دروس في الکفایة المجلد 2

هویة الکتاب

دروس في الکفایة

شارح: محمدي بامیاني، غلامعلي

كاتب: آخوند خراساني، محمدکاظم بن حسین

تعداد جلد: 7

لسان: العربية

الناشر: دار المصطفی (ص) لاحياء التراث - بیروت لبنان

سنة النشر: 1430 هجری قمری|2009 میلادی

رمز الكونغرس: 1430 /آ3 ک7028 159/8 BP

موضوع: اصول

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة المقصد الاول

فصل في مقدمة الواجب (1)

و قبل الخوص في المقصود، ينبغي رسم أمور:

الأول: البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته
اشارة

الظاهر: أن المهم المبحوث عنه في هذه المسألة: البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته، فتكون مسألة أصولية.

=============

بيان ما هو محل الكلام في مقدمة الواجب

(1) قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام في المقام فنقول: إن المراد بالمقدمة هنا ليس مطلق ما لا بد منه في وجود الشيء؛ حتى تشمل عدم الأضداد المقارن لوجود الشيء المطلوب، بل المراد منها ما وقع في طريق وجود الشيء، و ما كان متقدما عليه؛ سواء كان علة تامة أو ناقصة بتمام أقسامها من الشرط، و عدم المانع و غيرهما، فإذا تعلق الأمر الوجوبي بما يحتاج و يتوقف وجوده على غيره واحدا كان ذلك الغير أم متعددا يسمى ذلك الغير مقدمة.

فيقع الكلام في أنه هل هناك ملازمة بين وجوب الشيء و مطلوبيته، و بين وجوب ذلك الغير و مطلوبيته بحسب الواقع و مقام الثبوت أم لا؟ و الحاكم بذلك هو العقل، فتجب المقدمة بعد حكم العقل بالملازمة؛ إلاّ إن المراد بوجوبها ليس هو الوجوب العقلي بمعنى: لا بدّية إتيان المقدمة؛ لأن ثبوت وجوبها بهذا المعنى ضروري لا مجال للنزاع فيه، بل المراد من وجوب المقدمة في المقام: هو الوجوب الغيري التبعي؛ بمعنى: أن الآمر لو كان ملتفتا إلى نفس المقدمة، لأوجبها كما أوجب ذي المقدمة، فيكون المراد بالملازمة هي: الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته بهذا المعنى.

إذا عرفت ما هو محل الكلام فاعلم: أن الغرض من عقد هذا الأمر الأول هو: إثبات كون هذه المسألة من المسائل الأصولية، لا الفقهية، و لا الكلامية و لا المبادئ الأحكامية، و لا التصديقية، و فرض هذه المسألة بنحو تكون من المسائل الفقهية أو الكلامية أو غيرهما - و إن كان ممكنا - إلاّ إن المصنف يقول: إنها من المسائل الأصولية؛ لانطباق ضابط المسألة الأصولية عليها. و هو وقوعها في طريق استنباط الحكم الكلي الفرعي؛ مثل: أن يفرض البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها، فإنها بذلك تكون

ص: 5

لا عن نفس وجوبها (1)، كما هو المتوهّم من بعض العناوين، كي تكون فرعية؛ و ذلك (2) لوضوح: إن البحث كذلك لا يناسب الأصولي.

=============

من المسائل الأصولية؛ لأن نتيجتها تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي و هو: وجوب المقدمة المعينة كالوضوء مثلا.

و أما كونها من المسائل الفقهية: فبأن يبحث فيها عن نفس وجوب المقدمة.

و أما كونها من المسائل الكلامية: فلأن البحث فيها عقلي، كما أن البحث في علم الكلام كذلك؛ فيكون من مسائل علم الكلام.

و أما كونها من المبادئ الأحكامية: فلأن المراد من تلك المبادئ هو حالات الأحكام الشرعية، و من المعلوم: أن استلزام وجوب ذي المقدمة لوجوب مقدمته من الحالات العارضة للأحكام.

و أما كونها من المبادئ التصديقية: فلأن موضوع علم الأصول على المشهور هي:

الأدلة الأربعة، و البحث عن هذه المسألة يرجع إلى وجود الموضوع أعني: حكم العقل و عدمه. فتكون من المبادئ التصديقية.

و خلاصة ما أفاده المصنف «قدس سره»: أن المقصود من رسم الأمر الأول بيان أمرين: الأول: أن مسألة مقدمة الواجب مسألة أصولية كما عرفت.

الثاني: أنها عقلية لا لفظية؛ فإن الكلام ليس إلاّ في استقلال العقل في الحكم بالملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته، و ليس الكلام في دلالة الأمر بالشيء على وجوب مقدمته كي تكون المسألة لفظية؛ كما يظهر من صاحب المعالم «رحمه الله».

و كيف كان؛ فمسألة مقدمة الواجب من المسائل العقلية الأصولية؛ لانطباق ضابط المسألة الأصولية على مبحث مقدمة الواجب، فلا وجه للالتزام بكونها مسألة فقهية، أو جعل البحث فيها استطراديا.

(1) أي: لا يكون البحث في هذه المسألة عن نفس وجوب المقدمة بأن يكون البحث في أن المقدمة واجبة أم لا؟ كي تكون المسألة فرعية «كما هو المتوهم من بعض العناوين»، حيث جعل مدار البحث وجوب المقدمة على ما في حاشية السيد القزويني على القوانين حيث قال: «اختلف القوم في وجوب ما لا يتم الواجب إلاّ به و هو المعبر عنه بمقدمة الواجب على أربعة أقوال» فإن هذه العبارة ظاهرة في كون المسألة فقهية؛ لأن موضوعها فعل المكلف، فلو كان البحث عن الوجوب كانت المسألة مسألة فقهية؛ بخلاف ما إذا كان البحث عن الملازمة، فإن الملازمة ليست من عوارض فعل المكلف.

(2) قوله: «و ذلك...» إلخ بيان لعدم كون المسألة فقهية.

ص: 6

و الاستطراد (1) لا وجه له بعد إمكان أن يكون البحث على وجه تكون من المسائل الأصولية.

ثم الظاهر أيضا (2): أن المسألة عقلية، و الكلام في استقلال العقل بالملازمة و عدمه؛ لا لفظية (3) كما ربما يظهر (4) من صاحب المعالم حيث (5) استدل على النفي و حاصله: أن البحث عن نفس وجوب المقدمة بحث فقهي؛ لكون المبحوث عنه من عوارض فعل المكلف، و هو مما لا يناسب الأصولي؛ هذا بخلاف البحث عن الملازمة بين الوجوبين؛ فإنه بحث أصولي يناسب التعرض له في الأصول.

=============

(1) قوله: «و الاستطراد» دفع لما يمكن أن يقال: إن جعل البحث في وجوب المقدمة، و إن كان يستدعي أن يكون البحث فقهيا إلاّ إن ذكره في الأصول لأجل الاستطراد.

و حاصل الدفع: إنه لا وجه للاستطراد بعد إمكان أن يكون البحث على وجه تكون هذه المسألة من المسائل الأصولية؛ بأن يجعل البحث عن الملازمة، فلا ينبغي حينئذ التشبث بالاستطراد.

مسألة مقدمة الواجب مسألة أصولية عقلية

(2) أي: كما أن الظاهر: هو كون هذه المسألة أصولية؛ كذلك الظاهر: كونها عقلية؛ لأن الحاكم بالملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدماته هو العقل، كما أشار إليه بقوله: «و الكلام في استقلال العقل بالملازمة و عدمه».

(3) أي: لا تكون المسألة لفظية بمعنى: أن اللفظ الدال على وجوب الشيء دال على وجوب مقدماته.

(4) أي: يظهر كون المسألة لفظية من صاحب المعالم؛ و إن لم يكن كلامه صريحا في ذلك.

(5) قوله: «حيث استدل على النفي...» إلخ؛ بيان لمنشا استظهار كون المسألة لفظية من كلام صاحب المعالم «قدس سره»، ص 170.

و خلاصة الكلام أن منشأ الاستظهار يرجع إلى أمرين:

الأول: استدلاله على النفي بانتفاء الدلالات الثلاث أي: المطابقة، و التضمن، و الالتزام. و بديهي أن انتفاءها يقتضي عدم الدلالة اللفظية؛ لا انتفاء الدلالة العقلية.

الثاني: ذكره هذا المبحث في مباحث الألفاظ.

و الأول: ما أشار إليه المصنف «قدس سره» بقوله: «حيث استدل على النفي...» إلخ؛ فإنه ظاهر في كون البحث لفظيا؛ و إلاّ لم يتم هذا الاستدلال.

ص: 7

بانتفاء الدلالات الثلاث؛ مضافا إلى أنه ذكرها في مباحث الألفاظ؛ ضرورة (1): أنه إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته ثبوتا محل الإشكال؛ فلا مجال لتحرير النزاع في الإثبات، و الدلالة عليها بإحدى الدلالات الثلاث، كما لا يخفى.

=============

و الثاني: ما أشار إليه بقوله: «مضافا إلى أنه ذكرها في مباحث الألفاظ»؛ فإنه ظاهر في كون البحث لفظيا؛ و إلاّ لا وجه لذكره في بحث الألفاظ.

(1) قوله: «ضرورة...» إلخ تعليل لقوله: «ثم الظاهر أيضا...» إلخ.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن مقام الإثبات و الدلالة كدلالة اللفظ على المعنى تابع و فرع لمقام الثبوت أعني: ثبوت المعنى في الخارج. إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن النزاع في دلالة اللفظ - في المقام - على الملازمة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام؛ تابع و فرع لثبوت الملازمة واقعا، فبدون ثبوتها واقعا لا يصح النزاع في دلالة اللفظ و عدمها عليها إثباتا.

و من المعلوم: أن الملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها محل الإشكال أي: لم تتحقق بعد، فلا وجه لتحرير النزاع في مرحلة الإثبات، و الدلالة عليها بإحدى الدلالات الثلاث.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في جهتين:

الأولى: هل هذه المسألة أصولية أو غير أصولية ؟

الثانية: هل هي لفظية أو عقلية ؟

أما الكلام في الجهة الأولى: فقد ذكر المصنف ما حاصله: من أن هذه المسألة أصولية، لأن البحث فيها إنما هو عن الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدماته، و ليس البحث فيها عن وجوب المقدمة كي تكون المسألة فرعية. و بما أن البحث عن الملازمة تقع نتيجته في طريق استنباط الحكم الشرعي؛ فتكون هذه المسألة مسألة أصولية.

و أما الجهة الثانية: فالظاهر: أن المسألة عقلية؛ لأن الحكم بالملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها من العقل، فلا تكون المسألة لفظية؛ كما ربما يظهر من صاحب المعالم «رحمه الله» حيث استدل على نفي وجوب المقدمة بعدم الدلالات الثلاث الظاهر في كونها لفظية.

ص: 8

الأمر الثاني: (1) في تقسيمات المقدمة
اشارة

أنه ربما تقسم المقدمة إلى تقسيمات:

منها: تقسيمها إلى داخلية و هي الأجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها. و الخارجية و هي الأمور الخارجة عن ماهيته مما لا يكاد يوجد بدونه.

=============

أما رأي المصنف «قدس سره»: فهو أنها من المسائل الأصولية لا الفرعية، و من المسائل العقلية لا اللفظية. هذا تمام الكلام في خلاصة البحث.

تقسيم المقدمة إلى الداخلية و الخارجية
اشارة

(1) الأمر الثاني في تقسيم المقدمة إلى تقسيمات عديدة باعتبارات شتى:

الأول: تقسيمها إلى الداخلية و الخارجية.

الثاني: تقسيمها إلى العقلية و الشرعية و العادية.

الثالث: تقسيمها إلى مقدمة الوجود، و مقدمة الصحة، و مقدمة الوجوب، و مقدمة العلم.

الرابع: تقسيمها إلى المتقدم، و المقارن، و المتأخر.

و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل النزاع فنقول: إن المقدمة التي هي مصبّ و مقسم للتقسيمات المذكورة عبارة عن مطلق ما يتوقف عليه الشيء.

و أما توضيح ما هو المراد من المقدمة الداخلية و الخارجية فيتوقف على مقدمة و هي: أن كل واحد منهما على قسمين: الداخلية بمعنى الأخص و الأعم، و الخارجية كذلك.

و أما الداخلية بالمعنى الأخص فهي: أجزاء المأمور به الداخلة في حقيقته قيدا و تقيدا؛ مثل: القراءة في الصلاة مثلا، فكما هي بنفسها دخيلة في المأمور به و مقوّمة له؛ فكذلك تقيدها بكونها مسبوقة بتكبيرة الإحرام، و ملحوقة بالركوع و السجود دخيل في حقيقة المأمور به.

و أما الداخلية بالمعنى الأعم: فهي خارجة عن حقيقة المأمور به قيدا و الداخلة فيه تقيّدا؛ مثل: طهارة البدن و اللباس عن الخبث، و الاستقبال و الطهارة من الحدث و نحوها؛ فإنها خارجة عن حقيقة الصلاة المأمور بها قيدا، و لكنها داخلة فيها تقيّدا؛ بمعنى: أن المأمور به حصة من الصلاة؛ و هي الصلاة المقيدة بها لا مطلقا.

و أما المقدمة الخارجية بالمعنى الأخص: فهي غير دخيلة في المأمور به أصلا لا قيدا و لا تقيّدا؛ بل إنما يتوقف وجود المأمور به الواجب في الخارج عليها؛ مثل: الكون على

ص: 9

و ربما يشكل (1) في كون الأجزاء مقدمة له و سابقة عليه؛ بأن المركب ليس إلاّ نفس الأجزاء بأسرها.

و الحل: (2) أن المقدمة هي نفس الأجزاء بالأسر، و ذو المقدمة هو الأجزاء بشرط السطح، و قطع المسافة؛ فإن الواجب - و هو الكون على السطح - يتوقف على نصب السلم في الأول، و الحج يتوقف على قطع المسافة في الثاني.

=============

و أما المقدمة الخارجية بالمعنى الأعم: فهي عين المقدمة الداخلية بالمعنى الأعم؛ أي:

الخارجة عن المأمور به قيدا، و الداخلة فيه تقيّدا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المراد بالمقدمة الداخلية هي: الداخلية بالمعنى الأخص، و بالمقدمة الخارجية هي: الخارجية بالمعنى الأعم المقابلة للداخلية بالمعنى الأخص.

و من هنا ظهر الفرق بينهما، فلا حاجة إلى بيان ذلك.

(1) قد تعرض المصنف في البحث عن المقدمة الداخلية لجهتين:

الجهة الأولى: هي الإشكال في صحة إطلاق المقدمة عليها.

الجهة الثانية: هي الإشكال في دخولها في محل النزاع.

و الذي قرّره المصنف هو: عدم دخولها في محل النزاع؛ كما أشار إليه بقوله: «إنه ينبغي خروج الأجزاء عن محل النزاع». فانتظر وجه ذلك.

و أما حاصل الكلام في الجهة الأولى: فقد يستشكل في مقدمية الأجزاء؛ و يقال:

كيف تكون الأجزاء مقدمة داخلية للمأمور به الواجب ؟ و الحال أن المقدمية تتوقف على أمرين:

الأول: أن تكون المقدمة غير المأمور به الواجب.

و الثاني: أن تكون سابقة عليه.

و كلا الأمرين: منتف في المقدمة الداخلية؛ لأن المقدمة الداخلية كما عرفت هي:

نفس الأجزاء، و الأجزاء عين المركب، فلا مغايرة بينهما أصلا، و لا تكون الأجزاء سابقة عليه؛ لأن نفس الشيء لا يكون سابقا عليه.

و بعبارة أخرى: مقدمة الشيء عبارة عما يقع في طريق وجوده، و الشيء لا يقع في طريق نفسه. و كيف كان؛ فلا مغايرة بين الأجزاء و المركب منها؛ ليكون للأجزاء وجود غير وجود الكل حتى تجب الأجزاء غيريا، و يجب الكل نفسيا. فتنحصر المقدمة بالخارجية، و لا تعقل المقدمة الداخلية أصلا.

(2) أي: حل إشكال عينية المقدمة للمأمور به الواجب. و توضيح ذلك يتوقف على

ص: 10

الاجتماع، فيحصل المغايرة بينهما. و بذلك ظهر: أنه لا بدّ في اعتبار الجزئية أخذ الشيء بلا شرط، كما لا بدّ في اعتبار الكلية من اعتبار اشتراط الاجتماع.

و كون (1) الأجزاء الخارجية كالهيولى و الصورة؛ هي الماهية المأخوذة بشرط لا مقدمة: و هي: أن المقدمة الداخلية و إن كانت نفس الأجزاء؛ إلاّ إن تلك الأجزاء إذا لوحظت لا بشرط فهي مقدمة، و إذا لوحظت بشرط شيء فهي ذو المقدمة.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن ذوات الأجزاء معروضة للاجتماع فتكون سابقة على الكل؛ لسبق المعروض على العارض، و مغايرة معه و لو بالمغايرة الاعتبارية، فما هو ملاك المقدمية من السبق و المغايرة موجود في الأجزاء، فلا إشكال في كونها مقدمة داخلية للواجب.

و في «منتقى الأصول» قال في الجواب عن هذا الإشكال ما هذا لفظه: «إن الأجزاء بالأسر فيها جهتان واقعيتان: إحداهما مترتبة على الأخرى، فإن في كل جزء جهة ذاته، و جهة اجتماعه مع غيره من الأجزاء. و لا يخفى: أن جهة الذات متقدمة على جهة اجتماع الذات مع الذات الأخرى تقدم المعروض على العارض، لأن جهة الاجتماع عارضة على الذوات، و عليه فنقول: إذا لوحظت الأجزاء بجهة ذاتها كانت المقدمة، و إذا لوحظت بوصف الاجتماع و الانضمام كانت الكل، فالمقدمة سابقة على الكل، و ذي المقدمة سبق المعروض على العارض، و هذا السبق يصحح إطلاق المقدمية عليها». انتهى مورد الحاجة.

«و بذلك ظهر: أنه لا بد في اعتبار الجزئية أخذ الشيء بلا شرط...» إلخ أي: بما ذكر من الفرق بين المقدمة الداخلية و ذيها: بأن المقدمة الداخلية هي نفس الأجزاء لا بشرط، و ذيها هي الأجزاء بشرط الاجتماع «ظهر»: أن اعتبار الجزئية منوط بأخذ الشيء بلا شرط، و اعتبار الكلية منوط باشتراط الاجتماع.

وجه الظهور: أن المقدمة الداخلية هي الأجزاء، و حيث تبين الفرق بين المقدمة الداخلية و الكلية ظهر الفرق بين الجزء و الكل، و بظهور الفرق بينهما ظهر خاصية كل منهما إجمالا على ما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 2، ص 12».

(1) قوله: «و كون الأجزاء الخارجية...» إلخ دفع للإشكال و حاصل الإشكال: أنّ ما ذكرتم من أن الأجزاء مأخوذة على نحو لا بشرط ينافي ما يقوله أهل المعقول: من أن الأجزاء الخارجية - كالهيولى و الصورة - مأخوذة بشرط لا، فما أفاده المصنف «قدس سره» من أخذ الأجزاء ملحوظة لا بشرط ينافي ما ذكره أهل المعقول من أنها ملحوظة بشرط لا؛ لوضوح التنافي بين الماهية «لا بشرط»، و بين الماهية «بشرط لا».

ص: 11

ينافي ذلك، فإنه إنما يكون في مقام الفرق بين نفس الأجزاء الخارجية و التحليلية، من الجنس و الفصل، و أن الماهية إذ أخذت بشرط لا تكون هيولى أو صورة، و إذا أخذت لا بشرط تكون جنسا أو فصلا لا بالإضافة إلى المركب فافهم (1).

ثم لا يخفى: أنه ينبغي خروج الأجزاء (2) عن محل النزاع، كما صرح به بعض.

=============

و حاصل الدفع: أنه لا تنافي بينهما. وجه عدم المنافاة هو: عدم وحدة الإضافة فيهما.

الفرق بين اللابشرط الأصولي و اللابشرط الفلسفي

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن اللابشرط في اصطلاح الأصولي إنما هو بالإضافة إلى الكل؛ بمعنى أنه إذا قوبل الجزء بالكل فيؤخذ الأول لا بشرط، و الثاني:

بشرط شيء.

و أما اللابشرط الفلسفي - في المادة و الصورة و الجنس و الفصل - فإنما هو بالإضافة إلى الجزء الآخر؛ بمعنى: أنه إذا قوبلت الأجزاء الخارجية - كالمادة و الصورة أي: كالبدن و النفس الناطقة - بالأجزاء التحليلية التي يحللها العقل إلى جنس و فصل، فيؤخذ الأول:

أي: الأجزاء الخارجية بشرط لا الاعتباري، فلا يقبل الحمل. و الثاني: لا بشرط الاعتباري فيقبل الحمل.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنّ الإضافة فيهما مختلفة؛ لأن اللابشرط في اصطلاح الفلسفي و أهل المعقول إنما هو بالإضافة إلى الجزء الأخر كما عرفت. و أما اللابشرط الأصولي فهو بالإضافة إلى الكل فقط، فلا تنافي بينهما؛ إذ يشترط في التنافي وحدة الإضافة المنتفية في المقام؛ لما عرفت: من أن الجزء الخارجي أخذ لا بشرط لا بالإضافة إلى الجزء الآخر - و هو الجزء التحليلي - لا بالإضافة إلى المركب و الكل، و الجزء الداخلي في المقام أخذ لا بشرط بالإضافة إلى المركب و الكل.

(1) لعله إشارة إلى عدم المنافاة بينهما حتى مع وحدة الإضافة أيضا، و ذلك لاختلاف الغرض و المقصود؛ لأن غرض الأصوليين و مقصودهم من اعتبار الأجزاء لا بشرط بالإضافة إلى المركب، أي: مقصودهم لا بشرط عن الاجتماع و الاتصال.

و مقصود أهل المعقول من اعتبار الأجزاء الخارجية بشرط لا بالإضافة إلى المركب هو:

عدم صحة الحمل عليه، أي: الأجزاء الخارجية بشرط لا غير قابلة للحمل على المركب؛ في مقابل الأجزاء التحليلية المأخوذة لا بشرط، فيصح حملها عليه، و يقال: الإنسان ناطق.

(2) هذا الكلام من المصنف هو تعرّضه للبحث عن المقدمة الداخلية من الجهة الثانية و هي: النزاع و الكلام في دخولها في محل النزاع، يقول المصنف «قدس سره» بخروجها

ص: 12

و ذلك (1) لما عرفت من كون الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتا، و إنما كانت المغايرة بينهما اعتبارا، فتكون واجبة بعين وجوبه، و مبعوثا إليها بنفس الأمر الباعث إليه، فلا تكاد تكون واجبة بوجوب آخر لامتناع اجتماع المثلين.

و لو قيل (2) بكفاية تعدد الجهة، و جواز اجتماع الأمر و النهي معه، لعدم تعددها (3) عن محل النزاع، كما صرح بخروجها عنه بعض الأعلام و هو سلطان العلماء على ما في «بدائع الأفكار»، و محل النزاع هو وجوب المقدمة بالوجوب الغيري.

=============

(1) وجه خروج الأجزاء عن محل النزاع: أن وجوب المقدمة غيري ترشحي؛ بمعنى:

أنه يترشح إليها من وجوب ذي المقدمة. هذا إنما يصح فيما إذا لم تكن المقدمة عين الواجب، و أما فيما إذا كانت عين الواجب - كما هو المفروض في المقام؛ حيث تكون الأجزاء الداخلية عين الكل و هو الواجب - فتكون المقدمة حينئذ واجبة بالوجوب النفسي الضمني؛ لأنها عين الكل الذي هو متعلق الوجوب النفسي المنبسط على الأجزاء، و مع هذا الوجوب النفسي لا تتصف الأجزاء بالوجوب الغيري.

و بعبارة أخرى: أن مرجع عدم وجوب الأجزاء بالوجوب الغيري إلى وجود المانع من تعلق الوجوب الغيري فيها. و توضيح ذلك: أن الأجزاء لمّا كانت عين الكل في الوجود؛ كان الأمر النفسي المتعلق بالكل متعلقا بها حقيقة، فهي متعلقة للوجوب النفسي، و عليه:

فيلزم من تعلق الوجوب الغيري - بناء على ثبوت مقتضيه - اجتماع حكمين على موضوع واحد، و هو محال لأجل اجتماع المثلين، و هو في المنع كاجتماع الضدين، فالأجزاء لا تكون متعلقة للوجوب الغيري و إن ثبت مقتضيه فيها؛ لوجود المانع و هو استلزامه للمحال، و هو اجتماع المثلين أعني: اجتماع الوجوب النفسي و الغيري في الجزء.

(2) كلمة لو في قوله: «و لو قيل بكفاية تعدد الجهة...» إلخ وصلية أي: لامتناع اجتماع المثلين في المقام؛ و لو على القول بكفاية تعدد الجهة في جواز اجتماع المثلين، و اجتماع الأمر و النهي؛ و ذلك لعدم تعدد الجهة هاهنا في الجزء، لأن الواجب بالوجوب الغيري لو كان لكان محله و مصبه نفس الأجزاء لا عنوان مقدميتها، فإن المقدمية علة للوجوب؛ لا أن الوجوب منصب على المقدمة بعنوان كونها مقدمة، بل الوجوب الغيري متعلق بنفس الجزء كالوجوب النفسي، فلم يتعدد محل الوجوب كي يكون مصححا للاجتماع على القول بكفاية تعدد الجهة.

(3) أي: لعدم تعدد الجهة هاهنا. هذا دفع لتوهم تعدد الجهة في المقام، و معه لا يلزم اجتماع المثلين.

ص: 13

هاهنا، لأن الواجب بالوجوب الغيري لو كان إنما هو نفس الأجزاء لا عنوان مقدميتها، و التوسل بها إلى المركب المأمور به، ضرورة: أن الواجب بهذا الوجوب ما كان بالحمل الشائع مقدمة؛ لأنه المتوقف عليه لا عنوانها.

نعم (1)؛ يكون هذا العنوان علة لترشح الوجوب على المعنون.

=============

و حاصل الدفع: أن تعدد الجهة المجدي في دفع محذور الاجتماع مفقود هنا؛ لأن الجهة في المقام تعليلية لا تقييدية.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الجهة على قسمين: التعليلية و التقييدية.

الفرق بينهما: أن الأولى: هي علة للحكم لا موضوعا له، فلا يتعلق الحكم بها مثل مقدمية المقدمة، فهي جهة تعليلية لا تقييدية.

هذا بخلاف الثانية: أي: الجهة التقييدية و هي: ما يقع موضوعا للحكم و الخطاب مثل: الصلاة واجبة، و الغصب حرام، أو كقول الشارع: صلّ و لا تغصب، فالصلاة موضوع الوجوب، و الغصب موضوع الحرمة، و الصلاتية و الغصبية جهتان تقييديتان.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه إن كانت الجهة تعليلية: فتعددها لا يجدي، و لا ينفع في دفع محذور اجتماع الحكمين المثلين؛ لعدم تعلق الحكم بالجهة حتى يكون تعددها موجبا لتعدد الموضوع، فإن الجهات التعليلية أجنبية عن موضوع الحكم، و لهذا تعددها لا يوجب تعدد الموضوع.

و أما إن كانت الجهة تقييدية: فتعددها يجدي في دفع محذور اجتماع المثلين في موضوع، لأن المفروض: أنه يتعدد الموضوع بتعدد الجهة، و لذا يندرج في باب التزاحم لا التعارض كما يأتي تفصيل ذلك في محله.

فالحاصل: أن الجهة في المقام لما كانت تعليلية فتعددها لا يجدي في دفع محذور اجتماع المثلين، فتوهم: كفاية تعدد الجهة في دفع المحذور المذكور واضح البطلان و الفساد. فالنتيجة هي: إن ذوات الأجزاء ليست واجبا نفسيا ضمنيا و واجبا غيريا؛ لاستلزامه المحال، بل هي واجبة نفسية ضمنية.

الفرق بين الجهة التعليلية و الجهة التعبدية

(1) هذا بيان منه لنفي كون عنوان المقدمية جهة تقييدية، بل جهة تعليلية. أي: بعد أن نفي المصنف معروضية عنوان المقدمة للوجوب الغيري - لأن هذا العنوان ليس جهة تقييدية - استدرك على ذلك و قال: إن المقدمية جهة تعليلية لترشح الوجوب الغيري على المعنون، و هو ذات المقدمة، «فانقدح بذلك» أي: بكون المقدمية جهة تعليلية لا تقييدية، و أن الوجوب يعرض ذات المقدمة، لا عنوانها: ظهر فساد توهم اتصاف كل جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسي، و الوجوب الغيري باعتبارين؛ باعتبار كون الجزء في

ص: 14

فانقدح بذلك: فساد توهم اتصاف كل جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسي و الغيري، باعتبارين، فباعتبار كونه في ضمن الكل واجب نفسي، و باعتبار كونه مما يتوسل به إلى الكل واجب غيري، اللهم (1) إلاّ إن يريد أن فيه (2) ملاك الوجوبين، و إن كان واجبا بوجوب واحد نفسي لسبقه فتأمل.

=============

ضمن الكل واجب نفسي، و باعتبار كونه مما يتوسل به إلى الكل، و يتوقف عليه الكل واجب غيري.

وجه الفساد: أنه يلزم اجتماع المثلين، و تعدد الاعتبار لا يوجب تعدد الموضوع؛ لما عرفت: من أن عنوان المقدمية جهة تعليلية لا يمكن أن يكون مصبّا و متعلقا للوجوب الغيري، فلا بد أن يكون نفس الذات موردا للوجوب الغيري، فيلزم اجتماع المثلين الذي هو مستحيل.

(1) هذا الكلام من المصنف توجيه للتوهم المزبور و حاصله: أن مراد المتوهم من اتصاف كل جزء من الأجزاء بالوجوب المقدمي هو اتصافه بملاك الوجوب المقدمي، لا بنفس الوجوب المقدمي حتى يلزم اجتماع المثلين.

(2) أي: أن في كل جزء من الأجزاء ملاك الوجوبين؛ لا وجوبين فعليين، «و إن كان واجبا بوجوب واحد» أي: و إن كان كل جزء فعلا «واجبا بوجوب واحد نفسي»، من دون الوجوب الغيري، و إنما يكون كل جزء واجبا بوجوب واحد نفسي لا بوجوب واحد غيري؛ «لسبقه» أي: لسبق الوجوب النفسي على الغيري؛ لتوقف الوجوب الغيري على الوجوب النفسي دون العكس، و بعد ما كان الجزء واجبا نفسيا امتنع فيه الوجوب الغيري؛ لاستحالة اجتماع المثلين كما عرفت غير مرة.

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى ما أفاده المصنف في الحاشية حيث قال عند قوله:

«فافهم». وجهه: إنه لا يكون فيه أيضا ملاك الوجوب الغيري حيث لا وجود له غير وجوده في ضمن الكل الذي يتوقف على وجوده، و بدونه لا وجه لكونه مقدمة كي يجب بوجوبه أصلا). انتهى مورد الحاجة.

فخلاصة وجه التأمل: هو عدم صحة التوجيه المزبور؛ و ذلك لمنع وجود ملاك الوجوب الغيري في الأجزاء أيضا؛ ضرورة: توقف المقدمية على تعدد الوجود؛ و المفروض: أن الأجزاء عين الكل وجودا، و ليست غيره حتى تتصف بالمقدمية، فالمتحصل من جميع ما ذكرناه: أن الالتزام بالمقدمة الداخلية مما لا وجه له.

ص: 15

هذا (1) كله في المقدمة الداخلية.

=============

المقدمة الخارجية

(1) هذا الكلام «كله في المقدمة الداخلية. و أما المقدمة الخارجية فهي ما كان خارجا عن المأمور به، و كان له دخل في تحققه»، أي: المقدمة الخارجية هي خارجة عن حقيقية المأمور به، و لها دخل في تحقق المأمور به. و تذكير الضمير في قوله: «له» - مع إنه يرجع لى المقدمة - إنما هو باعتبار الموصول في قوله: «ما كان».

و الكلام في المقدمة الخارجية في مقامين:

المقام الأول: في تعريف المقدمة الخارجية، و ما هو المراد من خروجها.

و المقام الثاني: في أقسامها.

و أما خلاصة الكلام في المقام الأول: فالمقدمة الخارجية: هي خارجة عن حقيقة المأمور به، في مقابل المقدمة الداخلية الداخلة في ماهية المأمور به كأجزائه أعم من الأركان و غيرها، و للمقدمة الخارجية دخل في تحقق المأمور به من دون أن تكون داخلة في ماهيته. هذا ملخص الكلام في المقام الأول. و قد سبق الفرق بينهما في أول تقسيم المقدمة إليهما فلا نعيد تجنبا عن التكرار، و أما الكلام في المقام الثاني؛ و هو: بيان أقسام المقدمة الخارجية:

1 - المقتضي - و يقال له السبب أيضا - و هو: المؤثر في المقتضى بالفتح؛ كالنار في إحراق الجسم.

2 - الشرط و هو: ما له دخل في تأثير المقتضي في المقتضى كمحاذاة الخشب للنار، فإن النار ما لم تكن محاذية لشيء لم تحرقه.

3 - عدم المانع أي: عدم ما يمنع عن تأثير المقتضي في المقتضى؛ كعدم رطوبة الخشب، فإن الرطوبة مانعة عن تأثير النار في الإحراق، فعدمها يكون من مقدمات وجود الإحراق.

4 - المعدّ و هو: ما يقرب المعلول إلى العلة كتهيئة الخشب، و وسيلة الإضرام، و نحو ذلك. و الحاصل: أن كل شيء توقف عليه وجود شيء آخر في الخارج من دون أن يكون له تاثير فيه، و لا في تأثير المقتضي فيه فهو معد.

5 - العلة التامة و هي: مجموع المقتضي، و الشرط، و عدم المانع، و المعد. فإذا تحقق الجميع فقد تحقق المقتضي و المعلول قهرا بلا فصل زماني؛ و إن كان يتأخر المعلول عن علته رتبة.

ص: 16

و أما المقدمة الخارجية؛ فهي: ما كان خارجا عن المأمور به، و كان له دخل في تحققه، لا يكاد يتحقق بدونه. و قد ذكر لها أقسام و أطيل الكلام في تحديدها (1) بالنقض (2) و الإبرام (3)؛ إلاّ إنه غير مهم (4) في المقام.

=============

6 - السبب: و هو يطلق على العلة التامة، و على العلة الناقصة كالمقتضي مع عدم الشرط أو وجود المانع، و على الجزء الأخير من العلة المركبة كالشرط المتأخر، و إجازة البيع الفضولي و غيره. و قد عرّف السبب بأنه: ما يلزم من وجوده الوجود، و من عدمه العدم لذاته.

و الشرط بأنه: ما يلزم من عدمه عدم المشروط، و لا يلزم من وجوده وجوده.

و المانع بأنه: ما لا يلزم من عدمه عدم شيء، بل يلزم من وجوده عدم شيء.

و المعد بأنه: ما يلزم من مجموع وجوده و عدمه الوجود؛ كالذهاب بالنسبة إلى الكون في محل مخصوص، فإن إيجاد الخطوة و إعدامها موجب للوصول.

(1) أي: في تحديد تلك الأقسام. أي: قد أطالوا الكلام بالنقض و الإبرام في هذه التحديدات كما في التقريرات و غيره.

(2) أي: كنقض حدّ السبب طردا بالجزء الأخير من العلة التامة، و من المركب، و بلوازم السبب و غير ذلك، لصدق حدّ السبب على الجميع، إذ يلزم من وجودها وجود العلة التامة و المركب و السبب، و من عدمها عدمها، و عكسا: بعدم شموله - كما في الفصول - كما إذا كان لشيء أسباب، فإنه لا يلزم من عدم أحدها العدم مع قيام الآخر مقامه.

(3) أي: كإرجاع الأسباب العديدة إلى القدر المشترك الذي هو سب واحد، فلا يلزم انتقاض حد السبب عكسا، بجعل كلمة - من - في التعريف للسببية؛ حتى لا يلزم انتقاض حدّه طردا، فراجع البدائع، و التقريرات و غيرهما من الكتب المبسوطة.

(4) أي: وجه عدم كونه مهما - كما في التقريرات - هو: أن المقصود من هذا التقسيم تشخيص ما هو مراد المفصل في وجوب المقدمة؛ بين السبب و الشرط و غيرهما، فقال: بوجوب المقدمة في السبب و الشرط دون غيرهما، إلاّ إن المصنف لما لم يرتض هذا التفصيل لدخول جميع أقسام المقدمة في محل النزاع من دون خصوصية لبعضها، فليس التعرض لحدودها بمهم. كما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 122». و كيف كان فجعل؛ بعض الأقسام المذكورة من المقدمة الخارجية محل تأمل. هذا تمام الكلام في تقسيم مقدمة الواجب إلى الداخلية و الخارجية.

ص: 17

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

و أما البحث في التقسيم الأول من تقسيمات مقدمة الواجب فيتلخص في أمور:

1 - الفرق بين المقدمة الداخلية، و المقدمة الخارجية: أن الأولى عبارة عن الأجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها؛ مثل: أجزاء الصلاة من تكبير و ركوع و سجود و تسليم، و لا تتكوّن الصلاة إلاّ منها، و هي بنفسها هي التي نسميها مقدمة داخلية.

و أما المقدمة الخارجية فهي: عبارة عن الأمور الخارجة عن ماهية المأمور به، و لكنها مما لا يكاد يوجد المأمور به بدون تلك المقدمة؛ و ذلك كالشرط، و المقتضي، و عدم المانع، و المعدّ.

2 - ربما يشكل البعض في كون الأجزاء مقدمة داخلية للمأمور به؛ بتقريب: أن المقدمة يجب أن تكون سابقة على المأمور به ذهنا و خارجا، و أن تكون مغايرة له.

و المركب في محل الكلام ليس إلاّ نفس الأجزاء، فلا تكون الأجزاء سابقة عليه، و لا مغايرة معه؛ إذ لا يمكن أن يكون الشيء متقدما على نفسه.

و حل هذا الإشكال بأن يقال: إن المقدمة هي نفس الأجزاء على نحو لا بشرط، و ذو المقدمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع أي: بشرط شيء، و بهذا الاعتبار تحصل الاثنينيّة، و المغايرة بين المقدمة و ذيها، فتكون نفس الأجزاء معروضة للاجتماع، فتكون الأجزاء سابقة على الكل لسبق المعروض على العارض، فحينئذ ما هو ملاك المقدمية من السبق و المغايرة موجود في الأجزاء، فلا إشكال في كونها مقدمة داخلية للواجب.

3 - دفع إشكال التنافي بين اعتبار الأجزاء في باب المقدمة الداخلية لا بشرط، و بين اعتبار الأجزاء الخارجية في باب الفرق بين المادة و الصورة، و بين الجنس و الفصل بشرط لا؛ بتقريب: أن التنافي بين الماهية لا بشرط، و الماهية بشرط لا واضح وضوح الشمس في النهار. هذا ملخص إشكال التنافي.

و حاصل الدفع: إنه لا تنافي بينهما لتعدد الإضافة، لأن الأجزاء في باب المقدمة لا بشرط بالإضافة إلى الكل، و الأجزاء الخارجية في باب الفرق بين الأجزاء الخارجية و الأجزاء التحليلية بشرط لا؛ إنما هو بالإضافة إلى الجزء الآخر.

4 - خروج المقدمة الداخلية عن محل النزاع، فلا تكون واجبة بالوجوب الغيري؛ لأجل لزوم اجتماع المثلين في محل واحد، و هو محال.

و لا يكفي تعدد الجهة لدفع محذور لزوم اجتماع المثلين؛ و لو على القول بكفاية تعدد

ص: 18

تقسيم المقدمة إلى العقلية، و الشرعية، و العادية
اشارة

و منها (1): تقسيمها إلى العقلية، و الشرعية، و العادية.

=============

الجهة في جواز الاجتماع؛ لأن ذلك فيما إذا كانت الجهة تقييدية، و الجهة في المقام تعليلية، تعددها لا يوجب تعدد الموضوع.

و من هنا ظهر: فساد توهم اتصاف كل جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسي و الغيري باعتبارين؛ باعتبار كون الجزء في ضمن الكل واجب نفسي، و باعتبار كونه مما يتوقف عليه الكل واجب غيري، وجه الفساد: أنه يلزم اجتماع المثلين، و قد عرفت: أن تعدد الاعتبار لا يوجب تعدد الموضوع.

و أما توجيه التوهم المزبور؛ بأن المراد باتصاف كل جزء بالوجوبين هو: اتصافه بملاك الوجوبين مردود بما أشار إليه بقوله: «فافهم» من عدم ملاك للوجوب الغيري أصلا، إذ لا وجود للجزء غير وجوده في ضمن الكل، و المقدمية تتوقف على تعدد الوجود.

5 - المقدمة الخارجية هي: عبارة عما كان خارجا عن ماهية المأمور به، و لها دخل في تحقق المأمور به، و لها أقسام:

1 - المقتضي: كالنار بالنسبة إلى الإحراق.

2 - الشرط: كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة.

3 - عدم المانع: بأن لا يكون هناك مانع عن تحقق الشيء؛ كعدم الرطوبة بالإضافة إلى الحطب، فإن الرطوبة مانعة عن الإحراق.

4 - المعدّ: و هو ما يقرّب المعلول إلى علته؛ كتهيئة الخشب للإحراق.

5 - و أما نظرية المصنف:

فهي: دخول المقدمة الخارجية في محل الكلام دون المقدمة الداخلية؛ إذ لا يمكن أن تكون المقدمة الداخلية واجبة بالوجوب الغيري؛ لاستلزامه اجتماع المثلين المستحيل عقلا. هذا تمام الكلام في تلخيص البحث.

الفرق بين المقدمة العقلية و الشرعية و العادية

(1) من تقسيمات المقدمة: «تقسيمها إلى العقلية و الشرعية و العادية»، و قد مرّ: أن المقدمة تنقسم إلى تقسيمات عديدة، و بعض هذه التقسيمات ثنائية، و بعضها ثلاثية، و بعضها رباعية، و قد تقدم الكلام تفصيلا في تقسيمها ثنائيا إلى المقدمة الداخلية، و المقدمة الخارجية. و هذا التقسيم إنما هو تقسيمها ثلاثيا إلى العقلية، و الشرعية، و العادية.

و الفرق بين هذا التقسيم الثلاثي، و بين التقسيم الثنائي المتقدم: أن التقسيم المتقدم كان باعتبار أنحاء الدخل، و كيفية تأثير المقدمة من كونها علة أو جزءا لها، أو شرطا لتأثيرها، و هذا التقسيم يكون باعتبار الحاكم بالمقدمية هل هو العقل أو الشرع أو العادة ؟

و أما تعريفها: فالعقلية: ما توقف وجود الشيء عليها عقلا؛ كالعلة بالنسبة إلى

ص: 19

فالعقلية هي: ما استحيل واقعا وجود ذي المقدمة بدونه.

و الشرعية على ما قيل: ما استحيل وجوده بدونه شرعا، و لكنه لا يخفى: رجوع الشرعية إلى العقلية، ضرورة: إنه لا يكاد يكون مستحيلا شرعا إلاّ إذا أخذ فيه شرطا و قيدا، و استحالة المشروط و المقيد بدون شرطه و قيده يكون عقليا.

و أما العادية: فإن كانت بمعنى أن يكون التوقف عليها بحسب العادة؛ بحيث المعلول. و المراد بالنسبة إلى الإرادة حيث يستحيل وجود المعلول، و المراد بدون وجود العلة و الإرادة.

=============

و الشرعية: ما توقف وجود الشيء عليها شرعا؛ كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، و الفرق بين هاتين المقدمتين: أن المقدمة العقلية يستحيل وجود ذيها بدونها تكوينا.

و المقدمة الشرعية يستحيل وجود ذيها جعلا و هو ما جعله الشارع شرطا للواجب.

و العادية: ما توقف وجود الشيء عليها عادة كنصب السلم بالنسبة إلى الصعود على السطح، بحيث يمكن تحقق ذي المقدمة بدونها كالسحب بالحبل مثلا، إلاّ إن العادة جرت على الصعود بواسطة السلم، و حاصل ما أفاده المصنف بعد التقسيم و التعريف هو:

رجوع الكل إلى العقلية.

و أما الشرعية: فلأن توقف وجود الشيء عليها شرعا لا يكون إلاّ بأخذها شرطا في المأمور به الواجب، و من البديهي: أن استحالة المشروط بدون شرطه عقلية. هذا معنى رجوع المقدمة الشرعية إلى العقلية.

و بعبارة أخرى: توقف وجود الواجب - بما أنه واجب - على وجود الشرط مما يحكم به العقل بعد أخذه شرطا.

و أما العادية فرجوعها: إلى العقلية؛ بمعنى دون معنى آخر.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة هي: أن المقدمة العادية تارة: تكون بمعنى: كون التوقف عليها بحسب الاعتياد مع إمكان وجود ذيها بدونها؛ نظير لبس الحذاء أو الرداء عند الخروج إلى الحوزة العلمية لحضور الدرس.

و أخرى: تكون بمعنى: أن التوقف عليها فعلا واقعي؛ لكنه باعتبار عدم إمكان غيره عادة لا عقلا؛ كتوقف الصعود على السطح على نصب السلم.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المقدمة العادية بالمعنى الأول خارجة عن المقسم؛ بمعنى: إنها لا تكون مقدمة حقيقة، و بالمعنى الثاني؛ و إن كانت داخلة في المقسم إلاّ إنها ترجع إلى العقلية، و الدليل عليه: هو ضرورة: استحالة الصعود على السطح بدون مثل نصب السلم عقلا لغير الطائر فعلا، و إن كان الطيران على السطح ممكنا ذاتا.

ص: 20

يمكن تحقق ذيها بدونها، إلاّ إن العادة جرت على الإتيان به بواسطتها، فهي (1) و إن كانت غير راجعة إلى العقلية، إلاّ إنه لا ينبغي توهم دخولها في محل النزاع، و إن كانت (2) بمعنى: أن التوقف عليها و إن كان فعلا واقعيا كنصب السلم و نحوه للصعود على السطح، إلاّ إنه لأجل عدم التمكن من الطيران الممكن عقلا فهي أيضا راجعة إلى العقلية، ضرورة: استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلا لغير الطائر فعلا، و إن كان طيرانه ممكنا ذاتا. فافهم (3).

=============

(1) جواب الشرط في قوله: «فإن كانت بمعنى أن يكون التوقف عليها بحسب العادة» فهي أي: المقدمة العادية «و إن كانت غير راجعة إلى العقلية». وجه عدم رجوعها إلى العقلية هو: كون المقدمية بحسب العادة فقط، من دون توقف عليها وجودا؛ بحيث يمكن عادة تحقق ذي المقدمة بدونها، مثل: ما جرت العادة على لبس الرداء قبل الخروج من الدار، فهي مما لا ينبغي توهم دخولها في محل النزاع؛ لعدم التوقف الوجودي كي يترشح الوجوب إليها على القول بالملازمة.

(2) هذا معطوف على قوله: «فإن كانت...» إلخ، أي: و إن كان المقدمة العادية بمعنى: ما أستحيل وجود ذي المقدمة بدونه عادة، و إن لم يكن مستحيلا عقلا؛ نظير نصب السلم للصعود على السطح، فهي أيضا راجعة إلى العقلية، فإن الصعود على السطح بلا نصب السلم لغير الطائر فعلا مستحيل عقلا و إن كان طيرانه ممكنا ذاتا.

و بعبارة أخرى: أن الممتنع واقعا «تارة»: يكون امتناعه لأمر برهاني عقلي؛ كالكون على السطح بدون طي المسافة، حيث إنه مترتب على الطفرة التي قام البرهان على امتناعها، «و أخرى»: لأمر طبيعي عادي كطيران الإنسان؛ فإن امتناعه إنما هو لعدم كون الجسم الثقيل بطبعه قابلا للطيران إلاّ بقاسر خارجي من جناح أو قوة خارقة للعادة؛ فإنه ليس ممتنعا برهانا، لكنه بالقياس إلى عادم القاسر المزبور محال عقلا.

فالمراد بالمقدمة العادية: ما هو مقدمة لما يمتنع بدونها عادة، و إن لم يمتنع في نفسه عقلا؛ كامتناع الصعود على السطح بدون نصب السلم و غيره من أسباب الصعود، فإنه محال عادة و إن كان في نفسه ممكنا عقلا، فوجوده بدون السبب محال عقلا، فلا محالة ترجع المقدمة العادية إلى العقلية؛ لكون توقف الصعود على السطح لغير القادر فعلا على الطيران عقليا.

(3) لعله إشارة إلى منع رجوع المقدمة العادية إلى العقلية؛ لأن المناط في المقدمة العقلية هو: كون التوقف عقليا، و مع فرض إمكان الطيران عقلا لا يكون توقف الصعود على نصب السلم عقليا، بل يكون عاديا.

ص: 21

تقسيم المقدمة إلى مقدمة الوجود، و مقدمة الصحة، و مقدمة الوجوب و مقدمة العلم

و منها: (1) تقسيمها إلى مقدمة الوجود، و مقدمة الصحة، و مقدمة الوجوب، و مقدمة العلم.

=============

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

1 - المقدمة: إما عقلية إن امتنع وجود ذي المقدمة بدونها عقلا؛ كالعلة بالنسبة إلى المعلول. و إما شرعية إن امتنع وجوده بدونها شرعا؛ كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة. و إما عادية إن امتنع وجوده بدونها عادة؛ كنصب السلم بالنسبة إلى الصعود.

2 - رجوع الأخيرين إلى العقلية. أما الشرعية: فلأن توقف وجود الشيء عليها شرعا لا يكون إلاّ بأخذها شرطا في الواجب، و استحالة المشروط بدون شرطه عقلية. و أما رجوع العادية: فلأن نصب السلم مثلا من المقدمات العقلية للصعود بالنسبة إلى من لا يقدر على الطيران أو غيره.

3 - أما رأي المصنف فهو: دخول المقدمة العقلية في محل النزاع، و كذلك الشرعية لرجوعها إليها. و أما العادية: فإن رجعت إلى العقلية فهي داخلة في محل النزاع؛ و إلاّ فلا تكون مقدمة حقيقة.

(1) و من تقسيمات المقدمة؛ تقسيمها إلى أربعة أشياء و هي: مقدمة الوجود، و مقدمة الصحة، و مقدمة الوجوب، و مقدمة العلم، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: في تعريف كل واحدة منها.

المقام الثاني: في دخولها في محل النزاع.

و أما ملخص الكلام في المقام الأول فهو حسب ما يلي:

1 - مقدمة الوجود هي: ما يتوقف عليها وجود الواجب، في الخارج مثل: قطع المسافة بالنسبة إلى الحج.

2 - مقدمة الصحة هي: ما يتوقف عليها صحة الواجب مثل: الطهارة بالنسبة إلى الصلاة؛ فإن صحة الصلاة متوقفة على الطهارة، و بدونها لا تصح الصلاة.

3 - مقدمة الوجوب هي: ما يتوقف عليها وجوب الواجب مثل: الاستطاعة بالنسبة إلى الحج.

4 - مقدمة العلم هي: ما يتوقف عليها العلم بوجود الواجب مثل: غسل مقدار زائد من الوجه و اليدين في الوضوء ليعلم أنه أتى بالواجب حتما. هذا تمام الكلام في المقام الأول.

ص: 22

لا يخفى: رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود، و لو على القول بكون الأسامي موضوعة للأعم، ضرورة: أن الكلام في مقدمة الواجب لا في مقدمة المسمى بأحدها (1)، كما لا يخفى.

و لا إشكال في خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع (2)، و بداهة (3) عدم

=============

الفرق بين المقدمة الوجوب و مقدمة الوجود و مقدمة الصحة

و أما المقام الثاني: فنقول: إنه لا إشكال في دخول مقدمة الوجود في محل النزاع، كما لا إشكال في خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع.

و أما مقدمة الصحة فهي أيضا داخلة في محل النزاع؛ لأنها ترجع إلى مقدمة الوجود؛ «و لو على القول بكون الأسامي موضوعة للأعم».

و أما رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود - على القول بوضع الأسامي للصحيح - فواضح إذ بانتفاء مقدمة الصحة على هذا القول ينتفي الوجود من أصله؛ و ذلك فإن الكلام في مقدمة الواجب، و الواجب هو الصحيح ينتفي بانتفاء مقدمة الصحة.

و أما رجوعها إليها - على القول الأعمي -: فلأن مقدمة الصحة على هذا القول و إن لم تكن مقدمة لوجود الشيء؛ لأن المسمى يتحقق بدونها، و لكن الكلام في هذا البحث إنما هو في مقدمة الواجب، و الواجب هو الصحيح فقط.

و من الواضح: توقف وجود الصحيح على مقدمة الصحة؛ و إن لم يتوقف وجود مسمى الصلاة عليها، و كيف كان؛ فكان مرجع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود، فتكون داخلة في محل النزاع. هذا ما أشار إليه بقوله: «لا يخفى رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود...» إلخ.

(1) أي: المسمى بأحد الأسامي. و حاصل الكلام: أن الطهارة على القول الأعمي و إن كانت مقدمة للصحة و ليست مقدمة للوجود؛ إلاّ إن الكلام إنما هو في مقدمة الواجب، و ليس العمل بدون الطهارة واجبا، فكانت الطهارة مقدمة لوجود ما هو الواجب.

(2) أي: وجه خروج مقدمة الوجوب عن النزاع هو: أن محل النزاع في وجوب المقدمة، و لا يمكن وجوبها قبل تحقق ذيها، و قبل اتصافه بالوجوب؛ لأن وجوب المقدمة يترشح من وجوب ذيها، و المفروض: إنه لا وجوب للواجب قبل تحقق مقدمة الوجوب، و أما بعد تحققها فلا معنى لترشح الوجوب إليها؛ لاستلزامه طلب الحاصل.

(3) قوله: «و بداهة...» إلخ، عطف على «خروج...» إلخ، و معنى العبارة حينئذ: لا إشكال في خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع، و لا إشكال أيضا في بداهة عدم اتصاف المقدمة بالوجوب المقدمي المترشح من قبل الوجوب المشروط بهذه المقدمة؛

ص: 23

اتصافها بالوجوب من قبل الوجوب المشروط بها، و كذلك المقدمة العلمية (1) و إن كالاستطاعة التي هي شرط لوجوب الحج، فإنها لا تتصف بهذا الوجوب المقدمي؛ لأن الاستطاعة من قبيل جزء العلة لوجوب الحج، فهي متقدمة على الوجوب تقدم العلة على المعلول، فلا يعقل ترشح الوجوب عن المعلول على العلة؛ لأنه مستلزم لتحصيل الحاصل إن ثبت وجوب المقدمة من أمر خارج، أو تقدم الشيء على نفسه إن أريد إثباته من نفس وجوب ذي المقدمة، و كلاهما محال؛ على ما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 128» مع تصرف ما.

=============

و بالجملة: أن مقدمة الوجوب خارجة عن محل النزاع؛ لأن الوجوب النفسي لا يتحقق إلاّ بعد تحققها؛ نظير الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج، و معه لا يعقل فرض ترشح الوجوب من ذيها عليها؛ للزوم طلب الحاصل.

(1) أي: المقدمة العلمية كمقدمة الوجوب أيضا خارجة عن حريم نزاع وجوب مقدمة الواجب، لأنها مما لا يتوقف عليها وجود الواجب واقعا، فإن الصلاة إلى كل جهة من الجهات المحتملة للقبلة لا تكون دخيلة في حصول نفس الواجب الواقعي، نعم؛ هي دخيلة في حصول ما هو واجب عقلا و هو حصول العلم بالامتثال، فتكون واجبة بالوجوب العقلي الإرشادي من باب وجوب الإطاعة لا الوجوب الشرعي المولوي من باب الملازمة؛ لعدم كونها مقدمة له، و لهذا يقول المصنف: «إلاّ إنه من باب وجوب الإطاعة إرشادا» أي: إلاّ إن الوجوب في مقدمة العلم عقلي محض من باب حكم العقل بدفع الضرر المترتب على مخالفة الواجب المنجز.

و المتحصل من جميع ما ذكرناه: أن المقدمة العلمية لا ربط لها بالمقام، و محل الكلام أصلا؛ و إنما هي عبارة عن حكم العقل بلزوم إتيان جميع المحتملات إرشادا إلى حصول الإطاعة و الامتثال، فانحصرت المقدمة المبحوث عنها في مقدمة الوجود.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

1 - التقسيم الثالث للمقدمة هو تقسيمها إلى أربعة أشياء:

1 - مقدمة الوجود. 2 - مقدمة الصحة. 3 - مقدمة الوجوب. 4 - مقدمة العلم.

و الفرق بينها واضح.

2 - لا إشكال في دخول مقدمة الوجود في محل النزاع، كما لا إشكال في خروج مقدمة الوجوب، و مقدمة العلم عن محل النزاع.

أما وجه خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع: فلأن المقدمة التي يتوقف عليها

ص: 24

استقل العقل بوجوبها؛ إلاّ إنه من باب وجوب الإطاعة إرشادا ليؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجّز؛ لا مولويا من باب الملازمة، و ترشح الوجوب عليها من قبل وجوب ذي المقدمة.

و منها (1): تقسيمها إلى المتقدم، و المقارن، و المتأخر، بحسب الوجود بالإضافة إلى ذي المقدمة، و حيث أنها كانت من أجزاء العلة، و لا بد من تقدمها بجميع أجزائها الوجوب قبل وجودها لا وجوب لذيها حتى يترشح منه الوجوب إليها، و بعد وجودها لا معنى لوجوبها للزوم طلب الحاصل.

=============

و أما خروج مقدمة العلم عن محل النزاع: فلعدم كون ذيها - أعني: العلم - واجبا شرعيا حتى يترشح الوجوب منه إليها، فالوجوب فيها وجوب عقلي من باب حكمه بوجوب الإطاعة و الامتثال حذرا من عقوبة مخالفة الواجب.

و أما مقدمة الصحة: فهي داخلة في محل النزاع؛ لرجوعها إلى مقدمة الوجود حتى على القول بكون الأسامي موضوعة للأعم، لأن الكلام في مقدمات ما هو الواجب و هو أخص من الموضوع له، إذ الواجب إنما هو الصحيح دون الأعم. و أما على الصحيحي فرجوعها إلى مقدمة الوجود واضح.

3 - رأي المصنف هو: دخول مقدمة الوجود، و مقدمة الصحة في محل النزاع؛ دون مقدمة الوجوب، و مقدمة العلم.

تقسيم المقدمة إلى المتقدم و المقارن و المتأخر
اشارة

(1) و من تقسيمات المقدمة: «تقسيمها إلى المتقدم»: كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة، «و المقارن»: كالاستقبال لها، «و المتأخر»: كغسل الليلة الآتية بالنسبة إلى صوم اليوم الماضي، و هذا التقسيم الثلاثي تقسيم للشرط الذي هو أحد المقدمات؛ و هو على أقسام، و توضيح ما هو محل الإشكال من تلك الأقسام يتوقف على مقدمة و هي بيان أقسام الشرط و هي ثلاثة:

1 - شرط المكلف به. 2 - شرط التكليف. 3 - شرط الوضع.

ثم كل واحد على ثلاثة أقسام:
1 - أقسام شرط المكلف به:

1 - الشرط المتقدم على المشروط كالطهارة للصلاة؛ بناء على أن المراد بالطهارة هي الغسلات الثلاث، و المسحات الثلاث؛ لا الطهارة المعنوية المسببة عنها، و إلاّ فهي من الشرط المقارن.

ص: 25

على المعلول أشكل الأمر في المقدمة المتأخرة؛ كالأغسال الليلية المعتبرة في صحة 2 - الشرط المقارن: كالستر، و الاستقبال للصلاة.

=============

3 - الشرط المتأخر: كالأغسال الليلية المعتبرة في صحة صوم المستحاضة عند جماعة؛ فإن المشروط - و هو صوم النهار السابق - مقدم وجودا على الأغسال الواقعة في الليلة المتأخرة. هذا تمام الكلام في أقسام شرط المكلف به.

2 - أقسام شرط التكليف.

1 - الشرط المتقدم على التكليف المشروط: كما لو قال المولى: إن جاءك زيد يوم الخميس فيجب عليك إطعامه في يوم الجمعة، فالشرط حاصل يوم الخميس و هو مجيء زيد، و المشروط هو: وجوب الإطعام يحصل في يوم الجمعة.

2 - الشرط المقارن: كالبلوغ، و العقل و نحوهما.

3 - الشرط المتأخر: كما لو قال المولى: إن سافرت يوم الاثنين فتصدق قبله بيوم مثلا، فالشرط - و هو السفر - لاحق - و المشروط - و هو وجوب التصدق - سابق، هذا تمام الكلام في شرط التكليف.

3 - أقسام شرط الوضع:

1 - الشرط المتقدم: كما في شروط الوصية التمليكية؛ فإنه لو أوصى زيد بإعطاء بيته بعد موته إلى عمرو، ثم مات زيد بعد سنة؛ فحينئذ يتملّك عمرو البيت، و قد فصل بين العقد و هو شرط التملك و بين التملك سنة كاملة.

2 - الشرط المقارن: كاشتراط الماضوية، و العربية، و التنجيز في العقود و الايقاعات؛ فإنها مقارنة مع الأثر الحاصل منها زمانا كالملكية و غيرها.

3 - الشرط المتأخر: كالإجازة في العقد الفضولي؛ بناء على الكشف، فالملكية للمشتري حاصلة حين العقد بشرط الإجازة، و هي متأخرة عنها. هذا تمام الكلام في أقسام الشرط.

و أما المقتضي: فالظاهر أن له قسمين لا أكثر: المقارن، و المتقدم. و الأول: كالعقد في أغلب المعاملات؛ المقارن لحصول الأثر من النقل و الانتقال زمانا.

و الثاني: كالعقد في الوصية، لأنه سابق على حصول الأثر.

إذا عرفت هذه المقدمة. فاعلم: إنه لا إشكال في الشرط المقارن في جميع تلك الأقسام؛ و إنما الإشكال في الشرط المتأخر، و لكن المصنف لم يقتصر في الإشكال على الشرط المتأخر، بل أورده على الشرط المتقدم أيضا.

بدعوى: أن الشرط بما أنه من أجزاء العلة التامة فلا بد من أن يكون مقارنا مع المشروط زمانا، فكما لا يعقل أن يكون الشرط متأخرا عن المشروط فكذلك لا يعقل أن

ص: 26

صوم المستحاضة عند بعض، و الإجازة في صحة العقد على الكشف كذلك، بل (1) في الشرط أو المقتضي المتقدم على المشروط زمانا المتصرم حينه كالعقد في الوصية و الصرف و السلم (2)؛ بل (3) في كل عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه لتصرمها (4) حين يكون متقدما عليه، فلا بد من أن يكون مقارنا للمشروط زمانا.

=============

و من هنا قال المصنف «قدس سره»: «فليس إشكال انخرام القاعدة العقلية مختصا بالشرط المتأخر في الشرعيات».

توضيح ذلك: أنه يعتبر في العلة أن تكون موجودة حين وجود معلولها؛ بداهة: امتناع تأثير المعدوم في الوجود، فكما يمتنع تأثير الشيء قبل وجوده؛ كما هو الحال في الشرط المتأخر، فكذلك يمتنع تأثيره بعد انعدامه كما هو الحال في الشرط المتقدم، و عليه: فلا يعقل تأثير الوصية في الملكية، لأنها معدومة حين الموت فيلزم تأثير المعدوم في الوجود.

فتلخص مما ذكرناه: أن إشكال عدم مقارنة أجزاء العلة للمعلول لا يختص بالمقدمة المتأخرة المعبّر عنها بالشرط المتأخر، بل يعم الشرط المتقدم؛ و ذلك لفقدان مقارنة أجزاء العلة زمانا للمعلول في كل من الشرط المتقدم و المتأخر، و لزوم تأثير المعدوم في الوجود، و انفكاك المعلول عن العلة زمانا في كليهما.

(1) أي: «بل» يشكل الأمر «في الشرط، أو المقتضي المتقدم على المشروط زمانا المتصرم» أي: المنقضي ذلك الشرط «حينه» أي: حين المشروط كالملكية للموصى له في عقد الوصية؛ فإنها تترتب على الموت مع انعدام العقد حينه.

(2) أي: أن الملكية في هذه الموارد مترتبة على الموت و القبض و التقابض مع انعدام العقد حينها.

(3) غرض المصنف «قدس سره» من قوله: «بل في كل عقد...» إلخ هو: تعميم إشكال انخرام القاعدة العقلية - و هي: اعتبار مقارنة أجزاء العلة للمعلول زمانا - لكل عقد و لو غير الوصية التمليكية و الصرف و السلم.

توضيح ذلك: أن الإيجاب و القبول و أجزاءهما من الأمور التدريجية المتصرمة، فالجزء الأخير من القبول مقارن للأثر دون غيره من سائر أجزاء القبول، و جميع أجزاء الإيجاب.

و هذا ما أشار إليه بقوله: «بل في كل عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه»، فإن تقييد الأجزاء بالغالب إنما هو لإخراج الجزء الأخير من القبول، لأنه مقارن للأثر.

(4) أي: لتصرم الأجزاء و انعدامها حين تأثير العقد، فهذا تعليل لتعميم الإشكال لكل عقد.

توضيح ذلك: أن أجزاء العقد متصرمة لكونها من الكلام الذي هو تدريجي الحصول؛ بحيث يتوقف وجود كل جزء منه على انعدام جزء آخر منه، و لذا لا يكون

ص: 27

تأثيره؛ مع ضرورة: اعتبار مقارنتها معه زمانا، فليس إشكال انخرام القاعدة العقلية مختصا بالشرط المتأخر في الشرعيات - كما اشتهر في الألسنة - بل يعم الشرط و المقتضي المتقدمين المتصرمين حين الأثر.

و التحقيق في رفع هذا الإشكال أن يقال: إن الموارد التي توهم انخرام القاعدة فيها لا يخلو: إما أن يكون المتقدم أو المتأخر شرطا للتكليف، أو الوضع، أو المأمور به.

=============

الموجود من أجزائه حين التأثير إلاّ الجزء الأخير من القبول كما عرفت، فيلزم تأثير المعدوم في الوجود، أو تأخير المعلول عن العلة زمانا «مع ضرورة: اعتبار مقارنتها معه زمانا» أي:

اعتبار مقارنة أجزاء العقد مع الأثر زمانا ضروري.

قوله: «فليس إشكال انخرام القاعدة العقلية...» إلخ متفرع على الإضراب الذي أفاده بقوله: «بل في الشرط أو المقتضي المتقدم على المشروط».

الفرق بين الشرط الاصطلاحي و غيره

فالمتحصل من جميع ما ذكرناه: إن إشكال عدم مقارنة أجزاء العلة للمعلول؛ لا يختص بالمقدمة المتأخرة المعبر عنها بالشرط المتأخر، بل يعم المتقدمة أيضا؛ لفقدان مقارنة أجزاء العلة زمانا للمعلول في كل من الشرط المتقدم و المتأخر، و لزوم تأثير المعدوم في الوجود، و انفكاك المعلول عن العلة زمانا في كليهما.

و كيف كان؛ فالإشكال يسري إلى كل عقد، و بهذه التسرية ألزم المصنف نفسه و غيره من الأعلام بحل الإشكال؛ لأن الالتزام به في هذه الموارد و نظائرها يستلزم فقها جديدا و أحكاما غريبة، إذ الإشكال لو كان يقتصر على الشرط المتأخر خاصة؛ لأمكن الالتزام به و نفي الشرط المتأخر، و توجيه ما ورد مما ظاهره ذلك لقلة موارده، أما بعد أن صار الإشكال ساريا في موارد كثيرة جدا فالالتزام به مشكل جدا، فلا بد من حله.

و قد أشار المصنف إلى حله بقوله: «و التحقيق في هذا الإشكال أن يقال...» إلخ، و توضيح ما أفاده المصنف في مقام حل الإشكال يتوقف على مقدمة: و هي أن الشرط المتقدم أو المتأخر إما شرط للتكليف، أو للوضع، أو للمأمور به، فالأقسام ستة حاصلة من ضرب الاثنين - و هما المتقدم و المتأخر - في الثلاثة. أعني: التكليف، و الوضع، و المأمور به.

ثم الشرط على جميع التقادير المذكورة يتصور على نحوين: 1 - الشرط الاصطلاحي و هو: ما يكون بوجوده الخارجي شرطا. 2 - الشرط الغير الاصطلاحي و هو: ما يكون بوجوده العلمي شرطا لا بوجوده الخارجي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الشرط في محل الكلام هو: ما يكون بوجوده العلمي شرطا و هو مقارن للمشروط في جميع الأقسام المذكورة، فلا مجال لإشكال

ص: 28

أما الأول (1): فكون أحدهما شرطا له ليس إلاّ إن للحاظه دخلا في تكليف الآمر تقدّم الشرط على المشروط، أو تأخره عنه؛ سواء كان شرطا للتكليف، أو للوضع، أو للمأمور به.

=============

أما الأول: - شرط التكليف - فلا يلزم تقدم الشرط على المشروط و لا تأخره عنه؛ في مثل ما إذا قال المولى: إن جاءك زيد يوم الخميس فيجب عليك إطعامه في يوم الجمعة، أو قال: إن سافرت يوم الاثنين فتصدق بدينار قبله بيوم، فالشرط في المثال الأول ليس هو نفس المجيء السابق، و كذا في المثال الثاني، ليس هو نفس السفر اللاحق؛ حتى يقال:

بلزوم تقدم الشرط في المثال الأول، و تأخره في المثال الثاني، بل الشرط هو لحاظ المجيء و تصوره في المثال الاول، و لحاظ السفر و تصوره في المثال الثاني.

و من البديهي: أن اللحاظ، و التصور مقارن للتكليف؛ أي: إيجاب الإطعام في المثال الأول، و إيجاب التصدق في المثال الثاني.

هذا معنى ما سبق في المقدمة من أن الشرط هو: ما كان بوجوده العلمي شرطا، فالشرط هو: لحاظه و تصوره لا وجوده العيني كما هو ظاهر إطلاق الشرط في سائر الموارد.

و الوجه و الدليل على ذلك: أن كل فعل اختياري - و منه التكليف - معلول للإرادة التي لا تتعلق بوجود شيء إلاّ لمصلحة موجبة لترجيح وجوده على عدمه، و تلك المصلحة تارة: تقوم بذات الشيء فقط، و أخرى: به مضافا إلى غيره المقارن له، أو المتقدم عليه، أو المتأخر عنه، فلأجل دخل ذلك الغير في المصلحة الموجبة لترجيح الوجود على العدم يلاحظه المكلف - بالكسر - سواء كان ذلك الغير مقارنا، أو مقدما، أو مؤخرا، و من المعلوم: أن التصور مقارن للتكليف، و إنما المتقدم أو المتأخر هو: وجود الملحوظ خارجا لا نفس اللحاظ المفروض كونه شرطا، فلا تنخرم القاعدة العقلية و هي: استحالة انفكاك الأثر عن المؤثر، و تأثير المعدوم في الوجود، أو انفكاك العلة عن المعلول.

فالمتحصل من الجميع هو: أن الشرط هو اللحاظ لا الوجود الخارجي، و انخرام القاعدة العقلية إنما يلزم فيما إذا كان الشرط هو الثاني دون الأول؛ لوضوح: كون اللحاظ من الشرط المقارن، لا من الشرط المتقدم أو المتأخر.

الجواب عن الإشكال في الشرط المتقدم و المتأخر

(1) المراد بالأول: هو شرط الحكم تكليفيا كان أو وضعيا، فحينئذ المراد بالثاني: هو شرط المأمور به، و بعبارة واضحة: أن المراد بالأول هو: شرط التكليف و الوضع، «فكون أحدهما» أي: المتقدم أو المتأخر «شرطا له» أي: للتكليف «ليس إلاّ إن للحاظه دخلا في تكليف الآمر» أي: أن الشرط هو لحاظ الشرط المتقدم أو المتأخر؛ لا الوجود الخارجي،

ص: 29

كالشرط المقارن بعينه، فكما أن اشتراطه بما يقارنه ليس إلاّ إن لتصوره (1) دخلا في أمره - بحيث لولاه (2) لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر - كذلك (3) المتقدم أو المتأخر.

و بالجملة: حيث كان الأمر من الأفعال الاختيارية كان من مبادئه (4) بما هو، كذلك تصور الشيء بأطرافه ليرغب في طلبه و الأمر به، بحيث لولاه (5) لما رغب فيه، و لما أراده و اختاره، فيسمى كل واحد من هذه الأطراف التي لتصورها (6) دخل في حصول الرغبة فيه و إرادته شرطا (7)؛ لأجل (8) دخل لحاظه في حصوله، كان مقارنا بمعنى: إن الوجود العيني للشرط المتقدم أو المتأخر ليس دخيلا في المشروط؛ حتى يستشكل بلزوم تأثير المعدوم في الموجود.

=============

(1) أي: لتصور المقارن للتكليف دخل في أمر الآمر.

(2) بحيث لو لا تصور المقارن لم يكن للآمر داع إلى الأمر.

(3) قوله: «كذلك» معادل لقوله: «فكما أن اشتراطه»، فمعنى العبارة حينئذ: فكما أن اشتراط التكليف بما يقارنه زمانا كاشتراطه بالوقت ليس إلاّ إن لتصور ما يقارن التكليف دخل في أمر الآمر؛ «كذلك المتقدم و المتأخر»، فإن الدخيل في الأمر هو لحاظها أي: وجودهما العلمي لا العيني.

(4) أي: كان من مبادئ الأمر «بما هو كذلك» أي: بما هو فعل اختياري «تصور الشيء» أي: تصور المأمور به «بأطرافه» أي: المقدم منه، و المؤخر، و المقارن.

(5) أي: لو لا تصور الشيء المأمور به لما رغب في ذلك الشيء، و لما أراده و اختاره؛ لتوقف الإرادة على التصور المذكور.

و المتحصل من الجميع: أن الشرط في جميع أقسام الشرط هو اللحاظ أي: لحاظ الشرط المتقدم و المتأخر كما هو الأمر في الشرط المقارن و اللحاظ مقارن للمشروط.

(6) أي: لتصور الأطراف «دخل في حصول الرغبة فيه» أي: الرغبة في الطلب.

(7) قوله «شرطا» مفعول، «فيسمى» أي: فيسمى كل واحد من هذه الأطراف التي لتصورها دخل في إرادة الشيء شرطا لذلك الشيء.

(8) اللام في قوله: «لأجل لحاظه» للتعليل، و متعلق بقوله: «فيسمى» أي: فيسمى كل ما لتصوره دخل في حصول الرغبة في الشيء و إرادته «شرطا لأجل دخل لحاظه في حصوله»، أي: لأجل دخل لحاظ كل واحد في حصول الرغبة. و تذكير ضمير حصوله الراجع إلى الرغبة بتأويل الرغبة بالميل، و إلاّ فالأولى تأنيث الضمير.

ص: 30

له (1) أو لم يكن كذلك (2)، متقدما أو متأخرا، فكما في المقارن (3) يكون لحاظه في الحقيقة شرطا، كان فيهما (4) كذلك فلا إشكال، و كذا الحال في شرائط الوضع

=============

(1) أي: كان وجود الملحوظ من تلك الأطراف خارجا مقارنا لحصول الرغبة، أو متقدما عليه، أو متأخرا عنه.

(2) أي: لم يكن مقارنا، بل كان متقدما أو متأخرا.

(3) أي: فكما في الشرط المقارن «يكون لحاظه» أي: يكون لحاظ المقارن في الحقيقة شرطا.

(4) أي: كان في الشرط المتقدم و المتأخر أيضا لحاظهما شرطا. فلا إشكال في الشرط المتقدم و المتأخر بالنسبة إلى التكليف؛ إذ المفروض: أن الشرط فيهما هو اللحاظ و هو مقارن للمشروط.

فحاصل ما أفاده المصنف في دفع الإشكال عن شرط التكليف: أن ما هو مأخوذ في التكليف شرطا مقارن له زمانا و هو لحاظ المتقدم أو المتأخر و وجودهما العلمي، و ما هو متقدم عليه أو متأخر عنه غير مأخوذ فيه، و هو وجودهما الخارجي، فلا يلزم انخرام القاعدة العقلية. هذا تمام الكلام في شرط التكليف، «و كذا الحال في شرائط الوضع» كالملكية و الزوجية و نحوهما من الأحكام الوضعية؛ أي: الحال في شرائط الأحكام الوضعية هو الحال في شرائط الأحكام التكليفية؛ في أن الشرط حقيقة في الحكم الوضعي هو اللحاظ أيضا، فعقد الفضولي الملحوظ معه الإجازة - و هي الشرط المتأخر - يؤثر في الملكية مثلا، و من البديهي: أن لحاظ الإجازة مقارن للملكية، فليس الشرط متأخرا.

و كيف كان؛ فالحال في شرائط الوضع هو نفس الحال في شرائط التكليف، من دون لزوم انخرام القاعدة العقلية فيهما؛ لأن الوضع كالملكية، و الزوجية، و الطهارة و النجاسة و نحوها؛ اعتبارات من المعتبر، و الاعتبار فعل اختياري ناشئ عن الإرادة؛ الناشئة عن تصور المصلحة، و ذلك يتحقق بعد تحقق الوجود العلمي للشرط؛ كما أشار إليه بقوله:

«فإن دخل شيء في الحكم به» أي: بالوضع إلى أن قال: «ليس إلاّ ما كان بلحاظه» أي:

بوجوده العلمي «يصح انتزاعه» أي: انتزاع الحكم الحكم الوضعي كالملكية، «و بدونه» أي بدون اللحاظ «لا يكاد يصح اختراعه عنده» أي: عند الحاكم، و محصل ما ذكره المصنف: أن وجود الشرط العلمي دخيل في الانتزاع؛ لا وجوده الخارجي حتى يقال:

بانفكاك الشرط عن المشروط.

فالمتحصل من الجميع: أن الشرط في التكليف هو: الوجود العلمي المتقدم، أو

ص: 31

مطلقا و لو كان مقارنا، فإن دخل شيء في الحكم به و صحة انتزاعه لدى الحاكم به، ليس إلاّ ما كان بلحاظه يصح انتزاعه، و بدونه لا يكاد يصح اختراعه عنده، فيكون دخل كل من المقارن و غيره بتصوره و لحاظه و هو مقارن، فأين انخرام القاعدة العقلية في غير المقارن ؟ فتأمل (1) تعرف.

و أما الثاني (2): فكون شيء شرطا للمأمور به ليس إلاّ ما يحصل لذات المأمور به المتأخر، بل المقارن و هو مقارن مع المشروط زمانا، فالصلاة التي تلحظ بالإضافة إلى البلوغ، و العقل، و القدرة، و الحياة، تكون مأمورا بها و واجبة، فلحاظها مقارن مع المشروط الذي هو الوجوب، و كذا الحال في الوضع؛ لأن عقد الفضولي الملحوظ معه إجازة المالك يؤثر في الملكية، فلحاظ الإجازة يكون مع العقد المذكور دائما، فلا يلزم انخرام القاعدة العقلية في شيء من شرائط الحكم التكليفي و الوضعي.

=============

(1) أي: تأمل في المقام حتى تعرف حقيقة المراد. و يمكن أن يكون إشارة إلى أن ما ذكره المصنف من: أن الشرط في الحقيقة هو: التصور و اللحاظ لا يصح بالنسبة إلى الله تعالى؛ لأنه منزه عن التصور و اللحاظ، و في المقام كلام طويل في تصحيح الشرط المتأخر، بل هنا أقوال، و قد تركنا الأقوال في تصحيح الشرط المتأخر، مع ما فيها من النقض و الإبرام رعاية للاختصار.

(2) أي: ما كان المتقدم أو المتأخر شرطا للمأمور به. و حق العبارة أن تكون هكذا:

و أما الثالث بدل قوله «و أما الثاني»؛ لأن مجرد ذكر القسم الثاني - و هو شرط الحكم الوضعي - في أثناء القسم الأول - أعني: شرط الحكم التكليفي لا يسوغ التعبير عن القسم الثالث بقوله: «و أما الثاني».

أقسام قبح الأشياء و حسنها

و كيف كان؛ فتوضيح ما أفاده المصنف في شرائط المأمور به يتوقف على مقدمة و هي: أن حسن الأشياء و قبحها على أقسام:

الأول: أن يكون كل واحد منهما ذاتيا: بأن يكون الشيء علة تامة للحسن أو القبح مثل الإحسان، و الظلم، حيث يكون الحسن ذاتيا للإحسان، و القبح ذاتيا للظلم.

الثاني: أن يكون الشيء مقتضيا للحسن أو القبح؛ كالصدق و الكذب، فإن الصدق مقتض للحسن، و الكذب مقتض للقبح، و الفرق بين هذا القسم الثاني و القسم الأول هو: أن كل واحد من الحسن و القبح لا ينفك عن الشيء في القسم الأول؛ بخلاف القسم الثاني فإن الحسن ينفك عن الصدق، كما أن القبح ينفك عن الكذب؛ فيما إذا كان الصدق سببا لقتل مؤمن، و الكذب سببا لنجاة مؤمن من القتل.

ص: 32

بالإضافة إليه وجه و عنوان؛ به يكون حسنا، أو متعلقا للغرض، بحيث لولاها لما كان كذلك، و اختلاف الحسن و القبح و الغرض باختلاف الوجوه و الاعتبارات الناشئة من الإضافات؛ مما لا شبهة فيه و لا شك يعتريه، و الإضافة كما تكون إلى المقارن؛ تكون إلى المتأخر، أو المتقدم بلا تفاوت أصلا كما لا يخفى على المتأمل، فكما تكون إضافة شيء إلى مقارن له موجبا لكونه معنونا بعنوان، يكون بذلك العنوان حسنا و متعلقا للغرض، كذلك إضافته إلى متأخر أو متقدم، بداهة: أن الإضافة إلى أحدهما ربما توجب ذلك أيضا، فلولا حدوث المتأخر في محله، لما كانت للمتقدم تلك الإضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه و الأمر به، كما هو الحال في المقارن أيضا، و لذلك أطلق الثالث: أن يكون حسن الشيء و قبحه بالوجوه و الاعتبارات؛ بأن لا يكون الشيء علة للحسن و القبح و لا مقتضيا لهما؛ بل كان الاتصاف بهما بالوجوه و الاعتبارات؛ بأن يكون حسنا بوجه و اعتبار، و قبيحا باعتبار آخر؛ كضرب اليتيم مثلا؛ فإنه حسن إذا كان للتأديب، و قبيح إذا كان للتشفّي.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن حسن المأمور به في محل الكلام من القسم الثالث؛ فإن شرط المأمور به يكون دخيلا في حصول الإضافة من الإضافات المحصلة لعنوان يكون المأمور به لأجله حسنا، و متعلقا للأمر؛ سواء كانت تلك الإضافة إضافة التقارن؛ كإضافة الصلاة إلى الاستقبال، أو التقدم؛ كإضافتها إلى الوضوء قبلها، أو التأخر؛ كإضافة صوم المستحاضة إلى الغسل الواقع في الليلة المستقبلة، فإطلاق الشرط على المتقدم أو المتأخر إنما هو لأجل كون كل واحد منهما طرفا للإضافة، و الشرط حقيقة هو نفس الإضافة التي تكون مقارنة للمشروط دائما، فلا تقدم و لا تأخر في الشرط، حتى يلزم انخرام القاعدة العقلية.

فالمتحصل من الجميع: أن معنى كون شيء شرطا للمأمور به ليس إلاّ كونه دخيلا في صيرورة المأمور به معنونا بعنوان به يكون حسنا و متعلقا للإرادة، و كما يمكن أن يصير الشيء بسبب إضافته إلى أمر مقارن معنونا بعنوان به يكون حسنا و متعلقا للإرادة، فكذلك يمكن أن يصير بسبب إضافته إلى أمر متقدم أو متأخر معنونا فعلا بعنوان حسن؛ موجب لإرادته و الأمر به، لأن اختلاف العناوين باختلاف الإضافات؛ كاختلاف الحسن و القبح باختلاف العناوين مما لا شك فيه مثل الكذب الذي بنفسه قبيح، و لكنه إذا أضيف إلى خلاص المؤمن من الظالم فهو حسن، و لم يأت هذا الحسن إلاّ من إضافته لخلاص المؤمن.

ص: 33

عليه الشرط مثله، بلا انخرام للقاعدة أصلا؛ لأن (1) المتقدم أو المتأخر كالمقارن ليس إلاّ طرف الإضافة الموجبة للخصوصية الموجبة للحسن.

و قد حقق في محله: أنه بالوجوه و الاعتبارات، و من الواضح: أنها (2) تكون بالإضافات، فمنشأ توهم الانخرام: إطلاق الشرط على المتأخر، و قد عرفت (3): أن إطلاقه (4) عليه فيه - كإطلاقه على المقارن - إنما يكون لأجل كونه طرفا للإضافة الموجبة للوجه الذي يكون بذاك الوجه مرغوبا و مطلوبا، كما كان في الحكم لأجل دخل تصوره (5) فيه؛ كدخل تصور سائر الأطراف و الحدود التي لو لا لحاظها لما حصل

=============

(1) قوله: «لأن المتقدم...» إلخ تعليل لعدم انخرام القاعدة العقلية.

و حاصل ما أفاده المصنف: أن الشرط المتأخر أو المتقدم للمأمور به؛ ليس و نفس المتأخر أو المتقدم المعدومين حين وجود المشروط المأمور به؛ حتى يقال: بأنه يستلزم تأثير المعدوم المتأخر أو المتقدم في المأمور به، و يلزم تأخر الشرط الذي هو جزء العلة عن المشروط، أو تقدمه عليه زمانا، بل الشرط هو: الوصف المنتزع عن إضافة المأمور به إلى ذلك المتقدّم أو المتأخّر، و من المعلوم: مقارنة هذا الوصف للمأمور به زمانا، فلا يرد إشكال تأخر الشرط أو تقدمه عن المأمور به.

(2) أي: الوجوه و الاعتبارات «تكون بالإضافات».

(3) أي: و قد علمت عند قولنا: «و الإضافة كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخر...» إلخ.

(4) أي: إطلاق الشرط على المتأخر في شرط المأمور به كإطلاقه على المقارن؛ «إنما يكون لأجل كون المتأخر طرفا للإضافة...» إلخ. فالمتقدم أو المتأخر ليس مؤثرا إلاّ في الإضافة فقط، و حيث أنها خفيفة المئونة فلا بأس بكون المتأخر أو المتقدم سببا لانتزاع عنوان حسن أو قبيح؛ يوجب تعلق الغرض به أمرا أو زجرا، فإطلاق الشرط على نفس المتأخر مسامحة، و هذا الإطلاق صار منشأ لتوهم انخرام القاعدة العقلية في الشرط المتأخر للمأمور به.

(5) أي: كما كان إطلاق الشرط في الحكم التكليفي و الوضعي لأجل دخل تصور ذلك المتأخر أو المتقدم في الحكم التكليفي أو الوضعي، فدخلهما في الحكم كدخل سائر الأطراف و الحدود التي لو لا لحاظها - حين إرادة الحكم - لما حصل له الرغبة في التكليف، أو لما صح عنده الوضع؛ كالحكم بالملكية مثلا، فإنه لا يصح إلاّ بعد لحاظ جميع ما له دخل في العقد الموجب لذلك؛ من بلوغ المتعاقدين، و رضاء المالك و غيرهما.

ص: 34

له الرغبة في التكليف، أو لما صح عنده الوضع. و هذه خلاصة ما بسطناه من المقال في دفع هذا الإشكال في بعض فوائدنا (1)، و لم يسبقني إليه أحد فيما أعلم. فافهم و اغتنم.

و لا يخفى: أنها (2) بجميع أقسامها داخلة في محل النزاع، و بناء على الملازمة و كيف كان؛ فالشرط في الحقيقة هو: إضافة خاصة للمأمور به، و الإضافة مقارنة مطلقا للمأمور به؛ بمعنى: أن الشيء لا يكون متعلقا للأمر إلاّ إذا كان معنونا بعنوان حسن، يستلزم تعلق الأمر به، و من الواضح: أن اختلاف الحسن و القبح إنما هو باختلاف الوجوه و الاعتبارات الناشئة من الإضافات، فالشيء باعتبار إضافة خاصة يكون ذا وجه به يتصف بالحسن.

=============

و عليه: فالذي يكون دخيلا في تعلق الأمر و صيرورة الشيء مأمورا به هو نفس إضافة ذات المأمور به إلى أمر آخر بإضافة خاصة؛ لا نفس الأمر، الآخر الذي يكون طرف الإضافة، و على هذا فشرطية شيء للمأمور به مرجعها إلى كون إضافة المأمور به إليه محصلة لوجه يوجب اتصافه بالحسن، فمرجعها إلى دخالة إضافة المأمور به في تعلق الأمر، و تأثيرها فيه، و من المعلوم: أنه كما تكون إضافة شيء إلى أمر مقارن له موجبة لتعنونه بعنوان حسن به يكون متعلقا للأمر؛ كذلك يمكن أن تكون إضافته إلى أمر متقدم عليه، أو متأخر عنه؛ موجبة لذلك فالتأثير في الحقيقة في جميع ذلك إلى الإضافة، و هي الشرط حقيقة، و هي مقارنة للمأمور به مطلقا، أما نفس الأمر المقارن أو المتقدم أو المتأخر: فإطلاق الشرط عليه باعتبار أنه طرف الإضافة لا غير؛ لا باعتبار أنه الشرط حقيقة كي يتوهم استلزام ذلك تأثير المعدوم في الموجود في مورد الشرط المتأخر أو المتقدم.

فالمتحصل من الجميع: أن الشرط في الحقيقة أمر مقارن للمشروط - سواء كان الحكم أو المأمور به - و إطلاق الشرط على الأمور المتأخرة و المتقدمة، بل المقارنة بلحاظ نوع من العلاقة و الارتباط بينها، و بين ما هو الشرط حقيقة، و المؤثر في الواقع. كما في «منتقى الأصول ج 2، ص 111» مع تصرف منا.

قوله: «و لم يسبقني إليه أحد فيما أعلم» كأنه افتخار منه على ما أفاده في بعض فوائده. «فافهم» إشارة إلى الدقة لكونه مسبوقا باغتنم.

(1) فوائد الأصول، ص 57، فائدة في تقدم الشرط على المشروط.

دخول شرائط المأمور به بجميع أقسامها في محل النزاع

(2) أي: شرائط المأمور به «بجميع أقسامها» أي: متقدمة كانت أو مقارنة أو متأخرة داخلة في محل النزاع؛ يعني: هل إنها واجبة أم لا؟ لاشتراك الجميع في المناط و هو:

ص: 35

يتصف اللاحق بالوجوب كالمقارن و السابق، إذ بدونه (1) لا تكاد تحصل الموافقة، و يكون سقوط الأمر بإتيان المشروط به مراعى بإتيانه (2)، فلولا اغتسالها (3) في الليل - على القول بالاشتراط - لما صح الصوم في اليوم.

=============

التوقف و المقدمية، فبناء على الملازمة يتصف اللاحق منها بالوجوب، كما يتصف المقارن و السابق.

(1) أي: بدون اللاحق لا تحصل الموافقة؛ فقوله: «إذ بدونه...» إلخ تعليل لاتصاف الشرط المتأخر بالوجوب لوجود المناط فيه.

(2) أي: مراعى بإتيان الشرط؛ سواء كان سابقا أو لا حقا أو مقارنا.

(3) أي: فلولا اغتسال المستحاضة في الليل - الذي تقدم الصوم عليه في النهار على القول بالاشتراط بالغسل - لما صح الصوم في اليوم المنقضي المتقدم. فالغسل في الليلة الآتية من الشرط المتأخر، و بدونه يبطل الصوم؛ لعدم انطباق المأمور به على فاقد الشرط.

و قوله: «فلولا» متفرع على وجوب الشرط المتأخر.

و المتحصل من الجميع: أن شرائط المأمور بجميع أقسامها داخلة في محل النزاع. أما شرائط التكليف و الوضع فهي خارجة عن محل النزاع.

و أما خروج شرائط التكليف: فلعدم تعقل ترشح الوجوب على شرائطه، لتأخره عنها.

و أما شرائط الوضع: فلعدم الوجوب أصلا حتى يقع النزاع في وجوب مقدماته.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - من تقسيمات المقدمة: تقسيمها إلى ما تكون متقدمة زمانا على ذيها، و ما تكون متأخرة عنه، و ما تكون مقارنة له، فمن أمثلة المتقدمة هو: العقد في الوصية، و الصرف، و السلم، بل غالب الأجزاء من كل عقد.

و من أمثلة المتأخرة: أغسال الليلة الآتية المعتبرة - عند بعض - في صحة صوم المستحاضة في اليوم السابق، و مثلها الإجازة المتأخرة في عقد الفضولي بناء على الكشف.

ثم إنه ربما يستشكل في المقدمة المتأخرة بتقريب: أن المقدمة من أجزاء العلة، فلا بد من تقدمها بجميع أجزائها على المعلول، و على هذا، فكيف تتصور مقدمية الأمر المتأخر؟ بل يرد الإشكال في الشرط و المقتضي المتقدمين زمانا المتصرمين حين الأثر أيضا؛ كالعقد في الوصية، بل غالب الأجزاء في كل عقد.

ص: 36

2 - الجواب عن الإشكال المذكور يتوقف على مقدمة و هي: أن الموارد التي توهم فيها انخرام القاعدة العقلية لا تخلو عن أقسام ثلاثة؛ فإن كل واحد من المتقدم أو المتأخر إما أن يكون شرطا للتكليف؛ كالاستطاعة لوجوب الحج، أو كالقدرة مثلا، أو لأمر وضعي كالإجازة في الفضولي، أو للمأمور به؛ كالأغسال الليلية في صوم المستحاضة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المتقدم أو المتأخر ليس بوجوده الخارجي شرطا للتكليف، و إنما الشرط هو لحاظه و هو مقارن للتكليف.

و كذلك الحال في شرائط الوضع، فإن الأمور الوضعية كالملكية مثلا لمّا كانت أمورا اعتبارية و انتزاعية فيمكن دخالة أمور متأخرة في اعتبارها و انتزاعها، و ليس معنى ذلك إلاّ إن للحاظ هذه الأمور دخلا في اعتبارها، فالملكية مثلا إنما يعتبرها الشارع و العقلاء بعد لحاظهم تحقق الإجازة و لو في زمان متأخر، و أما شرائط المأمور به: فمعنى كون شيء شرطا له ليس إلاّ كونه دخيلا في صيرورة المأمور به معنونا بعنوان؛ به يكون حسنا و متعلقا للإرادة، و كما يمكن أن يصير الشيء بسبب إضافته إلى أمر مقارن معنونا بعنوان به يكون حسنا و متعلقا للإرادة؛ فكذلك يمكن أن يصير بسبب إضافته إلى أمر متقدم أو متأخر معنونا بعنوان حسن موجب لإرادته و الأمر به.

فالشرط في الحقيقة ليس هو المتأخر أو المتقدم المعدومين عند تحقق المشروط حتى يقال: بانخرام القاعدة العقلية؛ بل الشرط هو الوصف المنتزع عن إضافة المأمور به إلى المتقدم أو المتأخر؛ و ذلك الوصف مقارن للمأمور، فلا يلزم تقدم الشرط أو تأخره عن المأمور به.

3 - شرائط المأمور به بجميع أقسامها داخلة في محل النزاع؛ بخلاف شرائط التكليف و الوضع فهي خارجة عن محل النزاع. أما خروج شرائط التكليف: فلعدم ترشح الوجوب على شرائطه لتأخره عنها. و أما شرائط الوضع: فلعدم الوجوب أصلا حتى يقع النزاع في وجوب مقدماته.

4 - رأي المصنف:

هو: دخول جميع أقسام المقدمة في محل النزاع؛ أي: من دون فرق بين المقارن و المتقدم و المتأخر، فيحكم بوجوب الجميع على تقدير الملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها. هذا تمام الكلام في خلاصة البحث.

ص: 37

الأمر الثالث في تقسيمات الواجب:(1)
منها: تقسيمه إلى المطلق و المشروط،
اشارة

و قد ذكر لكل منهما تعريفات و حدود، تختلف بحسب ما أخذ فيها من القيود، و ربما أطيل الكلام بالنقض و الإبرام في النقض على الطرد و العكس، مع إنها - كما لا يخفى - تعريفات لفظية لشرح الاسم، و ليست بالحد و لا بالرسم.

=============

(1) بعد ما فرغ المصنف «قدس سره» عن تقسيمات مقدمة الواجب شرع في تقسيمات الواجب و هي متعددة:

التقسيم الأول: تقسيمه إلى المطلق و المشروط، و في هذا التقسيم يبحث عن جهات:

و نذكرها إجمالا قبل تفصيل البحث عنها. فنقول:

الجهة الأولى: فيما ذكر لكل من المطلق و المشروط من تعريفات.

الجهة الثانية: في كون هذه التعاريف حقيقية أو لفظية.

الجهة الثالثة: في أن الظاهر من كلام الأصوليين هو: أن وصفي الإطلاق و الاشتراط وصفان إضافيان لا حقيقيان.

الجهة الرابعة: في رجوع القيد إلى مفاد الهيئة أعني: الوجوب، و تقييد الوجوب به، أو إلى المادة أعني: الواجب.

و أما تفصيل الكلام في الجهة الأولى فنقول: إنه قد ذكر لكل منهما تعاريف. منها:

ما أفاده صاحب الفصول تبعا للسيد عمود الدين من: أن الواجب المطلق ما لا يتوقف وجوبه على أمر زائد على الشرائط العامة المعتبرة في التكليف؛ من البلوغ، و العقل، و القدرة؛ كالصلاة مثلا حيث إن وجوبها بعد حصول الشرائط العامة لا يتوقف على شيء، و الواجب المشروط ما يتوقف وجوبه بعد الشرائط العامة على شيء آخر؛ كالحج فإن وجوبه بعد الشرائط العامة مشروط بالاستطاعة.

و منها: ما عن التفتازاني و المحقق الشريف و المحقق القمي: من أن الواجب المطلق ما لا يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده؛ كالصلاة حيث إن وجودها صحيحا يتوقف على الطهارة، و لا يتوقف وجوبها عليها؛ إذ هي واجبة على المكلف سواء كان مع الطهارة أو بدونها.

و الواجب المشروط حينئذ هو: ما يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده؛ كالحج مثلا حيث إن وجوبه يتوقف على الاستطاعة، كما إن وجوده في الخارج يتوقف عليها أيضا.

ص: 38

و منها: ما عن بعض - أي: صاحب الفصول أيضا - من: أن الواجب المطلق ما لا يتوقف تعلقه بالمكلف على أمر غير حاصل، و يقابله المشروط و هو: ما يتوقف تعلقه بالمكلف على أمر غير حاصل؛ فيصح أن يقال: إذا استطعت يجب عليك الحج، و لا يصح أن يقال: إذا توضأت تجب عليك الصلاة.

عدم اصطلاح جديد في لفظ المطلق و الشروط

و أما تفصيل الكلام في الجهة الثانية: فإن حاصل ما أفاده المصنف «قدس سره» هو:

أن هذه التعاريف لفظية، و ليست بحقيقية؛ لأنها ليست مطّردة و لا منعكسة أي: ليست مانعة الأغيار، و لا جامعة الأفراد.

أما عدم كونها مانعة الأغيار: فلانتقاض تعريف كل واحد منهما بالآخر؛ و ذلك أن وجوب الصلاة يتوقف على ما يتوقف عليه وجودها، و كذلك وجوبها يتوقف على أمر زائد على الشرائط العامة مثل الوقت؛ لأنه ما لم يتحقق الوقت لم يتحقق وجوبها، و لا وجودها صحيحا.

و الحال: أن الصلاة لا تخرج عن كونها واجبا مطلقا؛ سواء تحقق الوقت أم لم يتحقق، فينطبق تعريف الواجب المشروط على الصلاة بالإضافة إلى الوقت حسب التعريف الأول و الثاني، كما أنه ينطبق تعريف الواجب المطلق على الحج بالنسبة إلى قطع الطريق، مع إن الصلاة لا تخرج عن كونها واجبا مطلقا، و الحج لا يخرج عن كونه واجبا مشروطا.

أما عدم كونها جامعة الأفراد - حسب التعريف الثاني - فلأن هذا التعريف للمشروط لا يشمل مثل الحج مما يتوقف وجوبه على ما لا يتوقف عليه وجوده؛ ضرورة: أن وجود الحج لا يتوقف على الاستطاعة الشرعية؛ لإمكان تحققه بدونها أي: مع الفقر، فلا ينعكس حد المشروط، إذ ليس جامعا للأفراد، و لهذا يقول المصنف: إن التعريفات المذكورة تعريفات لفظية؛ فلا مجال حينئذ للنقوض المذكورة في الكتب على تعريفات الواجب المطلق و المشروط؛ لأنهم ليسوا بصدد تحديدهما حتى يرد النقض عليها طردا و عكسا، و إنما هم كانوا في مقام شرح الاسم المقصود به معرفة المعنى في الجملة؛ كتعريف سعدانة بأنها نبت.

ثم إطلاق المطلق على الواجب المطلق، و إطلاق المشروط على الواجب المشروط إنما هو بما لهما من المعنى العرفي و اللغوي، و ليس للأصوليين اصطلاح خاص فيهما، كما أشار إليه بقوله: «و الظاهر إنه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق

ص: 39

و الظاهر: أنه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق و المشروط؛ بل يطلق كل منهما بما له من معناه العرفي، كما أن الظاهر: أن وصفي الإطلاق و الاشتراط وصفان إضافيان لا حقيقيان، و إلاّ لم يكد يوجد واجب مطلق، ضرورة: اشتراط وجوب كل واجب ببعض الأمور، لا أقل من الشرائط العامة كالبلوغ، و العقل (1).

=============

و المشروط»؛ بل يطلق كل من المطلق و المشروط بما له من المعنى العرفي؛ و هو: كون الوجوب مطلقا يعني غير منوط بشيء. هذا في الواجب المطلق، و كونه منوطا به في الواجب المشروط.

فالمتحصل: أنه ليس لهم اصطلاح جديد حتى يقال: إنهم اختلفوا في تعريف كل منهما؛ بل هم بصدد شرح الاسم؛ و بيان المعنى العرفي، فلا معنى للنقض و الإبرام.

و أما تفصيل الكلام في الجهة الثالثة: - أعني كون كل من وصفي الإطلاق و الاشتراط وصفين إضافيين لا حقيقيين - فهي ما أشار إليه بقوله: «كما أن الظاهر: أن وصفي الإطلاق و الاشتراط وصفان إضافيان لا حقيقيان» بمعنى: أنه يمكن أن يكون شيء واحد بالإضافة إلى شيء مطلقا، و بالإضافة إلى الآخر مقيدا و مشروطا؛ مثل وجوب الصلاة مثلا فإنه مطلق بالإضافة إلى الطهارة، و مشروط بالإضافة إلى الزوال و دخول الوقت، و كذلك وجوب الحج فإنه مطلق بالإضافة إلى السير و قطع المسافة، و مشروط بالإضافة إلى الاستطاعة.

فهذا دليل واضح على أن الإطلاق و الاشتراط أمران إضافيان؛ إذ لو لم يكن كل واحد منهما كذلك - بأن كانا حقيقيين - لم يكد يوجد هناك واجب مطلق من جميع الجهات، و لا واجب مشروط كذلك، كما أشار إليه بقوله: «و إلاّ لم يكد يوجد واجب مطلق» أي: و إن لم يكن الوصفان إضافيين؛ بأن كانا حقيقيين لم يكن وجه للبحث عن الواجب المطلق أصلا، إذ لم يوجد هناك واجب مطلق من جميع الجهات، و لا واجب مشروط كذلك؛ إذ ليس في الواجبات الشرعية ما يكون مشروطا بكل شيء، و لا مطلقا بالإضافة إلى كل شيء.

(1) أي: أن كل واجب مشروط بالنسبة إلى الشرائط العامة و هي أربعة: القدرة، و العلم، و العقل، و البلوغ.

و أما تفصيل الكلام في الجهة الرابعة: - و هي النزاع المعروف بين الشيخ الأنصاري و غيره من الأعلام - فهو: أن القيود المأخوذة في لسان الأدلة هل هي ترجع إلى مفاد الهيئة أو إلى المادة.

ص: 40

فالحري (1) أن يقال: إن الواجب مع كل شيء يلاحظ معه، إن كان وجوبه غير مشروط به، فهو مطلق بالإضافة إليه، و إلاّ فمشروط كذلك، و إن كانا بالقياس إلى شيء آخر كانا بالعكس.

ثم الظاهر (2): أن الواجب المشروط كما أشرنا إليه، أن نفس الوجوب فيه

=============

(1) و قبل تفصيل البحث في الجهة الرابعة نذكر ما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 2، ص 42» من توضيح عبارة المتن: «فالحري أن يقال: إن الواجب مع كل شيء يلاحظ معه» أي: أن الواجب مع كل شيء من مقدماته الذي يلاحظ الواجب معه «إن كان وجوبه غير مشروط به»؛ بأن كان المولى يريد الواجب على كل حال «فهو مطلق بالإضافة إليه» أي: إلى ذلك الشيء؛ أعني: المقدمة، «و إلا» أي: و إن لم يكن كذلك - بأن كان وجوب الواجب بشرط وجود تلك المقدمة - «فمشروط كذلك» أي: بالإضافة إلى تلك المقدمة، و إن كان كل من الواجبين المطلق بالإضافة و المشروط بالإضافة «بالقياس إلى شيء آخر» من المقدمات «بالعكس».

فالمطلق مشروط، و المشروط مطلق، فالصلاة بالإضافة إلى الطهارة واجب مطلق، و الحج بالإضافة إلى الزاد مشروط، و إن كانت الصلاة بالإضافة إلى شيء آخر كالوقت مشروطا، و الحج بالإضافة إلى شيء آخر كالسير مطلقا.

رجوع القيد إلى الواجب دون الوجوب عند الشيخ «قدس سره»

(2) هذا الكلام من المصنف توطئة لبيان النزاع بين الشيخ الأنصاري، و بين غيره من الأعلام - و المصنف منهم - و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة: و هي: أن للأمر مثلا هيئة تفيد الوجوب، و مادة هي متعلق الوجوب، فإذا قيد الأمر بقيد كان حتما ظرف الفعل في زمان حصول ذلك الشرط.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن مبنى الشيخ «قدس سره» على أن القيد يرجع إلى المادة، و الهيئة تبقى على إطلاقها، فالوجوب في الحال، و إنما الواجب متأخر، فإذا قال: «حج إن استطعت» وجب على المكلف في الحال الحج الواقع بعد الاستطاعة.

و أما على مبنى المصنف و غيره من الأعلام: فالقيد يرجع إلى مفاد الهيئة، و المادة تتقيد بتبع مفادها، فالوجوب كالواجب متأخر فلا يجب في الحال، و إنما يجب الحج بعد الاستطاعة.

و هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «إن الواجب المشروط كما أشرنا إليه، أن نفس الوجوب فيه مشروط بالشرط» أي: تقدم في كلامه الإشارة إلى الواجب المشروط حيث قال: «ضرورة: اشتراط وجوب كل واجب ببعض الأمور»، و قال أيضا: «إن كان وجوبه غير مشروط فهو مطلق بالإضافة إليه، و إلاّ فمشروط كذلك».

ص: 41

مشروط بالشرط، بحيث لا وجوب حقيقة، و لا طلب واقعا قبل حصول الشرط، كما هو ظاهر الخطاب التعليقي (1)، ضرورة: أن ظاهر خطاب «إن جاءك زيد فأكرمه» كون الشرط من قيود الهيئة (2)، و أنّ طلب الاكرام و إيجابه معلق على المجيء (3)، لا أن الواجب فيه (4) يكون مقيدا به، بحيث يكون الطلب و الإيجاب في الخطاب فعليا و مطلقا، و إنما الواجب يكون خاصا و مقيدا، و هو الإكرام على تقدير المجيء، فيكون الشرط من قيود المادة لا الهيئة، كما نسب ذلك إلى شيخنا العلامة (5) «أعلى الله مقامه»، مدعيا لامتناع كون الشرط من قيود الهيئة (6) واقعا، و لزوم كونه من قيود

=============

(1) أي: ظاهر الخطاب التعليقي هو: كون نفس الوجوب مشروطا.

وجه الظهور: هو أن المعلق على الشرط هو الجزاء؛ كوجوب الإكرام المعلق على المجيء في قوله: «إن جاءك زيد فأكرمه»، فيكون الشرط قيدا لهيئة الجزاء التي وضعت للنسبة الطلبية، فالوجوب المستفاد من الهيئة معلق على الشرط، فقبل حصوله لا وجوب أصلا.

(2) أي: من قيود الهيئة الجزائية كما هو رأي المصنف، لا من قيود المادة كما نسب إلى الشيخ الأنصاري «قدس سره»؛ لأن أكرم عند التحليل: «وجوب الإكرام».

و من البديهي: أنه لو قيل وجوب الإكرام مشروط بالمجيء يفهم منه: أن المضاف أي:

لفظ الوجوب مقيد و مشروط بالمجيء؛ لا أن المضاف إليه أعني: لفظ الإكرام مقيد به.

(3) أي: لو لا المجيء لا إيجاب و لا وجوب.

(4) أي: ليس الشرط من قيود المادة، بأن يكون الواجب في الطلب مقيدا بالشرط كما يقول الشيخ الأنصاري «قدس سره»؛ حيث يكون الواجب خاصا أعني: مخصوصا بزمان المجيء و هو الإكرام على تقدير المجيء في المثال المذكور على رأي الشيخ «قدس سره».

(5) نسبه إلى الشيخ الأعظم: صاحب مطارح الأنظار. راجع ج 1، ص 236.

(6) أي: فقد وقع الكلام بين الأعلام في إمكان الواجب المشروط؛ بمعنى: إمكان رجوع القيد إلى الوجوب، و تقييد الوجوب به؛ بحيث لا يتحقق إلاّ بعد تحققه. و عمدة الأقوال فيه قولان:

أحدهما: ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري «قدس سره» على ما في التقريرات: من عدم إمكان رجوع القيد إلى الوجوب، و إنما هو راجع إلى الواجب، فالوجوب فعلي مطلق؛ كما أشار إليه المصنف بقوله: «مدعيا لامتناع كون الشرط من قيود الهيئة واقعا، و لزوم

ص: 42

المادة لبا، مع الاعتراف بأن قضية القواعد العربية أنه من قيود الهيئة ظاهرا.

=============

كونه من قيود المادة لبا».

و ثانيهما: ما التزم به المصنف تبعا للمشهور من: إمكان رجوع القيد إلى الوجوب، و تعليق تحققه على الشرط.

و حاصل ما نسب إلى الشيخ الأنصاري يرجع إلى دعويين: دعوى استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة، و دعوى لزوم رجوعه إلى المادة لبا مع اعترافه بأن مقتضى القواعد العربية هو رجوع القيد إلى الهيئة في الجملة الشرطية لا إلى المادة.

و قد استدل الشيخ الأنصاري «قدس سره» على ما ذهب إليه بوجهين:

و قد استدل الشيخ الأنصاري «قدس سره» على ما ذهب إليه بوجهين(1):

الوجه الأول: - و هو الدليل على الدعوى الأولى -: أن مفاد الهيئة معنى حرفي غير قابل للإطلاق و التقييد؛ لأن التقييد من شأن المفاهيم القابلة للسعة و الضيق، و الحرف موضوع للمعنى الجزئي الحقيقي، و من البديهي: أن الجزئي غير قابل للتقييد، فيمتنع رجوع القيد إلى مفاد الهيئة؛ لعدم قابليته للتقييد، فإن ما هو قابل له هو المعنى الكلي حيث يصدق على حصص متعددة، فيكون قابلا للإطلاق و التقييد. هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «أما امتناع كونه من قيود الهيئة» إلى أن قال: «فكل ما يحتمل رجوعه إلى الطلب - الذي يدل عليه الهيئة - فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة»، فيكون الوجوب حينئذ مطلقا، و حاليا، و الواجب مقيدا و استقباليا.

الوجه الثاني - و هو الدليل على الدعوى الثانية: و هي ما أشار إليه بقوله: «و أما لزوم كونه من قيود المادة لبا» - هو شهادة الوجدان بعدم اشتراط الوجوب و الطلب في شيء من الموارد.

توضيح ذلك بعد تقديم مقدمة و هي: أن الإنسان العاقل إذا توجه إلى شيء إما أن يتعلق به طلبه باعتبار اشتماله على المصلحة الداعية للأمر، أو لا يتعلق به طلبه، أما الفرض الثاني: فهو خارج عن محل الكلام، و أما الفرض الأول: فهو على قسمين:

أحدهما: أن يتعلق به الطلب بلا قيد لترتب المصلحة عليه بلا تعليق على شيء؛ كما إذا طلب الماء مطلقا.

و ثانيهما: أن يتعلق به مع قيد و خصوصية كما إذا طلب الماء بقيد البرودة و الصفاء و هذا القسم يتصور على وجهين:

أحدهما: أن يكون القيد غير اختياري؛ كالبلوغ، و الوقت المقيد بهما الصلاة.

ص: 43


1- راجع: مطارح الأنظار، ج 1، ص 237.

أما امتناع كونه من قيود الهيئة: فلأنه لا إطلاق في الفرد الموجود من الطلب المتعلق بالفعل المنشأ بالهيئة؛ حتى يصح القول بتقييده بشرط و نحوه، فكل ما يحتمل رجوعه إلى الطلب - الذي يدل عليه الهيئة -، فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة.

و أما لزوم كونه (1) من قيود المادة لبّا: فلأن العاقل إذا توجه إلى شيء و التفت إليه، فإما أن يتعلق طلبه به، أو لا يتعلق به طلبه أصلا، لا كلام على الثاني.

و على الأول: فإما أن يكون ذاك الشيء موردا لطلبه و أمره مطلقا على اختلاف طوارئه، أو على تقدير خاص، و ذلك التقدير تارة يكون من الأمور الاختيارية (2)، و أخرى: لا يكون كذلك (3)، و ما كان من الأمور الاختيارية قد يكون مأخوذا فيه (4) على نحو يكون موردا للتكليف، و قد لا يكون كذلك (5)، على اختلاف الأغراض ثانيهما: أن يكون القيد اختياريا؛ كالاستطاعة.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن التقييد في جميع هذه الأقسام و الصور راجع إلى المادة، فالقيد سواء كان اختياريا أو غير اختياري قيد للمادة؛ و هو الواجب لا الوجوب و هو مفاد الهيئة، فرجوع القيد إلى المادة أمر وجداني يلتفت إليه كل أحد، و يجده من نفسه، و بهذين الوجهين استدل الشيخ الأنصاري على ما ذهب إليه من عدم رجوع القيد إلى الهيئة، و رجوعه إلى المادة.

(1) قوله: «و أما لزوم كونه» - أي: الشرط من قيود المادة - إشارة إلى الدليل على الدعوى الثانية؛ بمعنى: أنه بعد امتناع رجوع القيد إلى الهيئة يتعين رجوعه إلى المادة.

(2) أي: كالطهارة للصلاة، و الاستطاعة للحج.

(3) أي: لا يكون من الأمور الاختيارية؛ كالوقت بالنسبة إلى الصلاة.

(4) أي: الأمر الاختياري قد يكون مأخوذا في الطلب «على نحو يكون موردا للتكليف»؛ بحيث يتوجه التكليف إلى الفعل حال تحقق ذلك الأمر الاختياري؛ كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة، فيجب تحصيل ذلك الأمر الاختياري من باب المقدمة للواجب المطلق.

(5) أي: و قد لا يكون الأمر الاختياري موردا للتكليف؛ كالاستطاعة لمن تمكن من تحصيلها، فإنها لم تقع موردا للتكليف، فلا يتوجه التكليف إلى المقدمة؛ بل يجب الإتيان بالواجب على تقدير حصول المقدمة و هو الواجب المشروط.

ثم اختلاف وقوع شيء مطلقا أو مقيدا ناشئ من اختلاف الأغراض الداعية إلى

ص: 44

الداعية إلى طلبه و الأمر به، من غير فرق في ذلك بين القول بتبعيّة الأحكام للمصالح و المفاسد، و القول بعدم التبعيّة كما لا يخفى.

هذا موافق لما أفاده بعض الأفاضل (1) المقرر لبحثه بأدنى تفاوت، و لا يخفى ما فيه (2).

أما حديث عدم الإطلاق في مفاد الهيئة (3)، فقد حققناه سابقا: أن كل واحد من ذلك؛ بمعنى: أنه ربما يكون الغرض طلبه مطلقا و ربما يكون مشروطا. و لا فرق في اختلاف وقوع شيء مطلقا أو مقيدا بين القول بتبعية الأحكام للمصالح و المفاسد، و القول بعدم التبعية، فكما أنه بناء على التبعية يكون الوجوب حاليا و القيد راجعا إلى المادة؛ كذلك بناء على عدم التبعية، و مذهب الأشعري فإنه يقول: بأن تصور الفعل علة تامة للميل إلى الأمر و الطلب مطلقا، أو مقيدا بشيء.

=============

نعم؛ على القول بالتبعية يكون الاختلاف المزبور ناشئا من اختلاف المصالح و الأغراض.

و كيف كان؛ فقالت العدلية: بتبعية الأحكام للمصالح و المفاسد؛ فإن اللّه تعالى لا يفعل و لا يأمر و لا ينهى إلاّ لغرض و فائدة؛ نظرا إلى أن الفعل بلا غرض و فائدة عبث، و العبث قبيح، و القبيح يستحيل عليه تعالى.

و قالت الأشاعرة: بعدم تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد؛ بل جوّزوا عليه تعالى أن يفعل أو يأمر أو ينهى بغير غرض و فائدة؛ نظرا إلى أن الفعل بلا غرض و فائدة عبث، و العبث قبيح، و القبيح يستحيل عليه تعالى.

و قالت الأشاعرة: بعدم تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد؛ بل جوّزوا عليه تعالى أن يفعل أو يأمر أو ينهى بغير غرض و فائدة؛ بتوهم: أن الفعل لغرض و فائدة من شأن الناقص المستكمل بذلك الغرض و الفائدة، و هو «تبارك و تعالى» كامل لا نقص فيه، غفلة عن أن النقص إنما يلزم إذا كان النفع عائدا إليه تعالى، و أما إذا كان عائدا إلى غيره فلا يوجب ذلك نقصا فيه تعالى.

(1) أي: و هو العلامة الميرزا أبو القاسم النوري؛ كما في «منتهى الدراية» ج، 2 ص 163.

إشكال المصنف على استدلال الشيخ

(2) أي: ما في استدلال الشيخ الأنصاري من الإشكال.

(3) هذا جواب عن الاستدلال بالوجه الأول؛ و هو: الدليل على الدعوى الأولى.

و حاصل جواب المصنف عن الوجه الأول هو: أن مفاد الهيئة و إن كان معنى حرفيا؛ إلاّ إن المعنى الحرفي لا يختلف عن المعنى الاسمي في كونه مفهوما كليّا، و إن اختلف معه في كيفية الوضع و نحوه، فكما أن المعنى الاسمي يقبل التقييد لقابليته للسعة و الضيق؛ كذلك المعنى الحرفي لما حققه المصنف في المعاني الحرفية؛ من اشتراكهما في

ص: 45

الموضوع له و المستعمل فيه في الحروف يكون عاما كوضعها، و إنما الخصوصية من قبل الاستعمال كالأسماء، و إنما الفرق بينهما أنها وضعت لتستعمل و قصد بها المعنى بما هو هو، و الحروف (1) وضعت لتستعمل و قصد بها معانيها بما هي آلة و حالة لمعاني المتعلقات، فلحاظ الآلية كلحاظ الاستقلالية ليس من طوارئ المعنى؛ بل من مشخصات الاستعمال كما لا يخفى على أولي الدراية و النّهى. فالطلب المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلق قابل لأن يقيد؛ مع إنه لو سلم أنه فرد (2) فإنما يمنع عن المفهومية التي هي موضوع الإطلاق و التقييد، فيكون المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي كليا قابلا للإطلاق و التقييد.

=============

فكل من الموضوع له و المستعمل فيه في الحروف عام، و الخصوصية تنشأ من ناحية الاستعمال؛ فيمتنع دخلها في الموضوع له، كما أشار إليه بقوله: «و إنما الخصوصية...» إلخ.

و بالجملة: أن المعنى الحرفي كلي قابل للتقييد؛ كالمعنى الاسمي، فلا مانع حينئذ من رجوع القيد إلى الهيئة لكون معناها كليا لا جزئيا حقيقيا، و يصح أن يقال: «إن جاءك زيد فأكرمه»، و يراد منه: أن الطلب عند المجيء ثابت لإكرام زيد.

(1) أي: غاية ما يقال في الفرق بين الاسم و الحرف هو: أن الاسم وضع ليراد معناه بما هو هو، و الحرف وضع ليراد معناه حالة لغيره، و اللحاظان خارجان عن المعنى، فلا يكون معناهما جزئيا ذهنيا. فإن لحاظ الآلية في الحروف كلحاظ الاستقلالية في الأسماء إنما هو من مشخصات الاستعمال، لا من خصوصيات المعنى، و من طوارئه، و لوازمه كما لا يخفى على أولى الدراية و النهى.

(2) هذا هو الجواب الثاني عن الوجه الأول، و حاصل ما أفاده المصنف من الجواب عن الوجه الأول:

ثانيا: أننا لو سلمنا أن الهيئة مستعملة في الفرد من الطلب فنقول: إن الفرد لا يقبل التقييد إذا أنشئ أولا مطلقا، ثم أريد تقييده، فهذا الفرد لا يمكن تقييده عقلا؛ لأن الفرد بمجرد الإنشاء يتشخص بتشخص خاص، و لا يعقل انقلاب الشخص المنشأ مطلقا إلى الشخص المقيد، هذا بخلاف ما إذا أنشئ من أول الأمر مقيدا بحيث يلاحظ القيد و المقيد فيصبّ عليهما الإنشاء مرة واحدة، فالممتنع هو الأول دون الثاني.

و بعبارة أخرى: أن التقييد على قسمين: أحدهما: إيجاد شيء مقيدا و مضيقا؛ نظير ضيق فم الركية. و الآخر: تضييق ما أوجد موسعا، و المقام نظير القسم الأول.

ص: 46

التقييد لو أنشئ أولا غير مقيد، لا ما إذا أنشئ من الأول مقيدا، غاية الأمر: قد دل عليه بدالين، و هو غير إنشائه أولا، ثم تقييده ثانيا، فافهم (1).

فإن قلت: على ذلك (2)؛ يلزم تفكيك الإنشاء من المنشأ، حيث لا طلب قبل حصول الشرط.

قلت: المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله؛ فلا بد أن لا يكون قبل و كيف كان؛ فملخص الجواب: أن الطلب الخاص الذي هو مفاد الهيئة لم يقيد بشيء بعد إنشائه بالصيغة حتى يقال: إن الجزئي غير قابل للتقييد؛ بل أنه أنشئ مقيدا؛ بمعنى: أن المتكلم تصور الطلب بجميع خصوصياته المقصودة ثم أنشأه بالهيئة مقيدا بالخصوصية و هي الشرط، فالشرط قرينة تدل على الخصوصية، و الصيغة تدل على الطلب المطلق، فيكون من باب تعدد الدال و المدلول، كما أشار إليه المصنف بقوله: «قد دل عليه بدالين» أي: دل على المقيد بدالين: الأول: الهيئة: الثاني: الشرط، فلا محذور في هذا التقييد أصلا.

=============

(1) لعله إشارة إلى أن المعنى الحرفي - على مذهب الشيخ الأنصاري - بذاته جزئي حقيقي؛ لا أنه كلي، و إنما جزئيته من ناحية الإنشاء، فلا إطلاق له في حد ذاته حتى يصح إنشاؤه مقيدا.

أو إشارة إلى أنه لو سلم أن الطلب إذا أنشئ أولا مطلقا فلا يقبل التقييد بعد، فما ذا يقال في مثل: أكرم زيدا إن جاءك ؟ بحيث أخّر الشرط عن الطلب، و لم يقل إن جاءك زيد فأكرمه، فإن الطلب حينئذ قد أنشئ أولا مطلقا، فكيف يقيد بالشرط بعد؟ فينحصر الجواب الذي لا يرد عليه الإشكال في الجواب الأول و هو: أن المعنى الحرفي كلي قابل للتقييد.

الإشكال على رجوع القيد إلى الهيئة

(2) أي: على ما ذكرت من كون الشرط قيدا للهيئة و الطلب المستفاد منها: «يلزم تفكيك الإنشاء من المنشأ»، و هذا الاعتراض على المصنف دليل آخر أي: دليل ثالث على ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري؛ من رجوع القيد إلى المادة لا إلى الهيئة.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: الإنشاء و المنشأ كالإيجاد و الوجود، و العلة و المعلول؛ في استحالة الانفكاك بينهما، فكما لا ينفك الوجود عن الإيجاد، و المعلول عن العلة؛ فكذلك لا ينفك المنشأ عن الإنشاء؛ لأن الإنشاء علة للمنشإ هذا من ناحية، و من ناحية أخرى: أن تقييد المنشأ - و هو مفاد الهيئة - يرجع إلى تقييد الإنشاء.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه على تقدير كون الشرط قيدا للهيئة - كما هو رأي المصنف لا قيدا للمادة كما هو رأي الشيخ - يلزم انفكاك الإنشاء زمانا عن المنشأ؛ لأن

ص: 47

حصوله طلب و بعث، و إلاّ لتخلف عن إنشائه و إنشاء أمر على تقدير كالإخبار به (1) بمكان من الإمكان، كما يشهد به الوجدان، فتأمل جيدا.

=============

الطلب لا يحصل إلاّ بعد حصول شرطه حسب الفرض، و المفروض: أن الإنشاء حالي، و المنشأ - و هو الطلب - استقبالي، فينفك الإنشاء عن المنشأ، و هو مستحيل؛ لاستحالة انفكاك المعلول عن العلة؛ لأن الإنشاء علة للمنشإ، فحينئذ لا محيص عن رجوع الشرط إلى المادة كما هو رأي الشيخ الأنصاري.

و قد أجاب عن هذا الاعتراض بقوله: «قلت: المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله...» إلخ.

و توضيح ما أفاده المصنف من الجواب يتوقف على مقدمة و هي: أن الإنشاء - و إن كان علة للمنشإ - إلاّ إنه ليس علة تامة في جميع الموارد؛ بل قد يكون علة تامة كإنشاء الوجوب للصلاة مثلا على نحو مطلق و بلا قيد، فلا يلزم الانفكاك أصلا لحصولهما فعلا. و قد يكون علة ناقصة؛ بأن يكون الإنشاء جزء العلة، و جزؤها الآخر هو الشرط؛ كإنشاء الوجوب للحج بشرط الاستطاعة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا يلزم الانفكاك على الأول، و أما على الثاني: و إن كان يلزم ذلك إلاّ إنه مما لا محذور فيه؛ لورود الإنشاء على المقيد بشرط، فحصوله بمجرد الإنشاء مستلزم للخلف، فشأن الإنشاء حينئذ هو شأن الإرادة في أنه إذا تعلقت بشيء متأخر فلا يقع المراد قبله، و إلاّ يلزم الخلف و كذا الإنشاء؛ فإذا تعلق بشيء مقيد بأمر متأخر فلا يقع المنشأ قبله.

(1) أي: كالإخبار بأمر على تقدير «بمكان من الإمكان»؛ أي: فكما لا يوجب تعليق المخبر به - في قولك: إن جاء زيد يكرمه عمرو - تعليقا في الإخبار؛ فكذلك تعليق المنشأ لا يوجب تعليقا في الإنشاء، فتوهم: كون المنشأ و الإنشاء كالإيجاد و الوجود التكوينيين غير قابلين للتعليق، و أن تعليق المنشأ يسري إلى الإنشاء فاسد؛ لعدم صحة قياس المنشأ و الإنشاء بالإيجاد و الوجود، بل الإنشاء نظير الإخبار؛ لا الإيجاد التكويني، فالإنشاء لأمر على تقدير كالإخبار به على تقدير بمكان من الإمكان، «كما يشهد به» أي:

بإمكان إنشاء أمر على تقدير أمر «الوجدان»؛ كإنشاء تمليك معلق على الموت في الوصية التمليكية مثلا.

و قيل: كان الأولى على المصنف تبديل - الوجدان - بالدليل؛ لأن ترتب الأثر في موارد تخلف المنشأ عن الإنشاء زمانا إنما هو بالدليل الشرعي، لا الوجدان، إلاّ إن يريد بالوجدان حكم العقلاء و العرف بذلك، غاية الأمر: أن الشرع أمضاه.

ص: 48

و كيف كان؛ فقد يقال: إن قياس الإنشاء بالإخبار قياس مع الفارق؛ بناء على ما هو نظرية المشهور من أن الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ، فيكون الإنشاء و المنشأ نظير الإيجاد و الوجود، فلا يمكن تخلف المنشأ عن الإنشاء، كما لا يتخلف الوجود عن الإيجاد.

و أما بناء على ما هو نظرية الأستاذ السيد الخوئي «قدس سره»؛ من أن الإنشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج بمبرز من قول أو فعل: فيصح قياس الإنشاء بالإخبار في صحة التعليق، و يندفع الإشكال المذكور من أصله؛ إذ يمكن أن يكون الاعتبار حاليا، و المعتبر أمرا متأخرا، كاعتبار وجوب الصوم على زيد غدا، فالتفكيك بين الاعتبار و المعتبر - و إن كان يلزم - إلاّ إنه لا محذور فيه، و لا يقاس ذلك بالتفكيك بين الإيجاد و الوجود في التكوينيات، و يشهد لما ذكرناه صحة الوصية التمليكية، فلو قال الموصي: هذه الدار لزيد بعد وفاتي؛ فلا شبهة في تحقق الملكية للموصى له بعد وفاته، مع إن الاعتبار فعلي، و من البديهي: أن هذا ليس إلاّ من ناحية أن الموصي اعتبر فعلا الملكية للموصى له في ظرف الوفاة. و من هنا لم يستشكل أحد في صحة تلك الوصية حتى من القائلين برجوع القيد إلى المادة دون الهيئة.

قوله: «فتأمل جيدا» لعله إشارة إلى إشكال و جواب. و أما تقريب الإشكال فيقال: إن المنشأ إذا كان بعد حصول الشرط يلزم تأثير المعدوم في الموجود؛ لأن الإنشاء حين وجود الشرط معدوم.

و أما الجواب: فأوّلا: بالنقض، و هو أن المنشأ إذا كان بعد حصول الشرط المتقدم يلزم تأثير المعدوم في الموجود؛ إذ المفروض: أن الشرط المتقدم أيضا جزء من العلة، فلولاه لم يكن وجوب.

و ثانيا: بالحل، و هو: أن المنشأ أمر اعتباري، فيصح أن يكون منشؤه متقدما كما تقدم بيانه في تصوير الشرط المتأخر هذا تمام الكلام في الجواب عن الدليل الأول للشيخ.

و أما الجواب عن دليله الثاني و هو: حديث لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبّا؛ فقد أشار إليه بقوله «ففيه: أن الشيء إذا توجه إليه و كان موافقا للغرض...» إلخ.

و حاصل ما أجاب المصنف عن الدعوى الثانية للشيخ الأنصاري - و هي: لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبّا - هو: صحة رجوع الشرط إلى الهيئة، و عدم امتناعه، بلا فرق بين القول بتبعية الأحكام لما في أنفسها من المصالح و المفاسد، و بين القول بتبعيتها لما في متعلقاتها من المصالح و المفاسد على ما عليه الأكثر.

ص: 49

توضيح ذلك بعد تقديم مقدمة و هي: أن الأحكام - على ما هو الحق عند العدلية - تابعة للمصالح و المفاسد؛ إما في نفس الأحكام، أو في متعلقاتها، ثم تلك المصالح تارة:

لا يكون حصولها مشروطا بشرط، و أخرى: يكون حصولها مشروطا بشرط.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن حال الطلب النفساني الذي يظهر و ينقدح في نفس الطالب و الآمر كحال الإرادة، فإن الإنسان إذا راجع وجدانه و التفت إلى شيء فقد لا يريده أصلا، و قد يريده على كل حال و تقدير، و قد يريده على تقدير دون تقدير، و حال دون حال، بل الطلب هو نفس الإرادة على ما سبق في بحث اتحاد الطلب و الإرادة.

ثم وجه اختلاف الطلب و الحكم إطلاقا و تقييدا: أن الإنسان قد يتوجه إلى شيء فيتعلق به طلبه النفساني لأجل ما فيه من المصلحة، و لكن ربما يمنعه المانع عن إنشاء الطلب المطلق الحالي، فيضطر الإنسان إلى إنشاء طلب مشروط بشرط مترقب الحصول المقارن لزوال المانع ثبوتا لتحصيل تلك المصلحة.

هذا ظاهر بناء على تبعية الأحكام للمصالح في متعلقاتها.

و أما بناء على تبعية الأحكام للمصالح في نفس الأحكام: فالأمر أوضح و أظهر؛ لأنه كما تكون المصلحة في الحكم المطلق بلا قيد؛ فكذا تكون المصلحة في الحكم المشروط.

الأول: كوجوب الصلاة بالإضافة إلى الطهارة. الثاني: كوجوب الحج بالإضافة إلى الاستطاعة؛ إلاّ إن الحكم الفعلي قد يتخلف عن المصلحة التامة الكاملة على كلا القولين - هما تبعية الأحكام للمصالح في متعلقاتها أو في أنفسها - كما في موارد قيام الأمارات، أو الأصول العملية على خلاف الأحكام الواقعية الموجب لسقوطها عن الفعلية.

و الحال: أن المصالح في متعلقاتها محفوظة. و كما في بعض الأحكام في أول البعثة، فكم من واجب فيه مصلحة تامة، و الحكم كان مجعولا في الواقع على طبق المصلحة؛ و مع ذلك كان للنبي «صلى الله عليه و آله» مانع عن إنفاذه و إظهاره. و مقام البحث من هذا القبيل؛ بمعنى: أنه قد يكون الشيء فيه مصلحة تامة، و يتبعها الحكم الواقعي، و لكن يمنع وجود المانع الآمر عن إنشاء الطلب المطلق الفعلي، فحينئذ ينشئ الطلب المشروط الثابت على تقدير شرط متوقع الحصول المقارن لزوال المانع؛ خوفا من أن لا يتمكن من الجعل و الإيجاد المطلق عند زوال المانع، فينشئ الطلب من الآن مشروطا بشرط، و مقيدا بقيد حتى يصير الحكم فعليا عند حصول الشرط بنفسه؛ بلا حاجة إلى خطاب جديد آخر.

ص: 50

لزوم رجوع القيد إلى المادة لبا

و أما حديث لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبّا ففيه: أن الشيء إذا توجه إليه، و كان موافقا للغرض بحسب ما فيه من المصلحة أو غيرها، كما يمكن أن يبعث فعلا إليه و يطلبه حالا، لعدم مانع عن طلبه، كذلك يمكن أن يبعث إليه معلقا، و يطلبه استقبالا على تقدير شرط متوقع الحصول لأجل مانع عن الطلب و البعث فعلا قبل حصوله، فلا يصح منه إلاّ الطلب و البعث معلقا بحصوله، لا مطلقا و لو متعلقا بذاك على التقدير، فيصح منه طلب الإكرام بعد مجيء زيد، و لا يصح منه الطلب المطلق الحالي للإكرام المقيد بالمجيء، هذا بناء على تبعية الأحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح.

و أما بناء على تبعيتها للمصالح و المفاسد في المأمور به، و المنهي عنه فكذلك، ضرورة: أن التبعية كذلك إنما تكون في الأحكام الواقعية بما هي واقعية، لا بما هي فعلية.

فإن المنع عن فعلية تلك الأحكام غير عزيز، كما في موارد الأصول و الأمارات على خلافها، و في بعض الأحكام في أول البعثة، بل إلى يوم قيام القائم «عجل الله فرجه»، مع إن حلال محمد «صلى الله عليه و آله» حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة(1)؛ و مع ذلك ربما يكون المانع عن فعلية بعض الأحكام باقيا مرّ الليالي و الأيام؛ إلى أن تطلع شمس الهداية و يرتفع الظلام، كما يظهر من الأخبار المروية عن الأئمة «عليهم السلام»(2).

=============

و محصل الجميع: أن الأحكام الشرعية ليست جزافية بضرورة من مذهب العدلية، بل كل واحد من الأوامر و الأحكام قد صدر عن الشارع؛ إما من جهة كون متعلقه مشتملا على مصلحة ملزمة أريد إيصالها إلى العبد، و حينئذ فقد يرى المولى أن الفعل الكذائي على إطلاقه - و بأي وجه حصل مشتمل - على المصلحة أو الحكم الكذائي

ص: 51


1- بصائر الدرجات، ص 148، ح 7. و في الكافي، ج 1، ص 58، ح 19 عن الصادق «عليه السلام»: «حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة، و حرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة».
2- و قد وردت روايات كثيرة توضح تفرد القائم ببعض الأحكام؛ لعدم وجود المانع من إظهارها، منها: ما في البحار، ج 52، ص 325، ح 39: قال أبو عبد اللّه «عليه السلام»: «دمان في الإسلام حلال من الله «عزّ و جل» لا يقضي فيهما أحد بحكم الله «عزّ و جل» حتى يبعث الله القائم من أهل البيت، فيحكم فيهما بحكم الله «عزّ و جل»؛ لا يريد فيه بينة: الزاني المحصن يرجمه، و مانع الزكاة يضرب رقبته».

كذلك، فلا محالة يأمر به على نحو المطلق أو ينشئ الحكم كذلك.

و قد يرى أن الفعل الكذائي أو الحكم الكذائي حال كون كل واحد يكون مقيدا بقيد، مشتملا على المصلحة لا مطلقا؛ فلا محالة يأمر به على نحو المقيد، أو ينشئ الحكم كذلك. و إما من جهة كون متعلقة مشتملا على مفسدة ملزمة؛ فنهي المولى يكون دافعا عن تلك المفسدة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 2، ص 51»:

«أن الشيء إذا توجه» المولى «إليه و كان موافقا للغرض بحسب ما فيه من المصلحة»؛ كما يقوله العدلية، «أو غيرها» من مطلق الجهة الموجبة للطلب - كما يقوله الأشعري - «كما يمكن أن يبعث فعلا إليه و يطلبه حالا» من غير تقييد بشرط «لعدم مانع عن طلبه» فعلا؛ «كذلك يمكن أن يبعث إليه معلقا» بحصول الشرط - إلى أن قال - «فلا يصح منه» أي: من المولى «إلاّ الطلب و البعث معلقا بحصوله لا مطلقا» أي: لا يصح الطلب المطلق «و لو» كان هذا الطلب المطلق «متعلقا بذاك» الشيء المأمور به «على التقدير» أي: تقدير حصول الشرط، أي: يلزم الطلب المقيّد حينئذ، و لا يصح الطلب المطلق و لو كان منصبا على المادة المقيدة، «فيصح منه طلب الإكرام» المقيد بكونه «بعد مجيء زيد، و لا يصح منه الطلب المطلق الحالي للإكرام المقيد» هذا الطلب «بالمجيء. هذا بناء على تبعية الأحكام لمصالح فيها» أي: في نفس الأحكام. «في غاية الوضوح»؛ لوضوح: إمكان كون المصلحة في الإطلاق، و إمكان كونها في التقييد بأن يكون هناك مانع عن الإطلاق مثلا.

«و أما بناء على تبعيتها للمصالح و المفاسد في المأمور بها و المنهي عنها» أي: في متعلق الأحكام «فكذلك» في غاية الوضوح؛ و إن كان ربما يتوهم أنه بناء على ذلك يستقيم ما ذكره الشيخ «رحمه الله»؛ من كون القيود راجعة إلى المادة.

و تقريره: أن الحكم تابع للمتعلق و هو حسن أو قبيح بحسب ذاته؛ فلا معنى لمنع المانع، لكن هذا توهم فاسد؛ «ضرورة: أن التبعية كذلك» للمصلحة في المتعلق «إنما تكون في الأحكام الواقعية بما هي واقعية؛ لا» أن التبعية لمصلحة المتعلق في الأحكام «بما هي فعلية»، بل الأحكام الفعلية تابعة لما فيها من المصالح، و عليه: فقد يمنع من فعلية الطلب مانع، فلا يكون الحكم فعليا، بل معلقا فلا يتم مدعى الشيخ «رحمه الله»، و مما يدل على جواز تقييد الفعلية بوجودات متأخرة أمور ثلاثة، فقد أشار المصنف إلى الأول

ص: 52

فإن قلت: (1) فما فائدة الإنشاء؟ إذا لم يكن المنشأ به طلبا فعليا و بعثا حاليا.

قلت (2): كفى فائدة له أنه يصير بعثا فعليا بعد حصول الشرط، بلا حاجة إلى منها بقوله: «كما في موارد الأصول و الأمارات على خلافها» أي: خلاف الأحكام الواقعية، فإن مصلحة التسهيل أو غيره مانعة عن فعلية الحكم الواقعي. و إلى الثاني:

=============

بقوله: «و في بعض الأحكام في أول البعثة»، فإنها لم تكن فعلية لعدم استعداد المكلفين، و قد أشار النبي «صلى الله عليه و آله» في بعض الأخبار إلى ذلك. و إلى الثالث: بقوله:

«بل إلى يوم قيام القائم عجل الله فرجه»، فإنها بعد ظهوره تكون فعلية بعد ما لم تكن، فهذه الأمور الثلاثة شواهد على تقييد الأحكام الفعلية بما هي فعلية؛ لا الأحكام الواقعية بما هي واقعية.

(1) هذا الاعتراض من المصنف على نفسه دليل رابع للشيخ «رحمه الله» القائل برجوع القيد إلى المادة.

و حاصل هذا الاعتراض: أن كون الإنشاء حاليا مع كون المنشأ استقباليا - كما هو مقتضى رجوع القيد إلى الهيئة - عديم الفائدة؛ فيلزم أن يكون الإنشاء لغوا لعدم فائدة فيه؛ إذ المفروض: ترتب المنشأ - و هو مفاد الهيئة - على الشرط الذي لم يحصل بعد، فالوجوب حينئذ لم يكن فعليا فيكون الطلب لغوا؛ لأن المشروط لا يتحقق إلاّ بعد تحقق شرطه؛ مثلا: إذا كان وجوب ذهاب زيد إلى دار عمرو مقيدا بطلوع الشمس؛ كان أمر المولى في الليل له بالذهاب كذلك لغوا؛ لعدم وجه لكون الأمر مشروطا بشرط، مع تمكن المولى من الأمر المطلق عند حصول الشرط؛ بأن يأمره بذلك في المثال المذكور بعد طلوع الشمس.

(2) حاصل جواب المصنف عن لغوية الإنشاء المشروط لعدم فائدة فيه: إنه ليس الإنشاء المذكور بلا فائدة، بل له فائدتان: الفائدة الأولى: ما أشار إليه بقوله: «كفى فائدة له أنه يصير بعثا فعليا بعد حصول الشرط...» إلخ.

و ملخص الكلام في الفائدة الأولى هو: عدم الحاجة إلى إنشاء جديد بعد حصول الشرط؛ بل يصير الطلب و البعث فعليا بعد حصول الشرط؛ من دون حاجة إلى خطاب جديد، بل لو لا الإنشاء قبل الشرط لما كان المولى متمكنا من الخطاب المطلق بعد حصول الشرط؛ بأن كان هناك محذور يمنع من الخطاب المطلق بعد حصول الشرط، فلو لم يتمكن المولى عن الإنشاء في زمان حصول الشرط، أو كان له مانع عن إنشاء الطلب المطلق حين حصوله؛ فيكتفي بالوجوب المشروط.

الفائدة الثانية: ما أشار إليه بقوله: «مع شمول الخطاب كذلك» أي: على نحو المشروط.

ص: 53

خطاب آخر، بحيث لولاه لما كان فعلا متمكنا من الخطاب، هذا مع شمول الخطاب كذلك للإيجاب فعلا بالنسبة إلى الواجد للشرط، فيكون بعثا فعليا بالإضافة، و تقديريا بالنسبة إلى الفاقد له، فافهم و تأمل جيدا.

ثم الظاهر: دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط، في محل النزاع أيضا (1)، فلا وجه لتخصيصه بمقدمات الواجب المطلق، غاية الأمر: تكون في الإطلاق و الاشتراط تابعة لذي المقدمة كأصل الوجوب بناء على وجوبها من باب الملازمة.

=============

و حاصل الكلام في الفائدة الثانية هو: شمول الخطاب و عمومه؛ بحيث يشمل واجد الشرط و فاقده، فيكون الخطاب فعليا بالإضافة إلى واجد الشرط، و مشروطا بالنسبة إلى فاقده، فالخطاب في قول الشارع: - حجوا إن استطعتم - فعليّ لواجد الاستطاعة، و إنشائي لفاقدها، فيكتفي بهذا الإنشاء على كلا التقديرين أي: وجود الاستطاعة و عدمها.

لا يقال: أنه يلزم استعمال اللفظ في المعنيين في إطلاق واحد - و هما الوجوب الشأني بالنسبة إلى غير الواجد للشرط، و الوجوب الفعلي بالإضافة إلى الواجد للشرط - كما قلت هذا في صيغة الأمر، و هي: «حجوا» في المثال المذكور.

فلأنه يقال: إن خطاب «حجوا» يدل على إنشاء الوجوب المشروط و الإنشائي فقط، و لكن العقل و النقل من الخارج يدلان على فعلية الوجوب بالإضافة إلى واجد الشرط و هو المستطيع حاليا، كما أن سائر الخطابات الشرعية بالإضافة إلى العالمين بها فعلية، و بالنسبة إلى الجاهلين بها شأنية، فليس في المقام استعمال اللفظ في معنيين مختلفين.

قوله: «فافهم و تأمل جيدا»؛ لعله إشارة إلى ما ذكر من الإشكال و الجواب.

توهم خروج المقدمات الوجودية عن محل النزاع

(1) كالمقدمات الوجودية للواجب المطلق، لأنه بعد حصول مقدمات وجوبه يصبح الواجب مطلقا و فعليا. و بحسب الدقة هذا من المصنف «قدس سره» دفع لتوهم خروج المقدمات الوجودية للواجب المشروط عن محل النزاع.

أما تقريب التوهم فيتوقف على مقدمة و هي: أن مقدمات الواجب المشروط على قسمين:

الأول: مقدمة وجودية: كقطع المسافة التي هي مقدمة وجودية للحج.

الثاني: مقدمة وجوبية: كالاستطاعة التي هي مقدمة وجوبية للحج.

ص: 54

ذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المشهور قال: بخروج مقدمات الواجب المشروط مطلقا عن محل النزاع، فلذا خصص بعض العلماء النزاع بمقدمات الواجب المطلق.

و حاصل الدفع و الجواب عن التوهم المذكور: أنه لا فرق بين الواجب المشروط و الواجب المطلق في المقدمات الوجودية، فكما أن المقدمات الوجودية للواجب المطلق داخلة في محل النزاع فكذلك المقدمات الوجودية للواجب المشروط داخلة فيه؛ لأن الواجب المشروط بعد تحقق مقدمات وجوبه يصير الواجب فعليا، فيأتي النزاع في مقدماته؛ إذ لا فرق بين الحج بالإضافة إلى قطع المسافة، بعد تحقق الاستطاعة، و بين الصلاة بالإضافة إلى الوضوء، فلا وجه لتخصيص النزاع بمقدمات الواجب المطلق.

نعم الفرق بينهما: أن وجوب مقدمات الواجب المشروط تابع لوجوب ذيها في الإطلاق و الاشتراط؛ بمعنى: أنه إذا كان وجوب ذيها مشروطا كان وجوبها مشروطا، و بمجرد صيرورة وجوب ذيها فعليا يصير وجوبها فعليا.

هذا ما أشار إليه بقوله: «غاية الأمر: تكون في الإطلاق و الاشتراط تابعة لذي المقدمة». و كيف كان؛ فلا إشكال في دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط في محل النزاع، غاية الأمر: أن وجوب المقدمة - بناء على القول به للملازمة بين وجوبي الواجب و مقدمته - تابع لوجوب ذيها إطلاقا و اشتراطا. هذا تمام الكلام في المقدمات الوجودية.

و أما المقدمات الوجوبية: فقد أشار إليها بقوله: «و أما الشرط المعلق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب: فخروجه مما لا شبهة فيه، و لا ارتياب».

و حاصل الكلام: أنه قد يتخيّل الإشكال في خروج المقدمات الوجوبية عن محل النزاع بناء على ما يظهر من تقريرات الشيخ «قدس سره» من إنكار الواجب المشروط، و رجوع الشروط كلها إلى المادة و الفعل لبّا دون الطلب، بل يجب القول حينئذ بوجوبها بناء على الملازمة.

و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بما حاصله: من أن المقدمات الوجوبية المعلق عليها الوجوب في ظاهر الخطاب خارجة عن محل النزاع على كلا القولين؛ أي: قول المشهور من تعقل الواجب المشروط، و قول الشيخ: من عدم تعقله و رجوع الشروط كلها

ص: 55

و أما الشرط المعلق عليه الايجاب في ظاهر الخطاب: فخروجه مما لا شبهة فيه، و لا ارتياب.

أما على ما هو ظاهر المشهور و المنصور فلكونه مقدمة وجوبية (1).

=============

إلى المادة. و أما خروجها على قول المشهور فواضح؛ إذ لا وجوب لذي المقدمة قبل تحقق مقدمة الوجوب كي يترشح الوجوب منه إليها.

و أما بعد حصولها و تحققها في الخارج: فطلبها طلب لما هو حاصل و هو محال. و أما خروجها على قول الشيخ «قدس سره»: فلأنه «قدس سره» و إن كان أرجع القيود كلها إلى الفعل؛ و لكن القيود تختلف.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: بيان أقسام القيود؛ فنقول: إن القيد و الشرط «تارة:» يكون غير اختياري كالوقت كما في قول الشارع: «حج في الموسم»، أو «صلّ عند الزوال»، فهذا القسم مما لا يعقل وجوبه.

«و أخرى:» أن القيد و إن كان أمرا اختياريا، و لكن قد أخذ على نحو لا يترشح إليه الوجوب، كما لو قال: «حج عند الاستطاعة»، أو «صلّ بعد ما تطهرت»، فإن القيد في هذا القسم و إن كان راجعا إلى الفعل و هو أمر اختياري؛ و لكنه قد أخذ على نحو لا يترشح إليه الوجوب فلا يجب تحصيله.

و «ثالثة»: يكون القيد اختياريا، و قد أخذ على نحو يترشح إليه الوجوب؛ كما إذا قال الشارع: «حج عن استطاعة»، أو «صل عن طهارة»، و في هذا القسم يجب تحصيل القيد غيريا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه ليس كل قيد بمجرد رجوعه إلى المادة دون الهيئة مما يلزم القول بوجوب تحصيله كما عرفت، و من هنا ظهر خروج المقدمات الوجوبية عن محل النزاع على كلا القولين.

(1) أي: فلا يمكن أن يترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة؛ لأن لازم كون الشرط مقدمة للوجوب هو: تأخر وجود الوجوب عن وجود الشرط - و هي المقدمة - تأخر المعلول عن علته، و مع هذا التأخر يكون تحصيل الشرط بعد حصوله من تحصيل الحاصل المحال. هذا بناء على مذهب المشهور.

و أما بناء على ما هو مختار الشيخ «قدس سره» من رجوع القيد إلى المادة؛ فلأن الشرط و إن كان حينئذ من المقدمات الوجودية التي يجب تحصيلها بناء على الملازمة؛ إلاّ إن بعض أقسام الشروط ليس واجب التحصيل كما عرفت، و الاستطاعة من هذا القبيل، فإنها ليست واجبة التحصيل، لأنها أخذت على نحو لا يجب تحصيلها، بل وجودها

ص: 56

و أما على المختار لشيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - فلأنه و إن كان من المقدمات الوجودية للواجب؛ إلاّ إنه أخذ على نحو لا يكاد يترشح عليه الوجوب منه، فإنه جعل الشيء واجبا على تقدير حصول ذاك الشرط، فمعه كيف يترشح عليه الوجوب و يتعلق به الطلب ؟ و هل هو إلاّ طلب الحاصل ؟

نعم (1)؛ على مختاره «قدس سره» لو كانت له مقدمات وجودية غير معلق عليها وجوبه؛ لتعلّق بها الطلب في الحال - على تقدير اتفاق وجود الشرط في الاستقبال - الاتفاقي دخيل في الواجب و مصلحته، فلا موجب للزوم تحصيله.

=============

قوله: «فإنه جعل الشيء واجبا على تقدير حصول ذاك الشرط»؛ علة لقوله: «أخذ على نحو لا يكاد يترشح عليه الوجوب منه».

و حاصل الكلام في المقام: أن الشيخ «قدس سره» جعل مثل الحج واجبا على تقدير حصول الاستطاعة، و مع حصولها كيف يترشح عليها الوجوب و يتعلق بها الطلب ؟ و هل هو إلاّ طلب الحاصل ؟! و في المقام كلام متضمن على ما يرد من الإشكال على المصنف تركناه رعاية للاختصار.

(1) هذا من المصنف استدراك عما سبق من عدم الفرق بين قول المشهور، و مختار الشيخ في خروج الشرط المعلق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب.

و حاصل الاستدراك: أنه يظهر الفرق بين قول المشهور، و ما هو مختار الشيخ في سائر المقدمات الوجودية؛ غير المعلق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب.

بمعنى: أن ما تقدم من عدم وجوب تحصيل الشرط على القولين؛ يختص بما أخذ في الواجب على نحو لا يجب تحصيله؛ بأن كان الشرط وجوده الاتفاقي كما سبق توضيحه، فلا فرق بين القولين في عدم وجوبه. و أما سائر مقدماته الوجودية التي لم تؤخذ بهذا النحو في الواجب، فيسري الوجوب إليها على مختار الشيخ «قدس سره»؛ إذ المفروض: كون الوجوب حاليا، و الواجب استقباليا، فيجب إيجادها فعلا.

