دروس في الکفایة المجلد 1

هویة الکتاب

دروس في الکفایة

شارح: محمدي بامیاني، غلامعلي

كاتب: آخوند خراساني، محمدکاظم بن حسین

تعداد جلد: 7

لسان: العربية

الناشر: دار المصطفی (ص) لاحياء التراث - بیروت لبنان

سنة النشر: 1430 هجری قمری|2009 میلادی

رمز الكونغرس: 1430 /آ3 ک7028 159/8 BP

موضوع: اصول

ص: 1

اشارة

دروس في الکفایة

ج1

ص: 2

دروس في الکفایة

تألیف: الأستاذ العلامة الشیخ المحمدي البامیاني

الجزء الأوّل

منشورات

دارالمصطفی (صلی الله علیه و آله) لاحياء التراث

ص: 3

حقوق الطبع محفوظة

دروس في الکفایة

تألیف: الأستاذ العلامة الشیخ المحمدي البامیاني

الجزء الأوّل

منشورات

دارالمصطفی (صلی الله علیه و آله) لاحياء التراث

ص: 4

الصورة

ص: 5

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه على نعمائه و الصلاة و السلام على خاتم أنبيائه محمّد و آله و الخيرة من أصحابه.

أمّا بعد: فلمّا لقي كتابنا (دروس في الرسائل) رواجا و شهرة في الحوزات العلميّة عند أهل العلم و الفضل عرض علينا القيام بتأليف شرح للكفاية بأسلوب كتابنا (دروس في الرسائل).

و إجابة لذلك العرض قمنا بتأليف شرح للكفاية تحت عنوان (دروس في الكفاية) متجنّبا فيه عن التطويل الممل و الاختصار المخلّ .

نسأل اللّه أن يجعله نافعا للمحصلين، و ذخرا لنا في يوم لا ينفع مال و لا بنون، و أستعين به، كي يوفقني لخدمة الدين فإنه خير مسئول و خير معين.

محمديّ البامياني

دمشق. السّيدة زينب. الحوزة العلمية الزينبيّة في 12 ذي القعدة. سنة 1419 هجرية.

ص: 6

اما المقدمة

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على محمد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

و بعد فقد رتبته على مقدمة، و مقاصد و خاتمة أما المقدمة ففي أمور (1):

الأول (2)

=============

الأمر الأوّل: موضوع علم الأصول

اشارة

(1) أي: هي 1:13 - موضوع العلم. 2 - الوضع. 3 - استعمال اللفظ. 4 - إطلاق اللفظ و إرادة نوعه. 5 - الدلالة تتبع الإرادة أم لا؟ 6 - للمركبات وضع مستقل أم لا؟ 7 - علامات الحقيقة و المجاز 8 - تعارض الأحوال. 9 - ثبوت الحقيقة الشرعية و عدمه. 10 - الصحيح و الأعم. 11 - الاشتراك. 12 - استعمال اللفظ في أكثر من معنى. 13 - المشتق.

ثم إن الأمور المذكورة خارجة عن مسائل علم الأصول؛ لعدم انطباق ضابط المسألة الأصولية عليها.

(2) الغرض الأساسي في هذا الأمر هو بيان مطلبين:

المطلب الأول: بيان ما هو منزلة موضوع العلم من موضوعات مسائله حيث قال «قدس سره»: «إن موضوع كل علم هو نفس موضوعات المسائل».

المطلب الثاني: هو بيان المسائل حيث قال: «و المسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتتة..» إلخ.

نعم؛ تظهر من كلام المصنف في الأمر الأول عدّة أمور غير ما ذكرناه من المطلبين و هي:

1 - ما هو موضوع العلم على نحو العام ؟

2 - ما هو الميزان و المناط في العرض الذاتي ؟

3 - ما هو الميزان في تمايز العلوم ؟

4 - ما هو موضوع علم الأصول بشكل خاص ؟

ص: 7

إنّ موضوع كلّ علم (1)، و هو الذي يبحث فيه عن عوارضه (2) الذاتيّة.

- أي (3): بلا واسطة في العروض -

=============

رأي المصنف في العرض الذاتي

(1) قد بحث المصنف «رحمه اللّه» عن موضوع العلم بشكل عام، و على نحو الكبرى الكلية؛ تمهيدا لما اختاره في موضوع علم الأصول بالخصوص.

(2) عوارض جمع عارض، كما أنّ أعراض جمع عرض، و الفرق بينهما: أنّ العرض يقال على مبدأ الاشتقاق؛ أي: البياض مثلا، و العارض كالعرضي يقال على المشق أي:

الأبيض مثلا. و السّبب في تعبيرهم بالعوارض دون الأعراض: أنّ المراد بها هنا هو المحمولات المنتسبة إلى الموضوعات فكانت عوارض، لأنّ المحمول دائما أو غالبا - يكون من المشتقات.

ثم المراد بالعوارض: ما هو المصطلح عند المنطقي؛ لا ما هو المصطلح عند الفلسفي، لأنّ العرض عند الفلسفي عبارة عن ماهية شأن وجودها في الخارج أن يكون في الموضوع و يقابله الجوهر.

و العرض عند المنطقي ما يكون خارجا عن ذات الشيء و متحدا معه في الخارج، و يقابله الذاتي، و بين الاصطلاحين بعد المشرقين.

ثم أنّ المصنف قد أتى ببيان عوارض العلم على نحو الجملة الاعتراضية ثم فسّر العرض الذاتي بقوله: «أي: بلا واسطة في العروض» ليكون إشارة إلى الخطأ الواقع في تفسير العرض الذاتي على احتمال.

(3) في هذا التفسير احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أنّ تفسير الذاتي بقوله: «بلا واسطة في العروض» إنّما هو من باب التنوّع بالعبارة، فيكون العرض الذاتي عند المصنف ما هو العرض الذاتي عند المشهور بمعنى: أنّه جرت عادة المصنفين على ذكر أمور منها: موضوع العلم، و المصنف قد ذكر موضوع العلم تبعا لهم من دون ردّ على من تقدم عنه. إلاّ إنّ هذا الاحتمال غير مراد للمصنف قطعا، لأنّ العدول عن تفسير القوم لا بدّ أن يكون لغرض، و الغرض في المقام هو: عدم صحّة تفسيرهم، و خطأهم في تفسير العرض الذاتي.

الاحتمال الثاني: أن يكون التفسير لإعطاء القاعدة الكلية؛ من دون أن يكون ناظرا إلى كلام القدماء ردّا أو إمضاء. بمعنى: أنّ الميزان في الذاتيّة عدم الوساطة في العروض سواء لم يكن له واسطة أصلا، أو تكون الواسطة في الثبوت.

و العوارض الغربية: ما تكون لها واسطة في العروض مثل: الحركة للجالس في السفينة

ص: 8

فإنّها غير الذاتية، فلا تدخل في البحث.

و هذا الاحتمال لا يبعد أن يكون مرادا للمصنف؛ حيث إنّ الغرض من عدوله عن كلام القوم: هو إعطاء القاعدة الكلية فلا يكون التفسير لا لغرض.

الاحتمال الثالث: أن يكون التفسير المذكور ردّا على القدماء، و تنبيها على الخطأ الواقع منهم في تفسير العرض الذاتي، و هذا الاحتمال أقرب من الاحتمال الثاني فيكون مرادا له. فلا بد أن نبين ما هو المناط و الميزان في العرض الذاتي على مسلك القدماء؛ كي يتضح الخطأ الواقع منهم في تفسير العرض الذاتي.

فنقول: إنّ المراد بالعرض و العارض هو مقابل الذاتي الذي يطلق في باب الكليات الخمس؛ لا الذاتي الذي يطلق في باب البرهان. ثم الذاتي في باب الكليات الخمس هو ما لم يكن خارجا عن الشيء و هو على ثلاثة أقسام - 1 - الجنس. 2 - النوع. 3 - الفصل؛ كما في علم الميزان. فالمراد من العارض و العرض، هو: مقابل هذا المعنى من الذاتي؛ لا خصوص المقولات التسع العرضية.

و العارض بهذا المعنى على أقسام: إمّا أن يكون عارضا لنفس الشيء بلا واسطة أصلا لا ثبوتا و لا عروضا؛ كالتعجب اللاحق للإنسان، إلاّ إنّ هذا المثال لا يخلو عن إشكال، لأنّ التعجب عارض للإنسان بواسطة إدراكه أمرا غريبا، فلا يكون ما يعرض الإنسان بلا واسطة أصلا بل هناك واسطة في الثبوت.

و إمّا أن يكون عارضا له مع الواسطة؛ و هي إمّا داخلية أو خارجية، و الداخلية على قسمين: إمّا مساوية للشيء المعروض كالتكلّم العارض للإنسان لكونه ناطقا، و إمّا أعم منه كالحركة الإرادية له لكونه حيوانا.

و الخارجية و هي على أربعة أقسام:

1 - خارجية مساوية للشيء المعروض؛ كعروض الضحك للإنسان بواسطة التعجّب.

2 - خارجيّة أعم من المعروض؛ كعروض التحيّز للأبيض بواسطة الجسم الأعم منه.

3 - خارجية أخصّ من المعروض؛ كعروض الضحك للحيوان بواسطة الإنسان الأخصّ منه.

4 - خارجية مباينة للمعروض؛ كعروض الحرارة للماء بواسطة النار، و الحركة للجالس بواسطة السفينة، فهذه أقسام سبعة.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم: أنّ القدماء اتفقوا على كون بعض هذه الأقسام ذاتيا و هي

ص: 9

الثلاثة من السبعة؛ أي: ما يكون عارضا بلا واسطة أصلا، أو بواسطة جزء مساو، أو بواسطة أمر خارج مساو، و اتفقوا أيضا على كون بعضها الآخر غريبا، و هي الثلاثة الأخيرة من الأربعة.

الفرق بين قول المصنف و غيره في العرض الذاتي

و اختلفوا فيما يكون عارضا بواسطة جزء أعم من المعروض؛ كالحركة الإرادية للإنسان لكونه حيوانا هذا على مذهب القدماء و أمّا على مذهب المصنف فجميع هذه الأقسام من العوارض الذاتيّة؛ إلاّ مثال الحركة للجالس بواسطة السفينة حيث تكون الواسطة فيه واسطة في العروض.

و لتسهيل تطبيق رأي المصنف و غيره في الأمثلة المذكورة فعليك بالجدول.

الأمثلة --- رأي المصنف في الذاتي و غيره --- رأي غيره في الذاتي و غيره

الإنسان متعجّب\ذاتي\ذاتي

الإنسان متكلم\ذاتي\ذاتي

الإنسان متحرّك بالإرادة\ذاتي\مختلف فيه

الإنسان ضاحك\ذاتي\ذاتي

الإنسان أبيض\ذاتي\غير ذاتي

الحيوان ضاحك\ذاتي\غير ذاتي

الماء حار\ذاتي\غير ذاتي

جالس السفينة متحرّك\غير ذاتي\غير ذاتي

و ممّا ذكرنا يتضح الخطأ الواقع من القدماء في تفسير العرض الذاتي، لأنّ المحمولات المبحوث عنها في العلوم يجب أن تكون من العوارض الذاتية، و هي من العوارض الغريبة حسب ما هو المناط في العوارض الذاتيّة عند القوم؛ لأنّ أغلب المحمولات تعرض لموضوعاتها بواسطة المباين أو الأخصّ أو الأعمّ ، مثلا: إنّ المحمولات المبحوث عنها في علم الفقه عارضة لأفعال المكلفين بواسطة المصالح في المأمور بها، أو المفاسد في المنهي عنها، لا شك في كونها مباينة لأفعال المكلفين، فيلزم خروج أغلب مسائل الفقه أو كلّها عن كونها مسائله، و كذا علم الأصول، و علم النحو؛ حيث يبحث في علم الأصول عن معنى مطلق الأمر مثلا؛ هل هو حقيقة في الوجوب أو الندب ؟ مع إنّ البحث عن مطلق

ص: 10

الأمر بمنزلة البحث عن عوارض الجنس، فإنّ البحث فيه يكون عن معنى الأمر الواقع في الكتاب و السّنة و هو نوع لمطلق الأمر، و يبحث في علم النحو عن الرفع و النصب مع إنّهما يعرضان الكلمة إمّا بواسطة نوعها أي: الفاعل و المفعول، فتكون الواسطة أخصّ من المعروض، أو بواسطة أمر مباين لها و هو وضع الواضع. فيلزم ما ذكرناه من الإشكال أعني: يكون البحث في العلوم عن العوارض الغريبة لا عن العوارض الذاتية، و لهذا عدل صاحب الكفاية عما قالوه دفعا للإشكال الوارد على تفسيرهم، و لا يرد الإشكال على ما ذكره المصنف إذ المناط في الذاتيّة عنده عدم الوساطة في العروض، و ليست الواسطة واسطة في العروض فيما إذا كانت مباينة للمعروض أو أعم منه أو أخصّ منه كما سبق تفصيله، و يظهر من الأستاذ الاعتمادي: أنّ الواسطة في جميع الأمثلة المذكورة واسطة في الثبوت، فتكون من العوارض الذاتية، على رأي المصنف؛ إلاّ مثال حركة جالس السفينة فالواسطة فيه واسطة في العروض. حيث قال:

«ثم العرض إمّا لا واسطة له و هو:

1 - إمّا مساو للمعروض؛ كتعجّب الإنسان.

2 - أو أعمّ منه؛ كحيوانيّة الناطق.

3 - أو أخصّ منه؛ كناطقيّة الحيوان، و إمّا له واسطة في الثبوت و هي علّة العروض و هي:

4 - إمّا جزء مساو؛ كتكلّم الإنسان بناطقيّته.

5 - أو جزء أعم؛ كحركة الإنسان بحيوانيته.

6 - أو أمر خارج مساو؛ كضحك الإنسان بتعجّبه.

7 - أو أعم؛ كتحيّز الإنسان بجسميّته.

8 - أو أخصّ ؛ كضحك الحيوان بإنسانيّته.

9 - مباين؛ كحرارة الماء بمقابلة النار.

10 - و إمّا له واسطة في العروض؛ أي: يعرضها العرض أوّلا، و ينسب إلى مجاوره ثانيا؛ كحركة الجالس بحركة السفينة». «الهداية إلى أسرار الكفاية، ج 1، ص 5».

إلى أن قال: «و الحق: أنّ ملاكه انتفاء الواسطة في العروض فما عدا الأخير من الأقسام العشرة عرض ذاتي، و لذا يبحث في الفقه عن الأحكام العارضة لفعل المكلف بواسطة مباينة أعني: المصالح و المفاسد» و كيف كان؛ فأضربنا عمّا أورده البعض على

ص: 11

هو (1) نفس موضوعات مسائله عينا (2).

و ما يتحد (3) معها خارجا، و إن كان يغايرها مفهوما، تغاير الكلّي صاحب الكفاية خوفا من التطويل الممل.

=============

فالعوارض الذاتيّة على رأي المصنف: ما ليس له الواسطة في العروض.

مسائل العلم عند المصنف

(1) أي: موضوع كل علم نفس موضوعات مسائل ذلك العلم، و هذا من المصنف اعتراض على ما في خاتمة علم الميزان من أنّه قد يكون موضوع العلم مغايرا مع موضوع المسألة.

قال المحقق التفتازاني: في خاتمة كتابه في علم الميزان. «و المسائل و هي قضايا تطلب في العلم و موضوعاتها إمّا موضوع العلم، أو نوع منه، أو عرض ذاتي له، أو مركّب».

هذا صريح في مغايرة موضوع العلم مع موضوع المسألة.

و حاصل اعتراض المصنف عليه: أنّه لا شكّ في كون محمول المسألة من العوارض الذاتيّة لموضوعها، فلو كان موضوعها مغايرا مع موضوع العلم لم يكن ذلك عن عوارضه الذاتيّة و هذا خلاف مقتضى تفسيرهم لموضوع العلم «بأنّه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية» و لا يستقيم هذا التفسير، إلاّ إن يكون موضوع العلم نفس موضوعات مسائله.

(2) أي: ذاتا و خارجا. فالكلمة عين الفاعل في قول النحاة: الفاعل مرفوع، و عين المفعول في قولهم: المفعول منصوب، و عين المضاف إليه في قولهم: المضاف إليه مجرور، و عين الفعل في قولهم: الفعل المدخول لأدوات الشرط مجزوم، و هكذا في موضوع الفقه حيث تكون أمثال الصوم و الصلاة عين أفعال المكلف خارجا.

و موضوع علم الأصول بعينه هو: الأمر و النهي خارجا، فإنّ موضوعه عند المصنف هو: الكلي الذي تقع نتيجة بحثه في طريق الاستنباط لا يقال: إنّه قد يشكل فيه بعلم الطبّ فإنّهم جعلوا موضوعه بدن الإنسان، و هم يبحثون فيه عن العوارض الذاتية للأعضاء، مع إنّ الأعضاء جزء للبدن، و الجزء غير الكل.

فإنّه يقال في دفع الإشكال: بأنّ تعبيرهم عن موضوع الطبّ بالبدن إنّما هو من باب التسامح، فإنّ موضوعه في الحقيقة هو العضو و هو جامع بين موضوعات مسائله.

(3) قوله: «و ما يتحد معها خارجا» عطف على قوله: «نفس موضوعات مسائله»، و هذا العطف إمّا عطف تفسيري أو لا يكون كذلك، فعلى الثاني: كان في الأصل أو ما يتحد معها خارجا، و الاحتمال الأوّل غير صحيح، لأنّ موضوع العلم هو: الجامع بين موضوعات مسائله فيكون أمرا واحدا، و موضوعات المسائل متعددة بتعدد المسائل، و حينئذ فلو كان موضوع العلم متحدا مع موضوعات المسائل لزم أن يكون موضوعه متعددا و هو خلاف الفرض.

ص: 12

و مصاديقه (1) و الطبيعي (2) و أفراده.

و المسائل (3) عبارة عن جملة من قضايا متشتتة (4) جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض (5)؛ الذي لأجله دوّن هذا العلم.

=============

و الاحتمال الثاني و إن كان صحيحا من حيث المعنى؛ إلاّ إنّه لا يصحّ من حيث اللفظ و العبارة، إذ الصحيح حينئذ أن يقال: أو ما يتحد معها خارجا إلاّ إن يقال بسقوط الألف من اللفظ، أو كون الواو بمعنى: أو.

(1) أي: كمغايرة مفهوم الإنسان مع مفهوم أفراده، كزيد و عمرو، و إن كان عين أفراده خارجا.

(2) أي: عطف الطبيعي على الكلي عطف تفسيريّ أو تفنّن في العبارة لا من العطف الخاصّ على العام، كما قد يتوّهم، ضرورة: أنّ اتحاد الكلّي مع المصاديق منحصر في الكلّي الطبيعي، إذ لا وجود لغيره من الكلّي المنطقي و العقلي، و الفرق بين الكلّي الطبيعي و غيره أوضح من الشمس مثلا: قولنا: «الإنسان الكلي» الإنسان كلّي طبيعي، و الكلي كلّي منطقي و المجموع كلّي عقلي. هذا تمام الكلام في المطلب الأوّل.

فالحاصل: أنّ موضوع كل علم هو نفس موضوعات مسائله عينا بمعنى: أنّه متحد مع موضوعات المسائل في الخارج، و إن كان الموضوع الكلي يغاير موضوعات المسائل مفهوما.

(3) هذا هو المطلب الثاني: بعد ما بيّن المصنف في المطلب الأوّل ما هو منزلة موضوع العلم من موضوعات مسائله - بأنّه الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله، و المتحد معها في الخارج - بدأ ببيان المطلب الثاني؛ و هو: تعريف المسائل، و ما يتعلق بها فقال: «و المسائل عبارة عن جملة من قضايا...» إلخ.

(4) أي: متفرّقة و مختلفة موضوعا و محمولا مندرجة تحت غرض واحد مثلا: قول النحاة في مسائل علم النحو: «الفاعل مرفوع و المفعول منصوب و المضاف إليه مجرور» واضح في تشتّت القضايا المذكورة و اختلافها موضوعا و محمولا.

و المستفاد من كلام المصنف في المطلب الثاني أمران:

الأوّل: أنّ حقيقة العلم هي المسائل فقط بعد ما كان موضوع العلم نفس موضوعاتها، فأسامي العلوم أسام لما هو مسائلها في الواقع، أو للقدر الجامع بينها؛ و ذلك لما تقدم من أنّ موضوع العلم هو الكلّي المنطبق على موضوعات المسائل.

الثاني: أنّ تمايز العلوم إنّما هو بالأغراض؛ لا بالموضوعات كما هو المشهور، و انتظر توضيح ذلك فيما يأتي من المصنف «قدس سره».

(5) تقييد المصنف المسائل بقوله: «جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض..» إلخ.

ص: 13

فلذا (1) قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل؛ مما كان (2) له دخل في مهمين (3)، لأجل كلّ منهما دوّن علم على حدة، فيصير من مسائل العلمين.

=============

مقدمة لما يقول به: من أنّ تمايز العلوم بالأغراض الداعية إلى التدوين؛ لا بالموضوعات.

فيكون ردّا على القول بأنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، كما أنّ قوله في المسائل بأنّها عبارة عن جملة من قضايا يكون ردّا على القول: بأنّها محمولات منتسبة إلى الموضوعات، لأنّ القول المذكور مستلزم لأن تكون أجزاء العلم أربعة، مع إنّها ثلاثة، و ذلك لأنّه لا بدّ أن تعدّ الموضوعات من المحمولات المنتسبة إليها جزءا على حدة، فيلزم أن تكون أجزاء العلوم أربعة: 1 - الموضوعات. 2 - المبادئ. 3 - المسائل. 4 - موضوعات المسائل. و لم يقل به أحد. فالحق ما ذكره المصنف من أنّ المسائل هي القضايا، كي لا يلزم ما لم يقل به أحد.

نعم؛ هناك قول: بأنّ المسائل هي النسب التامة، إلاّ إنّه يرجع إلى قول المصنف «قدس سره».

(1) تفريع على قوله: «جمعها اشتراكها...» إلخ. أي: فلأجل ما ذكرنا من أنّ القضايا جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض «قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل».

(2) أي: مما كان هذا البعض له دخل في غرضين مهمين دوّن لأجل كلّ منهما علم على حدة، و إذا كان كذلك يصبح ذلك البعض من مسائل العلمين.

وجه التفريع: أنّه لو كان تمايز العلوم بالموضوعات لما صحّ اشتراك العلمين أو العلوم في بعض المسائل من حيث الموضوع و التالي باطل، فالمقدم مثله، و الاستدلال بالقياس الاستثنائي يتوقف على ثبوت أمرين: 1 - الملازمة. 2 - بطلان التالي.

و أمّا بطلان التالي: فلا يحتاج إلى البيان، لأنّ الاشتراك متحقق بين بعض مسائل علم الأصول، و مسائل علم آخر كمسألة التجري مثلا؛ حيث يتداخل فيها علم الأصول و الفقه و الكلام كما بين في محلّه.

و أمّا الملازمة فهي ثابتة، إذ على تقدير الاشتراك لا بد أن يعد علما واحدا لا علمين أو أكثر حيث لا اثنينية، هذا بخلاف ما إذا كان تمايز العلوم بالأغراض، فإنّ الاثنينية حينئذ محفوظة، و الامتياز ثابت، فيصح التداخل لو كان التمايز بالأغراض، و لا يصح لو كان بالموضوعات.

(3) أي: في غرضين مهمين مثاله: «دلالة الأمر» على الوجوب أو الندب فهي من مسائل اللغة و الأصول. أمّا من مسائل اللغة: فالغرض من الأمر هو: العلم بوضع لسان العرب، و أمّا من مسائل الأصول فالغرض منه: الوقوع في طريق الاستنباط، فيصير هذا

ص: 14

لا يقال: على هذا (1) يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما، فيما إذا كان هناك مهمان متلازمان في الترتّب على جملة من القضايا لا يكاد انفكاكهما.

=============

البعض من مسائل علمين أي: اللغة و الأصول.

فتحصّل مما ذكرنا: أنّه يصح جعل مسألة من مسائل العلمين على أن يكون الجامع هو الغرض، دون أن يكون هو الموضوع، فهذا أقوى دليل على أنّ الحق ما ذهب اليه المصنف. و بالجملة: فالملاك في اتحاد العلم و وحدته مع تشتت العوارض و اختلاف الموضوعات و المحمولات هو وحدة الغرض، فلو كان الغرض و المهم واحدا يعدّ الجميع علما واحدا و يفرد بالتدوين. و أمّا لو كان الغرض متعددا يتكثّر العلم؛ و إن كان موضوع المسائل واحدا.

(1) أي: على كون بعض المسائل ممّا له دخل في غرضين مهمين يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما. و هو باطل لأجل عدم حصول الميز بين العلمين.

و قبل توضيح هذا الإشكال ينبغي بيان ما يرجع إليه الإشكال المذكور؛ فنقول: إنّه يرجع إلى قوله: «فلذا قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل» أي: فلأجل كون الجامع بين مسائل كلّ علم هو الغرض؛ يمكن تداخل بعض العلوم في بعض المسائل، و يقصد به عدم جواز التداخل فيما إذا كان الجامع بين مسائل العلم هو الموضوع، فيكون ردّا على القول بأنّ تمايز العلوم بالموضوعات، و ذلك لعدم حصول الامتياز بين علمين فيما إذا اشتركا في بعض المسائل من حيث الموضوع.

و أمّا توضيح ذلك فيقال: إنّ ما ذكرتم من الفرق بين القولين؛ إنّما يتم على فرض اشتراك بعض مسائل علمين في الغرض؛ بمعنى: ترتب غرض كلا العلمين على بعض مسائلهما، و لازم ذلك هو تداخل علمين في بعض مسائلهما، فيجوز على قول المصنف، و لا يجوز على قول من يقول بتمايز العلوم بالموضوعات. و لكن على فرض ترتب غرضين على جميع مسائل علمين بأن كان هناك غرضان متلازمان في الترتّب على جملة من القضايا، فلا يجوز التداخل حتى على مذهب المصنف؛ و ذلك لانتفاء التمايز بين العلمين حينئذ، فهذا الإشكال مشترك الورود، و لا يختص بقول المشهور. و يمكن تقريب ذلك بالقياس الاستثنائي بأن يقال:

لو جاز تداخل بعض العلوم في بعض المسائل ممّا كان له دخل في مهمين؛ لجاز تداخل علمين في تمام مسائلهما فيما إذا كان هناك مهمان متلازمان في الترتب على جملة من القضايا. و التالي باطل؛ فإنّ التداخل مستلزم لانتفاء التمايز، فالمقدم مثله إذ رفع التالي و بطلانه ينتج رفع المقدم و بطلانه.

ص: 15

فإنّه يقال (1): مضافا إلى بعد ذلك، بل امتناعه عادة لا يكاد يصح لذلك (2) و أمّا الملازمة فهي ثابتة، إذ على القول بتمايز العلوم بالأغراض يمكن تداخل علمين في بعض المسائل كما عرفت، فيمكن تداخلهما في تمام مسائلهما، لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز و لا يجوز واحد.

=============

الجواب عن إشكال تداخل علمين في بعض المسائل

(1) و هذا الجواب يتوقف توضيحه على مقدمة؛ و هي: أنّ النسبة بين غرضين من أغراض العلوم على أربعة أقسام: 1 - التلازم. 2 - التباين. 3 - العموم من وجه. 4 - العموم المطلق. و لا إشكال في صحّة تدوين علمين على الثاني و الثالث حتى على الرابع إذ قد يتعلق الداعي بتحصيل الغرض الأخص بخصوصه، فيصح لأجله تدوين المسائل المشتركة علما، و لكن على الأول لا يصح تدوين علمين لأجل غرضين متلازمين، بل يدوّن علم واحد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنّ قياس تداخل علمين في بعض المسائل بتداخل علمين في تمام المسائل قياس مع الفارق، و هو باطل، فإنّ ما ذكره المصنف من جواز تداخل علمين في بعض المسائل من القسم الثالث أي: ما إذا كانت النسبة بين الغرضين عموما من وجه. و ما ذكره الخصم من الإشكال من القسم الأوّل أي: التلازم. و الفرق بينهما أوضح من الشمس، و من هنا ظهر: عدم ثبوت الملازمة بين المقدم و التالي في القياس الاستثنائي السابق؛ لعدم المثليّة بين الأمرين حتى يقال بثبوت الملازمة بوحدة حكم الأمثال فيما يجوز و لا يجوز فلا ينتج.

و كيف كان؛ فلا يصح حينئذ تدوين علمين و تسميتهما باسمين، كي يلزم تداخل علمين في تمام مسائلهما، بل يدوّن علم واحد يبحث فيه تارة لكلا المهمين، و أخرى لأحدهما مثاله: إنّنا لو فرضنا اشتراك جميع مسائل النحو و الصرف في إيفاء غرضين متلازمين و هما معرفة أحوال الكلم صحّة و اعتلالا في الصرف، و معرفة أحوال الكلم إعرابا و بناء في النحو، فالجامع بين الغرضين معرفة أحوال اللغة العربية؛ فنبحث تارة لكلا الغرضين: أي: معرفة أحوال اللغة العربية، و أخرى لأحدهما أي: النحو فقط، أو الصرف فقط، هذا أوّلا.

و ثانيا: أنه بعيد جدا، بل ممتنع عادة، فحينئذ ينتفي موضوع الإشكال، إذ هو على تقدير ثبوت غرضين متلازمين و هو بعيد، بل مستحيل عادة، لأنّ الممكن العادي ما يقع في الخارج و لو مرّة، و فرض التلازم بين المهمين لم يقع أصلا.

(2) أي: لا يكاد يصح تدوين علمين لأجل مهمين متلازمين.

ص: 16

تدوين علمين و تسميتهما باسمين، بل تدوين (1) علم واحد. يبحث فيه تارة: لكلا المهمين (2) و أخرى: لأحدهما (3)، و هذا (4) بخلاف التداخل في بعض المسائل، فإن حسن تدوين علمين - كانا مشتركين في مسألة، أو أزيد - في جملة مسائلهما المختلفة، لأجل مهمين، مما (5) لا يخفى.

و قد انقدح بما (6) ذكرنا: أن تمايز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى

=============

(1) أي: لأنّ تدوين علم واحد كاف في حصول الغرضين؛ و ذلك لمكان تلازمهما.

(2) أي: كالبحث عن النحو و الصرف؛ نظرا إلى القدر الجامع بينهما و هو: معرفة أحوال اللغة العربية.

(3) أي: النحو فقط؛ بمعنى: يبحث فيه لمعرفة أحوال الكلم إعرابا و بناء لغرض حفظ اللسان عن الخطأ.

(4) قوله: «هذا» إشارة إلى ما مضى من تدوين علم واحد فيما إذا كان هناك مهمان متلازمان.

(5) قوله: «مما لا يخفى» خبر لقوله: «فإن حسن...» و من هنا أخذ المصنف «قدس سره» يجيب عما مضى بما يحكم به العقل و العقلاء، فالملاك في صحة تدوين علم واحد أو علمين هو تحسين العقلاء و تقبيحهم، فهم يحكمون بحسن تدوين علمين في مورد تداخل علمين في بعض المسائل و قبحه في مورد التداخل في تمام المسائل، بل هنا يحكمون بتدوين علم واحد.

فحاصل الكلام: أنّه لا يكاد يصح لأجل تلازم المهمين تدوين علمين، بل يدوّن علم واحد، و يسمى باسم واحد.

تمايز العلوم بالأغراض لا بالموضوعات

(6) المراد بالموصول أي: ما في قوله: «بما ذكرنا» ما ذكره في تعريف المسائل حيث قال: «جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض» و مفاده: أنّ الجامع بين المسائل اشتراكها في الدخل في الغرض؛ الموجب لتحسين العقلاء تدوين علمين أو علوم متعددة لغرضين أو أغراض متعددة، و إن كانت القضايا التي تترتب عليها الأغراض المختلفة متحدة موضوعا و محمولا، و تقبيحهم تدوين علمين مع وحدة الغرض، أو التلازم بين غرضين و إن كان موضوع المسائل مختلفا؛ إذ قد علمت: تحسينهم جعل المسائل المختلفة موضوعا و محمولا علما واحدا لدخلها في الغرض الداعي للتدوين، و إدراج المسألة الواحدة في علمين لدخلها في غرضين؛ من دون تكلّف إرجاع الموضوعات أو المحمولات إلى جامع واحد، و لازم ذلك: أنّ تمايز العلوم إنما هو بالأغراض لا بالموضوعات، و لا بالمحمولات؛ و إلاّ لزم كون كل باب، بل كل مسألة علما على حدة، لأن الملاك في تعدد العلوم

ص: 17

التدوين، لا الموضوعات و لا المحمولات، و إلاّ كان كل باب، بل كل مسألة من كل علم علما على حدة، كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمل.

فلا (1) يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجبا للتعدد، كما لا يكون وحدتهما سببا لأن يكون من الواحد.

=============

و وحدتها هو الموضوع؛ فلو كان متعددا لكان العلم متعددا. فلزم المحذور المذكور نظرا إلى تعدد موضوعات المسائل.

(1) قوله: «فلا يكون الاختلاف..» إلخ تفريع على قوله: «لا الموضوعات و لا المحمولات» أي: فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجبا لتعدد العلم، كما لا تكون وحدتهما في مسألة موجبة لأن تكون المسألة من علم واحد لإمكان دخلها في مهمين، فتكون من علمين مستقلين.

و ملخص البحث: أن فيما هو الملاك في تمايز العلوم أقوالا: قال الجمهور: أن تمايز العلوم إنّما هو بتمايز الموضوعات؛ بمعنى: أنّها تتمايز بوحدة موضوعاتها. و قال بعض: إنّها تتمايز بوحدة محمولاتها. و قال المصنف: إنّها تتمايز بالأغراض؛ لا بالموضوعات و لا المحمولات. و أمّا بطلان القول الثاني فواضح إذ لم يدّعه أحد يعرف.

و أمّا بطلان القول الأول: فلما تقدم من: تحسين العقلاء تدوين علمين أو علوم لأغراض و إن كانت مسائلها متحدة من حيث الموضوع؛ كمسائل الصرف و النحو حيث يقال: الكلمة إمّا ثلاثي أو رباعي، و إمّا معرب أو مبني، فهذه المسألة و إن كانت واحدة من حيث الموضوع إلاّ إن تعدّد الغرض يوجب تعددها، و هي باعتبار الأول من الصرف؛ لأن الغرض من الصرف معرفة ذات اللفظ من حيث كونه ثلاثيا أو رباعيا، صحيحا أو معتلا، ماضيا أو مضارعا، مفتوح العين أو مضمومها أو مكسورها. و باعتبار الثاني: من النحو، لأنّ الغرض من النحو هو: معرفة أحوال الكلمة من حيث الإعراب و البناء. هذا أولا.

و ثانيا: ما تقدم من تقبيح العقلاء تدوين علمين مع وحدة الغرض و إن كان موضوع المسائل و محمولها متعددين.

فالمتحصل: أنّ المصنف استدل على ما اختاره من تمايز العلوم بالأغراض بوجهين:

الأول: تحسين العقلاء تدوين علمين لغرضين و إن كانت مسائلهما متحدة من حيث الموضوع.

الثاني: تقبيحهم تدوين علمين مع وحدة الغرض و ان كانت مسائلهما متعددة من حيث الموضوع، و حينئذ لا دخل للموضوعات، و لا المحمولات بالتمايز؛ فلا يصح

ص: 18

ثم إنّه (1) ربما لا يكون لموضوع العلم - و هو الكلي المتحد مع موضوعات المسائل - عنوان خاص، و اسم مخصوص، فيصح أن يعبّر عنه بكل ما دلّ عليه، بداهة: عدم دخل ذلك (2) في موضوعيته (3) أصلا.

و قد انقدح بذلك (4): أنّ موضوع علم الأصول هو: الكلي المنطبق على موضوعات جعلهما مائزا لأنّ الموضوعات و المحمولات كثيرة في العلم الواحد.

=============

(1) أي: الشأن «ربما لا يكون لموضوع العلم» أيّ موضوع لأيّ علم يفرض أي: لا يكون له عنوان خاص و اسم مخصوص، و هذا الكلام من المصنف نتيجة لما تقدم منه، و تمهيد لما اختاره من أن موضوع علم الأصول هو: الكلي المنطبق على موضوعات مسائله.

و أمّا كونه نتيجة لما تقدم منه من أنّ تمايز العلوم بالأغراض لا بالموضوعات؛ فلأنّه إذا لم يكن التمايز بالموضوعات فلا إشكال أن يكون الموضوع أمرا مجهولا، يشار إليه بأنّه هو الكلي المنطبق على موضوعات المسائل.

و أمّا على القول بأنّ تمايز العلوم هو بالموضوعات: فلا بد أن يكون لموضوع العلم عنوان خاص - كعنوان الأدلة الأربعة - و اسم مخصوص كالكتاب و السنة و الاجماع و العقل، لأنّ الموضوع على هذا القول يكون معرفا للعلم، و المعرف يجب أن يكون معلوما بعنوانه الخاص و اسمه المخصوص. و من هنا يعلم: عدم لزوم معرفة اسم أو عنوان موضوع العلم، لأنّه حينئذ هو الكلي المتحد مع موضوعات المسائل، و لا دخل للاسم و العنوان في موضوعية موضوع العلم.

و أمّا كون كلامه هذا تمهيدا لما ذهب إليه من ان موضوع علم الأصول هو الكلي لا الأدلة الأربعة فلما عرفت: من أنّه لا دخل للاسم و العنوان في موضوعيّة الموضوع، فيصح أن يعبّر عن موضوع العلم بكل ما دلّ عليه فيقال: إنّ موضوع علم الأصول هو:

ما يقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية الفرعية، أو يقال: هو الكلي المتحد مع موضوعات مسائله.

(2) أي: الاسم المخصوص.

(3) أي: موضوعية الموضوع. و خلاصة الكلام: أنّه لا يكون لموضوع العلم عنوان خاص و اسم مخصوص؛ ضرورة: عدم دخل الاسم المخصوص في موضوعيّة الموضوع أصلا، لأنّ الغرض مترتب على ذات الموضوع لا على العنوان و الاسم المشيرين إليه، فعدم العلم باسمه لا يقدح في موضوعيّة الموضوع القائمة بذاته.

موضوع علم الأصول عند المصنف

(4) أي: انقدح بكل ما مر ابتداء من تعريف موضوع مطلق العلم، و انتهاء إلى عدم دخالة الاسم المخصوص في موضوعية الموضوع - «أنّ موضوع علم الأصول هو الكلي

ص: 19

مسائله المتشتتة، لا خصوص الأدلة الأربعة (1) بما هي أدلة (2)، بل و لا بما هي هي (3) ضرورة: أنّ البحث في غير واحد من مسائله المهمة ليس من عوارضها، و هو واضح لو المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة؛ لا خصوص الأدلة الأربعة».

=============

وجه الانقداح هو: أنّ المتحصل من جميع ما ذكر - إلى الآن - أمران:

الأول: أنّ موضوع علم الأصول، كموضوع مطلق العلم هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله.

الثاني: عدم دخالة الاسم المخصوص في موضوعيّة الموضوع. و لازم الأمرين هو ثبوت المطلوب المذكور المركب من «إيجاب» أعني: كلية الموضوع و «سلب» أعني: سلب الموضوعية عن خصوص الأدلة الأربعة.

(1) أي: الكتاب و السنة و الإجماع و العقل.

(2) أي: بوصف دليليتها.

(3) أي: ذوات الأدلة دون أن تتصف بأنّها أدلة.

و خلاصة الكلام في المقام: أن موضوع علم الأصول هو: الكلي المنطبق على موضوعات مسائله لا خصوص الأدلة الأربعة بوصفها العنواني أي: مع وصف دليليتها على ما في «القوانين»(1)، و نسب إلى المشهور. «و لا بما هي هي» أي: ذوات الأدلة مع قطع النظر عن دليليتها كما في «الفصول»(2)، لأنّ تخصيص موضوع علم الأصول يوجب خروج كثير من المسائل عن علم الأصول. فيكون غير جامع، و عندئذ كلا القولين مردود، و لكن الفرق بينهما: أنّ قول المشهور الذي ذكره المحقق القمي «رحمه الله» في «القوانين» مردود لوجهين: أحدهما: مختص به و الآخر مشترك بينهما. و قول صاحب الفصول مردود؛ لوجه واحد.

و توضيح ذلك: أنّ جعل الموضوع الأدلة بانضمام وصف دليليتها يستلزم خروج جملة من المسائل عن علم الأصول، و دخولها في مبادئه التصورية أو التصديقية، لأنّ البحث عن دليليّة الأدلة و حجيتها بحث عن قيد الموضوع، فيندرج البحث عن الحجية في المبادئ، فلا يكون البحث عن حجية ظواهر الكتاب، و الإجماع، و العقل، و خبر الواحد بحثا عن عوارض الأدلة الأربعة، مع إنها من أهم المسائل الأصولية. و هذا الإشكال مختصّ بقول المشهور و منهم صاحب «القوانين» و لهذا عدل صاحب

ص: 20


1- قوانين الأصول، ج 1، ص 9، س 23.
2- الفصول الغروية، ص 11، س 24.

كان المراد بالسنة منها (1) هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره، كما هو المصطلح فيها، لوضوح: عدم البحث في كثير من مباحثها المهمة كعمدة مباحث التعادل و الترجيح (2)، بل و مسألة حجية خبر الواحد لا عنها (3) و لا عن سائر الأدلة.

=============

«الفصول» عنه فجعل موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة بما هي هي؛ حيث زعم أنّ البحث عن الدليلية و الحجية حينئذ بحث عن عوارضها الذاتية فيندرج في عوارض الأدلة لا في المبادئ. و هذا القول و إن كان سالما عن الإشكال السابق، و لكن يرد عليهما معا ما ذكره المصنف «قدس سره» بقوله: «ضرورة: أن البحث في غير واحد من مسائله المهمة ليس من عوارضها». فهذا يمنع من أن تكون الأدلة الأربعة موضوعا لعلم الأصول، لا بما هي أدلة و لا بما هي هي.

(1) أي: من الأدلة. و خلاصة الكلام: أنّه بعد القول بأنّ موضوع علم الأصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله، و أنّه ليس خصوص الأدلة الأربعة، أخذ في بيان دليل ذلك، و قد أشار بقوله: «ضرورة أنّ البحث...» إلخ إلى دليل بطلان ما هو المشهور، و ما هو صريح «الفصول»، فقوله: «ضرورة أنّ البحث...» إلخ تعليل لبطلان القولين، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة: و هي أنّ المراد بالسنة التي هي من الأدلة الأربعة: إمّا ما هو المصطلح فيها أعني: نفس قول المعصوم، أو فعله، أو تقريره. أو ما هو أعم منها و من الطريق الحاكي عنها كالخبر و غيره.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنّه يرد الإشكال على كلا التقديرين، أمّا على التقدير الأوّل: فلأنّ مسألة حجيّة خبر الواحد و نحوها و جملة من مسائل باب التعارض ليس البحث فيها عن عوارض الأدلة الأربعة لا بما هي أدلة، و لا بما هي هي، بل البحث فيها إنّما هو عن عوارض الخبر الحاكي عن السنة، و هو ليس من الأدلة الأربعة، كما هو واضح. و أمّا على التقدير الثاني أعني: كون السنة أعم من الحاكي و المحكي فسيأتي ما فيه فانتظر.

(2) لعل وجه التعبير بعمدة مباحث التعادل و الترجيح لأجل أنّ عمدة مسائلها يكون البحث فيها عن تعارض الخبرين و هما ليسا من السنة، و لكن قد يكون البحث في الباب المذكور عن تعارض نفس السنتين لا عن تعارض حاكيهما. و من البديهي: أنّ البحث عن تعارض السنتين كالبحث عن تعارض الآيتين بحث في الحقيقة عن عوارض الكتاب و السنة، و لذا قال: «كعمدة مباحث التعادل و الترجيح».

(3) أي: لا عن السنة. و معنى العبارة: أنّه يخرج كثير من مباحث السنة كعمدة مباحث التعادل و الترجيح، بل تخرج أيضا مسألة حجية خبر الواحد عن الأصول لأنّ

ص: 21

و رجوع البحث فيهما (1) - في الحقيقة - إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد في مسألة حجية الخبر - كما أفيد - و بأيّ الخبرين في باب التعارض، فإنّه أيضا بحث في الحقيقة عن حجية الخبر في هذا الحال (2) غير مفيد (3)، فإن البحث عن ثبوت البحث في هذه المباحث ليس من السنة، و لا عن سائر الأدلّة. و أمّا عدم كونه عنها فواضح إذ قد عرفت: أنّ البحث في باب التعارض و مسألة حجية خبر الواحد إنّما هو عن حاكي السنة لا عنها.

=============

و ليس البحث عن سائر الأدلة، بل لو كان عن أحوال الأدلة الأربعة لكان عن أحوال السنة لا عن سائر الأدلة.

(1) أي: رجوع البحث في باب التعادل و الترجيح و مسألة حجية خبر الواحد إلى البحث عن أحوال السنة و عوارضها الذاتية غير مفيد.

و خلاصة الكلام: أن مرادهم من السنة هو نفس قول المعصوم و فعله و تقريره فلا يكون البحث عن حجية خبر الواحد بحثا عن عوارض السنة، كما عرفت.

و لكن الشيخ الأنصاري حاول أن يرجع البحث عن حجية خبر الواحد إلى البحث عن أحوال السنة. و محصل ما أفاده الشيخ «قدس سره»: أنّه يرجع البحث عن حجية خبر الواحد و حجية أحد الخبرين المتعارضين إلى البحث عن عوارض السنة، لأنّه في الحقيقة بحث عن ثبوت السنة الواقعية بهما كثبوتها بالخبر المتواتر.

(2) أي: في حال التعارض أي: على كل حال: أنّ ما أفاده الشيخ «قدس سره» أيضا في الحقيقة بحث عن حجية الخبر، و ليس له دخل في السنة أصلا.

(3) خبر لقوله: «و رجوع البحث» أي: رجوع البحث إلى البحث عن ثبوت السنة غير مفيد في دفع الإشكال، و وجه عدم الفائدة يتوقف على مقدمة و هي: أن البحث عن ثبوت الموضوع أعني: السنة تارة هو بما هو مفاد كان التامة مثل كان زيد أي: وجد، و هو موجود، و كانت السنة أي: السنة موجودة. و أخرى: يكون البحث عن ثبوت الموضوع بما هو مفاد كان الناقصة مثل: كان زيد قائما، و كانت السنة معتبرة، أو السنة معتبرة.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنّ البحث عن ثبوت الموضوع مطلقا ليس بحثا عن عوارض السنة، بل إمّا بحث عن وجود الموضوع و هو ما إذا كان المراد مفاد كان التامة، لأنّ العوارض مفاد كان الناقصة مثل كانت السنة حجة.

أو بحث عن عوارض الخبر لا السنة و هو: ما إذا كان المراد بالثبوت مفاد كان الناقصة.

ص: 22

الموضوع، و ما هو مفاد كان التامة، ليس بحثا عن عوارضه (1) فإنّها (2) مفاد كان الناقصة.

لا يقال: هذا (3) في الثبوت الواقعي، و أمّا الثبوت التعبدي - كما هو المهم في هذه المباحث - فهو (4) في الحقيقة يكون مفاد كان الناقصة.

فإنّه يقال (5): نعم؛، لكنه مما لا يعرض السنة، بل الخبر الحاكي لها، فإنّ الثبوت فمعنى العبارة على الأول: أنّ السنة تثبت بخبر الواحد، كما تثبت بالخبر المتواتر، و على الثاني: أنّ خبر الواحد يثبت به ما بحكم السنة في وجوب العمل، و كيف كان؛ فلا يكون البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد بحثا عن عوارض السنة كما عرفت.

=============

(1) أي: عوارض الموضوع و هو السنة.

(2) أي: العوارض مفاد كان الناقصة و ثبوت السنة بخبر الواحد مفاد كان التامة، فلا يكون البحث عن الثبوت بحثا عن العوارض، بل يكون من المبادئ.

نعم؛ لو كان المراد بالسنة أعم من الحاكي و المحكي كان البحث عن أحوال الخبر بحثا عن عوارض السنة، إلاّ إنّ هناك مسائل ليس البحث عنها بحثا عن أحوال الأدلة الأربعة، كمباحث الألفاظ فإنّها لا تختص بألفاظ الكتاب و السنة، و كمبحث الشهرة فإنّه ليس بحثا عن الأدلة الأربعة.

(3) أي: رجوع البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد إلى البحث عن وجود الموضوع، فيكون من المبادئ لا من العوارض إنّما هو في الثبوت الواقعي لا في الثبوت التعبدي.

و ملخّص الكلام: أنّ غرض المصنف من قوله: «لا يقال هذا» هو تصحيح لكلام الشيخ الأنصاري بأن يقال: إن الإشكال المذكور أي: رجوع البحث إلى البحث عن المبادئ إنّما يرد عليه فيما إذا كان المراد بالثبوت الثبوت الواقعي التكويني و هو مفاد كان التامة، فيكون البحث من المبادئ. و أمّا إذا كان المراد بالثبوت الثبوت التعبدي الذي مرجعه إلى حكم الشارع بالحجية و العمل بالخبر تعبدا؛ فيندرج هذا البحث في العوارض، لكونه مفاد كان الناقصة، و يخرج عن المبادئ.

(4) أي: الثبوت التعبدي في الحقيقة داخل في البحث عن عوارض الموضوع.

و بعبارة أخرى: أنّ البحث عن ثبوت السنة تعبدا بالخبر داخل في العوارض، فيخرج بحث حجية الخبر عن المبادئ، و يندرج في المسائل.

(5) أي: يقال في الجواب عن تصحيح كلام الشيخ «قدس سره»: إنّ الثبوت

ص: 23

التعبدي (1) يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر كالسنة المحكية به، و هذا من عوارضه لا عن عوارضها، كما لا يخفى.

و بالجملة (2): الثبوت الواقعي ليس من العوارض، و التعبديّ و إن كان منها؛ إلاّ إنّه ليس للسنة، بل للخبر، فتأمل جيدا.

و أمّا إذا كان المراد (3) من السنة ما يعم حكايتها، فلأنّ البحث في تلك (4) التعبدي و إن كان مفاد كان الناقصة فيكون من العوارض، إلاّ إنّه من عوارض الخبر الحاكي للسنة لا من عوارضها. و المفيد في دفع الإشكال: أن يكون الثبوت التعبدي من عوارض السنة لا من عوارض حاكيها، فلا يندفع الإشكال بارادة الثبوت التعبدي.

=============

(1) أي: فإنّ الثبوت التعبدي الجعلي من قبل الشارع معناه: جعل الحجية و الطريقية للخبر «يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر». و من المعلوم: أن هذا أي: وجوب العمل على طبق الخبر إنّما هو من عوارض الخبر، و لا ربط له بالسنة، فلا يكون من عوارض السنة، كما أشار إليه بقوله: «لا عن عوارضها» فالبحث عن هذا الوجوب لا يكون من مسائل الأصول، لأنّ الخبر الحاكي للسنة ليس من الأدلة الأربعة كي يكون البحث عن عوارضه من المسائل الأصولية.

(2) أي: خلاصة الكلام: إنّ الثبوت إن كان واقعيا فليس من العوارض للسنة، بل من المبادئ. و ان كان تعبديا فهو و إن كان من العوارض، إلاّ إنّه من عوارض الخبر لا السنة التي هي من الأدلة الأربعة. و قيل في الفرق بين لفظة بالجملة و في الجملة: إنّ الأولى يراد منها خلاصة ما تقدم، و الثانية يراد منها إتيان مطلب جديد و قيل: إن مفاد الأولى: موجبة كلية، و مفاد الثانية: موجبة جزئية.

المراد بالسنة ما يعم حكايتها

(3) أي: هذا هو الاحتمال الثاني فيما هو المراد من السنة.

و خلاصة الكلام: أنّه إذا كان المراد من السنة ما يعم حكاية السنة - يعني: أعم من القول و الفعل و التقرير و الخبر الحاكي، فهذا و إن كان موجبا لدخول مسألة حجية خبر الواحد و أحد الخبرين المتعارضين في مسائل علم الأصول؛ و لكنه أيضا غير مقبول، و ذلك لأنّ البحث في التعادل و الترجيح و خبر الواحد، و إن كان عن أحوال السنة بهذا المعنى، إلاّ إنّ البحث في غير واحد من مسائل الأصول - كمباحث الألفاظ - مثل العام و الخاص، و الملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها و الشهرة و الأصول العملية - لا يخص الأدلة الأربعة؛ بل يعم غير الأدلة الأربعة فإنّ مباحث الألفاظ لا تختص بألفاظ الكتاب و السنة.

(4) أي: في مباحث حجية خبر الواحد و باب التعارض «و إن كان عن أحوال السنة

ص: 24

المباحث، و إن كان عن أحوال السنة بهذا المعنى، إلاّ إنّ البحث في غير واحد من مسائلها (1)، كمباحث الألفاظ، و جملة من غيرها، لا يخص الأدلة، بل يعم غيرها (2)، و إن كان المهم معرفة أحوال خصوصها (3)، كما لا يخفى. و يؤيد ذلك (4):

تعريف الأصول، بأنّه «العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية».

و إن كان الأولى (5) تعريفه بأنه: «صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في بهذا المعنى» أي: السنة بمعنى: الأعمّ من الحاكي و المحكي، فيرتفع إشكال خروج المسألتين عن مسائل علم الأصول.

=============

(1) أي: مسائل السنة.

(2) أي: غير الأدلة الأربعة، لأن البحث عن ظهور الأمر في الوجوب مثلا لا يخص بالأمر الوارد في الكتاب أو السنة فيخرج عن مسائل علم الأصول؛ لأنه ليس بحثا عن خصوص الأدلة الأربعة.

(3) أي: خصوص الأدلة الأربعة كي يكون البحث عن أحوالها بحثا عن عوارضها الذاتية، و كيف كان؛ فقد ثبت مما ذكر: أن الحق هو ما ذهب إليه المصنف من أن موضوع علم الأصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة، فلا يرد عليه شيء مما تقدم وروده على القول بحصر الموضوع في الأربعة.

(4) أي: يؤيد كون موضوع علم الأصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة لا خصوص الأدلة الأربعة أي: يؤيد ذلك تعريف - القوم المشهور على ألسنتهم - الأصول بأنه «العلم بالقواعد...» إلخ.

وجه التأييد: أنّ مقتضى صيغة الجمع المعرف باللام - أعني: القواعد - هو العموم، إذن: فكل مسألة تقع في طريق الاستنباط هي من مسائل الأصول؛ سواء كانت من الأدلة الأربعة أم لم تكن.

فلو كان موضوع الأصول هي الأدلة الأربعة؛ لكان الأنسب في تعريف الأصول أن يقال: «بأنّه علم بالمسائل التي يبحث فيها عن أحوال الكتاب و السنة و الإجماع و العقل» فإن قيل: لما ذا جعل مؤيدا و لم يجعل دليلا؟

فإنّه يقال: إنّ هذا التعريف هو من القائلين بكون الموضوع هي الأدلة الأربعة فيمكن أن يكون اللام في القواعد للعهد، فيكون إشارة إلى الأدلة الأربعة. و لعله نظرا إلى هذا الاحتمال قال: «و يؤيد ذلك»، و لم يقل و يدل على ذلك.

تعريف علم الأصول عند المصنف

(5) أي: كان الأولى للأصوليين أن يعرفوا علم الأصول بأنه «صناعة» أي: فن كفنّ الصياغة و النجارة و غيرهما من الفنون.

ص: 25

و خلاصة الكلام: أن تعريف المصنف أولى من تعريف المشهور لوجهين:

الأول: تبديل لفظة العلم بالصناعة.

الثاني: أنه مشتمل على قوله: «أو التي ينتهي إليها في مقام العمل».

و أمّا وجه أولوية تبديل لفظة العلم بالصناعة فلأمرين:

الأول: أن علم الأصول كما سبق عبارة عن نفس المسائل و القواعد لا العلم بها.

الثاني: أنّ العلم هو إدراك فقط، و الإدراك وحده من دون التطبيق العملي لا يكفي لاستنباط الحكم الشرعي.

هذا بخلاف الصناعة فهي إدراك مع العمل على طبق ذلك الإدراك.

و أمّا وجه أولوية تعريف المصنف لاشتماله على الزيادة. فلانّ تعريف المشهور لا يشمل الأصول العملية، و لا الظن الانسدادي على الحكومة. و توضيح خروج الأصول العملية عن تعريف المشهور يتوقف على مقدمة و هي: أنّ الأصول العملية تنقسم إلى العقلية و الشرعية. و العقلية على أقسام و هي: 1 - البراءة. 2 - الاحتياط. 3 - التخيير.

ثم العقلية بأقسامها ليست ممّا يستنبط بها الأحكام الشرعية، بل هي إمّا مجرد تنجيز في مقام العمل كالاحتياط أي: حكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل، أو تعذير في مقام العمل كحكمه بقبح العقاب بلا بيان في البراءة العقلية و حكمه بالتخيير في الدوران بين المحذورين. و أمّا الأصول الشرعية فهي وظائف ظاهرية للمكلف الشاك في مقام العمل و ليست مما يستنبط بها الأحكام الشرعية.

إذا عرفت هذه المقدمة فيتضح لك خروج الأصول العملية عن تعريف المشهور، و دخولها في قول المصنف أعني: «أو التي ينتهي إليها في مقام العمل»، فيكون تعريف المصنف جامعا.

و أمّا خروج الظن المطلق على الحكومة: فلأنّه لو تمت مقدمات الانسداد يحكم العقل بمتابعة مطلق الظن كان شأنه كالعلم مجرد التنجيز و التعذير لا الاستنباط، هذا بخلاف القول بكشف مقدمات الانسداد عن حكم الشارع بحجيّة مطلق الظن؛ إذ حينئذ يستنبط به الحكم الشرعي. فلا يلزم خروجه عن تعريف المشهور.

فإن قلت: لما ذا قال المصنف: إنّ الأولى هو تعريفه، مع إنّ تعريف المشهور غير صحيح أصلا.

قلت: إنّ الأولوية يمكن أن تكون تعينية كالأولوية في قوله تعالى: أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ

ص: 26

طريق استنباط الأحكام، أو التي ينتهي إليها في مقام العمل»؛ بناء (1) على أنّ مسألة حجية الظن على الحكومة، و مسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية (2) من الأصول كما هو كذلك (3)، ضرورة: إنّه لا وجه لالتزام الاستطراد في هذه المهمّات.

=============

بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ الأنفال: 57، و الأحزاب: 60، فيجب حينئذ عدول المصنف عن تعريف المشهور إلى ما هو مذكور فلا مجال للسؤال و الإشكال.

و يمكن أن تكون الأولوية ترجيحية فيكون تعريف المشهور صحيحا؛ لكن الأرجح ما ذكره المصنف.

و قد تقدم وجه الاحتمال الأول أي: وجه بطلان تعريف المشهور. و أمّا وجه الاحتمال الثاني: فلأنّ التعاريف عنده تعاريف لفظية لا حقيقية، فلا يجب أن يكون جامعا و مانعا.

(1) أي: بناء على القول - بأنّ مسألة حجية الظن على الحكومة، و مسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية من الأصول - كما هو الحق؛ يلزم خروج المسألتين من الأصول على تعريف المشهور كما عرفت. و أما بناء على القول بأنّهما ليستا من المسائل الأصولية فلا إشكال في خروجهما عن التعريف.

(2) وجه التقييد بالحكمية: لأجل أنّ الأصل الجاري في الشبهة الموضوعية مثل أصالة الحل في المائع المحتمل كونه خمرا مسألة فقهية. هذا بخلاف الأصل الجاري في الشبهة الحكمية، كأصالة البراءة في الشك في حرمة شرب التبغ فإنّها مسألة أصولية.

(3) أي: الحق أنّ مسألة حجية الظن، و مسائل الأصول العملية من المسائل الأصولية؛ إذ لو لم تكن منها لكان ذكرها في الأصول من باب الاستطراد، و ليس هناك دليل على ذلك.

رأي المصنف يتلخص فيما يلي:

1 - العرض الذاتي ما ليس بواسطة في العروض.

2 - موضوع كل علم هو: نفس موضوعات مسائل ذلك العلم.

3 - و المسائل هي: قضايا متشتتة لا المحمولات المنتسبة إلى موضوعاتها.

4 - تمايز العلوم بالأغراض لا بالموضوعات.

5 - موضوع علم الأصول هو: الكلي المتحد مع موضوعات المسائل من دون أن يكون له عنوان خاص و اسم مخصوص؛ لا خصوص الأدلة الأربعة.

ص: 27

الأمر الثاني مبحث الوضع

اشارة

الوضع هو نحو اختصاص (1) للفظ بالمعنى، و ارتباط خاص بينهما ناش من تخصيصه به تارة، و من كثرة استعماله فيه أخرى، و بهذا المعنى صح تقسيمه إلى التعييني و التعيّني، كما لا يخفى. ثم إنّ الملحوظ حال الوضع (2): إمّا يكون معنى عاما، فيوضع اللفظ له تارة، و لأفراده و مصاديقه أخرى.

=============

مبحث الوضع

تعريف الوضع

(1) هذا التعريف للوضع تعريف بما هو لازم معناه، و ليس تعريفا لحقيقة الوضع، لأنّه بمعناه المصدري عبارة عن تخصيص اللفظ بالمعنى إمّا بالإنشاء مثل أن يقول: وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى، أو بالتعهد بأن يقول: متى أردت تفهيم هذا المعنى استعمل هذا اللفظ فيكون الوضع عندئذ من صفات الواضع. و ما ذكره المصنف هو الوضع بمعناه الاسم المصدري، فيكون من صفات اللفظ، و هو لازم الوضع بمعناه المصدري؛ فإن اختصاص اللفظ بالمعنى يشمل ما إذا حصل الاختصاص المذكور بالإنشاء، أو التعهد أو كثرة الاستعمال.

و لعل الوجه في تعريف الوضع بلازم معناه المصدري هو ما أشار إليه بقوله: «و بهذا المعنى صح تقسيمه إلى التعييني و التعيّني»، فإنّ الوضع بمعنى: اختصاص اللفظ بالمعنى قابل للتقسيم إليهما. أو كان الوجه فيه خوف الطعن، لأنّ تعريف الوضع بالمعنى المذكور يتناسب مع جميع الاحتمالات، و الأقوال في دلالة اللفظ على المعنى بأنّها ذاتية أو وضعية، و على الثاني: هل الواضع هو الله أو الإنسان ؟

و كيف كان؛ فقد وقع الخلاف في حقيقة الوضع المتحقق بين اللفظ و المعنى بأنّه تخصيص أو تعهد من الواضع أو غيرهما. و لكن تركنا تفصيل الكلام في المقام خوفا من لزوم التطويل.

(2) أي: الوضع باعتبار تصور الموضوع له على أربعة أقسام.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أنّ الوضع هو: الربط بين اللفظ الموضوع و المعنى الموضوع له فلا بد للواضع أن يلاحظ اللفظ و المعنى، ثم المعنى المتصور حال الوضع إمّا كلي و عام، أو جزئي و خاص، و على كلا التقديرين: اللفظ إما يوضع للعام أو الخاص، فهذه أقسام أربعة. ثم هذه الأقسام تختلف؛ منها: ما لا خلاف في إمكانه و وقوعه و منها: ما لا خلاف في إمكانه، و إنّما الخلاف في وقوعه، ثم في مصداقه.

و منها: ما وقع الخلاف في إمكانه، و المشهور عدم إمكانه و هو رأي المصنف.

ص: 28

و إمّا يكون معنى خاصا، لا يكاد يصح إلاّ وضع اللفظ له دون العام (1)، فتكون إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنّ المعنى المتصور حال الوضع إذا كان عاما و كليا فاللفظ إمّا يوضع له أو لمصاديقه، و على الأول: يسمى الوضع عاما، و الموضوع له عاما، و على الثاني: يسمى الوضع عاما، و الموضوع له خاصا. و أمّا لو كان المعنى المتصور خاصا فاللفظ إمّا يوضع لذلك المعنى الخاص أو للعام، فعلى الأول: يكون الوضع خاصا و الموضوع له خاصا.

=============

و على الثاني: الوضع خاص و الموضوع له عام. و لكن هذا الأخير غير ممكن، لأنّ الخاص بما هو خاص لا يكون وجها للعام و لا آلة للحاظه، فإنّ الخاص مع تشخصه يباين العام مع كليته، و المباين لا يكون وجها للمباين، فلهذا يقال في علم المنطق: إنّ الجزئي لا يكون كاسبا و لا مكتسبا، فالخاص لا يكون وجها للعام و لا لسائر الأفراد. هذا بخلاف الوضع العام و الموضوع له الخاص، فإنّ العام يصلح أن يكون آلة للحاظ أفراده مثل:

«حيوان ناطق»؛ فإنّه مرآة لزيد و عمرو و أحمد و هو من وجوه أفراده، و معرفة وجه الشيء معرفة الشيء و لو بوجه هذا في مقام الثبوت. و أمّا في مقام الإثبات فسيأتي تفصيل ذلك في كلام المصنف. و من يريد أن يعرف أمثلة الأقسام مع حكمها من حيث الصحة و البطلان، و وجه الصحة أو البطلان؛ فعليه بالجدول التالي:

الوضع\الأمثلة\الحكم\وجه الصحة و البطلان

الأول: الوضع عام و الموضوع له كذلك\كوضع أسماء الأجناس\صحيح عند الجميع\لإمكان جعل العام آلة لتصور المعنى العام

الثاني: الوضع خاص و الموضوع له كذلك\كوضع الأعلام\صحيح عند الجميع\لإمكان جعل الخاص آلة لتصور الخاص

الثالث: الوضع عام و الموضوع له خاص\كوضع الحروف و أسماء الاشارة على مذهب غير المصنف\صحيح عند غير المصنف\لأنّ العام وجه من وجوه الخاص

الرابع: الوضع خاص و الموضوع له عام\لا مثال له لعدم إمكانه عند المشهور و عدم وقوعه عند الجميع\باطل عند الجميع\لعدم إمكانه

(1) أي: الوضع الخاص و الموضوع له العام؛ بمعنى: أنّ الواضع يلاحظ معنى خاصا، و يجعل و يضع اللفظ للمعنى العام المنطبق عليه. و قد وقع الخلاف في إمكان هذا القسم.

ص: 29

الأقسام ثلاثة (1)، و ذلك (2) لأن العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده و مصاديقه بما هو كذلك فإنّه من وجوهها، و معرفة وجه الشيء معرفته بوجه.

=============

و المصنف يقول بعدم إمكانه، لأنّ الجزئي لا يكون مرآة للكلي و لا لجزئي آخر.

أقسام الوضع

(1) أي: 1 - الوضع العام و الموضوع له عام. 2 - الوضع العام و الموضوع له خاص.

3 - الوضع الخاص و الموضوع له خاص.

فالأول: أن يلحظ معنى عاما و يوضع اللفظ لذلك المعنى العام.

الثاني: أن يلحظ معنى عاما و يوضع اللفظ لمصاديقه و أفراده الجزئية.

الثالث: أن يلحظ معنى خاصا و يوضع اللفظ لذلك المعنى الخاص.

(2) أي: الفرق بين ما تقدم من الوضع الخاص و الموضوع له العام، و بين الوضع العام و الموضوع له الخاص قال المصنف «قدس سره» في الفرق بينهما: «لأنّ العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده و مصاديقه بما هو كذلك أي: «بما هو عام»، فإنّه من وجوهها، و معرفة وجه الشيء معرفته بوجه، بخلاف الخاص، فإنّه بما هو خاص لا يكون وجها للعام، و لا لسائر الأفراد، فلا يكون معرفته و تصوّره معرفة له، و لا لها - أصلا - و لو بوجه».

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة: و هي أنّ الوضع - سواء كان بمعنى تخصيص اللفظ بالمعنى أو بمعنى: اعتبار كون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى، أو بمعنى: التعهد - يكون فعلا اختياريا فيتوقف تحققه على تصور اللفظ و المعنى، فلا بد من تصور ما يوضع له اللفظ قبل الوضع و لو إجمالا، و إلاّ لا يعقل الوضع.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول في توضيح ما ذكره المصنف «قدس سره» من الفرق:

إنّه يمكن تصور المعنى الخاص بتصور المعنى العام بأن يلاحظ الواضع المعنى العام، و يجعله آلة للحاظ أفراده ثم يضع اللفظ للأفراد. هذا في الوضع العام و الموضوع له الخاص.

بخلاف الخاص في الوضع الخاص، و الموضوع له العام؛ فإن الخاص بما هو خاص لا يكون وجها و عنوانا للعام ليكون تصوره تصورا له بوجه، لأنّ الخاص بما هو خاص متخصص بخصوصية مقومة للخاص، و هذه الخصوصية تنافي العموم؛ لأنّه لا يتحصل إلاّ بإلغاء الخصوصية، فكيف يعقل تصور العام بتصور الخاص ؟! و بدون التصور لا يتحقق الوضع.

فخلاصة الفرق: أنّه يمكن تصور المعنى الخاص بتصور المعنى العام في الوضع العام و الموضوع له الخاص، و لا يمكن تصور العام بتصور المعنى الخاص في الوضع الخاص و الموضوع له العام، فهو غير ممكن.

ص: 30

بخلاف الخاص، فإنّه بما هو خاص، لا يكون وجها للعام، و لا لسائر الأفراد، فلا يكون معرفته و تصوره معرفة له (1)، و لا لها - أصلا - و لو بوجه. نعم؛ (2) ربما يوجب تصوره تصور العام بنفسه، فيوضع له اللفظ فيكون الوضع عاما، كما كان الموضوع له عاما.

و هذا (3) بخلاف ما في الوضع العام و الموضوع له الخاص، فإن الموضوع له - و هي الأفراد - لا يكون متصورا إلاّ بوجهه و عنوانه، و هو العام.

=============

و من هنا يظهر عدم الإشكال في القسمين الأخيرين من الأقسام الأربعة هما: الوضع العام و الموضوع له العام، و الوضع الخاص و الموضوع له الخاص.

حيث يلاحظ الواضع فيهما المعنى العام أو الخاص، ثم يضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى الملحوظ العام أو الخاص، فيعتبر الارتباط بينهما.

(1) أي: للعام و الضمير في قوله: «لها» يرجع إلى الأفراد. و معنى العبارة: لا يكون معرفة الخاص و تصوره معرفة للعام و لا لسائر الأفراد.

(2) هذا الكلام من المصنف لدفع ما يتوهم من إمكان الوضع الخاص و الموضوع له العام، و المتوهم هو صاحب البدائع، فلا بد أولا: من توضيح ما يتوهم، و ثانيا: من توضيح الرد عليه.

و أمّا توضيح التوهم فحاصله: أنّه ربما يكون تصور الخاص موجبا لتصور العام، لأن الخاص كالإنسان مثلا يتضمن العام كالحيوان، فللواضع أن يتصور العام في ضمن الخاص، ثم يضع اللفظ له. فهذا القسم بمكان من الإمكان.

و أمّا توضيح الجواب: فلأن هذا حينئذ يدخل في الوضع العام و الموضوع له العام و هو القسم الأوّل، فلا يكون قسما رابعا.

و بعبارة أخرى: فحاصل كلام المصنف: أنّه إذا تصور الواضع العام بتصور الخاص لأصبح الوضع عاما كالموضوع له، لأنّ تسمية الوضع بالعام و الخاص تابعة لتصور المعنى، فإذا كان المتصور معنى عاما، يسمى الوضع عاما، و إذا كان خاصا، يسمى خاصا، و المفروض في المقام أن المتصوّر هو المعنى العام. غاية الأمر: يكون تصوره بتصور الخاص، فيكون الوضع عاما لا محالة، كما يكون الموضوع له عاما فلا يكون قسما آخر، بل يرجع إلى القسم الأول.

(3) قوله: «و هذا..» إلخ دفع لتوهم عدم الفرق بين هذا و بين الوضع العام و الموضوع له الخاص.

ص: 31

و فرق واضح بين تصور الشيء بوجهه (1) و تصوره بنفسه (2)، و لو كان بسبب تصور أمر آخر (3). و لعل خفاء ذلك (4) على بعض الأعلام و عدم تميزه بينهما كان موجبا لتوهم إمكان ثبوت قسم رابع، و هو: أن يكون الوضع خاصا، مع كون الموضوع له عاما، مع أنّه واضح لمن كان له أدنى تأمل.

ثم إنّه لا ريب (5) في ثبوت الوضع الخاص و الموضوع له الخاص كوضع الأعلام، و ملخص الكلام في توضيح التوهم: أنّه إذا رجع القسم الرابع - أعني: الوضع الخاص و الموضوع له العام - إلى القسم الأول - أي: الوضع العام و الموضوع له العام - ليرجع القسم الثاني - و هو: الوضع العام و الموضوع له الخاص - إلى القسم الثالث و هو الوضع الخاص و الموضوع له الخاص، لأنّ التسمية كما ذكر تابعة للتصور، ففي القسم الثالث لا بد للواضع أن يتصور المعنى الخاص أي: الأفراد و لو بسبب تصور العام فيكون الوضع خاصا لتصور الخاص، كما أن الموضوع له خاص على الفرض.

=============

فأقسام الوضع ترجع إلى قسمين: 1 - الوضع العام و الموضوع له العام. 2 - الوضع الخاص و الموضوع له الخاص هذا خلاصة التوهم.

و قد دفعه المصنف بقوله: «و هذا بخلاف ما في الوضع العام و الموضوع له الخاص فإن الموضوع له - و هي الأفراد - لا يكون متصورا إلاّ بوجهه و عنوانه و هو العام».

و حاصل ما ذكره المصنف من الفرق بين القسمين: أنّ تصور العام في القسم الرابع في ضمن تصور الخاص يوجب خروج الخاص عن كونه خاصا، لأنّ العام بما هو العام لا يمكن تصوره بالخاص بما هو الخاص، فلا بد من تصوره بعنوان كلي، فيصبح من قبيل الوضع العام هذا بخلاف القسم الثاني، لأنّ تصور الأفراد و المصاديق في ضمن تصور العام لا يوجب خروج العام عن كونه عاما، لأنّ العام عنوان و وجه لجميع الأفراد، فعلى هذا يمكن تصور العام بما هو العام، فيكون الوضع عاما لتصور معنى عام و الموضوع له خاصا.

(1) أي: كما في الوضع العام و الموضوع له الخاص.

(2) أي: كما في الوضع العام، و الموضوع له العام.

(3) أي: الخاص فإن المعنى العام يمكن تصوره بسبب تصور المعنى الخاص.

(4) أي: الفرق بين القسم الثاني و القسم الرابع أي: لخفاء الفرق بينهما على بعض الأعلام كصاحب البدائع الذي التزم بثبوت قسم رابع، مع إن الفرق واضح.

فالمتحصل من جميع ما ذكر: أن الوضع باعتبار الموضوع له على أربعة أقسام تصورا، و ثلاثة أقسام إمكانا. هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.

(5) أي: لا ريب في وقوع القسمين من أقسام أربعة؛ و هما: الوضع الخاص

ص: 32

و كذا الوضع العام و الموضوع له العام كوضع أسماء الأجناس، و أمّا الوضع العام و الموضوع له الخاص: فقد توهم أنّه وضع الحروف و ما ألحق بها من الأسماء (1).

كما توهم (2) أيضا: أنّ المستعمل فيه فيها خاص، مع كون الموضوع له كالوضع عاما.

و التحقيق (3) - حسبما يؤدي إليه النظر الدقيق -: أنّ حال المستعمل فيه و الموضوع له فيها حالهما في الأسماء.

=============

و الموضوع له الخاص، كما في وضع الأعلام، و الوضع العام و الموضوع له العام، كما في وضع أسماء الأجناس، و كذا لا ريب في عدم وقوع الوضع الخاص و الموضوع له العام.

و أمّا الوضع العام و الموضوع له الخاص فقد وقع الخلاف في وقوعه بعد الفراغ عن إمكانه، و المصنف ممن يقول بعدم وقوعه و لذا يقول: «فقد توهم أنه وضع الحروف...» إلخ.

(1) أي: مثل الضمائر و أسماء الإشارة و الموصولات فقد توهم جماعة أن الوضع في الحروف و ما ألحق بها من الأسماء المذكورة عام و الموضوع له خاص، مثلا: في الضمائر يلاحظ الواضع المعنى الكلي للمفرد المذكر، ثم يضع ذا بإزاء الجزئيات المندرجة تحت ذلك الكلي، فيكون الوضع عاما و الموضوع له خاصا، و مثل ذلك الضمائر و الموصولات.

(2) أي: كما توهم أيضا جماعة آخرون - منهم التفتازاني -: أنّ المستعمل فيه في الحروف و المبهمات خاص، و ذلك لخصوصيّة تنشأ من الاستعمال مع كون الموضوع له كالوضع عاما، مثل: أن يلاحظ الواضع كلي الابتداء، فيضع له لفظة «من». فمن موضوع للابتداء و يطلق على كل ابتداء فحينئذ يكون الموضوع له عاما كنفس الوضع.

و لكن المصنف «قدس سره» يردّ كلا التوهمين.

و حاصل التوهمين في وضع الحروف و ما ألحق بها: أنّ الوضع فيها عام و الموضوع له خاص، هذا هو التوهم الأول. أو الوضع و الموضوع له فيها عام و المستعمل فيه خاص، كما في التوهم الثاني. و للمصنف «قدس سره» ردّ على كلا التوهمين حيث يقول في وضع الحروف و أمثالها: إنّ حال المستعمل فيه و الموضوع له كحال الوضع كلّها عام كأسماء الأجناس، و سيأتي تحقيق المصنف «قدس سره» في وضع الحروف.

التحقيق في وضع الحروف

(3) تحقيق ما اختاره المصنف «قدس سره» في وضع الحروف يتوقف على مقدمة و هي: التحقيق في المعاني الحرفية ببيان الأقوال فيها:

ص: 33

القول الأول: أنّ الحروف لها معان في قبال المعاني الاسميّة؛ بمعنى: أنّ معانيها معان غير مستقلة بخلاف المعاني الاسمية فإنّها معان مستقلة.

القول الثاني: أنّ الحروف لم توضع لمعنى أصلا، بل حالها حال علامات الإعراب فوضعت لأن تكون قرينة على كيفيّة إرادة مدخولها؛ مثلا: وضعت لفظة «في» في قولنا زيد في الدار لأن تكون قرينة على ملاحظة الدار؛ لا بما هو موجود عيني خارجي، بل بما هي موجود أيني و ظرف مكان لزيد مثلا، لأنّ الدار تارة تلاحظ بما أنّ لها وجود عيني خارجي فيقال: دار زيد كذا. و أخرى: بما أنّ لها وجود أيني أي: ظرف مكان لشيء آخر فيقال: زيد في الدار، فكلمة «في» في قولنا زيد في الدار وضعت لتدل على أنّ الدار لوحظت بنحو الأينيّة لا العينية. و هذا القول منسوب إلى نجم الأئمة المحقق الرضي فقال: إنّ الحروف لا معاني لها، بل هي علامات لخصوصية المعاني الموجودة في مدخولاتها.

القول الثالث: أنّ الحروف وضعت للمعاني الكلية، كأسماء الأجناس، فلا فرق بين معاني الحروف و الأسماء في عالم المفهومية، كما لا فرق بينهما من حيث الوضع و الموضوع له و المستعمل فيه، و أنّ الكل فيها عامّ ؛ و إنّما الفرق بينهما يكون فيما هو خارج عن حريم المعنى و هو: الاستقلالية في الأسماء، و الآلية في الحروف، و هما من قيود الوضع و مميزاته - على ما سيأتي توضيحه - من دون أن تكونا دخيلتين في الموضوع له، فالمعنى في حدّ ذاته لا يتصف بالاستقلال و لا بعدمه، و إنّما نشأ كل منهما من اشتراط الواضع و هما من توابع الاستعمال و شئونه. هذا ما اختاره المصنف «قدس سره»، و قد صرّح به بقوله: «و التحقيق...» إلخ.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنّ في وضع الحروف و الأسماء المرادفة كلفظي «من و ابتداء» مثلا أقوال:

القول الأول: ما اشتهر بين المتأخرين من أنّهما مختلفان في جزئية الموضوع له و كليته؛ بمعنى: أنّ الموضوع له في الحروف خاص و جزئي، و في الأسماء عام و كلي حيث لاحظ و تصور الواضع مفهوم الابتداء، و وضع لفظه للمفهوم العام الكلي، و وضع لفظة «من» لمصاديق ذلك المفهوم الكلي، فالوضع فيهما عام و الموضوع له و المستعمل فيه في الاسم عام، و في الحرف خاص. هذا ما تقدم في كلام المصنف حيث أشار إليه بقوله: «فقد توهم أنّه وضع الحروف».

ص: 34

و ذلك (1): لأنّ الخصوصية المتوهمة إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص بها جزئيا خارجيا، فمن الواضح: أنّ كثيرا ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك، بل كليا.

=============

القول الثاني: الذي أشار إليه بقوله: «كما توهّم أيضا» و هو ما عن بعض المتأخرين من: أنّ الاختلاف بين الحروف و الأسماء إنّما هو في جزئية المستعمل فيه و كليّته؛ بعد الالتزام بعمومية الوضع و الموضوع له فيهما. بمعنى: أنّ الوضع و الموضوع له فيهما عام.

و المستعمل فيه في الاسم عام، و في الحرف خاص.

القول الثالث: ما اختاره المصنف «قدس سره» من: أنّ الموضوع له و المستعمل فيه كالوضع فيهما عام و الاختلاف بينهما جاء من جهة اشتراط الواضع، بمعنى: أنّ معنى (من و ابتداء) متحد ذاتا و هو مفهوم الابتداء، و مختلف لحاظا، فشرط الواضع أن يستعمل لفظ ابتداء إذا لوحظ المعنى استقلاليا، و يستعمل لفظة من إذا لوحظ آليا و حالة للغير.

(1) ينفي المصنف اشتمال معاني الحروف على خصوصية توجب جزئية الموضوع له، فيكون الموضوع له في الحروف عاما. و قوله: «لأنّ الخصوصية» تعليل لكون الموضوع له في الحروف عاما «إذ ليس هناك ما يوجب جزئية الموضوع له من الخصوصية؛ سواء كانت تلك الخصوصية هي الوجود الخارجي أو الوجود الذهني المعبّر عنه باللحاظ».

أمّا الأول: فلوضوح: أنّه كثيرا ما يستعمل الحرف في معنى كلي؛ كما إذا وقع في حيّز الإنشاء و الحكم نظير «سر من البصرة إلى الكوفة» فإنّه من الواضح تحقق الامتثال في الابتداء بأيّ نقطة من نقاط البصرة، و الانتهاء إلى أيّ نقطة من نقاط الكوفة كوضوح تحققه في السير بأيّ نحو كان مع عدم القرينة على التعيين، و هذا ظاهر في عموم الموضوع له للحرف كالاسم؛ و إلاّ لكان تحقق الامتثال متوقفا على ابتداء خاص و هو ما قصده الآمر، و لم يقل به أحد.

و أمّا الثاني - أي: الوجود الذهني المعبر عنه باللحاظ -: فقد نفى المصنف أخذه في الموضوع له بوجوه:

منها: أنّ الاستعمال يستدعي تصور المستعمل فيه، فلو كان اللحاظ الآلي مقوّما للمعنى لزم تعلق اللحاظ بالملحوظ، و هو باطل؛ ضرورة: أنّ الموجود لا يقبل الوجود ثانيا. هذا ما أشار إليه بقوله: «و هو كما ترى».

و منها: أنّ اللحاظ لو كان مقوّما للمعنى لزم عدم صدقه على الخارجيات إلاّ بالتجريد؛ لأنّ المقيد بالوجود الذهني لا وجود له إلاّ في الذهن و بدون التجريد يمتنع

ص: 35

و لذا (1) التجأ بعض الفحول إلى جعله جزئيا إضافيا.

=============

الامتثال الخارجي، فلا بد من إلغاء الخصوصية، و هذا يستدعي أن يكون استعمال الحروف بلحاظ الخارج استعمالا مجازيا و هو خلاف الضرورة.

هذا ما أشار إليه بقوله: «فامتنع امتثال مثل «سر من البصرة إلاّ بالتجريد...» إلخ.

و منها: أن اللحاظ الآلي في الحروف كاللحاظ الاستقلالي في الأسماء؛ فكما أنّ لحاظ الاستقلالي لا يوجب جزئية الأسماء فكذلك لحاظ الآلي في الحروف.

فإن قال أحد بعدم أخذ الاستقلالي في معنى الاسم؛ فنقول في الحرف كذلك.

فتلخص مما ذكرناه: أنّ حال المستعمل فيه و الموضوع له في الحروف حالها في الأسماء في العمومية.

و من هنا يظهر بطلان كلا التوهمين أي: توهم خصوصية الموضوع له أو خصوصية المستعمل فيه مع عمومية الموضوع له كالوضع، إذ قد عرفت: أنّ الحق عند المصنف: أنّ معاني الحروف معان كلية وضعت ألفاظها لها، و تستعمل فيها كأسماء الأجناس و الاختلاف بينهما إنّما هو في كيفية الاستعمال: بأنّ الواضع - بعد ما وضع لفظ الابتداء و لفظ «من» لمعنى واحد و هو حقيقة الابتداء - جعل على المستعملين أن لا يستعملوا لفظ الابتداء، إلاّ على نحو إرادة المعنى مستقلا، و لفظ «من» إلاّ على نحو إرادة المعنى تبعا و حالة للغير.

فليس كون المعنى استقلاليا قيدا لمعنى الاسم، كما إنّه ليس كون المعنى آليا قيدا لمعنى الحرف، فالقول بأنّ للحروف معان في قبال المعاني الاسمية و هو القول الأول باطل.

و كذلك ليس الحرف علامة على خصوصية معنى مدخوله بأن لا يكون له معنى أصلا و هو القول الثاني؛ إذ كون الحرف علامة على خصوصية مدخوله كالإعراب على خلاف ما هو المعروف بين النحاة من انقسام الكلمة إلى اسم و فعل و حرف، فإن لازم عزل الحرف عن المعنى هو انحصار الكلمة في الاسم و الفعل و لم يقل به أحد.

فالمتحصل من عبارة المصنف: أن الأقوال في كيفية وضع الحروف ثلاثة: 1 - الوضع العام و الموضوع له الخاص. 2 - عموميّة كل من الوضع و الموضوع له، مع خصوصية المستعمل فيه. 3 - عمومية الكل و هو مختار المصنف «قدس سره»، و قد تركنا ما في المقام من النقض و الابرام رعاية للاختصار.

(1) أي: لما ذكرناه سابقا من عموم الوضع و الموضوع له و المستعمل فيه في الحروف «التجأ بعض الفحول» - أي: صاحب الفصول(1)، أو صاحب حاشية المعالم -: إلى جعل

ص: 36


1- الفصول الغروية، ص 20، س 7.

و هو (1) كما ترى.

و إن كانت (2) هي الموجبة لكونه جزئيا ذهنيا، حيث (3) إنّه لا يكاد يكون المعنى حرفيا؛ إلاّ إذا لوحظ حالة لمعنى آخر، و من خصوصياته القائمة به، و يكون حاله كحال العرض (4)، فكما لا يكون في الخارج إلاّ في الموضوع، كذلك هو (5) لا يكون المعنى الحرفي و ملحقاته جزئيا إضافيا على حد ما في علم الميزان، من: أنّ الجزئي الإضافي ما كان فوقه كليا، و كان له أفراد مثل «الإنسان» فهو بالنسبة إلى أفراده و مصاديقه كلي، و بالنسبة إلى الحيوان جزئي إضافي.

=============

(1) أي: هذا القول كما تراه لا يجديهم نفعا؛ لأنّ الجزئي الإضافي كلي، فلا يكون الموضوع له خاصا؛ فإنّ المراد بالخاص هو الجزئي الحقيقي فيرجع الجزئي الإضافي إلى عمومية الموضوع له و هو المطلوب، لأنّ الجزئي الإضافي - بمعنى: ما هو أخص من شيء - قد يكون كليا كما عرفت.

(2) أي: قوله: «و إن كانت هي الموجبة...» إلخ عطف على قوله: «إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص بها جزئيا خارجيا».

و حاصل الكلام: أنّ الخصوصية المتوهمة من الجماعة المأخوذة في الموضوع له إمّا هي الموجبة لكون المعنى جزئيا خارجيا، أو هي الموجبة لكونه جزئيا ذهنيا. و كلاهما باطل ففرض الخصوصية الموجبة لجزئية المعنى الموضوع له باطل، و قد تقدم وجه بطلان كلا الاحتمالين.

(3) تعليل للجزئية الذهنية للمعنى الحرفي و حاصله: أنّ الخصوصية موجبة لكون المعنى الحرفي جزئيا ذهنيا، فإنّ المعنى الحرفي يفتقر إلى الغير؛ حيث إن المتكلم حين استعمال لفظ «من» لا بدّ له أن يلاحظ الابتداء في ذهنه حالة للغير، فيكون جزئيا ذهنيا، لأنّ الوجود في الذهن كالوجود في الخارج يستلزم التشخص و إن كان المعنى كليا في نفسه.

(4) أي: يكون حال المعنى الحرفي كحال العرض في القيام بالغير، و الفرق بينهما:

أنّ المعنى الحرفي يفتقر إلى الغير ذهنا و خارجا، و العرض يفتقر إلى الموضوع خارجا لا ذهنا و لذا قيل في تعريفه: العرض ماهية إذا وجدت في الخارج وجدت في الموضوع.

و كيف كان؛ فالمعنى الحرفي و إن صار جزئيا ذهنيا بلحاظ كونه حالة للغير إلاّ إنّه لا يصح أخذ اللحاظ الذهني جزءا للمعنى الحرفي؛ لاستلزامه المحاذير التي عرفتها. و ستأتي الإشارة إليها في كلام المصنف «قدس سره».

(5) أي: المعنى الحرفي أي: وجه الشبه هو الافتقار إلى الغير، غاية الأمر: العرض

ص: 37

في الذهن إلاّ في مفهوم آخر، و لذا (1) قيل في تعريفه: بأنّه ما دل على معنى في غيره.

فالمعنى (2)، و إن كان لا محالة يصير جزئيا بهذا اللحاظ بحيث يباينه إذا لوحظ ثانيا كما لوحظ أولا، و لو كان اللاحظ واحدا (3) إلاّ إنّ هذا اللحاظ (4) لا يكاد يكون مأخوذا في المستعمل فيه، و إلاّ (5) فلا بد من لحاظ آخر متعلق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ، بداهة (6): أنّ تصور المستعمل فيه ممّا لا بد منه في استعمال الألفاظ، و هو كما ترى.

مع أنّه (7) يلزم أن لا يصدق على الخارجيات، لامتناع صدق الكلي العقلي يفتقر في وجوده الخارجي إلى الموضوع. و المعنى الحرفي يفتقر إلى الغير مطلقا.

=============

(1) أي: لتوقف تحقق المعنى الحرفي على مفهوم آخر «قيل في تعريفه: بأنّه ما دل على معنى في غيره»، و ظاهر هذا التعريف: أنّ المعنى الحرفي كائن في غيره، كما أنّ العرض قائم بغيره و هو الموضوع.

(2) هذا جواب الشرط في قوله: «و إن كانت الموجبة».

(3) و حاصل الكلام: أنّ المعنى المقيد باللحاظ يصير جزئيا بهذا اللحاظ؛ بحيث يباين المعنى المقيد باللحاظ نفسه إذا لوحظ ثانيا، كما لوحظ أولا، و ذلك لكون الملحوظات الذهنية متباينة، كالجزئيات الخارجية و لو كان اللاحظ واحدا، لأنّ وحدة اللاحظ لا توجب انثلام تعدد المعنى لحاظا. فكلمة لو في قوله: - «و لو كان اللاحظ واحدا» - وصلية.

(4) هذا هو المحذور الأول من المحاذير الثلاثة اللازمة؛ على فرض أخذ اللحاظ في المستعمل فيه.

(5) أي: لو أخذنا اللحاظ في المستعمل فيه فلا بد من لحاظ آخر عند الاستعمال، و لا بد أن يكون اللحاظ الثاني متعلقا بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ الأول الذي هو جزء المعنى فيتعدد اللحاظ و هو خلاف الوجدان، كما أشار إليه بقوله: «و هو كما ترى».

(6) أي: تعليل للزوم اللحاظ الثاني المتعلق بما هو الملحوظ باللحاظ الأول. فيلزم تعدد اللحاظ الذي هو خلاف الوجدان و خلاف الذوق السليم.

(7) هذا هو المحذور الثاني أي: لو كان المستعمل فيه لألفاظ الحروف مقيّدا باللحاظ؛ للزم عدم صدق المعنى الحرفي على الخارجيات، لأنّ اللحاظ أمر ذهني، و الذهني لا يوجد في الخارج؛ لامتناع صدق الكلي العقلي على الخارجيات حيث لا موطن له إلاّ

ص: 38

عليها (1)، حيث لا موطن له إلاّ الذهن، فامتنع امتثال مثل «سر من البصرة»، إلاّ بالتجريد و إلغاء الخصوصية، هذا مع إنّه (2) ليس لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف إلاّ كلحاظه في نفسه في الأسماء، و كما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في المستعمل فيه فيها؛ كذلك ذاك اللحاظ في الحروف، كما لا يخفى. و بالجملة: (3) ليس المعنى في كلمة «من» و لفظ الابتداء - مثلا - إلاّ الابتداء؛ فكما لا يعتبر في معناه (4) لحاظه الذهن، و لازم ذلك: امتناع امتثال الأمر في مثل: «سر من البصرة»؛ لأن المأمور به عندئذ مقيد بالقيد الذهني المستحيل إيجاده في الخارج.

=============

(1) أي: على الخارجيات «حيث لا موطن له إلاّ الذهن». نعم؛ يمكن الإيجاد الخارجي بطريقة التجريد، و إلغاء الخصوصية الذهنية التي أخذت في المعنى؛ إلاّ إن الاستعمال حينئذ يكون استعمالا مجازيا من باب استعمال الكل في الجزء و هو خلاف الضرورة.

(2) هذا هو المحذور الثالث اللازم على القول بأنّ معنى الحرف مقيد بلحاظ الآلية.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة: و هي: أنّ لحاظ الآلية في معنى الحرف ليس إلاّ كلحاظ الاستقلالية في معنى الاسم، فكما يجب على المستعمل أن يلاحظ الآلية في الحروف عند الاستعمال، فكذلك يجب أن يلاحظ الاستقلالية في الأسماء؛ إذ حكم الأمثال فيما يجوز و لا يجوز واحد.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنّه كما لا يكون لحاظ الاستقلالية معتبرا في الأسماء عند القوم، فكذلك لا يعتبر في الحروف فكلاهما عام و هو المطلوب. و أمّا لو كان لحاظ الآلية معتبرا في الحروف و سببا لجزئيّة معانيها فليكن لحاظ الاستقلالية في الأسماء كذلك، فالتفكيك بينهما تحكم و هو غير مقبول.

(3) أي: خلاصة البحث في الحروف بعد مرور جميع ما تقدم: إنّه ليس المعنى في كلمة «من» الابتدائية، و في لفظ الابتداء - مثلا - إلاّ مفهوما واحدا و هو مفهوم الابتداء، فكما لا يعتبر في لفظ الابتداء، لحاظ الابتداء في نفسه و مستقلا، كذلك لا يعتبر في معنى كلمة «من» لحاظ المعنى في غيره و آليا.

و الحاصل: أنّه كما لا تعتبر الاستقلالية جزءا من معنى الاسم، كذلك لا تعتبر الآلية جزءا من معنى الحرف، و كما لا يكون لحاظ الاستقلال في الاسم موجبا لجزئية المعنى فليكن لحاظ الآلية في الحرف كذلك أي: غير موجب لجزئية المعنى. فالوضع و الموضوع له في كليهما عام.

(4) الضمير يرجع إلى لفظ الابتداء، كما أنّ الضمير في «لحاظه و نفسه» عائد إلى معنى لفظ الابتداء.

ص: 39

في نفسه و مستقلا كذلك لا يعتبر في معناها (1) لحاظه في غيرها آلة، و كما لا يكون لحاظه (2) فيه موجبا لجزئيته (3) فليكن كذلك فيها.

إن قلت: على هذا (4) لم يبق فرق بين الاسم و الحرف في المعنى، و لزم كون مثل كلمة «من» و لفظ الابتداء مترادفين، صح استعمال كل منهما في موضع الآخر، و هكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها (5) و هو باطل بالضرورة، كما هو واضح.

قلت: الفرق بينهما (6) إنما هو في اختصاص كل منهما بوضع، حيث إنّه وضع

=============

(1) أي: معنى كلمة «من» و الضمير في «لحاظه» راجع إلى المعنى. و في «غيرها» يرجع إلى كلمة «من».

(2) أي: لحاظ الاستقلال في معنى لفظ الابتداء.

(3) أي: لجزئية معنى لفظ الابتداء، و الضمير في «فيها» يرجع إلى كلمة «من»، أي:

فليكن لحاظ الآلية في معنى كلمة «من» غير موجب لجزئيته.

(4) أي: على ما ذكرتم في التحقيق من: إنّ اللحاظ الذهني لا دخل له في المعنى الحرفي، كما لا دخل له في المعنى الاسمي «لم يبق فرق بين الاسم و الحرف في المعنى».

و لازم ذلك هو الترادف المستلزم لصحة استعمال كلمة «من» مكان لفظ الابتداء و بالعكس، و هو باطل بالضرورة؛ إذ لا يصح أن يقال «سرت ابتداء البصرة» مكان «سرت من البصرة».

و يمكن تقريب الإشكال بالقياس الاستثنائي بأن يقال: لو كان معنى الحرف متحدا مع معنى الاسم - كما بيّنتم - لم يبق فرق بين الاسم و الحرف في المعنى و التالي باطل فالمقدم مثله. و الملازمة بين المقدم و التالي ثابتة بالفرض؛ لأن المفروض اتحاد الموضوع له في الاسم و الحرف؛ بمعنى: أن معنى كلمة «من» و لفظ الابتداء هو مفهوم الابتداء.

و أمّا بطلان التالي فإنّ لازم عدم الفرق هو الترادف المستلزم لصحة استعمال كل منهما مكان الآخر و هو باطل كما عرفت.

(5) أي: الحروف مثل لفظ الاستعلاء، بمعنى: على، و لفظ الانتهاء بمعنى: إلى.

الفرق بين الاسم و الحرف في الوضع

(6) أي: الفرق بين الحرف و الاسم إنما هو في الوضع بمعنى: أنّ لكل منهما وضع خاص به، فلذا لا يجوز استعمال أحدهما مكان الآخر.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الواضع و إن كان قد وضع الاسم و الحرف لمعنى واحد و هو المفهوم الكلي؛ إلاّ إنّ لهذا المفهوم حالتين: حالة تبعية و في غيره، و حالة

ص: 40

الاسم ليراد منه معناه بما هو هو و في نفسه، و الحرف ليراد منه معناه لا كذلك، بل بما هو حالة لغيره كما مرت الإشارة إليه غير مرة، فالاختلاف بين الاسم و الحرف في الوضع؛ يكون موجبا لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر و إن اتفقا فيما له الوضع (1) و قد عرفت - بما لا مزيد عليه - أن نحو إرادة المعنى (2) لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصياته و مقوماته.

ثم لا يبعد (3) أن يكون الاختلاف في الخبر و الإنشاء أيضا كذلك؛ فيكون الخبر استقلالية و في نفسه. ثم اشترط الواضع شرطا و هو: أن المستعمل يستعمل الاسم إذا تصور و لاحظ المعنى مستقلا و في نفسه، و يستعمل الحرف إذا تصوره آليا و حالة لغيره.

=============

و هذا الاشتراط أوجب عدم صحة استعمال أحدهما مكان الآخر و إن اتفق الاسم و الحرف في ذات المعنى الموضوع له فحينئذ يقع الكلام في الشرط بأنّه من قبيل الشرط المتأخر - بمعنى: كون الاستعمال المتأخر كاشفا عن تحقق الوضع في السابق - أو من قبيل الشرط المتقدم فلا يتحقق الوضع إلاّ بعد تحقق الاستعمال؛ وجهان أقربهما الأوّل، لكون الثاني مستلزما للدور، إذ الوضع موقوف على تحقق الاستعمال نظرا إلى الشرطية، و الاستعمال موقوف على الوضع نظرا إلى الفرعية إذا لم تكن هناك قرينة المجاز.

و هناك احتمال أن يكون الاختلاف من حيث الداعي بمعنى: أنّه كان الداعي لوضع الاسم أي: لفظ الابتداء ليراد منه معناه بما هو مستقل و في نفسه. و الداعي لوضع الحرف أي: كلمة «من» هو مفهوم الابتداء لا بما هو مستقل و في نفسه، بل بما هو حالة لغيره.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الاختلاف بين معنى الاسم و معنى الحرف - سواء كان في الشرط أو الداعي - مما يكفي في عدم صحة استعمال أحدهما مكان الآخر، فلا يرد الإشكال المذكور. و تركنا ما في المقام من النقض و الإبرام رعاية للاختصار.

(1) أي: في ذات المعنى الموضوع له.

(2) أي: مثل كون المعنى آليا أو استقلاليا لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصيات المعنى و مقوّماته المأخوذة في المعنى.

(3) أي: ليس من البعيد إلحاق الخبر و الإنشاء بالاسم و الحرف؛ بأن يكون الاختلاف فيهما أيضا كالاختلاف في الاسم و الحرف، فكما أن معنى لفظي (من) و ابتداء متحد ذاتا و هو مفهوم الابتداء، و لحاظ الآلية و الاستقلالية خارجان عن الموضوع له كما عرفت. كذلك يمكن أن يكون «بعت» الإخباري و «بعت» الإنشائي واحدا بالذات و هو النسبة الصدورية بين البيع و فاعله، و الاختلاف بينهما إنما هو في قصد المتكلم بمعنى: أنه

ص: 41

موضوعا ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، و الإنشاء ليستعمل في قصد تحققه و ثبوته و إن اتفقا فيما استعملا فيه (1) فتأمل (2).

ثم إنه قد انقدح (3) مما حققناه: أنّه يمكن أن يقال: أنّ المستعمل فيه في مثل أسماء إن قصد بكلمة «بعت» الحكاية عن ثبوت نسبة البيع في الخارج فهو إخبار، و إن قصد بها إيجاد البيع فهو إنشاء، و لكن الواضع اشتراط أن يستعمل لفظ «بعت» الإخباري عند قصد الحكاية، و الإنشائي عند قصد إيجاد المعنى، ثم قصد الحكاية في الإخبار، و قصد الإيجاد في الإنشاء إنما هو من خصوصيات الاستعمال و أطواره، فلا دخل لهما في ذات المعنى الموضوع له.

=============

(1) أي: ما استعمل الخبر و الإنشاء فيه هو معنى واحد أعني: نسبة المبدأ إلى الذات.

(2) لعله إشارة إلى ان تعبير المصنف بنفي البعد - حيث قال: لا يبعد، مشعر بإمكان دخول قصد الإنشاء و الخبر في الموضوع له و ليس كذلك، بل لا بد من الالتزام بخروجهما عنه في الإنشاء و الإخبار، لأنهما أمران قصديان، و المعنى المقيّد بقصد المتكلم لا وجود له في الخارج ليخبر عنه عند قصد الحكاية، و لا يعقل إيجاده في الخارج كي يقصد إيجاده عند طلب الآمر مثلا، فلا وجه حينئذ لنفي البعد عن ذلك كما ظاهر العبارة.

أو إشارة إلى أن قياس الإخبار و الإنشاء بالاسم و الحرف لا يصح إلاّ في الألفاظ المشتركة؛ التي تستعمل تارة في الإنشاء، و أخرى في الإخبار كصيغة - بعت - مثلا، و أما المختصة بإحداهما كالجملة الاسمية المختصة بالإخبار في قولنا: زيد قائم. و صيغة - افعل - و ما شاكلها المختصة بالانشاء كقولنا: أكرم زيدا؛ فلا يصح القياس المذكور إذ لا يصح قصد الحكاية في الألفاظ المختصة بالإنشاء، و لا قصد الإيجاد في الألفاظ المختصة بالإخبار.

و كيف كان؛ فمحل البحث هي الجمل التي يراد بها الإنشاء تارة و الإخبار أخرى كلفظ «بعت».

و ملخص الكلام فيه: أن المعنى في مثله واحد و هو نسبة المبدأ إلى الذات، و أما الإخبارية و الإنشائية فمن الأغراض الداعية إلى الاستعمال؛ فإن قصد المستعمل حكايته عن النسبة الواقعية فهو إخبار، و إن قصد الإيجاد فهو إنشاء، و عليه: فلا يكون الاستعمال في الإنشاء مجازا، إذ المفروض: أنّه قد استعمل في الموضوع له و الإنشائية من أغراض الاستعمال و دواعيه.

(3) أي: قد ظهر «مما حققناه» في الحروف و الأسماء من خروج الآلية و الاستقلالية

ص: 42

الإشارة و الضمائر - أيضا - عام، و إنّ تشخصه (1) إنما نشأ من قبل طور استعمالها، حيث إنّ أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها، و كذا (2) بعض الضمائر، و بعضها (3)، ليخاطب به المعنى، و الإشارة و التخاطب يستدعيان التشخص، كما لا يخفى.

فدعوى: أن المستعمل فيه في مثل «هذا» أو «هو» أو «إياك» إنّما هو المفرد المذكر، و تشخصه إنّما جاء من قبل الإشارة، أو التخاطب بهذه الألفاظ إليه، فإنّ الإشارة أو التخاطب لا يكاد يكون إلاّ إلى الشخص أو معه، غير مجازفة (4).

=============

عن حيّز الموضوع له، و المستعمل فيه «أنّه يمكن أن يقال: إنّ المستعمل فيه في مثل أسماء الإشارة و الضمائر أيضا عام»، و خصّ عمومية المستعمل فيه بالذكر؛ لأنّ عمومية المستعمل فيه تستلزم عمومية الوضع و الموضوع له.

(1) أي: تشخص المستعمل فيه نشأ من قبل طور استعمال أسماء الإشارة. فلا يمكن أن يكون مأخوذا في الموضوع له جزءا أو قيدا و الضمائر في استعمالها - و بها - و معانيها - ترجع إلى أسماء الإشارة.

(2) أي: مثل أسماء الإشارة: بعض الضمائر وضع ليشار به إلى معناه كضمير الغائب.

(3) أي: بعض الضمائر وضع ليخاطب به المعنى.

و حاصل الكلام: أنّ المستعمل فيه بمثل هذا و هو و إياك إنّما هو المفرد المذكر و هو عام، و التشخص الناشئ من الإشارة في هذا و هو و من التخاطب في إياك لا يكون موجبا لتشخص المستعمل فيه، لأنه نشأ من الاستعمال، فكما أنّ كلا من لحاظ الآلية و الاستقلالية خارج عن متن المعنى في الأسماء و الحروف فكذلك الإشارة و التخاطب خارجان عن أصل المعنى في أسماء الإشارة و الضمائر. غاية الأمر: أنّ اسم الإشارة و ضمير الغائب وضعا ليراد منهما الإشارة إلى المعنى، و ضمير المخاطب ليراد منه التخاطب معه.

(4) قوله: «غير مجازفة» خبر عن قوله: «فدعوى...» إلخ، و التعبير بالجزاف لعله إشارة إلى عدم برهان عليه كما في حاشية المشكيني.

بيان ذلك: أنّه لا إشكال في وجود إشارة خارجية في مقام استعمال أسماء الإشارة، و إنّما الإشكال في أنّ تلك الإشارة داخلة في الموضوع له أو المستعمل فيه، و من قيود الوضع أو غرض منه، أو من باب الانصراف لكثرة الاستعمال في هذا المقام. و مختار

ص: 43

فتلخص (1) مما حققناه: أنّ التشخص الناشئ من قبل الاستعمالات، لا يوجب تشخص المستعمل فيه، سواء كان تشخصا خارجيا كما في مثل أسماء الإشارة - أو ذهنيا - كما في أسماء الأجناس و الحروف و نحوهما - من غير فرق في ذلك أصلا بين الحروف و أسماء الأجناس.

و لعمري (2) هذا واضح، و لذا ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصا في الحروف عين و لا أثر، و إنما ذهب إليه (3) بعض من تأخر، المصنف «قدس سره» هو الثالث، كما في الحروف و الإخبار و الإنشاء و حيث لا يلزم من القول بدخولها في الموضوع له أو المستعمل فيه محال - كما يلزم في الحروف - عبّر بما ذكر، فحينئذ يكون الإشارة بلفظ «هذا» كالإشارة بالحصاة أو باليد في مقام استعمال أسماء الأجناس، فكما إذا أطلقت كلمة «رجل» و أشير إليه باليد لا توجب هذه الإشارة كون الموضوع له أو المستعمل فيه في لفظ «رجل» خاصا، فكذلك الإشارة بلفظ «هذا»، و تركنا ما في المقام من تطويل الكلام بالنقض و الإبرام رعاية لما هو المطلوب في المقام من الاختصار.

=============

تلخيص البحث في المقام معنى الحروف

(1) ملخص ما مضى من البحث و التحقيق: «أنّ التشخص الناشئ من قبل الاستعمالات» - كتشخص مفهوم المفرد المذكر خارجا بالإشارة إليه، و تشخص المفاهيم الإخبارية و الإنشائية ذهنا بقصد الإخبار و الإنشاء، و تشخص معاني الحروف ذهنا بلحاظها حالة للغير، و تشخص معاني الأسماء ذهنا بلحاظها استقلالا - لا يوجب تشخص المستعمل فيه، و لا تشخص الموضوع له؛ و لا يوجب جعل التشخص جزءا من الموضوع له أو المستعمل فيه؛ لأنّه من شئون الاستعمال و أطواره، فيستحيل أخذه في المعنى الموضوع له؛ لاستلزامه الدور، إذ تشخص المعنى موقوف على الاستعمال، فلو أخذ في المعنى لكان الاستعمال موقوفا عليه؛ للزوم لحاظ المعنى و تصوّره عند الاستعمال فيلزم الدور و هو محال كما قرر في محله. و لا فرق في ذلك - أي: في عدم تشخص المعنى بسبب التشخص الناشئ عن الاستعمال - بين الحروف و أسماء الأجناس.

(2) أي: المصنف «قدس سره» يثبت رأيه بالقسم حيث يقول: «و لعمري هذا واضح».

(3) أي: إلى كون الموضوع له أو المستعمل خاصا ذهب بعض من تأخر كصاحب الفصول على ما في بعض الحواشي. و هذا توهم، و لعل هذا التوهم نشأ من توهم كون

ص: 44

و لعله لتوهم كون قصده بما هو في غيره من خصوصيات الموضوع له أو المستعمل فيه، و الغفلة (1) من إن قصد المعنى من لفظه على أنحائه لا يكاد يكون من شئونه و أطواره؛ و إلا (2) فليكن قصده بما هو هو و في نفسه كذلك (3) فتأمل في المقام، فإنّه دقيق و قد زلّ فيه أقدام غير واحد من أهل التحقيق و التدقيق.

الثالث صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له (4)

اشارة

صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له، هل هو بالوضع أو بالطبع ؟ وجهان قصد المعنى الحرفي بما هو في غيره - أي: الآلية - من خصوصيات الموضوع له أو المستعمل فيه.

=============

(1) أي: الغفلة عما ذكرناه من أن قصد المعنى من اللفظ بجميع أنحائه كالآلية و الاستقلالية و الإخبارية و الإنشائية و غيرها لا يكاد يكون من شئون المعنى الموضوع له؛ لاستلزامه الدور كما عرفت.

(2) أي: لو كان قصد المعنى في الحروف من شئونه فليكن قصده بما هو هو و في نفسه؛ كما في الأسماء من شئون المعنى و موجبا لجزئيته، مع إنّه لم يقل أحد بكون المعنى في أسماء الأجناس خاصا. فالخصوصية المترتبة على قصد المعنى لا توجب جزئيته سواء كان المعنى اسميا أو حرفيا، فكل من الموضوع له و المستعمل فيه فيهما عام.

(3) أي: دخيلا في المعنى و موجبا لجزئيته.

خلاصة البحث في الوضع عند المصنف ترجع إلى أمور تالية

1 - الوضع هو: نحو اختصاص اللفظ بالمعنى ليشمل التعييني و التعيّني.

2 - الوضع باعتبار تصور المعنى الموضوع له على أربعة أقسام في مقام الثبوت. ثم ما وقع منها هو اثنان: 1 - الوضع الخاص و الموضوع الخاص. 2 - الوضع العام و الموضوع له العام.

3 - رأي المصنف في وضع الحروف و أسماء الإشارة و الضمائر:

إنّ كلا من الوضع و الموضوع له و المستعمل فيه فيها عام كأسماء الأجناس.

ملاك صحة الاستعمال في غير ما وضع له

(4) و قبل البحث ينبغي بيان ما هو محل النزاع في استعمال اللفظ في المعنى المجازي.

ص: 45

بل قولان أظهرهما: أنه (1) بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه، و لو مع منع الواضع عنه، و باستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه و لو مع ترخيصه و لا معنى لصحته (2) إلاّ حسنه، و الظاهر: أنّ صحة استعمال اللفظ في نوعه (3) أو مثله (4) من قبيله (5)، كما يأتي الإشارة إلى تفصيله.

=============

فنقول: إنّ موضوع النزاع هو: أنّ صحة استعمال اللفظ فيما يناسب المعنى الموضوع له هل هي أمر يرجع إلى الطبع و الذوق، أم أنّه أمر يرجع إلى إذن الواضع ؟ فإن رخص فيه الواضع صح و إلاّ لم يصح.

(1) أي: صحة الاستعمال فيما يناسب ما وضع له بالطبع لا بالوضع.

توضيح ما أفاده المصنف في المقام يتوقف على مقدمة و هي: أنّه لا ريب في أن المناط في صحة استعمال اللفظ فيما وضع له هو الوضع فقط. و إنّما الكلام و الخلاف فيما هو المناط في صحة استعمال اللفظ فيما يناسب الموضوع له هل هو الوضع النوعي، كما نسب إلى المشهور أو هو الطبع فلا يكون للمجازات وضع.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن ملاك صحة استعمال اللفظ في المعنى المجازي عند المصنف هو: قبول الطبع السليم، فكل استعمال قبله الطبع يصح بشهادة الوجدان، و كل استعمال لا يحسن طبعا لا يصح و إن أجاز الواضع، فإذا وجدت مناسبة بحكم الطبع بين المعنى الحقيقي و المجازي فهو حسن و إن منع الواضع عنه، و إذا لم توجد لم يحسن و إن أجاز الواضع، فحسنه مع منع الواضع و قبحه مع إجازة الواضع يدلان على عدم توقف الاستعمال على الوضع. فلا دخل للواضع في حسن الاستعمال.

و من هنا يظهر فساد ما نسب إلى الجمهور من: أن ملاك صحة استعمال اللفظ في غير ما وضع له هو الوضع. و المراد بالوضع هو الوضع النوعي؛ و هو عبارة عن إذن الواضع في استعمال اللفظ في معنى بينه و بين ما وضع له إحدى العلائق المصححة لاستعمال اللفظ في المعنى المجازي؛ من دون لحاظ مادة معينة، أو هيئة مخصوصة لذلك اللفظ في مقام الوضع. و مما ذكرناه تظهر ثمرة القولين في الاحتياج إلى العلاقة و عدمه؛ فإن كان الملاك هو الطبع فلا يحتاج إليها، و إن كان الوضع فيحتاج إليها.

(2) أي: لا معنى لصحة الاستعمال إلاّ حسن الاستعمال.

(3) أي: مثل: «ضرب» في قولهم: «ضرب فعل ماض» حيث يكون «ضرب» نوعا من الفعل.

(4) أي: كقولنا: زيد في - ضرب زيد - فاعل، إذا أردنا به مثله.

(5) أي: من قبيل استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له، فيكون بالطبع لا

ص: 46

الرابع (1)

لا شبهة في صحة إطلاق اللفظ، و إرادة نوعه به، كما إذا قيل: ضرب - مثلا - بالوضع. وجه كون استعمال اللفظ في نوعه أو مثله من قبيل استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له: أنّ استعمال اللفظ في نوعه أو مثله لا يتصف بالحقيقة و لا بالمجاز؛ فلذا جعله من قبيل استعمال اللفظ في المعنى المجازي لا نفسه.

=============

و يشهد لذلك أيضا - أي: كشهادة الوجدان -: أنّه لو كان بالوضع يلزم أن تكون الألفاظ الموضوعة مشتركة، و القرينة المحتاجة إليها معيّنة لا صارفة، و لم يقل به أحد.

ثم قوله: «و الظاهر: أنّ صحة استعمال اللفظ في نوعه...» إلخ دليل آخر لإثبات المقصود. بيانه: أنّه لا شبهة في صحته مع إنّه لا وضع فيه لا شخصيا و لا نوعيا.

و كيف كان: فالحاصل: أنّ صحة استعمال اللفظ في غير ما وضع له - كالمجازات - و عدم صحته ترجع إلى الاستحسان و الاستهجان الطبيعي، لا إلى موافقة الواضع و ترخيصه أو عدم موافقته. و لا معنى لصحة الاستعمال إلاّ حسن الاستعمال في المحاورات و الخطابات، فلا يعتد بما قيل من أن المجازات لها وضع نوعي، فتكون متوقفة على وضع الواضع. و تركنا ذكر ما أورده غير واحد على المصنف «قدس سره» رعاية للاختصار.

الرابع استعمال اللفظ في نوعه أو صنفه أو شخصه

اشارة

(1) توضيح ما أفاده المصنف في الأمر الرابع يتوقف على مقدمة و هي: إنّ استعمال اللفظ في المعنى على قسمين: إمّا حقيقي أو مجازي. و أمّا استعمال اللفظ في اللفظ فعلى أقسام أربعة:

1 - استعماله في نوعه.

2 - استعماله في صنفه.

3 - استعماله في مثله.

4 - استعماله في شخصه.

الأول: كقول أهل التصريف: «ضرب فعل ماض» قاصدين لفظ نوع الفعل الماضي أعني: الثلاثي المجرّد.

الثاني: كقول النحاة: «زيد» في «ضرب زيد فاعل» قاصدين صنف اللفظ المرفوع الذي أسند إليه الفعل أعني: الفاعل، لأنّ المرفوع على أصناف منها: المبتدأ، و منها: الخبر.

ص: 47

فعل ماض، أو صنفه كما إذا قيل: «زيد» في (ضرب زيد) فاعل، إذا لم يقصد به شخص القول، أو مثله ك «ضرب» في المثال فيما إذا قصد.

و قد أشرنا (1) إلى أن صحة الإطلاق كذلك و حسنه إنّما كان بالطبع لا بالوضع، و إلا (2) كانت المهملات موضوعة لذلك (3) لصحة الإطلاق كذلك فيها، و الالتزام بوضعها (4) كذلك كما ترى.

=============

الثالث: ك «ضرب» في المثال الأوّل إذا قصد به مثله أي: ضرب الآخر و هو فعل ماض، لأنّ ضرب في المثال مبتدأ و ليس فعلا.

الرابع: إذا قصد بضرب في قولهم: «ضرب فعل ماض» شخص القول أي: نفس الضاد و الراء و الباء الصادر من اللافظ، أو كقولنا: زيد لفظ و أريد منه نفس الزاء، و الياء و الدال الصادر من اللافظ.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنّ الكلام في مقامين:

المقام الأول: أنّ استعمال اللفظ في هذه الموارد هل من استعمال اللفظ في المعنى أم لا؟ و على كلا التقديرين لا يكون الاستعمال بالوضع لا على نحو الحقيقة و لا على نحو المجاز؛ و ذلك لعدم الوضع و لا العلاقة المصححة للاستعمال. فيكون مجرّد جري الإنسان على مقتضى الطبع في تأدية مقاصده بما يتيسّر له من البيان.

المقام الثاني: في صحة إطلاق اللفظ و إرادة شخصه أو مثله أو صنفه أو نوعه، ثم لا إشكال في صحة استعمال اللفظ في نوعه أو صنفه أو مثله سواء قلنا: بأنّ الاستعمال من باب استعمال اللفظ في المعنى، أو قلنا: بأنّه ليس من هذا الباب، و إنّما الإشكال في صحة إطلاق اللفظ و إرادة شخصه، و سيأتي توضيح ذلك مع الجواب في كلام المصنف.

(1) أي: في الأمر الثالث «إلى أنّ صحة الإطلاق كذلك» أي: إطلاق اللفظ و إرادة النوع أو الصنف أو المثل «إنّما كان بالطبع لا بالوضع».

(2) أي: و إن لم يكن إطلاق اللفظ في نوعه أو صنفه أو مثله بالطبع بأن كان بالوضع - كما نسب إلى المشهور - لزم منه الالتزام بوضع المهملات للنوع أو الصنف و هو خلف، لأنّ المفروض هو عدم الوضع للمهملات إذ المراد بالمهمل ما ليس له وضع في مقابل ما له وضع.

(3) أي: كانت المهملات موضوعة للنوع أو الصنف أو المثل لو لم يكن إطلاق اللفظ فيها بالطبع، بل كان بالوضع؛ و ذلك لصحة الإطلاق كذلك أي: في النوع و أخويه «فيها» أي: في المهملات، حيث يقال «ديز مقلوب زيد» و «جسق مهمل».

(4) أي: الالتزام بوضع المهملات للنوع أو الصنف أو المثل «كما ترى» أي: مستلزم

ص: 48

و أمّا إطلاقه و إرادة شخصه، كما إذا قيل: «زيد لفظ» و أريد منه شخص نفسه (1)، ففي صحته بدون تأويل (2) نظر، لاستلزامه اتحاد الدال و المدلول، أو تركّب القضية من جزءين، كما في الفصول (3).

=============

للخلف أي: عدم اللفظ المهمل، ضرورة: اشتراك جميع الألفاظ في هذه الدلالة أي:

الدلالة الوضعية، فلا يصح تقسيم اللفظ إلى الموضوع و المهمل، فلا بدّ من الالتزام بكون الاستعمال منوطا بالطبع؛ لئلا يلزم محذور الخلف بانتفاء المهمل.

و يمكن الاستدلال بالقياس الاستثنائي على كون إطلاق اللفظ بالطبع لا بالوضع بأن يقال: لو كان إطلاق اللفظ و إرادة النوع مثلا بالوضع لكانت الألفاظ المهملة موضوعة للنوع أو الصنف. و التالي باطل فالمقدم مثله، و الملازمة ثابتة فيما إذا كان استعمال اللفظ المهمل في النوع أو الصنف بالوضع.

و أمّا بطلان التالي: فللزوم الخلف؛ لأن الوضع في الألفاظ المهملة هو خلاف المفروض، لأنّ المفروض: أنّها مهملة. اللهم إلاّ إن يقال: بأنّ وضع الألفاظ المهملة للنوع و الصنف و المثل لا ينافي إهمالها؛ لأنّ المهمل ما ليس له معنى و لم يوضع لمعنى أصلا، فوضعها للألفاظ المخصوصة لا يخرجها عن الإهمال بالمعنى المذكور، فحينئذ التالي ليس باطلا، كي ينتج بطلان المقدم.

(1) أي: نفس الزاء و الياء و الدال الصادر من اللافظ فعلا.

(2) أي: بدون تأويل إلى النوع أو المثل، و هذه العبارة موجبة لتوهم صحة الإطلاق، و إرادة الشخص مع التأويل؛ مع إنه ليس كذلك، لخروجه حينئذ عن إرادة شخص اللفظ.

(3) توضيح ما في الفصول(1) من الإشكال على إطلاق اللفظ و إرادة شخصه يتوقف على مقدمة و هي:

أنّ القضية اللفظية مركبة من أجزاء ثلاثة:

1 - موضوع. 2 - محمول. 3 - نسبة و هي حاكية عن القضية الذهنيّة.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنّ موضوع القضية في قولنا: «زيد لفظ» هو لفظ زيد شخصه و محمولها هو لفظ. و عليه: فإن التزم بوجود الدال في القضية أعني «زيد لفظ» و هو الموجب لانتقال صورة المدلول في الذهن، لزم اتحاد الدال و المدلول، إذ المدلول ليس إلاّ نفس موضوع القضية اللفظية و هو لفظ «زيد»، و المفروض: أنّه هو الدال، فيكون

ص: 49


1- الفصول الغروية، ص 22، س 38.

بيان ذلك: أنّه إن اعتبر دلالته على نفسه - حينئذ - لزم الاتحاد (1)، و إلاّ (2) لزم تركبها من جزءين؛ لأنّ القضية اللفظية - على هذا - إنّما تكون حاكية عن المحمول و النسبة لا الموضوع، فتكون القضية المحكية بها مركبة من جزءين، مع امتناع التركب إلاّ من الثلاثة؛ ضرورة: استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين.

قلت (3): يمكن أن يقال: إنّه يكفي تعدد الدال و المدلول اعتبارا، و إن اتحدا ذاتا، الدال عين المدلول و هو ممتنع لامتناع اتحاد الحاكي و المحكي، لأنّ الدلالة و الحكاية من سنخ العلية و اتحاد العلة و المعلول ممتنع. و إن التزم بعدم الدلالة و الحكاية عن ذات الموضوع باللفظ لزم تركب القضية الذهنية من جزءين أي: النسبة و المحمول لعدم الحكاية عن الموضوع، كي ينتقل إلى الذهن، و تركّبها من جزءين ممتنع، لأنّ النسبة متقوّمة بطرفين فلا توجد بطرف واحد.

=============

(1) أي: اتحاد الدال و المدلول و هو باطل؛ ضرورة: أنّ الدال وجه و عنوان للمدلول، و الوجه و العنوان غير ذي الوجه و المعنون. هذا مضافا إلى لزوم وحدة الانتقال، مع إنه لا بد في الاستعمال من تعدده.

و توضيح ذلك: أنه لا شبهة في أن الاستعمال لا يكاد ينفك عن انتقالين: الانتقال إلى اللفظ أولا و إلى المعنى ثانيا، و من المعلوم: أن منشأ التعدد فيه تعدد المنتقل إليه، فلو كان الدال و المدلول شيئا واحدا لم يتعدد المنتقل إليه فلم يتعدد الانتقال أيضا، فلزم ما ذكرناه من وحدة الانتقال.

(2) أي: و إن لم تعتبر دلالته على نفسه لزم تركب القضية الذهنية من جزءين و هو ممتنع. كما أشار إليه بقوله: «ضرورة...» إلخ.

ملخص الإشكال: أنّ لفظ زيد في المثال إن أخذ بعنوان الدال لزم اتحاد الدال و المدلول، فيجتمع لحاظه آليا و لحاظه استقلاليا، و إن أخذ بلا معنى لزم تركب القضية من جزءين أي: من محمول و نسبة من دون موضوع.

(3) أجاب المصنف عن هذا الإشكال بما حاصله: أنّ لنا أن نختار كلا الشقين، و لا يلزم أي محذور. فنلتزم بوجود الدلالة و لا يلزم محذور اتحاد الدال و المدلول، لكفاية التغاير الاعتباري بين الدال و المدلول و إن اتحدا ذاتا و هو موجود فيما نحن فيه، إذ في اللفظ جهتان: جهة كونه صادرا من اللافظ، وجهة كونه مقصودا له، فهو بالجهة الأولى دال، و بالجهة الثانية مدلول.

كما أنّه يمكن أن نلتزم بعدم الدلالة و لا يلزم محذور تركب القضية من جزءين؛ لأنّ

ص: 50

فمن حيث إنّه لفظ صادر عن لافظه كان دالا، و من حيث (1) إنّ نفسه و شخصه مراده كان مدلولا. مع إنّ (2) حديث تركب القضية من جزءين - لو لا اعتبار الدلالة في البين - إنّما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه، و إلاّ (3) كان أجزاؤها الثلاثة انتقال الذهن إلى ذات الموضوع لا يتوقف على ثبوت الحاكي عنه، بل يتحقق بإحضار نفس الموضوع خارجا، و الحكم عليه و ما نحن فيه يمكن أن يكون من هذا القبيل، فإنّ ذات الموضوع هو نفس لفظ «زيد» و قد أحضر بنفسه، فتتحقق صورته في الذهن بواسطة ذلك، ثم يحكم عليه بواسطة اللفظ الحاكي عن معناه الذي يكون به الحكم.

=============

إلاّ إنّ هذا النحو يخرج عن كونه من استعمال اللفظ في المعنى؛ لأنّه إحضار لنفس المعنى، كما في منتقى الأصول تقرير آية اللّه العظمى السيّد محمد الروحاني «قدس سره».

(1) إشارة إلى تحقق التغاير الاعتباري و كفايته في تعدد الدال و المدلول.

(2) هذا إشارة إلى اختيار عدم الدلالة، و لا يلزم محذور تركّب القضية من جزءين كما عرفت.

و ملخص الجواب: أنّ اللفظ من مقولة الكيف المسموع، فيكون عرضا، و كل عرض له وجود في نفسه بنحو مفاد كان التامة، و وجود لغيره بنحو مفاد كان الناقصة؛ و إن كان وجوده في نفسه بعين وجوده لغيره خارجا، فلفظ زيد إذا أريد به شخصه فبما أنّه وجود لغيره و فان فيه يكون دالا، و بما أنّه موجود في نفسه يكون مدلولا.

(3) أي: لو كان الموضوع نفس اللفظ و شخصه كانت أجزاؤها الثلاثة تامة فلا يلزم المحذور المزبور.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي:

أنّ القضية تارة: تشتمل على موضوع لفظي و معنوي و محمول كذلك كقولنا: زيد عالم حيث يكون لفظ زيد موضوعا لفظيا و معناه موضوعا معنويا، و كذلك يكون لفظ عالم محمولا لفظيا و معناه محمولا معنويا، ثم الموضوع و المحمول اللفظيان حاكيان عن الموضوع و المحمول المعنويين.

و أخرى: لا تشتمل القضية على موضوع معنوي و لفظي؛ بأن يكون الموضوع هو شخص اللفظ من دون أن يكون حاكيا عن المعنى.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الموضوع فيما نحن فيه هو شخص اللفظ لا يحتاج في وجوده و حضوره إلى الواسطة، بل حاله حال بقية الأفعال الخارجية و الموجودات الفعلية مثلا؛ مثل من يضع يده على «زيد» و يقول: «عالم» أي: هذا الشخص الموجود خارجا

ص: 51

تامة، و كان المحمول فيها منتسبا إلى شخص اللفظ و نفسه، غاية الأمر: أنّه نفس الموضوع، لا الحاكي عنه (1)، فافهم، فإنّه لا يخلو عن دقة (2) و على هذا (3): ليس من باب استعمال اللفظ بشيء، بل يمكن أن يقال: إنّه ليس أيضا من هذا الباب (4) ما إذا أطلق اللفظ و أريد به نوعه أو صنفه، فإنّه (5) فرده و مصداقه حقيقة، لا لفظه (6) و ذاك عالم، و بهذا يجعل المحمول في القضية منتسبا إلى الشخص الموجود خارجا و هو نفس الموضوع في القضية الخارجية. و المقام من هذا القبيل حيث إن الموضوع هو شخص اللفظ خارجا و المحمول ثابت له، فلا يلزم المحذور المزبور، لأنّ القضية مركبة من أجزاء ثلاثة: 1 - الموضوع و هو ذات اللفظ و شخصه. 2 - المحمول و هو «لفظ». 3 - مع النسبة بينهما.

=============

و حينئذ فلا يلزم خلو القضية عن الموضوع، كي يقال: إنّه مستحيل. نعم؛ يلزم خلوّها عن الموضوع الحاكي و هو غير مستحيل، فالمستحيل و هو عدم الموضوع غير لازم، و اللازم و هو: عدم كون الموضوع حاكيا غير مستحيل.

(1) أي: ليس الموضوع حاكيا عن الموضوع الواقعي في القضية المحكية كما هو الشأن في القضايا المتعارفة.

(2) أي: وجه الحاجة إلى الدقة: أنّ جعل شخص اللفظ موضوعا دون معناه مخالف للقضايا المتعارفة.

(3) على ما ذكرناه من أنّ الموضوع هو شخص اللفظ ليس إطلاق اللفظ و إرادة شخصه من باب استعمال اللفظ أصلا، لأنّ الاستعمال يتوقف على لفظ و معنى، و المفروض: إرادة شخص اللفظ لا معناه، فلا يندرج المقام في استعمال اللفظ في المعنى، بل يكون من باب إيجاد الموضوع ثم الحكم عليه كما عرفت.

إطلاق اللفظ في نوعه ليس من استعمال اللفظ في المعنى

(4) أي: من باب استعمال اللفظ في المعنى.

(5) أي: اللفظ هو فرد النوع أو الصنف و مصداقهما حقيقة.

(6) أي: ليس اللفظ الذي أريد به النوع لفظ النوع؛ كي يكون إطلاقه عليه من باب الاستعمال، بل شأنه شأن إطلاق اللفظ و إرادة شخصه بأن يكون الموضوع نفس اللفظ و يحكم عليه لكن لا بما هو هو، بل بما هو فرد لنوعه فيسري الحكم إلى سائر الأفراد باعتبار أنّ وجود الفرد وجود للكلي الذي يوجد في ضمن أفراده.

و بعبارة أخرى: إذا قيل: «زيد ثلاثي» و أريد به النوع فلا يكون من باب الاستعمال؛ بل هو من قبيل إحضار الطبيعي في ذهن المخاطب بإرادة فرده، فالمتكلم بذلك اللفظ قد قصد ثبوت الحكم للطبيعي ليسري منه إلى أفراده، فأوجد المتكلم في ذهن المخاطب

ص: 52

معناه؛ كي يكون مستعملا فيه استعمال اللفظ في المعنى، فيكون اللفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجا قد أحضر في ذهنه بلا واسطة حاك و قد حكم عليه ابتداء بدون واسطة أصلا، لا لفظه (1) كما لا يخفى، فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنى، بل فرد قد حكم في القضية عليه بما هو مصداق لكلي اللفظ، لا بما هو خصوص جزئيه (2).

نعم؛ (3) فيما إذا أريد به فرد آخر مثله، كان من قبيل استعمال اللفظ في المعنى.

اللهم (4) إلاّ أن يقال: إنّ لفظ «ضرب» و إن كان فردا له؛ إلاّ إنه إذا قصد به حكايته، أمرين: أحدهما: شخص اللفظ الصادر منه. و الثاني: طبيعي ذلك اللفظ الجامع بينه و بين غيره، و لما لم يكن إيجاده على ما هو عليه في الخارج إلاّ بإيجاد فرده فأوجده بإيجاد فرده؛ فلا يكون من قبيل استعمال اللفظ في المعنى في شيء، فإن وجوده عين وجود فرده في الخارج، و إيجاده عين إيجاد فرده، و عليه: فلا يعقل أن يجعل وجود الفرد دالا و حاكيا عن النوع الكلي؛ إذ لازم الدلالة و الحكاية هو التعدد في الوجود؛ و لا تعدد هنا فيه أصلا.

=============

(1) أي: فيكون اللفظ نفس الموضوع لا لفظه الحاكي عنه، كي يكون الإطلاق من قبيل استعمال اللفظ في المعنى.

(2) أي: الحكم على الفرد بما هو مصداق و ليس الحكم عليه بما هو خصوص جزئي كلي اللفظ، و الفرق بين الحكم على الفرد بما هو مصداق الكلي و بما هو جزئي الكلي:

أنّ الحكم على الفرد بما هو المصداق لا ينافي إرادة النوع أو الصنف و أمّا الحكم عليه بما هو جزئي الكلي: فينافي إرادة النوع أو الصنف؛ إذ لم يترتب الحكم و هو «لفظ» في قولنا: «زيد لفظ» على «زيد» بما أنّه لفظ خاص جزئي، بل يترتب عليه بما أنّه فرد من الكلي أعني: النوع أو الصنف.

(3) غرض المصنف «قدس سره» من هذا الكلام: أنّ ما تقدم في إطلاق اللفظ و إرادة النوع من إمكان عدم كون إطلاق اللفظ و إرادة النوع أو الصنف منه من باب الاستعمال لا يتطرق فيما إذا أريد باللفظ فرد آخر مثله؛ و ذلك لعدم كون الشخص الملفوظ مصداقا لمثله لتباين الأمثال؛ لأن كل فرد يغاير الآخر فيمتنع أن يكون وجودا له، فلا بد أن يقصد به الحكاية عن المماثل؛ فلا محيص حينئذ عن كونه من باب الاستعمال.

(4) استدراك على قوله: «بل يمكن أن يقال...» إلخ. و غرضه من هذا الاستدراك

ص: 53

و جعل عنوانا له و مرآته، كان لفظه (1) المستعمل فيه، و كان - حينئذ - كما إذا قصد به فرد مثله.

و بالجملة (2): فإذا أطلق و أريد به نوعه، كما إذا أريد به فرد مثله كان من باب هو: جعل إطلاق اللفظ و إرادة نوعه أو صنفه من باب الاستعمال، كاستعمال اللفظ و إرادة مثله؛ بتقريب: أنّ لفظ «ضرب» في قولنا «ضرب فعل ماض» و إن كان فردا للنوع؛ لكنه إذا قصد به حكايته عن النوع و دلالته عليه يصير من باب الاستعمال، نظير ما إذا قصد به فرد مثله؛ لما عرفت: من امتناع انطباق المباين على مثله، فلا محالة يكون من باب الاستعمال، لا إيجاد الموضوع هذا في المثل. و أمّا في النوع أو الصنف:

=============

فيجوز أن يكون إطلاق اللفظ من باب الاستعمال، كما يجوز أن يكون من إيجاد الموضوع.

فالمتحصل: أن إطلاق اللفظ و إرادة المثل ليس إلاّ من باب استعمال اللفظ في المعنى.

فيختص إمكان كل من إيجاد الموضوع و الاستعمال بما إذا أطلق اللفظ و أريد به النوع أو الصنف.

(1) أي: لفظ النوع أو الصنف. و قوله: «كان» جواب الشرط في قوله: «إذا قصد به». فمعنى العبارة: إذا قصد باللفظ حكاية النوع و جعل عنوانا و مرآة له؛ كان اللفظ لفظه أي: النوع «المستعمل» في النوع، و كان حينئذ من باب الاستعمال؛ كما إذا قصد به فرد مثله.

و على هذا يمكن أن يجعل اللفظ من باب استعمال اللفظ في المعنى، و يمكن أن لا يجعل كذلك، و ذلك تابع للقصد.

(2) أي: محصل ما ذكرناه في إطلاق اللفظ و إرادة نوعه أو صنفه.

توضيح ذلك: أنّ المصنف قد قال أولا: إن إطلاق اللفظ و إرادة نوعه أو صنفه كإرادة شخصه ليس من باب استعمال اللفظ في المعنى، ثم تنزّل عن هذا بقوله: «اللّهم إلاّ إن يقال...» إلخ فقد قال بكون ذلك من باب الاستعمال، و صحّحه بقياس ذلك بإطلاق اللفظ و إرادة المثل بمعنى: أنه كما إذا أطلق اللفظ و أريد به المثل كان الإطلاق من باب استعمال اللفظ في المعنى؛ كذلك إطلاق اللفظ و إرادة النوع أو الصنف؛ إذا قصد به الحكاية.

ثم يبيّن بقوله: «و بالجملة» نتيجة التنزّل عما سبق و هي جريان كلا الوجهين في إطلاق اللفظ و إرادة النوع أو الصنف؛ و ذلك لوجود ملاك كلا الوجهين، فإن الملاك في كون الإطلاق من باب الاستعمال أن يقصد به الحكاية، كما في إرادة المثل، كما أن

ص: 54

استعمال اللفظ في المعنى، و إن كان فردا منه و قد حكم في القضية بما يعمّه و إن أطلق ليحكم عليه بما هو فرد كليه و مصداقه لا بما هو لفظه (1) و به حكايته، فليس من هذا الباب؛ لكن (2) الإطلاقات المتعارفة ظاهرا ليست كذلك كما لا يخفى. و فيها ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك مما كان الحكم في القضية لا يكاد يعم شخص اللفظ، كما في مثل - ضرب فعل ماض (3) -.

=============

الملاك في عدم كونه من باب الاستعمال أن لا يقصد به الحكاية، كما في إرادة الشخص.

فإذا كانت إرادة النوع بملاك إرادة المثل كان الإطلاق من باب الاستعمال، و إن كانت بملاك إرادة الشخص لم يكن من باب الاستعمال، بل كان من باب إيجاد الموضوع في الخارج، كما عرفت.

و إن في قوله: «و إن كان فردا منه» وصلية، و ضمير «منه» يرجع إلى النوع، و ضمير المفعول في قوله: «يعمّه» عائد إلى الفرد. فالمعنى: أنّه إذا أطلق اللفظ و أريد به نوعه كان من باب الاستعمال و إن كان اللفظ فردا من النوع و هو الكلي، و لكن لما قصد به الحكاية عن النوع كان من باب استعمال اللفظ في المعنى.

(1) أي: إن أطلق اللفظ «ليحكم عليه بما هو فرد كليه و مصداقه لا بما هو لفظه و به حكايته، فليس من هذا الباب» أي: من باب استعمال اللفظ في المعنى كما عرفت.

(2) استدراك على قوله: «و إن أطلق ليحكم عليه بما هو فرد كليه...» إلخ و حاصله:

أنّ في إطلاق اللفظ و إرادة نوعه أو صنفه و إن جاز جريان الوجهين أي: كونه من باب الاستعمال و عدم كونه كذلك، و لكن الإطلاقات المتعارفة ليست من القسم الثاني و هو عدم كون الإطلاق من باب الاستعمال، بل الإطلاقات المتعارفة تكون ظاهرا من باب الاستعمال، بل فيها ما لا يمكن أن يكون من غير الاستعمال، كما إذا لم يكن محمول القضية شاملا لشخص اللفظ لعدم انطباق الطبيعة عليه، كقولنا: «ضرب فعل ماض» فإن المحمول و هو - فعل ماض - لا يشمل شخص «ضرب» لكونه مبتدأ فيكون اسما.

و ليس فعلا، فلا بد من كونه من باب الاستعمال و الحكاية عن النوع. و ضمير «فيها» يرجع إلى الإطلاقات المتعارفة.

(3) أي: لأنّ ضرب في مثل هذا التركيب مبتدأ، لا فعل ماض، فلا يعمه الحكم في القضية، بل إنما يكون اسما حاكيا عما يكون محكوما به نعم؛ يعمّه الحكم في مثل:

«ضرب لفظ»، فإن اللفظ شامل له و ان كان اسما لكونه مبتدأ.

ص: 55

الخامس (1)

لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي، لا من حيث هي

=============

الخامس خلاصة البحث في إطلاق اللفظ على اللفظ

اشارة

إنّ لإطلاق اللفظ و إرادة شخصه أو مثله أو نوعه أو صنفه مقامات:

المقام الأول: أن ملاك صحة استعمال اللفظ في اللفظ هو الطبع دون الوضع، و الدليل على ذلك: أنّه لو كان بالوضع لزم أن يكون للألفاظ المهملة وضع؛ و هو باطل قطعا إذ كونها موضوعة ينافي إهمالها.

المقام الثاني: أنّه لا إشكال في إطلاق اللفظ و إرادة نوعه أو صنفه أو مثله، و لكن لا يصح إطلاق اللفظ و إرادة شخصه إلاّ مع تأويل، لأنّه مستلزم لاتحاد الدال و المدلول؛ مع الالتزام بدلالة اللفظ على شخصه، و لتركّب القضية من جزءين مع عدم الدلالة. و قد أجاب عن المحذور الأوّل: بكفاية التعدد و التغاير الاعتباري بين الدال و المدلول، و هذا نوع من التأويل.

و عن الثاني: بأن ذلك يلزم لو لم يكن الموضوع نفس اللفظ و شخصه، و أمّا لو كان الموضوع شخصه فلا يلزم تركّب القضية من جزءين، بل أجزاؤها الثلاثة تامة.

المقام الثالث: أن إطلاق اللفظ و إرادة شخصه ليس من باب استعمال اللفظ في المعنى، بل هو إيجاد الموضوع بإلقاء اللفظ، كما أنّ إطلاق اللفظ و إرادة مثله يكون من باب استعمال اللفظ في المعنى لا غير.

و أمّا إطلاق اللفظ و إرادة نوعه أو صنفه: فيصح فيه كلا الوجهين، و لكن الأرجح عند المصنف: أنّه من باب استعمال اللفظ في المعنى؛ نظرا إلى كون الإطلاقات المتعارفة من هذا القبيل.

تبعية الدلالة للإرادة

(1) و قبل البحث ينبغي بيان ما يمكن أن يكون محلا للكلام بين الأعلام. توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن للإرادة كالدلالة أقسام:

1 - مفهوم الإرادة الذي وضع له لفظ الإرادة.

2 - مصداقها، و هو على قسمين: 1 - الإرادة الحقيقية التي هي الصفات القائمة بالنفس؛ و هي سبب لتحريك العضلات نحو المطلوب. 2 - الإرادة الإنشائية المنشأة بصيغة الأمر مثلا، ثم لا خلاف في عدم جزئية مفهوم الإرادة لمعنى اللفظ الموضوع،

ص: 56

كما لا خلاف في عدم جزئية الإرادة الإنشائية؛ و إنّما الخلاف في دخول الإرادة الحقيقية، ثم الخلاف في مدخلية إرادة المستعمل في الدلالة لا إرادة الواضع.

ثم الدلالة كالإرادة على أقسام ثلاثة: 1 - الدلالة التصورية. 2 - الدلالة التفهيمية. 3 - الدلالة التصديقية.

الفرق بين هذه الأقسام: أنّ الأولى: عبارة عن الانتقال إلى المعنى بمجرد سماع اللفظ، و هذه الدلالة لا تتوقف على غير العلم بالوضع، و ليس للإرادة دخل عليها فتكون تابعة للوضع فقط.

الثانية: أعني: الدلالة التفهيمية المعبر عنها بالدلالة التصديقية أيضا؛ فهي تتوقف زائدا على العلم بالوضع على إحراز أن المتكلم في مقام التفهيم، و لم ينصب قرينة متصلة على الخلاف.

الثالثة: أي: الدلالة التصديقية و هي دلالة اللفظ على مطابقة المراد الجدي للمراد الاستعمالي و هي ثابتة ببناء العقلاء، و تتوقف زائدا على ما مر على إحراز عدم قرينة منفصلة على الخلاف.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل الكلام هي الدلالة التصديقية دون الدلالة التصورية؛ إذ قد عرفت: أنها غير تابعة للإرادة أصلا، فوقع الخلاف في أن الدلالة التصديقية هل هي تابعة للإرادة أم لا؟ و منشأ هذا الخلاف هو الخلاف في الدلالة الوضعية هل هي الدلالة التصورية أو أنها الدلالة التصديقية ؟.

و المعروف و المشهور هو الأول؛ بتقريب: أن الانتقال إلى المعنى عند تصور اللفظ لا بد أن يستند إلى سبب و ذلك السبب هو الوضع، فالدلالة التصورية هي الدلالة الوضعية، فإنكار صاحب الكفاية ناظر إلى عدم كون الدلالة التصورية تابعة للإرادة، بل لا يمكن أن تكون تابعة للإرادة بأن تكون الإرادة مأخوذة في معنى المفردات التي تكون دلالتها تصورية.

نعم؛ من قال: بأن الدلالة الوضعية هي الدلالة التصديقية لا التصورية كما هو ظاهر أستاذنا الإمام الخوئي «قدس سره»؛ فعليه القول: بأن الدلالة تابعة للإرادة.

و كيف كان؛ فالغرض من هذا الأمر الخامس هو دفع توهم كون الدلالة تابعة للإرادة، و قد ردّ المصنف هذا التوهم بوجوه: الوجه الأول: هو ما أشار إليه بقوله:

«من أن قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال».

ص: 57

مرادة للافظها، لما عرفت بما لا مزيد عليه، من أن قصد المعنى على أنحائه (1) من مقومات الاستعمال، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه.

هذا مضافا (2) إلى ضرورة: صحة الحمل و الإسناد في الجمل بلا تصرف (3) في

=============

(1) أي: من كونه على نحو الاستقلالية أو الآلية، أو كونه مرادا للمتكلم من لوازم و مقومات الاستعمال المتأخر بالطبع عن المستعمل فيه، «فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه»، إذ لو أخذ قيدا من قيوده لزم تقدم ما هو متأخر و هو مستحيل، ثم ما لا يكون قيدا للمستعمل فيه لا يكاد أن يكون قيدا للموضوع له بطريق أولى، بل يلزم الدور.

بيانه: أن قصد المعنى و إرادته يتوقف على استعمال اللفظ في معناه، فلو أخذ قصد المعنى قيدا له لزم توقف استعمال اللفظ فيه على قصده و إرادته و هو الدور. فقوله: «لا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه» إشارة إلى هذا المحذور. و الحاصل: أنّ قصد المعنى على أنحائه من شئون الاستعمال؛ فلا يؤخذ قيدا في المستعمل فيه.

(2) أي: هذا إشارة إلى الوجه الثاني و هو المحذور الثاني.

(3) أي: كتجريد ألفاظ الأطراف أي: الموضوع و المحمول عن الإرادة، فصحة الحمل و الإسناد في الجمل - من دون التصرف بتجريد ألفاظ الأطراف - دليل على عدم أخذ الإرادة جزءا أو شرطا للمعاني.

أمّا تقريب هذا الوجه الثاني بالقياس الاستثنائي فيقال: إنّه لو كان للإرادة دخل في المعاني جزءا أو شرطا لما صح الحمل و الإسناد في مثل «زيد قائم»، - و «ضرب زيد» إلاّ بالتجريد أي: تجريد ألفاظ الأطراف عن الإرادة، و التالي باطل فالمقدم مثله، ثم القياس الاستثنائي لا يتم الاستدلال به إلاّ بعد ثبوت الملازمة بين المقدم و التالي فنقول: إن الملازمة في المقام ثابتة ضرورة: إنه مع دخل الإرادة في المعاني لا يصح الحمل أو الإسناد إلاّ بالتجريد؛ لوضوح: أن المحمول في مثال «زيد قائم»، و المسند في مثال: «ضرب زيد» هو نفس القيام و الضرب لا بما هما مرادان، فلا محيص عن التصرف فيهما بالتجريد و إلغاء الإرادة عنهما. هذا ملخص بيان الملازمة.

و أمّا بطلان التالي، فلأن الالتزام بالتجريد مع كونه موجبا للمجازية، و لغوية أخذ الإرادة قيدا للموضوع له مخالف للوجدان.

هذا مضافا إلى أنّ أخذ الإرادة قيدا للمعاني مستلزم لإنكار عموم الموضوع له في عامة الألفاظ - حتى في أسماء الأجناس - ضرورة: أن أخذ مصداق الإرادة قيدا لمعنى يستدعي جزئية المعنى دائما. هذا هو الوجه الثالث الذي أشار إليه بقوله: «مع إنّه يلزم

ص: 58

ألفاظ الأطراف؛ مع إنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما صح بدونه (1)؛ بداهة (2): أن المحمول على زيد في «زيد قائم»، و المسند (3) إليه في «ضرب زيد» - مثلا - هو نفس القيام و الضرب، لا بما هما مرادان.

مع إنه (4) يلزم كون وضع عامة الألفاظ عاما و الموضوع له خاصا، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ، فإنّه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة فيه (5)، كما لا يخفى. و هكذا الحال في طرف الموضوع.

=============

كون وضع عامة الألفاظ عاما و الموضوع له خاصا»، و هو باطل بالضرورة.

الدليل على عدم التبعية

(1) أي: بدون التصرف و هو تجريد ألفاظ الأطراف عن الإرادة.

(2) تعليل لعدم صحة الحمل و الإسناد بدون التصرف، لأنّه بعد كون المحمول و المسند إليه في المثالين هو نفس القيام و الضرب، فلا بد من التصرف بالتجريد فيهما كما عرفت.

(3) قوله: و المسند إليه عطف على قوله: المحمول، و ضمير «إليه» عائد إلى زيد.

فالمسند إليه ليس بمعنى: ما أسند إليه الفعل، كي يتوهم أن المسند إليه دائما اسم و ليس فعلا، بل المسند إليه في المقام بمعنى: المسند الذي أسند إلى زيد؛ فيكون فعلا و هو قوله:

«ضرب» في «ضرب زيد».

و خلاصة الكلام: أنه لو كان اللفظ موضوعا للمعنى بقيد الإرادة لكان الاستعمال هنا مجازيا؛ لأنّه من استعمال اللفظ الموضوع للكل في الجزء، مع إنّ الاستعمال لا يكون على نحو المجاز فنكشف من ذلك: أن اللفظ موضوع للمعنى و ليس للإرادة دخل في ذلك.

(4) أي: مع التسليم بأن الألفاظ موضوعة للمعاني مع الإرادة؛ يلزم كون وضع عامة الألفاظ من الاسم و الفعل و الحرف عاما، و الموضوع له خاصا، و هذا هو الوجه الثالث، و قد قررناه سابقا و قلنا: إنه باطل بالضرورة، لأنّ الوضع و الموضوع له يختلفان باختلاف الموارد، فتارة يكون الوضع عاما و الموضوع له عاما، كأسماء الأجناس، و أخرى كل منهما خاص كالأعلام، و ثالثة يكون الوضع عاما و الموضوع له خاصا كالمبهمات على المشهور.

(5) أي: فيما وضع له. فإذا كان مفهوم الإرادة مأخوذا في المعنى لكان الموضوع له عاما لعمومية مفهوم الإرادة، فلا يلزم إنكار عمومية الموضوع له، و لكن لا مجال لهذا التوهم لما ذكرنا في أول البحث من: إن محل الكلام ليس في المفهوم، بل في مصداق الإرادة، لأن المتبادر هي الإرادة الحقيقية القائمة بالنفس. و عليه: فيلزم إنكار عمومية

ص: 59

و أمّا ما (1) حكي عن العلمين الشيخ الرئيس، و المحقق الطوسي(1) من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الإرادة فليس ناظرا إلى كون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة، كما توهمه بعض الأفاضل (2)،(2) بل ناظر إلى أن دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية (3)، أي: دلالتها (4) على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها.

و تتفرع (5) عليها تبعية مقام الإثبات للثبوت، و تفرع الكشف على الواقع الموضوع له في عامة الألفاظ، و هو باطل بالضرورة.

=============

(1) قوله: «و أمّا ما حكي عن العلمين» دفع للتوهم أي: أما توهم صاحب الفصول فيما - «حكي عن العلمين من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الإرادة» - ففهم من كلامهما أن الألفاظ موضوعة لخصوص المعاني المقيدة بالإرادة فليس بشيء، لأن المحكي عنهما ليس ناظرا إلى القول بكون الألفاظ موضوعة للمعاني المقيّدة بالإرادة، بل إنّه ناظر إلى الدلالة التصديقية و هي دلالة الكلام على إرادة المتكلم تفهيم المعنى و قصده له، لا الدلالة التصورية التي هي محل الكلام و هي مجرد خطور المعنى في الذهن من سماع اللفظ.

فالحاصل: أن مراد العلمين ليس هو أخذ الإرادة في المعنى و تبعية الدلالة لها تصورا، بل مرادهما تبعية الدلالة التصديقية لها و هو مما لا شبهة فيه كتبعية مقام الإثبات عن مقام الثبوت، و الكاشف عن المنكشف؛ لأن كشف الكلام عن تحقق الإرادة متفرع على أصل تحققها و ثبوتها، إلاّ إن هذا ليس من محل النزاع، فلا ينافي ما التزمنا به من عدم الوضع للمعاني بما هي مرادة.

