه قيل:

يحتمل أن يكون المراد بالمعطوف أعني: أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي الزوج، فيكون العفو عمّا في ذمّة الزوجة إذا قبضت المهر، و أن يكون ولي الزوجة فيكون المعفو عنه الزوج بإبراء ذمّته من المهر.

(2) مثل ما عن عقيل بن أبي طالب: «أمرني معاوية بلعن علي «عليه السلام» ألا فالعنوه»(2)، حيث إن الضمير فيه مجمل؛ لتردّد مرجعه بين معاوية و علي «عليه السلام».

و مثل قول بعض أصحابنا حين سئل عن الخليفة بعد النبي «صلى الله عليه و آله»: «من ابنته في بيته»، حيث إن كلمة «من» الموصولة مجملة، لتردّد المراد منها بين النبي «صلى الله عليه و آله» و أبي بكر، فالضمير في بيته على الأول راجع إلى مولانا علي بن أبي طالب «عليه السلام» يعني: الخليفة من بنت النبي في بيته و هو علي «عليه السلام»، و على الثاني: راجع إلى النبي «صلى الله عليه و آله» يعني: الخليفة من ابنته في بيت النبي «صلى الله عليه و آله» و هو أبو بكر. و كيف كان؛ فالرواية مجملة.

(3) و هي قوله تعالى: وَ اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا المائدة: 38، فهي مجملة باعتبار اليد، و قيل: باعتبار القطع أيضا. فالإجمال في هذه الآية يمكن أن يكون بالنسبة إلى كل من اليد و القطع.

و احتج القائل بالإجمال: باعتبار اليد، بأن اليد تطلق تارة: على الأنامل و الأصابع،

ص: 496


1- البقرة: 237.
2- شرح نهج البلاغة؛ ج 4، ص 58، و ذلك عند أمر المغيرة بن شعبة [و هو مثل معاوية] حجر بن عدي فقام و قال: «إن أميركم أمرني أن ألعن عليا فالعنوه». فقال أهل الكوفة: لعنه الله. و أعاد الضمير إلى المغيرة بالنية و القصد. و ورد هذا كذلك عند ما أمر محمد - أو أحمد بن يوسف أخو الحجاج - و هو أمير اليمن و قد طلب من حجر بن قيس المدري أن يلعن عليا «عليه السلام». المستدرك على الصحيحين، ج 2، ص 390، ح 3366 /الثقات، ج 1، ص 288، رقم 273.

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ (1) و أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعٰامِ (2) مما أضيف التحريم و التحليل إلى الأعيان (3)، و مثل «لا صلاة إلا بطهور» (4) و لا يذهب عليك (5): إن و أخرى: على ما ينتهي إلى المرفق، و ثالثة: على العضو بكماله و تمامه، و لا قرينة في الآية على المراد.

=============

و احتج القائل بالإجمال: باعتبار القطع بأنه قد يطلق على الإبانة و قطع الاتصال.

و قد يطلق على القطع في الجملة؛ كما إذا قطع عضوا و صار معلقا بالجلد، و قد يطلق على الجرح كما يقال لمن جرح يده بالسكين: أنه قطع يده، كما جاء في سورة يوسف «عليه السلام»: 31 فَلَمّٰا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ يعني: جرحن أيديهن. و الآية الشريفة ليست ظاهرة في شيء من هذه المعاني، فتعدّ من المجملات.

و أما القائل بعدم إجمال الآية أصلا لا باعتبار اليد و لا باعتبار القطع: فيقول: إن المتبادر من لفظ اليد عند الإطلاق: هو جملة العضو إلى المنكب، فيكون حقيقة فيه، فلا إجمال، و يتبادر أيضا من لفظ القطع: إبانة الشيء عما كان متصلا به و هو ظاهر فيه، فلا إجمال أصلا.

(1) النساء: 23.

(2) المائدة: 1.

