موسوعة الفقيه الشيرازي (الترتّب) المجلد 12

هوية الكتاب

موسوعة الفقيه الشيرازي

(12)

الترتّب

تأليف: آية اللّه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

بطاقة تعريف:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان المؤلف واسمه:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مواصفات المظهر:21ج.

شابك:دوره: 8-270-204-964-978

ج21: 3-291-204-964-978

حالة الاستماع:فيپا

لسان:العربية

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

تصنيف الكونجرس:1394 8م5ح/8/159BP

تصنيف ديوي:297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية:4153694

ص: 1

اشارة

سرشناسه:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان و نام پديدآور:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضاالحسيني الشيرازي.

مشخصات نشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مشخصات ظاهری:21ج.

شابك:

دوره: 8-270-204-964-978

ج12: 1-282-204-964-978

وضعيت فهرست نويسی:فيپا

يادداشت:عربي

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول،جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15(بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقةعلی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه -- قرن 14

رده بندی كنگره:1394 8م5ح/8/159BP

رده بندی ديويی:297/312

شماره كتابشناسی ملی:4153694

موسوعة الفقيه الشيرازي

شجرة الطيبة

---------------------------

آية اللّه الفقيه السيّد محمّد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبعة: قدس

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1437ه- .ق

-----------------

شابك دوره: 8-270-204-964-978

شابك ج12: 1-282-204-964-978

-------------------------

دفتر مركزي: قم خيابان معلم، میدان روح اللّه،

نبش كوچه 19، پلاك 10، تلفن: 9 – 37744298

چاپ: شركت چاپ قدس، تلفن 37731354 فكس 37743443

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين،

ولعنة اللّه على أعدائهم إلى يوم الدين.

وبعد: فهذا بحث متواضع في مسألة الترتب،

وأسأل اللّه سبحانه التوفيق والقبول، إنه الموفق والمستعان.

7 - صفر - 1408 ه-

ص: 3

ص: 4

الفصل الأوّل

الفصل الأوّل : موضوع مسألة الترتّب

اشارة

ص: 5

ص: 6

[موضوع مسألة الترتّب:]

هل المسألة أصوليّة؟

الظاهر من بعض العبارات أنّ موضوع المسألة وجود الأمر بالضدّ المهمّ معلّقاً على عصيان الأمر بالأهمّ ونحوه، وعدم وجوه.

وظاهر بعضٍ آخر كون الموضوع صحّة الضد المهمّ وفساده.

وقد يورد عليهما - بناءً على استقلاليّة المسألة وعدم تبعيّتها لغيرها لوجود ملاكها فيها - بأنّ البحث عن حكم فعل المكلّف من حيث الاقتضاء والتخيير، والصحّة والبطلان ونحوهما من المباحث الفقهيّة؛ إذ موضوع المسألة الفقهيّة هو فعل المكلّف، ومحمولها هو عوارضه الحكمية، ومن الواضح أنّ الضدّ المهمّ فعلٌ من أفعال المكلّف، وكونه مأموراً به وصحيحاً أو باطلاً عارضٌ حكمي، فتكون المسألة فقهيّة.

وفيه: أوّلاً: ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) - كما في أجود التقريرات(1) - وهو: «أنّ علم الفقه متكفّلٌ لبيان أحوال موضوعاتٍ خاصّة، كالصلاة والصوم ونحوها، وأما الكلّيات التي لا ينحصر صدقها بموضوع خاصّ فلا

ص: 7


1- العبارات المنقولة في هذه الرسالة عن الأساطين (قدّس سرّهم) لوحظ فيها عادةً أداء المعنى لا اللفظ (منه (رحمه اللّه) ).

يتكفّله علم الفقه أصلاً»(1).

ويرد عليه: عدم اختصاص المباحث الفقهيّة بما يُبحث فيه عن حكم موضوع ٍ من الموضوعات الخاصّة، فإن جملة من المباحث الفقهيّة - كمباحث وجوبِ الوفاء بالنذر وأخويه، ووجوبِ إطاعة الوالدين، ووجوبِ الوفاء بالشرط ونحوها - يُبحث فيها عن أحكام العناوين العامّة القابلة للصدق على الأفعال المختلفة في الماهيّة والعنوان، كما ذكره بعض الأعلام(2).

هذا، مضافاً إلى أنّ سعةَ حدود العلم وضيقَها تابعةٌ لسعة حدود الغرض وضيقِها، فإنّ العمل تابع للغرض، وهو وإن كان آخِرَ ما يتحقّق في الخارج، إلاّ أنّه أوّل ما ينقدح في الذهن؛ ولذا ذكروا(3): أنّ الغاية علّة فاعليّة الفاعل بماهيّتها، وإن كانت معلولةً له بإنيّتها، ومن هنا يعلم أنّه وإن كان التشابه الذي يقع - في غالب الأحيان - بين مسائل العلم أمراً تكوينيّاً ذاتيّاً، إلاّ أنّ إفراد مركّبٍ اعتباريٍّ عن مركّبٍ اعتباريٍّ آخرَ وجعلَه علماً برأسه، وجعلَ محوره موضوعاً معيّناً دون آخر مع كونه أعمّ منه أو أخصّ أو بينهما العموم من وجه - مما يتبعه سعةُ العلم وضيقُه - إنّما يتبع تمايزَ الغرض؛ ولذا قد لا تُذكر بعض الأمور المتشابهة في العلم؛ لأنّها لا تخدم الغرض، وقد تُذكر

ص: 8


1- أجود التقريرات 1: 213.
2- أجود التقريرات 1: 213 (الهامش).
3- تهذيب الأصول 1: 209.

أمور فيها شيءٌ من التباعد لدخلها جميعاً في الغرض، فالواضع غير مقيّد بالتشابه التكوينيّ، وإنّما هو تابع لغرضه.

ومن المقرَّر: أن الغرض من المسألة الفقهيّة - قاعدةً كانت أو حكماً - هو معرفة الأحكام الشرعيّة اللاحقة لفعل المكلّف - تكليفاً ووضعاً - لأجل أن لا يشُذَّ عمل المكلّف عمّا أراده له الشارع.

وعلى هذا، فلا فرق في موضوع المسألة الفقهيّة بين العموم والخصوص، وانحصار الصدق وعدمه؛ وذلك لأنّ الموضوع العام - كالخاصّ - ممّا له مدخليّة في غرض الفقيه.

ولعلّ ما ذكره السيّد الوالد (دام ظلّه)(1): من أنّه لا يُشترط البحث عن أحوال موضوعاتٍ خاصّة في كون المسألة فقهيّةً، بعد كون الوجوب من عوارض فعل المكلّف، إشارة إلى ذلك.

مع أنّه لا ضابط لانحصار الصدق بموضوع خاصّ؛ إذ الانحصار قد يكون صنفيّاً، وقد يكون نوعيّاً، وقد يكون جنسيّاً، كما أنّ لكلّ واحد منها مراتبَ مختلفة في القرب والبعد، وجعل الضابط أحدها دون الآخر مفتقرٌ إلى الدليل، وهو مفقود في المقام.

ثم إنّ المحقّق العراقي (قدس سره) في مقام الذبّ عن نظير الإشكال الوارد في المقام اشترط في كون المسألة فقهيّة - مضافاً إلى وحدة الموضوع - وحدةَ المحمول ووحدة الملاك، فما لم يكن واجداً للوَحَدات الثلاث لا يُعدّ من

ص: 9


1- الوصائل 7: 181.

المسائل الفقهيّة.

قال (رحمه اللّه) : «إنّ الملاك في المسألة الفرعيّة على ما يقتضيه الاستقراء في مواردها إنما هو وحدة الملاك والحكم والموضوع، فكان المحمول فيها دائماً حكماً شخصيّاً متعلّقاً بموضوع وحداني بملاك خاصّ، كما في مثل الصلاة واجبة في قبال الصوم واجب، والحج واجب، ومثل هذا الملاك غير موجود في المقام...»(1) إلى آخر كلامه (رحمه اللّه) .

ولعلّ ما ذكره (رحمه اللّه) هنا ينافي ما سبق منه من تبعيّة العلوم للأغراض قال (قدس سره) : «إنّ كلّ مَنْ قنّن قانوناً أو أسّس فنّاً من الفنون لابدّ أن يلاحظ في نظره أوّلاً غرضاً ومقصداً خاصّاً، ثم يجمع شتاتاً من القواعد والمسائل الخاصّة التي هي عبارة عن مجموع القضيّة من الموضوع والمحمول، أو المحمولات المنتسبة إلى الموضوعات، ممّا كانت وافيةً بذلك الغرض والمقصد المخصوص، كما عليه أيضاً قد جرى ديدن أرباب الفنون من الصدر الأوّل... ومن المعلوم أنّه لا يكاد يُجمع من القضايا والقواعد في كلّ فنّ إلاِّ ما كانت منها محصِّلةً لذلك الغرض والمقصد الخاص ومرتبطةً به، دون غيرها من القضايا التي لا يكون لها دخل في ذلك الغرض ولا مرتبطةً به، فمَنْ كان غرضه - مثلاً - هو صيانة الفكر عن الخطأ... لابدّ له من تدوين القضايا والقواعد التي لها دخل في الغرض المزبور، دون غيرها من القضايا غير المرتبطة به ..»(2).

ص: 10


1- نهاية الأفكار 1: 259-260.
2- نهاية الأفكار 1: 3.

مع أنّه لم ينقدح المراد بالوحدة التي جعلها ملاكاً لكون المسألة فقهيّةً؛ إذ الوحدة الحقيقيّة الحقّة - وهي ما لم تكن الذات فيها مأخوذة في مفهوم الصفة المشتقّة من الوحدة - منتفية في المقام مطلقاً، والوحدة الحقيقيّة غير الحقّة - وهي التي أخذت الذات فيها لكن كانت الوحدة وصفاً لها بحال نفسها في مقابل الوحدة غير الحقيقيّة، التي تكون الوحدة وصفاً لها بحال متعلّقها كالوحدة بالجنس أو النوع - سارية في كلّ أقسام الواحد بالعموم المفهوميّ، دون فرق بين كون الوحدة صنفيّة أو نوعيّة أو جنسيّة، وبين كونها قريبة أو بعيدة، وتكثّر المصاديق الخارجيّة مشترك بين الجميع، وصرف سعة حيطة مفهوم وضيق آخر لا يكون مائزاً فيما نحن بصدده، وإلاّ لزم الاقتصار في كون المسألة فقهيّة على ما يكون موضوعه هو الصنف القريب، وهو مقطوع الانتفاء.

ثمّ على ما ذكره (قدس سره) تخرج كثير من المسائل والقواعد الفقهيّة عن دائرة البحث الفقهيّ، مثل: (العبادات مشروطة بالنيّة) و (العقود تابعة للقصود) و (ما يُضمن بصحيحه يُضمن بفاسده) و (ما لا يُضمن بصحيحه لا يُضمن بفاسده)، و(أوفوا بالعقود)، و (إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام)، و(الاستصحاب) و(البراءة) الجاريتين في الشبهات الموضوعيّة - على مبنى القوم فيهما - ونحوها؛ لعدم وحدة الموضوع والمحمول فيها.

مضافاً إلى أنّه لم يثبت كون الخطابات الوحدانيّة الموضوع والمحمول - مثل: قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}(1)، وقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ

ص: 11


1- البقرة: 43.

حِجُّ الْبَيْتِ}(1) - ذات ملاك واحد؛ إذ يحتمل - ثبوتاً - وجود ملاكات متعدّدة يختصّ كلّ منها بصنف من أصناف موضوع الخطاب، مثلاً: يكون ملاك تغسيل عامّة الناس هو التطهير، وملاك تغسيل المعصوم (عليه السلام) جريان السنّة، إلى غير ذلك، وتوحيد كلّ الأصناف في موضوع واحد وحملُ محمولٍ واحدٍ عليها لا يدلّ على وحدة الملاك، كما يظهر بملاحظة القوانين العرفيّة والقواعد المذكورة في العلوم، كالطبّ ونحوه.

ثانياً: أنّ ملاك كون المسألة أصوليّة لا ينحصر في وقوعها في طريق استنباط الأحكام الكلّية من أدلتها، وإلاّ لزم اختلال الطرد والعكس؛ وذلك لوقوع كثير من القواعد في طريق استنباط الأحكام الكلّية مع عدم إدراج القوم لها في المسائل الأصوليّة، كأصالة الطهارة - بناءً على عمومها للشبهات الحكمية كعمومها للشبهات الموضوعيّة - وكقاعدة نفي الحرج، التي بها يُنفى - مثلاً - وجوب الفحص عن المعارض حتى يُقطع بعدمه، على ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في الاستصحاب(2)، وكقاعدة الفراغ، على ما ذكره المشكينيّ (قدس سره) في مسألة النهي في العبادة(3)، وكقاعدة نفي الضرر بناءً على جريانها في الشبهات الحكمية، كما هو أحد القولين في المسألة - كما في المحاضرات والمصباح(4) - وكالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة،

ص: 12


1- آل عمران: 97.
2- فرائد الأصول 3: 18.
3- كفاية الأصول (المحشّی) 4: 19.
4- مصباح الأصول 2: 513.

ورأي الصحابيّ ونحوها؛ إذ لا يشترط في أصوليّة المسألة ثبوت الدليليّة أو الدلالة أو الاستلزام؛ إذ قد يثبُت في الأصول عدم دليليّة شيءٍ، كالشهرة الفتوائيّة وقول اللغويّ، أو عدم دلالة شيءٍ على شيءٍ، كما يقال: لا دلالة للأمر على الوجوب، ولا للنهي على الحرمة، أو عدم استلزام شيءٍ لشيءٍ، كعدم استلزام وجوب الشيء لوجوب مقدّماته، وعدم استلزام حرمة الشيء لفساد ضدّه، والتزام الاستطراد في ذلك كلّه فيه ما لا يخفى.

ومن هنا أبدل صاحب الفصول (قدس سره) تعريفَ صاحب القوانين (قدس سره) لموضوع الأصول بأنّه: «ما يُبحث فيه عن حال الدليل بعد الفراغ عن كونه دليلاً»(1)، بقوله: «إنّ موضوع الأصول ذوات الأدلّة من حيث يُبحث عن دليليّتها أو عمّا يُعرض لها بعد الدليليّة»(2).

وأيضاً: نجد هنالك مسائل لا تقع في طريق استنباط الأحكام الكلّية، وقد أدرجها القوم في ضمن المباحث الأصوليّة، كوجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة، وكسريان إجمال المخصِّص إلى العامّ في الشبهات المصداقيّة، وكمبحث مخالفة العلم الإجماليّ في الشبهة الموضوعيّة، وكمسائل دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب مع الشكّ في الواقعة الجزئيّة، ودوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة من جهة الاشتباه في موضوع الحكم، ودوران الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة اشتباه الموضوع - كلّ هذه الثلاثة في

ص: 13


1- المقالات الغرية: 89 ؛ محجة العلماء 2: 78.
2- الفصول الغروية: 12؛ فرائد الأصول3: 17.

صورة كون الشكّ في نفس التكليف، ويجري نظيرها في كون الشكّ في المكلّف به مما يشمل شطراً من مباحث الشبهة المحصورة والشبهة غير المحصورة والأقل والأكثر، والمتباينين - وكاستصحاب الكلّي في باب الموضوعات، إلى غير ذلك.

والتزام الاستطراد في ذلك كلّه لا وجه له، بعد إمكان عدّها من المسائل الأصوليّة. فانقدح بذلك عدم انحصار الملاك في وقوع المسألة في طريق استنباط الأحكام الكلّية من أدلّتها، بل الملاك يتكوّن من أمور مختلفة.

منها: ما ذكر.

ومنها: عمومها لجميع الأبواب أو أكثرها أو كثير منها.

ومنها: عدم البحث عنها في فنٍّ آخر.

ومنها: احتياج المسألة إلى مزيد نقض ٍ وإبرام.

ومنها: قرب مدخليّتها في عمليّة الاستنباط.

ومنها: شرائط الزمان والمكان.

ومنها: غير ذلك... .

فالمزيج من هذه الأمور - كّلاً أو بعضاً - هو الملاك في أصوليّة المسألة. ويؤيّد ذلك - ولو في الجملة - ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) في مبحث الأصول العمليّة، قال: «والمهمّ منها أربعة، فإنّ مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكميّة، وإن كان ممّا ينتهي إليها فيما لا حجّة على طهارته ولا على نجاسته، إلاّ أنّ البحث عنها ليس بمهمّ، حيث إنّها ثابتة بلا

ص: 14

كلام من دون حاجة إلى نقض وإبرام، بخلاف الأربعة وهي: البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب، فإنّها محلّ الخلاف بين الأصحاب، ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومؤونة حجّة وبرهان، هذا مع جريانها في كلّ الأبواب، واختصاص تلك القاعدة ببعضها»(1).

و[يؤيده أيضاً] ما في المحاضرات في تقسيم القواعد الأصوليّة، حيث قال: «الضرب الأوّل: ما يكون البحث فيه عن الصغرى بعد إحراز الكبرى والفراغ عنها، وهي مباحث الألفاظ بأجمعها، فإنّ كبرى هذه المباحث - وهي مسألة حجيّة الظهور - محرزةٌ ومفروغ عنها، وثابتة من جهة بناء العقلاء، وقيام السيرة القطعيّة عليها، ولم يختلف فيها اثنان، ولم يقع البحث عنها في أيّ علم، ومن هنا قلنا: إنّها خارجة عن المسائل الأصوليّة»(2).

وقريب منه ما في مصباح الأصول(3)، وهو وإن كان محلّ تأمّل، إلاّ أنّه لا يخلو من تأييد لما ذكرنا.

ويؤيّده أيضاً: اختلاف كتب الأصول في المسائل المبحوثة فيها، فهناك مسائل كثيرة أدرجت في كتب الأصول السابقة، ثم هُجرت في كتب الأصول الحديثة، خصوصاً بعد الشيخ الأعظم (قدس سره) .

ص: 15


1- كفاية الأصول: 337.
2- محاضرات في أصول الفقه 1: 8 .
3- مصباح الأصول 2: 246.

ويكفي أن يُعلم أنّ قسماً من مباحث الدراية كانت ضمن الأصول ثمّ فُصلت عنه، وكذا ملاحظة تاريخ تطوّر علم الأصول والتفاعل المتبادل بين علم الأصول وعلم الفقه.

ثالثاً: مع التسليم يمكن القول: إنّ البحث في هذه المسألة ليس عن نفس الوجوب، بل عن الملازمة العقلية بين الأمر بالأهمّ وانتفاء الأمر بالمهمّ، أو بين وجوبه وانتفاء وجوبه، ومن المعلوم أنّ الملازمة من عوارض نفس الطلب، لا من عوارض فعل المكلّف، وإن كان العلم بالملازمة مستلزماً للعلم بحكم فعل المكلف وهو وجوب الإتيان بالضدّ المهمّ أو عدم وجوبه، وبذلك ينطبق ما ذكروه(1) في ضابط المسألة الأصوليّة من وقوعها في طريق استنباط الحكم الكلّي على محلّ البحث، فإنّه على الملازمة يستنبط عدم وجوب المهمّ، وعلى عدمها يستنبط الوجوب، ولا يُعنى بالمسألة الأصوليّة إلاّ ما يصحّ أن تقع كبرى لقياس ينتج الحكم الكلّي، ومع انطباق ضابط المسألة الأصوليّة على مبحث الترتّب لا وجه للالتزام بكون البحث فيها استطرادياً، ولا بجعلها مسألة فقهيّة، وإن كانت فيها جهتها، وذلك لما تُقرّر في محله(2) من إمكان تداخل علمين أو أزيد في بعض المسائل، وكون التمايز بينها بالأغراض أو نحوها.

وعلى ذلك فتندرج المسألة في الملازمات العقليّة غير المستقلّة، نظير

ص: 16


1- أجود التقريرات 2: 211؛ مقالات الأصول 1: 54؛ نهاية الأفكار 3: 101.
2- كفاية الأصول: 7 .

مسألة الضدّ والمقدّمة والإجزاء ونحوها، فلا تكون حينئذٍ من المسائل الفرعيّة، فتأمّل.

ص: 17

ص: 18

الفصل الثاني

الفصل الثاني : شرائط تحقّق موضوع الترتّب

اشارة

ص: 19

ص: 20

شرائط تحقّق الموضوع

اشارة

يشترط في تحقّق موضوع الترتّب أمور:

[الشرط الأوّل:] وجود التضادّ بين الأمرين

الأوّل: وجود التضادّ بين الأمرين، وإلاّ لم يكن محذورٌ في الجمع بينهما.

ولا يخفى أنّه ليس المراد التضادّ بالذات؛ إذ لا يجري في الأحكام الشرعيّة؛ لكونها أموراً اعتباريّة، على ما تُقرّر في محلّه.

ولا التضادّ بالتبع - بأن يكون الموصوف بالتضادّ بالذات واسطةً في ثبوت التضادّ لها، كوسطيّة النار في ثبوت الحرارة للماء - إذ الوجدان قاضٍ بأنّه لا تضادّ بين إنشاء الوجوب وإنشاء الحرمة على شيءٍ معيّن لو قصر النظر عليهما، ولو بعد وسطيّة غيرهما.

بل المراد التضادّ بالعرض - بأن يكون الموصوف به بالذات واسطةً في العروض، وهي ما كانت الواسطة مناطاً لاتصاف ذيها بشيءٍ بالعرض والمجاز لعلاقة، كما في حركة السفينة وحركة جالسها، أمّا الأصالة فهي للتضادّ الحاصل في المُنتهى، أي: ما يرتبط بمرحلة امتثال المكلّف للحكم وجريه العمليّ على مقتضاه، وأمّا التضادّ الحاصل في مبدأ الحكم من الإرادة ومقدّماتها فهو تضادّ بالتبع على ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

ثم لا يخفى أنّ المراد من التضادّ هنا لا ينحصر في الحقيقيّ منه، وهو ما كان بين الذاتين المتضادّتين غاية البُعد والخلاف، كما في طرفي الإفراط

ص: 21

والتفريط من الصفات، مثل الجبن والتهوّر، بل يعمّ التضادّ المشهوريّ أيضاً، وهو ما يشمل غير ما كان كذلك كعمومه له، كالتضادّ بين الجبن والشجاعة.