فإذا علم بالفرض أنه يستطيع في المستقبل - و للحج مقدمات وجودية كالزاد و الراحلة - فعلى مبنى الشيخ «رحمه الله»: تتصف بالوجوب حالا؛ بناء على وجوب المقدمة من باب الملازمة؛ لاتصاف الحج بالوجوب حالا. و أما على مبنى المشهور: فلا تتصف بالوجوب قبل الاستطاعة إلاّ معلقا؛ لعدم اتصاف الحج بالوجوب إلاّ كذلك.

نعم؛ إذا لم يتحقق الشرط الذي أخذ بوجوده الاتفاقي شرطا في ظرفه في المستقبل انكشف عدم الوجوب.

ص: 57

و ذلك لأن (1) إيجاب ذي المقدمة على ذلك حالي، و الواجب إنما هو استقبالي، كما يأتي في الواجب المعلق؛ فإن الواجب المشروط على مختاره هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول من المعلق. فلا تغفل.

هذا (2) في غير المعرفة و التعلم من المقدمات، و أما المعرفة: فلا يبعد القول

=============

(1) قوله هذا تعليل لوجوب المقدمات الوجودية التي لم يعلق عليها الوجوب.

و قد أشار المصنف إلى اتحاد الواجب المشروط عند الشيخ، مع الواجب المعلق عند صاحب الفصول بقوله: «فإن الواجب المشروط على مختاره، هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول من المعلق».

أما وجه كون الواجب المشروط على مذهب الشيخ هو عين الواجب المعلق الذي اصطلح عليه صاحب الفصول: فلأن القيد على مذهب كليهما يرجع إلى المادة، و إنما الفرق بينهما - كما سيأتي - أن المعلق الفصولي من مصاديق المشروط الشيخي؛ و ذلك لأن المعلق هو: ما يتوقف الواجب على أمر غير مقدور كالدلوك في الصلاة، و الموسم في الحج.

و المشروط هو: ما يتوقف الواجب على أمر استقبالي سواء كان مقدورا كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج، أو غير مقدور كالموسم بالنسبة إليه.

(2) الكلام الذي ذكرناه من: أن المقدمات الوجودية للواجب المشروط كنفس الواجب مشروطة بحصول الشرط؛ بحيث إنه لو لا الشرط لم يجب ذو المقدمة فلم تجب مقدماتها؛ إنما هو في غير المعرفة. و اما المعرفة: فلا يبعد القول بوجوبها حتى في الواجب المشروط قبل حصوله شرطه - على مسلك المشهور - و هو كون الشرط قيدا للوجوب لا للواجب، فقول المصنف: «هذا في غير المعرفة» استثناء عما أفاده آنفا من تبعية المقدمة لذي المقدمة في الإطلاق و الاشتراط، فيقول المصنف: هذا في غير المعرفة و التعلم من المقدمات فإنها تابعة لذي المقدمة في الوجوب.

و أما المعرفة: فهي واجبة مطلقا أي: حتى في الواجب المشروط بالمعنى المختار؛ و هو كون الشرط قيدا للهيئة لا للمادة. و أما على مختار الشيخ من رجوع الشرط إلى الواجب، و كون الوجوب فعليا: فلا يرد الإشكال، و لكن ليس الوجه في وجوب المعرفة و التعلم الملازمة بين وجوبي المقدمة و ذيها؛ و ذلك لوجهين:

الوجه الأول: هو عدم كون التعلم و المعرفة من المقدمات الوجودية التي هي مورد الملازمة؛ لوضوح: عدم كون التعلم من علل وجود الواجب؛ و ذلك لإمكان الإتيان بالواجب حال الجهل احتياطا. فوجود الصلاة مع السورة المشكوكة جزئيتها لا

ص: 58

يتوقف على العلم بجزئيتها؛ لجواز الإتيان بالصلاة المشتملة على السورة رجاء و احتياطا.

نعم؛ الامتثال العلمي التفصيلي يتوقف على العلم، و حينئذ فلا يتوقف وجود الواجب على التعلم إلاّ على القول باعتبار التمييز في العبادات، لكن هذا القول ضعيف؛ فلا يكون التعلم من المقدمات الوجودية كما عرفت.

الوجه الثاني: هو عدم وجوب ذي المقدمة فعلا؛ لعدم حصول شرطه؛ فلا وجوب حتى يترشح على المقدمة.

بل الوجوب في وجوب التعلم هو: حكم العقل بذلك للعلم الإجمالي بالأحكام؛ الموجب للفحص عنها، و تحصيل المؤمّن من تبعاتها. فمجرد احتمال التكليف المنجّز بالعلم الإجمالي يوجب الفحص عن الدليل، فإن لم يظفر به يسقط الاحتمال فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

هذا مضافا إلى روايات آمرة بتعلم الأحكام، و لذا احتمل بعضهم وجوب التعلم نفسيا.

و كيف كان؛ ففي وجوب المعرفة؛ بمعنى: تعلم مسائل الواجب كمسائل الحج قبل حصول شرطه إشكال؛ فإن الأمر دائر بين القول بوجوب تعلم مسائل الحج قبل حصول شرطه؛ فيرد عليه: أنه قبل وجوب ذي المقدمة، كيف يعقل وجوب المقدمة؛ إذ المفروض:

ترشح الوجوب من ذيها؟ و بين القول بعدم وجوب تعلم المسائل حينئذ؛ فيرد عليه: أنه كيف يجوز ترك التعلم فيما لو أدّى تركه إلى ترك الواجب؛ مثل ما إذا استطاع في حال سير القافلة، و لا يتمكن من التعلم؛ فإنّه يفضي إلى ترك واجبات الحج.

و قد أجاب المصنف «قدس سره» عن هذا الإشكال باختيار الشق الأول من الترديد، حيث قال: «فلا يبعد القول بوجوبها» أي: وجوب المعرفة.

و قيل في الجواب: بوجوبها نفسيا طريقا إلى حفظ الواقعيات.

و قيل: بوجوبها عقلا إرشادا إلى حفظ الأغراض.

و قيل: بما في المتن من استقلال العقل بتنجز الأحكام بمجرد احتمالها، و عدم العذر إلاّ بالفحص و اليأس عن الظفر عن الدليل على التكليف.

و في المقام ما من النقض و الإبرام بما لا يخلو عن التطويل في الكلام، فتركناه رعاية للاختصار.

ص: 59

بوجوبها، حتى في الواجب المشروط - بالمعنى المختار - قبل حصول شرطه لكنه لا بالملازمة؛ بل من باب استقلال العقل بتنجّز الأحكام على الأنام بمجرد قيام احتمالها، إلاّ مع الفحص و اليأس عن الظفر بالدليل على التكليف، فيستقل بعده بالبراءة، و أن العقوبة على المخالفة بلا حجة و بيان، و المؤاخذة عليها بلا برهان، فافهم (1).

تذنيب: بيان حال إطلاق الواجب على الواجب المشروط، و إطلاق الصيغة مع الشرط

لا يخفى: أن اطلاق الواجب على الواجب المشروط، بلحاظ حال حصول الشرط على الحقيقة مطلقا، و أما بلحاظ حال قبل حصوله: فكذلك على الحقيقة على مختاره «قدس سره» في الواجب المشروط؛ لأن الواجب و إن كان أمرا استقباليا عليه (3)، إلاّ إن تلبسه بالوجوب في الحال و مجاز على المختار، حيث لا تلبس

=============

(1) لعله إشارة إلى أن وجوب التعلّم ليس مطلقا؛ بل فيما إذا علم المكلف أنه لو تركه لما يتمكن من إتيان الواجب بعد حصول الشرط و لو بطريق الاحتياط.

(2) هذا التذنيب على شطرين: الشطر الأول: هو تحقيق حال إطلاق الواجب على الواجب المشروط من حيث الحقيقة و المجاز.

الشطر الثاني: في أحوال الصيغة مع الشرط، فيكون الغرض من عقد هذا التذنيب:

بيان حال إطلاق الواجب على الواجب المشروط، و إطلاق الصيغة مع الشرط؛ بمعنى:

هل هي حقيقة في إنشاء الطلب المشروط أم لا؟

و أما الكلام في الشطر الأول فنقول: إن إطلاق الواجب على الواجب المشروط «تارة»: يكون بلحاظ حال النسبة؛ أعني: حال حصول الشرط، و «أخرى»: يكون بلحاظ ما قبل الشرط. فعلى الأول: يكون الإطلاق على نحو الحقيقة مطلقا أي: سواء كان الشرط قيدا للهيئة كما هو مختار المصنف، أم قيدا للمادة كما هو مختار الشيخ.

و أما على الثاني: أي: الإطلاق بلحاظ ما قبل الشرط: فكان على نحو الحقيقة على مختار الشيخ، و على نحو المجاز على مختار المصنف؛ و ذلك لما تقدم في مباحث المشتق من: الاتفاق على كونه مجازا فيما لم يتلبس بعد بالمبدإ؛ لأن الواجب من مصاديق المشتق، فلا بد من أن يكون إطلاق الواجب على الواجب المشروط قبل شرطه مجازا بعلاقة الأول، أو المشارفة؛ كما هو تصريح الشيخ البهائي «قدس سره» في «زبدة الأصول».

(3) أي: على مختار الشيخ «قدس سره»؛ لأن المشتق و هو الواجب متلبس بالمبدإ

ص: 60

بالوجوب عليه (1) قبله، كما عن البهائي «رحمه الله» تصريحه: بأن لفظ الواجب مجاز في المشروط، بعلاقة الأول أو المشارفة (2).

=============

أي: الوجوب في الحال؛ لما عرفت من: أن الوجوب في الواجب المشروط على مختار الشيخ مطلق(1)، و ليس مشروطا بشيء.

(1) أي: لا تلبس بالوجوب قبل الشرط على مختار المصنف. فقوله: «حيث لا تلبس» تعليل للمجازية على مختاره.

وجه المجازية: هو عدم تلبس المادة بالوجوب على المختار قبل حصول الشرط.

(2) الفرق بين علاقة الأول و علاقة المشارفة: أن الأولى: ما كانت المناسبة بين ذاتين، فتسمى الذات في الحالة الأولى باسمها في الحالة الثانية، كأن يسمى الإنسان ترابا بعلاقة أوله إليه أي: صيرورته ترابا فيما بعد، و كإطلاق الخمر على العنب في قوله تعالى: إنّي أراني أعصر خمرا. يوسف: 36؛ بعلاقة الأول؛ نظرا إلى صيرورته خمرا فيما بعد.

و علاقة المشارفة هي: ما إذا كانت المناسبة بين الزمانين، بأن يسمى الشيء في هذا الحال باسمه في الحال الثاني لتقارب الزمانين؛ كإطلاق القتيل مثلا على المصلوب المشرف على الموت بلحاظ قربه من القتل. و كإطلاق القتيل على المشرف على القتل في الرواية؛ و هي قوله «صلى الله عليه و آله»: «من قتل قتيلا فله سلبه»(2)، فإن القتيل هو فعيل بمعنى مفعول، و معنى الرواية: «من قتل مقتولا فله سلبه». و الحال: إنه لا معنى لقتل المقتول ثانيا، لكن أطلق الرسول «صلى الله عليه و آله» على الكافر الحي «مقتولا» بعلاقة المشارفة؛ لأنه علم أنه مقتول بعد دقائق أو ساعة، فيكون مشرفا على القتل و زهوق الروح.

و كيف كان؛ فكان إطلاق الواجب على الواجب المشروط قبل حصول الشرط على نحو المجاز بعلاقة الأول أو المشارفة. فنتيجة البحث: أنه إذا أطلق الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حال حصول الشرط يكون على نحو الحقيقة عند الكل.

و أما إذا كان بلحاظ حال قبل الشرط: فيكون مجازا على مذهب المصنف الذي هو المشهور، و حقيقة على مختار الشيخ «قدس سره». هذا تمام الكلام في الشطر الأول.

أما الشطر الثاني: فقد أشار إليه بقوله: «و أما الصيغة مع الشرط» مثل قول القائل:

«حج إن استطعت»، فهي حقيقة على كل حال؛ أي: سواء كان الشرط قيدا للهيئة أم

ص: 61


1- مطارح الأنظار، ج 1، ص 244.
2- عنه «صلى الله عليه و آله» في البحار، ج 41، ص 72، ح 3.
بيان ما هو معنى صيغة الأمر

و أما الصيغة مع الشرط: فهي حقيقة على كل حال؛ لاستعمالها على مختاره «قدس سره» في الطلب المطلق، و على المختار في الطلب المقيد على نحو تعدد الدال و المدلول، كما هو الحال (1) فيما إذا أريد منها المطلق المقابل للمقيد؛ لا المبهم المقسم.

فافهم.

=============

قيدا للمادة؛ لأن الصيغة في المثال المذكور قد استعملت في معناها حقيقة على كلا القولين؛ أما على قول الشيخ فواضح؛ لأن الطلب المستفاد من الصيغة غير مشروط بشيء أصلا.

و أما على قول المشهور - الذي هو مختار المصنف -: فلكون الطلب مستفادا من الصيغة، و تقيده مستفادا من دال آخر - و هو الشرط - فالصيغة لم تستعمل إلاّ في معناها و هو إنشاء الطلب و الوجوب.

(1) غرض المصنف من هذا الكلام هو: تنظير إرادة الطلب المطلق بمعنى الإرسال من الصيغة بإرادة الطلب المقيد منها؛ في كون كل من الإطلاق و التقييد بدال آخر، و عدم لزوم مجاز أصلا.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الطلب على أقسام:

الأول: الطلب المقسمي المنقسم إلى المطلق و المقيد، و قد عبر المصنف عنه بقوله:

«المبهم المقسم» و هو اللابشرط المقسمي.

الثاني: الطلب المطلق المقابل للمقيد؛ و هو: الطلب المقيد بالإطلاق و الإرسال.

الثالث: الطلب المقيد.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن الصيغة وضعت للقسم الأول من الطلب، و هو اللابشرط المقسمي المعروض للإطلاق و التقييد، فالطلب المطلق المقابل للمقيد بمعنى: ما يكون شاملا لما قبل الشرط و ما بعده؛ كالطلب المقيد خارج عن المعنى الموضوع له، و مفاد الصيغة على كل حال هو أمر واحد - و هو أصل الطلب - من دون دلالتها على الإطلاق و التقييد، بل هما مستفادان من دال آخر و هو الشرط، و مقدمات الحكمة؛ بمعنى: أن الصيغة تدل على أصل الطلب، و الشرط يدل على التقييد، و مقدمات الحكمة تدل على الإطلاق، فدلالة الصيغة على كل واحد من الإطلاق و التقييد تكون بنحو تعدد الدال و المدلول.

فيكون استعمال الصيغة على نحو الحقيقة على كل حال، غاية الأمر: الإطلاق على ما هو مختار الشيخ مستفاد من مقدمات الحكمة، و التقييد على مختار المصنف مستفاد من الشرط؛ كما هو مقتضى تعدد الدال و المدلول.

ص: 62

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى احتمال أن لا تكون الصيغة مستعملة في كل من الطلب المقيد و الطلب المطلق المقابل للمقيد؛ بنحو تعدد الدال و المدلول، بل تكون الصيغة بنفسها مستعملة في الطلب المقيد، أو في الطلب المطلق المقابل للمقيد مجازا.

غايته: أن الشرط و مقدمات الحكمة قرينة على المجاز؛ و عليه: فلا يكون استعمالها على نحو الحقيقة؛ بل يكون مجازا لكونه في غير ما وضع له أي: في غير المبهم المقسم و هي الطبيعة اللابشرط المقسمي.

خلاصة البحث مع نظريات المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - أن الواجب المطلق: ما لا يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده؛ كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة، و الواجب المشروط: ما يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده؛ كالحج بالإضافة إلى الاستطاعة، و ما ذكر لهما من التعاريف تعاريف لفظية و ليست بحقيقية؛ لأنها ليست مطردة و لا منعكسة.

ثم إطلاق المطلق على الواجب المطلق، و إطلاق المشروط على الواجب المشروط إنما هو بما لهما من المعنى اللغوي و العرفي، و ليس للأصوليين اصطلاح خاص فيهما، كما أن الظاهر: أن الإطلاق و الاشتراط وصفان إضافيان لا حقيقيان؛ إذ يمكن أن يكون شيء واحد مطلقا بالإضافة إلى شيء، و مشروطا بالإضافة إلى الآخر؛ مثل وجوب الصلاة مثلا فإنه مطلق بالإضافة إلى الطهارة، و مشروط بالإضافة إلى دخول الوقت و الزوال.

2 - النزاع المعروف بين الشيخ الأنصاري و غيره من الأعلام هو: رجوع القيود المأخوذة في لسان الأدلة إلى الهيئة كما هو مختار المصنف تبعا للمشهور. و إلى المادة حسب مختار الشيخ الأنصاري؛ حيث قال: بامتناع رجوع القيد إلى الهيئة، و لزوم كونه من قيود المادة لبّا؛ مع اعترافه بأن قضية القواعد العربية أنه من قيود الهيئة، فيرجع ما ادعاه إلى دعويين:

1 - دعوى استحالة رجوع القيد إلى الهيئة. 2 - دعوى لزوم رجوعه إلى المادة لبّا.

و قد استدل الشيخ على ذلك بوجوه؛ إلاّ إن المصنف جعل بعضها اعتراضا على ما اختاره من رجوع القيد إلى الهيئة، ثم أجاب عنه فانتظر ذلك.

و قد ذكر وجهين منها دليلا على ما اختاره الشيخ من رجوع القيد إلى المادة، و امتناع رجوعه إلى الهيئة.

ص: 63

الوجه الأول: - و هو الدليل على الدعوى الأولى أعني: استحالة رجوع القيد إلى الهيئة - أن مفاد الهيئة معنى حرفي غير قابل للإطلاق و التقييد، لأن الحرف موضوع للمعنى الجزئي الحقيقي، و من البديهي: أن الجزئي الحقيقي غير قابل للتقييد، فيمتنع رجوع القيد إلى الهيئة لعدم قابليته للتقييد.

الوجه الثاني: - و هو الدليل على الدعوى الثانية أعني: لزوم كون القيد من قيود المادة لبّا - هو: شهادة الوجدان بعدم اشتراط الوجوب و الطلب في شيء من الموارد؛ لأن القيد في جميع تلك الموارد راجع إلى المادة، و تلك الموارد مذكورة في المتن.

و قد أجاب المصنف عن الوجه الأول بقوله: «أما حديث عدم الإطلاق في مفاد الهيئة...» إلخ.

و ملخص الجواب: أن مفاد الهيئة و إن كان معنى حرفيا إلاّ إن المعنى الحرفي عند المصنف كالمعنى الاسمي يكون مفهوما كليا قابلا للإطلاق و التقييد، فلا مانع من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة، لكونه كليا لا جزئيا حقيقيا. هذا أولا.

و ثانيا: لو سلمنا أن الهيئة مستعملة في الفرد من الطلب؛ إلاّ إن الفرد لا يقبل التقييد إذا أنشئ أولا مطلقا، ثم أريد تقييده، فلا يعقل انقلاب الشخص المنشأ مطلقا إلى الشخص المقيد. هذا بخلاف ما إذا أنشئ من الأول مقيدا؛ بحيث يلاحظ القيد و المقيد فيصبّ عليهما الإنشاء مرة واحدة، فالممتنع هو الأول لا الثاني.

«فإن قلت: على ذلك...» إلخ أي: على ما ذكرت من كون الشرط قيدا للهيئة؛ «يلزم تفكيك الإنشاء عن المنشأ» و هو مستحيل، و هذا الإشكال في الحقيقة دليل ثالث للشيخ على امتناع رجوع القيد إلى الهيئة؛ بتقريب: أن الإنشاء و المنشأ من قبيل الإيجاد و الوجود، و العلة و المعلول في استحالة الانفكاك؛ فكما لا ينفك الوجود عن الإيجاد، و المعلول عن العلة؛ فكذلك لا ينفك المنشأ عن الإنشاء؛ لأن الإنشاء علة للمنشإ، و على تقدير كون الشرط قيدا للهيئة يلزم انفكاك الإنشاء عن المنشأ زمانا؛ لأن الطلب لا يحصل إلاّ بعد حصول شرطه، و المفروض: أن الإنشاء حالي، و المنشأ - و هو الطلب - استقبالي فيلزم الانفكاك و هو مستحيل، فلا محيص عن رجوع القيد إلى المادة كما هو مختار الشيخ.

و حاصل ما أفاده المصنف في الجواب: أن الإنشاء و إن كان علة للمنشإ؛ إلاّ إنه ليس علة تامة في جميع الموارد؛ بل قد يكون علة ناقصة بأن يكون الإنشاء جزء العلة،

ص: 64

و جزؤها الآخر هو الشرط فلا يلزم الانفكاك.

قوله: «و أما حديث لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبّا ففيه...» إلخ جواب عن الوجه الثاني على الدعوى الثانية و هي لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبّا.

و ملخص الجواب عنه هو: صحة رجوع الشرط إلى الهيئة، و عدم امتناعه؛ من دون فرق بين القول بتبعية الأحكام لما في أنفسها من المصالح و المفاسد، و بين القول بتبعيتها لما في متعلقاتها من المصالح و المفاسد على ما عليه الأكثر؛ لأن تلك المصالح على القولين:

يمكن أن يكون حصولها مشروطا بشرط، فالطلب و الحكم يكون مشروطا بذلك الشرط، فيضطر الإنسان إلى إنشاء طلب مشروط بشرط مترقب الحصول لتحصيل تلك المصلحة.

و محصل الكلام: أن الأحكام الشرعية ليست جزافية عند العدلية، بل هي تابعة للمصالح، و حينئذ قد يرى المولى أن الفعل الكذائي على إطلاقه مشتمل على المصلحة أو الحكم الكذائي كذلك؛ فلا محالة يأمر به على نحو الإطلاق، أو ينشئ الحكم كذلك.

و قد يرى أن الفعل الكذائي أو الحكم الكذائي - حال كونه مقيدا بقيد - مشتمل على المصلحة لا مطلقا، فلا محالة يأمر به على نحو المقيد، أو ينشئ الحكم كذلك.

و كيف كان؛ فالنتيجة هي: صحة رجوع القيد إلى الهيئة و لا يكون ممتنعا. «فإن قلت: فما فائدة الإنشاء» أي: هذا الاعتراض من المصنف على نفسه؛ دليل رابع للشيخ القائل برجوع القيد إلى المادة؛ بتقريب: أن رجوع القيد إلى الهيئة عديم الفائدة، فيلزم أن يكون الإنشاء بدون ترتب المنشأ عليه لغوا.

و حاصل الجواب أن للإنشاء فائدتين:

الفائدة الأولى: أن يصير الحكم فعليا بعد حصول الشرط؛ من دون حاجة إلى خطاب جديد بعد حصول الشرط بل ربما لا يتمكن المولى من الخطاب الجديد بعد حصول الشرط لوجود مانع.

الفائدة الثانية: هو شمول الخطاب و عمومه لواجد الشرط و فاقده، فيكون الخطاب فعليا لواجد الشرط، و مشروطا لفاقده.

3 - دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط في محل النزاع؛ كدخول المقدمات الوجودية للواجب المطلق فيه؛ فلا وجه لتخصيص النزاع بمقدمات الواجب المطلق، و خروج مقدمات الواجب المشروط مطلقا عن محل النزاع كما هو المشهور، و لهذا

ص: 65

خص بعض العلماء النزاع بمقدمات الواجب المطلق، و المصنف يقول بعدم الفرق بين الواجب المشروط و الواجب المطلق في المقدمات الوجودية؛ فهي داخلة في محل النزاع؛ لأن الواجب المشروط بعد تحقق مقدماته الوجوبية يصير فعليا، فيأتي النزاع في مقدماته الوجودية.

و أما المقدمات الوجوبية فلا ريب في خروجها عن محل النزاع على كلا القولين.

و أما خروجها على مذهب المشهور و المنصور: فلكونها مقدمات وجوبية. و أما خروجها على مختار الشيخ من رجوع القيد إلى المادة: فلأجل أن الشرط أخذ على نحو لا يكاد يترشح إليه الوجوب من الواجب؛ لأنه جعل مثل الحج واجبا على تقدير حصول الاستطاعة، و مع حصولها لا يعقل إنشاء الطلب؛ إذ ليس الطلب حينئذ إلاّ طلب الحاصل و هو محال.

نعم؛ إن الفرق بين مبنى الشيخ الأنصاري و مبنى المشهور إنما هو في سائر المقدمات الوجودية غير المعلق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب، فهي واجبة على مبنى الشيخ، و ليست واجبة على مبنى المشهور الذي هو مختار المصنف «قدس سره».

«هذا في غير المعرفة و التعلم»، و أما المعرفة: فهي واجبة مطلقا أي: حتى في الواجب المشروط بالمعنى المختار؛ و هو كون الشرط قيدا للهيئة. و لكن الوجه في وجوبها ليس الملازمة بين وجوبي المقدمة و ذيها حتى يقال: كيف يعقل وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها في الواجب المشروط؛ بل وجوبها من باب حكم العقل بذلك؛ للعلم الإجمالي بالأحكام الموجب للفحص عنها، و تحصيل المؤمّن من العقوبة على مخالفتها. هذا مضافا إلى روايات آمرة بتعلم الأحكام.

4 - في تحقيق حال إطلاق الواجب على الواجب المشروط؛ من حيث الحقيقة و المجاز، و إطلاق الصيغة مع الشرط.

أما إطلاق الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حال النسبة، و حصول الشرط فيكون على نحو الحقيقة مطلقا أي: كان الشرط قيدا للهيئة أم للمادة.

و أما إطلاقه عليه بلحاظ ما قبل الشرط فيكون على نحو الحقيقة أيضا على ما هو مختار الشيخ من: كون الشرط قيدا للمادة، و على نحو المجاز على مختار المصنف؛ لأنه مشتق، و إطلاق المشتق على من لم يتلبس بعد بالمبدإ مجاز كما سبق في مباحث المشتق.

و أما إطلاق الصيغة مع الشرط مثل: «حج إن استطعت» فحقيقة على كل حال أي:

ص: 66

و منها (1): تقسيمه إلى المعلق و المنجز، قال في...

=============

سواء كان الشرط قيدا للهيئة أم قيدا للمادة؛ لأن الصيغة في المثال قد استعملت في معناها - و هو أصل الطلب - و أما الإطلاق أو التقييد فمستفادان من دال آخر كالشرط و مقدمات الحكمة، فالدلالة على كل من الإطلاق و التقييد تكون بنحو تعدد الدال و المدلول، فيكون استعمال الصيغة على نحو الحقيقة و الإطلاق - على مذهب الشيخ - مستفاد من مقدمات الحكمة، كما أن التقييد على مذهب المصنف مستفاد من الشرط.

5 - أما نظريات المصنف:

فهي حسب ما يلي:

1 - التعاريف المذكورة للواجب المطلق و المشروط تعاريف لفظية لا حقيقية.

2 - أن الإطلاق و التقييد وصفان إضافيان لا حقيقيان.

3 - أن القيود المأخوذة في لسان الأدلة ترجع إلى مفاد الهيئة لا إلى المادة.

4 - إطلاق الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حصول الشرط على نحو الحقيقة، و بلحاظ ما قبل حصوله يكون على نحو المجاز.

5 - إطلاق الصيغة مع الشرط يكون على نحو الحقيقة على كل حال؛ أي: سواء كان الشرط قيدا للهيئة، أم قيدا للمادة.

في تقسيم الواجب إلى المعلق و المنجز
اشارة

(1) من تقسيمات الواجب: تقسيمه إلى المعلق و المنجز و هو الذي ابتكره صاحب الفصول، و فرّع عليه وجوب المقدمة قبل مجيء وقت العمل بذي المقدمة في الواجب المعلق.

و قد أفاد في بيان المراد من كل منهما ما في المتن من أن المنجز: ما يتعلق وجوبه بالمكلف، و لا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور كالمعرفة، و يسمى بالواجب المنجز؛ لأن التكليف فيه ثابت و منجز.

و المعلق: ما يتعلق وجوبه بالمكلف، و يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له؛ كالحج، فإن الوجوب يتعلق به في أول أزمنة الاستطاعة، أو خروج الرفقة؛ لكن فعله يتوقف على مجيء وقته، و هو غير مقدور للمكلف، و يسمى بالواجب المعلق؛ لأن الواجب فيه معلق على أمر غير مقدور كما عرفت في الحج.

و هناك جهات من البحث:

الجهة الأولى: هي الفرق بين الواجب المعلق، و الواجب المشروط عند المشهور.

ص: 67

الفصول (1) إنه ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف، و لا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة؛ و ليسمّ منجزا، و إلى ما يتعلق وجوبه به و يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له؛ و ليسمّ معلقا كالحج، فإن وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة، أو خروج الرفقة، و يتوقف فعله على مجيء وقته و هو غير مقدور له، و الفرق بين هذا النوع (2) و بين الواجب المشروط هو: أن التوقف هناك الجهة الثانية: هي إنكار الشيخ لتقسيم صاحب الفصول الواجب المطلق إلى المنجز و المعلق.

=============

الجهة الثالثة: إشكال المصنف على هذا التقسيم.

الجهة الرابعة: فيما يرد على الواجب المعلق من الإشكالين الآخرين.

و أما الفرق بين الواجب المعلق الفصولي و الواجب المشروط المشهوري فهو: ما في كلام صاحب الفصول حيث قال: «و الفرق بين هذا النوع».

(1) الفصول، ص 79 آخر الصفحة. نقلا عن كفاية الأصول طبع مؤسسة أهل البيت، ص 100.

(2) أي: الفرق بين الواجب المعلق «و بين الواجب المشروط هو: أن التوقف هناك» أي: في الواجب المشروط للوجوب، «و هنا» أي: في الواجب المعلق «للفعل».

الفرق بين الواجب المشروط الشيخي و الواجب المعلق عند صاحب الفصول

و حاصل الفرق: أن المعلق ما كان الوجوب فيه حاليا، و الواجب استقباليا أي: مقيدا بزمان متأخر.

و المشروط: ما كان الوجوب فيه متوقفا على شيء، فالتوقف في المعلق الفصولي للفعل، و في المشروط المشهوري للوجوب.

و أما إنكار الشيخ «قدس سره» لهذا التقسيم: فلأن الواجب المعلق الفصولي هو عين الواجب المشروط الشيخي، فتقسيم الشيخ الواجب إلى المطلق و المشروط يغني عن تقسيم الفصول الواجب إلى المنجز و المعلق.

توضيح ذلك: أن الشيخ الأنصاري قد أرجع جميع القيود في الخطاب التعليقي إلى المادة و الواجب، فالواجب المشروط عند الشيخ: ما كان الوجوب فيه حاليا، و الواجب استقباليا، هذا هو عين الواجب المعلق عند صاحب الفصول؛ لذهاب كل واحد منهما فيهما إلى رجوع القيد إلى الواجب، و إلى كون الوجوب فعليا، كما أن الواجب المنجز الفصولي هو عين الواجب المطلق الشيخي، فلا معنى لتقسيم صاحب الفصول، بل يكفي تقسيم الواجب إلى المطلق و المشروط على مبنى الشيخ.

نعم؛ يمكن أن يقال: إن المعلق الفصولي أخص من المشروط الشيخي؛ لأن الواجب المشروط عند الشيخ ما كان الواجب متوقفا على أمر استقبالي؛ سواء كان ذلك الأمر

ص: 68

و بين الواجب المشروط هو: أن التوقف هناك للوجوب، و هنا للفعل. انتهى كلامه رفع مقامه.

لا يخفى: أن شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - حيث اختار في الواجب المشروط ذاك المعنى (1)، و جعل الشرط لزوما من قيود المادة ثبوتا و إثباتا (2)، حيث ادعى امتناع كونه من قيود الهيئة كذلك، أي: إثباتا و ثبوتا، على خلاف القواعد العربية، و ظاهر المشهور، كما يشهد به (3) ما تقدم آنفا عن البهائي، أنكر على الفصول هذا التقسيم؛ مقدورا؛ كالاستطاعة بالإضافة إلى الحج، أو غير مقدور؛ كالموسم بالنسبة إليه، فيكون المعلق الفصولي من مصاديق الواجب المشروط الشيخي.

=============

و في الحقيقة: أن إنكار الشيخ للواجب المعلق يرجع إلى إنكاره للواجب المشروط عند المشهور.

و كيف كان؛ فالنسبة بين الواجب المشروط الشيخي و الواجب المعلق الفصولي هي:

عموم مطلق، و الواجب المشروط أعم من الواجب المعلق.

و أما النسبة بين الواجب المشروط المشهوري، و الواجب المعلق فهي: عموم من وجه.

مادة الاجتماع هي: الحج؛ فإن وجوبه متوقف على الاستطاعة، و الواجب - أعني الفعل - يتوقف على الموسم. و مادة الافتراق من جانب المشروط كما إذا قال المولى: «إذا جاء زيد فأكرمه»؛ فإن وجوب الإكرام متوقف على المجيء، و أما نفس الإكرام فلا توقف له على شيء. و مادة الافتراق من جانب الواجب المعلق: فيما إذا كانت المادة - أي:

الفعل - فقط متوقفا، كما إذا قال المولى: «يجب عليك الإكرام عند المجيء»؛ فإن الإكرام متوقف دون وجوبه.

(1) أي: كون الشرط قيدا للمادة.

(2) أي: لبّا و واقعا كما هو مقتضى دليله الثاني حيث قال: «و أما لزوم كونه من قيود المادة لبّا» و إثباتا أي: لفظا و دليلا كما هو مقتضى دليله الأول؛ حيث قال: «أما امتناع كونه من قيود الهيئة»، فقوله: «ثبوتا و إثباتا»؛ إشارة إلى الوجهين اللذين أفادهما الشيخ «رحمه الله» في رجوع القيد إلى المادة.

(3) أي: يشهد بكون رجوع القيد إلى المادة على خلاف ظاهر المشهور ما تقدم عن الشيخ البهائي من تصريحه: بأن استعمال الواجب في المشروط مجاز بعلاقة الأول أو المشارفة، و وجه الاستشهاد واضح؛ لأن استعمال الواجب في المشروط مجاز على مبنى المشهور؛ لا على مبنى الشيخ، فما أفاده الشيخ الأنصاري من رجوع القيد إلى المادة؛

ص: 69

ضرورة: أن المعلق بما فسره، يكون من المشروط بما اختار له من المعنى على ذلك (1)، كما هو واضح، حيث لا يكون (2) حينئذ هناك معنى آخر معقول، كان هو المعلق المقابل للمشروط.

و من هنا (3) انقدح: أنه في الحقيقة إنما أنكر الواجب المشروط بالمعنى الذي يكون هو ظاهر المشهور، و القواعد العربية، لا الواجب المعلق بالتفسير المذكور.

و حيث قد عرفت - بما لا مزيد عليه - إمكان رجوع الشرط إلى الهيئة، كما هو ظاهر المشهور، و ظاهر القواعد، فلا يكون مجال لإنكاره عليه.

=============

المستلزم لكون استعمال الواجب في المشروط على نحو الحقيقة مخالف لظاهر المشهور من المجازية.

قوله: «أنكر على الفصول هذا التقسيم» خبر - أن - في قوله: «لا يخفى: أن شيخنا العلامة». و قوله: «ضرورة» تعليل للإنكار، و قد سبق ما حاصله: أن الشيخ قد حكم باستحالة المشروط بمعناه المشهور؛ بزعم: أن القيد يرجع إلى المادة، فالمشروط في نظره: هو عين المعلق عند صاحب الفصول، فلا مجال - بعد تقسيم الواجب إلى مطلق و مشروط - إلى تقسيمه ثانيا إلى المنجز و المعلق، و لهذا أنكر عن الفصول هذا التقسيم.

(1) أي: على البيان المتقدم في كلام الشيخ «قدس سره».

(2) هذا الكلام من المصنف بيان و توضيح لاتحاد المعلق الفصولي مع المشروط الشيخي؛ بمعنى: أنه لا يكون حين رجوع القيد إلى المادة في تقسيم الواجب إلى المعلق و المنجز معنى آخر معقول؛ غير تقسيم الواجب إلى المطلق و المشروط عند الشيخ، فتقسيمه إلى المعلق و المنجّز هو عين تقسيمه إلى المطلق و المشروط.

(3) أي: من كون الواجب المشروط بتفسير الشيخ هو عين المعلق بتفسير صاحب الفصول: «انقدح» أي: ظهر: أن الشيخ لم ينكر في الحقيقة المعلق الفصولي؛ بل هو ملتزم به ثبوتا و واقعا - و إن أنكره إثباتا و دليلا - فالشيخ التزم بالواجب المعلق لكن سماه مشروطا. نعم؛ إنه أنكر المشروط بمعناه المشهور.

و كيف كان؛ فغرض المصنف من قوله: «من هنا انقدح...» إلخ هو الإشكال على إنكار الشيخ - بحسب الظاهر - للمعلق الفصولي: بأن هذا الإنكار لم يقع في محله؛ إذ المفروض: اتحاد المعلق الفصولي مع المشروط الشيخي، و من المعلوم: أن الاعتراف بأحدهما اعتراف بالآخر، فلا معنى للإنكار.

ص: 70

نعم؛ يمكن أن يقال (1): إنه لا وقع لهذا التقسيم؛ لأنه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط، و خصوصيّة كونه حاليا أو استقباليا لا توجبه ما لم توجب الاختلاف في المهم، و إلاّ لكثرت تقسيماته لكثرة الخصوصيات، و لا اختلاف فيه (2)؛ فإن ما رتبه عليه من وجوب المقدمة فعلا - كما يأتي - إنما هو من أثر إطلاق وجوبه و حاليته؛ لا من استقبالية الواجب، فافهم (3).

=============

إشكال المصنف على صاحب الفصول

(1) أما إشكال المصنف على تقسيم الفصول بعد دفع إشكال الشيخ عنه، فتوضيحه يتوقف على مقدمة و هي: أن مقصود صاحب الفصول من هذا التقسيم هو:

التخلص عن العويصة الآتية و هي: وجوب المقدمة من قبل وجوب ذي المقدمة؛ كالغسل في الليل لأجل الصوم في نهار شهر رمضان أو لغيره من الصوم المعين، فالتزم بالواجب المعلق ليكون الوجوب حاليا من قبل مجيء الغد، و يعقل ترشح الوجوب إلى الغسل من قبل مجيء وقت الصوم.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن التخلص المذكور إنما هو من أثر حالية الوجوب - و هي مشتركة بين المنجز و المعلق - لا من أثر استقبالية الواجب المختصة بالمعلق، فما يترتب عليه الأثر لا يختص بالمعلق، و ما يختص بالمعلق لا يترتب عليه الأثر.

و عليه: فلا وجه لهذا التقسيم بعد أن كان بكلا قسميه من الواجب المطلق، و اختلاف أنحاء الواجب لا توجب التقسيم ما لم توجب الاختلاف في الأثر المهم أعني: وجوب المقدمة و عدمه. و من الواضح: أنه لا أثر لهذا التقسيم بالنسبة إلى وجوب المقدمة؛ فلهذا قال المصنف: «لا وقع لهذا التقسيم».

و ملخص كلام المصنف في المقام: أن مجرد كون الواجب حاليا في المنجز، و استقباليا في المعلق لا يجدي في صحة التقسيم إلى المنجز و المعلق؛ بعد كون الوجوب في كلا القسمين حاليا و مطلقا. و المفروض: أن الأثر هو وجوب المقدمة مترتب على كلا القسمين.

(2) أي: في الأثر المهم، فخصوصية كون الواجب حاليا كالمنجز، أو استقباليا كالمعلق لا تصحّح التقسيم ما لم توجب تلك الخصوصية اختلافا في المهم، و المفروض:

إنه لا اختلاف فيه مع تلك الخصوصيات، فلا يصح التقسيم.

(3) لعله إشارة إلى أنّ مقصود صاحب الفصول من هذا التقسيم لا يكون بيان الثمرة بين المعلق و المنجز - حتى يشكل عليه بأنه لا ثمرة بينهما - نظرا إلى أن الأثر - أعني: وجوب المقدمة - مترتب على حالية الوجوب و فعليته، و هي مشتركة بينهما؛ بل

ص: 71

ثم إنه ربما حكي عن بعض أهل النظر (1) من أهل العصر إشكال في الواجب المعلق، و هو: أن الطلب و الإيجاب، إنما يكون بإزاء الإرادة المحركة للعضلات نحو المراد؛ فكما لا تكاد تكون الإرادة منفكة عن المراد فليكن الإيجاب غير منفك عما يتعلق به، فكيف يتعلق بأمر استقبالي ؟ فلا يكاد يصح الطلب و البعث فعلا نحو أمر متأخر.

=============

مقصوده من هذا التقسيم بيان الثمرة بين المعلق و المشروط المشهوري، فعلى المشروط: لا يكون الوجوب حاليا عند المشهور، فلا يمكن القول بوجوب الغسل غيريا قبل مجيء الغد، و على المعلق: يكون وجوبه حاليا، فيمكن القول حينئذ بوجوب الغسل قبل مجيء الغد، و هذا لا إشكال فيه كما هو واضح.

و في «منتهى الدراية، ج 2، ص 192» ما هذا لفظه: «لعله إشارة إلى: إن التقسيم إلى المعلق و المنجز لا يخلو من الثمرة، و هي: إن المقدمة المعلق عليها غير واجبة في المعلق؛ بخلاف المنجز فإنه يجب تحصيل جميع مقدماته؛ لأن المفروض: كون الوجوب فيه فعليا».

بقي الكلام في الجهة الرابعة و هي: ما يرد على الواجب المعلق من الإشكالين الآخرين غير ما مر عن الشيخ و المصنف من الإشكال عليه، و الإشكال الأول من الإشكالين الباقيين ما أشار إليه بقوله: «ثم إنه ربما حكي عن أهل النظر من أهل العصر إشكال في الواجب المعلق».

و الإشكال الثاني منهما ما أشار إليه بقوله الآتي: «و ربما أشكل على المعلق أيضا» فانتظر.

(1) قيل: إن المراد من بعض أهل النظر هو المحقق النهاوندي صاحب «تشريح الأصول» و قيل: هو المحقق الشهير السيد محمد الأصفهاني، و على كل حال فالمهم هو:

بيان الإشكال على الواجب المعلق، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية في جميع الخصوصيات و الآثار، أي: في كونهما مشتركتين فيما تتوقف عليه الإرادة؛ من العلم، و التصديق بالغاية و الميل، و فيما يترتب على الإرادة من تحريك العضلات، و حصول الفعل بعده؛ و إنما الفرق بينهما: في أن الإرادة التشريعية تتعلق بفعل الغير، و التكوينية تتعلق بفعل نفس الشخص، فحينئذ كما أن الإرادة التكوينية يستحيل انفكاكها عن المراد - لأنها الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات - فكذلك يستحيل انفكاك الإرادة التشريعية عن المراد و هو طلب الفعل من الغير.

ص: 72

قلت (1): فيه أن الإرادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي، كما تتعلق بأمر حالي، و هو أوضح من أن يخفى على عاقل فضلا عن فاضل، ضرورة: أن تحمّل المشاق في تحصيل المقدمات - فيما إذا كان المقصود بعيد المسافة و كثير المئونة - ليس إلاّ لأجل تعلق إرادته به، و كونه مريدا له قاصدا إيّاه لا يكاد يحمله على التحمل إلاّ ذلك، و لعل الذي أوقعه (2) في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الإرادة بالشوق المؤكد المحرك و بعبارة أخرى: كما أن الإرادة التكوينية لا تنفك عن الحركة نحو الفعل، كذلك الإرادة التشريعية لا تنفك عن حركة الغير إلى الفعل و التعليق؛ حيث إن الايجاب فيه حالي، و الحركة نحو الفعل استقبالية فهو باطل لاستلزامه انفكاك الإرادة عن المراد.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فيتضح لك امتناع الواجب المعلق؛ لما عرفت في المقدمة من استلزامه انفكاك المراد عن الإرادة؛ لكون المراد فيه متأخرا زمانا عن الإرادة؛ إذ المفروض: استقبالية الواجب، و فعلية الوجوب و يستحيل انفكاك الوجوب عن الواجب بأن يكون الوجوب فعليا و الواجب استقباليا فيكون من قبيل تخلف المعلول عن العلة و هو ممتنع.

(1) أجاب المصنف عن إشكال بعض أهل النظر على الواجب المعلق بوجوه:

الوجه الأول من الجواب: ما أشار إليه بقوله: «فيه أن الإرادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي كما تتعلق بأمر حالي».

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي:

أن المستشكل - و هو بعض أهل النظر - قد قاس الإرادة التشريعية بالإرادة التكوينية بعدم انفكاك المراد عن الإرادة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المصنف أنكر امتناع انفكاك الإرادة التكوينية - التي هي المقيس عليها عن المراد - فقال: بعدم امتناع تعلق الإرادة التكوينية بأمر استقبالي فيما إذا كان المراد بعيد المسافة، و مما يحتاج إلى مقدمات كثيرة محتاجة إلى زمان طويل؛ كطي المسافات و نحوه، فإن إتعاب النفس في تحصيلها ليس إلاّ لأجل تعلق إرادته بما لا يحصل إلاّ بها؛ فإن السفر المحتاج إلى المقدمات إنما هو للوصول إلى المراد و هو: تحصيل المال مثلا مع انفكاكه عن الإرادة - لأن فعل هذه المقدمات لا يكون له إرادة استقلالية - بل إرادة المقدمات تبعية مترشحة عن إرادة ذيها. و كيف كان؛ فالإرادة التكوينية تنفك عن مراداتنا المنوطة بتمهيد مقدمات و مضي زمان.

(2) أي: أوقع بعض أهل النظر من أهل العصر في الغلط.

ص: 73

للعضلات نحو المراد، و توهم: أن تحريكها نحو المتأخر مما لا يكاد، و قد غفل (1) عن أن كونه محرّكا نحوه يختلف حسب اختلافه؛ في كونه مما لا مئونة له كحركة نفس العضلات، أو مما له مئونة و مقدمات قليلة أو كثيرة، فحركة العضلات تكون أعم من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدمة له، و الجامع إن يكون (2) نحو المقصود.

بل مرادهم (3) من هذا الوصف - في تعريف الإرادة -: بيان مرتبة الشوق الذي و حاصل وجه غلطه و توهمه هو: ظهور تعريف الإرادة بالشوق المؤكد المحرك للعضلات نحو المراد في امتناع انفكاك الإرادة عن المراد، فيمتنع تحريك الإرادة نحو المتأخر عنها زمانا؛ كالواجب المعلق، حيث: إنه متأخر زمانا عن الوجوب.

=============

(1) هذا الكلام من المصنف دفع لهذا التوهم، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن المراد على قسمين:

الأول: ما يكون مرادا بالأصالة؛ كشرب الماء الموجود.

الثاني: ما يكون مرادا بالتبع؛ كبذل المال لشراء الماء و نقله إلى منزله، ثم إلى إناء يعتاد شرب الماء منه، فحركة العضلات - في المثال الأول - تكون مقصودة بالأصالة، و في المثال الثاني: مرادة بالتبع.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الإرادة لا تنفك عن المراد في المثالين؛ لأن المراد ليس منحصرا في المقصود الأصلي - كما عرفت في المقدمة - حتى يلزم انفكاكها عنه فيما إذا توقف المراد على مقدمات، كالمثال الثاني.

(2) أي: الجامع هو التحريك نحو المقصود؛ سواء كان أصليا أو تبعيا، و الأول: فيما لم تكن هناك مقدمات. و الثاني: فيما إذا احتاج المراد إلى مقدمات.

و على كلا التقديرين: لا يلزم انفكاك الإرادة عن المراد، غاية الأمر: أن المراد في أحدهما: أصلي، و في الآخر: تبعيّ . هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الجواب.

(3) هذا هو الوجه الثاني من الجواب عن إشكال بعض أهل النظر على الواجب المعلق، غرض المصنف منه هو: منع اعتبار التحريك الفعلي في تعريف الإرادة. و أن مقصودهم من توصيف الإرادة بذلك: بيان أن الإرادة مرتبة أكيدة من الشوق المحرك للعضلات نحو المراد.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الإرادة و إن كانت عبارة عن الشوق المؤكد المحرك للعضلات نحو المراد؛ إلاّ إن المراد من تحريك العضلات في تعريف الإرادة ليس هو التحريك الفعلي؛ لإمكان تعلقها بأمر متأخر لا مقدمات له أصلا، فلا حركة في

الفرق بين الإرادة التشريعية و الإرادة التكوينية

ص: 74

يكون هو الإرادة، و إن لم يكن هناك فعلا تحريك؛ لكون المراد و ما اشتاق إليه كمال الاشتياق أمرا استقباليا غير محتاج إلى تهيئة مئونة أو تمهيد مقدمة؛ ضرورة: أن شوقه إليه ربما يكون أشدّ من الشوق المحرك فعلا نحو أمر حالي أو استقبالي، محتاج إلى ذلك.

هذا مع (1) انه لا يكاد يتعلق البعث إلاّ بأمر متأخر عن زمان البعث؛ ضرورة: أن البين فعلا لا نحو الفعل و لا نحو المقدمات، بل مرادهم من حركة العضلات هي: مطلق الحركة شأنية كانت أو فعلية.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا يعتبر في الإرادة التحريك الفعلي للعضلات؛ بل يكفي مطلق التحريك سواء كانت حركة العضلات نحو المراد فعلية أو استقبالية. نعم؛ يعتبر فيها التحريك حين إيجاد المراد.

و كيف كان؛ فقد أجاب المصنف عن توهم بعض أهل النظر إلى الآن بوجهين:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «و قد غفل...» إلخ، و محصله: تعميم المراد إلى الأصلي و التبعي بعد اعتبار التحريك الفعلي في الإرادة.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «بل مرادهم من هذا الوصف...» إلخ و حاصله: منع اعتبار التحريك الفعلي في الإرادة، و كفاية التحريك في ظرف إيجاد المراد، ففي المراد الاستقبالي غير المحتاج إلى مقدمات تكون الإرادة - و هي الشوق المؤكد - موجودة بدون التحريك الفعلي، فعلى هذا تنفك الإرادة عن التحريك الفعلي نحو كل من المراد و مقدماته؛ و ذلك لفرض استقبالية المراد، و عدم احتياجه إلى مقدمات، و لا ضير فيه بعد منع اعتبار التحريك الفعلي في الإرادة، و كفاية التحريك في موطنه.

(1) هذا هو الوجه الثالث من الجواب عن إشكال بعض أهل النظر، و مرجعه: إلى بطلان قياس الإرادة التشريعية بالإرادة التكوينية؛ لكون هذا القياس قياسا مع الفارق فيكون باطلا.

الفرق بين الإرادة التشريعية و الإرادة التكوينية

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: بيان الفرق بين الإرادتين و الفرق بينهما:

أولا: أن الإرادة التكوينية تتعلق بفعل نفس الشخص، و الإرادة التشريعية تتعلق بفعل الغير.

و ثانيا: إن الإرادة التشريعية عبارة عن إحداث الداعي في نفس المكلف نحو الفعل المأمور به بتوجيه أمر إليه.

و من البديهي: أن حدوث الداعي يتوقف على بعض المقدمات؛ كتصور المكلف الأمر

ص: 75

البعث إنما يكون لإحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به بأن يتصوره بما يترتب عليه من المثوبة، و على تركه من العقوبة، و لا يكاد يكون هذا إلاّ بعد البعث بزمان، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان، و لا يتفاوت طوله و قصره، فيما هو ملاك الاستحالة و الإمكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب.

و لعمري (1) ما ذكرناه واضح لا سترة عليه، و الإطناب إنما هو لأجل رفع المغالطة الواقعة في أذهان بعض الطلاب.

=============

بما يترتب عليه من مثوبة على موافقته، و إتيان متعلقه، و عقوبة على مخالفته، و ترك متعلقه، و هذا مما لا يمكن أن يتحقق إلاّ بعد البعث بزمان قصير؛ كما في الواجب المنجز، أو بزمان طويل؛ كما في الواجب المعلق.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن قياس الإرادة التشريعية بالإرادة التكوينية قياس مع الفارق.

و خلاصة الفرق - ببيان أوضح -: أنه لو سلمنا امتناع الانفكاك في الإرادة التكوينية، فلا بد من الالتزام بالانفكاك في الإرادة التشريعية؛ و ذلك لما عرفت - في المقدمة - من أن المكلف لا ينبعث عن الأمر نحو المأمور به إلاّ بعد تصور الأمر و ما يترتب عليه من الثواب على موافقته، و العقاب على مخالفته؛ ليحصل له الداعي إلى الإتيان بالمأمور به، فلا محالة يتأخر الانبعاث الذي هو ظرف الواجب عن البعث، و يتحقق الانفكاك بينهما.

فالمتحصل من جميع ما ذكرناه: أنه لا بد من الالتزام بالانفكاك في الإرادة التشريعية و هي: إرادة الفعل من الغير باختيار ذلك الغير.

(1) يقول المصنف: «و لعمري ما ذكرناه» من تخلف الإرادة التشريعية عن المراد واضح، فلا يكون مستحيلا - كما زعمه بعض أهل النظر - إذ لو كان مستحيلا لكان مستحيلا في الواجب المنجز أيضا؛ لأن ملاك الاستحالة هو: تخلف الانبعاث عن البعث، و هو موجود في الواجب المنجز، فلا فرق بين الواجب المعلق و المنجز في الاستحالة، فإن كان الواجب المنجز ممكنا كان الواجب المعلق أيضا ممكنا؛ إذ لا دخل لطول الزمان و قصره في الاستحالة و الإمكان.

ثم يعتذر المصنف عن إطناب الكلام في المقام - و هو على خلاف ديدنه - بأنّه كان لأجل رفع المغالطة و الاشتباه اللذين وقعا في أذهان بعض الطلاب، كما وقع في ذهن المستشكل المذكور؛ و هو بعض أهل النظر.

ص: 76

و ربما أشكل على المعلق أيضا (1): بعدم القدرة على المكلف به في حال البعث، مع إنها من الشرائط العامة.

و فيه (2): أن الشرط إنما هو القدرة على الواجب في زمانه، لا في زمان الإيجاب

=============

(1) هذا إشكال آخر على الواجب المعلق الذي قال به صاحب الفصول.

توضيح الإشكال يتوقف على مقدمة و هي: أن للتكاليف الشرعية شرائط و منها:

القدرة على العمل؛ لأن القدرة على الواجب عقلا من الشرائط العامة، و مقتضى شرطيتها انتفاء الوجوب عند انتفائها؛ إذ معنى الشرط ما ينتفي المشروط بانتفائه.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن القول بالواجب المعلق باطل لاستلزامه وجود المشروط عند انتفاء الشرط، إذا المفروض: هو انتفاء القدرة على الواجب مع كونها من الشرائط العامة؛ فالحج في الموسم قبل وقته غير واجب لعدم القدرة عليه، فلو كان واجبا لزم وجود المشروط عند انتفاء الشرط. و هو خلف.

(2) أي: ما يرد في هذا الإشكال: أن الشرط للتكليف هو القدرة على الامتثال حين الامتثال لا حين الإيجاب.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن القدرة على فعل الواجب على أقسام:

1 - القدرة عليه حين الإيجاب فقط.

2 - القدرة حين الإيجاب و الامتثال معا.

3 - القدرة حين الامتثال فقط.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن الشرط المعتبر في وجوب شيء هو القدرة على الواجب في زمان فعله و امتثاله؛ لا القدرة حين الإيجاب فقط، و لا القدرة حين الإيجاب و الامتثال معا، و المفروض هو: وجود قدرة المكلف على الإتيان بالواجب المعلق في زمان فعله و امتثاله فقط؛ إذ لم يثبت شرعا اعتبار القدرة في زمان حدوث الإيجاب، و يكفي ثبوتها في ظرف الامتثال لتشريع الوجوب من باب الشرط المتأخر، الذي هو من الشرط المقارن حقيقة؛ بناء على ما سبق تحقيقه من المصنف - في مبحث أقسام الشرط - حيث قال: إن الشرط في الشرط المتأخر هو وجوده اللحاظي الذي هو من المقارن، و القدرة كذلك حيث أنها بوجودها العلمي شرط للإرادة لا بوجودها الخارجي.

و لذا لو علم المكلف بعدم قدرته لا يريده و إن كان مقدورا له واقعا، و كذلك لو علم بقدرته عليه يريده و إن لم يكن مقدورا له واقعا.

و كيف كان؛ فالقدرة حين الامتثال من الشرط المتأخر، كما أشار إليه بقوله: «غاية

ص: 77

أنه كالمقارن، من غير انخرام للقاعدة العقلية أصلا، فراجع.

ثم لا وجه (1) لتخصيص المعلق بما يتوقف حصوله على أمر غير مقدور؛ بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخر، أخذ على نحو (2) يكون موردا للتكليف، و يترشح عليه الوجوب من الواجب، أو لا؛ لعدم تفاوت فيما يهمه من وجوب تحصيل المقدمات الأمر: يكون من باب الشرط المتأخر»، و الشرط المتأخر، كالمقارن من غير انخرام القاعدة العقلية و هي: تقدم العلة بتمام أجزائها على المعلول رتبة، و مقارنتها له زمانا.

=============

(1) أي: أنه يرد على الواجب المعلق الفصولي إشكال آخر غير ما سبق من الإشكالات؛ و هو ما أشار إليه بقوله: «لا وجه لتخصيص المعلق بما يتوقف حصوله على أمر غير مقدور».

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الغرض من الالتزام بالواجب المعلق هو:

وجوب تحصيل المقدمات غير المقدورة في زمان الواجب، فإنه على القول بالواجب المعلق يجب تحصيلها قبل الوقت. هذا أولا.

و ثانيا: أن ما يتوقف عليه حصول الواجب المعلق لا يختص بما هو ظاهر الفصول من اختصاصه بأمر غير مقدور للمكلف؛ بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخر كالاستطاعة لمن يقدر على تحصيلها.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه لا يتفاوت في المهم - و هو وجوب المقدمات غير المقدورة في زمان الواجب - بين كون الأمر المعلق عليه الواجب غير مقدور قبل زمان الواجب، و بين كونه مقدورا، فحينئذ لا وجه لما في بعض الكلمات من اختصاص القيد الذي يتوقف عليه الواجب المعلق بغير المقدور، كما هو ظاهر الفصول.

(2) اختلفت النسخ في حذف حرف النفي - أعني كلمة لا - و إثباته، و المعنى واحد على التقديرين؛ إذ لو كان هذا نفيا كان قوله: بعد «أو لا» إثباتا لأنه نفي للنفي، و إن كان هذا إثباتا كان قوله: «أو لا» نفيا، و المعنى: إنه لا يفرق في تعلق الواجب بأمر مقدور متأخر بين أن لا يكون ذلك الأمر المتأخر موردا للتكليف؛ بأن يكون توقف حصول الواجب عليه بوجوده الاتفاقي؛ لأنّ ظاهر الفصول هو كون الواجب المعلق هو المقيد بوجوده الاتفاقي، و لم يظهر عدول المصنف عنه.

نعم؛ ثبت عدوله عن تخصيص الفصول تعليق الواجب بغير المقدور، و لذا عمّمه المصنف للمقدور.

و قوله «لعدم تفاوت فيما يهمّه...» إلخ تعليل لقوله: «لا وجه لتخصيص المعلق» كما أنّ قوله: «لثبوت الوجوب الحالي فيه» تعليل لوجوب المقدمات غير المقدورة في زمان

ص: 78

الوجوب من الواجب، أو لا؛ لعدم تفاوت فيما يهمه من وجوب تحصيل المقدمات التي لا يكاد يقدر عليها في زمان الواجب المعلق، دون المشروط لثبوت الوجوب الحالي فيه، فيترشح منه الوجوب على المقدمة، بناء على الملازمة دونه لعدم ثبوته فيه إلاّ بعد الشرط.

نعم (1) لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخر، و فرض وجوده، كان الوجوب الواجب، و الضمير في قوله: «فيه» و «منه» يعود إلى الواجب المعلق، و الضمير في «دونه» يعود إلى المشروط.

=============

و قوله: «لعدم ثبوته فيه» تعليل لعدم وجوب المقدمات في الواجب المشروط أي: العلة لعدم وجوب مقدمات الواجب المشروط هو عدم ثبوت الوجوب في المشروط أي: في ذي المقدمة، حتى يترشح منه على المقدمة؛ لأن المفروض: هو عدم ثبوت الوجوب فيه إلاّ بعد الشرط.

(1) قوله: «نعم لو كان الشرط...» إلخ استدراك عن قوله: «دونه» يعني: دون المشروط.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة. و هي: أنّ الواجب المشروط باعتبار شرطه ينقسم إلى أقسام؛ لأن شرط الواجب على أقسام:

الاول: أن يكون الوجوب مشروطا بشرط مقارن كقول المولى: لعبده «إن جاءك زيد فأكرمه»؛ حيث يكون وجوب إكرام زيد مقارنا لمجيئه.

الثاني: أن يكون مشروطا بشرط متأخّر عن الوجوب، مفروض الحصول في موطنه؛ و لكن الواجب يكون حاليا؛ كالوجوب كما في قوله: «إن سافرت يوم الاثنين فتصدق يوم الأحد بدرهمين»، فيكون كل من الوجوب و الواجب فعليا، و شرط الوجوب استقباليا.

الثالث: أن يكون الوجوب مشروطا بشرط متأخر عن الوجوب مفروض الحصول في موطنه، مع كون الواجب أيضا متأخرا كالشرط، كما في قوله: «إن جاءك زيد يوم الجمعة فمن الآن أحتم عليك إطعامه في ذلك اليوم»، و كبقاء الاستطاعة المالية إلى انتهاء المناسك؛ حيث يكون هذا متأخرا عن وجوب الحج بالاستطاعة؛ لكن يفرض وجودها قبل الموسم فيصير الوجوب فعليا، فتجب مقدماته بناء على الملازمة بين وجوب الواجب و وجوب مقدماته.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: يمكن القول بوجوب المقدمات في القسم الأخير من المشروط قبل حصول شرطه، فهذا القسم هو الذي ننتفع به بعين ما ننتفع بالواجب

ص: 79

المشروط به حاليا، أيضا، فيكون وجوب سائر المقدمات الوجودية للواجب أيضا حاليا. و ليس الفرق بينه و بين المعلق حينئذ إلاّ كونه مرتبطا بالشرط، بخلافه، و إن ارتبط به الواجب.

تنبيه (1): المناط في فعلية وجوب المقدمة الوجودية هو فعلية وجوب ذيها

قد انقدح - من مطاوي ما ذكرناه - أن المناط في فعلية وجوب المقدمة الوجودية، المعلق، فلا فرق بين المشروط و المعلق في فعلية الوجوب ليترشح منه على مقدماته، و إنما الفرق بينهما في أن الشرط في المعلق قيد للمادة و مرتبط بها، و في المشروط قيد للوجوب و مرتبط به، كما أشار إليه بقوله: «و ليس الفرق بينه و بين المعلق حينئذ» أي: حين كون الشرط مأخوذا على نحو الشرط المتأخر، المثبت لوجوب المقدمات «إلاّ كونه» أي:

=============

المشروط «مرتبطا بالشرط بخلافه» أي: بخلاف المعلق.

و ملخص الفرق: أن وجوب المشروط مترتب عليه بخلاف المعلق؛ حيث إن الواجب مرتبط و مقيد به دون الوجوب.

الفرق بين الواجب المشروط و الواجب المعلق

(1) أي: تنبيه في بيان مناط وجوب المقدمة و هو فعلية وجوب ذيها، كما أشار إليه بقوله: «هو فعلية وجوب ذيها و لو كان أمرا استقباليا»، و الغرض الأساسي من عقد هذا التنبيه في هذا المقام هو: دفع الإشكال، و التخلص عن العويصة المشهورة و هي: وجوب المقدمات في موارد عديدة مع عدم وجوب ذيها.

و خلاصة الإشكال و العويصة: أنه لا إشكال في أنهم قد صرحوا بتبعية المقدمة لذي المقدمة في الإطلاق و الاشتراط، بل لا يمكن عقلا اتصاف المقدمة بالوجوب الغيري قبل اتصاف ذيها بالوجوب النفسي. و مع ذلك قد حكموا في الموارد الكثيرة بوجوب المقدمة قبل وجوب ذيها؛ فهذا منهم ينافي حكم العقل بامتناع اتصاف المقدمة بالوجوب الغيري قبل وجوب ذيها بالوجوب النفسي؛ لأن وجوب المقدمة يترشح من وجوب ذي المقدمة، فلا يعقل قبل وجوب ذيها.

فلا بد من ذكر تلك الموارد أولا، و من دفع الإشكال الوارد على وجوب المقدمة فيها ثانيا.

و أما الموارد التي حكموا فيها بوجوب المقدمة قبل وجوب ذيها فهي:

1 - حكمهم بوجوب الغسل على المحدث بالحدث الأكبر في الليل، قبل طلوع الفجر مقدمة للصوم في الغد؛ مع عدم وجوب الصوم في الليل.

ص: 80

2 - حكمهم بوجوب حفظ الماء قبل دخول وقت الصلاة لصرفه في الطهارة؛ إذا علم المكلف بعدم التمكن من تحصيله بعد دخول الوقت؛ مع عدم وجوب الصلاة قبل الوقت حتى يجب حفظ الماء للطهارة.

3 - حكمهم بوجوب السعي إلى الحج على المستطيع النائي قبل يوم عرفة مقدمة للحج.

4 - حكمهم بوجوب معرفة القبلة لمن أراد السفر إلى البلدان النائية، و غير ذلك من الموارد التي يجدها المتتبع في مطاوي كلمات الفقهاء. هذا خلاصة الكلام في ذكر بعض تلك الموارد.

و أما دفع الإشكال و التخلص عن هذه العويصة فقد ذكر له وجوه عديدة:

الأول: ما نسب إلى صاحب الحاشية: من الالتزام بالوجوب النفسي في هذه الموارد.

الثاني: ما أفاده صاحب الفصول: من الالتزام بالواجب المعلق في هذه المقامات، و قد دفع الإشكال بهذا الطريق؛ إذ الوجوب يكون حاليا قبل مجيء وقت الواجب في الواجب المعلق، و لهذا تجب مقدماته فعلا لكون الوجوب فعليا.

الثالث: ما أفاده الشيخ الأنصاري: من الالتزام برجوع القيد و الشرط إلى المادة لا إلى الهيئة - فيكون الوجوب مطلقا و فعليا - لأن المقيد بالشرط الاستقبالي هو الواجب، فتجب مقدماته لكون الوجوب فعليا.

الرابع: ما أفاده المصنف في دفع الإشكال: من الالتزام بالواجب المشروط بشرط متأخر؛ مفروض الوجود في موطنه كما سيأتي عن قريب، فيكون الوجوب حينئذ فعليا قبل حصول الشرط.

و بعبارة واضحة: يكون وجوب ذي المقدمة فعليا فيترشح الوجوب منه إلى مقدماته؛ لأن المعيار في وجوبها فعلية وجوب ذيها و هي متحققة في الواجب المشروط بشرط متأخر مفروض الوجود في موطنه؛ لأن المفروض: أن الشرط يحصل في وقته، و لهذا لا بد من الآن الإتيان بالمقدمات التي تفوت بعد حصول الشرط.

فقد ظهر مما ذكرناه: أن دفع الإشكال لا ينحصر بالالتزام بالواجب المعلق، أو بالالتزام برجوع القيد إلى المادة لبّا، بل يمكن دفع الإشكال بناء على الالتزام بالواجب المشروط على نحو الشرط المتأخر.

و كيف كان؛ فقد علم أن المعيار في وجوب المقدمة فعلية وجوب ذيها، ففي كل مورد كان وجوبه فعليا كان وجوبها فعليا أيضا.

ص: 81

و كونه في الحال بحيث يجب على المكلف تحصيلها، هو فعلية وجوب ذيها، و لو كان أمرا استقباليا، كالصوم في الغد و المناسك في الموسم، كان وجوبه مشروطا بشرط موجود أخذ فيه و لو متأخرا، أو مطلقا، منجزا كان أو معلقا، فيما إذا لم تكن مقدمة للوجوب أيضا، أو مأخوذة في الواجب على نحو يستحيل أن تكون موردا للتكليف، كما إذا أخذ عنوانا للمكلف كالمسافر و الحاضر و المستطيع إلى غير ذلك.

أو جعل (1) الفعل المقيد باتفاق حصوله، و تقدير وجوده - بلا اختيار أو باختياره -

=============

(1) قوله: «أو جعل» عطف على قوله: «أخذ عنوانا» أي: المقدمة لا تكون واجبة إذا كانت موردا للتكليف؛ من غير فرق بين كونها عنوانا للمكلف، و بين كونها على نحو جعل الفعل المقيد باتفاق حصوله و تقدير وجوده؛ سواء كان الحصول بلا اختيار للمكلف، أو كان باختياره موردا للتكليف.

و مثال الأول: ما لو قال المولى لعبده: أوجبت عليك الصلاة عند دخول الوقت، و أوجبت عليك الحج على تقدير حصول الاستطاعة بالإرث.

و مثال الثاني: إن سافرت فقصر، و إن استطعت بالكسب فحج؛ فإن فيهما جعل الفعل المقيد بحصول الشرط - بلا اختيار المكلف أو باختياره - موردا للتكليف، بحيث لا تكليف بدونه.

فتحصل من عبارة المصنف: أنه لا تجب المقدمة الوجودية إلاّ بشروط ثلاثة:

أحدها: عدم كون المعلق عليه قيدا للوجوب - كما أشار إليه بقوله: - «فيما إذا لم تكن مقدمة للوجوب أيضا»، إذ لو كان قيدا للوجوب أيضا أي: كما كان قيدا للواجب لما وجب تحصيله كالاستطاعة مثلا، حيث لا يجب تحصيلها للحج؛ لإناطة الوجوب بها.

ثانيها: عدم كون المقدمة مأخوذة في الواجب على نحو يستحيل أن تكون موردا للتكليف؛ كما إذا أخذت عنوانا للمكلف؛ كالمسافر إذا كان القيد قيدا للموضوع، كما إذا قال المولى: «إن سافرت فقصّر»، - أو قال: «إن استطعت فحج» فلا يجب تحصيله؛ لأن مثل هذه القيود مما أخذ عنوانا للموضوع يمتنع تعلق الوجوب بها؛ لأن السفر مثلا و إن كان مقدمة وجودية لصلاة القصر؛ إلاّ إنه يمتنع ترشح التكليف عليه، إذ المفروض:

كون الموضوع كالعلة للحكم في توقف الحكم عليه، فلا يتحقق التكليف إلاّ عند تحققه، فلا بد من وجوده في وجود الحكم، و مع ذلك يمتنع ترشح الوجوب عليه لاستلزامه طلب الحاصل؛ إذ قبل الموضوع لا حكم أصلا، و بعد حصوله لا معنى لوجوب تحصيله لما عرفت من لزوم طلب الحاصل.

ص: 82

موردا للتكليف، ضرورة: إنه لو كان مقدمة الوجوب أيضا لا يكاد يكون هناك وجوب إلاّ بعد حصوله، و بعد الحصول يكون وجوبه طلب الحاصل، كما أنه إذا أخذ على أحد النحوين يكون كذلك، فلو لم يحصل لما كان الفعل موردا للتكليف، و مع حصوله لا يكاد يصح تعلقه به فافهم (1).

إذا عرفت ذلك (2)، فقد عرفت: أنه لا إشكال أصلا في لزوم الإتيان بالمقدمة قبل ثالثها: عدم كون المقدمة قيدا للفعل بوجودها الاتفاقي أي: بأن لا يجعل الفعل المقيد باتفاق حصولها بلا اختيار - كالبلوغ و الوقت - أو باختيار المكلف - كالسفر مثلا - موردا للتكليف - كما أشار إليه بقوله: - «أو جعل الفعل المقيد...» إلخ؛ إذ لو كانت بوجودها الاتفاقي قيدا للواجب لكان الشرط حينئذ وجودها الاتفاقي، فلا تكون المقدمة واجبة؛ إذ ليست المصلحة الملزمة في وجودها كذلك كي توجب وجوبها.

=============

قوله: «ضرورة: أنه لو كان مقدمة الوجوب أيضا» تعليل لاعتبار الشرائط المذكورة في وجوب المقدمة، و قد عرفت توضيح ذلك.

(1) لعله إشارة إلى: أن القيد إذا أخذ عنوانا للمكلف صار الوجوب مشروطا فيخرج عن الإطلاق، و كذا إذا أخذ شرطا للوجوب فلا وجوب أصلا حتى يترشح على المقدمة، فهذان الشرطان مقومان للإطلاق و محققان له.

دفع إشكال وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها

(2) أي: إذا عرفت ما ذكرناه من المقدمة. «فقد عرفت: إنه لا إشكال أصلا في لزوم الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب إذا لم يقدر عليه بعد زمانه فيما إذا كان وجوبه حاليا مطلقا، و لو كان مشروطا بشرط متأخر».

و حاصل الكلام في المقام: أن قول المصنف: «فقد عرفت أنه لا إشكال أصلا...» إلخ شروع في التخلص عن العويصة المشهورة التي تقدم الكلام فيها، و في الجواب عنها.

و كيف كان؛ فكان كلامه من أول التنبيه إلى هنا مقدمة للشروع في التخلص عنها، فينبغي لنا أن نذكر العويصة و الجواب عنها ثانيا توضيحا لكلام المصنف «قدس سره» هنا.

و خلاصة الإشكال و العويصة: أنه قد قام الإجماع، بل الضرورة على وجوب بعض المقدمات قبل زمان حضور الواجب كالغسل في الليل للصوم في الغد، و كتحصيل الزاد و الراحلة قبل مجيء موسم الحج، فيرد فيه الإشكال من جهة أنه تجب المقدمة قبل وجوب ذيها، مع إن وجوبها تابع لوجوبه.

و في الجواب عن هذه العويصة وجوه: بل أقوال قد تقدم ذكرها، و قلنا: إن الشيخ الأنصاري ذهب إلى أن الشرط من قيود المادة لا الهيئة. و ذهب صاحب الفصول إلى

ص: 83

زمان الواجب إذا لم يقدر عليه بعد زمانه، فيما إذا كان وجوبه حاليا مطلقا، و لو كان مشروطا بشرط متأخر كان معلوم الوجود فيما بعد كما لا يخفى، ضرورة (1): فعلية وجوبه و تنجزه بالقدرة عليه بتمهيد مقدمته.

فيترشح منه الوجوب عليها على الملازمة، و لا يلزم منه (2) محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، و إنما اللازم (3) الإتيان بها قبل الإتيان به؛ بل (4) لزوم الإتيان بها الواجب المعلق. و ذهب المصنف إلى القول بالواجب المشروط بنحو الشرط المتأخر إذا علم وجود الشرط فيما بعد.

=============

فوجوب ذي المقدمة ثابت فعلا على جميع تلك الأقوال، فيترشح الوجوب منه إلى المقدمة. و لهذا قال المصنف: «فقد عرفت إنه لا إشكال أصلا في لزوم الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب إذا لم يقدر عليه» أي: على الإتيان بالمقدمة بعد زمان الواجب.

(1) قوله: «ضرورة...» إلخ تعليل لنفي الإشكال، يعني: لا إشكال أصلا في وجوب المقدمة و لزوم الإتيان بها، ضرورة: فعلية وجوب الواجب و تنجزه بسبب القدرة على الواجب بواسطة مقدمته «فيترشح منه» أي: من هذا الواجب المنجز «الوجوب عليها» أي: على المقدمة، بناء «على الملازمة» بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها، فقوله:

«فيترشح...» إلخ نتيجة لفعلية وجوب ذي المقدمة أي: فيترشح الوجوب من وجوب الواجب على المقدمات الوجودية؛ بناء على الملازمة بين وجوب الواجب نفسيا و وجوب مقدمته غيريا.

(2) أي: من وجوب المقدمة «محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها» حتى يقال:

كيف يترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة مع عدم وجوب ذي المقدمة ؟

و وجه عدم لزوم المحذور هو: وجوب ذي المقدمة فعلا المقتضي لفعلية وجوب مقدماته.

(3) أي: «و إنما اللازم» من وجوب المقدمة في هذا الحال هو الإتيان بها قبل الإتيان بالواجب، و لا محذور فيه أصلا بعد اتحاد وجوبي الواجب و مقدمته زمانا و اختلافهما رتبة.

و الحاصل: أن الوجوب لذي المقدمة حالي، لكنه على نحو المشروط بالشرط المتأخر.

(4) أي: يمكن إثبات وجوب المقدمة حتى على القول بعدم الملازمة بين الوجوب النفسي و الغيري الشرعيين؛ و ذلك لكفاية حكم العقل بوجوب المقدمة من باب لزوم الإطاعة؛ لتوقف امتثال الأمر النفسي على إتيانها.

ص: 84

عقلا - و لو لم نقل بالملازمة - لا يحتاج (1) إلى مزيد بيان و مئونة برهان؛ كالإتيان بسائر المقدمات في زمان الواجب قبل إتيانه.

فانقدح بذلك (2): أنه لا ينحصر التفصي عن هذه العويصة بالتعلق بالتعليق، أو بما يرجع إليه من جعل الشرط من قيود المادة في المشروط.

=============

(1) قوله: «لا يحتاج...» إلخ خبر - لقوله: - «لزوم الإتيان بها عقلا» أي: الإتيان بهذه المقدمة ليس إلاّ «كالإتيان بسائر المقدمات في زمان الواجب قبل إتيانه»، فهذا الكلام من المصنف تنظير لمقدمات الواجب قبل زمانه بمقدماته في زمان الواجب في الوجوب العقلي.

و حاصل التنظير: أنه كما تجب المقدمات الوجودية في زمان الواجب قبل إتيانه، فكذلك تجب مقدماته الوجودية قبل زمان إتيان الواجب مع فعلية وجوبه.

و كيف كان؛ فلا إشكال - على جميع الأقوال المذكورة - في وجوب الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب، إذا لم يقدر عليه في زمانه، و أما على مذهب الشيخ و الفصول «قدس سرهما» فالأمر واضح؛ لأن القيد راجع إلى المادة، و مقتضاه: فعلية الوجوب. و أما على مذهب المصنف القائل بالوجوب المشروط المشهوري: فلجواز الشرط المتأخر بالمعنى المتقدم الذي مرجعه إلى الشرط المقارن.

(2) أي: بما ذكرناه. من فعلية وجوب ذي المقدمة إذا كان مشروطا بشرط متأخر، و كانت فعلية وجوبه كافية في وجوب مقدماته - انقدح: «أنه لا ينحصر التفصي عن هذه العويصة...» إلخ، أي: فظهر بما ذكرناه من كفاية الالتزام بالواجب المشروط بنحو الشرط المتأخر في وجوب المقدمة: أنه لا ينحصر التفصي عن إشكال وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها بالتشبث بالواجب المعلق، أو بما يرجع إلى الواجب المعلق؛ من جعل الشرط من قيود المادة كما هو مسلك الشيخ الأنصاري، و الأول من صاحب الفصول أي:

التخلص عن الإشكال، و التفصي عنه لا ينحصر بالتشبث بالواجب المعلق كما عن الفصول، أو بما صنعه الشيخ من رجوع القيود إلى المادة في الواجب المشروط.

بل هنا لنا جواب ثالث: و هو كون الوجوب فعليا و مشروطا بنحو الشرط المتأخر، فتجب مقدماته من دون الحاجة إلى ما تشبث به صاحب الفصول و الشيخ الأنصاري «قدس سرهما»، أو بالتشبث بوجوه أخر من «الوجوب النفسي التهيّئي المنسوب إلى المحقق التقي في حاشيته، و من «الوجوب العقلي الإرشادي لحكم العقل بتنجز الواجب بعد وقته بالقدرة لأجل التمكن من تحصيل مقدماته قبل شرط الوجوب»، و من «الوجوب العقلي الإرشادي لأجل حكمه بلزوم حفظ غرض المولى».

ص: 85

فانقدح بذلك (1): أنه لا إشكال في الموارد التي يجب في الشريعة الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب؛ كالغسل في الليل في شهر رمضان و غيره، مما وجب عليه الصوم في الغد؛ إذ (2) يكشف به بطريق الإنّ عن سبق وجوب الواجب، و إنما المتأخر هو زمان إتيانه (3)، و لا محذور فيه أصلا، و لو فرض العلم بعدم سبقه (4)، لاستحال اتصاف مقدمته بالوجوب الغيري، فلو نهض دليل على وجوبها (5)، فلا محالة يكون

=============

(1) أي: بما ذكرناه من فعلية وجوب ذي المقدمة الموجبة لفعلية وجوب مقدماته - و إن كان مشروطا بشرط متأخر - ظهر: «أنه لا إشكال في الموارد التي يجب في الشريعة» المقدسة «الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب»، و قد عرفت سابقا أمثلة تلك الموارد و منها: الغسل في الليل في شهر رمضان للصوم في الغد و غيره من سائر الأمثلة.

(2) قوله «إذ يكشف...» إلخ تعليل لنفي الإشكال، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن البرهان - على ما في علم الميزان - على قسمين:

الأول: البرهان اللمّي و هو: الاستدلال من العلة على المعلول؛ كالاستدلال بتعفن الأخلاط على الحمى، فيقال: زيد متعفن الأخلاط، و كل متعفن الأخلاط محموم، فزيد محموم.

الثاني: البرهان الإنّي و هو: الاستدلال بالمعلول على العلة كالاستدلال بالحمى على تعفن الأخلاط في المثال المذكور.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المقام من هذا القبيل؛ حيث إن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها، فيستكشف من وجوب المقدمات قبل وجوب ذيها وجوب ذيها بالبرهان الإنّي، فالاستدلال بالمعلول على العلة ينفي إشكال وجوب المقدمة قبل مجيء وقت ذيها؛ لأن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها، فيكون كاشفا عنه، فلا إشكال في وجوبها عند وجوب ذيها.

(3) أي: أن وجوب الواجب مقدم على زمان إتيانه، «و إنما المتأخر هو زمان إتيانه و لا محذور فيه» أي: لا محذور في تأخر زمان الواجب و تقدم وجوبه «أصلا».

(4) أي: و لو فرض بعدم سبق وجوب الواجب؛ «لاستحال اتصاف مقدمته بالوجوب الغيري»؛ لأن الوجوب الغيري فرع الوجوب النفسي، فحيث لا وجوب نفسيا لم يكن وجوب غيري، و غرض المصنف من قوله: «و لو فرض العلم بعدم سبقه» هو:

اختصاص البرهان الإنّي بما إذا لم يعلم بعدم وجوب ذي المقدمة قبل مجيء وقته، و أما إذا علم بعدم وجوبه قبل وقته فلا مجال للبرهان المزبور؛ إذ يستحيل حينئذ اتصاف المقدمة بالوجوب الغيري لاستلزامه وجود المعلول بلا علة.

(5) أي: فلو نهض دليل على وجوب المقدمة: «فلا محالة يكون وجوبها نفسيا»،

ص: 86

وجوبها نفسيا و لو تهيّؤا ليتهيّأ بإتيانها، و يستعد لإيجاب ذي المقدمة عليه؛ فلا محذور أيضا (1).

إن قلت (2): لو كان وجوب المقدمة في زمان كاشفا عن سبق وجوب ذي و في بعض النسخ: «نفسيا تهيئيا».

=============

و كيف كان؛ فمع الدليل على وجوبها يكون وجوبها نفسيا لا غيريا ترشحيّا، و ملاك هذا الوجوب النفسي هو: تهيّؤ المكلف و استعداده لإيجاب ذي المقدمة في وقته بسبب إتيان مقدمته، ثم الفرق بين هذه المقدمة و بين غيرها من المقدمات هو: إن وجوب هذه المقدمة ليس معلولا لوجوب ذي المقدمة؛ بخلاف وجوب سائر المقدمات فإنه معلول له؛ لكونه مترشحا من وجوب ذيها.

(1) أي: فلا محذور في وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، كما لا محذور في وجوبها؛ إذا كان وجوب ذيها مشروطا بشرط متأخر معلوم الوجود في وقته و ظرفه.

و حاصل الكلام في المقام هو: أن سبق وجوب المقدمة كاشف عن وجوب ذيها فعلا و حاليا؛ و ذلك لاستحالة ترشح الوجوب من دون وجوب ذيها، فلو فرض سبق وجوب المقدمة، و علم عدم حالية وجوب ذيها فليس وجوبها ترشحيا؛ بل إما وجوب نفسي ذاتي لحكمة فيه، و إما وجوب نفسي تهيّئي أي: لحكمة التهيؤ و الاستعداد للتكليف، كما ذكر في وجوب التعلم.

الإشكال على البرهان الإني

(2) هذا الإشكال إشكال على البرهان الإنّي المزبور - و هو كشف وجوب المقدمة عن سبق وجوب ذيها.

توضيح الإشكال يتوقف على مقدمة و هي: أن مقدمة الواجب باعتبار قدرة المكلف عليها على قسمين:

الأول: أن تكون موسعة، و هي: أن تكون مقدورة له في زمان الواجب و قبل زمانه.

الثاني: أن تكون مضيقة بمعنى: أنها مقدورة قبل زمان الواجب فقط.

و القسم الأول لا يجب تحصيله قبل زمان الواجب، هذا بخلاف القسم الثاني، فيجب تحصيله قبل زمان الواجب لاستلزام عدم تحصيله فوت الواجب، و باعتبار الدليل أيضا على قسمين: قسم مما قام على وجوبها دليل خاص، و قسم آخر مما لم يدل على وجوبها دليل خاص.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول في تقريب الإشكال: أنه يلزم بناء على الكشف:

وجوب جميع مقدمات الواجب الوجودية، دون خصوص ما قام الدليل على وجوب الإتيان به قبل زمان ذي المقدمة؛ لأن المفروض: فعلية وجوب ذي المقدمة، و عليته

ص: 87

المقدمة؛ لزم وجوب جميع مقدماته و لو موسعا، و ليس كذلك بحيث يجب عليه المبادرة لو فرض عدم تمكنه منها لو لم يبادر.

قلت: لا محيص عنه (1)، إلاّ (2) إذا أخذ في الواجب من قبل سائر المقدمات قدرة خاصة، و هي القدرة عليه بعد مجيء زمانه، لا القدرة عليه في زمانه من زمان وجوبه، فتدبر جدا.

=============

لوجوب المقدمات مطلقا من دون تفاوت بينها، مع إن الأمر ليس كذلك أي: ليس يجب جميع المقدمات حتى ما لم يقم دليل على الإتيان بها قبل زمان ذيها؛ إذ لو كانت واجبة لوجبت المبادرة إلى الإتيان بها، و الحال: إنه لا تجب المبادرة إلى ما لم يقم دليل بالخصوص على وجوب الإتيان بها قبل زمان ذيها.

و بعبارة أخرى: أن لازم البرهان الإنّي: أن وجوب احدى المقدمات كاشف إنّا عن وجوب ذيها فعلا، و لازم ذلك: وجوب جميع المقدمات؛ لاتحاد حكم الأمثال فيما يجوز و لا يجوز، و الحال: إنه لا يجب تحصيل جميع المقدمات قبل مجيء وقت الواجب؛ إذ لا تجب المبادرة إلى ما لم يقم دليل بالخصوص على وجوب الإتيان به.

و قد ظهر - مما ذكرناه - الإشكال على المعلق الفصولي، و المشروط الشيخي؛ إذ لازمهما هو وجوب جميع المقدمات الوجودية للواجب، مع إن الأمر ليس كذلك، كما عرفت تفصيل ذلك.

(1) أي: عن الالتزام بوجوب جميع المقدمات قبل وقت ذي المقدمة وجوبا غيريا.

و حاصل جواب المصنف هو: الالتزام بوجوب جميع المقدمات بالوجوب الغيري بالبرهان الإنّي؛ لأن وجوب إحدى المقدمات من قبل مجيء وقت الواجب كاشف إنّا عن وجوب ذيها فعلا، ثم مقتضى عليّة وجوب الواجب لوجوب مقدماته هو: الالتزام بوجوب سائر مقدماته قبل وقت ذي المقدمة، فوجوبه يلازم وجوب جميع المقدمات؛ لأنّ الوجوب الغيري الترشحي معلول للوجوب النفسي. فإذا ثبت الوجوب النفسي قبل الوقت ثبت الوجوب الغيري كذلك، و لا تختلف المقدمات في الوجوب الغيري، هذا إذا كانت القدرة المأخوذة في الواجب مطلقة.

(2) أي: لا يجب الالتزام بوجوب سائر المقدمات قبل وقت الواجب؛ إذا أخذ في الواجب من قبل سائر المقدمات قدرة خاصة و هي: القدرة عليه بعد مجيء زمانه، فتختلف المقدمات قبل الوقت، فبعضها واجبة، و بعضها غير واجبة.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن لكل مقدمة سهم في إيجاد القدرة على ذيها، فإن القدرة على الواجب ناشئة من القدرة على مقدماته، و بانتفاء القدرة

ص: 88

تتمة: في اختلاف القيود في وجوب التحصيل و عدمه

قد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل، و كونه (1) موردا للتكليف على واحدة منها تنتفي القدرة عليه، فلا بد من قدرات متعددة حسب تعدد مقدماته.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن القدرة على الواجب من ناحية مقدماته على قسمين: قدرة خاصة، و قدرة مطلقة.

و الأولى: هي القدرة على الواجب من قبل القدرة على المقدمة بعد مجيء زمان الواجب، كما أشار إليه بقوله: «و هي القدرة عليه بعد مجيء زمانه».

و الثانية: هي القدرة على الواجب في زمانه قدرة حاصلة من زمن وجوبه، كما أشار إليه بقوله: «لا القدرة عليه في زمانه من زمان وجوبه»، فهي شاملة للقدرة بعد مجيء زمان الواجب، و للقدرة الموجودة قبل زمانه و لهذا سميت بالمطلقة، و المقدمة التي أخذ في الواجب من قبلها قدرة مطلقة: تكون واجبة من أول زمن وجوب ذيها.

هذا بخلاف المقدمة التي أخذ في الواجب من قبلها قدرة خاصة؛ حيث لا تكون واجبة قبل زمان الواجب، بل قام الدليل على عدم وجوبها قبل زمان الواجب.

فحينئذ إذا انتفت القدرة على المقدمات المذكورة في وقت الواجب - بأن اتفق عدم التمكن منها في زمانه - سقط وجوب الواجب، فإذا انتفى الوجوب النفسي انتفى الوجوب الغيري؛ لأنه تابع.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح كلام المصنف في المقام، و الحواشي في المقام لا تخلو عن التطويل الممل، أو الاختصار المخل.

قوله: «فتدبر جدا» لعله إشارة إلى: أن قيام الدليل على عدم وجوب المقدمة في زمان وجوب ذيها مستلزم للتفكيك بين الوجوب النفسي و الغيري.

في دوران أمر القيد بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة

(1) أي: كون القيود موردا للتكليف؛ بأن يكون تحصيلها واجبا «و عدمه» أي: عدم كونه موردا للتكليف؛ بأن لا يكون تحصيلها واجبا، و الأولى: تأنيث الضمير في «كونه» لرجوعه إلى القيود.

و حاصل ما أفاده المصنف «قدس سره»: أنك قد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل و عدمه؛ بمعنى: أن بعض القيود يكون تحصيله واجبا، كما إذا كان قيدا

ص: 89

و عدمه، فإن علم حال قيد فلا إشكال؛ و إن دار أمره ثبوتا بين أن يكون راجعا إلى الهيئة، نحو الشرط المتأخر أو المقارن، و أن يكون راجعا إلى المادة على نهج يجب تحصيله أو لا يجب، فإن كان في مقام الإثبات ما يعيّن حاله، و أنه راجع إلى أيّهما من القواعد العربية (1) فهو، و إلاّ فالمرجع هو الأصول العملية.

و ربما قيل (2) في الدوران بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة، بترجيح الإطلاق في طرف الهيئة، و تقييد المادة، بوجهين:

=============

للواجب المطلق، و بعضها لا يكون تحصيله واجبا؛ كما إذا كان القيد راجعا إلى الهيئة المسمى بالمقدمة الوجوبية.

أو كان مأخوذا عنوانا للمكلف نحو: «المسافر يقصّر»، أو كان راجعا إلى المادة، و كان غير اختياري كالوقت، أو كان اختياريا قد أخذ على نحو لا يترشح إليه الوجوب نحو: «صل عند ما تطهر»، و القيد في هذه الموارد مما علم حاله من حيث وجوب تحصيله و عدم لزوم تحصيله.

و لكن غرض المصنف من هذه التتمة هو: ذكر حال القيد فيما إذا لم يعلم حاله بأنه راجع إلى الهيئة بنحو الشرط المتأخر أو المقارن أو المادة؛ بنحو يمكن أن يكون موردا للتكليف، أو يستحيل على ما عرفت من التفصيل المتقدم في القيود.

و حاصل الكلام في المقام: أنه إذا علم حال القيد فلا كلام فيه و لا إشكال في حكمه. و أما إذا لم يعلم ذلك و أمكن رجوع القيد لبّا و واقعا و في مقام الثبوت إلى كل من الهيئة و المادة؛ فإن كان هناك في مقام الإثبات ما يوجب ظهور رجوعه إلى الهيئة أو المادة؛ كالقواعد العربية مثلا الموجبة لظهور رجوعه إلى الهيئة، فلا كلام أيضا، و إن لم يكن في مقام الإثبات ما يعيّن ذلك: فالمرجع هي الأصول العملية و مقتضاها البراءة عن وجوب هذا القيد لكونه مشكوك الوجوب، و قد قرر في ضبط مجاري الأصول: أن الشك في التكليف مجرى البراءة، فيرجع في المقام إلى أصالة البراءة عن وجوب هذا القيد، بل عن وجوب ذي المقدمة، لأن المفروض: عليّة وجوب الواجب لوجوب مقدمته، فنفي أحدهما بأصالة البراءة مستلزم لنفي الآخر؛ للتلازم بين العلة و المعلول وجودا و عدما. هذا ما أشار إليه بقوله: «و إلاّ فالمرجع هو الأصول العملية».

(1) أي: القواعد العربية الموجبة للظن برجوع القيد إلى الهيئة، و إن لم توجب العلم بذلك، و إلاّ اندرج في صورة العلم بحال القيد، فلا وجه حينئذ للمقابلة بينه و بين صورة العلم.

(2) القائل هو صاحب التقريرات، قال بترجيح الإطلاق في طرف الهيئة و تقييد المادة،

ص: 90

أحدهما: أن إطلاق الهيئة يكون شموليا، كما في شمول العام لأفراده، فإن وجوب الإكرام - على تقدير الإطلاق - يشمل جميع التقادير التي يمكن أن يكون تقديرا له، و إطلاق المادة يكون بدليا (1) غير شامل لفردين في حالة واحدة.

ثانيهما (2): أن تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الإطلاق في المادة و يرتفع به و لو تم ما في التقريرات لا تصل النوبة إلى الأصول العملية لتقدم الأصول اللفظية عليها.

=============

و حاصل كلام الشيخ في التقريرات: أنه إذا ثبت قيد، و لم يعلم أنه راجع إلى الهيئة أو إلى المادة فاختار: ترجيح إطلاق الهيئة و الوجوب، على إطلاق المادة و الواجب لوجهين:

الأول: أن إطلاق الهيئة شموليّ كالعام بالنسبة إلى أفراده. توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين إطلاق الهيئة و إطلاق المادة في قوله: «إن جاءك زيد فأكرمه»؛ حيث إن إطلاق الهيئة شمولي، و إطلاق المادة بدلي؛ بمعنى: أن الطلب المستفاد من الهيئة ثابت على كل حال و في كل تقدير؛ لا في حال دون حال و في تقدير دون تقدير، فالطلب و الوجوب مستمر إلى حصول امتثال أمره، و شامل لجميع التقادير و الأحوال؛ نظير شمول كل عالم - في قوله: «أكرم كل عالم» - لكل فرد من أفراد العلماء في آن واحد؛ كما هو شأن العام الاستغراقي.

هذا بخلاف إطلاق المادة كالإكرام في المثال المزبور حيث إنه بدلي كالمطلق بالنسبة إلى أفراده؛ إذ المطلوب منها فرد واحد من الإكرام على البدل لا جميع أفراده(1).

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه إذا دار الأمر بين تخصيص العام الشمولي، و بين تقييد المطلق البدلي يقدم الثاني على الأول كما سيأتي وجهه في مبحث العام و الخاص، و من المعلوم: أن ما نحن فيه من صغرياته؛ لما عرفت من أن إطلاق الهيئة شموليّ ، و إطلاق المادة بدليّ ، فالإطلاق الشمولي مما يقدم على البدلي.

(1) ملخص تقريب كون إطلاق المادة بدليا هو: أن مقتضى تعلق الأمر بطبيعة هي مطلوبية صرف الوجود منها، الذي لا ينطبق على جميع الأفراد في آن واحد؛ بل ينطبق على كل واحد من الأفراد على البدل كما هو شأن العام البدلي، فلا محالة يكون إطلاق المادة بدليّا لا شموليا.

الدليل على ترجيح إطلاق الهيئة على إطلاق المادة

(2) الدليل و الوجه الثاني على ترجيح إطلاق الهيئة على إطلاق المادة: «أن تقييد

ص: 91


1- راجع: مطارح الأنظار، ج 1، ص 252.

مورده، بخلاف العكس، و كلما دار الأمر بين تقييدين كذلك كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى.

أما الصغرى (1): فلأجل أنه لا يبقى مع تقييد الهيئة محل حاجة و بيان لإطلاق المادة؛ لأنها (2) لا محالة لا تنفك عن وجود قيد الهيئة، بخلاف تقييد المادة، فإن محل الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله، فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد و عدمه.

=============

الهيئة يوجب بطلان محل الإطلاق في المادة، و يرتفع به» أي: يرتفع بتقييد الهيئة «مورده» أي: مورد إطلاق المادة، «بخلاف العكس» أي: تقييد إطلاق المادة فإنه لا يوجب بطلان محل الإطلاق في الهيئة. «و كلما دار الأمر بين تقييدين كذلك» أي:

أحدهما موجب لتقييدين، و الآخر موجب لتقييد واحد «كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى» من التقييد الذي يوجب بطلان الآخر.

و أما توضيح ذلك فكريّا: فيتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين تقييد إطلاق الهيئة و بين تقييد إطلاق المادة. و حاصل الفرق بينهما هو: أن تقييد إطلاق الهيئة موجب لتقييد إطلاق المادة أيضا؛ لأنّ إطلاق الهيئة يبطل محل الإطلاق في المادة، فإذا فرض مثلا تقييد وجوب إكرام زيد بمجيئه كان الواجب - و هو الإكرام - مقيدا بالمجيء أيضا، لأن الإكرام حينئذ لا ينفك عن المجيء.

ففيه: ارتكاب خلاف ظاهرين، هذا بخلاف تقييد إطلاق المادة؛ فإن الهيئة تبقى على إطلاقها؛ إذ التقدير ثبوت الوجوب من الآن للإكرام إلى المجيء، فالوجوب ثابت للإكرام على تقديري المجيء و عدمه، ففيه ارتكاب خلاف ظاهر واحد.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه إذا دار الأمر بين ارتكاب خلاف ظاهرين، و بين ارتكاب خلاف ظاهر واحد يقدم الثاني على الأول، و المقام من هذا القبيل.

(1) أي: و هي قوله: أن تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الإطلاق في المادة، و قد تقدم تفصيل ذلك.

(2) أي: المادة لا محالة لا تنفك عن وجود قيد الهيئة لما عرفت: من استلزام تقييد إطلاق الهيئة تقييد المادة، بخلاف تقييد إطلاق المادة فإنه لا يستلزم تقييد اطلاق الهيئة كما عرفت.

ص: 92

و أما الكبرى (1): فلأن التقييد و إن لم يكن مجازا إلاّ إنه (2) خلاف الأصل، و لا فرق في (3) الحقيقة بين تقييد الإطلاق، و بين أن يعمل عملا يشترك مع التقييد في الأثر، و بطلان العمل به.

و ما ذكرناه من الوجهين (4) موافق لما أفاده بعض مقرري بحث الأستاذ العلامة «أعلى الله مقامه»، و أنت خبير بما فيهما.

=============

(1) أي: و هي - قوله: - «و كلما دار الأمر بين تقييدين كذلك...» إلخ. أي: قد عرفت النتيجة و هي: أولوية تقييد واحد حاصل من تقييد المادة، على تقييدين حاصلين من تقييد الهيئة.

و بعبارة أخرى: أولوية تقييد لا يوجب بطلان إطلاق الآخر من تقييد يوجب ذلك.

أما وجه الأولوية فهو: كون التقييد خلاف الظاهر، و من المعلوم: أن ارتكاب خلاف ظاهر واحد أولى من ارتكاب خلاف ظاهرين عند أبناء المحاورة، الذين يحتفظون على الظواهر، و لا يعدلون عنها إلاّ بقرينة على إرادة خلافها.

و ليس وجه الأولوية لزوم تعدد المجاز على تقدير تقييد إطلاق الهيئة، و وحدته على فرض تقييد إطلاق المادة؛ و ذلك لعدم لزوم المجازية في التقييد أصلا؛ لكون القيد مستفادا من دالّ آخر، مثلا: إن الرقبة المؤمنة حقيقة في معناها، و الإيمان قد أريد بدال آخر من باب تعدد الدال و المدلول، فالتقييد لا يكون مجازا على مبنى المحققين؛ كما أشار إليه بقوله: «و إن لم يكن مجازا»؛ لأن اسم الجنس و نحوه موضوع للماهية اللابشرط المقسمي، و التقييد و الإرسال كلاهما بدال آخر على نحو تعدد الدال و المدلول.

(2) أي: إلاّ إن التقييد خلاف الأصل أي: الظاهر.

(3) أي: لا فرق في الحقيقة و الواقع بين تقييد الإطلاق بعد انعقاده، و بين أن يعمل عملا يمنع عن انعقاد الإطلاق، فيشترك مع التقييد في بطلان العمل بالإطلاق؛ كتقييد الهيئة في المقام فإنه يمنع عن وجود الإطلاق في المادة، فالمقام و إن لم يكن من دوران الأمر بين تقييد إطلاقين حقيقة، و بين تقييد إطلاق واحد؛ إلاّ إنه نظيره في عدم العمل بالإطلاق، فلا فرق في عدم العمل به بين تقييده و بين إيجاد عمل يمنع عن انعقاد الإطلاق من الأول.

(4) أي: هما اللذان استدل بهما لترجيح تقييد المادة على تقييد الهيئة:

أحدهما: كون إطلاق الهيئة شموليا، و إطلاق المادة بدليّا.

و الآخر: كون تقييد الهيئة مبطلا لمحل الإطلاق في المادة، دون العكس.

ص: 93

أما في الأول (1): فلأن مفاد إطلاق الهيئة و إن كان شموليا بخلاف المادة، إلاّ إنه لا يوجب ترجيحه على إطلاقها؛ لأنه أيضا كان بالإطلاق و مقدمات الحكمة.

=============

تقديم ما هو مستند إلى الوضع على ما هو مستند إلى مقدمات الحكمة

(1) أجاب المصنف كلا الوجهين، و حاصل جوابه عن الوجه الأول يتضح بعد تقديم مقدمة و هي: الفرق بين الشمول المستفاد من مقدمات الحكمة، و بين الشمول المستفاد من الألفاظ الموضوعة للعموم، و الفرق بينهما: أن الشمول المستفاد من الإطلاق إنما هو بمقدمات الحكمة، و العموم المستفاد من ألفاظ العموم إنما هو بالوضع، و الأول: كالمفرد المحلى باللام بناء على عدم وضعه للعموم، فعمومه إنما هو ببركة مقدمات الحكمة، كقوله تعالى: أحلّ اللّه البيع، فالمستفاد من البيع هو العموم الشمولي ببركة مقدمات الحكمة، كما أن المستفاد من المفرد المنكر في نحو: «أكرم عالما» هو العموم البدلي بمقدمات الحكمة.

و الثاني: كالجمع المحلي باللام في نحو: «أكرم العلماء»؛ حيث إن عمومه إنما هو بالوضع لا بمقدمات الحكمة.

إذا عرفت هذه المقدمة فيتضح لك: إن إطلاق الهيئة و إن كان شموليا و الآخر بدليّا؛ إلاّ إن المناط في ترجيح أحد الإطلاقين على الإطلاق الآخر ليس كون أحدهما شموليا و الآخر بدليا؛ بل المناط في الترجيح هو الاستناد إلى الوضع؛ لأن الأقوى هو ما يكون مستندا إليه، و قد عرفت: عدم كون شمول إطلاق الهيئة بالوضع، بل هو مثل بدلية إطلاق المادة إنما هو بمقدمات الحكمة، فليس أحدهما أقوى من الآخر.

و قوله: «لأنه أيضا» تعليل لعدم الترجيح. نعم؛ إذا كان الإطلاق الشمولي مستندا إلى الوضع كما في الجمع المحلى باللام، و الإطلاق البدلي مستندا إلى مقدمات الحكمة مثل:

الإطلاقات المنعقدة لأسماء الأجناس مثل: لفظ «البيع»، و «الربا» في قوله تعالى: أحل اللّه البيع و حرّم الرّبا؛ قدم الإطلاق الشمولي الوضعي على الإطلاق البدلي الحكمي، لا بملاك كونه شموليا؛ بل بملاك كونه وضعيا، و على هذا ففي المقام حيث إن كلا من إطلاق الهيئة و إطلاق المادة مستند إلى مقدمات الحكمة، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر؛ و لو كان إطلاق الهيئة شموليا و إطلاق المادة بدليا.

و السر في تقديم ما هو مستند إلى الوضع على ما هو مستند إلى مقدمات الحكمة هو: أن من مقدمات الحكمة عدم البيان و عدم ما يصلح للقرينية، و الوضع بيان فيجب الاستناد إليه.

و لكن مقتضى مقدمات الحكمة يختلف؛ فقد يكون عموما شموليا كما في قوله تعالى: أحلّ اللّه البيع الوارد في مقام الامتنان على العباد، و قد يكون بدليا كما في

ص: 94

غاية الأمر: أنها تارة: يقتضي العموم الشمولي، و أخرى: البدلي، كما ربما يقتضي التعيين أحيانا، كما لا يخفى.

و ترجيح (1) عموم العام على إطلاق المطلق إنما هو لأجل كون دلالته بالوضع؛ لا قول الشارع: «إن ظاهرت فأعتق رقبة»؛ حيث يكون مقتضى الإطلاق عتق رقبة واحدة؛ سواء كانت مؤمنة أو كافرة، و قد يكون مقتضاها التعيين كما في صيغة الأمر الوارد في مقام البيان؛ فإن مقتضاها كون الوجوب نفسيّا عينيا تعيينيا.

=============

هذا ما أشار إليه بقوله: «غاية الأمر: أنها تارة يقتضى العموم الشمولي...» إلخ. و كان غرض المصنف من هذا الكلام: دفع توهم بتقريب: أنه إذا كان إطلاق كل من الهيئة و المادة ناشئا من مقدمات الحكمة لكانت نتيجتها في الهيئة و المادة واحدة؛ بمعنى: أن يكون الإطلاق في كليهما شموليا، أو بدليا؛ لا أن يكون الإطلاق في أحدهما شموليا و في الآخر بدليا.

و حاصل الدفع: أنه لا منافاة بين كون نتيجتها مختلفة حسب اقتضاء خصوصيات الموارد؛ بأن يكون الإطلاق واردا مورد الامتنان، أو يكون الطلب متعلقا بصرف الطبيعة؛ بأن يكون المطلق مفردا منكرا، فالإطلاق في الأول: شمولي، و في الثاني: بدلي، كما عرفت.

(1) قوله: «و ترجيح عموم العام...» إلخ دفع لما يتوهم: من تقديم العموم الشمولي على البدلي عند وقوع التعارض بينهما؛ كما لو قال: «أكرم العلماء، و لا تكرم فاسقا»، فالعالم الفاسق - الذي هو مورد الاجتماع و التعارض - يلحق في الحكم بالعادل فيكرم، فإذا لم يرجح الشمولي على البدلي، فلما ذا نرى القوم يقدمون العام على المطلق ؟ و لازم ذلك: تقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة لكون الأول شموليا، و الثاني بدليا.

و حاصل الدفع: أن تقديم عموم العام على إطلاق المطلق إنما هو لأجل كون العموم بالوضع، و الإطلاق البدلي بمقدمات الحكمة، فليس تقديمه بملاك كونه عموما شموليا حتى يقال بترجيح إطلاق الهيئة لكونه شموليا على اطلاق المادة لكونه بدليا.

و لذا لو انعكس الأمر فرضا؛ بأن يكون هناك عام دل بالوضع على العموم البدلي، و مطلق دل بمقدمات الحكمة على الشمولي لكان العام مقدما على الإطلاق بلا كلام، كما أشار إليه بقوله: «فلو فرض أنهما في ذلك على العكس» أي: «فلو فرض أن العام و المطلق في الشمولية و البدلية على العكس» لكان ما بالوضع مقدما على ما بمقدمات الحكمة؛ و إن كان الثاني شموليا و الأول بدليا.

ص: 95

لكونه شموليا، بخلاف المطلق فإنه بالحكمة، فيكون العام أظهر منه فيقدم عليه، فلو فرض أنهما في ذلك على العكس، فكان عام بالوضع دل على العموم البدلي، و مطلق بإطلاقه دل على الشمول، لكان العام يقدم بلا كلام.

و أما في الثاني (1): فلأن التقييد و إن كان خلاف الأصل، إلاّ إن العمل - الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة، و انتفاء بعض مقدماته - لا يكون على خلاف الأصل أصلا، إذ معه لا يكون هناك إطلاق؛ كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الأصل.

و بالجملة: لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلاّ كونه (2) خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدمات الحكمة، و مع انتفاء المقدمات (3) لا يكاد ينعقد له هناك

=============

(1) بعد ما فرغ المصنف عن جواب الوجه الأول شرع في الجواب عن الوجه الثاني و هو:

استلزام تقييد الهيئة لارتكاب خلاف أصلين، و استلزام تقييد المادة ارتكاب خلاف أصل واحد.

و حاصل الجواب عن الوجه الثاني يتضح بعد تقديم مقدمة و هي: الفرق بين تقييد إطلاق المطلق بعد انعقاده بجريان مقدمات الحكمة، و بين إيجاد المانع عن جريان مقدمات الحكمة، الموجبة لانعقاد إطلاق المطلق.

و حاصل الفرق: أن الأول مخالف للأصل دون الثاني؛ إذ ليس إيجاد المانع عن انعقاد الإطلاق كالتقييد في المخالفة للأصل؛ لأن المراد بالأصل هنا هو الإطلاق، و من المعلوم: إنه لا إطلاق عند عدم جريان مقدمات الحكمة.

إذا عرفت هذه المقدمة فيتضح لك: أن ما ذكر من كون التقييد في الهيئة يوجب بطلان الإطلاق في المادة - و هو خلاف الأصل - غير تام؛ إذ تقييد الهيئة لا يوجب تقييد إطلاق المادة حتى يكون على خلاف الأصل.

بل تقييد الهيئة يوجب عدم انعقاد الإطلاق في جانب المادة، و هذا ليس مخالفا للأصل أصلا.

فقول الشيخ في بيان الكبرى - حيث قال: «و لا فرق في الحقيقة بين تقييد الإطلاق، و بين أن يعمل عملا يشترك مع التقييد في الأثر و بطلان العمل به» - غير مستقيم؛ لما عرفت من الفرق بينهما: من أن الأول: على خلاف الأصل دون الثاني. فالقياس بينهما قياس مع الفارق.

(2) أي: كون التقييد «خلاف الظهور...» إلخ.

(3) أي: يكفي في عدم انعقاد الإطلاق انتفاء إحدى مقدمات الحكمة، من دون الحاجة إلى انتفاء الجميع.

ص: 96

ظهور، كان ذلك العمل المشارك مع التقييد في الأثر، و بطلان العمل بإطلاق المطلق مشاركا معه في خلاف الأصل أيضا.

و كأنه (1) توهم: أن إطلاق المطلق كعموم العام ثابت، و رفع اليد عن العمل به (2) تارة: لأجل التقييد، و أخرى: بالعمل المبطل للعمل به و هو (3) فاسد؛ لأنه لا يكون إطلاق إلاّ فيما جرت هناك المقدمات.

=============

و خلاصة الكلام في المقام: أن انتفاء المقدمات - الحاصل من تقييد الهيئة - يمنع عن انعقاد ظهور للمادة في الإطلاق، و هذا المنع و إن كان مشاركا للتقييد في بطلان العمل بالإطلاق؛ إلاّ إنه ليس مشاركا له في المخالفة للأصل - أي: الظاهر أيضا - فالمشاركة مختصة ببطلان العمل بالإطلاق، و لا يشارك التقييد في مخالفة الأصل.

فبالنتيجة: العمل بتقييد الهيئة الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة، و انتفاء بعض مقدماتها في المادة لا يكون على خلاف الأصل؛ إذ مع تقييد الهيئة لا يكون هناك إطلاق، كي يكون بطلان العمل بالإطلاق في الحقيقة مثل التقييد، الذي يكون على خلاف الأصل.

(1) أي: الشيخ «توهم: أن إطلاق المطلق...» إلخ أي: هذا الكلام توجيه لما في التقريرات: من كون تقييد الهيئة مستلزما لبطلان العمل بإطلاق المادة. و حاصل التوجيه:

أن الشيخ توهم ثبوت الإطلاق للمادة كثبوت العموم للعام، فيكون عموم الهيئة شموليا معارضا لإطلاق المادة بدليا، و المراد من قوله: «كعموم العام» هو: عموم الهيئة، و من المطلق: المادة.

(2) أي: إطلاق المطلق في جانب المادة.

و حاصل الكلام: أنه رفع اليد عن العمل بإطلاق المادة تارة: لأجل التقييد، و أخرى:

«بالعمل المبطل» أي: بتقييد الهيئة؛ لأن تقييد الهيئة موجب لبطلان العمل بإطلاق المادة، فيكون على خلاف الأصل.

عدم جريان مقدمات الحكمة مع وجود ما يصلح للقرينية

(3) أي: توهم: أن إطلاق المطلق كالعموم «فاسد»، و قد سبق وجه الفساد و قلنا: إنه لا إطلاق للمادة حتى يكون تقييد الهيئة مبطلا له؛ و ذلك لتوقفه على جريان مقدمات الحكمة، و المفروض: عدم جريانها، حيث إن تقييد الهيئة مانع عنه، لكونه بيانا للمادة و مضيقا لدائرتها، فتقييد الهيئة يكون كقرينة على عدم الإطلاق في المادة.

و قد قرر في محله: عدم جريان مقدمات الحكمة مع وجود ما يصلح للقرينية، و عليه:

فلا إطلاق للمادة حينئذ حتى يكون تقييد الهيئة مبطلا له؛ كما في «منتهى الدراية، ج 2، 226» مع تصرف ما.

ص: 97

نعم (1)؛ إذا كان التقييد بمنفصل، و دار الأمر بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة كان لهذا التوهم مجال، حيث (2) انعقد للمطلق إطلاق، و قد استقر له ظهور و لو بقرينة الحكمة، فتأمل (3).

=============

(1) قوله: «نعم؛ إذا كان التقييد بمنفصل...» إلخ استدراك على قوله: «و هو فاسد».

و حاصل الاستدراك: أن لهذا التوهم مجالا في صورة انفصال القيد، و دوران أمره بين الرجوع إلى الهيئة و بين الرجوع إلى المادة، حيث إن الإطلاق حينئذ ثابت لكل من الهيئة و المادة، لجريان مقدمات الحكمة في المادة بلا مانع؛ إذ المفروض: انفصال القيد و عدم منعه من انعقاد الإطلاق في كل من الهيئة و المادة.

و الخلاصة: أن لتوهم ثبوت الإطلاق في كل من الهيئة و المادة مجالا مع انفصال القيد، دون اتصاله.

(2) قوله: «حيث»، تعليل لقوله: «كان لهذا التوهم مجال».

و حاصل التعليل: إنه لا مانع من انعقاد الإطلاق للمادة بمقدمات الحكمة، مع عدم بيان متصل في الكلام مانع عن جريانها؛ إذ المفروض: انفصال القيد كما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 227».

(3) لعله إشارة إلى: عدم صحة هذا التوجيه، و هو فرض انفصال القيد الموجب لثبوت الإطلاق في كل من الهيئة و المادة.

وجه عدم صحته: أن عدم البيان - الذي هو من مقدمات الإطلاق - إن أريد به عدم البيان في مقام التخاطب فهو متين، لكنه ليس كذلك، إذ المنسوب إلى الشيخ الأنصاري هو: عدم البيان الجدي، كالبيان في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لا البيان في مقابل الإهمال. فلو ورد بعد حين دليل على التقييد كشف ذلك عن عدم إطلاق من أول الأمر، و عليه: فلا فرق في عدم انعقاد الإطلاق بين اتصال القيد و انفصاله، فتوجيه كلام الشيخ «قدس سره» و هو ثبوت الإطلاق في كل من الهيئة و المادة بفرض القيد منفصلا غير وجيه على مبناه، و وجيه على مبنى المشهور. راجع «منتهى الدراية ج 2، ص 228».

خلاصة البحث مع نظريات المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - المنجز: ما يتعلق وجوبه بالمكلف، و لا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور كالمعرفة يسمى بالواجب المنجز؛ لأن التكليف ثابت و منجز.

ص: 98

و المعلق: ما يتعلق وجوبه بالمكلف، و يتوقف حصوله على أمر غير مقدور كالحج؛ حيث يتوقف فعله على مجيء وقته و هو غير مقدور. و هذا التقسيم ابتكره صاحب الفصول، و قد فرّع عليه وجوب المقدمة قبل وقت العمل بذي المقدمة في الواجب المعلق، و يسمى بالواجب المعلق؛ لكون الواجب معلقا على أمر غير مقدور.

2 - و هناك جهات من البحث: الأولى: هي الفرق بين الواجب المشروط المشهوري، و الواجب المعلق الفصولي.

الثانية: هي إنكار الشيخ الأنصاري لتقسيم الواجب إلى المنجز و المعلق.

الثالثة: هي إشكال المصنف على هذا التقسيم.

الرابعة: إشكالات أخرى على الواجب المعلق.

و أما الفرق: فملخصه على ما في الفصول هو: أن التوقف في المشروط المشهوري إنما هو للوجوب، و في الواجب المعلق إنما هو للفعل الواجب، فيكون الوجوب حاليا في المعلق، و استقباليا في المشروط؛ لتوقف الوجوب فيه على الشرط.

و أما إنكار الشيخ الأنصاري لهذا التقسيم: فلأن الواجب المعلق الفصولي هو عين الواجب المشروط الشيخي، فتقسيم الشيخ الواجب إلى المطلق و المشروط يغني عن تقسيم الفصول الواجب إلى المنجز و المعلق.

غاية الأمر: المعلق الفصولي أخص من المشروط الشيخي؛ لأن المعلق يتوقف على أمر غير مقدور كالموسم للحج، و المشروط ما كان الواجب متوقفا على أمر استقبالي سواء كان ذلك الأمر مقدورا أو غير مقدور. فحينئذ تقسيم الفصول ليس إلاّ نفس تقسيم الشيخ، فالشيخ ملتزم بالواجب المعلق لكن سماه مشروطا. نعم؛ إنه أنكر المشروط بمعناه المشهور، فحينئذ إنكار الشيخ بحسب الظاهر للمعلق الفصولي لا يخلو عن إشكال؛ لأن المفروض هو: اتحاد المعلق الفصولي مع المشروط الشيخي، فلا معنى للإنكار.

و أما إشكال المصنف على تقسيم الفصول: فملخصه: أن مجرد كون الواجب حاليا في المنجز، و استقباليا في المعلق لا يجدي في صحة التقسيم إلى المنجز و المعلق بعد كون الوجوب في كلا القسمين حاليا و مطلقا، و غرض الفصول من المعلّق - و هو وجوب المقدمة - مترتب على كلا القسمين، فلا يصح التقسيم المزبور لعدم الثمرة و الفائدة.

ص: 99

3 - الكلام في الجهة الرابعة و هي: الإشكالات الواردة على الواجب المعلق غير ما مر من الشيخ و المصنف.

الإشكال الأول: الذي أشار إليه بقوله: «ثم إنه ربما حكي عن بعض أهل النظر.» و هو المحقق النهاوندي، و خلاصة ما أفاده من الإشكال على الواجب المعلق: أن الإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية في عدم الانفكاك عن المراد، فكما أن الإرادة التكوينية يستحيل انفكاكها عن المراد - لأنها عبارة عن الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات - فكذلك يستحيل انفكاك الإرادة التشريعية عن المراد و هو فعل الغير، فهي لا تنفك عن حركة الغير إلى الفعل، فالتعليق باطل لاستلزامه انفكاك الإرادة عن المراد، و لازم ذلك:

امتناع الواجب المعلق لكون المراد فيه متأخرا عن الإرادة زمانا.

و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بوجوه:

الوجه الأول: ما أشار إليه بقوله: «و فيه: أن الإرادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي...» إلخ، و خلاصة هذا الوجه من الجواب: أن المستشكل قد قاس الإرادة التشريعية بالإرادة التكوينية بعدم انفكاك المراد عن الإرادة، و المصنف يقول: بعدم امتناع انفكاك الإرادة التكوينية عن المراد، فتتعلق الإرادة التكوينية بأمر استقبالي فيما إذا كان المراد بعيد المسافة، و مما يحتاج إلى مقدمات كثيرة محتاجة إلى زمان طويل، كطي المسافات، مثلا:

نفرض أن المراد هو تحصيل المال الذي يحتاج تحصيله إلى السفر المحتاج إلى المقدمات العديدة، فينفك المراد عن الإرادة؛ لأن فعل المقدمات لا يكون له إرادة مستقلة، بل إرادتها تبعية مترشحة عن إرادة ذيها، فالإرادة التكوينية تنفك عن المراد المنوط بتمهيد مقدمات و مضي زمان، فالإرادة التشريعية تنفك عن المراد بطريق أولى.

الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و قد غفل...» إلخ، و حاصله: منع اعتبار التحريك الفعلي في تعريف الإرادة؛ بل المراد من حركة العضلات هي: مطلق الحركة فعلية كانت أو شأنية، فيكفي في تحقق الإرادة أن تكون حركة العضلات استقبالية، نعم؛ يعتبر فيها التحريك الفعلي حين إيجاد المراد، ففي المراد الاستقبالي و إن كان يلزم انفكاك الإرادة عن التحريك الفعلي؛ إلاّ إنه لا ضير فيه بعد منع اعتبار التحريك الفعلي في الإرادة و كفاية التحريك في موطنه.

الوجه الثالث: ما أشار إليه بقوله: «هذا مع أنه لا يكاد يتعلق البعث إلاّ بأمر متأخر عن زمان البعث...» إلخ، و مرجع هذا الوجه الثالث: إلى بطلان قياس الإرادة التشريعية

ص: 100

بالإرادة التكوينية؛ لكونه مع الفارق، و الفرق بينهما أولا: أن الإرادة التكوينية تتعلق بفعل نفس الشخص، و التشريعية بفعل الغير.

و ثانيا: أن الإرادة التشريعية عبارة عن إحداث الداعي في نفس المكلف نحو الفعل المأمور به بتوجيه أمر إليه، و حدوث الداعي يتوقف على بعض المقدمات؛ كتصور المكلف الأمر بما يترتب عليه من الثواب على موافقته و العقاب على مخالفته، و هذا مما لا يمكن أن يتحقق إلاّ بعد البعث بزمان قصير كما في الواجب المنجز، أو بزمان طويل كما في الواجب المعلق، و مع هذا الفرق بين الإرادتين يكون القياس باطلا.

و المتحصل مما ذكرناه: أنه لا بد من الالتزام بالانفكاك في الإرادة التشريعية.

الإشكال الثاني: هو الذي أشار إليه بقوله: «و ربما أشكل على المعلق أيضا»، و حاصل هذا الإشكال هو: بطلان الواجب المعلق لاستلزامه وجود المشروط عند انتفاء الشرط؛ لأن المفروض هو: انتفاء القدرة على الواجب مع كونها من الشرائط العامة، فالحج في الموسم قبل وقته غير واجب لعدم القدرة عليه، فلو كان واجبا لزم وجود المشروط مع انتفاء الشرط، و هو خلف فيكون باطلا.

الجواب عن هذا الإشكال هو: اعتبار القدرة للتكليف إنما هو القدرة عليه حين الامتثال لا حين التكليف، و المفروض هو: وجود قدرة المكلف على إتيان الواجب المعلق في زمان فعله و امتثاله.

الإشكال الثالث: ما أشار إليه بقوله: «ثم لا وجه لتخصيص المعلق بما يتوقف حصوله على أمر غير مقدور...» إلخ و حاصله: أن الغرض المهم من الالتزام بالواجب المعلق هو: وجوب تحصيل المقدمات غير المقدورة في زمان الواجب، فيجب تحصيلها على القول بالواجب المعلق إذا كان الغرض المهم هذا.

فنقول: في تقريب الإشكال: أنه لا يتفاوت في هذا المهم بين كون الأمر المعلق عليه الواجب غير مقدور في زمان الواجب أو مقدورا، فحينئذ لا وجه لما في بعض الكلمات من اختصاص القيد - الذي يتوقف عليه الواجب المعلق - بغير المقدور كما هو ظاهر الفصول.

«بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخر أخذ على نحو يكون موردا للتكليف».

و حاصل الكلام في المقام: أنه لا يفرق في تعلق الواجب بأمر مقدور متأخر بين أن لا يكون ذلك الأمر المتأخر موردا للتكليف؛ بأن يكون وجوده الاتفاقي مما يتوقف

ص: 101

عليه الواجب كما هو ظاهر الفصول، و لم يظهر عدول المصنف عنه، و الظاهر من المصنف: عدوله عن تخصيص الفصول تعليق الواجب بغير المقدور، و عممه المصنف للمقدور.

نعم؛ أن الواجب المشروط باعتبار شرطه ينقسم إلى أقسام:

1 - أن يكون الوجوب مشروطا بشرط مقارن نحو: «إن جاءك زيد فأكرمه»؛ حيث يكون وجوب إكرام زيد مقارنا لمجيئه.

2 - أن يكون مشروطا بشرط متأخر عن الوجوب، مفروض الحصول في موطنه، و لكن الواجب يكون حاليا كالوجوب في نحو: «إن سافرت يوم الاثنين فتصدق يوم الأحد بدرهمين»، فيكون كل من الوجوب و الواجب فعليا، و يكون الشرط استقباليا.

3 - أن يكون الوجوب مشروطا بشرط متأخر عن الوجوب، مفروض الحصول في موطنه، مع كون الواجب أيضا متأخرا كالشرط كما في قوله: «إن جاءك زيد يوم الجمعة فمن الآن أحتّم عليك إطعامه في ذلك اليوم».

إذا عرفت هذه الأقسام فنقول: يمكن القول بوجوب المقدمات في القسم الأخير من المشروط قبل حصول شرطه، فهذا القسم هو الذي ننتفع به بعين ما ننتفع بالواجب المعلق، فلا فرق بين المشروط و المعلق في فعلية الوجوب ليترشح منه على مقدماته.

و إنما الفرق بينهما: في أن الشرط في الواجب المعلق قيد للمادة و مرتبط بها، و في الواجب المشروط قيد للوجوب و مرتبط به.

4 - تنبيه: في بيان مناط وجوب المقدمة و هو فعلية وجوب ذيها، و الغرض الأساسي من عقد هذا التنبيه هو: دفع الإشكال؛ و هو وجوب المقدمة مع عدم وجوب ذيها في موارد عديدة، مع تصريحهم بتبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق و الاشتراط، فلا يعقل وجوب المقدمة مع عدم وجوب ذيها، فكيف يمكن القول بوجوبها في موارد عديدة مع عدم وجوب ذيها؟ و هي:

1 - حكمهم بوجوب الغسل على المحدث بالحدث الأكبر في الليل مقدمة للصوم في الغد.

2 - حكمهم بوجوب حفظ الماء قبل دخول وقت الصلاة لصرفه في الطهارة، إذا علم المكلف بعدم التمكن من تحصيله بعد دخول الوقت؛ مع عدم وجوب الصلاة قبل الوقت حتى يجب حفظ الماء للطهارة.

ص: 102

3 - حكمهم بوجوب السعي إلى الحج على المستطيع النائي قبل يوم عرفة مقدمة للحج.

4 - حكمهم بوجوب معرفة القبلة لمن أراد السفر إلى البلدان النائية، و غير ذلك من الموارد التي يجدها المتتبع في طي كلمات الفقهاء.

فما هو الجواب الصحيح عن الإشكال المزبور في تلك الموارد؟ مع إنه قد ذكر للجواب عنه وجوه:

1 - ما نسب إلى صاحب الحاشية: من القول بالوجوب النفسي في هذه الموارد.

2 - ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري: من القول برجوع الشرط و القيد إلى المادة، فتجب مقدمات الواجب لكون وجوب ذيها حاليا و فعليا.

3 - ما ذهب إليه صاحب الفصول: من القول بالواجب المعلق.

4 - ما أفاده المصنف في الجواب عنه: من الالتزام بالواجب المشروط بالشرط المتأخر المفروض وجوده في موطنه، فيكون وجوب ذي المقدمة حينئذ فعليا، فيترشح الوجوب منه إلى مقدماته؛ لأن المناط في وجوبها فعلية وجوب ذيها. فالجواب عن الإشكال المزبور لا ينحصر بالالتزام بالواجب المعلق، أو رجوع القيد إلى المادة، بل الجواب عنه يمكن بالالتزام بالواجب المشروط على نحو الشرط المتأخر.

ثم ما يظهر من كلام المصنف: أنه لا تجب المقدمة الوجودية للواجب إلاّ بشروط ثلاثة:

1 - عدم كون المعلق عليه قيدا للوجوب أيضا كما هو قيد للواجب.

2 - عدم كون المقدمة مأخوذة في الواجب على نحو يستحيل أن تكون موردا للتكليف؛ كما إذا أخذ عنوانا للمكلف كالمسافر في نحو: «إن سافرت فقصّر»؛ إذ لا بد حينئذ من تحقق العنوان في ثبوت الحكم، و مع تحققه يمتنع ترشح الوجوب عليه لاستلزامه طلب الحاصل.

3 - عدم كون المقدمة قيدا بوجودها الاتفاقي؛ إذ لا تكون واجبة لو كان الشرط وجودها الاتفاقي.

و كيف كان؛ فالمتحصل مما ذكر: أنه لا إشكال في لزوم الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب، إذا لم يقدر عليه بعد زمانه فيما إذا كان وجوبه حاليا؛ و لو لأجل شرط متأخر مفروض الحصول في موطنه، و لا يلزم منه محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها

ص: 103

لوجوب ذيها فعلا - المقتضي لوجوب مقدماته - بل اللازم هو الإتيان بالمقدمة قبل الإتيان بالواجب و لو عقلا.

و قد انقدح - بما ذكرناه من فعلية وجوب ذي المقدمة الموجبة لوجوب مقدماته و إن كان مشروطا بشرط متأخر - أنه: لا إشكال في الموارد التي يجب الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب؛ لأن وجوب المقدمة يكشف بطريق الإنّ عن وجوب ذيها حاليا؛ لاستحالة ترشح الوجوب إليها من دون وجوب ذيها.

لا يقال: إنّه لو كان وجوب مقدمة كاشفا عن وجوب ذيها للزم القول بوجوب جميع مقدماته و لو موسعا، و ليس الأمر كذلك أي: ليس يجب جميع المقدمات حتى ما لم يقم دليل على الإتيان بها قبل زمان ذيها.

فإنه يقال: بالالتزام بوجوب جميع المقدمات بالوجوب الغيري بالبرهان الإنّي؛ لأن وجوب إحدى المقدمات كاشف إنّا عن وجوب ذيها فعلا، و مقتضى علية وجوب الواجب لوجوب مقدماته هو: الالتزام بوجوب سائر المقدمات قبل زمان الواجب، إلاّ إذا أخذ في الواجب من قبل سائر المقدمات قدرة خاصة و هي: القدرة على الواجب بعد مجيء زمانه، فلا تجب المقدمة قبل وقته.

5 - في دوران أمر القيد بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة:

و حاصل الكلام في المقام: أن بعض القيود مما يجب تحصيله؛ كما إذا كان قيدا للواجب المعلق، و بعضها مما لا يجب تحصيله كما إذا كان القيد راجعا إلى الهيئة، أو كان مأخوذا عنوانا للمكلف، أو كان راجعا إلى المادة مع كونه غير اختياري كالوقت، فإذا علم حال القيد فلا كلام فيه، و إنما الكلام فيما إذا لم يعلم ذلك و أمكن رجوعه إلى كل من الهيئة و المادة، و لم يكن في مقام الإثبات ما يعيّن ذلك. فالمرجع حينئذ عند المصنف: هي الأصول العملية، و مقتضاها: البراءة عن وجوب هذا القيد؛ لكونه مشكوك الوجوب، فيكون مجرى البراءة، بل يمكن القول بعدم وجوب ذي المقدمة أيضا؛ لأن نفي المعلول - و هو وجوب المقدمة - مستلزم لنفي العلة و هو وجوب ذيها.

نعم؛ قال الشيخ الأنصاري: بترجيح الإطلاق في طرف الهيئة و تقييد المادة بوجهين:

أحدهما: أن إطلاق الهيئة يكون شموليا، و إطلاق المادة بدليا، و الإطلاق الشمولي يقدم على الإطلاق البدلي.

و ثانيهما: أن تقييد إطلاق الهيئة يوجب بطلان محل إطلاق المادة دون العكس، فإذا

ص: 104

دار الأمر بين التقييدين كذلك كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى، ففي المقام تقييد المادة أولى، و المصنف يردّ كلا الوجهين.

أمّا ردّ الوجه الأول: فلأن مفاد إطلاق الهيئة و إن كان شموليا بخلاف إطلاق المادة، إلاّ إن المناط في التقديم و الترجيح ليس كونه شموليا؛ بل المناط كونه بالوضع كتقديم عموم العام على إطلاق المطلق، حيث يكون الأول بالوضع كان مقدما على الثاني؛ لأنه ليس بالوضع، بل بمقدمات الحكمة، و كلا الإطلاقين في المقام بمقدمات الحكمة، فلا أولوية لأحدهما على الآخر.

أمّا ردّ الوجه الثاني: فلأن التقييد و إن كان خلاف الأصل؛ إلاّ إن العمل الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة لا يكون على خلاف الأصل، و المقام من هذا القبيل؛ فإن تقييد إطلاق الهيئة مانع عن تحقق الإطلاق في المادة، لا أنه تقييد لإطلاق المادة كي يقال: إنه خلاف الأصل.

إلاّ إن يقال: إن الشيخ توهم ثبوت إطلاق المطلق كعموم العام، و قد رفع اليد عن الإطلاق في جانب المادة بعد ثبوته، فيكون التقييد في جانب المادة على خلاف الأصل.

و لكن هذا التوهم فاسد، و قد عرفت وجه الفساد و هو: عدم الإطلاق في المادة أصلا؛ لعدم جريان مقدمات الحكمة.

نعم؛ إذا كان التقييد بمنفصل، و دار الأمر بين التقييدين كان لهذا التوهم مجال، حيث انعقد للمطلق إطلاق لجريان مقدمات الحكمة في المادة بلا مانع.

قوله: «فتأمل». لعله إشارة إلى عدم صحة هذا التوجيه؛ إذ ورود التقييد بعد حين كاشف عن عدم إطلاق من أول الأمر، فلا فرق في عدم انعقاد الإطلاق بين اتصال القيد و انفصاله.

6 - نظريات المصنف «قدس سره»:

1 - عدم صحة تقسيم الواجب إلى المعلق و المنجز بعد كونهما من الواجب المطلق.

2 - الفرق بين الواجب المشروط عند المصنف، و الواجب المعلق عند الفصول: أن القيد على الأول قيد للوجوب، و على الثاني قيد للواجب.

3 - أن وجوب المقدمة - بناء على الملازمة - تابع لوجوب ذيها في الإطلاق و الاشتراط؛ لأن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها، فلا يعقل تغايرهما في الإطلاق و الاشتراط.

انتهى الكلام في خلاصة البحث.

ص: 105

و منها: (1) تقسيمه إلى النفسي و الغيري: و حيث كان طلب شيء و إيجابه لا يكاد يكون بلا داع، فإن كان الداعي فيه هو التوصل به إلى واجب، لا يكاد التوصل

=============

في تقسيم الواجب إلى النفسي و الغيري
اشارة

(1) من تقسيمات الواجب: تقسيمه إلى النفسي و الغيري، و هذا التقسيم للواجب إنما هو باعتبار الدواعي؛ كما أشار إليه بقوله: «و حيث كان طلب شيء و إيجابه لا يكاد يكون بلا داع».

و ملخص الكلام في هذا المقام أن يقال: إن المصنف و إن كان لم يتعرض لتعريف الواجب النفسي و الغيري، إلاّ أنّه يظهر من بيانه ما ينقسم به الواجب إليهما من الدواعي و حاصله: أنه إن كان الداعي في طلب شيء و إيجابه هو التوصل به إلى الواجب - لتوقف ذلك الواجب عليه - كان ذلك الشيء واجبا غيريا كالطهارة مثلا، فإنها تجب لأجل التوصل إلى الصلاة الصحيحة، و إن لم يكن الداعي إلى طلب شيء التوصل إلى واجب آخر كان ذلك الشيء واجبا نفسيا كوجوب الحج مثلا؛ فإنه مطلوب لنفسه، فالواجب النفسي ما كان نفس الفعل محبوبا، بلا فرق بين أن يكون الداعي إلى إيجابه محبوبيته بنفسه كالمعرفة بالله سبحانه، أو محبوبيته بما له من فائدة مترتبة عليه كالصلاة الواجبة لنفسها، و الفائدة المترتبة عليها أنها قربان كل تقي، أو معراج المؤمن، أو تنهى عن الفحشاء و المنكر إلى غير ذلك.

و قد ظهر من كلامه هذا: تعريف الواجب النفسي و الغيري أن الأول: ما أمر به لنفسه، و الثاني: ما أمر به لأجل غيره، و قد فسرا بهذا التفسير في كلام غير واحد من الأصوليين.

و قد أورد على تعريف الواجب النفسي بما حاصله: من أن لازم ذلك أن تكون جميع الواجبات الشرعية - ما عدا المعرفة بالله تعالى - من الواجبات الغيرية؛ إذ المطلوب النفسي لا يوجد في الأوامر أعني: في متعلقاتها؛ فإنها مطلوبات لأجل الخواص و الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها؛ مثلا: الصلاة - كما عرفت - مطلوبة لكونها ناهية عن الفحشاء و المنكر، و الصوم مطلوب لكونه جنة من النار، و الزكاة مطلوبة لكونها سببا لتطهير المال و نموه؛ لا سيما على مذهب العدلية بأن الأحكام تابعة للمصالح الواقعية و المفاسد النفس الأمرية.

فعلى ضوء هذا التعريف لا يكون هناك واجب نفسي ما عدا معرفة الله سبحانه حيث أنها غاية الغايات.

ص: 106

بدونه إليه لتوقفه عليه، فالواجب غيري، و إلاّ فهو نفسي سواء كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه؛ كالمعرفة بالله، أو محبوبيته بما له من فائدة مترتبة عليه؛ كأكثر الواجبات من العبادات و التوصليات.

هذا، لكنه لا يخفي: أن الداعي لو كان هو محبوبيته كذلك - أي: بما له من الفائدة المترتبة عليه - كان الواجب في الحقيقة واجبا غيريا، فإنه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازما، لما دعي إلى إيجاب ذي الفائدة.

فإن قلت (1): نعم؛ و إن كان وجودها محبوبا لزوما، إلاّ إنه حيث كانت من الخواص المترتبة على الأفعال التي ليست داخلة تحت قدرة المكلف، لما كاد يتعلق بها الإيجاب.

قلت (2): بل هي داخلة تحت القدرة؛ لدخول أسبابها تحتها، و القدرة على السبب قدرة على المسبب، و هو واضح، و إلاّ لما صح وقوع التطهير و التمليك و التزويج و الطلاق و العتاق إلى غير ذلك من المسببات موردا لحكم من الأحكام التكليفية.

=============

و أما غيرها من الواجبات فواجبات غيرية لأجل غايات مترتبة عليها بناء على مذهب العدلية، فتعريف الواجب النفسي لا يكون جامعا للأفراد، و في المقابل لا يكون تعريف الواجب الغيري مانعا للأغيار، لدخول الواجبات النفسية في تعريفه.

و قد أشار المصنف إلى هذا الإيراد بقوله: «لا يخفى: أن الداعي لو كان هو محبوبيته كذلك...» إلخ.

(1) هذا إشارة إلى ما أجيب به عن الإيراد المذكور.

و ملخص الجواب: أن الفوائد المترتبة على الواجبات و إن كانت محبوبة؛ إلاّ أنها خارجة عن الاختيار، فلا تتعلق القدرة بها، و عليه: فلا يعقل وجوبها و تعلق الخطاب بها لاستلزامه تكليفا بما هو غير مقدور. فحينئذ لا تكون تلك الفوائد المترتبة على الأفعال واجبة حتى يقال بكون تلك الأفعال واجبات غيرية.

(2) هذا رد من المصنف على الجواب المذكور.

و حاصل الرد: أن تلك الفوائد و الخواص و إن كانت في حد أنفسها و بلا واسطة خارجة عن القدرة إلاّ أنها مقدورة مع الواسطة لدخول أسبابها تحت القدرة، و من البديهي: أن القدرة على السبب قدرة على المسبب، و إلاّ لم يصح وقوع مثل التطهير و التمليك و التزويج و الطلاق و العتاق و غير ذلك من المسببات موردا لحكم من الأحكام الشرعية، و هو واضح البطلان.

ص: 107

فالأولى أن يقال: إن الأثر المترتب عليه (1) و إن كان لازما؛ إلاّ إن ذا الأثر لمّا كان معنونا بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله، بل بذمّ تاركه؛ صار متعلقا للإيجاب بما هو كذلك، و لا ينافيه كونه مقدمة لأمر مطلوب واقعا؛ بخلاف الواجب الغيري؛ لتمحض وجوبه في أنه لكونه مقدمة لواجب نفسي.

=============

(1) أي: على الواجب النفسي: «و إن كان لازما...» إلخ، و قد أجاب المصنف عن الإشكال: بأن الفعل الواجب و إن كان يترتب عليه الأثر؛ إلاّ إنه معنون بعنوان حسن في نفسه، و الإيجاب متعلق به بما إنه كذلك، و إن كان في الواقع مقدمة لأمر مطلوب واقعا.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الواجب باعتبار ما هو ملاك وجوبه و مناطه على ثلاثة أقسام:

1 - أن يكون فيه ملاك الوجوب النفسي فقط: بأن يكون وجوبه لأجل حسنه الذاتي، و لم يكن الواجب مقدمة لواجب آخر؛ كالمعرفة بالله سبحانه.

2 - أن يكون فيه ملاك الوجوب الغيري فقط: بأن يكون وجوبه لأجل حسن غيره، سواء كان في نفسه و ذاته حسنا؛ كالوضوء و الغسل و التيمم، أم لم يكن كذلك؛ كقطع الطريق و المسافة مقدمة للحج.

3 - أن يكون فيه كلا الملاكين: بأن يكون وجوبه لأجل حسنه الذاتي؛ بحيث يستقل العقل بمدح فاعله، و ذمّ تاركه، و إن لم يلتفت إلى ما يترتب عليه من الأثر و الفائدة، ففيه ملاك الوجوب النفسي لأجل حسنه الذاتي، و ملاك الوجوب الغيري باعتبار كونه مقدمة لواجب آخر؛ كالصلاة و الحج و غيرهما من الواجبات النفسية.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن الواجب النفسي في المقام هو من قبيل القسم الأخير، فهذا القسم من الواجبات و إن كان تترتب عليه آثار و فوائد لازمة، و لكن وجوبه و البعث نحوه ليس باعتبار ترتب هذه الفوائد و الآثار عليه؛ بل باعتبار حسنه الذاتي، و كونه معنونا بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله و ذم تاركه، فقد اجتمع فيه ملاك النفسية و الغيرية، و لكن البعث نحوه، و تعلق الوجوب به إنما هو باعتبار حسنه الذاتي و ملاكه النفسي؛ لا باعتبار مقدميته لغيره.

و بعبارة أخرى: كان وجوبه النفسي باعتبار كونه معنونا بعنوان حسن، فلذا سمي واجبا نفسيا، كما أن الواجب الغيري هو ما كان الداعي إلى البعث نحوه ملاك المقدمية، و هذا لا ينافي وجود الملاك النفسي فيه أيضا.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما أجاب به المصنف عن الإشكال، و هو اندراج الواجب النفسي في الواجب الغيري.

ص: 108

و هذا أيضا لا ينافي أن يكون معنونا بعنوان حسن في نفسه، إلاّ إنه لا دخل له في إيجابه الغيري، و لعله (1) مراد من فسرهما بما أمر به لنفسه، و ما أمر به لأجل غيره.

فلا يتوجه عليه الاعتراض: بأن جلّ الواجبات - لو لا الكل - يلزم أن يكون من الواجبات الغيرية، فإن المطلوب النفسي (2) قلّ ما يوجد في الأوامر؛ فإن جلّها و منه يظهر: إمكان اجتماع الوجوب النفسي و الغيري في مورد واحد بلحاظين مختلفين؛ بمعنى: أنه باعتبار لحاظ حسنه الذاتي في إيجابه واجب نفسي، و باعتبار لحاظ حسنه العرضي و مقدميته لغيره واجب غيري، و هذا ما أشار إليه بقوله: «و لا ينافيه كونه مقدمة لأمر مطلوب واقعا» أي: لا ينافي إيجابه النفسي الناشئ عن حسنه الذاتي كونه مقدمة لمطلوب واقعا و هو الأثر المترتب عليه. هذا بخلاف الواجب الغيري؛ فإن كونه مقدمة لمطلوب واقعا ينافيه إيجابه النفسي؛ لعدم ملاك الواجب النفسي فيه.

=============

(1) أي: لعل ما ذكرناه - من الفرق بين تعريف الواجب النفسي و الغيري بأن الواجب النفسي ما وجب لحسنه الذاتي، و الغيري ما وجب لمقدميته لواجب آخر - «مراد من فسرهما بما أمر به لنفسه...» إلخ.

و غرض المصنف من هذا الكلام هو:

دفع الإشكال المزبور أعني: لزوم اندراج جلّ الواجبات النفسية في الواجبات الغيرية عمن فسر الواجب النفسي: «بما أمر به لنفسه»، و الغيري: «بما أمر به لأجل غيره».

و حاصل الدفع: أنه من المحتمل أن يريد من هذا التفسير ما ذكرناه من كون الواجب النفسي: ما وجب لحسن نفسه، و الغيري: ما وجب لحسن غيره كالمقدمة، فحينئذ لا يرد عليه الإشكال المذكور؛ لما عرفت: من عدم التنافي بين كون الشيء واجبا نفسيا لأجل حسنه الذاتي، و بين كون مقدمة لمطلوب واقعا و هو الأثر المترتب عليه، و هذا ما أشار إليه بقوله: «فلا يتوجه عليه...» إلخ.

دفع إشكال اندراج حل الواجبات النفسية في الواجب الغيري

(2) قوله: «فإن المطلوب النفسي...» إلخ تقريب للاعتراض و هو: اندراج جلّ الواجبات النفسية في الواجبات الغيرية؛ حيث إن أكثر الواجبات مطلوبات لأجل الغايات المترتبة عليها، فيلزم أن تكون تلك الواجبات واجبات غيرية على القول بأن الواجبات الغيرية غيرية لأجل كونها مطلوبة لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها، و الواجبات النفسية نفسية لأجل كونها مطلوبة بنفسها لا لأجل الغايات المترتبة عليها.

و هذا بخلاف ما ذكرناه من أن المراد بالواجب النفسي: ما يكون واجبا لحسنه الذاتي و إن كان مما يترتب عليه الأثر إلاّ إن وجوبه ليس لترتب الأثر عليه، و كونه مقدمة لغاية

ص: 109

مطلوبات لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها فتأمل (1).

ثم إنه (2) لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين، و أما إذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري، فالتحقيق: أن الهيئة و إن كانت موضوعة لما يعمهما؛ إلاّ إن إطلاقها يقتضي كونه نفسيا، فإنه لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم.

=============

مطلوبة؛ بل لحسنه الذاتي، فحينئذ لا يلزم اندراج الواجبات النفسية في الواجبات الغيرية.

(1) لعله إشارة إلى: أن إرجاع تفسير الواجب النفسي: «بما أمر به لنفسه»، و الغيري:

«بما أمر به لأجل غيره بما ذكره المصنف خلاف الظاهر؛ لأن ظاهرهم أن وجوب الواجب النفسي كان بملاحظة تلك الغايات.

أو إشارة إلى أن تفسير الواجب النفسي - بما كان وجوبه لأجل كونه معنونا بعنوان حسن يستقل به العقل - لا يخلو من إشكال؛ إذ لا حسن ذاتيا في بعض الواجبات النفسية كدفن الميت المسلم؛ فإن وجوبه ليس لحسنه في نفسه، مع الغض عن المصالح المترتبة عليه مثل احترامه و حفظه عن أكل السباع، و كتم رائحته المؤذية عن الانتشار.

و كيف كان؛ فتفسير الواجب النفسي بما وجب لأجل حسنه الذاتي غير وجيه.

(2) أي: ما تقدم من الفرق بين الواجب النفسي و الغيري إنما هو في مقام الثبوت، و غرضه من هذا الكلام هو: التكلم في مقام الإثبات بعد الفراغ عن مرحلة الثبوت.

و أما توضيح مقام الإثبات فيتوقف على مقدمة و هي: إن هناك احتمالات:

1 - أن يعلم من الدليل كون الواجب نفسيا؛ من دون فرق بين ما كان الدليل هو نفس دليل الأمر، أم كان خارجيا كالصلوات اليومية، إذ قد علم من نحو: أقيموا الصّلاة أن الصلاة واجب نفسيّ .

2 - أن يعلم من الدليل بأن الواجب غيري كالطهارة، فقد علم من نحو قوله تعالى:

إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم و أيديكم إلى المرافق و امسحوا برؤوسكم و أرجلكم إلى الكعبين (1) ؛ أن الوضوء واجب غيري؛ لمكان تقييد وجوبه بالقيام إلى الصلاة، هذا مضافا إلى قيام الإجماع بل الضرورة على كون وجوبه غيريا، و من المعلوم:

أن الإجماع دليل خارجي على وجوب الوضوء، و المستفاد من نحو: أقيموا الصّلاة هو: كون وجوب الصلاة نفسيا لمكان الإطلاق.

3 - أن لا يعلم أن الواجب نفسي أو غيري.

ص: 110


1- سورة المائدة: آية 6.

و أما ما قيل (1) من، إنه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشك المذكور، بعد كون مفادها الأفراد التي لا يعقل فيها التقييد.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه لا إشكال مع العلم بالنفسية و الغيرية، و أما مع عدم العلم بإرادة أحدهما و الشك فالتحقيق: أن الهيئة التي يتبادر منها الطلب الحتمي و إن كانت موضوعة لمعنى يشمل الواجب النفسي و الغيري و هو البعث و التحريك نحو الفعل، فتكون مشتركة بين ما كان لنفسه أو لغيره؛ إلاّ إن إطلاقها يقتضي كون الواجب نفسيا لا غيريا؛ لأن الغيرية لمّا كانت قيدا زائدا على نفس الطلب و إنشائه، فلا محالة تحتاج ثبوتا و إثباتا إلى مئونة زائدة، فمع الشك في الغيرية يرجع إلى الإطلاق الناشئ من مقدمات الحكمة.

هذا بخلاف النفسية فإنها ليست أمرا زائدا على نفس الطلب حتى تنفى بالإطلاق.

و كيف كان؛ فمقتضى الإطلاق عند الشك هو: كون الواجب نفسيا إذ لو لم يكن نفسيا، بل كان غيريا - بمعنى: كونه شرطا لغيره - لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم؛ لكون شرطيته قيدا زائدا على نفس الطلب كما عرفت.

و بالجملة: إنه لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين وجدانا، أو بقرينة شخصية متصلة أو منفصلة، و أما مع الشك في النفسية و الغيرية فمقتضى إطلاق الهيئة هو كون الواجب نفسيا.

إشكال الشيخ على التمسك بإطلاق الهيئة

إشكال الشيخ على التمسك بإطلاق الهيئة(1)

أي: ما قيل في التقريرات(1) من منع التمسك بالإطلاق، و قد عرفت: أن المصنف قد ادعى إمكان التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات كون الواجب نفسيا. و لكن الشيخ «قدس سره» في التقريرات قد أنكر صحة التمسك بإطلاق الهيئة ببيان: أن مدلول الهيئة هو واقع الطلب لا مفهومه، و هو جزئي حقيقي لا يقبل الإطلاق و التقييد؛ لأن الإطلاق و التقييد من شأن المفاهيم القابلة للسعة و الضيق، و أما الواقع فهو غير قابل للسعة و الضيق، فيمتنع فيه الإطلاق و التقييد، هذا مجمل ما في التقريرات.

و أما توضيح ذلك مع التفصيل فيتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين أن يكون مفاد الهيئة مفهوم الطلب، و بين أن يكون مفادها مصاديق الطلب و أفراده.

و خلاصة الفرق: أن مفهوم الطلب قابل للإطلاق و التقييد بالغيرية، و أما المصاديق و الأفراد فغير قابلة للإطلاق و التقييد.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن الشيخ في التقريرات قائل بأن هيئة الأمر موضوعة

ص: 111


1- راجع: مطارح الأنظار، ج 1، ص 333.

نعم؛ لو كان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب صح القول بالإطلاق لكنه (1) بمراحل من الواقع، إذ (2) لا شك في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب المستفاد من الأمر، و لا يعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب، فإن الفعل يصير مرادا بواسطة تعلق واقع الإرادة و حقيقتها لا بواسطة مفهومها، و ذلك واضح لا يعتريه ريب.