(3) فإن الأحكام لا تتعلق بالأعيان الخارجية؛ بل تتعلق بالأفعال الصادرة من المكلفين فلا بد من تقدير الفعل. ثم الفعل المتعلق بالأم مجمل كالنظر و اللمس و التقبيل، و كذا الفعل المتعلق ببهيمة الأنعام مجمل؛ كالبيع و الأكل و النقل من مكان إلى آخر، و لكن عدّ هذا من المجملات مجرد فرض؛ لأن المراد هو: تحريم الفعل المقصود من ذلك؛ كالوطء في الموطوء، و الأكل في المأكول، و الشرب في المشروب، و هذا ما تقتضيه مناسبة الحكم للموضوع، فينعقد للكلام ظهور عرفي فلا إجمال فيه؛ بل هو متضح الدلالة.

(4) و إجمال هذا التركيب مبنيّ على القول بوضع ألفاظ العبادات للأعم؛ لأنه حينئذ يدور الأمر بين الصحة و الكمال، و لا قرينة في الكلام لأحدهما، فلا محالة يصير مجملا. و أما على القول بوضعها للصحيح: فلا إجمال؛ لأن الظاهر حينئذ نفي حقيقة الصلاة إذ فاقد الطهور ليس بصلاة حقيقة.

(5) أي: لا يخفى عليك: أن الإجمال راجع إلى عدم ظهور للكلام، و البيان إلى ظهور له، و لا ريب: أن الظهور و عدمه من الأمور الوجدانية التي لا يرجع فيها إلا إلى الوجدان، نظير الجوع و العطش و الشبع، فلا حاجة في إثبات الإجمال و البيان إلى إقامة البرهان، و تجشّم الاستدلال.

ص: 497

إثبات الإجمال أو البيان لا يكاد يكون بالبرهان، لما عرفت (1) من: أن ملاكهما أن يكون للكلام ظهور، و يكون قالبا لمعنى، و هو (2) مما يظهر بمراجعة الوجدان، فتأمّل (3).

ثم لا يخفى: أنهما وصفان اضافيان (4)، ربّما يكون مجملا عند واحد، لعدم

=============

(1) يعني: في أول الفصل حيث قال: «و الظاهر: أن المراد من المبيّن في موارد إطلاقه الكلام الذي له ظاهر».

(2) أي: الملاك - و هو الظهور - يظهر بمراجعة الوجدان، فبعد المراجعة إليه يظهر: أن للكلام ظهور أولا.

(3) لعله إشارة إلى: أن الغرض من إقامة البرهان: التنبيه على ما هو ثابت بالوجدان، فيكون البرهان طريقا إلى الأمر الوجداني الذي هو برهان حقيقة، فلا تنافي حينئذ بين كونهما من الوجدانيات، و بين إقامة البرهان على إثباتهما لتنبيه النفس على كونهما من الوجدانيات.

(4) الصفات على قسمين:

الصفات الحقيقية: التي لا تتغير بتغيّر الإضافات و الاعتبارات.

و الصفات الإضافية: التي تتغير بالإضافات و الاعتبارات.

يقول المصنف: إن المجمل و المبيّن ليسا من القسم الأول - بأن يكون اللفظ مجملا عند الجميع أو مبيّنا كذلك - بل هما من القسم الثاني، فيمكن أن يكون لفظ أو كلام مبينا عند شخص لعلمه بالوضع، و مجملا عند غيره لعدم علمه بالوضع أو علمه بالوضع؛ مع الظفر بقرينة مانعة عن الأخذ بمعناه، فحينئذ يتصف لفظ أو كلام بالإجمال عند شخص و بالبيان عند غيره، فيختلف الإجمال و البيان بحسب الأنظار و الأشخاص، فهما من الأمور الإضافية لا الأوصاف الحقيقية. إلاّ إن ما أفاده المصنف من كونهما من الأمور الإضافية ليس في محله؛ بل خطأ جدا، و ذلك لأن الجهل بالوضع و العلم به لا يوجبان الاختلاف في معنى الإجمال و البيان؛ فجهل شخص بمعنى لفظ و عدم علمه بوضعه له لا يوجب كونه من المجمل؛ و إلا لزم أن تكون اللغات العربية مجملة عند الفرس و بالعكس، مع إن الأمر ليس كذلك.