وما ذكر من التعميم إنّما هو لعموم الملاك، فما يُساق من الأدلّة لإثبات إمكان الترتّب أو امتناعه يشمل التضادّ مطلقاً، حقيقيّاً كان أو مشهوريّاً.

نعم، يُستثنى من ذلك التضادّ بين الضدّين اللذين لا ثالث لهما، وسيأتي البحث في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّ تخصيص الضدّين بالذكر - من بين أقسام التقابل الأربعة - إنّما هو لعدم إمكان جريان الترتّب في البواقي، أمّا النقيضان فلأنّ عصيان أحدهما مساوقٌ لتحقّق الآخر؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين، فيكون طلبه للحاصل، وأمّا العدم والملكة فلرجوعهما إلى النقيضين لكن مع لحاظ المحلّ القابل، سواء لوحظ المحلّ المقابل مقيّداً بالوقت والشخص وهو المشهوريّ أم مطلقاً وهو الحقيقيّ، وأمّا المتضايفان فلوجوب وجود كلّ واحد منهما بالقياس إلى وجود الآخر وامتناعه بالقياس إلى عدمه، فلا يُعقل إناطة وجوب إيجاد أحدهما بعصيان إيجاد الآخر؛ لأنّه يؤول إلى إيجاب إيجاد الشيء في ظرف عدمه وهو تهافت.

هذا، ولكن يمكن أن يُقال بعدم اختصاص الجريان بالضدّين؛ إذ يمكن جريانه - ولو بملاكه - في الخلافين أيضاً، بأن يكون متعلّق الأمر الأوّل: التطهير - مثلاً - ومتعلّق الثاني: التعطير، معلّقاً على عصيان الأمر الأول، وإنما لم يأمر المولى بهما معاً بأن يكون الأمران عرضيّين مع قابليّة المحلّ وقدرة المكلّف على الجمع - بمقتضى كونهما خلافين - لمفسدة في الأمر بالجمع أو نحو ذلك، وإنّما لم يكن الأمران تخييريّين لكون الأوّل أهمّ.

ص: 22

ومنشأ هذا التعميم استلزام الأمر كذلك لطلب الجمع - لعدم سقوط الأمر بالأهمّ بعصيانه ما لم يفت الموضوع - وقد فرضنا المحذور فيه، هذا على مبنى الامتناع، فتأمّل.

وعليه: ينبغي أخذ الغيريّة - التي هي مقسمٌ للتماثل والتخالف والتقابل - في عنوان البحث لا تخصيصه بالتضادّ الذي هو أحد أنواع التقابل، ولعلّ التخصيص بالتضادّ في كلمات الأصوليّين لكونه محلّ الحاجة، وتعدّد أمثلته في الأوامر الشرعيّة على ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

وهل يختصّ الأمر في العنوان بالشرعيّ أم يعمّ العقليّ أيضاً؟

قد يُقال: بالاختصاص، بناءً على إنكار وجود الأحكام العقليّة أصلاً، فالعقل يرى الحَسَن والقبيح، وليست له باعثيّة نحو الحسن، ولا زاجريّة عن القبيح.

وفيه: أنّ باعثيّة العقل وزاجريّته من الوجدانيّات - وهي من أقسام اليقينيّات كما ذكر في بحث الصناعات الخمس - والإنسان يَحُسُّ من وجدانه الفرقَ بين الرؤية المجرّدة للعقل، كإدراكه بأنّ الواحد نصف الاثنين أو قبح المنظر المُشوّه، وبين الرؤية المصحوبة بالتحريك، كما في البعث نحو العدل والزجر عن الظلم.

وتؤيّده بعضُ الظواهر، كقوله تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}(1)، وقوله سبحانه: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}(2).

لا يُقال: الإدراك سنخٌ مغايرٌ للبعث والزجر؛ إذ يشبه أن يكون من قبيل

ص: 23


1- النازعات: 40.
2- الطور: 32.

الانفعال، وهما من قبيل الفعل، والواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد.

فإنّه يُقال: إنّ في كون الإدراك من قبيل الانفعال نظراً، فقد ذهب جمع إلى كونه من مقولة الفعل(1)، فالنفس تنشئُ الصور الذهنيّة في صقع نفسها، لا أنّها تنطبع فيها انطباع الصورة في المرآة، فلا يكون ثمّة تعدّد في السنخ، مع أنّ موضوع القاعدة - على فرض تسليمها - هو الواحد الحقيقيّ، لأنّ مناطها هو أنّ كلّ علّة لابدّ أن يكون لها خصوصيّة بحسبها يصدر عنها المعلول المعيّن، فلو تعدَّدَ تعدّدت وانثلمت وحدةُ البسيط، وهذا المناط كما ترى مختصّ بالبسيط الحقيقيّ؛ ولذا ذكر أنَّ القاعدة لا تجري في المركّب ولو كانت كثرته اعتباريّة، وهذا الشرط مفقود في المقام، وتمام الكلام موكول إلى محله.

لا يُقال: إنّ الحكم عبارة عن نسبة إنشائية متقوّمة بطرفين - الحاكم والمحكوم عليه - ولا اثنينيّةَ في المقام.

فإنّه يُقال: يكفي في الاثنينيّة التعدّد الاعتباريّ، ولا يُفتقر إلى التعدّد الخارجيّ، ومثاله في الاعتباريات: تولّي الوليّ والوصيّ والوكيل طرفي المعاملة، كأن يبيع مال المُولّى عليه لنفسه، وماله له، كما ذكر في كتاب البيع والوكالة والنكاح، ومثاله في الأمور الخارجيّة علم النفس بذاتها.

هذا مضافاً إلى تحقّق الاثنينيّة خارجاً؛ إذ النفس - على المعروف - حقيقةٌ ذات مراتب، فيمكن أن تكون مرتبةٌ منها حاكمةً على مرتبة أخرى منها، فتأمّل.

ثمّ إنّه لو فُرض إنكار جريان الترتّب في مرحلة الحكم العقليّ أمكن تصوّر الجريان في مرحلة الرؤية العقليّة، بأن يرى العقلُ أحدَ الشيئين حَسَناً

ص: 24


1- منتهى الدراية 7: 10، 1: 307.

على كلّ تقدير، والآخرَ حَسَناً على تقدير ترك الأوّل.

نعم، يمكن أن يُقال: إنّ ذلك خروج عن المولويّة إلى الإرشاديّة، وقد أخذت الأولى في موضوع الترتّب.

وبه أيضاً يُمكن أن يورَد على الترتّب في مرحلة الحكم العقليّ - على فرض تسليمه - بأن يقال: إنّ الحكم إرشادي فلا يتحقق موضوع الترتّب؛ إذ لا إشكال في جواز الأمر الترتبّي الإرشاديّ حتى عند القائل بامتناع الترتّب، وما وقع محّلاً للخلاف هو الأمر المولويّ.

ثمّ إنّه لا وجه لتخصيص موضوع الترتّب بالأمرين؛ إذ الترتّب كما يجري في الأمرين كذلك يجري في النهيين والمختلفين فتكون الأقسام أربعة، وتُعلم الأمثلة بقلب أحد الأمرين أو كليهما إلى النهي عن الضدّ العامّ للمتعلّق، كقول الآمر: (لا تترك الدرس، فإن عصيت فلا تترك التجارة).

ودعوى كون النهي حينئذٍ صوريّاً وواقع الأمر هو الأمر، مدفوعةٌ؛ نقضاً: بإمكان ادّعاء العكس، ولا أولويّة لها عليه.

وحلاًّ: بأنّه كما يمكن كون المصلحة في الفعل كذلك يمكن كون المفسدة في الترك، فللمولى أن يصبَّ الحكم في قالب الأمر بالفعل في الأوّل، والنهي عن النقيض في الثانيّ.

ويمكن أن يمثّل لذلك أيضاً بقلب الأمر بأحد الضدّين الذَين لا ثالث لهما إلى النهي عن ضدّه الخاصّ، فالأمر لوجود المصلحة في الفعل والنهي لقيام المفسدة بالضدّ الخاصّ.

ولا يردُ هنا ما قد يردُ على سابقه من استحالة قيام الوصف الوجوديّ بالترك العدميّ، لكون الضدّين وجوديّين.

ص: 25

هذا كلّه لو بُني على أنّ الاختلاف بين الأمر والنهي اختلافٌ في السنخ والطبيعة، وأمّا لو قيل بإمكان كون الاختلاف بينهما في اللفظ والصياغة - ولو في الجملة - فالأمر أوضح؛ إذ عليه يكون للمولى أن يصوغ طلبه في قالب الأمر أو النهي بلا فرق بينهما؛ وذلك لتحقّق الغرض في كلتا الصورتين. ونظير ذلك يجري في الوجوب النفسيّ والغيريّ؛ إذ يكون للمولى تحديد مركز حقّ الطاعة في الشيء، سواء كانت المصلحة قائمة به أم قائمة بما يؤدّي إليه.

[الشرط الثانيّ:] كون التكليفين إلزاميّين

الثاني: كون التكليفين إلزاميّين.

وفيه نظر: لجريان الترتّب ايضاً في غير هذه الصورة.

وتقريبه: أنّ الواجب والمستحبّ - وكذا الحرام والمكروه - وإن كانا حقيقتين متباينتين بلحاظ مرتبة الحكم، فإنّهما أمران انتزاعيّان والتفاوت التشكيكيّ لا مجرى له في الأمور الانتزاعيّة، لا عقلاً ولا عرفاً، لكنّهما بلحاظ المبادئ حقيقةٌ واحدةٌ ذات مراتب تختلف من حيث الغنى والفقر والشدّة والضعف، كالمرتبة الضعيفة والشديدة من السواد مثلاً، فتكون مبادئ الحكم غير الإلزاميّ مسانخةً لمبادئ الحكم الإلزاميّ، وإن اختلفت في الشدّة والضعف.

ومن الواضح أنّ البحث في إمكان الترتّب وامتناعه ليس بلحاظ مرحلة الحكم ليُقال باختلاف الحقيقتين، لما قد سبق من عدم التضادّ بين الأحكام لا بالذات ولا بالتبع، وإنّما هو بلحاظ مرحلة المبادئ التي قد عرفت أنّها متماثلةٌ في الأحكام الإلزاميّة وغير الإلزاميّة.

ص: 26

ثمّ لو فرض أنَّ المبادئ حقائق متباينة بتمام الذات لم يضرّ في المقام؛ وذلك لتوقّف الحكم غير الإلزاميّ - كالإلزاميّ - على الملاك والإرادة ونحوهما من المبادئ - وإن فرض تحقّق الاختلاف فيما بينها - فيجري بلحاظها بحث الإمكان والامتناع.

هذا، ولكن في المسألة احتمالان آخران:

أحدهما: الجواز مطلقاً، وذلك لأنّ مجرّد اشتراك غير الإلزاميّ مع الإلزاميّ في وجود المبادئ لا يكفي، بعد وجود الاختلاف السنخيّ بينهما فيها؛ إذ الإرادة في الإلزاميّ من الأحكام قويّةٌ إلى حدٍّ لا يرضى المولى فيه بالترك، ومع بلوغ الإرادة إلى هذه الدرجة من الشدّة لا يبقى هناك مجال لإرادة شيءٍ آخر - بناءً على الامتناع - أمّا الإرادة في غير الإلزاميّ فليست بتلك المثابة، فيُمكن وجود إرادةٍ أخرى متعلّقةٍ بشيءٍ آخر في عرضها، فيكون وزانُ الإرادة الإلزاميّة - من بعض الوجوه - وزانَ العلم الذي لا يدعُ مجالاً للاحتمال المعاكس، ووزانُ الإرادة غير الإلزاميّة وزانَ الظنِّ الذي يكون معه للاحتمال المعاكس مجالٌ، وعليه: فيصحُّ الأمر بالمهمّ في عرض الأمر بالأهمّ ولو على مبنى الامتناع. وعليه: فتختصّ أدلّة الامتناع بالإلزاميّين.

ثانيهما: التفصيل بين ما كان الأهمّ إلزاميّاً والمهمّ غير إلزاميّ، وبين ما كانا غير إلزاميّين، فيجري بحث الترتّب بلحاظ الأوّل، فالقائل بالإمكان يرى الجواز، لما سيأتي، والقائل بالامتناع يرى عدمه؛ لأنّ إرادة الإلزاميّ لا تدعُ مجالاً لإرادة غيره، بل المنع هنا أولى؛ إذ لو كانت إرادة الأهمّ لا تدعُ مجالاً للمهمّ الإلزاميّ فكيف تدعُ مجالاً للمهمّ غير الإلزاميّ؟

وهذا بخلاف ما لو كانا غير إلزاميّين؛ إذ لا ينبغي أن يُختلف في جواز

ص: 27

الأمر بهما على نحو الترتّب؛ لعدم وصول الإرادة في الأهمّ إلى حدّ المنع من النقيض، ولعدم جريان المحاذير المتصوّرة في الترتّب فيه، وسيأتي بعض ما يناسب المقام في الشرط السابع إن شاء اللّه تعالى.

[الشرط الثالث: كون المتعلّقين عباديّين أو] كون المهمّ عباديّاً

الثالث: كون المتعلّقين عباديّين أو كون المهمّ عباديّاً، ولعلّ اشتراط ذلك من أجل أن تكون المسألة ذات أثرٍ عمليّ؛ إذ على الإمكان تترتّب صحّة العبادة المأمور بها على نحو الأمر الترتّبي، وعلى الامتناع الفساد - لو لم تُصحِّح بالملاك - أمّا في غير العباديّات فلا أثر لوجود الأمر وعدمه؛ لكونها توصّلية يترتّب عليها أثرها ولو مع عدم وجود الأمر.

وهذا الشرط محلّ تأمّل؛ إذ المأخوذ في تعريف المسألة الأصوليّة يشمل ما يُعرف به نفسُ وجود الأمر وعدمه، ولو لم تترتّب عليه ثمرةٌ عمليةٌ أصلاً.

قال صاحب الكفاية (قدس سره) : «الأصول صناعةٌ يُعرف بها القواعد التي يُمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أو التي ينتهي إليها في مقام العمل»(1).

وقال المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في الأصول على النهج الحديث: «علم الأصول فنٌّ يُعرف به ما يُفيد في إقامة الحجّة على حكم العمل»(2).

وقال في النهاية: «علم الأصول ما يُبحث فيه عن القواعد المُمهِّدة لتحصيل الحجّة على الحكم الشرعيّ»(3).

ص: 28


1- كفاية الأصول: 9.
2- بحوث في الأصول 1: 20.
3- نهاية الدراية 1: 19.

وقال المحقّق النائيني (قدس سره) : «علم الأصول عبارةٌ عن العلم بالكبريات التي لو انضمَّت إليها صغرياتُها يُستنتج منها حكمٌ فرعيٌّ كليٌّ»(1).

وقال المحقّق العراقي (قدس سره) : «إنّه القواعد الخاصّة الواقعة في طريق استكشاف الوظائف الكلّية العملّية شرعيّة كانت أم عقليّة»(2).

وعن الشيخ الأعظم (قدس سره) تعريفُ المسألة الأصوليّة بما يكون أمرُ تطبيقه مخصوصاً بالمجتهد ولا يشترك فيه المقلّد(3).

وعن الحائري (قدس سره) : «إنّه العلم بالقواعد المُمهِّدة لكشف حال الأحكام الواقعيّة المتعلّقة بأفعال المكلّفين، سواء وقعت في طريق العلم بها، أم كانت موجبةً للعلم بتنجّزها على تقدير الثبوت، أم كانت موجبةً للعلم بسقوط العقاب»(4).

وعرّفه السيّد الوالد - دام ظلّه - في الأصول: «بأنّه العلم بكيفيّة الاستنباط مما يُستنبط منه العلم»(5).

وفي المحاضرات: «إنّه العلم بالقواعد التي تقعُ بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة الكليّة الإلهيّة، من دون حاجةٍ إلى ضميمة كبرى أو صغرى أصوليّة أخرى إليها»(6).

ص: 29


1- فوائد الأصول 1: 19.
2- نهاية الأفكار 1: 19.
3- فرائد الأصول 3: 18-19.
4- درر الفوائد 1: 32.
5- الأصول: 18.
6- محاضرات في أصول الفقه 1: 11.

وفي التهذيب: «إنّه هو القواعد الآليّة التي يُمكن أن تقع في كبرى استنتاج الأحكام الكليّة الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة»(1).

إلى غيرها من العبارات التي تُشعر بعدم اشتراط وجود ثمرةٍ عمليّةٍ للمسألة الأصوليّة.

ومن هنا أدرج المحقّق النائيني (قدس سره) مبحثَ المقدّمة ضمن المبحث الأصوليّ، مع اعترافه بعدم وجود ثمرةٍ عمليّةٍ لها، حيث قال (قدس سره) : «إنّه لا يترتّب على البحث في وجوب المقدّمة ثمرةٌ عمليّةٌ أصلاً، بل كان البحث علميّاً صِرفاً»(2).

وقال السيّد الوالد - دام ظلّه - في مبحث المقدّمة: «إنّ ثمرة هذا البحث هو الوجوب وعدمه بالنسبة إلى مقدّمات الواجب، لما تقدّم من أنّها - أي المسائل الأصوليّة - تُجعل كبرى لصغريات وجدانيّة»(3).

نعم، يُمكن أن يُقال: إنّ العلم تابعٌ للغرض، ولا فائدة في ما لا تترتّب عليه ثمرةٌ عمليّةٌ أصلاً، فيكون كالبحث في زمان انكشاف تمام الأحكام عن جريان البراءة في الشبهات الحكميّة.

اللّهم إلاّ أن يُقال: إنّ نفس العلم بالحكم فائدةٌ، وقد تعارف لدى الفقهاء العظام (قدّس اللّه أسرارهم) تدوينُ الأحكام الشرعيّة، ولو لم تكن محلّ الابتلاء فعلاً لئلاّ تندرس الأحكام، فتأمّل.

ص: 30


1- تهذيب الأصول 1: 5.
2- فوائد الأصول 1: 301.
3- الوصول 2: 319.

ثمّ إنّه لو فرُض اشتراط وجود ثمرةٍ عمليّةٍ للمسألة الأصوليّة لم يقدح فيما ذكر؛ إذ يترتّب على وجوب المهمّ غير التعبّدي وعدمه - المستنبط من نتيجة البحث في هذه المسألة، وهي إمكان الأمر الترتّبي وامتناعه - أمورٌ تتعلّق بالجري العمليّ:

منها: برّ النذر بإتيانه، كما لو نذر أن يأتي بواجب(1)، مع قصده مطلقَ ما يكون واجباً شرعاً حقيقةً، فلا يرد كونُ النذر تابعاً للقصد أو الارتكاز. ومثله: ما لو نذر التصدّق على مَنْ أتى بواجب، فتصدّق عليه.

ومنها: حرمة أخذ الأجرة عليه، على تفصيلٍ مُقرّر في المكاسب المحرّمة(2).

ومنها: جواز الإسناد إلى الشارع(3) .

ومنها: جواز الاستناد والإتيان به بداعي الأمر، وعدم استلزام ذلك التشريع(4).

ومنها: حصول الفسق بترك الأهمّ والمهمّ معاً(5) مع كونهما من الصغائر، بناءً على تحقّق الإصرار بذلك.

وهذه وإن لم تكن ثمرات للمسألة الأصوليّة - لما قُرّر في محلّه - إلاّ أنّها مُصحِّحة للثمرة لو فرض اشتراط وجود نتيجةٍ عمليّةٍ للمسألة الأصوليّة،

ص: 31


1- قوانين الأصول: 117؛ نهاية الأفكار 1: 348.
2- كتاب المكاسب 2: 125 - 126.
3- فوائد الأصول 3: 124؛ بحوث في علم الأصول 5: 138.
4- دروس في علم الأصول 1: 161؛ مباحث الأصول 2: 79.
5- فوائد الأصول 1: 365؛ أصول الفقه 2: 371؛ تهذيب الأصول 1: 247.

فكما أنّ صحّة الضدّ العباديّ وفساده مترتّبةٌ على وجود الأمر بالمهمّ وعدمه المترتّب على إمكان الترتّب وامتناعه، كذلك الآثار المذكورة مترتّبةٌ على وجود الأمر بالمهمّ وعدمه المترتّب على إمكان الترتّب وامتناعه، وكما أنّ تلك النتيجة مُصحّحةٌ للثمرة كذلك هذه الآثار مُصحّحةٌ لها، فتأمّل.

ثمّ إنّه قد يُجعل من الثمرة: فساد الضدّ العباديّ للمهمّ - ولو كان توصّلياً - بناءً على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ، واقتضاء النهي عن العبادة للفساد، فلو قيل بوجوب المهمّ واقتضاء الأمر النهيَ عن الضدّ، واقتضاء النهي الفسادَ أنتج ذلك فساد الضدّ، وإلاّ فلا.

[الشرط الرابع:] أن لا يكون المهمّ مشروطاً بالقدرة الشرعيّة

الرابع: أن لا يكون المهمّ مشروطاً بالقدرة الشرعيّة.

قال المحقّق النائيني (قدس سره) : «إنّ الخطاب المترتّب على عصيان خطاب الأهمّ يتوقّف على كون متعلّقه حال المزاحمة واجداً للملاك، والكاشف عن ذلك هو إطلاق المتعلّق، فإذا كان المتعلّق مقيّداً بالقدرة شرعاً - سواء كان التقييد مستفاداً من القرينة المتّصلة أم من المنفصلة - لم يبقَ للخطاب بالمهمّ محلٌّ أصلاً.

ومنه يظهر: أنّه لا يُمكن تصحيح الأمر بالوضوء في موارد الأمر بالتيمّم بالملاك أو بالخطاب الترتّبي، فإنّ الأمر بالوضوء مقيّد شرعاً بحال التمكّن من استعمال الماء بقرينة تقييد وجوب التيمّم بحال عدمه، ففي حال عدم التمكّن لا ملاك للوضوء كي يُمكن القول بصحّته... ولأجل ذلك لم يذهب العلاّمة المحقّق الشيخ الأنصاري ولا العلاّمة المحقّق تلميذه أستاذ أساتيذنا

ص: 32

(قدّس سرهما) إلى الصحّة في الفرض المزبور، مع أنّ الأوّل منهما يرى كفاية الملاك في صحّة العبادة، والثاني يرى جواز الخطاب الترتّبي»(1).