(2) أي: صاحب الفصول. و قد عرفت دفع هذا التوهم.

(3) أي: و هي دلالة الكلام على إرادة المتكلم مدلول الكلام بالإرادة الجدية و لا شك في أنها تابعة للإرادة أي: تابعة لإرادة المتكلم للمعاني من الألفاظ، و لكن كون دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية تابعة للإرادة ليس محل الكلام و ما هو محل الكلام من دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصورية ليس تابعا للإرادة، لأنها قهرية بعد العلم بالوضع؛ فلا تتوقف على غير العلم بالوضع.

(4) أي: دلالة الألفاظ على كون المعاني «مرادة» للافظ الألفاظ تتبع إرادة المعاني من الألفاظ.

(5) أي: تتفرع الدلالة التصديقية على الإرادة «تبعية مقام الإثبات للثبوت» أي: كما

ص: 60


1- الإشارات و التنبيهات، ج 1، ص 28-29.
2- الفصول الغروية، ص 17، س 40.

المكشوف، فإنه (1) لو لا الثبوت في الواقع، لما كان للإثبات و الكشف و الدلالة مجال، و لذا (2) لا بد من إحراز كون المتكلم بصدد الإفادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه و دلالته (3) على الإرادة، و إلاّ (4) لما كانت لكلامه هذه الدلالة، و إن كانت له (5) الدلالة التصورية أي: كون سماعه موجبا لإخطار معناه الموضوع له و لو كان من وراء الجدار أو من لافظ بلا شعور و لا اختيار.

إن قلت: على هذا (6) يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ و القطع بما ليس بمراد، أو الاعتقاد بإرادة شيء، و لم يكن له من اللفظ مراد.

=============

أن مقام الإثبات أي: العلم بثبوت شيء واقعا لا يعقل بدون ثبوت ذلك الشيء واقعا، و كما أن الكشف عن شيء واقعي لا يعقل بدون وجود المنكشف واقعا، كذلك الدلالة التصديقية - أي: دلالة الكلام على كون المعنى مرادا للمتكلم - لا يعقل بدون الإرادة واقعا. فقوله: «و تتفرع» عطف على «تتبع».

(1) هذا تقريب لتبعية مقام الإثبات للثبوت، و قد عرفت توضيح ذلك.

(2) أي: لأجل تبعية الدلالة التصديقية للإرادة لا بد - في إثبات الدلالة التصديقية، و كون مدلول الكلام مرادا للمتكلم - من إحراز كونه بصدد البيان و لو بالأصل العقلائي، لأنّه إذا أحرز من حال المتكلم أو من الخارج كونه في مقام البيان حصل لكلامه الدلالة التصديقية أي: يدل على كون معناه مرادا فيكون ظاهره حجة.

(3) أي: لا بدّ من إحراز كون المتكلم بصدد الإفادة في دلالة كلامه على الإرادة.

فيكون قوله: «و دلالته» عطفا على قوله: «إثبات».

(4) و إن لم يحرز كون المتكلم في مقام البيان و الإفادة «لما كانت لكلامه هذه الدلالة»، أي: الدلالة التصديقية لكونها متوقفة على إحراز كون المتكلم في مقام البيان.

(5) أي: لكلامه الدلالة التصورية مع العلم بالوضع، فإن الدلالة التصورية بمعنى:

خطور المعنى عند سماع اللفظ لا تتوقف على أزيد من العلم بالوضع، و معه تتحقق هذه الدلالة عند سماع اللفظ «و لو من وراء الجدار أو من لافظ بلا شعور و لا اختيار» كالنائم و الساهي و المجنون.

الإشكال على كشف الدلالة التصديقية عن الإرادة

(6) أي: على هذا الذي ذكرت من أن الدلالة التصديقية كاشفة عن الإرادة «يلزم أن لا يكون هناك دلالة» عند فقدان الإرادة عند خطأ المتكلم بأن قال: «زيد قائم»، بدل أن يقول: «زيد نائم»، أو قال: رأيت أسدا و علمنا بأنّه لم يرد رؤية الأسد أعني: الحيوان

ص: 61

قلت: نعم؛ لا يكون حينئذ (2) دلالة، بل يكون هناك جهالة و ضلالة يحسبها الجاهل دلالة، و لعمري ما أفاده العلمان من التبعية - على ما بيناه - واضح لا محيص عنه، و لا يكاد ينقضي تعجبي كيف رضي المتوهم أن يجعل كلامهما ناظرا إلى ما لا ينبغي (3) صدوره عن فاضل فضلا عمن هو علم في التحقيق و التدقيق.

=============

المفترس، بل أراد رؤية الرجل الشجاع، أو اعتقد السامع بإرادة شيء و لم يكن ذلك الشيء مرادا؛ فيلزم في هذه الموارد أن لا يكون هناك دلالة بل هناك إمّا جهالة من السامع، أو ضلالة يحسبها السامع الجاهل دلالة.

(2) أي: نعم؛ نلتزم بأن لا يكون - حين الخطأ أو القطع بما ليس مرادا للمتكلم - دلالة، بل التخيل و الجهالة و لا محذور في الالتزام بعدم الدلالة التصديقية في الفرضين، و ليس ما ظنّه الجاهل من الدلالة إلاّ ضلالة و جهالة.

فالمتحصل من جميع ما ذكره المصنف «قدس سره»: أن الإرادة ليست جزءا و لا قيدا للموضوع له، كي تكون الدلالة الوضعية تابعة لها.

(3) أي: و هو كون الألفاظ موضوعة للمعاني المقيدة بالإرادة، و لازم ذلك: كون الدلالة التصورية تابعة للإرادة مع إن الدلالة التصورية غير تابعة للإرادة قطعا كما عرفت.

خلاصة البحث في تبعية الدلالة للإرادة طبقا لنظرية المصنف «قدس سره»:

1 - أن الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي؛ لا من حيث كونها مرادة للافظها، و الدليل عليه: أن كون المعنى مرادا ككونه آليا أو استقلاليا من شئون الاستعمال المتأخر عن المستعمل فيه، فلا يكاد أن يكون من قيوده.

2 - إن محل الكلام من الدلالة التي يقال إنها تابعة للإرادة هي الدلالة التصورية، و أمّا الدلالة التصديقية: فلا شبهة في كونها تابعة للإرادة. ثم المراد من الإرادة التي يتوهم كونها مأخوذة قيدا أو جزءا للمعنى هي: الإرادة الحقيقية لا مفهوم الإرادة.

3 - إن ما حكي عن العلمين من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الإرادة؛ ليس ناظرا إلى كون الألفاظ موضوعة للمعاني المقيدة بالإرادة، كما توهمه صاحب الفصول، بل مرادهما أن الدلالة التصديقية تتبع الإرادة و هي خارجة عن محل الكلام، فإن محل الكلام هي الدلالة التصورية، و هي لا تتوقف على الإرادة، بل يكفي فيها مجرد العلم بالوضع كما عرفت.

ص: 62

السادس

لا وجه لتوهم وضع للمركبات (1)، غير وضع المفردات؛ ضرورة: عدم الحاجة إليه، بعد وضعها بموادها، في مثل: «زيد قائم»، و «ضرب عمرو بكرا» شخصيا، و بهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيا.

=============

السادس وضع المركّبات

اشارة

(1) أي: أن الكلام في أنه هل يحتاج المركب إلى وضعه ثانيا بعد وضع مفرداته و منها الهيئة التركبية أم لا؟ فيه قولان الحق عند المصنف هو: عدم الوضع، و لذا يردّ من يقول بوضع للمركبات بقوله: «لا وجه لتوهم وضع للمركبات...» إلخ.

و كيف كان؛ فقبل الشروع في البحث لا بدّ من بيان ما هو محل الكلام في المقام فنقول: إن محل الكلام هنا إنّما هو في وضع المركب بما هو مركب أي: وضعه بمجموع أجزائه من الهيئة و المادة مثلا في قولنا: «زيد قائم» قد وضعت كلمة زيد لمعنى خاص، و كلمة قائم لمعنى آخر، و الهيئة القائمة بهما بمعنى ثالث، هذا كله لا إشكال فيه و لا كلام، و إنّما الكلام و الإشكال في وضع رابع بمعنى: أنه هل لمجموع المركب من هذه المواد وضع على حدة أم لا؟ أمّا وضع هيئة الجملة فلا كلام في وضعها لقصد الحكاية و الإخبار عن الواقع.

إذا عرفت محل الكلام فاعلم: أن الصحيح هو: أنه لا وضع للمركب بما هو مركب. و هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «لا وجه لتوهم وضع للمركبات» بيان ذلك - على ما في تقرير أستاذنا الإمام الخوئي «قدس سره» -: أن كل جملة ناقصة كانت أو تامة لها أوضاع متعددة باعتبار وضع كل جزء جزء منه، أقلها ثلاثة حسب ما يدعو إليه الحاجة مثلا: جملة «زيد إنسان» لها أوضاع ثلاثة: 1 - وضع «زيد». 2 - وضع «إنسان». 3 - وضع «الهيئة القائمة بهما».

و لجملة «الإنسان متعجب» أوضاع أربعة: 1 - وضع «الإنسان». 2 - وضع متعجب «مادة». 3 - وضعه «هيئة». 4 - وضع «الهيئة القائمة بالجملة».

و لجملة «زيد ضارب عمرو» أوضاع ستة: 1 - وضع «زيد». 2 - وضع ضارب «مادة». 3 - وضعه «هيئة». 4 - وضع «الهيئة القائمة بجملة زيد ضارب». 5 - وضع «عمرو». 6 - وضع «الهيئة القائمة بالمجموع» و هكذا.

إلى أن قال: ربما يبلغ الوضع إلى عشرة أو أزيد على اختلاف الأغراض الموجبة

ص: 63

و منها (1): خصوص هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب و الإضافات لاختلاف المركبات زيادة و نقيصة؛ فإن الغرض قد يتعلق بالمركب من شيئين، و قد يتعلق بالمركب من أشياء ثلاثة و هكذا.

=============

و من الواضح: أن هذه الأوضاع وافية لإفادة الأغراض و المقاصد المتعلقة بالمركبات، فلا حاجة إلى وضع لها غير وضع المفردات كما عرفت. و مما يدلنا على عدم وضع مستقل للمركبات مضافا إلى ما ذكرناه من لغويته: أنه يستلزم إفادة المعنى الواحد مرتين، و الانتقال إليه بانتقالين و ذلك لفرض تعدد الوضع الذي يقتضي تعدد الإفادة و الانتقال، و هذا مخالف للوجدان، كما هو واضح.

نعم؛ قال المصنف: إن وضع المركبات بموادها في مثل: «زيد قائم»، و «ضرب عمرو بكرا» شخصي، «و بهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيا» مثل: «زيد فاعل» في ضرب زبد و «بكرا»؛ مفعول في ضرب عمرو بكرا. و «زيد» مبتدأ في زيد قائم و هكذا.

و ملخص الكلام: أن الوضع في الهيئات المخصوصة الناشئ اختصاصها من خصوص حركات إعرابها نوعي، لأنّ الهيئة في مثل هيئات الأفعال ماضيا أو مضارعا، و كذا الأسماء مبتدأ أو خبرا، و فاعلا أو مفعولا؛ موضوعة وضعا نوعيا.

ففي «زيد قائم» ستة أوضاع على قول المصنف، و سبعة أوضاع على ما يتوهم من وضع مجموعي، و ذلك حسب ما يلي:

1 - وضع مادة زيد شخصيا.

2 - وضع إعرابه نوعيا فإن رفعه علامة الابتداء.

3 - وضع مادة قائم شخصيا.

4 - وضع هيئته نوعيا لمن صدر منه المبدأ.

5 - وضع رفعه نوعيا للخبرية.

6 - وضع هيئة الابتداء و الخبر نوعيا للنسبة بينهما.

هذا على قول المصنف «قدس سره». و أمّا على ما يتوهم فهناك وضع سابع و هو:

وضع مجموع الأمور الستة نوعيا للمعنى المراد من الجملة الخبرية، و ردّه المصنف، بأنه لغو لحصول المقصود بالأوضاع الستة.

(1) أي: و من الهيئات العارضة للمواد خصوص هيئات المركبات، كهيئة الجمل الاسمية و الفعلية، فللمواد وضع شخصي كما عرفت، و وضع نوعي باعتبار الإعراب، و هناك نوعي آخر باعتبار هيئة المركب كما عرفت.

ص: 64

بمزاياها (1) الخاصة من تأكيد و حصر و غيرهما نوعيا بداهة (2): أن وضعها (3) كذلك واف بتمام المقصود منها كما لا يخفى؛ من غير حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها، مع استلزامه (4) الدلالة على المعنى تارة: بملاحظة وضع نفسها (5)، و أخرى: بملاحظة وضع مفرداتها، و لعل المراد من العبارات الموهمة لذلك (6) هو: وضع الهيئات على حدة غير وضع المواد لا وضعها بجملتها، علاوة على وضع كل واحد منهما.

=============

(1) أي: بمزايا النسب و الإضافات الخاصة - و مزاياها هي التأكيد و الحصر و غيرهما، كما في علم البلاغة - مثل قولهم: إن زيدا القائم يفيد التأكيد، و ليس زيد إلاّ شاعرا يفيد الحصر، و اَلرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى اَلنِّسٰاءِ النساء: 34؛ يفيد العموم، و كذا جاءني رجال القوم.. الأوّل: لأجل كون الجمع محلى بالألف و اللام، و الثاني: لأجل إضافة الجمع إلى المحلى بالألف و اللام. فوضع الهيئات في الأمثلة المذكورة نوعي.

(2) هذا بيان و توضيح لقوله: «ضرورة عدم الحاجة...» إلخ.

(3) أي: وضع المركبات «كذلك» أي: بموادها شخصيا و بهيئاتها نوعيا «واف بتمام المقصود» من المركبات، فلا حاجة إلى وضع آخر لها «بجملتها» أي: بمجموعها.

(4) أي: مع استلزام وضع آخر - و هذا هو المحذور الثاني الذي تقدم ذكره - و ملخصه: أنه يلزم من وضع آخر دلالة اللفظ على معناه مرتين و هو خلاف الوجدان.

(5) أي: نفس المركبات باعتبار مجموعها، و أخرى: بملاحظة وضع مفردات المركبات.

فيلزم أن يكون هناك وضع ثالث:

1 - وضع المركبات بملاحظة مفرداتها مادة. 2 - وضعها بملاحظة مفرداتها هيئة.

3 - وضعها بملاحظة نفسها أي: المجموع من حيث المجموع، فيلزم ما ذكرناه من عدم الحاجة و اللغوية، و من دلالة اللفظ على معناه مرتين.

فالوضع الثالث يكون عبثا، مضافا إلى كونه مخالفا للوجدان.

(6) أي: لوضع المركب بجملته، غرضه هو: توجيه العبارات الموهمة لوضع آخر للمركب من حيث المجموع، و حاصل التوجيه: أن يكون النزاع لفظيا بمعنى: أن القائل بوضع مجموع المادة و الهيئة يقول بوضع الهيئة القائمة بالمسند و المسند إليه وضعا على حدة، و هو الوضع الثاني عند القائل بعدم وضع للمجموع من حيث المجموع، ففي الحقيقة لا نزاع في البين حيث إن المنكر أنكر الوضع الثالث، و اعترف بالوضع الثاني. و مراد المثبت لوضع المجموع بوضع على حدة هو: الوضع الثاني لا الوضع الثالث، فيكون النزاع في الحقيقة لفظيا.

ص: 65

السابع

لا يخفى: أن تبادر (1) المعنى من اللفظ و انسباقه إلى الذهن من نفسه - و بلا قرينة - علامة كونه حقيقة فيه؛ بداهة (2): أنّه لو لا وضعه له، لما تبادر و لا يقال:

=============

خلاصة البحث في وضع المركبات:

إنه لا مجال لتوهم الوضع في المركبات غير وضع مفرداتها مادة و هيئة، و يكون الغرض من عقد هذا الأمر السادس دفع توهم وضع آخر للمركبات، و الدليل على ذلك:

أنه لا فائدة لوضع المركبات غير وضع مفرداتها مادة و هيئة، لأن وضع مفرداتها كذلك واف بتمام المقصود منها. هذا مضافا إلى أنه مستلزم لدلالة الكلام على المقصود مرتين و هو مخالف للوجدان.

هذا و يمكن أن يكون مراد القائل بوضع آخر للمركبات: وضع هيئاتها بوضع على حدة، فيرجع النزاع حينئذ إلى كونه لفظيا.

السابع علامات الحقيقة و المجاز

تبادر المعنى من اللفظ من علامات الحقيقة

(1) قبل الشروع في البحث لا بد من بيان ما هو المراد من التبادر الذي هو من علامات الحقيقة فنقول: إنّ التبادر بمعنى: سبق المعنى من اللفظ إلى الذهن و إن كان على أقسام، إلاّ إن جميع هذه الأقسام ليس من علامات الحقيقة. و ذلك أن منها: ما يكون ناشئا عن الإطلاق بعد تمامية مقدمات الحكمة، كما يتبادر الوجوب النفسي العيني التعييني من إطلاق صيغة الأمر المعبّر عنه بالتبادر الإطلاقي. و لكن هذا القسم من التبادر ليس علامة للحقيقة.

و منها: ما يكون ناشئا عن القرينة كتبادر الرجل الشجاع من لفظ الأسد في قولك:

رأيت أسدا في الحمام، و هذا أيضا ليس من علامات الحقيقة.

و منها: ما يكون من حاق اللفظ، فهذا القسم الأخير من علامات الحقيقة؛ فعلامة الحقيقة هو التبادر من حاق اللفظ.

و بعبارة أخرى: هو التبادر بمعنى: خطور المعنى في الذهن بمجرد سماع اللفظ من دون لحاظ أيّة قرينة و عناية في البين من حالية أو مقالية، و الوجه في ذلك: أن مثل هذا التبادر معلول للوضع لا محالة و كاشف عنه كشفا إنيّا، و يدل على وجود علاقة و ارتباط بين ذات اللفظ و بين المعنى المتبادر.

(2) تعليل لكون التبادر علامة للحقيقة؛ إذ لو لا وضع اللفظ للمعنى المتبادر منه لما تبادر ذلك المعنى منه، فالتبادر حينئذ يكشف - إنّا - عن كون اللفظ موضوعا للمعنى

ص: 66

كيف (1) يكون علامة ؟ مع توقفه على العلم بأنّه موضوع له كما هو واضح، فلو كان العلم به موقوفا عليه لدار.

فإنّه (2) يقال: الموقوف عليه غير الموقوف عليه، فإنّ العلم التفصيلي - بكونه موضوعا له - موقوف على التبادر، و هو موقوف على العلم الإجمالي الارتكازي به، لا التفصيلي، فلا دور.

هذا (3) إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم، و أمّا إذا كان المراد به التبادر عند المتبادر، فيخرج بالتبادر المستند إلى حاق اللفظ: التبادر الناشئ عن القرينة الحالية أو المقالية.

=============

(1) أي: كيف يكون التبادر علامة الحقيقة مع توقفه على العلم بالوضع ؟ فإذا توقف العلم بالوضع على التبادر لزم الدور، فالاستفهام إنكاري أي: لا يكون التبادر علامة للزوم الدور، لأنّ التبادر لا يحصل بدون العلم بالوضع كما هو ظاهر، فإذا كان العلم بالوضع موقوفا على التبادر - كما هو مقتضى علاميّة التبادر - لزم الدور.

(2) قوله: «فإنه يقال» دفع لإشكال الدور، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي:

أن الملاك في استحالة الدور و بطلانه هو: لزوم توقف الشيء على نفسه؛ المستلزم لتقدم الشيء على نفسه، و هو باطل و مستحيل، و هذا إنّما يتمّ فيما إذا كان كل من الموقوف و الموقوف عليه أمرا واحدا، و لم يكن بينهما تغاير أصلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن كون التبادر علامة للحقيقة و الوضع و إن كان مستلزما للدور إلاّ إنّه ليس باطلا و محالا، و ذلك لأنّ «الموقوف عليه غير الموقوف عليه» بمعنى: أن العلم بالوضع الموقوف على التبادر غير العلم بالوضع الموقوف عليه التبادر فإن الأول: هو العلم التفصيلي، و الثاني: هو العلم الإجمالي الارتكازي، مثلا: إذا علمنا إجمالا أن معنى الأمر هو الطلب و لم نعلم أنّه الطلب الإلزامي أو مطلق الطلب، فإذا وجدنا في أنفسنا تبادر الوجوب بسماعه نعلم تفصيلا وضعه له. و هذا المقدار من التغاير بين العلمين يرفع غائلة الدور كما عرفت. ثم المراد بالعلم الإجمالي الارتكازي هو: العلم الذي لا يلتفت إليه الإنسان و قد يسمى بالبسيط كالجهل البسيط، و في المقابل أن المراد بالعلم التفصيلي: ما يكون مورد الالتفات، و قد يسمى بالعلم المركب كالجهل المركب.

(3) هذا الجواب الذي دفعنا به غائلة الدور عن التبادر إنّما يصح إذا كان المراد بالتبادر هو التبادر عند المستعلم، و هو من يأخذ العلم من غيره، و أما إذا كان المراد بالتبادر هو التبادر عند أهل المحاورة العالمين بالأوضاع، بمعنى: أن التبادر لدى العالم و أهل اللغة يكون

ص: 67

أهل المحاورة، فالتغاير أوضح من أن يخفى.

ثم إنّ هذا (1) فيما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ، و أمّا فيما احتمل استناده إلى قرينة، فلا تجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد إليه، لا إليها - كما قيل - لعدم الدليل على اعتبارها إلاّ (2) في إحراز المراد، لا الاستناد.

=============

علامة للحقيقة، و الوضع للجاهل باللغة، فالتغاير بين العلمين أوضح. إذا الموقوف على التبادر علم الجاهل باللغة و الموقوف عليه التبادر علم أهل اللسان، فإن الجاهل بمعنى لفظ الأسد إذا رأى أن المتبادر منه عند أهل اللسان هو الحيوان المفترس لعلم وضعه له.

(1) أي: كون التبادر علامة للحقيقة و الوضع «فيما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ». هذا إشارة إلى ما هو شرط لكون التبادر من علامات الحقيقة. و هو كونه مستندا إلى حاق اللفظ كما عرفت:

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أنّ التبادر تارة: يكون مستندا إلى حاق اللفظ، و أخرى: إلى القرينة، و ثالثة: لا يعلم أنّه من حاق اللفظ أو من القرينة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الأول: من علامات الحقيقة بلا كلام و إشكال.

و الثاني: من علامات المجاز كذلك، و أمّا الثالث: و هو ما إذا شك في أن التبادر من حاق اللفظ أو من القرينة ففيه قولان: قول: بأنه تجري أصالة عدم القرينة و يحرز بها كون التبادر من حاق اللفظ و القائل هو المحقق القمّي. و أشار إليه بقوله: «كما قيل».

و يقول المصنف: بأنه لا تجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون التبادر من حاق اللفظ لا من القرينة، و ذلك لعدم الدليل على اعتبار أصالة عدم القرينة كما أشار إليه بقوله: «لعدم الدليل...» إلخ. و قوله «لعدم الدليل...» إلخ تعليل لقوله: «فلا تجدي أصالة عدم القرينة».

(2) أي: لا دليل على اعتبار أصالة عدم القرينة إلاّ في إحراز المراد.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن للشك في نصب قرينة موردين:

أحدهما: ما يشك فيه في أصل المراد كما إذا علم وضع لفظ الأسد في الحيوان المفترس، و كونه مجازا في الرجل الشجاع لكنه لا يعلم مراد المتكلم، لاحتمال إرادته غير معناه الحقيقي و اختفاء القرينة، فالشك حينئذ ناش من الشك في القرينة.

و ثانيهما: ما يشك في نحو المراد و إنه حقيقة أو مجاز للشك في نصب قرينة؛ كما إذا علم إرادة المفترس من الأسد، و شك في أنه وضع له أو استعمل مجازا و اختفت القرينة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن أصالة الحقيقة و عدم القرينة تجري في الأول دون

ص: 68

ثم إنّ عدم صحة سلب اللفظ (1) - بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن إجمالا كذلك عن معنى تكون علامة كونه حقيقة فيه، كما أنّ صحة سلبه عنه علامة كونه مجازا في الجملة (2).

و التفصيل: أن عدم صحة السلب عنه، و صحة (3) الحمل عليه بالحمل الأولي، الذاتي الذاتي الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوما علامة كونه نفس المعنى.

و بالحمل (4) الشائع الصناعي الذي ملاكه الاتحاد وجودا، بنحو من أنحاء الاتحاد، علامة كونه من مصاديقه و أفراده الحقيقية.

=============

الثاني الذي هو موضوع الكلام فيما نحن فيه، فأصالة الحقيقة إنما تجري لإثبات إرادة المعنى الحقيقي، و لا تجري لإثبات حقيقية المعنى المراد، لأنّ بناء العقلاء، إنّما هو على التمسك بأصالة الحقيقة في الشك في أصل المراد، فلا يتمسكون بأصالة الحقيقة فيما إذا شك في كون المعنى حقيقيا أو مجازيا.

(1) أي: من علامات الحقيقة عدم صحة السلب أو صحة الحمل، و من علامات المجاز صحة السلب أو عدم صحة الحمل.

بمعنى: أنّنا نفرض معنى خاصا، كالحيوان المفترس أو الرجل الشجاع مثلا، ثم نفرض لفظا خاصا مع معناه المرتكز في الذهن الذي وضع هذا اللفظ له مثل لفظ الأسد بما له من المعنى المعلوم بالعلم الإجمالي، ثم نسلب هذا اللفظ عن ذلك المعنى و نقول: المفترس ليس بأسد أو الرجل الشجاع ليس بأسد، فإن صح السلب - كما في المثال الثاني - فإنّه علامة كونه مجازا، و إن لم يصح - كما هو في المثال الأول - فإنه حقيقة.

(2) أي: على نحو الإجمال سواء كان مجازا في الجملة و هو المسمّى بالمجاز اللغوي، أو مجازا في غيرها كما هو مذهب السكاكي على ما هو في علم البلاغة.

توضيح صحة الحمل من علامات الحقيقة

(3) أي: المراد من الحمل هو حمل اللفظ بما له من المعنى على المعنى المشكوك وضعه له فإن صح الحمل كان دليلا على الحقيقة؛ و إلاّ كان قرينة على عدم وضع اللفظ له.

(4) توضيح كون صحة الحمل من علامات الحقيقة يتوقف على مقدمة و هي: أن الحمل على قسمين: 1 - الحمل الأولي الذاتي. 2 - الحمل الشائع الصناعي.

و الفرق بينهما: أن ملاك الحمل في الأوّل هو الاتحاد بين الموضوع و المحمول مفهوما، و التغاير بينهما إنّما هو بالإجمال و التفصيل كقولنا: «الإنسان حيوان ناطق»؛ فإن مفهوم الإنسان هو الحيوان الناطق بعينه، و الفرق بينهما بالإجمال و التفصيل، حيث يكون الحيوان الناطق تفصيلا للإنسان.

ص: 69

كما أن صحة سلبه (1) كذلك علامة إنه ليس منها (2)، و إن لم نقل بأن إطلاقه و ملاكه في الثاني: هو الاتحاد بينهما وجودا، و التغاير بينهما إنّما هو بالمفهوم كقولنا:

=============

«زيد إنسان»، فإن زيدا باعتبار كونه من أفراد الإنسان و مصاديقه يكون متحدا معه وجودا و مغايرا له مفهوما، لأنّ مفهوم الفرد مغاير لمفهوم الكلي.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إذا شككنا في وضع لفظ لمعنى كلفظ إنسان مثلا نجعل المعنى موضوعا، و اللفظ بمعناه الحقيقي محمولا فنقول: «الإنسان حيوان ناطق»، فإن صح الحمل كان مقتضاه اتحاد معنى الإنسان الارتكازي مع الحيوان الناطق، و أنه عينه كما هو مقتضى الحمل الأولي الذاتي، فنستكشف بذلك: وضع الإنسان للحيوان الناطق، فدلالة الحمل الأولي الذاتي على الوضع إنّما هو بملاك الاتحاد المفهومي، فصحته تعني اتحاد معنى اللفظ الارتكازي مع نفس المعنى الذي شككنا في وضع اللفظ له، و ذلك دليل الوضع كما لا يخفى. هذا في الحمل الأولي الذاتي.

و أمّا الحمل الشائع الصناعي، فدلالته على الوضع من جهة أن ملاكه الاتحاد في الوجود كما عرفت، فإذا علم أن لهذا الفرد وجود لمعنى معين فإذا حمل عليه اللفظ بما له من المعنى على الفرد بما أنه وجود لذلك المعنى المعين فصحته تعني أن الفرد بما أنه وجود للمعنى المعين وجود للمعنى المرتكز للفظ، و ذلك معناه اتحاد المعنيين الكاشف عن وضع اللفظ للمعنى المعين، و إلاّ لما كان الفرد بما أنه وجود لأحدهما وجودا للآخر، و ذلك نظير حمل الإنسان بما له من المعنى على زيد بما أنه وجود للحيوان الناطق، فإن صحته كاشفة عن وضع لفظ الإنسان للحيوان الناطق بالتقريب الذي ذكرناه.

و بذلك يظهر: اختصاص دلالة الحمل الشائع على الوضع بما إذا كان الحمل بين الكلي و فرده، و أمّا إذا كان بين كليين متساويين كقولنا: «الإنسان ضاحك» أو بينهما عموم من وجه كقولنا: «الحيوان أبيض» فصحة حمل أحدهما على الآخر لا تكشف عن الوضع، لأنّ الحمل حينئذ لا يكشف عن كون وجود المحمول بما له من المعنى وجودا للمعنى الموضوع. فتأمل فإنه يحتاج إلى التأمل، و قد تركنا ما في المقام من النقض و الإبرام خوفا من التطويل.

(1) أي: كما أن صحة سلب اللفظ بما له من المعنى المرتكز في الذهن إجمالا عن المعنى المشكوك فيه الذي استعمل فيه اللفظ - كصحة لفظ الأسد - بما له من المعنى عن الرجل الشجاع، بأن يقال: الرجل الشجاع ليس بأسد، فصحة السلب علامة المجاز، كما أن صحة الحمل علامة الحقيقة. كما في «منتهى الدراية» مع تصرف ما.

(2) أي: من الأفراد الحقيقية أي: صحة سلب اللفظ عن المعنى علامة إن ذلك المعنى

ص: 70

عليه من باب المجاز في الكلمة.

بل من باب الحقيقة (1)، و أن التصرف فيه في أمر عقلي، كما صار إليه السكاكي و استعلام حال اللفظ و أنه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى بهما (2) ليس على وجه دائر؛ ليس من أفراده و مصاديقه لا بالحمل الأولي الذاتي، و لا بالحمل الشائع الصناعي، و عليه:

=============

فيكون إطلاق لفظ «الأسد» على الرجل الشجاع من باب المجاز و إن لم نقل بأن إطلاق لفظ الأسد على الرجل الشجاع من باب المجاز في الكلمة، كما هو مذهب المشهور، و لكنه ليس مجازا في الكلمة عند السكاكي بل إنه حقيقة لغوية و إن كان مجازا عقليا، لأنّ التصرف إنّما هو في أمر عقلي.

و بعبارة واضحة: إذا استعمل لفظ «أسد» في الرجل الشجاع، و علمنا بصحة السلب إنّه ليس من أفراده كان استعماله فيه مجازيا إمّا بالتصرف في الكلمة كما هو المشهور بأن يقال: استعمل المشبه به في المشبه، و إمّا بالتصرف في المعنى بأن يجعل الرجل الشجاع من مصاديق معنى لفظ الأسد ادعاء توسعا كما هو مذهب السكاكي. فقول السكاكي لا ينافي ما ذكرناه من نفي الحقيقة، لأن نفي الحقيقة الواقعية لا ينافي إثبات الحقيقة الادعائية.

(1) أي: على مذهب السكاكي حيث أنكر المجاز في الكلمة، و ادعى: أن إطلاق اللفظ على المعنى في جميع الموارد إنما هو على نحو الحقيقة، و أن المجاز إنّما هو في الإسناد و الأمر العقلي، و غرض المصنف من هذه العبارة: دفع ما يتوهم من أن صحة السلب إنّما تكون من علامات المجاز على مسلك المشهور من تسليم المجاز في الكلمة دون مذهب السكاكي، حيث أنكر المجاز في الكلمة. و حاصل الدفع: إنه لا فرق في كون صحة السلب من علامات المجاز بين مسلكي المشهور و السكاكي؛ لما ذكرناه: من أن صحة السلب علامة للمجاز، و عدم كون المعنى المسلوب عنه معنى حقيقيا، و هذا لا ينافي أن يكون الاستعمال على نحو الحقيقة ادّعاء.

(2) أي: بعدم صحة السلب و صحته كما في المنتهى.

و حاصل الكلام في المقام: أن قوله: «و استعلام حال اللفظ...» إلخ دفع لتوهم الدور بتقريب: أن العلم بالوضع يتوقف على عدم صحة السلب نظرا إلى جعله علامة للوضع، و عدم صحة السلب يتوقف على العلم بالوضع؛ إذ لا يصح الحكم بعدم صحة السلب إلاّ بعد العلم بالوضع فيلزم الدور.

و حاصل الدفع: أن الموقوف عليه غير الموقوف عليه أي: الموقوف عليه عدم صحة السلب هو العلم الإجمالي الارتكازي بالوضع و الموقوف على عدم صحة السلب هو

ص: 71

لما عرفت في التبادر: من التغاير بين الموقوف و الموقوف عليه، بالإجمال و التفصيل أو الإضافة إلى المستعلم و العالم، فتأمل جيدا (1).

ثم إنّه قد ذكر الاطراد (2) و عدمه علامة للحقيقة و المجاز أيضا.

=============

العلم التفصيلي بالوضع، و هذا المقدار من التغاير بين العلمين يكفي في رفع غائلة الدور، أو يقال: إن عدم صحة السلب عند أهل المحاورة علامة للوضع و الحقيقة عند المستعلم الجاهل بالوضع فلا دور في البين.

(1) لعله تدقيقي فقط لا غير، و يمكن أن يكون إشارة إلى عدم تمامية الاستدلال بعدم صحة السلب و صحة الحمل على ثبوت الوضع و ذلك لأن الحمل الذاتي لا يكشف إلاّ عن اتحاد الموضوع و المحمول ذاتا، و لا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال و أنه حقيقي أو مجازي و كذلك الأمر في الحمل الشائع الصناعي، فإن ملاك صحته اتحاد الموضوع و المحمول وجودا و مغايرتهما مفهوما، و هذا لا يكشف عن الحقيقة، لأنّ صحة الحمل في الحمل الشائع لا تكون أمارة إلاّ على اتحاد المحمول و الموضوع خارجا، و أمّا إن استعمال اللفظ في المحمول على نحو الحقيقة فهي لا تدل عليه. مع إن الاستعمال أعم من الحقيقة.

الاطراد من علامات الحقيقة

(2) أي: قيل: إن الاطراد علامة للحقيقة و عدمه علامة للمجاز «أيضا» أي: كما أن التبادر و عدم صحة السلب من علامات الحقيقة، و عدمهما من علامات المجاز.

و قبل البحث لا بد من بيان ما هو المراد من الاطراد، و ذلك يتوقف على مقدمة و هي:

أن للاطراد إطلاقات:

الأول: بمعنى: كثرة استعمال لفظ في معنى من المعاني، فعدم الاطراد هو عدم كثرة الاستعمال.

الثاني: الاطراد، بمعنى: عدم تغيّر المعنى باختلاف المقام و الأحكام مثل: معنى لفظ الخبز مثلا، فيصح أن يقال: اشتريت خبزا، أو بعت خبزا أو رأيت خبزا، أو أكلت خبزا من دون تغير معناه، فعدم الاطراد مقابله أي: يتغير المعنى مثل «رقبة» فيصح أن يقال:

أعتق رقبة، و لا يصح أن يقال قالت: رقبة، أو نامت أو أكلت مع إن المراد منها صنف الإنسان و هو العبد.

الثالث: الاطراد بمعنى: شيوع استعمال اللفظ في المعنى من دون اختصاص بمقام.

و بعبارة أخرى: شيوع إطلاق لفظ في معنى بلحاظ خصوصية فيه. كاستعمال لفظ إنسان في أفراده بلحاظ كون كل فرد منه حيوانا ناطقا، و استعمال هيئة الفاعل في ذات قام به المبدأ، فالعالم من قام به العلم، و الضارب من قام به الضرب و هكذا، فيعلم من

ص: 72

و لعله (1) بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات. حيث لا يطرد صحة الاطراد وضع هذه الهيئة لهذا المعنى و وضع لفظ إنسان للحيوان الناطق.

=============

فعدم الاطراد هو عدم الشيوع المذكور، كاستعمال اسم المشبه به في المشبه، فإن لفظ أسد مثلا يستعمل في الرجل الشجاع للمشابهة في الشجاعة؛ لا في الرجل الأبخر مع مشابهته له في كراهة رائحة الفم.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل الكلام هو الاطراد بالمعنى الثالث؛ لأنّه بمعنى: كثرة الاستعمال ليس علامة للحقيقة، إذ كثرة الاستعمال ربما تكون لكثرة الحاجة، و حينئذ قد يكون الاحتياج إلى تفهيم المعنى المجازي أكثر من المعنى الحقيقي، فلا يكون الاطراد بهذا المعنى علامة للحقيقة و كذلك الاطراد بالمعنى الثاني؛ إذ عدم تغير المعنى باختلاف المقام و الأحكام لا يلازم الوضع و الحقيقة فلا يكون من علامات الوضع، و إنّما الكلام في الاطراد بالمعنى الثالث؛ و المشهور: أنه علامة الحقيقة و عدمه علامة للمجاز، و لكن مختار المصنف أن الاطراد ليس علامة للحقيقة و عدمه ليس علامة المجاز، و لهذا قال: «ثم إنه قد ذكر الاطراد و عدمه علامة للحقيقة و المجاز أيضا».

(1) أي: لعل عدم الاطراد في المجازات بملاحظة نوع العلائق، و أمّا بملاحظة صنفها فيطرد استعمال اللفظ في المجاز فلا يكون علامة للوضع.

و قد دفع المصنف «قدس سره» - بقوله: «و لعله...» إلخ - ما يرد من الإشكال على علامية الاطراد للوضع و الحقيقة، فيقال في بيانه: إن الاطراد حاصل في المجاز أيضا، فإن اللفظ يستعمل في المعنى المجازي بلحاظ العلاقة المصححة و يطرد في جميع موارد وجود تلك العلاقة بملاحظتها؛ نظير استعمال أسد في الرجل الشجاع بلحاظ علاقة المشابهة كالشجاعة، فيجوز استعماله في كل شجاع، فالاطراد ليس لازما مساويا للوضع كي يكون علامة عليه، بل أعم منه، فليس دليلا عليه لعدم دلالة العام على الخاص. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الإشكال.

و أمّا توضيح ما أفاده المصنف «قدس سره» في دفع الإشكال فيتوقف على مقدمة و هي: أن استعمال اللفظ في المعنى المجازي يحتاج إلى وجود علاقة من العلائق المذكورة في باب المجاز، ثم العلائق المصححة للاستعمال المجازي يمكن اعتبارها بملاحظة نوعها كما يمكن اعتبارها بملاحظة صنفها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الإشكال المذكور إنّما يتم على تقدير ملاحظة العلائق باعتبار صنفها بمعنى: أن الواضع رخص الاستعمال المجازي في صنفها كاستعمال اسم

ص: 73

استعمال اللفظ معها (1)، و إلاّ (2) فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال، فالمجاز مطرد كالحقيقة، و زيادة (3) قيد «من غير تأويل» أو «على وجه الحقيقة» و إن كان موجبا لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة، إلاّ إنه - حينئذ - لا يكون علامة لها إلاّ المشبه به فيما يشابهه في أظهر الأوصاف كالشجاعة في الأسد مثلا، و أمّا على تقدير ملاحظة نوع العلائق في المجازات فلا يرد الإشكال، لأنّ الملحوظ حينئذ في استعمال أسد في الرجل الشجاع هو مطلق المشابهة لا المشابهة بالشجاعة. و من البديهي: أنه لا يصح استعمال أسد في كل ما شابهه بلحاظ المشابهة إذ لا يصح استعماله في الجبان الأبخر فلا يطرد الاستعمال في المجاز.

=============

هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «و لعله بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات».

(1) أي: مع ملاحظة نوع العلائق.

و حاصل الكلام: أن الملحوظ و المصحح للاستعمال المجازي هو نوع العلائق مثل كلي المشابهة في استعمال أسد في الرجل الشجاع، و قد عرفت عدم الاطراد فيه.

(2) أي: لو لم يكن المجاز بملاحظة نوع العلائق بأن كان بملاحظة صنفها و هو العلاقة الخاصة، فالمجاز مطرد كما تقدم ذلك في تقريب الإشكال.

(3) هذا من المصنف إشارة إلى رد ما فعله صاحب الفصول من الجواب عن نقض الاطراد الحقيقي بالاطراد المجازي.

فلا بد من بيان ما أجاب به صاحب الفصول قبل بيان إشكال المصنف عليه، و ملخص ما أجاب به صاحب الفصول عن إشكال نقض الاطراد الحقيقي بالاطراد المجازي على تقدير اعتبار العلاقة الخاصة: أن النقض المذكور يلزم لو لم نقيّد الاطراد بكونه من غير تأويل أو على وجه الحقيقة، و أمّا تقييده بكونه من غير تأويل أو على وجه الحقيقة فيوجب اختصاصه بالحقيقة فلا ينقض بالاطراد في المجاز بملاحظة صنف العلائق، لأن الاطراد في المجاز ليس من دون تأويل على مسلك السكاكي، و لا على وجه الحقيقة على مذهب المشهور، بل الاطراد في المجاز مع التأويل، أو على وجه المجاز فيخرج الاطراد في المجاز بالتقييد المذكور.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح جواب صاحب الفصول عن إشكال النقض.

و قد ردّ المصنف هذا الجواب: باستلزامه الدور، لأنّ معرفة الحقيقة و الوضع تتوقف على حصول الاطراد على وجه الحقيقة و معرفة ذلك تتوقف على معرفة الحقيقة فيلزم الدور.

ص: 74

على وجه دائر، و لا يتأتّى (1) التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا، ضرورة: أنّه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد أو بغيره.

=============

(1) لا يمكن التخلّص عن إشكال الدور هنا بما ذكر في التبادر من الإجمال و التفصيل، و من كون التبادر عند العالم بالوضع علامة للحقيقة عند الجاهل بها؛ و ذلك لأنّ العلم الإجمالي الارتكازي بالوضع يكفي هناك في رفع غائلة الدور، و لا يكفي هنا لمعرفة كون الاستعمال على وجه الحقيقة أو من غير تأويل، بل لا بدّ من علم تفصيلي يلتفت إليه الإنسان، و معه لا يحتاج إلى الاطراد.

و بعبارة أخرى: بعد أن أخذت معرفة الحقيقة في أصل الدليل أعني الاطراد، و كونه علامة على الوضع و الحقيقة، فلا بدّ من حصولها تفصيلا، و مع حصول المعرفة تفصيلا بالحقيقة و الوضع لا معنى لعلاميّة الاطراد للحقيقة، لأنه تحصيل للحاصل، و من هنا يظهر: إنه لا يبقى مجال لاستعلام الجاهل - حال الاستعمال - من العالم، إذ الجاهل لا بدّ أن يعلم تفصيلا تحقق علامية الاطراد عند العالم، و المفروض: أن العلامة هي الاطراد على وجه الحقيقة، فلا بد أن يعلم المستعلم الجاهل تفصيلا بأنّ الاطراد عند العالم كونه على نحو الحقيقة و لو بإخباره، و مع علمه تفصيلا بالحقيقة لا معنى لعلامية الاطراد.

خلاصة البحث في علامات الحقيقة و المجاز مع رأي المصنف «قدس سره»:

أمّا علامات الحقيقة فهي أربعة: 1 - تنصيص أهل اللغة. 2 - تبادر المعنى من حاق اللفظ. 3 - عدم صحة السلب أو صحة الحمل. 4 - الاطراد.

و أمّا علامات المجاز فهي على ثلاثة أقسام: 1 - عدم التبادر. 2 - صحة السلب. 3 - عدم الاطراد.

و أمّا المصنف فيقول: بأن كل واحد من التبادر و عدم صحة السلب من علامات الحقيقة، و كذلك عدم التبادر و صحة السلب من علامات المجاز، و أمّا الاطراد و التنصيص فليس وجودهما من علامات الحقيقة، و لا عدمهما من علامات المجاز؛ لأنّ التنصيص يرجع إلى حجية القول اللغوي، فلذا لم يذكره المصنف «قدس سره».

و أمّا الاطراد فهو حاصل في المعنى المجازي أيضا، فيكون أعم من الحقيقة، و العام لا يدل على الخاص.

ص: 75

الثامن (1)

أنه للفظ أحوال خمسة، و هي: التجوّز، و الاشتراك، و التخصيص، و النقل، و الإضمار لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الأمر بينه و بين المعنى الحقيقي؛ إلاّ

=============

الثامن تعارض أحوال اللفظ

(1) يقع الكلام في مقامات:

1 - توضيح تلك الأحوال. 2 - دوران الأمر بين المعنى الحقيقي و بين أحد الأحوال.

3 - دوران الأمر بين تلك الأحوال أنفسها مع قطع النظر عن المعنى الحقيقي. 4 - بيان أمثلة تعارض الأحوال مع ترجيح بعضها على بعض.

و أمّا توضيح الأحوال الخمسة فهو:

أن «التجوز» هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له بعلاقة من العلاقات المذكورة في علم البيان.

و «الاشتراك اللفظي»: هو وضع لفظ بوضع متعدد لمعنيين أو أكثر من دون لحاظ المناسبة بين المعاني، و من دون أن يسبق وضعه لبعضها على وضعه للآخر مثل: لفظ «عين» الموضوعة لحاسة النظر، و ينبوع الماء و الذهب و غيرها، و مثل: لفظ «جون» الموضوع للأبيض و الأسود.

و «التخصيص»: هو استعمال لفظ العام في بعض مصاديقه مثل: «أكرم كل عالم» و يراد به علماء البلد.

و «النقل»: هو أن يكون اللفظ موضوعا أولا لمعنى، ثم نقل عنه لمعنى آخر مناسب للأول؛ مثل: لفظ «الصلاة» الموضوع للدعاء، ثم نقل في الشرع - بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية - إلى الأفعال المخصوصة لمناسبتها للأول بكونها مشتملة على الدعاء.

و «الإضمار»: هو تقدير لفظ في الكلام من دون تجوّز في الإسناد و لا في الكلمة، مثل: وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ (1) أي: فاسأل أهلها.

و أما المقام الثاني: فقد أشار إليه بقوله: «فيما إذا دار الأمر بينه» أي: بين أحد الأحوال «و بين المعنى الحقيقي» أي: إذا دار أمر اللفظ بين أحد هذه الأحوال، و بين المعنى الحقيقي كدورانه بين الحقيقة و المجاز، و أنه مستعمل في المعنى الحقيقي أو المجازي، و قد التزم المصنف «قدس سره» بحمل اللفظ على المعنى الحقيقي لأصالة الحقيقة حيث قال: «لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الأمر بينه و بين المعنى الحقيقي، إلاّ بقرينة صارفة عنه

ص: 76


1- يوسف: 82.

بقرينة صارفة عنه إليه، و أمّا إذا دار الأمر بينها، فالأصوليون و إن ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها؛ إلاّ أنّها استحسانية، لا اعتبار بها، إلاّ إذا كانت موجبة إليه» أي: صارفة عن المعنى الحقيقي إلى أحد الأحوال، لأنّ مقتضى أصالة الحقيقة هو:

=============

حمل اللفظ على المعنى الحقيقي مع عدم قرينة صارفة عنه.

فلا إشكال في فرض دوران اللفظ بين الحقيقة و المجاز، و إنّما الإشكال في فرض دوران الأمر بين المعنى الحقيقي و بين سائر الأحوال، كدوران الأمر بين المعنى الحقيقي و بين الاشتراك أو النقل، إذ حينئذ يدور الأمر بين المعنيين الحقيقيين؛ لأنّ المشترك و كذا المنقول معنى حقيقي و مثله الأمر في دوران الأمر بين المعنى الحقيقي و التخصيص؛ لأنّ التخصيص لا يوجب المجازية على بعض الآراء فلا يكون قسيما و مقابلا للمعنى الحقيقي.

إلاّ إن يقال في توجيه مراد المصنف «قدس سره»: بأنه لا يريد من المعنى الحقيقي المعنى المقابل للمجاز، بل يريد به المعنى الأصلي الذي جعل اللفظ بإزائه أولا، ففي مورد تعدد الحقيقة كمورد النقل و الاشتراك و التخصيص يراد دوران الأمر بين المعنى الحقيقي الأولي و المعنى الحقيقي الثانوي و هو المنقول إليه اللفظ أو الموضوع له اللفظ ثانيا أو المعنى الخاص.

و أمّا المقام الثالث: فقد أشار إليه بقوله: «و أمّا إذا دار الأمر بينها...» إلخ أي: بين الأحوال في أنفسها، لا بينها و بين المعنى الحقيقي. يعني: بين المجاز و الاشتراك أو بين الاشتراك و النقل، أو بين التخصيص و الإضمار، و هكذا، فالعلماء الأعلام ذكروا وجوها لترجيح بعضها على البعض الآخر متمسكين ببعض الأمور، مثلا: رجحوا المجاز على الاشتراك لكونه أكثر استعمالا، و رجحوا الاشتراك على المجاز لكونه أبعد من الخطأ لوجوب التوقف عند عدم القرينة المعنية.

و رجحوا الاشتراك على النقل لكون النقل يقتضي نسخ الوضع الأوّل، بخلاف الاشتراك لعدم اقتضائه النسخ، و لأنّ الأصل عدم النسخ، و رجحوا التخصيص على الإضمار لكونه أغلب حتى قيل: ما من عام إلاّ و قد خص، إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في الكتب المبسوطة.

و يقول المصنف ردا على هذه الأمور: إنها أمور استحسانية ذوقية لا اعتبار بها. نعم؛ إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في البعض فعند ذلك يؤخذ بالطرف الراجح لأجل ظهور اللفظ فيه، و هو حجة عند العرف و العقلاء.

ص: 77

لظهور اللفظ في المعنى، لعدم (1) مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك كما لا يخفى.

=============

(1) تعليل لقوله: (لا اعتبار بها).

صور تعارض أحوال اللفظ

بقي الكلام في المقام الرابع. أعني: أمثلة تعارض الأحوال فهناك عشر صور بعد إسقاط المكررات. توضيح ذلك حسب ما يلي:

1 - تعارض الاشتراك مع الأربعة و هي: 1 - المجاز. 2 - النقل. 3 - التخصيص. 4 - الإضمار.

2 - تعارضه مع الثلاثة الباقية: هي: 1 - النقل. 2 - التخصيص. 3 - الإضمار.

3 - تعارضه مع الاثنين الباقيين: 1 - التخصيص. 2 - الإضمار.

4 - تعارضه مع الإضمار. فالمجموع هي عشر صور.

ثم التخصيص و الإضمار و إن كانا قسمين من المجاز؛ و لكن لما كان لهما مزيد اختصاص و امتياز أفردوهما من سائر أقسام المجاز. فنبدأ في بيان المرجحات التي ذكرنا بعضها في المقام الثالث. و لكن المهم هنا ذكر الأمثلة فنقول:

الصورة الأولى: هي دوران الأمر بين الاشتراك و المجاز، و قيل: المجاز أرجح من الاشتراك، و مثال تعارضهما قوله تعالى: وَ لاٰ تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ توضيح ذلك:

أن لفظ النكاح يستعمل بمعنى: العقد و الوطء فهو إمّا لفظ مشترك بينهما و إمّا مجاز في العقد بعد ما كان حقيقة في الوطء، فعلى الاشتراك يتوقف في الحكم إذ لا يعلم أن المراد هو العقد، كي يكون معنى الآية: «لا تنكحوا ما عقد آباؤكم» أو الوطء فيكون معناها «لا تنكحوا ما وطأ آباؤكم» حتى تدل على جواز نكاح معقودة الأب بناء على عدم الوطء، و على المجاز تحمل الآية على المعنى الحقيقي أعني: الوطء و يحكم بجواز نكاح معقودة الأب كما عرفت.

ثم وجه أرجحية المجاز على الاشتراك هو كثرة المجاز و أوسعيته في العبارة، لأن استعمال لفظ واحد بعنوان المجازية يصح في موارد كثيرة كاستعمال لفظ الشمس في ضوء النهار، و الوجه الحسن و نحوها، هذا بخلاف الاشتراك؛ لأن استعمال لفظ واحد بعنوان الاشتراك لا يصح إلاّ في المورد الذي وضع له هذا أولا.

و ثانيا: أن المجاز أنفع من الاشتراك، لأنه لا توقف فيه أبدا إذ مع القرينة يحمل اللفظ على المجاز، و بدونها يحمل على الحقيقة؛ بخلاف المشترك إذ مع عدم القرينة المعنية لا بدّ من التوقف.

ص: 78

و قيل: بأن الاشتراك أرجح من المجاز لأنه أبعد عن الخطأ إذ مع عدم القرينة المعنية يتوقف احتياطا، فلا يحصل الخطأ، بخلاف المجاز حيث يحمل على الحقيقة مع عدم القرينة فيقع في الخطأ مع كون المراد هو المعنى المجازي دون المعنى الحقيقي. هذا أولا.

و ثانيا: أن المجاز يصح و يسبك من كلا المعنيين أو المعاني على الاشتراك فتكثر الفائدة؛ بخلاف المجاز فإنه لا يجوز سبك المجاز عن المجاز حتى تكثر الفائدة. هذا تمام الكلام في الصورة الأولى.

الصورة الثانية: تعارض الاشتراك و النقل، و كون الأول أرجح من الثاني، و مثال تعارضهما: قول النبي «صلى اللّه عليه و آله»: «الطواف بالبيت صلاة»(1) حيث يدور أمر الصلاة بين الاشتراك و النقل، فإن كانت مشتركة بين الدعاء و الأركان المخصوصة كانت مجملة حيث لا يعلم المراد هل هو أن الطواف مثل الدعاء فلا تعتبر الطهارة فيه، أو مثل الأركان فيشترط أن يكون مع الطهارة ؟ و إن كانت منقولة من الدعاء إلى الأركان فيترتب على الطواف أحكام الأركان من الطهارة و غيرها.

و أمّا وجه أرجحيته على النقل: فلأنّ النقل يقتضي الوضع في المعنيين على نحو التعاقب بأن يكون الوضع في الدعاء أوّلا، ثم في الأركان ثانيا، فلا بد من الالتزام بالنسخ أي: نسخ الوضع الأول، بخلاف الاشتراك إذ لا نسخ فيه فيكون الاشتراك أولى من النقل لأنّ النقل يقتضي بطلان الوضع الأول بالنسخ، و الاشتراك لا يقتضي البطلان مع إنه أكثر و أغلب من النقل.

ص: 79


1- ورد في الكافي، ج 4، ص 420، ح 2 /التهذيب، ج 5، ص 116، ح 51، ص 154، ح 35 /الاستبصار، ج 2، ص 241: عن أبي جعفر «عليه السلام» أنه سئل: أ ينسك المناسك و هو على غير وضوء؟ فقال: «نعم؛ إلا الطواف بالبيت فإن فيه صلاة». و قد ورد هذا اللفظ في سنن النسائي - المجتبى - ج 5، ص 222، ص 2922: «الطواف بالبيت صلاة، فأقلّوا من الكلام». و كذلك خلاصة البدر المنير، ج 1، ص 56، ح 169 / تحفة الطالب، ص 324. و في كشف الخفاء، و الدراية في تخريج أحاديث الهداية، ج 2، ص 41، ج 2، ص 59، ح 1670: «الطواف بالبيت صلاة، و لكن الله أحلّ فيه المنطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير».

الصورة الثالثة: تعارض الاشتراك و التخصيص، و كون الثاني أرجح من الأول، مثال تعارضهما: «أكرم العلماء إلاّ فساقهم»، فإن قلنا: بأن الجمع المحلى باللام حقيقة في العموم يكون قولنا: إلاّ فساقهم قرينة صارفة تدل على مجازية العام بالتخصيص، و إن قلنا: بأنه مشترك بين العام و الخاص يكون قولنا: إلاّ فساقهم قرينة معيّنة على إرادة الخاص.

أمّا وجه أرجحية التخصيص: فلأن التخصيص خير من المجاز على ما يأتي، و المجاز خير من الاشتراك، كما عرفت سابقا. فيكون التخصيص خيرا من الاشتراك.

الصورة الرابعة: تعارض الاشتراك و الإضمار، و الثاني أرجح من الأول، و مثال تعارضهما قوله تعالى: وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ فإن السؤال عن القرية غير صحيح، بل مستحيل عادة فلا بد إمّا من إضمار الأهل، و إمّا من جعل القرية مشتركة بين المحل و الحال أعني: الأهل و يراد هنا الأهل.

و أمّا وجه أرجحية الإضمار: فلاختصاص الإجمال الحاصل بالإضمار ببعض الصور، بمعنى: أن الإضمار لا يوجب الإجمال إلاّ في بعض الصور مثل: «لا صلاة إلاّ بطهور» حيث لا يعلم أن تقديره: لا صلاة صحيحة أو لا صلاة كاملة إلاّ بطهور.

هذا بخلاف المشترك حيث يوجب الإجمال في جميع الصور عند عدم القرينة المعينة هذا أولا.

و ثانيا: أن الإضمار أوجز و هو من محسنات الكلام. هذا تمام الكلام في تعارض الاشتراك مع الأربعة. فيقع الكلام في تعارض المجاز مع الثلاثة الباقية.

الصورة الخامسة: هي تعارض المجاز و النقل. و مثال تعارض المجاز و النقل مثل قول الشارع: «صلّوا» حيث يدور أمرها بين المجاز و النقل بعد العلم بأن المراد منها هي الأركان، و قيل: بأن المجاز أرجح من النقل؛ و ذلك لاحتياج النقل إلى اتفاق أهل اللسان على تغيّر الوضع بأن يتفق أهل الشرع على نقل الصلاة إلى الأركان بعد ما كانت حقيقة في الدعاء؛ بخلاف المجاز حيث لا يحتاج إلى ذلك، بل يكفي فيه وجود قرينة صارفة، هذا مع إن فوائد المجاز أكثر من النقل.

و من هنا يظهر: ترجيح الإضمار أيضا على النقل.

الصورة السادسة: هي تعارض الإضمار و النقل، و مثال تعارضه مع النقل قوله تعالى:

وَ حَرَّمَ اَلرِّبٰا (1) حيث يدور أمر الربا بين الإضمار و النقل، و المعنى على الأول: حرّم

ص: 80


1- البقرة: 275.

أخذ الربا، و على الثاني: حرّم عقد الربا؛ لأنّ الربا في اللغة: بمعنى: الزائد و في الشرع بمعنى: العقد الربوي فيدور الأمر بين الإضمار و النقل. أمّا وجه أرجحية الإضمار: أن النقل يحتاج إلى اتفاق أهل اللسان كما تقدم بخلاف الإضمار فإنه لا يحتاج إلى ذلك، مضافا إلى أنه أوجز و هو من محسنات الكلام.

الصورة السابعة: هي تعارض المجاز و التخصيص. و مثال تعارض المجاز و التخصيص قوله تعالى: فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ (1) و قد استثنى منه الذمي، فيدور الأمر بين المجاز بأن المشركين استعمل مجازا في الخاص، و بين التخصيص بأن المشركين عام و قد خرج منهم الذميّ بالتخصيص.

و قيل: بأن التخصيص أرجح من المجاز، لأنّ المجاز مفوّت للغرض دون التخصيص، و ذلك إذا أخذ بالعام مع عدم الاطلاع على قرينة التخصيص فيحصل المراد و هو الخاص مع زيادة، و أمّا المجاز: فإذا أخذ بالمعنى الحقيقي عند عدم العلم بالقرينة لكان مفوتا للغرض، لأن المعنى الحقيقي غير مراد أصلا.

الصورة الثامنة: هي تعارض المجاز و الإضمار، و مثاله كقوله تعالى: وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ حيث يدور الأمر بين الإضمار أي: تقدير الأهل، و بين المجاز أي: جعل القرية مجازا بمعنى: أهلها. و قيل: بأنهما متساويان إذ لم يثبت ترجيح أحدهما على الأخر.

هذا تمام الكلام في تعارض المجاز مع الثلاثة الباقية. فيقع الكلام في تعارض النقل مع الاثنين الباقيين و هما التخصيص و الإضمار.

الصورة التاسعة: هي تعارض النقل و التخصيص. و مثاله نحو قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيٰامُ (2) حيث يدور الأمر بين النقل و التخصيص؛ و ذلك لا شك في أن الواجب هو الإمساك الخاص بعد ما كان الصوم حقيقة في مطلق الإمساك، فلا بد إمّا من النقل بأن يقال: إن لفظ الصوم نقل من العام إلى الخاص و إمّا من التخصيص - على فرض عدم النقل - بأن يكون الصوم بمعناه العام، لكن وقع التخصيص.

ثم إن التخصيص أرجح من النقل، لأنّ التخصيص أرجح من المجاز كما سبق، و المجاز أرجح من النقل كما تقدم أيضا، فالتخصيص أرجح من النقل بقياس المساواة.

الصورة العاشرة: هي تعارض التخصيص و الإضمار، و مثاله كقول النبي «صلى اللّه

ص: 81


1- التوبة: 5.
2- البقرة: 183.

التاسع

أنه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية و عدمه (1) على أقوال:

=============

عليه و آله»: «لا صيام لمن لم يبيّت صيامه من الليل»(1) حيث إن ظاهره: بطلان الصوم إذا لم تكن نيته من الليل، فيدور الأمر بين التخصيص لجواز تأخر نية الصوم المندوب إلى الزوال، و بين الإضمار أي: تقدير الكمال أي: لا كمال للصوم إذا لم ينوه من الليل.

و قيل: إن التخصيص أرجح من الإضمار لكونه أرجح من المجاز المساوي للإضمار، فالتخصيص أرجح على الإضمار بقياس المساواة. هذا تمام الكلام في المقام، و لكن أطلنا الكلام في المقام، لأنّه لا يخلو من الفائدة الجديدة.

نظرية المصنف في المقام:

إن المرجحات المذكورة لا اعتبار بها؛ لأنها أمور استحسانية فلا تكون حجة، فلا يجوز الاعتماد عليها.

التاسع الحقيقة الشرعية

اشارة

التاسع الحقيقة الشرعية(1) أي: عدم ثبوت الحقيقة الشرعية. و قبل الخوض في البحث لا بد من بيان محل الكلام و موضوع البحث: أنه لا إشكال في وجود معان شرعية مستحدثة، و لا خلاف في أن الشارع قد استعمل فيها ألفاظا كانت موضوعة لغة لمعان معينة. و إنّما الخلاف في نقل الشارع تلك الألفاظ من معانيها اللغوية إلى معانيها الشرعية. هل نقل الشارع إليها و وضعها للمعاني الشرعية، كي تثبت الحقيقة الشرعية أو لم ينقلها؟ بل كان يستعمل الألفاظ في المعاني الشرعية على نحو المجاز و بالقرينة فلا تثبت الحقيقة الشرعية. و ذلك كلفظ «الصلاة» فإنه موضوع لغة للدعاء، و قد استعملت في لسان الشارع في الواجب الخاص كالأركان؛ فهل وضع الشارع - ناقلا - لفظ الصلاة إلى هذا الواجب المعين، أو

ص: 82


1- غوالي اللآلي، ج 3، ص 132، ح 5 /المستدرك، ج 7، باب 2، ص 316، ح 8278 عنه بلفظ: «لا صيام لمن لا يبيت صيامه من الليل» و بالليل. و في سنن النسائي (المجتبى) ج 4، ص 197، ح 2334 /السنن الكبرى، ج 2، ص 117، ح 2643 /مستدرك الوسائل، ج 7، باب 2، ص 316، ح 8278: عن حفصة: أن النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» قال: «من لم يبيّت الصيام من الليل فلا صيام له». و في سنن الترمذي، ج 3، ص 108، ح 730 /سنن الدارقطني، ج 2، ص 173، ح 4 /السنن الكبرى، ج 2، ص 117، ح 2645 /سنن النسائي (المجتبى) ج 4، ص 197، ح 2335 بألفاظ مختلفة، و اللفظ من الترمذي: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له».

و قبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقال، و هو أن الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح بإنشائه، كذلك يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له (1)، كما إذا وضع له، بأن يقصد الحكاية عنه، و الدلالة عليه بنفسه لا أنه لم يضع اللفظ للفعل الخاص، بل استعمله فيه مجازا و بالقرينة ؟

=============

و من هنا يظهر: أن المعاملات خارجة عن محل النزاع، لأنّها لم تكن من مخترعات الشرع، بل أمور عرفية قديمة زاد الشارع فيها شرائط.

إذا عرفت محل النزاع فنقول: إن الكلام في الحقيقة الشرعية من جهات:

الأولى: بيان الأقوال فيها.

الثانية: بيان أقسام الوضع، و على تقدير ثبوتها بأيّ : قسم من الوضع ثبتت.

الثالثة: بيان الثمرة بين القولين أي: المثبت و النافي.

الأقوال في الحقيقة الشرعية

و ملخص البحث في الجهة الأولى: هو أن الأقوال في المقام خمسة:

1 - الثبوت مطلقا. 2 - عدم الثبوت مطلقا. 3 - التفصيل بين العبادات و المعاملات - الثبوت في الأولى و العدم في الثانية. 4 - التفصيل بين الألفاظ الكثيرة الدوران كالصوم و الصلاة و نحوهما و بين غيرها - الثبوت في الأولى و إن كانت من المعاملات، و النفي في الثانية و إن كانت من العبادات.

5 - التفصيل بين عصر النبي «صلى اللّه عليه و آله» و بين عصر الصادقين «عليهم السلام» النفي في الأول، و الثبوت في الثاني، و لكن تسميته على هذا بالحقيقة المتشرعية أولى من تسميته بالحقيقة الشرعية.

هذا و لكن قد عرفت: أن محل الكلام هي العبادات، لأنها معان مستحدثة شرعا و من مخترعات الشارع. و أما المعاملات فكانت ثابتة قبل الشرع، لأنها أمور عرفية قديمة.

ثم إن المصنف يقول بثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني الذي يحصل بالاستعمال و بالإنشاء العملي، كما أشار إليه بقوله: «إن الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح بانشائه كذلك يحصل باستعمال اللفظ».

(1) توضيح ما ذكره المصنف من إنشاء الوضع التعييني بالاستعمال يتوقف على مقدمة و هي: أن الوضع على قسمين: 1 - التعييني. 2 - التعيّني.

الأول: يحصل بتعيين الواضع و تصريحه بأن يقول: وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى.

و الثاني: يحصل بكثرة الاستعمال. ثم الأول كما يحصل بالتصريح بإنشائه كذلك يحصل باستعمال اللفظ. أي: ينشأ بالاستعمال بأن يستعمل اللفظ في المعنى و يقصد بهذا الفعل أعني: الاستعمال تحقق الوضع و إنشاءه.

ص: 83

بالقرينة، و إن كان لا بد - حينئذ (1) من نصب قرينة، إلاّ إنه (2) للدلالة على ذلك، لا على إرادة المعنى، كما في المجاز (3) فافهم (4).

و كون استعمال اللفظ فيه كذلك (5) في غير ما وضع له، بلا مراعاة ما اعتبر في إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الوضع التعييني بالمعنى الأوّل بأن كان الشارع المقدس قد تصدى للوضع صريحا لم يثبت في المقام، بل هو مقطوع العدم؛ ضرورة: أنه لو ثبت كذلك لنقل إلينا بالتواتر - لعدم المانع و توفر الدواعي على نقله - كيف و لم ينقل حتى بخبر الواحد؟

=============

و لكن الوضع التعييني بالمعنى الثاني بمكان من الإمكان؛ بأن يستعمل في غير ما وضع له، و لكن لا لإفادة المعنى كالمجازات، بل لإفادة قصد وضعه له، و نفس هذا الاستعمال و إن لم يكن حقيقة و لا مجازا إلاّ إن الطبع يقبله كما مر في استعمال اللفظ في اللفظ.

و تقريب ذلك: - بما في «منتقى الأصول» - أن استعمال اللفظ في المعنى و قصد دلالته عليه بنفسه لما كان من لوازم الوضع، إذ بدونه لا يكون اللفظ دالا على المعنى بنفسه كان الاستعمال دالا بالدلالة الالتزامية على الوضع، و موجبا لخطوره في ذهن المخاطب بالالتزام، و عليه: فيقصد إيجاد الوضع و تحققه خارجا بهذه الدلالة الالتزامية، و ينشأ الوضع بهذه الواسطة، إذ لا يعتبر في المنشأ أن يكون مدلولا عليه مطابقة كالنحو الأول من نحوي الوضع التعييني.

(1) أي: حين قصد إنشاء الوضع بهذا الاستعمال.

(2) أي: نصب القرينة إنّما هو للدلالة على قصد الوضع بهذا الاستعمال.

و خلاصة الكلام: أنه لا بد من نصب قرينة في هذا الاستعمال إلاّ إنها على تحقق الوضع بهذا الاستعمال لا على دلالة اللفظ على المعنى و استعماله فيه، و بذلك اختلفت هذه القرينة عن قرينة المجاز.

(3) أي: حيث تكون القرينة فيه صارفة عن المعنى الحقيقي بخلاف القرينة في قصد إنشاء الوضع من الاستعمال، حيث تكون القرينة فيه مفهمة لقصد الوضع.

(4) لعله إشارة إلى امتناع الوضع التعييني بنفس الاستعمال؛ لاستلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي و الاستقلالي و هو غير معقول؛ و ذلك لأن الاستعمال الذي حقيقته إفناء اللفظ في المعنى، و إلقاء المعنى في الخارج يقتضي تصور اللفظ مرآة و الوضع يستدعي أن يكون النظر إلى الألفاظ استقلاليا، فيلزم الجمع بين الضدين و هو غير معقول.

(5) أي: كون استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له بنفس الاستعمال بدون قرينة؛ كاستعمال للفظ في غير ما وضع له بلا مراعاة الشيء المعتبر في المجاز - كنصب قرينة

ص: 84

المجاز، فلا يكون بحقيقة و لا مجاز؛ غير ضائر بعد ما كان مما يقبله الطبع و لا يستنكره، و قد عرفت سابقا: أنه في الاستعمالات الشائعة في المحاورات ما ليس بحقيقة و لا مجاز (1).

إذا عرفت هذا (2)، فدعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا (3) قريبة جدا، و مدعي القطع به غير مجازف قطعا.

=============

صارفة - فلا يكون هذا الاستعمال بحقيقة و لا بمجاز.

و أما عدم كونه على نحو الحقيقة: فلأن الاستعمال الحقيقي مسبوق بالوضع، و ليس هنا وضع قبل الاستعمال.

و أما عدم كونه على نحو المجاز: فلعدم لحاظ العلاقة بين المعنى الحقيقي و المجازي، و لازم ذلك: أن لا يكون الاستعمال على نحو الحقيقة و لا على نحو المجاز و هو باطل، لأن الاستعمال لا يخلو عن أحد الأمرين.

و ملخص الكلام: أن قوله: «و كون استعمال اللفظ...» إلخ دفع للإشكال الذي ذكرناه، و قد أشار إلى دفعه بقوله: «غير ضائر»، و هو خبر قوله: «و كون استعمال اللفظ...» الخ.

و حاصل الدفع: أن هذا الإشكال غير وجيه بعد ما عرفت من إمكان أن لا يكون الاستعمال حقيقيا و لا مجازيا؛ كاستعمال اللفظ في مثله مثلا، إذ العبرة في صحة الاستعمال هو استحسان الطبع له، و مع استحسانه له لا مانع منه، و لو لم يكن شيء من العلائق المعتبرة في المجاز موجودا فلا وجه لحصر الاستعمال في الحقيقي و المجازي، و إلاّ لم يصح استعمال اللفظ في النوع أو الصنف لعدم كونه حقيقيا كما هو واضح، و لا مجازيا لعدم العلاقة.

(1) أي: كاستعمال اللفظ في نوعه أو صنفه حيث إنه ليس بحقيقة و لا بمجاز.

(2) أي: ما ذكرناه من التمهيد.

(3) أي: دعوى الوضع التعييني بنفس الاستعمال، مع القرينة على كونه في مقام إنشاء الوضع قريبة جدا؛ لاقتضاء العادة ذلك، و ذلك فإنه بعد فرض كون معاني الألفاظ المتداولة على لسان الشارع معان مستحدثة و من مخترعات الشارع، و أنّه في مقام تفهيمها للمخاطبين، و أنه كان يستعمل تلك الألفاظ للمعاني المستحدثة. هذا مع بعد إنشاء الوضع لعدم نقله إلينا يثبت الوضع بالإنشاء الفعلي.

فدعوى: الوضع التعييني بهذا النحو غير مجازفة. و قد أضربنا عما أورده البعض على

ص: 85

و يدل عليه (1): تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته، و يؤيد ذلك (2): أنه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية و اللغوية، فأيّ علاقة بين الصلاة شرعا و الصلاة بمعنى الدعاء، و مجرد (3) اشتمال الصلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء و الكل بينهما، كما لا يخفى.

هذا (4) كله بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا.

=============

ما أفاده المصنف من الإشكال، لأن الغرض من هذا الشرح هو توضيح كلامه فقط.

(1) أي: يدل على الوضع التعييني الحاصل بالإنشاء الفعلي: تبادر المعاني الشرعية من تلك الألفاظ المتداولة في لسان الشارع. و قد عرفت: أن تبادر المعنى من حاق اللفظ من علامات الحقيقة.

(2) أي: يؤيد الوضع التعييني الحاصل بنفس الاستعمال «أنه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية و اللغوية» أي: عدم وجود العلاقة مع الاستعمال في المعاني الشرعية دليل على الوضع و الحقيقة؛ إذ لو كان الاستعمال على نحو المجاز لزم أن يكون ذلك مع العلاقة بينها و بين المعاني اللغوية، و هي مفقودة.

(3) قوله: «و مجرد اشتمال...» إلخ دفع لتوهم وجود العلاقة بين المعنى الشرعي و المعنى اللغوي في الصلاة، فاستعمال الصلاة في المعنى الشرعي إنما هو على نحو المجاز، لأنّ علاقة الكل و الجزء موجودة، فإن الصلاة بمعناها الشرعي تشتمل على الدعاء الذي هو معناها اللغوي.

و حاصل الدفع: أن علاقة الكل و الجزء و إن كانت موجودة إلاّ إن هذه العلاقة بإطلاقها لا تكفي في الاستعمال المجازي، بل هي مشروطة بشرطين:

«الأول»: كون المركب حقيقيا.

«الثاني»: كون الجزء من الأجزاء الرئيسية بأن يكون مما ينتفي بانتفائه الكل كالرقبة.

و كلاهما مفقود في المقام.

أما الأول فواضح، لأن الصلاة مركبة من الأجزاء المتباينة بالتركيب الاعتباري.

و أما الثاني: فلعدم كون الدعاء جزءا رئيسيا للصلاة، فعلاقة الكل و الجزء المصححة للاستعمال مجازا مفقودة في المقام، ثم إن المصنف جعل هذا مؤيدا لا دليلا، لاحتمال كفاية استحسان الطبع في صحة الاستعمال المجازي، و عدم الحاجة إلى العلائق المذكورة في كتب القوم.

(4) أي: أن النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية و عدمه و أن الشارع هل وضع تلك الألفاظ بإزاء تلك المعاني أو استعملها فيها مجازا؟ متفرع و مبتني على كون المعاني الشرعية مستحدثة في الشريعة الإسلامية.

ص: 86

و أمّا بناء (1) على كونها ثابتة في الشرائع السابقة كما هو قضية غير واحد من الآيات: مثل قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، و قوله تعالى: وَ أَذِّنْ فِي اَلنّٰاسِ بِالْحَجِّ ، و قوله تعالى: وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلاٰةِ وَ اَلزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا إلى غير ذلك، فألفاظها (2) حقائق لغوية لا شرعية.

و اختلاف (3) الشرائع فيها جزءا أو شرطا لا يوجب اختلافها في الحقيقة و الماهية، إذ لعله (4) كان من قبيل الاختلاف في المصاديق و المحققات؛ كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا، كما لا يخفى.

=============

(1) أي: و أمّا بناء على كون هذه المعاني ثابتة من قبل في الشرائع السابقة؛ كما هو مقتضى غير واحد من الآيات الكريمة فلا مجال للنزاع في الحقيقة الشرعية، لأنّ تلك الألفاظ حينئذ لم تستعمل في شرعنا إلاّ في المعاني التي كانت ألفاظ العبادات مستعملة فيها في الشرائع الماضية؛ كما هو مستفاد من جملة الآيات مثل قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ البقرة: 183، و قوله تعالى: وَ أَذِّنْ فِي اَلنّٰاسِ بِالْحَجِّ الحج: 27، و قوله تعالى: وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلاٰةِ وَ اَلزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا مريم: 31. إلى غير ذلك.

إن الظاهر من هذه الآيات: أن معاني الألفاظ كانت ثابتة من قبل و لم تكن مستحدثة، لأنّ الصيام قد كتب على من قبلنا و الأذان بالحج يسبب إتيان الرجال من كل فجّ عميق، فلو لم يكن المعنى شائعا قبل الشريعة الإسلامية لما قال اللّه تعالى أَذِّنْ فِي اَلنّٰاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ و هكذا في وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلاٰةِ في قضية عيسى بن مريم «عليه السلام»، و على هذا تكون ألفاظها حقايق لغوية لأنها كانت من قبل و ليست شرعية.

كون ألفاظ العبادات حقائق لغوية

(2) أي: فألفاظ العبادات حقائق لغوية لا شرعية لعدم اختراع الشارع لتلك المعاني، بل استعملها في المعاني التي كانت في الشرائع السابقة.

و قوله: «فألفاظها» جواب عن أمّا الشرطية في قوله: «و أمّا بناء على...» إلخ.

(3) قوله: «و اختلاف الشرائع...» إلخ دفع لما يتوهم من أن اختلاف الشرائع في العبادات من حيث الأجزاء و الشرائط موجب لعدم وحدة معانيها، بل هي متعددة مختلفة فلا تكون حقائق لغوية، بل تكون حقائق شرعية في هذه المعاني الشرعية المعهودة لاختراع الشارع إياها، فيبقى للنزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية مجال.

(4) هذا دفع للتوهم المذكور و حاصله: أن اختلاف الشرائع في العبادات من حيث الأجزاء و الشرائط لا يوجب اختلاف العبادات في الحقيقة و الماهية، إذ يمكن أن يكون

ص: 87

ثم لا يذهب عليك أنه مع هذا الاحتمال (1)، لا مجال لدعوى الوثوق - فضلا عن القطع - بكونها (2) حقائق شرعية، و لا لتوهم دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها (3)؛ لو سلّم دلالتها (4) على الثبوت لولاه.

=============

هذا الاختلاف بحسب المصداق لا الماهية مثلا: ورد في الشرع: «إن الصلاة قربان كل تقي». و نفرض أنها لغة ما يوجب القرب إلى اللّه سبحانه، فإن اختلاف مصاديقه بحسب الشرائع لا يوجب اختلافا في هذا المعنى الذي يكون واحدا في جميع الشرائع و لا يضر بوحدته.

و بعبارة واضحة: فكما إن الاختلاف فيها بحسب حالات المكلف من التمام و القصر، و من القيام و الجلوس لا يقدح في وحدة ماهية الصلاة و في آثارها فكذلك الاختلاف في الشرائع لا يضر بوحدتها.

فحينئذ لا يبقى مجال للقول بثبوت الحقيقة الشرعية.

فالمتحصل: أن النزاع في الحقيقة الشرعية، ثم القول بثبوتها بالوضع التعييني الحاصل بالاستعمال مبنيّ على كون المعاني الشرعية أمورا اخترعها الشارع. و أمّا بناء على كونها ثابتة في الشرائع السابقة فألفاظ العبادات حقائق لغوية لا شرعية، فلا يبقى مجال للنزاع في الحقيقة الشرعية.

(1) أي: احتمال وجود هذه المعاني في الشرائع السابقة لا أنها مستحدثة أو مع احتمال ما ذكره الباقلاني من إنكاره المعاني الشرعية لألفاظ العبادات حيث قال: إن الشارع استعملها في معانيها اللغوية، و لكن قد أضاف عدة أجزاء و شرائط إلى المعاني اللغوية، فإن لاحظنا قول الباقلاني في ألفاظ العبادات فلا يحصل لنا اطمئنان بكونها حقائق شرعية في المعاني الشرعية، فلا تدل الأدلة التي استدل بها على ثبوت الحقيقة الشرعية. هذا ما أشار إليه بقوله: «و لا لتوهم دلالة...» إلخ.

(2) أي: بكون ألفاظ العبادات حقائق شرعية.

(3) أي: على ثبوت الحقيقة الشرعية.

(4) أي: على فرض تسليم دلالة الوجوه المذكورة على ثبوت الحقيقة الشرعية «لولاه» أي: لو لا الاحتمال. و التعبير بقوله: «لو سلم» إشارة إلى كون دلالة تلك الوجوه في أنفسها مع قطع النظر عن الاحتمال المذكور مخدوشة.

فمعنى العبارة: أن تلك الوجوه لو فرض دلالتها على ثبوت الحقيقة الشرعية فلا يمكن الاستدلال بها لأجل هذا الاحتمال، لأن النزاع في كونها حقائق أو مجازات متفرع على كونها من مخترعات الشارع. هذا هو الأصل فلو انتفى الأصل ينتفي ما يتفرع عليه، فمع

ص: 88

و منه (1) انقدح: حال دعوى الوضع التعيّني معه، و مع الغض عنه فالإنصاف أن منع حصوله في زمان الشارع في لسانه و لسان تابعيه مكابرة.

نعم؛ حصوله في خصوص لسانه ممنوع فتأمل (2).

=============

تطرق الاحتمال المذكور بطل الاستدلال بتلك الوجوه، إذ قد اشتهر: إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

(1) أي: مما ذكرناه من احتمال معاني كون ألفاظ العبادات معان لغوية «انقدح حال دعوى التعيّني معه» أي: مع الاحتمال المذكور.

و حاصل الكلام في المقام: أنه فكما لا مجال مع هذا الاحتمال لدعوى كون ألفاظ العبادات حقائق شرعية بالوضع التعييني الحاصل بالاستعمال، فكذلك لا مجال معه لدعوى الوضع التعيّني الحاصل بكثرة الاستعمال إذ لم تكن المعاني الشرعية مغايرة للمعاني التي كانت في الشرائع السابقة؛ حتى يقال بأنها صارت حقائق شرعية من جهة كثرة الاستعمال.

نعم؛ مع الغض عن احتمال كونها حقائق لغوية في الشرائع السابقة «فالإنصاف أن منع حصوله» أي: منع حصول الوضع التعيّني مكابرة.

و المتحصل: من كلام المصنف «قدس سره» هو: أن الوضع التعييني الحاصل بالاستعمال و إن كان ممكنا في مقام الثبوت إلاّ إنه ممّا ليس عليه دليل، لأن الوجوه التي استدل بها على ثبوت الحقيقة الشرعية - لو سلم دلالتها - إنما يتم لو لا احتمال كون ألفاظ العبادات حقائق لغوية في الشرائع السابقة، و مع هذا الاحتمال لا يبقى مجال للنزاع في الحقيقة الشرعية. ثم عدل عن هذا و قال بحصول الوضع التعيّني الحاصل بكثرة الاستعمال بناء على كون معاني ألفاظ العبادات من مخترعات الشارع؛ لأن كثرة الاستعمال في المعاني الشرعية توجب حصول الوضع التعيّني في زمان الشارع، و منعه و إنكاره مكابرة، فنفي الوضع على نحو السلب الكلي غير سديد، بل الوضع بنحو الإيجاب الجزئي ثابت.

(2) لعله إشارة إلى أن منع الوضع التعيّني في خصوص لسان الشارع مع طول مدة الاستعمال يكون في غاية البعد. هذا مضافا إلى منافاة المنع لما سبق من قرب الوضع التعيّني في عصر الشارع.

ثم المراد من التابعين في قوله: «و لسان تابعيه» من كان يتبعه في استعمال ألفاظ العبادات في المعاني الشرعية ممّن كان في عصره «صلى اللّه عليه و آله»، فليس المراد من تابعيه من كان مقابلا للصحابة.

ص: 89

و أمّا الثمرة (1) بين القولين: فتظهر في لزوم حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت. و على معانيها الشرعية مع الثبوت، فيما إذا علم تأخر الاستعمال.

=============

الثمرة بين القول بالثبوت و النفي

و قوله: «نعم؛ حصوله في خصوص لسانه ممنوع» استدراك على ثبوت الوضع التعيّني في زمان الشارع مطلقا أي: حتى في لسانه بالخصوص و حاصله: أن الوضع التعيّني في خصوص لسانه «صلى اللّه عليه و آله» لم يثبت، و إن ثبت في لسان غيره من تابعيه، و يكفي على ذلك عدم الدليل.

الثمرة

(1) أي: بقي الكلام في الجهة الثالثة و هي الثمرة بين القول بثبوت الحقيقة الشرعية و بين القول بعدم الثبوت.

توضيح الثمرة يتوقف على مقدمة و هي: أن استعمال هذه الألفاظ الواقعة في كلام الشارع يمكن أن يكون على نحو المجاز، و يمكن أن يكون على نحو الحقيقة، هذا مع العلم بأن الاستعمال على نحو المجاز أو الحقيقة لا إشكال فيه.

و أمّا إذا لم يعلم كون الاستعمال على نحو المجاز أو على نحو الحقيقة فهناك صور و احتمالات:

1 - أن يكون تاريخ كل من الوضع و الاستعمال - على القول بثبوت الحقيقة الشرعية - معلوما و هذا على قسمين: 1 - أن يكون تاريخ الاستعمال متأخرا عن الوضع. 2 - بأن يكون الأمر بالعكس.

2 - أن يكون تاريخهما مجهولا.

3 - أن يكون تاريخ أحدهما معلوما و هو على قسمين: 1 - أن يكون تاريخ الاستعمال معلوما و تاريخ الوضع مجهولا. 2 - عكس ذلك. فالصور و الاحتمالات هي خمسة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الثمرة على القول بثبوت الحقيقة الشرعية إنّما تظهر في صورة واحدة و هي: صورة العلم بتاريخ كل من الوضع و الاستعمال، و كون تاريخ الاستعمال متأخرا عن تاريخ الوضع، فالثمرة حينئذ هي: حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع على معانيها الشرعية على القول بالثبوت، و على معانيها اللغوية على القول بعدم الثبوت.

ص: 90

و فيما إذا جهل (1) التاريخ، ففيه إشكال، و أصالة (2) تأخر الاستعمال مع معارضتها بأصالة تأخّر الوضع لا دليل على اعتبارها تعبّدا، إلاّ على القول بالأصل المثبت.

و لم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك (3)، و أصالة عدم النقل (4) إنّما

=============

(1) بأن علم أن النبي «صلى اللّه عليه و آله» قد استعمل لفظ الصلاة في معناها الشرعي و لكن لم يعلم أن هذا الاستعمال كان قبل حصول النقل ليكون مجازا، أو بعده كي يكون حقيقة «ففيه إشكال» أي: ففي حمل اللفظ الواقع في كلام الشارع على المعنى الشرعي على القول بالثبوت، و على المعنى اللغوي على القول بعدم الثبوت إشكال.

(2) قوله: «و أصالة تأخر الاستعمال» دفع لما يدّعى من أنه يمكن إثبات كون الاستعمال بعد الوضع، ليحمل اللفظ على المعنى الشرعي بأصالة تأخر الاستعمال، لأن الاستعمال أمر حادث فتجري فيه أصالة تأخر الحادث لإثبات تأخره عن الوضع.

و حاصل الدفع: أن هذا الأصل مردود لوجهين:

الأول: أنه معارض بأصالة تأخر الوضع عن الاستعمال فإنه أمر حادث أيضا. و قد أشار إلى هذا الوجه بقوله: «مع معارضتها بأصالة تأخر الوضع».

الثاني: أنه من الأصول المثبتة، لأن مرجع هذا الأصل إلى استصحاب عدم الاستعمال إلى حين الوضع و لازمه العقلي هو تأخر الاستعمال عن الوضع و ثبوته بعده، فيكون هذا الأصل مثبتا، و لا دليل على اعتباره تعبدا إلاّ على القول بالأصل المثبت حيث لا دليل على اعتباره إلاّ بناء العقلاء في موارد مخصوصة ليس المقام منها. و قد أشار إلى هذا الوجه بقوله: «لا دليل على اعتبارها تعبّدا إلاّ على القول بالأصل المثبت».

(3) أي: لم يثبت بناء العقلاء على أصالة التأخر مع الشك فيه، فعلى هذا لا يكاد يصح حمل تلك الألفاظ الواقعة في كلام الشارع على المعاني الشرعية، مع الشك في تقدم استعمالها على نقلها عن المعاني اللغوية إلى المعاني الشرعية و تأخره عنه.

(4) قوله: «و أصالة عدم النقل» يمكن أن يكون دفعا لما يقال من أن أصالة عدم النقل تكفي دليلا على حمل تلك الألفاظ على معانيها اللغوية، و ذلك بمعنى: أنه يستصحب عدم النقل إلى ما قبل الاستعمال فإنه أصل عقلائي، و هو المسمى بالاستصحاب القهقري، و يثبت به تأخر النقل و استعمالها في معانيها اللغوية.

و حاصل الدفع: أنّ أصالة عدم النقل لم يثبت اعتبارها إلاّ في أصل النقل أي: مع الشّك في أصل النقل، و أمّا مع العلم به و الشك في تقدمه و تأخره فلم يثبت اعتبارها

ص: 91

كانت معتبرة فيما إذا شك في أصل النقل لا في تأخّره فتأمل (1).

العاشر

أنه وقع الخلاف في أن ألفاظ العبادات (2) أسام لخصوص الصحيحة أو للأعم منها؟

=============

ببناء العقلاء، و المفروض في المقام هو: العلم بأصل النقل، فلا دليل على حجية عدم النقل فيما نحن فيه.

(1) لعلّه إشارة إلى أنه لا فرق في اعتبار أصالة عدم النقل بين الجهل بأصل النقل، و بين الجهل بتاريخ النقل مع العلم بأصل النقل كما في المقام، فتكون حجة فيما نحن فيه، فيكون الترجيح لمذهب النافين للحقيقة الشرعية لأصالة عدم النقل.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

1 - أن محل النزاع فيما إذا كانت المعاني الشرعية من مخترعات الشارع فيختص بالعبادات فالمعاملات خارجة عن محل الكلام، لأنّها ليست من مخترعات الشارع.

2 - أن الثمرة بين القولين تظهر فيما إذا علم تاريخ الوضع و الاستعمال، و كان تاريخ الوضع قبل تاريخ الاستعمال، فتحمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على المعاني الشرعية على القول بالثبوت، و على المعاني اللغوية على القول بعدم الثبوت.

3 - رأي المصنف «قدس سره» هو: ثبوت الحقيقة الشرعية إما بالوضع التعييني الحاصل بالاستعمال، و إما بالوضع التعيّني الحاصل بكثرة الاستعمال، ثم يترجح الاحتمال الثاني على الأوّل، و لكن كلا الاحتمالين مبني على كون المعاني الشرعية من مخترعات الشارع.

و أما بناء على كون المعاني الشرعية ثابتة من قبل في الشرائع السابقة فلا يبقى مجال للنزاع؛ إذ على هذا تكون حقائق لغوية لا شرعية.

العاشر بحث الصحيح و الأعم

اشارة

(2) على المصنف أن يذكر المعاملات عطفا على العبادات، لأن النزاع لا يختص بالعبادات؛ بل يجري في المعاملات، كما يجري في العبادات إلاّ إن يقال: إنه ذكرها في آخر البحث إجمالا فلا حاجة إلى ذكرها تفصيلا، و قد ذكر المصنف «قدس سره» أمورا قبل الخوض في أصل المطلب، فإنه رأى ضرورة الاطلاع عليها قبل تحقيق المقصود لدخله في تحقيقه.

ص: 92

و قبل الخوض في ذكر أدلة القولين «يذكر أمور»:

منها: أنه لا شبهة في تأتّي الخلاف، على القول بثبوت الحقيقة الشرعية، و في جريانه (1) على القول بالعدم إشكال.

و غاية ما يمكن أن يقال في تصويره (2): إن النزاع وقع - على هذا - في أن الأصل الأمر الأوّل: في تصوير النزاع. و ملخص كلامه فيه: أن تصويره على القول بثبوت الحقيقة الشرعية مما لا شبهة فيه، إذ يقال: إن الشارع هل وضع اللفظ لخصوص الصحيح أو للأعم منه و من الفاسد؟

=============

(1) أي: في جريان الخلاف على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية إشكال، إذ لا وضع كي يقال بأن الموضوع له هو الصحيح أو الأعم.

هذا مضافا إلى أن الأعمّي يقول: بجواز الاستعمال مجازا في الصحيح أيضا، و الصحيحي يقول: بجوازه مجازا في الفاسد أيضا، فلا خلاف في البين.

(2) أي: تصوير الخلاف على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية. توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أنه لا إشكال في استعمال ألفاظ العبادات في الصحيح منها شرعا، كما لا إشكال في استعمالها في الأعم، ثم على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية يكون استعمالها فيهما على نحو المجاز، فلا بد من ملاحظة العلاقة المصححة للاستعمال المجازي بين المعنى الحقيقي اللغوي و بين المعنى المجازي الشرعي، ثم ملاحظة العلاقة على فرض تعدد المعنى المجازي - كما فيما نحن فيه - تارة: تكون عرضية بمعنى:

أن كل معنى مجازي تلاحظ العلاقة بينه و بين المعنى الحقيقي. و أخرى: تكون طولية بمعنى: أن العلاقة تلاحظ بين المعنى المجازي و الحقيقي، ثم تلاحظ العلاقة ثانيا بين المعنى المجازي الثاني و بين المعنى المجازي الأول، و هكذا بين المعنى المجازي الثاني و الثالث فتكون المعاني المجازية طولية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المجازات في المقام طولية، فيقال حينئذ في تصوير الخلاف بين الصحيحي و الأعمي: إن الصحيحي يقول: إن الشارع لاحظ العلاقة ابتداء بين المعنى الحقيقي و بين المعنى المجازي الصحيح؛ مثل: الدعاء و الصلاة الصحيحة مثلا، ثم استعمل لفظ الصلاة في الصلاة الصحيحة مجازا، و متى أراد استعماله في الأعم لاحظ العلاقة بين الصحيح و الأعم بطريق سبك المجاز من المجاز، و يأتي بقرينة أخرى لإرادة الأعم مجازا.

و الأعمي يقول: إن الشارع لاحظ العلاقة ابتداء بين المعنى الحقيقي و بين الأعم أي:

ص: 93

في هذه الألفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع، هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الأعم، بمعنى: أن أيّهما قد اعتبرت العلاقة بينه و بين المعاني اللغوية ابتداء، و قد استعمل في الآخر بتبعه و مناسبته، كي ينزّل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية و عدم قرينة أخرى معينة للآخر.

و أنت خبير بأنه (1) لا يكاد يصح هذا إلاّ إذا علم أن العلاقة إنما اعتبرت كذلك، و أن بناء الشارع في محاوراته استقر عند عدم نصب قرينة أخرى على إرادته، بحيث كان هذا (2) قرينة عليه من غير حاجة إلى قرينة معيّنة أخرى، و أنّى لهم بإثبات ذلك.

و قد انقدح (3) بما ذكرنا: تصوير النزاع - على ما نسب إلى الباقلاني، و ذلك بأن بين الدعاء و مطلق الصلاة، فيحمل كلام الشارع على المعنى المجازي الأول - و هو الصحيح عند الصحيحي و الأعم عند الأعمي - عند عدم قرينة أخرى معينة للآخر.

=============

و بعبارة أخرى: تحمل ألفاظ العبادات مع وجود القرينة الصارفة و عدم قرينة معينة لأحد المعنيين - على الصحيح على قول الصحيحي، لأنه أول المجازين، و على الأعم على قول الأعمي، فالنزاع يجري على كلا القولين، إلاّ إن هذا التصوير إنّما هو في مقام الثبوت و المهم هو مقام الإثبات.

(1) هذا التصوير إشارة منه إلى ردّ التصوير المذكور إثباتا و إن كان ممكنا بحسب مقام الثبوت؛ إلاّ إنّ مجرد إمكانه ما لم يعلم بوقوعه لا يجدي كما أشار إليه بقوله: «بأنه لا يكاد يصح هذا إلاّ إذا علم أن العلاقة إنّما اعتبرت كذلك» أي: بين خصوص الصحيح أو خصوص الأعم و بين المعنى اللغوي، «و أن بناء الشارع في محاوراته استقر عند عدم نصب قرينة أخرى» يعني: غير القرينة الصارفة أي: استقر بناء الشارع على نصب قرينة صارفة فقط على إرادة أحد المعنيين بالخصوص الذي اعتبرت العلاقة ابتداء بينه و بين المعنى اللغوي.

(2) أي: بحيث كان هذا البناء الذي استقر قرينة على أن المراد هو المجاز الأول من غير حاجة إلى قرينة أخرى معينة، إلاّ إن إثبات هذا البناء من الشارع دون خرط القتاد؛ إذ لا دليل لهم على إثبات هذا البناء من الشارع، كي يكون مستندا لهذا التصوير في مقام الإثبات.

(3) أي: ظهر بما ذكرناه - من تصوير النزاع على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية -:

«تصوير النزاع - على ما نسب إلى الباقلاني» -.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أنه نسب إلى الباقلاني ما ملخصه: من أن مثل الصلاة و الحج و الصوم و ما شابهها من العبادات ليست مستحدثة و إنّما هي معاني

ص: 94

يكون النزاع في أنّ قضية القرينة المضبوطة التي لا يتعدى عنها (1)، إلاّ بالأخرى - الدالة على أجزاء المأمور به و شرائطه - هو تمام الأجزاء و الشرائط، أو هما في الجملة، فلا تغفل.

و منها (2): أن الظاهر: أن الصحة عند الكل بمعنى واحد، و هو التمامية و تفسيرها بإسقاط القضاء - كما عن الفقهاء - أو بموافقة الشريعة - كما عن المتكلمين - أو غير لغوية موضوعة من قبل، و هي الدعاء و القصد و مطلق الإمساك، و أن الشارع المقدس قد أضاف إليها أجزاء و شرائط، و على هذا فألفاظ العبادات مستعملة دائما في معانيها اللغوية؛ و الأجزاء و الشرائط زائدة و مستفادة من القرائن المضبوطة عامة كانت أو خاصة، و المراد من العامة: ما يدل على الأجزاء و الشرائط في الجملة، و من الخاصة: ما يدل على جميع الأجزاء و الشرائط.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه يمكن أن يقال في تصوير النزاع على مذهب الباقلاني: إن القرينة المضبوطة التي تدل على الخصوصيات الزائدة على المعاني اللغوية هل هي تدل على الخصوصيات الصحيحة أو الأعم منها؛ بمعنى: أن الشارع هل نصب القرينة المضبوطة العامة على إرادة الصحيح و تحتاج إرادة الأعم إلى القرينة الخاصة، أو أنّ الشارع نصب القرينة على إرادة الأعم و تحتاج إرادة الصحيح منها إلى القرينة الخاصة ؟ فالصحيحي يقول بالأول و الأعمي بالثاني.

فمحل النزاع هي تلك القرينة لا نفس ألفاظ العبادات؛ بمعنى: أن مقتضى القرينة الدالة على الأجزاء و الشرائط هو تمام الأجزاء و الشرائط أو الأعم من التام و الناقص.

(1) أي: لا يتجاوز عن مقتضى القرينة الأولى إلاّ بالأخرى أي: بالقرينة الدالة على أجزاء المأمور به و شرائطه على خلاف الأولى فيقال: هل مقتضى القرينة الأولى هو تمام الأجزاء و الشرائط، كما يقول به الصحيحي. «أو هما في الجملة» كما يقول به الأعمي.

فإذا كان مقتضى القرينة الأولى اعتبار جميع الأجزاء و الشرائط كما هو قول الصحيحي، لا يعدل عنها إلى إرادة الأعم إلاّ بالقرينة الأخرى الدالة على الأعم.

الصحة بمعنى التمامية

(2) أي: من الأمور التي ينبغي ذكرها قبل أدلة القولين - هو: «أن الظاهر: أن الصحة عند الكل بمعنى واحد و هو التمامية».

و توضيح كون الصحة عند الكل بمعنى واحد يتوقف على مقدمة و هي: أن الصحة عند الفقهاء بمعنى: إسقاط القضاء و الإعادة مخالف مفهوما للصحة عند المتكلمين بمعنى: موافقة الشريعة، و للصحة عند العرف بمعنى: ما يترتب عليه الأثر من اجتماع الصفات من الأجزاء و الشرائط.

ص: 95

ذلك، إنّما هو بالمهم من لوازمها لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الأنظار، و هذا لا يوجب تعدد المعنى، كما لا يوجبه اختلافها (1) بحسب الحالات من السفر و الحضر، و الاختيار و الاضطرار، إلى غير ذلك، كما لا يخفى.

و منه (2) ينقدح: أن الصحة و الفساد أمران إضافيان، فيختلف شيء واحد (3) صحة و فسادا بحسب الحالات، فيكون تاما بحسب حالة، و فاسدا بحسب أخرى، فتدبر (4) جيدا.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: «أن الصحة عند الكل» أي: الجماعات الثلاث بمعنى واحد و هو التمامية، و الاختلاف في تفسيرها لا يكون لأجل الاختلاف في مفهومها، بل يكون لأجل الاختلاف في المهم من لوازمها حيث إن المهم في نظر الفقيه هو إسقاط القضاء ففسرها به، و في نظر المتكلم موافقة الأمر و الشريعة الموجبة للقربة إلى اللّه تعالى ففسرها بها، و عند العرف في باب المعاملات هو ترتب الأثر ففسرت به، و من البديهي:

أن اختلاف المهم لا يوجب تعدد المعنى فإنه كاختلاف الحالات و الأنظار، فالصحة و الفساد وصفان يختلفان حسب الحالات و الأنظار.

(1) أي: لا يوجب تعدد المعنى اختلاف الصحة بحسب الحالات الطارئة على المكلف من السفر و الحضر، و الاختيار و الاضطرار، و الثنائية و الثلاثية و الرباعية، و الجهر و الإخفات، إلى غير ذلك. فالصحيح في كل حالة و إن كان مخالفا للصحيح في حالة أخرى إلاّ إن الصحة في جميعها واحدة و هو التمامية في هذا الحال.

و من هنا يظهر: أن الصحة و الفساد و إن كان بينهما تقابل العدم و الملكة و مع ذلك يكونان متضايفين بالنسبة إلى حالات المكلف؛ حيث إن عملا واحدا فاسد بالنسبة إلى حال كالقصر للحاضر و هو صحيح بالنسبة إلى حال آخر، كالقصر بالنسبة إلى حال السفر، و هو معنى الإضافي. كما أشار إليه بقوله «و منه انقدح...» إلخ.

(2) أي: مما ذكرناه - من اختلاف الصحة حسب اختلاف الحالات - ظهر أن الصحة و الفساد أمران إضافيان لا أمران حقيقيان، لأن الأمر الحقيقي لا يتطرق إليه الاختلاف.

(3) كالصلاة عن جلوس و هي شيء واحد لكنها صحيحة للعاجز و فاسدة للقادر.

(4) لعله إشارة إلى دفع ما يتوهم من أن الصحة و الفساد بينهما تقابل العدم و الملكة، فكيف يكونان متضايفين ؟

و حاصل الدفع: أن المراد بكونهما إضافيين ليس أنهما من مقولة الإضافة، لأن

ص: 96

و منها: (1) أنّه لا بد - على كلا القولين - من قدر جامع في البين، كان هو المسمى بلفظ كذا، و لا إشكال في وجوده بين الأفراد الصحيحة.

=============

الإضافة متقومة بالنسبة المتكررة، و لا تكرر في المقام، و كذلك ليس المراد من كونهما إضافيين أن بينهما تقابل التضايف، بل بينهما تقابل العدم و الملكة، لأن الفساد معناه عدم الصحة عما من شأنه أن يكون صحيحا.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه: أن الصحة بمعنى: التمامية كما هو في اللغة، و اختلاف التعابير لا يكشف إلاّ عن الاختلاف في اللازم.

(1) الثالث من الأمور التي لا بد أن يذكر قبل أدلة القولين: «أنه لا بد على كلا القولين من قدر جامع في البين».

توضيح لا بدّية الجامع على كلا القولين يتوقف على مقدمة و هي:

1 - فرض عدم الوضع بتاتا باطل لكونه على خلاف الفرض إذ المفروض ثبوت الحقيقة الشرعية.

2 - أنه لا شك في استعمال الصلاة في جميع ما لها من الأصناف و الأفراد، و ليس هذا لأجل الاشتراك اللفظي لكونه خلاف ظاهر القولين أي: القائل بالصحيح و القائل بالأعم هذا أولا.

و ثانيا: لاستلزامه أن يكون للصلاة مثلا أوضاع لا حصر لها، فإن الوضع يستدعي تصوّر جميع ما لها من الأصناف و الأفراد و لا يمكن ذلك لعدم الحصر.

3 - أن المسلم عند جميع الأصوليين هو: الاشتراك المعنوي في ألفاظ العبادات، فتكون كليا لها مصاديق حسب تعدد المصلي و حالاته.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا بد من قدر جامع على كلا القولين سواء كان الموضوع له فيها عاما كالوضع كما هو ظاهر كلام المصنف، أو كان الموضوع له خاصا.

و أمّا بناء على أن يكون الموضوع له عاما كالوضع: فالأمر واضح؛ فإن لفظ الصلاة و نحوه من أسماء الأجناس، و قد تقدم أن الموضوع له فيها عام و هو الجامع.

و أمّا بناء على أن يكون الموضوع له فيها خاصا فالأمر كذلك أيضا ضرورة: أن تصور جميع الأفراد إنما هو بتصور الجامع لها.

و كيف كان؛ فلا بد من قدر جامع على كلا القولين كما أفاده المصنف «قدس سره»، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: في تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة على مذهب الصحيحي.

ص: 97

و إمكان الإشارة إليه بخواصّه و آثاره، فإنّ الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثر الكل فيه بذاك الجامع، فيصح تصوير المسمى (1) بلفظ الصلاة مثلا بالناهية عن الفحشاء، و ما هو معراج المؤمن، و نحوهما.

=============

المقام الثاني: في تصويره بين الأعم من الصحيح و الفاسد على مذهب الأعمي.

أمّا المقام الأوّل: فقد أشار إليه المصنف بقوله: «و لا إشكال في وجوده» أي: الجامع «بين الأفراد الصحيحة، و إمكان الإشارة إليه» أي: الجامع بخواصه و آثاره أي: الجامع بحيث تكون الخواص و الآثار المذكورة في الشريعة الإسلامية - كالنهي عن الفحشاء و المنكر، و ما هو معراج المؤمن، و قربان كل تقي، و عمود الدين - عناوين مشيرة إلى معنون واحد هذا ما أشار إليه بقوله: فإن الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد. «و يؤثر الكل» أي: جميع الأفراد الصحيحة «فيه» أي: في ذلك الأثر الواحد بذلك الجامع.

(1) أي: المسمى بالصلاة الصحيحة.

و ملخص الكلام في تصوير الجامع على الصحيحي هو: أنّنا لاحظنا الأثر الذي يشترك فيه جميع أفراد الصحيحة، و مصاديقها التي تختلف من حيث الكمية و الكيفية، و يشار إليه بالنهي عن الفحشاء و المنكر، فيقال: إن طبيعة الصلاة الصحيحة إذا صدرت من أيّ مكلف و في أيّ مكان و في أيّ زمان يكون لها هذا الأثر المذكور، و غيره من الآثار التي ذكرناها من المعراجية و المقربية و غيرهما.

فهذه العناوين تشير إلى معنون واحد يكون القدر الجامع بين الأفراد و إن لم نعرفه بعينه؛ لأن معرفته بعينه لا تكون دخيلة في مؤثريته في هذه الآثار، و الاشتراك فيها كاشف عن اشتراكها في جامع واحد يؤثر في الأثر الواحد؛ إذ الأثر الذي يترتب على الصلاة بما لها من الأفراد التي تختلف بحسب اختلاف حالات المكلف واحد كالنهي عن الفحشاء و المنكر، فلا بد أن يكون المؤثر أيضا واحدا بناء على قاعدة عدم صدور الواحد إلاّ عن الواحد، و امتناع صدور معلول واحد عن علل متعددة، إذ لا بد من السنخية بين العلة و معلولها، و الواحد بما هو واحد لا تعقل سنخيّته مع الكثير بما هو كثير، و حيث إن الأثر المترتب على الصلاة بما لها من الأفراد المتعددة واحد؛ فلا بد أن يكون المؤثر فيه واحدا، إذ لو كان الأثر الواحد مستندا إلى خصوصية كل فرد لزم تأثير العلل المتعددة في معلول واحد و هو ممتنع، فلا بد من كون المؤثر واحدا، و هو الجامع المنطبق على جميع الأفراد الصحيحة. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة على مذهب الصحيحي.

ص: 98

و الإشكال فيه (1) - بأن الجامع لا يكاد يكون أمرا مركبا إذ كل ما فرض جامعا - يمكن أن يكون صحيحا و فاسدا، لما عرفت (2).

و لا أمرا بسيطا (3)، لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون عنوان المطلوب، أو ملزوما مساويا

=============

(1) أي: الإشكال فيما ذكرناه من تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة.

الإشكال في تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة

و حاصل الإشكال: أن الجامع الذي فرض إما مركب أو بسيط و لا يجوز الالتزام بشيء منهما.

و أمّا عدم جواز الالتزام بكونه مركبا، فلأنه لو كان مركبا لا ينطبق على جميع الأفراد الصحيحة المختلفة زيادة و نقصا بحسب حالات المكلّف كما عرفت.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الجامع لو كان مركبا لكان مركبا من الأجزاء و الشرائط؛ إذ ليس هناك شيء آخر حتى يكون الجامع مركبا منه.

ثم المركب من الأجزاء و الشرائط كما يختلف زيادة و نقصا بحسب حالات المكلف؛ كذلك يختلف صحة و فسادا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا يصح أن يكون الجامع مركبا لا من جميع الأجزاء و الشرائط، و لا من البعض، و ذلك إذا فرض الجامع بين الأفراد الصحيحة في الصلاة مثلا مركبا من أربع ركعات؛ فهي صحيحة للمكلف الحاضر، و فاسدة للمسافر، و إذا فرض مركبا من ركعتين فهي صحيحة للمسافر دون الحاضر، و هكذا الحال في صلاة العاجز عن القيام القادر عليه، إذ الصلاة عن جلوس صحيحة للعاجز، و فاسدة على القادر. فلا يعقل أن يكون الجامع مركبا؛ لأنه لا يجري في تمام حالات المكلف.

(2) أي: لما عرفت من أنّ الصحة و الفساد يختلفان بحسب اختلاف حالات المكلف.

(3) أي: لا يصح أن يكون الجامع أمرا بسيطا. و أمّا عدم جواز الالتزام بكونه أمرا بسيطا: فلأنّه لا يخلو إمّا أن يكون عنوان المطلوب أو ملزوما مساويا له و لا يجوز الالتزام بشيء منهما.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: إن ذلك الأمر البسيط لا يكاد يصح أن يكون أمرا ذاتيا، بل هو غير معقول، و لذا لم يتعرض له المصنف، و ذلك لأن الصلاة مثلا ليست من الحقائق الخارجية، بل عنوان اعتباري ينتزع عن أمور متباينة كل واحد منها من نوع خاص، و داخل تحت مقولة خاصة، و ليس صدق الصلاة على هذه الأمور المتباينة صدقا ذاتيا، و على هذا لا يعقل تصوير جامع ذاتي بين أجزائها فضلا عن الجامع الذاتي بين أفرادها و مصاديقها.

ص: 99

فينحصر الأمر في وجود جامع عرضي، أو بتعبير آخر: وجود جامع عنواني كما أشار إليه المصنف بقوله: «إمّا أن يكون عنوان المطلوب أو ملزوما مساويا له»، كعنوان المحبوب أو ذي المصلحة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا يصح الالتزام بشيء منهما.

أمّا الأوّل - و هو أن يكون الجامع عنوان المطلوب - فمردود لوجوه: الأول: أنه غير معقول لأنه مستلزم للدور. بيان ذلك: أن تحقق عنوان المطلوب يتوقف على الطلب، لأنه ما دام لم يتحقق الطلب لم يتحقق عنوان المطلوب، ثم الطلب يتوقف على عنوان المطلوب، لأن عنوان المطلوب قد أخذ في موضوع الطلب و متعلقه، و توقف الحكم - و هو الطلب - على متعلقه - و هو عنوان المطلوب - من الأمور البديهية، فالطلب موقوف على عنوان المطلوب، و هو موقوف عليه فيلزم ما ذكرناه من الدور و هو باطل لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه، فلا يصح أن يكون الجامع عنوان المطلوب. و هذا ما أشار إليه بقوله: «لبداهة استحالة أخذ ما لا يتأتّى إلاّ من قبل الطلب...» إلخ.

الثاني: يلزم على هذا أن يكون لفظ الصلاة و لفظ المطلوب مترادفين كالإنسان و البشر مثلا، و لازم ذلك: جواز استعمال كل واحد منهما موضع الآخر، فيصح أن يقال: «أقيموا المطلوب» كما يصح أن يقال: «أقيموا الصلاة» مع أنه لا يصح «أقيموا المطلوب» فهو يكشف عن عدم الترادف، و عدم الترادف كاشف عن عدم كون عنوان المطلوب جامعا. و هذا ما أشار إليه بقوله: «مع لزوم الترادف...» إلخ.

الثالث: أنه يلزم حينئذ عدم جريان البراءة مع الشك في أجزاء العبادات و شرائطها.

و ملخص الوجه الثالث: أنه لا يجوز الالتزام بأن الجامع هو عنوان المطلوب؛ لاستلزامه عدم جريان البراءة عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته، و جريان الاشتغال؛ و ذلك لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في المحصل لا في المأمور به؛ لأن المأمور به أمر بسيط لا إجمال فيه، فلا يكون الشك في جزئية شيء شكا في المأمور به، إذ ذلك خلاف كونه بسيطا فيرجع الشك إلى المحصل و المحقق للامتثال، و مقتضاه: جريان قاعدة الاشتغال و لزوم الاحتياط؛ و ذلك يتنافى مع الالتزام بجريان البراءة ممن يلتزم بالوضع للصحيح كما أشار إليه بقوله: «مع إن المشهور القائلين بالصحيح قائلون بها في الشك فيها» أي: قائلون بالبراءة في الشك في العبادات. و لازم ذلك: عدم كون عنوان المطلوب جامعا. و هذا الأخير يرد على الالتزام بالثاني أعني: كون الجامع ملزوما مساويا لعنوان

ص: 100

له، و الأوّل غير معقول، لبداهة: استحالة أخذ ما لا يتأتّى إلاّ من قبل الطلب في متعلقه مع لزوم الترادف بين لفظة الصلاة و المطلوب، و عدم جريان البراءة مع الشك في أجزاء العبادات و شرائطها، لعدم الإجمال - حينئذ - في المأمور به فيها (1)، إنّما الإجمال فيما يتحقق به، و في مثله لا مجال لها، كما حقق في محله، مع إن المشهور القائلين بالصحيح قائلون بها في الشك فيها، و بهذا يشكل لو كان البسيط هو ملزوم المطلوب أيضا (2) - مدفوع (3): بأن الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المطلوب، كعنوان المحبوب أو ذي المصلحة، لأن الإشكال الأخير أي: الرجوع إلى قاعدة الاشتغال دون البراءة يرتبط ببساطة الجامع بلا خصوصية كونه عنوان المطلوب أو ملزوما مساويا له. و قيل: بأنه يرد عليه جميع الإشكالات الثلاث و هي الدور و الترادف و الاشتغال فتدبر.

=============

(1) أي: في العبادات.

(2) أي: يرد الإشكال لو كان البسيط ملزوم المطلوب أيضا، كما ورد على ما إذا كان الجامع البسيط عنوان المطلوب.

(3) خبر لقوله: «و الإشكال» و جواب عنه بما حاصله: أنه اختار الشق الثاني أعني:

كون الجامع أمرا بسيطا و لكن ليس عنوان المطلوب كي يلزم إشكال عدم جريان البراءة فيما إذا شك في جزئية شيء أو شرطيته؛ بل هو أمر بسيط منتزع عن المركبات المختلفة زيادة و نقيصة.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي:

أن المأمور به - و هو الجامع البسيط على الفرض - قد يكون ممتازا عن محصله بحيث لا يكون متحدا معه وجودا، بل يكون مغايرا له؛ نظير تغاير وجود المسبب لوجود سببه و ذلك كالطهارة على القول بأنها حالة نفسانية مغايرة لأسبابها من الغسل و الوضوء و نحوها، و حينئذ فإذا شك في دخل شيء جزءا أو شرطا في أسباب الطهارة جرت فيه قاعدة الاشتغال دون البراءة؛ لما عرفت: من أن الشك حينئذ شكّ في المحصل، و مقتضى القاعدة فيه أصالة الاشتغال و الاحتياط دون البراءة.

و قد يكون المأمور به متحدا مع محصله وجودا كاتحاد الطبيعي مع أفراده؛ حيث لا وجود له إلاّ بوجود أفراده؛ ففي هذه الصورة إذا شك في جزئية شيء أو شرطيته في المأمور به تجري البراءة، فيقال: الأصل عدم دخل المشكوك جزءا أو شرطا في المأمور به.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن ما نحن فيه من هذا القبيل أي: يكون المأمور به

ص: 101

المركبات المختلفة زيادة و نقيصة، بحسب اختلاف الحالات، متحد معها نحو اتحاد، و في مثله تجري البراءة، و إنّما لا تجري فيما إذا كان المأمور به أمرا واحدا خارجيا مسببا عن مركب مردد بين الأقل و الأكثر، كالطهارة المسببة عن الغسل و الوضوء فيما إذا شك في أجزائهما (1) هذا على الصحيح.

و أمّا على الأعم، فتصوير الجامع في غاية الإشكال (2)، و ما قيل في تصويره أو يقال وجوه: «أحدها» (3): أن يكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة كالأركان في الصلاة مثلا، و كان الزائد عليها معتبرا في المأمور به، لا في المسمى.

=============

متحدا مع الأجزاء و الشرائط وجودا، فالشك في دخل شيء فيه جزءا أو شرطا شك في المأمور به و هو مجرى البراءة.

(1) أي: في أجزاء الغسل و الوضوء، فلا تجري البراءة لكون الشك فيه شكا في المحصل، و أما في المورد الذي يكون وجود المأمور به بوجود الأجزاء و الشرائط و ليس له وجود مستقل منحاز عن وجودهما - كما فيما نحن فيه - كان الأصل الجاري عند الشك هو البراءة لا الاشتغال؛ لأن الشك في الحقيقة شك في المأمور به، لأنّ المأمور به في الحقيقة هو الأجزاء و الشرائط.

الإشكال في تصوير الجامع على الأعمي

اشارة

(2) أي: ففي تصوير الجامع بين الصحيح و الفاسد غاية الإشكال.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أنه يعتبر في الصحيح الزيادة بالنسبة إلى الفاسد؛ لأنّ الصحيح هو تام الأجزاء و الشرائط، و الفاسد هو ناقص بعض الأجزاء أو الشرائط.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا يمكن تصوير الجامع على الأعم؛ و ذلك أنه لو كان الزائد دخيلا في الجامع امتنع أن يكون الناقص فردا للزائد، و إن كان الناقص دخيلا في الجامع امتنع أن يكون الزائد فردا للناقص، و معنى وجود الجامع هو: انطباقه عليهما، و هو غير معقول لاستلزامه اجتماع النقيضين حيث يلزم أن يكون الزائد دخيلا في الجامع، و أن لا يكون دخيلا حينما يكون الناقص دخيلا فيه. هذا ما ذكرناه من اجتماع النقيضين.

الوجه الاول فى تصوير الجامع على مذهب الاعمى

(3) أي: حكي هذا التصوير عن المحقق القمي بتفاوت يسير و حاصله: أنّ الجامع هو الأركان على نحو لا بشرط بأن تكون الصلاة اسما لتكبيرة الإحرام و القيام و الركوع و السجود و النية، كي يصدق على مطلق المركب منها سواء كان واجدا لسائر الأجزاء و الشرائط أم لا.

ص: 102

و فيه (1) ما لا يخفى: فإنّ التسمية بها (2) حقيقة لا تدور مدارها؛ ضرورة: صدق الصلاة مع الإخلال ببعض الأركان، بل و عدم الصدق عليها مع الإخلال بسائر الأجزاء و الشرائط عند الأعمي مع أنّه يلزم أن يكون الاستعمال فيما هو المأمور به بأجزائه و شرائطه مجازا عنده (3)، و كان من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل؛ لا من باب إطلاق الكلي على الفرد و الجزئي كما هو واضح، و لا يلتزم به (4) القائل بالأعم فافهم (5).

=============

نعم؛ بقية الأجزاء و الشرائط دخيلة في المأمور به دون المسمى بمعنى: أن لفظ الصلاة مثلا موضوع لذات التكبيرة و الركوع و السجود و غيرها من الأركان، و أمّا سائر الأجزاء و الشرائط فهي معتبرة في مطلوبية الصلاة شرعا لا في تسميتها عرفا.

(1) أي: فيما ذكر من تصوير الجامع ما لا يخفى من الإشكال.

(2) أي: التسمية بالأركان حقيقة لا تدور مدار الأركان؛ بمعنى: أن التسمية لا تدور مدارها وجودا؛ فلا يكون مطردا و لا تدور مدارها عدما فلا يكون منعكسا.

و حاصل ما أفاده المصنف من الإشكال يرجع إلى وجهين:

الأول: أن هذا الجامع لا يطرد و لا ينعكس، و أمّا عدم اطراده: فلأن لازمه عدم صدق الصلاة على فاقد ركن مع استجماعها لسائر الأجزاء و الشرائط و ذلك لعدم الموضوع له و هو مجموع الأركان. و أمّا عدم انعكاسه: فلأن لازمه هو صدق الصلاة على فاقد جميع الأجزاء و الشرائط سوى الأركان، لأنّ الأركان هي الموضوع له و اللازم بكلا قسميه باطل؛ و ذلك لأن صدق الصلاة في الأول و عدم صدقها في الثاني مما لا ينكر عرفا. فملزومهما - و هو كون الجامع هو الأركان - أيضا باطل.

و أمّا الوجه الثاني: فملخصه: لزوم مجازية استعمال اللفظ في مجموع الأجزاء و الشرائط، لأن اللفظ موضوع للجزء أعني: خصوص الأركان، فاستعماله في المجموع و إطلاقه على الواجد لجميع الأجزاء و الشرائط استعمال للفظ الموضوع للجزء في الكل؛ و هو مما لا يلتزم به القائل بالأعم.

(3) أي: عند الأعمي.

(4) أي: بكون الاستعمال مجازا، فإنّ الأعمي مدع لكون الاستعمال في المأمور به حقيقة.

(5) لعله إشارة إلى عدم لزوم المجازية. توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أنه تارة: يكون مسمى الصلاة خصوص الأركان على نحو الماهية المجردة أعني: الماهية

ص: 103

«ثانيها» (1): أن تكون موضوعة لمعظم الأجزاء التي تدور مدارها التسمية عرفا، فصدق الاسم كذلك يكشف عن وجود المسمى، و عدم صدقه عن عدمه.

و فيه (2): - مضافا إلى ما أورده على الأول أخيرا -: أنه عليه يتبادل ما هو المعتبر في بشرط لا. و أخرى: يكون خصوص الأركان على نحو الماهية لا بشرط و الماهية المطلقة.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه تلزم المجازية على الاحتمال الأول دون الاحتمال الثاني، و الحق هو الاحتمال الثاني كما عرفت. فإن مسمّى الصلاة هو خصوص الأركان على نحو الماهية لا بشرط، فلا تلزم المجازية إذا استعملت في جميع الأجزاء و الشرائط، لأن الماهية إذا كانت لا بشرط تجتمع مع ألف شرط.

الوجه الثانى فى تصوير الجامع على مذهب الاعمى

(1) الثاني من وجوه تصوير الجامع على مذهب الأعمي: و ملخص هذا الوجه الثاني الذي نسب إلى المشهور: أن الموضوع له هو معظم الأجزاء سواء كانت هي الأركان أم غيرها أم المركب منهما؛ فصدق الصلاة مثلا و عدمه يدوران مدار وجود ذلك المعظم و عدمه، و الفرق بين هذا الوجه و سابقه هو ابتناء هذا الوجه على الصدق العرفي المنوط بوجود المعظم، بخلاف الوجه المتقدم حيث يكون المسمى فيه جملة خاصة من الأجزاء؛ من دون إناطة بالمعظم الذي يناط به الصدق العرفي، فلا ينفك الصدق العرفي عن المعظم، و لذا لا يرد على هذا الوجه الإشكال الأول الذي أورده المصنف «قدس سره» على الوجه السابق من عدم الاطراد و الانعكاس على ما في «منتهى الدراية ج 1، ص 118»، مع تصرف ما.

(2) أي: الإشكال في هذا الوجه الثاني من وجوه التصوير؛ مضافا إلى ما أورده ثانيا على الوجه الأوّل من لزوم المجازية في استعمال اللفظ في الكل؛ يلزم عدم تعيّن الجامع و تردده بين أمور. و يلزم أن يكون الشيء الواحد تارة دخيلا في المعظم، و أخرى لا يكون كذلك. هذا مجمل الكلام.

و أمّا تفصيل ذلك فقد أورد المصنف على هذا الوجه بوجوه:

أوّلها: ما أشار إليه بقوله: «مضافا...» إلخ و ملخصه: أن الإشكال الأخير الوارد على الوجه الأول بعينه جار هنا؛ و هو: لزوم مجازية استعمال اللفظ في المجموع، و الكل من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، و لا يلتزم به القائل بالأعم.

و ثانيها: ما أشار إليه بقوله: «أنه عليه يتبادل ما هو المعتبر في المسمى» لأن المعظم ليس أمرا مشخصا إذ ليس المراد مفهوم المعظم بل مصداقه، فيتردد بين أمور، فإن المعظم في صلاة الصبح غير المعظم في صلاة المغرب. و المعظم فيها غير المعظم في صلاة العشاء و الظهر و العصر، و المعظم في حال الاختيار غير المعظم في حال الاضطرار، و هكذا فليزم

ص: 104

المسمى فكان شيء واحد داخلا فيه تارة، و خارجا عنه أخرى، بل مرددا بين أن يكون هو الخارج أو غيره عند اجتماع تمام الأجزاء و هو كما ترى (1)، سيما إذا لوحظ هذا (2) مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.

«ثالثها»: أن يكون وضعها (3) كوضع الأعلام الشخصية ك «زيد»، فكما لا يضرّ عدم تعين الجامع و كونه مجهولا لاختلافه حسب اختلاف حالات المكلف؛ كالسفر و الحضر، و القدرة على جميع الأجزاء و العجز عن البعض.

=============

الوجه الثالث فى تصوير الجامع على مذهب الاعمى

و ثالثها: ما أشار إليه بقوله: «بل مرددا بين أن يكون هو الخارج أو غيره عند اجتماع تمام الأجزاء...» إلخ. أي: يلزم أن يكون الشيء الواحد مرددا بين كونه داخلا في المسمى و خارجا عنه، فلا يعلم حينئذ أن المعظم مركب منه و من غيره، أو من غيره فقط و هو أجنبي عن المعظم؛ كالقيام و الركوع مثلا حيث هما داخلان في المعظم في حق القادر، و خارجان عنه في حق العاجز، و كذلك الإيماء حين يقصد كونه بدلا عن الركوع و السجود.

و كيف كان؛ فيلزم التردد في المسمى و هو على خلاف حكمة الوضع، لأن مقتضى حكمة الوضع هو الإفهام، و لازم ذلك تعيّن المسمى لا تردده بين أمور، أو تردّده بين كون شيء داخلا فيه و خارجا عنه.

(1) أي: ما ذكر من التردد و الجهل أولا: يكون على خلاف الوجدان.

و ثانيا: على خلاف حكمة الوضع فيكون باطلا.

(2) أي: ما ذكر من التبادل و التردد «مع ما عليه العبادات من الاختلاف». و قد عرفت الاختلاف الفاحش الناشئ من اختلاف حالات المكلف.

(3) أي: أن يكون وضع ألفاظ العبادات كوضع الأعلام الشخصية.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الموضوع له في المركب على قسمين:

الأول: أنه لا يقبل الطوارئ من الزيادة و النقصان و التغيرات، بل يكون لكل جزء من أجزائه مدخلية في الموضوع له، و يلزم من انتفائه انتفاؤه كما في أسامي المقادير و المعاجين.

الثاني: أن الموضوع له يؤخذ على نحو يقبل الطوارئ فلا يلزم من انتفاء كل جزء انتفاؤه كما في الأعلام الشخصية، فإن العلم موضوع للمركب بلا شبهة، و لكن نقصان الأجزاء و تغير العوارض لا يقدح في التسمية، و لذا يستمر صدق زيد مثلا مع طريان حالات غير متناهية بين الرضاع و الشيخوخة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن أسامي العبادات من هذا القبيل، فكما لا يضر في

ص: 105

في التسمية فيها (1) تبادل الحالات المختلفة من الصغر و الكبر، و نقص بعض الأجزاء و زيادته، كذلك فيها.

و فيه (2): أن الأعلام إنّما تكون موضوعة للأشخاص، و التشخص إنّما يكون بالوجود الخاص، و يكون الشخص حقيقة باقيا ما دام وجوده باقيا، و إن تغيرت عوارضه من الزيادة و النقصان و غيرهما من الحالات و الكيفيات، فكما لا يضر اختلافها في التشخص، لا يضر اختلافها في التسمية، و هذا (3) بخلاف مثل ألفاظ التسمية في الأعلام الشخصية تبادل الحالات و العوارض؛ فكذلك في العبادات، فالجامع هو المركب القابل للطوارئ.

=============

(1) أي: في الأعلام الشخصية. و الضمير في قوله: «كذلك فيها» يرجع إلى العبادات.

(2) أي: الإشكال في هذا الجامع.

و توضيح ما أفاده المصنف من الإشكال يتوقف على مقدمة و هي: بيان الفرق بين الموضوع له في الأعلام الشخصية و بينه في ألفاظ العبادات.

و الفرق بينهما: أن الموضوع له في الأعلام الشخصية معين محفوظ في جميع الأحوال؛ لأنّ الموضوع له فيها هو الشخص، و تشخص الشخص إنّما هو بالوجود الخاص، فما دام الوجود باقيا كان الشخص باقيا، و إن تغيرت عوارض الوجود من زيادة و نقصان و غيرهما من الحالات فالموضوع له أمر ثابت محفوظ في جميع هذه الحالات، و صدق الاسم عليه إنّما هو لصدق المسمى دائما.

هذا بخلاف ألفاظ العبادات؛ فإنها موضوعة لنفس المركبات المختلفة كما و كيفا بحسب اختلاف حالات المكلف، فلا بدّ من أن يفرض ما يجمع الشتات؛ كي يوضع اللفظ بازائه و لكن ليس فيها ما يجمع شتاتها؛ إذ ليس في المركبات العبادية شيء معين محفوظ مع الأصناف، كي يكون هو الموضوع له.

و من هنا: ظهر أن قياس وضع ألفاظ العبادات بوضع الأعلام الشخصية قياس مع الفارق فيكون باطلا؛ فإن الأعلام الشخصية وضعت للوجود الخاص المحفوظ بين العوارض، و لذا لا يختلف المسمى بتبدل الحالات. و أما ألفاظ العبادات فهي موضوعة للمركبات و لا جامع بينها على مذهب الأعمي؛ إذ لا أثر للفاسد حتى يستكشف منه الجامع بين الأفراد الصحيحة و الفاسدة.

(3) قوله: «و هذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات» بيان لما ذكرناه من الفرق.

ص: 106

العبادات مما كانت موضوعة للمركبات و المقيدات، و لا يكاد يكون موضوعا له، إلاّ ما كان جامعا لشتاتها و حاويا لمتفرقاتها كما عرفت في الصحيح منها (1).

«رابعها» (2): أن ما وضعت له الألفاظ ابتداء هو الصحيح التام الواجد لتمام الأجزاء و الشرائط؛ إلاّ إن العرف يتسامحون - كما هو ديدنهم - و يطلقون تلك الألفاظ على الفاقد للبعض، تنزيلا له منزلة الواجد.

فلا يكون مجازا في الكلمة - على ما ذهب إليه السكاكي في الاستعارة - بل يمكن دعوى صيرورته (3) حقيقة فيه، بعد الاستعمال فيه كذلك دفعة أو دفعات؛ من

=============

(1) أي: من العبادات.

الوجه الرابع في تصوير الجامع على مذهب الأعمي

(2) هذا رابع الوجوه في تصوير الجامع على مذهب الأعمي.

توضيح ذلك: أن ألفاظ العبادات و إن كانت وضعت ابتداء للمعاني الصحيحة بمعنى: تامة الأجزاء و الشرائط؛ إلاّ إن العرف - لبنائهم على المسامحة في استعمال الألفاظ - أطلقوا تلك الألفاظ على المعاني الفاقدة لبعض الأجزاء و الشرائط تنزيلا للفاقد منزلة الواجد؛ بمعنى: أنهم ادعوا أن الموضوع له هو الجامع بين الواجد و الفاقد، و لأجل هذا التنزيل و الادعاء لا يكون إطلاقهم هذا من المجاز في الكلمة - أي: استعمال اللفظ في غير ما وضع له بأن يكون من باب تسمية الجزء باسم الكل - بل حقيقة ادعائية أي:

بمعنى: استعمال اللفظ في معناه الحقيقي ادعاء، و المجاز إنّما هو في الإسناد فقط كما هو مذهب السكاكي في باب الاستعارة؛ حيث أنكر كون المجاز في الكلمة فيها و ادعى فيها الحقيقة، و إن المجاز إنّما هو في الإسناد فيقال في المقام: إن الموضوع له للفظ الصلاة ابتداء هو المركب من عشرة أجزاء مثلا؛ لكن العرف أطلقوها على الناقص منها بجزء أو جزءين مثلا تنزيلا له منزلة الواجد، بمعنى: أنهم ادعوا أن الموضوع له هو الجامع بين التام و الناقص، و هذا نظير أسامي المعاجين الموضوعة بإزاء الواجد لتمام ما له دخل فيها، ثم تطلق عرفا على فاقد بعض الأجزاء مسامحة تنزيلا له منزلة الواجد. كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 122»، مع تصرف منّا.

(3) أي: صيرورة إطلاق تلك الألفاظ على الفاقد حقيقة في الفاقد بعد الاستعمال في الفاقد «كذلك» أي: تنزيلا له منزلة الواجد، و غرض المصنف من قوله: «بل يمكن دعوى...» إلخ هو الترقي من كونها حقائق ادعائية في فاقد الأجزاء و الشرائط إلى كونها حقائق اصطلاحية فيه بنحو الوضع التعيّني؛ الحاصل من الأنس الحاصل لأجل المشابهة في الصورة، أو المشاركة في الأثر. فقوله: «للأنس» تعليل لعدم الحاجة إلى الكثرة و الشهرة.

ص: 107

دون حاجة إلى الكثرة و الشهرة، للأنس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة (1) أو المشاركة في التأثير. كما في أسامي المعاجين الموضوعة ابتداء لخصوص مركبات واجدة لأجزاء خاصة، حيث يصح إطلاقها على الفاقد لبعض الأجزاء المشابه له صورة، و المشارك في المهم أثرا تنزيلا أو حقيقة.

و فيه (2): أنه إنما يتم في مثل أسامي المعاجين و سائر المركبات الخارجية (3) مما يكون الموضوع له فيها ابتداء مركبا خاصا، و لا يكاد يتم في مثل العبادات التي عرفت: أن الصحيح منها (4) يختلف حسب اختلاف الحالات، و كون الصحيح بحسب حالة فملخص الكلام في المقام: أنه بعد حصول الأنس بين لفظ الصلاة الموضوع للتام، و بين الناقص ينقلب الوضع التعييني الأولي في التام إلى الوضع التعيّني في التام الأعم من الحقيقي و الادعائي.

=============

(1) أي: لأن الناقص شبيه للتام في الصورة؛ بأن يكون واجدا لمعظم الأجزاء أو مشاركا له في الأثر المطلوب؛ بمعنى: أن كل منهما صلاة و معراج للمؤمن.

(2) أي: الإشكال في هذا الوجه الرابع من وجوه الجامع: أن قياس ألفاظ العبادات بأسماء المعاجين و المركبات الخارجية قياس مع الفارق. و حاصل الفرق: أن الموضوع له في المركبات الخارجية مضبوط معين و هو تام الأجزاء، فيجعل هذا التام مقياسا و يلاحظ تسامح العرف بالنسبة إليه.

هذا بخلاف العبادات التي هي مركبات اعتبارية حيث قد عرفت: أنه لا يمكن أن يفرض فيها صحيح على الإطلاق، بل هو مختلف بحسب اختلاف حالات المكلف، و قد عرفت تفصيل ذلك، فليس في العبادات ما يكون صحيحا مطلقا، و في جميع حالات المكلف ليكون هو الموضوع له أولا حتى ينسب إليه غيره مما هو دونه من المراتب النازلة.

(3) أي: كالمقادير من المنّ و الكيلو و المثاقيل و المتر و غيرها كالدار و السرير. فلها تام مضبوط معين لا يتغير أصلا.

و ليست العبادات كذلك كما عرفت غير مرّة.

(4) أي: الصحيح من العبادات «يختلف حسب اختلاف الحالات» من الحضر و السفر، و القدرة و العجز و غيرها، فالصلاة ذات الأربع ركعات صحيحة في حق الحاضر، و فاسدة في حق المسافر، و الصلاة عن جلوس صحيحة في حق العاجز عن القيام، و فاسدة في حق القادر عليه. هذا معنى قول المصنف: «و كون الصحيح بحسب

ص: 108

فاسدا بحسب حالة أخرى، كما لا يخفى. فتأمل جيدا (1).

«خامسها:» (2): أن يكون حالها (3) حال أسامي المقادير و الأوزان مثل المثقال، و الحقة، و الوزنة إلى غير ذلك، مما لا شبهة في كونها حقيقة في الزائد و الناقص في الجملة، فإن الواضع و إن لاحظ مقدارا خاصا إلاّ إنه لم يضع له بخصوصه، بل للأعم منه و من الزائد و الناقص، أو أنه و إن خص به أولا، إلاّ إنه بالاستعمال كثيرا فيهما بعناية أنهما منه قد صار حقيقة في الأعم ثانيا.

=============

حالة فاسدا بحسب حالة أخرى».

(1) لعله إشارة إلى لزوم الاشتراك اللفظي على فرض صحة الجامع المذكور، لأن استعمال ألفاظ العبادات في فاقد بعض الأجزاء و الشرائط على وجه الحقيقة موجب للاشتراك؛ إذ المفروض: وضعها للصحيح فقط ابتداء، و عدم مهجورية المعنى الحقيقي الأوّلي بعد صيرورتها حقيقة في الأعم، ثم لازم الاشتراك مع عدم القرينة المعينة هو الإجمال المنافي لإطلاق الخطاب، و هو خلاف مقصود الأعمي من التمسك بالإطلاق؛ لرفع الشك في الجزئية أو الشرطية على ما سيأتي في بيان ثمرة النزاع.

(2) أي: خامس الوجوه.

قياس وضع ألفاظ العبادات بألفاظ المقادير و الأوزان

(3) أي: حال ألفاظ العبادات حال أسامي المقادير و الأوزان؛ حيث إنها حقيقة في الزائد و الناقص في الجملة أي: إما بوضع الواضع، أو بكثرة الاستعمال في الأعم، فيقال:

إن الأمر في ألفاظ العبادات كذلك أي: أن الموضوع له فيها كالموضوع له في أسامي المقادير و الأوزان، فكما أن الموضوع له فيها هو الجامع بين الزائد و الناقص - حيث إن الواضع و إن لاحظ حين الوضع مقدارا خاصا لتحديد الكيلو مثلا لكن لم يضع لفظ الكيلو بإزاء خصوص المقدار، بل وضعه للجامع بينه و بين الزائد و الناقص في الجملة، و هكذا المثقال و الوزنة و الرطل و غيرها من أسامي الأوزان - فكذلك الموضوع له في ألفاظ العبادات؛ حيث إن الشارع و إن لاحظ فيها جميع الأجزاء و الشرائط إلاّ إنه لم يضع لفظ الصلاة مثلا بإزائها بالخصوص، بل وضعها بإزاء الجامع بينها و بين الناقص في الجملة، فيكون اللفظ حقيقة في التام و الزائد و الناقص في الجملة؛ فلا يكون إطلاق اللفظ على الزائد و الناقص مجازا.

و من هنا ظهر الفرق بين هذا الوجه و سابقه و هو: أن المدعى في الوجه السابق هو وضع اللفظ للصحيح التام ابتداء، ثم استعماله في الناقص إنّما هو من باب تنزيله منزلة الواجد؛ بخلاف هذا الوجه الخامس حيث إن المدعى فيه هو وضع اللفظ من الأول للأعم من الزائد و الناقص كما عرفت.

ص: 109

و فيه (1): أن الصحيح - كما عرفت في الوجه السابق - يختلف زيادة و نقيصة، فلا يكون هناك ما يلحظ الزائد و الناقص بالقياس عليه كي يوضع اللفظ لما هو الأعم، فتدبر جيدا (2).

و منها: (3) أنّ الظاهر: أن يكون الوضع و الموضوع له - في ألفاظ العبادات - عامين، و احتمال كون الموضوع له خاصا بعيد (4) جدا، لاستلزامه كون استعمالها في

=============

(1) الإشكال هو نفس الإشكال الذي سبق في الوجه الرابع، و هو: أن قياس ألفاظ العبادات بألفاظ المقادير و الأوزان قياس مع الفارق، و هو أن الصحيح بمعنى تام الأجزاء مضبوط و معلوم في المقادير و الأوزان، هذا بخلاف ألفاظ العبادات حيث إن الصحيح بمعنى تام الأجزاء و الشرائط لا يكون مضبوطا فيها في جميع الحالات، بل يختلف باختلافها، فليس هناك ما هو مضبوط من الصحيح، كي يلاحظ التام و الناقص بالنسبة إليه حتى يوضع لفظ الصلاة للأعم منهما.

(2) قوله: «فتدبر» تدقيقي إشارة إلى دقة ما سبق بقرينة قوله: «جيدا».

فالمتحصل: أن الصحيح الذي يلاحظ الزيادة و النقصان بالإضافة إليه يختلف في باب العبادات كما عرفت دون باب المقادير و الأوزان.

(3) الرابع من الأمور التي ينبغي أن يذكر قبل أدلة القولين: هو عمومية الوضع و الموضوع له في ألفاظ العبادات كأسماء الأجناس.

(4) أي: احتمال كون الموضوع له في ألفاظ العبادات خاصا بعيد جدا؛ لأحد أمرين على نحو منع الخلو:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «لاستلزامه كون استعمالها في الجامع» أي: أنه تستلزم مجازية استعمال ألفاظ العبادات في الجامع؛ في مثل: اَلصَّلاٰةَ تَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ ، و «الصلاة معراج المؤمن»، و «عمود الدين»، و «الصوم جنّة من النار» لكون هذا الاستعمال من استعمال اللفظ في غير ما وضع له فيكون مجازا.

وجه المجازية: أنه لو كان الموضوع له خاصا كان استعمالها في العام سببا لتجريد المعنى عن الخصوصية فيكون الاستعمال في غير ما وضع له، ثم كون الاستعمال مجازا بعيد جدا، لأنّ المجاز يتوقف على لحاظ العلاقة بين المعنى المجازي و المعنى الحقيقي، و على القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي، فانتفاؤهما في المقام يدل على انتفاء المجاز.

ص: 110

الجامع في مثل: اَلصَّلاٰةَ تَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ (1)، و «الصلاة معراج المؤمن»(1) و «عمود الدين»(2) و «الصوم جنّة من النار»(***) مجازا، أو منع (2) استعمالها فيه في مثلها، و كل منهما بعيد إلى الغاية كما لا يخفى: على أولي النهاية.

=============

(1) العنكبوت: 45.

(2) إشارة إلى الأمر الثاني أي: منع استعمال ألفاظ العبادات في الجامع في مثل الأمثلة المذكورة. فقوله: «أو منع» عطف على قوله: «كون استعمالها في الجامع». فمعنى العبارة: أنه لو كان الموضوع له في ألفاظ العبادات خاصا؛ لكان مستلزما لأحد أمرين:

المجازية، أو منع استعمال ألفاظ العبادات في الجامع في الأمثلة المذكورة، و كلاهما بعيد.

و قد عرفت وجه بعد المجازية. و أما بعد منع استعمال ألفاظ العبادات في الجامع فلأحد وجهين:

الوجه الأول: أنه مجاز على ما هو المفروض و هو يحتاج إلى القرينة الصارفة و هي مفقودة في الأمثلة المذكورة. و من انتفائها نستكشف انتفاء المجاز.

الوجه الثاني: أن الظاهر: كون القضية في المقام طبيعية؛ لكون الآثار من المعراجية و نحوها تكون مترتبة على طبيعة الصلاة من دون لحاظ الخصوصية من السفر و الحضر و نحوهما. و لازم ذلك: أن ألفاظ العبادات قد استعملت في الجامع فيكون استعمالها فيه كاشفا عن جواز استعمالها فيه، فمنع استعمالها فيه بعيد إلى الغاية كما لا يخفى على أولي النهى، فنستنتج من الأمرين المذكورين: أن الموضوع له في ألفاظ العبادات كالوضع عام.

ص: 111


1- توجد هذه الرواية في (اعتقادات المجلسي: 39، لكن الحديث في المصدر هكذا: «الصلاة معراج المؤمن، و عمود الدين»). حاشية المحقق المشكيني على الكفاية، ج 1، ص 184، هامش.
2- في الكافي، ج 2، ص 18، ح 5: عن أبي جعفر «عليه السلام» قال: «... إن رسول الله «صلى الله عليه و آله» قال: «الصلاة عمود دينكم». و منه ج 3، ص 266، ح 9: «عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال: «قال رسول الله «صلى الله عليه و آله»: «مثل الصلاة مثل عمود الفسطاط؛ إذا أثبت العمود نفعت الأطناب و الأوتاد و الغشاء، و إذا انكسر العمود لم ينفع طنب و لا وتد و لا غشاء». و غيرها بألفاظ أخرى. (***) الكافي، ج 2، ص 24، ح 15 - ج 4، ص 62، ح 31 /التهذيب، ج 4، ص 151، ح 1، الفقيه، ج 2، ص 74، ح 1871 - ص 75، ح 1775.

و منها: (1) أن ثمرة (2) النزاع إجمال الخطاب على القول الصحيحي، و عدم جواز الرجوع إلى إطلاقه في رفع ما إذا شك في جزئية شيء للمأمور أو شرطيته أصلا؛ لاحتمال دخوله في المسمى، كما لا يخفى.

و جواز الرجوع إليه في ذلك على القول الأعمي في غير ما (3) احتمل دخوله فيه؛ مما شك في جزئيته أو شرطيته.

=============

(1) الخامس من الأمور التي ينبغي ذكرها قبل الخوض في أدلة القولين: هو بيان ثمرة النزاع عند الشك في جزئية شيء، أو شرطيته للمأمور به.

ثمرة النزاع هي إجمال الخطاب على الصحيحي

(2) ثمرة النزاع هي: جواز التمسك بالإطلاق أو العموم على القول الأعمي عند الشك في اعتبار شيء جزءا أو شرطا، و عدم جوازه على القول بالصحيح، بل لا بد فيه من الرجوع إلى الأصل العملي من البراءة أو الاحتياط على الخلاف في مسألة دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

و توضيح ثمرة النزاع بين القولين يتوقف على مقدمة و هي: بيان ما يعتبر في الرجوع إلى الإطلاق و التمسك به فنقول: إنه يعتبر في ذلك إحراز صدق ما تعلّق به الخطاب و كان الشك في أمر زائد على المسمى؛ و ذلك بأن يكون الحكم في القضية واردا على المقسم بين قسمين أو أقسام، و كان الحكم منطبقا عليهما أو عليها جميعا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه يمكن إحراز صدق ما تعلق به الخطاب على القول بالأعم و لو بمقدمات الحكمة و هي ثلاثة:

الأولى: ورود الحكم على المقسم الذي له قابلية الانطباق على نوعين أو أنواع.

الثانية: كون المتكلم في مقام البيان.

الثالثة: عدم نصب قرينة على التعيين. فإذا تمت المقدمات يصير الكلام مطلقا، فيصح التمسك به لنفي اعتبار ما شك في اعتباره في المأمور به. هذا إنّما يتم على القول بالأعم.

و أما على القول بالصحيح فلا يمكن إحراز صدق ما تعلق به الخطاب، مثلا: الخطاب في قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ * تعلق بما هو مسمى بلفظ الصلاة، فعلى القول بوضع لفظ الصلاة للصحيح يكون كل ما اعتبر فيها دخيلا في المسمّى، فإذا احتمل وجوب الاستعاذة فيها من باب الجزئية لرواية ضعيفة؛ كان الخطاب مجملا لأجل تردد مسمى الصلاة بين الأقل و الأكثر، فالشك في جزئية الاستعاذة شكّ في صدق الصلاة على فاقدها، فلا يجوز التمسك بالإطلاق لأجل عدم إحراز صدق ما تعلق به الخطاب على القول بالصحيح.

(3) أي: يجوز الرجوع إلى الإطلاق في غير ما له دخل في المسمى على القول

ص: 112

نعم؛ لا بدّ في الرجوع إليه (1) فيما ذكر من كونه واردا مورد البيان كما لا بد منه بالأعم، و أمّا إذا شك في اعتبار شيء في المأمور به - لو كان معتبرا - كان له دخل في المسمى، فلا يجوز الرجوع إلى الإطلاق لعدم إحراز صدق ما تعلق به الخطاب عند الشك.

=============

فالمتحصل من جميع ما ذكرناه: أنه مع عدم إحراز صدق ما تعلق به الخطاب أصبح الخطاب مجملا، و مع الإجمال يسقط عن الحجية، لأن التمسك به فرع للعلم بانطباق متعلق الخطاب و موضوعه على ما شك في اعتبار شيء فيه، و هو غير حاصل مع الإجمال، فعلى القول بالصحيح لا يجوز التمسك بالإطلاق لنفي جزئية ما شك في جزئيته، لكن من باب السالبة بانتفاء الموضوع أعني: ليس هناك إطلاق حتى يتمسك به.

(1) أي: يعتبر في الرجوع إلى الإطلاق كونه واردا مورد البيان «كما لا بد منه» أي:

من كون الإطلاق واردا مورد البيان «في الرجوع إلى سائر المطلقات».

قال في: «منتهى الدراية» ما هو لفظه: (ثم إن قوله: «نعم؛ لا بدّ» إشارة إلى دفع توهم، أمّا التوهم فملخصه: أنه لا يمكن للأعمي الرجوع إلى الإطلاق أيضا كالصحيحي لعدم الإطلاق؛ بدعوى: عدم كون المتكلم في مقام البيان أو دعوى الانصراف إلى خصوص الصحيح المانع عن تحقق الإطلاق لكون الانصراف كالقرينة الحافة بالكلام مانعا عن ظهوره في الإطلاق، هذا و أمّا الدفع فحاصله: أن كون المتكلم في مقام البيان من شرائط التمسك بالإطلاق في جميع موارده من دون خصوصية للمقام. توضيحه: أن التمسك بالإطلاق منوط بمقدمات:

إحداها: كون المتكلم في مقام البيان لا في مقام التشريع فقط.

ثانيها: عدم قرينة أو ما يصلح للقرينية على التقييد.

ثالثها: كون الحكم متعلقا بالطبيعة لا بحصة خاصة منها؛ كما هو كذلك بناء على قول الصحيحي، لأن متعلق الأمر حينئذ خصوص الصحيح، فمع الشك في دخل شيء فيه جزءا أو شرطا لا يحرز موضوع الخطاب حتى يصح التمسك بالإطلاق، فهذه المقدمة الثالثة - بناء على وضع ألفاظ العبادات لخصوص الصحيح - مفقودة.

و هذا بخلاف القول بوضعها للأعم، لتحقق موضوع الخطاب - و هو الطبيعة الجامعة بين الصحيح و الفاسد - حينئذ فيصدق عليه لفظ العبادة كالصلاة مثلا، فمع الشك في الجزئية أو الشرطية لا بأس بالتمسّك بإطلاقه؛ لكون الشك في اعتبار أمر زائد على الموضوع، فالمتحصل: أنه لا إطلاق بناء على الصحيح، لعدم إحراز موضوع الخطاب، فعدم الإطلاق حينئذ يكون من السالبة بانتفاء الموضوع و هذا بخلاف الوضع للأعم، فإن

ص: 113

في الرجوع إلى سائر المطلقات، و بدونه (1) لا مرجع أيضا إلاّ البراءة أو الاشتغال على الخلاف في مسألة دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

و قد انقدح بذلك (2): أن الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال في موارد إجمال الخطاب أو إهماله على القولين، فلا وجه لجعل الثمرة هو الرجوع إلى البراءة على الموضوع معه محرز، فمع تمامية المقدمتين الأوليتين - و هما كون المتكلم في مقام البيان، و عدم ما يصلح للقرينية - يتمسك بالإطلاق).

=============

(1) أي: بدون كون الإطلاق واردا في مقام البيان لا يرجع إلى الإطلاق أيضا، بل لا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملي و هو البراءة أو الاحتياط؛ على الخلاف في مسألة دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

(2) أي: ظهر بما ذكرناه من أن الملاك في الرجوع إلى الإطلاق وروده في مقام البيان - أي: ظهر - الإشكال في الثمرة الثانية التي نقلها «المحقق القمي» «قدس سره» عن «الوحيد» «رحمه اللّه» و هي: أن الأعمي يتمسك بالبراءة في موارد الشك في الأجزاء و الشرائط، و الصحيحي يتمسك بقاعدة الاشتغال و الاحتياط في تلك الموارد.

و حاصل الإشكال: أنه على تقدير إجمال الخطاب أو إهماله بأن لا يكون واردا مورد البيان لا فرق بين القولين في الرجوع إلى الأصل العملي إما الاشتغال على كلا القولين، أو البراءة كذلك لكون المقام حينئذ من صغريات مسألة دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين، و المرجع فيها إما البراءة و إما الاحتياط على القولين، لأن الخلاف فيها ليس مبنيا على الخلاف في الصحيح و الأعم، بل التمسك بالبراءة مبتني على القول بانحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بالنسبة إلى الأقل، و الشك البدوي بالإضافة إلى الزائد، فحينئذ لا مانع من الرجوع إلى البراءة على كلا القولين.

و أما لو قلنا بعدم انحلال العلم الإجمالي: فلا بد من الاحتياط و الرجوع إلى قاعدة الاشتغال على كلا القولين، فلا ملازمة بين القول الأعمي و بين الرجوع إلى البراءة.

