موسوعة الفقيه الشيرازي
(14)
تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی كتاب الطهارة
الجزء الثاني
تقرير الأبحاث
آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي رحمه اللّه
السيد محمد علي الحسيني الشيرازي
بطاقة تعريف:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.
عنوان المؤلف واسمه:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.
تفاصيل النشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.
مواصفات المظهر:21ج.
شابك:دوره: 8-270-204-964-978
ج21: 3-291-204-964-978
حالة الاستماع:فيپا
لسان:العربية
مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).
موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14
تصنيف الكونجرس:1394 8م5ح/8/159BP
تصنيف ديوي:297/312
رقم الببليوغرافيا الوطنية:4153694
ص: 1
سرشناسه:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.
عنوان و نام پديدآور:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.
مشخصات نشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.
مشخصات ظاهری:21ج.
شابك:دوره: 8-270-204-964-978
ج14: 5-284-204-964-978
وضعيت فهرست نويسی:فيپا
يادداشت:عربي
مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول،جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15(بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقةعلی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيحعلی العروة الوثقی).
موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14
رده بندی كنگره:1394 8م5ح/8/159BP
رده بندی ديويی:297/312
شماره كتابشناسی ملی:4153694
موسوعة الفقيه الشيرازي
شجرة الطيبة
-------------------
آية اللّه الفقيه السيّد محمّد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)
المطبعة:قدس
إخراج:نهضة اللّه العظيمي
الطبعة الأولی - 1437ه- .ق
-------------------
شابك دوره: 8-270-204-964-978
شابك ج14: 5-284-204-964-978
-------------------
دفتر مركزي: قم خيابان معلم، میدان روح اللّه،
نبش كوچه 19، پلاك 10، تلفن: 9 – 37744298
چاپ: شركت چاپ قدس، تلفن 37731354 فكس 37743443
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين
ص: 3
ص: 4
ص: 5
ص: 6
9 مسألة: الماء المطلق بأقسامه - حتى الجاري منه - ينجس إذا تغيّر بالنجاسة في أحد أوصافه الثلاثة من الطعم والرائحة واللون[1].
--------------------------
[1] في المسألة بحثان:
الأوّل: كون التغيّر سبباً لنجاسة الماء. والثاني: شرائط منجسية المتغيّر.
أما البحث الأوّل فيدل عليه اُمور:
الأوّل: الضرورة الفقهية أو المذهبية على أنّ التغيّر موجب لنجاسة الماء.
الثاني: المرتكز في أذهان المتشرعة ذلك.
الثالث: ماذكره في الجواهر(1) من الإجماع المحصّل والمنقول بنقل كاد أن يكون متواتراً.
بل في المعتبر: «والقول بنجاسة ماء هذا شأنه، مذهب أهل العلم كافة»(2)
وفي المنتهى: «وهو قول كل من يحفظ عنه العلم»(3).
الرابع: الروايات المستفيضة بل قد يدعى تواترها، وقد قُسّمت هذه الروايات
ص: 7
--------------------------
إلى طوائف ثلاث:
الأولى: دلّت على انفعال طبيعي الماء بالتغيّر كصحيحة حريز وموثقة سماعة.
الثانية: مادلّت على انفعال مالامادّة له كصحيحة ابن سنان.
الثالثة: مادلَّت على انفعال ماله مادّة كصحيحة محمد بن اسماعيل بن بزيع. وتمام البحث في بيان هذه الطوائف:
أما الطائفة الأولى الدالة على انفعال الماء بالتغيّر: ففيها روايات ينبغي البحث في سندها ودلالتها :
الرواية الأولى: ما في الوسائل عن محمّد بن الحسن، عن محمّد بن محمّد بن نعمان، عن أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولوية، عن أبيه، عن سعد بن عبد اللّه، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد وعبد الرحمن بن أبي نجران، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب، فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا توضأ منه ولا تشرب»(1). فالبحث في مقامين.
المقام الأوّل في السند: فقد ذكرها الشيخ في التهذيب والاستبصار عن الشيخ المفيد عن صاحب كامل الزيارات أبي القاسم جعفر بن محمّد بن
ص: 8
--------------------------
قولويه عن أبيه والطريق إلى توثيق محمّد بن قولويه مبني على ما نختاره في مشايخ ابن قولويه المباشرين، وقد أكثر ابن قولويه الرواية عن أبيه في كامل الزيارات، وفي الكتاب مبانٍ ثلاثة:
الأوّل: إنَّ عبارة ابن قولويه تُفيد توثيق مشايخه المباشرين فقط وهم واحد وثلاثون شيخاً كما ذهب اليه النوري في المستدرك(1).
الثاني: إنّها تفيد توثيق جميع المشايخ المباشرين وغيرهم وعددهم ثلاثمائة وثمانية وثمانين على ما قيل، وإليه ذهب الحر العاملي في الوسائل(2).
الثالث: إنّها لا تفيد التوثيق مطلقاً، كما عليه بعض المعاصرين(3).
وللمحقق للخوئي ثلاثة آراء، فقد ذهب في فقه الشيعة(4) إلى الثالث، وفي غيره(5) إلى الثاني، واختار التفصيل(6) في أخريات حياته.
ولا يخفى: أنّه لا يمكن أن يصار الى توثيق الكتاب بأجمعه فإنّ فيه
ص: 9
--------------------------
روايات عن ثابتي الضعف كعائشة(1) وقد استظهرنا ممّا ذكره في كامل الزيارات أنّ القدر المتيقّن هو توثيقه لمشايخه المباشرين، قال ما لفظه: «وقد علمنا بأنّا لا نحيط بجميع ما روي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، لكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم اللّه برحمته»، وعليه فمحمد ابن قولويه ثقة(2).
ص: 10
ص: 11
--------------------------
وأمّاسعد بن عبد اللّه الأشعري القمي فهو ثقة، وقد روى ألف ومائة واثنتين وأربعين رواية، وكذلك احمد بن محمّد وهو ابن خالد البرقي بقرينة رواية سعد بن عبد اللّه عنه، ومثله الحسين بن سعيد الأهوازي صاحب كتاب الزهد، وعبد الرحمن بن أبي نجران، وأمّا حماد بن عيسى فهو من أصحاب الإجماع من الطبقة الثانية، وحريز بن عبد اللّه السجستاني ثقة قتله الإرهابيون في سيستان بتهديم مسجده عليه وعلى المصلين معه، وهو من المكثرين فقد روى ألف وثلاثمائة وعشرين رواية عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وعليه يكون السند تاماً والرواية صحيحة.
نعم أشكل البعض بأنّ الرواية بعينها مروية بسند آخر ينتهي إلى حماد وحريز. ففي الكافي الشريف عن علي بن ابراهيم، عن أبيه، وعن محمّد بن اسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد عن حريز، عمّن أخبره، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) .
وفيه إشكالان:
الأوّل: اشتراك محمّد بن اسماعيل بين ابن بزيع، والبندقي، والبرمكي(1). ولكن المختار صحّة هذا الطريق على تفصيل ذكرناه في السابق.
الثاني: الإرسال، وبما أنّ الرواية في التهذيب والكافي واحدة، يدور الأمر
ص: 12
--------------------------
فيها بين الزيادة والنقيصة والأصل عدم الزيادة، مع أنّ الكليني أضبط، فالترجيح مع روايته.
نعم لا يبعد تعدّد رواية حريز، فقد نقلها أولاً عن واسطة ثم سمعها من الإمام مباشرة، وهذا ما يتفق كثيراً بأن ينقل الرجل قضية واحدة بطرق متعدّدة.
ثم إنّه من المعلوم أنَّ مقتضى «صَدقّ العادل» تصديق حريز في قوله: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) (1).
وعليه فلا منافاة بين النقلين ليُحَكَّم مرجّحات باب التعارض من أصالة عدم الزيادة واضبطية الكليني. والحاصل: صحّة النقلين لصدّق العادل، فالأقرب صحّة الرواية.
المقام الثاني البحث في الدلالة: قال (عليه السلام) : «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشربه، فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا توضأ منه ولا تشرب».وفيها بحثان.
الأوّل : عدم انفعال ما تغيّر لونه، كما عليه البعض؛ لعدم ذكره في الروايات، وسيأتي البحث فيه.
الثاني: ظاهر الرواية الحكم بانفعال ما تغيّر طعمه ورائحته، فلا ينفعل ما تغيّر فيه أحدهما بل يلزم الجمع، ولكن بقرينة سائر الروايات ذهب الفقهاء
ص: 13
--------------------------
بكفاية الحكم بالانفعال مع تغيّر أحدها، هذا أولاً.
وأمّا ثانياً: فقد ذكر في هامش الوسائل: «في المصدر أو تغيّر»(1) والقاعدة عند وجود نسختين للرواية أحداهما «بالواو» والثانية «بأو» هي: حمل الواو على أو. لكون «أو» أقوى ظهوراً عرفاً، والجمع العرفي بين النسختين ذلك.
وبعبارة اُخرى: كون الملاك كلاهما معاً بيانٌ لمصداق، وهذا بيان لمصداق آخر، وإنما ذكرت الواو للملازمة بين تغيّر الطعم والرائحة عادة بوقوع الجيفة في الماء. فلا منافاة على الظاهر بين الروايتين، كما لو قيل: «إذا جاء زيد وعمرو فأكرمهما»، ثم قيل: «إذا جاء زيد أو عمرو فأكرمهما». ومعناهما: إكرام أيّ واحد منهما إن أتى، ولا منافاة بين العبارتين(2).
ص: 14
--------------------------
والحاصل: أنّها تدلّ على انفعال ما تغيّر طعمه أو رائحته.
الرواية الثانية: وعن محمّد بن محمّد بن النعمان، عن احمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد، عن أبيه، عن سعد بن عبد اللّه، عن محمّد بن عيسى، عن ياسين الضرير، عن حريز بن عبد اللّه، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «إنّه سُئل عن الماء النقيع تبول فيه الدواب؟ فقال: إن تغيّر الماء فَلا تتوضأ منه، وإن لم تغيّره أبوالها فتوضأ منه، وكذلك الدم إذا سال في الماء واشباهه»(1).
ص: 15
--------------------------
والبحث فيها في مقامين:
المقام الأوّل : إنّ الواو في بداية السند معناها تكرار ما مضى. فالرواية منقولة عن الشيخ عن المفيد.
وأمّا احمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد فهو ابن الوليد الابن. وقد ذهب في المعجم(1) إلى: «أنّه لم تثبت وثاقته، لعدم التوثيق له».
إلّا أنّ تعاضد مجموعة من القرائن تورث الإطمينان بوثاقته، كما أنّه قد وقع في طريق عدة من المصنّفات المهمة:
القرينة الأولى: أنّ الشهيد الثاني قد وثقه، إلّا أنّه من المتأخرين، ومبنى البعض عدم اعتبار توثيقاتهم.
القرينة الثانية: أنّه من مشايخ الإجازة لعدة من كبار الطائفة كالمفيد. إلّا أنّها مبنيّة على أنّ شيخوخة الإجازة تدلّ على الوثاقة كما عليه مجموعة منهم صاحب الحدائق(2) والفقيه الهمداني(3)، وقد عدَّ المجلسي(4) في كتابه أنَّ حديثه صحيح لكونه من مشايخ الاجازة.
ص: 16
--------------------------
القرينة الثالثة: حكم العلّامة(1) في المختلف بصحة حديثه، وقد صحح كثيراً من الروايات في طريقها ابن الوليد الابن.
ولكنه من المتأخرين، إلّا أن يقال بكفاية احتمال وجود بعض الكتب عنده فُقدت بعده.
القرينة الرابعة: قول البهائي (رحمه اللّه) : «الحق أنّ الرجل ثقة من وجوه أصحابنا»(2).
القرينة الخامسة: ما قاله المحقق الداماد من: «أنّه أجل من أن يحتاج إلى تزكية مزكٍ وتوثيق موثق»(3).
القرينة السادسة: قد عدّ صاحب المعالم(4)
حديثه من الصحيح مع ما عُلم من طريقته من التشديد في أمر السند وعدم الاكتفاء في التزكية بالواحد.
القرينة السابعة: ماذكره المحقق الاردبيلي قال: «يمكن توثيقه من تسمية الخبر الذي هو فيه بالصحيح في المختلف والمنتهى وغيرهما».
القرينة الثامنة: وثقه ابن طاووس(5) صريحاً في كتاب (فَرَج المهموم)
ص: 17
--------------------------
حيث قال عنه: «وكفى به موثقاً». إلّا أنّه ذكر في الهامش: أنّه قد وثق محمّداً لا احمداً.
وقد انتهى المامقاني(1) إلى أنَّ الرجل ثقة، وذكر مجموعة من القرائن الدالة على وثاقته، والظاهر كفاية هذه القرائن بالحكم بوثاقته(2).
وأمّا محمّد بن الحسن الوليد: فهو شيخ الصدوق، ثقة ثقة عين عارف بالرجال، والصدوق يتبعه في تضعيفاته وتوثيقاته.
وأمّا سعد بن عبد اللّه الاشعري القمي فهو ثقة.
وأمّا محمّد بن عيسى فهو ابن عبيد بدليل رواية سعد بن عبد اللّه عنه، وهو مختلف فيه، إلّا أنّ المختار وثاقته مطلقاً حتى فيما يرويه عن يونس فراجع.
وأمّا ياسين الضرير فهو مجهولٌ، وقد قيل(3) بتوثيقه لرواية أجلاء القميين
ص: 18
--------------------------
عنه، وقد طرح بعض المعاصرين طريقة التعويض للإلتفات على ضعفه، قال: بأنّ الشيخ في الفهرست له طرق صحيحة إلى كل روايات حريز، وهذه الرواية منها، فقد قال في الفهرست تحت رقم (249) : حريز بن عبد اللّه السجستاني له كتب، أخبرنا بجميع كتبه ورواياته، الخ» ثم ذكر ثلاث طرق وليس فيها ياسين الضرير، فوجه التعويض: أنَّ هذه الرواية نقلها حريز، وللشيخ إليه طرق اُخرى، فتكون صحيحة بأحد الطرق الثلاثة.
وفيه: أنّ ثبوت المحمول فرع لثبوت الموضوع. فلتثبت كون الرواية لحريز حتى تُصَحّح بأحد الطرق الثلاثة؛ لقيام احتمال كذب ياسين على حريز. وأمّا حريز بن عبد اللّه فثقة.
وأمّا أبو بصير فالمنصرف منه يحيى بن أبي القاسم فهو ثقة، ولو فرض أنّه مردد بينه وبين ليث بن البختري المرادي، فكل منهما ثقة.
فالمتحصّل منه: عدم اعتبار السند.
المقام الثاني في دلالتها: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «إنّه سُئل عن الماء النقيع تبول فيه الدواب؟ فقال: إنّ تغيّر الماء فلا تتوضأ منه، وإن لم تغيّره أبوالها فتوضأ منه، وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه» وهي تتكفّل التغيير
ص: 19
--------------------------
اللوني بإطلاقها.
لا يقال: إنّ بول الدواب طاهر، فكيف مَنع (عليه السلام) التوضأ منه؟
اذ يجاب عنه أوّلاً: بما في الوسائل(1) من أنَّ اعتبار التغيّر اشارة إلى سلب الإطلاق وصيرورة الماء مضافاً.
وفيه: أنّه خلاف الإطلاق، فإنَّ التغيّر ليس ملازماً للإضافة، كما سبق.
ثانياً: ما في الوسائل أيضاً(2) قال: «يمكن إرادة بول الدواب الغير المأكولة اللحم». ولا بأس به لإطلاق الرواية وإن خرج بول مأكول اللحم بأدلّة اُخرى.
ثالثاً: الحمل على التنزه(3).
رابعاً: الحمل على التقية، حيث إنَّ نجاسة أبوال الخيل والبغال والحمير مذهب العامة.
خامساً: إنَّ عدم حجية صدر الرواية لا يستلزم عدم حجية آخرها، فقد قال (عليه السلام) : «وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه». وهو كاف في إثبات
ص: 20
--------------------------
المدّعى.
الرواية الثالثة(1): وبالاسناد عن سعد بن عبد اللّه، عن احمد بن محمّد بن عيسى، عن العبّاس بن معروف، عن حماد بن عيسى، عن ابراهيم بن عمران اليماني، عن أبي خالد القماط: «إنّه سمع أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: في الماء يمر به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة؟ - لم يُذكر الواو في التهذيب - فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه، فلا تشرب ولا تتوضأ منه، وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب وتوضأ».
والبحث فيها في مقامين:
المقام الأوّل : كلمة وبالاسناد تختلف عن كلمة وباسناده - المذكورة في الرواية القادمة - والألف واللام فيها للعهد، فيرجع فيه إلى الإسناد المتقدم، وهو: الشيخ المفيد عن احمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد - وقد مضت القرائن على وثاقته - عن أبيه. فالسند هو نفسه إلى سعد بن عبد اللّه، وكل من سعد بن عبد اللّه الاشعري القمي، و احمد بن محمّد بن عيسى الاشعري القمي، والعباس بن معروف، وحماد بن عيسى و ابراهيم بن عمر اليماني من الثقات.
وأمّا أبو خالد القماط، فهو مشترك بين يزيد الثقة وكنگر المجهول، نعم قال حمدويه الرجالي المعتبر في عهد العياشي: «إسم ابي خالد القماط:
ص: 21
--------------------------
يزيد»(1) وما ذكره حصر، فهذه الكنية تنصرف إلى هذا الرجل أو علم عليه، وذلك كما لو قال النجاشي: بأنّ اسم ابي حمزة الثمالي ثابت بن دينار، فلو ورد دُعاء أبي حمزة فهو عن ثابت وإن وجد غيره بنفس الاسم.
وعليه فالرواية صحيحة، هذا ويمكن توثيق كنگر أيضاً لوروده في اسناد كامل الزيارات وتفسير القمي(2). إلّا أنّ المبنى محل إشكال.
ص: 22
--------------------------
أمَّا المقام الثاني فهو في دلالتها: حيث دَلَّت على كفاية تغيّر أحدهما للحكم بانفعالها، وعدم الانفعال مع عدم التغيّر بكليهما لمكان «أو» و «الواو»، إلّا أنّ الرواية لم تذكر التغيّر اللوني، ولذلك استشكل صاحب المدارك(1) بانفعال الماء بالتغيّر اللوني، ولكن الروايات اللاحقة تقيّد إطلاق الرواية بعدم انفعال ما لم يتغيّر ريحه أو طعمه بشرط عدم تغيّر لونه. فتكون الرواية هكذا: «وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب منه وتوضأ بشرط أن لا يتغيّر لونه» فالرواية تثبت المدّعى في الجملة.
ص: 23
--------------------------
الرواية الرابعة: وباسناده عن الحسين بن سعيد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي بصير، قال: «سألته عن كرّ من الماء مررت به وأنا في سفر قد بال فيه حمار أو بغل أو انسان؟ قال: لا توضأ منه ولا تشرب منه»(1)
والبحث فيها في مقامين:
المقام الأوّل في السند. أمّا أوّلاً: فإنّ قوله «وباسناده» أي الاسناد الذي ذكره الشيخ في المشيخة، وطريقه إليه صحيح.
و أمّا ثانياً: فإنّ الحسين بن سعيد هو الأهوازي الثقة.
و أمّا ثالثاً: فإنّ عثمان بن عيسى الرواسي و إنّ كان شيخ الواقفة ووجهها و منحرفاً عن الحق و معارضاً للإمام الرضا (عليه السلام) ، إلا أنّه مشمول للتوثيق العام للنجاشي، حيث قال: وبيت الرواسي كلّهم ثقات(2) ووثقه الطوسي(3) في العدة بالخصوص.
و أمّا رابعاً: فإنّ سماعة بن مهران ثقة واختلف في كونه واقفياً.
ص: 24
--------------------------
و أمّا خامساً: فإنّ أبي بصير هو يحيى بن القاسم وليس هو المرادي البختري. فالرواية موثقة بعثمان(1) وبسماعة أيضاً على قول.
وأمّا المقام الثاني: فالبحث فيه في دلالتها: ولا يضر كونها مُضمرة؛ وذلك لجلالة أبي بصير من أن يروي عن غير الامام (عليه السلام) ، نعم إنّها تدلّ على المدّعى في الجملة؛ حيث شملت التغيّر وعدمه والبول الطاهر والنجس(2).
قال في الوسائل(3): «ويمكن الحمل على الكراهة مع وجود غيره؛ بقرينة اشتماله على ماليس بنجاسة».
لا يقال: لا اعتبار للرواية لشمولها ما لو لم يتغيّر الكر أيضاً، بالإطلاق.
فإنّه يقال: إن ماذكر خرج بالإجماع وبالأدلّة الدالة على عدم انفعال الماء إذا بلغ الكر.
الرواية الخامسة: وبالاسناد عن سماعة، عن أبي عبد لله (عليه السلام) ، قال: «سألته
ص: 25
--------------------------
عن الرجل يَمُرُّ بالماء وفيه دابة ميتة قد انتنت؟ قال: إذا كان النتن الغالب على الماء فلا يتوضأ و لا يشرب». والبحث في سندها ودلالتها:
أما السند فأوّلاً: قوله «وبالإسناد». الظاهر منه هو الاسناد الماضي، وهو: عن الحسين بن سعيد عن عثمان عن سماعة. وعليه فالرواية موثقة. ولكن في نقل صاحب الوسائل سقطٌ في السند يظهر من الرجوع إلى المصدر، وقد تسقط الرواية عن الاعتبار لأجله، قال في التهذيب رواية رقم (624): «وما أخبرني به الشيخ أيده اللّه تعالى - المفيد - عن احمد بن محمّد، عن أبيه عن الحسين بن الحسن بن ابان، عن الحسين بن سعيد عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، ثم ذكر الرواية بعينها.
فالرواية السابقة لها طريق صحيح من الشيخ إلى حسين بن سعيد، كما يذكره صاحب الوسائل، وهذه الرواية مروية بسند آخر فيه الحسين بن الحسن بن أبان وهو مجهول، وما ذكر من ثغرات الوسائل.
نعم عدَّه المجلسي صحيحاً لكونه من مشايخ الاجازة، ولكنه على المبنى(1)، وقد قيل بوجود طريقة التعويض لحل الإشكال، وهي قول الشيخ
ص: 26
--------------------------
في المشيخة عن روايات حسين بن سعيد: «إنّه اخبرنا بجميع رواياته فلان عن فلان» وذلك الطريق يشمل هذه الرواية، فتكون موثقة أو صحيحة، ولكن يرد عليه: ما تقدم من الإشكال، نعم لو كان الحسين بن سعيد في ابتداء السند لتمّ ما ذكره.
والحاصل: عدم اعتبار السند؛ لمجهولية الحسين بن الحسن.
وأمّا دلالتها: فإنَّ منطوقها يدلّ على المدّعى وهو أنّ الرائحة سبب في الانفعال. ومفهومها: إن لم يكن النتن الغالب فيتوضأ ويشرب. وإطلاق المفهوم قابل للتقييد بالتغيّر في الطعم واللون، بل يمكن القول بعدم إطلاق المفهوم؛ فإنَّ الحكم إنّما هو بلحاظ الرائحة والسؤال عنها، وليس المولى في مقام البيان، فلا إطلاق حتى يقيد(1).
الرواية السادسة(2): - الشاملة للتغيّر في اللون - وبإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب، عن محمّد بن عبد الجبار، عن محمّد بن سنان، عن العلاء
ص: 27
--------------------------
بن الفضيل، قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الحياض يبال فيها؟ قال: لا بأس إذا غلب لون الماء لونَ البول».
ولا بحث في الدلالة إنّما البحث في السند.
أولاً قوله: وبإسناده. أي إسناد الشيخ إلى ابن محبوب، وقد ذكر الطريق إليه في مشيخه التهذيب قال: «وما ذكرته في هذا الكتاب عن محمّد بن علي بن محبوب فقد اخبرني به الحسين بن عبد اللّه عن احمد بن محمّد بن يحيى العطار عن أبيه محمّد بن يحيى عن محمّد بن علي بن محبوب»(1).
ثانياً: الحسين بن عبد اللّه الغضائري - الأب - وليس له توثيق صريح، ولكن توجد طرق قد تفيد وثاقته:
الطريق الأوّل : إنّه شيخ النجاشي وعلى بعض المباني وثاقة جميع مشايخه وهم اثنان وثلاثون شيخاً، وقد رضي به الشيخ البهائي وبحر العلوم وقال المعجم «شيخ النجاشي وهو ثقة».(2)
ولكن المبنى غير مرضي فإنّ القول بوثاقة جميع مشايخه مستند إلى بعض عباراته التي لا تدلّ على المدّعى ظاهراً. منها: ما قاله في الجوهري:
ص: 28
--------------------------
«ورأيت شيوخنا يضعفونه فلم أرو عنه شيئاً وتجنبته». (1) فلم ينقل عن من ضعفه مشايخه. إلّا أنّ في دلالتها على اعتبار جميع مشايخه إشكالين:
الأوّل: وجود الفرق بين التضعيف والضعف فقد لا يروي عن المضَعَّف ويروي عن الضعيف، وكثيراً ما يتفق أن لا يروي الفرد عمن ضَعَّفه شيوخه احتراماً لموقفهم أو لأمر آخر إلّا أنّه يروي عن الضعيف. إلّا أن يقال: بأنّ التضعيف لا موضوعية له وإنما هو طريق إلى الضعف، وفيه تأمل.
الثاني: سلّمنا ذلك إلّا أنّها لا تدلّ على أنّه لا يروي عن المجهول(2).
ومنها: ما قاله في ابن البهلول «ورأيت جلَّ أصحابنا يغمزونه ويضعفونه... رأيت هذا الشيخ وسمعت منه كثيراً ثم توقّفت عن الرواية عنه إلّا بواسطة بيني وبينه»(3).
ويرد عليها: ما ورد على العبارة المتقدمة.
ومنها: ما قاله في جعفر بن مالك: «كان ضعيفاً في الحديث قال احمد بن الحسين(4) كان يضع الحديث وضعاً ويروي عن المجاهيل، وسمعت من قال كان أيضاً فاسد المذهب والرواية، ولا أدري كيف روى عنه شيخنا
ص: 29
--------------------------
النبيل الثقة أبو علي بن همام، وشيخنا الجليل الثقة أبو غالب الزُراري»(1).
فاستغراب النجاشي عن من يروي عن ضعيف أو مضعف يدلّ على أنّه لا يروي عن مثله فتدل العبارة على أنّ كل من روى عنه النجاشي لم يكن ضعيفاً(2).
ومنها: ما قاله في ترجمة ابن بُرنيَّة: «عمل له كتاباً وذكر أنّ الأئمة ثلاثة عشر مع زيد... وكان هذا الرجل كثير الزيارات وآخر زيارة حضرها معنا يوم الغدير»(3) قال النوري: «ولم يعتمد عليه في كتابه ولا ادخله في طرقه لمجرد تأليفه الكتاب المذكور»(4).
والحاصل: عدم ثبوت وثاقة جميع مشايخه(5).
الطريق الثاني: إنّه شيخ إجازة. إلّا أنّه مضى التأمل فيه.
ص: 30
--------------------------
الطريق الثالث: صحح العلّامة طريق الشيخ إلى ابن محبوب وهو يدلّ على وثاقة الغضائري الاب لوقوعه في الطريق. ولكنه محل تأمل، فإنّ للشيخ طرقاً متعددة إلى ابن محبوب مذكورة في الفهرست فتصحيحه الطريق لا يدلّ على توثيقه.
الطريق الرابع: قال الشيخ الطوسي في حقه: «كثيرالسماع عارف بالرجال»(1). وفيه اشعار لوثاقته. إلّا أن في دلالته تأمل.
الطريق الخامس: عبّر عنه العلّامة في الخلاصة(2)
ب: شيخ الطائفة، ولا تطلق مثلها على غير الثقة. إلّا أنّه مبني على قبول قول المتأخرين.
الطريق السادس: وثقه احمد بن طاووس، ومبنانا قبول توثيقات المتأخرين ممن قاربوا تلك العهود.
فتحصّل من جميع ذلك بضم القرائن بعضها مع بعض - وثاقته.
ثالثاً: احمد بن محمّد بن يحيى العطار، قال في المعجم(3)
«لم يثبت توثيقه» فهو مجهول.
ولكن توجد مجموعة من القرائن تدلّ على وثاقته ذكرها في تنقيح
ص: 31
--------------------------
المقال(1)، منها: أنّ العلّامة صحّح أسانيد وقع فيها.
ومنها: توثيق المجلسي والشهيد الثاني والبهائي و صاحب المعالم مع تشدّده في علم الرجال وطرحه لكثير الروايات وغيرها من قرائن مذكورة في ذلك المقام. والكلام فيه يظهر ممّا تقدم.
رابعاً: محمّد بن يحيى: شيخ الكليني الثقة.
فتحصّل: أنّ طريق الشيخ إلى ابن محبوب معتبر.
نعم، توجد طريقة اُخرى لتصحيح الرواية - على مبنى الإشكال في احمد أو على من يرى ضعف كثير من طرق الشيخ في التهذيب - تتوقّف على تمهيد أمرين:
الأوّل: إنّ ماذكره الشيخ في المشيخة(2) من قوله: «واقتصرنا من إيراد الخبر على الإبتداء بذكر المصنّف الذي أخذنا الخبر من كتابه أو صاحب الأصل الذي أخذنا الحديث من أصله» يدلّ على أنّ كل من بدأ به السند في التهذيب إنّما أخذه من كتابه، ولم يذكر الطريق إلى الكتاب. فإن قال في بداية السند: عن ابن محبوب، فإنّه قد أخذه من كتابه.
ص: 32
--------------------------
الثاني: إنّ الشيخ لم يذكر جميع طُرقه في المشيخة بل بعضها فيها، وبعضها الاُخرى في الفهرست، ويدلّ عليه ما ذكره من آخر المشيخة فقد قال: «قد اوردت جُملاً من الطرق إلى هذه المصنّفات والاُصول ولتفصيل ذلك شرح يطول هو مذكور في الفهارس المصنّفة في هذا الباب للشيوخ وقد ذكرناه نحن مستوفى في كتاب فهرست الشيعة»(1).
وبعد ذكر هذين الأمرين نرى أنّ للشيخ طرقاً معتبرة في الفهرست إلى كثير ممن له اليهم طُرقاً ضعيفة في التهذيب.
ومن دأبه أن يذكر طرقاً متعدّدة إلى أصحاب الكتب والاُصول.
فله إلى ابن محبوب مثلاً في الفهرست طرقاً ثلاثة: أ- قال في الفهرست(2) «له كتب وروايات اخبرنا بجميع كتبه ورواياته الحسين بن عبيد اللّه...» وهذا الطريق الضعيف نفس ما اورده في التهذيب (3).
ب - ثم قال «واخبرنا بهذا أيضاً جماعة عن ابي المفضل» وهو ضعيف لم يذكره في التهذيب.
ج - ثم قال: «واخبرنا بها أيضاً جماعة عن محمد بن علي بن الحسين...» بطريق ثالث صحيح معتبر إلى ابن محبوب، لم يذكره في
ص: 33
--------------------------
التهذيب أيضا(1).
وبما ذكر يمكن التعويض عن جميع الطرق الضعيفة في التهذيب إن وجد طريق آخرمعتبر في الفهرست وذلك لكون التهذيب أوّل مؤلف له ذكر فيه بعض الطرق ثم وجد غيرها ممّا أوردها في الفهرست.
ثم إنّه يجب التفريق بين من ابتدأ به السند في التهذيب وبين من وقع في اثناء السند فإنَّ ماذكرناه في الأمر الأوّل يدلّ على حجية الأوّل فحسب، إلّا أنّه اختلط الأمر على بعض المعاصرين.
رابعاً: محمّد بن عبد الجبار روى تسعمائة رواية وهو من الثقات.
خامساً: محمّد بن سنان: مختلف فيه وقد ملنا سابقاً إلى وثاقته وإن تردّدنا فيه أخيراً.
فينبغي البحث في القرائن الدالة على وثاقته وتلك الدالة على ضعفه، أمّا القرائن الدالة على وثاقته فهي كالتالي:
الأولى: عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) : «جزى اللّه... ومحمد بن سنان... خيراً فقد وفوا لي(2)».
الثانية: في صحيحة أبن بزيع قال أبو جعفر (عليه السلام) : «فَوَلَّ صفوان بن يحيى
ص: 34
--------------------------
ومحمد بن سنان فقد رضيت عنهما(1)».
الثالثة: عدَّه المفيد من خاصة الامام وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه(2).
الرابعة: عمل كثير من الفقهاء برواياته منهم صاحب الجواهر والشيخ الأعظم(3).
أمَّا القرائن الدالة على ضعفه فهي كالاتي:
الأولى: قوله عنه: «مطعون عليه، ضعيف جداً، ما يستبد بروايته ولا يشركه فيه غيره لا يعمل عليه»(4).
الثانية: ماذكره المفيد بأنّه: «مطعون فيه لاتختلف العصابة في تهمته وضعفه» وهو ادّعاء للإجماع أو شبهه.
الثالثة: قول ابن داود عنه: «والغالب على حديثه الفساد».
الرابعة: قال عنه ابن الغضائري: «ضعيف، غال، يضع، لا يلتفت إليه».
الخامسة: عَدَّه الفضل بن شاذان من الكذَّابين المشهورين.
السادسة: تضعيف ابن العُقدة له.
ص: 35
--------------------------
السابعة: قول صفوان: «همّ أن يطير غير مرّة فقصصناه»(1) وقد سبق بعض الروايات فيه.
أقول: قد يجمع بين الروايات بوجود فترة انحراف وتخبط في حياته إلّا أنّه في النهاية استقام أمره حيث قال (عليه السلام) عنه: «فقد رضيت عنهما»، و قال صفوان: «همّ ان يطير غير مرة فقصصناه حتى ثبت معنا».
فالحاصل: أنّ التضعيف قوي والتوثيق ضعيف خصوصاً مع دعوى الإجماع ضدَّه، والإعراض عن روايات مدحه مع أنّها كانت في مرأى ومسمع منهم لورودها في كتاب الكشي(2).
ص: 36
--------------------------
وأمّا العلاء بن الفضيل فهو ثقة. فالرواية الدالة على انفعال ما تغيّر لونه محل تأمل لمحمد بن سنان.
الرواية السابعة: وعنه عن محمّد بن الحسين عن علي بن حديد عن حمّاد بن عيسى عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شيء تفسخ فيه أو لم يتفسخ»(1).
وفيها بحثان، سنداً و دلالة. البحث الأوّل في سندها:
أولاً: كلمة «وعنه» عطف على الرواية السابقة أي عن محمّد بن علي بن محبوب وقد مضى البحث في اعتبار اسناد الشيخ إليه.
ثانياً: اشتراك محمّد بن الحسين، إلّا أنّ المراد به ابن أبي الخطاب لرواية ابن محبوب عنه، ولما سبق من انصراف المطلق إلى المشهور في الروايات، و هو ثقة، جليل من أصحابنا، عظيم القدر كثير الرواية فقد روى 1209 رواية.
ثالثاً: في علي بن حديد، ولتوثيقه ذكرت طرق ثلاثة:
ص: 37
--------------------------
الأوّل: كونه من رجال كامل الزيارات، إلّا أنّ المبنى غير مرضي على مامضى.
الثاني: كونه من رجال تفسير علي بن ابراهيم القمي فإنّه من مشايخه غير المباشرين، والمبنى غير مرضي ايضاً.
الثالث: رواية ابن أبي عمير عنه، قال الابطحي: «ورواية من عرف بأنّه لا يروي ولا يرسل إلّا عن ثقة عنهم»(1).
وهم مشايخ الثقات: البزنطي وصفوان وابن أبي عمير، وفي المبنى تفصيل، و المرضي عندنا أنّه لايروي إلّا عن ثقة(2)، وأمّا كونه لا يرسل إلّا عن ثقة فمحلّ إشكال، وقد شهد الشيخ بذلك(3).
ص: 38
--------------------------
نعم قد شُكِّك في هذا الطريق صغرى وكبرى:
أمَّا صغرىً: فقد قيل بأنّ ابن أبي عمير لم يرو عن علي بن حديد بل اشتركا معاً في نقل هذه الرواية والدليل عليه أنّه لم يرو عنه رواية غير هذه، فكيف روى عنه هنا، مع أنّهما معاصران فليس علي بن حديد من مشايخه.
ولكن ماذكر من القرينة محلّ تأمل، فقد يروي الفرد عن شخص بلا واسطة، وقد يروي عنه بواسطة من عاصره.
وأمّا كبرىً: فسلمنا كونه من مشايخه، إلّا أنّ الشيخ ضعّفه في أكثر من موضع وقال: بأنّه ضعيف جداً(1)، فتعارض فيه التوثيق العام مع التضعيف الخاص ومع اعمال قانون العام والخاص يقدم التضعيف، وإلّا فيصار إلى التعارض فالتساقط فَيتوقّف فيه، فتسقط الرواية عن الاعتبار(2).
ص: 39
--------------------------
وأمّا حماد وحريز وزرارة فكلهم ثقات.
البحث الثاني: في المتن. أمّا الراوية فهي إناء كبير يتخذ من جلد بعير أو ثور أو حمار تستقى منه الانعام الكبيرة. و حكم الامام بعدم نجاستها إمّا ان يحمل على كونها بمقدار الكر أو يقيّد كلامه بأدلّة الكر.
والحاصل: انفعال الماء بالتغيّر بالرائحة، والرواية وإن لم تكن معتبرة إلّا أنّها تنفع ما يأتي.
ص: 40
--------------------------
الرواية الثامنة: محمّد بن يعقوب عن علي بن ابراهيم عن ابيه، ومحمد بن اسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعاً عن حماد بن عيسى عن حريز عن زرارة قال: «إذا كان الماء أكثر من راوية...» بالألفاظ المتقدمة في الرواية السابقة.
و في الاستدلال بها إشكالان.
أمّا الإشكال الأوّل : فإن للكليني طريقين إلى حماد أحدهما: علي بن ابراهيم عن ابيه عن حماد. والثاني: محمّد بن اسماعيل عن الفضل عن حماد وذلك بقرينة كلمة جميعاً، والطريق الأوّل تام.
وأمّا الثاني: فقد اختلف في محمّد بن اسماعيل أنّه البرمكي أو ابن بزيع أو البندقي وقد رجّحنا في الاُصول وثاقته لمجموعة من القرائن.
منها: اكثار الكليني الرواية عنه فقد روى عنه خمسمائة وثلاث عشر رواية، ومن المستبعد جداً ان يكون الإعتماد عليه لأجل القرائن الخارجية - وهي التي تكتنف بالمقام - دون القرينة الداخلية أي وثاقة الراوي - في جميع الروايات، وعليه فالقرينة داخليةٌ وتدلّ على وثاقة المُخبِر لا توثيق الخبر، فالمختار اعتبار الطريقين.
وأمّا الإشكال الثاني ففيه: أنّه لا يعلم صدوره عن الإمام بعد أن لم ينسب زرارة الرواية اليه (عليه السلام) فقد تكون من إجتهاده، والقول بأنّ ماذكره عين كلام الامام في الرواية السابقة، بعيد عن الصَواب لعدم إحراز صدورها عنه (عليه السلام) .
ص: 41
--------------------------
اللّهم إلّا أن يقال: إنَّ تطابق الألفاظ فيهما مع بُعد كونه من إجتهاده يقرِّب كونه كلام الامام (عليه السلام) . ولكنه محل تأمل.
الرواية التاسعة : وعن عدة من أصحابنا عن احمد بن محمّد عن محمّد بن اسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليه السلام) : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّا أن يتغيّر به»(1).
أمّا سندها: ففي عدة الكليني بحث، والمختار أنّه فيهم ثقة.
و احمد بن محمّد: هو ابن خالد البرقي ظاهراً، ولو تردّد بين البرقي و ابن عيسى فكلاهما ثقة. و ابن بزيع ثقة ايضاً.
وأمّا متنها: فإنّ التغيّر مطلق يشمل التغيّر اللوني، نعم ظاهر صحيحة أبي خالد القماط الماضية تدلّ على حصر الانفعال بتغيّر الريح والطعم، ولفظها: «فإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب وتوضأ» فيقيد الإطلاق بها فيخرج التغيّر اللوني(2).
ص: 42
--------------------------
ثم إنّه لو أثّر التغيّر بانفعال البئر التي لها مادّة لأثّر بانفعال الراكد الذي لامادّة له بالأولويّة.
الروية العاشرة: ما رواه علي بن ابراهيم عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن عن عبد اللّه بن سنان قال: «سأل رجل ابا عبد اللّه (عليه السلام) وانا حاضر عن غدير اتوه وفيه جيفة؟ فقال: إن كان الماء قاهراً ولا توجد منه الريح فتوضأ»(1) والمفهوم: إن كان مقهوراً ووجدت منه الريح فلا تتوضأ.
ولا إشكال في دلالتها وانما وقع الإشكال في سندها من جهتين:
الأولى: وجود خلاف في وثاقة محمّد بن عيسى بن عبيد، ولكن الترجيح مع امارات وثاقته، وقد مضى تفصيل البحث فيه في ماء الورد.
الثانية: وجود الإشكال في رواية ابن عبيد عن يونس، وهو سارٍ في جميع مايرويه عنه. قال النجاشي(2): «ذكر أبو جعفر بن بابويه عن ابن الوليد أنّه قال: ماتفرد به محمّد بن عيسى من كتب يونس وحديثه لا يعتمد عليه، ورأيت
ص: 43
--------------------------
أصحابنا ينكرون هذا القول ويقولون من مثل أبي جعفر محمّد بن عيسى». وما ذكره يدلّ على ضعف روايات ابن عبيد عن خصوص يونس لا مطلقاً.
ولم يرو الصدوق في الفقيه رواية ينقلها ابن عبيد عن يونس مع أنّه روى عنه في ثلاثين مورداً عن غير يونس، والصدوق تابع لشيخه ابن الوليد في التوثيق والتضعيف؛ ولكن لا يعلم وجه تضعيف ابن الوليد لما يرويه العبيدي عن يونس إلّا شبهة الغلو، ولا يبعد أنّها من إتهام الواقفية له لوقوفه ضدهم، وقد بذلوا مالاً كثيراً لتسقيطه.
ثم إنّه هل يصح الاعتماد على أخبار من ثبتت وثاقته مع تصريح البعض بأنّ رواياته عن شخص خاص غير معتبرة وانكار جماعة عليه هذا القول، ام يتوقّف فيه لتعارض التصحيح والتضعيف؟
إلّا أن يقال: الظاهر فيما نحن فيه عدم التعارض لقول النجاشي: «ورأيت أصحابنا ينكرون هذا القول ويقولون من مثل أبي جعفر محمّد بن عيسى».والحاصل تمامية السند كما سبق.
الرواية الحادية عشرة: محمّد بن الحسن باسناده عن احمد بن محمّد عن محمّد بن اسماعيل عن الرضا (عليه السلام) : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء، إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه، فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادة»(1).
ص: 44
--------------------------
ولا بحث في سندها، وإن اشترك احمد بن محمّد بين اثنين هما ابن خالد وابن عيسى، إلّا أنّ الظاهر كونه ابن خالد الثقة، ولو شك فيه فكلاهما ثقة، وطريق الشيخ اليهما صحيح، وأمّا محمّد بن اسماعيل فهو ابن بزيع الثقة.
ودلالتها تامة أيضاً إلّا أنّها لا تدلّ على التغيير اللوني.
الرواية الثانية عشرة(1):
محمّد بن علي بن الحسين: «قال: سُئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن غدير فيه جيفة فقال: إن كان الماء قاهراً لها، لا يوجد الريح منه فتوضأ واغتسل».
ومراسيل الصدوق معتبرة على مبنيين من المباني الثلاث فيها، إلّا أنّهما محل نظر كما سبق.
الرواية الثالثة عشرة: قال - الصدوق - وقال الرضا (عليه السلام) : «ليس يكره من قُرب ولا بُعد بئر - يعني قريبة من الكنيف(2)
يُغتسل منها ويتوضأ - مالم يتغيّر الماء»(3).
وفي دلالتها مضافاً إلى سندها إشكال فإنّ «يكره» يدلّ على المبغوضية والمرجوحية، ويستعمل في الأعم، وليس نصاً في الحرمة.
ص: 45
--------------------------
الرواية الرابعة عشرة: الدالة على التغيّر اللوني أيضاً: ما عن المحقق الحلي جعفر بن الحسن بن سعيد قال: «قال (عليه السلام) : خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلّا ماغيّر لونه أو طعمه أو ريحه(1)» ورواه ابن ادريس مرسلاً في أوّل السرائر(2).
وفيه ما في التنقيح قال: «نبوي مروي بطرق العامة فلا اعتبار به»(3).
وسبقه الحدائق إلى ذلك قال: «إنّه لم يثبت من طرقنا لامسنداً ولا مرسلاً».
ولكن ذهب السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه(4) إلى اعتبارها قطعاً اعتماداً على تجميع القرائن.
منها: ما نقله العلّامة عن ابن عقيل من تواتر هذه الرواية عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) (5).
ولايخفى أنّ التواتر: مايفيد العلم لكثرة النقل، إلّا أنّ الأفراد مختلفون فمن يقطع من قول ثلاثة، ومن لايقطع بالأكثر منه فلا تواتر عنده، نعم يثبت
ص: 46
--------------------------
بنقل التواتر وجود ما لايقل عن طرق ثلاثة أو أربعة لكون الثلاثة من المستفيض.
ومنها: أنّه: «روي متواتراً عن الصادق» كما ذكره أبو جمهور الاحسائي(1).
ومنها: أنّه: «روي متواتراً عنهم» كما ذكره ابن فهد الحلي(2).
ومنها: ما في مجموعة المقداد قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
ومنها: ما في المدارك مع تشدّده في الأخبار قال: «إن هذا الخبر من الأخبار المستفيضة».
ومنها: ما ادّعاه المحدث الكاشاني (رحمه اللّه) استفاضته عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
ومنها: أنّه متفق على روايته - أي بين الفريقين - كما ذكره ابن ادريس في السرائر.
ومنها: ماقاله السبزواري من أنّه: «لاوجه للمناقشة فيه بضعف السند بعد اعتبار الفقهاء بنقله بل في الذخيرة به عمل الأمّة»(3). وقد اعتمد عليه السيد الحكيم لبعض القرائن في المستمسك(4).
ص: 47
--------------------------
وما ذكر من القرائن إن لم يوجب القطع كما ذكره الوالد، فلا أقل من أنّها تورث الظن القوي، فما في التنقيح من ضعف السند غير تام.
ثم إنّه مع ثبوتها فهي مخصِّصة للأخبار الحاصرة للانفعال في التغيير بالطعم والرائحة فيكون الجمع كالآتي: «لا ينفعل الماء إذا لم يتغيّر طعمه أو رائحته إلّا إذا تغيّر لونه» فالحصر إضافي.
الرواية الخامسة عشرة: الدالة على التغيّر اللوني أيضاً ما في الوسائل عن محمّد بن الحسن الصفار عن محمّد بن اسماعيل عن علي بن الحكم عن شهاب بن عبد ربه قال: «أتيت ابا عبد اللّه (عليه السلام) أسأله، فقال إن شئت فسل ياشهاب وإن شئت اخبرناك بما جئت له. قلت: أخبرني، قال: جئت تسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة أتوضأ منه أو لا؟ قال: نعم(1)، قال: توضأ من الجانب الآخر إلّا أن يغلب الماء الريح فينتن. وجئت تسأل عن الماء الراكد من الكر ممّا لم يكن فيه تغيّر أو ريح غالبة، قلت: فما التغيّر؟ قال الصفرة، فتوضأ منه وكلّ ما غلب عليه كثرة الماء فهو طاهر»(2).
ص: 48
--------------------------
وهي واضحة الدلالة معتبرة السند لوثاقة الصفار - من أصحاب الامام العسكري (عليه السلام) ، صاحب بصائر الدرجات- و كونه عظيم القدر. ومحمد بن اسماعيل: هو البرمكي الثقة المستقيم كما قال النجاشي فيه(1).
وأمّا قول ابن الغضائري بأنّه ضعيف(2) فلا يعتنى به مع تعارضه مع توثيق النجاشي كما سبق. وعلي بن الحكم: ثقة جليل القدر. أمّا شهاب: فقد قال الكشي فيه: «خير فاضل من صلحاء الموالي، وقد وثقه النجاشي وقد روى عنه الأجلة كابن أبي عمير».
ثم إنّه دلّت روايات اُخرى على انفعال ما تغيّر مطلقاً كما في الوسائل فراجع . منها ما في ص171: ح4، و ص172: ح7، و ص173: ح10، و ص188: ح4، و ص196: ح7، و ص179: ح3، و ص183: ح4، و ص184: ح7، و ص185: ح11، و ص200: ح،7 وهناك روايتان اخريان سنتعرض لهما انشاء اللّه تعالى.
فتحصّل من جميع ما تقدّم ضعف ما ذكره في المدارك من عدم وجود رواية معتبرة.
والحاصل: وجود طرق خمسة لإثبات انفعال ما تغيّر لونه.
ص: 49
--------------------------
الأوّل: بعض الروايات المعتبرة كصحيحة شهاب بن عبد ربه السابقة حيث سأل عن التغيّر؟ فقال (عليه السلام) : الصفرة. وبضميمة عدم فهم الخصوصية تعم بقية الألوان ايضاً.
الثاني: مجموعة من الروايات الضعيفة أو محتملة الضعف المجبورة بعمل الأصحاب وهي خمسة روايات:
منها: رواية أبي بصير: «وكذلك الدم إذا سال في الماء واشباهه»(1).
إلّا أنّ فيها ياسين الضرير، و أنّها أعمّ من المدّعى فتقيّد بعدم انفعال مالم يتغيّر طعمه أو رائحته - في غير الدم - فظهر عدم تمامية ما في التنقيح من حملة لفظة «الدَّم» على التغيّر اللوني. اللّهم إلّا أن يقال: بأنّها نص في الدلالة على التغيّر اللوني. وفيه: ما لايخفى.
ومنها: رواية العلاء بن فضيل: «... إذا غلب لون الماء لون البول...»(2). وهي صريحة إلّا أنّ في سندها محمّد بن سنان.
ومنها: قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «خلق اللّه الماء طهوراً» الحديث.
ومنها: ما في الفقه وفيها: «مالم يتغيّر أوصافه، طعمه و لونه وريحه»(3).
ص: 50
--------------------------
ومنها: قوله: «فإن كان قد تغيّر لذلك طعمه أو ريحه أو لونه»(1).
الثالث: ماذكره في التنقيح(2)
من أنّ التغيّر اللوني يلازم التغيّر بالطعم أو الرائحة. إلّا أنّ ماذكره غير ثابت، اللّهم إلّا بإثبات التلازم بالاستقراء التام، وهو غير حاصل.
الرابع: ماذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) (3) من شمول بعض الأخبار له بنحو العموم. وفيه: ما سبق من أنَّ العموم مُخصَّصٌّ بالروايات الحاصرة.
الخامس: الشهرة الفتوائية. وفيه: ضعف المبنى.
مناقشات في تعمييم الروايات
تتمة: إنَّ في المقام عمومات ثلاثة قد يناقش في كل منها:
الأوّل: عموم الحكم لكل نجس، مع أنّ المصرَّح به في الأخبار ليس إلّا أربعة: الميتة والبول والدم والعذرة، فكيف عُمِّمَ الحكم لسائر النجاسات؟
والجواب عليه - مضافاً لوجود بعض الروايات العامَّة كصحيحة ابن بزيع: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّا أن يتغيّر»(4) الشاملة جميع النجاسات، مضافاً الى بعض الروايات الضعيفة المجبورة بالعمل كقول،ه (عليه السلام) : «اذاكان
ص: 51
--------------------------
الماء أكثر من راوية لم ينجسه شيء - تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ - إلّا أن يجيئ له ريح تغلب على ريح الماء»(1). وقوله: «خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلّا ما غير لونه وطعمه ورائحته»(2) الشاملة لجميعها كذلك بإلغاء الخصوصية عرفاً ولو بضميمة فهم الفقهاء.
الثاني: عموم الحكم لكل ماء مع أنّ المصرَّح به ليس إلّا بعض المياه كالغدير والجاري. ويرد عليه: وجود بعض الروايات المطلقة كصحيحة حريز «كلما غلب الماء»(3) والماء مطلق.
الثالث: عموم الحكم لكل استعمال مع أنّ المذكور في الروايات الوضوء والشرب. وفيه: إطلاق بعض الروايات كصحيحة محمّد بن اسماعيل بن بزيع: «لا يفسده شيء»(4) والإفساد يشمل الوضوء والغسل والشرب والتطهير به.
وأمّا شبهة وجود روايتين تدلّان على عدم انفعال ماء المطر لخصوصية فيه وإن تغيّر.
ص: 52
--------------------------
أما الروايتان فاُولاهما: صحيحة علي بن جعفر قال: «وسألته عن الرجل يمرّ في ماء المطر وقد صُبَّ فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه قبل أن يغسله؟ فقال: لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلي فيه، ولا بأس به»(1) على القول بنجاسة الخمر . و ثانيهما: صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) «في ميزابين سالا أحدهما بول والآخر ماء المطر فاختلطا فاصاب ثوب رجل لم يضره ذلك(2)».فواضحة الضعف.
لا لما قاله السيد الوالد (رحمه اللّه) من أنّه: «لا دلالة في هذين الخبرين على تغيّر ماء المطر في أحد أوصافه فلا معارضة»(3).لما فيه: من أنَّ النسبة بين الدليلين - أدلّة المطر وأدلّة التغيّر - العموم من وجه لا المطلق فإنّ التغيّر يشمل المطر وغيره، والمطر يشمل المتغيّر وغيره.(4)
بل لأنّ العرف يرى أنَّ التغيّر من قبيل العناوين الثانوية فيكون مقدّماً وإن كانت النسبة المنطقية بينهما العموم من وجه. مضافاً إلى أنَّ ارتكاز المتشرعة قائم على نجاسة الماء المتغيّر ولو كان ماء مطر(5).
ص: 53
بشرط أن يكون بملاقاة النجاسة فلا ينجس الماء المطلق إذا كان بالمجاورة كما إذا وقعت ميتة قريباً من الماء فصار جائفاً[1](1).
--------------------------
[1] البحث في شروط تأثير التغيّر في الانفعال:
الشرط الأوّل : أن يكون التغيّر بالملاقاة لا المجاورة، كما ذكره المصنّف ولم يعلّق عليه أحد من المحشين فيما رأيت إلّا السيد الوالد (رحمه اللّه) حيث ذهب إلى: «الإحتياط الوجوبي بالتغيّر بالمجاورة».
ص: 54
--------------------------
وعمدة الأدلّة على عدم الفرق الإطلاقات كقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إلّا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه»(1).