وما ذكره (قدس سره) وإن كان متيناً بلحاظ الكبرى؛ إذ اشتراط الشيء بالقدرة الشرعيّة معناه تقييد الملاك بحالٍ أو وقتٍ خاصّين، كما صرّح به (قدس سره) حيث قال في بحث المقدّمات المفوّتة: «إنّ القدرة قد تكون شرطاً عقليّاً للتكليف وغير دخيلة في ملاك الفعل أصلاً، فيكون اعتبارها في فعليّة التكليف من جهة حكم العقل بقبح خطاب العاجز، وقد تكون شرطاً شرعيّاً ودخيلة في ملاكه..»(2) فانتفاء القيد - في هذه الصورة - مساوقٌ لانتفاء الملاك المستلزم لانتفاء الأمر؛ إذ الأمر معلولٌ له، وكما يستحيل وجود الأمر بلا ملاكٍ ابتداءً كذلك يستحيل بقاؤه بعدَ ارتفاعه؛ لارتهان وجود المعلول بوجود علّته في الحدوث والبقاء، تبعاً للاقتضاء والليسيّة الذاتيّة الكامنة في وجود المعلول، إلاّ أنّه ينبغي البحث في الصغرى، وأنّ صرف تقييد الأمر الشرعيّ بقيدٍ هل يكشف عن كون القدرة الشرعيّة مأخوذةً فيه أم لا؟

يُمكن أن يُقال: إنّ القيد على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن لا يكون مأخوذاً في أصل الحكم ولا في الملاك(3)، والمراد بهذا التعبير أن تكون في الدليل عنايةٌ خاصّةٌ تدلّ على أنّه بعد ارتفاع الحصّة المعيّنة من الطلب - كالطلب اللزوميّ - لا يرتفع طبيعيّ الطلب، بل

ص: 33


1- أجود التقريرات 1: 309-310.
2- أجود التقريرات 1: 150.
3- المراد بالملاك هنا المقتضي لا العلة التامة (منه (رحمه اللّه) ).

يظلّ ضمن حصّةٍ أخرى، كالطلب غير اللزوميّ.

الثاني: أن يكون مأخوذاً في الحكم لا في الملاك.

الثالث: أن يكون مأخوذاً في الحكم والملاك معاً.

وأمّا أخذ القيد في الملاك دون الحكم - أي عكس الصورة الثانية - فهو غير معقولٍ؛ لاستلزامه وجود الحكم بلا ملاكٍ، المساوق لوجود المعلول بدون وجود علّته.

أمّا القسم الأوّل: فهو كالقيد المسوق في مقام الامتنان ونحوه، فانتفاؤه لا يكشف عن انتفاء الملاك، بل ولا طبيعيّ الطلب؛ إذ الامتنان ظاهرٌ في رفع الإلزام فقط.

وقد يُمثّل له بالوضوء في مورد الأضرار المُسوّغة للتيمّم شرعاً مع عدم وصولها إلى حدّ الحرمة، وهكذا في موارد الحرج ونحوه.

قال السيّد الوالد - دام ظلّه - في الفقه: «إنّ ظاهر أدلّة نفي الحرج والضرر أنّها رافعةٌ للإلزام لا لأصل الحكم، وهذا الظاهر إنما استُفيد من كونها في بيان الامتنان، والامتنان يقتضي أن لا يكون حرجٌ في كلٍّ من الفعل والترك؛ إذ لو كان الترك إلزاماً كان حرجاً في الترك، فهي كما إذا قال المولى: لا أشقّ عليك، حيث يُفهم منه جوازُ تكلّف العبد المشقّة، لا حرمتها، ولذا إذا قَبِل طرفُ المعاملة الضرر صحّت المعاملة، ولم يكن له حقّ الفسخ، مع أنّه مشمول للا ضرر حسب النظر البدائيّ، وسِرّه أنّ لا ضرر في مقام الامتنان لا في مقام العزيمة...»(1).

ص: 34


1- الفقه 16: 98-99.

وعلى كلٍّ، فهذا القسم خارج - موضوعاً - عن الترتب.

وأمّا القسم الثاني: فهو كالقيد المأخوذ في الشيء من باب حصول التزاحم بين الشيئين وترجيح أحدهما على الآخر، كما في صورة الأمر بالإنفاق على الوالدين إن فَضُلت النفقة عن الزوجة، فإنّ الإنفاق عليهما ذو ملاك إلاّ أنّه مزاحم بالملاك الأهمّ، ولا إشكال هنا في ثبوت الملاك في المهمّ، وعليه يُمكن تصحيح العمل العباديّ بناءً على كفاية الملاك في صحّة العبادة كما ذهب إليه الشيخ الأعظم (قدس سره) (1)، خلافاً لصاحب الجواهر (قدس سره) حيث ذهب إلى توقّف الصحّة على الأمر، وعدم كفاية الملاك على ما هو المحكيّ عنهما(2).

وأمّا الأمر فلا إشكال في أخذ القيد في إطلاقه؛ إذ لا يشمل صورة الطاعة قطعاً، وأمّا أخذه فيه مطلقاً فمبنيّ على إمكان الترتّب وعدمه، فعلى الأوّل يثبت الأمر في الفاقد للقيد معلّقاً على العصيان ونحوه، وعلى الثاني لا أمر مطلقاً.

وأمّا القسم الثالث: وهو ما كان القيد مأخوذاً في الحكم وملاكه معاً، فينبغي أن يُنظر في أنّ التقييد مطلقٌ شاملٌ لصورتي طاعة الأهمّ وعصيانه، أو مقيّد بصورة طاعته فقط، بحيث ينتفي التقييد عند العصيان ويتمّ عنده فيه الملاك والحكم أو الملاك وحده، فإنّ من الممكن عقلاً أن يكون الفعل فاقداً للملاك في حال الطاعة للأهمّ وواجداً له في صورة العصيان، كما لو

ص: 35


1- فرائد الأصول 2: 152،430؛ أجود التقريرات 1: 310.
2- فوائد الأصول 1: 367؛ مجمع الأفكار 5: 149.

فرض كون الأمر به حينئذٍ واجداً لملاك التأديب مثلاً؛ فإن كان التقييد مطلقاً فلا إشكال في انتفاء الأمر والملاك في حالة انتفاء القيد.

وأمّا لو كان التقييد مقيّداً بحيث يكون عدم الأمر أو عدم الملاك مقيّداً بعدم العصيان بحيث يرتفع التقييد عنده، فلا يصحّ هنا نفي الأمر في الأوّل، ونفي الملاك في الثاني، فتأمّل.

هذا كلّه بلحاظ عالم الثبوت.

وأمّا بلحاظ عالم الإثبات: فظاهر القيد - إن لم تكن هناك قرينةٌ خارجيةٌ ككونه في مقام الامتنان ونحوه - هو تقييد الحكم مطلقاً، أي: بلا فرق بين صورة طاعة الأمر بالأهمّ وعصيانه، ولكن تقييد الأمر لا يستلزم تقييد الملاك؛ لإمكان ارتفاع الأمر مع بقاء الملاك - لمزاحم ٍ أهمّ مثلاً - فإنّ الأمر وإن كان كاشفاً - إنّاً - عن ثبوت الملاك إلاّ أنّ انتفاءه غير مستلزم لانتفائه؛ إذ ليس الكلام في العلّة التامّة، فهو نظير ما ذكره في استصحاب الحكم الشرعيّ المستكشف بالحكم العقليّ. إلاّ أنّ عدم استلزام الانتفاء للانتفاء لا يعني ثبوت الملاك، بل يكون - بعد انتفاء الحكم - محتملاً للأمرين.

لكن قد يُستكشف بقاء الملاك بطرقٍ:

منها: إطلاق الدلالة الالتزاميّة للأمر؛ إذ الأمر دالّ بالمطابقة على الحكم، وعلى الملاك بالالتزام، وارتفاع الحكم غير ملازم لارتفاع الملاك - المدلول عليه بالأمر - لعدم تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة، واستقلال كلٍّ منهما في الحجيّة.

ويرد عليه: عدم تسليم المبنى، مع أنّ الأمر مسوق لبيان الحكم لا لبيان الملاك، ومن الواضح توقّف ثبوت الإطلاق على تحقّق مقدّمات الحكمة

ص: 36

التي منها كون المتكلّم في مقام البيان من تلك الجهة، وهي مفقودة في المقام، فلا يكون ثمّة إطلاقٌ في دلالة الأمر على الملاك كي يُتمسك به في الاستدلال على ثبوته بعد ارتفاع القيد.

ومنها: استصحاب وجود الملاك بعد سقوط الأمر، وما اشترط في جريانه من ترتّب الأثر الشرعيّ على المستصحب حاصلٌ، فإنّ بقاء الملاك مؤثّر في صحّة العبادة ونحوها - بناءً على كفاية وجود الملاك في أمثال ذلك - لكنّ هذا الطريق لا يخلو من تأمّل. وتفصيل الكلام في مباحث الاستصحاب.

ومنها: حكم العقل، كما في إنقاذ غريقين أحرزت أهميّة أحدهما على الآخر.

ومنها: دلالة دليل خاصّ على ذلك، ولعلّ منه قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك»(1).

ومنها: غير ذلك...

[الشرط الخامس:] أن يكون التضادّ بين المتعلّقين اتفاقياً

الخامس: أن يكون التضادّ بين المتعلّقين اتفاقياً، وذلك لأنّ التضادّ بين المتعلّقين إنّما يوجب التزاحم بين الخطابين فيما إذا كان حاصلاً من باب الاتفاق، وأمّا إذا كان دائميّاً كان دليل وجوب كلٍّ منهما معارضاً لدليل وجوب الآخر؛ لأنّ التصادم حينئذٍ إنّما يكون في مقام الجعل والإنشاء لا في مقام الطاعة والامتثال، ضرورة أنّه لا معنى لجعل حكمين لفعلين متضادّين دائماً، فيخرج الدليلان بذلك عن موضوع الترتّب لا محالة.

ص: 37


1- الكافي3: 22.

هذا ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) (1) وفرّع عليه بُطلان ما ذهب إليه كاشف الغطاء (قدس سره) من أنّ صحّة الجهر في موضع الإخفات جهلاً وبالعكس إنّما هي من باب الخطاب الترتّبي، وبه دفع الإشكال المعروف وهو أنّ صحّة العبادة المأتي بها جهراً أو إخفاتاً كيف تجتمع مع استحقاق العقاب على ترك الآخر؟

ووجه البطلان: أنَّ التضادّ بين الجهر والإخفات دائميٌّ وليس اتفاقياً، فلا يجري فيه الخطاب الترتّبي.

ويُمكن المناقشة في هذا الشرط ببيان مقتضى مرحلتي الثبوت والإثبات. أمّا في مرحلة الثبوت: فكما يُحتمل أن يكون الأمران بالضدّين - اللذين يكون التضادّ بينهما دائمياً - متعارضين بأن لا يكون الواجد للملاك إلاّ أحدهما، كذلك يُحتمل أن يكونا متزاحمين بأن يكونا واجدين للملاك معاً ويكون التعاند بينهما في مقام الفعليّة لا في مقام الجعل والتشريع، ودوام التضادّ لا يستلزم لغويّة أحدهما ما دام كلٌّ منهما واجداً للملاك والأثر العمليّ، وإلا لزم ذلك في موارد التضادّ الاتفاقيّ؛ إذ لا فرق في قبح القبيح واستحالة المستحيل بين وجودهما دائماً ووجودهما اتفاقاً.

وما يُذكر من الوجوه لإثبات إمكان الترتّب في التضادّ الاتفاقيّ - وهو ما

ص: 38


1- أجود التقريرات 1: 311، وفيه: «إنّ محلّ الكلام في بحث الترتّب - كما عرفت سابقاً - هو ما إذا كان التضادّ بين المتعلّقين اتفاقيّاً، لما عرفت سابقاً من أنّ التضادّ بين المتعلّقين إنّما يوجب التزاحم بين الخطابين فيما إذا كان حاصلاً من باب الاتفاق، وأمّا إذا كان دائميّاً - كمثال الجهر والإخفات - كان دليل وجوب كلٍّ منهما معارضاً لدليل وجوب الآخر، فيخرجان بذلك عن موضوع بحث الترتّب لا محالة».

أمكن الجري العمليّ وفق أحدهما دون مخالفة الآخر في الجملة، كما لو كان بين عنواني المتعلّقين عمومٌ من وجه - ينهض بعينه لإثبات الإمكان في التضادّ الدائميّ، وهو ما لم يُمكن الجري العمليّ وفق أحدهما دون مخالفة الآخر؛ ولذا لا يمتنع عقلاً أن يأمر المولى بتلوين الجدار - مثلاً - بأحد اللونين معلِّقاً وجوب كلٍّ منهما على ترك الآخر على نحو الوجوب التخييري في صورة تساويهما في الملاك، ومعلِّقاً وجوب أحدهما على ترك الآخر على نحو الوجوب الترتّبي في صورة أهمّية أحدهما من الآخر، وكذا في الأمر بالذهاب إلى المدرسة أو المتجر، تخييراً أو ترتّباً.

هذا في الضدّين اللذين لهما ثالث، وأمّا في الضدّين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون - بناءً على بعض المباني فيهما - فالمحذور فيه إنّما هو من جهة أخرى، وليس من جهة كون التضادّ بينهما دائمياً، وإلاّ لعمّ، لأنّ العلّة معمِّمةٌ كما هي مخصِّصة.

وأمّا في مرحلة الإثبات: فقد يُقال: إنَّ التعارض ليس بين أصل وجود الدليلين بل هو بين إطلاق كلٍّ منهما مع نفس الآخر، فلا موجب لرفع اليد عن أحدهما، بل إمّا أن يُقيّد الإطلاق فيهما معاً فيكون الوجوب تخييريّاً، أو يُقيّد إطلاق أحدهما - وهو المهمّ - ويُعلّق وجوبه على عصيان الآخر - وهو الأهمّ - فيكون الوجوب ترتّبياً.

والأوّل إنّما يكون في صورة إحراز عدم أهمّية أحدهما على الآخر، أو عدم إحراز الأهمّية - وفي كون الظنّ والاحتمال إحرازاً كلامٌ مذكورٌ في محلّه - والثاني إنّما يكون في صورة إحراز الأهمّية؛ وذلك كلّه حسب ما تقتضيه قواعدُ الجمع بين الدليلين، فإنّ الضرورات تُقدّر بقدرها، ولا

ص: 39

ضرورة تقتضي إلغاء أحد الدليلين بالمرّة، فإمّا أن يُلغى إطلاق أحدهما - لو أحرزت أهمّية الآخر - أو يُلغى إطلاق كلٍّ منهما، لو لم يكن كذلك.

والأوّل: لقبح تفويت الأهمّ، أو ترجيح المرجوح على الراجح. والثاني: لقبح ترجيح أحد المتساويين على الآخر من غير مرجّح بل استحالته؛ لرجوعه إلى الترجّح بلا مرجّح، وهو مساوق لوجود المعلول بدون وجود علّته على ما قُرّر في محلّه.

نعم يُمكن أن يُقال: إنّ الجمع بين الدليلين يجب أن يكون عرفيّاً بحيث يكون أحد الدليلين - أو كلاهما - قرينةً عرفيّةً لتفسير الآخر وكشف المراد منه، فلا يشمل دليل الحجّية الظهورَ الآخر، ولا يسري التعارض - لذلك - إلى دليل الحجّية.

وهذا الشرط مفقود في المقام؛ إذ العرف يرى التعارض المستقرّ بين الدليلين الدالّين على وجوب ما كان التعارض بينهما دائميّاً - ولو كان لهما ثالثٌ - بحيث يسري التعارض إلى دليل الحجيّة، فيكون المرجع في ذلك هو ترجيح أحدهما بالمرجّحات المنصوصة أو مطلق المرجّحات أو التخيير، على الخلاف المذكور في مسألة التعادل والتراجيح، وهذا بخلاف ما كان التعارض فيه اتفاقيّاً؛ إذ الجمع فيه على نحو الوجوب التخييريّ أو الترتّبي عرفيّ، فتأمّل!

ولعلّ ما اشترطه المحقّق النائيني (قدس سره) ناظر إلى ذلك، لكن يُنافيه قوله: «ضرورة أنّه لا معنى لجعل حكمين لفعلين متضادّين دائماً»(1)، إلاّ أن يريد

ص: 40


1- أجود التقريرات 1: 284.

به عدم الظهور العرفيّ في عالم الإثبات لا عدم الإمكان العقليّ في عالم الثبوت، فتأمّل.

هذا كلّه في صورة عدم التنصيص على التعليق، وأمّا لو علّق وجوب أحدهما على عصيان الآخر، كما لو أمره باستئجار الدار معلّقاً الوجوب على عصيان الأمر بشرائها، فلا يكون ثمّة تعارض بين الدليلين في نظر العرف، كما لا يخفى.

[الشرط السادس:] أن لا يكون المهمّ ضروريّ الوجود عند العصيان

السادس: أن لا يكون المهمّ ضروريّ الوجود عند عصيان الأمر بالأهمّ، فلا يجري الترتّب في الضدّين اللذين لا ثالث لهما.

قال المحقّق النائيني (قدس سره) في ردّه الثاني على كاشف الغطاء (قدس سره) الذي صحّح الجهر في موضع الإخفات وبالعكس بالخطاب الترتّبي: «إنّ مورد الخطاب الترتّبي هو ما إذا كان خطاب المهمّ مترتّباً على عصيان الأمر بالأهمّ، وهذا لا يكون إلاّ فيما إذا لم يكن المهمّ ضروريّ الوجود عند عصيان الأمر بالأهمّ، كما هو الحال في الضدّين اللذين لهما ثالث، وأمّا الضدّان اللذان لا ثالث لهما ففرض عصيان الأمر بأحدهما هو فرض وجود الآخر، فيكون البعث نحوه طلباً للحاصل. وبالجملة: لو كان وجود الشيء على تقدير وجود موضوع الخطاب وشرطه ضرورياً لامتنع طلبه، لأنّه قبل وجود موضوعه يستحيل كونه فعليّاً، وبعد وجوده يكون طلباً للحاصل؛ فتحصّل: أنّ كلّ ما فرض وجوده في الخارج يستحيل طلبه في ظرف فرض وجوده، سواء كان فرض وجوده مدلولاً مطابقياً للكلام، كما إذا أمر بترك الشيء على تقدير عصيان الأمر المتعلّق به، أم كان مدلولاً التزاميّاً له، كما

ص: 41

في ما نحن فيه، فإنّ ترك أحد الضدّين خارجاً ملازمٌ لوجود الآخر لفرض عدم الثالث، فيكون الأمر بأحدهما على تقدير ترك الآخر أمراً بما هو مفروض الوجود، وهو مستحيل»(1).

أقول: ينبغي هنا ذكر أمورٍ:

أحدها: إنّ البرهان المذكور - كما ترى - إنّما يجري فيما لو أخذ نفس العصيان شرطاً للأمر بالمهمّ، وأمّا لو أخذ العزم على العصيان أو عدم العزم على الامتثال شرطاً فلا؛ إذ لا يلزم منهما حصول الشيء فعلاً حتى يكون الأمر به طلباً للحاصل.

نعم، قد يُفرض فيه محذورٌ آخر، وهو لزوم اللغويّة؛ إذ العزم على عصيان الأهمّ إمّا أن لا يكون موصلاً إلى فعل المهمّ، أو يكون موصلاً إليه.

فعلى الأوّل: يكون المكلّف - لا محالة - مشتغلاً بالأهمّ في ظرفه، لفرض عدم الثالث، فيكون الأمر بالمهمّ حينئذٍ أمراً بالمرجوح في ظرف تلبُّس المكلّف بالراجح، وهو قبيح.

وعلى الثاني: يكون الأمر به لغواً؛ إذ لا يكون للأمر أيُّ تأثيرٍ في حصول المهمّ، وما لا يترتّب عليه أثرٌ لا مبرِّر لوجوده.

ثانيها: في الضدّين اللذين لا ثالث لهما قد يُلحظ قيد الدوام في المتعلّق، فيخرجان بذلك - بلحاظ الزمان الممتدّ، وإن لم يخرجا بلحاظ كلِّ آنٍ من آنات الزمان - عن الضدّين اللذين لا ثالث لهما، لوجود الثالث وهو التبعيض، ومن الممكن ترتّب محاذيرٍ على التبعيض الواقع في عمود الزمان بين

ص: 42


1- أجود التقريرات 1: 311.

الضدّين اللذين لا ثالث لهما، فيأمر المولى بالأهمّ منهما مطلقاً على سبيل الدوام، وبالمهمّ منهما معلّقاً على عصيان الأمر بالأهمّ على ذلك النحو، في قبال الثالث الذي هو التبعيض، وهذا لا مانع من جريان الترتّب فيه.

ثالثها: قد يكون هنالك ضدّان لهما ثالث، أي: حالةٌ ثالثةٌ، لكن لحاظ موضوع ٍ خاصٍّ يجعلهما بالإضافة إليه من قبيل الضدّين اللذين لا ثالث لهما، فالجهر والإخفات مثلاً بلحاظ ذاتهما ضدّان لهما ثالث وهو السكوت مثلاً، لكن بلحاظ حال القراءة لا ثالث لهما - في الآن الواحد من الزمان - وحينئذٍ يكون إمكان الترتّب واستحالته منوطين بما يُؤخذ في الدليل، فإن أخذ المتعلّق بلا لحاظ الموضوع الخاصّ لم يكن بالأمر الترتّبي بأسٌ، بأن يقول: (تجب عليك القراءة الجهريّة، فإن عصيت فتجب عليك القراءة الإخفاتيّة) في قبال الثالث وهو الترك المطلق، وإن أخذ موضوعٌ خاصٌّ في الدليل كان الأمر الترتّبي محالاً، كأن يقول: (القارئ إن لم يُجهر بالقراءة فيجب عليه الإخفات) إذ يكون ذلك الأمر طلباً للحاصل، وهكذا الأمر بالنسبة إلى القصر والإتمام في الصلاة.

ومنه يُعلم: أنّ النزاع في مثل ذلك تابعٌ لكيفيّة الاستظهار من الدليل.

رابعها: إنه قد يظهر ممّا سبق عدم انحصار المحذور المذكور في الضدّين اللذين لا ثالث لهما، بل يجري أيضاً في الأمر بمجموع الأضداد الوجوديّة على سبيل الترتّب؛ إذ يكون أحد هذه الخطابات لغواً، وإن أمكن كون الباقي مأموراً بها على سبيل الترتّب، وكذا في الأمر بالنقيضين أو العدم والملكة على نحو الترتّب، كما سبقت الإشارة إليه.