و لذا قال المصنف «قدس سره»: «فلا وجه لجعل الثمرة هو الرجوع إلى البراءة على الأعم، و الاشتغال على الصحيح».

بقي الكلام في الفرق بين إجمال الخطاب و إهماله: أن الأول هو قصور الدليل بحسب الدلالة على كيفية تشريع الحكم على موضوعه، كما إذا كان اللفظ مشتركا لفظيا و لم ينصب قرينة معيّنة لمصلحة مثلا.

ص: 114

الأعم، و الاشتغال على الصحيح، و لذا ذهب المشهور إلى البراءة، مع ذهابهم إلى الصحيح.

و ربما قيل: بظهور الثمرة (1) في النذر أيضا.

قلت: (2) و إن كان تظهر فيما لو نذر لمن صلى إعطاء درهم في البرء فيما لو أعطاه لمن صلى، و لو علم بفساد صلاته لإخلاله بما لا يعتبر في الاسم على الأعم، و عدم البرء على الصحيح، إلاّ إنه ليس بثمرة لمثل هذه المسألة، لما عرفت من: أن ثمرة الأصولية (3)، هي أن تكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الأحكام الفرعية، فافهم (4).

=============

و الثاني: هو تشريع الحكم على موضوعه في الجملة، مع تعلق غرض المتكلم بعدم تعرض جميع الجهات الدخيلة في الحكم.

(1) قوله هذا إشارة إلى الثمرة الثالثة و هي: كما لو نذر شخص بأن يعطي درهما لمن صلى فإنه بناء على القول بالصحيح: لا يحصل الوفاء بالنذر إلاّ بإعطاء الدرهم لمن صلى صلاة صحيحة، و بناء على الأعم: يحصل الوفاء بالنذر بإعطاء الدرهم لمن صلى مطلقا و لو صلاة فاسدة.

الإشكال على ظهور الثمرة في النذر

(2) خلاصة إشكال المصنف و ردّه على ظهور الثمرة في النذر: أن هذه الثمرة و إن كانت صحيحة في نفسها إلاّ إنها أجنبية عن محل الكلام؛ لأنها ليست ثمرة للمسألة الأصولية، فإن ثمرتها استنباط الحكم الكلي الفرعي و هي مفقودة. و أما تطبيقه على موارده و مصاديقه - كما في مسألة النذر - فليس ثمرة للبحث الأصولي.

(3) أي: الملاك في كون المسألة أصولية أن تكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الأحكام الكلية. و الملاك في كون المسألة فقهية هو تطبيق الحكم الكلي على مصاديقه و المقام من قبيل الثاني، فلا تكون هذه الثمرة ثمرة للمسألة الأصولية و إن كانت تامة في نفسها.

(4) لعله إشارة إلى عدم تمامية الثمرة المذكورة في نفسها أيضا؛ بمعنى: أنه لا يحصل الوفاء بالنذر حتى على الأعم لو قصد الناذر خصوص الصلاة الصحيحة. و بعبارة واضحة: أن الوفاء بالنذر تابع لقصد الناذر، فإن قصد خصوص الصلاة الصحيحة لم يحصل الوفاء إلاّ باعطاء الدرهم لمن صلى صلاة صحيحة، و لو قلنا بالأعم، و إن قصد الأعم من الصلاة الصحيحة و الفاسدة يحصل الوفاء بإعطاء الدرهم لمطلق المصلي و لو كانت صلاة فاسدة؛ و إن قلنا بالصحيح.

ص: 115

و كيف كان؛ فقد استدل للصحيحي بوجوه:

أحدها: التبادر (1)، و دعوى: أن المنسبق إلى الأذهان منها هو الصحيح و لا منافاة (2) بين دعوى ذلك، و بين كون الألفاظ على هذا القول مجملات، فإن المنافاة إنما تكون فيما إذا لم تكن معانيها على هذا مبيّنة بوجه، و قد عرفت كونها مبيّنة بغير وجه.

ثانيها (3): صحة السلب عن الفاسد، بسبب الإخلال ببعض أجزائه، أو شرائطه

=============

(1) الاستدلال بالتبادر يتوقف على أمور:

الأول: ثبوت الحقيقة الشرعية، فإنه على القول بالعدم و أن الشارع استعملها مجازا في الصحيح لا معنى لدعوى التبادر.

الثاني: أن يكون التبادر من حاق اللفظ و إلاّ فلا يكون من علامات الحقيقة.

الثالث: أن يكون حصوله في زمان الشارع و للعلم بحصوله كذلك أحد طريقين:

الأول: أنّنا نرى أن المتبادر منها هو الصحيح، و قد أخذناه ممن قبلنا، و كان المتبادر عنده هو الصحيح إلى أن يصل إلى زمان الشارع. هذا يرجع إلى استصحاب القهقري.

الثاني: هو أصل عدم النقل من المعنى اللغوي إلى الأعم؛ بل نقل إلى الصحيح بعد العلم بحصول أصل النقل، و للملاحظة في كل واحد منها مجال تركناها رعاية للاختصار.

(2) قوله: «فلا منافاة» دفع لتوهم المنافاة بين تبادر الصحيح منها، و بين إجمال ألفاظ العبادات على القول بالصحيح؛ بتقريب: أن الموضوع له فيها على القول بالصحيح هو تام الأجزاء و الشرائط، فيكون مجملا مرددا بين الأقل و الأكثر كما عرفت في الثمرة الأولى، ثم التبادر ينافي الإجمال.

و حاصل الدفع: أن التنافي بين الإجمال و التبادر إنما يتم لو كانت ألفاظ العبادات مجملات من جميع الجهات، بحيث لا تكون مبيّنة لا من حيث المفهوم و لا من حيث المصداق، و ليس الأمر كذلك؛ إذ قد عرفت: كون معانيها و مصاديقها مبيّنة معلومة بوجوه عديدة و لو من جهة آثارها؛ مثل كونها معراجا للمؤمن، و عمود الدين، و ناهية عن الفحشاء و المنكر، و قربانا لكل تقي.

(3) الوجه الثاني من الوجوه التي استدل بها للصحيحي: هو صحة سلب لفظ الصلاة عن الفاسد بتقريب: أنه يصح أن يقال: إن صلاة الحائض ليست بصلاة، فلو كان لفظ الصلاة موضوعا للجامع بين الصحيح و الفاسد لم يصح سلبه عن الفاسد.

ص: 116

بالمداقة (1)، و إن صح الإطلاق عليه بالعناية.

ثالثها (2): الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص و الآثار للمسميات مثل:

«الصلاة عمود الدين»، أو «معراج المؤمن»، و «الصوم جنة من النار» إلى غير ذلك، أو نفي ماهيتها و طبائعها، مثل «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» و نحوه، مما كان ظاهرا في

=============

(1) أي: قوله: «بالمداقّة» متعلق بصحة السلب، كما أن قوله: «بسبب الإخلال» متعلق بالفاسد.

و معنى العبارة: أنه يصح سلب لفظ «الصلاة» عن الفاسدة بالمداقة العقلية، و إن لم يصح بالمسامحة لرعاية المشابهة في الصورة فيصح إطلاق لفظ الصلاة عليها بالعناية و المجاز. إلاّ إنه قد علم في محله: أن صحة السلب و عدمها علامتان للحقيقة و المجاز إذا لوحظا بحسب الدقة العقلية لا مطلقا و لو بالعناية.

(2) الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها الصحيحي: هي الأخبار و هي على طائفتين:

إحداهما: ما مفادها: إثبات بعض الآثار للمسميات، و هي لا تترتب على غير الصحيحة، لأن ظاهر «الصلاة عمود الدين»، أو «معراج المؤمن» هو إثبات الأثر على ما يسمى بالصلاة، و معلوم: أنه أثر للصلاة الصحيحة فيكون هذا كاشفا عن كون لفظ الصلاة اسما للصحيح؛ إذ لو كان موضوعا للأعم لترتبت هذه الآثار على الصلاة الفاسدة و هو خلاف الضرورة، لأن الفاسد يكون بمنزلة العدم فكيف يكون منشأ للآثار و الخواص.

و الأخرى: ما مفادها: نفي الطبيعة و الماهية بمجرد انتفاء جزء أو شرط - و هي ما أشار إليها بقوله: - «أو نفي ماهيتها و طبائعها».

الاستدلال بالطائفة النافية للماهية للصحيحي يتوقف على مقدمة و هي:

أولا: أنّ ظاهر قول الشارع: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»، و «لا صلاة إلاّ بطهور» نفي الحقيقة و الماهية لا نفي الكمال و الصحة.

و ثانيا: بأن يكون هذا الاستعمال على نحو الحقيقة لا على نحو المجاز.

إذا عرفت المقدمة فاعلم: أن مفاد هذه الطائفة هو نفي حقيقة الصلاة عند انتفاء الجزء أو الشرط. هذا إنما يتم على القول بالصحيح؛ إذ لو كان الموضوع له للفظ الصلاة هو الأعم لم يلزم انتفاء الحقيقة و الطبيعة بانتفاء أحد أجزائها أو شرطا من شرائطها، إذ لا يلزم بانتفاء واحد منهما إلاّ انتفاء الصحة، فالحاصل: إنّ الفاقدة للجزء أو الشرط ليست بصلاة هذا هو مراد القائلين بالصحيح.

ص: 117

نفي الحقيقة بمجرد فقد ما يعتبر في الصحة شطرا (1) أو شرطا (2)، و إرادة (3) خصوص

=============

(1) أي: جزءا كما في قوله (صلى الله عليه و آله»: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(1).

(2) أي: شرطا كما في قوله «صلى اللّه عليه و آله»: «لا صلاة إلاّ بطهور»(2).

(3) قوله: «و إرادة خصوص الصحيح...» إلخ دفع للإشكال على الاستدلال بالأخبار، فلا بد أولا من تقريب الإشكال، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الاستدلال بها مبني على أن يكون الاستعمال في كلتا الطائفتين على نحو الحقيقة؛ بأن يكون استعمال لفظ الصلاة في خصوص الصحيح في الطائفة الأولى على نحو الحقيقة، و استعمال كلمة لا لنفي الجنس في نفي الحقيقة و الطبيعة في الطائفة الثانية على نحو الحقيقة.

إذا عرفت هذه المقدمة فيقال في تقريب الإشكال على الاستدلال المذكور: إن إرادة خصوص الصحيح من الطائفة الأولى مجازا، و كذلك إرادة نفي الصحة مجازا من الطائفة الثانية بمكان من الإمكان، بل إرادة نفي الصحة منها أولى، و ذلك «لشيوع استعمال هذا التركيب في نفي مثل الصحة أو الكمال» فقوله: «لشيوع استعمال...» إلخ تعليل لإرادة نفي الصحة من الطائفة الثانية، فحينئذ لا يتم الاستدلال بها على وضع ألفاظ العبادات لخصوص الصحيح.

و حاصل الدفع: أن إرادة خصوص الصحيح من الطائفة الأولى مجازا، و نفي الصحة من الثانية كذلك خلاف الظاهر، لأن الظاهر من الأخبار المثبتة للآثار هو: ثبوتها

ص: 118


1- في التهذيب، ج 2، ص 146، ح 31 /الاستبصار، ج 1، ص 130، ح 1: «عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «عليه السلام» قال: سألته عن الذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته، قال: «لا صلاة له إلا أن يقرأ بها في جهر أو إخفات». و في صحيح مسلم، ج 1، ص 295، ح 393 /صحيح البخاري، ج 1، ص 263، ح 723 / سنن الترمذي، ج 2، ص 25، ح 247، و غيرهم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب». و في سنن ابن ماجة، ج 1، ص 274، ح 839 /سنن الترمذي، ج 2، ص 3، ح 238 / مصباح الزجاجة، ج 1، ص 104 - و إسناده لديه ضعيف بسبب ضعف طريف السعدي -: «لا صلاة لمن لم يقرأ الحمد و سورة في فريضة أو غيرها».
2- التهذيب، ج 1، ص 49، ح 83، ص 209، ح 8، ج 2، ص 140، ح 3-4 /الفقيه، ج 2، ص 33، ح 67 /الوسائل، ج 1، ص 315. عنهما. و في سنن أبي داود، ج 1، ص 16 /مسند أحمد، ج 2، ص 109، ح 4700 /سنن البيهقي الكبرى، ج 2، ص 255، ح 3196: «و لا صلاة بغير طهور».. إلخ.

الصحيح من الطائفة الأولى، و نفي الصحة من الثانية، لشيوع استعمال هذا التركيب في نفي مثل الصحة أو الكمال خلاف الظاهر لا يصار إليه مع عدم نصب قرينة عليه، و استعمال هذا التركيب في نفي الصفة ممكن المنع، حتى في مثل «لا صلاة لجار للمسميات و هي المعاني الصحيحة، فحمل لفظ الصلاة فيها على الأعم و إرادة خصوص الصحيح مجازا على خلاف الظاهر، و لا يصح حمل اللفظ على خلاف ظاهره إلاّ بالقرينة و هي مفقودة.

=============

و كذلك أن الظاهر من الطائفة الثانية هو: نفي الحقيقة و الطبيعة، فإرادة نفي الصحة منها على خلاف الظاهر، فلا وجه لتقدير الصحة. هذا ما أشار إليه بقوله: «و استعمال هذا التركيب في نفي الصحة ممكن المنع حتى في مثل: «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد» يمكن أن يقال: إن المراد من نفي الصلاة هو نفي الحقيقة؛ حتى في الموارد التي يعلم أن المراد نفي الكمال كما في المثال المذكور.

بدعوى: أن هذا التركيب لا يستعمل إلاّ في نفي الحقيقة و الطبيعة، بمعنى: أن المراد منه نفي الحقيقة إما حقيقة كما في مثل «لا صلاة إلاّ بطهور»، أو مبالغة و ادعاء كما في مثل: «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»(1)؛ بأن تكون الصلاة في غير المسجد لجار المسجد بمنزلة العدم الحقيقي مبالغة في نقصها ثم تستعمل كلمة «لا» في نفي ماهيتها و حقيقتها، فلا مجاز في الكلمة أصلا.

فتوهم: كون استعمال هذا التركيب شائعا في غير نفي الحقيقة على نحو المجاز في غير محله.

ص: 119


1- المستدرك على الوسائل، ج 3، ب 2، ص 356، عن الدعائم عن علي «عليه السلام». و في التهذيب، ج 1، ص 92، ح 93، ج 3، ص 6، ح 16 عن الرسول «صلى الله عليه و آله» بلفظ: «.. إلا في مسجده». و وردت باللفظ الأول في السنن الكبرى، ج 3، ص 57، ح 4721، ج 3، ص 111، ح 5028، ص 174، ح 8381 /مصنف ابن أبي شيبة، ج 1، ص 303، ح 3469 / مصنف عبد الرزاق، ج 1، ص 497، ح 1915، عن علي «عليه السلام» /التمهيد، ج 18، ص 332 /الدراية في تخريج أحاديث الهداية، ج 2، ص 293. و قد ضعف طريقه إلى الرسول، و صحح طريقه إلى علي «صلوات الله عليهما» /تلخيص الحبير، ج 2، ص 31. و قد ضعّف طريقه إليهما «عليهما و آلهما السلام» /المحلى، ج 4، ص 195، عن علي «عليه السلام» و أورد تكملتها بما يلي: (فقيل له: يا أمير المؤمنين: و من جار المسجد؟ قال: «من سمع الأذان»).

المسجد إلاّ في المسجد» مما يعلم أن المراد نفي الكمال، بدعوى استعماله في نفي الحقيقة في مثله أيضا بنحو من العناية، لا على الحقيقة، و إلا (1) لما دل على المبالغة، فافهم (2).

رابعها: (3) دعوى القطع بأن طريقة الواضعين و ديدنهم وضع الألفاظ للمركبات التامة، كما هو قضية الحكمة الداعية إليه.

=============

(1) أي: و إن لم يكن المراد من هذا التركيب نفي الحقيقة لما دل على المبالغة.

(2) إشارة إلى أن الأخبار المثبتة للآثار و إن كانت ظاهرة في ذلك - لمكان أصالة الحقيقة - و لازم ذلك: كون الموضوع له للاسماء هو الصحيح، ضرورة: اختصاص تلك الآثار به إلاّ إنه لا يثبت بأصالتها كما لا يخفى، لإجراء العقلاء لها في إثبات المراد لا في أنه على نحو الحقيقة لا المجاز. فتأمل جيدا. هذا من المصنف «قدس سره».

فحاصل ما ذكره المصنف في وجه قوله: «فافهم»: أنه إشارة إلى ضعف الاستدلال بالطائفة الأولى من جهة أن أصالة الحقيقة إنما تكون حجة في إثبات المراد، إذا كان مردّدا بين المعنى الحقيقي و المعنى المجازي؛ لا في إثبات كون الاستعمال فيه حقيقة أو مجازا بعد العلم بالمراد؛ كما في محل الكلام، و مورد الاخبار المثبتة.

(3) رابع الوجوه التي استدل بها للصحيحي: و هذا هو الدليل الأخير للصحيحي و هو: دعوى القطع بأن طريقة الواضعين للألفاظ بإزاء المركبات، و ديدنهم وضع الألفاظ للمركبات التامة لا الناقصة، و هذا هو مقتضى الحكمة التي تدعو إلى الوضع للتفهيم في المحاورات، و هو الذي تدعو إليه الحاجة.

و الظاهر: أن الشارع لما أراد أن يضع - على فرض أن يكون هو الواضع للمستحدثات - غير متخط عن هذه الطريقة، و من هنا يمكن أن يقال: بأن الألفاظ وضعت للمعاني الصحيحة، و لا يخفى: أن هذه الدعوى بطولها و عرضها تتوقف على مقدمة و هي:

إثبات أمور تالية:

1 - أن هذا الاستدلال على فرض تسليمه إنما يتم على القول بثبوت الحقيقة الشرعية، لأنه لا يتم إلاّ بالوضع التعييني.

2 - أن عادة الواضعين و المخترعين جرت على وضع الألفاظ للمركبات التامة؛ بدعوى: أن مقتضى حكمة الوضع هو تفهيم المعاني التامة و الصحيحة دون الناقصة و الفاسدة.

3 - أن الشارع لم يتخط عن طريقتهم لوجود تلك الحكمة في وضع الألفاظ للمركبات الشرعية، بل سلك مسلكهم و وضع الألفاظ لخصوص الصحيح.

ص: 120

و الحاجة و إن دعت أحيانا إلى استعمالها في الناقص أيضا إلاّ إنه لا يقتضي أن يكون بنحو الحقيقة، بل و لو كان مسامحة، تنزيلا للفاقد منزلة الواجد. و الظاهر: أن الشارع غير متخط عن هذه الطريقة.

و لا يخفى: أن هذه الدعوى و إن كانت غير بعيدة، إلاّ انها قابلة للمنع، فتأمل (1).

و قد استدل للأعمي أيضا، بوجوه:

منها: تبادر الأعم (2)، و فيه (3): أنه قد عرفت الإشكال في تصوير الجامع الذي لا بد منه، فكيف يصح معه (4) دعوى التبادر؟

=============

و ملخص ردّ المصنف على هذا الوجه: أن هذه الدعوى و إن كانت غير بعيدة في حد ذاتها إلاّ إنها قابلة للمنع، لأن هذا الوجه يتوقف على إثبات ما ذكرناه من الأمور الثلاث، و إثباتها دونه خرط القتاد.

(1) لعله إشارة إلى وجه المنع. و هو أنّ هذا الوجه مبني على أمرين:

أحدهما: كون وضع ألفاظ العبادات كأسماء المركبات الخارجية. و قد مرّ فساد قياس ألفاظ العبادات بالمركبات الخارجية، في تصوير الجامع.

و ثانيهما: العلم بعدم تخطي الشارع عن طريقة الواضعين و فيه: أنه لا سبيل إلى هذا العلم لا من النقل و لا من العقل، فدعوى: عدم تخطي الشارع عن طريقة الواضعين - بعد تسليم بنائهم على وضع ألفاظ المركبات للمركبات التامة - ليست إلاّ تخرصا بالغيب.

أدلة الأعمي:

الدليل الأول هو: التبادر
اشارة

(2) أي: تبادر الأعم من ألفاظ العبادات عند اطلاقها، لأنه إذا قيل: «زيد صلّى» كان المتبادر منه الجامع بين الصحيح و الفاسد، و هو من علامات الوضع و الحقيقة.

(3)

مخلص ما في التبادر من الإشكال:

أولا: تبادر الأعم ينافي ما تقدم من دعوى تبادر الصحيح.

و ثانيا: أن تبادر الأعم لا يعقل إلاّ بعد وجود الجامع. و قد عرفت الإشكال في تصويره، بل يمكن أن يقال: بامتناع تبادر الأعم بعد ما تقدم من امتناع تصوير الجامع على القول بالأعم.

(4) أي: لا يصح - مع ما عرفت من الإشكال في تصوير الجامع - «دعوى التبادر» أي: تبادر الجامع بين الصحيح و الفاسد. فالاستفهام إنما للإنكار.

ص: 121

و منها: عدم صحة السلب (1) عن الفاسد، و فيه منع، لما عرفت.

و منها: صحة التقسيم (2) إلى الصحيح و السقيم.

و فيه (3): أنه إنما يشهد على أنها للأعم؛ لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصحيح، و قد عرفتها، فلا بد أن يكون التقسيم بملاحظة ما يستعمل فيه اللفظ، و لو بالعناية.

=============

الدليل الثاني هو: عدم صحة السلب

(1) أي: لا يصح سلب الصلاة بما لها من المعنى عن الصلاة الفاسدة، فلا يصح أن يقال: إن الصلاة الفاسدة كصلاة الحائض ليست بصلاة؛ بل يصح أن يقال: الصلاة الفاسدة صلاة، كما يصح أن يقال: الصلاة الصحيحة صلاة، و هذا أولا. و ثانيا: ما أشار إليه بقوله: «لما عرفت» من صحة السلب عن الفاسدة بالمداقة، و إن صح إطلاقها عليها بالعناية و المجاز.

و ثالثا: أن عدم صحة السلب عندنا لا يثبت ما هو المطلوب و هو الوضع للأعم عند الشارع، و عدم صحة السلب عنده غير معلوم لنا.

الدليل الثالث هو: صحة التقسيم

(2) أي: صحة التقسيم إلى الصحيح و الفاسد دليل على الأعمية، بتقريب: أن المقسم يجب أن يكون مشتملا على الأقسام اشتمال الكلي على أفراده و مصاديقه، فيكون أعم من الأقسام، ثم مقتضى أصالة الحقيقة: كون الاستعمال في المقسم الجامع بين الصحيح و الفاسد على نحو الحقيقة؛ فيكون دليلا على الوضع للأعم.

(3) و ملخص ما أفاده المصنف من منع الاستدلال على الأعم بصحة التقسيم: أن مجرد الاستعمال في الأعم لا يشهد بالوضع للأعم إلاّ من باب كون الأصل في الاستعمال أن يكون على نحو الحقيقة؛ و ذلك إنما يتم لو لم يكن هناك دليل على خلاف أصالة الحقيقة؛ لأن موضوعها الشك، و هو يرتفع بالدليل، و قد عرفت: قيام الدليل على الوضع للصحيح من التبادر و غيره الموجب للعلم بمجازية الاستعمال، فلا مجال لإجراء أصالة الحقيقة.

«و الضمير» في «أنها» و «كونها» يرجع إلى ألفاظ العبادات، و في «عرفتها» يرجع إلى الدلالة.

ص: 122

و منها: استعمال الصلاة و غيرها في غير واحد من الأخبار في الفاسدة (1)؛ كقوله «عليه الصلاة و السلام»: «بني الإسلام على خمس: الصلاة، و الزكاة، و الحج، و الصوم، و الولاية، و لم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بأربع، و تركوا هذه، فلو أن أحدا صام نهاره، و قام ليله، و مات بغير ولاية، لم يقبل (2) له صوم و لا صلاة»(1)، فإن (3) الأخذ بالأربع لا يكون بناء على بطلان عبادات تاركي

=============

الدليل الرابع هو: الأخبار
اشارة

(1) أي: الاستدلال بالرواية الأولى يتوقف على مقدمة و هي: الالتزام بأمور تالية:

1 - أن تكون الولاية شرطا لصحة العبادات - كما يظهر من بعض الروايات، و أفتى به جماعة من الفقهاء - لا شرطا لقبولها على ما قيل.

2 - أن يكون المراد من أربع - في قوله: «فأخذ الناس بأربع» - هو: الأربع المذكور قبل الولاية أعني: الصلاة، و الزكاة، و الحج، و الصوم.

3 - أن لا يكون المراد من أربع جعل لفظ «الأربع» قالبا للأعم من دون توسط الألفاظ المخصوصة، بل المراد بالأربع هو: الأربع بألفاظها المخصوصة، كلفظ الصلاة، و الزكاة، و الحج، و الصوم.

4 - أن يكون إطلاق الألفاظ المذكورة في الرواية على الأعم بنحو الحقيقة لا بالعناية و المجاز.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل الاستشهاد هو قوله: «فأخذ الناس بأربع، و تركوا هذه» أي: الولاية فيقال في تقريب الاستدلال: أن مفاد الرواية: أن الناس أي: العامة أخذوا بالأربع المذكور قبل الولاية أعني: الصلاة، و الزكاة، و الحج، و الصوم كما هو مقتضى الأمر الثاني، ثم إن الأربع المذكورة بدون الولاية فاسدة كما هو مقتضى الأمر الأول. و لازم ذلك:

استعمال ألفاظ العبادات المذكورة في الرواية في الأعم؛ إذ لو كانت موضوعة للصحيح لكان يلزم أن يقال: «لم يأخذ الناس بشيء منها» لعدم صدقها على الفاسد حينئذ.

ثم مقتضى الأمر الرابع: أن يكون الاستعمال على نحو الحقيقة، فلازم الجميع: أن ألفاظ العبادات موضوعة للأعم و هو المطلوب.

(2) أي: المراد بعدم قبول الصوم و الصلاة بغير الولاية فسادهما، فصدق كل من الصوم و الصلاة مع فسادهما دليل على الأعم.

(3) أي: قوله: «فإن الأخذ بالأربع...» إلخ بيان للاستدلال بالرواية على الأعم.

ص: 123


1- في الكافي، ج 2، ص 18، ح 1، 3 /المحاسن، ص 286، ح 249: إلى قوله: «فأخذ الناس بأربع و تركوا هذه يعني الولاية».

الولاية، إلاّ إذا كانت أسامي للأعم.

و قوله عليه السلام: «دعي (1) الصلاة أيام أقرائك»(1) ضرورة: أنه لو لم يكن المراد منها الفاسدة؛ لزم عدم صحة النهي عنها لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها.

و فيه: (2) أن الاستعمال أعم من الحقيقة، مع إنّ المراد في الرواية الأولى: هو

=============

(1) أي: الاستدلال بالرواية المذكورة يتوقف على أمور تالية:

1 - أن ظاهر قوله: «دعي الصلاة...» إلخ مطلوبية ترك الصلاة؛ بمعنى: كونها مبغوضة، فيكون النهي المستفاد من الأمر مولويا؛ لا إرشاديا.

2 - أن نقول بعدم جواز التكليف بغير المقدور، كما هو مسلم عند العدلية.

3 - أن يكون المراد بالصلاة معناها الشرعي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الأمور المذكورة هو كون الصلاة اسما للأعم، و إلاّ فلا بد من الالتزام بأحد أمور: إما من حمل النهي على الإرشاد، و إما من القول بجواز التكليف بغير المقدور، و إما من الالتزام بكون الاستعمال في الفاسد مجازا.

الإشكال على الاستدلال بالأخبار للأعم

(2) قوله: «و فيه» جواب من المصنف عن الاستدلال بالأخبار على الأعم، و أنه قد أجاب عن الاستدلال بالرواية الأولى بوجهين:

الوجه الأول: ما أشار إليه بقوله: إن الاستعمال أعم من الحقيقة، و هو مشترك بين الرواية الأولى و بين غيرها من الروايات.

و ملخصه: أن غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال بتلك الأخبار على الأعم: إن ألفاظ العبادات قد استعملت في الأعم، إلاّ إنّ مجرد الاستعمال لا يدل على الوضع للأعم، لأن الاستعمال أعم من الحقيقة، و من البديهي: إن العام لا يدل على الخاص.

و الوجه الثاني: الذي أشار إليه بقوله: «مع إن المراد في الرواية الأولى هو خصوص الصحيح»، و هو مختص بالرواية الأولى.

و حاصله: إنكار استعمال ألفاظ العبادات فيها على الأعم؛ بدعوى: أن المراد بها

ص: 124


1- في الكافي، ج 3، ص 88، /التهذيب، ج 1، ص 384، ح 6: عن أبي عبد الله (عليه السلام): «لقول رسول الله (صلى الله عليه و سلم):... دعي الصلاة أيام أقرائك لله». في الكافي، ج 3، ص 85، ح 1 /التهذيب، ج 1، ص 382، ح 6: «أ لا تراه لم يقل لها دعي الصلاة أيام أقرائك، و لكن قال لها: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، و إذا أدبرت فاغتسلي و صلّي..».

خصوص الصحيح؛ بقرينة أنّها مما بني عليها الإسلام، و لا ينافي ذلك (1): بطلان عبادة منكري الولاية، إذ لعل أخذهم بها إنما بحسب اعتقادهم لا حقيقة، و ذلك لا يقتضي استعمالها في الفاسد أو الأعم، و الاستعمال في قوله: «فلو أن أحدا صام نهاره»، إلى آخره؛ كان كذلك أي: بحسب اعتقادهم (2)، أو للمشابهة و المشاكلة (3)، خصوص الصحيح بقرينة كونها مما بني عليها الإسلام، و بديهيّ : أن الإسلام إنما بني على الصحيح دون الأعم، فلا وجه للاستدلال بها على الوضع للأعم.

=============

(1) أي: و لا ينافي كون المراد خصوص الصحيح بطلان عبادة منكري الولاية. قوله:

«و لا ينافي ذلك..» إلخ دفع لتوهم التنافي بين كون المراد خصوص الصحيح و بين بطلان عبادة منكر الولاية. فلا بد من توضيح التنافي، كي يتضح الجواب عنه فنقول: إن توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أنه قد عرفت فيما تقدم - في تقريب الاستدلال بالرواية على الأعم - من أن الولاية شرط لصحة العبادة، فتكون عبادة منكر الولاية باطلة نظرا إلى ما هو المشهور من أنه إذا فات الشرط فات المشروط. و لازم ذلك: أن ما أخذه الناس من الأربع كان فاسدا لأجل فقدان شرط الصحة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن التنافي بين إرادة خصوص الصحيح و بين فساد عباداتهم أوضح من الشمس.

و توضيح الدفع و الجواب عن التوهم المذكور أيضا يتوقف على مقدمة و هي: أن الصحيح على قسمين: 1 - الصحيح الواقعي. 2 - الصحيح الاعتقادي.

و إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن التنافي بين إرادة خصوص الصحيح و بين فساد عباداتهم إنما يصح فيما إذا كان المراد بالصحيح الصحيح بحسب الواقع فقط، و أما إذا كان المراد منه مطلق الصحيح أي: سواء كان بحسب الواقع أو بحسب الاعتقاد فلا تنافي في البين، لأن عبادات منكري الولاية صحيحة بحسب اعتقادهم.

(2) أي: المراد بالصوم في قوله: - «فلو ان أحدا صام نهاره» - هو الصوم الصحيح بحسب اعتقاده، فإن صوم تارك الولاية و إن كان فاسدا بحسب الواقع إلاّ إنه صحيح بحسب اعتقاد الصائم، فالمستعمل فيه هو الصحيح بحسب الاعتقاد.

فالمتحصل: أن أخذهم بالأربع لا يقتضي استعمال ألفاظ العبادات في الفاسد أو الأعم حتى يقال إنه دليل على الأعم.

(3) يمكن أن يكون الاستعمال في الأعم أو الفاسد مجازا بعلاقة المشابهة و المشاكلة في الصورة، فالرواية الثانية أيضا لا تدل على وضع ألفاظ العبادات للأعم.

ص: 125

و في الرواية الثانية (1) الإرشاد إلى عدم القدرة على الصلاة، و إلا (2) كان الإتيان بالأركان، و سائر ما يعتبر في الصلاة، بل بما يسمى في العرف بها (3) و لو أخلّ بما لا يضر الإخلال به بالتسمية عرفا محرما على الحائض ذاتا؛ و إن لم تقصد به القربة. و لا أظن أن يلتزم به المستدل بالرواية، فتأمل جيدا (4).

و منها: أنه (5) لا شبهة في صحة تعلق النذر و شبهه بترك الصلاة في مكان تكره

=============

(1) أي: يظهر من هذا: أن ما تقدم هو الرواية الواحدة فقوله: «فلو أن أحدا صام نهاره...» إلخ ليس رواية مستقلة، بل من تتمة الرواية الأولى، فحينئذ يكون محل الاستشهاد فقرتين من الرواية الواحدة كما هو ظاهر حاشية المشكيني.

و كيف كان؛ فحاصل الإشكال على الرواية الثانية: أن لفظ الصلاة في قوله: «دعي الصلاة أيام أقرائك» لم يستعمل في الفاسدة حتى تكون من أدلة القائلين بالأعم.

بل استعمل في الصحيحة و النهي ليس تحريميا، كي يقال بلزوم التكليف بغير المقدور، بل يكون النهي للارشاد، و المعنى حينئذ: أن الحائض لا تقدر على الصلاة الصحيحة لانتفاء الأمر، و توقف العبادة على قصد التقرب المتوقف على الأمر، و في بعض النسخ «و في الرواية الثانية النهي للإرشاد»

(2) أي: و إن لم يكن النهي للإرشاد إلى المانعية و عدم القدرة على الصلاة؛ بأن كان مولويا لزم أن يكون الإتيان بها محرما على الحائض ذاتا؛ فلا يجوز الإتيان بها حتى لتمرين طفلها، و هو مما لا يلتزم به المستدل و إن ذهب إليه بعض.

(3) أي: بالصلاة أي: تلزم حرمة صورة الصلاة و ما يصدق عليه لفظ الصلاة ذاتا على الحائض، «و إن لم تقصد به القربة» أي: لامتناع قصد القربة بما يكون منهيا عنه بالنهي المولوي؛ الكاشف عن كون متعلقه مبغوضا للمولى.

(4) لعله إشارة إلى أنه لا محذور في الالتزام بالحرمة الذاتية للعبادة على الحائض، كما اختاره المصنف في كتابه شرح التبصرة.

و يؤيد ذلك ما في الفقه من عدّها من جملة المحرمات على الحائض - كدخولها في المساجد مثلا - فكما أن حرمة دخولها في المساجد ذاتية فكذلك حرمة الصلاة عليها ذاتية.

الدليل الخامس هو: تعلق النذر بترك الصلاة
اشارة

(5) الضمير للشأن و توضيح هذا الدليل يتوقف على مقدمة و هي: أن هناك أمرين وقع التسالم عليهما:

ص: 126

فيه، و حصول الحنث بفعلها، و لو كانت الصلاة المنذور تركها خصوص الصحيحة، لا يكاد يحصل به الحنث أصلا، لفساد الصلاة المأتي بها لحرمتها، كما لا يخفى، بل يلزم المحال.

فإن النذر (1) حسب الفرض قد تعلق بالصحيح منها، و لا يكاد يكون معه (2) صحيحة، و ما يلزم من فرض وجوده عدمه محال.

قلت: لا يخفى: أنه لو صح ذلك (3)، لا يقتضي إلاّ عدم صحة تعلق النذر الأول: انعقاد النذر و شبهه - العهد و اليمين - إذا تعلق بترك الصلاة في مكان تكره فيه، كالصلاة في الحمام و المقابر و غيرهما.

=============

الثاني: حصول الحنث بفعل الصلاة في ذلك المكان الذي تعلق النذر بترك الصلاة فيه كالحمام مثلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنّنا نستكشف من التسالم عليهما كون لفظ الصلاة موضوعا للأعم لا للصحيح، إذ لو كان موضوعا للصحيح لكان المنذور تركه هو الصلاة الصحيحة، و هو باطل لأمرين:

الأول: عدم حصول الحنث أصلا بفعلها في ذلك المكان؛ و ذلك لفساد الصلاة المأتي بها لتعلق الحرمة بها بعد النذر، فلا يكون المأتى به هو المنذور تركه، فلا يحصل الحنث.

الثاني: يلزم المحال، لأن الصلاة المنذور تركها هي الصحيحة، و بالنذر صارت فاسدة لدلالة النهي في العبادة على الفساد و الحرمة، فلا يمكن فعلها على وجه صحيح فينحل النذر لخروج الصلاة بسبب هذا النهي المفسد للعبادة عن متعلق النذر - و هو خصوص الصحيح - فيلزم من وجود النذر عدمه، و استلزام وجود الشيء لعدمه محال.

(1) قوله: «فإن النذر»... إلخ بيان للمحال و قد عرفته، فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة.

(2) أي: لا تكون الصلاة مع تعلق النذر بها صحيحة كما عرفته مفصلا.

(3)

قد أجاب المصنف عن الاستدلال المذكور بجوابين:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «أنه لو صح ذلك» أي: لو صح ذلك الاستدلال، لكان لازم ذلك: عدم تعلق النذر بالصحيح لاستلزامه ما ذكرناه من الإشكالين؛ و لكن ليس مقتضاه وضع اللفظ شرعا للأعم كما هو المدعى.

و ملخصه: أن مقتضى لزوم المحذورين عدم تعلق النذر بالصحيح لا عدم الوضع لها.

و الجواب الثاني: ما أشار إليه: «مع إن الفساد من قبل النذر لا ينافي صحة متعلقه».

ص: 127

بالصحيح، لا عدم وضع اللفظ له شرعا، مع إن الفساد من قبل النذر لا ينافي صحة متعلقه، فلا يلزم من فرض وجودها (1) عدمها.

و من هنا (2) انقدح: أن حصول الحنث إنما يكون لأجل الصحة لو لا تعلقه.

نعم؛ (3)؛ لو فرض تعلقه (4) بترك الصلاة المطلوبة بالفعل لكان منع حصول الحنث بفعلها بمكان من الإمكان.

=============

و حاصله: منع امتناع تعلق النذر بالصحيح، لأن متعلق النذر - على تقدير كونه هو الصحيح - هو الصحيح لو لا النذر؛ و هو الجامع لجميع ما يعتبر من أجزاء و شرائط في مرحلة سابقة على النذر فلا ينفيه تعلق النهي به من قبل النذر، فإن الصحة لو لا النذر لا تنافي تعلقه بالصحيح لولاه.

و عليه: فيحصل الحنث بالإتيان بما هو جامع لجميع الأجزاء و الشرائط؛ سوى عدم النهي من قبل النذر.

و من هنا ظهر عدم المحال؛ أي: لا يلزم من وجوده عدمه؛ لأن الفساد الناشئ من قبل النذر لم يؤخذ عدمه في متعلق النذر حتى يقال: بانتفاء ما تعلق به النذر بعد النذر فيلزم ذلك.

(1) أي: فلا يلزم من فرض وجود الصحة عدم الصحة حتى يقال: إنه محال.

(2) أي: من كون الصحة المقصودة في النذر هي الصحة السابقة على النذر؛ انقدح:

حصول الحنث، فيحصل الحنث لو أتى بما هو صحيح من جهة ذاته، لو لا تعلّق النذر.

فهذا جواب عن خصوص الإشكال بعدم حصول الحنث على تقدير تعلق النذر بالصحيح.

(3) أي: هذا استدراك على قوله: «و من هنا انقدح...» إلخ و حاصله: كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 152»: أن منع حصول الحنث في محله إذا كان المنذور ترك الصلاة الصحيحة بالفعل يعني: الصحة بقول مطلق و لو بعد تعلق النذر، بداهة: عدم القدرة على فعل الصلاة الصحيحة بالفعل مع فرض صيرورتها بسبب النذر منهيا عنها، كما تقدم سابقا.

(4) أي: تعلق النذر «بترك الصلاة المطلوبة بالفعل» أي: و لو مع النذر. ثم ما ذكرناه من صحة تعلق النذر بترك الصلاة في الحمام مبني على القول برجحان متعلق النذر حين تعلقه، و أما لو قلنا: باعتبار الرجحان حين الإتيان بالمنذور فلا ينعقد النذر في المقام، لأن فعل الصلاة يصير محرما بالنذر فينتفي بانتفاء الرجحان.

ص: 128

بقى أمور: (1)

الأول: أن أسامي المعاملات (2)، إن كانت موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة أو للأعم، لعدم اتصافها بهما، كما لا يخفى؛ بل بالوجود تارة و بالعدم أخرى، و أما إن كانت موضوعة للأسباب فللنزاع فيه مجال.

لكنه لا يبعد دعوى كونها (3) موضوعة للصحيحة أيضا، و أن الموضوع له هو

=============

(1) أي: هناك أمور ثلاثة تتعلق بالصحيح و الأعم.

جريان نزاع الصحيح و الأعمي في المعاملات

(2) و قبل الخوض في البحث لا بد من بيان ما هو محل النزاع في باب المعاملات.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن في كل معاملة يحصل أمران:

أحدهما: القول أو الفعل المقصود به إيجاد المعنى؛ كالإيجاب و القبول في القول، أو إشارة الأخرس في الفعل.

ثانيهما: المعنى المقصود إيجاده كالملكية الحاصلة بالقول أي: عقد البيع أو بالفعل، أي: التمليك بالإشارة مثلا. فالأول يسمى سببا، و الثاني مسببا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المعاملات فيها أسباب و مسببات، و أساميها إما موضوعة للأسباب أو للمسببات، و النزاع فيها يجري فيما إذا كانت ألفاظها موضوعة للأسباب، و أما لو كانت موضوعة للمسببات كالزوجية و الملكية و الحرية و غيرها من الأمور الاعتبارية فلا مجال للنزاع أصلا؛ و ذلك لعدم اتصافها بالصحة و الفساد حتى يقال إنها موضوعة للصحيح أو للأعم؛ بل حينئذ يدور أمرها بين الوجود و العدم. و هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «لعدم اتصافها بهما» أي: بالصحة و الفساد.

و ملخص كلامه: أن النزاع إنما يجري في المورد القابل للاتصاف بالصحة و الفساد بأن يكون له وجودان أحدهما: يترتب عليه الأثر، و الآخر: لا يترتب عليه الأثر، فيصح حينئذ أن يقال: بأن اللفظ موضوع لخصوص ما يترتب عليه الأثر أو للأعم منه و من غيره، و أما ما لا يقبل الاتصاف بهما لعدم تعدد نحو وجوده فلا مجال للنزاع فيه.

(3) أي: أسامي المعاملات كألفاظ العبادات فكما أن ألفاظ العبادات موضوعة لخصوص الصحيحة - على رأي المصنف - فكذلك ألفاظ المعاملات لا يبعد دعوى كونها موضوعة للعقود الصحيحة المؤثرة في الملكية، أو في علقة الزوجية أو في الحرية.

إلاّ إن المصنف قد جزم في باب العبادات بأن ألفاظها موضوعة للصحيح، و لم يجزم هنا ذلك الجزم فلذا قال: «لكنه لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضا» أي:

كألفاظ العبادات.

ص: 129

العقد المؤثر لأثر كذا شرعا و عرفا (1).

و الاختلاف (2) بين الشرع و العرف فيما يعتبر في تأثير العقد؛ لا يوجب الاختلاف بينهما في المعنى، بل الاختلاف في المحققات و المصاديق، و تخطئة الشرع العرف في تخيل كون العقد بدون ما اعتبره في تأثيره، محققا لما هو المؤثر، كما لا يخفى فافهم (3).

الثاني (4): إن كون ألفاظ المعاملات أسامي للصحيحة لا يوجب إجمالها كألفاظ

=============

(1) أي: أن الموضوع له في المعاملات هو العقد المؤثر في الأثر المطلوب منه من دون تفاوت في ذلك بين الشرع و العرف.

(2) قوله: «و الاختلاف بين الشرع و العرف فيما يعتبر...» إلخ دفع لما يتوهم من أن هناك معاملات لا يقرّها الشرع المقدس، و يقرها العرف مثل معاملة الصبي المالك فإنها فاسدة بنظر الشرع، و صحيحة بنظر العرف، فكيف يقال: إن معنى العقد هو الصحيح بنظر كل من الشرع و العرف ؟

و هذا الاختلاف دليل على عدم كون الصحيح عند الشرع و العرف بمعنى: واحد، بل يدل على أن ألفاظ المعاملات أسام للصحيحة شرعا، و للأعم عرفا، و ليست موضوعة للصحيح شرعا و عرفا.

و حاصل الدفع: أن هذا الاختلاف لا يوجب الاختلاف في المعنى، بل هذا الاختلاف يرجع إلى الاختلاف في المحقق و المصداق؛ حيث إن الشارع يخطئ العرف فيما يراه صحيحا، و ينبهه على أن الشيء الفلاني دخيل في العقد المؤثر، لأن العرف قد يشتبه في تطبيق الصحيح الواقعي على ما لا يكون مؤثرا و صحيحا واقعا، و الشارع ينبهه على خطئه، فحاصل الجميع: أن الصحيح شرعا هو الصحيح عرفا، فلا يكون الثاني أعم من الأول.

(3) لعله إشارة إلى أن الاختلاف بينهما إنما هو في نفس المعنى الموضوع له لا في محققه و مصداقه، فمفهوم ألفاظ المعاملات هو الصحيح عند الشارع، و الأعم عند العرف، فكل صحيح عند الشارع صحيح عند العرف، و ليس كل صحيح عند العرف صحيحا عند الشارع؛ ضرورة: أن العرف يرى عدم دخل البلوغ أو القبض في المجلس - مثلا في بعض العقود - في مفهوم البيع و غيره، و الشارع يرى دخلهما فيه، فلا محيص عن كون الاختلاف في المعنى لا في المصداق.

(4) الغرض من عقد هذا الأمر على ما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 156» دفع إشكال أورد على القائلين بالصحيح في المعاملات.

ص: 130

العبادات، كي لا يصح التمسك بإطلاقها عند الشك في اعتبار شيء في تأثيرها شرعا.

و ذلك (1)، لأن إطلاقها لو كان مسوقا في مقام البيان (2) ينزّل على أن المؤثر عند الشارع هو المؤثر عند أهل العرف، و لم يعتبر في تأثيره عنده غير ما اعتبر فيه أما الإشكال فحاصله: أنه بناء على هذا القول: - تكون ألفاظ المعاملات مجملة، فلا يصح التمسك بإطلاق أدلتها، مع وضوح استقرار ديدنهم على التمسك بإطلاقها عند الشك في اعتبار شيء في المعاملة.

=============

و أما الدفع: فتوضيحه يتوقف على مقدمة و هي: الفرق الواضح بين العبادات، و المعاملات، حيث إن العبادات بناء على الوضع للصحيح ماهيات مخترعة شرعية غير معلومة للعرف.

فمع عدم معرفة تلك الماهيات لا يصح التمسك بالإطلاق، لكون الشك في الموضوع الذي لا يتصور معه الإطلاق، فعدم جواز التمسك بالإطلاق سالبة بانتفاء الموضوع أي: لا إطلاق أصلا حتى يتمسك به عند الشك في اعتبار شيء جزءا أو شرطا.

و هذا بخلاف المعاملات فإنها أمور عرفية و ليست مخترعة شرعية، و الأدلة الشرعية كقوله تعالى: أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ و نحوه إمضائية لا تأسيسية، و المعنى هو المعاملة العرفية فالشارع لم يخترع مفهوم المعاملة حتى يكون مجملا، و يرجع الشك فيه إلى الشك في موضوع الإطلاق، كي لا يمكن التمسك به، بل زاد على المعاملة العرفية قيودا لا ترتبط بالمفهوم، فإذا كان الشارع في مقام البيان صح التمسك بالإطلاق إذا شك في شرطية شيء في تأثير المعاملة العرفية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا يلزم إجمال الخطاب بناء على كون ألفاظ المعاملات أسامي للصحيح، كما يلزم ذلك في العبادات؛ بناء على كونها أسامي للصحيحة، فيجوز التمسك بالإطلاق في المعاملات لعدم الإجمال؛ و لا يجوز التمسك به في العبادات؛ لما عرفت من إجمال معنى الصحيح الموجب لعدم جواز التمسك بالإطلاق.

(1) تعليل لقوله: «لا يوجب إجمالها» و دفع لإشكال الإجمال على القول بالصحيح و قد عرفته مفصلا.

(2) هذا إشارة إلى ما يعتبر في التمسك بالإطلاق و هو: كون المتكلم في مقام البيان؛ لا في مقام الإجمال أو الإهمال.

ص: 131

عندهم (1)، كما ينزّل عليه إطلاق كلام غيره (2)، حيث إنه منهم، و لو اعتبر في تأثيره ما شك في اعتباره كان عليه (3) البيان، و نصب القرينة عليه، و حيث لم ينصب بان (4) عدم اعتباره عنده أيضا، و لذا (5) يتمسكون بالإطلاق في أبواب المعاملات مع ذهابهم إلى كون ألفاظها موضوعة للصحيح.

نعم (6)؛ لو شك في اعتبار شيء فيها عرفا فلا مجال للتمسك بإطلاقها في عدم اعتباره، بل لا بد من اعتباره لأصالة عدم الأثر بدونه (7) فتأمل جيدا (8).

=============

(1) أي: عند أهل العرف بمعنى: أن ما يعتبر في تأثير العقد عند الشارع نفس ما يعتبر عند أهل العرف.

(2) أي: كلام غير الشارع «حيث إنه منهم» أي: الشارع من أهل العرف.

(3) أي: كان على الشارع البيان، و نصب قرينة على اعتبار ما شك في اعتباره، فقوله: «و لو اعتبر في تأثيره ما شك في اعتباره» بيان للتمسك بالإطلاق.

(4) أي: ظهر عدم اعتبار ما شك في اعتباره عند الشارع أيضا أي: كعدم اعتباره عند العرف، و وجه ظهور عدم دخله شرعا في مؤثّريته هو: الإطلاق.

(5) أي: لأجل عدم كون ألفاظ المعاملات على القول بوضعها للصحيح موجبا لإجمالها؛ ترى الفقهاء من الصدر الأول إلى زماننا هذا يتمسكون بالإطلاق في نفي الجزئية المشكوكة في جميع أبواب المعاملات؛ مع ذهابهم في هذه المسألة إلى وضع ألفاظ المعاملات للصحيح.

(6) هذا استدراك على جواز التمسك بالإطلاق و حاصله: على ما في «منتهى الدراية»: أن الشك في دخل شيء في المعاملة على نحوين:

أحدهما: الشك في دخله في المعاملة العرفية بأن يشك في صدق مفهوم المعاملة عرفا على فاقد ذلك الشيء.

ثانيهما: الشك في دخله في تأثير المعاملة شرعا مع صدق المفهوم العرفي بدونه، فإن كان الشك على النحو الأوّل، فلا مجال للتمسك بالإطلاق لعدم إحراز موضوعه و هو المعاملة العرفية، بل يرجع إلى استصحاب عدم ترتب الأثر. و إن كان على النحو الثاني، فلا بأس بالتمسك به.

(7) أي: لأصالة عدم حصول الأثر بدون ما شك في اعتباره في السبب، و هذا معنى أصالة الفساد في المعاملات بعد اليأس عن الإطلاق.

(8) قوله «فتأمل جيدا» تدقيقي، أو إشارة إلى الفرق بين العبادات و المعاملات عند عدم الإطلاق، و حاصل الفرق: أن المرجع في العبادات هو البراءة أو الاشتغال فيما إذا

ص: 132

الثالث (1): أن دخل شيء وجودي أو عدمي في المأمور به؛ تارة: بأن يكون داخلا دار الأمر بين الأقلّ و الأكثر؛ على الخلاف الذي تقدم في بحث العبادات.

=============

و أما المرجع في باب المعاملات فهو أصالة الفساد؛ بمعنى: استصحاب عدم حصول الأثر بدون ما شك في اعتباره في المعاملة.

أقسام دخل الشيء في المأمور به

(1) الظاهر: أن غرض المصنف «قدس سره» من عقد هذا الأمر هو: التنبيه على ما يكون من الأجزاء و الشرائط دخيلا في المسمى بحيث ينتفي بانتفائه، و ما لا يكون دخيلا فيه فلا ينتفي المسمى بانتفائه، بل يصدق بدونه فيكون تمهيدا للتفصيل الذي التزم به بعض في مسألة الصحيح و الأعم؛ من الذهاب إلى الصحيح في الأجزاء، و إلى الأعم في الشرائط.

و ليس الغرض من عقد هذا الأمر بيان حكم الجزء المستحب و إمكانه في الواجب؛ كالقنوت في الصلاة كما في بعض التقارير، لأن الاحتمال الأول هو الأنسب بالبحث، بل هو صريح كلامه حيث قال: «إذا عرفت هذا فلا شبهة في عدم ما ندب إليه في العبادات نفسيا في التسمية بأساميها».

و توضيح ما أفاده المصنف «قدس سره» - في هذا الأمر الثالث من الأمور الثلاثة - يتوقف على مقدمة مشتملة على أمور تالية:

الأول: بيان تعاريف الجزء و الشرط فنقول: إن لكل منهما تعاريف:

1 - لو اعتبر شيء في شيء يكون الشيء الأول جزءا، و لو قيد شيء بشيء يكون الشيء الثاني شرطا.

2 - ما كان من مقوّمات المركب: فإذا كان داخلا فيه فهو جزءا، و إذا كان خارجا عنه فهو شرط.

3 - ما كان اعتباره في ذات متعلقه فهو جزء. و ما كان اعتباره لفائدة غيره فهو شرط.

4 - ما كان فعلا فهو جزء، و ما كان صفة و حالة فهو شرط.

الثاني: بيان الفرق بين الأجزاء و الشرائط و هو: أن بعض الأجزاء كما أنه دخيل في ماهية المأمور به؛ فكذلك دخيل في التسمية أيضا.

هذا بخلاف الشرائط فإنها ليست دخيلة في التسمية مطلقا أي: كانت من شرائط الماهية أو تشخصها.

الثالث: أقسام دخل الشيء في المأمور به:

1 - أن يكون مقوّما للمأمور به و دخيلا في ماهيته بنحو الجزئية مثل: تكبيرة الإحرام،

ص: 133

و الركوع، و السجود و ما شابهها؛ فإنها أجزاء للصلاة. و قد أشار إليه بقوله: «تارة بأن يكون داخلا فيما يأتلف منه و من غيره» أي: بأن يكون متعلق الأمر مؤلفا من ذلك الشيء و من عدة أجزاء أخر، و قد اعتبرها الشارع حقيقة واحدة، و تعلق بها أمر واحد من جهة تأثيرها في غرض وحداني.

2 - أن يكون خارجا عنه أي: عن المأمور به أي: ليس جزءا للمأمور به لكنه داخل في ماهيته شرطا، كما إذا أخذ في الماهية خصوصية لا تتحقق إلاّ بذلك الشيء الدخيل شرطا.

و هو ما سماه المصنف بالمقدمة حيث قال: «فيكون من مقدماته» و هو على أقسام:

1 - أن يكون سابقا على المأمور به كالطهارة بالنسبة للصلاة. 2 - أن يكون مقارنا للمأمور به؛ كالاستقبال و الستر بالنسبة إلى الصلاة. 3 - أن يكون لاحقا للمأمور به؛ كغسل المستحاضة في الليلة الآتية بالنسبة إلى صوم اليوم المقدم عليها؛ فإن الخصوصية المأخوذة في المأمور به لا تحصل بدون ذاك الشرط الذي يعتبر تارة: سابقا، و أخرى:

مقارنا، و ثالثة: متأخرا عن المأمور به.

3 - أن يكون مقوّما للفرد و التشخص بنحو الجزئية أي: يكون ذلك الشيء موجبا لتشخص المأمور به مثل: كثرة الذكر في الركوع مثلا.

4 - أن يكون موجبا لتشخص المأمور به بنحو الشرطية؛ مثل: الصلاة جماعة، أو في المسجد؛ حيث يكون موجبا للمزية، أو كالصلاة في الحمام حيث يكون موجبا للنقيصة.

5 - أن لا يكون دخيلا في المأمور به أصلا؛ لا بنحو الجزئية بكلا قسميه، و لا بنحو الشرطية كذلك؛ كالقنوت في الصلاة مثلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا دخل للقسم الخامس في التسمية بأسامي العبادات، و كذا القسم الثالث و الرابع مما له دخل في الفرد و التشخص، بل يمكن أن يقال: بعدم دخل القسم الثاني في التسمية أيضا، نعم؛ القسم الأول كما له دخل في ماهية المأمور به فكذلك له دخل في التسمية.

و من هنا يظهر: أنه يمكن أن يقال بالتفصيل بين الأجزاء و الشرائط، و الذهاب إلى الصحيح في الأجزاء؛ لأن لها دخل في التسمية، و إلى الأعم في الشرائط إذ ليس لها دخل في التسمية هذا.

ص: 134

فيما يأتلف منه (1) و من غيره، و جعل جملته متعلقا للأمر، فيكون جزءا له و داخلا في و قوامه، و أخرى (2): بأن يكون خارجا عنه، لكنه كان مما لا يحصل الخصوصية المأخوذة فيه (3) بدونه؛ كما إذا أخذ شيء (4) مسبوقا أو ملحوقا به أو مقارنا له متعلقا للأمر، فيكون (5) من مقدماته لا مقوّماته.

و ثالثة: (6) بأن يكون مما يتشخص به المأمور به بحيث يصدق على المتشخص به عنوانه.

و ربما يحصل له (7) بسببه مزية أو نقيصة، و دخل هذا (8) فيه أيضا طورا: بنحو و أما توضيح العبارات فنرجع إلى ما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 160».

=============

(1) أي: يأتلف المأمور به من ذلك الشيء الوجودي أو العدمي و من غيره. و هذا إشارة إلى القسم الأول.

(2) هذا إشارة إلى القسم الثاني و عرفته مفصلا.

(3) أي: في المأمور به أي: لا يحصل ما أخذ فيه من الخصوصية بدون ذلك الشيء الذي له دخل فيه بنحو الشرطية و قد عرفت أقسامه مفصلا.

(4) أي: المراد بالشيء هو المأمور به أي: تارة: يؤخذ مسبوقا بالشرط، و أخرى:

مقارنا له، و ثالثة: ملحوقا به. و قد تقدم تفصيله مع الأمثلة.

(5) هذه نتيجة ما ذكره في الأمر الخارج عن الماهية و حاصلها: أن الشيء الخارج عن الطبيعة المأمور بها قد يكون مقدمة لوجود الخصوصية المعتبرة في الماهية، فإن المقدمة تارة: تكون مقدمة لوجود أصل الواجب، و أخرى: لوجود وصفه. الضميران - في مقدماته و لا مقوّماته - يرجعان إلى الشيء و هو المأمور به، فمعنى العبارة: أن ذلك الخارج عن المأمور به يكون من مقدماته؛ لا من مقوماته.

(6) هذا إشارة إلى القسم الثالث و الرابع أي: ما له دخل في تشخص المأمور به بنحو الجزئية أو الشرطية؛ بحيث لا يصدق عنوان المأمور به إلاّ على المتشخص.

(7) أي: ربما يحصل للمأمور به بسبب الشيء الموجب لتشخصه مزية؛ كالصلاة في المسجد، أو مع القنوت، أو تحصل المزية لها بتكرر الأذكار في ركوعها و سجودها. أو يحصل بسبب تشخص المأمور به نقصان فيه كالصلاة في الحمام مثلا. أو لا يحصل شيء منهما كالصلاة في البيت مثلا.

(8) أي: دخل ما يوجب التشخص في المأمور به على قسمين: أيضا أي: مثل ما له دخل في ماهيته تارة: بنحو الشطرية و الجزئية هذا هو القسم الثالث. و أخرى: بنحو

ص: 135

الشطرية، و أخرى: بنحو الشرطية فيكون (1) الإخلال بما له دخل بأحد النحوين في حقيقة المأمور به و ماهيته موجبا لفساده لا محالة؛ بخلاف ما له الدخل في تشخصه و تحققه مطلقا شطرا كان أو شرطا؛ حيث لا يكون الإخلال به إلاّ إخلالا بتلك الخصوصية مع تحقق الماهية بخصوصية أخرى غير موجبة لتلك المزية، بل كانت موجبة لنقصانها (2)، كما أشرنا إليه (3) كالصلاة في الحمام.

ثم إنه (4) ربما يكون الشيء مما يندب إليه فيه (5)، بلا دخل له أصلا - لا شطرا و لا شرطا - في حقيقته، و لا في خصوصيته و تشخصه، بل له (6) دخل ظرفا في مطلوبيته، الشرطية. هذا إشارة إلى القسم الرابع.

=============

(1) هذا منه بيان للفرق بين ما له دخل في الماهية، و ما له دخل في التشخص و ملخصه: أن الإخلال بما يكون دخيلا في نفس الماهية سواء كان جزءا أو شرطا - يوجب الفساد - لعدم تحقق المسمى حينئذ، إذ الدخيل في الماهية دخيل في المسمى. هذا بخلاف الإخلال بما له دخل في تشخص المأمور به سواء كان جزءا أو شرطا؛ حيث لا يوجب فساده.

و الوجه فيه: أن الإخلال به ليس إخلالا بنفس الماهية، بل بالخصوصية التي لا يقدح انتفاؤها إلاّ بالمزية المسببة عنها. مثلا: انتفاء خصوصية كون المكان مسجدا لا يوجب انتفاء طبيعة الصلاة مطلقا حتى في غير المسجد.

و المتحصل: أن الموجب لانتفاء الماهية التي تدور التسمية مدارها هو انتفاء جزئها أو شرطها لا جزء الفرد أو شرطه، لإمكان وجود الماهية بخصوصية أخرى، فانتفاء ما له دخل في الفرد لا يوجب إلاّ انتفاء ذلك الفرد. هذا ما أشار إليه بقوله: «حيث لا يكون الإخلال به إلاّ إخلالا بتلك الخصوصية...» إلخ.

(2) أي: لنقصان الماهية.

(3) أشار إليه بقوله: «ربما يحصل بسببه مزية أو نقيصة».

(4) قوله: «ثم إنه ربما...» إلخ إشارة إلى القسم الخامس؛ و هو ما ليس له دخل في المأمور به أصلا.

(5) أي: يندب إلى ذلك الشيء أن يكون في المأمور به؛ كالقنوت في الصلاة مثلا.

(6) أي: بل للمأمور به دخل ظرفا في مطلوبية ذلك الشيء كالقنوت حيث يكون مطلوبا في الصلاة، أو كالمتابعة في صلاة الجماعة فإن وجوبها نفسي، و للصلاة دخل

ص: 136

بحيث لا يكون مطلوبا إلاّ إذا وقع في أثنائه، فيكون مطلوبا نفسيا (1) في واجب أو مستحب، كما إذا كان مطلوبا كذلك (2) قبل أحدهما (3) أو بعده (4)، فلا يكون الإخلال به (5) موجبا للإخلال به ماهية، و لا تشخصا و خصوصية أصلا.

إذا عرفت هذا (6) كله، فلا شبهة في عدم دخل ما ندب إليه في العبادات نفسيا في التسمية بأساميها، و كذا فيما له دخل في تشخصها (7) مطلقا.

و أما ما له (8) الدخل شرطا في أصل ماهيتها: فيمكن الذهاب أيضا (9) إلى عدم ظرفي في مطلوبيتها.

=============

(1) أي: سواء كان واجبا في واجب كوجوب المتابعة في الجماعة، أم مستحبا في واجب، أو مستحب؛ كالقنوت في الصلاة الواجبة أو المستحبة.

(2) أي: نفسيا.

(3) أي: قبل الواجب أو المستحب؛ كالمضمضة و الاستنشاق قبل الواجب أو المستحب؛ بناء على عدم كونهما جزءا منه.

(4) أي: بعد أحدهما؛ كاستحباب بعض الأدعية بعد الصلاة مثلا.

(5) أي: فلا يكون الإخلال بالقسم الخامس - و هو ما ندب إليه في واجب أو مستحب - موجبا للإخلال بالمأمور به و حاصله: أن الإخلال بهذا المطلوب النفسي لا يوجب إخلالا بالطبيعة المأمور بها و لا بفردها، لأن المفروض: عدم دخله في شيء منهما لا شطرا و لا شرطا.

(6) أي: إذا عرفت ما ذكرناه من الأقسام و الاعتبارات الخمسة فاعلم: أنه لا شبهة في إن هذا الأخير أي: الخامس لا دخل له في التسمية بأسامي العبادات، فلا يدخل في النزاع بين الصحيحي و الأعمي، و كذا لا شبهة في خروج ما له دخل في تشخص المأمور به عن محل النزاع.

(7) أي: تشخص العبادات مطلقا أي: سواء كان دخله بنحو الجزئية أو الشرطية.

(8) هذا هو القسم الثاني من الأقسام الخمسة. و هو الدخل في أصل الماهية و حاصله: أنه يمكن أن يقال بعدم دخله في التسمية، فانتفاؤه لا يوجب انتفاء المسمى، و إن قلنا بكون الجزء دخيلا في المسمى.

و من هنا ظهر الفرق بين جزء الماهية و شرطها بدخل الأول في التسمية دون الثاني.

(9) أي: كشرط الفرد الذي ليس دخيلا في التسمية.

ص: 137

دخله في التسمية بها (1)، مع الذهاب (2) إلى دخل ما له الدخل جزءا فيها (3)، فيكون الإخلال بالجزء مخلاّ بها دون الإخلال بالشرط؛ لكنك عرفت (4): أن الصحيح اعتبارهما فيها.

=============

(1) أي: بأسامي العبادات.

(2) كما ذهب إليه الوحيد البهبهاني «قدس سره»، حيث نسب إليه الذهاب إلى دخل جزء الماهية في التسمية دون شرطها؛ لخروجه عن المسمى، فهو قائل في أجزاء الماهية بالصحيح، و في شرائطها بالأعم.

(3) أي: في التسمية «فيكون الإخلال بالجزء مخلا بها» أي: بالتسمية «دون الإخلال بالشرط» أي: لا يكون الإخلال به مخلا بالتسمية.

(4) أي: عرفت عند ذكر أدلة القائلين بالصحيح «أن الصحيح اعتبارهما فيها» أي:

اعتبار الجزء و الشرط معا في التسمية؛ لأن ألفاظ العبادات موضوعة للصحيحة بمعنى:

جامع الأجزاء و الشرائط فتنتفي عند انتفاء أحدهما، كما تنتفي عند انتفائهما معا. هذا هو مختار المصنف «قدس سره».

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور تالية:

1 - لا إشكال في جريان النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعية، و أما على القول بعدم الثبوت ففيه إشكال؛ إلاّ إن يقال: بجريان الخلاف في المجاز الأوّل. فالصحيحي يقول: إن المجاز الأوّل الذي لاحظ الشارع العلاقة بينه و بين المعنى اللغوي ابتداء هو الصحيح، و يقول الأعمي: هو الأعم من الصحيح و الفاسد.

2 - أن الصحة بمعنى: التمامية عند الكل أي: الفقهاء، و المتكلمين، و العرف و أمّا اختلافهم في تفسيرها بإسقاط القضاء كما عن الفقهاء، أو بموافقة الشريعة كما عن المتكلمين لا يوجب تعدد المعنى، لأن الاختلاف إنما هو في لوازم الصحة.

3 - لا بد على كلا القولين من قدر جامع في البين، و لا إشكال في وجوده بين الأفراد الصحيحة على القول الصحيحي، و يشار إليه بخواصه مثل: اَلصَّلاٰةَ تَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ و «معراج المؤمن»، «و الصوم جنة من النار»، و ليس الجامع أمرا مركبا كي يقال: إنه لا ينطبق على جميع الأفراد الصحيحة المختلفة زيادة و نقيصة، و صحة و فسادا حسب اختلاف حالات المكلف، و لا أمرا بسيطا و هو عنوان المطلوب أو ملزومه المساوي له كي يقال: أنه مستلزم للدور أو الترادف.

ص: 138

بل الجامع هو: مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات المختلفة زيادة و نقصانا، و متحد مع جميع أفرادها و مراتبها نحو اتحاد.

و أما تصوير الجامع على القول الأعمي ففي غاية الإشكال، و ما قيل في تصويره غير صحيح؛ إمّا لاستلزامه صدق الصلاة على فاقد جميع الأجزاء و الشرائط سوى الأركان أو معظم الأجزاء؛ لو كان الجامع هو الأركان أو معظم الأجزاء، أو يلزم تبادل ما هو المعتبر في المسمى وجودا و عدما بحسب حالات المكلف، أو يلزم القياس مع الفارق في قياس ألفاظ العبادات بأسامي المقادير و الأوزان، و كل واحد من هذه الأمور باطل لا يمكن الالتزام به.

4 - الظاهر: أن الموضوع له في ألفاظ العبادات كالوضع عام، و احتمال كون الموضوع له فيها خاصا بعيد جدا؛ لاستلزامه كون استعمالها في الجامع مجازا و هو بعيد إلى الغاية.

5 - ثمرة النزاع هو: إجمال الخطاب على القول بالصحيح، فلا يجوز التمسك بإطلاقه عند الشك في جزئية شيء؛ بخلاف القول بالأعم حيث يجوز التمسك بالإطلاق لرفع جزئية ما شك في جزئيته.

6 - أدلة القول بالصحيح:

1 - التبادر. 2 - صحة السلب عن الفاسد. 3 - الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الآثار للمسميات بألفاظ العبادات مثل: «الصلاة عمود الدين»، و «معراج المؤمن»، أو نفي ماهيتها و طبائعها عن فاقد بعض الأجزاء أو الشرائط مثل: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»، «و لا صلاة إلاّ بطهور».

3 - دعوى القطع بأن طريقة الواضعين و ديدنهم وضع الألفاظ للمركبات التامة، و الشارع غير متخط عن هذه الطريقة. فوضع ألفاظ العبادات لجامع الأجزاء و الشرائط.

7 - أدلة الأعمي:

1 - تبادر الأعم. 2 - عدم صحة السلب عن الفاسد. 3 - صحة التقسيم إلى الصحيح و الفاسد.

و أما فساد الاستدلال بالتبادر و عدم صحة السلب عن الفاسد فظاهر مما تقدم في أدلة الصحيحي؛ من تبادر الصحيح، و صحة السلب عن الفاسد.

و أما صحة التقسيم إلى الصحيح و الفاسد: فيمكن أن يكون بملاحظة استعمال اللفظ

ص: 139

الحادي عشر (1)

الحق وقوع الاشتراك للنقل و التبادر و عدم صحة السلب بالنسبة إلى معنيين أو في الأعم بالعناية و المجاز؛ فلا يكون دليلا على المدعى؛ و هو: كون ألفاظ العبادات موضوعة للأعم.

=============

4 - استعمال اللفظ في غير واحد من الأخبار في الفاسد؛ مثل: «بني الإسلام على الخمس»، «و دعى الصلاة أيام أقرائك»، و قد عرفت الجواب بأن المراد مما بني عليه الإسلام في الرواية الأولى هو الصحيح و لو باعتقادهم فيكون دليلا للصحيح لا للأعم، و أما قوله: «دعي الصلاة أيام أقرائك» فالنهي فيه للإرشاد إلى عدم قدرة الحائض من العبادة حين الحيض، فلا يكون دليلا على الأعم.

8 - أمور ثلاثة تتعلق بالصحيح و الأعم:

1 - الفرق بين ألفاظ العبادات و المعاملات: أن كون ألفاظ المعاملات أسامي للصحيحة لا يوجب إجمالها؛ كي لا يجوز التمسك بالإطلاق في رفع اعتبار ما شك في اعتباره فيها.

ثم النزاع فيها إنما يجري لو كانت ألفاظها أسامي للأسباب دون ما كانت أسامي للمسببات؛ لعدم اتصافها بالصحة و الفساد، بل يدور أمرها بين الوجود و العدم.

2 - أن ما له دخل في المأمور به و إن كان على أقسام، إلاّ إن ما له دخل في التسمية هو جزء ماهيته أو شرطها.

9 - رأي المصنف «قدس سره»:

أن ألفاظ العبادات موضوعة للصحيحة و كذلك ألفاظ المعاملات.

و أن الإخلال بما له دخل في ماهية المأمور به موجب للإخلال بالتسمية؛ سواء كان شرطا للماهية أو جزءا لها.

الحادى عشر الاشتراك

اشارة

(1) قبل الخوض في البحث لا بدّ من تحرير ما هو محل الكلام، و بيان ذلك يتوقف على مقدمة مشتملة على أمرين:

الأول: أن الاشتراك على قسمين:

الأول: الاشتراك المعنوي و هو: ما إذا كان للفظ معنى واحد كلي يصدق على المصاديق الكثيرة؛ مثل: لفظ الإنسان مثلا.

ص: 140

أكثر للفظ واحد؛ و إن أحاله (1) بعض، لإخلاله (2) بالتفهم المقصود من الوضع؛ الثاني: الاشتراك اللفظي و هو: مقابل الترادف؛ بمعنى: أن الترادف ما يكون لفظين لمعنى واحد؛ كالأسد و الليث للحيوان المفترس. و الاشتراك ما يكون معنيين للفظ واحد بأن يكون اللفظ موضوعا لكل معنى بوضع مستقلّ ؛ مثل: لفظ جون للأبيض و الأسود مثلا.

=============

و من هنا ظهر الفرق بين المشترك المعنوي و اللفظي، حيث يكون الوضع في الثاني متعددا دون الأول.

الثاني: أن الامكان على قسمين:

الأول: الإمكان الذاتي. و الثاني: الإمكان الوقوعي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل الكلام هو القسم الثاني من القسمين أي:

الاشتراك اللفظي و الامكان الوقوعي.

إذا عرفت محل الكلام فنقول: إنهم قد اختلفوا في المشترك اللفظي على أقوال:

فذهب بعض إلى استحالته وقوعا مطلقا، و بعض آخر: إلى استحالته في القرآن الكريم دون غيره. و ثالث: إلى وجوبه، و رابع: إلى إمكانه وقوعا. و هذا الأخير هو مختار المصنف «قدس سره».

ثم معنى الإمكان الوقوعي هو: ما لا يلزم من وقوعه محال، فوقوعه أقوى دليل عليه، و لهذا قال المصنف «قدس سره»: «الحق وقوع الاشتراك» و قد استدل عليه بوجوه:

الأول: النقل بمعنى: أنه قد نقل في اللغة الاشتراك في ألفاظ كثيرة كالعين للباكية و النابعة، و المولى للعبد و السيد، و جون للأبيض و الأسود، و القرء للطهر و الحيض، و غيرها من الألفاظ المشتركة بين المعنيين أو المعاني، و هذا النقل مما يوجب الاطمئنان، بل القطع على وقوع الاشتراك.

الثاني: التبادر بمعنى: أنه يتبادر كلّ من الطهر و الحيض مثلا من القرء إذا استعمل بدون قرينة معيّنة لأحدهما.

الثالث: عدم صحة السلب أي: عدم صحة سلب لفظ القرء عن الطهر و الحيض.

(1) أي: و إن قال باستحالة الاشتراك بعض. هذا هو القول الأول حسب ما ذكرناه من الترتيب.

(2) هذا تعليل و دليل على الاستحالة.

و توضيحه يتوقف على مقدمة و هي: أن الوضع تابع للحكمة، و هي: التفهيم و إبراز ما في الضمير من جانب المتكلم، و التفهّم من جانب السامع، فعند انتفاء تلك الحكمة يكون الوضع لغوا، فصدوره مستحيل عادة عن العاقل.

ص: 141

لخفاء (1) القرائن لمنع الإخلال (2) أولا؛ لإمكان الاتكال على القرائن الواضحة، و منع كونه مخلا بالحكمة ثانيا؛ لتعلق الغرض بالإجمال أحيانا.

كما إنّ استعمال المشترك في القرآن ليس بمحال (3) كما توهم؛ لأجل لزوم التطويل بلا طائل (4)، مع الاتكال على القرائن و الإجمال في المقال لو لا الاتكال إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الاشتراك يوجب الإجمال فتبطل حكمة الوضع.

=============

و لازم ذلك: عدم إمكانه الوقوعي المسبب عن تنافي الاشتراك لحكمة الوضع، و ليس المقصود بالاستحالة من القائل بها إلاّ هذا.

(1) هذا تعليل للاخلال بالتفهّم. فمعنى العبارة: أن الاشتراك مخلّ بالتفهم المقصود لأجل خفاء القرائن المعينة للمراد، فيكون صدوره محالا من الواضع الحكيم لكونه لغوا.

(2) قد أجاب صاحب الكفاية «قدس سره» عن استدلال القائل بالاستحالة بوجهين:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «لمنع الإخلال أولا»، لأن إمكان التفهيم و التفهّم من اللفظ المشترك بواسطة القرائن الواضحة الدلالة على المقصود من البديهيات؛ حيث إن اللفظ قد يدل على المقصود بنفسه، و قد يدل عليه بواسطة القرائن الواضحة، فلا يلزم التنافي بين الاشتراك و حكمة الوضع.

فاللفظ المشترك و إن لم يدل عليه بنفسه؛ و لكنه يدل عليه بواسطة ضم قرينة فلا يكون مخلا بغرض الوضع، فهذا التعليل - أعني - لخفاء القرائن - أخص من المدعى لاختصاصه بصورة خفاء القرائن، فلا يصلح لأن يكون دليلا على منع الاشتراك مطلقا.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و منع كونه مخلا بالحكمة ثانيا». و ملخص هذا الوجه الثاني: أنّا نمنع كون الاشتراك يوجب الإخلال بغرض الواضع فإن الغرض كما يتعلق بالتفهيم و التفهم، كذلك قد يتعلق بالإهمال و الإجمال، فلا بد من الاشتراك لتحصيل هذا الغرض.

(3) هذا إشارة إلى القول الثاني و هو التفصيل بين القرآن و غيره، فتوهم: أن الاشتراك في القرآن الكريم محال دون غيره.

(4) أي: هذا إشارة إلى دليل من توهم استحالة الاشتراك في القرآن و ملخصه: أن الاشتراك في القرآن يقتضي أحد أمرين:

أحدهما: لزوم التطويل بلا طائل:

ثانيهما: الإهمال و الإجمال، و كلاهما غير لائق بكلامه تعالى فيكون باطلا.

ص: 142

عليها، و كلاهما غير لائق بكلامه تعالى جلّ شأنه، كما لا يخفى، و ذلك (1) لعدم لزوم التطويل، فيما كان الاتكال على حال أو مقال أتى به لغرض آخر، و منع كون الإجمال غير لائق بكلامه تعالى مع كونه مما يتعلق به الغرض، و إلاّ لما وقع المشتبه في كلامه، و قد أخبر في كتابه الكريم بوقوعه فيه، قال الله تعالى: مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتٰابِ وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ (2)، و ربما توهم: وجوب وقوع الاشتراك في اللغات (3)، لأجل عدم تناهي المعاني (4) و تناهي الألفاظ المركبات، فلا بد من الاشتراك توضيح ذلك يتوقف على مقدمة: و هي: أن المفروض: إمكان التفهيم بلفظ متحد معناه من دون حاجة إلى استعمال اللفظ المشترك.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن الله تعالى حينما يستعمل اللفظ المشترك إمّا أن يعتمد في بيان المراد منه على القرائن الدالة على ذلك؛ فيلزم التطويل بلا طائل. و إمّا أن لا يعتمد على شيء في ذلك فيلزم الإهمال و الإجمال، و كلاهما باطل. فيكون استعمال اللفظ المشترك في القرآن باطلا و مستحيلا منه تعالى.

(1) هذا من المصنف «قدس سره» بيان لرد القول بالتفصيل بين القرآن و غيره و حاصله: أنّنا نختار الاعتماد على القرينة، و ما ذكرتم من لزوم التطويل بلا طائل إنما يصح لو كانت القرينة لغرض تعيين المراد من المشترك، و أمّا لو كانت لغرض آخر؛ لكن كانت تلك القرينة دالة بالدلالة الالتزامية على المعنى المراد من اللفظ المشترك؛ فلا يلزم التطويل بلا طائل، فيكون الدليل أخص من المدعى؛ لاختصاصه بصورة كون القرينة لتعيين ما هو المراد من المشترك لا لغرض آخر زائد على بيان المراد. هذا أولا.

و ثانيا: نختار عدم الاعتماد على القرينة، و ما ذكرتم من لزوم الإجمال - و هو غير لائق بكلامه تعالى -: إنما يتم لو لم يتعلق الغرض بالإجمال، و هو قد يتعلق بالإجمال كما أخبر «سبحانه و تعالى» بوقوعه في كلامه عزّ من قائل: مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتٰابِ وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ ، فالمتشابه هو المجمل، و قد وقع في القرآن الكريم في غير مورد، و لا مانع منه أصلا إذا تعلق الغرض به، ودعت الحاجة إلى الإتيان بذلك.

(2) آل عمران: 7.

(3) هذا إشارة إلى القول الثالث و هو وجوب الاشتراك في اللغات، في مقابل القول بامتناعه.

(4) هذا تعليل لوجوب الاشتراك في اللغات.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة مركبة من أمرين:

ص: 143

فيها، و هو (1) فاسد؛ لوضوح: امتناع الاشتراك في هذه المعاني، لاستدعائه الأوضاع الغير المتناهية، و لو سلّم لم يكد يجدي إلاّ في مقدار متناه، مضافا إلى تناهي المعاني الكلية و جزئياتها و إن كانت غير متناهية؛ إلاّ إن وضع الألفاظ بإزاء كلياتها يغني عن وضع لفظ بإزائها كما لا يخفى؛ مع إن المجاز باب واسع، فافهم (2).

=============

أحدهما: تناهي الألفاظ لأنها مركبة من الحروف الهجائية المتناهية، و من البديهي: أن المركب من المتناهي متناه.

و ثانيهما: أن المعاني غير متناهية، و من المعلوم: عدم وفاء المتناهي بغير المتناهي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا بد من الالتزام بالاشتراك لتكون الألفاظ وافية بالمعاني؛ إذ لولاه لما كانت الألفاظ وافية بالمعاني.

فساد القول بوجوب الاشتراك

(1) أي: توهم وجوب الاشتراك في اللغات فاسد بوجوه: منها: ما أشار إليه بقوله «لاستدعائه الأوضاع الغير المتناهية» و حاصله: إن الوضع بإزاء المعاني الغير المتناهية غير معقول لأنه يستلزم أوضاعا غير متناهية و صدورها من واضع متناه محال.

و منها: ما أشار إليه بقوله: «و لو سلم لم يكد يجدي إلاّ في مقدار متناه».

و حاصله: أنه لو سلّم إمكان الاشتراك حينئذ؛ كما إذا كان الواضع هو الله تعالى إلاّ إنه لا يجدي، لأن الوضع مقدمة للاستعمال، و هو إنما هو بمقدار الحاجة و هو متناه لصدوره عن البشر، و هو غير قادر إلاّ على استعمال متناه، فلا بد حينئذ من أن تكون المعاني التي تستعمل فيها الألفاظ بحسب الأوضاع متناهية؛ إذ وضع الألفاظ بإزاء المعاني غير المتناهية يصبح لغوا محضا، لأنه زائد على مقدار الحاجة إلى الاستعمالات المتناهية.

و منها: ما أشار إليه بقوله: «مضافا إلى تناهي المعاني الكلية» و حاصله: أن المعاني الجزئية و إن لم تكن متناهية إلاّ إن المعاني الكلية متناهية كالألفاظ، فلا مانع من وضع الألفاظ بإزاء كليات المعاني، و هو يغني عن وضعها بإزاء الجزئيات.

و منها: ما أشار إليه بقوله: «مع إن المجاز باب واسع» و ملخصه: أن المحذور المزبور إنما يلزم لو كان اللفظ موضوعا بإزاء جميع المعاني، و يكون استعماله في الجميع على نحو الحقيقة، و أما إذا كان موضوعا بإزاء بعض منها و كان استعماله في الباقي مجازا فلا يلزم المحذور؛ إذ لا مانع من أن يكون لمعنى واحد حقيقي معان متعددة مجازية، فإن باب المجاز واسع.

(2) لعله إشارة إلى عدم العلاقة أو المناسبة المصححة للاستعمال المجازي في جميع المعاني، فلا يغني المجاز عن الاشتراك. أو إشارة إلى أنّ مواد الألفاظ و إن كانت متناهية

ص: 144

إلاّ إن هيئاتها غير متناهية؛ لأجل تركبها بهيئات متفرقة غير متناهية، فلا حاجة إلى الاشتراك بعد كون الألفاظ كالمعاني غير متناهية.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره». يتلخص البحث في أمور تالية:

1 - أن محل الكلام في الاشتراك اللفظي دون المعنوي، و في الإمكان الوقوعي دون الذاتي.

2 - أن الأقوال في المسألة هي أربعة:

1 - الاستحالة مطلقا. 2 - الاستحالة في القرآن دون غيره. 3 - وجوبه مطلقا. 4 - إمكان وقوعه مطلقا.

هذا هو مختار المصنف «قدس سره»، و الدليل على ذلك هو: النقل، و التبادر، و عدم صحة السلب بالنسبة إلى معنيين أو أكثر للفظ واحد.

و القول بالاستحالة مطلقا لمنافاة الاشتراك لحكمة الوضع مردود؛ لعدم اختصاص حكمة الوضع بالتفهيم و التفهم، بل قد يتعلق الغرض بالإجمال و الإهمال.

و القول بالاستحالة في القرآن فقط لاستلزامه إمّا التطويل بلا طائل و إمّا الإجمال - و كلاهما غير لائق بكلامه تعالى - مردود أولا: بعدم لزوم التطويل بلا طائل. و ثانيا:

بتعلق الغرض بالإجمال لوجود آيات متشابهة في القرآن، و القول بوجوب الاشتراك لعدم وفاء الألفاظ المتناهية بالمعاني الغير المتناهية مردود بوجوه:

الأول: لاستدعائه الأوضاع الغير المتناهية و صدورها محال من البشر و لغو من الله لو كان هو الواضع.

الثاني: أن الألفاظ المتناهية قد وضعت للمعاني المتناهية؛ و هي المعاني الكلية، فلا حاجة إلى الاشتراك.

الثالث: أن الألفاظ يمكن وضعها لبعض المعاني، و استعمالها في الباقي يكون مجازا؛ فإن باب المجاز واسع فلا حاجة أيضا إلى الاشتراك.

رأي المصنف: و هو وقوع الاشتراك للنقل و التبادر و عدم صحة السلب بالنسبة إلى معنيين أو أكثر للفظ واحد.

ص: 145

الثاني عشر (1)

أنه قد اختلفوا في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى على سبيل الانفراد و الاستقلال، بأن يراد منه كل واحد، كما إذا لم يستعمل إلاّ فيه على أقوال:

أظهرها (2): عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلا. بيانه: إن حقيقة الاستعمال ليس (3) مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى، بل جعله وجها و عنوانا له، بل بوجه نفسه كأنّه الملقى.

=============

الثانى عشر استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد

اشارة

(1) قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن ما يستعمل فيه لفظ واحد من المعنيين أو المعاني تارة: مما يمكن الجمع بينهما؛ كأن يقال: رأيت عينا و أراد منه البصر و الذهب، و أخرى: مما لا يمكن الجمع بينهما كأن يقال: هذه المرأة ذات قرء و يراد بالقرء: الحيض و الطهر.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل الكلام ما إذا كان الجمع بين المعنيين ممكنا؛ سواء كان كلا المعنيين من المعاني الحقيقية كالاشتراك اللفظي، أو أحدهما من المعاني الحقيقية و الآخر من المعاني المجازية، و كان الاستعمال في كل منهما على نحو الانفراد؛ بحيث يكون كل من المعنيين مرادا على انفراده و استقلاله بأن يكون الاستعمال الواحد في حكم الاستعمالين.

و من هنا ظهر: أن استعمال اللفظ الواحد في مجموع المعنيين بما هو كذلك خارج عن محل البحث، لأنه في حكم الاستعمال الواحد في المعنى الواحد.

و كيف كان؛ فقد اختلفوا على أقوال و عمدتها:

1 - القول: بالجواز مطلقا. 2 - عدم الجواز لغة. 3 - و الامتناع عقلا.

و هذا الأخير هو مختار المصنف «قدس سره» حيث قال: «أظهرها عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلا»، و القول الأول اختاره صاحب المعالم، و القول الثاني لصاحب القوانين.

(2) أي: أظهر الأقوال عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلا مطلقا أي: من دون فرق بين المفرد و التثنية و الجمع.

(3) أي: ليس الاستعمال مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى. هذا منه بيان لعدم جواز الاستعمال في أكثر من معنى.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: بيان حقيقة الاستعمال. و قيل: إن حقيقة

ص: 146

و لذا (1) يسري إليه قبحه و حسنه كما لا يخفى. و لا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك (2)، إلاّ لمعنى واحد (3) ضرورة (4): أن لحاظه (4) هكذا في إرادة معنى ينافي لحاظه (5) كذلك في إرادة الآخر، حيث إن لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلاّ بتبع لحاظ المعنى فانيا فيه فناء الوجه في ذي الوجه، و العنوان في المعنون، و معه (6) كيف يمكن الاستعمال عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى، و حينئذ يجوز استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى؛ إذ لا يمتنع أن يكون الشيء الواحد علامة و كاشفا عن أمرين، فإنه من الممكن نصب علامة واحدة لبيان جهتين كرأس الفرسخ، و مقام صالح من الصلحاء، و أما لو كان الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى بجعله مرآة و وجها له بحيث يكون كأنه هو الملقى رأسا؛ كان الاستعمال في المتعدد ممتنعا.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن حقيقة الاستعمال عند المصنف «قدس سره» هو:

إفناء اللفظ في المعنى، فيكون الاستعمال في المتعدد ممتنعا، و ذلك لأن الاستعمال إذا كان كذلك يستدعي أن يلحظ اللفظ آلة و طريقا إلى المعنى لفنائه فيه فناء الوجه في ذي الوجه، و عليه: فاستعماله في معنيين يستلزم إفناءه مرتين، و هو يقتضي أن يلحظ اللفظ بلحاظين آليين و هو ممتنع - لاستحالة اجتماع المثلين في شيء واحد في آن واحد - كما تحقق في محله.

(1) أي: لكون اللفظ وجها للمعنى، بل نفسه بوجه يسري إلى اللفظ حسن المعنى و قبحه.

(2) أي: وجها و عنوانا للمعنى.

(3) أي: يمكن جعل اللفظ وجها و عنوانا لمعنى واحد.

(4) تعليل لقوله «لا يكاد يمكن...» إلخ و حاصله: أن لحاظ اللفظ وجها للمعنى و فانيا فيه ينافي لحاظه وجها لمعنى آخر؛ لما عرفت: من استلزامه جمعا بين المثلين، و قيل لتقريب ذلك إلى الذهن: إن اللفظ الواحد بالنسبة إلى معنيين كالقلنسوة الواحدة بالنسبة إلى رأسين؛ فكما لا يمكن جعلها في آن واحد على رأسين بحيث تكون محيطة بتمام كل منهما، فكذلك لا يمكن جعل لفظ واحد في آن واحد فانيا في معنيين و وجودا و وجها لهما معا، فالمتحصل من الجميع هو: امتناع استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى واحد.

(5) أي: لحاظ اللفظ وجها و عنوانا «في إرادة معنى ينافي لحاظه» أي: اللفظ «كذلك» أي: وجها و عنوانا في إرادة المعنى الآخر.

(6) أي: و مع لحاظ اللفظ وجها و عنوانا للمعنى؛ كيف يمكن إرادة معنى آخر مع

ص: 147

إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد. و مع استلزامه (1) للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال.

و بالجملة: لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجها لمعنيين، و فانيا في الاثنين، إلاّ أن يكون اللاحظ أحول العينين (2).

فانقدح بذلك (3): امتناع استعمال اللفظ مطلقا - مفردا كان أو غيره - في أكثر المعنى الأول على نحو يكون اللفظ فانيا في المعنى الآخر كفنائه في المعنى الأوّل في استعمال واحد؟ أي: لا يمكن ذلك فإن الاستفهام للإنكار.

=============

(1) أي: مع استلزام الاستعمال أي: استعمال اللفظ في المعنى الثاني «للحاظ آخر غير لحاظه» أي: لحاظ اللفظ أولا «كذلك» فانيا و وجها للمعنى الأول «في هذا الحال» أي: في حال وحدة الاستعمال، فقوله: «و مع استلزامه» بيان و تقريب لاستحالة استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى.

(2) أي: لا يمكن جعل اللفظ الواحد وجها لمعنيين؛ إلاّ إن يكون اللاحظ و المستعمل أحول العينين، لأن الأحوال من يرى الواحد اثنين فيلاحظ كلاّ منهما فانيا في معنى.

و قد ذكر المحقق الأصفهاني وجها آخر لامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى توضيحه: على ما في «منتقى الأصول»: «أن الاستعمال عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ بوجود تنزيلي، بمعنى: أن يكون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى، و بما أن الإيجاد متحد مع الوجود حقيقة و ذاتا - و إن اختلف بحسب الاعتبار - امتنع استعمال اللفظ في معنيين؛ إذ يستحيل أن يكون الوجود الواحد إيجادا لكل من المعنيين بنحو يكون إيجادين للمعنيين، لأنه إذا كان إيجادا لهذا المعنى فقد امتنع أن يكون في نفس الوقت إيجادا آخر للمعنى الآخر». انتهى.

(3) أي: بما ذكرناه من امتناع إرادة معنيين من لفظ واحد في استعمال واحد. و هذا من المصنف إشارة إلى تفصيل صاحب المعالم في المقام؛ حيث فصل بين المفرد و غيره بعد القول بجواز استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى. و قال: إن استعماله فيه بنحو الحقيقة في التثنية و الجمع، و بنحو المجاز في المفرد، و علله في المعالم: بأن اللفظ موضوع للمعنى بقيد الوحدة، فاستعماله في أكثر من معنى فيه إلغاء للقيد المذكور فيكون استعمالا في غير ما وضع له، و يكون مجازيا بعلاقة الجزء و الكل، إذ اللفظ الموضوع للكل استعمل في الجزء و لا يجيء هذا البيان في غير المفرد، لأن التثنية و الجمع في قوة

ص: 148

من معنى بنحو الحقيقة أو المجاز، و لو لا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه.

فإن اعتبار الوحدة في الموضوع له واضح المنع (1)، و كون الوضع في حال وحدة المعنى (2) و توقيفيّته لا يقتضي عدم الجواز، بعد ما لم تكن الوحدة قيدا للوضع و لا للموضوع له، كما لا يخفى.

=============

تكرار اللفظ، فيكون لهما حكم التكرار، فكما يصح إرادة معنى معين من لفظ «عين» و إرادة غيره من لفظ «عين» آخر، فكذلك يصح إرادة المعنيين معا من لفظ «عينين» بلا تجوّز لأنهما في قوة قولك: «عين و عين».

(1) قوله: «فإن اعتبار الوحدة في الموضوع له واضح المنع» ردّ على صاحب المعالم، و حاصله: أنه لا دليل لنا على اعتبار الواضع قيد الوحدة في المعنى؛ لأن المتبادر هو ذات المعنى لا الذات المقيدة بقيد الوحدة، فيكون اللفظ موضوعا للمعنى على نحو كونه لا بشرط.

و أما قيد الوحدة و غيره من العوارض: فخارج عن المعنى الموضوع له و ليس من مقوّماته، بل اعتباره ممتنع لو كان المراد بالوحدة وحدة المعنى حال الاستعمال؛ لما تقدم غير مرة من امتناع دخل ما هو الناشئ من الاستعمال في الموضوع له.

(2) قوله: «و كون الوضع في حال وحدة المعنى...» إلخ إشارة إلى ردّ صاحب القوانين القائل بعدم الجواز لغة لا عقلا.

و حاصل ما استدل به على عدم الجواز: أن الوضع قد حصل في حال وحدة المعنى و انفراده، فلا بد من أن يكون الاستعمال على طبق الوضع أعني: استعمال اللفظ في المعنى حال وحدته و انفراده، فلا يجوز الاستعمال في أكثر من معنى لكونه على خلاف قانون الوضع.

و ملخص ردّ المصنف عليه: هو أن تحقّق الوضع حال وحدة المعنى، و كونه توقيفيا لا يمنع عن استعمال اللفظ في أكثر من معنى، «بعد ما لم تكن الوحدة قيدا للوضع و لا للموضوع له» و ذلك لإن كون انفراد المعنى و وحدته من حالات الوضع لا يوجب متابعته و الالتزام به حتى يجب استعمال اللفظ في المعنى المنفرد، و إلاّ وجب متابعة سائر الحالات المقارنة للوضع كوقوعه في الليل أو النهار، أو حال شباب الواضع أو هرمه إلى غير ذلك من الخصوصيات المقارنة، و كان فقدان خصوصية من الخصوصيات المقارنة له مانعا عن صحة الاستعمال و هو باطل قطعا.

فالمتحصل: أن انفراد المعنى حال الوضع غير مانع عن استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

ص: 149

ثم لو تنزلنا عن ذلك (1)، فلا وجه للتفصيل بالجواز على نحو الحقيقة في التثنية و الجمع، و على نحو المجاز في المفرد، مستدلا على كونه بنحو الحقيقة فيهما، لكونهما بمنزلة تكرار اللفظ، و بنحو المجاز فيه لكونه موضوعا للمعنى بقيد الوحدة، فإذا استعمل في الأكثر لزم إلغاء قيد الوحدة، فيكون مستعملا في جزء المعنى، بعلاقة الكلّ و الجزء، فيكون مجازا و ذلك لوضوح: أنّ الألفاظ لا تكون موضوعة إلاّ لنفس المعاني (2)، بلا ملاحظة قيد الوحدة، و إلاّ لما جاز الاستعمال في الأكثر؛ لأنّ الأكثر

=============

(1) أي: تنزلنا عن منع اعتبار قيد الوحدة أي: سلّمنا قيد الوحدة إلاّ إن مقتضاه المنع مطلقا، و بطلان كلا شقي التفصيل أعني: المجازية في المفرد، و الحقيقة في التثنية و الجمع.

أما بطلان المجازية في المفرد: فلأنه لو كانت الوحدة قيدا كان استعمال اللفظ الموضوع للمعنى بقيد الوحدة في معنيين من استعمال المباين في المباين؛ فيكون غلطا لا مجازا.

و أما بطلان كون الاستعمال حقيقة في التثنية و الجمع: فلأنهما في قوة تكرار ما أريد من مفردهما، و ليس المراد بمفردهما إلاّ العين بمعنى: البصر أو الذهب كما يأتي تفصيله في كلام المصنف.

هذا ملخص الكلام فيما إذا كان المشار إليه بقوله: «ذلك» منع اعتبار قيد الوحدة كما في بعض الحواشي؛ إلاّ إن معه لا وجه للاعتراض بأن الألفاظ «لا تكون موضوعة إلاّ لنفس المعاني بلا ملاحظة قيد الوحدة». إذ المفروض: تسليم ملاحظة قيد الوحدة.

فيكون المشار إليه بقوله: «ذلك»: الامتناع العقلي الذي قال به المصنف «قدس سره»، فمعنى العبارة حينئذ: ثم لو تنزلنا عن الامتناع العقلي الناشئ من اجتماع اللحاظين المتضادين في استعمال واحد، و قلنا: بإمكان الاستعمال في أكثر من معنى فلا وجه لتفصيل صاحب المعالم من الجواز على نحو الحقيقة في التثنية و الجمع، و على نحو المجاز في المفرد، استنادا في المفرد إلى أن الاستعمال في أكثر من معنى يستلزم إلغاء قيد الوحدة، و صيرورة المستعمل فيه جزء المعنى الموضوع له؛ فيكون هذا الاستعمال مجازا بعلاقة الكل و الجزء، و في التثنية و الجمع إلى أنهما بمنزلة تكرار اللفظ، و لا مانع من استعمال أحد اللفظين أو الألفاظ في معنى غير ما استعمل فيه اللفظ الآخر أو الألفاظ الأخرى، فيكون استعمال التثنية و الجمع في المعنيين المختلفين أو المعاني المختلفة على نحو الحقيقة، بخلاف المفرد، فإنه على نحو المجاز كما تقدم.

(2) قوله: «و ذلك لوضوح...» إلخ تعليل لقوله: «فلا وجه للتفصيل بالجواز على نحو

ص: 150

ليس جزء المقيد بالوحدة، بل يباينه مباينة الشيء بشرط شيء، و الشيء بشرط لا، كما لا يخفى، و التثنية و الجمع (1) و إن كانا بمنزلة التكرار في اللفظ؛ إلاّ إن الظاهر:

=============

الحقيقة...» إلخ. و قد ردّ المصنف الشّق الأول من التفصيل - و هو المجازية في المفرد - بوجهين:

الأول: أن اللفظ لم يوضع إلاّ لنفس المعنى بلا لحاظ قيد الوحدة، فاستعمال اللفظ فيه ليس مجازا، بل حقيقة لكونه استعمالا في تمام ما وضع له. هذا ما أشار إليه «أن الألفاظ لا تكون موضوعة إلاّ لنفس المعاني بلا ملاحظة قيد الوحدة».

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و إلاّ لما جاز الاستعمال في الأكثر».

و ملخص ما إفادة المصنف من أنه بعد تسليم اعتبار الوحدة في المعنى لا يجوز استعمال اللفظ المفرد في أكثر من معنى و لو مجازا؛ إذ الأكثر يباين المعنى الموضوع له مباينة الشيء بشرط لا، و الشيء بشرط الشيء، إذ الموضوع له هو المعنى بشرط لا أي:

بشرط أن لا يكون معه غيره، و المستعمل فيه هو الشيء بشرط شيء؛ أي: بشرط أن يكون معه غيره، فلا علاقة بينهما كما ادعي كي يصحح الاستعمال المجازي، بل بينهما المباينة المانعة من الاستعمال.

(1) هذا منه رد للشق الثاني من تفصيل صاحب المعالم، و قد ردّه المصنف بوجهين:

الأول: أن التثنية و الجمع و إن كانا بمنزلة تكرار اللفظ المفرد مثلا: قولنا عينان و إن كان بمنزلة قولنا: عين و عين؛ إلاّ إن ظاهر التثنية تكرار أفراد الماهية الواحدة لا تكرار الماهية أعني: ذهب و فضة، فيراد من المثنى فردان من أفراد طبيعة واحدة لا معينان مختلفان، مثلا: لو أريد من لفظ «عين» في قولنا: «جئني بعين» الذهب؛ لأريد من «عينين» في قولنا: «جئني بعينين» فردان من الذهب، فأين هذا من استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى ؟ فوزان التثنية و الجمع وزان المفرد في عدم جواز استعمالهما في أكثر من معنى على نحو الحقيقة.

و الإيراد على ذلك بتثنية الأعلام - كما أشار إليه بقوله: «و التثنية و الجمع في الأعلام» - حيث إن المراد من المثنى فيها معنيان، مثلا: المراد من قولنا: زيدان معنيان لا فردان من طبيعة واحدة، فنفرض المقام كذلك. هذا الإيراد مدفوع بالتزام التأويل بورود التثنية على المسمى بزيد، فيكون المراد من «زيدين» فردين من المسمى بزيد و المسمى بزيد طبيعة كلية لها أفراد. هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل.

الثاني: أنه لو قلنا بكفاية الاتحاد في اللفظ في التثنية و الجمع من غير حاجة إلى التأويل؛ لم يكن استعمال التثنية و الجمع في المعنيين أو المعاني من استعمالهما في أكثر

ص: 151

أن اللفظ فيهما كأنه كرر و أريد من كل لفظ فرد من أفراد معناه، لا أنه أريد منه معنى من معانيه، فإذا قيل مثلا: «جئني بعينين» أريد فردان من العين الجارية لا العين الجارية، و العين الباكية، و التثنية، و الجمع في الأعلام إنما هو بتأويل المفرد إلى المسمى بها (1)، مع إنه (2) لو قيل بعدم التأويل و كفاية الاتحاد في اللفظ في استعمالهما حقيقة، بحيث جاز إرادة عين جارية و عين باكية من تثنية العين حقيقة، لما كان هذا من باب استعمال اللفظ في الأكثر، لأن هيئتهما (3) إنما تدل على إرادة المتعدد مما يراد من مفردهما، فيكون استعمالهما و إرادة المتعدد من معانيه (4) استعمالهما في معنى واحد، كما إذا استعملا و أريد المتعدد من معنى واحد منهما كما لا يخفى.

=============

من معنى؛ إذ معنى التثنية و الجمع نظرا إلى هيئتهما هو المتعدد؛ سواء كان المتعدد من معنى واحد أو من معنيين؛ فيكون استعمال التثنية في المعنيين المختلفين من استعمال اللفظ في معنى واحد لا في أكثر من معنى واحد، كي ينازع في كونه على نحو الحقيقة أو المجاز.

(1) أي: بالأعلام. و قد ذكرنا أن قوله: «و التثنية و الجمع في الأعلام» دفع للإيراد.

(2) هذا هو الوجه الثاني من الرد على الشق الثاني من تفصيل صاحب المعالم، و قد عرفت ملخصه؛ و حاصله بعبارة أخرى على ما في «منتهى الدارية، ج 1، ص 189»: أنه بناء على دلالة علامة التثنية و الجمع على مطلق التعدد؛ لا تعدد خصوص مصداق المعنى المراد من المفرد يلزم خروج التثنية و الجمع عن حريم النزاع؛ و هو استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، ضرورة: أن التثنية و الجمع بعد أن كانا بمنزلة تكرار المفرد، فلا بأس بأن يراد من كل لفظ معنى غير المعنى الذي أريد من لفظ آخر، و من المعلوم: أن هذا ليس من استعمال اللفظ في أكثر من معنى حتى ينازع في كونه على نحو الحقيقة أو المجاز، فإرادة العين الجارية من لفظ «عين»، و إرادة العين الباكية من لفظ عين آخر؛ ليست من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، و كذا إرادة العين الباكية و الجارية من العينين ليست من استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

(3) أي: التثنية و الجمع، فقوله: «لأن» تعليل لعدم كون استعمال التثنية و الجمع في المعنيين أو المعاني من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى؛ لما عرفت: من أن التثنية و الجمع وضعا للمتعدد من المعنى الذي أريد من المفرد، فإذا أريد بالعين مثلا - الباكية - فيراد بالتثنية اثنان من العين الباكية.

(4) أي: من معاني المفرد، و الضمائر في قوله: «استعمالهما»، «و منهما» ترجع إلى التثنية و الجمع، و قوله: منهما ليس متعلقا بقوله: «أريد» بل متعلق بالمتعدد، فالمعنى:

ص: 152

نعم؛ لو أريد مثلا من عينين فردان من الجارية، و فردان من الباكية كان من استعمال العينين في المعنيين؛ إلاّ إن حديث التكرار لا يكاد يجدي في ذلك (1) أصلا، فإن فيه (2) إلغاء قيد الوحدة المعتبرة أيضا (3)، ضرورة: أن التثنية عنده إنما يكون لمعنيين، أو لفردين بقيد الوحدة، و الفرق بينهما (4) و بين المفرد إنما يكون في أنه موضوع للطبيعة، و هي (5) موضوعة لفردين منها أو معنيين كما هو أوضح من أن يخفى.

=============

أريد المتعدد من التثنية و الجمع، و لكن ذلك المتعدد إنما هو من معنى واحد لا من معنيين.

ردّ المصنف القول بالتفصيل بين التثنية و الجمع بين المفرد

(1) أي: في كون الاستعمال على نحو الحقيقة كما قال صاحب المعالم؛ لأن في استعمال التثنية في أفراد أربعة - بأن يكون كل فردين منها من طبيعة واحدة - إلغاء لقيد الوحدة، فيكون الاستعمال على نحو المجاز؛ لأن الموضوع له هو المتعدد من معنيين أو فردين مع قيد الوحدة.

(2) أي: في استعمال التثنية في أكثر من معنى أعني: أفراد أربعة؛ إلغاء قيد الوحدة في التثنية؛ إذ معناها فردان أو معنيان لا أفراد أربعة.

(3) أي: كإلغاء قيد الوحدة في المفرد.

(4) أي: بين التثنية و الإفراد. ملخص الفرق بينهما: أن المفرد موضوع للطبيعة بقيد الوحدة، و التثنية موضوعة لفردين من تلك الطبيعة المقيدة بالوحدة أعني: فردين من الطبيعة أو لمعنيين مع تقيد كل من المعنيين بالوحدة حتى يكون معنى - عينين - العين الجارية الواحدة و العين الباكية الواحدة، أو فردين من الجارية أو الباكية.

فالاستعمال في الأكثر أي: أفراد أربعة أعني فردين من الجارية و فردين من الباكية يستدعي إلغاء قيد الوحدة، فيكون الاستعمال مجازا لا على نحو الحقيقة كما توهمه صاحب المعالم.

(5) أي: التثنية، و هي من باب المثال، و إلاّ فالجمع أيضا كذلك كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 193».

و المتحصل من الجميع: أنه لو أريد من «عينين» فردان من الذهب و فردان من الفضة كان الاستعمال من استعمال اللفظ الواحد في المعينين؛ و لكن كان مجازا على مذهب صاحب المعالم، إذ كان معنى عين بزعمه الماهية بقيد الوحدة؛ كذلك معنى عينين أمران بقيد الوحدة.

ص: 153

وهم و دفع:

لعلك تتوهم (1): أن الأخبار الدالة على أن للقرآن بطونا - سبعة أو سبعين - تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، فضلا عن جوازه؛ و لكنك غفلت عن أنه لا دلالة لها (2) أصلا على أن إرادتها كان من باب إرادة المعنى من اللفظ، فلعله كان بإرادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى لا من اللفظ، كما إذا استعمل فيها، أو كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ، و إن كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها (3).

=============

(1) ملخص التوهم: أنه ورد في الحديث: أن للقرآن سبعة بطون أو سبعين بطنا، فقد يتوهم منافاة ذلك لما تقدم من امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى؛ إذ ظاهره وقوع استعمال اللفظ في تلك البطون، و ليس ذلك إلاّ من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى، و هو لا يجتمع مع ما تقدم من الامتناع العقلي و محالية إرادة المعاني المتعددة من اللفظ الواحد، لأنه يدل على وقوعه فضلا عن جوازه.

(2) أي: لا دلالة لتلك الأخبار أصلا على أن إرادة البطون كان من باب إرادة المعنى من اللفظ، و قد أجاب المصنف عن التوهم المذكور بما حاصله: أن في تلك الأخبار احتمالين:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «فلعله كان...» إلخ و حاصله: أن يراد منها إرادة هذه المعاني في أنفسها حال الاستعمال في المعنى الواحد لا أنها مرادة من اللفظ.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «أو كان المراد من البطون لوازم معناه...» إلخ و حاصله:

أن يكون المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ و إن كانت تلك اللوازم المتعددة خفية؛ بحيث لا تصل إليها أذهاننا لقصورها. فلا يكون اللفظ مستعملا فيها حتى يقال باستعماله في أكثر من معنى واحد.

(3) أي: إدراك لوازم المعنى، و مع تطرق الاحتمالين المذكورين لا يتمّ الاستدلال بتلك الأخبار على استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى؛ نظرا إلى ما هو المشهور - بين أهل الاستدلال - إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث فيما يلي:

1 - أن محل الكلام ما إذا كان الجمع بين معنيين ممكنا، و كان كل منهما مرادا على انفراده و مستقلا.

ص: 154

2 - عمدة الأقوال: 1 - الامتناع العقلي. 2 - عدم الجواز لغة. 3 - الجواز مطلقا.

الأول: هو مختار المصنف «قدس سره»، و استدل عليه: بأن حقيقة الاستعمال عبارة عن جعل اللفظ وجها و عنوانا للمعنى، فلا يمكن أن يجعل اللفظ الواحد وجها و عنوانا لمعنيين؛ لاستلزامه الجمع بين اللحاظين الآليين، و إفناء اللفظ الواحد مرتين و هو محال عقلا.

و أما عدم الجواز لغة - كما عن صاحب القوانين - فغاية ما قيل في وجهه: إن الوضع حصل حال وحدة المعنى، فلا يجوز الاستعمال إلاّ في حال وحدة المعنى.

و ردّ المصنف عليه: أن كون الوضع في حال وحدة المعنى لا يقتضي عدم الجواز بعد ما لم تكن الوحدة قيدا للوضع، و لا للموضوع له.

و أما الجواز مطلقا - ثم التفصيل بين المفرد و التثنية و الجمع حيث يكون الاستعمال في الأكثر في الأوّل مجازا؛ لاستلزامه إلغاء قيد الوحدة، فيكون استعمال اللفظ في غير ما وضع له بعلاقة الجزء و الكل. و في الثاني على نحو الحقيقة، لأن كل واحد من التثنية و الجمع بمنزلة تكرار اللفظ كما قال به صاحب المعالم - فدفعه المصنف أولا: بأن اللفظ لم يوضع إلاّ لنفس المعنى بلا لحاظ قيد الوحدة حتى يقال: إن الاستعمال في الأكثر في المفرد مجاز لاستلزامه إلغاء قيد الوحدة.

و ثانيا: إن التثنية و الجمع و ان كانا بمنزلة تكرار اللفظ؛ و لكن ليس المراد منهما إلاّ ما يراد من مفردهما، فلا يلزم استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى.

3 - دفع توهم وقوع استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى في القرآن الكريم نظرا إلى الأخبار الدالة على أن للقرآن بطون «سبعة و سبعين»، و ظاهرها: استعمال اللفظ الواحد في تلك البطون من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

و حاصل الدفع: أولا: أن تلك البطون مرادة في أنفسها حال استعمال اللفظ، و لكن لا من اللفظ. و ثانيا: كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه، فالأخبار المذكورة أجنبية عن استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

ص: 155

الثالث عشر (1)

أنه اختلفوا في أن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدإ في الحال، أو فيما

=============

الثالث عشر مبحث المشتق

اشارة

(1) و قبل تفصيل الكلام في محل النزاع ينبغي ذكره على نحو الإجمال و الاختصار، و بيانه يتوقف على تقديم أمور لها دخل في تعيين محل النزاع:

تحرير محل النزاع في مبحث المشتق

1 - لا ريب في صحة إطلاق المشتق على المتلبس بالمبدإ فعلا، و على من انقضى عنه المبدأ، و على من لم يتلبس به بعد و لكنه سيتلبس به في المستقبل، و لا إشكال أيضا في أن إطلاق المشتق على المتلبس بالمبدإ فعلا إطلاق حقيقيّ ، كما إنه لا إشكال في أن إطلاقه على من يتلبس بالمبدإ في المستقبل إطلاق مجازيّ ، و الإشكال و النزاع إنما هو في إطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ هل هو مجاز أو حقيقة ؟

2 - أن المراد بالحال هو حال النسبة و الجري؛ لا الحال بمعنى: الزمان الحاضر المقابل للماضي و المستقبل كما سيأتي في كلام المصنف «قدس سره».

3 - المشتق في مقابل الجامد هو: ما كان لكل واحد من مادته و هيئته وضع خاص مستقل، و الجامد: ما كان لمجموع من مادته و هيئته وضع واحد.

و كل منهما على قسمين:

القسم الأول من المشتق: ما يكون موضوعا لمعنى يجري على الذات المتصفة بالمبدإ بنحو من أنحاء الاتصاف و يصدق عليها خارجا مثل: اسم «الفاعل و المفعول و الصفة المشبهة مثلا».

القسم الثاني: ما يكون موضوعا لمعنى لا يجري على الذات و لا يصدق عليها خارجا، كالأفعال جميعا، و المصادر المزيدة، بل المصادر المجردة بناء على القول الصحيح من اشتقاقها أيضا.

القسم الأول من الجامد: ما يكون موضوعا لمعنى منتزع عن مقام الذات مثل الإنسان و الحيوان و الشجر ما شابهها.

القسم الثاني: ما يكون موضوعا لمعنى منتزع عن أمر خارج عن مقام الذات؛ مثل:

عنوان «الزوج و الرق و الحر» و ما شاكلها، لأن عنوان الزوجية و الرقية و الحرية خارج عن مقام ذات الزوج و الرق و الحر.

و كان محل النزاع من هذه الأقسام الأربعة: القسم الأوّل من المشتق و القسم الثاني

ص: 156

يعمه و ما انقضى عنه على أقوال؛ بعد الاتفاق على كونه مجازا فيما يتلبس به في الاستقبال، و قبل الخوض في المسألة، و تفصيل الأقوال فيها، و بيان الاستدلال عليها، ينبغي تقديم أمور (1):

أحدها: إن المراد بالمشتق هاهنا (2) ليس مطلق المشتقات، بل خصوص ما يجري منها (3) على الذوات (4)، مما يكون مفهومه منتزعا عن الذات بملاحظة اتصافها بالمبدإ، من الجامد لوجود الملاك فيهما و هو: كون الشيء جاريا على الذات المتلبسة بالمبدإ، و أن تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ.

=============

(1) و هي ستة: 1 - بيان ما هو المراد من المشتق في المقام.

2 - عدم اختصاص النزاع ببعض المشتقات الجارية على الذوات.

3 - خروج الأفعال و المصادر المزيدة عن حريم النزاع في المقام.

4 - اختلاف المشتقات في المبادئ قوة و ملكة و حرفة و صناعة.

5 - بيان ما هو المراد بالحال.

6 - لا أصل في نفس المسألة عند الشك؛ حتى يتعيّن به ما هو الموضوع له في المشتق بأنه خصوص المتلبس بالمبدإ، أو الأعم منه و ممن انقضى عنه المبدأ.

(2) أي: في مبحث المشتق. هذا إشارة إلى الأمر الثالث الذي ذكرناه من: أن بعض ما هو مشتق لغة و اصطلاحا؛ كالأفعال، و بعض المصادر خارج عن حريم النزاع، و بعض الجوامد داخل في محل الكلام.

(3) المراد بالمشتق في المقام: خصوص ما يجري من المشتقات على الذوات مثل:

اسم الفاعل، و المفعول و نحوهما.

(4) المراد بالذوات هنا ليس الجوهر فقط؛ بل مطلق ما يقع موضوعا سواء كان جوهرا أو عرضا. قوله: «مما يكون...» إلخ بيان ل ما الموصولة في «ما يجري» يعني: من المشتقات التي يكون مفهومها منتزعا عن الذات كالعالم مثلا؛ حيث يكون مفهومه منتزعا عن ذات من اتصف بالعلم؛ فيتحد معها نحو اتحاد.

و المراد بالاتحاد هو: الاتحاد الوجودي بين المبدأ و الذات، لأن المراد بجريان المشتق على الذات هو حمله عليها بالحمل الشائع الصناعي المنوط باتحادهما وجودا.

و قد ظهر مما ذكرناه: النسبة بين المشتق في محل الكلام، و كل من المشتق المصطلح و الجامد: عموم من وجه.

مادة الاجتماع هي: أسماء الفاعلين و المفعولين. مادة الافتراق من جانب المشتقات

ص: 157

و اتحادها معه بنحو من الاتحاد كان بنحو الحلول (1)، أو الانتزاع (2)، أو الصدور (3)، و الإيجاد؛ كأسماء الفاعلين (4)، و المفعولين، و الصفات المشبهات، بل و صيغ المبالغة، و أسماء الأزمنة و الأمكنة و الآلات، كما هو ظاهر (5) العنوانات، و صريح بعض المحققين (6)، مع عدم صلاحية ما يوجب اختصاص النزاع بالبعض (7) إلاّ التمثيل به، و هو غير صالح، كما هو واضح.

=============

المصطلحة هي: الأفعال و المصادر المزيدة، و من جانب المشتق في المقام: بعض الجوامد كعنوان الزوج و الحرّ و الرقّ . و هذا هو مادة الاجتماع بين المشتق في المقام و بين الجوامد، و مادة الافتراق من جانب المشتق؛ كأسماء الفاعلين و المفعولين، و من جانب الجوامد؛ كالإنسان و الشجر و الحجر مثلا.

(1) أي: كالمرض، و الحسن و القبح، و السواد و البياض و ما شاكلها، فإن اتصاف الذوات بها و اتحادها معها إنما هو على نحو الحلول.

(2) أي: كالفوقية المنتزعة من الفوق؛ فإن اتصاف الذات بها إنما هو على نحو الانتزاع.

(3) أي: كالضارب و الآكل؛ فإن الفعل الصادر إن كان قائما بالفاعل كالأكل، يسمى إيجادا، و إن كان قائما بغيره كالضرب يسمى صدورا. كما في «منتهى الدراية».

(4) أي: الأمثلة المذكورة كلها أمثلة لما ذكره بقوله: «بل خصوص ما يجري».

و ملخص الكلام: أنه لا فرق بين ما يجري على الذات سواء كان من أسماء الفاعلين كقولنا: «زيد ضارب»، أو المفعولين كقولنا: «زيد مضروب»، أو الصفات المشبهات كقولنا: «زيد شريف»، أو أسماء الأزمنة كقولنا: هذا اليوم «مقتل زيد»، أو الأمكنة كقولنا: هذا المكان «مقتل زيد»، أو أسماء الآلات كقولنا: هذا مفتاح، و صيغ المبالغة كقولنا: «زيد ضراب».

(5) أي: كما أن عدم الفرق بين ما يجري على الذات من المشتقات «ظاهر العنوانات» التي ذكرها القوم، فإن لفظ المشتق المأخوذ في العنوان يشمل جميع هذه الأقسام.

(6) أي: صاحب البدائع حيث صرح بالعموم و قال في البدائع: «قضية ظاهر العنوانات عموم النزاع لسائر المشتقات، لعدم صلاحية الأمثلة الممثل بها للتخصيص».

انتهى مورد الحاجة من كلامه.

(7) أي: اسم الفاعل و ما يلحق به؛ مثل: صيغ المبالغة، و المصادر المستعملة بمعنى:

اسم الفاعل أي: توهم بعض اختصاص النزاع باسم الفاعل، و ما ألحق به، و استدل

ص: 158

فلا وجه لما زعمه بعض الأجلّة (1) من الاختصاص باسم الفاعل، و ما بمعناه من المتوهم على الاختصاص بوجهين: الأول: التمثيل باسم الفاعل في أثناء احتجاجاتهم كقولهم: (المشتق كاسم الفاعل...) إلخ.

=============

الثاني: احتجاج بعضهم على الأعم بإطلاق اسم الفاعل دون اطلاق بقية الأسماء، فتخيّل أن التمثيل باسم الفاعل و ما ألحق به يستدعي اختصاص النزاع بالبعض.

و حاصل الجواب عن التوهم المذكور: أن ظاهر العنوانات هو العموم، و مجرد التمثيل ببعض المشتقات لا يصلح قرينة على الاختصاص بذلك البعض، و قد أشار إليه بقوله: «و هو غير صالح...» إلخ أي: التمثيل غير صالح للاختصاص، إذ قد جرى ديدنهم على التمثيل ببعض المصاديق من دون قصد الاختصاص.

(1) أي: صاحب الفصول، و قد زعم اختصاص النزاع (باسم الفاعل و ما بمعناه...) إلخ حيث قال فيما أفاده في المقام ما هذا لفظه: «لا خفاء في أن المشتق المبحوث عنه هنا لا يعم الأفعال و المصادر المزيدة» - إلى أن قال: «و حينئذ فهل المراد به ما يعم بقية المشتقات من اسمي الفاعل، و المفعول، و الصفة المشبهة و ما بمعناها، و أسماء الزمان و المكان و الآلة، و صيغ المبالغة، كما يدل عليه إطلاق عناوين كثير منهم كالحاجبي و غيره، أو يختص باسم الفاعل و ما بمعناه كما يدل عليه تمثيلهم به، و احتجاج بعضهم بإطلاق اسم الفاعل عليه دون إطلاق بقية الأسماء على البواقي؛ مع إمكان التمسك به أيضا؟ وجهان أظهرهما الثاني:». انتهى مورد الحاجة من كلامه.

و مفاده: أنه استظهر الاحتمال الثاني و هو اختصاص النزاع باسم الفاعل و ما بمعناه، و استدل عليه بوجهين:

الأول: تمثيلهم باسم الفاعل في مقام الاحتجاجات.

الثاني: احتجاج بعضهم على الأعم بإطلاق اسم الفاعل دون إطلاق بقية الأسماء، و قد رفض المصنف ما زعمه صاحب الفصول بقوله: «فلا وجه لما زعمه بعض الأجلّة».

و قد أشار إلى ردّ الوجه الأول بقوله: «و هو غير صالح» أي: التمثيل باسم الفاعل في مقام الاحتجاج غير صالح للاختصاص؛ و ذلك لما عرفت: من أنه قد جرى ديدنهم على التمثيل ببعض المصاديق من دون قصد الاختصاص به.

و يرد على الوجه الثاني: بأن الاحتجاج المذكور لا دلالة له على الاختصاص، و على فرض الدلالة لا يكون حجة، إذ لا حجة في قول هذا البعض، فالمتحصل من الجميع: أن ما زعمه صاحب الفصول من اختصاص النزاع باسم الفاعل و ما بمعناه لا يرجع إلى محصل صحيح.

ص: 159

الصفات المشبهة، و ما يلحق بها، و خروج سائر الصفات. و لعل منشأه (1) توهم كون ما ذكره لكل منها من المعنى مما اتفق عليه الكل، و هو كما ترى.

=============

و الضمير في قوله: «بها» يرجع إلى الصفات المشبهة، و المراد بما يلحق بها: الأوصاف اللازمة كظاهر، و قائم، و جالس، و صيغ المبالغة و المصادر المستعملة بمعنى: اسم الفاعل، و الأسماء المنسوبة كالبغدادي و الدمشقي مثلا، و المراد بسائر الصفات الجارية على الذوات الخارجة عن النزاع هي: كاسم المفعول، و اسم الزمان و المكان و الآلة و غيرها.

(1) أي: منشأ الاختصاص «توهم كون ما ذكره» أي: صاحب الفصول «لكل منها» أي: من الصفات التي أخرجها عن كونها محل النزاع «من المعنى» أي: بيان «ما» في قوله: «ما ذكره» «مما اتفق عليه الكل» أي: فلا نزاع في تلك الصفات، «و هو كما ترى» أي: زعم الاتفاق و نفي النزاع كما ترى؛ إذ كلها محل النزاع كاسم الفاعل و ما بمعناه.

توضيح ذلك: أنه قال في الفصول فيما أفاده في المقام ما هذا محصله: «ثم اعلم أنهم أرادوا بالمشتق الذي تشاجروا على دلالته في المقام اسم الفاعل و ما بمعناه من الصفات المشبهة، و ما يلحق بها على ما سنحققه» ثم شرع في بيان معنى سائر المشتقات أعني:

صفات خمس: اسم المفعول، و صيغة المبالغة، و اسم الزمان، و اسم المكان، و اسم الآلة؛ و هي الصفات التي وقع الخلاف بين صاحب الفصول و غيره، و قال صاحب الفصول بخروجها عن محل النزاع، و ذكر لكل منها معنى من دون نقل خلاف في ذلك.

و قال في تقريب خروجها عن محل النزاع: «إن من اسم المفعول ما يطلق على الأعم كقولك: «هذا مقتول زيد»، أو «مصنوعه»، أو «مكتوبه». و منه ما يطلق على خصوص المتلبس نحو: «هذا مملوك زيد»، أو «مسكونه»، أو «مقدوره».

إلى أن قال: «و اسم الزمان حقيقة في الأعم، و كذلك اسم المكان. و اسم الآلة حقيقة فيما أعدّ للآلية أو اختص بها، حصل المبدأ أو لم يحصل بعد»، فيكون حقيقة في الأعم إذ لا شبهة في إطلاق اللفظ الموضوع للآلة كلفظ المفتاح على الآلة المخصوصة في حال انقضاء المبدأ و هو الفتح.

إلى أن قال: «و صيغة المبالغة فيما كثر اتصافه بالمبدإ عرفا» انتهى حاصله.

و مفاد ما أفاده في المقام هو: أن تلك المعاني كأنّ بنظره مما اتفق عليه الكل لوجهين:

أحدهما: مقابلتها للمشتق الذي تشاجروا في دلالته.

ثانيهما: عدم نقل خلاف في تلك المعاني.

و مع زعم الاتفاق المذكور على خروج سائر المشتقات عن محل النزاع؛ ينحصر

ص: 160

و اختلاف (1) أنحاء التلبسات حسب تفاوت مبادئ المشتقات، بحسب الفعلية و الشأنية و الصناعة و الملكة - حسب ما نشير إليه - لا يوجب تفاوتا في المهم من محل النزاع هاهنا، كما لا يخفى.

=============

النزاع قهرا في اسم الفاعل و ما بمعناه، إلاّ إن هذا الزعم في غير محله كما أشار إليه بقوله: «و هو كما ترى»؛ إذ لا يختص النزاع باسم الفاعل و ما بمعناه، بل غير اسم الفاعل أيضا محل الخلاف، و ما ذكره من الأمثلة مردود لوجهين:

أحدهما: ان النزاع في المقام في مفاد الهيئة لا في مفاد المبدأ فنقول: إنه لم تؤخذ المبادئ فعلية في تلك الأمثلة، بل في المثال الأول أخذ القتل بمعنى: عدم الروح لا بمعنى:

إزهاقها، كما هو مفاد المصدر، و في المثال الثاني: أخذ الصنع بمعنى: أثر الصنع لا التأثير الفعلي، و في المثال الثالث: أخذت الكتابة بمعنى: الصناعة و الحرفة لا الكتابة الفعلية.

فنظرا إلى هذه المعاني التلبس متحقق حال الجري و لهذا لا نزاع فيها. و ثانيهما: أنه من الممكن أن يكون الإطلاق في الجميع بلحاظ حال التلبس لا بلحاظ حال الانقضاء، و محل الكلام هو الثاني دون الأول. هذا و إن كان مراد صاحب الفصول من الاتفاق على معنى هذه الصفات وضوح معانيها عند ابناء المحاورة فيقال: إنّ وضوح المعنى عند أبناء المحاورة لا يوجب عدم نزاع العلماء فيه.

(1) و قد اختلف أصحاب الحواشي و الشروح فيما هو مراد المصنف بهذا الكلام على أقوال و احتمالات:

الأول: أن يكون هذا الكلام من المصنف جوابا عما ذكره صاحب الفصول في الأمر الثالث من الفصل الثاني، من بحث المشتق؛ صفحة 60 حيث قال فيه: ما هذا لفظه:

«إذا عرفت هذا» - أي: خروج مفهوم الزمان عن مدلول المشتق وضعا - «فالحق أن المشتق إن كان مأخوذا من المبادئ المتعدية إلى الغير كان حقيقة في الحال و الماضي أعني: في القدر المشترك بينهما؛ و إلاّ كان حقيقة في الحال فقط» - إلى أن قال - «و اعلم: أنه قد يطلق المشتق و يراد به المتصف بشأنية المبدأ و قوته كما يقال: هذا الدواء نافع لكذا، أو مضر، و شجرة كذا مثمرة، و النار محرقة إلى غير ذلك. و قد يطلق و يراد به المتصف بملكة المبدأ، أو باتخاذه حرفة و صناعة؛ كالكاتب و الصانع و التاجر و الشاعر و نحو ذلك، و يعتبر في المقامين حصول الشأنية و الملكة و الاتخاذ حرفة في الزمان الذي أطلق المشتق على الذات باعتباره». انتهى مورد الحاجة من كلام صاحب الفصول.

و محصله: التفصيل في وضع المشتق بين المبادئ؛ فإن كان المبدأ من المبادئ المتعدية كان المشتق حقيقة في الأعم من التلبس و الانقضاء، و إن كان من المبادئ اللازمة أو

ص: 161

الملكات و الصنائع كان حقيقة في خصوص حال التلبس.

و قد أجاب المصنف عنه بقوله: «و اختلاف أنحاء التلبسات...» إلخ. و حاصل ما أفاده المصنف في الجواب: إن اختلاف أنحاء التلبسات بحسب تفاوت مبادئ المشتقات من حيث التعدي و اللزوم، أو من حيث الفعلية و الشأنية، و الصناعة و الملكة لا يوجب تفاوتا في وضع هيئة المشتق، فلا فرق في وضعها لخصوص حال التلبس، أو الأعم بين المبادئ لأن اختلافها في التعدي و اللزوم، أو الفعلية و الشأنية و غيرها؛ و إن كان يوجب اختلافا في كيفية التلبس؛ إلاّ إنّه لا يوجب اختلافا في المهم و هو وضع هيئة المشتق.

الثاني: أن يكون مراد المصنف من قوله: «و اختلاف أنحاء التلبسات...» إلخ ردّا لتوهم اختصاص النزاع ببعض المشتقات دون بعض؛ و إن لم يتوهمه صاحب الفصول.

توضيحه: أنه قال في الفصول في جملة ما أفاده في المقام ما هذا لفظه: «و اعلم: أنه قد يطلق المشتق و يراد به المتصف بشأنية المبدأ و قوته، كما يقال: هذا الدواء نافع أو مضر، و شجرة كذا مثمرة، و النار محرقة إلى غير ذلك، و قد يطلق و يراد به المتصف بملكة المبدأ، أو باتخاذه حرفة و صناعة؛ كالكاتب و الصانع و التاجر و الشاعر و نحو ذلك، و يعتبر في المقامين حصول الشأنية و الملكة و الاتخاذ حرفة؛ في الزمان الذي أطلق المشتق على الذات باعتباره» انتهى مورد الحاجة من كلامه.

فيقول المصنف: إن اختلاف أنحاء التلبسات حسب تفاوت مبادئ المشتقات بحسب الفعلية؛ كما في القائم و الضارب و نحوهما، أو الشأنية و الصناعة و الملكة حسب ما يشير إليه الفصول مما لا يوجب تفاوتا في المهم المبحوث عنه؛ بحيث يتوهم عدم جريان النزاع في مثل ما كان الاتصاف بالشأنية أو الصناعة أو الملكة بزعم صدق المشتق فيه بدون التلبس بالمبدإ في الحال؛ غفلة عن أن التلبس فيه مما يعتبر بشأنية المبدأ، أو بصناعته، أو بملكته؛ لا بنفس المبدأ بذاته. كما في «عناية الأصول».

الثالث: أنه جواب عما في الفصول من خروج أحد قسمي اسم المفعول و هو: ما أخذ المبدأ فيه خصوص الفعلية مع إطلاقه على الذات بعد انقضاء المبدأ عنها، و كذا أسماء الزمان و المكان و الآلة، و صيغ المبالغة. فلا بد من كون المشتق في هذه الموارد موضوعا للأعم، فاختلاف مبادئ المشتقات الموجب لاختلاف أنحاء التلبسات يوجب خروج ما عدا اسم الفاعل و الصفات المشبهة و ما يلحق بها عن حريم النزاع.

و محصل الجواب: أن جهة البحث هنا هي: وضع هيئة المشتق لخصوص حال

ص: 162

التلبس أو الأعم؛ من دون تفاوت في ذلك بين المبادئ، و الاختلاف إنما يكون في كيفية التلبس بها، فإن قلنا بوضع هيئة المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ فحينئذ نقول: إن المبدأ إن كان فعليا يزول بسرعة - كالشرب مثلا - فالتلبس به هو الاشتغال بالشرب، و بانتهائه ينقضي المبدأ و إن كان ملكة - كالاجتهاد - فالتلبس به هو بقاء ملكته و إن لم يكن له استنباط فعلي، و إن كان الشأنية: فالتلبس به هو شأنيته - كالمفتاح - فإن التلبس به بقاؤه على هيئة المفتاحية.

فاختلاف هذه المبادئ من حيث الفعلية و الشأنية و غيرهما لا يوجب اختلافا فيما هو المبحوث عنه في المقام؛ أعني: وضع هيئة المشتق، و إطلاقه على الذات بعد انقضاء المبدأ الفعلي عنها يكون على نحو الحقيقة إن كان الجري بلحاظ حال النسبة، و مجازا إن لم يكن بلحاظها، و إن قلنا: بوضع هيئة المشتق للأعم فنقول: إن الانقضاء فيما إذا كان المبدأ فعليا هو انتهاؤه كالشرب و الأكل و غيرهما من الأفعال، و فيما إذا كان ملكة و نحوها فانقضاء المبدأ فيه هو ارتفاع الملكة و الشأنية، فملكة الاجتهاد تزول بزوال القدرة على الاستنباط، و شأنية المفتاح تزول بزوال هيئته، و الصنائع تزول بأعراض أربابها عنها.

هذا كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 202».

الرابع: أن يكون قوله: «و اختلاف أنحاء التلبسات...» إلخ وجها لقوله: «كما ترى» فيكون من تتمة الردّ على صاحب الفصول، و بيانه يتوقف على تمهيد مقدمة، و هي: إن النزاع في المشتق ليس في تعيين معنى المادة و لا في كيفية الاشتقاق، إذ الأوّل راجع إلى اللغة، و الثاني راجع إلى العرف، بل النزاع في مفاد الهيئة، ثم إن مفاد الهيئة ربما يختلف باختلاف المواد مثلا: «تارة»: تطلق الكتابة و يراد بها ملكتها، ثم يشتق منها الكاتب، و من البيّن أن معناه حينئذ المتلبس بالملكة، فيصدق الكاتب ما دامت الملكة باقية و إن لم يكن كاتبا بالفعل.

«و أخرى»: يراد من الكتابة شأنيتها و قوتها ثم يشتق منها الكاتب، و من البيّن: أن معناه حينئذ: المتلبس بشأنية الكتابة، فيصدق الكاتب ما دامت الشأنية باقية و ان كان الشخص أميا، «و ثالثة»: يراد من الكتابة الحرفة ثم يشتق منها الكاتب، و من الواضح أن معناه حينئذ: المتلبس بحرفة الكتابة فيصدق الكاتب ما دامت الحرفة باقية، و يذهب إن ذهبت الحرفة و إن كانت الملكة موجودة.

إذا عرفت ذلك قلنا: «إن صاحب الفصول ذكر لكل واحد من اسم المفعول، و صيغة

ص: 163

ثم إنه لا يبعد (1) أن يراد بالمشتق في محل النزاع مطلق ما كان مفهومه و معناه المبالغة، و اسم الزمان و اسم المكان و اسم الآلة معنى، و أخرجها عن محل الكلام و النزاع بزعم أن تلك المعاني اتفاقية، و قال في اسم المفعول: إنه قد يطلق و يتبادر منه ما يعم الحال و الماضي كقولك: «هذا مقتول زيد أو مصنوعه أو مكتوبه» و قد يختص بالحال نحو:

=============

«هذا مملوك زيد...» إلخ.

و الجواب: أن النزاع - كما تقدم - في مفاد الهيئة لا المادة و لا اتفاق في هذه الخمسة، و أما اسم المفعول: فالمقتول بمعنى: من أزهق روحه بسبب القتل، و المصنوع بمعنى: ما حدث فيه أثر الصنع، و المكتوب بمعنى: ما وجدت فيه الكتابة، فالمشتق إنما يصدق في هذه الأمثلة لأجل أعمية المبدأ مع الفعلي و الشأني، و الحرفة و الملكة و الصناعة و غيرها، فإن اختلاف أنحاء التلبس حسب تفاوت مبادئ المشتقات لا يوجب تفاوتا في المهم من محل النزاع كما في «الوصول إلى كفاية الأصول»، و أقرب هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأول فتدبر.

الفرق بين المشتق الأصولي و النحوي

(1) غرضه من هذا الكلام: و إن كان بيان تعميم محل النزاع في المشتق الأصولي؛ حيث يعم بعض الجوامد عند النحاة، إلاّ إن المستفاد منه أمور: منها: الفرق بين المشتق باصطلاح الأصوليين، و بينه باصطلاح النحاة؛ فإن النحاة يرون أن الزوجية و الحرية و الرقية من الجوامد، و الأصوليون يرونها من المشتقات؛ فإن المشتق باصطلاح الأصوليين هو مطلق ما كان مفهومه جاريا على الذات و محمولا عليها، و بملاحظة اتصافها بعرض كالسواد و البياض و نحوهما من الأعراض المتأصلة التي لها حظّ من الوجود و لو في ضمن المعروض.

«أو بعرضي» أي: كالفوقية و التحتية و الزوجية و نحو ذلك من الأمور الانتزاعية المحضة؛ التي ليس لها حظّ من الوجود إلاّ لمنشا انتزاعها، بل هي أمور اعتبارية يعتبرها العقلاء أو الشارع.

و منها: أن النسبة بين مشتقات النحويين و الأصوليين هي عموم من وجه. و قد مر الكلام فيها فلا نعيد.

و منها: الفرق بين العرض و العرضي في كلام المصنف.

و ملخص الفرق: أن المراد بالأول: هو نفس المبدأ؛ كالسواد و البياض و نحوهما من الأمور المتأصلة التي لها نصيب من الوجود.

و المراد بالثاني: هو الأمر الانتزاعي على خلاف اصطلاح المنطقيين؛ فإن العرضي في اصطلاحهم هو: المشتق كالأسود و الأبيض.

ص: 164

جاريا على الذات و منتزعا عنها، بملاحظة اتصافها بعرض أو عرضي و لو كان جامدا، كالزوج و الزوجة و الرق و الحر.

و إن أبيت (1) إلاّ عن اختصاص النزاع المعروف بالمشتق كما هو قضية الجمود على ظاهر لفظه، فهذا القسم من الجوامد أيضا محل النزاع كما يشهد به (2) ما عن الإيضاح في باب الرضاع، في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة، ما هذا لفظه:

=============

فالحاصل: أن مراد المصنف من العرض: الأمور المتأصلة التي لها وجود في الخارج، و مراده من العرضي الأمور غير المتأصلة التي لا يحاذيها في الخارج شيء.

و كيف كان؛ فليس المراد بالمشتق هنا المشتق باصطلاح النحاة و هو ما يؤخذ من لفظ آخر مع اشتماله على حروفه و ترتيبه؛ بل المشتق باصطلاح الأصوليين هو: ما دل على مفهوم جار على الذات بلحاظ اتصافها بأمر خارج عنها، فيكون المشتق بهذا المعنى جامعا للأفراد لشموله الجوامد مثل الزوج و الرق و الحر، و مانعا للأغيار لعدم شموله ما لا يجري على الذات كالأفعال و المصادر المزيدة.

(1) أي: إن أبيت و منعت عن تسمية مثل الزوج و الزوجة و الرق و الحر بالمشتق؛ و قلت: باختصاص النزاع بالمشتق باصطلاح النحاة كما هو مقتضى الجمود على ظاهر لفظ المشتق فنقول: إن هذا القسم من الجوامد أيضا محل النزاع، و إن لم يشملها لفظ المشتق. و الأولى أن يقال: «و إن أبيت إلاّ عن إرادة المشتق المصطلح عند النحاة كما هو قضية الجمود على ظاهر لفظه، لكن هذا القسم من الجوامد أيضا داخل في محل النزاع»، فإن عبارة المصنف لا تخلو عن القصور في تأدية ما هو المقصود.

(2) أي: كما يشهد بدخول هذا القسم من الجوامد - أيضا محل النزاع - «ما عن الايضاح... و ما عن المسالك».

لنا على دخول بعض الجوامد كالزوج و الزوجة في محل النزاع شاهدان أحدهما: ما عن الإيضاح. و ثانيهما: ما عن المسالك، ج 7، ص 269: و أما ما في الإيضاح فقال في باب الرضاع في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان، أرضعتا زوجته الصغيرة ما هذا لفظه: «تحرم المرضعة الأولى و الصغيرة مع الدخول بالكبيرتين».

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن من موجبات الحرمة الأبدية عنوان أمّ الزوجة من دون فرق بين كون الأم سببية أو رضاعية بدليل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ إلى قوله تعالى: وَ أُمَّهٰاتُكُمُ اَللاّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ النساء: 23، و قول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم»: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»(1).

ص: 165

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن من موجبات الحرمة الأبدية عنوان أمّ الزوجة من دون فرق بين كون الأم سببية أو رضاعية بدليل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ إلى قوله تعالى: وَ أُمَّهٰاتُكُمُ اَللاّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ النساء: 23، و قول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم»: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»(1).

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول في تقريب شهادة ما عن الايضاح - على دخول مثل الزوج و الزوجة في محل النزاع -: إنه قد ابتنى بعض الأصحاب حرمة المرضعة الثانية على نزاع المشتق فعلى القول بالأعم: تحرم. و على القول بخصوص حال التلبس: لا تحرم و هذا ما أشار إليه بقوله: «و أما المرضعة الأخرى» أي: الثانية «ففي تحريمها خلاف» «فاختار والدي المصنف» - أي: العلامة، لأن الإيضاح شرح على قواعد العلامة و كذا اختار محمد إدريس الحلي في السرائر - «تحريمها» على الزوج، لأن هذه الأخرى يصدق عليها أم زوجته أيضا، لأنها أرضعت الصغيرة أيضا.

و بعبارة واضحة: أن زوجته الصغيرة قد بطلت زوجيتها بالارتضاع من المرضعة الأولى، فصارت ابنة الزوجة المدخول بها، كما أن المرضعة الأولى صارت أمّ الزوجة، فلا إشكال في تحريمهما على الزوج؛ إذ كل من ابنة الزوجة و أمّها حرام قطعا. و هذا معنى قوله: «تحرم المرضعة الأولى و الصغيرة مع الدخول بالكبيرتين».

و إنما الكلام في المرضعة الثانية حيث إن حرمتها على الزوج مبنيّة على وضع المشتق للأعم، لأن سبب حرمتها عليه هو صدق أم الزوجة عليها؛ فعلى القول بوضعه للأعم يصدق عليها أمّ الزوجة فتحرم. و أما على القول بوضعه لخصوص حال التلبس فلا تحرم.

إذ لا يصدق عليها أمّ الزوجة، بل يصدق عليها أمّ من كانت زوجة و قد انقضت زوجيته بالارتضاع من المرضعة الأولى هذا تمام الكلام في الشاهد الأول.

ص: 166


1- الكافي، ج 5، ص 437، ح 2، ص 442، ح 9 - ص 446، ح 16 /التهذيب، ج 7، ح 59، ص 292، ح 60 إلخ. و بألفاظ أخرى مثل: «ما يحرم من القرابة». الكافي، ج 5، ص 437، ح 1 /التهذيب، ح 7، ص 291، ح 58 - ص 292، ح 63. الخ، و بألفاظ أخرى: المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم، ج 4، ص 119، ح 3384 /المجتبى من سنن النسائي، ج 6، ص 99، ح 3301 /سنن ابن ماجة، ج 1، ص 623، ح 1937. و كذلك ورد بلفظ: «يحرم من الرضاع ما يحرم بالولادة». المسند المستخرج، ج 4، ص 117، ح 3375 /سنن الدارمي، ج 2، ص 207، ح 2248، و هو عام يدخل غير طاهر المولد، بخلاف الآخر؛ و هو: ما يثبت به النسب.

«تحرم المرضعة الأولى و الصغيرة مع الدخول بالكبيرتين (1) و أمّا المرضعة الأخرى:

ففي تحريمها خلاف، فاختار والدي المصنف «رحمه الله» و ابن إدريس تحريمها، لأن هذه يصدق عليها أمّ زوجته، لأنه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه هكذا هاهنا»، و ما عن المسالك في هذه المسألة، من ابتناء الحكم فيها (2) على الخلاف في مسألة المشتق.

=============

و أما الشاهد الثاني: فقد أشار إليه بقوله: «و ما عن المسالك في هذه المسألة من ابتناء الحكم فيها على الخلاف في مسألة المشتق».

و ملخص ما عن الشهيد الثاني في المسالك، ج 7، ص 269، - من ابتناء الحكم في المرضعة الثانية على الخلاف في المشتق -: أنه إن قلنا ببقاء الزوجية لأجل بقاء المشتق، و صدقه بأنها زوجة و لو بعد خروجها عن الزوجية تحرم الثانية. و إن لم نقل ببقاء الزوجية يعني المشتق منه لا تحرم المرضعة الثانية؛ إذ لا يصدق عليها أمّ الزوجة على هذا القول.

(1) عبارة الإيضاح، ج 3، ص 52، و المحكي في البدائع، و المشتق من فوائد المصنف، ص 64، هكذا: «مع الدخول بإحدى الكبيرتين بالإجماع».

ابتناء الحكم في المرضعة الثانية على خلاف المشتق

(2) أي: من ابتناء الحكم بالتحريم في المرضعة الثانية «على الخلاف في مسألة المشتق»، فقال ما لفظه: «بقي الكلام في تحريم الثانية من الكبيرتين، فقد قيل: إنها لا تحرم، و إليه مال المصنف، حيث جعل التحريم أولى، و هو مذهب الشيخ و ابن الجنيد، لخروج الصغيرة عن الزوجية إلى البنتية، و أمّ البنت غير محرمة على أبيها، خصوصا على القول باشتراط بقاء المعنى المشتق منه في صدق الاشتقاق، كما هو رأي جمع من الأصوليين». ثم ذكر تحريمها إلى أن قال: «لأن هذه يصدق عليها أمّ زوجة و إن كان عقدها قد انفسخ، لأن الأصح أنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى المشتق منه».

انتهى. على ما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 1، ص 217».

و الحاصل: أن إرضاع الكبيرة الأولى للصغيرة محرّم لهما، لأن الكبيرة تصير أم الزوجة، و الصغيرة تصير ابنة الزوجة و هما من موجبات الحرمة الأبدية بعد الدخول بالكبيرة. هذا مما لا إشكال فيه، و إنما الكلام فيما إذا أرضعت الكبيرة الثانية للصغيرة فإن قلنا: بصدق المشتق - أي: الزوجة على الصغيرة بعد خروجها عن الزوجية تحرم الكبيرة الثانية؛ لأنها برضاعها للصغيرة تكون أم الزوجة، و إن لم نقل بالصدق لم تحرم لأنها لم ترضع الزوجة؛ و إنما أرضعت أجنبية فلا تكون أمّ زوجته حتى تحرم.

فالمتحصل من الجميع: أنه تحرم على الزوج الكبيرة الأولى، و الصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين، أما الصغيرة: فلأجل أنها صارت بارتضاعها من إحدى الكبيرتين ابنة له إن كان اللبن

ص: 167

فعليه (1): كلما كان مفهومه منتزعا من الذات، بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتيات - كانت عرضا أو عرضيا - كالزوجية و الرقية و الحرية و غيرها من الاعتبارات و الإضافات، كان (2) محل النزاع و إن كان جامدا.

و هذا بخلاف ما كان مفهومه منتزعا عن مقام الذات (3) و الذاتيات (4) فإنه لا نزاع في كونه (5) حقيقة في خصوص ما إذا كانت باقية بذاتياتها.

=============

له، و ربيبته إن كان اللبن من غيره، و كلا العنوانين قد ثبتت حرمتهما في الكتاب و السنة.

و أما الكبيرة الأولى: فلأجل أنها صارت بإرضاعها الصغيرة أم زوجة له و هي محرمة أيضا في الكتاب و السنة.

و أمّا تحريم الكبيرة الثانية: فهو متفرع على كون المشتق المبحوث عنه للأعم من المتلبس بالمبدإ في الحال، و ممن انقضى عنه المبدأ، و لذا قال الشهيد في المسالك: بابتناء الحكم في المرضعة الثانية على الخلاف في مسألة المشتق، و قال: بحرمتها على القول بوضع المشتق للأعم مع كون لفظة الزوجة من الجوامد، فلا يختص النزاع بالمشتق المتعارف عند النحاة.

و في المسألة صور و أقسام، و نقض و إبرام تركناها رعاية للاختصار.

(1) أي: فعلى ما ذكرناه من شمول النزاع لبعض الجوامد: «كلما كان مفهومه منتزعا من الذات» جامدا كان أو مشتقا «بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتيات» أي: لم تكن تلك الصفات من الذاتي في «باب الإيساغوجي» كالجنس و الفصل و النوع، و لا من الذاتي في «باب البرهان» كالمحمول الذي ينتزع عن نفس الذات بلا ضم ضميمة مثل إمكان الممكن، فكلاهما خارجان عن هذا البحث لانتفاء الموضوع بانتفائه في «ذاتي باب الإيساغوجي»، و امتناع ارتفاع الذاتي البرهاني الذي هو من لوازم الذات مع بقاء الملزوم أعني: الذات كما هو المقصود في باب المشتق.

(2) أي: كلما كان مفهومه منتزعا عن الذات كان محل النزاع و إن كان جامدا باصطلاح النحاة؛ إذ الملاك في المشتق في محل الكلام أن يكون جاريا على الذات، و أن يكون خارجا عنها، و هذا الملاك موجود في بعض الجوامد باصطلاح النحاة. فقوله:

«كان محل النزاع...» إلخ خبر قوله: «كلما كان مفهومه...» إلخ.

(3) أي: نظير إنسانية الإنسان حيث تنتزع عن ذات الإنسان.

(4) أي: نظير الناطقية و الحيوانية حيث إن الأولى تنتزع عن الفصل، و الثانية من الجنس، و هما من الذاتيات.

(5) أي: لا نزاع في كون المنتزع عن مقام الذات و الذاتيات خارجا عن محل النزاع،

ص: 168

لأنه حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ؛ إذ المبدأ هو الذات، فلا بد من أن تكون باقية بذاتياتها.

و توضيح خروج ذلك عن النزاع يتوقف على مقدمة: و هي: أن دخول شيء في محل النزاع يبتني على ركنين:

«الركن الأول»: أن يكون الشيء جاريا على الذات المتلبسة بالمبدإ؛ و متحدا معها خارجا بنحو من الاتحاد، و بذلك الركن خرجت المصادر المزيدة لأنها لا تجري على الذات المتصفة بها، فلا يقال: «زيد إكرام» إذا كان متصفا بهذا المبدأ.

«الركن الثاني»: أن تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ؛ بأن تكون لها حالتان حالة تلبسها بالمبدإ، و حالة انقضاء المبدأ عنها، و بذلك الركن خرج القسم الأول من الجوامد كالإنسان و الحيوان و الشجر و نحوها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن ما كان مفهومه منتزعا عن مقام الذات و الذاتيات قد خرج بالركن الثاني، و الوجه فيه: أن المبادئ في أمثال ذلك مقومة لنفس الحقيقة و الذات، و بانتفائها تنتفي الذات، فلا تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ، فلا يقال: هذا إنسان أو ناطق أو حيوان بعد انتفاء الإنسانية و الناطقية و الحيوانية.

و أما القسم الثاني من الجوامد و هو ما كان منتزعا عن أمر خارج عن مقام الذات: فهو داخل في محل النزاع كعنوان «الزوج و الرق و الحر»؛ لأن الذات فيه باقية بعد انقضاء المبدأ عنها، و حينئذ يشمله النزاع في أن الإطلاق عليها حال الانقضاء حقيقة أو مجاز.

خلاصة البحث حسب ما يلي:

1 - أن محل النزاع إنما هو في إطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ.

2 - المراد بالمشتق ما يكون جاريا على الذات سواء كان مشتقا باصطلاح النحاة أو جامدا.

3 - أنه لا وجه لتخصيص صاحب الفصول محل النزاع باسم الفاعل و ما بمعناه؛ سوى تمثيلهم باسم الفاعل، و احتجاج بعضهم بإطلاق اسم الفاعل على الأعم؛ دون إطلاق بقية الأسماء.

إلاّ إن الأول لا يدل على الاختصاص، لأن التمثيل باسم الفاعل إنما هو من باب ذكر بعض مصاديق المشتق. و كذلك ذكر اسم الفاعل في مقام الاحتجاج لا يدل على الاختصاص.

ص: 169

ثانيها (1): قد عرفت أنه لا وجه لتخصيص النزاع ببعض المشتقات الجارية على 4 - لو قيل باختصاص النزاع بالمشتق باصطلاح النحاة - كما هو مقتضى الجمود على ظاهر لفظ المشتق - فهذا القسم من الجوامد أعني: الزوج و الزوجة مثلا داخل في محل النزاع؛ كما يشهد به ما عن الإيضاح، ج 3، ص 52، و ما عن المسالك، ج 1، ص 269.