ورواية حريز: «إذا تغير الماء وتغيّر الطعم فلا تتوضأ منه ولا تشرب»(2).
وصحيح ابن بزيع: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء، إلّا أن يتغيّر لونه أو طعمه أو رائحته»(3) ولا مقيّد لها.
وأمّا قوله (عليه السلام) : «راوية من ماء فيها فأرة»(4) أو قوله (عليه السلام) : «يجد في انائه فأرة»(5) فهي مورد لا يخصِّص.
هذا مضافاً إلى إلغاء الخصوصية عرفاً عن الملاقاة فالملاك عنده الغلبة. وذلك كما لو نهى المولى عبده عن شرب ماء فيه رائحة الورد فإنّه لا فرق بين الملاقاة وعدمها بل المؤثر عنده غلبة الرائحة.
نعم المعروف بين المتأخرين عدم الانفعال، ويستدل عليه بأدلة:
الأوّل: مابيّنه في التنقيح(6) وإن سبقه الشيخ الأعظم في كتاب الطهارة(7)
ص: 55
--------------------------
مجملاً. وحاصله: «أنّ الروايات الواردة في تأثير التغيير على نوعين: منها ما ورد في خصوص الملاقاة، ومنها ماورد بشكل عام، إلّا أنّ القرائن الخارجية دلَّت على ارادة التغيّر بالملاقاة كما في صحيحة ابن بزيع.
وأمّا بيان القرينة فنقول: ليس المقصود بالشيء في قوله (عليه السلام) : «لا يفسده شيء» مطلق ما يصدق عليه مفهوم الشيء بل المراد ما شأنه التنجيس فما هو كذلك لا ينجِّس ماء البئر لأنّه واسع. ومن البيّن أنَّ قرب الماء من الميتة ليس من شأنه التنجيس.
فالحاصل: أنّ مقصود الرواية أنّ ماء البئر واسع لا يفسده شيء ممّا شأنه التنجيس - كالملاقاة - إلّا أن يتغيّر بما من شأنه التنجيس. والمجاورة ليس من شأنها التنجيس، وكلامه في عقد المستثنى منه، وقد أضفنا القيد في المستثنى للتطابق، وعليه فلا إطلاق للرواية.
وفيه تأمل: فإنّ التفسير المذكور للمستثنى منه غير عرفي والمقصود ب- «لا يفسده شيء» لا يفسده شيء من النجاسات، وب- «إلّا أن يتغيّر» أيضاً بالنجاسات، فللرواية إطلاق(1).
ص: 56
--------------------------
الثاني: ما ذكره صاحب الجواهر قال: «للأصل بل الاُصول (1)».
ولعلّ مراده بالأصل: الطهارة الجارية في الشبهات الحكمية كالموضوعية، وبالاُصول مضافاً إلى أصالة الطهارة استصحابها، وأصالة البراءة عن حرمة الماء.
وما ذكره تامٌ في حد ذاته إلّا أنّه محكوم بالأدلّة الإجتهادية - الإطلاقات أو العمومات - أو مورود بها.
الثالث: ماذكره السيد السبزواري، قال: «يمكن دعوى كون الروايات نصاً في ذلك - أي اشتراط التغيّر بالملاقات - فإنّ لفظ: يُبال فيها، او: فيه جيفة، أو: فيه ميتة، أو: فيه فأرة، نصٌ في تغيير الماء بملاقاة النجاسة (2)».
ص: 57
--------------------------
وفيه: أنّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه فورودها في الملاقات لا ينفي إطلاق المطلقات كقوله: «إلّا أن يتغيّر» والمتبَّع الظهور العرفي ولا ظهور فيما نحن فيه فضلاً عن كونه نصاً.
الرابع: ماذكره الميرزا التبريزي، قال: «إنّ الروايات الواردة في المقام كلّها ظاهرة في بيان خصوصية الماء، وأنّه يمتاز عن ساير المائعات فلا يتنجس إلّا بالتغيّر... ومن الظاهر أنَّ سائر المائعات لا تتنجس بمجاورة الأشياء النجسة حتى مع التغيّر في أوصافها بالمجاورة فكيف بالماء(1)».
وفيه: أنّه مصادرة، بل الحكم هو نجاسة الماء المضاف المكتسب رائحة الميتة بالمجاورة.
الخامس: قال أيضاً ما حاصله: «إنَّ الإصابة مفروضة في المطلقات كصحيحة حريز، وصحيحة ابن بزيع، ومفادهما أنَّ الميتة أو غيرها ممّا يُنَجِّس سائر المائعات لا تنجِّس الماء فيما إذا غلب الماء عليها، وأمّا إذا كان الماء مغلوباً فيحكم بنجاسته، ومن الواضح أنّ الغلبة إنّما تتصور في فرض الملاقات(2)».
وفيه: أنّ المراد إمّا الغلبة الخارجية اوالغلبة التعبدية الشرعية؟ أمّا الأولى فهي موجودة بالوجدان، لأنّ رائحة الميتة تؤثر في الماء.
ص: 58
--------------------------
وأمّا الثانية: فتصوّرها في فرض الملاقاة فقط أوّل الكلام، ولا شاهد على الإصابة في الروايتين. نعم ستأتي تتمة للبحث في الدليل التاسع، فانتظر.
السادس: التبادر والانصراف، قال الشيخ الأعظم: «الظاهر المتبادر المركوز في أذهان المتشرعة من قول القائل هذا ينجس الماء أو الثوب حصول ذلك بالملاقاة، ولذا لم يحتمل أحد في مفهوم: «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء»(1) حصول الانفعال للقليل بمجاورة النجاسة(2)».
و فيه أيضاً : أنّ الظاهر منها و من غيرها وقوع الاستثناء عمّا يلاقي الماء لا عن كل شيء اي لا ينجسه شيء يلاقيه إلّا ما غيّر لونه أو طعمه.
وقال في دليل العروة الوثقى: «الذوق شاهد على انصراف الإطلاق إلى غير المجاورة المجردة (3)».
وقد ادّعى الانصراف في المستمسك أيضاً(4).
وقال في الجواهر: «ظهور تبادره في الملاقاة كما هو واضح(5)». وفي مصباح الفقيه: «لأنّ المتبادر من الأخبار أن يكون التغيّر مسبّباً عن ملاقات النجس(6)».
ص: 59
--------------------------
وقد أجاب السيد الوالد: «بأنّ التبادر والانصراف ليس إلّا بدوياً لأنّ الغالب أن يكون التغيّر بالملاقاة (1)».
ثم استشهد على ذلك بما لو ورد: «لا تتوضأ بالماء الآجن» حيث لا يفهم العرف من ذلك إلّا مدخلية الريح في الكراهة، وإن كانت بسبب شيء خارج عن الماء فلا خصوصية للملاقاة.
السابع: الإجماع وتسالم الفقهاء. قال في الجواهر: «لعلّه لا خلاف فيه بل مجمع عليه (2)». ولا يدلّ صريحاً عليه لمكان لعلّ. وادّعى السبزواري، إجماع اعلام الملّة. والتبريزي(3) التسالم. وحكي عن المحقق الحلي الإجماع. وقال المحقق القمي: «والظاهر عدم الخلاف فيه(4)».
وفي مفتاح الكرامة: «قطع في المعتبر والمنتهى والتذكرة ونهاية الأحكام والروض والمدارك، بأنّه لو تغيّر بمجاورة النجاسة لم ينجس أيضاً، والاستاذ نقل الإجماع عليه في شرحه وأنّ الأصحاب فهموا مباشرة النجاسة لا مجاورتهما وفي الذخيرة أنّه لا خلاف فيه(5)».
وأجاب الوالد (رحمه اللّه) عن الإجماع: «بأنّ محصّله غير حاصل، والمنقول غير
ص: 60
--------------------------
حجة خصوصاً مع احتمال استنادهم إلى سائر الوجوه من الانصراف ونحوه(1)». فالإشكال في صغرى الإجماع. ولم أجد من تعرض للمسألة قبل المعتبر حيث افتى بعدم الانفعال، وقد تبعه البعض.
الثامن: إعراض الأصحاب دلالياً عن المطلقات(2).
التاسع: احتفاف المطلقات بما يصلح للتقييد بما هو محتمل القرينية فلا يتمسك بالإطلاق فيما هو كذلك من القرائن المتصلة على رأي.
وفيه: أنّه يتمّ في بعض الروايات لا جميعها فإنّ الغلبة في صدر صحيحة حريز - «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ(3)»-
وإن أشعرت بأنّ الجيفة كانت في الماء حيث يقال في المجاورة: الماء غلب على ريح الجيفة فإطلاق الذيل فيها محفوف بما يصلح للقرينية.
إلّا أنّ باقي المطلقات كصحيحة ابن بزيع لا قرينة فيها.
العاشر: تقييد التقذّر في الإرتكاز العرفي بالملاقات.
وفيه: أنّ العرف يستقذر مطلق التغيّر بأوصاف القذارة(4).
ص: 61
--------------------------
ثم إنّ هنا مؤيّدين يدلّان على الانفعال:
الأوّل: بناء الفقهاء على الانفعال بالتغيّر بأوصاف النجس بملاقاة المتنجّس مع أنّه لم يلاق النجس، وأي فرق بينهما عرفاً بعد كون الحامل للأوّل الهواء وللثاني المتنجّس، فيحكم بنجاسة الكر المكتسب رائحة الميتة لملاقاته ماء قليلاً وقعت فيه الميتة(1).
ص: 62
--------------------------
الثاني: التأييد بفتوى مجموعة من الفقهاء ومنهم المصنّف (رحمه اللّه) «إذا وقعت الميتة خارج الماء ووقع جزء منها في الماء وتغيّر بسبب المجموع من الداخل والخارج تنجّس(1)» وكذلك أفتى بانفعال ما تغيّر بالدم وأحمر طاهر. ثم إنّه لا فرق بين أن تكون المجاورة جزء العلّة أو تمامها.
والحاصل: أنّ القول بالنجاسة مشكل، والإحتياط أقرب إلى النفس من الحكم بالطهارة(2).
ص: 63
وأن يكون التغيّر بأوصاف النجاسة(1) دون أوصاف المتنجّس[1] فلو وقع فيه دِبس نجس فصار أحمر أو أصفر لا ينجس إلّا إذا صيّره مضافاً(2)[2].
--------------------------
[1] وهذا هو الشرط الثاني من شروط انفعال الماء.
[2] ويقع الكلام في مقامين.
الأوّل: ما لو لم يُصيّره مضافاً. الثاني: ما لو صيّره مضافاً.
أما المقام الأوّل فنقول: هل يكفي في الانفعال التغيّر بأوصاف المتنجّس ام يشترط ان يكون بأوصاف النجس؟ في المقام قولان:
الأوّل: الانفعال، وقد نسب إلى الشيخ، ونقل عن ظاهر المعتبر والتحرير.
ولكن في مصباح الفقيه: «ولا يظن بمن نسب إليه الخلاف ارادته ذلك لأنّ عبائرهم المحكية غير متضحة المفاد قابلة للتوجيه القريب (3)».
وكيف كان، فقد يستدل عليه بالإطلاقات كالنبوي: «خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلّا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه(4)». و «ما» الموصوله
ص: 64
--------------------------
تعم النجس والمتنجّس...
وصحيح ابن بزيع: «ماء البئر واسع لا يفسده شي إلّا أن يتغير (1)» والشيء يعُمُهما. و «ينتن» في معتبرة شهاب(2) قال (عليه السلام) : «جئت تسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة أتوضأ منه أو لا، قال نعم إلّا أن يغلب الماء الريح فينتن(3)»
والجيفة أعمّ من النجس والمتنجّس.
وإطلاق الصفرة الشاملة لصفرة الدبس في رواية شهاب: قلت «فما التغيّر؟ قال الصفرة (4)».
الثاني: عدم الانفعال كما عليه المشهور.
واُجيب عن الإطلاقات بأجوبة بعضها يتعلق بجميع المطلقات وبعضها ببعضها.
الأوّل: ما في التنقيح - بعد ان رَدّ النبوي بضعف السند - من أنّ ذيل
ص: 65
--------------------------
صحيح ابن بزيع(1) مانع عن التمسك بالإطلاق. قال: «فإنّ قوله حتى يذهب الريح ويطيب طعمه إنّما يصح إذا كان التغيّر تغيّراً بريح كريهة أو طعم خبيث وكراهة الريح والطعم تختص بالتغيّر الحاصل بالنجاسات(2)».
ولكن ماذكره من الكبرى محل إشكال، فإنَّ قوله: «كراهة الريح والطعم تختص بالتغيّر الحاصل بالنجاسات» بمعنى عدم انطباق ذهاب الريح وطيب الطعم على المتنجّسات لعدم وجودهما - أي الريح والطعم الكريهان - في غير النجس. غير تام، فإنّ بعض المتنجّسات لها ريح كريهة أو طعم خبيث، كالعَرَق المتنجّس مثل عرق الجنب من الحرام، وفي نهج البلاغة : «تنتنه العَرْقة(3)».
اللّهم إلّا أن يستدل بعدم القول بالفصل بين متنجّس رائحته طيبة حيث لا تؤثر في الانفعال فكذلك فيما رائحته خبيثة كالسمك مثلاً، ولكنه ليس بحجة كما قررناه سابقاً(4).
ص: 66
--------------------------
الثاني: الانصراف، حيث إنَّ المطلقات منصرفة عن مثل إناء عطر لامَسَ يَدَ الكافر وألقي في حوض بقى على إطلاقه إلّا أنّه اكتسب رائحة طيبة.
قال في المستمسك: «إذ هو الذي يساعده الإرتكاز العُرفي من اختصاص النفرة بذلك لا غير عندهم، للفرق بين ظهور أثر النجس بالذات في الماء وبين ظهور أثر الطاهر بالذات فيه وإن كان نجساً بالعرض؛ فإن الأوّل يناسب البناء على نجاسة الماء دون الثاني لأنّ النفرة الذاتية في الأوّل تستوجب النفرة عن الأثر بخلاف الثاني لعدم النفرة الذاتية فيه(1)».
وفيه تأمل صغرىً وكبرىً:
أمّا صغرىً: فلتأثير النجس في الطاهر، فيوجب نحو سراية لآثار النجس لعدم الانفكاك بينهما، ومن غير الثابت صغروياً عدم نفرة العرف عن حوض اكتسب رائحة طيبة من وقوع إناء عطر مات فيه وزغ مع نفرتهم عن إناء العطر لظهور أثر المنفور بالذات - الوزغ - فيه.
وأمّا كبرىً: فإنّا وان سلّمنا الاختصاص العرفي، إلّا أنّه لا يوجب الإختصاص
ص: 67
--------------------------
الشرعي مع وجود المطلقات(1).
فالأولى أن يقال: بالانصراف من دون ذكر هذا التقرير(2).
نعم، في مصباح الفقيه تقرير آخر للانصراف. قال : «إنَّ كون التغيّر - بالأوصاف الأصلية التي للمتنجّس - مؤثراً في تنجس الماء تعبداً بعيد عن الذهن، فيستبعد إرادته من المطلقات. والحاصل: أنَّ عدم المناسبة بين التغيّر بأوصاف المتنجّس وبين تنجس الماء مانع عن ظهور الرواية في شمول مثل
ص: 68
--------------------------
الفرض بل هي منصرفة عنه كانصرافها عن التغيّر بالاشياء الطاهرة(1)».
وأمّا ما ذكره في الجواهر من التبادر(2) فقد تأمل هو فيه.
الثالث: إعراض المشهور(3).
ص: 69
--------------------------
الرابع: الإجماع. ادّعاه السبزواري(1)، وفي الجواهر: «يمكن استنباط الإجماع عند التأمل على عدمه». ونقل مفتاح الكرامة عن شرح استاذه «الاتفاق ممن عدا الشيخ، وقد نقل الشيخ الإجماع على التنجيس (2)» ثم قال: «ولم أجد هذا الإجماع للشيخ(3)».
الخامس: ماذكره في التنقيح(4) من ضعف سند النبوي. وفيه ما مضى من دعوى التواتر.
ص: 70
--------------------------
السادس: ماذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) : «من أنَّ النبوي لا عموم فيه لأنّه مسوق لبيان النجاسة بتغيّر الأوصاف لا لبيان النجاسة بكل تغيّر(1)».
ويمكن أن يناقش فيه بأصالة الإطلاق من جميع الجهات، إلّا أن يعلم عدم كون المولى في مقام البيان من جهة من الجهات(2).
السابع: دعوى اختصاص الاستقذار العرفي بما كان التغيّر بوصف القذر.
وفيه: ما مضى من التأمل في الصغرى ومع التسليم نمنع الكبرى إذ لا ينهض ذلك في قبال الإطلاق اللفظي.
ثم إنَّ للحلّي نقضاً لتأييد القول الأوّل . قال: «التفكيك بين المتنجّس غير الحامل لوصف النجاسة [كالعطر في المثال المتقدم] أو بين الحامل لوصفها مجرداً عن ذاتها [كماء الفأرة] في كون التغيّر الحاصل بالثاني منجساً [كما هو المشهور] دون الأوّل مشكل، إذ لو قلنا بعموم الموصول [أي: إلّا ما] للمتنجّس لكانا معاً منجّسين، وإن قلنا باختصاصه بنجس العين كانا معاً غير منجسين(3)».
توضيحه: أن المراد ب- «ما» في «إلّا ما غير» إن كان ما يعم النجس والمتنجّس
ص: 71
--------------------------
فقد ثبت المطلوب فإنّ العطر المتنجّس قد غير ماء الحوض برائحته فيؤثر فيه.
وإن كان مختصاً بالأعيان النجسة دون المتنجّسة، فيرد على المشهور التزامهم بانفعال الكر الملاقي ماءً فيه أوصاف الأعيان النجسة - كماء ألقيت فيه الفأرة مدة طويلة اكتسب رائحتها ولم تنشر ذرّاتها فيه - مع أنّه لم يتغيّر بالنجس بل المتنجّس.
ولكنّ نقضه غير تام، وسيأتي بيان الفرق في المسألة القادمة.
ثم إنّ الأصل الطهارة لو شك في انفعال ما تغيّر بأوصاف المتنجّس.
فالأقرب ما ذهب إليه المشهور لانصراف الأدلّة عن التغيّر بأوصاف المتنجّس، يعضده فهمهم(1).
ثم إنّ للشيخ الأعظم كلاماً في جريان أصالة الطهارة، قال: «ولو عورضت بأصالة بقاء نجاسته رجع بعد التساقط إلى قاعدة الطهارة(2)».
ويتم كلامه مع فرض عدم الاستهلاك والقول بعدم اختلاف حكم الماء الواحد وفرض وحدته في المقام. فالدبس المتنجّس الملقى في حوض إن لم يستهلك تستصحب نجاسته، فيعارض استصحاب طهارة الماء.
وإن استهلك – اي: الجوهر وان بقي بعض الأوصاف التي هي عرض عرفاً
ص: 72
--------------------------
لا دقة لاستحالة استقلالية العرض- فلا موضوع ليستصحب حكمه، فلعلّ مراد الشيخ الأعظم تساقط الاستصحابين بعد تعارضهما فالمرجع أصالة الطهارة.
نعم، لا يمكن التمسك بأصالة الطهارة لو جرت مع استصحابها إلّا لو كانا طوليين فمع تعارض الاستصحابين وتساقطهما تصل النوبة الى القاعدة وإلّا لكانت طرف المعارضة ايضاً.
وقد يقال: بأنّه لا مجال للاستصحاب أصلاً فإن الدبس المتنجّس إمّا معدوم أو موجود، فعلى الأوّل لا موضوع له، وعلى الثاني فهو نجس لبقاء موضوعه لا للاستصحاب، فتأمل.
نعم يتمّ كلامه بعد فرض الشك في الدبس فيستصحب الموضوع و يحكم عليه بالنجاسة، وبعد القول بأنّ الماء الواحد لا يختلف حكمه للإجماع، والقول بأنّ هذا ماء واحد.
ثم إنَّ المراد بالتغيّر بأوصاف النجاسة تغيّر الأوصاف المذكورة بسبب النجاسة، ولو كان من غير سنخ وصف النجس كما سيأتي في المسألة الحادية عشرة.
المقام الثاني: ما لو صيّره مضافاً وهنا حالتان:
الأولى: أن لا يستهلك المتنجّس، ولا إشكال في نجاسة الماء لكونه ماء مضاف وفيه عطر نجس - مثلاً - غير مستهلك فينجسه.
الثانية: أن يستهلك المتنجّس ويجري في هذا الفرض الفروع التي ذكرناها في المسألة السابعة، فراجع.
ص: 73
نعم لا يعتبر أن يكون بوقوع عين النجس فيه، بل لو وقع فيه متنجّس حاملٌ لأوصاف النجس فغيّره بوصف النجس تنجّس أيضاً[1].
--------------------------
[1] وهذا دفع لوهم أنّ المتنجّس لا ينجس مطلقاً. وبيانه: أنّ الحامل لأوصاف النجس على قسمين:
القسم الأوّل : أن يكون حاملاً لأوصاف النجس دون عينه.
القسم الثاني: أن يكون حاملاً لأوصافه ولعينه.
أما القسم الأوّل : فكماء وقعت فيه ميتة ولم تتفسخ وقد اكتسب رائحتها، ثم اُلقي في كرٍ فاكتسب رائحة الميتة ولم يلاقها.
وقد استدل على الانفعال بأدلة:
الدليل الأوّل: إنَّ المتنجّس إذا كان حاملاً لأوصاف النجاسة فلا بد أن يكون حاملاً لأجزائها، لامتناع انتقال العرض من محلّ إلى محلّ آخر بدون انتقال الجوهر، وحينئذٍ فالملاقي لها ملاقٍ لعين النجاسة حقيقة.
وفيه: أنّه لو سُلّم ذلك فهو أمر دقي عقلي، والأحكام الشرعية مطلقاً أو في خصوص باب الطهارة مبنية على الأنظار العرفية الحسّية، ولا يصدق أنَّ الماء الثاني لاقى النجاسة عرفاً بل الموصوف بذلك هو الماء الأوّل ، ولذا يُحكم بطهارة الثوب الذي أصابه الدم إذا ذهب العين بالغسل وإن بقي اللون، مع أنّ بقاء اللون كاشف عن بقاء العين فإنَّ اللون عرض يستحيل بقائه بدون الجوهر وهو الدّم. وكذلك يحكم بطهارة موضع الاستنجاء بعد
ص: 74
--------------------------
التطهير وإن بقيت الرائحة.
الدليل الثاني: ما ذكره الفقيه الهمداني قال: «ثم إنَّ المعتبر إنّما هو تغيّر الماء بأثر النجاسة ولو في ضمن المتنجّس، لا تغيير عين النجاسة للماء، لأنّ هذا الفرض قلّما يتحقق له مصداق في الخارج، لأنّ الغالب أنّه ينفعل ما حول النجاسة منها أولاً ثم ينتشر المتنجّس فيما عداه(1)».
فالميتة الواقعة في الماء تغيّر ما يليها من الماء، وما يليها يغير ما يليه وهكذا. فالأطراف البعيدة تتنجس بواسطة المتنجّس لا بواسطة عين النجاسة فعليه يكون التغيّر بواسطة المتنجّس منجّساً كالتغيّر بواسطة عين النجاسة.
وناقشه في التنقيح قال: «إنّ سراية التغيّر إلى مجموع الماء وإن كان بواسطة المتنجّسات إلّا أن الدليل لم يدلّنا على نجاسة الماء المتغيّر بملاقاة المتنجّس، فإنَّ الدليل إنّما قام على انفعال الماء المتغيّر بملاقاة نفس النجس(2)» وما يبدو من كلامه أنّ الماء الثاني أي: المنفصل وإن لم يلاق الفأرة بل لاقى ماءً لاقاها بخلاف الماء الأوّل أي: المتصل بالفأرة، إلّا أنّه يصدق عرفاً أنّ الماء كمجموع لاقى الفأرة.
وفيه : إنّ قوله (عليه السلام) : «فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا تتوضأ ولا تشرب»(3)
ص: 75
--------------------------
صادق في المقامين، فتأمل.
الدليل الثالث: مافي المستمسك قال: «المتغيّر بعين النجاسة (الماء المتصل بالفأرة مثلاً) إذا امتزج بالكثير فغيّره فإما أن يطهر المتنجّس (أي نقول بطهارة المائين) وهو خلاف النص والإجماع على اعتبار زوال التغيّر من طهارة المتغيّر، أو يبقى كل على حكمه وهو خلاف الإجماع على اتحاد الماء الواحد في الحكم، أو ينجس الطاهر (أي نجاسة الماء الثاني وانفعاله بالماء الأوّل ) وهو المطلوب، ويتم الحكم في غير الممتزج بالإجماع على عدم الفصل(1)».
ويرد عليه أوّلاً: عدم حجية عدم القول بالفصل. خلافاً للقول بعدم الفصل(2) غير الثابت وجوده في المقام. وعليه فاللازم القول بالتفصيل بين صورة الامتزاج وعدمه.
ثانياً: ما ذكره في التنقيح(3) من أنَّ في المقام صوراً ثلاث:
الأولى: استهلاك الماء الأوّل في الثاني لكثرته وقلة المتغيّر، فالجميع طاهر.
لا يقال: إنّه ينافي ما دل على أنَّ المتغيّر لايطهر إلّا بارتفاع تغيّره.
ص: 76
--------------------------
فإنّه يقال: ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، وقد انعدم الماء المتغيّر.
الثانية: استهلاك الماء الثاني في الأوّل، فالجميع نجس.
الثالثة: أن لا يستهلك أحدهما في الآخر، وهنا يتعارض دليلان إجتهاديان مفاد أوّلهما: اعتصام الكر، ومقتضاه طهارة الماء الثاني. ومفاد ثانيهما: عدم طهر المتغيّر إلّا بارتفاع تغيّره، ومقتضاه نجاسة الماء الأوّل.
وبما أنّ الماء الواحد لا يحكم عليه بحكمين متضادين يدور الأمر بين أن نحكم على المجموع بالنجاسة لنجاسة الماء الأوّل، أو أن نحكم على المجموع بالطهارة لطهارة الماء الثاني.
واذ لا ترجيح يتعارضان ويتساقطان، فتصل النوبة إلى أصالة الطهارة سواء قلنا بعدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، أو قلنا بالجريان إلّا أنّهما لا يجريان في المقام للتعارض، أو قلنا بأنّهما يجريان ويتساقطان، فعلى المباني الثلاثة تجري أصالة الطهارة.
والحاصل: وجود علم إجمالي بطهارة المائين أو نجاستها بضميمة الإجماع على عدم اختلاف حكم الماء الواحد فيرجع إلى الأصل الفوقاني.
ويرد عليه: أنّه يلزم الحكم بالطهارة في جميع الصور الثلاث مع قطع النظر عن صحيحة ابن بزيع. والحكم بالنجاسة في جميع الصور الثلاث مع ملاحظة صحيحة ابن بزيع، فالتفصيل المذكور لا يخلو من نظر.
فهنا دعويان:
أمّا الأولى: فلما سبق من أنَّ هنالك فرقاً بين الاستهلاك - كاستهلاك الطين
ص: 77
--------------------------
في الماء - وتفرق الاجزاء - كتفرق اجزاء لحم الخنزير المثروم في مقدار كثير من لحم الغنم المثروم - والمتحقق في المقام تفرق الاجزاء لا الاستهلاك، وعليه يتحقق التعارض بين الدليلين في الصورتين الأوليين كالصورة الثالثة، ويلزم الحكم بالطهارة في الجميع.
وأمّا الثانية: فسيأتي بيانها في ضمن الدليل الخامس، انشاء اللّه تعالى.
والأقوى الحكم بالنجاسة في الصور الثلاث لتمامية صحيح ابن بزيع عندنا على تقدير نذكره.
فما ذكره التنقيح من الحكم بالطهارة في الصورة الأولى لاستهلاك ماء الفأرة في الكر، غير تام لعدم انعدام الصورة النوعية المائية بل امتزاجها، وذلك بخلاف الدم الملقى في الكر لو استهلك لانعدام صورة النوعية(1).
الدليل الرابع: التمسك بإطلاق صحيح ابن بزيع: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّا أن يتغيّر»(2)
فيشمل كل مغيّر سواء كان نجساً أو متنجّساً.
هذا، ولكن تماميته متوقّفة على تفسير معنى كلمة «شيء» إذ فيها احتمالات :
الأوّل: كل صالح للتنجيس، ومن المعلوم أنّ المتنجّس الحامل لأوصاف
ص: 78
--------------------------
النجس صالح للتنجيس ولذا ينجّس ملاقيه من اليد وغيرها.
الثاني: شيء من النجاسات والمتنجّسات - ومئاله الى الأوّل - لكنه منصرف عمّا لو غيره بصفات المتنجّس الذاتية(1).
الثالث: شيء من النجاسات(2) وحينئذٍ لا يتمّ الدليل، إلّا أن يقال: إنَّ الملاك
ص: 79
--------------------------
الإضافة للنجاسة، والإضافة موجودة في المقام بالنظر العرفي وإن لم تكن موجودة بالنظر الدّقي، فتأمل.
ولعلّ الأظهر من هذه المعاني هو الثاني، وحينئذٍ يتمّ الاستدلال بمساعدة الفهم العرفي(1).
ثم إنّه عبّر بعض الأعلام بالإطلاقات(2) أو إطلاق الأدلة(3).
إلّا أنّ الظاهر عدم وجود رواية اُخرى تفيد الإطلاق لضعفها سنداً أو دلالة.
منها: قوله (عليه السلام) في صحيحة حريز: «فإذا تغيّر الماء أو تغيّر الطعم فلا توضأ منه ولا تشرب»(4).
فإنَّ إطلاقها يشمل تغيّر الماء الثاني بالأوّل. إلّا أنّ صدر الرواية يقدح في الإطلاق، قال (عليه السلام) : «كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب». فقد يقال بانصرافه إلى صورة وقوع الجيفة في الماء، نعم مع عدم الانصراف تتم الدعوى بالإطلاقات.
ص: 80
--------------------------
ومنها: قوله (عليه السلام) : «خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلّا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه»(1).
و«ما غير» مطلق. إلّا أنّ في سندها إشكال على مامضى(2).
ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة شهاب: «جئت تسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة أتوضأ منه أو لا؟ قال: نعم، قال (عليه السلام) : توضأ من الجانب الآخر إلّا أن يغلب الماء الريح فينتن، وجئت تسأل عن الماء الراكد من الكر ممّا لم يكن فيه تغيّر أو ريح غالبة، قلت: فما التغيّر؟ قال (عليه السلام) : الصفرة»(3) فالصفرة تؤثر في الانفعال بأيّ نحو كانت. إلّا القسم الثاني الحامل لأوصاف النجس وعينه لا الأوّل(4).
الدليل الخامس: الاستدلال بذيل صحيحة ابن بزيع: «فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه» فإنّ المستفاد منه أنّ الماء الباقي يبقى على نجاسته حال النزح إلى أن يذهب الريح ويطيب الطعم بلا فرق بين استهلاك النابع
ص: 81
--------------------------
في الباقي كما في بداية الشروع في النزح، واستهلاك الباقي في النابع كما في أواخره، أو لم يستهلك أحدهما في آخركما في اواسط حال النزح فالتدرج متحقق عادة في الخارج، أو أنّ إطلاق الصحيحة يشمل هذا الفرض، فالماء نجس ما دام التغيّر ويجب النزح، فإن بقيت النجاسة إلى زوال التغيّر في ذي المادة، تبقى في ما نحن فيه بطريق أولى، فالماء الأوّل يؤثر في انفعال الثاني إن غيره.
وممّا ذكر في الاستدلال يظهر النظر فيما ذكره التنقيح سابقاً(1) من طهارة المجموع في الصورة الأولى وهي استهلاك ماء الفأرة في ماء الحوض مع تغيره إياه، لأنّها تشبه المرحلة الثالثة ممّا نحن فيه وهي: استهلاك ماء البئر في الماء النابع مع بقاء التغيّر، وقد حكم الإمام بالنجاسة فيهما(2).
ص: 82
--------------------------
الدليل السادس: إلغاء الخصوصية عرفاً، لعدم الفرق بين أن تغيّر الميتة الماء بنفسها أو بماء حاملٍ لأوصافها. فتأمل(1).
الدليل السابع: رواية البئر والبالوعة فعن أبي الحسن (عليه السلام) : «في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمسة أذرع أقل أو أكثر يتوضأ منها؟ قال (عليه السلام) ليس يكره من قرب ولا بعد، يتوضأ منها ويغتسل ما لم يتغيّر الماء(2)». وهي تشمل ما لو تسرّب ماء الكنيف المتغيّر برائحة الغائط مثلاً.
ولكن في سندها عباد بن سليمان وهو محل إشكال لكونه مجهولاً وإن ذكر البعض طرقاً لتصحيحه(3).
ص: 83
--------------------------
الدليل الثامن: إنَّ الإجتناب عن الماء الثاني من شؤون الإجتناب عن الرجز عرفاً في قوله تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾(1) فتأمل.
واستدل على عدم الانفعال:
أوّلاً: بأنّ المنصرف من الأدلّة والمصرح به في بعضها الآخر أعيان النجاسات.
وأجاب عنه السيد الوالد (رحمه اللّه) : «بأن الانصراف بدوي، والتصريح في بعض الأخبار غاية كونه إثباتاً والمثبتان غير متنافيين»(2).
مع ما سبق من التصريح في ذيل صحيحة ابن بزيع.
ثانياً: بالأصل. وفيه: أنّه أصيل حيث لا دليل.
القسم الثاني: ما إذا كان حاملاً لأوصاف النجس وعينه. وفيه فرضان:
الأوّل: بقاء العين وتأثيرها في تغيّر الماء الثاني.
الثاني: استهلاك عين النجاسة فيما لو كان الماء الثاني حاملاً لعين النجاسة ثم استهلكت في الماء الأوّل .
فمجموع الصور في القسمين ثلاث:
ص: 84
--------------------------
الأولى: ما سبق في القسم الأوّل فيما لو تغيّر الماء الأوّل بعين النجاسة ثم أُخرجت ولكن بقيت أوصافها ثم اُلقي الماء الأوّل في الماء المعتصم، وذلك كماء إناء غيرته الفأرة وبقيت رائحتها بعد أن أُخرجت، ثم اُلقي ماء الإناء في كر.
الثانية: وجود عين النجاسة في الماء الأوّل ، فألقي في ماء معتصم فتغيّر بعين النجس لا بالماء الأوّل المتنجّس، وذلك ككتلةٍ من الدم موجودة في إناء ماءٍ اُلقي في كرٍ فتغيّر بعين الدم، ولا بحث في انفعال الماء الثاني لأنّ النجاسة غيرته.
الثالثة: الماء الأوّل حَملَ عين النجاسة، واستهلكت فيه بحيث لم يبق لها وجود محفوظ في نظر العرف ولكن بقيت أوصافها، ثم اُلقي الماء في ماء معتصم. وذلك كدم اُلقي في إناء ولم يبق له وجود محفوظ بنظر العرف - لا دقّة - ولكن غير لونه، ثم اُلقي ماء الإناء في كرٍ فغيره بوصف الإناء الأوّل - لون الدَّم -.
فمن ذهب إلى انفعال الصورة الأولى ذهب إلى انفعال الثالثة بالأولويّة ولا أقل من المساواة.
ولكن صاحب الجواهر ذهب إلى عدم الانفعال في الصورة الثالثة، قال في عبارة مطولة نذكر بعضاً منها: «والأقوى في نظري أنّه متى حصل التغيّر في الجاري أو الكثير مع استناد التغيّر إلى تلك النجاسة التي تنجس بها المتنجّس، نجس الماء و إلّا فلا، لعدم صدق تغيّره مع ملاقاة عين النجاسة،
ص: 85
--------------------------
إذ ليس المدار على وصف النجاسة، بل لابدّ من مباشرة عينها للماء فلونها المكتسب منها بعد اضمحلال عينها واستهلاكها لا ينجس الماء للاُصول والعمومات، والنبوي لا جابر له(1)».
وفيه نظر، أمّا أوّلاً: فلأنّ لازمه الحكم بالطهارة فيما تغيّر بالمتغيّر بالدم، في الماء المعتصم الواحد. والالتزام به مشكل ولا فارق بين المقامين، وذلك كماء نهر تغيّر جانب منه فإنّه لا يشمله قاعدة «الماء الواحد» فهل يلتزم صاحب الجواهر بطهارة الأطراف البعيدة غير المتلاصقة بعين النجاسة - كالدم - المتغيّرة بأوصافها لاستهلاك عينها في الملاصق لها؟
اللّهم إلّا أن يقال: بالوحدة ومعناها أنَّ الدم وما يلاصقه وما بعد ما يلاصقه كلّه يعتبر ماءً واحداً - مع أنّ الكلام في مائين يلقى احدهما في الآخرفيصفر المجموع مثلاً - وللماء الواحد حكم واحد كما ادّعي عليه الإجماع، وعليه فلا يرد النقض.
وأمّا ثانياً: فلصحيحة شهاب فإنّه يشمل الفرضين «قلت فما التغيّر؟ قال: الصفرة(2)». فما ذهب إليه من الحكم بالطهارة مشكل.
ثم إنّه يبقى التنبيه على ما تفرّد السيد الوالد (رحمه اللّه) بذكره في المقام من أنّه لو تغيّر الماء بالطاهر وكان التغيّر بوصف النجاسة فإنّه ينفعل، وذلك كما لو
ص: 86
--------------------------
استنجى بالأحجار وذهبت عين النجاسة وطهر المحلّ، لكن بقي الأثر والرائحة، ثم جلس في حوض مدة اكتسب الماء رائحة النجاسة، أو بقيت رائحة النجاسة في يده بعد ما غسلها ثم جعلها في الماء واكتسب رائحتها. ومن الثابت انفعال الماء بالريح وعدم انفعال مثل الأجسام الصلبة كيد وضعت على الميتة فاكتسبت رائحتها. قال: «لم يبعد الحكم بالنجاسة لأنّ عدم الإعتناء باللون والريح بالأجسام لا يوجب عدم اعتنائه بالماء». ثم أجاب عن أنّ فاقد النجاسة كيف يكون معطياً؟ ب: «إنّه لابدّ من ذلك في المقام بعد تسليم إطلاق الأدلة»(1).
ولا بأس بما ذكره في التعبّديات والاعتباريات دون العقليات، هذا مضافاً إلى إمكان القول بأنّ النجاسة هي التي غيرته بواسطة اليد لا أنَّ اليد نجّسته ليشكل عليه بأنّ الفاقد لا يعطي. والمسألة لا تخلو عن إشكال. وقد يقال بانصراف الأدلّة عن ذلك(2).
ص: 87
وأن يكون التغيّر حسّياً(1) فالتقديري لا يضر، فلو كان لون الماء أحمر أو أصفر فوقع فيه مقدار من الدّم كان يغيّره لو لم يكن كذلك لم ينجس[1]، وكذا إذا صبّ فيه بول كثير لا لون له بحيث لو كان له لون غيّره، وكذا لو كان جائفاً فوقع فيه ميتة كانت تغيّره لو لم يكن جائفاً(2)[2]،
--------------------------
[1] لا يقال: إنّ الماء اكتسب لون الدَّم ولكن بما لايُرى.
إذ يجاب عنه: بما اجابه الأعلام من أنّ الجسم الواحد لا يحتمل لونين متماثلين فما كان أحمر لا يمكن أن يصبح أحمر مرة اُخرى.
[2] وهنا نخرج بفرض طريف وهو عدم انفعال هذه الموارد.
أ: ماء ألقيت الميتة قربه حتى اكتسب رائحتها ثم ألقيت فيه، وذلك لأنّ الجائف لا يجيف مرة اُخرى، والتغيّر بالمجاورة غير مؤثر على المشهور.
ص: 88
وهكذا ففي هذه الصور ما لم يخرج عن صدق الإطلاق محكوم بالطهارة على الاقوى(1)[1].
--------------------------
ب: أو أن نلقي في الماء لوناً أحمر لا يخرجه عن إطلاقه ثم يضاف إليه الدم فإنّه لا ينفعل.
[1] ما يمكن أن يقال في المقام: إنَّ التغيّر على ثلاثة أنواع: فإنّه قد يكون حسيّاً. وقد يكون واقعياً غير محسوس. وقد يكون تقديرياً.
والثاني: قد يكون واقعياً عرفياً. وقد يكون واقعياً دقّيّاً.
والثالث: إمّا أن يكون تقديراً في جانب المقتضي. وإمّا أنَّ يكون في جانب الشرط. وثالثة: في جانب عدم المانع، فالأقسام ستة.
فينبغي بسط الكلام في الأنواع الثلاثة :
النوع الأوّل : أن يكون التغيّر تغيّراً حسياً، ولا شك في أنّه يوجب الانفعال، سواء كان سبباً لأصل التغيّر أو كان سبباً لزيادة مراتبه، كما لو كان الماء ملوناً بحمرة خفيفة فألقي فيه مقدار من الدم لوّنه بحمرة شديدة، وذلك لصدق عنوان التغيير في الحالتين.
النوع الثاني: أن يكون التغيّر تغيّراً حقيقياً غير حسّي وينبغي تقسيمه إلى قسمين:
الأوّل: أن يكون التغيّر حقيقياً عُرْفيّاً بان يحكم العرف بتغييره، والظاهر
ص: 89
--------------------------
الحكم بالانفعال لإطلاق الدليل في «غَيَّر» ولم يؤخذ في التغيّر الحسية، ولا ملازمة بين كون التغيّر حقيقياً وكونه حسّياً فلو اُلقي في ماء معتصم مقدار من العطر، ثم وقعت فيه ميتة لولا العطر ظهر تغيّر رائحة الماء، كان الماء منتناً ولكن لا نشعر به لغلبة رائحة مضادة، فالعطر مانع من الإحساس بذلك، والتغيّر فيما نحن فيه ليس بتقديري إذ معناه: لولاه لتغيّر، بل حقيقي غير محسوس ومعناه: لولاه لظهر، فهو كما لو وُجد عطر غالب في الهواء يمنع شم نتن الماء، كقوله:
واذا أدنيت منه بصلاً***غلب المسك على ريح البصل
أو نظير ما إذا القى ماء في آنية حمراء ثم اضاف اليه الدم، فإنّه لا يشعر تغيّره بالحمرة، أو جعل على عينيه نظارة حمراء.
الثاني: أن يكون التغيّر حقيقياً دقّياً كمقدار قليل من السكّر اُلقي في ماء كثير، والظاهر الحكم بعدم الانفعال لعدم كونه تغيّراً عند العرف، فإنَّ الحكم في باب الطهارة والنجاسة أو مطلقاً كما عليه السيد الوالد (رحمه اللّه) منوط بالأنظار العرفية.
النوع الثالث: أن يكون تغيّراً تقديرياً وهو المعبّر عنه بكلمة «لو». وهو على ثلاثة أصناف:
الأوّل: التقدير في جانب المقتضي: كبول خفيف الرائحة بحيث لو كان شديدها لغيره.
ص: 90
--------------------------
الثاني: التقدير في جانب الشرط كميتة ملقاة في ماء في الشتاء بحيث لو كان في الصيف لغيرته، فالحرّ شرط للتغيّر.
الثالث: التقدير في عدم المانع كما لو فرض أنَّ البرودة مانعة.
والظاهر: الحكم بعدم الانفعال - فإنّه معلق على حصول التغيّر المفقود حساً وواقعاً - كما نُسب ذلك إلى الأكثر والمشهور والمعظم، وفي الذكرى: «وعن الروض نسبته إلى ظاهر المذهب» هكذا ذكره في الجواهر(1).
هذا، ولكن ذهب العلّامة في القواعد(2)، وتبعه بعض من تأخّر عنه كالمحقق الثاني(3) وغيره(4) إلى كفاية التغيّر التقديري في انفعال الماء، وقد يستدل له بأدلة:
الدليل الأوّل : إنَّ التغيّر المأخوذ في الأدلّة ليس موضوعياً بل هو طريق إلى كمّ خاصٍ من النجس، فيكون ذلك الكم موجباً للانفعال، فلا يدور الحكم مدار فعلية التغيّر.
وفيه نظر أمّا أوّلاً: فلأنّه خلاف ظاهر الأدلة، إذ ظاهرها موضوعية التغيّر
ص: 91
--------------------------
لا طريقيته لأمر هو موضوع الحكم بالانفعال(1)، وقد تقرر في محله أنَّ القضايا
ص: 92
--------------------------
كلّها ظاهرة في الفعلية، وقد فُصّل ذلك في مباحث الاستصحاب حيث ذكروا أنَّ اليقين والشك في أدلّة الاستصحاب ظاهران في الفعليين منهما لا التقديريين، ورتّبوا على ذلك بعض التفريعات الفقهية، قال السيّد الوالد (رحمه اللّه) : «ولذا أشكل على من يقول ببطلان الصلاة بالضحك التقديري الذي يحمر منه الوجه ويرتعش الجسم بأنّه مع كونه ليس ضحكاً عرفاً ولغةً، منقوض بالريح التقديري فكما أنّه ليس بمبطل وإن بلغ ما بلغ من ارتعاش الجسم فكذلك في المقام»(1).
وقال في الجواهر: «لتبادر الحسّي من التغيير، ولصحة السلب عن غيره وعدمها فيه فيكون حقيقة فيه مجازاً في غيره، ولقوله (عليه السلام) في مصحّح شهاب قلت: «فما التغيّر؟ قال الصفرة(2)» وظاهر الصفرة الفعلية لا الصفرة التقديرية». وقال في المهذب: «عدم مساعدة العرف على شمول الأدلّة للتقديري»(3).
ص: 93
--------------------------
وأمّا ثانياً فلما في التنقيح، قال: «انّ جعل التغيّر طريقاً الى كم خاص هو الموضوع للحكم بالانفعال إحالةٌ إلى أمر مجهول إذ لا علم لنا إلى ذلك الحكم»(1). وقد سبقه المستمسك(2)، وسبقهما الجواهر، قال: «التقديري في مسلوب الصفة لا يخلو من إجمال؛ لأنّه إمّا أن يراد صفة نوعه، أو صفته التي كانت فيه، ولكلٍ منهما أحوال مختلفة في الشدة والضعف بالنسبة إلى الأزمنة، فلا يعلم تقدير أيها في المسلوب»(3).
وفيه نظر: إذ قد يقال :إنّ الملاك في ذلك كلّه المتعارف يعني النجس المتعارف في المكان والزمان المتعارفين كما ذكروا مثله في اشبار الكر، ومع اختلاف المتوسط يكفي أقلّها(4).
ص: 94
--------------------------
وأمّا ثالثاً: فلما في المستمسك، قال: «إنّ لازم هذا الكلام عدم نجاسة المتغيّر إذا كان كم النجاسة قليلاً ووصفها شديداً»(1).
ورابعاً: ما في الجواهر، قال: «إنّ اعتبار التقدير في مسلوب الصفة يقتضي اعتباره في فاقدها وفي الواجد الضعيف منها مع أنّ الإجماع على عدمه كما عن المصابيح»(2).
فلو أثّر في مسلوب الصفة وهو ماذهبت رائحة بتصفيق الرياح مثلاً لأثّر في فاقد الصفة كبول لا رائحة فيه أصلاً.
وقد يقال: إنَّ الكلام فيهما واحد ولم يثبت الإجماع.
وخامساً: منه ايضاً، قال: «إنَّ اعتباره - أي التقدير - في النجاسة يقتضي اعتباره في الماء، والظاهر من كلام القائلين بها اختصاصه بها - أي التقدير بالنجاسة - وإن احتمله بعض المتأخرين(3)
تفريعاً على هذا القول»(4).
وسادساً: ما فيه أيضاً، قال: «كل ذا مع ضعف الخلاف فيه بل عدمه، فإن أوّل من نقل عنه العلّامة، وكلامه في القواعد والمنتهى غير صريح فيه»(5).
ص: 95
--------------------------
الدليل الثاني: إنّ عدم التقدير يفضي إلى جواز الاستعمال وإن زادت النجاسة على الماء أضعافاً مضاعفة.
ويرد عليه: حلاً، أنّ في المقام صوراً ثلاثة:
الأولى: أن يستهلك البول مثلاً في الماء عرفاً بحيث يقال: إن هذا ماءٌ، ولا نرى مانعاً من الحكم بالطهارة هنا.
الثانية: أن يستهلك الماء في البول عرفاً بحيث يقال: إن هذا بول، ولامانع من الحكم بالنجاسة هنا.
الثالثة: أن لا يكون هنالك استهلاك من قبل أحدهما للآخر بل يقال: هذا بولٌ وماءٌ مختلطان، ولا مانع من بقاء كلَّ على حكمه السابق.
لا يقال: الماء الواحد لا يحكم عليه بحكمين.
إذ يجاب عنه: بأنّه لو تم فإنما يتمّ مع تحقّق الموضوع والمفروض أنّه ليس ماء بل ماء وبول.
ثم إنّه لو شك في الاستهلاك استصحب بقاء كل منهما على ما كان عليه، فالبول تستصحب بوليته والماء تستصحب مائيته(1).
ص: 96
--------------------------
ونقضاً بما في الجواهر، قال: «ماذا يقول في الفاقد غير المسلوب وفي الواجد الضعيف»(1).
وفيه نظر: إذ قد يقال بأنّ الكل من وادٍ واحد، فإن قلنا بالتقدير في الأوّل ذهبنا به في الآخرين ايضاً. فتأمل.
الدليل الثالث: ما عن فخر المحققين في الايضاح من الاستدلال بعكس النقيض. قال: «لأنّه - أي الماء - كلما لم يصر مقهوراً بالنجاسة لم يتغيّر بها على تقدير المخالفة، وينعكس بعكس النقيض إلى: كلما تغيّر على تقدير المخالفة كان مقهوراً»(2). وتقدير المخالفة يعني لو تخالفا في الأوصاف بان كان الماء ابيض والبول أصفر.
وفيه أوّلاً: ما في الجواهر، قال: «إنا نمنع المقهورية»(3).
وفيه نظر: لأنّ المقهورية ثابتة بعكس النقيض، ولا يمكن منع النتيجة مع التسليم بالمقدمات.
ثانياً: إنّا نمنع مؤثرية المقهورية، إذ لا دليل على ذلك.
إن قلت: إنّ المقصود بالمقهورية المغلوبية كما في الرواية.
قلت: المغلوبية إمّا فعلية أو شأنية، والأولى غير متحققة، وكون الثانية
ص: 97
--------------------------
مؤثرة أوّل الكلام. هذا مضافاً إلى أنّ المقهورية غير المغلوبية فإنّ معناها الهيمنة والسيطرة، بخلاف المغلوبية فإنّ معناها التغيّر، ولا يمكن القول بأنّ المقهورية معناها التغيّر لكونه خلاف المدّعى لعدم تغيّر الماء عند العلّامة.
وحاصل الجواب: التسليم بالمقدمات والنتيجة، ولكن لادليل على قادحية النتيجة في الطهارة.
ثالثاً: منع الأصل. بيانه: إن صحّة عكس النقيض متوقّفة على كلّية الأصل، كما في قولنا كلّما كان الشيء انساناً كان حيواناً. فإنّه ينعكس إلى: كلّما لم يكن حيواناً لم يكن انساناً، وإلّافلا يصح، فإنّ الموجبة الجزئية لا عكس نقيض لها كما ذكره المناطقة، كما في بعض اللا إنسان حيوان فإنّ عكسه أي بعض اللا حيوان إنسان كذب باطل.
وفي المقام: المشهور لا يرون صيرورة الماء مقهوراً مع التغيّر التقديري، فكيف يكون عدم التغيّر التقديري لازماً لعدم صيرورة الماء مقهوراً؟
وبعبارة اُخرى: إنّ كون الأصل بمعنى : «كل مالم يصر مقهوراً لم يتغيّر تقديراً» غير مرضي عند المشهور، إذ قد يتغيّر تقديراً دون أن يكون مقهوراً، ومع بطلان الأصل يبطل عكس النقيض كما هو واضح.
الدليل الرابع: - ما يحتمل كونه مستند فخر المحققين في الدليل السابق- إنّ الوارد في الأخبار ليس مجرد التغيّر، بل علّق الحكم عليه تارة، وعلى الغلبة اُخرى، والغلبة وصف متحقق ثابت في الواقع، والتغيّر علامة وكاشف، وحيث لم يوجد الكاشف يقدّر.
ص: 98
--------------------------
ويؤيده مؤيدان. الأوّل: إنّه لو كان المدار على التغيّر لا الغلبة لم يكن معنى للتقدير في الموافق الذي منع من ظهور التغيير فيه مانع، كما في المياه الكبريتية.
الثاني: لو كان المدار على التغيّر لكان الحكم دائراً مداره وجوداً وعدماً، مع ثبوت النجاسة في صورة زوال التغيير من قبل نفسه.
ويرد عليه اُمور ذكر أكثرها في الجواهر(1) :
أوّلاً: «إنّ المراد بالغلبة كما هو الظاهر من بعضها: الغلبة بالأوصاف، فتتّحد حينئذ مع التغيّر» وذلك كما في: «إذا كان النتن الغالب على الماء»(2) ومعنى الغلبة التغيّر في الرائحة. وكذلك في: «لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول»(3) و: «إن كان الماء قاهراً ولا توجد منه الريح، فتوضأ»(4) والظاهر من القهر التغيّر.
ثانياً: سلّمنا وجود عنوانين بالتغيّر والغلبة وأنّ التغيّر كاشف والغلبة منكشفة، إلّا أنّ ظاهر الغلبة هو الغلبةُ الفعلية لا التقديرية ولم يثبت وجودها في المقام.
ص: 99
--------------------------
وبعبارة اُخرى: إنّ في المقام كاشفاً ومنكشفاً، ولا فعلية للكاشف لأنّه المفروض، ولا طريق إلى إثبات حصول المنكشف مع عدم حصول الكاشف.
ثالثاً: «لو كان المدار على الغلبة كيف يصح تعليق الحكم على التغيّر اللوني وهو وصف مفارق لها وجعلها دائرة مداره».
وقد يجاب عنه: بأنّ التعليق لغلبة التقارن بينهما، كقولنا: «إذا أذّن المؤذن فصلّ» و: «مسيرة يوم للقوافل» مع أنّ الملاك دخول الوقت أو المسافة الشرعية.
إلّا أن يقال: بأن الحمل على الغلبة خلاف الظاهر.
رابعاً: «ينبغي القول حينئذٍ بما إذا كشف عن الغلبة غيرها من الكثرة ونحوها». وفيه: أنّه لا مانع من الالتزام بذلك.
خامساً: «لو كان المدار على الغلبة، لوجب القول بالتقدير في فاقد الصفات وفي الواجد الضعيف، وقد عرفت نقل الإجماع على خلافه».
وفيه: ما ذكرناه من أنّ الكل من واد واحد، ولم يثبت الإجماع.
سادساً: «لم يعلم أنّ المراد الغلبة العرفية أو الشرعية».
وفيه: أنّ الألفاظ تحمل على المعاني العرفية، ويكفي أصالة عدم النقل مع الشك.