وأمّا الأمر بإيجاد المتضايفين على نحو الترتّب فقد سبقت الإشارة - في الشرط

ص: 43

الأوّل من شرائط تحقّق الموضوع - إلى أنّه يستلزم التهافت في الدليل، فراجع.

خامسها: إنّه تظهر نتيجة هذا الشرط في أنّه لو ورد خطابان يُثبتان الوجوب للضدّين اللذين لا ثالث لهما - ونحوهما - فإنّه لا يُمكن إدراجهما في باب التزاحم وتصحيحهما بالخطاب الترتّبي؛ وذلك لحصول التنافي بين الدليلين في مرحلة الجعل لا في مرحلة الطاعة، فيكونان متعارضين وتجري عليهما قوانينُ باب التعارض.

ثمّ لا يخفى أنّ الشرط السابق أعمٌّ - مورداً - من هذا الشرط، لتحقّق التضادّ الدائميّ في المقام أيضاً. نعم، في المقام يلزم محذوران في الأمر الترتّبي وهما: (عدم إمكان الجمع العرفيّ بين الدليلين) و (لزوم طلب الحاصل) بخلاف المقام السابق، فلاحظ.

[الشرط السابع:] تنجّز خطاب الأهمّ على المكلّف

السابع: أن يكون الخطاب الأهمّ منجّزاً على المكلّف، فلو لم يتنجّز الخطاب بالأهمّ - كما في الموارد التي تجري فيها البراءة عن التكليف المجهول - لم يُعقل الأمر بالمهمّ على نحو الترتّب؛ لانتفاء موضوعه وهو عصيان الأمر بالأهمّ بمقتضى جريان البراءة عنه، ومن المعلوم أنّ ثبوت المحمول فرعُ ثبوت الموضوع، وإذ ليس فليس.

هذا هو المستفاد من كلام المحقّق النائيني (قدس سره) (1) وأورد عليه في المحاضرات: «بأنّ الالتزام بلزوم تقييد فعليّة الخطاب المترتّب بعنوان عصيان الخطاب المترتّب عليه بلا ملزم، بل لا بد من الالتزام بالتقييد بغيره،

ص: 44


1- أجود التقريرات 1: 312.

فهنا دعويان: أمّا الدعوى الأولى: فلأنّ الترتّب كما يُمكن تصحيحه بتقييد الأمر بالمهمّ بعصيان الأمر بالأهمّ كذلك يُمكن تقييده بعدم الإتيان بمتعلّقه، فإنّ مناط إمكان الترتّب هو عدم لزوم طلب الجمع بين الضدّين من اجتماع الأمرين في زمان واحد، ومن الواضح أنّه لا يُفرّق في ذلك بين أن يكون الأمر بالمهمّ مشروطاً بعصيان الأمر بالأهمّ أو بترك متعلّقه في الخارج.

وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّ الملاك الرئيسيّ لإمكان الترتّب هو أنّ فعل الواجب المهمّ في ظرف عدم الإتيان بالواجب الأهمّ وتركِه في الخارج مقدورٌ للمكلّف عقلاً وشرعاً، فلا يكون تعلّق الأمر به على هذا التقدير قبيحاً، إذ ليس بغير المقدور، فيكون شرط تعلّق الأمر بالمهمّ هو عدم الإتيان بالأهمّ خارجاً، لا عصيانه، ضرورة أنّ إمكان الترتّب ينبثق من هذا الاشتراط، سواء أكان ترك الأهمّ معصيةً أم لم يكن، وسواء علم المكلّف بانطباق عنوان العصيان عليه أم لم يعلم، فإنّ كلّ ذلك لا دخل له في إمكان الأمر بالمهمّ مع فعليّة الأمر بالأهمّ أصلاً؛ ولذا لو فرضنا في موردٍ لم يكن ترك الأهمّ معصيةً لعدم كون الأمر وجوبياً لم يكن مانعٌ من الالتزام بالترتّب فيه»(1).

أقول: الترتّب قد يُطلق ويُراد به مطلق التعليق وإن لم يلزم منه محذورٌ، وقد يُطلق ويُراد به نوعٌ خاصٌ من التعليق وهو الذي وقع - من حيث الإمكان والاستحالة - محلّاً للخلاف بين الأعلام.

والمعنى الأوّل أعمّ من الثاني، لإمكان تعليق حكم ٍ على ترك امتثال حكم ٍ آخر دون وقوع الخلاف فيه، لإطباق الكلّ على الجواز.

ص: 45


1- محاضرات في أصول الفقه 3: 179.

فإن أريد في المقام الترتّب بالمعنى الأوّل أمكن أن يُقال بجواز تعليق الأمر بالمهمّ على مجرد ترك الأمر بالأهمّ بأن يُكلّف المولى عبيده بالأهمّ مطلقاً، وبالمهمّ في صورة عدم وصول التكليف بالأهمّ إليهم - مثلاً - ولعلّه لا يُمانع في وقوع هذا الفرض حتّى القائل باستحالة الترتّب؛ إذ التنافي بين الحُكمَين المتعلّقين بأمرين متضادّين إنّما يتحقّق - عنده - في صورة نُشوئهما عن داعيَين متماثلَين، أمّا لو كان كلُّ واحدٍ منهما بداع ٍ غير الآخر فلا تنافي بينهما، على ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى في أدلّة القول بالإمكان.

والأمر في المقام كذلك؛ إذ الأمر بالمهمّ إنّما سيق بداعي إيجاد الداعي للمكلّف نحو المطلوب، وأمّا الأمر بالأهمّ فقد سيق بدواع ٍ أ ُخر.

أمّا الدعوى الأولى فواضحةٌ، وسيأتي بعض الكلام فيها.

وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّ صدور الأهمّ بداعي الانبعاث عن الأمر المولويّ عمّن لم يتنجّز عليه التكليف - لجهل ٍ أو نسيانٍ ونحوهما - محالٌ؛ لفرض الجهل بوجود الأمر ونحوه، فيمتنع تعلّق التكليف به بداعي جعل الداعي؛ إذ ما يُعلم عدم ترتّبه على الشيء لا يُمكن أن يكون غرضاً منه. مضافاً إلى أنّه كثيراً ما يمتنع صدور نفس الأهمّ ولو بدواع ٍ أ ُخر من المكلّف، خاصّةً إذا كان من الأمور التعبّدية؛ لعدم حصول مبادئ الاختيار - من التصوّر والتصديق بالفائدة ونحوهما - في نفس المكلّف، فيستحيل صدوره عنه على نحو الاختيار؛ لاستحالة وجود المعلول بدون وجود علّته، وما يمتنع صدوره عن المكلّف يمتنع تعلّق التكليف به بداعي جعل الداعي.

وهذا بخلاف ما لو تنجّز التكليف بالأهمّ - كالمهمّ - على المكلّف؛ إذ يُمكن منع الأمر الترتّبي بالمهمّ في هذه الصورة؛ لاستحالة اجتماع حُكمين

ص: 46

بعثيّين على المكلّف - عند القائل بامتناع الترتّب - ومنه ينقدح عدم جريان بحث الترتّب بالمعنى الثاني في المقام، لإطباق الكلّ على الجواز.

وعلى هذا يُمكن أن يُقال بكون الخلاف لفظيّاً في المقام، فالقائل بالجريان نظر إلى أنّه لا مانع من تعليق الأمر بالمهمّ على مجرد ترك الأهمّ، والقائل بعدمه نظر إلى أنّ هذا النوع من التعليق خارجٌ عن محلّ الخلاف.

ويؤيّده كلام المحقّق النائيني (قدس سره) حيث علّل خروج الفرض عن مسألة الترتّب بعدم التزاحم بين الحكمين، فتأمّل.

[الشرط الثامن:] وصول التكليف بنفسه

الثامن: وصول التكليف بالأهمّ بنفسه إلى المكلّف؛ إذ لو لم يصل بنفسه لم يتحقّق العصيان بالنسبة إليه ولو فرض وصوله إليه بطريقه، ومع عدم تحقّق العصيان ينتفي موضوع الأمر بالمهمّ، فلا يُعقل الأمر به على نحو الترتّب(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّه لا فرق في تحقّق عصيان التكليف الواقعيّ بين وصوله بنفسه أو بطريقه، كما في موارد الشبهات الحكمية قبل الفحص والشبهات الموضوعية المهمّة التي أمر فيها بالفحص والاحتياط؛ إذ الامتناع بالاختيار لا يُنافي الاختيار(2).

ثانياً: مع التسليم يُمكن تعميم العصيان المأخوذ موضوعاً للأمر بالمهمّ لعصيان الأمر النفسيّ الواقعيّ وعصيان الأمر المقدميّ الطريقيّ، والثاني

ص: 47


1- أجود التقريرات 1: 290.
2- قوانين الأصول: 125؛ أجود التقريرات 1: 150؛ نهاية الأفكار 1: 480.

متحقّقٌ في المقام؛ لعصيان المكلّف أوامر التعلّم والاحتياط ونحوهما.

هذا، مضافاً إلى بعض ما مرّ في الشرط السابع.

[الشرط التاسع:] عدم أخذ الجهل في موضوع الأمر الترتّبي

التاسع: عدم أخذ الجهل في موضوع الأمر الترتّبي.

قال المحقّق النائيني (قدس سره) - في بيان عدم جريان الترتّب في مسألة الجهر والإخفات - : «المكلّف بالإخفات في الواقع إذا أجهر بالقراءة فإمّا أن يكون عالماً بوجوب الإخفات عليه أو لا، أمّا الأوّل: فهو خارجٌ عن محلّ الكلام؛ إذ المفروض فيه توقّف صحّة الجهر على الجهل بوجوب الإخفات، وأمّا الثاني: فعصيان وجوب الإخفات وإن كان متحقّقاً في الواقع إلاّ أنّه يستحيل جعله موضوعاً لوجوب الجهر في ظرف الجهل؛ لاستحالة جعل حكم ٍ يمتنع إحرازه، فيستحيل تصحيحُ عبادة الجاهل حينئذٍ بنحو الترتب»(1).

إلى أن قال: «وبالجملة: إن لم يكن المكلّف مُحرزاً للعصيان المترتّب عليه خطابٌ آخر، لم يتنجّز عليه ذلك الخطاب، لعدم إحراز موضوعه وشرطه، وإن كان مُحرزاً له فجعلُ الخطاب المترتّب في مورده وإن كان صحيحاً، إلاّ أنّه خارجٌ عن محلّ الكلام من جعل الخطاب مرتّباً على العصيان الواقعي في ظرف جهل المكلّف به. فتحصّل أنّ كلّ خطابٍ يستحيل وصوله إلى المكلّف يستحيلُ جعله من المولى الحكيم»(2). إلى آخر كلامه (قدس سره) حسبما ورد في أجود التقريرات.

ص: 48


1- أجود التقريرات 1: 312.
2- أجود التقريرات 1: 313.

وعلّله في فوائد الأصول بقوله: «بأنّه لا يصحّ التكليف إلاّ فيما إذا أمكن الانبعاث عنه، ولا يُمكن الانبعاث عن التكليف إلاّ بعد الالتفات إلى ما هو موضوع التكليف والعنوان الذي رُتّب التكليف عليه. وفي المقام لا يُعقل الالتفات إلى ما هو موضوع التكليف بالإخفات الذي هو كون الشخص عاصياً للتكليف الجهريّ»(1). انتهى.

ويرد عليه: أنه إنّما يتمّ لو سيق الأمر بالمهمّ بداعي التحريك، وأمّا لو سيق بلحاظٍ آخر - كسقوط القضاء ونحوه لإتيانه بما هو مأمورٌ به - فلا.

وبتقريرٍ آخر: التحريك الذي أخذ في التكليف أعمٌّ من أن يكون تحريكاً نحو الشيء نفسِه أو نحو آثاره، فلا مُوجب لاختصاصه بالأوّل.

هذا مضافاً إلى جريان بعض ما ذُكر في الجواب عن استحالة أخذ النسيان في موضوع الحكم في المقام أيضاً، وقد فُصّل الكلامُ فيه في أ واخر مباحث البراءة والاشتغال، فراجع.

[الشرط العاشر:] كون المتزاحمين عرضيّين

العاشر: كون المتزاحمين عرضيّين، أي: مُتعاصرين بلحاظ الزمان، فلا يجري الترتّب في الواجبين الطوليّين إذا فُرض عدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما من باب الاتفاق، كما لو فُرض عدم قدرة المكلّف على القيام في صلاتين، كصلاة الظهر والعصر مثلاً(2).

ص: 49


1- فوائد الأصول 1: 370.
2- فوائد الأصول 1: 380؛ مصباح الأصول 2: 555، وفيه: «إنّ الترتّب إنّما يُتصوّر فيما إذا كان المتزاحمان عرضيّين، بحيث يُمكن الالتزام بفعليّة أحدهما في ظرف عصيان الآخر، كوجوب الإزالة والصلاة...».

ولهذه المسألة صورتان:

الصورة الأولى: أن يكون الواجب الأهمّ متأخّراً والمهمّ متقدّماً بلحاظ الزمان، وقد عُلّل عدم جريان الترتّب في هذه الصورة: بأنّ الخطاب الترتّبي إمّا أن يُلاحظ بالنسبة إلى نفس الخطاب المتأخّر وأخذ عصيانه شرطاً للأمر بالمتقدّم، وإمّا أن يُلاحظ بالنسبة إلى الخطاب المتولّد منه وهو وجوب حفظ القدرة له، فيكون عصيان هذا الخطاب شرطاً للأمر بصَرف القدرة إلى المتقدّم، فإن كان الأوّل فيرد عليه: - مضافاً إلى استلزامه للشرط المتأخّر - : أنّ ذلك لا يُجدي في رفع المزاحمة، فإنّ المزاحم للمتقدّم ليس نفس خطاب المتأخّر، لعدم اجتماعهما في الزمان، بل المزاحم هو الخطاب المتولّد منه، ومعلومٌ أنّ فرض عصيان المتأخّر في زمانه لا يُسقط خطاب وجوب حفظ القدرة؛ لعدم سقوط خطاب المتأخّر بعد ما لم يتحقّق عصيانه، ففرض عصيان المتأخّر في موطنه لا يُوجب سقوط خطاب: احفظ قدرتك، فإذا لم يسقط فالمزاحمة بعدُ على حالها، وخطاب: (احفظ قدرتك) موجب للتعجيز عن المتقدّم، ولا يُعقل الأمر بالمتقدّم في مرتبة وجوب حفظ القدرة للمتأخّر.

وإن كان الثاني فيرد عليه: أنّ عدم حفظ القدرة للمتأخّر لا يكون إلاّ بفعل ٍ وجوديٍّ يوجب صَرف القدرة إليه، وهو إمّا نفس المتقدّم أو فعلٌ آخر، فإن كان الأوّل يلزم طلب الحاصل، وإن كان الثاني يلزم تعلّق الطلب بالممتنع. وإن كان المراد من عدم حفظ القدرة في المتأخّر المعنى الجامع بين صَرف القدرة إلى المتقدّم أو فعل ٍ وجودي آخر مضادٍّ لذلك يلزم كلا المحذورين(1).

ص: 50


1- فوائد الأصول 1: 380-382.

أقول: البحث تارةً يدور حول (شرط وجوب المهمّ) وأخرى في (ظرف وجوب الأهمّ) وثالثة في (وجوب حفظ القدرة).

أمّا بالنسبة إلى البحث الأوّل فيرد على ما ذكره (قدس سره) :

أوّلاً: معقوليّة الشرط المتأخّر على ما قُرّر في محلّه(1).

وثانياً: جواز استبدال (العزم على عصيان الأهمّ) أو (عدم العزم على الامتثال) بالعصيان فيكون الشرط مقارناً.

وثالثاً: إمكان أخذ التعقّب بالعصيان شرطاً، فلا يكون متأخّراً. ولا يرد عليه بأنّ الالتزام بكون عنوان التعقّب شرطاً يدور مدار قيام الدليل عليه، وهو مفقودٌ في المقام، لما ذكره بعض الأعلام من: أنَّ ملاك القول بالترتّب في الواجبين الفعليّين - وهو إمكان الأمر بكلٍّ منهما على نحو الترتّب واشتراط أحدهما بعدم الإتيان بمتعلّق الآخر، بلا مُوجبٍ لرفع اليد عن الإطلاق بالإضافة إلى هذا الحال، بعد ارتفاع محذور التزاحم برفع اليد عن إطلاق خطاب المهمّ بالإضافة إلى حال امتثال الأهمّ - بعينه موجودٌ في الواجبين التدريجيّين أيضاً، ضرورة أنّه إذا أمكن طلب المهمّ مشروطاً بتعقّبه بترك الواجب المتأخّر الأهمّ، فلا موجب لرفع اليد عن إطلاق دليله بالإضافة إلى هذا الحال، وإنّما اللازم هو رفع اليد عن إطلاقه بمقدار يرتفع به محذور التزاحم، أي: إطلاقه بالإضافة إلى حال امتثال الواجب المتأخّر في ظرفه(2).

وبتقريبٍ آخر: المفروض في المقام هو اشتمال الواجب المهمّ على

ص: 51


1- بدائع الأفكار: 391؛ بحوث في علم الأصول 7: 133؛ بداية الوصول 2: 101.
2- أجود التقريرات 1: 318 (الهامش).

الملاك المُلزم في نفسه وأنّه لا مانع من طلبه مشروطاً بتعقّبه بالعصيان المتأخّر، فلا مُوجب لرفع المولى يده عن طلبه كذلك وتفويتهِ الملاك المُلزم، وعليه فلا حاجة إلى دليل ٍ بالخصوص على كون عنوان التعقّب بالعصيان شرطاً لوجوب الواجب المتقدّم أصلاً.

وأمّا بالنسبة إلى البحث الثاني(1) فيرد عليه إمكان تعاصر الأمرين؛ وذلك بكون وجوب الأهمّ معلّقاً، أو مشروطاً بالوقت المتأخّر على نحو الشرط المتأخّر، لكنّ هذا الإيراد مبنائيّ كما لا يخفى.

وأمّا بالنسبة إلى البحث الثالث(2) فيرد عليه:

أوّلاً: إمكان أخذ العزم على عصيان خطابِ حفظِ القدرة شرطاً، فلا يلزم طلب الحاصل أو الممتنع أو كلاهما معاً.

ثانياً: جواز اشتراط وجوب المهمّ بعصيان خطابِ حفظِ القدرة على نحو الشرط المتأخّر، أو كون وجوبه معلّقاً، فلا يرد المحذور المذكور.

ثالثاً: النقض بجميع الأوامر الترتّبية التي تعلَّقَ وجوبُ المهمّ فيها بترك الأهمّ، كما في قوله: (إن تركت الإزالة فصلِّ) حيث لا يصحّ أن يُقال: (إن تركت الإزالة واشتغلت بالصلاة فصلِّ) لاستلزامه طلب الحاصل، ولا (إن تركتها واشتغلت بغيرها) لاستلزامه طلب الممتنع، ولا الأعمّ لاستلزامه كلا المحذورين.

فإن قيل: لا يصحّ القياس؛ لأنّ ترك الإزالة لا يُلازم الصلاة، ولا فعلاً

ص: 52


1- وهو البحث عن (ظرف وجوب الأهمّ).
2- وهو البحث عن (وجوب حفظ القدرة).

آخر مضادّاً لها، بل كلّ فعل ٍ وجوديٍّ يُفرض فإنما هو مقارنُ لترك الإزالة؛ إذ الوجود لا يكون مصداقاً للعدم، فمع تركه للإزالة يُمكنه أن لا يشتغل بفعل ٍ وجوديٍّ، فلا مانع من أمره بالصلاة حينئذ عند ترك الإزالة، ولا يكون من طلب الحاصل أو الطلب للممتنع ولو فُرض أنّه اشتغل بفعل ٍ وجوديٍّ آخر؛ لأنه لم يُقيّد الأمر الصلاتي بصورة الاشتغال بالصلاة، أو صورة الاشتغال بفعل ٍ وجوديٍّ آخر حتى يلزم ذلك، بل الأمر الصلاتي كان مُقيّداً بترك الإزالة فقط، وهذا بخلاف المقام فإنّ ترك حفظ قدرته للمتأخّر لا يكون إلا بالاشتغال بفعلٍ وجوديٍّ يُوجب سلب القدرة عن المتأخّر، وإلاّ لكانت قدرته إلى المتأخّر محفوظةً، فالفعل الوجوديّ يكون مُلازماً لعدم انحفاظ القدرة ولا يكون مُقارناً، وحينئذٍ يرد المحذور.

قيل: إنّه لا محيص عن مُلازمة (المهمّ) أو (فعل ٍ وجوديٍّ آخر مُضادٍّ للمهمّ) أو (عدم الاشتغال بفعل ٍ وجوديٍّ أصلاً) - لو فُرض إمكانه - ل- (ترك الأهمّ) فإن عُلّق وجوبُ المهمّ على ترك الأهمّ الحاصل بالأوّل لزم طلب الحاصل، أو الثاني لزم طلب الممتنع؛ لاستحالة الإتيان بالمهمّ حال الاشتغال بضدّه، وكذا الثالث؛ لاستحالة الإتيان به حال عدم الاشتغال بفعل ٍ وجوديٍّ أصلاً، وإن أريد المعنى الجامع بين الثلاثة ترتّبَ المحذوران معاً.

وعليه فلا فرق بين المقامين من هذه الجهة.

رابعاً: إنّ المحذور ليس مترتّباً على ثبوت الحكم على المقيّد؛ لعدم محذورٍ في وجوب الشيء حال عدم الاشتغال بفعل ٍ وجوديٍّ أصلاً أو حال الاشتغال بضدّه، والامتناع في المقام ليس ذاتيّاً ولا وقوعيّاً، بل هو امتناعٌ بالغير وهو لا ينافي الإمكان الذاتي والوقوعي ولا جواز التكليف، بل

ص: 53

المحذور مترتّب على التقييد وهو يرتفع بالإطلاق، فلا يكون محالاً بل يكون ضروريّاً، وسيأتي توضيحه في أدلّة القول بالإمكان إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّه لا دليل على وجود خطابٍ شرعيٍّ متعلّقٍ بحفظ القدرة؛ لعدم وجوب مقدّمة الواجب، اللّهم إلاّ أن يُراد الخطاب العقليّ، فتأمّل.

الصورة الثانية: أن يكون الواجب الأهمّ متقدّماً، والمهمّ متأخّراً بلحاظ الزمان.