=============

قال في الإيضاح: في باب الرضاع في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة ما هذا لفظه: (تحرم المرضعة الأولى و الصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين بالإجماع، و أما المرضعة الأخرى ففي تحريمها خلاف) بمعنى: أن حرمة المرضعة الثانية مبنية على الخلاف في مسألة المشتق؛ فإن قلنا بوضعه للأعم فتحرم، و إن قلنا بوضعه لحال التلبس بالمبدإ فلا تحرم؛ إذ لا يصدق عليها حينئذ أمّ الزوجة لانقضاء زوجية الصغيرة بارتضاعها من المرضعة الأولى، قصارت أجنبية حين ارتضاعها عن المرضعة الثانية.

هذا ملخص ما عن الإيضاح و قس عليه ما عن الشهيد في المسالك فلا حاجة إلى ذكره.

(1) الأمر الثاني من الأمور الستة لا بد لنا من تقديمه و إيضاحه، و قد عرفت في الأمر الأول في تحرير محل النزاع: أن المشتق باصطلاح الأصوليين يعم و يشمل جميع ما يجري على الذات، و لا وجه لتخصيص النزاع ببعض المشتقات كما توهمه صاحب الفصول؛ «إلاّ إنه ربما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزمان».

توضيح الإشكال على دخول اسم الزمان في نزاع المشتق يتوقف على مقدمة و هي:

أنه قد عرفت: أن الملاك في كون المشتق داخلا في محل النزاع أن تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ بأن تكون لها حالتان: حالة التلبس بالمبدإ، و حالة الانقضاء؛ كقولنا:

«زيد عالم». حيث إن الذات فيه باقية بعد ارتفاع مبدأ العلم عنه فيقال: إن إطلاق العالم على زيد بعد الانقضاء هل هو على نحو الحقيقة أو المجاز.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا يمكن جريان النزاع في اسم الزمان، لأن الذات فيه - و هو الزمان - لا يبقى بعد انقضاء المبدأ، فلا يتصور وجود ذات انقضى عنها التلبس بالمبدإ، كي يقال: إن اسم الزمان حقيقة فيها أو مجاز.

و ذلك للفرق الواضح بين القاتل و المقتل بمعنى زمان القتل حيث إن الذات في الأول هو الشخص؛ و هو باق بعد انقضاء المبدأ أعني: القتل بخلاف الثاني؛ فإن الذات فيه هو نفس زمان وقوع القتل و هو ينقضي بانقضاء القتل و يتصرم، فلا يعقل بقاؤه حتى يقال:

إن اطلاق المقتل عليه هل هو على نحو الحقيقة أو على نحو المجاز؟

ص: 170

الذوات؛ إلاّ إنه ربما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزمان، لأن الذات فيه - و هي الزمان - بنفسه ينقضي و ينصرم، فكيف يمكن أن يقع النزاع في أنّ الوصف (1) الجاري عليه حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال، أو فيما يعم المتلبس به في المضي ؟

و يمكن حل الإشكال (2): بأن انحصار مفهوم عام بفرد - كما في المقام - لا يوجب و أما إطلاق اسم الزمان في بعض الموارد، كإطلاق مقتل الحسين «عليه السلام» على يوم العاشر من المحرم؛ فهو من باب التجوز و العناية بلا إشكال.

=============

الإشكال على كون اسم الزمان من المشتق

(1) المراد بالوصف هو المبدأ «الجاري عليه» أي: على اسم الزمان كالمقتل الذي يحمل على يوم عاشوراء مثلا مع انقضاء الزمان المتلبس بالقتل.

فالمتحصل: أنه إذا كان الذات مما لا بقاء له، و كان ينتفي و ينقضي مع انقضاء المبدأ؛ فلا مجال للنزاع في أن الموضوع له هو حال الاتصاف أو الأعم، مثلا: أسماء الزمان - مثل مقتل - موضوع للزمان الذي يقع فيه القتل، و هذا الزمان لا بقاء له بعد انقضاء المبدأ حتى يطلق اللفظ عليه ففي أسماء الزمان لا يعقل أن يقال بوضعها للأعم لعدم إمكان بقائه، لأن زوال الوصف في اسم الزمان ملازم لزوال الذات؛ لأن الزمان متصرم الوجود، فكل جزء منه ينعدم بوجود الجزء اللاحق، فلا تبقى ذات مستمرة، فإذا كان يوم الجمعة مقتل زيد - مثلا - فيوم السبت الذي بعده ذات أخرى من الزمان لم يكن لها وصف القتل، و يوم الجمعة تصرم و زال كما زال نفس الوصف. و هناك أقوال في حقيقة الزمان تركنا ذكرها رعاية للاختصار.

(2)

قد أجاب المصنف عن الإشكال المذكور بوجهين:

الأول: بالحل و الثاني: بالنقض. و قد أشار إلى الأول بقوله: «و يمكن حل الإشكال».

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن النزاع في المشتق يتصور على قسمين:

أحدهما: أن يكون في مفهومه.

و ثانيهما: أن يكون في مصداقه الحق هو الأول؛ لأن النزاع إنما هو في مفهوم المشتق لا في مصداقه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الإشكال المذكور مبني على كون النزاع في المصداق؛ لأنه حينئذ لا يتصور النزاع في وضع اسم الزمان للأعم، إذ ليس له إلاّ فرد واحد و هو المتلبس بالمبدإ، و لا يعقل أن تكون له أفراد ثلاثة - فرد تلبس، و فرد انقضائي، و فرد استقبالي - حتى يقال: إنه حقيقة في الفرد التلبسي، أو في الأعم منه

ص: 171

أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام، و إلاّ لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة، مع إن الواجب موضوع للمفهوم العام، مع انحصاره فيه «تبارك و تعالى».

=============

و من الفرد الانقضائي، فانحصار مصداق الزمان في الفرد التلبسي يقتضي خروجه عن نزاع المشتق.

هذا بخلاف ما إذا كان مورد البحث في المشتق هو المفهوم؛ فلا مانع حينئذ من جريان النزاع في اسم الزمان كسائر المشتقات. فيقال: إن الموضوع له فيه هل هو مفهوم عام يشمل للمتلبس و المنقضي أم لا؟ و انحصاره في فرد لا يمنع عن جريان النزاع فيه، لأن البحث إذا كان في المفهوم لا ينظر فيه إلى المصاديق، فلا يكون عدم تحقق المصداق أو انحصاره في فرد موجبا لنفي صحة النزاع في المفهوم من جهة سعته و ضيقه.

و بتعبير آخر: أن انحصار مفهوم اسم الزمان في فرد لا يوجب وضعه له، كي لا يعقل النزاع فيه، بل يمكن ملاحظة المفهوم العام و وضع اللفظ بإزائه. غاية الأمر: مصداق ذلك المفهوم و إن كان في الخارج منحصرا في فرد واحد - و هو الزمان المتلبس بالمبدإ - و يمتنع تحقق فرده الآخر - و هو الزمان المنقضي عنه المبدأ - إلاّ إنه من الممكن أن يقال: إن لفظ «مقتل» هل هو موضوع للزمان المتصف بالقتل حالا أو للأعم منه و ما انقضى عنه المبدأ، و إن لم يتحقق في الخارج إلاّ المتصف به فعلا. هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

و أما الوجه الثاني: أعني الجواب بالنقض فقد أشار إليه بقوله: «مع إن الواجب موضوع للمفهوم العام...» إلخ المراد بالنقض: وجود نظير اسم الزمان في انحصار المفهوم الكلي في فرد واحد.

توضيح ذلك: أن انحصار مفهوم كلي في فردين أحدهما ممكن و الآخر ممتنع؛ لا يوجب عدم إمكان وضع اللفظ للكلي ليضطر إلى وضعه للفرد الممكن فقط، فإنه يمكن ملاحظة المعنى الجامع بين الفردين و وضع اللفظ له كما في وضع لفظ الجلالة - الله - على قول، إذ قد وقع النزاع في وضع لفظ «الله» هل أنه للجامع، أو علم لذاته المقدسة، فلو لم يمكن الوضع للكلي بين الممكن و الممتنع لم يصح النزاع فيه، بل كان المتعين أنه علم لا اسم جنس؛ كما أشار إليه بقوله: «و إلاّ لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة».

و أما نظير اسم الزمان في الانحصار في الفرد فهي كلمة الواجب فإنها موضوعة للمعنى الجامع مع استحالة سائر أفراده غير ذاته تعالى. فكما ان انحصار الواجب في فرد واحد غير مانع عن وضع لفظ الواجب للجامع؛ فكذلك اسم الزمان انحصار مفهومه

ص: 172

في فرد واحد في الخارج غير مانع عن وضعه للجامع، فلا مانع من وضع اللفظ للمفهوم الكلي الذي ينحصر في الخارج في فرد واحد؛ سواء كان غير ذلك الفرد ممتنعا كمفهوم الواجب الوجود، أو ممكنا كمفهوم الشمس مثلا.

و هناك جواب آخر لم يذكره المصنف ذكره الشيخ محمد رضا المظفر في «أصول الفقه، ج 1، ص 49، طبع بيروت». و حاصله: أن ما ذكر من الإشكال على اسم الزمان صحيح لو كان لاسم الزمان لفظ مستقل مخصوص؛ بأن تكون صيغة «مفعل» كمقتل و مضرب و مرمى و نحوها موضوعة بوضعين: أحدهما: للزمان، و الآخر للمكان، و لكن الحق: أن صيغة «مفعل» موضوعة بوضع واحد لمعنى جامع بين الزمان و المكان، و هو وعاء المبدأ و ظرفه سواء كان زمانا أو مكانا، فمقتل موضوع لوعاء القتل سواء كان زمانا أو مكانا؛ لا أنه موضوع بوضع مستقل لزمان القتل، و بوضع آخر لمكان القتل، فحينئذ يتجه النزاع إذ يكفي في صحة الوضع للجامع و تعميمه لما تلبس بالمبدإ، و ما انقضى عنه المبدأ:

أن يكون أحد فرديه يمكن أن يتصور فيه انقضاء المبدأ و بقاء الذات.

و المتحصل من جميع ما ذكر في الجواب الثالث: أنه يكفي في صحة الوضع للأعم إمكان الفرد المنقضي عنه المبدأ في أحد أقسامه، و إن امتنع الفرد الآخر.

خلاصة البحث

إن الغرض من عقد الأمر الثاني هو: دفع الإشكال الوارد على دخول اسم الزمان في نزاع المشتق.

تقريب الإشكال: أنه قد عرفت: اعتبار بقاء الذات بعد انقضاء المبدأ في دخول المشتق في محل النزاع.

و من المعلوم هو: عدم بقاء الذات بعد انقضاء المبدأ في اسم الزمان، لأن الذات هو نفس اسم الزمان و هو متصرم الوجود، فلا يكون باقيا بعد انقضاء المبدأ، فلا يعقل أن يكون اسم الزمان داخلا في محل النزاع.

الجواب: أولا: أن الإشكال المذكور مبني على أن يكون محل النزاع مصداق المشتق، و ليس الأمر كذلك بل محل النزاع هو المفهوم، و انحصاره في فرد واحد لا يمنع عن كون اللفظ موضوعا للعام الكلي، فحينئذ يصح أن يقال: إن اسم الزمان لخصوص حال التلبس أو للأعم منه و ما انقضى عنه المبدأ.

و ثانيا: أن صيغة «مفعل» وضعت للجامع بين الزمان و المكان أعني: ظرف المبدأ سواء

ص: 173

ثالثها (1): أنه من الواضح: خروج الأفعال و المصادر المزيد فيها عن حريم النزاع، لكونها غير جارية على الذوات، ضرورة (2): أن المصادر المزيد فيها كالمجردة (3)، في الدلالة على ما يتصف به الذوات و يقوم بها - كما لا يخفى - و أن الأفعال إنما تدل كان زمانا أو مكانا، فمعنى «المضرب» مثلا: الذات المتصفة بكونها ظرفا للضرب سواء كان زمانا أو مكانا، و يتعين أحدهما من الآخر بالقرينة.

=============

و حيث إن صيغة «مفعل» في محل البحث وضعت لوعاء المبدأ - الجامع بين الزمان و المكان - كان النزاع في وضعها لخصوص المتلبس أو للأعم نزاعا معقولا؛ إذ يكفي في صحة الوضع للأعم إمكان الفرد المنقضي عنه المبدأ في أحد أقسامه، و هو موجود في اسم الزمان على هذا الفرض.

خروج الأفعال و المصادر عن محل النزاع

(1) ثالث الأمور التي لا بد من تقديمها: بيان خروج المصادر و الأفعال عن محل النزاع، و هذا الكلام من المصنف توضيح لما ذكره إجمالا في ضابط المشتق المبحوث عنه في المقام.

و توضيح خروج الأفعال و المصادر عن حريم النزاع يتوقف على مقدمة و هي: أنك قد عرفت ما سبق في بيان ما هو المراد بالمشتق؛ من أن المشتق المبحوث عنه في المقام عبارة عن الوصف الجاري على الذات، و الذي يصح حمله عليها دون ما لا يصح.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الأفعال و المصادر خارجتان عن محل النزاع و ذلك لعدم جريانهما على الذوات؛ كما أشار إليه بقوله: «لكونها غير جارية على الذوات» هذا تعليل لخروجهما عن محل النزاع و حاصله: أن الضابط في المشتق المبحوث عنه في المقام - كما سبق في الأمر الأول - ما يجري على الذات مما يكون مفهومه منتزعا عن الذات بملاحظة اتصافها بالمبدإ، و اتحادها معه بنحو من الاتحاد.

و هذا الضابط لا ينطبق على الأفعال و المصادر لعدم جريانهما على الذوات.

(2) قوله: «ضرورة...» إلخ تعليل لعدم جريان الأفعال و المصادر على الذوات. أما المصادر: فلأنها وضعت للدلالة على المبادئ التي تغاير الذوات خارجا، فلا يقبل الحمل عليها؛ إذ لا يصح حمل المباين على المباين.

(3) أي: المصادر المزيد فيها كالمصادر المجردة «في الدلالة على ما يتصف به الذوات» أي: في الدلالة على المبادئ التي يتصف بها الذوات، و تقوم تلك المبادئ «بها» أي:

بالذوات، فالمراد ب ما الموصولة في قوله: ما يتصف به»: المبادئ. و الضمير في قوله: «به» يرجع إلى ما الموصولة. فمعنى العبارة: أن معنى المصادر سواء كانت مزيدة أو مجردة هي

ص: 174

على قيام المبادئ بها قيام صدور (1) أو حلول أو طلب (2) فعلها، أو تركها منها، على اختلافها (3).

إزاحة شبهة (4):

قد اشتهر في ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان، حتى أخذوا الاقتران بها (5) المبادئ و هي تباين الذوات، فلذا لا يصح حملها عليها، و لا يقال: زيد إكرام، أو زيد ضرب.

=============

و أما الأفعال فلأنها بمادتها تدل على المبادئ المغايرة للذوات، و بهيئتها وضعت للدلالة على نسبة المبادئ إلى الذوات و قيامها بها على أنحائها المختلفة باختلاف الأفعال، فالفعل الماضي يدل على تحقق نسبة المبدأ إلى الذات، و الفعل المضارع يدل على ترقب وقوع تلك النسبة، و فعل الأمر يدل على طلب تلك النسبة، و من المعلوم: أن معانيها هذه تأبى عن الحمل على الذوات، لأن هذه المعاني مباينة لها.

(1) مثل: ضرب و يضرب، أو حلول - مثل: مرض و حسن - و نحوهما. هذا في الإخبار أي: فيما إذا كان الفعل خبرا كفعل الماضي و المضارع.

(2) أي: أو يدل الفعل في الإنشاء على «طلب فعلها» أي: الإتيان بالمبادئ كما في الأمر مثل: اضرب و انصر حيث يطلب من الذات فعل الضرب أو النصر، أو يدل على طلب «تركها منها» أي: طلب ترك المبادئ من الذات كما في النهي مثل: لا تضرب و لا تشرب الخمر و نحوهما.

(3) أي: اختلاف المبادئ من حيث الفعلية أو الشأنية، و الحرفة، و الملكة، و غيرها.

هذا ظاهر كلامه.

و هناك احتمال أن يكون الضمير في «اختلافها» راجعا إلى الأفعال التركية و اختلافها من حيث كون النهي فيها تحريميا و إرشاديا و تنزيهيا.

أو المراد بالاختلاف: اختلاف أنحاء القيام من الصدور، و الحلول، و الانتزاع و نحوها.

قلنا: إن الظاهر هو الاحتمال الأول.

عدم دلالة الفعل على الزمان

(4) الشبهة هي: ما زعمه النحاة من دلالة الفعل على الزمان؛ حتى أخذوا الاقتران به في تعريفه حيث قالوا: الفعل ما دل على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة.

(5) أي: بالأزمنة الثلاثة، أو بدلالة الفعل على الزمان، و الاحتمال الثاني و إن كان

ص: 175

في تعريفه؛ و هو اشتباه ضرورة: عدم دلالة الأمر و لا النهي عليه، بل على إنشاء طلب الفعل أو الترك، غاية الأمر: نفس الإنشاء بهما (1) في الحال، كما هو الحال في الإخبار بالماضي أو المستقبل أو بغيرهما كما لا يخفى. بل يمكن منع دلالة غيرهما (2) صحيحا نظرا إلى ذكر الدلالة قبل الضمير؛ إلاّ إن الاحتمال الأول أولى؛ نظرا إلى ما هو ظاهر كلام النحاة في تعريف الفعل.

=============

و كيف كان؛ فلا يدل الفعل بجميع أقسامه على الزمان، و أما ما للإنشاء كالأمر و النهي فلا يدل على زمان الحال أصلا.

ببيان: أن الأمر لا يدل إلاّ على طلب الفعل، و النهي لا يدل إلاّ على طلب تركه من دون دلالة لهما على الزمان الحال أو المستقبل، لأن المادة تدل على الفعل، و الهيئة تدل على إنشاء الطلب، و ليس فيهما ما يوجب الدلالة على الزمان، نعم؛ الإنشاء يكون في الحال لكنه أجنبيّ عن الدلالة على الحال، إذ هو من باب أنه فعل صادر عن زماني فيقع قهرا في الزمان.

(1) أي: أن الأمر و النهي لا يدلان إلاّ على إنشاء الطلب، غاية الأمر: نفس الإنشاء بهما في الحال «كما هو الحال في الإخبار بالماضي» يعني كما أن إخبار المخبر بفعل الماضي أو المستقبل أو بغيرهما - كالجملة الاسمية - يقع في زمان النطق الذي هو الحال، لكونه كلاما؛ من غير فرق بين أن يكون الإخبار بالماضي كقولنا: ضرب زيد، أو المستقبل كقولنا: يضرب زيد، أو بالجملة الاسمية كقولنا: زيد ضارب، فيكون الإخبار بجميع ما ذكرناه بالحال، كما كان الإنشاء بفعل الأمر و النهي في الحال، و أن زمان الحال كما لا يكون مدلولا لفعل الأمر و النهي كذلك لا يكون مدلولا لفعل الماضي و المضارع.

(2) أي: غير الأمر و النهي «من الأفعال»؛ كالماضي، و المضارع «على زمان» أي: لا تدل صيغة الماضي على الزمان الماضي، و لا صيغة المضارع على الحال أو الاستقبال؛ «إلاّ بالاطلاق، و الإسناد إلى الزمانيات».

و حاصل الكلام في المقام: أن دلالة فعل الماضي و المضارع على الزمان بالدلالة التضمنية؛ بأن يكون الزمان جزءا لمدلولهما ممنوعة؛ لما عرفت: من عدم دلالة شيء من الأفعال على الزمان.

نعم؛ إذا أسندت إلى الزمانيات فتدل على الزمان لكن هذه الدلالة مستندة إلى الاطلاق و الإسناد لا إلى الوضع الذي يقول به النحاة.

و الحاصل: أن الدلالة على الزمان مشروطة بشرطين أحدهما: إطلاق الكلام.

ص: 176

من الأفعال على الزمان إلاّ بالإطلاق، و الإسناد إلى الزمانيات (1)، و إلاّ لزم (2) القول و ثانيهما: كون المسند إليه من الزمانيات لا نفس الزمان، أو من المجردات الغير الزمانية.

=============

فلا تكون بالوضع كما توهمه النحاة.

(1) المراد بالزمانيات: ما كان الزمان ظرفا لوجوده؛ بأن يكون وجوده في الزمان كغالب الموجودات، و يقابله المجردات عن الزمان كذات الواجب تعالى، و كذا نفس الزمان.

(2) أي: لو لم تكن دلالة الفعل على الزمان بالإطلاق مع الإسناد إلى الزماني؛ بأن كانت بالوضع لزم التجريد، و الالتزام بالمجازية عند الإسناد إلى غير الزمانيات أي: فيما أسند إلى نفس الزمان أو إلى من فوق الزمان كذات الباري تعالى و سائر المجردات.

فيكون قوله: «و إلاّ لزم القول بالمجاز...» إلخ من الأدلة على نفي دلالة الفعل على الزمان تضمنا بتقريب: أنه لو كانت دلالة الفعل على الزمان بالوضع لزم القول بالمجاز و التجريد فيما إذا أسند الفعل إلى نفس الزمان، أو المجردات الخالية من الزمان. و التالي بكلا قسميه باطل فالمقدم مثله.

و النتيجة هي: عدم دلالة الفعل على الزمان بالوضع و هو المطلوب، و الاستدلال بالقياس الاستثنائي إنما يتم بعد ثبوت أمرين: الملازمة و بطلان الثاني.

أما الملازمة: فهي ثابتة؛ و ذلك أن الفعل إذا أسند إلى نفس الزمان «مثل: مضى الزمان»، أو إلى من فوق الزمان مثل: «علم الله كل شيء»، و كان الإسناد بلا لحاظ التجريد، لزم أن يقع الزمان في زمان آخر في المثال الأول، و لزم أن يكون فعل المجرد عن الزمان في الزمان في المثال الثاني و كلاهما باطل، لأن الأول: مستلزم للدور أو التسلسل، و الثاني: مستلزم لأن يكون فعل الله الذي لا حد له محدودا بالزمان.

أما لزوم الدور: فلأن الزمان - الذي هو جزء مدلول الفعل - مظروف، و كل مظروف يتوقف على الظرف، و الظرف في المثال المذكور هو الزمان، و هو فاعل يتوقف على الفعل من حيث كونه فاعلا، و الفعل هو المظروف المتوقف على الظرف الذي هو الزمان فيلزم الدور؛ و هو توقف الزمان على الزمان.

و أما لزوم التسلسل: فتقريبه: أن الزمان المظروف - الذي هو مدلول الفعل - يتوقف على الزمان الذي هو فاعل في المثال المذكور؛ لتوقف الفعل على الفاعل، فإذا كان الزمان الظرفي في زمان آخر - بأن كان للزمان زمان، و لذلك الزمان زمان آخر إلى ما لا نهاية له - يلزم التسلسل، فلا بد حينئذ من التجريد و المجاز بإلغاء الزمان تجنبا عن الدور و التسلسل. هذا غاية ما يمكن أن يقال في بطلان وقوع الزمان في الزمان.

ص: 177

بالمجاز و التجريد عند الإسناد إلى غيرها من نفس الزمان و المجردات.

نعم؛ لا يبعد (1) أن يكون لكل من الماضي و المضارع - بحسب المعنى - خصوصية أخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة في الزمان الماضي في الماضي، و في الحال أو و أما بطلان إسناد الفعل من دون التجريد إلى المجردات الخالية من الزمان؛ فلأن أفعالها لا تقع في الزمان لأنها غير محدودة، و ما كان في الزمان محدود بحد لا محالة فلا بد من التجريد و المجاز بإلغاء الزمان. هذا تمام الكلام في الملازمة.

=============

و أما بطلان التالي: فلعدم الفرق بين إسناد الفعل إلى الزماني مثل: «ضرب زيد» و إسناده إلى نفس الزمان، مثل: «مضى الزمان»، و إسناده إلى المجرد عن الزمان مثل:

«خلق الله الإنسان»؛ فإن الفعل في جميع هذه الأمثلة استعمل في معنى واحد على نسق واحد؛ بلا لحاظ تجريد أو تجوز بالغاء الزمان، بل لحاظ التجريد و التجوز على خلاف حالهم في الاستعمالات. و بهذا البيان يستكشف كشفا قطعيا: أن الزمان غير مأخوذ في الفعل جزءا.

نعم؛ الفعل المسند إلى الزماني لا بد أن يقع في الزمان، فالفعل حينئذ و إن كان يدل على وقوع الحدث في أحد الأزمنة الثلاثة؛ إلاّ إنه ليس من جهة الوضع، بل من جهة أن الأمر الزماني لا بد أن يقع في أحد الأزمنة الثلاثة، فيدل الفعل على الزمان بالالتزام و هو ليس من محل الكلام.

فالمتحصل مما ذكرنا: أن الأفعال لا تدل على الزمان تضمنا، و أن استعمالها في جميع الموارد على نحو الحقيقة، من دون فرق بين استعمالها في الزمان و ما فوقه من المجردات و بين استعمالها في الزماني.

امتياز الماضي عن المضارع

(1) هذا الكلام من المصنف بيان لامتياز الفعل الماضي عن المضارع بخصوصية ثابتة في كل واحد منهما، و لأجل تلك الخصوصية لا يصح استعمال أحدهما في موضع الآخر و يكون الاستعمال غلطا واضحا. على ما في تقريرات أستاذنا الإمام الخوئي «قدس سره».

و خلاصة الكلام: أن لكل من معنى الفعل الماضي و المضارع خصوصية تستلزم الزمان، و يمتاز بها كل واحد منهما عن الآخر، و هي في الماضي تحقق النسبة في الزمان الماضي، و خروج الحدث من القوة إلى الفعل، و من العدم إلى الوجود، و فراغ الفاعل عن الفعل.

ص: 178

الاستقبال في المضارع، فيما كان الفاعل من الزمانيات، و يؤيده (1): أن المضارع و من البديهي: أن هذه الخصوصية تلازم وقوع الحدث في الزمان الماضي، و هذه الخصوصية موجودة في الفعل الماضي في جميع موارد استعمالاته؛ من دون دلالة له على وقوع المبدأ في الزمان الماضي كي يقال: بدلالة الماضي على الزمان، بل وقوع المبدأ في الزمان الماضي من لوازم الخصوصية الموجودة في الفعل الماضي.

=============

و أما الخصوصية في الفعل المضارع: فهي خصوصية الترقب الجامعة بين الحال و الاستقبال، و هذه الخصوصية تلازم زمان الحال أو الاستقبال، فلا دلالة للفعل المضارع على الزمان تضمنا. نعم؛ كل من الفعل الماضي و المضارع يدل عليه التزاما لمكان الخصوصية في كل منهما.

و عليه: فدعوى: دلالة فعل الماضي أو المضارع بنفسهما على الزمان الماضي، أو الحال، و الاستقبال بالتضمن - كما يستفاد ذلك من قول النحاة على نحو كان الزمان جزءا للموضوع له - مما لا وجه له أصلا.

(1) أي: يؤيد عدم دلالة الفعل على الزمان تضمنا: «أن المضارع يكون مشتركا معنويا بين الحال و الاستقبال».

أما وجه التأييد: فيتضح بعد ذكر أمور منها: أن مرادهم من الزمان المقترن به الفعل هو: مصداق الزمان لا مفهومه؛ لأن وقوع الحدث المحقق في الماضي و وقوع الحدث المترقّب، أو الحدث الحاضر في المضارع كان في مصداق الزمان.

و منها: أن مرادهم من الاقتران هو: دلالة الفعل على الزمان بالتضمن لا بالالتزام.

و منها: أن مرادهم من الزمان المأخوذ في مدلول الفعل هو: المصداق.

و منها: أنه لا جامع بين الحال و الاستقبال إلاّ مفهوم الزمان.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة فاعلم: بالتنافي بين كلامهم بالاشتراك المعنوي في المضارع و بين قولهم: بأن المأخوذ في معنى الفعل هو المصداق بمعنى: أن ما يكون جامعا بين الحال و الاستقبال - أعني: مفهوم الزمان - لم يؤخذ في مدلول الفعل، و ما أخذ في مدلوله لا يكون جامعا بينهما، فإن قلنا حينئذ بالوضع لكل من المصداقين: يلزم الاشتراك اللفظي، و إن قلنا بالوضع لأحدهما: يلزم التجوز في الآخر، و كلاهما مناف لما صرحوا به من الاشتراك المعنوي، فلا يمكن الجمع بينهما إلاّ بأن يكون مرادهم من اقتران الفعل بالزمان اقترانه بخصوصية تستلزم الزمان، و هي خصوصية الترقب الجامعة بين الحال و الاستقبال. و لازم ذلك: عدم دلالة الفعل على الزمان بالتضمن و إن كان يدل عليه بالالتزام؛ فلذا يكون مؤيدا للمقام.

ص: 179

يكون مشتركا معنويا بين الحال و الاستقبال، و لا معنى له إلاّ أن يكون له خصوص معنى صح انطباقه على كل منهما، لا (1) أنه يدل على مفهوم زمان يعمهما (2)، كما أن الجملة الاسمية (3) ك «زيد ضارب» يكون لها معنى صح انطباقه على كل واحد من الأزمنة، مع عدم دلالتها على واحد منها أصلا، فكانت الجملة الفعلية مثلها (4).

و ربما يؤيد ذلك (5): أن الزمان الماضي في فعله، و زمان الحال أو الاستقبال في و أما وجه جعله مؤيدا لا دليلا: فلأن الاشتراك المعنوي غير متسالم عليه، بل قال بعض منهم بالاشتراك اللفظي فيه، و على هذا يدل المضارع على زمان الحال و الاستقبال.

=============

و لكن لما كان القول بالاشتراك المعنوي أمرا مشهورا بين النحاة فهو مما يصلح للتأييد، و لذا جعله مؤيدا لمدّعاه لا دليلا عليه.

(1) أي: لا يكون مرادهم: أن فعل المضارع يدل على مفهوم زمان يعمهما أي:

الحال و الاستقبال.

(2) أي: يعم الحال و الاستقبال لما عرفت من أن المأخوذ في مدلول المضارع عند النحاة هو مصداق الزمان لا مفهومه الجامع بينهما، فيكون المقارن للحدث هو مصداق الزمان لا مفهومه، فليس مرادهم أن المضارع يدل على مفهوم زمان يعم الحال و الاستقبال.

(3) أي: كما أن الجملة الاسمية مثل: «زيد ضارب» «لها معنى صح انطباقه على كل واحد من الأزمنة؛ مع عدم دلالتها على واحد منها أصلا».

و ملخص الكلام في المقام: كما أن الجملة الاسمية لا تدل وضعا على الزمان باتفاق النحاة؛ بحيث يكون الزمان جزء مدلولها، بل تدل عليه بالالتزام لأجل دلالتها على معنى صح انطباقه على كل واحد من الأزمنة، و ذلك المعنى هو ثبوت المبدأ للذات على الدوام و الاستمرار، و يكون الثبوت كذلك مستلزما للزمان، فالجملة الاسمية تدل عليه بالالتزام، و لا تدل على واحد من الأزمنة الثلاثة بالتضمن المسبب عن الوضع.

هذا معنى قوله: «و مع عدم دلالتها على واحد منها» أي: الأزمنة الثلاثة «أصلا» أي:

عدم دلالتها وضعا و إن كانت تدل عليه التزاما.

(4) أي: مثل الجملة الاسمية في عدم دلالتها وضعا على الزمان و إن كانت تدل عليه بالالتزام.

(5) أي: يؤيد ما ذكرنا من عدم دلالة الفعل بالوضع على الزمان تضمنا، بل يدل عليه التزاما؛ أن الماضي قد يكون مستقبلا و المضارع ماضيا، و إنما يكون الأوّل ماضيا و الثاني مستقبلا بالإضافة كما سيأتي في المثالين.

ص: 180

المضارع، لا يكون ماضيا أو مستقبلا حقيقة لا محالة، بل ربما يكون في الماضي مستقبلا حقيقة و في المضارع ماضيا كذلك، و إنما يكون ماضيا أو مستقبلا في فعلهما بالإضافة، كما يظهر من مثل قوله: يجئني زيد بعد عام، و قد ضرب قبله بأيّام، و قوله:

جاء زيد في شهر كذا، و هو يضرب في ذلك الوقت أو فيما بعده مما مضى، فتأمل جيدا.

=============

و أما وجه التأييد: فيوضح بعد ذكره مقدمة و هي: أن كلا من الماضي و المستقبل و الحال على قسمين: الحقيقية و الإضافية، و المراد من الأولى: هو الماضي و الحال و المستقبل بالنسبة إلى زمان النطق، و الإضافية هي الماضي و المستقبل و الحال بالنسبة إلى أمر آخر، مثلا: يجيئني زيد بعد عام و قد ضرب قبله بأيام، و مثل: جاء زيد في شهر كذا و هو يضرب في ذلك الوقت أو فيما بعده مما مضى؛ حيث إن المثال الأول مثال لاستعمال الماضي - و هو «ضرب» - في الزمان المستقبل حقيقة، و المثال الثاني: مثال لاستعمال المضارع و هو - يضرب - في الزمان الماضي حقيقة، لأن المفروض: مضي الشهر الذي هو أو ما بعده ظرف الضرب المستفاد من «يضرب»، فإن «يضرب» في الجملتين في المثال الثاني ليس زمانه مستقبلا أو حالا بالنسبة إلى زمان النطق، بل مستقبل بالنسبة إلى الشهر، و استعمل في زمان الماضي حقيقة؛ لأن جملة هو يضرب جملة حالية لاقترانها بالواو الحالية تكون حالا عن فاعل جاء، فتكون قيدا للعامل و هو الفعل الماضي.

و كذلك «و قد ضرب» في المثال الأول جملة حالية لاقترانها بالواو الحالية تكون حالا عن فاعل يجئني و هو «زيد»، و الحال يكون قيدا للعامل و هو الفعل المضارع؛ فيكون الضرب كالمجيء في المستقبل حقيقة، فقد استعمل الماضي في المستقبل حقيقة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن مرادهم من الماضي و الحال و المستقبل المأخوذ في معنى الفعل هي الحقيقية منها لا الإضافية، فحينئذ يلزم التجوّز في المثالين لعدم استعمال الماضي في الماضي الحقيقي، و لا المضارع في المستقبل؛ فلا بد من لحاظ العلاقة المصححة للمجازية مع إن أهل المحاورة لا يلاحظون في مثلهما علاقة المجاز؛ هذا بخلاف ما ذكرنا من عدم دلالة الفعل على الزمان، و لا يكون الزمان مأخوذا في مدلوله، فلا يلزم المجاز حتى تلاحظ علاقة المجاز، فلذا لا يلاحظون علاقة المجاز.

ثم إن ذكره تأييدا لا دليلا؛ لاحتمال كون مرادهم من الماضي و الحال و المستقبل:

مطلقها لا الحقيقية منها، و لكنه خلاف الظاهر، فمجرد الاحتمال - مع كونه على خلاف الظاهر - لا يخرجه عن الدليلية، و لعله لهذا أمر بالتأمل بقوله: «فتأمل جيدا».

ص: 181

خلاصة البحث

يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من عقد الأمر الثالث: بيان خروج الأفعال و المصادر عن نزاع المشتق، لأنها غير جارية على الذوات، و المشتق المبحوث عنه ما يجري على الذات، و يصح حمله عليها.

2 - أن الفعل لا يدل على الزمان تضمنا بحيث يكون الزمان مأخوذا في مدلوله كما زعمه النحاة؛ حيث قالوا: بدلالة الفعل على الزمان حتى أخذوا الاقتران به في تعريفه.

فما زعمه النحاة من دلالة الفعل على الزمان - حيث قالوا: الفعل: ما دل على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة - اشتباه واضح.

3 - الدليل على عدم دلالة الفعل على الزمان بالتضمن: أنه لو دل عليه بالتضمن المسبب عن الوضع - بأن يكون الزمان جزءا لمدلوله - لزم القول بالمجاز و التجريد؛ عند إسناد الفعل إلى نفس الزمان مثل: «مضى الزمان»، أو إلى فوق الزمان أي: المجرد عنه مثل: «خلق الله الزمان»، و كلاهما باطل، لأن الأول: مستلزم للدور أو التسلسل.

و الثاني: مستلزم لأن تكون أفعال الله محدودة و هو باطل، لأن أفعال الله غير محدودة بحد أصلا، فلا بد من القول بالمجاز بإلغاء الزمان و التجريد و هو باطل؛ و ذلك لعدم الفرق في استعمال الفعل بين إسناده إلى الزماني أو غيره، و كان استعمال الفعل في جميع الموارد بمعنى واحد، و على نسق فارد، و هذا دليل على عدم دلالة الفعل على الزمان بالتضمن و إن كان يدل عليه بالالتزام.

و مما يؤيد ذلك هو: قول النحاة بكون المضارع مشتركا معنويا بين الحال و الاستقبال؛ إذ المأخوذ في معنى الفعل هو مصداق الزمان لا مفهومه، و المفهوم المشترك بينهما لم يؤخذ في مدلول الفعل، فلا يمكن الجمع بين الاشتراك المعنوي و بين أخذ مصداق الزمان في معنى الفعل؛ إلاّ إن يقال: بأن للمضارع خصوصية تستلزم الزمان و هي جامعة بين الحال و الاستقبال، فيدل الفعل على الزمان بالالتزام لا بالتضمن.

و مما يؤيد عدم دلالة الفعل على الزمان أيضا هو: استعمال الفعل الماضي في المستقبل حقيقة، و استعمال المضارع في الماضي كذلك من دون تجوّز و لحاظ علاقة المجاز؛ إذ لو كان الزمان مأخوذا في مدلول الفعل لكان الزمان الماضي مأخوذا في الفعل الماضي، و المستقبل في المضارع؛ فيكون استعمال الماضي في المستقبل، و استعمال المضارع في

ص: 182

ثم لا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عما عداه (1) بما يناسب المقام، لأجل الاطراد في الاستطراد في تمام الأقسام.

فاعلم: أنه و إن اشتهر بين الأعلام: أن الحرف ما دل على معنى في غيره (2)، و قد الماضي مجازا، مع إن الأمر ليس كذلك، و ليس ذلك إلاّ لأجل عدم دلالة الفعل على الزمان بالوضع، و عدم أخذ الزمان في معنى الفعل و هو المطلوب.

=============

امتياز الحرف عن الاسم و الفعل

(1) أي: الاسم و الفعل. قوله: «بما يناسب المقام»: فيه احتمال أن تكون العبارة في النسخة الأصلية: «مما» بدل «بما»، ليكون بيانا ل «ما» الموصولة في قوله: «ما به يمتاز الحرف عما عداه»، أو المراد: بما مقدار ما يناسب المقام.

و كيف كان؛ فتوضيح ذكر امتياز الحرف عما عداه من باب الاطراد في الاستطراد يتوقف على مقدمة و هي: أن معنى الاستطراد هو: سوق الكلام على وجه يلزم منه كلام آخر غير مقصود بالأصالة، بل كان مقصودا بالتبع، فذكر ما ليس مقصودا بالأصالة إنما هو من باب الاستطراد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المقصود بالأصالة في الأمر الثالث هو: بيان خروج الأفعال عن حريم نزاع المشتق، فكان بيان الفرق بين الفعل و الاسم - بأن للفعل خصوصية تستلزم الزمان فيدل عليه بالالتزام بخلاف الاسم - من باب الاستطراد؛ ثم ذكر الحرف و بيان الامتياز بينه و بين ما عداه من الاسم و الفعل اطراد في الاستطراد؛ يعني؛ تعميم لبيان الفرق بين جميع أقسام الكلمة؛ ليتضح الامتياز بين كل من الاسم و أخويه.

فإن قيل: لما ذا كرر المصنف بحث الحرف و قد مر في بحث الوضع، فليس تكراره إلاّ إتلافا للوقت و تضييعا للعمر؟

فإنه يقال: إن التكرار إتلاف للوقت لو لم تترتب عليه فائدة، و معها يكون مطلوبا عند البلغاء و العقلاء، و من فوائده في المقام: بيان عدم المنافاة بين كون المعنى في الحرف كليا، و بين كونه جزئيا ذهنيا.

و منها: أن بيان الفرق بين معنى الحرف و الاسم هنا أوضح مما مر سابقا.

(2) أي: كائنا في غيره؛ بأن يكون ذلك المعنى قائما بذلك الغير وجودا كقيام العرض بموضوعه.

و الفرق بينهما: أن العرض قابل للتصور بدون الموضوع، و معنى الحرف غير قابل

ص: 183

بيناه في الفوائد (1) بما لا مزيد عليه، إلاّ أنّك عرفت فيما تقدم: عدم الفرق بينه (2) و بين للتصور بدون ذلك الغير، لأنه من قبيل النسب القائمة بالمنتسبين على هذا القول المشهور بين الأعلام.

=============

(1) أي: الفوائد كتاب كتبه المصنف قبل الكفاية و نذكر ما فيه؛ لأنه لا يخلو عن فائدة و قال فيه ما هذا لفظه: «ثم لا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان معنى الحرف في المقام استطرادا كسائر الأقسام، و لنمهّد لذلك مقدمة و هي أن الوجود الخارجي كما أنه تارة: يكون موجودا في نفسه سواء كان بنفسه أولا، كالواجب تعالى و الجواهر، و أخرى: يكون موجودا في غيره كما في الأعراض كذلك المتصور و الموجود الذهني فتارة: يكون موجودا فيه في نفسه و متصورا على استقلاله، و مدركا بحياله، و أخرى:

يكون موجودا في غيره و متصورا بتبعيته، و مدركا على أنه من خصوصياته و أحواله.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أن القسم الأول من الذهني هو المعنى الاسمي المدلول عليه بالأسماء مطلقا، مطابقة أو تضمنا أو التزاما، و الأفعال تضمنا، و القسم الثاني هو المعنى الحرفي المدلول عليه بالحروف مطابقة، و الأفعال و بعض الأسماء تضمنا، و هذا معنى أن الحرف يدل على معنى في غيره أي: في معنى آخر يكون قائما به و متصورا بتبعيّته، لا أنه يدل على معنى يكون لغير لفظه، بل للفظ آخر، كي لا يكون له معنى، بل مجرد علامة على دلالة الغير على معناه بخصوصياته المتقوّمة به الغير المستقلة بالمفهومية، كما توهم ذلك من كلام بعض المحققين.

و الحاصل: أن الدلالة على المعاني الخاصة في الخصوصيات الغير المستقلة بالمفهومية بدالين فيكون من باب تعدد الدال و المدلول، لا من وحدة الدال و تعدده، كيف ؟ و هو يستلزم الالتزام بالمجاز في الألفاظ المتعلقات لو التزم باستعمالها في المعاني الخاصة بهذه الخصوصيات ؟ بداهة: عدم وضعها لها، و هو بعيد لا أظن أن يلتزم به أحد، و إرادة الخصوصيات بلا دلالة لفظ عليه، و هو أبعد، و دلالة الحرف عليها لا يكون إلاّ من باب الدال و المدلول و هو عين المأمول، نعم؛ فرق بين الحرف و غيره حيث إنه لا يدل على معنى تحت لفظه، بل على ما تحت المتعلقات؛ لما عرفت: من أن معناه يكون هو الخصوصية المتقومة بغيره المتصورة بتبعه، فافهم و استقم». انتهى. فوائد الأصول، ص 65.

(2) أي: بين الحرف و بين الاسم أي: لا فرق بينهما في أصل المعنى كما توهموه، و لم يلحظ الاستقلال بالمفهومية في الاسم، كما أنه لم يلحظ عدم الاستقلال بالمفهومية في الحرف، فالفرق بينهما في كيفية الاستعمال لا في ذات المعنى الموضوع له. نعم؛ في

ص: 184

الاسم بحسب المعنى، و إنه (1) فيهما لم يلحظ فيه (2) الاستقلال بالمفهومية، و لا عدم الاستقلال بها، و إنما الفرق هو أنه (3) وضع ليستعمل و أريد منه معناه حالة لغيره و بما هو في الغير، و وضع غيره ليستعمل و أريد منه معناه بما هو هو.

و عليه (4): يكون كل من الاستقلال بالمفهومية، و عدم الاستقلال بها، إنما اعتبر في جانب الاستعمال لا في المستعمل فيه، ليكون بينهما تفاوت بحسب المعنى، فلفظ «الابتداء» (5) لو استعمل في المعنى الآلي، و لفظة «من» في المعنى الاستقلالي، لما كان مقام الاستعمال يستعمل لفظ الحرف إذا أريد المعنى حالة لغيره، و لفظ الاسم إذا أريد المعنى بما هو هو.

=============

فلفظ «من» يستعمل في مفهوم الابتداء عند لحاظه آليا، و لفظ «الابتداء» يستعمل فيه عند لحاظه استقلاليا، فالموضوع له فيهما واحد و هو ذات المعنى، و لحاظ الاستقلال بالمفهومية، و عدم الاستقلال بها خارج عن المعنى؛ لما عرفت في مبحث الوضع: من امتناع أخذ اللحاظ في الموضوع له.

(1) أي: المعنى في الاسم و الحرف.

(2) أي: في المعنى أي: فالمعنى الموضوع له في الحرف و الاسم واحد.

(3) أي: الحرف وضع ليستعمل و أريد منه معناه حالة لغيره و بما هو في الغير، فالفرق بينهما إنما هو في ناحية الاستعمال لا في الموضوع له و لا في المستعمل فيه، فالحرف يمتاز عن الاسم في كيفيّة الاستعمال بمعنى: أنه إن أريد المعنى بما هو حالة لغيره يكون حرفا، و إن أريد بما هو هو و في نفسه يكون اسما.

(4) أي: و على ما ذكرناه من الفرق بين المعنى الحرفي و الاسمي - في كيفيّة الاستعمال لا في ذات المعنى، و لا في المستعمل فيه - يكون كل واحد من الاستقلال بالمفهومية المأخوذ في الاسم، و عدم الاستقلال بالمفهومية المأخوذ في الحرف «إنما اعتبر في جانب الاستعمال» من المستعمل - بصيغة الفاعل - لا في المستعمل فيه أو الموضوع له؛ حتى يكون التفاوت بين المعنى الاسمي و الحرفي بحسب ذات المعنى؛ كما هو المشهور بين النحاة. فلمّا كانت ألفاظ الأسماء و الحروف موضوعة للمعاني الكلية الطبيعية بدون أن يكون قيد الآلية و الاستقلالية جزءا أو قيدا لها كان الوضع و الموضوع له فيهما عامين؛ فإن المعنى الموضوع له فيهما هو ذات المعنى، من دون أن يكون مقيدا بقيد أصلا.

(5) أي: الابتداء الذي هو اسم لو استعمل في المعنى الآلي؛ بأن يستعمل الاسم مكان ما يستعمل الحرف؛ مثل قولك: «سرت ابتداء البصرة»، بدل قولك: سرت من

ص: 185

مجازا و استعمالا له في غير ما وضع له و إن كان بغير ما وضع له (1)، فالمعنى في كليهما (2) في نفسه كلي طبيعي يصدق على كثيرين، و مقيدا باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي عقلي و إن كان بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهنا كان جزئيا ذهنيا، فإن البصرة، و كذلك استعملت لفظة «من» في المعنى الاستقلالي مثل قولك: «من خير من إلى» بمعنى: «الابتداء خير من الانتهاء» لا يضر، و لما كان الاستعمال فيهما مجازا أو استعمالا للفظ في غير ما وضع له، لأن المفروض: تساوي الموضوع له فيهما.

=============

(1) أي: و إن كان هذا النوع من الاستعمال بغير ما وضع له أي: بغير النهج الذي اعتبره الواضع في مقام الاستعمال؛ إذ قد عرفت: اشتراط الواضع و هو: أن يستعمل الحرف في المعنى الآلي، و الاسم في المعنى الاستقلالي، فهذا الاستعمال أي: استعمال الحرف في المعنى الاستقلالي، مما لم يسمح به الواضع، و لهذا يكون استعمالا بغير ما وضع له. أي: بغير النهج المطلوب للواضع و كان فيما وضع له؛ لأن المعنى الموضوع له هو مفهوم الابتداء في كليهما.

(2) أي: فالمعنى في الاسم، و الحرف في نفسه - مع قطع النظر عن اللحاظ الاستقلالي أو الآلي - كلي طبيعي، و مع تقيّده باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي عقلي، و نظرا إلى أن لحاظ المعنى وجوده ذهنا جزئيّ ذهنيّ .

و غرض المصنف هو عدم التنافي بين المعاني المذكورة.

توضيح ذلك يتوقف على ذكر أمور:

الأول: الفرق بين الكلي الطبيعي، و المنطقي و العقلي في اصطلاح أهل الميزان: أن مفهوم الكلي يسمى كليا منطقيا، و معروضه طبيعيا، و المجموع عقليا، مثلا لو قلنا:

الإنسان كلي كان موضوع هذه القضية هو: الكلي الطبيعي، و محمولها هو الكلي المنطقي، و مجموع الموضوع و المحمول هو الكلي العقلي، فالكلي الطبيعي باصطلاح أهل الميزان هي الطبيعة المعروضة للكلية بما هي معروضة لها؛ إلاّ إن المراد بالكلي الطبيعي هنا هو نفس المعنى الذي لا يمنع الشركة؛ لا المعنى المقيد بكونه معروضا للكلية.

و كذلك الكلي العقلي في اصطلاح أهل الميزان؛ و إن كان هو المجموع من العارض و المعروض، و إطلاق الكلي عليه باعتبار العارض؛ إلاّ إن المراد به هنا هو: المعنى المقيد بأمر ذهنيّ كاللحاظ الاستقلالي أو الآلي.

الثاني: أن كل ما دخل في حيّز الوجود لا بد أن يكون جزئيا؛ سواء وجد في الخارج أو في الذهن، و ذلك نظرا إلى ما هو المعروف بين الفلاسفة من أن الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد.

ص: 186

الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد. و إن كان (1) بالوجود الذهني، فافهم (2) و تأمل فيما وقع في المقام من الأعلام؛ من الخلط و الاشتباه، و توهم كون الموضوع له أو المستعمل الثالث: أن الفرق بين الإيجاد و الوجود أمر اعتباري؛ فإن الشيء الواحد بالنسبة إلى الفاعل إيجاد، و بالنسبة إلى القابل وجود، ثم الوجود الذهني هو نفس لحاظ النفس و تصورها، لأنه إيجادها دون شيء آخر.

=============

و لما كان تشخص اللحاظ بتشخص النفس لكونه من عوارضها، و تشخص العارض بتشخص المعروض كان جزئيا ذهنيا.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم: إنه لا منافاة بين المعاني المذكورة، فنفس المعنى في الاسم و الحرف في نفسه. أي: مع قطع النظر عن تقيّده باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي طبيعي؛ لأنه لا يمنع عن الشركة، و قد عرفت: أن المراد بالكلي الطبيعي ما لا يمنع عن الشركة، و نفس المعنى نظرا إلى تقيّده بلحاظ الآلية أو الاستقلالية كلي عقلي، لما عرفت: من أن المراد بالكلي العقلي هنا هو المعنى المقيد بأمر ذهني، ثم إن التقيد باللحاظ معتبر في كون المعنى كليا عقليا لا في كونه جزئيا ذهنيا، إذ يكفي في كونه جزئيا ذهنيا حصوله في الذهن سواء قيد باللحاظ أم لا.

و من هنا ظهر عدم التنافي بين كون المعنى كليا عقليا و جزئيا ذهنيا، فإنه كلي عقلي نظرا إلى نفس لحاظ النفس و تصورها آلية المعنى أو استقلاليته، فيكون المعنى مقيّدا باعتبار كونه مقيدا بأمر ذهنيّ و هو لحاظ الآلية و الاستقلالية، و جزئي ذهني باعتبار كونه موجودا في الذهن بتصور النفس، و لا منافاة بينهما لأجل تعدد الاعتبار.

فالمتحصل من الجميع: أنه لا منافاة بين كون المعنى كليا طبيعيا، و كليا عقليا، و جزئيا ذهنيا؛ لأجل تعدد الاعتبار.

(1) أي: و إن كان التشخّص بسبب الوجود الذهني.

(2) أي: فافهم فائدة الإعادة و التكرار، «و تأمل فيما وقع في المقام من الأعلام من الخلط و الاشتباه»؛ بين كون لحاظ الآلية في الحروف قيدا للموضوع له، أو المستعمل فيه؛ حيث أخذوه شطرا للموضوع له فيها، أو قيدا للمستعمل فيه، فتوهموا كون الموضوع له و المستعمل فيه في الحروف خاصا، غافلين عن كون لحاظ الآلية فيها ناشئا من الاستعمال، فيمتنع دخله في نفس المعنى، و قد عرفت: أن الأقوال هنا ثلاثة، فقد توهم جماعة عموم الوضع فقط و قالوا بكون الموضوع له كالمستعمل فيه خاصا، و ذهب جماعة آخرون - منهم التفتازاني - إلى عموم الموضوع له كالوضع، و قالوا: بكون المستعمل فيه خاصا.

ص: 187

فيه في الحروف خاصا، بخلاف ما عداه (1) فإنه عام. و ليت شعري (2) إن كان قصد الآلية فيها موجبا لكون المعنى جزئيا فلم لا يكون قصد الاستقلالية فيه موجبا له ؟ و هل (3) يكون ذلك إلاّ لكون هذا القصد، ليس مما يعتبر في الموضوع له، و لا المستعمل فيه، بل في الاستعمال، فلم لا يكون فيها كذلك ؟ (4) كيف ؟ (5) و إلاّ لزم أن و المصنف يقول بعمومية الكل أي: الوضع و الموضوع له و المستعمل فيه، و الخصوصية ناشئة من قبل الاستعمال، فهي من شئون الاستعمال و أطواره؛ لا من قيود الموضوع له، و لا المستعمل فيه.

=============

(1) أي: بخلاف ما عدا الحروف و هو الاسم. و كان الأولى تأنيث الضمير لكونه راجعا إلى الحروف. أي: الموضوع له في الاسم عام كما أشار إليه بقوله: «فإنه عام».

(2) هذا إشارة إلى وجه عدم الفرق بين الحرف و الاسم، فكما لا دخل للحاظ الاستقلالية في المعنى الاسمي؛ فكذلك لا دخل للحاظ الآلية في المعنى الحرفي، «و ليت شعري» يعني: و ليتني دريت و علمت - بمعنى: التعجب - إن كان قصد الآلية موجبا لجزئية المعنى في الحروف فلما ذا لا يكون قصد الاستقلالية في الأسماء موجبا لكون المعنى جزئيا فيها؟ فكما لا يعتبر قصد الاستقلالية في الأسماء لا في الموضوع له و لا في المستعمل فيه قطعا، فكذا في الحروف.

(3) الاستفهام للإنكار، فيكون مفاده نفي اعتبار قصد الاستقلالية في الموضوع له، و المستعمل فيه فيما عدا الحروف، فليكن الأمر في الحروف كذلك، فلا فرق بين هذين القصدين في عدم دخلهما في الموضوع له، و عدم إيجابهما جزئية المعنى بعد كون كليهما من شئون الاستعمال و أطواره. فالالتزام بكون القصد في أحدهما موجبا لجزئيته دون الآخر ليس إلاّ تحكما واضحا.

(4) أي: فلما ذا لا يكون قصد الآلية في الحروف، كقصد الاستقلالية في الأسماء في عدم أخذه في نفس الموضوع له، فيكون المعنى فيهما واحدا حقيقة كما مرّ غير مرة.

(5) أي: كيف لا يكون قصد الآلية خارجا عن المعنى الحرفي «و إلاّ لزم...» إلخ أي:

لو كان اللحاظ داخلا في المعنى الحرفي «لزم أن يكون معاني المتعلقات للحروف غير منطبقة على الجزئيات الخارجية».

و حاصل كلام المصنف «قدس سره» في المقام: أنه لا يجوز الالتزام بكون قصد الآلية موجبا لجزئية المعنى في الحروف و ذلك لأمرين:

الأول: أن ذلك مستلزم للترجيح بلا مرجح نظرا إلى أن حكم الأمثال فيما يجوز و لا يجوز واحد، فإذا جاز أن يكون قصد الآلية موجبا لجزئية المعنى في الحروف؛ جاز أن

ص: 188

يكون معاني المتعلقات غير منطبقة على الجزئيات الخارجية لكونها على هذا كليات عقلية، و الكلي العقلي لا موطن له إلاّ الذهن، فالسير و البصرة و الكوفة في - سرت من البصرة إلى الكوفة - لا يكاد يصدق على السير و البصرة و الكوفة، لتقيّدها (1) بما اعتبر فيه القصد، فتصير (2) عقلية فيستحيل انطباقها (3) على الأمور الخارجية.

و بما حققناه (4) يوفق بين جزئية المعنى الحرفي بل الاسمي، و الصدق على الكثيرين، يكون قصد الاستقلالية موجبا لجزئية المعنى في الأسماء أيضا، فكما لا يكون قصد الاستقلالية مأخوذا في معاني الأسماء، فكذلك لا يكون قصد الآلية مأخوذا في معاني الحروف. هذا ما أشار إليه لقوله: «فلم لا يكون فيها كذلك».

=============

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «كيف ؟ و إلاّ لزم أن يكون معاني المتعلقات».

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن اللحاظ إذا كان قيدا لمعنى الحرف لكان قيدا لمعنى الاسم أيضا، لأن معنى الحرف قد يكون قيدا لمعنى الاسم، فاللحاظ الآلي قيد لمعنى الاسم، لأن قيد القيد قيد، فلزم حينئذ أن يكون معاني متعلقات الحروف مثل:

السير و البصرة و الكوفة في قولك: «سرت من البصرة إلى الكوفة» كليات عقلية.

و إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه يلزم من كون اللحاظ الآلي مأخوذا في المعنى الحرفي أمران:

الأول: عدم صدق متعلقات معاني الحروف على الخارجيات، لأنها حسب الفرض مقيدة بقيد عقلي و هو لحاظ الآلية، و من البديهي: أن المقيد بقيد عقليّ عقليّ ، و العقلي لا موطن له إلاّ العقل.

الثاني: يلزم امتناع امتثال الأمر في قولك: «سر من البصرة إلى الكوفة»، و الحال أنه يصدق على ما في الخارج، و لا يمتنع الامتثال، و ليس هذا إلاّ لعدم اعتبار قصد الآلية في الموضوع له في الحروف، كما لا يعتبر قصد الاستقلالية في الموضوع له في الأسماء.

(1) أي: تعليل لعدم صدق ما ذكر على ما في الخارج، لتقيّد السير و الكوفة و البصرة بالمعنى الحرفي المقيد بقيد عقلي و هو لحاظ الآلية.

(2) أي: تصير الأمور الثلاثة كليات عقلية لما عرفت من أنّ المقيّد بالقيد العقلي يصير عقليا.

(3) أي: فيستحيل انطباق الأمور الثلاثة على الأمور الخارجية، لأنّ الأمور العقلية لا موطن لها إلاّ في العقل.

(4) أي: من كون المعنى بنفسه في كل من الاسم و الحرف كليا طبيعيا قابلا للصدق على كثيرين، و بلحاظ تقيّده باللحاظ الآلي أو الاستقلالي جزئيا ذهنيا؛ يوفق بين جزئية

ص: 189

و أن الجزئية باعتبار تقيد المعنى باللحاظ في موارد الاستعمالات آليا أو استقلاليا، و كليته بلحاظ نفس المعنى.

و منه (1) ظهر عدم اختصاص الإشكال و الدفع بالحرف، بل يعم غيره فتأمل في المقام فإنه دقيق و مزال الأقدام للأعلام. و قد سبق في بعض الأمور (2) بعض الكلام و الإعادة مع ذلك (3) لما فيها (4) من الفائدة فافهم (5).

رابعها (6): أن اختلاف المشتقات في المبادئ، و كون المبدأ في بعضها حرفة المعنى الحرفي بل الاسمي، و بين الصدق على الكثيرين.

=============

امتياز الحرف عن الاسم و الفعل

(1) أي: مما حققناه من التوفيق بين كلية المعنى الحرفي و الاسمي و بين جزئيته ظهر:

عدم اختصاص هذا الإشكال - أعني: التنافي بين كلية المعنى و جزئيته - و الدفع الذي تقدم من كون الكلية باعتبار، و الجزئية باعتبار آخر أي: لا يختص الإشكال مع دفعه بالحرف «بل يعم غيره» أي: غير الحرف و هو الاسم.

(2) أي: الأمر الثاني تقدم فيه الكلام في الفرق بين المعنى الحرفي و الاسمي.

(3) أي: مع سبق البحث في المعنى الحرفي.

(4) أي: لما في الاعادة و التكرار من الفائدة، و هي: عدم المنافاة بين كون الشيء كليا طبيعيا و كونه جزئيا ذهنيا، و عدم المنافاة بين كون الشيء كليا عقليا، و بين كونه جزئيا ذهنيا.

(5) لعله إشارة إلى ضعف قوله: «و الإعادة مع ذلك لما فيها من الفائدة».

وجه الضعف: أن الإعادة و إن كانت كذلك أي: فيها الفائدة و لكن ليست كل فائدة من موجبات الإعادة، بل ما إذا كانت الإعادة مقرونة بشواهد و دلائل زائدة على ما سبق و ليست هي في المقام كذلك. و تركنا ذكر خلاصة البحث لأننا ذكرناه في الأمر الثاني.

اختلاف المشتقات من حيث المبادئ

(6) الرابع من الأمور التي ينبغي تقديمها على البحث في بيان دفع توهم التفصيل المنسوب إلى «الفاضل التوني «رحمه الله»، حيث قال ما محصله:

من أنّ المبدأ إن كان من قبيل الملكة و الصناعة و الحرفة فكانت هيئة المشتق موضوعة للأعم؛ حيث يكون إطلاقه على من انقضى عنه المبدأ على نحو الحقيقة، و إن كان من قبيل الأفعال الخارجية كالضرب و الأكل و الشرب و نحوها فكانت موضوعة لخصوص المتلبس بالمبدإ؛ حيث يكون إطلاقه على من انقضى عنه المبدأ على نحو المجاز.

و حاصل الدفع: أن اختلاف المشتقات في المبادئ لا يوجب اختلافا في دلالتها بحسب الهيئة.

ص: 190

و صناعة، و في بعضها قوة و ملكة، و في بعضها فعليا لا يوجب اختلافا في دلالتها بحسب الهيئة أصلا، و لا تفاوتا في الجهة المبحوث عنها كما لا يخفى.

غاية الأمر: أنه يختلف التلبس به في المضي أو الحال، فيكون التلبس به (1) فعلا لو توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن اختلاف المشتقات إنما يوجب فرقا بين المبادئ في التلبس و عدمه؛ بمعنى: أنه إذا كان المبدأ من قبيل الأفعال الخارجية كالقيام و القعود و الركوع و السجود و ما شاكل؛ ذلك كان التلبس به بمباشرته فعلا، و يصدق الانقضاء عند عدم مباشرته فعلا، فلا يصدق القائم على النائم و لا القاعد على القائم مثلا.

=============

و أما إذا كان المبدأ من قبيل الحرفة مثل: التجارة و البقالية، أو من قبيل الصناعة مثل:

النجارة و الصياغة، أو من قبيل القوة و الملكة مثل: الكتابة و الاجتهاد فيختلف التلبس، فالتلبس به فيما إذا كان المبدأ من قبيل الحرفة يصدق ما دام محترفا، و في الصناعة يصدق التلبس ما دام مشتغلا بها أي: لم يتركها، و في الملكة و القوة يصدق التلبس ما دامتا موجودتين.

و هذا الاختلاف لا يوجب تفاوتا في الجهة المبحوث عنها؛ و هي: إطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ.

إذا عرفت هذه المقدمة فيتضح لك دفع توهم التفصيل، و أنه توهم فاسد، لأن اختلاف المشتقات في المبادئ لا يوجب اختصاص النزاع بما إذا كان المبدأ من قبيل الأفعال، بل هو يتأتّى في جميع الموارد؛ لأن البحث في جميع تلك الموارد إنما هو بعد انقضاء المبدأ.

غاية الأمر: يختلف الانقضاء باختلاف المبادئ، فالانقضاء فيما إذا كان المبدأ من قبيل الأفعال يتحقق برفع اليد عن تلك الأفعال و لو أنا ما.

و فيما إذا كان من قبيل الحرفة و الصناعة يكون بتركهما و الإعراض عنهما. و فيما إذا كان من قبيل القوة و الملكة يكون بزوالهما. و هذا الاختلاف لا يوجب تفاوتا بحسب الهيئة أصلا و لا في الجهة المبحوث عنها.

(1) أي: بالمبدإ «فعلا»، و لو لم يكن مشتغلا بالمبدإ يصدق التلبس «لو أخذ» المبدأ «حرفة أو ملكة»، فالمجتهد و التجار متلبسان بالمبدإ حتى في حال النوم، بل «و لو لم يتلبس به» أي: بالتجارة في الحرفة، و بالاستنباط في الملكة «إلى الحال» أي: حال الإسناد، «أو انقضى عنه» أي: عن ذي الملكة و الحرفة بأن اجتهد و اتجر في الزمان السابق.

ص: 191

أخذ حرفة أو ملكة و لو لم يتلبس به إلى الحال أو انقضى عنه و يكون (1) مما مضى أو يأتي لو أخذ فعليا، فلا يتفاوت فيها (2) أنحاء التلبسات و أنواع التعلقات كما أشرنا إليه.

خامسها: أن المراد بالحال (3) في عنوان المسألة هو حال التلبس لا حال النطق؛

=============

(1) أي: يكون التلبس مما مضى أو يأتي لو أخذ المبدأ فعليا كالآكل مثلا؛ فإنه غير متلبس بالأكل حال النطق لو انقضى عنه الأكل، أو لم يأكل بعد.

(2) أي: في الجهة المبحوث عنها و هي دلالة هيئة المشتق على أنحاء التلبسات لما عرفت:

من أنّ اختلاف التلبسات الناشئ عن المبدأ أجنبيّ عن وضع هيئة المشتق. و الغرض: أن اختلاف المبادئ حرفة و صناعة و قوة و فعلية لا يوجب اختلافا في دلالة هيئة المشتق.

خلاصة البحث

إن هذا الأمر الرابع ردّ لتفصيل الفاضل التوني، و ملخص الردّ: أن اختلاف المشتقات في المبادئ لا يوجب تفاوتا في الجهة المبحوث عنها، لأن الاختلاف المذكور إنما هو بسبب وضع المبدأ، و الجهة المبحوث عنها إنما هي في وضع الهيئة. فلا ربط لأحدهما بالآخر.

بيان المراد من الحال في باب المشتق

(3) غرض المصنف من عقد هذا الأمر الخامس: بيان ما هو المراد من الحال في عنوان المسألة أي: في قولهم: هل المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال، أو فيما يعمه و ما انقضى عنه المبدأ؟

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة هي: أن الحال هنا ليس بمعنى: الهيئة و الكيفية كما هو عند النحاة.

بل الحال في باب المشتق إنما هو بمعنى: الزمان، و الحال بهذا المعنى باعتبار ما أضيف إليه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1 - حال النطق: و هو عبارة عن الزمان الذي يتفوه فيه الإنسان، و هو الزمان المتوسط بين الزمان الماضي، و بين الزمان المستقبل.

2 - حال التلبس: و هو عبارة عن الوقت الذي تتصف الذات بالمبدإ و يقوم المبدأ بها.

3 - حال الجري و النسبة الايقاعية إلى الذات: و هو عبارة عن الوقت الذي أراد المتكلم نسبة المبدأ إلى الذات فيه.

ص: 192

ضرورة: أن مثل: «كان زيد ضاربا أمس» (1)، أو «سيكون غدا ضاربا» (2) حقيقة إذا و لكل واحد من الأحوال الثلاثة ماض و مستقبل و حال، فحاصل ضرب الثلاثة في الثلاثة هي تسعة، و يتعين كل من الماضي و المستقبل بالنسبة إلى كل حال من الأحوال الثلاث بالقرينة، و هي كلمة الأمس في الماضي، و الغد في المستقبل و الآن في الحال.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا إشكال في كون المشتق حقيقة إن اتفقت هذه الأحوال الثلاث كقولنا: «زيد عالم الآن» مع كون زيد عالما حال النطق.

و أما مع الاختلاف فهناك احتمالان فيما هو المعيار في كون المشتق حقيقة: أحدهما:

اتفاق زمان الجري و النسبة مع زمان التلبس. ثانيهما: اتفاق زمان النطق مع زمان التلبس، و المحكي عن صريح بعض.

و إن كان العبرة في كون المشتق حقيقة هو اتفاق زمان النطق مع زمان التلبس إلاّ إن الحق عند المصنف هو: اتفاق زمان الجري مع زمان التلبس، فإن اتفق زمانهما كان إطلاق المشتق على نحو الحقيقة سواء كان زمانهما ماضيا مثل: «زيد ضارب أمس» إذا جعل أمس قيدا لكل من التلبس و الجري، أم كان مستقبلا مثل: «زيد ضارب غدا» إذا جعل ظرفا لكل من التلبس و الجري معا.

و إن اختلف حال التلبس و الجري: فإن اتحد زمان الجري و النطق، و لم يتحقق التلبس بعد بأن كان مستقبلا مثل: «زيد ضارب غدا» إذا جعل غد قيدا للتلبس فقط، دون الجري؛ كان استعمال المشتق مجازا بلا خلاف و لا إشكال.

و إن اتحد زمان الجري و النطق و قد تحقق التلبس في الزمان الماضي مثل: «زيد ضارب أمس» إذا جعل - أمس - قيدا للتلبس فقط دون الجري؛ فهو محل الخلاف، و إن استعماله هل هو على نحو الحقيقة أو المجاز؟ فإن قلنا: بوضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ حال تلبسه به فهو مجاز، و إن قلنا: بوضعه للأعم من حال تلبسه و حال انقضائه فهو حقيقة.

(1) أي: إطلاق المشتق كان على نحو الحقيقة إذا كان زيد متلبسا بالضرب في الأمس؛ بأن كان الأمس قيدا لكل من الجري و التلبس.

(2) أي: كان إطلاق المشتق على نحو الحقيقة إذا كان الغد ظرفا لكل من الجري و التلبس؛ مع إنه لو كان المعيار هو زمان النطق لزم كون المشتق في كلا المثالين مجازا؛ لعدم تلبس زيد بلباس الضرب في حال النطق.

و بالجملة: أن العبرة في كون استعمال المشتق حقيقة أو مجازا إنما هي بحال التلبس دون غيره، فإن كان الجري بلحاظه بأن اتحد زمانهما كان حقيقة؛ سواء كانا ماضيين أم مستقبلين أم حالين أي: متحدين مع زمان التكلم.

ص: 193

كان متلبسا بالضرب في الأمس في المثال الأول، و متلبسا به في الغد في الثاني، فجري (1) المشتق حيث كان بلحاظ حال التلبس، و إن مضى زمانه في أحدهما، و لم يأت بعد في آخر كان حقيقة بلا خلاف، و لا ينافيه (2) الاتفاق على أن مثل: «زيد ضارب غدا» مجاز، فإن الظاهر: أنه فيما إذا كان الجري في الحال، كما هو قضية الإطلاق، و الغد إنما يكون لبيان زمان التلبس، فيكون الجري و الاتصاف في الحال، و أن المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التلبس لازمان النطق.

=============

(1) فإسناد المشتق و حمله على الذات حيث كان بلحاظ حال التلبس كان حقيقة بلا خلاف؛ و إن مضى زمان التلبس في أحد المثالين المذكورين و لم يأت زمانه في المثال الآخر، ثم نفي الخلاف إنما يتمّ نظرا إلى ما هو الحق عند المصنف من أن العبرة بزمان الجري و النسبة؛ لا حال النطق.

(2) أي: لا ينافي ما تقدم من كون الإطلاق باعتبار حال التلبس في المثالين على نحو الحقيقة؛ الاتفاق على مجازية مثل: زيد ضارب غدا، مما يكون زمان التلبس فيه بعد زمان النطق. فقوله: «و لا ينافيه الاتفاق» دفع لتوهم التنافي فلا بد من توضيح التنافي حتى يتضح دفعه. فنقول في توضيح ذلك: إن ما ذكرتم من عدم الخلاف في كون المشتق في المثالين المزبورين - كان زيد ضاربا أمس، أو سيكون غدا ضاربا - حقيقة ينافي الاتفاق على أن مثل: «زيد ضارب غدا» مجاز، فكما أن مثل: «زيد ضارب غدا» مجاز بالاتفاق؛ فكذلك مثل: «كان زيد ضاربا غدا»، و مثل: «سيكون غدا ضاربا» مجاز بالاتفاق، لأنّ الملاك في جميع هذه الأمثلة واحد؛ و هو: تأخر حال التلبس عن زمان التكلم، و حكم الأمثال فيما يجوز و لا يجوز واحد.

و حاصل الدفع: أن مورد الاتفاق أي: مثل «زيد ضارب غدا» ليس مثلا للمثالين، كي يقال: إن حكم الأمثال فيما يجوز.

و لا يجوز واحد، فكما أن إطلاق المشتق في مثل: «زيد ضارب غدا» مجاز بالاتفاق فكذلك في المثالين، فيتحقق التنافي بين كون المشتق في المثالين حقيقة، و في المثال الثالث مجازا، لأن الفرق بين المثالين و بين المثال الثالث أوضح من الشمس؛ حيث إن الغد في مثل: «زيد ضارب غدا» قيد للتلبس فقط فيكون مجازا بالاتفاق. هذا بخلاف المثالين السابقين حيث يكون الغد قيدا لكل واحد من الجري و التلبس؛ فيكون إطلاق المشتق بلحاظ حال التلبس و هو حقيقة كما مر. فقياس المثالين بما قام الإجماع على مجازيّته قياس مع الفارق و هو باطل.

ص: 194

و التلبس في الاستقبال (1).

و من هنا (2) ظهر الحال في مثل: «زيد ضارب أمس»، و أنه داخل في محل الخلاف و الإشكال. و لو كانت لفظة «أمس» (3) أو «غد» قرينة (4) على تعيين زمان النسبة و الجري أيضا كان المثالان حقيقة.

و بالجملة (5): لا ينبغي الإشكال في كون المشتق حقيقة، فيما إذا جرى على الذات

=============

(1) أي: لا يكون زمان الجري متحدا مع زمان التلبس، لأن الجري حالي و التلبس استقبالي، و عليه: فلا تنافي بين الاتفاق على المجازية و بين الاتفاق على كون المشتق في المثالين حقيقة؛ لأنّ زمان الجري متحد مع زمان التلبس فإنّ الجري فيه كالتلبس يكون في الغد.

(2) أي: من أن المعيار في كون المشتق حقيقة هو اتفاق زمان الجري و التلبس، و المعيار في كونه مجازا أو محل الخلاف اختلافهما زمانا «ظهر الحال في مثل: «زيد ضارب أمس»؛ مما يكون الجري فيه فعليا و التلبس انقضائيا أي: ظهر أنه داخل في محل الخلاف بين الأعمي و غيره، إذ قد يكون أمس قرينة للتلبس فقط، مع إن الجري في الحال، فيكون محلا للخلاف و الإشكال حيث إن الأعمي يراه حقيقة، و من يشترط التلبس الفعلي يراه مجازا.

(3) أي: في مثل: «زيد ضارب أمس»، أو «غد» في مثل «زيد ضارب غدا».

(4) أي: قرينة على تعيين زمان النسبة و الجري أيضا أي: كما أن لفظة «أمس» أو «غد» قرينة على تعيين زمان التلبس أي: لو كانت لفظة أمس أو غد قرينة على تعيين زمان النسبة و الجري كان المثالان حقيقة؛ و ذلك لاتفاق زمان الجري و التلبس فيهما.

فقوله: «كان» جواب لو في قوله: «لو كانت». و المراد بالمثالين هو قوله: «زيد ضارب غدا»، و قوله: «زيد ضارب أمس».

(5) قوله: «بالجملة...» إلخ بيان إجمالي لما تقدم، و إشارة إلى عمدة الصور و اختلافها حكما حسب تقيّدها «بأمس» تارة، و «بغد» أخرى.

و أما بيان الأقسام و الصور في المقام: فلأن كل واحد من لفظ «أمس» و «غد» ينقسم إلى قسمين: و ذلك فإن لفظ «أمس» قد يكون قرينة لتعيين حال التلبس فقط فيكون قيدا له، و قد يكون قرينة لتعيين حال الجري و التلبس معا فيكون قيدا لهما.

و كذلك لفظ «غد» قد يكون قيدا لحال التلبس فقط، و قد يكون قيدا لهما معا.

إذا عرفت هذه الأقسام و الصور فاعلم: أن المشتق في القسم الثاني لكل واحد من

ص: 195

بلحاظ حال التلبس، و لو كان في المضي أو الاستقبال، و إنما الخلاف في كونه حقيقة في خصوصه، أو فيما يعم ما إذا جرى عليها في الحال بعد ما انقضى عنه التلبس، بعد الفراغ عن كونه مجازا فيما إذا جرى عليها فعلا بلحاظ التلبس في الاستقبال، و يؤيد ذلك (1): اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان، و منه (2) الصفات الجارية على الذوات، و لا ينافيه (3) اشتراط العمل في بعضها بكونه بمعنى:

الحال أو الاستقبال؛ ضرورة (4): أن المراد الدلالة على أحدهما بقرينة، كيف لا و قد اتفقوا على كونه مجازا في الاستقبال ؟

=============

التقسيمين حقيقة، لكون جريه على الذات بلحاظ حال التلبس. و أما القسم الأوّل من التقسيم الأول - و هو بأن يكون لفظ «أمس» قيدا لحال التلبس فقط - فيكون محلا للخلاف فيراه الأعمي حقيقة، و يراه من يقول بكون المشتق حقيقة في خصوص حال التلبس بالمبدإ مجازا.

و أما القسم الأول من التقسيم الأول و هو: أن يكون لفظ «غد» قيدا لحال التلبس، و قرينة لتعيينه فقط؛ فيكون مجازا بلا إشكال و لا خلاف.

(1) أي: يؤيد ما ذكرناه من كون المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التلبس - لا حال النطق -: «اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان».

خلاصة التأييد: أن الاتفاق الحاصل من أهل العربية القائم على عدم دلالة الاسم على الزمان - و منه المشتق الجاري على الذات - فلو أريد من الحال حال النطق لا حال التلبس كان المشتق دالا على الزمان؛ مع إنهم اتفقوا على عدم دلالة الاسم على الزمان، و هذا الاتفاق شاهد على خروج الزمان عن مدلول الاسم. و لعل وجه عدم جعل ذلك دليلا برأسه: عدم حجية اتفاقهم على فرض ثبوته، و لكن مع ذلك لا يخلو عن تأييد.

(2) أي: و من الاسم هو المشتق في محل الكلام أعني: الصفات الجارية على الذوات.

(3) قوله: «و لا ينافيه اشتراط العمل...» إلخ دفع لتوهم التنافي بتقريب: أن اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان ينافي و يناقض ما ذكره النحاة من اشتراط العمل في بعضها؛ كاسمي الفاعل و المفعول بالدلالة على زمان الحال أو الاستقبال، و أنه لو دل على الماضي لا يعمل عمل الفعل. فالاتفاق الحاصل على عدم الدلالة على الزمان ينافي الاشتراط المزبور. حيث إنه ظاهر في دلالة بعض المشتقات الاسمية على زمان الحال أو الاستقبال.

(4) تعليل لقوله: «و لا ينافيه».

ص: 196

لا يقال (1): يمكن أن يكون المراد بالحال في العنوان زمانه، كما هو الظاهر منه عند إطلاقه، و ادعي أنه الظاهر في المشتقات إما لدعوى الانسباق من الإطلاق، أو بمعونة قرينة الحكمة.

لأنا نقول (2): هذا الانسباق، و إن كان مما لا ينكر، إلاّ إنهم في هذا العنوان بصدد و حاصل دفع التنافي: أنّ الاتفاق إنما قام على عدم دلالة الاسم على الزمان وضعا لا مطلقا و لو بقرينة، فلا مانع من قيام قرينة على دلالة الاسم على الزمان، و الاتفاق السابق لا يمنع عن هذه الدلالة فيكون المشتق دالا على الزمان بدال آخر لا بالوضع، «و كيف لا» أي: كيف لا يكون الدلالة على الزمان بدالّ آخر و هي قرينة، «و قد اتفقوا على كونه مجازا» في المستقبل، فلو كان الزمان داخلا في مفهوم المشتق لم يكن للاتفاق على المجازية مجال لمنافاته له.

=============

(1) حاصل الإشكال: أن مرادهم بالحال في عنوان البحث هو: حال النطق المتوسط بين الماضي و المستقبل، لا حال التلبس. و ذلك لأمرين:

الأول: أن الظاهر من لفظ الحال عند إطلاقه، و عدم تحديده بشيء هو: زمان الحال المساوق لزمان النطق؛ لا حال التلبس.

الثاني: و هو العمدة: أنه ادعي أن الظاهر من المشتقات هو: زمان الحال إما لدعوى الانسباق من الإطلاق؛ أي: التبادر الإطلاقي المستند إلى كثرة الاستعمال؛ في قبال التبادر الحاقّي المستند إلى الوضع.

و إما بمعونة قرينة الحكمة. فإن اللافظ لو أراد من المشتق غير زمان الحال؛ لكان عليه البيان، و حيث لم يبين فهو المراد.

(2) و حاصل الجواب: أن الانسباق المذكور - و إن كان مما لا سبيل لإنكاره - إلاّ إن المقام مقام تعيين ما وضع له المشتق هل إنه خصوص المتلبس بالمبدإ حال النطق، أو حال الجري، أو الأعم منه، و مما انقضى عنه، و الانسباق المزبور ليس أمارة على وضع المشتق لزمان النطق، فإن مثل هذا التبادر لا يصلح إلاّ لتعيين المراد دون تشخيص الموضوع له؛ الذي هو مورد البحث في مسألة المشتق.

فالتبادر المستند إلى الإطلاق، أو قرينة الحكمة لا يجدي في إثبات الوضع.

ثم إن المصنف لم يجب عن الأمر الأول، و كأنه غفل عنه في مقام الجواب، و وجّه كلامه إلى الأمر الثاني فقط؛ فقال ما ملخصه: من أن التبادر الإطلاقي يعيّن المراد من المشتق، و هو أجنبي عن محل الكلام، و لا يعيّن ما وضع له المشتق الذي هو المطلوب في المقام، لأن غرضهم في باب المشتق تعيين ما هو حقيقة فيه لا تعيين ما هو ظاهر فيه بالقرينة.

ص: 197

تعيين ما وضع له المشتق، لا تعيين ما يراد بالقرينة منه.

سادسها (1): أنه لا أصل في نفس هذه المسألة يعول عليه عند الشك و أصالة عدم ملاحظة الخصوصية، مع معارضتها (2) بأصالة عدم ملاحظة العموم، لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له.

=============

خلاصة البحث مع رأي المصنف

1 - إن المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التلبس أي: زمانه؛ لا زمان النطق على ما قيل، فحينئذ يكون جري المشتق على الذات بلحاظ حال التلبس حقيقة؛ سواء كان في الماضي أو المستقبل أو الحال، و إطلاقه على من يتلبس بالمبدإ في المستقبل مجاز، و على من انقضى عنه المبدأ محل للنزاع.

2 - أن المشتق الجاري على الذات لا يدل على الزمان بالاتفاق، و أما اشتراط العمل في اسم الفاعل بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال: فلا ينافي اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان، إذ مرادهم: أنه لا يدل على الزمان بالوضع، و لازم اشتراط العمل بالحال أو الاستقبال هو: دلالة الاسم على الزمان بالقرينة.

3 - و أما ما يقال: من أن الظاهر من الحال عند إطلاقه هو: الحال المساوق لزمان النطق؛ لا حال التلبس و هو الظاهر في المشتقات، إما لدعوى التبادر من الإطلاق، أو بمعونة قرينة الحكمة فمدفوع؛ بأن المقام مقام تعيين ما وضع له المشتق لا تعيين ما هو الظاهر فيه بالقرينة، لأن غرضهم في باب المشتق تعيين ما هو حقيقة فيه لا تعيين ما هو ظاهر فيه و لو بالقرينة. فالتبادر المستند إلى الإطلاق أو قرينة الحكمة لا يجدي في إثبات الوضع.

4 - أما رأي المصنف «قدس سره» فهو:

أن المراد بالحال هو حال التلبس لا حال النطق، و في المقام صور و أقسام تركناها رعاية للاختصار. انتهى الكلام في خلاصة البحث في معنى المشتق.

تأسيس الأصل

(1) السادس من الأمور التي ينبغي تقديمها في بيان الأصل: هل في المقام أصل لفظي، أو أصل عملي يفيد كون المشتق موضوعا لخصوص المتلبس بالمبدإ، أو للأعم منه، و من المنقضي عنه أم لا؟ يقول المصنف: «أنه لا أصل» أي: ليس هناك أصل لفظي «في نفس هذه المسألة» حتى «يعوّل عليه عند الشك».

(2) أي: معارضة أصالة عدم ملاحظة الخصوصية؛ «بأصالة عدم ملاحظة العموم».

ص: 198

و حاصل الكلام في تأسيس الأصل في المقام بمعنى: أنه مع الشك و التردد، و عدم قيام الدليل على أحد الاحتمالين هل هناك من الأصول ما يعين أحدهما، أو تكون نتيجته توافق أحدهما؟

و الكلام تارة: يقع في قيام الأصل في المسألة الأصولية؛ بأن يثبت به الوضع و الموضوع له، و قد أشار إليه بقوله: «و أصالة عدم ملاحظة الخصوصية...» إلخ.

و أخرى: يقع الكلام في الأصل في المسألة الفرعية؛ بأن يثبت به الحكم للمشتق مع عدم تعيين الموضوع له. و قد أشار إليه بقوله: «و أما الأصل العملي...» إلخ، و أما الأصل في المسألة الأصولية فغير ثابت؛ إذ لا أصل لدينا يعين به أن الموضوع له هو خصوص المتلبس أو الأعم منه.

و ما يدّعى: من جريان أصالة عدم ملاحظة الخصوصية فيثبت بها الوضع للأعم مدفوع بوجهين:

أحدهما: أن أصالة عدم لحاظ الأخص معارضة بأصالة عدم لحاظ العموم؛ إذ الوضع للأخص - كما يقتضي ملاحظة الخصوصية فتنفي بالأصل - كذلك الوضع للأعم يستدعي لحاظ العموم للزوم ملاحظة الموضوع له، و لا يكتفى في لحاظه بعدم لحاظ الخاص، لأن الخاص و العام متباينان مفهوما، فعدم لحاظ أحدهما لا يكون لحاظا للآخر.

و الحاصل: أنه كما تنفى ملاحظة الخصوصية بالأصل؛ كذلك تنفى ملاحظة العموم بالأصل، فيقع التعارض بين الأصلين.

ثانيهما: أنه لا دليل على اعتبار أصالة عدم ملاحظة الخصوصية في تعيين الموضوع له؛ و ذلك أن الأصل المزبور إما أصل عقلائي، و إما أصل شرعي مثل الاستصحاب. فإن كان المقصود منه هو الأصل العقلائي فلا دليل على اعتباره؛ إذ لم يثبت بناء العقلاء على نفي ملاحظة الخصوصية مع الشك بها.

و إن كان المقصود منه الأصل الشرعي أعني: الاستصحاب أي: استصحاب عدم ملاحظة الخصوصية من باب أصالة عدم الحادث؛ فلا يكون حجة لأن اعتبار الاستصحاب مشروط بأحد أمرين:

أحدهما: أن يكون المستصحب حكما شرعيا.

ثانيهما: أن يكون ذا أثر شرعي، و عدم ملاحظة الخصوصية ليس حكما شرعيا، و ليس له أثر شرعي لأنّ أثره هو الوضع للأعم، و هو ليس أثرا شرعيا، فلو كان له أثر

ص: 199

و أما ترجيح (1) الاشتراك المعنوي على الحقيقة و المجاز؛ إذا دار الأمر بينهما لأجل الغلبة، فممنوع؛ لمنع الغلبة أولا، و منع نهوض حجة على الترجيح بها ثانيا.

و أما الأصل العملي (2): فيختلف في الموارد، فأصالة البراءة في مثل: «أكرم كل شرعي بواسطة أو وسائط لكان أصلا مثبتا، و هو لا يكون حجة إلاّ على القول بالأصل المثبت.

=============

(1) قوله: «و أما ترجيح الاشتراك المعنوي...» إلخ دفع لما يتوهم: من أنه إذا دار أمر اللفظ بين كونه مشتركا معنويا بين معنيين أو أزيد، و بين كونه حقيقة و مجازا؛ بأن يكون حقيقة في أحدهما، و مجازا في الآخر؛ كان الترجيح مع الاشتراك المعنوي على الحقيقة و المجاز «لأجل الغلبة» أي: لأجل غلبة الاشتراك المعنوي، و لازم ذلك: ثبوت وضع المشتق للأعم.

و حاصل الدفع: أن التوهم المذكور يدفع أولا: بمنع الصغرى لعدم ثبوت الغلبة؛ إذ لم يثبت أكثرية المشترك المعنوي من الحقيقة و المجاز حتى يصار إليه بقاعدة: الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب.

و ثانيا: بمنع الكبرى؛ إذ لا دليل على الترجيح بالغلبة لو سلم ثبوتها؛ و ذلك لعدم الدليل على اعتبار الظن الحاصل من الغلبة حتى يرجح به القول بالاشتراك المعنوي، فإن الترجيح فرع الحجية، و الشك في الحجية يكفي في عدم الترجيح به.

(2) أي: و أما الأصل في المسألة الفرعية: فقد قال المصنف: بأنّه يختلف باختلاف الموارد؛ بمعنى: أنه قد تكون نتيجته في بعض الموارد تلائم و توافق الوضع للأخص - أعني: وضع المشتق للأخص - كما لو ورد: «أكرم كل عالم»، و كان زيد قد انقضى عنه العلم قبل الإيجاب؛ فإنه حيث يشك في صدق العالم عليه فعلا - للشك في الوضع - يشك في ثبوت الحكم له أيضا؛ فتجري أصالة البراءة عن وجوب إكرامه؛ للشك في التكليف، فتنفي ثبوت الحكم له.

و قد تكون نتيجته تلائم و توافق الوضع للأعم - كالمثال المزبور - بأن يكون زيد متلبسا بالعلم حال الإيجاب، لكنه انقضى عنه بعد ورود الوجوب حين العمل، فإنه حينئذ يشك في بقاء الحكم له، فيستصحب وجوب إكرامه.

و بعبارة أخرى: أنه لو كان الإيجاب قبل انقضاء المبدأ - يعني: حين الأمر كان زيد متلبسا بالعلم و قبل الإكرام، خرج من التلبس - فالاستصحاب يوجب الإكرام؛ و ذلك لأن زيدا كان داخلا في الأمر عند الإطلاق فتستصحب عالميته و يكرم، أو يستصحب وجوب إكرامه للعلم به سابقا، و الشك فيه لاحقا فتتم أركان الاستصحاب.

ص: 200

عالم»؛ يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدأ قبل الإيجاب، كما أن قضية الاستصحاب وجوبه لو كان الايجاب قبل الانقضاء.

فإذا عرفت ما تلونا (1) عليك، فاعلم: أن الأقوال في المسألة و إن كثرت (2)، إلاّ

=============

(1) أي: ما تلونا عليك من الأمور الستة المتقدمة على البحث.

(2) أي: و إن كثرت و أصبحت ستة؛ خمسة: باعتبار المبادئ، و واحد منها باعتبار الأحوال الطارئة في الاستعمال، و قد أشار إلى الأول بقوله: «لأجل توهم: اختلاف المشتق باختلاف مباديه في المعنى». و إلى الثاني بقوله: «أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال» أي: ما يعرض المشتق من الأحوال و الأوصاف؛ من كونه محكوما عليه كما في قوله تعالى: اَلزّٰانِيَةُ وَ اَلزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ النور: 2. و قوله:

وَ اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا المائدة: 38، فيكون حقيقة في الأعم من المتلبس بالمبدإ في الحال، و ممن انقضى عنه المبدأ.

هذا هو القول بالتفصيل بين ما إذا كان المشتق محكوما عليه، فيكون حقيقة في الأعم كما في الآيتين. و بين ما إذا كان محكوما به نحو «أزيد ضارب عمروا الآن أو غدا؟»؛ فيكون حقيقة في المتلبس بالمبدإ في الحال.

هذا واحد من الأقوال الستة يكون التفصيل فيه باعتبار الأحوال الطارئة في الاستعمال. و أما الخمسة التي يكون التفصيل فيها باعتبار المبادئ فهي حسب ما يلي:

1 - التفصيل بين ما كان المبدأ من المصادر السيالة مثل التكلم و الإخبار، و بين غيره فلا يعتبر بقاء المبدأ في الأوّل، و يعتبر في الثاني.

2 - التفصيل بين ما كان المبدأ حدوثيا، كالقيام و القعود، و بين ما كان ثبوتيا كالملكة و الشأنية مثلا. فيعتبر البقاء في الأوّل دون الثاني.

3 - التفصيل بين ما إذا طرأ الضد الوجودي على المحل، و بين غيره. فيعتبر البقاء في الأول دون الثاني.

4 - التفصيل بين ما كان المشتق مأخوذا من المبادئ اللازمة نحو: «الذاهب» مثلا، و بين كونه مأخوذا من المبادئ المتعدية نحو: «الضارب» مثلا، فيعتبر بقاء المبدأ في صدق المشتق حقيقة في الأول دون الثاني.

5 - التفصيل بين ما إذا كان اتصاف الذات أكثريا «كالنائم و الآكل»، و بين ما لم يكن كذلك نحو: «القاتل و الضارب»، فلا يعتبر بقاء المبدأ في صدق المشتق حقيقة في الأول، و يشترط بقاؤه في صدقه حقيقة في الثاني.

ص: 201

إنها حدثت بين المتأخرين، بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدمين؛ لأجل توهم:

اختلاف المشتق باختلاف مباديه في المعنى، أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال، و قد مرت الإشارة (1) إلى أنه لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده، و يأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار و هو (2) اعتبار التلبس في الحال (3)؛ وفاقا لمتأخري الأصحاب و الأشاعرة (4)، و خلافا لمتقدميهم و المعتزلة (5).

و يدل عليه (6): تبادر خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال، و صحة السلب مطلقا عما

=============

(1) أي: و قد مرت الإشارة في الأمر الرابع إلى: أن اختلاف المبادئ فعلا و قوة و حرفة و ملكة و صنعة؛ «لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده» أي: من دلالة هيئة المشتق على خصوص المتلبس أو الأعم، فعلى الأول: يكون الموضوع له هو المتلبس، و على الثاني: يكون الموضوع له الأعم.

(2) و مختار المصنف: اعتبار التلبس في الحال، و هذا من المصنف شروع في بيان المذهب المختار.

(3) أي: في حال الجري؛ بأن يتحد زمان الحمل و التلبس كما مرّ غير مرة.

(4) أي: أن الموضوع له للمشتق عند المصنف هو خصوص المتلبس بالمبدإ؛ كما ذهب إليه الأشاعرة من العامة، و متأخر و الأصحاب من الخاصة.

(5) إن متقدمي الأصحاب و المعتزلة ذهبوا: إلى أن المشتق حقيقة للأعم من المتلبس، و ممن انقضى عنه المبدأ.

الاستدلال على كون المشتق حقيقة في المتلبس

(6) أي: يدل على ما هو المختار من كون المشتق حقيقة في المتلبس فقط أمور:

«الأول»: أن المشتق بسيط - على ما سيأتي - فهو حينئذ عين المبدأ باختلاف ما، و حيث انقضى المبدأ فلا مبدأ حتى يحمل على الذات و يطلق عليها، كي يقال: إن هذا الإطلاق هل هو على نحو الحقيقة أو المجاز؟

«الثاني»: تبادر خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال، مثلا: إذا قال المولى لعبده: «ادخل السوق، و اضرب كل قائم فيه، و أعط درهما لكل قاعد»، فإنه يتبادر خصوص القائم فعلا، و خصوص القاعد فعلا حين دخوله في السوق. و الحاصل: أن المتبادر من مثل القائم و الضارب و العالم و نحوها هو: خصوص المتلبس بالقيام و الضرب و العلم حين الحمل و الإطلاق، و أن التبادر أمارة الحقيقة.

«الثالث»: «و صحة السلب مطلقا» أي: سواء كان الحمل ذاتيا مثل: من انقضى عنه الضرب ليس ضاربا، أو كان الحمل شائعا مثل: زيد المنقضي عنه الضرب ليس ضاربا، فيصح سلب المشتق عمن انقضى عنه المبدأ كما في المثالين، كما يصح سلب المشتق

ص: 202

عمن لم يتلبس بالمبدإ، بل يتلبس به في المستقبل؛ مثل: زيد المتلبس بالضرب غدا ليس بضارب.

«الرابع»: ما أشار إليه بقوله: «و قد يقرر هذا وجها على حدة و يقال: لا ريب في مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة» أي: «و قد يقرر هذا» أي: ما ذكرنا من مضادة الصفات وجها على حدة بتقريب: أنه لا شبهة في مضادة الصفات المأخوذة من المبادئ التي يكون بين معانيها تضاد ارتكازي؛ كالقائم و القاعد و العالم و الجاهل، و حينئذ فإذا انقضت صفة من تلك الصفات عن ذات متصفة بها، ثم تلبست الذات بضد تلك الصفة، فإذا بنينا على كون المشتق موضوعا للأعم: لزم صدق الصفة المنقضية على الذات حين اتصافها بضدها، كصدق القائم على من انقضى عنه القيام، و تلبس بالقعود في حين اتصافه بالقعود.

و من البديهي: أن صدق الصفات المتقابلة على موضوع واحد في آن واحد علامة كونها متخالفة لا متضادة و هو خلاف ما فرضناه من كون المبادئ متضادة فيكون باطلا، و لازم ذلك: بطلان صدق القائم على من انقضى عنه القيام و تلبس بالقعود، فيصدق عليه القاعد فقط، و هذا معنى كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ.

و هو مختار المصنف.

و توضيح بعض العبارات طبقا لما في «الوصول إلى كفاية الأصول»، «و منتهى الدراية»: «و يصبح سلبها عنه» أي: سلب القائم و الضارب و العالم و ما يرادفها من سائر اللغات؛ عمن لا يكون متلبسا بالمبادئ فعلا و إن كان متلبسا بها قبل ذلك، «كيف ؟» أي: لا يصح السلب المذكور عنه مع صدق ما يضاد المشتقات المذكورة أي: لا يصدق المشتق على من ليس متلبسا فعلا؛ إذ لو صدق عليه القائم أيضا مع تلبسه بالقعود لزم اجتماع الضدين و هو باطل. فصدق القائم على من انقضى عنه القيام باطل.

قوله: «مع وضوح التضاد بين القاعد و القائم بحسب ما ارتكز...» إلخ؛ دفع لإشكال البدائع، فإنه توهم: أن هذا الدليل - أعني: دليل التضاد - دوري؛ إذ الفرض: إثبات الوضع للأخص بصحة حمل الضد - قاعد - و سلب الضد المنقضي - قائم - و تضادهما موقوف على الوضع للأخص، و إلاّ فهما متخالفان يصدقان معا كالحلاوة و السواد.

و حاصل الدفع: أن تضادهما أمر ارتكازي، فهو مرتكز في الأذهان نازع العلماء في وضعه للأخص أو الأعم.

ص: 203

انقضى عنه، كالمتلبس به في الاستقبال، و ذلك لوضوح: أن مثل: القائم و الضارب و العالم، و ما يرادفها من سائر اللغات لا يصدق على من لم يكن متلبسا بالمبادي؛ و إن كان متلبسا بها قبل الجري و الانتساب و يصح سلبها عنه.

كيف ؟ و ما يضادها بحسب ما ارتكز من معناها في الأذهان يصدق عليه، ضرورة: صدق القاعد عليه في حال تلبسه بالقعود بعد انقضاء تلبسه بالقيام، مع وضوح التضاد بين القاعد و القائم بحسب ما ارتكز لهما من المعنى، كما لا يخفى.

و قد يقرر هذا وجها على حدة، و يقال: لا ريب في مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة، على ما ارتكز لها (1) من المعاني، فلو كان المشتق حقيقة في الأعم، لما كان بينها مضادة بل مخالفة، لتصادقها فيما انقضى عنه المبدأ، و تلبس بالمبدإ الآخر.

و لا يرد على هذا التقرير (2) ما أورده بعض الأجلة من المعاصرين، من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط، لما عرفت من ارتكازه بينها، كما في مبادئها.

=============

(1) الضمائر في لها - و بينها - و لتصادقها تعود إلى «الصفات المتقابلة...» إلخ.

(2) أي: لا يرد على هذا التقرير لبرهان التضاد «ما أورده بعض الأجلة»، المراد به هو: المحقق الرشتي صاحب البدائع. و ملخص إيراده على برهان التضاد هو: لزوم الدور من إثبات وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ ببرهان التضاد، فلا بد من القول بعدم اشتراط التلبس بالمبدإ و وضع المشتق للأعم لئلا يلزم الدور.

توضيح ذلك: أن التضاد مبني على القول باشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق على الذات حقيقة، فلو كان القول بالاشتراط مبنيا على التضاد - بمقتضى الاستدلال ببرهان التضاد - للزم الدور، فلا بد من القول بعدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق حقيقة أي: الوضع للأعم لئلا يلزم الدور. فلا تضاد حينئذ، بل تكون الصفات على القول بعدم الاشتراط متخالفة لا متضادة. هذا توضيح إيراد بعض الأجلة.

و أما وجه عدم ورود هذا الإيراد: فهو أن التضاد لا يتوقف على الوضع لخصوص المتلبس بالمبدإ حتى يلزم الدور، بل التضاد أمر ارتكازي و برهان التضاد ناظر إلى التضاد الارتكازي.

فحينئذ: أن وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ و إن كان موقوفا على برهان التضاد لتوقف المدلول على الدليل؛ إلاّ إن التضاد لا يتوقف على وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ، بل هو أمر ارتكازي فلا يلزم الدور أصلا.

ص: 204

إن قلت (1): لعل ارتكازها لأجل الانسباق من الإطلاق لا الاشتراط.

قلت: لا يكاد يكون (2) لذلك، لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء لو لم يكن بأكثر.

=============

هذا ما أشار إليه بقوله: «لما عرفت من ارتكازه بينها كما في مبادئها». فقوله: «لما عرفت»؛ تعليل لقوله: «و لا يرد على هذا التقرير...» إلخ. فمعنى العبارة: أنه لا يرد على برهان التضاد؛ لما عرفت: من ارتكاز التضاد بين الصفات مثل: القائم و القاعد و العالم و الجاهل، كالتضاد بين مبادئ تلك الصفات كالقيام و القعود و العلم و الجهل و غيرها.

فوضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ و إن كان موقوفا على التضاد؛ إلاّ إن التضاد أمر ارتكازي لا يتوقف على وضع المشتق، لخصوص المتلبس بالمبدإ حتى يلزم الدور.

الإيراد على برهان التضاد

(1) أي: «إن قلت: لعل ارتكازها لأجل الانسباق من الإطلاق لا الاشتراط» أي:

لعل ارتكاز المضادة بين الصفات لأجل انسباق حال التلبس من الإطلاق؛ المستند إلى كثرة الاستعمال فلا يكون التضاد دليلا على وضع المشتق للأخص. و هذا الإشكال ناظر إلى ما ذكره المصنف: من كون التضاد دليلا على الوضع للأخص من غير لزوم الدور، لأنّ التضاد غير منوط بالوضع لخصوص المتلبس بالمبدإ، بل هو أمر ارتكازي.

توضيح الإشكال: يتوقف على مقدمة و هي أن الانسباق و التبادر على قسمين:

أحدهما: أن يكون الانسباق من حاق اللفظ فيكون علامة للحقيقة.

و ثانيهما: أن يكون الانسباق من الإطلاق المستند إلى كثرة الاستعمال، و هو لا يكون علامة للحقيقة. ثم ارتكاز التضاد لا يثبت الوضع لخصوص حال التلبس؛ إلاّ إن يكون مستندا إلى انسباق حال التلبس من حاق اللفظ حتى يكون التضاد مستندا إلى الوضع.

و أما لو كان ارتكاز المضادة لأجل الانسباق من الإطلاق لا من حاق اللفظ، فلا يكون التضاد دليلا على وضع المشتق للأخص.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لعل ارتكاز المضادة لأجل الانسباق الإطلاقي؛ المستند إلى كثرة الاستعمال، لا لأجل الانسباق الحاقي المستند إلى الوضع؛ حتى يكون التضاد دليلا على الوضع للأخص.

و الأولى تبديل الاشتراط في المتن بحاق اللفظ؛ حتى يكون المعنى: لعل ارتكاز المضادة لأجل الانسباق من الإطلاق، فلا يكون دليلا على الوضع للأخص - لا من حاق اللفظ - حتى يكون دليلا على وضع المشتق للأخص.

(2) أي: قلت في الجواب: «لا يكاد يكون» الانسباق «لذلك» أي: لأجل الإطلاق.

ص: 205

إن قلت: على هذا (1) يلزم أن يكون في الغالب أو الأغلب مجازا، و هذا (2) بعيد، ربما لا يلائمه حكمة الوضع.

لا يقال (3): كيف ؟ و قد قيل: بأن أكثر المحاورات مجازات، فإن ذلك (4) لو سلم، و حاصل ما أجاب به المصنف: إنه ليس ارتكاز المضادة بين الصفات المتقابلة من الإطلاق أي: من إطلاق لفظ المشتق، لأن الانسباق الإطلاقي مشروط بشرط و هو:

=============

كثرة استعمال المشتق في خصوص حال التلبس؛ حتى تكون هذه الكثرة سببا لانصراف الإطلاق إليه، و المفروض: فقدان هذا الشرط في المقام؛ و ذلك لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء لو لم يكن بأكثر، و هذه الكثرة مانعة عن انصراف الإطلاق إلى خصوص حال التلبس، و على هذا: فلا بد أن يكون انسباق حال التلبس مستندا إلى حاق اللفظ، فيكون حينئذ أمارة على الوضع لخصوص المتلبس بالمبدإ.

(1) أي: على ما ذكرتم من كثرة استعمال المشتق أو أكثريته في موارد الانقضاء يلزم: أن يكون استعماله فيها مجازا في الغالب إذا كان استعماله فيها كثيرا أو في الأغلب إذا كان أكثرا، لأن المنقضي غير موضوع له إذ المفروض: كونه موضوعا لخصوص المتلبس بالمبدإ في الحال.

(2) أي: استعمال المشتق مجازا في الغالب أو الأغلب بعيد جدا.

أولا: أن المجاز خلاف الأصل. و ثانيا: أنه مما لا تلائمه حكمة الوضع التي هي عبارة عن إبراز المعاني بالألفاظ الموضوعة لها، فهذه الحكمة تقتضي وضع الألفاظ لتلك المعاني الكثيرة أعني: موارد انقضاء المبدأ فكونها فيها مجازات خلاف حكمة الوضع.

و بعبارة أخرى: أن مقتضى حكمة الوضع هو: الوضع للأعم من التلبس و الانقضاء، لا لخصوص المتلبس بالمبدإ الذي يكون قليلا و نادرا بالنسبة إلى المنقضي عنه المبدأ.

فالمتحصل: أن ما ذكره المصنف من كثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء بعيد جدا.

(3) قوله: «لا يقال»؛ إشكال من المستشكل، حيث أورد على نفسه - ما مفاده -: إنه لا وجه لاستبعاد مجازية المشتق في موارد الانقضاء في الغالب أو الأغلب بعد وضوح:

كون أكثر المحاورات مجازات، فالاستبعاد المزبور - الذي جعل غير ملائم لحكمة الوضع - لا يثبت وضع المشتق للأعم و لا يكون المجاز الكثير غير ملائم لحكمة الوضع، كما أشار إليه بقوله: «كيف ؟ و قد قيل» أي: كيف يستبعد كثرة الاستعمال المجازي، و يحكم بأن الاستعمال المجازي الكثير غير ملائم لحكمة الوضع و قد قيل: إن أكثر المحاورات مجازات ؟ فالمجاز الكثير لا يكون بعيدا، و لا يكون غير ملائم لحكمة الوضع.

(4) هذا الكلام منه إشارة إلى دفع الإشكال الذي ذكره بقوله: «لا يقال» و حاصله:

ص: 206

فإنما هو لأجل تعدد المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد. نعم؛ ربما يتفق ذلك (1) بالنسبة إلى معنى مجازي، لكثرة الحاجة إلى التعبير عنه لكن أين هذا (2) مما إذا - على ما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 275» -: أنه بعد تسليم مجازية أكثر المحاورات أن المقصود بهذه الكثرة هو تعدد المعاني المجازية بالنسبة إلى معنى حقيقي واحد كلفظ الأسد؛ الموضوع لمعنى واحد مع استعماله في معان مجازية عديدة كالرجل الشجاع و غيره، و من المعلوم: أن هذه الكثرة الموجودة في المحاورات غير قادحة في الوضع لمعنى واحد، و غير موجبة لكون الوضع للجميع، بل المقصود بالكثرة القادحة في حكمة الوضع، و غير الملاءمة لها هو: كون استعمال كل لفظ في المعنى المجازي الواحد أكثر من استعماله في معناه الحقيقي الواحد، فإن هذه الكثرة لا تلائم حكمة الوضع و هي وضع اللفظ للمعنى الذي تكثر الحاجة إليه، و المفروض: كون الحاجة إلى المعنى الانقضائي في المشتق أكثر من المعنى التلبسي، فحكمة الوضع تقتضي وضع المشتق للأعم لا وضعه للأخص، فكون المشتق مجازا في الأعم على خلاف حكمة الوضع كما تقدم ذلك في قوله: «إن قلت على هذا يلزم...» إلخ. فهذا الإشكال في محله، و لا يندفع بقوله: «لا يقال».

=============

(1) أي: أكثرية الاستعمال في معنى اللفظ المجازي الواحد من الاستعمال في معناه الحقيقي كذلك، و حاصله: أنه كما لا ينافي كثرة المجازات بالنسبة إلى معنى واحد حكمة الوضع، و لا توجب الوضع للجميع؛ كذلك لا ينافي حكمة الوضع كثرة الاستعمال في معنى مجازي واحد، لكثرة الحاجة إليه إذا كانت من باب الاتفاق، و لا توجب هذه الكثرة الاتفاقية الوضع للأعم، لكن إذا كان الاستعمال المجازي في المعنى الواحد دائما كثيرا جدا؛ كاستعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ، فحكمة الوضع حينئذ تقتضي وضع اللفظ للأعم منه و من المتلبس بالمبدإ، حيث إن مجازيته في المنقضي عنه تنافي حكمة الوضع.

(2) أي: أكثرية الاستعمال في المعنى المجازي من باب الاتفاق، «مما إذا كان» الاستعمال المجازي «دائما كذلك» أي: كثيرا أو أكثر كما هو المدعى.

و خلاصة الكلام: أنه هناك فرق بين استعمال اللفظ في المعنى المجازي الكثير من باب الاتفاق، و بين استعماله فيه دائما كالمشتق المستعمل في المنقضي عنه المبدأ؛ فعلى الثاني:

لا بد من البناء على كون استعماله في الكثير على نحو الحقيقة كاستعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ؛ إذ كونه على نحو المجاز ينافي حكمة الوضع، هذا بخلاف ما إذا كان الاستعمال في المعنى المجازي الكثير من باب الاتفاق فلا ينافي حكمة الوضع.

ص: 207

كان دائما كذلك ؟ فافهم (1).

قلت (2): مضافا إلى أن مجرد الاستبعاد غير ضائر بالمراد (3)، بعد مساعدة الوجوه المتقدمة عليه (4): إن ذلك إنما يلزم لو لم يكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال قال العلامة القوجاني في تقريب «إن قلت: على هذا» ما حاصله: أن ما ذكره من كثرة الاستعمال في مورد الانقضاء - على فرض كونه مجازا - يستلزم كثرة المجاز، فينافي حكمة الوضع، و لا يجديه القول بكون أكثر لغات العرب مجازات؛ لأنه باعتبار كثرة المعاني المجازية لا في معنى مجازي واحد.

=============

(1) لعله إشارة إلى عدم الفرق في مخالفة حكمة الوضع في الاستعمال المجازي بين المجازي الواحد و بين المجازي الكثير، فكما لا تجوز مخالفة حكمة الوضع في الثاني فكذلك في الأوّل.

(2) قوله: «قلت»: جواب عن الإشكال الذي تعرض له بقوله: «إن قلت: على هذا...» إلخ.

و قد أجاب المصنف عن الإشكال بوجهين:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «إن مجرّد الاستبعاد غير ضائر بالمراد». و حاصله: أن استبعاد كون استعمال المشتق مجازا في موارد الانقضاء لا يضر بوضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ في الحال؛ لأن استبعاد كثرة المجاز - لو سلم - لا يقاوم الأدلة التي أقيمت على الوضع للأخص.

(3) أي: كون المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدإ فقط.

(4) أي: على المراد و هو الوضع لخصوص المتلبس بالمبدإ. و المراد بالوجوه المتقدمة هو التبادر، و صحة السلب، و برهان التضاد، فمرجع هذا الوجه إلى تسليم كثرة المجازات؛ إلاّ إنها غير قادحة فيما هو المدعى.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «إن ذلك» أي: كثرة المجاز الناشئة عن استعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ؛ «إنما يلزم لو لم يكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال التلبس»، و أما إذا كان بلحاظ حال التلبس و هو بمكان من الإمكان لكان الاستعمال على نحو الحقيقة اتفاقا، فإذا قيل: «جاءني الضارب أو الشارب أمس»، و كان الأمس قيدا لزمان التلبس و الجري معا، كان استعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ بلحاظ حال التلبس على نحو الحقيقة، فحينئذ كثرة المجاز ممنوعة على فرض استعمال المشتق في موارد الانقضاء؛ لأن إطلاقه على من انقضى عنه المبدأ بلحاظ حال التلبس ليس بمجاز؛ حتى تلزم كثرة المجاز.

ص: 208

التلبس، مع إنه بمكان من الإمكان، فيراد من: جاء الضارب أو الشارب (1) - و قد انقضى عنه الضرب و الشرب - جاء الذي كان ضاربا و شاربا قبل مجيئه حال التلبس بالمبدإ، لا حينه (2) بعد الانقضاء، كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال (3)، و جعله (4) معنونا بهذا العنوان فعلا بمجرد تلبسه قبل مجيئه؛ ضرورة: أنه (5) كان للأعم لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين.

=============

(1) أي: يراد - من جاء الضارب أو الشارب - أي: جاء الذي كان ضاربا حين التلبس قبل مجيئه لا الذي هو ضارب حال النطق أو المجيء بلحاظ تلبسه السابق. و كذا جاء الشارب. و كان الأولى تقديم قبل مجيئه بأن يقال: جاء الذي كان قبل مجيئه ضاربا أو شاربا حال التلبس بالمبدإ. و كيف كان؛ فإطلاق المشتق على الذات في المثالين إنما هو بلحاظ حال تلبس الذات بالمبدإ فيكون على نحو الحقيقة.

(2) أي: ليس المراد من جاء الضارب أو الشارب الذي هو شارب أو ضارب حين المجيء و النطق بعد انقضاء المبدأ بأن يكون زمان المجيء ظرفا للجري و النسبة حتى يكون المشتق مجازا.

(3) أي: حال الانقضاء حتى يكون مجازا لما عرفت: من أن الجري إذا كان بلحاظ حال الانقضاء كان المشتق مجازا.

(4) الضمير في جعله يعود إلى الموصول في قوله: «جاء الذي كان ضاربا» و جعله عطف على قوله: «الاستعمال». و معنى العبارة: ليس المراد من الضارب و الشارب - في قوله: جاء الضارب أو الشارب - جاء الذي كان ضاربا أو شاربا حين المجيء بعد الانقضاء، كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال، و يكون جعل من صدر عنه الضرب و الشرب قبل مجيئه معنونا بعنوان كونه ضاربا و شاربا فعلا؛ بسبب تلبسه بالضرب و الشرب قبل المجيء بأن يكون الجري و النسبة فعليا، و التلبس انقضائيا حتى يكون إطلاق المشتق بلحاظ الانقضاء، فلا محالة يكون مجازا.

(5) أي: المشتق «لو كان للأعم»، بأن كان جريه بلحاظ حال التلبس الموجب للحقيقة و بلحاظ حال التكلم الموجب للمجازية «لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين» أي: حال التلبس و الانقضاء؛ لكون كل منهما فردا للمعنى الحقيقي فكان استعمال المشتق في كلاهما حقيقة، و حينئذ فلا يتعين كونه مجازا حتى يراد: أنه يلزم كون المجاز أكثر من الحقيقة.

فقوله: «ضرورة أنه...» إلخ تعليل لما أفاده من إمكان كون الاستعمال في موارد الانقضاء بلحاظ التلبس، فيكون على نحو الحقيقة لا المجاز.

ص: 209

و بالجملة (1): كثرة الاستعمال في حال الانقضاء تمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التلبس من الإطلاق، إذ (2) مع عموم المعنى و قابلية كونه حقيقة في و ملخصه: أن المشتق لو كان موضوعا للأعم لصح استعماله بلحاظ كل من التلبس و الانقضاء في موارد الانقضاء، و كان الاستعمال على نحو الحقيقة إذ المفروض: أنه للأعم و اختصاص المجازية بوضع المشتق. لخصوص المتلبس بالمبدإ و ليس الاستعمال في موارد الانقضاء لخصوص المتلبس بالمبدإ فيكون استعماله في موارد الانقضاء مطلقا حقيقة على القول بالأعم، و مجازا على القول بالأخص، مع إن الأمر ليس كذلك؛ فإن استعماله في موارد الانقضاء، تارة: يكون على نحو الحقيقة، و هو ما إذا كان بلحاظ حال التلبس. و أخرى: يكون على نحو المجاز، و هو ما إذا لم يكن بلحاظ حال التلبس، بل كان بلحاظ حال الانقضاء.

=============

(1) خلاصة ما أفاده المصنف في دفع إشكال المعترض: حيث اعترض على التبادر باحتمال كونه ناشئا من الإطلاق، فلا يصلح أن يكون علامة للوضع، لأن التبادر المثبت للوضع هو المستند إلى حاق اللفظ لا إلى إطلاقه.

و حاصل ما ذكره المصنف في دفع هذا الاعتراض: هو أن التبادر الإطلاقي في مورد البحث مشروط بعدم كثرة الاستعمال في موارد الانقضاء، و المفروض: وقوعها فيها، و مع ذلك يكون تبادر خصوص حال التلبس متحققا، فلا محيص عن كونه مستندا إلى حاق اللفظ دون الإطلاق و إلاّ لكان المتبادر هو خصوص حال الانقضاء، لأنه الذي ينصرف إليه إطلاق اللفظ نظرا إلى كثرة الاستعمال في موارده. و عليه: فهذا التبادر من أمارات الوضع؛ لكونه ناشئا من حاق اللفظ كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 380» مع تصرف ما.

(2) أي: قوله: «إذ مع عموم المعنى»؛ تعليل على الظاهر لقوله: «تمنع عن دعوى...» إلخ. إلاّ إن هذا التعليل لا ينطبق على المدعى. و المعلّل و هو ما تقدم سابقا من عدم كون تبادر حال التلبس من المشتق تبادرا إطلاقيا مع كثرة الاستعمال فيما انقضى عنه المبدأ، فلا بد أن يكون هذا التعليل تعليلا لمقدر و هو: أن كثرة الاستعمال في موارد الانقضاء لا يستلزم مجازية المشتق في الأكثر؛ كما ادعاه المتوهم: «إذ مع عموم المعنى...» إلخ.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة، و هي: أن المشتق مع فرض وضعه لمعنى عام يكون حقيقة في المنقضي عنه المبدأ بالانطباق، حيث يكون صادقا على كل من المتلبس و المنقضي، و مع فرض وضعه لمعنى خاص و هو حال التلبس فيمكن أن يكون الاستعمال حينئذ أيضا على وجه الحقيقة إذا كان الجري بلحاظ حال التلبس. و لا بد من البناء على

ص: 210

المورد (1) - و لو بالانطباق - لا وجه لملاحظة حالة أخرى (2) كما لا يخفى.

بخلاف ما إذا لم يكن له (3) العموم، فإن استعماله - حينئذ - مجازا بلحاظ حال الانقضاء و إن كان ممكنا، إلاّ إنه (4) لما كان بلحاظ حال التلبس على نحو الحقيقة بمكان من الإمكان، فلا وجه لاستعماله و جريه على الذات مجازا و بالعناية و ملاحظة كونه بهذا اللحاظ، لأنه من صغريات دوران الأمر بين المعنى الحقيقي و المجازي؛ الذي يقدم فيه الحقيقة على المجاز بأصالة الحقيقة.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة؛ فيتضح: أن كثرة الاستعمال في موارد الانقضاء لا توجب كون أكثر استعمالات المشتق مجازا، بل يكون استعماله في موارد الانقضاء على نحو الحقيقة على القولين كما عرفت.

(1) أي: كون المشتق حقيقة في مورد الانقضاء. «و لو بالانطباق» أي: انطباق الكلي على الفرد؛ لأن المشتق حقيقة في كل من المتلبس و المنقضي.

(2) أي: و هي حال التلبس، لأن المشتق حينئذ حقيقة في المنقضي، كما أنه حقيقة في المتلبس بالمبدإ، فلا وجه لملاحظة حال التلبس في استعماله في موارد الانقضاء.

فتحصل مما ذكرناه: أن المجاز ليس أكثر من الحقيقة.

(3) أي: بخلاف ما إذا لم يكن لمعنى المشتق المستعمل في المنقضى «العموم»، هذا في مقابل احتمال عموم المعنى للمشتق أعني: قوله: «إذ مع عموم المعنى». و كان الأولى أن يقال: «و مع خصوص المعنى».

و كيف كان؛ فإذا لم يكن لمعنى المشتق العموم فأيضا لا يلزم من استعماله في موارد الانقضاء كثرة المجاز، فإن استعماله - حينئذ مجازا بلحاظ حال الانقضاء و إن كان ممكنا إلاّ إن الاستعمال بلحاظ حال التلبس كان على نحو الحقيقة، فإذا دار الأمر بين الحقيقة و المجاز يحمل على الحقيقة بأصالة الحقيقة، «فلا وجه لاستعماله و جريه على الذات مجازا و بالعناية»، و ملاحظة العلاقة المصححة للتجوز.

فالحاصل: أنه لا يلزم كثرة المجاز حتى يقال إنها على خلاف حكمة الوضع.

(4) أي: إلاّ إن الاستعمال أي: استعمال المشتق في موارد الانقضاء يمكن أن يكون مجازا إذا كان بلحاظ حال الانقضاء، و أن يكون حقيقة؛ إذا كان بلحاظ حال التلبس، و مع دوران الاستعمال بين كونه حقيقة و بين كونه مجازا يقدم الأول على الثاني، ففي موارد الانقضاء يلاحظ حال التلبس ليكون استعمال المشتق فيها حقيقة. فوضع المشتق لخصوص حال التلبس لا يستلزم كثرة الاستعمالات المجازية حتى يرد عليها اعتراض الخصم ببعدها و عدم ملاءمتها لحكمة الوضع كما عرفت.

ص: 211

العلاقة، و هذا (1) غير استعمال اللفظ فيما لا يصح استعماله فيه حقيقة كما لا يخفى، فافهم (2).

ثم إنه ربما أورد (3) على الاستدلال بصحة السلب بما حاصله: أنه إن أريد بصحة

=============

(1) أي: المورد الذي يجوز استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي - كما نحن فيه - غير استعمال اللفظ فيما لا يصح استعماله فيه حقيقة كاستعمال لفظ أسد في الرجل الشجاع، حيث لا محيص حينئذ عن كونه على وجه المجاز، هذا بخلاف المشتق في المقام لجواز استعماله في موارد الانقضاء على نحو الحقيقة.

فالمتحصل من جميع ما ذكره المصنف: صحة ما ادعاه من التبادر، و اندفاع ما أورد عليه من كونه ناشئا عن الإطلاق.

(2) أي: لعله إشارة إلى: أن لحاظ حال التلبس في موارد الانقضاء يخرج الاستعمال فيها عن الاستعمال المجازي؛ لكونه من استعمال اللفظ في الموضوع له. أو إشارة إلى الإشكال في قوله: «فلا وجه لاستعماله و جريه على الذات مجازا و بالعناية».

توضيح ذلك: أن أمر الاستعمال و كيفيته إنما هو بيد المستعمل، فإن شاء لاحظ التلبس في موارد الانقضاء فيكون الاستعمال حقيقيا، و إن شاء لاحظ حال الانقضاء فيكون مجازيا، و لا يكون الاستعمال المجازي مع التمكن من الحقيقي أمرا ممنوعا عنه، و لذا قيل: إن باب المجاز أوسع، و إن أكثر المحاورات مجازات.

الإشكال على صحة السلب

(3) أي: أورد صاحب البدائع على الاستدلال بصحة السلب. «بما حاصله:» توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن سلب المحمول عن الموضوع على قسمين:

أحدهما: سلبه عنه مطلقا أي: في جميع الأزمنة بأن يكون معنى قولنا: «زيد ليس بضارب» سلب الضرب عنه في الحال و الماضي.

و ثانيهما: سلبه عنه مقيدا بأن يكون معنى قولنا: «زيد ليس بضارب» نفي الضرب عنه في الحال دون الماضي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الاستدلال بصحة السلب على الأول غير سديد أي: غير صحيح. و على الثاني غير مفيد أي: لا يثبت بها وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ.

و أما وجه عدم صحة السلب على فرض الأول: فللزوم الكذب؛ ضرورة: صحة قولنا: «زيد ضارب أمس» و هو نقيض قولنا: «زيد ليس بضارب» أصلا. و من المعلوم: أنه من صدق أحد النقيضين نعلم كذب الآخر، فقولنا: «زيد ليس بضارب مطلقا» يكون كاذبا.

ص: 212

السلب صحته مطلقا فغير سديد، و إن أريد مقيدا فغير مفيد، لأن علامة المجاز هي صحة السلب المطلق. و فيه (1): أنه إن أريد بالتقييد تقييد المسلوب؛ الذي يكون سلبه و أما وجه عدم كونه مفيدا على الثاني: فلأن علامة المجاز هي: صحة السلب المطلق، مثل: سلب الأسد بمعناه المرتكز في الذهن عن الرجل الشجاع، لا سلب المقيد نحو سلب الإنسان الأبيض عن الزنجي، فإنه لا يكون علامة لكون الإنسان مجازا في الزنجي، و حينئذ فلا يصح الاستدلال بصحة السلب على كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ، و مجازا فيمن انقضى عنه المبدأ.

=============

(1) أي: فيما ذكره صاحب البدائع من الإشكال على الاستدلال بصحة السلب:

أنّنا نختار الشق الثاني - أعني: صحة السلب مقيدا. و أما قولكم: «و إن أريد مقيدا فغير مفيد» فمردود.

توضيح الردّ يتوقف على مقدمة و هي: أن القيد تارة يكون قيدا للمسلوب أعني:

المشتق المحمول نحو: «زيد ليس بضارب» في حال الانقضاء أي: ليس متلبسا بالضرب الحالي.

و أخرى: يكون قيدا للسلب أي: لمفاد كلمة ليس، فمعنى «زيد ليس في حال الانقضاء الضارب»: أن هذا العدم أعني عدم الضاربية متحقق لزيد في حال الانقضاء.

و ثالثة: يكون قيدا للموضوع - أعني: المسلوب عنه - نحو: «زيد المنقضي عنه الضرب ليس بضارب».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه إذا كان القيد قيدا للمشتق؛ بأن يكون المسلوب هو المشتق المقيد بحال الانقضاء كما في الاحتمال الأول - فلا يكون صحة السلب حينئذ علامة للمجاز، إذ يعتبر في علاميّتها صحة سلب اللفظ.

بما له من المعنى - أي: صحة السلب المطلق - و المفروض هنا: تقييده بحال الانقضاء، فيكون السلب سلب المقيد، و سلب المقيد لا يستلزم سلب المطلق ليكون علامة المجاز، إذ يصدق «زيد ليس بضارب فعلا»، و لا يصدق «زيد ليس بضارب مطلقا»، لصدق كونه ضاربا أمس، فصحة هذا السلب يكون المسلوب فيه مقيدا علامة لعدم وضع المشتق لخصوص المنقضي عنه المبدأ، و إلاّ لم يصح سلبه، و ليس علامة لعدم وضع المشتق للجامع بين المتلبس و المنقضي الذي هو المقصود فما ذكره المستشكل من كونه غير مفيد و إن كان في محله؛ إلاّ إنه لنا تقييد المشتق بحال الانقضاء كما أشار إليه بقوله: «إلاّ إن تقييده ممنوع»؛ و ذلك لما ذكرناه من عدم الدليل على رجوع القيد إليه حتى يلزم الإشكال على كون صحة السلب علامة للمجاز في الأعم.

ص: 213

أعم من سلب المطلق - كما هو واضح - فصحة سلبه و إن لم تكن علامة على كون المطلق مجازا فيه، إلاّ إن تقييده ممنوع. و إن أريد تقييد السلب فغير ضائر بكونها (1) علامة، ضرورة: صدق المطلق على أفراده على كل حال، مع إمكان منع تقييده (2) أيضا بأن يلحظ حال الانقضاء في طرف الذات الجاري عليها المشتق، فيصح سلبه ثم سلب المقيد أعم من سلب المطلق؛ نظرا إلى ما في علم الميزان من: أن نقيض الأخص أعم من نقيض الأعم. فإن النقيض و هو اللاإنسان أعم من نقيض الحيوان و هو اللاحيوان، و لذا يصح أن يقال: كل لا حيوان لا إنسان و لا عكس، و كذلك يقال في المقام: كل من بضارب مطلقا ليس بضارب في حال الانقضاء دون العكس.

=============

و أما إن كان القيد قيدا للسلب: فصحة السلب حينئذ علامة للمجاز؛ إذ المفروض:

أنه يصح سلب الضارب مطلقا عن زيد بلحاظ حال الانقضاء، و لا ضير في كونها علامة للمجاز؛ إذ لو كان المنقضي عنه المبدأ من أفراد المطلق لم يصح سلبه عنه لعدم صحة سلب المطلق عن فرده في شيء من الأزمنة، فصحته دليل على مجازية إطلاق المشتق على المنقضي عنه المبدأ؛ كما أشار إليه بقوله: «فغير ضائر بكونها علامة»، و لكن لا دليل لنا على رجوع القيد إلى السلب أيضا أي: كما لا دليل على رجوعه إلى المشتق المسلوب.

فيتعين أن يكون القيد قيدا للموضوع أي: المسلوب عنه، و هو الاحتمال الثالث، فيصح حينئذ سلب المشتق مطلقا يعني: في جميع الأزمنة عمن انقضى عنه المبدأ بلحاظ حال الانقضاء فيكون حال الانقضاء - في المثال السابق - قيدا للموضوع لا للسلب، و لا للمسلوب، فيتم ما ذكره المصنف من الاستدلال بصحة السلب على كون المشتق مجازا فيمن انقضى عنه المبدأ.

(1) أي: بكون صحة السلب «علامة» للمجاز، «ضرورة صدق المطلق» أعني:

المحمول و هو المشتق «على أفراده على كل حال»، أي: في جميع الأزمنة، فلو سلب المشتق بما له من المعنى عن فرد في حال كان كاشفا عن عدم صدقه على ذلك الفرد في هذا الحال، و ذلك يوجب المجازية، فقولنا: زيد ليس في حال الانقضاء بضارب؛ مفيد لسلب الضاربية عن زيد في حال انقضاء المبدأ عنه، فيكون إطلاق الضارب على زيد في هذا الحال مجازا، فيثبت المطلوب.

(2) أي: منع تقييد السلب «أيضا» أي: كمنع تقييد المسلوب؛ لما عرفت من: عدم الدليل على رجوع القيد إلى السلب.

ص: 214

مطلقا (1) بلحاظ هذا الحال، كما لا يصح سلبه بلحاظ حال التلبس، فتدبر جيدا.

ثم لا يخفى: أنه (2) لا يتفاوت في صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ بين كون المشتق لازما و كونه متعديا؛ لصحة سلب الضارب عمن يكون فعلا غير متلبس بالضرب، و كان متلبسا به سابقا.

=============

(1) أي: فيصح سلب المشتق في جميع الأزمنة؛ لكن «بلحاظ» تقييد الموضوع به «هذا الحال» الانقضائي، «كما لا يصح سلبه بلحاظ حال التلبس»، أي: فلا يصح أن يقال: زيد في حال التلبس ليس بضارب، «فتدبر جيدا».

يمكن أن يكون إشارة إلى ما قيل: من منع إطلاق تسليم المصنف عدم العلامية على تقدير كونه قيدا للمسلوب، بل يصح أن يقال: «زيد ليس بضارب في حال الانقضاء»، و يكون علامة للمجازية؛ إذ لو كان للأعم لما صح السلب المذكور.

(2) هذا الكلام من المصنف ردّ لما ذهب إليه صاحب الفصول في هذه المسألة؛ من التفصيل بين المتعدي و اللازم حيث قال ما حاصله: من أن المشتق إن كان مأخوذا من المبادئ المتعدية إلى الغير؛ كالضرب و القتل كان حقيقة في الأعم، و إلاّ كان حقيقة في المتلبس بالمبدإ في الحال.

و غاية ما يمكن أن يقال في وجه هذا التفصيل هو: إن المشتق إن كان مأخوذا من المبادئ المتعدية؛ لم يعتبر في صدقه على الذات اتصافها بالمبدإ فعلا، لأن المبدأ لم يكن قائما بنفس الذات، بل بغيرها لفرض التعدي عنها إلى غيرها و هو المفعول به، فيكون إطلاقه عليها بعد الانقضاء حقيقة، كما يكون إطلاقه عليها حال التلبس كذلك.

هذا بخلاف ما إذا كان المشتق مأخوذا من المبادئ اللازمة؛ القائمة بنفس الذات، فيعتبر حينئذ في صدق المشتق عليها: بقاء المبدأ القائم بها، فانقضاء المبدأ يوجب مجازية إطلاق المشتق على المنقضي عنه المبدأ.

و حاصل ما أفاده المصنف في ردّ هذا: أنّ التفصيل المزبور فاسد كما أشار إليه بقوله:

«لصحة سلب الضارب...» إلخ.

و ملخصه: أنه لا فرق في مجازية المشتق فيما إذا أطلق على المنقضي عنه المبدأ بين كونه متعديا؛ كالضرب، أو لازما كالحسن.

و الفرق بين المبادئ إنما هو في كيفية قيامها بالذوات، فإن قيام المبادئ المتعدية بها إنما هو بنحو الصدور و الإيجاد، و قيام المبادئ اللازمة بها إنما هو بنحو الحلول. و قد عرفت سابقا: أن اختلاف كيفية القيام لا يوجب تفاوتا في الجهة المبحوث عنها؛ و هي وضع هيئة المشتق.

ص: 215

و أما إطلاقه (1) عليه في الحال: فإن كان بلحاظ حال التلبس، فلا إشكال كما عرفت، و إن كان بلحاظ الحال، فهو و إن كان صحيحا إلاّ إنه لا دلالة على كونه بنحو الحقيقة؛ لكون الاستعمال أعم منها (2) كما لا يخفى، (3) كما لا يتفاوت (4) في صحة السلب عنه (5) بين تلبسه (6) بضد المبدأ و عدم تلبسه؛ لما (7) عرفت: من وضوح و يشهد بذلك: صحة سلب الضارب عمن لا يكون فعلا متلبسا بالضرب، فلو كان التفصيل المزبور صحيحا لما صح هذا السلب مع كون المبدأ - و هو الضرب فيه - متعديا.

=============

(1) قوله: «و أما إطلاقه عليه» دفع لما يتوهم من: أن ما ذكر من كون صحة سلب المشتق عن المنقضى عنه المبدأ علامة المجاز ينافي صدقه عليه في الحال، لأن صدقه حينئذ أمارة الحقيقة، فلا يكون صحة سلبه عن المنقضي عنه المبدأ علامة المجاز.

و حاصل الدفع: أنّ إطلاق المشتق على المنقضي عنه المبدأ إن كان بلحاظ حال التلبس لكان على نحو الحقيقة، فلا إشكال في كونه حينئذ على نحو الحقيقة، إلاّ إنه ليس هناك دليل على أن صدقه عليه بهذا الحال؛ حتى يكون على نحو الحقيقة، و ذلك لأن الاستعمال أعم من الحقيقة، فمجرد الاستعمال لا يثبت الحقيقة. نعم؛ لو كان الاستعمال مثبتا للحقيقة لكان منافيا لصحة سلبه عن المنقضي عنه المبدأ إلاّ إنه ليس كذلك.

(2) أي: من الحقيقة.

(3) إشارة إلى: أن أصالة الحقيقة لا تجري فيما علم بالمراد، و شك في كونه معنى حقيقيا أو مجازيا، و إنما تجري فيما إذا علم بالمعنى الحقيقي، و شك في المراد على ما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 289».

(4) أي: هذا إشارة إلى ردّ تفصيل آخر و هو: كون المشتق حقيقة في الأعم؛ إن لم يتصف الذات بعد انقضاء المبدأ عنها بضد ذلك المبدأ؛ كعروض القيام لها بعد مضي القعود عنها، و إلاّ فيكون حقيقة في خصوص حال التلبس، و مجازا فيما بعد الانقضاء.

(5) أي: عن المنقضي عنه المبدأ.

(6) أي: بين تلبس المنقضي عنه بالمبدإ و بين عدم تلبسه به.

(7) قوله: «لما عرفت...» إلخ تعليل لقوله: «كما لا يتفاوت»، و ردّ للتفصيل المزبور و حاصله: على ما في «منتهى الدراية»: أن السلب صحيح في كلا المقامين أي: مع عدم التلبس بالضد، و التلبس به؛ إلاّ إنه مع التلبس أوضح، لأن المدار في صحة السلب هو زوال المبدأ المتحقق في كلا المقامين أي: طرو الضد الوجودي على الذات و عدمه.

ص: 216

صحته مع عدم التلبس - أيضا - و إن كان معه أوضح.

و مما ذكرنا (1) ظهر حال كثير من التفاصيل، فلا نطيل بذكرها على التفصيل.

=============

(1) أي: مما ذكرنا من صحة السلب بالنسبة إلى المنقضي عنه المبدأ، و من أن اختلاف أنحاء قيام المبادئ بالمشتقات لا يوجب تفاوتا في محل الكلام ظهر: عدم صحة كثير من التفاصيل، و قد عرفت ما فيها من الإشكال، فلا حاجة إلى الإعادة.

و المتحصل من الجميع: أن صحة السلب و غيرها من الأدلة تنفي جميع تلك التفاصيل.

خلاصة البحث

1 - بيان الأصل عند الشك في كون المشتق للأعم أو الأخص؛ هل هنا أصل يتعين به أحدهما أم لا؟

و أما الأصل في المسألة الأصولية فغير ثابت؛ إذ ليس هناك أصل يعين به أن الموضوع له للمشتق هو الأعم أو الأخص؛ إذ أصالة عدم ملاحظة الخصوصية لإثبات الوضع للأعم؛ مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له.

و أما الأصل في المسألة الفرعية كما أشار إليه بقوله: «و أما الأصل العملي فيختلف في الموارد»؛ بمعنى: أنه قد تكون نتيجته الوضع للأخص؛ كما لو ورد «أكرم كل عالم»، و كان زيد قد انقضى عنه المبدأ قبل الإيجاب، فتجري البراءة، و يحكم بعدم وجوب إكرامه بعد الانقضاء؛ و لازمه: الوضع للأخص؛ لاختصاص وجوب الإكرام بحال التلبس بالمبدإ. و قد تكون نتيجته الوضع للأعم؛ و ذلك فيما لو كان الإيجاب - في المثال المزبور - قبل انقضاء المبدأ، فإذا شك في بقاء الحكم بعد انقضاء المبدأ يستصحب وجوب الاكرام؛ و لازمه: الوضع للأعم.

2 - الأقوال في المسألة و إن كثرت إلاّ إن العمدة قولان:

1 - وضعه للأعم. 2 - وضعه للأخص و هو مختار المصنف، و يدل عليه: تبادر خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال من المشتق. و صحة السلب مطلقا عما انقضى عنه المبدأ. الدليل الثالث هو برهان التضاد أعني: التضاد بين مبادئ المشتقات.

3 - و توهم: لزوم الدور من برهان التضاد مدفوع؛ بأن التضاد لا يتوقف على الوضع للأخص حتى يلزم الدور.

ص: 217

حجة القول بعدم الاشتراط (1) وجوه

الأول - التبادر (2) - 4 - و ما يتوهم: من أن ارتكاز المضادة إنما هو لانسباق حال التلبس من الإطلاق؛ لا من حاق اللفظ، فلا يكون دليلا على الوضع للأخص مدفوع؛ بأن انسباق خصوص المتلبس بالمبدإ إنما هو من حاق اللفظ؛ لا من الإطلاق، إذ لو كان من الإطلاق لكان المتبادر هو الأعم؛ لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء.

=============

5 - و ما يدعى: من لزوم المجاز في أغلب الموارد؛ لأجل كثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء و هو بعيد، و على خلاف حكمة الوضع، لأن مقتضى حكمة الوضع كثرة الحقائق لا كثرة المجازات مدفوع؛ بأن البعيد هو كثرة المجاز في مقام الاستعمال، و المراد بكثرة المجاز في المقام الكثرة العددية، و هي لا تكون بعيدة، و لا على خلاف حكمة الوضع.

6 - الإشكال - على استدلال المصنف بصحة السلب على كون المشتق مجازا في المنقضي عنه المبدأ - بأنه إما غير سديد، أو غير مفيد مدفوع؛ بأننا نختار من صحة السلب صحته مقيدا، و لا يرد عليه بأنه غير مفيد، بل مفيد، لأن القيد قيد للموضوع لا للمحمول، فحينئذ يكون سلب المشتق عمن انقضى عنه المبدأ دليلا على كونه مجازا فيمن انقضى عنه المبدأ. كما عرفت.

فما ذكره المصنف من استدلاله بصحة السلب على مجازية المشتق في المنقضي عنه المبدأ في محله. انتهى الكلام في الخلاصة.

أدلة القائل بالأعم

(1) أي: عدم اشتراط حال التلبس في المشتق فيكون معناه عاما شاملا للمتلبس و المنقضي.

(2) استدل القائل بوضع المشتق للأعم بوجوه:

الأول: هو التبادر، و قد مر معناه و هو: أنه بمجرد التلفظ ينسبق المعنى إلى الذهن بنفسه و بلا قرينة حالية أو مقالية، فيقال في المقام: إن المتبادر من المشتق هو المعنى العام الشامل للمتلبس بالمبدإ و المنقضي عنه.

ص: 218

و قد عرفت (1): أن المتبادر هو خصوص حال التلبس.

الثاني (2): عدم صحة السلب في مضروب و مقتول، عمن انقضى عنه المبدأ.

و فيه (3): أن عدم صحته في مثلهما إنما هو لأجل أنه أريد من المبدأ معنى يكون التلبس به باقيا في الحال و لو مجازا.

و قد انقدح من بعض المقدمات (4): أنه لا يتفاوت الحال فيما هو المهم في محل

=============

(1) قال المصنف في الجواب عن الاستدلال بالتبادر بما حاصله: أنك قد عرفت في أدلة القائلين بوضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ أن المتبادر هو خصوص المتلبس بالمبدإ دون الأعم.

(2) الثاني: من أدلتهم هو: عدم صحة السلب في مثل: «مضروب و مقتول»؛ بما لهما من المعنى المرتكز في الذهن عمن انقضى عنه المبدأ، فيصح أن يقال: «بكر مضروب عمرو أو مقتوله»، بلا رعاية علاقة المجاز، فلو لم يكن موضوعا للأعم لكان إطلاقهما على من زال عنه المبدأ مجازا، و المجاز يحتاج إلى العلاقة التي تصحح التجوز، و لكان سلبهما عنه صحيحا، و الحال أن استعمالهما فيه لا يحتاج إلى العلاقة المصححة للمجاز، و لا يصح سلبهما عنه. و عدم صحة السلب علامة الحقيقة.

(3) قد أجاب المصنف عن الاستدلال بعدم صحة السلب بما حاصله: من أن عدم صحة السلب في مثل المثالين المزبورين و إن كان صحيحا إلاّ إنه لا يكون دليلا على كون المشتق للأعم من المتلبس و المنقضي، بل إنه دليل على كونه حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ بالفعل؛ لأجل أنه قد أريد من المبدأ فيهما معنى يكون التلبس به باقيا بالفعل؛ بأن يكون المراد من القتل في المقتول: زهوق الروح الذي بمنزلة الملكة في البقاء، و من الضرب في المضروب: وقوعه على شخص لا تأثيره حين صدوره. و هذان المعنيان و إن كانا مجازيين لكنهما لا يوجبان المجاز في هيئة المشتق، بل المجاز في المادة، و من المعلوم: أن المبدأ بهذا المعنى باق، فعدم صحة سلبهما إنما هو لأجل بقاء التلبس بهما فعلا، فلا يلزم من إطلاقهما حينئذ مجاز في محل النزاع و هو هيئة المشتق؛ لعدم كونهما من إطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ.

(4) أي: و قد ظهر من بعض المقدمات - أي: و هي المقدمة الرابعة - أن اختلاف المشتقات في المبادئ من حيث الفعلية و الشأنية و غيرهما لا يوجب اختلافا في المهم المبحوث عنه - و هو وضع هيئة المشتق - حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ، أو في الأعم منه و ما انقضى عنه المبدأ. أي: ظهر أن المشتق في الكل على نمط واحد، و أن مورد

ص: 219

البحث و الكلام، و مورد النقض و الإبرام اختلاف ما يراد من المبدأ في كونه حقيقة أو مجازا، و أما لو أريد منه (1) نفس ما وقع على الذات مما صدر عن الفاعل فإنما لا يصح السلب فيما لو كان بلحاظ حال التلبس و الوقوع كما عرفت (2)؛ لا بلحاظ الحال (3) أيضا؛ لوضوح: (4) صحة أن يقال: انه ليس بمضروب الآن، بل كان.

الثالث: (5) استدلال الإمام - عليه السلام - تأسيا بالنبي - صلوات الله عليه - كما عن غير واحد من الأخبار بقوله: لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ على عدم لياقة من عبد النقض و الإبرام هو وضع هيئة المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ أو الأعم؛ من دون نظر إلى اختلاف المبادئ من حيث إرادة معانيها الحقيقية أو المجازية.

=============

(1) أي: لو أريد من المبدأ - في مثل المضروب و المقتول - نفس ما يصدر من الفاعل كالإيلام في الأول، و إزهاق الروح في الثاني، و هو ما وقع على الذات أعني: المفعول به، فلا يصح السلب عن المنقضي أيضا إذا كان الإطلاق بلحاظ حال التلبس و الوقوع، و أما إذا كان بلحاظ الانقضاء فيصح السلب، فعدم صحة السلب حينئذ ممنوع جدا؛ ضرورة:

صحة قولنا: «بكر ليس بمقتول عمرو فعلا»، بل كان.

(2) أي: كما عرفت سابقا من أن المشتق حقيقة في المنقضي إذا كان بلحاظ حال التلبس، و لكن هذا خارج عن محل الكلام؛ لأن النزاع في إطلاق المشتق على الذات بلحاظ انقضاء المبدأ عنها.

(3) أي: حال النطق الذي هو حال الجري و الإطلاق. يعني: عدم صحة السلب مختص بما إذا كان بلحاظ حال التلبس فقط؛ بدون لحاظ حال النطق معها كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 293».

(4) هذا تعليل لانحصار عدم صحة السلب بحال التلبس، حيث إنه يصح السلب بالنظر إلى حال الانقضاء و يقال: «إنه ليس بمضروب الآن» كما يصح أن يقال: «إن ضاربه ليس بضارب الآن».

(5) الثالث: من أدلة القائلين بوضع المشتق للأعم استدلال الإمام - تأسيا بالنبي «صلى الله عليه و آله» - بقوله تعالى: لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ(1)- على عدم لياقة من عبد صنما أو وثنا لمنصب الإمامة للناس و الخلافة لرسول الله «صلى الله عليه و آله»؛ تعريضا بمن تصدى لمنصب الإمامة بمن عبد صنما أو وثنا مدة مديدة.

و هذا الوجه من أهم الوجوه التي تمسك بها القائلون بوضع المشتق للأعم، و تقريب

ص: 220


1- البقرة: 134.

صنما أو وثنا لمنصب الإمامة و الخلافة، تعريضا بمن تصدى لها ممن عبد الصنم مدة مديدة، و من الواضح: توقف ذلك (1) على كون المشتق موضوعا للأعم، و إلا (2) لما صح التعريض؛ لانقضاء تلبسهم بالظلم، و عبادتهم للصنم حين التصدي للخلافة.

و الجواب: منع التوقف على ذلك (3)، بل يتم الاستدلال و لو كان موضوعا الاستدلال به: إن المشتق لو كان موضوعا لخصوص المتلبس لم يتم استدلال الإمام - عليه السلام - بالآية المباركة على عدم لياقة الخلفاء الثلاثة للخلافة الإلهية، لأنهم في زمن دعواهم لمنصب الخلافة كانوا متشرفين بقبول الإسلام، و غير متلبسين بالظلم و عبادة الوثن ظاهرا، و إنما كان تلبسهم به قبل التشرف بالإسلام و في زمن الجاهلية. فالاستدلال بالآية لا يتم إلاّ على القول بالوضع للأعم ليصدق عليهم عنوان الظالم فعلا فيندرجوا تحت الآية.

=============

(1) أي: توقف الاستدلال على كون المشتق موضوعا للأعم من المنقضي و المتلبس حتى يشمل الخلفاء.

(2) أي: و إن لم يكن المشتق موضوعا للأعم لما صح التعريض بمن تصدى الخلافة، لأن إطلاق الظالم عليه حينئذ يكون مجازا، فلا يلزم به الخصم إذ صح له أن يقول: إن الآية لا تشمل من تصدى للخلافة بعد الانقضاء؛ لأن ملاك عدم لياقة الخلافة صدق الظالم حقيقة حين التصدي إما بتلبسهم بالظلم، و إما بوضع المشتق للأعم. و الأول:

منتف عند الخصم لاعتقاده بانقضاء عبادته الصنم حين التصدي، فتعيّن الثاني. ثم إلزام الخصم يتوقف على أن يكون للآية ظهور عرفي في إطلاق المشتق على المنقضي عنه المبدأ؛ لئلا يكون له مجال للردّ، و اعترافه بذلك موقوف على وضع المشتق للأعم.

الجواب عن الاستدلال بالآية على الأعم

(3) أي: على وضع المشتق للأعم. و قد أجاب المصنف عن الاستدلال بالآية: بمنع توقف الاستدلال بها على القول بوضع المشتق للأعم، بل يتم الاستدلال بها و لو على القول بوضعه لخصوص المتلبس بالمبدإ.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: إن الوصف العنواني الذي يؤخذ موضوعا للحكم في لسان الدليل على أقسام ثلاثة:

الأول: أن يكون لمحض الإشارة إلى ما هو الموضوع - و هو المعنون - من دون دخل للعنوان في الحكم أصلا نحو: «أكرم هذا الجالس» مشيرا إلى الشخص الخاص الذي يستحق الإكرام لا لأجل كونه جالسا و معنونا بعنوان الجلوس، بل أخذ هذا العنوان معرفا لما هو الموضوع في الواقع بلا دخل له في الحكم أصلا هذا ما أشار إليه بقوله: «أن يكون أخذ العنوان لمجرد الإشارة...» إلخ.

ص: 221

الثاني: أن يكون العنوان لأجل الإشارة إلى علية العنوان للحكم حدوثا لا بقاء؛ بحيث إذا صدق عليه العنوان و لو آناً ما ثبت الحكم و لو بعد زوال العنوان، فالعنوان و إن كان دخيلا في حدوث الحكم إلاّ إنه لا دخل له في بقائه؛ بل يبقى الحكم مع انتفاء العنوان، و يعبّر عنه بأنّ العلة المحدثة هي العلة المبقية؛ بمعنى: أن الحكم في بقائه لا يحتاج الى بقاء العنوان - كما في آيتي السرقة و الزنا و هما آيتا حد السارق و السارقة و حد الزانية و الزاني؛ الأولى: قوله تعالى: وَ اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا(1). و الثانية: قوله تعالى: اَلزّٰانِيَةُ وَ اَلزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ(2)- حيث يكفي فيهما صدق العنوان لثبوت القطع و الجلدة و لو بعد زوال العنوان لأن وجوب القطع و الجلدة يحدثان عند التلبس بهذين المبدأين و لكنهما لا يدوران مدار بقاء العنوان أصلا، و لا دخل لهذا بوضع المشتق للأعم أو الأخص. هذا ما أشار إليه بقوله: «أن يكون لأجل الإشارة إلى علية المبدأ للحكم...» إلخ.

الثالث: ما أشار إليه بقوله: «أن يكون لذلك» أي: لأجل الإشارة إلى علية المبدأ للحكم. و حاصله: إن أخذ المشتق عنوانا للموضوع لأجل الإشارة إلى علية المبدأ للحكم حدوثا و بقاء؛ بحيث يدور الحكم مدار صدق العنوان نظير العالم و العادل في دوران الحكم بجواز التقليد و الاقتداء أو غيرهما مدار وجود العلم و العدالة، و عدم كفاية وجودهما - آناً ما - في بقاء الحكم، بخلاف الوجه السابق فإن مجرد وجود المبدأ كان كافيا في بقاء الحكم و استمراره.

إذا عرفت هذه المقدمة؛ فاعلم: أن المشتق - أعني: الظالم في الآية المباركة - مأخوذ بأحد الأنحاء الثلاثة فإن قلنا: إنه من القسم الثالث؛ بحيث يكون الحكم في الآية المباركة يدور مدار صدق العنوان حدوثا و بقاء فاستدلال الإمام «عليه السلام» بالآية يتوقف على الوضع للأعم، فيتم الاستدلال على الأعم إذ يبتني الاستدلال بها على كون الظالم فيها حقيقة في الأعم، لأنه لو لم يكن حقيقة في الأعم لم يكن هذا العنوان باقيا للثلاثة المعهودة حين تصديهم لمنصب الخلافة.

و أما إذا كان العنوان من قبيل القسم الثاني؛ بحيث كان يكفي في عدم لياقة الخلافة صدق العنوان حدوثا و لو آناً ما لثبوت الحكم و هو عدم نيل عهد الإمامة إلى الأبد، فلا

ص: 222


1- المائدة: 38.
2- النور: 3.

لخصوص المتلبس، و توضيح ذلك يتوقف على تمهيد مقدمة، و هي: أن الأوصاف العنوانية التي تؤخذ في موضوعات الأحكام، تكون على أقسام:

أحدها: أن يكون أخذ العنوان لمجرد الإشارة إلى ما هو في الحقيقة موضوعا للحكم، لمعهوديته بهذا العنوان؛ من دون دخل لاتصافه به في الحكم أصلا.

ثانيها: أن يكون لأجل الإشارة إلى علية المبدأ للحكم؛ مع كفاية مجرد صحة جري المشتق عليه، و لو فيما مضى.