=============

لخصوصيات الطلب المنقدحة في نفس الطالب، فيكون مفادها الأفراد التي لا يعقل فيها التقييد، فمعنى الهيئة جزئي حقيقي بناء منه على كون الموضوع له في الحروف خاصا، فوضع الهيئة عنده كوضع الحروف يكون الموضوع له فيها جزئيا؛ و الجزئي غير قابل للإطلاق و التقييد، فلا يكون له إطلاق حتى يقيّد بقيد، و حينئذ لا مجال للتمسك بإطلاق الهيئة - إلى أن قال - «نعم لو كان مفاد الأمر هو المفهوم صح القول بالإطلاق»، و كان قوله: «نعم...» إلخ استدراكا على عدم صحة التمسك بالإطلاق لنفي الشك المزبور و حاصله: أن التمسك بالإطلاق مبني على كون مفاد الهيئة مفهوم الطلب؛ لأنه كلي قابل للإطلاق و التقييد؛ بخلاف ما إذا كان مفادها جزئيات الطلب و أفراده الخارجية، فلا إطلاق حينئذ.

(1) أي: كون مفاد الهيئة مفهوم الطلب و إن كان مصححا و مسوّغا للتمسك بالإطلاق لدفع الشك المزبور؛ إلاّ إنه بعيد عن الواقع بمراحل.

(2) قوله: «إذ لا شك...» إلخ؛ تعليل لقوله: «لكنه بمراحل عن الواقع». و توضيح ذلك التعليل يتوقف على مقدمة و هي: أن هناك أمران يوجبان كون مفاد الهيئة فرد الطلب لا مفهومه:

الأول: حكم العقلاء باتصاف الفعل بالمطلوبية بمجرد تعلق الطلب المنشأ بالصيغة به، فيقال عنه إنه مطلوب. هذا ما أشار إليه بقوله: «إذ لا شك في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب...» إلخ.

الثاني: أن الموجب للاتصاف المزبور - بحكم الوجدان - هو: مصداق الطلب و فرده الخارجي لا مفهومه - هذا ما أشار إليه بقوله: «و لا يعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب» - إذ من الواضح: أن اتصاف الشيء بالعرض إنما يكون بطرو واقع العرض عليه لا مفهومه، فإن الجسم لا يتصف بالبياض إلاّ بعروض حقيقة البياض عليه، و عليه: فاتصاف الفعل بالمطلوبية بمجرد الأمر يكشف عن أن مدلول الهيئة واقع الطلب لا مفهومه؛ إذ مفهوم الطلب لا يصحح اتصاف الفعل بالمطلوبية.

و كيف كان؛ فنتيجة هذين الأمرين هي: أن مدلول الأمر مصداق الطلب لا مفهومه.

ص: 112

ففيه (1): إن مفاد الهيئة - كما مرت الإشارة إليه - ليس الأفراد؛ بل هو مفهوم الطلب كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف، و لا يكاد يكون فرد الطلب الحقيقي - و الذي يكون بالحمل الشائع طلبا - و إلاّ لما صح إنشاؤه بها، ضرورة (2): أنه من فالمتحصل من جميع ما ذكرناه هو: أن مفاد الهيئة غير قابل للإطلاق و التقييد لكونه جزئيا حقيقيا، فلا مجال للتمسك بالإطلاق.

=============

(1) قوله: «ففيه» جواب عن قوله: «و أما ما قيل».

و حاصل الجواب: أولا: أن مفاد الحروف عند المصنف كلي، فيكون مفاد الهيئة كليا.

و ثانيا: على فرض تسليم الجزئية في سائر الحروف فلا بد أن يكون مفاد الهيئة كليا؛ لأن المنشأ بالصيغة هو مفهوم الطلب الذي يحمل عليه الطلب بالحمل الذاتي و يقال:

الطلب - المستفاد من صيغة الأمر - طلب؛ لأنه القابل للإنشاء لا فرد من الطلب الحقيقي الذي يحمل عليه الطلب بالحمل الشائع، و يقال: هذا طلب فإنه وصف خارجي لا يوجد بالإنشاء؛ بل يوجد بأسبابه الخاصة كالشجاعة و العلم و نحوهما.

فالمتحصل: أن المنشأ هو مفهوم الطلب الجامع بين النفسي و الغيري، و لكن مقتضى الإطلاق كونه نفسيا.

و كيف كان؛ فلمّا كان إشكال الشيخ «قدس سره» على التمسك بإطلاق الهيئة مؤلفا من مقدمتين:

إحداهما: كون المعنى الحرفي الذي يكون منه مدلول الهيئة جزئيا خارجيا غير قابل للإطلاق و التقييد.

و الأخرى: كون اتصاف الفعل بالمطلوبية لأجل تعلق مصداق الطلب و فرده الخارجي القائم بنفس الطالب به؛ لا لأجل تعلق مفهوم الطلب به، فقد أشار المصنف إلى ردّ كلتا المقدمتين.

أما الأولى: فقد أشار إليها بقوله: «ليس الأفراد...» إلخ أي: أن مفاد الهيئة ليس جزئيا خارجيا و هو الطلب القائم بالنفس؛ بل مفادها مفهوم الطلب كما تقدم في بحث المعاني الحرفية.

و أما الثانية: فقد أشار إليها بقوله: «و اتصاف الفعل بالمطلوبية...» إلخ، و سيأتي توضيحه في كلام المصنف فانتظر.

(2) قوله: «ضرورة» تعليل لقوله: «و إلاّ لما صح إنشاؤه بها» أي: و إن لم يكن مفاد الهيئة مفهوم الطلب بأن كان فرده لما صح إنشاء الطلب بالهيئة؛ لأن الطلب الخارجي

ص: 113

الصفات الخارجية الناشئة من الأسباب الخاصة. نعم (1)؛ ربما يكون هو السبب لإنشائه، كما يكون غيره أحيانا.

و اتصاف (2) الفعل بالمطلوبية الواقعية و الإرادة الحقيقة الداعية إلى إيقاع طلبه، القائم بالنفس من الصفات الخارجية التي لا توجد إلاّ بأسبابها المعهودة، التي ليس الإنشاء منها، إذ لا يوجد أمر ما من الأمور التكوينية بالإنشاء.

=============

(1) قوله: «نعم...» إلخ استدراك على عدم صحة إنشاء الطلب الخارجي، و حاصل ذلك: أن الطلب الخارجي و إن كان مما لا يصح إيجاده بالإنشاء - لمغايرة الوجود الإنشائي للتكويني - إلاّ إنه يمكن أن يكون سببا و داعيا لإنشائه، كما يكون غير الطلب الخارجي داعيا لإنشائه أحيانا؛ و ذلك كالتهديد و الامتحان مثلا.

و كيف كان؛ فالأمور الواقعية - و منها الطلب الخارجي - و إن لم تكن قابلة للإنشاء و الإيجاد - لأن الموجود بالإنشاء أمور اعتبارية و أمور انتزاعية مثل الزوجية و الملكية و ما شابههما - إلاّ إن الطلب الخارجي و الإرادة الحقيقية للمولى باعثة إلى إنشاء إرادة الشيء و المراد إنشاء طلبه، فالطلب الإنشائي مغاير للطلب الحقيقي.

(2) هذا الكلام من المصنف رد للمقدمة الثانية التي تقدمت الإشارة إليها و هي:

كون اتصاف الفعل بالمطلوبية لأجل تعلق مصداق الطلب به، لا مفهومه.

و توضيح ردّ المقدمة الثانية يتوقف على مقدمة و هي: أن الطلب على قسمين: و هما الطلب الحقيقي و الإنشائي، و بينهما عموم من وجه، فيجتمعان في إنشاء الطلب بقصد الجد؛ كما إذا قال لعبده: صلّ ، و أراد منه الصلاة حقيقة، فإنه يصدق على الصلاة أنها مطلوبة بكلا الطلبين، و تتصف بكليهما. أما الإنشائي: فواضح، و أما الحقيقي: فلأن المفروض: تعلق إرادته الجديّة بإيجاد العبد لها.

و يفترق الإنشائي عن الحقيقي في إنشاء الطلب بقصد الامتحان؛ فإن الفعل حينئذ مطلوب بالطلب الإنشائي فقط.

و يفترق الحقيقي عن الإنشائي فيما إذا انقدح في نفسه الطلب بتحقق مباديه، مع عدم قدرته على الإنشاء؛ لوجود مانع، فالفعل حينئذ مطلوب بالطلب الحقيقي؛ دون الإنشائي.

إذا عرفت هذه المقدمة فقد ظهر لك فساد المقدمة الثانية، المبنية على توهم انحصار مطلوبية الفعل المتعلق لإنشاء الطلب في المطلوبية الحقيقة؛ الموجب لتخيل كون مفاد الهيئة لا محالة هو الطلب الحقيقي.

وجه الفساد: أنك قد عرفت - في المقدمة - انقسام الطلب إلى قسمين، و اجتماعهما

ص: 114

و إنشاء إرادته بعثا نحو مطلوبه الحقيقي، و تحريكا إلى مراده الواقعي لا ينافي (1) اتصافه بالطلب الإنشائي أيضا.

و الوجود الإنشائي لكل شيء ليس إلاّ قصد حصول مفهومه بلفظه، كان هناك طلب حقيقي أو لم يكن، بل كان إنشاؤه بسبب آخر (2).

و لعل (3) منشأ الخلط و الاشتباه تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب المطلق، فتوهم منه (4): أن مفاد الصيغة يكون طلبا حقيقيا يصدق عليه الطلب بالحمل الشائع، في بعض الأحيان، و افتراق كل واحد منهما عن الآخر؛ بأن يكون الفعل المأمور به متصفا لا محالة بالمطلوبية الإنشائية؛ إذ الطلب الإنشائي هو المطلوب، و المقصود حصول مفهومه بالصيغة، و قد لا يكون الفعل الذي تعلق به الإنشاء متصفا بالمطلوبية الحقيقية، فلا منافاة بين اتصافه بالمطلوبية الحقيقية و الإنشائية معا إذا كان هناك طلب باطني، و كان الإنشاء بداعي البعث.

=============

و المتحصل من جميع ما ذكرناه هو: عدم حصر اتصاف الفعل بالمطلوبية الحقيقية حتى يكون هذا دليلا على كون مفاد الهيئة مصداق الطلب، فلا يكون قابلا للتقييد.

(1) قوله: «لا ينافي» خبر لقوله: «و اتصاف الفعل بالمطلوبية الواقعية». و معنى العبارة:

أن مطلوبية فعل حقيقة لا تنافي مطلوبيته إنشاء أيضا؛ لما عرفت من: أن النسبة بينهما عموم من وجه فتجتمعان.

فتلخص مما ذكرنا: أن مدلول الهيئة هو الطلب الإنشائي لا الطلب الحقيقي الذي في نفس المولى، و الطلب الإنشائي كلي، و كل كلي قابل للتقييد، فالطلب الإنشائي قابل للتقييد، و لازم ذلك: صحة التمسك بإطلاق الهيئة إذا لم تقيد بقيد.

(2) أي: بسبب آخر غير الطلب الحقيقي من سائر دواعي الإنشاء كالتهديد أو الامتحان في الأوامر الامتحانية.

(3) غرض المصنف من هذا الكلام هو: التنبيه على منشأ تخيّل كون مفاد الهيئة الطلب الحقيقي، و حاصل منشأ التوهم - على ما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 224» - هو: تعارف التعبير عن مفاد الهيئة بالطلب المطلق، من دون تقييده بالحقيقي أو الإنشائي - و من باب قاعدة أن الشيء إذا ذكر مطلقا ينصرف الذهن إلى فرده الأكمل - هذا التعبير صار موجبا لتوهم: كون مفاد الصيغة طلبا حقيقيا لكونه فرده الأكمل يصدق عليه الطلب بالحمل الشائع.

(4) أي: فتوهم من الطلب المطلق: «أن مفاد الصيغة يكون طلبا حقيقيا...» إلخ.

ص: 115

و لعمري: إنه (1) من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق.

فالطلب الحقيقي (2) إذا لم يكن قابلا للتقييد لا يقتضي أن لا يكون مفاد الهيئة قابلا له، و إن تعارف تسميته (3) بالطلب أيضا، و عدم تقييده (4) بالإنشائي لوضوح:

إرادة خصوصه، و إن الطلب الحقيقي لا يكاد ينشأ بها (5) كما لا يخفى.

=============

(1) أي: أن هذا الاشتباه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق؛ أي: اشتبه مفهوم الطلب الإنشائي بمصداق الطلب الحقيقي؛ لأن الطلب الحقيقي من مصاديق مفهوم الطلب، فالشيخ «قدس سره» أجرى حكم مصداق الطلب الذي هو عدم إمكان تقييده على مفهوم الطلب الذي هو مفاد صيغة الأمر القابل للتقييد، أو قل: إن ما هو مفهوم الطلب حكم عليه بأنه مصداق الطلب.

و كيف كان؛ فالتعبير عن مفاد الصيغة بالطلب - بلا ذكر قيد الإنشائي - موجب لتوهم أن مرادهم: أن مفاد الصيغة إنشاء لمصداق الطلب الحقيقي الغير قابل للتقييد، و قد غفل المتوهم عن أن مرادهم أن مفادها إنشاء مفهوم الطلب القابل للتقييد، فعدم تعبيرهم بالطلب الإنشائي إنما هو لوضوحه، لا لعدم كونه مرادا.

(2) أي: ما هو مصداق لمفهوم الطلب الذي هو مفاد الهيئة عند الشيخ «قدس سره»، فإن عدم قابليته للتقييد لا يوجب عدم قابلية مفهوم الطلب له، و إن جرى الاصطلاح على تسمية مفاد الهيئة بالطلب أيضا؛ و ذلك لكمال الفرق بين الطلبين، فإن الأول مصداق خارجي، و وصف نفساني غير قابل للتقييد بخلاف الثاني؛ فإنه مفهوم كلي قابل له، و قابلية المفهوم للتقييد لا تستلزم قابلية المصداق له، كما إن عدم قابلية المصداق لا يستلزم عدم قابلية المفهوم له.

(3) أي: و إن تعارف تسمية مفاد الهيئة بالطلب أيضا؛ أي: كتعارف تسمية الطلب الحقيقي الخارجي به.

(4) أي: الطلب. قوله: «و عدم تقييده...» إلخ مبتدأ، و «لوضوح إرادة خصوصه» خبر له.

و الغرض من هذا الكلام هو: الاعتذار عن تقييد مفاد الهيئة - و هو الطلب - بالإنشائي، و حاصل الاعتذار - على ما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 245» - أن وضوح امتناع إيجاد الطلب الحقيقي التكويني بالإنشاء قرينة على إرادة خصوص الطلب الإنشائي من الهيئة، و إن كان حمل الطلب عليه مطلقا غير مقيّد بالإنشائي فلا حاجة إلى تقييده بالإنشائي.

(5) أي: بالهيئة؛ لما مرّ من امتناع إيجاد الطلب الحقيقي بالإنشاء.

ص: 116

فانقدح بذلك (1): صحة تقييد مفاد الصيغة بالشرط، كما مر هاهنا بعض الكلام.

و قد تقدم في مسألة اتحاد الطلب و الإرادة ما يجدي (2) في المقام. هذا إذا كان هناك اطلاق.

=============

(1) أي: بما ذكرناه من كون مفاد الهيئة هو الطلب الإنشائي القابل للإطلاق و التقييد ظهر: «صحة تقييد مفاد الصيغة بالشرط كما مر هاهنا» أي: في الواجب المطلق و المشروط، عند التعرض لكلام الشيخ في رجوع القيد إلى المادة.

و كيف كان؛ فكان مفاد الهيئة هو الطلب الإنشائي الذي هو كلي، لا الطلب الخارجي الذي هو جزئي، و عليه: فيكون الواجب المشروط المشهوري ممكنا؛ لأن المفروض: جعل مفاد الهيئة مفهوم الطلب القابل للتقييد، فيكون الشرط قيدا لنفس الوجوب.

في ما هو مقتضى الأصل العملي

(2) أي: قد تقدم هناك: أن الطلب و الإرادة موضوعان لمعنى واحد، غير أن المعنى على صنفين: حقيقي ثابت في النفس، و إنشائي يحصل بالصيغة، لكن لفظ الطلب أظهر في الثاني، و لفظ الإرادة أظهر في الأول؛ مع كون كل من لفظي الطلب و الإرادة حقيقة في كلا الصنفين جميعا، فراجع الجهة الرابعة المتعلقة بمادة الأمر. هذا تمام الكلام في التمسك بالأصل اللفظي و هو أصالة الإطلاق.

ثم شرع في بيان مورد التمسك بالأصل العملي فقال: هذا أي: الرجوع إلى إطلاق الهيئة «إذا كان هناك إطلاق» بأن تمت مقدمات الحكمة، و أما فيما إذا لم يكن هناك إطلاق - بأن اختلت إحدى مقدمات الحكمة - كما إذا لم يكن المولى في مقام البيان، أو كان هناك القدر المتيقن في مقام التخاطب، أو كانت القرينة على التعيين موجودة؛ فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي عند الشك في كون الواجب نفسيا أو غيريا.

فيقع الكلام فيما هو مقتضى الأصل العملي في الدوران بين النفسي و الغيري من الاشتغال أو البراءة، فعلى الأول: يجب الإتيان بما يدور أمره بين النفسية و الغيرية. و على الثاني: لا يجب الإتيان به.

و التحقيق: أن مقتضى الأصل العملي يختلف باختلاف الموارد، فقد تتفق نتيجته مع النفسية في مورد، و مع الغيرية في مورد آخر، و قد أشار المصنف «قدس سره» إلى الموردين حيث ذكر للأصل العملي صورتين: إحداهما: ما أشار إليه بقوله: «فلا بد من الإتيان به...» إلخ. و الأخرى: ما أشار إليه بقوله: «و إلاّ فلا...» إلخ.

أما توضيح الصورة الأولى: فيتوقف على مقدمة و هي: أن يعلم بوجوب شيء فعلا؛ و لكن كان وجوبه مرددا بين كونه نفسيا أو غيريا، مع العلم بأنه لو كان غيريا كان

ص: 117

و أما إذا لم يكن، فلا بد من الإتيان به فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له فعليا؛ للعلم بوجوبه فعلا، و إن لم يعلم جهة وجوبه، و إلاّ فلا؛ لصيرورة الشك فيه بدويا، كما لا يخفى.

=============

وجوب ذي المقدمة فعليا، و ذلك مثل: وجوب الوضوء فيما لو علم بأنه نذر إما الإتيان بالوضوء أو الصلاة؛ بحيث لو كان هو الوضوء كان وجوبه نفسيا، و إن كان هو الصلاة كان وجوب الوضوء غيريا، فهو يعلم بوجوب الوضوء إما بخصوصه أو مع الصلاة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا بد من الإتيان بالوضوء للعلم بوجوبه فعلا؛ إما لكونه نفسيا أو غيريا؛ لأجل كونه شرطا لما يكون وجوبه فعلا كالصلاة في المثال المزبور.

غاية الأمر: لا يعلم جهة وجوبه من حيث النفسية و الغيرية.

و كيف كان؛ فقد علم بوجوب الوضوء مطلقا أي: سواء كان نفسيا أم غيريا فيجب الإتيان به. أما على فرض كونه نفسيا: فوجوب الإتيان به واضح.

و أما على فرض كونه غيريا: فللعلم بفعلية وجوب ما يشك في كون الوضوء من مقدماته، و من المعلوم: أن فعلية وجوب ذي المقدمة تستلزم فعلية وجوب مقدمته، فالعقل يحكم بلزوم الإتيان بالوضوء للعلم بوجوبه على كل تقدير، و الجهل بكيفية وجوبه من النفسية و الغيرية لا يقدح في هذا الحكم العقلي.

قوله: «للعلم بوجوبه» تعليل لقوله: فلا بد من الإتيان به». و معنى العبارة حينئذ: أن وجوب الإتيان به إنما هو لأجل العلم بوجوبه الفعلي؛ و إن لم يعلم جهة وجوبه من حيث النفسية و الغيرية. هذا تمام الكلام في توضيح الصورة الأولى، و نتيجتها تتفق مع النفسية.

الصورة الثانية: و هي ما أشار إليه بقوله: «و إلاّ فلا...» إلخ. أي: و إن لم يكن التكليف - بما احتمل كون هذا الواجب مقدمة له - فعليا فلا يجب الإتيان به.

و حاصل الكلام في الصورة الثانية: إنه لا يجب الإتيان بما يدور أمره بين كونه واجبا نفسيا أو واجبا غيريا - لكونه مقدمة لما لا يكون وجوبه فعليا - مثل: الوضوء قبل وقت الصلاة. و أما عدم الإتيان بالوضوء فلأن وجوبه حينئذ مشكوك فيه بالشك البدوي؛ لأن وجوبه النفسي غير معلوم، و الغيري معلوم الانتفاء؛ لأن المفروض: عدم فعلية وجوب ذي المقدمة أعني: الصلاة قبل الوقت، فلا محيص حينئذ عن جريان البراءة فيما احتمل كونه واجبا نفسيا أو مقدميا لما تثبت فعلية وجوبه، و نتيجتها تتفق مع الغيرية.

فخلاصة الكلام: أن المرجع في الصورة الأولى هي قاعدة الاشتغال، و في الصورة

ص: 118

تذنيبان: (1)

الأول: لا ريب (2) في استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسي، و موافقته، و استحقاق العقاب على عصيانه و مخالفته عقلا، و أما استحقاقهما على امتثال الأمر الثانية: هي أصالة البراءة. و قد أضربنا عما في بعض الشروح و الحواشي من تطويل الكلام في المقام؛ رعاية للاختصار.

=============

(1) أي: و هما من توابع الواجب النفسي و الغيري.

(2) قبل الخوص في البحث ينبغي بيان ما هو محل النزاع فيقال: إنه لا إشكال و لا نزاع في ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي و موافقته، و كذلك لا إشكال في استحقاق العقاب على ترك الواجب النفسي؛ لأنه طغيان و تمرّد على المولى، و خروج عن رسم العبودية.

و إنما النزاع و الإشكال في موردين:

الأول: في وجه ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي؛ هل هو بالاستحقاق أو بالتفضل ؟

الثاني: في ترتب الثواب و العقاب على الواجب الغيري؛ هل في موافقته ثواب، و في مخالفته عقاب أم لا؟

إذا عرفت محل النزاع فنقول: إن ظاهر المصنف «قدس سره» في المورد الأول هو:

كون ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي إنما هو بالاستحقاق لا بالتفضل، و هناك قول بأنه تفضلي بدعوى: إن العبد ليس أجيرا في عمله للمولى ليستحق الثواب عليه، و إنما جرى و مشى على طبق وظيفته و مقتضى عبوديته؛ إذ للمولى حق على العبد أن يطيعه لأنه ولي النعمة، و العبد بأداء حق العبودية لا يصير مستحقا للثواب و ذا حق على المولى، و لكن المولى الحقيقي أعني: الله «سبحانه و تعالى» هو الذي يتفضّل على العبد بإعطاء الثواب و الأجر.

و من هنا يظهر: إن ما هو ظاهر المصنف من ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي بالاستحقاق لا يخلو عن إشكال؛ لأن الحاكم باستحقاق العبد للثواب عند الموافقة، و باستحقاق العقاب عند المخالفة إنما هو العقل، فحكمه باستحقاق العبد للعقاب عند مخالفته للأوامر النفسية الصادرة عن المولى و إن كان مما لا شك فيه؛ لأن العقل يستقل باستحقاق العبد للعقاب عند المخالفة بمعنى: إنه لا يرى عقاب المولى إياه ظلما، إلاّ إن حكمه باستحقاق العبد للثواب و الأجر عند موافقته لها لا يخلو عن إشكال؛ لأن العقل

ص: 119

الغيري و مخالفته: ففيه إشكال، و إن كان التحقيق عدم الاستحقاق على موافقته و مخالفته، بما هو موافقة و مخالفة (1)، ضرورة: استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلاّ لا يرى المولى ظالما في حق العبد عند عدم إعطائه له الأجر و الثواب، بل العقل السليم يشهد بعدمه؛ لحكمه بأن المولى بمولويته مالك للعبد بجميع شئونه و أفعاله، فله أن يأمر العبد بفعل من غير أن يعطيه أجرا.

=============

فالأولى: أن يكون ترتب الثواب على امتثال الأمر النفسي بالتفضّل لا بالاستحقاق، و هناك كلام طويل فيما هو المراد من استحقاق العبد للثواب تركناه تجنبا عن التطويل الممل. هذا تمام الكلام في المورد الأول.

و أما المورد الثاني - و هو ترتب الثواب على الواجب الغيري ففيه إشكال - فقد أشار إليه بقوله «ففيه إشكال».

توضيح الإشكال: أن الواجب الغيري من جهة كون امتثاله امتثالا لأمره تعالى يترتب عليه الثواب؛ لأن امتثال الواجب الغيري هو بنفسه مصداق للانقياد، و إظهار لمقام العبودية مع قطع النظر عن الإتيان بالواجب النفسي، و لذا لو جاء بالمقدمة بقصد التوصل، ثم لم يتمكن من الإتيان بذيها لمانع استحق الثواب عليها بلا إشكال، و هذا دليل على أن الإتيان بها بنفسه منشئ للثواب، و موجب له، و عليه فيستحق العبد على الإتيان بالمقدمة و ذيها ثوابين.

و من جهة: أن هوية الأمر الغيري ليست إلاّ البعث إلى إيجاد الواجب النفسي بإتيان مقدمته الوجودية، فلا مصلحة في الأمر الغيري إلاّ كونه واقعا في طريق التوصل إلى الواجب النفسي، فلا إطاعة له إلاّ مع قصد الأمر النفسي، فهو شارع في امتثال الأمر النفسي فيثاب على إطاعته، و إلاّ فلا إطاعة حتى يستحق الثواب.

و كيف كان؛ فهناك قولان: قول باستحقاق الثواب، و قول بعدم استحقاقه.

ظاهر المصنف هو عدم ترتيب الثواب و العقاب على المقدمات

و ظاهر المصنف هو: عدم ترتب الثواب و العقاب على المقدمات بدعوى: أن الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة و العصيان - و هو العقل - لا يحكم بأزيد من استحقاق عقاب واحد على مخالفة واجب واحد، و إن كان ذا مقدمات كثيرة، و ترك جميعها، و كذا لا يحكم باستحقاق أزيد من ثواب واحد إذا أتى بالواجب و جميع ما له من المقدمات.

(1) أي: بما هو موافقة و مخالفة للأمر الغيري؛ لأن البحث فيه في قبال الأمر النفسي.

ص: 120

لعقاب واحد، أو لثواب كذلك (1)، فيما خالف الواجب و لم يأت بواحدة من مقدماته على كثرتها (2)، أو وافقه (3) و أتاه بما له من المقدمات.

نعم (4)؛ لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدمة، و بزيادة المثوبة (5)

=============

(1) أي: لثواب واحد. قوله: «ضرورة» تعليل لعدم ترتب الثواب و العقاب على الأمر الغيري.

(2) أي: كثرة المقدمات.

(3) أي: وافق الواجب «و أتاه بما له» أي: بما للواجب من المقدمات.

و خلاصة الكلام: إنه لا عقاب على ترك مقدمات الواجب بل العقاب إنما هو على ترك الواجب، فتارك الواجب و مقدماته يستحق عقلا عقابا واحدا؛ إذ ليس في ترك المقدمة بعد عن المولى يوجب استحقاق العقاب؛ غير البعد الحاصل بترك ذيها، و لا ثواب على المقدمة أيضا؛ فإن الآتي بالواجب و مقدماته يستحق عقلا ثوابا واحدا؛ إذ ليس في إتيان المقدمة قرب غير القرب الحاصل بإتيان ذيها، و إنما هي وسيلة التوصل إلى ذيها.

(4) هذا استدراك على قوله: «و إن كان التحقيق عدم الاستحقاق على موافقته و مخالفته...» إلخ أي: لمّا نفى المصنف استحقاق العقاب على مخالفة الأمر الغيري، استدرك عليه بقوله: «نعم؛ لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند المخالفة...» إلخ و حاصله: أن مخالفة الأمر الغيري و إن لم تكن علة تامة لاستحقاق العقوبة؛ لكن استحقاقها على مخالفة الأمر النفسي يكون من حين مخالفة الأمر الغيري؛ لأن مخالفة الأمر الغيري تؤدي إلى عصيان الأمر النفسي من حين مخالفة الأمر الغيري؛ إذ ترك المقدمة سبب لترك ذيها، فمن حين تركها يحصل استحقاق العقاب على ذيها، فلو قيل حينئذ باستحقاق العقوبة على الأمر النفسي من حين مخالفة الأمر الغيري كان متينا، فالعقاب حقيقة على ترك الأمر النفسي لا الغيري، و نسبة استحقاق العقوبة إلى الأمر الغيري تكون مجازا.

و من هنا يظهر الجواب عما حكي عن السبزواري؛ من توهم: أن العقاب على ترك المقدمة؛ لأن كونه على ترك ذيها كالقصاص قبل الجناية.

و حاصل الجواب: أن استحقاق العقاب إنما هو على ترك الواجب عند ترك المقدمة، فإن الواجب بترك مقدمته؛ و إن صار ممتنعا بسوء اختيار المكلف كامتناع الحج في الموسم بترك الخروج مع الرفقة اختيارا؛ إلاّ إن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

(5) أي: لا بأس بزيادة الثواب على موافقة الأمر النفسي؛ فيما إذا كانت له مقدمات كثيرة و أتى بها بما هي مقدمات له، إلاّ إن زيادة الثواب على الواجب من باب أنه يصير حينئذ من أفضل الأعمال حيث صار أشقها.

ص: 121

على الموافقة فيما لو أتى بالمقدمات بما هي مقدمات له، من باب أنه يصير حينئذ من أفضل الأعمال، حيث صار أشقها، و عليه (1): ينزّل ما ورد في الأخبار من الثواب و في الرواية: «إن أفضل الأعمال أحمزها»(1) و الأفضل يليق بزيادة الثواب؛ لأنه يصير أشق الأعمال، و كل أشق الأعمال أفضلها فهذا أفضلها، و كل أفضل الأعمال له ثواب عظيم، فهذا له ثواب عظيم، فالثواب يكون على موافقة الأمر النفسي الذي هو الأشق، و الأفضل على الأمر الغيري بما هو أمر غيري؛ لأن موافقة الأمر الغيري بما هو غيري لا يوجب قربا للمولى، و عصيانه لا يوجب بعدا عنه، و الحال: أن الثواب و العقاب يكونان من توابع القرب و البعد.

=============

(1) أي: على كون الثواب على نفس الواجب مع كثرة مقدماته «ينزّل ما ورد في الأخبار...» إلخ.

و حاصل الكلام في المقام: أن قوله: «و عليه ينزّل ما ورد في الأخبار من الثواب على المقدمات» دفع لتوهم المنافاة بين نفي استحقاق الثواب، و بين ما تضمنته الروايات من الثواب على المقدمات.

و أما التوهم فيقال: إنه إذا لم يكن الثواب على موافقة الأمر الغيري فكيف ورد في لسان الأخبار ثواب عظيم على فعل بعض المقدمات ؟! كما ورد في زيارة مولانا أمير المؤمنين «عليه السلام»: «من زار أمير المؤمنين «عليه السلام» ماشيا كتب الله له بكل خطوة ثواب حجّة و عمرة، فإذا رجع ماشيا كتب الله له بكل خطوة ثواب حجتين و عمرتين»(2).

و ما ورد في زيارة الإمام الحسين «عليه السلام» من «أن لكل قدم يرفعها عتق عبد من ولد إسماعيل عليه السلام»(3)، و غيرهما من الروايات.

ص: 122


1- ورد في كشف الخفاء، ج 1، ص 175: «عن ابن عباس: سئل رسول الله «صلى الله عليه [و آله] و سلم»: أي الأعمال أفضل: قال: أحمزها» و في البحار، ج 70، ص 191، ح 2، مرسلا و غير منسوب لكتاب. و في مفتاح الفلاح للبهائي، ص 45: (قول النبي «صلى الله عليه و آله»: «أفضل الأعمال أحمزها»). و في شرح النهج، ج 19، ص 83: (قوله «صلى الله عليه و آله»: «أفضل العبادة أحمزها»).
2- الوسائل، ج 14، كتاب الحج. باب 24 من أبواب المزار، ص 380.
3- الوسائل، ج 14، كتاب الحج. باب 41 من أبواب المزار، ص 441.

على المقدمات أو على التفضل فتأمل جيدا؛ و ذلك (1) لبداهة: أن موافقة الأمر الغيري - بما هو أمر لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النفسي - لا توجب قربا، و لا مخالفته - بما هو كذلك - بعدا، و المثوبة و العقوبة إنما تكونان من تبعات القرب و البعد.

إشكال (2) و دفع:

أما الأول: فهو أنه إذا كان الأمر الغيري بما هو لا إطاعة له، و لا قرب في فهذه الروايات تدل على ترتب الثواب على المقدمات كالخطوات؛ فإنها مع كونها مقدمة للزيارة يترتب عليها الثواب، هذا ينافي ما سبق من المصنف من عدم استحقاق الثواب إلاّ على ذي المقدمة.

=============

و حاصل الدفع: أن الروايات الظاهرة في ترتب الثواب على المقدمات إما محمولة على ترتب الثواب على ذي المقدمة، أو على التفضّل، جمعا بين ما تقدم من حكم العقل بعدم الاستحقاق، و بين تلك الأخبار؛ بمعنى: أن استقلال العقل بعدم استحقاق الثواب على امتثال الأمر الغيري قرينة عقلية على صرف تلك الأخبار من ظواهرها على تقدير ظهورها في الاستحقاق، و حملها على خلاف ظواهرها؛ و هو: ترتب الثواب على ذي المقدمة، أو على نفس المقدمة، لكن تفضّلا لا استحقاقا؛ لأن الفضل بيده «سبحانه و تعالى» يؤتيه من يشاء؛ و ذلك لما عرفت: من أن المثوبة و العقوبة مترتبتان على القرب من المولى و البعد عنه، و امتثال الأمر الغيري لا يوجب قربا، كما إن مخالفته لا توجب بعدا، فلا يترتب عليهما ثواب و لا عقاب، فإذا امتنع الاستحقاق فلا محيص عن حمل ما دل على الثواب على المقدمات على أحد الوجهين المذكورين.

(1) قوله: «و ذلك لبداهة...» إلخ تعليل لوجوب التنزيل المزبور، و إعادة لما سبق من ضرورية استقلال العقل، و حاصل التعليل كما عرفت: أن استقلال العقل بعدم استحقاق الثواب على امتثال الأمر الغيري قرينة عقلية على صرف تلك الأخبار عن ظواهرها على تقدير ظهورها في الاستحقاق كما مر فلا نعيد.

الإشكال في ترتّب الثواب على الطهارات الثلاث مع أنّها من المقدمات

(2) أي: هاهنا إشكالان: الأول: ما أشار إليه بقوله: «أما الأول...» إلخ.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «هذا مضافا...» إلخ، و لكن المصنف جعلهما في الظاهر إشكالا واحدا.

و حاصل الإشكال الأول: أن الواجب الغيري مما لا يترتب عليه ثواب و لا عقاب؛ لعدم كونه موجبا للقرب و البعد، و على هذا: فكيف يترتب الثواب على الطهارات الثلاث ؟ مع كونها من المقدمات؛ و قد عرفت: أنهم بنوا فيها على عدم استحقاق الثواب عليها، و قد قام الإجماع على ترتب الثواب على الطهارات الثلاث مع كونها من المقدمات.

ص: 123

موافقته، و لا مثوبة على امتثاله، فكيف حال بعض المقدمات كالطهارات؛ حيث لا شبهة في حصول الإطاعة و القرب و المثوبة بموافقة أمرها؟ هذا مضافا إلى أن الأمر الغيري (1) لا شبهة في كونه توصليا، و قد اعتبر في صحتها إتيانها بقصد القربة.

و أما الثاني (2): فالتحقيق أن يقال: إن المقدمة فيها بنفسها مستحبة و عبادة، و غاياتها (3) إنما تكون متوقفة على إحدى هذه العبادات، فلا بد أن يؤتى بها عبادة،

=============

(1) هذا هو الإشكال الثاني: و حاصل الكلام فيه: أن الأمر في الواجب الغيري توصلي، و ليس الغرض منه إلاّ التوصل إلى ذيه، فهو مما يحصل الغرض به بمجرد إتيانه كيفما اتفق، و لا يعتبر فيه قصد القربة و الامتثال، و عليه: فيكف يعتبر في الطهارات الثلاث قصد القربة و الامتثال ؟ و لا يكفي مجرد الإتيان بها بدون قصد القربة إجماعا - مع كونها واجبات غيرية لا يعتبر فيها قصد القربة - لأن كل واجبات غيرية توصلية، و كل الواجبات التوصلية لا يعتبر فيها قصد القربة، فالطهارات الثلاث لا يعتبر فيها قصد القربة لكونها واجبات غيرية ؟

و الحال: قد اعتبر في صحتها إتيانها بقصد القربة، و لا تصح بلا قصد أمرها، و لازم ذلك: أنها من العبادات، و تكون أوامرها نفسية؛ لأن العبادية من شئون الأوامر النفسية.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الإشكالين.

جواب المصنف عن شكال ترتب الثواب على الطهارات

(2) و الدفع: أما دفع الإشكال الأول: - و هو ترتب الثواب على الطهارات - فيندفع بما حاصله: من أن الطهارات الثلاث - مع قطع النظر عن تعلق الأمر الغيري بها - عبادات مستحبة، كما يظهر من أدلتها، فيترتب عليها الثواب لأجل أمرها النفسي الاستحبابي؛ لا لامتثال أمرها الغيري.

أما دفع الإشكال الثاني: - و هو اعتبار قصد القربة فيها مع كونها مقدمة - فيندفع:

بأنها بما هي عبادات جعلت مقدمة لعبادة أخرى، فيعتبر في صحتها قصد القربة لكونها من العبادات؛ لا لاقتضاء الأمر الغيري.

(3) أي: غايات الطهارات الثلاث؛ كالصلاة و الطواف و غيرهما لا تترتب على تلك الطهارات، إلاّ إن يؤتى بها على وجه العبادة، فهي و إن كانت مقدمات لغاياتها إلاّ إنها في الحقيقة عبادات؛ بمعنى: أن أمرها النفسي العبادي موضوع للأمر الغيري المقدمي، فموضوع الأمر الغيري عبادة، فلا مورد للإشكال على الطهارات الثلاث بأنه: كيف يعتبر فيها قصد القربة مع كونها مقدمة؛ و كيف يترتب عليها الثواب مع كون الأمر فيها غيريا؟

و بعبارة أخرى: أن جواب المصنف عن الإشكالين يتضح بعد تقديم مقدمة و هي: إن

ص: 124

و إلاّ (1) فلم يؤت بما هو مقدمة لها، فقصد القربة فيها إنما هو لأجل كونها في نفسها أمورا عبادية و مستحبات نفسية، لا لكونها مطلوبات غيرية، و الاكتفاء (2) بقصد أمرها الغيري، فإنما هو (3) لأجل أنه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه، حيث إنه لا يدعو إلاّ إلى ما هو المقدمة، فافهم.

=============

كون الشيء عبادة على نحوين: تارة: تكون عبادية الشيء بملاحظة تعلق الأمر النفسي التعبدي به مثل: الواجبات العبادية؛ كالصلاة و الصوم و الحج و نحوها.

و أخرى: تكون بملاحظة مصلحة ذاتية و رجحان ذاتي؛ و ذلك كالطهارات الثلاث حيث تكون عبادة بلحاظ الرجحان الذاتي.

إذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك: أن الطهارات الثلاث من الغسل و الوضوء و التيمم عبادة لا بملاحظة الأمر الغيري؛ بل بلحاظ رجحان ذاتيها و مصلحتها الذاتية، و يكون اعتبار قصد القربة فيها لأجل مصلحتها الذاتية، كما أن حصول الثواب عليها لأجل الرجحان الذاتي الثابت فيها، و مع هذا الوصف تكون مقدمة لعبادة أخرى، فحينئذ لا يبقى مجال للإشكالين المذكورين.

(1) أي: و إن لم يؤت بالطهارات على وجه العبادة فلم يؤت بما هو مقدمة.

(2) أي: قوله: «و الاكتفاء بقصد أمرها الغيري» إشارة إلى الاعتراض و الإشكال؛ بتقريب: أنه إن كان ترتب الثواب على الطهارات و اعتبار قصد القربة فيها من جهة عباديتها في أنفسها، و كونها مطلوبات نفسية عبادية؛ فلا بد من أن يؤتى بها بقصد أمرها النفسي و استحبابها الذاتي، مع إن طريقة الفقهاء على خلاف ذلك؛ لبنائهم على الاكتفاء بإتيانها بداعي أمرها الغيري و عدم اعتبار أمرها النفسي، و هذا كاشف عن كون عباديتها بالأمر الغيري، فيعود الإشكال بأنه كيف يصح التقرب بالأمر الغيري التوصلي ؟

(3) هذا الكلام جواب عن الإشكال المذكور. و حاصل الجواب: أن الطهارات الثلاث - بوصف عباديتها - تعلق بها الأمر الغيري، فيكتفي بقصد أمرها الغيري؛ لأن الأمر يدعو إلى ما تعلق به و هو هنا المقدمة العبادية، فقصد الأمر الغيري قصد إجمالي للأمر النفسي المتقدم عليه رتبة، و هذا المقدار كاف في قصد الأمر النفسي الموجب للعبادية و ترتب المثوبة.

و خلاصة الكلام في المقام: أن العبادية في الطهارات الثلاث مفروضة في رتبة سابقة على الأمر الغيري، و الأمر الغيري يتعلق بالعبادة، فقصده يوجب قصد الأمر النفسي العبادي ضمنا و هو المصحح للعبادية؛ لا الأمر الغيري.

ص: 125

و قد تفصّي عن الإشكال بوجهين آخرين:

أحدهما: ما ملخصه: (1) أن الحركات الخاصة ربما لا تكون محصلة لما هو المقصود قوله: «حيث إنه لا يدعو إلاّ إلى ما هو المقدمة»؛ تعليل لقوله: «يدعو إلى ما هو كذلك».

=============

و حاصل التعليل: أن دعوة الأمر الغيري إلى ما هو عبادة في نفسه إنما هي لأجل أن شأن الأمر الغيري هو الدعوة إلى ما هو مقدمة، و المفروض: أن المقدمة من الطهارات الثلاث ما يكون عبادة بنفسه، فقصد أوامرها الغيرية قصد إجمالي لأوامرها النفسية.

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى أن الموجب لعبادية شيء إذا كان دعوة أمره العبادي - بحيث يكون منشأ عباديته قصد ذلك الأمر تفصيلا أو إجمالا - فهو مفقود في المقام؛ إذ مع الجهل بعباديته أو الغفلة عنها لا يكون الداعي إلى إتيانه إلاّ الأمر الغيري المغاير للأمر العبادي، فكيف يكون الداعي حينئذ - و لو إجمالا - الأمر العبادي، مع عدم انطباق الأمر الغيري عليه لمغايرتهما بالتضاد؟ فالأمر النفسي ليس داعيا لا تفصيلا و لا إجمالا إلى عبادية الشيء؛ لأنه مجهول أو مغفول عنه، فلا محيص حينئذ عن الالتزام ببطلان الطهارات. كما في «منتهى الدراية ج 2، ص 264».

و التخلص عن هذا الإشكال: أن يقال: إن الأمر الغيري مقرّب إلى الله تعالى كالأمر النفسي بعينه كما قيل. أو يقال: بكفاية الرجحان الذاتي في حصول الثواب، و إمكان قصد التقرب إلى الله «سبحانه و تعالى» على ما قيل. أو إشارة إلى إن ما ذكر في الدفع من كون الطهارات الثلاث بنفسها مستحبة غير مستقيم في التيمم؛ إذ لا استحباب للتيمم نفسيا، فيشكل على المصنف: بأن - الدفع بما ذكرت - لا يطرد في التيمم لعدم استحبابه النفسي؛ بدعوى: أنه مما لم يقم دليل على كونه مطلوبا نفسيا.

و لكن الحق: كون التيمم من العبادات، و الشاهد عليه: ما أفاده في الجواهر في مبحث اعتبار النية في التيمم «من أن الواجب في التيمم النية كغيره من العبادات إجماعا محصلا و منقولا»(1). انتهى مورد الحاجة. هذا مضافا ما جاء في قوله «عليه السلام»:

«التراب أحد الطهورين». و كيف كان؛ فقد أضربنا عما في المقام من بسط الكلام في النقض و الإبرام رعاية للاختصار.

(1) ملخص الوجه الأول: إن اعتبار قصد القربة في الطهارات الثلاث ليس لأجل أن الأمر المقدمي مما يقتضي التعبدية؛ بل لأجل أن المقدمات العبادية ليست مقدميّتها بما

ص: 126


1- جواهر الكلام، ج 1، ص 167.

منها من العنوان، الذي يكون بذاك العنوان مقدمة و موقوفا عليها، فلا بد في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها، لكونه لا يدعو إلاّ إلى ما هو الموقوف عليه، فيكون عنوانا إجماليا و مرآة لها، فإتيان الطهارات عبادة و إطاعة لأمرها ليس لأجل أن أمرها المقدمي يقضي بالإتيان كذلك (1)؛ بل إنما كان لأجل إحراز نفس العنوان الذي يكون بذاك العنوان موقوفا عليها.

و فيه: (2) مضافا إلى أن ذلك لا يقتضي الإتيان بها كذلك، لإمكان الإشارة إلى هي حركات خاصة كغسل جميع البدن في الغسل، و الغسلتين و المسحتين في الوضوء؛ بل بعنوان خاص تكون مقدمة للعبادة، و حيث لا طريق للمكلف إلى إحرازه حتى يقصده تفصيلا، فلا بد من قصده إجمالا، فيأتي بتلك الحركات بداعي أمرها الغيري؛ كي يكون قصد الأمر الغيري عنوانا إجماليا و مرآة لذلك العنوان الخاص؛ فإن الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلقه، فإذا أتى المكلف بتلك الحركات بداعي وجوبها الغيري فقد أتى بها بعنوانها الخاص المأخوذ فيها؛ إذ لا سبيل للمكلف إلى قصد ذلك العنوان المجهول إلاّ بقصد الأمر الغيري، الذي هو عنوان إجمالي لذلك.

=============

فالوجه في عبادية الطهارات الثلاث هو: ذلك العنوان المقصود إجمالا بقصد الأمر الغيري، و ليس الوجه في عباديتها الأمر الغيري حتى يرد عليه بأنه توصليّ فكيف يتقرب به ؟

(1) أي: عبادة، و ما في «منتهى الدراية» من كون الضمير في كل من - لأمرها - و - أمرها - و - عليها - عائدا إلى الطهارات كان صحيحا. فمعنى العبارة: بل إنما كان إتيان الطهارات لأجل إحراز نفس العنوان الذي تكون الطهارات بذاك العنوان مقدمة و موقوفا عليها.

(2) قد أورد المصنف «قدس سره» على هذا الوجه من التفصّي بوجهين:

الأول: ما أشار إليه بقوله «و فيه:» - إلى أن قال: - «إنه غير واف».

و الثاني: ما أشار إليه بقوله: «مضافا إلى أن ذلك لا يقتضي الإتيان بها كذلك» أي:

بقصد أمرها غاية، كما هو قضية قوله: «فلا بد في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها».

و حاصل الوجه الأول: أن هذا التفصّي على تقدير تسليم كونه وافيا بدفع إشكال عبادية الطهارات، لكنه لا يفي بدفع الإشكال من ناحية ترتب الثواب عليها.

انحلال الإشكال الوارد على الطهارات الثلاث إلى شكلين

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الإشكال الوارد على الطهارات الثلاث ينحل إلى إشكالين:

ص: 127

الأول: ترتب الثواب عليها. الثاني: اعتبار قصد القربة فيها مع إن المفروض: كونها من المقدمات، فلا يترتب عليها الثواب و لا يعتبر فيها قصد القربة.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن هذا الوجه من التفصّي على فرض تسليم كونه وافيا بدفع الإشكال الثاني؛ و هو اعتبار قصد القربة فيها، و ذلك لما ذكر في التفصّي من أن الأمر الغيري عنوان إجمالي مشير إلى العنوان الخاص المقوم لعبادية الطهارات، فقصد الأمر الغيري قصد لذلك العنوان الخاص الذي تكون به مقدمة لعبادة أخرى، غاية الأمر: يكفي في عبادية الطهارات إحراز العنوان الخاص الحاصل إجمالا بقصد أمرها الغيري.

لكنه لا يفي بدفع الإشكال الأول و هو ترتب الثواب عليها؛ لأن الأمر الغيري لا يترتب عليه الثواب، فيبقى إشكال أنه كيف يترتب الثواب على الأمر الغيري ؟

و أما الوجه الثاني - و هو ما أشار إليه بقوله: «مضافا...» إلخ. فحاصله أن يقال: إنه لو كان وجه اعتبار قصد الأمر في الطهارات هو الإشارة إلى العنوان الخاص المأخوذ فيها لجازت الإشارة إليه بقصد الأمر وصفا لا غاية و داعيا.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين جعل قصد الأمر غاية و داعيا، و جعله وصفا. و الفرق بينهما: إن الوضوء من الطهارات الثلاث، و قد تعلق به الأمر الغيري باعتبار كونه شرطا لصحة الصلاة، فتارة: يجعل أمره الغيري غاية و داعيا؛ بأن ينوي الوضوء امتثالا لأمره و بداعي وجوبه الغيري شرعا.

و أخرى: يجعل أمره الغيري وصفا؛ بأن كان أصل الداعي لإتيانه شيئا آخر غير قربي؛ بأن ينوي الوضوء الواجب بالوجوب الغيري و لو كان الداعي شيئا آخر مثل: التبريد أو التنظيف و نحوهما من الدواعي النفسانية، فيكون قصد الوجوب حينئذ بنحو التوصيف أي: توصيف الطهارات بالوجوب الغيري.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه لا فرق بينهما من جهة مرآتية الأمر الغيري للعنوان الخاص المأخوذ فيها، فكما أن قصد أمرها الغيري و جعله غاية و داعيا عنوان مشير إلى العنوان الواقعي المقوم لعباديتها؛ فكذلك جعله وصفا و أخذه بنحو الوصفية، فإن التوصيف أيضا عنوان مشير إلى العنوان الواقعي المقوم لعباديتها.

هذا مع أنهم قائلون: باعتبار إتيان الطهارات بداعي أمرها الغيري، و اعتبروا أخذ الأمر الغيري بعنوان الداعي بحيث لا تصح بدونه، و هذا دليل على أن قصد الأمر الغيري ليس

ص: 128

عناوينها التي تكون بتلك العناوين موقوفا عليها بنحو آخر، و لو بقصد أمرها وصفا لا غاية و داعيا، بل كان الداعي إلى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأمورا بها شيئا آخر غير أمرها إنه غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها، كما لا يخفى.

ثانيهما (1): ما محصله: أن لزوم وقوع الطهارات عبادة، إنما يكون لأجل أن الغرض من الأمر النفسي بغاياتها (2)، كما لا يكاد يحصل بدون قصد التقرب بموافقته؛ كذلك لا يحصل ما لم يؤت بها كذلك (3)، لا باقتضاء أمرها الغيري.

و بالجملة (4): وجه لزوم إتيانها عبادة: إنما هو لأجل أن الغرض في الغايات لا يحصل إلاّ بإتيان خصوص الطهارات من بين مقدماتها أيضا بقصد الإطاعة.

و فيه أيضا (5): أنه غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها.

=============

لأجل كونه عنوانا إجماليا و مرآة للعنوان المقوّم لعباديتها، فحينئذ لا يصح التفصي بالوجه المذكور.

(1) الثاني من وجهي التفصّي عن الإشكال الوارد على الطهارات: توضيحه على ما في «منتهى الدراية ج 2 ص 270»: إن عبادية الطهارات الثلاث ليست للأوامر الغيرية حتى يرد عليها: بأن الأمر الغيري لا يصلح للعبادية؛ بل للأمر النفسي المتعلق بغاياتها كالصلاة و الطواف؛ لكون الغرض من هذه الغايات موقوفا على الإتيان بمقدماتها كنفسها على وجه قربي، فالمصحح لعبادية الطهارات هو الأمر المتعلق بغاياتها كالصلاة و الطواف و نحوهما من المشروطات بالطهارة؛ لا الأمر الغيري.

(2) أي: الطهارات، و الضمير المستتر في - يحصل - عائد إلى الغرض.

(3) أي: ما لم يؤت بالطهارات بقصد التقرب.

(4) خلاصة الجواب و التفصّي الثاني: أن وجه لزوم إتيان الطهارات عبادة - كلزوم إتيان نفس الغايات - إنما هو لأجل أن الغرض في الغايات - أعني: الصلاة و الطواف و نحوهما - لا يحصل إلاّ بإتيان خصوص الطهارات الثلاث - من بين مقدماتها؛ من الستر و الاستقبال - أيضا بقصد الإطاعة، كما يلزم الإتيان بنفس الغايات بقصد الإطاعة.

(5) أي: و فيه أيضا يرد ما ورد على التفصّي الأول من: إنه غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها، أي: على الطهارات، و إن كان وافيا بدفع إشكال لزوم قصد الإطاعة. و وجه عدم وفائه بدفع إشكال ترتب الثواب: إنه لا يمكن أن يكون الأمر الغيري موجبا للثواب.

و ملخص الكلام: إن هذا الوجه لا يدفع الإشكال من كلتا الجهتين: و هما القربة

ص: 129

و أما ما ربما قيل (1): في تصحيح اعتبار قصد الإطاعة في العبادات من الالتزام بأمرين:

=============

و المثوبة؛ بل يدفع إشكال قصد القربة فقط؛ و ذلك لأن الغرض الداعي إلى الأمر بالغايات لما كان بمثابة لا يحصل إلاّ بإتيان خصوص الطهارات الثلاث من المقدمات الخارجية بقصد الإطاعة؛ كإتيان نفس الغايات، فلا بد في سقوط الأمر بالغايات من إتيان الطهارات على وجه العبادة، و الغرض موجب لعبادية الطهارات؛ لا أمرها الغيري، فيندفع إشكال عدم صلاحية الأمر الغيري للمقربية.

و أما إشكال عدم ترتب الثواب على الأمر الغيري: فهو باق على حاله، هذا بخلاف الوجه الذي أفاده المصنف في التفصّي عن الإشكال، فإنه دافع له بكلا شقّيه؛ لكون الأمر النفسي الندبي العبادي المتعلق بالطهارات دافعا للإشكال، من كلتا الجهتين؛ أي: من جهة اعتبار قصد القربة، و من جهة ترتب المثوبة.

ثم إن الفرق بين هذه الوجوه الثلاثة الدافعة لإشكال قصد القربة ظاهر؛ إذ الأول: ناظر إلى نشوء العبادية عن الأمر النفسي الندبي العبادي؛ المتعلق بالطهارات الثلاث، مع الغض عن أمرها الغيري.

و الثاني: ناظر إلى نشوء العبادية عن رجحان الطهارات ذاتا، و كون الأمر الغيري عنوانا مشيرا إلى ذلك العنوان الراجح.

و الثالث: ناظر إلى كون الغرض المترتب على ذي المقدمة مما يتوقف حصوله على إتيان الواجب و بعض مقدماته عبادة، فالعبادية ناشئة عن ذلك الغرض، كما في «منتهى الدراية ج 2، ص 272».

(1) القائل هو الشيخ في التقريرات(1)، و هذا هو الوجه الثالث من وجوه تفصّي التقريرات عن إشكال اعتبار قصد القربة في الطهارات الثلاث.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أنه قد تقدم في بحث التعبدي و التوصلي أن الفرق بينهما إنما هو باعتبار قصد القربة في التعبدي و عدم اعتباره في التوصلي، و قد مر عن بعض: تصحيح نية العبادة و قصد القربة فيها بتعدد الأمر؛ بأن يأمر أولا بذات الصلاة ليتمكن العبد من إتيانها بداعي أمرها، ثم يأمر بإتيانها بقصد امتثال الأمر الأول، و التقرب به إلى الله تعالى.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول في توضيح ما قيل في التقريرات: إنه يمكن جريان ما

ص: 130


1- راجع: مطارح الأنظار، ج 1، ص 351.

أحدهما: كان متعلقا بذات العمل.

و الثاني: بإتيانه بداعي امتثال الأول، لا يكاد (1) يجدي (يجزي) في تصحيح اعتبارها في الطهارات، إذ لو لم تكن بنفسها مقدمة لغاياتها، لا يكاد يتعلق بها أمر من قبل بالغايات، فمن أين يجيء طلب آخر من سنخ الطلب الغيري متعلق بذاتها، ليتمكن به من المقدمة في الخارج.

هذا مع إن (2) في هذا الالتزام ما في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة على ما عرفته مفصلا سابقا، فتذكر.

=============

تقدم في العبادات من تعدد الأمر في الطهارات أيضا ببيان: أن اعتبار الأمرين كاف في دفع إشكال لزوم قصد القربة في الطهارات، و ذلك بتقريب: أن الأمر المقدمي توجه ابتداء إلى الطهارات - و هو المترشح من الأمر بالصلاة - و مقتضى هذا الأمر هو: الإتيان بذوات الطهارات من غير قصد القربة، ثم توجه إليها أمر آخر - بأن يؤت بها بقصد امتثال أمرها الأول - فاعتبار قصد التقرب إنما أتى من ناحية هذا الأمر الثاني؛ لا من ناحية الأمر الأول المقدمي.

(1) هذا جواب «أما» في قوله: «و أما ما ربما قيل...» إلخ. و قد أجاب المصنف عن هذا الوجه من التفصّي بوجهين: الأول: ما أشار إليه بقوله: «لا يكاد يجدي». و الثاني:

ما أشار إليه بقوله: «هذا مع إن في هذا الالتزام».

و حاصل الوجه الأول: أن تعدد الأمر - على تقدير تماميته في تصحيح قصد القربة في العبادات و في الأمر النفسي - لا يتم في تصحيح قصد القربة في الطهارات و في الأمر الغيري؛ إذ المفروض: أن المقدمة هي الطهارات مع قصد أمرها، و مع قصد القربة لا الطهارات بدون قصد القربة، فحينئذ لا يمكن أن يترشح عليها أمر غيري من الأمر بغاياتها أي: من الأمر بالصلاة مثلا لاستلزامه تحصيل ما هو حاصل و هو محال، و ليس هناك طريق آخر لتعلق الأمر الغيري بها؛ بأن يكون بهذا الأمر الغيري ذوات الطهارات مقدمة خارجية، ثم يتوجه إليها أمر ثانوي بحيث يصحح به قصد القربة فيها، فيتمكن المكلف من إتيانها بقصد الأمر الغيري.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الجواب: و قوله: «إذ لو لم تكن...» إلخ تعليل لقوله: «لا يكاد يجدي...» إلخ.

(2) هذا هو الوجه الثاني من الجواب: و حاصله: مضافا إلى عدم جريان تعدد الأمر هنا للقطع بانتفائه؛ أن فيه إشكالا على ما عرفته مفصلا في بحث التعبدي و التوصلي،

ص: 131

الثاني (1): أنه قد انقدح مما هو التحقيق في وجه اعتبار قصد القربة في الطهارات صحتها، و لو لم يؤت بها بقصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها.

=============

ببيان: أن الأمر الأوّلي الترشحي إن كان توصليا: يسقط بمجرد الإتيان بالطهارات، فلا وجه للأمر ثانيا بإتيانها بداعي أمرها. و إن كان تعبديا بأن لا يسقط من غير قصد الأمر:

فالعقل يستقل بلزوم قصده، فكان أمر المولى بها ثانيا لغوا و بلا فائدة. هذا تمام الكلام في التذنيب الأول و توابعه.

في اعتبار قصد التوصل في الطهارات الثلاث و عدم اعتباره

(1) المقصود من عقد هذا التذنيب الثاني هو: إثبات عدم اعتبار قصد التوصل في الطهارات، و تضعيف الدليل الذي أقامه التقريرات على اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمات العبادية على صفة الوجوب.

أما الدليل الذي أقامه صاحب التقريرات على اعتبار قصد التوصل فهو ما حاصله: أن الامتثال مما يتوقف على قصد عنوان الواجب، و قصد عنوان الواجب هنا هو قصد عنوان المقدمية، و قصد عنوان المقدمية مما لا يتحقق بدون قصد التوصل بها إلى ذيها؛ لأن الأمر الذي تعلق بالطهارات غيري حسب الفرض، فلا بد من قصد التوصل إلى الغير في تحقق امتثاله؛ لأن المقصود من الوجوب الغيري هو التوصل إلى الغير.

و أما كلام المصنف في تضعيف هذا الدليل فحاصله: أن صحة المقدمات العبادية كالطهارات الثلاث لا تتوقف على قصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها؛ لأن عبادية الطهارات - بناء على ما حققه المصنف - ذاتية، و هي مصححة لاعتبار قصد القربة فيها، و أنها بما هي كذلك جعلت مقدمة لغاياتها، فيجوز الإتيان بها قبل الوقت بداعي حسنها الذاتي و أمرها الاستحبابي النفسي، كما يجوز الإتيان بها بعد الوقت بداعي أمرها الغيري أيضا، فحينئذ صحتها لا تتوقف على قصد التوصل؛ بل تصح و تتصف بالوجوب و إن لم يأت بها لغاية من الغايات.

و الحاصل: أن للطهارات صور ثلاث:

الأولى: الإتيان بها بقصد التوصل إلى غاية من غاياتها مع الإتيان بها في الخارج، كما لو توضأ للتوصل به إلى الصلاة و صلى.

الثانية: هي نفس الصورة الأولى؛ مع عدم الإتيان بالغاية، كما لو توضأ للصلاة ثم لم يصل.

الثالثة: الإتيان بها لا بقصد التوصل، كما لو توضأ لكونه نورا.

ص: 132

نعم (1)، لو كان المصحح لاعتبار قصد القربة فيها أمرها الغيري، لكان قصد الغاية مما لا بد منه في وقوعها صحيحة، فإن (2) الأمر الغيري لا يكاد يمتثل إلاّ إذا قصد التوصل إلى الغير؛ حيث لا يكاد يصير داعيا إلاّ مع هذا القصد؛ بل (3) في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدمة عبادة، و لو لم يقصد أمرها، بل و لو لم نقل بتعلق الطلب بها أصلا.

=============

إذا عرفت هذه الصور فاعلم: أنه بناء على ما اختاره المصنف من عدم اعتبار قصد التوصل؛ في صحتها، و كفاية كونها مستحبة في نفسها هو: صحة جميع الصور الثلاث، و عدم صحة الصورة الثالثة؛ على القول باعتبار قصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها.

(1) أي: بناء على أن عبادية الطهارات، و اعتبار قصد القربة فيها لأجل أمرها الغيري بأحد التوجيهات المتقدمة من التقريرات؛ لا بد من إتيانها بداعي أمرها الغيري، و هو لا ينفك عن قصد الغاية أي: يكون قصد الغاية داعيا إلى إتيانها بداعي أمرها الغيري؛ و ذلك لعدم تحقق غايتها بدون قصد القربة فيها، فتكون صحتها و اتصافها بالوجوب منوطا بإتيانها بقصد الغاية.

(2) هذا تعليل لاعتبار قصد الغاية في وقوع الطهارات صحيحة، فيكون دليلا على اعتبار قصد الغاية؛ بتقريب: أن عبادية الطهارات لمّا كانت بسبب أمرها الغيري؛ فلا بد - في وقوعها عبادة صحيحة - من قصد التوصل إلى الغاية المشروطة بالطهارة؛ كالصلاة مثلا؛ لأن امتثال الأمر الغيري منوط بقصد تلك الغاية، فإن الأمر الغيري لمّا كان تابعا للأمر النفسي - لتولده منه - فامتثاله أيضا تابع لامتثاله، فالوضوء بقصد التوصل به إلى الصلاة يكون امتثالا للأمر الغيري، و بدون هذا القصد لا يتحقق امتثال الأمر الغيري.

فعلى القول بكون عبادية الطهارات لأجل الأمر الغيري لا محيص عن قصد الغاية؛ لتوقف امتثال الأمر الغيري عليه، كما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 277» مع تصرف ما.

(3) غرضه من هذا الكلام هو: الإضراب عن إناطة العبادية بقصد امتثال الأمر الغيري.

و دعوى: كون المناط في عبادية الطهارات هو: قصد التوصل بها إلى الغايات كالصلاة و الطواف و نحوهما؛ و إن لم يقصد الأمر الغيري المتعلق بالطهارات؛ بل و إن لم نقل بتعلق الأمر الغيري بها.

فحاصل الكلام: أنه إذا كان مصحح عبادية الطهارات أمرها الغيري؛ كان ملاك

ص: 133

و هذا (1) هو السرّ في اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة عبادة؛ لا ما توهم (2) من أن المقدمة إنما تكون مأمورا بها بعنوان المقدمية، فلا بد عند إرادة الامتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان، و قصدها كذلك لا يكاد يكون بدون قصد التوصل إلى ذي المقدمة بها، فإنه (3) فاسد جدا؛ ضرورة: أن عنوان المقدمية ليس بموقوف عليه الواجب، و لا بالحمل الشائع مقدمة له، و إنما كان المقدمة هو نفس المعنونات بعناوينها الأوّلية، و المقدمية إنما تكون علة لوجوبها.

=============

عباديتها في الحقيقة قصد الغاية؛ بلا حاجة إلى قصد الأمر، بل و إن لم نقل بوجود الأمر الترشحي، و كان وجوب المقدمة عقليا محضا.

(1) أي: و كون التوصل إلى الغير ملاك عبادية الطهارات هو السرّ في اعتبار قصد التوصل إلى الغير في وقوع الطهارات عبادة، فإنها لمّا لم تكن عبادة إلاّ بقصد التوصل لزم قصد التوصل.

(2) أي: لا ما توهم - و نسب إلى الشيخ في التقريرات - من أن السرّ في اعتبار قصد التوصل: إنما هو لكون عنوان المقدمة مأمورا به، بحيث يكون موضوع الأمر الغيري عنوان المقدمة. فالوضوء مثلا - بما هو مقدمة - متعلق للأمر الغيري؛ لا بما هو هو، ثم الأمر بالوضوء بما هو لا يمتثل إلاّ بقصد عنوان مقدميته، و هو يتوقف على قصد الغاية كالصلاة، فمتعلق الأمر الغيري - على ما توهم - هو عنوان المقدمة لا عنوان الوضوء، فالآتي بالوضوء بداعي أمره الغيري ناو قهرا عنوان المقدمة، و هو لا ينفك عن قصد الغاية.

(3) أي: ما توهم من: أن سرّ لزوم قصد التوصل «أن المقدمة إنما تكون مأمورا بها بعنوان المقدمية:» - «فاسد جدا» و ذلك لمنع الصغرى - و هي: كون عنوان المقدمة متعلقا للأمر الغيري؛ لأن ما يتوقف عليه ذو المقدمة هو ذات المقدمة لا عنوانها، فإن الأمر الغيري يتعلق بما هو مقدمة بالحمل الشائع كالوضوء؛ لا بما هو مقدمة بالحمل الذاتي كعنوان المقدمة؛ ضرورة: أن الصلاة مثلا تتوقف على نفس الوضوء لا على عنوان مقدميته.

نعم؛ المقدمية جهة تعليلية خارجة عن حيّز متعلق الأمر إنما تكون علة لوجوب المقدمة.

و كيف كان؛ فلا يعتبر قصدها في امتثال الأمر الغيري؛ و إنما يعتبر قصدها إذا كانت من الجهات التقييدية التي لها دخل في متعلقات الأحكام، و هذا هو الفرق بين الجهات التقييدية التي ترد عليها الأحكام، و بين الجهات التعليلية التي هي ملاكات التشريع لا موضوعاتها.

ص: 134

خلاصة البحث مع نظريات المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - تقسيم الواجب إلى النفسي و الغيري باعتبار الدواعي بمعنى: أنه إذا كان الداعي لطلب شيء هو التوصل إلى واجب آخر؛ كان ذلك الشيء واجبا غيريا. و إذا لم يكن الداعي التوصل إلى واجب آخر كان ذلك الشيء واجبا نفسيا.

فالواجب الغيري: ما أمر به لغيره؛ و الواجب النفسي: ما أمره لنفسه. و قد أورد على تعريف الواجب النفسي بما حاصله: أن لازم التعريف المذكور: أن يكون جميع الواجبات الشرعية - ما عدا المعرفة بالله تعالى - من الواجبات الغيرية؛ لأنها مطلوبات لأجل الخواص و الغايات على ما هو الحق عند العدلية؛ من أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح و المفاسد، فتعريف الواجب النفسي لا يكون جامعا، كما أن تعريف الواجب الغيري لا يكون مانعا.

و قد أجاب المصنف عن هذا الإيراد بما حاصله: أن الفوائد المترتبة على الواجب - و إن كانت محبوبة - إلاّ إنها خارجة عن الاختيار، فلا تكون واجبة حتى يقال بكون الواجبات التي تترتب عليها هذه الفوائد واجبات غيرية. هذا ما أشار إليه بقوله: «فإن قلت: نعم...» إلخ، ثم ردّ المصنف هذا الجواب بما حاصله: أن تلك الفوائد و إن كانت خارجة عن القدرة بلا واسطة؛ إلاّ إنها مقدورة مع الواسطة، و المقدور مع الواسطة مقدور، و إلاّ لما صح وقوع التطهير و التمليك و التزويج و الطلاق و العتاق في الشريعة.

فالأولى في الجواب عن أصل الإشكال أن يقال: إن فعل الواجب و إن كان مما يترتب الأثر عليه - إلاّ إنه في نفسه حسن يمدح فاعله و يذم تاركه عقلا، فهو متعلق للإيجاب بما هو كذلك، و لا ينافيه كونه مقدمة لأمر مطلوب واقعا، فلا يتوجه عليه الإشكال إذ فيه كلا الملاكين؛ ملاك الوجوب النفسي، و ملاك الوجوب الغيري.

2 - إن مقتضى إطلاق الهيئة - عند الشك في كون شيء واجبا نفسيا أو غيريا - هو:

كونه واجبا نفسيا؛ لأن الغيرية قيد زائد على نفس الطلب، فيحتاج إلى مئونة زائدة، فعند الشك فيها يرجع إلى الإطلاق الناشئ من مقدمات الحكمة، هذا بخلاف النفسية فإنها ليست زائدة على نفس الطلب حتى تنفى بالإطلاق.

و أما ما في التقريرات: من منع التمسك بالإطلاق، بدعوى: كون معنى الهيئة جزئيا؛ لأن وضعها كوضع الحروف يكون الموضوع له جزئيا، و الجزئي غير قابل للإطلاق

ص: 135

و التقييد، فلا إطلاق هناك حتى يتمسك به؛ ففيه: أن معنى الحروف عند المصنف كلي فيكون قابلا للإطلاق و التقييد، هذا مع إن معنى الهيئة لا بد من أن يكون كليا؛ لأن المنشأ هو مفهوم الطلب الجامع بين النفسي و الغيري، و لكن مقتضى الإطلاق كونه نفسيا. نعم؛ قد يكون الطلب الخارجي داعيا لإنشاء الطلب.

ثم إن مطلوبية الفعل حقيقة لا تنافي مطلوبيته إنشاء؛ لأن النسبة بين الطلب الحقيقي و الطلب الإنشائي هي عموم من وجه، فيجتمعان في إنشاء الطلب بقصد الجدّ؛ كما إذا قال المولى لعبده: «صلّ »، و أراد منه الصلاة حقيقة، فحينئذ يصدق على الصلاة أنها مطلوبة بكلا الطلبين و تتصف بكليهما.

فما في التقريرات خلط بين الطلب المفهومي و الطلب الإنشائي، و لعل منشأ الاشتباه و الخلط هو: تعاريف التعبير عن مفاد الهيئة بالطلب المطلق من دون تقييده بالحقيقي أو الإنشائي، و المطلق ينصرف إلى الطلب الحقيقي لكونه فرده الأكمل، فتوهم من ذكره مطلقا أن مفاد الصيغة هو الطلب الحقيقي، فيكون هذا من اشتباه المفهوم بالمصداق أي:

اشتبه مفهوم الطلب بمصداق الطلب و هو الطلب الحقيقي، فالشيخ في التقريرات أجرى حكم مصداق الطلب - الذي هو عدم إمكان تقييده - على مفهوم الطلب - الذي هو مفاد صيغة الأمر - القابل للتقييد.

ثم عدم تقييد الطلب بالإنشائي إنما هو لوضوح إرادة خصوص الإنشائي؛ لأن الطلب الحقيقي لا يمكن أن ينشأ بصيغة الأمر.

و كيف كان؛ فقد ظهر بما ذكرناه - من كون مفاد الهيئة هو الطلب الإنشائي القابل للإطلاق و التقييد - صحة تقييد مفاد الهيئة بالشرط.

3 - بيان ما هو مقتضى الأصل العملي فيما إذا لم يكن هناك إطلاق أصلا؛ بأن اختلت إحدى مقدمات الحكمة؛ كما إذا لم يكن المولى في مقام البيان، أو كان هناك قدر متيقن في مقام التخاطب، أو قامت قرينة على تعيين ما هو المراد؛ فحينئذ المرجع هو الأصل العملي هل مقتضاه هو الاشتغال فيجب الإتيان بما يتردد بين النفسية و الغيرية، أو البراءة فلا يجب الإتيان به ؟

و التحقيق: أن الأصل العملي يختلف باختلاف الموارد، فقد تتفق نتيجته مع النفسية في مورد، و مع الغيرية في مورد آخر.

المورد الأول: مثل وجوب الوضوء فيما إذا علم أنه نذر، إما الإتيان بالوضوء أو

ص: 136

الصلاة؛ بحيث لو كان هو الوضوء كان وجوبه نفسيا، و إن كان الصلاة كان وجوب الوضوء غيريا فعليه الإتيان بالوضوء؛ سواء كان وجوبه نفسيا أو غيريا، فالنتيجة تتفق مع النفسية.

المورد الثاني: ما إذا لم يكن التكليف بما احتمل كون هذا الواجب مقدمة له فعليا؛ مثل الوضوء قبل وقت الصلاة فلا يجب الإتيان به؛ لأن وجوبه مشكوك بالشك البدوي، فإن وجوبه الغيري معلوم الانتفاء، و وجوبه النفسي مشكوك الحدوث من الأول، فلا محيص عن الرجوع إلى البراءة و نتيجتها تتفق مع الغيرية.

4 - «تذنيبان»:

في بيان ما هو من توابع الواجب النفسي و الغيري.

التذنيب الأول: في ترتب الثواب و العقاب على الواجب الغيري؛ بعد قيام الإجماع على ترتبهما على امتثال الواجب النفسي و مخالفته، ثم وقع الخلاف في كيفية ترتب الثواب على الواجب النفسي بأنه بالاستحقاق أو بالتفضّل، و ظاهر المصنف في الخلاف الأول هو: عدم ترتب الثواب على الواجب الغيري، و بالاستحقاق في الخلاف الثاني.

نعم؛ لا بأس باستحقاق العقاب على الواجب النفسي من حين ترك مقدمته، و بزيادة الثواب على الموافقة فيما إذا كانت للواجب مقدمات كثيرة، و أتى بها بما هي مقدمات له؛ إلاّ إن زيادة الثواب على الواجب حينئذ من باب أنه يصير من أفضل الأعمال حيث صار أشقها - و في الرواية: «إن أفضل الأعمال أحمزها»، فالأفضل يليق بزيادة الثواب، لكن الثواب حقيقة إنما هو على موافقة الأمر النفسي الذي هو الأشق و الأفضل.

و على هذا - أي: ترتب الثواب على الواجب النفسي مع كثرة مقدماته - ينزّل ما ورد في الأخبار من الثواب على بعض المقدمات، و قد عرفت تفصيل ذلك.

و كيف كان؛ فالثواب يترتب على الأمر النفسي؛ لأنه يوجب قربا إلى الله تعالى، و امتثال الأمر الغيري لا يوجب قربا حتى يترتب عليه الثواب.

إشكال و دفع: أما خلاصة الإشكال فيقال: كيف لا يترتب الثواب على الأمر الغيري، و هو يترتب على الطهارات الثلاث مع كونها من المقدمات ؟ و هناك إشكال اعتبار قصد القربة في الطهارات مع إن أمرها غيري، و الأمر الغيري توصلي لا يعتبر فيه قصد القربة، فهناك إشكالان: ترتب الثواب عليها، و اعتبار قصد القربة فيها مع كون

ص: 137

أمرها غيريا، و قد عرفت: إن الأمر الغيري لا يترتب عليه الثواب، و لا يعتبر فيه قصد القربة فكيف يترتب عليها الثواب و يعتبر فيها قصد القربة ؟

و حاصل الدفع عن الإشكال الأول: أن الطهارات الثلاث - مع قطع النظر عن تعلق الأمر الغيري بها - عبادات مستحبة، فترتّب الثواب عليها إنما هو لأجل أمرها الاستحبابي.

أما دفع الإشكال الثاني: - اعتبار قصد القربة فيها - فيندفع بأنها بما هي عبادات جعلت مقدمة لعبادة أخرى، فيعتبر في صحتها قصد القربة لكونها من العبادات لا لاقتضاء الأمر الغيري؛ حتى يقال: إن الأمر الغيري لا يعتبر فيه قصد القربة.

و هناك وجهان آخران: قد تفصّي بهما عن إشكال اعتبار قصد القربة في الطهارات، مع إنها من المقدمات، و قد أشار إليهما بقوله: «و قد تفصي عن الإشكال بوجهين آخرين».

و ملخص الوجه الأول: إن اعتبار قصد القربة ليس لأجل الأمر الغيري المقدمي؛ بل لأجل المقدمة العبادية هي مقدمة لا مطلقا بل بعنوانها الخاص، و حيث لا طريق لإحراز ذلك العنوان إلاّ الإتيان بالمقدمة بقصد أمره الغيري فيكون قصد أمرها الغيري إشارة إجمالية إلى العنوان الخاص المأخوذ فيها.

و قد أجاب المصنف عن هذا الوجه بجوابين: الأول: أن هذا الوجه من التفصّي على تقدير تسليم كونه وافيا بدفع إشكال عبادية الطهارات، لكنه لا يفي بدفع الإشكال من ناحية ترتب الثواب عليها؛ لأن الأمر الغيري لا يترتب عليه الثواب.

فيبقى إشكال أنه كيف يترتب الثواب على الأمر الغيري ؟

أما الوجه الثاني من الجواب: فهو أن يقال: أنه لو كان وجه اعتبار قصد الأمر في الطهارات هو الإشارة إلى العنوان الخاص لجازت الإشارة إليه بقصد الأمر وصفا؛ بأن ينوي الوضوء مثلا بأن يقال حينما يتوضأ: أتوضأ بالوضوء الواجب بالوجوب الغيري، و لو كان الداعي شيئا آخر مثل التبريد و التنظيف، فإن التوصيف أيضا إشارة إلى العنوان الخاص المأخوذ فيها، فيكون عنوانا مشيرا إلى العنوان الخاص المقوّم لعبادية الطهارات، فلا يكون الطريق منحصرا في جعل قصد الأمر غاية و داعيا، مع إن المتعارف بين العلماء هو الحصر أعني: اعتبار قصد الأمر الغيري داعيا و غاية لا وصفا، فيكون هذا منهم دليلا على إن قصد الأمر الغيري ليس لأجل كونه عنوانا اجماليا و مرآة للعنوان المقوّم لعباديتها،

ص: 138

فلا يصح التفصي بالوجه المذكور. هذا تمام الكلام في الجواب عن التفصي بالوجه الأول.

أما الوجه الثاني: من التفصي فحاصله: إن عبادية الطهارات الثلاث ليست للأوامر الغيرية حتى يرد عليها: بأن الأمر الغيري لا يصلح للعبادية؛ بل للأمر النفسي المتعلق بغاياتها كالصلاة و الطواف؛ لأن الغرض من هذه الغايات موقوفا على الإتيان بمقدماتها كنفسها على وجه قربي، فالمصحح لعبادية الطهارات هو: الأمر المتعلق بغاياتها من المشروطات بالطهارة لا لأجل الأمر الغيري.

و حاصل الجواب عن هذا التفصّي: أنه غير واف بدفع إشكال ترتب الثواب عليها إذ لا يترتب الثواب على الأمر الغيري.

و أما ما قيل من تصحيح عبادية الطهارات الثلاث بالتزام أمرين: بأن يقال: إن الأمر الأول توجه إليها ابتداء و هو المترشح من الأمر بالصلاة، ثم توجه إليها أمر آخر بأن يؤتى بها بقصد امتثال أمرها الأول فلا يكاد يجدي.

و حاصل الجواب: أن تعدد الأمر - على فرض تماميته في تصحيح قصد القربة في العبادات - لا يتم في تصحيح قصد القربة في الطهارات الثلاث؛ إذا المفروض: أن المقدمة هي الطهارات مع قصد أمرها، فحينئذ لا يمكن أن يترشح عليها أمر غيري من الأمر بغاياتها؛ لاستلزامه تحصيل الحاصل و هو محال. هذا مع إن تعدد الأمر مقطوع الانتفاء و ليس لنا دليل على ذلك.

5 - «التذنيب الثاني»: في اعتبار قصد التوصل في الطهارات الثلاث، غرض المصنف من عقد هذا التذنيب هو: تضعيف الدليل على اعتباره، و خلاصة الدليل على اعتبار قصد التوصل: أن الامتثال مما يتوقف على قصد عنوان الواجب، و قصد عنوان الواجب هنا هو قصد عنوان المقدمية، و هو لا يتحقق بدون قصد التوصل بها إلى ذيها.

وجه التضعيف: أنه يكفي الإتيان بها بداعي حسنها الذاتي و أمرها الاستحبابي النفسي، فلا يعتبر فيها قصد التوصل و قصد المقدمية.

6 - نظريات المصنف «قدس سره»:

1 - الواجب الغيري: ما يكون وجوبه لمحض كونه مقدمة لواجب نفسي، بخلاف الواجب النفسي حيث يمكن فيه اجتماع كلا الملاكين كما عرفت.

2 - أن مقتضى الأصل اللفظي عند الشك في النفسية و الغيرية هو: الرجوع إلى

ص: 139

الأمر الرابع: (1) في أن وجوب المقدمة يتبع في الإطلاق و الاشتراط وجوب ذي المقدمة
اشارة

لا شبهة في أن وجوب المقدمة - بناء على الملازمة - يتبع (2) في الإطلاق و الاشتراط وجوب ذي المقدمة، كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا.

=============

الإطلاق، و مقتضاه: كون الشيء واجبا نفسيا. و عند فقد الأصل اللفظي يختلف مقتضى الأصل العملي بحسب الموارد - فمقتضاه الاشتغال فيما إذا كان وجوب ما احتمل كونه مقدمة له فعليا، و البراءة فيما إذا لم يكن وجوبه فعليا على تقدير كونه واجبا غيريا.

3 - ترتب الثواب و العقاب على الواجبات النفسية دون المقدمات و الواجبات الغيرية.

4 - عدم اعتبار قصد التوصل في صحة الطهارات الثلاث.

(1) هذا الأمر يكون من الأمور التي لا بد من بيانها في مبحث مقدمة الواجب قبل الخوض في المقصود، حيث قال المصنف: «و قبل الخوض في المقصود ينبغي رسم أمور:

الأمر الأول: أن المبحوث عنه في هذه المسألة هو البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته، فتكون مسألة أصولية؛ لا عن نفس وجوبها كي تكون فرعية.

الأمر الثاني: هو تقسيم المقدمة إلى تقسيمات.

الأمر الثالث: في تقسيمات الواجب:

و هذا الأمر الرابع في تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق و الاشتراط؛ بناء على الملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها، و المصنف يقول: بالتبعية بمعنى: أنه إذا كان وجوب ذيها مطلقا: يكون وجوب مقدمته أيضا كذلك. و إن كان مشروطا: كان وجوبها كذلك، فكل ما هو شرط و قيد للوجوب النفسي الثابت لذيها فهو شرط و قيد للوجوب الغيري أعني: وجوب المقدمة؛ لأن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها، فكل ما يكون شرطا و قيدا للوجوب النفسي فهو شرط للوجوب الغيري؛ لأن الوجوب المعلولي تابع للوجوب العلي في الإطلاق و الاشتراط.

هذا ما أشار إليه بقوله: «لا شبهة في أن وجوب المقدمة - بناء على الملازمة - يتبع في الإطلاق و الاشتراط وجوب ذي المقدمة كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا». و قد تقدمت الإشارة إلى ما ذكره في أوائل الأمر الثالث، فراجع.

(2) أي: إذا كان الواجب مشروطا فمقدمته كذلك مثل: الحج مثلا، حيث يجب بالاستطاعة، فالسير - و هو مقدمة الحج - يكون مشروطا، و إذا كان الواجب مطلقا كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة: فإن الصلاة واجب مطلقا و الطهارة كذلك؛ و ذلك لما

ص: 140

عرفت من: أن وجوب المقدمة من آثار وجوب ذيها، و الأثر يتبع المؤثر، و حيث إن وجوب الصلاة مثلا لا يعقل أن ينوط بإرادتها؛ للزوم تبدل الوجوب بالإباحة، كذلك وجوب الوضوء لا يناط بإرادة الصلاة؛ إذ لا يعقل ترشح الوجوب المشروط بالإرادة عن الوجوب غير المنوط بها.

و حاصل ما في هذا الأمر الرابع: أنه قد وقع الخلاف في أن وجوب المقدمة على القول به هل يكون مختصا بالمقدمة الموصلة، أي التي قصد بها الإيصال أو لا يختص؛ بل الواجب هو مطلق المقدمة ؟ فهنا أقوال:

الأول: هو القول بكونها تابعة لذيها من حيث الإطلاق و الاشتراط. هذا هو مختار المصنف «قدس سره».

الثاني: ما نسب إلى صاحب المعالم من: أن وجوب المقدمة مشروط بإرادة الإتيان بذي المقدمة، و عليه: فتكون إرادة الإتيان بذي المقدمة شرطا لوجوب المقدمة لا قيدا للواجب.

الثالث: ما نسب إلى الشيخ من: أن الواجب هو الحصة الخاصة من المقدمة و هي ما قصد به الإيصال إلى ذي المقدمة.

الرابع: ما نسب إلى الفصول من: أن الواجب هو خصوص الموصلة منها التي يترتب عليها ذو المقدمة، و الفرق بين قول صاحب المعالم و قول الشيخ إنما هو في نقطة واحدة؛ و هي: أن القصد على قول صاحب المعالم قيد للوجوب، و على قول الشيخ قيد للواجب.

و النسبة بين القول الثالث و الرابع هي: عموم من وجه، لصدقهما على المقدمة التي قصد بها التوصل إلى ذيها و كانت موصلة، و افتراق القول الثالث: فيما إذا كانت المقدمة مما قصد به التوصل، و لكن لا تكون موصلة لوجود مانع عن إتيان ذي المقدمة في الخارج. و افتراق القول الرابع عن الثالث: فيما إذا كانت المقدمة موصلة، و لكن لم يكن المقصود بها التوصل بها إلى ذيها؛ كما إذا أتى المكلف بالمقدمة لا بقصد التوصل بها إلى ذيها، ثم بدا له الامتثال و فعل الواجب - كما في مثل الحج - إذا سافر إلى مكة للسياحة فاتفق الموسم، ثم بدا له إتيان الحج فحج فهو مجز بالإجماع، و الجامع بين الأقوال الثلاثة الأخيرة: أن المقدمة لا تكون تابعة لذيها في الإطلاق و الاشتراط.

و قيل: إن الغرض من تصوير المقدمة الموصلة هو تصحيح العبادة التي تكون ضدا

ص: 141

و لا يكون مشروطا بإرادته (1)، كما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم «رحمه الله» في بحث الضد، قال: «و أيضا فحجة القول بوجوب المقدمة - على تقدير تسليمها - إنما تنهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر».

=============

لواجب أهم، كالصلاة التي تكون ضدّا للازالة فإنه قد يتوهم: أن ترك الضد العبادي مقدمة للواجب الأهم، فيكون واجبا فيكون فعله حراما، فحينئذ كيف يقع عبادة صحيحة مع إن النهي فيها يدل على الفساد؟ فمقصود الشيخ و صاحبي المعالم و الفصول من هذه التفاصيل التي أحدثوها في هذا المقام إنما هو: تصحيح العبادة التي تكون ضدا لواجب أهم، كالصلاة التي تكون ضدّا للإزالة فيقال دفعا للإشكال: إن ترك الصلاة و إن كان مقدمة للواجب - و هو الإزالة - إلاّ إنه ليس مقدمة موصلة، فلا يكون تركها واجبا و لا فعله حراما حتى يقال: إن المحرم لا يصلح أن يقع عبادة فتقع الصلاة صحيحة.

فصاحب المعالم حيث اختار اشتراط وجوب المقدمة بإرادة ذيها قال بصحة الصلاة لوجود الصارف عن الإزالة، و عدم إرادة ذيها، إذ حينئذ لا يكون تركها واجبا حتى يكون فعلها حراما و منهيا عنه حتى يقال بفساد الصلاة، لأن النهي في العبادة يدل على الفساد. و تفصيل ذلك سيأتي في بحث الضد إن شاء الله فانتظر.

و الشيخ اعتبر في وجوب المقدمة قصد التوصل بها إلى ذيها، و لازم ذلك: عدم وجوب ترك الصلاة عند الإتيان بها. و أما عدم وجوب الصلاة على قول صاحب الفصول فهو أمر واضح؛ لأن تركها و إن كان مقدمة للإزالة إلاّ إنه ليس موصلا إلى الإزالة عند إتيان المكلف بالصلاة، فتقع الصلاة صحيحة على جميع هذه الأقوال.

(1) أي: لا يكون وجوب المقدمة مشروطا بإرادة ذي المقدمة، «كما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم» أي: كما يوهم كون وجوب المقدمة مشروطا بإرادة ذيها ظاهر عبارة صاحب المعالم في بحث الضد حيث قال: «و أيضا فحجة القول بوجوب المقدمة...» إلخ. و مضمون هذه الحجة المذكورة في مقدمة الواجب عند من استدل بها على وجوب مقدمة الواجب: أنه لو لم يستلزم الأمر بالصلاة وجوب الطهارة مثلا جاز تركها، فلو بقيت الصلاة على وجوبها لزم التكليف بالمحال، و إن خرجت عن وجوبها لزم الخلف؛ أي: صيرورة الواجب المطلق واجبا مشروطا بالطهارة، و التالي بكلا قسميه باطل، فالمقدم مثله و النتيجة هي: أن الأمر بالصلاة يستلزم وجوب الطهارة، و قال

ص: 142

و أنت خبير (1): بأن نهوضها على التبعية واضح لا يكاد يخفى، و إن كان نهوضها (2) على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة، كما لا يخفى.

=============

صاحب المعالم في ردّ هذه الحجة في بحث الضد «إن هذه الحجة - على تقدير تسليمها - يكون دليلا على وجوب المقدمة في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر»(1).

و هذا الكلام من صاحب المعالم ظاهر في اشتراط وجوب المقدمة بإرادة ذيها؛ بمعنى:

أنه لو لم يرد المكلف فعل ذي المقدمة لم تجب المقدمة، بل كان إيجابها لغوا، لأن إيجابها إنما هو للتوصل، و مع الصارف لا توصل قطعا.

و كيف كان؛ فوجوب المقدمة مشروط بالإرادة و إن كان وجوب ذيها مطلقا، فلا تبعية بين وجوبها و وجوب ذيها، فيكون هذا على خلاف ما ذهب المصنف إليه من التبعية.

(1) هذا من المصنف ردّ على صاحب المعالم و حاصل الردّ: أن دلالة تلك الحجة على وجوب المقدمة و الملازمة و إن لم تكن واضحة إلاّ إن دلالتها على التبعية واضحة؛ لأن الملاك و العلة التامة في وجوب المقدمة هو توقف ذيها عليها؛ بحيث يمتنع وجوده بدون المقدمة، و هذا الملاك مستمر سواء أراد الإتيان بالواجب أم لا، فلا بد حينئذ من وحدة وجوبي المقدمة و ذيها من حيث الإطلاق و الاشتراط.

(2) أي: و إن كان نهوض الحجة على أصل الملازمة بين وجوب المقدمة، و وجوب ذيها لم يكن بهذه المثابة من الوضوح.

و كيف كان؛ فنهوض الحجة على التبعية في الإطلاق و الاشتراط أوضح من نهوضها على أصل الملازمة، فما هو ظاهر كلام صاحب المعالم من: أن وجوب المقدمة مشروط بإرادة ذيها و ليس تابعا لوجوب ذيها في الإطلاق و الاشتراط في غير محله؛ لأن ملاك حكم العقل بوجوب المقدمة، هو كون الشيء مقدمة، و لا تكون إرادة ذي المقدمة سببا لحكم العقل بوجوب المقدمة، و لا قصد التوصل علة لوجوبها عند العقل، و لا ترتب ذي المقدمة عليها سببا لحكم العقل بوجوبها؛ بل حكم العقل بوجوب المقدمة إنما يكون لأجل عنوان المقدمية و لأجل التوقف. هذا تمام الكلام في قول صاحب المعالم.

ص: 143


1- معالم الدين، ص 200.

و هل يعتبر (1) في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها بداعي التوصل بها إلى ذي المقدمة، كما يظهر مما نسبه إلى شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - بعض أفاضل مقرّري بحثه ؟

أو ترتب ذي المقدمة عليها (2)؛ بحيث لو لم يترتب عليها لكشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب، كما زعمه صاحب الفصول «قدس سره»، أو لا يعتبر في وقوعها (3) كذلك شيء منهما.

الظاهر (4): عدم الاعتبار. أما عدم اعتبار قصد التوصل: فلأجل أن الوجوب لم

=============

اعتبار قصد التوصل

(1) هذا إشارة إلى ما هو مختار الشيخ في وجوب المقدمة من اعتبار قصد التوصل بها إلى ذيها في وجوبها، فالواجب هو: خصوص المقدمة المقصودة بها التوصل دون غيرها، فلا تكون واجبة فيما إذا أتى بها لا بداعي التوصل بها إلى ذيها.

(2) أي: على المقدمة. هذا إشارة إلى ما هو مختار صاحب الفصول من: أن ترتب الواجب في الخارج على مقدمته شرط لاتصاف المقدمة بالوجوب، فالواجب هو:

خصوص المقدمة الموصلة إلى ذيها؛ قصد التوصل بها إلى ذيها أم لم يقصد.

(3) أي: أو لا يعتبر في وقوع المقدمة على صفة الوجوب شيء من قصد التوصل أو التوصل الخارجي.

(4) الظاهر عند المصنف هو: عدم الاعتبار أي: لا يعتبر في وجوب المقدمة إرادة ذيها، و لا يعتبر في وجوبها قصد التوصل بها إلى ذيها، و لا ترتب ذيها عليها.

و الحق عند المصنف هو: عدم الاعتبار. و أما اعتبار إرادة ذي المقدمة في وجوبها - كما هو ظاهر عبارة صاحب المعالم - فيرد عليه:

أولا: أنه خلاف الوجدان؛ إذ ملاك حكم العقل بوجوب المقدمة هو: عنوان المقدمية أي: كون شيء مقدمة، سواء أراد المكلف بفعلها فعل ذيها أم لا.

و ثانيا: أن شأن التكليف أن يكون داعيا للإرادة إلى فعل المكلف به، فلا يكون التكليف منوطا بالإرادة.

و أما اعتبار قصد التوصل بها إلى ذيها - كما هو مختار الشيخ - فيرد عليه:

أولا: بأنه مستلزم للدور بتقريب: أن قصد التوصل موقوف على المقدمية؛ إذ لا معنى لقصد التوصل بغير المقدمة، فلو توقفت المقدمية على القصد المزبور لزم الدور.

و ثانيا: أن الغرض من وجوب المقدمة - في نظر العقل الحاكم بالملازمة بين وجوب

ص: 144

يكن بحكم العقل إلاّ لأجل المقدمية و التوقف، و عدم دخل قصد التوصل فيه (1) واضح، و لذا (2) اعترف بالاجتزاء بما لم يقصد به ذلك في غير المقدمات العبادية لحصول (3) ذات الواجب، فيكون (4) تخصيص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصل من المقدمة بلا مخصص (5)...

=============

المقدمة و وجوب ذيها - هو: التمكن من الإتيان بالواجب؛ إذ المفروض: توقف وجود الواجب على المقدمة، و من الواضح: أن هذا التمكن يتحقق من دون دخل لقصد التوصل إلى ذي المقدمة في التوقف و المقدمية أصلا؛ لأن الموقوف عليه هو ذات المقدمة كالوضوء مثلا فإنه بذاته مقدمة للصلاة، من دون دخل لقصد التوصل فيه.

فمتعلق الوجوب الغيري هو: ذات المقدمة بما هي هي لا بوصف قصد التوصل بها إلى ذيها. و أما اعتبار ترتب ذي المقدمة على المقدمة - كما عن الفصول - فسيأتي ردّ المصنف عليه فانتظر.

(1) في التوقف. أي: عدم دخل قصد التوصل في توقف الواجب على المقدمة واضح؛ لأن ما يتوقف عليه الواجب هو ذات المقدمة لا قصد التوصل بها إلى ذيها.

(2) أي: لأجل عدم دخل قصد التوصل في التوقف و المقدمية. اعترف الشيخ في التقريرات «بالاجتزاء بما» أي: بالمقدمة المأتي بها، التي «لم يقصد به ذلك» أي: التوصل، لكن «في غير المقدمات العبادية» كالستر بالنسبة إلى الصلاة، و قطع الطريق بالنسبة إلى الحج، فيكون تخصيص صفة الوجوب بالمقدمة التي قصد بها التوصل بلا مخصص.

(3) قوله: «الحصول...» إلخ تعليل «للاجتزاء بما لم يقصد به التوصل».

(4) قوله: «فيكون» تفريع على عدم دخل قصد التوصل في المقدمية.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن كل ما يعتبر في الواجب من القيد لا بد و أن يكون لأجل دخله في الملاك، و إلاّ يلزم أن يكون الملاك أوسع من الحكم و هو ممتنع؛ لأن الحكم تابع للملاك سعة و ضيقا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الملاك في وجوب المقدمة هو التوقف و المقدمية، و أما قصد التوصل فلا دخل له في ملاك الحكم بوجوب المقدمة، فلو اعتبر قصد التوصل في الواجب أي: المقدمة، مع عدم دخله في الملاك - حسب الفرض - لزم أن يكون الملاك أوسع دائرة من الحكم بوجوب المقدمة، و لازمه: ثبوت الملاك بدون الحكم، و هو ممتنع.

(5) أي: أن المفروض: أن ملاك الوجوب هو التوقف و المقدمية، المتحقق في صورتي قصد التوصل و عدمه، فحينئذ يكون تخصيص الوجوب الغيري بالمقدمة المقيدة بقصد التوصل بلا مخصص؛ لأنه إدخال ما ليس من شئون التوقف بلا وجه.

ص: 145

فافهم (1).

نعم (2)؛ إنما اعتبر ذلك في الامتثال، لما عرفت (3) من: إنه لا يكاد يكون الآتي بها

=============

امتناع اعتبار قصد التوصل في المقدمة

امتناع اعتبار قصد التوصل في المقدمة(1) لعله إشارة إلى: أنه كما أن الإرادة التكوينية تتعلق بذات المقدمة لا بخصوص المقصود بها التوصل، فكذلك الإرادة التشريعية إنما تتعلق بذات المقدمة؛ إذ لا فرق بينهما من هذه الناحية.

أو إشارة إلى: امتناع دخل قصد التوصل في وجوب المقدمة و ذلك لوجهين:

أحدهما: أن دخل القصد المذكور يوجب صيرورة المقدمة المقيدة به واجبة الوجود بالعرض و هو: وجوب قصد التوصل، و بعد وجوبه يمتنع تعلق الوجوب الغيري به؛ للزوم طلب الحاصل، إذ الغرض من الأمر: إحداث الداعي في العبد لإيجاد متعلقه، و بعد وجود الداعي - و هو قصد التوصل - لا معنى للبعث الموجب لحدوث الداعي.

ثانيهما: لزوم صيرورة الواجب النفسي مباحا، حيث إن دخل قصد التوصل بالمقدمة إلى ذيها مترتب على إرادة ذي المقدمة؛ لكون وجوبها معلولا لوجوب ذيها، فيلزم أن يكون وجوب ذيها مترتبا على إرادته، فبدون الإرادة لا وجوب له و هو كما ترى؛ كما في «منتهى الدراية، في هامش صفحة 288 من ج 2».

و قيل: إنه إشارة إلى ضعف نسبة هذا القول إلى الشيخ؛ إذ ذهب في الطهارة إلى ما يوافق مذهب المصنف حيث قال ما حاصله: إن قصد القربة اللازم في المقدمات إن كان بلحاظ أمرها الغيري يلزم قصد التوصل فيها، حيث إنه لا يعد اطاعة لذلك الأمر الغيري إلاّ بهذا القصد، و إن كان ذلك باعتبار رجحانها الذاتي - لا بلحاظ وجوبها المقدمي - لا حاجة إلى قصد التوصل في صحته، و اتصافه بالوجوب. انتهى(1).

(2) قوله: «نعم...» إلخ استدراك على عدم دخل قصد التوصل في الواجب و حاصله: أنه اعتبر قصد التوصل في مقام الامتثال، و في إطاعة الأمر الغيري.

(3) لما عرفت في التذنيب الثاني: «من أنه لا يكاد يكون الآتي» بالمقدمة بدون قصد التوصل ممتثلا لأمرها المقدمي.

و حاصل الكلام في المقام: أن قصد التوصل و إن لم يكن معتبرا و قيدا في الواجب لكنه دخيل في حصول امتثال الأمر الغيري؛ بمعنى: أن الآتي بالمقدمة بلا قصد التوصل لا يكون ممتثلا لأمرها الغيري المقدمي، و كذلك لا يكون الآتي بها بلا قصد التوصل شارعا في امتثال الأمر بذي المقدمة حتى يثاب المكلف بثواب الأعمال بإتيانه مقدمة

ص: 146


1- طهارة الشيخ ص 86 الركن الثاني في كيفية نية الوضوء. نقلا عن الوصول إلى كفاية الأصول ج 3، ص 131.

بدونه ممتثلا لأمرها، و آخذا في امتثال الأمر بذيها، فيثاب بثواب أشق الأعمال، فيقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب، و لو لم يقصد به التوصل كسائر الواجبات التوصلية، لا على حكمه السابق الثابت له لو لا عروض صفة توقف الواجب الفعلي المنجز عليه، فيقع (1) الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان مقدمة لإنقاذ غريق، أو إطفاء حريق واجب فعلي لا حراما، و إن لم يلتفت إلى التوقف و المقدمية.

=============

الواجب مع الواجب، فقصد التوصل ليس قيدا في الواجب؛ و إنما هو شرط في إطاعة الأمر الغيري كسائر الواجبات التوصلية، التي لا يتوقف وجوبها على قصد امتثال أوامرها؛ بل هي واجبة و لو مع عدم القصد إلى أوامرها عند الإتيان بها، و إنما يكون القصد المذكور دخيلا في ترتب الثواب عليها.

فكذا حال المقدمة فإنها واجبة و لو مع عدم قصد التوصل؛ لأن مناط الوجوب هو عنوان المقدمية، فلا دخل لقصد التوصل في عروض صفة الوجوب على المقدمة، بل له دخل في ترتب الثواب عليها، فيقع الفعل المقدمي المجرد عن قصد التوصل على صفة الوجوب؛ لوجود ملاك الوجوب و هو: عنوان المقدمية.

و قوله: «فيقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب» متفرع على عدم دخل قصد التوصل في اتصاف المقدمة بالوجوب، بل هي واجبة و لو مع عدم القصد إلى الإتيان بها بداعي أمرها، فإنها لمّا كانت من الواجبات التوصلية فيجري عليها حكم سائر الواجبات التوصلية من حيث عدم توقف اتصافها بالوجوب على قصد امتثال أوامرها، نعم؛ إنما قصد امتثال أمر المقدمة دخيل في تحقق ترتب الثواب عليها.

(1) أي: فيقع هذا «الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان مقدمة لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق واجب».

قوله: «واجب» صفة لكل من (إنقاذ - و إطفاء).

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن كل واحد من إنقاذ غريق و إطفاء حريق على قسمين:

أحدهما: أن يكون الإنقاذ أو الإطفاء واجبا، كما إذا كان الغريق أو المحروق مؤمنا.

ثانيهما: أن لا يكون الإنقاذ أو الإطفاء واجبا، كما إذا كان الغريق أو المحروق كافرا مهدور الدم.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن إنقاذ غريق أو إطفاء حريق إذا كان واجبا فعليا منجزا - كما هو في القسم الأول - وجبت مقدمته كالدخول في أرض مغصوبة؛ حيث

ص: 147

غاية الأمر: يكون (1) حينئذ متجرئا فيه، كما أنه مع الالتفات يتجرأ بالنسبة إلى ذي المقدمة، فيما لم يقصد التوصل إليه أصلا.

=============

يكون الدخول في الأرض المغصوبة مقدمة للواجب، فيكون واجبا لا حراما؛ و إن لم يلتفت إلى التوقف و المقدمية لعدم دخل التفات المكلف إلى توقف الواجب عليه في مقدميته؛ لأن ملاك وجوب المقدمة هو: التوقف التكويني الذي لا دخل للالتفات - فضلا عن القصد - فيه، كما لا يخفى. هذا بخلاف القسم الثاني حيث إن الدخول في الأرض المغصوبة باق على حرمته - لعدم كونه مقدمة للواجب - لأن المفروض حينئذ هو:

عدم وجوب الإنقاذ أو الإطفاء.

الاحتمالات في دخول أرض الغير من دون إذن صاحبها

(1) أي: غاية الأمر: يكون الشخص الداخل - حين عدم الالتفات إلى التوقف و المقدمية - «متجرئا فيه» أي: في الدخول، لأنه باعتقاده يرتكب الحرام، «كما أنه مع الالتفات» إلى توقف الإنقاذ على الدخول «يتجرأ بالنسبة إلى ذي المقدمة» أي: الإنقاذ «فيما لم يقصد التوصل إليه أصلا»؛ بأن دخل الأرض المغصوبة عالما بالغريق، بانيا و قاصدا على عدم إنقاذه ثم أنقذه، فإن بناءه كان تجريا، و إنما قلنا: بأنّه أنقذه، لأنه لو لم ينقذه أصلا كان فاعلا للحرام القطعي، و قد يجتمع التجري بالنسبة إلى المقدمة، و التجري بالنسبة إلى ذي المقدمة؛ و ذلك فيما لو علم بالغريق، و كان بناؤه على عدم إنقاذه، ثم دخل الأرض و لم يكن ملتفتا إلى توقف الإنقاذ على الدخول، و كان عالما بغصبية الأرض.

«و أما إذا» التفت إلى حرمة الأرض، و علم بالغريق و بتوقف الإنقاذ على الدخول، و «قصده» أي: قصد التوصل بهذا الدخول إلى الإنقاذ، «و لكنه لم يأت بها» أي:

بالمقدمة «بهذا الداعي» أي: بداعي الإنقاذ فقط؛ «بل» دخل «بداع آخر»؛ كما إذا دخل بستان الغير لا بداعي التوصل به إلى إنقاذ الغير؛ بل بداعي السياحة في البستان و لكن «أكده» أي: أكد هذا الداعي أي: الداعي بقصد السياحة أكده بقصد التوصل بالدخول إلى الإنقاذ، فلا يكون حينئذ متجريا بالنسبة إلى الواجب أصلا.

و كيف كان؛ فإذا كان ملتفتا إلى الواجب، و كان من قصده التوصل إليه، و لكنه أتى بالمقدمة بداعي شيء آخر، و جعل قصد التوصل مؤكدا له لم يتحقق التجرّي، ففي صورة تساوي الداعيين، و كون الأمر الخارجي مؤكدا لقصد التوصل لا يتحقق التجري بطريق أولى؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 2، ص 134» مع توضيح و تصرف منّا.

و أما تفصيل ذلك فيحتاج إلى ذكر الاحتمالات و الأقوال: أما الاحتمالات فهي أربعة:

ص: 148

و أما إذا قصده و لكنه لم يأت بها بهذا الداعي؛ بل بداع آخر أكده بقصد التوصل، فلا يكون متجرئا أصلا.

و بالجملة: يكون التوصل بها (1) إلى ذي المقدمة من الفوائد المترتبة على المقدمة الأول: أن لا يكون المكلف الداخل في أرض الغير - بدون إذنه - ملتفتا إلى توقف الواجب الفعلي على الدخول.

=============

الثاني: أن يكون ملتفتا إلى ذلك، و عليه: تارة: يقصد التوصل به مع انحصار الداعي فيه و هو إنقاذ الغريق. و أخرى: مع تعدد الداعي؛ بأن يكون الداعي هو السرقة أو السياحة في البستان، مع قصد التوصل بالدخول إلى إنقاذ الغريق؛ بأن يكون الثاني مؤكدا للأول. و ثالثة: بأن لا يقصد التوصل أصلا.

و أما الأقوال فهي ثلاثة:

الأول: هو وجوب الدخول واقعا على جميع الاحتمالات؛ لكونه مقدمة للواجب، غاية الأمر: يكون المكلف متجرئا ظاهرا حسب الاحتمال الأول؛ لأنه دخل في الأرض المغصوبة باعتقاد الحرمة، فأتى بما هو واجب واقعا باعتقاد حرمته؛ إذ المفروض: عدم التفاته إلى توقف الواجب عليه. هذا هو المشهور، و مختار المصنف «قدس سره».

الثاني: هو مذهب الشيخ الأنصاري حيث يقول باعتبار قصد التوصل بالمقدمة إلى ذيها في وقوعها على صفة الوجوب، فإن اعتبر استقلال قصد التوصل بها إلى ذيها كان الدخول حراما و معصية حسب الاحتمال الأول و الثالث و الرابع؛ لانتفاء قصد التوصل في الأول و الرابع، و انتفاء استقلاله في الثالث. و واجبا حسب الاحتمال الثاني. و أما لو لم يعتبر في وجوب المقدمة استقلال قصد التوصل لكان الدخول واجبا في الصورة الثانية و الثالثة، و حراما في الصورة الأولى و الرابعة.

الثالث: هو مذهب صاحب الفصول حيث يقول بوجوب المقدمة الموصلة، فاعتبر الإيصال في وجوبها، فلا يكون الدخول واجبا إلاّ فيما أنقذ الغريق، و كان حراما فيما لم يترتب عليه الواجب و هو انقاذ الغريق في المثال المذكور. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح كلام المصنف فتدبر.

(1) أي: يكون التوصل بالمقدمة إلى ذيها من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة.

و حاصل الكلام في المقام: أن التوصل بسبب المقدمة إلى ذي المقدمة - بناء على وجوب المقدمة مطلقا كما هو المشهور و مختار المصنف - يكون من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة؛ لا أن قصد التوصل قيد للمقدمة كقيدية الطهارة مثلا للصلاة، حتى يكون اتصاف المقدمة بالوجوب منوطا بقصد التوصل «لثبوت ملاك الوجوب» و هو

ص: 149

الواجبة؛ لا أن يكون قصده قيدا و شرطا لوقوعها على صفة الوجوب؛ لثبوت ملاك الوجوب في نفسها بلا دخل له فيه أصلا. و إلاّ لما حصل ذات الواجب، و لما سقط الوجوب به، كما لا يخفى.

و لا يقاس (1) على ما إذا أتى بالفرد المحرم منها، حيث يسقط به الوجوب، مع إنه التوقف، و المقدمية «في نفسها» أي: في نفس المقدمة بمعنى: أن نفس المقدمة مشتملة على ملاك الوجوب «بلا دخل له فيه أصلا» أي: بلا دخل لقصد التوصل في الملاك أصلا، «و إلاّ لما حصل ذات الواجب...» إلخ. أي: و إن لم يكن الأمر كما ذكر من عدم دخل قصد التوصل في ملاك وجوب المقدمة بأن كان قصده دخيلا في وقوع المقدمة على صفة الوجوب لما حصل الواجب و لما سقط الوجوب بإتيان المقدمة بدون قصد التوصل؛ لانتفاء المشروط عند انتفاء شرطه، فلا بد من الإعادة ثانيا؛ لأنه لم يكن آتيا بذات الواجب، مع إن الشيخ ملتزم بعدم الإعادة. فيكون قوله - «و إلاّ لما حصل ذات الواجب...» إلخ - وجها آخر لتضعيف كلام الشيخ؛ بل لإبطاله حيث إنه لو كان اتصاف المقدمة في الخارج بالوجوب مشروطا و متوقفا على قصد التوصل لم يكن الآتي بها بدون هذا القصد آتيا بالواجب، فكان عليه الإعادة، فكيف يقول الشيخ بعدم لزومها؟

=============

الإشكال بقياس المقام بالمقدمة المحرمة

(1) هذا الكلام من المصنف دفع لإشكال، فلا بد أولا: من توضيح الإشكال. و ثانيا:

من بيان الدفع.

و أما حاصل الإشكال: فيرجع إلى قياس المقام بالمقدمة المحرمة بسقوط الوجوب بها، مع عدم اتصافها بالوجوب فيقال في توضيح القياس: إن سقوط الوجوب بالمقدمة المأتي بها، بلا قصد التوصل لا يكشف عن اتصافها بالوجوب، بل هي حينئذ مما يسقط به الوجوب، و ليس بواجب، كالفرد المحرم حيث يسقط به الوجوب و لا يتصف بالوجوب، فكما أن الفرد المحرم يسقط به الوجوب و ليس بواجب، فكذلك ما لم يقصد به التوصل من المقدمة يسقط به الوجوب و ليس بواجب، هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح القياس.

و حاصل الدفع هو: أن قياس ما لم يقصد به التوصل من المقدمة - على القول بوجوبها مطلقا - بالفرد المحرم قياس مع الفارق، فيكون باطلا لبطلان القياس مع الفارق.

و حاصل الفرق بينهما: أن ملاك الوجوب - و هو التوقف و المقدمية - ثابت في مطلق المقدمة حتى الحرام منها، إلاّ إن الملاك فيما إذا كانت المقدمة محرمة لمزاحمته لمفسدة الحرمة لا يصلح لأن يكون مؤثرا في الوجوب، فالمقتضي لوجوبها و إن كان موجودا لكن

ص: 150

ليس بواجب و ذلك لأن الفرد المحرم منها، حيث يسقط به الوجوب، لكونه كغيره في حصول الغرض به بلا تفاوت أصلا، إلاّ إنه لأجل وقوعه على صفة الحرمة لا يكاد يقع على صفة الوجوب (1)، و هذا بخلاف (ما) هاهنا (2)، فإنه إن كان كغيره مما يقصد به التوصل في حصول الغرض، فلا بد أن يقع على صفة الوجوب مثله؛ لثبوت المقتضي فيه بلا مانع، و إلاّ (3) لما كان يسقط به الوجوب ضرورة، و التالي باطل هذه المزاحمة مانعة عن اتصافها بالوجوب الغيري؛ إذ يحرم اختيار الفرد الحرام مع التمكن من الحلال، كما إذا اختار لإنقاذ الغريق الطريق الغصبي، مع وجود الطريق المباح فإنه مسقط لحصول الغرض إلاّ إنه لا يتصف بالوجوب لوقوعه على صفة الحرمة. هذا بخلاف المقدمة المباحة؛ فإن ملاك وجوبها الغيري لا مزاحم له، فيؤثر في الوجوب، و مع هذا الفرق يكون قياس المقام بالفرد المحرم قياسا مع الفارق فيكون باطلا. و قوله: «حيث يسقط به الوجوب مع إنه ليس بواجب» إشارة إلى تقريب القياس، كما أن قوله:

=============

«و ذلك...» إلخ إشارة إلى فساد القياس لكونه مع الفارق.

(1) أي: لا يقع على صفة الوجوب؛ للزوم اجتماع الأمر و النهي و هو ممتنع، بلا فرق فيه بين كون الوجوب و الحرمة نفسيين أو غيريين أو مختلفين، كما سيأتي في مسألة اجتماع الأمر و النهي فانتظر.

(2) أي: المقدمة المباحة التي لم يقصد بها التوصل إلى ذيها، «فإنه» أي: ما هاهنا من المقدمة لم يقصد بها التوصل «إن كان كغيره» من سائر أفراد المقدمة التي قصد بها التوصل في حصول الغرض؛ بأن يحصل الغرض به كما يحصل بما يقصد به التوصل، «فلا بد أن يقع على صفة الوجوب مثله» أي: مثل ما قصد به التوصل.

وجه اللابدية: ما أشار إليه بقوله: «لثبوت المقتضي» للوجوب «فيه»، أي: فيما لم يقصد به التوصل «بلا مانع» من حرمة و نحوها.

و حاصل الكلام في المقام: أنه لا بد أن يقع على صفة الوجوب ما لم يقصد به التوصل؛ مثل ما يقصد به التوصل، و ذلك لثبوت المقتضي أعني: الملاك للوجوب الغيري في المقدمة التي لم يقصد بها التوصل إلى ذي المقدمة، و عدم مانع عن تأثير المقتضي في الوجوب، و هذا هو الفارق بين المقدمة المباحة التي لم يقصد بها التوصل إلى ذيها و بين المقدمة المحرمة.

و حاصل الفرق هو: وجود مانع في المقدمة المحرمة؛ دون المقدمة المباحة.

(3) أي: و إن لم يثبت فيه المقتضي بلا مانع لما كان موجبا لسقوط الأمر بالضرورة، «و التالي باطل» أي: التالي و هو، عدم سقوط الوجوب بالمقدمة الفاقدة لقصد التوصل

ص: 151

بداهة، فيكشف هذا عن عدم اعتبار قصده في الوقوع على صفة الوجوب قطعا، و انتظر لذلك (1) تتمة توضيح.

و العجب (2) أنه شدد النكير على القول بالمقدمة الموصلة، و اعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب، على ما حرره بعض مقرري بحثه باطل؛ لبداهة سقوط الوجوب بها، فهذا السقوط يكشف عن عدم اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب.

=============

(1) أي: و انتظر - لعدم اعتبار قصد التوصل في اتصاف المقدمة بالوجوب - «تتمة توضيح» في قول المصنف في الإشكال على الفصول في قوله: «إن قلت» الثاني كما في «منتهى الدراية ج 2، ص 295» مع تصرف ما.

و كيف كان؛ فقد رتب المصنف «قدس سره» قياسا استثنائيا لبطلان قول الشيخ أعني: اعتبار قصد التوصل في وجوب المقدمة، و تقريب القياس: أنه لو كان لقصد التوصّل دخل في وجوب المقدمة لما سقط - بفعل المقدمة التي لم يقصد بها التوصل إلى ذيها - الوجوب الغيري المقدمي، و لما حصل ذات الواجب؛ لكن التالي بكلا شقيه باطل فالمقدم مثله. و من البديهي: أن الاستدلال بالقياس الاستثنائي يتوقف على ثبوت أمرين:

1 - الملازمة بين المقدم و التالي.

2 - و بطلان التالي.

أما بيان الملازمة: فلأن قصد التوصل - على مبنى الشيخ - شرط لوجوب المقدمة، و من الواضح: أنه إذا فات الشرط فات المشروط، و الحال: أنه يبقى الوجوب الغيري للمقدمة إذا أتى بها بلا قصد التوصل، و لازم ذلك: عدم شرطية قصد التوصل في وجوب المقدمة؛ لسقوط الوجوب الغيري، و حصول ذات الواجب عند عدم قصد التوصل، ثم رفع التالي ينتج رفع المقدم، و لازم ذلك: عدم اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب.

(2) أي: و العجب كل العجب من الشيخ الأنصاري «قدس سره» حيث أنكر إنكارا شديدا على القول بوجوب المقدمة الموصلة، و انكر اعتبار ترتّب ذي المقدمة على فعل المقدمة في وقوع المقدمة على صفة الوجوب، على ما حرره في تقريراته بعض مقرري درسه و بحثه.

ص: 152

«قدس سره» بما (1) يتوجه على اعتبار قصد التوصل في وقوعها كذلك (2)، فراجع تمام كلامه زيد «في علو مقامه»، و تأمل في نقضه و إبرامه.

=============

الإشكال في اعتبار قصد التوصل في وجوب المقدمة

(1) المراد بالموصول في «بما» هي: الوجوه الثلاثة التي استشكل بها الشيخ على الفصول، القائل باعتبار ترتب ذي المقدمة على المقدمة في اتصافها بالوجوب؛ على ما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 298».

و أوّل تلك الوجوه: أن الوجه في حكم العقل بوجوب المقدمة ليس إلاّ إن عدمها يوجب العدم.

و ثانيها: أن الوجدان يشهد بسقوط الطلب بعد وجود المقدمة من غير انتظار ترتب ذي المقدمة عليها، و هذا كاشف عن مطلوبية ذات المقدمة من دون دخل لترتب ذي المقدمة عليها.

و ثالثها: أن وجوب المقدمة الموصلة يستلزم وجوب مطلق المقدمة؛ و ذلك لأن الأمر بالمقيّد بقيد خارجي مستلزم للأمر بذات المقيد.

و هذه الإشكالات بعينها واردة على القائل باعتبار قصد التوصل في اتصاف المقدمة بالوجوب، كما هو المنسوب إلى الشيخ «قدس سره».

و كيف كان؛ فقد اعترض المصنف على الشيخ بنفس ما أورده الشيخ على صاحب الفصول؛ لأن المناط المذكور في إشكاله على صاحب الفصول موجود في كل من المقدمة المقصود بها التوصل إلى ذيها. و المقدمة الموصلة فكما لا وجه لتخصيص الوجوب بالمقدمة الموصلة، فكذلك لا وجه لتخصيصه بالمقدمة المقصود بها التوصل.

(2) أي: في وقوع المقدمة على صفة الوجوب.

و خلاصة الكلام في المقام: أنه سيأتي اعتراض الشيخ على الفصول، حيث خص الوجوب بالمقدمة الموصلة؛ بتقريب: أن ملاك وجوبها هو إيجاد التمكن، و هو يوجد بمجرد وجودها؛ ترتب عليها ذوها أم لا، و عين هذا الاعتراض متوجه إلى الشيخ حيث خص الوجوب بالمقدمة التي يقصد بها التوصل فيقال: إن ملاك وجوب المقدمة هو إيجاد التمكن، و هو يوجد بمجرد وجودها سواء قصد بها التوصل أم لا.

هذا تمام الكلام في نقد كلام الشيخ القائل بلزوم قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب، فيرد عليه:

أولا: أن اعتبار قصد التوصل في وجوب المقدمة خلاف الوجدان؛ إذ ملاك حكم العقل بوجوب المقدمة هو عنوان مقدمية المقدمة، و عنوان توقف وجود ذي المقدمة في الخارج على وجود المقدمة، سواء قصد بها التوصل أم لم يقصد.

ص: 153

و أما (1) عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب: فلأنه لا يكاد يعتبر في الواجب إلاّ ما له دخل في غرضه الداعي إلى إيجابه، و الباعث ثانيا: أنه مستلزم للدور؛ إذ قصد التوصل موقوف على المقدمية، إذ لا معنى للتوصل بما ليس بمقدمة، فلو توقفت المقدمية على قصد التوصل لكان دورا مصرحا فالتالي باطل فالمقدم مثله.

=============

و ثالثا: أنه لو اعتبر قصد التوصل في وجوب المقدمة لما حصل ذات الواجب، و لما سقط الوجوب بدون قصد التوصل، و التالي باطل فالمقدم مثله.

(1) قوله: «و أما عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة...» إلخ إشارة إلى ردّ صاحب الفصول، القائل بأن المقدمة إنما تتصف بالوجوب إذا ترتب عليها المأمور به، و قد ردّه المصنف بوجوه:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «فلأنه لا يكاد يعتبر في الواجب...» إلخ، يعني: إن ترتب المأمور به ليس غرضا للمقدمة و لا دخيلا في غرضها ليعتبر في اتصافها بالوجوب.

أما الأول: فلوضوح أنه بعد تمام المقدمات يمكن أن يختار المكلف إتيان المأمور به، و يمكن أن يختار عدمه.

و أما الثاني: فلأن الغرض من المقدمة حصول التمكن من إيجاد ذيها، و هو يحصل بمجرد وجود المقدمة ترتب عليها المأمور به أم لا، فإن المأمور بشراء اللحم إذا دخل السوق حصل التمكن و سقط عنه وجوب هذه المقدمة و إن لم يشتر اللحم؛ لامتناع تحصيل الحاصل.

و بعبارة أخرى: أن توضيح ذلك - أكثر مما ذكرناه - يتوقف على مقدمة و هي عبارة عن أمور:

الأول: أن الأحكام تابعة للملاكات سعة و ضيقا.

الثاني: أن الملاكات من الأمور الخارجية التي هي غير مجعولة شرعا.

الثالث: أنه إذا كان لشيء مقدمات عديدة، فلا محالة يتوقف وجوده على وجود جميعها، و ينعدم بانعدام واحدة منها، فكل مقدمة تحفظ وجود ذيها من ناحيتها، و تسد بابا من أبواب عدمه، فملاك وجوب المقدمة هو القدرة على إيجاد ذيها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا فرق في المقدمة الواجبة بين ما يترتب عليه الواجب، و بين ما لا يترتب عليه، إذ الغرض من المقدمة الداعي إلى إيجابها هو الاقتدار على فعل ذي المقدمة، و من المعلوم: حصوله بايجاد المقدمة سواء أتى بذيها أم لا، و قد عرفت تبعية الحكم للملاك سعة و ضيقا.

و كيف كان؛ فقد أشار إلى الأمر الأول بقوله: «إلاّ ما له دخل» و إلى الأمر الثالث:

ص: 154

على طلبه، و ليس الغرض من المقدمة إلاّ حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة، ضرورة: إنه لا يكاد يكون الغرض إلاّ ما يترتب عليه من فائدته و أثره، و لا يترتب على المقدمة إلاّ ذلك (1)، و لا تفاوت فيه (2) بين ما يترتب عليه الواجب و ما لا يترتب عليه أصلا، و أنه (3) لا محالة يترتب عليهما، كما لا يخفى.

و أما ترتب الواجب (4)، فلا يعقل أن يكون الغرض الداعي إلى إيجابها و الباعث بقوله: «و ليس الغرض من المقدمة...» إلخ. و إلى الأمر الثاني بقوله: «إلاّ ما يترتب عليه من فائدته و أثره» أي: ما يترتب عليه ترتبا خارجيا.

=============

و قوله: «ضرورة» تعليل لكون الغرض من المقدمة حصول التمكن من إتيان ذي المقدمة.

و خلاصة الكلام في المقام: أن الغرض الداعي إلى إيجاب المقدمة ليس إلاّ الفائدة التكوينية المترتبة عليها، و من المعلوم: أن الفائدة المترتبة على المقدمة ليست إلاّ الاقتدار على إيجاد ذي المقدمة، و ليست هي ترتب ذي المقدمة على المقدمة، كما عن الفصول.

(1) أي: التمكن من ذي المقدمة و الاقتدار على إيجاده بعدها لا وجود ذيها.

(2) أي: لا تفاوت في هذا الغرض أعني: التمكن من ذيها «بين ما يترتب عليه الواجب، و ما لا يترتب عليه أصلا» أي: لا تفاوت في الغرض المذكور بين المقدمة الموصلة و غير الموصلة.

(3) الغرض من المقدمة - و هو: التمكن من إيجاد ذيها الحاصل من ناحيتها - يترتب على الموصلة و غيرها، فلا وجه لتخصيص الوجوب بالمقدمة الموصلة، كما زعم صاحب الفصول.

(4) هذا من المصنف ردّ لكلام صاحب الفصول، و حاصل الردّ: أن الملاك الذي يكون من الأمور الخارجية الداعية إلى تشريع الحكم عبارة عن الاقتدار الحاصل من المقدمة على إيجاد ذيها، و ليس الملاك ترتب الواجب على مقدمته ليكون الواجب خصوص المقدمة الموصلة، و ذلك لعدم كون وجود ذي المقدمة أثرا لتمام المقدمات - فضلا عن بعضها - في غالب الواجبات، حتى يعتبر ترتب ذي المقدمة عليها، نظرا إلى استحالة تخلف الأثر عن المؤثر.

و إنما لم يكن كذلك؛ لدخل إرادة المكلف بعد إيجاد جميع المقدمات في وجود الواجب، فله أن يختار فعل الواجب أو تركه، فحينئذ ليس وجود ذي المقدمة أثرا لوجود المقدمة حتى يختص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة، و كيف كان؛ فلا يعقل أن يكون ترتب ذي المقدمة غرضا من المقدمة و داعيا إلى إيجابها.

ص: 155

على طلبها، فإنه ليس بأثر تمام المقدمات، فضلا عن إحداها في غالب الواجبات، فإن الواجب (1) - إلاّ ما قلّ في الشرعيات و العرفيات - فعل اختياري، يختار المكلف تارة:

إتيانه بعد وجود تمام مقدماته، و أخرى: عدم إتيانه، فكيف يكون اختيار إتيانه غرضا من إيجاب كل واحدة من مقدماته، مع عدم ترتبه على تمامها «عامتها في نسخة»، فضلا عن كل واحدة منها؟

نعم (2)؛ فيما كان الواجب من الأفعال التسبيبية و التوليدية، كان مترتبا لا محالة على تمام مقدماته؛ لعدم تخلف المعلول عن علته.

=============

(1) هذا تقريب لعدم كون الواجب أثرا للمقدمات في مقام الردّ على صاحب الفصول، و حاصله: أن غالب الواجبات من الأفعال الاختيارية التي يأتي بها المكلف مباشرا، و يكون زمامها بيده، مثلا: أن المكلف و المأمور بشراء اللحم - بعد تمام المقدمات - يمكن أن يشتريه، و يمكن أن لا يشتريه؛ إذ لإرادة المكلف دخل في وجود الواجب، فالواجب ليس قهري الترتب على مجموع المقدمات فضلا عن آحادها، فكيف يكون ترتبه معتبرا في اتصافها بالوجوب ؟

(2) قوله: «نعم» استدراك على عدم معقولية كون ترتب الواجب على مقدمته غرضا من إيجابها، و حاصله: أن الواجب إذا كان من الأفعال التسبيبية و التوليدية كان مترتبا على مقدماته، و وجه ترتبه على جميع مقدماته هو: استحالة تخلف المعلول عن علته التامة، فيختص كلام الفصول بمقدمات خصوص الواجبات التوليدية، و لا يعم غيرها، مع إن كلام الفصول يصرح بوجوب جميع أقسام المقدمة الموصلة، و هذا التصريح ينافي الاختصاص المذكور.

و كيف كان؛ فلا يترتب الواجب على مقدماته في غالب الواجبات التي يكون لإرادة المكلف دخل في وجودها، كالصوم و الصلاة و الحج و غيرها.

نعم؛ في الواجبات التي هي من المسببات التوليدية، التي تكون المقدمة فيها علة تامة لوجودها - كالذكاة المترتبة على فري الأوداج، و الملكية و الزوجية و الحرية المترتبة على عقودها - يكون أثر المقدمة فيها بترتب ذيها عليها قهرا، و لازم ذلك: اختصاص الوجوب بمقدمات الواجبات التوليدية بلا وجه؛ لأن وجوب المقدمة الموصلة لا يختص بمقدمات الواجبات التوليدية. هذا ما أشار إليه بقوله: «و من هنا قد انقدح...» إلخ، أي: هذا هو الوجه الثاني من الردّ على صاحب الفصول.

و حاصل هذا الردّ: أنه لو كان الواجب خصوص المقدمة الموصلة: فلا تتصف

ص: 156

و من هنا قد انقدح: أن القول بالمقدمة الموصلة يستلزم إنكار وجوب المقدمة في غالب الواجبات، و القول بوجوب خصوص العلة التامة في خصوص الواجبات التوليدية.

فإن قلت (1): ما من واجب إلاّ و له علة تامة، ضرورة: استحالة وجود الممكن بدونها، فالتخصيص بالواجبات التوليدية بلا مخصص.

=============

بالوجوب آحاد المقدمات و لا مجموعها في المباشري؛ إذ الآحاد لا يستلزم ترتب ذيها عليها، و المجموع و إن كان يستلزمه بانضمام الإرادة و مباديها إلاّ إن الإرادة ليست من الأمور الاختيارية بنظر المصنف، فلا تقبل الإيجاب فينحصر الوجوب المقدمي في المجموع في الفعل التوليدي، مع إن صاحب الفصول يقول: بوجوب المقدمة الموصلة مطلقا؛ لا بوجوب مقدمات الواجبات التوليدية فقط.

(1) هذا اعتراض من جانب صاحب الفصول على ما استدركه المصنف بقوله:

«نعم؛ فيما كان الواجب من الأفعال التسبيبية و التوليدية كان مترتبا لا محالة على تمام مقدماته».

و لازم الاستدراك هو: اختصاص الوجوب بمقدمات الواجبات التوليدية، مع إن صاحب الفصول يقول: بوجوب المقدمات الموصلة مطلقا.

و حاصل الاعتراض على الاستدراك: أنه لا يلزم من القول بوجوب المقدمة الموصلة اختصاص الوجوب بمقدمات الواجبات التوليدية.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن لكل واجب - سواء كان توليديا أم مباشريا - علة تامة لوجوده، و لذا قيل: «إن الشيء ما لم يجب لم يوجد»، فكل ممكن لا بد أن تكون له علة الوجود. و العلة التامة بجميع أجزائها - من المقتضي و الشرط و عدم المانع - واجبة عند صاحب الفصول؛ لأنها موصلة إلى ذي المقدمة - أعني: المعلول - فمقدمات الحج من المسير و بذل الزاد و الراحلة مع إرادة المناسك واجبة؛ لأنها بأسرها توصل إلى الحج، فتخصيص وجوب المقدمة بخصوص مقدمات الواجبات التوليدية - كما ذكره المصنف في الاستدراك - يكون بلا وجه، فوجوب المقدمة الموصلة لا يختص بمقدمات الواجبات التوليدية حتى يقال: إنه على خلاف مذهب صاحب الفصول. و قد أجاب المصنف عن هذا الاعتراض بقوله: «قلت: نعم».

و حاصل الجواب: أن الفعل الاختياري المباشري، و إن كان كالفعل التوليدي في توقف وجوده في الخارج على العلة التامة، إلاّ إنه لمّا كان من أجزاء علة الفعل غير التوليدي الإرادة و هي غير اختيارية؛ إذ لو كانت اختيارية لزم أن تكون مسبوقة بإرادة

ص: 157

قلت: نعم؛ و إن استحال صدور الممكن بلا علة، إلاّ إن مبادئ اختيار الفعل الاختياري من أجزاء علته و هي لا تكاد تتصف بالوجوب، لعدم كونها بالاختيار، و إلاّ لتسلسل، كما هو واضح لمن تأمل.

و لأنه (1) لو كان معتبرا فيه الترتّب، لما كان الطلب يسقط بمجرد الإتيان بها، من أخرى، و هي مسبوقة بإرادة ثالثة، و هي مسبوقة بإرادة رابعة حتى تنتهي إلى ما لا نهاية له، فيلزم التسلسل و هو باطل، فتكون الإرادة غير اختيارية، و كل ما يخرج عن حيّز الاختيار لا يتعلق به التكليف مطلقا و لو غيريا، فالعلة المركبة من الاختيارية و غيرها لا تتصف بالوجوب، فالمقدمة الموصلة في غالب الواجبات لا تتصف بالوجوب، فيختص القول بوجوب المقدمة الموصلة بمقدمات الواجبات التوليدية، كالإحراق و القتل و التذكية و نحوها من المسببات التوليدية، التي لا تناط بالإرادة، مع أن صاحب الفصول يصرح بوجوب المقدمة الموصلة مطلقا. و عليه فلا يندفع الإشكال.

=============

و المراد بالمبادئ في قوله: «إلاّ إن مبادئ اختيار الفعل الاختياري من أجزاء علته» هي:

الإرادة و مباديها من الخطور و تصور فائدته و التصديق بها، و الميل و هو هيجان الرغبة إليه، ثم الجزم، و هو حكم القلب بأنه ينبغي صدوره، و المرجع لضمير «علته» هو: الفعل و لضمير «هي» مبادئ و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 306» - إن العلة المركبة من الأمر الاختياري و غيره لا تكون اختيارية، فلا يتعلق بها التكليف لا نفسيا، و لا غيريا. فالإرادة التي يتوقف عليها الفعل الاختياري، و تكون موصلة إليه لا تتصف بالوجوب الغيري؛ لعدم كونها اختيارية، «و إلاّ لتسلسل» أي: و لو كانت الإرادة من الأمور الاختيارية لزم التسلسل، و وجوب إرادة كل إرادة؛ لوجود مناط الاتصاف بالوجوب و هو المقدمية في كل مقدمة و لو مع الواسطة، فإن المقدمية سارية في جميع سلسلة الإرادات غير المتناهية، و هي الموجبة لوجوبها، إلاّ إن التسلسل باطل، فكون الإرادة من الأمور الاختيارية الموجبة لوجوبها أيضا باطل.

(1) هذا هو الوجه الثالث: من الردّ على صاحب الفصول، أورده عليه الشيخ في التقريرات و حاصله: أن من راجع وجدانه و أنصف من نفسه حكم بالضرورة بسقوط وجوب المقدمة بإتيانها بلا ترتب ذي المقدمة عليها، فلو كان وجوبها منوطا بترتب ذيها لم يسقط وجوبها بلا ترتب ذيها عليها، مع إنه يسقط.

و بديهي: أن سقوطه ليس من باب سقوط التكليف بالعصيان، أو بانتفاء الموضوع، بل من باب سقوطه بالامتثال، فكانت متصفة بالوجوب مع قطع النظر عن الترتب، فهذا السقوط يدل على عدم دخل ترتب الواجب على المقدمة في طلب المقدمة و وجوبها،

ص: 158

دون انتظار لترتب الواجب عليها؛ بحيث لا يبقى في البين إلاّ طلبه و إيجابه، كما إذا لم تكن هذه بمقدمته، أو كانت حاصلة من الأول قبل إيجابه، مع إن الطلب لا يكاد يسقط إلاّ بالموافقة أو بالعصيان و المخالفة، أو بارتفاع موضوع التكليف، كما في سقوط الأمر بالكفن أو الدفن بسبب غرق الميت أحيانا أو حرقه، و لا يكون الإتيان بها (1) بالضرورة من هذه الأمور غير الموافقة.

إن قلت (2): كما يسقط الأمر بتلك الأمور، كذلك يسقط بما ليس بالمأمور فيما يحصل به الغرض منه، كسقوطه في التوصليات بفعل الغير، أو المحرمات.

=============

و أن معروض الوجوب الغيري هو مطلق المقدمة لا خصوص الموصلة، كما زعم صاحب الفصول.

(1) أي: و لا يكون الإتيان بالمقدمة في المقام إلاّ من باب الموافقة، يعني: أن سقوط وجوب المقدمة مستند إلى الموافقة و هو المطلوب.

أسباب سقوط التكليف

و كيف كان؛ فإن المسقط للتكليف أحد أمور ثلاثة:

1 - العصيان و المخالفة.

2 - ارتفاع موضوع التكليف.

3 - الموافقة. و لا ريب في أن سقوط الوجوب الغيري في المقام إنما هو بالموافقة و إتيان المقدمة، كما لا ريب في إن السقوط ليس مستندا إلى العصيان، أو انتفاء الموضوع، و حيث لم يكن حينئذ هناك إيصال فاللازم كون غير الموصلة أيضا واجبا و هو المطلوب.

(2) هذا إشكال على انحصار مسقطات الأمر في الأمور الثلاثة المتقدمة، أعني:

المخالفة و انتفاء الموضوع و الموافقة.

و حاصل الإشكال: أن هناك مسقطا رابعا للأمر، و هو: ما يسقط الأمر مع عدم كونه مأمورا به؛ لوفائه بالغرض الداعي إلى الأمر كفعل الغير في الواجبات التوصلية، فإن الأمر فيها يسقط بفعل الغير كسقوط الأمر بتطهير الثوب مثلا، الحاصل بفعل الغير، مع وضوح: عدم كون فعل الغير واجبا، فيسقط الأمر بما ليس مأمورا به، فيمكن أن يكون المقام من هذا القبيل، فسقوط الأمر أعم من الامتثال، فلا يدل على كون مسقطه مأمورا به، و عليه: فسقوط الأمر الغيري - بمجرد الإتيان بالمقدمة من دون انتظار لترتب ذي المقدمة - لا يكشف عن كونها متعلقة للوجوب الغيري، و قد سقط قبل الترتب كي يقال إنه لو كان الترتب معتبرا في وقوعها على صفة الوجوب لم يسقط وجوبها بلا ترتب ذيها عليها.

ص: 159

قلت (1): نعم؛ لكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض من الفعل الاختياري للمكلف متعلقا للطلب، فيما لم يكن فيه مانع، و هو كونه بالفعل محرما، ضرورة: أنه لا يكون بينهما تفاوت أصلا، فكيف يكون أحدهما متعلقا له فعلا دون الآخر؟

=============

(1) هذا جواب عن الإشكال: و حاصله: نعم؛ قد يسقط الأمر بغير المأمور به، مما يحصل به الغرض، و لكن الكلام هنا في الفعل الاختياري الصادر من المكلف نفسه، و لم يكن فيه مانع عن اتصافه بالوجوب أي: بأن لا يكون محرما بالفعل، ففي مثله إذا سقط الأمر بمجرد الإتيان به فهو لا محالة يكشف عن اتصافه بالوجوب، من غير تفاوت فيه بين ما يترتب عليه الواجب، و ما لا يترتب عليه أصلا.

و بعبارة أخرى - على ما في «منتهى الدراية ج 2، ص 309» - أن سقوط الأمر بغير الثلاثة المتقدمة أحيانا و إن كان مسلما، إلاّ إن المحصل للغرض إن كان فعلا اختياريا للمكلف، و لم تعرضه جهة من الجهات الموجبة لحرمته، فلا محالة يكون واجبا كغيره من الأفعال الاختيارية المتصفة بالوجوب؛ لوجود المقتضي لوجوبه، و عدم المانع عنه و هو الجهة المحرمة، و اتحاد حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز، و يكون الإتيان به مسقطا للأمر؛ لأجل الامتثال و سقوط الأمر بالمقدمة في مورد البحث من هذا القبيل، أي: أنه لأجل الامتثال؛ لتعلق الطلب به حسب الفرض، فيختص سقوط الأمر - لا لأجل الامتثال - بما إذا لم يتعلق به الطلب، إما لخروجه عن حيّز اختياره؛ كما إذا كان فعل الغير كتطهير الغير الثوب أو البدن، و أما لحرمته؛ كالتطهير بالماء المغصوب، فإنه لا يتعلق به الوجوب للتضاد بين كون الفعل للغير، و بين تعلق الطلب به، كما في الأول، و كذا بين كونه حراما و تعلق الطلب به، كما في الثاني.

و عليه: فلا يمكن أن يقال: إن المقدمة غير الموصلة ليست بواجبة و إن كانت مسقطة للأمر؛ لحصول الغرض.

قوله: «فكيف يكون أحدهما متعلقا له فعلا، دون الآخر؟» إشارة إلى عدم التفاوت بين المقدمة الموصلة و غير الموصلة في وجود المقتضي للوجوب الغيري، و عدم المانع عن الاتصاف بالوجوب، و مع عدم التفاوت بينهما يكون وجوب أحدهما - و هو الموصل دون الآخر غير الموصل - ترجيحا بلا مرجح.

فتحصل من جميع ما أفاده المصنف: أن معروض الوجوب الغيري هو مطلق المقدمة لا خصوص الموصلة؛ لأن الغرض من المقدمة - و هو التمكن من ذيها، و سد باب عدم ذيها من ناحيتها - موجود في مطلق المقدمة، لا خصوص الموصلة.

ص: 160

و قد استدل صاحب الفصول على ما ذهب إليه (1) بوجوه، حيث قال بعد بيان أن التوصل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب (2)، ما هذا لفظه: «و الذي (3) يدلك على هذا - يعني الاشتراط بالتوصل - أن وجوب المقدمة لمّا كان من باب الملازمة العقلية، فالعقل لا يدل عليه زائدا على القدر المذكور، و أيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم: أريد الحج، و أريد المسير الذي يتوصل به إلى فعل الواجب، دون ما لم يتوصل به إليه،...

=============

(1) أي: ما ذهب إليه صاحب الفصول من وجوب خصوص المقدمة الموصلة.

(2) أي: لأن اشتراط وجوب المقدمة بوجود ذيها يقتضي اشتراطه بوجود نفسها أيضا، إذ المفروض: كونها من علل وجود ذيها، و لا معنى لوجوب شيء بشرط وجوده لامتناع طلب الحاصل.

و بعبارة أخرى: أنه يعتبر في وجود المقدمة بعنوان المقدمية التوصل بها إلى الواجب، بحيث لو أتى بذات المقدمة بغير ذيها لم تكن تلك الذات مقدمة، و ليس وجوب المقدمة مشروطا بالتوصل؛ بحيث لو لم يتوصل كانت مقدمة و لم تكن واجبة، إذ لو كان وجوب المقدمة مشروطا بوجود ذيها و وجود ذيها مشروطا بوجودها، لزم كون وجوب المقدمة مشروطا بوجودها، و هو ممتنع لامتناع تحصيل الحاصل.

استدلال صاحب الفصول على وجوب المقدمة الموصلة

(3) أي: و حاصل ما أفاده صاحب الفصول - في كلامه المحكي في المتن - مؤلف من براهين ثلاثة:

الأول: أن المتيقن من حكم العقل بوجوب المقدمة هو خصوص الموصلة، و قد أشار إليه بقوله: «إن وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية، فالعقل لا يدل عليه زائدا على القدر المذكور» أي: الاشتراط بالتوصل.

الثاني: أن العقل يجوّز تصريح الآمر الحكيم بعدم مطلوبية المقدمة غير الموصلة، فيجوز أن يقول: إني لا أريد المسير غير الموصل إلى مناسك الحج، بل أريد خصوص المسير الموصل إليها»، و لو كان الواجب مطلق المقدمة لم يكن وجه لهذا الجواز. و قد أشار إليه بقوله: «و أيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم...» إلخ.

الثالث: أن الأمر تابع للغرض الداعي إليه سعة و ضيقا كما مر سابقا، و العقل يدرك أن الغرض من إيجاب المقدمة ليس إلاّ التوصل بها إلى ذي المقدمة، فلا يحكم إلاّ بوجوب خصوص المقدمة الموصلة. و قد أشار إليه بقوله: «و أيضا حيث إن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل...» إلخ.

ص: 161

بل الضرورة (1) قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك (2)، كما أنها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها (3) له مطلقا، أو على تقدير التوصل بها إليه، و ذلك (4) آية عدم الملازمة بين وجوبه و وجوب مقدماته على تقدير عدم التوصل بها إليه، و أيضا (5) حيث إن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب و حصوله، فلا جرم يكون التوصل بها إليه و حصوله معتبرا في مطلوبيتها.

=============

(1) أي: بل الضرورة العرفية قاضية بجواز تصريح الآمر الحكيم بعدم مطلوبية المقدمة غير الموصلة، كما أنها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبية مطلق المقدمة و إن كانت موصلة، أو بعدم مطلوبية خصوص الموصلة، فإن جواز التصريح عرفا بترك مطلوبية غير الموصلة، و من المعلوم: أن قبح التصريح بعدم مطلوبية مطلق المقدمة، أو خصوص الموصلة آية عدم الملازمة عقلا بين وجوب ذي المقدمة، و بين وجوب مطلق المقدمة، ضرورة: عدم جواز التصريح بترك مطلوبية مطلق المقدمة، أو خصوص الموصلة مع الملازمة المذكورة؛ بل الملازمة تكون بين وجوب الواجب و بين وجوب خصوص مقدمته الموصلة. كما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 313» مع تصرف ما.

(2) أي: إرادة السير الموصل إلى الحج، و عدم إرادة السير غير الموصل إليه.

(3) أي: المقدمة، أي: كما أن الضرورة قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبية المقدمة للآمر مطلقا.

(4) أي: جواز التصريح أو قبحه دليل عدم الملازمة بين الواجب و مقدمته غير الموصلة.

(5) هذا إشارة إلى البرهان الثالث الذي تقدم بيانه، فإن الغرض الداعي إلى إيجاب المقدمة حيث كان هو التوصل، و غير الموصلة حيث لا توصّل فيها لا تكون متعلقة للغرض، فلا تكون واجبة؛ لأن المطلوب بالمقدمة هو التوصل بها إلى الواجب و حصول الواجب بها، فلا محالة يكون التوصل بها إليه و حصوله معتبرا في مطلوبيتها، و على هذا: فلا تكون المقدمة «مطلوبة إذا انفكت عنه» أي: عن التوصل.

و خلاصة الكلام: أن صاحب الفصول قد استدل على مختاره بوجوه ثلاثة:

الأول: أن وجوب المقدمة يكون بحكم العقل مستقلا بالملازمة بين وجوب شيء و وجوب مقدمته، و المتيقن من حكم العقل هو: وجوب المقدمة الموصلة.

الثاني: هو جواز التصريح عقلا بعدم مطلوبية المقدمة غير الموصلة، و لازم هذا التصريح هو: وجوب خصوص الموصلة.

ص: 162

فلا تكون مطلوبة إذا انفكت عنه، و صريح الوجدان قاض: بأن من يريد شيئا بمجرد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجردا عنه، و يلزم منه أن يكون وقوعه على وجه المطلوب منوطا بحصوله. انتهى موضع الحاجة من كلامه، «زيد في علو مقامه».

و قد عرفت (1) بما لا مزيد عليه: أن العقل الحاكم بالملازمة: دل على وجوب مطلق المقدمة، لا خصوص ما إذا ترتب عليها الواجب، فيما لم يكن هناك مانع عن وجوبه، كما إذا كان بعض مصاديقه محكوما فعلا بالحرمة؛ لثبوت مناط الوجوب حينئذ في مطلقها (2)، و عدم اختصاصه بالمقيد بذلك (3) منها.

و قد انقدح منه (4): إنه ليس للآمر الحكيم الغير المجازف بالقول ذلك التصريح، الثالث: أن الغرض من إيجاب المقدمة ليس إلاّ التوصل بها إلى ذيها، فكل مقدمة واجدة لهذا الغرض واجبة، كما أن كل مقدمة فاقدة لهذا الغرض غير واجبة، فلا يحكم العقل إلاّ بوجوب خصوص الموصلة.

=============

جواب المصنف عن استدلال صاحب الفصول

(1) هذا شروع من المصنف في الجواب عن الوجه الأول و حاصله: أن العقل الحاكم بالملازمة بين وجوبي المقدمة و ذيها يحكم بوجوب مطلق المقدمة؛ سواء كانت موصلة أو غير موصلة لا خصوص الموصلة، و ذلك لوجود ملاك الوجوب الغيري المقدمي - و هو تمكن المكلف من الإتيان بذي المقدمة - في مطلق المقدمة، و مع اشتراك الملاك فلا وجه لتخصيص الوجوب بالموصلة، فالوجوب ثابت لمطلق المقدمة؛ إلاّ إذا كان هناك مانع عن اتصاف بعض أفرادها بالوجوب؛ كما إذا كان محكوما فعلا بالحرمة.

و بعد حكم العقل بوجوب المقدمة - لأجل تمكن المكلف من الإتيان بذيها - لا يبقى له تردد حتى يحكم من باب القدر المتيقن بوجوب خصوص الموصلة، فيندفع حينئذ الدليل الأول على وجوب خصوص المقدمة الموصلة، و منه يظهر: بطلان الوجهين الأخيرين، إذ مع عدم تردد العقل لا يحكم بوجوب خصوص الموصلة، كما لا يحكم بجواز التصريح بعدم وجوب غير الموصلة؛ لعدم تردده في الغرض الداعي إلى إيجاب المقدمة؛ و هو تمكن المكلف من الإتيان بالواجب، و سيأتي الجواب عن خصوص الوجه الثاني و الثالث في كلام المصنف، فانتظر.

(2) لثبوت مناط الوجوب حين عدم المانع عن وجوب مطلق المقدمة في مطلق المقدمة.

(3) أي: عدم اختصاص الوجوب بما يترتب عليه الواجب من المقدمة.

(4) أي: قد ظهر من ثبوت الملاك في مطلق المقدمة و عدم اختصاصه بالمقدمة الموصلة - أنه ليس للآمر - المراعي للحكمة التصريح بعدم مطلوبية المقدمة غير الموصلة في

ص: 163

و أن دعوى: أن الضرورة قاضية بجوازه مجازفة (1)، كيف يكون ذا (2) مع ثبوت الملاك في الصورتين بلا تفاوت أصلا؟ كما عرفت (3).

نعم (4)؛ إنما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النفسي في إحداهما، و عدم حصوله في الأخرى، من دون دخل لها (5) في ذلك أصلا؛ بل كان بحسن أوامره و نواهيه؛ لكونه خلاف حكم العقل، فهذا الكلام من المصنف شروع في الجواب عن الوجه الثاني، فما ذكره صاحب الفصول في الوجه الثاني من: أن الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بذلك ممنوع؛ بل ليس للآمر الحكيم ذلك التصريح بأن يقول: لا أريد المقدمة التي لا يتوصل بها إلى الواجب.

=============

(1) أي: أن دعوى صاحب الفصول بأن الضرورة قاضية بجواز التصريح مجازفة، أي: حكم بلا دليل أصلا.

(2) أي: «كيف يكون ذا» أي: جواز التصريح بعدم مطلوبية المقدمة غير الموصلة مع ثبوت الملاك - و هو تمكن المكلف من الإتيان بالواجب - «في الصورتين»، و هما ترتب ذي المقدمة على المقدمة و عدمه.

(3) أي: عرفت غير مرة في ردّ الشيخ الأنصاري حيث قال باعتبار قصد التوصل في اتصاف المقدمة بالوجوب، و قلنا هناك: إنه ليس الغرض من المقدمة إلاّ حصول التمكن على الواجب.