سابعاً: «وأيضاً بقرينة الشهرة ونحوها، تحمل الغلبة على إرادة التغيّر».
ص: 100
--------------------------
أقول: و يضاف الى ذلك كلّه أوّلاً: أنّ محلّ النقض يختلف عن المقام لحصول التغيير حقيقة بخلاف المقام، وأمّا الاستمرار فإنّما هو لاستصحاب حكم الشارع، حيث يحتمل كون التغيّر علّة محدثة لا مبقية أو لإطلاق الدليل كما سيأتي.
وثانياً: فهم المشهور من أنّ التغيّر في الروايات هو التغيير الحسي(1).
ثم إنّه لو شك فإنّ مقتضى استصحاب الطهارة بقائها إلى أن يتحقق التغيير بالفعل، قال في الجواهر: «للأصل بل الاُصول» ولعلّ مراده أصالة الطهارة واستصحابها وأصالة عدم التنجس.
بقي الكلام في صغرى مشكلة وفيما لو كان وصف في الماء يمنع عن ظهور أثر النجاسة، سواء كانت الصفة من الصفات العارضية كماء مصبوغ بطاهر أحمر، أو الصفات الأصلية كالمياه الكبريتية - ولم تتسبب النجاسة زيادة حسية في المرتبة، وإلّا كان من التغيّر الحقيقي الحسّي كما سبق - فهل
ص: 101
--------------------------
التغيّر من قبيل التغيّر التحقيقي أو التغيّر التقديري؟
قيل: بأنّ التغيير فيه تحقيقي، غاية ما في الباب أنّه مستور عن الحس، وقد نسب إلى البيان وجامع المقاصد ووافقهما عليه جماعة من الأساطين، بل نسبه الحدائق إلى قطع المتأخرين من دون خلاف ظاهر معروف(1).
وقال في الجواهر: «الحكم بالنجاسة حينئذٍ متجه، كما أفتى به كل من تعرض لهذه المسألة فيما نقل... وعن المصابيح: ... الماء ينجس قطعاً لظهور وصف النجاسة عليه حقيقة، بل قد يقال: إنّه لابدّ أن تؤثر النجاسة فيه اشتداداً فيتحقق التغيّر حساً. والحاصل: الفرق بين المسالتين - أي: المسلوب والموافق - وانتقال الذهن في الثانية إلى التقدير دون الأولى يكاد أن يكون من الواضحات، وكذا كل ما كان من هذا القبيل ممّا منع من ظهور التغيير فيه مانع»(2).
وفي المدارك: «ينبغي القطع بنجاسته لتحقق التغيّر حقيقة، غاية الأمر أنّه مستور عن الحس وقد نبّه على ذلك الشهيد في البيان»(3) وتوقّف في الحدائق في الفرق بين الصورتين. وفي الرياض جزم بعدم الفرق بينهما(4).
ص: 102
--------------------------
ثم إنّه في المقام إيرادات ترد على القول بالنجاسة:
الإيراد الأوّل : امتناع اجتماع المثلين كالضدين، فإذا كان الماء متلوّناً بمثل لون النجاسة كيف يتلوّن بلونها مرة اُخرى؟ ذكره في المتسمسك(1).
ونظيره ظاهراً ما عن الشيخ الأعظم(2) وكذلك في مصباح الفقيه(3).
وأجاب عنه السيد الوالد (رحمه اللّه) بجوابين:
الأوّل ما حاصله: «إنّ امتناع اجتماع المثلين لا يلازم عدم التغيّر رأساً، لإمكان الاشتداد كما هو برهاني ووجداني»(4). ويقرّبه أنّ اشعال شمعة في غرفة مضيئة يسبب زيادة النور فيها.
وفيه: أولاً ما ذكره في دليل العروة، قال: «إنّ الاشتداد إنّما يكون في عارض الجسم الواحد لو فرض طروّ سبب آخرلذلك العارض، فإنّ ذلك العارض يشتد بواسطة ذلك الطارئ، كالحرارة العارضة على النار، وليس ذلك متحققاً في المقام، بل هنالك جسمان معروضان لعارضين متماثلين»(5).
ص: 103
--------------------------
فليس من الاشتداد خلط لبن بلبن وماء بماء بل هو امتزاج وانتقال للذرات.
ولكنه ضعيف: إذ يمكن فرض الاشتداد في الجسمين أيضاً كما هو ملاحظ بالوجدان. مثاله ما لو فرضنا حوضاً ملوناً بحمرة خفيفة ثم ألقينا فيه صبغاً شديد الحمرة، فإنّه لا شك في اشتداد درجة الحمرة في ماء الحوض.
والقول بأنّ ذلك من انتقال ذرات الصبغ إلى الماء وتخلّلها فيه لا من الاشتداد كما ذكره الحلي لا يقدح فيما نحن فيه، إذ ليس كلامنا في الاشتداد الفلسفي، بل العرفي، وهو حاصل قطعاً، والأدلّة تشمل هذه الحالة سواء سمي بالاشتداد أو غيره.
ثانياً: إنّ فرض حصول الاشتداد خروج عن محل الكلام، إذ لاشك في كونه تغييراً وهو يوجب الانفعال بمقتضى إطلاقات أدلّة التغيير(1)، والكلام إنّما هو في فرض عدم حصول الاشتداد ومعه يعود محذور اجتماع المثلين.
إلّا أن يدّعى أنّ كل امتزاج يوجب الاشتداد. وهو محل نظر كما يعرف ذلك من مزج مائين بلونين متساويين في الشدة والضعف، وعلى فرض الكلّية فليس التغيّر تغيّراً عرفياً بل دقّي كما سيأتي. والحاصل: أنّ كلية
ص: 104
--------------------------
الجوب غير واضحة.
الثاني: «مع فرض عدم حصول الاشتداد، إلّا أنّ الدم والماء كما يتفاعلان في خواصهما الذاتية، كذلك يتفاعلان في لونهما فينتقل قسم من لون الماء إلى الدم وينتقل قسم من لون الدم إلى الماء، ويدلّ على هذا سائر الألوان عند الامتزاج فلو خلطنا الأصفر بالأخضر لا يلزم قيام الخضرة جميعها بمحل الأصفر حتى يلزم اجتماع المثلين ولا العكس، بل ينتقل قسم من الخضرة إلى محل الصفرة وقسم من الصفرة إلى محل الخضرة، وإنما يظهر هنا لمخالفة اللونين في الحس دون ما نحن فيه لتوافقهما، وما يقال في انتقال العرض في اللونين نقوله في اللون الواحد.
لا يقال: في اللونين لا يقوم بعض لون أحدهما بمحل الاخر، بل يصير كل ملوّن اجزاءً صغاراً وتختلط الأجزاء.
لأنا نقول: هذا ضروري البطلان لبداهة حصول التفاعل الموجب للامتزاج ولذا ليس السكنجبين عبارة عن أجزاء صغار من السُّكَّر وأجزاء صغار من الخل بل حقيقة ثالثة حاصلة من تفاعلهما»(1).
وحاصله أوّلاً: تداخل الأجزاء وامتزاجها ويحصل التغيّر، فالماء يأخذ لون الدم والعكس.
ثانياً: تولد خاصية جديدة ولون ثالث جديد كالسكنجبين.
ص: 105
--------------------------
وفيه نظر: إذ الظاهر فيما نحن فيه حصول التخلل لا الانفعال والتغيّر، فإنّه لا انفعال في أحمر وأحمر بخلاف أحمر و أخضر، وعلى فرض حصول التغيّر أو الانفعال نقول: إنّ التغيّر حاصل بالدقة العقلية، وأمّا العرف فلا يرى حصوله في الماء، وقد سبق أنّه الملاك.
والحاصل: أنّ العرف يرى بقاء الماء على ماكان عليه من اللون فلم يحصل تغيّر فلم يتحقق انفعال.
الإيراد الثاني: وهو مستخلص من مجموع الإشكالات المتقدمة: أنّ التغيّر لم يحصل عرفاً، فلم يحصل موضوع الحكم بالانفعال فلا وجه للقول بالنجاسة(1).
ص: 106
--------------------------
الإيراد الثالث: وحدة الملاك بين مياه الأنهار والآبار التي تكتسب طعماً عرضياً بمرورها في الأراضي المالحة ونحوها أو بكونها فيها، وحينئذ فإما أن نقول بالتقدير في المانع الصنفي فقط إلّا أنّه خلاف إطلاق الأدلة.
أو نقول بعدم التقدير فلا يتحقق فرق بين الصفة الأصلية والعارضية. إلّا أن يقال: إنّ ارتكاز المتشرعة فارق كما في الفقه(1)، فتأمل.
والمتحصّل: أنّ فرض التقدير فيما كان العارض للماء صنفياً كمياه الآبار فقط خلاف إطلاق الأدلة.
وأمّا فيما لو كان العارض شخصياً كحوض أحمر فالمسألة مشكلة، إذ قد يقال : بوحدة الملاك مع ما لو كان العارض صنفياً. وقد يقال: بوحدة الملاك عرفاً مع الماء غير المعروض لعارض فلو كان حوضان أحدهما بلونه الطبيعي والآخر أحمر وألقي في كلٍّ منها إناء دم فإنّه لا فرق عرفاً بينهما، فإن قيل بانفعال الأوّل قيل به في الثاني(2).
ص: 107
--------------------------
ثم إنّ هنا تفصيلات ثلاثة:
الأوّل: ما عليه المحقق الخونساري من اعتبار التقدير بين الصفات العارضية كما في المصبوغ بطاهر أحمر دون الصفات الأصلية كالمياه الكبريتية فلا يعتبر فيه التقدير(1).
لكن أشكل عليه المستمسك: بأنّه بلا فاصل ظاهرٍ (2). ولكن القدر المتيقّن من كلمات كثير من المتأخرين بعد إجمالها انفعال المتغيّر تقديراً في المانع الشخصي دون الصنفي فالأولى الذهاب الى التفصيل والفارق ارتكاز المتشرعة كما عرفت عن الفقه، إلّا ان يدّعى وحدة الملاك كما سبق. إلّا أن الانصاف عرفية التفصيل. إلّا أنّ الإحتياط لا يترك(3).
ص: 108
--------------------------
الثاني: ما ذهب إليه السبزواري بعد أن حكم بعدم كفاية التقديري مطلقاً. قال: «نعم لو فرض حكم العرف بتحقق التغيّر وأنَّ وجود المانع كالعدم، تحقق الانفعال حينئذ، كما لو اُلقي مقدار كثير من البول في كر في برد قارص، فإنّ العرف يحكم بالتغيّر ويستقذر مثل هذا الماء، ولعلّه إلى ذلك ترجع كلمات القائلين بكفاية التغيّر التقديري مع وجود المانع، فلا نزاع في البين»(1).
وفيه نظر: أمّا التغيّر الفعلي فليس حاصلاً، وأمّا التقديري فكونه مؤثراً أوّل الكلام. وأمّا الاستقذار العرفي فليس ملاكاً للنجاسة الشرعية.
نعم، يمكن أن يقال في بعض المقامات: أنّ العرف يرى شمول أدلّة التغيّر لها بمناسبات الحكم والموضوع، وإن كان لفظ التغيّر بنفسه لا يشملها، أو يقال بوحدة الملاك، وعلى كل ففي مثاله إشكال، وأمّا الصلح فتأباه ظاهراً كلمات الطرفين.
والحاصل: أنّ العرف لا يرى أنّه متغيّر، فالمناقشة صغروية.
الثالث: تفصيل ذكره في الفقه، قال ما حاصله: «وصف الماء قد يكون
ص: 109
--------------------------
نوعياً كالمياه المتعارفة، وقد يكون صنفياً كالمياه الكبريتية، وقد يكون شخصياً كماء اُلقي فيه مقدار لون أحمر، وعلى كل تقدير فالنجاسة قد تكون بلا صفة، وقد تكون بصفة موافقة لصفة الماء، وقد تكون مع صفة مخالفة، فيتحصّل من ضرب الثلاثة في ثلاثة تسعة صور.
الأولى: الماء بوصفه النوعي والنجاسة بلا صفة، والحكم فيها عدم النجاسة وعدم الانفعال لعدم تغيّر الثلاثة وجداناً، إلّا إذا صيرهُ مضافاً بشرائطه.
الثانية: الماء بوصفه النوعي وتوافقه صفة النجاسة فلا تؤثر فيه، وهذه كسابقتها في عدم الانفعال وذلك كماء بحر مالح يراق فيه عرق المجنب من الحرام على القول بنجاسته. والظاهر تماميته لما ذكرناه في ماء البئر حيث ذهبت الروايات بعدم انفعال مائها مع كثرة الآبار المالحة، فإنّ إطلاق لا ينفعل يشمل حتى لو كان ماء البئر مالحاً، وفي الإضافة يأتي ما سبق، وكذا في المسائل اللاحقة لو تحوّل إلى مضاف.
الثالثة: أن يكون الماء بوصفه النوعي والنجاسة بصفة مخالفة، فإن تغيّر تنجّس، وإن لم يتغيّر لم يتنجّس، سواء كان عدم التغيّر لضعف المقتضي، أو لوجود المانع الخارجي كالبرد المانع من انفعال الماء بالرائحة(1).
ص: 110
--------------------------
الرابعة: أن يكون الماء بوصفه الصنفي - كالمياه الكبريتية - والنجاسة بلا وصف أصلاً، وقد حكم هنا بعدم النجاسة أصلاً. وهو تامٌ لأنّه لم يتغيّر.
الخامسة: أن يكون الماء بوصفه الصنفي والنجاسة بصفة موافقة له، وقد حكم بالنجاسة، قال: «ولا ينبغي الإرتياب بالنجاسة بهذا النحو من التغيير وإن لم يظهر للحس، لأنّ أدلّة التغيّر تشمله بمناسبة الحكم والموضوع، أو لأنّ ملاك المتغيّر فيه.
ولكن فيه نظر: لما ذكرناه في مياه الآبار.
السادسة: أن يكون الماء بوصفه الصنفي والنجاسة بصفة مخالفة والحكم الانفعال لو تغيّر.
السابعة: أن يكون الماء بوصفه الشخصي - أحمر بعارض أو بقي مدة فاخضرّ - ولم تكن للنجاسة صفة أصلاً، والحكم فيها عدم تنجس الماء لعدم حصول التغيير لعدم الاقتضاءِ أو ضعفه هذا بشرط عدم الإضافة.
الثامنة: أن يكون الماء بوصفه الشخصي - أحمر - والنجاسة بصفة مماثلة - دم - بحيث لا يظهر أثرها بعد الإلقاء، والحكم النجاسة كما في الصورة الخامسة.
ص: 111
--------------------------
أقول: نعم لا يبعد التفريق كما مضى بين الوصف الشخصي فينجس على الأحوط والصنفي فلا نجاسة.
التاسعة: أن يكون الماء بوصفه الشخصي - أصفر - والنجاسة بصفة مخالفة - دم - فإن ظهر أثرها ولو بما لا يحس تقديراً تنجس الماء، وإلّالم ينجس(1).
والحاصل: أنّه (رحمه اللّه) حكم بالنجاسة في الصنفي والشخصي، وقد احتملنا الطهارة في الصنفي.
ثم إنّ هناك فرضاً جديداً ذكره السيد الوالد في الفقه ولم نر من تعرض له غيره وهو ما لو كانت للنجاسة جهة أوجبت انعدام لون الماء الصنفي بحيث ألحقه بلونه النوعي، أو أوجب تقليل لونه الصنفي، فهل يوجب ذلك نجاسة الماء ؟
احتمالان: من حصول التغيّر حساً والحكم دائر مداره فيحكم بالانفعال.
ومن أنّ المستفاد من المنجّس هو المحدث لوصف لا المزيل له، وعليه فلا يحكم بالانفعال لأنّ النجاسة لم تحدث لوناً وإنّما أوجبت ذهاب لون.
ولقد قوّى الاحتمال الثاني(2) وقال: «والذي يبدو أن أدلّة التغيير وإن شملت الإذهاب إلّا أنّها منصرفة عنه» وحُكم الطعم والرائحة حكم اللون،
ص: 112
--------------------------
والمقصود بالانصراف: تحول وجهة اللفظ عن الإعدام إلى الايجاد، فيكون معنى المغيّر: الموجد لوصف لا المعدم له(1).
الأوّل : لو شك في حصول التغيّر المعتبر في الحكم بالنجاسة جرى استصحاب عدم التغيّر، وهو أصل موضوعي. وأمّا جريان استصحاب الطهارة فمبني على الخلاف في جريان الاُصول المسببية في عرض الاُصول السببية إذا كانا متوافقين في النتيجة.
الثاني: لو شك في حصول الإضافة بالنجس في صورة عدم التغيّر، جرى استصحاب الإطلاق، وأمّا جريان الاُصول الحكمية فيعلم الحال فيها ممّا تقدم.
الثالث: لو شك في استهلاك البول الكثير الفاقد للأوصاف والملقى في
ص: 113
--------------------------
الماء المعتصم، جرى استصحاب بقاء بوليته(1)، فلا يمكن التطهير بالماء المختلط معه إذا لم يحرز كونه تطهيراً بالماء، وذلك لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، وقد اشتغلت الذمة بالتطهير بالماء ولم يعلم تحقّق التطهير به.
ويجري في المقام أيضاً استصحاب الحدث أو الخبث على الخلاف في أنّ المقام مجرى قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب أو كليهما.
بل يمكن أن يقال: إنّه يجري استصحاب عدم المائية بالعدم الأزلي - بناء على حجيته -.
لا يقال: إنّه معارض باستصحاب عدم البولية بالعدم الأزلي.
لإنّه يقال: الأثر - وهو حصول التطهير - متوقّف على المائية، فلا أثر للثاني.
الرابع: لو علم باستهلاك أحدهما - البول في الماء أو العكس - قال في الفقه: «لم يجر الاستصحابان لمعارضتهما للعلم الإجمالي بعدم بقاء أحدهما»(2). وهذا مبنيٌ على كون العلم الإجمالي بذاته مانع عن جريان الاُصول المتعارضة، وأمّا لو قيل بأنّ المانع هو المخالفة العملية القطعية، فلا
ص: 114
--------------------------
مانع من جريان الاستصحابين إذ لا يؤدي جريانهما إلى المخالفة العملية القطعية.
الخامس: ماذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) قال: «إنا لو قلنا بمقالة الشيخ في باب المضاف من تحديده بأكثرية المضاف، أو بمقالة القاضي من تحديده بالتساوي، كان الماء الواقع فيه النجس بمقداره أو أكثر منه محكوماً بحكم المضاف، وقول القاضي ليس بعيداً خصوصا في مسالتنا هذه لبعض الروايات في باب الاستنجاء، فعن الأحول قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي استنجى به؟ فقال لا بأس، فسكت. فقال: أو تدري لم صار لا بأس به؟ قال: قلت لا واللّه، فقال: إنّ الماء أكثر من القذر»(1).
فإنّ الظاهر من التعليل أنَّ الماء لو كان أقل أو مساوياً كان فيه البأس وإطلاقه يشمل صورة عدم التغيّر»(2).
فالملاك عنده : المساواة. وحاصله: أنّ للإنفعال سببين: التغيّر أو المساواة بين الماء والبول مثلاً.
ولنا ما على ما ذكره (رحمه اللّه) تعليقات:
الأولى: إنّ هذه الرواية لا ترتبط بالإضافة والإطلاق وإنما ترتبط بالطهارة والنجاسة لكون الأوّلين أمرين عرفيين لا يرتبطان بالمساواة والأقل
ص: 115
--------------------------
والأكثر، اللّهم إلّا أن يوجه «في باب المضاف» يعني بحكم المضاف من حيث الانفعال.
الثانية: ضعف سند الرواية، فقد ذكرها الصدوق في العلل عن أبيه عن سعد بن عبد اللّه عن محمّد بن الحسين عن محمّد بن اسماعيل بن بزيع عن يونس بن عبد الرحمن عن رجل عن العيزار - وفي المصدر عن العنزى - عن الأحول (1).
والإشكال أوّلاً: ارسالها. وفيه: أنّ المجهول شيخ ليونس، وهو لا يروي إلّا عن ثقة. إلّا أنّ المبنى محل إشكال.
ثانياً: مجهولية العيزار والعنزى، ولوسلم توثيق مشايخ يونس فإنّ المتيقّن توثيق مشايخه المباشرين فقط.
ولكن يمكن التعويض عنها بصحيحة هشام ولها نفس المضامين: «إنّه سأل أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن السطح يبال عليه فتصيبه السماء(2) فيكف(3) فيصيب الثوب؟ فقال (عليه السلام) لا بأس به، ما أصابه من الماء أكثر منه»(4).
ص: 116
ففي هذه الصور[1]، ما لم يخرج عن صدق الإطلاق محكوم بالطهارة على الاقوى[2].
--------------------------
دلّت على عدم انفعال ما لو كان الماء أكثر من البول، وانفعال ما لو تساويا أو انعكس الأمر، ويعم غير المطر بعد التمسك بعموم التعليل فيها، أو بالأولويّة فإن انفعل المطر شديد الاعتصام لانفعل غيره بطريق أولى.
الثالثة: الإعراض عن التعليل بالأكثرية فإنّهم لم يجعلوا الأكثرية أو المساواة من المنجسات(1).
نعم: إن لم يثبت الإعراض يتمّ ما ذكره في الفقه، فتأمل.
[1] أي: التغيّر التقديري.
[2] ينبغي التفصيل في القيد الذي ذكره «ما لم يخرج عن صدق الإطلاق»، فإن فيه صوراً أربعة:
الأولى: بقي مطلقاً. والحكم الطهارة على مبنى المصنّف القائل بأنّ التغيّر التقديري لا يؤثر في الانفعال.
الثانية: خرج عن الإطلاق ثم استهلك النجس. والحكم النجاسة لصدق ملاقات المضاف للنجس.
الثالثة: استهلك النجس ثم خرج عن الإطلاق. والحكم الطهارة. ومنه يعلم
ص: 117
10 مسألة: لو تغيّر الماء بما عدى الأوصاف المذكورة من أوصاف النجاسة مثل الحرارة والبرودة والرقة والغلظة والخفة والثقل، لم ينجس ما لم يصر مضافاً(1)[1].
--------------------------
أن إطلاق المتن محل نظر لأنّ: «ما لم يخرج عن الإطلاق» مطلق ويشمل الصورتين، بينما يجب الحكم في احداهما بالطهارة وفي الاُخرى بالنجاسة.
الرابعة: لو تحققا معاً - أي الاستهلاك والخروج - فلا يترك الإحتياط لما سبق في المسألة السابعة - فراجع.
[1] في التغيّر بما عدى الأوصاف الثلاثة - كما لو وقع بول حارٌ في ماءٍ معتصم فأوجد فيه الحرارة - قولان:
الأوّل: الانفعال، وقد نسب إلى صاحب المدارك(2) وقد استدل بإطلاقات أدلّة التغيّر.
وفيه نظر من وجوه ثلاثة:
الوجه الأوّل : التشكيك في وجود إطلاق معتبر، فإنّ ما وجدناه من
ص: 118
--------------------------
المطلقات روايات أربع:
الأولى: قال (عليه السلام) : «إن تغيّر الماء فلا تتوضأ منه»(1) و«تغيّر» مطلق يشمل كل نوع من أنواع التغيّر. إلّا أنَّ الإشكال في سندها لمكان ياسين الضرير المجهول.
الثانية: صحيحة ابن بزيع: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّا أن يتغيّر»(2) والاستدلال بها يظهر ممّا سبق. إلّا أنّ الظاهر اتّحادها مع رواية اُخرى مقيّدة ستأتي.
الثالثة: مرسلة الفقيه عن الرضا (عليه السلام) : «يغتسل منها - اي البئر - ويتوضأ ما لم يتغيّر الماء»(3).
الرابعة: ما عن أبي الحسن (عليه السلام) : «يتوضأ منها - أي البئر - ويغتسل ما لم يتغيّر الماء»(4).
وهي ضعيفة لوجود عباد بن سليمان في سندها، وإن صحّحه الابطحي لنقل مجموعة من الأكابر عنه.
الوجه الثاني: سلّمنا الإطلاق إلّا أنّه منصرف إلى التغيّر بالأوصاف الثلاثة.
وقد يوجّه الانصراف بأنّ الظاهر من دليل التغيّر بالنجاسة: كون النجاسة
ص: 119
--------------------------
مغيّرة بما هي نجاسة و بما هي مستقذرة لمناسبة الحكم والموضوع، فيختص الانفعال بالتغيّر بالأوصاف اللازمة لعين النجس دون المكتسبة كالحرارة والبرودة، فإنّها عوارض مفارقة وليست دخيلة في النجاسة، فإن الثقل والخفة في البول غير دخيلتين في الاستقذار العرفي(1).
نعم قد يقال بأنّ الانصراف بدوي لا اعتبار به.
الوجه الثالث: سلّمنا، إلّا أن الإطلاقات مقيّدة بالأخبار الدالة على عدم انفعال الماء بغير التغيّر بالأوصاف الثلاثة، منها قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلّا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه»(2).
ومنها: صحيحة ابن بزيع: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّا أن يتغيّر ريحه
ص: 120
--------------------------
أو طعمه»(1)، الدالة لمكان الحصر على عدم تأثير باقي أنواع التغيّر، وإنما اُلحق اللون لدلالة بعض الأخبار الاُخرى(2).
ومنها: صحيح القماط: «وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب وتوضأ»(3).
هذا، ولكن اورد في دليل العروة الوثقى على تقييد الإطلاقات بقوله: «الحصر المذكور اضافي أي بالإضافة إلى أصل التغيّر، أي أن نفس التغيّر يوجب التنجس دون غيره، أمّا الأوصاف الثلاثة فهي من قبيل المثال أو من قبيل الغالب وإنما لم يتعرض لغيرها لندرته وقلة الابتلاء به، وهذا الاحتمال ليس بعيداً لولا الإجماع»(4).
أقول: الحمل على المثال أو الغلبة خلاف الظاهر، بل الظاهر موضوعية الأوصاف الثلاثة.
القول الثاني: عدم الانفعال في غير الأوصاف الثلاثة.
ويدلّ عليه أوّلاً: الأخبار الحاصرة كصحيحي ابن بزيع والقماط الماضيتين.
وثانياً: الإجماع المنقول المحكي عن غير واحد كما في المستمسك(5).
ص: 121
--------------------------
وفي المهذب(1) دعوى الإجماع عن جمع. وفي الفقه: «الإجماع المستفيض حكايته ولم ينقل الخلاف في هذه المسألة إلّا عن صاحب المدارك»(2).
وثالثاً: ما في التنقيح، قال: «إنّه لم يذكر في روايات الباب سائر الأوصاف»(3). وقال في المباني: «لعدم الدليل، فإنّ الدليل مختص بالثلاثة المذكورة ومقتضى الأصل الطهارة»(4).
ولكنه محل نظر: لأنّ إطلاقات أدلّة التغيّر كافية ولا يحتاج إلى ذكر سائر الأوصاف بالخصوص، وأمّا الأصل فهو أصيل حيث لا دليل.
هذا، ولكن مضى التشكيك في وجود إطلاق معتبر فيتمّ ما ذكراه.
ثم إنّ قول المصنّف: «ما لم يصيّره مضافاً» تعليق على التفصيل المذكور في المسألة السابقة فإنّ الإضافة قد تحصل قبل الاستهلاك أو معه أو بعده، فيجري فيه ما تقدم.
تفريع ذكره في الفقه، قال: «إنّ الماء كما لا ينجس بالتغيّر بالأوصاف المذكورة في المتن كذلك لا ينجس بتغيير الخاصية، فلو صبّ في الكر مقدار
ص: 122
--------------------------
من الخمر ولم يتغيّر أحد الأوصاف الثلاثة ولكن كان بحيث يؤثر على المعدة والأعصاب بعض التأثير لم نحكم بالنجاسة»(1).
نعم، استثنى في الفقه ما لو اوجد السُّكر؛ فإنّه يكون حراماً ونجساً وذلك لشمول أدلّة المسكر له، لا للتغيّر.
أقول: ويلحق بذلك أيضاً ما لو كان الماء مضراً ضرراً فاحشاً أو مطلقاً على الخلاف، أو ترتب عليه عنوان ثانوي فإنّه يحرم(2).
ص: 123
11 مسألة: لا يعتبر في تنجيسه أن يكون التغيّر بوصف النجس بعينه، فلو حدث فيه لون أو طعم أو ريح غير ما بالنجس كما لو أصفر الماء مثلاً بوقوع الدم تنجس، وكذا لو حدث فيه بوقوع البول أو العذرة رائحة اُخرى غير رائحتهما، فالمناط تغيّر أحد الأوصاف المذكورة بسبب النجاسة وإن كان من غير سنخ وصف النجس(1)[1].
--------------------------
[1] التغيير على خمسة أقسام:
الأوّل: التغيير بمثل وصف النجاسة قبل الإلقاء.
الثاني: التغيير بسنخ وصف النجاسة قبل الإلقاء.
الثالث: التغيير بمثل وصف النجاسة بعد الإلقاء.
الرابع: التغيير بسنخ وصف النجاسة بعد الإلقاء.
الخامس: التغيير بوصف أجنبي.
مثلاً: قد يتغيّر الماء بالخضرة التي هي صفة الحناء قبل الإلقاء في الماء،
ص: 124
--------------------------
وقد يتغيّر بمرتبة نازلة من الخضرة، وقد يتغيّر بالحمرة التي هي وصف الحناء بعد الإلقاء في الماء، وقد يتغيّر بمرتبة نازلة من الحمرة، وقد يتغيّر بالسواد الذي ليس بمثل وصف الحناء ولا سنخه لا قبل الإلقاء ولا بعده، وقد قيل بأن الزاج(1) وصفه البياض، فإذا لاقى الماء الذي فيه شيء من الدباغ صار وصفه السواد، وهذه التغييرات وأمثالها مذكورة في علم الكيمياء.
أما الأوّل : فلا كلام فيه من حيث النجاسة، فلو أحمر الماء بلون الدم فإنّه ينفعل.
وأمّا الثاني: فالظاهر أنّه لا ينبغي الإرتياب في نجاسة الماء بذلك فإنّ النجاسة عندما تنتشر في الماء تقلّ كثافة وصفها، ويبعد القول باختصاص الانفعال بالقسم الأوّل ، ولا يُضنّ كونه محل الخلاف والنقض والإبرام بين الفقهاء.
ومن ذلك يظهر التأمل فيما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) فإنّه استدل على ما في العروة بقوله: «مضافاً إلى أنَّ التغيّر بنفس وصف النجس في غاية القلة، فإنّ الدَّم الواقع في الماء لا يوجب تلوّن الماء بمثل حمرته» (2) فما ذكره وإن كان تاماً في نفسه إلّا أنّه ليس رداً على صاحب الجواهر، فإنّه من المستبعد أن يذهب إلى الطهارة في القسم الثاني، فقوله في الجواهر: «وهل يشترط في التغيّر أن يكون إلى لون النجاسة وطعمها ورائحتها، أو يكفي التغيّر بها
ص: 125
--------------------------
ولو إلى غير وصفها؟... ولعلّ الأوّل هو الأقوى استصحاباً للطهارة مع الإقتصار على القدر المتيقّن»(1) لا يدلّ على إرادته طهارة القسم الثاني وهو ما لو تغيّر بمرتبة نازلة، فإنّه ليس محل الخلاف نفياً وإثباتاً بل كلامه في القسم الخامس.
وكيف كان، يبقى الكلام في الصور الثلاث الأخيرة، والذي يبدو في بادئ النظر أنّ الملاك في الانفعال فيها صحّة إضافة التغيّر إلى النجاسة عرفاً، فإن صَدَق التغيّر بالنجاسة انفعل وإلّافلا، ويدلّ عليه النبوي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إلّا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته»(2) على كلام في السند، وصحيح ابن بزيع: «الا أن يتغيّر»، و غيرهما.
لا يقال: إنّ الإطلاقات منصرفة إلى التغيّر بمثل وصف النجس أو سنخه قبل الإلقاء. إذ يجاب عنه: بكونه بدوياً.
ومن ذلك يظهر قوة ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في تفريع يرتبط بالمقام قال: «لو غيره النجس بوصف الطاهر كما لو كان للنجاسة ريح بعض المأكولات لبعض العوارض لم يبعد القول بعدم النجاسة»(3).
وقال قبله ايضاً: «أما لو فرض أنّ العذرة كانت ذات ريح غير متعارفة، كما
ص: 126
--------------------------
لو اكتسبت ريح بعض المأكولات كما هو الغالب في مطلقي المزاج(1)، ثم تغيّر الماء بذلك الريح حتى يقال في العرف إنّ ريح الماء ريحُ ذلك المأكول، لم يبعد القول بعدم التنجس لأنّ التغيّر لا ينسب إلى النجاسة»(2).
ولعلّ الظاهر صدق الإضافة العرفية في غالب الصور الثلاثة.
ثم إنّه قيّد في المهذّب النجاسة بما إذا كان تغيير وصفه بعد الخلط بالماء متعارفاً(3).
وفيه نظر: إذ المطلق يشمل الأفراد غير المتعارفة أيضاً(4).
نعم، ناقش في المستمسك شمول الإطلاق للتغيّر بالأجنبي: «بأنّ الإرتكاز العرفي يساعد على اعتبار ظهور وصف النجاسة في الماء لاختصاص الاستقذار العرفي بذلك، وطروّ وصف أجنبي لا يوجب النفرة»(5).
وفيه نظر من جهتين:
الأولى: إنّ عدم الاستقذار العرفي في التغيّر بالوصف الأجنبي لا كلية له، كما يظهر ذلك من فرض موت وزغة صفراء في ماء فاخضر لونه بذلك.
ص: 127
--------------------------
الثانية: إنّ بين الاستقذار العرفي والشرعي عموماً من وجه، والاستقذار العرفي ليس ملاكاً للنجاسة لا نفياً ولا إثباتاً، فقد يكون الشيء مستقذراً عرفاً وليس نجساً كالماء الذي مات فيه الخنفساء، وقد يكون الشيء مستقذرا شرعاً وليس مستقذراً عرفاً كالماء القليل الذي لاقته يد الكافر، وصرف عدم الاستقذار العرفي لا يوجب الانصراف مع صدق إضافة التغيّر إلى النجاسة عرفاً.
ثم إنّه يؤيد ما ذكرناه من الإطلاق أو يدلّ عليه اُمور:
الأوّل: ما ذكره الفقيه الهمداني بقوله: «لو كان المدار على ظهور وصف النجاسة في الماء للزم الحكم بالطهارة... إلّا بعد العلم بمماثلة صفة الماء والنجس، وهو غير حاصل غالبا في ما كان التغيير فيه بالخاصية - أي الطعم أو اللون مقابل تفتّت الاجزاء - لجواز تخلّفها في الكيفية، فيرجع على تقدير الشك كما هو الغالب في الطعم إلى قاعدة الطهارة مع أنّه لا يكاد يرتاب أحد في مخالفته لما اُريد من الأخبار فضلاً عن ظاهرها»(1).
فبما أنّه لا يعرف طعم العذرة مثلاً لو وقعت في الماء وشك في أنّ الطعم طعمها لزم الحكم بالطهارة وهو خلاف ظاهر الأخبار.
الثاني: ترك الاستفصال في روايات النجاسات.
ص: 128
--------------------------
الثالث: قوله (عليه السلام) في صحيحة شهاب: «قلت فما التغيّر؟ قال (عليه السلام) الصفرة»(1) ولم يقل (عليه السلام) الصفرة المجانسة للون النجاسة(2).
القول الثاني: عدم الانفعال مطلقاً كما مال إليه في الجواهر، أو في بعض الصور كما مال إليه في المستمسك.
ويدلّ عليه أوّلاً: تبادر المسانخة والمماثلة كما في الجواهر(3).
وفيه نظر: إذ لا يلتفت الذهن إلى اتّحاد الوصفين، وعلى فرضه فهو بدوي منشأه غلبة الوجود.
وثانياً: ما فيه أيضاً من الإقتصار على القدر المتيقّن(4).
وفيه: أنّ الإطلاق أو أصالة الإطلاق(5) لا تدع مجالاً للأخذ بالقدر المتيقّن، كما في سائر المطلقات.
ص: 129
--------------------------
وثالثاً: ما فيه أيضاً من استصحاب الطهارة(1).
وفيه: أنّ الأصل أصيل حيث لا دليل.
ورابعاً: ما في المستمسك، قال: ظهور جملة من النصوص في ذلك - أي في الاتحاد - منها صحيح شهاب: «قلت فما التغيّر؟ قال الصفرة»(2).
وفي موثق سماعة: «إذا كان النتن الغالب على الماء فلا يتوضأ ولا يشرب»(3).
وخبر العلاء: «عن الحياض يبال فيها؟ قال (عليه السلام) : لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول»(4).
وصحيح ابن بزيع: «حتى يذهب الريح ويطيب طعمه»(5).
واللام في الصفرة للعهد على رأيه أي صفرة النجاسة في الرواية الأولى، وسيأتي الإشكال عليه.
وكذلك الأمر في النتن في الثانية. إلّا أنّ التأمل في سندها لمكان الحسن بن الحسين بن ابان(6).
وأمّا الرواية الثالثة: فلها مفهوم الشرط. إلّا أنّ في سندها محمّد بن سنان
ص: 130
--------------------------
وقد تعارض فيه التوثيق والتضعيف(1).
واللام في الريح للعهد أيضاً في الرواية الرابعة.
ولكن فيه: ما في صحيح شهاب من أنّ الأصل في اللام أن تكون للجنس أو للتحلية - على قول صاحب الكفاية - وكونها للعهد بعيد(2).
ص: 131
--------------------------
هذا مضافاً إلى ما شرطناه في الانفعال من صحّة إضافة التغيّر إلى النجاسة فحتى لو كانت اللام للعهد يصدق الريح وما أشبه ذلك، فتأمل(1).
ثم إنّه لو حصل للماء لون باجتماع نجاسات متعددة لا يطابق لون أحدها فقد مال في الجواهر إلى الطهارة. وهو بعيد جداً ويأباه ارتكاز المتشرعة.
تفريع. قال في المهذب: «لو تغيّر الماء بغير وصف النجس وشك في انتسابه إلى النجاسة فمقتضى الأصل الطهارة»(2).
أقول: والمراد أصالة الطهارة أو استصحابها، ويحتمل على بعد أن يكون مراده الأصل الموضوعي كأصالة عدم استناد التغيير للنجاسة. إلّا أنّه عدم أزلي.
ص: 132
12 مسألة: لا فرق بين زوال الوصف الأصلي للماء أو العارضي فلو كان أحمر أو أسود لعارض فوقع فيه البول حتى صار أبيض تنجّس، وكذا إذا زال طعمه العرضي أو ريحه العرضي(1)[1].
--------------------------
[1] في المسألة قولان.
الأوّل: الانفعال، وذلك لإطلاق الأخبار المقتضية نجاسة الماء المتغيّر في شيء من أوصافه الثلاثة، بلا فرق بين كونها أصلية(2) أو عرضية، فإطلاق صحيحة ابن بزيع: «إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه»(3) يشمل جميع الآبار مع ما هي عليه من الإختلاف في الحلاوة والمرارة والملوحة، وهذه الأوصاف وان كانت خارجة عن ذات الماء وعارضة عليها إلّا أنّ مقتضى الإطلاق الانفعال بالتغيّر في شيء من الأوصاف.
الثاني: عدم الانفعال، وذلك لانصراف الأدلّة إلى صورة حدوث التغيّر في أوصاف الماء بما هو ماءٌ.
ص: 133
--------------------------
ويجري فيما نحن فيه ماذكره المستمسك(1)
في المسألة السابقة من الإرتكاز العرفي وظهور النصوص، فراجع.
هذا، ولكن ينبغي التفصيل في المقام بين ما لو كان الوصف الحال وجودياً ينسب إلى النجس عرفاً، فإنّه يحكم على الماء بالنجاسة، وبين ما إذا كان مجرد إعدام للوصف الموجود، بحيث عاد الماء الى وصفه الأصلي فلا يحكم عليه بالنجاسة، وذلك لانصراف الأدلّة عن العدمي.
وبعبارة اُخرى: إنّ المستفاد من الأدلّة كون المنجس هو النجاسة المحدثة لوصفٍ لا الذاهبة به(2).
وبعبارة ثالثة: المستفاد غلبة النجاسة بما هي قذارة على الماء لا مثل الفرض الذي لا توجد فيه هذه الغلبة وإن كان التغيّر حاصلاً حسّاً.
قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «لو كان النجس موجباً لزوال الوصف العرضي بحيث رجع الماء إلى وصفه النوعي كما لو صُبَّ في الماء المخلوط بالطين
ص: 134
--------------------------
نجس أوجب اجتماع الطين في التحت حتى ظهر الماء الزلال، لم ينجس الماء قطعاً لعدم صدق الغلبة ونحوها، بل لعدم صدق التغيّر، ويدلّ عليه: أنّه لو بيّض أحد وجهه باللبن ثم أزاله لم يصدق عليه عرفاً أنّه لوَّن وجهه، فإنّ الظاهر من التغيير إحداث لون لا إذهاب لونٍ كما تقدم، كما أنّه لو وقع في الماء شيء أوجب ذهاب طعمه فأزال النجس ذلك العارض حتى ظهر طعم الماء لم يصدق أنّه غيّر طعمه خصوصاً بملاحظة قوله (عليه السلام) : «حتى يذهب الريح ويطيب الطعم»(1).
وخلاصته: أنَّ المستظهر في الماء وجود الفرق بين أثر النجاسة الوجودي أي إيجادها بحيث يضاف إلى الماء، أو الأثر العدمي، فالأوّل يؤثر في الانفعال دون الثاني لانصراف الأدلّة عنه(2).
ثم إنّه لو شك في مورد بين كونه من النحو الأوّل أو الثاني كان المرجع أصالة الطهارة أو استصحابها أو كلاهما معاً أو الأصل الموضوعي على ما سبق.
ص: 135
13 مسألة: لو تغيّر طرف من الحوض مثلاً تنجّس، فإذا كان الباقي أقل من الكر، تنجّس الجميع، وإن كان بقدر الكر بقي على الطهارة، وإذا زال تغيُّرُ ذلك البعض طهر ولو لم يحصل الامتزاج على الاقوى[1].
--------------------------
[1] ذكر المصنّف (رحمه اللّه) شقوقاً ثلاثة:
الأوّل: إن كان غير المتغيّر أقل من الكر تنجس الجميع.
أمّا نجاسة المتغيّر فلما سبق من أنّ التغيّر في أحد الأوصاف الثلاثة سببٌ لنجاسة الماء، وأمّا غير المتغيّر فلما سوف يأتي إن شاء اللّه من أنّ ملاقاة الماء القليل للنجس أو المتنجّس توجب الانفعال.
الثاني: إن كان غير المتغيّر بقدر الكر بقى على طهارته. والدليل عليه:
أوّلاً: الأدلّة العامّة الدالة على اعتصام الكر كقوله (عليه السلام) : «إذا كان الماء قدر كُرٍّ لم ينجسه شيء»(1)، والمفروض أنّ الباقي كرٌ فلا ينفعل.
ثانياً: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) : من الأدلّة الخاصة الواردة في المقام.
منها: موثقة سماعة المروية في الوسائل عن محمّد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد عن عثمان بن عيسى عن سماعة قال: «سالته عن الرجل يمرّ بالميتة في الماء؟ قال: يتوضأ من الناحية التي ليس فيها الميتة»(2).
ص: 136
--------------------------
اللّهم إلّا أن يشكل بالإضمار.
ومنها: ما عن محمّد بن علي بن الحسين قال: «سُئل الصادق (عليه السلام) عن الماء الساكن تكون فيه الجيفة؟ قال يتوضأ من الجانب الآخر ولا يتوضأ من جانب الجيفة»(1).
وفيه: عدم اعتبار النوع الثاني من مراسيل الصدوق.
ومنها: صحيحة شهاب السابقة قال: «جئت تسأليني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة أتوضأ منه أو لا؟ قال: نعم، قال: توضأ من الجانب الآخر»(2)، ومنها: غير ذلك.
نعم، أضاف السيد الوالد ما لا يخلو عن تأمل وهو أنّ النهي عن التوضأ عن جانب الميتة يستفاد منه المنع مطلقاً، قال: «إلّا أن يستظهر أنَّ النهي للتغيّر غالباً، فتأمل»(3).
إلّا أنّ الظاهر عدم فهم العرف الموضوعية، بل كونه في جانب الميتة له طريقية للتغيّر، فوجه التأمل أنّ ارتكاز العرف والمتشرعة في أمثال هذه النواهي العرفية على عدم موضوعية كون الماء في جانب الميتة بل كون النهي للتغيّر والتقذّر في الحدود التي يرون التقذّر فيها.
ص: 137
--------------------------
الثالث: إنّ ذهاب التغيّر في الجزء المتصل بالكر وإن كان بتصفيق الرياح أو بوقوع أجسام طاهرة يوجب الطهارة وإن لم يمتزج.
وما ذكره من عدم شرطية الامتزاج وكفاية الاتصال محل بحث بين الأعلام. والأقوال ثلاثة(1) : فقد ذهب جماعة من المحشين إلى اعتبار الامتزاج بين المائين فتوىً أو إحتياطاً، منهم العراقي والبروجردي والگلبيگاني والحائري والخونساري والسيد حسن القمي، والمنسوب للمشهور عدم اعتبار الامتزاج، بل قيل: إنّ القول بالامتزاج لم يعرف من أحد قبل المحقق في المعتبر، ولم يشر إليه هو في شرائعه مع كونه أهمّ كتبه.
لكن نقل السيد الوالد في الفقه(2) عن بعض الأعاظم: أنّ اعتبار الامتزاج في الطهارة هو المشهور بين من تقدّم على الشهيد، وإن كان ظاهر الشهيد في اللمعة وأكثر من تأخر عنه عدم اشتراط الامتزاج وكفاية زوال التغيّر.
وفي قول ثالث: لزوم الاستهلاك وعدم كفاية الامتزاج، كاستهلاك كر في مائة كر.
ص: 138
--------------------------
ثم إنّه يمكن أن يستدل على ضرورة الامتزاج بأدلة:
الدليل الأوّل : استصحاب بقاء النجاسة إلى أن يحصل الامتزاج فيقطع حينئذٍ بارتفاعها.
وفيه أوّلاً: كون الشبهة حكمية، فيتعارض فيها استصحاب بقاء المجعول مع أصالة عدم الجعل الزائد، فإنَّ الشك في جعل المولى النجاسة لتَسَع مرحلة بعد الاتصال ايضاً، والأصل عدم الجعل.
وإن كان الأقوى عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين الشبهات الحكمية والموضوعية كما نقح في محله(1).
ثانياً: سلّمنا جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية إلّا أنّ الشك فيما نحن فيه في المقتضي؛ لأنّه مسبّب عن الجهل بمقدار اقتضاء التغيير للتأثير،
ص: 139
--------------------------
وإن كان الأقوى عدم الفرق بين المقتضي والمانع في جريان الاستصحاب.
ثالثاً: ما ذكره في المهذب: «من أنّ استصحاب النجاسة لا وجه له لأنّها متقوّمة بالتغيّر وقد زال ولا أقل من الشك في ذلك.
إن قلت: إنّ التغيّر علّة لحدوث النجاسة فقط لا لبقائها.
قلت: في مثل المورد المتصل بالمعتصم لا تجري، فيكون المرجع قاعدة الطهارة لا الاستصحاب»(1).
ويرد عليه اُمور:
الأوّل: إنّ التفكيك بين المتصل بالمعتصم وغيره بعدم جريان الاستصحاب في الأوّل دون الثاني غير واضح. فإما أن يقال بوحدة الموضوع فيجري الاستصحاب في الجميع. أو يقال بعدم الوحدة فلا يجري في الجميع، وقد التزم السبزواري(2) بجريان الاستصحاب في الماء المتغيّر إذا زال تغيّره بنفسه من غير اتصاله بالكر أو الجاري ولم يظهر لنا فارق بين المقامين.
والحاصل: إن كان الموضوع واحداً عرفاً فإن الاستصحاب يجري في جميع الموارد، وإن تعدّد فلا يجري في كلّها، فلا فرق بين الفروق الثلاثة:
قليل زال تغيّره بنفسه. أو كر متغيّر زال تغيّره كذلك ايضاً. أو ماء كثير لم
ص: 140
--------------------------
يتغيّر مقدار كر منه. فقوله: «قلت: في مثل المورد المعتصم بالكر»، غير تامّ لعدم الفرق بين الموارد.
الثاني: إنّ التغيّر من الحالات عرفاً لا المقوّمات فتحفظ بذلك الوحدة العرفية بين القضية المتيقّنة والمشكوكة فيجري الاستصحاب.
إلّا أنّ السيد الوالد لم يرتض الجريان - في مقام آخر- لتغيّر الموضوع عرفاً وعدم الوحدة العرفية بين المتغيّر والذي زال تغيّره، وسيأتي تفصيله في المسألة الثامنة عشرة.
والحاصل: أنّه يجري الاستصحاب مع القول بالوحدة العرفية وكون التغيّر من الحالات لا المقومات، ويتم الإيراد على السبزواري. وعليه فالدليل الأوّل تام.
الثالث: إنَّ قضية تبدّل الموضوع إنّما تتم لو كان موضوع الحكم بالنجاسة هو الماء المتغيّر، فحينئذٍ يمكن أن يقال: إنّ الماء بعد زوال تغيّره مغاير للماء المتغيّر، لكن الموضوع في بعض الأدلّة هو: «الماء إذا تغيّر» ومعه يشمل الدليل زمان زوال التغيّر لصدق «الماء إذا تغيّر» عليه، وإن لم يصدق «الماء المتغيّر» ففي صحيحة حريز: «فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا توضأ منه ولا تشرب»(1) وكذلك صحيحة القماط: «وإن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضأ منه»(2). وبذلك يندفع إشكال تعدد الموضوع.
ص: 141
--------------------------
نعم، مع ما ذكر لا يجري الاستصحاب لوجود الدليل الإجتهادي في المقام المانع عن جريان الأصل العملي. إلّا مع القول بجريان الأصل الموافق مع الدليل في المؤدّى.
هذا، ولكن قد يشكك في وجود الفرق عرفاً بين المفادين، فلا فرق مثلاً بين قول المولى: «الرجل الفاسق لا يصلى خلفه»، وقوله: «الرجل إذا فسق لا يصلى خلفه»، فيدور الحكم مدار الفسق وجوداً وعدماً، فإذا ارتفع الوصف وشك في بقاء طبيعي الحكم لم يكن مناص من الاستصحاب، إذ لا إطلاق للدليل الإجتهادي مع فرض الوحدة العرفية بين القضيتين وكون الوصف من قبيل الحالات لا المقوّمات، وعليه ينبغي البحث في وحدة الموضوع عرفاً وسنتعرض له لاحقاً(1).
فالحاصل: أنّ ما ذكر من تغيّر الموضوع، يرد عليه: شمول الدليل الإجتهادي له لكون الموضوع «الماء إذا تغيّر» ومعه لا مجال للاستصحاب.
إلّا ان يقال: بعدم الفرق عرفاً بين «الماء المتغيّر» و«الماء إذا تغيّر» فينتهي الحكم عند زوال التغيّر، فتصل النوبة إلى «لا تنقض»، إلّا أن إبقاء الموضوع بالاستصحاب متوقّف على وحدته عرفاً، فرجع الكلام في أنّ الموضوع واحد أو متعدد ولا مجال للتمسك بالدليل الإجتهادي لما سبق.
رابعاً: إنّ الاستصحاب محكوم بالأدلّة الإجتهادية: كالإطلاقات المقامية،
ص: 142
--------------------------
وسيأتي بيانها، والإطلاقات اللفظية كقوله (عليه السلام) : «جعل لكم الماء طهوراً»(1)، وصحيح ابن بزيع: «فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه»(2).
وما ادّعي عليه الإجماع من أنّ الماء الواحد لا يحكم عليه بحكمين، على تأمل في الأخير.
الدليل الثاني: إنّ كيفية التطهير موكولة إلى العرف وهو لا يرى مجرد الاتصال مطهّراً بل يُلزم الامتزاج.
وفيه أوّلاً: أنّه يقتضي القولَ بلزوم الاستهلاك لا كفاية مجرد الامتزاج(3).
وثانياً: أنّه يتمّ مع عدم وجود إطلاق أو عموم يقتضي الطهارة، ولكن الشارع بيّن كيفية التطهير، كما سيأتي في أدلّة القول الثاني.
وأمّا القول بأنّ المطلق يحمل على المتعارف، فغير تام لما ذكره السيد العم حفظه اللّه بقوله: «ومجرد وجود سيرة عقلائية في موارد الأدلّة العامة إن كان موجباً لصرف العمومات إليها لتبدل اسلوب الفقه، والمعظم لا يعبئون بذلك في معظم مسائل الفقه، والتتبع كفيل بإثبات ذلك، مثل أمارات يد المسلم وسوقه وأرضه ونحوها، واُصول الطهارة والحل والصحّة والاستصحاب ونحوها، مع أنّ العقلاء ربّما لا يجرون شيئاً منها مع الظن
ص: 143
--------------------------
الشخصي بالخلاف»(1).
الدليل الثالث: ما في الحدائق، قال: «والقول الفصل في المقام أن يقال: لمّا كان الحكم المذكور غير منصوص فالواجب فيه رعاية الإحتياط الذي به يحصل يقين البراءة لما عرفت في المقدمة الرابعة من أنّ الإحتياط في مثل هذا الموضع واجب وهو لا يحصل إلّا بالقول بالامتزاج على وجه يستهلك الماء النجس في جنب الماء الطاهر»(2).
وفيه: مع قطع النظر عن الأجوبة الماضية، أنّ المرجع أصالة البرائة أو الطهارة لا الإحتياط - مع غض الطرف عن الاستصحاب - لأنّه شك في التكليف لا المكلّف به فإنّ اتصاله بطاهر حاصل، ووجوب الامتزاج مشكوك فتجري البرائة، فالعلم انحلّ إلى متيقّن ومشكوك، وذلك كالشك في لزوم الاستهلاك أو في كون المطهِّر أعلى مكاناً من المطهَّر فإنّ الأصل عدمهما.
الدليل الرابع: إنّه لا دليل على مطهّرية الماء للمتنجّس في المقام، فلابدّ من سلوك طريق يمكن بواسطته دعوى ذلك، وليس ذلك إلّا صيرورة المائين ماءً واحداً، وهو لا يتأتى إلّا بالامتزاج وبعد الامتزاج، إمّا أن يكون الجميع نجساً، أو البعض، أو نحكم بطهارة الجميع، والأوّل خلاف الإجماع، والثاني باطل
ص: 144
--------------------------
لأنّ الماء الواحد لا يختلف حكمه، فلابّد من الحكم بطهارة الجميع.