ثالثها: أن يكون لذلك مع عدم الكفاية، بل كان الحكم دائرا مدار صحة الجري عليه، و اتصافه به حدوثا و بقاء.

إذا عرفت هذا فنقول: إن الاستدلال بهذا الوجه إنما يتم لو كان أخذ العنوان في الآية الشريفة على النحو الأخير؛ ضرورة: أنه لو لم يكن المشتق للأعم، لما تم بعد عدم التلبس بالمبدإ ظاهرا حين التصدي فلا بد أن يكون للأعم، ليكون حين التصدي حقيقة من الظالمين؛ و لو انقضى عنهم التلبس بالظلم.

و أما إذا كان على النحو الثاني، فلا (1) كما لا يخفى، و لا قرينة على إنه (2) على يتوقف استدلال الإمام بالآية حينئذ على كون المشتق حقيقة في الأعم، بل يصح الاستدلال بها على عدم نيل العهد و الإمامة و لو بعد انقضاء الظلم و زوال العنوان، لأن الظلم علة له حدوثا و بقاء، و مع هذا الاحتمال يسقط الاستدلال بالآية الشريفة على كون المشتق موضوعا للأعم، إذ لا دليل عقلا و لا نقلا على كون عنوان الظلم في الآية المباركة من قبيل القسم الثالث، بل جلالة منصب الإمامة تكون قرينة مقامية، بل قرينة عقلية على كون العنوان من قبيل القسم الثاني، بمعنى: أن مجرد صدق عنوان الظالم و لو في مدة قليلة يكفي لعدم نيل منصب الإمامة. فالمناسب لمنصب الإمامة أن لا يكون المتقمص بها متلبسا بالظلم أصلا و لو آناً ما.

=============

(1) أي: فلا يتم الاستدلال بالآية الكريمة على وضع المشتق للأعم، و ذلك لعدم توقف استدلال الإمام «عليه السلام» بها على عدم لياقة هؤلاء للخلافة على وضعه للأعم؛ إذ المفروض: كون المبدأ و هو الظلم - بمجرد حدوثه آناً ما - علة لعدم لياقتهم لهذا المنصب الشامخ إلى الأبد، و من المعلوم: تسليم الخصم تلبسهم بالظلم قبل الإسلام.

و الحاصل: على ما في «منتهى الدراية» أن الاستدلال بالآية المباركة على عدم صلاحيتهم للخلافة لا يتوقف على وضع المشتق للأعم، بل يتم ذلك و لو على القول بوضعه لخصوص المتلبس بالمبدإ.

(2) أي: لا قرينة على أن العنوان على النحو الأول. المراد بالنحو الأول هو النحو

ص: 223

النحو الأول، لو لم نقل بنهوضها (1) على النحو الثاني (2)، فإن الآية الشريفة في مقام بيان جلالة قدر الإمامة و الخلافة و عظم خطرها و رفعة محلها، و إن لها خصوصية من بين المناصب الإلهية، و من المعلوم: أن المناسب لذلك، هو أن لا يكون المتقمص بها متلبسا بالظلم أصلا، كما لا يخفى.

إن قلت (3): نعم؛ و لكن الظاهر: أن الإمام «عليه السلام» إنما استدل بما هو قضية الثالث الذي هو الأول في الذكر بعد قوله: «إذا عرفت هذا»، و هو الذي أشار إليه بقوله:

=============

«على النحو الأخير» و هو ثالث الأقسام التي ذكرها في المقدمة.

(1) أي: نهوض القرينة و هي مناسبة الحكم و الموضوع التي هي من القرائن المعتبرة.

(2) أي: كون المبدأ - آناً ما - علّة محدثة و مبقية. قوله: «فإن الآية الشريفة...» إلخ بيان لنهوض القرينة على النحو الثاني و حاصله: على ما في «منتهى الدراية»: أن الآية الشريفة في مقام بيان جلالة منصب الإمامة و عظم شأنها، و أنها من أعظم المناصب الشامخة الإلهية؛ التي لا يليق بها كل أحد، فلا بد أن يكون المتقمص بها منزّها في تمام عمره عن كل رذيلة فضلا عن الكفر الذي هو لصاحبه أعظم بلية، فمن اتصف في آن من آنات عمره برذيلة لا تناله الخلافة فضلا عن الكفر، فهذه قرينة على كون عنوان الظالمين في الآية المباركة مأخوذا على النحو الثاني، و هو كفاية وجود المبدأ - آناً ما - في عدم اللياقة لمنصب الخلافة إلى الأبد، فلا يتم استدلال القائلين بالأعم بالآية الشريفة.

و هذا ما أشار إليه بقوله: «أن المناسب لذلك» أي: المناسب لجلالة هذا المنصب و عظمته: أن لا يكون المتقمص به متلبسا بالظلم و لو آناً ما في عمره؛ بل لا بد أن يكون طاهرا عن لوث المعصية في جميع آنات عمره.

الإشكال على جواب المصنف

(3) قوله: «إن قلت:...» إلخ إشكال على ما ذكره المصنف من الجواب عن الاستدلال بالآية الشريفة على وضع المشتق للأعم.

و حاصل الإشكال: إنّنا سلمنا أن الآية الكريمة هي في مقام بيان جلالة قدر الإمامة و الخلافة، و إن المناسب لها أن يكون المشتق فيها من القسم الثاني، فتكون المناسبة المذكورة قرينة مقامية على علية المبدأ حدوثا و بقاء، و لازم ذلك: كفاية صدق الظالم آناً ما في عدم نيل منصب الإمامة إلى الأبد.

لكن الظاهر: أن الاستدلال على عدم لياقة المتلبس - آناً ما - للإمامة و لو بعد انقضاء الظلم عنه إنما يكون بما يقتضيه الوضع لا بقرينة المجاز؛ إذ الأصل عدم العدول عن الحقيقة إلى المجاز، فعليه: يكون الظاهر: وضع المشتق للأعم؛ لئلا يلزم مجازية إطلاقه على المنقضي عنه المبدأ، و لازم ذلك: أن استدلال الإمام بها إنما يتم على القول بوضع

ص: 224

ظاهر العنوان وضعا، لا بقرينة المقام مجازا، فلا بد أن يكون للأعم و إلاّ لما تم.

قلت (1): لو سلم، لم يكن يستلزم جري المشتق على النحو الثاني كونه مجازا، بل يكون حقيقة لو كان بلحاظ حال التلبس - كما عرفت - فيكون معنى الآية و الله العالم: من كان ظالما و لو آناً ما في زمان سابق لا ينال عهدي أبدا، و من الواضح: أن إرادة هذا المعنى (2) لا تستلزم الاستعمال، لا بلحاظ حال التلبس.

و منه (3) قد انقدح ما في الاستدلال على التفصيل بين المحكوم عليه و المحكوم به المشتق للأعم، و إن لم يكن المشتق للأعم لما تم الاستدلال؛ لكون خصوص المتلبس خلاف الظهور الوضعي الذي هو مبنى الاستدلال.

=============

(1)

قد أجاب المصنف عن الإشكال بوجهين:

أحدهما: منع ابتناء استدلال الإمام «عليه السلام» على الظهور الوضعي؛ و ذلك لكفاية الظهور العرفي المعتد به عن العقلاء و لو كان بمعونة القرينة كما في المقام؛ لأن الآية المباركة بعد كونها مسوقة لبيان علو منصب الإمامة ظاهرة في علية الظلم و لو بعد انقضائه؛ لعدم نيل من تلبس به للإمامة أبدا، و يصح الاستدلال بهذا الظهور العرفي و إن كان مجازا، فلا يتوقف الاستدلال على وضع المشتق للأعم.

ثانيهما: أنه بعد تسليم كون الاستدلال مبنيا على الظهور الوضعي؛ كما أشار إليه بقوله: «لو سلم...» إلخ أي: بعد التسليم نقول: إن جري المشتق على النحو الثاني - و هو علية المبدأ للحكم مستمرا و إن انقضى عن الذات - لا يستلزم مجازا أصلا؛ لما مر غير مرة من كون جريه على نحو الحقيقة إن كان بلحاظ حال التلبس، و مجازا إن لم يكن بلحاظه، فلا يتوقف الاستدلال على وضع المشتق للأعم، و لا على ارتكاب مجاز بناء على الوضع لخصوص المتلبس بالمبدإ، فمعنى الآية على هذا الوجه هو: عدم لياقة المتلبس بالظلم و لو في آن لمنصب الإمامة إلى الأبد؛ من دون توقفه على وضع المشتق للأعم حتى يلزم من عدم البناء عليه مجاز.

و يرد عليه: أنه خلاف ظاهر الاستدلال؛ لكون ظاهره مبتنيا على الظهور الوضعي حتى نلتجئ إلى وضعه للأعم. كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 301».

(2) أي: أن إرادة علية المبدأ للحكم حدوثا و بقاء لا تستلزم الاستعمال في المنقضي عنه المبدأ؛ حتى نلتزم بكون المشتق حقيقة في الأعم و يثبت مدعى الخصم؛ بل يصح الاستعمال بلحاظ حال التلبس، فلا يلزم مجاز و لا وضع للأعم.

(3) أي: مما تقدم من ردّ الدليل الثالث - و هو الاستدلال بالآية على الأعم - بأن الجري بلحاظ حال التلبس يكون حقيقة، فلا يلزم مجاز أصلا؛ ظهر ما من الإشكال في

ص: 225

باختيار عدم الاشتراط في الأول (1)، بآية حد السارق و السارقة و الزاني و الزانية، و ذلك (2) حيث ظهر إنه لا ينافي إرادة خصوص حال التلبس دلالتها على ثبوت الاستدلال على التفصيل بين المحكوم عليه و المحكوم به بقوله تعالى: وَ اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ ...

=============

و اَلزّٰانِيَةُ وَ اَلزّٰانِي على وضع المشتق للأعم إذا وقع محكوما عليه، و للأخص إذا وقع محكوما به، فلا بد أولا: من تقريب الاستدلال على التفصيل. و ثانيا: من بيان الإشكال على الاستدلال.

أما حاصل الاستدلال على التفصيل فيقال: أنّنا من وجوب القطع أو الجلد و لو بعد انقضاء المبدأ و زوال التلبس نعرف أن كلا من «السارق و السارقة و الزانية و الزاني» في الآيتين الشريفتين حقيقة في الأعم؛ إذ لو كان حقيقة في المتلبس في الحال لم يجز القطع أو الجلد بعد انقضاء المبدأ و زوال التلبس، و حيث إن ذلك لم يكن إلاّ في المشتق الواقع محكوما عليه لم يجز التعدي عنه إلى المحكوم به. هذا بخلاف ما إذا كان المشتق محكوما به نحو: «زيد مجتهد» فهو حقيقة في المتلبس.

و أما الإشكال عليه، و بعبارة أخرى: جواب المصنف عنه أن المشتق في الآيتين الشريفتين مستعمل فيما انقضى عنه المبدأ بلحاظ حال التلبس؛ نظير ما تقدم في آية لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي أي: من كان سارقا أو زانيا فيجب قطع يده أو جلده؛ فلا ينافي إرادة حال التلبس مع ثبوت الجلد أو القطع بعد انقضاء المبدأ.

(1) في كون المشتق محكوما عليه. و لازم عدم الاشتراط هو الوضع للأعم.

(2) بيان لقوله: «انقدح»، و الضمير في قوله: «أنّه» للشأن، و في «دلالتها» يرجع إلى الآية.

و حاصل الكلام في المقام على ما في «منتهى الدراية»: أنه قد ظهر مما تقدم: عدم منافاة إرادة خصوص حال التلبس من المشتق دلالة الآية الشريفة على ثبوت القطع و الجلد و لو بعد الانقضاء، بل لا بد من انقضاء المبدأ ضرورة: أن إجراء الحد عليهما منوط بثبوت السرقة و الزنا عند الحاكم، و ثبوتهما عنده يكون بعد الانقضاء.

وجه عدم المنافاة: أن استعمال المشتق بلحاظ حال التلبس في موارد الانقضاء مما لا شبهة في جوازه على نحو الحقيقة، و معه لا يكون المشتق موضوعا للأعم.

و بعبارة أخرى: أن غاية ما يستفاد من الآيات هي: كون المراد بها - بقرينة مواردها - خصوص حال الانقضاء فهو المراد منها قطعا، و أما كون المشتق على نحو الحقيقة أو المجاز فغير معلوم أصلا.

ص: 226

القطع و الجلد مطلقا، و لو بعد انقضاء المبدأ. مضافا (1) إلى وضوح بطلان تعدد الوضع، حسب وقوعه محكوما عليه أو به كما لا يخفى.

و من مطاوي ما ذكرنا - هاهنا (2) و في المقدمات (3) - ظهر حال سائر الأقوال، و ما ذكر لها (4) من الاستدلال، و لا يسع المجال لتفصيلها، و من أراد الاطلاع عليها فعليه بالمطولات.

=============

(1) أي: مضافا إلى أن هذا التفصيل موجب لتعدد الوضع في المشتق أي: وضعه للأعم؛ فيما إذا وقع محكوما عليه، و للأخص فيما إذا وقع محكوما به مع وضوح بطلان تعدد الوضع، ضرورة: أن السارق و نحوه له وضع واحد سواء كان محكوما عليه أو به.

فقوله: «مضافا...» إلخ جواب عن الاستدلال بآيتي السرقة و الزنا على وضع المشتق للأعم إذا كان محكوما عليه، و للأخص إذا كان محكوما به.

(2) أي: في حجج قول المختار و ردّ غيره.

(3) أي: من عدم الفرق بين المبادئ، و أن اختلافها لا يوجب تفاوتا فيما هو المهم من محل النزاع. فتكون الأقوال و التفاصيل الناشئة من اختلاف المبادئ باطلة.

(4) أي: للأقوال. و الضمير في قوله: «لتفصيلها» و «عليها» يعود إلى الأقوال.

خلاصة البحث على ما يلي

1 - حجة القائلين بوضع المشتق للأعم وجوه:

1 - التبادر أي: تبادر الأعم من المشتق، و قد عرفت تبادر خصوص المتلبس بالمبدإ من المشتق، و معه كيف يتبادر الأعم ؟

2 - عدم صحة السلب «في مضروب و مقتول»، و قد عرفت الجواب عنه بأن المراد من المبدأ - في مثلهما - هو معنى يكون التلبس به باقيا كمن وقع عليه الضرب في الأول، و زهوق الروح في الثاني، فليس إطلاق المشتق على الذات بعد انقضاء المبدأ حتى يقال: إنه دليل على القول بوضعه للأعم؛ نظرا إلى عدم صحة السلب.

و أما الجواب عن الوجه الثالث، فلأن عنوان الظلم في الآية علة للحكم بعدم نيل الإمامة حدوثا و بقاء؛ نظرا إلى المناسبة بين الحكم و الموضوع، فمن كان ظالما و لو آناً ما لا يناله منصب الإمامة لجلالة شأنها.

3 - و ما يدعى من أنّ استدلال الإمام «عليه السلام» بالآية إنما هو بمقتضى ظاهر العنوان وضعا لا بقرينة المناسبة بين الحكم و الموضوع - مدفوع أولا: بمنع ابتناء الاستدلال على الظهور الوضعي، بل يكفي فيه الظهور العرفي و لو في المعنى المجازي.

ص: 227

بقي أمور:

الأول: أن مفهوم المشتق (1) - على ما حققه المحقق الشريف في بعض حواشيه - و ثانيا: إن جري المشتق على النحو الثاني لا يستلزم مجازا أصلا؛ لأن إطلاقه بلحاظ حال التلبس حقيقة، فلا يتوقف الاستدلال بالآية الشريفة على وضع المشتق للأعم.

=============

4 - قد ظهر من ردّ الاستدلال بالآية: الإشكال في الاستدلال على التفصيل بين المحكوم عليه و المحكوم به؛ بقوله تعالى: وَ اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا حيث يكفي صدق عنوان السارق في القطع و لو بعد زوال المبدأ، فلا دخل لوضع المشتق للأعم أو الأخص؛ لأن العنوان علة للحكم حدوثا و بقاء.

في بيان بساطة مفهوم المشتق أو تركبه

(1) أي: في مفهوم المشتق خلاف بين الأعلام، ذهب المحقق الشريف في حاشيته على شرح «المطالع» إلى: أن مفهوم المشتق بسيط ردّا على صاحب شرح «المطالع»؛ حيث ذهب إلى التركيب، و ذلك أنه ذكر في جواب الإشكال الوارد على تعريف المشهور للفكر و النظر - بأنه ترتيب أمور معلومة لتحصيل المجهول -.

و حاصل الإشكال على هذا التعريف: أنه لا يشمل التعريف بالفصل وحده كتعريف الإنسان بالناطق، و لا بالخاصة وحدها كتعريفه بالضاحك؛ لأن الترتيب لا يتصور في الأمر الواحد، فلا يكون التعريف المذكور للفكر و النظر جامعا.

و قد أجاب شارح «المطالع» عن هذا الإشكال: بأن المشتق و إن كان في اللفظ مفردا؛ إلاّ إن معناه شيء ثبت له النطق أو الضحك فيكون من حيث المعنى مركبا، لأن مفهوم الناطق مركب من ذات و وصف، فالناطق ينحل إلى ذات و نطق و كذا الضاحك، فلا يكون ترتيب أمر واحد، بل ترتيب أمور معلومة عند النفس لتحصيل شيء مجهول.

و ردّه المحقق الشريف: بأنه لا يمكن أخذ الشيء في مفهوم المشتق، فما ذكره شارح «المطالع» من أن معنى «الناطق» شيء له النطق غير صحيح بل مستحيل.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الشيء الذي ينحل إليه مفهوم المشتق - و يقال: الناطق شيء له النطق، و الضاحك شيء له الضحك - لا يخلو عن أحد احتمالين: أحدهما: أن يراد به مفهومه. و ثانيهما: أن يراد به مصداقه أي: الإنسان.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن كل واحد من الاحتمالين مستلزم للمحال فيكون باطلا، فالقول بتركيب المشتق باطل فلا محيص عن القول ببساطة المشتق.

ص: 228

بسيط منتزع عن الذات باعتبار تلبسها بالمبدإ و اتصافها به غير مركب، و قد أفاد في وجه ذلك: أن مفهوم الشيء لا يعتبر في مفهوم الناطق مثلا، و إلا (1) لكان العرض العام داخلا في الفصل و لو اعتبر فيه ما صدق عليه الشيء انقلبت مادة الإمكان الخاص ضرورة (2)؛ فإن (3) الشيء الذي له الضحك هو الإنسان، و ثبوت الشيء لنفسه ضروري. هذا ملخص ما أفاده الشريف على ما لخصه بعض (4) الأعاظم.

و قد أورد عليه (5) في الفصول: بأنه يمكن أن يختار الشق الأول، و يدفع الإشكال و أما توضيح الاستحالة على كلا الاحتمالين: فلأنه لو كان المراد من الشيء مفهومه لزم دخول العرض العام في الفصل؛ لأن مفهوم الشيء عرض عام بدليل صدقه على المتباينات من جميع الجهات و هو محال؛ يعني: دخول العرض العام في الفصل محال، لأن الفصل ذاتي داخل في حقيقة الشيء، و العرض العام خارج عن حقيقة الشيء، فيستحيل أن يدخل أحدهما في مفهوم الآخر لتباينهما.

=============

و لزوم تقوّم الذاتي بالعرض و هو محال؛ لأن الفصل مقوّم للنوع و العرض خارج عنه غير مقوّم له. و أما لو كان المراد من الشيء مصداقه - و هو الإنسان في المثالين المزبورين - لزم انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية و هو مستحيل.

توضيح الانقلاب: أن قولنا: «الإنسان ضاحك» قضية ممكنة، فلو كان مصداق الشيء و هو الإنسان مأخوذا في مفهوم الضاحك لكان معناه «إنسان له الضحك»، فترجع القضية الممكنة إلى قولنا: «الإنسان إنسان له الضحك» و هي ضروري، لأن ثبوت شيء لنفسه ضرورية، و هذا معنى انقلاب القضية الممكنة إلى القضية الضرورية.

و استحالة انقلاب الممكنة إلى الضرورية بديهي. و قد أشار إلى ما ذكرناه بقوله: «و قد أفاد في وجه ذلك» أي: في وجه البساطة و ردّ القول بالتركيب.

(1) أي: و إن كان مفهوم الشيء معتبرا في مفهوم الناطق لكان العرض العام داخلا في الفصل - و هذا هو المحذور الأول - فيلزم تقوّم الذاتي بالعرض؛ و هو محال على ما عرفت.

(2) أي: لزم انقلاب القضية الممكنة إلى القضية الضرورية لو اعتبر في المشتق مصداق الشيء - هذا هو المحذور الثاني - إذ قولنا: الإنسان ضاحك في قوة الإنسان إنسان.

(3) هذا الكلام بيان للانقلاب الذي لازمه انتفاء القضايا الممكنة، و بطلانه لا يحتاج إلى الدليل.

(4) و هو صاحب الفصول، ص 61. س 30.

(5) أورد صاحب الفصول على قول الشريف بما هذا لفظه: «و يمكن أن يختار

ص: 229

بأن كون الناطق - مثلا - فصلا، مبني على عرف المنطقيين، حيث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات، و ذلك (1) لا يوجب وضعه لغة كذلك (2).

و فيه (3): أنه من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا تصرف في معناه أصلا، بل بما له من المعنى كما لا يخفى.

=============

الوجه الأول، و يدفع الإشكال بأن كون الناطق فصلا مبنيّ على عرف المنطقيين حيث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات، و ذلك لا يوجب أن يكون وضعه لغة كذلك» انتهى.

و توضيح ما أفاده صاحب الفصول في ردّ قول الشريف يتوقف على مقدمة و هي: أن الناطق معناه اللغوي الاشتقاقي «شيء له النطق» فيكون مركبا. و هو في عرف المنطقيين يكون بسيطا، لأنهم يعتبرونه مجردا عن مفهوم الذات.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول في ردّ المحقق الشريف: أنّنا نختار الشق الأول أي:

دخول مفهوم الشيء في مفهوم المشتق، و يدفع الإشكال - و هو دخول العرض العام في الفصل - بأنّ ذلك مبني على عرف المنطقيين حيث جعلوه فصلا للإنسان، و اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات و خاليا عن مفهوم الشيء؛ و لكن هذا ليس محل الكلام، لأن محل الكلام هو مفهوم المشتق لغة، فحينئذ إذا اخترنا اعتبار مفهوم الشيء؛ في مفهوم الناطق لغة لا يلزم دخول العرض العام في الفصل المنطقي؛ بل في معنى الناطق لغة و هو مما لا محذور فيه عقلا، لأن المحذور إنما هو في دخول العرض العام في الفصل المنطقي لا في المعنى اللغوي، فما فيه المحذور غير لازم، و ما هو اللازم لا محذور فيه عقلا.

(1) أي: تجرد الناطق عن مفهوم الذات عند المنطقيين لا يوجب وضعه للمعنى المجرد عن الذات عند اللغويين؛ لعدم الملازمة بينهما.

(2) أي: مجردا عن مفهوم الذات. فالاستدلال المزبور على بساطة المشتق غير تام، و ذلك لعدم استلزام بساطة معناه المنطقي لبساطة معناه اللغوي.

جواب المصنف عن إشكال الفصول على الشريف

(3) قد أجاب المصنف عن إيراد الفصول على الشريف بما حاصله: أن المقطوع هو أن «الناطق» بما له من المعنى اللغوي جعل عند أهل الميزان فصلا؛ من دون تصرف منهم في معناه اللغوي حتى يكون معناه المنطقي مغايرا لمعناه اللغوي؛ إما بتعدد الوضع، و إما بالحقيقة و المجاز، فيلزم ما ذكره الشريف من دخول العرض العام في الفصل المنطقي.

فإيراد الفصول على استدلال الشريف غير وارد.

ص: 230

و التحقيق (1) أن يقال: إن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي، بل لازم ما هو الفصل و أظهر خواصه؛ و إنما يكون فصلا مشهوريا منطقيا يوضع مكانه إذا لم يعلم نفسه، بل لا يكاد يعلم، كما حقق في محله.

و لذا (2) ربما يجعل لأزمان مكانه إذا كانا متساوي النسبة إليه؛ كالحساس

=============

(1) أي: و أن التحقيق في الجواب عن الشق الأول، و هذا إيراد من المصنف على الشريف بوجه آخر غير ما أورده الفصول عليه.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي:

أن الفصل على قسمين:

أحدهما: هو الفصل الحقيقي. و ثانيهما: هو الفصل المشهوري. و الفرق بينهما: أن الأول: ما يكون ذاتيا للشيء و مبدأ لصورته النوعية التي بها شيئيته.

و الثاني: ما لا يكون ذاتيا للشيء، بل من أظهر خواصه، و لوازمه الحاكية عنه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن إشكال دخول العرض العام في الفصل إنما يلزم على تقدير كون الناطق فصلا حقيقيا، و ليس الأمر كذلك؛ بل هو لما كان من أظهر خواص الفصل الحقيقي سماه المنطقيون فصلا فيكون فصلا مشهوريا يوضع مكان الفصل الحقيقي. و عليه فلا بأس بأخذ مفهوم الشيء في مثل الناطق، إذ اللازم منه أخذ عرض عام في عرض خاص، و لا محذور فيه.

فالمتحصل: أن الناطق ليس فصلا حقيقيا حتى يلزم تقوّم الذاتي بالعرض من اعتبار مفهوم الشيء في مفهومه؛ بل هو فصل منطقي مشهوري، و لا يلزم من أخذ مفهوم الشيء في معنى الناطق إلاّ دخول العرض العام في الخاصة لا بمعنى: دخوله في حقيقة الخاصة، ضرورة: مباينته للخاصة كمباينته للفصل، بل بمعنى: دلالة هيئة المشتق على العرض العام المقرون بالخاصة؛ كدلالة الماشي المستقيم القامة على المشي المقرون باستقامة القامة.

(2) أي: لأجل أن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي، بل لازم ما هو الفصل الحقيقي ربما يجعل لأزمان مكان الفصل الحقيقي إذا كان كل من اللازمين متساوي النسبة بالنسبة إليه؛ كالحساس و المتحرك بالإرادة في تعريف الحيوان.

غرض المصنف من هذا الكلام: إقامة الشاهد على عدم فصلية ما يدعى كونه فصلا؛ و ذلك لامتناع أن يكون لشيء واحد فصلان أو جنسان في مرتبة واحدة، و عليه:

فلا يكون الحساس و المتحرك بالإرادة من الفصل الحقيقي للحيوان، بل من لوازمه لجواز تعدد اللازم لملزوم واحد.

ص: 231

و المتحرك بالإرادة في الحيوان، و عليه (1): فلا بأس بأخذ مفهوم الشيء في مثل الناطق، فإنه و إن كان عرضا عاما، لا فصلا مقوما للإنسان، إلاّ إنه بعد تقييده بالنطق و اتصافه به كان من أظهر خواصه.

و بالجملة (2): لا يلزم من أخذ مفهوم الشيء في معنى المشتق إلاّ دخول العرض في الخاصة؛ التي هي من العرضي (3)، لا في الفصل الحقيقي الذي هو من الذاتي، فتدبر جيدا (4).

ثم قال (5): «إنه يمكن أن يختار الوجه الثاني أيضا، و يجاب (6): بأن المحمول ليس

=============

(1) أي: بناء على أن الناطق ليس فصلا حقيقيا «فلا بأس بأخذ مفهوم الشيء في مثل الناطق»؛ و ذلك لجواز أخذ العرض العام في الخاصة على ما عرفت، لأن مفهوم الشيء و إن كان عرضا عاما للإنسان و غيره؛ «إلاّ إنه بعد تقييده بالنطق» يكون معنى الإنسان ناطق - الإنسان شيء له النطق - فيصير من أظهر خواص الإنسان؛ لأن الشيء المقيد بالنطق ليس إلاّ الإنسان.

(2) أي: أن نقول في الجواب عن الشق الأول من إشكال الشريف: أنه لا يلزم من أخذ مفهوم الشيء في معنى المشتق إلاّ دخول العرض العام في الخاصة، و لا محذور فيه.

(3) المراد بالعرضي في المقام هو ما يقابل الذاتي كالجنس و الفصل؛ لا العرضي بالمعنى الذي أراده في بحث المشتق و هو عبارة عن الأمر الاعتباري الانتزاعي.

(4) قوله: «فتدبر جيدا» إشارة إلى حاجة المطلب المذكور إلى الدقة.

(5) أي: قال صاحب الفصول، ص 61، س 37: يعني أجاب في الفصول عن كلا شقي الإشكال، و قد تقدم ما أجاب به عن الشق الأول، و لما فرغ عن جواب الشق الأول شرع في الجواب عن الشق الثاني حيث «قال: إنه يمكن أن يختار الوجه الثاني» و هو أخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتق أيضا أي: مثل أخذ مفهومه في مفهومه.

(6) أي: يجاب عن إشكال الانقلاب بعدم لزومه؛ أي: لا يلزم انقلاب مادة الإمكان الخاص إلى الضرورة، لأن المحمول في مثل قولك: «الإنسان كاتب» ليس هو الإنسان مطلقا أي: ليس مصداق الكاتب هو الإنسان بلا قيد؛ حتى يكون معنى «الإنسان كاتب» هو الإنسان إنسان فتكون ضرورية؛ بل المحمول هو الإنسان المقيد بالكتابة، فكأنه قيل: الإنسان إنسان له الكتابة. و من المعلوم: أن ثبوت الإنسان المقيد بوصف ممكن الثبوت للإنسان ليس ضروريا، فإن النتيجة تتبع أخسّ المقدمات - على ما في علم الميزان - فإذا كان القيد ممكن الثبوت كان ثبوت المقيد به أيضا ممكن الثبوت،

ص: 232

مصداق الشيء و الذات مطلقا، بل مقيدا بالوصف، و ليس ثبوته للموضوع حينئذ بالضرورة؛ لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريا» انتهى.

و يمكن أن يقال (1): إن عدم كون ثبوت القيد ضروريا لا يضر بدعوى الانقلاب، و حينئذ فلا تنقلب القضية الممكنة الخاصة إلى الضرورية.

=============

فالمتحصل: إنه لا يلزم من أخذ مفهوم الشيء و لا من أخذ مصداقه في مفهوم المشتق محذور أصلا.

(1) هذا الكلام إيراد من المصنف على جواب صاحب الفصول عن الشق الثاني.

و حاصل ما أفاده المصنف «قدس سره» في ردّ صاحب الفصول يتوقف على مقدمة و هي: أن المحمول كالكاتب في مثل «الإنسان كاتب»؛ و إن كان مقيدا على ما هو المفروض إلاّ إنه بحسب التصوير العقلي على أقسام:

الأول: أن يكون المحمول هو ذات المقيد بلا دخل للقيد و التقيد فيه أصلا، بل لوحظ التقييد مرآة و إشارة إلى تعيين المحمول كقولك: «هذا زيد الذي سلّم عليك أمس»؛ حيث إن الغرض من حمل زيد على هذا و تقييده به لمجرد التعيين، فيكون معنى «الإنسان كاتب» هو: الإنسان إنسان، فتكون القضية ضرورية.

الثاني: أن يكون المحمول هو ذات المقيد و كان القيد خارجا، و التقيد داخلا؛ بمعنى:

أن التقيد جزء القضية بما هو معنى حرفيّ ، فإن التقيد نسبة بين القيد و المقيد فهو قائم بذات المقيد و تابع له، و لم يلحظ مستقلا في قبال ذات المقيد. فالقضية لا محالة تكون ضرورية؛ ضرورة: ضرورية ثبوت الإنسان الذي يكون مقيدا بالكتابة للإنسان. و ما في المتن من قوله: «الذي يكون مقيدا بالنطق» سهو من القلم، و الصحيح ما ذكرناه من التقيد بالكتابة؛ لأن الكلام هاهنا ليس إلاّ في الوجه الثاني الذي ادعى المحقق الشريف فيه لزوم الانقلاب من الإمكان الخاص إلى الضرورة، و قد عرفت: أن المثال لذلك هو «الإنسان كاتب»؛ لا الإنسان ناطق فإنها ضرورية في حد ذاتها؛ من غير حاجة إلى الالتزام بالانقلاب.

الثالث: أن يكون المحمول هو المقيد؛ على أن يكون القيد و المقيد و التقيد كلها داخلة.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن ما ذكره في الفصول - من عدم ثبوت القيد ضروريا فلا يلزم من أخذ المصداق في المشتق الانقلاب الذي ادعاه الشريف - غير تام؛ إذ عدم ضرورية القيد لا يضر بدعوى الانقلاب و لو لم يكن القيد ضروريا؛ و ذلك لما عرفت: من انقلاب القضية الممكنة الخاصة إلى القضية الضرورية في جميع الصور و الاحتمالات، إلاّ إنها حسب الاحتمال الأخير تنحل إلى قضيتين؛ إحداهما: قضية

ص: 233

فإنّ المحمول إن كان ذات المقيد، و كان القيد خارجا، و إن كان التقيد داخلا بما هو معنى حرفي، فالقضية لا محالة تكون ضرورية، ضرورة: ضرورية ثبوت الإنسان الذي يكون مقيدا بالنطق للإنسان، و إن كان المقيد به بما هو مقيد على أن يكون القيد داخلا، فقضية «الإنسان ناطق» تنحل في الحقيقة إلى قضيتين؛ إحداهما: قضية «الإنسان إنسان» و هي ضرورية. و الأخرى: قضية «الإنسان له النطق» و هي ممكنة (1)؛ «الإنسان إنسان،» و هي ضرورية. و القضية الأخرى: قضية «الإنسان له الكتابة» و هي ممكنة.

=============

انحلال «الإنسان ناطق» إلى قضيتين: ضرورية و ممكنة

(1) توضيح انحلال قضية واحدة إلى قضيتين يتوقف على مقدمة و هي: أن تعدد المحمول في القضية يوجب تعدد القضية؛ بمقدار عدد المحمول أو أجزائه إن كان مركبا مثلا: «زيد عالم عادل شاعر» ينحل إلى قضايا ثلاث، و هي «زيد عالم، و زيد عادل، و زيد شاعر»، و كذلك إذا كان المحمول مركبا من الأجزاء تنحل القضية إلى القضيتين أو القضايا بمقدار تعدد الأجزاء.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن المحمول في مثل: «الإنسان كاتب» مركب من مجموع القيد و المقيد، فيكون متعددا لصيرورة كل من القيد و المقيد محمولا، فقضية «الإنسان كاتب» تنحل في الحقيقة إلى قضيتين:

إحداهما هي: «الإنسان إنسان» و هي ضرورية حتما؛ لأن ثبوت شيء لنفسه ضروري.

و الأخرى هي: «الإنسان له الكتابة»؛ و ذلك لأن معنى الكاتب هو: «الإنسان له الكتابة»، فالإنسان المطوي في الكاتب يحمل على الإنسان الموضوع فيقال: «الإنسان إنسان»، كما أن الجزء الآخر من المحمول المركب و هو «له الكتابة» يحمل أيضا على الإنسان الموضوع؛ فيقال: «الإنسان له الكتابة»، و هي: ممكنة؛ لأن المحمول فيها من الأوصاف الممكنة.

و ما في كلام المصنف من قوله: «الإنسان ناطق» سهو من القلم، لأن القضية حينئذ ضرورية حتما، و تنحل إلى قضيتين ضروريتين.

و كيف كان؛ فيكون مثل: «الإنسان له الكتابة» قضية تامة خبرية، و إنما تصير ناقصة تقييدية بعد العلم بالقيد. و هذا معنى قولهم: «إن الأوصاف قبل العلم بها أخبار، كما أن الأخبار بعد العلم بها أوصاف». فقولك: «الإنسان شاعر» قبل علم السامع بشاعرية الإنسان إخبار و مركب تامّ . و أما بعد علمه بكون الإنسان شاعرا فيصير مركبا ناقصا

ص: 234

و ذلك لأن الأوصاف قبل العلم بها أخبار، كما أن الأخبار بعد العلم تكون أوصافا.

فعقد الحمل ينحل إلى القضية (1)، كما أن عقد الوضع ينحل إلى قضية مطلقة تقييديا، فلا يصح أن يقال حينئذ: «الإنسان شاعر»، بل يقال: «الإنسان الشاعر كاتب»؛ لأنه حينئذ من الأوصاف و من المركبات الناقصة التقييدية، فلا فرق بين الأخبار و الأوصاف إلاّ بما قبل علم المخاطب، و بعد علمه فالقول الذي يحكى عن النسبة قبل علم المخاطب بها يكون خبرا، و القول الحاكي للنسبة بعد علم المخاطب بها يكون وصفا؛ مثلا: إذا قيل «جاءني زيد العالم» فالعالم يكون وصفا لزيد إذا علم السامع بكون «زيد عالما» قبل هذا الكلام، و أما إذا لم يعلم بكونه عالما قبل الأخبار: فالعالم يكون خبرا لزيد، و لذا اشتهر عند النحاة: أن الأوصاف قبل العلم بها أخبار، و الأخبار بعد العلم بها أوصاف.

=============

(1) أي: أن كل قضية مشتملة على عقدين؛ أعني: عقد الوضع، و عقد الحمل.

و الأول: هو اتصاف الموضوع بوصفه العنواني مثل إنسانية الإنسان في قولنا: «الإنسان كاتب».

و الثاني: هو اتصاف ذات الموضوع بوصف المحمول، ثم عقد الحمل في المثال المزبور ينحل إلى القضية و هي: إنسان له الكتابة و هي ممكنة، و قد تكون ضرورية في مثل:

«الإنسان ناطق»؛ حيث ينحل عقد الحمل إلى الضرورية و هي «إنسان له النطق»، هذا مما لا خلاف فيه. و إنما الخلاف فيما ينحل إليه عقد الوضع - و هو في المثال المذكور - الإنسان - ينحل إلى القضية و هي: «شيء له الإنسانية»؛ مع كون الإنسان لفظا جامدا، و هي قضية مطلقة عامة عند الشيخ أبي علي ابن سينا. و ممكنة عامة عامة عند الفارابي.

و بعبارة واضحة: أن عقد الوضع ينحل إلى القضية و هي «شيء له الإنسانية» و هي قضية مطلقة عند الشيخ و ممكنة عند الفارابي. و المطلقة العامة هي التي يحكم فيها بفعلية النسبة كما هي قضية إطلاق القضية.

و كيف كان؛ فقد تظهر ثمرة الخلاف بين القولين في العكس المستوى للممكنتين؛ حيث لا يصدق عكسهما على مذهب الشيخ، و يصدق على مذهب الفارابي؛ مثلا: إذا فرض أن مركوب زيد بالفعل منحصر في الفرس صدق كل حمار بالفعل مركوب زيد بالإمكان، و لا يصدق عكسه و هو أن بعض مركوب زيد بالفعل حمار بالإمكان. لأن مركوبه بالفعل هو الفرس لا يمكن أن يكون حمارا. هذا بخلاف ما إذا كان عقد الوضع ينحل إلى الممكنة فيصدق عكسها و يقال: إن بعض مركوب زيد بالإمكان حمار بالإمكان؛ إذ من الممكن أن يركب زيد حمارا.

ص: 235

عامة عند الشيخ، و قضية ممكنة عند الفارابي فتأمل (1).

لكنه (2) «قدس سره» تنظر فيما أفاده بقوله: و فيه، لأن الذات المأخوذة مقيدة

=============

(1) لعله إشارة إلى تأييد قول صاحب الفصول؛ بأن يكون إشارة إلى ردّ دعوى انقلاب الممكنة إلى الضرورية على الشق الثاني؛ لأن المحمول في القضية هو الإنسان المقيد بوصف الكتابة؛ لأن الكاتب معناه هو الإنسان الذي ثبتت له الكتابة؛ لا الإنسان المطلق.

و من المعلوم: أن قيد الكتابة ليس بضروري، فثبوت الإنسان المقيد بوصف ممكن الثبوت للإنسان ليس ضروريا و هو: مقتضى تبعيّة النتيجة لأخس المقدمتين؛ و هو كون القضية ممكنة، فما ذكره صاحب الفصول من أن عدم ضرورية القيد مانع عن انقلاب الممكنة إلى الضرورية متين جدا.

(2) أي: صاحب الفصول، «رحمه الله»، ص 61، س 38، تنظر فيما أفاده في جوابه عن الانقلاب الذي يقوله الشريف؛ على تقدير أخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتق حيث قال في الجواب ما حاصله: من أنّ تقيّد المحمول بقيد إمكاني يكون مانعا عن انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية. و حاصل نظره في جوابه عن الانقلاب يتوقف على مقدمة و هي: أن القضية الضرورية على أقسام:

منها: الضرورة بشرط المحمول و هي: أن يكون الموضوع مقيّدا بالمحمول كقولنا:

«الإنسان الكاتب كاتب» و هي ضرورية؛ لأن ثبوت شيء لنفسه ضروري كما أن سلب شيء عن نفسه محال.

إذا عرفت هذه المقدمة: فنقول: إن الذات المأخوذة في مفهوم المشتق كالإنسان له الكتابة المأخوذ في معنى الكاتب في مثل قولنا: «الإنسان كاتب» إن كانت واجدة للقيد في نفس الأمر، كما إذا فرض كون الإنسان المنطوي في مفهوم الكاتب واجدا للكتابة واقعا، فلا محالة يصدق الإيجاب بالضرورة؛ لأن مرجع قولنا: «الإنسان كاتب» إلى قولنا: «الإنسان له الكتابة كاتب» و هي قضية ضرورية بشرط المحمول؛ لأنها في قوة «الإنسان الكاتب كاتب»، و إن كانت الذات فاقدة له في نفس الأمر يصدق السلب بالضرورة أي: «الإنسان الذي ليس له الكتابة ليس بكاتب»، فتنقلب مادة الإمكان على كل حال إلى الضرورة إيجابا أو سلبا.

فالمتحصل: أن دعوى انقلاب مادة الإمكان إلى الضرورة كما أفاده المحقق الشريف في محلها، و لا يمنعها كون القيد ممكنا.

ص: 236

بالوصف قوة أو فعلا، إن كانت مقيدة به واقعا صدق الإيجاب بالضرورة، و إلاّ صدق السلب بالضرورة، مثلا: لا يصدق زيد كاتب بالضرورة (1)، لكن يصدق «زيد الكاتب بالقوة أو بالفعل كاتب بالضرورة» انتهى (2).

و لا يذهب (3) عليك: أن صدق الإيجاب بالضرورة بشرط كونه مقيدا به واقعا لا يصحّح دعوى الانقلاب إلى الضرورية؛ ضرورة (4): صدق الإيجاب بالضرورة بشرط المحمول في كل قضية و لو كانت ممكنة، كما لا يكاد يضرّ بها (5) صدق السلب كذلك، بشرط عدم كونه مقيدا به واقعا، لضرورة (6) السلب بهذا الشرط (7)، و ذلك (8) لوضوح: أن المناط في الجهات و مواد القضايا

=============

(1) أي: لا يصدق لعدم أخذ المحمول في الموضوع، «و يصدق زيد الكاتب...» إلخ لأخذ المحمول في الموضوع، فتصير القضية قضية ضرورية بشرط المحمول.

(2) أي: انتهى كلام صاحب الفصول في الفصول، ص 61.

(3) هذا إيراد من المصنف على ما تنظّر فيه صاحب الفصول.

و حاصل اعتراض المصنف على الفصول هو: أن لحاظ تقيد ذات الموضوع بوصف المحمول لا ينفع في دعوى الانقلاب، و إلاّ يلزم انتفاء القضية الممكنة، و انحصار القضايا بالضرورية؛ ضرورة: ضرورية ثبوت المحمول، الذي قيّد به الموضوع نحو: «الإنسان الكاتب كاتب بالضرورة»، و كذا في طرف السلب نحو: «الإنسان غير الكاتب ليس بكاتب بالضرورة»، و تسمّى هذه القضية ضرورية بشرط المحمول كما عرفت.

و على هذا لا تبقى قضية ممكنة، و لا مطلقة عامة، و لا دائمة مطلقة، و هو واضح الفساد؛ لكون المناط في مواد القضايا و جهاتها هو: لحاظ نفس المحمول مع قطع النظر عن الجهات الخارجية، مثل: كون الموضوع مقيّدا بثبوت المحمول له أو نفيه عنه، و مع قطع النظر عن كيفية ثبوته له، فالإمكان و الضرورة ملحوظان في نفس المحمول بدون لحاظ أمر خارجي معه، و المدّعى في المقام هو: انقلاب مادّة الإمكان إلى الضرورة بمجرّد أخذ الذات في مفهوم المشتق من دون لحاظ تقيّد الذات بالوصف، فما في الفصول من انقلاب الممكنة إلى الضرورية بتقيّد الذات بالمحمول في غير محلّه.

(4) تعليل لعدم صحة دعوى الانقلاب.

(5) أي: بالممكنة «صدق السلب كذلك» أي: بالضرورة.

(6) تعليل لصدق السلب؛ كضرورة الإيجاب بشرط المحمول.

(7) أي: بشرط عدم كون الموضوع مقيدا بالمحمول.

(8) تعليل لقوله: «لا يصحح دعوى الانقلاب إلى الضرورة» على ما في «منتهى

ص: 237

إنما هو (1) بملاحظة أن نسبة هذا المحمول إلى ذلك الموضوع موجهة بأيّ جهة منها (2) و مع أية منها في نفسها صادقة؛ لا بملاحظة ثبوتها له واقعا أو عدم ثبوتها له كذلك، و إلاّ كانت الجهة منحصرة بالضرورة، ضرورة: صيرورة الإيجاب أو السلب - بلحاظ الثبوت و عدمه - واقعا ضروريا، و يكون من باب الضرورة بشرط المحمول (3).

و بالجملة: الدعوى (4) هو انقلاب مادة الإمكان بالضرورة فيما ليست مادته واقعا في نفسه و بلا شرط غير الإمكان.

و قد انقدح بذلك (5): عدم نهوض ما أفاده «رحمه الله» بإبطال الوجه الأول كما الدراية، ج 1، ص 315».

=============

(1) أي: المناط في الجهات و مواد القضايا. و الفرق بين مادة القضية و جهتها: أن المراد بالأولى هي كيفية النسبة الواقعية، و بالثانية: هو اللفظ الدال على الكيفية مثل: لفظ الضرورة و الإمكان و غيرهما.

(2) أي: من الجهات كالضرورة و الإمكان و غيرهما. و الضمير في «نفسها» يرجع إلى النسبة، و كذلك الضمير في «ثبوتها» في الموردين يعود إلى النسبة.

(3) أي: الضرورة بشرط المحمول خارجة عن محل النزاع؛ بل النزاع إنما هو في انقلاب الممكنة إلى الضرورية في حد نفسها؛ لا باشتراطها بوجود المحمول للموضوع.

(4) أي: دعوى الشريف «هو انقلاب مادة الإمكان بالضرورة» إذا أخذ في المشتق مصداق الذات «فيما» أي: في قضية «ليست مادته» غير الإمكان أي: ليست بشرط وجود المحمول.

(5) أي: بما ذكرناه - في ردّ قول الفصول بالانقلاب - من الفرق بين الضرورة الذاتية و بين الضرورة بشرط المحمول، و ما في الفصول من الانقلاب إلى الضرورة بشرط المحمول خارج عن محل الكلام أي: بما ذكرنا ظهر: عدم نهوض ما أفاده صاحب الفصول «رحمه الله» بإبطال الوجه الأول.

الغرض من هذا الكلام هو: الإشكال على ما ذكره الفصول في الوجه الأول؛ بعد بسط الكلام في الوجه الثاني و النظر فيه قال ما هذا لفظه: «و لا يذهب عليك أنه يمكن التمسك بالبيان المذكور على إبطال الوجه الأول أيضا؛ لأن لحوق مفهوم الذات أو الشيء لمصاديقهما أيضا ضروري، و لا وجه لتخصيصه بالوجه الثاني». انتهى.

ص: 238

و بيان ذلك: أنه يمكن إبطال الوجه الأول الذي استدل به على البساطة - و هو أخذ مفهوم الشيء في المشتق - أي: يمكن إبطال أخذ مفهوم الشيء في المشتق بلزوم انقلاب مادة الإمكان إلى الضرورة أيضا أي: كما أبطل الوجه الثاني - و هو أخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتق بلزوم الانقلاب؛ بأن يقال: إن الانقلاب لا يختص بالوجه الثاني - و هو أخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتق - بل يعم الوجه الأول أيضا؛ حيث إن عروض مفهوم الشيء لمصاديقه و صدقه عليها ضروري، مثلا: عروض الشيئية للإنسان ضروري لا ممكن، فإشكال انقلاب الممكنة إلى الضرورية كما يبطل الوجه الثاني كذلك يبطل الوجه الأول و هو أخذ مفهوم الشيء في معنى المشتق، و لازم ذلك: بساطة المشتق و نفي تركيبه؛ إذ على التركيب يلزم انقلاب مادة الإمكان إلى الضرورة و هو باطل.

هذا غاية ما يمكن في توضيح ما أفاده صاحب الفصول في إبطال الوجه الأول، و اعترض المصنف عليه و قال: «قد انقدح بذلك عدم نهوض ما أفاده بإبطال الوجه الأول».

و قوله: «فإن لحوق مفهوم الشيء...» إلخ بيان ما انقدح من كلام المصنف في ردّ ما تنظر فيه الفصول من تسليم الانقلاب في الوجه الثاني.

و حاصل ردّ المصنف على الفصول: أن ضرورية لحوق مفهوم الشيء لمصاديقه منوطة بإطلاقه كعروضه لزيد و بكر و غيرهما من المصاديق، بخلاف ما إذا قيد بقيد كتقيّده بالضحك و الكتابة و غيرهما من مبادئ المشتقات، فإن عروض المفهوم المقيد لمصاديقه ليس ضروريا، و على هذا - فزيد ضاحك - بناء على انحلال الضاحك إلى شيء له الضحك لا يكون من القضايا الضرورية، لإمكان عدم كون زيد شيئا له الضحك في بعض الأوقات. نعم؛ إذا أخذ زيد بشرط الضحك موضوعا للشيء الذي له الضحك؛ تصير القضية ضرورية بشرط المحمول كسائر القضايا الضرورية بشرط المحمول، و هي كما عرفت خارجة عن محل الكلام.

و خلاصة الكلام في المقام: أن ما أفاده صاحب الفصول من جريان إشكال انقلاب الممكنة إلى الضرورية في الشق الأول - و هو أخذ مفهوم الشيء في معنى المشتق - في غير محله؛ لابتنائه على أخذ الموضوع بشرط المحمول، و قد عرفت ما في هذا الشرط من الإشكال.

ص: 239

زعمه «قدس سره»، فإن لحوق مفهوم الشيء و الذات لمصاديقهما إنما يكون ضروريا مع إطلاقهما لا مطلقا و لو مع التقيد (1)؛ إلا (2) بشرط تقيد المصاديق به أيضا. و قد عرفت حال الشرط فافهم (3).

ثم أنه (4) لو جعل التالي في الشرطية الثانية لزوم أخذ النوع في الفصل، ضرورة:

=============

(1) أي: بأن يكون الضاحك هو الشيء المقيد بالضحك لا مطلقا. و من البديهي:

عدم ضرورية المقيد؛ فإن الشيء الضاحك ليس ضروريا للإنسان.

(2) أي: إلاّ إن يقال بضرورية الشيء المقيد؛ بشرط تقيد المصاديق بالمحمول. و من المعلوم: أن القضية حينئذ تصير ضرورية بشرط المحمول، و قد عرفت الإشكال فيها.

(3) لعله إشارة إلى: أن إيراد صاحب الكفاية على الفصول هو عين الإيراد الذي أورده صاحب الفصول على نفسه؛ قبل تنظره في الوجه الثاني. أو إشارة إلى دفع توهم المنافاة بين ما ذكره المصنف هنا من عدم ضرورية «الإنسان شيء له الكتابة»، و بين ما ذكره هناك من ضرورية «الإنسان إنسان له الكتابة»؛ إذ يستظهر أن الموردين على وزان واحد، فلا بد من كون القضية ضرورية في كليهما.

و حاصل الدفع: أن الفرق بين الموردين واضح؛ إذ الموضوع في قولنا: «الإنسان إنسان له الكتابة» لما أخذ في المحمول فلا محالة تكون القضية ضرورية؛ لاستحالة سلب الشيء عن نفسه بخلاف «الإنسان شيء له الكتابة» فإن سلب الشيء الذي له الكتابة عن الإنسان لما كان ممكنا فلا تخرج مادة القضية عن الإمكان، و لا تنقلب إلى الضرورة أصلا.

إصلاح برهان الشريف على بساطة المشتق

(4) هذا من المصنف «قدس سره» رجوع إلى كلام المحقق الشريف، و الغرض منه هو: إصلاح برهان الشريف، حيث استدل لإثبات بساطة مفهوم المشتق بما يرجع إلى قضيتين شرطيتين:

الأولى: هي أنه لو أخذ مفهوم الشيء في مفهوم المشتق للزم دخول العرض العام في الفصل.

و الثانية: أنه لو أخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتق للزم انقلاب الإمكان إلى الضرورة، فالمراد بالشرطية الثانية هو قوله: «و لو اعتبر فيه ما صدق عليه الشيء انقلبت مادة الإمكان إلى الضرورة»، و تالي الشرطية الثانية هو: انقلاب الإمكان إلى الضرورة.

يقول المصنف: إن تبديل التالي في الشرطية الثانية بدخول النوع في الفصل أولى بأن يقال: و لو اعتبر فيه ما صدق عليه الشيء للزم دخول النوع في الفصل.

و حاصل ما أفاده المصنف في مقام إصلاح كلام الشريف هو: أن جعل التالي في

ص: 240

أن مصداق الشيء الذي له النطق هو الإنسان، كان أليق بالشرطية الأولى بل كان أولى لفساده مطلقا، و لو لم يكن مثل الناطق بفصل حقيقي، ضرورة: بطلان أخذ الشيء في لازمه (1) و خاصته فتأمل جيدا (2).

ثم أنه يمكن أن يستدل على البساطة (3) بضرورة عدم تكرار الموصوف في مثل:

=============

الشرطية الثانية دخول النوع في الفصل أليق بالشرطية الأولى، بل كان أولى.

وجه الأليقية على ما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 319» هو: دخول الكليات بعضها في الآخر؛ و هو دخول العرض العام في الفصل كما في تالي الشرطية الأولى، و دخول النوع في الفصل كما في تالي الشرطية الثانية؛ إذ مصداق الناطق في قولنا: «الإنسان ناطق» هو النوع أعني: الإنسان، فالنوع داخل في الفصل و هو الناطق، و صدق هذين التاليين الفاسدين على مثال واحد كقولنا: «الإنسان ناطق»؛ لأنه على تقدير أخذ مفهوم الشيء في المشتق يلزم دخول العرض العام - و هو مفهوم الشيء - في الفصل أعني:

الناطق. و على تقدير أخذ المصداق فيه يلزم دخول النوع و هو الإنسان في الفصل؛ إذ مصداق الشيء الذي له النطق هو الإنسان، فالناطق على هذا مركب من النوع و الفصل.

و أما وجه الأولوية فهو: ما أفاده بقوله: «لفساده مطلقا» أي: لفساد التالي مطلقا؛ يعني: و إن لم يكن فصلا حقيقيا بل كان فصلا مشهوريا منطقيا أي: لازما للفصل الحقيقي، و ذلك أخذ النوع في كل من الفصل و العرض الخاص، فلا فرق في الفساد و الاستحالة بين أخذ النوع في الفصل الحقيقي، و بين أخذه في لازمه و عرضه الخاص بناء على كون الناطق فصلا مشهوريا لا حقيقيا؛ و ذلك لاستحالة دخول الذاتي في العرضي.

هذا بخلاف أخذ العرض العام في الفصل، فإن فساده مبني على كون الناطق فصلا حقيقيا.

(1) أي: لازم ذلك الشيء، لأن الناطق و لو لم يكن فصلا لكنه لازم و خاصة للفصل الحقيقي قطعا.

(2) إشارة إلى دقة المطلب المذكور بقرينة قوله: «جيدا».

(3) أي: نسب إلى المحقق الدواني أنه استدل على بساطة المشتق بضرورة عدم تكرر الموصوف في المشتقات المحمولة، و لزوم تكرره فيها لو كان المشتق مركبا.

و ملخص تقريب الاستدلال: أنه يحكم الوجدان بعدم تكرر الموصوف - في مثل زيد الكاتب إذ لو كان المشتق مركبا من الشيء مفهوما أو مصداقا لزم تكرره بأن يقال في المثال: زيد زيد الكاتب؛ إن كان المأخوذ في مفهوم المشتق مصداق الشيء، و زيد

ص: 241

زيد الكاتب، و لزومه (1) من التركب، و أخذ الشيء مصداقا أو مفهوما في مفهومه (2).

إرشاد: في معنى البساطة

لا يخفى: أن معنى البساطة - بحسب المفهوم - وحدته إدراكا و تصورا بحيث لا يتصور عند تصوره إلاّ شيء واحد لا شيئان، و إن انحل بتعمل من العقل إلى شيئين كانحلال مفهوم الشجر و الحجر إلى شيء له الحجرية أو الشجرية، مع وضوح بساطة مفهومهما (4).

الشيء الكاتب إن كان المأخوذ في مفهومه مفهوم الشيء، فعدم تكرر الموصوف في المثال و نظائره برهان إني على البساطة؛ إذ المتبادر منه إلى الذهن هو أمر بسيط لا مركب من أمرين، و ليس ذلك إلاّ لأجل بساطة مفهوم المشتق و عدم تركبه من شيئين أو أكثر.

(1) أي: لزوم تكرر الموصوف من تركب المشتق.

(2) أي: في مفهوم المشتق.

(3) الغرض من هذا الكلام: بيان ما هو المراد من بساطة المشتق.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أنّ البساطة تارة: يراد بها وحدة ما يفهم من اللفظ، كمفهوم الحجر و الإنسان حيث لا يتحقق في الذهن عند التعبير عنهما إلاّ صورة واحدة؛ و إن انحل كل واحد منهما بالتحليل العقلي إلى مفهومين؛ و هما «شيء له حجرية»، و «حيوان ناطق»، فالمراد من تركب المفهوم: تعدد ما يفهم من اللفظ بلا تحليل عقلي؛ كمفهوم غلام زيد مثلا، أو كما إذا فرض لفظ قالبا لمعنيين.

و أخرى: أن يراد بالبساطة البساطة الحقيقية بأن لا يكون الشيء مركبا من الجنس و الفصل.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المراد من بساطة المشتق هي البساطة في عالم التصور و اللحاظ لا الواقع، و بحسب التحليل العقلي: فالمشتق و إن كان مركبا بحسب الحقيقة و الماهية من أمرين أي: ذات ثبت له المبدأ إلاّ إنه بسيط إدراكا و تصورا، فالكلام في أن المشتق بسيط في عالم التصور أو مركب؛ بمعنى: أنه حين إطلاق اللفظ هل تأتي في الذهن صورة لشيء أو أشياء؟ و ليس الكلام في واقع المشتق و حقيقته بحسب التحليل العقلي.

(4) أي: و لا منافاة بين بساطته تصورا و إدراكا، و بين تركبه بالتحليل العقلي؛ لأن موطن وحدة التصور هو التصور الذهني، و موطن التعدد هو التحليل العقلي.

ص: 242

و بالجملة: (1) لا ينثلم بالانحلال إلى الاثنينية - بالتعمل العقلي - وحدة المعنى و بساطة المفهوم كما لا يخفى، و إلى ذلك (2) يرجع الإجمال و التفصيل الفارقان بين المحدود و الحد، مع ما هما عليه من الاتحاد ذاتا، فالعقل بالتعمل يحلل النوع، و يفصّله إلى جنس و فصل، بعد ما كان (3) أمرا واحدا إدراكا، و شيئا فاردا تصورا، فالتحليل يوجب فتق (4) ما هو عليه من الجمع و الرتق.

=============

(1) و بالجملة: أنه لا تنافي بين القول ببساطة المشتق إذا كان المراد بها وحدة المعنى تصورا، و بين القول بتركبه إذا كان المراد به تعدده بالتعمّل من العقل، فإن لفظ الإنسان مثلا وضع لمعنى واحد، لكن يحلله العقل إلى جنس و فصل.

(2) أي: البساطة التصورية و التركب التحليلي العقلي يرجع إلى الإجمال و التفصيل؛ الموجبان للفرق بين المحدود كالإنسان، و بين الحد كالحيوان الناطق في تعريف الإنسان؛ مع إن المحدود و الحد متحدان ذاتا، و الفارق بينهما ليس إلاّ الإجمال و التفصيل؛ فإن المحدود واحد تصورا، و الحد يكون عينه لكنه بعد التحليل العقلي، فالتفصيل ملحوظ في الحد، و الإجمال ملحوظ في المحدود.

(3) أي: بعد ما كان النوع أمرا بسيطا مفهوما.

(4) أي: تفصيل المعنى الذي هو المحدود كان عليه من الجمع و الرتق ذهنا و تصورا.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور تالية:

1 - بيان ما استدل به المحقق الشريف على بساطة مفهوم المشتق و حاصله: أن المشتق لو لم يكن بسيطا و كان مركبا لزم أحد أمرين: أحدهما: دخول العرض العام في الفصل. و ثانيهما: انقلاب مادة الإمكان إلى الضرورة و التالي بكلا شقيه باطل؛ فالمقدم أعني: كون المشتق مركبا أيضا باطل. أما الملازمة: فلأن المأخوذ في مفهوم المشتق - على فرض تركبه - إما هو مفهوم الشيء أو مصداقه، فعلى الأول: يلزم دخول العرض العام في الفصل. و على الثاني: يلزم الانقلاب. و أما بطلان التالي فواضح.

2 - جواب الفصول عن كلا شقي الإشكال:

أما عن الأول: فبأن الناطق إنما يكون فصلا في عرف المنطقيين، و محل الكلام هو مفهوم المشتق لغة، فحينئذ لا يلزم من اعتبار مفهوم الشيء في مفهوم المشتق لغة دخول العرض العام في الفصل، بل يلزم دخوله في مفهوم المشتق لغة و هو مما لا محذور فيه عقلا.

ص: 243

و أما عن الثاني: فبأن المحمول ليس هو الموضوع على إطلاقه؛ كي يكون الحمل ضروريا، بل المحمول هو الموضوع المقيد بالكتابة في نحو: «الإنسان كاتب»، و حيث إن ثبوت القيد غير ضروري فلا يكون حمل المقيد ضروريا؛ حتى يلزم انقلاب الإمكان إلى الضرورة، كما يقوله الشريف.

3 - تحقيق المصنف في الجواب عن الشق الأول في كلام الشريف: إن الناطق ليس فصلا حقيقيا؛ بل هو لازم الفصل الحقيقي، و من أظهر خواصه، و عليه: فلا بأس لأخذ مفهوم الشيء في مثل الناطق؛ إذ لا يلزم حينئذ دخول العرض العام في الفصل، بل يلزم دخول العرض العام في الخاصة و لا محذور فيه عقلا.

و أما إيراد المصنف على جواب الفصول عن الشق الثاني فحاصله: أن عدم كون ثبوت القيد ضروريا لا يضر بدعوى الانقلاب؛ بداهة: ضرورية ثبوت الإنسان الذي يكون مقيدا بالكتابة للإنسان؛ نظرا إلى ضرورة ثبوت الشيء لنفسه.

4 - إشكال صاحب الفصول على نفسه: حيث تنظّر فيما أفاده في جوابه عن الانقلاب و حاصله: أن الانقلاب الذي يقوله الشريف، في محله بتقريب: أن الذات المأخوذة في مفهوم المشتق كالإنسان له الكتابة المأخوذ في معنى الكاتب في نحو:

«الإنسان كاتب» إن كانت واجدة للقيد في نفس الأمر يصدق الإيجاب بالضرورة، فيلزم انقلاب مادة الإمكان إلى الضرورة كما أفاده الشريف. و قد أورد المصنف على الفصول بما حاصله: من أن القضية حينئذ و إن كانت ضرورية إلاّ إنها ضرورية بشرط المحمول، و هي خارجة عن محل الكلام، لأن محل الكلام هو انقلاب الإمكان إلى الضرورة المطلقة.

5 - أنه لو جعل الشريف التالي في الشرطية الثانية: لزوم أخذ النوع في الفصل؛ كان أليق بالشرطية الأولى و أولى لفساده مطلقا؛ أي: سواء كان الناطق فصلا حقيقيا أو غير حقيقي؛ و ذلك لفساد أخذ النوع في كل من الفصل و العرض الخاص.

6 - أن المراد من بساطة المشتق هو بساطته مفهوما في مقام التصور و اللحاظ؛ لا بحسب الحقيقة و الماهية بأن لا يكون مركبا من الجنس و الفصل. هذا هو رأي المصنف «قدس سره»، و لا منافاة بين البساطة التصورية و التركب التحليلي العقلي. انتهى التلخيص.

ص: 244

الثاني (1):

الفرق بين المشتق و مبدئه مفهوما: أنه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدإ، و لا يعصى عن الجري عليه، لما هما عليه من نحو من الاتحاد، بخلاف المبدأ،

=============

الفرق بين المشتق و المبدأ

(1) قد عرفت: أن مختار المصنف هو: بساطة المشتق و حينئذ ربما يتوهم: عدم صحة حمل المشتق على الذات؛ و ذلك لعدم الفرق بينه و بين المبدأ بتقريب: أن المشتق لما لم تكن الذات مأخوذة فيه - كما هو قضية بساطته - كان عين المبدأ بإضافة النسبة، حيث يكون موضوعا بمادته للمبدا و بهيئته للنسبة، فلا يصح حمله على الذات، كما لا يصح حمل المبدأ عليها؛ هذا بخلاف من قال بتركب المشتق من الذات و المبدأ، حيث صح عنده الفرق بين المشتق و مبدئه، فيصح حمله على الذات و يقال: «زيد ضارب».

و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال ببيان الفرق بين المشتق و مبدئه؛ بأن المشتق لا يأبى عن الحمل بمفهومه على ما تلبس بالمبدإ.

فالغرض من عقد هذا الأمر الثاني هو: دفع توهم عدم صحة حمل المشتق على الذات على ما هو مختار المصنف من القول ببساطته.

و حاصل الدفع: يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين المشتق و مبدئه مفهوما، و خلاصة الفرق: أن المشتق لا يأبى عن الحمل، لأنه عبارة عن العرض المتحد مع المحل بنحو من الاتحاد المصحح للحمل، فيصح أن يقال: «زيد ضارب» هذا بخلاف المبدأ كالضرب في المثال المزبور مثلا فإنه بمفهومه آب عن الحمل، فلا يصح أن يقال: «زيد ضرب» إلاّ بضرب من التأويل، لأن معناه لمّا كان نفس العرض و المبدأ بما هو شيء من الأشياء في مقابل سائر الأشياء كان مغايرا لغيره، و غير متحد معه، و لذا لا يصح الحمل إلاّ بضرب من العناية و التأويل.

فالمتحصل: أن مفهوم المبدأ لمّا لم يلاحظ فيه الاتحاد الوجودي مع غيره لا يقبل الحمل، هذا بخلاف مفهوم المشتق لمّا لوحظ فيه الاتحاد الوجودي مع غيره يقبل الحمل على المتلبس بالمبدإ.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا فرق في صحة حمل المشتق على الذات بين القول بتركبه و القول ببساطته. نعم؛ الفرق بينهما في التركب و البساطة بمعنى: أن مفهوم ضارب في قولنا: «زيد ضارب» - على القول بالتركب - و هو «زيد له الضرب»، فيتحد

ص: 245

فإنه بمعناه يأبى عن ذلك (1)؛ بل إذا قيس و نسب إليه كان غيره، لا هو هو، و ملاك الحمل و الجري إنما هو نحو من الاتحاد و الهوهوية، و إلى هذا (2) يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما؛ من أن المشتق يكون لا بشرط، و المبدأ يكون بشرط لا، أي:

يكون مفهوم المشتق غير آب عن الحمل، و مفهوم المبدأ يكون آبيا عنه، و صاحب مع زيد الأول الموضوع وجودا فيصح الحمل و يقال: «زيد ضارب»، و على القول بالبساطة: يكون مفهومه منتزعا من الذات بلحاظ تلبسه بالمبدإ؛ فأيضا يتحد مع الموضوع وجودا، فيصح الحمل؛ هذا بخلاف مفهوم المبدأ فإنه حدث محض لا يتحد مع الذات، فلا يصح حمله على الذات؛ إلاّ مع التأويل؛ إذ ملاك صحة الحمل هو الاتحاد.

=============

(1) أي: المبدأ بمفهومه يأبى عن الحمل؛ لعدم وجود شرط صحة الحمل و هو الاتحاد.

و حاصل الكلام: أن المشتق و إن كان بسيطا مفهوما إلاّ إنه مركب من الذات و الحدث بالتحليل العقلي، فمفهوم «ضارب» و إن كان واحدا تصورا إلاّ إنه في الحقيقة ذات ثبت له المبدأ، أو ذات صدر عنه الضرب، هذا بخلاف المبدأ و المصدر؛ فإن معناه بسيط من حيث التصور و الإدراك، و من حيث الماهية و الحقيقة و هو الحدث فقط؛ فلذا لا يتحد مع الذات و لا يحمل عليها، فملاك الحمل - و هو نحو من الاتحاد - غير موجود في المبدأ، و موجود في المشتق.

(2) أي: إلى هذا الفرق و هو: وجود ملاك الحمل في المشتق دون المبدأ؛ يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: إن للماهية بالنسبة إلى ما يقارنها من الخصوصيات اعتبارات ثلاث:

1 - قد تتصور «الماهية بشرط لا»؛ أي: بأن لا يكون معها شيء من الأوصاف و تسمى مجردة.

2 - قد تتصور «بشرط شيء»؛ بأن تتصف بالأوصاف و تسمى مخلوطة.

3 - قد تتصور «لا بشرط»؛ بأن يتصور معناها مع تجويز كونها وحدها، و كونها مع الأوصاف و تسمى مطلقة.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول في الفرق بين المشتق و المبدأ: إن مفهوم المشتق لوحظ على نحو لا بشرط، و لذا يتحد وجودا مع الذات باعتبار كونه من توابع الذات و لواحقها، و هذا النحو من الاتحاد كاف في صحة حمله عليها. هذا بخلاف مفهوم المبدأ فإنه لوحظ بشرط لا أي: بشرط أن لا يكون مع الذات؛ بمعنى: كونه في مقابل

ص: 246

الفصول «رحمه الله»(1) حيث توهم: أن مرادهم (2) إنما هو بيان التفرقة بهذين الاعتبارين، بلحاظ الطوارئ و العوارض الخارجية مع حفظ مفهوم واحد (2)، أورد (3) عليهم بعدم استقامة الفرق بذلك؛ لأجل امتناع حمل العلم و الحركة على الذات، الذات؛ بحيث يكون وجوده ملحوظا في قبال وجودها، و هذا يقتضى المغايرة؛ فليس هناك اتحاد مصحح للحمل، و لذا لا يصح حمل المبدأ على الذات.

=============

و بعبارة أخرى على ما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 326»: للعرض حيثيتان:

إحداهما: كونه موجودا بمفاد كان الناقصة، و هو بهذا اللحاظ يكون مندكا في موضوعه و فانيا فيه و من شئونه، و لذا يصح حمله عليه.

ثانيتهما: كونه موجودا بمفاد كان التامة؛ نظير وجود الجوهر. و العرض بهذا اللحاظ هو نفسه لا غيره، و لذا لا يصح حمله لمغايرته لغيره الرافعة لشرط الحمل و هو الاتحاد، و هذا هو مرجع ما ذكره أهل المعقول من الفرق بين المشتق و مبدئه، ثم إن هذا توطئة لردّ كلام الفصول الآتي.

(1) أي: مراد أهل المعقول من اللابشرطية في المشتق، و بشرط اللائية في المبدأ «إنما هو بيان التفرقة» بين المشتق و مبدئه «بهذين الاعتبارين»؛ من غير دخالة لهما في قوام ذاتي المشتق و المبدأ، بل الفرق بينهما «بلحاظ الطوارئ و العوارض الخارجية» أي: الخارجة عن المعنى الموضوع له كالزمان و المكان، و غيرهما من العوارض المبحوث عنها في بحث المطلق و المقيد.

(2) أي: مع حفظ مفهوم واحد في المشتق و مبدئه؛ و ذلك لأن مفهوم الرقبة - في باب المطلق و المقيد - واحد، و لحاظ اللابشرط و بشرط لا إنما هو بالإضافة إلى الطوارئ؛ كالإيمان و الكتابة و غيرهما من العوارض فيقال: إن الرقبة بالنسبة إلى الإيمان ملحوظة على نحو لا بشرط، و بالإضافة إلى الكتابة ملحوظة بشرط شيء، و بالنسبة إلى الكفر ملحوظة بشرط لا، مع إن الجامع و هو مفهوم الرقبة موجود في الجميع.

(3) أورد صاحب الفصول(1) على أهل المعقول بعدم استقامة الفرق بالاعتبار أي:

اعتبار المشتق لا بشرط، و اعتبار المبدأ بشرط لا.

توهم صاحب الفصول: بأن مراد أهل المعقول هو: اتحاد المبدأ و المشتق في المعنى بالذات و هو الحدث، و إنما الفرق و الاختلاف بينهما في اللحاظ و الاعتبار، بمعنى: أن

ص: 247


1- الفصول الغروية، ص 62، ص 6.
2- الفصول الغروية، ص 62، س 14.

و إن اعتبرا (1) لا بشرط، و غفل (2) عن أن المراد ما ذكرنا (3)، كما يظهر منهم من بيان الفرق بين الجنس و الفصل، و بين المادة و الصورة فراجع.

=============

لفظ ضارب وضع للحدث الملحوظ في نظر الواضع على نحو لا بشرط، و لفظ ضرب وضع للحدث الملحوظ في نظره بشرط لا أي: بشرط عدم الحمل، فاعترض عليهم بعدم الجدوى للحاظ، لأن الضرب لا يحمل و إن اعتبر و لوحظ على نحو اللابشرط، و الضارب يحمل و إن اعتبر و لوحظ على نحو بشرط لا.

(1) أي: لا يصح حمل العلم و الحركة على الذات و إن اعتبرا لا بشرط؛ لأن الاعتبار لا يغير الواقع. ثم قوله: «لأجل امتناع حمل العلم...» إلخ؛ تعليل لعدم استقامة الفرق بين المشتق و مبدئه بالاعتبارين المذكورين.

و خلاصة إيراد صاحب الفصول على أهل المعقول هو: أن الفرق بين المشتق و مبدئه بلحاظ الأول و اعتباره لا بشرط، و اعتبار الثاني بشرط لا بالإضافة إلى العوارض الخارجية؛ مع كون المفهوم فيهما واحدا ذاتا لا يستقيم، لأنه لا يوجب صحة حمل المشتق على الذات دون المبدأ؛ ضرورة: عدم صحّة حمل مثل القيام و القعود و الحركة و السكون و غيرها من المبادئ على الذوات و إن لوحظت و اعتبرت تلك المبادئ على نحو اللابشرط؛ و ذلك لعدم الاتحاد بينهما المصحح للحمل.

(2) هذا جواب المصنف عن إيراد الفصول على أهل المعقول.

(3) أي: غفل صاحب الفصول عن أن مرادهم بقولهم: لا بشرط و بشرط لا «ما ذكرنا» من دخالتهما في قوام المعنى؛ لا أنهما طوارئ خارجة عن ذات المعنى، كي يرد على قولهم ما أورده صاحب الفصول.

و توضيح إيراد المصنف على صاحب الفصول يتوقف على مقدمة و هي: أن لحاظ و اعتبار اللابشرطية و بشرط اللائية في باب المطلق و المقيد يختلف عن اعتبارهما في باب الجنس و الفصل و المادة و الصورة، و الفرق بينهما هو: أن لحاظ اللاشرط و بشرط لا في باب المطلق و المقيد إنما هو بالإضافة إلى العوارض الخارجية؛ كاعتبار الرقبة مثلا، و لحاظها اللاشرط أو بشرط لا بالإضافة إلى الكفر و الإيمان و نحوهما من الطوارئ؛ حيث إن اللاشرط و بشرط لا بهذا المعنى لا يوجبان صحة حمل المبدأ كالعلم مثلا على الذات، لأن الحمل منوط بالاتحاد وجودا، و مجرد اللحاظ لا يوجب ذلك، فلا وجه للحمل أصلا.

هذا بخلاف اعتبار و لحاظ اللابشرط أو بشرط لا في باب الجنس و الفصل و المادة و الصورة؛ فإن المراد باللابشرط و بشرط لا في هذا الباب ما ينتزع عن حقيقة الشيء

ص: 248

و مفهومه، لا ما ينتزع عن الطوارئ.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن إشكال الفصول على أهل المعقول مبني على أن يكون مرادهم باللاشرط و بشرط لا بالإضافة إلى العوارض الخارجية؛ كما في باب المطلق و المقيد، و المراد بهما في المقام هو: ما ينتزع عن حقيقة الشيء؛ كما في باب الجنس و الفصل و المادة و الصورة، فلا يرد عليهم ما أورده في الفصول؛ و ذلك لأن المصدر و المبدأ حينئذ يكون بحقيقته و هويته بشرط لا، لأنه عبارة عن نفس الحدث، و العرض بما أنه ماهية من الماهيات و هو بهذا المعنى آب عن الحمل بمقتضى حقيقته؛ لا بلحاظ بشرط اللائية، كما أن عدم الإباء عن الحمل المنتزع عنه اللابشرطية هو مقتضى حقيقة المشتق و مفهومه، و هذان الاعتباران متباينان لعدم جامع بينهما؛ بخلافهما في باب المطلق و المقيد؛ لوجود القدر الجامع المشترك بينهما كما عرفت.

فنظر أهل المعقول في مقام الفرق بين المبدأ و المشتق بكون الأول مأخوذا بشرط لا، و الثاني لا بشرط إنما هو إلى ما ذكرناه؛ من كون هذين الاعتبارين منتزعين عن مقام الذات لا عن الطوارئ، كما أن مرادهم من اللابشرط و بشرط لا في مقام الفرق بين الجنس و الفصل و المادة و الصورة هو: انتزاعهما عن نفس الذات و الحقيقة؛ لا باعتبار الطوارئ، فإن الجنس بذاته غير آب عن الحمل، و كذا الفصل و المادة و الصورة بذاتهما آبيتان عن الحمل.

و خلاصة الكلام في المقام: أن اللابشرطية و بشرط اللائية في المشتق و مبدئه منتزعتان عن الذات كانتزاعهما عن الجنس و المادة و الفصل و الصورة، و ليس المقصود بهما ما يراد بهما في باب المطلق و المقيد.

و إشكال الفصول على أهل المعقول مبني على: إرادة ما يراد بهما في باب المطلق و المقيد؛ دون ما يراد بهما في باب الجنس و الفصل و المادة و الصورة. هذا هو ظاهر كلامهم كما أشار إليه بقوله: «كما يظهر منهم»؛ بتقريب: أن صحة الحمل في الجنس و الفصل و عدمها في المادة و الصورة إنما هما لجهة ذاتية؛ لا لأمر خارج عن الذات، فلا محالة تكون اللابشرطية في الجنس و الفصل و بشرط اللائية في المادة و الصورة منتزعتين عن مقام الذات، و غير ملحوظتين بالإضافة إلى أمر خارج، و يشهد بالتغاير الذاتي بين الجنس و الفصل و بين المادة و الصورة: أن الأولين من الأجزاء الذهنية، و الأخيرين من الأجزاء الخارجية.

ص: 249

خلاصة البحث

يتلخص البحث في أمور:

1 - توهم عدم الفرق بين المشتق و مبدئه على القول ببساطة المشتق، فلا يصح حمله على الذات، كما لا يصح حمل المبدأ عليها، و قد أجاب المصنف عن التوهم المذكور:

بأن الفرق بينهما: أن المشتق بمفهومه لا يأبى عن الحمل، لأنه عبارة عن العرض المتحد مع المحل و الموضوع بنحو من الاتحاد المصحح للحمل، هذا بخلاف المبدأ فإنه بمفهومه آب عن الحمل. و إلى هذا الفرق يرجع ما ذكره أهل المعقول في مقام الفرق بينهما من:

أن المشتق يكون لا بشرط، و المبدأ يكون بشرط لا؛ فلذا يصح حمل المشتق على الذات دون المبدأ.

2 - إيراد الفصول على أهل المعقول - حيث توهم أنّ مرادهم بالتفرقة بهذين الاعتبارين بالإضافة إلى العوارض الخارجية مع حفظ مفهوم واحد - بعدم استقامة الفرق المذكور؛ لعدم الجدوى لاعتبار اللابشرطية في صحة الحمل، و اعتبار بشرط اللائية في عدمها؛ و ذلك لعدم صحة حمل العلم و الحركة على الذات و إن اعتبرا على نحو اللابشرط.

3 - إيراد المصنف على صاحب الفصول هو: أن إشكال الفصول على أهل المعقول مبني على أن يكون لحاظ اللابشرطية و بشرط اللائية بالنسبة إلى العوارض الخارجية؛ كاعتبار الرقبة مثلا في باب المطلق و المقيد بالنسبة إلى الكفر و الإيمان و نحوهما، و ليس الأمر كذلك في المقام؛ بل لحاظ اللابشرطية و بشرط اللائية في محل الكلام كلحاظهما في باب الجنس و الفصل و المادة و الصورة، فإن المراد باللابشرط و بشرط لا ما ينتزع عن حقيقة الشيء؛ لا من العوارض الخارجية.

فالمبدأ و المشتق ما ينتزع عن الحقيقة؛ بمعنى: أن المبدأ بحقيقته بشرط لا، لأنه عبارة عن نفس الحدث، و العرض بما أنه ماهية مباينة لماهية الذات فهو بهذا المعنى آب عن الحمل و المراد من كون المشتق لا بشرط: ما ينتزع اللابشرطية عن الذات، فيكون عدم الإباء عن الحمل مقتضى حقيقته، و لذا يصح حمله على الذات دون المبدأ.

فالتغاير بين المشتق و المبدأ إنما هو بحسب حقيقتهما؛ لا لأجل اللابشرطية و بشرط اللائية.

ص: 250

الثالث:

ملاك الحمل - كما أشرنا إليه (1) - هو الهوهوية و الاتحاد من وجه، و المغايرة من وجه آخر كما يكون بين المشتقات و الذوات (2)، و لا يعتبر معه (3) ملاحظة التركيب بين المتغايرين و اعتبار كون مجموعهما بما هو كذلك واحدا، بل يكون لحاظ ذلك (4) مخلا لاستلزامه (5) المغايرة بالجزئية و الكلية. و من الواضح: أن ملاك الحمل لحاظ

=============

ملاك الحمل

(1) إشارة إلى ملاك الحمل في الأمر الثاني حيث قال: «و ملاك الحمل و الجري إنما هو نحو من الاتحاد و الهوهوية» أي: يعتبر في الحمل الاتحاد بين الموضوع و المحمول من وجه، و التغاير من وجه آخر. فلا يصح الحمل مع الاتحاد من جميع الجهات، و لا مع التغاير كذلك؛ إذ على الأول يلزم حمل الشيء على نفسه، و على الثاني يلزم حمل المباين على المباين، فلا بد في الحمل من الاتحاد من وجه و التغاير من وجه آخر، سواء كان الحمل أوليا ذاتيا، أو شائعا صناعيا. غاية الأمر: إن كان الاتحاد بين الموضوع و المحمول من حيث المفهوم يسمى الحمل بالأولى الذاتي، و إن كان الاتحاد في الوجود و التغاير في المفهوم يسمى الحمل بالشائع الصناعي. هذا ملخص الكلام في ملاك الحمل.

(2) أي: كما هو الحال في المشتقات و الذوات كقولنا: «الإنسان عالم» مثلا حيث يكون ملاك الحمل هو التغاير من حيث المفهوم و الاتحاد من حيث الوجود و المصداق.

(3) أي: لا يعتبر مع ثبوت ملاك الحمل و هو التغاير من جهة و الاتحاد من جهة أخرى «ملاحظة التركيب بين المتغايرين»؛ بأن يجعل كل واحد من الموضوع و المحمول جزء مركب، ثم اعتبار كون مجموعهما بما هو كذلك واحدا اعتباريا بل ملاحظة التركيب بين المتغايرين مخلّ بالحمل، لأن لحاظ التركيب الذي ادعاه صاحب الفصول مستلزم للجزئية؛ إذ حينئذ كل من الموضوع و المحمول جزء للمركب، و المجموع كل. و من البديهي: عدم صحة حمل أحد جزئي المركب على الآخر.

(4) أي: كون التركيب مخلاّ بالحمل كما عرفت.

(5) أي: لاستلزام التركيب المغايرة بين أجزاء المركب و المجموع «بالجزئية و الكلية»؛ بمعنى: أن كل واحد جزء، و المجموع كلّ .

ص: 251

بنحو الاتحاد (1) بين الموضوع و المحمول مع وضوح عدم لحاظ ذلك (2) في التحديدات و سائر القضايا في طرف الموضوعات، بل لا يلحظ في طرفها إلاّ بنفس معانيها، كما هو الحال في طرف المحمولات (3)، و لا يكون حملها (4) عليها إلاّ بملاحظة ما هما عليه من نحو من الاتحاد؛ مع ما هما عليه من المغايرة و لو بنحو من الاعتبار.

فانقدح بذلك (5): فساد ما جعله في الفصول(1) تحقيقا للمقام، و في كلامه موارد للنظر تظهر بالتأمل و إمعان النظر.

=============

(1) أي: بين الموضوع و المحمول سواء كان الاتحاد من حيث المفهوم أو من حيث الوجود.

(2) أي: التركيب لم يلاحظ في التحديدات أي: المعرفات «و ساير القضايا» المستعملة، فإن التركيب غير ملحوظ في طرف الموضوعات الواقعة في التحديدات و غيرها، «بل لا يلحظ في طرفها إلاّ نفس معانيها» الحاصلة قبل التركيب، مثلا: أن الإنسان بما له من المعنى موضوع في قولنا: الإنسان حيوان ناطق.

(3) أي:، لأن المحمول هو اللفظ المفرد بما له من المعنى.

(4) أي: لا يكون حمل المحمولات على الموضوعات إلاّ بملاحظة ما يعتبر في الحمل من الاتحاد الوجودي أو المفهومي.

(5) أي: ظهر بما ذكرناه من كون مناط الحمل هو الاتحاد بين الموضوع و المحمول من وجه، و مغايرتهما من وجه آخر، و عدم إناطة الحمل بلحاظ التركيب و الوحدة: «فساد ما جعله في الفصول تحقيقا للمقام».

و الغرض من عقد هذا الأمر هو: دفع اشتباه الفصول فيما أفاده في ملاك الحمل.

و بيان ما يعتبر في صحة الحمل من المصنف يكون تمهيدا للمناقشة في كلام صاحب الفصول. فلا بد من ذكر ما في الفصول كي يتضح ما فيه من موارد للنظر.

قال في الفصول ما هذا حاصله: إنّ لصحة الحمل شروط ثلاثة:

الأول: ملاحظة المتغايرين كالنفس و البدن في الإنسان شيئا واحدا؛ بأن يعتبر الإنسان المركب منهما شيئا واحدا اعتبارا مع تغاير النفس و البدن حقيقة، فيقال: إن الإنسان وضع لمجموع النفس و البدن المتغايرين حقيقة، المتحدين اعتبارا.

الثاني: ملاحظة الأجزاء و أخذها على نحو لا بشرط، كي يصح حملها على المركب؛ كلحاظ البدن و النفس في الإنسان باعتبار كونهما مفادي الجسم و الناطق، إذ لحاظهما بما

ص: 252


1- الفصول الغروية، ص 62، س 4.

أنهما مفاد البدن و النفس يوجب كونهما بشرط لا، و من المعلوم: أنهما بهذا اللحاظ لا يقبلان الحمل، لانتفاء الاتحاد بينهما. هذا بخلاف ما إذا أخذا اللابشرط كما هو مفاد الجسم و الناطق، فصح حمل أحدهما على الآخر، و حملهما على الإنسان، لتحقق الاتحاد المصحح للحمل.

الثالث: الحمل بالنسبة إلى المجموع، بأن يكون المحمول كالناطق و الجسم محمولا على مجموع جزئي الإنسان، فقد تحقق مما ذكر: أن حمل أحد المتغايرين على الآخر لا يصح إلاّ بشروط ثلاثة:

1 - أخذ المجموع من حيث المجموع. 2 - أخذ الأجزاء لا بشرط. 3 - اعتبار الحمل بالنسبة إلى المجموع من حيث المجموع. هذا ملخص ما في الفصول.

أما المصنف فقد أشار إلى ما جاء في الفصول؛ من لزوم ملاحظة التركيب بين المتغايرين بملاحظتهما شيئا واحدا، و حمل أحدهما على الآخر بقوله: «و لا يعتبر معه ملاحظة التركيب».

ثم أورد عليه بوجهين:

الإشكال على شروط الفصول في صحة الحمل

أحدهما: أنه يكفي في صحة الحمل مجرد الاتحاد بين الموضوع و المحمول من وجه، و التغاير من وجه آخر.

و ثانيهما: إن ما ذكره من ملاحظة التركيب بين المتغايرين، و ملاحظة المجموع أمرا واحدا ليس من شروط صحة الحمل، بل مخلّ به؛ لأنه يوجب المغايرة بين الموضوع و المحمول في الكلية و الجزئية. و من البديهي: أن الكل و الجزء أمران متغايران بالتباين، فلا يصح حمل أحدهما على الآخر، و لا حمل أحدهما على المجموع و الكل؛ لأنه من حمل المباين على المباين، فلحاظ التركيب مخل بالحمل قطعا. هذا مضافا إلى ما أشار إليه بقوله: «و في كلامه موارد للنظر» أي: في كلام الفصول موارد للنظر. و إليك بعض تلك الموارد:

الأول: هو صحة الحمل في المتغايرين وجودا بمجرد لحاظ التركيب و الوحدة اعتبارا، مع إنه قد ثبت اعتبار الاتحاد الوجودي في صحة الحمل، فلحاظ التركيب و الوحدة لا يوجب انقلابهما عما هو عليه من التغاير الوجودي، و مع التغاير الوجودي لا يصح الحمل؛ لانتفاء ما يعتبر فيه من الاتحاد.

الثاني: جعل الناطق و الحساس من المتغايرين حقيقة، المتحدين اعتبارا، مع إنّهما من

ص: 253

الرابع (1):

لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتق عليه مفهوما، و إن اتحدا عينا المتغايرين مفهوما، و المتحدين خارجا؛ لما في علم الميزان من اتحاد الجنس مع الفصل خارجا.

=============

الثالث: أن الحمل يقتضي التغاير الحقيقي، مع إن التغاير كذلك مانع من صحة الحمل.

خلاصة البحث

إن ملاك صحة الحمل هو الاتحاد بين الموضوع و المحمول من جهة، و التغاير من جهة أخرى. و من هنا يظهر: عدم اعتبار ملاحظة التركيب بين المتغايرين في صحة حمل أحدهما على الآخر كما في الفصول؛ حيث جعل ملاحظة التركيب من شروط صحة الحمل. نعم؛ قد أشار المصنف إلى ما جاء في الفصول من لزوم ملاحظة التركيب بين المتغايرين بملاحظتهما شيئا واحدا، ثم حمل أحدهما على الآخر.

ثم أورد المصنف عليه؛ أولا: بأن ملاحظة التركيب مخلّ بالحمل؛ لاستلزامها المغايرة بين الموضوع و المحمول، فينتفي الاتحاد المصحح للحمل.

و ثانيا: بأنه من الواضح أن لا يلاحظ في الموضوع و المحمول إلاّ ذاتهما و معناهما؛ بلا لحاظ شيء آخر أصلا. هذا في جميع القضايا و موارد الحمل.

كيفيّة حمل صفات الباري تعالى على ذاته المقدسة

(1) الغرض من عقد هذا الأمر أولا: بيان كيفية حمل ما يجري من الصفات عليه «سبحانه و تعالى»، و دفع الإشكال عن حمل الصفات على ذاته المقدسة؛ لأن الحمل لا بد فيه من تغاير الموضوع و المحمول، و المفروض: أن صفاته «جل اسمه»، عين ذاته فلا تغاير بينهما.

و ثانيا: دفع ما وقع من الاشتباه عن صاحب الفصول؛ حيث التزم بالنقل أو التجوّز في ألفاظ الصفات الجارية عليه «سبحانه و تعالى».

و أما الإشكال على حمل الصفات عليه تعالى، مع الجواب عنه فيتوقف على مقدمة و هي: أن المبدأ قد يكون مغايرا للذات كما في قولنا: «زيد ضارب» مثلا، و أخرى:

يكون عين الذات كما في صفاته تعالى فيقال: «الله عالم»، و المفروض: أن علمه تعالى عين ذاته.

و قد عرفت ما هو الملاك في صحة الحمل؛ و هو الاتحاد بين الموضوع و المحمول من جهة، و التغاير من جهة أخرى.

ص: 254

و خارجا، فصدق الصفات مثل: العالم، و القادر، و الرحيم، و الكريم، إلى غير ذلك من صفات الكمال و الجلال عليه تعالى؛ على ما ذهب إليه أهل الحق من عينية صفاته، يكون على الحقيقة، فإن المبدأ فيها و إن كان عين ذاته تعالى خارجا، إلاّ إنه غير ذاته تعالى مفهوما.

و منه (1) قد انقدح ما في الفصول، من الالتزام بالنقل أو التجوز في ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى، بناء على الحق من العينية؛ لعدم المغايرة المعتبرة بالاتفاق؛ و ذلك لما عرفت: من كفاية المغايرة مفهوما، و لا اتفاق على اعتبار غيرها، إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره كما لا يخفى، و قد عرفت: ثبوت المغايرة كذلك بين الذات و مبادئ الصفات.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه قد يستشكل في صحة حمل صفاته تعالى على ذاته المقدسة؛ و ذلك لانتفاء التغاير بينهما، لأن صفاته تعالى هي عين الذات خارجا، و من هنا التزم صاحب الفصول «قدس سره» بالنقل في صفاته تعالى عن معانيها اللغوية أو التجوز.

و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بما حاصله: من أن مناط صحة الحمل هو التغاير من جهة، و الاتحاد من جهة أخرى، و مغايرة الموضوع و المحمول مفهوما أمر واضح، و عليه: فلا يرد الإشكال في حمل صفاته الذاتية عليه تعالى، و لا يلزم من إطلاقها عليه تعالى تجوّز و لا نقل أصلا؛ لأن هذه الصفات و إن كانت عين ذاته تعالى؛ لكنها مغايرة لها مفهوما، و المغايرة المفهومية كافية في صحة الحمل.

(1) أي: و مما ذكرنا من كفاية المغايرة المفهومية بين المبدأ و الذات ظهر: فساد ما في الفصول(1)؛ من الالتزام بالنقل في ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى؛ بأن يقال: إن هيئة العالم و القادر و نحوها من المشتقات في غير الله تعالى حقيقة في الذات المغايرة مع المبدأ، و في الله تعالى نقل منها إلى الذات المتحدة مع المبدأ، أو الالتزام بالتجوز بأن يكون إطلاق العالم على الذات المتحدة مع المبدأ على نحو المجاز. فالعالم الذي يحمل على الله غير العالم المحمول علينا.

و كيف كان؛ فإن صاحب الفصول بعد ما اشترط قيام مبدأ الاشتقاق بالموصوف في صدق المشتق قال: «و خالف في ذلك جماعة فلم يعتبروا قيام المبدأ في صدق المشتق...

إلى أن قال: و انتصر لهم بعض أفاضل المتأخرين؛ بصدق العالم و القادر و نحوهما عليه

ص: 255


1- الفصول الغروية، ص 62، س 28.

الخامس (1):

أنه وقع الخلاف بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة - كما عرفت - بين المبدأ و ما تعالى مع عينية صفاته تعالى كما هو الحق». ثم أجاب عن هذا الانتصار بقوله: «الظاهر إطباق الفريقين على أن المبدأ لا بد أن يكون مغايرا لذي المبدأ و إنما اختلفوا في وجوب قيامه به و عدمه، فالوجه: التزام وقوع النقل في تلك الألفاظ بالنسبة إليه تعالى».

=============

و أما وجه فساد قول الفصول؛ بالنقل في صفات البارئ تعالى فهو ما تقدم؛ من كفاية المغايرة المفهومية في صحة الحمل، و مفهوم العلم و القدرة غير مفهوم واجب الوجود. فلا حاجة إلى الالتزام بالنقل أو التجوّز.

تنبيه: قد ثبت في العلوم العقلية: بأن صفاته تعالى عين ذاته «جل و علا»؛ إذ لو لم تكن صفاته عين ذاته لكانت عارضة لها، فحينئذ لزم خلوه تعالى في مرتبة ذاته عن العلم و القدرة، و لازم ذلك: نسبة الجهل و العجز إليه تعالى، و هو منزه عن ذلك، و هذا البرهان لا يقتضى إلاّ العينية؛ المانعة عن محذور لزوم خلوه تعالى في مرتبة ذاته عن الحياة و العلم و القدرة، و لا يقتضي ذلك تفاوتا في أوضاع الألفاظ و معانيها؛ لعدم ارتباطه بها، فبرهان العينية لا يوجب تغيّرا في وضع الألفاظ و معانيها؛ كي يقال بالنقل أو التجوّز.

خلاصة البحث

في حمل صفات البارى تعالى كالعالم و القادر و نحوهما على ذاته المقدسة: فقد يستشكل في صحته بأن الحمل لا بد فيه من تغاير الموضوع و المحمول، و المفروض: أن صفاته تعالى عين ذاته فلا تغاير بينهما، و من هنا التزم صاحب الفصول بالنقل أو التجوّز.

و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بكفاية المغايرة المفهومية بين الموضوع و المحمول في صحة الحمل، و هي ثابتة في حمل الصفات على ذاته تعالى؛ لأن مفهوم العالم مغاير لمفهوم واجب الوجود، و عليه: فيصح حمل صفاته تعالى على ذاته و يقال: «الله عالم - و قادر - و مريد» فلا يلزم من إطلاقها عليه تعالى تجوّز، و لا نقل أصلا.

و من هنا ظهر فساد ما في الفصول من التزامه بالنقل أو التجوّز، و ذلك لانتفاء المغايرة المعتبرة في صحة الحمل، فلا بد في صحة الحمل من النقل بأن يقال: إن هيئة المشتق كالعالم و القادر مثلا في غير الله تعالى حقيقة في الذات المغايرة مع المبدأ، و في الله تعالى نقل منها إلى الذات المتحدة مع المبدأ، أو استعمل مجازا.

(1) الغرض من عقد هذا الأمر: دفع توهم عدم اعتبار قيام المبدأ بالذات في صدق

ص: 256

يجري عليه المشتق؛ في اعتبار قيام المبدأ به، في صدقه على نحو الحقيقة، و قد استدل من قال بعدم الاعتبار بصدق الضارب و المؤلم مع قيام الضرب و الألم بالمضروب و المؤلم - بالفتح -.

=============

المشتق عليها على نحو الحقيقة، و إثبات ما هو الحق عند المصنف «قدس سره»: من اعتبار قيام المبدأ بالذات حقيقة في صدق المشتق عليها على نحو الحقيقة.

الأقوال في كيفية قيام المبادئ بالذات

و اعلم: أن الأقوال في المسألة أربعة:

الأول: ما ذهب إليه الأشعري من اعتبار القيام بمعنى: الحلول، و لهذا السبب قالوا:

إن صفات الله تعالى زائدة عليه، و نقل عنهم في محكي المواقف ما لفظه: «لا شك أن علة كون الشيء عالما هي العلم، و حد العالم من قام به العلم، و شرط صدق المشتق على واحد منا ثبوت أصله له، فكذا شرطه فيمن غاب و هكذا سائر الصفات». و بهذا الدليل نفسه أثبتوا الكلام النفسي و قالوا: إن المراد بالكلام في المشتق - أعني: إطلاق المتكلم عليه تعالى - هو معنى قديم قائم بالذات؛ لأن الكلام بالمعنى المعروف من قبيل الحوادث، و يلزم من قيامه بالذات القديمة كونها محلا للحوادث و هو غير جائز.

الثاني: ما ذهب إليه المعتزلي من عدم اعتبار القيام الحلولي، و لهذا ذهبوا إلى نفي الصفات الزائدة عن الله تعالى.

و ما يمكن الاستدلال به له وجوه؛ منها: إطلاق الضارب و المؤلم - بالكسر - على الفاعل؛ مع قيام الضرب و الإيلام بالمفعول، و هو المضروب و المؤلم - بالفتح - و إطلاق الخالق و المتكلم على الله تعالى؛ مع قيام مبدئهما بغيره من المخلوق و الجسم؛ لأن التكلم من الله تعالى هو: إيجاد الأصوات في الأجسام.

و منها: إطلاق الصفات الذاتية الجارية على الله تعالى؛ مع كون مباديها عين الذات فكيف يتصور القيام ؟

و منها: إطلاق اللابن و التامر و غيرهما مما كان المبدأ فيه ذاتا.

الثالث: ما يستفاد من ظاهر «الفصول»؛ من اعتبار القيام بالمعنى الأعم من الحلول و الصدور؛ فيما لم يكن المبدأ ذاتا، و عدم اعتباره فيه؛ و لذا التزم بصدق القيام في الأمثلة الأربعة المتقدمة في الوجه الأول و هي: الضارب و المؤلم و الخالق و المتكلم. و التزم في الصفات الذاتية بالنقل أو التجوّز، و صرح بعدم اعتبار القيام في اللابن و أمثاله.

الرابع: ما اختاره المصنف من اعتبار القيام بمعنى: التلبس، و لكن التلبس كما يختلف باختلاف هيئات المشتق؛ من اسم الفاعل و اسم المفعول على أقسامه، كذلك يختلف باختلاف المراد؛ فتارة: يكون التلبس حلوليا، كما في مثل «الأبيض»، و قد يكون

ص: 257

و التحقيق: إنه لا ينبغي أن يرتاب من كان من أولي الألباب في: أنه يعتبر في صدق المشتق على الذات و جريه عليها (1)، من التلبس بالمبدإ بنحو خاص على اختلاف أنحائه (2)؛ الناشئة من اختلاف المواد تارة، و اختلاف الهيئات (3) أخرى، من صدوريا، كما في «الضارب» و «المؤلم» و «الخالق» و «المتكلم» بالنسبة إلى الله تعالى، بل هو في الممكن - أيضا - بهذا الاعتبار؛ لا باعتبار كونه محلا له، و قد يكون انتزاعيا؛ بمعنى: أن الذات تكون منشأ لانتزاع المبدأ منها مفهوما مع كونه عينها وجودا، و قد يكون انتزاعيا صرفا بحيث لا تحقق له وجودا؛ بمعنى: أن الخارج ظرف لنفسه لا لوجوده كما في الأوصاف الاعتبارية.

=============

و أما مثل: «التامر»: فالتحقيق فيه أيضا تحقق التلبس؛ لأن الذات بما هي ذات غير قابلة للاشتقاق؛ فلا بد من إرادة المعنى الحدثي من المبدأ ليصح الاشتقاق؛ مثل: أن يراد من التمر بيعه، فعليه: يكون من قبيل القيام الصدوري؛ كما في حاشية المشكيني. ثم قال: «هذا القول» أي: القول الرابع و هو مختار المصنف «هو الأقوى؛ لأن المتبادر من المشتق عرفا هو المتلبس، و لا إشكال في تحققه في جميع الموارد».

(1) أي: جري المشتق على الذات.

و حاصل التحقيق: أنه يعتبر في صدق المشتق على الذات و جريه عليها «من التلبس بالمبدإ»، و قيامه بها، غاية الأمر: أن التلبس يختلف؛ فقد يكون بنحو الصدور كما في «الضارب»، و قد يكون بنحو الوقوع فيه كما في «المقتل»، و قد يكون بنحو الحلول كالمرض و الجوع مثلا، و قد يكون بنحو الوقوع نحو الممات مثلا.

و قد يكون بنحو انتزاع المبدأ عنه مفهوما و اتحاده معه خارجا؛ كما في العالم و القادر و نحوهما مما يجري عليه تعالى، و قد يكون بنحو انتزاع المبدأ مع عدم تحقق إلاّ لمنشا الانتزاع، كما في الزوج و الملك و الرق؛ و نحوها من العناوين التي كانت مباديها من الإضافات و الاعتبارات التي لا تحقق لها في الخارج إلاّ لمنشا انتزاعها، و يكون من خارج المحمول في قبال المحمول بالضميمة؛ و هي المبادئ المتأصلة التي لها وجود في الخارج حقيقة و لو في ضمن المعروض؛ كالسواد و البياض و الشجاعة و الكرم و نحو ذلك.

(2) أي: أنحاء التلبس و قد عرفت أقسامه.

(3) أي: كاسمي الفاعل و المفعول و غيرها من المشتقات، و الاختلاف بين اسمي الفاعل و المفعول من حيث الهيئة واضح؛ لأن مفاد الأول هو: صدور المبدأ من الذات، و مفاد الثاني هو: وقوعه عليها.

ص: 258

القيام صدورا، أو حلولا أو وقوعا عليه أو فيه، أو انتزاعه عنه مفهوما مع اتحاده معه خارجا، كما في صفاته تعالى، على ما أشرنا إليه آنفا، أو مع عدم تحقق إلاّ للمنتزع عنه؛ كما في الإضافات و الاعتبارات التي لا تحقق لها، و لا يكون بحذائها في الخارج شيء، و تكون من الخارج المحمول لا المحمول بالضميمة (1).

ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايرا له مفهوما، و قائما به عينا، لكنه (2) بنحو من القيام؛ لا بأن يكون هناك اثنينية (3) و كان بحذائه (4) غير الذات، بل (5) بنحو الاتحاد و العينية و كان ما بحذائه عين الذات، و عدم اطلاع (6) العرف على

=============

(1) أي: قد حكى بعض من تلاميذ المصنف: أنه قال في درسه الشريف: «إن المراد بالخارج المحمول هو العارض الاعتباري كالزوجية و نحوها، و بالمحمول بالضميمة:

العارض المتأصل كالسواد و البياض، و وجه تسمية الأول بالخارج المحمول هو: كونه خارجا عن الشيء و محمولا عليه، و الثاني بالمحمول بالضميمة لكونه محمولا بضم ضميمة على شيء؛ كحمل السواد على غيره فإنه لا يحمل عليه إلاّ بضم ضميمة فيقال: الجسم ذو سواد».

(2) أي: لكن القيام الذي يكون بنحو العينية نحو خاص من القيام، و ليس كسائر موارد قيام المبدأ بالذات؛ مما يكون بينهما اثنينية كما ربما يكون المتبادر من قيام شيء بشيء التعدد و الاثنينية.

(3) أي: لا القيام المشهوري بأن يكون هناك اثنينية.

(4) أي: ما بحذاء المبدأ، و غرضه: بيان لازم الاثنينية و هو: كون ما بإزاء المبدأ غير الذات كصفات المخلوق؛ فإن العلم فيهم هو الصورة الحاصلة مثلا، و هي غير الذات القائمة بها تلك الصورة. كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 346».

(5) قوله: «بل بنحو الاتحاد» تفسير لقوله: «بنحو من القيام»؛ يعني: هذا القيام يكون بنحو الاتحاد و العينية بحيث يكون ما بحذاء المبدأ كالعلم و القدرة عين الذات.

(6) قوله: «و عدم اطلاع العرف هذا التلبس» أي: التلبس بنحو العينية دفع للإشكال.

و حاصله: أن العرف لا يتفطنون لمثل هذا التلبس؛ لأنه من الدقائق أي: كونه متلبسا بالعلم و القدرة بمعنى: أن ذاته تعالى منشأ أوصافه المغايرة معها مفهوما، و عينيتها معها حقيقة ليكون العالم و القادر و نحوهما صادقة عليه تعالى حقيقة بلا تجوّز أصلا.

و حاصل الدفع: أن عدم اطلاعهم على مثل هذا التلبس لكونه من الأمور الخفية مما لا يضر بصدق الصفات عليه تعالى حقيقة، لأن العرف إنما يكون مرجعا في تعيين

ص: 259

مثل هذا التلبس من الأمور الخفية لا يضر بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة؛ إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقة، و لو بتأمل و تعمّل من العقل، و العرف إنما يكون مرجعا في تعيين المفاهيم، لا في تطبيقها على مصاديقها.

و بالجملة: يكون مثل العالم و العادل و غيرهما - من الصفات الجارية عليه تعالى و على غيره - جارية عليهما بمفهوم واحد و معنى فارد؛ و إن اختلفا فيما يعتبر في الجري من الاتحاد و كيفية التلبس بالمبدإ، حيث إنه (1) بنحو العينية فيه تعالى، و بنحو الحلول أو الصدور في غيره، فلا وجه لما التزم به في الفصول؛ من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عما (2) هي عليها من المعنى كما لا يخفى.

=============

المفاهيم، مثل: أن مفهوم المشتق ذات متلبس بالمبدإ لا في تطبيقها على المصاديق، فإن التطبيق أمره بأيدينا، فإذا رأينا أن العالم بمعناه العرفي ينطبق عليه تعالى لتلبسه بالعلم - و لو بنحو الانتزاع و العينية - كان صدقه عليه تعالى على نحو الحقيقة؛ و إن لم يطلع العرف على هذا النحو من التلبس.

و بالجملة: لا فرق في الصفات الجارية عليه تعالى و على غيره من حيث المفهوم، فإن العالم مثلا بما له من المفهوم يجري عليه «سبحانه و تعالى» و على غيره بوزان واحد؛ «و ان اختلفا فيما يعتبر في الجري من الاتحاد» فيه تعالى، و التعدد و الاثنينية في غيره، و في «كيفية التلبس بالمبدإ حيث إنه بنحو العينية فيه تعالى و بنحو الحلول أو الصدور في غيره».

قوله: «فلا وجه لما التزم به...» إلخ متفرع على ما ذكره من كون صفاته تعالى كصفاتنا من غير تفاوت بينهما إلاّ في كيفية التلبس و الاتحاد، فالعالم مثلا - بما له من المعنى - يحمل على الواجب و الممكن؛ من دون حاجة إلى تصرف فيه بنقل أو تجوّز إذا أطلق عليه تعالى، كما توهمه صاحب الفصول.

(1) أي: التلبس بنحو العينية في اللّه تعالى، و بنحو الحلول أو الصدور في غيره.

(2) أي: عن المعنى الذي تكون الصفات عليه. قوله: «من المعنى» بيان لما في «عما».

و الأولى أن يقال: «من المعاني» ليوافق ضمير عليها، أو يقال بتذكير الضمير في «عليها» أعني: عليه؛ حتى تكون العبارة هكذا: عما هي عليه من المعنى.

و كيف كان؛ فالتزم صاحب الفصول بالنقل أو التجوّز في الصفات الجارية عليه تعالى، و غرضه من النقل هو: النقل في هيئات المشتقات؛ و هي: الصفات الجارية عليه تعالى فهيئة العالم في غيره تعالى حقيقة في الذات المغايرة مع المبدأ، و فيه «جل و علا» قد نقلت إلى الذات المتحدة مع المبدأ.

ص: 260

كيف (1)؟ و لو كانت بغير معانيها العامة جارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة اللسان، و ألفاظ بلا معنى، فإن غير تلك المفاهيم العامة الجارية على غيره تعالى غير مفهوم و لا معلوم إلاّ بما يقابلها، ففي مثل ما إذا قلنا: «إنه تعالى عالم»؛ إما أن نعني:

أنه من ينكشف لديه الشيء فهو ذاك المعنى العام، أو أنه مصداق لما يقابل ذاك المعنى فتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

=============

و التزم صاحب الفصول بالنقل مع إن الأصل عدم النقل لوجهين:

الأول: عدم قيام المبدأ بالذات، لأن المبدأ هو عين الذات المقدسة، و ذات الباري تعالى عين المبدأ، فلا يعقل القيام، مع إن قيام المحمول بالموضوع معتبر في الحمل.

الثاني: لعدم المغايرة بين المبدأ و الذات المقدسة؛ مع إن الحمل عبارة عن اتحاد الموضوع و المحمول من جهة، و تغايرهما من جهة أخرى.

و حاصل الجواب: أنه يشترط في الحمل القيام سواء كان عينيا أم كان صدوريا أو غيرهما، و القيام العيني موجود في حمل الصفات عليه تعالى. هذا هو الجواب عن الوجه الأول.

و أما عن الوجه الثاني: فلوجود المغايرة بين الذات المقدسة و بين المبدأ من حيث المفهوم، و هذا المقدار من المغايرة كاف في صحة حمل المشتق عليه تعالى، و في كونه حقيقة فيه.

(1) أي: كيف يكون لما التزم به في الفصول وجه، و الحال: أنه لو كانت الصفات بغير معانيها العامة للواجب و الممكن جارية عليه تعالى لزم أن تكون صرف لقلقة اللسان.

و حاصل اعتراض المصنف على الفصول: أن الصفات الجارية على البارى «جل و علا» إن انسلخت عن معانيها العامة الشاملة للواجب و الممكن؛ لزم أحد المحذورين اللذين لا سبيل إلى الالتزام بهما.

توضيح ذلك: إما أن نريد من لفظ العالم في قولنا: «الله عالم» الذات التي ينكشف لديها الواقع، فذاك هو المعنى العام للفظ العالم الذي يشمل علم الباري و علم غيره. غاية الأمر: علم الباري «جل و علا» يكون على النحو الأكمل، و علم غيره على النحو الأضعف.

و إما أن نريد من لفظ العالم في المثال المذكور: أن الله مصداق لوصف يقابل ذاك المعنى المذكور، و هو انكشاف الواقع، و المعنى الذي يقابله هو عدم انكشاف الواقع، و هو عبارة أخرى عن الجهل بالواقع، فتعالى عن ذاك علوا كبيرا.

و إما أن لا نريد من لفظ العالم شيئا معلوما لنا و هو: انكشاف الواقع، فيكون التلفظ

ص: 261

و إما أن لا نعني شيئا فتكون كما قلناه من كونها صرف اللقلقة، و كونها بلا معنى كما لا يخفى.

(و العجب) أنه (1) جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره؛ و هو (2) كما ترى.

و بالتأمل فيما ذكرنا (3) ظهر الخلل فيما استدل من الجانبين (4)، و المحاكمة بين الطرفين، فتأمل.

=============

بلفظ «الله عالم» صرف لقلقة اللسان، و كون صفات الباري بلا معنى أصلا، و لا سبيل إلى الالتزام بالاحتمالين الأخيرين، فالمتعين هو الأول؛ و هو المطلوب.

(1) أي: صاحب الفصول جعل النقل علة لعدم صدق الصفات في حق غيره تعالى بالمعنى الذي يصدق في حقه تعالى. قال في الفصول: ما هذا لفظه: «فالوجه التزام وقوع النقل في تلك الألفاظ بالنسبة إليه تعالى؛ و لهذا لا تصدق في حق غيره».

و حاصل الكلام في هذا المقام: أنه جعل صاحب الفصول نقل صفات الباري تعالى عن معناها اللغوي إلى المعنى الثاني بالنسبة إليه «سبحانه و تعالى» علة لعدم صدقها بما لها من المعاني في حق غيره تعالى؛ بالنحو الذي تصدق في حقه تعالى أي: صدق الصفات على الباري «عزّ اسمه» يكون بعد النقل على نحو العينية، و صدقها على غيره قبل النقل على نحو المغايرة و الاثنينية، و على نحو الحالية و المحلية.

وجه تعجب المصنف منه ما تقدم؛ من صدق العالم على الباري تعالى و على غيره يكون بمعنى واحد؛ و هو: انكشاف الواقع. غاية الأمر: في الباري على نحو العينية، و في غيره على نحو الحلول أو الصدور، فإنكار «الفصول» صدق الصفات على غير الباري تعالى بالمعنى الذي تطلق عليه تعالى في غير محله.

(2) أي: ما ذكره صاحب الفصول؛ من عدم جواز إطلاق الصفات في حق غيره تعالى بمعناها المطلق عليه تعالى كما ترى في غير محله، و قد عرفت ما يرد عليه من الإشكال من: أن جري المشتق على اللّه تعالى ليس إلاّ كجريه علينا، بل معنى المشتق على كل تقدير واحد، و جريه على كل من الواجب و الممكن يكون على نهج واحد، و لا تفاوت بينهما إلاّ في كيفية التلبس على ما سبق.

(3) أي: اعتبار قيام المبدأ بالذات بأحد أنحائه في صدق المشتق على نحو الحقيقة.

(4) أي: المثبتين لاعتبار قيام المبدأ بالذات في صدق المشتق على نحو الحقيقة و النافين لذلك، و قد ظهر: خلل أدلة الطرفين من التحقيق الذي أفاده المصنف بقوله: «و التحقيق:

إنه لا ينبغي أن يرتاب...» إلخ. و من هذا التحقيق ظهر فساد دليل النافي لاعتبار قيام

ص: 262

المبدأ بالذات في صدق المشتق على نحو الحقيقة؛ حيث استدل النافي بصدق الضارب و المؤلم مع قيام الضرب و الألم بالمضروب و المؤلم - بالفتح -.

وجه الفساد: أن قيام المبدأ بالذات موجود، غاية الأمر: قيام المبدأ بالذات بالنسبة إلى المفعول وقوعي، و بالنسبة إلى الفاعل صدوري، و قد مر غير مرة أن اختلاف قيام المبدأ لا يوجب تفاوتا فيما هو المهم من صدق المشتق على الذات على نحو الحقيقة بعد تحقق قيام المبدأ بها و تلبسها به.

و قد ظهر من التحقيق السابق: المحاكمة بين المثبت و النافي؛ لأن الحاكم يحكم بالصلح بينهما، لأن مقصود المثبت هو: اعتبار قيام المبدأ بالذات في صدق المشتق على نحو الحقيقة هو مطلق تلبس الذات بالمبدإ؛ سواء كان صدوريا أو حلوليا أو غيرهما.

و مراد النافي هو: عدم اعتبار تلبس الذات بالمبدإ على نحو الحلول فقط في صدق المشتق على الذات فلا نزاع حينئذ؛ لأن المنفي هو خصوص القيام الحلولي، و المثبت هو القيام في الجملة، فحينئذ يكون النزاع لفظيا.

قوله: «فتأمل» لعله إشارة إلى ضعف المحاكمة، و أن النزاع معنوي؛ لأن من المثبتين من يرى اعتبار القيام الحلولي كالأشعري، و لذا التجئوا إلى إثبات الكلام النفسي؛ لئلا يلزم كونه تعالى محلا للحوادث؛ لأن الكلام بمعناه المعروف من الحوادث، و القيام الحلولي يستلزم كون ذاته المقدسة محلا لها، فلا وجه لما ذكر من الصلح بين القولين.

أو إشارة إلى: أن غرض «الفصول» من نقل صفات البارى تعالى هو النقل في هيئات المشتقات و الصفات؛ لا النقل في موادها، فلا يرد عليه ما أورده المصنف من لزوم اللقلقة في اللسان، و الغرض من نقل الهيئة هو: أن إطلاق العالم و القادر بما لهما من المعنى المطلق على اللّه تعالى لا يجوز على غيره تعالى، و أما إطلاق المبادئ كالعلم و القدرة و نحوهما فهو جائز على غيره تعالى، و يكون بمفهوم واحد.

و إنما الاختلاف في كيفية التلبس كما عرفت.

خلاصة البحث

يتلخص البحث في أمور:

1 - اعتبار قيام المبدأ بالذات في صدق المشتق على نحو الحقيقة، و قيل: بعدم اعتبار قيام مبدأ المشتق بالذات في صدقه عليها لوجوه.

منها: إطلاق الضارب و المؤلم - بالكسر - على الفاعل؛ مع قيام الضرب و الألم

ص: 263

بالمضروب و المؤلم - بالفتح -.

منها: إطلاق الصفات الذاتية الجارية على الله تعالى؛ مع كون مباديها عين ذاته المقدسة، فلا يتصور القيام المستلزم للتعدد و الاثنينية.

و منها: إطلاق التامر و اللابن و نحوهما مما كان المبدأ فيه ذاتا.

و ملخص الجواب عن الجميع هو: ثبوت قيام المبدأ بالذات في الأمثلة المذكورة، غاية الأمر: واجدية الذات للمبدا تتصور على أقسام:

الأول: أن تكون بنحو الصدور؛ كالمعطي و الضارب و المؤلم - بالكسر -.

الثاني: أن تكون بنحو الوقوع كالمضروب و المؤلم - بالفتح -.

الثالث: أن تكون بنحو الانتزاع كالزوج و الحر و الرق و نحوها؛ مما كان المبدأ منتزعا عن الذات، و ليس له تحقق في الخارج.

الرابع: أن تكون بنحو العينية كما في صفاته تعالى؛ فإن المبدأ كالعلم و القدرة عين الذات المقدسة، و وجدان الذات له بنحو العينية و إن كان خارجا عن المتفاهم العرفي؛ إلاّ إنه يدرك بتعمل من العقل السليم.

أما التامر و اللابن: فلأن المراد من الأول هو: بائع التمر، و من الثاني من يبيع اللبن، فتكون الذات فيهما متلبسة بالمبدإ، و المبدأ قائم بها، فلا وجه لعدم اعتبار قيام المبدأ بالذات في الأمثلة المذكورة.

2 - الرّد على ما التزم به صاحب الفصول: من النقل في صفات الله تعالى لوجهين:

الأول: عدم قيام المبدأ بالذات في صفاته تعالى؛ لأن المبدأ هو عين الذات، و الذات هو عين المبدأ، فلا يعقل القيام، مع إن قيام المحمول بالموضوع معتبر في صحة الحمل.

الثاني: عدم المغايرة بين الذات و المبدأ؛ بعد فرض العينية، مع إن الحمل يعتبر فيه التغاير بين الموضوع و المحمول من جهة، و الاتحاد من جهة أخرى.

و حاصل الرّد و الجواب عن الوجه الأول: أن المعتبر في صحة الحمل هو: مطلق قيام المبدأ بالذات؛ من دون فرق بين أنحائه و أقسامه، و القيام العيني موجود في حمل الصفات عليه تعالى.

و أما الجواب عن الوجه الثاني: فلأن المغايرة المفهومية موجودة بين ذاته المقدسة و بين مبادئ الصفات، و هذا المقدار من المغايرة كاف في صحة حمل المشتق على الذات،

ص: 264

السادس: (1) الظاهر: أنه لا يعتبر في صدق المشتق و جريه على الذات حقيقة؛ التلبس بالمبدإ حقيقة و بلا واسطة في العروض، كما في الماء الجاري، بل يكفي التلبس به و لو و كونه على نحو الحقيقة، فلا حاجة إلى ما ذكره صاحب الفصول من الالتزام بالنقل.

=============

3 - بيان الخلل في استدلال النافين لاعتبار المبدأ بالذات، و قد عرفت الخلل فيما استدلوا به على عدم اعتبار قيام المبدأ بالذات في صدق المشتق على نحو الحقيقة.

و قلنا: إن القيام موجود في جميع الأمثلة المذكورة، غاية الأمر: أن الاختلاف في كيفية قيام المبدأ بالذات، و قد عرفت غير مرة: أن الاختلاف في كيفية قيام المبدأ بالذات لا يضر بقيام المبدأ بها، و لا بصدق المشتق على الذات بنحو الحقيقة.

(1) غرض المصنف من عقد هذا الأمر هو: دفع ما في الفصول من اعتبار الإسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة، فلا بد أولا من ذكر كلام صاحب الفصول؛ كي يتضح إيراد المصنف عليه.

قال في الفصول ما هذا لفظه: «يشترط في صدق المشتق على شيء حقيقة قيام مبدأ الاشتقاق به من دون واسطة في العروض...» إلخ، إلى أن قال: «و إنما قلنا: من دون واسطة في المقام احترازا عن القائم بواسطة». و ظاهر كلامه هذا هو: اعتبار الإسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة، و لازم ذلك هو: الفرق بين قولنا: الماء الجاري و بين قولنا: الميزاب الجاري فيكون صدق المشتق في المثال الأول على نحو الحقيقة؛ لأن إسناد الجريان إلى الماء يكون بلا واسطة في العروض، و في المثال الثاني على نحو المجاز؛ لأن قيام الجريان بالميزاب يكون بواسطة الماء و هي الواسطة في العروض.

و قد أورد عليه المصنف بقوله: «الظاهر أنه لا يعتبر في صدق المشتق...» إلخ، و حاصل ما أفاده المصنف - من الإشكال على صاحب الفصول - هو: أن صدق المشتق على الذات حقيقة لا يتوقف على كون إسناد المشتق حقيقيا و إسنادا إلى من هو له، كما في «الماء جار»؛ بل يكون صدق المشتق على الذات على نحو الحقيقة و إن كان إسناده إلى الذات مجازيا، و إسنادا إلى غير من هو له نحو. «الميزاب جار» و «جالس السفينة متحرك»، فالمجاز في الإسناد لا يضر في صدق المشتق على الذات على نحو الحقيقة؛ بل المضر فيه هو المجاز في الكلمة لا المجاز في الإسناد، فالمشتق الذي هو «جار» قد استعمل في معناه الحقيقي في كلا المثالين؛ و إن كان الإسناد في أحدهما مجازيا و في الآخر حقيقيا إلاّ إن المجاز في الإسناد لا يوجب المجاز في الكلمة، فالمشتق مثل: «الجاري

ص: 265

مجازا، و مع هذه الواسطة كما في الميزاب الجاري، فإسناد الجريان إلى الميزاب و إن كان إسنادا إلى غير ما هو له و بالمجاز؛ إلاّ إنه في الإسناد لا في الكلمة، فالمشتق في مثل المثال بما هو مشتق قد استعمل في معناه الحقيقي، و إن كان مبدأه مسندا إلى الميزاب بالإسناد المجازي، و لا منافاة بينهما (1) أصلا كما لا يخفى، و لكن ظاهر الفصول(1)، بل صريحه اعتبار الإسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة، و كأنه (2) من و المتحرك» في المثالين المذكورين قد استعمل في معناه الموضوع له.

=============

(1) أي: و لا منافاة بين استعمال المشتق في معناه الحقيقي، و بين الإسناد المجازي، فحينئذ لا يعتبر في صدق المشتق على الذات على نحو الحقيقة الإسناد الحقيقي؛ خلافا للفصول، حيث اعتبر في صدق المشتق الإسناد الحقيقي كما أشار إليه المصنف بقوله:

«و لكن ظاهر الفصول، بل صريحه اعتبار الإسناد الحقيقي».

(2) أي: كأنّ اشتراط الفصول «من باب الخلط بين المجاز في الإسناد»؛ الذي لا يضر بكون صدق المشتق على نحو الحقيقة، «و المجاز في الكلمة» الذي يضر في صدق المشتق على نحو الحقيقة. بمعنى: أن صاحب الفصول اعتبر التلبس الحقيقي بالمبدإ في مقام الاستعمال؛ مع إن ذلك غير معتبر فيه، بل التلبس الحقيقي معتبر في الإسناد الحقيقي، فما يعتبر فيه التلبس الحقيقي ليس من محل الكلام و ما هو محل الكلام أعني: مقام الاستعمال لا يعتبر فيه التلبس الحقيقي.

و بالجملة: أن هذا الخلط مبني على أن يكون مراد الفصول من الصدق في قوله:

«و يشترط في صدق المشتق...» إلخ استعمال المشتق في معناه؛ إذ لا يعتبر حينئذ التلبس بالمبدإ حقيقة، و أما إذا كان مراده من الصدق هو الإسناد الحقيقي فيعتبر فيه التلبس بالمبدإ حقيقة، فوقع منه الخلط بين الاستعمال الحقيقي و الإسناد الحقيقي، فحينئذ يرد عليه ما أورده المصنف؛ من عدم اعتبار الإسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة إن كان مراده من الصدق هو الاستعمال، و لا يرد عليه إيراد المصنف إن كان مراده من الصدق الإسناد الحقيقي.

ففي الحقيقة يكون النزاع بين المصنف و صاحب الفصول لفظيا.

فإن كان مراد صاحب الفصول من الصدق هو الاستعمال: فالحق مع المصنف، و إن كان مراده منه الإسناد: فالحق مع صاحب الفصول.

قوله: «هذا» في بعض النسخ «هو» و المشار إليه أو مرجع الضمير هو المجاز في الكلمة،

ص: 266


1- الفصول الغروية، ص 62، س 21.

باب الخلط بين المجاز في الإسناد و المجاز في الكلمة، و هذا - هاهنا - محل الكلام بين الأعلام، و الحمد للّه و هو خير ختام.

=============

فمعنى العبارة: أن المجاز في الكلمة «هاهنا» أي: في بحث المشتق محل الكلام بين الأعلام، لا المجاز في الإسناد. «بقي شيء» و هي الثمرة العلمية أو العملية على بحث المشتق، بعدم كونه من المسائل الأصولية، بقرينة ذكرهم له في المقدمة دون المقاصد.

الثمرة العلمية و العملية على بحث المشتق

أما الثمرة العلمية فهي: صحة تعريف الإنسان بالناطق وحده، أو الضاحك وحده نحو: الإنسان ناطق، أو الإنسان ضاحك؛ على القول بتركب المشتق، فيسمى الأول حدا ناقصا، و الثاني رسما ناقصا. و عدم صحة التعريف المذكور على القول بالبساطة.

توضيح ذلك: أن التعريف سواء كان بالحد أو بالرسم إنما هو من مصاديق الفكر و النظر. و قيل في تعريف النظر: إنه عبارة عن ترتيب أمور معلومة لتحصيل أمر مجهول، فيصح تعريف الإنسان بالناطق على القول بالتركب، لصدق الترتيب على اثنين، لأنه أقل الجمع عند أهل الميزان، و المفروض: أن الناطق مركب من أمرين أعني شيء له النطق، أو ذات له النطق، و كذلك الضاحك في المثال المذكور، هذا بخلاف القول بالبساطة؛ فلا يصح التعريف المذكور لعدم صدق الترتيب حينئذ.

و أما الثمرة العملية: فذكروا لها موارد؛ منها: كراهة البول تحت الشجرة التي لا ثمرة لها فعلا مع كونها ذات ثمرة قبلا، فإن قلنا: بوضع المشتق للأعم فهو مكروه، و إن قلنا:

بوضعه لخصوص المتلبس بالمبدإ في الحال فهو غير مكروه.

و منها: كراهة الوضوء و الغسل بالماء المشمس أي: الحار بحرارة الشمس، بعد صيرورته باردا، فإن قلنا: بوضعه للأعم فهما مكروهان. و إن قلنا: بوضعه للمتلبس فلا يحكم بكراهتهما، لأن الحكم بالكراهة بعد ارتفاع السخونة مبني على وضع المشتق للأعم و عدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق.

و منها: إذا عرض الجلل على حيوان مأكول اللحم، و زال عنه الجلل بواسطة الاستبراء، فإن قلنا: بوضعه للأعم حرم أكل لحمه. و إن قلنا: بوضعه لخصوص المتلبس بالمبدإ لم يحرم، و أما بيان الاستبراء كما و كيفا فموكول إلى علم الفقه.

و منها: تحريم الزوجة الكبيرة التي أرضعت زوجة صغيرة كما مر تفصيله في الأمر الأول، فلا حاجة إلى إعادة ذلك.

و تركنا بسط الكلام في الموارد المذكورة نقضا و إبراما رعاية للاختصار.

ص: 267

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

إنه لا يعتبر في صدق المشتق على نحو الحقيقة التلبس بالمبدإ حقيقة و بلا واسطة في العروض؛ أي: الإسناد الحقيقي؛ خلافا للفصول حيث اعتبر في صدقه على نحو الحقيقة الإسناد الحقيقي، و قد ذكرنا رأي المصنف بعد الفراغ عن كل مسألة، و لكن نكرر ذلك فإنه لا يخلو عن فائدة. فإليك ما هو مختاره في بعض مباحث المشتق.

1 - المشتق عنده هو: خصوص ما يجري على الذات؛ و إن لم يكن منه عند النحاة.

2 - الفعل لا يدل على الزمان؛ و إن كان ظاهر النحاة أنه يدل عليه.

3 - اختلاف المشتقات في المبادئ لا يوجب اختلافا في دلالتها.

4 - المراد بالحال في عنوان مسألة المشتق هو: حال التلبس لا حال النطق.

5 - الموضوع له للمشتق هو خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال.

6 - مفهوم المشتق بسيط في مقام التصور و اللحاظ؛ لا بحسب الماهية و الحقيقة.

7 - يكفي في ملاك الحمل التغاير بين الموضوع و المحمول من وجه، و الاتحاد من وجه آخر.

8 - يعتبر في صدق المشتق على نحو الحقيقة قيام المبدأ بالذات.

9 - لا يعتبر الإسناد الحقيقي في صدقه على الذات على نحو الحقيقة.

انتهى التلخيص.

ص: 268

المقصد الأول في الأوامر

اشارة

ص: 269

ص: 270

بحث الأوامر (1) و فيه فصول:

=============

(1) قدم المصنف بحث الأوامر على النواهي تبعا لغيره، لأن الأوامر أمر وجودي، و النواهي أمر عدمي، و لا ريب: أن الوجود أشرف من العدم، و العقل يحكم بتقديم ما هو الأشرف على غيره، و لهذا جرى ديدن الأصوليين على تقديم مباحث الأوامر على النواهي.

و الأمر بمعنى المصدر لا يجمع، لأن المصدر لا يجمع باتفاق الأدباء، فمفرد الأوامر ليس الأمر بالمعنى المصدري و لكن فيه احتمالات بل أقوال:

منها: أن الأوامر و النواهي جمع الأمر و النهي؛ بمعنى: القول المخصوص أو الطلب، فعليه: لم يكن هذا الجمع جاريا على القياس إذ ليس القياس في جمع الفعل على فواعل.

نعم؛ يمكن أن يقال بأنه جمع هذا الوزن سماعا، و يكفي فيه ما في دعاء كميل المعروف من قوله «عليه السلام»: «و خالفت بعض أوامرك». و في المصباح: «جمع الأمر على الأوامر».

و منها: أن الأوامر جمع للآمرة نعتا للكلمة على سبيل المجاز - من قبيل إسناد الشيء إلى الآلة - إذ في إسناد الطلب إلى الألفاظ و الصيغ - مع إنه مستند في الحقيقة إلى المتلفظ، و الطالب - نوع من التجوّز و العناية، فيكون الجمع حينئذ على القاعدة مثل القواعد جمع القاعدة، إلاّ إن إطلاق الآمرة على الكلمة أو الصيغة من باب المجاز في الإسناد، ثم اشتهر هذا الجمع إلى أن بلغ حد الحقيقة فيكون حقيقة عرفية.

و منها: أن الأوامر جمع للأمور التي هي جمع للأمر بمعنى الطلب؛ فرقا بين الأمر بمعنى الطلب، و الأمر بمعنى الفعل و الشأن؛ حيث يجمع على أمور فقط، فيكون الأوامر جمع الجمع بأن جمع الأمر بمعنى الطلب أولا على أمور، ثم الأمور على الأوامر؛ كأنه نقل فيه الواو عن مكانه، و قدّم على الميم.

و منها: أن الأوامر جمع للآمرة بمعنى الأمر، لأن الفاعلة قد يجيء مصدرا كالعاقبة و العافية و نحوهما، و لكن الأظهر من هذه الأقوال هو القول الأول، ثم كل ما ذكر

ص: 271

الفصل الأول فيما يتعلق بمادة الامر

اشارة

فيما يتعلق بمادة الأمر (1) من الجهات و هي (2) عديدة:

الجهة الأولى: في معاني لفظ الأمر

اشارة

أنه قد ذكر للفظ الأمر معان متعددة منها: الطلب (3) كما يقال: أمره (4) بكذا.

و منها: الشأن كما يقال: شغله أمر كذا (5).

و منها: الفعل (6)، كما في قوله تعالى: وَ مٰا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ.

و منها: الفعل العجيب (7)، كما في قوله تعالى: فَلَمّٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا.

و منها: الشيء، كما تقول: «رأيت اليوم أمرا عجيبا» (8).

و منها: الحادثة (9). و منها: الغرض كما تقول: «جاء زيد لأمر (10) كذا».

=============

في الأوامر يجري في النواهي.(1) أي: المطالب الرئيسية المتعلقة بمادة الأمر «أ م ر» على النحو التالي:

1 - هل للفظ الأمر معنى واحد أو معاني متعدّدة ؟

2 - هل يعتبر العلو في معنى الأمر أم لا؟

3 - هل الأمر حقيقة في الوجوب أم لا؟

4 - هل الطلب الذي هو معنى الأمر متحد مع الإرادة أم هما اثنان ؟(2) أي: الجهات عديدة و هي المطالب الرئيسة التي ذكرناها إجمالا و هي أربعة.

(3) أي: و هو عرفا السعي نحو شيء للظفر به؛ كطلب الغريم و طلب الماء.

(4) أي: طلب منه كذا.

(5) أي: شأن كذا.

(6) أي: الفعل مطلقا بمعناه اللغوي كما في قوله تعالى: وَ مٰا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (1)، أي: فعله ليس برشيد.

(7) أي: و هو أخص مما قبله أي: الفعل مطلقا كما في قوله تعالى: فَلَمّٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا (2) أي: فعلنا العجيب.

(8) أي: شيئا عجيبا غريبا.

(9) أي: كما يقال: «وقع في البلد أمر كذا» أي: حادثة كذا.

(10) أي: لغرض كذا.

ص: 272


1- سورة هود آية: 97.
2- سورة يونس آية: 82.

و لا يخفى: أنّ عدّ بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم (1).

==========

و قد أنهاها بعض إلى خمسة عشر معنى منها: الحال نحو: «زيد أمره مستقيم» أي: حاله منتظم. و منها: القدرة كما في قوله تعالى: مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ [1] أي: بقدرته. و منها: الصنع كما في قوله تعالى: أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [2] أي: من صنع الله تعالى. و غيرها من المعاني تركنا ذكرها رعاية للاختصار. (1) بعد ذكر المصنف للأمر معان عديدة استشكل على كون هذه المعاني كلها من معانيه، و ادعى أن عدّ بعضها من معانيه من باب اشتباه المصداق بالمفهوم. توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: بيان الفرق بين المصداق و المفهوم. و خلاصته: أن المصداق عبارة عما صدق عليه اللفظ؛ بأن يكون له معنى كلي مثل: رجل- مثلا- في قولنا: «جاءني رجل»؛ حيث يصدق لفظ الرجل على زيد و بكر و خالد، فزيد من مصاديق الرجل، و المفهوم عبارة عما يفهم من اللفظ، فمفهوم لفظ الرجل هو: الإنسان المذكر. [التحقيق في معنى مادة الأمر] إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لو عدّ أحد زيدا من معاني الرجل كان خطأ؛ لأنه جعل المصداق مكان المفهوم، فيكون هذا من باب اشتباه المصداق بالمفهوم، و الأمر فيما نحن كذلك. و خلاصة ما أفاده المصنف: أن الأمر مشترك لفظي بين الطلب و الشي ء، و أنّ عد ما سواهما من معاني الأمر من اشتباه المصداق بالمفهوم بمعنى: أنه لم يستعمل في الموارد المذكورة في المفهوم، بل يراد منه ما هو مصداق المفهوم، فيتخيل أنه مستعمل في المفهوم، فإن لفظ الأمر في نحو: «جاء زيد لأمر كذا» لم يستعمل في مفهوم الغرض، بل استعمل فيما هو مصداق الغرض و اللام في «لأمر» قد دلت على الغرض نحو: اللام في قولك: ضربت زيدا للتأديب. و كذا إن الأمر في قولك: «وقع أمر كذا» لم يستعمل في مفهوم الحادثة، بل استعمل فيما هو مصداق الحادثة. و هكذا الحال في قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا؛ فإن الأمر في الآية لم يستعمل في مفهوم الفعل العجيب، بل فيما هو مصداق الفعل العجيب و هو هلاك قوم لوط؛ لأن المراد هو الحادثة الخاصة، و الغرض الخاص و الفعل العجيب الخاص، و الشأن الخاص الجزئي، و هذه الأمور من مصاديق المفاهيم الكلية، و لا تكون من مفهوم لفظ الأمر،

ص: 273


1- سورة الأعراف آية: 54. (2) سورة هود آية: 73.

ضرورة (1): أن الأمر في «جاء زيد لأمر كذا» ما استعمل في معنى الغرض؛ بل اللام قد دل على الغرض، نعم؛ يكون مدخوله مصداقه فافهم (2)، و هكذا الحال في قوله تعالى: فَلَمّٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا يكون مصداقا للتعجب، لا مستعملا في مفهومه، و كذا في الحادثة و الشأن.

و بذلك (3) ظهر ما في دعوى الفصول(1)، من كون لفظ الأمر حقيقة في المعنيين و مفهوم الأمر هو الطلب الذي هو عبارة عن السعي نحو المطلوب؛ نحو: طلب الماء، و طلب الغريم و الضالة، غاية الأمر: أنه تكون لكل واحد منها مصاديق و جزئيات عديدة.

=============

نظير لفظ «الرجل»؛ حيث يكون مفهومه اللغوي كل مفرد مذكر من الناس أي: كل ذات ثبت له الرجولية، و لهذا المعنى الكلي مصاديق عديدة في الخارج؛ فإذا استعمل لفظ «رجل» في زيد مثلا كان مستعملا في المصداق لا في المفهوم، فكذا لفظ الأمر فيما نحن فيه.

(1) تعليل لقوله: «و لا يخفى». و حاصله: أن لفظ الأمر في جملة من الموارد المذكورة لم يستعمل في المفهوم أي: لم يجعل حاكيا عن المعاني و فانيا فيها على حد استعمال سائر الألفاظ في معانيها، فإن الدال على الغرض هو اللام.

(2) لعله إشارة إلى فساد كون اللام دالة على الغرض في نحو: «جاء زيد لأمر كذا»؛ إذ اللام لا تدل عليه، و لذا تدخل على نفس الغرض و يقال: «جاء زيد لغرض كذا»، فلو كانت اللام دالة على الغرض كان المعنى جاء زيد غرض غرض كذا على نحو التكرار؛ و هو بعيد في القرآن الكريم، بل غير مستقيم «فالصحيح» أن يقال: إن الغرض و الحادثة و نحوهما إنما يعرف من خصوصيات المقام، فمن التعبير بقوله: «وقع أمر كذا» يعرف: أن الأمر الواقع حادثة من الحوادث، و من التعبير بقوله: «جاء زيد لأمر كذا» يعرف: أن الأمر الذي جاء زيد لأجله هو غرض من الأغراض و هكذا في غيرهما.

(3) أي: بما ذكرنا من الفرق بين المفهوم و المصداق ظهر: فساد دعوى صاحب الفصول؛ من كون لفظ الأمر حقيقة في الطلب و الشأن.

و حاصل ما أفاده المصنف من الاعتراض على صاحب الفصول هو: أن لفظ الأمر لم يستعمل في مفهوم الطلب و مفهوم الشأن حتى يصح عدهما من معاني لفظ الأمر، بل استعمل في مصداقهما دائما، فاشتبه عند صاحب الفصول المصداق بالمفهوم، ثم ادعى كون لفظ الأمر حقيقة في الطلب و الشأن، و هذه الدعوى منه غير مسموعة؛

ص: 274


1- الفصول الغروية، ص 63، س 35.

الأولين (1)، و لا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة و الشيء. هذا بحسب العرف و اللغة.

=============

لكونها ناشئة عن اشتباه المصداق بالمفهوم، فجعل ما هو المصداق لمعنى الأمر مفهوما له.

(1) أي: الطلب و الشأن. و ادعى صاحب الفصول: أن مادة الأمر موضوعة بوضعين فقط، وضع للطلب، و آخر للشأن، ثم تبعه المصنف في تثنية المعنى و الوضع، و لكن خالفه في الوضع الثاني فادعى إنه لمعنى الشيء لا لمعنى الشأن حيث قال: «و لا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة و الشيء» أي: لا الطلب مطلقا و لو كان ندبيا أو كان من السافل المستعلي، بل لفظ الأمر حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي الصادر من العالي، كما سيأتي تحقيق ذلك في الجهتين الآتيتين. فيكون لفظ الأمر عند المصنف مشتركا بين معنيين: «الطلب و الشيء» بالاشتراك اللفظي، لا بالاشتراك المعنوي، بأن يكون موضوعا للجامع بينهما. و الدليل على ذلك: أن لفظ الأمر بمعنى الطلب يصح الاشتقاق منه، و لا يصح الاشتقاق منه بمعنى: «الشيء».

و من المعلوم: أن الاختلاف بالاشتقاق و عدمه دليل على تعدد الوضع هذا أولا.

و ثانيا: أن «الأمر» بمعنى: الطلب يجمع على «أوامر»، و بمعنى: الشيء على «أمور»، و اختلاف الجمع في المعنيين دليل على تعدد الوضع. و قيل في تفسير قوله: «في الطلب في الجملة» يعني: بلا تعيين كونه الوجوبي أو الأعم أو غير ذلك من الخصوصيات.

و كيف كان؛ ففي مادة الأمر أربعة أقوال:

الأول: أنها مشترك لفظي في المعاني الكثيرة.

الثاني: أنها مشترك معنوي بين المعاني الكثيرة أي: موضوعة بوضع واحد للجامع بين هذه المعاني.

الثالث: أنها مشترك لفظي بين الطلب و الشأن كما في الفصول، أو بين الطلب و الشيء كما يظهر من المصنف.

الرابع: أنها مختصة و موضوعة للطلب فقط؛ كما يظهر من آخر كلام المصنف حيث قال: «كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الأول» ثم على تقدير اشتراك لفظ الأمر بين الطلب و الشيء يكون المراد من الطلب هو: إظهار الإرادة بالقول المخصوص مثل صيغة - افعل - كما تأتي الإشارة إليه في كلام المصنف.

و الشيء عام يشمل الأعيان كالماء و الحنطة و غيرهما، و الصفات كالعلم و العدالة و غيرهما من الملكات، و الأفعال كالأخذ و الإعطاء و غيرهما، و على هذا المعنى العام: يكون كثير من المعاني المزبورة كالفعل العجيب و الشأن و الحادثة و غيرها من مصاديق الشيء، و جزئياته.

ص: 275

و أما بحسب الاصطلاح: فقد نقل الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص، و مجاز في غيره (1)، و لا يخفى: أنه (2) عليه لا يمكن منه الاشتقاق، فإن معناه - حينئذ - لا يكون معنى حدثيّا، مع أن الاشتقاقات منه - ظاهرا - تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم، لا بالمعنى الآخر، فتدبر (3).

و يمكن (4) أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه (5) تعبيرا عنه (6) بما يدل عليه.

=============

هذا بحسب العرف و اللغة.

«و أما بحسب الاصطلاح» أي: اصطلاح الأصوليين: فقد نقل الاتفاق على أن لفظ الأمر حقيقة ثانوية في القول المخصوص و هو صيغة - افعل - و مجاز في غيره. هذا ما أشار إليه بقوله:

«و أما بحسب الاصطلاح...» إلخ أي: بحسب الاصطلاح المتداول في ألسنة الأصوليين.

(1) أي: مجاز في غير القول المخصوص.

(2) أي: لا يخفى عليك: أن الأمر بناء على كونه حقيقة في القول المخصوص لا يصح منه الاشتقاق.

توضيح إيراد المصنف على المعنى الاصطلاحي للأمر يتوقف على مقدمة و هي: أن مبدأ الاشتقاق في المشتقات لا بد من أن يكون معنى حدثيّا قابلا للتصرف و التغيير؛ فلا يصح الاشتقاق من معنى جامد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه على هذا لا يكون معنى الأمر حدثيا، بل يكون جامدا نظير الجملة و المفرد و الكلمة و الكلام؛ فإنها غير قابلة لأن تشتق منها المشتقات، فحينئذ لا يصح الاشتقاق من الأمر بالمعنى الاصطلاحي، و هذا يتنافى مع ثبوت الاشتقاق منه الظاهر كونه بلحاظ ما له من المعنى المصطلح عندهم.

(3) لعله إشارة إلى منع الظهور المزبور، فيمكن تصحيح دعوى الاتفاق المذكور، و الالتزام بكون مبدأ الاشتقاق هو الأمر بمعنى آخر أو إشارة إلى أن لفظ الأمر المصطلح مصدر؛ بمعنى: التلفظ بلفظ دال على الطلب من حيث صدوره عن المتكلم، فيكون معنى لفظ الأمر معنى حدثيّا قابلا للاشتقاق منه.

(4) أي: يمكن أن يكون مراد الأصوليين بالأمر هو الطلب بالقول، فيكون معناه حدثيّا يصح الاشتقاق منه.

(5) أي: ليس المراد من الأمر نفس القول المخصوص حتى لا يصح الاشتقاق منه كما عرفت.

(6) أي: تعبيرا عن الطلب بما يدل عليه و هو القول المخصوص مجازا؛ من باب

ص: 276

نعم (1)؛ القول المخصوص - أي: صيغة الأمر - إذا أراد العالي بها الطلب يكون من ذكر الدال و إرادة المدلول.

=============

و حاصل ما أفاده المصنف في المقام: أنه لما أبطل دعوى الاتفاق على كون الأمر حقيقة بحسب الاصطلاح في القول المخصوص؛ أراد توجيه اتفاقهم بما صح تعلقه به.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أنه يمكن تأويل معقد الاتفاق بأن يقال: إن مراد الأصوليين - من قولهم: فقد نقل الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص - هو:

كون لفظ الأمر حقيقة في الطلب بالقول المخصوص؛ بحيث يكون معنى الأمر حدثيّا و ليس مرادهم أن معنى الأمر هو: نفس الصيغة حتى لا يصح الاشتقاق منه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه يحصل التوفيق بين نقل الاتفاق على كون لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص أي: في مدلوله، و بين كون الاشتقاق منه بلحاظ هذا المعنى الاصطلاحي، ثم الوجه في تعبيرهم عن الطلب الذي هو معنى لفظ الأمر بنفس القول هو: دلالة الصيغة على الطلب، فعبر عنه بما يدل عليه - و هو القول المخصوص - مجازا من باب ذكر الدال و إرادة المدلول، فإن المناسبة الثابتة بين الدال و المدلول تقتضي صحة تسمية كل منهما باسم.

و بعبارة واضحة: أنه لمّا كان الطلب الذي هو معنى لفظ الأمر مدلولا للقول المخصوص قالوا: إن الأمر هو ذلك القول المخصوص تسمية للدال - أي: القول المخصوص - باسم المدلول أي: الطلب، فيكون معنى حدثيّا قابلا للاشتقاق، فلذا اشتق منه «أمر يأمر آمر مأمور...» إلخ.

(1) استدراك على قوله: «لا نفسه» يعني: أن الأمر و إن لم يكن اسما للقول المخصوص؛ بحيث يكون معناه ذلك القول، لكنه يعدّ من مصاديق الأمر إذا كان الطالب به عاليا كالمولى الحقيقي أو العرفي، و لوحظ ذلك القول بما هو طلب لا بما أنه قول خاص، و إلاّ رجع إلى المعنى الأول و هو: كون الأمر نفس القول.

و الحاصل: أن مصداقية القول الخاص للأمر إنما تكون بلحاظ كونه طلبا مطلقا أو خاصا، لا بلحاظ أنه قول، و إلاّ رجع إلى المعنى الأول و هو: كون الأمر نفس القول المخصوص، و هذا مراد المصنف «قدس سره» بقوله: «بما هو طلب» يعني: لا بما هو قول كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 366».

و كيف كان؛ فلمّا وضع الأمر للطلب بالقول كان مصداق الطلب مصداقا للأمر لبداهة أن مصداق أحد المتساويين مصداق للآخر.

ص: 277

مصاديق الأمر، لكنه (1) بما هو طلب مطلق أو مخصوص. و كيف كان؛ فالأمر سهل لو ثبت النقل (2)، و لا مشاحة في الاصطلاح، و إنما المهم بيان ما هو معناه عرفا و لغة، ليحمل عليه فيما إذا ورد بلا قرينة، و قد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب و السنة، و لا حجّة على أنه (3) على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة و المجاز (4)، و ما ذكر في الترجيح - عند تعارض هذه الأحوال لو سلم - و لم

=============

(1) أي: لكن القول المخصوص بما هو طلب مطلق أي: بما هو مصداق من مصاديق طلب مطلق أي: من دون النظر إلى جهة علو الطالب، أو بما هو مصداق من مصاديق مخصوص أي: بالنظر إلى طلب العالي.

(2) أي: و كيف كان؛ فالأمر سهل لو ثبت نقل لفظ الأمر عن معناه اللغوي و العرفي إلى القول المخصوص و هو: المعنى الاصطلاحي، إذ لا مشاحة في الاصطلاح لو ثبت.

أما وجه سهولة الأمر: فلأجل عدم الاهتمام بمعناه الاصطلاحي، لعدم ترتيب فائدة عليه؛ إذ لا يصح الاشتقاق منه، مع أن الاشتقاق منه مسلم لا غبار عليه، فحينئذ يمكن أن يكون معنى مادة الأمر اصطلاحا هي الصيغة الخاصة، و أن يكون الاشتقاق منه بمعنى:

آخر و هو المعنى اللغوي و العرفي، فالمهم بيان ما هو معنى الأمر عرفا و لغة، ليحمل لفظ الأمر عليه إذا ورد الأمر في الكلام مجردا عن القرينة.

و حاصل الكلام في المقام - على ما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 367» -: أن الأمر قد استعمل في الكتاب و السنة في غير واحد من المعاني المتقدمة، و لم يدل دليل على أن الاستعمال فيها هل هو على نحو الاشتراك اللفظي أم المعنوي أم الحقيقة و المجاز، و الوجوه المذكورة في تعارض الأحوال لترجيح بعضها على بعض - بعد تسليم سلامتها عن المعارضة بمثلها - لا تصلح للترجيح لعدم حجة على الترجيح بتلك الوجوه، فلا محيص حينئذ عن الرجوع إلى الأصل العملي في المسألة الفقهية؛ إلاّ إذا أحرز ظهور لفظ الأمر في أحد معانيه، فيحمل اللفظ حينئذ عليه، و إن لم يعلم منشأ ذلك الظهور و احتمل أن يكون لأجل الوضع لذلك المعنى بالخصوص أو للجامع بينه و بين غيره، لكنه ينصرف إلى ذلك المعنى الخاص؛ لغلبة الاستعمال أو غيرها.

و بالجملة: فبناء العقلاء على حجية الظواهر يقتضي حجيتها و إن لم يعلم منشأها.

(3) أي: لم يقم دليل على أن الاستعمال «على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي».

(4) خلاصة الكلام في بيان الفرق بين الاشتراك اللفظي و الاشتراك المعنوي، و بين

ص: 278

الحقيقة و المجاز فنقول: إنه يشترط تعدد الوضع و الموضوع له في المشترك اللفظي، و يكون استعمال اللفظ في كل واحد من المعاني على نحو الحقيقة، غاية الأمر: يحتاج هذا الاستعمال إلى قرينة معينة، و يعتبر في الاشتراك المعنوي وحدة الوضع و وحدة الموضوع له؛ الذي يكون كليا له مصاديق عديدة.

فالاستعمال في كل واحد من المصاديق يحتمل أن يكون على نحو الحقيقة؛ إذا لم تلاحظ المشخصات الفردية في مقام الاستعمال، و يحتمل أن يكون مجازا إذا لوحظت تلك المشخصات فيه. غاية الأمر: يحتاج الاستعمال في كل واحد من المصاديق إلى قرينة مفهمة.