وقد يُعلّل عدم جريان الترتّب في هذه الصورة بأنّ الأمر بأحد الضدّين - كالطهارة الترابيّة - بعد سقوط الأمر بالضدّ الآخر - كالطهارة المائيّة - لا محذور فيه؛ لعدم اجتماع الفعليّتين، فلا يجري فيه بحث الاستحالة والإمكان.

ويرد عليه: إمكان تعاصر الفعليّتين، بتعليق وجوب المهمّ أو كونه مشروطاً بالوقت المتأخّر على نحو الشرط المتأخّر؛ وذلك بغرض التحريك نحو مقدّماته المفوّتة - مثلاً - فيجتمع في وقتٍ واحدٍ تحريكان متضادّان نحو الأهمّ والمهمّ - ولو بالتحريك نحو مقدّماتهما - ويتحقّق بذلك موضوع الترتّب، فتأمّل.

هذه بعض الشروط المأخوذة في الترتّب، وهنالك شروطٌ أخرى تُطلب من المفصّلات، واللّه الموفّق.

ص: 54

الفصل الثالث : الإيرادات على الترتّب

اشارة

ص: 55

ص: 56

ما أورد به على الترتب

اشارة

وقد أورد على الترتّب بوجوه(1):

الوجه الأوّل: تطارد الطلبين

اشارة

الوجه الأوّل: ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) وهو: «جريان محذور طلب الضدّين في عرضٍ واحدٍ في المقام، فإنّه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهمّ اجتماعُ طلبهما، إلاّ أنّه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعُهما، بداهة فعليّة الأمر بالأهمّ في هذه المرتبة وعدم سقوطه بمجرد المعصية فيما بعد - ما لم يعصِ - أو العزم عليها، مع فعليّة الأمر بغيره أيضاً، لتحقّق ما هو شرط فعليّته فرضاً.

والتفريق بين الاجتماع في عرضٍ واحدٍ والاجتماع كذلك، بأنّ الطلب في كلٍّ منهما في الأوّل يُطارد الآخر بخلافه في الثاني، فإنّ الطلب بغير الأهمّ لا يطارد طلب الأهمّ، فإنّه يكون على تقدير عدم الإتيان بالأهمّ فلا يكون يريد غيره على تقدير إتيانه وعدم عصيان أمره، مندفعٌ: بأنّ عدم إرادة غير الأهمّ على تقدير الإتيان به لا يُوجب عدم التطارد على تقدير العصيان، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير مع ما هما عليه من المطاردة من جهة المضادّة بين المتعلّقين، مع أنّه يكفي الطرد من طرف الأمر بالأهمّ، فإنّه على هذا

ص: 57


1- لا يخفى أنّ بعض المناقشات المذكورة في هذا الفصل إنّما سيقت لبيان ما يُمكن أن يكون مدّعى منكر الترتّب، ويُعلم الحال فيها بما ذكر في أدلّة القول بالإمكان (منه (رحمه اللّه) ).

الحال يكون طارداً لطلب الضدّ، كما كان في غير هذا الحال»(1).

وهذا الوجه يُمكن أن يتلخّص في نقاط:

الأولى: فعليّة الطلبين على تقدير عصيان الأمر بالأهمّ. أمّا فعليّة طلب الأهمّ فلأنّ الأمر لا يسقط بالعصيان أو العزم عليه؛ إذ ذلك لا يُوجب فوات الموضوع المُسقِط للتكليف. وأمّا فعليّة طلب المهمّ فلفعليّة موضوعه.

الثانية: تضادّ متعلّقي الطلبين، وإلاّ خرج الفرض عن موضوع المسألة، وأمكن اجتماع الأمرين بلا إشكال.

الثالثة: سراية التضادّ من المتعلّقين إلى نفس الطلبين.

الرابعة: إنّ تضادّ الطلبين محالٌ؛ إما لاستلزامه اللغويّة أو لاستحالة انقداح الطلب الحقيقيّ المتعلّق بالمحال في نفس المولى، على اختلاف الوجهين في طلب المحال.

الخامسة: إنّه لا فرق في استحالة التضادّ بين كون التضادّ مطلقاً - كما في الطلبين العرضيّين المتعلّقين بالضدّين - أو على تقديرٍ دون تقديرٍ - كما في الطلبين الطوليّين المسوقين على نحو الترتّب - إذ يكفي في بُطلان الملزوم ترتّبُ لازم ٍ باطل ٍ عليه، ولو في بعض الأحيان.

السادسة: لو فرض عدم التطارد بين الأمرين في صورة تحقّق موضوع الأمر بالمهمّ كفى في الاستحالة طردُ أحد الجانبين للآخر، فإنّ الأمر بالمهمّ ولو لم يقتضِ طرد الأمر بالأهمّ فرضاً لكن الأمر بالأهمّ لا محالة يقتضي طرد الأمر بالمهمّ، ومعنى طرده له حينئذٍ أنّه يكون مانعاً عن حدوث الأمر

ص: 58


1- كفاية الأصول: 134-135.

بالمهمّ - كما في (الوصول)(1) - وسيأتي بعض البحث في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

[الإيرادات على الوجه الأوّل:]
اشارة

ويرد على هذا الوجه أمور:

الإيراد الأوّل
اشارة

أحدها: ما في نهاية الدراية وهو: «أنّ اقتضاء كلّ أمرٍ لإطاعة نفسه في رتبةٍ سابقةٍ على إطاعته، لأنها مرتبةُ تأثيره وأثره، ومن البديهيّ أنّ كلّ علّةٍ منعزلةٌ - في مرتبة الأثر - عن التأثير... فيكون تمامُ اقتضاء الأمر لأثره في مرتبة ذاته المقدّمة على تأثيره وأثره، ولازم ذلك كون عصيانه في مرتبةٍ متأخّرةٍ عن الأمر واقتضائه، لكون النقيضين في مرتبةٍ واحدةٍ، وعليه: فإذا أنيط أمرٌ بعصيان مثل هذا الأمر فلا شبهة أنّ هذه الإناطة تُخرج الأمرين عن المزاحمة في التأثير؛ إذ في رتبة الأمر بالأهمّ وتأثيره في صَرف القدرة نحوه لا وجود للأمر بالمهمّ، وفي رتبة وجود الأمر بالمهمّ لا يكون اقتضاءٌ للأمر بالأهمّ... فلا مطاردة بين الأمرين»(2).

وحاصل هذا الإيراد دفعُ محذور التطارد بين الأمرين بالطوليّة والاختلاف الرتبيّ فيما بين الطلبين.

وهذا الإيراد يُمكن تقريره في ضمن مقدّمات:

الأولى: إنّ اقتضاء كلّ علّةٍ لمعلولها في مرتبة ذاتها؛ لأنّ علّية العلّة

ص: 59


1- الوصول 2: 247.
2- نهاية الدراية 1: 452.

مُرتهنة بنحو وجودها الخاصّ ونحو الوجود ليس خارجاً عن نفس الوجود، فإنّ كلّ مرتبة من الوجود بسيطة، وليس الشديد مركّباً من أصل الحقيقة والشدّة ولا الضعيف مؤلّفاً من أصل الحقيقة والضعف، فليست المرتبة القويّة من النور - مثلاً - نوراً وشيئاً زائداً على النوريّة ولا المرتبة الضعيفة بفاقدةٍ من حقيقة النور شيئاً أو بمختلطة بالظلمة التي هي أمر عدميّ، بل لا تزيد كلّ واحدةٍ من مراتبه المختلفة على حقيقة النور المشتركة شيئاً، ولا تفقد منها شيئاً، وإنّما هي النور في مرتبةٍ خاصّةٍ بسيطة لم تتألّف من أجزاء ولم ينضمّ إليها ضميمة، وتمتاز عن غيرها بنفس ذاتها التي هي النوريّة المشتركة - كما مثّل بهما في نهاية الحكمة(1) - وهكذا الأمر في تقدّم الوجود المتقدّم وتأخّر الوجود المتأخّر.

الثانية: إنّ العلّة متقدّمةٌ - بلحاظ الرتبة العقليّة - على المعلول، إمّا بالعلّية كما في العلّة التامّة أو بالطبع كما في العلّة الناقصة.

الثالثة: إنّ الأمر علّةٌ للطاعة، فيكون اقتضاؤه لطاعته في مرتبة ذاته المتقدّمة على طاعته.

الرابعة: إنّ المعصية في رتبة الطاعة، بمقتضى كون النقيضين في رتبةٍ واحدةٍ، فتكون متأخّرة عن الأمر بالأهمّ.

الخامسة: الأمر بالمهمّ منوطٌ بعصيان الأمر بالأهمّ، فيكون متأخّراً عنه تأخّر كلّ مشروطٍ عن شرطه، والمتأخّر عن المتأخّر عن الشيء متأخّرٌ عن ذلك الشيء، فيكون الأمر بالمهمّ متأخّراً عن الأمر بالأهمّ بمرحلتين.

ص: 60


1- نهاية الحكمة: 25-26.

وعليه: فلا يكون ثمّة تزاحم بين الأمرين؛ إذ في مرتبة الأمر بالأهمّ واقتضائه لا وجود للأمر بالمهمّ؛ لعدم تحقّق شرطه بعد، وفي مرتبة الأمر بالمهمّ لا وجود للأمر بالأهمّ، لعدم تجافي الشيء عن رتبته، فالأمر بالأهمّ واقتضائه لا يتنزّل عن رتبته السابقة ليكون في اللاحقة.

[الإشكالات على ما ذكره المحقّق الاصفهاني:]

وفيه:

النقيضان في مرتبة واحدة

أوّلاً: إنّ مقولة كون النقيضين في مرتبةٍ واحدةٍ تحتمل بلحاظ ذاتها وجوهاً، الصحيح منها غير مُجدٍ في المقام، والمُجدي فيه منها غير صحيح، وهي:

الأوّل: تساوي نسبة الماهيّة إلى الوجود والعدم، وعدم كون أحد الطرفين أولى بها من الآخر، وكذا كلّ معروضٍ بالنسبة إلى عوارضه المُفارقة، فإنّه لا يقتضي بذاته أحد طرفي السلب أو الإثبات، لا على نحو الوجوب ولا على نحو الأولويّة، ومثلهما العلل الاختياريّة - ما لم تبلغ مرحلة الفعليّة - بالنسبة إلى النقيضين، كالإرادة منسوبةً إلى طرفي المراد.

والمراد بتساوي النسبة تكافؤ الاحتمالين عند قصر النظر على ذات المعروض أو العلّة - بما هي هي - وإن لم يخلُ الشيء عن الوجوب بالغير، أو الامتناع كذلك بلحاظ علله أو محمولاته وجوداً وعدماً، فإنّ الإمكان الذاتيّ لا يُنافي الوجوب أو الامتناع الطارئ من قِبَل الغير - المُعبَّر عنه بالوجوب السابق - والوجوب بشرط المحمول - المُعبَّر عنه بالوجوب اللاحق - بل لا يخلو المُمكن منهما أبداً.

ص: 61

الثاني: إنّ نقيض وجود الشيء في مرتبةٍ من مراتب الواقع ليس إلاّ عدم وجوده في تلك المرتبة، وكذا العكس، بداهة عدم تحقّق التعاند في غير هذه الصورة، فوجود الناطقيّة في مرتبة ذات الإنسان يُناقضه عدم وجودها فيها، لا عدمه في مرتبة أخرى، ووجود المعلول في المرتبة المعلوليّة يُناقضه عدم وجوده فيها، لا عدم وجوده في رتبة العلّة، ومن هنا كان عدم الشيء في الحقيقة هو العدم المُجامع، أمّا العدم السابق أو اللاحق فليس عدماً له في الحقيقة للبداهة، واشتراط وحدة الزمان في التناقض.

وقد يؤيّد ذلك بأنّ عدم الوجود في تلك المرتبة مُناقض للوجود فيها، فلو كان عدم الوجود في غيرها مُناقضاً للوجود فيها لزم تعدّدُ النقائض، مع أنّ نقيض الواحد لا يكون إلاّ واحداً، وإلاّ لزم عند صدق أحد طرفي المتعدّد دون الآخر ارتفاعُ النقيضين إن لم يصدق الواحد، واجتماعُ النقيضين إن صدق الواحد.

وكون عدم وجود الشيء - مطلقاً وبلا تقييده بقيد مكانيّ أو زمانيّ أو نحوهما - مُناقضاً لوجوده المقيّد بقيد خاصّ، مع كون عدم ذلك الوجود المقيّد مُناقضاً له أيضاً لا يستلزم تعدّدَ النقائض؛ إذ تناقض الأوّل مع الوجود المقيّد بالقيد الخاصّ إنّما هو باعتبار تضمّنه للأخير، فتناقض السلب الكلّي معه تناقضٌ بالتبع، وبلحاظ احتوائه على الحصّة - وهي سلب الوجود المقيّد المزبور - وإلاّ فسائر حصص السلب لا تتناقض مع الحصّة الوجوديّة الخاصّة؛ لعدم وحدة المصبّ؛ ولذا لا يكون ثمّة تنافٍ بين القضيّتين المُحتويتين عليهما، ويكون من المُمكن صدقهما معاً.

وهذا الوجه - الثاني - إن أريد به ضرورةُ اتحاد الرتبة المأخوذة في متعلّق

ص: 62

النفي والإثبات، ولزومُ صبّهما عليه بلحاظ تلك المرتبة فصحيح، ومرجعه إلى اعتبار وحدة الموضوع في التناقض، وإن أريد به أنّ المرتبة التي تكون قيداً لذات أحد النقيضين تكون قيداً لذات الآخر فغيرُ صحيح؛ إذ إنّ قولنا: (نقيض الوجود في مرتبة من مراتب الواقع ليس إلاّ عدم الوجود في تلك المرتبة) ليس بمعنى (أنّ نقيض الوجود المقيّد بالكون في المرتبة كائنٌ معه في تلك المرتبة)، فإنّ المرتبة في النقيض يجب أن تكون قيداً للمسلوب لا للسلب، فإنّ نقيض الوجود المرتبي هو عدم الوجود المرتبي، بجعل القيد قيداً للمنفي لا للنفي، ونقيض المقيّد هو انتفاء المقيّد - على نحو الإضافة - لا الانتفاء المقيّد - على نحو التوصيف - وإلاّ اختلّت الوحدة الموضوعيّة المُعتبرة في التناقض؛ وذلك لانحفاظ وحدة موضوع القضيّتين المتناقضتين في قولنا: (الوجود المرتبي متحقّقٌ) و (ليس الوجود المرتبي متحقّقاً) بجعل القيد قيداً للمسلوب وعدم انحفاظ الوحدة لو كان القيد للسلب؛ إذ يُصبح الموضوع مقيّداً في القضيّة الموجبة، ومطلقاً في القضيّة السالبة، مضافاً إلى أنّ العدم لا ذات له حتى يُشغِل مرتبةً من مراتب الواقع، فلابدّ - إذاً - من كون المرتبة ظرفاً للمنفي لا للنفي، وكون الرفع رفعاً للمقيّد لا رفعاً مقيّداً، ومن هنا ذكروا أنّ انتفاء الوجود والعدم عن الماهيّة، وسائر المعاني المتقابلة عن المعروضات - وإن كانت من لوازمها التي لا تنفكّ - ليس من ارتفاع النقيضين؛ إذ ليس العدم المرتبي نقيضاً للوجود المرتبي حتى لا يُمكن ارتفاعهما معاً، بل نقيض الوجود المرتبي عدم الوجود المرتبي، وهو صادقٌ في الماهيّة؛ لعدم أخذ الوجود في مرتبة ذات الماهيّة، ولا اللوازم في حدّ ذات المعروضات، فما هما نقيضان لم يرتفعا، لصدق عدم الوجود المرتبي

ص: 63

- بجعل الرتبة قيداً للمنفيّ - وما ارتفعا ليسا بنقيضين.

وهذا هو الذي ينبغي أن يكون المراد بقولهم: «إنّ ارتفاع الوجود والعدم عن الماهيّة من حيث هي من ارتفاع النقيضين عن المرتبة، وليس ذلك بمستحيل، وإنما المستحيل ارتفاعهما عن الواقع مطلقاً وبجميع مراتبه»، فيكون إطلاق النقيضين على الوجود والعدم المقيّدين من باب المسامحة، وباعتبار حالهما لو أخذا مطلقين، لا ما هو ظاهره؛ إذ القاعدة العقليّة لا تقبل التخصيص.

الثالث: أنّه لا تقدّم ولا تأخّر - بلحاظ الرتبة - بين ذاتي النقيضين، فلا يكون وجود الشيء علّةً لعدمه، ولا عدمُه علّةً لوجوده ببديهة العقل.

الرابع: إنّ النقيض في نفس رتبة البديل مضافاً لثالث - يكون علّةً أو معلولاً أو نحوهما - بأن يكون التأخّر الرتبي للثالث عن أحدهما مُلازماً لتأخّره عن البديل، ويكون التقدّم الرتبي له عليه مُلازماً لتقدّمه على البديل.

وما عدا الوجه الأخير لا يُجدي في المقام - وإن سلّم بلحاظ الكبرى - وأمّا الوجه الأخير فيُمكن الجواب عنه بأجوبة ثلاثة:

الجواب الأوّل: إنّ الوجود هو المصحّح للسبق واللحوق، فلا سبق إلاّ في الوجودات، كما لا مسبوقيّة إلاّ فيها، فلا يكون العدم علّةً لعدم ٍ آخر، ولا الوجود علّةً للعدم، ولا العدم علّةً للوجود؛ لأنّ العدم باطلُ الذات، وهالكُ الذات، ولا شيئيّةٌ محضةٌ، فكيف يُؤثّر في غيره أو يتأثّر عن غيره أو يكون سابقاً أو لاحقاً؟ مع أنّ ثبوت شيءٍ لشيءٍ فرعُ ثبوت المثبَت له(1)، وما يُرى

ص: 64


1- نهاية الدراية 1: 427.

من تخلّل الفاء بين الأعدام، أو بينها وبين الوجودات - على غرار تخلّلها بين نفس الوجودات - فإنّما هو بنوع ٍ من التقريب والمجاز على ما قُرّر في محلّه(1).

ثمّ إنّه إمّا أن يُقال بعدم إمكان تعلّق الأوامر بالأعدام، باعتبار أنّها لا تُؤثّر ولا تتأثّر، فيكون المطلوب ومتعلّق الإرادة النفسانيّة في الأوامر هو الفعل، كما أنّ المكروه ومتعلّق الكراهة في النواهي هو الفعل، كما ذهب إليه السيّد الوالد (دام ظلّه) في الأصول(2).

أو يقال: بإمكان تعلّقها بالأعدام كإمكان تعلّقها بالوجودات، باعتبار أنّ الأمر ناشئٌ عن قيام مصلحةٍ إلزاميّةٍ في متعلّقه، كما أنّ النهي ناشئٌ عن قيام مفسدةٍ إلزاميّةٍ في متعلّقه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المتعلّق فعل الشيء أو تركه، كالأمر بالصوم الناشئ عن قيام مصلحةٍ مُلزمةٍ في التروك المعهودة، ولذا يُقال: الصوم واجب، ولا يُقال: إنّ فعل المفطرات مُحرّم، على ما في المحاضرات(3).

فعلى الأوّل يُقرّر الجواب: بأنّ تقدّم الأمر المتعلّق بالمهمّ على طاعته - التي يجب أن تكون حيثيّة وجوديّة حسب هذا المبنى - لا يستلزم تقدّمه على نقيضها العدميّ؛ لما ذكر من أنّ السبق واللحوق لا مَسرح لهما إلاّ في الوجودات، مع أنّ إطلاق كون الطاعة في رتبةٍ متأخّرةٍ عن ذات الأمر محلّ

ص: 65


1- نهاية الحكمة: 27.
2- الأصول: 391، وفيه: «حيث إنّ الأعدام لا تُؤثّر ولا تتأثّر، فالمكروه في النواهي هو الفعل، كما أنّه هو المطلوب في الأوامر».
3- محاضرات في أصول الفقه 4: 119.

تأمّلٍ، فإنّ الوجود الإمكاني تابعٌ - في حدوثه وبقائه - لعلَلِه الخاصّة التي بها وجودُه يجب، والأمر وإن أمكن أن يكون علّةً - على ما في النهاية(1) - أو جزء علّةٍ - على ما هو الأصحّ(2) - للطاعة إلاّ أنّه يُمكن أن تكون العلّة غيره أيضاً، فلا يتمّ الإطلاق المزبور بلحاظ الكبرى، وعليه ينبغي تقييد التأخّر بوقوع الأمر في سلسلة علَلِها الوجوديّة.

وعلى الثاني يُقرّر الجواب: بأنّ الطاعة لا تخلو من أن تكون حيثيّة وجوديّة أو عدميّة، فإن كانت حيثيّة وجوديّة فقد ظهر الحكم فيها ممّا سبق، وإن كانت حيثيّة عدمية فلا تقدّم للأمر عليها، كي يُستدلّ بذلك على تقدّمه على نقيضها الوجوديّ - وهو العصيان - باعتبار اتحاد رتبة النقيضين.

الجواب الثاني: إنّ انتزاع مفهومٍ معيّنٍ من شيءٍ خاصٍّ لا يكون اعتباطاً، بل لابدّ من أن يكون في منشأ الانتزاع خصوصيّةٌ معيّنةٌ بها صحّ الانتزاع، وإلاّ لانتزع كلّ شيءٍ من كلّ شيءٍ، فانتزاع مفهوم العلّية من العلّة لا يكون إلاّ لوجود خصوصيّةٍ فيها - وهي كون وجوب المعلول قائماً بها مُستنداً إليها، ودورانه مدارها وجوداً وعدماً - وهكذا سائر المفاهيم الانتزاعيّة، كالفوقيّة والتحتيّة والمحاذاة ونحوها، والمعيّة والسبق واللحوق مفاهيمٌ انتزاعيّةٌ يحتاج انتزاعها إلى مُصحّح، وهو تلك الخصوصيّة الكامنة في منشأ الانتزاع، فمجرّد كون الشيء بديلاً للنقيض لا يُصحّح تَسرية ما اتصف به إليه ما دام فاقداً للخصوصيّة المصحّحة للانتزاع.

ص: 66


1- نهاية الدراية 1: 259.
2- كفاية الأصول (المحشّی) 1: 540.