وأورد عليه أوّلاً: بأنّ صدق الوحدة غير منحصر بالامتزاج.
وثانياً: بأنَّ دعوى عدم الدليل على المطهّرية غير تامة لوجود لإطلاقات.
الدليل الخامس: صحيحة ابن بزيع وسيأتي الكلام فيها وفي دلالتها إن شاء اللّه. وهذا تمام الكلام في أدلّة القول الأوّل .
القول الثاني: عدم اعتبار الامتزاج ويستدل له بادلة.
الدليل الأوّل : الإطلاق المقامي. وقد أشار إليه السيد الوالد (رحمه اللّه) ولكن في خصوص روايات البئر. قال: «الروايات التي لا تكاد تجد فيها إشارة إلى الامتزاج بضميمة غفلة العامة عن هذا الشرط»(1).
ص: 145
--------------------------
وقد ذكره السبزواري في نطاق أعمّ، قال: «ولا ريب أنَّ مسألة انفعال المياه وتطهيرها كانت من أهم المسائل الإبتلائية للناس في الأعصار القديمة خصوصاً في الحجاز التي قلّت المياه فيها، فلو كان الامتزاج معتبراً في الطهارة لاُشير إليه في خبر من الأخبار، وكان على الإمام (عليه السلام) بيانه في هذه المسألة العامة البلوى مع أنّهم بيّنوا مسائل نادرة قلّما تتفق في العمر إلّا مرة، ولم يذكره فقهائنا المتقدمون رحمهم اللّه مع كثرة اهتمامهم بنقل الفروع النادرة فكيف بالابتلائية وإنّما حدثت الشبهة من عصر الفاضلين فقط، وتعرضا لها في بعض كتبهما وتبعهما بعض المتأخرين»(1).
ومعنى الإطلاق المقامي كون المولى في مقام بيان أمر وتَرَك ذكر الشرط. والظاهر كفاية هذا الدليل في المقام.
الدليل الثاني: التعليل الوارد في صحيحة ابن بزيع عن الرضا (عليه السلام) : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادة»(2)،
وجه الاستدلال بها أن الامام (عليه السلام) علّل السعة والطهارة بوجود المادة، فيظهر منه أنّ العلّة المستقلة للطهارة هي المادّة فلا مدخلية للامتزاج، والتعليل يعم غير البئر ايضاً.
ولكن فيه إشكالات:
ص: 146
--------------------------
الإشكال الأوّل: اجمال الرواية إذ لم يظهر مرجع التعليل، فتسقط عن الاستدلال. وبيان ذلك: أنّ المقاطع المتقدمة على التعليل - التي يحتمل كون التعليل تعليلاً لها - ثلاثة:
ا: ماء البئر واسع. ب: لا يفسده شيء. ج: فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه. وأمّا كونه تعليلاً للاستثناء فلا معنى له(1).
والاحتمالات في المقام خمسة:
الأوّل: أن يرجع التعليل إلى قوله: «ماء البئر واسع» بمعنى السعة الخارجية التكوينية، فيكون التعليل إخباراً عن أمر خارجي وهو أنّ ماء البئر ليس كمياه الغدران ونحوها بل هو كثير وواسع لأنّ له مادة.
وهذا الاحتمال مردود أوّلاً: لما ذكر في مبحث الاستثناء المتعقب للجمل من أنّ عوده إلى خصوص غير الأخير خلاف الظاهر، ولا خصوصية للاستثناء في ذلك، بل حال سائر القيود المتعقّبة للجمل هو حال الاستثناء، فلو قال: صُم وسافر يوم الخميس، كان خلافاً للظاهر القول بأنّ يوم الخميس يختص بالصوم دون السفر بل السفر مطلق(2).
وثانياً: أنّه خلاف الظاهر من الرواية، إذ البيان الوارد من الشارع ظاهر في
ص: 147
--------------------------
إعطاء الحكم لا لبيان الأمر الخارجي العرفي المعلوم، أي: هو بيان لأمر تكويني(1).
الاحتمال الثاني: أن يرجع التعليل الى المقطعين الأوّل والثاني وهو قوله (عليه السلام) «واسع لا يفسده شيء» ويكون معنى السعة «السعة الحكمية - الشرعية -» ومعناه: أنّه ليس كالقليل حتى ينفعل بالملاقات، فيكون لا يفسده شيء تأكيداً وتفسيراً لقوله واسع، فدلّت على أنّ ما له مادّة لا ينفعل بشيء، بمعنى أنّها تدلّ على الدفع ولكنّها ليست متعرضة للرفع وأنّه بأيّ شيء ترتفع نجاسة المتنجّس.
ولكن يرد عليه الإشكال الأوّل على الاحتمال الأوّل .
الاحتمال الثالث: ما ذكره الشيخ البهائي وحكم بإجمال الصحيحة لأجله، قال: «لاحتمال ان يكون قوله (عليه السلام) : «لأنّ له مادة» تعليلاً لترتب ذهاب الريح وطيب الطعم على النزح، كما يقال: «لازم غريمك حتى يعطيك حقك لأنّه يكره ملازمتك»(2)، بمعنى أنّ البئر ليست كالحياض بحيث إذا نزح شيء منها بقي غير المنزوح على ما كان عليه من الأوصاف، بل البئر
ص: 148
--------------------------
لاتصالها بالمادّة إذا نزح منها مقدارٌ تقلّ رائحة مائها، ويتبدّل طعمه بخروج الماء من المادة، فالعلّة المذكورة علّة لزوال الرائحة والطعم بالنزح، فيراد من المثال ترتُّب ايفاء الحق على ملازمة الغريم لأنّه يكرهه، فالكراهة علّة لترتّب ما بعد حتى لما قبل حتى، وما نحن فيه كذلك فإنّه ينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه، ف- «لأنّ له مادة» علّة لترتب ما قبل حتى لما بعدها، وأمّا الحوض المنزوح منه فإنّه يبقى على نجاسته لعدم المادّة فيه، وعليه فالرواية لا تنفعنا في المقام، فإنّ الكلام في كيفية التطهير، والتعليل لا يرتبط بها(1).
ولكن على ذلك: يكون التعليل بياناً لأمر عادي يعرفه كل من ابتلى بالبئر عادة، وذلك مخالف لظهور التعليل في كونه في مقام التشريع.
الاحتمال الرابع: أن يكون علّة للحكم المستفاد من مطاوي المقطع الثالث، والحكم «ترتب الطهارة على النزح» كما هو مفاد حرف الإنتهاء - حتى - إذ المستفاد من المقطع الثالث طهارة ماء البئر بعد زوال تغيّره بالنزح، ولولا ذلك لما كان للأمر بنزح البئر وجهٌ، فإنّ زوال تغيّره إن لم يكن مجدياً في طهارته فلا أثر لنزحه، فيستكشف من الأمر بنزحه أنّ الغرض إذهاب الرائحة والطعم حتى يطهر الماء لأجل اتصاله بالمادة، وعليه فالرواية ناظرة
ص: 149
--------------------------
إلى الرفع لا الدفع، وتكون مبيِّنةً لعلّة ارتفاع النجاسة وهي اتصالها بالمادة، فالعلّة الاتصال ولا حاجة إلى الامتزاج.
وبعبارة اُخرى: المتصيّد من قوله: «فينزح حتى يذهب...» أنّ الطهارة مترتبة على النزح، وعلة ترتّبها عليه وجود المادة، فلا حاجة للامتزاج.
وهذا الاحتمال هو القدر المتيقّن - كما ذكروه في الاستثناء المتعقب للجمل - من عود الاستثناء إلى الأخير(1).
الاحتمال الخامس: أن يعود التعليل إلى المقاطع الثلاثة جمعياً، قال السيد الوالد في الفقه: «الأقوى هو رجوع العلّة إلى الصدر والذيل معاً فوجود المادّة دافع للنجاسة ورافع لها، بل ربّما يقال: إنّ تخصيص العلّة بأحدهما مع احتياج كليهما إليها بلا مخصص»(2). وعلى هذا الاحتمال الخامس يتمّ المطلوب، وعليه فما ذكره البهائي من الإجمال في التعليل المسقط للاستدلال ليس واضحاً.
ص: 150
--------------------------
هذا، ولكن أشكل الفقيه الهمداني على الاستدلال بقوله: «إن غاية ما يستفاد منها أنّ ماء البئر في غير حال التغيّر طاهر وما دام متغيّراً نجس، وأمّا أنَّ ارتفاع النجاسة العارضة له بواسطة التغيّر عند زوال تغيّرهمسبّب عن نفس زوال التغيّر من حينه من غير أن يكون للامتزاج بالماء الجديد الذي يخرج من المادّة مدخلية في ذلك فلا يكاد يفهم منها؛ حيث إنَّ كون زوال التغيّر بالنزح مستلزماً لذلك في العادة لا يحتاج بيانه إلى قيد زائد فلا يمكن نفي شرطية الامتزاج بأصالة الإطلاق»(1).
وبعبارة أوضح: إنَّ النزح المزيل للتغيّر ملازم عادة لامتزاج ماءٍ يخرج من المادّة مع الماء المتغيّر، فالغلبة متوقّفة على الامتزاج فكأن التعليل: لأنّ له مادّة ممازجة. وخلاصة إشكاله: أنّ الصحيحة لا تنفي مدخلية الامتزاج لأنّ زوال التغيّر مستلزم للامتزاج.
لنا في دفع ما أشكله طريقان:
الطريق الأوّل : أن ننكر وجود الملازمة الكلية بين النزح حتى يزول التغيّر وبين امتزاج ما في المادّة بماء البئر، ولذلك عبّر الفقيه الهمداني بالعادة في قوله: مستلزم للامتزاج عادة، لا دائماً.
والظاهر أنّ مراد السيد الوالد ذلك، قال في رد كلام الفقيه الهمداني: «إن إطلاق الرواية في صورة كون كثير من الآبار يخرج مائها بطريق الرشح
ص: 151
--------------------------
بحيث لا يجتمع فيها الماء إلّا بعد زمان طويل مع كون الامتزاج ممّا يغفل عنه العامّة، كافٍ»(1).
والظاهر أيضاً أنّ المهذّب ناظر إلى ما ذكر من الجواب قال: «لأنّه يكون الماء في الآبار غالباً بنحو الرشح والنزيز، لا بنحو الجريان. مع أنّه لو كان بنحو الجريان فلا يمتزج إلّا مع سطح الماء الذي يكون في قعر البئر»(2).
فالعبارتان ناظرتان إلى نفي هذه الملازمة الكلية.
نعم هذا المقدار من البيان غير واضح، لأنّ زوال التغيّر موقوف على الامتزاج، وإلّا فكيف يزول التغيّر، فكون نبع البئر على نحو الجريان أو الرشح أو النزيز لا مدخل له في ذلك بل لابدّ أن تأتي المادّة حتى يمتزج مع الماء المتغيّر ويزيل تغيّره، ومعه تصح الملازمة الكلية المدّعاة في كلام الفقيه الهمداني.
إلّا أن يقال: بأنّ العلّة الوحيدة لزوال التغيّر ليست بنبوع المادة، بل يمكن أن يزيل النزح شدة التغيّر ويزيل الهواء أو البرودة أو نحوهما باقي التغيّر، وهي مشمولة لإطلاق الصحيحة، فأمكن فرض زوال التغيّر بلا امتزاج فلا ملازمة بينهما.
الطريق الثاني: كون الملازمة كلية في مورد كالبئر لا يلغي ظهور العلّة
ص: 152
--------------------------
في كونها علّة مستقلة في بقية الموارد كماء الحوض، فيقتصر في التلازم بين زوال التغير و الامتزاج في البئر فحسب.
و تظهر الثمرة فيما لو انفك الأمران. فلو قال المولى: «الخمر محرمة لأنّها مسكرة» وفرض أنّ اسكارها ملازم للخفة فيها دون مادّة مسكرة اُخرى توجب الاكتئاب فقط، لكانت محرمة بحرمتها، وذلك لأنّ ملازمة العلّة في مورد للخفة لا يصلح لتقيدها بها دائماً.
الإشكال الثاني(1): لم يعلم شمول المادّة للكر المعتصم، فغاية ما يستفاد أنّ اتصال الماء المتنجّس بالمادّة يوجب طهارة المتنجّس بلا حاجة إلى الامتزاج، وما نحن فيه - كالحوض - ليس له مادّة. والحاصل: عدم صحّة تعدّي الحكم الثابت لماء البئر إلى ماء الحوض.
وله جوابان:
الأوّل: إنّ ورود كلمة المادّة في ماء الحمام دالّ على تعميم معنى المادّة وهذا ما استند إليه التبريزي(2) فيما رواه بكر بن حبيب عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ماء الحمام لا بأس به إذا كانت له مادة»(3).
ص: 153
--------------------------
ولكن يرد عليه أوّلاً: ضعف السند لعدم وثاقة بكر، إلّا على ما قيل(1) من أنّ رواية المشايخ عنه كاف في اعتباره، وهو كما ترى.
ولكن أجاب عنه التبريزي بما لا يخلو من ضعف، قال: «ولا يضرّ ضعف السند لأنّ الاستشهاد في أنّ معنى المادّة يعم الراكد المعتصم، لا على تحديد الحكم الشرعي»(2).
وجه الضعف: عدم حجيّة تفسير من لم تثبت وثاقته لموضوع حكم شرعي، فإنّ الاستشهاد في معنى المادّة لا في الحكم، ونظيره عدم قبول قول مجهول في كون الصعيد: «مطلق وجه الأرض» كما هو واضح.
ثانياً: سلّمنا اعتبارها، إلّا أنّ غاية ما تدلّ عليه الرواية شمول كلمة المادّة للمادّة الطبيعية كماء البئر وللمادّة الجعلية كماء الحمام، إلّا أنّ كلمة المادّة مأخوذة من المدد بمعنى ما يمد الشيء، ومدّ الجيش: نصرهم بجماعة تلتحق بهم، وهي بهذا المعنى لا تطلق على ما تبقى من ماء الحوض غير المتغيّر لا شرعاً، ولا لغةً، ولا عرفاً عاماً، ولا عرفاً خاصاً، أي عرف المتشرعة.
الثاني: الإجماع المركب على عدم اختلاف الموارد في شرطية الامتزاج وعدمها، فمن يقول بشرطية الامتزاج يراها في جميع الموارد، ومن لا يراها
ص: 154
--------------------------
في البئر لا يقول بها كذلك.
هذا مضافاً إلى القطع بعدم الفرق بين أقسام المياه المعتصمة كما عن التبريزي، قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «معلومية أنّ المراد بالمادّة الماء العاصم، فلا خصوصية لما له مادة»(1).
وفيه: عدم حجية الإجماع المركب في نفي الثالث(2)، وإلّا لزم بطلان كل تفصيل يلتزمه فقيه. وأمّا القطع فعهدته على مدعيه.
نعم الظاهر تسالم الفقهاء على عدم الفرق بين أقسام المياه، فتأمل.
الإشكال الثالث(3):
لوكان المراد بالتعليل في الصحيحة كفاية صرف الاتصال لكان التعليل بأمر تعبّدي لا ارتكازي.
وفيه أوّلاً: أنّ التعليل بأمرٍ تعبدي على كل تقدير؛ إذ العرف كما لا يرى الاتصال كافياً، كذلك لا يرى الامتزاج كافياً لاعتباره الاستهلاك في إزالة القذارات العرفية.
وثانياً: أنّه لا مانع من التعليل بأمر تعبدي فلو قيل لشخص: الجرّي حرام، فسأل عن العلّة؟ فأجيب بأنّه لا فلس له، فإنّه تعليل بأمر تعبّدي.
ص: 155
--------------------------
الدليل الثالث(1): إنّ الماء الواحد لا يحكم عليه بحكمين متضادين بالإجماع، فإمّا أن يقال بنجاسة الجميع أو يقال بطهارة الجميع، وبما أنّه لا سبيل إلى الأوّل للأدلّة الدالة على اعتصام الكر غير المتغيّر بشيء - لأنّ الباقي على الفرض كرّ لم يتغيّر في أحد أوصافه - فيتعين الثاني وهو القول بطهارة الجميع.
ويرد عليه أولاً بما في التنقيح: «من أنّ هذه الدعوى لم تثبت بدليل، وعهدتها على مدعيها، ولا يقين بصدورها عن المعصوم فأيّ مانع من الالتزام بنجاسة الجانب المتغيّر من الماء وطهارة الباقي»(2).
هذا، ولكن ادّعى السبزواري ظهور الإجماع على القاعدة، وقال: إنّها أرسلت عندهم إرسال المسلمات(3).
ومنهم الكركي في جامع المقاصد، والشهيد في الروضة وروض الجنان، والخونساري في مشارق الشموس، والفاضل الهندي في كشف اللثام، وكذلك في الرياض، وقد ادّعى الإجماع الحكيم والعراقي والروحاني(4). ولعلّ المتتبع يطمئن بما ذكره في مهذّب
ص: 156
--------------------------
الأحكام(1).
ثانياً: لو فرض ثبوت الإجماع على القاعدة إلّا أنّه لم يعلم شمولها للمقام إذ الإجماع دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقّن، والمتيقّن شمولها صورة ما لم يطرء على المجموع التغيّر أصلاً، أو كان التغيّر الطارئ كليّاً، وأمّا لو طرأ على بعضه وزال عنه فلم يُعلم شمول الإجماع له بل المعلوم عدم الشمول لاختلاف الفقهاء في كفاية الاتصال وعدمه كما سبق.
وبتقرير آخر: الوحدة التي أخذت في موضوع القاعدة إمّا هي الوحدة العقلية أو العرفية، والأولى غير مرادة قطعا، مع أنّها لا تحصل حتى في صورة الامتزاج لاستحالة اتحاد الوجودين كما قرّر في محله، فلابدّ من أن يكون المراد الوحدة العرفية، وهي منتفية في المقام لما مرّ من أنّه لا تصدق إلّا مع الاستهلاك، وعلى فرض كفاية الامتزاج في صدقها فالاتصال لا يكفي في الصدق، بل يكفي الشك في الصدق، لأنّ ثبوت المحمول فرع إحراز الموضوع فالشك فيه مساوق للشك فيه، فتأمل.
الدليل الرابع: موثقة حنان - الواقفي - المروية في الكافي عن الحسين بن محمّد عن عبد اللّه بن عامر عن علي بن مهزيار عن محمّد بن اسماعيل عن حنان قال: «سمعت رجلاً يقول لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إنّي أدخل الحمام في السحر وفيه الجنب وغير ذلك فأقوم فاغتسل فينتضح علىَّ بعد ما افرغ من
ص: 157
--------------------------
مائهم، قال: أليس هو جارٍ؟ قلت بلى، قال لا بأس»(1).
وجه الاستدلال -كما في التنقيح(2) -: أنّ الجريان إنّما هو باعتبار اتصال ماء الحياض بالمادة، والرواية مطلقة لترك الاستفصال فتعمّ الدفع أيضاً، ومعناه أنَّ الاتصال بالمادّة مطهّر سواء كان الماء متنجّساً قبله أم لم يكن(3)، وهذا المعنى يقتضي عدم اعتبار الامتزاج، لعدم امتزاج المادّة مع ماء الحوض بمجرد الاتصال بل يتوقّف على مرور زمان لا محالة.
وفي الاستدلال إشكالات.
الإشكال الأوّل : إنَّ ماذكره في معنى: «أليس هو جارٍ» غير ظاهر، وذلك لوجود احتمالين في الرواية:
الأوّل: جريان ما في المادّة على الحياض.
الثاني: جريان الغسالة على الأرض بمياه متعاقبة.
فيسقط الاستدلال سواء قلنا بأنّ معنى الرواية مجمل، أو قلنا بأنّه اشارة إلى تعاقب المياه المختلفة على أرض الحمام فيسقط استصحاب الطهارة والنجاسة، فالمحكّم في المقام أصالة الطهارة.
ص: 158
--------------------------
ولا يخفى: أنّ العلّامة المجلسي استظهر الاحتمال الذي اختاره في التنقيح من كون الجريان من المادّة إلى الحياض الصغيرة، قال: «يحتمل أن يكون المراد: أليس يجري الماء الجاري في صحن الحمام؟. او: أليس المياه التي في تلك الحياض جارية على صحن الحمام؟. أو: أليس الماء جارياً من المادّة إلى الحياض الصغار التي يغتسلون منها إذ - أو - الماء يمكن أن يكون انتضح من ابدانهم. وقيل: المراد ما سمعت من أن ماء الحمام بحكم الجاري، ولا يخفى بعده. ولعلّ الثالث أظهر الوجوه»(1).
وبتقرير آخر: إنّ جهة شبهة الراوي في الماء المنتضح: احتمال نجاسة ماء الأحواض الصغيرة لكونه ماءً قليلاً تلامسه الأيدي المتنجّسة فيتنجَّس فيكون الماء المنتضح من أيدي المغتسلين نجساً، ودفع (عليه السلام) الشبهة بقوله: «أليس هو جارٍ» أي أليس الماء جارياً من المادّة إلى الحياض الصغار فتكون المادّة عاصمة.
وبعبارة اُخرى: إنّ لمياه الحياض الصغار ثلاثة أحوال:
أوّلاً: أن لا تتغيّر بالملاقات، وحينئذٍ تكون المادّة دافعة للنجاسة.
ثانياً: أن تتغيّر بالملاقات ويزول التغيّر، وعليه فالمادّة رافعة للنجاسة.
ثالثاً: أن تتغيّر بالملاقاة ولا يزول التغيّر، وهذه الصورة خارجة عن مفاد الرواية بما سبق من الأدلة، فتبقى الصورتان الأوليان مشمولتين للإطلاق،
ص: 159
--------------------------
وحيث لا تقييد في الرواية يكون المستفاد أن وجود المادّة رافع للنجاسة، وإن لم يحصل الامتزاج.
وجه الإشكال: أنَّ من المحتمل أن لا تكون جهة شبهة الراوي ذلك، بل جهة الشبهة أنّ الماء يلامس الأبدان النجسة حين الإغتسال فتنجس الأرض، فإذا أنتضح من الأرض شيء من مائهم كان نجساً. وأجاب (عليه السلام) : بأنّ الماء جارٍ على الأرض، بمعنى أنّ الماء يتعاقب على أرض الحمام فيطهّرها، فلا بأس بما يسقط من أجسامهم على الأرض ثم ينتضح على بدن السائل. والخلاصة: أنّه تتعاقب على الأرض الطهارة والنجاسة، فيتساقط استصحابهما ويكون المرجع أصالة الطهارة.
والاستدلال بالرواية ساقط سواء قلنا: بظهورها في هذا المعنى - أي نضح الماء من أبدانهم لا من الحياض الصغيرة - كما عليه صاحب الوسائل كما يأتي، أو قلنا: بتردّدها بين المعنيين، أو قلنا بإجمالها.
فالحاصل: أنّ ماذكر في التنقيح من تنضّح ماء الحياض وإن ساعد عليه ذيل الرواية: «أليس هو جارٍ» إلّا أنّ صدرها: «فينزح عليَّ بعد ما افرغ من مائهم» يُبعِّد ما ذكره(1)، فلابدّ من القول بالإجمال أو التردد.
ص: 160
--------------------------
ولا يخفى: أنّه ذكر صاحب الوسائل الرواية تحت عنوان: «حكم الماء المستعمل في الغسل من الجنابة، وما ينتضح من قطرات ماء الغسل في الإناء وغيره، وحكم الغسالة». وهذا يؤيد ما اخترناه من المعنى.
الإشكال الثاني: إنّ جريان ما في المادّة على الحياض الصغار موجبٌ للامتزاج قهراً، حيث إنَّ الجريان من العلوّ إلى السُفل موجب له، فلا يستفاد من الرواية كفاية مجرّد الاتصال.
وفيه نظر: إذ لا شك في أنّ الامتزاج الكلّي يتوقّف على مرور زمان، وظاهر الإطلاق هو الطهارة مطلقاً ولو للجانب الذي لم يمتزج معه ماء المادّة بعد(1).
الإشكال الثالث: إنّ الرواية إنّما هي في مقام بيان مجرّد عدم انفعال مياه الحياض الصغار أو طهارتها في الجملة لمكان اتصالها بالمادة، وليست في مقام بيان كيفية تطهيرها على تقدير انفعالها.
وفيه أوّلاً: أنّ الأصل عند الشك هو كون المولى في مقام البيان من جميع
ص: 161
--------------------------
الجهات.
وثانياً: أنّ ظاهر التعليل كون الجريان تمام العلّة فيدور الحكم مداره وجوداً وعدماً(1).
الإشكال الرابع: إنّ الموثقة تدلّ على عدم اشتراط الامتزاج في الجاري، ولا جريان في مفروض المسألة - الحوض -.
وأجاب في التنقيح(2) بأجوبة ثلاثة:
الأوّل: إنّ التعميم من جهة تنصيص الأخبار بعلّة الحكم: «لأنّ له مادة»، والعلّة متحققة في المقام أيضاً إذ المفروض أنّ للجانب المتغيّر جانباً آخر بمقدار الكرّ هو بمنزلة المادّة له. أقول: الظاهر أنّ مراده رواية بكر بن حبيب.
وفيه: ما سبق من ضعف السند بوجود بكر، وضعف الدلالة لوجود كلمة المادة.
الثاني: دلالة الأخبار على أنّ عدم انفعال ماء الحياض مستند إلى اتصالها بالمادّة المعتصمة فهي لا تنفعل بطريق أولى، وبما أنّ الجانب الآخركر معتصم في محل الكلام فالاتصال به أيضاً يوجب الطهارة.
ص: 162
--------------------------
وفيه نظر: إذ لعلّ لتدافع الماء من العلّو إلى السفل دخلاً في الدفع والرفع، فلا يصحّ قياس الماء به.
الثالث: القطع بعدم الفرق بين ماء الحمام وغيره(1) في أنّ مجرد الاتصال بالعاصم يكفي في طهارة الجميع إذ لا خصوصية لكون المادّة أعلى سطحاً من الحياض.
أقول: كأنّ الفقهاء تسالموا على عدم الفرق بين أقسام المياه في شرطية الامتزاج وعدمه كما مضى ذكره.
الدليل الخامس: على عدم اشتراط الامتزاج ما استدل به السبزواري من إطلاق قوله (عليه السلام) : «ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضاً»(2) قال: «وهذا الحديث ظاهر في كفاية التطهير بمجرد الاتصال بالمعتصم»(3).
وفيه أوّلاً: ضعف السند بابن جمهور، مضافاً الى من نقل عنه الكليني، فإنّه نقلها عن بعض أصحابنا عن ابن جمهور(4).
ص: 163
--------------------------
إلا أن يقال: بأنّ توافق فتوى المشهور مع رواية تجبر ضعف سندها(1).
ثانياً: إجمال الدلالة.
نعم، أجاب السبزاري: بأنّه لا وجه للإجمال بل يؤخذ بإطلاقه مالم يدلّ دليل على خلافه، لأنّه حكم ابتلائي إمتناني، فيؤخذ بإطلاقه من كل جهة إلّا فيما ثبت خلافه.
ولكنه غير تام لورود إشكالين:
الأوّل: إنّ تنزيل شيء منزلة شيء هل يفيد تنزيله منزلته في جميع الآثار والأحكام أو في أظهرها، أو في الأثر الظاهر؟ القدر المتيقّن هو الأخير فالشجاعة تستفاد من قولنا: «زيد كالاسد» لا غيرها. وما نحن فيه كذلك فإنّه لا يستفاد من الرواية التنزيل منزلة الآثار، قال: «قلت: أخبرني عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب والصبي واليهودي والنصراني والمجوسي؟ فقال (عليه السلام) : إنّ
ص: 164
--------------------------
ماء الحمام كماء النهر يطهّر بعضه بعضاً»(1) فعدم شرطية الامتزاج في ماء النهر لو قلنا به لا يعني تنزيل ماء الحمام منزلته في جميع الآثار التي منها عدم اشتراط الامتزاج لتطهيره، بل هو حكم خفي لا يظهر من التنزيل، بل التنزيل أنما يتم لأثره الظاهر، فكما أنّ للنهر مادّة تطهّره فتدفع النجاسة وترفعها، كذلك ماءالحمام ينجس لوجود مادّة تطهّره.
الثاني: سلّمنا أنّ التنزيل يفيد عموم المنزلة، ولكن حيث إنَّ الرواية ليست مسوقة لبيان مطهّرية ماء النهر فربّما يقال بعدم الإطلاق في: «يطهر بعضه بعضاً» لعدم كونه في مقام البيان لماء النهر، بل في مقام بيان ماء الحمام، كما في قوله تعالى: {فكلوا ممّا امسكن}(2) حيث لا إطلاق لها لطهارة موضع العض(3).
الدليل السادس: صحيحة داود المروية عن محمد بن الحسن باسناده عن احمد بن محمد عن عبد الرحمن بن ابي نجران عن داود بن سرحان، قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) ما تقول في ماء الحمام؟ قال: هو بمنزلة الماء
ص: 165
--------------------------
الجاري»(1).
وفي هذا الدليل نظر: إذ مفاد الرواية أنّ كل ما ثبت للجاري فهو ثابت لماء الحمام - ومع قطع النظر عن إشكال إفادة التنزيل للعموم كما سبق - إلّا أنّ الكلام في المقام في الصغرى أي في ثبوت المطهّرية للماء الجاري بعضه لبعض بصرف الاتصال، أو أنّه لابدّ فيه من الامتزاج، والحديث غير متعرّض لهذه الجهة.
الدليل السابع: ما استدل به السيدان الوالد و السبزواري رحمهمااللّه (2) من قول أبي عبد اللّه (عليه السلام) في حديث: «كل شيء يراه ماءالمطر فقد طهر»(3)،
ولا يشترط في مطهّريته الامتزاج، ولم يفرق الفقهاء بين جميع أنواع المياه المعتصمة.
ويرد عليه أوّلاً: ضعف سندها، فقد رواها محمد بن يعقوب عن عدة من أصحابنا عن احمد بن محمد عن علي بن الحكم عن الكاهلي عن رجل عن ابي عبد اللّه (عليه السلام) .
والإشكال من ناحيتين:
الأولى: الكاهلي، إذ فيه كلام. ولكن يمكن توثيقه بطريقين:
ص: 166
--------------------------
الأوّل: رواية البزنطي و ابن ابي عمير عنه وهما من مشايخ الثقاة الذين لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة، وان كان المختار التفصيل بين من يروون عنه، ومن يرسلون عنه بالقبول في الأوّل دون الأخير.
الثاني: قول النجاشي عنه: «كان وجهاً عند ابي الحسن الكاظم (عليه السلام) »(1). وهذا يدلّ على وثاقته أو ما هو فوق الوثاقة وقد قال الكاظم (عليه السلام) لعلّي بن يقطين: «اضمن لي الكاهلي وعياله أضمن لك الجنة»(2).
الثانية: كون الرواية مرسلة، و لا حجية لما لم يثبت صدوره من الامام.
وأمّا ما ذكره السبزواري من: «أنّه منجبر بالعمل وتسالم الأصحاب عليه»(3).
فهو بحاجة الى تتبع، فإنّ تسالم الأصحاب إن كان بالعمل بها فهو تام، وإن كان بالعمل بمضمونها فلا يصح التمسك بعملهم لأنّه لا يدلّ على استنادهم اليها، بعد وجود روايات صحاح في مطهّرية ماء المطر ولعلّهم استندوا اليها دونها، وقد لا يكون لتلك الروايات إطلاق.
والصحاح في ماء المطر ثلاث: ما روي عن هشام بن سالم، وعن هشام بن الحكم، وعن علي بن جعفر.
وثانياً: ضعف دلالتها، إذ: «يراه ماء المطر» ظاهر في الرؤية لجميع الأجزاء
ص: 167
--------------------------
ولا يحصل ذلك إلّا بالامتزاج.
وأجاب السيد الوالد (رحمه اللّه) عن ذلك بقوله: «إنّ الرؤية تصدق بمجرد الاتصال، ولا يرد عليه أنّه يصدق عليه أنّه لم ير الطرف الآخر، إذ الرؤية أمر عرفي، فلو كان الحوض في وسط البيت ونزل عليه المطر وإن لم يحصل الامتزاج بجميعه صدق عرفاً أنّه رآه المطر.
إن قلت: فما الفرق بين الجامد والمائع حتى توجبون رؤية كل جزء جزء في مثل الثوب دون ما نحن فيه؟
قلت: الفرق بينهما أنّ العرف الملقى اليه الكلام يرى ذلك شيئاً واحداً دون الجامد»(1) ثم قال «فنحن في غنى عن هذه التدقيقات بعد صدق «رآه المطر» عرفاً على مثل الحوض المتقدّم بمجرد نزول مطر عادي عليه».
وقال السبزواري: «المراد بالرؤية: الرؤية العرفية مطلقاً فكلّما صدقت الرؤية عرفاً يطهر جميع الماء، وإلّا انعدمت فائدة هذا الحكم الإمتناني العام البلوى إلّا في موارد نادرة، وهو مخالف لسهولة الشريعة خصوصاً في الطهارة التي يسّرها الشارع بكل وجه أمكنه، فالرؤية معتبرة بنحو صرف الوجود لا بنحو الوجود المنبسط على جميع الأجزاء، كما أن انفعال القليل
ص: 168
--------------------------
بالملاقاة يكون بنحو صرف الوجود لا بنحو السريان والانبساط، فلتكن الطهارة أيضاً كذلك بل لابدّ أن يكون الأمر فيه أيسر وأسهل»(1).
والخلاصة: أنّه لا ملازمة بين الرؤية العرفية والامتزاج الدقي وهو واضح، كما أنّه لا ملازمة بين الرؤية العرفية والامتزاج العرفي، كما يظهر ذلك جليّاً فيما لو كان نصف الحوض تحت السماء ونصفه تحت السقف فأصاب المطر الجانب المكشوف فإنَّ الرؤية العرفية صادقة والامتزاج العرفي غير متحقق، فتأمل.
نعم لو قلنا: بأنّ الرؤية العرفية مساوقة للامتزاج العرفي، واشترطنا الامتزاج، لم يدلّ الحديث على خلاف مدعى القائل بالامتزاج.
وبعبارة واضحة: إنّ القائل بالامتزاج قد يدّعي أنّ مراده الامتزاج العرفي، والرؤية في الرواية تعني الرؤية العرفية وهي مساوقة للامتزاج العرفي، فالرواية لا تدلّ على خلاف المطلوب.
الدليل الثامن: ما استدل به السيد الوالد من الحديث الوارد في ماء الغدير: «إنّه كان بالمدينة رجلٌ يدخل على أبي جعفر محمّد بن علي (عليهما السلام) وكان في طريقه ماء فيه العذرة والجيف، وكان يأمر الغلام يحمل كوزاً من ماء يغسل به رجله إذا خاضه، فأبصر بي يوماً ابو جعفر (عليه السلام) فقال: إن هذا لا يصيب شيئاً إلّا طهره فلا تعد منه غسلاً»(2).
ص: 169
--------------------------
وجه الاستدلال إطلاق كلمة الإصابة وعدم اشتراط الامتزاج - فالملاك الإصابة كما أن الملاك في ماء المطر الرؤية - قال السيد الوالد: «فإنّ الإصابة والرؤية تصدقان بمجرد الاتصال، وكذا إذا اتصل بالغدير صدق عرفاً أنّه اصابه»(1).
وسوق الاستدلال فيه كسوقه في سابقه.
نعم، الإشكال في سندها لارسالها فقد نقلها العلّامة في المختلف عن ابن ابي عقيل قال: «ذكر بعض علماء الشيعة أنّه كان بالمدينة...»(2).
الدليل التاسع: إطلاق قوله تعالى: ﴿وانزلنا من السماء ماء طهورا﴾(3) ولم يشترط فيه الامتزاج. ونحوه قوله تعالى: ﴿وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به﴾(4) وقد مضى البحث في ذلك في أوّل الكتاب.
الدليل العاشر: الروايات الدالة على مطهّرية الماء بنحو مطلق كصحيحة داود بن فرقد عن ابي عبد اللّه (عليه السلام) : «قال: كانت بنو اسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، وقد وسع اللّه عليكم باوسع ما بين السماء والأرض، وجعل الماء طهوراً فانظروا كيف تكونون»(5).
ص: 170
--------------------------
وقوله (عليه السلام) «الماء يطهر ولا يطهر»(1).
إلا أنّ عمدة الإشكال في أمثال هذه الروايات أنّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة.
ويرد عليه: أنّ الأصل كون المولى في مقام البيان من تمام الجهات، والبحث موكول الى محله(2).
الدليل الحادي عشر: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) : قال: «أيّ فرق بين الطهارة والنجاسة حتى صارت النجاسة تتعدى بمجرد الاتصال والطهارة تحتاج الى الامتزاج»(3).
وفيه: أنّ النجاسة أيضاً لا تتعدّى بمجرد الاتصال في المقام بل بالامتزاج والتغيير حيث لا يمكن التغيير إلّا بالامتزاج، نعم في القليل قد يورد الإشكال حيث إنَّ صرف الاتصال كاف في التنجيس، بخلاف التطهير(4).
ص: 171
--------------------------
ودفع الفقيه الهمداني الإيراد - في مقام آخرلا ربط له بهذا المقام - بقوله: «وتنظيرها بالنجاسة غير صحيح... بل لعلّ أهل العرف يستنكرون ويستبعدون طهارة ماء النجس إذا كان في إناء ضيّق الفم وغمسه في الكر من دون أن يحصل الامتزاج وهذا بخلاف ما لوكان ماء الإناء طاهراً وغمس في البول فإنّ اهل العرف يشهدون بنجاسته»(1).
فالعرف يفرق بينهما ففي النجاسة تتعدّى وفي الطهارة لا تتعدّى، فالفارق التفريق العرفي، فتأمل.
الدليل الثاني عشر: ما ذكره السبزواري، قال: «القائل بالامتزاج إن اراد امتزاج الكل في الكل فهو محال لما ثبت في محلّه من امتناع تداخل الأجسام، وإن أراد البعض المخصوص فهو من الترجيح بلا مرجح، وإن أراد الامتزاج في الجملة فهو حاصل تكويناً لأنّ الماء سيال بالطبع واتصال الأجزاء فيه بعضها ببعض في الجملة لأجل الرطوبة المسرية تكوينية»(2).
وفيه: أنّ الحصر غير حاصر لوجود احتمال رابع وهو الامتزاج العرفي.
فتحصّل من جميع ذلك أن الامتزاج ليس شرطاً، واللّه العالم.
ص: 172
14 مسألة: إذا وقع النجس في الماء فلم يتغيّر، ثم تغيّر بعد مدّة فإن علم استناده الى ذلك النجس تنجّس(1) وإلّافلا[1].
--------------------------
[1] المسألة تحتوي على صورتين:
الأولى: العلم باستناد التغيّر الى النجاسة، وفيها يحكم على الماء بالنجاسة لدليلين:
الأوّل: إطلاقات أدلّة التغيّر أو عموماتها كصحيحة ابن بزيع: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّا أن يتغيّر»(2) فإنّها شاملة لما إذا حصل التغيّر بعد وقوع النجاسة فوراً أو مع فصل(3)،
ولم يذكر في الأخبار تفصيل بين الصورتين.
الثاني: إلغاء الخصوصية عرفاً لو فرض عدم الإطلاق أو العموم في الأدلة، إذ لا فرق عرفاً بين تأثير القذر في التغيّر فوراً أو بعد مدة، فمناسبة الحكم والموضوع تقتضي التعميم. ومنه يعلم التأمل فيما ذهب اليه السيد البروجردي(4).
ص: 173
--------------------------
تفريع. قال السيد الوالد: «لا فرق بين ما لو كانت عين النجس في الماء حين التغيّر، وبين ما لم تكن باقية كما لو ألقيت الميتة في الماء ثم اُخرجت وبعد ذلك تغيّر بما علم استناده الى تلك الميتة، فلا مجال للقول بالطهارة في الصورة الثانية لأنّه حين الملاقات لم يتغيّر، وحين التغيّر لا يكون ملاقياً بضميمة استفادة اشتراط النجاسة بالملاقاة والتغيّر معاً»(1).
فلا يقال: إنّ الشرط اجتماع الشرطين وعدم كفاية المجاورة، فحين التغيّر لا ملاقاة، وحين الملاقات لا تغيّر، لما سبق.
الصورة الثانية: أن لا يعلم استناد التغيّر الى النجاسة كما لو ووقعت ميتة فأرة في الماء وأخرجت(2) ثم وقعت ميتة سمكة فتغيّر رائحة الماء ولا يدرى أن التغيّر مستندٌ الى الميتة النجسة أو الطاهرة.
ويمكن أن يستدل على طهارة الماء بأدلة:
أوّلها: إنَّ الأصل عدم استناد التغيّر الى النجاسة ونحو ذلك بعنوان أصالة العدم.
ووجه الإشكال فيه ما قد قال: من عدم وجود أصل لهذا الأصل - أصل العدم - والتفصيل موكول الى الاُصول، وقد مال السيد العم الى وجود أصالة العدم مضافاً الى استصحابه.
ص: 174
--------------------------
ثانيها: استصحاب عدم استناد التغيّر الى ملاقاة النجاسة.
ويمكن أن يورد عليه: بعدم وجود حالة سابقة له، إذ الماء بعد تغيّره لم يمر عليه زمان لم يستند تغيّره فيه الى ملاقاة النجس حتى يستصحب بقائه على ماكان عليه.
لكن يمكن دفعه: باستصحاب العدم الأزلي(1). و لكنه مبنائي.
ص: 175
--------------------------
ثالثها: استصحاب عدم تغيّر الماء بالنجاسة، إذ الماء لم يكن متغيّراً بالنجس فنستصحب عدم تغيّره به على نحو العدم النعتي لا العدم الأزلي، فإن الموضوع هو الماء والمحمول عدم التغيّر، لكونه لم يكن متغيّراً مع ورود احتمال استناد التغيّر اللاحق عليه الى الفأرة مثلاً، فيقال الماء لم يكن متغيّراً بملاقاة الفأرة فيُستصحب عدم تغيّره. وهذا بخلاف الوجه الثاني فإن الموضوع فيه: التغيّر، والمحمول: الاستناد، ولا حالة متقدمة له إلّا على نحو العدم الأزلي. وما يظهر من الأدلّة أنّ الموضوع هو «الماء».
منها: ما في صحيحة حريز: «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا تتوضأ منه ولا تشرب(1)».
ومنها: صحيحة أبي خالد القماط: «إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضأ منه»(2).
ومنها: صحيحة ابن بزيع: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّا أن يتغيّر»(3). وغيرها.
ويرد على ما تقدم إشكال المعارضة كما ذكره الحلي(4) والسبزواري، قال في المهذب: «فهو من موارد جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي، فإن
ص: 176
--------------------------
فرض وجود الأثر الشرعي لكل واحد من الأصلين، يسقطان بالمعارضة... والظاهر تحقّق الأثر الشرعي لكل واحد من الأصلين... مقتضى أصالة عدم كونه بالنجاسة: هو الطهارة وجواز التوضأ مثلاً بل وجوبه، ومقتضى أصالة عدم كونه بالطاهر: النجاسة، ووجوب الإجتناب(1)». فأصالة عدم كون التغيّر مستنداً الى الميتة النجسة معارض بأصالة عدم كونه مستنداً الى الميتة الطاهرة.
وفيه: أنّ موضوع الحكم بالنجاسة في الأدلّة: «تغيّر الماء بملاقاة النجس»، وموضوع الحكم بالطهارة: «عدم تغيّره مع ملاقاته للنجس». وأمّا التغيّر بطاهر فليس موضوعاً للحكم الشرعي إلّا على الأصل المثبت بأن يقال: «الأصل عدم تغيّر الماء بملاقاة الطاهر، إذن تغيّر بملاقاة النجس، اذن تنجس».
ثم إنّ هذه الاُصول الثلاثة كلّها اُصول موضوعيّة، فإذا فرضنا عدم جريانها، أو قلنا بأنّه لا مانع من جريان الاُصول الحكمية في عرض الاُصول الموضوعية إذا كانت متوافقة في المؤدى، ننتقل الى الوجه الرابع.
رابعها: استصحاب طهارة الماء.
وقد يشكل عليه: بأنّ الاستصحاب لم يجر في الموضوع للمعارضة - لو تمّت - فكيف يجري في الحكم ؟
خامسها: أصالة الطهارة ل: «كل شيء لك طاهر»(2) على مبنى المعارضة وعدم إمكان جريان الاستصحاب.
ص: 177
15 المسألة: إذا وقعت الميتة خارج الماء ووقع جزء منها في الماء وتغيّر بسبب المجموع من الداخل والخارج تنجس(1)، بخلاف ما إذا كان تمامها خارج الماء(2)[1].
--------------------------
ثم إنّه لو فرض جريان استصحاب طهارة الماء فهل يجري أصل الطهارة في عرضه؟ احتمالات: من جريان الأوّل دون الثاني، أو عكسه، أو جريانهما معاً، والتفصيل في محله.
تفريع. قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «الحكم لا يختص بما إذا تغيّر بعد مدة، بل لو حصل التغيّر آن وقوع النجاسة ولكن احتمل عقلائياً عدم استناد التغيّر اليه لم ينجس»(3). وذلك كما إذا وقعت الفأرة و السمكة في أنّ واحد ثم حصل التغيّر.
[1] المسألة تحتوي على فرعين:
الأوّل: وقوع جزء من الميتة خارج الماء ووقوع جزء منها في الماء، والظاهر من سوق العبارة أنّ المراد وقوع بعض الميتة على الأرض وبعضها
ص: 178
--------------------------
في الماء، لا كون بعضها مغموراً في الماء وبعضها بارزاً فوق سطحه.
والأقوال في المسألة ثلاثة:
الأوّل: النجاسة مطلقاً. وهو مختار الشيخ الأعظم وصاحب العروة ومعظم المحشين.
الثاني: الطهارة مطلقاً. وهو مختار التنقيح(1)
والخونساري(2).
الثالث: التفصيل بين دخول شيء يسير في الماء فلا ينفعل، أو مقدار معتد به، وهو مختار المستمسك(3).
أما القول الأوّل : فقد استدل عليه الشيخ الأعظم: «بصدق تغيّره بما وقع فيه»(4). وهذا الدليل إنّما يتمّ في صورة استناد بعض مراتب التغيّر الى الداخل فقط وإن كان بعض مراتبه الآخر مستنداً الى الخارج أو الى المجموع المركب.
وأمّا في صورة كون طبيعي التغيّر مستنداً الى المجموع المركب من الداخل والخارج فلا يتمّ بناء على اشتراط المباشرة وعدم كفاية المجاورة في الحكم بالانفعال، إذ التغيّر لم يستند بالاستقلال الى ماهو مؤثر في الانفعال، ولا فرق بين استناد التغيّر الى خصوص الخارج أو الى المجموع
ص: 179
--------------------------
من الداخل والخارج، فكما لا يؤثر الأوّل في الانفعال كذلك الثاني. والخلاصة إنّ المؤثر في الانفعال التغيّر بالمباشرة وهو غير حاصل في الصورتين، وقد صرح صاحب العروة في المسألة 17 بأنّه: «إذا وقع في الماء دم وشيء طاهر أحمر فأحمر بالمجموع لم يحكم بنجاسته»، ولا فارق بين المسالتين فتفريق المصنّف بينهما بلا وجه.
وبعبارة اُخرى: استناد التغيّر الى ما يوجب الانفعال، وما لا يوجب الانفعال إن لم يوجب الحكم بالانفعال فحكم المصنّف بالانفعال في هذه المسألة غير تام، وإن أوجب الانفعال فحكمه في تلك المسألة بعدم الانفعال غير تام.
القول الثاني: الحكم بالطهارة مطلقاً ووجهه يظهر من الإشكال الذي ذكر على القول الأوّل .
وأجيب عن ذلك: بأنّ الفارق إطلاق النصوص أو عمومها في المقام.
وبيان ذلك يتمّ ضمن مقدمات أربع:
الأولى: إنّ الغالب في الجيفة - التي تكون في الماء - بروز بعضها.
الثانية: التغيير في هذه الصورة يستند الى مجموع الداخل والخارج أو يحتمل ذلك.
الثالثة: ترك الاستفصال في النصوص الواردة في تغيّر الماء بالميتة الواقعة فيه بين الصورتين - استناد التغيّر بالداخل فقط أو المجموع - مع أنّ صورة الاشتراك في التأثير ليست بنادرة، بل ربّما يقال: بكونها هي الغالبة.
ص: 180
--------------------------
الرابعة: التفكيك بين مورد النصوص وفرض المسألة بعيدٌ عن المرتكزات العرفية، وهذه النكتة مفقودة في صورة تغيّر الماء بمجموع المركب من الدم والطاهر الأحمر، وإن لم يكن فرق بينهما في عدم استناد تغيّر الماء استقلالاً الى الجزء النجس الموجود داخل الماء. والخلاصة: أنّ ما نحن فيه داخل في مدلول الأخبار بخلاف تلك المسألة.
فالنتيجة: انّ التغيّر بالدم والأحمر الطاهر لا يؤثر بالانفعال، بخلاف الميتة الداخل بعضها في الماء والخارج بعضها الآخرعنه لما ذكر من المقدمات الأربع، فصحيحة حريز: «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا توضأ منه ولا تشرب»(1).
وصحيحة القماط: «في الماء يمر به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة؟ فقال ابو عبد اللّه (عليه السلام) : «إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشربه ولا تتوضأ منه وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب منه وتوضأ»(2)
وغيرهما من روايات الميتة لا تفصّل في أن يكون المؤثر هو الجزء المغمور فقط أو أنَّ كلا الجزئين يشتركان في التغيّر، فالملاك التغيير(3).
ص: 181
--------------------------
ثم إنّه يحكم بالنجاسة لو شك في استناد التغيّر الى الجزء الداخل فقط أو الى المجموع المركب، وذلك لتولد العلم التفصيلي بالنجاسة من العلم الإجمالي. أمّا مع احتمال استناد التغيير الى الجزء الخارج فقط فالحكم أصالة الطهارة.
ثم إنّ هنا تفصيلاً متيناً في المستمسك قال: «نعم لو كانت الجيفة في الخارج وبعضها اليسير في الماء كطرف رجلها أو ذنبها لم تبعد دعوى الانصراف عن مثله»(1). فالمرجع أصالة الطهارة.
هذا كلّه بناء على أنّ التغيّر بالمجاورة لا يؤثر في الانفعال، وأمّا على ما سبق تبعاً للسيد الوالد (رحمه اللّه) فلا فرق بين الصور كلّها حتى فيما علم استناد التغيّر الى الجزء الخارج فقط.
تذنيب: يعلم ممّا سبق حكم ما لو كانت إحدى الميتتين في داخل الماء والاُخرى في الخارج مع استناد التغيير الى كلتا الميتتين أو احتمال الاستناد الى كلتيهما.
الفرع الثاني: أن يكون تمامها خارج الماء فيكون طاهراً حينئذٍ على مبنى القوم، لما سبق من اشتراط المباشرة، وعدم كفاية المجاورة في الانفعال، وقد سبق البحث في ذلك.
ص: 182
16 مسألة: إذا شك في التغيّر وعدمه، أو في كونه بالمجاورة(1) أو بالملاقاة، أو كونه بالنجاسة أو بطاهر لم يحكم بالنجاسة[1].
--------------------------
[1] في المسألة فروع ثلاثة:
الفرع الأوّل : لو شك في التغيّر وعدمه، ففي المقام اُصول أربعة تقتضي الحكم بالطهارة.
الأوّل: أصالة عدم حصول التغيّر في الماء.
الثاني: استصحاب العدم، وهذان أصلان موضوعيان.
الثالث: أصالة الطهارة.
الرابع: استصحاب الطهارة، وهذان أصلان حكميان.
الفرع الثاني: لو شك في أنّ التغيّر للمجاورة أو بالملاقاة - والمفروض على مبنى القوم أنّ المجاورة غير مؤثّرة في الانفعال - ففي المقام اُصول ستة تقتضي الحكم بعدم الانفعال:
الأوّل: أصل عدم استناد التغيّر الى ملاقاة النجاسة.
الثاني: استصحاب العدم - الأزلي -.
الثالث: استصحاب عدم تغيّر الماء بملاقاة النجاسة - النعتي -.
الرابع: أصالة عدم الملاقاة. وهذه الاُصول كلّها موضوعية.
الخامس: أصالة الطهارة.
ص: 183
--------------------------
السادس: استصحاب الطهارة. وقد سبق الكلام فيها فراجع.
نعم أشكل الحلي على أصالة عدم الملاقاة بإشكالين، قال: «ولا يجري فيها استصحاب عدم الملاقاة إذ لا يترتّب عليه عدم استناد التغيّر الى الملاقاة إلّا بالأصل المثبت، لو سلم من المعارضة بأصالة عدم المجاورة»(1).
وفيه نظر: أمّا المعارضة ففيها أنّ أصالة عدم المجاورة لا أثر لها(2).
وأمّا المثبتية ففيها أنّ الملاقاة والتغيّر موضوع للأثر وينتفي الأثر بانتفاء أحد جزئي المركب ولو بالأصل، فكما يُنفى التغيّر بالأصل(3) فلينفى الملاقاة بالأصل ايضاً، فتم المطلوب.
ثم إنّه لو كان كل من المجاورة والملاقاة محقّقاً وقد شك في كون المغير
ص: 184
--------------------------
هو المجاورة أو الملاقاة أو هما بالاشتراك فلا تجري أصالة عدم الملاقاة للعلم بها وتجري سائر الاُصول السابقة.
هذا كلّه على مباني القوم. ولكن قد سبق: أنّه لا فرق في النجاسة بين المجاورة والمباشرة.
الفرع الثالث: لو شك في كون التغيّر بنجس كالشاة الميتة، أو بطاهر كالسمكة الميتة، جرى في المقام أصل عدم التغيّر بالنجس، واستصحاب الطهارة وأصالة الطهارة ونحو ذلك ممّا سبق بحثه في المسألة «14».
تذنيب. قال السيد الوالد: «ومثل هذه الصور صور اُخرى كما لو شك في كون العلّة هو النجس فقط، أو بمعونة الطاهر، أو شك في كونها بالملاقي فقط، أو بمعونة الخارج، أو شك في كونها بالأوصاف الثلاثة أو غيرها، الى غير ذلك من صور الشك»(1).
ص: 185
17 مسألة: إذا وقع في الماء(1) دم(2) وشيء طاهر أحمر، فأحمر بالمجموع لم يحكم بنجاسته(3)[1].
--------------------------
[1] مراده بالماء: الماء المعتصم، ومراده بالدم: الدم النجس كما هو واضح.
والأقوال في المسألة أربعة:
الأوّل: الطهارة مطلقاً. اختاره المصنّف والنائيني والحائري والسيد ابو الحسن والبروجردي والخونساري والخوئي.
الثاني: النجاسة مطلقاً. اختاره الگلبيگاني على نحو الإحتياط الوجوبي.