و أما في الحقيقة و المجاز: فيعتبر أن يكون الوضع لواحد من المعاني، و استعمل لفظ الأمر في غيره مجازا لمناسبة موجودة بين المعنى الحقيقي و المجازي، غاية الأمر: يحتاج استعمال لفظ الأمر في المعنى المجازي إلى قرينة صارفة، و قد عرفت: عدم الدليل على ترجيح بعضها على بعض عند تعارض الأحوال، لأن ما ذكر من المرجحات في باب تعارض الأحوال أمور استحسانية لا تفيد إلاّ الظن، و الأصل حرمة العمل به إلاّ ما خرج بالدليل، فلا بد حينئذ من الأخذ بالظهور؛ و أن لم يكن مستندا إلى حاق اللفظ بل إلى الانصراف الناشئ من كثرة الاستعمال أو من كثرة الوجود، فإذا لم ينعقد ظهور أصلا؛ لأجل تعارض الوجوه و المرجحات بمثلها فلا بد حينئذ من الرجوع إلى الأصل العملي من الاستصحاب و البراءة و الاشتغال حسب اختلاف الموارد؛ حيث يكون مورد الاستصحاب ما له حالة سابقة، و مورد البراءة ما إذا كان الشك في التكليف، و مورد الاشتغال هو الشك في المكلف به.

مثال الاستصحاب: ما إذا أمر المولى عبده في الأمس أمرا وجوبيا، و شك في اليوم الحاضر في بقاء الوجوب، فيستصحب بقاؤه لتمامية أركان الاستصحاب.

مثال أصالة البراءة: إذا شك في أمر من المولى بعمل تجري البراءة؛ لأن الشك إنما هو في أصل الأمر و التكليف.

مثال أصالة الاشتغال و الاحتياط: هو ما إذا علم المكلف صدور الأمر و التكليف، و لكن لا يعلم ما هو متعلق الأمر و المكلف به؛ حيث يكون مرددا بين أمرين، فتجري أصالة الاشتغال بعد الإتيان بأحدهما، فعليه الإتيان بالآخر بمقتضى قاعدة الاشتغال.

ص: 279

يعارض بمثله - فلا دليل على الترجيح به، فلا بد مع التعارض من الرجوع إلى الأصل (1) في مقام العمل، نعم (2)؛ لو علم ظهوره في أحد معانيه، و لو (3) احتمل أنه كان للانسباق من الإطلاق فليحمل (4) عليه، و إن لم يعلم أنه (5) حقيقة فيه بالخصوص أو فيما يعمه.

كما لا يبعد أن يكون كذلك (6) في المعنى الأول.

=============

(1) أي: المراد به هو الأصل العملي؛ لأنه المرجع بعد فقد الدليل أو إجماله كما في المقام.

(2) استدراك من الرجوع إلى الأصل العملي في مورد التعارض، مع ظهور اللفظ في أحد معانيه؛ لأن الظهور حجة، فيكون مانعا عن الرجوع إلى الأصل العملي.

(3) كلمة - لو - وصلية، و ضمير «أنه» راجع إلى الظهور.

(4) هذا جواب «لو» في قوله: «نعم؛ لو علم ظهوره».

(5) أي: لفظ الأمر حقيقة في ذلك المعنى بالخصوص، أو في معنى عام يشمله.

(6) أي: لا يبعد أن يكون لفظ الأمر ظاهرا «في المعنى الأول» أي: الطلب، و لكن هذا مناف لما تقدم منه آنفا من قوله: «و لا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة و الشيء»، إلاّ إن يقال: إن كون لفظ الأمر حقيقة في الطلب أرجح عند المصنف حيث جعله أول المعاني التي ذكرها للأمر.

خلاصة البحث في الجهة الأولى مع رأي المصنف «قدس سره»

1 - لمادة الأمر معاني عديدة؛ إلاّ إن المصنف يقول: بأن عدّ بعضها من معاني لفظ الأمر من اشتباه المصداق بالمفهوم؛ بمعنى: إن الأمر لم يستعمل في الموارد المذكورة في المفهوم، بل أريد منه مصداقه، فتوهم: أنه استعمل في المفهوم.

2 - أن لفظ الأمر بحسب العرف و اللغة مشترك لفظي بين الطلب و الشيء. و أما بحسب الاصطلاح: فقد نقل الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص أي: صيغة افعل، فلا يصح الاشتقاق منه حينئذ لكونه جامدا. فلا بد من أن يقال لتصحيح الاشتقاق منه من الالتزام بكون مبدأ الاشتقاق هو الأمر بمعنى آخر.

3 - يمكن أن يكون مرادهم بلفظ الأمر هو الطلب بالقول؛ لا نفس القول المخصوص، غاية الأمر: يكون ذلك من باب ذكر الدال و إرادة المدلول و لو مجازا.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

أن لفظ الأمر مشترك لفظي بين الطلب و الشيء، و يظهر من آخر كلامه: أنه ليس من البعيد أن يكون لفظ الأمر بمعنى الطلب فقط.

ص: 280

الجهة الثانية (1): في اعتبار العلو في معنى الأمر

اشارة

الظاهر: اعتبار العلو في معنى الأمر.

فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمرا، و لو أطلق عليه (2): كان بنحو من في اعتبار العلو في معنى الأمر (1) هذا هو المطلب الثاني من المطالب التي تقدم ذكرها إجمالا في بداية البحث.

=============

و الغرض من عقد الجهة الثانية هي: الإشارة إلى وجوه، بل أقوال فيما هو ملاك صدق الأمر، و بيان ما هو الحق عند المصنف من تلك الوجوه و الأقوال فنقول في تفصيل ذلك: إن في المسألة وجوه، بل أقوال:

الأول: اعتبار العلو في صدق الأمر فليس طلب السافل أو المساوي أمرا.

الثاني: اعتبار الاستعلاء، فليس طلب الخافض جناحيه أمرا و إن كان من العالي.

الثالث: اعتبار العلو و الاستعلاء جميعا، فلا يكون الطلب من الخافض جناحيه أمرا و إن كان عاليا.

الرابع: اعتبار أحدهما: إما العلو و إما الاستعلاء، على سبيل منع الخلو.

الخامس: عدم اعتبار شيء منهما، بل مطلق الطلب أمر؛ سواء صدر من العالي أم صدر من المساوي، أم صدر من السافل مع عدم الاستعلاء. و المصنف اختار القول الأول حيث قال: «الظاهر اعتبار العلو في معنى الأمر، فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمرا».

و خلاصة الكلام في المقام: أن المصنف ادعى بأن الأمر هو خصوص الطلب من العالي، فالطلب من العالي - و لو كان مستخفضا لجناحيه - يعدّ أمرا، و استدل على دعواه: بظهور ذلك عرفا؛ فإنه إذا قيل: «أمر زيد عمروا بكذا» يفهم منه و يتبادر: أن زيدا له العلو على عمرو و لو كان السامع لا يعرف زيدا و لا عمروا. و من هنا يعلم: أن ملاك صدق الأمر وجود جهة العلو في الآمر، فلا يكون الطلب من الشخص السافل أو الشخص المساوي أمرا.

(2) أي: لو أطلق الأمر على طلب السافل أو المساوي رتبة - بحيث لا يكون له علوّ عقلا و لا شرعا و لا عرفا - كان الإطلاق بنحو من العناية و المجاز؛ و ذلك للمشابهة في الصورة. نعم؛ جرى اصطلاح النحاة على تسمية مطلق ما كان بصيغة «افعل» بالأمر.

ص: 281

العناية، كما أن الظاهر (1): عدم اعتبار الاستعلاء، فيكون الطلب من العالي أمرا و لو كان مستخفضا لجناحه (2). و أما احتمال اعتبار احدهما (3) فضعيف، و تقبيح الطالب

=============

(1) أي: عدم اعتبار استعلاء الطالب في الطلب؛ الذي هو معنى الأمر. فقوله: «كما أن الظاهر...» إلخ، إشارة إلى القول الثاني و ردّه.

و حاصل الردّ هو: إنه لا يعتبر الاستعلاء في معنى الأمر، فطلب العالي - و لو مع الاستخفاض - أمر حقيقة، فالمعتبر في الطلب هو: علو الطالب دون استعلائه، كما يشهد به العرف و الوجدان.

و قد يستدل على كفاية الاستعلاء في تحقق الأمر، و عدم اعتبار العلو بتقبيح الطالب السافل من العالي و توبيخه، و يمكن تقريبه بوجهين:

أحدهما: أن نفس التوبيخ كاشف عن كون الطلب أمرا، إذ أمر السافل العالي قبيح.

و ثانيهما: إطلاق الأمر على طلبه في مقام التوبيخ بقولهم: «لم تأمره» فإنه كاشف عن كون طلبه أمرا، إذ الظاهر: كون الاستعمال حقيقيا و بما له من المعنى لا مجازيا.

و الجواب عن كلا الوجهين: أما عن الوجه الأول: فلأن التوبيخ لم يكن على الأمر، بل على استعلائه على من هو أعلى منه و إثبات ما ليس له من المقام لنفسه لا على نفس الأمر.

و أما الجواب عن الوجه الثاني: فلأن إطلاق الأمر على طلبه إنما هو جريا على اعتقاده و بنائه لا حقيقة، فالتوبيخ على ما هو أمر بنظره و اعتقاده.

(2) أي: استخفاض الجناح كناية عن التذلل و الخضوع، و هو مأخوذ من خضوع الطائر لأمّه بخفض جناحه.

(3) أي: اعتبار أحدهما على سبيل منع الخلو؛ بأن يكون الشرط في صدق الأمر إما اعتبار العلوّ و لو كان الطالب مستخفضا لجناحه، و إما الاستعلاء و لو لم يكن عاليا. هذا هو القول الرابع.

و قد يستدل عليه بما ذكرناه؛ من تقبيح السافل المستعلي بقولهم: «لما ذا تأمره ؟» حيث يعلم من ذلك كفاية الاستعلاء في صدق الأمر، إلاّ أن هذا الاحتمال و القول ضعيف؛ و ذلك أولا: لعدم قيام دليل عليه. و ثانيا: لصحة السلب فطلبه يسمى أمرا مجازا و بحسب زعمه و اعتقاده أو التوبيخ إنما هو لاستعلائه كما عرفت.

و كيف كان؛ فالمصنف ضعّفه بعدم الدليل عليه بعد ما عرفت آنفا اعتبار العلو الواقعي في مفهوم الطلب؛ بشهادة العرف و الوجدان.

ص: 282

السافل من العالي المستعلي عليه، و توبيخه (1) بمثل: إنك لم تأمره، إنما هو على استعلائه لا على أمره حقيقة بعد استعلائه، و إنما يكون إطلاق الأمر على طلبه بحسب ما هو قضية استعلائه (2)، و كيف كان (3)؛ ففي صحة سلب الأمر عن طلب السافل، و لو كان مستعليا كفاية.

=============

قوله: «و تقبيح الطالب السافل من العالي...» إلخ إشارة إلى دليل القول بكفاية الاستعلاء في صدق الأمر بتقريب: أن العقلاء يقبحون السافل المستعلي الذي يأمر العالي، و يذمونه بأنك لم تأمر العالي ؟ فإطلاقهم الأمر على طلب السافل المستعلي يدل على كفاية استعلاء الطالب في صدق الأمر، و عدم اعتبار العلو الواقعي فيه.

(1) قوله: «و توبيخه» عطف على «تقبيح»، فيكون من تتمة الاستدلال على كفاية الاستعلاء في صدق الأمر.

و حاصل الجواب كما مر: أن التقبيح إنما هو على استعلاء السافل على العالي؛ لا على أمره حتى يقال: إن الذّم على هذا الأمر كاشف عن كفاية مجرد الاستعلاء في صدق الأمر، فالتوبيخ ليس دليلا على كفاية الاستعلاء فقط في صدق الأمر، و إطلاق الأمر على طلبه في مقام توبيخه - بأنك لم تأمره ؟ - إنما هو بحسب مقتضى استعلائه، فيكون إطلاق الأمر على طلب المستعلي السافل مجازا في الكلمة أو في الإسناد، و العلاقة المصححة للتجوز هي علاقة المشابهة، لأن كلا من طلب العالي الواقعي و طلب السافل الواقعي طلب للفعل من المخاطب.

(2) أي: استعلاء السافل و زعمه بكون طلبه أمرا، فليس إطلاق الأمر على طلبه على نحو الحقيقة، بل على نحو المجاز كما عرفت.

(3) أي: سواء كان التقبيح و التوبيخ على الأمر أم على استعلائه؛ لا يكون برهانا و دليلا على كفاية الاستعلاء في الأمر ضرورة: وجود علامة المجاز و هي صحة السلب فيه؛ و ذلك لصحة سلب الأمر عن طلب السافل و لو كان مستعليا؛ و مع هذه العلامة لا يصح الاستدلال على كفاية الاستعلاء في صدق الأمر على طلب السافل بمجرد إطلاق الأمر عليه، مع إن الاستعمال أعم من الحقيقة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

1 - اعتبار العلو في معنى الأمر هذا هو مختار المصنف «قدس سره»، و استدل عليه بظهور ذلك عرفا.

ص: 283

الجهة الثالثة (1): في كون الأمر حقيقة في الوجوب

اشارة

لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب؛ لانسباقه عنه عند إطلاقه، 2 - أن القول: بكفاية الاستعلاء في صدق الأمر - و ذلك لصدق الأمر على طلب السافل - مردود لعدم الدليل عليه أولا، و صحة سلب الأمر عنه ثانيا.

=============

3 - أن إطلاق الأمر على طلب السافل ليس على نحو الحقيقة بل على نحو المجاز؛ لأن الاستعمال أعم من الحقيقة.

فإن قلت: إنه لا بد من العلاقة التي تصحح المجازية و هي مفقودة في المقام.

قلت: إن العلاقة هي علاقة المشابهة؛ إذ كل واحد من طلب العالي و السافل مشابه للآخر في كونه طلب الفعل عن الغير، و المصنف لم يتعرض لبعض الأقوال أصلا؛ لأن حال بعض الأقوال يعلم من اختياره القول الأوّل في معنى الأمر؛ و هو اعتبار العلو الواقعي في صدق الأمر.

في كون الأمر حقيقة في الوجوب (1) هذه الجهة هي المطلب الثالث؛ من المطالب التي ذكرت إجمالا في أول البحث.

و عرفت في الجهة الثانية: أن الأمر معناه الطلب من العالي، و لكن لم يعلم: أنه هل هو خصوص الطلب الإلزامي و الذي يكون بنحو الوجوب، أو الأعم منه و من الطلب الندبي، أو أنه خصوص الطلب الندبي.

و الغرض من عقد هذه الجهة الثالثة هو تفصيل: ما أجمله المصنف في الجهة الثانية، و بيان أن الأمر حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي.

و كيف كان؛ فقد ذهب المصنف إلى أن لفظ الأمر حقيقة في الوجوب؛ مستدلا على ذلك بوجهين:

الأول: تبادر الوجوب من الأمر. و قد أشار إليه بقوله: «لانسباقه عنه عند إطلاقه» أي: لانسباق الوجوب عن لفظ الأمر عند الإطلاق، و الانسباق هو التبادر المثبت للوضع.

الثاني: هو صحة الاحتجاج على العبد، و مؤاخذته بمجرد مخالفة الأمر؛ كما أشار إليه بقوله الآتي: «و صحة الاحتجاج على العبد...» إلخ، ثم أيّده ببعض الاستعمالات التي نوقش في دلالتها في الكتب المبسوطة؛ و لذلك جعلها تأييدا و مقربا لا دليلا و شاهدا.

ص: 284

و يؤيده (1) قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ اَلَّذِينَ يُخٰالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ (2).

و قوله صلى الله عليه و آله (3): «لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»(1)،

=============

(1) هذا من أدلة القائلين بكون الأمر حقيقة في الوجوب بتقريب: أن الله تعالى حذر مخالف الأمر، و التحذير يدل على الوجوب؛ إذ لا معنى لندب الحذر أو إباحته.

لا يقال: أن الآية إنما دلت على أن مخالف الأمر مأمور بالحذر، و لا يدل على وجوبه إلاّ بفرض و تقدير كون الأمر للوجوب و هو عين المتنازع فيه.

فإنه يقال: إن هذا الأمر للإيجاب و الإلزام قطعا؛ إذ لا معنى لندب الحذر عن العذاب أو إباحته، و مع التنزّل «عن كونه للوجوب» فلا أقل من دلالته على حسن الحذر عن مخالفة الأمر، و من المعلوم: أن حسنه موقوف على ثبوت المقتضي له، و إلاّ لكان الحذر عنه سفها و عبثا، و ذلك محال على اللّه تعالى، و إذا ثبت المقتضى له ثبت أن الأمر للوجوب، لأن المقتضي للعذاب هو مخالفة الواجب لا المندوب، ثم إن وجه كون الآية مؤيّدة لا دليلا: أن غاية ما يستفاد منها هو إطلاق الأمر على الوجوب، و استعماله فيه، و الاستعمال أعم من الحقيقة؛ بل ربما يقال: إن فهم الوجوب هنا بقرينة مادة الحذر.

و كيف كان؛ فالآية لا تكون من أدلة الوجوب.

(2) سورة النور آية: 83.

(3) هذا ثاني أدلة القائلين بكون الأمر حقيقة في الوجوب؛ بتقريب: أن في الأمر مشقة، و لا مشقة في الندب و الاستحباب، فهذا قرينة على كون الأمر في «لأمرتهم» للوجوب.

و كيف كان؛ فمعناه: إنه لم يأمرنا بالسواك، فلا بد من كون هذا الأمر للوجوب بعد فرض صدور الأمر الاستحبابي بالسواك منه «صلى الله عليه و آله».

و أما وجه عدم كونه دليلا: فلأن غاية ما يدل عليه الحديث هو استعمال الأمر في الوجوب، و هو أعم من الحقيقة كما عرفت غير مرة؛ مع أن فهم الوجوب منه إنما هو

ص: 285


1- علل الشرائع، ص 293، ح 1 /المحاسن، ص 561، ح 946 /غوالي اللآلي، ج 2، ص 21، ح 43 /المنتقى لابن الجارود، ج 1، ص 27، ح 63، بلفظ: «عند كل وضوء». و بلفظ: «عند كل صلاة» و شبهها في صحيح البخاري، ج 1، ص 303، ح 847 /صحيح ابن حبان، ج 3، ص 352، ح 1069 /مجمع الزوائد، ج 2، ص 96 /سنن البيهقي الكبرى، ج 1، ص 35، ح 143. إلخ.

و قوله (1) صلى الله عليه و آله: لبريرة بعد قولها: أ تأمرني يا رسول الله ؟: «لا، بل إنما أنا شافع»، إلى غير ذلك (2)، و صحة (3) الاحتجاج على العبد و مؤاخذته بمجرد بقرينة المشقة، و المدعى: دلالة لفظ الأمر على الوجوب بلا قرينة.

=============

(1) هذا ثالث أدلة القائلين بكون الأمر حقيقة في الوجوب.

و خلاصة الكلام في قصة بريرة؛ كما رويت(1): أن بريرة كانت أمة لعائشة و زوجها كان عبدا، ثم أعتقتها عائشة، فلما علمت بريرة بخيارها في نكاحها بعد العتق أرادت مفارقة زوجها، فاشتكى الزوج إلى النبي «صلى الله عليه و آله»، فقال «صلى الله عليه و آله» لبريرة: «ارجعي إلى زوجك فإنه أبو ولدك و له عليك منّة».

فقالت: يا رسول الله «صلى الله عليه و آله»: أ تأمرني بذلك ؟ فقال «صلى الله عليه و آله»: لا إنما أنا شافع».

و أمّا تقريب الاستدلال به: أن نفي النبي «صلى الله عليه و آله» للأمر بقوله: «لا بل إنما أنا شافع» بعد قولها: «أ تأمرني يا رسول الله «صلى الله عليه و آله»، دليل على كونه للوجوب؛ إذ لو لم تكن دلالة الأمر على الوجوب مركوزة في الأذهان لم يكن وجه و سبب لاستفهام بريرة، و سؤالها منه.

و أمّا كونه مؤيدا لا دليلا: فلأن الاستعمال أعم من الحقيقة و المجاز؛ إذ غاية ما يستفاد من الرواية هو: استعمال الأمر في الوجوب و هو أعم، و المدعى هو كونه حقيقة فيه.

هذا مضافا إلى وجود القرينة على الوجوب و هي مقابلة الأمر بالشفاعة؛ لأنها تستعمل في صورة رجحان الفعل، فالأمر في مقامها إنما هو للوجوب و الإلزام؛ لا للرجحان و الاستحباب.

(2) إلى غير ذلك من موارد استعمال مادة الأمر في الكتاب و السنّة في الوجوب؛ نحو قوله تعالى: أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللّٰهَ * أي: وجبت عليّ عبادة الله و طاعته «سبحانه و تعالى». و نحو قول النبي «صلى الله عليه و آله»: «أنا مأمور بالتبليغ» أي: وجب عليّ البلاغ. و غيرهما.

(3) أي: هذا عطف على قوله: «انسباقه» ليكون دليلا ثانيا لا مؤيدا؛ حيث إنه بمنزلة

ص: 286


1- غوالي اللآلي، ج 3، ص 349، ح 284 /صحيح ابن حبان، ج 10، ص 96، ح 4273 / سنن أبي داود، ج 2، ص 270، ح 2231 /المعجم الكبير للطبراني، ج 11، ص 345، ح 11962. إلخ.

مخالفة أمره، و توبيخه على مجرد مخالفته؛ كما في قوله تعالى: مٰا مَنَعَكَ أَلاّٰ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ .

=============

أن يقال: «لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب لانسباقه، و لصحة الاحتجاج على العبد...» إلخ. و يحتمل أن يكون عطفا على قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ فيكون كغيره من المؤيّدات.

و كيف كان؛ فتقريب الاستدلال به هو: أن صحة مؤاخذة العبد، و توبيخه على مجرد مخالفة أمر المولى دليل على كون الأمر حقيقة في الوجوب، إذ لا يتوجه الذم و المؤاخذة إلاّ على ترك الواجب، و لذا توجه الذّم و التوبيخ على إبليس بسبب تركه لما أمر به من السجود لآدم؛ حينما قال «تعالى شأنه» للملائكة: اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ اَلسّٰاجِدِينَ * قٰالَ مٰا مَنَعَكَ أَلاّٰ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ (1)، فلو لم يكن الأمر للوجوب لما توجه الذم على إبليس بمجرد مخالفة الأمر، و لصح منه الاحتجاج على الباري «جل و علا».

و بعبارة أخرى: أنه تعالى رتّب الذّم على مجرد مخالفة الأمر و لو كان الأمر أعم من الوجوب لم يكن الذم مرتبا عليه، لأن ما يترتب على الخاص لا يصح ترتبه على العام إلاّ مجازا.

تنبيه: ينبغي بيان أمرين:

الأول: أن كلمة «لا» في الآية أعني: أَلاّٰ تَسْجُدَ زائدة ليس لها معنى؛ لأن توبيخ إبليس كان على ترك السجود لآدم «عليه السلام»؛ لا على فعل السجود.

الثاني: أن الآية المباركة أجنبية عن ما نحن فيه؛ لأن محل النزاع هو مادة الأمر لا صيغته، و الحال أن المراد من «أمرتك» هو صيغة الأمر أعني: قوله تعالى: اُسْجُدُوا لِآدَمَ لا مادة أمرتك، فلا يكون هذا دليلا على المدعى؛ بل يكون دليلا لى كون صيغة الأمر للوجوب، و هو مطلب آخر يأتي في بحث صيغة الأمر.

و لو سلم كون مادة الأمر للوجوب؛ لكان مفادها استعمال مادة الأمر في الوجوب، و قد عرفت غير مرة: أن الاستعمال لا يدل على وضع الأمر للوجوب؛ لأنه أعم من الحقيقة، فجعل الآية المباركة من المؤيّدات أولى من جعلها دليلا.

ص: 287


1- الأعراف آية: 11-12.

و تقسيمه (1) إلى الإيجاب و الاستحباب، إنما يكون قرينة (2) على إرادة المعنى الأعم منه في مقام تقسيمه، و صحة الاستعمال في معنى أعم من كونه على نحو الحقيقة، كما لا يخفى.

و أما ما أفيد (3): من أن الاستعمال فيهما ثابت، فلو لم يكن موضوعا للقدر

=============

ردّ المصنف استدلال وضع الأمر لمطلق الطلب

(1) أي: تقسيم الأمر إلى الإيجاب و الاستحباب.

هذا إشارة إلى القول بوضع الأمر لمطلق الطلب؛ الجامع بين الوجوب و الاستحباب، و استدل لذلك بصحة تقسيم الأمر إلى الإيجاب و الاستحباب؛ بأن يقال: إن الأمر إما للوجوب، و إما للاستحباب. و هذا التقسيم يدل على كون الموضوع له هو الجامع بينهما، و إلاّ فلا معنى للتقسيم إليهما؛ لأن القاعدة في التقسيم هو وجود المقسم في جميع الأقسام، فلا بد من أن يكون المقسم جامعا بين الأقسام فيكون المقسم مشتركا بينها بالاشتراك المعنوي و هو المطلوب.

(2) هذا الكلام من المصنف ردّ للاستدلال بصحة التقسيم على الاشتراك المعنوي، و الردّ: أن التقسيم إلى الايجاب و الاستحباب لا يدل على أزيد من إرادة الطلب الجامع بينهما من المقسم، و أما كونه معنى حقيقيا له فلا يدل عليه.

و بعبارة واضحة: أن التقسيم المزبور يدل على أن المراد من المقسم هو المعنى العام، و لازم ذلك: استعمال لفظ الأمر في المعنى العام، و قد عرفت: أن الاستعمال أعم من الحقيقة، و المدعى هو: كون الأمر حقيقة في القدر الجامع و التقسيم لا يدل عليه.

و بالجملة: أن التقسيم المزبور يدل على استعمال الأمر في جامع الطلب، و لكن لا يدل على المطلوب، و هو كون هذا الاستعمال على نحو الحقيقة؛ لعدم الملازمة بين صحة الاستعمال في معنى و بين كونه على نحو الحقيقة؛ و ذلك لصحة الاستعمال على نحو المجاز.

(3) أي: «و أما ما أفيد» في وجه الاشتراك المعنوي. فقوله: «و أما ما أفيد» إشارة إلى دليل آخر على وضع الأمر للجامع، فيكون مشتركا معنويا بين الوجوب و الاستحباب.

و خلاصة الكلام في تقريبه: أنه لا إشكال في استعمال لفظ الأمر في كل من الوجوب و الاستحباب، فحينئذ إن كان موضوعا للقدر الجامع بينهما - و هو مطلق الطلب -: فقد ثبت المطلوب، و إن كان موضوعا لكل واحد منهما بوضع على حدة: لزم الاشتراك اللفظي، و إن كان موضوعا لأحدهما فقط: لزم المجاز في الآخر و هما مخالفان

ص: 288

المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز، فهو غير مفيد لما مرت الإشارة إليه في الجهة الأولى، و في تعارض الأحوال فراجع.

و الاستدلال (1) بأن فعل المندوب طاعة، و كل طاعة فهو فعل المأمور به،... فيه (2) ما لا يخفى؛ من منع الكبرى، لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي و إلاّ لا يفيد المدعى.

=============

للأصل، لأن الأصل الحقيقة و عدم تعدد الوضع، فلا بد من الالتزام بالاشتراك المعنوي دفعا للاشتراك و المجاز، إذ لو دار الأمر بين الاشتراك المعنوي و بين الاشتراك اللفظي أو المجاز كان الأول خيرا من الثاني و الثالث.

فقد أشار المصنف إلى الجواب بقوله: «فهو غير مفيد».

و حاصل ما أفاده المصنف في الجواب: من أن هذا الاستدلال مبنيّ على الترجيح بالوجوه المذكورة في باب تعارض الأحوال، و قد عرفت: عدم الدليل لا من النقل و لا من العقل؛ على اعتبار ترجيح بعض أحوال اللفظ على الآخر، و ما ذكر في الترجيح ليس إلاّ أمورا استحسانية لا عبرة بها إلاّ إذا أوجبت ظهور اللفظ في معنى، هذا مضافا إلى ما عرفت من تبادر الوجوب من الأمر؛ و هو علامة الحقيقة كما أشار إليه بقوله: «لما مرت الإشارة إليه في الجهة الأولى».

(1) هذا هو الدليل الثالث على القول بالاشتراك المعنوي، و هذا الدليل هو الاستدلال بالقياس الاقتراني من الشكل الأول؛ بتقريب: أن فعل المندوب طاعة، و كل طاعة فعل المأمور به؛ فالمندوب فعل المأمور به، فالنتيجة هي: المندوب هو فعل المأمور به من حيث كونه محمولا على المندوب، و لازم ذلك: أن يكون النادب آمرا و الندب أمرا، لاتحاد المشتق منه و المشتق في مفهوم الحدث، فيصدق الأمر على الندب، كما يصدق على الوجوب؛ فيكون مشتركا معنويا بينهما.

(2) أي: في هذا الاستدلال ما لا يخفى. فقول المصنف: «فيه ما لا يخفى» جواب عن الاستدلال المزبور.

توضيح ما أفاده المصنف من الجواب يتوقف على مقدمة: و هي أن الاستدلال بالشكل الأول إنما يتم لو كان القياس الاقتراني من الشكل الأول واجدا لشرائط الإنتاج و هي:

1 - إيجاب الصغرى. 2 - كلية الكبرى. 3 - صدقهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المصنف قد أجاب عن الاستدلال المزبور بمنع كلية الكبرى؛ بمعنى: أنه ليس كل طاعة فعل المأمور به لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي

ص: 289

أي: المأمور به الوجوبي؛ لأن الطاعة قد تكون في المندوبات، فحصر الطاعة في المأمور به الحقيقي أعني: المأمور به الوجوبي غير صحيح.

و أما لو أريد منه مطلق المأمور به سواء كان واجبا أو مستحبا: فالكبرى و إن كانت كلية إلاّ إن كليتها لا تفيد المدعى؛ كما أشار إليه بقوله: «و إلاّ لا يفيد المدعى» أي: و إن لم يراد من المأمور به معناه الحقيقي؛ بل أريد مطلق الطلب و هو معنى يساوي الطاعة «فلا يفيد المدعى» أي: الاشتراك المعنوي، لأن صدق المأمور به بالمعنى الأعم على المندوب لا يلزم صدق المأمور به الحقيقي عليه؛ إذ صدق العام مجازا لا يستلزم صدق الخاص.

مع إن الملاك في الاشتراك المعنوي هو: صدق القدر الجامع على مصاديقه على نحو الحقيقة؛ كصدق الإنسان على أفراده.

فهذا الدليل لا يخلو من مصادرة بالمطلوب؛ لأن القائل بالاشتراك المعنوي يدعي أن المندوب مأمور به حقيقي كالواجب، و نحن نقول: إنه مأمور به مجازي، فما هو المدعى جعل دليلا، فلا يصغى إليه.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

1 - أن لفظ الأمر حقيقة في الوجوب لوجهين:

1 - التبادر. 2 - صحة احتجاج المولى على العبد و مؤاخذته بمجرد مخالفة أمره.

و أيده ببعض الاستعمالات التي نوقش في دلالتها في الكتب المبسوطة، و جعل المصنف «قدس سره» من المؤيّدات آية الحذر و الخبرين.

2 - استدل القائل بكون الأمر حقيقة في القدر الجامع بين الوجوب و الندب بوجوه:

الأول: صحّة تقسيمه إليهما.

الثاني: ثبوت استعماله فيهما قطعا، فلا بد من الالتزام بأنه حقيقة في الجامع دفعا للمجاز و الاشتراك اللفظي.

الثالث: القياس الاقتراني من الشكل الأول.

و قد أجاب المصنف عن الأول: بأن الاستعمال في الأعم لا يستلزم أن يكون على نحو الحقيقة كما هو المدعى.

و عن الثاني: بعدم ثبوت حجية الوجوه المذكورة في باب تعارض الأحوال، بل هي أمور استحسانية لا دليل على اعتبارها.

ص: 290

الجهة الرابعة (1): الظاهر أن الطلب الذي يكون هو معنى الأمر ليس هو الطلب الحقيقي

اشارة

؛ الذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي، بل الطلب الإنشائي الذي لا يكون بهذا الحمل و عن الثالث: بمنع كلية الكبرى.

=============

3 -

رأي المصنف «قدس سره» في لفظ الأمر:

أنه حقيقة في الوجوب؛ فليس مشتركا معنويا أو لفظيا بين المعنيين أو المعاني.

اتحاد الطلب و الإرادة

(1) المطلب الرابع من المطالب التي ذكرت إجمالها في بداية البحث عن مادة الأمر.

و قد أقحم المصنف «قدس سره» مبحث الطلب و الإرادة و حديث اتحادهما و تغايرهما في البحث عن مادة الأمر؛ فإنه - بعد ما انتهى من الحديث عن معاني مادة الأمر و أنها عنده موضوعة للطلب الإنشائي الذي ينتزع منه الوجوب إذا كان إنشاء الطلب بداعي الطلب الحقيقي - قال: «الظاهر: أن الطلب الذي يكون هو معنى الأمر...» إلخ.

و حاصل الكلام في المقام: أن الغرض من عقد هذه الجهة هو بيان أمرين:

الأمر الأول: إن الطلب الذي هو من معاني الأمر ليس هو الطلب الحقيقي أي:

الصفة القائمة بالنفس؛ التي يحمل عليها الطلب بالحمل الشائع الصناعي، بل هو الطلب الإنشائي، أي: المنشأ بالصيغة الذي لا يحمل عليه الطلب بهذا الحمل مطلقا، بل يحمل عليه مقيدا بالإنشائي فتقول: هذا طلب إنشائي، و لو أبيت إلاّ عن كون الأمر موضوعا للطلب مطلقا؛ سواء كان حقيقيا أو إنشائيا فالأمر لا أقل منصرف إلى خصوص الطلب الإنشائي، كما أن لفظ الطلب أيضا منصرف إلى الإنشائي؛ على عكس لفظ الإرادة فإنه منصرف إلى الإرادة الحقيقية أي: الصفة النفسانية القائمة بالنفس؛ دون الإرادة الإنشائية و هي المنشأة بصيغة الأمر، و هذا أي: كون المنصرف من لفظ الإرادة الإرادة الحقيقة؛ على عكس لفظ الأمر و الطلب أوجب إيهام تغايرهما ذاتا فقيل به؛ إلاّ إن المصنف قد اختار اتحاد الطلب و الإرادة مفهوما و إنشاء، و خارجا؛ بمعنى: أن مفهوم الإرادة عين مفهوم الطلب، و الإرادة الإنشائية عين الطلب الإنشائي، و واقع الإرادة عين واقع الطلب، و لا فرق بينهما ذاتا و وضعا؛ و إنما الفرق بينهما لفظي لا أكثر؛ بمعنى: أن لفظ الطلب ينصرف إلى الطلب الإنشائي، و لفظ الإرادة ينصرف إلى الإرادة الحقيقية.

هذا خلاصة الكلام في الأمر الأوّل الذي عقدت هذه الجهة الرابعة لبيانه.

ص: 291

و أمّا الأمر الثاني: فهو التعرض لما هو محلّ الخلاف بين الأشاعرة و العدليّة من المعتزلة و الإمامية، من اتحاد الطلب و الإرادة كما يقول به العدلية، أو تغايرهما كما يقول به الأشاعرة و بيان ما هو الحق في المسألة هو: أن الطلب عين الإرادة.

فهذه الجهة تكون لبيان الأمرين؛ اللذين يمكن الاختلاف فيهما فيقال في الأمر الأول: إن مدلول الأمر هل هو الطلب الحقيقي أم الإنشائي ؟

و يقال في الأمر الثاني: هل الطلب و الإرادة أمران متحدان أو هما متغايران.

و خلاصة الكلام في الأمر الأول: أنّ المصنف قال: إنّ مدلول الطلب هو الطلب الإنشائي لا الحقيقي.

و تحقيق الكلام فيه يحتاج إلى مقدمة و هي: أن المفهوم إما له أفراد متأصلة في الخارج أو لا، و كل منهما إما قابل للإنشاء أو لا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن لمفهوم الطلب أفراد متأصلة في الخارج، و هو قابل للإنشاء، فحينئذ يكون مقولة بالاشتراك على ثلاثة أقسام:

الأول: الطلب الذي له وجود في الخارج و هو من صفات النفس و من الكيفيات النفسانية.

الثاني: الطلب الإنشائي المنتزع عن مقام إظهار الإرادة بقول نحو: «أعط زيدا درهما»، أو إشارة كالإشارة بيد أو عين أو غيرهما إلى المخاطب بأن يفعل كذا و كذا. أو بكتابة.

و كيف كان؛ فللطلب الحقيقي وجود عيني في نفس الطالب؛ بخلاف الطلب الإنشائي إذ ليس له وجود عيني في النفس كالأوامر الامتحانية.

الثالث: مفهوم الطلب الجامع بين النوعين، و معنى لفظ الأمر هو الطلب الإنشائي لا الطلب الحقيقي القائم بالنفس، فالطلب و إن كان له نوعان حقيقي و إنشائي إلاّ إن معنى لفظ الأمر هو الطلب الإنشائي لا الحقيقي؛ كما أشار إليه بقوله: «الظاهر أن الطلب...» إلخ، فإذا قلنا: إن لفظ الأمر معناه الطلب؛ أريد منه الطلب الإنشائي الذي لا يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي، بل طلبا مقيدا بالإنشائي بأن يقال: هذا الطلب طلب إنشائي، هذا بخلاف الطلب الحقيقي حيث يطلق عليه الطلب؛ من دون حاجة إلى التقييد فيقال: هذا الطلب طلب.

و لا تلازم بينهما؛ لتفارقهما فيما إذا قال المولى لعبده: «اسقني ماء»، و لم يكن في

ص: 292

طلبا مطلقا، بل طلبا إنشائيا، سواء أنشئ بصيغة افعل، أو بمادة الطلب، أو بمادة الأمر، أو بغيرها. و لو أبيت (1) إلاّ عن كونه موضوعا للطلب: فلا أقل من كونه منصرفا إلى الإنشائي منه عند إطلاقه؛ كما هو الحال في لفظ الطلب أيضا، و ذلك لكثرة (2) الاستعمال في الطلب الإنشائي، كما أن الأمر في لفظ الإرادة على عكس لفظ الطلب (3)، و المنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقية.

=============

نفسه طلب حقيقة، بل أمره امتحانا فيصدق عليه الطلب الإنشائي دون الطلب الحقيقي، فثبت التفكيك بينهما، و كانت النسبة عموما من وجه مادة الاجتماع إذا كانا معا، و مادة الافتراق من جانب الحقيقي: ما إذا كان موجودا في النفس، و لكن لم يظهر بالقول و لا بالإشارة لفقد المقتضي أو لوجود المانع، و مادة الافتراق من جانب الإنشائي:

ما عرفته من الطلب الإنشائي في الأوامر الامتحانية.

و المتحصل من جميع ما ذكرناه: أن قولهم: الأمر معناه الطلب يراد منه: أن الأمر معناه الطلب الإنشائي، و لا يراد منه أن الأمر معناه الطلب الحقيقي، أو الطلب المفهومي الجامع.

و الدليل على ذلك: أن الطلب الحقيقي إنما يوجد بأسبابه الخاصة، كما أن العلم يوجد بأسبابه الخاصة. و أما الطلب الإنشائي: فإنه يوجد باللفظ فما يوجد بلفظ الأمر لا يمكن أن يكون طلبا حقيقيا، و لذا ترى أن المولى قد يأمر عبده من غير قيام طلب حقيقي في نفسه. و أما الطلب المفهومي فإنه لا يوجد إلاّ بأحد فرديه، و عليه: فلا يمكن أن يكون لفظ الأمر الموضوع لأحد فرديه؛ أعني: الإنشائي دالا عليه.

(1) أي: لو أبيت إلاّ عن كون لفظ الأمر موضوعا للطلب بقول مطلق أي: الجامع بين الحقيقي و الإنشائي «فلا أقل من كونه» أي: كون لفظ الأمر منصرفا إلى الإنشائي منه عند الإطلاق.

و حاصل ما أفاده المصنف: أنه إذا قلنا: بكون لفظ الأمر موضوعا لمطلق الطلب الجامع بين الحقيقي و الإنشائي؛ لا لخصوص الطلب الإنشائي فلا أقل من كونه منصرفا إلى خصوص الطلب الإنشائي، و هذا الانصراف يوجب ظهور لفظ الأمر فيه «كما هو الحال في لفظ الطلب» أي: لفظ الطلب أيضا ينصرف إلى الطلب الإنشائي كلفظ الأمر.

(2) أي: الانصراف المزبور إنما هو لأجل كثرة استعمال كل من لفظ الأمر و الطلب في الطلب الإنشائي.

(3) أي: الإرادة عكس الطلب، فإن الإرادة - و إن كانت كالطلب على ثلاثة أقسام أي: المفهومي الجامع و الحقيقي و الإنشائي - إلاّ إن المنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة

ص: 293

و اختلافهما (1) في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة؛ من المغايرة بين الطلب و الإرادة، خلافا لقاطبة أهل الحق و المعتزلة من اتحادهما، فلا بأس بصرف

=============

الحقيقية القائمة بالنفس، فالاختلاف بين الطلب و الإرادة إنما هو فيما ينصرف إليه كل منهما؛ لأن المعنى الذي ينصرف إليه الطلب هو الإنشائي، و الذي تنصرف إليه الإرادة حين إطلاقها هو الإرادة الحقيقية، و إلاّ فلا فرق بينهما ذاتا؛ بمعنى: أن مفهوم الإرادة عين مفهوم الطلب، و الإرادة الإنشائية عين الطلب الإنشائي، و الإرادة الحقيقية عين الطلب الحقيقي، فكل من هذين اللفظين موضوع لمعنى واحد و هو الطلب الجامع بين الحقيقي و الإنشائي.

و من هنا يمكن الجمع بين كلمات الأشاعرة و العدلية: بأن مراد الأشاعرة من المغايرة هي المغايرة بين الإرادة الحقيقية و الطلب الإنشائي.

و مراد العدلية من الاتحاد: هو الاتحاد بين الإنشائيين و الحقيقيين منهما. و لعل غرض المصنف في هذا البحث - بعد إثباته و اختياره بأن المقصود بالطلب الذي يكون معنى الأمر ليس الطلب الحقيقي، بل الإنشائي منه - هو الجمع بين كلمات الأشاعرة و العدلية من المتكلمين فيما اختلفوا فيه؛ من المغايرة بينهما كما ذهب إليه الأشاعرة، و من الاتحاد كما ذهب إليه العدلية.

و كيف كان؛ فحاصل الكلام في الأمر الأول: إن معنى لفظ الأمر ليس هو الطلب الحقيقي، بل هو الطلب الإنشائي.

(1) أي: اختلاف الطلب و الإرادة في المعنى المنصرف إليه؛ حيث ينصرف لفظ الطلب إلى الإنشائي، و لفظ الإرادة إلى الحقيقي؛ أي: اختلافهما في الانصراف «ألجأ بعض أصحابنا» كصاحب الحاشية المعروفة على المعالم «إلى الميل إلى ما ذهب إليه الاشاعرة» من العامة «من المغايرة بين الطلب و الإرادة» حقيقة، «خلافا لقاطبة أهل الحق» أي: الشيعة الإمامية «و المعتزلة من» العامة، فإنهم ذهبوا إلى اتحادهما.

و حيث انجرّ البحث إلى الأمر الثاني أعني: الخلاف بين الأشاعرة و العدلية في تغاير الإرادة و الطلب و اتحادهما، فلا بد من بسط الكلام في هذا المقام؛ كي يتضح ما هو الحق في المقام من الاتحاد و عدمه.

و قبل بيان ما هو الحق في المقام نبين ما هو محط نظر المعتزلة و الاشاعرة فنقول: إن ما هو مدار كلام الأشاعرة و مختارهم: أن للمتكلم بالكلام اللفظي صفة قائمة بنفسه سوى العلم و الإرادة و الكراهة، و يسمونها بالكلام النفسي، و يسمى الكلام النفسي طلبا حقيقيا

ص: 294

في خصوص الأوامر، و زجرا حقيقيا في خصوص النواهي، و يكون هذا الزجر الحقيقي منشأ للزجر الإنشائي، و ذاك الطلب الحقيقي منشأ للطلب الإنشائي، و ذلك الكلام النفسي منشأ للكلام اللفظي، و قد قيل:

«إن الكلام لفي الفؤاد و إنما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا»

و ما هو محط نظر المعتزلة نفي تلك الصفة النفسانية المغايرة للعلم و الإرادة و الكراهة؛ بدعوى: أن الموجود في أذهاننا عند الإخبار هو صفة العلم فقط، و عند الأمر أو النهي هو الإرادة أو الكراهة فقط، و ليس في أذهاننا في قبال العلم و الإرادة و الكراهة شيء يسمى بالكلام النفسي، أو الطلب الحقيقي أو الزجر الحقيقي.

فنزاع الفريقين إنما هو في ثبوت صفة نفسانية في قبال العلم و الإرادة و الكراهة، فالمعتزلة تنفيها و تقول: إن المنشأ للكلام اللفظي ليس سوى العلم أو الإرادة أو الكراهة، و الأشاعرة تثبتها و تقول: إنها المنشأ للكلام اللفظي و الأمر و النهي.

فاتضح بذلك: أن النزاع بينهما لا يكون لفظيا كما يظهر من المصنف «قدس سره»، و لا يكون لغويا بمعنى: أن لفظي الطلب و الإرادة هل هما مترادفان، أو لكل منهما معنى مغاير لمعنى الآخر، بل النزاع بينهما في ثبوت صفة نفسانية.

فالأشاعرة: يثبتون صفة نفسانية في قبال العلم و الإرادة و الكراهة؛ تسمى هذه الصفة في باب الأوامر طلبا، فتكون حقيقة الطلب - الذي هو صفة نفسانية - عندهم مغايرة لحقيقة الإرادة التي هي أيضا صفة نفسانية.

و أما العدلية: فينكرون ثبوت تلك الصفة النفسانية، فيكون الطلب عندهم متحدا مع الإرادة، لا بمعنى: أن لنا طلبا و إرادة يكونان من صفات النفس و قد اتحدا، بل بمعنى: أنه لا طلب لنا يكون من صفات النفس في قبال الإرادة، فيكون الطلب في كل مرتبة هو عين الإرادة في تلك المرتبة.

نعم؛ إن العالم المحقق الشيخ محمد تقي الاصفهاني صاحب الحاشية لما صادف عنوان اتحاد الطلب و الإرادة، و كان المتبادر إلى ذهنه من لفظ الطلب: الطلب الإنشائي، و من لفظ الإرادة: الصفة النفسانية الخاصة؛ حكم بتغاير الطلب و الإرادة، و تخيل: أنه وافق في هذه المسألة الأشاعرة، و خالف المعتزلة و الإمامية مع وضوح أنهم لم ينازعوا في أن الطلب الإنشائي هل هو مغاير للإرادة النفسانية أو متحد معها؟ لأن التغاير بينهما أظهر من الشمس؛ بل نازعوا - كما عرفت - في ثبوت صفة نفسانية في قبال العلم

ص: 295

و الإرادة و الكراهة، و كان نزاعهم نزاعا مذهبيا، إذ كان مقصودهم إثبات أن القرآن الذي هو كلام الله حادث كما يقول به المعتزلة، أو قديم كما يقول به الأشاعرة.

فما فهمه صاحب الحاشية من عنوان اتحاد الطلب و الإرادة، و زعم أنه مطرح أنظار الأشاعرة و العدلية بعيد جدا، و يكون ناشئا من عدم تتبع تاريخ المسألة، و ما هو محط نظر المتنازعين، أو من أن المنصرف عن لفظ الإرادة هي الإرادة الحقيقية، و من لفظ الطلب هو الطلب الإنشائي؛ غفلة عن أن المراد من الاتحاد هو: اتحاد الطلب الإنشائي مع الإرادة الإنشائية، و الطلب الحقيقي مع الإرادة الحقيقية.

و من هنا يعلم: أن ما ذكره المصنف من كلام طويل، ثم زعم ما ذكره إصلاحا بين الأشاعرة و المعتزلة، فجعل النزاع بينهما لفظيا لا يخلو عن إشكال.

و كيف كان؛ فحاصل ما ذكره المصنف: أن لفظي الطلب و الإرادة موضوعان بإزاء مفهوم واحد، و لهذا المفهوم الواحد نحوان من الوجود: الوجود الحقيقي؛ و هو وجوده في النفس، و الوجود الإنشائي؛ و هو المنشأ بالصيغة، فالطلب و الإرادة متحدان في المفهوم، و الوجود الحقيقي، و الوجود الإنشائي.

غاية الأمر: أن لفظ الطلب ينصرف عند إطلاقه إلى وجوده الإنشائي، و لفظ الإرادة ينصرف إلى وجودها الحقيقي، و هذا لا يوجب المغايرة بين اللفظين في المفهوم. نعم؛ وجود هذا المفهوم الواحد بالوجود الإنشائي - الذي ينصرف إليه لفظ الطلب - مغاير لوجوده الحقيقي، الذي ينصرف إليه إطلاق لفظ الإرادة.

و على هذا يمكن أن يصلح بين الطرفين بأن يقال: إن مراد العدلية من الاتحاد: ما ذكرناه من اتحادهما في المفهوم، و في كلا الوجودين، و مراد الأشاعرة من التغاير: ما ذكرناه من أن ما ينصرف إليه إطلاق لفظ الطلب - أعني: الوجود الإنشائي لهذا المفهوم - مغاير لما ينصرف إليه إطلاق لفظ الإرادة أعني: الوجود الحقيقي لهذا المفهوم. انتهى حاصل ما أفاده المصنف في المقام.

و فيه: أنه قد عرفت: أن نزاع الأشاعرة و العدلية ليس في أن لفظي الإرادة و الطلب هل وضعا بإزاء مفهوم واحد، أو يكون لكل منهما معنى غير ما للآخر؛ إذ البحث على هذا لغوي مربوط بعلم اللغة، بل النزاع بينهما في أنه هل يكون عند التكلم بالكلام اللفظي صفة قائمة بنفس المتكلم؛ تكون منشأ للكلام اللفظي سوى العلم و الإرادة و الكراهة، أو لا تكون في نفسه صفة وراء هذه الثلاثة ؟ و على هذا يكون البحث كلاميا

ص: 296

عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المقام و إن حققناه في بعض فوائدنا (1)؛ إلاّ أن الحوالة لما لم تكن عن المحذور خالية (2)، و الإعادة (3) بلا فائدة و لا إفادة، كان المناسب هو التعرض هاهنا أيضا، فاعلم: أن الحق كما عليه أهله (4) وفاقا للمعتزلة، و خلافا للأشاعرة (5) هو (6): اتحاد الطلب و الإرادة بمعنى: أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد، و ما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر، و الطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائية (7).

=============

و لا يقبل هذا النزاع إصلاحا، و لعل ما يأتي في آخر كلامه من قوله: «فافهم» إشارة إلى هذا.

(1) فوائد الأصول، ص 23، بتصرف.

(2) أي: ذلك المحذور إما لإجمال عبارة الفوائد، أو عدم حضور نسختها عنده أو مشقة الرجوع اليها.

(3) قوله: «الإعادة» عطف على الحوالة. و معنى العبارة: و لما لم تكن الإعادة خالية عن الفائدة و هي التذكر لمن لاحظ الفوائد، و فيها الإفادة لمن لم يلاحظ الفوائد، أو لاحظها و لكن نسي ذلك.

(4) أي: الشيعة الإمامية.

(5) أي: القائلين بمغايرة الطلب و الإرادة؛ كما يأتي في كلام المصنف «قدس سره».

(6) أي: الحق هو اتحاد الطلب و الإرادة بمعنى: أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد فيكون لفظا الطلب و الإرادة من الألفاظ المترادفة كالإنسان و البشر، لأن المفروض:

وحدة المعنى الموضوع له فيهما، و لازم ذلك: أن كون الفرد الخارجي لأحدهما هو الفرد الخارجي للآخر، و إن شئت فقل: إن مطابق أحدهما عين مطابق الآخر خارجا.

و بعبارة واضحة: أن الطلب الإنشائي هو عين الإرادة الإنشائية، و الطلب الحقيقي هو عين الإرادة الحقيقية، فالطلب و الإرادة متحدان مفهوما و إنشاء و خارجا. نعم؛ يختلفان باختلاف المرتبة، فإن الطلب الإنشائي غير الإرادة الحقيقية من حيث المرتبة.

(7) ما ذكره المصنف من اتحاد الطلب الإنشائي مع الإرادة الإنشائية؛ إنما يصح فيما لو كانت الإرادة كالطلب قابلة للإنشاء. و أما لو قلنا: بأن لفظ الإرادة موضوع لصفة خاصة من صفات النفس، و الصفات النفسانية من الأمور الحقيقية التي يكون بحذائها شيء في الخارج؛ كانت الإرادة مغايرة للطلب، و ذلك لأن الإرادة حينئذ لا تقبل الوجود الإنشائي، فشأنها كشأن الإنسان و الحيوان و البياض و نحوها مما لا يقبل الإنشاء؛ لأنها من الأمور الخارجية الآبية عن الوجود الإنشائي.

ص: 297

و بالجملة (1): هما متحدان مفهوما و إنشاء و خارجا، لا أن (2) الطلب الإنشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه - كما عرفت - متحد مع الإرادة الحقيقية؛ التي ينصرف إليها إطلاقها أيضا (3) ضرورة (4): أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس، و أبين من الأمس.

=============

هذا بخلاف الطلب؛ فإن له معنى قابلا لأن يوجد بالإنشاء و هو البعث و التحريك؛ إذ ليس معنى الطلب سوى البعث و التحريك نحو العمل، و هما كما يحصلان بالتحريك الفعلي بأن يأخذ الطالب بيد المطلوب منه، و يجره نحو العمل بالمقصود فيسمى حقيقيا، فكذلك يحصلان بالتحريك القولي؛ بأن يقول الطالب: «اضرب» أو:

«أطلب منك الضرب»، أو «آمرك بكذا» مثلا، فيسمى الطلب إنشائيا. فقول الطالب:

«افعل كذا» بمنزلة أخذه بيد المطلوب منه، و جره نحو العمل المقصود.

كيفية اتحاد الطلب و الإرادة

فالمتحصل مما ذكرناه: أن حقيقة الإرادة مغايرة لحقيقة الطلب؛ فإن الإرادة من الصفات النفسانية غير قابلة للإنشاء؛ بخلاف الطلب فإنه عبارة عن تحريك المطلوب منه نحو العمل المقصود إما تحريكا عمليا أو تحريكا إنشائيا، و لا ارتباط لهذا المعنى - بكلا قسميه - بالإرادة التي هي من صفات النفس.

نعم؛ الطلب - بكلا معنييه - مظهر للإرادة و مبرز لها. و لا يخفى: إن ما ذكرناه من اختلاف الطلب و الإرادة مفهوما ليس القول بالموافقة مع الأشاعرة؛ إذ نزاع الأشاعرة مع العدلية ليس في اختلاف الطلب و الإرادة مفهوما، أو اتحادهما كذلك؛ بل في وجود صفة نفسانية أخرى في قبال الإرادة و عدم وجودها.

(1) يقول المصنف باتحاد الطلب و الإرادة في كل مرتبة؛ بمعنى: أن الطلب المفهومي متحد مع الإرادة المفهومية، و الطلب الحقيقي الخارجي متحد مع الإرادة الحقيقية، و الطلب الإنشائي متحد مع الإرادة الإنشائية.

(2) هذا إشارة إلى اختلاف الطلب و الإرادة، مع اختلاف المرتبة، و لذا لا يكون الطلب الإنشائي الذي ينصرف إليه لفظ الطلب متحدا مع الإرادة الحقيقية؛ التي ينصرف إليها لفظ الإرادة عند الإطلاق.

(3) كانصراف لفظ الطلب إلى خصوص الطلب الإنشائي.

(4) تعليل لعدم اتحاد الطلب الإنشائي مع الإرادة الحقيقية.

وجه المغايرة: أن الطلب الإنشائي هو الطلب الاعتباري؛ المتحقق بقول تارة، و بفعل أخرى، بخلاف الإرادة الحقيقية التي هي الصفة القائمة بالنفس الناشئة عن أسباب خاصة، فأين أحدهما من الآخر و كيف يتحدان مع ما بينهما من المغايرة ؟

ص: 298

فإذا عرفت المراد من حديث العينية و الاتحاد (1)، ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء و الأمر به حقيقة كفاية، فلا يحتاج إلى مزيد بيان، و إقامة برهان؛ فإن (2) الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها يكون (3) هو الطلب غيرها (4)، سوى ما هو مقدمة تحققها (5)، عند خطور الشيء و الميل، و هيجان الرغبة إليه، و التصديق لفائدته، و هو (6) الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لأجلها.

=============

(1) قد عرفت: أن المراد بالعينية و الاتحاد هو اتحاد الطلب و الإرادة؛ مع وحدة الرتبة لا مع اختلافها. ثم أشار المصنف إلى الدليل لذلك بقوله: «ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء و الأمر به حقيقة كفاية...» إلخ.

و حاصل ما أفاده المصنف من استدلاله على إثبات اتحادهما بالبرهان الوجداني هو:

أن الإنسان إذا راجع وجدانه عند طلب شيء؛ لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها تسمى بالطلب سوى مقدمات الإرادة؛ و هي: تصور الشيء و العلم به، و الرغبة فيه و الميل إليه، و هيجان الرغبة إليه، و التصديق العلمي أو الظني بفائدته، فلا بد حينئذ من الالتزام باتحاد الطلب و الإرادة، و مجرد انصراف الطلب إلى الإنشائي عند إطلاقه، و انصراف الإرادة إلى الحقيقية عند إطلاقها لا يوجب تغايرهما مفهوما و إنشاء و خارجا؛ و إن نسب ذلك إلى بعض الإمامية و الأشاعرة إلاّ إن ذلك لعله نشأ من انصراف الطلب إلى الإنشائي، و انصراف الإرادة إلى الحقيقية، و قلنا: إن الانصراف لا يوجب التغاير.

(2) أي: قوله: «فإن الإنسان لا يجد...» إلخ، بيان للوجدان الذي استدل به على اتحاد الطلب و الإرادة.

(3) الأولى تأنيث «يكون»؛ لتأنيث مرجع الضمير و هي: «صفة أخرى».

(4) أي: غير الإرادة. الظاهر: أنه لا حاجة إلى قوله: «غيرها»؛ للاستغناء عنه بقوله:

غير الإرادة. و المعنى: أننا لا نجد سوى الإرادة و مقدماتها صفة أخرى تسمى بالطلب.

(5) أي: الإرادة. و أما مقدمات الإرادة فهي خمسة: الأولى: ما أشار إليه بقوله:

«عند خطور الشيء» أي: العلم به. الثانية: التصديق بفائدته. الثالثة: الميل إليه. و الرابعة و الخامسة:

هيجان الرغبة إليه المنحل إلى الجزم و العزم في اصطلاحهم.

(6) أي: ما هو مقدمة تحقق الإرادة عبارة عن «الجزم بدفع ما يوجب توقفه» أي:

توقف المريد «عن طلبه» أي: عن طلب الشيء المراد «لأجلها» أي: لأجل فائدة ذلك

ص: 299

و بالجملة: لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة (1) و الإرادة هناك صفة أخرى قائمة بها (2) يكون هو الطلب، فلا محيص عن اتحاد الإرادة و الطلب، و أن يكون ذلك الشوق المؤكد؛ المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة، أو المستتبع لأمر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك (3)، مسمى بالطلب و الإرادة كما يعبر به تارة، و بها أخرى؛ كما لا يخفى.

=============

الشيء، فيكون قوله: «و هو الجزم» بيانا لقوله: «ما هو مقدمة تحققها» و المعنى: أن الجزم بدفع الأمور المانعة عن الطلب مقدمة للطلب، لا أنه الطلب النفسي الذي يدعيه الأشعري.

(1) أي: مقدمات الإرادة لا تكون هناك صفة أخرى قائمة بالنفس حتى تكون هو الطلب غير الصفات النفسانية؛ التي هي عبارة عن مقدمات الإرادة و غير نفس الإرادة.

و على هذا فلا بد من الالتزام باتحاد الإرادة و الطلب، و عن كون ذلك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك عضلاته في الفعل المباشري، و المستتبع لأمر عبيده في الفعل غير المباشري هو المسمى بالطلب و الإرادة، فيعبر عنه في الاصطلاح تارة: بالطلب. و أخرى:

بالإرادة، فالطلب و الإرادة هما الشوق المؤكد، و هو أمر وحداني.

قال السبزواري: إن الإرادة فينا شوق مؤكد، يحصل عقيب داع هو إدراك الشيء الملائم إدراكا يقينيا أو ظنيا أو تخيليا؛ موجبا لتحريك الأعضاء لأجل تحصيل ذلك الشيء.

و ذكر في درر الفوائد ما حاصله: أن بيان مصداق الإرادة في الممكنات يحتاج إلى تفصيل، فأول ما يحتاج إليه في الفعل الاختياري هو: العلم المسمى بالداعي، ثم الشوق المؤكد نحو وجوده إن كان ملائما بطبع الفاعل المسمى بالإرادة، ثم تصميم النفس نحو فعله بعد حصول التحير و التردد؛ برفع التحير و البناء على إيجاده بترجيح جانب وجوده و مقتضيات وجوده على عدمه، و هذا هو المسمى بالإجماع، ثم حركة العضل، فالفعل مترتب على حركة العضل، بل هو نفس حركة العضل، و عند تمام هذه المقدمات يقال:

إنه فعل بالإرادة، و يسمى هذا الفعل فعلا اختياريا؛ لكونه مسبوقا بالإرادة و الاختيار(1).

(2) أي: بالنفس.

(3) أي: بالمباشرة. فحاصل البرهان الوجداني على اتحاد الطلب و الإرادة: إنه ليس في النفس إلاّ صفة واحدة.

ص: 300


1- درر الفوائد، ج 1، ص 80-81.

و كذا (1) الحال في سائر الصيغ الإنشائية، و الجمل الخبرية، فإنه لا يكون غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس من الترجي و التمني و العلم إلى غير ذلك؛ صفة أخرى كانت قائمة بالنفس، و قد دل اللفظ عليها، كما قيل:

إن الكلام لفي الفؤاد و إنما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا

=============

(1) أي: الحال في سائر الصيغ الإنشائية و الجمل الخبرية؛ كالحال في الجمل الإنشائية الطلبية؛ حيث ليس هناك صفة أخرى قائمة بالنفس حتى تسمى بالكلام النفسي، و يسمى ذلك الكلام النفسي طلبا حقيقيا في خصوص الأوامر، و كان ذلك الطلب الحقيقي منشأ للطلب الإنشائي، و ذلك الكلام النفسي منشأ للكلام اللفظي كما قيل:

إن الكلام لفي الفؤاد و إنما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا

أي: ليس الأمر كذلك توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن المتكلم إذا تكلم بكلام إنشائي أو إخباري؛ فليس هناك إلاّ الإرادة القائمة بالنفس، و مضمون ذلك الكلام مثلا: أنّنا لا نجد في الجمل الإنشائية صفة نفسانية غير إنشاء التمني و الترجي، و الطلب و الدعاء، و الملكية، و الزوجية، و الحرية و نحوها مما يقبل الإنشاء.

و لا نجد في الجمل الخبرية ما عدا وقوع النسبة أو لا وقوعها شيئا آخر يسمى ذلك الشيء بالكلام النفسي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا محيص عن اتحاد الطلب و الإرادة؛ إذ عرفت: أنه ليس هناك سوى الإرادة؛ و العلم بمضمون الكلام صفة قائمة بنفس المتكلم حتى تسمى بالكلام النفسي.

فالمتحصل مما ذكرناه: أنّنا لا نجد بعد الفحص عما في النفس من الصفات صفة زائدة على الإرادة تسمى بالطلب في صيغ الأمر، ليكون ذلك هو الكلام النفسي، و كذلك في سائر الجمل الإنشائية و الجمل الخبرية؛ ففي جميع الجمل الإنشائية الطلبية و غيرها، و كذا الجمل الخبرية لا توجد صفة زائدة على مضامينها تسمى بالكلام النفسي؛ كما هو مفاد ما قيل من:

إن الكلام لفي الفؤاد و إنما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فإن مقتضى هذا البيت هو: كون الكلام في الفؤاد، و إنما اللفظ جعل دليلا عليه و حاكيا عنه، ففي النفس صفة تسمى بالكلام النفسي.

ص: 301

و قد انقدح بما حققناه (1): ما في استدلال الأشاعرة على المغايرة بالأمر مع عدم الإرادة، كما في صورتي الاختبار و الاعتذار من الخلل.

=============

ثم أن هذا البيت مما استدل به الأشاعرة على ثبوت الكلام النفسي؛ و لكن في الاستدلال المذكور يرد:

أولا: عدم اعتبار البيت المذكور، إذ ليس مأثورا عن معصوم من نبي أو وصي.

و ثانيا: عدم ظهوره فيما ادعوه من كون الطلب صفة زائدة في النفس غير الإرادة و مقدماتها؛ بل لا يدل إلاّ على معنى قائم بالنفس؛ من العلم في الإخبار، و التمني، و الترجي، و الاستفهام، الحقيقية في تلك الصيغ، و الإرادة في الأوامر، و الكراهة في النواهي.

فالحاصل: أن مدلول الكلام اللفظي الذي يسميه الأشاعرة كلاما نفسيا ليس أمرا وراء العلم في الخبر، و الإرادة في الأمر و الكراهة في النهي.

(1) أي: ظهر بما حققناه من اتحاد الطلب و الإرادة؛ الإشكال في استدلال الأشاعرة على المغايرة بين الطلب و الإرادة.

و حاصل استدلال الأشاعرة على المغايرة: أن الأوامر الامتحانية و الاعتذارية مثل الأوامر الجدية؛ في احتياجها إلى وجود منشأ في نفس المتكلم، و حيث لا إرادة في نفس المتكلم - في تلك الأوامر - فلا بد من وجود صفة أخرى في نفسه؛ لتكون هي المنشأ لأمره، و تسمى هذه الصفة بالطلب النفسي. و إذا ثبت أن المنشأ للأوامر الامتحانية صفة أخرى في نفس المتكلم سوى الإرادة؛ ثبت أن المنشأ لجميع الأوامر هذه الصفة؛ لعدم القول بالفصل بين الأوامر الامتحانية و غيرها؛ و لازم ذلك: مغايرة الطلب و الإرادة لوجوده دونها في الأوامر الامتحانية؛ ففيها يكون الطلب موجودا بدون الإرادة، فهذا الانفكاك دليل على المغايرة؛ كما أشار إليه بقوله: «استدلال الأشاعرة على المغايرة بالأمر مع عدم الإرادة، كما في صورتي الاختبار و الاعتذار من الخلل».

و الفرق بين الأمر الاختباري و الاعتذاري هو: أن الأول: يصدر لاستخبار حال العبد في كونه مطيعا أو عاصيا؛ مع عدم إرادة الفعل، و قد يعبر عنه بالأمر الامتحاني.

و الثاني: يصدر من المولى لتسجيل العصيان على العبد، فيجعل المولى مخالفة العبد عذرا حتى يحسن عقوبته. و بعبارة أخرى: أن المولى يأمر عبده بشيء، و لا يريد منه الفعل؛ بل يريد بأمره رفع لوم الناس في ضرب عبده باعتذار أن العبد قد عصاه. و في المقامين طلب بدون الإرادة.

ص: 302

فإنه كما لا إرادة حقيقية في الصورتين، لا طلب كذلك فيهما، و الذي يكون فيهما (1) إنما هو الطلب الإنشائي الإيقاعي؛ الذي هو مدلول الصيغة أو المادة، و لم يكن بيّنا و لا مبيّنا في الاستدلال مغايرته مع الإرادة الإنشائية.

و بالجملة: الذي يتكفله الدليل (2)، ليس إلاّ الانفكاك بين الإرادة الحقيقية و الطلب المنشأ بالصيغة؛ الكاشف عن مغايرتهما، و هو (3) مما لا محيص عن الالتزام به، كما

=============

جواب المصنف عن استدلال الأشاعرة على المغايرة

و حاصل ما أفاده المصنف في الجواب عن هذا الاستدلال هو: فقدان الطلب الحقيقي و الإرادة الحقيقية معا؛ في صورتي الاختبار و الاعتذار، لا أن الطلب موجود بدون الإرادة كما أشار إليه بقوله: «فإنه كما لا إرادة حقيقة في الصورتين - الاختبار و الاعتذار - لا طلب كذلك - حقيقة - فيهما» أي: في صورتي الاختبار و الاعتذار؛ أي:

ليس هناك طلب حقيقي حتى يقال: أن عدم الإرادة الحقيقية مع وجود الطلب الحقيقي كاشف عن تغاير الطلب و الإرادة الحقيقيين.

(1) أي: في صورتي الاختبار و الاعتذار أي: الذي يوجد فيهما هو الطلب الإنشائي، الإيقاعي، الذي هو مدلول الصيغة فيما إذا أنشأ الطلب بصيغة افعل، أو مدلول المادة فيما إذا أنشأ الطلب بمادة الأمر.

فالطلب الموجود فيهما هو الطلب الإنشائي و هو متحد مع الإرادة الإنشائية، و هو المطلوب في المقام، و ليس من لوازم الاستدلال المزبور ما يدل على مغايرة الطلب الإنشائي، مع الإرادة الإنشائية كما هو مطلوب الأشاعرة.

أي: ليس من لوازم الدليل المزبور مغايرة الطلب الإنشائي مع الإرادة الإنشائية لا باللزوم البين بالمعنى الأخص، و لا بالمعنى الأعم، إذ غاية ما يستفاد منه هو: انفكاك الطلب الإنشائي عن الإرادة الحقيقية و مغايرتهما، و هذا مما لا نزاع فيه أصلا، لأن النزاع إنما هو في مغايرة الطلب الحقيقي للإرادة الحقيقية و الدليل المزبور لا يدل عليها.

(2) أي: ما يتكفله دليل الأشاعرة على المغايرة ليس إلاّ الانفكاك بين الإرادة الحقيقية و الطلب الإنشائي، و هذا الانفكاك كاشف عن مغايرة الطلب الإنشائي و الإرادة الحقيقية، و هو خارج عن محل الكلام.

(3) أي: الانفكاك بين الإرادة الحقيقية و بين الطلب الإنشائي؛ مما يجب الالتزام به كما عرفت غير مرة.

ص: 303

عرفت، و لكنه (1) لا يضر بدعوى الاتحاد أصلا؛ لمكان (2) هذه المغايرة و الانفكاك بين الطلب الحقيقي و الإنشائي كما لا يخفى.

ثم إنه يمكن - مما حققناه (3) - أن يقع الصلح بين الطرفين، و لم يكن نزاع في البين، بأن يكون المراد (4) بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوما و وجودا حقيقيا و إنشائيا، و يكون المراد بالمغايرة و الاثنينية هو اثنينية الإنشائي من الطلب، كما هو (5) كثيرا ما يراد من إطلاق لفظه، و الحقيقي من الإرادة، كما هو (6) المراد غالبا منها حين إطلاقها، فيرجع النزاع لفظيا، فافهم (7).

=============

(1) أي: و لكن الانفكاك المزبور لا يضر بدعوى اتحاد الطلب الحقيقي و الإرادة الحقيقية؛ لما مر من اعتبار وحدة الرتبة في عينيتهما، فالطلب الحقيقي متحد مع الإرادة الحقيقية، دون الطلب الإنشائي معها، فمغايرة الطلب الحقيقي للإرادة الإنشائية و بالعكس لا تنافي عينيتهما، و اتحادهما مع اتحادهما في الرتبة كالحقيقيين و الإنشائيين.

(2) أي: لثبوت هذه المغايرة و الانفكاك بين الطلب الحقيقي و الطلب الإنشائي، فكما إن مغايرة الطلب الحقيقي للطلب الإنشائي غير مضر في الاتحاد، و لا يلزم منه سلب الشيء عن نفسه لتعدد المرتبة، كذلك مغايرة الطلب الإنشائي و الإرادة الحقيقية غير مضر بدعوى الاتحاد لتعدد المرتبة.

(3) أي: من تعدد مراتب الطلب و الإرادة و اتحادهما مفهوما و وجودا إنشاء و حقيقة؛ يمكن «أن يقع الصلح بين الطرفين» أي: العدلية القائلين بالاتحاد، و الأشاعرة القائلين بالمغايرة.

(4) هذا بيان وجه الصلح بين الطرفين بتقريب: أنه يمكن أن يكون مراد من يثبت اتحاد الطلب و الإرادة اتحادهما مفهوما و مصداقا و إنشاء؛ بمعنى: أنهما متحدان في هذه الجهات مع وحدة المرتبة؛ بحيث يكون كل منهما عين الآخر في تلك المرتبة.

و مراد من ينفى اتحادهما، و يثبت تغايرهما هو: تغايرهما مع اختلاف المرتبة، كالطلب الإنشائي مع الإرادة الحقيقية فإنهما متغايران، و لا يتحدان أصلا، و بهذا الوجه يقع الصلح بين الطرفين و يصير النزاع بينهما لفظيا.

(5) أي: الطلب الإنشائي كثيرا ما يراد من إطلاق لفظ الطلب.

(6) أي: الحقيقي من الإرادة هو المراد غالبا من لفظ الإرادة؛ عند إطلاق لفظ الإرادة.

(7) لعله إشارة إلى عدم كون النزاع لفظيا؛ لأن الأشعري قائل بأن مدلول الصيغة

ص: 304

دفع وهم (1):

لا يخفى: إنه ليس غرض الأصحاب و المعتزلة من نفي غير الصفات المشهورة، طلب حاصل في النفس؛ سواء كان هناك إرادة أم لا. ثم أدلة الطرفين و التفاريع المتفرعة على القولين أقوى شاهد على معنوية النزاع.

=============

و لذا يقول بعض أصحاب الحواشي ما هذا لفظه: «و ليت شعري كيف يقع الصلح بين الطرفين، و يرتفع النزاع من البين، مع التزام الخصم بالكلام النفسي، و أن هناك صفة أخرى في النفس قائمة بها ما وراء الإرادة تسمى بالطلب، و تكون كلاما نفسيا، و مدلولا للكلام اللفظي». فهذا الكلام صريح في مغايرة الطلب و الإرادة مطلقا.

(1) المتوهم هو القوشجي في شرحه على التجريد على ما ذكره المصنف في فوائده، ص 25. قال فيما أفاده هناك ما لفظه: «لكن لا إن المدلول باللفظ عند الإنشاء أو الإخبار أحد هذه الصفات المشهورة كما ربما يتوهم من بعض الكلمات منها: ما في شرح التجريد للقوشجي في بيان انحصار الكلام في اللفظي حيث ساق الكلام» - إلى أن قال -: «و الحاصل أن مدلول الكلام اللفظي الذي يسميه الأشاعرة كلاما نفسيا ليس أمرا وراء العلم في الخبر و الإرادة و الكراهة في النهي». انتهى كلام القوشجي.

فمفاد هذا الكلام هو: نفي صفة أخرى قائمة بالنفس غير الصفات المشهورة؛ حتى تسمى كلاما نفسيا على ما زعمه الاشاعرة.

و كيف كان؛ فغاية ما يقال في توضيح الوهم: إنكم قائلون بالكلام اللفظي دون الكلام النفسي، و لا بد له من مدلول؛ و هو يدور بين الكلام النفسي و بين الصفات المشهورة؛ من العلم و الإرادة و الكراهة و التمني و الترجي و نحوها. فإن كان هو الأول:

ثبت مدعى الأشاعرة أي: الكلام النفسي. و إن كان هو الثاني: لزم الالتزام بما هو على خلاف التحقيق، و حينئذ لا بد من الالتزام بأحد الأمرين: إما الكلام النفسي و قد أنكرتم ذلك، و إما القول بكون هذه الصفات محكيات للكلام اللفظي، و معان له و هو خلاف التحقيق؛ لأن الإرادة لا تكون من معاني الصيغ الإنشائية الطلبية و كذلك التمني و الترجي و المدح و الذم و نحوها لا تكون من معاني الصيغ الإنشائية غير الطلبية، و كذلك العلم بثبوت النسبة أو نفيها لا يكون من معاني الجمل الخبرية.

ردّ المصنف على القول بالكلام النفسي

فهناك سؤال يطرح نفسه: ما هو المدلول للكلام اللفظي بعد الإنكار للكلام النفسي، و بعد عدم كون هذه الصفات مدلولات له ؟ فيبقى الكلام اللفظي بلا حاك و هو باطل

ص: 305

و أنه ليس صفة أخرى قائمة بالنفس كانت كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي، كما يقول به الأشاعرة، إن (1) هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام (2).

=============

بالضرورة و الوجدان، فلا بد من القول بالكلام النفسي، كي يكون مدلولا للكلام اللفظي.

و حاصل الدفع: أنه لا يلزم من إنكار الكلام النفسي، و من عدم كون هذه الصفات مدلولات للكلام اللفظي؛ أن يكون الكلام اللفظي بلا حاك، بل إنه حاك عن ثبوت النسبة أو نفيها بين الطرفين في الجمل الخبرية، و عن المعاني الإنشائية في الجمل الإنشائية.

فالمتحصل مما ذكرنا: أن عدم تعقل صفة أخرى تكون كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي؛ لا يستلزم كون الصفات الباطنية المعروفة مدلولات له، بل مدلولاته النسبية الثبوتية و السلبية، و الطلب الإنشائي، و التمني الإنشائي، و الترجي الإنشائي، و التمليك الإنشائي و غيرها من المعاني الإنشائية.

(1) قوله: «إن هذه الصفات...» إلخ خبر لليس في قوله: «لا يخفى إنه ليس غرض الأصحاب...» إلخ. فمعنى العبارة حينئذ: إنه ليس غرض الأصحاب من نفي غير الصفات المشهورة: أن هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام الخبري و الإنشائي؛ حتى يقال: إنه على خلاف التحقيق، بل غرضهم من ذلك هو: ردّ الأشاعرة القائلين بالكلام النفسي؛ الذي هو صفة زائدة على الصفات المشهورة؛ قالوا بذلك تصحيحا لكلامه تعالى حيث يطلق عليه سبحانه أنه متكلم و قالوا: بقدم كلامه تعالى، و كونه قابلا لأن يكون مدلولا للكلام اللفظي.

(2) أي: للكلام اللفظي. و الوجه في عدم تعلق غرض الأصحاب و المعتزلة - بكون الصفات المشهورة مدلولات للكلام اللفظي - سواء كان خبريا أو إنشائيا هو: أنهم في مقام ردّ الأشاعرة القائلين بالكلام النفسي؛ الذي هو صفة زائدة على الصفات المشهورة.

و من المعلوم: أن الأصحاب و المعتزلة في غنى عن إثبات كون الصفات الأخر مدلولات للكلام اللفظي؛ لأن ردّهم على الأشاعرة لا يتوقف على ذلك، بل يتوقف على نفي صفة زائدة على الصفات النفسانية من العلم و الإرادة و الكراهة في القضايا الخبرية و الإنشائية، فإثبات كون مدلول الكلام ما ذا لا دخل له في الردّ المزبور؛ إذ مقصودهم: نفي ما ادعاه الأشاعرة من ثبوت صفة زائدة على الصفات المشهورة، كما في بعض الشروح.

ص: 306

إن قلت: (1) فما ذا يكون مدلولا عليه عند الأصحاب و المعتزلة ؟

قلت: (2) أما الجمل الخبرية: فهي دالة على ثبوت النسبة بين طرفيها، أو نفيها في نفس الأمر من ذهن أو خارج؛ كالإنسان نوع أو كاتب. و أما الصيغ الإنشائية: فهي - على ما حققناه في بعض فوائدنا (3) - موجدة لمعانيها في نفس الأمر، أي: قصد ثبوت معانيها و تحققها بها، و هذا نحو من الوجود.

و ربما يكون هذا (4) منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه شرعا و عرفا آثار؛ كما هو

=============

(1) قد عرفت توضيح هذا السؤال مع الجواب، و ملخص ذلك: أنه بعد إنكار الصفة الزائدة القائمة بالنفس؛ المسماة بالكلام النفسي الزائدة على الصفات المشهورة، و إنكار كون تلك الصفات مدلولات للكلام اللفظي أيضا، فما ذا يكون مدلولا عليه عند الأصحاب و المعتزلة بالجمل الخبرية و الإنشائية، و الأشاعرة قد استراحوا بجعل الكلام النفسي مدلولا للكلام اللفظي.

(2) أي: الجواب عن السؤال: أن الجمل الخبرية تدل على ثبوت النسبة؛ إذا كانت موجبة، و على نفيها إذا كانت سالبة في نفس الأمر أي: سواء كان في عالم الذهن فقط كقولنا: «الإنسان نوع»، أم كان في عالم الخارج نحو: «الإنسان كاتب»، و كذا السالبة نحو: «لا شيء من الإنسان بحجر». فقوله: «من ذهن أو خارج» بيان لنفس الأمر.

و أما الصيغ الإنشائية مثل الأمر و النهي و الاستفهام و نحوها: فهي لا تدل على شيء، بل وضعت لقصد إيجاد معانيها بواسطتها؛ بمعنى: أن المتكلم قد يكون قاصدا للإخبار عن المعاني بالألفاظ؛ كما في الجمل الخبرية، و قد يكون قاصدا لإيجاد المعاني و المفاهيم بالألفاظ، كما في الجمل الإنشائية.

فالجمل الإنشائية: وضعت لإيجاد مفاهيمها في وعاء الاعتبار، في قبال وعاء الخارج و الذهن، فإن الوجود الإنشائي نحو من الوجود، فيكون منشأ للآثار، و موضوعا للأحكام، كما في العقود و الإيقاعات مثل: إنشاء التمليك في البيع، و إنشاء الزوجية، و الحرية، و الطلاق و نحو ذلك؛ مما يترتب عليه الأحكام التكليفية و الوضعية.

(3) فوائد الأصول، ص 23.

(4) أي: الوجود الإنشائي الاعتباري «منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه» أي: على هذا الوجود الإنشائي الاعتباري «شرعا و عرفا» أي: على سبيل منع الخلو «آثار» أي:

مترتب عليه آثار شرعية أو عرفية.

و حاصل الكلام في المقام: أن الوجود الإنشائي منشأ لانتزاع اعتبار كالزوجية

ص: 307

الحال في صيغ العقود و الإيقاعات (1).

نعم (2)؛ لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب و الاستفهام و الترجي و التمني - بالدلالة الالتزامية - على ثبوت هذه الصفات حقيقة، إما لأجل وضعها (3) و الملكية و الحرية؛ و نحوها من الأمور الاعتبارية التي تترتب عليها أحكام شرعا؛ كوجوب النفقة، و جواز الوطء و التوارث، و حرمة التزويج بالخامسة، و حرمة الجمع بين الأختين و غيرها من الأحكام الشرعية المترتبة على الزوجية. و كذا الحال في إنشاء الملكية و اعتبارها، و الملكية الاعتبارية منشأ للأحكام الشرعية؛ كجواز التصرف، و حرمة التصرف.

=============

و كيف كان؛ فالوجوب و الحرمة وصفان اعتباريان منتزعان من الطلب الإنشائي - و قيل من الطلب الحقيقي - و الملكية تنتزع من التمليك الإنشائي.

(1) أي: الفرق بينهما: أن الأول: ما يتوقف على الطرفين كالبيع و النكاح و نحوهما، هذا بخلاف الثاني حيث يكفي فيه طرف واحد كالطلاق و العتق.

(2) هذا استدراك على ما ذكره؛ من كون الصيغ الإنشائية موجدة لمعانيها وجودا إنشائيا لا وجودا حقيقيا، يعني: أن مدلولها المطابقي هو إنشاء مفاهيمها، و لكن يمكن الالتزام بدلالتها على وجود تلك الصفات حقيقة أيضا بالدلالة الالتزامية العقلية؛ بأن كانت موضوعة لإنشاء معانيها؛ بشرط أن يكون الداعي إلى إنشائها ثبوت تلك الصفات في النفس، فإنشاء الترجي بكلمة - لعل - أو التمني بكلمة - ليت - إنما يصح إذا كان ناشئا عن ترجّ نفساني، أو تمنّ كذلك، أو الدلالة الالتزامية العرفية الناشئة عن كثرة الاستعمال في إنشاء المفاهيم بداعي وجود تلك الصفات في النفس، و هذه الكثرة توجب انصراف الإطلاق إلى وجود تلك الصفات.

و بالجملة: فدلالة الصيغ الإنشائية على وجود الصفات في النفس؛ إما التزامية عقلية وضعية، و إما عرفية إطلاقية، «فتوهم» دلالة الجمل الخبرية وضعا على العلم بثبوت النسبة أو لا ثبوتها، و كذا توهم دلالة الجمل الإنشائية على نفس تلك الصفات «فاسد»، بل الدلالة على ذلك التزامية كما عرفت؛ على ما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 397».

فالأوصاف الباطنية المذكورة ليست مدلولات مطابقية لهذه الألفاظ، بل إنها مدلولات التزامية لها.

(3) أي: وضع «صيغة الطلب و الاستفهام..» إلخ.

ص: 308

لإيقاعها (1)، فيما إذا كان الداعي إليه (2) ثبوت هذه الصفات، أو (3) انصراف إطلاقها إلى هذه (4) الصورة. فلو لم تكن هناك قرينة كان إنشاء (5) الطلب، أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها؛ لأجل كون الطلب و الاستفهام و غيرهما قائمة بالنفس وضعا أو إطلاقا (6).

إشكال و دفع:

أما الإشكال (7) فهو: أنه يلزم بناء على اتحاد الطلب و الإرادة في تكليف الكفار

=============

(1) أي: لإيقاع تلك الصفات. فقوله: «إما لأجل وضعها...» إلخ إشارة إلى الدلالة الالتزامية العقلية الوضعية.

(2) أي: إلى الايقاع.

(3) معطوف على - وضعها - و هو إشارة إلى الدلالة الالتزامية العرفية.

(4) أي: صورة كون الإيقاع بداعي ثبوت الصفات المزبورة.

(5) أي: لو لم تكن قرينة على خلاف كون الإنشاء بداعي وجود تلك الصفات في النفس؛ «كان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتهما» أي: بصفة الطلب أو الاستفهام أو غيرهما؛ لأجل كون الطلب و الاستفهام و غيرهما قائما بالنفس وضعا يعني:

ثبوت الإنشاء بداعي وجود تلك الصفات حقيقة إنما هو لأجل الوضع أي: الدلالة الالتزامية العقلية الوضعية، أو «إطلاقا» أي: بسبب الانصراف، فيكون إطلاقا عطفا على قوله: «وضعا» و هو مفعول له، فالمعنى: أن ثبوت الإنشاء بداعي وجود تلك الصفات حقيقة إنما هو لأجل الوضع، أو لأجل انصراف الإطلاق إليه، كما في «منتهى الدراية» مع تصرف ما.

(6) أي: المراد به هو الدلالة الالتزامية العرفية الإطلاقية.

(7) هذا الإشكال من الوجوه التي استدل بها على مغايرة الطلب و الإرادة.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن ما يقوله الأشاعرة: من تغاير الطلب و الإرادة يتوقف على إثبات أمور:

الأول: استحالة انفكاك الطلب الحقيقي عن الإرادة الحقيقية على القول باتحادهما؛ إذ حينئذ يكون كل واحد منهما عين الآخر خارجا، فإذا تحقق أحدهما تحقق الآخر.

الثاني: الفرق بين التكليف الحقيقي و التكليف الصوري و ذلك لأحد أمرين:

الأول: أن في مخالفة التكليف الحقيقي عقاب، و ليس في مخالفة التكليف الصوري عقاب أصلا.

ص: 309

بالإيمان، بل مطلق أهل العصيان في العمل بالأركان؛ إما أن لا يكون هناك تكليف جدي، إن لم يكن هناك إرادة؛ حيث إنه لا يكون حينئذ طلب حقيقي، و اعتباره في الطلب الجدي ربما يكون من البديهي، و إن كان هناك إرادة فكيف تتخلف عن المراد؟ و لا تكاد تتخلف إذا أراد الله شيئا يقول له: كن فيكون.

و أما الدفع (1) فهو: أن استحالة التخلف إنما تكون في الإرادة التكوينية و هي العلم الثاني: أن التكليف الحقيقي يعتبر فيه الطلب الحقيقي، و نظرا إلى اتحاد الطلب الحقيقي مع الإرادة الحقيقية تعتبر فيه الإرادة الحقيقية أيضا، و لازم ذلك: اعتبار الإرادة الحقيقية في التكليف الحقيقي.

=============

الثالث: أنّنا نعلم بالضرورة من الدين: بأن الكفار و أهل العصيان مكلفون بما كلف به أهل الإطاعة و الإيمان.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه بناء على اتحاد الطلب و الإرادة و عينيتهما يلزم أحد المحذورين في باب تكليف الكفار بالإيمان، و العصاة بالعمل بالأركان:

الأول: كون التكليف صوريا إذا لم يكن هناك إرادة.

و الثاني: تخلف المراد عن الإرادة إذا كان التكليف حقيقيا و جديّا، و كلاهما باطل، فالقول باتحادهما أيضا باطل.

أما بطلان الأول: فلكونه خلاف الإجماع القائم على أن الكفار و العصاة معاقبون على الكفر و العصيان، فلا محيص عن كونهم مكلفين بالتكليف الحقيقي و هو خلف.

أما بطلان الثاني: - و هو كون التكليف حقيقيا و جديّا - فلاستلزامه تخلّف المراد عن الإرادة، إذ المفروض: كون الطلب الحقيقي عين الإرادة الحقيقية، فإنه تعالى أراد منهم الإيمان و العمل بالفروع، فلم يؤمنوا و لم يعملوا، فيلزم التخلّف و هو مستحيل لقوله تعالى: إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (1)، فلا محيص حينئذ عن تغاير الطلب و الإرادة، و الالتزام بوجود الطلب الحقيقي في تكليف الكفار و العصاة؛ دون الإرادة الحقيقية، فيكون تكليفهم حقيقيا لا صوريا؛ و ذلك يكشف عن وجود صفة أخرى له تعالى سوى الإرادة حتى تكون تلك الصفة منشأ لأوامره اللفظية، و تسمى بالطلب الحقيقي. و من هنا يعلم تغاير الطلب الحقيقي و الإرادة الحقيقية.

دفع إشكال تخلف المراد عن الإرادة توضيح الدفع يتوقف على مقدمة و هي: أن للّه تعالى إرادتين: إرادة تكوينية، و إرادة تشريعية.

دفع إشكال تخلف المراد عن الإرادة(1) توضيح الدفع يتوقف على مقدمة و هي: أن للّه تعالى إرادتين: إرادة تكوينية، و إرادة تشريعية.

ص: 310


1- يس آية: 82.

بالنظام على النحو الكامل التام، دون الإرادة التشريعية، و هي العلم بالمصلحة في فعل المكلف و ما لا محيص عنه في التكليف إنما هو هذه الإرادة التشريعية لا التكوينية، فإذا توافقتا (1) فلا بد من الإطاعة و الإيمان، و إذا تخالفتا فلا محيص عن أن يختار الكفر و العصيان.

=============

و الفرق بينهما: أن الأولى: عبارة عن العلم بالنظام على نحو الكامل التام - كما هو صريح كلام المصنف - فهي تتعلق بذوات الماهيات، و تفيض عليها الوجود الذي هو منبع كل خير و شرف، فالماهيات بمجرد سماعها نداء ربها تطيع أمر خالقها؛ فلهذا لا تتخلّف الإرادة التكوينية عن المراد هذا بخلاف الثانية - الإرادة التشريعية - فهي عبارة عن العلم بوجود المصلحة في فعل العبد إذا صدر عنه بالإرادة و الاختيار؛ لا بالإلجاء و الاضطرار.

و من المعلوم: أن هذه الإرادة التشريعية تتخلف عن المراد، و لا ضير في ذلك التخلّف؛ لعدم كون هذه الإرادة علة لوجود فعل العبد في الخارج، بل علة لنفس التشريع و فائدتها إحداث الداعي في العبد ليوجد الفعل بإرادته و اختياره، فوجود الفعل منوط بإرادة العبد لا بإرادة الله تعالى التكوينية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المراد بالإرادة في باب التكليف هي الإرادة التشريعية التي تتخلف عن المراد، لأنها - كما عرفت - عبارة عن إرادته تعالى صدور الفعل عن العبد و المكلف بإرادته و اختياره. و من المعلوم: أن المكلف يوجد الفعل تارة، و يبقيه على العدم أخرى.

فحاصل الجواب عن الإشكال: أن الطلب و الإرادة الحقيقيين موجودان في تكاليف الكفار و العصاة، و لا يلزم شيء من المحذورين - أي: التكليف الصوري أو التخلف -.

أما عدم لزوم المحذور الأول: فلوجود الطلب الحقيقي؛ الموجب لكون التكليف حقيقيا.

و أما عدم لزوم المحذور الثاني: فلما عرفت، من عدم استحالة التخلف في الإرادة التشريعية، و اختصاص ذلك بالإرادة التكوينية المفروض فقدانها في التكاليف الشرعية، لعدم احتياجها إليها، بل هي مخلة فيها؛ لما عرفت من توقف المصلحة على صدور الفعل عن اختيار العبد، و إنما المحتاج إليه في كون التكليف جديّا حقيقيا لا صوريا هي الإرادة التشريعية.

(1) أي: فإذا توافقت الإرادة التكوينية و التشريعية؛ بأن كان الواجب الشرعي - كالإيمان - مرادا بالإرادة التكوينية أيضا.

هذا الكلام من المصنف دخول في «شبهة الجبر». توضيحها يتوقف على مقدمة

ص: 311

إن قلت: (1) إذا كان الكفر و العصيان، و الإطاعة و الإيمان بإرادته تعالى التي لا و هي: أنه عرفت: أن للّه تعالى إرادتين؛ التكوينية و التشريعية، ثم هما إما متوافقتان أو متخالفتان؛ بمعنى: أن الإرادة التكوينية إما تعلقت بعين ما تعلقت به الإرادة التشريعية، أو بغيره؛ مثلا: تعلقت الإرادة التكوينية بإيمان العبد، كما أن الإرادة التشريعية تعلقت به.

=============

هذا معنى توافقهما. أما تخالفهما ففيما إذا تعلقت الإرادة التكوينية على خلاف التشريعية حيث إنها متعلقة بالإيمان دائما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه يلزم الجبر على كلتا الصورتين، و ذلك لما عرفت:

من استحالة تخلّف الإرادة التكوينية عن المراد، و المفروض: تعلقها بإيمان العبد و إطاعته في الصورة الأولى، و بكفره و عصيانه في الصورة الثانية، فلا بد من الإطاعة و الإيمان في الصورة الأولى؛ كما أشار إليه بقوله: «فإذا توافقتا فلا بد من الإطاعة و الايمان».

و كذلك لا محيص عن أن يختار الكفر و العصيان في الصورة الثانية، فيخرج العباد عن كونهم مختارين في أفعالهم، بل هم مجبورون في أفعالهم و ليس هذا إلاّ الجبر الذي يلتزم به الأشعري.

و المتحصل مما ذكرناه: أن معنى توافق الإرادتين بأن يكون صدور فعل من الأفعال عن مكلف خاص ذا مصلحة، و كان أيضا دخيلا في النظام الأكمل، فكان موردا للإرادتين، فلا بد حينئذ من الإطاعة و الإيمان.

و معنى تخالفهما: بأن يكون صدور الفعل عن المكلف ذا مصلحة له، و لكن كان مخلا بالنظام الأكمل، فكان وجوده موردا للإرادة التشريعية، و عدمه موردا للإرادة التكوينية، فلا محيص حينئذ: عن أن يختار الكفر و العصيان أعني: عدم الإيمان و الاطاعة.

(1) قوله: «إن قلت» بيان للإشكال المتولد عن توافق الإرادتين أو تخالفهما.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة: و هي أن التكاليف الشرعية مشروطة بشرائط؛ منها: القدرة و الاختيار و ذلك لقبح التكليف بغير ما هو مقدور المكلف عقلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه إذا تعلقت إرادته تعالى التكوينية بإيمان شخص و إطاعته - هذا في صورة توافق الإرادتين - أو تعلقت بكفره و عصيانه - هذا في صورة تخالفهما - امتنع تعلق التكليف بهذه الأمور؛ لصيرورتها غير مقدورة للعبد بعد تعلق إرادته تعالى التكوينية بها؛ الموجبة لضرورية وجودها، فلا يبقى حينئذ اختيار للعبد يوجب صحة التكليف بها، و على هذا فيكون العبد مضطرا إلى اختيار الكفر و العصيان أو الإطاعة و الإيمان و ليس هذا إلاّ الجبر.

ص: 312

تكاد تتخلّف عن المراد، فلا يصح أن يتعلق بها (1) التكليف؛ لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا.

قلت (2): إنما يخرج بذلك (3) عن الاختيار لو لم يكن تعلق الإرادة بها (4) مسبوقة بمقدماتها الاختيارية، و إلاّ فلا بد من صدورها بالاختيار، و إلاّ (5) لزم تخلّف إرادته عن

=============

(1) أي: بالكفر و العصيان و الإطاعة و الإيمان؛ لكون هذه الأمور خارجة عن الاختيار؛ الذي هو شرط في التكليف عقلا.

الجواب عن إشكال الجبر

(2) توضيح ما أفاده من الجواب عن إشكال الجبر يتوقف على مقدمة و هي: أن إرادته تعالى التكوينية تارة: تتعلق بفعل العبد مطلقا أي: سواء أراد العبد ذلك الفعل أم لا؛ فقد يوجد الفعل حينئذ من دون إرادته و اختياره؛ لوجوب صدوره عنه بعد صيرورته مرادا تكوينيا له تعالى. و أخرى: تتعلق بفعل العبد بما له من المبادئ الاختيارية؛ الموجبة لكون فعله اختياريا و صادرا عنه عن إرادة و اختيار.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن فعل العبد في الصورة الأولى و إن لم يكن اختياريا إذ المفروض: أنه لا تؤثر قدرته و إرادته فيه أصلا؛ إلاّ إنه لم تتعلق إرادته تعالى التكوينية بصرف صدور الفعل عن العبد مطلقا حتى يلزم الجبر، بل تعلقت بصدوره عنه مسبوقا بإرادته و اختياره. فيكون فعله حينئذ اختياريا، و لا معنى لنفي الاختيار.

نعم؛ اختيار العبد الكفر و العصيان إنما هو مستند إلى سوء اختياره و شقاوته؛ لا إلى إرادته تعالى التكوينية حتى يقبح التكليف بالإيمان، و العقاب على الكفر.

(3) أي: بتعلق الإرادة التكوينية الإلهية بالإيمان و غيره.

(4) أي: الكفر و العصيان و الإيمان و الإطاعة. و الضمير في «بمقدماتها» أيضا يرجع إلى هذه الأمور.

و حاصل الجواب: أن أفعال العباد لا تتعلق بها الإرادة التكوينية لا وجودا و لا عدما، فللعبد صفة الاختيار بحيث أنه يفعل باختياره، أو يتركه باختياره؛ فإن الله تعالى لا يوجد فعل العبد و لا يمنع عن فعل العبد، و على فرض تسليم تعلقها بها وجودا فكانت تتعلق بها مسبوقة بمقدماتها الاختيارية، فلا بد حينئذ من صدورها بالاختيار؛ كما أشار إليه بقوله: «و إلاّ» أي: لو كان تعلق الإرادة التكوينية بالإيمان و غيره بمباديها الاختيارية، فلا بد من صدور الإيمان و غيره بالاختيار، كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 403».

(5) أي: و إن لم تصدر العناوين المذكورة بالاختيار - مع تعلق إرادته تعالى التكوينية بصدورها من العبد باختياره - لزم تخلف إرادته تعالى عن مراده إذ المفروض: أن إرادته

ص: 313

مراده، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

إن قلت: (1) إن الكفر و العصيان من الكافر و العاصي و لو كانا مسبوقين بإرادتهما إلاّ إنهما منتهيان إلى ما (2) لا بالاختيار، كيف (3)؟ و قد سبقتهما الإرادة الأزلية و المشيئة الإلهية، و معه (4) كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالأخرة بلا اختيار؟

=============

«عزّ و جل» تعلقت بصدور تلك العناوين باختيار العبد، فلو صدرت بدونه لزم التخلف.

فالمتحصل: أنه لا يلزم من تعلق إرادة الله تعالى تكوينا بالإيمان و الإطاعة و الكفر و العصيان جبر أصلا، لما مر من كون إرادته التكوينية على نحوين، و يلزم الجبر على أحدهما دون الآخر، كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 404».

(1) الغرض من هذا السؤال هو: عدم اندفاع إشكال الجبر بما تقدم من الجواب و هو: أن الكفر من الكافر و الإيمان من المؤمن من الأمور الاختيارية؛ و ذلك لكون كل واحد منهما مسبوقا بالإرادة.

أما وجه عدم الاندفاع: أن صدور الأفعال من العباد و إن كان مسبوقا بإرادتهم و اختيارهم، إلاّ إن تلك الأفعال بالأخرة منتهية إلى إرادته تعالى، و إلاّ لزم التسلسل، لأن إرادة العبد من الممكنات، و كل ممكن محتاج إلى المؤثر، فإرادة العبد غير اختيارية؛ لأنها مستندة إلى إرادة الواجب تعالى التي هي واجبة لكونها عين ذاته «عزّ و جل»، فيقبح حينئذ التكليف بالإيمان و غيره لكونه تكليفا بما هو خارج عن الاختيار، كما يقبح العقاب على الكفر و العصيان؛ لكونه بما لا يكون بالاختيار، فحينئذ لم يندفع إشكال الجبر بمجرد تأثير إرادة العبد في اختيارية الكفر و الإيمان؛ لأن الله قد خلق الكافر و المؤمن، و أوجد فيهما إرادة الكفر و الإيمان؛ فلا بد من صدورهما عنهما.

(2) المراد بالموصول هو: الإرادة الإلهية التي تنتهي إليها الممكنات؛ التي من جملتها:

إرادة المكلف و مقدماتها.

(3) أي: كيف لا تنتهي إرادة الكفر و العصيان من الكافر و العاصي إلى ما لا بالاختيار، و الحال: أنه قد سبقت هذه الإرادة الأزلية الإلهية الرافعة للاختيار.

(4) أي: مع السبق المزبور أي: مع سبق الإرادة الأزلية بإرادة الكافر الكفر، و العاصي العصيان، كيف تصح المؤاخذة على الكفر و العصيان اللذين هما مما يكون بالأخرة بلا اختيار؟ لأن سلب الاختيار يستلزم سلب التكليف، فلا تصح المؤاخذة من دون تكليف أصلا.

فالمتحصل مما ذكرناه: أن الكفر و العصيان تابعان لإرادة العبد، و إرادة العبد لكونها ممكنا، و كل ممكن يجب أن ينتهي إلى الواجب تابعة للإرادة التكوينية الإلهية، و هذا مستلزم للجبر.

ص: 314

قلت: (1) العقاب إنما يتبع الكفر و العصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما، فإن «السعيد سعيد في بطن أمه، و الشقي شقي في بطن أمه»(1) و «الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة»(2) كما

=============

(1) توضيح ما أفاده المصنف في الجواب عن إشكال الجبر يتوقف على مقدمة و هي:

أن الممكن مركب من الماهية و الوجود، فقد اتفق الفلاسفة على عدم كليهما من فعل اللّه؛ بمعنى: أنه لا يكون كلاهما مجعولين بل المجعول هو أحدهما فقط إما الماهية و إما الوجود، ثم الأثر يترتب على ما هو المجعول، و ينسب أثر ما هو المجعول منهما إلى اللّه تعالى. و لا يصح أن ينسب أثر ما هو غير المجعول إلى الله «عزّ و جل»، ثم الأرجح هو قول من يقول إن المجعول هو الوجود دون الماهية، بل لا يعقل أن تكون الماهية مجعولة، لأن ثبوت شيء لنفسه ضروري و لذا قيل: «ما جعل الله المشمشة مشمشة، بل أوجدها» فحينئذ إذا لم تكن الماهية مجعولة لم تكن آثارها مجعولة و منسوبة إلى اللّه تعالى.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن إرادة الكفر من الكافر و العصيان من العاصي ناشئة من سوء سريرتهما و هو ناشئ من شقاوتهما، و الشقاوة إما ذاتي لهما أو من لوازم ذاتهما و ماهيتهما و الذاتي لا يعلل، فينقطع السؤال بأنه لم جعل السعيد سعيدا و الشقي شقيا؟ إذ قد عرفت: أنه لا يصح أن تنسب الشقاوة و السعادة و لا آثارهما من الكفر و العصيان، و الإطاعة و الإيمان إلى الله تعالى، لأن السعيد سعيد بنفسه، و الشقي شقي كذلك، و إنما أوجدهما الله تعالى لأن الوجود خير محض و فيض من الله «عزّ و جل»، لأن الله فياض على الإطلاق.

و من هنا يعلم: أن المؤاخذة في اختيار الكفر و العصيان ليست لأجل الاستحقاق حتى يرد عليه الإشكال بأن يقال: إنه لا استحقاق مع عدم الاختيار، بل المؤاخذة هي من اللوازم الذاتية المترتبة على الكفر و العصيان الناشئين من الخبث الذاتي ترتب المعلول على العلة كما أشار إليه بقوله: «العقاب إنما يتبع الكفر و العصيان»، فإذا انتهى الأمر إلى الذاتي

ص: 315


1- في التوحيد، ص 356، ح 3 /تفسير القمي، ج 1، ص 227 /غوالي اللآلي، ج 1، ص 35، ح 19: «الشقي من شقي في بطن أمه، و السعيد من سعد في بطن أمه...». و في مصباح الزجاجة، ج 1، ص 9، سنن ابن ماجة، ج 1، ص 18، ح 46 /الجامع لمعمر بن راشد، ج 11، ص 116، ح 20076 /المعجم الأوسط للطبراني، ج 18، ص 31، ح 7871 إلخ: «.. الشقي من شقي في بطن أمه، و السعيد من وعظ بغيره...».
2- مشكاة الأنوار، ص 260 /مسند الشهاب، ج 1، ص 145، ح 195 /صحيح مسلم، ج 4، ص 2030، ح 2638.

في الخبر و الذاتي لا يعلل (1)، فانقطع سؤال: أنه لم جعل السعيد سعيدا و الشقي شقيا؟

فإن السعيد سعيد بنفسه، و الشقي شقي كذلك، و إنما أوجدهما اللّه تعالى «قلم اينجا رسيد سر بشكست» (2)، قد انتهى الكلام في المقام إلى ما ربما لا يسعه كثير من الأفهام، و من الله الرشد و الهداية، و به الاعتصام.

=============

ينقطع السؤال لأن الذاتي لا يعلل، فلا يقال: لم اختار المؤمن الإيمان، و الكافر الكفر؛ إذ المفروض: أنهما من لوازم ذاتهما، و إلى هذا يشير الحديث المعروف «السعيد سعيد في بطن أمه و الشقي شقي في بطن أمه» و «الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة».

فعلى هذا لا يلزم الجبر بالمعنى الذي يقول به الأشاعرة؛ من أن أفعال العباد كلها من الله، و أوجدها بواسطة العباد، و العبد بمنزلة آلة لها. نعم؛ يلزم الجبر بالمعنى الآخر أعني:

الجبر الأخلاقي، لأن الفعل ليس باختيار المكلف لو كان ناشئا من شقاوته الذاتية، و لكن نظر المصنف إنما هو إلى ردّ الجبر المشهور المنسوب إلى الأشاعرة؛ فإنه قد أجاب عن هذا الجبر بما يرجع إلى الجبر الأخلاقي. و لازم ذلك: أن الثواب و العقاب ليسا لأجل الاستحقاق؛ بل هما من اللوازم الذاتية للأفعال الحسنة و القبيحة؛ المنتهية إلى الشقاوة و السعادة الذاتيتين؛ كما هو رأي جماعة من الفلاسفة.

(1) أي: معناه ما عرفت من: أن ماهيات الأشياء التي هي مواد الموجودات ليست مجعولات، بل هي بنفسها متقررة في عالمها، فالشقي شقي بنفسه لا أنه تعالى جعله شقيا بإرادته التكوينية ليقبح تكليفه و عقابه، فكفره مستند إلى شقاوته الذاتية. نعم؛ لو قلنا: بأن الله تعالى جعل الشقي شقيا يلزم الجبر و لا يجدي في دفعه ما قيل من: أن الذاتي لا يعلل. فتدبر.

فالمتحصل من كلام المصنف: أن السعادة و الشقاوة ذاتيتان للناس؛ كذاتية الذهبية و الفضيّة للذهب و الفضة، و العقاب إنما بتبعة الكفر و العصيان و هما مستندان إلى الاختيار، و الاختيار إلى مقدماته، و مقدماته إلى الشقاوة، و الشقاوة ذاتية، و الذاتي لا يعلل نظرا إلى ما عرفته من كون الذاتيات ضرورية الثبوت للذات.

المراد من الخبر المعروف «السعيد سعيد في بطن أمه»

(2) أي: قلم اينجا رسيد سر بشكست جون بيرون از حد خود نوشت، لأن حد القلم و وظيفته في المقام تحرير مسائل الأصول و قواعدها؛ لا تحرير مسائل الكلام و الاعتقاد، لا سيما مسألة القضاء و القدر التي لا تدركها العقول، و لا تسعها الأفهام، فإن كل شيء إذا انحرف عن مسيره يقع في ورطة و في معرض الحوادث. هذا في غير الأمور الاعتقادية. و أما في الأمور الاعتقادية: فالانحراف ربما يؤدي إلى الهلاك الدائم

ص: 316

و العذاب الأليم، نعوذ باللّه من سوء العاقبة و الانحراف في العقيدة، فانكسار رأس القلم كناية عن توقف القلم عن التحرير و الكتابة عند هذه المسألة، و قد قيل: إن المصنف قد دخل في شبهة الجبر من غير ملزم له، و يا ليته لم يدخل فيها أو دخل و أدى حقها.

و كيف كان؛ فما أفاده المصنف في هذا المقام لا يخلو عن إشكال، بل فيه وجوه من الإشكال، كما في «منتهى الدراية» و نكتفي بذكر بعض تلك الوجوه رعاية للاختصار:

الأول: أن الثواب و العقاب - على ما دلت عليه الآيات و الروايات - جزاء من اللّه تعالى بالعمل الحسن و القبيح، و الثواب - على ما عرّفه المتكلمون - هو: النفع المستحق المقارن للتعظيم، و العقاب هو: الضرر المستحق المقارن للاستخفاف، و مع الجبر لا استحقاق لعدم كون الفعل اختياريا للعبد.

الثاني: أن الثواب و العقاب لو كانا ذاتيين للعمل لم يكن وجه لتوقيف العباد في مواقف الحساب للسؤال عنهم على ما صرح به في قوله تعالى: وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ، الصافات: 24.

الثالث: أن ذاتيتهما تنافي ما ورد من العفو عن بعض الذنوب بالشفاعة أو غيرها؛ إذ لا معنى للعفو حينئذ.

الرابع: هو عدم انطباق حد الذاتي على السعادة و الشقاوة؛ اللتين يترتب عليهما الثواب و العقاب، و أما الذاتي الإيساغوجي - و هو الجنس و الفصل - فواضح. و أما الذاتي البرهاني - و هو ما ينتزع عن نفس الذات من دون حاجة إلى ضم ضميمة، كإمكان الإنسان و غيره من الماهيات الإمكانية - فلوضوح: عدم كون السعادة و الشقاوة كذلك؛ لأنهما من الصفات العارضة للنفس كسائر الأوصاف النفسانية.

بقي الكلام في الخبر المعروف أعني: «السعيد سعيد في بطن أمه...» إلخ فنقول: إن المراد بالسعيد و الشقي في بطن الأم هو: علمه تعالى بكونه سعيدا أو شقيا و هو في بطن أمه؛ كما هو مفاد الرواية عن ابن أبي عمير قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر «عليهما السلام» عن معنى قول رسول الله «صلى الله عليه و آله»: «الشقي شقي في بطن أمه و السعيد من سعد في بطن أمه» قال: الشقي في علم الله و هو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال الأشقياء، و السعيد من علم اللّه و هو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال السعداء». البحار ج 5، ص 57، ح 10 - باب السعادة و الشقاوة.

و أما الخبر الثاني: فالظاهر منه هو: تنزيل الناس منزلة المعادن؛ في أنه كما تكون

ص: 317

وهم (1) و دفع

لعلك تقول: (2) إذا كانت الإرادة التشريعية منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل، المعادن من حيث المالية، و الجهات الموجبة لتنافس الخلق، و تزاحمهم عليها مختلفة جدا، و متفاوتة جزما كذلك الناس، فإنهم في الأخلاق و الصفات متفاوتون كتفاوت المعادن، فلا دلالة في هذا الخبر على كون السعادة و الشقاوة ذاتيتين؛ بمعنى: العلة التامة كما هو قضية الجبر، و لو سلّمنا دلالة الخبر على كونهما ذاتيتين، فالمتيقن منه ذاتيتهما بنحو الاقتضاء لا العلية التامة. و من المعلوم: أن مجرد الاقتضاء لا يثبت الجبر.

=============

فتلخص مما ذكرنا: عدم لزوم الجبر من ناحية ذاتية السعادة و الشقاوة.

و أما من ناحية الإرادة: فلا يلزم الجبر أيضا؛ لأن المراد بها هو علمه باشتمال فعل العبد الصادر عنه باختياره على المصلحة؛ لا مطلقا و لو صدر عنه قهرا، و من المعلوم: أنّ هذه الإرادة لا توجب الجبر.

و الحق في المقام أن يقال: إن الإرادة صفة كمال أودعها الله تعالى في الإنسان، و بهذه الصفة يتحقق الاختيار المعتبر في التكليف، فيحسن الثواب و العقاب. و أما كون إرادة العبد مسبوقة بإرادة الله تعالى فهو باطل؛ و ذلك لعدم تعلق الإرادة من الله تعالى بفعل العبد و لا بالترك، و إنما يكون من جانب الله هو الأمر و النهي.

فما يظهر منه من: كون الكفر و العصيان و الطاعة و الإيمان إجباريا فاسد؛ لأنه تعالى لا يريد تكوينا وجود شيء منها حتى يكون العبد مجبورا بها، و علمه تعالى بأن العبد يختار كذا لا يجبره عليه إذ العلم ليس علة للمعلوم، بل تابع له متأخر عنه رتبة. و من البديهي: أنّنا نجد في أنفسنا الاختيار، و أن حركاتنا ليست كحركة يد المرتعش.

(1) أي: قبل تقريب هذا الوهم ينبغي بيان أمرين:

الأول: كان الأولى على المصنف أن يذكر هذا الوهم قبل شبهة الجبر، لأن الوهم المزبور إشكال على العدلية القائلين باتحاد الطلب و الإرادة، و دليل على المغايرة.

الأمر الثاني: بيان ما يتولد منه هذا الوهم فنقول: إن الوهم المزبور تولد من لازم كلام العدلية في الردّ على الأشاعرة القائلين بالكلام النفسي؛ الذي يعبر عنه بالخبر النفسي في الأخبار، و بالطلب النفسي في الإنشاء؛ حيث جعلوه مدلولا للكلام اللفظي، فلازم كلام العدلية: بأنه ليس في النفس غير الإرادة ما يكون مدلولا للكلام اللفظي هو كون الإرادة مدلولة للطلب الإنشائي في الإنشاءات، و العلم في الإخبارات.

(2) نقول في تقريب الوهم الذي هو من أدلة القائلين بمغايرة الطلب و الإرادة.

ص: 318

لزم - بناء على أن تكون عين الطلب - كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الإلهية هو العلم، و هو بمكان من البطلان.

لكنك غفلت (1) عن أن اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح إنما يكون خارجا لا مفهوما، و قد عرفت: أن المنشأ ليس إلاّ المفهوم (2) لا الطلب الخارجي، و لا غرو أصلا و حاصل التوهم: أنه على تقدير اتحاد الطلب و الإرادة يلزم أن يكون المنشأ بصيغة الطلب في الخطابات الشرعية هو العلم بالصلاح، إذ المفروض: كون الإرادة التشريعية هو هذا العلم، و ذلك بديهي البطلان؛ لأن العلم غير قابل للإنشاء بل يحصل بأسبابه الخاصة؛ إذ لا معنى لتعلق إنشاء الطلب بما هو حاصل في الخارج.

=============

و بعبارة أخرى: إنه لو كانت الإرادة التشريعية عبارة عن العلم بالصلاح، و كانت عين الطلب لكان المنشأ بالأمر و النهي هو العلم و هو باطل؛ لأن العلم من الصفات الحقيقية التي لا يتعلق بها الإنشاء. و أما بناء على مغايرة الطلب و الإرادة: فلا يلزم هذا الإشكال أصلا، حيث إن المنشأ حينئذ هو مفهوم الطلب لا الإرادة التشريعية التي هي العلم بالصلاح؛ حتى يلزم أن يكون المنشأ عين العلم بالصلاح كما هو قضية قياس المساواة.

(1) هذا دفع للتوهم المذكور: توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن العلم بالصلاح و الإرادة التشريعية متحدان خارجا، و مختلفان مفهوما، و الإرادة التشريعية بمفهومها قابلة للإنشاء، و العلم بمفهومه لا يقبله.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المنشأ بالصيغة هو مفهوم الطلب لا الطلب الخارجي؛ الذي هو عين الإرادة التشريعية التي هي العلم بالصلاح، فلا يلزم إنشاء العلم بالمصلحة الذي هو من الموجودات الخارجية، إذ موطن اتحاد الإرادة التشريعية مع العلم بالصلاح هو الوجود الخارجي لا المفهوم؛ لأن صفاته «جل و علا» عين ذاته خارجا، فالوحدة وجودية لا مفهومية، و الإنشاء متعلق بالمفهوم لا بالوجود حتى يلزم إنشاء الوجود الخارجي فيقال: إنه بديهي البطلان، فلا تنافي بين صحة إنشاء الطلب بالصيغة، و بين اتحاد الطلب و الإرادة.

(2) أي: مفهوم الطلب لا الطلب الخارجي، و لا يلزم من إنشاء مفهوم الطلب إنشاء العلم بالمصلحة؛ الذي هو من الموجودات الحقيقية.

نعم؛ حكي عن كثير من المعتزلة القول باتحاد الإرادة و العلم مفهوما، و لكنه في كمال السخافة.

ص: 319

في اتحاد الإرادة و العلم عينا و خارجا، بل لا محيص عنه في جميع صفاته تعالى؛ لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة (1)، قال أمير المؤمنين «صلوات الله و سلامه عليه»:

«و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الاخلاص له نفي الصفات عنه» (2).

=============

(1) أي: صفاته تعالى عين ذاته المقدسة؛ كما دل عليه البرهان القطعي، و تواترت بذلك الروايات، و كفاك ما قاله أمير المؤمنين «عليه السلام». و غرضه من نقل كلام الإمام «عليه السلام» هو الاستشهاد به على اتحاد صفاته تعالى و عينيّتها لذاته المقدسة.

توضيحه: على ما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 432»: أن الإخلاص له هو تجريده تعالى عن الزوائد و الثواني ليكون بسيطا حقيقيا، و إلاّ لم يكن بسيطا كذلك، و بساطته الحقيقية تتوقف على نفي الصفات عنه؛ إذ بدونه يصير مقرونا بشيء أي: صفة زائدة على ذاته، و من قرنه بغيره فقد جعل له ثانيا في الوجود و لازمه: تركبه من جزءين، و هذا ينافي بساطته الحقيقية، إذ لو كان في الوجود غيره سواء كان صفة أم غيرها لم يكن بسيطا حقيقيا، فالتوحيد المطلق هو: أن لا يعتبر معه تعالى غيره مطلقا، هذا في الصفات المغايرة لذاته تعالى في الوجود.

و أما الصفات غير المغايرة لها وجودا بأن تكون عينها بحيث يكون الذات بذاته مصداقا لجميع النعوت الكمالية؛ من دون قيام أمر زائد بذاته الأحدية «جل و علا»، فهي غير منفية عنه تعالى، لقوله «عليه السلام»: «ليس لصفته حد محدود»، فلا منافاة بين هذه الجملة: أعني: «ليس لصفته حد محدود»، و بين قوله «عليه السلام»: «و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه»، و قوله «عليه السلام»: «فمن وصفه قرنه، و من قرنه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزاه»؛ و ذلك لأن ما يثبت الصفات له تعالى ناظر إلى الصفات التي هي عين ذاته وجودا، و ما ينفي الصفات عنه بحيث صار نفيها مدار التوحيد ناظر إلى الصفات التي تكون مغايرة لذاته وجودا، و موجبة للتركب، كصفاتنا، حيث إنها فينا زائدة على ذواتنا و قائمة بنا نحو قيام.

(2) شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 67، باب الخطب و الأوامر.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

أما خلاصة البحث ففي أمور تالية:

1 - معنى لفظ الأمر هو: الطلب الإنشائي لا الطلب الحقيقي الذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي.

فلو أبيت إلاّ عن كون لفظ الأمر موضوعا للطلب المطلق؛ فلا أقل من كونه منصرفا

ص: 320

إلى الإنشائي منه، كما هو الحال في لفظ الطلب أيضا؛ حيث إن المنصرف منه هو الطلب الإنشائي؛ لكثرة استعماله فيه، كما انعكس الأمر في لفظ الإرادة؛ فإن المنصرف عنها عند إطلاقها الإرادة الحقيقية.

2 - الخلاف بين الأشاعرة و العدلية: فقد قال الأول بتغاير الطلب و الإرادة، و الثاني:

باتحادهما، و ما محط كلام الأشاعرة أن للمتكلم بالكلام اللفظي الكلام النفسي؛ بمعنى:

أن هناك صفة قائمة بنفسه سوى العلم و الإرادة و تسمى بالكلام النفسي، و يسمى الكلام النفسي طلبا حقيقيا في خصوص الأوامر، فيكون الطلب الحقيقي مغايرا للإرادة.

و قال العدلية: إنه ليس هناك صفة قائمة بالنفس في قبال العلم و الإرادة؛ حتى تسمى بالطلب الحقيقي في مورد الأوامر، فالإرادة الحقيقية هي الطلب الحقيقي لا غيره، فالحق:

أن الطلب الحقيقي هي عين الإرادة الحقيقية، و مفهومه متحد مع مفهومها، و الطلب الإنشائي: هو عين الإرادة الإنشائية. و الدليل على ذلك هو: الوجدان؛ فإن الإنسان لا يجد صفة أخرى قائمة بالنفس غير الإرادة.

و أما استدلال الأشاعرة على المغايرة بالأوامر الامتحانية و الاعتذارية؛ بتقريب: أن هذه الأوامر كالأوامر الجدية في الحاجة إلى وجود منشأ في نفس المتكلم و هو الإرادة في الأوامر الجدية، و حيث لا إرادة في نفسه لتلك الأوامر لتكون هي المنشأ لأمره فلا بد من وجود صفة أخرى في نفسه و هي المنشأ للأمر؛ و تسمى هذه الصفة بالطلب النفسي الحقيقي و هو سوى الإرادة، فيكون الطلب مغايرا للإرادة لوجوده دونها؛ فلا يخلو عن خلل و إشكال.

و حاصل الإشكال على هذا الاستدلال هو: فقدان الطلب الحقيقي و الإرادة الحقيقية معا في الأوامر الامتحانية و الاعتذارية؛ لا أن الطلب موجود دون الإرادة حتى يقال بتغايرهما.

3 - «دفع وهم»: تقريب الوهم: أن لازم حصر الأصحاب الكلام في اللفظي، و نفي صفة أخرى قائمة بالنفس غير الصفات المشهورة حتى تسمى بالكلام النفسي هو: كون الصفات المشهورة مدلولات للكلام اللفظي، و هو خلاف التحقيق، أو كونه بلا معنى و هو باطل قطعا، فلا بد من الالتزام بالكلام النفسي حتى يكون مدلولا للكلام اللفظي كما يقول به الأشاعرة.

و حاصل الدفع: أنه لا يلزم من إنكار الكلام النفسي كون هذه الصفات المشهورة

ص: 321

مدلولات للكلام اللفظي، أو كونه بلا معنى؛ فإن الكلام اللفظي حاك عن ثبوت النسبة أو نفيها في الجمل الخبرية، و عن المعاني الإنشائية في الجمل الإنشائية.

4 - «إشكال و دفع»: و هذا الإشكال هو من أدلة الاشاعرة على المغايرة؛ بتقريب: أنه بناء على اتحاد الطلب و الإرادة يلزم أحد المحذورين في باب تكليف الكفار و العصاة بالإيمان و العمل بالأركان.

المحذور الأول: أن يكون التكليف صوريا إذا لم تكن هناك إرادة و هو باطل؛ بدليل صحة عقاب الكفار و العصاة.

المحذور الثاني: هو لزوم تخلّف المراد عن الإرادة على فرض وجود الإرادة، و كون التكليف حقيقيا و جديّا؛ و هو أيضا باطل لاستحالة تخلف الإرادة عن المراد.

و حاصل الدفع: إن للّه إرادة تكوينية و تشريعية، و المحال هو تخلّف الأولى عن المراد دون الثانية، ثم المراد بالإرادة في باب التكليف هي الإرادة التشريعية التي تتخلف عن المراد؛ لأنها عبارة عن إرادته تعالى صدور الفعل عن العبد بإرادته و اختياره، و لا ضير في تخلفها عن المراد. ثم الطلب و الإرادة الحقيقيان موجودان في تكاليف الكفار و العصاة و لا يلزم شيء من المحذورين.

5 - شبهة الجبر: بتقريب: أن التكاليف الشرعية مشروطة بشرائط منها: القدرة و الاختيار لقبح التكليف بغير المقدور، فحينئذ إذا تعلقت إرادته تعالى التكوينية بإيمان شخص و إطاعته، أو بكفره و عصيانه امتنع تعلق التكليف بهذه الأمور؛ لصيرورتها غير مقدورة للعبد بعد تعلق إرادته تعالى بها؛ الموجبة لضرورية وجودها، فلا يبقى حينئذ اختيار للعبد يوجب صحة التكليف بها. و على هذا: فيكون العبد مضطرا إلى اختيار الكفر و العصيان، و الإطاعة و الإيمان.

و حاصل الجواب: أن إرادته تعالى تتعلق بفعل العبد لكن لا مطلقا، بل بما له من المبادئ الاختيارية؛ الموجبة لكون فعله اختياريا و صادرا عنه عن إرادة و اختيار.

6 - «إن قلت: إن الكفر و العصيان من الكافر و العاصي و لو كانا مسبوقين بإرادتهما...» إلخ. الغرض من هذا السؤال هو: عدم اندفاع شبهة الجبر بما تقدم من الجواب؛ بتقريب: أن الكفر من الكافر، و العصيان من العاصي - و إن كانا بإرادتهما - إلاّ إن إرادتهما منتهية إلى إرادة الله التكوينية؛ لأن إرادة العبد باعتبار كونها من الممكنات مستندة إلى إرادة الواجب تعالى؛ لئلا يلزم التسلسل، فيقبح حينئذ التكليف

ص: 322

بالإيمان و غيره؛ لكونه تكليفا بما هو خارج عن الاختيار، كما يقبح العقاب على الكفر و العصيان؛ لكونه بما لا يكون بالاختيار فلم يندفع الجبر.

و حاصل الجواب: أن العبد باعتبار كونه مركبا من الماهية و الوجود، و المجعول من الله هو الوجود دون الماهية، فما يترتب على ماهيته من الآثار ليس من الله، و لا يصح أن ينسب إليه تعالى.

فحينئذ اختيار الكفر من الكافر و العصيان من العاصي مستند إلى شقاوتهما الذاتية، و الذاتي لا يعلل، فلا يقال: لم جعل الله السعيد سعيدا، و الشقي شقيا، فإن الله تعالى لم يجعل السعيد سعيدا و الشقي شقيا؛ بل أوجدهما، ثم العقاب من لوازم ما هو الذاتي المترتب على الكفر و العصيان؛ الناشئين من الخبث الذاتي ترتب المعلول على العلة. و ليس العقاب عن استحقاق حتى يقال: لا استحقاق مع عدم الاختيار. فعلى هذا لا يلزم الجبر المشهور المنسوب إلى الأشاعرة؛ و هو إن أفعال العباد كلها من الله، و العباد بمنزلة آلات لها؛ بل الأفعال من العباد و بإرادتهم و اختيارهم، فالمصنف أجاب عن شبهة الجبر بما يؤدي إلى الجبر.

7 - «وهم و دفع»: تقريب الوهم: أنه إذا كانت الإرادة بمعنى: العلم بالصلاح، و قلنا باتحادها مع الطلب؛ كان لازم ذلك أن يكون العلم قابلا للإنشاء كالطلب، مع إنه لا يقبل الإنشاء؛ بل يحصل بأسبابه الخاصة، فلا يكون العلم بالصلاح عين الطلب؛ لئلا يلزم الإشكال المذكور.

و حاصل الدفع: أن العلم و الإرادة متحدان خارجا، و مختلفان مفهوما، و الإرادة بمفهومها قابلة للإنشاء، و العلم بمفهومه لا يقبل الإنشاء، فلا يلزم الإشكال المذكور على القول باتحاد الطلب و الإرادة.

8 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - رأيه في معنى لفظ الأمر: أن معناه هو الطلب الإنشائي لا الطلب الحقيقي.

2 - رأيه في الخلاف بين الأشاعرة و العدلية: أنه موافق للعدلية فيقول: باتحاد الطلب و الإرادة بمعنى: أن الطلب الحقيقي هو عين الإرادة الحقيقية، و الطلب الإنشائي هو عين الإرادة الإنشائية، و مفهوم الطلب متحد مع مفهوم الإرادة.

3 - رأيه في الجبر: أن الظاهر من كلامه هو الجبر الأخلاقي، بمعنى: أن السعيد سعيد بالذات، و الشقي شقي كذلك؛ إلاّ أن يقال: إن قوله: «قلم اينجا رسيد سر بشكست»

ص: 323

إشارة إلى العقيدة بعدم الجبر أصلا؛ بل الإنسان مختار و مخير، و ليس مضطرا و مسيّرا؛ للفرق الواضح بين صدور الأفعال من الإنسان، و بين حركة يد المرتعش. و الله أعلم بضمائر عباده. انتهى الكلام في خلاصة البحث.

ص: 324

الفصل الثاني فيما يتعلق بصيغة الأمر و فيه مباحث:

المبحث الأول (1): أنه ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها

اشارة

، و قد عدّ منها: الترجي، و التمني، و التهديد، و الإنذار، و الإهانة، و الاحتقار، و التعجيز، و التسخير إلى غير ذلك.

=============

صيغة الأمر

(1) المبحث الأول في صيغة الأمر، و فيها تسعة مباحث، و خاتمة، و يذكر المصنف - في المبحث الأول - ما لها من المعاني.

و في المبحث الثاني: يقع الكلام في بيان ما هو الموضوع له لصيغة الأمر، فالمبحث الثاني حينئذ ليس تكرارا للمبحث الأول؛ لأن المبحث الأول: ناظر إلى ما استعملت فيه صيغة الأمر من المعاني. و المبحث الثاني: ناظر إلى بيان ما هو الموضوع له لها من هذه المعاني. فنقول: إنه قد ذكرت لها معان عديدة، و قد أنهاها بعض إلى نيف و عشرين.

و لكن نكتفي بذكر ما ذكره الملاّ صالح في حاشية المعالم حيث قال: صيغة افعل تستعمل في خمسة عشر معنى:

1 - الوجوب: نحو: أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ . البقرة 110.

2 - الندب: نحو: فَكٰاتِبُوهُمْ النور: 33، فإن الكتابة مندوبة إذ ليس في تركها عقاب مع ترتب الثواب عليها.

3 - الإباحة: نحو: كُلُوا وَ اِشْرَبُوا. البقرة: 60.

4 - التهديد: نحو: اِعْمَلُوا مٰا شِئْتُمْ . فصلت: 40. و يقرب منه الإنذار نحو:

قُلْ تَمَتَّعُوا إبراهيم: 30، و بعضهم جعله قسما على حدة.

5 - الإرشاد: نحو: وَ اِسْتَشْهِدُوا. البقرة: 282، فإن الله تعالى أرشد العباد عند المداينة إلى الاستشهاد رعاية لمصلحتهم، قيل: الفرق بينه و بين الندب: أن الندب لثواب الآخرة، و الاستشهاد لمنافع الدنيا؛ إذ لا ينقص الثواب بترك الإشهاد في المداينة، و لا يزيد بفعله.

ص: 325

و هذا (1) كما ترى، ضرورة: أن الصيغة ما استعملت في واحد منها، بل لم 6 - الامتنان: نحو: كُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اَللّٰهُ .

=============

المائدة: 88، بالأمر يدل على الامتنان عليهم.

7 - الإكرام للمأمور: نحو: اُدْخُلُوهٰا بِسَلاٰمٍ آمِنِينَ . الحجر: 46، فإن ضم السلامة و الأمن عند الأمر بدخول الجنة قرينة على الإكرام.

8 - التسخير: نحو: كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ . البقرة: 65، لأن مخاطبتهم بذلك في معرض تذليلهم.

9 - التعجيز: نحو: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ . البقرة: 23 عجّزهم بطلب المعارضة عن الإتيان بمثله.

10 - الإهانة: نحو: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْكَرِيمُ . الدخان: 49.

11 - التسوية: نحو: فَاصْبِرُوا أَوْ لاٰ تَصْبِرُوا. الطور: 16، فإنه أريد التسوية في عدم النفع بين الصبر و عدمه؛ إذ لا يختلف حالهم بالنسبة إلى الصبر و عدمه.

12 - الدعاء: نحو اللهم اغفر لي.

13 - التمني أو الترجي: نحو:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجل *** بصبح و ما الا صباح منك بأمثل

فإن الساهر لمّا عدّ الليل الطويل مستحيل الانجلاء؛ يتمنى انجلاءه، أو عدّه ممكن الانجلاء يترجى انجلاءه، فإن التمني يستعمل في الممتنع، و الترجي في الممكن.

14 - الاحتقار: نحو: أَلْقُوا مٰا أَنْتُمْ مُلْقُونَ . يونس: 80، بقرينة مقابلة سحرهم بالمعجزة.

15 - التكوين: و هو الإيجاد نحو: كُنْ فَيَكُونُ . الأنعام: 73. انتهى مع تصرف منا.

(1) أي: هذا الذي ذكره بعض علماء الأصول من أن لصيغة الأمر معان عديدة قد استعملت فيها «كما ترى» غير مستقيم، بل واضح البطلان؛ «ضرورة: أن الصيغة ما استعملت في واحد منها» لا على نحو الحقيقة و لا على نحو المجاز؛ بأن يكون معنى الصيغة في اِعْمَلُوا مٰا شِئْتُمْ مثلا التهديد.

و حاصل الكلام في المقام: أن الصيغة - على ما هو مختار المصنف - لم تستعمل في شيء من تلك المعاني؛ بل استعملت في إنشاء الطلب. ثم يقول المصنف في توجيه ما ذكره بعض علماء الأصول: من أن للصيغة معان عديدة قد استعملت فيها و أن هذه

ص: 326

تستعمل إلاّ في إنشاء الطلب، إلاّ إن الداعي إلى ذلك كما يكون تارة: هو البعث و التحريك نحو المطلوب الواقعي، يكون أخرى: أحد هذه الأمور، كما لا يخفى.

قصارى (1) ما يمكن أن يدعى: أن تكون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب؛ فيما إذا المعاني من قبيل الدواعي؛ بمعنى: أن الصيغة قد استعملت في إنشاء الطلب في جميع الموارد المذكورة، و لكن الداعي للإنشاء هي تلك المعاني؛ بمعنى: أن الداعي إلى الانشاء «تارة»: يكون هو البعث و التحريك نحو المطلوب الواقعي و هو الذي ينصرف إليه إطلاق الصيغة على ما عرفت.

=============

«و أخرى»: يكون الداعي أحد الأمور المتقدمة، و عليه: فالصيغة لم تستعمل إلاّ في معنى واحد و هو إنشاء الطلب، و تلك المعاني دواع للإنشاء و أجنبية عن مدلول الصيغة، فلا تستعمل الصيغة في التهديد و التعجيز و غيرهما أصلا. نعم؛ ينشأ الطلب بداعي التهديد أو التعجيز أو الترجي أو التمني أو الإهانة أو غيرها من المعاني المتقدمة، فادعاء أن للصيغة معان قد استعملت فيها واضح البطلان.

فصيغة الأمر وضعت للطلب الإنشائي، و تستعمل فيه دائما بدواع مختلفة متعددة، و من الواضح: أن اختلاف الدواعي لا يوجب تعددا في مدلول صيغة الأمر، و لا مجازا فيها.

(1) أي: قد عرفت: أن معنى الصيغة هو إنشاء الطلب فقط، و أما سائر المعاني فهي دواعي له و لا يختلف باختلاف الدواعي، نعم؛ غاية ما يمكن أن يقال في هذا المقام: إن الصيغة قد وضعت لإنشاء الطلب لكن لا مطلقا حتى يكون استعمالها في جميع المعاني المذكورة على نحو الحقيقة؛ بل فيما إذا كان استعمالها بداعي البعث و التحريك نحو المطلوب؛ لا ما إذا استعملت بداع آخر من الدواعي المذكورة، و لازم ذلك: أن يكون إنشاء الطلب بالصيغة لأجل البعث و التحريك للمكلف نحو المطلوب على نحو الحقيقة، و أن يكون إنشاؤه بها لأجل التهديد و الإنذار و غيرهما على نحو المجاز، و هذا غير استعمالها في التهديد و الإنذار و غيرهما كاستعمال اللفظ في المعنى.

و كيف كان؛ فإن قيل بوضعها لإنشاء الطلب بداعي البعث و التحريك على نحو يكون الداعي المذكور قيدا للموضوع له؛ بحيث لو استعملت في إنشاء الطلب لا بداعي البعث و التحريك بل بداعي التهديد و التحقير و غيرهما تكون مجازا، لأنها استعملت حينئذ في غير الموضوع له من باب الوضع للمقيد الخاص و الاستعمال في غيره.

إلاّ أن يقال: إنه قد مرّ في باب الوضع: امتناع دخل ما هو من شئون الاستعمال في الموضوع له؛ بحيث يكون المعنى في مقام الوضع مقيدا به، و من البديهي: أن الغرض

ص: 327

كان بداعي البعث و التحريك، لا بداع آخر منها، فيكون إنشاء الطلب بها بعثا حقيقة، و إنشاؤه بها تهديدا مجازا، و هذا غير كونها مستعملة في التهديد و غيره، فلا تغفل.

=============

الداعي إلى استعماله الصيغة في إنشاء الطلب يكون من شئون الاستعمال، فيمتنع دخله في المعنى الموضوع له، بل المعنى واحد مطلقا سواء كان الداعي هو البعث أم التهديد أم غيرهما، و عليه: فيكون استعمال الصيغة في إنشاء الطلب بأيّ داع كان على نحو الحقيقة.

نعم؛ لا بأس بدعوى ظهور الإنشاء في كونه بداعي البعث و التحريك؛ بحيث يحمل اللفظ عليه عند التجرد عن القرينة الدالة على أن الإنشاء بداع آخر.

فالمتحصل مما ذكرناه: أن الحق عند المصنف هو: كون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب و استعمالها فيه حقيقة و إن لم يكن بداعي البعث و التحريك. و أما على ما ذكره بعض علماء الأصول من أن لصيغة الأمر تلك المعاني قد استعملت فيها فهناك احتمالات، بل أقوال:

1 - أن يكون استعمال الصيغة على نحو الحقيقة في الكل.

2 - أن يكون استعمالها على نحو المجاز كذلك.

3 - أن يكون على نحو الاشتراك المعنوي في الكل.

4 - أن يكون على نحو الاشتراك اللفظي كذلك.

5 - أن يكون استعمالها على نحو الاشتراك المعنوي و اللفظي في البعض الآخر.

6 - أن يكون استعمالها على نحو الحقيقة في البعض و المجاز في البعض الآخر.

و لكن الظاهر من الذين ذكروا هذه المعاني لصيغة الأمر: أنها ليست موضوعة لهذه المعاني لغة؛ و ذلك لنزاعهم الآتي في المبحث الثاني حيث قالوا: هل صيغة الأمر «حقيقة في الوجوب أو في الندب أو فيهما، أو في المشترك بينهما وجوه: بل أقوال»، فإن الظاهر من هذا النزاع هو: المفروغية من عدم كونها حقيقة في التمني و الترجي و التهديد و أخواتها المتقدمة، و إنما هي مستعملة فيها مجازا، فهي حقيقة في واحد من المعاني، و مجازا في البواقي.

إلاّ إن المصنف كما عرفت أنكر استعمالها فيها رأسا فلم تستعمل فيها و لو مجازا حيث قال: «هذا كما ترى»؛ أي: استعمال الصيغة في هذه المعاني كما ترى غير مستقيم. هذا تمام الكلام في صيغة الأمر.

و أما حال سائر الصيغ الإنشائية سواء كانت طلبية أم كانت غيرها كحالها، لأن

ص: 328

إيقاظ: لا يخفى: أن ما ذكرناه في صيغة الأمر جار في سائر الصيغ الإنشائية.

فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام بصيغها تارة: هو ثبوت هذه الصفات حقيقة (1)؛ يكون الداعي غيرها (2) أخرى، فلا وجه (3) للالتزام معانيها الحقيقية واحدة، و لكن الدواعي متعددة، لأنها لا تستعمل إلاّ في إنشاء مفاهيمها و مداليلها، مثلا: لفظ «ليت» و «لعل» و غيرهما تستعمل في إنشاء التمني و الترجي؛ و لكن بدواع متعددة بمعنى: أنه قد يكون الداعي إلى إنشائها نفس مفاهيمها، و قد يكون الداعي شيئا آخر، هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «لا يخفى: أن ما ذكرناه في صيغة الأمر جار في سائر الصيغ» أي: أن ما ذكرناه في صيغة الأمر - من كونها مستعملة في إنشاء الطلب بدواع مختلفة على نحو الحقيقة - يجري في سائر الصيغ الإنشائية، من التمني و الترجي و غيرهما حيث إنها أيضا تستعمل في إنشاء هذه المفاهيم بدواع مختلفة، و لا يختلف المعنى باختلاف الدواعي؛ مثلا: أدوات الاستفهام تستعمل في إنشاء مفهوم الاستفهام تارة: بداعي التعلم و إزالة الجهل، و أخرى: بداعي التوبيخ، و ثالثة:

=============

بداع آخر، و كذا ساير الصيغ الإنشائية.

فالمتحصل: أن جميع الصيغ الإنشائية لا تستعمل إلاّ في معنى واحد و هو الإنشاء، و الاختلاف إنما يكون في دواعي الإنشاء، و ذلك لا يوجب اختلافا في المدلول.

(1) أي: مثل إنشاء الطلب بصيغة الأمر بداعي الطلب الحقيقي.

(2) أي: غير تلك الصفات كإنشاء الاستفهام بداعي التوبيخ أو التقرير أو غيرهما.

(3) أي: فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغ المعاني المذكورة عن معانيها الموضوعة لها.

و حاصل الكلام في المقام: أنه بعد ما تقدم - من أن الصيغ الإنشائية تستعمل دائما في إنشاء مفاهيمها بدواع مختلفة؛ مع كون الاستعمال على وجه الحقيقة - يظهر عدم الوجه؛ لما قيل: من انسلاخ صيغ الترجي و الاستفهام و نحوهما مما يقع في كلامه تعالى عن معانيها من التمني و غيره؛ مما لازمه العجز كما في التمني و الترجي، أو الجهل كما في الاستفهام؛ و ذلك: لأن المستحيل في حقه تعالى هو الترجي و الاستفهام الحقيقيان، لا إنشائهما بداع آخر غير داعي ثبوتهما، و ما ذكروه من الانسلاخ مبني على استعمال الصيغ في نفس الصفات المزبورة؛ من التمني و أخواته.

و أمّا بناء على استعمالها في الإنشاء - كما ذكرنا - فلا وجه للالتزام بالانسلاخ أصلا؛ لأن إنشاء هذه المفاهيم إذا كان بدواع أخر غير التمني و الترجي الواقعيين لا يضر و لا

ص: 329

بانسلاخ صيغها عنها، و استعمالها في غيرها إذا وقعت في كلامه تعالى؛ لاستحالة (1) مثل هذه المعاني في حقه «تبارك و تعالى» مما لازمه العجز أو الجهل، و أنه لا وجه له، فإن (2) المستحيل إنما هو الحقيقي منها لا الإنشائي الإيقاعي؛ الذي يكون بمجرد قصد حصوله بالصيغة كما عرفت.

ففي كلامه (3) تعالى قد استعملت في معانيها الايقاعية الإنشائية أيضا؛ لا لإظهار يقدح في حق الباري تعالى؛ فإن المحال في حقه تعالى هو التمني الواقعي الموجب لعجزه تعالى. و كذا الاستفهام الحقيقي المستلزم للجهل لا الإنشائي إذا كان بداع آخر كالمحبوبية و التوبيخ مثل: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ

=============

(1)، و نحو: أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هٰذٰا بِآلِهَتِنٰا (2).

فتحصل مما اختاره المصنف: إن ذكر المعاني الكثيرة لأدوات الاستفهام في غير محله، كما ذكر في المغني أن لهمزة الاستفهام ثمانية معان؛ بل الحق أن لها معنى واحد و هو إنشاء الاستفهام فقط، و لكن الدواعي عليه متعددة.

(1) هذا تعليل للالتزام بالانسلاخ. و بيان ذلك: أن التمني هو طلب محال أو ممكن لا طمع في وقوعه، و الترجي هو ارتقاب شيء لا وثوق بحصوله، و الاستفهام هو طلب العلم و حضور الشيء في الذهن.

و من البديهي: أن التمني مستلزم للعجز، و الترجي و الاستفهام مستلزمان للجهل، فجميع اللوازم محال في حقه تعالى.

(2) أي: هذا ردّ للتعليل المذكور.

و حاصل الردّ: إنه ليس هناك سبب للالتزام بالانسلاخ، لأن علة الانسلاخ - و هي الاستحالة - مفقودة؛ و ذلك لأن المستحيل في حقه تعالى هو الاستفهام و التمني و الترجي الحقيقية؛ حيث إنها مستلزمة للعجز أو الجهل المستحيلين في حقه تعالى دون إنشائها.

و المفروض: أن صيغها - كما تقدم - لا تستعمل في نفس تلك الصفات حتى تلزم الاستحالة المزبورة؛ بل تستعمل في إنشائها، و هو لا يستلزم محذورا؛ لأن إنشاءها ليس إلاّ إيجاد النسب الخاصة؛ كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 438».

(3) هذه نتيجة الردّ على القول بالانسلاخ و ملخصه: أن صيغ التمني و أخواته قد استعملت في كلامه تعالى في إنشاء مفاهيمها كاستعمالها فيه في كلامنا، و الفرق: أن

ص: 330


1- التوبة: 122.
2- الأنبياء: 62.

ثبوتها حقيقة، بل لأمر آخر حسبما يقتضيه الحال من إظهار المحبة (1)، أو الإنكار (2)، أو التقرير (3) إلى غير ذلك (4).

و منه (5) ظهر: إن ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضا.

=============

الداعي في غيره تعالى يمكن أن يكون إظهار ثبوت هذه الصفات حقيقة، و لكن في كلامه تعالى لا يستعمل لإظهار ثبوتها حقيقة؛ بل يكون الاستعمال لأمر آخر.

(1) كقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * عقيب الأمر بالإيمان؛ فإن المقام يناسب محبوبية ما يقع عقيب «لعل».

(2) كقوله تعالى: أَ فَأَصْفٰاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ . الإسراء: 40. و قوله تعالى:

أَ تَعْبُدُونَ مٰا تَنْحِتُونَ . الصافات: 95، فإن المقام يناسب كون إنشاء مفهوم الاستفهام بداعي الإنكار و التوبيخ.

(3) أي: كقوله تعالى: أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) فإن المقصود من التقرير هو:

جعل المخاطب مقرّا لكي يأخذه بإقراره، فينزل المتكلم العالم نفسه منزلة المتردد الشاك لكي يتوصل إلى ذلك المقصود.

(4) أي: مثل التهكم كقوله تعالى: أَ صَلاٰتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مٰا يَعْبُدُ آبٰاؤُنٰا. هود:

87. و التعجب كقوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ اَلظِّلَّ . الفرقان: 45.

(5) أي: و مما ذكرناه في الإيقاظ من أن للصيغ الإنشائية كصيغة الأمر معنى واحد؛ و هو إنشاء مفاهيمها، و الاختلاف و التعدد إنما هو في الدواعي، و هو لا يوجب تعددا في المعاني، أن للاستفهام معنى واحدا و هو إنشاء مفهومه - ظهر - أن ما ذكره علماء الأدب من أن للاستفهام عدة معان ليس في محله؛ إذ المفروض: أن المستعمل فيه في صيغة الاستفهام واحد و هو الإنشاء، و الاختلاف إنما يكون في الدواعي من الاستفهام الحقيقي و الإنكاري و غيرهما، و هذا الاختلاف لا يوجب استعمال الاستفهام في المعاني المتعددة، فلا ينبغي جعلها من معاني الاستفهام كما هو ظاهر كلمات علماء العربية كما عرفت من المغني.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - أنه قد ذكرت لصيغة الأمر معان عديدة، و ادعي استعمالها فيها، و قد عدّ منها الترجي و التمني و التهديد و غيرها.

ص: 331


1- الانشراح: 1.

المبحث الثاني: في أن الصيغة (1) حقيقة في الوجوب أو في الندب، أو فيهما، أو في المشترك

اشارة

2 - رد المصنف على ما ذكره بعض علماء الأصول من أن لصيغة الأمر معان عديدة قد استعملت فيها، و حاصل الرّد: أن هذا القول - كما ترى - غير مستقيم؛ لأن الصيغة ما استعملت في واحد من تلك المعاني، بل استعملت في إنشاء الطلب فقط. و ما ذكر لها من المعاني ليست معان لها، بل هي الدواعي لإنشاء الطلب، و عليه: فالصيغة لم تستعمل إلاّ في معنى واحد و هو إنشاء الطلب، فادعاء: أن لصيغة الأمر معان عديدة قد استعملت فيها واضح البطلان.

=============

3 - أن لسائر الصيغ الإنشائية كصيغة الأمر معنى واحدا؛ و هو إنشاء مفاهيمها.

نعم؛ تختلف الدواعي، و اختلافها لا يوجب تعددا في معانيها، فحينئذ: لا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عن معانيها إذا وقعت في كلامه تعالى؛ بتقريب: استحالة الاستفهام و التمني و الترجي في حقه تعالى، لاستلزامها الجهل أو العجز فيه تعالى، فلا بد من انسلاخ هذه الصيغ عن معانيها لئلا يلزم المحذور المزبور، لكن لا وجه لهذا الالتزام؛ لأن الاستفهام بداع آخر كالتوبيخ و الإنكار و التقرير لا يستلزم المحذور المذكور حتى نحتاج إلى الانسلاخ، و كذلك التمني و الترجي بداع آخر كالمحبوبية مثلا لا محذور فيه أصلا؛ فلا وجه للالتزام بانسلاخ هذه الصيغ عن معانيها إذا وقعت في كلامه تعالى.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

أن لصيغة الأمر معنى واحدا و هو إنشاء الطلب فقط، و ما ذكر لها من المعاني فهو من قبيل اشتباه الدواعي بالمعاني، و كذلك سائر الصيغ الإنشائية لها معنى واحد و هو إنشاء مفاهيمها بها. و أما ما ذكر لها من المعاني فهو من قبيل الدواعي؛ و قد عرفت غير مرة: إن اختلاف الدواعي لا يوجب تعددا في المعاني. انتهى الكلام في خلاصة البحث.

ما هو الموضوع له لصيغة الأمر؟

(1) لما فرغ المصنف عما استعملت الصيغة فيه من المعاني في المبحث الأول، بدأ في بيان ما هو الموضوع له لصيغة الأمر، فالفرق بين المبحثين: أن الأول ناظر إلى ما استعملت فيه الصيغة، و هذا المبحث ناظر إلى ما هو الموضوع له لها. إلاّ إن لازم كلام

ص: 332

بينهما، وجوه، بل أقوال لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها (1) بلا قرينة.

=============

المصنف هنا هو: استعمال الصيغة في المعاني المذكورة في كلامه، إذ كونها حقيقة في الوجوب أو الندب إنما يصح بعد استعمالها فيهما.

و هذا ينافي ما تقدم منه في المبحث الأول حيث قال: إن الصيغة لم تستعمل في واحد منها، و يمكن الجواب عنه بأحد وجهين: الأول: أن المصنف في هذا المبحث الثاني سلك مسلك المشهور؛ الذين يقولون باستعمالها في هذه المعاني.

الثاني: أن غرض المصنف ليس استعمالها في الوجوب، أو الندب، أو المشترك بينهما، بل غرضه: أنها تستعمل في الوجوب أو الندب أي: بداعي الوجوب أو الندب، و لكنها موضوعة لإنشاء الطلب الالزامي الذي استعملت فيه بداعي الوجوب و الالزام.

ثم المراد بالوجوب هي النسبة الطلبية المصححة لاعتبار الوجوب بمعنى: أن الآمر لما كان مبرزا للإرادة مع عدم الترخيص في الترك يصح اعتبار الوجوب، و إذا اقترن مع الترخيص في الترك لا يصح اعتبار الوجوب، بل يصح اعتبار الندب.

و كيف كان؛ فهنا أقوال، و عمدتها هي الأربعة المذكورة في المتن، و قد ذكر صاحب المعالم «رحمه الله» أقوالا أخر؛ مثل: كونها مشتركة لفظا بين الوجوب و الندب و الإباحة، أو مشتركة معنى بين هذه الثلاثة و الجامع هو الإذن في الفعل، أو مشتركة لفظا بين أربعة و هي الثلاثة السابقة مع التهديد، أو الوقف، فمجموع الأقوال هي ثمانية.

(1) أي: عند استعمال الصيغة بلا قرينة على الوجوب أو الندب، و ظاهر المصنف هو: القول الأول؛ و هو وضعها للوجوب حيث قال: «لا يبعد تبادر الوجوب»، و من البديهي: أن التبادر هنا مثبت للحقيقة؛ لعدم كونه مستندا إلى القرينة، بل يكون مستندا إلى حاق اللفظ الكاشف ذلك عن الوضع و الحقيقة.

نعم؛ ظاهره هو عدم الجزم على ذلك حيث عبر بقوله: «لا يبعد تبادر الوجوب».

و من المحتمل أن يكون وجه عدم جزم المصنف بذلك ما ذكره بعض من: أن الأمر إنما يظهر إرادة المريد للفعل، و إرادته الفعل أعم من الترخيص في الترك المساوق للاستحباب، و عدمه المساوق للوجوب؛ إلاّ إن حمل كلام المصنف على هذا الاحتمال لا يخلو عن الإشكال؛ فإن صيغة الأمر عند الإطلاق تحمل على الوجوب؛ لأن الإرادة المتوجهة إلى الفعل تقتضي وجوده حتما، و الندب محتاج إلى قيد زائد و هو الإذن في الترك، و مع عدم القيد فهي ظاهرة في الوجوب. و قيل: أن تعبيره بقوله: «لا يبعد» إنما هو لضعف القول بأن الصيغة موضوعة للوجوب.

ص: 333

و يؤيده (1): عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب، مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال أو مقال (2).