(4) هذا استدراك على قوله: «بلا تفاوت أصلا» أي: لا تفاوت بين الموصلة و غيرها إلاّ في حصول الواجب النفسي في الموصلة، و عدمه في غيرها، لكن هذا لا يوجب تفاوتا بينهما في ملاك الوجوب، الذي هو المهم و المناط في وجوب المقدمة.

(5) أي: من دون دخل للمقدمة «في ذلك» الحصول و عدمه؛ بل حصول الواجب بعد المقدمة إنما هو مستند إلى حسن اختيار المكلف، كما أن عدم حصوله مستند إلى سوء اختياره؛ لأن ما كان من طرف المقدمة تامّ في كلتا الصورتين، و من لوازم التفاوت المزبور هو: جواز تصريح الآمر بحصول المطلوب النفسي في المقدمة الموصلة، و عدم حصوله في الأخرى، إلاّ إن هذا ليس كجواز التصريح بعدم مطلوبية المقدمة غير الموصلة، - كما هو في الفصول - لما عرفت: من عموم ملاك الوجوب للمقدمة مطلقا و إن لم تكن موصلة، فالتصريح بعدم مطلوبية غير الموصلة، مع عموم ملاك الوجوب قبيح، فالشاهد العرفي الذي أقامه صاحب الفصول بقوله: «بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك» لا يشهد بما رامه صاحب الفصول. و قوله: «جاز» جواب حيث في قوله: «و حيث إن الملحوظ بالذات...» إلخ.

ص: 164

اختيار المكلف و سوء اختياره، و جاز للآمر أن يصرح بحصول هذا المطلوب في إحداهما، و عدم حصوله في الأخرى؛ «بل من» حيث إن الملحوظ بالذات هو هذا المطلوب، و إنما كان الواجب الغيري ملحوظا إجمالا بتبعه، كما يأتي أن وجوب المقدمة على الملازمة تبعي، جاز في صورة عدم حصول المطلوب النفسي التصريح بعدم حصول المطلوب أصلا لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدمة، فضلا عن كونها (1) مطلوبة، كما جاز التصريح بحصول الغيري مع عدم فائدته لو التفت إليها، كما لا يخفى فافهم (2).

إن قلت: (3) لعل التفاوت بينهما في صحة اتصاف إحداهما بعنوان الموصلية دون الأخرى، أوجب التفاوت بينهما في المطلوبية و عدمها، و جواز التصريح بهما، و إن لم يكن بينهما تفاوت في الأثر، كما مر.

قلت (4): إنما يوجب ذلك تفاوتا فيهما، لو كان ذلك لأجل تفاوت في ناحية المقدمة؛

=============

(1) أي: فضلا عن الالتفات إلى كون المقدمة مطلوبة، إذ مع عدم الالتفات إلى أصل الشيء لا التفات إلى صفته.

(2) لعله إشارة إلى: أن تصريح المولى بعدم حصول غرضه أصلا في صورة عدم إيجاد ذي المقدمة بعد الإتيان بالمقدمة ليس بصحيح؛ لحصول غرضه الأدنى و هو تمكنه من الإتيان بالواجب بعد الإتيان بمقدمته، و لهذا الغرض تتصف المقدمة بالوجوب الغيري. نعم؛ إن الغرض الأقصى - و هو ترتب الواجب على المقدمة - غير حاصل.

(3) أي: قد اعترض من جانب صاحب الفصول على المصنف بأنه: لعل اتصاف الموصلة بوصف الموصلية موجب لاختصاص حكم العقل بوجوبها دون غير الموصلة، إذ ليس له هذا العنوان و إن كان شريكا مع الموصلة في الأثر و هو حصول التمكن للمكلف على فعل الواجب النفسي؛ لأن حكم العقل على أفراد طبيعة واحدة بحكم واحد مبني على كونها متساوية الأقدام في نظره، و إلاّ كان حكمه عليها مختلفا، و حينئذ يمكن أن يقال: إن تفاوت المقدمة الموصلة مع غيرها في نظر العقل أوجب التفاوت بينهما في المطلوبية و عدمها، فالمقدمة الموصلة بملاحظة عنوان الموصلية صارت واجبة، و غير الموصلة بملاحظة فقدان وصف الموصلية لم تصبح واجبة.

فهذا الوصف و العنوان موجبان للتفاوت بين الموصلة و بين غير الموصلة في نظر العقل الحاكم بالملازمة.

(4) قد أجاب المصنف عن الاعتراض: بأن وصف الموصلية و وصف غير الموصلية

ص: 165

لا فيما إذا لم يكن في ناحيتها أصلا - كما هاهنا - ضرورة: أن الموصلية إنما تنتزع من وجود الواجب، و ترتبه عليها من دون اختلاف في ناحيتها، و كونها في كلتا الصورتين على نحو واحد و خصوصية واحدة، ضرورة (1): إن الإتيان بالواجب بعد الإتيان بها بالاختيار تارة، و عدم الإتيان به كذلك أخرى لا يوجب (2) تفاوتا فيها، كما لا يخفى.

و أما ما أفاده (3) «قدس سره» من أن مطلوبية المقدمة - حيث كانت - بمجرد التوصل بها فلا جرم يكون التوصل بها إلى الواجب معتبرا فيها.

=============

يوجبان التفاوت بينهما إذا كانا موجبين للتفاوت في ناحية المقدمة؛ بمعنى: أن تكون الموصلة مقدمة وجودية للواجب النفسي، و أن لا تكون المقدمة غير الموصلة مقدمة له، لكنهما ليستا كذلك؛ بل كلتاهما مقدمة للواجب النفسي؛ لأن عنوان الموصلية أمر انتزاعي لكونه منتزعا عن ترتب ذي المقدمة، على المقدمة باختيار المكلف.

و من المعلوم: أن هذا الترتب و عدمه الناشئين من اختياره أجنبيان عن مقدمية المقدمة، و لا دخل لهما فيها، فالمقدمة في كلتا الصورتين تامة في مقدميتها في نظر العقل، فلا بد أن يشمل حكمه مطلق المقدمة؛ بلا فرق بين الموصلة و غيرها في نظره.

قوله: «ضرورة» تعليل لعدم تفاوت في ناحية المقدمة.

و حاصل التعليل: إن الموصلية ليست من الأوصاف المنوعة حتى تكون الموصلة نوعا مغايرا للمقدمة غير الموصلة؛ لأن الموصلية كما عرفت من الأمور الانتزاعية، و ليست إلاّ منتزعة عن وجود الواجب، و ترتبه على المقدمة، فالموصلية تكون في المرتبة المتأخرة عن نفس المقدمة، و غاية لها، و ليست في رتبتها حتى تكون منوعة لها، و تنقسم بها إلى قسمين: موصلة و غيرها فإن الصفات المنوعة للشيء لا بد أن تكون مقارنة له في الوجود، و ليست الغاية منها لتأخرها عن ذيها كتأخر وجود ذي المقدمة - الذي هو غاية المقدمة كما هو المفروض - عن نفس المقدمة، نظير سائر الغايات المتأخرة عن ذواتها؛ كما في «منتهى الدراية ج 2، ص 321».

(1) تعليل لكون المقدمة في الصورتين على نحو واحد.

(2) خبر - إن - في قوله: «إن الإتيان بالواجب» يعني: أن الإتيان بالواجب بعد الإتيان بالمقدمة تارة، و عدم الإتيان به أخرى لا يوجب تفاوتا في المقدمة من حيث ملاك المقدمية؛ و هو التمكن و الاقتدار على فعل الواجب.

(3) هذا شروع من المصنف في الجواب عن الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها صاحب الفصول على وجوب خصوص المقدمة الموصلة؛ بتقريب: إن وجوب المقدمة لمّا كان لأجل التوصل بها إلى ذيها؛ فلا جرم يكون التوصل المزبور معتبرا في مطلوبية

ص: 166

ففيه: (1) إنه إنما كانت مطلوبيتها لأجل عدم التمكن من التوصل بدونها؛ لا لأجل التوصل بها، لما عرفت: من إنه (2) ليس من آثارها؛ بل مما يترتب عليها أحيانا بالاختيار بمقدمات أخرى، و هي (3) مبادئ اختياره، و لا يكاد يكون مثل ذا (4) غاية لمطلوبيتها و داعيا إلى إيجابها، و صريح الوجدان (5) إنما يقضي بأن ما أريد لأجل غاية، و تجرد المقدمة، فلا تكون مطلوبية إن لم يترتب عليها ذو المقدمة.

=============

(1) هذا جواب قوله: «و أما ما أفاده».

و حاصل هذا الجواب: أن الغرض من الأمر بالمقدمة هو: حصول التمكن من الواجب لا التوصل بها إلى ذيها كي يكون التوصل دخيلا في مطلوبيتها؛ بحيث إذا انفكت عنه لم تكن مطلوبة أصلا، و ذلك لما عرفت: من إن التوصل بها ليس من آثار تمام المقدمات في المباشريات - فضلا عن واحدة منها - بل مما يترتب عليها أحيانا باختيار المكلف بمبادئه الخاصة.

و كيف كان؛ فمرجع هذا الجواب إلى منع الصغرى و هي: كون مطلوبية المقدمة لأجل التوصل بها إلى ذيها، بحيث يترتب عليها الواجب ترتب المعلول على علته، كالمسببات التوليدية، ضرورة: عدم التوصل الفعلي بالمقدمة إلى ذيها، فمطلوبية المقدمة إنما هي لأجل: عدم التمكن من إيجاد الواجب بدونها كما عرفت غير مرة؛ لا لأجل التوصل بها إليه فعلا، لوضوح: عدم ترتب وجود ذي المقدمة على مجرد وجود المقدمة، فالأثر المترتب على المقدمة الداعي إلى إيجابها هو التمكن من إيجاد ذيها؛ لا ترتب الواجب عليها، حتى يكون معروض الوجوب المقدمي خصوص المقدمة الموصلة، فترتب الواجب على المقدمة ليس أثرا لها حتى يكون ذلك الأثر غاية داعية إلى تشريع وجوب خصوص المقدمة الموصلة؛ بل الغاية إنما هو التمكن، و هو حاصل بمجرد وجود المقدمة.

(2) أي: التوصل ليس من آثار المقدمة؛ بل التوصل مما يترتب على المقدمة أحيانا بواسطة الاختيار.

(3) أي: و المقدمات الأخرى هي مبادئ الإرادة الموجودة في كل فعل اختياري.

(4) أي: مثل هذا التوصل الفعلي المترتب على المقدمة اتفاقا بحسن اختيار المكلف؛ لا يكون غاية لمطلوبية المقدمة، و داعيا إلى إيجابها؛ لما عرفت سابقا: من أن ما لا يكون أثرا لشيء لا يمكن أن يكون غاية له.

(5) هذا - هو الجواب الثاني - يكون ناظرا إلى ردّ ما ادعاه صاحب الفصول بقوله:

«و صريح الوجدان قاض بأن من يريد شيئا...» إلخ.

و حاصل ردّ المصنف عليه: أن صريح الوجدان قاض بحصول المطلوب الغيري، مع

ص: 167

عن الغاية بسبب عدم حصول سائر ما له دخل في حصولها يقع على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية.

كيف ؟ و إلاّ يلزم أن يكون وجودها من قيوده و مقدمة؛ لوقوعه على نحو تكون الملازمة بين وجوبه بذاك النحو و وجوبها.

و هو (1) كما ترى، ضرورة: (2) أن الغاية لا تكاد تكون قيدا لذي الغاية، بحيث تجرده عن المطلوب النفسي، فإن قطع المسافة إلى مكة المعظمة - الذي هو المطلوب الغيري - حاصل، و لو مع التجرد عن المناسك بسبب عدم تحقق سائر ما له دخل في حصولها «يقع على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية»؛ أي: أن ما أريد يقع على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية، و وقوع المطلوب بحكم الوجدان؛ مع تجرده عن المطلوب النفسي أقوى شاهد على عدم دخل وجود المطلوب النفسي في مطلوبية المقدمة، «كيف ؟ و إلاّ يلزم...» إلخ، أي: كيف لا تقع المقدمة المجردة عن ذيها على صفة المطلوبية ؟ و الحال: أنه إن لم تقع على هذه الصفة «يلزم أن يكون وجودها من قيوده و مقدمة له».

=============

أي: و إن لم تقع المقدمة على صفة المطلوبية الغيرية، «يلزم أن يكون وجودها» أي:

الغاية من قيود ما أريد من المقدمة و مقدمة له؛ بمعنى: أن الغاية بناء على وجوب المقدمة المقيدة بالإيصال؛ تكون مقدمة لوقوع المقدمة على نحو تكون الملازمة بين وجوبها بقيد الإيصال، و بين وجود ذيها، فوجوبها بقيد الإيصال يكون متوقفا على وجود ذيها، فالمقدمة متأخرة رتبة عن وجود ذيها، و هذا خلف؛ لأن المفروض: تقدم المقدمة على ذيها؛ «على نحو تكون الملازمة بين وجوبه» أي: وجوب ما أريد من المقدمة «بذاك النحو»؛ أي: الوجوب الغيري، «و وجوبها» أي: الغاية التي وجبت المقدمة لأجلها.

(1) أي: كون الغاية من قيود المقدمة - كما ترى - من اللوازم الباطلة؛ المترتبة على وجوب خصوص المقدمة الموصلة.

(2) تعليل لبطلان هذا اللازم، و حاصله - على ما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 325» - أن قول الفصول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة؛ مستلزم لمحذورين:

أحدهما: الدور، و الآخر: اجتماع المثلين.

أما الأول: فلأن قضية كون ذي المقدمة من قيود المقدمة هي: توقف وجود المقدمة عليه، فيصير ذو المقدمة مقدمة، فيتوقف وجوبه على وجوب المقدمة؛ لأن المفروض: أن ذا المقدمة صار مقدمة للمقدمة، و من المعلوم: أن وجوب المقدمة مترشح من وجوب ذي المقدمة - و هو المقدمة على الفرض - فيكون وجوب كل من المقدمة و ذيها متوقفا على

ص: 168

كان تخلفها موجبا لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية، و إلاّ يلزم أن تكون مطلوبة بطلبه كسائر قيوده، فلا (1) يكون وقوعه على هذه الصفة منوطا بحصولها، كما أفاده.

و لعل منشأ توهمه: (2) خلطه بين الجهة التقييدية و التعليلية. هذا مع ما عرفت من وجوب الآخر؛ لفرض كل منهما مقدمة للآخر.

=============

و أما الثاني: فلأن ذا المقدمة واجب نفسيّ كما هو ظاهر، و غيري لصيرورته مقدمة، و اجتماع المثلين محال، و لا مجال للتأكد، و ذلك لأجل الطولية حيث إن أحدهما علة للآخر.

و كيف كان؛ فقوله: «كيف ؟ و إلاّ يلزم...» إلخ إشارة إلى الاستدلال على بطلان القول بوجوب المقدمة الموصلة ببعض لوازمه الفاسدة؛ و هو: كون ذي المقدمة قيدا للمقدمة، و مرجعه إلى منع الكبرى، و هي اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة بعد فرض تسليم الصغرى؛ و هي: كون الغرض من المقدمة التوصل إلى ذيها، و ذلك: أن وجوب خصوص المقدمة الموصلة يستلزم كون وجوب ذيها من قيودها، إذ المفروض: إن المقدمة لا تتصف بالوجوب إلاّ بعد وجود ذيها، و هو يقتضي كون وجود ذيها مقدمة لها، فتتوقف هي عليه، و المفروض: أنها هي المقدمة لوجود ذيها، و هو يتوقف عليها، و ليس هذا إلاّ الدور الباطل، كما عرفت.

و المتحصل مما ذكرناه: أنه لو كان وقوع الواجب في الخارج شرطا لوجوب مقدمته لزم الدور؛ لأن وجوب المقدمة متوقف على وجوب ذيها، فلو كان ذوها من قيودها صار مقدمة للمقدمة، فيتوقف وجوبه على وجوب مقدمته، و هو الدور الباطل.

(1) أي: فلا يكون وقوع ذي الغاية أي: المقدمة على صفة الوجوب منوطا بحصول الغاية؛ أي: ذي المقدمة كما أفاده صاحب الفصول، حيث إنه جعل وجود المطلوب النفسي قيدا للمقدمة، فقوله: «فلا يكون وقوعه...» إلخ نتيجة استحالة كون الواجب النفسي قيدا للمقدمة، يعني: فبناء على هذه الاستحالة لا يكون وقوع المقدمة على صفة الوجوب منوطا بحصول ذي المقدمة.

خلط صاحب الفصول بين الجهة التعليلية و التقييدية

(2) لعل منشأ توهم صاحب الفصول - حيث توهم وجوب خصوص المقدمة الموصلة - خلطه بين الجهة التقييدية و الجهة التعليلية، أي: كأن صاحب الفصول قد خلط بينهما، فجعل ما هو الجهة التعليلية جهة تقييدية؛ بمعنى: أن التوصل بالمقدمة إلى ذيها علة لوجوب المقدمة، فيكون من الجهات التعليلية، و لكن صاحب الفصول

ص: 169

عدم التخلف هاهنا، و أن الغاية إنما هو حصول ما لولاه لما تمكن من التوصل إلى المطلوب النفسي، فافهم (1) و اغتنم.

=============

جعله قيدا لمتعلق الوجوب و معروضه، و قال: إن المقدمة الواجبة هي المقيدة بالإيصال؛ نظير قيدية الإيمان للرقبة في قوله: «أعتق رقبة مؤمنة»، فيكون التوصل من الجهات التقييدية.

و بعبارة أخرى: قال صاحب الفصول: إن التوصل غاية وجوب المقدمة، فإن لم تحصل هذه الغاية لا تكون المقدمة واجبة، و زعم: أن الغاية قيد وجوب المقدمة.

و قبل المناقشة في هذا الخلط نذكر الفرق بين الجهة التعليلية، و الجهة التقييدية، فنقول:

إن الفرق بينهما أولا: أن الأولى: من مبادئ نفس الحكم و علله. و الثانية: من قيود متعلق الحكم و معروضه.

و ثانيا: أن الجهة التعليلية لو ذهبت أمكن بقاء الحكم المعلل؛ لإمكان مدخلية العلية حدوثا لا بقاء؛ كنجاسة الماء المتغير، فإن النجاسة مستندة إلى التغيّر، و مع ذلك لو ذهب التغير بقيت النجاسة، هذا بخلاف الجهة التقييدية حيث ينتفي بانتفائها متعلق الحكم، و ينتفي الحكم بانتفاء متعلقه، أما انتفاء متعلق الحكم فلأجل انتفاء المقيد بانتفاء القيد.

و ثالثا: أنه يجري الاستصحاب في مورد الجهة التعليلية عند انتفائها لو شك في بقاء الحكم، و لا يجري في مورد الجهة التقييدية عند انتفائها؛ لتبدل الموضوع.

و حاصل الكلام في المقام: أن ما ذكره صاحب الفصول من اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة إنما يتم أولا: فيما إذا كان التوصل بالمقدمة إلى ذيها قيدا لمتعلق الحكم، و ليس كذلك. و إنما يصح ثانيا: فيما إذا كان التوصل غاية لوجوب المقدمة، فإذا لم تحصل هذه الغاية لا تكون المقدمة واجبة، و ليس كذلك؛ لما عرفت: من أن الغاية هي التمكن لا التوصل، و التمكن لا يتخلف في جميع المقدمات. هذا ما أشار إليه «من عدم التخلف هاهنا» أي: في المقدمة غير الموصلة؛ لأن الغاية الموجبة لوجوب المقدمة هو التمكن و الاقتدار على إتيان الواجب.

(1) لعله إشارة إلى دقة المطلب، و قوله: «و اغتنم» إشارة إلى أنه لم يسبقه في التحقيق أحد من الأصوليين.

و المتحصل من جميع ما ذكر: أن للفصول كلامين: الأول: أن الغاية لوجوب المقدمة هي التوصل.

الثاني: أن التوصل غير حاصل فيما إذا لم يأت المكلف بذي المقدمة، فلا تكون المقدمة حينئذ واجبة.

ص: 170

ثم إنه (1) لا شهادة على الاعتبار في صحة منع المولى عن مقدماته بأنحائها؛ إلاّ و الجواب عن الأول: أن الغاية هي إمكان التوصل، و تمكن المكلف عن الإتيان بالواجب.

=============

و عن الثاني: إنه على تقدير كون الغاية هي التوصل؛ لكن التوصل على نحو الجهة التعليلية، فالمقدمة تكون واجبة و لو لم يؤت بذيها في الخارج؛ لما سبق من أن العلة يمكن أن تكون دخيلة في الحكم حدوثا لا بقاء.

(1) الضمير للشأن، و قيل: إنه لم يوجد في كلام صاحب الفصول استشهاد؛ لاعتبار ترتب ذي المقدمة على المقدمة؛ بصحة منع المولى عن المقدمات بأنحائها إلاّ الموصلة منها، فيكون هذا الكلام من المصنف «قدس سره» إشارة إلى دليل آخر على وجوب خصوص المقدمة الموصلة، و هذا الدليل منسوب إلى السيد الفقيه صاحب العروة «قدس سره».

و حاصل استدلال صاحب العروة - على اختصاص الوجوب الغيري بالموصلة على الطريق الآخر - أن جواز تحريم المولى المقدمات بأنحائها إلاّ الموصلة يدل على عدم وجوب غير الموصلة منها، و أن الواجب منها هو خصوص الموصلة، إذ لو وجب غيرها لما جاز تحريم المولى إياه، فجواز المنع عن جميع المقدمات إلاّ الموصلة دليل على عدم وجوب ما عداها، و على وجوب خصوص الموصلة و هو المطلوب. فقد انحصر الوجوب التبعي بالمقدمة الموصلة. فهذا كاشف عن أن وجوب المقدمة مشروط بالتوصل، و غير الموصلة غير واجب أصلا.

و قد أجاب المصنف عن هذا الدليل بوجهين:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «لو سلم»، و حاصله: أن النهي عن جميع المقدمات إلاّ الموصلة منها محل نظر؛ لأنه مستلزم لأمر محال، و سيأتي توضيحه في كلام المصنف، فانتظر.

و قوله: «أصلا» - قيد لقوله: «لا شهادة»، فمعنى العبارة: لا شهادة على اعتبار وجوب الموصلة أصلا لو سلم جواز هذا المنع.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «ضرورة»، و حاصله: أن عدم اتصاف ما حرم من المقدمات بالوجوب إنما هو لوجود المانع، و هو: تحريم الشارع له، لا لعدم المقتضي، فجواز المنع عن المقدمة غير الموصلة لا يدل على اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة؛ و ذلك للفرق بين هذا المقام و بين ما نحن فيه.

و خلاصة الفرق: أن انحصار الوجوب بالمقدمة الموصلة - في استدلال صاحب العروة

ص: 171

فيما إذا رتب عليه الواجب لو سلم أصلا، ضرورة: أنه و إن لم يكن الواجب منها حينئذ غير الموصلة، إلاّ إنه ليس لأجل اختصاص الوجوب بها في باب المقدمة؛ بل لأجل المنع عن غيرها المانع عن الاتصاف بالوجوب هاهنا، كما لا يخفى.

=============

«قدس سره» - إنما هو بملاحظة النهي من المولى عن المقدمات الأخر، و النهي مانع عن تعلق الوجوب الغيري بها، هذا بخلاف ما نحن فيه؛ فالمفروض: هو وجوب المقدمات المباحة سواء كانت موصلة أو غيرها، و مع هذا الفرق فقياس ما نحن فيه بالمثال المذكور - في استدلال صاحب العروة - قياس مع الفارق، فلا يدل على انحصار الوجوب بالموصلة في كل المواضع.

و قد أشار إلى الوجه الأول من الجواب بقوله: «مع أن في صحة المنع كذلك نظر».

و هذا ما سبق الوعد بقولنا: فانتظر، و حاصل هذا الجواب على ما في «منتهى الدراية ج 2، ص 329» -: أن في صحة المنع عن المقدمات، إلاّ الموصلة إشكالا، و هو: أنه يلزم من هذا المنع أحد محذورين: و هما: طلب تحصيل الحاصل، و عدم كون ترك الواجب النفسي مخالفة و عصيانا، و توضيحه منوط ببيان أمور مسلمة:

الأول: إن المانع الشرعي كالمانع العقلي، فالإخلال بواجب لمانع شرعي لا يعد عصيانا و مخالفة موجبة لاستحقاق المؤاخذة.

الثاني: أن الحكم المترتب على عنوان لا يحصل إلاّ بتحقق ذلك العنوان، فإن أنيط ذلك العنوان بشيء فلا بد من توقفه على ذلك الشيء.

و بالجملة: فالمقيد بما هو مقيد لا يترتب عليه الحكم إلاّ بعد وجود قيده.

الثالث: أن تحصيل الحاصل محال؛ فلا يتعلق الطلب بما هو حاصل لعدم القدرة عليه كما هو واضح.

إذا عرفت هذه الأمور، فاعلم: أن النهي عن المقدمات إلاّ الموصلة يستلزم عدم كون ترك الواجب النفسي عصيانا، إذ المفروض: أن تركه مستند إلى المانع الشرعي و هو:

النهي عن مقدماته، و قد عرفت: أن الممنوع شرعا كالممنوع عقلا، هذا هو أحد المحذورين.

و أما المحذور الآخر - و هو طلب تحصيل الحاصل -: فلأن عنوان الموصلية لا يحصل للمقدمة إلاّ بعد ترتب ذي المقدمة عليها، فإذا ترتب ذوها عليها فقد تحقق لها عنوان الموصلية. و من المعلوم حينئذ: امتناع تعلق الطلب بالواجب النفسي، لكونه موجودا، فيكون طلبه من طلب الحاصل، و قبل تحقق عنوان الموصلية للمقدمة لا يقدر شرعا على إتيان الواجب النفسي للنهي عن مقدماته.

ص: 172

مع إن في صحة المنع عنه كذلك نظر، وجهه: أنه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة و عصيانا - لعدم التمكن شرعا منه - لاختصاص جواز مقدمته بصورة الإتيان به.

و بالجملة: يلزم أن يكون الإيجاب مختصا بصورة الإتيان؛ لاختصاص جواز المقدمة بها و هو محال، فإنه يكون من طلب الحاصل المحال، فتدبر جيدا.

بقي شيء: و هو أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة هي: (1) تصحيح العبادة التي و قد مر: أن المنع الشرعي كالعقلي، فيكون ترك ذي المقدمة عن عذر شرعي، فلا يعد عصيانا. هذا ملخص ما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 330» مع تصرف ما.

=============

فالحاصل: أنه يلزم من المنع عن المقدمات إلاّ الموصلة أحد محذورين و التالي باطل فالمقدم - و هو المنع عن المقدمات إلاّ الموصلة - أيضا باطل. و في المقام كلام طويل تركناه رعاية للاختصار و تجنّبا عن التطويل الممل.

قوله: «فتدبر جيدا» لعله إشارة إلى دقة المطلب، بقرينة قوله: «جيدا»، أو إشارة إلى أن في الكلام خلطا حيث إن المقدمة الجائزة هي التي يكون بعدها الواجب؛ لا أن المقدمة تكون جائزة بشرط الإتيان بذيها حتى يكون من طلب الحاصل.

ثمرة القول بالمقدمة الموصلة

(1) الثمرة هي: تصحيح العبادة التي يتوقف على تركها فعل الواجب. توضيح هذه الثمرة يتوقف على أمور:

منها: أن يكون ترك أحد الضدين مقدمة لفعل الضد الآخر؛ كترك الصلاة مقدمة لفعل الإزالة.

و منها: أن تكون مقدمة الواجب المطلق واجبة مطلقا أي: سواء كانت موصلة أم كانت غير موصلة حتى يجب الصلاة مقدمة للإزالة.

و منها: أن يكون الأمر بالشيء على نحو الإيجاب مقتضيا للنهي عن الضد، ليكون الترك الواجب مقتضيا للنهي عن ضده، و هو فعل الصلاة في المثال المذكور.

و منها: أن يكون النهي عن العبادة مقتضيا لفسادها، فتبطل الصلاة في المثال المزبور للنهي عنها؛ الموجب لفسادها حسب الفرض.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم: أن ثمرة القول بوجوب المقدمة الموصلة هي صحة الصلاة التي يتوقف على تركها فعل الإزالة الذي هو واجب فوري، فتصح الصلاة على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة؛ لأنها ليست نقيضا للترك الموصل إلى ذي

ص: 173

يتوقف على تركها فعل الواجب؛ بناء على كون ترك الضد مما يتوقف عليه فعل ضده، فإن تركها على هذا القول لا يكون مطلقا واجبا، ليكون فعلها محرما، فتكون فاسدة؛ بل فيما يترتب عليه (1) الضد الواجب، و مع الإتيان بها لا يكاد يكون هناك ترتب، فلا يكون تركها مع ذلك واجبا؛ فلا يكون فعلها منهيا عنه، فلا تكون فاسدة.

=============

المقدمة حتى تكون منهيا عنها؛ بل نقيض الترك الموصل هو: عدم هذا الترك الخاص، و هذا - أي: عدم الترك الموصل - ليس عين الصلاة حتى يكون منهيا عنه، كي تبطل الصلاة، بل من المقارنات؛ لأن عدم الترك الموصل قد يتحقق بفعل الصلاة، و قد يتحقق بفعل غيرها، كالنوم و الأكل و غيرهما من الأفعال.

و من البديهي: أن الحرمة لا تسري من أحد المتلازمين إلى الآخر فضلا عن المقارن، فالحرمة الثابتة للضد - أعني: عدم الترك الموصل - لا تسري إلى مقارنه أي: الصلاة، فلا وجه حينئذ لبطلانها. هذا كله بناء على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة.

و أما بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة؛ تكون الصلاة في المثال باطلة؛ لأنها حينئذ منهي عنها.

و بالجملة: فالنهي عن الصلاة الموجب لفسادها مبني على وجوب مطلق ترك الصلاة؛ سواء كان موصلا إلى الإزالة أم لا، إذ على هذا المبنى تكون الصلاة منهيا عنها لكونها نقيضا لتركها الواجب مقدمة لفعل الإزالة.

قوله: «مما يتوقف عليه فعل ضده» إشارة إلى الأمر الأول.

و قوله: «ليكون فعلها محرما» إشارة إلى الأمر الثالث.

و قوله: «فتكون فاسدة» إشارة إلى الأمر الرابع؛ و هو: كون النهي عن العبادة مقتضيا للفساد، إذ بدون هذا الاقتضاء لا وجه للفساد.

(1) أي: على ترك الصلاة. أي: ترك الصلاة واجب في مورد يترتب على هذا الترك فعل الإزالة، و مع عدم الإزالة و الإتيان بالعبادة كالصلاة «لا يكاد يكون هناك ترتب» للإزالة على ترك الصلاة، «فلا يكون تركها» أي: العبادة كالصلاة مثلا «مع ذلك» أي: مع عدم ترتب الضد الواجب أعني: الإزالة «واجبا»، و مع عدم وجوب ترك الصلاة مثلا «فلا يكون فعلها منهيا عنه»، و إذا لم تكن الصلاة منهيا عنها «فلا تكون فاسدة».

فالمتحصل من الجميع: أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة هي: صحة العبادة المضادة للواجب؛ كصحة الصلاة المضادة للإزالة في المثال المعروف.

ص: 174

و ربما أورد (1) على تفريع هذه الثمرة بما حاصله: بأن فعل الضد و إن لم يكن نقيضا للترك الواجب مقدمة، بناء على المقدمة الموصلة، إلاّ إنه لازم لما هو من أفراد النقيض، حيث (2) إن نقيض ذاك الترك الخاص رفعه، و هو أعم من الفعل و الترك

=============

(1) هذا الإيراد من صاحب التقريرات(1) المنسوب إلى الشيخ الأنصاري «قدس سره»، و غرضه «قدس سره»: إبطال الثمرة، و إثبات فساد العبادة - كالصلاة في المثال - مطلقا و إن قلنا بوجوب خصوص المقدمة الموصلة.

و حاصل الإيراد على الثمرة المذكورة: أن الفعل على كلا القولين لا يكون نقيضا للواجب؛ لأن نقيض كل شيء رفعه، فنقيض مطلق الترك هو: عدمه، و هو ينطبق على الفعل، كما أن نقيض الترك الموصل عدمه، و هو ينطبق على الفعل و على الترك غير الموصل.

و عليه: فكما يكون الفعل حراما على القول بوجوب مطلق الترك، مع إنه ليس بنقيض و إنما هو مصداق ما هو النقيض، كذلك كونه حراما على القول بوجوب المقدمة الموصلة، لأنه مصداق النقيض أيضا. و إنما النقيض على هذا القول له فردان، و على القول الأول له فرد واحد و هو فرق غير فارق، فالعبادة محرمة على كلا القولين في الفرض المذكور، فما ذكره صاحب الفصول من صحة العبادة على القول بوجوب المقدمة الموصلة، و فسادها على القول بوجوب مطلق المقدمة؛ لا يرجع إلى محصل صحيح.

و توضيح هذا الايراد بعبارة أخرى يتوقف على مقدمة و هي: أن المقرر في علم المنطق و الميزان: هو كون نقيض الأخص أعم، و نقيض الأعم أخص، فإن الإنسان - الذي هو أخص من الحيوان - يكون نقيضه - و هو اللاإنسان - أعم من اللاحيوان الذي هو نقيض الحيوان.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن فيما نحن فيه يكون نقيض الترك الخاص - أعني:

الموصل إلى ذي المقدمة - أعم من نقيض الترك المطلق، فيكون لترك الترك الخاص فردان:

أحدهما: فعل الصلاة. و الآخر: الترك المجرد عن الإيصال، و من البديهي: أنه - بناء على حرمة النقيض - لا بد من الحكم بسراية الحرمة إلى جميع ما ينطبق عليه من الأفراد، و عليه: فالصلاة فاسدة حتى على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة، فالثمرة التي أفادها في الفصول ليست بتامة، و لا تترتب على المقدمة الموصلة.

(2) قوله: «حيث» تعليل لقوله: «إلاّ إنه لازم لما هو من أفراد النقيض» بتقريب: أنه لمّا

ص: 175


1- راجع: مطارح الأنظار، ج 1، ص 379.

الآخر المجرد، و هذا يكفي في إثبات الحرمة، و إلاّ لم يكن الفعل المطلق محرما فيما إذا كان الترك المطلق واجبا؛ لأن (1) الفعل أيضا (2) ليس نقيضا للترك، لأنه (3) أمر وجودي، و نقيض الترك إنما هو رفعه (4)، و رفع الترك إنما يلازم الفعل مصداقا، و ليس عينه، فكما أن هذه الملازمة (5) تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل، فكذلك تكفي في المقام (6)، غاية الأمر (7): أن ما هو النقيض في مطلق الترك، إنما ينحصر مصداقه في الفعل فقط، و أما النقيض للترك الخاص فله فردان، و ذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده، كما لا يخفى.

=============

كان نقيض كل شيء رفعه؛ كان نقيض الترك الخاص - أي: الموصل - رفع هذا الترك الخاص. و من المعلوم: أنه أعم من الفعل - كالإتيان بالصلاة في المثال - و من الترك غير الموصل إلى الإزالة؛ كترك الصلاة بدون الإتيان بالإزالة، و كون فعل الصلاة من لوازم النقيض كاف في ثبوت الحرمة لها المقتضية لفسادها.

(1) تعليل لقوله: «و إلاّ لم يكن الفعل المطلق محرما» أي: إن لم يكف كون الفعل لازما للنقيض في حرمته و فساده، لم يكن وجه لحرمته فيما إذا كان الواجب الترك المطلق، لا خصوص الموصل منه، و ذلك لأن الفعل حينئذ ليس نقيضا للترك الواجب حتى يصير منهيا عنه، لأن الفعل أمر وجوديّ ، و نقيض الترك الواجب أمر عدمي؛ لأن نقيض كل شيء رفعه، فنقيض الترك رفعه.

و من المعلوم: أن رفع الترك ليس عين الفعل، بل هو ملازم للفعل مصداقا، فكما تكون هذه الملازمة كافية في ثبوت الحرمة للعبادة في صورة كون الواجب مطلق الترك؛ فكذلك تكون كافية في ثبوت الحرمة للعبادة في صورة كون الواجب خصوص الترك الموصل، فلا فرق في فساد العبادة بين المقدمة الموصلة و غيرها.

(2) أي: كما لا يكون الفعل نقيضا للترك الموصل؛ كذلك لا يكون نقيضا للترك المطلق.

(3) أي: الفعل أمر وجوديّ ، و نقيض الترك أمر عدميّ ؛ لأنه رفع هذا الترك، و العدمي ليس عين الفعل حتى يتحد معه، بل يلازم الفعل.

(4) أي: رفع الترك بمعنى: عدم الترك.

(5) أي: الملازمة بين رفع الترك المطلق، و بين الفعل.

(6) أي: و هو كون الواجب خصوص الترك الموصل.

(7) إشارة إلى: الفرق بين كون الترك المطلق واجبا، و بين كون الترك الخاص - و هو الموصل - واجبا.

ص: 176

قلت: (1) و أنت خبير بما بينهما من الفرق؛ فإن الفعل في الأول لا يكون إلاّ مقارنا لما هو النقيض؛ من رفع الترك المجامع معه تارة، و مع الترك المجرد أخرى، و لا تكاد تسري حرمة الشيء إلى ما يلازمه، فضلا عما يقارنه أحيانا.

=============

و حاصل الفرق بينهما: انحصار مصداق النقيض في مطلق الترك بالفعل فقط، بخلاف الترك الخاص، فإن لنقيضه - كما عرفت - فردين: أحدهما: فعل الضد، كالصلاة، و الآخر: تركه المجرد عن الإيصال.

لكن هذا الفرق لا يوجب تفاوتا في الحكم بحرمة العبادة؛ لأجل الملازمة بين الصورتين، و هما: وجوب الترك المطلق، و وجوب خصوص الترك الموصل. و هذا ما أشار إليه بقوله: «و ذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده» أي: الفرق المذكور لا يوجب تفاوتا - فيما نحن بصدده - أي: إثبات الحرمة و الفساد للعبادة بسبب الملازمة المزبورة.

الفرق بين نقيضي الترك المطلق و الترك المقيد بالإيصال

(1) أجاب المصنف «قدس سره» عن إشكال الشيخ الأنصاري على صاحب الفصول «قدس سره» بقوله: «و أنت خبير بما بينهما من الفرق» أي: بين نقيضي الترك الموصل و الترك المطلق من الفرق، و قد صحح المصنف كلام صاحب الفصول، و دفع إشكال الشيخ عنه.

و حاصل ما أفاده المصنف: - على ما في «منتهى الدراية ج 2، ص 346» - أنه فرق واضح بين نقيضي الترك المطلق و الترك المقيد بالإيصال، حيث إن النقيض في الترك المطلق و الرافع له هو الفعل بنفسه و إن عبّر عن النقيض برفع الترك، لقولهم: «إن نقيض كل شيء رفعه»، فإن هذا التعبير و إن كان يوجب المغايرة مفهوما بين الفعل و رفع الترك؛ لأن رفع الترك غير الفعل مفهوما، كما هو واضح، لكنه متحد مع الفعل عينا و خارجا، فترك الترك عنوان مشير إلى الفعل، و مرآة للوجود الخارجي الذي هو النقيض حقيقة، و يستحيل اجتماعه مع العدم و ارتفاعهما معا؛ لامتناع اجتماع كلا النقيضين و ارتفاعهما، فبناء على وجوب مطلق الترك يكون نقيضه - و هو وجود الصلاة - منهيا عنه، فتبطل على فرض الإتيان بها.

و بناء على وجوب الترك الخاص - و هو الترك الموصل - يكون نقيضه عدم هذا الترك الخاص. و من المعلوم: أن الفعل حينئذ يكون مقارنا لهذا الترك، لا ملازما له؛ لأنه قد يفارقه، فلا يأتي بالفعل كالصلاة، كما لا يأتي بالواجب الأهم كالإزالة. نظير مقارنة ترك الصوم لفعل الصلاة؛ فإنه لا مجال لتوهم كون الصلاة من أفراد ترك الصوم، و قد قرر في محله: أن حرمة الشيء لا تسري إلى ملازمه - فضلا عن مقارنه - فلا تكون الصلاة حينئذ محرمة، فلو أتى بها كانت صحيحة، فما أفاده الفصول من الثمرة - و هي

ص: 177

نعم؛ (1) لا بد أن لا يكون الملازم محكوما فعلا بحكم آخر على خلاف حكمه، لا أن يكون محكوما بحكمه، و هذا بخلاف الفعل في الثاني؛ (2) فإنه بنفسه يعاند الترك صحة العبادة على القول بالمقدمة الموصلة، و فسادها بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة - في غاية المتانة.

=============

و المراد بالأول: في قوله: «فإن الفعل في الأول» هو: كون الترك المقيد بالإيصال مقدمة، و إنما يكون هو الأول؛ لأنه المبتدأ به في إيراد الشيخ، حيث قال: «و ربما أورد على تفريع هذه الثمرة بما حاصله: إن فعل الضد...» إلخ، و إلاّ فالأول فيما أفاده بقوله: «غاية الأمر: أن ما هو النقيض...» إلخ هو نقيض الترك المطلق؛ لا نقيض الترك المقيد بالإيصال، كما في «منتهى الدراية».

(1) قوله «نعم...» إلخ دفع لتوهم كون الملازم محكوما بحكم فعلي على خلاف حكم الملازم الآخر.

و حاصل الدفع: أنه يعتبر أن لا يكون الملازم محكوما فعلا بحكم على خلاف الملازم الآخر، لا أن يكون محكوما بحكمه.

توضيح ذلك: أنه لو تحقق التلازم بين شيئين؛ كاستقبال المشرق و استدبار المغرب، فوجوب استقبال المشرق لا يستلزم وجوب استدبار المغرب - هذا معنى قوله: «لا أن يكون محكوما بحكمه» - نعم؛ يعتبر أن لا يكون الملازم محكوما بحكم مخالف لحكم الملازم الآخر؛ بأن لا يكون استدبار المغرب محكوما بالحرمة؛ بل يكون بلا حكم.

(2) و هو كون الترك المطلق واجبا، فإن الفعل كالصلاة بنفسه يعاند الترك المطلق، و يناقضه، لا أنه ملازم لما يعاند الترك و ينافيه، فلا محالة تسري حرمة الترك إلى الفعل، و يصير حراما - بناء على كون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضده - فإن الأمر بترك الصلاة مقدمة للإزالة يقتضي النهي عن ضده، أعني: الصلاة، فتبطل.

هذا بخلاف القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة؛ حيث لا تكون باطلة بل أنها صحيحة؛ لأن فعلها حينئذ ليس نقيضا للترك الموصل الواجب مقدمة للإزالة؛ بل من مقارنات النقيض، و من المعلوم: أن حرمة النقيض لا تسري إلى ملازمه فضلا عن مقارنه.

و قد أشار المصنف بقوله: «فلو لم يكن عين ما يناقضه» إلى أن المعنى الاصطلاحي في النقيض يقتضي ما ذكرناه؛ من كون الفعل بنفسه مناقضا للترك، لأن السلب و العدم نقيضين للإيجاب و الوجود؛ إذا المراد بالرفع في قولهم: نقيض كل شيء رفعه هو: الجامع بين المصدر المبني للفاعل، و بين المصدر المبني للمفعول، بحيث يشمل الرفع كلا من الرافع و المرفوع، و عليه: فيصدق النقيض على كل من الإنسان و اللاإنسان؛ إذ كل منهما

ص: 178

المطلق و ينافيه، لا ملازم لمعانده و منافيه، فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما، لكنه متحد معه عينا و خارجا، فإذا كان الترك واجبا، فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه قطعا، فتدبر جيدا.

=============

رافع للآخر و مرفوع به، فكل من الوجود و العدم نقيض للآخر.

قوله: «فإذا كان الترك واجبا» متفرع على اتحاد الفعل مع النقيض، و المراد بالترك هو:

الترك المطلق، و كونه واجبا يقتضي النهي عن نقيضه، و هو رفع هذا الترك المفروض اتحاده مع الفعل أي: فعل الصلاة خارجا، فيصير الفعل منهيا عنه، فيبطل أي: تبطل الصلاة.

هذا بخلاف القول بوجوب المقدمة الموصلة حيث يكون فعل الصلاة حينئذ من مقارنات نقيض الترك الموصل، و قد عرفت غير مرّة: أن حرمة الشيء لا تسري إلى ملازم ذلك الشيء فضلا عن مقارنه، فلا يكون فعل الصلاة محرما و منهيا عنه، فتقع الصلاة صحيحة.

فالمتحصل من الجميع: أن ما ذكره صاحب الفصول من الثمرة و هي صحة العبادة - كالصلاة في المثال - على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة، و فسادها على القول بوجوب مطلق المقدمة في غاية الصحة و المتانة، فلا يرد عليه ما أورده الشيخ الأنصاري في التقريرات.

و هناك ثمرات أخرى تركناها تجنبا عن التطويل الممل.

خلاصة البحث مع نظريات المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - هذا الأمر الرابع يكون من الأمور التي لا بد من بيانها قبل الخوض في المقصود في مبحث مقدمة الواجب، و قد تقدم الكلام في ثلاثة منها:

الأول: هو البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته، فتكون هذه المسألة من المسائل الأصولية.

الثاني: تقسيم المقدمة.

الثالث: تقسيم الواجب.

و هذا الأمر الرابع: في تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق و الاشتراط؛ بناء على الملازمة بين وجوبي المقدمة و ذيها.

يقول المصنف: بالتبعية؛ لأن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها، فيكون تابعا له في الإطلاق و الاشتراط؛ لأن الوجوب المعلولي تابع للوجوب العلي في الإطلاق و الاشتراط،

ص: 179

و لا يكون وجوب المقدمة مشروطا بإرادة الواجب كما يوهمه ظاهر صاحب المعالم؛ لأن وجوب ذي المقدمة ليس مشروطا بالإرادة، فكيف يترشح الوجوب المشروط بها، عن الوجوب غير المشروط بها؟

و ملخص ما في هذا الأمر الرابع: أنه وقع الخلاف في أن وجوب المقدمة - على القول به - هل هو مختص بالمقدمة الموصلة، كما هو ظاهر الفصول، أو بالمقدمة التي قصد التوصل بها إلى ذيها، كما هو المنسوب إلى الشيخ الأنصاري، أو لا يختص بشيء منهما؛ بل الواجب هو مطلق المقدمة، كما هو مختار المصنف ؟

و حاصل كلام المصنف في المقام هو: أن ملاك حكم العقل بوجوب المقدمة هو:

كون الشيء مقدمة للواجب، و لا تكون إرادة الواجب سببا لحكم العقل بوجوب المقدمة كما يزعم صاحب المعالم، و لا قصد التوصل علة لوجوبها، كما زعم صاحب التقريرات، و لا ترتب ذيها عليها سببا لحكم العقل بوجوبها كما ظن صاحب الفصول؛ بل الحكم بوجوب المقدمة إنما هو لأجل عنوان المقدمية، و التوقف.

قوله: «و لا يكون مشروطا بإرادته» إشارة إلى ردّ قول صاحب المعالم.

و قوله: «و أما عدم اعتبار قصد التوصل» إشارة إلى ردّ قول الشيخ، كما أن قوله: «و أما عدم ترتب ذي المقدمة عليها» إشارة إلى ردّ صاحب الفصول.

2 - نعم يعتبر قصد التوصل في مقام الامتثال لأجل ترتب الثواب على امتثال الأمر الغيري؛ لا في أصل وجوب المقدمة، فيقع الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان لإنقاذ غريق لا حراما؛ و إن لم يلتفت المكلف إلى المقدمية و التوقف، إذ ليس للالتفات إلى التوقف دخل في وجوب المقدمة.

غاية الأمر: يكون متجرئا في الدخول لأنه باعتقاده يرتكب الحرام، كما أنه مع الالتفات إلى توقف الإنقاذ على الدخول يكون متجرئا بالنسبة إلى ذي المقدمة؛ أي:

الإنقاذ فيما لم يقصد التوصل إليه أصلا؛ بأن دخل الأرض المغصوبة عالما بالغريق، بانيا و قاصدا على عدم إنقاذه، ثم أنقذه، فإن بناءه هذا كان تجريا، و إن لم ينقذه كان فاعلا للحرام القطعي.

نعم؛ إذا لم يأت بالمقدمة بداعي الإنقاذ؛ بل بداعي آخر كالدخول في الأرض المغصوبة بداعي السياحة، ثم أكده بقصد التوصل إلى الإنقاذ، فلا يكون حينئذ متجرئا أصلا.

ص: 180

و كيف كان؛ فيكون التوصل بالمقدمة إلى الواجب من الفوائد المترتبة على المقدمة؛ لا أن يكون ترتب الواجب عليها، أو قصد التوصل بها إليه قيدا و شرطا لوقوعها على صفة الوجوب - لثبوت ملاك الوجوب فيها - بلا دخل قصد التوصل أو الترتب فيه.

فالفعل المقدمي يقع على صفة الوجوب؛ لا على حكمه السابق الثابت له من الإباحة أو الحرمة، فالدخول في ملك الغير لإنقاذ غريق يقع واجبا، و لا يقع حراما؛ و إن كان حكمه السابق هو الحرمة.

و لو كان لقصد التوصل - فرضا - دخل في الوجوب لما حصل ذات الواجب، و لما سقط الوجوب بإتيان المقدمة بلا قصد التوصل، و هو غير صحيح.

3 - الإشكال بسقوط الوجوب بالفرد المحرم، و هو قياس المقام بالمقدمة المحرمة بسقوط الوجوب بها؛ مع عدم اتصافها بالوجوب.

و ملخص القياس: أن سقوط الوجوب بالمقدمة المأتي بها بلا قصد التوصل لا يكشف عن وجوبها؛ بل هي مما يسقط به الواجب، و ليس بواجب كالفرد المحرم حيث يسقط به الوجوب، و ليس بواجب لامتناع اجتماع الوجوب مع الحرمة.

و حاصل الجواب عنه: أن قياس ما نحن فيه بالفرد المحرم قياس مع الفارق، فيكون باطلا. و حاصل الفرق: أن ملاك الوجوب - أعني: التوقف و المقدمية - ثابت لمطلق المقدمة حتى الحرام منها؛ إلاّ إن الملاك في المقدمة المحرمة لمزاحمته لمفسدة الحرمة لا يؤثر في الوجوب، هذا بخلاف المقدمة المباحة؛ فإن ملاك وجوبها الغيري ليس مزاحما فيؤثر في الوجوب، و مع هذا الفرق لا يصح القياس المزبور.

إرجاع نكير الشيخ على نفسه:

و من العجب أن الشيخ شدد النكير على صاحب الفصول - القائل بوجوب المقدمة الموصلة - بما يتوجه على نفسه و هو اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب. هذا تمام الكلام في ردّ الشيخ الأنصاري.

4 - الكلام في ردّ ما في الفصول من اعتبار ترتب ذي المقدمة على المقدمة في وقوعها على صفة الوجوب، فيقال: إنه لا يكاد أن يعتبر في الواجب إلاّ ما له دخل في الغرض الداعي إلى إيجابه، و ليس الغرض من المقدمة إلاّ تمكن المكلف بإتيان ذيها، فلا تفاوت بين المقدمة الموصلة و غير الموصلة؛ لترتب الغرض بهذا المعنى عليهما.

فما جاء في الفصول من: أن الغرض من المقدمة هو ترتب الواجب عليها باطل؛ إذ لا

ص: 181

يعقل أن يكون ترتب الواجب على المقدمة هو الغرض الداعي إلى الإيجاب؛ لأن الترتب ليس بأثر تمام المقدمات، فضلا عن أن يكون أثر إحداها في غالب الواجبات، فإن الواجب فعل اختياري، فتارة: يختار المكلف إتيان ذلك الفعل بعد وجود مقدماته، و أخرى: يختار عدم إتيان الفعل الواجب، فلا شك في بطلان القول بأن الغرض من المقدمة هو: ترتب الواجب عليها. هذا مضافا إلى أن هناك دليلا آخر على بطلان ترتب الواجب على المقدمة، و هذا الدليل مبنيّ على أمرين:

الأول: أنه لو كان الترتب معتبرا في الوجوب الغيري لما كان الطلب للمقدمة يسقط بمجرد الإتيان بها بلا ترتب الواجب عليها، و التالي باطل لسقوط الطلب الغيري بمجرد الإتيان بالمقدمة.

الثاني: أن الطلب لا يسقط إلاّ بثلاثة أمور:

1 - الموافقة.

2 - العصيان و المخالفة.

3 - ارتفاع الموضوع مثل: غرق الميت أو حرقه، و الإتيان بالمقدمة ليس من الأمور المذكورة المسقطة للطلب؛ على القول بوجوب المقدمة الموصلة، مع إنه مسقط للطلب الغيري، فالواجب هو: مطلق المقدمة لا خصوص الموصلة. و من هنا ظهر: خطأ القول بوجوب المقدمة الموصلة.

5 - استدل صاحب الفصول على وجوب المقدمة الموصلة بوجوه:

الأول: أن المتيقن من حكم العقل بوجوب المقدمة هو خصوص الموصلة.

الثاني: أن العقل يجوّز تصريح الآمر الحكيم بعدم مطلوبية غير الموصلة من المقدمة.

الثالث: أن الأمر تابع للغرض الداعي إليه سعة و ضيقا، و العقل يدرك أن الغرض من إيجاب المقدمة ليس إلاّ التوصل بها إلى ذيها، فلا يحكم إلاّ بخصوص وجوب المقدمة الموصلة.

و حاصل الجواب عن الوجه الأول: أن العقل الحاكم بالملازمة حاكم بها بين وجوب مطلق المقدمة و وجوب ذيها؛ لما عرفت غير مرة: من أن الملاك في الوجوب الغيري هو:

تمكن المكلف من الإتيان بالواجب، و هو ثابت لمطلق المقدمة.

و حينئذ لا يبقى تردد للعقل حتى يحكم - من باب القدر المتيقن - بوجوب خصوص الموصلة. و من هنا يظهر بطلان الوجهين الأخيرين؛ إذ مع ثبوت الملاك في مطلق المقدمة

ص: 182

ليس للآمر الحكيم التصريح بعدم مطلوبية غير الموصلة، و ليس الغرض من الأمر بالمقدمة الإيصال بها إلى ذيها؛ بل الغرض هو تمكن المكلف من الواجب، و هو ثابت لمطلق المقدمة، فالواجب هو مطلق المقدمة لا خصوص المقدمة الموصلة.

نعم؛ هناك تفاوت بين المقدمة الموصلة و غيرها؛ و هو حصول المطلوب النفسي في المقدمة الموصلة دون غيرها، و لا دخل لهذا التفاوت في وجوب المقدمة الموصلة؛ بل هذا التفاوت ناش عن حسن اختيار المكلف و سوء اختياره.

6 - منشأ توهم صاحب الفصول لوجوب المقدمة الموصلة:

هو خلطه بين الجهة التقييدية و الجهة التعليلية، فجعل ما هو الجهة التعليلية جهة تقييدية، فإن التوصل بالمقدمة إلى ذيها علة لوجوب المقدمة، فيكون من الجهات التعليلية، و لكن الفصول جعله قيدا لمتعلق الوجوب و معروضه؛ حيث قال: إن المقدمة الواجبة هي المقيدة بالإيصال، فيكون التوصل من الجهات التقييدية حسب زعم صاحب الفصول، فينتفي وجوب المقدمة عند انتفاء هذا القيد؛ لأن الفرق بين الجهة التعليلية و التقييدية أولا:

أن الأولى: من مبادئ نفس الحكم و علله. و الثانية: من قيود متعلق الحكم و معروضه.

و ثانيا: أن الحكم لا ينتفي بانتفاء الجهة التعليلية؛ لإمكان مدخلية العلة حدوثا لا بقاء، و ينتفي الحكم بانتفاء الجهة التقييدية، و ما ذكره الفصول إنما يتم إذا كان التوصل قيدا لمتعلق الحكم لا فيما إذا كان علة للحكم، و يتم فيما إذا كان التوصل غاية لوجوب المقدمة، فإذا لم تحصل هذه الغاية لم تجب المقدمة، و ليس الأمر كذلك أي: لا يكون التوصل قيدا و لا غاية؛ لأن الغاية هي حصول التمكن من الواجب.

7 - و هناك دليل آخر على وجوب خصوص المقدمة الموصلة: و هذا الدليل منسوب إلى السيد الفقيه صاحب العروة، و حاصل هذا الدليل: أن جواز تحريم المولى المقدمات بأنحائها - إلاّ الموصلة منها - يدل على عدم وجوب غير الموصلة، و أن الواجب منها هو خصوص الموصلة؛ إذ لو وجب غيرها لما جاز تحريم المولى إياه، فجواز المنع عن جميع المقدمات - إلاّ الموصلة - كاشف عن وجوب خصوص الموصلة و هو المطلوب.

و قد أجاب المصنف عن هذا الدليل أولا: بما حاصله: أن النهي عن جميع المقدمات - إلاّ الموصلة - محل نظر. و حاصل النظر و الإشكال: أنه يلزم من المنع المذكور أحد محذورين هما: طلب الحاصل، و عدم كون ترك الواجب عصيانا؛ لأن عنوان الموصلية لا يحصل للمقدمة إلاّ بعد ترتب الواجب عليها. و من البديهي: أن بعد وجود الواجب

ص: 183

و تحقق الموصلية يكون طلب المقدمة طلبا لما هو حاصل.

و أما عدم كون ترك الواجب عصيانا: فلأن المانع الشرعي كالمانع العقلي، فالإخلال بالواجب لمانع شرعي لا يعد عصيانا و مخالفة موجبة لاستحقاق المؤاخذة؛ إذ المفروض في المقام: أن ترك الواجب مستند إلى المانع الشرعي، و هو النهي عن مقدماته - إلاّ الموصلة - و مع لزوم المحذورين لا يجوز النهي عن جميع المقدمات إلاّ الموصلة.

هذا مع إن عدم اتصاف المقدمة - مع المنع عن جميع المقدمات - إنما هو لوجود المانع؛ و هو تحريم الشارع، هذا بخلاف ما نحن فيه؛ فإن المفروض: هو وجوب المقدمات المباحة موصلة كانت أم غير موصلة.

فقياس ما نحن فيه بما في كلام صاحب العروة قياس مع الفارق، فلا يدل ما في استدلال صاحب العروة على انحصار الوجوب بالموصلة في كل المواضع.

8 - في ثمرة القول بالمقدمة الموصلة:

و هي تصحيح العبادة التي يتوقف على تركها فعل الواجب الأهم.

توضيح تلك الثمرة يتوقف على أمور:

الأول: أن يكون ترك أحد الضدين مقدمة لفعل الضد الآخر؛ كترك الصلاة مقدمة لفعل الإزالة.

الثاني: أن يكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن الضد ليكون الترك الواجب - كترك الصلاة - مقتضيا للنهي عن ضده، و هو فعل الصلاة في المثال.

الثالث: أن يكون النهي في العبادة مقتضيا لفسادها، فتبطل الصلاة في المثال؛ للنهي عنها الموجب لفسادها حسب الفرض.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم: أن ثمرة القول بوجوب المقدمة الموصلة هي صحة الصلاة التي يتوقف على تركها فعل الإزالة؛ لأنها ليست نقيضا للترك الموصل حتى تكون منهيا عنها؛ لأن نقيض الترك الموصل هو عدم الترك الموصل، و هو ليس عين فعل الصلاة كي تبطل الصلاة.

هذا بخلاف القول بوجوب مطلق المقدمة، فالصلاة حينئذ ضد، و نقيض للترك الواجب مقدمة للإزالة، فتكون منهيا عنها فتقع فاسدة حسب الفرض؛ و هو: أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، و النهي يدل على الفساد إذا كان الضد من العبادات كما هو في المقام.

ص: 184

و هناك إشكال و إيراد على الثمرة المذكورة، و قد أجاب المصنف عن الإيراد.

توضيح الإيراد: أن المقرر في علم الميزان هو: كون نقيض الأعم أخص و بالعكس، فاللاإنسان أعم من اللاحيوان، فنقيض الترك الموصل أعم من نقيض الترك المطلق؛ بمعنى: أن لترك الترك الموصل الخاص فردان: أحدهما: فعل الصلاة، و الآخر: الترك المجرد عن الإيصال. و من المعلوم: أنه بناء على حرمة الضد و النقيض تكون الصلاة - في المثال المعروف - فاسدة؛ لأنها من مصاديق نقيض الترك الموصل الواجب مقدمة للإزالة، فالصلاة باطلة على القول بالمقدمة الموصلة. أما بطلانها على القول بوجوب مطلق المقدمة فواضح. فالثمرة التي أفادها في الفصول ليست بتامة.

و حاصل الجواب: أنه فرق واضح بين نقيضي الترك المطلق و الترك المقيد بالإيصال.

و خلاصة الفرق: أن النقيض في الترك المطلق و الرافع له هو الفعل بنفسه؛ لأن رفع الترك و إن كان مغايرا للفعل مفهوما؛ لكنه متحد معه عينا و خارجا، فبناء على وجوب مطلق المقدمة يكون نقيضه وجود الصلاة، فتبطل لكونها منهيا عنها، هذا بخلاف وجوب المقدمة الموصلة؛ لأن المقدمة الواجبة حينئذ هو الترك الموصل. و من المعلوم: أن فعل الصلاة إنما هو من مقارنات هذا الترك لا نقيضا له و لا ملازما. و قد قرر في محله:

أن حرمة الشيء لا تسري إلى ملازمه فضلا عن مقارنه، فلا تكون الصلاة حينئذ منهيا عنها، فلو أتى بها كانت صحيحة.

فما أفاده صاحب الفصول من الثمرة؛ و هي: صحة العبادة على القول بوجوب المقدمة الموصلة، و فسادها على القول بوجوب مطلق المقدمة في غاية المتانة.

فالمتحصل من الجميع:

أن ما ذكره صاحب الفصول من الثمرة صحيح، و لا يرد عليه ما أورده عليه الشيخ في التقريرات.

9 - نظريات المصنف «قدس سره»:

1 - وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها في الإطلاق و الاشتراط.

2 - وجوب المقدمة لا يكون تابعا لإرادة ذي المقدمة.

3 - عدم اعتبار قصد التوصل، و لا الإيصال في وجوب المقدمة.

4 - صحة الثمرة التي أفادها صاحب الفصول على القول بوجوب المقدمة الموصلة.

ص: 185

و منها: (1) تقسيمه إلى الأصلي و التبعي؛ (2) و الظاهر: أن يكون هذا التقسيم

=============

في تقسيم الواجب إلى الأصلي و التبعي
اشارة

(1) من تقسيمات الواجب تقسيمه إلى الأصلي و التبعي.

و كان الأولى: ذكر هذا التقسيم في الأمر الثالث المنعقد لتقسيمات الواجب؛ لا في الأمر الرابع المنعقد لبيان ما في وجوب المقدمة من الأقوال؛ أي: قول صاحب المعالم، و قول الشيخ، و قول صاحب الفصول، فتعرض المصنف لهذا التقسيم في ذيل الأمر الرابع إما من سهو القلم، أو من نسيان، فكأنه نسيه هناك و تذكره هاهنا. و كيف كان؛ فنحن نتبعه في ذلك.

(2) توضيح المراد من الأصالة و التبعية يتوقف على بيان جميع الوجوه المحتملة في الأصالة و التبعية، فنقول:

المحتمل فيما هو المراد من الأصلي و التبعي أمور ثلاثة:

الأول: أن يراد بالأصلي و التبعي: الأصلي و التبعي في مقام الإثبات و الدلالة.

فالواجب الأصلي: ما دل عليه الدليل بالدلالة المطابقية؛ كدلالة اللفظ على المنطوق.

و الواجب التبعي: ما دل الدليل عليه بالتبعية؛ كدلالة اللفظ على المفهوم.

الثاني: أن يراد بالأصلي و التبعي: الأصلي و التبعي في مقام الثبوت، هذا يتصور على قسمين: الأول: أن يراد بالواجب الأصلي ما لا ينشأ عن إرادة أخرى؛ بل هو مراد بإرادة مستقلة غير تابعة لإرادة أخرى.

و الواجب التبعي: ما يكون مرادا بإرادة تابعة لإرادة أخرى، كإرادة المقدمة حيث تكون تابعة لإرادة ذيها.

الثاني: أن يراد بالأصلي: ما لوحظ تفصيلا للالتفات إليه. و بالتبعي: ما لم يلاحظ كذلك؛ بل لوحظ إجمالا، فالأصالة و التبعية تكونان بحسب اللحاظ التفصيلي و عدمه.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم: أن مختار المصنف من الأصالة و التبعية هو: الأصالة و التبعية في مقام الثبوت و الواقع، لا بحسب دلالة اللفظ، و مقام الإثبات. حيث قال:

«و الظاهر: أن يكون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة و التبعية في الواقع و مقام الثبوت».

و قوله: «حيث يكون الشيء تارة: متعلقا للإرادة و الطلب مستقلا» إشارة إلى القسم الأول من قسمي الأصلي و التبعي في مقام الثبوت، و ليس في كلامه دلالة أو إشارة إلى القسم الثاني من قسمي الأصلي و التبعي في مقام الثبوت.

قوله: «للالتفات إليه بما هو عليه...» إلخ تعليل لإرادته مستقلا.

و ملخص التعليل: أن تعلق الإرادة الاستقلالية بشيء إنما هو للالتفات إليه بسبب ما

ص: 186

بلحاظ الأصالة و التبعية في الواقع و مقام الثبوت، حيث يكون الشيء تارة: متعلقا للإرادة و الطلب مستقلا للالتفات إليه بما هو عليه؛ مما يوجب طلبه فيطلبه، كان طلبه يكون ذلك الشيء عليه من الملاك الموجب لطلب ذلك الشيء، فيطلبه و يأمر به، و هو المسمى حينئذ بالواجب الأصلي؛ من غير فرق بين ما كان طلبه نفسيا أو غيريا، ثم الواجب التبعي حينئذ ما يكون متعلقا لإرادة تابعة لإرادة غيره؛ كما أشار إليه بقوله:

=============

«و أخرى متعلقا للإرادة تبعا لإرادة غيره؛ لأجل كون إرادته» أي: الشيء «لازمة لإرادته» أي: الغير.

و من هنا يظهر: أن كلا من الواجب النفسي و الغيري يتصف بالأصلي بهذا المعنى، و لا يتصف بالتبعي بهذا المعنى إلاّ الواجب الغيري، إذ ليست الإرادة تابعة لإرادة غيره في الواجب النفسي.

و كيف كان؛ فظاهر المصنف: كون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة و التبعية في مقام الثبوت تبعا للشيخ الأنصاري «قدس سره» لا بلحاظهما في مقام الإثبات و الدلالة، كما هو مذهب صاحبي القوانين و الفصول، حيث قال صاحب القوانين ما هذا لفظه: «و المراد من الوجوب الشرعي هو الأصلي الذي حصل من اللفظ، و ثبت من الخطاب قصدا» و هذا الكلام صريح في المطلوب.

و قال صاحب الفصول: «و ينقسم الواجب باعتبار آخر إلى أصلي و تبعي، فالأصلي:

ما فهم وجوبه بخطاب مستقل أي: غير لازم لخطاب و إن كان وجوبه تابعا لوجوب غيره. و التبعي: بخلافه، و هو ما فهم وجوبه تبعا لخطاب آخر و إن كان وجوبه مستقلا؛ كما في المفاهيم. و المراد بالخطاب: ما دل على الحكم الشرعي فيعم اللفظ و غيره»، فهما متفقان على كون التقسيم إلى الأصلي و التبعي ناظرا إلى مقام الإثبات و الدلالة.

و قد أشار المصنف إلى كون التقسيم المذكور بحسب مقام الإثبات بقوله: «فإنه يكون في هذا المقام أيضا تارة: مقصودا بالإفادة» أي: الشيء المطلوب «يكون في هذا المقام» أي: مقام الإثبات «أيضا» أي: كمقام الثبوت «تارة: مقصودا بالإفادة» بأن يكون سوق الكلام لإفادته، فتكون دلالة الكلام على طلبه استقلالا، «و أخرى:» يكون طلبه «غير مقصود بها» أي: بالإفادة «على حدة»، فلا يكون الكلام مسوقا لإفادته. فالأول: يكون مقصودا بالأصالة، و الثاني: يكون مقصودا بالتبع، فالأصالة و التبعية كما تكونان بحسب مقام الثبوت، كذلك تكونان بحسب مقام الإثبات و الدلالة؛ «إلاّ إنه لازم الخطاب» أي:

الشيء المطلوب يكون لازم الخطاب فيما هو المقصود بالتبع.

ص: 187

نفسيا أو غيريا، و أخرى: متعلقا للإرادة تبعا لإرادة غيره؛ لأجل كون إرادته لازمة لإرادته؛ من دون التفات إليه بما يوجب إرادته لا بلحاظ الأصالة و التبعية في مقام الدلالة و الإثبات، فإنه يكون في هذا المقام تارة: مقصودا بالإفادة، و أخرى: غير مقصود بها على حدة، إلاّ إنه لازم الخطاب كما في دلالة الإشارة (1) و نحوها (2).

و على ذلك، فلا شبهة في انقسام الواجب الغيري، إليهما و اتصافه بالأصالة و التبعية كلتيهما (في نسخة: كليهما)، حيث (3) يكون متعلقا للإرادة على حدة عند

=============

(1) أي: و هي ما لا يكون المدلول فيها مقصودا بالخطاب؛ كدلالة الآيتين على إنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ و هما: قوله تعالى: و الوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرّضاعة(1)، و قوله تعالى: و حمله و فصاله ثلاثون شهرا (2)فإن المستفاد منهما هو: أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لكنه غير مقصود بالخطاب، فيكون مقصودا بالتبع لا بالأصالة.

(2) أي: نحو دلالة الإشارة، كدلالة القضية الشرطية و غيرها من القضايا ذوات المفاهيم على مفاهيمها؛ حيث إن المفهوم ليس مقصودا بالأصالة، بل المقصود بالأصالة فيها هي الدلالة المنطوقية على ما قيل؛ و لكن فيه إشكال، لأن المفاهيم مقصودة بالخطاب كالمناطيق، غاية الأمر: أن الدلالة المفهومية في طول الدلالة المنطوقية، و من البديهي: أن الطولية لا تنافي كون كل من المدلولين مقصودا بالإفادة، فجعل المفاهيم من قبيل دلالة الإشارة ليس في محله، بل هو غير سديد.

و كيف كان؛ فعلى ما هو مختار المصنف من كون هذا التقسيم ناظرا إلى مقام الثبوت فلا شبهة في انقسام الواجب الغيري إلى الأصلي و التبعي كما أشار إليه بقوله:

«و على ذلك» أي: على كون التقسيم بلحاظ مقام الثبوت فلا شك في اتصاف الواجب الغيري بالأصلي و التبعي.

(3) بيان لاتصاف الواجب الغيري بالأصالة و التبعية، فإن الوضوء مثلا مراد تفصيليّ في قوله تعالى: إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم و أيديكم إلى المرافق(3)، فيكون واجبا أصليا مع كونه غيريا، و نصب السلم مثلا مقدمة للواجب النفسي - و هو الكون على السطح - واجب غيري تبعي؛ لعدم تعلق الإرادة به مستقلا

ص: 188


1- البقرة: 233.
2- الأحقاف: 15.
3- المائدة: 6.

الالتفات إليه بما هو مقدمة، و أخرى: لا يكون متعلقا لها كذلك عند عدم الالتفات إليه كذلك (1)؛ فإنه يكون لا محالة مرادا تبعا لإرادة ذي المقدمة على الملازمة.

كما لا شبهة في اتصاف النفسي أيضا بالأصالة، و لكنه لا يتصف بالتبعية.

ضرورة (2): إنه لا يكاد يتعلق به الطلب النفسي ما لم تكن فيه مصلحة نفسية، و معها (3) يتعلق الطلب بها مستقلا، و لو لم يكن هناك شيء آخر مطلوب أصلا، كما لا يخفى.

=============

لعدم الالتفات إليه، كما أشار إليه بقوله: «و أخرى: لا يكون متعلقا لها كذلك» أي: تارة أخرى: لا يكون الواجب الغيري المقدمي متعلقا للإرادة مستقلا.

اتصاف الواجب الغيري بالأصالة و التبعية دون الواجب النفسي

(1) أي: بما هو مقدمة، «فإنه» أي: الواجب الغيري و إن لم يكن ملتفتا إليه؛ إلاّ إنه «يكون لا محالة مرادا» للمولى «تبعا لإرادة ذي المقدمة على الملازمة» يعني: بناء على الملازمة بين وجوب الواجب و وجوب مقدمته، فإنه لا ينفك إرادة الواجب عن إرادة المقدمة ارتكازا و إجمالا.

فتحصل مما ذكرناه: أن الواجب الغيري يتصف بالأصالة و التبعية في مرحلة الواقع و مقام الثبوت. و أما الواجب النفسي: فإنه و إن كان كالواجب الغيري في اتصافه بالأصالة بلا شبهة؛ إلاّ إنه لا يتصف بالتبعية؛ لوضوح: أنه مع الالتفات إليه يراد مستقلا، إذ مع اشتماله على المصلحة النفسية لا يكون لازما للغير حتى يراد تبعا له، و بدون الالتفات إليه لا يتصف الواجب النفسي بشيء من الأصالة و التبعية.

و كيف كان؛ فالواجب الغيري يتصف بالأصالة و التبعية معا بخلاف الواجب النفسي؛ فإنه لا يتصف إلاّ بالأصالة دون التبعية، كما أشار إليه بقوله: «لا شبهة في اتصاف النفسي أيضا بالأصالة، و لكنه لا يتصف بالتبعية»، أما اتصافه بالأصالة: فواضح؛ لأنه واجد لمصلحة نفسية تقتضي تعلق إرادة مستقلة به. و أما عدم اتصافه بالتبعية: فلعدم تعلق إرادة به تبعا لإرادة غيره.

(2) تعليل لعدم اتصاف الواجب النفسي بالتبعية.

و حاصل التعليل: على ما في «منتهى الدراية»: أن النفسية و التبعية متضادتان، فلا يجتمعان؛ و ذلك لأن اتصاف الواجب بالنفسية منوط بكونه ذا مصلحة نفسية، و إذا كان كذلك تعلق به الطلب مستقلا و على حدة، و هو ينافي تعلق الطلب به تبعا.

(3) أي: مع المصلحة النفسية «يتعلق الطلب بها» أي: بالمصلحة النفسية «مستقلا»، يعني: غير تابع لإرادة أخرى.

ص: 189

نعم؛ (1) لو كان الاتصاف بهما بلحاظ الدلالة اتصف النفسي بهما أيضا، ضرورة: أنه قد يكون غير مقصود بالإفادة؛ بل أفيد بتبع غيره المقصود بها (2).

لكن الظاهر - كما مر (3) - أن الاتصاف بهما (4) إنما هو في نفسه لا بلحاظ حال و حاصل الكلام: أن الواجب النفسي لا يتصف بالتبعية؛ لأنه مع الالتفات إليه، و كونه ذا مصلحة نفسية يتعلق به الطلب مستقلا لا تبعا لغيره، و مع عدم الالتفات إليه لا يتصف بشيء منهما أصلا.

=============

(1) استدراك على ما أفاده من: عدم اتصاف الواجب النفسي بالتبعية، و حاصله: أن عدم اتصاف الواجب بالتبعية إنما هو بناء على كون الأصالة و التبعية بلحاظ الإرادة التي هي مقام الثبوت.

و أما بناء على كونهما بلحاظ مقام الإثبات و الدلالة: فلا إشكال في اتصاف الواجب النفسي بالأصالة و التبعية كالواجب الغيري؛ لأن الواجب النفسي في مقام الإثبات و الدلالة يمكن أن يكون مقصودا بالإفادة، و يمكن أن لا يكون مقصودا بها؛ بل يفاد بتبع شيء آخر، فالمقصود بالإفادة هو: ذلك الشيء، و يفاد الواجب النفسي تبعا له، نظير ما دل على شرطية تقدّم الظهر لصحة العصر؛ فإن المقصود بالإفادة منه هو شرطية تقدمها لا كونها واجبا نفسيا.

(2) أي: بالإفادة.

(3) أي: مر في أول البحث حيث قال: «و الظاهر: أن يكون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة و التبعية في الواقع و مقام الثبوت».

(4) يعني: بالأصالة و التبعية «إنما هو في نفسه» يعني: أن الواجب في نفسه إما أصلي و إما تبعي؛ سواء دل دليل لفظي عليه أم لا. فالظاهر: أن الواجب في نفسه يتصف بالأصالة و التبعية.

وجه الظهور: أن كون الوصف بحال الموصوف أولى من أن يكون بلحاظ حال المتعلق، أعني: دلالة الدليل. و من المعلوم: أن جعل الأصالة و التبعية بحسب مقام الثبوت يوجب كون الوصف - و هو الأصلي و التبعي - بحال الموصوف. أعني: نفس الوجوب؛ كقولنا: الوجوب الأصلي و الوجوب التبعي، هذا بخلاف لحاظهما بحسب مقام الإثبات، فإن الوصف يكون بحال المتعلق - و هو الدليل - كقولنا: الوجوب الأصلي ما تكون دلالة دليله عليه أصالة، و التبعي ما تكون دلالة دليله عليه تبعا، فالأصالة و التبعية في الحقيقة وصفان لدلالة دليل الوجوب لا للوجوب نفسه. هذا ما أشار إليه بقوله: «إن

ص: 190

الدلالة عليه؛ و إلا (1) لما اتصف بواحد منهما، إذا لم يكن بعد مفاد دليل، و هو (2) كما ترى.

ثم إنه إذا كان الواجب التبعي (3) ما لم يتعلق به إرادة مستقلة، فإذا شك في الاتصاف بهما إنما هو في نفسه» أي: الواجب، ليكون الوصف بحال الموصوف؛ لا بلحاظ الدلالة على الواجب ليكون الوصف بحال المتعلق، كما عرفت.

=============

(1) أي: و إن لم يكن التقسيم بلحاظ مقام الثبوت، كي يكون الوصف بحال الموصوف بأن كان بلحاظ مقام الإثبات و الدلالة، كي يكون الوصف بحال المتعلق لما اتصف الواجب النفسي - الذي لم يقم عليه دليل بعد - بواحد من الأصالة و التبعية، مع إن التقسيم ظاهر في عدم خلو واجب عنهما، و إن لم يكن هناك دليل.

فمن ذلك يتبين: أن هذا التقسيم للواجب إنما هو بحسب مقام الثبوت، فلا يتوقف على وجود دليل في مقام الإثبات.

(2) أي: إن كون التقسيم بحسب مقام الإثبات كما ترى غير سديد؛ لكونه على خلاف ما هو ظاهر التقسيم من أن ظاهره: اتصاف الواجب النفسي بالأصالة و التبعية، و لو لم يكن هناك دليل. و بعبارة أخرى: إن التقسيم لا يتوقف على وجود دليل، و إنما الواجب هو نفسه ينقسم إلى أصلي و تبعي.

(3) يعني: مقتضى الأصل هو: كون الواجب تبعيا إذا كان الواجب التبعي، بمعنى:

ما لم يتعلق به إرادة مستقلة.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الأصلي و التبعي بلحاظ مقام الثبوت يتصور على قسمين:

الأول: الأصلي: ما يكون مرادا بإرادة مستقلة غير تابعة لإرادة أخرى.

و التبعي: ما يكون مرادا بإرادة تابعة لإرادة أخرى، كوجوب المقدمة.

الثاني: الأصلي: ما لوحظ تفصيلا للالتفات إليه.

و التبعي: ما لم يلاحظ كذلك؛ بل لوحظ إجمالا، فالأصالة و التبعية في القسم الأول: تكونان بحسب استقلال الإرادة و تبعيتها، و في القسم الثاني: بحسب اللحاظ التفصيلي و عدمه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه إن كان الواجب التبعي بالمعنى الأول يعني: ما لم تتعلق به إرادة مستقلة، ثم شك في واجب أنه أصلي أو تبعي كان مقتضى الأصل كونه تبعيا.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن المركب من جزءين أحدهما يكون وجوديا

ص: 191

واجب أنه أصلي أو تبعي، فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به يثبت أنه تبعي، و يترتب عليه آثاره إذا فرض له أثر شرعي (في نسخة: آثار شرعية)، كسائر الموضوعات المتقومة بأمور عدمية (1).

نعم (2)؛ لو كان التبعي أمرا وجوديا خاصا غير متقوم بعدمي (3) - و إن كان يلزمه (4) لما (5) كان يثبت بها إلاّ على القول بالأصل المثبت كما هو واضح، فافهم (6).

=============

و الآخر عدميا يمكن إحراز الجزء العدمي بالأصل، إذا كان الجزء الوجودي محرزا بالوجدان.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لما كان الواجب التبعي بالمعنى الأول مركبا من جزءين: أحدهما: وجوبه المحرز وجدانا، و الآخر: عدم تعلق إرادة مستقلة به أمكن إجراء أصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به؛ فيحصل المركب من الجزء الوجودي و العدمي، و يثبت الواجب التبعي. هذا نظير موضوع الضمان المركب من الاستيلاء على مال الغير و عدم رضاء المالك به في كون الأول محرزا وجدانا، و الآخر: تعبدا بالأصل أعني: استصحاب عدم رضاء المالك، فأصل الوجوب في المقام ثابت بالوجدان، و تبعيته ثابت بالأصل.

(1) أي: كموضوع الضمان على ما عرفت، و كانفعال الماء القليل - بناء على كون القلة أمرا عدميا - فإن موضوع انفعال الماء القليل، و هو مركب من جزءين: أحدهما: و هو الماء محرز بالوجدان، و الآخر: أعني: القلة محرز بالأصل، فإن الأصل عدم الكثرة.

(2) استدراك على قوله: «فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به يثبت أنه تبعي».

و حاصل الاستدراك: أن ما ذكر من: أن مقتضى الأصل هو: كون الواجب تبعيا إنما يتم إذا كان التبعي متقوما من أمر عدمي. و أما إذا كان التبعي نحوا من الإرادة - أعني:

الإرادة التابعة لإرادة أخرى، مقابلا للأصلي بمعنى: ما يكون مرادا بإرادة غير تابعة لإرادة أخرى - «لما كان يثبت بها» أي: بأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة إلاّ على القول بالأصل المثبت؛ إذ حينئذ يكون تعلق إرادة غير مستقلة به من لوازم عدم تعلق إرادة مستقلة عقلا.

(3) و هو: عدم تعلق إرادة مستقلة به.

(4) أي: يلزم الأمر العدمي؛ أعني: عدم تعلق إرادة مستقلة به.

(5) جواب - لو - في قوله: «لو كان التبعي...» إلخ.

(6) لعله إشارة إلى عدم ثبوت التبعي بالأصل و لو على القول بالأصل المثبت؛ لأن العدم ملازم للتبعي، فهما متلازمان، و القائل بالأصل المثبت لا يقول إلاّ بترتب أثر اللازم، لا أثر الملازم، أو إشارة إلى: عدم جريان الأصل العملي في هذا المقام أصلا؛ لعدم ترتب أثر شرعي عليه، لأن الأثر مترتب على أصل الوجوب، من دون دخل للأصلية و التبعية فيه، و المفروض: هو العلم بأصل الوجوب.

ص: 192

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - كان الأولى أن يتعرض المصنف لهذا التقسيم في الأمر الثالث المنعقد لتقسيمات الواجب؛ لا في الأمر الرابع المنعقد لبيان ما في وجوب المقدمة من الأقوال.

و كيف كان؛ فالمحتمل فيما هو المراد من الأصلي و التبعي هو احتمالان:

الأول: أن يراد بهما ما هو الأصلي و التبعي في مقام الإثبات، كما هو مذهب صاحبي القوانين و الفصول.

الثاني: أن يراد بهما ما هو الأصلي و التبعي في مقام الثبوت، كما هو مختار المصنف تبعا للشيخ الأنصاري.

ثم هذا الاحتمال الثاني على قسمين:

الأول: أن يراد بالواجب الأصلي: ما يكون مرادا بإرادة مستقلة، و أن يراد بالتبعي: ما يكون مرادا بإرادة تابعة لإرادة أخرى.

الثاني: أن يراد بالأصلي: ما لوحظ تفصيلا، و بالتبعي: ما لوحظ إجمالا.

2 - أن ظاهر المصنف «قدس سره» كون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة و التبعية في مقام الثبوت، ثم إن كلا من الواجب النفسي و الغيري يتصف بالأصلي بحسب مقام الثبوت إذا كان المراد بهما القسم الأول، و هو كون الأصلي مرادا بإرادة مستقلة. و التبعي مرادا بإرادة تابعة لإرادة أخرى.

و لكن الواجب الأصلي لا يتصف بالتبعي؛ إذ ليست إرادة الواجب النفسي تابعة لإرادة غيره. أما لو كان المراد بالأصلي و التبعي ما هو الأصلي و التبعي؛ بحسب مقام الإثبات و الدلالة لا تصف الواجب النفسي بالتبعي أيضا، كالواجب الغيري، إذ قد لا يكون الواجب النفسي مقصودا بالإفادة مستقلا؛ بل أفيد بتبع غيره.

3 - أن مقتضى الأصل كون الواجب تبعيا عند الشك في واجب أنه أصلي أو تبعي؛ لأن التبعي مركب من جزء وجودي محرز بالوجدان و هو: الوجوب، و من جزء عدمي و هو: عدم تعلق إرادة مستقلة به يحرز بالأصل أعني: أصالة عدم تعلق إرادة مستقلة.

نعم؛ لو كان التبعي أمرا وجوديا - بأن يكون نحوا من الإرادة أعني: الإرادة التابعة لإرادة أخرى - لا يثبت بأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به؛ إلاّ على القول بالأصل المثبت «فافهم»، لعله إشارة إلى: عدم جريان الأصل العملي في المقام أصلا؛ لعدم ترتب أثر

ص: 193

تذنيب (1) - في بيان الثمرة:

و هي في المسألة الأصولية - كما عرفت سابقا - ليست إلاّ إن تكون نتيجتها شرعي، لأن الأثر مترتب على أصل الوجوب؛ من دون دخل وصفي الأصالة و التبعية فيه أصلا، و المفروض: هو العلم بأصل الوجوب.

=============

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - كون هذا التقسيم إنما هو بلحاظ الاصالة و التبعية بحسب مقام الثبوت.

2 - مقتضى الأصل: تبعية الواجب عند الشك في أنه أصليّ أو تبعيّ .

3 - هذا بحسب الظاهر. أما بحسب الواقع: فلعل رأيه: عدم جريان الأصل العملي في المقام، فلا أصل حتى يقتضي تبعية الواجب، كما تقدم في وجه «فافهم».

ثمرة المسألة
اشارة

(1) الغرض من عقد هذا التذنيب هو: بيان ثمرة بحث مقدمة الواجب، إذ لكل مسألة لا بد من ثمرة لولاها لكان البحث عنها لغوا. و نظرا إلى هذه القاعدة العقلية: جاء المصنف «قدس سره» بهذا التذنيب؛ يريد أن يبيّن فيه الثمرة، التي تترتب على بحث مقدمة الواجب.

فيقع الكلام في مقامين:

الأول: في بيان ما هو ثمرة لبحث مقدمة الواجب بشكل عام.

الثاني: في ذكر بعض ما ذكره الأصوليون لبحث مقدمة الواجب من ثمرات.

أما المقام الأول: فقد أشار إليه بقوله: «و هي في المسألة الأصولية - كما عرفت سابقا -» يعني: في مبحث الصحيح و الأعم، حيث قال، قبل الاستدلال للصحيحي: «إن ثمرة المسألة الأصولية هي: أن تكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الأحكام الفرعية»، فيقال مثلا في المقام على القول بوجوب المقدمة بالملازمة عقلا: المشي مقدمة للحج الواجب، و كل مقدمة للواجب واجب - بالملازمة عقلا - فالمشي واجب، و هكذا الوضوء فيقال:

إن الوضوء مقدمة للواجب، و كل ما هو مقدمة لواجب واجب، فينتج: أن الوضوء واجب لوجوب الصلاة، فهذا القياس ينتج حكما فرعيا، و هو: وجوب الوضوء - بناء على الملازمة - أو عدم وجوبه بناء على عدمها.

و كيف كان؛ فالمسألة الأصولية هي: التي تكون نتيجتها صالحة للوقوع في طريق استنباط الحكم الفرعي، فيكون بحث مقدمة الواجب من المسائل الأصولية؛ لما عرفت

ص: 194

صالحة للوقوع في طريق الاجتهاد، و استنباط حكم فرعي، كما لو قيل بالملازمة في المسألة: فإنه (1) بضميمة مقدمة كون شيء مقدمة لواجب يستنتج أنه واجب.

=============

من أن بحث المقدمة صالحة للوقوع في طريق استنباط الحكم الفرعي. غاية الأمر: أن مسألة مقدمة الواجب مسألة عقلية، لأن الكلام في استقلال العقل بالملازمة و عدم استقلاله بها.

لا لفظية، كما يظهر من صاحب المعالم حيث استدل على النفي بانتفاء الدلالات الثلاث، مضافا إلى ذكرها في مباحث الألفاظ. و لكن المصنف مع إدراجه للمسألة ضمن مسائل الأوامر، نص على أنها عقلية لا لفظية حيث قال في أول بحث مقدمة الواجب ما لفظه: «ثم الظاهر أيضا: أن المسألة عقلية، و الكلام في استقلال العقل بالملازمة و عدمه». هذا تمام الكلام في المقام الأول.

و أما المقام الثاني: فنقول: إنه قد ذكروا لبحث مقدمة الواجب ثمرات عديدة، و اكتفى المصنف بذكر بعضها.

منها: حصول الفسق بترك واجب واحد بمقدماته إذا كانت له مقدمات متعددة؛ لصدق الإصرار على الحرام على القول بوجوب المقدمة، و عدم حصول الفسق على القول بعدم وجوبها.

منها: حصول البرء من النذر بإتيان مقدمة من مقدمات الواجب على القول بوجوب المقدمة، و عدمه على القول بعدم وجوبها.

و منها: عدم جواز أخذ الأجرة على المقدمة على القول بوجوبها لحرمة أخذ الأجرة على الواجب، و جواز أخذها على القول بعدم وجوبها. و قد أورد المصنف على هذه الثمرات فانتظر توضيح ذلك في كلام المصنف، بعد توضيح جملة من العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) الضمير للشأن، ثم إن هذا تقريب لاستنتاج الحكم الفرعي و حاصله: أنه بضميمة مقدمة وجدانية - و هي كون شيء مقدمة لواجب - إلى مقدمة برهانية أصولية - و هي: أن كل ما هو مقدمة لشيء لزم من وجوبه وجوبها - يستنتج وجوب الوضوء في المثال المزبور، حيث يؤلف قياس بهذه الصورة: الوضوء مقدمة لواجب، و كل ما هو مقدمة لواجب واجب، فينتج: أن الوضوء واجب لوجوب ذيها كالصلاة. فهذا القياس ينتج حكما فرعيا و هو: وجوب الوضوء، بناء على الملازمة بين وجوب شيء و وجوب مقدمته.

ص: 195

و منه (1) قد انقدح: أنه ليس منها مثل برء النذر بإتيان مقدمة واجب عند نذر الواجب، و حصول الفسق بترك واجب واحد بمقدماته إذا كانت له مقدمات كثيرة؛ لصدق الإصرار على الحرام بذلك، و عدم جواز أخذ الأجرة على المقدمة.

=============

(1) أي: و مما ذكرناه في ضابط كون المسألة أصولية - من أن نتيجتها ما يقع في طريق الاستنباط - ظهر: إنه ليس من الثمرة لمثل هذه المسألة الأصولية: الفروع الثلاثة التي ذكروها ثمرة لها. و قد ذكرنا الفروع الثلاثة و هي حصول البرء من النذر، و حصول الفسق بترك واجب له مقدمات، و عدم جواز أخذ الأجرة على المقدمة.

و قد أورد المصنف على الجميع إشكالا عاما، ثم أورد على كل منها بالخصوص إشكالا خاصا. و أما الإشكال العام المشترك بين هذه الثمرات الثلاث المذكورة فقد أشار إليه بقوله: «و منه قد انقدح...» إلخ. يعني: إن شيئا من هذه الأمور الثلاثة ليس ثمرة للمسألة الأصولية، و حاصل هذا الإشكال: أن ثمرة المسألة الأصولية ليست إلاّ إن تكون نتيجة المسألة واقعة في طريق استنباط حكم شرعي كلي، و هذه الأمور الثلاثة لا تقع في طريق استنباط الحكم الفرعي.

أما حصول البرء بفعل المقدمة - على القول بوجوبها - لمن نذر الإتيان بواجب: فلأن البرء إنما يكون لانطباق المنذور على المأتي به، حيث إن المنذور - و هو الواجب - ينطبق على المقدمة بعد إثبات وجوبها بدليل عقلي أو نقلي، و من المعلوم: أن انطباق الحكم المستنبط على موارده ليس مسألة أصولية؛ بل قاعدة فقهية. و إنما المسألة الأصولية هي التي تقع في طريق استنباط الحكم الكلي؛ كالقواعد التي يستنبط منها وجوب الوفاء بالنذر.

و أما حصول الفسق: فكذلك يكون من باب تطبيق الحكم المستنبط على مورده؛ لأنه - بناء على وجوب المقدمة - لا بد من الحكم بفسق تاركها؛ لأن ترك الواجب بمقدماته الكثيرة يوجب صدق الإصرار على المعصية الموجب للفسق، فليس الحكم بفسق تارك المقدمة مسألة اصولية واقعة في طريق الاستنباط.

و أما حرمة أخذ الآخرة على المقدمة - بناء على وجوبها، بعد تسليم حرمة أخذ الأجرة على الواجبات - فليست أيضا مسألة أصولية يستنبط منها حكم فرعي؛ بل هي مسألة فقهية؛ لتعلقها بالعمل.

و كيف كان؛ فشيء من الفروع الثلاثة ليس مسألة أصولية؛ بل كلها فقهية، لأنها من تطبيق الحكم المستنبط على موارده.

هذا تمام الكلام في الإشكال العام المشترك بين الفروع الثلاثة ثمرة لهذه المسألة.

ص: 196

مع أن البرء (1) و عدمه إنما يتبعان قصد الناذر، فلا برء بإتيان المقدمة لو قصد الوجوب النفسي؛ كما هو المنصرف عند إطلاقه (2) و لو قيل بالملازمة (3)، و ربما يحصل البرء به (4) لو قصد ما يعم المقدمة و لو قيل بعدمها، كما لا يخفى.

و لا يكاد (5) يحصل الإصرار على الحرام بترك واجب، و لو كانت له مقدمات غير

=============

(1) هذا شروع في الإشكال الخاص المختص بكل واحد من الفروع الثلاثة، ثم قوله: «مع أن البرء و عدمه إنما يتبعان قصد الناذر» إشارة إلى إشكال يختص بالثمرة الأولى و حاصله: أن البرء و عدمه يتبعان قصد الناذر، فإن قصد في نذره الإتيان بالواجب النفسي فلا يحصل البرء بإتيان المقدمة، و إن قلنا بوجوبها بالملازمة. و إن قصد حين النذر مطلق الواجب - و إن كان وجوبه غيريا - فيحصل البرء بإتيانها و إن لم نقل بالملازمة؛ لأن وجوبها الغيري مما لا محيص عنه، و هو يكفي في البرء.

و أما إذا أطلق الناذر و لم يعلم قصده، فالظاهر: أن المنصرف من إطلاقه هو: الوجوب النفسي، فلا يكفي الإتيان بالمقدمة و لو قيل بالملازمة.

(2) أي: إطلاق الوجوب.

(3) أي: الملازمة بين وجوب الواجب و وجوب مقدمته، فإن الملازمة حينئذ لا تجدي في حصول البرء بإتيان المقدمة، إذ المفروض - و لو بحكم الانصراف - اختصاص المنذور بالواجب النفسي، و خروج الواجب الغيري عن دائرة متعلق النذر.

(4) أي: بإتيان المقدمة لو قصد الناذر من الواجب مطلق الواجب الشامل للمقدمة، بأن يريد منه ما يلزم فعله و لو عقلا، فإن البرء من النذر يحصل حينئذ بفعل المقدمة و إن لم نقل بالملازمة بين وجوب الواجب و وجوب مقدمته؛ لوجوب المقدمة عقلا قطعا.

(5) هذا إشارة إلى الإشكال المختص بالثمرة الثانية و حاصله: أن القدرة على الفعل و الترك شرط في صحة التكليف لقبح التكليف بغير المقدور عقلا، و عدم جوازه شرعا، و لازم ذلك: انتفاء التكليف عند انتفاء القدرة، و حينئذ إن الواجب الذي له مقدمات كثيرة صار غير مقدور بسبب ترك أول مقدمة من مقدماته، فيسقط التكليف بالواجب و مقدماته لانتفاء القدرة، فلا يحصل الإصرار على الحرام الموجب للفسق؛ لأن المحرّم هو:

ترك المقدمة الأولى.

و كيف كان؛ فلا يحصل الفسق بترك واجب له مقدمات كثيرة، و إن قلنا بوجوب المقدمة، لأنه حينئذ لم يترك إلاّ واجبا واحدا.

ص: 197

عديدة لحصول (1) العصيان بترك أول مقدمة لا يتمكن معه (2) من الواجب، و لا يكون ترك سائر المقدمات بحرام أصلا؛ لسقوط التكليف حينئذ (3)، كما هو واضح لا يخفى.

و أخذ الأجرة على الواجب (4) لا بأس به؛ إذا لم يكن إيجابه على المكلف مجانا

=============

(1) أي: قوله: «لحصول العصيان...» إلخ تعليل لقوله: «و لا يكاد يحصل الإصرار»، يعني: لا يحصل الإصرار على الحرام حتى يوجب الفسق، و ذلك لما ذكرناه من: أن المحرم هو: ترك المقدمة، و لا يتحقق به الإصرار على الحرام.

(2) أي: لا يتمكن المكلف - مع ترك أول مقدمة من مقدمات الواجب - على إتيان الواجب.

(3) أي: لسقوط التكليف حين عدم التمكن، فتسقط حرمة سائر المقدمات لأجل سقوط الوجوب النفسي، فلا يرتكب المكلف إلاّ حراما واحدا، و هو لا يوجب الفسق على ما هو المفروض من: أن الموجب لحصول الفسق هو الإصرار على الحرام.

(4) هذا إشارة إلى الإشكال المختص بالثمرة الثالثة و هي: حرمة أخذ الأجرة على المقدمة على القول بوجوبها.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: إن الواجب الذي أدعي أخذ الأجرة عليه إما توصلي أو تعبدي، و الثاني: يجوز أخذ الأجرة عليه إذا كان أخذ الأجرة من قبيل الداعي إلى الداعي كي لا ينافي عباديته.

و الواجب التوصلي على قسمين: منه: ما أوجبه الشارع مجانا و بلا عوض؛ كدفن الميت، و منه: ما يجب فعله مطلقا من دون تقييده بالمجانية؛ بأن يكون الفعل بمعناه المصدري واجبا سواء أخذ الأجرة بإزائه أم لا كالصناعات الواجبة على المكلفين كفائية، مثل: الخياطة و الحياكة و الفلاحة و غيرها مما يتوقف عليه نظام العالم، و لا يكاد ينتظم بدونها البلاد، و يختل لولاها معاش العباد؛ بل ربما يقال: بأنه يجب الأجرة عليها لنفس الدليل الدال على وجوبها الكفائي أي: لزوم الاختلال و عدم الانتظام لو لا أخذ الأجرة عليها، فكما يختل النظام لو لم يقم أحد بهذه الصناعات؛ كذلك يختل النظام لو لم يأخذ الأجرة عليها أحد، فلو لم يأخذ الخياط مثلا الأجرة على الخياطة لا ختل نظام معاشه.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن مجرد الوجوب لا يقتضي المجانية، حتى يقال بحرمة أخذ الأجرة على المقدمة؛ بل الحق: هو التفصيل بأن يقال: إن المقدمة إن كانت من القسم الأول من الواجبات التوصلية فلا يجوز أخذ الأجرة عليه، و إلاّ فيجوز أخذ

ص: 198

و بلا عوض؛ بل كان وجوده المطلق مطلوبا كالصناعات الواجبة كفائية؛ التي لا يكاد ينتظم بدونها البلاد، و يختل لولاها معاش العباد، بل ربما يجب أخذ الأجرة عليها لذلك، أي: لزوم الاختلال و عدم الانتظام لو لا أخذها (1)، هذا (2) في الواجبات التوصلية.

و أما الواجبات التعبدية: فيمكن (3) أن يقال: بجواز أخذ الأجرة على إتيانها الأجرة عليه؛ بل يجوز أخذ الأجرة على الواجبات التعبدية إذا كان أخذها من قبيل الداعي إلى الداعي كي لا ينافي عباديتها.

=============

(1) أي: لو لا أخذ الأجرة لزم اختلال النظام، فيجب أخذ الأجرة على ما يتوقف عليه النظام.

(2) أي: ما ذكرناه من جواز أخذ الأجرة إنما هو في الواجبات التوصلية.

(3) أي: قوله: «فيمكن أن يقال بجواز أخذ الأجرة...» إلخ إشارة إلى دفع الإشكال على أخذ الأجرة على الواجبات التعبدية، فلا بد أولا من بيان الإشكال و ثانيا: من بيان الدفع.

أما الإشكال على جواز أخذ الأجرة على العبادة فهو بوجهين:

أحدهما: منافاة الأجرة لقصد القربة؛ لأن الداعي إلى فعلها هو الأجرة لا القربة، فعدم جواز أخذ الأجرة مستند إلى فوات شرط صحة العبادة، و ما به قوام عباديتها.

ثانيهما: أن أخذ الأجرة بإزاء الواجبات العبادية يكون أكلا للمال بالباطل ضرورة:

أنه يشترط في صحة الإجارة - كغيرها من العقود المعاوضية - وجود نفع يعود إلى المستأجر عوضا عن الأجرة، إذ لولاه لزم خلاف مقتضى المعاوضة، و لا يوجد في العبادات الواجبة نفع حتى يعود إلى المستأجر، فيكون أخذ المال بإزائها أكلا بالباطل.

و هذا ما أشار إليه بقوله: «غاية الأمر: يعتبر فيها، كغيرها... إلخ».

هذا تمام الكلام في الإشكال بالوجهين.

و أما توضيح ما أفاده في دفع الوجه الأول؛ فيتوقف على مقدمة و هي: إن الأجرة تارة: تبذل بإزاء نفس الواجب، و أخرى: تبذل لإحداث الداعي إلى الإتيان بالواجب و إيجاده بداعي أمره. و الفرق بينهما هو: أن بذل الأجرة بإزاء نفس الواجب العبادي ينافي القربة المعتبرة في عبادية الواجب، هذا بخلاف بذل الأجرة لإحداث الداعي إلى إيجاد العمل الواجب بداعي أمره، فلا ينافي عباديته؛ بل تقع العبادة عن دعوة أمرها.

غاية الأمر: يكون الداعي إلى إتيانها بدعوة أمرها هو أخذ الأجرة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن ما ذكر من الإشكال أعني: منافاة الأجرة لقصد

ص: 199

بداعي امتثالها؛ لا على نفس الإتيان، كي ينافي عباديتها، فيكون من قبيل الداعي إلى الداعي، غاية الأمر: يعتبر فيها - كغيرها - أن يكون فيها منفعة عائدة إلى المستأجر؛ كي لا تكون المعاملة سفهية، و أخذ الأجرة عليها أكلا بالباطل.

و ربما يجعل من الثمرة (1)، اجتماع الوجوب و الحرمة - إذا قيل بالملازمة - فيما القربة إنما يصح فيما إذا كان بذل الأجرة بإزاء نفس الواجب، حيث يكون الداعي إلى العبادة حينئذ هو الأجرة لا القربة.

=============

و أما إذا كان بذل الأجرة لإحداث الداعي؛ بأن يكون أخذ الأجرة داعيا إلى الإتيان بالعبادة بداعي أمرها، فلا ينافي عباديتها، هذا ما أشار إليه بقوله: «فيكون من قبيل الداعي إلى الداعي». هذا تمام الكلام في دفع الوجه الأول من الإشكال.

أما دفع الوجه الثاني: فتوضيحه يتوقف على مقدمة و هي: تارة: يأخذ المكلف الأجرة لإتيان فرائضه اليومية. و أخرى: يأخذها لأداء ما فات عن الميت من الفرائض.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن ما ذكر من أن أخذ الأجرة بإزاء الواجبات العبادية يكون أكلا للمال بالباطل إنما يصح فيما إذا كان أخذ الأجرة لإتيان فرائضه اليومية، إذ حينئذ لا يعود نفع إلى الباذل للأجرة. و أما إذا كان أخذ الأجرة لأداء ما فات عن الميت من الفرائض فلا بأس بأخذ الأجرة، إذ لا يلزم منه هذان الإشكالان.

و أما عدم لزوم الإشكال الأول، فلما عرفت من: عدم كون الأجرة بإزاء نفس العمل حتى تنافي قصد القربة، و إنما هي لإحداث الداعي إلى إيجاد العمل بداعي أمره، و أمّا عدم لزوم الإشكال الثاني: فلفراغ ذمّة الميّت بفعل الأجير، فشرط صحة الإجارة و هو عود نفع إلى المستأجر و باذل الأجرة موجود هنا.

جواب المصنف عن الإشكال المذكور

(1) أي: نسبت إلى الوحيد البهبهاني ثمرة رابعة و هي: اندراج مقدمة الواجب - على القول بوجوبها - في صغريات مسألة اجتماع الأمر و النهي في واحد ذي جهتين، إذا كانت المقدمة محرمة، كالوضوء بالماء المغصوب مثلا، فإن قلنا: بجواز اجتماعهما اتصف الوضوء بالوجوب، كما هو يتصف بالحرمة.

و أما على القول بامتناع الاجتماع: فالوضوء إما واجب ترجيحا لمصلحة الوجوب على مفسدة الحرمة، و إما حرام ترجيحا لمفسدة الحرمة على مصلحة الوجوب على اختلاف بين الأعلام، و أما على القول بعدم وجوب المقدمة شرعا فهو حرام فقط، و لا ربط له بمسألة اجتماع الأمر و النهي أعني: ليست مسألة مقدمة الواجب من صغريات تلك المسألة.

ص: 200

كانت المقدمة محرمة، فيبتني على جواز اجتماع الأمر و النهي و عدمه، بخلاف ما لو قيل بعدمها (1).

و فيه: (2) أولا: أنه لا يكون من باب الاجتماع، كي تكون مبتنية عليه، لما أشرنا إليه غير مرة: أن الواجب ما هو بالحمل الشائع مقدمة، لا بعنوان المقدمة، فيكون على الملازمة من باب النهي في العبادة و المعاملة.

ثانيا: (3) لا يكاد يلزم الاجتماع أصلا لاختصاص الوجوب بغير المحرم في غير

=============

(1) أي: بخلاف ما قيل بعدم الملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها، حيث تكون المقدمة حينئذ حراما فقط.

(2) أورد المصنف على الثمرة الرابعة التي تنسب إلى الوحيد البهبهاني «قدس سره» بوجوه:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «و فيه أولا»، و حاصله: عدم صغروية المقدمة لمسألة اجتماع الأمر و النهي و لو على القول بوجوبها؛ لأن الوجوب بناء على الملازمة لا يتعلق بعنوان المقدمة أي: ما هو مقدمة بالحمل الذاتي ليتعين كون الوضوء بالمغصوب مجمع العنوانين أي: المقدمية و الغصبية؛ كي يكون واجبا بعنوان المقدمة، و حراما بعنوان الغصب؛ بل يتعلق بحقيقة المقدمة من الوضوء و نحوه أي: ما هو مقدمة بالحمل الشائع. و حينئذ تندرج مسألة مقدمة الواجب - على القول بوجوبها - في مسألة النهي عن العبادة إن كانت المقدمة عبادة كالوضوء في المثال المزبور؛ إذ الأمر و النهي يتعلقان بعنوان واحد، كأنه قيل: توضأ و لا تتوضأ بالمغصوب، فيدخل في النزاع المعروف و هو: أن النهي عن العبادة يقتضي الفساد أم لا؟

فمقدمة الواجب حينئذ أجنبية عن مسألة اجتماع الأمر و النهي، لاختلافهما موضوعا مثلا: موضوع المسألة الأولى هو: توضأ و لا تتوضأ بالمغصوب، و موضوع المسألة الثانية هو: توضأ و لا تغصب، و قد أشار المصنف إلى هذا الفرق بقوله: «لما أشرنا إليه غير مرة...» إلخ، فقوله: «لما أشرنا...» إلخ تعليل لقوله: «لا يكون من باب الاجتماع».

قوله: «فيكون على الملازمة من باب النهي في العبادة» نتيجة لما أفاده في الفرق بين مقدمة الواجب، و مسألة اجتماع الأمر و النهي. و معنى العبارة: فيكون اجتماع الوجوب و الحرمة بناء على الملازمة مندرجا في مسألة النهي في العبادة أو المعاملة.

و تركنا ما في المقام من طول الكلام رعاية للاختصار المطلوب في المقام.

(3) هذا هو الوجه الثاني من الإيراد: يعني: و ثانيا: على تقدير تسليم كون عنواني المقدمة و الغصب كعنواني الصلاة و الغصب من باب اجتماع الأمر و النهي، و لكن

ص: 201

صورة الانحصار به، و فيها إما لا وجوب للمقدمة، لعدم وجوب ذي المقدمة، لأجل المزاحمة، و إما لا حرمة لها لذلك، كما يخفى.

=============

«لا يكاد يلزم الاجتماع أصلا». و حاصل هذا الوجه: إنه لا يلزم اجتماع الوجوب و الحرمة في المقدمة المحرمة حتى على القول بوجوب المقدمة.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن مقدمة الواجب تارة: تكون منحصرة في الفرد المحرم كانحصار المركوب لقطع طريق الحج في الدابة المغصوبة مثلا، فلا محالة تقع المزاحمة حينئذ بين وجوب ذي المقدمة كالحج في المثال، و بين حرمة مقدمته كالركوب.

و أخرى: لا تكون منحصرة في الفرد المحرم، كما إذا كان في المثال دابتان محرمة و مباحة.

فإذا عرفت هذه المقدمة فنقول: على فرض الانحصار، و فرض أهمية وجوب الحج من حرمة مقدمته لا تتصف المقدمة إلاّ بالوجوب، فلا حرمة لها حتى تتصف بالوجوب و الحرمة معا، و على تقدير أهمية حرمة المقدمة من وجوب الحج لا تتصف المقدمة إلاّ بالحرمة.

فعلى التقديرين: لا يجتمع الوجوب و الحرمة في المقدمة حتى تندرج في مسألة اجتماع الأمر و النهي. و على فرض عدم الانحصار: فلا تتصف المقدمة المحرمة بالوجوب؛ لأن حرمتها تمنع عن سراية الوجوب الغيري إليها، حيث إن المانع الشرعي كالعقلي. و إنما يسري الوجوب الغيري إلى الدابة المباحة، فتكون هي المقدمة الواجبة دون المحرمة.

فالحاصل: أن المقدمة في كلتا الصورتين لا تتصف بالوجوب و الحرمة معا؛ حتى تعد من صغريات مسألة الاجتماع.

قوله: «لاختصاص...» إلخ تعليل لقوله: «لا يكاد يلزم الاجتماع».

قوله: «و فيها» أي: في صورة الانحصار «إما لا وجوب للمقدمة» لأهمية حرمتها من وجوب ذيها، فتكون المقدمة محرمة لا غير. و إما لا حرمة للمقدمة، لأهمية وجوب ذيها الموجبة لارتفاع الحرمة عنها، فالمقدمة حينئذ واجبة فقط. فعلى التقديرين: لا يجتمع الوجوب و الحرمة في المقدمة، حتى تندرج في مسألة اجتماع الأمر و النهي. فمرجع الوجهين: إلى منع الصغرى؛ بمعنى: إن المقدمة لا تندرج في مسألة الاجتماع.

قوله: «و إما لا حرمة لها لذلك» أي: لأجل المزاحمة، فإن حرمة المقدمة ترتفع لأهمية وجوب ذيها منها.

ص: 202

و ثالثا: (1) إن الاجتماع و عدمه لا دخل له في التوصل بالمقدمة المحرمة و عدمه أصلا، فإنه يمكن التوصل بها إن كانت توصلية و لو لم نقل بجواز الاجتماع، و عدم جواز التوصل بها إن كانت تعبدية على القول بالامتناع، قيل: بوجوب المقدمة أو بعدمه و جواز التوصل بها على القول بالجواز كذلك أي: قيل: بالوجوب أو بعدمه.

و بالجملة: لا يتفاوت الحال في جواز التوصل بها، و عدم جوازه أصلا، بين أن يقال بالوجوب، أو يقال بعدمه، كما لا يخفى.

=============

(1) هذا هو إشارة إلى الوجه الثالث: من الإيراد على الثمرة الرابعة المنسوبة إلى المحقق البهبهاني «قدس سره». و حاصله: على ما في «منتهى الدراية: ج 2، ص 380» - أنه - بعد تسليم صغروية المقدمة المحرمة لمسألة الاجتماع - لا يجدي ذلك، و لا تترتب على صغرويتها لها ثمرة عملية أصلا، و ذلك لأن المقدمة إما توصلية، و إما تعبدية.

فعلى الأول: يمكن التوصل بالمقدمة، من غير فرق بين القول بجواز اجتماع الأمر و النهي و عدمه؛ لأن التوصل بها إلى ذي المقدمة ذاتي، و غير مستند إلى الأمر بها، ففائدة المقدمة - و هي: التوصل إلى ذي المقدمة الموجب لسقوط الأمر به - تترتب عليها على كل حال سواء قيل بوجوب المقدمة أم لا، و سواء قيل بجواز الاجتماع على القول بوجوبها، أم قيل بالامتناع، فلا يترتب على اندراج المقدمة المحرمة في مسألة الاجتماع أثر عملي و هو سقوط أمر ذيها بناء على امتناع الاجتماع.

و على الثاني: - و هو كون المقدمة تعبدية -: ففائدة المقدمة - و هي التوصل بها إلى ذيها - لا تترتب عليها إذا كانت محرمة؛ سواء كانت المقدمة واجبة مع القول بامتناع الاجتماع، أم لم تكن واجبة، فإن الحرمة مانعة عن التعبد بها، فيمتنع التوصل بها إلى ذي المقدمة، كما أنّه يجوز التوصل بها إلى ذيها مع القول بجواز الاجتماع؛ من دون فرق في ذلك بين القول بوجوب المقدمة و عدمه.

و بالجملة: ففي المقدمة العبادية أيضا لا مانع من التوصل بها إلى ذيها مع القول بجواز الاجتماع؛ من غير فرق في ذلك بين وجوب المقدمة و عدمه. كما أنه بناء - على امتناع الاجتماع - يمتنع التوصل بها مطلقا؛ سواء قلنا بوجوب المقدمة أم لا، فالملازمة و عدمها سيّان بالنسبة إلى التوصل الذي هو المهم من المقدمة؛ حيث لا يتفاوت الحال في ترتبه بين وجوبها و عدمه؛ لعدم إناطة ترتبه عليها بوجوبها.

هذا تمام الكلام في ردّ الثمرة الرابعة المنسوبة إلى الوحيد البهبهاني «قدس سره»، و قد تركنا ما فيه من تطويل الكلام بالنقض و الإبرام رعاية للاختصار.

ص: 203

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - ثمرة بحث مقدمة الواجب هي: أن المسألة الأصولية ما تقع نتيجتها في طريق استنباط حكم فرعي، و نتيجة البحث في مسألة مقدمة الواجب هي: الملازمة عقلا بين وجوب شيء و وجوب مقدمته، فيقال مثلا في المقام: أنّ المشي مقدمة للحج الواجب، و كل مقدمة الواجب واجب، فينتج: أن المشي واجب، فيكون بحث مقدمة الواجب من المسائل الأصولية.

غاية الأمر: مسألة أصولية عقلية لا لفظية؛ لأن الكلام في استقلال العقل بالملازمة و عدم استقلاله بها. و المصنف و إن كان ذكرها في ضمن مسائل الأوامر إلاّ إنه يقول بأنها عقلية، كما نص عليها في أول بحث مقدمة الواجب حيث قال: «إن المسألة عقلية».

2 - و قد ذكروا لبحث مقدمة الواجب ثمرات عديدة، و قد اكتفى المصنف بذكر ثلاثة منها:

الأول: حصول البرء من النذر بإتيان مقدمة الواجب على القول بوجوبها.

الثاني: حصول الفسق بترك واجب واحد بمقدماته إذا كان له مقدمات متعددة؛ لصدق الإصرار على الحرام على القول بوجوب المقدمة، و عدم حصول الفسق على القول بعدم وجوبها.

الثالث: عدم جواز الأجرة على المقدمة على القول بوجوبها؛ لحرمة أخذ الأجرة على الواجب، و جواز أخذها على القول بعدم وجوبها.

و قد أورد المصنف على هذه الثمرات إشكالا عاما، و إشكالا خاصا، أما الإشكال العام المشترك: فلأن الثمرات الثلاثة إنما هي من باب تطبيق قاعدة فقهية على مواردها، و ليست من ثمرات المسألة الأصولية.

و ذلك فإن حصول البرء من النذر في الثمرة الأولى إنما هو لانطباق المنذور على المأتي به؛ حيث إن المنذور - و هو الواجب - ينطبق على المقدمة على القول بوجوبها، و انطباق الحكم المستنبط على موارده ليس مسألة أصولية؛ بل قاعدة فقهية. و كذلك حصول الفسق في الثمرة الثانية إنما هو من باب تطبيق الحكم المستنبط على مورده؛ لأنه بناء على وجوب المقدمة لا بد من الحكم بالفسق لتاركها، فليس الحكم بفسق تارك المقدمة مسألة أصولية واقعة في طريق الاستنباط.

ص: 204

أما حرمة أخذ الأجرة على المقدمة على القول بوجوبها: فليست أيضا مسألة أصولية يستنبط منها حكم فرعي؛ بل هي مسألة فقهية لتعلقها بالعمل، فالثمرات الثلاثة ليست ثمرة لهذه المسألة.

3 - أما الإشكال الخاص المختص بكل واحدة من الثمرات الثلاثة؛ فلأن البرء من النذر و عدمه يتبعان قصد الناذر، فإن قصد في نذره الإتيان بالواجب النفسي: فلا يحصل البرء بإتيان المقدمة، و لو قلنا بوجوبها؛ لأن وجوبها غيري، و إن قصد حين النذر الإتيان بمطلق الواجب و إن كان غيريا: فيحصل البرء بإتيان المقدمة. و إن أطلق و لم يعلم قصده فالظاهر: أن المنصرف من إطلاقه هو الوجوب النفسي.

أما الإشكال المختص بالثمرة الثانية: فلأن الواجب بعد ترك أول مقدمة له يصبح غير مقدور، فيسقط التكليف عنه، فليس هناك إلاّ ترك واجب واحد، فلا يحصل الفسق المسبب عن الإصرار على الحرام؛ لعدم تحقق الإصرار بترك واجب واحد و هو المقدمة على القول بوجوبها.

و أما الإشكال المختص بالثمرة الثالثة و هي: أخذ الأجرة على المقدمة فيقال: بجواز أخذ الأجرة على الواجب إلاّ ما أوجبه الشارع مجانا؛ كدفن الميت في الواجبات التوصلية، و الفرائض اليومية في الواجبات التعبدية، و أما سائر الواجبات التوصلية - كالصناعات التي يلزم اختلال النظام بتركها - فيجوز أخذ الأجرة بإزائها؛ بل يجب في بعض الأحيان و الموارد، و كذلك الواجب التعبدي يجوز أخذ الأجرة إذا كان أخذها لإحداث الداعي على الداعي.

4 - هناك ثمرة رابعة منسوبة إلى الوحيد البهبهاني و هي: أنه إن قلنا: بالملازمة و وجوب المقدمة، فالمقدمة المحرمة - كالوضوء بالمغصوب - مجمع للأمر و النهي على القول بجواز اجتماعهما، فتكون مسألة وجوب المقدمة من صغريات مسألة اجتماع الأمر و النهي، فصح الوضوء على القول بجواز الاجتماع، أو على الامتناع، و تقديم جانب الأمر على النهي ترجيحا لمصلحة الوجوب على مفسدة الحرمة. و أما على القول بعدم وجوب المقدمة: فلا تكون مسألة مقدمة الواجب من صغريات تلك المسألة.

و قد أورد المصنف على هذه الثمرة بوجوه:

الوجه الأول: منع صغروية المقدمة لمسألة اجتماع الأمر و النهي؛ لأن الواجب على القول ما هو المقدمة بالحمل الشائع، و حينئذ تندرج مسألة مقدمة الواجب في مسألة

ص: 205

في تأسيس الأصل في المسألة
اشارة

اعلم: أنه لا أصل في محل البحث في المسألة (1)، فإن الملازمة بين وجوب المقدمة النهي عن العبادة - إن كانت المقدمة عبادة كالوضوء في المثال المذكور - لأن الأمر و النهي يتعلقان بعنوان واحد كأنه قيل: توضأ و لا تتوضأ بالمغصوب.

=============

فمقدمة الواجب حينئذ أجنبية عن مسألة اجتماع الأمر و النهي؛ بل داخلة في مسألة النهي عن العبادة.

الوجه الثاني من الإشكال على هذه الثمرة: إنه لا يكاد يلزم الاجتماع أصلا؛ إذ على فرض عدم انحصار المقدمة في الفرد المحرم: فلا وجوب للمقدمة؛ لأن الواجب هو الفرد المباح، و على فرض الانحصار: فلا وجوب لها أيضا على تقدير أهمية حرمة المقدمة من وجوب ذيها، و أما على تقدير أهمية وجوب الواجب عن حرمتها: فلا حرمة لها، و على التقديرين لا يلزم الاجتماع.

أما الوجه الثالث من الإشكال: فيقال: إن الاجتماع و عدمه لا دخل له في التوصل الذي هو المهم من المقدمة؛ بل يمكن التوصل بها إن كانت توصلية؛ و لو لم نقل بجواز اجتماع الأمر و النهي، و جواز التوصل بها على القول بجواز الاجتماع.

و إن كانت تعبدية قلنا: بوجوبها أم لا.

و الحاصل: أن فائدة المقدمة هي التوصل بها إلى ذيها، فلا مانع من التوصل بها إلى ذيها على القول بجواز الاجتماع.

من غير فرق في ذلك بين وجوب المقدمة و عدمه. فالملازمة و عدمها سيّان بالنسبة إلى التوصل بها إلى ذيها؛ حيث لا يتفاوت في ترتبه بين وجوبها و عدمه، و ذلك لعدم إناطة ترتبه عليها بوجوبها.

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - وجوب مقدمة الواجب مطلقا أي: من دون اعتبار قصد التوصل أو الإيصال في اتصافها بالوجوب.

2 - إن مسألة مقدمة الواجب مسألة أصولية، فثمرتها هي: وقوع نتيجتها في طريق الاستنباط.

3 - عدم صحة الثمرات الثلاثة التي ذكروها ثمرة لمقدمة الواجب.

(1) أي: لا أصل في المسألة الأصولية و هي: الملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها، و إن كان هناك أصل في المسألة الفقهية و هو وجوب المقدمة.

ص: 206

و وجوب ذي المقدمة و عدمها ليست لها حالة سابقة؛ بل تكون الملازمة أو عدمها أزلية، نعم؛ نفس وجوب المقدمة يكون مسبوقا بالعدم، حيث يكون حادثا بحدوث وجوب ذي المقدمة، فالأصل عدم وجوبها.

=============

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن موضوع الأصل تارة: يلاحظ في المسألة الأصولية أعني: الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته؛ بأن يكون الأصل لتعيين الملازمة أو عدمها عند الشك في ثبوتها و عدمها. و أخرى: يلاحظ في المسألة الفقهية أعني: نفس وجوب المقدمة، و الأصل الذي يمكن فرضه في المقام هو الاستصحاب.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الكلام يقع في مقامين:

الأول: الأصل في المسألة الأصولية.

الثاني: الأصل في المسألة الفقهية.

و ظاهر كلام المصنف هو: جريان الأصل في المسألة الفقهية دون المسألة الأصولية.

توضيح ذلك يتوقف على بيان الفرق بينهما.

و خلاصة الفرق: أن الملازمة بين الوجوبين في المسألة الأصولية ليست لها حالة سابقة سواء فسّرت بكونها أمرا واقعيا، أو انتزاعيا ينتزع عن حصول أحد المتلازمين عند حصول الآخر، أو كونها عبارة عن دوام حصول الجزاء عند الشرط، فالملازمة بجميع هذه التفاسير ليست لها حالة سابقة؛ بل أنها أزلية؛ بمعنى: أنها إما موجودة بين الشيئين من الأول، أو منتفية كذلك، فليس هناك حدوث غير حدوث المتلازمين لا بمفاد كان التامة «حصلت الملازمة بين هذا و ذاك»، و لا بمفاد كان الناقصة «صار هذا و ذاك متلازمين»، و لذا تتحقق بين المعدومين كملازمة عدم الشمس و عدم النهار، فيقال في الليل: الشمس و النهار متلازمان؛ بل تتحقق بين الممتنعين، كملازمة تعدد الآلهة و فساد العالم في قوله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلاّ اللّه لفسدتا(1). أما وجوب المقدمة، فله حالة سابقة و هو: عدم الوجوب عند عدم وجوب ذي المقدمة.

إذا عرفت هذا الفرق بين المسألتين فاعلم: أنه لا يجري الاستصحاب في المسألة الأصولية أعني: الملازمة؛ لا في جانب الوجود، و لا في جانب العدم؛ و ذلك لما عرفت:

من عدم يقين سابق بالحدوث و لا بعدمه. و من المعلوم: أن الاستصحاب يتوقف على اليقين و الشك، و في المقام ليس إلاّ الشك.

ص: 207


1- الأنبياء: 22.

و توهم (1): عدم جريانه، لكون وجوبها على الملازمة، من قبيل لوازم الماهية غير مجعولة، و لا أثر آخر مجعول مترتب عليه، و لو كان لم يكن بمهم هاهنا، مدفوع (2)؛ بأنه و إن كان غير مجعول بالذات، لا بالجعل البسيط الذي هو مفاد كان التامة، و لا بالجعل التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة؛ إلاّ إنه مجعول بالعرض و يتبع جعل وجوب ذي المقدمة، و هو كاف في جريان الأصل.

=============

أما جريان الاستصحاب في المسألة الفقهية فلما عرفت: من أن لها حالة سابقة؛ لأن وجوب المقدمة لم يكن قبل وجوب ذيها قطعا، فإذا شك في وجوبها بعد وجوب ذيها يستصحب عدم الوجوب.

فالحاصل: إن الأصل لا يجري في الملازمة، و لكنه يجري في وجوب المقدمة، فلا يصح أن يقال: الأصل عدم الملازمة، و يصح أن يقال: الأصل عدم وجوب المقدمة.

(1) هذا إشكال على جريان الاستصحاب في عدم وجوب المقدمة.

توضيح الاشكال يتوقف على مقدمة و هي: أنه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب مجعولا شرعيا من دون فرق بين كونه حكما تكليفيا؛ كالوجوب و الحرمة و غيرهما من الأحكام التكليفية و بين كونه حكما وضعيّا كالملكية و الزوجية و نحوهما، أو يكون المستصحب موضوعا لحكم شرعي كالعدالة و الاجتهاد، و نحوهما من الموضوعات التي يترتب عليها أحكام شرعية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنّ المستصحب في المقام ليس مجعولا شرعيا و لا موضوعا يترتب عليه أثر شرعي؛ لأن وجوب المقدمة لازم لماهية وجوب ذيها كزوجية الأربعة، فإذا كان وجوب المقدمة من قبيل لوازم الماهية فهو غير مجعول شرعا، و لا أثر مجعول يترتب عليه، فلا يجري فيه الاستصحاب؛ لانتفاء ما يعتبر في جريانه من كون المستصحب حكما شرعيا، أو موضوعا يترتب عليه حكم شرعي.

(2) دفع للتوهم المذكور.

و حاصل الدفع: أن وجوب المقدمة على الملازمة و إن لم يكن مجعولا للشارع مستقلا لا بالجعل البسيط و هو: إيجاد الشيء المعبر عنه بمفاد كان التامة؛ كما في كان زيد بمعنى: وجد زيد، و لا بالجعل التأليفي و هو: جعل شيء لشيء المعبر عنه بمفاد كان الناقصة، كما في كان زيد كاتبا، إلاّ إنه مجعول شرعا بتبع جعل وجوب ذي المقدمة، و هذا المقدار من المجعولية الشرعية مما يكفي في جريان الأصل فيه، فيجري و يثبت به نفي وجوب المقدمة عند الشك في وجوبها.

و تركنا ما في المقام من تطويل الكلام بالنقض و الإبرام تجنبا عن التطويل الممل.

ص: 208

و لزوم (1) التفكيك بين الوجوبين مع الشك لا محالة (2)، لأصالة عدم وجوب المقدمة مع وجوب ذي المقدمة، لا ينافي الملازمة بين الواقعيين، و إنما ينافي الملازمة بين الفعليين، نعم؛ لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في المرتبة الفعلية؛ لما صح التمسك بالأصل، كما لا يخفى.

=============

(1) هذا إشكال آخر على جريان استصحاب عدم وجوب المقدمة.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن تفكيك المتلازمين كالشمس و النهار محال، و الوجوبان متلازمان و لو احتمالا، فتفكيكهما محال احتمالا، و المحال احتمالا كالمحال قطعا في الاستحالة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا يجري الاستصحاب؛ لأن الملازمة - على فرض ثبوتها - تقتضي عدم انفكاك وجوب المقدمة عن وجوب ذيها؛ لما عرفت: من استحالة انفكاك أحد المتلازمين عن الآخر، و حيث إن الأصل لا يجري في نفس الملازمة، فلا بد أن لا يجري في المقدمة؛ لأنه إذا جرى فيها، و ثبت بالأصل عدم وجوبها لزم التفكيك بين الملزوم - و هو الوجوب النفسي - و بين اللازم - و هو الوجوب الغيري المقدمي - فلا بد من الالتزام بعدم جريان استصحاب عدم وجوب المقدمة؛ لئلا يلزم المحذور المذكور.

(2) أي: لزوم التفكيك بين الوجوبين عند الشك لا محيص عنه؛ و ذلك لأصالة عدم وجوب المقدمة مع وجوب ذي المقدمة واقعا، إلاّ إن هذا التفكيك لا ينافي الملازمة بين الوجوبين الواقعيين، و إنما ينافي التفكيك بين الوجوبين الفعليين.

و قوله: «لا ينافي...» إلخ خبر لقوله: «و لزوم التفكيك...» إلخ. و دفع للإشكال.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الملازمة تارة تفرض بين الحكمين الواقعيين، و أخرى: بين الحكمين الظاهريين.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن التفكيك إنما يلزم إذا جرى الأصل في أحد الحكمين المتلازمين واقعا أو ظاهرا؛ بأن يجري استصحاب عدم أحد الحكمين الواقعيين أو الظاهريين.

أما إذا كان أحد الحكمين واقعيا، و الآخر ظاهريا، فلا ينافي استصحاب عدم الحكم الظاهري مع ثبوت الحكم الواقعي، و كذلك استصحاب عدم الحكم الظاهري لا ينافي الملازمة بين الحكمين الواقعيين، فعدم وجوب المقدمة ظاهرا لأجل الأصل لا ينافي وجوبها واقعا لأجل الملازمة الواقعية بين الوجوبين؛ لأن جريان استصحاب عدم وجوب المقدمة لا يدل على عدم الملازمة واقعا بين وجوب الواجب و وجوب مقدمته.

نعم؛ إنما ينافي التفكيك بين الوجوبين إذا كانت الملازمة بين الوجوبين الفعليين؛ لأن

ص: 209

إذا عرفت ما ذكرنا، فقد تصدى غير واحد من الأفاضل لإقامة البرهان على الملازمة، و ما أتى منهم بواحد (1) خال عن الخلل، و الأولى إحالة ذلك إلى الوجدان؛ حيث إنّه (2) أقوى شاهد على أن الإنسان إذا أراد شيئا له مقدمات أراد تلك جريان الأصل: في المقدمة حينئذ يستلزم التناقض؛ حيث إن المفروض: وجوب المقدمة فعلا، و مقتضى الأصل عدمه كذلك، فحينئذ يجتمع الوجوب الفعلي و عدمه على المقدمة.

=============

أما الأول: فللملازمة. و أما الثاني: فللأصل، و ليس هذا إلاّ التناقض.

قوله: «نعم؛ لو كانت الدعوى...» إلخ استدراك على قوله: «لا ينافي الملازمة».

و حاصله: أنه تتحقق المنافاة بينهما إذا كان المدّعى الملازمة المطلقة حتى في مرتبة الفعلية، فلا يصح حينئذ جريان الأصل في وجوب المقدمة؛ حيث إن مقتضى الملازمة المطلقة - مع فرض وجوب ذي المقدمة - هو: العلم بوجوب المقدمة بطريق اللم، فالشك البدوي في وجوبها يرتفع بالعلم بوجوب ذيها، و مع هذا العلم الموجب للعلم بوجوب المقدمة لا مجال لجريان الأصل في عدم وجوبها. و قد أشار إليه بقوله: «لما صحّ التمسك بالأصل»؛ لعدم الموضوع للأصل، حيث إن موضوعه هو الشك، و المفروض: انتفاؤه.

(1) أي: ما أتى منهم ببرهان واحد خال عن الخلل، و لا داعي لإيراد تلك البراهين؛ إذ ليس ذكرها إلاّ التطويل بلا طائل.

(2) أي: الوجدان أكبر قاض و أقوى شاهد على: أن الإنسان إذا أراد شيئا متوقفا على مقدمات أراد تلك المقدمات قهرا لو التفت إليها، و احتج بمثل هذا صاحب التقريرات «رحمه اللّه»، و قد عزاه في البدائع إلى جمع من الأعيان كالمحقق الدواني، و المحقق الطوسي، و سيد الحكماء المير محمد باقر الداماد، و هو أقوى الأدلة التي استدل بها في المقام.

و حاصل هذا البرهان: أن الوجدان يحكم بالملازمة بين إرادة شيء، و إرادة مقدماته، لو التفت المريد إلى تلك المقدمات؛ بل قد يأمر المولى عبده بها مولويا؛ كما يأمر بنفس ذلك الشيء فيقول مولويا: «ادخل السوق و اشتر اللحم»، فالأمر بدخول السوق - الذي هو مقدمة - يكون مولويا كالأمر بذي المقدمة و هو شراء اللحم، و التفاوت بينهما: أن الشراء ابتدائي و الدخول تبعي، و أنه حيث تعلقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء؛ ترشحت من هذه الإرادة للمولى إرادة أخرى بدخول السوق؛ بعد الالتفات إلى لزوم الدخول لكونه مقدمة للواجب.

ص: 210

المقدمات لو التفت إليها؛ بحيث ربما يجعلها في قالب الطلب مثله، و يقول مولويا:

ادخل السوق و اشتر اللحم مثلا، بداهة: أن الطلب المنشأ بخطاب «ادخل» مثل المنشأ بخطاب «اشتر» في كونه بعثا مولويا، و أنه حيث تعلقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء ترشحت منها له إرادة أخرى بدخول السوق بعد الالتفات إليه، و أنه يكون مقدمة له كما لا يخفى.

و يؤيد الوجدان (1)؛ بل يكون من أوضح البرهان: وجود الأوامر الغيرية في الشرعيات و العرفيات؛ لوضوح: إنه لا يكاد يتعلق بمقدمة أمر غيري إلاّ إذا كان فيها (2) مناطه، و إذا كان فيها كان في مثلها، فيصح تعلقه به أيضا (3)؛ لتحقق (4)

=============

(1) و هذا المؤيد نسب إلى سيد الأساطين الميرزا الشيرازي. و حاصله: أن وجود الأوامر الغيرية المتعلقة ببعض مقدمات الواجبات الشرعية - كالوضوء و الغسل و الطهارة الخبيثة و غيرها للصلاة، و الطواف مثلا، و ببعض مقدمات بعض الواجبات العرفيّة؛ كالأمر بدخول السوق لاشتراء اللحم - أقوى شاهد على وجود الملازمة بين وجوب كل واجب نفسي، و وجوب كل مقدمة من مقدماته؛ و ذلك لأن المناط في الوجوب الغيري - و هو التوصل إلى الواجب النفسي - موجود في كل مقدمة، فلا بد من الحكم بوجوب جميع المقدمات؛ لاتحاد حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز، فيستكشف من وجود أوامر غيرية بالنسبة إلى جملة من المقدمات؛ وجوب غيرها من المقدمات التي لم يرد فيها أمر غيري أيضا؛ لتحقق ملاكه و مناطه.

(2) أي: في المقدمة.

و حاصل الكلام: أنه لا يتعلق أمر غيري بمقدمة من المقدمات إلاّ مع وجود مناط الأمر الغيري - و هو التوصل إلى ذي المقدمة - فيها، فإذا كان مناط الأمر الغيري ثابتا في بعض المقدمات الشرعية أو العرفية، التي تعلق بها الأمر الغيري، كان ذلك المناط ثابتا في مثلها من المقدمات التي لم يتعلق بها أمر غيري شرعي أو عرفي ظاهرا، و حيث ثبت فيها المناط كان ذلك كاشفا عن وجوبها، و ذلك لوحدة حكم الأمثال.

و خلاصة الكلام: أن علة الوجوب الغيري مشتركة بين جميع المقدمات، فلا بد من الالتزام بوجوب جميعها غيريا؛ بلا فرق بين ما تعلق به الأمر الغيري، و ما لم يتعلق به ذلك.

(3) أي: فيصح تعلق الأمر الغيري بالمثل، كما صح تعلق الأمر بالمقدمات الواقعة في حيّز الأمر الغيري.

(4) تعليل لقوله: «فيصح تعلقه به»، يعني: يصح تعلق الأمر الغيري بالمثل لتحقق ملاك الأمر الغيري، الذي هو التوقف، فيثبت عموم الحكم للجميع.

ص: 211

ملاكه و مناطه، و التفصيل بين السبب و غيره (1)، و الشرط الشرعي و غيره سيأتي بطلانه، و إنه لا تفاوت في باب الملازمة بين مقدمة و مقدمة.

و لا بأس بذكر الاستدلال الذي هو كالأصل (2) لغيره - مما ذكره الأفاضل عن الاستدلالات - و هو ما ذكره أبو الحسن البصري، و هو: أنه لو لم يجب المقدمة لجاز تركها، و حينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، و إلاّ خرج الواجب المطلق عن وجوبه.

=============

(1) قوله: «و التفصيل...» إلخ دفع لما يمكن أن يقال: إنه ليس مناط الوجوب الغيري هو التوقف و المقدمية؛ حتى يتعدى منه إلى جميع المقدمات، بل يحتمل أن يكون فيما وجب من المقدمات كونها سببا أو شرطا شرعيا، و ذلك يقتضي وجوب ما يكون سببا أو شرطا شرعيا فقط، و لازم ذلك: عدم وجوب جميع المقدمات. فإنّه يقال في دفع هذا الإشكال: إنه لا خصوصية في السبب أو الشرط في الوجوب الغيري، فلا وجه لتوهم التفصيل أصلا، و سيأتي بطلانه فانتظر.

(2) بمعنى: أن سائر الأدلة مشتقة منه؛ كاشتقاق المشتقات من المصدر، حيث إن تلك الأدلة مشتملة على بعض ما تضمنه دليل أبي الحسن البصري.

و حاصل الاستدلال: الذي ذكره أبو الحسن البصري على وجوب المقدمة، و جعله المصنف كالأصل: أنه لو لم تجب المقدمة لجاز تركها، ضرورة: أن عدم وجوبها يستلزم جواز تركها، و بعد فرض جواز الترك؛ فإن لم يبق ذو المقدمة على وجوبه لزم خروج الواجب النفسي المطلق عن وجوبه، و إن بقي على وجوبه لزم التكليف بما لا يطاق، بداهة: أن ترك المقدمة المفروض جوازه يوجب امتناع وجود الواجب في الخارج، فالتكليف بإيجاد ذي المقدمة يصير حينئذ من التكليف بغير مقدور، و هو قبيح على العاقل فضلا على الحكيم.

و كيف كان؛ فيلزم من جواز ترك المقدمة أحد محذورين: إما التكليف بما لا يطاق لو بقي ذو المقدمة على وجوبه. و إما الخلف لو خرج عن وجوبه.

أما الأول: فواضح.

و أما الثاني: فلأن المفروض: إطلاق وجوب الواجب بالنسبة إلى مقدمته، و عدم اشتراط وجوبه بوجودها، ففرض عدم وجوبه - حين ترك المقدمة - يرجع إلى اشتراط وجوبه بوجودها، و هو خلاف ما فرضناه من إطلاق الوجوب.

و من البديهي: بطلان كلا المحذورين، فعدم وجوب المقدمة - الذي هو منشأ هذين المحذورين - أيضا واضح البطلان؛ لكشف فساد اللازم - و هو: عدم وجوب ذي المقدمة -

ص: 212

و فيه: (1) - بعد إصلاحه بإرادة عدم المنع الشرعي من التالي في الشرطية الأولى لا الإباحة الشرعية، و إلاّ كانت الملازمة واضحة البطلان، و إرادة الترك عما أضيف إليه عن فساد و بطلان الملزوم؛ و هو: عدم وجوب المقدمة فالنتيجة هي: وجوب المقدمة.

=============

(1) أي: يرد في هذا البرهان و الاستدلال بعد إصلاحه ما أشار إليه بقوله: «ما لا يخفى»، فلا بد أولا من إصلاح هذا البرهان؛ بنحو يندرج في البراهين التي لها صورة، ثم التعرض لما يرد عليه من الإشكال فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: في إصلاح الدليل المذكور.

المقام الثاني: في بيان ما يرد عليه من الإشكال.

أما المقام الأول: - و هو إصلاح البرهان المذكور - فتوضيحه: يتوقف على مقدمة و هي: أن المستدل - بالدليل المذكور على وجوب المقدمة - لمّا رتب دليله من قضيتين شرطيتين، فلا بد من الملازمة بين المقدم و التالي في كلتا الشرطيتين و هما: 1 - أنه لو لم تجب المقدمة لجاز تركها. 2 - و حينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، و إلاّ خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا، إذ لو لا الملازمة بين المقدم و التالي في القضية الشرطية في القياس الاستثنائي لما ينتج من بطلان التالي بطلان المقدم، و لا ملازمة بين المقدم و التالي في الشرطيتين بحسب ما هو ظاهر قول المستدل؛ فلا بد من الإصلاح على نحو تتحقق الملازمة بين المقدم و التالي في كلتا الشرطيتين.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن إصلاح الشرطية الأولى إنما هو: أن يكون المراد من جواز ترك المقدمة المستفاد من قوله: «لجاز تركها»: عدم منع شرعي عن تركها، فالمراد من قوله: «لجاز تركها» أي: لم يمنع الشارع تركها؛ إذ لا ملازمة بين عدم وجوب المقدمة و بين جواز تركها إذا كان المراد من الجواز الإباحة الشرعية؛ لأن رفع الوجوب الغيري عن المقدمة لا يستلزم خصوص الإباحة الشرعية؛ بل يتردد الحكم الباقي بين الأحكام الأربعة بناء على عدم خلو الواقعة عن حكم شرعي. و أما إذا كان المراد من جواز الترك عدم المنع الشرعي عن ترك المقدمة لكانت الملازمة - بين المقدم و التالي - ثابتة حينما نقول: إنه لو لم تجب المقدمة لم يكن منع شرعي عن تركها.

هذا تمام الكلام في إصلاح الشرطية الأولى.

أما إصلاح الشرطية الثانية فهو: أن يراد الترك عما أضيف إليه الظرف أعني: كلمة «حينئذ» بأن يكون التقدير حين تركها؛ لا حين جواز تركها كما هو ظاهر قول المستدل؛ لأن بقاء الواجب على وجوبه حين جواز ترك المقدمة لا يوجب التكليف بما لا يطاق، بل

ص: 213

الظرف لا نفس الجواز، و إلاّ فبمجرد الجواز بدون الترك لا يكاد يتوهم صدق القضية الشرطية الثانية - ما لا يخفى؛ فإن (1) الترك بمجرد عدم المنع شرعا لا يوجب صدق إحدى الشرطيتين، و لا يلزم أحد المحذورين (2)؛ فإنه و إن لم يبق له وجوب معه؛ إلاّ إنه كان ذلك بالعصيان؛ لكونه متمكنا من الإطاعة و الإتيان، و قد اختار تركه بترك يلزم ذلك على تقدير ترك المقدمة، فلا بد أن يراد من المضاف إليه الظرف ترك المقدمة بما هو ترك، كي تصدق القضية الشرطية الثانية، و كي يترتب التالي على المقدم. هذا تمام الكلام في المقام الأول.

=============

و أما المقام الثاني - المتضمن لإبطال الدليل المذكور - فقد أشار إليه بقوله: «ما لا يخفى»، و حاصل وجه بطلانه على - ما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 402.» -: أن ترك المقدمة المفروض جوازه شرعا لا يوجب شيئا من المحذورين اللذين أحدهما: الخلف، و هو خروج الواجب عن الوجوب. و الآخر: التكليف بما لا يطاق؛ و ذلك لأن المقدمة و إن لم تكن واجبة شرعا، لكن العقل يحكم بوجوبها إرشادا من باب حسن الإطاعة عقلا؛ حذرا من الوقوع في عقاب ترك الواجب، فإذا ترك المقدمة لزم سقوط أمر ذيها بالعصيان، فلا أمر حينئذ ليجب به ذو المقدمة. فإن أراد المستدل من خروج الواجب عن الوجوب هذا المعنى فلا بأس به، لكنه ليس بمحذور؛ لأن سقوط التكليف يكون تارة:

بالإطاعة، و أخرى: بالعصيان.

فقول المستدل: بأن المقدمة إن لم تكن واجبة لجاز تركها شرعا صحيح، لكن قوله:

إن ترك المقدمة يستلزم أحد المحذورين، و هما الخلف أو التكليف بغير مقدور غير سديد؛ لعدم لزوم شيء منهما حين ترك المقدمة. المفروض جوازه شرعا؛ حتى يكشف بطلان التالي عن بطلان الملزوم، و هو عدم وجوب المقدمة. انتهى.

(1) أي: قوله: «فإن الترك...» إلخ تقريب للإشكال على الدليل، حيث عرفت: إن ترك المقدمة المفروض جوازه شرعا لا يوجب شيئا من المحذورين.

(2) أي: هما خروج الواجب عن كونه واجبا، و لزوم تكليف ما لا يطاق.

و حاصل جواب المصنف عن الاستدلال المذكور هو: أن المقدمة الأولى - أعني:

قوله: «لو لم يجب المقدمة لجاز تركها» - و إن كانت مسلمة؛ و لكن المقدمة الثانية - أعني: قوله: «و لو ترك لزم إما الخلف أو التكليف بما لا يطاق» - غير صحيح؛ إذ بالترك يسقط التكليف عصيانا، فإن المقدمة مقدورة، و العقل حكم بلزوم الإتيان بها إرشادا، فلم يخرج الواجب عن كونه واجبا، فجواز ترك المقدمة شرعا - في ظرف وجوب الإتيان بها عقلا - غير مستلزم لأحد المحذورين.

ص: 214

مقدمته بسوء اختياره، مع حكم العقل بلزوم إتيانها، إرشادا إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب.

نعم؛ (1) لو كان المراد من الجواز جواز الترك شرعا و عقلا، يلزم أحد المحذورين، إلاّ إن الملازمة على هذا في الشرطية الأولى ممنوعة؛ بداهة: إنه لو لم يجب شرعا لا يلزم أن يكون جائزا شرعا و عقلا؛ لإمكان أن لا يكون محكوما بحكم شرعا، و إن كان واجبا عقلا إرشادا، هذا واضح.

=============

(1) هذا استدراك على قوله: «فإن الترك بمجرد عدم المنع شرعا لا يوجب صدق إحدى الشرطيتين».

و حاصل الاستدراك: أن عدم صدق إحدى الشرطيتين المستلزم لعدم لزوم المحذورين - أعني: الخلف و التكليف بما لا يطاق - من جواز ترك المقدمة إنما يتم على أن يكون المراد من الجواز - في قوله: «لجاز تركها» - هو: الجواز الشرعي فقط.

و أما إذا كان المراد منه هو: الجواز شرعا و عقلا معا فيلزم أحد المحذورين المتقدمين لا محالة؛ إذ حينئذ لا ملزم بإتيان المقدمة، فيجوز تركها عقلا و شرعا. ثم هذا الترك المؤدي إلى ترك الواجب النفسي لا يكون عصيانا لأمر الواجب النفسي لسقوط الأمر بعدم القدرة عليه عند ترك المقدمة، فلا بد أن يكون سقوط الأمر النفسي للخلف أعني: خروج الواجب المطلق عن وجوبه؛ لأن سقوط الأمر لأجل انتفاء المقدمة هو شأن الواجب المشروط.

و حاصل الكلام في المقام: أنه إذا كان المراد من جواز الترك من التالي في الشرطية الأولى: جواز الترك شرعا و عقلا للزم أحد المحذورين المتقدمين. و لكن الملازمة في الشرطية الأولى على هذا الفرض أعني: جواز ترك المقدمة شرعا و عقلا ممنوعة. أما وجه منع الملازمة بين عدم وجوب المقدمة شرعا و بين جواز تركها شرعا و عقلا: فلأن نفي الوجوب شرعا لا يستلزم الجواز شرعا و عقلا؛ لإمكان خلو المقدمة عن الحكم الشرعي، و كفاية حكم العقل بلزوم الإتيان بها إرشادا، فليس جواز ترك المقدمة شرعا و عقلا من لوازم عدم وجوبها حتى يلزم أحد المحذورين عند ترك المقدمة.

و كيف كان؛ فيرد على الدليل المذكور أحد إشكالين و هما: إما كذب الشرطية الأولى إن كان المراد بجواز الترك جوازه شرعا و عقلا، أو كذب الشرطية الثانية إن كان المراد من جواز الترك جوازه شرعا فقط؛ إذ لا يلزم حينئذ التكليف بما لا يطاق بمجرد جواز الترك شرعا، مع حكم العقل بلزوم إيجاد المقدمة إرشادا؛ بل لا يلزم شيء من المحذورين بناء على عدم وجوب المقدمة شرعا.

ص: 215

و أما التفصيل بين السبب و غيره: (1) فقد استدل على وجوب السبب: (2) بأن التكليف لا يكاد يتعلق إلاّ بالمقدور، و المقدور لا يكون إلاّ هو السبب، و إنما المسبب من آثاره المترتبة عليه قهرا، و لا يكون من أفعال المكلف و حركاته أو سكناته، فلا بد من صرف الأمر المتوجه إليه عنه إلى سببه.

و لا يخفى ما فيه (3) من: أنه ليس بدليل على التفصيل؛ بل على أن الأمر النفسي إنما يكون متعلقا بالسبب دون المسبب؛ مع وضوح فساده، ضرورة: أن المسبب

=============

التفصيل بين السبب و غيره

(1) أي: غير السبب، أعني: الوجوب في السبب و عدمه في غيره.

وجه التفصيل: أن مقدور المكلف هو السبب كالايقاع بأن يقول مثلا: أنت حرّ في سبيل اللّه، و أما المسبب أعني: العتق فهو يترتب على الإيقاع قهرا لا باختيار المكلف، فالأمر بالعتق - في قول الشارع: «إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة» - في الحقيقة أمر بالسبب أعني: عقد العتق.

(2) توضيح الاستدلال على وجوب السبب يتوقف على مقدمة و هي: أنه لا ريب في اعتبار القدرة في متعلق التكليف لقبح التكليف بما هو خارج عن القدرة. و لا ريب أيضا: في أن المسببات خارجة عن القدرة، و إنما المقدور هي الأسباب، و المسببات تعد من آثارها المترتبة عليها قهرا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا بد من صرف الأمر المتعلق بالمسبب في ظاهر الخطاب إلى السبب، كما عرفت؛ لامتناع الأخذ بظاهره و هو: تعلق التكليف بغير المقدور، و عليه: فإذا أمر الشارع بالتزويج، أو بتحصيل الطهارة الحدثية فلا محيص عن صرفه إلى الأسباب كالعقد في المثال الأول، و كغسل البدن، أو غسل الوجه و اليدين، و مسح مقدم الرأس و الرجلين في المثال الثاني؛ لعدم القدرة على الزواج، و الطهارة؛ بل المقدور أسبابهما.

(3) أي: لا يخفى ما في هذا الدليل من الإشكال.

و قد أجاب المصنف عن الاستدلال المذكور بوجهين:

أحدهما: ما أشار إليه بقوله: «من أنه ليس بدليل على التفصيل».

و ثانيها: ما أشار إليه بقوله: «مع وضوح فساده».

و حاصل الوجه الأول: أن ما ذكر من الدليل ليس دليلا على التفصيل في مورد البحث - و هو الوجوب الترشحي الثابت للمقدمة التي هي سبب وجود ذيها، دون

ص: 216

مقدور المكلف، و هو متمكن عنه بواسطة السبب، و لا يعتبر في التكليف أزيد من القدرة، كانت بلا واسطة أو معها، كما لا يخفى.

و أما التفصيل بين الشرط الشرعي و غيره (1): فقد استدل على الوجوب في الأول بأنه: لو لا وجوبه (2) شرعا لما كان شرطا، حيث إنه ليس مما لا بد منه عقلا أو عادة.

=============

المقدمة التي هو شرط - حتى يفصل بين السبب و الشرط: بوجوب الأول دون الثاني.