الثالث: التفصيل بين أن يستند التغيّر ولو ببعض مراتبه الى الدم فإنّ الأحوط الإجتناب، وعدمه. اختاره السيد الوالد والسيد حسن القمي على نحو الإحتياط الوجوبي والسيد الحكيم على نحو الفتوى.
الرابع: التفصيل بين صورة كون كل واحد تام الاقتضاء في التأثير فجاء الاشتراك من جهة المزاحمة وبين ما لوكان اقتضاء كل ناقصاً بالمصير الى
ص: 186
--------------------------
النجاسة في الأوّل دون الثاني. ذكره بعنوان الإمكان المحقق العراقي(1)، وقال السيد عبد الهادي الشيرازي: «فيما لم يكن الدم بانفراده مغيراً وإلّا فالأحوط الإجتناب»(2) والظاهر أنّ مآله الى ما ذكره العراقي.
إلّا أنّ في مراد المصنّف غموض، والذي يمكن أن يقال في هذا المقام إنّ الصور ثلاثة:
الصورة الأولى: أن يكون النجس تام الاقتضاء للتغيير ولو ببعض المراتب النازلة العرفية من مراتب التغيير، وفيها ينبغي الحكم بالانفعال لدليلين:
الأوّل: إنّ الدم النجس قد أثر بالفعل في تغيّر الماء حقيقة، وإن فرض كون الطاهر مؤثراً فيه بالفعل حقيقة ايضاً.
لا يقال: في فرض تأثير الطاهر في التغيير حقيقة لا يستند التغيير الى النجس بل يكون جزء العلّة في التغيير، وذلك لعدم معقولية توارد علتين مستقلتين على معلول واحد، ففي صورة التوارد ينقلب كل منهما الى جزء العلّة كرصاصتين تطلقان على شخص واحد وتؤديان الى قتله.
فإنّه يقال: الموضوع في القاعدة: المعلول الواحد، وليس المعلول في المقام واحداً إذ للون مراتب، فتستند كل مرتبة الى إحدى العلّتين، كما يستند النور
ص: 187
--------------------------
الى كلا السراجين إذا أسرجا في مكان واحد.
ثم إنّ القاعدة تعبّر عن دقة فلسفية والملاك في المقام الاستناد العرفي، وهو حاصل لأنّه يقال: غيّره النجس، وإن صحّ أن يقال: غيّره الطاهر، أو غيراه معاً(1).
الثاني: إنّ المانع من ظهور أثر النجاسة صفة من الصفات العارضية الشخصية للماء، وفي مثله يكون التغيّر تقديرياً، وقد سبق أنّ التغيّر التقديري مع كون المانع صفة من الصفات العارضية الشخصية للماء لا يمنع من الحكم بالانفعال.
الصورة الثانية: أن لا يكون النجس تام الاقتضاء بحيث لو كان بمفرده لم يؤثر في الانفعال عرفاً لكنّه أثّر في التغيير لسبق المعدّ بأن وقع في الماء الطاهرُ الأحمر اولاً فلم يغيّره، ثم وقع الدمُ النجس فغيّره، والظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال في النجاسة وذلك لصدق العناوين المأخوذة في نصوص الباب كعنوان «تغيّر»(2)، وعنوان «قهره»(3) وعنوان «غلب عليه»(4).
ص: 188
--------------------------
لا يقال: إنّ التغيير لا يستند الى الجزء الأخير من العلّة التامة بل اليها وهي عبارة عن جميع أجزائها، والطاهر الأحمر مُعِدٌّ كما ارتضاه ظاهراً في الفقه.
فإنّه يقال: هذه دقّة عقليّة والملاك صدق العناوين المذكورة عرفاً(1).
الصورة الثالثة: أن يستند التغيّر الى مجموعها، من دون أن يكون كل منهما مقتضياً للتأثير فيه بالاستقلال ولو ببعض المراتب النازلة، ولم يستند التغيير الى النجس كما في الصورة الثانية. وهنا لا يحكم بنجاسة الماء لعدم فعلية تغيير النجس ولا اقتضائه التغيير. كما لو كان أدنى مراتب التغيير متوقّف على مقدار من دم شاة، إلّا أنّه اُلقي نصف ذلك المقدار مع نصف المقدار من دم سمك. إلّا أنّ المسألة لا تخلو من ابهام وغموض.
ص: 189
18 مسألة: الماء المتغيّر إذا زال تغيّره بنفسه[1] من غير اتصاله بالكر أو الجاري(1)[2] لم يطهر[3].
--------------------------
[1] مراده من كلمة بنفسه هو عقد النفي أي من غير اتصاله بالكر أو الجاري، وإلّافلا فرق في الحكم بين أن يزول التغيّر بنفسه، أو بتصفيق الرياح أو بوقوع أجسام طاهرة تزيل عنه التغيّر كما عبّر بذلك المحقق في الشرايع(2).
[2] المقصود بالاتصال بالكر أو الجاري: مطلق الاتصال بالعاصم ولو كان من المطر مثلاً.
[3] في هذه المسألة فرعان:
الفرع الأوّل : وفيه مقامان: الكر المتغيّر. و القليل المتغيّر.
المقام الأوّل : والبحث فيه جهتين: الاُصول العملية والأدلّة الإجتهادية.
الجهة الأولى: الاُصول العملية: فقد استدل لبقاء النجاسة بالاستصحاب، للعلم بنجاسة الماء حال تغيّره فإذا شك في البقاء والارتفاع بزوال التغيّر فمقتضى الاستصحاب بقائها.
وقد يشكل على ذلك بوجوه.
ص: 190
--------------------------
الأوّل: إنّه من الاستصحاب في الأحكام الإلهية الكلية، وجريان الاستصحاب فيها ممنوع، فإنّ الشك انما هو في بقاء النجاسة بعد زوال التغيّر. وجهه تعارض استصحاب بقاء المجعول مع استصحاب عدم الجعل في أزيد من المقدار المتيقّن، فيسقط الاستصحابان بالمعارضة، ويؤخذ بالمقدار المتيقّن من الحكم بالنجاسة وهو زمان بقاء التغيّر بحاله، ويرجع فيما زاد عليه الى أصالة الطهارة.
وفيه: أنّه لا فرق في حجية الاستصحاب بين الموضوعات الخارجية والأحكام الجزئية والأحكام الكلية والتفصيل موكول الى محلّه.
وأمّا القول بأنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في الموضوع الخارجي وان لم يجر في الحكم الكلي لكون الشك في بقاء نجاسة الماء بعد زوال التغيّر.
فبمنأى عن الصواب وذلك لوحدة الملاك بينهما بعد كون الحكم الجزئي معلولاً للحكم الكلي.
الثاني: إنّ الشك في المقام شك في المقتضي، لأنّه مسبّب عن الجهل بمقدار اقتضاء التغيّر للتأثير، وأنّه هل يقتضي تنجيس الماء مطلقاً، أو تنجيسه ما دام التغيّر، والاستصحاب لا يجري مع الشك في المقتضي.
وفيه أوّلاً: ما أورده الفقيه الهمداني بقوله: «بأنّ الطهارة والنجاسة كالملكية والزوجية والحرية والرقية من الاُمور القارّة التي لا ترتفع بعد تحققها إلّا برافع، ولذا لا نشك في بقاء نجاسة الكر المتغيّر لو صار قليلاً قبل
ص: 191
--------------------------
زوال تغيّره، والشك في المقام إنّما نشأ من احتمال كون الكرية بنفسها رافعة للنجاسة من الماء ككونها دافعة عنه، والأصل يقتضي بقائها مالم تثبت رافعية الكر»(1).
وفيه نظر: لأنّ كونهما كذلك أوّل الكلام. إلّا أن يستدل عليه بارتكاز المتشرعة.
ثانياً: إنّ الاستصحاب حجة ولو كان الشك في المقتضي، على مافصّل في محلّه.
الثالث: إنّ شرط جريان الاستصحاب وحدة الموضوع وهي مفقودة في المقام.
واورد عليه الفقيه الهمداني بقوله: «إنّ معروض النجاسة على ما يساعد عليه العرف، ويستفاد من ظواهر الادلة، إنّما هو نفس الماء، وتغيّره علّة لانفعاله، والشك إنّما نشأ من احتمال أن بقاء النجاسة أيضاً كحدوثها مسبّب عن فعلية التغيّر بحيث تدور مداره، أو أن التغيّر ليس إلّا علّة لحدوث النجاسة، فبقائها مستند الى اقتضائها الذاتي، فلا يجوز في مثل المقام نقض اليقين بالشك، ورفع اليد عن النجاسة المتيقّنة الثابتة لهذا الماء بمجرد احتمال أن يكون زوال التغيّر مؤثراً في ازالتها»(2).
ص: 192
--------------------------
أشكل عليه السيد الوالد (رحمه اللّه) قال: «لما كان موضوع الاستصحاب هو الأمر العرفي لم يفهم العرف من الأدلّة الواردة في نجاسة المتغيّر إلّا نجاسة ما كان فعلاً متغيّراً، حتى يرى أنّ النجاسة دائرة مدار التغيّر وجوداً وعدماً، ولا يفهم اقتضاء ذاتي لها.
وهذا يتّضح بمقايسة هذا المثال بالأمثلة العرفية فلو قال: لا يجوز شرب الماء لو كان ذا رائحة خبثية، وكان هناك متصف به، ثم زالت رائحته لم يشك العرف في جواز استعماله»(1). ثم مثّل ببعض الأمثلة الاُخرى.
أقول: العلّة تارة علّة للحدوث فقط، بحيث يكفي حدوثها في وجود المعلول ولا يحتاج الى بقائها في بقائه، وتارة تكون علّة للحدوث والبقاء معاً بحيث يدور وجود المعلول مدار فعلية وجود العلّة(2). وفي الأمثلة العرفية يوجد كلا النحوين. ففي النحو الأوّل : تتحقق وحدة الموضوع بعد انتفاء العلّة، وفي النحو الثاني تنتفي.
ص: 193
--------------------------
وحينئذٍ يرد الإشكال على ماذكره الفقيه الهمداني: لأنّه لم يعلم كون المقام من نقض اليقين بالشك، إذ كونه كذلك موقوف على كون العلّة علّة للحدوث فقط، فالتمسّك بلا نقض في المقام تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية.
وأيضاً يظهر التأمل فيما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) وذلك لأنّ الدوران مدار العلّة إنّما يكون في النحو الثاني لا في النحو الأوّل ، وحيث إنَّ الأدلّة في المقام تحتمل النحوين فلا يمكن القطع بدوران النجاسة مدار التغيّر وجوداً وعدماً.
نعم يمكن أن يقال: بأنّ الشك في بقاء الموضوع كافٍ في منع جريان الاستصحاب لاشتراط إحراز وحدة الموضوع في جريان الاستصحاب، ولم تحرز وحدة الموضوع في المقام وحينئذٍ يتمّ ما ذكره السيد الوالد(1).
ولكن يمكن أن يورد عليه: بأنّه بالنظر العرفي يكون الماء هو المعروض للانفعال، فرفع اليد عن النجاسة عرفاً نقض لليقين بالشك وإن كان النقض مشكوكاً بالدقة العقلية، وذلك لأنّ الشك في بقاء المعروض وعدمه.
ص: 194
--------------------------
والخلاصة: إنّه إن كان موضوع الحكم هو الماء، كان الموضوع باقياً، لأنّ المعروض هو المنعوت أي الماء، والنعت وهو التغيّر من الحالات لا من مقومات الموضوع(1).
وإن كان موضوع الحكم هو الماء المتغيّر فالموضوع مرتفع، ونحن وإن لم نعلم بوجود الموضوع إلّا أنّ العرف يرى أن من يتعامل مع الماء المتغيّر معاملة الطاهر بعد زوال تغيّره، قد نقض اليقين بالشك.
الجهة الثانية: الاستدلال على طهارة المتغيّر الكثير بعد زوال تغيّره من قِبل نفسه بوجوه.
الوجه الأوّل : ما روي عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قوله: «الماء إذا بلغ كرّاً لم يحمل خبثاً»(2). تقريب الاستدلال: أنّ الحديث بعمومه يشمل الدفع والرفع، فكما أنّه يدفع الخبث كذلك يرفعه(3)، وإنما خرجنا عن عمومه في زمان التغيّر خاصة للأدلّة الدالة على نجاسة الماء المتغيّر، فإذا زال التغيّر لم يكن
ص: 195
--------------------------
بدّ من الحكم بالطهارة، وذلك لما ثبت في محله من أن المرجع في غير زمان التخصيص هو عموم العام لا استصحاب حكم المخصّص، وذلك لورود أو حكومة الأدلّة الإجتهادية على الاُصول العملية، كما ذكروا نظيره في حلّية المرأة بعد الطهر وقبل التطهّر لعموم قوله تعالى: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ}(1).
مع أنّ الاستصحاب يقتضي بقاء الحرمة.
ويرد عليه اُمور:
الأمر الأوّل : ضعف السند لارسالها، بل قيل بأنّها لم توجد في شيء من جوامعنا المعتبرة، وبل لا في كتبنا الضعيفة.
وفيه نظر: لأنّ صاحب السرائر ادّعى الإجماع على نقلها وصحتها(2).
وقد اورد على ذلك: بأنّ المحقّق كذّب النسبة بقوله: «كتب الحديث عن الأئمة (عليهم السلام) خالية عنه أصلاً. وأمّا المخالفون فلم أعرف به عاملاً سوى من يحكى عن ابن حي وهو زيدي منقطع المذهب، وما رأيت أعجب ممّن يدّعي إجماع المخالف والمؤالف فيما لا يوجد إلّا نادراً، فإذاً الرواية ساقطة»(3).
وفيه نظر: لأنّ عدم عثور المحقق على الرواية لا يدلّ على عدم الوجود، فلعلّ ابن ادريس رواها في كتب لم تصل الى المحقق، خصوصاً وأنّ السيد
ص: 196
--------------------------
المرتضى والشيخ الطوسي(1) وآحاد ممن جاء بعده رووا هذا الخبر مرسلاً كما اعترف به المحقق في المعتبر(2).
نعم، هنالك بحث ذكروه في مباحث الإجماع والتواتر المنقولان من أنَّ لهما الكاشفية عن رأي المعصوم (عليه السلام) أو عن الواقع في نظر الناقل ولهذا ادّعي الإجماع أو التواتر، إلّا أنّ انتقاله اليهما حدسي، ويختلف الأفراد في الإنتقال من المبادي الى النتائج، فربّ مبدأ هو كافٍ في نظر فرد للإنتقال الى النتيجة دون آخر، وعلى ذلك فيؤخذ المقدار المتيقّن من المبدأ الحسي، ويلاحظ أنّ هذا المقدار كافٍ فيه للانتقال الى النتيجة في نظر المنقول اليه أم لا؟ على تفصيل مذكور في محله، والأمر في المقام كذلك إذ ابن ادريس قطع من تكرر النقل بمطابقة الخبر للواقع، ولم يحصل هذا القطع لنا فيكون الخبر غير قابل الاستناد اليه.
الأمر الثاني: ضعف الدلالة لأنّ ظاهر قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لم يحمل خبثاً» أنّه يدفع الخبث ولا يحمله إذا اُلقي عليه، لا أنّه يرفعه بعد تحميل الخبث عليه، لا أقل من إجمال الرواية فيؤخذ بالقدر المتيقّن وهو الدفع.
وأشكل عليه في التنقيح: «بأنّ لم يحمل بمعنى لا يتّصف، وهو أعمّ من الرفع والدفع»(3).
ص: 197
--------------------------
وفيه نظر: إذ المستفاد عرفاً من الرواية عدم حصول الخبث في الكر لا رفع الخبث الحاصل فعلاً(1).
ويؤيد ماذكرناه ما قاله في تاج العروس: «في الحديث النبوي: «اذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً»(2)، أي لم يظهر فيه الخبث كذا في العُباب، وهذا على ما اختاره الشافعي ومن تبعه أي فلا ينجس»(3).
وفي المصباح في الحديث المذكور: «معناه لم يقبل حمل الخبث، لأنّه
ص: 198
--------------------------
يقال: فلان لا يحمل الضيم أي يانفه ويدفعه عن نفسه»(1).
وتؤيده الرواية الاُخرى: لم ينجس وهذا محمول على ما إذا لم يتغيّر بالنجاسة.
وفي النهاية بعد ذكر الحديث: «أي لم يظهره ولم يغلب عليه الخبث، والمعنى أنّ الماء لا ينجس بوقوع الخبث فيه»(2).
ويؤيده أيضاً ما قيل من أنّ جميع روايات الكر واردة في مقام الدفع وانفراد هذه الرواية بالدلالة على الرفع بعيد(3).
الثالث: سلّمنا تمامية السند والدلالة، إلّا أنّ هجر الأصحاب لإطلاقه يمنع عن التمسك به كما في المهذب(4).
وذكر أيضاً (5) أنّه: «لم ينقل الخلاف إلّا عن يحيى بن سعيد في الجامع، وعن العلّامة في النهاية أنّه تردّد في حصول الطهارة بذلك». وقد قرّر في محلّه أنّ هجر الأصحاب كاسر للدلالة ككسره للسند لو تحقّق بالنسبة اليه.
هذا، ولكن في الجواهر: «قال بعضهم إنّه - أي القول بالطهارة - لازمٌ لكل
ص: 199
--------------------------
من قال بطهارة القليل بإتمامه كراً»(1).
قال في الفقه: «ذهب الى الطهارة بالتتميم السيد والحلي وابن سعيد والقاضي والديلمي والكركي، وذهب بعضهم الى الطهارة إن تُمّم بطاهر، كما عن ابن حمزة، ونسبه المبسوط الى بعض الأصحاب، وقال: إنّه قوي»(2).
وعليه فالأولى أن يقال: إنّ هجر المشهور له كاسر لدلالته.
الوجه الثاني(3): إنّ الحكم بالنجاسة أُنيط بعنوان المتغيّر بحسب الحدوث والبقاء كما في غيرها من الأحكام والموضوعات، مثلاً حرمة شرب الخمر اُنيطت بعنوان الخمر فبثبوت العنوان تثبت الحرمة، وبارتفاع العنوان - كما لو انقلبت الخمر خلاً - ترفع الحرمة، فكما أنّ الحرمة تدور مدار وجود موضوعها
ص: 200
--------------------------
وترتفع بارتفاعه، فلتكن النجاسة أيضاً مرتفعة عند ارتفاع موضوعها وهو التغيّر.
وأجيب عنه بجوابين:
الجواب الأوّل : إنّ مقتضى الإطلاقات نجاسة الماء المتغيّر مطلقاً، زال تغيّره أم لم يزل، وقد اشار اليه الفقيه الهمداني(1) ولم يرتضه، وذكره التنقيح(2) وارتضاه، وهو إشارة الى الروايات التي أخذ فيها التغيّر بصيغة الماضي أو بصيغة اُخرى بمعنى الماضي موضوعاً كصحيحة حريز: «فإذا تغيّر الماء و تغيّر طعمه فلا توضأ منه ولا تشرب»(3).
وصحيحة القماط: «إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضأ منه»(4).
وأنت ترى أنّه يصحّ لنا أن نقول: «هذا الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه وإن لم يكن متلبّساً بالتغيّر بالفعل»، كما يصح لنا أن نقول: «إنّ هذا الماء قد لاقى النجاسة وإن زالت ملاقاته لها».
وفي هذا الجواب نظر.
أوّلاً: لما ذكره الفقيه الهمداني، قال: «وفيه: أنّه لا إطلاق لتلك الأدلّة
ص: 201
--------------------------
بالنسبة الى أحوال الفرد»(1).
وفيه نظر: إذ كما أنّ للمطلق إطلاقاً أفرادياً له إطلاق أحوالي، فإذا قال المولى مثلاً: «أكرم العالم» فكما يشمل زيداً وعمرواً وبكراً يشمل زيداً شاباً كان او كهلاً او شيخاً.
ولعلّ مراده أنّه لا إطلاق احوالي لعدم كون المولى في مقام البيان من هذه الجهة.
لكن قد يشكل فيه: بأنّ الأصل كما ذكره الوالد (رحمه اللّه) والعم دام ظله كون المولى في مقام البيان من تمام الجهات.
إلّا أن يجاب عنه: بأنّ الأصل العقلائي ليس أصلاً تعبّدياً بل هو تابع للظهور العرفي، ولا ظهور عرفي في المقام في الإطلاق بعد اختلاف الأمثلة عرفاً، مثلاً إذا قال: «إذا لاقت القذارة الماء فلا تشرب منه» لم يفهم العرف من ذلك مدخلية الملاقاة بقاء، أمّا إذا قال: «إذا حاربك زيد فحاربه» فهم العرف مدخلية فعلية المحاربة في ترتّب الجزاء(2).
ص: 202
--------------------------
وثانياً: لما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) من وجود الإطلاق في الجانب الآخر، قال: «لا حاجة الى قاعدة الطهارة بعد شمول أدلّة الطهارة كقوله (عليه السلام) : «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب»(1)، وقوله (عليه السلام) : «لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول»(2) وقوله (عليه السلام) : «إن كان الماء قاهراً ولا توجد منه الريح فتوضأ»(3).
أقول: بعض الروايات معتبرة، فإنّ الأولى صحيحة حريز، والثانية في سندها محمد بن سنان، وفيه بحث على مامضى، والثالثة: صحيحة عبد اللّه بن سنان.
ودعوى انصرافها الى صورة الابتداء معارضةٌ بمثلها، وهذه الإطلاقات إنّما تنفع فيما إذا فرض عدم وجود إطلاق في أدلّة التغيّر، وأمّا مع فرض الإطلاق فالظاهر أنّهما يتعارضان ويتساقطان، ويكون المرجع استصحاب النجاسة على مبنى السيد الوالد، وأصالة الطهارة على مبنى التنقيح.
والحاصل: أنّه مع فرض التعارض ينتهي إطلاق الفقه والتنقيح الى ضده، إذ لا إطلاق في قوله (عليه السلام) : «غلب» كما ذكره السيد الوالد(4) (رحمه اللّه) للتساقط،
ص: 203
--------------------------
وعليه تكون النتيجة النجاسة للاستصحاب على عكس مبناه، وكذلك لا إطلاق في قوله: «تغيّر» كما عليه التنقيح، فتكون النتيجة أصالة الطهارة على عكس مبناه، فلاحظ.
الجواب الثاني: ما ذكره في التنقيح قال: «لأنّ الدليل دلّ على أنّ الماء إذا تغيّر يحكم عليه بالنجاسة، وأمّا أنّ التغيّر إذا ارتفع ترتفع نجاسته فهو ممّا لم يقم عليه دليل، ولا يستفاد من شيء من الأخبار، فهي ساكتة عن حكم صورة ارتفاع التغيّر عن الماء»(1). والظاهر أنّه متين.
لا يقال: إنّ الحكم يرتفع بارتفاع موضوعه قهراً(2).
اذ يجاب عنه: بأنّ الذي يرتفع بارتفاع الموضوع شخص الحكم، وليس الكلام في ذلك. وإنّما الكلام في ارتفاع سنخ الحكم.
ص: 204
--------------------------
إن قلت: وما الفرق بعد عدم ثبوت شخص الحكم عندِ ارتفاع الموضوع؟
قلت : الفرق أنّه لو كان المرتفع شخص الحكم لا يكون هنالك دليل إجتهادي في المقام، فتصل النوبة الى الاُصول العملية.
ونظير المقام ما قد يقال: من أنّه ما الفارق بين دعوى دلالة الجملة الشرطية على المفهوم ودعوى عدم دلالة الجملة الوصفية عليه، مع أنّ الحكم يرتفع بارتفاع الوصف قهراً.
فإنّه يجاب عنه: بأنّ المرتفع في القضية الشرطية سنخ الحكم وطبيعيُّهُ أي أنّ الجملة تدلّ على انتفاء الطبيعي عند انتفاء الشرط، وأمّا في الجملة الوصفية فالمرتفع شخص الحكم المناط بالوصف، وأمّا طبيعي الحكم فالجملة الوصفية ساكتة عنه، وما نحن فيه من قبيل الجملة الوصفية أو اللقبية وليس من قبيل الجملة الشرطية(1).
الوجه الثالث: صحيحة محمد بن اسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليه السلام) قال: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه، فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه؛ لأنّ له مادة»(2). وهذه الجملة تحتوي على العلّة
ص: 205
--------------------------
في طهارة ماء البئر وهي زوال التغيّر، فيستفاد منها أنّ كل متغيّر يطهر بزوال تغيّره؛ لأنّ العلّة تعمّم وتخصّص(1).
ويرد عليه أوّلاً: أنّه مبني على كون «حتى» تعليلية، وهو ممنوع لأنّ ظاهر الرواية كون حتى غائية، بمعنى أنّه ينزح الى مقدار تذهب به رائحته ويطيب به طعمه.
وأمّا قول السبزواري: «إنّ صحّة كون «حتى» للتعليل ممّا لا ينكر»(2) فهو ممّا لا يُنكَر، كما في قولنا: اسلم حتى تدخل الجنة. إلّا أنّ الصحّة غير الظهور، لا أقل من الإجمال، وهو مسقط للاستدلال.
ثانياً: بما في التنقيح، قال: «فإنّ التعليل ربّما يكون بأمر عام، كما ورد في الخمر: من أنّ اللّه لم يحرّم الخمر لاسمه بل لخاصيته وهي الإسكار، وفي مثله لا مانع من التعدي الى كل مورد وجد فيه ذلك الأمر، لأنّه العلّة للحكم
ص: 206
--------------------------
فيدور مداره، واُخرى يكون التعليل بأمر خاص فلا مجال للتعدي في مثله كما هو الحال في المقام، فإنّه (عليه السلام) علّل الحكم بذهاب الريح وطيب طعمه، والمراد بالريح هو ريح ماء البئر خاصة لقوله قبل ذلك: «إلّا أن يتغيّر ريحه» فإنّ الضمير فيه كالضمير في قوله ويطيب طعمه يرجعان الى ماء البئر لا الى مطلق الماء، ومع اختصاص التعليل لا وجه للتعدي عن مورده»(1).
وفيه نظر أمّا أوّلاً: فللنقض بما مثّل به من التعليل الوارد في الخمر ففي صحيحة علي بن يقطين عن ابي الحسن (عليه السلام) قال: «إنّ اللّه عزّوجل لم يحرّم الخمر لإسمها ولكن حرّمها لعاقبتها»(2).
وفي رواية اُخرى: «حرّمها لفعلها وفسادها»(3)، فالتعليل ليس بالفساد المطلق بل بالفساد الخمري، وليس للعاقبة المطلقة بل للعاقبة الخمرية لمكان الضمير، فلا مجال للتعدي، نعم لو قال: حرم اللّه الخمر للإسكار صحّ التعدّي.
وأمّا ثانياً حلاً: بأنّ الضمير في العلّة ونحوه إنّما هو لبيان المورد، لا لانحصار العلّة كما هو ظاهر التعليل عرفاً، ويظهر ذلك من النظائر كما في قول الطبيب لا تأكل الرمان لأنّه حامض، فإنّ العلّة الحموضة، لا الحموضة الخاصة، وقد ذكروا نظير ذلك في روايات الاستصحاب.
ص: 207
--------------------------
وأمّا ثالثاً: سلّمنا كونه للتعليل وأنّ التعليل بأمر عام لا خاص، ولكن في المقام تعليلان مترتّبان في قوله (عليه السلام) : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادّة»(1).
وفي مثل ذلك لا يتمّ الحكم إلّا مع وجود كلتا العلّتين، والعلّة الثانية مفقودة في المقام فإنَّ محل البحث الحوض ولا مادّة له.
وبعبارة اُخرى: قوله «لأنّ له مادة» علّة للحكم المستفاد من الأمر بالنزح من أجل ذهاب الريح وطيب الطعم والحكم الطهارة إلّا أنّ العلّة غير جارية في المقام.
نعم، لو قيل بأنّ قوله: «لأنّ له مادة» علّة لترتب ذهاب الريح على النزح - أي أنّ علّة ذهاب الريح عند النزح وجود المادّة - لنهضت العلّة بإثبات الحكم في المقام، ولكن عليه يكون تعليلاً بأمر تكويني، وقد سبق في بحث شرط الامتزاج أنّه خلاف الظاهر.
وأمّا رابعاً: سلّمنا أنّ العلّة تدلّ على الطهارة بزوال التغيّر مطلقاً ولو لم تكن له مادة، لكن إطلاق: «لا يفسده شيء إلّا أن يتغيّر»(2). ونحوه يقتضي نجاسة المتغيّر مطلقاً ولو بعد زوال تغيّره، فيتعارض الإطلاقان ويتساقطان ويكون المرجع استصحاب النجاسة.
ص: 208
--------------------------
ويرد عليه أوّلاً: أنّه لا إطلاق لأدلّة التغيّر، على مامضى.
وثانياً: على فرض المعارضة الترجيح لعموم العلّة لأقوائيتها عرفاً في دوران الحكم مدارها.
وثالثاً: سلّمنا، إلّا أنّ الترجيح مع ما دل على الطهارة لموافقته الكتاب كقوله تعالى: {ماء طهوراً}(1).
ورابعاً: على فرض المعارضة والتساقط، يكون المرجع أصالة الطهارة لا الاستصحاب على مبنى عدم جريانه في الأحكام الكلية، وإن كان المبنى غير مرضي(2).
ص: 209
--------------------------
الوجه الرابع: إطلاق الأدلّة المتضمّنة لطهارة الماء بغلبته على ريح الجيفة(1)، استدل به السيد الوالد (رحمه اللّه) (2). وقد مضى الكلام في أنّ الإطلاق معارض بمثله.
الوجه الخامس: إطلاق أدلّة الاعتصام بعد كون القدر المتيقّن من الخارج منها حالة التغيّر، استدل به السيد الوالد (رحمه اللّه) (3).
وفيه: أنّ الأدلّة ظاهرة في الدفع دون الرفع، لا أقل من الإجمال فيؤخذ بالقدر المتيقّن وقد مضت الإشارة الى ذلك، وسيأتي تفصيل الكلام إن شاء اللّه في مسألة القليل المتمّم كراً.
الوجه السادس: الأخبار الدالة على الطهارة بمجرد زوال التغيّر، استدل به السيد الوالد (رحمه اللّه) (4) وذكر(5) قبله مجموعة من الروايات الدالة على ذلك.
ص: 210
--------------------------
منها: قوله (عليه السلام) : «فإن غلب الريح نزحت حتى تطيب» أي البئر(1)، وقوله (عليه السلام) : «نزحت البئر حتى يذهب النتن من الماء»(2) وأشباههما ممّا ذكرها في الفقه.
وفيه: أنّ الاستدلال بذلك موقوف على كون «حتى» للتعليل وقد مضى التأمل في ذلك. فالمتحصّل من جميع ذلك: عدم نهوض دليل على الطهارة.
القول الثاني: بقاء النجاسة بعد زوال التغيّر. واستدل له بادلة.
أوّلها: انّ النجاسة إذا عرضت على شيء لا تزول إلّا برافع للارتكاز والإجماع.
وفيه: أنّه إن اُريد بذلك خصوص الرافع الخارجي كإلقاء كر عليه، ففيه: أنّه لادليل على هذه الكبرى.
وإن اُريد بالرافع مطلقه، فهو متحقّق في المقام وهو زوال التغيّر، والإجماع والإرتكاز إنّما يثبتان أصل لزوم الرافع، وأمّا كونه خارجياً فلا، وهذا مضافاً الى كونهما مدركيّين فإنّ مؤداهما مؤدى الاستصحاب.
ثانيها: إنّ مقتضى الإطلاقات نجاسة الماء المتغيّر مطلقاً زال تغيّره ام لا.
وفيه: أنّها معارضة بوجود الإطلاق في الجانب الآخر.
ص: 211
--------------------------
ثالثها: التنظير بأشباه المقام، كما في سببية حدوث الحدث لبناء الحالة الحدثية مع عدم بقاء الحدث، قال في المهذب: «وله نظائر كثيرة في الفقه»(1).
وفيه: إن القياس ليس بحجة.
رابعها: صحيحة ابن بزيع: «فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادة»(2).
بدعوى أنّه لو كان زوال التغيّر بنفسه موجباً لطهارة لماء لم يكن حاجة الى تعليل الطهارة لوجود المادّة في الماء.
ويمكن الجواب عن ذلك: بأنّ التعليل تعليل لكلية الحكم، بمعنى أنّ الحكم بالطهارة مطلقاً مسبّب عن وجود المادة، إذ للبئر حالتان: القلة والكثرة، فوجود المادّة علّة للحكم بالطهارة في كلا الفرضين، فلا ينافي ذلك إمكان تعليل طهارة الكر بعد زوال التغيّر بزواله.
وفيه: أنّ ظاهر العلّة الدوران مداره وجوداً وعدماً(3).
خامسها: الشهرة الفتوائية على النجاسة، كما سبق بيان ذلك.
قال في الجواهر: «فالمسألة لا تخلو عن إشكال إن لم يتمسك بإطلاق بعض الادلة، لكنه لا محيص عن فتوى المشهور»(4).
ص: 212
نعم الجاري والنابع إذا زال تغيّره بنفسه طهر؛ لاتصاله بالمادة، وكذا البعض من الحوض إذا كان الباقي بقدر الكر كما مر[1].
--------------------------
المقام الثاني: في القليل المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه، والبحث فيه بلحاظ الاُصول العملية كالبحث في الكثير المتغيّر، وبلحاظ الأدلّة الإجتهادية مثله في معظم ادلته، إلّا أنّه يزيد المقام ادّعاء الإجماع على أنّ المتغيّر القليل إذا زال عنه تغيّره بنفسه يبقى على نجاسته.
وقد يشكل فيه: بأنّه محتمل الاستناد.
ويمكن الجواب عنه: بأنّ ذلك لا يضرّ في حجية الإجماع.
[1] مضى الكلام في ذلك في المسألة الثالثة عشرة من هذا الفصل، وسيأتي بعض الكلام أيضاً إن شاء اللّه في المسألة الثامنة من الفصل القادم. وفي اعتبار الامتزاج وعدمه البحوث السابقة.
تفريع. هل الحكم المذكور يعمّ ما لو زال التغيّر بعلاج؟ قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «فيه احتمالان»(1).
والظاهر عموم الحكم لوحدة الملاك، والأدلّة السابقة تعم حالة الزوال المسببة عن العلاج أو بدونه.
ص: 213
فصل: في الماء الجاري: وهو النابع(1) السائل(2) على وجه الأرض(3) فوقها أو تحتها كالقنوات[1].
--------------------------
[1] بدأ المصنّف هذا الفصل بتعريف الماء الجاري وذكر أنّه عبارة عن «النابع السائل على وجه الأرض فوقها أو تحتها كالقنوات».
والتعريف يحتوي على قيود ثلاثة:
القيد الأوّل : أن يكون نابعاً فما لا يكون نابعاً من الأرض لا يصدق عليه الجاري، فلا تترتّب عليه الأحكام الخاصة المترتبة على عنوان الجاري، ككفاية غسل الثوب المتنجّس بالبول فيه مرة واحدة دون غيره وإن كان معتصماً على القول بذلك، وكذا لو نذر أن يغتسل في ماء جارٍ.
ص: 214
--------------------------
أقول: إن اُريد بذكر القيد إفادة أنّ مجرد الجريان لا يكفي في إطلاق الجاري عليه إن لم يكن لجريانه استمرار ودوام، فهو في محلّه، لأنّ صدور المبدأ لا يكفي في صحّة إطلاق المشتق في مثل المقام، وإن كفى في غيره. فإنّ المشتقات على نوعين:
الأوّل: ما يكفي مجرد صدور المبدأ في صحّة إطلاق المشتق على المتلبس مثل: الضارب والقاتل، فإنّ من صدر منه الضرب ولو مرة واحدة يطلق عليه الضارب.
الثاني: ما لا يكفي فيه ذلك، بل يحتاج إلى نوع ثبات واستمرار في صحّة الإطلاق(1)، مثل التاجر والعابد فإنّ من صدرت منه التجارة مرة واحدة لا يصدق عليه التاجر.
وفي المقام لا يكفي الجريان آناًما في صحّة إطلاق الجاري على الماء كما هو الحال في ما يجري من الماء على الأرض من الأبريق، وقد ادّعى الإجماع في جامع المقاصد وغيره على اعتبار النبع في الجاري، قال: «المراد به النابع لأنّ الجاري لا عن نبع من أقسام الراكد تعتبر فيه الكرية اتفاقاً ممن
ص: 215
--------------------------
عدا ابن ابي عقيل (رحمه اللّه) ، بخلاف النابع »(1) وحيث إنَّ الإجماع دليل لبّي فالقدر المتيقّن منه إخراج هذه الصورة التي ذكرناها عن مفهوم الماء الجاري.
وإن اُريد بذكر القيد أنّ الماء إذا كان له جريان ولو على وجه الدوام لم يصدق عليه الجاري إذا لم يكن له نبع.
ففيه نظر: إذ لاشك في صدق الماء الجاري عرفاً على المياه الجارية المتكوّنة من ذوبان الثلوج الكائنة على الجبال مع أنّه لا نبع فيها كما هو الحال في ماء دجلة والفرات، حيث إنَّ صدق الماء الجاري عليهما قطعي مع أنّه لا نبع لهما(2).
إن قلت: إنّ المحكي عن اللّغويين اعتبار النبع في مفهوم الجاري كما ادّعاه الفقيه الهمداني(3).
قلت أوّلاً: كلمات بعضهم الآخرمطلقة، والظاهر مع اختلاف التعريفات اللغوية إطلاقاً وتقييداً الأخذ بالمطلق لعدم المنافاة بين المثبتين في المقام، ولهذا اشتهر بينهم أنّ اللغوي أهل خبرة في الاستعمال لا في الوضع.
ص: 216
--------------------------
ثانياً: لو سلّم بأنّ جميع تحديداتهم مقيّدة، إلّا أنّ العرف مقدّم مع تعارض اللغة، فقد لا يعثر الخبير في اللغة على المعنى اللغوي بتمامه، فيكون تفسيره جزئياً. فإذا وجدنا أنَّ العرف يفهم من البيع معنى عاماً إلّا أنّه لا ينطبق على التعريفات اللغوية لقلنا بأنّه المفهوم العرفي السائد في زمن الأئمة (عليهم السلام) وذلك بضميمة أصالة عدم القرينة والاستصحاب القهقرائي.
إن قلت: فلم لم يفسّره اللغوي بالأعم؟
قلت: لكونه لم يجد إلّا المقيّد في الاستعمال، فهو تتبّع لكنّه مثلاً لم يجد نهراً ينبع من الثلوج، ففسّر الإطلاق في قوله: «ماء جارٍ» بما ينبع من وجه الأرض. وأيضاً بما أنّه لم يجد نهراً جارياً في الهواء قال: على وجه الأرض، أو تحتها لكون أغلب المياه كذلك(1).
فالحاصل: أنّ قول اللغوي حجة، إلّا أنّه إمّا أن يدلّ على الموضوع له، أو على جزئي من جزئيات الموضوع له، فتفسير اللغوي الضيق لا يتنافى مع
ص: 217
--------------------------
المعنى الأعم حسب الفهم العرفي بل هو جزئي من ذلك الكلي، فاللغوي يعرّف الكنز: «بالمال المذخور في الأرض» لأنّه وجد الكنز تحت الأرض دائماً إلّا أنّ هذا لا يمنع من صدق الكنز على المال المذخور في الشجر أو في السقف أو الجدران. وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى مباحث حجية قول اللغوي في الاُصول، والى تعريف البيع في الفقه.
وبتقرير آخر: إنّ التقييد بالنبع إن كان لإخراج ما لم يكن لجريانه دوام ليكون النبع مساوقاً لوجود المادّة ولو لم تكن أرضية، أو كان باعتبار الملازمة الغالبيّة بين دوام الجريان ووجود النبع الأرضي، فهو في محله.
وإن كان لإخراج مطلق ما لم يكن له نبع أرضي ولو كان لجريانه دوامٌ فالعرف لا يساعد عليه، والإجماع المدّعى في جامع المقاصد وغيره محل نظر لأنّ الماء الجاري من الموضوعات الصرفة والإجماع فيها لا يكشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) ، ولو فرض حجية الإجماع فيها أيضاً - لبناء العقلاء على حجية إجماع أهل الفن في حد ذاته - فإنّما هو لو لم يعلم خلافه.
هذا، ولكن الظاهر إمكان تأويل الإجماع المدّعى بما ذكرناه من المساوقة لوجود المادّة أو الملازمة الغالبية، فتأمل.
القيد الثاني: أن يكون سائلاً وقد نص على اعتبار هذا القيد جماعة كما في المستمسك(1)، لكن ذهب بعضهم إلى كفاية النبع ومجرد الاستعداد للجريان
ص: 218
--------------------------
لو لا المانع، وعدم اعتبار الجريان الفعلي في مفهوم الجاري، وعليه فالعيون داخلة في موضوع الجاري لأنّها نابعة ومستعدة للجريان لولا ارتفاع أطرافها.
أقول: إن اُريد بذلك: صدق الماء الجاري عليه عرفاً.
ففيه نظر: إذ الألفاظ ظاهرة في الفعلية لا القوة(1)،
وإن كانت قريبة من الفعلية، فلا تشمل ما هو كذلك شأناً واقتضاءً، كما ذكروا في مباحث الاستصحاب من أنّ اليقين والشك ظاهران في الفعليين دون التقديريين، قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «إنّ المستنقع الحادث في الأراضي المرطوبة، الواقف كما هو الغالب في السردابات وغيرها، لا يصدق عليه الجاري لا لغة ولا عرفاً»(2).
وإن اُريد: أنّه وإن لم يصدق عليه الجاري إلّا أنّ ملاكه موجود فيه.
ففيه: أنّ الملاكات الواقعية مجهولة عندنا، ولعلّ لفعلية جريان الماء مدخليّة في ترتّب أحكام الجاري عليه.
وإن اُريد: أنّه مثل الجاري في الاعتصام لمكان المادة، فهو تامٌ.
إلّا أنّ الكلام فيما هو موضوع الجاري لتترتب عليه الأحكام الخاصة بالجاري، لا في الماء المعتصم.
ص: 219
--------------------------
القيد الثالث: أن يكون سيلانه على وجه الأرض.
وأشكل عليه في الفقه: «بعدم ظهور وجهه فإذا فرض أنّ الماء الجاري ينصبٌ عمودياً من الجبل مسافة فرسخ مثلاً كان لهذا الماء الجاري في الهواء حكم الجاري»(1).
ولعلّ تخصيص المصنّف باعتبار كون الجاري في الهواء فرداً نادراً، والمطلقات لا تشمل الأفراد النادرة.
وفيه: أنّه لامانع من شمولها لها إلّا لو كانت الندرة بحيث أوجبت الانصراف(2).
والظاهر أنّه لا انصراف في المقام ولو كان فهو بدوي يزول بالتأمل.
هذا، ويمكن أن يكون مراد المصنّف التعميم لكونه سائلاً فوق الأرض أو تحتها، لا التخصيص.
والمتحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّ المعتبر قيدا الجريان والدوام في قبال ماء الأبريق مثلاً، لا غيرهما.
والأولى ايكال هذا التعريف وأمثاله إلى العرف لأنّه من الموضوعات الصرفة لا المستنبطة.
ولو اُريد التعريف فليكن بعنوان التعريف اللفظي لا الحقيقي الذي يشترط
ص: 220
--------------------------
فيه الإطّراد والإنعكاس، إذ إنّه من أشكل المشكلات، قال في الفقه: «والأقوى أن يقال: إنّ السائل النابع جارٍ، وأمّا غيره فيدور مدار الصدق عرفاً، ففي السائل عن ذوبان الثلج يصدق عليه الجاري، ومثل المستنقع لا يصدق عليه»(1).
الأوّل: لو كان النبع جارياً لا بنفسه بل بوسيلة المكائن والمضخات الحديثة فهل يصدق عليه الماء الجاري؟
تردد في ذلك السيد الوالد (رحمه اللّه) ، خلافاً للمهذّب حيث ذهب إلى الصدق وقال: «الجريان أعمّ من أن يكون بالذات أو بالآلآت الحادثة بحيث لم ينقطع عمود الماء المتصل بالمنبع»(2).
والظاهر صدق الجاري عرفاً، وسيأتي إن شاء اللّه في المسألة الخامسة بحث دوام الاتصال بالمادة.
الثاني: لو كان الماء الجاري ينصبّ في موضع يقف فيه مع دوام الجريان
ص: 221
--------------------------
في ذلك الموضع فهل يصدق عليه الجاري؟
تردد السيد الوالد (رحمه اللّه) (1) في الصدق، والظاهر عدم الصدق، والحركة غير الجريان عرفاً.
الثالث: استغرب بعض تعميم الماء الجاري لما في الأنابيب المستعملة في شبكات المياه الحديثة، مؤيداً ذلك بصدق العنوان على العيون النابعة الجارية في بعض الفصول دون اُخرى، فكذلك فيما يجري من الأنابيب حال فتح الماء منها وجريانه.
أقول: الماء الجاري من الموضوعات الصرفة والمرجع فيها العرف، والظاهر أنّه لا يرى صدق مفهوم الماء الجاري عليه.
ويكفي الشك لعدم ترتب أحكام الجاري عليه، لأنّ ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، وإثباته فرع إثباته.
ومنه يظهر النظر في بعض التعريفات المذكورة في المقام للماء الجاري منها: تعريف الحائري، قال: «يعتبر في صدق الجاري اتصاله بمادّة توجب استمرار جريانه عرفاً وإن لم تنبع من الأرض»(2).
إلّا أن يكون المنصرف من كلامه المادّة الطبيعية دون الجعلية.
وأمّا قول المصنّف: «فوقها أو تحتها» فإنّه لصدق الجاري عليها في الصورتين.
ص: 222
لا ينجس بملاقاة النجس ما لم يتغيّر كرّاً أو أقل[1].
--------------------------
[1] فيه بحوث ثلاثة:
الأوّل: إنّه لو تغيّر الجاري بالنجاسة في أحد أوصافه الثلاثة تنجس وإن كان كراً، وقد مضى الكلام في أنّ التغيّر علّة للانفعال مطلقاً.
الثاني: إنّه لو كان كرّاً لاينفعل بمجرد الملاقاة، ويدلّ عليه ما سيأتي إن شاء اللّه من أدلّة اعتصام الكر مطلقاً جارياً كان أو راكداً.
الثالث: إنّه وإن كان قليلاً لا ينفعل بالملاقاة، وهذه المسألة هي محلّ الكلام، وقد ذهب العلّامة في أكثر كتبه كالتذكرة(1) وفي الروض والمسالك والعبارة للأخير: «إلى انفعال الجاري بالملاقاة إذا كان أقل من كر، وجعله العلّامة وجماعة كغيره في انفعاله بمجرد الملاقاة، والدليل النقلي يعضده»(2).
ويقع الكلام في ذلك في مقامين.
الأوّل: في مايدل على أنّ الجاري لا ينفعل بالملاقاة وإن كان قليلاً.
الثاني: في معارضة ذلك بما يدلّ على انفعاله بالملاقاة إن كان قليلاً.
المقام الأوّل : في أدلّة اعتصام الجاري القليل.
ص: 223
--------------------------
الدليل الأوّل : الإجماع، بل ضرورة الفقه في هذه الأعصار وما قاربها، كما ذكره في المهذب(1)، قال صاحب الجواهر: «وظاهر المصنّف عدم نجاسة الجاري سواء كان قليلاً أو كثيراً، ومثله كثير من الأصحاب، بل قال في المعتبر ولا ينجس الجاري بالملاقاة، وهو مذهب فقهائنا اجمع، وعن ابن البراج نقل الإجماع على عدم نجاسة الجاري ومثله عن الغنية، وربّما ظهر من عبارة الخلاف نقل الإجماع على ذلك، وفي الذكرى: انّي لم أقف فيه على مخالف ممن سلف، أي ممن تقدم على العلّامة، ونسب رأي العلّامة في جامع المقاصد إلى مخالفة مذهب الأصحاب، وعن حواشي التحرير نقل الإجماع صريحاً على عدم اشتراط الكرية، وربّما ظهر من المصابيح دعوى الإجماع ايضاً، ويمكن للمتأمل المتروّي في كلمات الأصحاب تحصيل الإجماع على عدم اشتراط الكرية، وخالف في ذلك العلّامة في بعض كتبه، وفي بعضها وافق المشهور كما قيل، ولم أعثر على موافق له سوى الشهيد الثاني، وما لعلّه يظهر من المقداد في التنقيح، مع أنّ المنقول عن الأوّل أنّه رجع عنه، وعبارة الثاني غير صريحة في ذلك»(2).
ص: 224
--------------------------
الدليل الثاني: الروايات التي تضمنت حكم البول في الماء الجاري، وهذه الروايات تنقسم إلى طائفتين:
الطائفة الأولى: ما دل على عدم البأس بالبول في الماء الجاري كصحيحة الفضيل عن ابي عبد اللّه (عليه السلام) : «لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري»(1). وغيرها.
إلّا أنّها غير مرتبطة بالمقام لكونها ناظرة إلى بيان حكم البول في الجاري من حيث الحرمة والكراهة، ولا نظر لها الى بيان حكم الجاري الذي يبال فيه من حيث الانفعال وعدمه.
هذا، ولكن يمكن الاستدلال بهذه الطائفة على المدّعى بوجهين:
الأوّل: إنّ نفي البأس بنحو العموم كما هو الشأن في النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي، يدلّ على انتفاء عامة وجوه البأس التكليفية منها والوضعية، فتكون النجاسة منفية عن الماء كما تكون الحرمة منفية عن الفعل.
وفيه: أنّ الظاهر من أمثال ذلك نفي البأس عن المدخول وهو ان يبول، لا عن ما تعلق به المدخول وهو الماء الجاري، ولا فرق بين أن يكون المدخول الفعل أو الإسم، فلا فرق بين أن يقال: لا بأس بأن يبول أو لا بأس بالبول، فالتفريق بينهما غير ظاهر.
الوجه الثاني: إنّ هذه الطائفة وإن لم تدلّ على طهارة الماء الجاري بالدلالة
ص: 225
--------------------------
المطابقية، إلّا أنّها تدلّ عليه بالدلالة الالتزامية، لأنّ بيان انفعال الجاري بوقوع البول فيه وظيفة الامام (عليه السلام) ، فلو كان الجاري ينفعل بذلك لكان على الامام (عليه السلام) أن يبيّن نجاسته، وحيث إنّه سكت عن بيانها فيعلم منه عدم انفعال الجاري بملاقاة النجس.
واجيب عن ذلك: أنّ بيان حكم الماء من حيث النجاسة والطهارة وإن كان وظيفة الامام إلّا أنّه ليس بصدد بيانهما فعلاً، ومع عدم كونه (عليه السلام) في مقام البيان كيف يسند إليه الحكم بطهارة الجاري؟
وبعبارة اُخرى: إن اُريد البيان في خصوص المقام أي في خصوص ما ورد في الترخيص بالبول في الماء الجاري فلا وجه للزومه، حيث إنَّ الرواية في مقام بيان حكم البول في الماء الجاري لا حكم الماء الجاري الذي اصابه البول(1).
وإن اُريد البيان ولو في غير المقام فقد حصل في مثل قوله (عليه السلام) : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء»(2).
ص: 226
--------------------------
وممّا يدلّ على ذلك: أنّه (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم أمر بغسل الثياب في المركن مرتين(1)، ولم يبيّن نجاسة الماء الموجود في المركن مع أنّه ماء قليل، ولا إشكال في انفعاله بالملاقاة، فهل يصح الاستدلال على طهارة الماء الموجود في المركن بعدم بيانه (عليه السلام) نجاسة الماء.
هذا وقد أجاب الشيخ الحائري (رحمه اللّه) عن هذا الإشكال بقوله: «إنّ ذلك لو سلّم فهو فيما لو كان الغالب كون الماء الجاري قليلاً، وأمّا مع فرض أغلبية كون الجاري كرّاً فلا يمكن القول بوجوب التنبيه على الامام بالنسبة إلى ماليس في مقام بيانه»(2).
وفيه نظر: إذ لا فرق بين قلة الموارد وكثرتها، فإذا كان عدم البيان اغراءً بالجهل كان قبيحاً في الصورتين وإن لم يكن كذلك فلا قبح فيه في الصورتين(3).
والخلاصة: إنّه إن لم يكن في مقام البيان لم يقبح مطلقاً، وإن كان في مقام البيان قبح مطلقاً، فتأمل.
ص: 227
--------------------------
ومن جميع ما تقدم يظهر النظر في إدراج صاحب الوسائل (رحمه اللّه) هذه الطائفة في الروايات الدالة على عدم نجاسة الجاري بمجرد الملاقاة(1).
الطائفة الثانية: ما دلّ على عدم البأس بالماء الجاري الذي يبال فيه، مثل موثقة سماعة: «سالته عن الماء الجاري يبال فيه؟ قال لا بأس به»(2).
ودلالتها على طهارة الجاري القليل ظاهرة لإطلاقها.
ويرد على الاستدلال بها اُمور.
الأوّل: أنّها مضمرة. إلّا أن يثبت كون سماعة من الأجلاء الذين لا يروون إلّا عن الامام (عليه السلام) . وهو غير واضح(3).
الثاني: إنّ الجاري القليل في غاية الندرة والأخبار ناظرة إلى الجاري كثير الوجود، وهو الجاري الكثير.
وأجاب في التنقيح: «أنّها تتمّ في بعض الأمكنة، ولا تتمّ في جميعها، وقد شاهدنا الجاري القليل في بلادنا وغيرها كثيراً، فالروايات تشمل كلاً من النوعين»(4). ويمكن ان يضاف أيضاً بأنّه لو فرض كونه قليلاً فالقلة لا توجب انصراف المطلق عن الشمول.
ص: 228
--------------------------
الثالث: ما في التنقيح أيضاً من أنّ السؤال في هذه الطائفة كما يمكن أن يكون عن الموضوع كذلك يمكن أن يكون عن المحمول، فكما يصح ارجاع «لا بأس به» إلى الماء الجاري، كذلك يمكن ارجاعه إلى البول المستفاد من جملة «يبال فيه» وبذلك تصير الرواية مجملة.
ونظيرها(1) في الأخبار كثير، منها: ما في صحيحة الحلبي: «سالت ابا عبداللّه (عليه السلام) عن الرجل يغتسل بغير إزار حيث لا يراه احد؟ قال: لا بأس»(2) فإنّ قوله (عليه السلام) «لا بأس» يرجع الى الإغتسال لا الى الرجل الذي هو المسند اليه.
ومنها: ما ورد في صلاة النافلة من أنَّ الرجل يصلي النافلة قاعداً وليست به علّة في سفر أو حضر، فقال : لا بأس به»(3) فإنّه يرجع الى صلاة النافلة حال الجلوس لا الى الرجل.
بل مغروسية كراهة البول في الماء في الأذهان تؤكد رجوع قوله «لا بأس به» الى البول في الماء الجاري، لا الى الماء الجاري(4).