و كثرة الاستعمال فيه (3) في الكتاب و السنة و غيرهما لا توجب نقله إليه، أو

=============

(1) أي: يؤيد تبادر الوجوب «عدم صحة الاعتذار عن المخالفة...» إلخ، و إنما جعله مؤيدا لا دليلا برأسه لصحة الاعتذار أيضا مع ظهور الصيغة في الوجوب و لو لأجل انصرافها إليه لا لوضعها له، فعدم صحة الاعتذار حينئذ لا تدل على الوضع للوجوب؛ بخلاف التبادر لكونه من علائم الوضع.

(2) و حاصل الكلام في المقام: أن العبد مع اعترافه بعدم وجود القرينة على الندب؛ لا يصح منه الاعتذار لتركه أمر المولى باحتماله الندب، فعدم صحة الاعتذار منه، و احتجاج المولى عليه و مؤاخذته له، و عدم قبوله لعذره كاشف عن وضع الصيغة للوجوب؛ إذ لو كان مشتركا صح منه الاعتذار.

ردّ على القول بكون صيغة الأمر للندب

(3) أي: كثرة الاستعمال في الندب. و هذا الكلام اعتراض على صاحب المعالم، و جواب عما أفاده في المعالم، فلا بد من ذكر ما في المعالم كي يتضح ما أورده المصنف عليه.

قال صاحب المعالم بعد ما اختار أن الأمر حقيقة في الوجوب ما لفظه: (فائدة:

يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة «عليهم السلام»: أن استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعا في عرفهم؛ بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ؛ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي، فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الأمر منهم «عليهم السلام»)(1). انتهى.

و حاصل اعتراض المصنف عليه و جوابه عنه هو: أن كثرة استعمال الأمر في الندب في الكتاب و السنة و غيرهما؛ لا توجب نقل الأمر إلى الندب أو حمله عليه، و هذا الجواب من المصنف عن كلام المعالم يرجع إلى وجوه ثلاثة: - على ما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 442» -.

الوجه الأول: أن مجرد كثرة الاستعمال في المعنى المجازي لا يوجب النقل إليه؛ بحيث يصير المنقول إليه معنى حقيقيا. و لا يوجب الحمل عليه ترجيحا له على المعنى الحقيقي؛ لأن النقل منوط بمهجورية المعنى الحقيقي المنقول عنه، و الحمل على المعنى المجازي المشهوري موقوف على قلة الاستعمال في المعنى الحقيقي، و من المعلوم: عدم

ص: 334


1- معالم الدين، ص 74.

حمله عليه لكثرة استعماله في الوجوب أيضا، مع إن الاستعمال و إن كثر فيه (1) إلاّ إنه كان مع القرينة المصحوبة، و كثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا توجب صيرورته مشهورا فيه؛ ليرجح أو يتوقف على الخلاف في المجاز المشهور (2)، ثبوت شيء من المهجورية و قلة الاستعمال، و ذلك لكثرة الاستعمال في المعنى الحقيقي المانعة عن النقل إلى الندب، و عن الحمل عليه؛ من باب ترجيح المجاز المشهور على المعنى الحقيقي.

=============

الوجه الثاني: ما أشار إليه بقوله: «مع إن الاستعمال و إن كثر فيه...» إلخ.

و حاصله: أن كثرة الاستعمال لا توجب النقل إلى معنى و لا الحمل عليه من باب تقديم المجاز المشهور على الحقيقة؛ إلاّ إذا كان الاستعمال فيه بدون القرينة و ليس المقام كذلك؛ لأن الاستعمال في الندب كان مع القرينة، فليس استعمال اللفظ في الندب من باب النقل، و لا من المجاز المشهور حتى يرجح على الحقيقة فيقدم عليها، أو يتوقف على خلاف.

الوجه الثالث: ما أشار إليه بقوله: «كيف ؟ و قد كثر استعمال العام في الخاص...» إلخ، و حاصله: هو النقض بصيغ العموم كالجمع المعرف باللام، و لفظة كل و جميع و غيرها. توضيحه: أن صيغ العموم تخصص كثيرا بالمخصص المنفصل حتى قيل: «ما من عام إلاّ و قد خص»، و مع ذلك لم ينثلم ظهورها في العموم، و لذا تحمل عليه مع الشك في التخصيص، إلاّ إذا نهضت قرينة على إرادة الخصوص.

و بالجملة: مجرد كثرة الاستعمال في المعنى المجازي لا يمنع عن الحمل على المعنى الحقيقي، إذ لو كان مانعا عنه لكانت كثرة استعمال صيغة العموم في الخصوص مانعة أيضا عن حملها على العموم عند التجرد عن القرينة، و من المسلم: عدم المنع هناك فكذا هنا.

و الحاصل: أن وزان صيغة الأمر من ناحية استعمالها في الندب وزان صيغة العموم من جهة استعمالها في الخصوص.

(1) أي: مع إن استعمال الأمر و إن كثر في الندب؛ إلاّ إن ذلك الاستعمال كان مع القرينة لا بدونها، و من المعلوم: أن كثرة الاستعمال مع القرينة في المعنى المجازي لا توجب صيرورته مشهورا في المعنى المجازي؛ ليرجح المعنى المجازي المشهوري على المعنى الحقيقي، أو يتوقف حتى تقوم القرينة على المراد.

(2) أي: قيل: بترجيح المعنى المجازي المشهوري على المعنى الحقيقي. و قيل: يتوقف حتى تنهض قرينة على المراد.

ص: 335

كيف (1)؟ و قد كثر استعمال العام في الخاص حتى قيل: ما من عام إلاّ و قد خص، و لم ينثلم به (2) ظهوره في العموم؛ بل يحمل عليه (3) ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص.

=============

(1) أي: هذا هو الوجه الثالث من وجوه الجواب عن كلام المعالم، و قد سبق توضيحه فلا حاجة إلى تكراره.

(2) أي: بالاستعمال الكثير. و الضمير في قوله: «ظهوره» يرجع إلى العموم.

(3) أي: بل يحمل العام على العموم ما لم تقم قرينة على أن المراد هو الخصوص.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

أما خلاصة البحث ففي أمور:

1 - الفرق بين المبحثين؛ أن الأول: ناظر إلى ما استعملت فيه صيغة الأمر. و الثاني:

ناظر إلى ما هو الموضوع له لها. و قد عرفت: أن عمدة الأقوال في المسألة هي الأربعة المذكورة في المتن.

2 - الجواب عن كلام المعالم؛ أولا: إن كثرة استعمال الأمر في المعنى المجازي - و هو الندب - لا توجب النقل إلى الندب أو الحمل عليه.

و ثانيا: فكما أن استعمال الأمر في الندب كثير؛ كذلك كثير في الوجوب أيضا.

و ثالثا: إن الاستعمال في الندب و إن كان كثيرا؛ إلاّ إن هذا الاستعمال كان مع القرينة، و كثرة الاستعمال كذلك لا توجب صيرورته مجازا مشهورا؛ حتى يرجح على المعنى الحقيقي، أو يتوقف على خلاف.

3 - رأي المصنف «قدس سره»:

أن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب للتبادر، و عدم صحة الاعتذار عند المخالفة، فيعاقب العبد عندها، و لا يصح اعتذاره باحتمال الندب؛ و ذلك كاشف عن وضعها للوجوب.

ص: 336

المبحث الثالث: هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب و البعث ظاهرة في الوجوب أو لا

اشارة

هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب و البعث (1) - مثل: يغتسل، و يتوضأ و يعيد - ظاهرة في الوجوب أو لا؟ لتعدد المجازات فيها، و ليس الوجوب بأقواها (2) بعد تعذر حملها على معناها من الإخبار، بثبوت النسبة و الحكاية عن

=============

في مدلول الجمل الخبرية الواردة في مقام الطلب

(1) قبل البحث ينبغي بيان ما هو محل النزاع في هذا المبحث فنقول: إنه لا شك في ورود الجمل الخبرية في مقام الطلب و البعث في النصوص الشرعية؛ مثل: يغتسل و يتوضأ و يعيد، إلاّ إنه قد وقع الخلاف في مقامين، قد أخر المصنف أوّلهما عن الثاني على خلاف النظم الطبيعي:

المقام الأول: طبقا للترتيب الطبيعي هو: أن الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب و البعث هل هي مستعملة في معناها الحقيقي أعني: الإخبار بثبوت النسبة، أو عدم ثبوتها و لكن لا بداعي الإخبار و الإعلام؛ بل بداعي البعث و التحريك نحو المطلوب الواقعي، أو هي مستعملة في إنشاء الطلب و لو مجازا؟ «فيه وجهان» بل قولان و قد ذهب المصنف إلى الأول حيث قال: «بل تكون مستعملة فيه إلاّ إنه ليس بداعي الإعلام...» إلخ. و المشهور هو الثاني.

المقام الثاني: أن الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب و البعث، سواء قلنا: باستعمالها فيما هو معناها الحقيقي، أم في إنشاء الطلب و لو مجازا؛ هل هي ظاهرة في الوجوب أم لا؟ ذهب المصنف إلى الأول. حيث قال: «الظاهر الأول، بل تكون أظهر من الصيغة». هذا تمام الكلام في تحرير محل النزاع فنقول: إن القائلين في المقام الأول باستعمالها في إنشاء الطلب و لو مجازا اختلفوا على قولين: قول بظهورها في الوجوب لوجوه؛ أوجهها أن الوجوب أقرب المجازات؛ بعد كون كل من الوجوب و الندب و الإباحة معنى مجازيا لها. و قول:

بالتوقف نظرا إلى أن الأقربية اعتبارية غير موجبة لظهور اللفظ فيه.

«و أما القائلون» في المقام الأول باستعمالها فيما هو معناها الحقيقي، لكن لا بداعي الإخبار و الإعلام، بل بداعي البعث و التحريك فهم أيضا بين من يقول بالتوقف كصاحب البدائع. و بين من يقول: بظهورها في الوجوب كالمصنف، بل يقول: إنها أظهر في الوجوب من الصيغة، فإنه أخبر بوقوع المطلوب في مقام طلبه إظهارا بأنه لا يرضى إلا بوقوعه، فيكون ظهوره في البعث آكد من ظهور الصيغة.

(2) أي: ليس الوجوب بأقوى المجازات. هذا إشارة إلى القول بالتوقف.

ص: 337

وقوعها. الظاهر: الأول (1)، بل تكون أظهر من الصيغة، و لكنه لا يخفى (2): إنه ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام - أي: الطلب - مستعملة في غير معناها، بل تكون مستعملة فيه (3)، إلاّ إنه ليس بداعي الإعلام، بل بداعي البعث بنحو آكد؛ حيث إنه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه، إظهارا بأنه لا يرضى إلاّ بوقوعه، فيكون آكد في البعث من الصيغة؛ كما هو الحال في الصيغ الإنشائية (4)، على ما عرفت؛ من: أنها أبدا تستعمل في معانيها الايقاعية لكن بدواعي أخر، كما مر (5).

لا يقال (6): كيف ؟ و يلزم الكذب كثيرا؛ لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج، تعالى الله و أولياؤه عن ذلك علوا كبيرا.

=============

(1) أي: هو ظهور الجملة في الوجوب؛ و ذلك لانسباق الوجوب من الإطلاق عند تعذّر الحقيقة.

(2) هذا الكلام إشارة إلى المقام الأول؛ إلاّ إنه أخره عن المقام الثاني كما عرفت في بيان محل النزاع.

و كيف كان؛ فالجمل الخبرية الواردة في مقام الطلب لم تستعمل في غير معناها عند المصنف؛ بل استعملت في معناها. غاية الأمر: بداعي البعث لا بداعي الإخبار و الإعلام.

(3) أي: في معناها الحقيقي و هو ثبوت النسبة.

(4) أي: المستعملة لغير داعي معناها الأصلي؛ كالاستفهام المستعمل لغير داعي الفهم مثلا.

و حاصل الكلام في المقام: أنه كما أن الصيغ الانشائية تستعمل دائما في معانيها الإيقاعية لدواع مختلفة؛ غير وجودها الواقعي، كإنشاء الاستفهام لا بداعي طلب العلم و رفع الجهل؛ بل بداعي التقرير أو غيره، و لا يكون في البين مجاز، كذلك الجمل الخبرية فإنها تستعمل في معانيها لا بداعي الإعلام؛ بل بداعي البعث و تحريك المخاطب إلى المطلوب، و إعلان عدم الرضا بتركه من دون لزوم مجاز أصلا.

(5) كما مر تفصيل ذلك في الإيقاظ.

(6) لا يقال: كيف يجوز الإخبار بوقوع المطلوب في مقام الطلب ؟ - كما هو ظاهر قول المصنف «حيث إنه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه» - و الحال أنه يلزم الكذب كثيرا؛ و ذلك «لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك» أي: بالطلب التشريعي في الخارج.

و خلاصة الكلام: أنه بناء على أن الجمل الخبرية الواقعة في مقام الطلب مستعملة في معناها الخبري يلزم الكذب؛ لعدم وقوع المخبر عنه بتلك الجمل في الخارج غالبا؛ لعصيان الفساق غير المبالين بالأحكام الشرعية، فلا بد حينئذ من الالتزام باستعمالها في الإنشاء دون الإخبار لئلا يلزم الكذب.

ص: 338

فإنه يقال (1): إنما يلزم الكذب إذا أتى بها (2) بداعي الإخبار و الإعلام؛ لا لداعي البعث، كيف (3)؟ و إلاّ يلزم الكذب في غالب الكنايات؛ فمثل: «زيد كثير الرماد»، أو «مهزول الفصيل» لا يكون كذبا إذا قيل كناية عن جوده و لو لم يكن له رماد أو فصيل أصلا، و إنما يكون كذبا إذا لم يكن بجواد، فيكون (4) الطلب بالخبر في مقام

=============

(1) حاصل الجواب عن إشكال لزوم الكذب في كلامه تعالى هو: أن مطلق الخبر لا يتصف بالصدق و الكذب أي: ليس في مطلق الخبر احتمال الصدق و الكذب؛ بل في خصوص الخبر الذي قصد به الإعلام، فإذا قصد بالجملة الخبرية البعث دون الإعلام كما هو مفروض البحث؛ لا يتصف الخبر بشيء منهما. و عليه: فلا يلزم من الإخبار بالجمل الخبرية الواقعة في مقام الطلب كذب أصلا.

(2) أي: بالجمل الخبرية.

(3) أي: كيف يكون الإخبار بداعي البعث مستلزما للكذب ؟ و لو كان كذلك لزم الكذب في غالب الكنايات المستعملة لإفادة الملزوم فقط لا اللازم و الملزوم معا؛ إذ يجوز الجمع بين اللازم و الملزوم عند أهل البيان، و هذا هو الفارق بين الكناية و المجاز، حيث لا يجوز الجمع بين الحقيقة و المجاز، فإن المجاز عندهم ملزوم قرينة معاندة للحقيقة بخلاف الكناية. فمثل: «زيد كثير الرماد» أو «زيد جبان الكلب»، أو «زيد مهزول الفصيل» و نحوها لا يكون كذبا إذا قيل: بأن كثرة الرماد، و جبان الكلب، و هزال الفصيل كناية عن جوده كما هو كذلك.

أما المثال الأول: فلأن الجود مستلزم لكثرة الضيوف؛ المستلزمة لكثرة الطبخ؛ المستلزمة لكثرة الرماد.

و أما الثاني: فلأن الجود مستلزم لكثرة الضيوف؛ المستلزمة لكثرة زجر الكلب، المستلزمة لجبنه إذ من لا يمر عليه الضيف كان كلبه جريئا.

و أما الثالث: فلأن الجود مستلزم لكثرة الضيوف؛ المستلزمة لإعطاء لبن الناقة للضيوف؛ المستلزم لهزال فصيلها.

و الحاصل: أن هذه الجمل صادقة و إن لم يكن لزيد رماد أو كلب أو فصيل أصلا؛ و إنما يلزم الكذب إذا لم يكن جوادا. و محل الكلام من هذا القبيل، فحاصل تنظير الجمل الخبرية الواقعة في مقام الطلب بباب الكنايات: إنه كما لا تكون المعاني المكنى بها مثل كثرة الرماد مثلا موردا للصدق و الكذب، مع كون الكلام خبرا في باب الكنايات فكذلك الجمل الخبرية التي قصد بها البعث لا الإعلام لا تتصف بالصدق و الكذب.

(4) الفاء في قوله: «فيكون الطلب...» إلخ للتفريع و الترتيب. أي: فيترتب و يتفرع

ص: 339

التأكيد أبلغ، فإنه (1) مقال بمقتضى الحال هذا مع إنه (2) إذا أتى بها في مقام البيان، فمقدمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب، فإن تلك النكتة (3) إن تكن موجبة على كون الجمل الخبرية إخبارا بداعي الطلب لا بداعي الإعلام: أن يكون الطلب بالجمل الخبرية أبلغ من الطلب بالصيغ الإنشائية، إذ كون المتكلم في مقام الإيجاب يقتضي التأكيد، ثم الجملة الخبرية في مقام الطلب تفيد التأكيد، فتكون مطابقة لمقتضى الحال فتكون أبلغ.

=============

(1) أي قوله: «فإنه مقال...» إلخ بيان لوجه الأبلغية، و ملخصه: أنه لمّا كان المتكلم في مقام البعث، فالمناسب له هو الإتيان بما يؤكده، و حيث إن الإخبار بوقوع المطلوب من لوازم شدة الطلب؛ التي لا يزاحمها شيء من موانع التأثير في وجوب المطلوب؛ لدلالة الإخبار بالوقوع على إرادة إيجاده؛ بحيث لا يرضى بتركه، و لذا أخبر بوجوده، و أتى بالجملة الخبرية.

فدلالتها على الطلب تكون من باب الكناية التي هي استعمال اللفظ في المعنى بداعي إلى لازمه أو ملزومه؛ حيث ان الاخبار بالوقوع بداعي الطلب من لوازم البعث و الإرادة.

فمدلول الجملة الخبرية هو: الإخبار بالوقوع الذي هو لازم شدة الطلب، فيكون الانتقال من اللازم إلى الملزوم، و عليه: فلم تستعمل الجملة الخبرية المقصود بها الإنشاء في نفس الإنشاء؛ حتى يلزم مجاز في الكلمة أو الكلام كما عن بعض؛ مثل «منتهى الدراية».

(2) هذا استدلال على دلالة الجملة الخبرية على الوجوب بمقدمات الحكمة؛ و هي:

كون المتكلم الحكيم في مقام بيان تمام المراد، و عدم نصب قرينة على غير الوجوب، و عدم كونه متيقن الإرادة، فهذه المقدمات تقتضي حملها على الوجوب، إذ المفروض في المقام هو: كون المتكلم في مقام البيان لا في مقام الإجمال أو الإهمال، و لم ينصب قرينة على الندب، فلا بد من حملها على الوجوب؛ لأن إرادة غيره نقض للغرض بخلاف إرادة الوجوب؛ فإن النكتة المزبورة أعني: شدة مناسبة الإخبار بالوقوع موجبة لظهور الجملة فيه، أو لتيقنه منها.

فتحصل من جميع ما ذكرناه: الاستدلال على دلالة الجملة على الوجوب بوجوه:

الأول: ما أشار إليه بقوله: الظاهر الأول أي: المتبادر منها هو الوجوب الثاني: ما أشار إليه بقوله: «بل بداعي البعث بنحو آكد». و قوله: «فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ».

الثالث: مقدمات الحكمة.

(3) أي: الإخبار بالوقوع، أو صيانة الكلام عن الكذب أولا موجبة لظهور الجملة

ص: 340

لظهورها فيه، فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين محتملات ما هو بصدده، فإن شدة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب موجبة لتعين إرادته (1)؛ إذا كان بصدد البيان مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره (2)، فافهم (3).

=============

الخبرية في الوجوب، أو موجبة لتعين الوجوب، إذ يدور الأمر بين الوجوب و الندب و الأول هو المتعين.

(1) أي: إرادة الوجوب.

(2) أي: على غير الوجوب أي: مع عدم القرينة على غير الوجوب تكون النكتة المزبورة قرينة على الوجوب.

(3) لعله إشارة إلى دقة المطلب، و التدبر في كيفية دلالة الجمل الخبرية على الوجوب، و أن استفادته منها بالكناية على التقريب المذكور أولى مما نسب إلى المشهور من استعمالها في الإنشاء، و أن النكتة المزبورة تصلح لتعيين إرادة الوجوب، فما في البدائع «من منع دلالة الجمل الخبرية على المقصود بها الإنشاء على خصوص الوجوب؛ لأن المستحبات أكثر من الواجبات، و أكثرها مستفادة من الجمل الخبرية، فليس استعمالها في الوجوب أكثر من الندب حتى تحمل عليه مع التجرد عن القرينة»؛ لا يخلو من غموض، لأن النكتة المزبورة صالحة لحمل الجمل الخبرية على الوجوب، و لا يعدل عنها إلاّ بدليل كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 453».

و في العناية: لعله إشارة إلى أن مقدمات الحكمة من شأنها أن تقتضي الشيوع و السريان كما في «أعتق رقبة»؛ أو تقتضي العموم و الشمول كما في أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ على ما يأتي التصريح به في بحث المطلق و المقيد، و لا تكاد تقتضي تعين أحد المحتملات؛ إلاّ إذا كان سائر المحتملات مما فيه تقييد و تضييق كما في اقتضائها كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا؛ لأجل كون كل واحد مما يقابله من الغيري و التخييري و الكفائي؛ مما فيه تقييد الوجوب و تضييق دائرته كما سيأتي تحقيقه في محله، و المقام ليس من هذا القبيل؛ فإن الندب و إن كان يحتاج إلى مئونة التقييد بعدم المنع من الترك. إلاّ إن الوجوب أيضا يحتاج إلى مئونة التقييد بالمنع من الترك. انتهى مع تصرّف ما.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور تالية:

1 - أن الجمل الخبرية الواردة في مقام الطلب تستعمل في إنشاء الطلب مجازا عند

ص: 341

المبحث الرابع (1): إنه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب، هل لا تكون ظاهرة فيه أيضا

اشارة

المشهور، و تستعمل في معناها الحقيقي و هو الإخبار عن ثبوت النسبة و الحكاية لكن بداعي إنشاء الطلب؛ لا بداعي الإعلام عند المصنف.

=============

2 - أنها ظاهرة في الوجوب؛ إما للتبادر أو لكون استعمالها فيه آكد و أبلغ، أو لمقدمات الحكمة؛ فإنها تقتضي أن يكون مراد المتكلم هو الوجوب.

3 - لا يلزم الكذب من وقوع الجمل الخبرية الواردة في مقام الطلب في كلامه تعالى، فإن الكذب إنما يتحقق لو كان الاستعمال بداعي الإعلام؛ لا بداعي إنشاء الطلب و البعث.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

أنها مستعملة في معناها الحقيقي بداعي البعث و التحريك لا بداعي الإعلام، و أنها ظاهرة في الوجوب لا في الندب.

صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب أم لا؟

(1) الكلام في دلالة صيغة الأمر على الوجوب من غير طريق الوضع له.

و الأولى تقديم هذا المبحث على المبحث الثالث لأنه من تتمة المبحث الثاني. إذ قد عرفت: أن مقتضى التحقيق في المبحث الثاني هو أن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب، و قد أثبت المصنف هذا المعنى هناك، فعليه أن يتلوه بالمبحث الرابع، و يجعله مبحثا ثالثا؛ فيقول: - إتماما للفائدة و استيعابا لجميع الأطراف - «المبحث الثالث: أنه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب؛ هل لا تكون ظاهرة فيه أيضا أو تكون ؟».

و الغرض من عقد هذا المبحث هو: أنه إذا لم يثبت وضع صيغة الأمر للوجوب لضعف أدلته و عدم نهوضها عليه، فهل تكون ظاهرة فيه لأجل الانصراف أو غيره أم لا؟ قولان؛ و قد قال بعض الأصوليين بظهور الصيغة في الوجوب لوجوه على سبيل مانعة الجمع، و هي ثلاثة أدلة:

1 - غلبة استعمال الصيغة في الوجوب.

2 - غلبة وجود الوجوب، فإنه غالبا استعملت الصيغة في الوجوب.

3 - أكملية الوجوب: فكونها ظاهرة في الوجوب لكونه أكمل من الندب، و كل هذه الوجوه الثلاثة مورد للمناقشة عند المصنف، بل إنها واهية كما أشار إليه بقوله:

«و الكل كما ترى...» إلخ أي: واهية كما ترى بالوجدان، و ذلك ضرورة: أن استعمال

ص: 342

أو تكون ؟ قيل: بظهورها فيه؛ إما لغلبة الاستعمال فيه أو لغلبة وجوده أو أكمليته و الكل كما ترى؛ ضرورة: إن الاستعمال في الندب و كذا وجوده، ليس بأقل لو لم يكن بأكثر. و أما الأكملية فغير موجبة للظهور؛ إذ الظهور لا يكاد يكون إلاّ لشدة أنس اللفظ بالمعنى، بحيث يصير وجها له. و مجرد الأكملية لا يوجبه كما لا يخفى.

نعم (1)؛ فيما كان الآمر بصدد البيان، فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل على الصيغة في الندب ليس بأقل لو لم يكن بأكثر من استعمالها في الوجوب، و كذلك وجود الوجوب أيضا ليس بأكثر لو لم يكن بأقل من الندب، فهذا الجواب في الحقيقة يرجع إلى منع الصغرى أعني: كثرة استعمال صيغة الأمر في الوجوب، أو كثرة وجوده من الندب؛ لأن الاستعمال في الندب، و كذا وجوده الخارجي لو لم يكن أكثر من الوجوب فليس بأقلّ منه.

=============

و أما أكملية الوجوب: فهي غير موجبة للظهور في الوجوب؛ لأن الظهور إنما ينشأ من شدة أنس اللفظ بالمعنى؛ بحيث يصير وجها و مرآة له، على حدّ إذا أحضر المتكلم اللفظ كأنّه أحضر المعنى بعينه. و الأكملية وحدها لا توجب ذلك حتى يقال: إن الأكملية دليل على ظهور صيغة الأمر في الوجوب، و هذا الجواب يرجع إلى منع الكبرى؛ بمعنى: أن الصغرى - و هي الأكملية - و إن كانت مسلمة إلاّ إنها لا توجب ظهور اللفظ فيه كما عرفت، فإن مجرد الأكملية لا يوجب شدة الأنس بين اللفظ و المعنى كما أشار إليه بقوله: «و مجرد الأكملية لا يوجبه».

(1) لمّا أبطل المصنف الوجوه الثلاثة المتقدمة سلك طريقا آخر لاستظهار الوجوب من الصيغة؛ فقال بظهورها فيه عند الإطلاق و تمامية مقدمات الحكمة فيقال: إن مقدمات الحكمة تقتضي الوجوب؛ لأن المتكلم في مقام البيان و إرادة الندب من مجرد الطلب المستفاد من الصيغة غير ممكنة، لاحتياج إرادته إلى مزيد بيان، و عدم كفاية نفس الطلب في ذلك، حيث إن مميّز الندب - و هو الترخيص في الترك - ليس من سنخ الطلب حتى يصح الاعتماد عليه في بيانه، هذا بخلاف الوجوب فان مميّزه - و هو المنع من الترك - من سنخ الطلب، لأن المنع من الترك هو نفس الطلب حقيقة، لأنه عبارة أخرى عن طلب عدم الترك الذي هو عين طلب الفعل، فيجوز للمتكلم الاتكال في بيانه على ما يدل على طبيعة الطلب؛ من دون لزوم محذور إخلال بالغرض، فإطلاق الطلب كاف في إرادة الوجوب دون الندب؛ لأن فصل الندب - و هو الترخيص في الترك - أمر زائد على الطلب، فيحتاج إلى مزيد بيان، فلا يمكن الاتكال في بيانه على ما يدل على نفس الطلب لتحديد الطلب فيه بأمر خارج عن حقيقته، بخلاف الوجوب فإنه لا تحديد فيه

ص: 343

الوجوب، فإن الندب كأنه يحتاج إلى مئونة بيان التحديد، و التقييد بعدم المنع من الترك؛ بخلاف الوجوب؛ فإنه لا تحديد فيه للطلب و لا تقييد، فإطلاق اللفظ و عدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان كاف في بيانه فافهم (1).

=============

بما هو خارج عن حقيقته، فلا مانع من الركون في بيانه إلى ما يدل على جامع الطلب و هو الصيغة.

(1) لعله إشارة إلى: أن مقتضى مقدمات الحكمة هو الندب لا الوجوب؛ نظرا إلى أن الوجوب يحتاج إلى مئونة التحديد و التقييد بالمنع من الترك؛ و ذلك أن الطلب المستفاد من صيغة الأمر لمّا كان مشتركا بين الوجوب و الندب، و كان الوجوب يحتاج إلى أمر زائد و هو شدة الطلب، كان مقتضى مقدمات الحكمة هو الحمل على الندب، فيبنى على عدم الطلب للوجوب بل للندب.

و يحتمل: أن يكون إشارة إلى ضعف ما ذكر؛ من كفاية إطلاق الطلب في إرادة الندب.

وجه الضعف: أن منشأ اعتبار الوجوب و الندب هو النسبة الطلبية المجردة عن الترخيص في الترك و المقرونة به، و الشدة و الضعف ليسا دخيلين في النسبة، فإن كانت النسبة الطلبية مجردة عن الترخيص في الترك ينتزع العقل منها الوجوب، و إن كانت مقرونة بالترخيص في الترك ينتزع منها الندب. فمقتضى مقدمات الحكمة هو الوجوب لا الندب.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

1 - قد قال المصنف في المبحث الثاني: إن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب، و الغرض من عقد هذا المبحث الرابع: أنه على فرض عدم كونها حقيقة في الوجوب؛ هل تكون ظاهرة فيه لأجل الانصراف أو غيره أم لا؟ قولان: قيل: إنها ظاهرة في الوجوب لأحد أمور:

إما لغلبة الاستعمال. و إما لغلبة وجود الوجوب، و إما لأكملية الوجوب على الندب.

و هذه الوجوه الثلاثة مردودة عند المصنف؛ لمنع الصغرى في الأوليين، و منع الكبرى في الأخير.

2 - يقول المصنف: إن صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب بمقدمات الحكمة لو كان المتكلم بصدد البيان، فإنها حينئذ تقتضي الوجوب، لأن الندب يحتاج إلى مئونة بيان التحديد و التقييد بعدم المنع من الترك، بخلاف الوجوب حيث لا تحديد فيه لأن المنع من

ص: 344

المبحث الخامس: إن إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليا أو لا؟

اشارة

إن إطلاق الصيغة (1) هل يقتضي كون الوجوب توصليا فيجزي إتيانه مطلقا، و لو الترك هو عين الطلب و ليس أمرا زائدا كي يحتاج إلى مئونة البيان، فلا مانع من الركون في بيانه إلى ما يدل على جامع الطلب و هو الصيغة.

=============

3 - رأي المصنف «قدس سره»: إن صيغة الأمر لا تكون ظاهرة في الوجوب على؛ فرض عدم ثبوت وضعها له.

نعم؛ فيما كان المتكلم بصدد البيان: كان مقتضى مقدمات الحكمة الحمل على الوجوب؛ و ذلك لأن الوجوب طلب أكيد فهو محض الطلب جنسا و فصلا، و الندب طلب ضعيف فهو طلب جنسا لا فصلا. فالصيغة الدالة على الجامع أي: الطلب تناسب الوجوب دون الندب، فالمتكلم في مقام بيان تمام المراد كما هو ظاهر حاله - إذا لم ينصب قرينة الندب و ليس في البين متيقن - كان إرادة الندب منافيا لكونه في مقام البيان، بخلاف إرادة الوجوب فإنه كفى بيانا له ذكر الصيغة الدالة على الجامع. انتهى الكلام في الخلاصة.

في التعبدي و التوصلي

(1) قبل الدخول في البحث ينبغي بيان ما هو محل النزاع و الخلاف، و ما هو الغرض من عقد هذا المبحث فنقول:

إنه لا خلاف في أن الواجب في الشرع على قسمين:

منه: ما يكون الغرض منه أن يتقرب العبد إلى المولى؛ كالصلاة و الصوم و الحج و غير ذلك من العبادات. و هذا القسم من الواجب يسمى بالتعبدي أي: ما لا يحصل الغرض منه، و لا يسقط الأمر به إلاّ إن يؤتى به على وجه التقرب إلى المولى.

و منه: ما أمر به لمجرد مصالح فيه، و ليس الغرض منه التقرب إلى المولى، فإن أتى به متقربا به و امتثالا لأمره يحصل به القرب و الثواب، و إن لم يؤت به كذلك، بل أتى بداع آخر يحصل به الغرض و يسقط الأمر و إن لم يحصل به القرب و الثواب أصلا؛ كما في دفن الميت و تكفينه و توجيهه إلى القبلة و غير ذلك من الواجبات التوصلية.

إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم: أن محل النزاع و الغرض من عقد هذا المبحث أنه: هل يكون للصيغة إطلاق رافع للشك في التعبدية و التوصلية بمعنى: هل هناك أصل لفظي أي: إطلاق يقتضي كون الوجوب توصليا فيجزي إتيان الواجب؛ سواء كان مع القربة أم

ص: 345

بدون قصد القربة أو لا؟ فلا بد من الرجوع فيما شك في تعبديته و توصليته إلى الأصل.

لا بد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات:

إحداها: الوجوب التوصلي (1): هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول بدونها أم لا يقتضي توصليته كما لا يقتضي تعبديته ؟ بل لا بد من الرجوع إلى الأصول العملية من البراءة و الاشتغال حسب ما يقتضيه المقام. و تحقيق المقام يتوقف على بيان أمور، و تمهيد مقدمات ثلاث.

=============

كما أشار إليه بقوله: «لا بد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات». قوله هذا متفرع على عدم الإطلاق المحقق لعدم الدليل؛ الذي هو موضوع للرجوع إلى الأصل العملي، و المراد به هنا ليس إلاّ البراءة أو الاشتغال.

(1) أي: التوصلي هو الوصف بحال المتعلق و هو الواجب، لا بحال نفس الموصوف و هو الوجوب، و ذلك لأن التعبدية و التوصلية ناشئتان من الملاكات الداعية إلى التشريع، فإن كان الملاك القائم بالواجب - بناء على ما عليه مشهور العدلية من قيام المصالح و المفاسد بمتعلقات التكاليف - بمثابة يحصل بمجرد وجود الواجب و لو بداع غير قربي، فالواجب توصلي، و إلاّ فتعبدي، فالفرق بينهما إنما هو في الغرض القائم بالواجب، و أما الغرض من نفس الوجوب فهو واحد في التعبدي و التوصلي؛ و هو دعوة المكلف إلى إيجاد المادة و نقض عدمها المحمولي بوجودها كذلك.

فالوجوب التوصلي لا يغاير التعبدي أصلا. و من هنا يعلم: أن التعبدية من قيود المادة، فالإطلاق المبحوث عنه راجع إلى المادة لا الهيئة، فجعل هذا البحث من أبحاث الصيغة لا يخلو من المسامحة؛ كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 457».

و كيف كان؛ فقد وقع الكلام في بيان ما هو المراد من التوصلي و التعبدي فقيل: إن الوجوب التوصلي ما يحصل الغرض منه بمجرد حصول الواجب، و يسقط الأمر بمجرد وجوده، بخلاف التعبدي؛ فإن الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك، بل لا بد في سقوطه و حصول الغرض منه من الإتيان به بقصد القربة. هذا ما أشار إليه المصنف «قدس سره»، و هو أحد تعريفات الوجوب التوصلي و أسدّها.

و قيل: بأن الواجب التعبدي: ما شرع الإتيان به بنحو العبادة و للتعبد به، و يقابله التوصلي و هو: ما شرع لغرض حصوله بذاته لا بعنوان العبادة.

و قيل: بأن التعبدي: ما اعتبر فيه قصد القربة، و التوصلي: ما لم يعتبر فيه قصد القربة.

و ذكر الإمام الخوئي «قدس سره» للتعبدي معنى آخر و هو: ما لا يسقط به الأمر إلاّ

ص: 346

الواجب، و يسقط بمجرد وجوده، بخلاف التعبدي فإن الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك، بل لا بد - في سقوطه و حصول غرضه - من الإتيان به متقربا به منه تعالى.

ثانيتها: أن التقرب المعتبر في التعبدي (1) إن كان بمعنى: قصد الامتثال و الإتيان بالواجب بداعي أمره كان مما يعتبر في الطاعة عقلا لا مما أخذ في نفس العبادة شرعا، و ذلك (2) لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتّى إلاّ من قبل الأمر بشيء في متعلق بالمباشرة، و أن يكون عن إرادة و اختيار و أن لا يكون بفعل محرم، بخلاف التوصلي: فإنه ما يسقط الأمر بمجرد وجوده و تحققه خارجا؛ و لو كان بفعل الغير أو بلا إرادة و اختيار أو بفعل محرم من المحرمات كتطهير الثوب مثلا.

=============

ثم يقع الكلام فيما هو مقتضى الأصل اللفظي أو العملي إذا اشتبه الأمر علينا، و يتردد الواجب بين التعبدية و التوصلية، و يأتي تفصيل ذلك بعد المقدمات الثلاثة فانتظر.

اعتبار قصد القربة عقلا

(1) أي: أن التقرب المعتبر في التعبدي، المصحح لعبادية شيء عبارة عن إتيانه بنحو قربي؛ و ذلك يتصور على وجوه:

منها: إتيانه بداعي حسنه. و منها: إتيانه بداعي كونه ذا مصلحة. و منها: إتيانه لكونه محبوبا للمولى. و منها: إتيانه لكون المولى أهلا للعبادة.

و منها: إتيانه بداعي امتثال أمره كما أشار إليه المصنف بقوله: «بمعنى: قصد الامتثال بالواجب بداعي أمره».

إذا عرفت هذه الاحتمالات و الوجوه فاعلم: أن دخل القربة شرعا بأحد هذه الوجوه في العبادة - غير الوجه الأخير - لا يستلزم محذورا أصلا؛ لكون القربة حينئذ من قيود المتعلق؛ بحيث يصح لحاظها في عرض المتعلق كالطهارة و الاستقبال و الستر مثلا بالنسبة إلى الصلاة، فتنالها يد التقييد اللحاظي بلا إشكال.

(2) و أما دخلها شرعا في العبادة بالمعنى الأخير فلا يمكن، بل يمتنع اعتبارها شرعا في متعلق التكليف، فلا بد من الالتزام باعتبار قصد القربة في الواجبات العبادية عقلا لا شرعا، و قد أشار إلى تقريب عدم اعتباره شرعا بقوله: «و ذلك لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتّى إلاّ من قبل الأمر شيء...» إلخ.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن المتعلق كالصلاة مثلا مقدم على الحكم و الأمر، كتقدم العلة على المعلول، فالأمر متأخر عن المتعلق، و قصد امتثال الأمر متأخر عن نفس الأمر.

ص: 347

ذاك الأمر مطلقا شرطا أو شطرا، فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر، لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنّ التقرب بمعنى: قصد امتثال الأمر لا يمكن أن يؤخذ شرعا قيدا لمتعلق الحكم شرطا أو شطرا؛ إذ لا يمكن أن يكون القصد المذكور مأخوذا في المتعلق؛ الذي هو متقدم عليه برتبتين على ما عرفت، مثلا: الأمر بالصلاة متأخر عن متعلقه و هي الصلاة، و قصد امتثال هذا الأمر متأخر عن نفسه، فكيف يمكن أن يكون قصد الأمر مأخوذا في الصلاة ؟ إذ لازم ذلك هو: الدور المحال؛ لأن قصد امتثال الأمر يتوقف على الأمر، و الأمر يتوقف على المتعلق المقيد بقصد الأمر، و هذا دور واضح.

أو لازم ذلك هو: تقدم الشيء على نفسه؛ بتقريب: أن متعلق الأمر لا بد و أن يكون في رتبة سابقة على نفس الأمر لأنه معروض الأمر، و الأمر عارض، و العارض متأخر عن معروضه رتبة.

و على كلا التقديرين: لا يمكن أخذ قصد امتثال الأمر في المتعلق لأنه متأخر عنه، ففرض كونه في متعلق الأمر يستلزم فرض تقدمه على الأمر، فيلزم أحد المحذورين؛ فيمتنع دخل قصد امتثال الأمر شرعا جزءا أو شرطا في المتعلق، فلا بد من أن يكون اعتباره في العبادات عقلا، و أن يكون قصد الأمر من أنحاء الامتثال و كيفياته عقلا لا شرعا، لا على نحو الشرطية بأن يقول المولى لعبده: «أقم الصلاة بشرط امتثال أمرها»، و لا على الشطرية بأن يقول: «أقم الصلاة مع قصد امثال أمرها».

و يمكن حمل عبارة المصنف على استلزام أخذ قصد القربة في متعلق الأمر لمحذور التكليف بغير المقدور؛ كما أشار إليه بقوله: «فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها».

توضيح هذه العبارة: أن الأمر إذا لم يتعلق بذات الصلاة؛ بل بها مقيدة بداعي الأمر امتنع الإتيان بها لأمرها؛ و ذلك للزوم التكليف بغير المقدور، فإن المقدور هو الإتيان بنفس متعلق الأمر و هو الصلاة مثلا، و أما الإتيان به مقيدا بقصد أمره فهو غير مقدور للمكلف؛ إذ المفروض: وحدة الأمر المتعلق بذات الصلاة مثلا، و الإتيان بالمتعلق بقصد امتثال الأمر موقوف على أمر آخر متعلق بما تعلق الأمر الأول ليكون مفاد الأمر الثاني وجوب إتيان متعلق الأمر الأول بداعي أمره، بحيث يكون الأمر الأول موضوعا للأمر الثاني، فلا بد في وجوب إتيان متعلق الأمر الأول بداعي أمره من الأمر الثاني المفروض فقدانه، فيصير إتيان متعلق الأمر بداعي أمره غير مقدور،

ص: 348

و توهم (1): إمكان تعلق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر، و إمكان الإتيان بها بهذا الداعي؛ ضرورة: إمكان تصور الأمر بها مقيدة، و التمكن من إتيانها كذلك بعد تعلق الأمر بها، و المعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة الأمر إنما هو في حال الامتثال لا حال الأمر واضح الفساد (2). ضرورة: إنه و إن كان تصورها كذلك بمكان من و من الضروري اعتبار القدرة عقلا في متعلق التكليف.

=============

(1) قد حاول المتوهم الجواب عن كلا الإشكالين؛ أي: الدور و لزوم التكليف بغير المقدور. أما الجواب عن إشكال الدور: فلأن الدور يتوقف على وجود المتعلق خارجا لا تصورا، و قد عرفت: لزوم الدور، فيقال في تقريبه ثانيا: إن الأمر بالصلاة المقيدة بقصد القربة يتوقف على وجود متعلقه الذي منه قصد القربة، و من المعلوم: توقف قصدها على الأمر، فالأمر متوقف على المتعلق المقيد بقصد امتثال الأمر، و هو متوقف عليه هذا إذا كان اللازم وجود المتعلق خارجا.

و أما إذا كان وجود المتعلق تصورا كافيا في تعلق الأمر فلا يلزم الدور؛ إذ يمكن أن يتصور الآمر موضوع الحكم - أعني: الصلاة المقيدة بداعي طبيعة الأمر لا شخصه و مصداقه - ثم يأمر فلا محذور حينئذ في دخل قصد القربة في المتعلق؛ لأن تصور الآمر الطبيعة الكلية مقيدة بامتثالها بداعي أمرها لا يتوقف على وجود الأمر في الخارج حتى يلزم الدور.

و أما الجواب عن الإشكال الثاني و إثبات القدرة على الامتثال: فلأن القدرة المصححة للأمر إنما هي القدرة على المتعلق في ظرف الامتثال؛ لا في ظرف الأمر، و من المعلوم: أن المكلف قادر على الإتيان بداعي امتثال الأمر، فقوله: «ضرورة إمكان تصور الآمر لها» تعليل لدفع توهم الدور، كما أن قوله: «و التمكن من إتيانها كذلك» تعليل لدفع توهم عدم قدرة العبد على الامتثال.

فملخص الكلام: أن الشرط في حسن الخطاب هو القدرة و التمكن حين الامتثال لا حين الأمر أو قبله، و المفروض: وجود القدرة حين الامتثال لأنه بعد الأمر بالصلاة المقيدة تكون الصلاة مأمورا بها، فيمكن للمكلف الإتيان بها لأمرها؛ لأن العقل لم يكن قاضيا بأزيد من اعتبار القدرة حال الامتثال؛ لاندفاع قبح التكليف بذلك.

(2) خبر لقوله: «و توهم...» إلخ، و جواب عنه.

و حاصل ما أفاده المصنف في الجواب عن التوهم المذكور: أن ما ذكره في دفع إشكال الدور؛ من أن الآمر يتصور الصلاة مقيدة بداعي الأمر - و إن كان بمكان من

ص: 349

الإمكان، إلاّ إنه لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها، لعدم الأمر بها؛ فإن الأمر - حسب الفرض - تعلق بها مقيّدة بداعي الأمر، و لا يكاد يدعو الأمر إلاّ إلى ما تعلق به، لا إلى غيره.

=============

الإمكان - و لكن إشكال عدم قدرة المكلف على الامتثال باق على حاله، و ظاهر المصنف هو: تسليم اندفاع إشكال الدور، و لهذا فقد أجاب عن الإشكال الثاني؛ أعني: توهم قدرة المكلف على الامتثال.

و توضيح هذا الجواب يتوقف على مقدمة و هي: أن الأمر لا يدعو إلاّ إلى ما تعلق به، و المفروض في المقام: أن الأمر لم يتعلق بذات الصلاة و إنما تعلق بها مقيدة بداعي الأمر، فمتعلق الأمر مركب من ذات الصلاة و داعي الأمر.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المكلف لا يتمكن من إتيان الصلاة المقيدة بداعي الأمر بداعي أمرها. و الإتيان بذات الصلاة بداعي أمرها و إن كان ممكنا إلاّ إن الإتيان بذات الصلاة غير واجب؛ لأن المفروض: عدم تعلق الأمر بذات الصلاة ليكون الأمر داعيا إليها، و قد عرفت: أن الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلقه؛ مثلا: الأمر بالصلاة لا يدعو إلى الصوم و الحج، بل إلى الصلاة فقط، فالأمر في المقام لا يدعو إلاّ إلى الصلاة المقيدة لا المطلقة أعني: ذات الصلاة، ثم ما أتى به المكلف هو الصلاة المطلقة أي: ذات الصلاة دون داعي الأمر؛ لأن داعي الأمر من الأمور القصدية لا يمكن الإتيان به في الخارج، و الصلاة دون داعي الأمر غير واجبة حسب الفرض، فما هو واجب غير مقدور، و ما هو المقدور غير واجب.

هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «إلاّ إنه لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها لعدم الأمر بها». فقوله: «لعدم الأمر بها» تعليل لعدم إمكان الإتيان بالصلاة بداعي أمرها، و قد تقدم تقريبه.

قال العلامة المشكيني في هذا المقام: «بيانه: أن العبد إما أن يأتي بالصلاة - مثلا - بجميع قيودها و أجزائها بداعي الأمر، و إما أن يأتي بها بهذا الداعي من دون جزئها أو قيدها. و الأول غير ممكن؛ لأن المفروض: أن أحد أجزاء المأمور به أو قيوده نفس الأمر، و الداعي إلى الشيء داع إلى أجزائه و قيوده، فيلزم كون الشيء داعيا إلى نفسه و هو مستحيل وجدانا؛ لأن الداعي - المعبر عنه بالعلة الغائية - أول الفكر و آخر العمل، بمعنى:

أن وجوده الذهني متقدم، و وجوده الخارجي متأخر؛ فلو كان الشيء داعيا إلى نفسه لزم تقدم الشيء على نفسه ذهنا و خارجا. انتهى مع تصرف ما.

ص: 350

إن قلت: نعم (1)، و لكن نفس الصلاة أيضا (2) صارت مأمورا بها بالأمر بها مقيدة.

قلت: كلا (3)، لأن ذات المقيد لا تكون مأمورا بها، فإن الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلا، فإنه ليس إلاّ وجود واحد واجب بالوجوب النفسي، كما ربما يأتي في باب المقدمة.

=============

(1) الغرض من هذا الإشكال: دفع إشكال عدم القدرة على الامتثال إلى الأبد.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الأمر إذا تعلق بالمقيد ينحل إلى أمرين ضمنيين، يتعلق أحدهما بالذات التي كانت معروضة للتقييد. و ثانيهما بالتقييد و هو داعي الأمر.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المكلف يتمكن من إتيان ذات الصلاة بداعي أمرها الضمني، فاندفع به إشكال تعذر الامتثال إلى الأبد.

فقوله: «نعم» إشارة إلى تسليم قوله: «لعدم الأمر بها». و معنى العبارة حينئذ: أن الأمر و إن لم يتعلق بنفس الصلاة استقلالا؛ و لكنه تعلق بها ضمنا؛ لانحلال الأمر بالمقيد إلى الأمر بالذات و التقييد كما عرفت.

(2) أي: كالمجموع صارت مأمورا بها، غاية الأمر: أن الأمر بالمجموع استقلالي، و بالصلاة ضمني.

(3) و مجمل الجواب قبل التفصيل: أن المقيد و القيد موجودان بوجود واحد في الخارج و هو الصلاة الخاصة، فالصلاة التي هي ذات المقيد لا تكون مأمورا بها حتى يمكن إتيانها بداعي أمرها، و الحال: إن الأمر لا يدعو إلاّ إلى المأمور به نفسه، فإذا لم تكن الصلاة بنفسها مأمورا بها لا يمكن أن يؤتى بها بداعي الأمر المتعلق بها، و بغيرها بداعي أمرها أي: الصلاة، إذ المفروض: لا أمر للصلاة دون تقييدها بداعي الأمر.

و أما الجواب عن انحلال الأمر بالمقيد إلى أمرين ضمنيين فتوضيحه: يتوقف على مقدمة و هي: أن الأجزاء على قسمين: خارجية و تحليلية، و الفرق بينهما: أن الأجزاء الخارجية تتصف بالوجوب المتعلق بالكل، لأنه نفس الأجزاء بالأمر، فالأمر المتعلق بالكل ينحل على حسب تعدد أجزاء المتعلق إلى أوامر نفسية ضمنية، و الفرق بين أمر المركب و بين أوامر أجزائه هو: أن أمر المركب نفسي استقلالي، و أوامر الأجزاء نفسية ضمنية.

هذا بخلاف الأجزاء التحليلية؛ حيث لا تتصف بالوجوب، لعدم وجود لها في الخارج، فلا ينحل الأمر بالمقيد إلى أمر متعلق بنفس الذات، و أمر متعلق بالتقييد، فليس للذات مجردة عن التقيد أمر باعث إليها حتى يصح إتيانها بداعي أمرها.

ص: 351

إن قلت (1): نعم؛ لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطا، و أما إذا أخذ شطرا، فلا محالة نفس الفعل الذي تعلق الوجوب به مع هذا القصد يكون متعلقا للوجوب؛ إذ (2) المركب ليس إلاّ نفس الأجزاء بالأسر و يكون تعلقه بكلّ بعين تعلقه بالكل، و يصح أن يؤتى به (3) بداعي ذلك الوجوب؛ ضرورة: صحة الإتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه (4).

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: إنه لا يتعلق الأمر الضمني بالمقيد و لا بالقيد في باب المقيد و القيد؛ بل هما يلاحظان وجودا واحدا له وجوب واحد، و المقام من هذا القبيل؛ فالقول بالانحلال في المقام باطل.

(1) أي: إن قلت: سلمنا عدم الانحلال إلى أمرين أي: أمر يتعلق بالذات، و أمر متعلق بالتقييد؛ و لكن إنما يتم ذلك فيما إذا أخذ قصد القربة شرطا؛ لأن انحلال المقيد إلى ذات و قيد يكون عقليا، فالذات كالقيد حينئذ جزء تحليلي عقلي لا تتصف بالوجوب الضمني.

و أما إذا أخذ قصد الامتثال جزءا فلا محالة ينحل الأمر إلى أوامر عديدة بتعدد الأجزاء؛ إذ ليس المركب إلاّ الأجزاء، فأمره ينحل بعدد أجزاء المركب إلى أوامر عديدة، و المفروض: أن ذات المقيد كالقيد جزء للمأمور به، فتكون متعلقة للأمر الضمني.

و ملخص الكلام في توضيح الإشكال: أنّا نفرض الصلاة مع داعي الأمر من قبيل جزءين خارجيين للمركب؛ لا من قبيل جزءين تحليليين، فينحل الأمر بالمركب إلى أمرين ضمنيين، فللصلاة حينئذ أمر ضمني و يتمكن المكلف من الإتيان بها بداعي هذا الأمر الضمني.

(2) أي: قوله: «إذ المركب»؛ تعليل لتعلق الوجوب بالفعل الذي تعلق به الوجوب مقيدا بقصد الامتثال كالصلاة، «و يكون تعلقه بكل» أي: تعلق الوجوب بكل جزء «بعين تعلقه» أي: الوجوب «بالكل».

(3) أي: بنفس الفعل بداعي الوجوب المتعلق بالكل، و هو الفعل المقيد بامتثال أمره.

(4) أي: وجوب الواجب بأن يأتي المكلف بكل جزء بداعي وجوب الواجب، و يمكن الاستدلال عليه بالقياس الاقتراني بأن يقال: ذات الفعل جزء من الواجب، و كل جزء من أجزاء الواجب يجوز إتيانه بداعي وجوب نفسه، فينتج: أن ذات الفعل يجوز إتيانها بداعي وجوب نفسها.

إلاّ إن الاستدلال المذكور يتوقف على أمرين: الأول: أن يكون ذات الفعل جزءا لا قيدا. و الثاني: كلية الكبرى؛ بأن يثبت أن كل جزء - سواء كان مستقلا أو في ضمن الواجب - يجوز إتيانه بقصد وجوب نفسه، و يأتي من المصنف بطلان كلية الكبرى.

ص: 352

قلت: - مع امتناع اعتباره (1) كذلك، فإنه (2) يوجب تعلق الوجوب بأمر غير اختياري؛ فإن الفعل و إن كان بالإرادة اختياريا إلاّ إن إرادته حيث لا تكون بإرادة أخرى - و إلاّ لتسلسلت - ليست باختيارية كما لا يخفى، إنما (3) يصح الإتيان بجزء

=============

(1) أي: قصد الامتثال أي: الإرادة «كذلك» أي: جزءا متعلقا للوجوب.

(2) أي: فإن اعتبار قصد الامتثال و قصد القربة جزءا للواجب يوجب تعلق الوجوب بأمر غير اختياري. فقوله: «فإنه يوجب...» إلخ؛ بيان لامتناع اعتبار قصد الامتثال جزءا للواجب.

توضيح ذلك على ما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 467» أن قصد امتثال الأمر ليس إلاّ إرادة الفعل عن أمره، بحيث يكون الداعي إلى الإرادة ذلك الأمر، و الإرادة ليست اختيارية حتى يصح أن تقع في حيّز الأمر، إذ لو كانت اختيارية لتوقفت على إرادة أخرى؛ إذ كل أمر اختياري لا بد و أن تتعلق به الإرادة ليكون اختياريا، فيلزم تسلسل الإرادات، فلا بد في دفع هذا المحذور من جعل الإرادة غير اختيارية، و حينئذ يمتنع تعلق التكليف بها عقلا.

و عليه: فلا يمكن أن يكون قصد القربة دخيلا على نحو الجزئية للمأمور به، إذ دخله كذلك يوجب التكليف بغير المقدور، فلا يكون دخيلا جزءا في المتعلق كدخل سائر الأجزاء فيه حتى ينحل الأمر بالمركب إلى الأمر بذات الفعل كالصلاة، و الأمر بجزئه الآخر و هو قصد الامتثال، و مع عدم الانحلال لا يتعلق أمر ضمني بنفس الفعل حتى يؤتى به بقصد أمره كما مرّ.

(3) أي: هذا مقول قوله: «قلت:»؛ و هو الجواب الأصلي عن الإشكال، إلاّ إن مفهوم هذا هو: إمكان أخذ القربة شرطا، مع إن القدرة شرط للتكليف مطلقا؛ إذ لا فرق في حكم العقل بقبح تكليف العاجز بين الجزء و الشرط.

و كيف كان؛ إن داعوية الأمر المتعلق بالكل للأجزاء إنما تصح فيما إذا لم يكن من أجزائه نفس الداعوية؛ مثل: ذات الركوع و السجود و غيرهما من الأجزاء، فحينئذ تكون داعوية الأمر بالكل عين داعوية الأوامر الضمنية المتعلقة بالأجزاء. و أما إذا كان المتعلق مركبا من أجزاء، و كان من جملتها الإتيان بداعي الأمر - كما هو المفروض في المقام - فيلزم أن يكون الأمر داعيا إلى داعوية نفسه و علة لعليّته، لأن المفروض: وحدة الأمر، فإذا كانت دعوة هذا الأمر من أجزاء المركب، و الأمر المتعلق بالكل يدعو إلى كل واحد من أجزائه التي منها هذه الدعوة؛ لزم أن يكون أمر المركب داعيا إلى داعوية نفسه، فيلزم توقف الشيء على نفسه و هو مستحيل بالضرورة. هذا كما في «منتهى الدراية» مع تصرف منّا.

ص: 353

الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي، و لا يكاد يمكن الإتيان بالمركب عن قصد الامتثال بداعي امتثال أمره.

إن قلت: نعم (1)؛ لكن هذا كله إذا كان اعتباره في المأمور به بأمر واحد. و أما إذا كان بأمرين تعلق أحدهما بذات الفعل، و ثانيهما بإتيانه بداعي أمره فلا محذور أصلا، كما لا يخفى، فللآمر أن يتوسل بذلك في الوصلة إلى تمام غرضه و مقصده، بلا منعة (2).

قلت (3): مضافا إلى القطع بأنه ليس في العبادات إلاّ أمر واحد كغيرها من الواجبات و المستحبات، غاية الأمر: يدور مدار الامتثال وجودا و عدما فيها المثوبات

=============

(1) أي: ما تقدم من لزوم المحذور على كلا التقديرين، أي: من دون فرق بين أخذ داعي الأمر على نحو الشرطية أو الشطرية صحيح و في محله؛ و لكن إذا كان اعتبار قصد الامتثال في المأمور به بأمر واحد و أمّا إذا كان اعتباره بأمرين فلا محذور أصلا.

فالغرض من هذا السؤال هو: دفع إشكال عدم القدرة على إتيان المأمور به بقصد امتثال أمره بوجه آخر؛ و هو: فرض تعدد الأمر حيث إنه مع تعدده لا يلزم المحذور أصلا أي: لا يلزم الدور و لا عدم القدرة على الامتثال.

أما عدم لزوم الدور: فلأن الأمر الأول - المتعلق بذات الصلاة مثلا - يصير موضوعا للأمر الثاني؛ المتعلق بما تعلق به الأمر الأول بداعي أمره، فالأمر الثاني و إن كان متوقفا على الأمر الأول توقف الحكم على الموضوع؛ إلاّ إن الأمر الأول لا يتوقف على الأمر الثاني حتى يلزم الدور.

و أما عدم لزوم المحذور الثاني: - أعني: عدم القدرة على الامتثال - فلقدرة المكلف على إتيان الصلاة مثلا بداعي أمرها الأول بعد الأمر الثاني، هذا ما أشار إليه بقوله: «فلا محذور أصلا» أي: لا من ناحية الدور، و لا من ناحية القدرة على الامتثال لما عرفت.

(2) أي: بلا مانع، لأن المنعة مصدر مبني للفاعل و في بعض النسخ «بلا تبعة» أي:

بلا محذور، و المعنى على التقديرين واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان، فعلى التقدير الأول:

فللآمر أن يتوسل بتعدد الأمر في الوصول إلى تمام غرضه و مقصده بلا مانع. و على التقدير الثاني: فله أن يتوسل به في الوصول إلى الغرض بلا محذور.

قد أجاب المصنف عنه اى صورة تعدد الامر بوجهين:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «مضافا إلى القطع...» إلخ. و هذا يرجع إلى منع الصغرى أعني: تعدد الأمر.

ص: 354

و العقوبات، بخلاف ما عداها (1)، فيدور فيه خصوص المثوبات، و أما العقوبة: فمترتبة على ترك الطاعة و مطلق الموافقة أن الأمر (2) الأول: إن كان يسقط بمجرد موافقته، و لو لم يقصد به الامتثال، كما هو قضية الأمر الثاني فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع الثاني: ما أشار إليه بقوله: «أن الأمر الأول...» إلخ، و هو راجع إلى منع الكبرى أعني: عدم الحاجة إلى الأمر الثاني.

=============

و حاصل الكلام في الوجه الأول: أننا نقطع بعدم تعدد الأمر؛ إذ لا فرق بين الواجبات التعبدية و التوصلية في كونها ذات أمر واحد كما أشار إليه بقوله: «بأنه ليس في العبادات إلاّ أمر واحد كغيرها» أي: كغير العبادات أي: ليس للشارع إلاّ طريقة واحدة؛ و هي: صدور أمر واحد في العبادات و غيرها، و ليست طريقته صدور أمرين في التعبديات، و صدور أمر واحد في التوصليات، و الفرق بينهما؛ أولا: في دوران الثواب و العقاب في العبادات مدار الامتثال أمرها و عدمه، و دوران الثواب فقط في التوصليات مدار الامتثال أي: الإتيان بقصد القربة.

و أما العقاب: فلا يترتب على ترك الامتثال، بل فيها على ترك الواجب؛ لإمكان سقوطه بإتيانه بغير داع قربي، فإن الواجب يسقط حينئذ مع عدم الامتثال و لا يترتب عليه العقاب أيضا، لتحقق الواجب المانع عن استحقاق العقاب كالتطهير بالماء المغصوب، فإن الثوب أو البدن يطهر و لا يترتب العقاب إلاّ على الغصب.

و قد أشار إلى ما ذكرناه من الفرق بقوله: «غاية الأمر: يدور مدار الامتثال وجودا و عدما فيها» أي: في العبادات «المثوبات و العقوبات» أي: المثوبات و العقوبات فاعل «يدور».

(1) أي: بخلاف ما عدا العبادات، «فيدور فيه خصوص المثوبات»، و هناك فرق آخر و هو: أن الأمر في التعبديات لا يسقط عن ذمة المكلف بدون قصد القربة؛ بخلاف التوصليات فأمرها يسقط بدونه و لكن الثواب فيها يدور مدار قصد القربة وجودا و عدما، كما أن العقاب في التعبديات يدور مدار عدم قصد القربة بفعلها أو يدور مدار تركها رأسا فتدبر.

و كيف كان؛ فتعدد الأمر يكون على خلاف الواقع. هذا خلاصة منع الصغرى.

(2) هذا هو الوجه الثاني، و هو المقصود بالأصالة في الجواب عن الإشكال. توضيحه يتوقف على مقدمة و هي: أن الأمر لا يخلو من أحد احتمالين:

أحدهما: حصول الغرض الداعي إليه بمجرد إتيان متعلقه بدون قصد الامتثال بأن يكون متعلقه واجبا توصليا.

ص: 355

موافقة الأول بدون قصد امتثاله، فلا يتوسل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة و الوسيلة (1)، و إن لم يكد يسقط بذلك فلا يكاد يكون له وجه، إلاّ عدم حصول غرضه بذلك من أمره؛ لاستحالة سقوطه (2) مع عدم حصوله، و إلا (3) لما كان موجبا لحدوثه، و عليه: فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الأمر، لاستقلال و ثانيهما: بقاء الغرض على حاله، و عدم حصوله بإتيان الفعل مجردا عن قصد الامتثال؛ بأن يكون الواجب تعبديا.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه على الاحتمال الأول يسقط الأمر بمجرد الإتيان بالفعل و لو لا بداعي أمره، فلا يكاد يبقى مجال لموافقة الأمر الثاني؛ و ذلك لسقوط الأمر الأول بمجرد الإتيان بالفعل، و ليس هناك غرض موجب له، فيكون الأمر الثاني لغوا غير صادر من الشارع الحكيم.

و أما على الاحتمال الثاني: - أي: بقاء الغرض و عدم سقوط الأمر الأول بأن يكون تعبديا - فلا حاجة إلى الأمر الثاني المولوي شرعا، لكفاية حكم العقل بذلك بأنه يستقل بإتيان المأمور به؛ على وجه يحصل القطع بحصول الغرض من الأمر - و هو إتيانه بداعي الأمر - فلا حاجة إلى الأمر الثاني شرعا على كلا الاحتمالين.

(1) المراد بالحيلة و الوسيلة هو: تعدد الأمر، كما فرضه المتوهم.

(2) أي: لاستحالة سقوط الأمر الأول مع عدم حصول الغرض من مجرد الموافقة.

لا يقال: إنه يسقط الأمر مع عدم حصول الغرض فإنه يقال: إذن معناه: لا يوجب الغرض حدوث الأمر، و هو باطل بالضرورة و الوجدان.

و كيف كان؛ فلا حاجة للآمر في الوصول إلى غرضه - و هو إيجاد الطبيعة بداعي الأمر - إلى وسيلة تعدد الأمر؛ و ذلك لما عرفت من: أن العقل يستقل و يحكم بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرض الآمر. و عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الأمر الأول - لو لم يأت بداعي الأمر - يكون أمرا ظاهرا فيما لو كان الواجب تعبديا. و يسقط أمر المولى بإتيان المأمور بالأمر الأول بداعي أمره على ما يستقل به العقل، فلا موضوع للأمر الثاني.

(3) أي: و لو لم يكن سقوط الأمر بدون حصول الغرض مستحيلا؛ لما كان الغرض موجبا لحدوث الأمر و هو بديهي البطلان؛ لأن عليّته للحدوث تقتضي عليته للبقاء أيضا.

و بالجملة: أن سقوط أمر المولى يتوقف على حصول غرضه من أمره، كما أن عدم سقوط الأمر يدل على عدم حصول غرض المولى. و لازم ذلك استحالة سقوط الأمر بدون حصول الغرض.

ص: 356

العقل، مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الأمر بوجوب الموافقة على؛ نحو يحصل به غرضه، فيسقط أمره.

هذا (1) كله إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى: قصد الامتثال. و أما إذا كان بمعنى: الإتيان بالفعل بداعي حسنه أو كونه ذا مصلحة أو له تعالى؛ فاعتباره في متعلق الأمر و إن كان بمكان من الإمكان؛ إلاّ إنه غير معتبر فيه قطعا لكفاية (2) الاقتصار على قصد الامتثال؛ الذي عرفت عدم إمكان أخذه فيه بديهة.

=============

(1) أي: هذا الذي بسطنا القول فيه و حققناه في المقدمة الثانية؛ من استحالة أخذ القربة في متعلق الأمر شرعا «كله» فيما إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى: قصد الامتثال. و أما إذا كان التقرب المعتبر بمعنى آخر؛ مثل: الإتيان بالفعل بداعي حسنه، أو بداعي كونه ذا مصلحة، أو محبوبا للمولى، أو خوفا من النار، أو طمعا في الجنة، أو لكونه تعالى أهلا للعبادة أو غير ذلك؛ مما يوجب القرب إليه «جل و علا»، فإن الدواعي القربية كثيرة أمكن أخذها في المأمور به من دون لزوم الدور المذكور في قصد القربة، بمعنى: قصد امتثال الأمر، لعدم توقف ما عدا قصد الامتثال من الدواعي القربية على الأمر، فمحذور الدور مختص بالقربة؛ بمعنى: امتثال الأمر فاعتبار غيره؛ و إن كان بمكان من الإمكان و لكن ليس ذلك معتبرا فيه قطعا، لأن جواز الاقتصار على الإتيان بداعي الأمر يكشف عن تعلق الأمر بنفس الفعل و عدم دخل تلك الدواعي في الغرض؛ فضلا عن دخلها في المأمور به، و إلاّ لم يمكن الإتيان بداعي الأمر المتعلق بذات الشيء.

(2) هذا تعليل لعدم اعتبار التقرب بأحد المعاني المذكورة في متعلق الأمر.

و توضيح عدم اعتبار التقرب بأحد المعاني المذكورة يتوقف على مقدمة و هي: أن الملاك في سقوط الأمر و حصول الامتثال هو الإتيان بالمأمور به بداعي تلك المعاني؛ على فرض اعتبار التقرب بمعنى من تلك المعاني؛ و إن لم يقصد امتثال الأمر.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لو كان قصد القربة بأحد هذه المعاني مأخوذا في المأمور به لما حصل امتثال الأمر؛ إذا أتى المكلف بالمأمور به بداعي أمره لا بداعي حسنه أو كونه ذا مصلحة أو غيرهما من المعاني المذكورة. و التالي باطل قطعا؛ لحصول الامتثال، بل الغرض بحكم العقل إذا أتى المكلف بالمأمور به بداعي أمره، فالمقدم - و هو اعتبار التقرب بأحد تلك المعاني - أيضا باطل، فالنتيجة هي: اعتبار التقرب بمعنى: قصد الامتثال؛ الذي لا يمكن أخذه في متعلق الأمر شرعا لاستلزامه الدور.

ص: 357

تأمل فيما ذكرناه في المقام، تعرف حقيقة المرام، كيلا تقع فيما وقع فيه من الاشتباه بعض الأعلام (1).

ثالثتها (2): أنه إذا عرفت - بما لا مزيد عليه - عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في المأمور به أصلا، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه - و لو كان مسوقا في مقام البيان -

=============

(1) و هو الشيخ الأنصاري «قدس سره» - على ما في بعض الحواشي - حيث ذهب إلى إمكان أخذ امتثال الأمر في متعلق الأمر؛ مع تعدد الأمر كما سبق، و عرفت جواب المصنف عنه. و ذهب بعض آخر إلى إمكان أخذ قصد الامتثال في المتعلق؛ من دون حاجة إلى تعدد الأمر بدعوى: عدم لزوم الدور بالبيان الذي عرفته عند قوله: «و توهم إمكان تعلق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر...» إلخ.

و ثالث: ذهب إلى جعل القربة بمعنى: آخر مثل القربة بمعنى: حسن الفعل أو كونه ذا مصلحة، أو غيرهما مما يمكن دخله في متعلق الأمر. و قد عرفت الجواب عنه.

و كيف كان؛ فهذا كله في بيان إمكان أخذ التقرب في متعلق التكليف شرعا و عدمه، و حيث ثبت عدم إمكانه في مقام الثبوت، فلا مجال للبحث عنه في مقام الإثبات؛ إذ مقام الإثبات فرع الثبوت كما هو بديهي. هذا تمام الكلام في المقدمة الثانية.

(2) ثالث المقدمات في عدم جواز التمسك بإطلاق الصيغة لإثبات التوصلية.

الغرض من تمهيد هذه المقدمة: بيان امتناع التمسك بإطلاق الصيغة؛ لإثبات التوصلية، و عدم اعتبار نية القربة؛ بمعنى: قصد امتثال الأمر في المتعلق.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن للتقابل أربعة أقسام، و ذلك أن المتقابلين إما أن يكون أحدهما وجوديا و الآخر عدميا، أو يكونا وجوديين و لا تقابل بين أمرين عدميين؛ إذ لا ميز في الأعدام.

ثم الأول أي: ما إذا كان أحدهما عدميا على قسمين: إما يعتبر في جانب العدم شأنية الوجود و قابليته كالعمى و البصر أو لا يعتبر، و الأول: يسمى بتقابل العدم و الملكة.

و الثاني: يسمى بتقابل الإيجاب و السلب، و الثاني أيضا على قسمين: الأول: أن يكون تصور مفهوم أحدهما مستلزما لتصور مفهوم الآخر؛ كالأبوّة و البنوّة، فيسمى التقابل بتقابل التضايف، و الثاني: أن لا يكون كذلك كالسواد و البياض فيسمى بتقابل التضاد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن التقابل بين الإطلاق و التقييد من قبيل العدم و الملكة.

فيعتبر في التمسك بالإطلاق أن يكون الإطلاق قابلا للتقييد، و قد عرفت امتناع التقييد؛ لاستلزامه الدور، و امتناع التقييد يوجب امتناع الإطلاق، فلا إطلاق حتى يتمسك به لإثبات التوصلية، و عدم اعتبار قصد القربة، و لا يصح التمسك بإطلاق الصيغة إلاّ في

ص: 358

على عدم اعتباره كما هو أوضح من أن يخفى، فلا يكاد يصح التمسك به إلاّ فيما يمكن اعتباره فيه.

فانقدح بذلك (1): أنه لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة بمادتها، و لا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه مما هو ناشئ من قبل الأمر من إطلاق المادة في العبادة لو شك في اعتباره فيها (2).

=============

القيود التي يمكن شرعا اعتبارها في المأمور به، بشرط كون الإطلاق في مقام البيان. و قد عرفت: أن قصد القربة بمعنى: امتثال الأمر ليس مما يمكن اعتباره في المأمور به.

و الحاصل: أن الإطلاق و التقييد من باب العدم و الملكة، و هما يحتاجان إلى الموضوع القابل و متعلق التكليف؛ حيث لم يكن قابلا للإطلاق، فلا يصح التمسك بإطلاق دليل المأمور به إلاّ في القيود التي يمكن اعتبارها في المأمور به.

(1) أي: انقدح بالذي ذكرناه من عدم جواز التمسك بالإطلاق: «أنه لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة بمادتها»، و إنما قال «بمادتها» لأن المادة هي متعلق التكليف.

قال في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 1، ص 453» ما هذا لفظه: «بيانه: أن التكليف قد يستفاد من الجملة الخبرية نحو: يجب عليك الصلاة و نحوها، و قد عرفت أن المكلف به هي الصلاة التي قد يطلق عليها الموضوع و قد يطلق عليها متعلق التكليف.

و قد يفرق بينهما: بأن الموضوع هو الذي أخذ مفروض الوجود في متعلق الحكم؛ كالعاقل البالغ. و المتعلق هو: ما يطالب العبد به من الفعل أو الترك كالصلاة و الزنا، و قد يستفاد التكليف من صيغة الأمر و نحوها كقوله: صل، فالوجوب أو الحرمة المستفادان من الهيئة حكم، و المادة التي تعلق بها الهيئة و طولبت من العبد كالصلاة في المثال موضوع و متعلق للتكليف.

ثم إن الإطلاق و التقييد قد يكونان بالنسبة إلى الهيئة؛ فإن «صلّ » مطلق، و «حج إن استطعت» مقيد؛ إذ الوجوب في الأول: لم يقيد بالاستطاعة، و في الثاني: قيد بها، و قد يكونان بالنسبة إلى المادة؛ فنحو: «صل الظهر مع الطهارة» مقيد، و «صل على الميت» مطلق؛ إذ المادة - أعني الصلاة في الأول - مقيدة بالطهارة، فالصلاة مع الطهارة واجبة، و في الثاني مطلق من حيث الطهارة، و كما لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق المادة كذا لا وجه لاستظهار عدم اعتبار مثل قصد الوجه أعني: قصد الوجوب و الندب و غيره؛ مما هو ناشئ من قبل الأمر من إطلاق المادة في العبادة». انتهى.

(2) أي: في العبادات.

ص: 359

نعم (1)؛ إذا كان الآمر في مقام بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه، و حاصل الكلام في المقام: أنه كلما كان مترتبا على الأمر و منتزعا منه لا يعقل أن يؤخذ إثباتا أو نفيا في الموضوع؛ للزوم الدور المتقدم. مثلا: قصد الوجوب لو اعتبر في موضوع الحكم لزم الدور؛ لأن هذا القصد متوقف على الحكم؛ لأنه ناشئ منه و الحكم متوقف عليه، لأنه مأخوذ في موضوعه.

=============

(1) هذا إشارة إلى الإطلاق المقامي. الفرق بين الإطلاق اللفظي و المقامي: أن الأول:

يجري في قيد قابل للأخذ؛ كالإيمان في الرقبة، و يتوقف على عدم بيان القيد مع كونه في مقام البيان، و لا يحتاج ذلك أي: كونه في مقام البيان إلى الإحراز، بل يكفي عدم إحراز كونه في مقام الإهمال و الإجمال؛ لبناء العقلاء على الحمل على مقام البيان عند الشك. هذا بخلاف الثاني أي: الإطلاق المقامي فإنه يجري حتى في القيد الغير القابل للأخذ؛ كقصد الأمر و نحوه، و يحصل كونه في مقام البيان عند انتفاء القيد، و يحتاج ذلك أي: كونه في مقام البيان إلى إحراز أنه في مقام بيان جميع ما له دخل في غرضه؛ لعدم جريان بناء العقلاء هنا.

و حاصل الكلام في المقام: أنه إذا كان الآمر بصدد بيان ما له دخل في حصول غرضه الداعي إلى الأمر و إن لم يكن دخيلا في متعلق الأمر لامتناع دخله فيه، كقصد القربة و نحوه مما يترتب على الأمر، و يمتنع دخله في المتعلق، و بيّن أمورا و سكت عن غيرها؛ كان ذلك السكوت بيانا لعدم دخل كل ما يحتمل دخله في الغرض؛ سواء أمكن اعتباره في المتعلق أم لا؛ إذ لو لم يكن كذلك لزم نقض الغرض، و هو ممتنع على الحكيم.

فهذا الإطلاق المقامي الذي قد يعبر عنه بالإطلاق الحالي في مقابل الإطلاق اللفظي؛ المعبر عنه بالإطلاق المقالي أيضا مركب من مقدمتين:

الأولى: كون المتكلم في مقام بيان تمام ما له دخل في غرضه؛ و إن لم يكن دخيلا في متعلق الأمر، بخلاف الإطلاق اللفظي، فإن المعتبر فيه هو كون المتكلم بصدد بيان تمام ما له دخل شطرا أو شرطا في المتعلق، و بهذا يمتاز الإطلاق المقامي عن المقالي.

الثانية: عدم البيان، و يمكن إحراز هاتين المقدمتين بالأصل العقلائي، ثم الإطلاق المقامي كاللفظي في الدليلية و الكشف عن الواقع، كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 487».

المرجع عند الشك في الامتثال هي أصالة الاشتغال

و حاصل الكلام: أنه إذا كان الإطلاق المقامي موجودا في البين صح التمسك بأصالة الإطلاق؛ حتى تندفع بها جزئية المشكوك للمأمور به أو شرطيته له، فإذا لم ينصب

ص: 360

و إن لم يكن له دخل في متعلق أمره، و معه سكت في المقام، و لم ينصب دلالة على دخل قصد الامتثال في حصوله؛ كان هذا قرينة على عدم دخله في غرضه، و إلاّ لكان سكوته نقضا له و خلاف الحكمة، فلا بد عند الشك و عدم إحراز هذا المقام من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل، و يستقل به العقل.

فاعلم: أنه لا مجال - هاهنا (1) - إلاّ لأصالة الاشتغال، و لو قيل بأصالة البراءة فيما إذا دار الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين؛ و ذلك (2) لأن الشك هاهنا في الخروج المتكلم قرينة على دخل قصد امتثال الأمر في حصول غرضه كان عدم النصب قرينة على عدم دخله في غرضه؛ و إلاّ لكان سكوته نقضا لغرضه و خلاف الحكمة فلا بد حينئذ عند الشك و عند عدم إحراز هذا المقام من الرجوع إلى ما يقتضيه العقل، و يستقل به، إذ المفروض: فقدان الدليل الاجتهادي من الإطلاق اللفظي أو الإطلاق المقامي، و لكن الأصل الذي يرجع إليه عند الشك في تعبدية الواجب و توصليته هو الاشتغال العقلي؛ لأن الشك فيهما يرجع إلى الشك في سقوط أمر المولى و امتثال أمره بعد العلم بثبوت الأمر؛ لا إلى الشك في أصل التكليف و ثبوت أمر المولى و عدم ثبوته؛ كي يرجع إلى أصالة البراءة، و ليس الشك فيهما من قبيل الشك في المأمور به أو شرطه، كي تندرج مسألة التعبدية و التوصلية في الأقل و الأكثر الارتباطيين؛ لما تقدم من عدم إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به شرطا أو شطرا كي يرجع فيه إلى الاشتغال أو البراءة على اختلاف الرأيين، بل قصد القربة من كيفيات الإطاعة للمولى، و لا تناله يد الجعل أبدا حتى يكون الشك مجرى لأصالة البراءة.

=============

فلا بد حينئذ من الالتزام بجريان قاعدة الاشتغال هنا، و إن قلنا بجريان البراءة في الأقل و الأكثر الارتباطيين لوجود شرط البراءة في مسألة الأقل و الأكثر الارتباطيين؛ و هو الشك في التكليف بالنسبة إلى الأكثر، و فقدانه هنا كما لا يخفى. هذا ما أشار إليه بقوله: «فاعلم: أنه لا مجال هاهنا إلاّ لأصالة الاشتغال...» إلخ.

(1) أي: في اعتبار قصد الامتثال.

(2) أي: إشارة إلى الفرق بين المقام و بين الأقل و الأكثر الارتباطيين، و قد عرفت الفرق بين المقامين ضمنا.

و توضيح ذلك تفصيلا يتوقف على مقدمة، و هي: أن الشك على قسمين:

«الأول»: أن يكون الشك في نفس التكليف: كأن يتردد أمر الصلاة بين كونها مع الاستعاذة أو بدونها.

«الثاني»: أن يكون الشك في الامتثال: كأن يعلم بوجوب الصلاة و خصوصياتها من

ص: 361

عن عهدة التكليف المعلوم، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها، فلا يكون العقاب - مع الشك و عدم إحراز الخروج - عقابا بلا بيان، و المؤاخذة عليه بلا برهان، ضرورة (1): أنه بالعلم بالتكليف تصح المؤاخذة على المخالفة، و عدم الخروج عن العهدة، لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة، و هكذا الحال (2) حيث الأجزاء و الشرائط، ثم يشك في أنه هل حصل الامتثال أم لا؟

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الأول مجرى البراءة؛ لأن الشك في الحقيقة راجع إلى الشك في أصل التكليف أي: وجوب الجزء المشكوك؛ كالاستعاذة في المثال المتقدم.

و الثاني مجرى الاحتياط؛ لأن التكليف معلوم، و إنما الشك في سقوطه و المقام من القسم الثاني، كما أشار إليه بقوله: «لأن الشك هاهنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها» أي: عن عهدة التكليف، و ليس الشك في أصل ثبوت التكليف؛ لأنه يعلم بأنه مكلف بالصلاة مثلا، و لا يدري أنه لو صلى بغير قصد الوجه خرج عن عهدة التكليف أم لا؟ فلا بد من الرجوع إلى الاحتياط؛ لأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية. «فلا يكون العقاب مع الشك» في حصول الامتثال، «و عدم إحراز الخروج» عن عهدة التكليف «عقابا بلا بيان و المؤاخذة عليه بلا برهان»، حتى يكون موردا لأدلة البراءة؛ على ما في «الوصول إلى كفاية الأصول».

(1) قوله: «ضرورة» تعليل لعدم كون المؤاخذة بلا برهان؛ لأن المصحح للمؤاخذة و هو العلم بالتكليف موجود هنا، فما لم يعلم بالخروج عن العهدة لا يخرج عن الخطر العقابي و لو كان عدم الخروج عن العهدة لأجل الإخلال بقصد القربة؛ لأن المفروض:

توقف حصول الغرض عليه.

و حاصل الكلام في وجه أصالة الاشتغال في المقام: أن الشك في المقام واقع في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، و العقل يستقل بلزوم الخروج عن عهدته، فإنّا إذا علمنا أن شيئا خاصا - كالعتق مثلا - واجب قطعا، و لم نعلم أنه تعبدي يعتبر فيه قصد القربة أم توصلي، لا يعتبر فيه ذلك، فما لم يأت به بقصد القربة لم يعلم بالخروج عن عهدة التكليف المعلوم تعلقه به، فإذا لم يأت به كذلك و قد صادف كونه تعبديا يعتبر فيه قصد القربة، فلا يكون العقاب حينئذ عقابا بلا بيان، و المؤاخذة عليه بلا برهان.

(2) أي: لا يختص ما ذكرناه - من كون الأصل في الشك في التعبدية و التوصلية هو الاشتغال لا البراءة - بقصد القربة، بل هكذا الحال في الوجه و التمييز، بل يجري في كل ما لا يمكن دخله في متعلق الأمر لا شطرا و لا شرطا؛ لترتبه على الأمر، و ترشحه منه كقصد الوجه و التمييز؛ كما أشار إليه بقوله: «مما لا يمكن اعتباره في المأمور به...» إلخ؛

ص: 362

في كل ما شك دخله في الطاعة و الخروج به عن العهدة، مما لا يمكن اعتباره في المأمور به كالوجه و التمييز.

نعم (1)؛ يمكن أن يقال: إن كل ما ربما يحتمل بدوا دخله في الامتثال «في نسخة:

=============

و ذلك لتأخره عن الأمر و تولده منه، فيمتنع دخله فيما قبل الأمر؛ من دون فرق بين قصد امتثال الأمر أو قصد الوجه و التمييز، فكما إنه إذا شك في واجب أنه تعبدي أو توصلي فلا مجال إلاّ لأصالة الاشتغال، فكذلك إذا شك في اعتبار الوجه و التمييز في العبادات، فلا مجال إلاّ لأصالة الاشتغال.

(1) هذا استدراك عما سبق؛ من كون الأصل في جميع قيود المأمور به الناشئة من أمر المولى كقصد القربة، و قصد الوجه و التمييز هو الاحتياط.

و حاصل الاستدراك هو: التفصيل بين تلك القيود في وجوب الاحتياط؛ بمعنى: أن ما يحتمل دخله في كيفية الإطاعة كان على قسمين:

الأول: أن يكون مما يغفل عنه عامة الناس غالبا نحو: قصد الوجه و قصد التمييز.

و الثاني: أن يكون مما يلتفت إليه عامة الناس و لا يغفلون عنه.

فإن كان من القسم الأول: فلا محيص عن بيانه في مقام التشريع و في مقام الإثبات؛ إذ ليس هنا ارتكاز يعتمد عليه الشارع في مقام البيان، فلو لم يبيّنه و لم ينصب قرينة على دخله في غرضه واقعا لأخلّ بما هو همه و غرضه، و هو قبيح لا يصدر من المولى الحكيم، فعدم البيان كاشف كشفا إنيّا عن عدم دخله في الغرض، و عن عدم كونه محصلا للغرض، فلا يكون الشك حينئذ شكّا في المحصل حتى يرجع إلى الاحتياط، فلا يرجع إلى الاحتياط؛ بل يرجع إلى البراءة بمقتضى الإطلاق المقامي.

و أما لو كان من القسم الثاني: لوجب الاحتياط، لصحة اعتماد المتكلم على التفات عامة الناس إليه و تنبههم له، فيجب مراعاة المشكوك دخله في الغرض؛ لعدم تمامية عدم البيان المتوقف عليه الإطلاق المقامي، إذ المفروض: كون التفات العامة بيانا.

و خلاصة الكلام في التفصيل: أن مرجعية الاحتياط في القيود الدخيلة في الإطاعة المتأخرة عن الأمر تختص بالقسم الثاني الذي لا يغفل عنه العامة، و أما في غيره - و هو القسم الذي يغفل عامة الناس عنه - فيرجع إلى الإطلاق؛ القاضي بعدم وجوب الاحتياط لتمامية مقدماته التي منها عدم البيان على دخل المشكوك فيه.

و من هنا يتجه التمسك بالأخبار البيانية كصحيحة حماد المبيّنة لأجزاء الصلاة و شرائطها، فإن سكوتها عن بيان دخل ما شك في دخله في الغرض، مع كونه مما يغفل عنه العامة دليل على عدم دخله فيه.

ص: 363

امتثال أمر»، و كان مما يغفل عنه غالبا العامة؛ كان على الآمر بيانه و نصب قرينة على دخله واقعا، و إلاّ لأخلّ بما هو همه و غرضه.

أما إذا لم ينصّب دلالة على دخله، كشف عن عدم دخله، و بذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه و التمييز في الطاعة بالعبادة؛ حيث ليس منهما عين و لا أثر في الأخبار و الآثار، و كانا مما يغفل عنه العامة، و إن احتمل اعتباره بعض الخاصة (1) فتدبر جيدا (2).

ثم إنه لا أظنك أن تتوهم (3) و تقول: إن أدلة البراءة الشرعية مقتضية لعدم

=============

(1) أي: السيد الأجل علم الهدى «قدس سره» على ما في بعض الشروح.

(2) أي: فتدبر جيدا حتى تعرف ما تغفل عنه عما لا تغفل عنه. فقوله: «فتدبر جيدا» إشارة إلى التحقيق لا إلى التمريض؛ و ذلك أولا: أن لفظ فتدبر ظاهر في التحقيق. و ثانيا:

أن لفظ جيد ظاهر فيه أيضا.

(3) أي: يمكن أن يتوهم المتوهم في هذا المقام فيقول: إن مقتضى حكم العقل في الشك في تعبدية الواجب و توصليته، و إن كان هو الرجوع إلى قاعدة الاشتغال؛ إلاّ إن أدلة البراءة الشرعية حاكمة على الاشتغال العقلي؛ لأن مثل: «رفع ما لا يعلمون»(1)و «الناس في سعة ما لا يعلمون»(2) و «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(3) و غيرها؛ «مقتضية لعدم الاعتبار»، فلا يلزم الإتيان بمشكوك الاعتبار و ترفع احتمال العقاب الذي ينشأ من حكم العقل، فلا يبقى موضوع لحكم العقل بالاشتغال دفعا لاحتمال العقاب - و ذلك لعدم احتمال العقاب بعد جريان البراءة الشرعية - إذ لا مانع من جريان البراءة الشرعية في المقام نظير الشك في جزئية شيء أو في شرطيته

ص: 364


1- التوحيد، ص 353، ج 4 /تحف العقول، ص 50 /الوسائل، ج 5، ص 369. في حديث «رفع عن أمتي تسعة: الخطأ و النسيان، و ما أكرهوا عليها، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه، و الحسد، و الطيرة، و التفكر في الوسوسة في الخلق، ما لم ينطق بشفة. و في الاختصاص، ص 31، عن أبي عبد الله «عليه السلام»: «رفع عن أمتي ستة... إلى قوله: و ما اضطروا إليه». و في كشف الخفاء، ج 1، ص 522، ح 1393: «رفع الله عن هذه الأمة ثلاثا: الخطأ، و النسيان، و الأمر يكرهون عليه».
2- في غوالي اللآلي، ج 1، ص 404، ح 109: «إن الناس في سعة ما لم يعلموا».
3- الوسائل، ج 27، ص 163، باب 12.

الاعتبار، و إن كان قضية الاشتغال عقلا هو الاعتبار لوضوح: أنه لا بد في عمومها من شيء قابل للرفع و الوضع شرعا، و ليس هاهنا؛ فإن دخل قصد القربة و نحوها في الغرض ليس بشرعي، بل واقعي، و دخل الجزء و الشرط فيه و إن كان كذلك إلاّ إنهما قابلان للوضع و الرفع شرعا، فبدليل الرفع (1) - و لو كان أصلا - يكشف أنه ليس للمأمور به، فكما تجري البراءة فيهما فكذلك في المقام أي: في قصد القربة.

=============

فالحاصل أن غرضه: دفع ما يتوهم في المقام من قياس الشك في اعتبار قصد الأمر؛ بالشك في جزئية شيء أو شرطيته في جريان البراءة الشرعية الرافعة لخطر العقاب.

و حاصل الدفع لهذا التوهم: أن قياس المقام - بما إذا كان الشك في جزئية شيء أو شرطيته - قياس مع الفارق فيكون باطلا.

و توضيح الفرق يتوقف على مقدمة و هي: أن أدلة البراءة تجري في الأشياء التي تكون قابلة للوضع.

إذ كل ما قابل للوضع قابل للرفع بأدلة البراءة، و كل ما لا يكون قابلا للوضع لا يكون قابلا للرفع فلا تجري فيه البراءة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الفرق بين الأجزاء و الشرائط و بين قصد القربة أظهر من الشمس و هو أنهما قابلان للوضع، فيكونان قابلين للرفع.

هذا بخلاف قصد القربة بمعنى: الداعي إلى الأمر، إذ قد عرفت غير مرة أنه غير قابل للوضع حتى يمكن رفعه شرعا، فلا تجري فيه البراءة؛ لما تقدم من أن أدلة البراءة تجري في الأشياء القابلة للوضع في متعلق الأمر؛ حتى يمكن رفعها بأدلة البراءة بعد تمامية مقدمات الإطلاق المقامي.

و من هنا يعلم: أن مقدمات الإطلاق المقامي تامة في الجزء و الشرط المشكوكين، و لا تتم في قصد القربة بالمعنى المذكور؛ إذ لا تناله يد الجعل فكيف يمكن رفعه بأدلة البراءة ؟ فلهذا يرجع إلى الاحتياط و الاشتغال.

(1) أي: بدليل الرفع سواء كان اجتهاديا كإطلاق مقالي أو مقامي، أو كان أصلا عمليا، كما أشار إليه بقوله: «و لو كان أصلا» مثل: أصالة البراءة حيث يستكشف بها عن عدم تعلق أمر فعلي بالمركب المشتمل على المشكوك فيه أو المقيد به، فلا يجب الخروج عنه و لو كان ثابتا واقعا، و هذا بخلاف قصد القربة؛ فإن حكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم يقتضي إتيان الواجب بقصدها، لتوقف الفراغ عليه، و هذا الحكم العقلي يوجب فعلية وجوب الإتيان كذلك.

ص: 365

هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك يجب الخروج عن عهدته عقلا بخلاف المقام، فإنه علم بثبوت الأمر الفعلي (1)، كما عرفت (2)، فافهم (3).

=============

(1) أي: و هو حكم العقل بلزوم تحصيل العلم بالفراغ بعد العلم بالاشتغال.

(2) أي: كما عرفت في تأسيس الأصل حيث قال: «فاعلم: أنه لا مجال هاهنا إلاّ لأصالة الاشتغال».

(3) لعله إشارة إلى كون الإطلاق المقامي رافعا لاحتمال دخل قصد القربة في الغرض، و معه لا مجال لأصالة الاشتغال؛ لعدم جريان الأصل مع وجود الدليل الاجتهادي؛ و هو الإطلاق المقامي.

أو إشارة إلى: أن مجرد الدخل في الغرض - مع عدم تعلق التكليف به - لا يقتضي الاحتياط. قال: في «منتهى الدراية» ما هذا لفظه: «و لا يخفى: أن المصنف «قدس سره» لم يتعرض لسائر الوجوه التي استدل بها على اعتبار التعبدية؛ إذا شك فيها و اقتصر منها على البحث عن إطلاق الصيغة. و وجهه: أن البحث عن اعتبار قصد القربة من المسائل الفقهية، و الذي يكون مرتبطا بالأصول هو البحث عن دلالة الصيغة، و عدمها على ذلك.

خلاصة البحث في المبحث الخامس مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - المقدمة الأولى: في بيان الفرق بين الوجوب التوصلي و التعبدي هو:

أن الأول: ما يحصل الغرض منه بمجرد حصول الواجب، و يسقط الأمر به بمجرد وجوده، هذا بخلاف الثاني: أعني: الوجوب التعبدي؛ حيث لا يحصل الغرض منه بمجرد وجوده، بل لا بد في حصول الغرض منه و سقوط أمره من الإتيان به بقصد التقرب منه تعالى.

2 - المقدمة الثانية: في بيان معنى التقرب: و المستفاد من كلام العلماء الأعلام أن للتقرب أربعة معان:

1 - قصد الامتثال و الإتيان بالواجب بداعي أمره.

2 - الإتيان بالفعل بداعي حسنه.

3 - الإتيان بالفعل لكونه ذا مصلحة.

4 - الإتيان بالفعل للّه تعالى.

ثم التقرب بالمعنى الأول - المعتبر في الواجب التعبدي - مما لا يمكن أن يؤخذ في

ص: 366

متعلق التكليف شرعا؛ لاستلزمه الدور، أو التكليف بغير المقدور، فهو مما يعتبر عقلا في حصول الطاعة، و يستحيل اعتباره شرعا للمحذور المذكور.

3 - توهم اعتبار التقرب بالمعنى الأول شرعا؛ من دون لزوم الدور أو التكليف بغير المقدور، بمعنى: أن الدور يتوقف على وجود المتعلق خارجا، فيقال: إنه لا حاجة في التقرب بمعنى: قصد امتثال الأمر إلى وجود المتعلق خارجا؛ حتى يلزم الدور، بل يكفي وجوده تصورا، و حينئذ لا يلزم الدور؛ إذ يمكن أن يتصور الآمر موضوع الحكم أعني:

الصلاة المقيدة بداعي طبيعة الأمر، ثم يأمر به.

و لا محذور في دخل قصد القربة في المتعلق؛ لأن تصور الآمر الطبيعة الكلية المقيدة بامتثال أمرها لا يتوقف على وجود الأمر في الخارج حتى يلزم الدور.

هذا خلاصة تقريب التوهم، و قد أجاب عنه بقوله: «واضح الفساد» أي: التوهم المذكور واضح الفساد؛ ضرورة: أن ما ذكره المتوهم من أن الآمر يتصور الصلاة مقيدة بداعي الأمر و إن كان بمكان من الإمكان؛ إلاّ إنه يمنع الإتيان بها بداعي أمرها؛ و ذلك لعدم الأمر بالصلاة فقط، فإن الأمر - حسب الفرض - تعلق بالصلاة مقيدة بداعي الأمر لا بذات الصلاة. و من البديهي: أن الأمر لا يدعو إلى ما تعلق به - و هو الصلاة المقيدة بداعي الأمر - و لا يدعو إلى غيره - و هو ذات الصلاة - دون داعي الأمر؛ لأن الصلاة دون داعي الأمر غير واجبة على الفرض.

4 - إن قلت: - في دفع محذور عدم القدرة على الامتثال - إن الأمر إذا تعلق بالمقيد ينحل إلى أمرين ضمنيين؛ أحدهما: تعلق بالذات التي كانت معروضة للتقييد.

و ثانيهما: تعلق بالتقييد و هو داعي الأمر، فحينئذ يتمكن المكلف من إتيان الصلاة بداعي أمرها الضمني، فاندفع به إشكال تعذر الامتثال إلى الأبد.

«قلت: كلا». و حاصل الجواب: أن انحلال الأمر إلى أمرين ضمنيين إنما هو في الأجزاء الخارجية، لا في الأجزاء التحليلية و المقام من قبيل الثاني، فإن الأجزاء التحليلية لا تتصف بالوجوب لعدم وجود لها في الخارج، فلا ينحل الأمر بالمقيد إلى أمرين حتى يصح إتيان المقيد بداعي أمره الضمني.

5 - إن قلت: إن عدم الانحلال إلى أمرين ضمنيين إنما يتم فيما إذا أخذ قصد القربة شرطا، حيث يكون الشرط من الأجزاء التحليلية العقلية.

ص: 367

و أما إذا أخذ جزءا فلا محالة ينحل الأمر إلى أمرين أو أكثر بقدر عدد الأجزاء، فللصلاة حينئذ أمر ضمنيّ و يتمكن المكلف من إتيانها بداعي هذا الأمر الضمني.

قلت: أولا: يمتنع اعتبار قصد القربة جزءا للواجب؛ لاستلزامه التكليف بغير المقدور و بأمر غير اختياري؛ لأن قصد امتثال الأمر عبارة عن إرادة الفعل عن أمره؛ بحيث يكون الداعي إلى الإرادة ذلك الأمر. ثم نفس الإرادة ليست اختيارية حتى يصح أن تقع في حيز الأمر؛ إذ لو كانت اختيارية لكانت متوقفة على إرادة أخرى، فيلزم تسلسل الإرادات؛ و عليه: فلا يمكن أن يكون قصد القربة دخيلا على نحو الجزئية للمأمور به؛ حتى يقال بانحلال الأمر إلى أمرين ضمنيين.

و ثانيا: أن لازم ذلك أن يكون الأمر داعيا إلى نفسه؛ لأن المفروض: وحدة الأمر، فإذا كان الواجب مركبا من أجزاء، و كان من جملتها الإتيان بداعي الأمر؛ فالأمر بالكل هو بعينه أمر بالجزء فيلزم أن يكون الأمر داعيا إلى نفسه و هو مستحيل للزوم توقف الشيء على نفسه.

6 - إن قلت: إن ما تقدم من لزوم المحذور إنما يصح فيما إذا كان اعتبار قصد الامتثال في المأمور بأمر واحد، و أما إذا كان بأمرين - بمعنى: أن يكون هناك أمر متعلق بذات الصلاة مثلا، و أمر آخر يتعلق بإتيانها بداعي أمرها الأول - فلا يلزم المحذور أصلا؛ لا الدور، و لا عدم القدرة على الامتثال.

و حاصل ما أفاد المصنف في الجواب: منع تعدد الأمر صغرى و كبرى.

أما صغرى: فلأننا نعلم بعدم تعدد الأمر أصلا.

و أمّا كبرى: فلعدم الحاجة إلى تعدد الأمر؛ و ذلك لأن الأمر في المقام لا يخلو عن أحد احتمالين.

أحدهما: حصول الغرض الداعي إليه بمجرد إتيان متعلقه، بدون قصد الامتثال بأن يكون متعلقه واجبا توصليا.

و ثانيها: بقاء الغرض على حاله، و عدم حصوله بإتيان الفعل مجردا عن قصد الامتثال؛ بأن يكون تعبديا، فعلى الاحتمال الأول: يسقط الأمر بمجرد الإتيان بالفعل و لو بغير بداعي أمره، فلا يبقى مجال لموافقة الأمر الثاني فيكون لغوا.

و أما على الاحتمال الثاني: فلا حاجة إلى الأمر الثاني المولوي شرعا؛ و ذلك لكفاية حكم العقل بذلك، فإنه يستقل بإتيان المأمور به على وجه يحصل القطع بحصول

ص: 368

الغرض من الأمر و هو إتيانه بداعي الأمر، فعلى كلا الاحتمالين لا حاجة إلى الأمر الثاني.

هذا كله فيما إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى: قصد امتثال الأمر. و أما إذا كان بمعنى آخر من المعاني التي عرفتها سابقا، فأمكن أخذه في المأمور به من دون لزوم محذور أصلا.

7 - المقدمة الثالثة: في بيان التمسك بالإطلاق لإثبات التوصلية عند الشك في اعتبار قصد الامتثال؛ فنقول: إنه لا مجال للاستدلال بالإطلاق على عدم اعتبار قصد الامتثال؛ و ذلك لما عرفت من: أن التقابل بين الإطلاق و التقييد هو تقابل العدم و الملكة، فيعتبر في الإطلاق: أن يكون قابلا للتقييد و - قد عرفت عدم إمكان التقييد - فحينئذ لا إطلاق حتى يتمسك به لنفي التعبدية.

ثم مقتضى القاعدة عند الشك في اعتبار شيء في المأمور به هو: الرجوع إلى أصالة الاشتغال دون البراءة، و لو قيل بالبراءة في مسألة دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين؛ و ذلك للفرق بين المقامين؛ لأن الشك في المقام يرجع إلى الشك في سقوط أمر المولى؛ بعد العلم به.. هذا بخلاف مسألة دوران الأمر بين الأقل و الأكثر؛ حيث يكون الشك فيها شكا في أصل التكليف بالنسبة إلى الزائد، فيكون مرجعا للبراءة.

8 - رأي المصنف «قدس سره»: هو اعتبار قصد القربة؛ بمعنى: قصد امتثال الأمر عقلي، و لا يمكن أن يكون شرعيا؛ لما عرفت: من استلزامه الدور أو التكليف بغير المقدور؛ و لازم ذلك: عدم صحة التمسك بالإطلاق على عدم اعتبار قصد الامتثال عند الشك في اعتباره، فلا وجه أيضا لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة، و لا لاستظهار عدم اعتبار الوجه و نحوه مما هو ناشئ من قبل الأمر من إطلاق المادة؛ و ذلك لما عرفت:

من عدم تحقق الإطلاق أصلا، فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي و هو أصالة الاشتغال دون البراءة، و قد فصل في آخر البحث بين كون ما يحتمل دخله في كيفية الإطاعة مما يغفل عنه عامة الناس غالبا مثل قصد الوجه، و بين ما يلتفت إليه العامة فيرجع إلى البراءة في الأول؛ بمعنى: عدم اعتبار ما شك في اعتباره بمقتضى الإطلاق المقامي، و إلى الاحتياط في الثاني لكون الالتفات بيانا.

هذا تمام الكلام في خلاصة البحث.

ص: 369

المبحث السادس: قضية إطلاق الصيغة (1) كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا

اشارة

؛ لكون كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقييد الوجوب و تضييق دائرته، فإذا كان في مقام البيان، و لم ينصب

=============

مقتضى إطلاق الصيغة

(1) الغرض من عقد هذا المبحث: بيان ما هو مقتضى إطلاق الصيغة. يقول المصنف: إن قضية إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين كل من الوجوب النفسي و التعييني و العيني، و ما يقابل كل واحد منها.

و خلاصة الفرق: أن الوجوب الغيري المقابل للنفسي هو وجوب شيء لوجوب غيره، كوجوب الوضوء الذي يقيد بوجوب الصلاة.

و الوجوب التخييري المقابل للوجوب التعييني هو: وجوب شيء مع بدل، فهو مقيد بما إذا لم يأت بالعدل و البدل؛ نحو: خصال الكفارة.

و الوجوب الكفائي المقابل للوجوب العيني هو: وجوب شيء يسقط بفعل الغير، فهو مقيد بعدم إتيان المكلف الآخر؛ كدفن الميت المسلم.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن مقتضى إطلاق الصيغة هو كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا، و ذلك لأن لكلّ ما يقابلها قيد وجودي. و أما الوجوب النفسي التعييني العيني: فكان وجوب شيء بلا أحد القيود، فإذا تمت مقدمات الحكمة فإطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا، لأن كل ما يقابلها يحتاج إلى مئونة زائدة كما عرفت، هذا من دون فرق بين القول بأن مفاد هيئة الصيغة هو إنشاء مفهوم الطلب، و بين القول بأن هيئة الصيغة لإنشاء النسبة و إيجاد مصداق الطلب؛ بناء على إيجادية المعاني الحرفية.

و أما على الأول: فلأن الطلب المنشأ بالصيغة لما كان هو المفهوم، فإطلاقه يقتضي عدم تقيده بقيد؛ من كون الطلب مقيدا بطلب آخر و مترشحا منه ليكون الوجوب غيريا، و من وجوب غيره عدلا له ليكون تخييريا، و من عدم إتيان غيره به ليكون كفائيا، فإن كل واحد من هذه الأمور قيد له يرتفع بالإطلاق.

و أما على الثاني: فلكفاية الإطلاق المقامي في استظهار النفسية و غيرها من الصيغة، فعلى كل حال يصح أن يقال: إن إطلاق الصيغة يقتضي النفسية و العينية و التعيينية، فإن الغيرية تقييد في الوجوب لكونه منوطا - بوجوب غيره، و التخييرية - التي هي جعل

ص: 370

قرينة عليه فالحكمة تقتضي كونه مطلقا، وجب هناك شيء آخر أو لا (1)، أتى بشيء أو لا (2)، أتى به آخر أو لا (3)، كما هو واضح لا يخفى.

المبحث السابع: في الأمر الواقع عقيب الحظر

اشارة

أنه اختلف القائلون بظهور صيغة الأمر في الوجوب وضعا أو إطلاقا؛ فيما إذا وقع عقيب الحظر (4)، أو في مقام توهمه على أقوال:...

=============

العدل - تقييد للوجوب بقاء، و كذا الكفائية فإنها تقييد للوجوب بقاء بعدم إتيان الغير، فكل منها قيد ينفيه الإطلاق.

(1) كما في الوجوب الغيري؛ حيث وجب لو كان هناك واجب آخر.

(2) كما في الوجوب التخييري؛ حيث لا يجب لو أتى بعدله و بدله.

(3) كما في الوجوب الكفائي؛ حيث إن الوجوب فيه مقيد بعدم إتيان الغير.

فحاصل البحث: أن مقتضى الإطلاق نفي القيود المذكورة. و لازم ذلك: كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا. هذا هو مختار المصنف في المقام، و لا حاجة إلى تلخيص البحث.

في الأمر الواقع عقيب الحظر

(4) الغرض من عقد هذا المبحث هو: بيان حكم الأمر الواقع عقيب الحظر. و قبل الدخول في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام و النزاع فنقول: إن محل النزاع يتوقف على أمرين:

الأول: أن تكون صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب وضعا أو إطلاقا؛ كما أشار إليه بقوله: «اختلف القائلون بظهور صيغة الأمر في الوجوب وضعا أو إطلاقا...» إلخ.

الثاني: ما إذا وقع الأمر عقيب الحظر و المنع، أو في مقام توهم الحظر. المراد بالتوهم:

ما يكون جامعا بين الظن و الاحتمال؛ و هو: الشك المساوي و المرجوح أعني الوهم.

فلا يجري النزاع على القول بأن صيغة الأمر ليست ظاهرة في الوجوب، بل ظاهرة في الاستحباب، و لا فيما لم يقع الأمر عقيب الحظر. و من مثال وقوع الأمر عقيب الحظر و النهي قوله تعالى في سورة المائدة آية 2: وَ إِذٰا حَلَلْتُمْ فَاصْطٰادُوا بعد قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ المائدة: 95؛ حيث إن الأمر بالاصطياد واقع عقيب حرمة الاصطياد حال الإحرام. و من مثال وقوع الأمر في مقام توهم الحظر أمر المولى عبده بالخروج من الدار؛ في حال توهم العبد حرمة خروجه عن الدار.

ص: 371

نسب (1) إلى المشهور ظهورها في الإباحة. و إلى بعض العامة ظهورها في الوجوب.

و إلى بعض تبعيتها لما قبل النهي؛ إن علق الأمر بزوال علة النهي، إلى غير ذلك (2).

=============

إذا عرفت محل النزاع فاعلم: أنه وقع البحث في أنه هل وقوع صيغة الأمر عقيب الحظر يكون موجبا لارتفاع ظهورها في الوجوب، فلا تدل على الوجوب أم لا؟ بل كانت ظاهرة فيه كظهورها فيه قبل الحظر.

و بعبارة أخرى: هل يكون وقوع الصيغة عقيب الحظر من القرائن العامة النوعية الرافعة لظهورها في الوجوب أم لا؟ و في المسألة أقوال قد أشار المصنف إلى بعض تلك الأقوال.

(1) هذا هو القول الأول: أي: «نسب إلى المشهور ظهورها في الإباحة» بمعناها الخاص؛ كما هو المنسوب إلى صريح بعض كالمحقق القمّي «قدس سره»، أو معناها العام.

أي: القدر الجامع بين الأحكام الثلاثة؛ و ذلك لأن وقوع صيغة الأمر عقيب الحظر، أو في مقام توهم الحظر قرينة عامة صارفة عن معناها الحقيقي الذي هو الوجوب، و هذه القرينة تعيّن أحد المجازات و هو الإباحة.

و القول الثاني: ما أشار إليه بقوله: «إلى بعض العامة» أي: «نسب إلى بعض العامة»؛ كالرازي و البيضاوي «ظهورها في الوجوب»، و استدل عليه: بأن الأصل أن تحمل صيغة الأمر على معناها الحقيقي؛ ما دام لم يوجد مانع يمنعها عنه، و المانع هنا هو: الحظر المرتفع بالفرض، فليس هناك مانع آخر لجواز الانتقال إلى الوجوب السابق بعد رفع الحظر.

و القول الثالث: ما أشار إليه بقوله: «و إلى بعض تبعيتها لما قبل النهي» أي: حاصل ما أفاده البعض كالعضدي من التفصيل؛ بين ما إذا كان الأمر الواقع بعد الحظر معلقا بزوال علة النهي، و بين ما إذا لم يكن كذلك.

فعلى الأول: يكون الحكم بعد النهي و الحظر تابعا لما قبل النهي بمعنى: إن كان الحكم قبل الحظر هو الوجوب، كان بعده أيضا هو الوجوب. و إن كان الإباحة فكذلك بعد الحظر. هذا بخلاف ما إذا لم يكن معلقا على زوال علة النهي فهو ظاهر في الوجوب بعد الحظر كما كان ظاهرا فيه قبله، و مثال كون الأمر معلقا على زوال علة النهي قوله تعالى: وَ إِذٰا حَلَلْتُمْ فَاصْطٰادُوا فإن الأمر بالاصطياد معلق على الإحلال المضاد للإحرام؛ الذي هو علّة عروض النهي عن الصيد، فيفيد الاباحة التي هي حكم الصيد قبل النهي. و قوله تعالى: فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ التوبة: 15؛ حيث إن الانسلاخ الذي هو: عبارة عن انقضاء الأشهر الحرم؛ التي هي علة النهي؛ فيفيد الوجوب الذي كان قبل الحظر و النهي.

(2) أي: غير ما ذكر من التفاصيل المذكورة في المسألة.

ص: 372

و التحقيق (1): أنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال، فإنه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب أو الاباحة أو التبعيّة، و مع فرض التجريد عنها، لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه. غاية الأمر:

يكون موجبا لإجمالها، غير ظاهر في واحد منها إلاّ بقرينة أخرى، كما أشرنا (2).

=============

(1) التحقيق عند المصنف عدم صحة الأقوال التي ذكرها.

و حاصل ما أفاده المصنف في المقام: أنه لا دليل للقائلين بالإباحة و الوجوب و التبعية إلاّ موارد الاستعمال؛ حيث تشبث كل واحد من أصحاب الأقوال المذكورة بجملة من موارد الاستعمال، و لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال؛ لأن المدعى هو: كون نفس الوقوع عقيب الحظر قرينة على الاباحة أو التبعية أو غيرهما، و ليس الأمر في موارد الاستعمال كذلك لاحتفافها بالقرائن الخاصة كما أشار إليه بقوله: «فإنه قلّ مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب...» إلخ، فلم تثبت دلالتها على كون مجرد وقوع الأمر بعد الحظر قرينة على ما ادعوه من الأقوال المذكورة.

فالاستدلال بموارد الاستعمال على تلك الأقوال ضعيف جدا، فلا بد حينئذ إما من الالتزام بظهور الصيغة فيما كانت ظاهرة فيه قبل وقوعها عقيب الحظر أو الالتزام بإجمالها، و عدم الحمل على شيء من المعاني المذكورة إلاّ بقرينة خاصة؛ كما أشار إليه بقوله: «إلاّ بقرينة أخرى» أي: غير وقوعها عقيب الحظر، فالقرينة الأخرى هي التي تعيّن المراد.

فإرادة أحد المعاني المذكورة منوطة بقرينة معيّنة له.

(2) أي: أشرنا إلى وجود القرينة الخاصة في موارد الاستعمال.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

1 - محل النزاع هو ورود الأمر الظاهر في الوجوب عقيب الحظر.

2 - و الأقوال في هذا المورد و إن كانت كثيرة إلاّ إن المصنف ذكر المهم منها و هي ثلاثة:

الأول: أن الأمر الواقع عقيب الحظر ظاهر في الاباحة.

الثاني: أنه ظاهر في الوجوب.

الثالث: أنه ظاهر في الحكم السابق على التحريم من وجوب أو إباحة أو غيرهما؛ إن علق الأمر على زوال علة النهي.

3 - و التحقيق في المقام: أنه لا دليل على تلك الأقوال؛ بل كل مورد لا يكون خاليا

ص: 373

المبحث الثامن: في المرة و التكرار

اشارة

الحق: أن صيغة الأمر مطلقا لا دلالة لها على المرة و لا التكرار، فإن (1) المنصرف عنها ليس إلاّ طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها، فلا دلالة لها على أحدهما، لا بهيئتها و لا بمادتها، و الاكتفاء (2) بالمرة...

=============

عن القرينة الخاصة؛ على ما هو المراد من الوجوب أو الإباحة أو التبعية. و عدم القرينة الخاصة على تعيين المراد موجب لإجمالها.

4 - رأي المصنف: هو قيام القرينة الخاصة على تعيين ما هو المراد، و على فرض التجريد عنها تصبح صيغة الأمر مجملة، فلا بد حينئذ من الرجوع إلى الأصل العملي من البراءة أو الاستصحاب.

في المرة و التكرار و محل الكلام: ما إذا لم تكن صيغة الأمر مقيدة بمرة أو تكرار؛ فاختلفوا على أقوال، و قد ذهب جمع من المحققين إلى عدم دلالة الصيغة على أحدهما. و آخرون: إلى أنها تفيد التكرار. و ثالث: إلى المرة، و رابع: إلى اشتراكها بينهما، و خامس: إلى الوقف.

و حيث إن هذه الأقوال الأربعة الأخيرة بمعزل عن التحقيق أضرب المصنف عنها، و بيّن ما هو الحق عنده بقوله: «الحق: أن صيغة الأمر مطلقا» أي: حال كونها غير مقيدة بمرة أو تكرار «لا دلالة لها» أي: لصيغة الأمر «على المرة و لا التكرار».

(1) قوله: «فإن المنصرف عنها»؛ تعليل لعدم دلالة صيغة الأمر على المرة و التكرار.

و حاصل التعليل: أن لصيغة الأمر هيئة و مادة، و مفاد الهيئة هو: التكليف. و مفاد المادة هو: المكلف به، فهي لا تدل بشيء من هيئتها و مادتها على المرّة و التكرار لأن مدلولها المادي هو: نفس الصلاة بلا قيد أصلا، و مدلولها الهيئتي هو: طلب إيجاد الصلاة فقط، فلا بد في استفادة المرة أو التكرار من قرينة خارجية.

(2) هذا دفع للتوهم بتقريب: أن تحقق الامتثال بالمرة دليل على دلالة الصيغة عليها.

و حاصل الدفع: أن الاكتفاء بالمرة في تحقق الامتثال ليس لأجل دلالة الصيغة عليها؛ بل لحكم العقل حيث إن انطباق الطبيعي على فرده قهري، فيوجد الطبيعي المأمور به بفرده جزما، فيحكم العقل بالإجزاء، لأن المطلوب بالصيغة إيجاد الطبيعة الواقعة في حيّز الطلب، و قد حصل ذلك بأوّل وجودها، فلا بد حينئذ من الالتزام بالإجزاء و إلاّ فلا

ص: 374

فإنما هو (1) لحصول الامتثال بها في الأمر بالطبيعة، كما لا يخفى.

ثم لا يذهب عليك (2): أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام و التنوين لا يدل إلاّ على الماهية - على ما حكاه السكاكي(1)- لا يوجب كون النزاع هاهنا في الهيئة - كما في الفصول(2)- فإنه غفلة و ذهول عن كون المصدر كذلك لا يوجب الاتفاق على أنّ مادة الصيغة لا تدل إلاّ على الماهية.

=============

يحصل الإجزاء بسائر الأفراد أيضا؛ لاتحاد حكم الامثال فيما يجوز و لا يجوز.

و بالجملة: أن صيغة الأمر تنصرف بمادتها إلى مطلق الطبيعة، و بهيئتها إلى مطلق الطلب، فلا دلالة لها على المرة أو التكرار. نعم؛ حيث إن الطبيعة تتحقق بفرد من أفرادها يكتفى بالمرة.

(1) أي: الاكتفاء بالمرة لتحقق الامتثال بالمرة؛ لا لأجل دلالة الصيغة عليها.

(2) هذا الكلام من المصنف ردّ على صاحب الفصول؛ حيث خصّ مصبّ النزاع بالهيئة، فلا بد من نقل كلامه قبل تقريب إشكال المصنف عليه فنقول: «إنه قال في الفصول ما لفظه: «الحق: أن هيئة الأمر لا دلالة لها على المرة و لا التكرار...» إلى أن قال: «و إنما حررنا النزاع في الهيئة، لنص جماعة عليه، و لأن الأكثر حرروا النزاع في الصيغة، و هي ظاهرة بل صريحة فيها، و لأنه لا كلام لنا في أن المادة - و هي: المصدر المجرد عن اللام و التنوين - لا تدل إلاّ على الماهية من حيث هي على ما حكى السكاكي وفاقهم عليه». انتهى موضع الحاجة من كلامه «رحمه الله».

و خلاصة الفصول هو: اختصاص النزاع بالهيئة؛ بدعوى: أن مادة المشتقات هي المصدر، و دلالته على مطلق الحدث من دون المرة و التكرار اتفاقي بين النحاة على ما حكاه السكاكي، فنزاع المرة و التكرار يختص بالهيئة، و لا يجري في المادة.

و حاصل ردّ المصنف عليه هو: أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام و التنوين لا يدل إلاّ على الماهية - و إن كان صحيحا على ما حكاه السكاكي وفاقهم عليه - إلاّ إنه مما لا يوجب حصر النزاع هاهنا في خصوص الهيئة؛ و ذلك لأن المصدر ليس مادة للمشتقات؛ كي يوجب اتفاقهم على عدم دلالته إلاّ على الماهية اتفاقهم على عدم دلالة صيغة الأمر أيضا إلاّ على الماهية. و استدل المصنف «قدس سره» على عدم كون المصدر مادة لسائر المشتقات - بل امتناع كونه مادة لها - بمباينته معها بحسب المعنى كما تقدم

ص: 375


1- مفتاح العلوم، ص 93.
2- الفصول الغروية، ص 71، س 17.

ضرورة (1): أن المصدر ليس مادة لسائر المشتقات، بل هو (2) صيغة مثلها، كيف (3)؟ و قد عرفت في باب المشتق: مباينة المصدر و سائر المشتقات بحسب المعنى (4)، فكيف بمعناه يكون مادة لها (5)؟ فعليه (6): يمكن دعوى اعتبار المرة أو في باب المشتق من إبائه عن الحمل؛ بخلاف المشتق فإنه غير آب عن الحمل، فكيف يكون المصدر بما له من المعنى مادة لسائر المشتقات مع إنه مباين لها؟

=============

فالمصدر بهيئته و مادته أحد المشتقات؛ إذ للهيئة المصدرية دخل في المعنى، فحينئذ يمكن تصوير النزاع في دلالة الصيغة على المرة و التكرار في ناحية المادة كناحية الهيئة، فلا معنى لقول الفصول باختصاص النزاع في هيئة صيغة الأمر. قوله: «لا يوجب» خبر - إن - في قوله: «إن الاتفاق»، و ردّ لكلام الفصول؛ و قد عرفت ذلك.

(1) هذا تعليل لقوله: «لا يوجب الاتفاق».

(2) أي: بل المصدر صيغة برأسها مثل المشتقات، فله مادة و هيئة كالمشتقات.

(3) أي: كيف يعقل أن يكون المصدر مادة للمشتقات ؟ و الحال: أن معناه مباين لمعنى المشتق كما عرفت، و مع المباينة كيف يصح أن يكون مادة للمشتقات ؟ أي: لا يصح ذلك.

(4) أي: معنى المشتق اعتبر على نحو اللابشرط، و معنى المصدر اعتبر على نحو بشرط لا، و المباينة بينهما أظهر من الشمس؛ حيث إن اللابشرطية مقوّمة لمعنى المشتق، و بشرط اللائية مقوّمة لمفهوم المصدر.

(5) أي: فكيف يكون المصدر بمعناه المتباين على نحو البشرط اللائي مادة للمشتقات ؟

(6) أي: فبناء على ما ذكر - من عدم كون المصدر مادة للمشتقات - يمكن اعتبار المرة و التكرار في مادة الصيغة لا في هيئتها، فلا معنى لما زعمه صاحب الفصول من اختصاص النزاع بالهيئة، بل يمكن أن يقال: إن النزاع في المرة و التكرار يختص بمادة الصيغة على عكس ما زعمه صاحب الفصول.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن صيغة الأمر مشتملة على الجهتين و هما الهيئة و المادة، و مفاد الهيئة هو: الحكم المتعلق بالمادة أعني: المأمور به، فإذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الحكم و كل ما يكون من خصوصيات الحكم لا بد من أن يكون الدال عليهما الهيئة، و كل ما يكون من خصوصيات المأمور به لا بد من أن يكون الدال عليها المادة. و من المعلوم: أن المرة و التكرار هما من خصوصيات المأمور به؛ لأن المرة و التكرار عبارة عن كمية الفعل المأمور به من حيث الكثرة و القلة، و لازم ذلك: أنه لا بد أن يكون

ص: 376

التكرار في مادتها كما لا يخفى.

إن قلت: (1) فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام ؟

قلت: (2) مع إنه محل الخلاف معناه: أن الذي وضع أولا بالوضع الشخصي؛ ثم البحث في الدلالة على المرة و التكرار من ناحية المادة.

=============

(1) هذا الإشكال متفرع على إنكار كون المصدر مادة للمشتقات و أصلا لها؛ بتقريب: أن هذا الإنكار ينافي ما اشتهر بين أهل العربية من أن المصدر أصل في الكلام؛ إذ معنى كون المصدر أصلا في الكلام أنه مادة لجميع ما يتركب منه من المشتقات.

(2)

قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بوجهين:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «مع إنه محل الخلاف». و الثاني: ما أشار إليه بقوله:

«معناه: أن الذي وضع أولا بالوضع الشخصي».

و حاصل الوجه الأول: هو عدم تسالمهم على ذلك؛ لذهاب الكوفيين إلى أن الأصل في الكلام هو الفعل؛ و ذلك لوجهين:

الأول: أن الفعل يقع مؤكدا - بالفتح - و المصدر مؤكدا - بالكسر - نحو: «ضربت ضربا»؛ لأنه بمنزلة «ضربت ضربت» و هو أصل بالنسبة إليه؛ إذ هو عامل، و المصدر معمول؛ مضافا إلى كون الفعل متبوعا و المصدر تابعا. و من البديهي: أن العامل أصل و المعمول فرع، كما أن المتبوع أصل و التابع فرع.

الثاني: أن إعلال المصدر يدور مدار إعلال الفعل وجودا و عدما، و من الواضح: أن المدار عليه أصل، و المدار فرع. هذا ما ذهب إليه الكوفيون.

و أما البصريون فيقولون: بأن المصدر هو أصل الكلام، و استدلوا بوجهين:

الأول: أن مفهوم المصدر واحد و هو الحدث؛ و مفهوم الفعل متعدد و هو الحدث و الزمان و الواحد قبل المتعدد فيكون أصلا له.

الثاني: أن المصدر بمعنى: محل الصدور؛ لأنه اسم مكان صيغة، و الفعل مأخوذ عنه فهو فرع له. فالحاصل: أن كون المصدر أصلا في الكلام ليس أمرا موردا للاتفاق؛ بل هو محل الخلاف كما عرفت.

و أما الجواب الثاني: - و هو العمدة - فحاصله: أن المراد بكون المصدر أصلا ليس كونه مشتقا منه و مادة للمشتقات؛ بل معنى كونه أصلا في الكلام: أن الذي وضعه الواضع أولا هو المصدر ثم بملاحظته وضع غيره من الهيئات الخاصة التي تناسب المصدر مادة و معنى وضعا شخصيا أو نوعيا.

ص: 377

بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا سائر الصيغ التي تناسبه؛ مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها و منه بصورة و معنى؛ كذلك هو المصدر أو الفعل، فافهم (1).

ثم المراد (2) بالمرة و التكرار هل هو الدفعة و الدفعات ؟ أو الفرد و الأفراد؟

=============

مثلا وضع الواضع كلمة - الضرب - للحدث المنسوب إلى فاعل ما شخصيا، ثم بملاحظته وضع هيئة - ضرب - نوعيا للفعل الماضي من كل مادة؛ و إن كانت مؤلفة من حروف أخرى مثل - ن ص ر - فمعنى كون المصدر أصلا هو: إن ما يتصور أولا من مادة - ض ر ب - أو - ن ص ر - مثلا بصورة، ثم تتصور بصور أخرى هو المصدر كما عليه البصريون، أو الفعل كما عليه الكوفيون، و ليس معناه: كون المصدر بمادته و هيئته مادة للمشتقات، و ذلك من الأغلاط الواضحة؛ و ذلك لعدم انحفاظ المصدر لا بهيئته و لا بمعناه في المشتقات لمباينته لها هيئة و معنى.

و كيف كان؛ فوضع المصدر شخصي مطلقا و وضع المشتقات شخصي باعتبار مادتها. و نوعي بلحاظ هيئتها.

قوله: «سائر الصيغ» نائب فاعل عن «وضع» مبني للمفعول، و «مما جمعه» بيان «سائر الصيغ».

قوله: «مادة لفظ...» إلخ فاعل جمعه أي: كانت الجهة الجامعة بين الموضوع أولا و سائر الصيغ مادة اللفظ، فهما مشتركان فيها، كما في «الوصول، ج 1، ص 475».

(1) لعله إشارة إلى وجوب حمل كلامهم على ما ذكر من: أن المراد بالأصل هو الأصل بمعنى: المقيس عليه في مقام الوضع؛ بمعنى: أن الواضع وضع أولا المصدر، ثم قاس سائر المشتقات عليه و ذلك بقرينة دعوى الكوفيين بأن الفعل هو الأصل؛ إذ لا يمكن أن يراد منه: أن الفعل مادة للمشتقات بالمعنى الحقيقي.

و كيف كان؛ فإنه لا بد من توجيه كلامهم: بأن المصدر أصل في الكلام بما ذكر؛ لامتناع أن يكون المصدر بمادته و هيئته مادة للمشتقات، كما يمتنع أن يكون الفعل كذلك.

ما هو المراد المرة و التكرار

(2) أي: المراد بالمرّة و التكرار هل هو المرّة بمعنى الدفعة أو الفرد، و التكرار بمعنى الدفعات أو الأفراد.

و بعبارة أخرى: أنه فرق بين الفرد و الأفراد، و بين الدفعة و الدفعات؛ إذ الفرد: عبارة عن وقوع الفعل غير متعدد - سواء كان في زمان واحد أو في أزمنة متعددة كما في الفرد الممتد - و الأفراد: عبارة عن وقوع الفعل متعددا؛ من غير فرق في الزمان بين الواحد و المتعدد أيضا، و الدفعة: عبارة عن وقوع الفعل في زمان واحد متعددا كان الفعل أو غير

ص: 378

و التحقيق: (1) أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع؛ و إن كان لفظهما ظاهرا في المعنى الأول. و توهم: أنه لو أريد بالمرة الفرد لكان الأنسب، بل اللازم أن يجعل متعدد، و الدفعات: عبارة عن وقوع الفعل في أزمنة متعددة سواء كان فعلا واحدا أم متعددا.

=============

و على هذا يتحقق: أن بين كل من الدفعة و الفرد، و كل من الأفراد و الدفعات عموما من وجه، فلو جاء بإناءين في زمانين تحقق الفردان و الدفعتان، و لو جاء بإناءين في زمان واحد تحقق الفردان دون الدفعتين، و لو جاء بإناء واحد في زمان ممتد تحقق الدفعتان دون الفردين، كما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 1، ص 476».

هل هناك ثمرة فقهية أم لا؟ الجواب نعم؛ تظهر الثمرة بين الدفعات و الأفراد فيما إذا قال المولى لعبده: «أعتق رقبة»، و هو أعتق رقابا متعددة دفعة واحدة، فعلى الدفعات لا يجزي، و على الأفراد يجزي، لأن عتق الأفراد يتحقق في ضمن عتق الرقاب، و لا تتحقق الدفعات في ضمن دفعة و تظهر الثمرة بين الدفعة و الفرد أيضا في المثال المذكور فعلى القول بالدفعة يقع الجميع على صفة المطلوبية، و على القول بالفرد لا يكون المطلوب إلاّ واحد منها، و الباقي زائد على المطلوب.

(1) هذا الكلام من المصنف ردّ لصاحب الفصول و القوانين؛ و ذلك أن فيما هو المراد بالمرة و التكرار هنا احتمالات، بل أقوال:

الأول: أن المرة بمعنى: الدفعة. و التكرار بمعنى الدفعات هو محل الكلام.

الثاني: أن المراد بالمرة: الفرد. و بالتكرار: الأفراد.

الثالث: أن يكون كلاهما محل النزاع.

و الأول: ما استظهره صاحب الفصول.

و الثاني: ما استظهره صاحب القوانين.

و الثالث: هو مختار المصنف، فيكون ما اختاره المصنف ردّا للفاضلين.

قال في الفصول: إن المراد هنا بالمرة و التكرار هل هو الفرد و الأفراد أو الدفعة و الدفعات ؟ ما لفظه: «و التحقيق عندي هو الثاني؛ لمساعدة ظاهر اللفظين عليه». إلى أن قال: «مع إنهم لو أرادوا بالمرة الفرد لكان الأنسب؛ بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي» يعني بالمبحث الآتي: بحث تعلق الأوامر بالطبائع أو بالأفراد، فكان المبحوث عنه فيه هكذا هل الأمر متعلق بالطبيعة أو الفرد؟ و على القول بتعلقه بالفرد هل هو يقتضي الفرد الواحد أو الأفراد فيكون نزاعنا هذا جاريا على قول واحد من قولي تلك المسألة لا على قوليها جميعا أي: حتى على القول بتعلقه بالطبيعة ؟

ص: 379

هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي؛ من أن الأمر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد؟.

فيقال عند ذلك و على تقدير تعلقه بالفرد: هل يقتضى التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد، أو لا يقتضي شيئا منهما؟ و لم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث كما فعلوه، و أما لو أريد بها (1) الدفعة، فلا علقة بين المسألتين - كما لا يخفى؛ و حاصل كلام الفصول في المقام: أنه استدل على ما استظهره بوجهين:

=============

الأول: ظهور المرة و التكرار في الدفعة و الدفعات و هذا ما أشار إليه بقوله: «و إن كان لفظهما ظاهرا في المعنى الأول» أي: في الدفعة.

الثاني: أن كل مسألة لا بد من أن تجري على جميع تقادير المسألة الأخرى؛ بأن يكون بينهما عموم من وجه، و بين الدفعة و المسألة الآتية كذلك؛ إذ كل من القائل بالدفعة و الدفعات يمكن أن يقول بتعلق الأوامر بالطبيعة و بالفرد و بالعكس، و ليس كذلك لو كان المراد من هذه المسألة الفرد؛ إذ على تقدير أن يقال في هذه المسألة بالفرد؛ لا يمكن أن يقال في المسألة الآتية بالطبيعة.

هذا ما أشار إليه بقوله: «و توهم أنه لو أريد بالمرة الفرد...» إلخ.

و حاصل هذا التوهم من الفصول: أنه - بناء على إرادة الفرد من المرة - يلزم جعل هذا البحث تتمة للمبحث الآتي من أن الأمر متعلق بالطبيعة أو الفرد؛ بأن يقال: إنه على القول بتعلق الأمر بالفرد هل تدل صيغة الأمر على كون المطلوب فردا واحدا أم أفرادا متعددة ؟ و منشأ هذا التوهم هو: وحدة العنوان أعني: الفرد في المسألتين، و ظهور كونه في كلتيهما بمعنى واحد، و هو ما يقابل الطبيعة، كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 507».

(1) أي: و أما لو أريد بالمرة الدفعة «فلا علقة بين المسألتين» أي: مسألة المرة و التكرار، و مسألة تعلق الأوامر بالطبائع أو الأفراد.

و وجه عدم العلقة بينهما بحيث يصحّح تعدد البحث هو: أنه بناء على إرادة الدفعة و الدفعات من المرة و التكرار يجري هذا البحث على كلا القولين في تلك المسألة؛ بأن يقال بناء على تعلق الأمر بالطبيعة: هل تقتضي الصيغة مطلوبية الطبيعة دفعة أو دفعات، و في وقت أو أوقات ؟ و على القول بتعلقه بالفرد: هل تقتضي الصيغة اعتبار الدفعة في مطلوبية الفرد أو الدفعات في مطلوبية الأفراد، أم لا تقتضي شيئا منهما؟

و هذا بخلاف تفسير المرة بالفرد؛ فإنه لا يكون تتمة لتلك المسألة؛ بناء على تعلق الأمر بالطبيعة، إذ لا يصح أن يقال حينئذ: هل الصيغة تدل على مطلوبية الفرد أو

ص: 380

فاسد (1)؛ لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا، فإن الطلب على القول بالطبيعة إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج.

=============

الأفراد؟ إذ المفروض: تعلق الطلب بالطبيعة، فلا يبقى مجال للبحث عن دلالة الصيغة على مطلوبية الفرد أو الأفراد بناء على تعلق الأمر بالطبيعة.

و المتحصل: أن صاحب الفصول استظهر من المرة و التكرار الدفعة و الدفعات لوجهين:

أحدهما: التبادر كما تقدم أي: ظهور اللفظين.

ثانيهما: جريان النزاع في دلالة الصيغة على المرة و التكرار؛ بناء على إرادة الدفعة و الدفعات منهما على كلا القولين في المسألة الآتية، و عدم جريانه بناء على إرادة الفرد و الأفراد منهما كما عرفت آنفا، كما في «منتهى الدراية» مع تصرف ما.

(1) قوله: «فاسد» خبر لقوله: «و توهم أنه...» إلخ، و دفع له.

و حاصل الدفع: أن كل من الدليلين فاسد؛ أما الأول: فلأن ظهور لفظ في أمر لا يقتضي اختصاص الكلام به؛ لما عرفت من وقوعهما بكلا المعنيين محلّ النزاع.

و أما الثاني: فلأن ما زعمه من عدم العلقة بين المسألتين - لو أريد الدفعة بخلاف ما لو أريد الفرد - غير صحيح و ذلك لعدم العلقة بينهما أي: بين مسألة المرة و التكرار، و مسألة الطبيعة و الفرد لو أريد بها أي: بالمرة الفرد أيضا أي: كما لو أريد بها الدفعة. هذا مجمل الكلام في المقام. و أما تفصيل ذلك فتوضيحه يتوقف على مقدمة و هي: أن طلب المولى - على القول بتعلق الأوامر بالطبائع - إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج في ضمن الأفراد، لأن الطبيعة من حيث هي ليست إلاّ هي لا مطلوبة للمولى و لا غير مطلوبة؛ إذ هي مجردة عن جميع الخصوصيات، و يدل على تجردها عنها: تقسيمها إلى الموجودة و إلى المعدومة؛ فيقال: إنها إما موجودة و إما معدومة. فالمطلوب - في المسألة الآتية على القول بتعلق الأوامر بالطبائع - هو: الوجود في ضمن الأفراد، و على القول بتعلق الأوامر بالأفراد أيضا هو: الوجود.

غاية الأمر: الفرق بينهما: أن خصوصيات الفرد داخلة في المطلوب، إذا كان المراد بالأفراد هي الأفراد تقابل الطبائع، و أما على القول بتعلق الأوامر بالطبائع: فالخصوصيات الفردية غير داخلة في المطلوب، و غير داخلة في متعلق الأمر؛ لأن المطلوب إيجاد الطبيعة في ضمن فرد من أفرادها.

ثم المراد بالفرد - بناء على إرادة الفرد من المرة في هذه المسألة - هو: الفرد بمعنى:

الوجود الواحد من وجودات المأمور به؛ بحيث تكون لوازم الوجود خارجة عنه.

ص: 381

ضرورة؛ أن الطبيعة من حيث هي ليست إلاّ هي، لا مطلوبة و لا غير مطلوبة، و بهذا الاعتبار (1) كانت مرددة بين المرة و التكرار بكلا المعنيين، فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة و التكرار بالمعنيين و عدمها.

أما (2) بالمعنى الأول: فواضح.

و أما بالمعنى الثاني (3): فلوضوح: أن المراد من الفرد أو الأفراد وجود واحد أو و المراد بالتكرار هو: الوجودات للمأمور به.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن نزاع المرة و التكرار بمعنى: الفرد و الأفراد يأتي على كل من القول بتعلق الأمر بالطبيعة أو الفرد؛ فجعل هذا النزاع من تتمة مسألة تعلق الأمر بالطبيعة أو الفرد كما صنعه في الفصول ليس في محله.

و أما جريان النزاع - على القول بأن المراد بالمرة الدفعة و بالتكرار الدفعات - فواضح؛ فإنه يقال على القول بتعلق الأمر بالطبيعة: هل يجب الإتيان بالطبيعة في ضمن الفرد دفعة أو دفعات. و بعبارة أخرى: هل يكفي الإتيان بالطبيعة في ضمن وجود واحد، أو في ضمن وجودات.

و أما على القول بأن المراد بالمرة: الفرد، و بالتكرار: الأفراد فيقال: هل يكفي في تحقق الامتثال وجود واحد للمأمور به، أو لا بد من وجودات له؛ فحينئذ فلا معنى لما ذكره صاحب الفصول من جعل هذا المبحث من تتمة المبحث الآتي، بناء على أن يكون المراد بالمرة الفرد.

(1) أي: بهذا الاعتبار الذي ذكرنا - من تعلق الطلب و الأمر بالطبيعة باعتبار وجودها الخارجي - كانت الطبيعة مردّدة بين المرة و التكرار بكلا المعنيين أي: الفرد و الأفراد، و الدفعة و الدفعات «فيصح النزاع» على القول بالطبيعة «في دلالة الصيغة على المرة و التكرار بالمعنيين، و عدمها» أي: عدم دلالة الصيغة على أحدهما، بل الصيغة لا تدل على المرة و لا على التكرار؛ كما اختاره المصنف في أول البحث.

(2) أي: و أمّا تأتّي النزاع على القول بالمرة و التكرار «بالمعنى الأول» أي: الدفعة و الدفعات «فواضح»؛ إذ يقال بعد ما اخترنا في المسألة الآتية أن الأمر متعلق بالطبيعة لا الفرد: هل يجب الإتيان بالطبيعة دفعة واحدة أو دفعات. و بعبارة أخرى: يصح أن يقال:

إن وجود الطبيعة هل هو مطلوب دفعة أو دفعات ؟

(3) أي: على القول بأن المرة و التكرار بمعنى الفرد و الأفراد يصح أن يقال: بأن المطلوب هل هو وجود واحد أو وجودات ؟

ص: 382

وجودات، و إنما عبر بالفرد (1) لأن وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد. غاية الأمر (2):

خصوصيته و تشخصه - على القول بتعلق الأمر بالطبائع - يلازم المطلوب و خارج عنه؛ بخلاف القول بتعلقه بالأفراد فإنه مما يقومه.

=============

(1) أي: إنما عبر عن الوجود الواحد بالفرد، و عن الوجودات بالأفراد، لأن وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد.

(2) قوله: «غاية الأمر»؛ إنما هو في بيان الفرق بين تعلق الأمر بالطبيعة، و بين تعلق الأمر بالفرد في المسألة الآتية.

و خلاصة الفرق: أن «خصوصيته و تشخصه» أي: خصوصية الفرد و تشخصه يلازم المطلوب؛ على القول بتعلق الأمر بالطبائع؛ و ذلك لعدم وجود الطبيعة بدون تشخص ما، فإن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد، و لكن هذا التشخص خارج عن المطلوب؛ لعدم كونه في حيّز الطلب، هذا بخلاف تعلق الأمر بالأفراد؛ فإن التشخص حينئذ «مما يقوّمه» أي: المطلوب؛ إذ أحد التشخصات على سبيل البدل واقع في حيّز الطلب.

و المتحصل: أن الخصوصيات الفردية - على القول بتعلق الأوامر بالطبائع - خارجة عن المطلوب، و الداخل تحت الطلب هو مجرد وجود الطبيعة.

و أما الخصوصيات الفردية: فهي و إن كانت مما يلازم المطلوب خارجا إلاّ أنها خارجة عن المطلوب؛ بحيث لو أمكن التفكيك في مقام الامتثال بين إيجاد الطبيعة و بين تلك الخصوصيات و المشخصات الفردية لأجزأ و كفى.

و أما على القول بتعلقها بالأفراد: فتكون الخصوصيات و المشخصات الفردية جزءا للمطلوب و قواما له؛ بحيث لو أمكن التفكيك بين إيجاد الطبيعة و بين تلك الخصوصيات و المشخصات لم يجز ذلك، و لم يكف؛ كما سيأتي توضيح ذلك في محله.

و قد ظهر مما ذكرناه: أنه لا فرق بين القول بتعلق الأمر بالطبيعة، و بين القول بتعلقه بالفرد في جريان نزاع المرة و التكرار، بل يجري على كلا القولين، و إنما الفرق في كون التشخص الفردي خارج عن الطلب أو في حيّز الطلب كما عرفت مفصلا، و الأول: في فرض تعلق الأمر بالطبيعة. و الثاني: في تعلقه بالفرد؛ فإن التشخص حينئذ مقوّم للمطلوب فيصح قصد القربة به، و لا يكون تشريعا.

ص: 383

تنبيه (1): في ثمرة المرة و التكرار

لا إشكال - بناء على القول بالمرة في الامتثال، و أنه لا مجال للإتيان بالمأمور به ثانيا - على أن يكون أيضا به الامتثال فإنه من الامتثال بعد الامتثال.

و أما على المختار من دلالته (2) على طلب الطبيعة؛ من دون دلالة على المرة و لا

=============

(1) الغرض من هذا التنبيه الذي جعله في الفصول بعنوان التذنيب هو: بيان ثمرة مسألة المرة و التكرار.

و حاصل ذلك على ما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 512»: أنه بناء على دلالة الصيغة على المرة يحصل الامتثال بالإيجاد الأول مطلقا سواء فسرت المرة بالفرد أم بالدفعة، ضرورة: صدقها بكل هذين المعنيين على الإيجاد الأول، فإذا أعتق ثلاثة عبيد مثلا بإنشاء واحد أو أطعم ثلاث ستينات من المساكين دفعة، فلا إشكال في حصول الامتثال؛ لوجود الطبيعة كحصوله بعتق واحد من العبيد، و إطعام ستين مسكينا، و بعد تحقق الامتثال لا معنى لايجاد الطبيعة ثانيا بعنوان الإطاعة التي هي موافقة الأمر، إذ المفروض: سقوطه بالإيجاد الأول، فيمتنع الإتيان به ثانيا بعنوان الامتثال، و هذا معنى قولهم: «لا معنى للامتثال عقيب الامتثال».

و أما بناء على دلالة الصيغة على التكرار: فلا إشكال في وجوب إيجاد الطبيعة المأمور بها ثانيا و ثالثا و هكذا، لصدق الامتثال على الجميع؛ حيث إن الصيغة تدل على مطلوبية جميع وجودات الطبيعة، فلكل وجود حكم يخصه كالعام الاستغراقي فتحصل الامتثالات على حسب إيجاد المأمور به، كما أنه تحصل العصيانات على تقدير عدم إيجاد المأمور به و لو مرة.

(2) أي: من دلالة الأمر على طلب نفس الطبيعة فقط؛ من دون دلالة على المرة و لا على التكرار، فلا يخلو الحال من أحد وجهين:

أحدهما: أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان؛ بل كان في مقام الإهمال و الإجمال، و الفرق بينهما: أن الأول ما لا يتعلق الغرض ببيانه و لا بإخفائه. و الثاني: ما يتعلق الغرض باخفائه.

و ثانيهما: أن يكون إطلاق الصيغة مسوقا للبيان، فعلى الأول: لا بد من الرجوع إلى الأصل العملي و هو أصالة البراءة؛ و مقتضاها: كفاية المرة لعدم وجوب الزائد.

و أما على الثاني: فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة؛ لصدق الطبيعة عليها، و إنما الإشكال هو في جواز الإتيان بغير المرة بقصد امتثال الأمر؛ بأن يأتي المكلف بالطبيعة ثانيا و ثالثا و هكذا.

ص: 384

على التكرار فلا يخلو الحال: إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان؛ بل في مقام الإهمال أو الإجمال فالمرجع هو الأصل. و إمّا أن يكون إطلاقها في ذلك المقام فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال؛ و إنما الإشكال في جواز أن لا يقتصر عليها (1)؛ فإن لازم إطلاق الطبيعة المأمور بها هو الإتيان بها مرة أو مرارا لا لزوم الاقتصار على المرة، كما لا يخفى.

و التحقيق: (2) أن قضية الإطلاق: إنما هو جواز الإتيان بها مرة في ضمن فرد أو أفراد، فيكون إيجادها (3) في ضمنها نحوا من الامتثال كإيجادها في ضمن الواحد؛ وجه الإشكال من سقوط الأمر بالطبيعة بالإتيان بها مرة: لاحتمال كون المرة مشروطة بشرط لا، فإيجادها ثانيا تشريع محرم لخلوه عن الأمر.

=============

و من أن المفروض كون إطلاق الصيغة في مقام البيان، فيجوز الإتيان بالطبيعة ثانيا و ثالثا، نظرا إلى الإطلاق، فلازم ذلك: الإتيان بالطبيعة غير مرة، و لكن قد ناقش المصنف في إطلاق الصيغة بقوله: «و التحقيق...» إلخ.

(1) أي: على المرة بأن يأتي بالطبيعة مرة أخرى فقد يتوهم و يقال: بجواز الإتيان بالطبيعة أكثر من مرة بقصد امتثال الأمر، فإن لازم إطلاق الطبيعة الملقاة على المخاطب المأمور بها هو الإتيان بها مرة واحدة أو مرات عديدة، لأن جميع أفراد الطبيعة مأمور بها لأجل الأمر بالطبيعة، فلا مانع من الإتيان بما هو زائد على المرة. هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه القول بجواز المرة و التكرار، و عدم لزوم الاقتصار على المرة.

(2) أي: التحقيق خلاف ما ذكر؛ من جواز التكرار بمقتضى الإطلاق، إذ مع الإتيان الأول لا يبقى مجال للإتيان الثاني بمقتضى الإطلاق؛ لأن قضية الإطلاق أي: إطلاق الطبيعة المأمور بها و عدم تقييدها ليست جواز الإتيان بها أكثر من مرة؛ بل جواز الإتيان بها مرة واحدة. غاية الأمر: أن المكلف مخير في الإتيان بها بين الإتيان بها في ضمن فرد، أو في ضمن أفراد أي: الأفراد العرضية، فيكون المراد بالمرة الدفعة.

(3) أي: فيكون إيجاد الطبيعة المأمور بها في ضمن أفرادها العرضية نحوا من الامتثال؛ كإيجاد الطبيعة في ضمن الفرد الواحد حيث يكون نحوا من الامتثال بلا إشكال أصلا. هذا هو مقتضى إطلاق الطبيعة المأمور بها. و ليس مقتضى الإطلاق جواز الإتيان بالطبيعة المأمور بها مرة و مرات كما قيل؛ إذ يسقط الأمر بالإتيان بها مرة واحدة فيما إذا كان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض، فلا معنى للإتيان ثانيا مع سقوط الأمر؛ لأجل حصول الغرض منه.

ص: 385

لا جواز الإتيان بها مرة و مرات فإنه (1) مع الإتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال و يسقط به الأمر؛ فيما إذا كان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض الأقصى، بحيث يحصل بمجرده، فلا يبقى معه مجال لإتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر، أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثالا واحدا؛ لما عرفت: من حصول الموافقة بإتيانها، و سقوط الغرض معها، و سقوط الأمر بسقوطه، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا.

و أمّا إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض (2)، كما إذا أمر بالماء ليشرب

=============

(1) هذا تعليل لعدم كون الإطلاق صالحا لإثبات جواز الإتيان بما عدا الوجود الأول من الوجودات الطولية.

و حاصله: - على ما في بعض الشروح - أن الوجود الأول إن كان علة تامة لحصول الغرض الداعي إلى الأمر؛ فلا محالة يكون علة تامة لسقوط الأمر أيضا، و حينئذ يمتنع أن يكون إتيان الطبيعة ثانيا و ثالثا متعلقا للأمر، و بهذا الامتناع يمتنع أن يكون للصيغة إطلاق يشمل المرة و المرات، بل يمكن منع الإطلاق - مع غض النظر عن هذا المانع العقلي - بأن يقال: إن مقتضى تعلق الطلب بطبيعة هو نقض عدمها بالوجود، و ذلك يتحقق بصرف الوجود المنطبق على القليل و الكثير، و هو لا ينطبق على الوجود اللاحق؛ لكونه وجودا بعد وجود، و إنما قيد الغرض بكونه أقصى، لأن الغرض المقدمي لا يكون علة تامة لسقوط الأمر مثل الغرض المقدمي للمولى؛ من أمره بإحضار الماء هو حضور الماء عنده، و غرضه الأقصى هو رفع عطشه، فلا يسقط الأمر بحصول الغرض المقدمي.

و كيف كان؛ فلا يبقى مجال لإتيان المأمور به مع حصول الغرض الأقصى ثانيا؛ سواء كان الإتيان بداعي امتثال آخر، أو بداعي أن يكون الثاني امتثالا دون الأول، أو بداعي أن يكون كل واحد من الإتيانين جزء الامتثال؛ كما أشار إليه بقوله: «أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثالا واحدا».

(2) أي: الغرض الأقصى، فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه.

فنتيجة البحث: أنه إذا كان امتثال الأمر علة لحصول الغرض فلا معنى لإتيان المأمور به ثانيا بقصد الامتثال؛ و ذلك لعدم بقاء الأمر بعد حصول الغرض، و إذا لم يكن علة تامة له - كما في المثال المزبور - فلا يبعد جواز الاتيان بالمأمور به ثانيا بقصد الامتثال؛ لأن بقاء الغرض كاشف عن بقاء الأمر، فإذا لم يسقط الأمر فلا بد من الامتثال ثانيا.

هذا فيما إذا كان الأمر مطلقا من حيث اللفظ. و أما إذا كان مهملا فلا بد - حينئذ - من الاكتفاء بالمرة، و الرجوع في الزائد عليها إلى الأصول العملية من البراءة أو الاستصحاب على ما يقتضيه المقام.

ص: 386

أو يتوضأ فأتى به، و لم يشرب أو لم يتوضأ فعلا فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه (1)، بل مطلقا، كما كان له (2) ذلك قبله، على ما يأتي بيانه في الإجزاء.

=============

(1) أي: الأفضل من الفرد الأول «بل مطلقا» أي: و لو كان مساويا، أو أدون من الفرد الأول. هذا كله في مقام الثبوت، و أما في مقام الإثبات: فلا يمكن قصد التبديل إلاّ مع القطع ببقاء الغرض، و عدم كون إبطال الأول مضرا.

(2) أي: كما كان للمكلف جواز الإتيان بالفرد اللاحق قبل إتيانه بالفرد السابق.

و المتحصل من جميع ما ذكرناه: أنه هل يمكن الامتثال بعد الامتثال أم لا؟ فيه وجوه. ثالثها: التفصيل بين بقاء الغرض الأقصى و عدمه، و هذا التفصيل هو مختار المصنف «قدس سره» و قد عرفت وجه ذلك.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

المبحث الثامن يتلخص في أمور:

1 - محل الكلام: فيما لم تكن صيغة الأمر مقيدة بمرة أو تكرار. فاختلفوا على أقوال:

1 - أنها تفيد التكرار.

2 - أنها تدل على المرة.

3 - أنها مشتركة بين المرة و التكرار.

4 - أنها لا تدل على شيء منهما.

فإن المنصرف منها ليس إلاّ طلب إيجاد نفس الطبيعة المأمور بها، و الاكتفاء بالمرة ليس دليلا على دلالتها على المرة؛ بل إنما هو لحصول الامتثال بها.

2 - ردّ المصنف على الفصول: حيث خص صاحب الفصول محل النزاع بهيئة صيغة الأمر بدعوى: أن مادة المشتقات و هو المصدر؛ الذي دلالته على مطلق الحدث من دون المرة و التكرار اتفاقي بين النحاة على ما حكاه السكاكي.