و بيان ذلك: أن مقتضي الدليل المزبور انحصار التكليف في واحد متعلق بالسبب، و من المعلوم: أن هذا التكليف نفسي، فيكون السبب واجبا نفسيا، و ليس هذا الوجوب محل البحث عند من فصل بين المقدمة التي هي سبب، و التي هي شرط؛ بل المبحوث عنه هو الوجوب الترشحي، و الدليل المزبور لا يقتضي وجوب السبب ترشحيا؛ إذ ليس وجوبه على هذا للتوصل به إلى واجب آخر، إنما وجوبه نفسي، و أين الوجوب النفسي من الغيري ؟

و أما الوجه الثاني فحاصله: أن القدرة و إن كانت معتبرة في التكاليف؛ إلاّ إن القدرة المعتبرة فيها أعم من المباشرية و التسببيّة. فالأمر بالإحراق مثلا صحيح، لكونه مقدورا بواسطة الإلقاء، و لا موجب لصرفه عن الإحراق إلى سببه و هو الإلقاء، و لا دليل على اعتبار خصوص القدرة المباشرية في الخطابات، بل بناء العقلاء على اعتبار مطلق القدرة فيها.

هذا مضافا إلى أن المفصل بين السبب و غيره منكر حقيقة لوجوب المقدمة مطلقا؛ لا إنه مفصل بين السبب و غيره.

أما كونه منكرا لوجوب السبب فلما عرفت: من عدم كونه واجبا غيريا؛ بل يكون واجبا نفسيا، و أما كونه منكرا لغيره فواضح، لأن المفروض: هو عدم وجوب غير السبب. هذا خلاصة الكلام في هذا التفصيل.

و هاهنا كلام طويل في تحرير التفصيل بين السبب و غيره، تركناه رعاية للاختصار.

التفصيل بين الشرط الشرعي و غيره

(1) أي: غير الشرط الشرعي كالسير للحج، فالشرط الشرعي كالوضوء و الغسل و الستر بالنسبة إلى الصلاة واجب، و الشرط الغير الشرعي كالشرط العقلي و الشرط العادي غير واجب.

(2) أي: لو لا وجوب الشرط الشرعي شرعا لما كان شرطا.

و حاصل الاستدلال: أنه لو لم يكن الوجوب الغيري الشرعي للوضوء مثلا لم يكن الوضوء شرطا؛ لأن المفروض: أن الوضوء ليس بشرط عقلي و لا عادي، فلا بدّ أن تكون

ص: 217

و فيه (1) - مضافا إلى ما عرفت: من رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي - أنه لا يكاد يتعلق الأمر الغيري إلاّ بما هو مقدمة الواجب، فلو كانت مقدميته متوقفة على تعلقه بها لدار.

=============

شرطيته بالوجوب الغيري الشرعي المتعلق به، فمقوّم شرطيته هو الوجوب الشرعي، فلا بدّ من الالتزام بوجوبه.

و بعبارة أخرى: أن الشرط على أقسام:

الأول: الشرط الشرعي: كالطهارات الثلاث، و الستر للصلاة.

الثاني: الشرط العقلي: كالسير الجويّ أو البريّ للحج.

الثالث: الشرط العادي: كنصب السلم للكون على السطح.

إذا عرفت هذه الأقسام فنقول: إن الواجب بالوجوب الشرعي الغيري هو القسم الأول فقط؛ لأن منشأ شرطية الأول هو الوجوب الغيري الشرعي، فهو يحتاج إلى الوجوب الغيري الشرعي؛ بخلاف الثاني و الثالث حيث لا يحتاجان إلى الوجوب الغيري الشرعي؛ لأن منشأ شرطيتهما ليس الوجوب الغيري الشرعي؛ بل هو العقل أو العادة، فلهذا هما ليسا واجبين بالوجوب المقدمي الترشحي.

و كيف كان؛ فإن دليل شرطية الشرط الشرعي هو وجوبه. و من البديهي: انتفاء المدلول عند انتفاء الدليل، فلذا صح أن يقال: إنه لو لا وجوبه لم يكن شرطا، و عبر صاحب القوانين عن هذا الدليل: «بأنه لو لم يكن واجبا لم يكن شرطا»، فشرطية الشرط الشرعي متقومة بالوجوب الثابت له بالفرض، فلذا وجب الشرط الشرعي دون غيره.

(1) أجاب المصنف «قدس سره» عن هذا الاستدلال بوجهين:

الوجه الأول: ما أشار بقوله: «مضافا إلى ما عرفت من رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي» أي: قد ذكره المصنف «قدس سره» في تقسيم المقدمة إلى العقلية و الشرعية بقوله: «و لكنه لا يخفى رجوع الشرعية إلى العقلية...» إلخ، و ذلك فإن للشرط سواء كان شرعيا أو عقليا معنى واحدا و هو: انتفاء المشروط عند انتفاء شرطه، و إن لم يلزم من وجود الشرط وجود المشروط.

غاية الأمر: أن شرطية بعض الأشياء لمّا كانت مما لا يدركه العقل؛ كشرائط الصلاة من الطهارة و الستر و الاستقبال و نحوها نبّه الشارع على شرطيتها، و بيّن شرطيتها، و بعد بيان الشرطية يرجع الشرط الشرعي إلى الشرط العقلي، الذي يوجب انتفاؤه انتفاء المشروط، فحينئذ لا معنى للتفصيل بين الشرط الشرعي و غيره؛ لأن كل شرط يرجع إلى الشرط العقلي، و الفرق بين الشرعي و العقلي إنما هو بالمدرك، فإذا كان المدرك للشرطية

ص: 218

و الشرطية (1) و إن كانت منتزعة عن التكليف إلاّ إنه عن التكليف النفسي المتعلق بما قيد بالشرط؛ لا عن الغيري فافهم.

=============

هو الشارع يسمى الشرط شرعيا، و إذا كان العقل يسمى عقليا، و لا فرق بينهما من حيث المفهوم؛ و هو: انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط.

فالمتحصل: أن الشروط الشرعية ترجع إلى الشروط العقلية و هي كلها واجبة، فلا مورد للتفصيل. هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

و أما الوجه الثاني: فهو ما أشار إليه بقوله: «إنه لا يكاد يتعلق الأمر الغيري إلاّ بما هو مقدمة الواجب»، و حاصل الوجه الثاني: أنّ استدلال المفصل مستلزم للدور بتقريب: أن كل حكم مترتب على موضوعه و متأخر عنه تأخر المعلول عن علته، فلو توقف الموضوع على حكمه لزم الدور.

و توضيح ذلك في المقام: أن الوجوب الغيري متأخر عن موضوعه - و هو الشرطية و المقدمية - و حينئذ فلو توقفت المقدمية على الأمر الغيري - كما هو مقتضى دليل المستدل - كان ذلك دورا لتوقف الحكم - و هو الأمر الغيري - على الموضوع - أعني:

المقدميّة - و بالعكس. و بتعبير أوضح: أنه لا يترشح الأمر الغيري إلاّ على ما هو مقدمة الواجب، فلو توقفت المقدمية على ذلك كان دورا باطلا، و لازم هذا هو: كذب الشرطية في الاستدلال؛ و ذلك لعدم توقف الجزاء - و هو الشرطية - على الشرط أعني: الوجوب؛ لما عرفت: من أن توقفها عليه مستلزم للدور الباطل، فيبطل التوقف، فلا تدل الشرطية المذكورة على وجوب الشرط الشرعي دون غيره، كما ادعاه المستدل.

(1) أي: «و الشرطية...» إلخ دفع للإشكال.

أما تقريب الإشكال فيقال: إن هذا الدور بعينه وارد عليكم، لأن الشرطية متوقفة على الأمر الغيري؛ إذ لو لا الأمر الغيري لم يعلم الشرطية، و الأمر الغيري متوقف على ثبوت الشرطية؛ إذ لو لا الشرطية لم يأمر المولى بالشرط. غاية الأمر: هذا الإشكال مبني على استحالة جعل الشرطية مستقلة كما هو مختار المصنف. و أما بناء على كون الشرطية مجعولة بالاستقلال لا يلزم الدور.

و حاصل الدفع: هو منع المقدمة الأولى و هي: كون الشرطية منتزعة عن الوجوب الغيري المقدمي حتى يلزم الدور؛ بل هي منتزعة عن الوجوب النفسي، المتعلق بالشيء، المقيد بالشرط الشرعي كقوله: «صل على الطهارة»، المنتزع منه وجوب الطهارة، فمنشأ انتزاع الشرطية لها هو هذا الأمر النفسي؛ لا الأمر الغيري حتى يلزم الدور.

ص: 219

تتمة: مقدمة المستحب و الحرام و المكروه
اشارة

لا شبهة في أن مقدمة المستحب (1) كمقدمة الواجب، فتكون مستحبة لو قيل بالملازمة. و أما مقدمة الحرام (2) و المكروه: فلا تكاد تتصف بالحرمة أو الكراهة؛ إذ و قد يجاب عن الدور: بأن الشرطية متوقفة إثباتا على الأمر الغيري، و الأمر الغيري متوقف ثبوتا على الشرطية فلا دور.

=============

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى عدم اندفاع إشكال الدور؛ بجعل منشأ انتزاع الشرطية الأمر النفسي؛ و ذلك أن الطهارة مثلا ما لم يكن لها دخل في الصلاة أو الطواف لم يتعلق الأمر النفسي بالصلاة عن طهارة، فالشرطية ثابتة قبل تعلق الأمر النفسي؛ لأنها حينئذ جزء من موضوعه، فإذا فرض انتزاعها عن الأمر النفسي لزم الدور، فجعل منشأ انتزاع الشرطية الأمر النفسي لا يحسم إشكال الدور.

و بعبارة أخرى: أن الأمر النفسي بالصلاة مع الطهارة متوقف على مدخلية الطهارة و مقدميتها؛ إذ لو لا الطهارة لم يأمر بالصلاة مع الطهارة، و مدخلية الطهارة متوقفة على الأمر النفسي بالصلاة مع الطهارة؛ إذ لو لا هذا الأمر لم تكن للطهارة مدخلية، و هذا دور واضح، غاية الأمر: أن الدور - في التقرير السابق - كان مع الأمر الغيري، و هاهنا كان مع الأمر النفسي.

مقدمة المستحب (1) أي: أن مقدمة المستحب كالسفر إلى البلاد لتحصيل العلم، و التفقه في الدين، و المشي لزيارة الإمام الحسين «عليه السلام»، كمقدمة الواجب، فتكون مستحبة على القول بالملازمة في مقدمة الواجب؛ و ذلك لوحدة المناط - و هو: التوقف و المقدمية - في المقامين، فلا فرق بين الطلب الوجوبي و الاستحبابي عند العقل؛ لأن المناط المزبور يقتضي الوجوب في مقدمة الواجب المطلق، و الاستحباب في مقدمة المستحب.

مقدمة الحرام و المكروه (2) أي: كالمشي للزنا، و مقدمة المكروه: كالمشي للطلاق؛ «فلا تكاد تتصف بالحرمة أو الكراهة»؛ بل فرق بين المقدمات كما أشار إليه بقوله: «إذ منها ما يتمكن معه من ترك الحرام أو المكروه اختيارا» أي: من مقدمات الحرام و المكروه ما يتمكن مع فعلها من ترك الحرام أو المكروه، فالمراد بما الموصولة: المقدمة، و ضمير معه راجع إلى (ما).

ص: 220

منها ما يتمكن معه من ترك الحرام أو المكروه اختيارا كما كان متمكنا قبله، فلا دخل له أصلا في حصول ما هو المطلوب من ترك الحرام أو المكروه، فلم يترشح من طلبه طلب ترك مقدمتهما.

=============

و توضيح ما أفاده المصنف - في مقدمات الحرام و المكروه - يتوقف على مقدمة و هي:

أن مقدمات الحرام و المكروه على قسمين:

الأول: ما يتمكن المكلف مع فعلها من ترك الحرام أو المكروه؛ لعدم كونها علة تامة لوجود الحرام أو المكروه، و لا جزءا أخيرا من العلة التامة لوجودهما.

الثاني: ما لا يتمكن مع فعلها من تركهما؛ لكونها علة تامة أو جزءا أخيرا منها لوجودهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المقدمة لو كانت من قبيل القسم الأول فلا تكون حراما؛ إذ المفروض: عدم كون فعلها مستلزما لفعل ذيها؛ لعدم كونها علة تامة و لا جزءا أخيرا منها لوجود الحرام، فلا وجه لاتصافها بالحرمة لكونها فاقدة لملاك المقدمية، و هو توقف ترك الحرام أو المكروه على تركها.

فلو فرض: أن المكلف أتى بذي المقدمة بعد ما أتى بهذه المقدمة كان إتيانه مستندا إلى سوء اختياره، لا إلى هذه المقدمة، فلمّا لم يكن ترك هذه المقدمة دخيلا في ترك الحرام أو المكروه، فلا يترشح من طلب ترك الحرام أو المكروه طلب غيري على ترك هذه المقدمة، فلو أتى بجميع المقدمات إلاّ المقدمة الأخيرة التي يترتب عليها الحرام لم يأت بمحرم، و لا يتصف شيء من تلك المقدمات المأتي بها بالحرمة.

و من هنا: يتضح الفرق بين مقدمات الواجب و مقدمات الحرام.

و خلاصة الفرق بينهما: أن الواجب في الحرام هو ترك الحرام، و مقدمته هي ترك إحدى مقدمات وجود الحرام لا ترك جميعها؛ لأن ترك الحرام لا يتوقف على ترك جميعها، لوضوح: حصول الترك الواجب بترك إحدى مقدمات الحرام، فمعروض الوجوب المقدمي حينئذ هو: ترك إحدى المقدمات تخييرا.

هذا بخلاف مقدمات الواجب؛ حيث يكون وجود كل واحدة منها مما يتوقف عليه وجود الواجب النفسي، فيجب جميع مقدماته. فمعروض الوجوب الغيري في مقدمة الواجب هو: فعل جميع المقدمات، و في مقدمة الحرام هو: ترك إحدى المقدمات على البدل لتحقق الواجب و هو ترك الحرام به، فلا مقتضى لوجوب ترك الجميع.

و كيف كان؛ فالمقدمة المحرمة من مقدمات الحرام هي: خصوص المقدمة التي لا يتمكن مع فعلها من ترك الحرام.

ص: 221

نعم (1)؛ ما لا يتمكن معه من الترك المطلوب لا محالة يكون مطلوب الترك، و يترشح من طلب تركهما طلب ترك خصوص هذه المقدمة (2)، فلو لم (3) يكن للحرام مقدمة لا يبقى معها اختيار تركه لما اتصف بالحرمة مقدمة من مقدماته.

لا يقال: (4) كيف ؟ و لا يكاد يكون فعل إلاّ عن مقدمة لا محالة معها يوجد، ضرورة: أن الشيء ما لم يجب لم يوجد.

=============

(1) استدراك على ما أفاده: من أنه لم يترشح من طلب ترك الحرام و المكروه طلب غيري على ترك المقدمة، التي يتمكن المكلف مع فعلها من تركهما.

و حاصل الاستدراك: أن الأمر الغيري المقدمي لا يترشح من طلب تركهما على كل مقدمة؛ بل على خصوص المقدمة التي لا يقدر المكلف مع فعلها على ترك الحرام أو المكروه، و هذه المقدمة هي الجزء الأخير من العلة التامة، فلا محيص حينئذ عن ترشح الطلب الغيري على هذه المقدمة. فقوله: «نعم» إشارة إلى القسم الثاني من قسمي مقدمات الحرام و المكروه.

(2) أي: المقدمة التي هي علة تامة لوجود الحرام.

(3) هذا متفرع على كون المقدمة المحرمة خصوص ما يتوقف عليه وجود الحرام؛ بحيث يترتب عليها قهرا، و لا يتمكن المكلف معها من ترك الحرام أصلا.

و حاصل الكلام في المقام: أنه - بناء على ذلك - لو فرض أن الحرام أو المكروه ليس له مقدمة من القسم الثاني؛ بأن كانت جميع مقدماته من قبيل القسم الأول، الذي لا يترتب وجود الحرام أو المكروه عليها قهرا؛ بل يبقى المكلف مع إتيانه بتلك المقدمات مختارا أيضا في فعله للحرام و المكروه و تركه لهما، كما إذا كان الحرام أو المكروه فعلا اختياريا منوطا وجوده باختياره و إرادته، لما اتصف شيء من مقدماته بالحرمة، إذ لو أتى بجميعها، و لم يرد المكلف فعل الحرام لا يتحقق الحرام في الخارج؛ لأن عدمه حينئذ مستند إلى عدم الإرادة؛ لا إلى وجود المقدمات حتى يكون التوصل بها إلى الحرام موجبا لحرمتها الغيرية.

(4) هذا الكلام من المصنف اعتراض على قوله: «فلو لم يكن للحرام مقدمة لا يبقى معها اختيار تركه...» إلخ، و حاصل الاعتراض: أنه كيف يمكن وجود فعل في الخارج بدون مقدمة و علة، مع بداهة: «أن الشيء ما لم يجب لم يوجد» أي: ما لم يجب وجوده من ناحية علته يمتنع أن يوجد في الخارج، و لازم ذلك: امتناع وجود الحرام بدون مقدمة و علّة، فلا يصح كون الحرام بدون مقدمة و علة.

و بعبارة أخرى: أنه لمّا استفيد من آخر كلام المصنف: إنه لو لم يكن للحرام مقدمة

ص: 222

فإنه يقال: (1) نعم؛ لا محالة يكون من جملتها ما يجب معه صدور الحرام؛ لكنه لا يلزم أن يكون ذلك من المقدمات الاختيارية؛ بل من المقدمات الغير الاختيارية؛ كمبادئ الاختيار التي لا تكون بالاختيار، و إلا (2) لتسلسل، فلا تغفل، و تأمل.

=============

و علة تامة لم يكن أحد مقدماته حراما. اعترض عليه: بأنه كيف يمكن أن يوجد فعل في الخارج، و لا يكون له علة تامة، و الحال: إن الشيء ما لم يجب - بسبب وجود علته التامة - لم يوجد؟

و على هذا فلا بد و أن يكون لكل محرم موجود علة تامة، و تلك العلة التامة محرمة.

(1) هذا دفع للاعتراض، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: إنه لا ريب في احتياج كل فعل إلى العلة التامة؛ لكن أجزاء العلة التامة على قسمين:

الأول: أن تكون بتمامها اختياريا: مثل القاء الحطب في النار.

الثاني: أن تكون مركبة من الفعل الاختياري و غيره: كالإرادة التي هي غير اختيارية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن علة الحرام - لو كانت من قبيل القسم الأول - لا مانع من اتصاف جميع أجزاء العلة بالحكم الشرعي، فلو كان المعلول حراما اتصفت علته التامة بالحرمة. و أما إذا كانت من القسم الثاني: فلا يتصف شيء من أجزاء العلة بالحرمة، أما غير الإرادة من المقدمات التي هي أفعال اختيارية: فلعدم توقف وجود الحرام عليه؛ إذا المفروض: قدرة المكلف على ترك الحرام قبل إيجاد هذه المقدمة و بعده، فلا يترتب عليها الحرام حتى تتصف بالحرمة المقدمية.

و أما الإرادة؛ فلعدم كونها اختيارية، و إلاّ توقفت على إرادة أخرى هكذا، فيلزم التسلسل. فما ذكر في الاعتراض من إن الفعل لا يوجد إلاّ بالعلة - و إن كان صحيحا إذ لا إشكال في امتناع وجود الممكن بلا علة - إلاّ إن العلة تارة: تكون مما يصح تعلق الحكم الشرعي به كما إذا كانت اختيارية. و أخرى: لا تكون كذلك؛ كما إذا لم تكن اختيارية كالإرادة.

و على هذا: يمكن أن لا تكون للحرام أو المكروه مقدمة اختيارية؛ بأن كانت علة وجودهما غير اختيارية كالإرادة، و من البديهي: أن ما لا يكون بالاختيار يمتنع أن يكون موضوعا للتكليف حرمة أو كراهة أو غيرهما، تعيينا أو تخييرا، إلاّ إن يقال: بأن الإرادة ليست غير اختيارية. نكتفي بهذا المقدار رعاية للاختصار.

(2) أي: لو كانت مبادئ الاختيار كالإرادة بالاختيار لزم التسلسل، «فلا تغفل» عما ذكرنا في مبادئ الاختيار، «و تأمل» حتى تعلم ما هو الحق من أن الإرادة اختيارية. هذا تمام الكلام في بحث مقدمة الواجب.

ص: 223

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - لا أصل في المسألة الأصولية: أعني: الملازمة بين وجوب شيء و وجوب مقدمته، و إن كان هناك أصل في المسألة الفقهية أعني: وجوب المقدمة؛ و ذلك فإن الأصل الذي يمكن فرضه في المقام هو الاستصحاب، فإذا شك في وجوب مقدمة بعد وجوب ذيها يجري استصحاب عدم وجوبها؛ لأنه كان متيقنا قبل وجوب ذيها فيجري استصحاب عدم الوجوب عند الشك في الوجوب.

هذا بخلاف الأصل في المسألة الأصولية أعني: الملازمة بين الوجوبين، فلا يجري استصحاب عدم الملازمة و لا استصحاب وجودها؛ لعدم الحالة السابقة المعتبرة في الاستصحاب، إذ ليست لها حالة سابقة، بل إنها إما موجودة من الأول أو منفية كذلك، فليس هناك يقين سابق بحدوث الملازمة و لا بعدمه، كي يجري الاستصحاب. و من البديهي: أن الاستصحاب يتوقف على اليقين السابق، و الشك اللاحق.

نعم؛ هناك توهم عدم جريان الاستصحاب في المسألة الفقهية. بتقريب: أن ما يعتبر في الاستصحاب هو: أن يكون المستصحب إما مجعولا شرعيا كالوجوب و الحرمة و نحوهما، و إما أن يكون موضوعا لحكم شرعي كالعدالة و الاجتهاد و نحوهما، و المستصحب في المقام ليس مجعولا شرعيا، و لا موضوعا يترتب عليه حكم شرعي؛ لأن وجوب المقدمة لازم لماهية وجوب ذيها كزوجية الأربعة، و لازم الماهية ليس من الأمور المجعولة أصلا، فلا يجري الاستصحاب لانتفاء ما يعتبر فيه.

و حاصل ما أفاده المصنف في دفع هذا التوهم هو: أن وجوب المقدمة على الملازمة و إن لم يكن مجعولا للشارع مستقلا، إلاّ إنه مجعول شرعا بتبع جعل وجوب ذي المقدمة. و هذا المقدار من المجعولية الشرعية يكفي في جريان الاستصحاب فيه.

و هناك إشكال آخر على استصحاب عدم وجوب المقدمة و هو: استحالة تفكيك المتلازمين؛ إذ على فرض الملازمة بين الوجوبين: يلزم تفكيك المتلازمين باستصحاب عدم وجوب المقدمة مع وجوب ذيها، و المفروض: تلازمهما.

و ملخص الجواب عن هذا الإشكال: أن نفي وجوب المقدمة بالأصل ظاهرا لا ينافي الملازمة بين الوجوبين الواقعيين. هذا تمام الكلام في الأصل.

2 - الكلام في الدليل على الملازمة و هو الوجدان:

ص: 224

و حاصل كلام المصنف في المقام: أن الوجدان أقوى شاهد على أن الإنسان إذا أراد شيئا متوقفا على مقدمات أراد تلك المقدمات قهرا لو التفت إليها.

و حاصل هذا البرهان: أن الوجدان يحكم بالملازمة بين إرادة شيء و إرادة مقدماته، لو التفت المريد إلى تلك المقدمات؛ بل قد يأمر المولى عبده بها مولويا فيقول: «ادخل السوق و اشتر اللحم».

و يؤيد الوجدان: وجود الأوامر الغيرية المتعلقة ببعض مقدمات بعض الواجبات الشرعية؛ كالوضوء و الغسل و نحوهما للصلاة، و وجود هذه الأوامر الغيرية أقوى شاهد على وجود الملازمة بين وجوب كل واجب نفسي و وجوب مقدمة من مقدماته؛ و ذلك لوجود المناط في جميع المقدمات، فيستكشف من وجود أوامر غيرية - بالنسبة إلى جملة من المقدمات - وجوب غيرها من المقدمات التي لم يرد فيها أمر غيري أيضا؛ لتحقق ملاكه و مناطه.

3 - استدلال أبي الحسن البصري على وجوب المقدمة بقوله: «إنه لو لم تجب المقدمة لجاز تركها، و حينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، و إلاّ خرج الواجب عن كونه واجبا»، و حاصل هذا الاستدلال هو: لزوم أحد محذورين من: عدم وجوب المقدمة، و جواز تركها، و هما: الخلف و التكليف بما لا يطاق.

و قد أورد المصنف على هذا الاستدلال بعد إصلاحه، فيقع الكلام تارة: في إصلاح هذا الاستدلال، و أخرى: في بيان ما يرد عليه. و أما إصلاح هذا الدليل بحيث يندرج تحت البراهين التي لها صورة؛ فيقال: إن المستدل لمّا رتب دليله من قضيتين شرطيتين فلا بد من الملازمة بين المقدم و التالي في كلتا الشرطيتين و هما:

1 - «أنه لو لم تجب المقدمة لجاز تركها».

2 - «و حينئذ فإن بقي الواجب المطلق على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، و إلاّ خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا»، و لا ملازمة بين مقدمهما و تاليهما بحسب ما هو ظاهر كلام المستدل، فلا بد من إصلاحهما بحيث تتحقق الملازمة بين المقدم و التالي فيهما، فيقال في إصلاح الشرطية الأولى: إن المراد من الجواز في تاليها هو:

عدم منع شرعيّ عن تركها فيقال: إنه لو لم تجب المقدمة لم يمنع الشارع عن تركها، و الملازمة بين عدم وجوب المقدمة و عدم منع الشارع عن تركها واضحة؛ إذ لو وجبت المقدمة لكان ممنوع الترك شرعا قطعا.

ص: 225

هذا بخلاف ما هو الموجود في كلام المستدل؛ إذ لا ملازمة بين عدم وجوب المقدمة و بين جواز تركها أي: الجواز بمعنى الإباحة الشرعية؛ بل الحكم الشرعي عند عدم الوجوب يتردد بين الأحكام الباقية من الحرمة و الكراهة و الإباحة و الاستحباب.

أما إصلاح الشرطية الثانية: فهو أن يراد الترك عما أضيف إليه الظرف أي: كلمة «حينئذ»، بأن يكون التقدير حين ترك المقدمة لا حين جواز تركها؛ لأن بقاء الواجب على وجوبه مع جواز تركها لا يوجب شيئا من المحذورين، كي يقال: إن بطلان التالي يكون كاشفا عن بطلان المقدم أعني: جواز ترك المقدمة شرعا، و بطلانه ينتج بطلان المقدم في الشرطية الأولى أعني: عدم وجوب المقدمة، فإذا بطل عدم وجوبها ثبت وجوبها لاستحالة ارتفاع النقيضين و هو المطلوب. هذا تمام الكلام في إصلاح هذا الدليل.

و أما بيان ما يرد عليه فقد أشار إليه بقوله: «فيه ما لا يخفى»، و حاصل الايراد: أن ترك المقدمة المفروض جوازه شرعا لا يوجب المحذورين اللذين أحدهما: هو الخلف، و الآخر: التكليف بما لا يطاق، إذ يسقط التكليف و الأمر بذي المقدمة بالعصيان عند ترك المقدمة، فلا يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا، و لا التكليف بما لا يطاق.

نعم؛ لو كان المراد من الجواز في تالي الشرطية الأولى هو الجواز شرعا و عقلا؛ يلزم أحد المحذورين المتقدمين، إذ لا ملزم حينئذ بإتيان المقدمة، فيجوز تركها شرعا و عقلا، فإن بقي الواجب النفسي على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، و إلاّ خرج الواجب عن كونه واجبا، لأن انتفاء الأمر بذي المقدمة إنما هو لأجل انتفاء المقدمة و هو شأن الواجب المشروط، فيلزم الخلف. إلاّ إن الملازمة في الشرطية الأولى ممنوعة على هذا الفرض؛ لأن عدم وجوب المقدمة لا يستلزم الجواز شرعا و عقلا؛ لإمكان خلو الواقعة عن الحكم الشرعي أصلا.

4 - التفصيل بين السبب و غيره: أي: الوجوب في السبب، و عدمه في غيره بتقريب: اعتبار القدرة في متعلق التكليف؛ لقبح التكليف بغير المقدور، ثم المقدور هو السبب، و المسبب إنما هو من آثاره و لوازمه قهرا، فلا يتعلق التكليف بالمسبب لكونه غير مقدور.

و قد أجاب المصنف عنه أولا: بأن هذا التفصيل ليس تفصيلا في الوجوب الغيري - و هو محل الكلام - بل تفصيل في الوجوب النفسي، لأن السبب واجب بالوجوب

ص: 226

النفسي، و هو خارج عن محل الكلام.

و ثانيا: أن المسبب مقدور، لأن المقدور بالواسطة مقدور، فلا فرق بين السبب و المسبب من حيث اعتبار القدرة في التكليف.

التفصيل بين الشرط الشرعي و غيره أي: الوجوب في الشرط الشرعي؛ كالطهارة للصلاة، دون غيره كالشرط العقلي، و الشرط العادي؛ كالسير للحج، و نصب السلم للكون على السطح.

بتقريب: أنه لو لا وجوبه شرعا لما كان شرطا، بمعنى: أن المفروض هو: عدم كون الوضوء شرطا عقليا و لا شرطا عاديا، فلا بد أن تكون شرطيته بالوجوب الغيري الشرعي، فمقوّم شرطيته هو وجوبه الغيري الشرعي، فلا بد من الالتزام بوجوبه.

و قد أجاب المصنف عن الاستدلال المذكور:

أولا: بأن الشرط الشرعي يرجع إلى الشرط العقلي، لأن مفهوم الشرط عبارة عن انتفاء المشروط بانتفاء الشرط، و هو مما يحكم به العقل.

و ثانيا: أن هذا الاستدلال مستلزم للدور؛ بتقريب: أن كل حكم مترتب على موضوعه، و متأخر عنه تأخر المعلول عن العلة، فلو توقف الموضوع على حكمه لزم الدور، و المقام من هذا القبيل؛ فإن الوجوب الغيري متأخر عن موضوعه، و هو الشرطية، و حينئذ فلو توقفت الشرطية على الوجوب الغيري كما هو ظاهر الاستدلال - أعني: لو لا وجوبه لما كان شرطا - لزم الدور، فهذا الاستدلال مردود بما ذكرناه من الإشكالين.

و توهم: أن الشرطية منتزعة عن الوجوب الغيري - على ما هو الحق من أن الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية - فيلزم الدور؛ لأن الشرطية منتزعة عن الوجوب الغيري، و الوجوب الغيري أيضا يتوقف على الشرطية، إذ لو لا الشرطية لم يأمر المولى بالشرط، مدفوع؛ بأن الشرطية منتزعة عن الوجوب النفسي كقوله: «صل مع الطهارة»؛ لا عن الوجوب الغيري حتى يلزم الدور.

«فافهم» لعله إشارة إلى لزوم الدور حتى على فرض انتزاع الشرطية عن الوجوب النفسي؛ لأن الأمر النفسي بالصلاة مع الطهارة متوقف على الطهارة؛ لمدخلية في الأمر، و شرطية الطهارة متوقفة على الأمر النفسي بالصلاة مع الطهارة، و هذا دور واضح.

5 - مقدمة المستحب مستحبة على القول بالملازمة.

و أما مقدمة الحرام و المكروه: فلا تتصف بالحرمة و الكراهة، إلاّ إن تكون علة تامة

ص: 227

للحرام، فتتصف بالحرمة، أو العلة التامة للمكروه، فتتصف بالكراهة.

توضيح ذلك: إن مقدمات الحرام و المكروه على قسمين:

الأول: ما يتمكن المكلف مع فعلها من ترك الحرام أو المكروه.

الثاني: ما لا يتمكن مع فعلها من تركهما لكونها علة تامة لهما، فنقول: إن القسم الأول لا يكون حراما؛ لأن المفروض: عدم كون فعلها مستلزما للحرام، فلا وجه لاتصافها بالحرمة، لكونها فاقدة لملاك المقدمية و هو: توقف ترك الحرام على تركها، فحينئذ لو أتى المكلف بجميع المقدمات إلاّ المقدمة الأخيرة التي يترتب عليها الحرام لم يأت بمحرم، و ليس شيء منها بحرام.

و من هنا ظهر الفرق بين مقدمات الواجب، و مقدمات الحرام؛ بأن الواجب في الحرام هو ترك الحرام لا يتوقف على جميع مقدمات الحرام؛ لأن الترك الواجب يحصل بترك إحدى مقدمات الحرام، فمعروض الوجوب الغيري هو ترك إحداها تخييرا. هذا بخلاف مقدمات الواجب، حيث يكون وجود كل واحدة منها مما يتوقف عليه وجود الواجب النفسي، فيجب جميع مقدماته.

و خلاصة الكلام في مقدمات الحرام: أن أجزاء العلة التامة للحرام تارة: تكون بتمامها اختياريا، و أخرى: مركبة من الفعل الاختياري و غيره.

فعلى الأول: لا مانع من اتصاف جميع أجزاء العلة بالحرمة.

و أما على الثاني: فلا يتصف شيء منها بالحرمة. أما عدم اتصاف غير الإرادة من المقدمات بالحرمة فلما عرفت: من عدم توقف وجود الحرام عليه.

و أما عدم اتصاف الإرادة بالحرمة: فلكونها غير اختيارية.

6 - رأي المصنف «قدس سره»

1 - لا أصل في المسألة عند الشك في الملازمة و عدمها.

2 - وجوب مقدمات الواجب مطلقا؛ من دون فرق بين السبب و غيره، و لا بين الشرط الشرعي و غيره.

3 - مقدمة المستحب مستحبة.

4 - مقدمة الحرام و المكروه لا تتصف بالحرمة و الكراهة؛ إلاّ ما يكون علّة تامة لهما.

ص: 228

فصل الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده، أو لا؟

اشارة

في مسألة الضد و قبل الخوض في البحث ينبغي ذكر أمور عدا ما ذكره المصنف:

=============

1 - أن الحق هو: كون هذه المسألة من المسائل الأصولية؛ لا من المسائل الفقهية، بدعوى: أن البحث فيها عن ثبوت الحرمة لضد الواجب، و عدم ثبوت الحرمة له؛ بل المسألة أصولية؛ لأن الغرض الأصيل فيها هو: إثبات الملازمة بين وجوب الشيء و حرمة ضده، ثم هذه الملازمة تقع في طريق استنباط حكم شرعي، و هو حرمة الضد عند وجوب ضده، و لكن لا ملازمة بين القول بوجوب المقدمة في المسألة السابقة، و بين القول بحرمة الضد هنا.

2 - إن المراد من الضد في المقام ليس الضد بالمعنى المنطقي، المختص بالأمر الوجودي المعاند لغيره تمام المعاندة؛ بل المراد منه في المقام هو: مطلق المنافي و المعاند؛ سواء كان أمرا وجوديا - و هو المعبر عنه بالضد الخاص - أو كان أمرا عدميا و هو المعبر عنه بالضد العام.

3 - بيان وجه التسمية: أن تحقق الخاص مستلزم لتحقق العام دون العكس، كالإنسان و الحيوان، حيث إن وجود الإنسان مستلزم لوجود الحيوان دون العكس، ففي المقام وجود الضد الخاص كالصلاة مستلزم لتحقق الضد العام كترك إزالة النجاسة دون العكس أي: ترك الإزالة لا يستلزم وجود الصلاة. فالضد العام هو: ترك المأمور به، و الضد الخاص هو: مطلق المعاند الوجودي، و قد قسّم الأصوليون الضد إلى هذين القسمين. و على هذا التقسيم تنحل مسألة الضد إلى مسألتين؛ موضوع إحداهما: هو الضد العام، و موضوع الأخرى: هو الضد الخاص.

فيقال في تحديد المسألة الأولى: هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام أم لا؟ مثلا: إذا قال المولى: «صلّ صلاة الظهر». فهل هو نهي عن تركها؟ كأنه قال: «لا تترك الصلاة»، فترك الصلاة ضد عام للصلاة؛ بمعنى: أنه معاند لفعلها، و الأمر بها نهي عن تركها.

ص: 229

فيه أقوال، و تحقيق الحال يستدعي رسم أمور:

الأول: الاقتضاء (1) في العنوان أعم من أن يكون بنحو العينية، أو الجزئية، أو اللزوم؛ من جهة التلازم (2) بين طلب أحد الضدين و طلب ترك الآخر، أو المقدمية كما يقال في تحديد المسألة الثانية: إن الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده الخاص أم لا؟ فإذا قال المولى: «أزل النجاسة عن المسجد» فهل هو نهي عن كل فعل وجودي يعاندها كالصلاة في المسجد؟ فكأنه قال: أزل النجاسة و لا تصل في المسجد عند الابتلاء بالإزالة، و محل الكلام هو الضد بكلا المعنيين.

=============

و اختلف الأصوليون في: أن الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أم لا؟ على أقوال. و يقول المصنف: و تحقيق الحال يستدعي رسم أمور.

(1) المراد من الاقتضاء في عنوان المسألة ليس ما هو ظاهره؛ بل الأعم منه و من الاقتضاء بنحو العينية أو الجزئية، و ذلك لوجوه:

الأول: أن إطلاق لفظ الاقتضاء شامل لجميع الأقسام المذكورة.

الثاني: أن الغرض من هذا البحث هو: بيان حال الضد العبادي صحة و فسادا، من غير فرق في ذلك بين أقسام الاقتضاء، و من البديهي: أن عمومية الغرض تقتضي عمومية النزاع في الاقتضاء.

الثالث: أن وجود الأقوال في المسألة يقتضي عموم الاقتضاء ليعم جميع الأقوال؛ فإن منها: قول: بأن الأمر بشيء عين النهي عن ضده. و منها: قول بأن النهي عن الضد جزء من الأمر بشيء، فيكون الاقتضاء على وجه التضمن، كما يظهر من المعالم.

و منها: قول بأن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده، كما هو ظاهر لفظ الاقتضاء، فالتعميم لأجل أن لا يتوهم اختصاص النزاع بالقول الأخير.

(2) هذا إشارة إلى وجه اللزوم: و حاصله - على ما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 424» - «أن اللزوم تارة: يكون لأجل التلازم؛ بأن يقال: إن الأمر بأحد الضدين كالصلاة - ملازم للنهي عن ضده، كالإزالة - بناء على إرادة الترك من الضد - فطلب أحد الضدين يلازم طلب ترك الآخر، فالاقتضاء حينئذ يكون لأجل اللزوم الناشئ عن التلازم. و أخرى: يكون لأجل المقدمية، بتقريب: أن ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الضد الآخر؛ كتوقف وجود الصلاة على عدم الإزالة، فيكون اقتضاء الأمر بالصلاة للنهي عن ضدها - كالإزالة - بنحو اللزوم المقدمي؛ لأن عدم الإزالة لمّا كان مقدمة للصلاة؛ فالأمر بالصلاة يستلزم عدم الإزالة مقدمة لوجود نفسها، فيصير في الحقيقة

ص: 230

على ما سيظهر، كما أن المراد بالضد هاهنا، هو مطلق المعاند و المنافي وجوديا كان أو عدميا.

الثاني: (1) أن الجهة المبحوثة عنها في المسألة و إن كانت أنه: هل يكون للأمر اقتضاء بنحو من الأنحاء المذكورة، إلاّ إنه لمّا كان عمدة القائلين بالاقتضاء في الضد الخاص، إنما ذهبوا إليه لأجل: توهم مقدمية ترك الضد؛ كان المهم صرف عنان الكلام في المقام إلى بيان الحال، و تحقيق المقال في المقدمية و عدمها.

فنقول و على الله الاتكال: إن توهم توقف الشيء على ترك ضده ليس إلاّ من جهة المضادة و المعاندة بين الوجودين، و قضيتهما الممانعة بينهما.

=============

واجبا من باب المقدمة، كما سيظهر إن شاء الله تعالى». و قد تقدم ما هو المراد بالضد في محل البحث، فلا حاجة إلى التكرار.

و كيف كان؛ فالضد في اصطلاح الأصوليين: هو مطلق المعاند، فيشمل جميع أقسام التقابل؛ غير تقابل التضايف بقرينة تقسيمهم له إلى الضد الخاص و الضد العام بمعنى الترك، هذا بخلاف الضد في اصطلاح أهل المعقول: فهو قسم من أقسام التقابل؛ أعني تقابل التضاد.

إيراد المصنف على توهم مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الضد الآخر

(1) الغرض من عقد هذا الأمر: دفع شبهة، و هي: أن جلّ القائلين بالاقتضاء في الضد الخاص، كاقتضاء الأمر بإزالة النجاسة عن المسجد للنهي عن الصلاة مثلا؛ لمّا استندوا في هذا الاقتضاء إلى مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر، فلا بد أولا من بيان الشبهة؛ بتقريب مقدمية ترك أحد الضدين للآخر، فيقال: إن عدم أحد الضدين مقدمة للضد الآخر، و مما يتوقف عليه الضد الآخر، فإذا أوجب أحدهما وجبت مقدماته، و منها عدم ضده، فإذا أوجب ترك الضد الخاص فقد حرم فعل ذلك قهرا.

أما مقدمية عدم أحد الضدين للآخر: فبأن التمانع و التعاند بين الضدين مما لا شبهة فيه، و إذا كان كل من الضدين مانعا عن حصول الآخر؛ كان عدم كل منهما من أجزاء علة الآخر، لأن عدم المانع من أجزاء العلة، و قد فرض مانعية الضد، فعدمه من أجزاء علة ضده، و إذا كان من أجزاء العلة كان من المقدمات، كما أشار إليه بقوله: «و من الواضحات: أن عدم المانع من المقدمات»، و تقريب الشبهة: أن كلا من الضدين مانع عن الآخر، و كون عدم المانع من أجزاء العلة التي هي مقدمة على المعلول، و هذان الأمران أوجبا توهم مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الضد الآخر، فلهذا ذهب جلّهم إلى الاقتضاء لأجل المقدمية.

ص: 231

و من الواضحات أن عدم المانع من المقدمات.

و هو توهم فاسد؛ (1) و ذلك لأن المعاندة و المنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلاّ عدم

=============

(1) أورد المصنف «قدس سره» على هذا التوهم بوجوه:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «لأن المعاندة و المنافرة بين الشيئين...» إلخ.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن كون شيء مقدمة لشيء آخر يكون مستلزما لتقدم ما هو مقدمة على الآخر. ثم التمانع بين الشيئين إنما هو في مقام وجودهما و تحققهما؛ لا في مقام علية عدم أحدهما لوجود الآخر. ثم عدم المانع و وجوده في مرتبة واحدة، و ليس عدم المانع سابقا على وجوده؛ بل هما في رتبة واحدة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن التمانع و التضاد لا يقتضي أن يكون عدم أحدهما مقدمة لوجود الآخر؛ لما عرفت في المقدمة من: اعتبار السبق في المقدمية، و هو منتف مع اتحاد الرتبة بين عدم أحد الضدين و وجود الآخر. فالضدية بين شيئين كالسواد و البياض و إن كانت تقتضي عدم اجتماعهما في محل واحد و زمان كذلك؛ إلاّ إنها لا تقتضي مقدمية عدم أحدهما لوجود الآخر، و ذلك لاتحاد عدم كل منهما لوجود الآخر رتبة كاتحاد وجودهما، و مع اتحاد عدم أحدهما مع وجود الآخر رتبة لا يعقل أن يكون عدم أحدهما مقدمة لوجود الآخر؛ لما عرفت من اعتبار السبق في المقدمية. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح إيراد المصنف بالوجه الأول.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «فكما أن قضية المنافاة...» إلخ و حاصله: هو النقض بالمتناقضين بعد قياس الضدين بهما؛ ببيان: أنه لا إشكال في أن التنافي بين المتقابلين بالتناقض أشد و أقوى منه في غيره من أقسام التقابل، مع إنه من المسلم كون أحدهما في رتبة الآخر، و ليس أحدهما مقدمة للآخر، يعني: ليس أحد النقيضين كالإنسان مقدمة للآخر، أي: اللاإنسان؛ لاتحاد رتبة النقيضين، فكذلك الضدين في المقام، فكما أن قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر حتى يكون ارتفاع أحدهما مقدمة لثبوت الآخر، كذلك في المتضادين يعني: المنافاة بينهما لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر حتى يكون عدم أحدهما مقدمة لوجود الآخر.

الثالث: ما أشار إليه بقوله: «و هو دور واضح». توضيح الدور: أن عدم أحد الضدين إذا كان مقدمة لوجود الآخر من باب أنه عدم المانع، فيكون من أجزاء علته كان وجود أحد الضدين مقدمة لعدم الآخر أيضا؛ لتوقف عدم الشيء على مانعة، كما يتوقف نفس الشيء على عدم مانعة، فيكون عدم أحدهما متوقفا على وجود الآخر، كما أن وجود الآخر يتوقف على عدم ضده، فيلزم الدور الباطل.

ص: 232

اجتماعهما في التحقق، و حيث لا منافاة أصلا بين أحد العينين، و ما هو نقيض الآخر و بديله، بل بينهما كمال الملاءمة؛ كان أحد العينين مع نقيض الآخر، و ما هو بديله في مرتبة واحدة؛ من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم أحدهما على الآخر، كما لا يخفى.

فكما أن قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر؛ كذلك في المتضادين (1)، كيف ؟ و لو اقتضى التضاد توقف وجود الشيء على عدم ضده توقف الشيء على عدم مانعة؛ لاقتضى توقف عدم الضد على وجود الشيء توقف عدم الشيء على مانعة، بداهة: ثبوت المانعية في الطرفين، و كون المطاردة من الجانبين، و هو دور واضح.

و ما قيل (2) في التفصي عن هذا الدور: بأن التوقف من طرف الوجود فعلي؛

=============

(1) أي: ليس ارتفاع أحدهما مقدما على الآخر، بل في رتبته، و هذا الوجه الثاني يتوقف على ثبوت أمرين:

الأول: صحة تنظير الضدين بالنقيضين.

الثاني: نفي المقدمية في النقيضين، ثم تشكيل قياس حتى يتم المطلوب؛ فيقال: كما أن النقيضين في مرتبة واحدة، و لا يمكن أن يكون أحدهما مقدما على الآخر حتى يكون مقدمة له؛ كذلك الضدين، فعدم أحد الضدين في مرتبة وجوده، و وجوده في مرتبة الضد الآخر، فعدم أحدهما في مرتبة وجود الآخر فلا يعقل أن يكون مقدمة للآخر، مثلا: ترك الصلاة في مرتبة الصلاة، و الصلاة في مرتبة الإزالة، فلا يكون ترك الصلاة مقدمة لفعل الإزالة؛ و ذلك لانتفاء السبق المعتبر في المقدمية.

و ما قيل في التقصي عن الدور

(2) القائل هو المحقق الخوانساري «رحمه الله»، «قيل في التفصي عن هذا الدور»:

بأن الدور مسلم لو كانت الإزالة موقوفة على عدم الصلاة فعلا، و عدم الصلاة موقوفا على الإزالة فعلا، و لكن ليس الأمر كذلك.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن عدم الشيء لا يستند إلى وجود المانع عن الشيء إلاّ في صورة وجود المقتضي و الشرط، و أما وجود الشيء فهو يستند إلى جميع أجزاء علته فعلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن التوقف في طرف الوجود أي: - وجود أحد الضدين على ترك الآخر - فعلي لما عرفت: من أن وجود الشيء يستند إلى جميع أجزاء علته التامة من المقتضي و الشرط و عدم المانع، فوجود الواجب فعلا - كالإزالة - مترتب

ص: 233

على عدم ضده كالصلاة، و هذا بخلاف التوقف في طرف العدم - أي: توقف عدم أحد الضدين على وجود الآخر - كتوقف عدم الصلاة على وجود الإزالة، فإن توقفه على وجود الإزالة إنما يكون في ظرف وجود المقتضي لوجود الصلاة مع شرائطه، و انحصار المانع في وجود الضد؛ كالإزالة ليصح استناد عدم الصلاة إلى المانع؛ و هو وجود الضد، و إلاّ كان العدم مستندا إلى عدم المقتضي - أعني عدم الإرادة - فإن استناد عدم الشيء إلى وجود المانع إنما يصح في ظرف وجود المقتضي، و لذا لا يصح أن يستند عدم احتراق الثوب مثلا بالنار إلى ما فيه من الرطوبة مع عدم وجود نار في البين، بل يستند إلى عدم المقتضي.

و كيف كان؛ فاتضح مما ذكرنا: أن توقف وجود الإزالة مثلا على عدم ضدها كالصلاة فعلي، لتوقف وجود الشيء على وجود علته التامة التي من أجزائها عدم المانع.

هذا بخلاف توقف عدم الضد - كالصلاة - على وجود الضد - كالإزالة - فإن التوقف حينئذ شأني، لأنه حين وجود الإزالة يستند عدم الصلاة إلى عدم مقتضيها - و هو الإرادة - لا إلى وجود الإزالة لما عرفت: من أن استناد العدم إلى وجود المانع إنما يصح في ظرف وجود المقتضي، فلا محالة يكون توقف عدم الضد على وجود ضده شأنيا، يعني: على فرض وجود الإرادة المقتضية للوجود مع الشرائط يستند العدم لا محالة إلى وجود الضد كالإزالة في المثال، فعليه: لا يلزم الدور؛ لكون التوقف في طرف الوجود فعليا، و في طرف العدم شأنيا. قوله: «و لعله كان محالا» أي: لعل ثبوت المقتضي - و هو الإرادة - لوجود الضد المعدوم - كالصلاة - «كان محالا»، و مع استحالته كيف يتصف الضد الموجود - كالإزالة - بالمانعية ؟ فعدم الصلاة دائما مستند إلى عدم تمامية المقتضي، و لا يكون متوقفا على الإزالة حتى يقال: بأن عدم الصلاة متوقف على الإزالة، و الإزالة متوقف على عدم الصلاة فيلزم الدور.

أما وجه استحالة وجود المقتضي مع شراشر الشرائط؛ «فلأجل انتهاء عدم وجود أحد الضدين» كعدم الصلاة «مع وجود» الضد «الآخر» كالإزالة «إلى عدم تعلق الإرادة الأزلية به» أي: بأحد الضدين كالصلاة، «و تعلقها بالآخر» كالإزالة «حسب ما اقتضته الحكمة البالغة» (و هي الحكم) و المصالح التي عنده تعالى. و على هذا «فيكون العدم» للصلاة مثلا «دائما مستندا إلى عدم المقتضي»، أي: عدم إرادة المكلف المستند إلى تعلق

ص: 234

بخلاف التوقف من طرف العدم فإنه يتوقف على فرض ثبوت المقتضي له مع شراشر شرائطه غير عدم وجود ضده، و لعله كان محالا، لأجل انتهاء عدم وجود أحد الضدين مع وجود الآخر إلى عدم تعلق الإرادة الأزلية به، و تعلقها بالآخر حسب ما اقتضته الحكمة البالغة، فيكون العدم دائما مستندا إلى عدم المقتضي، فلا يكاد يكون مستندا إلى وجود المانع، كي يلزم الدور.

إن قلت: هذا (1) إذا لوحظا منتهيين إلى إرادة شخص واحد، و أما إذا كان كل إرادة الله به، فلا يكون عدم الصلاة «مستندا إلى وجود المانع» كالإزالة «كي يلزم الدور»؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول ج 2، ص 218» مع تصرف ما.

=============

(1) أي: ما ذكر في دفع الدور من التغاير بالشأنية و الفعلية؛ لا يصح في جميع الموارد، بل التغاير المذكور إنما يصح في بعض الموارد.

و الغرض من هذا الكلام: هو دفع إشكال أورده المحقق الخوانساري على التفصي عن الدور بالفعلية و الشأنية، ثم أجاب عنه، فلا بد أولا: من توضيح الإشكال، و ثانيا: من الجواب عنه.

و حاصل الإشكال: - على ما في «منتهى الدراية ج 2، ص 435» -: أن حديث الفعلية و الشأنية الذي اندفع به محذور الدور إنما يصح إذا كانت الإرادة من شخص واحد، كما إذا أراد إيجاد البياض و السواد في آن واحد و مكان، كذلك فإنه يمتنع إرادة إيجادهما من شخص واحد؛ لامتناع تعلق إرادة واحدة بشيئين متضادين، فلا محالة يستند عدم الضد الآخر إلى عدم المقتضي - و هو الإرادة - لا إلى وجود المانع، فيكون توقف عدم أحدهما على وجود الآخر شأنيا.

و أما إذا كانت إرادة إيجادهما من شخصين؛ بأن أراد أحدهما البياض، و الآخر السواد فالمقتضي لوجود كلّ من الضدين حينئذ موجود، فلا محالة يستند عدم أحدهما إلى وجود المانع - و هو الضد الآخر - لا إلى عدم المقتضي و هو الإرادة، إذ المفروض:

تحققها من شخص آخر.

فالتفصي بالوجه المذكور غير مطرد لاختصاصه بما إذا كانت إرادة الضدين من شخص واحد.

و أما إذا كانت من شخصين، فيكون عدم أحد الضدين مستندا إلى وجود المانع - و هو الضد الآخر - لا إلى عدم المقتضي؛ إذ المفروض: وجوده - أعني: إرادة إيجاد الضد الآخر أيضا من شخص آخر - فيكون التوقف من الطرفين فعليا، فالدور و لو في بعض

ص: 235

منهما متعلقا لإرادة شخص، فأراد مثلا أحد الشخصين حركة شيء، و أراد الآخر سكونه؛ فيكون المقتضي لكل منهما حينئذ موجودا، فالعدم - لا محالة - يكون فعلا مستندا إلى وجود المانع.

قلت: هاهنا أيضا يكون مستندا إلى عدم قدرة المغلوب منهما (1) في إرادته، و هي: (2) مما لا بد منه في وجود المراد، و لا يكاد (3) يكون بمجرد الإرادة بدونها، لا إلى وجود الضد؛ (4) لكونه (5) مسبوقا بعدم قدرته، كما لا يخفى؛ غير الموارد - و هو ما إذا كانت إرادة إيجاد الضدين من شخصين - باق على حاله، و استحالته دليل على عدم مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر، فلا يتم مذهب المشهور من اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده لأجل المقدمية هذا تمام الكلام في الإشكال.

=============

و أما الجواب: فهو ما أشار إليه بقوله: «قلت: هاهنا» أي: أما في فرض تحقق إرادة إيجاد الضدين من شخصين فيقال: إن عدم الضد دائما يستند إلى عدم المقتضي حتى في صورة تحقق الإرادة من شخصين، و ذلك لأن المراد بالمقتضي هو الإرادة المؤثرة في وجود المراد، و من المعلوم: فقدانها في المقام؛ لامتناع تأثير كلتا الإرادتين، فتكون إحداهما مغلوبة، و مع مغلوبيتها يصدق عدم المقتضي الموجب لاستناد عدم الضد إليه، لا إلى وجود المانع - و هو الضد الموجود - حتى يلزم الدور، فالتفصي عن الدور، بما أفاده المحقق الخوانساري من الفعلية و الشأنية صحيح و متين.

(1) أي: من شخصين.

(2) أي: القدرة مما لا بد منه في وجود المراد.

(3) يعني: و لا يكاد يوجد المراد بمجرد الإرادة بدون القدرة.

(4) أي: لا يكون عدم الضد مستندا إلى وجود الضد الآخر حتى يكون لأجل عدم المانع فيلزم الدور.

(5) أي: لكون وجود الضد «مسبوقا بعدم قدرته» أي: بعدم قدرة الشخص، فقوله:

«لكونه...» إلخ تعليل لاستناد عدم الضد إلى عدم المقتضي لا إلى وجود الضد.

و حاصل التعليل: - على ما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 437» -: أنه قد يتوهم: إذا كان لشيء مقدمات عديدة و إن كان عدم واحدة منها كافيا في عدمه، إلاّ إنه في ظرف عدم الجميع يستند عدمه إلى عدم الكل، فلا وجه للاستناد إلى عدم إحداها بعينها - و هو المقتضي - لأنه ترجيح بلا مرجح، بل يستند العدم إلى الجميع من عدم المقتضي، و الشرط، و وجود المانع، ففي صورة وجود الصلاة يستند عدم الإزالة إلى عدم المقتضي، و وجود المانع - و هو الصلاة - معا؛ لا إلى عدم المقتضي فقط، و عليه: فيصح استناد عدم

ص: 236

سديد (1) فإنه و إن كان قد ارتفع به الدور، إلاّ إن غائلة لزوم توقف الشيء على ما يصلح أن يتوقف عليه على حالها؛ لاستحالة أن يكون الشيء الصالح لأن يكون موقوفا عليه الشيء موقوفا عليه.

ضرورة: أنه لو كان في مرتبة يصلح لأن يستند إليه لما كاد يصح أن يستند فعلا إليه و المنع (2) عن صلوحه لذلك بدعوى: أن قضية كون العدم مستندا إلى وجود الضد في المقام إلى وجود المانع، فيرجع الدور. هذا محصل توهم عود الدور.

=============

و ملخص دفعه بقوله: «لكونه مسبوقا» هو: أن استناد العدم إلى جميع أجزاء العلة إنما يصح إذا لم يكن بينها تقدم رتبي، و إلاّ فالمتعين استناد العدم إلى ما هو متقدم رتبة؛ و من المعلوم: تقدم عدم الإرادة لأجل عدم القدرة على وجود الضد المانع، فيستند العدم إليهما؛ لا إلى وجود الضد، فلا يلزم الدور.

(1) هذا خبر لقوله: «و ما قيل في التفصي» و جواب عنه.

و حاصل الجواب: أن ما قيل في التفصي عن الدور من التغاير بين الطرفين بالفعلية و الشأنية و إن كان دافعا للدور بالتقريب المذكور؛ لأن الدور مبنيّ على التوقف الفعلي من الطرفين. إلاّ إن ملاك استحالته - و هو توقف الشيء على نفسه و تأخره عن نفسه برتبة - باق على حاله، لأن مجرد التوقف الشأني من طرف العدم يكفي في بقاء ملاك الدور.

بتقريب: أن وجود أحد الضدين حيث يتوقف فعلا على عدم الضد الآخر متأخر عنه تأخر المعلول عن علته رتبة، و عدم الضد الآخر حيث يصلح أن يستند إلى وجود هذا الضد - أي: على فرض كون المقتضي له موجودا - فهو متأخر عن وجود هذا الضد رتبة، فيلزم ما ذكرناه من تقدم الشيء على نفسه، و تأخره عن نفسه.

مثلا: إذا توقف وجود الإزالة بالفعل على عدم الصلاة، فوجود الإزالة متأخر عن عدم الصلاة برتبة؛ إذ وجود الإزالة معلول عدم الصلاة، و المعلول متأخر عن علته برتبة. أما عدم الصلاة فيتوقف على الإزالة فعلا إذا كان المقتضي لفعلها موجودا أو تقديرا إذا لم يكن المقتضي موجودا، و على كل حال: يكون كل واحد من الإزالة و عدم الصلاة علة و موقوفا عليه، و معلولا و موقوفا، فالإزالة من حيث كونها علة لعدم الصلاة و موقوفا عليها مقدمة رتبة على عدم الصلاة على نحو تقدم العلة عن المعلول، و من حيث كونها معلولة لعدم الصلاة متأخرة عنه برتبة، فيلزم تقدم الإزالة على الإزالة، و تأخرها عنها، و هو ما ذكرناه من لزوم تقدم الشيء على نفسه، و تأخره عن نفسه.

(2) أي: هذا إشكال على وجود ملاك الدور الذي تقدم في قوله: «إلاّ إن غائلة لزوم...» إلخ بتقريب: أنّنا نمنع مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الضد الآخر؛ بأن يكون

ص: 237

الضد، لو كان مجتمعا مع وجود المقتضي، و إن كانت صادقة، إلاّ إن صدقها لا يقتضي كون الضد صالحا لذلك (1)، لعدم اقتضاء صدق الشرطية صدق طرفيها، وجود كل منهما متوقفا على عدم الآخر - لكون وجود كل منهما مانعا عن وجود الآخر - و عدم كلّ منهما متوقفا على وجود الآخر حتى يلزم تقدم الشيء على نفسه و تأخره على نفسه و هو ملاك الدور.

=============

و حاصل الإشكال: إن وجود أحد الضدين - و إن كان متوقفا على عدم الآخر - إلاّ إن عدم أحدهما لا يتوقف على مانعية الآخر و وجوده؛ إلاّ بعد أن يكون المقتضي للضد المعدوم موجودا، و المقتضي لا يكون موجودا؛ بل هو محال.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن المراد بالمقتضي هو: الإرادة، و يستحيل تعلق إرادتين من شخص واحد بالضدين.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه من المستحيل تعلق الإرادة بإيجاد الصلاة؛ كي يكون المقتضي لها موجودا، و كان عدمها مستندا إلى المانع و هو الإزالة، لأن المفروض:

تعلقها بإيجاد الضد الموجود أعني: الإزالة، ثم المعلق على المحال محال، فصلاحية وجود الضد لكونه مانعا عن الضد المعدوم محال، فينحصر التوقف في طرف واحد و هو مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر، و لا توقف في طرف مقدمية وجود أحد الضدين لعدم الآخر، لكونه مشروطا بوجود المقتضي المحال، كما عرفت فارتفع محذور الدور، و لا دور و لا غائلته.

(1) أي: صدق القضية في نفسها لا يقتضي كون الضد صالحا لذلك أي: لأن يستند إليه عدم الضد الآخر؛ و ذلك «لعدم اقتضاء صدق الشرطية صدق طرفيها»؛ لأن مناط صدق القضية الشرطية هو: ثبوت الملازمة و العلقة بين المقدم و التالي واقعا و إن كان طرفاها كاذبين؛ كأن يقال للحجر: «إن كان هذا إنسانا كان ناطقا»، بل قد يكون طرفاها مستحيلين، كقوله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلاّ اللّه لفسدتا. الأنبياء، الآية:

22.

ثم القضية الشرطية المتصورة في المقام هي: «لو وجد المقتضي و الشرط لوجود الضد المعدوم فعلا، كان الضد الموجود مانعا عنه»، و هذه القضية الشرطية - و إن كانت صادقة في نفسها - إلاّ إن صدقها لا يستلزم صدق طرفيها، بل هي صادقة و إن كان طرفاها كاذبين، كما عرفت. فصدق الشرطية فيما نحن فيه لا يستلزم صلاحية عدم الضد المعدوم مستندا إلى الضد الموجود و كونه مانعا، كي يكون التوقف من الطرفين، فيقال بلزوم الدور أو بقاء غائلته، هذا تمام الكلام في الإشكال على الدور و ملاكه.

ص: 238

مساوق (1) لمنع مانعية الضد، و هو يوجب رفع التوقف رأسا من البين؛ ضرورة: أنه لا منشأ لتوهم توقف أحد الضدين على عدم الآخر، إلاّ توهم مانعية الضد - كما أشرنا إليه - و صلوحه لها.

=============

(1) هذا خبر لقوله: «و المنع عن صلوحه لذلك»، و دفع للإشكال المذكور.

و توضيح الدفع: يتوقف على مقدمة و هي: أن المفروض هو التضاد بين الصلاة و الإزالة على فرض ضيق وقت الصلاة، ثم توقف وجود الضد، كالإزالة على عدم الضد الآخر كالصلاة يكون أمرا بديهيا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن منع صلاحية كون وجود الضد مانعا عن وجود الضد الآخر موجب لإنكار المانعية رأسا و هو باطل قطعا؛ لاستلزامه نفي التوقف حتى من طرف الوجود، و هو خلاف البداهة؛ لأن توقف وجود الضد على عدم الضد الآخر بديهي. و بعبارة أخرى: أن الضد الموجود - كالإزالة - لو لم يكن صالحا للمنع عن ضده المعدوم فعلا - كالصلاة - مع تحقق علته من المقتضي و الشرط لوجب وجوده؛ لعدم انفكاك المعلول عن علته، و لازمه: إمكان اجتماع الصلاة و الإزالة في الوجود؛ إذ المفروض: عدم صلاحية الضد الموجود فعلا - و هو الإزالة - للمنع عن وجود الصلاة، و من البديهي: أن اجتماعهما في زمان واحد يرفع المانعية من الطرفين، و هو باطل؛ لأن المفروض - كما عرفت في المقدمة - هو التضاد و المانعية، فعدم كون الضد الموجود صالحا للمنع أيضا باطل.

فالنتيجة هي: صلاحية الضد الموجود للمنع عن وجود الضد المعدوم و هو المطلوب في المقام، فيعود إشكال الدور؛ لأن عدم أحد الضدين يتوقف على وجود الآخر بعد فرض وجود المقتضي و الشرط، كما أن وجود الآخر يتوقف على عدم الأول.

و من هنا ظهر: صدق القضية الشرطية بكلا طرفيها في المقام، فيصح: أن يقال: «لو وجد المقتضي و الشرط لوجود الضد المعدوم فعلا كان الضد الموجود مانعا عنه»، فصدق تالي هذه القضية الشرطية إنما هو لأجل خصوصية و هي التضاد و التمانع، كما عرفت.

و كيف كان؛ فقد ردّ المصنف جواب المشهور عن إشكال الدور، فيبقى الدور على حاله. فاستدلال المشهور بحرمة الضد من جهة وجوب المقدمة غير صحيح لكونه دوريا، فلا يصح أن يقال: - إن ترك أحد الضدين مقدمة للضد الآخر، و مقدمة الواجب واجبة، فإذا كان الترك واجبا فالفعل لا محالة يكون محرما، و هذا معنى النهي عنه - لأن هذا الاستدلال مستلزم للدور الباطل.

ص: 239

إن قلت: (1) التمانع بين الضدين كالنار على المنار، بل كالشمس في رابعة النهار، و كذا كون عدم المانع مما يتوقف عليه، مما لا يقبل الإنكار، فليس ما ذكر إلاّ شبهة في مقابل البداهة.

قلت: (2) التمانع بمعنى: التنافي و التعاند الموجب لاستحالة الاجتماع مما لا ريب

=============

(1) الغرض من هذا الكلام هو: دفع الإشكال عن استدلال المشهور على النهي عن الضد بوجوب مقدمة الواجب.

توضيح ذلك بعد تمهيد مقدمة و هي: أن لنا مقدمتين واضحتين، كالنار على المنار، بل كالشمس في رابعة النهار:

الأولى: ثبوت التمانع و التضاد بين الضدين، و لهذا يستحيل اجتماع الضدين في محل واحد.

الثانية: كون عدم المانع من مقدمات وجود الشيء؛ لأن عدم المانع من أجزاء العلة التامة المتقدمة رتبة، فالتمانع بين الضدين، و كذا كون عدم المانع من أجزاء العلة التامة أمران بديهيان.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن هاتين المقدمتين تنتجان كون عدم الضد مقدمة لوجود الضد الآخر و دخيلا في وجوده دخل عدم المانع في وجود المعلول، فإذا كان عدم الضد مقدمة للواجب لكان واجبا على القول بوجوب المقدمة، فيكون فعله منهيا عنه، ففعل الصلاة منهي عنه؛ لأن تركها مقدمة للواجب أعني: الإزالة.

فما استدل به المشهور بوجوب المقدمة على النهي عن الضد صحيح، فالإشكال عليه بمنع التمانع بين الضدين، و منع مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر ليس إلاّ شبهة في مقابل البداهة.

دفع الإشكال عن استدلال المشهور على أن النهي عن الضد مقدمة الواجب

(2) هذا جواب عن قوله: «إن قلت:...» إلخ. الغرض منه: عدم صحة استدلال المشهور على النهي عن الضد بوجوب مقدمة الواجب، فليس الإشكال عليهم كالشبهة في مقابل البداهة.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة: و هي: إن للتمانع إطلاقين:

الأول: التمانع بمعنى التعاند بين شيئين؛ بحيث يمتنع اجتماعهما في الوجود كاجتماع المتناقضين.

الثاني: التمانع بمعنى: كون أحدهما مانعا عن الآخر؛ بأن يكون عدمه دخيلا في وجود الآخر و متقدما عليه طبعا تقدم جزء العلة على المعلول، و التمانع بهذا المعنى هو المصطلح عندهم.

ص: 240

فيه و لا شبهة تعتريه، إلاّ إنه لا يقتضي إلاّ امتناع الاجتماع، و عدم وجود أحدهما إلاّ مع عدم الآخر الذي هو بديل وجوده المعاند له فيكون في مرتبته، لا مقدما عليه و لو طبعا، و المانع الذي يكون موقوفا عليه الوجود (1) هو ما كان ينافي و يزاحم المقتضي في تأثيره، لا ما يعاند الشيء و يزاحمه في وجوده.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن استدلال المشهور على النهي عن الضد بوجوب المقدمة إنما يتم فيما لو كان المراد بالتمانع المعنى الثاني الاصطلاحي؛ لأن التمانع بهذا المعنى يكون مقتضيا لمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر.

و لكن التمانع بهذا المعنى غير ثابت في الضدين، بل القدر الثابت من التمانع هو:

استحالة اجتماعهما في الوجود، و أما مقدمية عدم أحدهما للآخر فليست بثابتة؛ و ذلك لعدم انطباق ضابط المانع الاصطلاحي عليه؛ لأن ضابطه: أن المانع عبارة عما ينافي و يزاحم المقتضي - بالكسر - في تأثيره، و ترتب المقتضى - بالفتح - عليه بحيث يكون عدمه من أجزاء علة وجود الأثر و متقدما، و هذا المعنى من المانع لا ينطبق على الضد، لكون الضدين كالنقيضين في رتبة واحدة، لوضوح: عدم تقدم وجود البياض على وجود السواد بشيء من أقسام السبق و التقدم، بل هما في رتبة واحدة، و مع وحدة رتبة العينين في الضدين لا بد أن يكون نقيض كل منهما أيضا في رتبة عين الآخر حفاظا لمرتبة النقيضين، فعدم البياض يكون في رتبة وجود السواد؛ إذ المفروض: كون نفس البياض في رتبة السواد، و مع اتحاد عدم أحدهما مع عين الآخر رتبة لا تتصور المقدمية المتقومة بالتقدم. فدعوى: مقدمية عدم أحدهما لوجود الآخر - كما في دليل المشهور - باطلة؛ لاستلزامها انخرام قاعدة وحدة رتبة النقيضين.

(1) أي: ما يكون وجود المأمور به موقوفا على عدمه - بحيث يكون عدمه مقدمة - هو المانع؛ بمعنى: «ما كان ينافي و يزاحم المقتضي في تأثيره لا ما يعاند الشيء و يزاحمه في وجوده» كما هو في الضدين، فإن كلا منهما يعاند الآخر في وجوده، و لا يمنع عن تأثير مقتضي الآخر، فليس مانعا بالمعنى الاصطلاحي إذ المانع بهذا المعنى من شأنه منع تأثير المقتضي. و مع عدم المنع كيف يكون مانعا؟

فالمتحصل: أنه لا وجه لمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر، و بالتالي لا وجه لاستدلال المشهور بوجوب المقدمة على النهي عن الضد بأن يقال: إن عدم الضد كالصلاة واجب لكونه مقدمة للواجب كالإزالة، فتحرم الصلاة لكونها مانعة عن الواجب؛ لما عرفت غير مرة: من أن عدم أحد الضدين لا يكون مقدمة للضد الآخر.

ص: 241

نعم؛ (1) العلة التامة لأحد الضدين ربما تكون مانعا عن الآخر و مزاحما لمقتضيه في تأثيره مثلا: تكون شدة الشفقة على الولد الغريق و كثرة المحبة له، تمنع عن أن يؤثر ما في الأخ الغريق من المحبة و الشفقة لإرادة إنقاذه مع المزاحمة فينقذ به الولد دونه، فتأمل جيدا (2).

و مما ذكرنا (3) ظهر: أنه لا فرق بين الضد الموجود و المعدوم، في أن عدمه الملائم

=============

(1) هذا استدراك على ما تقدم؛ من كون عدم أحد الضدين دائما مستندا إلى عدم مقتضيه، لا إلى وجود المانع و هو الضد الآخر.

و حاصل الاستدراك - على ما «في منتهى الدراية، ج 2، ص 449» -: أنه قد يتفق أن يكون عدم أحد الضدين مستندا إلى وجود المانع و هو الضد الآخر، كما إذا كان المقتضي لكل واحد من الضدين موجودا، و كان مقتضي أحدهما أقوى من مقتضي الآخر، فإن الأقوى يؤثر في مقتضاه، فيوجد، و يعدم الآخر، فلا محالة يستند حينئذ عدم الآخر إلى المانع، و هو علة وجود الضد الآخر؛ لا إلى عدم مقتضيه، إذ المفروض: وجوده كالمثال المذكور في المتن، فإن المقتضي لإنقاذ الأخ - و هو الشفقة - موجود، فعدمه لا محالة يستند إلى المانع؛ و هو زيادة الشفقة على الولد، فليس عدم الضد دائما مستندا إلى عدم المقتضي، بل قد يستند إلى وجود المانع؛ و هو علة وجود الضد الآخر.

(2) أي: تأمل جيدا حتى تعرف الفرق بين عدم هذا النحو من المانع الذي يصح عدّه من المقدمات، و بين عدم مانع يكون في رتبة الضد فلا يصح عدّه من المقدمات.

التفصيل بين الضد الموجود و الضد المعدوم

(3) أي: مما ذكرنا من إن عدم أحد الضدين ليس من مقدمات الضد الآخر؛ ظهر حال القول بالتفصيل بين الضد الموجود و بين الضد المعدوم، فيكون عدم الأول مقدمة لوجود الآخر؛ دون الثاني أي: لا يكون عدم الضد المعدوم مقدمة لوجود الضد الآخر.

فحاصل التفصيل هو تسليم المقدمية في الضد الموجود دون المعدوم، مثلا: إذا كان الجسم مشغولا بالسواد كان بياضه موقوفا على رفع السواد و عدمه؛ لاستحالة اجتماع الضدين في محل واحد، فيتوقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر، و يكون عدم أحدهما مقدمة للآخر.

و أما إذا لم يكن أحد الضدين موجودا في محل؛ بأن لم يكن الجسم مشغولا بالسواد، فلا يتوقف وجود البياض فيه على عدم السواد، فعدم الضد المعدوم لا يكون مقدمة لوجود الآخر.

فهذا القول: مركب من جزءين:

ص: 242

للشيء المناقض لوجوده المعاند لذاك؛ لا بد أن يجامع معه من غير مقتض لسبقه، بل عرفت: ما يقتضي عدم سبقه (1).

فانقدح بذلك: (2) ما في تفصيل بعض الأعلام حيث قال: «بالتوقف على رفع أما الأول فهو: مقدمية عدم الضد الموجود كالسواد لوجود الضد المعدوم كالبياض.

=============

و أما الثاني فهو: عدم مقدمية عدم الضد المعدوم لوجود الضد الآخر. و الوجه فيه: أن عدم الضد صار مقدمة للآخر من حيث كون عدم المانع مقدمة، و غير الموجود ليس بمانع، فلا يكون عدمه مقدمة للضد الآخر.

و قد أجاب المصنف عن هذا التفصيل: بقوله: «و مما ذكرنا ظهر...» إلخ. و حاصل جواب المصنف: أنه قد ظهر مما سبق: أن عدم الضد لا يكون من المقدمات الوجودية للضد الآخر، إذ قد عرفت: أن عدم الضد مقارن للضد الآخر و في رتبته؛ و لا يكون متقدما عليه، فلا يكون مقدمة له سواء كان الضد موجودا أو معدوما، لاعتبار السبق في المقدمية المنتفي في الضدين لما عرفت: من اتحاد عدم كل ضد مع وجود الضد الآخر من حيث الرتبة.

(1) أي: ما يقتضي عدم سبق عدم أحد الضدين على وجود الآخر حيث قال المصنف في أوائل البحث: «كيف و لو اقتضى التضاد توقف وجود الشيء على عدم ضده...» إلخ، و قد تقدم لزوم الدور الباطل؛ من توقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر توقف الشيء على عدم مانعة، و توقف عدم أحد الضدين على الآخر توقف عدم الشيء على مانعة.

توضيح عبارة المصنف بالمثال: أن عدم البياض الملائم هذا العدم للسواد المناقض هذا العدم لوجود البياض المعاند وجود البياض للسواد لا بد أن يجامع عدم البياض مع السواد، و ليس سابقا على السواد حتى يكون من مقدماته.

قوله: «لا بد أن يجامع» خبر لقوله: «في أن عدمه»؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 2، ص 230» مع تصرف ما.

(2) أي: ظهر بما ذكرناه من عدم الفرق بين عدم الضد الموجود و عدم الضد المعدوم من حيث الرتبة أي: ظهر الإشكال «في تفصيل الأعلام»، و هو المحقق الخوانساري على ما يحكى عنه «حيث قال بالتوقف» أي: توقف الضد «على رفع الضد الموجود»، فرفع الضد الموجود مقدمة لوجود الضد الآخر، «و عدم التوقف على عدم الضد المعدوم»، فعدم الضد المعدوم ليس مقدمة لوجود الآخر. و قد عرفت الجواب عن هذا التفصيل و قلنا: إن الضد سواء كان موجودا أو معدوما ليس عدمه مقدمة للضد الآخر.

ص: 243

الضد الموجود، و عدم التوقف على عدم الضد المعدوم»، فتأمل في أطراف ما ذكرناه، فإنه دقيق و بذلك حقيق.

فقد (1) ظهر: عدم حرمة الضد من جهة المقدمية.

و أما (2) من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في الحكم فغايته أن لا يكون أحدهما فعلا محكوما بغير ما حكم به الآخر، لا أن يكون محكوما بحكمه.

=============

(1) هذه نتيجة ما أفاده المصنف: من منع مقدمية عدم الضد لوجود الآخر و حاصله - على ما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 454» -: أنه - بعد منع المقدمية - اتضح عدم حرمة الضد حيث أنها كانت مبنية على مقدمية ترك الضد، بتقريب: أن ترك الصلاة واجب؛ لكونه مقدمة للواجب - و هو الإزالة - فوجود الصلاة حرام؛ لكونه ضدا للواجب أعني:

الإزالة.

هذا تمام الكلام في اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده، لأجل مقدمية عدم الضد لوجود الآخر، و بعد منع المقدمية ينهدم ما بني عليها من الاقتضاء المزبور.

(2) هذا إشارة إلى القول بوجوب ترك الضد و النهي عنه «من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في الحكم»، فالغرض من هذا: تقريب اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد من جهة التلازم بين فعل المأمور به و ترك ضده في الحكم بالوجوب، فلا بد أولا: من توضيح هذا القول، و ثانيا: توضيح ما أجاب عنه المصنف «قدس سره».

و أما توضيحه: فيقال: إن عدم الضد و إن لم يكن مقدمة لفعل الضد الآخر الواجب إلاّ إنه ملازم له في الحكم، مثلا: عدم الصلاة ملازم لوجود الواجب أعني: الإزالة، و كل ملازم الواجب واجب، فعدم الصلاة واجب و وجودها حرام، و منهي عنه، فوجوب عدم الصلاة من باب التلازم يقتضي النهي التحريمي عن وجودها، و لازم ذلك: أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده لأجل التلازم. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح هذا القول.

أما توضيح جواب المصنف عنه: فقد أشار إليه بقوله: «فغايته...» إلخ و حاصله: إن غاية ما يقال في المقام من أجل الملازمة بين عدم الصلاة، و بين وجود الإزالة في الوجود الخارجي: أنه لا يجوز أن يكون أحد المتلازمين في الوجود محكوما فعلا بغير ما حكم به الملازم الآخر؛ مثل: أن تكون الإزالة واجبة، و عدم الصلاة حراما، و أما لزوم أن يكون أحدهما محكوما بمثل حكم الآخر في الوجوب و الحرمة؛ فلا يكون عليه دليل لا عقلا

ص: 244

و عدم (1) خلو الواقعة عن الحكم فهو إنما يكون بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي، و لا شرعا، فالمتحصل هو: منع الاقتضاء من جهة التلازم؛ كمنعه من جهة مقدمية عدم الضد.

=============

و خلاصة وجه منع الاقتضاء من ناحية التلازم: هو منع الكبرى و هي لزوم اتحاد المتلازمين وجودا في الحكم؛ و ذلك لما تقرر عند مشهور العدلية: من تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من الملاكات الداعية إلى تشريعها، و التلازم المذكور يوجب ثبوت الحكم للملازم بلا ملاك يدعو إلى تشريعه له، لوضوح: أن المفروض: عدم الملاك إلاّ في متعلق الحكم؛ كالاستقبال الذي هو واجب، لمصلحة فيه. و أما ملازمه: - كاستدبار الجدي في بعض الأمكنة - فلا ملاك له يقتضي وجوبه.

و إثبات الوجوب له للتلازم بينه و بين الاستقبال الواجب مما لا يساعده برهان، و لا وجدان - كما في البدائع - نعم؛ لا بد أن لا يكون الملازم محكوما بحكم فعلي يوجب عجز المكلف عن امتثال أمر الملازم الآخر، كالاستقبال، فإن ملازمه - كالاستدبار في بعض الأقطار - يمتنع أن يكون محرما، لكونه سالبا للقدرة على إطاعة أمر الاستقبال و معجّزا للعبد عن امتثاله. كما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 455».

فالمتحصل: أن مبنى اعتبار وحدة المتلازمين وجودا في الحكم ممنوع جدا، إذ لا دليل على لزوم اشتراكهما في الحكم، كما عن الكعبي القائل بلزوم اتحادهما فيه.

(1) إشارة إلى توهم بتقريب: إن عدم الصلاة لا يخلو عن ثلاثة أحوال: 1 - الوجوب. 2 - غير الوجوب. 3 - أن لا يكون له حكم أصلا.

ثم الأول: هو المطلوب، و الثالث: كالثاني غير صحيح؛ إذ على الثالث: يلزم خلو الواقعة عن الحكم و هو باطل، و الثاني: مستلزم لاختلاف المتلازمين في الحكم و هو باطل.

فالصحيح: هو الأول؛ أي: وجوب عدم الصلاة المستلزم لحرمة فعلها، و كونه منهيا عنه.

و حاصل الجواب: هو الالتزام بالثالث، و القول بخلو الواقعة أي: عدم الصلاة عن الحكم الفعلي دون الحكم الواقعي الإنشائي، و ليس خلو الواقعة عن الحكم الظاهري الفعلي باطلا و لا مستحيلا، فعدم الصلاة - مثلا - الملازم لوجود الواجب - كالإزالة - لا يخلو عن حكم واقعي إنشائي كالحرمة مثلا؛ إلاّ إنه لا يصير فعليا لملازمته مع وجود واجب، فلا يلزم من نفي فعلية الحكم الملازم نفي الحكم الإنشائي، حتى يلزم محذور خلو الواقع عن الحكم الواقعي، فلا حرمة للضد من جهة التلازم، فالأمر بأحد الضدين

ص: 245

لا يقتضي النهي عن ضده من ناحية التلازم؛ لأن الضد لا يصير حراما لأجل الأمر بضده؛ بل هو باق على ما كان عليه من الحكم الواقعي، فالصلاة إذا كان حكمها الواقعي الوجوب و كان فعليا، لا يتغير بمضادتها للإزالة، بل يبقى على الوجوب أن فعليته تتبدل بالإنشائية. و قد تركنا ما في المقام من بعض الكلام رعاية للاختصار، هذا تمام الكلام في الضد الخاص.

خلاصة الكلام مع ما هو رأي المصنف «قدس سره» في المقام

يتلخص البحث في أمور:

1 - أن الحق كون مسألة الضد من المسائل الأصولية؛ لأن الغرض منها هو إثبات الملازمة بين وجوب شيء و حرمة ضده؛ لا ثبوت الحرمة لضد الواجب حتى تكون فقهية.

المراد من الضد هو: مطلق المعاند و المنافي؛ سواء كان أمرا وجوديا كالضد الخاص، أو عدميا كالضد العام.

المراد من الاقتضاء في عنوان المسألة: ليس ما هو ظاهره أعني: الاستلزام، بل الأعم منه و من الاقتضاء على نحو العينية أو الجزئية.

و ذلك أولا: لإطلاق لفظ الاقتضاء الشامل لجميع المعاني.

و ثانيا: أن الغرض هو بيان حال الضد العبادي صحة و فسادا؛ من غير فرق بين أنحاء الاقتضاء، و عمومية الغرض تقتضي عمومية النزاع.

و ثالثا: وجود الأقوال في المسألة يقتضي عموم الاقتضاء؛ ليعم جميع الأقوال:

الأول: القول بالعينية: يعني: أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده.

الثاني: القول بالجزئية: يعني: أن الأمر بالشيء يدل على النهي عن ضده بالتضمن؛ بأن يكون النهي عن الضد جزءا من الأمر بالشيء.

الثالث: أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده. كما هو ظاهر لفظ الاقتضاء.

2 أ - إن عمدة القول هو الاقتضاء من باب المقدمية؛ بتقريب: أن عدم أحد الضدين مقدمة للضد الآخر الواجب فيكون واجبا من باب المقدمة، فإذا وجب ترك الضد حرم فعله قهرا، و هذا معنى النهي عن الضد.

هذا هو المشهور، و هذا يتوقف على مقدمية عدم أحد الضدين للآخر لأجل التمانع و التعاند بين الضدين، فيكون عدم كل منهما من أجزاء العلة التامة، لأن عدم المانع من

ص: 246

أجزاء العلة، فكان من المقدمات، فإذا كان أحدهما واجبا كان ترك الآخر أيضا واجبا، و فعله حراما و منهيا عنه، و هذا معنى النهي عن الضد الخاص. هذا ملخص توهم مقدمية ترك أحد الضدين عن الضد الآخر.

و قد أورد المصنف على هذا التوهم بوجوه:

الأول: أن كون شيء مقدمة لشيء آخر يكون مستلزما لتقدم ما هو مقدمة للآخر، و ليس عدم الضد المانع مقدما على وجود الضد الآخر، فلا يكون مقدمة له؛ لاعتبار السبق و التقدم في المقدمية.

الثاني: النقض بالمتناقضين؛ بأن يقال: إنه لا إشكال في أن التنافي بين المتقابلين بالتناقض أقوى من التنافي بين المتقابلين بالتضاد، مع إنه من المسلم: كون أحد المتناقضين في رتبة الآخر، فكذلك الضدين في المقام حيث إن التنافي بينهما لا يقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر حتى يكون مقدمة له.

الثالث: أن فرض مقدمية عدم أحدهما لوجود الآخر مستلزم للدور الباطل، بتقريب:

أنه كما أن وجود أحد الضدين يتوقف على عدم الآخر توقف الشيء على عدم المانع، فكذلك عدم أحدهما يتوقف على وجود الآخر توقف عدم الشيء على وجود المانع، و هو دور واضح.

3 - «و ما قيل في التفصي عن هذا الدور» قال المحقق الخوانساري في التفصي عن الدور: بما حاصله: أن الدور مسلم إذا كان التوقف من الطرفين بالفعل، و أما إذا كان التوقف من أحد الجانبين بالفعل و من الآخر بالقوة فيندفع الدور، و ما نحن فيه من هذا القبيل، و ذلك فإن توقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر - و إن كان فعليا - إلاّ إن توقف عدم أحدهما على وجود الآخر لا يكون بالفعل، لأن عدم الضد يمكن أن يكون مستندا إلى عدم المقتضي، مثلا: بأن يكون عدم الصلاة مستندا إلى عدم الإرادة لا إلى وجود الإزالة.

نعم؛ يكون عدم الصلاة مستندا إلى وجود الإزالة عند وجود المقتضي للصلاة أعني:

الإرادة.

و كيف كان؛ فإذا لم يكن التوقف فعليا من الطرفين لا يلزم الدور؛ لأن التغاير بين الطرفين بالشأنية و الفعلية يكفي في دفع الدور.

«إن قلت: هذا» أي: هذا إشكال على التفصي من الدور و حاصله: أن ما ذكر في دفع

ص: 247

الدور من التغاير بين الطرفين بالفعلية و الشأنية - و إن كان صحيحا في دفع الدور - إلاّ إنه لا يجري في جميع الموارد، بل في بعض الموارد، و هو ما إذا كانت الإرادة من شخص واحد، كما إذا أراد إيجاد البياض و السواد في زمان واحد و مكان كذلك؛ حيث يمتنع تعلق إرادة واحدة بشيئين متضادين، فلا محالة يكون عدم أحد الضدين مستندا إلى عدم المقتضي و هو الإرادة.

و أما إذا كانت الإرادة من شخصين: فعدم أحد الضدين حينئذ مستند إلى وجود المانع فعلا - و هو الضد الآخر - لا إلى عدم المقتضي؛ إذ المفروض: وجوده أعني: إرادة إيجاد الضد الآخر من شخص آخر، فيلزم الدور؛ لأن التوقف فعلي من الطرفين.

و قد أجاب عنه المصنف بما حاصله: أن عدم أحد الضدين دائما مستند إلى عدم المقتضي حتى في مورد إرادة الضدين من شخصين؛ لأن المراد بالمقتضي هي الإرادة المؤثرة في المراد، و هي منتفية في المقام لمغلوبية إحدى الإرادتين، و مع المغلوبية يكون عدم الضد مستندا إلى عدم المقتضي أعني: الإرادة المغلوبة، لا إلى وجود المانع حتى يلزم الدور، فالتفصي عن الدور صحيح و متين.

و قد أجاب المصنف عن التفصي المذكور بقوله: «غير سديد»، و حاصل الجواب: أن ما قيل - في التفصي عن الدور من التغاير بين الطرفين بالشأنية و الفعلية - و إن كان دافعا بالتقريب المزبور: لأن الدور مبني على التوقف الفعلي من الطرفين - إلاّ إن ملاك استحالة الدور - و هو: توقف الشيء على نفسه، و تأخره كذلك - باق على حاله؛ لأن مجرد التوقف الشأني من طرف العدم يكفي في بقاء ملاك الدور، بتقريب: أن وجود أحد الضدين حيث يتوقف فعلا على عدم الآخر متأخر عنه تأخر المعلول عن علته رتبة، و عدم الضد الآخر حيث يصلح أن يستند إلى وجود هذا الضد أي: على وجود المقتضي فهو متأخر عن وجود هذا الضد رتبة فيلزم ما ذكرناه: من تقدم الشيء عن نفسه، و تأخره عن نفسه.

4 - «و المنع عن صلوحه لذلك» أي: هذا إيراد على صلاحية أحد الضدين مانعا عن الآخر و حاصله: أنّنا نمنع مقدمية: عدم أحد الضدين لوجود الآخر المستلزم لأن يكون وجوده مانعا عن الآخر كي يلزم المحذور المذكور؛ لأن كون عدم أحدهما مستندا إلى الآخر إنما هو على فرض وجود المقتضي و هو محال و المعلق على المحال محال؛ أي:

مقدمية عدم أحد الضدين للآخر معلق على وجود المقتضي المحال فهو أيضا محال، فلا

ص: 248

يكون الضد الموجود صالحا لأن يكون مانعا عن الضد المعدوم، فوجود أحد الضدين - و إن كان متوقفا على عدم الآخر - إلاّ إن عدم الآخر لا يكون متوقفا على وجوده؛ و ذلك لعدم المقتضي، و التوقف على الوجود مشروط بوجود المقتضي كما عرفت و حينئذ فلا يلزم المحذور و هو: كون شيء واحد متقدما و متأخرا.

و قد أجاب المصنف عن هذا الإيراد بقوله: «مساوق لمنع مانعية الضد».

و حاصل الجواب: أن منع صلاحية كون وجود الضد مانعا عن الضد الآخر موجب لإنكار مانعية الضد أصلا؛ لاستلزامه نفي التوقف حتى من طرف الوجود، و هو خلاف البداهة؛ لأن توقف وجود الضد على عدم الآخر من البديهيات.

5 - «إن قلت: التمانع بين الضدين كالنار على المنار» الغرض من هذا الكلام: إثبات مقدمية عدم أحد الضدين للآخر، فيكون عدمه واجبا إذا كان الضد الآخر واجبا، و فعله حراما و منهيا عنه.

ملخص الكلام: لنا مقدمتان واضحتان و هما: التمانع بين الضدين، و كون عدم المانع من مقدمات المأمور به؛ و هاتان المقدمتان تنتجان وجوب ترك ضد المأمور به، فيكون فعله منهيا عنه، و هو المطلوب في المقام.

و قد أجاب المصنف عنه بما حاصله: أن المراد بالتمانع بين الضدين هو: التعاند؛ بحيث يمتنع اجتماعهما في الوجود، و من التمانع بهذا المعنى لا يلزم أن يكون عدم أحدهما مقدمة للآخر، و ليس التمانع بما هو المصطلح عندهم و هو: كون أحدهما مانعا عن الآخر؛ بأن يكون عدمه دخيلا في وجود الآخر و متقدما عليه حتى تكون مقدمة له.

نعم؛ قد يتفق أن يكون عدم أحد الضدين مستندا إلى وجود الآخر، فيكون وجوده مانعا كما إذا كان المقتضي لكل منهما موجودا، و كان المقتضي لأحدهما أقوى من المقتضي في الآخر، فيوجد أحدهما دون الآخر، فلا محالة يكون عدم الآخر مستندا إلى المانع و هو علّة الآخر؛ لا إلى عدم المقتضي لوجوده بالفرض.

6 - و قد ظهر مما ذكرناه - من عدم كون ترك أحد الضدين من مقدمات الآخر -:

حال التفصيل بين الضد الموجود - فيكون عدمه مقدمة لوجود الآخر - و بين الضد المعدوم فلا يكون عدمه مقدمة للآخر؛ بدليل: أن عدم الضد صار مقدمة لوجود الآخر؛ من حيث كون عدم المانع من المقدمات، و غير الموجود ليس مانعا، كي يكون عدمه من مقدمات الآخر.

ص: 249

فلا حرمة للضد من هذه الجهة أيضا، بل على ما هو عليه لو لا الابتلاء بالمضادة للواجب الفعلي من الحكم الواقعي.

=============

و خلاصة ما أفاده المصنف في الجواب عن هذا التفصيل: أنه قد ظهر بما سبق: أن عدم الضد لا يكون من المقدمات الوجودية للضد الآخر لاتحادهما رتبة، فلا يكون مقدمة؛ من غير فرق بين عدم الضد الموجود و المعدوم. هذا تمام الكلام في اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده لأجل مقدميّة عدم الضد.

أمّا اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده من جهة: لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في الحكم فيقال: إن عدم الضد - و إن لم يكن مقدمة للضد الآخر الواجب - إلاّ إنه ملازم له في الحكم، مثلا: عدم الصلاة ملازم لوجود الإزالة و هي واجبة، و كل ملازم الواجب واجب، فعدم الصلاة واجب، و وجودها حرام و منهي عنه، فوجوب عدم الصلاة يقتضي النهي عنها من باب التلازم. و لازم ذلك: أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه من باب التلازم.

و قد أجاب المصنف عن هذا القول: بما حاصله: أن غاية ما يقال - في المقام من أجل الملازمة بين عدم الصلاة و وجود الإزالة في الوجود الخارجي -: أنه لا يجوز أن يكون أحد المتلازمين محكوما بغير ما حكم به الآخر، كوجوب الإزالة، و حرمة ترك الصلاة.

أما لزوم أن يكون أحدهما محكوما بمثل حكم الآخر في الوجوب و الحرمة: فلا دليل عليه عقلا و شرعا. و لا يلزم خلو الواقعة عن الحكم الواقعي لو لم يكن أحدهما محكوما بمثل حكم الآخر؛ و إن كان يلزم خلّوها عن الحكم الواقعي الفعلي، و هو ليس بباطل، و لا مستحيل.

7 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - المراد من الاقتضاء في العنوان: هو الأعم من الاقتضاء على نحو العينية و الجزئية و الاستلزام.

2 - المراد من الضد: هو مطلق المعاند و المنافي؛ سواء كان أمرا وجوديا أو عدميا.

3 - الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده مطلقا:

1 - أي: لا على نحو العينية.

2 - و لا على نحو الجزئية.

3 - و لا من جهة مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر.

4 - و لا من جهة التلازم في الحكم بين المتلازمين في الوجود.

ص: 250

الأمر الثالث: (1) أنه قيل: (2) بدلالة الأمر بالشيء بالتضمن على النهي عن الضد العام بمعنى الترك، حيث إنه يدل على الوجوب المركب من طلب الفعل، و المنع عن الترك.

و التحقيق: (3) أنه لا يكون الوجوب إلاّ طلبا بسيطا و مرتبة وحيدة أكيدة من

=============

(1) الغرض من عقد هذا الأمر: بيان عدم الاقتضاء بنحو التضمن و العينية.

القول بدلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضد العام بالتضمن

(2) القائل: هو صاحب المعالم، قال «قدس سره»: ما لفظه: «لنا على الاقتضاء في المقام - بمعنى الترك -: ما علم؛ من أن ماهية الوجوب مركبة من أمرين: أحدهما: المنع من الترك، فصيغة الأمر الدالة على الوجوب دالة على النهي عن الترك بالتضمن، و ذلك واضح». معالم الدين، ص 178.

توضيح - ما في المعالم - يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين الدلالة المطابقية و التضمنية و الالتزامية، و الأولى: هي دلالة اللفظ على تمام ما وضع له، كدلالة لفظ الإنسان على «الحيوان الناطق».

و الثانية: هي دلالة اللفظ على ما هو جزء لما وضع له؛ كدلالة لفظ الإنسان على «الحيوان أو الناطق» فقط.

و الثالثة: هي دلالة اللفظ على ما هو خارج عما وضع له؛ إلاّ إنه لازم لما وضع له؛ كدلالة لفظ الإنسان على الكتابة.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن الأمر موضوع للوجوب الذي هو مركب من طلب الفعل و المنع من الترك، فالأمر يدل على الوجوب مطابقة و على المنع من الترك تضمنا، من باب دلالة اللفظ على جزء الموضوع له، فيكون اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عنه بالتضمن.

(3) أي: و التحقيق في بطلان هذا القول. توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن دلالة الأمر على النهي عن الشيء بالتضمن إنما يصح فيما إذا كان معنى الأمر - و هو الوجوب - مركبا من جزءين، كما تقدم في تقريب قول صاحب المعالم.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن معنى الأمر - و هو الوجوب - ليس مركبا من جزءين: أحدهما: طلب الفعل، و الآخر: المنع من الترك، بل حقيقة الوجوب أمر بسيط حيث إنه عبارة عن مرتبة أكيدة من الطلب يعبر عنها بالطلب الشديد، كما أن الندب هو الطلب الضعيف، نعم؛ يكون المنع من الترك من لوازم الطلب الشديد، كما أن عدم المنع من لوازم الطلب الضعيف، فتعريف جلّ الأصوليين للوجوب - بأنه طلب الفعل مع المنع من الترك - تعريف له بلازمه؛ لما عرفت: من أن لازم المرتبة الشديدة من الطلب هو

ص: 251

الطلب؛ لا مركبا من طلبين (1).

نعم؛ (2) في مقام تحديد تلك المرتبة و تعيينها ربما يقال: الوجوب يكون عبارة عن طلب الفعل مع المنع عن الترك، و يتخيل منه: أنه يذكر له حدا، فالمنع عن الترك ليس من أجزاء الوجوب و مقوماته، بل من خواصه و لوازمه بمعنى: أنه لو التفت الآمر إلى الترك لما كان راضيا به لا محالة، و كان يبغضه (3) البتّة. و من هنا (4) انقدح: أنه لا المنع من الترك، لا إن للوجوب جنسا و فصلا، حتى يكون مركبا، و عليه: فليس المنع من الترك جزءا من مدلول الأمر حتى يقال باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضد العام بمعنى الترك بالتضمن.

=============

فدعوى الاقتضاء التضمني ساقطة من الأساس؛ لابتنائها على تركب الوجوب الذي أنكره المصنف، و قال ببساطته.

أما وجه بساطته - بناء على أنه إرادة نفسانية - فهو: كونه حينئذ من الأعراض التي هي من البسائط الخارجية.

و أما بناء على كونه أمرا اعتباريا عقلائيا، منتزعا من الإنشاء بداعي البعث و التحريك فهو: كون الاعتباريات أشد بساطة من الأعراض؛ إذ ليس لها جنس و فصل عقلي أيضا بخلاف الأعراض.

الجواب عن الاقتضاء التضمني

(1) أي: ليس الوجوب مركبا من طلبين: أحدهما: طلب الفعل، و الآخر: طلب عدم تركه، حتى تصح دعوى الاقتضاء التضمني المذكور، كما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 460».

(2) هذا استدراك على البساطة، و دفع لتوهم التنافي بين الالتزام ببساطة الوجوب، و تحديدهم: بأنه عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترك؛ لأن التحديد المذكور ظاهر في التركّب.

و حاصل الدفع: أن التحديد المزبور ليس حقيقيا حتى ينافي ما التزم به من البساطة، بل غرضهم من التحديد المزبور تعريف تلك المرتبة الأكيدة من الطلب؛ المسماة بالوجوب بلوازمها و خواصها التي منها المنع من الترك. و هذا التحديد أوجب توهم التركب، و كون المنع من الترك جزءا مقوما للوجوب، و فصلا منوعا للطلب، و ليس الأمر كما توهم؛ إذ يلزم حينئذ قيام الوجوب بالوجود و العدم و هو باطل؛ بداهة: قيامه بالوجود فقط.

(3) أي: يبغض الترك، و هذا كاشف عن رضا الآمر به.

(4) أي: مما ذكرنا: من أن الوجوب بسيط، و لازمه المنع من الترك؛ ظهر: أنه لا وجه لدعوى العينية أي: كون الأمر بالشيء عين النهي عن ضده العام، فقوله: «و من هنا

ص: 252

وجه لدعوى العينية، ضرورة: (1) أن اللزوم يقتضي الاثنينية لا الاتحاد و العينية.

نعم؛ لا بأس بها (2)، بأن يكون المراد بها أنه يكون هناك طلب واحد، و هو كما يكون حقيقة منسوبا إلى الوجود و بعثا إليه؛ كذلك يصح أن ينسب إلى الترك بالعرض و المجاز و يكون زجرا و ردعا عنه، فافهم (3).

=============

انقدح» ردّ للقول بالاقتضاء بنحو العينية، و نسب هذا القول إلى القاضي، و بعض المحققين حيث قالوا: بأن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده العام، فالأمر بالصلاة - مثلا - عين النهي عن تركها، فقولنا: «صلّ » عين قولنا: «لا تترك الصلاة» بتقريب: أن الأمر بالشيء - كالصلاة و النهي عن تركه عنوانان متحدان عينا؛ و إن كانا متغايرين مفهوما، فإن قولنا:

«صلّ و لا تترك الصلاة»، متغايران مفهوما لتغاير الأمر و النهي، فالمراد بالعينية هي: العينية بحسب المصداق لا بحسب المفهوم.

(1) تعليل لوجه الانقداح. توضيح ذلك بعد تمهيد مقدمة و هي: أنه قد عرفت بساطة الوجوب، و أن المنع من الترك من لوازمه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن اللزوم يقتضي الاثنينية يعني: كون المنع من الترك من لوازم الوجوب يقتضي الاثنينية، - فلا وجه لدعوى العينية - إذ من البديهي: أن اللزوم إضافة متقومة بشيئين: أحدهما: لازم، و الآخر: ملزوم، فيمتنع قيامه بشيء واحد، فلا تصح دعوى العينية المنافية للاثنينية، و المتحصل: أن الأمر و النهي متضادان، فلا يعقل أن يكون أحدهما عين الآخر.

(2) أي: لا بأس بالعينية بالعناية و المجاز، لا حقيقة بأن يقال: إن قولنا: «صلّ » - مثلا - و إن كان طلبا واحدا نحو الفعل حقيقة، إلاّ إنه تصح نسبته إلى الترك أيضا بالعناية و المسامحة، يعني: يصح التعبير عن طلب فعل الصلاة، «لا تترك الصلاة مجازا»؛ لأن الطلب تعلق حقيقة بالفعل، فتعلقه بالترك لا بد أن يكون بالعرض و المجاز، و لكن هذا النحو من العينية لا يفيد القائل بها إذ هو قائل بالعينية الحقيقية، أي: يقول: إن مدلول «صلّ » هو: لا تترك الصلاة بعينه، و لا يقول بها من باب المجازية و العناية.

(3) لعله إشارة إلى: أن المراد من العينية هي العينية المصداقية، و لا مانع منها. أو إشارة إلى: أن التوجيه المزبور - و هو نسبة الطلب إلى الفعل حقيقة و إلى الترك مجازا - يوجب الخروج عن موضوع كلامهم؛ حيث إن مورده - على القول بالاقتضاء بأي: نحو من أنحاء الاقتضاء - هو: تعدد الحكم الموجب لتعدد العقاب على تقدير المخالفة، و التوجيه المزبور ينفي التعدد؛ لأن المفروض: وحدة الطلب المنسوب إلى الفعل حقيقة، و إلى الترك مجازا، فلا تعدد في الطلب حقيقة، و إنما الاختلاف في مجرد اللفظ و التسمية.

ص: 253

الرابع: (1) تظهر الثمرة في أن نتيجة المسألة و هي النهي عن الضد - بناء على الاقتضاء - بضميمة: أن النهي في العبادات يقتضي الفساد، ينتج فساده إذا كان عبادة.

و عن البهائي «رحمه الله» أنه أنكر الثمرة (2) بدعوى: إنه لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى النهي عن الضد، بل يكفي عدم الأمر به لاحتياج العبادة إلى الأمر.

و فيه: (3) أنه يكفي مجرد الرجحان و المحبوبية للمولى كي يصح أن يتقرب به منه كما لا يخفى.

=============

(1) في ثمرة مسألة الضد. قال المصنف «قدس سره»: إن ثمرة البحث تظهر فيما إذا كان ضد المأمور به عباديا، كالصلاة بالنسبة إلى الإزالة، فإنه بناء على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده؛ بضميمة: أن النهي عن العبادة يستلزم فسادها تقع العبادة فاسدة للنهي عنها، و بناء على عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده تقع صحيحة لعدم النهي عنها.

(2) أي: أنكر البهائي «قدس سره»، هذه الثمرة.

و حاصل ما أفاده المصنف «قدس سره» في تقريب الإنكار هو: أن العبادية و التقرب يتوقف على تعلق الأمر بالعمل، و من الواضح: أن الضد العبادي لا أمر به؛ لارتفاع الأمر به بمزاحمته مع الواجب الأهم، فلا يقع صحيحا سواء قلنا: بأنه منهي عنه أو لم نقل بذلك، ففساد الضد العبادي لا يتوقف على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده، فما ذكروه: من فساد الضد إذا كان عبادة ليس ثمرة لهذه المسألة.

ثم إن الأصوليين ذكروا للمسألة ثمرات أخرى:

منها: حصول العصيان بفعل الضد؛ بناء على القول بالاقتضاء و عدم حصول العصيان بناء على عدم الاقتضاء.

و منها: ترتب العقاب على فعل الضد و عدمه، فإن قلنا: باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده الخاص يترتب العقاب على فعله، و إلاّ فلا.

و منها: حصول الفسق و عدمه.

إلاّ إن ترتب هذه الثمرات مبنيّ على القول بالاقتضاء بنحو المقدمية، و قد عرفت بطلان المقدمية.

(3) هذا ردّ كلام الشيخ البهائي من إنكار الثمرة. و حاصل الإشكال على الشيخ البهائي «قدس سره»: أن الأمر - و إن ارتفع بالمزاحمة - إلاّ إن ملاك الأمر ثابت و موجود

ص: 254

و الضد بناء على عدم حرمته يكون كذلك، فإن المزاحمة على هذا لا يوجب إلاّ ارتفاع الأمر المتعلق به فعلا؛ مع بقائه على ما هو عليه من ملاكه من المصلحة، كما هو مذهب العدلية (1)، أو غيرها (2) أيّ شيء كان، كما هو مذهب الأشاعرة. و عدم حدوث ما يوجب مبغوضيته، و خروجه عن قابلية التقرب به كما حدث، بناء على الاقتضاء (3).

=============

و هو المحبوبية الذاتية؛ إذ لا مقتضي لارتفاعه، و المزاحمة إنما تقتضي ارتفاع الأمر لا غير.

و عليه: فالتقرب بالملاك يكفي في تحقق العبادية، و لا يتوقف على وجود الأمر، و هو إنما يصح لو لم يكن منهيا عنه، لأن النهي يستلزم الفساد. فتظهر الثمرة التي تسالم عليها القدماء، و جماعة من المتأخرين. و كيف كان؛ فلا منشأ لفساد الضد العبادي إلاّ النهي عنه.

(1) أي: المشهور منهم القائلين بتبعية الأحكام للمصالح و المفاسد في متعلقاتها.

(2) أي: غير المصلحة أيّ شيء كان، كما عليه الأشاعرة المنكرون للمصالح و المفاسد في متعلقات الأحكام.

(3) أي: كما حدث ما يوجب المبغوضية، و الخروج عن قابلية التقرب؛ بناء على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد، حيث إن النهي يحدث في متعلقه مبغوضية مانعة عن التقرب به.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور تالية:

1 - أنه قيل بدلالة الأمر بالشيء بالتضمن على النهي عن الضد العام بمعنى الترك بتقريب أن معنى الأمر: عبارة عن الوجوب المركب من طلب الفعل، و المنع من ترك ذلك الفعل.

فدلالة لفظ الأمر على المنع من الترك دلالة اللفظ على جزء الموضوع له فتكون تضمنية.

و حاصل ما أفاده المصنف «قدس سره»: في ردّ هذا القول هو: أن معنى الأمر - و إن كان هو الوجوب - إلاّ إن الوجوب ليس مركبا من جزءين، بل هو أمر بسيط، فلا وجه للدلالة التضمنية، فدعوى: الاقتضاء التضمني ساقطة من الأساس.

نعم؛ قيل في تحديد الوجوب بأنه طلب الفعل مع المنع من الترك، إلاّ إن هذا التحديد للوجوب تحديد و تعريف بما هو لازمه؛ لأن الوجوب عبارة عن الطلب الشديد، و لازم

ص: 255

ثم إنه تصدى جماعة من الأفاضل (1)، لتصحيح الأمر بالضد بنحو الترتب على الطلب الشديد هو المنع من الترك، فالمنع من الترك ليس جزء الموضوع له بل هو خارج عنه و لازم له.

=============

2 - و من بطلان القول بالاقتضاء التضمني ظهر: بطلان القول بالاقتضاء بنحو العينية؛ بمعنى: أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن الضد العام، فقولنا: «صلّ » هو عين «لا تترك الصلاة».

وجه البطلان: أن المنع من الترك لازم الوجوب بمعنى الطلب الشديد، و مقتضى اللزوم هو: الاثنينية لا الاتحاد و العينية، و إرادة العينية بالعناية و المجاز لا تنفع للقائل بالعينية؛ إذ هو قائل بالعينية الحقيقية.

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى أن المراد من العينية المصداقية فلا مانع منها.

3 - ثمرة المسألة: هو فساد الضد العبادي على القول بالاقتضاء؛ بضميمة: دلالة النهي في العبادة على الفساد، و إنكار الشيخ البهائي لهذه الثمرة بأن الضد العبادي فاسد لأجل ارتفاع الأمر به بالمزاحمة مع الأهم؛ من دون فرق بين القول بالاقتضاء و القول بعدمه مردود بكفاية المحبوبية الذاتية في صحة الضد العبادي، من غير حاجة إلى تعلق الأمر به، فوجه الفساد منحصر في النهي عن الضد دون عدم الأمر به، فالثمرة المذكورة صحيحة.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو صحة الثمرة المذكورة، و بساطة معنى الأمر و هو الوجوب.

مبحث الترتب

(1) كالمحقق الكركي و كاشف الغطاء و الميرزا الشيرازي و المحقق النائيني أي: و قد تصدى هؤلاء لتصحيح الضد العبادي بنحو الترتب.

و قبل الخوض في بحث الترتب تفصيلا ينبغي تقديم أمور إجمالا:

1 - أن مسألة الترتب من المسائل العقلية، لأن البحث فيها عن الإمكان و الاستحالة؛ بمعنى: أن الأمر بالضدين بنحو الترتب هل هو ممكن أم لا؟ و من البديهي: أن الحاكم بالإمكان و الاستحالة هو العقل لا غيره.

2 - الغرض من الترتب: هو تصحيح الضد العبادي حتى على القول بتوقف صحة العبادة على الأمر، و عدم كفاية الملاك و المحبوبية في قصد التقرب المعتبر في العبادة.

3 - ما يعتبر في تحقق موضوع الترتب و هو أمور:

ص: 256

الأول: التضاد بين متعلقي الأمرين.

الثاني: كون التكليفين المتعلقين بالضدين إلزاميين.

الثالث: كون المهم من الضدين عباديا.

الرابع: أن يكون التضاد بين المتعلقين اتفاقيا؛ حتى يكون مورد الاجتماع من صغريات باب التزاحم، لا دائميا حتى يكون من صغريات باب التعارض.

الخامس: كون المتزاحمين عرضيين لا طوليين.

4 - بيان ما هو محل النزاع من الترتب: فنقول: إن الترتب لغة من الترتيب و إن كان بمعنى جعل الشيء في مرتبته إلاّ إنه في اصطلاحهم عبارة عن تعلق الأمر بالضد بنحو الترتب؛ بأن يكون الأمر بالضد المهم مترتبا على عصيان الضد الأهمّ ، نحو «أزل النجاسة و إن عصيت فصل». هذا هو محل النزاع في بحث الترتب.

فإن الأمر بالمهم يجب أن يكون مترتبا على عصيان الأمر بالأهم، و متأخرا عنه، و في طوله، لا في عرضه؛ إذ المفروض: أن عصيان الأمر بالأهم موضوع للأمر بالمهم فلا يلزم من طلب الضدين بهذا النحو طلب الجمع بينهما حتى يقال باستحالته كاستحالة الجمع بين الضدين، و كيف كان؛ فمما يعتبر في الترتب: أن يكون أحد الضدين أهمّ من الآخر.

إذا عرفت هذه الأمور: فنقول: إن تصوير الترتب في هذا الفرض - كون أحدهما أهمّ و الآخر مهما - على ستة أنحاء؛ و ذلك فإن الأمر بالمهم إما أن يترتب على عصيان الأمر بالأهم، و إما يترتب على العزم و البناء على عصيان الأمر بالأهم، ثم كل من العصيان أو العزم و البناء على العصيان: إما يكون بنحو الشرط المتقدم أو المقارن أو المتأخر، فحاصل ضرب الاثنين في الثلاثة هو ستة. و بعض هذه الأقسام خارج عما نحن فيه.

و توضيح ذلك يتوقف على ذكر الأقسام تفصيلا:

الأول: أن يكون المهم مترتبا على عصيان الأهم بنحو الشرط المتقدم، كأن يقول المولى: «أزل النجاسة و إن عصيت فصلّ بعده»، فإن الأمر بالمهم يتوقف على عصيان الأمر بالأهم توقف المشروط على شرطه. هذا خارج عن مورد البحث - و هو اجتماع الأمر بالضدين في زمان واحد مع اختلافهما رتبة -.

وجه خروجه عن محل البحث هو: سقوط الأمر بالأهم بالعصيان المتحقق قبل زمان الأمر بالمهم، و بعد سقوطه، ليس في البين إلاّ أمر المهم، فهنا أمر واحد متعلق بالمهم، و هذا غير الترتب المبحوث عنه في المقام.

ص: 257

العصيان و عدم إطاعة الأمر بالشيء بنحو الشرط المتأخر، أو البناء على معصيته بنحو الشرط المتقدم أو المقارن، بدعوى: أنه لا مانع عقلا عن تعلق الأمر بالضدين كذلك أي: بأن يكون الأمر بالأهم مطلقا، و الأمر بغيره معلقا على عصيان ذلك الأمر، أو البناء و العزم عليه، بل هو واقع كثيرا عرفا.

قلت: (1) ما هو ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد، آت في طلبهما الثاني: أن يكون المهم مترتبا على عصيان الأمر بالأهم بنحو الشرط المقارن كأن يقول: «أزل النجاسة، و إن عصيت فصلّ مقارنا للعصيان»، و هذا أيضا خارج عما نحن فيه كالأول؛ و ذلك لعدم لزوم الأمر بالضدين في زمان واحد؛ لأن المفروض: سقوط الأمر بالأهم بالعصيان المقارن للأمر بالمهم، فلا يجتمع الأمران بالضدين في زمان واحد، فليس من الترتب المبحوث عنه في المقام.

=============

الثالث: أن يكون الأمر بالمهم مترتبا على عصيان الأمر بالأهم بنحو الشرط المتأخر، كأن يقول: «أزل النجاسة و إن عصيت بعد فصلّ » هذا داخل في مسألة الترتب؛ لأن العصيان - الذي هو شرط للأمر بالمهم كالصلاة - متأخر وجودا عن زمان الصلاة، فلا بد أن يكون العصيان بالنسبة إلى الصلاة بنحو الشرط المتأخر، و مرجع الشرط المتأخر إلى التصور و اللحاظ للشرط كما سبق ذلك في مقدمات الواجب.

الرابع: أن يكون الأمر بالمهم مترتبا على بناء معصية الأهم بنحو الشرط المتقدم؛ كأن يقول: «أزل النجاسة و إن بنيت على المعصية فصلّ بعده».

الخامس: أن يكون الأمر بالمهم مترتبا على بناء معصية الأهم بنحو الشرط المقارن؛ كأن يقول: «أزل النجاسة، و إن بنيت على المعصية فصلّ مقارنا للبناء»، و هذان القسمان داخلان في مسألة الترتب، و أشار إليهما بقوله: «أو البناء على معصيته بنحو الشرط المتقدم أو المقارن».

السادس: أن يكون الأمر بالمهم مترتبا على بناء معصية الأهم بنحو الشرط المتأخر؛ كأن يقول: «أزل النجاسة، و إن بنيت على المعصية بعد فصلّ »، و هذا داخل في الترتب، و لكن لم يذكره المصنف «قدس سره». و هذه الاحتمالات - و إن كانت مذكورة في بعض الحواشي كحاشية المشكيني، ج 2، ص 33 - و الوصول ج 2، ص 239 - إلاّ إنها لم تكن خالية عن الإجمال و الغموض.

(1) أي: قال المصنف في مقام إنكار الترتب: إن ملاك استحالة الأمر بالضدين في آن واحد موجود في هذا الترتب، و حاصل إشكال المصنف على الترتب هو: لزوم المحال أعني: طلب الضدين في عرض واحد.

ص: 258

كذلك، فإنه و إن لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما، إلاّ إنه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما، بداهة: فعلية الأمر بالأهم في هذه المرتبة، و عدم سقوطه بعد بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص، أو العزم عليها مع فعلية الأمر بغيره أيضا، لتحقق ما هو شرط فعليته (1) فرضا.

لا يقال: (2) نعم؛ لكنه بسوء اختيار المكلف حيث يعصي فيما بعد بالاختيار، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: إن ملاك الاستحالة هو طلب الضدين في آن واحد؛ بأن يكون طلب كل واحد من الأهم و المهم فعليا في زمان واحد، ثم الأمر بالمهم - و إن كان مشروطا بعصيان الأهم أو العزم عليه - إلاّ إن الأمر بالأهم يكون مطلقا و غير مشروط.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: بفعلية كلا الطلبين بعد تحقق عصيان الأمر بالأهم. أما فعلية طلب المهم: فلأجل حصول شرطه و هو عصيان أمر الأهم، أو البناء و العزم عليه.

و أما فعلية طلب الأهم: فلأن طلبه مطلقا موجود في مرتبة الأمر بالمهم، و لا يسقط الأمر بالأهم بمجرد فرض حصول المعصية فيما بعد، أو فرض تحقق العزم على معصيته فيما قبل أو في الحال ما لم تتحقق المعصية بنفسها في الخارج.

إذ المفروض: أن عصيان أمر الأهم شرط متأخر للأمر بالمهم، و لازم ذلك: وجود الأمر بالأهم في مرتبة الأمر بالمهم قبل تحقق نفس المعصية فيما بعد، فالأمر بالإزالة يقتضي امتثاله و لو آناً ما قبل العصيان، أو قبل العزم أو حينه أو بعده إلى زمن تحقق نفس المعصية، و سقوط الأمر بالأهم بها، فيجتمع الطلبان الفعليان بالضدين في آن واحد و هو محال.

فالمتحصل: أن الترتب ممتنع لاستلزامه المحال و هو طلب الضدين في آن واحد، و هو في الاستحالة كاجتماع الضدين. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الإشكال الوارد على الترتب.

(1) أي: ما هو شرط فعلية الأمر بالمهم. و المراد بالشرط: هو عصيان الأمر بالأهم، أو العزم عليه.

(2) أي: لا يقال: نعم؛ نسلم ثبوت الأمر بالضدين في مرتبة الأمر بالمهم، و لكنه لا محذور فيه. الغرض من قوله: «لا يقال» هو: تصحيح الترتب بدفع إشكال اجتماع طلب الضدين عنه.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين الامتناع بسوء الاختيار، و بين غيره من الامتناع بالذات ؟

و خلاصة الفرق: أن الامتناع بالاختيار لا ينافي التكليف المشروط بالاختيار لما هو

ص: 259

فلولاه لما كان متوجها إليه إلاّ الطلب بالأهم، و لا برهان على امتناع الاجتماع إذا كان بسوء الاختيار.

فإنه يقال: (1) استحالة طلب الضدين ليس إلاّ لأجل استحالة طلب المحال، و استحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليته لا تختص بحال دون حال و إلا (2) المشهور من: أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار. هذا بخلاف الامتناع بالذات كاجتماع الضدين.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إننا نسلم لزوم طلب الضدين في مرتبة المهم؛ لكنه غير مستحيل إذا كان اجتماع الطلبين بسوء اختيار المكلف - كما في المقام - فإن المكلف لما خالف أمر الأهم و عصى اختيارا و ألقى نفسه في مورد اجتماع الطلبين الفعليين في آن واحد توجه إليه التكليف بالضدين في آن واحد، فهذا التكليف - و إن كان ممتنعا - إلاّ إن امتناعه يكون ناشئا عن سوء الاختيار، فلا مانع منه لعدم برهان على استحالته؛ لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، و اجتماع الأمر بالضدين يكون محالا إذا كان المولى يطلب الضدين في زمان واحد من عبده.

فالمتحصل: أن اجتماع الطلبين إذا كان ناشئا عن سوء اختيار المكلف فلا محذور فيه، و المقام من هذا القبيل، فالترتب صحيح لا غبار عليه.

(1) هذا دفع للإشكال و إثبات لاستحالة طلب الضدين مطلقا أي: بلا فرق بين ما إذا كان بسوء الاختيار، و بين ما لم يكن كذلك، و لازمه: استحالة الترتب.

توضيحه - على ما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 474» -: أن منشأ الاستحالة - و هو كون المطلوب محالا - موجود في كلتا صورتي الاختيار و عدمه، فإن طلب الجمع بين الضدين قبيح على الحكيم لكونه طلبا للمحال، حيث إن الجمع بين الضدين - كالجمع بين النقيضين - محال، بل مرجع طلب الضدين إلى طلب الجمع بين النقيضين؛ لأن طلب كل واحد من الضدين يلازم عدم طلب الضد الآخر، فطلب الإزالة مثلا يلازم عدم طلب الصلاة لما مرّ سابقا: من أن المزاحمة لو لم توجب النهي عن الضدّ فلا أقلّ من اقتضائها عدم الأمر به، و كذا طلب الصلاة يلازم عدم طلب الإزالة، و لازم ذلك:

مطلوبية وجود الإزالة و عدمها و وجود الصلاة و عدمها، و ليس هذا إلاّ طلب الجمع بين النقيضين، و استحالة هذا الطلب لا تختص بحال دون حال؛ بل هي ثابتة في كل حال من الاختيار و عدمه.

(2) أي: و إن اختصت الاستحالة بغير حال الاختيار، و كان التعليق على سوء الاختيار مصححا لطلب الضدين، لزم أيضا صحة تعليق طلب الضدين على فعل

ص: 260

لصح فيما علق على أمر اختياري في عرض واحد، بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتب، مع إنه محال بلا ريب و لا إشكال.

إن قلت: فرق بين الاجتماع في عرض واحد و الاجتماع كذلك (1)، فإن الطلب اختياري غير عصيان الأمر بالأهم؛ كأن يقول: «إذا شتمت مؤمنا فصلّ و أزل في آن واحد»، مع وضوح قبح هذا التكليف، و أن تعليقه على فعل اختياري لا يرفع قبحه.

=============

فيكون محالا على الحكيم كما أشار إليه بقوله: «مع إنه محال بلا ريب و لا إشكال» أي: مع إن تعليق طلب الضدين في عرض واحد على أمر اختياري غير عصيان الأهم محال بلا ريب.

بقي الكلام فيما هو المشهور من: أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار فنقول: إنّ معناه: أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا؛ بمعنى: أن المكلف في صورة تنجز التكليف عليه لو صيره محالا على نفسه لا يسقط عنه العقاب على مخالفة ذلك التكليف، و ليس معناه: أن كون الشيء: مقدورا للمكلف في زمان يصحح أمر المولى به و إن أصبح محالا بسوء اختياره.

(1) أي: على نحو الترتب. أي: قوله: «إن قلت: فرق...» إلخ. هو الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها لتصحيح طلب الضدين بنحو الترتب. الوجه الأول: ما أشار إليه بقوله: «بدعوى: إنه لا مانع». و الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «لا يقال: نعم».

و حاصل هذا الوجه الثالث: هو الفرق بين مثل: «إذا ضربت زيدا فقم و اقعد»، و بين اجتماع الطلبين بنحو الترتب فيستحيل الأول دون الثاني.

الفرق بين الأمر بالضدين عرضا و ترتّبا

و ملخص الفرق بينهما: هو استحالة طلب الضدين معا، و ذلك لمطاردة طلب كل منهما لطلب الآخر، هذا بخلاف ما إذا كان طلبهما بنحو الترتب، المبحوث عنه في المقام؛ فإن كلا من الضدين حينئذ لا يطارد الآخر؛ لأن طلب المهم منوط بعصيان أمر الأهم، فمقتضى الترتب: وقوع مطلوبية كلّ من الضدين في طول مطلوبية الآخر، و امتناع وقوعهما معا على صفة المطلوبية عرضا، فلو فرض محالا إيجادهما معا لا يتصف بالمطلوبية إلاّ خصوص الأهم؛ لأن مطلوبية المهم موقوفة على عصيان الأمر الأهم، و المفروض: امتثاله.

قوله: «فإن الطلب في كل منهما» بيان للفرق بين الاجتماع بنحو العرضية، و الاجتماع بنحو الترتب و الطولية.

قوله: «فلا يكاد يريد غيره» أي: غير الأهم يعني: لا يريد المهم على فرض الإتيان بالأهم.

ص: 261

في كل منهما في الأول يطارد الآخر، بخلافه في الثاني، فإن الطلب بغير الأهم لا يطارد طلب الأهم، فإنه يكون على تقدير عدم الإتيان بالأهم، فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه، و عدم عصيان أمره.

قلت: (1) ليت شعري! كيف لا يطارده الأمر بغير الأهم ؟ و هل يكون طرده (2) له إلاّ من جهة فعليته، و مضادة متعلقه للأهم ؟ و المفروض: فعليته، و مضادة متعلقه له.

و عدم (3) إرادة غير الأهم - على تقدير الإتيان به - لا يوجب عدم طرده لطلبه مع فالمتحصل من الجميع: أن الترتب ممكن، و قياسه على اجتماع طلب الضدين على نحو العرضية قياس مع الفارق، و قد عرفت الفرق، فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة.

=============

(1) هذا جواب عن الاستدلال بصحة الترتب بإبداء الفرق بين اجتماع الطلبين في عرض واحد، و بين اجتماعهما بنحو الترتب. و حاصله: إثبات استحالة الترتب، و عدم الفرق في الامتناع بين الاجتماع العرضي و الترتبي.

توضيحه: أنّ المطاردة الناشئة من فعلية الطلب و تضاد المتعلقين - كالصلاة و الإزالة - موجودة في الترتب كوجودها في اجتماع طلب الضدين عرضيا، حيث إن أمر الأهم فعلي، و أمر المهم - لعصيان أمر الأهم - أيضا صار فعليا، فيجتمع الطلبان الفعليان بالضدين في آن واحد، فكل منهما يطرد الآخر، فأمر الأهم ينفي مطلوبية المهم، و بالعكس، فتحصل المطاردة من الطرفين في الترتب، كحصولها منهما في اجتماع الطلبين عرضيا.

فالمتحصل: أن الترتب محال؛ لوجود المطاردة فيه، كما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 477».

(2) أي: ليس طرد المهم للأهم إلاّ من جهة فعلية أمر المهم، و مضادة متعلقه للأهم، و هما توجبان المطاردة.

(3) قوله: «و عدم إرادة غير الأهم...» إلخ دفع لتوهم عدم لزوم المطاردة إذا أتى الشخص بالأهم؛ ضرورة: أنه على تقدير الإتيان بالأهم لا يتعلق الطلب بالمهم حتى يكون طاردا لطلب الأهم، فحينئذ لا تتحقق المطاردة من الطرفين حتى يستحيل الترتب.

و حاصل الدفع: أن مجرد عدم إرادة المهم في صورة الإتيان بالأهم لا يمنع عن طرد طلب المهم لطلب الأهم: مع فرض فعلية أمر المهم بعصيان أمر الأهم، فتتحقق حينئذ المطاردة من الطرفين؛ و هي موجبة لاستحالة الترتب.

و كيف كان؛ فالإشكال على الترتب وارد على تقدير الإتيان بالمهم، و عصيان الأهم.

ص: 262

تحققه على تقدير عدم الإتيان به و عصيان أمره، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير مع ما هما عليه من المطاردة (1)، من جهة المضادة بين المتعلقين.

مع أنه (2) يكفي الطرد من طرف الأمر بالأهم، فإنه (3) على هذا الحال يكون طاردا لطلب الضد، كما كان في غير هذا الحال، فلا يكون له (4) معه أصلا بمجال.

إن قلت: (5) فما الحيلة فيما وقع كذلك من طلب الضدين في العرفيات ؟

=============

(1) أي: المطاردة الموجبة لاستحالة الترتب.

(2) غرضه: إثبات استحالة الترتب حتى بناء على الطرد من طرف واحد و هو طرف الأمر بالأهم؛ بأن لا يكون أمر المهم طاردا لأمر الأهم.

توضيح ذلك: أنه لو سلمنا عدم المطاردة بين الطرفين؛ بل من طرف أمر الأهم فقط فلنا أن نقول: باستحالة الترتب؛ لأن أمر الأهم يطرد طلب المهم على كل حال؛ سواء أتى بالأهم أم تركه، إذ المفروض: كون أمره فعليا مطلقا من دون اشتراطه بشيء، و الطرد من طرف واحد كاف في استحالة طلب الضدين؛ لعدم قدرة المكلف على امتثال الأمرين معا، فاستحالة طلب الضدين ليست منوطة بالمطاردة من الطرفين، حتى يقال: إن طلب المهم لا يطرد طلب الأهم، فلا يحكم بالاستحالة لعدم المطاردة.

(3) أي: الأمر بالأهم في حال عصيان أمره طارد لطلب الضد، كما كان طاردا له في غير حال العصيان لكون الأمر بالأهم فعليا مطلقا، و المراد بالحال في كلا الموردين هو: العصيان.

فالمتحصل: أن أمر الأهم طارد مع عرضية الطلبين و طوليّتهما.

(4) أي: فلا يكون للأمر بالمهم مع الأمر بالأهم مجال أصلا؛ لكفاية طرد الأهم فقط في الاستحالة من دون توقفها على طرد المهم للأهم أي: لا تتوقف الاستحالة على المطاردة و معنى طرد الأهم: أنه يكون مانعا لحدوث الأمر بالمهم. و من هنا ظهر: بطلان الإشكال على المصنف بأنه: لا يعقل أن يكون الطرد من طرف واحد.

(5) هذا هو الوجه الرابع لتصحيح طلب الضدين بنحو الترتب من القائلين به، فيقال في تقريب هذا الوجه: أن طلب الضدين بنحو الترتب قد وقع في العرف و الشرع كقول المولى: لعبده: «اذهب إلى المكتب و إلاّ فأكرم الضيوف»، و أمر الشارع بالسفر للجهاد و الدفاع عن الإسلام في رمضان، و بالصوم على تقدير ترك السفر، و هكذا.

و من المعلوم: أن وقوع الترتب في العرف أدل دليل على إمكانه، و معه فلا سبيل إلى إنكار الترتب و الالتزام باستحالته.

ص: 263

قلت: لا يخلو: (1) إما أن يكون الأمر بغير الأهم، بعد التجاوز عن الأمر به و طلبه حقيقة.

و إما أن يكون الأمر به إرشادا إلى محبوبيته و بقائه على ما هو عليه من المصلحة و الغرض لو لا المزاحمة، و أن الإتيان به يوجب استحقاق المثوبة، فيذهب بها بعض ما استحقه من العقوبة على مخالفة الأمر بالأهم؛ لا أنه (2) أمر مولوي فعلي كالأمر به (3) فافهم و تأمل جيدا (4).

ثم إنه (5) لا أظن أن يلتزم القائل بالترتب بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة

=============

(1) حاصل الجواب عن الدليل المذكور: أن ما ذكر و إن كان ظاهره وقوع الترتب؛ إلاّ إن الواجب صرفه عن ظاهره بعد قيام البرهان العقلي على استحالته، فإن الظاهر لا يقاوم البرهان العقلي على الامتناع، فلا بد من التوجيه. بأحد وجهين:

الأول: صدور الأمر بالمهم بعد الإغماض و رفع اليد عن أمر الأهم، ففي صورة عدم الإتيان لا أمر إلاّ أمر المهم، فليس هنا أمران بالضدين حتى يصح اجتماعهما على نحو الترتب، و لكن هذا خارج عما نحن فيه، و أجنبي عن الترتب المبحوث عنه، و هو:

اجتماع طلبين فعليين طوليين متعلقين بضدين في آن واحد، إذ المفروض: عدم الإغماض عن الأهم و بقاء الأمر به.

الثاني: عدم كون الأمر بالمهم في هذه الموارد مولويا، بل هو إرشادي؛ بأن يكون إرشادا إلى محبوبية متعلقه - و هو المهم - و بقائه بعد عصيان أمر الأهم على ما كان عليه من المصلحة، فليس هنا أمران مولويان فعليان متعلقان بالضدين، بل الأمر المولوي واحد و هو متعلق بالأهم. و هذا خارج عن محل الكلام.

(2) أي: ليس الأمر بالمهم مولويا فعليا - كالأمر بالأهم - حتى يلزم اجتماع طلبين مولويين فعليين متعلقين بالضدين في آن واحد - كما هو المراد من الترتب - حتى يكون اجتماعهما برهانا إنّيا على وقوع الترتب فضلا عن إمكانه.

(3) أي: كالأمر بالأهم في المولوية و الفعلية.

(4) قوله: «تأمل جيدا» تدقيقي من أجل تعقيبه بكلمة الجيد. هذا ما يقتضيه الذوق السليم من غير حاجة إلى الدليل و إقامة البرهان لتحصيل اليقين.

(5) الضمير للشأن. و هذا إشكال آخر على الترتب غير ما تقدم من الامتناع و الاستحالة.

و حاصل هذا الإشكال: أن لازم الترتب هو تعدد العقاب في صورة مخالفة كلا

ص: 264

مخالفة الأمرين لعقوبتين (1)؛ ضرورة: قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد، و لذا (2) كان سيدنا الأستاذ «قدس سره» لا يلتزم به على ما هو ببالي، و كنّا نورد به (3) على الترتب، و كان بصدد تصحيحه.

فقد ظهر: (4) أنه لا وجه لصحة العبادة مع مضادتها لما هو أهم منها إلاّ ملاك الأمر.

نعم؛ (5) فيما إذا كانت موسعة، و كانت مزاحمة بالأهم في بعض الوقت لا في الأمرين، فيلزم العقاب على ما لا يقدر عليه العبد، ضرورة: عدم قدرته على الجمع بين الضدين في آن واحد. و من البديهي: أن العقاب على غير المقدور قبيح عقلا، فيكون محالا من الحكيم. و بطلان اللازم - أعني: تعدد العقاب - كاشف عن بطلان الملزوم و هو الترتب.

=============

و كيف كان؛ فلا يمكن للقائل بالترتب الالتزام بلازمه و هو: تعدد استحقاق العقاب عند ترك الأهم و المهم معا؛ لما عرفت: من لزوم العقاب على أمر غير مقدور. و على هذا:

فلا سبيل إلى الالتزام بالترتب حتى يمكن تصحيح الضد العبادي به بناء على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده.

(1) أي: بأن تكون إحدى العقوبتين على ترك الأهم، و الأخرى: على ترك المهم.

(2) أي: لأجل كون الترتب مستلزما للعقاب على غير المقدور لم يلتزم السيد الشيرازي - و هو المحقق الميرزا الكبير «قدس سره» - بتعدد العقاب.

(3) أي: بهذا الإشكال، و كان السيد بصدد تصحيح الترتب بدفع هذا الإشكال.

و المتحصل: أن الترتب مستلزم للعقاب على غير المقدور، و هو قبيح. اللهم إلاّ إن يقال: إن المكلف بسوء اختياره أوجب التكليفين على نفسه و لا مانع عنه؛ لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار. فتدبر.

(4) أي: أن المصنف يستنتج من بطلان الترتب - لأجل الإشكالات الواردة عليه - عدم صحة ما فرعوه عليه من صحة العبادة المضادة للأهم، فينحصر تصحيحها بالملاك؛ من غير حاجة إلى الأمر حتى نلتزم بالترتب، و قد عرفت تصحيح العبادة بالملاك، فلا حاجة إلى ذكره في المقام، و تركنا ما في المقام من بسط الكلام في إحراز الملاك تجنبا عن التطويل الممل.

(5) هذا استدراك على ما تقدم من المصنف من: انحصار مصحح العبادة المضادة للأهم بالملاك و هو رجحانها الذاتي فهي صحيحة؛ لأن مصلحتها و رجحانيتها و عموديتها للدين محفوظة، و لا تذهب من البين لأجل مزاحمتها بالأهم.

ص: 265

تمامه (1) يمكن أن يقال: أنه حيث كان الأمر بها على حاله و إن صارت مضيقة بخروج ما زاحمه الأهم من أفرادها من تحتها؛ أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذاك الأمر، فإنه و إن كان خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها؛ إلاّ إنه (2) لمّا كان وافيا و حاصل الاستدراك: أنه يمكن تصحيح العبادة بالأمر في مورد خاص و هو: ما إذا كان المهم - كالصلاة - موسعا، و زوحم في بعض وقته بواجب أهم كإنقاذ غريق أو إطفاء حريق.

=============

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن للواجب الموسع - كالصلاة مثلا - أفراد عرضية، كالصلاة في المسجد و في البيت و في الحسينية، و أفراد طولية - كالصلاة في أول الوقت و آخر الوقت -.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن مزاحمتها بالواجب الأهم كإنقاذ الغريق إنما هي في بعض أفراد طولية كالصلاة في أول الوقت، و تلك المزاحمة توجب خروج ذلك البعض عن حيّز الأمر المتعلق بطبيعة المهم، فلا أمر بالنسبة إلى الأفراد المزاحمة، فيختص الأمر بالأفراد غير المزاحمة - و هي ما يمكن الإتيان به بعد زمان الأهم - فإذا عصى الأمر بالأهم و أتى بالمهم - بقصد الأمر المتعلق بغير الأفراد المزاحمة - صح الضد العبادي؛ مثلا: لو غرق مسلم أول الظهر، ثم ترك الشخص الإنقاذ و اشتغل بالصلاة حتى هلك الغريق فإنه يمكن أن يأتى بالصلاة بقصد الأمر المتعلق بها بعد وقت الأهم، فإن أمر الصلاة إنما سقط في أول الوقت مقدار زمان انقاذ الغريق، أما بعد عصيان أمر الأهم، و هلاك الغريق فالأمر بالمهم باق، فلا حاجة حينئذ إلى قصد الملاك لتصحيح الضد العبادي، كالصلاة مثلا.

(1) أي: لم تكن مزاحمة المهم بالأهم في تمام وقت المهم؛ إذ لو كانت المزاحمة في تمام الوقت سقط طلب طبيعة المهم رأسا للمزاحمة.

(2) أي: أن الفرد المزاحم لمّا كان وافيا بالغرض كالباقي تحت العبادة؛ كان مثل الباقي، يعني: كما يصح الإتيان بالأفراد غير المزاحمة لوفائها بغرض المولى، كذلك يصح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي أمر الطبيعة و إن كان خارجا عن دائرة الطبيعة بوصف كونها مأمورا بها، و لا تفاوت في نظر العقل بين الفرد المزاحم بالأهم، و بين غيره من الأفراد غير المزاحمة له في الوفاء بالغرض، و سقوط الأمر، و صحة الإتيان به بداعي أمر الطبيعة.

و كيف كان؛ فالمزاحمة لا توجب سقوط الأمر عن طبيعة المهم رأسا، بل توجب سقوطه عن الفرد المزاحم بالأهم، و صيرورة وقت المهم مضيقا لاختصاصه بغير وقت الأهم، فالأمر بسائر أفراد المهم - مما لا يزاحم - باق على حاله، فلا مانع من الإتيان بالمهم

ص: 266

بغرضها كالباقي تحتها كان عقلا مثله في الإتيان به في مقام الامتثال، و الإتيان به بداعي ذلك الأمر بلا تفاوت في نظره بينهما أصلا.

و دعوى: أن الأمر لا يكاد يدعو إلاّ إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها و ما زوحم منها بالأهم و إن كان من أفراد الطبيعة؛ لكنه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها فاسدة (1)؛...

=============

بداعي الأمر المتعلق بسائر أفراده مما ليس مزاحما للأهم، فإن الفرد المزاحم و إن كان خارجا عن حيّز طبيعة المهم بما هي مأمور بها؛ لكنه من أفرادها بما هي هي، و مما يفي بغرض المولى.

فحينئذ لا يفرق العقل بين هذا الفرد المبتلى بمزاحمة الأهم، و بين الأفراد غير المزاحمة في الوفاء بالغرض الداعي إلى الأمر الذي يسقط به، كسقوطه بغيره من الأفراد الباقية تحت الطبيعة.

و من هنا ظهر: الفرق بين الموسع و المضيق و هو الإتيان بالمهم بداعي الأمر إذا كان موسعا. أما لو كان مضيقا: فلا يمكن الإتيان به إلاّ بالملاك لسقوط الأمر به بالمرة لأجل مزاحمته بالأهم.

و لمّا كان هناك مظنة إشكال أشار إلى بيان دفعه بقوله: «و دعوى: أن الأمر لا يكاد يدعو...» إلخ.

و أما تقريب الإشكال: فيقال: إن أمر المولى لا يدعو العبد إلاّ إلى المأمور به، مثلا: إذا قال المولى لعبده: «اشتر اللحم» فيدعوه هذا الأمر إلى اشتراء اللحم، و لا يدعوه إلى اشتراء الخبز أو الكتاب. و المفروض في المقام: أن الفرد المزاحم ليس متعلقا للأمر حين مزاحمته للأهم و إن كان من أفراد الطبيعة؛ و لكن مجرد كونه من أفراد الطبيعة مع عدم أمر به لا يجدي في صحته المترتبة على الأمر؛ لاختصاصه بالأفراد غير المزاحمة، فلا يدعو إلى ما اختص به، و هو الفرد المزاحم، فلا يحصل الامتثال بإتيان الفرد المزاحم بقصد أمر الطبيعة.

(1) خبر قوله: «دعوى» و دفع لها.

و حاصل الدفع و توضيحه يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين خروج الفرد المزاحم عن طبيعة الصلاة؛ لأجل التخصيص، و بين خروجه عنها لأجل التزاحم بالأهم.

و ملخص الفرق: أن الخروج في الأول إنما هو عن الملاك و الخطاب معا، فالفرد الخارج يكون فاقدا للملاك و غير محصل للغرض، هذا بخلاف الثاني حيث يكون الخروج

ص: 267

فإنه (1) إنما يوجب ذلك إذا كان خروجه عنها بما هي كذلك تخصيصا لا مزاحمة، فإنه معها و إن كان لا تعمه الطبيعة المأمور بها إلاّ إنه ليس لقصور فيه، بل لعدم إمكان تعلق الأمر بما تعمه عقلا، و على كلّ حال: فالعقل لا يرى تفاوتا في مقام الامتثال، و إطاعة الأمر بها، بين هذا الفرد و سائر الأفراد أصلا (2). هذا (3) على القول بكون الأوامر متعلقة بالطبائع.

=============

خطابا لا ملاكا؛ إذ لا قصور في الملاك، بل المحذور يختص بمقام الامتثال لعدم القدرة على الجمع بين الضدين، فلا بد من رفع عن أحد الخطابين و هو المهم.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن خروج الفرد المزاحم عن دائرة الطبيعة المأمور بها يوجب عدم داعوية أمر الطبيعة بالنسبة إليه؛ إذا كان الخروج لأجل التخصيص دون المزاحمة، و المفروض: أن الخروج في محل الكلام إنما هو للتزاحم لا للتخصيص.

و كيف كان؛ فلا تفاوت بين الفرد المزاحم و غيره في الملاك و الوفاء بالغرض، و كان المانع عن شمول الطلب الفعلي المتعلق بالطبيعة مزاحمته للأهم، و مع وجود الملاك و الوفاء بالغرض صح الإتيان بداعي الأمر بالطبيعة؛ إذ لا تفاوت بنظر العقل الحاكم بوجوب الإطاعة بين هذا الفرد المزاحم و غيره في الوفاء بالغرض الداعي إلى الأمر؛ و إن لم يتعلق به الأمر لأجل التزاحم.

(1) أي: خروج الفرد المزاحم عن تحت الأمر «إنما يوجب ذلك» أي: عدم صحة الإتيان به بداعي الأمر، «إذا كان خروجه عنها» أي: عن الطبيعة «بما هي كذلك» أي:

مأمور بها «تخصيصا» أي: حتى لا يكون ملاك الأمر موجودا في الفرد الخارج «لا مزاحمة» أي: بأن يكون الملاك موجودا في الفرد المزاحم.

(2) أي: لكون الفرد المزاحم كغيره في الفردية للطبيعة، و المحصلية للغرض لوجود الملاك فيه.

(3) أي: جواز الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة «على القول بتعلق الأمر بالطبيعة واضح، و أما على القول بتعلق الأوامر بالفرد فأيضا واضح؛ لأن هذا الفرد مشترك مع سائر الأفراد في الوفاء بالغرض، و الاشتمال على المصلحة، فلا يمتنع عقلا أن يؤتى بهذا الفرد بداعي الأمر المتعلق بسائر الأفراد، و هذا ما أشار إليه المصنف «قدس سره»:

«و أما بناء على تعلقها بالأفراد، فكذلك» يعني: يصح الإتيان بالفرد المزاحم للأهم بدعوة الأمر المتعلق بغيره على القول بتعلق الأوامر بالأفراد أيضا؛ و ذلك لأن المناط - و هو كون المأتي به واجدا لما هو ملاك الأمر مع عدم كونه مأمورا به - متحقق على كلا القولين.

و إنما الفرق بينهما هو: أن المأمور به بناء على تعلق الأوامر بالأفراد مباين للفرد

ص: 268

و أما بناء على تعلقها بالأفراد فكذلك، و إن كان جريانه عليه أخفى، كما لا يخفى، فتأمل (1).

ثم لا يخفى: أنه بناء على إمكان الترتب و صحته (2)، لا بد من الالتزام بوقوعه من دون انتظار دليل آخر عليه، و ذلك لوضوح: أن المزاحمة على صحة الترتب لا تقتضي عقلا إلاّ امتناع الاجتماع في عرض واحد، لا كذلك (3)، فلو قيل (4) بلزوم المزاحم، فلا ينطبق عليه أصلا، بل يقوم مقامه لوفائه بغرض واحد يقوم بكل واحد من الأفراد المتباينة؛ نظير الملاك الواحد القائم بكل واحد من أفراد التخييري و أما بناء على تعلق الأوامر بالطبائع: فليس المأمور به مباينا للفرد المزاحم، بل يشمله لكون الفرد المزاحم من أفراده بما هو هو و إن لم يكن من أفراده بما هو مأمور به. و هذا الفارق أوجب كون جريان القول بصحة الفرد المزاحم - بناء على القول بتعلق الأوامر بالأفراد - أخفى من جريانه على القول بتعلقها بالطبائع، لأن داعوية الأمر المتعلق بفرد لفرد آخر أخفى من داعوية الأمر بالطبيعة للفرد.

=============

(1) لعله إشارة إلى ما تقدم من: أن وجود الملاك في الفرد الخارج عن تحت الأمر لا يصحح الإتيان بذاك الفرد بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة أو بفرد آخر، و ليس هذا إلاّ من قبيل الإتيان بصلاة الصبح بداعي الأمر المتوجه إلى صلاة الظهر مثلا؛ لوجود الملاك و هو: المعراجية مثلا، فالأمر بالتأمل حينئذ إشارة: إلى صحة ما تقدم من قوله: «و دعوى إن الأمر لا يكاد يدعو إلاّ إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها».

(2) أي: صحة الترتب.

و الغرض من هذا الكلام: بيان ما هو المهم في بحث الترتب؛ و هو: إثبات إمكانه.

و أما وقوعه فلا حاجة إلى البحث عنه، بل إمكانه مساوق لوقوعه؛ لأن المفروض: وجود الخطابين المتزاحمين في الشرعيات، كالأمر بالصلاة، و إنقاذ الغريق المؤمن، و المزاحمة لا تقتضي عقلا إلاّ امتناع اجتماع المتزاحمين عرضا لا طولا - كما هو قضية الترتب - فإن جعل أحدهما في طول الآخر رافع لهذا المحذور العقلي. فبناء على إناطة صحة العبادة بالأمر، و عدم كفاية مجرد الملاك في صحتها - كما هو مبنى القائلين ببطلان الترتب و عدم معقوليته - كانت العبادة مأمورا بها بأمر فعلي موجب لصحتها، كما في «منتهى الدراية»، ج 2، ص 492.

(3) أي: لا بنحو الترتب. بمعنى: إن العقل لا يحكم بامتناع الاجتماع على نحو الترتب و الطولية، إنما يحكم بامتناع الاجتماع على نحو العرضية.

(4) أي: كما نسب إلى القدماء، و اختاره غير واحد من متأخري المتأخرين.

ص: 269

الأمر في صحة العبادة، و لم يكن في الملاك كفاية، كانت العبادة مع ترك الأهم صحيحة لثبوت الأمر بها في هذا الحال (1)، كما إذا لم تكن هناك مضادة.

=============

(1) أي: حال ترك الأهم - بناء على القول بالترتب - فإن الأمر في هذه الصورة متحقق كثبوته حال عدم ابتلائه بمزاحمة الضد الأهم. هذا تمام الكلام في بحث الترتب، و تركنا ما في المقام من بسط الكلام رعاية للاختصار المطلوب في المقام.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان الغرض من الترتب؛ و محل النزاع منه، و بيان أقسامه:

الغرض منه هو: تصحيح الضد العبادي حتى على القول بتوقف صحة العبادة على الأمر، و عدم كفاية الملاك و المحبوبية في قصد التقرب المعتبر في العبادة.

و محل النزاع منه هو: الترتب بمعناه المصطلح عند الأصوليين، يعني: تعلق الأمر بالضد بنحو الترتب كالأمر بالصلاة مترتبا على عصيان الأمر بالإزالة؛ بأن يقال: «أزل النجاسة و إن عصيت فصل». أما تصوير أقسامه فيما إذا كان أحد الضدين أهمّ من الآخر: فقد أشار إليه المصنف بقوله: «بنحو الشرط المتأخر...» إلخ.

الأول: أن يكون المهم مترتبا على عصيان الأمر بالأهم بنحو الشرط المقارن؛ كأن يقول المولى: «أزل النجاسة و ان عصيت فصلّ مقارنا للعصيان».

الثاني: أن يكون الأمر بالمهم مترتبا على أمر الأهم بنحو الشرط المتقدم. كأن يقول:

«أزل النجاسة و إن عصيت فصلّ بعده».

الثالث: أن يكون أمر المهم مترتبا على أمر الأهم بنحو الشرط المتأخر؛ كأن يقول:

«أزل النجاسة و إن عصيت بعد فصلّ »، و كذلك البناء على معصية أمر الأهم أو العزم عليها، و بعض هذه الأقسام - كالأول و الثاني - خارج عن محل الكلام لسقوط الأمر بالأهم بالعصيان، فلا يلزم اجتماع الأمر بالضدين في آن واحد.

2 - و قد أنكر المصنف «قدس سره» الترتب بأنه مستلزم للمحال، و هو طلب الضدين في زمان واحد و هو في الاستحالة كاجتماع الضدين.

أما تقريب لزوم طلب الضدين في عرض واحد فحاصله: أن ملاك الاستحالة - أعني:

فعلية الأمرين - موجود في طلب الضدين بنحو الترتب.

أما فعلية أمر المهم: فلأجل حصول شرطه - و هو عصيان أمر الأهم - أما فعلية أمر الأهم؛ فلأن طلبه مطلق فيكون موجودا في مرتبة طلب المهم، و لا يسقط أمره بمجرد

ص: 270

فرض حصول المعصية أو العزم عليها فيما بعد؛ ما لم تتحقق المعصية.

توهم الفرق بين الامتناع بالذات، و الامتناع بالاختيار؛ باستحالة الأول دون الثاني مدفوع؛ بأن ما يقال: من أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا لا تكليفا، فطلب الضدين محال مطلقا؛ بلا فرق بين أن يكون الامتناع بسوء الاختيار أم بغيره؛ لأن منشأ المحال هو: طلب الجمع بين الضدين موجود في الصورتين.

3 - توهم الفرق بين طلب الضدين في عرض واحد، و بين طلبهما على نحو الترتب فالمحال هو الأول دون الثاني مدفوع، بأنه لا فرق بين الطلبين في المطاردة و لزوم الاستحالة؛ لأن المطاردة الناشئة من فعلية الطلبين و تضاد المتعلقين موجودة في كلتا الصورتين كما عرفت.

فالمتحصل: هو استحالة الترتب.