ص: 229
--------------------------
فتحصّل من جميع ذلك أنّ الروايات الواردة في المقام بطائفتيها لا تدلّ على المطلوب.
الدليل الثالث: ما رواه الراوندي في نوادره عن علي (عليه السلام) : «الماء الجاري لاينجسه شيء»(1) دلّت على المطلوب بإطلاقها.
واُورد عليه: بأنّ اسناد الكتاب إلى الراوندي غير معلوم، وإن كان المؤلف من أجلاء العلماء. هذا مضافاً إلى ضعف الرواية للارسال.
الدليل الرابع: ما في الفقه الرضوي: «كل ماء جار لا ينجسه شيء»(2) دلت على المطلوب بالعموم.
واُورد عليه: أنّه لم تثبت حجيته، بل لم يثبت أنّه رواية بل هو من تأليف أحد العلماء. لكن قد ادّعي أنّه عبارة عن متون الروايات، فيمكن ادّعاء الإنجبار بفتوى المشهور على طبقه لو قيل بأنّ مطابقة فتوى المشهور للرواية الضعيفة موجبة لجبرها.
الدليل الخامس: خبر الدعائم عن علي (عليه السلام) : «في الماء الجاري يمرّ بالجيف والعذرة والدم يتوضأ منه ويشرب منه، وليس ينجّسه شيء»(3).
ص: 230
--------------------------
واُورد عليه أوّلاً: بأنّ القاضي نعمان وإن كان امامياً إلّا أنّه لم تثبت وثاثته، قال بحر العلّوم: «كان في بدو أمره مالكياً، ثم انتقل إلى مذهب الإمامية وصنّف على طريقة الشيعة كتباً»(1).
وهذا المقدار لا يدلّ على الاعتبار، وقال في الجواهر «دعائم الإسلام مطعون فيه وفي صاحبه»(2).
إلّا أنّه قال في الفقه: «الدعائم حجة كما لا يخفى على من راجع تتمة المستدرك»(3) ونقل أنّ المحدث النوري بالغ في اعتباره، وقال عنه الحر العاملي: «أحد الائمة الفضلاء المشار اليهم»(4) وعلى كل حال فوثاقته تحتاج إلى تتبع.
وثانياً: إنّه لايصح الإعتماد على رواياته لارسالها كلّها. إلّا أن يدّعى الإنجبار على النحو المتقدم.
الدليل السادس: صحيحة داود بن سرحان قال: «قلت لابي عبد اللّه (عليه السلام) ما تقول في ماء الحمام؟ قال هو بمنزلة الماء الجاري»(5).
دلّت على عدم انفعال الجاري القليل بالنص أو بالإطلاق، فماء الحمام القليل المنتشر في الأحواض الصغيرة المتصل بالمادّة المسئول عنه، نُزّل منزلة الجاري المفروغ
ص: 231
--------------------------
عن اعتصامه قليلاً كان أو كثيراً.
واُورد على هذا الاستدلال باُمور.
الأوّل: ما في المستمسك قال: «لكن يشكل بإجمال الحكم الملحوظ في التنزيل، إذ يحتمل أن لايكون هو الاعتصام، ولا قرينة في الكلام على تعيينه»(1).
وأورد عليه في الفقه: «بأنّ التنزيل إمّا بملاحظة جميع الآثار أو بملاحظة أظهر الخواص والآثار، وعلى كلا التقديرين يدلّ على المطلوب أمّا على الأوّل : فواضح. وأمّا على الثاني: فلأنّه ليس في خواص الماء الجاري أظهر من عدم الانفعال، فلا بدّ من الحمل عليه لو شك في العموم»(2).
أقول: ويؤيد ما ذكره ملاحظة سائر الروايات المذكورة في باب الحمام الدالة على أنّ الشبهة التي كانت في أذهان الرواة شبهة الانفعال وذلك باعتبار أنّ مياه الحياض قليلة والمادّة ليست في سطحها.
منها: صحيحة محمد بن مسلم: «قلت لابي عبد اللّه (عليه السلام) : الحمام يغتسل فيه الجنب وغيره، اغتسل من مائه ؟ قال: نعم، لا بأس أن يغتسل منه ولقد اغتسلت فيه، ثم جئت فغسلت رجلي، وما غسلتهما إلّا ممّا لزق بهما من التراب»(3).
ص: 232
--------------------------
ومثلها روايات اُخرى فيها صحاح وضعاف فمن يلاحظ مجموعة هذه الروايات يجد أنّ الشبهة في أذهان الرواة شبهة الاعتصام، ومنشأها أنّ ماء الحمام عادة مكوّن من مجموعة من الحياض الصغار التي يغتسل منها فيأتي اليها الرجل، ويلامسها نصرانياً أو مجنباً أو غيرهما.
الإشكال الثاني: ما ذكره في المستمسك أيضاً، قال: «لو فرض ظهور الرواية في كون التنزيل بلحاظ الاعتصام لا حكم آخر مجهول، فلا يظهر منها التنزيل في الاعتصام مطلقاً، بل من الجايز أن يكون التنزيل بلحاظ الاعتصام في حال كون المادّة كرّاً وعدمه عند كونها دون الكر»(1).
وحاصله: أنّ الحمام كالجاري إذا كانت المادّة كراً، وعدمه عند كونها دون الكر.
وقد يجاب عنه: بأنّ شرط صدق مفهوم الجاري هو الدوام، كما سيأتي في المسألة الرابعة فإذا كانت المادّة دون الكر لا يطلق عليه الجاري(2).
ص: 233
--------------------------
الإشكال الثالث: إنّه يحتمل أن لا يكون المقصود كونه مثل الجاري في الاعتصام بل في أحكامه، فيمكن أن يكون مثل الجاري الكثير في الاعتصام ومثل الجاري القليل في عدم الاعتصام.
وفيه: أنّه خلاف الظاهر، مع أنّه لو كان كذلك لم تكن خصوصية للجاري ولقيل هو بمنزلة الراكد، فالظاهر منها أنّ للجريان خصوصية لا توجد في الراكد ولأجلها كان التنزيل، مع أنّه خلاف ما فهمه معظم الفقهاء منها.
الإشكال الرابع: قيل إنّ التنزيل ليس بلحاظ الاعتصام بل بلحاظ وحدة الماء وإن اختلفت السطوح(1).
وفيه: مضافاً إلى أنّه خلاف الظاهر، أنّه لا يقدح في المطلوب حيث إنَّ ذكر الوحدة إنّما هو لبيان الاعتصام، فتأمل.
الإشكال الخامس: ما يخطر في البال وهو أنّ التنزيل لا يشترط فيه اطّراد وجه الشبه في المنزّل عليه، بل يشترط كونه ظاهرا فيه، مثلا: إذا قيل «زيد كالأسد» فوجه الشبه الشجاعة، والتنزيل صحيح إذا كانت الشجاعة من
ص: 234
--------------------------
الصفات الظاهرة في الأسد، وهذا المعنى لا يقتضي كون كل أسد شجاعاً، فلا نستيطع أن نقول إنّ جملة زيد كالأسد تدلّ على شجاعة كل أسد.
ففيما نحن فيه أظهر صفات الماء الجاري الاعتصام ولو باعتبار أن غالب المياه الجارية المتداولة كر، فيصح التنزيل ولو فرض وجود مياه جارية قليلة نادراً لا تتّصف بصفة الاعتصام.
وبعبارة اُخرى: إنّ المولى ليس في مقام بيان الإطلاق في المنزل عليه، فلا يستظهر من هذه العبارة اعتصام كل جارٍ، فلا يستفاد من «أنّ فلاناً كالأسد» أنّ كل أسد في العالم شجاع و إن كان في حديقة الحيوان، فإنّ القائل ليس في مقام البيان عن تلك الجهة(1).
الدليل السابع: صحيحة ابن بزيع: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح منه حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له
ص: 235
--------------------------
مادة»(1). والاستدلال بها تام سواء قيل بكون التعليل الوارد فيها تعليلاً لمجموع الصدر والذيل أو بكونه تعليلاً للذيل فقط.
أما على الأوّل : فلدلالة الرواية على أنّ اعتصام ماء البئر ودافعيته للنجاسة وسعته وعدم إفساد شيء إيّاه معلّل بكونه ذا مادة، وحيث إنَّ العلّة تعمّم يتعدّى إلى كل ماله مادة، ومنه الماء الجاري، بلا فرق بين القليل والكثير لمكان الإطلاق.
وأمّا على الثاني: فلدلالة الرواية على أنّ ارتفاع النجاسة الطارئة على ماء البئر بالتغيّر إذا زال عنه التغيّر، معلّل بكونه ذا مادة، بلا فرق في ذلك بين كثرة الماء وقلته للإطلاق، وإذا ثبت أنّ ماء البئر رافع للنجاسة الطارئة عليه يثبت أنّه دافع للنجاسة أيضاً: إمّا بتقرير الأوّلوية العرفية القطعية، أو بتقرير إلغاء الخصوصية عرفاً، إذ لا مدخلية لخصوصية سبق النجاسة في الحكم بالطهارة، وإذا ثبت ذلك في ماء البئر يثبت في كل ماله مادّة لمكان التعليل.
ومنه يظهر التأمل فيما ربّما يظهر من الفقه(2) من توقّف الاستدلال على رجوع التعليل إلى مجموع الصدر والذيل.
وأمّا ما في التنقيح من الاستدلال على ذلك بقوله: «إنّ من الظاهر الجلي أنّ إضافة الاعتصام إلى ماء وتعليله بأنّ له مادّة إنّما تصح فيما إذا كان قليلاً
ص: 236
--------------------------
في نفسه، فإنّه لو كان كثيراً فهو معتصم بنفسه لا محالة، وبهذا دلّتنا الصحيحة على أنّ القليل إذا كان له مادّة فهو محكوم بالاعتصام»(1).
ففيه: أنّه في صورة استناد وجود المعلول إلى وجود علتين مستقلتين لا مانع من التعليل بأيّة واحدة منهما وإنما اُسند الرفع أو مجموع الدفع والرفع إلى وجود المادّة لكي تطرد العلّة، إذ لو اُسندت إلى الكرية لم تَطّرِد في ماء البئر القليل. هذا مضافاً إلى أنّ الكرية إنّما تصلح تعليلاً للدفع لا الرفع.
الدليل الثامن: ما قد استدل به الفقيه الهمداني، قال: «وصحيحة ابن مسلم الواردة في الثوب الذي يصيبه البول: «وإن غسلته في ماء جار فمرة»(2) إذ لو كان ملاقاة الماء للنجاسة سبباً لتنجسه لكان على الامام (عليه السلام) التنبيه عليه، هذا إذا لم نقل باعتبار ورود الماء القليل في تطهير الثوب، وإلّا فالصحيحة بإطلاقها مثبتة للمطلوب»(3).
توضيحه: إنّ الاستدلال بالرواية من جهتين:
الجهة الأولى: إنّ الجاري لو كان ينفعل بالملاقاة لبينه الامام (عليه السلام) .
واُورد عليه: بأنّ استفادة الطهارة موقوفة على كونه (عليه السلام) في مقام البيان من تلك الجهة، وليس في مقام البيان من جهة أنّ الجاري ينفعل أو لا
ص: 237
--------------------------
ينفعل، بل من جهة كيفية تطهير الثوب، فلا يمكن التمسك بإطلاق كلامه (عليه السلام) ، فهو نظير عدم بيان انفعال ماء المركن، حيث قال (عليه السلام) قبل هذه الفقرة: «اغسله في المركن مرتين» فهل يمكن للفقيه الهمداني أن يتمسّك بعدم البيان على طهارة الغسالة المتبقية في المركن؟(1) وقد ذكروا في كتاب الصيد والذباحة عدم إمكان التمسك بإطلاق قوله تعالى: ﴿فكلوا ممّا امسكن عليكم﴾(2) على طهارة موضع العض - خلافاً لما ذهب إليه الشيخ الأعظم من إطلاقها - لأنّ الآية ليست في مقام البيان من هذه الجهة وإلّا لقيل بطهارة دم الذبيحة والنخاع وحدقة العين.
ص: 238
--------------------------
الجهة الثانية: إنّ من شرائط التطهير بالقليل ان يكون الماء وارداً على المتنجّس لا موروداً، والرواية قد فرضت ورود النجاسة على الجاري فلو لا كونه كالكّر لم يكن وجه للحكم بطهارة الثوب.
واُورد عليه أوّلاً: «بأنّ اعتبار ورود الماء القليل محل خلاف، فعن ذكرى الشهيد المناقشة في الاعتبار، ومال إليه في المدارك، واستحسنه في الذخيرة، وقوّاه في شرح المفاتيح، بل عنه وعن شرح الارشاد حكاية الشهرة على هذا القول»(1) كما ذكر ذلك السيد الوالد في الفقه، وحاصله: عدم الفرق بين الوارد والمورود.
وثانياً: لو فرض اعتبار الورود، إلّا أنّه لا مانع من الالتزام بتخصيص مادلّ على اعتبار ذلك بإطلاق هذه الصحيحة.
وفيه نظر: وذلك لأنّ الظاهر كون التعارض بالعموم من وجه فإنّ أدلّة اعتبار الورود تشمل الجاري وغيره، وصحيحة محمد بن مسلم تشمل الجاري القليل والكثير فيتعارضان في الجاري القليل ويتساقطان، فنرجع إلى الاُصول العملية، والظاهر أنّ مقتضاها بقاء الثوب على نجاسته وبقاء الجاري القليل على طهارته، فيثبت المطلوب.
فتحصّل من جميع ذلك أنّ ما ذكره الفقيه الهمداني محل تأمل.
ثم إنّه قد يقال: إنّ الماء الجاري منصرف عن القليل.
ص: 239
--------------------------
وفيه: أنّ الانصراف لو كان فهو بدويّ خصوصاً مع ما ادّعاه الفقيه الهمداني من كثرة العيون الصغيرة بل أكثريتها بمراتب.
الدليل التاسع: رواية ابن أبي يعفور المروية في الكافي عن بعض أصحابنا عن ابن جمهور عن محمد بن القاسم عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قلت أخبرني عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب والصبي واليهودي والنصراني والمجوسي؟ فقال: إنّ ماء الحمام كماء النهر يطهِّر بعضه بعضا»(1).
وجه الاستدلال بها أنّ المنساق منها عرفاً اعتصام ماء النهر فنزّل ماء الحمام منزلته، وحيث إنَّ الاعتصام لم يقيّد بالكثرة شمل القليل ايضاً.
وفيها إشكالان: في السند والدلالة، أمّا السند فضعيف لأمرين:
الأوّل: مجهولية من روى عنه الكليني.
إلّا أنّ الابطحي(2) دفع الإشكال بأنّه لم يضعف من مشايخ الكليني إلّا احمد بن حمدان، ضعّفه ابن الغضايري، وقد ترحّم عليه مراراً، والترحم دليل على وثاقته، ولا اعتبار بالتضعيف.
وفيه نظر: وذلك لعدم انحصار سبب طرح الرواية في تضعيف المروي
ص: 240
--------------------------
عنه، بل يمكن أن يكون بسبب جهالته، وفي مشايخ الكليني مجموعة من المجاهيل كالحسين أو الحسن بن علي الهاشمي، والحسين بن علي العلوي، والحسين بن الحسن الحسيني، والحسن بن خفيف، وابو داود، وابو عبد اللّه الأشعري، ومحمد بن علي بن معمر، وغيرهم ممن يبلغ 14 شيخا من مجموع 29 شيخا، فلعلّه من اولئك المجاهيل.
نعم: إكثار الكليني الرواية عن مجهول واعتماده عليه في الحكم دليل على توثيقه، إذ يبعد أن تكون القرينة خارجية، بل هي مع الإكثار داخلية، وعلى كل حال فالأمر بحاجة إلى مزيد من التتبع.
الثاني: في ابن جمهور، إذ أنّه إمّا ضعيف أو مشترك، وضعّف الحديث في مرآة العقول(1).
اما الدلالة ففيها مناقشات:
اوّلها: ما ذكره الفقيه الهمداني، قال: «إنّ ماء النهر ينصرف عن العيون الصغار التي لا يبلغ مائها كراً، فالمقصود من التشبيه بحسب الظاهر بيان كون ماء الحمام حال اتصاله بالمادّة وجريانها فيه كالمياه الكثيرة الجارية التي يعتصم بعضها ببعض»(2).
وأشكل عليه السيد الوالد: «بأنّه لا وجه لهذا الانصراف إلّا غلبة كون الماء
ص: 241
--------------------------
الجاري في الأنهار أكثر من الكر، ومثلها لا يوجب الانصراف وإلّا لم يمكن الاستدلال بأيّة رواية لانصراف جميعها بهذا النحو من الانصراف»(1).
وفيه نظر: وذلك لإمكان ادّعاء تحول وجهة اللفظ عرفاً عن المياه القليلة بحيث لا يراها العرف مصداقاً لمفهوم ماءالنهر، والغلبة لو فرضت مدخليتها في انقلاب وجهة اللفظ كانت قادحة في إطلاق المطلق(2)، فتأمل.
ثانيها: إنّ ظاهر قوله (عليه السلام) : «يطهر بعضه بعضاً»(3) أنّ الاعتصام يكون لماء النهر بنفسه لا بالمادة، وحيث إنَّ ما لا مادّة له بحكم المحقون يتعيّن حمل الرواية على النهر المشتمل على الكر.
وأجاب عنه في الفقه: «بأنّ اعتصام ماء النهر بعضه ببعض مطلق يشمل صورتي القلَّة والكثرة، وان كان في الأولى تستند العصمة إلى وجود المادّة فقط، وفي الثانية تستند إلى كل من الكثرة والمادة، لكنها من قبيل توارد مقتضيين على معلول واحد، فكل واحد منهما مقتض في نفسه. والحاصل: أنّ تطهير بعضه ببعض تارة لاتصاله بالمادة، واُخرى في كونه لنفسه كثيراً وإن كان له جهة اُخرى أيضاً وهو الاتصال بالمادة»(4).
ص: 242
--------------------------
وفيه تأمل: إذ المذكور تطهير بعض ماء النهر لبعض، والمادّة لا يصدق عليها ماء النهر، فوجود المادّة قد قطع النظر عنها في هذا الحديث، وعليه فتطهير بعضه لبعض أي تقوّي بعضه ببعض لا يحصل إلّا إذا كان ماء النهر كرّاً في نفسه(1).
ثالثها: إنّ إطلاق المنزلة يقتضي عمومها، وحيث إنّه يعتبر في ماء الحمام كريته فكذلك النهر والجاري، ولذا قيل: «إن الخبر على خلاف المطلوب أدلّ» وهذه المناقشة ترد على صحيحة داود بن سرحان المذكورة في الدليل السادس.
ويرد عليه أوّلاً: أنّ اشتراط الكرية في المنزَّل وهو ماء الحمام غير معلوم، وقد نسب عدم الاعتبار الى الشيخ في النهاية والى المعتبر و النافع والشرايع، ومال اليه طائفة من المتأخرين، ونسبه بعضهم الى الأكثر، واختاره في الحدائق والكفاية والمستند، واستقربه في الفقه(2).
ثانياً: ما ذكره الفقيه الهمداني، قال: «إنّ السؤال عن الانفعال لا كيفية الانفعال، فإطلاق التشبيه ينصرف الى الجهة المعهودة، فقوله (عليه السلام) «هو بمنزلته» أي في عدم الانفعال لا فيما يعتبر في الاعتصام»(3).
ص: 243
--------------------------
ثالثاً: ما ذكره السيد الوالد في الفقه، قال: «إنّ المراد تنزيل ماء الحمام منزلة الماء الجاري، فيلزم أن يكون حكم الجاري آتياً في الحمام لا العكس ولا الأعم، إذ لم يرد بيان مساواتهما في الحكم وأنّ كلاً بمنزلة الآخر»(1).
رابعاً: لو سُلم فغاية ما يدلّ عليه اعتبار الكرية في المجموع المركب من المادّة ونفس الماء الجاري، إلّا أنّه لا يدلّ على لزوم كرية الماء الجاري(2).
خامساً: إنّ اعتبار الكرية بدليل خارجي، وذلك لا يستلزم اعتبارها في الجاري، فتأمل.
رابعها: ما ذكرناه في الإشكال الخامس على الدليل السادس، فراجع.
الدليل العاشر: ما ذكره السيد السبزواري (رحمه اللّه) بقوله: «إنّ المستفاد من الأدلّة كون الأصل في المياه مطلقاً عدم الانفعال بالملاقات، ولا تجري أدلّة انفعال القليل في المقام لاختصاصها بالراكد»(3).
وفيه نظر: وذلك لعموم أدلّة الانفعال فإنّ مفاد قوله (عليه السلام) : «اذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء»(4). انفعال القليل مطلقاً ولو كان جارياً.
ص: 244
--------------------------
المقام الثاني: في معارضة هذه الأدلّة بما دلّ على انفعال الجاري بالملاقاة إذا كان قليلاً، وما يحتمل كونه معارضاً هو مفهوم قوله (عليه السلام) : «اذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء»(1). ونحو ذلك من أدلّة انفعال القليل، والنسبة بين الدليلين عموم من وجه، فمورد الإفتراق من طرف أدلّة الجاري: «الجاري الكثير»، ومورد الافتراق من طرف أدلّة الانفعال: «القليل الراكد» ويتعارضان في «الجاري القليل»، وحينئذٍ يكون المرجع بعد التساقط عموم ما دلّ على انفعال الأشياء بالملاقاة مثل: «ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء»(2) في موثقة عمار الساباطي.
لا يقال: إنّ هذا العام من أدلّة الانفعال فيتعارض مع أدلّة الجاري.
فإنّه يقال: إنّ موثقة عمار تشمل الماء والجوامد وغيرهما، والتعارض في الأدلّة إنّما هو في خصوص الماء، فإنّ دليلي الماء الجاري و «اذا كان الماء قدر...» خاصان يتعارضان فيتساقطان. ويبقى العموم الفوقاني بانفعال ما يلاقي نجساً مستحكماً، كما يجري عموم «أكرم العلماء» في النحوي بعد تعارض دليلين في النحاة.
ويمكن الجواب عن ذلك بوجوه:
ص: 245
--------------------------
الوجه الأوّل : الترجيح لأدلّة الاعتصام بالشهرة المحققة والإجماعات المنقولة المستفيضة، والظاهر أنّه لا فرق في الترجيح بالشهرة بين أن يكون التعارض بين الخبرين بالتباين الكلي أو العموم من وجه المعبّر عنه بالتباين الجزئي، قال في مصباح الفقيه: «اذا لم يكن للمشهور إلّا الإجماعات المنقولة المستفيضة المعتضدة بالشهرة المحققة المؤيدة بكون الماء الجاري لدى العلماء من صدر الإسلام الى يومنا هذا معنوناً بعنوان مستقل، بل جعلوا ماء الغيث من توابعه، لكانت كافية في إثبات مذهبهم، لكونها موجبة للحدس القطعي بكون الحكم معروفاً عن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ، مغروساً في أذهانهم واصلاً الى علمائنا يداً بيد عنهم من غير خلاف يعرف، وإلّا لنقل بمقتضى العادة، ولولا أنّ فتاوى الأصحاب في مثل هذا الفرع المعنون في كلماتهم قديماً و حديثاً مورثة لاستشكاف رأي المعصوم (عليه السلام) لتعذّر استفادة موافقته (عليه السلام) في شيء من المسائل الفرعية من فتاوى العلماء»(1).
وقال في مفتاح الكرامة: «ونقل الإجماع على المساوات - أي الجاري القليل والكثير - في ظاهر الخلاف والغنية والمعتبر والمنتهى(2)، وفي الذكرى نفي الخلاف عمّن سلف ما عدى المصنّف العلّامة، وفي مجمع
ص: 246
--------------------------
الفوائد: أنّ رأي المصنّف هذا مخالف لمذهب الأصحاب وأنّه تفرّد به، ونقلت الشهرة عليه في الحاشية الميسية والروض والدلائل والذخيرة»(1).
قال صاحب الجواهر: «المسألة من الواضحات التي لا ينبغي اطالة الكلام فيها»(2).
الوجه الثاني: ما قيل من أنّ تقديم أحد العامين من وجه على الآخر إن استلزم إلغاء ما اعتبر من العنوان في الآخركان ذلك مرجحاً للآخر، وفي المقام كذلك فإنّ تقديم أدلّة الاعتصام لا يلزم منه إلّا تخصيص أدلّة الانفعال بخلاف عكسه فإنّه يستلزم إلغاء عنوان الماء الجاري عن الموضوعية.
مثلاً في بول الطائر روايتان متعارضتان، الأولى: طهارة بول الطائر، والثانية: نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، بينهما عموم من وجه فإما أن يقال: بتقديم ما دلّ على طهارة بوله فيكون تخصيصاً لما دل على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه وهو الحق.
وإمّا أن يقال: بتقديم أدلّة ما لايؤكل لحمه فيلغو عنوان طهارة بول الطائر وذلك لعدم خصوصية فيه، فإنّه إمّا من مأكول اللحم فبوله طاهر، وإمّا من محرّمه فيدخل في حرام اللحم، فلا خصوصية للطائر، مع أنّ قوله: «بول الطائر طاهر» يدلّ على خصوصية في الطيران، ولذا قدّم المشهور مع
ص: 247
--------------------------
التعارض ما دل على طهارة بول الطائر.
وفيما نحن فيه يكون من اللغو أدلّة اعتصام الجاري مع القول بانفعال القليل منه، وذلك لعدم انفعال الكر سواء كان جارياً أو غير جار، فلا خصوصية للجريان لا وجوداً ولا عدماً.
والحاصل: أنّ تعليق الحكم على الجريان لغو لو قيل بانفعال القليل الجاري.
وقد يجاب عنه: بأنّ عنوان الجاري لا خصوصية له بل هو أحد مصاديق الماء المطلق ومحكوم بأحكامه وإنّما ذكر مستقلاً باعتبار كونه محلّ الإبتلاء كثيراً(1) وقد بُيِّن حكمه في الروايات بأنّه: «لا ينجسه شيء» لوقوع مختلف أنواع النجاسات فيه.
إن قلت: فلِمَ لم يقسّم الى قسمين الكر والقليل؟
قلت أوّلاً: إنّ ما ذكر يرد على جميع المطلقات.
وثانياً: إنّ دأب الشارع قد استقر على التدرج في بيان الأحكام حيث بيّن
ص: 248
--------------------------
العام أو المطلق في مقام ومخصصه أو مقيّده في مقام آخر، ولعلّ عدم التقسيم باعتبار غلبة كون المياه الجارية كراً، أو باعتبار أن محل ابتلاء المخاطبين هو الجاري الكر دون غيره.
هذا، ولكنّ الظاهر أنّ الإشكال وإن كان ممكناً ثبوتاً، إلّا أنّ ظاهر الأدلّة أنّ للماء الجاري خصوصية في الاعتصام، بها استحق إفراده بالذكر من بين سائر أنواع المياه، ولو شكّك في ذلك ففهم مشهور الفقهاء قديماً وحديثاً معيّن له.
الوجه الثالث: ما في المستمسك من أنّ ظهور «تعليل «بأن له مادة» في العموم أقوى من ظهور مفهوم دليل الانفعال فيه »(1) أي في العموم.
فالتعليل يجعل صحيحة ابن بزيع كالنص فتصير قرينة للتصرف في مفهوم أدلّة الانفعال بالتخصيص، وقد اعتمد على هذا الدليل السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه(2).
وأشكل عليه الحائري: «بأنّه نص في مورده وهو البئر، وظاهر في غير مورده وهو الجاري»(3).
هذا، ولكنّ الانصاف أنّ عموم التعليل ولو في غير مورده أقوى من عموم
ص: 249
--------------------------
المفهوم عرفاً(1)، وإلّا لكان التعليل بأمر تعبدي وهو خلاف الظاهر، وهذا بخلاف التخصيص فإنّه أمر متداول كثيراً، فتأمل.
وبتقرير آخر: التصرف في عموم المفهوم أولى عرفاً من التصرف في عموم العلّة.
الوجه الرابع: إنّ شمول دليل الجاري للقليل منه بالمنطوق، وشمول دليل الانفعال له بالمفهوم، فتقدّم دلالة المنطوق لأقوائيّته.
وفيه نظر أمّا أوّلاً: فلوجود ما يدلّ على انفعال القليل مطلقاً بالمنطوق كموثوقة عمار السابقة وفيها: «ويغسل كلّ ما اصابه ذلك الماء»(2). بناء على أنّ الغسل لا خصوصية له وإنّما المراد التطهير، وما ورد من الصحاح في انفعال الأواني(3) بناء على عدم خصوصية كون الماء في إناء.
لا يقال: بأنّ الروايات المتقدمة إنّما هي في الإناء وشبهه.
إذ يجاب عنه: بوجود روايات دلّت بالمنطوق على انفعال الماء دون الكر، لاحظ صحيحة علي بن جعفر عن اخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: «سالته عن الدجاجة والحمامة تطأ العذرة ثم تدخل في الماء يتوضأ منه
ص: 250
--------------------------
للصلاة؟ قال: لا إلّا أن يكون الماء كثيراً قدر كرّ من ماء»(1).
فيتعارض المنطوقان - منطوق الانفعال ومنطوق العلّة -.
وأمّا ثانياً: فإنّ العبرة في الأقوائية أقوائية الظهور عرفاً كأقوائية ظهور الخاص من العام، وأمّا كون الحكم مدلولاً عليه بالمنطوق أو المفهوم فلا يوجب الأقوائية عرفاً.
الوجه الخامس: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) : «من انصراف أدلّة عصمة الكر عن الماء الجاري إذ ظاهر: «اذا كان الماء» الماء الراكد كما أنّه منصرف عن مثل المطر والبحر والبئر»(2).
وفيه: أنّ الانصراف بدوي.
لا يقال: دلت بعض الشواهد على الإختصاص بالراكد، لاحظ صحيحة محمد بن مسلم: «قلت له: الغدير فيه ماء مجتمع تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب، قال: إذا كان قدر كُرّ لم ينجسه شيء»(3) فإنّ الضمير المستتر يعود الى الغدير فلا يشمل الجاري منطوقاً فلا يشمله مفهوماً للتطابق بينهما.
فإنّه يقال: إنّ خصوص بعض الأخبار بالراكد لا يمنع عموم غيرها مثل
ص: 251
--------------------------
صحيحة محمد بن مسلم حيث قال (عليه السلام) في الجواب عن الماء الذي تبول فيه الدواب: «اذا كان الماء قدر كُرٍّ لم ينجسه شيء»(1) وصحيحة معاوية بن عمار: «اذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء»(2)
وصحيحة علي بن جعفر الماضية(3).
وما في مصباح الفقيه: من أنّ الانصراف البدوي يوهن أدلّة الانفعال عن المكافئة بأدلّة الاعتصام(4).
لا يخلو من نظر، إذ الانصراف البدوي لا يخلّ بالظهور العرفي فيحصل التعارض بين الظهورين.
الوجه السادس: ما قيل من أنّ مفهوم أدلّة الانفعال هو: «مدخلية الكرية في الاعتصام» أمّا كونها علّة منحصرة فلا، فلو قيل إذا طلعت الشمس فالحرارة موجودة، لا يستفاد منه كون طلوع الشمس علّة منحصرة لحدوث الحرارة، وإلّا لزم كون القضية كاذبة أو مجازية، وفي المقام لا يستفاد إلّا مجرد أنّ بلوغ الماء قدر كُرٍٍّ له مدخلية في الاعتصام، ولا ينافي ذلك أنّ اتصافه بكونه جارياً أيضاً موجب لعدم الانفعال.
ص: 252
--------------------------
والمتحصّل أنّ المفهوم لا يعارض المنطوق أصلاً بل الواجب الأخذ بإطلاق أدلّة الجاري.
وفيه نظر أمّا أوّلاً: فلما تقرّر في مبحث المفاهيم من ظهور الجملة الشرطية في العلّية المنحصرة(1)، ووجود علّة اُخرى لا يوجب إلّا تقييد عموم المفهوم وذلك لا يستلزم الكذب أو المجازية، فلو قيل: لا علّة للقصر إلّا خفاء الجدران الذي هو المتحصّل من ضم منطوق: «اذا خفيت الجدران فقصر» الى مفهوم: «إن لم تخف الجدران فلا تقصر» لم يمنع ذلك من تقييد العموم بعلية خفاء الأذان للقصر ايضاً.
ثانياً: إنّ أدلّة الانفعال لا تنحصر فيما يدلّ عليه بالمفهوم بل هنالك ما يدلّ عليه بالمنطوق و هو موثقة عمار، وما دلّ من الصحاح على انفعال الأواني، وصحيحة على بن جعفر كما مضى بيان ذلك في الوجه الرابع، وحينئذ فيحصل التعارض بين الإطلاقين بالعموم من وجه.
ص: 253
--------------------------
الوجه السابع: ما في المستمسك والفقه(1) من أنّه لو سلم التعارض والتساقط يتعين الرجوع الى عموم النبوي(2) الدال على اعتصام الماء مطلقاً ولو كان قليلا ما لم يتغيّر.
وفيه نظر أمّا أوّلاً: فلما قيل من ضعف الخبر، وقد ذكره في التنقيح كراراّ، لكن قد مضى التأمل في ذلك.
وأمّا ثانياً: فلأن العموم الفوقاني المدّعى لا يصلح مرجعاً في المقام لمعارضته بأدلّة انفعال القليل، إذ مفاد العموم الفوقاني عدم انفعال غير المتغيّر، ومفاد أدلّة انفعال القليل انفعاله بمجرد الملاقات، وبين الدليلين عموم من وجه: فمورد افتراق النبوي هو «الكثير غير المتغيّر»، ومورد افتراق أدلّة انفعال القليل هو «القليل المتغيّر»، ويتعارضان في «القليل غير المتغيّر كالجاري القليل مثلاً» فيتساقطان.
والخلاصة: أنّ أدلّة انفعال القليل كما تعارض أدلّة اعتصام الجاري بالعموم من وجه كذلك تعارض أدلّة عدم انفعال غير المتغيّر بالعموم من وجه.
وبعبارة اُخرى: هنالك ثلاثة أدلّة متعارضة في المقام، فأوّلاً: أدلّة انفعال القليل بالملاقاة. وثانياً: أدلّة اعتصام الجاري. وثالثاً: النبوي الدال على عدم
ص: 254
--------------------------
انفعال غيرالمتغيّر. والجاري القليل مسرح لتعارض الأوّل مع الأخيرين فلا يصلح الثالث مرجعاً في المقام(1).
لا يقال: إنّ أدلّة الانفعال بالملاقاة ترجّح على النبوي بالشهرة.
فإنّه يقال: إنّ البحث في المقام مع قطع النظر عن الشهرة وإلّا فلو لوحظت الشهرة، فهي قائمة على ترجيح أدلّة اعتصام الجاري في المقام، فتأمل ولاحظ.
الوجه الثامن: ما ذكره في المهذّب من أنّه «لو سلّم التساوي والتساقط فالمرجع عمومات الطهارة»(2).
ولعلّ مراده أصالة الطهارة أو استصحاب الطهارة أو كلاهما معاً على الخلاف المعروف في تقديم أيهما أو جريانهما معاً، والظاهر أنّه متين(3).
ص: 255
--------------------------
الوجه التاسع: ما ذكره الفقيه الهمداني، قال: «انّ صحيحة ابن بزيع المشتملة على التعليل حاكمة على جميع الأدلّة الدالة على انفعال الماء القليل لأنّها بمدلولها اللفظي تدلّ على اختصاص الانفعال بغير ذي المادة، فلا تلاحظ النسبة بينها وبين المطلقات»(1).
أقول: هذا الوجه إن اُريد به أظهرية التعليل في العموم من أدلّة الانفعال فيه فهو متعين، وقد مضى بيانه في الوجه الثالث.
وأن اُريد به الحكومة المصطلحة، ففيه نظر: إذ قوام الحكومة بنظر الدليل الحاكم الى المحكوم بالتوسعة أو التضييق أو نحوهما، مثل قوله: «لا ربا بين الوالد وولده»(2) الناظر الى أدلّة حرمة الربا، ومثل: «الطواف بالبيت صلاة»(3) الناظر الى أدلّة اشتراط الصلاة بالطهارة.
والظاهر أنّه لا نظر في المقام(4)، بل كل من الدليلين يقتضي شمول الحكم
ص: 256
--------------------------
لأفراده كلّها، وحينئذ يقع التعارض في مادّة الإجتماع وهي الجاري القليل، ولا حكومة في البين لأحد الدليلين على الآخر.
هذا، ولكن يمكن أن يكون مراد الفقيه الهمداني ما سيأتي انشاء اللّه في الوجه الثاني عشر فلاحظ.
الوجه العاشر: ما ذكره الفقيه الهمداني: «يُبَعِّدُ هذا القول - اي قول العلّامة - أنّ مقتضاه أن لا يكون تكاثر الماء من المادّة على الجاري المتغيّر موجباً لتطهيره، لأنّ النابع تحتها لا يبلغ الكر غالباً، إذ قلما يوجد في باطن الأرض كر من الماء بالفعل متصلاً أجزائه بعضها ببعض اتصالاً عرفياً بحيث يكون بالشرائط المعتبرة في عاصمية الكر، لا أقل من الشك في ذلك»(1).
وفيه نظر: لأنّ وجود كر بالفعل جامع لشرائط العاصمية ليس قليلاً كما يبدو، نعم لا ينفع ذلك إلّا مع الاطمينان بكرية المادّة، وإلّا لكان من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية(2).
قال الهمداني: «وكذا لازمه(3) الالتزام في مثل الفرض بنجاسة ماء عين انسدّ منبعها بشيء نجس وانقطع عمود الماء، ثم اُزيل المانع وجرى الماء،
ص: 257
--------------------------
وإن بلغ الماء المتجدد من الكثرة ما بلغ، لأنّ ما يتجدّد ينجس فلا يكون مطهّراً... ولا يظن أن يلتزم بشيء من اللازمين احد»(1).
الوجه الحادي عشر: المناقشة في عموم المفهوم بأنّه ليس إلّا أنّ ما عدى الكر ينفعل بشيء من النجاسات على نحو القضية المهملة، والجاري القليل ينفعل بشيء من النجاسات وهو ما يوجب تغيّره - والكلام مع العلّامة في غير التغيّر -، وفي القضية المهملة يؤخذ القدر المتيقّن وهو التغيّر.
ويرد عليه أوّلاً: أنّ أدلّة الانفعال لا تختص بما ذكر كما سبق في الوجه الرابع.
وثانياً: أنّ نقيض السالبة الكلية وإن كان هو الموجبة الجزئية بالدقة العقلية إلّا أنّ المفهوم عرفاً الإيجاب الكلي في المقام، فمفهوم: «اذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء» هو: «اذا لم يكن الماء قدر كر نجسه كل شيء».
وثالثاً: ما ذكره في المصباح، قال: «انّ النجاسة الموجبة للتغيّر غير مرادة من عموم ال- «شيء» في المنطوق، لأنّ الكر أيضاً ينفعل بها فاهمال الشيء المنجس غير ظائر بالاستدلال في مقابل السلب الكلي كما هو مذهب المشهور»(2).
توضيحه: أنّ الرواية في مقام بيان الفارق بين الكر والقليل، والانفعال
ص: 258
--------------------------
بالتغيّر مشترك بين الإثنين، فلا يصح كونه بمفرده هو المراد في المفهوم إذ لا فرق بلحاظه بين الكر والقليل، ولذا لا يصح أن يقال: إنّ الكر لا ينفعل بشيء من النجاسات إلّا التغيّر بخلاف القليل فإنّه ينفعل بالتغيّر، وعليه فلا بد من أن يراد غيره ولو بضميمته، وحينئذ يثبت مدعى العلّامة وهو شمول أدلّة الانفعال للجاري القليل ولو في الجملة.
الوجه الثاني عشر: ما ذكره الحائري في شرح العروة الوثقى، قال: «إنّ ما دلّ على التعليل بوجود المادّة حاكم على أدلّة الانفعال من باب ظهور التعليل في أنّه بامر ارتكازي، ولا ريب أنّ الإرتكاز يساعد على كون مدلول التعليل هو تنزيل مادّة الماء منزلة الماء الفعلي، فكأن مفاده أنّ الماء موجود بوجود مادتّه، فمحصّل التعليل يرجع الى صغرى مذكورة وهي: «لأنّ له مادة» وكبرى مطوية وهي: «أنّ المادّة بمنزلة الماء الموجود» فالتعليل حاكم على دليل الانفعال القليل، لا من باب التعليل بل من باب التنزيل»(1).
فالخلاصة: أنّ أدلّة القليل تشمل الجاري القليل، إلّا أنّ أدلّة ما له مادّة حاكمة عليها فتقول بأنّ ما له مادّة ليس بالقليل، فخرج من عموم المفهوم. مثلاً «الجيش القليل ينهزم» لا يشمل القليل الذي له مَدد فإنّه حاكم عليه، فلا فرق بين الجيش الكبير والصغير ذي المدد.
ص: 259
وسواء كان بالفوران أو بنحو الرشح(1)[1].
--------------------------
هذا، ولكن قد يُتنظّر فيه بأنّ مفاد التعليل - لأنّ له مادّة - ليس إثبات الكثرة في ذاته بل إثبات وجود المدد له، وكون المدد في قوة الماء الفعلي محل تأمل، إذ العرف لا يستقذر الكثير بذاته لو وقع فيه قذر- في كثير من الاحيان- بخلاف القليل المتصل بالكثير، ومعه يظل التعارض قائماً بين عموم التعليل وعموم المفهوم.
وبعبارة اُخرى: ملاك أدلّة الانفعال لحاظ الماء في حد ذاته، وملاك التعليل لحاظ وجود المدد الخارجي فيتعارضان.
فالخلاصة: «لأنّ له مادة» لا تثبت كثرته بل له نوع من القوة. نعم إن كان للتعليل ظهور في الحكومة يتمّ هذا الوجه ويرتفع التعارض.
[1] أي لا فرق في اعتصام الجاري بين كون خروجه على نحو الفوران أو على نحو الرشح، وذلك لصدق عنوان الماء الجاري في الصورتين، ولعموم التعليل في صحيحة ابن بزيع ب- «أنّ له مادة».
ودعوى: انصراف المادّة عن المادّة الراشحة، لا يخلو من نظر، فإنّ الرشح في البئر ليس نادراً، بل قيل إنّه الغالب، مع أنّ الندرة غير قادحة في إطلاق المطلقات.
ص: 260
--------------------------
مع أنّه لو فرض عدم صدق ذي المادّة عليه كفى صدق الجاري لورود هذا العنوان في لسان الأدلّة كما سبق، فتأمل(1).
وبه يظهر النظر فيما حكاه صاحب الحدائق عن والده: «من عدم تطهير الآبار في بعض البلدان بالنزح بل بإلقاء كر عليها لأنّ مائها يخرج رشحاً»(2).
إذ ذلك لا يمنع عن شمول الادلة، له إلّا أن يراد ما سيذكر بعد قليل انشاء اللّه تعالى في «فرع».
هذا، ولكن قد يستدل لما ذكره والد صاحب الحدائق باتفاق كلمات الفقهاء على اعتبار النبع في صدق مفهوم الجاري - حيث قالوا: الجاري ما كان عن مادّة نابعة - وهو مباين للرشح.
وفيه أوّلاً: أنّ الظاهر أنّ المراد من النبع عرفاً ما هو أعمّ من الرشح، بل قد يقال: بأنّه لغة كذلك لأنّه بمعنى الظهور والخروج الشامل للرشح ايضاً، فيكون اعتباره في قبال ما لا مادّة له أصلاً، كما سبق بيانه في بداية هذا الفصل.
وثانياً: سلّمنا إرادتهم ما يقابل الرشح إلّا أنّه لا يمكن التعويل عليه بعد صدق الماء الجاري على ذي المادّة الراشحة لغةً وعرفاً(3).
ص: 261
--------------------------
والخلاصة: أنّ الاتفاق حجة فيما لو لم يقم دليل قاطع على الخلاف، كما هو الشأن في جميع الحجج والأمارات، والصدق اللغوي والعرفي دليل قاطع على الخلاف، فتأمل.
وثالثاً: لو فرض عدم صدق الماء الجاري عليه فلا يقدح ذلك بعد كونه ذا مادة، فينطبق عليه عموم التعليل في صحيحة ابن بزيع.
نعم الأحكام الخاصة للجاري بما هو جار لا بما هو ذو مادّة لا تترتّب عليه حينئذ، كما لو نذر أن يغتسل في ماء جار، أو قيل بأنّ الثوب الذي اصابه البول يطهر بالمرة في خصوص الجاري.
فرع: قال الوالد (رحمه اللّه) في الفقه: «لوكان الرشح قليلا جداً كما لو خرج في كل يوم مقدار مثقال مثلاً فالأظهر عدم جريان حكم الجاري لعدم صدقه عليه عرفا»(1).
أقول: وحينئذ قد يشكل صدق ذي المادّة عليه أيضاً، فلا تجري عليه أحكام ذي المادّة كما لم تجر عليه أحكام الجاري.
قال في المهذب: «إنّ الرشح تارة: يكون بنحو لا ينقطع بل يخرج متعاقباً بحيث لا يتخلل العدم. واُخرى: يكون بخلاف ذلك، ومقتضى إطلاق المادّة شمولها للقسمين إلّا إذا كانت الفترة معتدّاً بها فيشكل الصدق الحقيقي حينئذ»(2).
ص: 262
ومثله(1) كل نابع وإن كان واقفاً[1].
1 مسألة: الجاري على الأرض من غير مادّة نابعة أو راشحة(2) إذا لم يكن كرّاً ينجس بالملاقاة[2].
--------------------------
[1] كالنزير الذي ينبع في قبو الأراضي المرطوبة، فإنّه لا ينفعل بالملاقات، وذلك لعموم التعليل في صحيحة ابن بزيع الدال على أنّ وجود المادّة مساوق للاعتصام(3)، ومنه يظهر التأمل فيما ذكره البروجردي في حاشيته من جريان حكم الراكد عليه «إلّا أن يصير جارياً ولو بالعلاج»(4) نعم لا تشمله الأحكام الخاصة بالجاري بماهو جار.
[2] لعدم صدق عنوان الماء الجاري عليه لا عرفاً، بل ولا لغةً، فتأمل، وذلك لما سبق في بداية هذا الفصل من أنّ صدور المبدأ لا يكفي في صحّة
ص: 263
نعم إذا كان جاريا من الأعلى الى الأسفل(1) لا ينجس أعلاه بملاقات الأسفل للنجاسة[1] وإن كان قليلاً.
--------------------------
إطلاق المشتق في مثل المقام(2) وإن كفى في غيره، كما وقد سبق دعوى الإجماع على ذلك، لا أقل من الشك، والشك في الموضوع كاف في عدم ترتيب آثاره عليه، كما أنَّ مثل هذا الماء لا مادّة له حتى يكون داخلاً في عموم التعليل، وحينئذ فتشمله الأدلّة الدالة على أنّ كل ماء قليل غير الجاري وغير ذي المادّة ينفعل بالملاقاة.
ثم إنّه قد مضى الكلام في عدم اعتبار وجود المادّة النابعة والراشحة في صدق عنوان الجاري، كما في مياه الأنهار المتكونة من ذوبان الثلوج الكائنة على الجبال فراجع.
[1] وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك، وذكرنا سابقا أنّه ليس الملاك العلّو والسفل ولا القوة والدفع بل صدق العناوين المذكورة في الروايات كالسؤر والإصابة ونحوهما وعدمه، فراجع.
ص: 264
2 مسألة: إذا شك في أنّ له مادّة ام لا(1) وكان قليلاً ينجس بالملاقاة(2)[1].
--------------------------
ومنه يظهر أنّه لا فرق بين الجريان من العالي الى السافل كما في صب ماء الأبريق على اليد النجسة، أو من السافل الى العالي كما في ماء الفوارات إذا تنجّس أعلاه بشيء، أو من أحد الجانبين الى الآخر، ومع الشك في الشمول - عنوان السؤر وما اشبه - يكون المرجع أصالة الطهارة.
ثم لا يخفى أنّ ما ذُكر لا يختص بالقذارات الشرعية بل يعم القذارات العرفية ايضاً. فلو صبّ ماء الإبريق على قذر عرفي لم ير العرف ذلك موجباً لقذارة ما في الإناء وذلك يؤيد ما نحن فيه، فتأمل.
فرع: لا فرق فيما ذكر بين المطلق والمضاف لوحده الملاك فيهما(3).
[1] في المسألة صور:
الأولى: أن يكون الماء مسبوقا بوجود المادّة وشك في بقائها، وفيها لا ينفعل بالملاقاة لاستصحاب كونه ذا مادة، ومن الواضح أنّه لا فرق في إحراز
ص: 265
--------------------------
كون الماء ذا مادّة بين الإحراز الوجداني والتعبدي.
الثانية: أن يكون الماء مسبوقاً بعدم وجود المادّة وشك في وجودها، وفيها ينفعل بالملاقاة لاستصحاب العدم.
وممّا تقدم يظهر حكم المياه الجارية من الأنابيب حيث إنَّ اتصال ما فيها بالمادّة الجعلية يوجب اعتصامها كما هو الشأن في ماء الحمام، فإذا شك في بقاء اتصال مائها بالمادّة استصحب الاتصال، وإن شك في طرو الاتصال استصحب العدم.
هذا، ولكن قد يقال: إنّ مياه الأنابيب ينطبق عليها عنوان الكر لا عنوان ذي المادّة وإن كان الحكم واحداً(1).
الثالثة: أن تكون الحالة السابقة مجهولة(2)، بأن يحتمل كون الماء ذا مادّة منذ البدأ، فقد ذهب المصنّف الى النجاسة بالملاقاة، ووافقه على ذلك النائيني والعراقي والسادة: ابو الحسن الاصفهاني وعبد الهادي الشيرازي والحكيم والخوئي وحسن القمي، وذهب الى الطهارة الشيخ عبد الكريم الحائري والكلبايكاني والوالد، وتأمل في الحكم البروجردي والخونساري رحمهم اللّه.
ص: 266
--------------------------
وقد استدل للنجاسة بوجوه:
الوجه الأوّل : قاعدة المقتضي والمانع. - وهي قاعدة عقلائية تثبت مثبتاتها(1)- وقد ذهب اليها بعض المتقدمين وبعض المتأخرين على ما حكي، بتقريب: أنّ ملاقاة النجاسة للماء القليل مقتضية لانفعاله، واتصاله بالمادّة مانع عنه، ومع العلم بوجود المقتضي والشك في المانع يبنى على عدم الثاني، وعليه فالمعلول متحقّق.
وفيه نظر: لعدم وجود دليل لفظي فيها، ولم تستقر عليها سيرة العقلاء(2)،
بل ادّعي الإجماع على عدم اعتبارها. فمثلاً: لا يعدّ قاتلاً من أطلق سهماً قاتلاً واحتمل مانعية عاصفة عتيّة وشك في الإصابة، ولا يقاد الرامي للقِوَد، أو ثبوت كفارة الجمع عليه وغيرهما من الأحكام، كما هو واضح.
ص: 267
--------------------------
الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني ومحصّله: «أنّ الاستثناء من الحكم الإلزامي أو ملزومه كالنجاسة الملزومة لحرمة الشرب إذا تعلّق بعنوان وجودي فهو عرفاً بمنزلة اشتراط إحراز ذلك العنوان في ارتفاع الحكم الإلزامي أو ملزومه»(1) .
وفي المقام: أنّ الاستثناء عن ملزوم الحكم الإلزامي وهو النجاسة قد تعلق بأمر وجودي أي الاتصال بالمادّة، فلا بد من إحراز الاتصال في الحكم بعدم الانفعال، وحيث إنَّ الاتصال غير محرز في المقام فالماء محكوم بالنجاسة.
ويرد عليه: أنّ الإحراز لم يؤخذ في موضوع دليل الخاص، وقد تقرر أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية لا المعلومة، وأمّا ادّعاء أخذ الإحراز في الموضوع من ناحية الفهم العرفي فهو غير واضح، إذ الظاهر أنّ الخارج نفس عنوان الخاص الواقعي، لا عنوانه المحرز المعلوم.
والخلاصة: إنّ الإحراز غير مأخوذ في موضوع الدليل لا شرعاً ولا لغة ولا عرفا، وقد سبق تفصيل الكلام في المسألة الخامسة من: «فصل في المياه».
وأمّا تفصيل الحلي (رحمه اللّه) (2) بين تعليق الحكم الترخيصي على مفاد القضية
ص: 268
--------------------------
الشرطية مثل: «اذا كان الماء»(1) أو مفاد الحصر ب- «إلّا» مثل قوله تعالى: ﴿والذين هم لفروجهم حافظون إلّا على ازواجهم﴾(2) فلا بدّ من الإحراز - العلم - في الخروج عن الحكم العام.
وبين مجرد جعل الحكم الترخيصي على موضوعه كما فيما نحن فيه، فهو لا يقتضي الحصر القاضي بلزوم الإحراز الى آخركلامه.
فغير ظاهر الوجه، إذ لايرى العرف فرقاً بين: «لا تدخل أحداً في داري إلّا أصدقائي» وبين: «لا تدخل أحداً داري وأدخل أصدقائي» فإن كان الإحراز مأخوذاً في الحكم الترخيصي عرفاً كان مأخوذاً في كليهما، وإن لم يكن مأخوذاً فيه عرفاً لم يكن مأخوذاً في كليهما، فالتفصيل غير واضح(3).
الوجه الثالث: التمسّك بالعمومات الدالة على انفعال الماء القليل بالملاقاة، ولا يقدح في ذلك خروج ماله مادّة عنها حيث إنَّ القليل في
ص: 269
--------------------------
المقام داخل تحت العموم قطعاً ويشك في خروجه عنه بوجود المادّة له، فيتمسك بعموم العام ويحكم عليه بالانفعال.
ونظير ذلك اولاً: ما ذكره المصنّف (رحمه اللّه) في المسألة 6 من فصل «فيما يعفى عنه في الصلاة»، قال: «الأوّل: إذا شك في دم أنّه من الجروح أو القروح أم لا فالأحوط عدم العفو عنه»(1).
ثانياً: ماذكره في المسألة 3 من ذلك الفصل، قال: «إذا شك في أنّه - الدم - بقدر الدرهم أو أقل فالأحوط عدم العفو»(2) ولعلّ كلى الحكمين لأجل التمسك بعموم ما دلّ على مانعية النجس في الصلاة.
ثالثاً: ما ذكره في المسألة 50 من اوائل كتاب النكاح، قال «إن شك في كونه - المنظور اليه - مماثلاً أو لا، أو شك في كونه من المحارم النسبية أو لا فالظاهر وجوب الإجتناب»(3) وإن صرّح هنالك بعدم ابتنائه على التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية، لكن قال بعض المحشين: إنّه عين التمسك به فيها.