لا يقال: لما ذا لم يهتم المصنف بالمجمل و المبين ؟ حيث لم يضع لهما مقصدا كما وضعه لغيرهما كالعام و الخاص و المطلق و المقيد.

فإنه يقال: إن وجه ذلك كون مباحثهما صغروية و ليست بكبروية، كما إن مباحث العام و الخاص كبروية مثل أن العام بعد التخصيص هل حجة في الباقي أم لا؟ أو إذا ورد مطلق و مقيد متنافيين فهل يجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد أو بحمل المقيد على

ص: 498

معرفته بالوضع، أو لتصادم ظهوره بما حفّ به لديه، و مبيّنا لدى الآخر، لمعرفته و عدم التصادم بنظره، فلا يهمنا التعرض لموارد الخلاف و الكلام و النقض و الإبرام في المقام، و على الله التوكل و به الاعتصام.

الاستحباب أم لا؟ فهذه المباحث كبروية، فيجب الاهتمام بها بأن يبحث عنها في علم الأصول مشروحا مفصلا.

=============

بخلاف مباحث المجمل و المبيّن فإنها صغروية كالبحث عن آية السرقة، و عن آيات التحريم و التحليل بأنها مجملة أو ليست بمجملة، و المباحث الصغروية لا ينبغي أن يبحث عنها في علم الأصول. و لهذا قال المصنف: «فلا يهمّنا التعرّض لموارد الخلاف..» إلخ.

هذا تمام الكلام في المجمل و المبيّن.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخّص البحث في أمور:

1 - المجمل و المبيّن مستعملان في معناهما اللغوي، و ليس للأصوليين فيهما اصطلاح خاص، فالمجمل: ما لم تتضح دلالته، و المبيّن ما تتضح دلالته. ثم محل الكلام - على ما يظهر من المصنف - ما إذا كان كل منهما وصفا للكلام لا المراد، فالمجمل هو الكلام الذي ليس له ظاهر، و المبيّن هو الكلام الذي له ظاهر.

2 - المجمل في الآيات كقوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكٰاحِ (1)؛ لتردّده بين الزوج و الولي.

و في الروايات: مثل ما عن عقيل: أمرني معاوية بلعن علي «عليه السلام» ألا فالعنوه لتردّد مرجع الضمير بين معاوية و علي «عليه السلام».

3 - لهما أفراد مشتبهة وقعت محل البحث و الكلام في أنّها من أيّهما؟ مثل آية السرقة و آيات التحريم و التحليل. و مثل: «لا صلاة إلا بطهور»، حيث قيل: بأن آية السرقة مجملة باعتبار اليد و القطع؛ لأن اليد تطلق على الأنامل و الأصابع، و على ما ينتهي إلى المرفق. و على العضو بتمامه و كماله. و القطع يطلق على الإبانة و الانفصال، و على القطع في الجملة و إن لم يحصل الانفصال، و على الجرح و آية التحريم و التحليل مجملتان؛ لتردّد ما يقدر من الفعل فيهما بين الأفعال المتعددة.

و مثل قوله: «لا صلاة إلا بطهور» مجمل؛ لتردّد المنفي فيه بين الصحة و الكمال.

4 - أن الإجمال و البيان من الأوصاف الإضافية لا الأوصاف الحقيقية؛ إذ يختلف

ص: 499


1- البقرة: 237.

الإجمال و البيان بحسب الأنظار و الأشخاص.

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - المبيّن هو: الكلام الذي له ظاهر، و المجمل هو: الكلام الذي ليس له ظاهر.

2 - المتصف بهما هو الكلام لا المراد.

3 - إثباتهما لا يكاد يكون بالبرهان؛ بل بمراجعة الوجدان.