و توهم: وقوع الترتب في العرفيات؛ مثل قول المولى لعبده: «اذهب إلى المدرسة و إلاّ فأكرم الضيوف» مردود بكونه مخالفا للبرهان العقلي على الامتناع، فلا بدّ من توجيه ذلك بأحد وجهين:

أحدهما: إن صدور الأمر بالمهم إنما هو بعد الإغماض، و رفع اليد عن أمر الأهم، فليس هنا إلاّ الأمر بالمهم، فيخرج عن موضوع الترتب.

ثانيهما: حمل أمر المهم على الإرشاد إلى بقاء متعلقه على ما هو عليه من المصلحة، فيخرج أيضا عن محل الكلام؛ لأن الترتب إنما هو بين الأمرين المولويين.

4 - القائل بالترتب لا يمكنه أن يلتزم بما هو لازم الترتب؛ و هو تعدد العقاب في صورة مخالفة كلا الأمرين؛ لأن تعدد العقاب مستلزم للعقاب على ما هو خارج عن قدرة العبد؛ ضرورة: عدم قدرته على الجمع بين الضدين في زمان واحد، و بطلان اللازم كاشف عن بطلان الملزوم.

فالمتحصل من الإشكالات الواردة على الترتب: بطلان ما فرعوه عليه من صحة العبادة المضادة للأهم، فينحصر تصحيحها بالملاك من دون الحاجة إلى الأمر.

5 - يمكن تصحيح الضد العبادي بالأمر في بعض الموارد و هو: ما إذا كان المهم واجبا موسعا كالصلاة، و زوحم بعض وقته بواجب أهم كإنقاذ المسلم من الغرق، فحينئذ إذا أتى بالمهم عند ترك الأهم بقصد الأمر المتعلق بالطبيعة صح الضد العبادي؛ إذ لا فرق بنظر العقل بين الفرد المزاحم و غيره في الوفاء بالغرض الداعي إلى الأمر، و هذا على القول

ص: 271

بتعلق الأوامر بالطبائع واضح؛ لاشتراك جميع الأفراد في الطبيعة المأمور بها.

أما على القول بتعلقها بالأفراد: فغير واضح لتباين الفرد المزاحم للفرد المأمور به. غاية الأمر: يقوم الفرد المزاحم مقام الفرد المأمور به لوفائه بالغرض.

و دعوى: أن أمر المولى لا يدعو العبد إلاّ إلى المأمور به، و المفروض: أن الفرد المزاحم ليس مأمورا به من أفراد الطبيعة، لكن مجرد كونه من أفرادها مع عدم الأمر به لا يجدي في صحته المترتبة على الأمر مدفوعة؛ بالفرق بين خروج الفرد عن الطبيعة المأمور بها بالمزاحمة، أو التخصيص؛ حيث إن خروجه عن دائرة الطبيعة المأمور بها بالمزاحمة لا يوجب عدم داعوية أمر الطبيعة بالنسبة إلى الفرد المزاحم، و إنما يوجب ذلك إذا كان الخروج تخصيصا، و المفروض: أن الخروج في المقام إنما للمزاحمة لا للتخصيص.

فالمتحصل: إنه لا فرق بنظر العقل بين الفرد المزاحم و غيره في الملاك، و الوفاء بالغرض، و مع وجود الملاك و الوفاء بالغرض صح الإتيان بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة.

قوله: «تأمل» لعله إشارة إلى صحة الإشكال بقوله: «و دعوى: إن الأمر لا يكاد يدعو إلاّ إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها»؛ لأن وجود الملاك في الفرد المزاحم - مع خروجه عن تحت الأمر - لا يصحح الإتيان بذاك الفرد بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة، أو بفرد آخر.

6 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو: بطلان الترتب.

ص: 272

لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه، خلافا لما نسب إلى أكثر مخالفينا،

=============

فصل في أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

اشارة

و قبل الدخول في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام في المقام توضيح ذلك يتوقف على تقديم أمور:

1 - المراد بالجواز في عنوان البحث هو: الجواز بمعنى الإمكان؛ لا الجواز بمعنى الإباحة و الترخيص.

2 - المراد بالإمكان هو: الإمكان الوقوعي في مقابل الامتناع الوقوعي لا الإمكان الذاتي في مقابل الامتناع بالذات.

و الفرق بينهما كالشمس في رابعة النهار؛ و هو: أن الإمكان الوقوعي يرجع إلى عدم استلزام وجود الشيء للمحال؛ بحيث لا يترتب على وجوده محذور من لزوم خلف أو دور أو نحو ذلك.

و الإمكان الذاتي يرجع إلى كون الشيء في حد نفسه ممكن غير ممتنع الوجود، فالإمكان الوقوعي ما لا يستلزم المحال، و الإمكان الذاتي ما ليس بمحال في نفسه، و المقصود هو الإمكان الوقوعي دون الذاتي، إذ لم يقل أحد بعدم الإمكان الذاتي، يعني:

كون الأمر مع العلم بانتفاء الشرط في نفسه محالا كاجتماع النقيضين.

3 - المراد بالشرط: هو شرط الأمر - الوجوب - لا شرط المأمور به - الواجب - الشاهد على ذلك: قول المصنف «نعم؛ لو كان المراد من لفظ الأمر، الأمر ببعض مراتبه، و من الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الأخرى».

نعم؛ يظهر من المحقق العراقي، و صاحب المعالم: أن المراد بالشرط: شرط وجود المأمور به. «نهاية الأفكار ج 1-2، ص 378»، «معالم الدين، ص 222».

ثم المراد من شرط الأمر ليس مطلق شرط الوجوب؛ كالوقت بالنسبة إلى الصلاة، بل هو خصوص القدرة و التمكن من المأمور به. يعني: هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء قدرة المكلف على الفعل أم لا؟

ص: 273

ضرورة (1): أنه لا يكاد يكون الشيء (2) مع عدم علته - كما هو المفروض هاهنا - فإن (3) الشرط من أجزائها، و انحلال المركب بانحلال بعض أجزائه مما لا يخفى.

و كون (4) الجواز في العنوان بمعنى الإمكان الذاتي (5) بعيد (6) عن محل الخلاف بين الأعلام.

=============

إذا عرفت هذه الأمور فيتضح لك: ما هو محل الكلام في المقام، حيث إن المقصود من الجواز هو: الإمكان الوقوعي، و من الشرط هو: شرط الأمر و الوجوب و خصوص القدرة على الفعل، لأنها من الشرائط العامة للتكاليف الشرعية. ذهب المصنف إلى عدم الجواز يعني:

عدم الإمكان وقوعا؛ لاستلزامه حصول المعلول من دون علته و هو خلف، و ذلك لأن الشرط من أجزاء العلة، فحصول الأمر مع عدم الشرط يكون من وجود المعلول بلا علة، و هو خلاف فرض العلية. و بعبارة أخرى: أن المراد بالأمر هو البعث الفعلي إلى متعلقه، و فعلية البعث متوقفة على علتها التامة التي من أجزائها الشرط، فمع العلم بانتفاء الشرط لا يتحقق إنشاء البعث الفعلي. فالقول بالجواز المستلزم لتحقق المشروط من دون شرطه مساوق لجواز وجود المعلول بلا علة، و هو خلف. هذا خلافا لأكثر العامة؛ فإنهم جوّزوا الأمر مع العلم بانتفاء الشرط. كما أشار إليه بقوله: «خلافا لما نسب إلى أكثر مخالفينا».

(1) تعليل لقوله: «لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه».

و ملخص التعليل: أن القول بالجواز مستلزم لما لا يمكن الالتزام من وجود شيء بلا علة، و هو خلف، كما عرفت.

(2) يعني لا يوجد الشيء - أعني: الأمر - مع عدم علته.

(3) تعليل لكون المفروض هنا وجود الشيء بدون علته.

و حاصل التعليل: أن الشرط المنتفي يكون من أجزاء العلة، فيلزم من جواز الأمر بدونه وجود المعلول بلا علة، إذ لا فرق في انتفاء العلة بين انتفائها بانتفاء جميع أجزائها أو بعضها؛ كانتفاء الشرط في محل الكلام.

(4) قوله: «و كون الجواز...» إلخ دفع لما يقال: من أن الأمر و إن كان لا يوجد مع 7 انتفاء علته التامة إلاّ إنه ممكن ذاتا؛ لأن الامتناع الناشئ عن عدم العلة لا ينافي الإمكان الذاتي؛ لما تقرر في محله من عدم التنافي بين الإمكان الذاتي و بين الامتناع بالغير، فحينئذ يصح أن يقال: يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه بمعنى: أنه يمكن في ذاته و إن كان ممتنعا بالنظر إلى انتفاء شرطه.

(5) فمعنى العنوان: هل يمكن ذاتا أمر الآمر بشيء مع علمه بانتفاء شرطه أم لا؟

(6) خبر لقوله: «و كون الجواز...» إلخ، و دفع «لما يقال...» إلخ.

ص: 274

نعم؛ (1) لو كان المراد من لفظ الأمر: الأمر ببعض مراتبه، و من الضمير الراجع إليه و حاصل الدفع: أن جعل الجواز في العنوان بمعنى الإمكان الذاتي «بعيد عن محل الخلاف بين الأعلام»، إذ لا شك في إمكان الأمر ذاتا مع العلم بانتفاء الشرط؛ لبداهة:

=============

أن الأمر بالنظر إلى ذاته ممكن لا مانع منه عقلا. فلا وجه لأن يجعل موردا للخلاف و النزاع، فلا بدّ من أن يكون المراد بالإمكان الإمكان الوقوعي، لا الذاتي، فمعنى العنوان حينئذ هل يمكن وقوع أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه أم لا؟

(1) استدراك على قوله: «لا يجوز أمر الآمر...» إلخ.

و حاصل الاستدراك: أنه يمكن الالتزام بجواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه، فيما إذا أريد من لفظ الأمر بعض مراتبه - و هو الإنشاء - و من ضمير - شرطه - الراجع إليه:

بعض مراتبه الآخر و هي الفعلية.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن للأمر - على مذهب المصنف - مراتب:

الأولى: الاقتضاء يعني: المصالح و المفاسد الواقعية التي تقتضي الأحكام الإلزامية على مذهب الحق و هو مذهب العدلية.

الثانية: مرتبة الإنشاء: و هي إنشاء الحكم على طبق المصالح أو المفاسد.

الثالثة: مرتبة الفعلية: و هي الأحكام بعد بيانها و قبل علم المكلفين بها.

الرابعة: مرتبة التنجّز: و هي بعد بلوغ الأحكام إلى المكلفين و علمهم بها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل النزاع حينئذ هو: أنه هل يجوز للآمر الأمر الإنشائي مع علمه بعدم شرطه فعليته أم لا؟ بأن يكون المراد من لفظ الأمر في عنوان البحث: مرتبة إنشائه، و من الضمير الراجع إليه في لفظ شرطه: مرتبة فعليته على سبيل الاستخدام؛ إذ تحرير محل النزاع على هذا النحو لا بأس به. و الحق حينئذ: جوازه إذ لا محذور في نفس الإنشاء مع عدم شرط فعليته كقوله: «حج إن استطعت»، حيث إنه ليس بداعي البعث الجدّي حتى يقبح ذلك على الحكيم، أو يمتنع للزوم وجود المعلول بدون علته التامة، لأن ذلك إنما يلزم إذا أريد بالأمر البعث الفعلي.

و أما إذا أريد به مجرد الإنشاء، فلا محذور فيه أصلا لكثرة الأغراض الداعية إلى الإنشاء، و عدم انحصار الغرض منه في كونه بداعي الجد و إن كان ذلك هو الغالب في أوامر الموالي، و لذا ينصرف إليه إطلاق الأمر، لكنه أجنبي عن مقام الثبوت المبحوث عنه؛ إذ التمسك بالإطلاق إنما هو في مقام الإثبات.

و كيف كان؛ فالنزاع في جواز إنشاء الأمر مع علم الآمر بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعلية، و قد عرفت: أن البعث و التحريك الإنشائي مع العلم بفقد شرط فعليته جائز، إذ لا محذور فيه.

ص: 275

بعض مراتبه الأخر، بأن يكون النزاع في أن أمر الآمر يجوز إنشاؤه مع علمه بانتفاء شرطه، بمرتبة فعليّته (1).

و بعبارة أخرى: كان النزاع في جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعلية، لعدم شرطه لكان (2) جائزا.

و في وقوعه (3) في الشرعيات و العرفيات غنى و كفاية، و لا يحتاج معه إلى مزيد بيان أو مئونة برهان.

و قد عرفت (4) سابقا: أن داعي إنشاء الطلب لا ينحصر بالبعث و التحريك جدا

=============

(1) بأن ينشئ الحكم مع العلم بأنه لا يصير فعليا بالنسبة إلى المكلف لفقدان شرط فعليته.

(2) جواب - لو - في قوله: «لو كان المراد من لفظ الأمر الأمر ببعض مراتبه».

(3) يعني في وقوع الأمر الإنشائي من دون بلوغه إلى الفعلية «في الشرعيات» كموارد الطرق و الأمارات التي هي على خلاف الواقع، فإن الواقعيات محفوظة في مقام الإنشاء، و لكنها لم تصل إلى مرتبة الفعلية لعدم قيام الحجة عليها، بل و كالأحكام الإنشائية التي لم تصل إلى الفعلية في أوائل البعثة، بل إلى الآن مما أودع عند الحجة «صلوات اللّه عليه». «و العرفيات» كالأوامر العامة للحكومات التي تشمل بلفظها جميع الأفراد مع عدم وصولها إلى مرتبة الفعلية بالنسبة إلى بعض؛ لعدم قيام الحجة عنده «غنى و كفاية» لإثبات إمكان الأمر الإنشائي مع عدم الوصول إلى الفعلية.

«و لا يحتاج معه» أي: مع وقوعه في الشرعيات و العرفيات «إلى مزيد بيان أو مئونة برهان»، لأن أدل الدليل على الشيء وقوعه في الخارج. كما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 2، ص 258».

(4) يعني: قد عرفت في المبحث الأول في معاني صيغة الأمر: أن الأمر دائما يستعمل في الطلب الإنشائي، و الاختلاف إنما هو في دواعي الإنشاء، فتارة: يكون الداعي إلى ذلك الطلب هو الطلب الحقيقي الجدّي، و أخرى: امتحان العبد، و ثالثة:

التسخير أو التعجيز إلى غير ذلك من دواعي الإنشاء.

و المتحصل من مجموع كلام المصنف في هذا المقام: أنه يمكن تصوير النزاع على وجوه ثلاثة:

الأول: إنه هل يجوز التكليف بغير المقدور أم لا؟ و هو الذي اختلف فيه العدلية و الأشاعرة و لعل صدر عنوان البحث ناظر إلى هذا الوجه بقرينة التعليل بقوله: «ضرورة:

ص: 276

حقيقة، بل قد يكون صوريا امتحانا، و ربما يكون غير ذلك، و منع (1) كونه أمرا إذا لم يكن بداعي البعث جدا واقعا و إن كان في محله؛ إلاّ إن إطلاق الأمر عليه، إذا كانت هناك قرينة على أنه بداع آخر غير البعث توسعا، مما بأس به أصلا، كما لا يخفى.

و قد ظهر بذلك (2): حال ما ذكره الأعلام في المقام من النقض و الإبرام و ربما يقع إنه لا يكاد...» إلخ. فيكون المراد: أن أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه كقدرة العبد - التي هي شرط للأمر و المأمور به - هل يجوز أم لا؟

=============

الثاني: أنه هل يجوز الأمر أي: إنشاؤه مع علم الآمر بعدم شرط فعليته أم لا؟ و قد أشار إليه المصنف بقوله: «نعم لو كان المراد...» إلخ.

الثالث: أنه هل يجوز إنشاء الأمر و إن لم يكن الغرض منه إتيان المأمور به، بل مصلحة أخرى من امتحان أو غيره أم لا؟ و قد أشار إليه المصنف بقوله: «و قد عرفت سابقا: أن داعي إنشاء الطلب...» إلخ، لكن مرجعه إلى الوجه الثاني، و لذا لم يجعله المصنف وجها مستقلا؛ إلاّ إن الحق سقوط هذا البحث عن الاعتبار - بناء على ما هو الحق من كون الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقية - لأنه بعد فرض رجوع جميع الشرائط إلى الموضوع سواء كانت شرعية كالبلوغ من الشرائط العامة و الاستطاعة و نحوها من الشرائط الخاصة، أم عقلية كالقدرة لا يتوجه أمر إلى عاجز حتى ينازع في صحته و عدمها.

نعم؛ لهذا البحث مجال - بناء على كون الأحكام الشرعية من القضايا الخارجية - لأنه حينئذ يصح أن يقال: هل يجوز أمر العاجز عن إيجاد شيء بالإتيان به أم لا؟ كما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 519».

(1) قوله: «و منع كونه أمرا...» إلخ دفع للتوهم.

و حاصل التوهم: أن الأمر المنشأ بغير داعي البعث الجدي ليس أمرا حقيقة، فلا ينبغي جعل عنوان البحث في قولهم: «هل يجوز أمر الآمر...» إلخ؛ الأمر المنشأ بغير داعي البعث الجدي، فمرجع هذا التوهم إلى الإشكال على تحرير محل النزاع على الوجه المزبور، و هو جعل الأمر إنشائيا.

و حاصل الدفع: أن يقال: إن الأمر و إن كان كذلك إلاّ إن إطلاق الأمر عليه توسعا لا بأس به؛ إذا كانت هناك قرينة دلت على أن إنشاء الأمر إنما هو بداع آخر غير البعث الجدي.

(2) يعني: ظهر بالذي ذكرناه في تحرير محل النزاع - من كون المراد من لفظ الأمر بعض مراتبه - «حال ما ذكره الأعلام...» إلخ.

ص: 277

به (1) التصالح بين الجانبين، و يرتفع النزاع من البين، فتأمل (2) جيدا.

=============

و غرض المصنف من هذا الكلام: التنبيه على ما وقع في كلمات الأعلام من الخلط بين مراتب الأمر، و الاشتباه بين شرط المأمور به المسمى بشرط الوجود، و بين شرط الأمر المسمى بشرط الوجوب.

(1) يعني: بما ذكرنا من أول الفصل إلى هنا يقع التصالح بين القائل بالجواز، و القائل بعدمه، بتقريب: أن مراد القائل بالجواز هو الأمر الإنشائي، إذ لا مانع من مجرد الإنشاء مع فقدان شرط فعليته، و مراد القائل بعدم الجواز: هو الأمر الفعلي؛ فإنه لا يجوز مع فقدان شرط فعليته، و بهذا البيان يرتفع النزاع من البين حيث يكون لفظيا.

(2) لعله إشارة إلى الدقة لئلا يقع الخلط و الاشتباه بين ما هو شرط المأمور به و ما هو شرط الأمر، أو إشارة إلى إباء بعض عباراتهم عن الحمل على الأمر الإنشائي؛ لكون استدلالاتهم ناظرة إلى الأمر الفعلي.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - المراد بالجواز في عنوان البحث: هو الجواز بمعنى الإمكان الوقوعي. و المراد بالشرط: هو شرط الأمر لا شرط المأمور به؛ بقرينة قوله: «نعم؛ لو كان المراد من لفظ الأمر...» إلخ.

قال المصنف: بعدم الجواز، يعني: عدم الإمكان وقوعا؛ لاستلزامه حصول المعلول بلا علة، و هو خلف و محال. و ذلك؛ لأن الشرط المنتفي من أجزاء العلة، فيلزم - من جواز الأمر مع العلم بانتفاء الشرط - وجود المعلول بلا علة، و هو ما ذكرناه من الخلف المحال.

و توهم: كون الجواز في العنوان بمعنى: الإمكان الذاتي فلا ينافي الامتناع الناشئ من فقدان الشرط بعيد؛ إذ لا ارتياب في الإمكان الذاتي، فلا وجه لأن يجعل موردا للخلاف و النزاع، فلا بدّ من أن يكون المراد بالإمكان: الإمكان الوقوعي لا الذاتي، فيقع فيه الخلاف: هل يمكن أمر الآمر وقوعا مع علمه بانتفاء شرطه أم لا؟

2 - قوله: «نعم؛ لو كان المراد من لفظ الأمر...» إلخ استدراك على قوله: «لا يجوز أمر الآمر...» إلخ.

و حاصل الاستدراك: أنه يمكن الالتزام بجواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه، فيما إذا أريد من لفظ الأمر الأمر ببعض مراتبه - و هو الإنشاء - و من ضمير - شرطه - الراجع إليه بعض مراتبه الأخر و هي الفعلية. فيقع النزاع حينئذ في: أنه هل يجوز للآمر الأمر

ص: 278

الإنشائي مع علمه بعدم شرط فعليته أم لا؟ و الحق حينئذ هو: الجواز؛ إذ لا محذور عقلا في نفس الإنشاء مع عدم شرط فعليته، مع وقوعه في الشرعيات و العرفيات، فإن وقوع الشيء أقوى دليل عليه.

3 - توهم: أن المنشأ بغير داعي البعث الجدّي ليس أمرا حقيقة، فلا ينبغي جعل عنوان البحث في قولهم: - «هل يجوز أمر الآمر...» إلخ - الأمر المنشأ بغير داعي البعث الجدّي، فمرجع هذا التوهم إلى الإشكال على تحرير محل النزاع على الوجه المذكور مدفوع؛ بأن الأمر - و إن كان كذلك - إلاّ إن إطلاق الأمر عليه توسعا لا بأس به إذا دلت قرينة على أن إنشاء الأمر إنما هو بداعي آخر غير البعث الجدّي.

و كيف كان؛ فيمكن التصالح بين القائل بالجواز، و القائل بعدمه؛ بأن يكون مراد الأول: هو الأمر الإنشائي، و مراد الثاني: هو الأمر الفعلي؛ إذ لا مانع من الإنشاء مع فقدان الشرط في الأمر الإنشائي، و لا يجوز الأمر الفعلي مع فقدان شرط فعليته، فيرتفع النزاع من البين.

قوله: «فتأمل جيدا» لعله إشارة إلى إباء بعض عباراتهم عن الحمل على الأمر الإنشائي؛ لكون استدلالاتهم ناظرة إلى الأمر الفعلي.

4 - رأي المصنف «قدس سره» هو: عدم الجواز مع وحدة المرتبة.

يعني: لا يجوز الأمر الفعلي مع العلم بانتفاء شرط الفعلية. و الجواز مع اختلاف المراتب. يعني: يجوز الأمر الإنشائي مع العلم بانتفاء شرط فعليته.

ص: 279

ص: 280

الحق: أن الأوامر و النواهي تكون متعلقة بالطبائع دون الأفراد، و لا يخفى: أن المراد (1) أن متعلق الطلب في الأوامر هو صرف الإيجاد كما أن متعلقه في النواهي هو: محض

=============

فصل الأوامر تتعلق بالطبائع أو الأفراد؟

اشارة

(1) قد نبّه المصنف بهذه العبارة على أمرين:

أحدهما: أنه ليس البحث في المقام - كما يوهمه العنوان - في متعلق الأوامر و النواهي، فإن متعلقهما هي الطبائع بلا إشكال؛ لدلالة الأمر و النهي على الوجود و العدم، فإن الأمر معناه: طلب الوجود، و النهي: طلب الترك. و من المعلوم: أن متعلق هذين المدلولين هو الطبائع، فمعنى: «صلّ و لا تشرب الخمر» طلب وجود طبيعة الصلاة، و طلب ترك طبيعة شرب الخمر؛ بل البحث في متعلق الطلب الذي هو جزء مدلولي الأمر و النهي، و في أن متعلق هذا الطلب هل هو الطبيعة أو الفرد؟

و ثانيهما: أن مراد القائلين بتعلق الأوامر و النواهي بالأفراد: ليس تعلقهما بالموجودات الخارجية، ضرورة: أن الموجود الخارجي مسقط للأمر، فكيف يتعلق به الأمر؟ كما أن مراد القائلين بالطبائع ليس هو الطبائع الصرفة من حيث هي، في قبال الطبائع من حيث الوجود؛ لأن الطبائع مع قطع النظر عن وجودها غير قابلة لتوجيه الطلب إليها، بل المراد:

هي الطبائع من حيث مطلق الوجود، مع قطع النظر عن ضم الخصوصيات الخارجية إليها.

و من هنا ظهر: ما هو المراد بالطبائع و الأفراد في محل النزاع. فالمراد بالطبائع: أن المطلوب منها وجودها السعي بما هو وجود لا بما هو فرد.

و المراد بالأفراد: وجود الطبيعة مع اللوازم و الخصوصيات الوجودية، التي بها يكون الفرد فردا لها.

فالفرق بين القولين أن للخصوصيات الفردية دخل في متعلق الطلب على القول بتعلقها بالأفراد، و ليس لها دخل فيه على القول بتعلقها بالطبائع.

فالمتحصل: أن مرجع النزاع في هذه المسألة إلى: أن الأوامر هل تتعلق بالطبائع مع قطع النظر عن مشخصاتها، و لوازم وجوداتها في الخارج؛ بحيث تكون تلك المشخصات

ص: 281

الترك، و متعلقهما (1) هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود (2)، و المقيدة بقيود، تكون بها موافقة للغرض و المقصود، من دون تعلق غرض بإحدى الخصوصيات اللازمة للوجودات، بحيث لو كان الانفكاك عنها (3) بأسرها ممكنا؛ لما كان ذلك مما يضر بالمقصود أصلا، كما هو الحال في القضية الطبيعية في غير الأحكام (4)، بل في المحصورة (5). على ما حقق في و اللوازم خارجة عن دائرة متعلقاتها، و إنما هي موجودة معها قهرا، لاستحالة كون الشيء موجودا بلا تشخص - نظرا إلى قاعدة - (الشيء ما لم يتشخص لم يوجد)، أو تتعلق بالأفراد مع تلك المشخصات؛ بحيث تكون المشخصات مقومة للمطلوب داخلة في دائرة المتعلقات ؟. فالكلام حقيقة في دخل تلك الخصوصيات و عدمه في متعلق الطلب، فعلى القول بدخلها فيه: يكون متعلقه الأفراد، و على القول بعدمه: يكون المتعلق الطبائع.

=============

(1) أي: الإيجاد و الترك، و الأول: في الأمر، و الثاني: في النهي.

(2) أي: بحدود ذاتية؛ كالحيوان الناطق مثلا بالنسبة إلى الإنسان، «و المقيدة بقيود» خارجية؛ كالضاحكية بالنسبة إلى الإنسان، تكون الطبيعة بها أي: بسبب هذه المقوّمات و الخواص «موافقة للغرض و المقصود» مثلا، فلو لم يكن الإنسان ناطقا أو ضاحكا لم يكن موافقا للغرض فرضا، «من دون تعلق غرض بإحدى الخصوصيات اللازمة للوجودات» كالطول في زيد، و القصر في عمرو مثلا.

فقول المولى: «صلّ الظهر» لا يريد إلاّ حقيقة الصلاة المحدودة بكذا، و المقيدة بقيد الظهرية، و لا يريد الخصوصيات الفردية، ككونها في البيت، أو في المسجد، أو في هذا اللباس، أو ذلك اللباس، أو نحو ذلك.

(3) أي: عن الخصوصيات اللازمة المقوّمة لفردية الفرد.

(4) يعني: مثل: «الإنسان نوع، و الحيوان جنس» فإن المراد: أن نفس طبيعة الإنسان نوع، و نفس طبيعة الحيوان جنس من دون دخل خصوصيات الأفراد في النوعية و الجنسية. فوجه المشابهة بين القضية الطبيعية، و بين المقام هو: عدم النظر إلى الأفراد، مع افتراقهما: في أن الموضوع في الطبيعية هو الطبيعة الكلية من حيث كونها كلية، بخلاف المقام فإن متعلق الطلب فيه هو الطبيعة بما هي لا بما هي كلية. و لذا قال: في غير الأحكام.

(5) و هي التي تشتمل على السور؛ مثل: «كل» مثلا في قوله تعالى: كل من عليها فان(1) و «كلما» في قوله «عليه السلام»: «كلما مضى من صلواتك و طهورك فامضه

ص: 282


1- الرحمن: 26.

غير المقام (1).

و في مراجعة الوجدان (2) للإنسان غنى و كفاية عن إقامة البرهان على ذلك، حيث يرى إذا راجعه إنه لا غرض له في مطلوباته إلاّ نفس الطبائع، و لا نظر له إلاّ إليها؛ من دون نظر إلى خصوصياتها الخارجية، و عوارضها العينية (3) و أن نفس وجودها السعي بما هو وجودها تمام (4) المطلوب، و إن كان ذاك الوجود لا يكاد ينفك في الخارج عن الخصوصية.

فانقدح بذلك: (5) أن المراد بتعلق الأوامر بالطبائع دون الأفراد: أنها بوجودها كما هو»(1)، فإن الحكم في المحصورة ثابت للأفراد، فإن الفناء و وجوب المضي ثابتان للأفراد الخارجية من الموجودات في المثال الأول، و الصلوات و الطهورات في المثال الثاني؛ في قبال القضية الطبيعية التي حكم فيها على الطبيعة؛ كالإنسان نوع، فإن معروض النوعية التي هي من المعقولات الثانية هو: طبيعة الإنسان لا أفراده الخارجية.

=============

(1) فإن المحقق في محله: كون الحكم في القضايا المحصورة أيضا ثابتا للطبيعة، غاية الأمر: أن الفرق بين الطبيعية و المحصورة هو: أن الطبيعية ملحوظة بنفسها، و من حيث هي في الأولى، و من حيث كونها سارية في الأفراد في الثانية، فالموضوع في هاتين القضيتين: هي الطبيعة كما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 527».

(2) الغرض: هو إثبات تعلق الطلب بالطبائع - لا الأفراد - بالوجدان، و هو في غاية الوضوح، فلا يحتاج إلى بيان، و إقامة برهان.

(3) يعني: لو أمر المولى عبده بإحضار الماء مثلا، فليس مطلوبه إلاّ نفس طبيعة الماء من دون نظر إلى خصوصية ظرفه، و كيفية الإتيان به، و غيرهما من سائر الخصوصيات التي هي مقوّمة لفردية الفرد.

(4) لا أنه جزء المطلوب، و جزؤه الآخر هو: خصوصية الفرد «و إن كان ذاك الوجود» السعي المنطبق على الأفراد «لا يكاد ينفك في الخارج عن الخصوصية» الفردية؛ لتقوّم فردية الفرد بها، فيمتنع انفكاك الفرد عن تلك الخصوصية.

(5) يعني: انقدح بمراجعة الوجدان المزبور، الحاكم بكون المطلوب نفس وجود الطبيعة من دون لوازم الوجود المقوّمة لفردية الفرد: «أن المراد بتعلق الأوامر بالطبائع دون

ص: 283


1- في التهذيب، ح 2، ص 344، ج 14: «كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو و في الاستبصار، ج 1، ص 401، ح 4: «ما مضى من صلاتك ما لم تنقض الصلاة بالكلام متعمدا. فلا بأس عليك».

السعي بما هو وجودها قبالا لخصوص الوجود متعلقة للطلب، لا إنها بما هي هي كانت متعلقة له كما ربما يتوهم، فإنها كذلك ليست إلاّ هي. نعم؛ هي (1) كذلك تكون متعلقة للأمر فإنه (2) طلب الوجود، فافهم (3).

=============

الأفراد أنها» أعني: الطبائع بوجودها السعي الساري في جميع أفراد الطبيعة؛ المعبر عنه بالجامع الوجودي متعلقة للطلب؛ لا أن الطبائع باعتبار أنفسها، و من حيث هي هي متعلقة للطلب، حتى يكون المعنى طلب جعل الماهية ماهية «كما ربما يتوهم، فإنها كذلك» أي: فإن الطبيعة كذلك يعني: بما هي هي «ليست إلاّ هي» لا مطلوبة و لا مبغوضة. فقوله: «فإنها كذلك...» إلخ ردّ لتوهم تعلق الطلب بالطبائع من حيث هي.

وجه الردّ: ما عرفت من عدم قابلية نفس الطبائع لتعلق الطلب بها، إذ لا يترتب عليها أثر، ضرورة: أن المصالح و المفاسد الداعية إلى تشريع الأحكام قائمة بوجودات الطبائع لا بأنفسها من حيث هي، لأنها من هذه الحيثية لا يترتب عليها أثر أصلا. فلا وجه لتعلق حكم بها، بل متعلق الحكم ليس إلاّ ما يقوم به الملاك، و هو وجودات الطبيعة، إذ الطبيعة من حيث هي هي ليست إلاّ هي لا مطلوبة و لا مبغوضة.

(1) يعني: الطبيعة من حيث هي متعلقة للأمر ليطلب به وجودها في الخارج.

فقوله: «نعم؛ هي كذلك» استدراك على عدم صحة الطلب بالماهية من حيث هي هي.

و حاصل الاستدراك: أن الطلب لا يصح أن يتعلق بالطبيعة من حيث هي، لكن يصح أن يتعلق بها الأمر؛ ضرورة: أن الأمر هو طلب الإيجاد، و لا إشكال في صحة تعلق طلب الإيجاد بنفس الماهية المجردة عن الوجود. بخلاف الطلب؛ فإن الإيجاد ليس داخلا في مفهومه، كما هو داخل في مفهوم الأمر، فلا يصح تعلق الطلب بنفس الماهية.

(2) فإن الأمر طلب الوجود، فيصح تعلقه بالماهية من حيث هي.

و قوله: «فإنه» بمنزلة التعليل للاستدراك المذكور بقوله: «نعم؛ هي كذلك».

(3) لعله إشارة إلى عدم صحة التفكيك بين الأمر و الطلب بما ذكر، إذ لا معنى لمطلوبية الطبيعة إلاّ كون إيجادها أو إعدامها مطلوبا، فالإيجاد و الإعدام داخلان في مفهوم كل من الأمر و الطلب، فلا فرق بينهما، بل هما بمعنى واحد و هو طلب إيجاد الطبيعة في ضمن فرد من الأفراد.

و المتحصل: أن المصنف «قدس سره» اختار تعلق الأمر بالطبيعة لا الفرد، و أو كل معرفة صحة ما اختاره إلى مراجعة الوجدان، فإنه يقضي بذلك، لأن الآمر لا يجد في نفسه إلاّ إرادة ذات العمل من الغير مع غض النظر عن العوارض اللازمة.

ص: 284

دفع وهم (1):

لا يخفى: أن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلقا للطلب إنما يكون بمعنى: أن الطالب يريد صدور الوجود من العبد، و جعله (2) بسيطا الذي هو مفاد كان التامة، و إفاضته، لا أنه يريد ما هو صادر و ثابت في الخارج، كي يلزم طلب الحاصل كما توهم (3).

=============

(1) توضيح الوهم يتوقف على مقدمة و هي: أن متعلق الطلب و الأمر - سواء قلنا:

بأنه من الطبائع أو الأفراد - من الممكنات، و الممكن نظرا إلى الخارج إما موجود فيه أو معدوم هذا أولا.

و ثانيا: أن متعلق الطلب و الأمر - على ما هو ظاهر كلام المصنف - هو: الطبيعة من حيث الوجود على كلا القولين، و الفرق بينهما إنما هو في لحاظ محض الوجود من دون نظر إلى شيء من خصوصياته أو لحاظه مع الخصوصيات الفردية، فاعتبار أصل الوجود في متعلق الطلب مسلم على كلا القولين، و إنما الكلام في دخل تلك الخصوصيات و عدمه. فعلى القول بدخلها: يكون متعلق الأمر و الطلب الأفراد، و على القول بعدمه:

يكون المتعلق الطبائع.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن مقتضى تعلق الطلب - كما عرفت - هو عروض الطلب على الوجود، و حينئذ إذا كان عروض الطلب قبل الوجود لزوم عروض العارض بدون المعروض. و إن كان عروضه بعد الوجود لزم تحصيل الحاصل، و كلاهما محال.

هذا تمام الكلام في توضيح التوهم.

(2) يعني: جعل المتعلق «بسيطا» بمعنى إيجاده.

(3) المتوهم هو صاحب الفصول. و قد أشار المصنف إلى جواب هذا التوهم بقوله:

«لا يخفى: أن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلقا للطلب إنما يكون بمعنى: أن الطالب يريد صدور الوجود من العبد...» إلخ.

جواب المصنف عن توهم الفصول

و حاصل جواب المصنف عن توهم الفصول: أن المراد بتعلق الطلب و الأمر بالوجود ليس تعلقهما بوجود الطبيعة الثابتة في الخارج، مثل أن يقول المولى لعبده: «صلّ »، و يقول: «أريد منك وجود الصلاة الموجودة» إذ لا يعقل ذلك لاستلزامه تحصيل الحاصل، بل المراد تعلقهما بإيجاد الطبيعة، فمعنى تعلق الطلب بالطبيعة هو: طلب إيجادها حيث إن المولى يتصور الطبيعة المحصلة لغرضه، ثم يطلب إيجادها على الوجه الوافي بغرضه، و لا يلزم طلب الأمر الحاصل. فالمتحصل: أن طلب المولى يتعلق بنقض عدم الطبيعة

ص: 285

و لا جعل (1) الطلب متعلقا بنفس الطبيعة، و قد جعل وجودها (2) غاية لطلبها.

و قد عرفت: إن الطبيعة بما هي هي ليست إلاّ هي، لا يعقل أن يتعلق بها طلب لتوجد أو تترك، و أنه لا بدّ في تعلق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها، فيلاحظ وجودها فيطلبه و يبعث إليه، كي يكون و يصدر منه، هذا بناء على أصالة الوجود.

و أما بناء على أصالة الماهية (3)، فمتعلق الطلب ليس هو الطبيعة بما هي أيضا، بل بالوجود، و إيجادها بمفاد كان التامة، لا أن طلبه يتعلق بالطبيعة الموجودة حتى يلزم طلب الحاصل المحال، فليس الطلب متعلقا بالطبيعة بما هي هي، و لا بالطبيعة الموجودة، بل يتعلق بإيجادها الذي هو فعل المأمور به، فلا يلزم محذور طلب الحاصل.

=============

و بعبارة أخرى: إن ما يتعلق به الطلب ليس الوجود الخارجي حتى يلزم طلب الحاصل، بل الوجود الذهني اللحاظي، و الآمر إنما يطلب جعل الوجود الذهني خارجيا.

(1) يعني: و لا يريد المولى جعل الطلب متعلقا بنفس الطبيعة لأجل أن توجد، حتى يكون وجودها غاية لطلبها، كما أشار إليه بقوله: «و قد جعل وجودها غاية لطلبها»، و الواو في قوله: «و قد جعل» حالية، أي: و الحال: أن الطالب قد جعل الوجود غاية لطلبها، و ارتكب المتوهم هذا التكلف لدفع محذور طلب الحاصل، حيث زعم: أن طلب الحاصل محال عن المولى الحكيم، فلا بد من أن يكون الأمر متعلقا بالطبيعة من حيث هي، و جعل غاية هذا الطلب إيجاد الطبيعة، مع إن هذا التكلّف في البطلان كطلب الحاصل؛ لما عرفت: من إن الطبيعة من حيث هي هي ليست إلاّ هي، فلا يعقل أن يتعلق بها الطلب لتوجد في الأوامر أو تترك في النواهي.

فلا فرق في البطلان بين تعلق الطلب بالطبيعة الموجودة، و تعلقه بالطبيعة المجردة عن الوجود، لاستلزام الأول: طلب الحاصل، و الثاني: غير معقول.

(2) يعني: الذي ذكرناه من كون متعلق الطلب هي الطبيعة بلحاظ وجودها؛ لا الطبيعة بما هي هي بناء على القول بأصالة الوجود ظاهر.

(3) توضيح كلام المصنف «قدس سره» يتوقف على مقدمة و هي: بيان الفرق بين القول بأصالة الوجود و بين القول بأصالة الماهية، و حاصله: أن المراد بأصالة الوجود: أن الأصل في التحقق هو الوجود بمعنى: أن المجعول بالجعل البسيط أولا و بالذات هو الوجود، و الماهية مجعولة بتبعه فهي أمر اعتباري بالنسبة إلى الوجود.

و عليه: فيكون توصيف الوجود بالوجود في قولنا: «الوجود موجود» من قبيل وصف الشيء باعتبار نفسه لثبوت الموجودية للوجود بنفسه و ذاته.

ص: 286

بما هي بنفسها في الخارج، فيطلبها كذلك لكي يجعلها بنفسها من الخارجيات و الأعيان الثابتات، لا بوجودها كما كان الأمر بالعكس على أصالة الوجود.

و كيف كان؛ فيلحظ الآمر ما هو المقصود من الماهية الخارجية، أو الوجود فيطلبه، و يبعث نحوه ليصدر منه، و يكون ما لم يكن، فافهم و تأمل جيدا.

=============

أما توصيف الماهية بالوجود في قولنا: «الماهية موجودة» فمن قبيل وصف الشيء باعتبار متعلقه، لأن موجودية الماهية لا تكون بنفسها، بل بالوجود؛ كاتصاف جالس السفينة بالحركة مع قيامها بالسفينة حقيقة.

و أما المراد بأصالة الماهية: فهو أن الأصل في التحقق هو الماهية؛ بمعنى: أن المجعول بالجعل البسيط أولا و بالذات هي الماهية، و الوجود مجعول بتبع جعلها، فيكون قولنا:

«الماهية موجودة» من الوصف باعتبار نفس الشيء لا المتعلق.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: بناء على أصالة الوجود و اعتبارية الماهية - كما هو المنسوب إلى المحققين من المشائين - يكون الصادر حقيقة هو الوجود. فيصح تعلق الطلب به من دون إشكال فيه؛ إذ المطلوب هو الطبيعة باعتبار وجودها.

و أما بناء على القول بأصالة الماهية - و أنها هي الصادرة حقيقة، و أن الوجود أمر اعتباري - كما هو مذهب شيخ الإشراق و غيره - يكون المطلوب خارجية الطبيعة المتحققة بنفس جعلها التكويني.

فالطلب على القول بأصالة الوجود: يتعلق بإيجاد الطبيعة في الخارج. و على القول بأصالة الماهية: ملحوظة بخارجيتها لا بوجودها في ضمن الأفراد.

و على القول بأصالة الوجود: ملحوظة بوجودها في الخارج في ضمن فرد من أفرادها.

قوله: «فافهم و تأمل جيدا» إشارة إلى دقة المطلب؛ لكونه ملحوقا بالأمر بالتأمل المقيد بالجودة، فلا يكون إشارة إلى ضعفه.

ختام الكلام في بيان أمرين:

أحدهما: إنه قد يتوهم التنافي بين النزاع في تعلق الأوامر و النواهي بالطبائع أو الأفراد، و بين ما ثبت في محله: من كون المصادر المجردة عن اللام و التنوين موضوعة للطبيعة اللابشرطية.

وجه المنافاة: أن التسالم على وضع تلك المصادر للطبيعة يستلزم كون متعلق الأوامر و النواهي نفس الطبائع، حيث إن ذلك مقتضى وضع موادها - و هي المصادر - للطبائع،

ص: 287

فلا وجه للترديد بين تعلقها بالطبائع أو الأفراد.

و يمكن دفع التنافي: بأن إرادة الأفراد - على القول بتعلق الأحكام بها - إنما هي بالقرينة، و هي: كون الأمر لطلب إيجاد الطبيعة، و من المعلوم: امتناع إيجاد شيء بدون لوازم الوجود التي لا تنفك عن الفرد، فإن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد، فإرادة الفرد إنما تكون بهذه القرينة.

ثانيهما: و قد ذكروا لهذا البحث ثمرات:

منها: كونه موجبا لاندراج مسألة اجتماع الأمر و النهي في كبرى التزاحم - بناء على تعلق الأوامر و النواهي بالطبائع - و في كبرى التعارض - بناء على تعلقهما بالأفراد - كما لا يخفى.

و منها: صحة قصد التقرب بلوازم الوجود، لوقوعها في حيّز الأمر - بناء على تعلق الأحكام بالأفراد - و عدمها، لعدم وقوعها في حيّزه - بناء على تعلقها بالطبائع - لكونه تشريعا محرما حينئذ.

و منها: جريان الأصل في بعض لوازم الوجود إذا شك في وجوبه لكونه شكا في التكليف - بناء على تعلق الأحكام بالأفراد - فإن أصل البراءة يجري فيه حينئذ، و لا يجري فيه - بناء على تعلقها بالطبائع - لكون الشك حينئذ في المحصل الذي تجري فيه قاعدة الاشتغال، حيث إن الفرد مقدمة لوجود الطبيعة المأمور بها، و ليس بنفسه مأمورا به، و غيرها من الثمرات التي لا يخلو ذكرها عن التطويل فتركناها رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان ما هو محل النزاع في هذا البحث:

توضيح ذلك: أن مراد القائلين بتعلق الأوامر و النواهي بالأفراد: ليس تعلقهما بالموجودات الخارجية، ضرورة: أن الموجود الخارجي مسقط للأمر، فلا يعقل أن يتعلق به الأمر.

كما أن مراد القائلين بتعلقهما بالطبائع: ليس تعلقهما بالطبائع الصرفة من حيث هي، في قبال الطبائع من حيث الوجود، لأن الطبائع مع قطع النظر عن وجودها غير قابلة لتوجيه الطلب إليها، بل المراد: هي الطبائع من حيث مطلق الوجود مع غض النظر عن ضم الخصوصيات الخارجية إليها، فمرجع النزاع في هذا البحث إلى: أن الأوامر هل

ص: 288

تتعلق بالطبائع مع قطع النظر عن مشخصاتها في الخارج، أو تتعلق بالأفراد يعني بالطبائع مع المشخصات المقوّمة للمطلوب ؟ فالكلام في دخل تلك المشخصات و عدمه في متعلق الطلب.

2 - و المصنف اختار تعلق الأوامر و النواهي بالطبائع، و أوكل معرفة صحة ما اختاره إلى مراجعة الوجدان من دون حاجة إلى إقامة برهان.

ثم قال: «فانقدح بذلك» أي: بالوجدان الحاكم بكون المطلوب نفس وجود الطبيعة لا أنها مع الخصوصيات الفردية و لا أنها من حيث هي هي، لأن الطبيعة من حيث هي هي ليست إلاّ هي لا مطلوبة و لا مبغوضة، فتوهم تعلق الأوامر و النواهي بها من حيث هي هي باطل، لما عرفت: من أنها من حيث هي هي غير قابلة لتعلق الطلب بها، و لا يترتب عليها أثر؛ ضرورة: أن المصالح و المفاسد الداعية إلى تشريع الأحكام قائمة بوجودات الطبائع لا بأنفسها من حيث هي، فلا وجه لتعلق الأحكام بها.

قوله: «نعم هي كذلك» استدراك على عدم صحة تعلق الطلب بالطبيعة من حيث هي هي.

و حاصل الاستدراك: أن الطلب و إن كان لا يصح أن يتعلق بالطبيعة من حيث هي هي؛ إلاّ إنه يصح أن يتعلق بها الأمر؛ ضرورة: أن الأمر: هو طلب الإيجاد، و لا إشكال في صحة طلب إيجاد نفس الطبيعة المجردة عن الوجود، هذا بخلاف الطلب فإن طلب الإيجاد ليس داخلا في مفهومه كما هو داخل في مفهوم الأمر.

قوله: «فافهم» لعله إشارة: إلى عدم صحة التفكيك بين الأمر و الطلب بما ذكر؛ إذ لا معنى لمطلوبية الطبيعة إلاّ كون إيجادها أو إعدامها مطلوبا، فالإيجاد و الإعدام داخلان في مفهوم كل من الأمر و الطلب، فلا فرق بينهما.

3 - «دفع وهم» توضيح الوهم: أن متعلق الأمر و الطلب حال الأمر و الطلب إما موجود و إما معدوم. فعلى الأول: يلزم طلب الحاصل. و على الثاني: يلزم وجود العارض من دون معروض؛ لأن الطلب عارض للوجود قبل تحققه، و كلاهما محال. و المتوهم هو:

صاحب الفصول.

و حاصل الدفع: أن المراد بتعلق الأمر و الطلب بالوجود: ليس تعلقهما بوجود الطبيعة الثابتة في الخارج حتى يلزم طلب الحاصل، بل المراد تعلقهما بإيجاد الطبيعة، فمعنى تعلق الطلب بالطبيعة هو: طلب إيجادها، حيث إن المولى يتصور الطبيعة المحصلة لغرضه، ثم

ص: 289

يطلب إيجادها على الوجه الوافي بغرضه، و لا يلزم طلب الحاصل.

و قد جعل الفصول وجود الطبيعة غاية لطلبها؛ لئلا يلزم طلب الحاصل، إلاّ إن هذا منه ليس إلاّ تكلفا محضا؛ لأن الطبيعة من حيث هي هي غير قابلة للطلب كما عرفت، فلا فرق في البطلان بين تعلق الأمر و الطلب بالطبيعة الموجودة أو بنفسها، و جعل الوجود غاية لطلبها.

4 - أن ما ذكره المصنف من تعلق الطلب بالطبيعة من حيث الوجود؛ لا بها من حيث هي هي ظاهر على القول بأصالة الوجود، و أما على القول بأصالة الماهية فالمطلوب جعلها من الأعيان الخارجية.

و الفرق بين القولين: أن المراد بأصالة الوجود هو: كون الأصل في التحقق هو الوجود بمعنى: أن المجعول بالجعل البسيط أولا و بالذات هو الوجود و الماهية مجعولة بتبعه، فهي أمر اعتباري بالنسبة إلى الوجود.

و المراد بأصالة الماهية: أن الأصل في التحقق هي الماهية؛ بمعنى: أن المجعول بالجعل البسيط أولا و بالذات هي الماهية، و الوجود مجعول بتبع جعلها.

إذا عرفت هذا الفرق فنقول: إن الطلب على القول بأصالة الوجود يتعلق بإيجاد الطبيعة في الخارج، و على القول بأصالة الماهية يتعلق بجعلها من الخارجيات.

5 - من ثمرات هذا البحث: صحة قصد التقرب بلوازم الوجود لوقوعها في حيّز الأمر؛ بناء على تعلق الأحكام بالأفراد، و عدمها على القول بتعلقها بالطبائع.

و منها: اندراج مسألة اجتماع الأمر و النهي في التزاحم؛ على القول بتعلق الأوامر و النواهي بالطبائع. و في التعارض على القول بتعلقهما بالأفراد.

و منها: جريان أصل البراءة في بعض لوازم الوجود إذا شك في وجوبه، على القول بتعلق الأحكام بالأفراد، و عدم جريانه على القول بتعلقها بالطبائع، بل تجري قاعدة الاشتغال؛ لأن الشك حينئذ إنما هو في المحصل و هو مجرى قاعدة الاشتغال.

6 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو: تعلق الأوامر و النواهي بالطبائع.

ص: 290

فصل إذا نسخ الوجوب: فلا دلالة لدليل الناسخ و لا المنسوخ على بقاء الجواز بالمعنى الأعم، و لا بالمعنى الأخص.

=============

فصل مبحث نسخ الوجوب

اشارة

و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام في المقام.

فنقول: إن محل النزاع هو: بقاء الجواز بالمعنى الأعم، أو بالمعنى الأخص في مقام الإثبات لدلالة الدليل الناسخ أو المنسوخ أو غيرهما عليه، لا بقاؤه في مقام الثبوت و الواقع، إذ لا يخلو الواقع عن حكم من الأحكام.

إذا عرفت ذلك فنقول: إن جماعة ذهبوا إلى بقاء الجواز بالمعنى الأعم - و هو الإذن في الفعل المشترك بين الأحكام الأربعة غير الحرمة - و استدلوا على ذلك: بدلالة الدليل المنسوخ؛ بتقريب: أنه قبل النسخ كان يدل بالمطابقة على الوجوب، و بالتضمن على الجواز؛ لأنه جزء الوجوب المركب من الإذن في الفعل و المنع من تركه، فإذا ارتفعت دلالته المطابقية عن الحجية بواسطة الناسخ؛ تبقى دلالته التضمنية على حالها لعدم تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقية في الحجية.

و المصنف لم يرتض هذا المذهب، و لذا قال: «إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل الناسخ و لا المنسوخ على بقاء الجواز بالمعنى الأعم». أعني: الإذن في الفعل، «و لا بالمعنى الأخص» أعني: الإباحة الشرعية مقابل الأحكام الأربعة الأخرى، «كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من الأحكام»، فيقع الكلام تارة: في عدم دلالة الدليل الناسخ على بقاء الجواز مطلقا.

و أخرى: في عدم دلالة الدليل المنسوخ عليه كذلك.

و ثالثة: في عدم دلالتهما على ثبوت غير الجواز من الأحكام.

فنقول: إذا أوجب المولى إكرام العلماء بقوله: «أكرم العلماء» ثم نسخ وجوبه بقوله:

«نسخت الوجوب» فلا دلالة للدليل الناسخ، و لا للدليل المنسوخ على بقاء الجواز لا بالمعنى الأعم، و لا بالمعنى الأخص، و لا دلالة لهما أيضا على ثبوت غيره من الأحكام.

ص: 291

كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من الأحكام.

ضرورة: أن ثبوت كل واحد من الأحكام الأربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعا ممكن.

و لا دلالة لواحد من دليلي الناسخ و المنسوخ بإحدى الدلالات على تعيين واحد منها، كما هو أوضح من أن يخفى، فلا بدّ للتعيين من دليل آخر (1)، و لا مجال (2) و أما عدم دلالة الدليل الناسخ على بقاء الجواز مطلقا: فلأنه لا يدل على أزيد من رفع الوجوب و نفيه، و لا يدل على بقاء الجواز لا مطابقة و لا تضمنا و لا التزاما.

=============

و أما عدم دلالة الدليل المنسوخ: فلأن مفاده هو الوجوب، و هو بسيط عند المصنف، و المفروض: ارتفاعه بدليل الناسخ.

فالمتحصل: أن الدليل الناسخ لا يقتضي سوى رفع الحكم الثابت و هو الوجوب، من دون تعرض إلى حال الجواز نفيا و إثباتا.

و أما الدليل المنسوخ الدال على الوجوب: فعدم دلالته على الجواز - مع فرض بساطة الوجوب - واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان و إقامة برهان، فلا دلالة لهما على بقاء الجواز.

و أما عدم دلالتهما على ثبوت غيره من الأحكام الباقية، فلأن كل واحد من تلك الأحكام - و إن كان ممكن الثبوت للمورد - إلاّ إن واحدا من دليلي الناسخ و المنسوخ لا يدل بإحدى الدلالات على تعيين خصوص واحد من تلك الأحكام، فلا بدّ لتعيين حكم للمورد من دليل آخر غير دليلي الناسخ و المنسوخ.

(1) يعني: غير دليلي الناسخ و المنسوخ.

(2) هذا الكلام من المصنف إشارة إلى التمسك بالأصل بعد فقد الدليل الاجتهادي؛ بأن يقال: يمكن إثبات الجواز بالاستصحاب لليقين به قبل النسخ، و الشك فيه بعده، فيثبت الجواز بالأصل يعني: استصحاب الجواز بعد ارتفاع الوجوب بالنسخ. فدليل كل من الناسخ و المنسوخ و إن كان قاصرا عن إثبات الجواز بعد النسخ، لكن يمكن ابقاؤه بعده بالاستصحاب؛ لليقين السابق و الشك اللاحق.

ثم أورد المصنف على الاستصحاب المذكور بما حاصله: أن هذا الاستصحاب لا يجري لكونه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي، و ضابطه: الشك في بقاء الكلي الموجود في ضمن فرد للشك في حدوث فرد آخر، مقارنا لارتفاع الفرد السابق، و ما نحن فيه من هذا القبيل إذ قد علم بارتفاع الجواز الموجود في ضمن الوجوب و شك في وجود جواز آخر مقارنا لارتفاعه، و هذا هو القسم الثالث من أقسام استصحاب

ص: 292

لاستصحاب الجواز، إلاّ بناء على جريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي؛ و هو: ما إذا شك في حدوث فرد كلي مقارنا لارتفاع فرده الآخر، و قد حققنا في محله: إنه لا يجري الاستصحاب فيه ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القوية أو الضعيفة المتصلة بالمرتفع، بحيث عدّ عرفا - لو كان - أنه باق، لا أنه أمر حادث غيره: و من المعلوم: (1) أن كل واحد من الأحكام مع الآخر عقلا و عرفا، من المباينات و المتضادات غير الوجوب و الاستحباب، فإنه (2) و إن كان بينهما التفاوت بالمرتبة و الشدة و الضعف عقلا إلاّ أنهما متباينان عرفا فلا مجال للاستصحاب إذا الكلي الذي اختار المصنف عدم جريانه فيه؛ إذ مع تعدد الوجود ينتفي الشك في البقاء الذي هو أحد ركني الاستصحاب.

=============

نعم؛ يستثنى منه: ما إذا كان الفرد المشكوك حدوثه ليس فردا مغايرا للأول في نظر العرف؛ كما إذا كان نظير الشك في بقاء كلي السواد الموجود سابقا في ضمن مرتبة قوية منه للشك في ذلك الفرد في ضمن مرتبة ضعيفة؛ بحيث يعد في العرف أنه من تغير الحالات لا من تعدد الأفراد، فإنه لا مانع من إجراء الاستصحاب هنا، و لكن الأحكام ليست كذلك، بل هي متغايرة عرفا.

(1) غرض المصنف: أن المقام ليس من موارد الاستثناء؛ بتقريب: أن الوجوب و الاستحباب من قبيل السواد الشديد و الضعيف، لأن الاختلاف بينهما في المرتبة، فإذا شك في بقاء الجواز في ضمن الاستحباب: صح إجراء استصحاب الكلي.

و حاصل الجواب: أن الاختلاف بين الوجوب و الاستحباب إنما هو بالتباين، إذ هما فردان متغايران عرفا، و من المعلوم: أن المعيار في باب الاستصحاب هو نظر العرف.

نعم؛ الاستحباب يكون من مراتب الوجوب عقلا، لكن لا يجري فيه الاستصحاب أيضا؛ لعدم صدق الشك في البقاء عرفا لتضاد الوجوب و الاستحباب بنظره الذي هو المدار في جريان الاستصحاب.

(2) الضمير للشأن. و غرض المصنف: أن التضاد عقلا و عرفا مختص بغير الوجوب و الاستحباب، و أما هما: فتضادهما يكون بنظر العرف فقط، و أما بنظر العقل فلا تضاد بينهما، إنما هما متفاوتان بالمرتبة، و أن الوجوب هو المرتبة الشديدة من الطلب، و الاستحباب مرتبة ضعيفة منه، لكن لمّا كانا بنظر العرف متضادين، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه؛ ضرورة: أن صدق الشك في البقاء منوط بنظر العرف، كما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 539».

ص: 293

شك في تبدل أحدهما بالآخر، فإن حكم العرف و نظره يكون متبعا في هذا الباب (1).

=============

(1) يعني: باب الاستصحاب.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - محل الكلام هو: بقاء الجواز في مقام الإثبات لدليل الناسخ أو المنسوخ أو غيرهما؛ لا بقاء الجواز في الواقع و مقام الثبوت.

و ملخص ما أفاده المصنف: أنه إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل الناسخ و لا لدليل المنسوخ و لا لغيرهما على بقاء الجواز مطلقا، يعني: سواء كان الجواز بالمعنى الأعم، أو بالمعنى الأخص.

أما عدم دلالة دليل الناسخ، فلأنه لا يقتضي سوى رفع الحكم الثابت و هو الوجوب؛ من دون تعرض إلى حال الجواز و غيره.

و أما عدم دلالة دليل المنسوخ: فلأنه لا يدل إلاّ على الوجوب، و هو بسيط عند المصنف، و المفروض: ارتفاعه بالنسخ.

و أما عدم دلالتهما على ثبوت غير الجواز من الأحكام الباقية، فلأن تلك الأحكام و إن كان كل واحد منها ممكن الثبوت للمورد؛ إلاّ إن واحدا من دليلي الناسخ أو المنسوخ لا يدل بإحدى الدلالات على تعيين خصوص واحد منها.

فلا بدّ لتعيين واحد من تلك الأحكام الباقية للمورد من دليل آخر؛ غير دليلي الناسخ و المنسوخ.

2 - أما استصحاب الجواز لليقين به قبل النسخ و الشك فيه بعده: فمرفوض بعدم جريانه، لكونه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي، و ضابطه: هو الشك في بقاء الكلي الموجود في ضمن فرد؛ للشك في حدوث فرد آخر منه مقارنا لارتفاع الفرد السابق.

و مختار المصنف: عدم جريان الاستصحاب فيه؛ إلاّ إن يكون الفرد اللاحق من مراتب الفرد السابق كالسواد الضعيف، بالنسبة إلى السواد الشديد، فإذا شك في بقاء كلي السواد في ضمن السواد الضعيف - بعد العلم بارتفاع السواد - الشديد يجري الاستصحاب، و لكن الأحكام ليست كذلك، بل هي متغايرة عرفا.

3 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو: عدم الدليل على بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب.

ص: 294

إذا تعلق الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء، ففي وجوب كل واحد على التخيير، بمعنى: عدم جواز تركه إلاّ إلى بدل، أو وجوب الواحد لا بعينه، أو وجوب كل منهما مع السقوط بفعل أحدهما، أو وجوب المعيّن عند اللّه، أقوال (1).

و التحقيق أن يقال: إنه إن كان الأمر باحد الشيئين بملاك أنه هناك غرض واحد

=============

فصل في الوجوب التخييري

اشارة

(1) الأقوال التي أشار إليها المصنف أربعة:

و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان أمور:

الأول: بيان محل النزاع: و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي:

أولا: الفرق بين الوجوب التعييني و التخييري.

و ثانيا: الفرق بين التخيير الشرعي و العقلي.

أما الفرق بين الوجوب التعييني و التخييري: فإن الواجب التعييني هو الذي يجب معيّنا، فلا بدّ من الإتيان لشخصه لا به أو بدله؛ كصوم شهر رمضان.

و الواجب التخييري: هو الذي يجب هو أو بدله، فيجب على المكلف الإتيان بأحدهما أو أحدها نحو: كفارة الإفطار في شهر رمضان المخيرة بين العتق و الصيام و الإطعام.

و أما الفرق بين التخيير الشرعي و العقلي: فحاصله: أن التخيير الشرعي هو الذي أمر الشارع بكل واحد من شيئين أو أشياء؛ بحيث لا يكون بينهما أو بينها جامع كقوله: إذا أفطرت صوم شهر رمضان متعمدا «فأعتق رقبة، أو صم شهرين، أو أطعم ستين مسكينا».

و أما التخيير العقلي فهو: ما إذا كان هناك جامع واحد متعلق لغرض المولى فيأمر بذلك الجامع كقوله: «أعتق رقبة»، ثم يحكم العقل بالتخيير بين أفراد رقبة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل النزاع هو: الوجوب التخييري شرعا لا عقلا، و لا الوجوب التعييني.

ص: 295

الثاني: أن في الواجب التخييري الشرعي إشكالا يجب دفع ذلك. فلا بدّ من توضيح الإشكال قبل الجواب عنه.

أما توضيح ذلك: فيتوقف على مقدمة و هي: أن حقيقة الوجوب متقوّمة بالمنع من الترك، و الواجب التخييري يجوز تركه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: إن الواجب التخييري مما لا ينطبق حدّ الواجب عليه.

و أما حاصل الجواب عن هذا الإشكال: فإن الوجوب التخييري سنخ من الوجوب، يتصف به كل واحد من الشيئين أو الأشياء، و لكن ليس اتصاف كل واحد منهما أو منها كاتصاف الشيء بالوجوب التعييني، بأن يعاقب على تركه بالخصوص، و يستحق الثواب على فعله كذلك، بل تترتب عليه آثار الوجوب كعدم جواز الترك إلاّ إلى بدل، و ترتب الثواب على فعل واحد منهما أو منها، و ترتب العقاب على ترك فعلين أو أفعال.

فهذه الآثار آثار للوجوب، فتدل عليه.

الثالث: بيان عمدة الأقوال في الوجوب التخييري و هي أربعة:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «وجوب كل واحد على التخيير - بمعنى: عدم جواز تركه إلاّ إلى بدل -». قوله: «بمعنى: عدم جواز تركه...» إلخ. تفسير للوجوب التخييري و حاصله: أن عدم جواز الترك مطلقا و لو مع البدل هو الوجوب التعييني كالصلوات اليومية، فلا يجوز تركها مطلقا و لو مع الإتيان بغيرها، و عدم جواز الترك إلاّ إلى بدل هو الوجوب التخييري كخصال الكفارة، فإن عدم جواز ترك كل واحد من الأبدال مقيد بعدم الإتيان بالآخر، و إلاّ فيجوز الترك، و هذا سنخ من الوجوب يتصف به كل واحد من الفردين أو الأفراد، و هو مغاير الوجوب التعييني بجواز تركه مع بدل، و الثواب بإتيان أحدهما، و العقاب على تركهما معا.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «أو وجوب الواحد لا بعينه»، و الفرق بين هذا القسم و القسم الأول: أن الواجب على الأوّل: كل واحد من الأبدال تخييرا، و على الثاني:

أحدها لا بعينه، فالواجب واحد لا متعدد، ثم المراد من «لا بعينه» هو: الجامع بين الأمرين، و هذه العبارة كناية عنه، فمعنى العبارة: هو وجوب الجامع بين الأمرين.

أو المراد منه هو: وجوب الواحد لا بعينه المصداقي، و هو الفرد المنتشر أو وجوب الواحد لا بعينه المفهومي يعني: مفهوم أحدهما، كما هو ظاهر العضدي، بل صريحة حيث قال في أثناء الاحتجاج: «بأن المراد: وجوب مفهوم أحدهما الصادق على كل

ص: 296

واحد من مصاديقه لا بعينه أي: على البدلية، لا المصداق لا بعينه».

الثالث: ما أشار إليه بقوله: «أو وجوب كل منهما مع السقوط بفعل أحدهما»، فالواجب على هذا القول: كل واحد من الشيئين أو الأشياء تعيينا، و متعلقا للإرادة، و لكن يسقط وجوب كل منهما بفعل الآخر، فيكون مرجع هذا القول إلى اشتراط وجوب كل من الطرفين أو الأطراف بعدم الإتيان بالآخر، فيكون امتثال واحد منهما أو منها مسقط لغيره من الأبدال، كما يسقط في كثير من المقامات بارتفاع موضوعه.

و كيف كان؛ فكل واحد من الطرفين أو الأطراف واجب تعييني.

و الفرق بين هذا القول و القولين السابقين ظاهر، فإن الواجب على هذا القول هو كل واحد منهما أو منها على التعيين، و إن سقط بفعل البعض.

و على الأول و الثاني: يكون وجوب كل منهما أو منها على التخيير، غاية الأمر: أن الواجب على الأول معين، و على الثاني مردد.

الرابع: ما أشار إليه بقوله: «أو وجوب المعين عند اللّه». بمعنى أن اللّه يعلم أن ما يختاره المكلف هو ذلك المعين عنده تعالى، مثلا: يعلم اللّه أن زيدا يختار الإطعام، فالواجب على زيد واقعا هو الإطعام، و هكذا يعلم: أن عمروا يختار الصيام، فالواجب على عمرو واقعا هو الصيام.

و هناك قول خامس، و هو: أن الواجب واقعا ما اختاره المكلّف، فيختلف الواجب باختلاف اختيار المكلّفين، بل باختلاف حالاتهم في مورد التخيير بين القصر و الإتمام، و هذا القول ما تبرأ منه كل من المعتزلة و الأشاعرة، و نسبه كلّ إلى صاحبه، و هو أسخف الأقوال، و لعله لذلك لم يشر إليه المصنف.

و كيف كان؛ فمصبّ هذه الأقوال هو: مقام الثبوت، إذ لا إشكال في الوجوب التخييري في مقام الإثبات؛ ضرورة: وقوعه في الشرعيات و العرفيات، و الإشكال إنما هو في تصويره، كما عرفت الإشارة إليه بالنسبة إلى بعض الأقوال، و هنا كلام طويل في النقض و الإبرام في الأقوال المذكورة، و لكن تركنا طول الكلام في المقام رعاية للاختصار.

إذا عرفت هذه الأمور؛ فاعلم: أنه قد بين المصنف - بعد نقل الأقوال - مختاره و مذهبه في المقام تحت عنوان «التحقيق».

و غرضه من التحقيق: تصوير التخيير الشرعي، و إرجاعه حقيقة إلى التخيير العقلي.

ص: 297

و حاصل التحقيق: أن الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء نظرا إلى الملاك و الغرض ثبوتا على قسمين.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الوجوب سواء كان تخييريا أو تعيينيا تابع للملاك، و الغرض الذي يكون داعيا إلى الأمر بشيء معين في الوجوب التعييني، و إلى الأمر بشيئين أو أشياء في الوجوب التخييري، ثم ذلك الملاك و الغرض تارة: يكون واحدا يحصل بكل منهما أو منها، و أخرى: يكون متعددا؛ بأن يكون لكل واحد من الشيئين غرض مستقل، فيتعدد الأمر و الحكم بتعدد الغرض.

فإذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن الكلام في تصوير التخيير الشرعي في مقام الثبوت - على ما هو مختار المصنف - يقع في مقامين:

المقام الأول: فرض وحدة الغرض.

و المقام الثاني: تعدده.

و حاصل الكلام في المقام الأول: أن الغرض الداعي إلى الأمر بشيئين أو أشياء واحد، بحيث يسقط الأمر بحصول ذلك الغرض الواحد؛ كرفع العطش الحاصل بكل واحد من الإناءين اللذين أحدهما ماء و الآخر عصير الفاكهة، أو كلاهما ماء. فلا بدّ أن يكون الواجب هو الجامع المنطبق على كل واحد منهما، و يصير التخيير حينئذ عقليا لا شرعيا، و الدليل على ذلك: أن الغرض الواحد - و هو الملاك - لا يصدر إلاّ من الواحد، فلا يؤثر فيه المتباينان، أو المتباينات للزوم السنخية بين العلة و المعلول، و هي ممتنعة بين المتباينين بما هما متباينان، و بين الغرض الواحد القائم بكل منهما، فلا محيص عن كون متعلقه جامعا بين المتباينين، كتعلّق الأمر بالصلاة الجامعة بين أفرادها العرضية و الطولية.

و من المعلوم: أن هذا التخيير بين الأفراد عقلي و ليس بشرعي.

غاية الأمر: أنه لمّا لم يكن ذلك الجامع معلوما لدى العقل بمعنى: أن العقل لا يلتفت إليه ليطبقه على أفراده؛ بيّن الشارع أفراد ذلك الجامع الذي هو الواجب حقيقة، فأمر بالفردين أو بالأفراد من ذلك الجامع، فالجامع واجب تعييني، و التخيير بين أفراده عقلي.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

فالمتحصل: أن التخيير يكون عقليا فيما إذا كان هناك غرض واحد و هذا هو مختار المصنف. إذ يأتي تضعيف التخيير الشرعي بفرض تعدد الغرض في المقام الثاني.

و حاصل الكلام في المقام الثاني: أن يكون الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء بملاك متعدد؛

ص: 298

يقوم به كل واحد منهما؛ بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض، و لذا (1) يسقط به الأمر؛ كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما، و كان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا لا شرعيا، و ذلك (2) لوضوح: إن الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان، ما لم يكن بينهما جامع في البين، لاعتبار (3) نحو من السنخية بين العلة و المعلول.

=============

بأن يكون في كل واحد منهما أو منها غرض مستقل، و لكن لا يحصل الغرض من أحدهما مع حصوله من الآخر؛ لما بينهما من التضاد المفوّت أحدهما للآخر، بحيث لو أتى بأحدهما أو أحدها فات غرض الآخر، فإتيانه لغو، فلا بدّ من الاكتفاء بإتيان أحدهما أو أحدها في مقام الامتثال.

فلا محيص عن كون كل منهما أو منها واجبا في ظرف عدم الآخر، لأنه مقتضى تبعية الوجوب للملاك و الغرض، فيكون وجوبهما أو وجوبها تخييريا لا تعيينيا، إذ المفروض: امتناع استيفاء كلا الغرضين، و إمكان استيفاء أحدهما أو أحدها، فيمتنع أن يكون وجوب كل منهما أو منها تعيينيا.

فالمتحصل: أنه إذا كان الغرض متعددا، و كان كل واحد منه قائما بفعل؛ إلاّ إن حصول واحد من الغرض مضاد لحصول الآخر، فلا يمكن الجمع بينهما في الخارج؛ فحينئذ لا مناص من الالتزام بوجوب كل منهما بنحو يجوز تركه إلى بدل لا مطلقا، ضرورة: أنه بلا موجب و مقتض؛ بعد فرض: أن الغرضين المترتبين عليهما متضادان بحيث لا يمكن تحصيل كليهما معا، و عليه: فيكون التخيير بينهما شرعيا ضرورة: مرجع هذا إلى وجوب هذا أو ذاك، و لا نعني بالتخيير الشرعي إلاّ هذا.

إلاّ إن هذا الفرض بعيد جدا؛ لأن فرض كون الغرضين متضادين بحيث لا يمكن الجمع بينهما في الخارج، مع فرض كون المكلف قادرا على إيجاد الفعلين بعيد جدا؛ إذ لا يعقل التضاد بين الغرضين مع عدم المضادة بين الفعلين.

و كيف كان؛ فتحصل مما ذكر: أنه في حال كون الغرض واحدا يكون الجامع بين الأمرين واجبا، و التخيير بينهما عقلي، و حال كون الغرض متعددا يكون الأمران واجبين، و لكن التخيير بينهما شرعي، فهما واجبان تخييرا.

(1) يعني: لأجل حصول تمام الغرض يسقط الأمر المترتب عليه بالإتيان بواحد منهما.

(2) قوله: «و ذلك» إشارة إلى برهان وجوب الجامع، و كون التخيير عقليا كما عرفت.

(3) يعني: لو لا اعتبار السنخية بين العلة و المعلول لأثّر كل شيء في كل شيء؛ كما قيل في علم الفلسفة.

ص: 299

و عليه: فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي، لبيان أن الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين.

و إن كان (1) بملاك أنه يكون في كل واحد منهما غرض، لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه؛ كان كل واحد واجبا بنحو (2) من الوجوب، يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه إلاّ إلى الآخر، و ترتب الثواب على فعل الواحد منهما، و العقاب على تركهما، فلا وجه في مثله (3) للقول بكون الواجب هو

=============

(1) إشارة إلى المقام الثاني الذي تقدم تفصيل ذلك.

(2) يعني: كان كل واحد واجبا مغايرا للوجوب التخييري العقلي الذي تقدم في المقام الأول، و كذلك يكون واجبا مغايرا للوجوب التعييني المتوقف على ثبوت الغرض في كل منهما مطلقا، و المفروض: عدم ثبوته كذلك لما عرفت: من أن الغرض يكون في كل واحد منهما في ظرف عدم الآخر.

فالمتحصل: أن الوجوب التخييري نحو من الوجوب «يستكشف عنه تبعاته» يعني:

آثاره، و من آثاره: عدم جواز تركه إلاّ إلى بدل، إذ لا معنى لعدم جواز الترك إلاّ الوجوب، و من آثاره: ترتب الثواب على فعل واحد منهما، فترتب الثواب على فعل واحد منهما كاشف إنّا عن الوجوب، لأن الثواب مترتب على إطاعة الحكم الوجوبي.

هذا إذا أتى بواحد من الفعلين.

و أما إذا أتى بكليهما: فعلى القول بوجوب كل منهما في ظرف عدم الآخر؛ لا يترتب الثواب أصلا لعدم وجوب شيء منهما حينئذ، إذ المفروض: وجوب كل واحد منهما عند عدم الآخر، و قد فات الشرط حال الجمع بينهما.

و أما على القول بكون الواجب خصوص ما يقوم به الغرض - سابقا كان أو لاحقا - يترتب الثواب على خصوص ما يقوم به الغرض دون الآخر.

و من آثار الوجوب التخييري: ترتب العقاب على ترك الفعلين، و لا عقاب إلاّ على ترك الواجب، فهذه الآثار تدل على وجوب كل منهما.

تزييف الأقوال المبنية على تعدد الملاك

(3) يعني: في مثل ما يكون التكليف متعلقا بكل واحد من الشيئين بملاك مستقل؛ بمعنى: تعلق التكليف بأحد الشيئين على سبيل التخيير، مع تعدد الملاك و الغرض.

و غرض المصنف من هذا الكلام: تزييف الأقوال المبنيّة على تعدد الملاك و الغرض، و هي الأقوال الأربعة المذكورة، مع فرض: تعدد الملاك في الجميع، أو في البعض.

ص: 300

أحدهما لا بعينه مصداقا و لا مفهوما، كما هو واضح؛ إلاّ إن يرجع إلى ما ذكرنا فيما إذا كان الأمر بأحدهما بالملاك الأول، من أن الواجب هو الواحد الجامع بينهما، و لا أحدهما معينا، مع كون كل منهما مثل الآخر في أنه واف بالغرض، (و لا كلّ واحد منهما تعيينا مع السقوط بفعل أحدهما، بداهة: عدم السقوط مع إمكان استيفاء ما و منها: هو كون الواجب أحدهما لا بعينه؛ مصداقا أو مفهوما. يقول المصنف في تزييف هذا القول: «لا وجه للقول بكون الواجب هو أحدهما لا بعينه مصداقا أو مفهوما».

=============

أما الأول: - و هو أحدهما لا بعينه مصداقا - فمردود بوجوه:

الأول: أنه خلاف ظاهر الدليل الدال على تعدد الواجب، لأنّ الكلام فيما ورد الأمر بنحو الترديد.

الثاني: أن تعدد الغرض كاشف عن تعدد الواجب.

الثالث: امتناع أن يكون الواجب مصداق أحدهما لا بعينه؛ إذ لا وجود له بداهة: أن الفرد الخارجي دائما يكون معينا لا مرددا نظرا إلى قاعدة «الشيء ما لم يتشخص لم يوجد» فلا يصح جعل مصداق «الواحد لا بعينه» موضوعا للغرض الداعي إلى الطلب و البعث؛ لأن المردد بما هو مردد لا وجود له حتى يكون مصداقا للواحد بعينه.

و أما الثاني: - و هو أحدهما: لا بعينه مفهوما - فمردود.

أوّلا: أن المردد لا واقع له أصلا لا خارجا و لا مفهوما، فإن كل ما يوجد في الذهن أو في الخارج لا تردد فيه، فإذا لم يكن للمردد واقع امتنع أن يكون معروضا لغرض اعتباري أو حقيقي.

و ثانيا: ما عرفت في الأول؛ من أن تعدد الغرض كاشف عن تعدد الواجب.

و ثالثا: أن هذا العنوان ليس من العناوين المقبّحة أو المحسّنة، نعم؛ يصح تعلّق بعض الصفات الحقيقية ذات الإضافة به كالعلم، و أمّا الطلب: فلا؛ لأنه لا يتعلق إلاّ بما كان حسنا. و تركنا ما في الوجوه المذكورة من النقض و الإبرام رعاية لاختصار الكلام في المقام، قوله: «إلاّ إن يرجع إلى ما ذكرنا»... إلخ، إشارة إلى توجيه القول بكون الواجب أحدهما لا بعينه، بعد وضوح فساده، و حاصل التوجيه: هو إرجاعه إلى ما ذكره المصنف من أن الواجب هو الجامع بينهما فيما إذا كان الملاك واحدا.

قوله: «و لا أحدهما معينا» معطوف على قوله: «أحدهما لا بعينه» يعني: لا وجه للقول بكون الواجب هو أحدهما المعين؛ لأن إيجاب أحدهما معينا مع وفاء كل منهما

ص: 301

في كل منهما من الغرض، و عدم جواز الإيجاب كذلك مع عدم إمكانه) فتدبر.

بقي الكلام في أنه هل يمكن التخيير عقلا أو شرعا بين الأقل و الأكثر أو لا؟

ربما يقال: «بأنه محال؛ فإن الأقل إذا وجد كان هو الواجب لا محالة، و لو كان في ضمن الأكثر لحصول الغرض به، و كان الزائد عليه من أجزاء الأكثر زائدا على بغرض يصلح لتشريع إيجابه يكون ترجيحا بلا مرجح، كما أشار إليه بقوله: «مع كون كل منهما مثل الآخر في أنه واف بالغرض».

=============

بقي الكلام بكون كل واحد منهما واجبا تعيينا مع السقوط بفعل أحدهما، و هو الذي أشار إليه بقوله: «و لا كل واحد منهما تعيينا مع السقوط بفعل أحدهما» يعني: و لا وجه لهذا القول أيضا كالقولين السابقين؛ و ذلك فلأنه مع إمكان استيفاء غرض كل واحد من الشيئين أو الأشياء لا وجه للسقوط بفعل واحد منهما، إذ المفروض: عدم التضاد بين الغرضين و كون كل منهما لازم الاستيفاء، و إلاّ لم يكن داع إلى إيجاب ما يقوم به.

و مع عدم إمكان استيفائه لا وجه لإيجاب كل من الشيئين تعيينا، لعدم القدرة عليه الموجب لقبح الإيجاب.

و الحاصل: أنه مع إمكان الاستيفاء لا وجه للسقوط، و مع عدمه لا وجه لإيجاب كلّ واحد منهما تعيينا، كما هو واضح.

و قوله: «و لا كل واحد منهما تعيينا» معطوف أيضا على قوله: «أحدهما لا بعينه» يعني لا وجه للقول بكون الواجب كل واحد منهما معينا مع السقوط بفعل أحدهما.

قوله: «بداهة عدم السقوط...» إلخ بيان لعدم الوجه لوجوب كلّ منهما معينا. كما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 553».

بقي الكلام في بطلان القول الرابع؛ و هو «وجوب المعين عند اللّه»، و بطلانه أوضح من الشمس، فلا يحتاج إلى إقامة برهان.

فالحق عند المصنف هو: وجوب الجامع، و قد عرفت وجه ذلك في المقام الأول، فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة. نعم؛ في المقام بحث طويل و هو النقض و الإبرام حتى على ما اختاره المصنف، و قد أضربنا عن ذلك رعاية للاختصار.

قوله: «فتدبر» لعله إشارة: إلى أن مرجع هذا القول إلى الوجوبين التعيينيين المشروط كل منهما بترك الآخر، فكلاهما واجبان تعيينيان مشروط وجوب كل منهما بترك الآخر.

ص: 302

الواجب»؛ لكنه ليس كذلك؛ فإنه (1) إذا فرض أن المحصّل للغرض - فيما إذا وجد

=============

الكلام في التخيير بين الأقل و الأكثر

و هناك قولان قول بالاستحالة، و قول بالإمكان:

و الأول: ما أشار إليه بقوله: «ربما يقال: بأنه محال» لكون الواجب هو الأقل فقط إن حصل به الغرض الداعي إلى الأمر؛ لأن الوجوب تابع لما في متعلقه من الغرض، فإذا فرض حصوله بالأقل؛ فلا محالة يكون هو الواجب.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الأمر - لكونه من الأفعال الاختيارية - لا بدّ له من غرض داع إليه لأن الأمر بلا غرض محال على الحكيم. ثم ذلك الغرض إما يحصل بالأقل و إما لا يحصل به، بل يحصل بالأكثر.

إذا عرفت هذه المقدمة فيتضح لك: أن التخيير بينهما غير معقول إذ على الأول: - و هو فرض حصول الغرض بالأقل - لا يتصف الأكثر بالوجوب أصلا؛ لأن الأقل يوجد قبل الأكثر، فيسقط الأمر بمجرد الإتيان به لوفائه بالغرض.

و على الثاني: - و هو عدم حصول الغرض بالأقل - لا يتصف الأقل بالوجوب - لما عرفت في المقدمة من: أن الوجوب و الأمر تابع للغرض - فلا معنى لجعل الأقل طرف الوجوب التخييري - كما لا معنى لجعل الأكثر كذلك على الفرض الأول.

فالمتحصل: أن التخيير بين الأقل و الأكثر غير معقول، و ما نراه في الشريعة من التخيير بين القصر و التمام و ما شاكلهما تخيير شكلي و صوري لا واقعي و حقيقي؛ فإنه بحسب الواقع تخيير بين المتباينين، لفرض: أن القصر في اعتبار الشارع مباين للتمام، فلا يكون التخيير بينهما من التخيير بين الأقل و الأكثر، بل هو من التخيير بين المتباينين.

(1) هذا ردّ من المصنف على القول باستحالة التخيير بين الأقل و الأكثر، فيصح التخيير بينهما.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الأكثر يعتبر بشرط شيء أعني: الزيادة، و الأقل يعتبر بشرط لا؛ أعني: عدم الزيادة. و من المعلوم: مغايرة الماهية بشرط شيء، و الماهية بشرط لا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن التخيير بين الأقل و الأكثر يرجع إلى التخيير بين المتباينين؛ لما عرفت: من التباين بين الماهية بشرط شيء، و الماهية بشرط لا؛ فلا يمتنع التخيير بين الأقل و الأكثر، لأن المحصّل للغرض هو الأقل إذا وجد بحدّه، و لا يكون محصلا للغرض إذا وجد في ضمن الأكثر، بل المحصّل هو الأكثر، و إذا كان الأمر كذلك تعيّن التخيير بين الأقل و الأكثر؛ لأن كلا منهما محصّل للغرض، و لا مرجّح

ص: 303

الأكثر - هو الأكثر لا الأقل الذي في ضمنه؛ بمعنى: أن يكون لجميع أجزائه حينئذ دخل في حصوله، و إن كان الأقل لو لم يكن في ضمنه كان وافيا به أيضا فلا محيص عن التخيير بينهما، إذ تخصيص الأقل بالوجوب حينئذ كان بلا مخصص (1)، فإن الأكثر بحدّه يكون مثله على الفرض مثل (2) أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخط مترتبا على الطويل إذا رسم بما له من الحدّ لا على القصير في ضمنه.

و معه (3) كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمه. و من الواضح: كون هذا الفرض بمكان من الإمكان.

=============

يقتضي تعيين أحدهما على الآخر. هذا ما أشار إليه بقوله: «فلا محيص عن التخيير بينهما».

(1) يعني: بلا وجه صحيح، «فإن الأكثر بحدّه يكون مثله» مثل الأقل على الفرض، إذ المفروض: وفاء كل من الأقل و الأكثر بالغرض، فيكون تخصيص الوجوب حينئذ بالأقل بلا وجه.

نعم؛ لو كان الواجب صرف وجود الطبيعة، لكان للإشكال المذكور مجال في المقام؛ لأن الواجب حينئذ ينطبق على الأقل بمجرد حصوله، فيسقط الأمر فلا يجب الزائد عليه؛ و أما إذا كان الواجب هو الوجود الخاص - أعني: وجودا واحدا تاما من الطبيعة - فلا ينطبق على الأقل بمجرد حصوله مطلقا، بل يتوقف على كونه تمام الفرد، فإذا شرع في الواجب فحصلت ذات الأقل لم يصدق أنه تمام الفرد حتى ينقطع الوجود، فإن انقطع عليه كان هو الواجب، و إن لم ينقطع لم يصدق الواجب إلاّ على تمام الوجود و هو الأكثر.

(2) هذا مثال لقيام الغرض بالأكثر لا الأقل المتحقق في ضمنه، و إن فرض كونه محصّلا للغرض إذا رسم بحدّه.

توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 558» -: أنه إذا أمر المولى برسم خط طويل دفعة بدون تخلل سكون في البين، فلا يحصل غرضه بالخط القصير المتحقق في ضمنه و إن فرض حصوله به إذا رسّم بحدّه.

(3) يعني: مع حصول الغرض بالأكثر كيف يجوز تخصيص الوجوب بما لا يعم الأكثر؟ و هو الأقل، و عليه: فيكون الأكثر عدلا للواجب التخييري. فحينئذ هذا الفرض - يعني: فرض دخل الأكثر في الغرض - بمكان من الإمكان.

و المتحصل: أنه مع إمكان استيفاء الغرض بما هو بشرط شيء، و بما هو بشرط لا؛ لا بد

ص: 304

إن قلت: هبه (1) في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحد، لم يكن للأقل في ضمنه وجود على حدة، كالخط الطويل الذي رسم دفعة بلا تخلل سكون في البين، لكنّه ممنوع فيما كان له في ضمنه وجود، كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث، أو خط طويل رسم مع تخلّل العدم في رسمه؛ فإن الأقل قد وجد بحدّه، و به يحصل الغرض على الفرض.

و معه (2) لا محالة يكون الزائد عليه مما لا دخل في حصوله، فيكون زائدا على الواجب، لا من أجزائه.

=============

من وجوب أحدهما تخييرا؛ إذ الإيجاب التعييني ترجيح بلا مرجح، إلاّ إن يقال: إن هذا التخيير و إن كان صحيحا إلاّ إنه أجنبي عن التخيير المبحوث عنه و هو الأقل و الأكثر، و مندرج في التخيير بين المتباينين لمباينة الماهية بشرط شيء و هو الأكثر؛ للماهية بشرط لا و هو الأقل.

(1) كلمة «هب» اسم فعل أمر جامد «لا ماضي له و لا مضارع» ينصب مفعولين أصلهما مبتدأ و خبر، و الهاء مفعوله الأول، و مفعوله الثاني: هو قوله: «في مثل ما إذا كان...» إلخ، لأن الجار و المجرور مفعول بالواسطة، و هي: ضمنت معنى جعل، فمعنى العبارة: «إن قلت: جعل التخيير بين الأقل و الأكثر ممكن في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحد».

و حاصل هذا الإشكال: أن محصلية الأكثر للغرض الداعي إلى وجوبه تختص ببعض موارد الأقل و الأكثر، و هو: ما إذا وجد الأكثر دفعة، بحيث لا يكون للأقل في ضمنه وجود مستقل، كالخط الطويل المتحقق دفعة؛ فإنه ليس للخط القصير الموجود في ضمنه وجود كذلك دون ما إذا كان للأقل وجود على حدة قبل تحقق الأكثر كالتسبيحة؛ فإنها توجد بوجود مستقل قبل حصول التسبيحتين الأخيرتين، فلا وجه حينئذ لوجوب التسبيحات الثلاث تخييرا بينها و بين التسبيحة الواحدة؛ إذ المفروض:

فردية الأقل - أعني: التسبيحة الواحدة - للطبيعي المأمور به، و وفاؤه بالغرض. فلا يتصور التخيير بين الأقل و الأكثر مطلقا؛ إذ في صورة دفعية الأكثر هو يتعين للوجوب، و في صورة تدريجيته الأقل هو يتعين للوجوب لفرديته للمأمور به، و وفائه بالغرض الداعي إلى تشريع الوجوب، فالواجب: إما الأكثر و إما الأقل لا أحدهما تخييرا.

(2) يعني: و مع حصول الغرض بالأقل المفروض وجوبه تخييرا لا محالة يكون الزائد على الأقل مما لا دخل له في حصول الغرض الداعي إلى الإيجاب، فيكون زائدا على الواجب، لا من أجزائه لفرض تحقق الواجب بالأقل.

ص: 305

قلت: (1) لا يكاد يختلف الحال بذلك فإنه مع الفرض لا يكاد يترتب الغرض على الأقل في ضمن الأكثر، و إنما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام، و معه كان مترتبا على الأكثر بالتمام.

و بالجملة: إذا كان كل واحد من الأقل و الأكثر بحدّه (2) مما يترتب عليه الغرض، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما، و كان التخيير بينهما عقليا إن كان هناك غرض واحد، و تخييرا شرعيا فيما كان هناك غرضان، على ما عرفت (3).

نعم؛ (4) لو كان الغرض مترتبا على الأقل من دون دخل للزائد، لما كان الأكثر

=============

(1) هذا دفع للإشكال: و حاصل ما أفاده المصنف في دفع الإشكال: أنه لا فرق بين القسم الأول و القسم الثاني؛ لأن مجرد دفعية الوجود و تدريجيته ليس مناطا في اتصاف الأكثر بالوجوب و عدمه، حتى يقال: إن الأكثر لا يتصف بالوجوب إلاّ إذا لم يكن للأقل وجود مستقل، كتسبيحة في ضمن التسبيحات. بل المناط في ذلك هو: اشتراط محصلية شيء للغرض بوجود أمر - كالأكثر - أو بعدمه - كالأقل - فإن كان مشروطا بالانضمام فهو الأكثر و إن وجد تدريجا، و إن كان مشروطا بعدمه، فهو الأقل كذلك.

هذا ما أشار إليه بقوله: «لا يكاد يختلف الحال بذلك» يعني: بحسب تدريجية الوجود و دفعيته.

قوله: «فإنه مع الفرض» تقريب لعدم اختلاف الحال بالدفعيّة و التدريجية و المراد بالفرض: ما سبق من أن الغرض قد يحصل بشرط لا و قد يحصل بشرط شيء، و الأقل من قبيل بشرط لا بأن كانت خصوصية الوجود دخيلة في الغرض، فلا يكاد يترتب الغرض على الأقل إذا كان في ضمن الأكثر، بل يترتب الغرض على الأكثر حينئذ، و إنما يترتب الغرض عليه أي: على الأقل «بشرط عدم الانضمام» أي: عدم الانضمام الزائد إليه و معه، أي: مع انضمام الزائد كان الغرض مترتبا على الأكثر بالتمام يعني: بجميع أجزائه، ليكون الواجب المحصل للغرض هو الأكثر لا الأقل المندرج فيه.

(2) يعني: حدّ الأقل هو وجوده مجرّدا عن الانضمام، و حدّ الأكثر خلافه.

(3) من الأمر بأحد شيئين أو أشياء إن كان بملاك واحد، فالتخيير بينهما أو بينها عقلي، و إن كان بملاكين أو ملاكات فالتخيير بينهما أو بينها شرعي.

(4) استدراك من التخيير بين الأقل و الأكثر، و حاصله: أنه لا مجال للتخيير بينهما فيما إذا كان الغرض مترتبا على الأقل مطلقا؛ من غير فرق بين انضمام الأكثر إليه و عدمه، لوضوح: سقوط الأمر بحصول الغرض القائم بالأقل، فهو الواجب تعيينا.

ص: 306

مثل الأقل، و عدلا له، بل كان فيه اجتماع الواجب و غيره مستحبا أو غيره (1) حسب اختلاف الموارد، فتدبر جيدا (2).

=============

(1) أي: غير المستحب و حاصله: أن الزائد على الواجب إما مستحب شرعا، كما عدا الذكر الواجب من أذكار الركوع و السجود، و غير ذلك من المستحبات التي ليست دخيلة في الغرض الداعي إلى إيجاب الصلاة. و إما غير مستحب من الحرام، و المكروه، مثل القرآن بين السورتين، على القولين من الحرمة و الكراهة. كما في «منتهى الدراية»، ج 2، ص 561.

(2) قوله: «فتدبر جيدا» إشارة إلى الدقة و التدقيق حتى تتميز موارد التخيير الشرعي من موارد التخيير العقلي.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتخلص البحث في أمور:

1 - لا إشكال في وقوع التخيير في الشرعيات و العرفيات، و إنما الكلام في تصويره في مقام الثبوت حيث يستشكل في الوجوب التخييري، و يقال: إن الوجوب التخييري يتنافي مع حقيقة الوجوب إذ أساس الوجوب هو: عدم جواز ترك متعلقه، و الوجوب التخييري يجوز ترك متعلقه، و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال: بأن الوجوب التخييري نحو من الوجوب تترتب عليه آثاره؛ من ترتب الثواب على فعل أحدهما، و العقاب على تركهما معا، و عدم جواز ترك جميع الأطراف.

2 - المذكور في تصويره وجوه: أشار إليها المصنف.

الأول: «وجوب كل واحد على التخيير».

الثاني: «وجوب الواحد لا بعينه».

الثالث: «وجوب كل منهما مع السقوط بفعل أحدهما».

الرابع: «وجوب المعين عند اللّه».

و مصبّ هذه الوجوه و الأقوال هو مقام الثبوت، و قد بين المصنف ما هو مختاره من تصوير التخيير الشرعي، ثم أرجعه إلى التخيير العقلي حيث قال: الواجب في الحقيقة هو الجامع بين الشيئين أو الأشياء، لأن الغرض الداعي إلى الأمر بهما أو بها واحد، و الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد، فلا بد من أن يكون الواجب هو الجامع لئلا يلزم تعدد العلل لمعلول واحد، فيكون التخيير بين الأفراد عقليا لا شرعيا.

ص: 307

هذا فيما إذا كان هناك غرض واحد. و أما إذا كان غرضان بأن يكون في كل واحد منهما أو منها غرض مستقل، و لكن لا يحصل الغرض من أحدهما مع حصوله من الآخر، لما بينهما من التضاد المفوّت أحدهما للآخر، فلا بد من الاكتفاء بأحدهما في مقام الامتثال، فيكون وجوبهما تخييريا شرعيا. إلاّ إن هذا الفرض بعيد جدا؛ إذ فرض غرضين متضادين بحيث لا يمكن الجمع بينهما في الخارج، مع فرض كون المكلف قادرا على الفعلين بعيد جدا؛ إذ لا يعقل التضاد بين الغرضين مع عدم المضادة بين الفعلين.

3 - ردّ سائر الوجوه و الأقوال على فرض تعدد الغرض و الملاك، و لذا يقول المصنف «فلا وجه في مثله للقول... الخ» يعني: فلا وجه في مثل ما يكون التكليف متعلقا بكل واحد من الشيئين بغرض مستقل، بمعنى: تعلق التكليف بأحدهما على سبيل التخيير مع تعدد الملاك و الغرض. فلا وجه في هذا الفرض للقول بكون الواجب هو أحدهما لا بعينه مصداقا و لا مفهوما.

أما الأول: فلوجوه: 1 - أنه خلاف ظاهر الدليل الدال على تعدد الواجب.

2 - أن تعدد الغرض كاشف عن تعدد الواجب.

3 - امتناع كون الواجب مصداق «أحدهما لا بعينه»، إذ لا وجود له؛ لأن الفرد الخارجي يكون معينا لا مرددا.

أما في الثاني: و هو كون الواجب مفهوم أحدهما لا بعينه فباطل؛ أولا: أن المردّد لا واقع له أصلا لا مصداقا و لا مفهوما، فامتنع أن يكون معروضا لغرض اعتباري أو حقيقي.

و ثانيا: أن تعدد الغرض كاشف عن تعدد الواجب.

و ثالثا: أن هذا العنوان ليس من العناوين المحسّنة، و الطلب لا يتعلق إلاّ بما كان حسنا و كذلك لا وجه للقول بكون الواجب أحدهما معينا لاستلزامه الترجيح بلا مرجح، مع إن المفروض: كون كل منهما وافيا بالغرض.

و كذلك لا وجه للقول بكون كل واحد منهما واجبا تعيينا مع السقوط بفعل أحدهما، لأن المفروض: إمكان استيفاء غرض كل واحد منهما لعدم التضاد بين الغرضين، و كون كل واحد منهما لازم الاستيفاء، فلا وجه للسقوط بفعل أحدهما لاستلزامه تفويت الغرض الذي يكون لازم الاستيفاء.

ص: 308

4 - التخيير بين الأقل و الأكثر:

ربما يقال: إنه محال؛ لأن الغرض إن كان يحصل بالأقل: فلا مجال للامتثال بالأكثر أصلا؛ إذ حينئذ يسقط الأمر بعد حصول الغرض بالأقل بمجرد الإتيان به.

و إن كان لا يحصل الغرض بالأقل: فلا وجه لجعله طرف التخيير، و الاكتفاء به في مقام الامتثال.

و قد قال المصنف في دفع هذا الإشكال - و تصحيح التخيير بين الأقل و الأكثر - بما حاصله: إنه يمكن أن يكون المحصل للغرض عند وجود الأكثر هو الأكثر دون الأقل الذي في ضمنه، و يمكن أن يكون الأقل محصّلا للغرض إذا وجد بحدّه لا في ضمن الأكثر.

فإذا كان الأمر كذلك يتعين التخيير بينهما، لأن كلا منهما محصل للغرض، و لا مرجح يقتضي تعين أحدهما دون الآخر.

و قد يستشكل: بأن هذا إنما يتم في المورد الذي لا يكون للأقل وجود مستقل لو وجد الأكثر، نظير الخط الطويل و الخط القصير؛ فإنه لا وجود للخط القصير مستقل عند وجود الخط الطويل.

و أما لو كان للأقل وجود مستقل مع وجود الأكثر؛ نظير التسبيحة الواحدة و التسبيحات الثلاث فلا يتم ما ذكر، إذ الأقل موجود بحدّه دائما، فيتحقق به الغرض، فلا تصل النوبة إلى الأكثر أبدا.

و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال: بما حاصله: أنه يمكن أن يكون ترتب الغرض على الأقل بشرط عدم الانضمام، و مع الانضمام: يكون الغرض مترتبا على الأكثر، فيكون الأقل مأخوذا بشرط لا، فيصح التخيير بين الأقل و الأكثر. إلاّ إن هذا و إن كان تصحيحا للتخيير بين الأقل و الأكثر، إلاّ إنه أجنبي عن التخيير المبحوث عنه، بل يرجع هذا التخيير في الحقيقة إلى التخيير بين المتباينين لمباينة الماهية بشرط شيء للماهية بشرط لا، و لازم هذا الكلام هو: الاعتراف بما ذكره بقوله: «ربما يقال بأنه محال إذ المراد بالاستحالة عدم معقولية التخيير بين الأقل و الأكثر؛ ضرورة: أن الأقل بشرط لا يباين الأكثر الذي هو الأقل بشرط شيء، فيخرجان عن الأقل و الأكثر، و يندرجان في المتباينين؛ إلاّ إن يقال: إن التباين بين الأقل و الأكثر عقلي، و التباين بين المتباينين خارجي، فلا يندرج الأول في الثاني؛ حتى يقال بخروجهما عن الأقل و الأكثر، و دخولهما في المتباينين.

ص: 309

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - رأيه في التخيير بين المتباينين: أن الواجب هو الجامع بين الشيئين، فيكون التخيير بين أفراده عقليا لا شرعيا.

2 - رأيه في التخيير بين الأقل و الأكثر هو: إمكان التخيير، و كون الواجب هو الجامع بينهما، فيكون التخيير عقليا كالتخيير بين المتباينين إن كان هناك غرض واحد يترتب على كل واحد من الأقل و الأكثر.

و أما لو كان هناك غرضان: لكان التخيير بينهما شرعيا؛ على ما عرفت في التخيير بين المتباينين.

ص: 310

فصل في الوجوب الكفائي (1)

اشارة

و التحقيق: أنه (2) سنخ من الوجوب، و له تعلق بكل واحد، بحيث لو أخلّ بامتثاله الكل لعوقبوا على مخالفته جميعا، و إن سقط عنهم لو أتى به بعضهم. و ذلك: لأنه في الواجب الكفائي (1) في نسخة: في الواجب الكفائي.

=============

(2) أعني: الوجوب الكفائي نوع من الوجوب، كما أن الوجوب التخييري كذلك، و لكن قبل الخوض في البحث ينبغي تقديم أمور:

1 - العلم بالكفائية في مقام الإثبات:

فنقول: «تارة يعلم الكفائية» من عدم قابلية الفعل للتكرار؛ كقتل مهدور الدم في نحو ما إذا قال المولى: «اقتلوا فلانا»، فقتله أحدهم، لا يبقى مجال للآخرين؛ لانتفاء موضوع الحكم، فيسقط التكليف عن الجميع.

«و أخرى: يعلم»: من حصول الغرض بفعل البعض و إن كان الموضوع باقيا، كما إذا قال: «اسقوني ماء»، فسقاه أحدهم، و ارتفع به العطش - و هو الغرض - فسقط به الأمر عن الباقين.

«و ثالثة»: قد يحصل العلم بالكفائية من الأدلة الشرعية كالإجماع و نحوه؛ كما في غسل الميت و الصلاة عليه، حيث قام الدليل على سقوط التكليف عن الباقين بقيام أحد المكلفين بذلك، و هو كاشف عن حصول الغرض بمجرد تحقق الفعل و صدوره عن أحدهم على النحو الصحيح.

2 - تعريف الواجب الكفائي:

و له تعاريف عديدة، و لكن نكتفي بذكر بعضها رعاية للاختصار.

الأول: ما إذا فعل بعض سقط عن الباقين.

الثاني: ما قصد به الشارع إدخال الفعل في الوجود لا من مباشر معين، فلم يقصد تعيين عين فاعله.

الثالث: ما وجب لمصلحة و لطف يحصل للمكلفين كافة بفعل أيّهم كان.

ص: 311

3 - للواجب الكفائي أحكام متفق عليها بين القوم.

منها: أنه لو تركه الجميع لكانوا معاقبين بأجمعهم.

و منها: أنه يمتثل بفعل واحد منهم. و منها: لو أتى به الجميع يعد الجميع ممتثلا و مستحقا للثواب.

إذا عرفت هذه الأمور فنقول: إنه لا ريب في وجود الواجبات الكفائية شرعا و هي:

الأمور التي يجب تحققها من دون عناية إلى صدورها من شخص خاص، بل المطلوب صدورها عن جميع المكلفين، و لكن مع قيام البعض يسقط عن الباقين، كما عرفت.

و لكن قد صار تصوير الواجب الكفائي من المشكلات عندهم، حيث أرادوا تصويره بنحو ينطبق عليه التعريف الذي ذكروه لمطلق الواجب، أعني: ما يكون في فعله ثواب، و في تركه عقاب.

أما تقريب الإشكال في تصويره: فلأن عقاب الكل عند ترك الجميع ينافي سقوط الواجب بفعل البعض، إذ لازم عقاب الكل هو: توجه التكليف و الوجوب إلى كل واحد منهم، و لازم السقوط بفعل البعض هو: توجهه إلى البعض لا إلى كل منهم. هذا خلاصة الإشكال في تصوير الواجب الكفائي، و قد تصدّوا لحل هذا الإشكال بالفرق بين الواجب العيني و الواجب الكفائي، و غاية ما يمكن أن يقال في الفرق بينهما هو: أن مطلوب المولى في الوجوب الكفائي هو: وجود الطبيعة المطلقة، غير مقيدة بصدورها عن مكلف خاص، فليس لصدورها عن فاعل خاص دخل في الغرض، هذا بخلاف الوجوب العيني حيث يكون صدور الطبيعة المأمور بها عن كل مكلف بشخصه و نفسه مطلوبا للمولى، و دخيلا في الغرض، فحينئذ لمّا كان كل واحد من المكلفين قادرا على إيجاد الطبيعة المأمور بها في الواجب الكفائي، يتوجه طلب المولى إلى كل واحد منهم لعدم خصوصية موجبة للتخصيص بواحد منهم.

فالمتحصل: أن التكليف يتوجه إلى كل واحد من المكلفين مستقلا. و لكن ما كلف به كل واحد منهم عبارة عن أصل الطبيعة غير المقيدة بصدورها عن نفسه، ففي مسألة دفن الميت مثلا: يكون كل واحد من الناس مكلّفا مستقلا، و لكن المكلف به في الجميع أمر واحد، فكما أن زيدا مكلف بإيجاد طبيعة الدفن؛ فكذلك سائر المكلفين، من غير ان تكون هذه الطبيعة مقيدة بصدورها عن زيد نفسه و بالمباشر، و عن عمرو و بكر و خالد كذلك، و لازم هذا النوع من الوجوب هو: سقوط جميع التكاليف بامتثال واحد منهم؛

ص: 312

قضية ما إذا كان غرض واحد، حصل بفعل واحد، صادر عن الكل (1) أو البعض (2).

كما أن الظاهر: هو امتثال الجميع لو أتوا به دفعة، و استحقاقهم للمثوبة، و سقوط الغرض بفعل الكل، كما هو (3) قضية توارد العلل المتعددة على معلول واحد.

=============

من جهة حصول ما هو تمام المطلوب أعني: إيجاد الطبيعة المأمور بها. هذا بخلاف الواجب العيني فإن المطلوب هو صدورها عن كل واحد من المكلفين بنفسه و شخصه، فلا يحصل الغرض إلاّ بصدورها عن كل شخص.

فخلاصة الفرق بين الواجب الكفائي و العيني هو: أنه إذا بادر أحدهم إلى الامتثال سقط عن الباقين في الواجب الكفائي دون الواجب العيني، و منشأ هذا الفرق هو:

ارتفاع موضوع التكليف في الكفائي، أو وحدة الغرض فيه، فيسقط التكليف بحصول الغرض بفعل واحد من المكلفين؛ هذا بخلاف العيني حيث إن الغرض منه متعدد، و لذا لا يسقط بفعل واحد منهم. و هناك كلام طويل تركناه تجنبا عن التطويل الممل.

قوله: «و ذلك لأنه...» إلخ تعليل لاستحقاق الجميع للعقوبة.

(1) كرفع حجر ثقيل لا يتمكن من رفعه إلاّ الكل، و المجموع من حيث المجموع، أو اجتمعوا على الصلاة على الميت.

(2) يعني: كما لو غسل الميت بعضهم.

(3) أي: سقوط الغرض بفعل الكل مقتضى توارد العلل المتعددة على معلول واحد، فإن المقام من تواردها، ضرورة: أنه بعد كون الغرض الموجب للأمر واحدا فلا محالة يكون المؤثر في حصوله هو الجامع بين الأفعال المتعددة؛ لئلا يلزم استناد الأثر الواحد إلى المتعدد لبرهان امتناع ذلك. و كيف كان؛ فعند فعل الجميع يكون الأثر مستندا إلى الجامع بين أفعالهم، كما في «منتهى الدراية»، ج 2، ص 567 مع توضيح منّا.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - للعلم بكفائية الواجب طرق:

الأول: عدم قابلية الفعل للتكرار كقتل مهدور الدم.

الثاني: حصول الغرض بفعل البعض.

الثالث: الأدلة الشرعية كقيام الإجماع و نحوه؛ على كفاية الصلاة على الميت إذا صلى عليه واحد من المكلفين.

2 - تعريف الواجب الكفائي:

ص: 313

الأول: ما إذا فعل بعض سقط عن الباقين.

الثاني: ما قصد به الشارع صدور الفعل لا من مكلف مباشر معين.

الثالث: ما وجب لمصلحة و لطف يحصل للمكلفين كافة بفعل أيّهم كان.

و من أحكام الواجب الكفائي: أنه لو تركه الجميع لكانوا معاقبين بأجمعهم، و لو أتى به الجميع يعدّ الجميع ممتثلا و مستحقا للثواب.

3 - لا ريب في وجود الواجبات الكفائية شرعا، إلاّ إنه قد يستشكل في تصوير الواجب الكفائي: بأن الواجب ما في فعله ثواب و تركه عقاب، ثم عقاب الكل في الواجب الكفائي عند ترك الجميع ينافي سقوطه بفعل البعض إذ لازم السقوط بفعل البعض هو توجهه إلى البعض لا إلى الكل، و لازم عقاب الجميع: هو توجه التكليف إلى كل واحد منهم لا إلى البعض و التنافي بين اللازمين واضح.

و قد تصدّوا الحل هذا الإشكال بالفرق بين الواجب العيني و الكفائي؛ «تارة»: من حيث ما هو المطلوب و «أخرى»: من حيث الغرض. فإن المطلوب في الوجوب الكفائي هو وجود الطبيعة غير مقيدة بصدورها عن مكلف خاص.

و بعبارة أخرى: أن المطلوب في الكفائي هو صرف الوجود الصادق على الكلي و الجزئي؛ بخلاف العيني حيث يكون صدور الفعل عن مكلف خاص بشخصه و نفسه مطلوبا. و الغرض من الواجب الكفائي واحد يحصل بفعل واحد من المكلفين؛ بخلاف الواجب العيني، و لازم الفرق المذكور هو: أنه إذا بادر أحدهم إلى الامتثال سقط عن الباقين في الكفائي دون العيني.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - أن الوجوب الكفائي سنخ من الوجوب.

2 - يتوجه إلى كل واحد من المكلفين، و يسقط بفعل البعض لحصول الغرض به.

3 - و لو أخلّ بامتثاله الكل لعوقبوا جميعا على تركه.

4 - و لو أتى به الجميع دفعة لكان الجميع مستحقا للثواب.

ص: 314

لا يخفى: أنه و إن كان الزمان مما لا بد منه عقلا في الواجب، إلاّ إنه تارة:

مما له دخل فيه شرعا فيكون مؤقتا (1)، و أخرى: لا دخل له فيه أصلا فهو غير مؤقت. و المؤقت: إما أن يكون الزمان المأخوذ فيه بقدرة فمضيّق، و إما أن يكون أوسع منه فموسع. و لا يذهب عليك: أن الموسع كلي، كما كان له أفراد دفعية كان له أفراد تدريجية (2) يكون التخيير بينها كالتخيير بين أفرادها

=============

فصل في الواجب المؤقت

اشارة

(1) و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام في المقام. فنقول: إنه قد قسموا الواجب - باعتبار تحديده بزمان خاص، و عدم تحديده به - إلى مؤقت و غير مؤقت. أعني: المطلق.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي أن الواجب باعتبار كونه فعلا صادرا عن المكلف يكون زمانيا، فيحتاج إلى زمان يقع فيه.

ثم الزمان تارة: يكون مما جعله الشارع دخيلا و قيدا في الواجب كالزمان الذي أخذ في لسان الدليل للصلوات اليومية، فهذا يسمى بالموقت، و هو على قسمين: موسع، و مضيق، لأن الزمان المأخوذ قيدا إن كان بقدر ما يحتاج إليه الفعل عقلا من غير زيادة و نقصان؛ بحيث يكون الزمان كاللباس المخيط على قدر قامة الفعل فهو مضيق؛ كقوله:

«صم من الفجر إلى المغرب»، و إن كان الزمان أوسع منه - كالزمان في الصلوات اليومية - فهو موسع. كقوله تعالى: أقم الصّلاة لدلوك الشّمس إلى غسق الليل سورة الإسراء، الآية 78. و أخرى لم يؤخذ الزمان قيدا للواجب شرعا، كصلاة الزلزلة مثلا، فيسمى بالمطلق و غير موقت.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل الكلام في المقام هو الواجب الموقت.

(2) هذا الكلام من المصنف دفع لتوهم كون التخيير بين أفراد الواجب الموسع شرعيا فلا بد أوّلا من تقريب التوهم. و ثانيا: من توضيح دفعه، و المتوهم - على ما قيل - هو العلامة «قدس سره».

ص: 315

الدفعية (1) عقليا.

و لا وجه لتوهم: أن يكون التخيير بينها شرعيا، ضرورة: أن نسبتها (2) إلى الواجب نسبة أفراد الطبائع إليها، كما لا يخفى.

و وقوع (3) الموسّع فضلا عن إمكانه مما لا ريب فيه، و لا شبهة تعتريه، و لا اعتناء و أما تقريب التوهم: فيمكن أن يقال: إنه لمّا امتنع تطبيق الواجب على الزمان الموسع، لأوسعيته من الواجب، فلا محالة يكون تقييد الواجب به عبارة عن تقييده بكل جزء من أجزاء ذلك الزمان على البدل، فيراد من قوله تعالى: أقم الصّلاة لدلوك الشّمس إلى غسق الليل مثلا، ما يساوي أن يقال: صلّ في الآن الأول، و في الآن الثاني، أو في الآن الثالث إلى آخر آنات الزمان، فيكون ذكر الزمان الوسيع بمنزلة التخيير الشرعي بين الأفراد الطولية التدريجية التي يمكن وقوعها فيه. نظير أطعم أو صم أو أعتق في كفارة الإفطار، فيكون التخيير بين أفراد الموسع الطولية شرعيا.

=============

و أما توضيح الدفع الذي أشار إليه بقوله: «و لا يذهب عليك...» إلخ هو: أن الغرض القائم بطبيعة الصلاة المقيدة بوقوعها بين الحدين التي لها أفراد طولية بلحاظ قطعات الزمان نسبتها معها نسبة الكلي و الجزئي، و لها أفراد عرضية بلحاظ نقاط الأرض، و نسبتها معها أيضا نسبة الكلي و الجزئي، فكما أن المكلف مخيّر عقلا بين أفرادها العرضية بلا إشكال أصلا، فكذلك مخيّر عقلا بين أفرادها الطولية، لأن الأمر بالشيئين أو الأشياء إذا كان بملاك واحد كان التخيير بينهما أو بينها عقليا، لقيام الغرض بالجامع الذي يكون انطباقه على أفراده عقليا، و المقام من هذا القبيل، و لا مجال للتخيير الشرعي المنوط بتعدد الغرض؛ إذ لم يحرز تعدد الغرض بحسب الآنات المتوالية.

(1) يعني: كما أن التخيير بين الأفراد الدفعية عقلي، فكذلك بين الأفراد الطولية.

(2) يعني: نسبة الأفراد إلى الواجب الموسع نسبة أفراد الطبائع إلى طبائعها. يعني:

فيكون التخيير بين أفراد الموسع عقليا، لكون الواجب نفس الطبيعة؛ لا خصوصية جزئي من جزئياتها حتى يكون التخيير بين الأفراد شرعيا. كما في «منتهى الدراية»، ج 2، ص 570.

دفع الإشكال عن الواجب الموسع

(3) هذا الكلام من المصنف «قدس سره» دفع لتوهم استحالة الموسع؛ بتقريب: أن تشريع الواجب الموسع مستلزم لاجتماع النقيضين؛ بداهة: أن جواز ترك الواجب في بعض أجزاء الزمان ينافي الوجوب الذي هو عدم جواز الترك.

و من البديهي: أن جواز الترك و عدم جوازه أمران متناقضان لا زمان للواجب الموسّع، و بطلان اللازم و استحالته يكفي في بطلان الملزوم.

ص: 316

ببعض التسويلات (1) كما يظهر من المطوّلات.

ثم إنه لا دلالة للأمر بالموقت بوجه؛ على الأمر به في خارج الوقت بعد فوته في و حاصل الدفع: أن الواجب الموسع قد وقع في الشرع، و من المعلوم: أن وقوع شيء أدلّ دليل على إمكانه، هذا مضافا: إلى أن جواز الترك لا ينافي الوجوب إذا كان مع بدل كالوجوب التخييري.

=============

(1) يعني: و منها: توهم استحالة الموسع كما عرفت.

و منها: أن ترك الواجب في الآن الأول مع بدل في الآن الثاني مستلزم للخلف؛ إذ يكون وجوبه حينئذ تخييريا لا تعيينيا، مع إن الواجب الموسع من الواجبات التعيينية.

و حاصل الجواب: أن الواجب هو طبيعي الفعل في طبيعي الوقت، فيكون وجوب الفعل في كل آن وجوبا تخييريا عقليا لا شرعيا؛ لانطباق طبيعي الفعل المقيد بطبيعي الوقت على كل فرد عقلا، و التخيير العقلي ليس خلاف الفرض؛ فإنه لا يتنافي مع كون الوجوب الشرعي تعيينيا.

«و من تلك الشبهات: أن الفضيلة و الزيادة في الوقت ممتنعة لأدائها إلى جواز ترك الواجب فيخرج عن كونه واجبا.

و الجواب: أن أفراد الموسع كخصال الكفارة، فكما لا يجب إتيان جميعها، كذلك لا يجب إيقاع الفعل في جميع الأزمنة، و لا يجوز له إخلاء الجميع عنه، و التعيين مفوض إليه ما دام الوقت متسعا، فإذا تضيق تعيّن الفعل عليه بحيث لو لم يفعل في هذا الحال كان عاصيا، فأين الخروج عن وجوبه»؟ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 2، ص 297».

هذا تمام الكلام في الواجب الموسع في مقام الثبوت.

أما تنقيح البحث فيه في مقام الإثبات: فقد أشار إليه بقوله: «ثم إنه لا دلالة للأمر بالمؤقت...» إلخ هل يدل الأمر بالموقت على وجوب الفعل خارج الوقت - على نحو تعدد المطلوب - أو يدل على عدم الوجوب، أو لا دلالة له على شيء منهما؟ و ظاهر المصنف هو: التفصيل بين كون التوقيت بدليل متصل، و بين كونه بدليل منفصل.

و توضيح ذلك - على ما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 571» -: أن التوقيت: تارة:

يكون بدليل متصل، كأن يقول: «صلّ فيما بين دلوك الشمس و غروبها»، و أخرى:

يكون بدليل منفصل، كأن يقول: «اغتسل»، ثم ورد دليل على وجوب الغسل أو استحبابه يوم الجمعة.

فعلى الأول: لا دلالة للتوقيت على الوجوب بعد خروج الوقت؛ إذ لا يدل على

ص: 317

الوقت، لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به. نعم؛ لو كان التوقيت بدليل منفصل (1) لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت و كان الدليل الواجب إطلاق لكان قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت (2)، و كون التقييد به بحسب تمام المطلوب، كيفية دخل الوقت في المصلحة من كونه دخيلا في جميع مراتبها؛ حتى لا يجب بعد الوقت لانتفاء تمامها بخروج الوقت، فلا مصلحة تقتضي الوجوب بعده، أو دخيلا في بعض مراتبها؛ حتى يبقى منها مرتبة توجب تشريع الوجوب أو الاستحباب بعد الوقت، فيشك في الوجوب بعده، و الأصل يقتضي عدمه إن لم يقم دليل على الوجوب، و إلاّ فهو المتبع.

=============

هذا إذا لم نقل بمفهوم الوصف، و إلاّ فيدل التوقيت على عدم الوجوب بعد الوقت.

و على الثاني: و هو كون التقييد بدليل منفصل: لا يخلو الحال عن صور أربع:

الأولى: ثبوت الإطلاق لكلّ من دليلي الواجب و التقييد، و معنى إطلاق دليل الواجب: وجوبه في الوقت و خارجه، فيكون من باب تعدد المطلوب. و معنى إطلاق دليل التوقيت: دخل الوقت في جميع مراتب المصلحة، و مقتضاه الوجوب في الوقت فقط دون خارجه؛ لفرض: انتفاء المصلحة الداعية إلى الإيجاب بخروج الوقت، فيكون من باب وحدة المطلوب. و لا بد في هذه الصورة من الأخذ بإطلاق دليل التقييد لحكومته على إطلاق دليل الواجب، و مقتضاه: الحكم بعدم وجوبه بعد الوقت.

الثانية: عدم إطلاق لشيء من الدليلين، بأن كانا مهملين، و المرجع في هذه الصورة:

الأصل العملي، و هو أصل البراءة عن وجوب القضاء.

الثالثة: إطلاق دليل الواجب، و إهمال دليل التوقيت.

الرابعة: عكس هذه الصورة، بأن يكون دليل التوقيت مطلقا، و دليل الواجب مهملا، و المرجع في هاتين الصورتين: الإطلاق، ففي الأولى: يحكم بالوجوب بعد خروج الوقت، و في الثانية: بعدم الوجوب بعده؛ لاقتضاء إطلاق دليل التوقيت انتفاء المصلحة رأسا، فلا موجب لوجوبه بعد الوقت.

قوله: «لا دلالة للأمر بالموقت بوجه على الأمر به في خارج الوقت» إشارة إلى التقييد بالمتصل، كما أن قوله: «نعم» إشارة إلى التقييد بالمنفصل، يعني: لا دلالة للأمر بالموقت بوجه من وجوه الدلالة لا لغة و لا عرفا.

(1) كما لو قال: صلّ ، ثم قال: يجب كون الصلاة في الوقت، فهو على أربعة أقسام و قد عرفت أحكام تلك الأقسام و قد أشار المصنف إليها.

(2) هذا إشارة إلى الصورة الثالثة من الصور الأربع، فمعنى العبارة: إذا كان لدليل

ص: 318

لا أصله (1).

و بالجملة: التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب (2) كذلك ربما يكون بنحو تعدد المطلوب، بحيث كان أصل الفعل - و لو في خارج الوقت - مطلوبا في الجملة، و إن لم يكن بتمام المطلوب إلاّ إنه لا بدّ في إثبات أنه بهذا النحو من دلالة، و لا يكفي الدليل على الوقت إلاّ فيما عرفت (3)، و مع عدم الدلالة: فقضية أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت (4)، و لا مجال الواجب إطلاق لكان مقتضاه ثبوت الوجوب بعد الوقت، و كون التقييد بالوقت بنحو تعدد المطلوب لا وحدته، إذ مقتضى تعدد المطلوب هو مطلوبية نفس الواجب؛ سواء كان في الوقت أم بعده، فمطلوبيته في خصوص الوقت زائدة على مطلوبية أصل الواجب، ففوت المصلحة الوقتية لا يستلزم فوات مطلوبية نفس الطبيعة؛ لأن التقييد يكون لبعض مراتب المصلحة، لا أصلها، فيؤتى بالواجب بعد الوقت، فالمراد من «تمام المطلوب» هو: المطلوب الأقصى و التام أراد به تعدد المطلوب.

=============

(1) لا أصل المطلوب، كي لا يجب بعد خروج الوقت، و كان بنحو وحدة المطلوب، بل أصل مطلوبية الفعل باق و لو خرج الوقت، فيكون بنحو تعدد المطلوب.

(2) كصلاة العيد و الجمعة؛ بأن كان المطلوب للمولى صرف الطبيعة الموقتة؛ بحيث تفوت بفوات الوقت، «كذلك ربما يكون بنحو تعدد المطلوب» كالصلوات اليومية بحيث كان أصل الفعل مطلوبا بمرتبة ضعيفة «و إن لم يكن بتمام المطلوب». أعني:

المطلوب الأكمل، لأنه إنما يكون بإتيان الواجب في الوقت؛ لا في خارج الوقت، «إلاّ إنه لا بدّ في إثبات أنه» أي: المطلوب «بهذا النحو»، يعني: بنحو تعدد المطلوب من دلالة دليل، لأن ظاهر دليل التوقيت كسائر أدلة التقييدات هو: كون القيد دخيلا في جميع مراتب المصلحة، فبانتفائه تنتفي المصلحة بتمام مراتبها، فيكون التوقيت من باب وحدة المطلوب، فدخل الوقت في بعض مراتب المصلحة حتى يكون من باب تعدد المطلوب خلاف ظاهر دليل التوقيت، فلا بد في الدلالة عليه من التماس دليل آخر غير دليل التوقيت، كما أشار إليه بقوله: «إلاّ إنه لا بدّ في إثبات أنه بهذا النحو من دلالة» دليل مستقل غير دليل التوقيت.

(3) في قوله: «نعم؛ لو كان التوقيت...» إلخ حيث كان ثبوت الوجوب بعد الوقت مقتضى إطلاق دليل الواجب.

(4) إذ يشك - بعد عدم الدليل على تعدد المطلوب - في وجوبه بعد الوقت، فتجري البراءة فيه؛ لكون الشك فيه شكا في التكليف.

ص: 319

لاستصحاب (1) وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت، فتدبر جيدا (2).

=============

(1) قوله: «لا مجال لاستصحاب...» إلخ دفع لتوهم الاستصحاب بتقريب: أن وجوب صلاة الظهر مثلا كان قبل غروب الشمس معلوما، فيستصحب وجوبها بعد غروبها، فهذا الاستصحاب الحكمي يثبت وجوبها بعد الوقت، و معه لا تجري البراءة لحكومته عليها.

و حاصل الدفع: أنه لا مجال لجريان الاستصحاب هنا و ذلك لانتفاء الموضوع و هو الوجوب المقيد بالوقت، لأن من شرائط الاستصحاب هو إحراز بقاء الموضوع فلا يجري مع الشك في بقائه فضلا عن العلم بانتفائه.

(2) حتى لا يقع الاشتباه و الخلط بين الأقسام الأربعة، أو إشارة: إلى أن الموضوع في الاستصحاب إن كان بنظر العقل و دقته فلا يجري في التكليف الموقت. و أما إذا كان الموضوع بنظر العرف: فيمكن القول بجريانه في المقام.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - الواجب باعتبار كون الزمان قيدا له ينقسم إلى الموقت و المطلق، أعني: غير الموقت، و الموقت ما يكون للوقت و الزمان دخل في مصلحته، و هو على قسمين: فإن كان الوقت بقدر الواجب فهو مضيق؛ كالصوم، و إن كان أوسع فيسمّى موسّعا؛ كما في الصلوات اليومية، فيجوز للمكلف أن يأتي بصلاة الظهر في أول الوقت أو في وسطه أو في آخر الوقت، ثم التخيير بين أفرادها الطولية كأفرادها العرضية عقلي، و ليس شرعيا كما توهّم.

2 - توهم: أن التخيير بين الأفراد الطولية شرعي؛ بتقريب: أنه لمّا امتنع تطبيق الواجب على الزمان الموسّع؛ فلا محالة يكون تقييد الواجب به عبارة عن تقييده بكل جزء من أجزاء ذلك الزمان على البدل، فيكون التخيير بين أجزاء الزمان شرعيا.

مدفوع: بأن الغرض القائم بطبيعة - لها أفراد طولية و عرضية - يقتضي كون التخيير بين أفرادها عقليا؛ من دون فرق بين أفرادها العرضية و الطولية، و ذلك لانطباق الغرض بالجامع الذي يكون انطباقه على أفرادها عقليا.

و توهم: استحالة الواجب الموسع مدفوع؛ بوقوع الواجب الموسع؛ لأن وقوع شيء أدل دليل على إمكانه. هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.

3 - أمّا مقام الإثبات: فقد أشار إليه بقوله: «ثم إنه لا دلالة للأمر بالموقت بوجه على

ص: 320

الأمر به في خارج الوقت» هل يدل الأمر بالموقت على وجوب الفعل خارج الوقت - على نحو تعدد المطلوب - أو يدل على عدم الوجوب، أو لا دلالة له على شيء منهما؟

ظاهر المصنف هو: التفصيل بين كون التوقيت بدليل متصل - فلا يدل دليل التوقيت على الوجوب بعد خروج الوقت - و بين كون دليل التوقيت منفصلا.

و أمّا إذا كان التوقيت بدليل منفصل: فلا يخلو عن صور أربع:

1 - إطلاق كلّ من دليلي الواجب و التقييد، فيؤخذ بدليل التقييد لحكومته على إطلاق دليل الواجب، و مقتضاه: عدم الوجوب بعد الوقت، فيكون من باب وحدة المطلوب.

2 - عدم إطلاق دليليهما. و المرجع في هذه الصورة هو: أصل البراءة عن وجوب القضاء في خارج الوقت.

3 - إطلاق دليل الواجب دون دليل التوقيت.

4 - عكس هذه الصورة. و المرجع في هاتين الصورتين هو: الإطلاق، ففي الأولى:

يحكم بالوجوب بعد انقضاء الوقت. و في الثانية: عدم الوجوب بعده.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - إمكان الواجب الموسع.

2 - التخيير بين الأفراد الطولية عقلي.

3 - لا دلالة للأمر بالموقت على الأمر به في خارج الوقت، إلاّ في صورة كون دليل التوقيت منفصلا، و كان لدليل الواجب إطلاق دون دليل التوقيت.

ص: 321

ص: 322

الأمر بالأمر بشيء، أمر به (1) لو كان الغرض حصوله، و لم يكن له غرض في توسيط أمر الغير به إلاّ تبليغ أمره به، كما هو المتعارف في أمر الرسل بالأمر أو

=============

فصل الأمر بالأمر

اشارة

(1) هل الأمر بالأمر بشيء أمر بذلك الشيء أم لا؟ فيه قولان: بيان محل النزاع: إذا أمر المولى عبده زيدا بأن يأمر عمروا بشيء؛ كالصلاة مثلا، فهل يكون عمرو مأمورا للمولى - فإذا خالف عدّ عاصيا لأمره، فيكون الأمر بالأمر بشيء أمرا به - أم لا؟ بأن يكون عمرو مأمورا لزيد، بأن يكون لأمر زيد موضوعية و ليس له طريقية قولان: نسب الأول منهما:

إلى بعض المتأخرين. و الثاني: إلى بعض المحققين. هذا مجمل الكلام في المقام.

و لكن ظاهر المصنف هو: التفصيل في مقام الثبوت، و عدم تعيين أحد المحتملات في مقام الإثبات.

توضيح التفصيل: يتوقف على مقدمة و هي: أن أمر المولى إنما يتصور - بلحاظ الغرض - على أقسام:

الأول: أن يكون غرضه حصول ذلك الشيء في الخارج، و كان الغرض من التوسيط هو مجرد تبليغ أمره إلى الشخص الثالث.

الثاني: أن يكون غرضه متعلقا بصرف أمر الواسطة؛ من دون تعلقه بحصول ذلك الشيء بأن يريد امتحان الواسطة في أنه هل يطيع و يبلغ الأمر إلى الثالث أم لا؟

الثالث: أن يكون غرضه قد تعلق بحصول ذلك الشيء؛ لكن بعد تعلق أمر الواسطة به، بحيث يكون أمر الواسطة من قبيل شرط الوجوب.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الأمر بالأمر بشيء أمر به في الصورة الأولى، و لا يكون أمرا به في الصورة الثانية، و الثالثة.

و أمّا عدم كون الأمر الأول أمرا بذلك الشيء في الصورة الثانية فواضح؛ لعدم تعلق غرض المولى بفعل ذلك الشيء أصلا، إذ تمام موضوع غرض المولى حينئذ هو نفس أمر الغير به.

ص: 323

النهي. و أمّا لو كان الغرض من ذلك يحصل بأمره بذلك الشيء؛ من دون تعلق غرضه به أو مع تعلق غرضه به لا مطلقا، بل بعد تعلّق أمره به، فلا يكون أمرا بذلك الشيء، كما لا يخفى.

و قد انقدح بذلك: أنه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر، على كونه أمرا به، و لا بدّ في الدلالة عليه من قرينة عليه.

=============

و أما عدم كونه أمرا به في الصورة الثالثة: فلأنه مأمور به بشرط أمر الواسطة به لا مطلقا.

فحاصل التفصيل: أن الأمر بالأمر بشيء أمر به إذا تعلق الغرض بحصول ذلك الشيء و ليس أمرا به إذا لم يكن كذلك. هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.

أمّا مقام الإثبات فقد أشار إليه بقوله: «و قد انقدح بذلك» يعني بتطرق الاحتمالين أي: كون الأمر بالأمر بشيء أمرا به و عدم كونه أمرا به «أنه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر على كونه أمرا به». يعني: لا دلالة على تعيين أحد الاحتمالين المذكورين، بل لا بدّ من قرينة خارجية عليه هذا هو رأي المصنف «قدس سره»، و لكن مقتضى الظهور العرفي هو الاحتمال الأول؛ لأن الغرض هو الفعل و ليس الغرض من التوسيط إلاّ التبليغ.

أمّا ثمرة ذلك فتظهر في مشروعية عبادة الصبي بمجرد ما ورد في بعض الروايات من قوله: «مروا صبيانكم بالصلاة و هم أبناء سبع سنين» فإنه على الأول: تثبت مشروعية عبادة الصبي.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - إذا أمر المولى عبده بأن يأمر آخر بشيء فهل أمره بالأمر بذلك الشيء أمر به أم لا؟ قولان، ذهب المصنف إلى التفصيل بين ما إذا كان الغرض من الأمر بالأمر هو حصول ذلك الشيء، و بين ما إذا كان الغرض يحصل بنفس الأمر من دون تعلق غرض بفعل ذلك الشيء أو مع تعلقه، و لكن بقيد تعلق أمر الغير به، فيكون الأمر بالأمر أمرا بالشيء في الصورة الأولى دون الصورة الثانية.

2 - ثمرة المسألة تظهر في مشروعية عبادة الصبي، فهي مشروعة و صحيحة على القول الأول دون القول الثاني.

3 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو: التفصيل في مقام الثبوت و عدم الدليل على تعيين أحد القولين في مقام الإثبات.

ص: 324

إذا ورد أمر بشيء (1) بعد الأمر به قبل امتثاله، فهل يوجب تكرار ذلك الشيء، أو تاكيد الأمر الأول، و البعث الحاصل به، قضية إطلاق المادة (2) هو التأكيد، فإن الطلب تأسيسا لا يكاد يتعلق بطبيعة واحدة مرتين؛ من دون أن يجيء تقييد لها في البين، و لو (3)

=============

فصل الأمر بعد الأمر

اشارة

(1) قبل البحث ينبغي بيان محل النزاع و توضيحه يحتاج إلى مقدمة قصيرة و هي:

أنه إذا ورد أمر بعد أمر آخر؛ فتارة: يكون الأمر الثاني بعد امتثال الأمر الأول، و أخرى:

يكون قبل امتثاله.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل النزاع هو: ما إذا ورد الأمر الثاني قبل امتثال الأمر الأول؛ كما إذا قال: «أعتق رقبة»، ثم ورد أمر آخر و قال: «أعتق رقبة»، فيقع الكلام في الأمر الثاني هل إنه يكون تأسيسا حتى يجب عتق رقبتين امتثالا لأمرين، أم يكون تأكيدا للأمر الأول، فلا يجب إلاّ عتق رقبة واحدة ؟ و أما لو ورد الأمر الثاني بعد الامتثال للأمر الأول فهو خارج عن محل النزاع؛ لأنه يكون تأسيسا بلا خلاف أصلا.

(2) يعني: مادة الأمر؛ كالعتق في المثال المزبور. توضيحه: أن إطلاق مادة الأمر الثاني و عدم تقييدها بما ينوّعه، أو يصنّفه أو يشخصه يقتضي اتحاد المادتين مفهوما، و كون المطلوب بالأمر الثاني عين المطلوب بالأمر الأول، فلا محالة يكون الطلب الثاني تأكيدا له، إذ لو لا التأكيد يلزم اجتماع المثلين؛ نظرا إلى مفاد الهيئة و هما الطلبان. هذا ما أشار إليه بقوله: «فإن الطلب تأسيسا لا يكاد يتعلق بطبيعة واحدة»؛ لاستلزامه المحال و هو اجتماع المثلين، ضرورة: أن صرف الوجود سواء كان من طبيعة الطلب أم طبيعة المطلوب لا يتثنّى و لا يتكرر ما لم ينضم إليها ما يكثّرها نوعا، أو صنفا، أو شخصا. كما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 580».

(3) كلمة - لو - وصلية، كأن يقول: - بعد قوله: «أعتق رقبة» - «أعتق رقبة مرة أخرى» فمعنى العبارة: و لو كان التقييد بمثل مرة أخرى، فإن كلمة أخرى مرّة توجب مغايرة متعلق الأمر الثاني لمتعلق الأمر الأول؛ لأن متعلق الأول: هو الوجود الأول.

ص: 325

كان بمثل مرة أخرى، كي يكون متعلق كل منهما غير متعلق الآخر، كما لا يخفى.

و المنساق (1) من إطلاق الهيئة و إن كان هو تأسيس الطلب لا تأكيده، إلاّ إن الظاهر: هو انسباق التأكيد عنها فيما كانت مسبوقة بمثلها، و لم يذكر هناك سبب، أو ذكر سبب واحد.

=============

و متعلق الثاني: هو الوجود الثاني. و من المعلوم: تغاير المتعلقين حينئذ.

(1) دفع لتوهم التنافي بين إطلاق المادة الظاهر في التأكيد، و إطلاق الهيئة الظاهر في التأسيس؛ بتقريب: أن إطلاق الهيئة ظاهر في التأسيس؛ لكشفه عن إرادة أخرى غير الإرادة المنكشفة بالأمر الأول، و مقتضى التأسيس: امتثال آخر غير امتثال الأول، فيكون إطلاق الهيئة منافيا لإطلاق المادة الظاهر في التأكيد.

و حاصل الدفع: أن هناك قرينة نوعية على التأكيد؛ بحيث توجب رفع اليد عن ظهور إطلاق الهيئة في التأسيس.

توضيح ذلك: أنه إذا كان الأمر مسبوقا بمثله و لم يذكر سبب أصلا؛ كما إذا ورد:

«أعتق رقبة»، ثم ورد أيضا: «أعتق رقبة»، أو ذكر سبب واحد لهما معا؛ كقوله: «إن أفطرت فأعتق رقبة، و إن أفطرت فأعتق رقبة»، ففي هاتين الصورتين يكون الأمر الثاني مؤكدا للأول، إذ لو حمل على التأسيس لزم التصرف في اللفظ بتقييد المادة في الثاني بما يوجب تكثّرها لتغاير المادة في الأمر الأول؛ لئلا يلزم اجتماع المثلين.

هذا بخلاف ما إذا حمل على التأكيد؛ إذ لا حاجة حينئذ إلى تصرف في اللفظ أصلا.

و أما لو ذكر سبب لأحدهما دون الآخر حمل على التأسيس، و وجب التكرار، كأن يقول: «أعتق رقبة» ثم يقول: «إذا أفطرت فأعتق رقبة»، و كذا الحال إذا ذكر سببان كأن يقال: «إن ظاهرت فأعتق رقبة، و إن أفطرت فأعتق رقبة»، فيجب التكرار؛ لأنه مقتضى تعدد السبب.

فالمتحصل: أن هنا صورا - كما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 582» -:

الأولى: أن لا يذكر سبب أصلا. و حكمها التأكيد.

الثانية: أن يذكر سبب واحد لهما معا، و حكمها التأكيد أيضا.

الثالثة: أن يذكر سبب لأحدهما دون الآخر، و حكمها التأسيس، و وجوب التكرار.

الرابعة: أن يذكر سببان لهما كالظهار و الإفطار لوجوب العتق، و حكمها التأسيس و وجوب التكرار أيضا. هذا تمام الكلام في بحث الأوامر.

ص: 326

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

و ملخص البحث: أنه إذا ورد أمر بعد أمر آخر، و قبل امتثال الأمر الأول فيقال: أنه لا ريب في أن الأمر بشيء في نفسه ظاهر في التأسيس، و إنما الكلام و الإشكال فيما إذا كان مسبوقا بأمر آخر؛ فهل هو عندئذ ظاهر في التأسيس، أو التأكيد؟ إذا كانا مطلقين؛ بأن لم يذكر سببهما أو ذكر سبب واحد؟ ظاهر المصنف «قدس سره» هو الثاني؛ أعني:

التأكيد؛ لئلا يلزم اجتماع المثلين نظرا إلى مفاد هيئتهما.

نعم؛ ظاهر إطلاق الهيئة و إن كان هو التأسيس؛ إلاّ إنه لا بدّ من رفع إليه عن ذلك لأجل قرينة؛ و هي كون الأمر الثاني مسبوقا بمثله، و لم يذكر سبب أصلا أو ذكر سبب واحد، فمقتضى ذلك: أن المطلوب بالأمر الثاني هو عين المطلوب بالأمر الأول.

و ما ذكر إنما هو فيما إذا كان التكرار ممكنا، و أمّا فيما لا يمكن نحو: «اقتل زيدا»؛ فحمل الأمر الثاني على التأكيد أمر بديهي.

ص: 327

ص: 328

المقصد الثاني في النواهي

اشارة

ص: 329

ص: 330

فصل فى مادة النهى و صيغته

اشارة

الظاهر: أن النهي (1) بمادته و صيغته في الدلالة على الطلب مثل الأمر بمادته و صيغته، غير (2) إن متعلق الطلب في أحدهما الوجود، و في الآخر العدم، فيعتبر فيه (3) ما استظهرنا اعتباره فيه بلا تفاوت أصلا.

=============

النواهي (1) النهي في اللغة: هو الزجر عن الشيء؛ سواء كان بالقول أو بالفعل. و في الاصطلاح: قد اختلفت عباراتهم في تعريفه؛ قيل: النهي هو قول القائل لمن دونه لا تفعل، و إنما يكون نهيا إذا أكره المنهى عنه.

و قيل: إنه طلب الترك بالقول على جهة الاستعلاء.

و قيل: إنه هو القول الدال على طلب الترك على جهة الاستعلاء.

و قيل: إنه طلب كفّ عن فعل بالقول استعلاء. و غيرها من الأقوال. و المصنف يقول:

إن النهي بمادته و صيغته يدل على الطلب مثل الأمر بمادته و صيغته؛ يعني: كما أنّ الأمر بمادته «أ م ر»، و صيغته - افعل - يدل على الطلب؛ فكذلك النهي بمادته، «ن ه ي»، و صيغته - لا تفعل - يدل على الطلب، فلا فرق بينهما في الدلالة على الطلب.

و إنما الفرق بينهما هو: في متعلق الطلب؛ بمعنى: أن متعلق الطلب - الذي هو مدلول الأمر - هو: الوجود، و متعلق الطلب - الذي هو مدلول النهي - هو: العدم، فالمطلوب من قوله: «صلّ » هو وجود الصلاة، و من قوله: «لا تشرب الخمر» عدم شرب الخمر.

(2) إشارة إلى ما ذكرناه من الفرق بين الأمر و النهي. و هناك فرق آخر بينهما و هو:

كون الأمر بالفعل ناشئا عن المصلحة فيه، و النهي عنه ناشئا عن المفسدة فيه - على ما هو الحق عند العدلية - من تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد في متعلقاتها.

و قد ظهر مما ذكرناه: ما هو محل النزاع في مبحث النواهي، و هو: النهي بالمعنى الاصطلاحي لا بمعناه اللغوي.

(3) يعني: فيعتبر في النهي ما يعتبر في الأمر؛ من اعتبار العلو دون الاستعلاء و غيره مما تقدم، و من كون التهديد و التعجيز و غيرهما من الدواعي لا من المعاني.

ص: 331

نعم؛ (1) يختص النهي بخلاف؛ و هو: أن متعلق الطلب فيه هل هو الكفّ أو مجرد الترك، و أن لا يفعل ؟ و الظاهر: (2) هو الثاني.

و توهم: أن الترك و مجرد أن لا يفعل خارج عن تحت الاختيار، فلا يصح أن يتعلق به البعث و الطلب فاسد (3)؛ فإن الترك أيضا يكون مقدورا؛ و إلاّ لما كان الفعل فالمتحصل: أن النهي يشترك مع الأمر في المعنى الموضوع له؛ و هو: الدلالة على الطلب، غير إن متعلق النهي هو ترك الفعل، و نفس أن لا يفعل، و متعلق الأمر إيجاد الفعل، فيعتبر في دلالة النهي عليه ما يعتبر في دلالة الأمر؛ من كونه صادرا عن العالي، فلو صدر عن السافل أو المساوي فلا يكون نهيا حقيقة.

=============

(1) نعم؛ هناك خلاف يختص بالنهي «و هو: أن متعلق الطلب فيه هل الكفّ »؛ بمعنى: زجر النفس عن إرادة الفعل، و صرفها عن الميل إليه، «أو مجرد الترك، و أن لا يفعل»؛ بمعنى: مجرد الترك، و عدم الفعل؛ و إن لم يكن عن زجر النفس.

الفرق بين الترك و الكفّ

و الفرق بينهما: أن الكف أمر وجودي، و لا يصدق على مجرد الترك؛ بل لا بد أن يستند الترك إلى زجر النفس؛ هذا بخلاف الترك فإنه عدم محض، و يصدق على مطلق العدم؛ سواء كان مع الزجر أم بدونه. و بينهما عموم مطلق؛ إذ كلما تحقق الكفّ تحقق الترك، دون العكس، فيكون الترك أعم من الكفّ .

(2) يعني: الظاهر بحسب ما هو المتبادر عرفا «هو: الثاني»، يعني: مجرد الترك و عدم الفعل.

(3) يعني: توهم عدم صحة مجرد الترك متعلق الطلب فاسد، و التوهم المزبور إشارة إلى استدلال القائل بكون متعلق النهي هو: الكفّ ؛ لا مجرد الترك، فلا بد من توضيح الاستدلال قبل بيان فساده.

فنقول: إن توضيح الاستدلال يتوقف على مقدمة و هي: أن متعلق التكليف لا بد أن يكون مقدورا للمكلف؛ لأن اعتبار القدرة عقلا في متعلقات التكاليف من الشرائط العامة، فالتكليف لا يتعلق بما هو خارج عن القدرة و الاختيار.

فإذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه إذا كان متعلق النهي هو الكفّ : صح تعلق النهي به؛ لكونه مقدورا للمكلف.

و أما إذا كان متعلق النهي مجرد الترك، و عدم الفعل؛ فلا يصح أن يتعلق النهي به؛ لأن العدم غير مقدور، و غير اختياري، إذ القدرة لا تتعلق بالأعدام؛ لأن العدم أزلي حاصل بنفس عدم علته، فالقدرة المتأخرة لا تؤثر في العدم السابق عليها.

فالنتيجة هي: أن الكفّ هو الذي يصح أن يتعلق به النهي لكونه مقدورا. دون مجرد

ص: 332

مقدورا، و صادرا بالإرادة و الاختيار. و كون العدم الأزلي لا بالاختيار، لا يوجب (1) أن يكون كذلك (2) بحسب البقاء و الاستمرار الذي يكون بحسبه محلا للتكليف.

ثم إنه لا دلالة لصيغته (3) على الدوام و التكرار، كما لا دلالة لصيغة الأمر، و إن الترك، و عدم الفعل؛ لكونه خارجا عن القدرة و الاختيار.

=============

و أما توضيح فساد الاستدلال المذكور: فلأن الترك لا يكون خارجا عن القدرة و الاختيار، بل هو مقدور كالفعل.

توضيح مقدورية الترك يتوقف على مقدمة و هي: أن المقدور ما تكون نسبة القدرة إلى فعله و تركه واحدة؛ بأن يكون كل واحد منهما مقدورا، فلو لم يكن الترك مقدورا لم يكن الفعل أيضا مقدورا، فمقدورية أحدهما تستلزم مقدورية الآخر.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه لمّا كان الفعل مقدورا بالضرورة؛ فالترك كذلك؛ إذ لو كان الترك أو الفعل غير مقدور لكان الطرف الآخر واجبا أو ممتنعا، فيخرجان عن حيطة الاختيار، و هو خلف.

(1) هذا دفع لإشكال عدم كون العدم الأزلي مقدورا. و حاصل الدفع: أن غير المقدور هو ذات العدم الأزلي لا استمراره، بداهة: أن المكلف قادر على قطع استمرار العدم و نقضه بالوجود، و هذا المقدار من القدرة كاف في صحة تعلق النهي بالعدم، إذ العدم الأزلي بحسب البقاء يقع موردا للتكليف، و من المعلوم: أن المكلف في هذه المرتبة قادر على التأثير في العدم بقطع استمراره، فيصير العدم بهذا الوجه مقدورا للمكلف؛ كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 6» مع تصرف ما.

(2) يعني: لا بالاختيار بقاء و استمرارا، فإن العدم السابق ليس محلا للكلام، بل هو العدم بحسب البقاء و الاستمرار، و بهذا الاعتبار يكون العدم مقدورا فيكون متعلقا للتكليف.

عدم دلالة النهي على التكرار

(3) يعني: لا دلالة لصيغة النهي على الدوام و التكرار، كما لا دلالة لصيغة الأمر عليه فقوله: «لا دلالة لصيغته على الدوم و التكرار» إشارة إلى ردّ القائل بدلالة النهي على الدوام و التكرار؛ حيث إن الغرض من الأمر يحصل بوجود الطبيعة المأمور بها في ضمن فرد من أفرادها، فلا يدل على الدوام و الاستمرار؛ هذا بخلاف النهي حيث إن حصول الغرض منه يتوقف على ترك الطبيعة، و تركها يتوقف على ترك جميع أفرادها الطولية و العرضية. هذا معنى دلالة النهي على الدوام و التكرار.

ص: 333

كان قضيتهما عقلا تختلف و لو مع وحدة متعلقهما؛ بأن يكون طبيعة واحدة بذاتها و قيدها تعلق بها الأمر مرة و النهي أخرى، ضرورة: أن وجودها يكون بوجود فرد واحد، و عدمها لا يكاد يكون إلاّ بعدم الجميع كما لا يخفى (1).

و من ذلك (2) يظهر: أن الدوام و الاستمرار إنما يكون في النهي إذا كان متعلقه طبيعة مطلقة غير مقيدة بزمان أو حال، فإنه حينئذ لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة معدومة؛ إلاّ بعدم جميع أفرادها الدفعية و التدريجية.

=============

و حاصل ردّ المصنف عليه: أنه لا فرق بينهما في عدم الدلالة على الدوام و التكرار بالدلالة اللفظية الوضعية، و هي محل الكلام.

و ما ذكر من الفرق و الاختلاف بينهما إنما هو بحسب حكم العقل، و هو يختلف في المقامين، فإنه لمّا كان وجود الطبيعة الذي هو المطلوب في الأمر يتحقق بأول وجوداتها، لانطباق الطبيعة عليه قهرا، و حصول الغرض الداعي إلى الأمر بها الموجب لسقوط الأمر، هذا بخلاف عدم الطبيعة الذي هو المطلوب في النهي، حيث إن عدمها يتوقف عقلا على عدم جميع أفرادها الطولية و العرضية؛ كان مقتضى حكم العقل في الأمر هو سقوط الطلب بأول وجودات الطبيعة، و عدم سقوطه في النهي إلاّ بترك جميع أفراد الطبيعة المنهي عنها، من غير فرق في هذا التوقف بين إطلاق الطبيعة كقوله: «لا تشرب الخمر»، و بين تقييدها بقيد كقوله: «لا تشرب ماء الرمان في زمان مرضك».

و كيف كان؛ فدلالة النهي على الدوام و الاستمرار إنما هي بحكم العقل، و هو خارج عن محل الكلام؛ لا بالوضع حتى يكون من محل الكلام.

(1) إذ النهي - كما عرفت - عبارة عن كراهة الطبيعة، فتحقق الفرد الموجب لتحقق الطبيعة يكون مكروها، و الأمر عبارة عن محبوبية الطبيعة، فبتحقق فرد يتحقق المحبوب.

و هذا التفاوت ليس بسبب دلالة الأمر و النهي على المرة و التكرار؛ بل بملاحظة حكم العقل على ما عرفت.

(2) يعني: و من حكم العقل بتوقف ترك الطبيعة على ترك جميع الأفراد، و أن عدم الطبيعة لا يكاد يكون إلاّ بعدم الجميع؛ يظهر: أن الدوام إنما يكون فيما إذا تعلق النهي بطبيعة مطلقة، حيث إن عدمها منوط بترك جميع الأفراد العرضية و الطولية، بخلاف ما إذا كان متعلق النهي الطبيعة المقيدة بزمان أو حال نحو: «لا تضرب يوم الجمعة»، أو «لا تشرب في القيام»، فإن الاستمرار حينئذ يختص بذلك الزمان أو تلك الحالة، فلا يقتضي النهي عدم جميع أفراد الضرب حتى في غير يوم الجمعة، أو عدم جميع أفراد الشرب حتى في حال الجلوس.