ويرد عليه: أنّه لايجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية سواء كان اندراج الفرد المشتبه تحت عموم العام مشكوكاً، كما في قوله: «اكرم العلماء»
ص: 270
--------------------------
مع الشك في كون زيد عالماً ام لا، أو كان اندراجه تحته معلوماً لكن كان انطباق عنوان المخصّص عليه مشكوكاً، كما في قوله: «اكرم العلماء ولا تكرم فساقهم» إذا علم بكون عمرو عالماً وشك في فسقه، وذلك لأنّ الخاص يعنون العام بما هو حجة بعنوان عدمي هو غير العنوان المأخوذ في الخاص، ومع تعنونه به يشك في انطباقه على الفرد فلا يصح التمسك به فيه.
والخلاصة: لكونه شبهة مصداقية للخاص يكون بعد التعنون شبهة مصداقية للعام أيضاً بماهو حجة، بلفظ العام وان كان شاملاً له إلّا أنّه بعد ورود الخاص نعلم أن مراد المولى ليس العام بل العام المخصّص فلا يصحّ التمسّك به، نعم لو كانت هنالك حالة سابقة متيقّنة استصحبت، وليس في المقام تلك(1).
ص: 271
--------------------------
الوجه الرابع: استصحاب عدم اتصاف القليل بالاتصال بالمادّة على نحو استصحاب العدم الأزلي لا العدم النعتي، لفرض عدم العلم بالحالة السابقة.
تقريره: أنّ هذا الماء القليل لم يكن متّصفاً بالاتصال بالمادّة قبل وجوده لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، والشكّ في اتصافه به حين وجوده، فنستصحب عدم الاتصاف، وقد تقرّر في محلّه أنّه لا فرق في موضوع الحكم إذا كان مركباً بين إحراز كلا جزئيه بالوجدان أو بالأصل أو بالاختلاف، لأنّ الإحراز التعبدي كالإحراز الوجداني
وفي المقام موضوع النجاسة مركب من أمر وجودي وهو كونه قليلاً بمقتضى مادلّ على انفعال القليل، وأمر عدمي وهو عدم اتصاله بالمادّة بمقتضى ما دلّ على اعتصام ذي المادّة، والأمر الوجودي محرز بالوجدان والأمر العدمي محرز بأصالة عدم المادّة فيتمّ كلا جزئي الموضوع ويحكم عليه بالانفعال.
وهو نظير استصحاب عدم القرشية والنبطية في المرأة التي يشكّ في كونها كذلك بالعدم الأزلي، حيث إنّها لم تكن متصفة بهذا النعت قبل وجودها فنستصحب عدم الإتصاف به حين وجودها أيضاً كما مثّل به صاحب الكفاية(1)
فيها.
ويرد عليه: انصراف أدلّة الاستصحاب عن العدم الأزلي وإن فرض كونه
ص: 272
--------------------------
تاماً بمقتضى الدقة العقلية إذ الملاك الصدق العرفي لا الدقي، ولذا لم يكن منه أثر في كلمات المتقدّمين كما قيل.
وأمّا ما ذكر السيد السبزواري(1) من أنّ المناط: شمول أدلّة الاستصحاب له سواء ذكر في كلمات المتقدمين ام لا، وسواء وافق العرف ام لا.
ففيه نظر: إذ الظاهر أنّ عدم ذكره في كلمات المتقدمين ليس لعدم الالتفات اليه أو لعدم الإبتلاء به بل لانصراف الأذهان عنه، فتأمل.
والعرف وأن فرض عدم كونه حجة في المصاديق، لكن رؤيته انقلاب وجهة اللفظ المأخوذ في الدليل عن مصداق محقّقة للانصراف، ولذا لا يشك في عدم شمول: «لا تصلّ في أجزاء ما لا يؤكل لحمه» لشعر الانسان وإن كان الانسان فرداً لما لا يؤكل لحمه بالدقة العقلية.
ويؤيد ما ذكرناه - إن لم يدلّ عليه - ما ذكروه من أنَّ ملاك صدق نقض اليقين بالشك هو العرف لا العقل ولا لسان الدليل، فراجع.
وهنالك مناقشات مفصلة في استصحاب العدم الأزلي يوكل بحثها الى علم الاُصول.
الوجه الخامس: استصحاب العدم النعتي فإنّ هذا الماء القليل لم يكن يوماً ذا مادّة إذ كان مطراً أو ثلجاً نازلاً من السماء أو ماءً كامناً تحت الأرض أو نحو ذلك ولم يكن آنئذٍ ذا مادّة نابعة، والآن يشك في بقاء هذا العنوان له
ص: 273
--------------------------
فيستصحب، وحينئذ يثبت جزءا موضوع الحكم بالانفعال احدهما بالوجدان والآخر بالأصل.
اللّهم إلّا أن يقال: بتغيّر الموضوع عرفاً، فتأمل.
الوجه السادس: التمسك بالأصل العقلائي من عدم وجود المادّة.
وفيه: أنّه لم يثبت وجود مثل هذا الأصل عند العقلاء، مع أنّه لو ثبت بنائهم عليه لم يُجْدِ إلّا بضميمة الإمضاء الشرعي، كما هو الشأن في جميع البنائات العقلائية، ولم يثبت إمضاء الشارع لذلك، فتأمل(1).
الصورة الرابعة: أن يكون الماء مسبوقاً بحالتين متضادتين، أي حالة الاتصال بالمادّة وعدمه، واشتبه المتقدّم منها بالمتأخّر، وفي هذه الحالة يجري الاستصحابان الموضوعيّان من الاتصال وعدمه ويتعارضان ويتساقطان، أو لا يجريان أصلاً لعدم إحراز اتصال زمان اليقين بالشك على اختلاف المبنيين، وحينئذ تستصحب طهارة الماء لتمامية أركان الاستصحاب فيه، فإنّه كان طاهراً قبل الملاقات ويشك في نجاسته بها فتستصحب الطهارة، أو يحكم عليه بالطهارة لأصالة الطهارة، أو يجري فيه
ص: 274
--------------------------
كلاهما على الخلاف المذكور في محلّه.
وهذا الأصل وإن كان مسبّباً ناشئاً عن الشك في الاتصال بالمادّة وعدمه إلّا أنّه حيث لم يجر الأصل السببي لم يكن مانع من جريان الأصل المسببي.
تفريع: لو غسل الثوب المتنجّس مثلاً في هذا الماء المسبوق بالحالتين المتضادتين، لا به - أي بالماء - فمقتضى الاستصحاب بقاء نجاسته، ولا معارضة بين استصحاب طهارة الماء واستصحاب نجاسة الثوب المغسول فيه لأنّ الملازمة بين طهارة الماء وطهارة المتنجّس المغسول فيه واقعية والتفكيك بينهما ظاهري وهو في الفقه غير عزيز.
وسيأتي بعض الكلام انشاء اللّه تعالى في المسالة السابعة من «فصل الراكد بلا مادة» حيث حكم المصنّف بعدم تنجس الماء المشكوك في كريته بالملاقاة مع عدم العلم بحالته السابقة مع حكمه ببقاء نجاسة الثوب المغسول فيه، مع وجود الملازمة الواقعية بين طهارته وطهارة المتنجّس المغسول فيه.
ونظيره من بعض الوجوه ما ذكروه في مسألة اختلاف المتعاملين إجتهاداً أو تقليداً في صحّة المعاملة وبطلانها من أنّ العقد يكون صحيحاً من طرف وباطلاً من طرف، مع أنّ العقد متقوّم بطرفين، فإنّ التقوّم المذكور إنّما هو بالإضافة الى الحكم الواقعي لا الظاهري، وإن خالف في ذلك المصنّف في المسألة 55 من كتاب الإجتهاد والتقليد.(1)
ص: 275
--------------------------
لا يقال: إنّ طهارة الثوب المغسول من آثار طهارة الماء وحيث أثبت الأصل السببي طهارة الماء يترتّب عليه جميع آثارها ومنها طهارة ما غسل فيه، ولا مجال حينئذ للأصل المسببي.
فإنّه يقال: موضوع طهارة الثوب المغسول في المقام مركّب من طهارة الماء وكريته أو ما في حكمها - كان يكون لها مادّة - ولا مثبت للكرية في المقام.
نعم طهارة الماء تستلزم كريته واقعاً، إلّا أنّ هذه الملازمة عقلية لا شرعية، فلا ينهض الأصل بإثباتها إذ الاُصول لا تثبت اللوازم العقلية.
نعم لو اُحرزت كرّية الماء أو ما في حكمها وشك في طهارته طهر المتنجّس المغسول فيه لإحراز جزئي الموضوع بالوجدان وبالتعبد حينئذ.
وحيث جرى الأصل في السببي لا مجال لاستصحاب نجاسة الثوب المغسول فيه لحكومة الأصل السببي على المسببي أو وروده عليه، فلاحظ.
هذا وقد ذُكر هنالك شرطان للحكم بنجاسة الثوب المغسول بهذا الماء بالاستصحاب:
ص: 276
--------------------------
الشرط الأوّل : أن يقال باعتبار ورود الماء على المتنجّس في التطهير بالقليل الذي ليس له مادة، و أمّا على القول بعدم الاعتبار فالمغسول به طاهر لكفاية الغسل فيه عليه حتى لو لم تكن له مادّة في الواقع فلا يبقى مجال للتفكيك(1).
الشرط الثاني: أن يكون دليل الاعتبار:
إمّا: انصراف أدلّة التطهير الى ورود الماء على المتنجّس.
وإمّا: النصوص الأمرة بذلك كقوله (عليه السلام) : «صبّ عليه الماء مرتين»(2).
وإمّا: السيرة، إذ يقطع حينئذ بعدم حصول أحد طريقي التطهير وهو ورود الماء على المتنجّس، ويشك في حصول الطريق الآخروهو غسل المتنجّس في الكر أو ما في حكمه، ومع الشك المزبور تستصحب النجاسة وحينئذ يتحقق التفكيك فيحكم بطهارة الماء ونجاسة الثوب.
وأمّا إذا كان دليل الاعتبار: انفعال القليل بمجرد ورود المتنجّس عليه فلا مناص حينئذٍ عن الحكم بطهارة الثوب وإن ورد على الماء لعدم انفعال الماء في المقام بورود الثوب عليه بمقتضى الاستصحاب فهو طاهر حين الورود وبعده، ومن الواضح أنّه لا فرق في إحراز طهارة الماء بين العلم التعبّدي والوجداني، فلا مانع من تطهير المغسول فيه مطلقاً.
ص: 277
3 مسألة: يعتبر في عدم تنجًس الجاري اتصاله بالمادة(1)[1]،
--------------------------
إيقاظ. لا يخفى أنّ الحكم بطهارة الماء في الصورة الرابعة إنّما يتمّ لو بنى الحكم بالنجاسة في الصورة الثالثة على استصحاب العدم الأزلي أو النعتي حيث لا مجرى لهما مع تعاقب الحالتين المتضادتين لانقطاعها بالتعاقب المزبور.
وأمّا بناء على ساير الوجوه فلا بد من الحكم بالنجاسة لأنّه مقتضى قاعدة المقتضي والمانع، أو مقتضى أخذ الإحراز في الاستثناء من الحكم الإلزامي أو ملزومه، أو مقتضى التمسك بالعمومات الدالة على انفعال الماء القليل بالملاقاة، أو مقتضى التمسك بأصالة عدم وجود المادّة العقلائية، وحينئذ تثبت نجاسة ما غسل فيه لأنّ ملاقي النجس نجس، فيكون كل من الماء وما غسل به محكوماً بالنجاسة ولا تجري فيهما مقولة التفكيك، فلاحظ.
[1] بأن لا ينفصل عنها، وذلك لأنّ في المقام طائفتين من الروايات:
الأولى: ما دلّت على موضوعية عنوان الماء الجاري في الحكم بعدم الانفعال.
الثانية: ما تضمن التعليل بوجود المادة.
أما الأولى: فقد سبق أنّ المراد ليس مطلق الجريان بل ما كان عن مادّة
ص: 278
--------------------------
تمدّه، والمفروض انقطاع المدد.
وأمّا الثانية: فلأنّ ظاهر كلمتا «له» و«مادة» الواردتين في تعليل صحيحة ابن بزيع(1) هو الفعلية لا الشأنية، كما هو الشأن في جميع الألفاظ على ما قرّر في مباحث الاستصحاب، ولا يقال لمثل هذا الماء: «أنّ له مادّة» بل يقال: «كان له مادة»، ولذا قال الماتن في المسألة الخامسة عن هذا الفصل: «لو انقطع الاتصال بالمادّة كما لو اجتمع الطين فمنع من النبع كان حكمه حكم الراكد»(2). قال في الفقه: «لأنّه المنصرف من أدلّة الجاري»(3). وفي المهذب: «للإرتكاز العرفي المنزّل عليه الدليل»(4). وفي المستمسك: «لأنّه منصرف الدليل لمطابقته للمرتكز العرفي»(5). وفي شرح العروة الوثقى: «لأنّ معنى
ص: 279
فلو كانت المادّة من فوق تترشح وتتقاطر فإن كان دون الكر ينجس(1)[1].
--------------------------
التعليل إلحاق قوة الماء بالماء الفعلي، ومن المعلوم أنّ المادّة لو كان جميعها ماء فعلياً ولكن لم يتصل بالقليل لم يكن حافظاً لاعتصامه»(2).
[1] الظاهر أنّه لا إشكال في ما سبق، إنّما الإشكال في هذا التفريع فربّما يدعى صدق الجاري عليه عرفاً، وشمول التعليل في الصحيحة له، لأنّ المادّة عبارة عن الأصل الذي يمدّ الماء، ولا فرق في ذلك عرفاً بين أن تتّصل به المادّة من تحت أو تتقاطر عليه من فوق، وصرف عدم تحقق مثل هذا النوع من المادّة في البئر كما ذكره التبريزي(3) لا يقدح في عموم تعليل الصحيحة(4). إذ العلّة تعمّم وتخصّص، كما أنّ ظهور الألفاظ في الفعلية لا الشأنية لا ينافي ما ذكرناه لفرض فعلية المادّة واتصالها لكن على هذا النحو.
وقد يستأنس لما ذكر بماء المطر القليل المجتمع في مكان في حال التقاطر
ص: 280
نعم إذا لاقى محل الرشح للنجاسة لا ينجس(1)[1].
--------------------------
فإنّه في حكم الكر كما سيأتي في «فصل ماء المطر»، ولعلّه لأجل ما ذكر تأمل في الحكم السيد عبد الهادي الشيرازي.
لكنّ الظاهر أنّه لا محيص عن الإحتياط، ويؤيده فهم معظم من وجدنا حواشيهم على العروة(2)، فتأمل.
[1] لأنّه وإن كان ماء قليلاً لكن له مادّة أو متّصل بالمادة، فيكون محكوماً بالاعتصام بمقتضى عموم التعليل في صحيحة ابن بزيع، ولا يقدح في ذلك عدم صدق الجاري عليه لو فرض وذلك لكفاية صدق عنوان المادّة أو ذي المادة، لكن يشترط عدم الملاقاة أن لايبقى حين انفصاله عن المادّة كما هو واضح (3).
ص: 281
4 مسألة: يعتبر في المادّة الدوام(1)[1].
--------------------------
[1] ذكر ذلك الشهيد في الدروس قال: «ولا يشترط فيه - أي الجاري - الكرية على الأصحّ نعم يشترط دوام النبع»(2).
وعن الموجز لابن فهد موافقته، وفي الجواهر: «وليته اتضح لنا مايريده بهذه العبارة فضلا عن الصحّة»(3).
وقد ذكر في معنى العبارة احتمالات:
الأوّل: ما عن الشهيد الثاني في روض الجنان: «من حمل الدوام على الاستمرار في النبع في مختلف الأزمنة والفصول، وأنّ ما ينبع في بعض فصول السنة دون بعضها الآخرلا يحكم عليه بالاعتصام»(4). وسيأتي ان شاء اللّه تعالى عدم اشتراط الدوام بهذا المعنى في المسألة السابعة.
الاحتمال الثاني: ما عن صاحب الجواهر من احتمال أن يراد بالدوام
ص: 282
--------------------------
الإحتراز عن العيون التي يقف نبعها لانقطاع اتصالها بالمادّة كما لو اجتمع الطين مثلاً فمنع من النبع(1).
والظاهر اشتراط الدوام بهذا المعنى وقد مضى طرف من الكلام في ذلك في المسألة الثالثة كما سيأتي الإشارة اليه إن شاء اللّه تعالى في المسألة الخامسة.
الاحتمال الثالث: ما عن المحقق الكركي من احتمال أن يكون المراد: «الإحتراز عن العيون التي لا يتصل نبعها لفتور مادّتها وضعف استعدادها، فتنبع أناً وتنقطع آناً، فمثله ينفعل إذا لاقى نجساً مع قلته، لعدم إحراز اتصاله بالمادّة حال ملاقاة النجس»(2).
ويرد عليه أوّلاً: أنّ الملاك صدق عنوان ذي المادّة عليه عرفاً فإذا صدق هذا العنوان كفى ذلك في الحكم بالاعتصام، ولو كانت الملاقاة حال انقطاع النبع أناً ما.
وثانياً: إنّ المسبوق بحالتين متضادتين يحكم عليه بالطهارة مع الشك في كون الملاقاة حال الاتصال أو الانفصال، لما سبق من جريان استصحاب الطهارة أو اصالتها أو كليهما معاً.
لكن تماميّة هذا الإشكال موقوفة على صدق ذي المادّة عليه حال النبع، وإلّا لم يكن الماء معتصماً ولو في حال الاتصال.
ص: 283
--------------------------
والخلاصة: إنّ الحالات ثلاث:
أ: إن صدق عليه أنّه ذو مادّة دائماً كان الحكم الاعتصام ولو في حال الانقطاع.
ب: وإن صدق عليه أنّه ذو مادّة حال النبع فقط اختص الحكم بالاعتصام بحاله.
ج: وإن لم يصدق عليه أنّه ذو مادّة مطلقاً لم يعتصم ولو في حال الاتصال، فتأمل.
وهذا الإيراد مبنيّ على عدم موضوعية عنوان الجاري بما هو هو، وأنّ موضوع الحكم هو خصوص عنوان ذي المادّة كما ذهب اليه بعض الأعلام.
وأمّا بناء على المختار من موضوعية عنوان الجاري بما هو هو، فيمكن الإيراد بأنّ الملاك صدق هذا العنوان عليه عرفاً وهو غير متوقّف على الاتصال المزبور(1).
ص: 284
--------------------------
الاحتمال الرابع: ماحكاه صاحب الحدائق عن بعض الأفاضل من المحدثين من أنّ المراد بالدوام نبع المادّة دائماً أو بعد أخذ مقدار من مائها(1).
وقد أوضح ذلك بأنّ المواد على ثلاثة انحاء
الأوّل: أن تكون المادّة نابعة على وجه الاستمرار بالفعل بأن تنبع ويجري مائها على وجه الأرض كما في العيون الجارية.
الثاني: أن تكون نابعة على وجه الاستمرار ولكن لا بالفعل بل بالاقتضاء، بمعنى أن تكون نابعة الى أن يبلغ الماء حدّاً معيّناً فتقف ولا تنبع إلّا أن يؤخذ مقدار من مائها فتنبع ثانياً فللمادّة اقتضاء النبع دائماً.
الثالث: أن تكون نابعة إلّا أنّه إذا أخذ منها مائها ينقطع نبعها ولا تنبع ثانياً إلّا بعد حفر جديد وهكذا كما يتفق ذلك في بعض الأراضي، فالنبع في القسمين الأوّليين دائمي فعلاً أو اقتضاء، وأمّا في الثالث فلا دوام للنبع فيه.
والظاهر تمامية هذا الشرط إذ لا تصدق على مثله المادّة حين انقطاع المادّة عن المدد، لأنّ المادّة مأخوذة من المدد والمفروض أنّها لا تمدّ الماء لا بالفعل ولا بالقوة، لا أقل من الشك في الصدق، وقد قرّر في محلّه أنّ العام إذا خصّص بمخصّص منفصل مجمل لم يسر إجماله الى العام.
وعلى المبنى المختار يمكن أن يقال: إنّ مثل هذا الماء لايطلق عليه الجاري عرفاً لما سبق من أنّ المراد ليس مطلق الجريان بل الجريان عن
ص: 285
--------------------------
مادّة تمدّه والمفروض انقطاع المدد في المقام.
وبعبارة واضحة: يتمّ العمل بالعام إن كان المخصّص مجملاً، والعام فيما نحن فيه: «كل ماء قليل ينفعل بالملاقاة» وهو مفهوم قوله (عليه السلام) : «اذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء». والمخصّص قوله (عليه السلام) : «لأنّ له مادة» إلّا أنّ مفهوم المادّة مجمل حيث لا يدرى هل يطلق «المادة» فيما نحن فيه أو لا؟ وفيه يجري العام.
لا يقال: العام معنون فيسري إجمال الخاص اليه.
إذ فيه: أنّه يدور الأمر بين الأقل والأكثر، وبما أنّ أصالة العموم أصل عقلائي اقتصر في التخصيص على المقدار المتيقّن.
توضيحه: قول المولى: «أكرم العلماء» عام شامل لجميع العلماء بالإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية - حيث إنَّ الأولى كاشفة عن الثانية - وقوله: «لا تكرم فساق العلماء» خاص. إلّا أنّه لو دار أمر الفاسق بين مرتكب الكبيرة أو الأعمّ منها ومن مرتكب الصغيرة، اقتصر في التخصيص على القدر المتيقّن وهو مرتكب الكبيرة، وأمّا مرتكب الصغيرة فغير معلوم خروجه.
والحاصل: بمعونة الأصل العقلائي - عدم التخصيص الزائد - يقال بأنّ المراد إكرام كلّ العلماء حتى مرتكب الصغائر، فالعام ليس بمجمل من حيث مراد المولى وإن كان مجملاً لغةً، فإرادة المولى الاستعمالية شملت مرتكب الصغيرة في قوله: أكرم العلماء.
وهذا كما لو قال: أكرم العلماء. ثم قال: لا تكرم عمرواً، ثم شك في خالد،
ص: 286
--------------------------
فإن العام فيما نحن فيه قد شمله مع أنّه عنون ب: أكرم العلماء إلّا من خرج.
إن قلت: إنّ ما ذكر ينفى مبنى أنّ الخاص يعنون العام.
قلت: التعنون يكون في الشبهة المصداقية ولا يمكن التمسّك بالعام فيها، دون الشبهة الحكمية.
والخلاصة: أنّ الأصل العقلائي يرفع الإجمال عن الخاص، ففي الشبهة الموضوعية لم يثبت دخوله، وفي الشبهة الحكمية لم يثبت خروجه، فتأمل(1).
ص: 287
--------------------------
الاحتمال الخامس: أن يراد بالدوام فعلية نبع المادة، وأمّا إذا لم تنبع بالفعل ولو لأجل مانع كمساواة المقدار الخارج لماء المادة، فيحكم عليه بالانفعال لعدم فعليّة النبع.
ص: 288
فلو اجتمع الماء من المطر أو غيره تحت الأرض ويترشّح إذا حفرت لا يلحقه حكم الجاري[1].
--------------------------
ويرد عليه: صدق عنوان ذي المادّة عليه لغةً وعرفاً، ولا يشترط في صدق هذا العنوان فعليّة المدد بل اقتضائه له لولا المانع(1).
بل قيل: إنّ الغالب في الآبار أنّ مادّتها تقتضي النبع بمقدار الماء المأخوذ منها ولا تنبع فيه دائماً، ولازم هذا الشرط أن تكون أغلب الآبار غير مشمولة لصحيحة ابن بزيع وهو كما ترى.
هذا، ولا يخفى أنّه على المختار من موضوعية الجاري بما هو هو لابدّ من فعليّة الجريان في صدق عنوان الجاري فمع عدم فعليّة الجريان لا تترتّب أحكام الجاري وإن ترتّبت أحكام ذي المادّة في الصورة المذكورة.
(1) الاحتمال السادس: ما لعلّه مرمى نظر المصنّف وهو أن يراد بالدوام أن تكون المادّة مقتضية للجريان مدّة معتدّاً بها، في مقابل المادّة التي تنقطع بعد مدة قصيرة كيوم أو اسبوع مثلاً، والقرينة على إرادة المصنّف هذا الاحتمال تفريعه عن اشتراط الدوام بقوله: «فلو اجتمع الماء من المطر» الى آخره.
هذا، ولكن الظاهر أنّ الحكم تابع لصدق ذي المادّة عليه وعدمه في جريان أحكام ذي المادة، ولصدق الجاري وعدمه في جريان أحكام الجاري عليه، قال صاحب الجواهر: «وأمّا الثمد وهو ما يحتقن تحت الرمل
ص: 289
--------------------------
من ماء المطر كما عن محكي الأصمعي، قال: «هو ماء المطر يبقى محقونا تحت الرمل فإذا انكشف عنه أدّته الأرض»(1) فالأقوى إلحاقه بالمحقون للقطع بعدم شمول ذي المادّة له لا أقل من الشك عند الظن فيستصحب فيبقى على حكم المحقون(2).
قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «هو وإن كان وجيهاً بالنسبة الى بعض أفراده كما لو كانت قطعة صغيرة من الرمل تحت الصحراء فلمّا نزل المطر وقف على تلك الصخرة بحيث لو حفرت ظهر ذلك الماء إلّا أنّه على إطلاقه ممنوع لصدق ذي المادّة والجاري على كثير من أفراده كما استثناه في الجواهر
ص: 290
--------------------------
بقوله: «إلّا أن يفرض كونه على وجه يصدق ذو المادّة عليه»(1).
قال السيد الجد (رحمه اللّه) في تعليقته: «بل يلحقه في عدم التنجس مع كون مادته كرّاً ولو بالاستصحاب»(2).
قال السيد الوالد (رحمه اللّه) والمراد به استصحاب كريّة ماء المطر فإنّ ماء المطر قبل النزول كان كرّاً ثم شك في الكرية فالأصل البقاء.
وفيه تأمل: لاحتمال تبدّل الموضوع أو القطع بذلك فإنّه كان مطراً أو ليس بمطر الآن، وأمّا الاعتصام لأجل الكرية فقد يكون لأجل اتصاله بباقي المياه ولم يحرز ذلك بل اُحرز عدمه، وعليه فيحتمل تبدّل الموضوع(3).
ثم لو فرضنا ثبوت كريّته بالعلم التعبّدي أو الوجداني إلّا أنّه لا ينفع في اعتصام المقدار الظاهر مع فرض عدم الوحدة العرفية بين المائين وعدم صدق ذي المادّة عليه عرفاً، فتأمل.
الاحتمال السابع: أن يراد بالدوام أن تكون المادّة موجبة للجريان بطبعها، فلا يعدّ من مادّة الجاري الماء المجتمع من الأنهار أو الأمطار تحت الأرض
ص: 291
5 مسألة: لو انقطع الاتصال(1) بالمادّة كما لو اجتمع الطين فمنع من النبع كان حكمه حكم الراكد[1]
--------------------------
المنخفضة الذي لا يترشّح ولا يجري إلّا بحفرها وشقّها لا بطبعه.
وفيه نظر: لعدم وجود عين ولا أثر في الأخبار من كون الجريان طبعيّاً أو فتحصّل من جميع ذلك: عدم اعتبار الدوام بالمعنى الأوّل والخامس جعليّاً(2)،
إلّا أن يكون مئاله الى الشرط السابق.
والسابع، واعتباره بالمعنى الثاني والرابع، وتبعيّته للصدق العرفي بالمعنى الثالث والسادس.
هذا كلّه بالنسبة الى صدق عنوان ذي المادّة عليه، وأمّا بالنسبة الى صدق عنوان الجاري فالأمر منوط مضافاً الى وجود المادّة بفعلية الجريان، وإلّا فلا تترتّب أحكام الجاري بما هو جارٍ بصرف وجود المادة، فتأمل.
[1] وذلك لاشتراط الاتصال بالمادّة في العصمة، فإذا انقطع الاتصال لم
ص: 292
فإن اُزيل الطين لحقه حكم الجاري[1] وإن لم يخرج من المادّة شيء فاللازم مجرد الاتصال(1)[2].
--------------------------
يندرج تحت أدلّة الاعتصام وتعين الرجوع الى الأدلّة الدالة على انفعال الماء القليل، ولا فرق في ذلك بين أن يقال بموضوعيّة عنوان الجاري بما هو جار في الحكم بالاعتصام، أو يقال: بأنّ اعتصامه ناشٍ من اندراجه تحت عنوان ذي المادّة إذ لا يشمله حين الانقطاع عنوان ذي المادّة كما لا يشمله عنوان الجاري وقد سبق بيان ذلك في المسألة الثالثة من هذا الفصل.
[1] لتبدل الحكم بتبدّل الموضوع.
[2] قد مضى البحث في شرطية الامتزاج وعدمه في مسألة 12 من الفصل السابق، قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «ولا يخفى أنّه كلّما لم يكن الماء سائلاً لم يحكم عليه بأحكام الجاري الخاصة به، وإنما الاتصال بالمادّة مفيد لتترتّب أحكام ذي المادّة، وهذا هو مراد المصنّف (رحمه اللّه) بقرينة اشتراطه في صدق الجاري النبعَ والسيلان»(2). وهو متين.
ص: 293
6 مسألة: الراكد المتصل بالجاري كالجاري(1)[1]. فالحوض المتّصل بالنهر بساقية يلحقه حكمه[2].
--------------------------
[1] أي : مثله في الاعتصام وإن كان قليلاً، وقد ادّعي عدم الخلاف في ذلك لأنّ اتصاله به يوجب كونه كرّاً كما ستأتي الإشارة اليه في بداية الفصل القادم ان شاء اللّه تعالى، أو يوجب صدق عنوان ذي المادّة عليه، أو لأنّه مقتضى ما ورد في اعتصام ماء الحمام، لكن لا يكفي مطلق الاتصال في الاعتصام بل لابدّ معه من صدق عنوان الكر أو ذي المادّة عليه، فلو كان الراكد أعلى من الجاري وثُقب فأخذ الماء ينزل من الراكد في الجاري لم يحكم عليه بأحكام الكر أو ذي المادة، نعم في العكس يصدق ذو المادّة عليه فالمناط هو التقوّي.
ولو كان الجاري أسفل قراراً لكن كان له دفع كالفوارة كما في كثير من الآبار الإرتوازية المتداولة في هذه الأزمنة فالظاهر صدق المادّة عليه كما أشار الى ذلك السيد الوالد، هذا كلّه في الاعتصام، وأمّا في ترتب أحكام الجاري بما هو جارٍ فلا بد من صدق عنوان الجاري عليه عرفاً.
[2] ممّا ذكر يظهر النظر في هذا التفريع إذا الظاهر عدم صدق الجاري
ص: 294
وكذا أطراف النهر وإن كان مائها واقفاً[1].
7 مسألة: العيون التي تنبع في الشتاء مثلاً وتنقطع في الصيف يلحقها الحكم في زمان نبعها[2].
--------------------------
عليه وإن كان محكوماً بالاعتصام لما سبق، وكذا يظهر النظر في تعليل المهذّب(1) والمستمسك(2)من: «شمول حكم الجاري له بصدق أن له مادة»(3).
[1] لا إشكال ظاهراً فيما ذكره لأنّه يعدّ عرفاً من الجاري وان كان راكداً في الحقيقة، هذا إن اُريد بالأطراف حواشي النهر كما هو الظاهر، وأمّا لو اُريد بها الحفر البعيدة عن النهر و كان لها اتصال بالنهر كما هو الغالب في صورة علوّ الماء زماناً ثم انخفاضه فإنَّ الأمر في ترتّب أحكام الجاري منوط بصدق العنوان عرفاً.
[2] وذلك لأنّ الحكم تابع للموضوع، وحيث صدق عليه الجاري أو ذو المادّة في زمان النبع ترتّب عليه الحكم، وأمّا اعتبار الدوام بمعنى الاستمرار
ص: 295
--------------------------
في النبع في مختلف الأزمنة والفصول وهو وإن كان محتمل عبارة الشهيد على ماسبقت اليه الاشارة في المسألة الرابعة.
إلّا أنّه يرد عليه اولاً: بما في الحدائق، قال: «لا شاهد له في الأخبار، فهو تخصيص لعموم الأدلّة بمجرد التشهّي»(1).
أقول: الظاهر أنّ مراده بعموم الأدلّة أدلّة اعتصام الجاري وأدلّة اعتصام ذي المادّة كالتعليل في صحيحة ابن بزيع.
ثانياً ما فيه أيضاً: «من أنّ الدوام إن اُريد به ما يعمّ الزمان كلّه فلا ريب في بطلانه إذ لا سبيل الى العلم به وأن خصّ ببعضها فهو مجرّد تحكّم»(2).
وقد يجاب: باختيار الأوّل وإحراز الدوام ممكن بالاستصحاب الاستقبالي، وباختيار الثاني، ويكون ملاك التخصيص بالبعض هو المتعارف لانصراف المطلق الى المتعارف.
لكن يرد على الأوّل : المناقشة في المبنى. وعلى الثاني: عدم تسليم كونه غير متعارف.
وقد أنكر المحقق الثاني على ما حكي عنه كون الدوام بهذا المعنى مراد الشهيد، وجعل من فهم ذلك من عبارته ممّن لا تحصيل له، وأنّه منزّه عن أن يذهب الى مثله فإنّه تقييد لإطلاق النصّ بمجرد الاستحسان وهو أفحش
ص: 296
8 مسألة: إذا تغيّر بعض الجاري دون بعضه الآخر فالطرف المتصل بالمادّة لا ينجس بالملاقاة وإن كان قليلاً، والطرف الآخر حكمه حكم الراكد إن تغيّر تمام قطر ذلك البعض المتغيّر، وإلّا فالمتنجّس هو المقدار المتغيّر فقط لاتصال ماعداه بالمادة(1)[1].
--------------------------
الأغلاط.
قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «نعم، قد يشك في بعض المواضع كما لو كان الماء ينبع في كل ساعة من كل سنة فهل يلحقه حكم الجاري أو حكم ذي المادة؟ فيه تردّد لاحتمال الانصراف العرفي لأدلّة الجاري وذي المادّة عن مثل هذا المورد»(2).
[1] في المسالة فروع ثلاثة تتعلق بتغيّر بعض الجاري دون بعضه الآخر.
الفرع الأوّل : إنّ الطرف المتصل بالمادّة إذا لم يتغيّر لا ينجس بملاقاة المقدار المتغيّر وان كان قليلاً، وذلك لما سبق في بداية هذا الفصل من اعتصام ذي المادّة مطلقاً مالم يتغيّر، وأيضاً تشمله أدلّة اعتصام الجاري بناءً على موضوعية الجاري بما هو جار في الحكم بعدم الانفعال.
ص: 297
--------------------------
وهذا كلّه بناء على عدم اشتراط الكرية في الجاري وذي المادّة واضح.
وأمّا بناء على المبنى الآخر فقد قال صاحب الجواهر: «ربّما قيل وكذا بناءً على الاشتراط(1)، لأنّ جهة المادّة في الجاري أعلى سطحاً من المتنجّس وإن كانت أسفل حسّاً والسافل لا ينجس العالي. وفيه منع ظاهر لكون المعتبر العلّو والسفل الحسّيّين، فتأمل»(2).
قال في المهذب: «ولعلّ وجه التأمل أنّه إذا كانت جهة المادّة بحيث يتحقّق بها الدفع والقوة عرفاً فلا يشترط الكرية حتى بناءً على اعتباره لمكان الدفع، وأمّا إن لم يتحقّق ذلك بها فيشترط بناء على الاشتراط»(3).
أقول: سبق الملاك في التنجس وعدمه في المسألة الأولى من «فصل في المياه» والمسألة الأولى من «فصل الماء الجاري» فراجع.
الفرع الثاني: إنّ الطرف الآخرغير المتصل بالمادّة حكمه حكم الراكد إن تغيّر تمام قطر ذلك البعض المتغيّر بحيث فصل بين المادّة والطرف الاخر، فإن كان كرّاً اعتصم بكريته وإن كان قليلاً انفعل بملاقاته للبعض المتغيّر.
هذا، ولكن صاحب الجواهر تأمّل في الحكم بالنجاسة في هذه الصورة بعد ما ضعّف الحكم بالطهارة فيها، قال: «يمكن أن يقال: إن تغيّر بعض
ص: 298
--------------------------
الجاري لايخرج البعض الآخرمن هذا الإطلاق»(1). ومراده أنّه يصدق عليه عنوان الجاري فلا وجه للحكم بانفعاله لأنّه جارٍ غير متغيّر.
وأشكل عليه في التنقيح: «بأنّ الموضوع في الحكم بالاعتصام ليس هو عنوان الجاري، وإنّما حكم عليه بعدم الانفعال لأنّ له مادة، والمادّة بمعنى ما يمدّ الماء - وهي - بهذا المعنى غير متحققة في الماء المتأخر فإنّه لايستمدّ من المادّة بوجه لانفصاله عنها فحكمه حكم الراكد»(2).
وفيه نظر: لما سبق من موضوعية عنوان الجاري بما هو جار في الحكم بعدم الانفعال، فعدم صدق عنوان ذي المادّة عليه ليس مساوقاً لعدم صدق عنوان الجاري. وحينئذ فينبغي البحث في أنّه يصدق عليه عنوان الجاري ام لا؟
ذهب السيد الوالد الى الصدق قال: «قد يقال: بعدم صدق الجاري عليه، ويكون حاله كحال الماء الجاري لو حيل بينه وبين المادّة بحائط، وذلك لأنّ الشرط الاتصال بالمادّة وهذا غير متصل، ولا يُفرَق في عدم الاتصال بين الماء النجس المانع عن التقوّي وبين الحائط.
ولكن فيه: الفرق عرفاً قطعاً فإنّه لو فصل مقدار ذراع من الماء الجائف بالميتة بقدر تمام عرض النهر وعمقه في وسط دجلة وكان الماء الباقي على حاله من الجريان ونحوه لم يشك أحد من العرف في صدق الجاري عليه
ص: 299
--------------------------
حتى أنّه لو ألفت نظره الى هذا الفصل لرآه سفسطة في مقابل الحس»(1).
وقال : «انّ العرف لا يكاد يشك في صدق الجاري على البقية إذا توسط التغيّر بالريح وشبهه، بل لو قيل له إنّ هذا فاصل عَدّة دقّة عقليّة بعيدة عن ظاهر الأدلة»(2).
وفيه تأمل: لأنّ شرط اعتصام الجاري اتصاله بالمادّة على ما سبق في بداية هذا الفصل، ومع حيلولة الماء المتغيّر بينه وبين المادّة عن المدد لايطلق عليه الجاري، فتأمل(3).
ومع الغضّ عن ذلك نقول أدلّة اعتصام الجاري منصرفة عن مثل ذلك،
ص: 300
--------------------------
قال في المستمسك: «انصراف الإطلاق الى صورة اتصال الأثر لا بنحو يكون منفصلاً كالطفرة فإنّ ذلك خلاف المرتكز العرفي المنزّل عليه التعليل»(1).
أقول: ولعلّ الأمثلة تختلف، فتأمل.
ثم إنّ صاحب الجواهر قال في تتمة إشكاله السابق: «وأيضاً احتمال الدخول تحت الجاري معارض باحتمال الخروج فيبقى أصل الطهارة سالماً فيحكم عليه حينئذ بالطهارة»(2).
أقول: يمكن الحكم بالطهارة لو فرض إجمال الخاص في المقام أعني دليل اعتصام الجاري أو ذي المادّة بوجوه.
الوجه الأوّل : أن يقال بسريان إجمال الخاص المنفصل الى العام - وهو مادلّ على انفعال كل ماء قليل بالملاقاة فلا يصح التمسك لا بالعام ولا بالخاص وحينئذ فتستصحب الطهارة، أو يرجع الى أصالة الطهارة أو اليهما معاً.
الوجه الثاني: أن يقال: بأنّه لا يسري إجمال الخاص الى العام ويتعارض عموم العام المقتضي للانفعال مع استصحاب حكم المخصص المقتضي لعدم الانفعال، لأنّ هذا الماء - قبل تغيّر الفاصل بينه وبين مادته - كان مشمولاً للمخصّص فيستصحب، ويرجح عند التعارض استصحاب حكم المخصّص في مثل المقام.
ص: 301
--------------------------
والحاصل: لعدم إمكان استصحاب الموضوع لاحتمال تعدّده لمكان الشبهة المفهومية نجري استصحاب الحكم.
الوجه الثالث: أن يقال: بعدم السراية وبالتعارض فيتساقطان ويرجع الى أصالة الطهارة.
الوجه الرابع: أن يقال: بأنّه لا عموم يدلّ على انفعال الماء القليل وعدم اعتصامه مطلقاً ولو كان جارياً أو ذا مادة، وما يوجد في الأدلّة من العموم الدال على الانفعال مختصٌّ بالقليل المحقون، فمع الشك لا يكون المرجع مفهوم «اذا بلغ الماء» بل المرجع هو العام الفوقاني كالنبوي «خلق اللّه الماء طهوراً»(1)
وإلّا فالمرجع أصالة الطهارة.
هذا، ولكن الظاهر أنّه لا إجمال في المخصّص لانصراف الجاري وذي المادّة عنه فيصح التمسك بالعام، مع أنّ استصحاب حكم الخاص محلّ تأمّل إذ ذهب جمع الى الرجوع الى العام مطلقاً(2) فيتعين الحكم بانفعال الماء المتأخر.
ص: 302
--------------------------
تنبيه: ما سبق كان مرتبطاً بالاعتصام وأمّا سائر أحكام الجاري - كمن نذر أن يشرب أو يغتسل في الجاري - فهل تترتّب عليه أم لا؟ الظاهر عدم الجريان مع فرض القِلَّة لما سبق من الانصراف ومع فرض الكثرة فيحتمل كونه كذلك لذلك، ولعلّ الأمثلة تختلف كما سبقت الاشارة اليه، فتأمل.
قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «الظاهر بل المقطوع به صدق الجاري على البقية - في بقية الأحكام - نعم قد يشك أو يقطع بخلافه كما لو كان الجاري منتهياً الى آخرساقية كسواقي البساتين ثم وقع مقدار كثير من الدم قريب الأواخر بحيث لم يبق بين الدم وبين آخر الساقية إلّا مقدار ظرف من الماء فإنّه لا يصدق عليه عرفاً ذو المادّة والجاري ونحوهما، والفارق هو العرف وإن كان في نظر الدقة هو والجاري الكثير سيّان، والعرف هو المعيار في مثل هذه المقامات بمعنى أن انطباق الظواهر على المصاديق بنظر العرف»(1).
ص: 303
--------------------------
ولكن سبق عدم صدق الجاري عليه في المسألة السادسة من هذا الفصل، فراجع.
الفرع الثالث: إنّ الطرف الآخرمحكوم بالاعتصام إن لم يتغيّر تمام قطر ذلك البعض المتغيّر وإن كان قليلاً. وعلّله في دليل العروة الوثقى بأنّه: «متصل بالمتصل المعتصم بالمادة»(1).
ولعلّ الأولى أن يقال: إنّه متصل بالمادّة فيكون معتصماً بتلك المادة. وقيّده السيد الوالد (رحمه اللّه) : «بكون الاتصال عرفيا لا كمثل الشعرة»(2). وعلّله «بانصراف ذي المادّة عن مثله عرفاً»(3). والظاهر أنّه في محله.
تفريع: هل يجري ما ذكر في الجاري في البئر كما لو تغيّر تحت البئر ولم يتغيّر فوقه مع عدم اتصال هذا الماء الفوقاني بالمادة.
قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «فيه تردد وإن كان بعض صورها مقطوع المماثلة أو عدمها»(4). إلّا أنّ الظاهر وحدة الحكم بلحاظ عنوان ذي المادة، فتأمل.
ص: 304
فصل: الراكد بلا مادّة إن كان دون الكر ينجس بالملاقات[1].
--------------------------
[1] في المقام جهات من البحث:
الجهة الأولى: في انفعال الماء القليل بمجرد الملاقات وعدمه.
والغرض في المقام إثبات انفعال القليل بالملاقات على نحو الموجبة الجزئية في قبال القائلين بعدم الانفعال رأساً بها على نحو السلب الكلي، وأمّا التفاصيل كأنّه هل ينفعل بالدم الذي لا يدركه الطرف ونحو ذلك فهي غير مقصودة بالبحث في هذا المقام.
والمعروف بين الفقهاء المتقدّمين منهم والمتأخرين أنَّ القليل ينفعل بملاقات النجس، وعن جمع كثير دعوى الإجماع على الانفعال، منهم السيد المرتضى في الناصريات والشيخ في الخلاف وابن زهرة في الغنية والعلّامة في المختلف والسيد في المدارك مستثنياً بعضهم ابن ابي عقيل(1)،
وقال في الجواهر: «وللإجماع محصّلاً ومنقولاً نصاً وظاهراً»(2). قال في مفتاح الكرامة(3): «ربّما ظهر من الخصال والمجالس أنّه من دين الأمامية»، ونقل الإجماع في الإنتصار والسرائر والاستبصار، وفي ظاهر المعتبر وفي كشف الرموز: أنّه ظاهر بين الأصحاب، وفي المهذّب البارع: أجمع أصحابنا وندر
ص: 305
--------------------------
ابن ابي عقيل، وفي مجمع الفوائد: هو المعروف من المذهب، وفي التنقيح الرائع: إنّه مذهب كافة العلماء سوى ابن ابي عقيل، وفي المختلف والمدارك والدلائل: أطبق عليه أصحابنا إلّا ابن ابي عقيل.
وخالفهم في ذلك: ابن ابي عقيل فذهب إلى عدم انفعاله بشيء، ووافقه على ذلك المحدّث الكاشاني، قال الفيض: «ويظهر من كلام الصدوق في الفقيه عدم تنجسه بالملاقات مطلقاً أو في بعض الصور».
وتبعهما الشيخ الفتّوني(1)
والسيد عبد اللّه الشوشتري، والسيد محمد الصدر الاصفهاني، ومن المعاصرين الشيخ محمد الفيض القمي، ومال إلى هذا القول السيد الوالد في الفقه(2).
ويقع الكلام في هذه الجهة في مقامين.
الأوّل: فيما دل على انفعال القليل بالملاقاة.
الثاني: في معارضة ذلك لما دل على عدم الانفعال.
أما المقام الأوّل : فالذي يقتضي الحكم بالانفعال روايات كثيرة، وعن صاحب المعالم والمجلسي والمحقق البهبهاني دعوى تواتر أخبار الانفعال.
وقال صاحب الرياض: «وقد جمع منها بعض الأصحاب مأتي حديث»(3)
ص: 306
--------------------------
في مفتاح الكرامة: «الاستاذ الشريف(1): إنّ الروايات الواردة في ذلك تزيد على ثلاثمائة رواية»(2).
ولا يبعد تواتر هذه الروايات إجمالاً إذ لايحتمل وقوع الكذب في جميعها، بل لايبعد تواترها معنىً ايضاً(3) على أنّ فيها صحاحاً وموثقات وهي كافية في إثبات المدّعى.
ص: 307
--------------------------
وقد يقال: إنّه لاحاجة إلى إثبات التواتر الإجمالي فإنّه إنّما يحتاج إليه في صورة كون جميع الأخبار الدالة على الحكم ضعيفة سنداً لا في مثل المقام لوجود الصحيح والموثق الكافيان في الإثبات.
وفيه نظر: وذلك لأنّ التواتر الإجمالي يوجب القطع فيما هو أخص الروايات مضموماً، ومع القطع يُطرح المعارض عرض الجدار لدخول ما قام عليه التواتر الإجمالي في السنة القطعية. وأمّا مع عدم ثبوته فتعمل المرجحات.
ثم إنّ الروايات التي تدلّ على الانفعال تنقسم إلى طوائف:
الطائفة الأولى: الروايات الدالة بمفهوم الشرط أو التحديد على انفعال الماء القليل:
منها: صحيحة محمد بن مسلم عن ابي عبد اللّه (عليه السلام) : «وسئل عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب؟ قال: إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء»(1).
ومنها: صحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد اللّه (عليه السلام) : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء»(2) وهذه الرواية أظهر في السعة من الأولى لعدم كونها
ص: 308
--------------------------
جواباً على السؤال فلا يقال: بأنّ السؤال يلقي بظلاله على الجواب فيؤخذ فيه بالقدر المتيقّن.
ومنها: صحيحة محمد بن مسلم، وكذلك صحيحة معاوية بن عمار(1).
ومنها: صحيحة زرارة قال: «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شيء»(2).
و من البعيد كونها من إجتهاد زرارة وإن لم يسندها إلى المعصوم ظاهراً.
ومنها: صحيحة اسماعيل بن جابر قلت لابي عبد اللّه (عليه السلام) : «الماء الذي لا ينجسه شيء؟ قال: ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته»(3).
وجه الدلالة: أنّ هذه الروايات في مقام بيان الضابطة لعدم انفعال الماء بملاقاة النجاسة وقد فصّلت بين الكر وغيره، ويستفاد من الرواية الأخيرة أنَّ انقسام الماء إلى ما ينفعل وما لا ينفعل كان مركوزاً في أذهان الرواة، إلى غيرها من الروايات.
ولا يقدح في الاستدلال عدم عموم الشيء في المفهوم بالإضافة إلى كل نجس باعتبار أنَّ نقيض السلب الكلي هوالإيجاب الجزئي، وذلك لأنّ الغرض كما سبق الاستدلال على الإيجاب الجزئي في قبال السلب الكلي.
ص: 309
--------------------------
مع أنَّ عدم العموم في النقيض عقلاً لا ينافي ظهوره فيه في المقام عرفاً، والعرف هو الملاك في اقتناص الظهورات لا الدقة العقلية، فتأمل(1).
كما لايقدح في الاستدلال: المصير إلى عدم دلالة الجملة الشرطية على علّية الشرط للجزاء بنحو الإنحصار لأنّ معنى ذلك عدم كلية الدلالة لاعدم الدلالة كلية، فيمكن أن تدلّ الجملة الشرطية في بعض المقامات على انحصار العلّية عرفاً، ولا ريب في دلالة الجملة الشرطية على الإنحصار في مثل المقام فتدل على الإنتفاء عند الإنتفاء، مع أنّ المبنى غير مرضي كما قرر في الاُصول.
وأمّا القول بأنّ النجس قد يطلق على ما يستحب الإجتناب أو يكره استعماله، فمنظور فيه لكونه بعيداً عن ذهنية المتشرعة.
نعم، تبقى شبهة طرحها السيد الوالد في المقام وهي تعارض أخبار تحديد الكر ففي بعضها: «ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته» المنتج لكون الكر ستة وثلاثين شبراً، وفي بعضها: «ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار» المنتج لكونه سبعة وعشرين شبراً، وفي بعضها «ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاثة
ص: 310
--------------------------
أشبار ونصف عرضها» المنتج لكونه قريباً من ثلاثة وأربعين شبراً، الى غيرها من التحديدات التي ذكرها في الفقه قال: «وإذا وضعت هذه الروايات عند أحد من العرف لم يشك في أنّها متضاربة لا يكاد يمكن الجمع بينها بوجه أصلاً، والشاهد لذلك هذا الإضطراب العجيب من الفقهاء في إصلاحها والجمع بينها»(1).
وحاصله: أنّه ليس تحديداً لحقيقة ثابتة عرفاً بل إنّ العرف يراه نوعاً من التنزه.
وفيه : - مع ضعف سند جملة منها، وإمكان الجمع بين جملة منها بوحدة الحدّ المذكور فيها كالجمع بين رواية ابن ابي عمير الدالة على أنَّ الكر ألف ومئتا رطل ورواية محمد بن مسلم القائلة بأنّه ستمائة رطل، بحمل الأولى على الأرطال العراقية والثانية على الأرطال المكية -
أنّه يمكن الجمع بحمل الأكثر على مراتب الفضل، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى.
الطائفة الثانية: الروايات الأمرة بإهراق ماء الإناء الذي اُدخلت فيه اليد القذرة، اليد التي أصابها شيء من المني أو قذر بول أو جنابة.
منها : صحيحة أحمد بن محمد بن ابي نصر قال: «سالت ابا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة؟ قال: يُكفئُ الإناء»(2).
ص: 311
--------------------------
ومنها: موثقة سماعة قال: «سالته... وإن كانت أصابته جنابة فأدخل يده في الماء فلا بأس به إن لم يكن أصاب يده شيء من المني، وإن كان أصاب يده فأدخل يده في الماء قبل أن يفرغ على كفيه، فليهرق الماء كلّه»(1).
ومنها: موثقة ابي بصير عنهم (عليهم السلام) قال: «إذا أدخلت يدك في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس إلّا أن يكون أصابها قذر بول أو جنابة، فإن أدخلت يدك في الماء وفيها شيء من ذلك فأهرق ذلك الماء»(2).
بل في بعضها الأمر بإهراق الإنائين معاً مع الاشتباه، كموثقة سماعة: «سالت ابا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل معه إنائان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيهما هو، وليس يقدر على ماء غيره؟ قال: يهريقهما جميعاً ويتيمّم»(3). ومثلها موثقة عمار(4).
وجه الاستدلال: إن كانت الإراقة كناية عرفاً عن النجاسة كما ذهب إليه صاحب الوسائل(5) ثبت المطلوب، وإن كانت تعبداً شرعياً كانت معلولاً عرفاً لنجاسة الماء، وكذا إن كانت لتحقيق موضوع فقدان الماء في الإنائين المشتبهين.
ص: 312
--------------------------
ومنه يظهر التأمل فيما ذكر السيد الوالد إذ أجاب عن رواية إراقة الإنائين بأنّها لا تدلّ على النجاسة لعدم الملازمة بين عدم صحّة الوضوء والنجاسة(1).
هذا، ولا يخفى أنّ هذا الجواب لا يتأتى في الروايات التي ذكرت في صدر هذه الطائفة لأنّها تدلّ على كون الماء مسلوب الإنتفاع مطلقاً، وهو غير المانعية التي تعني كونه مسلوب الإنتفاع في خصوص الطهارة الحدثية، حيث فيها يهريقه وليس فيها ويتيمّم.
الطائفة الثالثة: الروايات الناهية عن الوضوء والشرب من الإناء أو الماء الذي وقعت فيه قطرة رعاف، أو شرب منه طير على منقاره دم أو قذر، أو دخلت فيه دابة وطئت العذرة.
منها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: «وسالته عن رجل رعف وهو يتوضأ فتقطر قطرة في إناءه هل يصلح الوضوء منه؟ قال: لا»(2).
ص: 313
--------------------------
ومنها: صحيحته الاُخرى قال: «سالته عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطئ العذرة ثم تدخل في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلّا أن يكون الماء كثيراً قدر كرّ من ماء»(1).
ومنها: موثقة عمار بن موسى عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «كل شيء من الطير يُتوضأ ممّا يشرب منه إلّا أن ترى في منقاره دماً، فإن رأيت في منقاره دماً فلا تتوضأ منه ولا تشرب»(2)، ومثلها موثقته الاُخرى(3).