4 - هما وصفان إضافيان عند المصنف.

و قد وقع الفراغ من تاليف شرح الجزء الأول من «كفاية الأصول» تحت عنوان «دروس في الكفاية» في سورية - دمشق - جوار عقيلة بني هاشم السيدة زينب «عليها السلام» - في شهر صفر الخير سنة 1422 ه.

و سيتلوه شرح الجزء الثاني من كتاب «كفاية الأصول» إن شاء الله تعالى.

و الحمد لله رب العالمين و صلى الله على محمد و آله المعصومين

محمدي البامياني

ص: 500

فهرس الجزء الثالث

تنبيهات مسألة اجتماع الأمر و النهي 5

الأقوال في التنبيه الأول على القول بالامتناع 7

جواب المصنف عن توهم وجوب المقدمة المحرمة 11

الدليل على وجوب الخروج بلا جريان حكم المعصية عليه 13

الجواب عما في التقريرات للشيخ من كون الخروج المضطر إليه مأمورا به 16

الاضطرار إلى شرب الخمر بسوء الاختيار لا يوجب رفع حرمة الشرب 19

الامتناع شرعا كالممتنع عقلا 23

إشكال المصنف على صاحب الفصول 26

جواب صاحب الكفاية عن القول بكون الخروج مأمورا به و منهيا عنه 29

استدلال الأشاعرة على الجبر بقاعدة أن الشيء ما لم يجب لم يوجد 33

استدلال القوانين على وجوب الخروج و حرمته معا 34

في ثمرة الأقوال 35

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 40

فساد ما نسب إلى المحقق القمّي من كون الخروج مأمورا به و منهيا عنه 45

رأي المصنف «قدس سره» في مسألة الاجتماع 46

الكلام في صغروية مسألة الاجتماع لكبرى التزاحم و التعارض 47

دفع إشكال ترجيح النهي على الأمر 50

في مرجحات النهي على الأمر 54

أولوية دفع المفسدة من جلب المنفعة 60

ص: 501

ردّ المصنف على الأولوية بوجوه 62

الاستقراء لترجيح النهي على الأمر 67

إشكال المصنف على الاستقراء 68

إلحاق تعدد الإضافات بتعدد الجهات 72

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 74

فصل في دلالة النهي على الفساد 81

في شمول ملاك البحث للنهي التنزيهي 84

في تعيين المراد بالعبادة في المسألة 88

في تحرير محل النزاع و تعيين المراد من المعاملة 90

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 92

في بيان معنى الصحة و الفساد 95

في تقسيم الأمر إلى أقسام 97

في الفرق بين نظر الفقيه و نظر المتكلم في الصحة و الفساد 98

هل الصحة و الفساد حكمان شرعيان أم اعتباريان ؟ 99

في تحقيق حال الأصل في المسألة 105

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 106

في أقسام تعلق النهي بالعبادة 109

حكم النهي المتعلق بالجزء أو الشرط أو الوصف 113

المقام الأوّل في العبادات 115

الإشكال في دلالة النهي على الفساد 117

في جواب المصنف عن الإشكال المذكور 118

في عدم اقتضاء النهي الفساد في المعاملات 121

الاستدلال بالرواية على دلالة النهي على الفساد 124

ص: 502

في دلالة النهي على الصحة في المعاملات 126

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 130

في بحث المفاهيم 139

في الفرق بين المخالف و الموافق 140

المفهوم من صفات المدلول عند المصنف 143

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 145

في مفهوم الشرط 147

الاستدلال على مفهوم الشرط بمقدمات الحكمة و الجواب عنه 154

جواب المصنف عن قياس إطلاق الشرط بإطلاق صيغة الأمر 159

أدلة المنكرين للمفهوم 163

تقريب الاستدلال على عدم المفهوم بقوله تعالى: وَ لاٰ تُكْرِهُوا فَتَيٰاتِكُمْ عَلَى اَلْبِغٰاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً 166

دفع الإشكال عن كون المناط في المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم 173