نعم، لو كان البديل واجداً - كالنقيض - لتلك الخصوصيّة صحّ الانتزاع منه - كما صحّ الانتزاع من النقيض - لا لكونه بديلاً للنقيض، بل لكونه واجداً للملاك كالنقيض.

وإلى هذا أشار المحقّق الإصفهاني في نهاية الدراية بقوله: «إنّ تأخّر الإطاعة - بمعنى الفعل - عن الأمر لكونه معلولاً له لا يقتضي تأخّر العصيان النقيض لها عن الأمر؛ إذ ليس فيه هذا الملاك، والتقدّم والتأخّر لا يكونان إلاّ لملاكٍ يوجبهما، فلا يسري إلى ما ليس فيه الملاك»(1).

واستشهد على ذلك في موضع ٍ آخر: «بأنّ الشرط وجودُه متقدّمٌ بالطبع على مشروطه قضاءً لحق الشرطيّة، وعدمُه لا تقدّم له بالطبع على مشروطه؛ لأنّ التقدّم بالطبع لشيءٍ على شيءٍ بملاك يختصّ بوجوده أو عدمه، لا أنّ ذلك جزاف، بخلاف التقدّم الزمانيّ والمعيّة الزمانيّة، فإنّ نقيض المتقدّم زماناً إذا فُرض قيامه مقامه لا محالة يكون متقدّماً بالزمان؛ ولذا قيل: إنّ ما مع العلّة ليس له تقدّم على المعلول؛ إذ التقدّم بالعلّية شأنُ العلّة دون غيره، بخلاف ما مع المتقدّم بالزمان، فإنّه أيضاً متقدّم؛ لأنّه في الزمان المتقدّم. وبالجملة: التقدّم بالعلّية أو بالطبع الثابت لشيءٍ لا يسري إلى نقيضه؛ ولذا لا شبهة في تقدّم العلّة على المعلول لا على عدمه، كما أنّ المعلولَين لعلّةٍ واحدةٍ لهما المعيّة في الرتبة، وليس لنقيض أحدهما المعيّة مع الآخر، كما ليس له التأخّر عن العلّة»(2)، انتهى.

ص: 67


1- نهاية الدراية 1: 453.
2- نهاية الدراية 1: 425-426.

ويُلاحظ عليه:

1- عدم معقوليّة اشتراك الملاك وما يتبعه من الوصف الانتزاعيّ بين النقيضين - ولو في الزمانيّات - لما سبق من أنّه لا مسرح للسبق واللحوق إلاّ في الوجودات، إلاّ أن يكون الكلام مسوقاً على نحو التقريب والمجاز.

2- لو سُلّم الاشتراك فهو لا يختصّ بالسبق الزمانيّ، بل يشمل أيضاً السبق بالرُتَب الحسّية، ولعلّ المراد التمثيل لا الحصر.

3- إنّ تقدّم مُفاد ليس التامّة على الناقصة يُصيّر التعليل بفُقدان الذات أولى من التعليل بفُقدان الوصف فيما نحن فيه، ف- (ليس النقيض العدميّ) - كما هو مُفاد الجواب الأوّل - مُقدّمٌ على (ليس ذا ملاك)- كما في مُفاد الجواب الثاني - ولذا يُعلّل عدم العارض عند عدم المعروض به، لا بفقد المُقتضي أو وجود المانع عن العروض - اللذَين هما مُفاد كان الناقصة - لأنّه لا يكون إلاّ بعد الفراغ عن ثبوت أصل الشيء - الذي هو مُفاد كان التامّة - ومن هنا ذكروا(1): أنّ هل البسيطة مقدّمةٌ على ما الحقيقيّة؛ لتقدّم منشأ الانتزاع على العنوان الانتزاعيّ، وعلى هل المُركّبة؛ لأنّ ثبوت شيءٍ لشيءٍ فرعُ ثبوت المثبت له.

نعم، يصحّ هذا الجواب الثاني لو سيق على نحو الترتّب على الجواب الأوّل، بأن يُقال: لا ذات للنقيض العدميّ، ومع التسليم فليس ذا ملاك، كما لا يخفى.

الجواب الثالث: إنّ المعيّة بين النقيضين كما تقتضي اتحادهما في الرتبة

ص: 68


1- منتهى الدراية 3: 451.

كذلك تقتضي وحدةَ سنخ الملاك، الذي يكون فيه التقدّم والتأخّر الرتبيّان، وحينئذٍ ينتقض ذلك بالتقدّم بالعلّية، فإنّ العلّة متقدّمةٌ على المعلول، وملاك هذا التقدّم اشتراكهما في وجوب الوجود، مع كون وجوب العلّة بالذات ووجوب المعلول بالغير، فلو كان نقيض المعلول متأخّراً عنها بالعلّية لزم اجتماع النقيضين؛ لفرض تحقّق العلّة التي تُفيض الوجوب عليهما، وهو محال، مضافاً إلى أنّه لابدّ أن يكون لكلّ علّةٍ طبيعيّةٍ خصوصيّةٌ بحسبها يصدر عنها المعلول المُعيّن، ولا يُمكن فرض خصوصيّةٍ في العلّة تكون مصدراً للعدم، كما هي مصدرٌ للوجود، وكذا ينتقض بالتقدّم بالتجوهر، وهو تقدّم أجزاء الماهيّة - من الجنس والفصل - عليها، وملاكه اشتراك المتقدّم والمتأخّر في تقرّر الماهيّة مع توقّف تقرّر المتأخّر على المتقدّم، فلو كانت نقائض أجزاء الماهيّة متقدّمةً عليها بالتجوهر لَزِم دخول النقائض في قوام الماهيّة، وهو بديهيّ البُطلان، فتأمّل.

هذا كلّه إن أريد بالطاعة نفس الفعل، وبالعصيان نقيضه، كما هو مقتضى الاستدلال على اتحاد رتبتهما بمقولة (النقيضان في رتبةٍ واحدةٍ)(1)؛ إذ النقيضان هما نفس الفعل والترك بما هما هما، لا بما أنّهما موصوفان بوصفٍ زائدٍ على ذاتهما، وإن كان في إطلاق الطاعة والمعصية حينئذٍ عليهما نوعُ مسامحةٍ؛ إذ ليس مطلق الفعل والترك طاعةً ومعصيةً على ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

وقد تحصّل من ذلك: أنّ تأخّر الطاعة عن الأمر - لكونه علّةً لها أو جزء

ص: 69


1- بحوث في علم الأصول 2: 339.

العلّة، على ما تقدّم من الوجهين - لا يقتضي تأخّر العصيان عنه.

وأمّا إن أريد الطاعة والمعصية اللتان تُنتزعان من موافقة المأتيّ به للمأمور به وعدمها - سواء كان العدم على نحو السالبة بانتفاء الموضوع بأن لا يكون هناك مأتيٌّ به، أم السالبة بانتفاء المحمول بأن يكون المأتيّ به غير موافق للمأمور به - فمع أنّهما ليسا بنقيضين؛ إذ هما من قبيل العدم والملكة، ومع أنّ كون النقيضين في رتبةٍ واحدةٍ ممنوعٌ، لكن مع ذلك يصحّ القول بتأخّرهما عن الأمر، كما قال المحقّق الإصفهاني في النهاية: «الإطاعة والمعصية الانتزاعيّتان لهما التأخّر الطبعيّ عن الأمر لوجود الملاك؛ لا لكون أحدهما نقيض ما فيه الملاك، فإنّ ملاك التأخّر والتقدّم الطبعيّين هو أنّه يُمكن أن يكون للمتقدّم وجودٌ ولا وجود للمتأخّر، ولا يُمكن أن يكون للمتأخّر وجود إلاّ والمتقدّم موجودٌ، وهنا كذلك؛ إذ يستحيل تحقّق عنوان الإطاعة إلاّ مع تحقّق الأمر، ولكن يُمكن أن يتحقّق الأمر ولا إطاعة، وكذلك يستحيل تحقّق العصيان للأمر بلا تحقّقٍ للأمر، ويُمكن تحقّق الأمر ولا عصيان»(1). انتهى.

وما ذكره من تقدّم الأمر على طاعته وعصيانه - بما هما كذلك - متينٌ، وذلك لتقوّمهما بتحقّق التكليف المولويّ - أوّلاً - فمع عدم تحقّقه لا يكون الفعل أو الترك طاعةً أو عصياناً، بل تجرّياً أو انقياداً، وحرمة التجرّي - لو سُلّمت - ليست بلحاظ التكليف المُتجرّى عليه؛ إذ لا واقعيّة له، بل باعتبار المخالفة الحقيقيّة للتكليف الواقعيّ بعدم هتك حرمة المولى والطغيان عليه.

ص: 70


1- نهاية الدراية 1: 453.

وبالالتفات إلى التكليف - ثانياً - فمع عدمه لا طاعة ولا عصيان مع عدم التقصير، فإنّ الامتناع بالاختيار لا ينافيه.

وكون التكليف الواقعيّ ثابتاً في حقّ غير المُلتفت - لما تقرّر من قاعدة الاشتراك - لا يُنافي عدم صدقهما في حقّه.

وبالانبعاث عن بعث المولى، والانزجار عن زجره، في الطاعة - ثالثاً - أمّا لو كانا بدافع ٍ آخر فقط أو مشتركاً بأقسامه فلا تصدق الطاعة، وسقوط التكليف بالانبعاث - لا عن بعثه - أو الانزجار - لا عن زجره - في غير التعبّديات ليس لصدق الطاعة، بل لتحقّق الغرض.

فتحصّل من ذلك: تأخّر الطاعة والعصيان عن الأمر بأكثر من مرتبةٍ واحدةٍ، ومن هنا قد يُستبدل بتعليق (الأمر بالمهمّ على العصيان بمعنى مجرّد الترك) تعليقه على (العصيان الانتزاعيّ) المتأخّر عن الأمر طبعاً، ويُستغنى عن مقولة كون النقيضين في رتبةٍ واحدةٍ في إيراد النهاية علی ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) ، فلا يتم ما ذكر في رد الإيراد لثبوت تأخّر العصيان عن الأمر بالأهمّ، لا لاتحاد رتبة النقيضين، بل لما سبق.

فتحصّل من كلّ ما سبق: إنّ مقولة كون النقيضين في مرتبةٍ واحدةٍ تحتمل عدّة معانٍ، والثلاثة الأُول منها لا تُجدي في المقام، ولو سُلّمت في حدّ ذاتها، والرابع هو المُجدي فيه. وحينئذٍ فإمّا أن يُراد بالطاعة والمعصية نفس الفعل والترك، أو يُراد بهما الطاعة والمعصية الانتزاعيّتان.

فإن أريد الأوّل: ورد على مقولة (النقيضان في رتبةٍ واحدةٍ) - التي استند المُستدلّ إليها لإثبات اتحاد رتبة الطاعة والمعصية - :

1- إنّ مَسرح السبق واللحوق يختصّ بالأمور الوجوديّة، والطاعة إن

ص: 71

كانت حيثيّة وجوديّة فتقدّم الأمر عليها لا يستلزم تقدّمه على نقيضها العدميّ - أي العصيان - مع أنّ تقدّمه عليها ليس مطلقاً؛ إذ لا يتمّ إلاّ في صورة وقوع الأمر في سلسلة عِلَلِها الوجوديّة، وإن كانت حيثيّة عدميّة فلا تقدّم للأمر عليها كي يسري هذا الوصف إلى نقيضها الوجوديّ، أي: العصيان.

2- إنّ التقدّم والتأخّر لا يكونان إلا بملاكٍ يقتضيهما، فلا يسريان إلى النقيض الفاقد للملاك.

3- وإنّ الكلّية المذكورة تُنتقض بالتقدّم بالعلّية وبالتجوهر.

وإن أريد الطاعة والمعصية الانتزاعيّتان صحّ ما ذكر من تقدّم الأمر - تقدّماً بالطبع - عليهما.

تزاحم الاقتضاءين في فرض التعليق

ثانياً(1): إنّ ما ذُكر من خروج الأمرين - بالتقييد - عن التزاحم في التأثير للاختلاف الرتبيّ بينهما إنّما يتمّ لو كان الأمر بالمهمّ مشروطاً، أمّا لو فُرض كونه معلّقاً - بأن يكون التقييد للمادّة، لا للهيئة - وسبق الأمر العصيان فيتزاحم الاقتضاءان من دون تقدّم ٍ وتأخّرٍ بلحاظ الرتب؛ إذ المتأخّر عن العصيان حينئذٍ هو المطلوب لا الطلب.

ولا يقدح في كونه معلّقاً إناطته بأمرٍ مقدورٍ بذاته - وإن كان غير مقدورٍ بقيده لتقيّده بالزمان المتأخّر - إذ لا فرق في المعلّق بين إناطته بأمرٍ غير مقدورٍ بذاته - كالوقت - أو بأمرٍ مقدورٍ بذاته - كالعصيان - لوحدة الملاك،

ص: 72


1- هذا هو الإيراد الثاني على الوجه الذي ذكره في نهاية الدراية.

خلافاً لما نُسب إلى بعضهم من اشتراط المقدوريّة بالذات، وسيأتي تمام الكلام في ذلك في أدلّة القول بالإمكان إن شاء اللّه تعالى.

ملاك التزاحم المعيّة الوجوديّة

ثالثاً: ما في نهاية الدراية وهو: «أنّ ملاك التزاحم والتضادّ في مورد ليس المعيّة الرتبيّة، بل المعيّة الوجوديّة الزمانيّة، فمجرّد عدم كون أحد المُقتضييَن في رتبة المُقتضي الآخر لا يرفعُ المزاحمة بعد المعيّة الوجوديّة الزمانيّة، بل اللازم بيانُ عدم منافاة أحد الاقتضاءين للآخر لمكان الترتّب، لا عدم المنافاة للتقدّم والتأخّر الرتبيّين، وما ذُكر من عدم اقتضاء الأمر بالأهمّ في رتبة وجود الأمر بالمهمّ معناه عدم معيّة الاقتضاءين رتبةً، لا سقوطُ أحد الاقتضاءين عن الاقتضاء والتأثير مع وجود الاقتضاء الآخر، والفرض أنّ مجرّد تأخّر الأمر بالمهمّ عن الأمر بالأهمّ بحسب الرتبة مع المعيّة في الاقتضاء وجوداً زمانيّاً لا يدفع الاستحالة؛ إذ مناطُها هي المعيّة الكونيّة الزمانيّة في المتزاحمات والمتضادّات، وليست الرتبة من المراتب الوجوديّة»(1).

وهذا الجواب وإن تمّ بلحاظ الكبرى، لكن لا يخفى عدم تحقّق الموضوع - وهو التضادّ - في المقام، لا لما في (التهذيب) من خروج الأحكام عن تقابل التضادّ بأخذ قيد التعاقب على موضوع ٍ واحدٍ فيه؛ إذ المراد من الموضوع هو الموضوع الشخصيّ لا الماهيّة النوعيّة، ومتعلّقات الأحكام لا يُمكن أن تكون هي الموجود الخارجيّ فلا معنى للتعاقب وعدم

ص: 73


1- نهاية الدراية 1: 454.

الاجتماع فيها(1).

وذلك لعدم دخل طبيعة المعروض في تحقّق التضادّ وعدمه، بل طبيعة العارض هي الملاك، فالمعروض المتّصف بوصفٍ خاصٍّ يستحيل أن يعرض عليه ما يُضادّه من الأوصاف، وإن كان المعروض كلّياً؛ لعدم حصول ميّزٍ له بذلك من هذه الجهة في نظر العقل؛ ولأنّ الصفة لا تُحمل على الشيء إلاّ إذا كانت فيه خصوصيّةٌ بها يصحّ الحمل، وإلاّ لحُمل كلّ شيءٍ على كلّ شيءٍ، ومع وجود تلك الخصوصيّة يستحيل وجودُ ما يضادّها فيه، فلا يُمكن حمل الضدّ عليه، ولا فرق في ذلك بين كون المعروض ذهنيّاً أو خارجيّاً؛ إذ الذهن مرتبةٌ من مراتب الخارج، وكونه ذهنيّاً إنّما هو بالقياس، فكما أنّ السواد والبياض صفات للوجودات العينيّة، كذلك الكلّية والجزئيّة والمُعرّفية ونحوها صفات للوجودات الذهنيّة، التي هي مرتبةٌ من مراتب الخارج.

وعلى هذا فالتضادّ يعُمّ ما كان ذا وجود محموليّ في العين، كالسواد والبياض، وما كان ذا وجودٍ رابط فيه، كالزوجيّة والإمكان ممّا كان من المعقولات الثانية الفلسفيّة، التي يتحقّق عروضها في الذهن والاتصاف بها في

ص: 74


1- تهذيب الأصول 1: 318، وفيه: «لو اعتبرنا في تحقّق التضادّ كون الأمرين ممّا بينهما غاية الخلاف، لا يتحقّق التضادّ في جميع الأحكام؛ لأنّ الوجوب والاستحباب ليس بينهما غاية الخلاف، وقس عليه الحرمة والكراهة، بل تخرج الأحكام عن تقابل التضادّ بقولنا يتعاقبان على موضوع ٍ واحدٍ؛ لأنّ المراد من الموضوع هو الموضوع الشخصيّ لا الماهيّة النوعيّة، وقد مرَّ أنّ متعلقّاتها لا يُمكن أن يكون الموجود الخارجيّ، فلا معنى للتعاقب وعدم الاجتماع فيه».

الخارج، وإن لم تنحصر فيه، لشمولها للمنطقيّة، وما كان ذا وجودٍ ذهنيّ، كالكلّية والجزئيّة - بناءً على كونهما ضدّين - ونحوهما من المعقولات الثانية المنطقيّة، التي يكون الاتصاف بها - كعروضها - في الذهن.

نعم، يصحّ ما في (التهذيب) لو أريد به: أنّ وجود الشيء رهينٌ بتشخّصه، فإنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يُوجد، ومع عدم وجوده يستحيل أن يكون معروضاً للعوارض، فلا تجري عليه أحكام التضادّ، من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وبعبارةٍ أخرى: الماهيّة بما هي هي أمرٌ اعتباريٌّ فلا يتعاقب عليها الضدّان، بل المعروض الماهيّة بما هي موجودة، فتأمّل.

هذا ويُمكن الاستدلال على عدم التضادّ في المقام بأنّ الأحكام الخمسة وما تنطوي عليه من بعثٍ وزجرٍ واقتضاءٍ وتحريكٍ، أمورٌ اعتباريةٌ لا تحقّق لها إلاّ في وعاء الاعتبار؛ لكون حدوثِها منوطاً بحدوث الاعتبار، وبقائِها منوطاً بدوام الاعتبار، ولا شيء من الحقائق التكوينيّة - متأصّلةً كانت أو انتزاعيّةً - كذلك.

ومن الواضح: عدم تحقّق التضادّ في الأمور الاعتباريّة - بالمعنى الأخصّ للاعتبار، لا بالأعمّ الشامل للانتزاعيّات - لكون مَسرحه - كالتماثُل - غيرها؛ لشهادة الوجدان بعدم التضادّ بين الأحكام - بلحاظ ذاتها - لو جُرّدت عمّا يكتنفُها في طَرَفي المبدأ والمُنتهى من الملاك والإرادة ومقدّماتها، والجري العمليّ.

وعليه فيكون فرض المعيّة الوجوديّة غير قادح ٍ في جواز الاجتماع - إن قصُر النظر على الأمر واقتضائه - فلابدّ أن يُراد - ممّا في النهاية من أنّ المعيّة

ص: 75

الوجوديّة بين الأمرين تستلزم التضادّ بينهما - التضادّ بالعرض، فإنّ التضادّ قد يكون بالذات، وهو ما كان التضادّ فيه ذاتيّاً ناشئاً من ذات المتضاديّن، وقد يكون بالتبع، وهو ما كان التضادّ فيه غيريّاً معلولاً لعلّةٍ خارجةٍ عن الذات، وقد يكون بالعرض، وهو ما وُصف بالتضادّ تجوّزاً لملابسةٍ بينه وبين ما اتُصف - حقيقةً - به.

والأوّل: كالتضادّ بين المتعلّقين.

والثاني: كالتضادّ بين الإرادتين المَتعلّقتين بهما.

والثالث: كالتضادّ بين الأمرين المُنصبيّن عليهما.

وحينئذٍ فيُقّرر الإيراد: بأنّ التعدّد الرُتبيّ بين المتعلّقين، أو الإرادتين لا يدفع محذور التضادّ بعد المعيّة الوجوديّة المفروضة بينهما.

ثمّ إنّ ما اعتبره في النهاية من (المعيّة الزمانيّة) في التضادّ لعلّه باعتبار المورد، أو يُراد به مطلق المعيّة الوجوديّة، وإن لم تكن في أفق الزمان - تجوّزاً - وإلاّ فالتجرّد لا يُسوّغ التضادّ - كما ألمع إليه السيّد الوالد دام ظلّه في الأصول(1)- ولذا يستحيل اتصاف المجرّد بالأوصاف المتضادّة كاستحالة اتصاف المادّي بها.

النقض بأخذ العلم بالحُكم موضوعاً لحُكم ضدّه

رابعاً: لو كان الاختلاف الرُتبيّ مُجدياً في دفع التطارد لَأجدى في أخذ العلم بالحكم موضوعاً لحكم ضدّه؛ لتأخّره عنه برتبتين - لتأخّر العلم فيما نحن فيه عن معلومه والمحمول عن موضوعه - فيخرج الحُكمان عن

ص: 76


1- الأصول: 587.

المزاحمة في التأثير بنفس التقريب المتقدّم.

ووحدةُ سنخ الحكم، وتعدّدُ المتعلّق في الأمر الترتّبي بخلاف مورد النقض لا تصلح فارقاً - على فرض التسليم - بعدَ وحدة الملاك؛ إذ كما أنّ الحُكمين في مورد النقض متضادّان كذلك الحُكمان في مورد الترتّب - لسراية التضادّ من المتعلّقين إلى الحُكمين - فالتعدّد الرتّبي إن أجدى في دفع التضادّ بين الحُكمين أجدى في مورد النقض أيضاً، وإن لم يُجدِ لم يُجدِ في الأمر الترتّبي أيضاً.

ويرد عليه: عدم تسليم الملازمة؛ لعدم انحصار محذورِ الأخذ المذكور في تزاحم الاقتضاءين كي يُنظّر به المقام، بل يُمكن أن يكون استلزامه للغويّة - مثلاً - لامتناع تصديق المكلّف به، لفرض علمه بالضدّ، فلا يُمكن جعله بداعي جعل الداعي الامتثاليّ؛ لعدم ترتّبه عليه، وما لا يترتّب على الشيء في علم الجاعل لا يُمكن أن يكون غرضاً للجعل.