وجه الاستدلال أنّ الحرمة ظاهرة عرفاً في الإرشاد إلى النجاسة لا للتعبّد، ولا لصرف بيان المانعية كما في شعر الهرة المانع غير النجس.
والإشكال فيه كالإشكال في سابقه.
الطائفة الرابعة: الروايات الأمرة بغسل الأواني من أسئار نجس العين كالكلب والخنزير، أو من ملاقات الأعيان النجسة.
منها: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «سالته عن الكلب يشرب من الإناء؟ قال: اغسل الإناء»(4).
ومنها: صحيحة فضل قال سالت ابا عبد اللّه (عليه السلام) : «عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع فلم أترك شيئاً إلّا
ص: 314
--------------------------
سالته عنه. فقال (عليه السلام) : لابأس به، حتى انتهيت إلى الكلب، فقال: رجس نجس، لا تتوضأ بفضله أصبب ذلك الماء، واغسله بالتراب أوّل مرة ثم بالماء»(1).
قال الحائري: «إنّ قوله رجس نجس مشعر أو دالّ على انفعال القليل بجميع ما يطلق عليه النجس(2)، فهو بمنزلة أن يقال: كل نجس منجّس لكلّ مائع»(3) فيستفاد منها العلّة كما لو قيل: إنّه عالم فأكرم، فيدل على أن العالم يكرم.
ص: 315
--------------------------
ومنها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) : «وسالته عن خنزير شرب من الإناء كيف يصنع به؟ قال: يغسل سبع مرات»(1).
وقد يقرّر الاستدلال بهذه الرّروايات بأنّ المباشرة لا تكون بالنسبة إلى نفس الإناء حين الشرب منه، بل تكون بالنسبة إلى مافيه من الماء، وتكون نجاسة الإناء مسببّة عن نجاسة هذا الماء، فالأمر بالغَسل إرشاد الى انفعال القليل من الماء بملاقات النجس.
أقول: يكفي لإثبات المدّعى شمول الروايات بالإطلاق لهذه الصورة.
بل قد يقال: بأنّه لو كان الأمر بالغسل مسبّباً من تنجّس الإناء بملاقات الكلب أو الخنزير لاقتصر في الأمر بغسله على الموضع الخاص، فيتعيّن كون الأمر به مسبّباً عن انفعال الماء، مضافاً إلى الأمر بصب الماء الدالّ على انفعاله.
وفي الاستدلال بهذه الطائفة إشكالان:
الأوّل: أنّه يمكن أن يكون الأمر بالغسل لاشتمال السؤر على اللعاب المنجّس للإناء، لا لنجاسة الماء.
ويدفعه الإطلاق، مع أنّه قد يقال باستهلاك اللعاب في الماء، فتأمل.
الثاني: أنّ الدليل اخص من المدّعى، إذ مفاده الانفعال بملاقات خصوص الكلب والخنزير لا جميع النجاسات.
ص: 316
--------------------------
وفيه أوّلاً: أنّ الغرض الاستدلال على الإيجاب الجزئي في قبال السلب الكلي كما سبق في الطائفة الأولى.
وثانياً: عدم القول بالفصل.
وفيه: أنّ الحجة القول بعدم الفصل لاعدم القول بالفصل(1).
مع أنّه لو ثبت القول بعدم الفصل فهو لا يجدي لأنّه محتمل الاستناد أو مقطوعه، كما أشار إليه السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه(2).
لكن قدح ذلك في الحجية محل نظر كما قرر في محله. وقد التزم الوالد بأنّه على تقدير القول بعدم انفعال القليل - كما مال إليه - لابدّ من القول بانفعال القليل بملاقات الكلب والخنزير على تفصيل، فراجع(3).
ومنها: موثقة عمار: «سأل ابا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل يجد في انائه فأرة، وقد توضأ من ذلك الإناء مراراً أو اغتسل منه أو غسل ثيابه، وقد كانت الفأرة متسلخة؟ فقال (عليه السلام) : إن كان رأها في الإناء قبل أن يغتسل ويتوضأ أو يغسل ثيابه ثم فعل ذلك بعدما رءاها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة، وإن كان إنّما رءاها بعد ما فرغ من ذلك وفعله فلا يمس من ذلك الماء شيئاً وليس عليه شيء لأنّه لا
ص: 317
--------------------------
يعلم متى سقطت فيه، ثم قال: لعلّه أن يكون إنّما سقطت فيه تلك الساعة التي رءاها»(1).
قال الحائري: «الرواية ظاهرة في الانفعال من وجوه» فراجعها، ثم قال: «ولا يخفى أنّ التعمق في تلك الجهات يكاد يلحق الرواية بالنص»(2).
وإن كان بعض ما ذكره لا يخلو من تأمل.
ومنها: الروايات الناهية عن استعمال الأواني المستعملة للخمر ونحوها من النجاسات قبل غسلها المذكورة في الوسائل(3).
فإنّ الظاهر عرفاً كون النهي لانفعال ما يجعل فيها بالملاقات، وحملها على التعبّد بعيد، كما أنّ حملها على أنّ الأمر لإجتناب عين النجاسة التي يحرم تناولها مندفع بالإطلاق.
الطائفة الخامسة: ما ورد في صحيحة ابن بزيع(4)
من تعليل اعتصام ماء البئر إذا لم يتغيّر بأنّ له مادة، الدالّ على عدم اعتصام ما لا مادّة له بمقتضى أنّ العلّة تعمّم وتخصّص(5).
ص: 318
--------------------------
إلى غير ذلك ممّا ورد من الروايات في الأبواب المختلفة كابواب الماء المحقون والحمام والنجاسات وغيرها.
المقام الثاني: في معارضة أخبار الانفعال بالأخبار الدالة على عدم الانفعال. وتنقسم إلى أخبار عامة وأخبار خاصة:
الطائفة الأولى: وفيها رواية واحدة استدل بها الكاشاني من قول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلّا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه»(1)، وقد ادّعى: أنّها مستفيضة وأنّها تدلّ على حصر المنجّس في التغيّر باحد الأوصاف الثلاثة فيعلم أنّ مجرد الملاقاة لا يوجد انفعال الماء ولو كان قليلاً»(2).
ويرد عليه اولاً بما في التنقيح، قال: «هذه الروايات لم يرد شيء منها من طرقنا وإنّما رواها العامة بطرقهم، على أنّها لم تبلغ مرتبة الاستفاضة من طرقهم أيضاً بل رووها بطرق الآحاد»(3).
ص: 319
--------------------------
هذا، ولكن سبق أنّ ابن أبي عقيل ادّعى تواترها وكذا ابن جمهور الاحسائي وابن فهد، وذهب صاحب المدارك في أحد الموضعين إلى استفاضتها، وادّعى ابن ادريس أنّه متفق على روايته، وعن الذخيرة عمل الاُمة به، واعتمد على هذا الخبر الفقيه الهمداني والسبزواري والحكيم، وفي الفقه : «الخبر معتبر قطعاً»(1).
وقد مضى طرف من الكلام في الرواية الرابع عشر من الروايات التي ذكرت في المسألة التاسعة من فصل في المياه.
وثانياً: يمكن أن يقال: إنّ الجمع عرفاً بين هذه الرواية والروايات الدالة على الانفعال يقتضي كون الحصر إضافياً وأنّ كلاً من التغيّر والقلة علّة للانفعال، فهو نظير أن يقال: لا يفطر الصائم إلّا الاكل والشرب والجماع ثم يقال: الكذب على اللّه مفطر(2).
ص: 320
--------------------------
وثالثاً: إنّ الأمر دائر بين التصرّف في عموم هذه الرواية بالتقييد بالمعتصم، وبين التصرف في مدلول الروايات الدالة على انفعال القليل بإلغاء المفهوم مثلاً، والثاني مستلزم لإلغاء عنوان الكر ولغوية تعليق عدم النجاسة على كون الماء كرّاً في قوله: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(1)
إذ لا يكون هنالك فرق بين القليل والكثير فيكون التفريق بينهما بلا فارق، وحينئذ يتعين الأوّل (2).
هذا مضافاً إلى بعض الأجوبة الاُخرى التي سنذكرها إنشاء اللّه تعالى في الرواية الثانية.
وممّا ذكر يظهر التأمل فيما ذكره السيد الوالد حيث قال: «إنّه مع التعارض اللازم التوقّف ثم الرجوع إلى دليل آخر، بل يمكن أن يقال: إنّ المقدم هذه الأخبار» ثم استشهد (رحمه اللّه) بتقديم أخبار الطهارة في البئر والجاري وقال: «كما أنّ الجمع الدلالي في المقام يقتضي حمل الكرية عليها، مضافاً إلى النقض بالماء الجاري فكما أنّهم لم يقيّدوا اخباره باخبار الكر كذلك في المقام... وما ذكرناه يتضح جلياً عند ملاحظة مجموع
ص: 321
--------------------------
الاخبار في هذه البواب الثلاثة»(1) .
أقول: مضى الكلام في الجاري القليل وسيأتي الكلام إنشاء اللّه في أخبار البئر.
الطائفة الثانية: ماورد من أنّ الماء لا ينجسه شيء إلّا أن يتغيّر طعمه أو ريحه أو لونه في عدة روايات حيث حصرت علّة الانفعال بالتغيّر في أحد الأوصاف الثلاثة، وعليه فالقليل لا ينفعل بمجرد الملاقاة.
وفيها عدة روايات:
منها: صحيحة حريز عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب، فإذا تغيّر الماء أو تغيّر الطعم فلا توضأ منه ولا تشرب»(2).
منها: صحيحة القماط: «إنّه سمع ابا عبد اللّه (عليه السلام) يقول في الماء يمرّ به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضأ منه وإن لم يتغيّر ريحه أو طعمه فاشرب وتوضأ»(3).
ومنها: صحيحة عبد اللّه بن سنان قال: «سأل رجل ابا عبد اللّه (عليه السلام) وأنا حاضر
ص: 322
--------------------------
عن غدير أتوه وفيه جيفة؟ فقال: إن كان الماء قاهراً ولا توجد منه الريح فتوضأ». الدالة بإطلاقها على عدم انفعال القليل مع عدم التغيّر. إلى غيرها من الروايات(1).
ويرد عليه أوّلاً: أنّ الجمع عرفاً بينهما وبين ما دل على انفعال القليل يقتضى كون كلّ من التغيّر و القلَّة علّة للانفعال كما سبق.
وثانياً: انّ الأمر يدور بين التصرف في عموم هذه الروايات بالتقييد بالمعتصم، وبين التصرف في مدلول ما دلّ على انفعال القليل، والأوّل أولى، وقد سبق.
وثالثاً: ما ذكره في المهذّب: «إنّ مورد هذه الأخبار الماء الذي يكون ضعف الكر غالباً، خصوصاً في الأزمنة القديمة التي كانت الغدران والحياض ونحوها مخازن مياههم السنوية»(2).
وفيه: مع تسليم الغلبة إلّا أنّها لا توجب انصراف المطلق عن الأفراد النادرة كما قرّر في مباحث المطلق والمقيّد.
ورابعاً: ما في التنقيح، قال: «إنّ ظاهر هذه العناوين خصوص الكثير، فإنّ النقيع وأمثاله إنّما يطلق على الماء الذي يبقى مدة في الفلوات، والقليل ليس له بقاء كذلك»(3).
ص: 323
--------------------------
ويرد عليه: أنّ العنوان المأخوذ في بعض الروايات عام يشمل القليل والكثير كعنوان الماء في صحيحة حريز، ولا يقدح في عمومه خصوص ما أخذ من العنوان في البعض الآخر، لعدم التنافي بين المثبتين في أمثال المقام من المركّبات غير الإرتباطية.
مع أنّه لامانع من إطلاق النقيع على القليل لأنّه عبارة ظاهراً عن الماء المجتمع في مكان، وهذا العنوان ينطبق على القليل ايضاً.
نعم، قد يقال: بانصراف الغدير عن القليل، فتأمل(1).
خامساً: ما فيه أيضاً: «من عدم ورود شيء من هذه الأخبار في خصوص القليل(2) حتى تعارض الأخبار المتقدّمة الدالة على انفعال القليل بالملاقاة، فإنّ الموضوع فيها أعمّ من القليل والكثير، إلّا أنّها وإن كانت مطلقة لترك استفصالها بين القليل والكثير لكن لابدّ من رفع اليد عن إطلاقها بالأخبار
ص: 324
--------------------------
المتقدمة الدالة على انفعال القليل بمجرد ملاقاة النجس وإن لم يتغيّر شيء من أوصافه، وهذا كما دلّ على نجاسة ماء الإناء إذا اصابته قطرة من الدم، أو اصابته يده وهي قذرة، أو شرب منه الكلب والخنزير، ومن الظاهر أنّ ملاقات هذه الاُمور للماء القليل لا توجب تغيّره مع أنّه ينفعل بملاقاتها، وهذه الأخبار تكفي في تقييد إطلاق الروايات المتقدمة»(1).
وفيه نظر: إذ ملاقاة هذه الاُمور أعمّ من ذلك فقد توجب التغيّر وقد لا توجبه وحينئذ تكون النسبة عموماً من وجه لا عموماً مطلقاً فيتعارضان.
اللّهم إلّا أن يقال: إنّها منصرفة إلى صورة عدم التغيّر، أو أن تقييدها بالتغيّر تقييد بالفرد النادر، أو أنّ بعضها آبٍ عن صورة الحمل على التغيّر، مثل: موثقة سماعة الواردة في الإنائين المشتبهين(2)، فإنّه لو كان التنجس بالتغيّر لم يحصل الاشتباه عادة.
ومثل: صحيحة علي بن جعفر: «عن رجل رعف وهو يتوضأ فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح له الوضوء منه؟ قال: لا»(3).
فإنّ القطرة لا تغيّر كل الإناء عادة فلا وجه للامر بإجتناب جميع الماء(4).
ص: 325
--------------------------
وموثقة عمار في الطير الذي يرى في منقاره دم.(1) فتأمل.
وسادساً: ما فيه أيضاً من ورود أخبار تحدّد الماء المعتصم بالكر كما في صحيحة اسماعيل بن جابر: «قال: سالت ابا عبد اللّه (عليه السلام) عن الماء الذي لا ينجسه شيء؟ فقال: كر»(2).
قال ما خلاصته : «وهذه الأخبار وإن كانت معارضة للمطلقات بالعموم من وجه إلّا أنّها تتقدّم على المطلقات وتوجب تقيدها، والوجه في ذلك: أنّ هذه الاخبار دلّتنا على أنّ هنالك شيئا يوجب انفعال القليل دون الكثير وليس هذا هو التغيّر قطعاً، لأنّه كما يُنَجِّس القليل كذلك يوجب انفعال الكثير لما دلّ على تنجس الماء بالتغيّر، وعليه فلا بد من تقييد ما دلّ على اعتصام الكر ونحوه بصورة عدم التغيّر، وحينئذ فتنقلب النسبة بين المطلقات وأخبار اعتصام الكر إلى العموم المطلق، وتكون أخبار اعتصام الكر غير المتغيّر أخص مطلقاً من المطلقات لأنّها بإطلاقها دلّت على عدم انفعال غير المتغيّر كرّاً كان ام قليلاً، والروايات الواردة في الكر تدلّ على عدم انفعال خصوص الكر الذي لا تغيّر فيه، وبما أنّها أخص مطلقاً من المطلقات فلا محالة نقيّدها بالكر. والنتيجة: أنّ ما لا يكون كرّاً ينفعل بملاقاة النجاسة، فالذي يوجب انفعال خصوص القليل دون الكثير هو ملاقات النجس في
ص: 326
--------------------------
غير صورة التغيّر»(1).
ويرد عليه: أنّ تقييد أدلّة اعتصام الكر بصورة عدم التغيّر لا يجدي في انقلاب النسبة بين المطلقات واخبار اعتصام الكر إلى العموم المطلق، إذ لامنافاة بين قوله: «الماء الذي لم يتغيّر لا ينجس» وقوله: «الكر الذي لم يتغيّر لا ينجس» لعدم المنافاة بين المثبتين في مثل المقام، فلا موجب لتقييد الأوّل بالثاني حتى لا يشمل الأوّل القليل.
لا يقال: إنّ مفاد أدلّة اعتصام الكر اختصاص الكر بخصوصية لا توجد في القليل، وليست الخصوصية في صورة التغيّر فتكون في صورة مجرد الملاقاة.
فإنّه يقال: عليه لا حاجة لإقحام مقولة انقلاب النسبة في المقام، إذ سواء قيل بانقلاب النسبة أو لم يقل بذلك، فإنّه في صورة التعارض بين أدلّة عدم انفعال الماء إذا لم يتغيّر وأدلّة انفعال القليل بالعموم الوجهي لابدّ من تقديم أدلّة انفعال القليل، وإلّا لزم إلغاء عنوان الكر ولغوية تعليق أدلّة عدم تنجيس شيء للماء على كونه كراً(2).
ص: 327
--------------------------
وبعبارة اُخرى: لنا دليلان، الأوّل : المطلقات الدالة على عدم انفعال ما لم يتغيّر، وله فردان: كرّ وقليل.
الثاني: ما دل على اعتصام الكر كقوله: «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء» والدال بمفهومه على انفعال القليل: «اذا لم يكن الماء قدر كر نجسه شيء». وله أيضاً فردان: متغيّر وغير متغيّر.
وبين الدليلين العموم من وجه، فيتنافيان في القليل غير المتغيّر، وبما أنّ تقديم الأوّل يجعل الثاني لغواً فلا بد من تقديم الدليل الثاني.
وعليه: فلا وجه لاقحام دليل ثالث وهو: «كل متغيّر ينفعل» لتقييد الدليل الثاني كما صنعه التنقيح، لكون الدليلين الأوّلين مثبتين ولا يقيد أحدهما بالآخر.
فالخلاصة: إنّ مقولة انقلاب النسبة لا دخل لها في الأمر، وضمّهما كضم الحجر إلى جنب الإنسان، فمن لم يقل بمقولة الانقلاب يلتزم بوجود خصوصية للكر - دون القليل - لظاهر: «إذا كان الماء قدر كر» وبما أنّ الخصوصية ليست في التغيّر لاشتراك الكر والقليل في انفعال ما تغيّر منهما، فلا بد أن تكون في الملاقاة، وإلّا لزم لغوية أدلّة الكر كما سبق.
الرواية الثالثة: ما رواه محمد بن ميسر قال: «سالت ابا عبد اللّه (عليه السلام) عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، ويريد أن يغتسل منه، وليس معه إناء يغرف به، ويداه قذرتان؟ قال: يضع يده، ثم يتوضأ، ثم يغتسل، هذا ممّا قال اللّه عز وجل: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(1).
ص: 328
--------------------------
فقد دلت على عدم انفعال القليل بملاقاة المتنجّس، ولذا صحّ الوضوء والغسل منه.
وفي الاستدلال بهذه الرواية مناقشات:
الأولى: إنّها وردت تقية لموافقتها مذهب العامة، حيث إنَّ المشهور عند جماعة منهم عدم انفعال ما نقص عن الكر بالملاقاة.
والقرينة على كونها للتقية جمعها بين الوضوء وغسل الجنابة، وهما لا يجتمعان في فقه الشيعة، أشار إلى هذا الوجه صاحب الوسائل(1)،
وذكره أيضاً في الحدائق(2).
ويرد عليه أوّلاً: أنّ الوضوء ليس بمعناه المصطلح بل هو بمعناه اللغوي أي التنظيف وغسل الموضع، وقد أمر به لكونه مقدمة للغسل، وقد جاء الوضوء
ص: 329
--------------------------
بهذا المعنى كثيراً كما في الوافي(1)، وقد وردت مجموعة من الروايات في استحباب الوضوء قبل الطعام وبعده(2)، وقد استدل بها السيد الوالد (رحمه اللّه) على استحباب غسل اليدين قبل الطعام وبعده(3)، ولا أقل من إجمال كلمة الوضوء وهو مسقط للاستدلال.
هذا، ولكن قد يقال: إنّ من البعيد جداً عدم ثبوت الحقيقة الشرعية لكلمة الوضوء بعد مضي ما يقرب من مائة عام على استخدامها في المعنى الجديد، وكثرة استعمالها في الروايات في معناها اللغوي لا تكون قرينة على إرادته في المقام، لأنّ كثرة الاستعمال ما لم تصل إلى حد النقل أو الاشتراك اللفظي لا تقدح في الظهور، ولذا لم تقدح كثرة استعمال كلمة «افعل» في الندب في ظهورها في الوجوب.
هذا، ولكن يمكن أن يقال - مضافاً الى مناسبة الحكم والموضوع في روايات باب الأطعمة والأشربة -
أوّلاً: وجود قرينة في المقام على إرادة المعنى اللغوي وهي قول السائل: «ويداه قذرتان» خصوصاً مع ملاحظة الروايات الأمرة بغسل موضع النجاسة قبل غسل الجنابة، فتأمل.
ص: 330
--------------------------
وثانياً: لو فرض كونه بمعناه المصطلح فسقوط بعض فقرات الرواية لا يوجب سقوط جميعها، فتأمل(1).
الثانية: ما في الوسائل(2) من احتمال كون المراد بالقذر: الوسخ لا النجاسة.
وفيه: أنّه خلاف الظاهر، فإنّ ظاهر القذر النجاسة لا الوساخة، لاحظ الباب الأوّل من ابواب الماء المطلق الحديث الثاني والخامس حيث قال (عليه السلام) : «الماء كلّه طاهر حتى يعلم أنّه قذر»(3).
الثالثة: ما قيل: من أنّه لم يثبت كون المراد من قوله (عليه السلام) : «يضع يده» بمعنى ادخال اليد في الماء إذ لم يعهد ذلك في الاستعمالات كما يظهر بالتتبع في موارده، بل من المحتمل أن يكون المراد به رفع اليد والإعراض عنه والإغتسال بعد وجدان الماء أو بالماء الآخر، خصوصاً مع ملاحظة العطف بثم، واستعماله بمعنى الإدخال إنّما هو فيما إذا كان متعلقه كلمة «فيه» وأشباهها، كما أنّه إذا كان متعلقه كلمة «عنه» فالمراد به رفع اليد والإعراض، ومع عدم ذكر المتعلق كما في الرواية يحتمل كلا الأمرين ولا معيّن لاحد الاحتمالين.
ص: 331
--------------------------
وفيه: أنّه خلاف الظاهر، ولذا لم يخطر ببال أحد من المتقدمين حسب ما وجدناه في كلماتهم.
الرابعة: ما ذكره التبريزي (رحمه اللّه) ، قال: «إنّه لم يفرض في الرواية كون القليل ممّا ليس له مادة، فتحمل على ما إذا كان له مادّة جمعاً بينها وبين ما دل على تنجس ما دون الكر من الراكد الذي ليس له مادة»(1).
وفيه: أنّه أشبه بالجموع التبرعية.
الخامسة: جهالة بعض رواته فقد رويت عن محمد بن يعقوب عن علي بن ابراهيم عن ابيه عن عبد اللّه بن المغيرة عن ابن مسكان، قال حدثني محمد بن ميسر قال: «سالت ابا عبد اللّه (عليه السلام) ...» ومحمد بن ميسر مشترك بين ثلاثة هم ابن عبد العزيز الثقة، وابن عبداللّه الإمامي المجهول، وثالث مهمل، فتسقط الرواية عن الإعتبار.
وأجاب عن الإشكال في تنقيح مباني العروة: «بأنّ محمد بن ميسر الذي يروي عنه ابن مسكان ثقة، حيث وثقه النجاشي»(2).
وفيه: أنّ النجاشي إنّما وثق الأوّل ، قال: «محمد بن ميسر بن عبد العزيز النخعي بياع الزُّطي، كوفي ثقة روى ابوه عن أبي جعفر وابي عبد اللّه (عليه السلام) وروى هو عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) له كتاب يرويه جماعة واخبرنا أبو عبد اللّه
ص: 332
--------------------------
بن شاذان احمد بن يحيى سعد والحميري ومحمد بن يحيى واحمد بن ادريس واحمد بن محمد بن عيسى واخبرنا احمد بن علي الحسن بن حمزة ابن بُطَّة الصفار واحمد بن محمد بن عيسى، قال: حدثنا محمد بن أبي عمير عن محمد بن ميسر بكتابه»(1).
وليس هذا بتوثيق له بل توثيق لمحمد بن ميسر بن عبد العزيز النخعي ولم يوثق محمد بن ميسر المطلق، ولمحمد بن ميسر المطلق خمس عشرة رواية، ولا دليل على اتحاده مع محمد بن ميسر بن عبد العزيز.
لكن ربّما يقال: بوجود طريقة لتوثيقه، وهو أنّه من مشايخ ابن أبي عمير، ففي الكافي: محمد بن يعقوب عن علي بن ابراهيم عن ابيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن ميسر، قال: «قلت: لابي عبد اللّه (عليه السلام) ...(2)».
وحيث إنّه من مشايخ ابن أبي عمير يكون ثقة بناء على أنّ مراسيله ومسانيده حجة، أو أنّ مسانيده حجة كما هو المختار - فتأمل(3).
هذا، ولكن في التهذيب والفقيه أنّ الرواية منقولة عن محمد بن قيس،
ص: 333
--------------------------
وعليه فشيخ ابن أبي عمير ليس محمد بن ميسر، إلّا أنّ الكافي أضبط ظاهراً.
وقد استظهر في المعجم اتحاد محمد بن ميسر مع محمد بن ميسر بن عبد العزيز الثقة، فتأمل.
اللّهم إلّا أن يقال: بأنّ الإسم ينصرف إلى المشهور، فمن له كتاب ينصرف إليه المطلق، ولكنه يحتاج إلى التأمل.
السادسة: ما في الوسائل: «من احتمال كون المراد بالماء القليل ما بلغ الكر من غير زيادة فإنّه قليل في العرف»(1).
وفي التنقيح: «إنّ القليل في الرواية ليس بمعناه المصطلح عليه عند الفقهاء، إذ لم يثبت أنّ القليل كان بهذا المعنى في زمانهم (عليهم السلام) بل هو بمعناه اللغوي الذي هو في مقابل الكثير، ومن البين أنّ القليل يصدق حقيقة على الكر والكرين بل وعلى أزيد من ذلك في الصحارى بالإضافة إلى مافي البحار، فالرواية غير واردة في خصوص القليل، نعم إطلاقها يشمل ما دون الكر ايضاً(2)، لكن الأخبار الواردة في انفعال القليل تقتضي تقييد المطلقات
ص: 334
--------------------------
بغير ذلك، ولعلّ السؤال في الرواية من أجل أنّ بعض العامة ذهبوا إلى نجاسة الغسالة في الجنابة، بل ذهب بعضهم إلى نجاسة غسالة الوضوء ايضاً، ويشترطون في الطهارة أن يكون الماء عشرة في عشرة، ومن هنا لا يغتسلون في الغدران والنقيع لعدم بلوغها الحد المذكور إلّا أن يكون نهراً أو بحراً، ولأجل هذا سأل الراوي عن الإغتسال في مياه الغدران والنقيع بتخيل انفعالهما بالإغتسال، فاجابه (عليه السلام) بأنّها معتصمة بالكرية، وعدم اعتصام الكر حرجي ولو في بعض الموارد، قال تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(1).
وأشكل عليه السيد الوالد (رحمه اللّه) بقوله: «المتبادر من القليل هو الأقل من الكر بكثير بل تسمية قدر الكر قليلاً يأباه العرف واللغة كما لايخفى على من راجع العرف»(2).
وفيه تأمل: لأنّ القلَّة والكثرة العرفيتان ليستا من الاُمور المتأصلة بل هما من الاُمور الإضافية، وحيث إنَّ كثيراً من المياه الموجودة في الطرق والصحاري أكثر من الكر بكثير فلا مانع من إطلاق القليل على الكر وما
ص: 335
--------------------------
فوقه خاصة بناء على أنّ الكر عبارة عن سبعة وعشرين شبراً، فيكون مطلقاً قابلا للتقييد بالكر كما سلف، وقد اعترف (رحمه اللّه) بأنّه لم يثبت حقيقة شرعية في لفظ القليل والكثير أصلاً(1)، وقد سبق أنّ الكثرة والقلة العرفيتين من الاُمور الإضافية بخلاف الكثرة والقلة الشرعيتين، وإطلاق القليل عليه باعتبار أنّه لا يمكن الإرتماس فيه كما ذهب إليه بعض، وإن أشكل عليه السيد الوالد (رحمه اللّه) بأنّه غني عن الجواب، فتأمل.
السابعة: ما احتمله الشيخ البهائي في الحبل المتين على ما حكي عنه من أنّ الضمير في يتوضا عائد إلى الرجل بتجريده عن وصف الجنابة(2).
قال في الحدائق: «وفيه بعد»(3)، وقال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «بل قطع بالعدم»(4).
أقول: لعلّ نظره الى أنّ الرواية محمولة على التقية، وحيث إنّه يشترط في بيان الحكم التقوي(5) عند بعض عدم وجود المندوحة وإلّا لكان الكلام غير مطابق للواقع، وفي المقام توجد المندوحة وذلك بالاستخدام في الضمير على ما هو المذكور في علم البلاغة، ومعه لا يكون الكلام مخالفاً للواقع، لذلك حَمَلَ العبارة على ذلك. قال اللّه تعالى: {والمطلقات} إلى قوله: {وبعولتهن
ص: 336
--------------------------
أحق بردهن}(1)
فإنّ المراد بالضمير ليس مطلق المطلقات بل المراد خصوص الرجعيات منهن.
وقيل: إذا نزل السماء بأرض قومٍ رعين--اه وإن كانوا غضاب--اً
أراد من السماء المطر، ومن الضمير الراجع إليه: النبات الذي ينبت بذلك المطر، كما في المطوّل أو بعض شروحه.
وقيل: وللغزالة شيء من تَلَفّتِهِ *** ونورها من ضيا خديه مكتسب
أراد بالغزالة الحيوان المعروف، وبالضمير الراجع إليها: الغزالة بمعنى الشمس.
وعليه: فيكون ما ذكره الشيخ البهائي بياناً للوجه الذي يخرج به الكلام التقوي عن كونه مخالفاً للواقع.
هذا، ولكن قد سبق في المناقشة الأولى أنّه لا مجال لحمل الرواية على التقية فلاحظ.
الثامنة: ما ذكره الحائري: «من اضطراب متن الرواية حيث لا تناسب التعليل بنفي الحرج فإنّه لا حرج في الحكم بانفعال القليل، ولا حرج أيضاً في هذه القضية الشخصية لأنّ غايته إلغاء اشتراط الطهارة أو إلغاء وجوب الغسل، فلا حرج على المكلف»(2).
ص: 337
--------------------------
والحاصل: أنّ التعليل بالآية المباركة لا يرتبط بالحكم المذكور.
أقول: الظاهر أنّ الحكم بانفعال القليل حرجي في كثير من الأحيان وإن كان للشارع أن يضع الحكم في مورد الحرج، كما وضعه فيه في الخمس والزكاة والحج والجهاد والصوم وغيرهما، والتوفيق بين ذلك وأدلّة نفي الحرج موكول إلى محله.
كما أنّ الظاهر وجود الحرج في هذه القضية الشخصية، فإنّ الجنابة قذارة نفسية وجسدية وإلغاء وجوب الغسل لا يرفع الحرج الحاصل منها.
مع أنّه لو فرض إمكان رفع الحرج بطرق متعددة فلا مانع من اختيار أحدها(1).
وتعليله بنفي الحرج كما في نظائر المقام حيث يُعلِّل الهاربُ اختياره أحد الطريقين بارادة النجاة، و يعلّل الجائع اختياره أحد الرغيفين بارادة الشبع، إلّا أنّ ذلك مبني على جواز الترجيح بلا مرجح، فتأمل.
مع أنّ سقوط بعض فقرات الرواية كالتعليل في المقام لا يسقط سائر الفقرات عن الإعتبار.
لا يقال: بأنّ غموض العلّة يسري الى غموض المعلول فإنّ الجملة واحدة،
ص: 338
--------------------------
فلو سمع المولى يقول: «لا تأكل البرتقال لأنّه ابيض» فيشك في ارتباط العلّة بما سبقها، فهنا احتمالان: إمّا أن يصار الى عدم وضوح العلّة وكان المقصود بها لأنّه حامض. وإمّا أن يصار الى أنَّ المعلول قد لا يكون كما سمعه وليس النهي عن أكل البرتقال بل عن السفرجل.
فإنّه يقال: غموض العلّة لايسري الى المعلول، بل تسقط فقط لعدم العلم بارتباطهما، فلو نهى المولى عن الذهاب الى السوق لأنّ في الغابة ذئب فإنّ عدم فهم العلّة لا يلغي نهي المولى عن الذهاب اليها، والمفروض فهم الجمل في نفسها والمجهول ارتباطها فهنا لا يسقط الصدر.
والحاصل: أنّ العلّة واضحة غير غامضة تسقط عن الإعتبار لعدم فهم ارتباطها بالمعلول(1).
والحاصل: أنّ قوله بسقوط الرواية لعدم فهم التعليل فتح باب لا يمكن سدها. وإلّا فالتعليل في قوله عزوجل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى}(2). غير واضح فإنّه كما قد تنسى المرأة قد ينسى الرجل فَلِمَ المفاضلة بينهما، مضافاً
ص: 339
--------------------------
إلى أنّه من الثابت علمياً أن المرأة أذكى من الرجل.
التاسعة: إنّ هذه الرواية معارضة بصحيحة ابي بصير عن ابي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سالته عن الجنب يحمل الركوة(1) أو التور(2) فيدخل إصبعه فيه، قال: إن كانت يده قذرة فليهرقه وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه، هذا ممّا قال اللّه تعالى: ﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج﴾(3).
ولعلّ الاستدلال بالآية من جهة رفع الشارع المانعية عن القليل الملاقي لبدن الجنب. وحيث إنَّ السؤال والإجابة والتعليل واحد فلا يبعد سقوط الشق الثاني من رواية ابن ميسر وكون التعليل له، لا للشق الأوّل المذكور.
ولو أشكل في ذلك، فلا أقلّ من تحقق التعارض الموجب لسقوط كلتا الروايتين.
وفيه: أنّ الأصل عدم النقيصة وتقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة إنّما يجري في صورة اتحاد الرواية لا في صورة التعدد كما هو الحال في المقام.
ويرد على القول بتعارض الروايتين في الحكم: أنّه لا تعارض إذ الموضوع مختلف فموضوع الصحيحة مطلق، وموضوع رواية الميسر مقيّد
ص: 340
--------------------------
بالضرورة العرفية، كما يشعر به قوله: «في الطريق» فتكون الضرورة رافعة لنجاسة الملاقي.
هذا، ولكن رفع الضرورة للحكم الوضعي في مثل المقام خلاف المركوز في أذهان المتشرعة اولاً، وخلاف الإجماع المركب ثانياً، وخلاف ما سيأتي من الروايات ثالثاً، وعليه فتيحقق التعارض الموجب للتساقط، فتأمل.
ومنه يعلم الحال في الإجابة عن رواية ابن ميسر بأنّها معارضة بالروايات الكثيرة الدالة على جواز الغسل من الماء الذي اصابته قذارة يد الجنب كصحيحة البزنطي(1) وموثقة سماعة(2) وموثقة ابي بصير(3).
والحاصل: أنّ احتمال السقط مدفوع بوجود روايتين بسندين ولا تعارض في الحكم بين: «ادخل يدك في الإناء» و: «يهريقه» حيث إنَّ الثانية مطلقة شاملة لصورة الضرورة وعدمها والأولى تختص بالضرورة حيث فيها: إنّه ينتهي في الطريق الى الماء القليل ولا ماء آخرله ليتمكن من غسل يده باحدهما والغسل بالآخر كما أنّه لا إناء له.
لايقال: إنّ الرواية لا تنفي وجود ماء آخر بل السؤال عن حكم ماء وصل
ص: 341
--------------------------
اليه في الطريق وقد يكون عنده ماء لا يريد أن يغتسل به.
فإنّه يقال: الرواية مشعرة بذلك، وإلّا لم يكن معنى للاستدلال بالحرج ولذلك فهم الصدوق منها الضرورة.
نعم: إنّ رفع الضرورة للحكم الوضعي خلاف المركوز في أذهان المتشرعة وخلاف الإجماع المركب، وخلاف مايأتي من الادلة.
العاشرة: إنّ هذه الرواية معارضة بما دل من الروايات على لزوم إراقة المائين المشتبهين في صورة الإنحصار وعدم جواز الوضوء أو الغسل منهما. كموثقة سماعة التي مرت في الطائفة الثانية من الطوائف الدالة على انفعال القليل بالملاقاة.
الحادية عشرة: إنّ استدلال الامام (عليه السلام) بنفي الحرج دليل على أنّ حكم الماء القليل في حد نفسه هو الانفعال بالملاقاة، غاية الأمر أنّ الحرج قد أوجب ارتفاعه في صورة انحصار الماء وقذارة اليد وعدم وجود إناء يغترف به، فتكون الرواية من أدلّة الانفعال لا عدمه.
وقد يورد عليه: بأنّه يحتمل كون الحرج للجعل فيكون نظير قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «لولا ان أشقّ على امتي لأمرتهم بالسواك»(1).
وفيه: أنّ ظاهر التعليل بالحرج كونه حكماً ثانوياً لا أوّلياً فيكون علّة للمجعول لا الجعل، ودوران المجعول مدار الحرج دليل على أنّ حكم القليل
ص: 342
--------------------------
في نفسه الانفعال فتكون الرواية على خلاف المطلوب أدلّ.
لكن قد مضى قريباً ما في رفع الضرورة للحكم الوضعي، فراجع.
الثانية عشرة: إنّه يمكن أن تكون الرواية ناظرة الى عدم تنجيس المتنجّس فلا ترتبط بالمقام ومع تطرق الاحتمال يسقط الاستدال.
والحاصل: أنّ الحالة الغالبة عدم وجود عين النجاسة في اليد فإنّ الطباع تستقذره، ولو سلّم عمومها فإنّ صورة وجود عين النجاسة استثنيت من الحكم، وأنها توجب الانفعال، فمن غير المعلوم كون الامام فيما نحن فيه في بيان عدم انفعال القليل أو عدم تنجيس المتنجّس.
ثم إنّ هنالك اجوبة عامة تشمل هذه الرواية وغيرها وسوف يأتي التعرض لها ان شاء اللّه تعالى بعد ذكر سائر الروايات كالإعراض والإجماع والشهرة.
يقول المؤلف: إنّ هذا آخرما أفاضه (رحمه اللّه) في شرح العروة الوثقى حشره اللّه مع أجداده الطاهرين وجعل ما قررته من مجلس درسه الشريف ذخيرة لي في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى اللّه بقلب سليم. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
محمد علي بن السيد محمد الحسيني الشيرازي.
قم المقدسة
شهر رمضان المبارك / 1430هجري
ص: 343
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله الطاهرين و لعنة اللّه على اعدائهم اجمعين الى يوم الدين
(او مضاف): الأحكام المذكورة للمضاف تعم كل مائع غير مطلق، و إن لم يطلق عليه الماء مطلقاً، كالدهن مثلاً.
(و المطلق أقسام): اي باعتبار طبيعته الاصلية، و اما باعتبار العوارض فله اقسام اخر لها احكام خاصة بها، كالماء المستعمل و الاسآر.
(مع عدم ملاقاة النجاسة): المراد ما يعم الاعيان النجسة و المتنجسات.
(مطهر): بشرائط التطهير الآتية.
(1 مسالة)
(و لا من الخبث): على الأقوى فيما لا يصدق عليه الغسل عرفاً كالغسل بماء العنب مثلاً، و على الأحوط فيما يصدق عليه الغسل عرفاً كالغسل بالمطهرات الحدثيّة و بماء الورد مثلاً.
(الف كرّ): في المثال و نظائره اشكال، و الاظهر عدم الانفعال الا في حدود صدق «الملاقاة» عرفاً، فالمقدار الذي لا يصدق عرفاً ملاقاته للنجس لا يحكم عليه بالانفعال. و منه يظهر الكلام في آبار النفط و نحوها، و إن
ص: 344
كان الاحتياط في محلّه.
(نعم اذا كان جارياً من العالي الى السافل): الملاك صدق الملاقاة - عرفاً - فاذا لم تصدق لم ينجس الماء و لو كان جارياً من السافل الى العالي، كما في الفوارة، فإذا لاقى اعلاها النجاسة لم ينجس السافل، و منه يعلم حكم المساوي.
(2 مسألة)
(لا يخرج): في اطلاقه اشكال، و المدار: الصدق العرفي.
(يصير مضافاً): الملاك الصدق العرفي، و هو يختلف باختلاف المقامات.
(3 مسألة)
(مضاف): في إطلاقه منع. و المرجع العرف كما تقدم.
(4 مسألة)
(يطهر): فيه تأمل مع اتحاده عرفاً مع السابق، و التغير في بعض الأوصاف غير المقومة للمهية لا يقدح في الوحدة العرفية، و تخلل البخارية لا يمنع الإتحاد.
ثم إنّه على مبنى الطهارة لا فرق بين المتنجسات و الأعيان النجسة إلا اذا انطبق على المصعد منها إحدى العناوين النجسة، كما لو صدق على المصعد من الخمر عنوان الخمر او عنوان المسكر مثلاً.
(5 مسألة)
(أخذ بها): في الشبهة المصداقية، و أما في الشبهة المفهومية فلا ينبغي
ص: 345
ترك الإحتياط.
(لكن لا يرفع الحدث): مع عدم الإنحصار، و اما معه فلابد من الجمع بين وظيفتي واجد الماء و فاقده كما ذكره الجد (قدس سره) و تبعه الوالد (رحمه اللّه) .
(و الخبث): على الأقوى في بعض الصور - كما لو كان احد طرفي العلم الإجمالي المضاف الذي لا يصدق عليه الغسل عرفاً - و على الأحوط في بعضها - كما لو كان احد الطرفين ما يصدق عليه ذلك - .
(و الأصل الطهارة): و في حكم عدم العلم بالحالة السابقة عدم وجود الحالة السابقة، و كذا توارد الحالتين المتضادتين على المائع المشكوك.
(6 مسألة)
(كما مرّ): و قد مرّ التأمل فيه مع اتحاده عرفاً مع سابقه.
(او الجاري): المراد مطلق العاصم، لا خصوص العنوانين.
(7 مسألة)
(لكنه مشكل): لا اشكال فيه لو اريد بالاستهلاك انعدام الذات لا الوصف.
(8 مسألة)
(أن يصبر): و مع امكان التصفية - و نحوها - يتخير بينها و بينه، كما هو واضح.
(يتيمّم): اذا لم يمكن التصفية او نحوها.
(9 مسألة)
(بالمجاورة): لا يترك الإحتياط في التغير بالمجاورة.
ص: 346
(بأوصاف النجاسة): اي بالاوصاف المستندة إليها، و إن لم تكن من سنخها على ما سوف تأتي الإشارة الى ذلك من الماتن (قدس سره) (1).
(إلا إذا صيّره مضافاً): مع بقاء المضاف بذاته بعد صيرورته كذلك، و أما لو استهلك قبلها أو حينها فالماء محكوم بالطهارة.
(بالطهارة على الأقوى): إن لم يكن هنالك مقتضٍ(2) للتغيير، أو كان هنالك مانع عن أصل حصوله، و أمّا إن كان هنالك مانع عن إدراك التغيير - مع تحقّقه واقعاً - فلا يبعد الحكم بالنجاسة.
و منه يظهر: أنّ الحكم بالنجاسة في الصورة الأولى و الثالثة لا يخلو عن قوة.
(10 مسألة)
(ما لم يصيّره مضافاً): بالشرط المتقدم في المسألة التاسعة.
(11 مسألة)
(لا يعتبر): على الأقوى فيما كان التغير بمرتبة نازلة من أوصاف النجس - كما لو اصفر الماء بوقوع الدم مثلاً - و على الأحوط فيما كان التغير بصفة مستأنفة.
(12 مسألة)
(لا فرق): على الأحوط.
ص: 347
(13 مسألة)
(من الحوض مثلاً): المقصود هو الماء المعتصم بذاته - أي الكر - والماء المعتصم بمادته - فيه تفصيل يأتي إن شاء اللّه تعالى - .
(14 مسألة)
(تنجّس): على الأحوط، فيما كان حصول التغير بعد إخراج العين النجسة عن الماء.
(15 مسألة)
(خارج الماء): مرّ أن الإحتياط في التغير بالمجاورة لا يترك.
(16 مسألة)
(أو في كونه بالمجاورة أو بالملاقاة): مر الإحتياط في التغير بالمجاورة، فالأحوط في صورة الشك الإجتناب، للعلم التفصيلي المتولد من العلم الإجمالي.
(17 مسألة)
(نفسه): الأحكام المذكورة في هذه المسألة تعم صورة زوال التغير بالعلاج ايضاً.
(لم يحكم بنجاسته): إلا إذا استندت بعض مراتب التغير الى الدم، فإن الأقوى حينئذٍ وجوب الإجتناب.
(18 مسألة)
(بالكر أو الجاري): أو نحوهما من المياه المعتصمة.
ص: 348
(الجاري و النابع): و نحوهما كل ما له مادة كماء المطر.
(لاتصاله بالمادة): الملاك الإتصال مع خروج شيء من المادة في صورة أخذ الماء المجتمع.
(فصل الماء الجاري)
(و هو النابع السائل على وجه الأرض): الأولى ايكال تحديد مفهوم «الجاري» الى العرف، و قد لا يعتبر العرف وجود النبع نعتاً مقوماً لمفهوم الجاري، كما في الأنهار المنحدرة عن الجبال المكونة من ذوبان الثلوج الكائنة عليها على نحو التدريج، ففي مثلها تجري أحكام الماء الجاري بلا إشكال، و إن لم تكن لها مادة أرضية.
(ومثله كل نابع و إن كان واقفاً): المثلية إنما هو في عدم الانفعال ونحو ذلك من أحكام ذي المادة بمجرد الملاقاة، و لا في ترتب الأحكام المحمولة على عنوان الجاري بما هو جاري.
(1 مسألة)
(من غير مادة): سبق أن وجود المادة ليس مقوماً لمفهوم الجاري، بل الملاك الصدق العرفي، و هو يختلف باختلاف الموارد.
(من الأعلى الى الأسفل): مرّ أن الملاك عدم صدق الملاقاة عرفاً، بلا فرق بين العالي و غيره.
(2 مسألة)
(ينجس بالملاقاة): إن كان مسبوقاً بوجود المادة لم ينجس، و إن كان مسبوقاً بعدم وجودها تنجس، و إن جهلت الحالة السابقة فالأولى الإجتناب.
ص: 349
(3 مسألة)
(ينجس): على الأحوط.
(4 مسألة)
(لا يلحقه حكم الجاري): إن صدق عليه الجاري - عرفاً - لحقه حكمه، و إن صدق عليه أنه ذو مادة في العرف لم ينجس بالملاقاة، و كذا لو كان المجموع كراً.
(5 مسألة)
(لحقه حكم الجاري): في عدم الانفعال و نحو ذلك من أحكام ذي المادة، لا في ترتب أحكام الجاري، إلا لو صدق عليه عنوان «الجاري» كما مرّ نظيره(1).
(فاللازم مجرد الإتصال): مع خروج شيء من المادة في صورة أخذ الماء المجتمع.
(6 مسألة)
(يلحقه حكمه): في عدم الانفعال بالملاقاة و نحو ذلك في أحكام ذي المادة، لا في ترتب أحكام الجاري، على الأحوط، إلا إذا عدّ جزءً منه عرفاً.
(فصل: الراكد بلا مادّة)
(ينجس بالملاقاة): هذا بالنسبة الى ملاقاة النجاسة و المتنجس بلا واسطة -
ص: 350
بأن لاقى الماء القليل متنجساً تستند نجاسته الى ملاقاة عين النجس - .
و أما بالنسبة الى ملاقاة المتنجس مع الواسطة - بأن لاقى الماء القليل متنجساً تستند نجاسته الى ملاقاة متنجس آخر هو المتنجس بلا واسطة - فلأحوط وجوباً الإجتناب عنه.
(الذي لا يدركه الطرف): نعم إذا لم يطلق عليه عنوان «الدم» و لو بالدقة العرفية لم يوجب الانفعال، و هكذا في سائر عناوين النجاسات، و قد التزم الماتن (قدس سره) بنحو ذلك في مبحث مطهرية الأرض حيث حكم بطهارة باطن القدم و نحوها بالمشي فيها و إن بقيت الأجزاء الصغار التي لا تتميز، وكذا في مبحث الاستنجاء حيث حكم بطهارة المحلّ بالمسح بالأحجار ونحوها و إن بقيت الأجزاء الصغار التي لا ترى.
(تنجس الجميع): ما صدق عليه ملاقاة النجس أو المتنجس بلا واسطة - عرفاً - فهو نجس. و ما صدق عليه ملاقاة المتنجس مع الواسطة فالأحوط - وجوباً - الإجتناب عنه.
ومن ذلك يعلم أنه لو لو تصدق الملاقاة - عرفاً - كما لو كان الماء جارياً من العالي إلى السافل، لاقى السافل للنجاسة، لم ينجس العالي، كما مرّ.
(لم تنجس): اعتصام العالي بالسافل إذا كان الماء جارياً من العالي ولاقى النجاسة محلّ إشكال.
(2 مسألة)
(ثلاثة و أربعون شبراً إلا ثمن شبر): الظاهر كفاية سبعة و عشرين شبراً، و إن كان الأحوط ستة و ثلاثين شبراً. و أحوط منه ما في المتن.
ص: 351
ومع الإختلاف بين المساحة و الوزن فالمدار احدهما، فكل واحد من التحديدين كافٍ في حصول الاعتصام و إن لم يحصل الآخر.
ثم لا يخفى أن الملاك في المساحة: شبر أقل متعارفي الخلقة، فيكون كراً بالنسبة الى الجميع.
(4 مسألة)
(يجري عليه حكم القليل): على الأحوط.
(5 مسألة)
(لو كان جاريا من الأعلى إلى الأسفل): سبق أنّ الملاك صدق الملاقاة عرفاً، فإذا لم تصدق لم ينجس الماء و لو كان جارياً من السافل إلى العالي، كما في الفوارة ومنه يظهر حكم المساوي(1).
(6 مسألة)
(شيئاً فشيئاً): و كان الذائب في الدفعة الواحدة دون مقدار الكر، و أما إذا ذاب مقدار الكر دفعة واحدة فهو محكوم بالطهارة.
(7 مسألة)
(مع عدم العلم بحالته السابقة): و مثله في الحكم ما لو تعاقبت عليه حالتان متضادتان مع اشتباه المتقدم منهما بالمتاخر.
(فلا يطهر ما يحتاج تطهيره الى إلقاء الكر عليه): إلا مع استهلاك الماء المتنجس في المادة المشكوك كريته.
ص: 352
(يجري عليه حكم تلك الحالة): مع وحدة الموضوع عرفاً.
(8 مسألة)
(و إن علم تاريخ الملاقاة حكم بنجاسته): على الأحوط الأولى.
(و إن علم تاريخ القلة حكم بنجاسته): الظاهر الحكم بالطهارة في هذه الصورة ايضاً، و إن كان الإحتياط في محلّه.
(9 مسألة)
(إذا وجدت نجاسة في الكر): يعلم الحال في هذه المسألة كما ذكر في المسألة السابقة.
(10 مسألة)
(إذا حدثت الكرية و الملاقاة): المقصود حصولهما بأمرين متغايرين و أما لو حصلت الكرية بنفس الملاقاة فالأقوى النجاسة كما سوف يأتي في المسألة الرابعة عشرة.
(11 مسألة)
(لم يحكم بالنجاسة): الظاهر الحكم بنجاسة الملاقي في صورة مسبوقية الكر بالقلة لتحقق العلم الوجداني او التعبدي بالقلة فيجب الإجتناب عنه بخصوصه في صورة التعين كما يجب الإجتناب عن كليهما من باب المقدمة العلمية في صورة عدم التعين.
ص: 353
ص: 354
فصل في تغيّر المطلق... 5
في أحد أوصافه الثلاثة... 5
فصل في تغيّر المطلق في أحد أوصافه الثلاثة... 7
بيان طوائف الروايات... 7
بحث في سند كامل الزيارات... 8
بحث في اعتبار ابن الوليد الابن... 16
بحث في اعتبار الغضائري الاب... 28
بحث في طريقة التعويض عن روايات التهذيب الضعيفة السند... 32
بحث في محمد بن سنان... 34
كلام في علي بن حديد... 37
في اعتبار النبوي الدال على الانفعال بالتغيّر اللوني... 46
الطرق الخمسة لانفعال المتغيّر في لونه... 49
في انفعال المتغيّر للمجاورة... 54
في التغيّر بأوصاف المتنجّس... 64
في التغيّر بالمتنجّس الحامل لوصف النجس... 74
أدلّة عدم الانفعال... 84
ص: 355
أنواع التغيّر الحسّي و التقديري... 88
إشكالات على القول بالنجاسة... 103
تفصيلات في التغيّر التقديري... 108
فروع في التغيّر... 113
في التغيّر بغير الأوصاف الثلاثة... 118
في أقسام التغيّر و ملاك الانفعال... 124
أدلّة القول بعدم الانفعال... 129
في زوال الوصف الأصلي أو العارضي... 133
في حكم الماء غير المتغيّر مع تغيّر طرف منه... 136
بيان أدلّة القولين من اشتراط الامتزاج و عدمه... 139
أدلّة عدم اعتبار الامتزاج... 145
في تأخر التغيّر عن الملاقاة... 173
في التغيّر الحاصل من المجاورة و الإصابة... 178
فروع في صورة الشك... 183
صور التغيّر الحاصل من النجس و غيره... 186
في زوال التغيّر بنفسه... 190
في الكر المتغيّر... 190
بيان أدلّة طهارة ما زال تغيّره بنفسه... 195
القول ببقاء نجاسة ما زال تغيّره بنفسه... 211
في زوال تغيّر القليل بنفسه... 213
ص: 356
فصل في الماء الجاري... 214
في بيان مفهومه... 214
فروع ثلاثة... 221
في بيان أحكامه... 223
أدلّة اعتصام الجاري القليل... 223
بيان الأدلّة المعارضة... 245
أقسام الجاري... 260
حكم الجاري غير الكر... 263
مسائل في الشك... 265
في اشتراط الاتصال بالمادّة في الجاري... 278
في اشتراط الدوام في المادة... 282
فروع في تغيّر بعض الجاري... 297
فصل في الماء القليل... 305
بيان طوائف الروايات الدالة على الانفعال... 308
بيان طوائف الروايات الدالة على عدم الانفعال... 319
[تعليقات آية اللّه المقدّس السيد محمد رضا الشيرازي من بداية كتاب الطهارة من العروة الوثقى الى المسألة 11 من فصل الراكد بلا مادة]... 344
(فصل في المياه)... 344
فهرس المحتويات... 355
ص: 357