في تعدد الشرط و وحدة الجزاء 179

في تداخل الأسباب أو المسببات و عدمه 185

الأقوال في التداخل و عدمه 186

عدم لزوم اجتماع المثلين على القول بعدم التداخل 188

الإشكال في الوجوه الثلاثة لحلّ التعارض بين منطوق شرط و مفهوم الآخر 192

ردّ المصنف على القول بأن التداخل مبني على كون الأسباب الشرعية المعرفات لا المؤثرات 196

عدم صحة التفصيل بين اختلاف الشروط بحسب الأجناس و عدمه 199

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 202

في مفهوم الوصف و تحرير محل الكلام 215

ص: 503

حاصل الجواب عن الاستدلال على عدم المفهوم 218

جواب المصنف عن الاستدلال بالآية على عدم مفهوم الوصف 221

في تحرير محل النزاع في مفهوم الوصف 222

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 225

في مفهوم الغاية 229

في دخول الغاية في المغيّا و عدمه 233

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 235

في مفهوم الحصر 237

الإشكال على الاستدلال بكلمة الإخلاص على التوحيد 240

في سائر الأدوات الدالة على الحصر 243

أقسام الإضراب 244

في مفهوم اللقب و العدد 249

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 251

في العام و الخاص و تعريفهما 257

في أقسام العموم 263

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 264

في ألفاظ العموم 267

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 271

حول النكرة في سياق النفي أو النهي 273

إفادة المحلّى باللام العموم 277

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 279

في حجية العام المخصص في الباقي 281

التحقيق في الجواب عن استدلال النافي 284

ص: 504

حاصل الجواب المصنف عن التقريرات 289

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 291

كون الخاص مجملا مع دورانه بين الأقل و الأكثر 295

الجدول مع الأمثلة و الأحكام 296

الكلام في الشبهة المصداقية 302

الفرق بين المخصص اللفظي و اللّبي 305

استصحاب العدم الأزليّ 311

وهم و إزاحة 316

تعارض الروايات في صحة الإحرام قبل الميقات 318

وجوه تصحيح الصوم في السفر و الإحرام قبل الميقات 323

في دوران الأمر بين التخصيص و التخصّص 327

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 330

في جواز العمل بالعام قبل الفحص 337

الفرق بين الفحص هنا و بينه في الأصول العملية 342

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 343

الخطابات الشفاهية 347

لزوم المحاذير عن تعلق البعث و الزجر بالمعدومين 350

تصحيح توجه خطاباته تعالى لغير الحاضرين 357

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 360

ثمرة القول بعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين 363

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 371

في تعقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده 375

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 379

ص: 505

تخصيص العام بالمفهوم المخالف 381

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 386

الاستثناء المتعقب بجمل متعددة 389

استعمال أداة الاستثناء في الإخراج في جميع الموارد 392

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 394

جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد 397

جواب المصنف عن الاستدلال بعدم جواز التخصيص 399

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 403

في دوران الأمر بين النسخ و التخصيص 405

ترجيح احتمال التخصيص لأجل كثرة التخصيص 408

في النسخ 411

البداء في التكوينيات 415

في بيان الثمرة بين التخصيص و النسخ 418

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 420

المطلق و المقيد 425

الألفاظ التي يطلق عليها المطلق 427

المفرد المعرف باللام 434

الجمع المحلّى باللام 440

النكرة مثل «رجل» 442

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 449

في مقدمات الحكمة 455

الأصل كون المتكلم في مقام البيان 463

لا إطلاق للمطلق فيما كان له الانصراف 465

ص: 506

إذا كان للمطلق جهات عديدة 470

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 472

في حمل المطلق على المقيد 477

في عدم اختصاص التقييد بالحكم التكليفي 486

في اختلاف نتيجة مقدمات الحكمة 487

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 490

في المجمل و المبيّن 495

المجمل و المبيّن من الصفات الإضافية 498

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 499

الفهرس 501

ص: 507

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.