و حاصل ردّ المصنف عليه: هو أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام و التنوين لا يدل إلاّ على الماهية و إن كان صحيحا إلاّ إنه مما لا يوجب حصر النزاع هاهنا في خصوص الهيئة؛ و ذلك لأن المصدر ليس مادة للمشتقات كي يوجب اتفاقهم على عدم دلالة المصدر؛ إلاّ على الماهية اتفاقهم على عدم دلالة صيغة الأمر أيضا إلاّ على الماهية، بل المصدر بهيئته و مادته أحد المشتقات إذ للهيئة المصدرية دخل في المعنى.

ص: 387

فحينئذ يمكن تصوير النزاع في دلالة الصيغة على المرة و التكرار في ناحية المادة، كما يجوز في ناحية الهيئة، فلا معنى لما ذهب إليه صاحب الفصول من اختصاص النزاع بالهيئة.

3 - دفع الإشكال المتفرع على إنكار كون المصدر مادة للمشتقات بتقريب: أن هذا الإنكار ينافي ما اشتهر بين أهل العربية من: أن المصدر أصل في الكلام؛ إذ معنى كون المصدر أصلا في الكلام أنه مادة لجميع ما يتركب منه من المشتقات.

و حاصل الدفع: أولا: هو عدم تسالمهم على ذلك؛ لذهاب الكوفيين إلى: أن الأصل في الكلام هو الفعل، فكون المصدر أصلا في الكلام ليس أمرا اتفاقيا؛ بل هو محل الخلاف.

و ثانيا: - و هو العمدة في الجواب - أن المراد بكون المصدر أصلا ليس كونه مشتقا منه و مادة للمشتقات، بل معناه: أن الواضع وضع المصدر أولا، ثم وضع غيره مما يناسبه مادة و معنى قياسا عليه، فالأصل هنا بمعنى: جعله المقيس عليه لسائر المشتقات.

4 - المراد بالمرة و التكرار: يمكن أن يكون بمعنى: الدفعة و الدفعات أو الفرد و الأفراد، يقول المصنف: إنهما بكلا المعنيين يمكن أن يقعا محل النزاع.

و توهم صاحب الفصول: بأن المراد بالمرة لو كان بمعنى الفرد؛ لكان المناسب جعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي: - و هو تعلق الأمر بالفرد أو بالطبيعة - بأن يقال: إنه على القول بتعلق الأمر بالفرد هل صيغة الأمر تدل على كون المطلوب فردا واحدا أم أفرادا متعددة ؟ فاسد أي: توهم الفصول فاسد.

توضيح ذلك: أن الأوامر على القول بتعلقها بالطبائع إنما يتعلق بها باعتبار وجودها، فيجري النزاع على كلا القولين، فجعل هذا النزاع من تتمة المبحث الآتي ليس في محله.

5 - تنبيه: لا إشكال في تحقق الامتثال بإتيان المأمور به مرة على القول بالمرة، فلا مجال للإتيان به ثانيا على أن يكون امتثالا بعد الامتثال، و كذلك لا إشكال في الإتيان ثانيا و ثالثا على القول بالتكرار؛ لصدق الامتثال على الجميع على هذا القول.

و أما على ما هو مختار المصنف من دلالة الأمر على طلب إيجاد نفس الطبيعة؛ فلا يخلو الحال من أحد وجهين: إمّا أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان؛ بل كان في مقام الإهمال و الإجمال. و إمّا أن يكون إطلاقها مسوقا للبيان.

ص: 388

فأمّا على الأول: فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي و هو أصالة البراءة، و مقتضاها:

كفاية المرة لعدم وجوب الزائد.

و أما على الثاني: فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة لصدق الطبيعة عليها، و إنما الإشكال في الإتيان بها ثانيا و ثالثا، و هكذا وجه الإشكال من سقوط الأمر بالطبيعة بالإتيان بها مرة.

و من أن المفروض: كون إطلاق الصيغة في مقام البيان، فيجوز الإتيان بالطبيعة ثانيا و ثالثا نظرا إلى الإطلاق.

و لكن ناقش المصنف في إطلاق الصيغة بقوله: «و التحقيق».

و ملخص ما أفاده المصنف في ردّ الإطلاق هو: أن مقتضى الإطلاق هو جواز الإتيان في ضمن فرد أو أفراد مرة واحدة لا جواز الإتيان بها مرة و مرات؛ إذ مع الإتيان بها مرة يحصل الامتثال، و يسقط به الأمر؛ فيما إذا كان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض الأقصى، و أما إذا لم يكن الامتثال علة تامة فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان آخر.

6 - مختار المصنف و رأيه في المبحث الثامن:

1 - أن محل النزاع لا يختص بالمرة و التكرار بمعنى: الدفعة و الدفعات؛ بل يجري فيما إذا كان المراد من المرة و التكرار الفرد و الأفراد، فالنزاع يجري في المرة و التكرار بكلا المعنيين.

2 - أن صيغة الأمر لا تدل على المرة و لا على التكرار؛ بل تفيد طلب إيجاد نفس الطبيعة المأمور بها.

3 - رأي المصنف في الامتثال بعد الامتثال هو:

التفصيل بين ما إذا كان الامتثال الأول علة تامة لحصول الغرض الأقصى، و بين ما إذا لم يكن علة تامة له.

فعلى الأول: لا يجوز الامتثال بعد الامتثال؛ و ذلك لحصول الغرض الأقصى؛ المستلزم لسقوط الأمر.

و أما على الثاني -: أي: ما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض الأقصى - فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بالامتثال الآخر؛ بأن يأتي المكلف بفرد آخر أحسن من الفرد الأول أو مطلقا أي: و إن كان الفرد الثاني مساويا للفرد الأول أو الأدون منه. هذا تمام الكلام في خلاصة المبحث الثامن.

ص: 389

المبحث التاسع: (1) في الفور و التراخي

اشارة

الحق (2): أنه لا دلالة للصيغة، لا على الفور و لا على التراخي، نعم؛ قضية إطلاقها في الفور و التراخي (1) قبل الخوض في البحث ينبغي بيان محل النزاع و هو: أن الأمر بنفسه مع عدم القرينة الخارجية هل يقتضي الفور بمعنى: المبادرة للامتثال في الزمن الثاني من الخطاب، أو في أول أزمنة الإمكان ؟ كما عن الشيخ الطوسي «قدس سره» و أتباعه، أو التراخي بمعنى: جواز التأخير، أو أنه مشترك بينهما؟ كما عن علم الهدى «قدس سره»، أو أنه لا يدل على شيء منهما و ليس مشتركا بينهما؟ كما هو الحق عند المصنف «قدس سره».

=============

ثم ظاهر المصنف و صريح الفصول: أن النزاع في هذا المبحث هو كالنزاع في المبحث السابق، فعند المصنف يكون جاريا في مجموع الهيئة و المادة، و عند الفصول يكون جاريا في خصوص الهيئة فقط.

(2) أي: الحق عند المصنف «قدس سره» هو: عدم دلالة الصيغة على شيء منهما، و ليس ذلك من جهة الاشتراك و الحاجة إلى القرينة المعيّنة؛ بل من أنها لا تدل إلاّ على طلب الطبيعة المأمور بها المجردة عن التقييد أصلا.

و لازم ذلك: عدم لزوم الفور و لا التراخي لا شرعا في مقام الجعل، و لا عقلا في مقام الامتثال.

و أمّا في مقام الجعل: فلخروجهما عن مفاد المادة و الهيئة و نحوهما مما يدل على المكلف به و التكليف؛ إذ لا دلالة للمادة إلاّ على الماهية الصادقة بنحو واحد على الأفراد الطولية و العرضية، و مقتضى إطلاقها: الاجتزاء بكل منهما كما أشار إليه المصنف بقوله:

«نعم؛ قضية إطلاقها» حيث يكون هذا استدراكا من قوله: «لا دلالة للصيغة» بمعنى: أن الصيغة و إن كانت لم تدل بمادتها و هيئتها على وجوب شيء من الفور و التراخي؛ إلاّ إن إطلاقها مع كون المتكلم في مقام البيان دليل على عدم مطلوبية الطبيعة المأمور بها بشيء؛ من الفور و التراخي، و لازم ذلك هو: جواز التراخي؛ هذا دلالة الصيغة من حيث المادة.

و أما من حيث الهيئة التي تدل على التكليف: فهي لا تدل إلاّ على البعث نحو المكلف به، و طلبه على ما هو عليه من السعة، فلا تقتضي وجوب خصوص فردها السابق زمانا بنحو وحدة المطلوب أو تعدده، فحينئذ لا مجال لاستفادة الفور من نفس الخطاب لا من جانب المادة و لا من جانب الهيئة، يقول المصنف: «و الدليل عليه» أي:

ص: 390

جواز التراخي، و الدليل عليه: تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقييدها بأحدهما، فلا بد في التقييد من دلالة أخرى، كما ادّعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية (1).

=============

على عدم دلالة الصيغة على شيء من الفور و التراخي «هو: تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها» أي: من الصيغة «بلا دلالة على تقييدها» أي: الطبيعة المأمور بها «بأحدهما» أي:

الفور و التراخي، «فلا بد في التقييد من دلالة أخرى» أي: غير الدلالة الراجعة إلى الصيغة.

فالمتحصل: أنه إذا تمسكنا بالإطلاق و نفينا به الفورية كان لازم ذلك: جواز التراخي لأنه لا فرق في حجية الأصول اللفظية بين المثبت منها و غيره، هذا فيما إذا كان هناك أصل لفظي كالإطلاق مثلا.

و أما إذا لم يكن - كما إذا كان الدليل مجملا - فالمرجع هو الأصل العملي - و هو في المقام أصالة البراءة - للشك في اعتبار خصوصية زائدة كالفور و التراخي، و حيث لا دليل عليه فأصالة البراءة تقتضي عدم اعتبارها، و لازم ذلك: جواز التراخي.

و كيف كان؛ فالحق عند المصنف هو: عدم دلالة الصيغة على الفور و التراخي إلاّ بالدلالة الخارجية، و يتمسك بالأدلة الخارجية كآيتي المسارعة و الاستباق على الفورية.

(1) قال في المعالم في عداد أدلة القائلين بالفور: الرابع: قوله تعالى: وَ سٰارِعُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ (1) فإن المراد بالمغفرة سببها و هو فعل المأمور به لا حقيقتها؛ لأنها فعل الله سبحانه، فيستحيل مسارعة العبد إليها، و حينئذ فيجب المسارعة إلى فعل المأمور به.

و قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرٰاتِ (1)؛ فإن فعل المأمور به من الخيرات فيجب الاستباق إليه، و إنما يتحقق المسارعة و الاستباق بأن يفعل بالفور و هو المطلوب عند القائلين بالفور، فالحاصل: أن الإتيان بالمأمور به خير و سبب للمغفرة، ثم المراد بغفران السيئات ليس هو الإحباط بمعنى: مقابلة السيئة للحسنة، ثم حصول الكسر و الانكسار في الدنيا؛ لبطلان هذا بالإجماع؛ فإن العقلاء يحكمون بأن الناس مجزيون بأعمالهم، و أما بمعنى:

إذهاب أحدهما الآخر مع بقائه فلا إشكال فيه؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات، و الكفر و الشرك و الغيبة و الحسد يحبط الحسنات.

و كيف كان؛ فدلالة التسابق على الفور واضحة؛ لأن فعل المأمور به من الخيرات، فيجب الاستباق إليه بمقتضى الآية المباركة.

و أما آية المسارعة: فلأنه لمّا كانت المسارعة إلى المغفرة - التي هي من أفعال اللّه تعالى

ص: 391


1- آل عمران: 133.

و فيه(1) منع، ضرورة: أن سياق آية وَ سٰارِعُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، و كذا آية فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرٰاتِ * إنما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة، و الاستسباق إلى الخير؛ من دون استتباع تركهما (2) للغضب و الشر، ضرورة: أن تركهما (3) لو كان مستتبعا للغضب و الشر كان البعث بالتحذير عنهما (4) أنسب كما لا يخفى فافهم (5).

=============

- غير مقدورة للمكلف فلا محالة تكون كناية عن سببها كما هو في المعالم(2)، فذكر المسبب و أريد به السبب، فكأنه قيل: سارعوا إلى سبب المغفرة و هو الإتيان بالمأمور به، ثم إنما يتحقق المسارعة بإتيانه فورا.

(1) أي: فيما ذكر من دلالة الآيات على وجوب الفور منع ظاهر، و قد أجاب المصنف عن الاستدلال بآيتي المسارعة و الاستباق بوجوه:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «و فيه منع ضرورة...» إلخ، و حاصله: أن سياق الآيتين الشريفتين هو البعث و التحريك إلى المسارعة و الاستباق على نحو الاستحباب؛ من دون أن يستتبع تركهما الغضب و الشر.

و بعبارة أخرى: منع دلالتهما على الوجوب، إذ لو كان كذلك لكان ترك المسارعة و الاستباق موجبا للغضب و الشر، و الأنسب حينئذ البعث و التحريك بالتحذير عن تركهما؛ لأن التحذير يكون أشد تأثيرا في تحرك المكلف إلى المسارعة و الاستباق لا البعث و التحريك إلى فعل المسارعة و الاستباق كما هو سياق الآيتين المباركتين، كما لا يخفى.

(2) أي: المسارعة و الاستباق.

(3) أي: المسارعة و الاستباق.

(4) أي: عن الغضب و الشر على ما قيل، و كان الأولى حينئذ أن يقال: احذروا من الغضب و الشر بالمسارعة و الاستباق، و يحتمل أن يكون الضمير في «عنهما» راجعا إلى ترك المسارعة و الاستباق، فكان الأنسب إفراد الضمير كأن يقول: «كان البعث بالتحذير عنه» أي: عن تركهما. و كيف كان؛ ففي العبارة مسامحة واضحة.

(5) لعله إشارة إلى أن أوقعية التوعيد بالعذاب الحاصل بالتحذير على ترك الواجب في إحداث الداعي للعبد لا تختص بالمقام، بل تجري في جميع الواجبات، مع إنه ليس الأمر فيها كذلك للبعث على فعلها بدون التوعيد بالعقاب على تركها، أو إشارة إلى منع

ص: 392


1- البقرة: 148، المائدة: 48.
2- معالم الدين، ص 80.

مع لزوم (1) كثرة تخصيصه في المستحبات و كثير من الواجبات بل أكثرها (2)، فلا بد (3) من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب، و لا يبعد (4) دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة و الاستباق.

=============

الأوقعية المزبورة مطلقا لاختلاف الناس، حيث أن بعضهم يتحرك و ينبعث نحو الواجبات خوفا من العقاب، و بعضهم يتحرك نحوها طمعا في الثواب.

(1) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الوجوه التي أجاب بها المصنف عن الاستدلال بآيتي المسارعة و الاستباق.

و حاصل هذا الوجه: أنه بناء على دلالة الآيتين على وجوب الفور يلزم تخصيص الأكثر؛ و ذلك لخروج المستحبات جميعا، و كثير من الواجبات عن ذلك، فيبقى قليل من الواجبات تحتهما، و هذا مستهجن عند أبناء المحاورة، فلا بد حينئذ من رفع اليد عن ظاهر الآيتين في الوجوب و الالتزام فيهما بأحد أمرين:

الأول: حمل صيغتي الأمر فيهما على الندب.

الثاني: حملهما على مطلق الطلب و الرجحان.

(2) أي: أكثر الواجبات؛ لأن أكثر الواجبات موسعة يجوز التأخير فيها إلى أن يضيق الوقت كما في الظهرين و العشاءين و غيرهما من الواجبات الموسعة، و أما في الواجبات المضيقة: فلا يصدق الفور؛ لأن المفروض فيها: مساواة الوقت للفعل، فلا يصدق الاستباق و المسارعة فيما إذا أتى بالواجب في وقته المضيق، و إنما يتحقق الاستباق و المسارعة في الواجب الموسع إذا أتى به في أول الوقت.

(3) أي: فلا بد - فرارا عن محذور لزوم الاستهجان - «من حمل الصيغة فيهما» أي:

في الآيتين على خصوص الندب أو مطلق الطلب.

و بالجملة: أن الأمر بالمسارعة و الاستباق إن كان للوجوب - كما هو مدعى الشيخ الطوسي لزم كثرة التخصيص، و هو مستهجن لخروج جميع المستحبات و كثير من الواجبات عن الآيتين لأجل عدم وجوب المسارعة فيها بالإجماع، فلا بد من حمل الأمر فيهما على مطلق الرجحان الشامل للوجوب و الاستحباب، و لازم ذلك: أن المسارعة واجب في الواجب الفوري، و مستحب في المستحبات كلا، و مستحب في الواجب غير الفوري.

(4) هذا هو الوجه الثالث من الوجوه التي أجاب بها المصنف «قدس سره» عن الاستدلال بآيتي المسارعة و الاستباق على وجوب الفور.

و حاصل هذا الوجه: هو حمل الأمر بالمسارعة و الاستباق في الآيتين على الإرشاد

ص: 393

و كأن (1) ما ورد من الآيات و الروايات في مقام البعث نحوه إرشادا إلى ذلك؛ كالآيات و الروايات الواردة في الحث على أصل الإطاعة.

فيكون الأمر فيها (2) لما يترتب على المادة بنفسها (3) و لو لم يكن هناك أمر بها، كما هو الشأن في الأوامر الإرشادية فافهم (4).

=============

إلى حكم العقل؛ لئلا يلزم تخصيص الأكثر بتقريب: أن العقل كما يستقل بحسن أصل الإطاعة دفعا للعقوبة، كذلك يستقل بحسن المسارعة إلى الإطاعة فإن كان الواجب مما ثبت من الخارج فوريته، فحكم العقل بالمسارعة إليه كحكمه بنفس الإطاعة إلزامي، و إلاّ فليس بإلزامي.

فالمتحصل - كما في «منتهى الدراية، ج 1، ص 552» - أنه لا مجال للاستدلال بالآيتين الشريفتين على وجوب الفور في الواجبات.

الفرق بين الأوامر الإرشادية و المولوية

الفرق بين الأوامر الإرشادية و المولوية(1)أي: كأن ما ورد من الآيات و الروايات الواردة في مقام البعث؛ الدالة على البعث نحو الاستباق و المسارعة، «إرشادا إلى ذلك» أي: إلى الحكم العقلي، فتكون هاتان الآيتان - «كالآيات و الروايات الواردة في الحث على أصل الإطاعة»؛ كقوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ (1)- للإرشاد، نظير الأوامر الباعثة على أصل الإطاعة؛ كما في آية الإطاعة، فلا يلزم حينئذ تخصيص الأكثر، لأن الآيات تدل على رجحان المسارعة و الاستباق في الأوامر الواقعية، أما نفس المسارعة و الاستباق فهما نظير الإطاعة و الانقياد لا يترتب عليهما ثواب، كما لا يترتب على تركهما عقاب على ما هو شأن الأوامر الإرشادية، حيث لا يترتب عليها إلاّ ما يترتب على نفس المادة كأمر الطبيب للمريض بشرب الدواء حيث يكون إرشادا إلى ما في شرب الدواء من المصلحة، فالمصلحة مترتبة على الدواء و إن لم يأمر الطبيب، فإن المصلحة مترتبة على وجود المادة أي: الدواء؛ لا على عنوان كونها مأمورا بها، هذا هو شأن جميع الأوامر الإرشادية، فحينئذ لا يلزم في المقام تخصيص أصلا فضلا عن كثرته.

(2) أي: في الآيات و الروايات الواردة في الحث على المسارعة.

(3) أي: بنفس المادة، مع قطع النظر عن تعلق الأمر بها.

(4) لعله إشارة إلى: أن الحمل على الإرشادية منوط بعدم كون الفور على تقدير اعتباره من قيود المأمور به شرعا، إذ يكون حينئذ كالطهارة المعتبرة في الصلاة من حيث كون دخله شرعيا لا عقليا، كي يكون الأمر به للإرشاد.

ص: 394


1- النساء: 59.
تتمة: بناء على القول بالفور (1) فهل قضية الأمر الإتيان فورا ففورا

بحيث لو عصى لوجب عليه الإتيان به فورا أيضا، في الزمان الثاني، أو لا؟ وجهان: مبنيان على أن أو إشارة إلى: أن استقلال العقل بالحسن لا يكفي في كون الأمر للإرشاد.

=============

أو إشارة إلى: ضعف كون الملاك في إرشادية الأمر أن تكون المصلحة في نفس المادة؛ إذ وجود المصلحة في المادة، و ترتب الخواص عليها أمر مشترك بين الإرشادية و المولوية، و لا يختص بالأوامر الإرشادية. مثلا: لا فرق بين قول الشارع للمكلف: «صل»، و بين قول الطبيب للمريض: اشرب الدواء؛ لأن الصلاة لا تخلو عن المصلحة، كما أن شرب الدواء فيه المصلحة فلا فرق بينهما من هذه الجهة، فيحتمل أن يكون الأمر في الآيتين الشريفتين مولويا؛ مع فرض وجود المصلحة في نفس المادة، فلا يكون الضابط المذكور تماما.

و كيف كان؛ فتوضيح الفرق بين إرشادية الأوامر و النواهي و مولويتهما لا يخلو عن فائدة فنقول: إن الفرق بينهما أن الأول: هو ما لا يترتب على موافقته ثواب، و لا على مخالفته عقاب، و هذا الفرق هو صريح الشيخ الأنصاري «قدس سره».

و قال غيره في الفرق بينهما: إن في الأوامر و النواهي المولوية إرادة للآمر و كراهة للناهي؛ بمعنى: أن الآمر يريد الفعل المأمور به و يحبه، و الناهي يكره الفعل المنهي عنه و يبغضه، ثم يتبعهما القرب و البعد، و الثواب و العقاب.

و أما في الأوامر و النواهي في الإرشادية: فلا تكون في نفس الآمر و الناهي إرادة و لا كراهة، و لا حب و لا بغض حتى يتبعهما القرب و البعد، و الثواب و العقاب مثل أوامر الطبيب؛ فيأمر المريض بشرب الدواء، و ينهاه عن الترك بداعي الإرشاد إلى ما في الفعل من المنافع، و إلى ما في الترك من المضار، فإن شاء المريض وافقه، و إن شاء خالفه، و هذا الفرق شامل للفرق الأول فيكون أفضل منه.

ثم الأوامر في الآيات و الروايات الواردة في المقام من هذا القبيل؛ إذ لا يترتب الثواب و العقاب إلاّ على موافقة الواقع و مخالفته، لا على موافقة تلك الأوامر.

أما عدم ترتب الثواب على موافقتها: فلبداهة: أن فعل الصلاة طاعة، و لكن لا يترتب عليه ثوابان؛ ثواب أصل الصلاة، و ثواب إطاعة الصلاة.

هذا ملخص الكلام في الفرق بين الأوامر المولوية و الإرشادية.

(1) ما ذكره المصنف في هذه التتمة متفرع على القول بدلالة صيغة الأمر على الفور.

ص: 395

مفاد الصيغة - على هذا القول - هو: وحدة المطلوب أو تعدده، و لا يخفى: أنه لو قيل بدلالتها على الفورية، لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده، فتدبر جيدا.

=============

و حاصل ما أفاده المصنف فيها: أنه لو قلنا: بدلالة الصيغة على الفور فهل تقتضي وجوب الإتيان بالمأمور به فورا ففورا أم لا؟ - بمعنى: أنه لو اقتضت وجوب الفور بالمأمور به في أول أوقات الإمكان، فلو أخلّ بالفورية و لم يأت به في الآن الأول وجب الإتيان به في الآن الثاني و هكذا، و لازمه: حصول العصيان بالإخلال بالفورية مع بقاء الأمر بنفس المأمور به على حاله - فيه وجهان؛ مبنيان على ما هو مفاد الصيغة على القول بدلالتها على الفور هل هو وحدة المطلوب أو تعدده ؟

و توضيح ذلك: أن فورية المأمور به تتصور على ثلاثة وجوه:

الأول: وحدة المطلوب: بأن تكون الفورية مقوّمة لأصل المصلحة في الفعل؛ بحيث تفوت بفوات الفورية أي: بالتأخير فلا مصلحة معه.

الثاني: تعدد المطلوب: بأن تكون هناك مصلحتان؛ إحداهما: قائمة بمطلق الفعل من دون تقييده بالفور. و الأخرى: قائمة بالفعل فورا فتفوت مع فوات الفورية، فبالتأخير يحصل عصيان الثاني. دون الأول، فيبقى طلب الأول.

الثالث: تعدد المطلوب أيضا: بأن تقوم مرتبة من المصلحة بفورية الفعل أولا، و مرتبة أخرى بفورية الفعل ثانيا - و هكذا - بعد عصيان الأول.

إذا عرفت هذه الوجوه فنقول: إنه إن استفيد الفور من الآيات فلا يبعد الالتزام بدلالتها على تعدد المطلوب، و إن استفيد من نفس الصيغة فلا تدل على كيفية الفور من وحدة المطلوب أو تعدده كما أشار إليه بقوله: «و لا يخفى: أنه لو قيل بدلالتها» أي:

الصيغة «على الفورية لما كان لها» أي: للصيغة «دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده».

و حاصل كلام المصنف في المقام: أنه - بعد تسليم دلالة الصيغة على وجوب الفور - أنها لا تدل على أزيد من مطلوبية الطبيعة المأمور بها فورا، و لا تدل على كيفية مطلوبيتها من وجوب الفور في كل زمان؛ حتى لا يسقط الأمر بالفورية بالإخلال بها في الزمان الأول و ما بعده، أو وجوب الفور في خصوص الزمان الأول حتى يسقط الأمر به بالإخلال بالفورية.

و كيف كان؛ فتكون الصيغة قاصرة عن الدلالة على كيفية مطلوبية الطبيعة، و أنها تكون على نحو تعدد المطلوب أو وحدته، فلا بد حينئذ من الرجوع إلى الأصل،

ص: 396

فمقتضى الأصل اللفظي أي: إطلاق الأمر إن تمت مقدمات الحكمة هو: عدم الوجوب في الزمن الثاني، و إلاّ فالأصل العملي هو البراءة لا استصحاب الوجوب؛ إذ من المحتمل وحدة المطلوب أي: قيدية الفور لأصل المأمور به فيفوت بالتأخير فلا يحرز بقاء الموضوع، و بدونه لا يجري استصحاب الحكم؛ لأن إحراز بقاء الموضوع من شرائط الاستصحاب.

قوله: «فتدبر جيدا» تدقيقي؛ أولا: أنه ظاهر في التدقيق لا في التمريض. و ثانيا: أنه مقيد بقوله: «جيدا» و هو ظاهر في التدقيق و الدقة؛ بمعنى: أن المطالب المذكورة تحتاج إلى الدقة.

خلاصة البحث في المبحث التاسع مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - يبحث في هذا المبحث عن دلالة الأمر؛ هل إنه يدل على الفور، أو يدل على التراخي، أو يدل على الاشتراك بين الفور و التراخي. و قد سلك الأصوليون إلى هذه المذاهب، و استدلوا بدلائل لا تخلو من الإشكال، و لكن الحق عند المصنف «قدس سره»: أنه لا دلالة للصيغة لا على الفور و لا على التراخي و لا على الاشتراك بينهما؛ بل الصيغة إنما تدل على طلب الطبيعة المجردة.

نعم؛ إطلاق الصيغة و خلوها عن جميع القيود يشعر بجواز التراخي؛ إذ لو أراد الآمر الفور لزمه تقييد الأمر بالفورية.

و الحاصل: أنه يجوز حينئذ التراخي، و الدليل على جوازه هو: تبادر طلب إيجاد الطبيعة المحضة من الصيغة بلا دلالة على تقييد الصيغة بأحد القيدين أي: الفور و التراخي، فلا بد في تقييد الصيغة على الفور من دلالة أخرى.

كما ادعى البعض دلالة غير واحد من الآيات على الفور، و استدل على هذا صاحب المعالم بآيتي المسارعة و الاستباق بتقريب: أن المراد بالمغفرة في آية المسارعة هو سببها و هو فعل المأمور به فيجب المسارعة إليه. و كذلك فعل المأمور به من الخيرات فيجب الاستباق إليه بمقتضى آية الاستباق، و من المعلوم: أنه لا يتحقق المسارعة و الاستباق إلاّ بإتيان المأمور به فورا و هو المطلوب.

2 - (إشكالات ثلاثة) على الاستدلال بآيتي المسارعة و الاستباق على وجوب الفور.

الأول: في هذا المدعى منع ظاهر؛ لأن سياق الآيتين الشريفتين هو البعث و التحريك

ص: 397

إلى المسارعة و الاستباق على نحو الاستحباب، فمفادهما: هو استحباب الفور و هو خارج عن محل الكلام؛ لأن محل الكلام هو الوجوب.

الثاني: أنه بناء على دلالة الآيتين على وجوب الفور: يلزم تخصيص الأكثر، لخروج المستحبات و كثير من الواجبات عنهما، و هو مستهجن عند أبناء المحاورة، فلا بد من رفع اليد عن ظاهر الآيتين في الوجوب، و الالتزام فيهما على الندب، أو حمل الصيغة فيهما على مطلق الطلب و الرجحان.

الثالث: هو حمل الأمر بالمسارعة و الاستباق في الآيتين على الإرشاد إلى حكم العقل؛ لئلا يلزم تخصيص الأكثر؛ بتقريب: أن العقل كما يستقل بحسن أصل الإطاعة دفعا للعقوبة، كذلك يستقل بحسن المسارعة إلى الإطاعة فهما - كآية الإطاعة في قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ - للإرشاد إلى حكم العقل، فلا مجال للاستدلال بهما على وجوب الفور في الواجبات.

3 - أنه بناء على القول بالفور؛ هل قضية الأمر هو الإتيان بالمأمور به فورا ففورا أو لا؟ وجهان مبنيان على ما هو مفاد الصيغة على هذا القول هل هو وحدة المطلوب أو تعدده.

و معنى وحدة المطلوب هو: أن الفورية مقوّمة لأصل المصلحة في الفعل المأمور به؛ بحيث تفوت بفوات الفورية أي: فلا مصلحة فيه مع التأخير.

و معنى تعدد المطلوب هو: أن تكون هناك مصلحتان إحداهما قائمة بالفعل من دون تقييده بالفور. و الأخرى: قائمة بالفعل المقيد بكونه فورا، فتفوت المصلحة مع فوات الفورية، فبالتأخير يحصل عصيان الثاني دون الأول، فيبقى طلب الأول.

إلاّ أن الحق عند المصنف «قدس سره» عدم دلالة صيغة الأمر على - القول بالفور - على كيفية الفور من وحدة المطلوب أو تعدده.

و ملخص الكلام في المقام: أنه بعد تسليم دلالة الصيغة على الفور أنها لا تدل على أزيد من مطلوبية الطبيعة المأمور بها فورا، و أما أنها على نحو وحدة المطلوب أو تعدده:

فصيغة الأمر قاصرة عن الدلالة عليه.

رأي المصنف «قدس سره»:

هو أن صيغة الأمر تدل على طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها، فلا تدل على الفور و لا على التراخي. ثم على القول بالفور: لا تدل صيغة الأمر على أزيد من مطلوبية الطبيعة المأمور بها فورا، و أمّا المطلوب بها واحد أو متعدد فهو أجنبي عن مفاد الصيغة.

ص: 398

الفصل الثالث

الإتيان بالمأمور به (1) على وجهه يقتضي الإجزاء في الجملة بلا شبهة.

و قبل الخوض في تفصيل المقام، و بيان النقض و الإبرام، ينبغي تقديم أمور:

=============

الفصل الثالث الكلام في الإجزاء

اشارة

(1) و قد عنونوا المسألة بوجوه ثلاثة:

الأول: ما في كلام بعضهم، و هو: أن الأمر يقتضي الإجزاء أم لا؟

الثاني: ما ذكره بعض آخر، و هو: أنّ الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء أم لا؟

الثالث: ما في كلام المصنف «قدس سره» و هو: «الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء في الجملة بلا شبهة»، ثم ما في كلام المصنف من العنوان أي: «الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء» أولى ممّا في كلام البعض من «أنّ الأمر يقتضي الإجزاء أم لا؟».

وجه الأولوية - على ما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 3»:

أوّلا: إنّ النزاع ليس في مقام الدلالة و الإثبات؛ بل في مرحلة الواقع و الثبوت، و لذا يجري هذا النزاع في جميع الواجبات و إن لم يكن الدليل عليها لفظيا، بل لبيّا فلا وجه لجعل الإجزاء مدلولا للأمر.

و ثانيا: أنّ المقتضي للسقوط هو الامتثال المتحقق بإتيان متعلق الأمر بجميع ما يعتبر فيه - لا نفس الأمر - لأنه لا يدل إلا على مطلوبية المتعلّق، و لا يدلّ على الإجزاء إلا بالتوجيه، و هو أن الأمر لكشفه عن مصلحة في متعلقه يدل التزاما على سقوطه إذا أتى بمتعلقه الذي تقوم به المصلحة؛ لتبعية الأمر لها حدوثا و بقاء، و لكن لمّا كانت الدلالة على السقوط لأجل الإتيان بمتعلقه، فنسبة الإجزاء إليه بلا واسطة أولى من نسبته إلى الأمر معها كما لا يخفى.

و قد ظهر مما ذكرنا: أنّ هذا البحث ليس من الأبحاث اللغوية التي يطلب فيها تشخيص مدلول اللفظ وضعا أو غيره؛ بل من المباحث العقلية كما يظهر من أدلة الطرفين.

ص: 399

مقدمات البحث

اشارة

أحدها:

الظاهر: أن المراد من «وجهه» (1) - في العنوان - هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذلك النهج شرعا و عقلا، مثل: أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة، لا و كيف كان؛ فعمدة البحث فيه هو الكلام عن إجزاء المأمور به بالأمر الواقعي الثانوي - الاضطراري - عن الأمر الواقعي الأولي، و إجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن الأمر الواقعي، و لا إشكال في إجزاء المأمور به بالأمر الواقعي عن الأمر الواقعي، و إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري عن الأمر الاضطراري، و إجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن الأمر الظاهري، هذا ما أشار إليه بقوله: «في الجملة» أي: في بعض الموارد على نحو الموجبة الجزئية؛ كالإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي عن الأمر الواقعي، و هكذا هذا هو عمدة البحث.

=============

و لكن قد تعرّض المصنف «قدس سره» لبعض الجهات التي لا دخل لها في أساس البحث، و لعل تعرّضه إلى بيان المراد من كلمة «وجهه»، و المراد من كلمة «يقتضي»، و كلمة «الإجزاء»؛ إنما هو تبعا للقدماء، فلا بد من توضيح ما جاء في كلامه «قدس سره» من الأمور الثلاثة المذكورة.

فنقول: إن غرض المصنف «قدس سره» من ذكرها قبل الخوض في تفصيل المقام هو بيان ما هو التحقيق من المراد بالعناوين المأخوذة في مسألة الإجزاء.

احدها توضيح معاني «وجهه»

(1) توضيح ذلك باختصار: أن المقصود من قيد «على وجهه» هو: إتيان المأمور به بجميع ما اعتبر فيه شرعا و عقلا.

و الأول: مثل الأمور المعتبرة شرعا في المأمور به من الطهارة و الاستقبال و الستر و غيرها؛ مما له دخل في الصلاة شرعا.

و الثاني: مثل الأمور المرتبة على الأمر؛ من قصد القربة و التمييز و نحوهما، بناء على عدم إمكان أخذها في المأمور به شرعا على ما هو مختار المصنف، فإنها حينئذ معتبرة في كيفية الإطاعة عقلا بحيث لا يسقط الأمر بدونها.

و كيف كان؛ فللوجه في قوله: «على وجهه» ثلاثة معان: الأول: هذا المعنى المذكور - ما يعتبر في المأمور به شرعا و عقلا -. الثاني: ما يعتبر فيه شرعا فقط. الثالث: الوجه المعتبر عند بعض الأصوليين.

ثم المراد من الوجه عند المصنف هو المعنى الأول؛ دون المعنيين الأخيرين.

ص: 400

خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا، فإنه عليه يكون - على وجهه - قيدا توضيحيا، و هو بعيد؛ مع إنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع، بناء على المختار (1)، كما تقدم، من أن قصد القربة من كيفيات الإطاعة عقلا، لا من قيود المأمور به شرعا، و لا الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب، فإنه - مع عدم اعتباره عند المعظم، و عدم اعتباره عند من اعتبره؛ إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات - و أما عدم إرادة المعنى الثاني - خصوص الكيفية المعتبرة شرعا - فلوجهين:

=============

الأول: أنه يلزم أن يكون قوله: «على وجهه» قيدا توضيحيا؛ لأن الكيفية المعتبرة شرعا يدل عليها عنوان المأمور به، فلا يكون «على وجهه» قيدا احترازيا، بل توضيحيا لعنوان المأمور به، و هو بعيد؛ لأن الأصل في القيد أن يكون احترازيا.

الثاني: أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على ما هو مختار المصنف؛ من عدم إمكان أخذ قصد القرية قيدا للمأمور به شرعا، بل هو من كيفيات الإطاعة عقلا فيختص النزاع بالتوصليات.

و أما عدم إرادة المعنى الثالث - قصد الوجه كما أشار إليه بقوله: «و لا الوجه...» إلخ - فلوجوه:

الأول: عدم اعتباره عند المعظم.

الثاني: عدم اعتباره عند من اعتبره إلا في خصوص العبادات، لا مطلق الواجبات، فيلزم خروج الواجبات التوصلية عن حريم النزاع لعدم اعتبار قصد الوجه - عند من يعتبره - في غير العبادات.

الثالث: أنه لا وجه لاختصاصه بالذكر - على تقدير الاعتبار - دون سائر القيود المعتبرة؛ إذ لا ميزة له على غيره.

(1) قوله: «على المختار» قيد لخروج العبادات عن حريم النزاع؛ يعني: أن خروجها عن حريمه مبني على مختار المصنف من كون قصد القربة من كيفيات الإطاعة عقلا؛ لا من قيود المأمور به شرعا.

و أما خروج العبادات عن حريم النزاع على المختار - لو كان المراد من الوجه خصوص الكيفية المعتبرة شرعا - فلأنه لا يسقط أمرها بإتيانها بدون الوجه المعتبر فيها عقلا كقصد القربة على مذهب المصنف، و إن أتى بها بجميع ما يعتبر فيها شرعا، فلا بد من خروج ما يقيد بهذا القيد العقلي؛ و هي العبادات عن مورد النزاع، إذ الإتيان بالمأمور به على وجهه أي: بجميع ما يعتبر فيه شرعا لا يجزي، بل الإتيان به كعدمه بدون قصد القربة المعتبر عقلا.

ص: 401

لا وجه لاختصاصه بالذكر على تقدير الاعتبار، فلا بد (1) من إرادة ما يندرج فيه من المعنى، و هو ما ذكرناه (2)، كما لا يخفى.

ثانيها (3):

الظاهر: أن المراد من الاقتضاء - هاهنا - الاقتضاء بنحو العلية و التأثير، لا بنحو الكشف و الدلالة، و لذا نسب إلى الإتيان لا إلى الصيغة.

=============

مع إنه لا إشكال في دخول العبادات في محل النزاع؛ إذ لم يستشكل أحد في أنّ إتيان العبادات على وجهها يجزي و يسقط أمرها.

(1) هذا تفريع على الوجوه الثلاثة التي أوردها على إرادة الوجه بالمعنى الثالث المعتبر عند بعض الأصحاب.

و خلاصة ذلك: أنه قد عرفت عدم إرادة خصوص الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب؛ لورود الوجوه المذكورة عليه، فلا بد من إرادة معنى عام من الوجه المذكور في عنوان البحث حتى يشمل الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب، فالمراد ب ما الموصولة في قوله: «و إرادة ما يندرج فيه» هو: المعنى العام، و فاعل يندرج ضمير يرجع إلى الوجه، و ضمير «فيه» يرجع إلى الموصول المراد به المعنى العام، فمعنى العبارة حينئذ: فلا بد من إرادة معنى عام يندرج فيه الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب.

(2) أي: ما ذكرناه من القيود الشرعية و العقلية أي: المعنى العام هو ما ذكره المصنف، من أن المراد من «وجهه» - في العنوان -: هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذلك النهج شرعا و عقلا لا شرعا فقط.

ثانيها تفسير معنى الاقتضاء
اشارة

(3) أي: ثاني الأمور في تفسير كلمة الاقتضاء، و ما هو المراد منها.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة؛ و هي: أن الاقتضاء تارة: يكون بمعنى الكشف و الدلالة كاقتضاء صيغة الأمر للفور أو التراخي، أو للمرة أو التكرار، أو للنفسية و العينية، و غيرها من الأبحاث المتعلقة بالصيغة، فإن الاقتضاء هناك بمعنى الكشف و الدلالة؛ لإسناده إلى اللفظ الذي شأنه الدلالة و الحكاية.

و أخرى: يكون الاقتضاء بمعنى العلية و التأثير كالاقتضاء في بحث الإجزاء، فإنه لإسناده إلى الإتيان - و هو إيجاد متعلق الأمر - يكون بمعنى التأثير و عليته لسقوط الأمر.

إذا عرفت هذه المقدمة؛ فالظاهر: أن المراد من الاقتضاء هاهنا هو الاقتضاء بمعنى العلية و التأثير، لا بمعنى الكشف و الدلالة.

ص: 402

إن قلت: هذا (1) إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره، و أما بالنسبة إلى أمر آخر وجه الظهور هو: إسناد الاقتضاء إلى الإتيان الذي هو فعل المكلف، لا إلى الصيغة.

=============

و قد عرفت في المقدمة: أن المناسب للإتيان هو العلية و التأثير في سقوط الأمر، لا الكشف و الدلالة اللذان هما من شئون اللفظ؟ فالإتيان بالمأمور به علة للسقوط لا كاشف و حاك عن سقوطه.

و على كلّ فالمراد منه هاهنا هو: العلية و التأثير لا الكشف و الدلالة، و أيد ما ذكره بأنه قد نسب في موضوع النزاع إلى الإتيان لا إلى الصيغة.

و من هنا يظهر: أن المسألة المبحوث عنها في المقام عقلية لا لفظية حتى يبحث فيها عن مدلول اللفظ وضعا أو غيره؛ فتعم المسألة الطلب الثابت بالدليل غير اللفظي كالإجماع مثلا.

(1) أي: هذا الذي ذكرتم من كون الاقتضاء بمعنى العلية «إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره»، بمعنى: أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي مقتض و علة لسقوط الأمر الواقعي، و الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري علة لسقوط الأمر الاضطراري و هكذا، و أمّا الاقتضاء بالنسبة إلى أمر آخر كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي - بأن يقال: الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري أو الاضطراري يقتضي الإجزاء - فالنزاع هنا ليس في الاقتضاء بمعنى العلية؛ بل محل الكلام في الحقيقة في دلالة دليلهما، بمعنى: أنه هل يكشف الأمر الاضطراري أو الظاهري، و يدل دليلهما على اعتباره أي: اعتبار دليلهما «بنحو يفيد الإجزاء» عن الأمر الواقعي، «أو بنحو آخر لا يفيد» أي: لا يفيد الإجزاء؟

و بعبارة أخرى: أن الكلام لا ينحصر في اقتضاء الإتيان بالمأمور به للإجزاء؛ بل يقع النزاع في بعض الصّور في دلالة الدليل على الإجزاء، فلا معنى لفرض النزاع مطلقا في اقتضاء بمعنى العلية؛ بل إنما يصح فرض النزاع في الاقتضاء بمعنى العلية في إجزاء الإتيان بالمأمور به بكل أمر عن ذلك الأمر؛ كإجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي عن الأمر الواقعي مثلا.

و أما لو فرضنا إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري عن الأمر الواقعي، فكان النزاع في الحقيقة في دلالة الدليل على إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري، أو الظاهري عن الأمر الواقعي.

فحاصل الإشكال: أن الاقتضاء في العنوان ليس بمعنى العلية مطلقا، بل يكون أعم من العلية و الكشف.

ص: 403

كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري؛ بالنسبة إلى الأمر الواقعي، فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره؛ بنحو يفيد الإجزاء، أو بنحو آخر لا يفيده.

قلت: نعم (1)؛ لكنه لا ينافي كون النزاع فيهما، كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم. غايته: أن العمدة في سبب الخلاف فيهما (2) إنما هو الخلاف في دلالة

=============

(1) أي: نعم؛ إن النزاع قد يكون في دلالة الدليل.

إن النزاع في الأمر الاضطراري و الظاهري يكون صغرويا و كبرويا

و قد أجاب المصنف عن الإشكال: بأن وقوع النزاع في دلالة الدليل مسلم لا ينكر، لكنه لا يتنافى مع كون النزاع الأساسي في أن نفس الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري يؤثر في الإجزاء بلحاظ وفائه بالملاك، و ينضم إليه النزاع الآخر أعني: ما هو مقتضى الدليل.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن النزاع في المقام تارة: يكون كبرويا؛ بمعنى: أن الإتيان بالمأمور به في كل أمر يجزي عن ذلك الأمر أم لا؟ مثل الإتيان بالمأمور به الواقعي؛ هل يجزي عن أمر نفسه أم لا؟ فهو يجزي بالإجماع إلا عن أبي هاشم الجبائي و عبد الجبار من العامة؛ القائلين بعدم الإجزاء، و لذا قال المصنف: لو كان هناك نزاع.

و هذا النزاع الكبروي يجري في الأمر الاضطراري و الظاهري أيضا.

و أخرى: يكون النزاع صغرويا؛ بمعنى: أن المأمور به بكل واحد من الأمر الاضطراري و الظاهري هل هو مأمور به مطلقا أم لا؟

هذا هو النزاع الصغروي، ثم يقال في النزاع الكبروي فيهما على تقدير كون المأمور به فيهما مأمورا بهما مطلقا؛ هل يجزي الإتيان بهما عن الأمر الواقعي حتى لا يجب الإتيان به ثانيا لا إعادة و لا قضاء أم لا؟ بمعنى: هل نزّلهما الشارع في مقام تشريعهما منزلة المأمور به الواقعي الأوّلي أم لا؟ فإن دل دليلهما على تنزيلهما كذلك؛ كان الإتيان بالمأمور بهما مجزيا عن الواقعي و علة لسقوط الأمر الواقعي الأوّلي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنّ النزاع في الأمر الاضطراري و الظاهري صغروي و كبروي، فيكون الاقتضاء فيهما بمعنى: الدلالة و الكشف نظرا إلى النزاع الصغروي.

و بمعنى: العلية و التأثير نظرا إلى النزاع الكبروي، هذا ما أشار إليه بقوله: «نعم لكنه لا ينافي كون النزاع فيهما كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم» أي: العلية و التأثير.

(2) أي: في الأمر الظاهري و الاضطراري، بيان ذلك: أن سبب الاختلاف في

ص: 404

دليلهما (1)، هل إنه على نحو يستقل العقل بأن الإتيان به موجب للإجزاء و يؤثر فيه، و عدم دلالته (2)؟، و يكون النزاع فيه صغرويا أيضا بخلافه (3) في الإجزاء بالإضافة إلى أمره، فإنه لا يكون إلاّ كبرويا لو كان هناك نزاع، كما نقل عن بعض فافهم.

=============

اقتضائهما للإجزاء و عدمه «إنما هو الخلاف في دلالة» دليل تشريعهما، و أنه هل يدل على تنزيلهما منزلة المأمور به الواقعي أم لا؟

فعلى الأول يجزي، و على الثاني لا يجزي، فيبتني النزاع في الكبرى؛ أعني: الإجزاء على النزاع في الصغرى؛ أعني: دلالة دليلهما.

(1) أي: دليل المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري؛ «هل إنه» أي: دليلها «على نحو يستقل العقل بأن الإتيان به موجب للإجزاء» بحيث لا حاجة إلى الإعادة و لا إلى القضاء، «و يؤثر فيه»، أي: في الإجزاء.

(2) أي: عدم دلالة دليلهما للإجزاء.

و حاصل الكلام في المقام: أن إجزاء الأمر الاضطراري و الظاهري - و هو النزاع الكبروي - موقوف على إحراز الاشتمال على تمام مصلحة الواقع، أو مقدار كاف منها بدلالة دليل الأمرين - و هو النزاع الصغروي - «و يكون النزاع فيه» أي: في إجزاء الأمر غير الواقعي عن الأمر الواقعي «صغرويا» أي: في دلالة الدليل. «أيضا» أي: كما أنه كبروي أي: علة لسقوط التكليف بالواقع أي: مجز عن الواقع.

(3) أي: بخلاف النزاع في إجزاء غير الواقعي «بالإضافة إلى أمره»؛ بأن يكون الآتي بالأمر الاضطراري أو الظاهري كافيا عن الإتيان بنفسه ثانيا، «فإنه لا يكون» النزاع فيه «إلا» في العلية للسقوط فيكون «كبرويا» فقط «لو كان هناك» في الكبرى «نزاع؛ كما نقل عن بعض» من العامة القائلين بعدم الإجزاء.

قوله: «فافهم» لعلّه إشارة إلى أن النزاع الذي يتفرع عليه وجوب الإعادة و القضاء و عدم وجوبهما؛ لا يليق بالبحث في علم الأصول، بل يليق بالبحث في علم الفقه، لأن اللائق في علم الأصول هو البحث الكبروي. فلا يكون الاقتضاء في عنوان البحث بمعنى الدلالة و الكشف، بل بمعنى العلية و التأثير كي يكون النزاع كبرويا؛ لأنه يتناسب مع علم الأصول، فلا يرد إيراد المستشكل: بأن النزاع يمكن أن يكون في الاقتضاء بمعنى دلالة الدليل، لأن النزاع حينئذ صغروي، و النزاع الصغروي لا يليق بعلم الأصول.

ص: 405

ثالثها (1):

الظاهر: أن الإجزاء - هاهنا - بمعناه لغة و هو الكفاية. و إن كان يختلف ما يكفي

=============

(1) أي: ثالث الأمور التي ينبغي تقديمها على البحث هو في تفسير كلمة الإجزاء.

يقول المصنف «قدس سره»: «الظاهر: أن الإجزاء هاهنا بمعناه لغة و هو الكفاية؛ و إن كان يختلف ما يكفي عنه».

ثالثها الفرق بين الإجزاء بالمعنى الاصطلاحي و العرفي

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن للإجزاء معنيين:

الأول: اللغوي العرفي. الثاني: الاصطلاحي.

و الفرق بينهما: أن الأول: «هو الكفاية و إن كان يختلف ما يكفي عنه»؛ بمعنى: أن الإتيان بالمأمور به الواقعي يكفي فيسقط به التعبد به ثانيا، و الإتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري يكفي فيسقط به التدارك ثانيا إعادة و قضاء.

و الثاني: هو سقوط التعبد ثانيا في الأمر الواقعي. و سقوط الإعادة و القضاء في الأمر الاضطراري أو الظاهري.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه قد توهم المتوهم بأن الإجزاء في المقام هو بمعنى الاصطلاحي، فيختلف معناه بحسب الموارد، فإن الإجزاء في مورد الأمر الواقعي مغاير للإجزاء في مورد الأمر الظاهري أو الاضطراري على ما سبق في المقدمة.

ثم غرض المصنف من عقد هذا الأمر الثالث؛ هو دفع هذا التوهم و حاصله: أنه لم يثبت للإجزاء معنى اصطلاحي خاص في مقابل معناه اللغوي؛ ليكون هذا المعنى الاصطلاحي هو المراد منه.

و بعبارة أخرى: ليس للأصوليين فيه اصطلاح جديد؛ بمعنى: إسقاط التعبد أو القضاء، فإن ذلك أمر بعيد جدا، بل المراد منه هو معناه اللغوي و هو الكفاية.

نعم؛ يختلف ما يكفي عنه، فإن الإتيان بالمأمور به الواقعي يكفي فيسقط به التعبد به ثانيا، و الإتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري يكفي فيسقط به التدارك ثانيا إعادة أو قضاء. فلازم الإجزاء بمعنى الكفاية في الأمر الواقعي هو: سقوط التعبد به ثانيا، و في الأمر الاضطراري أو الظاهري هو: سقوط القضاء أو الإعادة. فإجزاء المأتي به - في مورد الأمر الاضطراري أو الظاهري - عن المأمور به بالأمر الواقعي هو كفايته عما أمر به إعادة و قضاء، أو قضاء فقط فيما إذا دل الدليل على وجوب الإعادة دونه، و ذلك فيما إذا تذكر في الوقت وجبت الإعادة عليه، و إذا تذكر في خارج الوقت لم يجب القضاء.

فإجزاء المأتي به عن المأمور به حينئذ هو: كفايته عما أمر به قضاء لا إعادة.

ص: 406

عنه، فإن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي يكفي، فيسقط به التعبد به ثانيا، و بالأمر الاضطراري أو الظاهري الجعلي، فيسقط به القضاء.

لا أنه (1) يكون هاهنا اصطلاحا بمعنى: إسقاط التعبد أو القضاء فإنه بعيد جدا.

=============

و كيف كان؛ فالإجزاء في جميع الموارد يكون بمعنى واحد و هو الكفاية، و ليس هناك معنى اصطلاحي. هذا مضافا إلى أصالة عدم النقل عن المعنى اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي، مع إن المعنى الاصطلاحي لو ثبت لكان لازم المعنى اللغوي، فلا وجه لإرادته، إذ تكفي إرادة الملزوم عن اللازم.

نعم؛ بقي هنا شيء و هو: تعبير المصنف في مورد الأمر الواقعي بقوله: «يكفي فيسقط به التعبد به ثانيا».

و في الأمر الاضطراري و الظاهري بقوله: «فيسقط به القضاء». و في «الوصول إلى كفاية الأصول» ما هذا لفظه: (و إنما عبر المصنف في الأول: بقوله: «فيسقط به التعبد به». و في الثاني: بقوله: «فيسقط به القضاء» مع إن سقوط التعبد و القضاء مشترك بينهما؛ لأن الكلام في الأول كان في كفاية الإتيان بالأمر عن نفسه، و من المعلوم: أنه لو أتى بالمأمور به سقط الغرض الباعث على الأمر، و لسقوط الغرض يسقط الأمر، و إذا سقط الأمر لم يكن مجال لإعادة الفعل إلا بالتعبد ثانيا. و المفروض: أن الغرض حاصل فلا تعبد ثانيا، و حيث لم يكن التعبد الثانوي لم يكن مجال للقضاء أصلا، إذ القضاء فرع التعبد الذي هو فرع لبقاء الغرض. و الحاصل: أنه مع ذكر سقوط التعبد لا يحتاج إلى ذكر سقوط القضاء. هذا وجه الأول.

و أما وجه الثاني: فلأن الكلام في كفاية الأمر غير الواقعي عن الأمر الواقعي، و معلوم:

إن الكفاية ليست لأجل حصول الغرض بالتمام، و إلا لكان واجبا تخييرا من أول الأمر بين الواقعي و غيره، و حين لم يمكن استيفاء الغرض في حال الضرورة و حالة التكليف بالظاهر، فلو كان هناك شيء لكان عبارة عن القضاء الأعم من القضاء و الإعادة، و أما التعبد ثانيا فلغو محض لأنه مع التمكن في الوقت، و عدم حصول الغرض كانت الإعادة بالأمر الأول، و معهما في خارج الوقت كان قضاء لعدم حصول الغرض، و مع حصول الغرض لم تكن إعادة و لا قضاء، و على كل تقدير لم يكن تعبد ثان.

و الحاصل: أنه لا مجال للتعبد الثانوي في مقام الأمر الاضطراري و الظاهري فتأمل). انتهى.

(1) أي: اختلاف في نفس الكفاية، فلا «يكون» الإجزاء «هاهنا» أي: في عنوان البحث «اصطلاحا» جديدا «بمعنى إسقاط التعبد، أو» بمعنى إسقاط «القضاء» الأعم من الإعادة، «فإنه بعيد جدا».

ص: 407

رابعها (1):

الفرق بين هذه المسألة و مسألة المرة و التكرار لا يكاد يخفى، فإن البحث هاهنا (2) في أن الإتيان بما هو المأمور به يجزي عقلا بخلافه في تلك المسألة.

فإنه (3) في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها، أو بدلالة أخرى.

=============

وجه البعد: أن إرادة معنى جديد تحتاج إلى نقل و هو خلاف الأصل.

رابعها الفرق بين مسألة الإجزاء و بين مسألة التكرار و المرة
اشارة

(1) أي: رابع الأمور التي ينبغي تقديمها قبل البحث في بيان الفرق بين مسألة الإجزاء و مسألة المرة و التكرار؛ دفعا لتوهم عدم الفرق بينهما، بتقريب: أن الإجزاء هو القول بالمرة، و عدم الإجزاء هو القول بالتكرار، إذ على القول بعدم الإجزاء لا بد من تكرار العمل، و على القول بالإجزاء يكفي المرة، كما أنه بناء على دلالته على التكرار لا بد من تكرار الفعل، و على القول بالمرة يكفي إتيان الفعل مرة.

فالغرض من عقد هذا الأمر هو: دفع هذا التوهم أي: توهم أن هذا النزاع هو عين النزاع في مسألة المرة و التكرار، فلا وجه لإفراد كل منهما بالبحث.

(2) أي: فإن البحث في مبحث الإجزاء. هذا الكلام دفع للتوهم المزبور ببيان الفرق بين المسألتين.

و خلاصة الفرق بينهما من وجهين:

الأول: أن مسألة المرة و التكرار لفظية، و مسألة الإجزاء عقلية، بمعنى: أن البحث في تلك المسألة كأنه في تعيين المأمور به بحسب دلالة الصيغة عليه هل هو الوجودات المتعددة، أو الوجود الواحد؟ فالبحث هناك لفظي. بخلاف مسألة الإجزاء؛ فإن البحث فيها عن أن الإتيان بما هو المأمور به هل يجزي أو لا؟ فالبحث هنا عقلي؛ حيث إن الحاكم بالإجزاء هو العقل. و إن شئت فقل: إن النزاع في مسألة المرة و التكرار صغروي لرجوعه إلى تعيين المأمور به، و في مسألة الإجزاء كبروي؛ لرجوعه إلى أن الإتيان به مجز أم لا؟ فيكون الفرق بين المسألتين من وجهين: أحدهما: كون النزاع في تلك المسألة لفظيا، و هنا عقليّ كما عرفت. و الآخر: كون البحث هناك صغرويا و هنا كبرويّ كما عرفت أيضا.

(3) أي: فإن البحث في مسألة المرة و التكرار إنما هو في تعيين ما هو المأمور به شرعا «بحسب دلالة الصيغة» على المرة أو التكرار «بنفسها، أو بدلالة أخرى» و قرينة خارجية

ص: 408

نعم (1)؛ كان التكرار عملا موافقا لعدم الإجزاء؛ لكنه لا بملاكه.

و هكذا الفرق بينها (2) و بين مسألة تبعية القضاء للأداء، فإن البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية و عدمها، بخلاف هذه المسألة فإنه - كما عرفت - عامة كما تقدم ذلك في بحث المرة و التكرار، هذا بخلاف مسألة الإجزاء حيث تجري و لو لم يكن هناك لفظ أصلا؛ بأن استفيد الطلب من الإجماع مثلا.

=============

(1) قوله: «نعم...» إلخ استدراك على الفرق المذكور بين المسألتين.

و حاصل الكلام في توضيح ذلك: أن بين المسألتين و إن كان فرق كما مرّ؛ إلاّ إنّ بينهما جهة مشتركة و هي: كون عدم الإجزاء موافقا للتكرار عملا و إن لم يكن موافقا له ملاكا، فإن ملاك التكرار هو كون كل واحد من وجودات الطبيعة الواقعة في حيّز الأمر مأمورا به، بخلاف عدم الإجزاء، فإن ملاكه عدم سقوط الغرض الداعي إلى الأمر، فلا وجه لدعوى: أن القول بالمرة مساوق للإجزاء، و القول بالتكرار مساوق لعدمه.

(2) أي: مسألة الإجزاء، فقوله: «و هكذا الفرق...» إلخ دفع لتوهم آخر و هو: عدم الفرق بين مسألة الإجزاء، و بين مسألة تبعية القضاء للأداء بمعنى: أن النزاع في هذه المسألة هو عين النزاع في تبعية القضاء للأداء بتقريب: أن دلالة الأمر على وجوب القضاء في خارج الوقت مساوقة لعدم الإجزاء؛ إذ مع فرض الإجزاء و سقوط الأمر لا وجه لوجوب قضائه. و كذلك دلالته على عدم وجوب القضاء مساوقة للإجزاء. و قد دفع المصنف هذا التوهم ببيان الفرق بين مسألة الإجزاء و بين مسألة تبعية القضاء للأداء.

و خلاصة الفرق بينهما هو: أن الكلام في مسألة التبعية إنما هو في دلالة الصيغة على التبعية، و عدم دلالتها عليها. و أما الكلام في مسألة الإجزاء؛ فإنما هو في الإتيان بالمأمور به، فيقال: هل الإتيان بالمأمور به يجزي أم لا؟

فمسألة التبعية لفظية، و مسألة الإجزاء عقلية. هذا مضافا إلى الاختلاف الموضوعي بينهما؛ حيث إن موضوع وجوب القضاء هو الفوت في الوقت، و موضوع الإجزاء هو الإتيان بالمأمور به في وقته.

و بالجملة: أن توهم عدم الفرق بين هذه المسألة و بين المسألتين إنما هو بلحاظ إسقاط التعبد ثانيا، و عدمه بالنسبة إلى المرة و التكرار؛ و بلحاظ إسقاط القضاء و عدمه بالنسبة إلى تبعية القضاء للأداء.

و قد عرفت: أن الفرق بين هذه المسألة و بين المسألتين في غاية الوضوح. فلا علقة بين مسألة الإجزاء و بين مسألتي المرة و التكرار و تبعية القضاء للأداء.

ص: 409

في أن الإتيان بالمأمور به يجزي عقلا عن إتيانه (1) ثانيا أداء أو قضاء، أو لا يجزي (2)، فلا علقة بين المسألة و المسألتين أصلا.

إذا عرفت هذه الأمور (3)، فتحقيق المقام يستدعي البحث و الكلام في موضعين:

فتحقيق المقام يستدعى البحث و الكلام فى موضعين

الموضع الأول في أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي يجزي عن التعبد به ثانيا

الأول:

أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي - بل بالأمر الاضطراري أو الظاهري أيضا - يجزي عن التعبد به ثانيا؛ لاستقلال العقل (5) بأنه لا مجال مع موافقة الأمر بإتيان

=============

(1) أي: عن إتيان المأمور به ثانيا «أداء» في الوقت، «أو قضاء» في خارج الوقت.

(2) أي: فيجب الإتيان بالمأمور به ثانيا أداء أو قضاء.

و كيف كان؛ فقد تختلف مسألة الإجزاء عن مسألة تبعية القضاء للأداء موضوعا و جهة - على ما في «المحاضرات» -

أما الأول: فلأن الموضوع في هذه المسألة هو الإتيان بالمأمور به، و أنه يجزي عن الواقع أم لا، و الموضوع في تلك المسألة هو: عدم الإتيان بالمأمور به في الوقت. و من الطبيعي إنه لا جامع بين الوجود و العدم، و عليه: فلا ربط بين المسألتين في الموضوع أصلا.

و أما الثاني: فلأن الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة إنما هي وجود الملازمة بين الإتيان بالمأمور به و إجزائه عن الواقع عقلا، و عدم وجودها، و الجهة المبحوث عنها في تلك المسألة إنما هي دلالة الأمر من جهة الإطلاق على تعدد المطلوب، و عدم دلالته عليه، فإذن: لا ارتباط بينهما لا في الموضوع و لا في الجهة المبحوث عنها.

(3) أي: الأمور الأربعة التي ينبغي تقديمها على البحث.

(4) حاصل ما أفاده المصنف «قدس سره» في الموضع الأول هو: أن الإتيان بالمأمور به مجز عن أمره سواء كان أمره واقعيا أم ظاهريا، و أما كونه مجزيا عن أمر آخر؛ كأن يكون الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري مجزيا عن الأمر الواقعي و مسقطا له فسيأتي البحث فيه في الموضع الثاني فانتظر.

فالمبحوث عنه في الموضع الأول هو: كون الإتيان بالمأمور به مجزيا عن أمر نفسه؛ لا أمر آخر.

(5) قوله: «لاستقلال العقل» دليل على إجزاء كل واحد من المأمور به الواقعي و الاضطراري و الظاهري عن أمر نفسه.

ص: 410

المأمور به على وجهه، لاقتضائه (1) التعبد به ثانيا.

نعم؛ لا يبعد أن يقال: بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال و التعبد به ثانيا بدلا عن و حاصل ذلك: أنه بعد صدق الامتثال المتحقق بإتيان المأمور به على وجهه في كل أمر لا يبقى مجال لاقتضاء أمره للتعبد به ثانيا، ضرورة: أن المأتي به لمّا كان واجدا لجميع ما يعتبر في المأمور به، فلا محالة يسقط به الغرض الداعي إلى الأمر، و بسقوطه يسقط الأمر أيضا لترتّبه على الغرض وجودا و عدما.

=============

(1) أي: لاقتضاء الأمر «التعبد به» أي: بالمأمور به. و اللام في «لاقتضائه» متعلق بقوله: «لا مجال» أي: لا مجال لاقتضاء الأمر التعبد بالمأمور به ثانيا.

و كيف كان؛ فلا كلام في تحقق امتثال الأمر بإتيان المأمور بذلك الأمر. و إنما الكلام في جواز تبديل الامتثال بالإتيان بفرد آخر للمأمور به يكون هو امتثالا للأمر و عدم جوازه.

هذا ما استدركه المصنف بقوله: «نعم لا يبعد...» إلخ فهذا استدراك من عدم المجال للتعبد به ثانيا.

و حاصل الكلام فيه: أنه لا يبعد عند المصنف جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر في بعض الموارد، و توضيح ما أفاده المصنف من جوازه في بعض الموارد يتوقف على مقدمة و هي: أن الإتيان بالمأمور به تارة: يكون علة تامة لحصول الغرض؛ كما لو أمر المولى عبده بإهراق الماء في فمه لأجل رفع العطش، فأهرق العبد الماء فيه، فإن المأمور به حينئذ علة تامة لحصول الغرض و هو رفع العطش.

و أخرى: لا يكون علة تامة لحصول الغرض؛ كما لو كان الغرض متوقفا على فعل اختياري للمولى نفسه، كما في المثال المعروف؛ و هو ما إذا أمر المولى عبده بإحضار الماء ليتوضأ به أو ليشربه، فأتاه العبد بالماء الصالح لهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه يجوز للعبد تبديل الامتثال و الإتيان بفرد آخر من أفراد المأمور به في الصورة الثانية؛ و ذلك فإن مجرد إحضار الماء لا يحصّل الغرض، بل يتوقف حصوله على فعل المولى من الشرب و التوضّؤ به، ففي هذا الفرض يجوز عقلا تبديل الامتثال و الإتيان بفرد آخر أفضل منه «لا منضما إليه» حتى يكون هناك امتثالان.

كما أشار إلى جواز تبديل الامتثال «في المسألة السابقة» المذكورة في المبحث الثامن، و الضمير في «إليه» في قوله: «لا منضما إليه» يرجع إلى التعبد به أولا؛ أي: ليس للعبد تبديل الامتثال و التعبد به ثانيا بدلا عن التعبد به أوّلا - و لا منضما إلى التعبد به أولا - بحيث يكون التعبد بالمأمور به ثانيا بدلا عن التعبد به أولا في مسقطيته للأمر، و لا

ص: 411

التعبد به أولا لا منضما إليه، كما أشرنا إليه في المسألة السابقة. و ذلك (1) فيما علم أن مجرد امتثاله لا يكون علة تامة (2) لحصول الغرض و إن كان (3) وافيا به لو اكتفى به، كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه، فلم يشربه بعد، فإن (4) الأمر بحقيقته و ملاكه لم يسقط بعد، و لذا لو أهريق الماء و اطلع عليه العبد، وجب عليه إتيانه ثانيا، كما إذا لم يأت به أولا، ضرورة (5): بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه (6)، و إلا (7) لما أوجب حدوثه، فحينئذ يكون له الإتيان بماء آخر موافق للأمر، كما كان له قبل إتيانه الأول بدلا عنه.

=============

منضما إلى التعبد به أولا حتى يلزم تعدد التعبد، لأن المفروض: مطلوبية صرف الوجود و عدم تعلق الأمر بمجموع الفردين.

(1) أي: عدم بعد تبديل الامتثال بامتثال آخر.

و حاصل الكلام: أن مورد هذا الجواز إنما هو صورة العلم بعدم كون الامتثال علة تامة لحصول الغرض مع وفائه بالغرض لو اكتفى بالامتثال الأول.

(2) أي: لا يجوز تبديل الامتثال فيما لو كان مجرد امتثاله الأول علة تامة لحصول الغرض؛ إذ لو كان كذلك للزم اجتماع علتين على معلول واحد، و هو محال لكونه مستلزما لتحصيل الحاصل.

(3) أي: و إن كان الامتثال الأول مع الاكتفاء به وافيا بالغرض، إذ المفروض: أن الماء في المثال المذكور قابل لأن يستوفي المولى غرضه كرفع العطش مثلا.

(4) قوله: «فإن الأمر...» إلخ تعليل لقوله: «نعم لا يبعد أن يقال» و توضيح ذلك: أن وجه جواز تبديل الامتثال هو بقاء الأمر بحقيقته؛ و هي: الطلب الموجود في نفس المولى، و بقاء ملاكه و هو: رفع العطش مثلا؛ الذي هو داع للأمر بإحضار الماء، و لا يسقطان بمجرد إحضار الماء، بل يسقط الأمر و الغرض بشربه أو غيره من الأغراض الداعية إلى الطلب، فما لم يتحقق الشرب الرافع للعطش أو غيره لم يسقط الأمر بحقيقته و ملاكه، و لأجل عدم سقوط الأمر حقيقة و ملاكا يجب على العبد الإتيان بالماء؛ لو اطلع على خروج الماء الأول عن قابليته للوفاء بغرض المولى و هو رفع العطش.

(5) قوله: «ضرورة» تعليل لوجوب الإتيان ثانيا.

(6) أي: إلى الطلب.

(7) أي: و إن لم يجب إتيانه ثانيا مع بقاء الغرض لما أوجب الغرض حدوث الأمر، ثم بقاء الغرض مع فرض سقوط الطلب يكشف عن عدم عليته لحدوث الأمر، و هذا

ص: 412

نعم (1)؛ فيما كان الإتيان علة تامة لحصول الغرض فلا يبقى موقع للتبديل، كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه، بل لو لم يعلم أنه من أيّ القبيل، فله التبديل باحتمال أن لا يكون علة، فله إليه سبيل.

و يؤيّد ذلك (2) - بل يدلّ عليه (3) - ما ورد من الروايات (4) في باب إعادة من خلف كما في «منتهى الدراية، ج 3، ص 19» مع تصرف ما.

=============

(1) قوله: «نعم فيما كان...» إلخ استدراك على ما تقدم من جواز تبديل الامتثال، و هذا الاستدراك تكرار لما سبق عن المصنف. فيكون مخلا بما هو مقصود المصنف من الإيجاز.

قوله: «بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل» إشارة إلى إلحاق صورة الشك - في علية مجرد الامتثال لسقوط الغرض - بصورة العلم بعدم عليته له في جواز تبديل الامتثال، فيجوز التبديل في كلتا الصورتين، غاية الأمر: أن جوازه مع العلم قطعي، و مع الشك رجائي. فللعبد إلى التبديل سبيل.

(2) أي: يؤيّد جواز تبديل الامتثال إذا لم يكن الفرد الأول علة تامة لسقوط الأمر، و لعل التعبير بالتأييد لاحتمال كون مورد الروايات المشار إليها من صغرويات تعدد المطلوب، فيكون الغرض القائم بالجماعة مطلوبا آخر غير مطلوبية نفس طبيعة الصلاة، فباب الصلاة المعادة حينئذ أجنبي عن المقام، و هو تبديل الامتثال الذي مورده وحدة المطلوب و الأمر.

(3) أي: بل يدل على جواز تبديل الامتثال؛ ما ورد من الروايات لظهور قول الصادق «عليه السلام»: «و يجعلها الفريضة» في صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه «عليه السلام» أنه قال: «في الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة، قال:

يصلي معهم و يجعلها الفريضة إن شاء». الوسائل، ج 8، باب 54، ص 401، ص 403.

(4) أي: و هي عدّة الروايات مذكورة في الوسائل ج 8، الباب 54، من أبواب صلاة الجماعة. و منها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر «عليه السلام» في حديث قال: «لا ينبغي للرجل أن يدخل معهم في صلاتهم و هو لا ينويها صلاة، بل ينبغي له أن ينويها، و إن كان قد صلى فإن له صلاة أخرى» إلى غيرهما من الروايات الواردة في هذا الباب، فهذه الروايات تدل على جواز الامتثال ثانيا بعد حصول الامتثال الأول، و هو الإتيان بالصلاة فرادى. و في الاستدلال بهذه الروايات على جواز تبديل الامتثال مناقشة و كلام طويل أضربنا عنه رعاية للاختصار.

ص: 413

صلى فرادى جماعة، و أن الله يختار أحبهما إليه.

الموضع الثاني (1) - و فيه مقامان:
اشارة

المقام الأول: في أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري، هل يجزي عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ثانيا بعد رفع الاضطرار في الوقت إعادة، و في خارجه قضاء أو لا يجزي ؟

=============

(1) أي: الموضع الثاني: في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري عن الأمر الواقعي، «و فيه مقامان» المقام الأول: في الأمر الاضطراري، و المقام الثاني: في الأمر الظاهري.

المقام الأول: في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي كما لو كان مأمورا بالصلاة مع التيمم، ثم ارتفع العذر في الوقت أو خارجه؛ فهل يجب الإتيان بالصلاة مع الوضوء في الوقت إعادة، أو في خارجه قضاء، أو لا يجب، بل يكون الإتيان بالصلاة مع التيمم مجزيا عنه ؟

تحقيق الكلام في المقام الأول
الأمر الاضطراري

و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو موضوع الكلام فنقول: إن موضوع الكلام هو: ما إذا كان موضوع الأمر الاضطراري متحققا في الواقع بحيث يكون للأمر الاضطراري ثبوت واقعي في حين الإتيان بالعمل، و أما إذا لم يكن الأمر الاضطراري ثابتا واقعا لعدم تحقق موضوعه واقعا؛ فلا يكون هذا الفرض موضوع الكلام لعدم الأمر الاضطراري، كي يقع الكلام في إجزائه.

إذا عرفت ما هو موضوع الكلام فاعلم: أن الكلام تارة: يقع في مقام الثبوت و أخرى: في مقام الإثبات، و الأول: ما أشار إليه بقوله: «تارة في بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطراري من الأنحاء...» إلخ.

و الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و أخرى» أي: في مقام الإثبات يعني: في «تعيين ما وقع عليه» الأمر الاضطراري من الأنحاء في الشريعة المقدسة.

و ملخص ما أفاده المصنف «قدس سره» بحسب مقام الثبوت أربع صور.

الأولى: أن يكون التكليف الاضطراري وافيا بتمام المصلحة و تمام ملاك الأمر الواقعي، و هذه الصورة ما أشار إليه بقوله: «فاعلم أنه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري»، إلى قوله: «وافيا بتمام المصلحة...» إلخ.

ص: 414

تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه تارة: في بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطراري من الأنحاء، و بيان ما هو قضية كل منها من الإجزاء و عدمه، و أخرى:

في تعيين ما وقع عليه.

فاعلم: أنه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافيا بتمام المصلحة، و كافيا فيما هو المهم و الغرض، و يمكن أن لا يكون وافيا به كذلك، بل يبقى منه شيء أمكن استيفاؤه أو لا يمكن.

و ما أمكن كان بمقدار يجب تداركه، أو يكون بمقدار يستحب، و لا يخفى: أنه إن كان وافيا به يجزي، فلا يبقى مجال أصلا للتدارك، لا قضاء و لا إعادة، و كذا لو لم يكن وافيا، و لكن لا يمكن تداركه، و لا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة إلا الثانية: أن لا يكون وافيا بتمام الملاك، بل يكون وافيا ببعض الملاك، و كان المقدار الباقي مما لا يمكن تداركه كما أشار إليه بقوله: «و يمكن أن لا يكون وافيا به كذلك، إلى قوله: «أو لا يمكن».

=============

الثالثة: أن يكون وافيا ببعض الملاك و المصلحة، و أمكن تدارك الباقي و استيفاؤه، و كان مما يجب تداركه، كما أشار إليه بقوله: «و ما أمكن كان بمقدار يجب تداركه».

الرابعة: هذه الصورة، و لكن لا يكون المقدار الباقي الممكن تداركه على حد يلزم استيفاؤه، بل على حد الاستحباب.

إذا عرفت هذه الصور في مقام الثبوت؛ فاعلم:

أن الصورة الأولى: تقتضي الإجزاء بلا كلام لحصول تمام ملاك الأمر الواقعي بالمأمور به الاضطراري، فلا مجال لوجود الأمر الواقعي.

حينئذ. أما جواز البدار - أي: المبادرة إلى الإتيان بالمأمور به الاضطراري في أول وقت الاضطرار - فهو يتوقف على إحراز وفاء المأمور به الاضطراري بملاك الأمر الواقعي بمجرد الاضطرار، إذ لا إشكال في جوازه حينئذ لعدم فوات مصلحة الواقع به.

و أما إذا كان وفاء المأمور به الاضطراري بالملاك مقيدا باليأس عن ارتفاع الاضطرار، أو بالانتظار إلى آخر الوقت؛ فلا يجوز البدار بدون اليأس؛ لعدم وفاء المأتي به بملاك الأمر الواقعي، و لا يتحقق الإجزاء.

و أما الصورة الثانية: فهي تقتضي الإجزاء أيضا؛ لامتناع تدارك الفائت، و لا يجوز البدار فيها؛ لاستلزام تجويزه للإذن في تفويت مقدار من المصلحة، و ذلك قبيح على العاقل فضلا عن الحكيم.

ص: 415

لمصلحة كانت فيه (1) لما فيه من نقض الغرض، و تفويت (2) مقدار من المصلحة، لو لا مراعاة ما هو فيه (3) من الأهم فافهم (4).

لا يقال: عليه (5)، فلا مجال لتشريعه و لو بشرط الانتظار، لإمكان استيفاء الغرض بالقضاء.

=============

(1) أي: في البدار، أي: لا يجوز البدار المفوّت لمقدار من المصلحة إلا مع تداركه بمصلحة أخرى؛ كمصلحة أول الوقت مثلا، إذ بدون التدارك يلزم نقض الغرض و هو تفويت مصلحة المأمور به الواقعي بلا موجب.

(2) أي: قوله: «و تفويت مقدار من المصلحة» تفسير «لنقض الغرض».

(3) أي: ما هو في البدار من الأهمية، أي: يلزم نقض الغرض لو لا مراعاة الغرض الأهم الذي يكون في البدار. فقوله: «من الأهم» بيان لما الموصولة في قوله:

«ما هو».

(4) لعله إشارة إلى أنه أي: كون المصلحة في البدار أهم من المصلحة الفائتة مجرد فرض في مقام الثبوت؛ إذ لم نظفر في مقام الإثبات بما يدل على اشتمال البدار في شيء من الأبدال الاضطرارية على مصلحة تكون أهم من المقدار الفائت من مصلحة المأمور به الواقعي.

و أما الصورة الثالثة: فلا يجزي المأمور به الاضطراري عن المأمور به الواقعي، لأن المفروض: إمكان تداركه مع لزومه، و يجوز البدار كما يجوز في الصورة الرابعة.

و أما الصورة الرابعة: فيجزي الأمر الاضطراري عن الواقعي، لأن المفروض: عدم وجوب تدارك الباقي حتى يجب الإتيان بالفعل ثانيا إعادة أو قضاء لتداركه.

نعم؛ يجوز البدار فيها كما أشار إليه بقوله: «و لا مانع من البدار في الصورتين» أي:

هما وجوب تدارك الباقي و عدم وجوبه.

وجه عدم المانع هو: عدم لزوم تفويت شيء من البدار فيهما، و سيأتي تفصيل ذلك في كلام المصنف «قدس سره».

(5) بناء على عدم اشتمال الأمر الاضطراري على تمام مصلحة الأمر الواقعي الاختياري، و الحال: أن الباقي من مصلحة الأمر الواقعي لا يمكن تداركه - كما هو المفروض في الصورة الثانية - فلا مجال حينئذ لتشريع الأمر الاضطراري و لو بشرط الانتظار في آخر الوقت؛ لكونه مفوتا لمقدار من المصلحة، فلا محيص عن الأمر بالمبدل الاختياري بعد خروج الوقت، و ارتفاع الاضطرار لتستوفى المصلحة بتمامها «لإمكان استيفاء الغرض». هذا تعليل لقول: «فلا مجال...» إلخ.

ص: 416

فإنه يقال (1): هذا كذلك لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت.

و أما تسويغ البدار، أو إيجاب الانتظار في الصورة الأولى (2) فيدور مدار كون العمل - بمجرد الاضطرار مطلقا، أو بشرط الانتظار، أو مع اليأس عن طروّ الاختيار - ذا مصلحة و وافيا بالغرض.

و إن لم يكن وافيا (3)، و قد أمكن تدارك الباقي في الوقت (4)، أو مطلقا و لو

=============

(1) أي: يقال في الجواب: «هذا» أي: الذي ذكرتم من عدم جواز التشريع في الصورة الثانية «كذلك»، أي: كما ذكرتم صحيح، «لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت»، و مع المزاحمة يؤخذ بأكمل المصلحتين، و أن ما يستوفى من الأمر الاضطراري من مصلحة الوقت و مقدار من مصلحة الواقع أكمل و أتم من استيفاء المصلحة بالقضاء.

و بعبارة أخرى، أن المكلف يدرك بالأمر الاضطراري مصلحتين:

إحداهما: مقدار من مصلحة الأمر الواقعي الاختياري، و الأخرى: مصلحة الوقت، و هو بالقضاء يدرك مصلحة الأمر الواقعي فقط لا مصلحة الوقت، و لا ريب أن المصلحة الأولى أكمل من الثانية، فهذا هو علة لتشريع الأمر الاضطراري.

(2) أي: و هي وفاء المأمور به الاضطراري بمصلحة المأمور به الواقعي الأوّلي، و قد عرفت مجمل الكلام فيه، و أما تفصيل ذلك: فحاصله: أن جواز البدار و عدمه في هذه الصور يدوران مدار كيفية دخل الاضطرار في المصلحة، فإن دل دليله على أن مجرد طرو الاضطرار - و لو في جزء من الوقت المضروب للمأمور به الواقعي - يوجب صيرورة الفعل ذا مصلحة تامة جاز البدار، و لا يجب الانتظار إلى آخر الوقت، أو اليأس من ارتفاع الاضطرار في الوقت. و إن دل على أن الاضطرار المستوعب للوقت يوجب صيرورة الفعل الاضطراري ذا مصلحة تامة؛ فلا وجه لجواز البدار، بل يجب الانتظار إلا إذا علم ببقاء العذر إلى آخر الوقت، فإن العلم طريق عقلي لإحراز الموضوع و هو الاضطرار المستوعب، كما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 32» مع تصرف ما.

(3) أي: و إن لم يكن الفعل بمجرد الاضطرار وافيا بالغرض فهناك تفصيل.

و توضيح ذلك: أن ما يبقى من المصلحة إن كان تداركه واجبا فلا يجزي الفعل الاضطراري عن المأمور به الواقعي، بل يجب الإتيان بالمبدل إعادة مع بقاء الوقت و قضاء بعد خروجه. و إلى هذا أشار بقوله: «فإن كان الباقي مما يجب تداركه»، و إن لم يكن تداركه واجبا فلا يجب شيء من الإعادة و القضاء؛ إذ المفروض: عدم وجوب تدارك ما فات من المصلحة.

(4) أي: إذا فرض زوال العذر قبل خروج الوقت، كما أن تدارك الباقي قضاء يكون بعد خروج الوقت.

ص: 417

بالقضاء خارج الوقت؛ فإن كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزي (1)، بل لا بدّ من إيجاب الإعادة أو القضاء، و إلا فيجزي، و لا مانع عن البدار في الصورتين (2).

غاية الأمر: يتخير في الصورة الأولى بين البدار و الإتيان بعملين: العمل الاضطراري في هذا الحال (3)، و العمل الاختياري بعد رفع الاضطرار، أو الانتظار (4) و الاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار.

و في الصورة الثانية: (5) يتعين عليه البدار، و يستحب إعادته بعد طروّ الاختيار.

«و في نسخة: يجزي البدار و يستحب الإعادة بعد طروّ الاختيار».

=============

(1) وجه عدم الإجزاء هو: أن المفروض: إمكان تداركه، مع لزومه.

قوله: «و إلا فيجزي» أي: و إن لم يكن الباقي مما يجب تداركه فيجزي؛ لعدم وجوب الباقي حتى يلزم الإتيان بالفعل ثانيا إعادة أو قضاء لتداركه.

(2) أي: و هما وجوب تدارك الباقي و عدمه، وجه عدم المانع هو: عدم لزوم التفويت من البدار فيهما. غاية الأمر: أنه يتخير في الصورة الأولى - أعني: وجوب تدارك الباقي - بين الإتيان بعملين: اضطراري و اختياري، فيجوز له البدار بالعمل الاضطراري، ثم يأتي بالاختياري بعد ارتفاع العذر، و بين الإتيان بعمل واحد اختياري بعد ارتفاع الاضطرار، إذ المصلحة التامة تستوفى على كلا التقديرين، غايته: أنه في صورة الإتيان بعملين تستوفى تدريجا، و في صورة الإتيان بعمل واحد تستوفى دفعة.

(3) أي: حال الاضطرار.

(4) أي: الانتظار إلى رفع الاضطرار، ثم الإتيان بما هو تكليف المختار.

فالحاصل: أن المكلف يتخير بين البدار - و الإتيان بعملين حتى يعلم بإحراز تمام المصلحة بعضها بالعمل الاضطراري في أول الوقت، و بعضها الآخر بالعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار - و بين الانتظار و الاقتصار بما هو تكليف المختار.

وجه التخيير: أنه يتمكن من تحصيل الغرض في الصورتين.

(5) أي: و هي استحباب تدارك الباقي، فيتعين البدار بالفعل الاضطراري بحيث يقع في الوقت حفظا لمصلحة الوقت، «و يستحب إعادته بعد طروّ الاختيار» أي: في خارج الوقت لاستيفاء بقية المصلحة غير الملزمة. هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.

و أما بيان حال الأمر الاضطراري في مقام الإثبات و أنه من أيّ نحو من الأنحاء الأربعة؛ هل هو من النحو المقتضي للإجزاء أم لا؟ فقد أشار إليه بقوله: «و أما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله» هو الإجزاء.

ص: 418

هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطرار من الأنحاء، و أما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، * و قوله: «عليه السلام»: «التراب أحد الطهورين»(1) و «يكفيك عشر سنين»(2) هو الإجزاء، و عدم وجوب الإعادة أو القضاء، و لا بد في إيجاب الإتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص (1).

و بالجملة: فالمتّبع هو الإطلاق لو كان، و إلاّ فالأصل و هو يقتضي البراءة من و حاصل الكلام في المقام: أن ظاهر قوله تعالى في سورة النساء: 43 - المائدة: 6، و ظاهر قول المعصوم: «التراب أحد الطهورين...» إلخ - في الوسائل، كتاب الطهارة الباب الثالث عشر من أبواب التيمم - هو الإجزاء، و عدم وجوب الإعادة أو القضاء.

=============

و المراد من الإطلاق هنا: هو الإطلاق المقامي لا اللفظي؛ بمعنى: أن المولى إذا كان في مقام بيان وظيفة المضطر - أعني: فاقد الماء - و حكم بالتيمم بدل الوضوء، و لم يحكم بالإعادة أو القضاء بعد رفع الاضطرار في الوقت أو في خارجه؛ علم من ذلك إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي و كفايته عنه، و عدم وجوب الإعادة أو القضاء بعد رفع الاضطرار، إذ لو كان واجبا على المكلف أحدهما لبيّن المولى و حكم به قطعا؛ بعد فرض كونه في مقام البيان لتمام ما له دخل في حصول الغرض الذي يترتب على العمل الاختياري.

هذا إذا كان هناك إطلاق مقامي للدليل الاضطراري، و أما إذا كان المولى في مقام الإجمال و الإهمال أي: في مقام تشريع أصل الاضطراري في الجملة، و لم يكن في مقام تمام وظيفة المضطر، فالمرجع حينئذ هو الأصل العملي و هو: أصالة البراءة، لأن الشك حينئذ في أصل التكليف بعد رفع الاضطرار في الوقت أو خارجه، فيكون الشك في الأول في أصل وجوب الإعادة، و في الثاني: في أصل وجوب القضاء و هو مجرى البراءة، فيقوم البدل و هو التيمم مقام المبدل منه و هو «الوضوء»؛ بلحاظ جميع الآثار و الخواص، فلا بدّ من أن يفي البدل بما يفي به المبدل منه من المصلحة.

(1) أي: غير دليل المأمور به الواقعي الأولي الذي هو المبدل.

ص: 419


1- في الكافي، ج 3، ص 63، ح 4 /التهذيب، ج 1، ص 52، ح 54 /الفقيه، ج 1، ص 105، ح 214 /الوسائل، ج 3، باب 21، ح 381: «التيمم أحد الطهورين».
2- في التهذيب، ج 1، ص 94، ح 35 /الوسائل، ج 3، باب 14، ص 369 /عوالي اللآلي، ج 3، ص 47، ح 34: «يا أبا ذر: يكفيك الصعيد عشر سنين».

إيجاب الإعادة؛ لكونه شكا في أصل التكليف، و كذا عن إيجاب القضاء بطريق أولى (1)، نعم (2) لو دل دليله على أن سببه فوت الواقع، و لو لم يكن هو فريضة كان القضاء واجبا عليه، لتحقق سببه، و إن أتى بالفرض لكنه مجرد الفرض.

المقام الثاني: في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري و عدمه (3).

=============

(1) وجه الأولوية: أن القضاء تابع للأداء، فإذا لم تجب الإعادة في الوقت لم يجب القضاء في خارج الوقت بطريق أولى؛ لأن الصلاة في الوقت ذات مصلحتين مصلحة الصلاة و مصلحة الوقت، و الصلاة في خارج الوقت ذات مصلحة واحدة و هي مصلحة الصلاة فقط، فإذا جاز تفويت الأول جاز تفويت الثاني بطريق أولى، و بعبارة أخرى: إذا لم تجب الإعادة لم يجب القضاء بطريق أولى.

(2) قوله: «نعم لو دل دليله..» إلخ استدراك على قوله: «فالأصل و هو يقتضي البراءة»، و حاصله: أن ما تقدم من أن مقتضى أصل البراءة هو عدم وجوب القضاء إنما يصح فيما إذا كان موضوع وجوب القضاء فوت الفريضة، و أما فيما إذا دل دليل القضاء على أن سبب القضاء و موضوعه هو فوت الواقع - و إن لم يكن فريضة حال الاضطرار، كما إن وجوب المأمور به الواقعي لا يكون فريضة حال الاضطرار - فلا يجري أصل البراءة، بل كان القضاء واجبا على المكلف «لتحقق سببه» أي: لتحقق موضوع القضاء و هو عدم فعل الواقع.

و إن أتى المكلف بالغرض القائم بالمأمور به الواقعي الحاصل بالمأمور به الاضطراري، «لكنه مجرد الفرض» أي: كون دليل القضاء كذلك مجرد الفرض، لأن دليل القضاء و هو قولهم «عليه السلام»: «ما فاتتك من فريضة فاقضها كما فاتتك» و «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته»(1)؛ ظاهر في فوت الفريضة الفعلية؛ لا فوت الواقع بما هو هو. و من المعلوم: أن المأمور به الواقعي حال الاضطرار ليس الفريضة الفعلية.

هذا تمام الكلام في الأمر الاضطراري، و في المقام الأول الكلام فعلا في إجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري عن الواقعي.

في إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي

(3) أي: عدم الإجزاء كما لو قام أصل أو أمارة على عدم وجوب السورة في الصلاة

ص: 420


1- في فقه الرضا «عليه السلام» ص 162 /البحار، ج 89، ص 45، ح 15 /المستدرك، ج 2، ص 435، عن فقه الرضا: «... فإن فاتتك الصلاة في السفر و ذكرتها في الحضر، فاقض صلاة ركعتين كما فاتتك، و إن فاتتك في الحضر فذكرتها في السفر؛ فاقضها أربع ركعات صلاة الحضر كما فاتتك».

فصلى بدون سورة، ثم انكشف أن السورة كانت واجبة؛ فهل تكون الصلاة بدون سورة مجزية عن الواقع أو لا؟

و قبل الخوض في محل الكلام لا بد من التنبيه على ما هو موضوع البحث فنقول: إن موضوع البحث ما إذا كان للحكم الظاهري ثبوت واقعي انقطع بانكشاف الواقع، و انتهى أمده لمعرفة الواقع، فلا يشمل ما إذا كان له وجود تخيّلي يتضح انتفاؤه من أول الأمر بانكشاف الواقع؛ كما استند إلى ما تخيل أنه حجة شرعية كخبر فاسق تخيل أنه خبر عادل، فإنه و إن كان في حين العمل معذورا لجهله المركب؛ و لكن لم يثبت في حقه حكم ظاهري واقعا، بل تخيّلا.

و السر في عدم دخول مثل هذا الحكم الظاهري في موضوع البحث؛ ما يشير إليه المصنف «قدس سره» في ذيل مبحث الإجزاء؛ من عدم إجزاء الحكم المقطوع به عن الواقع، إذ لا وجود حينئذ للحكم الظاهري كي يبحث عن إجزاء العمل على طبقه عن الواقع، فهو خارج عن موضوع البحث، فموضوع البحث ما إذا كان للحكم الظاهري ثبوت واقعي في زمان محدود يتحدد بانكشاف الخلاف؛ بحيث يكون انكشاف الخلاف رافعا للحكم الظاهري من حينه لا من أول الأمر.

ثم إن للحكم الظاهري إطلاقين:

أحدهما: ما كان للجهل مدخل فيه؛ بخلاف الحكم الواقعي الذي لا مدخل للجهل فيه. و ذلك كالأصول العملية التي موضوعها الشك في الحكم الواقعي، في مقابل ما تدل عليه الأدلة الاجتهادية من الأحكام الواقعية؛ التي لا تناط بشيء من العلم و الجهل.

ثانيهما: كل وظيفة مجعولة لغير العالم بالواقع، فيشمل الأحكام الكلية المستفادة من الأدلة الاجتهادية، و الأصول العملية، و الأحكام الجزئية الثابتة بالأصول الجارية في الشبهات الموضوعية؛ كأصالة الصحة، و اليد، و السّوق و نحوها.

ثم المراد بالحكم الظاهري هنا هو هذا المعنى الثاني.

إذا عرفت ما هو موضوع البحث في المقام الثاني؛ فاعلم: أنه يقع الكلام فيه من ناحيتين:

«الأولى:» أنه إذا قام الأمر الظاهري من أصل أو أمارة على تحقق شرط أو جزء في الواجب، ثم انكشف الخلاف، و أن الشرط أو الجزء لم يكن متحققا واقعا فهل يجزي العمل الفاقد للشرط أو الجزء عن المأمور به الواقعي إعادة أو قضاء أم لا؟

ص: 421

المقام الثانى
اشارة

الثانية: أنه إذا قام الأمر الظاهري من أصل أو أمارة على إثبات واجب، ثم انكشف الخلاف، و أن الواجب كان أمرا آخر غير ما قام عليه الأصل أو الأمارة؛ فهل يجزي المأتي به عن المأمور به الواقعي أم لا؟

فقد أشار إلى الناحية الأولى بقوله: «إن ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف...» إلخ، و إلى الثانية بقوله الآتي: «و أما ما يجري في إثبات أصل التكليف...» إلخ.

و بعد هذا نقول: إن البحث يقع في إجزاء الحكم الظاهري أعم من ثبوته بأصل أو أمارة، و أعم من كون انكشاف خلافه بأمارة ظنية أو بعلم وجداني، و في المسألة أقوال كثيرة تركنا ذكرها رعاية للاختصار، إذ ليس من المهم ذكر تلك الأقوال، و إنما المهم بيان ما يحتمل من وجوه الإجزاء.

و قد ذهب المصنف «قدس سره» إلى الإجزاء في بعض الأصول دون الأمارات؛ إذا كان اعتبارها بنحو الطريقية.

و خلاصة الكلام فيما أفاده المصنف «قدس سره»؛ من التفصيل بين بعض الأصول و الأمارات في المقام من إجزاء بعض الأصول دون الأمارات إذا كان اعتبارها بنحو الطريقة.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: بيان الفرق بينهما من حيث مفاد دليلهما؛ و هو: أن مفاد دليل الحكم الظاهري و مؤداه في بعض الأصول هو جعل الحكم حقيقة، و بعبارة أخرى: يكون مفاد دليله إنشاء الحكم حقيقة كإنشاء الطهارة و الحلية المستفادتين من مثل قوله «عليه السلام»: «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام»(1)، و «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر»(2)، حيث إن المستفاد من الرواية الأولى: قاعدة الحلية، و من الثانية: قاعدة الطهارة، و هما - كاستصحاب الطهارة و الحلية - متكفلان لتنقيح ما هو موضوع التكليف.

هذا بخلاف مفاد دليل الحكم الظاهري في الأمارات الشرعية؛ حيث يكون مؤدى دليله ثبوت الحكم واقعا، و الحكاية عن وجوده كذلك.

ص: 422


1- الكافي، ج 5، ص 313، ح 40 /التهذيب، ج 7، ص 226، ح 9 /الوسائل، ج 17، باب 4، ص 89.
2- التهذيب، ج 1، ص 285، ح 119 /الوسائل، ج 3، باب 37، ص 467.

و التحقيق: أن ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف و تحقيق متعلقه، و كان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره كقاعدة الطهارة أو الحلية، بل و استصحابهما في وجه قوي، و نحوها بالنسبة إلى كل ما اشترط بالطهارة أو الحلية يجزي، فإن دليله يكون حاكما على دليل الاشتراط و مبينا لدائرة الشرط، و أنه أعم من الطهارة الواقعية و الظاهرية، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل، و هذا بخلاف ما كان منها بلسان أنه ما هو الشرط واقعا، كما هو لسان الأمارات، فلا يجزي، فإن دليل حجيته حيث كان بلسان أنه واجد لما هو شرطه الواقعي، فبارتفاع الجهل ينكشف أنه لم يكن كذلك، بل كان لشرطه فاقدا.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الحكم الظاهري إن كان من القسم الأول كان مجزيا؛ لأن لسان الأصول هو إنشاء شرط من الطهارة و الحلية في ظرف الشك، و لازم هذا الإنشاء و الجعل هو: كون الشرط أعم من الطهارة و الحلية الواقعيتين و الظاهريتين، فتكون الأصول حاكمة على أدلة الشرائط، مثل: «لا صلاة إلاّ بطهور» الظاهر في اعتبار الطهارة الواقعية في الصلاة، لأن مثله لا يتكفل لصورة الشك في الطهارة؛ بخلاف الأصل فإنه متكفل لها، فيكون ناظرا إلى دليل الشرطية، و هذا هو معنى الحكومة، فمقتضى أدلة الأوامر الظاهرية هو: كون الصلاة الفاقدة لشرط أو جزء في حال الشك؛ مثل الصلاة الواجدة للشرط أو للجزء.

هذا بخلاف ما إذا كان الحكم الظاهري من القسم الثاني أي: بأن يكون مفاد دليله ثبوت الحكم واقعا، و الحكاية عن وجوده كذلك - كما هو مفاد الأمارات الشرعية إذا كان اعتبارها بنحو الطريقية كما هو الأقوى عند المصنف «قدس سره» - فلا يجزي؛ لأن مفاد الأمارات ثبوت الواقع لا توسعة دائرة الشرط. و هذا ما أشار إليه بقوله: «و هذا بخلاف ما كان منها» أي: من الأوامر الظاهرية «بلسان أنه ما هو الشرط واقعا، كما هو لسان الأمارات فلا يجزي» أي: يجب الإتيان بالعمل ثانيا أداء أو قضاء، لأن مفاد الدليل: أن العمل واجد للشرط واقعا، و بعد انكشاف الخلاف يظهر أن العمل كان فاقدا للشرط واقعا، فلم ينعقد العمل صحيحا حتى لا يجب تداركه، فيجب التدارك و الإتيان به ثانيا. هذا هو معنى عدم الإجزاء.

قوله: «فإن دليله يكون حاكما...» إلخ تعليل للإجزاء. و المراد بدليل الاشتراط مثل:

«لا صلاة إلا بطهور».

ص: 423

هذا (1) على ما هو الأظهر الأقوى في الطرق و الأمارات، من أن حجيتها ليست بنحو السببية.

و أما بناء عليها، و أن العمل بسبب أداء أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره، يصير حقيقة صحيحا كأنه واجد له، مع كونه فاقده، فيجزي لو كان الفاقد معه - في هذا

=============

صور المأتي به من حيث الوفاء بالغرض و عدمه

(1) أي: عدم الإجزاء «فيما كان الأمر الظاهري بلسان أنه ما هو الشرط واقعا على ما هو الأظهر الأقوى» عندنا «في الطرق و الأمارات من أن حجيتها على نحو الطريقية، و «ليست بنحو السببية».

الفرق بينهما: أن الأول أعني: الطريقية يجب العمل بالطريق لمجرد كونه طريقا إلى الواقع، و كاشفا ظنيا عنه، بحيث لم يلاحظ فيه سوى الكشف عن الواقع، فإن صادفه أحرز مصلحة الواقع، و إن لم يصادفه لم يكن له شيء.

و الثاني: أي: السببية و هو أنه يجب العمل به لأجل أنه يحدث فيه بسبب قيام الطريق مصلحة مساوية أو راجحة على المصلحة الواقعية التي تفوت عند مخالفة ذلك الطريق للواقع.

إذا عرفت هذا الفرق فاعلم: أن الإجزاء و عدمه مبتن على القولين؛ فمن يقول: بأن حجية الأمارات من باب الطريقية - و منهم المصنف «قدس سره» - يرى عدم الإجزاء فيما لو قامت الأمارة على شيء، ثم تبين الخلاف، إذ المصلحة الواقعية غير محرزة و الواقع على حاله، «و أما بناء عليها» أي: على السببية و هو القول الثاني و ذلك بمعنى: «أن العمل بسبب أداء أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره يصير حقيقة صحيحا»، و يكون «كأنه» أي: العمل «واجد له، مع كونه فاقده» في الحقيقة؛ ففي الإجزاء و عدمه تفصيل، إذ الأقسام المتصورة حينئذ أربعة، لأن المأتي به إما واف بتمام الغرض أو لا.

و على الثاني: فالباقي من الغرض إما يمكن استيفاؤه أو لا. و الممكن الاستيفاء إما واجب استيفاؤه أو مستحب على ما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 1، ص 529»، «فيجزي لو كان الفاقد» للشرط أو الشطر «معه» أي: مع كونه فاقدا «في هذا الحال» أي: في حال قيام الأمارة «كالواجد في كونه وافيا بتمام الغرض»، و هي الصورة الأولى، «و لا يجزي لو لم يكن» العمل الفاقد «كذلك» أي: وافيا بتمام الغرض، و حين عدم الوفاء بتمامه «يجب الإتيان بالواجد» ثانيا «لاستيفاء الباقي إن وجب» الاستيفاء و هي الصورة الثالثة، «و إلا» أي: و إن لم يجب الاستيفاء «لاستحب» الإتيان ثانيا و هي الصورة الرابعة.

ص: 424

الحال - كالواجد في كونه وافيا بتمام الغرض، و لا يجزي لو لم يكن كذلك، و يجب الإتيان بالواجد لاستيفاء الباقي - إن وجب - و إلا لاستحب.

هذا مع إمكان استيفائه، و إلا فلا مجال لإتيانه، كما عرفت في الأمر الاضطراري. و لا يخفى: أن قضية إطلاق دليل الحجية - على هذا (1) - هو الاجتزاء بموافقته أيضا.

هذا (2) فيما إذا أحرز أن الحجية بنحو الكشف و الطريقية، أو بنحو الموضوعية

=============

(1) أي: على القول: بالسببية هو الاجتزاء بموافقة الأمر الظاهري «أيضا» يعني:

كاقتضاء دليل المأمور به الاضطراري للإجزاء، فهذا من المصنف «قدس سره» تعرّض لمقام الإثبات بعد الإشادة إلى مقام الثبوت.

(2) أي: هذا الذي ذكرناه من الإجزاء بناء على السببية، و عدم الإجزاء على الطريقية في بعض الصور واضح؛ فيما إذا كانت كيفية الحجية من حيث السببية و الطريقية معلومة، و أمّا إذا شك و لم يحرز أن الحجية بنحو السببية أو الطريقية فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: في الإعادة، و المقام الثاني: في القضاء.

أما المقام الأول: الذي أشار إليه المصنف بقوله: «فأصالة عدم الإتيان»؛ فملخصه: أن المرجع فيه هي قاعدة الاشتغال، لكون الشك في الفراغ بعد العلم بشغل الذمة، و عدم إحراز مسقطية المأتي به لما اشتغلت به الذمة من التكليف الفعلي.

وجه عد إحراز مسقطيته هو: عدم العلم بوفائه بتمام المصلحة أو معظمها، إذ المفروض: عدم إحراز كون الحجية على نحو السببية حتى يكون المأتي به مجزيا عن الواقع.

فالحاصل: أنه لمّا كان الشك في وادي الفراغ؛ فلا محيص عن الالتزام بعدم الإجزاء لو كان انكشاف الخلاف في الوقت، فتجب الإعادة.

قال في «منتهى الدراية، ج 3، ص 80» ما هذا لفظه: (لا يخفى: أن تقريب الأصل بما ذكرناه من قاعدة الاشتغال أولى من جعله استصحاب عدم الإتيان بالمسقط، كما في المتن، و ذلك: لأن المورد من موارد القاعدة لا من موارد الاستصحاب، حيث إن موردها هو الشك في فراغ الذمة؛ بحيث يكون الأثر مترتبا على نفس الشك، و مورد الاستصحاب هو ما إذا كان الأثر مترتبا على الواقع.

و من المعلوم: أن المقام من موارد القاعدة؛ لكون لزوم الإتيان ثانيا مترتبا عقلا على نفس الشك في الفراغ؛ لا على عدم الإتيان بالواقع حتى نحتاج إلى إحرازه

ص: 425

و السببية، و أما إذا شك «فيها» و لم يحرز أنها على أيّ الوجهين فأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف مقتضية للإعادة في الوقت.

و استصحاب (1) عدم كون التكليف بالواقع فعليا في الوقت لا يجدي، و لا يثبت كون ما أتى به مسقطا؛ إلا على القول بالأصل المثبت، و قد علم اشتغال ذمته بما يشك في فراغها عنه بذلك المأتي.

=============

بالاستصحاب، فإحرازه به يكون من صغريات تحصيل ما هو حاصل وجدانا بالتعبد، و هو من أردأ وجوه تحصيل الحاصل المحال، مضافا: إلى ما يرد على أصالة عدم الإتيان بالمسقط من المناقشات:

إحداها: عدم كون ترك الإتيان بالمسقط أثرا شرعيا و لا موضوعا له؛ مع وضوح اعتبار أحدهما في جريان الاستصحاب.

ثانيتها: أنه مثبت؛ لأن ترتب بقاء الطلب الموجب للإتيان ثانيا على عدم الإتيان بالمسقط عقلي.

ثالثتها: عدم جريانه؛ لتردد المسقط بين ما هو معلوم البقاء، و ما هو معلوم الارتفاع، إذ المسقط لو كان هو الواقع فذلك معلوم البقاء لعدم الإتيان به على الفرض، فيجب فعله، لو كان هو مؤدى الأمارة، فذلك معلوم الارتفاع، فلا يجب الإتيان بالواقع، و في مثله لا يجري الاستصحاب للعلم بالبقاء أو الارتفاع، فلا شك في البقاء على كل تقدير).

انتهى.

و العمدة من هذه المناقشات ما عرفته من عدم كون المقام من موارد الاستصحاب بل من موارد القاعدة.

(1) قوله: «و استصحاب..» إلخ، دفع للتوهم بتقريب: أن مقتضى استصحاب عدم فعلية التكليف الواقعي في الوقت هو: عدم وجوب الاعادة.

و حاصل الدفع: أن استصحاب عدم فعلية التكليف لا يجدي، و لا يثبت عدم وجوب الإعادة إلا بناء على حجية الأصل المثبت؛ و ذلك: أن سقوط الإعادة من آثار فعلية مؤدى الأمارة كما هو المفروض على السببية، و ليس من آثار عدم فعلية الواقع حتى يثبت باستصحابه، و إنما يكون من آثاره إذا كان الحكم الواقعي يسقط بقيام الأمارة على خلافه، مع إنه ليس كذلك؛ لعدم سقوط الواقعيات بقيام الأمارة على خلافها، فإثبات سقوط الإعادة باستصحاب عدم فعلية الواقع يكون من قبيل إثبات أثر أحد الضدين باستصحاب عدم الآخر.

ص: 426

و هذا (1) بخلاف ما إذا علم أنه مأمور به واقعا، و شك في أنه يجزي عما هو المأمور به الواقعي الأوّلي؛ كما في الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية، بناء على أن يكون الحجية على نحو السببية، فقضية الأصل فيها - كما أشرنا إليه - عدم وجوب الإعادة، للإتيان بما اشتغلت به الذمة يقينا، و أصالة عدم فعلية التكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار و كشف الخلاف.

=============

و من المعلوم: أنه من الأصول المثبتة، فلا مجال لاستصحاب عدم فعلية التكليف الواقعي في الوقت؛ حتى يثبت به عدم وجوب الاعادة، بل المرجع هنا قاعدة الاشتغال؛ لكون الشك في فراغ الذمة بعد العلم باشتغالها بالتكليف.

قوله: «بذلك المأتي»؛ متعلق بقوله: «يشك»، و الباء للسببية، و معنى العبارة: أن منشأ الشك في الفراغ هو العمل بمؤدى الأمارة، مثلا: إذا قامت البيّنة على طهارة ماء فتوضأ به و صلى، ثم تبين خطأ البيّنة، فيقال: إن التكليف بالوضوء بالماء الطاهر الذي هو حكم واقعي قد اشتغلت به الذمة قطعا، و يشك في سقوطه بالوضوء بالماء المتنجس واقعا؛ المحكوم لأجل البيّنة بالطهارة ظاهرا، فقاعدة الاشتغال تقتضي وجوب الإعادة لكون الشك في سقوط التكليف لا في ثبوته.

الفرق بين الشك في الطريقية و السببية و بين الشك في إجزاء الأمر الاضطراري عن الواقعي

(1) أي: هذا الذي ذكرنا - و هو الشك في الإجزاء لأجل الشك في الطريقية و الموضوعية - حيث كان مجراه الاشتغال؛ «بخلاف» ما إذا كان الشك في الأجزاء لأجل الشك في وفاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري بناء على السببية، فإن المرجع فيهما البراءة بعد ارتفاع الاضطرار، أو انكشاف الخلاف.

و أشار إليه بقوله: بخلاف «ما إذا علم أنه مأمور به واقعا» ثانويا، «و شك في أنه يجزي عما هو المأمور به الواقعي الأوّلي» أم لا؛ «كما في الأوامر الاضطرارية، أو» الأوامر «الظاهرية»، و ليس المراد بها الأمر الظاهري بناء على الطريقية، لأنه على هذا ليس مأمورا به بالأمر الواقعي، بل «بناء على أن يكون الحجية» في الأوامر الظاهرية «على نحو السببية» و الموضوعية، «فقضية الأصل فيها» أي: في الاضطرارية و الظاهرية «كما أشرنا إليه» في المقام الأول «عدم وجوب الإعادة» عند ارتفاع الاضطرار و انكشاف الواقع في الوقت، و الفرق بين الشك في الطريقية و السببية - الموجب للإعادة، و بين الشك في إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري، أو الظاهري عن الأمر الواقعي بعد رفع الاضطرار و انكشاف الخلاف الذي لا يوجب الاعادة - أنه في الأول قطع بالاشتغال فيستصحب عدم إتيان متعلقه، و أما في الثاني: فلا يجب «للإتيان بما اشتغلت به الذمة يقينا» من الأمر الاضطراري و الظاهري.

ص: 427

و أما القضاء (1): فلا يجب بناء على أنه فرض جديد و كان الفوت المعلق عليه وجوبه لا يثبت بأصالة عدم الإتيان إلا على القول بالأصل المثبت، و إلا (2) فهو واجب كما لا يخفى على المتأمل فتأمل جيدا.

=============

و الأولى في قوله: «فقضية الأصل فيها» تثنية الضمير لرجوعه إلى الأوامر الاضطرارية و الظاهرية، و لا يجدي في إفراده دعوى رجوعه إلى الأوامر؛ و ذلك لأن الملحوظ هو:

الأوامر الموصوفة بالاضطرارية و الظاهرية، و بهذا اللحاظ لا بد من تثنية الضمير.

(1) أي: قد عرفت في المقام الأول المتكفل لحكم انكشاف الخلاف في الوقت؛ كوجوب الاعادة أو عدم وجوبها.

و أما المقام الثاني: المتكفل لحكم انكشاف الخلاف بعد الوقت، و قد أشار المصنف إليه بقوله: «و أما القضاء فلا يجب...» إلخ.

و حاصل الكلام في المقام الثاني: أنه إذا انكشف الخلاف بعد الوقت، و لم يحرز كون حجية الأمارات بنحو السببية أو الطريقية؛ ففي وجوب القضاء تفصيل، و هو: أنه بناء على كون القضاء بفرض جديد أي: بأن لا يكون تابعا للأداء لا يجب؛ و ذلك لعدم إمكان إثبات الفوت الذي هو موضوع وجوب القضاء باستصحاب عدم الإتيان لكونه مثبتا، حيث إن الفوت أمر وجودي، و ترتبه على عدم الإتيان بالفريضة في الوقت عقليّ ، و الأصل المثبت ليس حجة فينتفي وجوب القضاء لانتفاء الموضوع، و عدم العلم به.

غاية الأمر: يشك في وجوب القضاء المنفي بالبراءة لكون الشك حينئذ في أصل التكليف، هذا إذا كان القضاء بأمر جديد. و أمّا بناء على كون القضاء بالفرض الأوّل فيجب ذلك؛ لأنه حينئذ بحكم الإعادة.

(2) أي: و إن لم يكن القضاء بفرض جديد بأن كان تابعا للأداء، أو قلنا: بأن الفوت عبارة عن عدم الإتيان؛ لا أنه أمر وجودي، أو قلنا: بحجية الأصل المثبت؛ فالقضاء واجب بعد رفع الاضطرار، أو انكشاف الخلاف خارج الوقت؛ و كان وجوبه بعين الدليل الذي ذكر في الأداء.

قوله: «فتأمل جيدا»؛ لعله إشارة إلى أن موضوع القضاء لا ينحصر و لا يختص بالفوت؛ بل هو أعم منه و من نسيان الفريضة، و من النوم عليها، فالموضوع للقضاء تركها في تمام الوقت، فأصالة عدم الإتيان لو وجدت هنا لكانت كافية في وجوب القضاء بعد انكشاف الخلاف خارج الوقت، أو إشارة إلى عدم كفاية مجرد كون القضاء بالفرض الأول في وجوب القضاء، بل لا بد من إحراز الفوت، و حينئذ فإن كان الفوت أمرا عدميا

ص: 428

ثم إن هذا كله (1) فيما يجري في متعلق التكاليف من الأمارات الشرعية، و الأصول العملية، و أما ما يجري في إثبات أصل التكليف كما إذا قام الطريق أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة، فانكشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر في زمانها (2)؛ فلا وجه لإجزائها مطلقا، غاية الأمر: أن تصير صلاة الجمعة فيها - أيضا - ذات مصلحة لذلك (3)، و لا ينافي هذا (4) بقاء صلاة الظهر على أمكن إحرازه بالأصل؛ فيجب القضاء، و إن كان وجوديا فإحرازه بالأصل مبنيّ على حجية الأصل المثبت، و حيث لا نقول بها فلا يجب القضاء.

=============

(1) أي: ثم إن هذا الكلام الذي ذكر بالنسبة إلى الإعادة و القضاء «فيما يجري في متعلق التكاليف» أي: في الناحية الأولى و هي: ما إذا قام الأمر الظاهري من أصل أو أمارة على تحقق شرط أو جزء في الواجب، ثم انكشف الخلاف.

و أما الكلام في الناحية الثانية: و هي ما إذا قام الأمر الظاهري من أصل أو أمارة على إثبات واجب ثم انكشف الخلاف و أن الواجب كان أمرا آخر غير ما قام عليه الأصل أو الأمارة. هذا ما أشار إليه بقوله: «و أما ما يجري في إثبات أصل التكليف...» إلخ أي:

و أما ما يجري من الأمارات و الأصول العملية في إثبات نفس الأحكام الشرعية؛ كما إذا قامت أمارة كخبر الثقة، أو أصل كالاستصحاب على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة؛ و بعد الإتيان بها انكشف وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة في زمان الغيبة، فلا وجه للإجزاء مطلقا أي: سواء قلنا: بطريقية الأمارات أم موضوعيتها.

و أما على الأول: فواضح؛ إذ عرفت عدم الإجزاء على الطريقية.

و أما على الثاني: فلأن غاية ما تقتضيه الموضوعية هي: اشتمال صلاة الجمعة على المصلحة الناشئة من قيام الأمارة أو الأصل على وجوبها، و من الواضح: عدم المنافاة بين وجوب صلاة الجمعة بهذا العنوان، و بين وجوب صلاة الظهر، لتعدد متعلق الوجوبين، إلا إذا قام دليل خاص من إجماع أو غيره على عدم وجوب صلاتين يوم الجمعة، و أن الواجب فيه واحد، فلا بد حينئذ من الإتيان بصلاة الظهر؛ لعدم وجوب غيرها بناء على الطريقية، و الاكتفاء بصلاة الجمعة بناء على الموضوعية؛ إذ المفروض: وجوب إحدى الصلاتين، و قد أتى بها.

(2) أي: الغيبة.

(3) أي: لأجل قيام الأمارة أو الأصل على وجوبها؛ فإنها حينئذ ذات مصلحة على القول بالسببية.

(4) أي: و لا ينافي هذا الذي ذكرنا من صيرورة صلاة الجمعة ذات مصلحة «بقاء

ص: 429

ما هي عليه من المصلحة كما لا يخفى؛ إلا (1) أن يقوم دليل بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.

=============

صلاة الظهر على ما هي عليه» في الواقع «من المصلحة»؛ لعدم المحذور في اجتماع المصلحتين الملزمتين في يوم واحد «كما لا يخفى».

غاية الأمر: أن مصلحة الظهر واقعية، و مصلحة الجمعة سببية، فلا مانع من وجوبهما معا؛ إذ ليس لما يدل على وجوب صلاة الجمعة تعرّض لنفي وجوب صلاة الظهر.

حكم صور قيام دليل خاص على عدم وجوب صلاتين

(1) أي: إلا أن يقوم من الخارج دليل خاص على عدم وجوب صلاتين؛ الأعم من الوجوب الواقعي و الظاهري الأماري في يوم واحد. إذ لو قام دليل كذلك وقع التنافي بين وجوب الظهر، و وجوب الجمعة. فقوله: «إلا أن يقوم...» إلخ استثناء من عدم المنافاة أي: تتحقق المنافاة مع قيام دليل خاص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد؛ و ذلك أنه مع قيام دليل خاص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد ثبت التلازم بين ثبوت وجوب إحداهما و بين عدم وجوب الأخرى؛ فحينئذ إذا ثبت وجوب إحداهما بأمارة أو أصل ثبت عدم وجوب الأخرى؛ لما عرفت: من كون وجوب إحداهما ملازما لعدم وجوب الآخر.

و لكن ليس في الأدلة ما يفيد ذلك إذ غاية ما يستفاد من الضرورة أو الإجماع: عدم وجوب صلاتين واقعيتين في يوم واحد؛ لا عدم الوجوب في الأعم من الواقعي و الأماري كما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 1، ص 536».

ثم لو قام دليل خاص على عدم وجوب صلاتين لكان مفاده يتصور على وجوه:

الأول: أن يكون مفاده عدم الوجوبين الواقعيين.

الثاني: عدم الوجوبين الظاهريين.

الثالث: عدم الوجوبين على الإطلاق.

الرابع: عدم وجوب ظاهري مع وجوب واقعي.

و الأولان: لا ينافيان وجوب الإعادة، لأن المأتي به واجب بوجوب ظاهري، و الآخر بوجوب واقعي، و في الأخيرين يقع التزاحم، فإن كان الأول أهم أو مساويا فقضية الدليل المذكور هو الإجزاء، و إلا فالإعادة واجبة، فلا وجه لجعل قيام الدليل على عدم وجوب صلاتين ملاكا لعدم وجوبها مطلقا. كما في «حاشية المشكيني «رحمه الله»، ج 1، ص 439».

ص: 430

(تذنيبان (1):
اشارة

الأول: (2) لا ينبغي توهم الإجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطأ، فإنه لا يكون موافقة للأمر فيها، و بقي الأمر بلا موافقة أصلا و هو أوضح من أن يخفى، نعم (3) ربما يكون ما قطع بكونه مأمورا به مشتملا على المصلحة في هذا الحال (4)، أو على مقدار

=============

(1) التذنيب: جعل الشيء ذنابة للشيء، و عن الصحاح «الذناب بالكسر عقيب كلّ شيء».

دفع توهم الإجزاء في الأمر التخيلي

(2) التذنيب الأول: في الأمر التخيّلي. و الغرض من عقد هذا التذنيب هو دفع توهم الإجزاء في الأمر التخيّلي، و التلازم في الإجزاء بين الأوامر الظاهرية الشرعية الثابتة بالأمارات و الأصول، و بين الأمر الظاهري العقلي الثابت بالقطع؛ بمعنى: أن المكلف تخيل بوجود الأمر و ليس في الواقع أمر أصلا.

و حاصل الدفع: إن الإجزاء في الأوامر الظاهرية الشرعية - على القول به - لا يلازم الإجزاء في الأمر الظاهري العقلي مع انكشاف الخلاف، ضرورة: أن منشأ توهم الإجزاء هو: ثبوت الأمر الظاهري الشرعي، و ذلك مفقود في موارد القطع؛ إذ ليس فيها إلا العذر العقلي في ترك الواقع ما دام قاطعا، و بعد ارتفاع القطع يرتفع العذر، فتجب الإعادة أو القضاء و ذلك لعدم إتيان المكلف بنفس المأمور به الواقعي، و لا بما جعله الشارع بمنزلته، فلا وجه للاجزاء. كما أشار إليه بقوله: «لا ينبغي توهم الإجزاء في القطع..» إلخ إذا لم يكن هناك حكم متقرر له ثبوت، و إنما تخيل ثبوته فهو أجنبي عن بحث الإجزاء؛ إذ لا حكم كي يبحث عن إجزائه و عدمه، فلا إشكال في عدم الإجزاء فيما إذا قطع بحكم ثم انكشف خلافه؛ إذ القطع لا يوجب الأمر لا واقعا و لا ظاهرا، فلا يكون في البين إلا تخيل لثبوت الحكم، فلا وجه لإجزاء المأتي به مع عدم كونه الواقع.

(3) أي: قوله: «نعم ربما يكون...» إلخ استدراك من عدم الإجزاء المستفاد من قوله:

«لا ينبغي توهم الإجزاء». و حاصله: أنه قد يكون ما قطع بكونه مأمورا به مجزيا عن المأمور به الواقعي، و هو ما إذا كان ما أتى به مشتملا على تمام مصلحة الواقع أو معظمها مع امتناع استيفاء الباقي من مصلحة الواقع، فلا يجب الإتيان بالواقع حينئذ لا إعادة و لا قضاء؛ لسقوط الأمر الواقعي بحصول غرضه كلا أو جلا.

(4) أي: في حال القطع لا مطلقا؛ إذ لو كان مشتملا على المصلحة مطلقا و في كل حال لزم أن يكون عدلا للواجب الواقعي، و أحد فرديه، و أن يخرج عن موضوع البحث و هو إجزاء غير الواقع عن الواقع؛ إذ المفروض حينئذ: كون المأتي به أحد فرديه الواجب الواقعي.

ص: 431

منها، و لو في غير هذا الحال غير ممكن، مع استيفائه استيفاء الباقي منها، و معه لا يبقى مجال لامتثال الأمر الواقعي.

و هكذا الحال في الطرق (1)، فالإجزاء ليس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعي أو الطريقي للإجزاء؛ بل إنما هو لخصوصية اتفاقية في متعلقهما كما في الإتمام و القصر و الإخفات و الجهر (2).

الثاني (3): لا يذهب عليك أن الإجزاء في بعض موارد الأصول و الطرق و الأمارات - على ما عرفت تفصيله - لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه في تلك و لكن هذا إثباتا يحتاج إلى دليل خاص، و قد ثبت في بعض الموارد؛ كما إذا صلى جهرا في مورد الإخفات، و بالعكس، و كما إذا صلى تماما في السفر مع الجهل بكون الوظيفة غير ما أتى به؛ فإن الدليل دل على الاكتفاء بالعمل، و عدم لزوم الإعادة مع معاقبته على تقصيره في السؤال و التعلم، مما يكشف عن عدم كون ما أتى به متعلقا للحكم؛ و إنما هو محصل لبعض المصلحة بحيث لا يمكن تدارك الباقي، و لذا لا تجب الإعادة، و لكن يعاقب على ذلك لأنه فوّت على نفسه مصلحة الواقع الملزمة.

=============

قوله: «و معه» أي: مع كون المقطوع به مشتملا على تمام المصلحة، أو على مقدار لا يمكن استيفاء الباقي «لا يبقى مجال لامتثال الأمر الواقعي» بعد الإتيان بالمقطوع، و يكون مجزيا في الصورتين.

(1) أي: الحال في الأمارة المخطئة مثل الحال في القطع المخطئ في عدم الإجزاء، فإذا عمل المكلف بالقياس قاطعا بحجيته فانكشف عدم حجيته لا يكون مجزيا، فالعمل المطابق للأمارة المخطئة لا يجزي أصلا؛ إلا إذا كان المأتي به وافيا بتمام المصلحة أو بمقدار منها؛ مع امتناع تدارك الباقي، فالإجزاء حينئذ ليس لأجل اقتضاء الأمر القطعي أو الطريقي له؛ بل لوفاء المأتي به بمصلحة الواقع، أو معظمها. و الأول في القطع بالحكم.

و الثاني: في القطع بالطريق؛ بل الإجزاء «إنما هو لخصوصية اتفاقية» أي: صدفة «في متعلقهما» أي: في متعلق القطع بالحكم، أو الطريق، و المراد بالخصوصية الاتفاقية: هي الوفاء بالمصلحة تماما أو بعضا كما مر.

(2) أي: المشهور هو: صحة التمام في موضع القصر، و الإخفات في مورد الجهر، و بالعكس جهلا بالحكم، و استحقاق العقوبة إن كان الجهل عن تقصير كما عرفت.

فهناك نصوص تدلّ على تمامية الصلاة في تلك الموارد و إجزائها.

دفع توهم الملازمة بين الأجزاء و التصويب

(3) التذنيب الثاني: في بيان عدم المنافاة بين التخطئة و الإجزاء. و الغرض من هذا

ص: 432

التذنيب الثاني هو: ردّ توهم الملازمة بين الإجزاء و التصويب. فإنه قد يتوهم ملازمة القول بالإجزاء للتصويب، و هذا ما يظهر من الشهيد «قدس سره» في تمهيد القواعد من أن الإجزاء في موارد الطرق و الأصول مساوق للتصويب؛ لأن مرجع الإجزاء إلى كون الواقع هو مؤدى الأمارة الذي هو التصويب؛ فإن عدم وجوب الإعادة و القضاء بعد العمل بالأصل أو الأمارة و كشف الخلاف معناه: انتفاء الحكم الواقعي الأوّلي في حق هذا الجاهل، و انحصار حكمه الواقعي في المؤدى، فالإجزاء كاشف عن التصويب و خلو الواقعة عن الحكم الواقعي. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب توهم الملازمة بين الإجزاء و التصويب.

و حاصل ما أفاده المصنف - في ردّ توهم الملازمة بين الإجزاء و التصويب - يتوقف على مقدمة و هي: أنّ للحكم في نظر المصنف مراتب أربع:

1 - مرتبة الاقتضاء. 2 - مرتبة الإنشاء.

3 - مرتبة الفعلية. 4 - مرتبة التنجّز.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الحكم الذي دلت الأدلة على اشتراك العالم و الجاهل فيه إنما هو الحكم الإنشائي، فإن أدلة الاشتراك لا تقتضي أكثر من ذلك. أما الحكم الفعلي فهو يختص بالعالم؛ لأن موضوعه هو العلم بالحكم الإنشائي، و بهذا البيان يظهر: أن القول: بالإجزاء الذي هو فرع الالتزام بالسببية في حجية الأمارة لا يلازم التصويب بمعنى ارتفاع الحكم الواقعي؛ لبقاء الحكم الواقعي على ما هو عليه، و لكنه بمرتبته الإنشائية، و الأمارة المخالفة مانعة عن فعليته. فالحكم الواقعي بمرتبته الإنشائية محفوظ في موارد الأصول و الأمارات، فالواقعة لا تخلو عن الحكم الواقعي حتى يلزم التصويب؛ بل الحكم الإنشائي ثابت، و المنفي بقيام الأمارة على الخلاف هو الحكم الفعلي، و كذلك الثابت في موارد الإصابة هو الحكم الفعلي.

و كيف كان؛ فالحكم الواقعي في مرتبة الإنشاء عند أداء الأصل أو الأمارة على خلافه، و إنه لا يصير فعليا في غير مورد الإصابة؛ من دون فرق بين موارد الإجزاء و عدمه.

غاية الأمر: أنه إذا انكشف الخلاف ففي موارد الإجزاء يبقى على إنشائيته لتدارك غرضه، أو لغير ذلك؛ لا أنه ينتفي بالمرة، و على فرض عدم كشف الخلاف تستمر إنشائيته، و المكلف معذور.

ص: 433

الموارد، فإن (1) الحكم الواقعي بمرتبته محفوظ فيها (2)، فإن الحكم المشترك بين العالم و الجاهل، و الملتفت و الغافل؛ ليس إلا الحكم الإنشائي المدلول عليه بالخطابات المشتملة على بيان الأحكام للموضوعات بعناوينها الأولية (3) بحسب (4) ما يكون فيها من المقتضيات، و هو (5) ثابت في تلك الموارد كسائر موارد الأمارات، و إنما المنفي فيها ليس إلا الحكم الفعلي البعثي، و هو منفي في غير موارد الإصابة (6) و إن لم نقل بالإجزاء، فلا فرق بين الإجزاء و عدمه إلا في سقوط التكليف بالواقع بموافقة الأمر

=============

(1) قوله: «فإن الحكم الواقعي...» إلخ دفع لتوهم الملازمة بين الإجزاء و التصويب.

(2) أي: في موارد الأصول و الأمارات.

(3) أي: لا العناوين الثانوية كالحرج و الاضطرار و نحوهما.

(4) قوله: «بحسب» قيد للأحكام؛ أي: الخطابات تشتمل على بيان الأحكام للموضوعات بعناوينها الأولية كالصوم و الصلاة و نحوهما، بحسب ما في تلك من الملاكات المقتضية لتشريع الأحكام، فالموضوع المقتضي للوجوب محكوم عليه بالوجوب إنشاء، و الموضوع المقتضي للحرمة محكوم عليه بالحرمة كذلك، و هكذا، فمن في قوله:

«من المقتضيات» بيان لما الموصولة في قوله: «ما يكون»، و ضمير «فيها» يعود إلى الموضوعات.

(5) أي: الحكم الإنشائي «ثابت في تلك الموارد» أي: موارد الإجزاء، هذا إشارة إلى دفع توهم التصويب في موارد الإجزاء؛ بأن الإجزاء فيها يستدعي خلو الواقعة عن الحكم و هو معنى التصويب.

و حاصل الدفع: أن الواقعة لا تخلو عن الحكم حتى يلزم التصويب، بل الحكم موجود و ثابت و هو: الحكم الإنشائي المشترك بين العالم و الجاهل، و المنفي كما عرفت هو: الحكم الفعلي في غير موارد الإصابة.

(6) أي: إصابة الأمارة مطلقا. أي: «و إن لم نقل بالإجزاء»، فكلمة إن في قوله: «و إن لم نقل بالإجزاء» وصلية.

و حاصل الكلام: أن القول بالإجزاء لا يوجب فعلية الحكم الواقعي؛ لأن الحكم إنما يصير فعليا إذا كان هناك بيان، و المفروض: عدم البيان بالنسبة إلى الحكم الواقعي في مورد أدّت الأمارة إلى خلافه. فحينئذ الحكم الواقعي باق على إنشائيته كبقائه عليها بناء على الإجزاء، فالفرق بين صورتي الإجزاء و عدمه إنما هو في سقوط الحكم الإنشائي في الصورة الأولى، و بقائه على حاله في الصورة الثانية.

ص: 434

الظاهري، و عدم سقوطه بعد انكشاف عدم الإصابة، و سقوط التكليف بحصول غرضه (1)، أو لعدم إمكان تحصيله غير التصويب المجمع على بطلانه و هو خلو الواقعة عن الحكم غير ما أدت إليه الأمارة، كيف (2)؟ و كان الجهل بها - بخصوصيتها أو بحكمها - مأخوذا في موضوعها، فلا بدّ من أن يكون الحكم الواقعي بمرتبته محفوظا فيها، كما لا يخفى.

=============

(1) أي: كما في موارد الأصول بناء على جعل الحكم، و كما في موارد الأمارة بناء على القول بحجيتها من باب السببية. «أو لعدم إمكان تحصيله» كما إذا لم يمكن استيفاء الباقي «غير التصويب...» إلخ، فقوله: «سقوط التكليف» مبتدأ «و غير التصويب» خبره.

فمعنى العبارة: أن سقوط التكليف لجهة من الجهات غير التصويب المجمع على بطلانه، و هو: خلو الواقعة عن الحكم غير ما أدت إليه الأمارة.

(2) أي: كيف يكون الإجزاء تصويبا مجمعا على بطلانه، و قد كان مقابلا للتصويب ؟ فإنه «كان الجهل بها» أي: بالواقعة «بخصوصيتها»؛ كما في الشبهة الموضوعية «أو بحكمها» أي: الواقعة؛ كما في الشبهة الحكمية «مأخوذا في موضوعها» أي: في موضوع الأمارات، «فلا بد من أن يكون الحكم الواقعي بمرتبته» الإنشائية «محفوظا فيها» أي: في موارد الأصول و الأمارات.

و كيف كان؛ فغرضه من قوله: «كيف ؟ و كان الجهل بها...» إلخ هو بيان الفرق بين الإجزاء و التصويب.

و حاصل الفرق: أنه كيف يكون الإجزاء تصويبا، مع إن نفس دليل اعتبار الأمارة و الأصل يدل على ثبوت الحكم الواقعي الذي هو ضد التصويب المساوق لخلو الواقعة عن الحكم ؟

أما دلالة دليل اعتبار الأمارة و الأصل على وجود الحكم الواقعي: فلأن الشك في الحكم الواقعي موضوع في الأصول و ظرف في الأمارات، فالشك في الحكم الواقعي دخيل موضوعا أو ظرفا في ثبوت حكم الأمارة أو الأصول، فلا بد من الحكم الواقعي كي يتعلق به الشك. فنفس دليل اعتبار الأمارة و الأصل ينفي التصويب؛ و هو خلو الواقعة عن الحكم.

فالمتحصل مما ذكره المصنف «قدس سره»: أن توهم استلزام الإجزاء في الأوامر الظاهرية للتصويب بالمعنى المذكور فاسد؛ كما في «منتهى الدراية، ج 2، ص 95» مع تصرف منّا. هذا تمام الكلام في بحث الإجزاء.

ص: 435

خلاصة بحث الإجزاء مع رأي المصنف «قدس سره»

تلخيص البحث في أمور:

1 - بيان ما هو المراد من القيود المأخوذة في عنوان مسألة الإجزاء، فالمراد من الوجه في قوله: «على وجهه» هي الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا و عقلا، و ليس المراد منه قصد الوجه الذي قيل باعتباره في العبادة.

الدليل على ذلك: أنه لو لا المراد بالوجه ما ذكرنا - بأن كان المراد به ما يعتبر في المأمور به شرعا فقط - لزم أولا: أن يكون قوله «على وجهه» قيدا توضيحيا لا قيدا احترازيا؛ مع إن الأصل في القيد أن يكون احترازيا.

و ثانيا: يلزم خروج الواجبات التعبدية عن البحث؛ مع إن محل البحث هو الأعم.

ثم المراد بالاقتضاء هو الاقتضاء بمعنى العلية و التأثير؛ لا بمعنى الكشف و الدلالة.

و بعبارة أخرى: أن الاقتضاء واسطة في الثبوت للإجزاء، و ليس واسطة في الإثبات و سببا للعلم بالإجزاء.

و المراد بالإجزاء - في عنوان المسألة -: معناه اللغوي و هو الكفاية؛ لا معناه الاصطلاحي و هو: إسقاط الإعادة و القضاء. نعم؛ لازم الكفاية هو: إسقاط الإعادة و القضاء، و مع إمكان حمله على المعنى اللغوي لا حاجة إلى جعل المراد منه معناه الاصطلاحي.

2 - الفرق بين هذه المسألة و مسألة المرة و التكرار، و مسألة تبعية القضاء للأداء: أن البحث في هذه المسألة عقلي، و في المسألتين لفظي؛ فإن البحث في هذه المسألة عن أن إتيان المأمور به بعد ثبوت كونه مأمورا به يجزي أم لا؟ و في المسألتين يكون البحث في دلالة صيغة الأمر على المرة أو التكرار، و دلالتها على أن القضاء تابع للأداء أم لا؟ بل تدل على أن القضاء إنما هو بأمر جديد فيكون البحث فيهما لفظيا.

3 - الكلام في الإجزاء يقع في موضعين:

الأول: في إجزاء إتيان كل المأمور به عن أمر نفسه.

و الثاني: إتيان المأمور به بأمر عن أمر آخر؛ كالإتيان بالمأمور الاضطراري أو الظاهري عن الأمر الواقعي الأولي.

و خلاصة الكلام في الموضع الأول: إنه لا كلام في إجزاء إتيان كل المأمور به عن أمر نفسه.

ص: 436

و إنما الكلام في جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر بأن يأتي بفرد آخر بحيث يكون هو امتثالا للأمر و عدم جوازه، و لكن يجوز تبديل الامتثال عند المصنف في بعض الموارد و هو: فيما إذا لم يكن الإتيان بالمأمور به أولا علة تامة لحصول الغرض، مثل: الإتيان للشرب و لم يشربه المولى مثلا.

الموضع الثاني و فيه مقامان:

المقام الأول: في أن الإتيان بالمأمور به الاضطراري هل يجزي عن إتيان المأمور به بالأمر الواقعي الأولي أم لا؟

المقام الثاني: في أن الإتيان بالمأمور به الظاهري هل يجزي عن المأمور به بالأمر الواقعي أم لا يجزي ؟

و أما الكلام في المقام الأول: فتارة: يقع في مقام الثبوت، و أخرى: في مقام الإثبات.

و أما مقام الثبوت فالفروض و الاحتمالات المتصورة فيه هي أربعة: لأن التكليف الاضطراري إما أن يكون وافيا بتمام المصلحة و الغرض من الأمر الواقعي الأوّلي أو لا يكون وافيا بها، بل يبقى شيء أمكن استيفاؤه، أو لم يمكن، و ما أمكن كان بمقدار يجب استيفاؤه، أو بمقدار يستحب.

فيقع الكلام تارة في الإجزاء، و أخرى في جواز البدار؛ أي: المبادرة إلى الإتيان بالمأمور به الاضطراري. أما الإجزاء فلازم الجميع إلا الصورة الثالثة؛ فلا يجزي المأمور به الاضطراري عن المأمور به الواقعي؛ لأن المفروض: إمكان تداركه مع لزومه.

و أما البدار: فلا يجوز في الصورة الثانية؛ لما فيه من نقض الغرض، و تفويت مقدار من المصلحة. و لا مانع منه في الصورتين الأخيرتين.

و أما الصورة الأولى: فتسويغ البدار فيها يدور مدار كون العمل الاضطراري بمجرد الاضطرار وافيا بغرض الأمر الأوّلي، أو بشرط الانتظار، أو بشرط اليأس من رفع الاضطرار؛ فيجوز البدار في الأول دون الأخيرين.

و أما في مقام الإثبات: فإن كان لدليل الأمر الاضطراري إطلاق يدل على أن مطلق الاضطرار - و لو في بعض الوقت - يكفي لتعلق التكليف الاضطراري؛ فالظاهر: هو الإجزاء؛ و إلا فالأصل يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة؛ لكون الشك فيه شكا في أصل التكليف، فلا يجب القضاء بطريق أولى؛ لأن القضاء تابع للأداء، فإذا لم تجب الإعادة في الوقت لم يجب القضاء في خارجه بطريق أولى. هذا تمام الكلام في المقام الأول.

ص: 437

أما الكلام في المقام الثاني: أي: إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي؛ فيقع من ناحيتين:

الأولى: فيما إذا قام الأمر الظاهري من أصل أو أمارة على تحقق شرط أو جزء في الواجب، ثم انكشف الخلاف؛ فهل يجزي الفاقد للشرط أو الجزء عن المأمور به الواقعي أم لا؟

الثانية: فيما إذا قام الأمر الظاهري من أصل أو أمارة على إثبات واجب، ثم انكشف الخلاف، و أن الواجب كان أمرا آخر؛ فهل يجزي المأتي به عن المأمور به الواقعي أم لا؟

و أما ما أفاده المصنف في الناحية الأولى فهو: الإجزاء في موارد بعض الأصول دون الأمارات؛ إذا كان اعتبارها من باب الطريقية، و عدم الإجزاء مطلقا في الناحية الثانية.

و أما الإجزاء في بعض الأصول دون الأمارات إذا كان اعتبارها من باب الطريقية - فمبنيّ على الفرق بين بعض الأصول و الأمارات إذا كان اعتبارها من باب الطريقية، و الفرق بينهما إنما هو من حيث مفاد دليلهما؛ فإن مفاد دليل الحكم الظاهري في بعض الأصول هو: جعل الحكم و إنشاؤه حقيقة؛ كإنشاء الطهارة و الحلية، و لازم هذا الإنشاء و الجعل هو: كون الشرط أعم من الطهارة الواقعية و الظاهرية، و كذا الحليّة، فتكون الأصول حاكمة على أدلة الشرائط مثل: «لا صلاة إلاّ بطهور»؛ الظاهر في اشتراط الطهارة الواقعية في الصلاة، لأن مثله لا يتكفل لصورة الشك في الطهارة؛ بخلاف الأصل فإنه متكفل لها، فيكون ناظرا إلى دليل الشرطية و هذا معنى الحكومة.

هذا بخلاف ما إذا كان مفاد دليل الحكم الظاهري ثبوت الحكم واقعا، و الحكاية عن وجوده واقعا؛ كما هو مفاد الأمارات الشرعية إذا كان اعتبارها من باب الطريقية، و هو الحق عند المصنف، فلا يجزي؛ لأن مفاد الأمارات ثبوت الحكم الواقعي؛ لا توسعة دائرة الشرط.

و أما على القول باعتبارها من باب السببية: ففي الإجزاء و عدمه تفصيل: أي: يجزي فيما إذا كان المأتي به وافيا بتمام الغرض، و لا يجزي لو لم يكن العمل الفاقد وافيا بتمام الغرض.

هذا مع العلم بكيفية حجية الأمارات؛ بأن يعلم و يحرز كون اعتبارها من باب الطريقية أو السببية، و أما عند الشك فمقتضى أصالة عدم الإتيان هو: عدم الإجزاء، و وجوب الإعادة في الوقت.

و هذا فيما إذا انكشف الخلاف في الوقت. و أما فيما إذا انكشف خارج الوقت، و لم

ص: 438

يحرز كون حجية الأمارات بنحو الطريقية أو السببية؛ ففي وجوب القضاء تفصيل: بين ما إذا كان القضاء بفرض جديد، و ما إذا كان تابعا للأداء، فلا يجب على الأول، و يجب على الثاني.

هذا تمام الكلام في البحث من الناحية الأولى.

و أما الناحية الثانية و هي: ما إذا قام الأمر الظاهري من أصل أو أمارة على إثبات واجب، ثم انكشف الخلاف، و أن الواجب كان أمرا آخر غير ما قام عليه الأصل أو الأمارة؛ كما إذا قامت أمارة على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة؛ فلا وجه للإجزاء مطلقا؛ أي: قلنا: بطريقية الأمارات، أو بموضوعيتها.

4 - تذنيبان:

التذنيب الأول: في الإجزاء في الأمر التخييلي، بمعنى: أن المكلف تخيل بوجود الأمر، و لم يكن في الواقع أمر أصلا، و هناك قد يتوهم الإجزاء في الأمر التخيّلي و يقال:

بالتلازم بين الإجزاء في الأمر الظاهري الشرعي الثابت بالأمارة أو الأصل، و بين الإجزاء في الأمر الظاهري العقلي الثابت بالقطع.

و حاصل الدفع للتوهم المزبور: أن الإجزاء في الأوامر الظاهرية الشرعية على القول به لا يلازم الإجزاء في الأمر الظاهري العقلي مع انكشاف الخلاف؛ إذ موضوع الإجزاء هو: ثبوت الأمر الظاهري الشرعي، و هو مفقود في موارد القطع؛ إذ ليس فيها إلا العذر العقلي في ترك الواقع ما دام قاطعا، و بعد ارتفاع القطع يرتفع العذر، فتجب الإعادة أو القضاء؛ لعدم إتيان المكلف بالمأمور به الواقعي، و لا بما جعله الشارع بمنزلته.

التذنيب الثاني: في ردّ توهم الملازمة بين الإجزاء و التصويب المجمع على بطلانه؛ بتقريب: أن مرجع الإجزاء إلى كون الواقع هو مؤدى الأمارة، و خلو الواقعة عن الحكم الواقعي، و انحصار الحكم في مؤدى الأمارة و هو التصويب.

و حاصل الردّ: أن الحكم الواقعي الإنشائي؛ المشترك بين العالم و الجاهل محفوظ في موارد الأصول و الأمارات، فالواقعة لا تخلو عن الحكم الواقعي حتى يلزم التصويب، بل الحكم الواقعي موجود و ثابت، فلا تلازم بين الإجزاء و التصويب.

5 - أما آراء المصنف في بحث الإجزاء فيتلخص في أمور تالية:

1 - المراد بالوجه في عنوان المسألة هو: إتيان المأمور به بجميع ما يعتبر فيه شرعا و عقلا.

2 - المراد بالاقتضاء هو: الاقتضاء بمعنى العلية و التأثير؛ لا بمعنى الكشف و الدلالة.

ص: 439

3 - المراد بالإجزاء: معناه اللغوي؛ و هو: الكفاية؛ لا الاصطلاحي أي: إسقاط الإعادة و القضاء.

ثم لا إشكال في إجزاء إتيان كل المأمور به عن أمر نفسه؛ و إنما الكلام و الإشكال في تبديل الامتثال بامتثال آخر، و يجوز تبديل الامتثال عند المصنف إذا لم يكن الامتثال الأول علة تامة لحصول الغرض.

4 - الاتيان بالمأمور به الاضطراري يجزي عن الأمر الواقعي الأوّلي في جميع الصور الأربع؛ إلاّ في الصورة الواحدة و هي: أن لا يكون التكليف الاضطراري وافيا بتمام المصلحة، و كان الباقي مما يمكن تداركه مع لزومه.

هذا في مقام الثبوت و أما في مقام الإثبات: فالمتبع هو الإطلاق - لو كان - فيقتضي الإجزاء، و عند انتفائه فالأصل يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة و القضاء.

5 - أما رأي المصنف في الأمر الظاهري فهو: التفصيل بين الأصول و الأمارات فيجزي في الأول دون الثاني.

6 - و كذلك لا يجزي المأمور به بالأمر التخيلي عن الأمر الواقعي.

7 - لا تلازم بين الإجزاء و التصويب.

ص: 440

فهرس الجزء الأول

الأمر الأوّل: موضوع علم الأصول 7

رأي المصنف في العرض الذاتي 8

الفرق بين قول المصنف و غيره في العرض الذاتي 10

مسائل العلم عند المصنف 12

الجواب عن إشكال تداخل علمين في بعض المسائل 16

تمايز العلوم بالأغراض لا بالموضوعات 17

موضوع علم الأصول عند المصنف 19

المراد بالسنة ما يعم حكايتها 24

تعريف علم الأصول عند المصنف 25

تعريف الوضع 28

أقسام الوضع 30

التحقيق في وضع الحروف 33

الفرق بين الاسم و الحرف في الوضع 40

تلخيص البحث في معنى الحروف 44

رأي المصنف في وضع الحروف 45

ملاك صحة استعمال اللفظ في غير ما وضع له 45

إطلاق اللفظ و إرادة نوعه 47

إطلاق اللفظ في نوعه ليس من استعمال اللفظ في المعنى 52

خلاصة البحث في إطلاق اللفظ على اللفظ 56

تبعية الدلالة للإرادة 56

ص: 441

الدليل على عدم التبعية 59

الإشكال على كشف الدلالة التصديقية عن الإرادة 61

وضع المركبات 63

خلاصة البحث في وضع المركبات 66

تبادر المعنى من اللفظ من علامات الحقيقة 66

توضيح صحة الحمل من علامات الحقيقة 69

الاطراد من علامات الحقيقة 72

تعارض أحوال اللفظ 76

صور تعارض أحوال اللفظ 78

بحث الحقيقة الشرعية 82

الأقوال في الحقيقة الشرعية 83

كون ألفاظ العبادات حقائق لغوية 87

الثمرة بين القول بالثبوت و النفي 90

بحث الصحيح و الأعم 92

الصحة بمعنى التمامية 95

الكلام في تصوير الجامع على الصحيحي 98

الإشكال في تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة 99

الإشكال في تصوير الجامع على الأعمي 102

الوجه الرابع في تصوير الجامع على مذهب الأعمي 107

قياس وضع ألفاظ العبادات بألفاظ المقادير و الأوزان 109

ثمرة النزاع هي إجمال الخطاب على الصحيحي 112

الإشكال على ظهور الثمرة في النذر 115

استدلال الصحيحي بوجوه 116

استدلال الأعمي بوجوه 121

الإشكال على الاستدلال بالأخبار للأعم 124

جريان نزاع الصحيح و الأعمي في المعاملات 129

ص: 442

أقسام دخل الشيء في المأمور به 133

خلاصة البحث مع رأي المصنف 138

الاشتراك 140

فساد القول بوجوب الاشتراك 144

خلاصة البحث مع رأي المصنف 145

استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد 146

ردّ المصنف القول بالتفصيل بين التثنية و الجمع بين المفرد 153

خلاصة البحث مع رأي المصنف 154

تحرير محل النزاع في مبحث المشتق 156

الفرق بين المشتق الأصولي و النحوي 164

ابتناء الحكم في المرضعة الثانية على خلاف المشتق 167

خلاصة البحث 169

الإشكال على كون اسم الزمان من المشتق 171

خروج الأفعال و المصادر عن المشتق 174

عدم دلالة الفعل على الزمان 175

امتياز الماضي عن المضارع 178

خلاصة البحث 182

امتياز الحرف عن الاسم و الفعل 190

اختلاف المشتقات من حيث المبادئ 192

تأسيس الأصل 198

الاستدلال على كون المشتق حقيقة في المتلبس 202

الإيراد على برهان التضاد 205

الإشكال على صحة السلب 212

خلاصة البحث 217

أدلة الأعمي 218

الجواب عن الاستدلال بالآية على الأعم 221

ص: 443

الإشكال على جواب المصنف 224

خلاصة البحث 227

في بساطة مفهوم المشتق 228

جواب المصنف عن إشكال الفصول على الشريف 230

انحلال «الإنسان ناطق» إلى قضيتين: ضرورية و ممكنة 234

إصلاح برهان الشريف على بساطة المشتق 240

خلاصة البحث 243

الفرق بين المشتق و المبدأ 245

خلاصة البحث 250

الإشكال على شروط الفصول في صحة الحمل 253

كيفيّة حمل صفات الباري تعالى على ذاته المقدسة 254

الأقوال في كيفية قيام المبادئ بالذات 257

خلاصة البحث 263

الثمرة العلمية و العملية على بحث المشتق 267

بيان ما هو مختار المصنف في مباحث المشتق 268

المقصد الأول: في الأوامر 271

التحقيق في معنى مادة الأمر 273

اعتبار العلو في معنى الأمر 281

في كون الأمر حقيقة في الوجوب 284

ردّ المصنف استدلال وضع الأمر لمطلق الطلب 288

خلاصة البحث مع رأي المصنف 290

اتحاد الطلب و الإرادة 291

كيفية اتحاد الطلب و الإرادة 298

جواب المصنف عن استدلال الأشاعرة على المغايرة 303

ردّ المصنف على القول بالكلام النفسي 305

دفع إشكال تخلف المراد عن الإرادة 310

ص: 444

الجواب عن إشكال الجبر 313

المراد من الخبر المعروف «السعيد سعيد في بطن أمه» 316

خلاصة البحث مع رأي المصنف 320

الفصل الثاني في صيغة الأمر 325

ردّ على القول بكون صيغة الأمر للندب 334

خلاصة البحث مع رأي المصنف 336

في مدلول الجمل الخبرية الواردة في مقام الطلب 337

خلاصة البحث مع رأي المصنف 341

التعبدي و التوصلي 345

اعتبار قصد القربة عقلا 347

جواب المصنف عن فرض تعدد الأمر 355

المرجع عند الشك في الامتثال هي أصالة الاشتغال 361

خلاصة البحث مع رأي المصنف 366

مقتضى إطلاق الصيغة 370

في الأمر الواقع عقيب الخطر 371

خلاصة البحث مع رأي المصنف 373

في المرة و التكرار 374

ما هو المراد المرة و التكرار 378

ثمرة مسألة المرة و التكرار 384

خلاصة البحث مع رأي المصنف 387

في الفور و التراخي 390

الفرق بين الأوامر الإرشادية و المولوية 394

خلاصة البحث مع رأي المصنف 397

الكلام في الإجزاء 399

توضيح معاني «وجهه» 400

تفسير معنى الاقتضاء 402

ص: 445

إن النزاع في الأمر الاضطراري و الظاهري يكون صغرويا و كبرويا 404

الفرق بين الإجزاء بالمعنى الاصطلاحي و العرفي 406

الفرق بين مسألة الإجزاء و بين مسألة التكرار و المرة 408

تحقيق الكلام في المقام الأول 414

أحكام صور الأمر الاضطراري في مقام الإثبات 415

في إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي 420

صور المأتي به من حيث الوفاء بالغرض و عدمه 424

الفرق بين الشك في الطريقية و السببية و بين الشك في إجزاء الأمر الاضطراري عن الواقعي 427

حكم صور قيام دليل خاص على عدم وجوب صلاتين 430

دفع توهم الإجزاء في الأمر التخيلي 431

دفع توهم الملازمة بين الأجزاء و التصويب 433

خلاصة بحث الإجزاء 436

آراء المصنف في بحث الأجزاء 439

الفهرس 441

ص: 446

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.