نعم، لا بأس بجعله بدواع ٍ أخر، على ما حُرّر في محلّه، فما نحن فيه من صغريات الردع عن العمل بالقطع، واستحالته نابعةٌ من استحالته.

اللّهم إلاّ أن يُقال بجريان محذور اللغويّة في المقام أيضاً؛ لامتناع تصديق المكلّف بأمرين متواردين على متعلّقين متضادّين، لمكان التضادّ القائم بينهما، فيلزم من منع تسويغ أحدهما - وهو أخذ العلم بالحكم موضوعاً لحكم ضدّه - منع تسويغ الآخر.

وبعبارةٍ أخرى: كلا المقامين من مصاديق توجيه حُكمين متضادّين إلى المكلّف، فتكون المحاذير مشتركةً بينهما؛ لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

ص: 77

لكن هذا الكلام لا يخلو من نظرٍ على ما سيأتي في أدلّة القول بإمكان الترتّب إن شاء اللّه.

النقض بتقييد الأمر بالمهمّ بفعليّة الأمر بالأهمّ

خامساً: ما في (مباحث الدليل اللفظيّ): من النقض بما إذا قُيّد الأمر بالمهمّ باقتضاء الأمر بالأهمّ، فإنّه فيه تتعدّد رتبة الأمرين واقتضائهما، مع عدم ارتفاع غائلة تعلّق الأمر بالضدّين بذلك(1).

ويرد عليه نظيرُ ما ورد على سابقه بتقريب: أنّ سدّ باب العدم على تقييد الأمر بالمهمّ بفعليّة الأمر بالأهمّ من ناحية تطارد الأمرين بتعدّد الرتبة لا يُجدي في جوازه، وإن أجدى في التقييد بالعصيان فرضاً؛ لأنّ وجود الشيء مشروطٌ بسدّ جميع أبواب العدم عليه، فإنّ تحقّق الشيء مرهونٌ بوجود علّته التامّة، ولا تحصل إلاّ بسدّ جميعها عليه، بخلاف عدمه الذي يكفي فيه انفتاح بابٍ واحدٍ من أبواب العدم ولو مع سدّ جميع الأبواب الأخر، فسدّ باب العدم على التقييد بالفعليّة من ناحية تزاحم الاقتضاءين بتعدّد الرتبة لا يُجدي ما لم ينسدّ باب العدم من النواحي الأخر، كلزوم اللغويّة؛ إذ يكون الأمر بالأهمّ لغواً؛ لعدم صلاحيّته للمحركيّة والباعثيّة فيلغو جعله، بل يستحيل انقداح الداعي لجعله في نفس المولى؛ لوجود المانع عن الانبعاث نحوه عند فعليّته - وهو الأمر بضدّه - والمانع الشرعيّ كالعقليّ، فكما يستحيل انقداح الداعي الحقيقيّ للأمر الجديّ بالمحال العقليّ، كذلك يستحيل انقداح الداعي للأمر بالمحال الشرعيّ.

ص: 78


1- بحوث في علم الأصول 2: 339.

وعليه: فلا يصحّ النقض على الأمر الترتّبي المنوط بالعصيان بالأمر الترتّبي المنوط بالفعليّة؛ لإمكان التفريق بينهما بإمكان الأوّل، لإجداء تعدّد الرُتب وعدم اللغويّة، واستحالة الأخير للغويّة.

وسوق باقي الكلام فيه كسوقه فيما تقدمه.

النقض بتقييد الأمر بالمهمّ بامتثال الأمر بالأهمّ

سادساً: ما في (المباحث) - أيضاً - من النقض بما إذا قُيّد الأمر بالمهمّ بامتثال الأمر بالأهمّ لا بعصيانه، فإنّ تعدّد الرتبة لا يُجدي حتّى عند القائل بالترتّب(1).

وأجاب عنه بقوله: «بإنّه على تقدير إتيان الأهمّ يكون فعل المهمّ غير مقدورٍ في نفسه؛ إذ الضدّ المقيّد بوجود الضدّ الآخر ممتنعٌ، فيكون الأمر به أمراً بالممتنع في نفسه، بخلاف الأمر بالضدّ حالَ ترك ضدّه؛ إذ هو مقدورٌ في نفسه»(2).

وفيه: إنّ مقدوريّة فعل الشيء - أي المهمّ - حالَ ترك الضدّ - أي الأهمّ - إنّما تتمّ لو أخذ مطلقاً وبما هو هو، أمّا لو أخذ بما أنّه مأمورٌ بضدّه - الأهمّ - فلا فرق بين الحالين في استحالة الشيء - أي المهمّ - لوجود المانع عنه، وهو الأمر بضدّه الأهمّ.

نعم، عدمُ قدرة المكلّف على إتيان المهمّ - حين ترك الأهمّ - شرعيّ، أمّا

ص: 79


1- بحوث في علم الأصول 2: 339، وفيه: «النقض بما إذا قيّدنا الأمر بالمهمّ بامتثال الأهمّ لا بعصيانه، فإنّه سوف تكون رتبة الأمر بالمهمّ متأخّرة عن رتبة الأمر بالأهمّ، مع أنّه لا إشكال في استحالته حتّى عند القائل بإمكان الترتّب».
2- بحوث في علم الأصول 2: 339.

عدمُ قدرته عليه - حين الإتيان بالأهمّ - فهو عقليّ، لكن ذلك لا يكون فارقاً؛ لأنّ المانع الشرعيّ كالعقليّ، وليس عدمُ القدرة شرعاً باعتبار اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه، بل باعتبار داعويّة الأمر بالأهمّ إلى امتثاله وصَرفه قدرة المكلّف نحوه، فلا يبقى للمكلّف قدرةٌ شرعيّةٌ لصَرفها في الإتيان بالمهمّ.

وبعبارةٍ أخرى: داعويّة الأمر بالأهمّ إلى امتثاله مساوقةٌ لإفناء موضوع الأمر بالمهمّ - شرعاً - فيكون تقريب الأمر بالأهمّ للمكلّف نحو امتثاله مساوقاً للتبعيد عن امتثال الأمر بالمهمّ.

هذا ولكن سيأتي في أدلّة الإمكان عدمُ مانعيّة الأمر بالأهمّ عن المهمّ، فالكبرى - وهي أنّ المانع الشرعيّ كالعقليّ - وإن كانت مُسلّمةً، إلاّ أنّ صغرويّة المقام لها واندارجها تحت موضوع المانع ممنوعةٌ، فتأمل.

نزول الأمر بالأهمّ إلى مرتبة الأمر بالمهمّ

سابعاً: ما في (المباحث) أيضاً من: «أن الأمر بالمهمّ وإن لم يكن يصعد إلى مرتبة الأمر بالأهمّ، ولكن الأمر بالأهمّ ينزل إلى مرتبة الأمر بالمهمّ، فإنّ العلّة وإن كانت أقدم من المعلول رتبةً، لكن معنى ذلك عدم تقيّد العلّة بالرُتبة المتأخّرة، لا أنّه مُتقيّدٌ بالرتبة المتقدّمة، بل لها إطلاق؛ فيلزم فعليّة الاقتضاءين في الرتبة المتأخّرة»(1). انتهى.

وفيه: أنّه لا يُعقل تجافي المتقدّم عن رتبته، ليكون في المرتبة المتأخّرة - كما هو في المرتبة المتقدّمة - بداهة أنّه لا يكون التقدّم والتأخّر إلاّ لملاكٍ

ص: 80


1- بحوث في علم الأصول 2: 341.

يقتضيهما، ومع حصول ملاك التقدّم في الشيء لا يُعقل أن يحصل فيه ملاك التأخّر أيضاً؛ إذ هو جمعٌ بين المتنافيين، كيف لا؟ والرتبة هي نحوُ وجود الشيء - على ما سبق - فما اتصف بنحوٍ من الوجود كيف يكون موصوفاً بنحوٍ آخر منه؟

فمثلاً: ملاكُ التقدّم بالطبع أن لا يكون للمتأخّر وجودٌ إلا وللمتقدّم وجودٌ، ولا عكس، فإنّه يُمكن أن يكون للمتقدّم وجودٌ وليس للمتأخّر وجودٌ، كالواحد والكثير، فإنّه لا يُمكن أن يكون للكثير وجودٌ إلاّ والواحد موجودٌ، ويُمكن أن يكون الواحد موجوداً والكثير غير موجودٍ، فوجود المتقدّم بالطبع في الرُتبة المتأخّرة مساوقٌ لتوقّف الوجود عليه - بمقتضى كونه في الرُتبة المتقدّمة - وعدم توقّفه عليه - بمقتضى كونه في الرتبة المتأخّرة - كما أنّ وجود المتقدّم بالعلّية في الرُتبة المتأخّرة مساوقٌ لاستناد الوجوب إليه وعدم استناده إليه، وهو تهافت.

نعم، لو لم يُرَد بالرُتبة: الرُتبة العقليّة، بل المعيّة الوجوديّة الخارجيّة أمكن اجتماع المتقدّم مع المتأخّر، كالعكس، لكنّه لا يُجدي في دفع كلام النهاية لكون مُفاده: أنّ اجتماع الأمرين في الوجود غير ضائرٍ بعد التعدّد الرُتبيّ العقليّ فيما بينهما.

والحاصل: أنّه إن أريد الرُتبة العقليّة الاصطلاحيّة فلا مُحصّل له، وإن أريد الرُتبة الوجوديّة الزمانيّة فلا يُجدي؛ إذ المحقّق الإصفهاني لم يُنكر - فيما نقله - اجتماع المتقدّم مع المتأخّر في الزمان، بل تَمسّك باختلاف رتبة الأمرين لدفع محذور التطارد بينهما.

ومن هنا يُعلم أنّه لابدّ من أن يُراد بالمرتبة في كلام صاحب الكفاية (قدس سره) :

ص: 81

التقدير لا الرُتبة الاصطلاحيّة، فيكون مُفاد كلامه: أنّه على تقدير امتثال الأمر بالأهمّ لا يتحقّق التطارد بين الأمرين؛ لعدم وجود الأمر بالمهمّ؛ لانتفاء موضوعه، أمّا على تقدير العصيان فيتطارد الأمران لاجتماعهما في مرتبةٍ وجوديةٍ واحدة.

الإيراد الثاني

الإيراد الثاني(1)

ثانيها: ما نقله (في المباحث) من: «أنّ الأمر بالمهمّ معلولٌ لعصيان الأهمّ، وسقوط الأهمّ أيضاً معلولٌ لعصيان الأهمّ - أو ما هو لازمه، وهو انتفاء الموضوع ولو بنحو الشرط المتأخّر - لأنّ العصيان كالامتثال سببٌ للسقوط، فالأمر بالمهمّ مع سقوط الأهمّ في رتبةٍ واحدةٍ؛ لأنّهما معلولان لشيءٍ واحدٍ، ففي رتبة الأمر بالمهمّ لا أمر بالأهمّ كي يقتضي الامتثال، فلا يتنافى الأمران»(2).

ولا يخفى أنّ هذا الإيراد ليس مسوقاً بلحاظ الزمان ليُورَد عليه بأنّ تحقّق موضوع الترتّب منوطٌ بتعاصر فعليّة الأمرين، فسقوط الأمر بالأهمّ حين فعليّة الأمر بالمهمّ خروجٌ عن موضوع الترتّب، بل هو مسوقٌ بلحاظ الرُتَب التحليليّة العقليّة مع تعاصر فعليّة الأمرين خارجاً.

ولكن يرد عليه:

أوّلاً: ما سبق من أنّ ملاك التضادّ هو المعيّة الوجوديّة، فالاختلاف الرُتبيّ لا يدفع التضادّ، بعد تحقّق المعيّة الوجوديّة الخارجيّة.

ص: 82


1- ([1] ) على الوجه الأوّل الذي ذكره المحقق الخراساني، وقد مرّ تحت عنوان: (تطارد الطلبين).
2- بحوث في علم الأصول 2: 341.

ثانياً: إنّ سقوط الأهمّ ليس معلولاً لعصيان الأهمّ، كما أنّه ليس معلولاً لفوات الموضوع.

أمّا الدعوى الأولى: فلما سيأتي - إن شاء اللّه تعالى - من عدم علّية العصيان لسقوط الأمر.

وأمّا الدعوى الثانية: فلعدم العلّية في الأعدام، وواقعُ الأمر هو انتفاء العُلقة العلّية بين وجود الموضوع - بالمعنى الأعمّ - وثبوت الأمر بالأهمّ، فالتعبير بكون انتفاء الموضوع علّةً لسقوط الأمر بالأهمّ ليس حقيقيّاً، بل هو مسوقٌ على سبيل التقريب والمجاز.

ثالثاً: سَلّمنا كون سقوط الأهمّ معلولاً لفوات الموضوع، لكن انتفاء الموضوع ليس لازماً للعصيان، بل العصيان مُصاحِبٌ اتفاقيٌّ لفوات الموضوع، وقد تُقرّر - في محلّه - أنّ الرُتب لا تقتنص بالملازمة الدائميّة، فكيف بالصحابة الاتفاقيّة؟ فعلّية الفوات للسقوط لا تقتضي علّية العصيان - المُلازم له - للسقوط.

اللّهم إلاّ أن يُقال: بكفاية اتحاد المعاليل في طبيعيّ الرُتبة، وإن لم تتّحد في شخصها، فالأمر بالمهمّ وسقوط الأمر بالأهمّ وإن لم يكونا معلولي علّةٍ واحدةٍ ليكونا في رتبةٍ شخصيّةٍ واحدةٍ، إلاّ أنّ كونهما معلولين - ولو لعلّتين مختلفتين - يُسبغ عليهما وحدة الرُتبة؛ إذ كلاهما في رتبةٍ معلوليّةٍ لاحقةٍ، كما أنّ علّيتهما في رتبةٍ متقدّمةٍ سابقةٍ، فتأمّل.

رابعاً: لو سُلّم كون سقوط الأهمّ معلولاً لانتفاء الموضوع اللازم للعصيان لم يُجدِ في المقام، ضرورة تأخّر المعلول عن علّته واللازم عن ملزومه، فيكون سقوط الأهّم متأخّراً عن عصيان الأهمّ برتبتين، والمفروض أنّ

ص: 83

وجود المهمّ متأخّر عن عصيان الأهمّ برتبةٍ واحدةٍ - لمكان أخذه فيه - فيجتمع الأمران في الرُتبة السابقة على سقوط الأمر بالأهمّ.

الإيراد الثالث

ثالثها: ما نقله في (المباحث) من: «أنّ ترتّب الأمر بالمهمّ على عصيان الأمر بالأهمّ المترتّب على الأمر بالأهمّ مانعٌ عن مزاحمته له؛ إذ ما يكون وجوده في طول وجود شيءٍ آخر يستحيل أن يكون مانعاً عنه ورافعاً له؛ لأنّه إن كان مانعاً في ظرف عدمه لزم مانعيّة المعدوم، وإن كان مانعاً في ظرف وجوده فظرف وجوده هو ظرف ثبوت الأوّل في رتبةٍ سابقةٍ فمانعيّته عنه خُلفٌ، بل تستلزم أن يكون مانعاً لنفسه، وعليه إذا لم يكن الأمر بالمهمّ طارداً للأمر بالأهمّ فلا وجه لفرض العكس؛ لأنّ ملاك المطاردة هو التضادّ، ولو كان لتحقّقت المطاردة من الطرفين»(1).

ويرد عليه أمور:

الأوّل: عدم تسليم الطوليّة بين الأمر بالأهمّ، وعصيان الأمر بالأهمّ؛ لأنّ العصيان معلولٌ لعلَلِه التكوينيّة الخاصّة، ولا يقع الأمر بالأهمّ في سلسلة تلك العِلَل عادةً.

وهذا الجواب يصحّ فيما لو أريد بالعصيان مجرّد الترك، وأمّا لو أريد به الترك بما هو موصوفٌ بكونه عصياناً ومخالفةً لأمر المولى فلا؛ إذ المعصية الانتزاعيّة في طول الأمر بالأهمّ، باعتبار تقدّمه عليها بالطبع؛ إذ لا تحقّق لها بدونه، مع إمكان تحقّقه بدونها، وقد سبق ذلك.

ص: 84


1- بحوث في علم الأصول 2: 342.

الثاني: إنّ وجود نسبة التضادّ بين شيئين يمنع العلّية بينهما؛ لأنّ رابطة العلّية مُستلزمةٌ للتعاصر الزمنيّ بين العلّة والمعلول، فيلزم منها فيهما اجتماعُ الضدّين في آنٍ واحدٍ، وهو محال. هذا في العلّة التامّة.

وأمّا في غيرها فكذلك مع وجود ما رُتّب عليه غيره - كما هو كذلك في المقام - والأمر بالأهمّ وإن لم يُضادّ الأمر بالمهمّ بالذات، لكنّه يضادّه بالعرض لكونه معلولاً لعلّةٍ مضادّةٍ لعلّة الأمر بالمهمّ - وهي إرادة الأهمّ التي تُضادّ إرادة المهمّ - ولا يُعقل أن يكون معلولُ علّةٍ مُضادّةٍ لعلّة معلولٍ آخر واقعاً في سلسلة علل ذلك المعلول الآخر؛ لأنّه يستلزم اجتماع الضدّين بالنتيجة، بمُقتضى ارتهان وجود كلّ معلولٍ بوجود علّته.

وبعبارةٍ أخرى: تضادّ الإرادتين - تبعاً لتضادّ المتعلّقين - يستتبع تضادّ الحُكمين بالعرض، فكيف يقع أحدهما في سلسلة علل الآخر؟

ومنه ينقدح عدم خلوّ هذا الوجه - المنقول في (المباحث)(1) - عن المصادرة؛ إذ مُدّعى صاحب الكفاية (قدس سره) هو: مانعيّة التضادّ في المقام عن الترتّب، فرَدّه برافعيّة الترتّب للتضادّ مصادرةٌ، واختبر ذلك فيما لو أريد رفع التضادّ بين السواد والبياض مثلاً بترتّب أحدهما على الآخر؛ إذ مدّعي التضادّ يمنع وقوع الترتّب، ومع عدم وقوع الرافع لا يُعقل الرفع بمقتضى قاعدة الفرعيّة.

هذا ولكن سيأتي عدم تحقّق التضادّ بين الأمرين في أدلّة القول بالإمكان، إن شاء اللّه تعالى.

ص: 85


1- بحوث في علم الأصول 2: 342.

وأمّا الإيراد على هذا الوجه - المنقول في (المباحث)(1) - باستلزامه للدور بتقريب: أنّ الترتّب موقوفٌ على عدم التضادّ، فتوقّف عدم التضادّ عليه دوريٌّ؛ ففيه: أنّ نحوَي التوقّف مختلفان، فأحدهما ثبوتيٌّ والآخر إثباتيٌّ ولا مانع منه، نظير توقّف الدخان على النار - ثبوتاً - مع توقّفها عليه إثباتاً، ونحوه جميع البراهين الإنيّة التي يُنتقل فيها من المعلول إلى العلّة.

الثالث: إنّه كما يصحّ نعتُ كلٍّ من الضدّين بالمطاردة لو لوحظا بما هما، كذلك يصحّ نعتُ أحدهما المعيّن بالطرد للآخر لو لوحظ سبقُه في الوجود - لأهمّيةٍ أو غيرها - إذ الضدّ السابق في الوجود يمنع ضدّه من التحقّق ما دام موجوداً. نعم، يُمكن أن يرتفع - بارتفاع علّته - فيحلّ محلّه بديلُه.

والأمر كذلك فيما نحن فيه؛ إذ انقداح إرادة الأهمّ في نفس المولى مانعٌ عن انقداح إرادة المهمّ في نفسه - لسراية التضادّ من المتعلّقين إلى الإرادتين - فلا يكون معه له مجال أصلاً.

وعلى هذا: ففرض التطارد بين الإرادتين مبنيٌّ على ملاحظتهما بما هما هما، وفرض الطرد مبنيٌّ على ملاحظة انقداح إرادة الأهمّ المانعة عن انقداح إرادة المهمّ، وهذا الأمر مُطّردٌ في جميع الأضداد، فقولنا: (السواد والبياض متطاردان) مبنيٌّ على ملاحظتهما بما هما هما، وقولنا: (السواد طارد للبياض) مبنيٌّ على ملاحظة وجوده المانع من تحقّق ضدّه، ما دام موجوداً.

ولعلّ المشكيني (رحمه اللّه) نظر إلى الفرض الأوّل، حيث منع الطرد من جانبٍ واحدٍ بقوله: «إنّ عدمَ طردِ طلبِ المهمّ لطلب الأهمّ مع طرده له فرضٌ غير

ص: 86


1- بحوث في علم الأصول 2: 342.

متحقّق، لأنّه إذا فُرض طردُ طلب الآخر فلا محالة يحصل الطردُ من الآخر أيضا»(1)، فتأمّل.

وأمّا ما نقله المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في تصوير الطرد من طرف الأمر بالأهمّ فقط من «أنّ تماميّة اقتضاء الأمر بالمهمّ حيث إنّها بعد سقوط مقتضي الأهمّ عن التأثير فلا يُعقل أن يُزاحمه في التأثير، لكنّ الأمر بالأهمّ لم يسقط بعدم التأثير عن اقتضائه للتأثير؛ ولذا لا يسقط الأمر بالأهمّ بمقارنة عصيانه، بل بمُضيّ زمانه، فحيث إنّه بعدُ يقتضي التأثير، فيزاحم المقتضي الآخر في التأثير»(2).

ففيه: أنّه إن أريد بالبَعديّة في قوله: «إنّ تماميّة اقتضاء الأمر بالمهمّ حيث إنّها بعد سقوط مقتضي الأهمّ عن التأثير» البَعديّة الزمانيّة فهو خروجٌ عن موضوع الترتّب؛ لاشتراط تعاصر الفعليّتين فيه، وإن أريد البَعديّة الرُتبيّة فلا يُجدي في ما رامه؛ إذ الأمران إن كانا ضدّين كان التطارد بينهما من الجانبين، وإن لم يكونا ضدّين لم يكن طردٌ أصلاً - ولو من قِبَل أحدهما للآخر - فلا وجه لفرض الطرد من جانب الأهمّ فقط.