ص: 334

و بالجملة: قضية النهي ليس إلاّ ترك تلك الطبيعة التي تكون متعلقة له (1)؛ كانت مقيدة أو مطلقة، و قضية تركها عقلا إنما هو ترك جميع أفرادها.

ثم إنه لا دلالة للنهي على إرادة الترك (2) لو خولف، أو عدم إرادته، بل لا بد في وجه الظهور: أن عدم الجميع لما كان لازما لعدم الطبيعة المطلقة؛ فعدم الطبيعة المقيدة لا يلازم عدم الجميع، «فإنه حينئذ» أي: حين إطلاق الطبيعة؛ «لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة» المطلقة «معدومة؛ إلاّ بعدم جميع أفرادها الدفعية» أعني: العرضية؛ كأن يترك شرب الخمر في الدار، و في السوق، و في المسجد و هكذا. «و التدريجية» أعني: الأفراد الطولية؛ كأن يترك الشرب في الساعة الأولى، و الثانية، و الثالثة و هكذا.

=============

(1) للنهي فإن «كانت مقيدة» كان مقتضى النهي ترك الطبيعة المقيدة بجميع أفرادها العرضية و الطولية؛ لأن مجرد النهي عن طبيعة لا يقتضي إطلاق الترك؛ بحيث يكون مقتضاه ترك جميع أفرادها في جميع الأزمنة و الأمكنة و في كل حال، بل إطلاق الترك منوط بإطلاق المتعلق، فلو كان مطلقا كان الترك مطلقا، و إن كان مقيدا كان الترك كذلك.

و المتحصل من جميع ما ذكرنا: أن مقتضى النهي ترك الطبيعة الواقعة في حيّزه؛ من دون دلالة له على الدوام و التكرار، و إنما هما مستفادان من حكم العقل، كما أن الاكتفاء بالمرة في الأمر كان مستفادا من العقل.

(2) يعني: «لا دلالة للنهي على إرادة» المولى «الترك» ثانيا و ثالثا و هكذا «لو خولف» النهي، «أو عدم إرادته، بل لا بدّ في تعيين ذلك من دلالة» خارجية تدل على انحلال النهي إلى نواهي متعددة، أو على وحدة النهي، من غير فرق بين أن يكون ذلك الدليل الخارجي لفظيا أو لبيا، بل «و لو كان إطلاق المتعلق من هذه الجهة»؛ بأن يكون للطبيعة الواقعة في حيز النهي إطلاق من جهة تعميمها ما بعد العصيان؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 2، ص 311».

و الغرض من قوله: «ثم لا دلالة للنهي» هو: أنه لو عصى النهي بإيجاد الفرد الأول من الطبيعة المنهي عنها؛ فهل يحرم عليه إيجادها ثانيا و ثالثا و هكذا، أم يسقط النهي بالعصيان، فلا تبقى الحرمة، فيجوز حينئذ إتيان متعلق النهي ثانيا و ثالثا و هكذا؟

و بعبارة أخرى - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 9» -: هل تدل صيغة النهي على حرمة كل فرد من أفراد الطبيعة المنهي عنها بنحو العام الاستغراقي؛ بحيث يشمل جميع أفراد الطبيعة المنهي عنها حتى لا يسقط النهي بعصيانه، أم لا تدل عليها كذلك؛ و إنما تدل على حرمة الفرد الأول من أفرادها فقط، فلو أتى به سقط النهي ؟

ص: 335

تعيين ذلك من دلالة، و لو كان إطلاق المتعلق من هذه الجهة، و لا يكفي إطلاقها (1) من سائر الجهات، فتدبر جيدا (2).

=============

الحق عدم دلالة نفس الطبيعة على مطلوبية كل فرد من أفراد متعلق النهي؛ إذ مدلولها هو نسبة ترك الطبيعة إلى المكلف؛ دون مطلوبية كل فرد من أفرادها، و ترك جميع الأفراد إنما هو بحكم العقل؛ لتوقف امتثال النهي على ذلك، فلا دلالة لصيغة النهي على حرمة الأفراد المتعاقبة.

(1) يعني: إطلاق الطبيعة «من سائر الجهات»؛ كالإطلاق من حيث الفور و التراخي، و الزمان و المكان، و الآلة و نحوها؛ فإن الإطلاق من سائر الجهات لا يجدي في إثبات مطلوبية الترك بعد الترك؛ لإمكان الإطلاق من جهة، و الإهمال من جهة أخرى.

(2) و هو تدقيقي؛ لأن المقام لا يخلو عن الدقة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - النهي في اللغة: هو الزجر عن الشيء، و له في الاصطلاح معان و منها: ما أفاده المصنف من أن النهي بمادته و صيغته في الدلالة على الطلب؛ كصيغة الأمر و مادته، و الاختلاف بينهما في المتعلق، فمتعلق الأمر هو: نفس الفعل، و متعلق النهي هو: الترك، و إلاّ فالمستفاد منهما هو شيء واحد و هو الطلب، و من هنا اعتبر في صدق النهي ما اعتبره في صدق الأمر؛ من لزوم صدوره من العالي.

2 - الخلاف في متعلق النهي هل هو مجرد الترك و أن لا يفعل، أو الكفّ بمعنى:

صرف النفس عن الفعل ؟ قولان: الحق عند المصنف هو الأول.

الفرق بينهما: أن الكفّ أمر وجودي، بخلاف الترك فإنه عدم محض، فالترك أعم من الكفّ .

و توهّم: عدم صحة مجرد الترك متعلق الطلب - لكونه خارجا عن القدرة و الاختيار، و متعلق التكليف يجب أن يكون مقدورا و هو الكفّ دون الترك - فاسد؛ فإن الترك و العدم مقدور باعتبار البقاء و الاستمرار؛ إذ لو لم يكن الترك مقدورا لم يكن الفعل أيضا مقدورا، فمقدورية أحدهما تستلزم مقدورية الآخر.

3 - عدم دلالة النهي على الدوام و التكرار.

و توهم: دلالة النهي على الدوام و التكرار - للفرق بين الأمر و النهي؛ بأن الغرض من الأمر هو إيجاد الطبيعة المأمور بها فيحصل بإيجادها في الفرد الأول منها. هذا بخلاف

ص: 336

النهي حيث إن الغرض منه هو ترك الطبيعة المنهي عنها، و هو يتوقف على ترك جميع أفرادها الطولية و العرضية؛ فلا بد من الدوام و التكرار - مدفوع بأنه لا فرق بينهما في عدم الدلالة على الدوام و التكرار بالدلالة اللفظية الوضعية التي هي محل الكلام في المقام، و أما ما ذكر من الفرق بينهما فإنما هو بحسب حكم العقل؛ بمعنى: أن المطلوب في الأمر - هو وجود الطبيعة - يتحقق بأول وجوداتها لانطباق الطبيعة عليه قهرا، هذا بخلاف ما هو المطلوب في النهي - و هو عدم الطبيعة - فيتوقف عقلا على عدم جميع أفرادها الطولية و العرضية، فلذا كان مقتضى حكم العقل في الأمر سقوط الطلب بأوّل وجودات الطبيعة، و عدم سقوطه في النهي إلاّ بترك جميع أفرادها.

4 - لا دلالة للنهي على إرادة المولى للترك ثانيا و ثالثا و هكذا، و لا على عدم إرادته عند مخالفة العبد للنهي، فلا بد في تعيين إرادة الترك أو عدم إرادته من دلالة خارجية تدل على انحلال النهي إلى النواهي المتعددة، أو على وحدة النهي.

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - أن النهي صيغة و مادة مثل الأمر في الدلالة على الطلب الإلزامي، و إنما التفاوت بينهما في المتعلق.

2 - أن متعلق الطلب في النهي هو مجرد الترك، و أن لا يفعل؛ لا الكفّ بمعنى: زجر النفس عن الفعل.

3 - أنه لا دلالة لصيغة النهي على الدوام و التكرار، كما لا دلالة لصيغة الأمر عليه.

4 - ليس للنهي دلالة على إرادة المولى للترك ثانيا و ثالثا، و لا على عدم إرادته عند مخالفة العبد للنهي.

ص: 337

ص: 338

اختلفوا (1) في جواز اجتماع الأمر و النهي في واحد و امتناعه على أقوال ثالثها:

جوازه عقلا و امتناعه عرفا، و قبل الخوض في المقصود يقدم أمور:

=============

فصل في اجتماع الأمر و النهي(1)

و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل النزاع في مسألة اجتماع الأمر و النهي

اشارة

و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل النزاع في مسألة اجتماع الأمر و النهي فنقول: إنه لا نزاع في امتناع الأمر و النهي في واحد بعنوان واحد مثل: «صلّ و لا تصلّ » و ذلك لما عرفت من: أنّ مفاد الأمر هو: البعث نحو وجود الطبيعة المحبوبة، و مفاد النهي هو: الزجر عن وجود الطبيعة المبغوضة.

و من الواضح عند العقل و العقلاء: أنه يمتنع أن يصدر عن المولى الواحد بالنسبة إلى المكلف الواحد بعث و زجر حال كونهما متعلقين بطبيعة واحدة في زمان واحد، و ليس هذا من التكليف بالمحال الذي يجوّزه الاشعري؛ بل من التكليف المحال.

و إنما النزاع في جواز اجتماعهما في واحد إذا كان ذا وجهين، و معنونا بعنوانين بأحدهما تعلق الأمر، و بالآخر تعلق النهي؛ كما في الصلاة في المغصوب فيما إذا خاطب الشارع المكلف بقوله: «صلّ ، و لا تغصب»، فالمأمور به غير المنهي عنه، و الماهيتان مختلفتان؛ غير إن المكلف بسوء اختياره جمعهما في مورد واحد؛ على وجه يكون المورد مصداقا لعنوانين، و مجمعا لهما. فيقع الكلام في جواز مثل هذا الاجتماع؛ كما إذا صلى في الدار المغصوبة، فيبحث عن جواز اجتماع الأمر و النهي في هذه الحالة.

فعلى القول بالجواز: يكون العمل محكوما بحكمين؛ لتعدد المجمع، و كونه موجودا بوجودين، و التركيب بين متعلقي الأمر و النهي يكون انضماميا، و تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون.

و على القول بالامتناع: يكون المجمع محكوما بحكم واحد، و هو أهم الحكمين من الوجوب أو الحرمة؛ لاتحاد المجمع، و كونه موجودا بوجود واحد، و التركيب بينهما يكون اتحاديا، و تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون.

و قد يبدو مما ذكر: أن مقتضى التحقيق أن يكون النزاع في المسألة صغرويا و هو أصل

ص: 339

الأول: المراد بالواحد (1): مطلق ما كان ذا وجهين، و مندرجا تحت عنوانين، بأحدهما كان موردا للأمر، و بالآخر للنهي، و إن كان كلّيا مقولا على كثيرين؛ الاجتماع. و ليس كبرويا أعني: الجواز أو الامتناع بعد أصل الاجتماع؛ كما هو المتوهم من عنوان المسألة، حيث جعل موضوع المسألة اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد.

=============

و محمولها الجواز أو الامتناع.

و كيف كان؛ «فمنهم» من جوّز الاجتماع بدعوى: أن تعدد الوجه و العنوان مما يوجب تعدد المتعلق، فلا يسري كل من الأمر و النهي إلى متعلق الآخر؛ كي يلزم اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد؛ الذي لا نزاع في امتناعه.

«و منهم» من منعه؛ نظرا إلى أن تعدد الوجه و العنوان مما لا يوجب تعدد المتعلق، فيسري كل من الأمر و النهي إلى متعلق الآخر، فيكون من اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد فيمتنع.

و هناك قول آخر و هو: جوازه عقلا، و امتناعه عرفا؛ لأن العقل حيث يرى المجمع اثنين - لتعدد العنوان و الوجه - فلا مانع عنده من الاجتماع.

أما العرف: فحيث ينظرون إلى الشيء بالنظر السطحي، و المجمع بهذا النظر يكون واحدا؛ يكون الاجتماع عندهم محالا. و هذه الأقوال الثلاثة التي أشار إليها المصنف بقوله: «اختلفوا... على أقوال: ثالثها: جوازه عقلا و امتناعه عرفا».

المراد بالواحد في العنوان

(1) المراد بالواحد الذي وقع في عنوان هذا البحث هو: «مطلق ما كان ذا وجهين، و مندرجا تحت عنوانين».

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الواحد تارة: يطلق و يراد منه ما لا يكون كليا فيقال: هذا واحد أي: ليس بكلي قابل للانطباق على كثيرين.

و أخرى: يطلق و يراد منه ما لا يكون متعددا، فيقال: الصلاة في الدار المغصوبة واحدة. أي: فلا تكون متعددة؛ بمعنى: إنه ليس في الدار شيئان أحدهما كان متعلق الأمر، و الآخر متعلق النهي، بل فيها شيء واحد - و هو الصلاة - يكون مجمعا لمتعلقيهما، و النسبة بين الواحد بهذا المعنى، و الواحد بالمعنى الأول هي عموم مطلق؛ فإن هذا المعنى أعم من المعنى الأول لشموله الواحد الشخصي، الواحد الصنفي، و الواحد النوعي، و الواحد الجنسي؛ بخلاف المعنى الأول؛ فإنه خاص بالقسم الأول.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المراد بالواحد في المقام هو: المعنى الثاني لا المعنى

ص: 340

كالصلاة في المغصوب (1)، و إنما ذكر - هذا - لإخراج ما إذا تعدد متعلق الأمر و النهي، و لم يجتمعا وجودا و لو جمعهما واحد مفهوما؛ كالسجود للّه تعالى، و السجود للصنم مثلا؛ لا لإخراج الواحد الجنسي (2)، أو النوعي؛ كالحركة (3) و السكون الكليين المعنونين بالصلاتية و الغصبية.

=============

الأول - غاية الأمر: أن تكون الوحدة وصفا للواحد نفسه لا لمتعلقه - سواء كان كليا أم جزئيا.

و بعبارة أخرى: أن المراد بالواحد في العنوان هو الواحد وجودا؛ بأن يتعلق الأمر بشيء، و النهي بشيء آخر.

و لكن اتحد المتعلقان في الوجود و التحقق؛ كالصلاة المأمور بها، و الغصب المنهي عنه المتحدين في الوجود عند إقامة الصلاة في الدار المغصوبة. هذا معنى قوله: «المراد بالواحد ما كان ذا وجهين، و مندرجا تحت عنوانين»، فمناط صغرويته لمسألة اجتماع الأمر و النهي هو: كونه مصداقا لعنوانين، فلو لم يكن كذلك - بأن لا يتصادق عليه عنوانان - كان خارجا عن حريم هذه المسألة؛ كالسجود للّه تعالى الذي هو المأمور به، و للصنم الذي هو المنهي عنه؛ لعدم تصادقهما على سجود خارجي؛ لأن صدقهما عليه منوط باتحادهما وجودا، و ذلك مفقود في السجود له تعالى و للصنم؛ لتباينهما المانع عن هذا الاتحاد، و الاتحاد بحسب المفهوم فقط - كالسجود في المثال - لا يجدي في مسألة الاجتماع، بل المعتبر اتحادهما بحسب المصداق، فيخرج بقيد الاتحاد في الوجود و المصداق الأمر بالسجود للّه، و النهي عن السجود للأصنام؛ لاختلاف المتعلقين مصداقا، و بقي الباقي تحت عنوان الواحد.

(1) يعني: من المكان أو اللباس بمعنى: أن كلي الصلاة في المغصوب مصداق للطبيعتين المتعلقتين للأمر و النهي فقوله: «كالصلاة في المغصوب» مثال لذي وجهين؛ فإن هذه الحركات الكلية؛ الشاملة لكل صلاة في الغصب تتعنون بعنوان الصلاة المأمور بها، و بعنوان الغصب المنهي عنه. ثم قوله: «مطلق ما كان ذا وجهين» لإخراج ما إذا كان متعلّقا الأمر و النهي متباينين وجودا، و إن اتحدا مفهوما؛ كالسجود للّه تعالى و للصنم؛ لعدم اتحاد هذين المتعلقين وجودا أصلا، كما سبق.

(2) يعني: كما لو أمر بإحضار حيوان، و نهى عنه، «أو النوعي» كما لو أمر بإحضار إنسان و نهى عنه.

(3) فإن الحركة كلي ينطبق عليها عنوانان كليّان؛ و هما: الصلاة و الغصب، و كذا السكون، فالواحد سواء كان جنسيا أم نوعيا أم شخصيا إذا صدق عليه عنوانان كليان

ص: 341

الثاني: (1) الفرق بين هذه المسألة و مسألة النهي في العبادة هو: أن الجهة المبحوث تعلق بأحدهما أمر، و بالآخر نهي يندرج في مسألة الاجتماع؛ و إلاّ فهو أجنبي عنها.

=============

و عليه: فالسجود للّه تعالى و للصنم خارج عن هذا البحث؛ لعدم صدقهما على موجود خارجي، و إن صدق على كل منهما مفهوم السجود.

و كيف كان؛ فإن كلا من الحركة و السكون اللذين هما كليان يصير معنونا بعنواني الصلاة و الغصب.

و المتحصل: أن ميزان صغروية الواحد لمسألة الاجتماع هو: انطباق متعلقي الأمر و النهي عليه في الخارج؛ من غير فرق في ذلك بين كون ذلك الواحد كليا أو جزئيا، هذا خلافا للعضدي؛ فإنه خصص النزاع بالواحد الشخصي؛ زاعما: أن الواحد الجنسي و نحوه لا مانع من الاجتماع فيه.

الفرق بين مسألة الاجتماع و مسألة النهي في العبادة

(1) الغرض من عقد هذا الأمر الثاني هو: دفع توهم عدم الفرق بين هذه المسألة و المسألة الآتية، و هي مسألة النهي في العبادة.

فيقع الكلام تارة: في تقريب توهم عدم الفرق بين المسألتين. و أخرى: في دفع التوهم المزبور.

أما توهم عدم الفرق: فيقال في تقريب ذلك: إن الأمر و النهي مجتمعان في كل واحدة من المسألتين من دون فرق بينهما.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الأمر بالصلاة أمر بأجزائها؛ كالتكبيرة، و القراءة، و الركوع و نحوها، و منها: الكون أعني: كون المصلّي في مكان من الأمكنة، فالكون مما تعلق به الأمر، فإذا صلى في الدار المغصوبة كان الكون فيها مما تعلق به النهي؛ نظرا إلى أن النهي عن الغصب، يعني: «لا تغصب» بمعنى: «لا تكن في الدار المغصوبة».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الكون في الدار المغصوبة حال الصلاة مأمور به؛ باعتبار الكون الصلاتي، كما أنه بلحاظ الكون الغصبي منهي عنه. هذا خلاصة الكلام في اجتماع الأمر و النهي في هذه المسألة.

و أما اجتماعهما في مسألة النهي في العبادة في نحو: «لا تصلّ في الدار المغصوبة» فواضح؛ لأن النهي عنها فيها نهي عن جميع أجزائها فيها، و من جملتها الكون أي: «لا تكن في الدار المغصوبة حال الصلاة»، فقد علم تعلق الأمر و النهي بالكون في الدار

ص: 342

عنها فيها التي بها تمتاز المسائل هي: أن تعدد الوجه و العنوان في الواحد يوجب تعدد متعلق بالأمر و النهي، بحيث يرتفع به غائلة استحالة الاجتماع في الواحد بوجه المغصوبة في كلتا المسألتين، فلا فرق بينهما من هذه الناحية، فلا وجه لجعلهما مسألتين، بل هما مسألة واحدة.

=============

و أما حاصل ما أفاده في دفع التوهم المذكور: فتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أنه كما أن تمايز العلوم بالأغراض؛ كذلك يمكن أن يكون تمايز المسائل بها اتحد الموضوع أو تعدد، و يمكن أن يكون تمايزها باختلاف جهة البحث.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الفرق بين المسألتين بكلا الأمرين موجود في المقام.

أما التمايز و الفرق بينهما بالأمر الأول - و هو الغرض -: فلأن الغرض في هذه المسألة هو إثبات سراية كل من الأمر و النهي إلى متعلق الآخر مع تعدد العنوان؛ كما يسرى في العنوان الواحد، أو عدم سرايته، هذا بخلاف مسألة النهي في العبادة؛ فإن الغرض فيها - بعد الفراغ عن السراية - هو: إثبات الفساد أو عدمه، و لذا تكون هذه المسألة - بعد القول بالامتناع و تقديم جانب النهي - من صغريات تلك المسألة؛ بخلاف ما لو قلنا بالجواز أو قلنا بالامتناع، و قدمنا الأمر، أو تساويا، فلا تكون من صغرياتها.

و أما التمايز و الفرق بينهما بالأمر الثاني - و هو اختلاف جهة البحث -: فلأن الاختلاف بينهما إنما هو باختلاف جهة البحث في كلّ من المسألتين؛ حيث إن جهة البحث في هذه المسألة هي: أن تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون، حتى يخرج عن الواحد الذي يمتنع اجتماع الحكمين المتضادين فيه، فلا يسري كل من الحكمين إلى متعلق الآخر أم لا يوجبه ؟ بل هو واحد فيسري كل من الأمر و النهي من متعلقه إلى متعلق الآخر فيتحد مجمعهما، و يكون المجمع حينئذ لوحدته محكوما بأحد الحكمين دون كليهما، لتضادهما، و امتناع اجتماع المتضادين.

بخلاف مسألة النهي في العبادة؛ فإنّ الجهة المبحوث عنها فيها هي دلالة النهي على الفساد و عدمها، بعد الفراغ عن كون متعلق النهي عين ما تعلق به الأمر، فلا جهة جامعة بين جهتي البحث في المسألتين.

نعم؛ لو بنى على الامتناع، و تقديم جانب الحرمة؛ كان المورد من صغريات تلك المسألة.

و كيف كان؛ فالفرق بين المسألتين في غاية الوضوح، حيث نبحث في هذه المسألة عن السراية، و تعلق النهي بنفس ما تعلق به الأمر، و في المسألة الآتية عن دلالة النهي على الفساد؛ بعد الفراغ عن تعلق النهي بعين ما تعلق به الأمر.

ص: 343

واحد (1) أو لا يوجبه (2)، بل يكون حاله حاله، فالنزاع في سراية كل من الأمر و النهي إلى متعلق الآخر لاتحاد متعلقيهما وجودا، و عدم سرايته (3) لتعددهما وجها، و هذا (4) بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الأخرى؛ فإن البحث فيها (5) في أن النهي في العبادة أو المعاملة يوجب فسادها بعد الفراغ عن التوجه إليها (6).

نعم؛ (7) لو قيل بالامتناع، مع ترجيح جانب النهي في مسألة الاجتماع؛ يكون مثل الصلاة في الدار المغصوبة من صغريات تلك المسألة.

=============

(1) كالصلاة التي تعلّق بها الأمر و النهي بعنوان واحد؛ و هو عنوان الصلاتية.

(2) يعني: لا يوجب تعدد الوجه و العنوان تعدد المتعلق؛ بل يكون حال الشيء ذي الوجهين حال الشيء ذي الوجه الواحد في استحالة اجتماع الأمر و النهي فيه، فلا يكون تعدد الوجه مجديا في دفع محذور اجتماع الضدين؛ لأن الشيء الواحد لا يجتمع فيه الأمر و النهي؛ سواء كان متعدد العنوان أو متحد العنوان؛ إذ المفروض: وحدة الموضوع، فيكون حال متعدد العنوان حال متحد العنوان في لزوم اجتماع الضدين.

(3) يعني: و عدم سراية كل من الأمر و النهي إلى متعلق الآخر؛ «لتعددهما وجها» يعني: لتعدد متعلق الأمر، و متعلق النهي وجها و عنوانا، فيكون أحدهما متعلقا للأمر، و الآخر متعلقا للنهي. فقوله: «لتعددهما وجها» تعليل لعدم السراية أعني: أن عدم السراية مستند إلى تعدد الوجه و العنوان.

(4) يعني: ما ذكر من أن جهة البحث في هذه المسألة هي: أن تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون أم لا يوجبه ؟ «بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الأخرى» أي: مسألة النهي في العبادة.

(5) يعني: في المسألة الأخرى و هي: النهي في العبادة. فقوله: «فإن البحث فيها...» إلخ. إشارة إلى تقريب المغايرة بين المسألتين، و قد مرّ توضيح ذلك سابقا. و قلنا: إن البحث في مسألة الاجتماع يكون في أن النهي هل تعلق بعين ما تعلق به الأمر أم لا؟

و في مسألة النهي في العبادة يكون في أن النهي - بعد الفراغ عن تعلقه بعين ما تعلق به الأمر - هل يقتضي الفساد أم لا؟ فتغاير المسألتين من الوضوح كالشمس في النهار، و النار على النار.

(6) أي: توجه النهي إلى العبادة أو المعاملة، فمسألة الاجتماع في مرتبة صغرى مسألة النهي في العبادة على بعض التقادير، كما عرفت غير مرة. و ستأتي الإشارة إليه في كلامه.

(7) هذا استدراك على المغايرة بين المسألتين، و حاصل الاستدراك: أنه قد يكون البحث في هذه المسألة منقحا لصغرى من صغريات مسألة النهي في العبادة، كما إذا قيل بامتناع اجتماع الأمر و النهي؛ لأجل عدم إجداء تعدد الوجه في دفع غائلة محذور

ص: 344

فانقدح: أن الفرق بين المسألتين في غاية الوضوح.

و أما ما أفاده في الفصول من: الفرق (1) بما هذه عبارته: «ثم اعلم: أن الفرق بين المقام (2) و المقام المتقدم - و هو: أن الأمر و النهي هل يجتمعان في شيء واحد أو لا؟ - اجتماع الضدين، و ترجيح جانب النهي لبعض الوجوه المذكورة في محلّها؛ فإن المقام حينئذ من صغريات النهي في العبادة، إذ بعد ترجيح النهي و سقوط الأمر يتوجه النهي إلى العبادة؛ كالصلاة في الدار المغصوبة، فيقع الكلام في أن النهي المتوجه إلى الصلاة يقتضي فسادها أم لا؟ فيقال على القول بدلالة النهي على الفساد: هذه العبادة منهي عنها، و كل عبادة منهي عنها فاسدة، فهذه العبادة فاسدة.

=============

حكم المصنف بفساد فرق صاحب الفصول بين المسألتين

(1) بعد ما فرغ المصنف من الفرق بين المسألتين، نقل وجهين آخرين للفرق:

أحدهما: ما في الفصول. و ثانيهما: ما سيأتي ذكره في كلامه، من: أن النزاع هنا في جواز الاجتماع عقلا، و هناك في دلالة النهي لفظا. ثم ناقش كلا منهما بما يأتي تفصيله في كلامه «قدس سره» و ما في الفصول من الفرق بين المسألتين ردّ لما زعم المحقق القمي «رحمه الله» من الفرق، حيث قال ما حاصله: إن ملاك مسألة الاجتماع هو: كون النسبة بين المأمور به و المنهي عنه عموما من وجه؛ نحو: «صلّ و لا تغصب»، و ملاك مسألة النهي في العبادة هو: كون النسبة بين المأمور به و المنهي عنه عموما مطلقا، و المنهي عنه يكون خاصا نحو: «صلّ و لا تصل في الغصب».

و ردّه صاحب الفصول بما حاصله: من أن الفرق بينهما في المعاملات ظاهر، و في غاية الوضوح؛ و ذلك لعدم تعلق الأوامر بالمعاملات حتى تتحقق مسألة الاجتماع، فمسألة الاجتماع تختص بالعبادات، و لا تجري في المعاملات بالمعنى الأخص. نعم؛ تجري في المعاملات بالمعنى الأعم؛ كالواجبات التوصلية.

و أما الفرق بينهما في العبادات: فلأن الموضوع و المتعلق في اجتماع الأمر و النهي متعدد؛ لتعلق الأمر بطبيعة مغايرة للطبيعة التي تعلق بها النهي؛ سواء كانت النسبة بين الطبيعتين عموما من وجه؛ كالصلاة و الغصب، أم عموما مطلقا؛ كالضاحك بالفعل، و الإنسان في نحو: «أكرم الإنسان، و لا تكرم الضاحك بالفعل»؛ حيث إن الموضوع - في كلا المثالين - متعدد حقيقة أعني: الصلاة و الغصب - في المثال الأول - و الإنسان و الضاحك بالفعل - في المثال الثاني - هذا بخلاف مسألة النهي في العبادة؛ فإن الموضوع فيها متحد حقيقة، و التغاير إنما هو في الإطلاق و التقييد؛ نحو «صلّ و لا تصلّ في الغصب».

و المتحصل: أن الموضوع في إحداهما متعدد حقيقة، و في الأخرى متحد كذلك.

(2) أعني: مسألة النهي في العبادة. و مراده بالمقام المتقدم هو: مسألة الاجتماع.

ص: 345

أما في المعاملات فظاهر.

و أمّا في العبادات: فهو: أن النزاع هناك فيما إذا تعلق الأمر و النهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة و إن كان (1) بينهما عموم مطلق، و هنا فيما إذا اتحدتا (2) حقيقة، و تغايرتا بمجرد الإطلاق و التقييد (3)؛ بأن تعلق الأمر بالمطلق، و النهي بالمقيد» انتهى موضع الحاجة؛ فاسد (4)، فإن مجرد تعدد الموضوعات و تغايرها بحسب الذوات، لا يوجب التمايز بين المسائل ما لم يكن هناك اختلاف الجهات، و معه (5) لا حاجة أصلا إلى تعددها، بل لا بدّ من عقد مسألتين مع وحدة الموضوع، و تعدد الجهة المبحوث عنها (6).

=============

(1) هذا إشارة إلى ردّ ما ذكره المحقق القمي «رحمه الله» من: أن الفرق بين المسألتين من حيث إن النسبة بين المأمور به و المنهي عنه في إحداهما عموم من وجه، و في الأخرى عموم مطلق، و قد عرفت توضيح ذلك.

(2) يعني: فيما إذا اتحدت الطبيعتان حقيقة؛ بأن توجه النهي بعين ما توجه إليه الأمر.

(3) و حاصل الكلام في المقام: أن موضوع مسألة الاجتماع تعدد الطبيعة، و موضوع مسألة النهي في العبادة وحدتها، فتغاير الموضوع أوجب تعدد المسألة. هذا تمام الكلام في الفرق الذي ذكره صاحب الفصول.

(4) هذا جواب «أمّا» في قوله: «و أمّا ما أفاده في الفصول من الفرق». و الصواب أن تكون كلمة «فاسد» مع الفاء، لكونه من موارد لزوم اقتران الجواب بالفاء كما لا يخفى.

و كيف كان؛ فملخص ما أفاده في ردّ الفصول - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 18» -: أن تمايز المسائل إنما هو باختلاف الجهات و الأغراض كما تقدم في صدر الكتاب؛ لا باختلاف الموضوعات، فمع وحدة الموضوع و تعدد الجهة لا بد من عقد مسألتين، كما أنه مع تعدد الموضوع، و وحدة الجهة لا بد من عقد مسألة واحدة.

و على هذا؛ فبما أن جهة البحث في مسألتي الاجتماع و النهي في العبادة واحدة، و هي صحة العبادة في المكان المغصوب مثلا، فلا بدّ من عقد مسألة واحدة لهما؛ لا مسألتين و إن تعددتا موضوعا، فتعدد البحث عنهما في كلام الأعلام «قدس الله تعالى أسرارهم» كاشف عن عدم كون هذا الفرق فارقا.

(5) يعني: و مع اختلاف الجهات لا حاجة أصلا إلى تعدد الموضوعات.

(6) كمسألة الأمر؛ فإن جهة البحث فيها متعددة؛ مثل: كون الأمر ظاهرا في الوجوب، و في الفور أو التراخي، و في المرة أو التكرار و غيرها من الجهات المتعلقة بالأمر و لأجل تعدد الجهات عقدوا لها مسائل عديدة بتعددها و إن كان الموضوع واحدا.

ص: 346

و عقد مسألة واحدة في صورة العكس (1)، كما لا يخفى.

و من هنا (2) انقدح أيضا: فساد الفرق بأن النزاع هنا في جواز الاجتماع عقلا، و هناك في دلالة النهي لفظا؛ فإن مجرد ذلك - لو لم يكن تعدد الجهة في البين - لا يوجب إلاّ تفصيلا في المسألة الواحدة؛ لا عقد مسألتين. هذا مع عدم (3) اختصاص النزاع في تلك المسألة بدلالة اللفظ، كما سيظهر.

=============

(1) أي: بأن كانت الجهة واحدة، و الموضوع متعددا - كالاستثناء المتعقب للجمل - فإن جهة البحث - و هي: استعلام حال القيد استثناء كان أم غيره - لمّا كانت واحدة أوجبت وحدة المسألة؛ و إن كان الموضوع متعددا بحسب كونه شرطا، و غاية، و صفة و حالا، و استثناء و غيرها، فإن الاستثناء و الصفة و الحال و نحوها متعددة موضوعا لكنها متحدة جهة كما عرفت.

و كيف كان؛ فلمّا كانت جهة البحث - في صورة العكس - واحدة فينبغي عقد مسألة واحدة، فعدم عقد مسألتين مع تعدد الموضوع كاشف عن عدم كون هذا الفرق فارقا.

(2) يعني: و من كون التمايز بين المسائل باختلاف الجهة لا تعدد الموضوع «انقدح أيضا: فساد الفرق» الذي ذكره بعضهم؛ «بأن النزاع هنا» أي: في مسألة اجتماع الأمر و النهي؛ «في جواز الاجتماع عقلا، و هناك» يعني: في مسألة النهي في العبادة «في دلالة النهي لفظا».

فالفرق بينهما: أن إحداهما عقلية، و الأخرى لفظية. و قد أشار إلى فساد هذا الفرق بقوله: «فإن مجرد ذلك» أي: الفرق المزبور.

و خلاصة ما يمكن أن يقال في تقريب فساد الفرق المذكور: إن مجرد كون البحث عقليا في مسألة الاجتماع، و لفظيا في مسألة النهي في العبادة ما لم يرجع إلى تعدد جهة البحث؛ لا يوجب إلاّ التفصيل في المسألة الواحدة؛ بأن يعقد مبحث واحد، و يتكلم فيه تارة: عن الحكم العقلي، و أخرى: عن الحكم اللفظي بأن يقال في مسألة الاجتماع:

يجوز الاجتماع عقلا أو لا يجوز.

و أما لفظا فيدل على الفساد أو لا يدل عليه. و الأول: بحسب حكم العقل. و الثاني:

بحسب حكم العرف. و هذا لا يوجب عقد مسألتين؛ فإن الاختلاف بين العقل و العرف لا يقتضي عقد مسألتين.

(3) هذا إشكال على نفس الفرق المذكور و لو بعد تسليم كونه فارقا و مصححا لعقد مسألتين. و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية»، ج 3، ص 20 -: أن النزاع في مسألة

ص: 347

النهي في العبادة لا يختص بدلالة اللفظ؛ - لما سيأتي إن شاء الله تعالى من عدم اختصاصه بها - بل يجري في غيرها أيضا، فيقال مثلا: هل الحرمة المستفادة من الإجماع و الضرورة تقتضي فساد المحرم أم لا؟ بأن مطلق الحرمة - على القول بالفساد - ينافي العبادية و لو لم يكن الدال على الحرمة لفظا.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان محل النزاع مع ما في المسألة من الأقوال.

و أما محل النزاع فهو: ما إذا كان ما تعلق به الأمر و النهي واحدا ذا وجهين، و معنونا بعنوانين - كالصلاة و الغصب - بأحدهما تعلق الأمر، و بالآخر تعلق النهي، فإذا صلّى المكلف في الدار المغصوبة؛ يقع الكلام في جواز الأمر و النهي في هذه الحالة.

و هناك ثلاثة أقوال:

قول: بالجواز؛ فيكون العمل محكوما بحكمين لتعدد المجمع، و كونه موجودا بوجودين؛ لأن تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون.

و قول: بالامتناع؛ فيكون المجمع محكوما بحكم واحد - و هو الوجوب أو الحرمة - لاتحاد المجمع، و كونه موجودا بوجود واحد؛ فإن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون.

و قول: بالجواز عقلا و الامتناع عرفا؛ لأن العقل يرى المجمع اثنين لتعدد العنوان و الوجه، و لكن بالنظر السطحي العرفي يكون المجمع واحدا، فيستحيل اجتماع الأمر و النهي فيه.

2 - المراد بالواحد في عنوان المسألة: ما لا يكون متعددا، في مقابل ما يكون متعددا؛ لا ما لا يكون كليا في مقابل ما يكون كليا، فيشمل الواحد الشخصي، و الصنفي، و النوعي، و الجنسي. ثم أن تكون الوحدة وصفا للواحد نفسه لا لمتعلقه.

و بعبارة أخرى: المراد بالواحد هو: الواحد وجودا؛ كالصلاة المأمور بها، و الغصب المنهي عنه المتحدين في الوجود، فالصلاة في الدار المغصوبة واحد مع الغصب وجودا، و مصداق لعنوانين. و أما لو لم يكن المجمع مصداقا كذلك كان خارجا عن حريم هذه المسألة؛ كالسجود للّه الذي هو المأمور به، و للصنم الذي هو المنهي عنه لعدم تصادقهما على السجود الخارجي؛ لأن السجود لله تعالى مباين للسجود للصنم في الخارج، و الاتحاد من حيث المفهوم لا يجدي؛ لأن المعتبر هو: الاتحاد من حيث المصداق المفقود

ص: 348

في المثال المذكور، فبقيد الاتحاد في الوجود و المصداق خرج المثال المذكور لاختلاف المتعلقين فيه مصداقا.

3 - الفرق بين مسألة الاجتماع، و مسألة النهي في العبادة هو: أن الاختلاف بينهما باختلاف جهة البحث في كل من المسألتين؛ فإن البحث في هذه المسألة عن أن تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون، فلا يسري كل من الحكمين إلى متعلق الآخر، أو لا يوجبه فيكون متعلق كل منهما واحدا؟ بخلاف مسألة النهي في العبادة؛ فإن البحث فيها عن أن تعلق النهي بالعمل العبادي هل يقتضي فساده أم لا؟

فلا جهة جامعة بين جهتي البحث في المسألتين.

نعم؛ لو بنى على الامتناع و تقديم جانب الحرمة؛ كان المورد من صغريات تلك المسألة.

ثم ذكر المصنف فرقين آخرين:

أحدهما: ما في الفصول من: أن جهة الفرق هي الاختلاف الموضوعي بينهما، فموضوع كل منهما غير موضوع الآخر؛ فإن الموضوع في مسألة الاجتماع متعدد؛ و ذلك لتعلق الأمر بطبيعة مغايرة للطبيعة التي تعلق بها النهي.

هذا بخلاف مسألة النهي في العبادة؛ فإن الموضوع فيها متحد حقيقة، و التغاير إنما هو في الإطلاق و التقييد، فتغاير الموضوع أوجب تعدد المسألة.

و ناقشه المصنف: بأن اختلاف الموضوع لا يوجب تعدد المسألة مع وحدة الجهة، و مع تعددها تعدد المسألة و إن اتحد الموضوع.

و ثانيهما: ما ذكر من أن الفرق بينهما هو: كون البحث هنا عقليا، و في تلك المسألة عن دلالة اللفظ فيكون لفظيا.

و ناقشه المصنف: بأن هذا الاختلاف لا يوجب عقد مسألتين؛ لأنه تفصيل في المسألة الواحدة كما عرفت آنفا.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - المراد بالواحد في عنوان المسألة هو: مطلق ما كان ذا وجهين، و معنونا بعنوانين؛ سواء كان كليا، أو جزئيا.

2 - الفرق بين المسألتين إنما هو باختلاف جهة البحث؛ فإن البحث في مسألة الاجتماع عن أن تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون أم لا؟ و في مسألة النهي في العبادة يكون البحث عن دلالة النهي على الفساد، و عدم دلالته عليه.

ص: 349

الثالث (1): أنه حيث كانت نتيجة هذه المسألة مما تقع في طريق الاستنباط كانت

=============

كون مسألة الاجتماع من المسائل الأصولية

(1) الغرض من عقد هذا الأمر هو: إثبات كون مسألة الاجتماع من المسائل الأصولية، و أن ذكرها في علم الأصول ليس استطراديا.

توضيح كون هذه المسألة أصولية يتوقف على مقدمة و هي: أن الضابط في كون المسألة أصولية: أن تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي؛ و لو باعتبار أحد طرفيها من دون ضم كبرى مسألة أخرى.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن نتيجة هذه المسألة تقع في طريق الاستنباط على كلا القولين؛ أعني: جواز الاجتماع و امتناعه.

بيان ذلك: أنه إذا قلنا: بجواز الاجتماع عقلا فيستنبط: صحة الصلاة في الدار المغصوبة، و يستنبط: عدم وجوب اعادتها ثانيا، و إذا قلنا: بالامتناع فيستنبط منه: فساد الصلاة فيها، و وجوب إعادتها ثانيا.

فالمتحصل: أن نتيجة هذه المسألة تقع في طريق استنباط الحكم الفرعي، كما عرفت فلا وجه لجعلها من المسائل الكلامية أو الفقهية، أو من المبادئ الأحكامية، أو من المبادئ التصديقية؛ «و إن كان فيها جهاتها» أي: و إن كان في مسألة الاجتماع جهات تلك المسائل.

أما كونها من المسائل الكلامية: فلأن البحث في علم الكلام يكون عن أحوال المبدأ و المعاد، و المسائل الكلامية مسائل عقلية، و من الظاهر: أن البحث في هذه المسألة عن استحالة اجتماع الأمر و النهي و إمكانه يكون عقليا، فيناسب المسائل الكلامية. هذا أولا.

و ثانيا: أن النزاع في هذه المسألة يكون عن فعله «عزّ و جل» و أنه هل يجوز للحكيم تعالى أن يأمر بشيء لجهة و ينهى عنه لجهة أخرى، أم لا يجوز عليه سبحانه ؟ فيكون البحث عن أحوال المبدأ، و عما يصح أو يمتنع على اللّه تعالى، فهذه المسألة من المسائل الكلامية؛ لأن المسألة الكلامية هي التي يبحث فيها عن أحوال المبدأ و المعاد، و ما يصح أو يمتنع على اللّه تعالى.

أما كونها من المسائل الفقهية: فلأن البحث فيها: عن عوارض فعل المكلف و هي:

صحة الصلاة في المكان المغصوب، و فسادها فيه، فينطبق ضابط المسائل الفقهية عليها، لأن البحث في علم الفقه إنما هو عن عوارض أفعال المكلف.

و أما كونها من المبادئ الأحكامية - و هي ما يكون البحث فيه عن حال الحكم؛ كالبحث عن أن وجوب شيء هل يستلزم وجوب مقدمته أو حرمة ضده أم لا؟ -: فلأن

ص: 350

المسألة من المسائل الأصولية، لا من مبادئها الأحكامية، و لا التصديقية، و لا من المسائل الكلامية، و لا من المسائل الفرعية، و إن كانت فيها جهاتها كما لا يخفى، البحث في هذه المسألة في الحقيقة بحث عن حال الحكم من حيث إمكان اجتماع اثنين منها في شيء و عدم إمكانه. و عليه فتكون المسألة من المبادئ الأحكامية كما هو الحال في بقية مباحث الاستلزامات العقلية.

=============

أما كونها من المبادئ التصديقة للمسألة الأصولية: فلأن المبادئ التصديقية لمسائل علم الأصول هي التي تبتني عليها مسائله، و المراد بالمسألة الأصولية هنا هو: التعارض و التزاحم، و هما في المقام مبنيان على ان تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون أو لا يوجبه ؟

و على الأول: يجوز الاجتماع، و تدخل هذه المسألة في صغريات مسألة التزاحم؛ لعدم التعارض بين الأمر و النهي بعد تعدد متعلقهما.

و على الثاني: يمتنع الاجتماع، و تدخل هذه المسألة في صغريات مسألة التعارض؛ لوحدة المتعلق.

و من هنا يعلم: وجه كون هذه المسألة من المبادئ التصديقية للمسألة الأصولية؛ لأن إحراز كون الاجتماع من باب التزاحم أو التعارض يتوقف على وحدة المتعلق، و تعدده في المجمع. فعلى الأول: من باب التعارض المستلزم لامتناع الاجتماع. و على الثاني: من باب التزاحم المستلزم لجواز الاجتماع.

و أما بيان الفرق بين التعارض و التزاحم فسيأتي في بحث التعادل و التراجيح إن شاء الله.

و كيف كان؛ فمسألة الاجتماع تكون من المسائل الأصولية؛ إذ يكفي في كون المسألة أصولية وقوعها في طريق الاستنباط، و تعيين الوظيفة بأحد طرفيها و إن كانت لا تقع فيه بطرفها الآخر، و إلاّ لخرج كثير من المسائل عن كونه مسألة أصولية؛ مثل: مسألة حجية خبر الواحد؛ فإنها لا تقع في طريق الاستنباط على القول بعدم حجيته، و كذا حجية خبر الواحد؛ فإنها لا تقع في طريق الاستنباط على القول بعدم حجيته، و كذا حجية ظاهر الكتاب على القول بعدم حجيته؛ مع إنه لا ريب في كونهما من المسائل الأصولية، فمتى أمكن كون المسألة أصولية لا وجه لأن يكون ذكرها استطراديا، و لا يلتفت الأصولي إلى الجهات الأخر فيها كمسألتنا هذه؛ حيث تكون فيها جهات المسائل الكلامية و الفقهية و غيرهما، إذ قد عرفت في أول الكتاب تداخل علمين أو علوم في المسألة الواحدة؛ بأن تكون فيها جهات من البحث بحيث تدخل بلحاظها في مسائل أكثر من علم.

ص: 351

ضرورة: (1) أن مجرد ذلك لا يوجب كونها منها إذا كانت فيها جهة أخرى، يمكن عقدها معها من المسائل (2)، إذ لا مجال حينئذ (3) لتوهم عقدها من غيرها في الأصول، و إن عقدت (4) كلامية في الكلام و صح عقدها فرعية أو غيرها بلا كلام، و قد عرفت في أول الكتاب: أنه لا ضير في كون مسألة واحدة يبحث فيها عن جهة خاصة من مسائل علمين؛ لانطباق جهتين عامتين على تلك الجهة؛ كانت (5) بإحداهما من مسائل علم، و بالأخرى من آخر، فتذكر.

الرابع: أنه قد ظهر (6) من مطاوي ما ذكرناه: أن المسألة عقلية، و لا اختصاص

=============

(1) تعليل لكون هذه المسألة من المسائل الأصولية، و حاصله: أن وجود سائر الجهات في هذه المسألة - كما عرفت - لا يوجب كونها من تلك المسائل، مع وجود جهة تدرجها في المسائل الأصولية، و تصحح عقدها أصولية، و على هذا فلا وجه لجعلها من غير المسائل الأصولية، كما لا مرجح لعدّها من المسائل غير الأصولية.

(2) أي: من المسائل الأصولية كما عرفت توضيح ذلك.

(3) يعني: حين وجود الجهة الأصولية، بمعنى: أنه مع وجود الجهة الأصولية فيها؛ المصححة لعدّها من مسائل علم الأصول؛ لا وجه لجعلها من غير مسائله، و لا لدعوى:

أن ذكرها في علم الأصول استطراد، إذ لا معنى للاستطراد مع كونها من مسائله.

و بعبارة أخرى: لا وجه لتوهم عقد هذه المسألة في علم الأصول، مع عدم كونها من مسائله.

(4) يعني: مع الجهة الأصولية في مسألة الاجتماع تعدّ من مسائلها؛ و إن عقدت أيضا من المسائل الكلامية و الفرعية و غيرهما، لوجود جهاتها في مسألتنا، فالأولى: إضافة «أيضا» بعد «عقدت» كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 25».

(5) يعني: كانت المسألة الواحدة مندرجة في مسائل علمين؛ لانطباق جهتين عامتين عليها، و هما: جهة البحث عن فعل المبدأ المبحوث عنها في علم الكلام، و جهة الوقوع في طريق الاستنباط المبحوث عنها في علم الأصول، و لا ضير في تداخل علمين أو أكثر في مسألة واحدة، كما عرفت في أول الكتاب.

في كون المسألة عقلية لا لفظية

(6) يعني: قد ظهر عما سبق في صدر الأمر الثاني من: أن النزاع في المسألة هو في سراية كلّ من الأمر و النهي إلى متعلق الآخر و عدمها، فعلى الأول: يحكم العقل باستحالة اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد؛ لاتحاد المجمع في مورد التصادق

ص: 352

للنزاع في جواز الاجتماع و الامتناع فيها بما إذا كان الإيجاب و التحريم باللفظ، كما ربما يوهمه (1) التعبير بالأمر و النهي الظاهرين في الطلب بالقول؛ إلاّ أنه لكون الدلالة عليهما غالبا بهما، كما هو أوضح من أن يخفى.

=============

و الاجتماع. و على الثاني: يحكم بإمكان اجتماعهما فيه؛ لتعدد المجمع في مورد التصادق و الاجتماع. و من الواضح: أن الحاكم باستحالة الاجتماع أو بإمكانه هو العقل، فالمسألة عقلية، و لا ترتبط بعالم اللفظ أصلا.

(1) أي: يوهم اختصاص النزاع باللفظ: «التعبير بالأمر و النهي الظاهرين في الطلب بالقول:»

و قد استدل لتوهم كون المسألة لفظية بوجهين:

الأول: تعبير الأصوليين في المقام بلفظ الأمر و النهي الظاهرين في الطلب بالقول و هما: يدلان على الوجوب و الحرمة، بمعنى: أن الوجوب مدلول للفظ صيغة الأمر، و الحرمة مدلول للفظ صيغة النهي، فهذه المسألة بهذا الاعتبار لفظية؛ إذ الوجوب و الحرمة مدلولان للفظ الأمر و النهي.

الثاني: تفصيل بعض الأعلام في هذه المسألة بين العقل و العرف حيث قال: بالجواز عقلا، و بالامتناع عرفا، و من المعلوم: أن العرف إنما يحكم بالامتناع بعد إلقاء لفظ الأمر و النهي عليه، فالامتناع العرفي مما يدل عليه اللفظ بواسطة الملازمة العرفية، بين دلالة لفظ كل من الأمر و النهي على الوجوب و الحرمة بالمطابقة، و بين دلالة كل منهما على نفي الوجوب و الحرمة بالالتزام، و لازم ذلك: امتناع اجتماع الحكمين في المجمع، فمرجع الامتناع العرفي إلى دلالة اللفظ.

هذا بخلاف الحكم بالجواز عقلا؛ لأن المراد بالجواز العقلي: حكمه بالجواز لكون العنوانين موجبين لتعدد الموضوع، و لا ملازمة عنده بين وجوب أحدهما، و عدم حرمة الآخر.

و المتحصل: أن التفصيل بالجواز عقلا، و الامتناع عرفا بمعنى: أن اللفظ يدل عرفا على الامتناع، و هذه الدلالة تكشف عن كون النزاع في دلالة الأمر و النهي على الجواز و عدمه، و هما ظاهران في الطلب بالقول، فتكون المسألة لفظية؛ إذ لو كانت عقلية محضة لم يكن وجه للامتناع العرفي؛ الذي مرجعه إلى ظهور اللفظ في الامتناع.

و قد أجاب المصنف عن كلا الوجهين.

و حاصل ما أفاده في الجواب عن الوجه الأول هو: أن تعبيرهم بلفظ الأمر و النهي في العنوان؛ إنما يكون لأجل استفادة الوجوب و الحرمة غالبا من لفظ الأمر و النهي، و لا

ص: 353

و ذهاب البعض إلى الجواز عقلا و الامتناع عرفا، ليس بمعنى دلالة اللفظ؛ بل بدعوى: أن الواحد بالنظر الدقيق العقلي اثنين، و أنه بالنظر المسامحي العرفي واحد ذو وجهين، و إلا (1) فلا يكون معنى محصلا للامتناع العرفي، غاية (2) الأمر دعوى:

دلالة اللفظ على عدم الوقوع بعد اختيار جواز الاجتماع، فتدبر جيدا.

=============

يكون هذا لأجل الحصر و الانحصار كما أشار إلى توجيه التعبير المذكور بقوله: «إلاّ إنه لكون الدلالة عليهما غالبا».

و حاصل التوجيه: أن غلبة كون الدال على الأمر و النهي هو اللفظ؛ دعت إلى التعبير عن الوجوب و الحرمة بالأمر و النهي الظاهرين في الطلب بالقول، و لعل هذه الغلبة أوجبت ذكرها في مباحث الألفاظ.

و قد أشار إلى الجواب عن الوجه الثاني بقوله: «و ذهاب البعض إلى الجواز عقلا و الامتناع عرفا».

و حاصل الجواب عن الوجه الثاني: هو أن ذهاب البعض كالمحقق الأردبيلي «قدس سره» إلى الجواز عقلا و الامتناع عرفا؛ ليس بمعنى دلالة لفظ الأمر و النهي على الامتناع؛ حتى يكون من أكبر الشواهد على كون هذا المسألة لفظية، بل معنى هذا التفصيل: أن الواحد المعنون بعنوانين اثنان بالنظر الدقيق العقلي، و واحد بالنظر المسامحي العرفي، فلهذا يحكم العقل بجواز الاجتماع، و العرف بامتناعه. فكون هذه المسألة لفظية مرفوض عند المصنف؛ إذ لا شهادة في المعنى المذكور على كون المسألة لفظية لا عقلية.

(1) أي: و إن لم يكن مراد المفصل ما ذكرناه من الامتناع العرفي؛ الذي مرجعه إلى كون الواحد ذي الوجهين واحدا بنظر العرف؛ لم يكن للامتناع العرفي معنى محصل؛ لأن امتناع اجتماع الضدين حكم عقلي، فلا معنى لجوازه عقلا، و امتناعه عرفا.

(2) يعني: يمكن أن يكون الامتناع العرفي بمعنى: دلالة لفظ الأمر و النهي على عدم وقوع الاجتماع بعد اختيار جواز الاجتماع عقلا، و لا يكون الامتناع العرفي بمعنى عدم جواز الاجتماع بعد حكم العقل بالجواز، كي يلزم الانفكاك بين حكم العقل و حكم العرف.

و كيف كان؛ فبعد توجيه الامتناع العرفي - بكون الواحد ذي الوجهين واحدا بنظر العرف؛ غير جائز عقلا اجتماع الحكمين فيه - لا بدّ من التصرف في قول المفصّل: - بامتناع الاجتماع عرفا - بأن يقال: إن اللفظ يدل على عدم الوقوع بعد اختيار الجواز عقلا، لا أنه يدل على الامتناع حتى يتوهم كون المسألة لفظية.

فنتيجة البحث: أنه لا يشهد هذا التفصيل على كون المسألة لفظية محضة.

ص: 354

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - أن مسألة اجتماع الأمر و النهي من المسائل الأصولية؛ لوجود ضابط المسألة الأصولية فيها، فإن الضابط في كون المسألة أصولية: أن تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي. و نتيجة هذه المسألة تقع في طريق الاستنباط؛ إذ تستنبط صحة الصلاة في الدار المغصوبة على القول بجواز الاجتماع، و فسادها فيها على القول بالامتناع، و تقديم جانب الحرمة على الوجوب.

فلا يكون ذكرها في علم الأصول استطراديا.

2 - أن هذه المسألة من المسائل العقلية، لا من المسائل اللفظية؛ لأن النزاع في سراية كل من الأمر و النهي إلى متعلق الآخر و عدمها، فالعقل هو الحاكم بالاستحالة على الأول، و على الجواز على الثاني، فتكون المسألة عقلية، و لا ترتبط بعالم اللفظ أصلا.

و قد يتوهم: كون المسألة لفظية لأحد وجهين:

الأول: تعبير الأصوليين في المقام بلفظ الأمر و النهي الظاهرين في الطلب بالقول.

الثاني: تفصيل بعض الأعلام كالمقدس الأردبيلي «قدس سره» في هذه المسألة بين العقل و العرف، فقال: بالامتناع عرفا، و الجواز عقلا؛ بمعنى: أن اللفظ يدل عرفا على الامتناع، و المراد بالجواز العقلي هو: حكمه بالجواز، لكون العنوانين موجبين لتعدد الموضوع.

و قد أجاب المصنف عن الأول: بأن تعبيرهم - في العنوان بالأمر و النهي - إنما يكون لأجل استفادة الوجوب و الحرمة غالبا من اللفظ، و لا يكون لأجل الحصر و الانحصار.

و عن الثاني: بأن ذهاب البعض إلى الجواز عقلا، و الامتناع عرفا ليس بمعنى دلالة لفظ الأمر و النهي على الامتناع؛ حتى يكون دليلا على كون المسألة لفظية؛ بل معنى هذا التفصيل: أن الواحد المعنون بعنوانين اثنان بالنظر الدقيق العقلي، و واحد بالنظر المسامحي العرفي، فلذا يحكم العقل بالجواز، و العرف بالامتناع.

3 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - كون المسألة أصولية؛ لا كلامية، و لا فقهية و لا غيرهما، و لو وجدت فيها جهاتها.

2 - كون المسألة عقلية لا لفظية.

ص: 355

الخامس (1): لا يخفى: أن ملاك النزاع في جواز الاجتماع و الامتناع يعم جميع أقسام الإيجاب و التحريم، كما هو قضية إطلاق لفظ الأمر و النهي.

=============

في عموم ملاك النزاع لجميع أقسام الإيجاب و التحريم

(1) الغرض من عقد هذا الأمر هو: بيان تعميم محل النزاع في مسألة الاجتماع لمطلق الوجوب و الحرمة؛ سواء كانا نفسيين، أو غيريين، أو مختلفين، أو كانا عينيين، أو كفائيين، أو مختلفين. أو كانا تعيينيين، أو تخييريين. أو كانا تعبديين، أو توصليين أو مختلفين، بل ملاك النزاع - و هو: سراية كل من الوجوب و الحرمة إلى متعلق الآخر و عدمها - يعم الجميع حتى الأمر و النهي غير الإلزاميين.

و زعم صاحب الفصول: اختصاص النزاع بالوجوب و الحرمة النفسيين التعيينيين العينيين لوجهين:

الوجه الأول: هو الانصراف يعني: ينصرف الذهن من لفظ الأمر و النهي في العنوان إلى النفسيين التعيينيين العينيين، كما ينصرف الذهن من إطلاق لفظ الماء إلى الماء البارد الصافي. هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «و دعوى الانصراف...» إلخ.

و قد أجاب المصنف عن هذا الوجه: بما حاصله: من أن دعوى انصراف الأمر و النهي «إلى النفسيين التعيينيين العينيين في مادتهما». أي: في مادتي الأمر و النهي؛ «غير خالية عن الاعتساف».

وجه الاعتساف: أن منشأ الانصراف: إما هو غلبة الوجود، و إما كثرة الاستعمال و كلاهما باطل. أما بطلان الأولى: - أعني: غلبة الوجود - لمنعها صغرى و كبرى.

أما صغرى: فلأن الوجوب بمعنى كونه نفسيا تعيينيا عينيا لا يكون غالبا من حيث الوجود في الشريعة المقدسة؛ لكثرة وجود خلافها فيها أيضا.

و أما كبرى: فلأن الغلبة من حيث الوجود - على فرض تسليمها - لا توجب الانصراف عند إطلاق مادة الأمر؛ لأن الموجب للانصراف هو: كثرة الاستعمال لا غلبة الوجود كما قرر في محله.

و أما بطلان الثانية: - أعني: كثرة الاستعمال - فلمنعها أيضا صغرى و كبرى. أما منعها صغرى فلكثرة استعمال لفظ الأمر في الوجوب الغيري و الكفائي و التخييري شرعا.

و أما منعها كبرى: فهي و إن كانت موجبة للانصراف؛ إلاّ إنها لا تنفع في خصوص المقام؛ لقيام القرينة العقلية على الخلاف، و هي عموم الملاك و تضاد مطلق الوجوب مع مطلق الحرمة.

ص: 356

و دعوى: الانصراف إلى النفسيين التعيينيين العينيين في مادتهما غير خالية عن الاعتساف. و إن سلم في صيغتهما، مع إنه فيها (1) ممنوع.

=============

و المتحصل: أنّنا لا نسلّم الانصراف في مادتي الأمر و النهي «و إن سلم في صيغتهما».

أي: و إن سلّم الانصراف في صيغتي الأمر و النهي؛ بأن يقال: إن صيغة «افعل» حيث يطلق؛ فالظاهر: منه النفسي التعييني العيني؛ كما تقدم في مباحث صيغة الأمر حيث قال المصنف «قدس سره»: «السادس: قضية إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا عينيا تعيينيا»، و كذا صيغة «لا تفعل».

(1) أي: مع أن الانصراف في الصيغة ممنوع أيضا؛ إن أريد به التبادر الوضعي الذي يجدي في تقييد الإطلاقات؛ لانتفاء التبادر الوضعي قطعا مع وجود القرينة العقلية على العموم. هذا تمام الكلام في الجواب عن الوجه الأول.

الوجه الثاني: هو الإطلاق؛ بمعنى: أن مقتضى إطلاق لفظ الأمر و النهي هو الوجوب و الحرمة النفسيين التعيينيين العينيين، فهذا الإطلاق يدل على كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا؛ لا غيريا و لا تخييريا و لا كفائيا، و كذا جانب الحرمة. و قد أشار إليه المصنف بقوله:

«نعم لا يبعد...» إلخ.

فقوله: «نعم» استدراك على منع الانصراف المذكور في الوجه الأول.

و حاصله: أنه يمكن دعوى انصراف النفسية و التعيينية و العينية، و انسباقها من الإطلاق بمقدمات الحكمة؛ لا من التبادر الوضعي الذي منعناه في الجواب عن الانصراف.

و تقريب: هذه الدعوى: أن غير النفسية و التعيينية و العينيّة يحتاج ثبوتا و إثباتا إلى مئونة زائدة، فعدم بيان ذلك كاشف عن عدم إرادة غيرها، كما عرفت في بحث الأوامر.

و حاصل جواب المصنف عن هذا الوجه الثاني: أن مقتضى الإطلاق بمقدمات الحكمة، و إن كان ذلك، إلاّ إن مقدمات الحكمة لا تجري في المقام؛ لأن جريان مقدمات الحكمة المنتجة لإرادة العينية و التعيينية و النفسية في المقام؛ إنما يتم فيما لو لم تكن هناك قرينة عقلية، إذ من مقدمات الحكمة هو: عدم البيان، و القرينة العقلية - و هي:

منافاة الوجوب و الحرمة بأنحائهما - بيان لعدم الإطلاق، لأن المضادة بين مطلق الوجوب و الحرمة مانعة عن إرادة الإطلاق؛ المقتضي لإرادة النفسية و أختيها في المقام.

و المتحصل: أن الإطلاق محتاج إلى مقدمات الحكمة الغير الجارية في المقام؛ لأن من مقدمات الحكمة عدم القرينة على خلاف الإطلاق، و في المقام قرينة عقلية للعموم؛ لما عرفت من: عموم الملاك لجميع الأقسام، فإن ملاك هذا النزاع هو استحالة اجتماع المتضادين في واحد ذي وجهين، أو جوازه، و هذا لا يختص بقسم دون قسم من

ص: 357

نعم؛ لا يبعد دعوى: الظهور و الانسباق من الإطلاق بمقدمات الحكمة الغير الجارية في المقام؛ لما عرفت من عموم الملاك لجميع الأقسام، و كذا ما وقع في البين من النقض و الإبرام.

=============

الوجوب و الحرمة، «و كذا ما وقع في البين من النقض و الإبرام» لا يختص بقسم دون قسم.

و كيف كان؛ فالمانع من انعقاد الإطلاق بمقدمات الحكمة أمران: الأول: عموم الملاك. و الثاني: عموم النقض و الإبرام الواقعين في كلام الأصوليين، و هو يشمل جميع أقسامهما، فهما قرينتان على خلاف الإطلاق.

و في «منتهى الدراية» ج 3، ص 30 - في شرح قوله: «و كذا ما وقع في البين من النقض و الإبرام» - ما هذا لفظه: «يعني: و كذا لا يخلو عن التعسف ما قيل: من عدم تصوير اجتماع الوجوب و التحريم التخييريين، لأجل عدم جواز الحرام التخييري كما عن المعتزلة؛ استنادا إلى استحالة الحرام التخييري، حيث إن النهي عن شيئين تخييرا يرجع إلى النهي عن أحدهما، و هو يقتضي حرمتهما معا؛ لأن الإتيان بكل واحد منهما إيجاد لمفهوم أحدهما، فيكون كلاهما حراما، و من المعلوم: استحالة تعلق النهي بواحد منهما فقط، و تعلقه بكليهما في آن واحد».

و حاصل الكلام في الجواب - عما قيل من عدم تصوير اجتماع الوجوب و التحريم التخييريين - هو: أن ما قيل في وجه استحالة الحرام التخييري من: «استحالة تعلق النهي بواحد منهما فقط، و تعلقه بكليهما في آن واحد» مردود، لأن النهي عن شيئين تخييرا يرجع إلى النهي عن مفهوم أحدهما، و هو ليس بمستحيل أصلا.

و كيف كان؛ فهناك بحث عن جريان النزاع في الواجب و الحرام التخييريين، و قد ذكر المصنف مثالين لكلا القسمين؛ لأن الحق عند المصنف هو جريان النزاع في كلا القسمين.

و مثال الوجوب التخييري: ما أشار إليه بقوله: «إذا أمر بالصلاة و الصوم تخييرا بينهما»؛ بأن يكون الواجب أحدهما تخييرا.

و مثال الحرام التخييري: ما أشار إليه بقوله: «و كذلك إذا نهي عن التصرف في الدار، و المجالسة مع الأغيار»؛ بأن يكون الحرام أحدهما تخييرا.

و حينئذ إذا صلى في الدار، لزم اجتماع الواجب و الحرام التخييريين في شيء واحد؛ و هو التصرف في الدار بالصلاة، فإن هذا التصرف باعتبار الصلاتية عدل للواجب التخييري، و باعتبار الغصبية عدل للحرام التخييري، فلا فرق بين هذا و بين اجتماع

ص: 358

مثلا: إذا أمر بالصلاة و الصوم تخييرا بينهما، و كذلك نهي عن التصرف في الدار و المجالسة مع الأغيار، فصلى فيها مع مجالستهم؛ كان حال الصلاة فيها. حالها، كما أمر بها تعيينا، و نهي عن التصرف فيها، كذلك في جريان النزاع في الجواز و الامتناع، و مجيء أدلة الطرفين، و ما وقع من النقض و الإبرام في البين، فتفطن.

السادس: (1) أنه ربما يؤخذ في محل النزاع قيد المندوحة في مقام الامتثال، بل ربما قيل: بأن الإطلاق إنما هو للاتكال على الوضوح، إذ بدونها يلزم التكليف بالمحال.

=============

الواجب و الحرام التعيينيين في جريان النزاع؛ كالأمر بالصلاة تعيينا، و النهي عنها في الدار المغصوبة كذلك، كما أشار إليه بقوله: «كان حال الصلاة فيها حالها؛ كما إذا أمر بها تعيينا، و نهي عن التصرف فيها كذلك»؛ يعني: حال كون الصلاة واجبة بالوجوب التخييري؛ كحال كونها واجبة بالوجوب التعييني في جريان النزاع.

و المتحصل: أنه يجري النزاع في جواز اجتماع الأمر و النهي في واحد ذي وجهين و امتناعه فيه في الواجب و الحرام التخييريين أيضا، و تجيء أدلة المجوزين و المانعين في هذا المورد، و يجيء النقض و الإبرام هنا، فتفطن و لا تغفل، إذ لا وجه لاختصاص النزاع بالواجب النفسي العيني؛ بل يجري في التعييني أيضا.

في اعتبار المندوحة في محل النزاع

(1) الغرض من عقد هذا الأمر هو: التنبيه على ما ذكره بعض من: اعتبار قيد المندوحة في محل النزاع.

توضيح اعتبار قيد المندوحة: يتوقف على مقدمة و هي: أن المندوحة هي: كون المكلف في سعة و فسحة؛ بأن يكون له مفرّ و طريق لامتثال الصلاة في غير الدار المغصوبة؛ بأن لم يكن المكان منحصرا في الغصب، بأن كان له مكان مباح يتمكن من الصلاة فيه؛ في مقابل من لا يتمكن من الإتيان بها إلاّ في الغصب هذا أولا.

و ثانيا: أن الخلاف في جواز الاجتماع و عدمه يختص بصورة قدرة المكلف على موافقة الأمر و النهي؛ بأن يتمكن من فعل الصلاة في غير المكان المغصوب، و ذلك لأن القدرة من الشرائط العامة لا بد منها في التكاليف الشرعية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه قد يتوهم اعتبار قيد المندوحة بالمعنى المذكور في محل النزاع؛ إذ مع عدم المندوحة في مقام الامتثال لا إشكال في الامتناع، و لا خلاف أصلا، فلا بدّ من القول بالامتناع؛ لئلا يلزم التكليف بالمحال، لأن الأمر بالصلاة بدون المندوحة تكليف بما لا يقدر المكلف على امتثاله؛ لعدم تمكنه من الصلاة الصحيحة مع

ص: 359

و لكن التحقيق مع ذلك: (1) عدم اعتبارها فيما هو المهم في محل النزاع من لزوم المحال، و هو اجتماع الحكمين المتضادين، و عدم الجدوى في كون موردهما موجها بوجهين في دفع «رفع» غائلة اجتماع الضدين، أو عدم لزومه، و أن تعدد الوجه يجدي في دفعها، و لا يتفاوت في ذلك أصلا وجود المندوحة و عدمها، و لزوم التكليف بالمحال بدونها محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع.

=============

انحصار المكان في الغصب، كما أشار إليه بقوله: «و بدونها يلزم التكليف بالمحال» لعدم قدرة المكلف على الفعل و الترك معا.

فالمتحصل: أن محل الخلاف بين الأصوليين في جواز الاجتماع، و امتناعه إنما هو في المورد الذي يكون المكلف قادرا في مقام الامتثال على الإتيان بالصلاة خارج الدار المغصوبة؛ بأن دخلها بسوء اختياره لا بالاضطرار.

و أما إذا لم تكن المندوحة للمكلف، و انحصر المكان في الدار المغصوبة؛ بأن دخلها بالاضطرار؛ فلا بدّ من القول بالامتناع بلا خلاف أصلا، و إلاّ لزم التكليف بالمحال؛ لأنه لا يتمكن من إتيان الصلاة الصحيحة في الدار المغصوبة، بحيث يوجب قربا للمولى، فيكون هذا نظير الأمر بالطيران في كونه تكليفا بغير المقدور؛ و هو باطل عند العدلية.

ثم الذي أخذ قيد المندوحة صريحا في محل النزاع هو: صاحب الفصول حيث قال ما هذا لفظه: «و إن اختلفت الجهتان، و كان للمكلف مندوحة في الامتثال فهو موضع النزاع، و من ترك قيد الأخير فقد اتكل على الوضوح لظهور اعتباره». «الفصول الغروية، ص 124».

(1) أي: مع لزوم التكليف بالمحال لو لا المندوحة «عدم اعتبارها» يعني: عدم اعتبار المندوحة «فيما هو المهم في محل النزاع»؛ إذ لا أثر لها فيما هو المهم، فإن المهم في هذا الباب هو أنه هل يرتفع التضاد بين الأمر و النهي بتعدد الجهة أم لا؟

و بعبارة أخرى: أن المهم في المقام هو: بيان أنه هل يلزم اجتماع الحكمين المتضادين الذي هو محال، أو لا يلزم المحال ؟

و عمدته معرفة أن تعدد الوجه هل يجدي في تعدد ذي الوجه فلا يلزم المحال، أو لا يجدي فيلزم المحال ؟

و من الواضح: أن هذا المعنى لا يختلف الحال فيه بين وجود المندوحة، و عدم وجودها، نعم؛ وجود المندوحة دخيل في الحكم الفعلي بالجواز عند من يرى امتناع التكليف بالمحال.

ص: 360

و كيف كان؛ فالمصنف لم يعتبر المندوحة في محل النزاع أصلا حيث قال: «و لكن التحقيق مع ذلك عدم اعتبارها فيما هو المهم في محل النزاع».

توضيح ما أفاده المصنف في التحقيق: يتوقف على مقدمة و هي: أنّ عدم جواز اجتماع الأمر و النهي تارة يكون: من جهة عجز المكلف عن امتثال الأمر و النهي معا، مع وجود كل من الأمر و النهي؛ لأجل تحقق موضوعهما، و لكن المكلف لا يقدر على الجمع بينهما؛ لأن الجمع بينهما تكليف بالمحال؛ نظير الأمر بالضدين المتزاحمين، كما لو أمر المولى عبده بإنقاذ الغريقين، و لكن العبد لا يقدر على انقاذهما معا، فعجزه مانع من الجمع بينهما فيكون هذا التكليف تكليفا بالمحال، فالجمع بين الأمر و النهي مستلزم للتكليف بالمحال؛ لاستحالة الجمع بين الفعل و الترك عند وحدة المتعلق.

و أخرى: يكون عدم جواز الاجتماع من جهة تضاد الأمر و النهي، فالجمع بينهما جمع بين الضدين، فالاجتماع حينئذ مستلزم للتكليف المحال.

فالمتحصل: أن عدم جواز الاجتماع من الجهة الأولى لأجل لزوم التكليف بالمحال، و من الجهة الثانية لأجل لزوم التكليف المحال، و الفرق بين التكليف المحال و التكليف بالمحال: أن المحال في الأول هو: نفس التكليف، و في الثاني هو: متعلق التكليف.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن البحث في مسألة جواز اجتماع الأمر و النهي و امتناعه إنما هو من الجهة الثانية، بمعنى: أن اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد ذي عنوانين محال في نفسه إن لم يكن تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون؛ للزوم اجتماع الحكمين المتضادين في موضوع واحد، فيلزم التكليف المحال، و لا يلزم التكليف المحال إذا كان تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون؛ لعدم لزوم اجتماع الضدين في موضوع واحد.

و أما المندوحة: فهي و إن كانت تعتبر في جواز اجتماع الأمر و النهي من الجهة الأولى؛ لئلا يلزم التكليف بالمحال، إذ مع وجود المندوحة لا يلزم التكليف بالمحال، إلاّ إن محل الكلام و البحث هو: عدم جواز الاجتماع أو جوازه من الجهة الثانية؛ لا من الجهة الأولى، و لذا قال بعض الأصوليين بالامتناع؛ حتى مع وجود المندوحة.

فالمتحصل: أن ما هو محل الكلام لا تعتبر فيه المندوحة، و ما تعتبر فيه المندوحة ليس من محل النزاع، بل هو خارج عن محل الكلام. هذا ما أشار إليه المصنف «قدس سره» بقوله: «و لكن التحقيق مع ذلك: عدم اعتبارها فيما هو المهم في محل النزاع، من لزوم

ص: 361

نعم؛ (1) لا بد من اعتبارها في الحكم بالجواز فعلا، لمن يرى التكليف بالمحال محذورا و محالا، كما ربما لا بدّ من اعتبار أمر آخر في الحكم به كذلك أيضا.

=============

المحال، و هو اجتماع الحكمين المتضادين» يعني: و التحقيق عدم اعتبار المندوحة في نزاع جواز الاجتماع و عدمه؛ من ناحية اجتماع الضدين، و لزوم التكليف المحال.

(1) أي: بعد أن نفى اعتبار المندوحة من الجهة الثانية أعني: عدم جواز الاجتماع من جهة لزوم التكليف المحال؛ أثبت اعتبارها من الجهة الأولى و هي: عدم جواز الاجتماع من جهة لزوم التكليف بالمحال في مقام الامتثال.

فقوله: «نعم؛ لا بدّ من اعتبارها» استدراك على قوله: «و لكن التحقيق مع ذلك: عدم اعتبارها في ما هو المهم في محل النزاع».

و حاصله: أنه لا بدّ من اعتبار المندوحة في مقام الامتثال «في الحكم بالجواز فعلا»؛ لكون تعدد الجهة مجديا في اجتماع الأمر و النهي، و مانعا عن لزوم التكليف المحال إذ لو لا المندوحة لزم التكليف بالمحال، و هو غير جائز عند من يرى التكليف بالمحال محذورا و محالا؛ كالعدلية. و أمّا عند من لا يراه محالا فلا تعتبر المندوحة أيضا.

و كيف كان؛ فلا وجه لاعتبار المندوحة إلاّ لأجل عدم لزوم التكليف بالمحال، و لا دخل لاعتبارها بما هو المحذور في المقام من لزوم التكليف المحال، فالمندوحة رافعة للزوم التكليف بالمحال الذي جوّزه بعض كالأشاعرة، لا التكليف المحال الذي لم يجوّزه أحد و هو مورد البحث في المقام.

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى الفرق بين التكليف المحال، و بين التكليف بالمحال؛ فإن الأول: ناش عن التضاد بين التكليفين. و الثاني: ناش من التضاد بين المتعلقين هذا أولا.

و ثانيا: أن محالية نفس التكليف لأجل وحدة المتعلق، و محالية المكلف به لأجل عجز المكلف عن إتيان المكلف به في الخارج، ففي الضدين المتزاحمين؛ كإنقاذ الغريقين يكون المكلف به محالا، فيلزم التكليف بالمحال؛ و أما نفس التكليف فليس بمحال؛ فلا يلزم التكليف المحال.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - عموم ملاك النزاع لجميع أقسام الإيجاب و التحريم في مسألة اجتماع الأمر و النهي، و الملاك عبارة عن التضاد بين مطلق الوجوب و الحرمة، سواء كانا نفسيين أو

ص: 362

غيريين أو مختلفين، أو كانا عينيين أو كفائيين أو مختلفين، أو كانا تعيينيين أو تخييريين، أو كانا تعبديين أو توصليين أو مختلفين.

و توهم صاحب الفصول لاختصاص النزاع بالوجوب و الحرمة النفسيين التعيينيين العينيين للانصراف أو الإطلاق؛ غير خال عن الاعتساف؛ لبطلان الانصراف و الإطلاق.

أما بطلان الانصراف: فلأنه إما لغلبة الوجود، أو لكثرة الاستعمال و كلاهما باطل؛ لعدم غلبة الوجود أولا، و عدم كونها موجبة للانصراف ثانيا.

و أما كثرة الاستعمال: فعلى فرض تسليمها لا تنفع في خصوص المقام؛ لقيام القرينة العقلية على الخلاف، و هي عموم الملاك، و تضاد مطلق الوجوب و الحرمة.

و أما الإطلاق: فلأن مقتضاه بمقدمات الحكمة و إن كان ذلك؛ إلاّ إن مقدمات الحكمة غير جارية في المقام؛ لوجود البيان على العموم؛ و هي القرينة العقلية على تنافي الوجوب و الحرمة بجميع أقسامهما، و مع هذه القرينة لا ينعقد الإطلاق المقتضي لإرادة النفسية و أختيها في المقام.

2 - جريان النزاع في الوجوب و الحرمة التخييريين؛ مثل وجوب الصلاة و الصوم تخييرا، و حرمة التصرف في الدار المغصوبة، و المجالسة مع الأغيار تخييرا.

فإذا صلى المكلف في الدار المغصوبة، فقد جمع الواجب التخييري و الحرام التخييري، فيجري النزاع في جواز اجتماع الأمر و النهي في الواحد ذي العنوانين، و امتناعه في هذا المقام أيضا، فتجيء أدلة المجوّزين و المانعين في هذا المورد كمورد اجتماع الوجوب و الحرمة التعيينيين؛ إذ لا وجه لاختصاص النزاع بالوجوب و الحرمة التعينيين.

3 - دفع توهم اعتبار المندوحة في مقام الامتثال في مسألة اجتماع الأمر و النهي، إذ مع عدمها لا بدّ من القول بالامتناع بلا خلاف أصلا؛ لئلا يلزم التكليف بالمحال.

و حاصل الدفع: أن اعتبارها إنما هو في مقام الامتثال، و هو خارج عن محل الكلام، لأن محل الكلام هو: مقام الجعل لا مقام الامتثال؛ بمعنى: أنه هل يمتنع تعلق حكمين متضادين في نفسهما في شيء واحد ذي وجهين؛ لعدم تعدد الوجه موجبا لتعدد المتعلق أم يمكن ذلك، لكون تعدد الوجه موجبا لتعدد المتعلق ؟ فعلى الأول يلزم التكليف المحال.

فالمهم في المقام هو: بيان أنه هل يلزم المحال؛ و هو اجتماع الحكمين المتضادين في شيء واحد أم لا؟ و من الواضح: أن هذا المعنى لا يختلف الحال فيه بين وجود المندوحة و عدم وجودها.

ص: 363

و بالجملة: لا وجه لاعتبارها إلاّ لأجل اعتبار القدرة على الامتثال، و عدم لزوم التكليف بالمحال، و لا دخل له بما هو المحذور في المقام من التكليف المحال. فافهم و اغتنم.

السابع: أنه ربما يتوهم تارة: أن النزاع في الجواز و الامتناع يبتني على القول بتعلق الأحكام بالطبائع، و أما الامتناع على القول بتعلقها بالأفراد فلا يكاد يخفى؛ ضرورة:

لزوم تعلق الحكمين بواحد شخصي، و لو كان ذا وجهين على هذا القول.

و أخرى: (1) أن القول بالجواز مبنيّ على القول بالطبائع؛ لتعدد متعلق الأمر و النهي 4 - رأي المصنف «قدس سره»:

=============

1 - عموم محل النزاع و جريانه في جميع أقسام الواجب و الحرام؛ حتى في الواجب و الحرام التخييريين.

2 - عدم اعتبار قيد المندوحة فيما هو المهم في محل النزاع من لزوم المحال، و اعتبارها في مقام الامتثال لئلا يلزم التكليف بالمحال.

في توهم ابتناء النزاع على القول بتعلق الأحكام بالطبائع
(1) الغرض من عقد هذا الأمر السابع هو: دفع توهمين:

التوهم الأول: ما أشار إليه بقوله: «إنه ربما يتوهم تارة: أن النزاع في الجواز و الامتناع يبتني على القول بتعلق الأحكام بالطبائع»؛ بتقريب: أن الخلاف في الجواز و الامتناع مبنيّ على تعلق الأحكام بالطبائع؛ إذ عليه تكون طبيعة الصلاة المتعلقة للأمر غير طبيعة الغصب المتعلقة للنهي، فيكون هناك مجال للنزاع؛ لأن القائل بالجواز يرى تعدد المتعلق ماهية و إن اتحد وجودا، فلا مانع من اجتماع الحكمين؛ لكون المتعلق عبارة عن طبيعتين متغايرتين ماهية.

و القائل بالامتناع يرى اتحاد المتعلق وجودا و ماهية، و الواحد لا يتحمل حكمين متضادين. هذا على القول بتعلق الأحكام بالطبائع.

و أما على القول بتعلقها بالأفراد: فلا يكاد يصح أن ينازع في الجواز و الامتناع، بل لا محيص عن القول بالامتناع بلا خلاف أصلا؛ ضرورة: استحالة اجتماع حكمين، و تعلقهما بواحد شخصي؛ لأنه مستلزم لاجتماع الضدين في موضوع واحد.

التوهم الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و أخرى: أن القول بالجواز مبنيّ على القول بالطبائع»؛ بتقريب: أن جواز الاجتماع مبنيّ على القول بتعلق الأحكام بالطبائع؛ لتعدد متعلق الأمر و النهي ذاتا و إن اتحد وجودا. و عدم جواز الاجتماع مبنيّ على تعلق الأحكام

ص: 364

بالأفراد؛ لكون المتعلق حينئذ شخصا جزئيا حقيقيا، و من المعلوم: امتناع تحمله لحكمين متضادين، فلا محيص حينئذ عن القول بالامتناع.

و الفرق بين التوهمين: أنه على التوهم الأول: يمكن القول بالامتناع مع القول بتعلق الأحكام بالطبائع أيضا، و على التوهم الثاني: لا يمكن ذلك؛ بل لا بدّ من الذهاب إلى الجواز على القول بتعلقها بالطبائع، فالقول بالامتناع في التوهم الثاني مبنيّ على تعلق الأحكام بالأفراد. و في التوهم الأول غير مبنيّ عليه؛ بل يمكن حتى على القول بتعلقها بالطبائع أيضا.

و الجامع بينهما هو: الامتناع على القول بتعلقها بالأفراد. و قد أجاب المصنف عن كلا التوهمين بجواب واحد، و هو ما أشار إليه بقوله: «و أنت خبير بفساد كلا التوهمين»، و حاصله: أن أساس النزاع - في مسألة الاجتماع - إنما هو على أن تعدد الوجه هل يكفي في رفع الغائلة أم لا؟ بمعنى: أن تعدد الوجه، إن كان مجديا في تعدد المتعلق؛ بحيث لا يضر معه الاتحاد الوجودي؛ فذلك مجد حتى على القول بتعلق الأحكام بالأفراد؛ لكون الموجود الخارجي الموجه بوجهين مجمعا لفردين موجودين بوجود واحد، و مصداقا لطبيعتين؛ إحداهما: متعلق الأمر، و الأخرى: متعلق النهي، فلا يلزم اجتماع الضدين من اجتماع الأمر و النهي؛ بلا فرق بين تعلق الأحكام بالطبائع أو الأفراد.

و أما إن لم يكن تعدد الوجه مجديا في تعدد المتعلق: فالاجتماع محال حتى على القول بتعلق الأحكام بالطبائع؛ لأن وجود كلّ من الطبيعتين عين وجود الأخرى، فيلزم المحال و هو اجتماع الضدين في واحد.

و كيف كان؛ فلا فرق بين القول بتعلق الأحكام بالطبائع أو الأفراد من حيث امتناع الاجتماع و جوازه، إذ مع الالتزام بكفاية تعدد العنوان، و أنه يستلزم تعدد المعنون:

فالاجتماع جائز و ممكن على كلا القولين.

و مع الالتزام بعدم كفايته، و أنه لا يستلزم تعدد المعنون؛ فالاجتماع محال على كلا القولين.

يعني: و يتوهم أخرى: ب «أن القول بالجواز مبنيّ على القول» بتعلق الأحكام «بالطبائع؛ لتعدد متعلق الأمر و النهي ذاتا عليه» أي: على القول بتعلقها بالطبائع.

ص: 365

ذاتا عليه؛ و إن اتحد وجودا، و القول بالامتناع على القول بالأفراد لاتحاد متعلقهما شخصا خارجا، و كونه (1) فردا واحدا.

و أنت خبير بفساد كلا التوهمين؛ فإن (2) تعدد الوجه إن كان يجدي بحيث لا يضر معه الاتحاد بحسب الوجود و الإيجاد (3) لكان يجدي و لو على القول بالأفراد، فإن الموجود الخارجي الموجه بوجهين (4) يكون فردا لكلّ من الطبيعتين، فيكون مجمعا

=============

(1) أي: لكون متعلق الأمر و النهي فردا واحدا يمتنع اجتماع حكمين متضادين فيه، فيكون قوله: «و كونه» عطفا على قوله: «لاتحاد».

(2) هذا من المصنف تقريب لفساد التوهمين.

(3) أي: الفرق بين الإيجاد و الوجود إنما هو بالاعتبار، بمعنى: أن الوجود ملحوظ في نفسه، و الإيجاد ملحوظ بالنسبة إلى موجده.

(4) مثل جهة الصلاتية وجهة الغصبية في الموجود الخارجي، و بهما يكون فردا لكل من الطبيعتين؛ طبيعة الصلاة المأمور بها، و طبيعة الغصب المنهي عنها، فيكون الموجود الخارجي «مجمعا لفردين موجودين بوجود واحد»، و حينئذ يمكن النزاع حتى على القول بتعلق الأوامر و النواهي بالأفراد، فلا يتم التوهم الأول؛ إذ تعلق الأمر بفرد، و تعلق النهي بفرد آخر، غاية الأمر: أن هذين الفردين اتحدا في الوجود.

و لا يقال: كيف يمكن أن يكون وجود واحد مجمعا لفردين، فإن اللازم أن يكون لكل فرد مستقل منحاز عن الآخر؟

فإنه يقال: إنه لا فرق بين اتحاد الطبيعتين و بين اتحاد الفردين، «فكما لا يضر وحدة الوجود بتعدد الطبيعتين»؛ بأن يكون وجود واحد مجمعا لطبيعتين؛ «كذلك لا يضر» وحدة الوجود «بكون المجمع اثنين»؛ أي: فردين؛ بأن يكون وجود واحد مجمعا لفردين «بما هو» أي: مجمعيته لفردين بسبب أنه «مصداق و فرد لكل من الطبيعتين»، و ذلك لما هو المعروف من: أن حكم الأمثال فيما يجوز و لا يجوز واحد.

أما وجه عدم الفرق بين اتحاد الطبيعتين، و بين اتحاد الفردين: فلأن العقل لا يرى تفاوتا بين كون المطلوب بالفعل و الترك هو الوجود السعي - أعني: الطبيعة - بحيث كانت الخصوصيات من لوازم المطلوب، و بين كون المطلوب هو الوجود الخاص - أعني الفرد - بحيث كانت الخصوصيات داخلة في المطلوب؛ إذ الموضوع للحكمين على كل تقدير ليس إلاّ الوجود المجمع.

قوله: «و إلاّ...» إلخ، معطوف على قوله: «و إن كان يجدي...» إلخ فمعنى العبارة:

ص: 366

و إن لم يكن تعدد الوجه مجديا في تعدد المتعلق لما كان مجديا أصلا؛ حتى على القول بتعلق الأحكام بالطبائع؛ لاتحاد الطبيعتين خارجا، فيلزم اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد - و هو: اجتماع الضدين - إذ الطبيعتان و إن تعددتا ذهنا و لكنهما متحدتان خارجا.

فالمتحصل: أنه إن كان تعدد الوجه مجديا في تعدد المتعلق لكان مجديا؛ بلا فرق بين تعلق الأحكام بالطبائع، و بين تعلقها بالأفراد؛ إذ كما أن وحدة الوجود لا تضر بتعدد الطبيعة - بناء على القول بتعلقها بالطبائع - فكذلك لا تضر بتعدد الفرد على القول بتعلقها بالأفراد، فما يقع في الخارج من خصوصيات الصلاة في الدار المغصوبة يكون فردا للصلاة، و فردا للغصب، فهو مأمور به بالاعتبار الأول، و منهي عنه بالاعتبار الثاني.

و إن لم يكن تعدد الوجه مجديا في تعدد المتعلق؛ لما كان مجديا حتى على القول بتعلق الأحكام بالطبائع، كما عرفت. فلا فرق بينهما إلاّ في دخول الخصوصيات في المطلوب على القول بتعلقها بالأفراد، و خروجها عن حيّز الطلب على القول بتعلقها بالطبائع.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

1 - يتلخص البحث في التوهمين، و الجواب عنهما بما يلي:

فقد يتوهم: أنه لا نزاع على القول بتعلق الأحكام بالأفراد، و إنما يبتني النزاع على الالتزام بتعلقها بالطبائع، كما يتوهم: بأن القول بالجواز يبتني على القول بتعلق الأحكام بالطبائع، و القول بالامتناع يبتني على القول بتعلقها بالأفراد.

و منشأ كلا التوهمين: أن الفرد عبارة عن الوجود الشخصي، و من الواضح: أن تعلق الحكمين بواحد شخصي محال؛ لأنه من اجتماع الضدين.

و قد أجاب المصنف عن كلا التوهمين بجواب واحد و حاصله: أن أساس النزاع على أنّ تعدد الوجه يكفي في رفع الغائلة أو لا؟.

فمع الالتزام بكفايته، و أنه يستلزم تعدد المعنون؛ يجوز الاجتماع؛ لأن متعلق الحكم و إن كان هو الفرد؛ إلاّ إنه حيث كان ذا وجهين كان مجمعا لفردين من طبيعتين؛ أحدهما: متعلق الأمر، و الآخر: متعلق النهي، فلا يلزم اجتماع الضدين على كلا القولين.

و مع الالتزام بعدم كفايته، و أنه لا يستلزم تعدد المعنون، فالاجتماع محال حتى على

ص: 367

لفردين موجودين بوجود واحد، فكما لا يضر وحدة الوجود بتعدد الطبيعتين، لا يضر بكون المجمع اثنين بما هو مصداق و فرد لكل من الطبيعتين؛ و إلاّ لما كان يجدي أصلا؛ حتى على القول بالطبائع، كما لا يخفى؛ لوحدة الطبيعتين وجودا و اتحادهما خارجا، فكما أن وحدة الصلاتية و الغصبية في الصلاة في الدار المغصوبة وجودا غير ضائر بتعددهما و كونهما طبيعتين؛ كذلك وحدة ما وقع في الخارج من خصوصيات الصلاة فيها وجودا غير ضائر بكونه فردا للصلاة، فيكون مأمورا به، و فردا للغصب فيكون منهيا عنه، فهو على وحدته وجودا يكون اثنين؛ لكونه مصداقا للطبيعتين، فلا تغفل.

الثامن (1): أنه لا يكاد يكون من باب الاجتماع؛ إلاّ إذا كان في كل واحد من القول بتعلق الأحكام بالطبيعة؛ لأن وجود كلّ من الطبيعتين عين وجود الأخرى، فيلزم اجتماع الأمر و النهي في واحد و هو محال.

=============

فحاصل البحث: أنه إن كان تعدد الوجه مجديا في تعدد المتعلق لكان مجديا على كلا القولين. و إن لم يكن تعدد الوجه مجديا لما كان مجديا؛ حتى على القول بتعلق الأحكام بالطبائع.

2 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو: أن النزاع في مسألة الاجتماع لا يبتني على القول بتعلق الأحكام بالطبائع.

و كذلك لا يبتني القول بالجواز على تعلق الأحكام بالطبائع، و القول بالامتناع على تعلقها بالأفراد. بل يمكن النزاع على كلا القولين.

في اعتبار وجود المناطين في المجمع حتى تكون مسألة الاجتماع من صغريات باب التزاحم على القول بالامتناع
(1) الغرض من عقد هذا الأمر الثامن هو: بيان أمرين:

الأمر الأول: أنه يعتبر في باب الاجتماع أن يكون مناط كل من الأمر و النهي موجودا في المجمع؛ كي يكون على الجواز محكوما بكلا الحكمين، و على الامتناع مندرجا في باب التزاحم بين المقتضيين كما ستعرف.

الأمر الثاني: بيان الفرق بين مسألة الأمر و النهي التي هي من صغريات باب التزاحم على الامتناع، و بين باب التعارض أي: الفرق بين التزاحم و التعارض.

و توضيح ذلك يتوقف على:

أن يقع الكلام تارة: في مقام الثبوت، و أخرى: في مقام الإثبات.

ص: 368

و أما مقام الثبوت: فهناك احتمالات:

الاحتمال الأول: أن يكون مجمع الأمر و النهي فاقدا للملاكين.

الاحتمال الثاني: أن يكون واجدا لأحد الملاكين، و ذلك الملاك الواحد: إما ملاك للأمر، أو للنهي، أو غير معلوم تفصيلا؛ بل يعلم إجمالا بأنه ملاك للأمر أو النهي.

الاحتمال الثالث: أن يكون واجدا للملاكين، و هذا على قسمين:

أحدهما: أن يكون المجمع واجدا للملاكين مطلقا، يعني: حتى في مورد التصادق و الاجتماع.

و ثانيهما: أن لا يكون واجدا لهما كذلك؛ بأن لم يكن للمتعلقين ملاك حتى في مورد الاجتماع؛ بأن كان الملاك قاصرا، إنما يشمل مورد الافتراق.

إذا عرفت هذه الاحتمالات فاعلم: أن الاحتمال الأول: لا يكون موردا للتعارض و لا للتزاحم، فيكون محكوما بحكم ثالث.

و الاحتمال الثاني: محكوم بالوجوب أو التحريم فيما إذا علم ذلك الملاك الواحد تفصيلا بأنه ملاك للأمر أو للنهي، و مورد للتعارض فيما إذا لم يعلم ذلك الملاك تفصيلا؛ بل علم إجمالا بأنه ملاك للأمر أو النهي؛ و لازم ذلك هو العلم بكذب أحدهما.

و الاحتمال الثالث: مورد للتزاحم إذا كان المجمع موردا للملاكين حتى في مورد الاجتماع، و لا يكون من هذا الباب إذا لم يكن للمتعلقين ملاك؛ حتى في مورد الاجتماع، بل لهما ملاك في مورد الافتراق.

و الحاصل: أنه لو كان للحكمين المجتمعين الملاك - و هو: المصلحة في الأمر؛ و المفسدة في النهي؛ بأن لم يكن فرق بين الصلاة في الدار المغصوبة، و بين سائر الصلوات؛ و كذا لم يكن فرق بين هذا الغصب أعني: التصرف في مال الغير بغير إذنه حال الصلاة، و بين سائر أفراده - كان هذا من باب التزاحم، و اجتماع الأمر و النهي.

غاية الأمر: كان التزاحم بين المقتضيين على القول بالامتناع و الترجيح هنا بالأهمية، فيؤخذ بما هو أقوى ملاكا و مناطا - و إن كان دليله أضعف سندا و دلالة - و لا يؤخذ بما هو أضعف مناطا - و إن كان دليله أقوى سندا و دلالة - و مع تساويهما مناطا و ملاكا يحكم بحكم ثالث من استحباب أو كراهة أو إباحة هذا بخلاف باب التعارض؛ حيث لا يعتبر فيه ثبوت المناط؛ بل يعتبر فيه العلم بكذب أحد الدليلين، و يرجع فيه إلى المرجحات السّندية و الدلالية، أو الاخبار العلاجية. و التفصيل في باب التعارض.

ص: 369

متعلقي الإيجاب و التحريم مناط حكمه مطلقا، حتى في مورد التصادق و الاجتماع؛ كي يحكم على الجواز بكونه فعلا محكوما بالحكمين. و على الامتناع بكونه محكوما بأقوى المناطين، أو بحكم آخر غير الحكمين؛ فيما لم يكن هناك أحدهما أقوى، كما يأتي تفصيله.

و أما إذا لم يكن للمتعلقين مناط كذلك (1) فلا يكون من هذا الباب، و لا يكون مورد الاجتماع محكوما إلاّ بحكم واحد منهما (2)؛ إذا كان له مناطه، أو حكم (3) آخر غيرهما؛ فيما لم يكن لواحد منهما؛ قيل بالجوار (4) أو الامتناع (5)، هذا بحسب مقام الثبوت.

=============

و المتحصل: أن المجمع إن كان واجدا لكلا الملاكين فهو: من باب الاجتماع، فعلى الجواز يكون محكوما بكلا الحكمين، و لا يكون من باب التزاحم، و على الامتناع يكون من باب التزاحم بين المقتضيين. و أما إذا كان أحد المناطين موجودا فيه دون الآخر: فهو محكوم بحكمه بالخصوص دون غيره؛ كما إذا لم يكن فيه شيء من المناطين، فهو محكوم بحكم آخر غير الحكمين؛ من غير فرق بين الصورتين الأخيرتين بين الجواز و الامتناع أصلا. هذا كله بحسب مقام الثبوت و الواقع.

(1) أي: مطلقا حتى في مورد الاجتماع - بأن كان الملاك قاصرا - إنما يشمل مورد الافتراق فقط، فلا يكون المجمع من هذا الباب أعني: باب التزاحم، و بالتالي لم يكن من باب اجتماع الأمر و النهي.

(2) أي: من الحكمين المجعولين للطبيعتين المتعلقتين للأمر و النهي؛ «إذا كان له مناطه»؛ يعني: إذا كان لأحد الحكمين مناطه.

(3) معطوف على «حكم» أي: حكم آخر غير الوجوب و الحرمة؛ في مورد لم يكن لواحد - اي: شيء من الوجوب و الحرمة - ملاك. و على هذا: فقد ذكر المصنف «قدس سره» لعدم اشتمال المتعلقين معا على المناط صورتين:

إحداهما: اشتمال أحدهما على المناط، و قد أشار إليه بقوله: «إذا كان له مناطه».

ثانيهما: عدم اشتمال شيء منهما على المناط، و قد أشار إليه بقوله: «أو حكم آخر غيرهما فيما لم يكن لواحد منهما».

(4) لأن القول بالجواز مبني على وجود المقتضى لكل من الحكمين، فمع عدمه في أحدهما أو كليهما لا مجال للنزاع.

(5) إذا الامتناع مبني على عدم إمكان الجمع بين ما يقتضيه الملاكان الموجودان في المتعلقين، ففي فرض عدم الملاكين لا مجال أيضا للامتناع كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 42».

ص: 370

و أما بحسب مقام الدلالة و الإثبات: فالروايتان الدالتان على الحكمين متعارضتان، إذا أحرز أن المناط من قبيل الثاني، فلا بدّ من عمل المعارضة حينئذ بينهما من الترجيح و كيف كان؛ فما ذكر من اعتبار وجود الملاكين في مسألة الاجتماع دون التعارض:

=============

هو الفرق بينهما بحسب مقام الثبوت عند العدلية؛ القائلين بتبعية الأحكام للمصالح و المفاسد. هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.

أما الكلام في مقام الإثبات فقد أشار إليه بقوله: «و أما بحسب مقام الدلالة و الإثبات...» إلخ.

و توضيح الفرق بين التزاحم و التعارض في مقام الإثبات يتوقف على مقدمة و هي أنه:

«تارة:» يحرز أن المناط من قبيل الثاني؛ بمعنى: أن أحد المناطين بلا تعيين موجود في المجمع دون الآخر.

و «أخرى:» يحرز أن المناط من قبيل الأول؛ بمعنى: أن كلا من المناطين موجود في المجمع.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الدليلين الدالين على الحكمين متعارضان بالنسبة إلى المجمع في الصورة الأولى - و هي إحراز أحد المناطين - بلا فرق بين الجواز و الامتناع، فلا بدّ من عمل المعارضة حينئذ بينهما من الترجيح أو التخيير.

هذا بخلاف الصورة الثانية؛ فيكون الدليلان فيها متزاحمان بالنسبة إلى المجمع، فربما كان الترجيح مع ما هو أقوى مناطا؛ و إن كان أضعف دليلا.

و لكن التزاحم إنما هو على الامتناع، و إلاّ فعلى الجواز لا تعارض و لا تزاحم أصلا؛ لعدم التنافي بينهما باعتقاد المجوّز.

و هناك صورة ثالثة و هي: ما إذا أحرز أنه لا مناط في المجمع أصلا، فالدليلان حينئذ ليسا بمتعارضين، و لا بمتزاحمين؛ لا على الجواز و لا على الامتناع. إلاّ إن عبارة المصنف - في مقام الإثبات - قاصرة جدا عن إفادة المراد، فإن العبارة لم تستقص جميع صور مقام الإثبات. فتدبر.

و كيف كان؛ فإن علاج الدليلين الدالين على الحكمين - الدائر أمرهما بين التزاحم، و التعارض - يكون بإعمال قاعدة التزاحم؛ و هي: الترجيح بقوّة المناط إن أحرز كونه من التزاحم، و بإعمال قواعد التعارض؛ و هي: الترجيح بالمرجحات المقررة للمتعارضين إن أحرز كونه من التعارض.

و أما إثبات كون المناط من أي القبيلين، و طريقة معرفته: فالمتكفل له الأمر التاسع، فالمائز بين الأمر التاسع و هذا الأمر هو: أن هذا الأمر متكفل لمقام الثبوت، و أن هناك

ص: 371

و التخيير، و إلاّ فلا تعارض في البين، بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين، فربما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلا؛ لكونه أقوى مناطا، فلا مجال حينئذ (1) لملاحظة مرجحات الروايات أصلا (2)، بل لا بد من مرجحات المقتضيات المتزاحمات، كما يأتي الإشارة إليها.

نعم؛ (3) لو كان كل منهما متكفلا للحكم الفعلي، لوقع بينهما التعارض، فلا بدّ واقعين، و هما التزاحم و التعارض، و أن معالجة الأول في مرحلة الإثبات تكون بشيء، و معالجة الثاني بشيء آخر.

=============

و أما الأمر التاسع: فهو متكفل بطريق إثبات كل من الواقعين، و أن إثباتهما بأي: شيء يكون ليعالج بعلاجه.

قوله: «و إلاّ فلا تعارض في البين» يعني: و إن لم يحرز أن المناط من قبيل الثاني؛ لاحتمال كونه من قبيل الأول - و هو وجود المناط في كلّ من الحكمين حتى في مورد الاجتماع، فلا تعارض بينهما؛ لاحتمال صدقهما معا، و عدم العلم الإجمالي بكذب أحدهما؛ لأن التعارض فرع العلم بكذب أحدهما.

قوله: «بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين» استدراك على عدم التعارض بتقريب:

أنه إذا لم يحرز من الخارج - كإجماع أو غيره - أن المورد من قبيل وجود المناط في كليهما أو أحدهما؛ فلا يعامل مع الدليلين معاملة التعارض، بل لا بدّ من الحكم بكونه من الأول و هو وجود المناط في كلا العنوانين.

و الوجه في ذلك: أن مقتضى حجية الروايتين معا: حكايتهما عن وجود المناط في كليهما؛ لكشف الحكمين اللذين هما مدلولا الروايتين المعتبرتين عن مناطين فيقع التزاحم بينهما لا محالة بناء على الامتناع، كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 45».

(1) أي: حين احتمال وجود المناط في كلا المتعلقين؛ و ذلك لاختصاص أدلة مرجحات الروايات بباب التعارض، و عدم شمولها لباب التزاحم.

(2) يعني: لا المرجحات السندية و لا الدلالية، بل لا بدّ من إعمال مرجحات باب التزاحم الراجعة إلى الترجيح الملاكي؛ «كما يأتي الإشارة إليها» أي: إلى مرجحات المقتضيات في التنبيه الثاني من تنبيهات اجتماع الأمر و النهي.

(3) استدراك على ما ذكره من إعمال مرجحات التزاحم، و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 45» - أنه قد يعامل مع المتزاحمين معاملة التعارض، و هو فيما إذا كانت الروايتان ظاهرتين في الحكم الفعلي مطلقا حتى في حال الاجتماع؛ فإنه بناء

ص: 372

من ملاحظة مرجحات باب المعارضة؛ لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي؛ بملاحظة (1) مرجحات باب المزاحمة. فتفطن.

=============

على الامتناع يمتنع فعلية الحكمين على طبق مناطيهما، فلا بدّ من فعلية أحدهما في مورد الاجتماع؛ للعلم الإجمالي بكذب أحدهما الموجب لتعارض الدليلين، فيجري عليهما حكم التعارض إن لم يمكن الجمع الدلالي بينهما؛ إذ مع امكانه ينتفي موضوع التعارض، فلا مجال لإجراء أحكامه، كما قرر في محله.

ففي المقام إذا أحرزت أهمية أحد المناطين: كانت في قرينة على حمل الحكم الآخر على الاقتضائي، و صالحة لصرف الدليل الآخر عن ظهوره في الحكم الفعلي إلى الاقتضائي.

فالمتحصل: أن الخبرين الواجدين للمناط؛ و إن كانا من المتزاحمين؛ لكنه قد يعامل معهما معاملة التعارض إذا كانا متكفلين للحكم الفعلي، فإنه - بناء على الامتناع - يعلم إجمالا بكذب أحدهما، فيجري عليهما أحكام التعارض بشرط عدم إمكان الجمع العرفي بينهما و لو بقرينة الأهمية التي هي من مرجحات باب التزاحم.

هذا ما أشار إليه بقوله: «لو لم يوفق بينهما...» إلخ يعني: أن التعارض مشروط بعدم إمكان التوفيق العرفي بين الدليلين؛ إذ معه ينتفي موضوع التعارض.

(1) متعلق ب «حمل»؛ يعني: أن الحمل على الاقتضائي يكون بملاحظة مرجحات باب المزاحمة، و يجوز تعلقه ب «يوفق»؛ يعني: لو لم يوفق بين الدليلين بملاحظة... إلخ.

ثم الوجه في الجمع بينهما بحمل أحدهما على الاقتضائي هو: أن المقتضي فيه أضعف من الآخر، فاختلاف المقتضي يكشف عن اختلاف الحكم. «فتفطن» حتى لا يشتبه عليك الأمر، و تجري أحكام التعارض على الروايتين الدالتين على الحكمين مطلقا - بناء على الامتناع - و ذلك لاختصاص معاملة التعارض بما إذا كان المناط في أحدهما، إذ لو كان المناط في كليهما يعامل معهما معاملة التزاحم؛ إلاّ إذا كانتا حاكيتين عن الحكم الفعلي، و لم يمكن الجمع العرفي بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي.

و في «منتهى الدراية، ج 3، ص 47» ما هذا لفظه: «و يحتمل أن يكون قوله: «فتفطن» إشارة إلى: أن الجمع العرفي بين الدليلين منوط بأظهرية أحدهما من الآخر، و أقوائية أحد المناطين لا توجب الأقوائية من حيث الظهور، لكنه بعيد؛ لأن مناط التوفيق العرفي ليس منحصرا بالأظهرية، بل يكفي في ذلك صلاحية كون أحدهما قرينة على التصرف في الآخر؛ لأظهرية، أو قرينة لفظية، أو عقلية؛ كمناسبة الحكم للموضوع، أو غيرها. و لو كان المناط الأظهرية فقط لكان ذو القرينة فيما إذا كان أظهر من القرينة؛ كقوله: «رأيت أسدا يرمي» مقدما على ظهور القرينة، و هو كما ترى خلاف ما جرت عليه سيرة أبناء

ص: 373

المحاورة في محاوراتهم. و عليه: فلا مانع من قرينية أقوائية المناط على التصرف في الدليل الآخر بحمله على الحكم الاقتضائي فتدبر».

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - أن مجمع الأمر و النهي بحسب الواقع و مقام الثبوت: إمّا واجد للملاكين أو فاقد لهما أو واجد لأحدهما. فعلى الأول: محكوم بحكمين على الجواز، و مندرج في باب التزاحم على الامتناع، فيتبع الحكم لأقوى الملاكين، و على الثاني: محكوم بحكم ثالث.

و على الثالث: يكون من باب التعارض إن علم إجمالا بكذب أحدهما.

فالحاصل: أن المورد لا يكون من موارد اجتماع الأمر و النهي إلاّ إذا كان في كلّ من متعلقي الأمر و النهي مناط الحكم مطلقا؛ يعني: حتى في مورد الاجتماع و التصادق.

و الوجه فيه هو: أن أحكام باب الاجتماع لا تترتب إلاّ في مورد وجود الملاكين، فيحكم بكون المجمع محكوما بحكمين فعليين على الجواز، و بكونه محكوما بما هو أقوى مناطا من الحكمين، أو بحكم آخر غيرهما مع تساوي المناطين بناء على الامتناع. و لو لم يكن في المورد مناط كلا الحكمين فلا يكون من باب الاجتماع؛ بل يكون محكوما بأحد الحكمين إذا كان له مناطه، أو بغيرهما إذا لم يكن لكلا الحكمين مناط؛ سواء قيل بالجواز أو الامتناع. هذا خلاصة ما يرجع إلى مقام الثبوت.

2 - و أما بحسب مقام الإثبات: فإذا أحرز أن المناط من قبيل الثاني - يعني: لم يكن لكلا الحكمين مناط - فالروايتان الدالتان على الحكمين متعارضتان، فالمحكم حينئذ:

قواعد التعارض؛ من ترجيح، أو تخيير، و إن لم يحرز ذلك؛ بل أحرز وجود الملاكين: فلا يكون من باب التعارض؛ بل يكون المورد من موارد تزاحم المقتضيين. فالمقدم هو الأقوى منهما مناطا؛ و إن كان أضعف دليلا.

نعم؛ إذا كان كلّ منهما متكفلا للحكم الفعلي كانت المعارضة ثابتة، فلا بدّ من ملاحظة قواعد المعارضة؛ إلاّ إذا جمع بينهما عرفا؛ بحمل أحدهما - و هو الأضعف ملاكا - على بيان الحكم الاقتضائي؛ بملاحظة مرجحات باب المزاحمة.

3 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - أما في مقام الثبوت: فتكون مسألة الاجتماع من صغريات باب التزاحم على القول بالامتناع.

ص: 374

التاسع: (1) أنه قد عرفت: أن المعتبر في هذا الباب: أن يكون كل واحد من الطبيعة المأمور بها و المنهي عنها مشتملة على مناط الحكم مطلقا؛ حتى في حال 2 - و أما في مقام الإثبات: فظاهر كلامه هو: التفصيل؛ بمعنى: أنها من باب التعارض إذا أحرز أن المناط من قبيل الثاني؛ أي: هناك مناط واحد بلا تعيين أصلا.

=============

و من باب التزاحم بين المقتضيين إذا أحرز أن المناط من قبيل الأول؛ بمعنى: أن كلا من المناطين موجود في المجمع.

في بيان ما يحرز به المناطان في المجمع

(1) المقصود من الأمر التاسع: بيان ما يحرز به المناطان في المجمع، كما أن المقصود من الأمر الثامن هو: بيان اعتبار وجود المناطين في المجمع؛ حتى يكون المجمع على القول بالامتناع مندرجا في التزاحم بين المقتضيين كما عرفت.

و كيف كان؛ فالأمر التاسع يكون لبيان ما هو طريق إلى احراز المناط في مقام الإثبات.

و حاصل الكلام في الأمر التاسع: أنه إن كان إحراز المناطين في المجمع بإجماع أو غيره من دليل خاص؛ موجب للعلم بثبوت المناط فيه؛ فلا إشكال في كون المجمع من مسألة اجتماع الأمر و النهي؛ لأن المعيار في مسألة الاجتماع هو: أن يكون كل واحد من الطبيعة المأمور بها و المنهي عنها مشتملا على مناط الحكم؛ حتى في مورد الاجتماع، كما أشار إليه بقوله: «مطلقا حتى في حال الاجتماع». فقوله: «حتى في حال الاجتماع» بيان لقوله: «مطلقا»؛ بأن يكون مناط وجوب الصلاة، و مناط حرمة الغصب موجودين حتى في الصلاة في الغصب.

و أما لو لم يكن في البين دليل على وجود المناطين «إلاّ إطلاق دليلي الحكمين» كإطلاق «صلّ »، و إطلاق «لا تغصب»؛ بأن يكون كل منهما شاملا لمورد الاجتماع، و كاشفا عن وجود المناط فيه ثبوتا «ففيه تفصيل»، و مورد التفصيل هو: ما إذا انحصر الدليل في إطلاق دليلي الحكمين.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن في صورة انحصار الدليل في إطلاق دليلي الحكمين؛ فتارة: يكون الدليلان في مقام بيان الحكم الاقتضائي؛ كما إذا دل أحدهما على المصلحة، و الآخر على المفسدة.

و أخرى: أن يكون الدليلان في مقام بيان الحكم الفعلي كما هو الغالب.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه على الفرض الأول: كان المورد من باب الاجتماع، كما أشار إليه بقوله: «فيكون من هذا الباب» سواء قلنا بجواز الاجتماع؛ لكون تعدد

ص: 375

الاجتماع، فلو كان هناك ما دل على ذلك - من إجماع أو غيره - فلا إشكال، و لو لم يكن إلاّ إطلاق دليلي الحكمين، ففيه تفصيل و هو: أن الإطلاق لو كان في بيان الحكم الاقتضائي، لكان دليلا على ثبوت المقتضي و المناط في مورد الاجتماع، فيكون من هذا الباب، و لو كان بصدد الحكم الفعلي: فلا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضي في الحكمين على القول بالجواز؛ إلاّ إذا علم إجمالا بكذب أحد الدليلين، فيعامل معهما معاملة المتعارضين.

و أما (1) على القول بالامتناع فالإطلاقان متنافيان، من غير دلالة على ثبوت المقتضي للحكمين في مورد الاجتماع أصلا؛ فإن (2) انتفاء أحد المتنافيين كما يمكن أن الجهة مجديا في تعدد المتعلق أم لا، و ذلك لدلالة الإطلاقين على ثبوت المقتضي في مورد الاجتماع.

=============

و أما على الفرض الثاني: فيختلف الحكم؛ بمعنى: أنه لا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضي في الحكمين على القول بالجواز، فيعامل مع الدليلين معاملة التزاحم؛ لأن الحكاية عن فعلية الحكمين تستلزم الحكاية عن ثبوت مقتضيهما كما هو واضح، إلاّ إذا علم إجمالا بكذب أحد الدليلين في حكايته؛ فيعامل معهما معاملة التعارض؛ إذ المفروض: عدم المقتضى في المتعلقين معا حتى يندرجا في باب التزاحم. هذا تمام الكلام في الفرض الثاني على القول بالجواز.

و أما على الامتناع: فالإطلاقان متنافيان؛ من دون أن تكون لهما دلالة على ثبوت مقتضى الحكمين في مورد الاجتماع؛ و ذلك لتنافي الإطلاقين، فحينئذ يعامل معهما معاملة التعارض؛ إلاّ إن يجمع بينهما عرفا بحمل كل منهما على الحكم الاقتضائي إن كانا متساويين في الظهور، و إلاّ فيحمل خصوص الظاهر منهما على الحكم الاقتضائي، و الأظهر على الفعلي.

(1) معطوف على قوله: «على القول بالجواز»؛ يعني على القول بالامتناع يمتنع صدق الدليلين معا على المجمع؛ إذ المفروض حينئذ: تحقق التنافي بين الإطلاقين، و مقتضى هذا التنافي جريان أحكام التعارض عليهما.

(2) بيان لوجه عدم الدلالة مع تنافي الإطلاقين و حاصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 50» - أنه على القول بالامتناع يعلم إجمالا بكذب أحد الدليلين في دلالته على الحكم الفعلي، لانتفائه في أحدهما؛ كما هو مقتضى القول بالامتناع، فحينئذ يمكن انتفاء مجرّد الفعلية مع وجود المناط في كل منهما، و يمكن انتفاء المقتضي في أحدهما.

ص: 376

يكون لأجل المانع مع ثبوت المقتضي له؛ يمكن أن يكون لأجل انتفائه؛ إلاّ أن يقال (1): إن قضية التوفيق بينهما هو: حمل كلّ منهما على الحكم الاقتضائي؛ لو لم يكن أحدهما أظهر؛ و إلاّ فخصوص الظاهر منهما.

فتلخص (2): أنه كلما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين كان من مسألة الاجتماع، و كلما لم تكن هناك دلالة عليه فهو من باب التعارض مطلقا؛ إذا و الحاصل: أنه يمكن استناد عدم الفعلية إلى عدم المقتضي، و إلى وجود المانع، و لما لم يحرز واحدا منهما، فيشك في اندراج المقام في مسألة الاجتماع؛ بل يحتمل أن يكون من باب التعارض؛ لاحتمال انتفاء المقتضى فيعلم إجمالا بكذب أحد الدليلين لذلك، و يحتمل أن يكون من باب التزاحم لوجود المانع مع ثبوت المقتضى لكلا الحكمين.

=============

(1) هذا استثناء من جريان أحكام التعارض على الدليلين الحاكيين عن الحكم الفعلي؛ بناء على القول بالامتناع؛ و حاصله: أن إجراء أحكام التعارض في هذه الصورة مبني على عدم إمكان الجمع العرفي بين الدليلين.

و أما مع إمكانه؛ فلا تصل النوبة إلى إجرائها؛ لانتفاء موضوع التعارض، مع إمكان الجمع العرفي، و المراد بالجمع العرفي - كما عرفت - هو: حمل كلّ من الدليلين على الحكم الاقتضائي مع تساويهما في الظهور لو لم يكن أحدهما أظهر من الآخر، و في فرض أظهرية أحدهما فيحمل خصوص الظاهر منهما على الحكم الاقتضائي، و يبقى الأظهر حجة في الفعلية.

(2) فتلخص من جميع ما ذكرناه في الأمر التاسع: أنه كلما كانت هناك دلالة في الدليلين المجتمعين على ثبوت المقتضى و المناط في الحكمين؛ سواء كان الدليل على ثبوته إجماعا أو دليلا خاصا؛ مما يوجب العلم بالثبوت، أو إطلاقا لدليل الحكمين، لكان المجمع من باب التزاحم، و من مسألة الاجتماع؛ سواء قلنا: بالجواز، أو قلنا:

بالامتناع؛ بشرط أن يكونا اقتضائيين معا، و إلاّ ففيه تفصيل، و قد سبق ذلك. و كلّما لم تكن هناك دلالة على ثبوت المقتضي و المناط في الحكمين. فالمجمع يكون من باب التعارض «مطلقا»؛ يعني قلنا: بالجواز، أو قلنا بالامتناع؛ و لكن بشرط أن تكون هناك دلالة على انتفاء المناط و المقتضى في أحدهما بلا تعيين؛ لأن المعيار في التعارض هو:

عدم ثبوت المناط فيهما؛ المستلزم للعلم بكذب أحدهما؛ للعلم بثبوته في أحدهما بلا تعيين.

ص: 377

كانت هناك دلالة على انتفائه في أحدهما بلا تعيين (1) و لو على الجواز، و إلاّ (2) فعلى الامتناع.

=============

(1) يعني: أن تقييد المصنف انتفاء المناط في أحدهما بقيد «بلا تعيين»؛ إنما هو لإخراج ما إذا دل على انتفاء الملاك في أحدهما المعين، فإنه يخرج حينئذ عن الاجتماع و التعارض معا؛ للقطع بعدم حجية ما ليس فيه الملاك، فيتعين الأخذ بالآخر بلا تعارض و لا تزاحم أصلا.

(2) يعني: و إن لم تكن هناك دلالة على انتفاء المقتضي في أحدهما بلا تعيين؛ كما إذا لم تكن دلالة على ثبوت المقتضي لهما في المجمع؛ فهو من باب التعارض على القول بالامتناع؛ إذ لا طريق إلى إحراز شرط مسألة الاجتماع و هو: ثبوت المقتضي في المتعلقين.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص مما ذكره المصنف «قدس سره» في الأمر التاسع:

أن الدليلين إن كانا في مقام بيان الحكم الاقتضائي، فهما من باب الاجتماع. و إن كانا في مقام بيان الحكم الفعلي؛ فإن علم إجمالا بكذب أحدهما غير المعيّن جرى عليهما حكم التعارض مطلقا؛ سواء قلنا: بالجواز أم الامتناع. و إن لم يعلم بكذب أحدهما، و احتمل صدقهما معا: فعلى القول بالجواز يكونان من باب الاجتماع، و على القول بالامتناع يعامل معهما معاملة التعارض؛ لعدم إحراز ثبوت المناط في كلا المتعلقين؛ إن لم يمكن الجمع العرفي بينهما بحمل كليهما أو أحدهما على الحكم الاقتضائي، و إلاّ فلا تصل النوبة إلى أحكام التعارض.

2 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - لو كان هناك دليل على ثبوت مناط الحكمين؛ فلا إشكال في دخول المجمع في مسألة الاجتماع.

2 - لو لم يكن إلاّ إطلاق دليلي الحكمين: ففيه تفصيل؛ بمعنى: أنه إن كان الدليلان في مقام بيان الحكم الاقتضائي كانا من باب الاجتماع، و إن كانا في مقام بيان الحكم الفعلي: فعلى القول بالجواز: يعامل معهما معاملة التزاحم؛ إلاّ إذا علم إجمالا بكذب أحد الدليلين، فيعامل معهما معاملة التعارض و على القول بالامتناع: يعامل معهما معاملة التعارض؛ إلاّ إن يجمع بينهما عرفا، فلا يكون هناك موضوع للتعارض. هذا تمام الكلام في خلاصة البحث.

ص: 378

العاشر (1): أنّه لا إشكال في سقوط الأمر و حصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز مطلقا، و لو في العبادات و إن كان معصية للنهي أيضا.

=============

في ثمرة بحث الاجتماع

(1) المقصود من عقد هذا الأمر العاشر هو: بيان الثمرة المترتبة على القول بالجواز و الامتناع في مسألة الاجتماع. و توضيحها يتوقف على مقدمة و هي: أنّ الواجب المتحد مع الحرام: إمّا توصلي، أو تعبّدي و على كلا التقديرين: إما نقول بالجواز أو بالامتناع.

و على الامتناع: إمّا يرجح جانب الأمر أو جانب النهي. و على ترجيح جانب النهي:

المكلف إما ملتفت إلى الحرمة أو لا، و مع عدم الالتفات كان جهله و عدم التفاته عن تقصير أو عن قصور، و على التقديرين قصد القربة أم لا؟

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنّه لا إشكال في سقوط الأمر بإتيان المجمع على القول بالجواز مطلقا، سواء كان من العبادات أو المعاملات بالمعنى الأعم المقابل للعبادات، فيكون المكلف مطيعا للأمر و عاصيا للنهي كما أشار إليه بقوله: «و إن كان معصية للنهي أيضا» أي: كما يكون إطاعة للأمر.

و كذلك يسقط الأمر على الامتناع و ترجيح جانب الأمر بدون المعصية؛ لأن المفروض: سقوط النهي لغلبة الأمر، كما أشار إليه بقوله: «و كذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر...» إلخ.

و أما على الامتناع و ترجيح جانب النهي: فيسقط الأمر في غير العبادات مطلقا، سواء التفت إلى الحرمة أم لا؛ لحصول الغرض الداعي إلى الأمر بإتيان متعلقه؛ لكونه توصليا لا يعتبر فيه قصد القربة. كما أشار إليه بقوله: «و أمّا عليه و ترجيح جانب النهي...» إلخ.

و أما في العبادات: ففيه تفصيل كما أشار إليه بقوله: «و أما فيها فلا مع الالتفات إلى الحرمة...» إلخ.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن المكلّف «تارة»: يكون عالما بالحكم و الموضوع، و «أخرى»: يكون جاهلا بكل من الحكم و الموضوع أو الحكم فقط.

و الأول: كما إذا علم بأن مكان صلاته مغصوب، و أنّ الحكم التكليفي هو الحرمة و الحكم الوضعي هو فسادها فيه.

و الثاني: يتصوّر على وجهين: أحدهما: أن لا يعذر في جهله لكونه عن تقصير.

و الآخر: أن يعذر فيه لكونه عن قصور.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه يحكم ببطلان الصلاة إذا كان المكلف عالما بالحكم

ص: 379

و الموضوع أو الحكم فقط؛ لكون هذه الصلاة حراما و معصية، و من المعلوم: عدم صلاحية الحرام للعبادية و المقربيّة، فالأمر المتعلق بطبيعة الصلاة لا يسقط بإتيان المجمع، و قد أشار إليه بقوله: «و أما فيها فلا...» الخ، يعني: و أمّا في العبادات. كما لو صلّى في الدار المغصوبة. فلا يسقط الأمر «مع الالتفات إلى الحرمة».

و أما إذا كان المكلف جاهلا بكل من الحكم و الموضوع أو الحكم فقط. فالحكم فيها هو البطلان أيضا إن لم يكن جهله عذرا بأن كان عن تقصير؛ لأن الجهل عن تقصير كالعلم في عدم العذر، فالفعل حينئذ حرام محض، فالمكلف و إن كان متمكنا من قصد القربة لجهله إلاّ إن الفعل لحرمته لا يصلح لأن يكون مقرّبا للعبد إليه «سبحانه و تعالى».

و مجرّد اشتماله على المصلحة لا يجدي في مقربيّته، لأنها مغلوبة بالمفسدة، فلا فرق في الحكم بالفساد بين العلم و بين الجهل التقصيري. و قد أشار إليه بقوله: «أو بدونه تقصيرا...» إلخ.

و أما لو كان الجهل لعذر. بأن يكون عدم الالتفات عن قصور. فتوضيحه: أن الفعل لما كان واجدا للمصلحة كان صدوره على وجه حسن لعدم الجهل العذري مانعا عن حسنه الصدوري، فلا مانع حينئذ من سقوط الأمر بحصول الغرض به؛ إذ تبعيّة الأمر للغرض حدوثا و بقاء يكون من الأمور البديهية.

فلا مانع من تمشي قصد القربة و سقوط الأمر في فرض كون الجهل عذرا، و قد أشار إليه بقوله: «و أما إذا لم يلتفت إليها قصورا».

و كيف كان؛ فإذا كان المكلف جاهلا «فتارة»: يكون جهله عن تقصير، و «أخرى»:

عن قصور. أما على الأول: فتكون صلاته فاسدة؛ لأنّ صحّة العبادة مشروطة بشرائط ثلاثة عرضية لا طولية:

الأول: أن يكون العمل في حدّ نفسه قابلا للتقرّب إلى المولى.

الثاني: أن يقصد المكلف التقرّب بالعمل إلى المولى.

الثالث: أن لا يكون صدور العمل منه قبيحا و مبغوضا.

فالأول و الثاني: و إن كانا موجودين هنا، لأن هذه الصلاة كسائر الصلوات ذات ملاك، فلا فرق بينهما في صورة الجهل بالحرمة، و الحال أنه قد قصد التقرب به.

و لكن الثالث: لا يكون موجودا في فرض كون الجهل عن تقصير؛ لأن العمل و إن كان في نفسه قابلا للتقرب لأجل اشتماله على الملاك إلاّ أنّه حيث كان مبغوضا للمولى

ص: 380

و كذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر؛ إلاّ إنّه لا معصية عليه، و أما عليه و ترجيح جانب النهي: فيسقط به الأمر به مطلقا في غير العبادات لحصول الغرض الموجب له، و أما فيها فلا مع الالتفات إلى الحرمة أو بدونه تقصيرا، فإنه و إن كان متمكنا - مع عدم الالتفات - من قصد القربة، و قد قصدها، إلاّ إنه مع التقصير لا يصلح لأن يتقرب به أصلا فلا يقع مقرّبا، و بدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للأمر به عبادة، كما لا يخفى.

و أما إذا لم يلتفت إليها قصورا، و قد قصد القربة بإتيانه، فالأمر يسقط، لقصد التقرب بما يصلح أن يتقرّب به؛ لاشتماله على المصلحة، مع صدوره حسنا لأجل الجهل بحرمته قصورا، فيحصل به الغرض من الأمر، فيسقط به قطعا، و إن لم يكن امتثالا له بناء (1) على تبعية الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح و المفاسد لا يكون صدوره منه حسنا؛ بل يكون قبيحا و مبغوضا، فإذن: لا يمكن الحكم بصحّة العبادة الفاقدة للشرط الثالث.

=============

فالمكلف و إن كان متمكّنا مع عدم الالتفات إلى الحرمة من قصد القربة لكونه جاهلا بالحرمة. و قد قصدها. إلاّ إنه مع التقصير لا يصلح لأن يتقرّب بهذا العمل إلى المولى الحكيم؛ لما عرفت من: أنّ الجاهل المقصّر كالعالم العامد فلا يكون معذورا، كما في الروايات، فيكون عمله العبادي بدون قصد القربة باطلا.

و أما إذا لم يلتفت إلى الحرمة قصورا و أتى بالعمل مع قصد القربة: فيسقط الأمر و يحصل الغرض؛ لاشتمال العمل على المصلحة و إن لم يكن امتثالا للأمر أي: و إن لم يكن سقوط الأمر امتثالا له؛ لأن امتثال الأمر عبارة عن فعل المأمور به بداعي أمره، و لا أمر هنا بعد ترجيح جانب النهي حسب الفرض، فقصد التقرّب أوجب كون الفعل طاعة، و الجهل عن قصور أوجب كونه غير معصية لكون الجهل عذرا، فيكون حسنا لا غير و إطاعة لا امتثالا.

لا يقال: إنه لا معنى للتفكيك بين سقوط الأمر، و بين حصول امتثال الأمر؛ بل إذا سقط الأمر و حصل الغرض فقد حصل الامتثال، فلا معنى لقوله: «و إن لم يكن امتثالا»، فإنه يقال: إن عنوان الامتثال إنّما يصدق فيما إذا كان المأتي به مما تعلق به الأمر و كان باقيا؛ لا فيما إذا كان الحكم بصحة العمل من جهة محبوبيّته و حسنه أو كونه ذا ملاك، كما في المقام.

(1) قيد للنفي و هو عدم الامتثال، يعني: أن عدم كون الفعل مأمورا به في حال

ص: 381

واقعا (1)، لا لما هو المؤثر منها «منهما نسخة». فعلا للحسن أو القبح؛ لكونهما تابعين لما علم منهما كما حقق في محلّه.

=============

الجهل القصوري بالحرام. حتى يتحقق به الامتثال. مبني على تبعية الأحكام لأقوى المناطات الواقعية التي هي من الأمور الخارجية.

(1) قيد للمصالح و المفاسد. توضيح ما هو مراد المصنف من هذا الكلام في المقام يتوقف على مقدمة و هي: أن الأفعال المتعلقة للأحكام «تارة»: تتصف بكونها ذوات مصالح و مفاسد، و «أخرى»: تتصف بكونها حسنة أو قبيحة و الفرق بين الوصفين أن اتصاف الأفعال المتعلقة للأحكام بكونها ذوات المصالح و المفاسد إنّما هو بحسب الواقع و نفس الأمر، سواء علم المكلف باشتمالها عليهما أم لا؛ لما عرفت من: كون الملاكات أمورا خارجية قائمة بالأفعال تكوينا، من دون دخل علم المكلف بتلك الملاكات في اتصاف الأفعال بها. هذا بخلاف اتصاف الأفعال بالحسن و القبح؛ فإنه مشروط بعلم المكلف بكونها ذوات المصالح أو المفاسد؛ إذ المدح و الذم لا يترتبان إلاّ على الفعل الصادر عن الفاعل المختار العالم بصلاحه و فساده، فلو صدر عنه في حالة الاضطرار إليه أو الجهل بهما لا يتصف ذلك الفعل بحسن و لا قبح.

و حاصل الفرق: أن اتصاف الفعل. كالصلاة مثلا. بكونها ذات المصلحة أو اتصافه.

كقتل المؤمن مثلا. بكونه ذا مفسدة غير مشروط بعلم المكلف بهما. و أما اتصافه بالحسن أو القبح: فمشروط بعلم المكلف بصلاح الفعل و فساده.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنّ القائلين بتبعية الأحكام للمصالح و المفاسد اختلفوا على قولين:

الأول: أنها تابعة للمصالح و المفاسد الواقعية من غير تقييد بالعلم و الجهل بمعنى: أن الفعل إذا كان ذا مصلحة كان واجبا؛ و إن كان المكلف جاهلا بها. و إذا كان ذا مفسدة كان حراما؛ و إن جهل المكلف مفسدته، فحينئذ إذا تعارضت المفسدة و المصلحة كان الحكم تابعا للأقوى منهما في الواقع و إن جهله المكلف. هذا ما أشار إليه بقوله: «بناء على تبعيّة الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح و المفاسد واقعا».

الثاني: أنّها ليست تابعة للمصالح و المفاسد الواقعية؛ بل إنما هي تابعة للحسن و القبح الفعليين التابعين لما علم من المصالح و المفاسد، فالمجهول منهما لا يكون مؤثرا في الحكم، و حينئذ لو اجتمعت المصلحة و المفسدة و كانت المفسدة أقوى من المصلحة و لكن المكلف لا يعلم ذلك فأتى بالمجمع باعتبار ما علمه من المصلحة فيه كان واجبا؛ لاشتماله على الحسن الناشئ من علم المكلف.

ص: 382

مع أنّه (1) يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك، فإن العقل لا يرى تفاوتا بينه و إذا انعكس الأمر؛ بأن كانت المصلحة أقوى و لكن المكلف لا يعلم ذلك و لم يفعله باعتبار ما علمه من المفسدة فيه: كان الفعل حراما لاشتماله على القبح الناشئ من علم المكلف، هذا ما أشار إليه بقوله: «لا لما هو المؤثر منهما للحسن أو القبح لكونهما تابعين لما علم منهما» أي: المصالح و المفاسد، فقوله: «لا لما هو المؤثر...» الخ. مقابل لقوله: «لما هو الأقوى من جهات المصالح و المفاسد واقعا».

=============

و كيف كان؛ فعلى القول الأول: تكون الصلاة في الدار المغصوبة حراما؛ لتبعيّة الحرمة لملاكها النفس الأمري و هو المفسدة الغالبة على المصلحة؛ كما هو المفروض على القول بالامتناع و ترجيح جانب النهي، حيث إن الحكم تابع لأقوى المناطين و على القول الثاني: و هو تبعية الأحكام الشرعية للملاكات المؤثرة فعلا في الحسن و القبح العقليين.

تكون الصلاة في الدار المغصوبة واجبة و مأمورا بها شرعا؛ إذ المفروض: أن ملاك الحرمة ليس هو نفس المفسدة بما هي هي، بل بما هي معلومة، و في صورة الجهل بالموضوع أو الحكم قصورا لا تؤثر المفسدة الواقعية في القبح حتى يترتب عليها الحرمة. و لا فرق في عدم الحرمة بين كونه لعدم المقتضي، و بين كونه لوجود المانع، كما في مورد البحث، فإنّ المفسدة الواقعية و إن كانت مقتضية للحكم الشرعي إلاّ إن الجهل مانع عن تأثيرها فيه؛ كمنعه عن تأثير تلك المفسدة في الحكم العقلي بالقبح.

في تصحيح المجمع بالأمر بالطبيعة

(1) الغرض من هذا الكلام هو: تصوير امتثال الأمر حتى على مبنى تبعية الأحكام للملاكات الواقعية، أي: يمكن «أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك» أي: مع كون الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد الواقعية؛ كما هو مقتضى القول الأول بتقريب: إن العقل لا يرى تفاوتا في الوفاء بالغرض القائم بالطبيعة المأمور بها بين الفرد المبتلى بالمزاحم أعني: المجمع. و بين سائر الأفراد، فلا فرق بين الصلاة في المكان المغصوب و بين سائر أفرادها إلاّ من ناحية وجود المانع عن الوجوب في الفرد المزاحم؛ لا عدم المقتضى إذ المفروض: وجوده في جميع الأفراد، فحينئذ يحكم بإمكان حصول امتثال الأمر إذا أتى بالمجمع كالصلاة في المغصوب بداعي امتثال الأمر بالطبيعة، كما تقدم نظيره في ضدّ الواجب كالصلاة بالنسبة إلى الإزالة، حيث إنه قيل بإمكان الإتيان بالصلاة هناك بداعي الأمر المتعلق بطبيعتها و إن كان فردها المزاحم بالإزالة خاليا عن الأمر، فالفرد المزاحم و إن لم يكن فردا للطبيعة بما هي مأمور بها لكنّه من أفرادها بما هي هي، و مشتمل على ما

ص: 383

و بين سائر الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها، و إن لم تعمه بما هي مأمور بها، لكنّه لوجود المانع لا لعدم المقتضى.

و من هنا انقدح أنّه يجزي و لو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة العبادة، و عدم كفاية الإتيان بمجرّد المحبوبية، كما يكون كذلك في ضدّ الواجب، حيث لا يكون هناك أمر يقصد أصلا.

و بالجملة: مع الجهل قصورا بالحرمة موضوعا (1) أو حكما (2)، يكون الإتيان تشتمل عليه أفراد الطبيعة بما هي مأمور بها من الغرض الداعي إلى الأمر.

=============

قوله: «فإنّ العقل...» الخ تقريب: لإمكان حصول امتثال الأمر حتى على القول بتبعيّة الأحكام للملاكات الواقعية.

و المتحصل: أن الطبيعة المأمور بها و إن كانت لا تعمّ بما هي مأمور بها ذلك الفرد المزاحم إلاّ إن عدم شمولها له ليس لأجل عدم المقتضى؛ بل لوجود المانع.

و عليه: فالأفراد متساوية الأقدام بالنسبة إلى المقتضى و هو الوفاء بالغرض و المانع. و هو التزاحم. أوجب عدم شمول الطبيعة بوصف كونها مأمورا بها للفرد المزاحم.

فاتضح مما ذكر من عدم التفاوت بين الفرد المزاحم و بين سائر الأفراد. في الوفاء بالغرض و وجود المقتضى في جميعها: أنّ الإتيان بالمجمع يجزي و لو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة العبادة، و عدم كفاية مجرد محبوبيّتها؛ كما أشار إليه بقوله: «و من هنا انقدح أنّه يجزي» يعني: و من عدم التفاوت بين المجمع و بين سائر الأفراد في الوفاء بالغرض ظهر: أن الإتيان بالمجمع الذي هو الفرد المزاحم يجزي، «و لو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة العبادة و ب «عدم كفاية الإتيان بمجرد المحبوبية كما يكون كذلك» بدون الأمر مجزيا «في ضدّ الواجب» كالصلاة التي هي ضد الإزالة، «حيث لا يكون هناك أمر يقصد أصلا»، و مع ذلك تصح الصلاة و تقع مجزية في صورة الجهل قصورا؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج، 2 ص 350».

(1) كعدم العلم بالغصب و لو مع العلم بالحرمة؛ إلاّ إن الجهل بالموضوع يوجب الجهل بالحكم، إذ من لا يعلم الغصب لا يعلم الحرمة من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

(2) أي: الجهل بحكم الغصب؛ بأن لا يعلم حرمته مع العلم بالغصب، فالجهل القصوري بالحرمة «تارة»: يكون لأجل الجهل بموضوعها، و «أخرى»: يكون لأجل الجهل بنفسها، و في الصورتين يصدق الجهل بالحرمة. و على كلتا الصورتين يكون الإتيان بالمجمع امتثالا و بداعي الأمر بالطبيعة.

غاية الأمر: إن التفاوت بين هذا الفرد المزاحم. كالصلاة في المغصوب. و بين سائر

ص: 384

بالمجمع امتثالا، و بداعي الأمر بالطبيعة لا محالة، غاية الأمر: إنّه لا يكون مما تسعه بما هي مأمور بها لو قيل (1) بتزاحم الجهات في مقام تأثيرها للأحكام الواقعية، و أمّا لو قيل بعدم التزاحم إلاّ في مقام فعلية الأحكام لكان ممّا تسعه، و امتثالا لأمرها بلا كلام.

و قد انقدح بذلك (2) الفرق بين ما إذا كان دليلا الحرمة و الوجوب متعارضين، الأفراد ليس إلاّ في شمول الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها لسائر الأفراد دون هذا الفرد المزاحم و إن كان فردا لها بما هي هي، هذا ما أشار إليه بقوله: «إنّه لا يكون مما تسعه بما هي مأمور بها».

=============

(1) قيد لقوله: «ممّا تسعه»، و معنى العبارة حينئذ: أن عدم كون المجمع من أفراد الطبيعة بوصف كونها مأمورا بها مبنيّ على تزاحم الملاكات في مقام تأثيرها في الأحكام الإنشائية؛ إذ يكون المجمع حينئذ منهيا عنه لأقوائيّة مناط النهي من مناط الأمر كما هو المفروض في المقام.

و أمّا بناء على تزاحم الملاكات في مقام فعلية الأحكام، و عدم مزاحمتها في مقام تأثيرها في الأحكام الإنشائية: فيكون المجمع مأمورا به، و من أفراد الطبيعة بوصف كونها مأمورا بها؛ إذا المفروض: عدم فعلية الحرمة للجهل بها قصورا، فالحكم الفعلي حينئذ هو الوجوب فقط.

و كيف كان؛ فعلى القول بتزاحم الملاكات في مقام فعلية الأحكام و عدم تزاحمها في مقام إنشائها يكون المجمع من أفراد الطبيعة المأمور بها؛ لا الطبيعة بما هي هي. فقوله:

«و أما لو قيل بعدم التزاحم...» الخ مقابل لقوله: «لو قيل بتزاحم الجهات...» إلخ.

و حاصل الكلام: أنه بناء على القول الثاني و هو تبعيّة الأحكام للملاكات (المؤثرة فعلا كان الفرد المزاحم من أفراد الطبيعة المأمور بها، فيكون الإتيان به) امتثالا لأمر الطبيعة بلا كلام أصلا؛ لما تقدم من أن الحكم تابع للحسن و القبح الفعليين الناشئين من علم المكلف، فيكون هذا الفرد مأمورا به لكونه معلوم الحسن و إن كانت المفسدة الواقعية أغلب و أقوى.

في الفرق بين الاجتماع و التعارض

(2) أي: ظهر بما مرّ مرارا من الفرق بين التعارض و الاجتماع. الذي هو من صغريات مسألة التزاحم. أنّ الصلاة في المغصوب مثلا إن أحرز فيها ملاك أحد الحكمين فهي مورد التعارض، فإن اختير أو رجّح دليل الحرمة حرمت الصلاة، و تبطل حتى من الجاهل

ص: 385

و قدّم دليل الحرمة تخييرا أو ترجيحا، حيث لا يكون معه مجال للصحّة أصلا، و بين ما إذا كانا من باب الاجتماع.

و قيل: بالامتناع، و تقديم جانب الحرمة، حيث يقع (1) صحيحا في غير مورد من موارد (2) الجهل و النسيان، لموافقته للغرض بل للأمر.

=============

القاصر. و إنّ أحرز وجود الملاكين: فهي مورد الاجتماع. الذي هو من صغريات باب التزاحم. فعلى الامتناع و ترجيح جانب الحرمة: صحت الصلاة من الجاهل القاصر بالحرمة أو الفساد لوجود ملاك الوجوب. هذا بخلاف فرض التعارض؛ حيث تبطل الصلاة حتى من الجاهل القاصر، لعدم وجود ملاك الوجوب مع ترجيح جانب الحرمة و طرح دليل الوجوب.

فتصحيح العبادة مع الجهل القصوري بالحرمة على القول بالامتناع، و ترجيح جانب النهي إنّما هو لاشتمالها على المصلحة مع صدوره حسنا، فيختصّ هذا الوجه. في تصحيح العبادة. بباب الاجتماع الذي هو من صغريات مسألة التزاحم، و عدم جريانه في التعارض.

فإن كان دليلا الوجوب و الحرمة متعارضين بأن يكون أحدهما واجدا للملاك لا كلاهما، و قدم دليل الحرمة تخييرا. كما في المتكافئين. أو ترجيحا. كما في غيرهما.

على دليل الوجوب لا يجري فيه الوجه المذكور في تصحيح المجمع، و ذلك لعدم إحراز المصلحة فيه حتى يكون الإتيان به لوفائه بالغرض الموجب للأمر مسقطا للأمر و إن لم يكن امتثالا له.

فالمتحصل: أنّه هناك فرق واضح بين مسألة الاجتماع الذي هو من التزاحم المنوط باشتمال كل من المتزاحمين على الملاك. بناء على الامتناع و ترجيح جانب الحرمة. و بين باب التعارض الذي لا يعتبر فيه إلاّ اشتمال أحد المتعارضين على المناط، فإنّ الصحة في الأول بالتقريب المذكور متجهة، بخلاف الثاني، فإنّه لا يتطرق فيه احتمال الصحة أصلا بعد عدم إحراز المناط في المجمع، هذا ما أشار إليه بقوله: «حيث لا يكون معه مجال للصحة أصلا»، أي: لا يكون مع التعارض مجال للصحة، و وجه عدم المجال للصحة هو: عدم العلم بالمصلحة، و وجود النهي فقط.

(1) يعني: حيث يقع المجمع في باب اجتماع الأمر و النهي صحيحا أي: مسقطا للأمر و إن لم يكن امتثالا له.

(2) و هو ما إذا كان الجهل قصورا و النسيان عذريا «لموافقته للغرض». قوله: «لموافقته للغرض» علة لوقوعه صحيحا يعني: يقع المجمع صحيحا لموافقته للغرض الموجب للأمر.

ص: 386

و من هنا (1) علم أن الثواب عليه (2) من قبيل الثواب على الإطاعة؛ لا الانقياد و مجرّد اعتقاد الموافقة.

و قد ظهر بما ذكرناه (3): وجه حكم الأصحاب بصحة الصلاة في الدار المغصوبة قوله: «بل للأمر» إشارة إلى ما ذكره بقوله: «مع إنه يمكن أن يقال بحصول الامتثال...» إلخ، يعني يمكن أن يقال بحصول الامتثال و هو إمكان إتيان المجمع بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة، حيث إن الفرد المزاحم و إن لم يكن له أمر، إلاّ إن الأمر المتعلق بطبيعة الصلاة يصلح لأن يكون داعيا إلى إيجاد الفرد المزاحم.

=============

(1) يعني: و من كون المجمع صحيحا. لكونه موافقا للغرض و الأمر و اشتماله على المصلحة. علم أن ترتّب الثواب على إتيان المجمع في مورد الجهل القصوري و النسيان يكون من قبيل ترتبه على الطاعة، لمطلوبيّة المجمع واقعا، سواء كان مع الأمر أم بدونه؛ لا من قبيل ترتبه على الانقياد الذي هو الإتيان بشيء باعتقاد مطلوبيته، مع عدم كونه مطلوبا واقعا كالاعتقاد بوجوب شيء و انكشاف خلافه؛ كما في «منتهى الدراية، ج، 3 ص 76» مع تصرّف منّا.

(2) أي: على المجمع من قبيل الثواب على الطاعة؛ لا الانقياد الذي هو مبنى القول بالبطلان. و المراد بالانقياد هنا: مقابل التجري الذي هو عبارة عن الإتيان بما هو مخالف الواقع برجاء المحبوبية و المطلوبية؛ لا الانقياد الذي يطلق على الطاعة. فقوله: «و مجرّد اعتقاد الموافقة» مفسر للانقياد، فيكون عطفه عليه عطفا تفسيريا، و من هنا لا يبقى مجال لتوهم أنّ مجرد اعتقاد كون المجمع مأمورا به مع حرمته واقعا لا يوجب حسنه، و لا ترتّب الثواب عليه، فيكون باطلا، كما هو الحال في التجري، فإنّ اعتقاد كون الفعل مبغوضا و منهيا عنه مع عدم حرمته واقعا لا يوجب قبحه، و لا ترتب العقوبة عليه و إن كان الفاعل مذموما.

فتلخص: أن الآتي بالصلاة في المكان المغصوب مع الجهل القصوري، أو النسيان مطيع حقيقة، فيستحق الثواب إطاعة لا انقيادا كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 77».

في وجه صحة المجمع بناء على الامتناع

(3) أي: ذكرناه في وجه صحة المجمع من وجود المصلحة فيه، أعني: ظهر من هذا «وجه حكم الأصحاب بصحة الصلاة في الدار المغصوبة...» إلخ. و قوله: «و قد ظهر بما ذكرناه...» الخ تمهيد لدفع توهم أشار إليه بقوله: «مع إن الجلّ لو لا الكل...» إلخ فلا بد من تقريب التوهم؛ كي يتضح ما أفاده المصنف من الدفع فنقول في تقريب التوهم: إنه

ص: 387

بناء على الامتناع و تغليب جانب النهي كما عن الجل لو لا الكل. لا وجه للحكم بالصحة في بعض الموارد؛ بل لا بد من الحكم بالبطلان في جميعها.

فالتفصيل في الصحة بين الالتفات و الجهل التقصيري و بين النسيان و الجهل القصوري غير وجيه؛ إذ على القول بالجواز و كذا الامتناع و تغليب جانب الأمر يكون المجمع صحيحا، و على القول بالامتناع و ترجيح جانب النهي يكون المجمع باطلا مطلقا، سواء كان عالما أم جاهلا أم ناسيا، فالمجمع إما صحيح و إما باطل، فلا وجه لحكم الأصحاب بالتفصيل المذكور.

و حاصل الدفع هو: الفرق حكما بين الجهل بالموضوع أو الحكم عن قصور، و كذا النسيان العذري، و بين العالم بهما أو الجهل عن تقصير فيحكم بالصحة بالاتفاق للجهل القصوري أو النسيان العذري، و بالبطلان كذلك في صورة العلم أو الجهل عن تقصير؛ لأن الجاهل المقصّر كالعالم العامد في الحكم. هذا هو وجه حكم الأصحاب بالتفصيل بحسب الموارد.

و من هنا ظهر: إن القول بالبطلان مطلقا و في جميع الموارد غير صحيح.

هذا تمام الكلام في الأمور العشرة التي ذكرها قبل الخوض في المقصود.

خلاصة بحث ثمرة الاجتماع مع رأي المصنف «قده»

يتخلص البحث في أمور:

1. يسقط الأمر بإتيان المجمع بناء على الجواز فتصح الصلاة في الغصب مع حصول العصيان للنهي أيضا. و كذا الحال على الامتناع و ترجيح جانب الأمر بدون معصية للنهي، لأنّ المفروض سقوط النهي لأجل غلبة الأمر.

و أما على الامتناع و ترجيح جانب النهي: فيسقط الأمر في غير العبادات مطلقا؛ لحصول الغرض الداعي إلى الأمر بإتيان متعلقه بلا قصد القربة لكونه توصليا.

و أمّا في العبادات: فتبطل الصلاة من العالم بالحرمة؛ لعدم تمكّنه من التقرب، و من الجاهل المقصر؛ إذ لا يحصل بتقرّبه القرب المحصل للغرض إن قدم جانب النهي أو تساويا. و تصحّ من الجاهل القاصر؛ لأنه تقرّب بما فيه صلاحية التقرب لاشتماله على المصلحة المستتبعة للحسن الذاتي، و للجهل القصوري المستتبع للحسن الصوري، فيحصل به الغرض من الطبيعة المأمور بها فيسقط الأمر، «و إن لم يكن امتثالا له بناء على تبعية الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح و المفاسد واقعا».

ص: 388

توضيح مراد المصنف: أن القائلين بتبعية الأحكام للمصالح و المفاسد اختلفوا على قولين؛ قول: بتبعيّة الأحكام للمصالح و المفاسد الواقعيتين، فذو المصلحة واجب و إن لم يعلم بها المكلف، و ذو المفسدة حرام كذلك و ذو الجهتين محكوم بأقواهما، فالصلاة في الغصب. على هذا القول. حرام و لو مع الجهل عن قصور بالحرمة لا يحصل بها الامتثال و لكن سقوط الأمر إنّما هو لأجل حصول الغرض من الأمر مع الجهل القصوري؛ لاشتمالها على المصلحة و صدورها حسنا عند الجهل بالحرمة عن قصور.

فالإتيان بالصلاة مع قصد القربة موجب لسقوط الأمر و إن لم يكن امتثالا له، و هناك قول «بتبعيّة الأحكام للمصالح و المفاسد الاعتقاديتين، فلا تحرم الصلاة مع الجهل بالحرمة؛ بل هي واجبة للاعتقاد بالمصلحة و الوجوب فقط، فيحصل الامتثال بإتيانها، و لهذا قيّد المصنف عدم حصول الامتثال بكون الأحكام تابعة للملاكات الواقعية؛ كما هو مقتضى القول الأوّل، فعلى هذا القول لم يكن امتثالا للأمر لعدم الأمر لأقوائية المفسدة.

2. يمكن تصوير امتثال الأمر حتى على مبنى القول الأول بتقريب: أنّ العقل لا يرى تفاوتا. في الوفاء بالغرض القائم بالطبيعة المأمور بها. بين الفرد المبتلى بالمزاحم و بين سائر الأفراد إلاّ من ناحية وجود المانع عن الوجوب في الفرد المزاحم؛ لا عدم المقتضي إذ المفروض: وجوده في جميع الأفراد، فحينئذ يحكم بإمكان امتثال الأمر إذ أتى بالمجمع بداعي امتثال الأمر بالطبيعة.

و من عدم التفاوت عند العقل بين الفرد المزاحم و سائر الأفراد ظهر أنه يجزى الإتيان بالمجمع؛ و لو على القول باعتبار قصد امتثال الأمر في صحة العبادة، غاية الأمر: يقصد امتثال الأمر المتعلق بالطبيعة المأمور بها.

3. «و بالجملة: مع الجهل قصورا بالحرمة موضوعا؛ بأن لا يعلم المكلف الغصب، أو حكما بأنه لا يعلم حرمة الغصب لا يكون الإتيان بالمجمع امتثالا...» الخ، يعني: إذا أتى بالمجمع مع قصد القربة يحكم بصحة المجمع إذا كان عبادة على كلا القولين.

غاية الأمر: على القول الأول يكون هناك فرق بين الفرد المزاحم و بين سائر الأفراد.

و حاصل الفرق: أن الطبيعة المأمور بها تشمل سائر الأفراد بما هي مأمور بها، و لا تشمل الفرد المزاحم إلاّ بما هي هي لا بما هي مأمور بها.

و أما على القول الثاني. و هو كون الأحكام تابعة للملاكات المؤثرة فعلا. فيكون

ص: 389

مع النسيان أو الجهل بالموضوع، بل أو الحكم إذا كان عن قصور، مع أنّ الجلّ لو لا الكل قائلون بالامتناع، و تقديم الحرمة، و يحكمون بالبطلان في غير موارد العذر، فلتكن من ذلك على ذكر.

دليل الامتناع و تمهيد المقدمات

اشارة

إذا عرفت هذه الأمور، فالحق (1) هو القول بالامتناع، كما ذهب إليه المشهور، و تحقيقه على وجه يتضح به فساد ما قيل أو يمكن أن يقال من وجوه الاستدلال لسائر الأقوال، يتوقف على تمهيد مقدمات:

إحداها (2): أنه لا ريب في أن الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها و بلوغها المجمع مأمورا به، و من أفراد الطبيعة بوصف كونها مأمورا بها؛ إذ المفروض: عدم فعلية الحرمة عند الجهل بها عن قصور.

=============

4 - الفرق بين الاجتماع و التعارض و حاصله: أنه قد مرّ مرارا: أن الصلاة في الغصب مثلا إن أحرز فيها ملاك أحد الحكمين فهي مورد التعارض. و إن أحرز وجود الملاكين فهي مورد الاجتماع.

5 - حكم الأصحاب بصحّة المجمع بناء على القول بالامتناع مبنيّ على الفرق بين الالتفات و الجهل التقصيري، و بين النسيان و الجهل القصوري، و نظرا إلى الفرق بينهما حكموا بصحة المجمع عند النسيان العذري و الجهل القصوري، و ببطلانه في صورة العلم بالحرمة أو الجهل عن تقصير؛ لأن الجاهل المقصر كالعالم العامد في الحكم، فالحكم بالبطلان مطلقا و في جميع الموارد، كما توهّم غير مستقيم، بل غير صحيح.

6 - رأي المصنف «قده»:

1 - سقوط الأمر و حصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز مطلقا، يعني: و لو في العبادات مع حصول عصيان النهي أيضا.

2 - و على الامتناع يحصل الامتثال مع ترجيح جانب الأمر بلا معصية في النهي، و مع ترجيح جانب النهي لا يحصل الامتثال في العبادات مع العلم و الالتفات و الجهل عن تقصير، و يسقط الأمر، بل يحصل الامتثال عند عدم العلم و الجهل عن قصور.

(1) ذهب المصنف إلى الامتناع في المقام تبعا للمشهور، و ذكر للاستدلال على ذلك مقدمات أربعة.

تضاد الأحكام الخمسة

(2) و الغرض من تمهيد هذه المقدمة: هو إثبات التضاد بين الأحكام الخمسة، فلا يجوز اجتماع اثنين منها في فعل واحد؛ لاستحالة اجتماع الضدين. و توضيح ما أفاده

ص: 390

إلى مرتبة البعث و الزجر، ضرورة: ثبوت المنافاة و المعاندة التامة بين البعث نحو واحد في زمان، و الزجر عنه في ذاك الزمان، و إن لم يكن بينها مضاده ما لم يبلغ إلى تلك المصنف. في المقدمة الأولى من التضاد بين الأحكام. يتوقف على مقدمة: و هي مشتملة على أمور:

=============

الأول: أن للحكم أربعة مراتب عند المصنف «قده»:

1. مرتبة الاقتضاء. 2. مرتبة الإنشاء. 3. مرتبة الفعلية. 4. مرتبة التنجز.

الثاني: أن هذه المراتب طولية بمعنى: إنه ما لم تتحقق المرتبة السابقة لا موضوع للمرتبة اللاحقة، فتحقق كل مرتبة يتوقف على وجود سابقتها.

الثالث: بيان الفرق بين هذه المراتب.

و خلاصة الكلام في الفرق: أن مرتبة الاقتضاء هي مرتبة الملاك أعني: المصلحة و المفسدة المستتبعتين للحسن و القبح الذاتيين لا الفعليين، فإن الفعل المشتمل على المصلحة حسن ذاتا، و المشتمل على المفسدة قبيح كذلك.

و مرتبة الإنشاء هي مرتبة جعل القانون عرفا، و إنشاء الحكم على طبق المصلحة و المفسدة شرعا.

و مرتبة الفعلية هي: مرتبة بيان الحكم و إعلامه و إبلاغه للمكلف؛ بحيث يبلغ الحكم مرتبة البعث و الزجر.

و أما مرتبة التنجز فهي: مرتبة انقطاع عذر المكلف ببلوغ الحكم إليه و قدرته عليه، فإذا علم به و هو متمكن من امتثاله فقد تنجز عليه التكليف، فحينئذ لا عذر له في تركه، فالحكم قبل أن يبلغ إلى مرتبة الإعلام و الإبلاغ إنشائي، و إذا بلغ إلى مرتبة الإعلام و الإبلاغ قبل بلوغه إلى المكلف و علمه به فهو فعلي. و بعد بلوغه إليه و علمه به منجز.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن التضاد بين الأحكام ليس في جميع المراتب، فلا تضاد بين الاقتضائيين و لا بين الإنشائيين، ضرورة: إمكان اجتماع الملاكين و إنشاء الحكمين. و إنما التضاد بين الحكمين الفعليين؛ إذ يستحيل اجتماع إرادتي الفعل و الترك أي: يلزم التكليف المحال من المولى، لا إنه تكليف بالمحال، فيستحيل حتى عند من يجوز التكليف بالمحال كالأشاعرة.

و المتحصل: أن التضاد إنما هو في مقام الفعلية دون الاقتضاء و الإنشاء، إذ لا مانع من إنشاء حكم بمجرد وجود مقتضيه و لو مع اقترانه بالمانع. فإن الإنشاءات المجرّدة عن الإرادة و الكراهة لا تنافي بينها، فتجتمع كاجتماع مقتضياتها.

ص: 391

المرتبة؛ لعدم (1) المنافاة و المعاندة بين وجوداتها (2) الإنشائية قبل البلوغ إليها (3)، كما لا يخفى، فاستحالة اجتماع الأمر و النهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال (4) بل من جهة أنّه بنفسه محال، فلا يجوز عند من يجوّز التكليف بغير المقدور أيضا (5).

ثانيتها (6): أنّه لا شبهة في أن متعلق الأحكام هو فعل المكلف و ما هو في الخارج

=============

(1) تعليل لعدم التضاد بين الحكمين ما لم يبلغا مرتبة الفعلية.

(2) أي وجودات الأحكام الإنشائية، و هي الأحكام المجهولة على ما في متعلقاتها من المصالح و المفاسد؛ و إن كانت مقرونة بالموانع، فعلى هذا: يمكن إنشاء الوجوب و الحرمة لشيء واحد إذا كان فيه مصلحة و مفسدة، فلا منافاة بين الحكمين الإنشائيين التابعين لمجرّد المقتضى لهما و مع وجود المانع.

(3) أي: إلى الفعلية فإن التنافي بين الحكمين إنما يكون في هذه المرتبة دون مرتبة الإنشاء و الاقتضاء.

(4) يعني: أن اجتماع الأمر و النهي الفعليين بنفسه محال؛ لكونه من اجتماع الضدين الذي هو محال في نفسه، لا إن الاجتماع المذكور يكون من التكليف بغير المقدور، لعدم قدرة العبد على الجمع بين الفعل و الترك حتى يكون من التكليف بالمحال الذي هو جائز عن بعض كالأشاعرة.

و كيف كان؛ فقوله: «فاستحالة اجتماع الأمر و النهي...» إلخ، متفرع على تضاد الأحكام في مرتبة الفعلية.

(5) يعني: أن القائلين بجواز التكليف بغير المقدور يعترفون أيضا بعدم جواز اجتماع الأمر و النهي الفعليين؛ لكونه بنفسه محالا.

في تعلق الأحكام بالمعنونات لا بالعناوين و الأسماء

(6) المقصود من تمهيد هذه المقدمة الثانية: هو تعيين متعلق الحكم سواء كان أمرا أم نهيا، و بيان أن متعلق الحكم ليس إلاّ نفس المعنون الذي هو فعل المكلف، و هو فاعله و جاعله و يترتب عليه الخواص و الآثار، بمعنى: أن المكلف يكلّف بإصدار و إيجاد الفعل في الخارج؛ لأن الفعل الخارجي ليس متعلق التكليف حتى يلزم التكليف بالمحال أعني:

طلب ما هو حاصل في الخارج.

و توضيح ما أفاده المصنف؛ من تعلق الأحكام بالمعنونات لا بالعناوين و الأسماء يتوقف على مقدمة و هي أمور:

الأمر الأول: أن الحكم تابع للملاك، بمعنى: أن كل ما فيه الملاك يكون متعلقا

ص: 392

يصدر عنه و هو فاعله و جاعله؛ لا ما هو اسمه، و هو واضح، و لا ما هو عنوانه مما قد للحكم؛ لأن تعلقه بغير ما يقوم به الملاك ينافي ما عليه العدلية من تبعية الأحكام للملاكات الثابتة في متعلقاتها.

=============

الأمر الثاني: أن الملاكات لا تقوم بالأمور الاعتبارية التي لا تأصل لها في الخارج؛ بل تقوم بالموجودات الخارجية المتأصلة، و عليه؛ فالعنوان الاعتباري المأخوذ متعلقا للتكليف في ظاهر الخطاب ليس متعلقا له حقيقة. لما عرفت في الأمر الأول من تعلق الحكم بما فيه الملاك، و قد عرفت في الأمر الثاني من أن الأمر الاعتباري لا يقوم فيه الملاك، و لازم ما ذكر: أن العنوان الاعتباري عنوان مشير إلى ما هو متعلق الحكم واقعا و حاك عنه، فالمتعلق هو المعنون و المسمى دون العنوان و الاسم اللذين ينتزعان عن المعنون و المسمى، و لا يكون لهما ما يحاذيهما في الخارج كما هو شأن خارج المحمول؛ كالزوجية و الرقية و الحرية و نحوها من الاعتباريات التي لا وجود لها في الخارج، و تكون من خارج المحمول و تؤخذ آلة للحاظ متعلقات الأحكام.

الأمر الثالث: الفرق بين الاسم و العنوان فنقول: إن التصرف في مال الغير بالبيع مثلا يشتمل على «معنون» هو التصرف في مال الغير بلا إذن، و «عنوان» هو الغصب، و «اسم» هو البيع، و الفرق بينهما: أن العنوان أمر منتزع عن التصرفات الخاصة و هي التصرفات في مال الغير بلا إذن و الاسم أمر منتزع عن المسمى؛ كالبيع عن المسمى و هو مبادلة مال بمال. فالعنوان و الاسم أمران منتزعان عن المعنون و المسمي، و لا يكون لهما ما يحاذيهما في الخارج، فيكونان من خارج المحمول باصطلاح الفلاسفة المسمّى بالمحمول بالضميمة، في مقابل المحمول بالضميمة، و هو ما إذا كان للمحمول مبدأ خارجي عند حمله على موضوع كقولنا: «زيد عالم» مثلا و يسمى بالمحمول بالضميمة؛ إذ لا يصح الحمل إلاّ بعد انضمام مبدأ المحمول. و هو العلم. إلى ذات الموضوع و هو زيد في المثال المذكور.

فهذا الفرق في الاسم و العنوان كاشف عن اختلاف المعنون و المسمى؛ إذ المعنون في المثال المذكور هو التصرف في مال الغير بغير إذن منه. و المسمى هو التصرف المقيّد بمبادلة مال بمال، فيكون بينهما عموم مطلق أو من وجه فتدبر.

و كيف كان؛ فمتعلق الحكم هو المعنون و المسمّى دون العنوان و الاسم اللذين ينتزعان عن المعنون و المسمّى؛ لما عرفت من عدم قيام الملاكات بالأمور التي لا تأصّل لها في الخارج.

و هناك فرق آخر بين العنوان و الاسم و هو: كون الأول أمرا انتزاعيا، و الثاني: أمرا

ص: 393

انتزع عنه؛ بحيث لو لا انتزاعه تصورا و اختراعه ذهنا (1)، لما كان بحذائه شيء خارجا، و يكون خارج المحمول كالملكية و الزوجية و الرقية و الحرية و المغصوبيّة، إلى غير ذلك من الاعتبارات و الإضافات، ضرورة (2): إن البعث ليس نحوه و الزجر لا يكون متأصّلا كالناطق و العالم، فيكون العنوان من خارج المحمول، و الاسم من المحمول بالضميمة؛ إلاّ إن الفرق الأوّل أنسب بالمقام فتدبر.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة تعرف: أن متعلق الحكم هو الفعل الصادر عن المكلف؛ لأنّه مشتمل على الملاك الذي يتبعه الحكم لا اسمه و عنوانه؛ لما عرفت من: أنهما من الأمور الاعتبارية التي لا تأصل لها في الخارج، و الملاكات إنما تقوم بالموجودات الخارجية المتأصلة.

(1) قوله: «ذهنا» إشارة إلى أن عروض العنوان لمتعلق الحكم يكون في الذهن؛ لأن عروض المغصوبية للموجود الخارجي المتعلق للحكم. و هو التصرف في مال الغير بدون رضاه. ليس كعروض السواد و البياض و غيرهما من الأعراض الخارجية لمعروضاتها، ضرورة: أن ظرف العروض في الأعراض الخارجية هو الخارج، بخلاف الملكية و الزوجية و المغصوبية و نحوها من الأمور الاعتبارية، فإن ظرف عروضها هو الذهن؛ إذ لا يحاذيها شيء في الخارج حتى يكون الخارج ظرف عروضها.

و المتحصل: أن متعلق الحكم هو فعل المكلف لا اسمه و عنوانه، ففي الصلاة مثلا يتعلق البعث بنفس ما يقع في الخارج من الركوع و السجود و القراءة و غيرها من الأفعال و الأقوال، دون عنوانه كالصلاة و كذا الغصب، فإن النهي يتعلق بنفس التصرف الخارجي في مال الغير بدون رضاه، و عنوان الغصب مشير إليه، فالعنوان المنتزع عن المعنون يكون خارج المحمول، و هو ما ينتزع و يخرج عن ذات المعروض، ثم يحمل عليه من دون أن يكون له ما يحاذيه في الخارج كالإمكان و الوجوب و الامتناع و نحوها مما لا وجود لها في الخارج، و يكون عروضها لمعروضاتها في الذهن، نظير الكلية و الجزئية و نحوهما من المعقولات الثانية.

و عليه: فعنوان الصلاتية، و الغصبية و الملكية و نحوها من المحمول بالصميمة و خارج المحمول لعدم تأصلها في الوجود الخارجي.

(2) تعليل لعدم تعلق التكليف بالاسم و العنوان و قد تقدم تفصيله. و ملخصه: أن الحكم تابع للملاك، فما يقوم به الملاك هو متعلق الحكم لا غيره، و من المعلوم: عدم قيام الملاك بالأمر الانتزاعي، و إنما هو قائم بالموجود الخارجي أعني: الفعل الصادر من المكلف.

فمحصل هذه المقدمة: أن متعلق التكليف هو نفس الفعل لا اسمه و عنوانه حتى

ص: 394

عنه، و إنما يؤخذ في متعلق الأحكام آلة للحاظ متعلقاتها، و الإشارة إليها بمقدار الغرض منها و الحاجة إليها لا بما هو هو و بنفسه، و على استقلاله و حياله.

ثالثتها: أنه لا يوجب تعدد الوجه و العنوان تعدد المعنون و لا ينثلم به (1) وحدته، فإن (2) المفاهيم المتعددة و العناوين الكثيرة ربما تنطبق على الواحد، و تصدق على يقال: إن متعلق الأمر عنوان غير عنوان تعلق به النهي، فيجوز الاجتماع كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 85».

=============

و الضمير في «منها» و «إليها» راجع إلى «متعلقاتها» و في «متعلقاتها» راجع إلى الأحكام.

تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون

المقصود من هذه المقدمة الثالثة: هو إثبات عدم كون صدق عناوين كثيرة موجبا لتعدد المعنون و لانثلام وحدته.

و خلاصة الكلام في المقام: أنه لما أثبت المصنف في المقدمة الأولى تضاد الأحكام الفعلية، و في المقدمة الثانية تعلق الأحكام بالمعنونات و المسميات لا بالعناوين و الأسماء صار في هذه المقدمة الثالثة بصدد إثبات وحدة المعنون كي يمتنع اجتماع الأمر و النهي فيه عقلا كما هو مختاره «قده» فقال: إن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون و لا تنثلم به وحدته، و استشهد لذلك بصدق العناوين المتعددة على من هو واحد لا تعدد فيه، و فارد لا كثرة له؛ كالواجب «تبارك و تعالى»، حيث يصدق عليه عنوان العالم و القادر و المريد و المغني و السميع و البصير و غيرها من الصفات الكمالية و الجلالية، مع إنه تعالى واحد أحد بسيط من جميع الجهات ليس فيه جهة دون جهة و لا حيث دون حيث، فعدم تعدد ذات واجب الوجود مع تعدد العناوين المنطبقة عليه شاهد صدق على إن تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون.

فإذا كانت العناوين المتعددة مما تصدق على الواحد البسيط من جميع الجهات و لا ينافي ذلك وحدته؛ فكذلك صدقها على غيره مما ليس كذاك لا ينافي وحدته بطريق أولى.

(1) يعني: و لا ينثلم بتعدد الوجه و العنوان وحدة المعنون.

(2) هذا تعليل لعدم كون مجرد تعدد الوجه موجبا لتعدد المعنون و حاصله: على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 6». شهادة الوجدان بذلك، كوضوح صدق مفهوم العالم و العادل و الهاشمي على زيد مثلا، مع كونه واحدا حقيقة، فمجرد تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون. ثم المراد بالألفاظ الثلاثة في قوله: «فهو على بساطته و وحدته

ص: 395

الفارد الذي لا كثرة فيه من جهة؛ بل بسيط من جميع الجهات، ليس فيه حيث غير حيث، و جهة مغايرة لجهة أصلا، كالواجب «تبارك و تعالى»، فهو على بساطته و وحدته و أحديته، تصدق عليه مفاهيم الصفات الجلالية و الجمالية (1) له الأسماء الحسنى و الأمثال العليا (2)، لكنها (3) بأجمعها حاكية عن ذاك الواحد الفرد الأحد.

عباراتنا شتى و حسنك واحد *** و كل إلى ذاك الجمال يشير

رابعتها (4): إنه لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد إلاّ ماهية واحدة و حقيقة و أحديته» معنى واحد و هو نفي التركيب عن واجب الوجود؛ و إن كان المتبادر في بادئ النظر من الوحدة هو نفي الشريك عنه تعالى. لكن المناسب للمقام. لما كان نفي التركيب حتى لا يتوهم كون صدق كل عنوان باعتبار جزء من الأجزاء. هو إرادة البساطة من الوحدة.

=============

(1) الفرق بين الصفات الجلالية و الجمالية: أن الصفات الجمالية هي الصفات الثبوتية، مثل كونه تعالى قادرا عالما سميعا بصيرا إلى غير ذلك. و الصفات الجلالية هي الصفات السلبية مثل كونه تعالى لا شريك له، ليس بمتحيز، ليس بجسم، إلى غير ذلك.

و جميع تلك الصفات حاكية عن الذات البسيطة غاية البساطة؛ إذ لا منشأ لانتزاع صفاته «جلّ و علا» إلاّ نفس ذاته المقدسة، بخلاف صفاتنا، فإنها منتزعة عن ذواتنا باعتبار تلبسها بمبادئ تلك الصفات كالعلم و العدالة و غيرهما.

(2) أي: الصفات العليا و قيل: «الأمثال» جمع المثل بالتحريك، و كل وجود مثل له تعالى و مظهر له في مرتبته، و العليا منها هي الموجودات الكاملة في مرتبتي العلم و العمل.

(3) يعني: لكن تلك الصفات بأجمعها مع تعددها حاكية عن الذات البسيطة غاية البساطة، فملخص هذه المقدمة: أن مجرد تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون وجودا و لا ينثلم به وحدته أصلا، كما في «منتهى الدراية، ج، 3 ص 88».

المتحد وجودا متحد ماهية

(4) المقصود من بيان هذه المقدمة الرابعة: دفع توهمين يظهران من عبارة الفصول.

أحدهما: ابتناء القول بالامتناع على أصالة الوجود؛ لكون عدم استلزام تعدد العنوان لتعدد المعنون مبنيا عليها، و القول بالجواز على أصالة الماهية؛ لكون العنوانين ماهيتين متعددتين متصادقتين على واحد.

ثانيهما: ابتناء القول بالجواز على تعدد وجود الجنس و الفصل في الخارج، و القول بالامتناع على عدم تعدده.

ص: 396

هذا مجمل الكلام في التوهمين للفصول، فقد يقال في تقريب التوهم الأول: إن النزاع في المسألة يبتني على النزاع في مسألة أصالة الوجود أو الماهية، فإن قلنا في تلك المسألة: بأصالة الوجود فلا مناص في هذه المسألة من القول بالامتناع. و إن قلنا في تلك المسألة: بأصالة الماهية فلا مانع من الالتزام بالقول بالجواز في هذه المسألة.

بيان ذلك. على ما في «محاضرات في أصول الفقه، ج، 4 ص 198». أن القائل بأصالة الوجود يدعي أن ما في الخارج هو الوجود، و الماهية منتزعة من حدوده، و ليس لها ما بإزاء فيه أصلا.

و القائل بأصالة الماهية يدعي أن ما في الخارج هو الماهية، و الوجود منتزع من إضافة الماهية إلى الموجد، و ليس له ما بإزاء.

و بعد ذلك نقول: إنه بناء على أصالة الوجود في تلك المسألة، و أن الصادر من الموجد هو الوجود لا غيره، فلا محالة يكون هو متعلق الأمر و النهي دون الماهية، لفرض إنه لا عين و لا أثر لها في الخارج. و عليه: بما أن الوجود في مورد الاجتماع واحد فلا يعقل تعلق الأمر و النهي به، ضرورة: استحالة أن يكون شيء واحد مأمورا به و منهيا عنه معا و محبوبا و مبغوضا في آن واحد، فإذن: لا مناص من القول بالامتناع.

و أما بناء على أصالة الماهية: فلا محالة يكون متعلق الأمر و النهي هو الماهية؛ لفرض إنه على هذا لا عين و لا أثر للوجود. و عليه: فبما أن الماهية المتعلقة للأمر كالصلاة. مثلا.

في مورد الاجتماع غير الماهية المتعلقة للنهي كالغصب، فلا مانع من القول بالجواز.

و اجتماع الأمر و النهي، و ذلك لأن الماهيات متباينات بالذات و الحقيقة، فلا يمكن اتحاد ماهية مع ماهية أخرى، و لا يمكن اندراج ماهيتين متباينتين تحت ماهية واحدة، فإذن في الحقيقة لا اجتماع للأمر و النهي في شيء واحد.

و لكن هذا التوهم مدفوع بما ذكره المصنف «قده».

و توضيح ما أفاده المصنف في دفع هذا التوهم الأول يتوقف على مقدمة، و هي:

الفرق بين الماهية و العنوان و حاصله: أن الماهية. على ما في علم الميزان. ما تقع في جواب السؤال بما هو من الجنس و الفصل أو الجنس وحده، و قد تقرر في محلّه: إنّه لا يعقل تحقق جنسين قريبين و فصلين كذلك لموجود واحد، فلا يعقل أن يكون لموجود واحد ماهيتان؛ بحيث تكون كل واحدة منهما عين ذلك الموجود الواحد، ضرورة: أن لكل ماهية وجودا واحدا، و لا يعقل أن يكون للماهيتين وجود واحد أو للموجودين ماهية

ص: 397

فاردة، لا يقع في جواب السؤال عن حقيقته بما هو إلاّ تلك الماهية فالمفهومان المتصادقان على ذاك لا يكاد يكون كل منهما ماهية و حقيقة و كانت عينه في الخارج واحدة أو لموجود واحد ماهيات كثيرة، هذا بخلاف العنوان حيث يمكن أن يكون لموجود واحد عنوانان أو عناوين كثيرة.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنّ للمجمع في مورد الاجتماع و التصادق وجودا واحدا، فلا محالة تكون له ماهية واحدة، و عليه: فلا فرق بين القول بأصالة الوجود و القول بأصالة الماهية، فكما أنه على الأول يستحيل اجتماع الأمر و النهي، فكذلك على الثاني، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا، لأن الماهية الصادقة على المجمع واحدة لا محالة سواء كان الأصل في التحقق هو الوجود أم الماهية.

أما على الأوّل: فلأن الوجود المتحقق في الخارج على القول بأصالته واحد.

و أما على الثاني: فلكون الماهية المتحققة خارجا على القول بأصالتها واحدة أيضا؛ لما عرفت من: عدم تعقل ماهيتين لموجود واحد، لاستلزامه تجنس موجود واحد بجنسين، و تفصّله بفصلين، و هو غير معقول كما «في كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص 91».

و أما التوهم الثاني. و هو ابتناء القول بالجواز على تعدد وجود الجنس و الفصل في الخارج و القول بالامتناع على عدم تعدده. فيقال في تقريبه: أننا لو قلنا بتعدد وجودهما جاز الاجتماع؛ لأن الأمر يتعلق بأحدهما و النهي يتعلق بالآخر.

و لو قلنا: بوحدة وجودهما امتنع الاجتماع؛ لأن هناك وجودا واحدا، فلا يعقل أن يتعلق به الأمر و النهي معا.

و أما وجه اندفاع هذا التوهم الثاني: فلأن الممنوع تصادق ماهيتين على موجود واحد لا عنوانين عرضيين انتزاعيين كما في المقام، و من الواضح: إنه ليس العنوانان المتصادقان على المجمع فيما نحن فيه من قبيل الجنس و الفصل حتى يكون أحدهما متعلقا للأمر و الآخر متعلقا للنهي؛ إذ الحركة التي هي من مقولة الفعل مثلا لا تختلف حقيقتها هذه بتصادق عنواني الصلاة و الغصب عليها و عدمه، فلو لم يصدق شيء من هذين العنوانين على الحركة المزبورة لم يقدح في صدق حقيقتها. و هي مقولة الفعل.

و كيف كان؛ فتعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون، فيستحيل تعلق الأمر و النهي بالمعنون، لاستلزامه اجتماع الضدين في موضوع واحد، لما عرفت. في المقدمة الأولى.

من تضادّ الأحكام الفعلية هذا تمام الكلام في دفع التوهمين للفصول.

ص: 398

كما هو شأن الطبيعي و فرده، فيكون الواحد وجودا واحدا ماهية و ذاتا لا محالة، فالمجمع و إن تصادق عليه متعلقا الأمر و النهي؛ إلاّ إنه كما يكون واحدا وجودا، يكون واحدا ماهية و ذاتا، و لا يتفاوت فيه (1) القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية.

و منه (2) ظهر: عدم ابتناء القول بالجواز و الامتناع في المسألة على القولين في تلك المسألة، كما توهم في الفصول، كما ظهر عدم الابتناء على تعدد وجود الجنس و الفصل في الخارج، و عدم تعدده، ضرورة (3): عدم كون العنوانين المتصادقين عليه من قبيل الجنس و الفصل له، و إنّ مثل الحركة في دار من أيّ مقولة كانت لا يكاد يختلف حقيقتها و ماهيتها و يتخلف ذاتياتها، وقعت جزءا للصلاة أو لا كانت تلك الدار مغصوبة أو لا (4).

مختار المصنف

اشارة

إذا عرفت ما مهدناه عرفت: أنّ المجمع حيث كان واحدا وجودا و ذاتا كان تعلق الأمر و النهي به محالا و لو كان تعلقهما به (5) بعنوانين؛ لما عرفت من كون فعل

=============

(1) أي: في الموجود الواحد الذي ليس له إلاّ ماهية واحدة، أي: لا يتفاوت فيه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية، فكما أن الوجود المتحقق في الخارج أصالة عند القائلين بأصالته ليس إلاّ واحدا، فكذلك الماهية المتحققة في الخارج أصالة عند القائلين بأصالتها لا تكون إلاّ ماهية واحدة.

(2) أي: و من عدم تعدد ماهية الموجود الواحد «ظهر عدم ابتناء القول بالجواز و الامتناع في» هذه «المسألة». أي: مسألة الاجتماع «على القولين في تلك المسألة» أي:

مسألة أصالة الوجود أو الماهية، «كما توهم في الفصول». و قد تقدم تقريب توهم صاحب الفصول مع دفعه، و تركنا ذكر ما في الفصول تجنبا عن التطويل. فقوله: «و منه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز.» الخ. إشارة إلى التوهم الثاني، و قد تقدم تقريب التوهمين مع دفعهما، فلا حاجة إلى ذكرهما ثانيا.

(3) تقريب لعدم ابتناء جواز الاجتماع و عدمه على تعدد وجود الجنس و الفصل في الخارج، و قد عرفت وجه ذلك آنفا، فلا حاجة إلى تكراره ثانيا.

(4) أي: قد عرفت أنّ صدق العناوين المتعددة لا يكاد تنثلم به وحدة المعنون بها، و محدودا بحدود موجبة لانطباقها عليه كما لا يخفى، و حدوده و مخصصاته لا توجب تعدده بوجه أصلا.

فالمتحصل: أنه لا يكون عنوان الصلاة و الغصب من قبيل الجنس و الفصل للحركة؛ إذ لو كانا من قبيلهما لاختلفت الحركة باختلاف جنسها أو أصلها.

(5) يعني: بالمجمع.

ص: 399

المكلف بحقيقته و واقعيته الصادرة عنه متعلقا للأحكام لا بعناوينه الطارئة عليه، و إنّ غائلة اجتماع الضدين فيه لا تكاد ترتفع بكون الأحكام تتعلق بالطبائع لا الأفراد، فإنّ غاية تقريبه أن يقال: إنّ الطبائع من حيث هي هي، و إن كانت ليست إلاّ هي، و لا تتعلق بها الأحكام الشرعية؛ كالآثار العادية و العقلية، إلاّ أنّها مقيدة بالوجود، بحيث كان القيد خارجا و التقيّد داخلا صالحة لتعلق الأحكام بها، و متعلقا الأمر و النهي على هذا لا يكونان متحدين أصلا، لا في مقام تعلّق البعث و الزجر، و لا في مقام عصيان النهي و إطاعة الأمر بإتيان المجمع بسوء الاختيار.

=============

تقرير دليل الامتناع

و حاصل الكلام في تقرير دليل الامتناع: أن يقال: إن نتيجة المقدمات الأربع: هي أن المجمع كالصلاة في الدار المغصوبة يكون واحدا وجودا و ذاتا، فيكون تعلق الأمر و النهي به محالا، و لو كان تعلقهما به بعنوانين. و ذلك لما عرفت سابقا من كون فعل المكلف بحقيقته و واقعيته الصادرة عنه باختيار متعلقا للأحكام لا بعناوينه الطارئة عليه، و الحال أنك قد عرفت في المقدمة الأولى: تضادّ الأحكام الخمسة، و استحالة اجتماع اثنين منها في شيء واحد، لاستلزم ذلك اجتماع الضدين و إن كان تضادها في مرتبة الفعلية على ما عرفت.

و قد عرفت في المقدمة الثانية: أن متعلق الأحكام هو فعل المكلف و ما يصدر عنه في الخارج لا ما هو اسمه و عنوانه الذي ينتزع من الفعل و قد علمت في المقدمة الثالثة: إن المعنون واحد، و إن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون، فقد ظهر من هذه المقدمات ظهورا واضحا: استحالة اجتماع الأمر و النهي في المجمع المعنون بعنوانين، و من هنا يظهر:

عدم الحاجة إلى ذكر المقدمة الرابعة في استحالة اجتماع الأمر و النهي، فيكون ذكرها في المقام لدفع التوهمين لصاحب الفصول.

نعم؛ بقي في المقام توهم آخر قد أشار المصنف إلى دفعه بقوله: «و إن غائلة اجتماع الضدين فيه لا تكاد ترتفع بكون الأحكام تتعلق بالطبائع لا الأفراد».

و حاصل التوهم: أن محذور اجتماع الضدين في شيء يرتفع على القول بتعلق الأحكام بالطبائع دون الأفراد، و هذا التوهم من أدلة الجواز استدل به المحقق القمي «قده».

و توضيح ما أفاده المصنف في تقريب هذا التوهم يتوقف على مقدمة و هي: أنّ الطبائع و الماهيات من حيث هي هي و إن كانت غير قابلة لأن تتعلق بها الأحكام

ص: 400

أما في مقام الأوّل (1): فلتعددهما بما هما متعلقان لهما و إن كانا متحدين فيما هو الشرعية؛ لأن الطبيعة من حيث هي هي ليست إلاّ هي ليست موجودة و لا معدومة و لا واحدة و لا كثيرة و لا غيرها من الأشياء.

=============

و لكنها بما هي مقيدة بالوجود؛ بحيث يكون القيد خارجا و التقيد داخلا تكون متعلقة للأحكام؛ إذ ليست الماهية من حيث هي هي منشأ للآثار التي منها الأحكام الشرعية؛ لوضوح: عدم قيام المصالح و المفاسد بها من حيث هي هي، بل باعتبار وجودها، بمعنى: تعلّق الحكم بها بقيد الوجود بنحو خروج القيد و دخول التقيّد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه إذا كان متعلق الأمر و النهي ماهيتين لا محذور في الاجتماع من حيث ثبوت الحكمين، و لا من حيث سقوطهما. و قد عرفت في المقدمة تعدد متعلقي الأمر و النهي. إذ المفروض: عدم كون الوجود جزءا للمتعلقين حتى يتحدا بسبب الوجود، كي يلزم اجتماع الضدين المستحيل. بل المتعلقان متعددان في مقام الأمر و النهي، و في مقام الامتثال و العصيان.

و أما تعددهما في المقام الأوّل: فهو واضح لتعدد الطبيعتين و إن اتحدتا فيما هو خارج عن متعلق الطلب. و هو الوجود. فلا يلزم حينئذ إشكال اجتماع المصلحة و المفسدة، و لا الإرادة و الكراهة، و لا البعث و الزجر.

و أمّا تعددهما في المقام الثاني: فلأن المفروض: هو تعدد متعلقي الأمر و النهي، و عدم وحدتهما، فموضوع الأمر غير موضوع النهي، و لذا يمتثل الأمر بإيجاد متعلقه، و يتحقق العصيان بمخالفة النهي فلا يجتمع الحكمان في واحد في شيء من المقامين.

فالمتحصل: أنه لا يلزم اجتماع الأمر و النهي في واحد أصلا؛ لا في مقام التشريع و لا في مقام الامتثال. أما الأول: فلما عرفت من: تعدد الطبيعتين بما هما متعلقان لهما.

و أما الثاني: فلأنه إذا أتى بالصلاة في الغصب سقط الأمر بطبيعة الصلاة بالطاعة، و النهي عن طبيعة الغصب بالعصيان بسوء الاختيار.

فلا يجتمع الأمر و النهي في واحد أصلا؛ لا في مقام التشريع و لا في مقام الامتثال، فلا محيص عن الحكم بجواز الاجتماع، هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «لا في مقام تعلّق البعث و الزجر، و لا في مقام عصيان النهي و إطاعة الأمر بإتيان المجمع بسوء الاختيار».

(1) أي: و أما عدم الاتحاد «في المقام الأول» و هو مقام تعلّق البعث و الزجر «فلتعددهما» أي: فلتعدد المتعلقين «بما هما متعلقان لهما» أي: للأمر و النهي. «و إن كانا» أي: المتعلقان «متحدين فيما هو خارج عنهما» أي: في الوجود الذي هو خارج عن

ص: 401

خارج عنهما، بما هما كذلك (1).

و أما في المقام الثاني (2): فلسقوط أحدهما بالإطاعة و الآخر بالعصيان بمجرد الإتيان، ففي أيّ مقام اجتمع الحكمان في واحد؟

و أنت (3) خبير بأنه لا يكاد يجدي بعد ما عرفت من أن تعدد العنوان لا يوجب المتعلقين بما هما متعلقان للأمر و النهي، فمتعلق الأمر و النهي متعدد، و اتحادهما يكون بحسب الوجود الذي هو خارج عن المتعلقين و عارض عليهما.

=============

و كيف كان؛ فليس الاتحاد في متعلق الأمر و النهي، فالمتعلق متعدد و المتحد غير متعلق.

(1) أي: بما هما متعلقان للأمر و النهي.

(2) أي: و أما عدم الاتحاد «في المقام الثاني» و هو مقام إطاعة الأمر و عصيان النهي:

فلحصول الإطاعة و العصيان بإتيان المجمع، فلا بد من تعدد موضوع الإطاعة و العصيان؛ لامتناع الامتثال بما هو المبعد المبغوض المنهي عنه، و عدم إمكان صيرورته عبادة.

و الملخص: أنه لا يجتمع الأمر و النهي في واحد أصلا، لا في مقام التشريع و لا في مقام الامتثال، فلا محيص عن الحكم بجواز الاجتماع. فالاستفهام في قوله: «ففي أي مقام اجتمع الحكمان في واحد» إنكاريّ يعني: لم يجتمع الأمر و النهي في شيء من المقامين.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على الجواز على القول بتعلق الأحكام بالطبائع دون الأفراد.

و قبل بيان ما أجاب به المصنف عن هذا التوهم نذكر الفرق بين الآثار العادية و العقلية فنقول: إن الإحراق من الآثار العادية للنار حيث يجوز انفكاكه عنها بإعجاز و نحوه.

و التحيز من الآثار العقلية للجسم، حيث يستحيل انفكاكه عنه، و هما لا يترتبان على الماهية من حيث هي هي، بل على وجودها أو على خارجية الماهية على الخلاف في أصالة الوجود أو أصالة الماهية.

(3) هذا هو جواب المصنف عن استدلال المحقق القمي.

و حاصل الجواب: أن تعلق الأحكام بالطبائع لا يجدي في جواز الاجتماع، و لا يكون دليلا على الجواز بعد ما عرفت في المقدمة الثالثة: من أن تعدد العنوان، كعنوان الصلاة و عنوان الغصب، لا يوجب تعدد المعنون، لا وجودا و لا ماهية؛ لإمكان تصادقهما على معنون واحد فلا ينفع في الجواز.

و محصل ما أفاده المصنف في رد الدليل المذكور على جواز الاجتماع هو: أنه. بعد

ص: 402

تعدد المعنون، لا وجودا و لا ماهية، و لا تنثلم به وحدته أصلا، و أن المتعلق للأحكام هو المعنونات لا العنوانات، و أنها (1) إنما تؤخذ في المتعلقات بما هي حاكيات كالعبارات لا بما هي على حيالها و استقلالها. كما ظهر مما حققناه (2): أنه لا يكاد يجدي أيضا وضوح: عدم تعلق الأوامر و النواهي بالطبائع بما هي هي، بل بوجودها، و وضوح: قيام الملاكات الداعية إلى تشريع الأحكام بالمعنونات، و وضوح: عدم تعدد المعنون بالعناوين لا وجودا و لا ماهية. يمتنع تعلق حكمين متضادين على موجود واحد وجودا و ماهية، فالحركة التي ينطبق عليها عنوانا الصلاة و الغصب واحدة، فيمتنع أن تكون محكومة بحكمين متضادين.

=============

(1) أي: العنوانات «إنما تؤخذ في المتعلقات بما هي حاكيات كالعبارات»، و الألفاظ «لا بما هي على حيالها و استقلالها»، كما يدعيه القائل بالجواز. و بهذا كله تبين أن القول بتعلق الأحكام بالطبائع لا يدفع غائلة اجتماع الضدّين.

(2) في بطلان الوجه الأول «أنه لا يكاد يجدي أيضا» أي: كعدم إجداء الوجه المتقدم في إثبات جواز اجتماع الأمر و النهي. و هذا إشارة إلى دليل آخر من أدلة المجوزين، و هو ما ذكره المحقق القمي «قده»، و هذا الدليل مركب من أمور.

ثم إن المصنف قد أخذ الجزء الأول من هذا الدليل. و هو تعلق الأحكام بالطبائع.

و جعله دليلا مستقلا بتقريب قد عرفته مع الجواب:

الأول: كون الأحكام متعلقة بالطبائع.

الثاني: كون الفرد مقدمة لوجود الكلي، لا عينه.

الثالث: جواز اجتماع الأمر الغيري و النهي.

الرابع: عدم قدح المقدمة المحرمة في امتثال الأمر النفسي المتعلق بذي المقدمة.

و قد أشار المصنف إلى الأمر الأول و الثاني بقوله: «كون الفرد مقدمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه»، و إلى الأمر الثالث و الرابع بقوله: «إنه لا ضير في كون المقدمة محرمة في صورة عدم الانحصار.» إلخ.

إذا عرفت هذه الأمور تعرف تقريب هذا الدليل، حيث إن المجمع. أعني: الصلاة في الدار المغصوبة. ليس بنفسه مأمورا به بالأمر النفسي، بل متعلق الأمر النفسي هو طبيعة الصلاة، لا هذا الفرد، فهذا الفرد مقدمة محرمة للواجب النفسي أعني: الطبيعة، و لا تقدح حرمة المقدمة مع عدم انحصارها بالحرام في صحة الواجب إذا لم يكن انحصارها به من ناحية العبد، نظير قطع طريق الحج بالمركوب المغصوب، حيث إن الحج صحيح حينئذ بلا إشكال.

ص: 403

كون الفرد مقدمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهى عنه، و إنه لا ضير في كون المقدمة محرمة في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار.

و ذلك (1) - مضافا إلى وضوح فساده، و أن الفرد هو عين الطبيعي في الخارج، كيف ؟ و المقدمية تقتضي الاثنينية بحسب الوجود، و لا تعدد كما هو واضح - أنه إنما نعم؛ مع انحصار المقدمة بالحرام يقبح من الشارع الأمر بذيها؛ بل لا بد حينئذ إما من سقوط الأمر إن كانت مفسدة النهي أقوى، و إما من سقوط النهي إن كانت مصلحة الأمر أقوى؛ إلاّ إذا كان الانحصار بسوء الاختيار، فإن ذا المقدمة حينئذ فاسد مع عدم سقوط الأمر به، كما في «منتهى الدراية، ج، 3 ص 99».

=============

(1) أي: وجه ظهور فساد هذا الدليل.

و أجاب المصنف عن هذا الدليل بوجهين:

أحدهما: ما أشار إليه بقوله: «مضافا.» إلخ.

و الثاني: ما أشار إليه بقوله: «أنه إنما يجدي.» إلخ.

و حاصل الوجه الأول: هو منع مقدمية الفرد لوجود الكلي. و هو الأمر الثاني. و إن الفرد عين الكلي لا إنه أمر مغاير له، فليس بينهما تغاير و تعدد، و لهذا يحمل الكلي على الفرد فيقال: «زيد إنسان»، و لو كان مقدمة لم يصح الحمل، و لهذا لا يقال: الوضوء صلاة، و لهذا قال المصنف: «كيف و المقدمية تقتضي الاثنينية» يعني: كيف يكون الفرد مقدمة و الحال أن المقدميّة تقتضي الاثنينية بحسب الوجود و بحسب الماهيّة.

و كيف كان؛ فالمقدمية تقتضي تعدد المقدمة و ذيها وجودا، ضرورة: تعدد العلة و المعلول وجودا، و من المعلوم: انتفاء هذا التعدد بين الكلي و فرده، فحديث المقدمية أجنبيّ عن الفرد.

و حاصل الوجه الثاني. و هو ما أشار إليه بقوله: «إنما يجدي.» إلخ. أنه لو سلم مقدمية الفرد لوجود الكلي، فهي إنما تجدي في جواز اجتماع الأمر و النهي إذا كان الفرد مقدمة للطبيعتين المأمور بها و المنهي عنها حتى يتعلق به الأمر و النهي معا بلحاظ فرديته لهما؛ لكن الأمر ليس كذلك، لأن المجمع في مسألة اجتماع الأمر و النهي ليس فردا لماهيتين حتى يتعدّد ماهية، و يصح تعلق الأمر و النهي به، بل هو فرد لماهية واحدة، كما تقدم في المقدمة الرابعة، فيمتنع تعلقهما به؛ لاستلزامه اجتماع الضدين، و هما الأمر و النهي.

و كيف كان؛ فبعد وضوح كون المجمع واحدا يمتنع اجتماع الأمر و النهي فيه و إن سلمنا مقدمية الفرد للكلي؛ لاستلزامه اجتماع الضدين لكون الفرد و هو المجمع واحدا

ص: 404

يجدي لو لم يكن المجمع واحدا ماهية و قد عرفت بما لا مزيد عليه أنه بحسبها أيضا واحد.

=============

وجودا و ماهية كما عرفت في المقدمة الرابعة، «قد عرفت بما لا مزيد عليه أنه بحسبها» أي: الفرد بحسب الماهية أيضا واحد كوحدته وجودا.

قوله «و قد عرفت.» إلخ إشارة إلى ما تقدم في المقدمة الرابعة من كون المجمع واحدا وجودا و ماهية.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - القول بالامتناع يتوقف على تمهيد مقدمات.

1 - خلاصة تلك المقدمات:

المقدمة الأولى: هي تضاد الأحكام في مرتبة الفعلية دون مرتبة الاقتضاء و الإنشاء؛ إذ لا مانع من كون شيء ذا مصلحة من جهة و ذا مفسدة من جهة أخرى في مرتبة الاقتضاء، كما لا مانع من إنشاء حكم بمجرد وجود مقتضيه و لو مع اقترانه بالمانع في مرتبة الإنشاء، فإن الإنشاءات المجردة عن الإرادة و الكراهة لا تناف بينها، فتجتمع كاجتماع مقتضياتها. و لكن اجتماع الأمر و النهي الفعليين بنفسه محال لكونه من اجتماع الضدين الذي هو محال، فيلزم التكليف المحال؛ لا التكليف بالمحال الذي هو جائز عند بعض كالأشاعرة.

المقدمة الثانية: هي في بيان تعيين ما هو متعلق الحكم و هو ليس إلاّ نفس المعنون الذي هو فعل المكلف، بمعنى: أن المكلف يكلف بإصدار و إيجاد ذلك الفعل، لأن الحكم تابع للملاك، و الملاك إنما هو في فعل المكلف الذي هو المعنون لا في عنوانه و اسمه، فإن العناوين و الأسماء لا تكون وافية بالمصلحة و الغرض، فلا وجه لتعلق الحكم بها؛ بل يتعلق بما فيه الملاك و المصلحة و هو المعنون.

المقدمة الثالثة: أن تعدد الوجه و العنوان لا يوجب تعدد المعنون.

و ملخّص ما أفاده المصنف في تقريب المقدمة الثالثة هو: أن تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون و لا تنثلم به وحدته، و يشهد لذلك صدق العناوين المتعددة على الواجب تعالى مع بساطته و وحدته، حيث يصدق عليه تعالى عنوان العالم و المريد و القادر و المغني و غيرها من الصفات الكمالية و الجلالية، فعدم تعدد ذات واجب الوجود مع تعدد العناوين المنطبقة عليه شاهد صدق على أن تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون، فمجرد

ص: 405

تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون وجودا و لا تنثلم به وحدته أصلا.

2 - المقصود من المقدمة الرابعة هو دفع توهمين:

أحدهما: توهم ابتناء القول بالامتناع على أصالة الوجود، و القول بالجواز على أصالة الماهية.

ثانيهما: ابتناء القول بالجواز على تعدد وجود الجنس و الفصل، و القول بالامتناع على عدم تعدده.

أما بطلان التوهم الأول: فلأن هذا التوهم مبني على تعدد الماهية لموجود واحد، و هو غير معقول؛ إذ لا يعقل أن يكون للموجود بوجود واحد إلاّ ماهية واحدة، فحينئذ:

لا يتفاوت بين القول بأصالة الوجود أو الماهية؛ إذ المجمع واحد على كلا القولين، سواء كان الأصل في التحقق هو الوجود أو الماهية.

و من هنا ظهر فساد التوهم الثاني؛ إذ كما لا يعقل تعدد الماهية لموجود واحد كذلك لا يعقل تعدد الجنسين القريبين و الفصلين كذلك.

أما صدق العناوين أو العنوانين على المجمع: فليس من قبيل صدق الأجناس و الفصول؛ حتى يكون أحدها متعلقا للأمر و الآخر متعلقا للنهي.

و المتحصل: هو استحالة تعلق الأمر و النهي بالمعنون؛ لاستلزامه اجتماع الضدين المستحيل عقلا.

إذا عرفت هذه المقدمات فيقال في تقرير الامتناع: أن نتيجة المقدمات المذكورة هي:

أن المجمع. كالصلاة في الدار المغصوبة. يكون واحدا وجودا و ماهية، فيكون تعلق الأمر و النهي به محالا؛ لاستلزامه اجتماع الضدين.

3 - و توهم ارتفاع محذور اجتماع الضدين. على القول بتعلق الأحكام بالطبائع دون الأفراد مدفوع بما عرفت في المقدمة الثالثة؛ من إن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون لا وجودا و لا ماهية، فيمتنع تعلق حكمين متضادين على معنون واحد لكونه واحدا وجودا و ماهية.

و كذلك لا يجدي في ارتفاع غائلة اجتماع الضدين: كون الفرد مقدمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه؛ و ذلك لمنع مقدمية الفرد للكلي أولا؛ لأن المقدمية تقتضي الاثنينية و التعدد، و لا تعدد بين الفرد و الكلي؛ لأن الفرد هو عين الكلي، و لا تجدي مقدمية الفرد في جواز الأمر و النهي. ثانيا: لو سلمنا المقدمية و ذلك إن مقدمية

ص: 406

ثم إنه قد استدل (1) على الجواز بأمور:

منها: أنه لو لم يجز اجتماع الأمر و النهي، لما وقع نظيره، و قد وقع كما في الفرد إنما تجدي في جواز الاجتماع إذا كان الفرد مقدمة للطبيعتين المأمور بها و المنهي عنها حتى يتعلق به الأمر و النهي معا بلحاظ فرديته لهما، و ليس الأمر كذلك، لأن المجمع في مسألة الاجتماع ليس فردا لماهيتين حتى يتعدد ماهية و يصح تعلق الأمر و النهي به؛ بل هو فرد لماهية واحدة كما عرفت في المقدمة الرابعة، فيمتنع تعلقهما به لاستلزامه اجتماع الضدين لكون الفرد. و هو المجمع. واحدا وجودا و ماهية.

=============

4. رأي المصنف «قدس سره»:

هو: امتناع اجتماع الأمر و النهي تبعا للمشهور.

في أدلة جواز الاجتماع

الدليل الاول أنه لو لم يجز اجتماع الأمر و النهي لما وقع نظيره
اشارة

(1) يعني: قد استدل القائلون بالجواز. مضافا إلى الدليلين السابقين. بأمور: منها: ما أشار إليه بقوله: «أنه لو لم يجز اجتماع الأمر و النهي لما وقع نظيره». و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الدليل المزبور يرجح إلى القياس الاستثنائي، و الاستدلال به إنما يتم بعد ثبوت أمرين: أحدهما: الملازمة بين المقدم و التالي و الآخر: بطلان التالي لينتج بطلان المقدم.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول في تقريب الاستدلال: إن الملازمة ثابتة إذ لو لم يكن الاجتماع جائزا لم يقع في الشريعة المقدسة؛ لامتناع وقوع ما هو ممتنع و مستحيل كاجتماع الضدين أو النقيضين. و قد وقع الاجتماع في الشريعة.

و من البديهي: أن وقوع شيء أقوى دليل على إمكانه، فقيام الدليل على اجتماع حكمين. مع التضاد بين الأحكام الخمسة على ما عرفت في المقدمة الأولى. كاشف عن كون تعدد الجهة مجديا في الاجتماع؛ و إلاّ لما جاز الاجتماع للتضاد المزبور.

فرافع التضاد هو تعدد الجهة مطلقا، سواء كان الحكمان المجتمعان هما الوجوب و الحرمة أم الاستحباب و الكراهة، فحاصل الدليل: أن العبادات المكروهة مجمع على صحتها، و قد جمع فيها الاستحباب و الكراهة، فلو لم يجدي تعدد الجهة لم يجتمعا؛ لما عرفت من: تضاد الأحكام. هذا تمام الكلام في ثبوت الملازمة بين المقدم و التالي.

و أما بطلان التالي. و هو عدم وقوع الاجتماع. فأوضح من الشمس، فينتج بطلان المقدم أعني: عدم جواز الاجتماع، فالنتيجة هي: جواز الاجتماع؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين.

ص: 407

العبادات المكروهة؛ كالصلاة في مواضع (1) التهمة، و في الحمام، و الصيام في السفر، و في بعض الأيام (2).

بيان الملازمة (3): أنه لو لم يكن تعدد الجهة مجديا في إمكان اجتماعهما لما جاز اجتماع حكمين آخرين في مورد مع تعددها؛ لعدم اختصاصهما من بين الأحكام بما يوجب الامتناع من التضاد؛ بداهة: تضادها بأسرها، و التالي باطل، لوقوع اجتماع

=============

(1) و المراد بمواضع التهمة هي: الأمكنة التي يتهم المصلي فيها على استخفافه بالصلاة. كالمعاطن و المزابل، و قد ورد النهي عن الصلاة فيها في جملة من الأخبار.

(2) كصوم يوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء. و في الصلاة في الحمام يجتمع الوجوب و الكراهة إن كانت الصلاة فريضة، و الاستحباب و الكراهة إن كانت نافلة. و كذا في الصوم: فإن كان مستحبا يجتمع فيه الندب و الكراهة، و إن كان واجبا كالصوم بدل الهدي في الحج يجتمع فيه الوجوب و الكراهة.

و المراد من الصيام في بعض الأيام هو: الصوم يوم عاشوراء.

(3) بيان الملازمة بين المقدم أعني: «لو لم يجز اجتماع الأمر و النهي» و التالي أعني:

«لما وقع نظيره»: إنه لو لم يكن تعدد الجهة مجديا في إمكان اجتماع الأمر و النهي لما جاز اجتماع الحكمين أي: اجتماع حكمين آخرين غير الوجوب و الحرمة في مورد تعدد الجهة؛ لعدم اختصاص الوجوب و الحرمة بعلة امتناع اجتماعهما و هو تضادهما؛ لأن التضاد ثابت بين جميع الأحكام. و التالي باطل لوقوع اجتماع الكراهة مع الوجوب في مثل الصلاة في الحمام إذا كانت فريضة، و لوقوع اجتماع الكراهة مع الاستحباب في مثل صلاة النافلة في الحمام، و الصوم في السفر، و الصوم في عاشوراء. و يحتمل أن يكون الصوم في السفر مثالا لاجتماع الكراهة مع الوجوب إذا كان الصوم واجبا فيه؛ كالصوم المنذور المعين في السفر، أو كصوم بدل الهدي إذا عجز المكلف عنه، فلا بد من أن يصوم عشرة أيام ثلاثة منها في مكة المكرمة و سبعة منها إذا رجع.

و صوم عاشوراء مكروه مطلقا، سواء كان في السفر أم في الحضر، لأن بني أمية التزموا صوم هذا اليوم شكرا للانتصار، فتركه فيه مخالفة لهم و هي مطلوبة للشارع المقدس.

و كيف كان؛ فالملازمة في المقام بديهية؛ لوجود التضاد بين جميع الأحكام.

أما بطلان التالي: فمستفاد من ظواهر الأدلة الشرعية؛ لأنه ظاهرها اجتماع الكراهة و الوجوب، و الكراهة و الاستحباب كما في الأمثلة المذكورة. و قد أجاب المصنف عن هذا الدليل بجوابين إجمالي و تفصيلي.

ص: 408

الكراهة و الإيجاب أو الاستحباب في مثل الصلاة في الحمام، و الصيام في السفر، و في عاشوراء و لو في الحضر، و اجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الإباحة أو الاستحباب، في مثل الصلاة في المسجد أو الدار (1).

و الجواب عنه: أما إجمالا: فبأنه لا بد من التصرف و التأويل فيما وقع في الشريعة مما ظاهره الاجتماع، بعد قيام الدليل على الامتناع، ضرورة: أن الظهور لا يصادم البرهان، مع إن قضية ظهور تلك الموارد: اجتماع الحكمين فيها بعنوان واحد، و لا يقول الخصم بجوازه كذلك، بل بالامتناع ما لم يكن بعنوانين و بوجهين فهو (2) أيضا -

=============

أما الجواب عنه إجمالا فمرجعه إلى أمرين:

أحدهما: أن أدلة العبادات المكروهة في الأمثلة المذكورة ظاهرة في جواز اجتماع الحكمين، فيقال في الجواب: أنه بعد قيام البرهان العقلي و الدليل القطعي على استحالة الاجتماع في شيء واحد ذي عنوانين لا بد من التصرف و التأويل فيما ظاهره الاجتماع، ضرورة: أن ظهور الأدلة في الاجتماع لا يقاوم البرهان العقلي على الامتناع؛ لأنهما من قبيل النص و الظاهر في لزوم رفع اليد عن الظهور بالنص و ارتكاب التأويل في الظهور، و معه لا يبقى ظهور في اجتماع الحكمين في الموارد المذكورة.

و كيف كان؛ فقد ظهر وجه الإجمال، و أن المصنف لم يبين كيفية التصرف و التأويل.

و مجمل الكلام في المقام: أنه بعد التأويل يسقط ظهور الأدلة في الاجتماع عن الحجية و الدليلية هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

ثانيهما: أن المجوز قد ادعى الجواز فيما إذا كان الاجتماع بعنوانين بينهما عموم من وجه كما في (صل و لا تغصب) لا بعنوان واحد، كما في العبادات المكروهة كقوله:

(صلّ و لا تصل في الحمام) و عليه: فالمجوز أيضا ممن يجب عليه التخلص عن هذه العويصة. هذا ما أشار إليه بقوله: «و لا يقول الخصم بجوازه كذلك» أي: لا يقول:

بجواز الاجتماع بعنوان واحد.

(1) فإن أتينا بالفريضة في الدار فقد اجتمع فيها الوجوب مع الإباحة، و إن أتينا بالفريضة في المسجد فقد اجتمع فيها الوجوب مع الاستحباب أو الاستحباب مع الاستحباب كما لو أتينا بالنافلة في المسجد.

(2) فالخصم القائل بجواز الاجتماع مع تعدد العنوان و الجهة كالقائل بالامتناع مطلقا لا بد له من التفصي عن إشكال اجتماع الحكمين بعنوان واحد في الموارد المذكورة.

ص: 409

لا بد له من التفصي عن إشكال الاجتماع فيها، لا سيما إذا لم يكن هناك مندوحة، كما في العبادات المكروهة التي لا بدل لها، فلا يبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلا، كما لا يخفى.

و أما تفصيلا: فقد أجيب عنه بوجوه (1) يوجب ذكرها بما فيها من النقض و الإبرام فحاصل الكلام في المقام: أنه لا بد على كلا القولين من التفصّي عن محذور الاجتماع خصوصا على القول بالجواز إذا لم يكن للمأمور به مندوحة، فإنه إذا كان له مندوحة أي: بدل كالصلاة في الحمام. حيث إن العبد يقدر على إيجادها في المسجد أو الدار.

=============

أمكن القول بعدم توجه الأمر بالصلاة في هذا المورد المكروه أعني: الحمام بخصوصه، فلا يلزم الاجتماع. بخلاف ما إذا لم يكن له مندوحة كصوم عاشوراء، فإن الأمر الاستحبابي متوجه إليه يقينا؛ لأن صوم كل يوم مستحب في نفسه لا لبدليته عن غيره، فيلزم الاجتماع قطعا، فلا بد للقائل بالجواز خصوصا هنا من التفصي عن محذور الاجتماع كالقائل بالامتناع.

و كيف كان؛ فلا يبقى للخصم مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع في الموارد المذكورة على جواز الاجتماع أصلا؛ بل المصنف «قده» ألزم المستدل بها بالتأويل لأجل العنوان الواحد فيها، فالمانع و المجوز يكونان ملزمين بالتصرف و التأويل في هذه الموارد كما هو واضح.

(1) أي: الجواب تفصيلا. قد أجيب عن الإشكال بوجوه عديدة مذكورة في التقريرات، و قد أطال الكلام صاحب التقريرات في الجواب عنه؛ إلاّ إن ذكر تلك الوجوه بما فيها من النقض و الإبرام يوجب طول الكلام الذي لا يليق بالمقام. فالأولى حينئذ الاقتصار على الجواب التحقيقي؛ بحيث تنقطع مادة إشكال الاجتماع، فيقال و على الله تعالى الاتكال و الاعتماد و التوكل:

إن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:

في أقسام العبادات المكروهة و أحكامها

و قبل بيان أحكام أقسام العبادات المكروهة ينبغي بيان ما هو الفرق بين تلك الأقسام.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أنه إذا أمر بطبيعة وجوبا أو ندبا فتارة: تكون لها أفراد عرضية أو طولية يتخير المكلف بينها عقلا كما في الأول، و شرعا كما في الثاني.

و أخرى: لا تكون لها أفراد يتخير بينها عقلا أو شرعا؛ بل كل فرد منها كان واجبا أو

ص: 410

مستحبا على التعيين، فالمأمور به في الأول يكون مما له البدل كالفرائض اليومية و نوافلها، حيث يتخير المكلف بين أن يأتي بها في هذا المكان أو في ذاك المكان أو في مكان ثالث، هذا في الأفراد العرضية.

و أما في الأفراد الطولية فكذلك يتخير المكلف بين أن يأتي بها في أول الوقت أو في وسطه أو في آخره؛ فكل فرد من الأفراد العرضية أو الطولية يكون بدلا عن الآخر يجب أو يستحب تخييرا.

هذا بخلاف القسم الثاني حيث لا بدل للطبيعة التي تعلق بها الأمر وجوبا أو ندبا، فالمأمور به مما لا بدل له؛ إذ ليس حينئذ كل فرد بدلا عن الآخر كصوم شهر رمضان أو صوم سائر الأيام، فإن صوم كل يوم واجب أو مستحب على التعيين، و هكذا النوافل التي ليس لها وقت خاص و لا عنوان مخصوص، فإنها مما تستحب في كل وقت يسع ركعتين على التعيين. هذا كله في العبادات الواجبة أو المستحبة بقسميها أي: مما لا بدل و ما له البدل.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول. في الفرق بين أقسام العبادات المكروهة التي قسمها المصنف على ثلاثة أقسام: إن الفرق بينها يتضح بعد ذكر مثال لكل واحد منها.

فمثال ما لا بدل له: هو صوم عاشوراء؛ بناء على كراهته. أو صوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء، أو النوافل المبتدأة عند طلوع الشمس أو غروبها.

و مثال ما له البدل: كالصلاة في الحمام، أو في معاطن الإبل، أو في مرابط الخيل، أو في مرابض الغنم أو غيرها من الأماكن التي تكره فيها الصلاة. ثم ما هو الجامع بين هذين القسمين: أن النهي فيهما يكون متعلقا بنفس العبادة و بذاتها كما صرح به المصنف بقوله: «ما تعلق به النهي بعنوانه و ذاته»، فنفس الصلاة عند طلوع الشمس و عند غروبها أو في الحمام تكون مكروهة.

في قبال القسم الثالث و هو: ما إذا تعلق النهي بالعبادة، و لكن لا بذاتها و عنوانها، بل علم من الخارج أن النهي به لأجل عنوان يتحد معها وجودا أو يلازمها خارجا، فالمنهى عنه حقيقة هو ذلك العنوان المتحد مع العبادة وجودا أو الملازم لها خارجا؛ لا نفس العبادة و ذاتها كالصلاة في مواضع التهمة فهي تكون منهيا عنها لأجل اتحاد الصلاة مع الكون في مواضع التهمة المنهي عنه، فالنهي لم يتعلق بذات العبادة و لا بعنوانها الذي هو عنوان الصلاة كما في القسمين السابقين؛ بل تعلق بالكون الذي يتحد مع الصلاة

ص: 411

طول الكلام بما لا يسعه المقام، فالأولى الاقتصار على ما هو التحقيق في حسم مادة الإشكال، فيقال و على الله الاتكال: إن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:

أحدها: ما تعلق به النهي بعنوانه و ذاته، و لا بدل له، كصوم يوم عاشوراء، و النوافل المبتدأة في بعض الأوقات.

و ثانيها: ما تعلق به النهي كذلك، و يكون له البدل، كالنهي عن الصلاة في الحمام.

ثالثها: ما تعلق النهي به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجودا أو ملازم له خارجا، كالصلاة في مواضع التهمة، بناء على كون النهي عنها لأجل اتحادها مع الكون في مواضعها.

أما القسم الأول (1): فالنهي تنزيها عنه بعد الإجماع على أنه يقع صحيحا و مع وجودا إذا كانت الصلاة عبارة عن الأكوان و هي كون المصلي حال القيام، و كونه حال الركوع و السجود.

=============

و أما إذا كانت الصلاة عبارة عن الأفعال و الأقوال. أي: القيام و القعود و الانحناء و الاستقبال و التكبيرة و القراءة و الذكر و التشهد و التسليم. و كانت الأكوان خارجة عن حقيقة الصلاة، فكان النهي متعلقا بالكون الذي هو ملازم للصلاة خارجا أي: لا تتحقق الصلاة في الخارج إلاّ بسبب الكون، يعني: كون المصلي في مكان من الأمكنة، فالكون ملازم للصلاة خارجا. هذا تمام الكلام في الفرق بين الأقسام.

(1) هذا شروع في بيان الجواب عن الإشكال ببيان أحكام تلك الأقسام.

و حاصل الكلام في المقام: أن النهي عن القسم الأول يكون تنزيهيا بعد الإجماع على أن القسم الأول يقع صحيحا، و لازم قيام الإجماع على صحة العبادة قرينة على أن يكون الترك أرجح، و حينئذ يكون النهي تنزيهيا لا تحريميا، ضرورة: عدم اجتماع صحة العبادة مع النهي التحريمي عنها.

و كيف كان؛ فالإجماع على صحة العبادة قرينة جلية على كون النهي تنزيهيا.

و توضيح الجواب عن القسم الأول يتوقف على مقدمة و هي: أن الكراهة في الموارد المذكورة ليست كراهة مصطلحة. و هي التي تنشأ عن مفسدة في الفعل. إذ لو كانت الكراهة في المقام كراهة مصطلحة ناشئة عن مفسدة في الفعل غالبة على مصلحته لم يقع الفعل في الخارج صحيحا، ضرورة: عدم إمكان التقرب إلى المولى بما هو مبغوض له و مشتمل على مفسدة غالبة، مع إنه لا شبهة في وقوع الفعل صحيحا و إمكان التقرب به

ص: 412

ذلك يكون تركه أرجح، كما يظهر من مداومة الأئمة «عليهم السلام» على الترك.

إما (1) لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، فيكون الترك كالفعل ذا إلى المولى، فتكون الكراهة حينئذ بمعنى مرجوحية الفعل عن الترك من دون أن تكون فيه مفسدة و منقصة؛ بل فيه مصلحة كما في الترك، غاية الأمر: أن مصلحة الترك أكثر من مصلحة الفعل و أرجح منها.

=============

و هذا الرجحان إنما هو من ناحية انطباق عنوان ذي مصلحة عليه؛ كانطباق عنوان مخالفة بني أمية على ترك صوم عاشوراء؛ لأنهم يلتزمون به فرحا لانتصارهم على الإمام الحسين «عليه السلام».

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه يكون كل من الفعل و الترك ذا مصلحة، و لذا لو أتى بالفعل يقع صحيحا، على هذا: فالحكم الفعلي في القسم الأول من العبادات المكروهة و هو الكراهة بمعنى المرجوحية؛ لا الكراهة المصطلحة، فحينئذ: لم يجتمع فيها أمر و نهي حتى يقال بجواز الاجتماع. و تكون العبادات المكروهة برهانا عليه.

نعم؛ كان الفعل و الترك من قبيل المستحبين المتزاحمين لوجود المصلحة فيهما، فيجري عليهما حكم التزاحم من التخيير مع تساويهما و التعيين مع أهمية أحدهما، حيث إن المكلف لا يتمكن من الجمع بينهما في مقام الامتثال.

و في المقام: بما أن الترك أهم من الفعل فيقدم عليه، و أن الفعل أيضا يقع صحيحا؛ لعدم قصور فيه أصلا من ناحية الفعل لمحبوبيته و وفائه بغرض المولى، كما هو الحال في جميع موارد التزاحم بين المستحبات؛ بل الواجبات فإنه يصح الإتيان بالمهم عند ترك الأهم من جهة اشتماله على الملاك و محبوبيته في نفسه. هذا غاية ما يمكن أن يقال في الجواب عن القسم الأول مع رعاية الاختصار.

(1) هذا خبر لقوله: «فالنهي تنزيها.» إلخ، و شروع في الجواب عن القسم الأول من العبادات المكروهة. و قد أجاب عنه بوجهين هذا أولهما. و ثانيهما: ما أشار إليه بقوله:

«و إما لأجل ملازمة الترك لعنوان كذلك.» إلخ، و هذا ما يأتي في كلام المصنف «قده».

و حاصل الوجه الأول. على ما في «منتهى الدراية، ج، 3 ص 112». أنه يمكن أن يكون النهي فيها الموجب لمرجوحية فعلها لأجل انطباق عنوان راجح على الترك أوجب أرجحية الترك من الفعل الذي يكون ذا مصلحة أيضا، فيكون كل من الفعل و الترك ذات مصلحة، و لذا لو أتى بالفعل وقع صحيحا، غايته أن مصلحة الترك أكثر من مصلحة الفعل، و لوجود المصلحة فيهما يكون الترك في الحقيقة مأمورا به كالفعل، فيصير

ص: 413

مصلحة موافقة للغرض، و إن كان مصلحة الترك أكثر فهما حينئذ يكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين، فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن (1) أهم في البين، و إلاّ فيتعين الأهم و إن كان الآخر يقع صحيحا، حيث إنه (2) كان راجحا و موافقا للغرض، كما (3) الفعل و الترك من قبيل المستحبين المتزاحمين و يجرى عليهما حكم التزاحم من التخيير مع تساويهما في الملاك، و التعيين مع أهمية أحدهما، ففي مثل صوم يوم عاشوراء يكون أرجحية تركه من فعله لأجل انطباق عنوان راجح عليه؛ كمخالفة بني أمية، حيث إن مخالفتهم أهم في نظر الشارع من مصلحة الصوم، و لذا صار الترك أرجح من الفعل، كما هو الشأن في سائر موارد التزاحم، فإن الأهم يقدّم على المهم مع بقاء مصلحة المهم بحالها، و لذا لو صام صح بناء على كفاية الملاك في صحة العبادة، و على هذا: فالحكم الفعلي في القسم الأول من العبادات المكروهة هو الكراهة، فلم يجتمع فيها أمر و نهي حتى يقال بجواز الاجتماع، و تكون العبادات المكروهة برهانا عليه.

=============

و حاصل الوجه الثاني: أن أرجحية الترك يمكن أن تكون لأجل ملازمة الترك لعنوان ملازم معه لا منطبق عليه؛ كملازمة ترك صوم يوم عاشوراء لحال البكاء و الجزع على الحسين المظلوم «عليه السلام»، و كملازمة ترك صوم يوم عرفة للنشاط في الدعاء، و المفروض: أن مصلحة البكاء في يوم عاشوراء أو الدعاء في يوم عرفة أرجح من مصلحة صومهما. فالنهي عن صومهما يكون لملازمة تركه لهذين العنوانين أو غيرهما.

و الفرق بين الوجهين: أن الترك على الوجه الأول يكون متعلق البعث حقيقة؛ لانطباق العنوان الراجح عليه و اتحاده معه. بخلاف هذا الوجه الثاني حيث إن الترك بناء عليه لا يكون متعلق الطلب حقيقة؛ لعدم انطباق العنوان الملازم الذي تكون المصلحة قائمة به عليه، فإسناد الطلب إلى الترك حينئذ يكون بالعرض و المجاز، نظير إسناد الإنبات إلى الربيع، و الجريان إلى النهر و الميزاب، و الحركة إلى جالس السفينة كما لا يخفى.

و كيف كان؛ فيكون الترك على هذا الوجه الثاني كالترك على الوجه الأول و هو انطباق العنوان عليه؛ فلا يلزم اجتماع الأمر و النهي على كلا الوجهين، فلا تكون العبادات المكروهة من أدلة الجواز.

(1) هذا بيان لحكم التزاحم، و حيث إن المفروض هو أهمية الترك فيتعين.

(2) أي: الآخر المراد به الفعل. و هذا تعليل لوقوع المزاحم المهم. و هو الفعل.

صحيحا، و حاصل وجه صحته: موافقته للغرض، و هو المصلحة.

(3) أي: كما وقوع الآخر صحيحا جار في سائر المستحبات المتزاحمات، فإذا أتى بالمستحب المهم و ترك المستحب الأهم وقع صحيحا؛ لاشتماله على المصلحة.

ص: 414

هو الحال في سائر المستحبات المتزاحمات، بل الواجبات (1).

و أرجحيّة (2) الترك من الفعل لا توجب (3) حزازة و منقصة فيه أصلا، كما يوجبها ما إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته، و لذا لا يقع صحيحا على الامتناع فإن الحزازة و المنقصة فيه مانعة عن صلاحية التقرب به.

=============

(1) يعني: إذا أتى بالواجب المهم و ترك الأهم كان صحيحا؛ لأجل ما فيه من المصلحة.

(2) إشارة إلى توهم و هو أن يقال: إن أرجحية الترك من الفعل يوجب حزازة في الفعل، و معها لا أمر بالفعل فلا يقع صحيحا.

و حاصل الدفع: أن أرجحية الترك من الفعل لا توجب حزازة و منقصة في الفعل أصلا؛ كما يوجب الحزازة ما إذا كان في الفعل مفسدة غالبة على مصلحته؛ كالصلاة المزاحمة لفعل الإزالة، فإن الصلاة ذات مصلحة قليلة و مفسدة كثيرة، فتكون الصلاة حينئذ ذات حزازة «و لذا لا يقع صحيحا على الامتناع».

و بتقريب آخر: قوله: «و أرجحية الترك...» إلخ إشارة إلى توهم الفرق بين المقام الذي يكون الفعل فيه مرجوحا، و الترك راجحا، و بين المستحبات المتزاحمة فيكون قياس المقام بالمستحبات المتزاحمة قياسا مع الفارق، و القياس إذا كان كذلك كان باطلا.

و حاصل الفرق: أن المستحبات المتزاحمة يكون فعل كل واحد منها أرجح من تركه، فيصح التقرب بفعله بلا إشكال، بخلاف ما نحن فيه؛ إذ في صورة تساوي مصلحتي الفعل و الترك يشكل التقرب بأحدهما فضلا عما إذا كانت إحدى المصلحتين أقوى من الأخرى، كما هو المفروض، حيث إن مصلحة الترك أقوى من مصلحة الفعل، و مع الأقوائية الموجبة لمرجوحية الفعل كيف يمكن التقرب به، بل المقرب هو الترك فقط. هذا تمام الكلام في تقريب التوهم المزبور.

(3) خبر لقوله: «و أرجحية الترك...» إلخ، و دفع للتوهم المزبور و حاصله: إن المانع عن التقرب ليس مطلق مرجوحية الفعل من الترك؛ بل المانع هو مرجوحيته لمفسدة و منقصة في الفعل نفسه دون مرجوحيته، لأجل اهتمام الشارع بمصلحة الترك زائدا على مصلحة الفعل الموافقة للغرض، فإنه ليس مانعا عن التقرب به مع اشتماله على مصلحة في نفسه، و هناك تطويل للكلام بالنقض و الإبرام تركناه رعاية للاختصار المطلوب في المقام.

قوله: «و لذا لا يقع صحيحا على الامتناع» أي: لكون المفسدة الغالبة على مصلحة الفعل مانعة عن التقرب به لا يقع الفعل صحيحا بناء على القول بالامتناع و تغليب جانب النهي على الأمر، هذا «بخلاف المقام» و هو كون كل من الفعل و الترك ذا

ص: 415

بخلاف المقام فإنه على ما هو عليه من الرجحان و موافقة الغرض، كما إذا لم يكن تركه راجحا بلا حدوث حزازة فيه أصلا.

و إما (1) لأجل ملازمة الترك لعنوان كذلك (2) من دون انطباقه (3) عليه، فيكون كما إذا انطبق عليه من غير تفاوت إلا (4) في إن الطلب المتعلق به حينئذ (5) ليس بحقيقي، بل بالعرض و المجاز، فإنما يكون (6) في الحقيقة متعلقا بما يلازمه من العنوان.

بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به (7) حقيقة كما في سائر المكروهات (8) من غير مصلحة، «فإنه على ما هو عليه» أي: فإن الفعل على ما هو عليه من الرجحان لا يصير مرجوحا بسبب أرجحية الترك منه؛ بل هو على ما هو عليه من الرجحان صالح لصحة التقرب به، فيقع صحيحا لو أتى به المكلف كالفعل الذي لم يكن تركه راجحا.

=============

(1) عطف على قوله: «إما لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة» و عدل له، و هو الثاني من الوجهين اللّذين أجاب لهما المصنف عن إشكال القسم الأول من العبادات المكروهة. و قد ذكرنا تقريب الوجهين و الفرق بينهما فلا حاجة إلى توضيح هذا الوجه الثاني هنا.

(2) أي: ذي مصلحة من دون انطباق ذلك العنوان على الترك.

(3) أي: من دون انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، يعني: ليس النهي لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك كما في القسم الأول، فيكون الترك على هذا الوجه الثاني كالترك على الوجه الأول و هو انطباق العنوان عليه.

(4) هذا إشارة إلى الفرق بين الوجهين، و قد بينا الفرق سابقا، فلا حاجة إلى التكرار.

(5) أي: حين ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة ليس الطلب بالترك بحقيقي.

(6) أي: يكون النهي و الطلب في الحقيقة متعلقا بما يلازمه من العنوان، كما إذا فرضنا أن ترك صوم يوم عاشوراء ملازم لإتيان زيارة عاشوراء و فيه مصلحة راجحة على مصلحة الصوم، فالطلب ذاتا و حقيقة متعلق بفعل الملازم لا بترك الصوم، و إنما أسند إليه بالعرض و المجاز؛ كإسناد الجريان إلى الميزاب.

(7) لتعلق الطلب بالترك حقيقة، و كونه حقيقيا إنما هو لانطباق العنوان عليه.

(8) غرض المصنف هو: تنظير صورة انطباق العنوان على الترك. في كون الطلب المتعلق بالترك حقيقيا. بالمكروهات المصطلحة، فكما أن النهي فيها يتعلق بها حقيقة فكذلك في صورة انطباق عنوان على الترك، فلا فرق بينهما من حيث كون النهي في كليهما على نحو الحقيقة إلاّ من حيث منشأ تعلق النهي و الطلب، فإنه في المكروهات المصطلحة هو المنقصة في نفس الفعل، و هي أوجبت تشريع الحكم بالكراهة، و في الترك

ص: 416

فرق إلاّ إن منشأه فيها حزازة و منقصة في نفس الفعل، و فيه (1) رجحان في الترك، من دون حزازة في الفعل أصلا، غاية الأمر: كون الترك أرجح.

نعم (2)، يمكن أن يحمل النهي - في كلا القسمين - على الإرشاد إلى الترك الذي رجحانه الناشئ من انطباق عنوان راجح عليه من دون حزازة و منقصة في نفس الفعل؛ كما هو شأن المكروه المصطلح.

=============

(1) أي: منشأ النهي و الطلب في القسم الأول من العبادات المكروهة هو رجحان الترك؛ لا لأجل منقصة في الفعل، بل لأجل عنوان راجح منطبق على الترك. هذا ما أشار إليه بقوله: «غاية الأمر كون الترك أرجح».

(2) هذا استدراك على قوله: «فإن النهي تنزيها عنه...» إلخ، حيث يكون ظاهره:

كون النهي مولويا و هو على قسمين؛ لأن المراد بالكراهة ليس كراهة مصطلحة ناشئة عن مفسدة في الفعل؛ بل بمعنى: مرجوحية الفعل من الترك مع ما فيهما من المصلحة، غاية الأمر: أن مصلحة الترك أرجح من مصلحة الفعل. و رجحان الترك إما لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، كانطباق مخالفة بني أمية على ترك صوم عاشوراء. و إما لأجل ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة عليه؛ كما إذا فرضنا أن ترك صوم عاشوراء ملازم لإتيان زيارة عاشوراء و فيه مصلحة راجحة على مصلحة الصوم.

و الفرق بين القسمين و الوجهين هو: أن إسناد النهي و الطلب إلى الفعل على الوجه الأول حقيقة، و على الوجه الثاني مجاز، و على كلا الوجهين لا يلزم اجتماع حكمين متضادين أعني: الاستحباب و الكراهة المصطلحة حتى يقال بجواز الاجتماع و تكون العبادات المكروهة برهانا عليه. هذا خلاصة الكلام في الجواب الأول و الثاني عن القسم الأول.

ثم قوله: «نعم؛ يمكن أن يحمل النهي. في كلا القسمين. على الإرشاد...» إلخ.

جواب ثالث عن القسم الأوّل، و حاصل هذا الجواب الثالث إن هذا النهي ليس مولويا، بل إرشاد إلى رجحان مصلحة الترك من مصلحة الفعل؛ إما لانطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، كما هو الوجه الأول. و إما لأجل ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة، و يكون إسناد النهي إلى الفعل في كلا القسمين على نحو الحقيقة؛ لأن النهي المولوي و إن كان تابعا للمفسدة في متعلقه إلاّ إن النهي الإرشادي ليس تابعا للمفسدة في المتعلق؛ بل إرشاد إلى وجود المصلحة في الترك، من دون فرق بين أن يكون لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة عليه، أو لأجل ملازمته لعنوان كذلك.

و كيف كان؛ فالنهي الإرشادي لا ينافي الأمر المولوي، فهما لا يندرجان في مسألة اجتماع الأمر و النهي.

ص: 417

هو أرجح من الفعل، أو ملازم لما هو الأرجح و أكثر ثوابا لذلك، و عليه: يكون النهي على نحو الحقيقة، لا بالعرض و المجاز، فلا تغفل.

و أما القسم الثاني (1): فالنهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأول، هذا تمام الكلام في الجواب عن القسم الأول.

=============

و المتحصل: إن النهي في القسم الأول على أربعة أقسام؛ لأنه إما مولوي و إما إرشادي، و على كل تقدير: فإما لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، و إما لأجل ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة.

(1) و هو ما تعلق النهي بذات العبادة و عنوانها مع وجود البدل لها؛ كالصلاة في الحمام مثلا، و قد أجاب المصنف عن هذا القسم بما يرجع إلى وجهين؛ أحدهما: نظير ما تقدم في القسم الأول من كون النهي تنزيهيا بمعنى بمرجوحية الفعل الذي تعلق به النهي على التفصيل الذي تقدم فراجع.

فيقال في الجواب في هذا القسم الثاني و هو - ما تعلق النهي بذات العبادة و كان لها بدل - إن النهي عن الصلاة في الحمام إما لأجل عنوان ينطبق عليها كالاستخفاف بها، أو لأجل عنوان يلازمها؛ كاغتشاش الحواس و عدم حضور القلب المنافي للإقبال. هذا بناء على كون النهي مولويا، و يمكن أن يكون إرشادا إلى العنوان المنطبق على الترك أو الملازم له كما مر. هذا ما أشار إليه بقوله: «فالنهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأول طابق النعل بالنعل».

الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة...» إلخ.

و حاصله: أن النهي عن الصلاة في الحمام مثلا يمكن أن يكون إرشادا إلى منقصة حاصلة في الطبيعة المأمور بها لأجل تشخصها بمشخص غير ملائم لها؛ إذ للطبيعة بنفسها مع الغض عن المشخصات الملاءمة و غيرها مقدار من المصلحة، و بتشخيصها بمشخص غير ملائم تنقص المصلحة كالصلاة في المسجد، و بمشخص لا يلائمها و لا يخالفها كالصلاة في الدار تبقى مصلحة الطبيعة بحالها، و لا تزيد و لا تنقص، فالمشخصات على أقسام و النهي المتعلق بالطبيعة المتشخصة بمشخص غير ملائم لها يكون إرشادا إلى المنقصة الحاصلة من تشخص الطبيعة به.

و على هذا: فلا يكون النهي مولويا حتى يقال باجتماع الكراهة و الوجوب أو الاستحباب، هذا خلاصة الكلام في الجواب عن القسم الثاني.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

ص: 418

طابق النعل بالنعل، كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة في الطبيعة المأمور بها؛ لأجل تشخصها في هذا القسم بمشخص غير ملائم لها، كما في الصلاة في الحمام، فإن (1) تشخصها بتشخص وقوعها فيه لا يناسب كونها معراجا، و إن لم يكن نفس الكون في الحمام بمكروه، و لا حزازة فيه أصلا، بل كان راجحا كما لا يخفى.

و ربما يحصل لها لأجل تخصصها بخصوصية شديدة الملاءمة معها مزية فيها كما في الصلاة في المسجد و الأمكنة الشريفة، و ذلك لأن الطبيعة المأمور بها في حد نفسها - إذا كانت مع تشخص لا يكون له شدة الملاءمة، و لا عدم الملاءمة - لها مقدار من المصلحة (2) و المزية، كالصلاة في الدار مثلا، و تزداد تلك المزية فيما كان تشخصها (3) بما له شدة الملاءمة، و تنقص فيما إذا لم تكن له ملاءمة، و لذلك (4) ينقص ثوابها تارة و يزيد أخرى، و يكون النهي فيه (5) لحدوث نقصان في مزيتها فيه

=============

(1) تعليل لنقصان المصلحة بسبب تشخص وقوع الطبيعة بمشخص غير ملائم لها، و حاصل التعليل: أن الطبيعة بتشخصها بمشخص غير الملائم تسقط عن قابليتها للمعراجية، كوقوعها في الحمام و إن لم يكن نفس الكون فيه ذا حزازة و منقصة، بل ربما كان راجحا، كالدخول فيه للغسل و التنظيف أو غير ذلك بخلاف الصلاة في مواضع التهمة، فإن في نفس الكون فيها حزازة و كراهة كما أنه تحصل للصلاة لتخصصها بخصوصية شديدة الملاءمة لها مزية كالصلاة في المسجد و المشاهد المشرفة، فتكثر بها المصلحة.

(2) أي الطبيعة المأمور بها «في حدّ نفسها لها مقدار من المصلحة و المزية كالصلاة في الدار مثلا».

(3) أي: تشخص الطبيعة بمشخص له شدة الملاءمة كالصلاة في المسجد.

(4) يعني: و لأجل زيادة المصلحة و نقصانها بالمشخص الملائم و المنافر ينقص ثوابها تارة، و يزيد أخرى.

(5) أي: يكون النهي فيما كانت العبادة متشخصة بخصوصية لم تكن ملائمة للعبادة. إرشادا إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد و إلى ما يكون أكثر ثوابا منها و قد عرفت غير مرة: أنه لا تنافي بين النهي الإرشادي و الأمر المولوي و اجتماعهما لا يكون دليلا على جواز الاجتماع

و كيف كان، فالنواهي المذكورة المتعلقة بالعبادات ليست على ظواهرها من المولوية حتى يكون اجتماعها مع الأوامر برهانا على جواز الاجتماع.

ص: 419

إرشادا إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد، و يكون أكثر ثوابا منه، و ليكن (1) هذا مراد من قال: إن الكراهة في العبادة بمعنى أنها تكون أقل ثوابا.

و لا يرد (2) عليه بلزوم اتصاف العبادة التي تكون أقل ثوابا من الأخرى بالكراهة،

=============

(1) أي و ليكن هذا أي: تفسيرهم العبادة المكروهة بكونها أقل ثوابا أقليته بالنسبة إلى الفرد الآخر من نفس تلك الطبيعة لا الأقلية بالإضافة إلى عبادة أخرى.

مراد من قال: إن الكراهة في العبادة تكون بمعنى أنها تكون أقل ثوابا

و الحاصل: أن من قال: إن العبادة المكروهة عبارة عن العبادة التي تكون أقل ثوابا مراده أنه لو كان هناك طبيعة لها مقدار من الثواب في نفسها ثم كان بعض أفراد تلك الطبيعة أقل ثوابا، باعتبار تشخص تلك الأفراد بخصوصية غير ملاءمة، و ليس مرادهم أن كل عبادة أقل ثوابا من ثواب غيرها تكون مكروهة، بل الأفراد الناقصة من الطبيعة مكروهة بمعنى أنها أقل ثوابا من سائر أفراد تلك الطبيعة.

و كيف كان؛ فالملحوظ في أقلية الثواب، و في أكثريته هو نفس الطبيعة من حيث هي هي، مع قطع النظر عن مشخصاتها الوجودية، سواء كانت ملائمة لها أم كانت غير ملائمة، فكل فرد من أفراد الطبيعة المأمور بها إذا كانت مصلحته زائدة على مصلحة أصل الطبيعة فهو مستحب، و أفضل الأفراد كالصلاة في المسجد مثلا. و كل فرد من أفرادها إذا كانت مصلحته ناقصة عن مصلحة أصل الطبيعة المأمور بها فهو مكروه؛ كالصلاة في الحمام. فالمراد من أصل الطبيعة: هو الصلاة التي لا تتشخص بمشخص ملائم و لا بعدم الملائم، فهي مقياس و معيار، فيكون هذا مراد من قال: إن الكراهة في العبادة تكون بمعنى: أقلية ثوابها كي لا يلزم ما يرد عليه من الإشكالين كما لا يخفى.

(2) يعني: لا يرد على هذا التفسير ما ذكره صاحب الفصول؛ من أن الكراهة بمعنى:

أقلية الثواب تستلزم أمرين لا يمكن الالتزام بهما، و أولهما: ما أشار إليه بقوله: «بلزوم اتصاف العبادة...» إلخ. و ثانيهما: ما أشار إليه بقوله: «و لزوم اتصاف ما لا مزية فيه...» إلخ.

و حاصل الأمر الأول: هو لزوم اتصاف كل عبادة تكون أقل ثوابا من أخرى بالكراهة. مثلا إذا كان ثواب الصلاة أكثر من الصوم لزم أن يكون الصوم مكروها.

و كذا الحال بالنسبة إلى أفراد طبيعة واحدة مع تشخصها بمشخصات مختلفة من حيث الملاءمة و عدمها، فتكره الصلاة في الحمام بالإضافة إلى الصلاة في الدار. و هكذا، و هذا من البطلان على حد البداهة و الضرورة.

ص: 420

و لزوم اتصاف ما لا مزية فيه و لا منقصة بالاستحباب، لأنه أكثر ثوابا مما فيه المنقصة؛ و حاصل الأمر الثاني: أن تفسير الكراهة في العبادة بأقلية الثواب يستلزم استحباب العبادة المكتنفة بما لا يلائمها و لا ينافرها كالصلاة في الدار، بالإضافة إلى الصلاة في الحمام، و نحوه من المشخصات المنافرة للطبيعة؛ لكون الصلاة في الدار أكثر ثوابا من الصلاة في الحمام، و هذا مما لم يلتزم به أحد من الفقهاء؛ إذ يلزم أن يكون كل من الكراهة و الاستحباب من الأمور النسبية، بمعنى: أن الصلاة في الدار مستحبة بالنسبة إلى الصلاة في الحمام، و مكروهة بالنسبة إلى الصلاة في المسجد، هذا تمام الكلام في تقريب الإشكالين بالأمرين المذكورين.

=============

و لكن لا يرد شيء من الأمرين على تفسير العبادة المكروهة بأقلية الثواب؛ و ذلك لما عرفت عند شرح كلام المصنف: «و ذلك لأن الطبيعة المأمور بها في حدّ نفسها...» إلخ.

فقوله: «لما عرفت...» إلخ تعليل لقوله: «لا يرد عليه».

و حاصل الكلام في المقام: أنه ليس من أقلية الثواب و أكثريته الأقلية و الأكثرية المطلقتين؛ بل أكثرية الثواب و أقليته اللتان تضافان إلى نفس الطبيعة المتشخصة بمشخص لا يوجب مزية و لا منقصة، فإذا كان لنفس الطبيعة من حيث هي مقدار حصة من المصلحة، و اختلاف المشخصات في الملاءمة و عدمها يوجب زيادة الثوب و قلتها، كما أن الفرد المكروه خصوص العبادة التي يكون ثوابها. لاحتفافها بما لا يلائمها. أقل من ثواب الفرد المتشخص؛ بما لا يلائمه و لا ينافره؛ كالصلاة في الدار و نحوها من الأمكنة المباحة، فلا يتصف غير هذا الفرد من أفراد الطبيعة بالكراهة، كما لا تتصف الصلاة في الدار و نحوها من الأمكنة المباحة. التي لا توجب زيادة و لا نقصانا في مصلحة الطبيعة.

بالاستحباب بالإضافة إلى الصلاة الواقعة في مكان مكروه كالحمام، لأكثرية ثواب الصلاة في الدار من ثواب الصلاة في الحمام.

و قوله: «و كذا كونه أكثر ثوابا» ناظر إلى ردّ اللازم الثاني.

و حاصل الردّ: أن الأكثرية تلاحظ بالقياس إلى نفس الطبيعة مع الغض عن تشخصها بالمشخص الملائم أو المنافر، و عليه: فلا يصح أن يقال: إن الصلاة في المكان المباح كالدار مستحبة بالإضافة إلى الصلاة في الحمام؛ لأن الأكثرية كما عرفت تضاف إلى مصلحة نفس الطبيعة و من المعلوم: أن مصلحة الصلاة في المكان المباح ليست بأكثر من مصلحة نفس الطبيعة حتى تتصف بالاستحباب.

و بالجملة: المقيس عليه في الأقلية و الأكثرية هو خصوص الفرد الذي لا يحدث بسبب تشخصه مزية و لا منقصة، لا طبيعة أخرى، كما في الإيراد الأول، و لا مطلق

ص: 421

لما عرفت من: أن المراد من كونه أقل ثوابا: إنما هو بقياسه إلى نفس الطبيعة المتشخصة بما لا يحدث معه مزية لها و لا منقصة من المشخصات، و كذا كونه أكثر ثوابا.

و لا يخفى: أن النهي في هذا القسم (1) لا يصلح إلاّ للإرشاد (2)، بخلاف القسم الأول فإنه يكون فيه مولويا، و إن كان حمله على الإرشاد بمكان من الإمكان.

=============

الأفراد من نفس تلك الطبيعة كما هو مبنى الإيراد الثاني، حيث إنه جعل المقيس عليه هو الفرد الذي يحدث بسبب تشخصه منقصة، و لذا توهم أن الصلاة في المكان المباح بالنسبة إلى الصلاة في الحمام مستحبة؛ لكن قد عرفت أنه ليس هو المقيس عليه، على ما في «منتهى الدراية، ج، 3 ص 126».

(1) أي: القسم الثاني من العبادات المكروهة، و هو: كون النهي متعلقا بذات العبادة و عنوانها مع وجود البدل لها.

(2) أي: الإرشاد إلى فرد آخر يكون بدلا عن الفرد المنهى عنه؛ إذ المفروض: وجود البدل للفرد المنهى عنه. ثم إن الحمل على الإرشاد يختص بالتوجيه المختص به، و هو كون النهي لأجل حصول منقصة في الطبيعة المأمور بها، دون التوجيه المشترك بينه و بين القسم الأول من كون متعلق النهي عنوانا ذا مصلحة منطبقا على العبادة و متحدا معها، أو ملازما لها.

و وجه عدم صحة حمل النهي في هذا القسم الثاني على غير الإرشاد هو: أن النهي المولوي و لو تنزيهيا منوط بثبوت مفسدة في متعلقه، أو مصلحة في نقيضه مزاحمة لمصلحته، و هو مفقود في المقام، لوجود المصلحة في متعلقه و عدم مصلحة في نقيضه، بخلاف القسم الأول لوجود المصلحة في متعلقه و في تركه، و لذا صار أرجح من فعله، فلا بد من كون النهي في هذا القسم الثاني إرشادا إلى منقصة حاصلة في الطبيعة بواسطة تشخصها بغير الملائم؛ ككون الصلاة في الحمام.

و كيف كان؛ فقد عرفت أن النهي في القسم الأول يمكن أن يكون إرشادا إلى الترك الذي هو أرجح من الفعل لا الإرشاد إلى فعل آخر من تلك الطبيعة، إذ المفروض: كونه مما لا بدل له كصوم يوم عاشوراء، و يمكن أن يكون لاستحباب الترك مولويا إما لانطباق عنوان ذي مصلحة عليه كمخالفة بني أمية. و إما لاستلزامه أمرا مطلوبا كإتيان زيارة عاشوراء، و هذه الوجوه الثلاثة المذكورة في القسم الأول ثم النهي في القسم الثاني.

و أما النهي في هذا القسم الثاني: فإما للوجوه الثلاثة المذكورة في القسم الأول كما

ص: 422

و أما القسم الثالث (1): فيمكن أن يكون النهي فيه عن العبادة المتحدة مع ذاك العنوان، أو الملازمة له بالعرض و المجاز، و كان المنهي عنه به حقيقة ذاك العنوان.

و يمكن أن يكون على الحقيقة إرشادا إلى غيرها (2) من سائر الأفراد مما لا يكون متحدا معه، أو ملازما له إذ (3) المفروض: التمكن من استيفاء مزية العبادة بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان أصلا.

=============

أشار إليه بقوله: فالنهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأول طابق النعل بالنعل، و إما لنقص الثواب بالتشخص بما لا يلائم العبادة، فحينئذ: يكون النهي إرشاديا لا غير، كما أشار إليه بقوله: «كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة في الطبيعة المأمور بها...» إلخ، إلى أن قال: «و لا يخفى أن النهي في هذا القسم لا يصلح إلاّ للإرشاد»، و قد تقدم وجه ذلك، فلا حاجة إلى التكرار. هذا تمام الكلام في القسم الثاني.

(1) و هو ما تعلق به النهي لا بذات العبادة؛ بل بما هو مجامع معها وجودا أو ملازم لها خارجا كالصلاة في مواضع التهمة. و حاصل الكلام: أن المصنف لما فرغ من توجيه القسمين الأولين شرع في توجيه القسم الثالث.

و ملخص ما أفاده في الجواب عن القسم الثالث: أنه يمكن أن يكون النهي فيه مولويا، و يمكن أن يكون إرشاديا. و على الأول لا يسند النهي إلى العبادة حقيقة؛ بل بالعرض و المجاز؛ لأن المنهي عنه هو ذاك العنوان المتحد مع العبادة. كالكون في مواضع التهمة. أو الملازم لها فيما إذا كانت الصلاة هي الأقوال و الأفعال، فإسناد النهي إلى الصلاة إذا كان مولويا. بأن يقال: إن الصلاة منهي عنها. إنما هو بالعرض و المجاز؛ لأن المنهي عنه حقيقة هو الكون في مواضع التهمة، ففي الحقيقة لا تكون الصلاة فيها منهيا عنها، فلا يجتمع فيها الكراهة و الوجوب، و لا الأمر و النهي حتى يقال بجواز الاجتماع، فلا دخل لها بمسألة الاجتماع أصلا.

(2) يعني: إلى غير العبادة المنهي عنها من سائر الأفراد التي لا تكون متحدة مع العنوان و لا ملازمة له. و حاصل الكلام في المقام: أن النهي عن العبادة في القسم الثالث يمكن أن يكون عرضيا مولويا، و يمكن أن يكون حقيقيا إرشاديا؛ بأن يكون النهي عن الصلاة في مواضع التهمة للإرشاد إلى الصلاة في غيرها كالصلاة في الدار و المسجد.

(3) تعليل لكون النهي إرشادا إلى سائر الأفراد، بمعنى: أنه لما كان الإتيان بالأفراد السليمة عن الحزازة الواجدة للمزية ممكنا؛ أمكن أن يكون النهي إرشادا إلى تلك الأفراد.

ص: 423

هذا (1) على القول بجواز الاجتماع. و أما على الامتناع: فكذلك (2) في صورة الملازمة.

=============

(1) أي: أن ما ذكرناه. من كون المأمور به حقيقة هي العبادة و المنهي عنه حقيقة هو ذلك العنوان، و إضافة النهي إلى العبادة تكون بالعرض و المجاز. مبني على القول بجواز الاجتماع؛ لكفاية تعدد العنوان في إمكان اجتماع الأمر و النهي، فعنوان العبادة هو المأمور به، و العنوان المتحد الملازم هو المنهي عنه، و التنافي بين الأمر و النهي يرتفع بتعدد العنوان.

(2) يعني: بناء على الامتناع يكون المنهي عنه هو العنوان الملازم، و الملازم به عنوان العبادة، هذا في صورة كون العنوان المنهى عنه ملازما للعبادة و أمّا في صورة اتحاد العنوان المنهي عنه مع العبادة، و انطباقه عليها. و ترجيح جانب الأمر على النهي كما هو المفروض؛ إذا المفروض: صحة العبادة المكروهة بالإجماع كما أشار إليه المصنف في صدر البحث، فيكون حال النهي في هذا القسم الثالث حال النهي في القسم الثاني؛ بل هو يرجع إليه بالدقة؛ و ذلك، لأن اتحاد العنوان المنهي عنه مع العبادة يوجب تشخصها بمشخص غير ملائم للطبيعة المأمور بها، فينقص بسببه مقدار من مصلحتها، فالنهي إرشاد إلى تلك المنقصة حتى يأتي العبد بالطبيعة في فرد آخر فاقد للحزازة و المنقصة.

و كيف كان؛ فقد أجاب المصنف عن هذا القسم الثالث على الجواز تارة، و على الامتناع أخرى، أما على الجواز المبتني على تعدد متعلقي الأمر و النهي لأجل تعدد العنوان فحاصله: أنه يمكن أن يكون النهي مولويا و كان إسناده إلى العبادة مجازيا؛ لأن المكروه هو ذاك العنوان المتحد معها أو الملازم لها دون العبادة بنفسها، و يمكن أن يكون إرشاديا أي: خاليا عن الطلب النفساني، فيكون إسناده إلى العبادة حقيقيا قد أنشئ بداعي الإرشاد إلى سائر الأفراد مما لم يبتل بعنوان ذي منقصة متحد معها أو ملازم لها.

و أما على الامتناع: فإن كان النهي لأجل عنوان يلازم العبادة خارجا فالجواب هو عين جواب المجوز حرفا بحرف كما أشار إليه بقوله: «و أما على الامتناع فكذلك في صورة الملازمة...» الخ. و أما إذا كان النهي لأجل عنوان يتحد مع العبادة وجودا و رجحنا جانب الأمر كما هو المفروض؛ إذ لو كان الراجح جانب النهي لكانت العبادة باطلة جدا لا مكروهة. فالجواب ما أجيب به في القسم الثاني. أي: الجواب الأخير فيه من كون النهي لمنقصة مغلوبة في الفعل و إنما نهى الشارع عنه إرشادا إلى سائر الأفراد مما لم يبتل بالمنقصة و الحزازة أصلا.

فالمتحصل: إنه إما لا يلزم الاجتماع لكفاية تعدد العنوان في تعدد المعنون، و إما يحمل النهي على الإرشاد، فلا تنافي بين النهي الإرشادي و الأمر المولوي.

ص: 424

و أما في صورة الاتحاد و ترجيح جانب الأمر - كما هو المفروض، حيث إنه صحة العبادة - فيكون حال النهي فيه حاله في القسم الثاني، فيحمل على ما حمل عليه فيه، طابق النعل بالنعل، حيث إنه بالدقة يرجع إليه؛ إذ على الامتناع ليس الاتحاد مع العنوان الآخر إلاّ من مخصصاته و مشخصاته التي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزية زيادة و نقيصة بحسب اختلافها (1) في الملاءمة كما عرفت.

و قد انقدح بما ذكرناه (2)؛ أنه لا مجال أصلا لتفسير الكراهة في العبادة بأقلية الثواب في القسم الأول مطلقا، و في هذا القسم على القول بالجواز.

=============

(1) اختلاف المخصصات و المشخصات في الملاءمة و عدمها كما عرفت في القسم الثاني، حيث قال: «لأن الطبيعة المأمور بها في حد نفسها إذا كانت مع تشخص لا يكون له شدة الملاءمة...» إلخ، فراجع ما سبق في القسم الثاني.

(2) أي: و قد ظهر بما ذكرناه في معنى أقلية الثواب. و أنها تضاف إلى المصلحة الخاصة القائمة بأصل الطبيعة: إن حمل النهي على الإرشاد إلى أقلية الثواب لا مجال له في القسم الأول الذي لا بدل له أصلا.

وجه عدم المجال: أنه لا يتصور أقلية الثواب في مثل صوم يوم عاشوراء، و النوافل المبتدأة و غيرهما مما لا بدل له، و تنحصر الطبيعة في فرد واحد أي: ليس لها الأفراد حتى يكون النهي إرشادا إلى الأفراد التي لا منقصة فيها؛ إذ ليس لصوم يوم عاشوراء فرد آخر حتى يحمل النهي عنه على الإرشاد إلى إتيان الطبيعة في ضمن هذا الفرد الآخر منها.

و مجرد أرجحية الترك. لانطباق عنوان ذي مصلحة عليه أو ملازمته للترك. لا يسوغ حمل النهي عن صوم يوم عاشوراء على الكراهة، ضرورة: أن مصلحة الترك لأجل ذلك العنوان و إن كانت أرجح من مصلحة الفعل، و لذا يكون تركه أرجح من فعله، إلاّ إنه ليس من الكراهة بمعنى أقلية الثواب على النحو الذي ذكرناه؛ إذ الأقلية لا بد و أن تكون في بعض أفراد الطبيعة كالصلاة في الحمام بالنسبة إلى البعض الآخر من أفراد نفس هذه الطبيعة كالصلاة في غيره، و لا تلاحظ الأقلية بين طبيعتين كأقلية مصلحة الصوم مثلا من مصلحة الصلاة.

و في القسم الأول من العبادات المكروهة يكون العنوان المتحد أو الملازم أرجح من الفعل، و من المعلوم: مغايرة ذاك العنوان للعبادة، فهما من قبيل الطبيعتين؛ لا فردين من طبيعة واحدة كما هو مورد حمل النهي على أقلية الثواب، فمصلحة صوم عاشوراء باقية

ص: 425

كما انقدح حال اجتماع الوجوب و الاستحباب فيها، و أن الأمر الاستحبابي على حالها، و لا ينقص منها شيء، غاية الأمر: أنه يزاحمها مصلحة أقوى منها، و هذا غير نقصان مصلحة الطبيعة لأجل تشخصها بمشخص غير ملائم لها.

=============

نعم قد تقدم في القسم الأول: إمكان حمل النهي فيه على الإرشاد إلى ترك طبيعة صوم عاشوراء لانطباق عنوان راجح عليه؛ لكنه غير حمله على الإرشاد إلى أقلية الثواب بالمعنى المذكور، أعني: الإرشاد إلى ترك فرد من الطبيعة فيه حزازة و منقصة، و الإتيان بفرد آخر منها لا حزازة فيه و لا منقصة كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 131».

قوله: «مطلقا» أي: سواء قيل بالجواز أم الامتناع.

و حاصل الكلام في المقام: أنه لا مجال لتفسير الكراهة في العبادة بأقلية الثواب في القسم الأول. بأن يكون النهي إرشادا إلى الترك الذي هو أرجح من الفعل. أما على الجواز: فلعدم المقتضي لحمل النهي على الإرشاد بعد إمكان حمله على المولوي؛ لتعدد متعلق الأمر و النهي، و الحمل على الإرشاد إنما هو لعدم إمكان حمله على المولوي.

و أما على الامتناع: فلعدم بدل للعبادة كصوم عاشوراء حتى يكون النهي إرشادا إلى سائر أفراد الطبيعة المأمور بها مما لا منقصة فيه.

و كيف كان؛ فلما كان وجه عدم حمل الكراهة في القسم الأول على الإرشاد انتفاء الفرد الآخر لا يعقل الفرق بين القول بجواز الاجتماع و القول بامتناعه فقال: «إنه لا مجال أصلا لتفسير الكراهة في العبادة بأقلية الثواب في القسم الأول مطلقا».

قوله: «و في هذا القسم على القول بالجواز...» إلخ. أي: في القسم الثالث يعني: و قد ظهر مما ذكرنا: أنه لا مجال لحمل النهي على أقلية الثواب في القسم الثالث أيضا على القول بالجواز؛ إذ على هذا القول يتعدد متعلق الأمر و النهي، و يستريح القائل بالجواز من دفع الإشكال، فيبقى ظهور النهي على حاله، و لا داعي إلى ارتكاب التأويل فيه بحمله على الإرشاد أو غيره من التأويلات. و كذا الحال على القول بالامتناع في صورة الملازمة؛ لتعدد متعلق الأمر و النهي وجودا أيضا.

نعم؛ على القول بالامتناع و الاتحاد تنقص مصلحة الطبيعة؛ لتشخصها بما لا يلائمها، فيحمل النهي عنها على الإرشاد إلى نقصان المصلحة، و الإتيان بالطبيعة في ضمن سائر الأفراد التي لا تتحد مع ذلك العنوان الموجب للحزازة و المنقصة.

قوله: «كما انقدح حال اجتماع الوجوب و الاستحباب»، إشارة إلى الجواب عن اجتماع الوجوب و الاستحباب في العبادات. كالصلاة في المسجد..

و حاصل الجواب: أن الأمر الاستحبابي بالصلاة جماعة أو في المسجد مثلا يمكن

ص: 426

يكون على نحو الإرشاد إلى أفضل الأفراد مطلقا (1) على نحو الحقيقة (2)، و مولويا اقتضائيا كذلك (3)، و فعليا بالعرض و المجاز فيما كان ملاكه (4) ملازمتها لما هو مستحب أو متحد معه على القول بالجواز.

=============

حمله على الإرشاد إلى أفضل الأفراد، كحمل النهي في القسم الثاني و الثالث على الإرشاد إلى منقصة حاصلة في مصلحة الطبيعة المتشخصة بمشخص غير ملائم للطبيعة، فلا يكون في مثل صلاة الجماعة أمر استحبابي و وجوبي حتى يلزم اجتماع الحكمين الفعليين المولويين.

(1) يعني: على كلا القولين من الجواز و الامتناع؛ لأن محل النزاع في مسألة اجتماع الأمر و النهي هو الحكمان المولويان؛ لا كل حكمين و لو لم يكن أحدهما أو كلاهما مولويا، فالحكمان المولوي و الإرشادي لا إشكال في جواز اجتماعهما، فلا بأس بكون الأمر بإتيان الصلاة جماعة إرشاديا. و على هذا: فلا يكون مثل الصلاة جماعة. مما اجتمع فيه حكمان مولوي بأصل الطبيعة و إرشادي إلى الفرد الأفضل منها. دليلا على جواز اجتماع حكمين فعليين حتى يستدل به على جواز اجتماع الأمر و النهي في مسألتنا.

(2) يعني: أن الأمر الإرشادي يتعلق بنفس العبادة، فهي المأمور بها بالأمر الإرشادي حقيقة؛ لا عنوان آخر متحد معها أو ملازم لها حتى تكون العبادة مأمورا بها بالعرض و المجاز.

(3) أي: على نحو الحقيقة، و حاصله: أنه يمكن حمل الأمر الاستحبابي على المولوي الاقتضائي الذي يراد به وجود مصلحة الاستحباب؛ لا الاستحباب المولوي العقلي حتى يجتمع الحكمان الفعليان، و به يندفع الإشكال أيضا على كلا القولين؛ لأن محل النزاع في مسألة الاجتماع هو: اجتماع الحكمين الفعليين لا الحكمين اللذين يكون أحدهما فعليا و الآخر اقتضائيا، و لا يقدح اجتماعهما مطلقا سواء قلنا بجواز الاجتماع أم لا، فيجتمع الأمر الاستحبابي الاقتضائي و الوجوبي الفعلي.

قوله: «و فعليا» عطف على قوله: «اقتضائيا»، يعني: و يمكن حمل الأمر الاستحبابي على المولوي الفعلي؛ لكن مجازا لا حقيقة بأن يكون عروض الاستحباب الفعلي للعبادة بالعرض و المجاز، و يكون معروض الاستحباب حقيقة عنوانا ملازما للصلاة جماعة؛ كما إذا فرض أن المستحب الشرعي هو اجتماع المسلمين في مكان واحد لفوائد شتى تترتب على اجتماعهم، فإذا كانت الصلاة جماعة ملازمة لهذا العنوان اتصفت بالاستحباب الفعلي المولوي مجازا، كما في «منتهى الدراية، ج، 3 ص 134».

(4) يعني: في مورد كان ملاك الأمر الاستحبابي ملازمة العبادة لعنوان مستحب، أو اتحاد العبادة معه.

ص: 427

و لا يخفى: أنه لا يكاد يأتي (1) القسم الأول هاهنا (2)، فإن (3) انطباق عنوان و حاصل الجواب عن اجتماع الوجوب و الاستحباب: يرجع إلى وجوه ثلاثة:

=============

الأول: حمل الأمر الاستحبابي على الإرشادي الذي هو أمر حقيقة، من غير فرق فيه بين القول بجواز الاجتماع و القول بامتناعه.

الثاني: حمله على المولوي الاقتضائي، و هو أمر أيضا حقيقة؛ لكنه في مرحلة الاقتضاء لا الفعلية، و هو يكون فيما إذا كان ملاك الأمر اتحاد العبادة مع عنوان مستحب كالكون في مسجد.

الثالث: حمله على المولوي الفعلي؛ لكن تعلقه بالعبادة يكون بالعرض و المجاز، لكون متعلق الأمر حقيقة العنوان الملازم للصلاة جماعة، كاجتماع المسلمين في مكان واحد؛ لكن هذا الوجه مبني على جواز الاجتماع لتعلق كل من الأمر الوجوبي و الندبي بعنوان يخصه.

قوله: «على القول بالجواز» قيد لقوله: «متحد» ضرورة: أنه على الامتناع يستحيل اجتماع الوجوب و الاستحباب الفعليين لتضادهما راجع «منتهى الدراية، ج، 3 ص 135».

(1) الصواب حذف جملة «ما ذكر» عن المتن، أي: «لا يكاد يأتي ما ذكر في القسم الأول هاهنا».

و حاصل ما أفاده: أن ما ذكر في القسم الأول من العبادات المكروهة؛ من كون الترك فيها متحدا أو ملازما لعنوان ذي مصلحة لا يجري في اجتماع الوجوب و الاستحباب؛ كالصلاة في المسجد أو جماعة.

وجه عدم الجريان: هو الفرق بين المقامين، حيث إن العنوان في القسم الأول من العبادات المكروهة كصوم يوم عاشوراء ينطبق على الترك أو يلازمه، فيصير كل من الفعل و الترك مستحبا. و في المقام ينطبق العنوان الراجح على نفس الفعل، فموضوع الوجوب و الاستحباب واحد، و لا بد من التأكد، و صيرورة الوجوب أكيدا ناشئا عن مصلحة أكيدة، و إلاّ لزم اجتماع الضدين، فلا تتصف الصلاة في المسجد مثلا بالاستحباب إلاّ على القول بالجواز؛ إذ بناء عليه تكون الصلاة بعنوان الكون في المسجد الذي ينطبق عليها مستحبة شرعا، و بعنوان الصلاتية واجبة، فيتعدد موضوع الوجوب و الاستحباب، فيمتنع التأكد؛ لعدم وحدة موضوع المصلحة الوجوبية و الاستحبابية، لأن التأكد فرع الاتحاد، فإذا انتفى الاتحاد. هو الأصل. ينتفي التأكد و هو الفرع.

(2) يعني: في اجتماع الوجوب و الاستحباب كالصلاة في المسجد مثلا.

(3) تقريب: لما عرفت من عدم جريان ما ذكر في القسم الأول في المقام.

ص: 428

راجح على الفعل الواجب الذي لا بدل له إنما يؤكد ايجابه، لا أنه يوجب استحبابه أصلا و لو بالعرض و المجاز (1) إلاّ على القول بالجواز، و كذا فيما إذا لازم مثل هذا العنوان فإنه لو لم يؤكد الإيجاب لما يصحح الاستحباب إلاّ اقتضائيا بالعرض و المجاز فتفطن.

=============

(1) و ذلك لاستحالة اجتماع الضدين في موضوع واحد حقيقي و لو بعنوانين، فلا يكون الواجب مستحبا و لو بالعرض و المجاز؛ لأن العرض و المجاز إنما يتصور فيما كان هناك شيئان متلازمان أحدهما واجب و الآخر مستحب، فتكون نسبة فيما كان هناك شيئان متلازمان أحدهما واجب و الآخر مستحب، فتكون نسبة الاستحباب إلى الواجب مجازا من باب نسبة صفة أحد المتلازمين إلى الآخر و في المقام ليس إلاّ شيء واحد، و من البديهي: امتناع اجتماع الضدين في موضوع واحد و لو بعنوانين «إلاّ على القول بالجواز»؛ بأن يكون تعدد الوجه كافيا في اجتماع الحكمين المتضادين، فعلى هذا القول:

يمتنع القول بتأكيد الوجوب؛ إذ للوجوب موضوع و للاستحباب موضوع آخر، و قد عرفت أن التأكيد فرع للاتحاد.

«و كذا» لا يجري جواب القسم الأول «فيما إذا لازم» الواجب «مثل هذا العنوان» الراجح، و لم يكن متحدا معه، «فإنه» أي: ذلك الملازم «لو لم يؤكد الايجاب» لأجل تعدد موضوع المصلحتين، حيث إن مصلحة الإيجاب تقوم بنفس العبادة، و مصلحة الاستحباب تقوم بالعنوان الملازم لها، فلا يصحح الاستحباب الفعلي للعبادة أصلا؛ لما مر من عدم سراية حكم أحد المتلازمين إلى الآخر. «إلاّ اقتضائيا بالعرض و المجاز». هذا بناء على الامتناع.

و أما بناء على الجواز: فيكون الاستحباب فعليا بالعرض و المجاز؛ و ذلك لجواز طلب أحد المتلازمين استحبابا مع طلب الآخر إيجابا.

و كيف كان؛ فإن أمر الاستحباب دائر بين أمور ثلاثة: فيما إذا كان هناك عنوانان متلازمان أحدهما واجب و الآخر مستحب.

الأول: اجتماعه مع الوجوب، و هذا غير تام حتى على القول بالاجتماع؛ إذ لكل واحد منها موضوع خاص به، فلا معنى لسراية أحدهما إلى موضوع الآخر.

الثاني: أن يكون الاستحباب مؤكدا للوجوب حتى يكون واجبا مؤكدا، و ظاهر عبارة المصنف: التردد في هذا مع إنه غير صحيح؛ لأن استحباب موضوع لا يوجب تأكيد رجحان واجب آخر.

الثالث: أن يكون أحد المتلازمين واجبا فقط و الآخر مستحبا فقط، و لا يخفى: أن

ص: 429

الاستحباب في هذا الحال لا يكون فعليا؛ لامتناع اختلاف المتلازمين في الحكم، فيكون هناك وجوب فعلي و استحباب اقتضائي، فتكون نسبة الاستحباب إلى الملازم بالعرض و المجاز لا بالحقيقة، «فتفطن» كي تعرف أنه فرق بين القول بالاجتماع. فيجوز اختلاف المتلازمين في الحكم، فيكون الاستحباب فعليا. و بين القول بالامتناع فلا يجوز اختلافهما في الحكم، فيكون الاستحباب مجازا، كما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 2، ص 394» مع تصرف منا.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1. و قد استدل المجوزون بأمور: و منها: أنه لو لم يجز اجتماع الأمر و النهي لما وقع نظيره في الشريعة المقدسة، و قد وقع نظيره فيها فيجوز الاجتماع؛ لأن حكم الأمثال و النظائر فيما يجوز و لا يجوز واحد.

و خلاصة الكلام في المقام: أن العبادات المكروهة مجمع على صحتها، و قد جمع فيها الاستحباب و الكراهة، فالجمع بينهما. مع تضاد الأحكام الخمسة. دليل على أن تعدد العنوان يكون مجديا في تعدد المعنون؛ إذا لو لم يكن مجديا لما وقع ذلك في الشريعة المقدسة كما تراه في الأمثلة المذكورة في المتن.

و قد أجاب المصنف عن هذا الاستدلال بالجواب الإجمال تارة، و التفصيلي أخرى.

فيقال في الجواب الإجمالي:

أولا: أنه بعد قيام البرهان العقلي على استحالة اجتماع حكمين في شيء واحد ذي عنوانين لا بد من التصرف و التأويل فيما ظاهره الاجتماع؛ لأن ظهور الأدلة في الاجتماع لا يقاوم البرهان العقلي على الامتناع. و بعد تأويل الظهور يسقط ظهور الأدلة في الاجتماع عن الحجية.

و ثانيا: أن المجوز قد ادعى الجواز فيما إذا كان الاجتماع بعنوانين بينهما عموم من وجه؛ كما في «صل و لا تغصب» لا بعنوان واحد؛ كما في العبادات المكروهة كقوله:

«صل و لا تصل في الحمام»، و المجوز لا يجوز الاجتماع في العبادات المكروهة، فعليه أيضا التخلص عن هذا الإشكال.

2. و أما الجواب التفصيلي فيتوقف على ذكر أقسام العبادات المكروهة فنقول: إنها على ثلاثة أقسام:

ص: 430

أحدها: ما تعلق به النهي بعنوانه و ذاته و لا بدل له كصوم يوم عاشوراء، و النوافل المبتدأة.

ثانيها: ما تعلق به النهي كذلك و يكون له البدل؛ كالنهي عن الصلاة في الحمام.

ثالثها: ما تعلق النهي به لا بذاته؛ بل بما هو مجامع معه وجودا أو ملازم له خارجا كالصلاة في مواضع التهمة، بناء على كون النهي عنها لأجل اتحادها مع الكون في مواضعها.

و حاصل الجواب عن القسم الأول: إن الكراهة في الموارد المذكورة ليست كراهة اصطلاحية ناشئة عن مفسدة في الفعل حتى يقال باجتماع الكراهة و الاستحباب، فيكون دليلا على جواز الاجتماع.

بل الكراهة بمعنى مرجوحية الفعل عن الترك من دون أن تكون فيه مفسدة و منقصة؛ بل فيه مصلحة، كما في الترك، غاية الأمر: مصلحة الترك أكثر و أرجح من مصلحة الفعل، و هذا الرجحان إنما هو لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك؛ كانطباق عنوان مخالفة بني أمية على ترك صوم يوم عاشوراء.

فحينئذ لم يجتمع فيها أمر و نهي أصلا حتى يقال بجواز الاجتماع، و تكون العبادات المكروهة برهانا على الجواز؛ و ذلك لما عرفت من: أن الكراهة بمعنى مرجوحية الفعل لا الكراهة المصطلحة.

نعم؛ كان الفعل و الترك من قبيل المستحبين المتزاحمين لوجود المصلحة فيهما، فيجري عليهما حكم التزاحم من التخيير مع تساويهما و التعيين مع أهمية أحدهما، و بما أن الترك أهم من الفعل فيقدم عليه. و أن الفعل أيضا يقع صحيحا لعدم قصور فيه أصلا من ناحية المحبوبية، و وفائه بغرض المولى.

فالمتحصل: أن المصنف قد أجاب عن القسم الأول بجوابين:

أحدهما: ما أشار إليه بقوله: «إما لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك».

و ثانيهما: ما أشار إليه بقوله: «و إما لأجل ملازمة الترك لعنوان كذلك».

و حاصل الوجهين: أن أرجحية الترك على الفعل إما لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة عليه كعنوان مخالفة بني أمية في ترك صوم يوم عاشوراء، و إما لأجل ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة؛ كملازمة ترك صوم عاشوراء لحال البكاء و الجزع على الحسين المظلوم، و المفروض: أن مصلحة البكاء يوم عاشوراء أرجح من مصلحة الصوم فيه،

ص: 431

فالنهي عن الصوم فيه يكون لملازمة تركه لعنوان ذي مصلحة، فلا يلزم اجتماع الأمر و النهي؛ لأن متعلق الأمر شيء و متعلق النهي شيء آخر.

3. نعم؛ يمكن أن يكون النهي محمولا على الإرشاد في كلا الوجهين؛ بأن يكون إرشادا إلى رجحان مصلحة الترك من مصلحة الفعل إما لانطباق عنوان ذي مصلحة على الترك كما هو مقتضى الوجه الأول، و إما لأجل ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة، فيكون إسناد النهي إلى الترك على نحو الحقيقة، فلا يندرج في مسألة اجتماع الأمر و النهي؛ و ذلك لعدم التنافي بين النهي الإرشادي و الأمر المولوي، فيكون حمل النهي على الإرشاد جوابا ثالثا عن القسم الأول.

و ما يقال: إن أرجحية الترك توجب حزازة و منقصة في الفعل، فيكون الفعل مكروها بالكراهة المصطلحة فلا يكون الفعل صحيحا، لأن الحزازة و المنقصة فيه مانعة عن صلاحية التقرب به؛ فلا يصح ما سبق من أن الفعل يقع صحيحا؛ مدفوع: بأن أرجحية الترك من الفعل لا توجب حزازة و لا منقصة فيه أصلا، فإن الفعل في المقام على ما هو عليه من المصلحة، فلذا يقع صحيحا.

4. و أما القسم الثاني: فقد أجاب عنه المصنف بما يرجع إلى وجهين:

أحدهما: ما تقدم في القسم الأول طابق النعل بالنعل؛ من كون النهي تنزيهيا متعلقا بعنوان ذي مصلحة ملازم للترك على التفصيل المتقدم.

و على كلا التقديرين: إما أن يكون النهي مولويا فتكون الكراهة بمعنى مرجوحية الفعل لا الكراهة المصطلحة، أو إرشادا إلى رجحان الترك و منقصة في الفعل، فلا ينافي الأمر المولوي، فلا يلزم إجماع أمر و نهي كما عرفت في القسم الأول فراجع.

نعم؛ يمكن أن يكون النهي هنا إرشادا إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد، و يكون أكثر ثوابا، بمعنى: أن الطبيعة المأمور بها لها مقدار من المصلحة، و تلك المصلحة تنقص و تزداد بحسب تشخصها بما له شدة الملاءمة و عدم الملاءمة، فينقص ثوابها تارة، و يزيد أخرى، و النهي إرشادا إلى الإتيان بما هو أكثر ثوابا، فيكون معنى الكراهة في العبادة ما هو أقل ثوابا، و هذا مراد من فسر الكراهة في العبادة بكونها أقل ثوابا.

غاية الأمر: ليس الأقلية بالنسبة إلى عبادة أخرى؛ بل الأقلية بالنسبة إلى فرد آخر من نفس الطبيعة.

فلا يرد حينئذ على هذا التفسير ما أورده صاحب الفصول من إشكالين، و هما لزوم

ص: 432

اتصاف العبادة التي تكون أقل ثوابا من الأخرى بالكراهة؛ كاتصاف الصوم بالكراهة لكونه أقل ثوابا من الصلاة.

و لزوم اتصاف ما لا مزية فيه و لا منقصة بالاستحباب، لأنه أكثر ثوابا مما فيه المنقصة، ثم قال في الفصول: لا يمكن الالتزام بهما.

يعني: لا يرد شيء من هذين الإشكالين على تفسير العبادة المكروهة بأقلية الثواب؛ لأن المراد بالأقلية هي الأقلية بالنسبة إلى الفرد الآخر؛ لا الأقلية بالنسبة إلى الطبيعة الأخرى؛ كأقلية ثواب الصلاة في الحمام من الصلاة في الدار، و يلزم الاختلاف في مصلحة نفس الطبيعة من جهة تشخصها بما لا يلائم نفس الطبيعة، و أكثرية ثواب الصلاة في المسجد لأجل تشخصها بما يلائم الطبيعة.

و كيف كان؛ فالنهي في هذا القسم الثاني لا يصح إلاّ للإرشاد إذا كانت الكراهة في العبادة بمعنى: أقلية الثواب حيث يكون النهي إرشادا إلى منقصة حاصلة في الطبيعة بواسطة تشخصها بغير الملائم للطبيعة؛ ككون الصلاة في الحمام مثلا.

5. أما القسم الثالث: و هو ما تعلق به النهي لا بذات العبادة؛ بل بما هو مجامع معها وجودا أو ملازم لها خارجا؛ كالصلاة في مواضع التهمة. فحاصل الجواب عنه: أنه يمكن أن يكون النهي مولويا، و يمكن أن يكون إرشاديا. و على التقديرين: لا يكون النهي دليلا على جواز الاجتماع؛ لأن النهي على الأول لا يسند إلى العبادة حقيقة؛ بل بالعرض و المجاز؛ لأن المنهي عنه هو ذاك العنوان المتحد مع العبادة. كالكون في مواضع التهمة، أو الملازم لها فيما إذا كانت الصلاة عبارة عن الأقوال و الأفعال، ففي الحقيقة لا تكون الصلاة منهيا عنها، فلا يجتمع فيها الكراهة و الوجوب، و لا الأمر و النهي حتى يقال بجواز الاجتماع.

و أما على الثاني: أعني كون النهي للإرشاد. فلا ينافي الأمر المولوي حتى يكون دليلا على الجواز.

و كيف كان؛ فيكون النهي حقيقيا إرشاديا؛ بأن يكون النهي عن الصلاة في مواضع التهمة إرشادا إلى الصلاة في غيرها؛ كالصلاة في الدار و المسجد.

6. الفرق بين الأقسام الثلاثة: أنه لا يصح حمل النهي على الإرشاد بمعنى: أقلية الثواب في القسم الأول الذي لا بدل له أصلا؛ إذ لا يتصور أقلية الثواب في مثل صوم يوم عاشوراء. نعم؛ يمكن أن يحمل النهي على الإرشاد إلى ترك صوم يوم عاشوراء؛ لانطباق عنوان راجح عليه.

ص: 433

و منها (1): أن أهل العرف يعدون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم مطيعا، هذا بخلاف القسم الثاني، حيث يجوز حمل النهي على الإرشاد بمعنى: أقلية الثواب، فيكون المنهي عنه أقل ثوابا عن بدله. و لا يصح حمل النهي على الإرشاد، بمعنى: أقلية الثواب في القسم الثالث كالقسم الأول، سواء قلنا بجواز الاجتماع أو الامتناع.

=============

أما على الجواز: فلتعدد المتعلق، فلا يرد الإشكال حتى يحتاج إلى ارتكاب التأويل بحمل النهي على الإرشاد.

و أما على الامتناع. و صورة الملازمة: فيحمل النهي عن العبادة على الإرشاد إلى نقصان المصلحة و الإتيان بالعبادة في ضمن الأفراد التي لا تتحد مع ذلك العنوان الموجب للحزازة و المنقصة.

و قد ظهر مما ذكرنا حال اجتماع الوجوب و الاستحباب في العبادة؛ كالصلاة في المسجد مثلا، حيث يكون الأمر فيها على نحو الإرشاد إلى أفضل الأفراد.

7. نظريات المصنف «قده»:

1. يقول المصنف بالامتناع لا بالجواز.

2. يقع مورد الاجتماع صحيحا على القول بجواز الاجتماع، و لا يقع صحيحا على القول بالامتناع.

3. و الأمر في موارد اجتماع الوجوب و الاستحباب إرشاد إلى أفضل الأفراد.

هذا تمام الكلام في خلاصة البحث.

الدليل الآخر على الجواز
اشارة

(1) و من أدلة القائلين بجواز اجتماع الأمر و النهي: هو عد العرف. بما هم من العقلاء. من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم مطيعا و عاصيا، أي: مطيعا من جهة و عاصيا من جهة أخرى. و حاصل الاستدلال بهذا الدليل: أن السيد إذا أمر عبده بخياطة ثوب و نهاه عن الكون في مكان مخصوص، ثم خاطه في ذلك المكان فيحكم العرف و العقلاء بأنه مطيع من جهة الأمر بالخياطة، و عاص من جهة الكون في المكان المخصوص.

و أما كونه مطيعا: فلإتيانه بالمأمور به كخياطة الثوب، و أما كونه عاصيا: فلإتيانه في المكان الذي نهاه المولى عن الكون فيه.

و هذا الحكم من العرف و العقلاء يكشف عن حكم العقل بجواز اجتماع الأمر و النهي؛ و إلاّ فلا بد من أن يكون مطيعا أو عاصيا فقط. فيكون دليلا على وجوب

ص: 434

و عاصيا من وجهين، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب و نهاه عن الكون في مكان خاص كما مثل به الحاجبي و العضدي، فلو خاطه في ذلك المكان عد مطيعا لأمر الخياطة و عاصيا للنهي عن الكون في ذلك المكان.

و فيه (1) - مضافا إلى المناقشة في المثال: بأنه ليس من باب الاجتماع، ضرورة (2):

إن الكون المنهي عنه غير متحد مع الخياطة وجودا أصلا كما لا يخفى - المنع إلاّ عن صدق أحدهما: إما الإطاعة بمعنى: الامتثال فيما غلب جانب الأمر، أو العصيان فيما غلب جانب النهي؛ لما عرفت من البرهان (3) على الامتناع.

=============

الخياطة و حرمتها، فيجتمع فيها الأمر و النهي؛ و إلاّ لما صدق عليها إلاّ إطاعة فقط، أو عصيان كذلك، و مثل بهذا صاحب المعالم «قده» من الخاصة، و الحاجبي و العضدي من العامة.

الجواب عنه

(1)

قد أجاب المصنف عن الدليل المزبور بوجهين:

الوجه الأول: عدم كون مثال الخياطة مطابقا للممثل؛ إذ يعتبر في مسألة اجتماع الأمر و النهي أن يكون العنوانان اللذان تعلق بهما الأمر و النهي متصادقين على المجمع؛ بحيث يكون مصداقا لهما، و هذا المثال ليس كذلك، ضرورة: أن المنهي عنه. و هو الكون. من مقولة الأين، و المأمور به. و هو الخياطة. من مقولة الفعل، لأنها بمعناها المصدري؛ «إدخال الخيط في الثوب و إخراجه عنه بواسطة الإبرة بكيفية خاصة»، و تباين المقولتين و عدم اتحادهما من الأمور الضرورية كما في علم الميزان.

و كذا الحال: إذا أريد بالخياطة معنى اسم المصدر، و هو الصفة الخاصة الحاصلة للثوب، القائمة قيام العرض بالموضوع، فلا تتحد مع الكون في المكان؛ كي يكون اجتماع الأمر و النهي فيه برهانا على الجواز.

(2) تعليل الخروج مثال الخياطة عن مسألة الاجتماع، هذا تمام الكلام في الوجه الأول. و أما الوجه الثاني - و الذي أشار إليه بقوله: «المنع...» إلخ.: فحاصله -: بعد الغض عن الوجه الأول الراجع إلى المناقشة في المثال. عدم تسليم صدق الإطاعة و العصيان معا؛ بل المسلم صدق أحدهما: إما الإطاعة بناء على ترجيح جانب الأمر، و إما العصيان بناء على ترجيح جانب النهي؛ لأنه مقتضى التضاد بين الأمر و النهي، و عدم تعدد الجهة موجب لتعدد متعلق الأمر و النهي حتى يدفع لزوم اجتماع الضدين.

(3) أي: البرهان على الامتناع هو التضاد بين الأمر و النهي.

ص: 435

نعم (1)؛ لا بأس بصدق الإطاعة بمعنى حصول الفرض و العصيان في التوصليات.

و أما في العبادات: فلا يكاد يحصل الفرض منها إلاّ فيما صدر من المكلف فعلا غير محرم و غير مبغوض عليه، كما تقدم.

بقى الكلام في حال التفصيل من بعض الأعلام (2)، و القول بالجواز عقلا و الامتناع عرفا.

=============

(1) هذا استدراك على المنع عن صدق الإطاعة و المعصية معا، و أنه لا بد من صدق أحدهما فقط.

و حاصل الاستدراك - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 14».: أنه لا بأس بصدقهما معا في التوصليات؛ لكن معنى الإطاعة حينئذ هو حصول الغرض الداعي إلى الأمر، حيث إنه يسقط بوجود المأمور به في الخارج و لو بغير داعي القربة؛ لإتيان المأمور به بداعي أمره.

و على هذا: فلا يحصل الغرض من العبادات إلاّ بصدور المأمور به من المكلف على الوجه غير المحرم حتى يصلح للعبادية و المقربية، فلا يصدق الإطاعة و المعصية معا في العبادات.

و كيف كان؛ فلا إشكال في صدق الإطاعة إذا كانت بمعنى حصول الغرض و العصيان في التوصليات؛ و ذلك لما عرفت سابقا: من حصول الغرض منها و سقوط أمرها و لو بفعل الغير أو المحرم؛ كغسل الثوب المتنجس بالماء المغصوب، فالخياطة توصلية يحصل الغرض منها بما هو المحرم.

هذا بخلاف العبادات، فلا يحصل الغرض منها الداعي إلى الأمر إلاّ بصدور المأمور به في الخارج من المكلف على وجه غير محرم؛ بل على الوجه القربي؛ لا على وجه يكون مبغوضا عليه كما تقدم تفصيل ذلك في الأمر العاشر، حيث قال المصنف هناك:

إن الصلاة في الدار المغصوبة مع العلم بالغصبية أو مع العلم بحكمها باطلة؛ لكونها.

و الحال هذه. لا تصلح للعبادية و المقربية.

التفصيل بالجواز عقلا و الامتناع عرفا

(2) كسلطان العلماء، و المحقق الأردبيلي، و سيد الرياض، و السيد الطباطبائي «قدس الله أسرارهم»، على ما قيل في «منتهى الدراية، ج 3، ص 140».

و حاصل الوجه في هذا التفصيل: أن الاجتماع في نظر العقل جائز؛ لأن تعدد العنوان موجب لتعدد المعنون في نظره الدقي، فيكون رافعا للتضاد بين الأمر و النهي، فلا يلزم اجتماع الضدين في شيء واحد.

ص: 436

و فيه (1): إنه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع إلاّ طريق العقل، فلا معنى لهذا التفصيل إلاّ ما أشرنا (2) إليه من النظر المسامحي الغير المبتنى على التدقيق و التحقيق، و أنت خبير (3) بعدم العبرة به، بعد الاطلاع على خلافه بالنظر الدقيق، و قد هذا بخلاف نظر العرف، حيث لا يكون تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون، فيلزم اجتماع الضدين مثلا: الصلاة في الدار المغصوبة ليست بشيء واحد في نظر العقل؛ بل شيئان لأن الصلاة في نظره شيء و الغصب شيء آخر. و أما في نظر العرف فهما شيء واحد، فيلزم اجتماع الضدين و هو محال.

=============

جواب المصنف عن التفصيل

(1) و حاصل ما أفاده المصنف في الجواب: يتوقف على مقدمة و هي: أنه قد أشار المصنف في الأمر الثاني من الأمور التي ذكرها قبل الخوض في المقصود: أن الجهة المبحوث عنها فيها التي بها تمتاز المسائل هي: إن تعدد الجهة و العنوان في الواحد هل يوجب تعدد المعنون أم لا؟ قال: لا يوجب تعدد المعنون. و كذلك أشار في الأمر الرابع:

أن مسألة الاجتماع عقلية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن هذه المسألة عقلية، و لا ربط لها بعالم الألفاظ و مداليلها؛ إذ الجواز و الامتناع من أحكام العقل، لا العرف؛ إذ الحاكم بارتفاع غائلة اجتماع الضدين. لتعدد الجهة و عدم ارتفاعها. هو العقل؛ فلا معنى لنسبة ما هو حكم العقل إلى العرف، فإذا جوز العقل اجتماع الأمر و النهي: فلا وجه لحكم العرف بامتناعه، و العرف إنما يرجع إليه في تعيين المفاهيم و مداليل الألفاظ، و ليست مسألة الاجتماع منها حتى يرجع فيها إلى العرف، و على هذا فلا معنى للتفصيل بين العرف و العقل بأن يقال:

إن الأول يحكم بالامتناع، و الثاني بعدم الامتناع.

(2) يعني: في الأمر الرابع، حيث قال فيه: «و ذهاب البعض إلى الجواز عقلا و الامتناع عرفا ليس بمعنى دلالة اللفظ؛ بل بدعوى أن الواحد بالنظر الدقيق العقلي اثنان، و أنه بالنظر المسامحي العرفي واحد ذو وجهين...» إلخ.

(3) غرضه: ردّ التوجيه المزبور بأنه مبني على حجية نظر العرف في تطبيق المفاهيم على مصاديقها، حيث إن المجمع في نظرهم المسامحي شيء واحد، مع كونه بالدقة اثنين، و من المقرر في محله: عدم حجية المسامحات العرفية في مقام التطبيق، نعم؛ هي حجة في تشخص المفاهيم. و الضمير في «به» و «خلافه» عائد إلى النظر المسامحي.

ص: 437

عرفت فيما تقدم (1): إن النزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الأمر و النهي؛ بل في الأعم، فلا مجال لأن يتوهم أن العرف هو المحكم في تعيين المداليل، و لعله كان بين مدلوليهما حسب تعيينه تناف لا يجتمعان في واحد و لو بعنوانين؛ و إن كان العقل (2) يرى جواز اجتماع الوجوب و الحرمة في واحد بوجهين، فتدبر.

=============

(1) يعني: تقدم في الأمر الرابع من قوله: «و قد عرفت» توجيه التفصيل المزبور بوجه آخر و هو: أن عدم الجواز عرفا يمكن أن يكون لأجل كون مدلول صيغتي الأمر و النهي عرفا مما يمتنع الجمع بينهما؛ لتنافيهما، فلا بد من القول بالامتناع عرفا. و قد أجاب عنه المصنف في الأمر الرابع: بأن النزاع في الجواز و عدمه لا يختص بما إذا كان الأمر و النهي مدلولين للصيغة؛ بل أعم من كون الدال عليهما الصيغة أو الإجماع مثلا، و من المعلوم:

أنه لا بد من ورود الأقوال نفيا و إثباتا على موضوع البحث بما له من السعة و الضيق.

و عليه: فلا محيص عن كون التفصيل بين الجواز عقلا و الامتناع عرفا واردا على مطلق الأمر و النهي، سواء كانا مدلولين للصيغة أم غيرها؛ بأن يقال بالامتناع عرفا في كل أمر و نهي، كما هو كذلك على الجواز عقلا، لا في خصوص ما إذا كان مدلولين للصيغة.

راجع «منتهى الدراية، ج، 3 ص 142».

(2) أي: أن التنافي المانع عن الاجتماع لعله عرفي؛ لكن العقل يجوّز اجتماع الوجوب و الحرمة في واحد بوجهين يتعلق الوجوب بأحدهما و الحرمة بالآخر. قوله:

«فتدبر» تدقيقي فقط.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - من أدلة القائلين بجواز اجتماع الأمر و النهي: هو عد العرف من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم مطيعا و عاصيا.

و خلاصة الاستدلال: أن السيد إذا أمر عبده بخياطة ثوب و نهاه عن الكون في مكان مخصوص، ثم خاطه في ذلك المكان، فيحكم العرف بأنه مطيع من جهة الأمر بالخياطة، و عاص من جهة الكون في المكان المخصوص، فيكون دليلا على وجوب الخياطة و حرمتها، فيجتمع فيها الأمر و النهي.

و قد أجاب المصنف عن ذلك بوجهين:

الوجه الأول: هو عدم كون مثال الخياطة مطابقا للممثل؛ لأن المنهي عنه - و هو الكون - من مقولة الأين و المأمور به - و هو الخياطة - من مقولة الفعل، فلا تتحد الخياطة

ص: 438

مع الكون في المكان المخصوص حتى يقال باجتماع الأمر و النهي في شيء واحد.

أما الوجه الثاني: فحاصله: عدم تسليم صدق الإطاعة و العصيان معا؛ بل المسلم صدق أحدهما إما الإطاعة - بناء على ترجيح جانب الأمر - و إما العصيان - بناء على ترجيح جانب النهي -.

نعم؛ لا بأس بصدقهما في التوصليات؛ لكن معنى الإطاعة حينئذ: هو حصول الغرض الداعي إلى الأمر لإتيان المأمور به بداعي أمره، فلا إشكال في صدق الإطاعة إذا كانت بمعنى حصول الغرض منها، و الخياطة توصلية يحصل الغرض منها بما هو المحرم.

2 - التفصيل بالجواز عقلا و الامتناع عرفا: بتقريب: أن الاجتماع في نظر العقل جائز؛ لأن تعدد العنوان موجب لتعدد المعنون في نظره الدقي، فلا يلزم اجتماع الضدين في شيء واحد، هذا بخلاف نظر العرف حيث لا يكون تعدد العنون موجبا لتعدد المعنون، فيلزم اجتماع الضدين و هو محال.

و خلاصة ما أجاب المصنف عن هذا التفصيل: أن مسألة اجتماع الأمر و النهي عقلية لا علاقة لها بعالم الألفاظ و مداليلها؛ لأن الحاكم بالجواز أو الامتناع هو العقل لا العرف، و العرف إنما يرجع إليه في تعيين المفاهيم و مداليل الألفاظ، فلا يرجع في مسألة الاجتماع إلى العرف، فلا معنى للتفصيل المزبور أصلا.

3 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - قد عرفت أن المصنف يقول بامتناع اجتماع الأمر و النهي.

2 - عدم صحة الاستدلال بمثال الخياطة على جواز الاجتماع.

3 - عدم صحة التفصيل بين حكم العقل و العرف؛ بل لا حكم إلاّ للعقل كما عرفت.

ص: 439

ص: 440

فهرس الجزء الثاني

بيان ما هو محل الكلام في مقدمة الواجب 5

مسألة مقدمة الواجب مسألة أصولية عقلية 7

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 8

تقسيم المقدمة إلى الداخلية و الخارجية 9

الإشكال في كون الأجزاء مقدمة داخلية 10

الفرق بين اللابشرط الأصولي و اللابشرط الفلسفي 12

الفرق بين الجهة التعليلية و الجهة التعبدية 14

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 18

الفرق بين المقدمة العقلية و الشرعية و العادية 19

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 22

الفرق بين المقدمة الوجوب و مقدمة الوجود و مقدمة الصحة 23

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 24

أقسام شرط الوضع 26

الفرق بين الشرط الاصطلاحي و غيره 28

الجواب عن الإشكال في الشرط المتقدم و المتأخر 29

أقسام قبح الأشياء و حسنها 32

دخول شرائط المأمور به بجميع أقسامها في محل النزاع 35

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 36

عدم اصطلاح جديد في لفظ المطلق و الشروط 39

رجوع القيد إلى الواجب دون الوجوب عند الشيخ «قدس سره» 41

استدلال الشيخ على رجوع القيد إلى الواجب 43

ص: 441

إشكال المصنف على استدلال الشيخ 45

الإشكال على رجوع القيد إلى الهيئة 47

لزوم رجوع القيد إلى المادة لبا 51

توهم خروج المقدمات الوجودية عن محل النزاع 54

إطلاق الواجب على الواجب المشروط 60

بيان ما هو معنى صيغة الأمر 62

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 63

في تقسيم الواجب إلى المعلق و المنجّز 67

الفرق بين الواجب المشروط الشيخي و الواجب المعلق عند صاحب الفصول 68

إشكال المصنف على صاحب الفصول 71

جواب المصنف عن الإشكال على الواجب المعلق 73

الفرق بين الإرادة التشريعية و الإرادة التكوينية 75

الفرق بين الواجب المشروط و الواجب المعلق 80

دفع إشكال وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها 83

الإشكال على البرهان الإني 87

في دوران أمر القيد بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة 89

الدليل على ترجيح إطلاق الهيئة على إطلاق المادة 91

تقديم ما هو مستند إلى الوضع على ما هو مستند إلى مقدمات الحكمة 94

عدم جريان مقدمات الحكمة مع وجود ما يصلح للقرينية 97

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 98

في تقسيم الجواب إلى النفسي و الغيري 106

دفع إشكال اندراج حل الواجبات النفسية في الواجب الغيري 109

إشكال الشيخ على التمسك بإطلاق الهيئة 111

في ما هو مقتضى الأصل العملي 117

ظاهر المصنف هو عدم ترتيب الثواب و العقاب على المقدمات 120

الإشكال في ترتّب الثواب على الطهارات الثلاث مع أنّها من المقدمات 123

ص: 442

جواب المصنف عن شكال ترتب الثواب على الطهارات 124

انحلال الإشكال الوارد على الطهارات الثلاث إلى شكلين 127

في اعتبار قصد التوصل في الطهارات الثلاث و عدم اعتباره 132

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 135

تبيعة وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق و الاشتراط 140

اعتبار قصد التوصل 144

امتناع اعتبار قصد التوصل في المقدمة 146

الاحتمالات في دخول أرض الغير من دون إذن صاحبها 148

الإشكال بقياس المقام بالمقدمة المحرمة 150

الإشكال في اعتبار قصد التوصل في وجوب المقدمة 153

أسباب سقوط التكليف 159

استدلال صاحب الفصول على وجوب المقدمة الموصلة 161

جواب المصنف عن استدلال صاحب الفصول 163

خلط صاحب الفصول بين الجهة التعليلية و التقييدية 169

ثمرة القول بالمقدمة الموصلة 173

الفرق بين نقيضي الترك المطلق و الترك المقيد بالإيصال 177

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 179

في تقسيم الواجب إلى الأصلي و التبعي 186

اتصاف الواجب الغيري بالأصالة و التبعية دون الواجب النفسي 189

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 193

ثمرة المسألة 194

الإشكال على جواز أخذ الأجرة على العبادة 199

جواب المصنف عن الإشكال المذكور 200

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 204

في تأسيس الأصل في المسألة 206

التفصيل بين السبب و غيره 216

ص: 443

في مقدمة المستحب و الحرام و المكروه 220

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 224

في مسألة الضد 229

إيراد المصنف على توهم مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الضد الآخر 231

و ما قيل في التقصي عن الدور 233

دفع الإشكال عن استدلال المشهور على أن النهي عن الضد مقدمة الواجب 240

التفصيل بين الضد الموجود و الضد المعدوم 242

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 246

القول بدلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضد العام بالتضمن 251

الجواب عن الاقتضاء التضمني 252

في ثمرة مسألة الضد 245

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 255

مبحث الترتب 256

الفرق بين الأمر بالضدين عرضا و ترتّبا 261

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 270

في أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه 273

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 278

الأوامر تتعلق بالطبائع أو الأفراد 281

جواب المصنف عن توهم الفصول 285

التنافي بين تعلق الأوامر بالطبائع أو الأفراد و بين كون المصادر موضوعة للطبيعة 278

مبحث نسخ الوجوب 291

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 294

في الوجوب التخييري 295

بيان عمدة الأقوال في الوجوب التخييري 296

تزييف الأقوال المبنية على تعدد الملاك 300

الكلام في التخيير بين الأقل و الأكثر 303

ص: 444

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 307

في الوجوب الكفائي 311

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 313

في الواجب الموقت 315

دفع الإشكال عن الواجب الموسع 316

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 320

الأمر بالأمر بشيء أمر به 323

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 324

الأمر بعد الأمر 325

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 327

النواهي 331

الفرق بين الترك و الكفّ 332

عدم دلالة النهي على التكرار 333

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 336

في اجتماع الأمر و النهي 339

المراد بالواحد في العنوان 340

الفرق بين مسألة الاجتماع و مسألة النهي في العبادة 342

حكم المصنف بفساد فرق صاحب الفصول بين المسألتين 345

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 348

كون مسألة الاجتماع من المسائل الأصولية 350

في كون المسألة عقلية لا لفظية 352

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 355

في عموم ملاك النزاع لجميع أقسام الإيجاب و التحريم 356

في اعتبار المندوحة في محل النزاع 359

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 362

في توهم ابتناء النزاع على تعلق الأحكام بالطبائع 362

ص: 445

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 367

في اعتبار مناط كل من الأمر و النهي في المجمع 368

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 374

في بيان ما يحرز به المناطان 375

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 378

في ثمرة بحث الاجتماع 379

في تصحيح المجمع بالأمر بالطبيعة 383

في الفرق بين الاجتماع و التعارض 385

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 388

في تضاد الأحكام الخمسة 390

في تعلق الأحكام بالمعنونات لا بالعناوين و الأسماء 392

تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون 395

تقرير دليل الامتناع 400

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 405

في أدلة جواز الاجتماع 407

في أقسام العبادات المكروهة و أحكامها 410

مراد من يقول إن الكراهة بمعنى أقل ثوابا 420

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 430

الدليل الآخر على الجواز 434

التفصيل بالجواز عقلا و الامتناع عرفا 436

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» 438

الفهرس 441

ص: 446

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.