وبتقريرٍ آخر: إنّه إن أريد إناطة اقتضاء الأمر بالمهمّ بسقوط الأمر بالأهمّ عن اقتضاء التأثير فهو ممنوعٌ؛ لخروجه بذلك عن موضوع الترتّب، وإن أريد إناطته بسقوطه عن فعليّة التأثير فهو مُسلّم، لكنّه يستلزم تعاصر الأمرين، فإمّا أن يكون التطارد من الجانبين، وإمّا أن لا يكون ثمّة طردٌ أصلاً.

ص: 87


1- كفاية الأصول (المحشّی) 2: 40.
2- نهاية الدراية 1: 477.

هذا مضافاً إلى ما ذكره المحقّق الإصفهاني (قدس سره) بقوله: «إنّ المقتضي وإن كان في طرف الأهمّ موجوداً، لكنّه لا يُترقّب منه فعلية التأثيّر بعدم مقارنته لعدم التأثير، وإلاّ لزم الخُلف أو الانقلاب أو اجتماع النقيضين، وما لا يُترقّب منه فعليّة التأثير لا يُزاحِم ما له إمكان فعليّة التأثير بحيث لا يمتنع تأثيره ذاتاً ووقوعاً وبالغير»(1)، فتأمّل.

ثمّ إنّ كلّية ما ذُكر في هذا الجواب - المنقول في المباحث - من استحالة مانعيّة ما يكون وجوده في طول وجود شيءٍ آخر عنه لا تخلو من نظر؛ وذلك لأنّ الطوليّة بين شيئين أعمٌّ من العلّية بينهما؛ إذ ما يكون في طوله آخر إن كان بحيث يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم فهو علّةٌ والآخر معلول، وإن كان بحيث يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود فالآخر في طوله بلا علّيةٍ ومعلوليةٍ، فما يكون في طوله آخر - بدون وجود العلقة العلّية بينهما - يُمكن - في الجملة - طُروّ العدم عليه حالَ وجود الآخر، كما يُمكن مانعيّة الآخر عنه؛ لعدم ارتهان وجوده ببقائه، فلا يلزم منها الخُلف، ولا مانعيّة الشيء لنفسه. وقد يُمثّل للأوّل بالكون في المقصد، فإنّه في طول التحرّك نحوه مع طُروّ العدم عليه حال وجود الكون فيه - لانتهاء أمده - وللثاني: بإعدام المُعدّ له للمُعدّ الموجود، فتأمّل.

الإيراد الرابع

رابعها: ما نقله في نهاية الدراية، وحاصله: «إنّ وجود كلّ شيءٍ طاردٌ لجميع أعدامه المضافة إلی أعدام مقدّماته أو وجود أضداده، فطلب مثل

ص: 88


1- نهاية الدراية 1: 477.

هذا الوجود يقتضي حفظ متعلّقه من قبل مقدمات وجوده وعدم أضداده بقولٍ مطلقٍ، وفي هذه الصورة يستحيل الترخيص في مقدّمةٍ من مقدّماته، أو وجود ضدٍّ من أضداده، بخلاف ما إذا خرج أحدُ أعدامه عن حيّز الأمر - إمّا لكونه قيداً لنفس الأمر، أو بأخذ وجوده من باب الاتفاق - فإنّه لا يكون العدم من قِبَل هذه المقدّمة مأموراً بطرده، بل المأمور بطرده عدمُه من قِبَل غيره.

وعليه: فالأمر بالأهمّ يرجع - لمكان إطلاقه - إلى سدّ باب عدمه من جميع الجهات حتّى من قِبَل ضدّه المهمّ، والأمر بالمهمّ - لترتّبه على عدم الأهمّ - يرجع إلى سدّ باب عدمه في ظرف عدم انسداد باب عدم الأهمّ من باب الاتفاق، ولا منافاة بين قيام المولى بصدد سدّ باب عدم الأهمّ مطلقاً، وسدّ باب عدم المهمّ في ظرف انفتاح باب عدم الأهمّ من باب الاتفاق، فالأمر بالمهمّ حيث إنّه تعلّق بسدّ باب عدم المهمّ في ظرف انفتاح باب عدم الأهمّ من باب الاتفاق، فلا مُحرّكية له نحو طرد عدم المهمّ إلاّ في ظرف انفتاح باب عدم الأهمّ اتفاقاً.

وبتعبيرٍ آخر: إنّ عدم المعلول مع وحدته يُتصوّر له حصصٌ، حيث إنّه تارةً يستند إلى عدم المقتضي، وأخرى إلى عدم الشرط، وثالثة إلى وجود الضدّ، فربّما يكون العدم المطلق بجميع حِصَصه مأموراً بطرده، وربما يكون ببعض حِصَصه ووجود كلّ ماهيّة، وإن لم يُعقد إلاّ بسدّ باب عدمه بجميع حِصَصه؛ لأنّ الوجود الواحد ليس له حيثٌ وحيثٌ لتكون الماهيّة الواحدة موجودةً من حيثيّةٍ ومعدومةً من حيثيّةٍ، لكنّه ربّما يكون باب عدمه من حيثيّةٍ منسدّاً من باب الاتفاق، أو يُفرض سدّه فيُؤمر بسدّ عدمه بسائر

ص: 89

حِصَصه، فإذا كانت الحصّة المُلازمة لوجود الضدّ مأموراً بطردها من الطرفين كان مرجع الأمرين إلى الأمر بطرد الحصّتين المتقابلتين وهو محال، وأمّا لو كان الأمر في أحد الطرفين بسدّ باب العدم وطرده بسائر حِصَصه في ظرف انفتاح باب عدم الحصّة المُلازمة لوجوده، فلا أمر بطرد الحصّتين المتقابلتين»(1).

وقال المحقّق العراقي (قدس سره) في نهاية الأفكار - ضمن كلام له - : «إنّ عمدة المحذور في عدم جواز الأمر بالضدّين هو لزوم إيقاع المكلّف فيما لا يُطاق بلحاظ اقتضاء كلّ واحدٍ من الأمرين لصَرف القدرة نحو متعلّقه، ومن المعلوم أنّ هذا المحذور إنّما يكون إذا كان كلّ واحدٍ من الأمرين تامّاً بنحوٍ يقتضي حفظ متعلّقه على الإطلاق حتّى من ناحية ضدّه، أمّا لو كانا ناقصين أو كان أحدهما تامّاً والآخر ناقصاً بنحوٍ لا يقتضي إلاّ حفظ متعلّقه من قِبَل مقدّماته وأضداده غير هذا الضدّ فلا محذور أصلاً، حيث لا يكون مطاردة بين الأمرين في مرحلة اقتضائهما حتى يكون منشئاً لتحيّر العقل، ويصدق أنّ المولى من جهة أمره أوقع المكلّف فيما لا يُطاق؛ وذلك لأنّ الأمر بالأهمّ حسب كونه تامّاً وإن اقتضى حفظ متعلّقه على الإطلاق حتّى من ناحية ضدّه فيقتضي حينئذٍ إفناء المهمّ أيضاً، ولكن اقتضائه لإفناء المهم إنّما هو بالقياس إلى حدّه الذي يُضاف عدمه إليه لا مطلقاً حتّى بالقياس إلى حدوده الأخر التي لا تُضادّ وجود الأهمّ.

وحينئذٍ فإذا لم يكن الأمر بالمهمّ - حسب نقصه - مقتضياً لحفظ متعلّقه

ص: 90


1- نهاية الدراية 1: 454-455.

على الإطلاق حتّى من الجهة المضافة إلى الأهمّ، بل كان اقتضاؤه للحفظ مختصّاً بسائر الجهات والحدود الأخر غير المنافية مع الأهمّ في ظرف انحفاظه من باب الاتفاق من قِبَل الأهمّ فلا جَرَم ترتفع المطاردة بينهما، حيث إنّ الذي يقتضيه الأمر بالأهمّ من إفناء المهمّ بالقياس إلى الحدّ المضاف عدمُه إليه لا يقتضي الأمر بالمهمّ خلافه، وما اقتضاه الأمر بالمهمّ من إيجاب حفظ متعلّقه من سائر الجهات الاُخر لا يقتضي الأمر بالأهمّ إفنائه من تلك الجهات، فأمكن حينئذٍ الجمع بين الأمرين...».(1)

ويرد على التقرير الأول - الذي أفاده المحقّق الإصفهاني - أمور:

الأوّل: إنّ وجود الشيء وإن كان طارداً لجميع أعدامه المضافة إلى أعدام مقدّماته أو وجود أضداده، إلاّ أنّ طلب مثل هذا الوجود لا يقتضي طلب طرد تلك الأعدام؛ لأنّ الأمر الشرعيّ - المتعلّق بإيجاد الأهمّ أو المهمّ - شيءٌ وحدانيٌّ لا تكثّر فيه(2)، حسب ما قُرّر في مسألتي (الضدّ) و (مقدّمة الواجب)، فقياس الطلب الاعتباريّ بالوجودات التكوينيّة لا يخلو من نظر.

اللّهم إلاّ أن يُراد بالاقتضاء: العقليّ لا الشرعيّ، ويُساق البرهان المزبور بلحاظه، لا بلحاظ الاقتضاء الشرعيّ.

الثاني: إنّ محذور الأمر بطرد الحصّتين المتقابلتين جارٍ في الأمر الترتّبي أيضاً؛ وذلك لعدم سقوط الأمر بالأهمّ بعصيانه - ما لم يفُت الموضوع بعدُ كما هو المفروض في المقام - ففي ظرف العصيان يكون طلب الأهمّ

ص: 91


1- نهاية الأفكار 1: 370.
2- بداية الوصول 2: 382.

مُستلزماً لسدّ باب عدمه بجميع حِصَصه، ومنها الحصّة المُلازمة لوجود الضدّ المهمّ، ومن الواضح أنّ طرد عدم الشيء لا يتحقّق إلاّ بطرد ضدّ ذلك الشيء، فيكون المهمّ مأموراً بطرده، وهكذا الأمر في طرف المهمّ، فيكون كلٌّ منهما مأموراً بطرده، لكن لا مطلقاً، بل في هذه الحالة.

ولا فرق في استحالة الشيء - أو قبحه - بين لزومهما على كلّ تقدير، كما في الأمر بالضدّين مطلقاً، أو على تقديرٍ دون تقديرٍ، كما في الأمر المسوق على سبيل الترتّب؛ إذ المحاليّة وصفٌ لازمٌ للمحال فلا ينفك عنه أبداً، فلا يُعقل أن يتحقّق ولو على بعض التقادير، كما لا يخفى.

وعلى هذا فقول المحقّق الإصفهاني: «لا مُنافاة بين قيام المولى...» إن أريد به عدم المُنافاة مطلقاً ففيه: أنّ الموجبة الجزئيّة نقيض السالبة الكلّية، والمُنافاة متحقّقةٌ على تقدير العصيان، وإن أريد به عدم المُنافاة المطلقة ففيه: أنّ عدمها لا يكفي في الحكم بالإمكان؛ إذ لزوم المحذور أحياناً كافٍ في الحُكم بالاستحالة.

وفيه: أنّ الأمر بطرد عدم المهمّ مشروطٌ بعصيان الأهمّ، ففي ظرف انعدام الأهمّ يكون المهمّ مأموراً بطرد عدمه، ومن المُقرّر أنّ المشروط لا ينقلب مطلقاً، مطلقاً ولو بعد تحقّق شرطه، وعلى هذا يكون الأمر بطرد الأهمّ - الذي هو بابٌ من أبواب عدم المهمّ - تحصيلاً للحاصل؛ إذ أخذ وجوب المهمّ في ظرف عدمه، فلا يُعقل الأمر بطرده، فلا يكون ثمّة أمرٌ بطرد الحصّتين المتقابلتين ولو في تقدير العصيان.

اللّهم إلاّ أن يُقال: إنّه وإن صحّ ذلك بلحاظ الأمر الشرعيّ، إلاّ أنّه لا

ص: 92

يصحّ بلحاظ الأمر العقليّ الواقع في سلسلة معاليل الأمر الشرعيّ؛ إذ العقل بعد تحقّق شرط الواجب المشروط يأمر به منجّزاً بلا تعليق، فيلزم من الأمر الترتّبي الشرعيّ أمر العقل بطرد الحصّتين المتقابلتين، وهو محال، فتأمّل.

الثالث: لو فرض عدم استلزام الأمر الترتّبي للأمر بطرد الحصّتين المتقابلتين، لكن يلزم منه حصول التناقض بين الأمر بالمهمّ - عند تحقّق مقدّم شرطيّة وجوب المهمّ - والأمر بطرد عدم الأهمّ مطلقاً، ولو كان عدمه معلولاً لوجود المهمّ، فعند تحقّق مقدّم الشرطيّة يكون المهمّ مأموراً به - لمكان تحقّق شرطه - ومنهيّاً عنه؛ لأنّ الأمر بالأهمّ - المفروض عدم سقوطه بمجرد العصيان - يقتضي حفظ متعلّقه من جميع الجهات حتّى من قِبَل وجود ضدّه المهمّ، فيكون المهمّ منهيّاً عنه؛ لأنّه بابٌ من أبواب عدم الأهمّ، فيكون المهمّ مصبّاً لاجتماع الحُكمين المتضادّين، وهو محال.

الرابع: إنّ استحالة الأمر بطرد الحصّتين المتقابلتين المتحقّق في مورد الأمر بطرد عدم الأهمّ مطلقاً، ولو كان معلولاً لوجود المهمّ، وعدم المهمّ مطلقاً، ولو مع نشوئه من وجود الأهمّ، وبعبارةٍ أخرى: الأمر بالضدّين مطلقاً المُستلزم بناءً على الاقتضاء للأمر بطرد عدمهما مطلقاً ليست بالذات، بل هي استحالةٌ عرضيّةٌ تنشأ من أنّه تكليفٌ بالمحال؛ لعدم قدرة المكلّف على الجمع بين الضدّين، وهذا محذورٌ في المنتهى، ومن أنّه تكليفٌ محالٌ لعدم تعلّق الإرادة ومبادئها بالمتضادّين، بسبب سراية التضادّ من المراد إلى الإرادة، وهذا محذورٌ في المبدأ، ولا فرق في ترتّب هذا المحذور في نظر العقل بين الأمر بالضدّين مطلقاً، أو على سبيل الترتّب لوحدة الملاك في الاثنين، فتأمّل.

الخامس: إنّ ملازمة وجود المهمّ لعدم الأهمّ - المنهيّ عنه حسب

ص: 93

الفرض - مقتضيةٌ - على الأقل - لكون وجود المهمّ غير محكوم ٍ بحكم ٍ أصلاً؛ لاستحالة اختلاف المُتلازمين في الحكم على ما قُرّر في محلّه، فلا يُمكن أن يكون وجود المهمّ متعلّقاً للوجوب الترتّبي، فتأمّل.

ويرد على التقرير الثاني - الذي أفاده المحقّق العراقي - مضافاً إلى بعض ما تقدّم: أنّه وإن كان للعقل أن ينتزع من المتعلّق حيثيّات وجهات متعدّدة، وأن يُحلّل الأمر الشرعيّ الواحد إلى أوامر متعدّدة - بمقتضى استلزام إرادة العقل للشيء مجموعةً من الإرادات الجزئيّة المتعلّقة بطرد أعدامه المضافة إلى أعدام مقدّماته أو وجود أضداده - إلاّ أنّ التكثير العقليّ - للمتعلّق أو الأمر - لا يستلزم تكثّر الشيء خارجاً، فإنّ تعدّد الجهات التحليليّة العقليّة لا يثلم الوحدة الخارجيّة للشيء، بداهة إمكان انتزاع عناوين متعدّدة من وجودٍ واحدٍ خارجيٍّ دون أن تنثلم بذلك وحدته الخارجيّة، كما في مفاهيم صفات الجمال والجلال في الواجب، وعناوين المعلوم والمقدور ونحوها في الممكن، ومع انحفاظ الوحدة الخارجيّة للمتعلّقين لا يُجدي تعدّد الجهات الانتزاعيّة في دفع التضادّ القائم بينهما، فيسري التضادّ من المتعلّقين إلى الطلبين، فلا يصحّ الأمر بهما ولو على سبيل الترتّب، فما يظهر من المحقّق العراقي (قدس سره) من تكثير جهات المهمّ، ودفع التنافي بين الأمرين بذلك لا يخلو من تأمّل.

مع أنّه لو فُرض استلزام تعدّد العناوين والحيثيّات لتعدّد المُعنون لم يُجدِ ذلك أيضاً، لمكان التركيب الانضماميّ بين المُعنونات، وهو مانعٌ عن الأمر الترتّبي بالضدّين، كيف لا؟ وقد ذكروا استحالة اختلاف المُتلازمين في الحكم، مع عدم وجود التركيب بينهما، فكيف بالمتّحدين؟

ص: 94

الإيراد الخامس

خامسها: ما أورده صاحب الكفاية (قدس سره) على نفسه قال: «لا يُقال: نعم، ولكنّه بسوء اختيار المكلّف، حيث يعصي فيما بعدُ بالاختيار، فلولاه لما كان متوجّهاً إليه إلاّ الطلب بالأهمّ، ولا برهان على امتناع الاجتماع إذا كان بسوء الاختيار...»(1).

وفي (الوصول) التمثيل للفقرة الأخيرة من كلام صاحب الكفاية (قدس سره) : بما لو توسّط الدار المغصوبة؛ إذ حينئذٍ يتوجّه إليه خطابا: (لا تغصب في الخروج عن الدار)، و (لا تغصب في البقاء في الدار) فيكون كلٌّ من بقائه وخروجه مُحرّماً، مع أنّه لا يتمكّن إلاّ من أحدهما، فتحريم كليهما تحريمٌ للضدّين اللذين لا ثالث لهما، ممّا لا يخلو المكلّف منهما على سبيل منع الخلوّ، فكما أنّ تحريم الضدّين الناشئ من سوء الاختيار غير مستحيلٍ كذلك طلب الضدّين الناشئ منه(2) ، انتهى.

ونحوه من أوقع نفسه في الاضطرار فدار أمرُه بين الموت جوعاً وأكل الحرام.

وفيه: أوّلاً: إن طلب المحال قبيحٌ على الحكيم مطلقاً، ولو كان بسوء الاختيار، والسبب في ذلك أنّ الأمر إنّما يُساق بداعي إيجاد الداعي في نفس العبد، ويستحيل إيجاد الداعي نحو المحال في نفس المكلّف؛ إذ الداعي إنّما يُمكن وجوده في ظرف الاختيار، ولا يُمكن ذلك بالنسبة إلى

ص: 95


1- كفاية الأصول: 134.
2- الوصول 2: 243.

المحال، فتأمّل.

ويشهد له قبحُ خطاب المولى عبدُه بالمحال ولو كان ذلك بسوء اختياره، فلو سقط العبد من شاهقٍ لم يصحّ للمولى نهيه حال السقوط عن الارتطام بالأرض - إذا لم يكن ذلك داخلاً تحت قدرته - ولو نهاه والحال هذه عُدّ عابثاً عند العقلاء.

نعم، لا مانع من نهيه عن ذلك من قبلُ؛ إذ المقدور بالواسطة مقدورٌ.

ولا فرق في ذلك بين كون الخطاب جزئيّاً شخصيّاً أو كلّياً قانونيّاً؛ إذ المحال - أو القبيح - لا ينقلب عمّا هو عليه بمجرّد تبديل صياغته اللفظيّة، فخطاب العاجز - مثلاً - حال عجزه قبيحٌ مطلقاً، سواء كان بتوجيه الخطاب الشخصيّ نحوه، أم بإدراجه تحت كلّيٍ يستوعبه ويعُمّه.

لا يُقال: الامتناع بالاختيار لا يُنافيه.

فإنه يُقال: أوّلاً: لا موضوع للقاعدة في المقام؛ لارتهان تحقّقه بعدم وجود المندوحة، وهي حاصلةٌ في المقام؛ إذ يُمكن للمكلّف أن يمتثل الأمر بالأهمّ ممّا ينتفي به موضوع الأمر بالمهمّ، فلا يكون ثمّة عصيانٌ أبداً، وعلى ذلك فلا امتناع في المقام.

وثانياً: إنّ الامتناع بالاختيار - وكذا الإيجاب به - وإن لم يُنافِ الاختيار عقاباً، إلاّ أنّه يُنافيه خطاباً، ولا ملازمة بين استحقاق العقاب وجواز الخطاب، فيُمكن ثبوت الأوّل وانتفاء الثاني.

ولا يُنافيه ما دلّ على عدم العقاب عند عدم بعث الرسول(1)؛ إذ انتفاء

ص: 96


1- إشارة لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} الإسراء: 15.

الفعليّة أعمّ من انتفاء الاستحقاق، ولفرض وجود الخطاب قبل طروّ العجز، ولأنّ الرسول يعمّ الحجّة الظاهرة والباطنة، فتأمّل.

هذا فيما كان الامتناع بالاختيار التسبيبيّ بأن كان الامتناع معلولاً لعلَلِه التكوينيّة الخارجة عن إرادة المكلّف - وإن انتهى بالآخرة إليها، كما في صورة تعجيز المكلّف نفسه عن امتثال الأمر - أمّا لو كان الامتناع بالاختيار المباشريّ بأن كان الامتناع بسبب اختيار العصيان فلا يُنافيه عقاباً ولا خطاباً، بداهة جواز تكليف الكفّار والعصاة - بل وقوعه - مع امتناع الإطاعة؛ لعدم وجود علَلِها الإراديّة، ومن المعلوم استحالة وجود المعلول بدون وجود علّته التامّة، إلاّ أنّ هذه الاستحالة لا تنفي استحقاق العقاب، ولا جواز الخطاب، كما هو واضح.

ولا يخفى أنّ المقام من قبيل الأوّل؛ إذ الجمع بين الضدّين محالٌ تكوينيٌّ، فتأمّل.

ثانياً: النقض بما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّه لو صحّ طلب الضدّين في صورة سوء اختيار العبد لصحّ طلب ذلك فيما عُلّق على أمرٍ اختياريٍّ في عرضٍ واحدٍ، بلا حاجةٍ في تصحيحه إلى الترتّب، مع أنّه محالٌ بلا ريب ولا إشكال(1).

مثاله: ما لو قال المولى للعبد: (إن زرت زيداً وجب عليك القيام والقعود

ص: 97


1- كفاية الأصول: 135، وفيه: «استحالة طلب الضدين ليس إلاّ لأجل استحالة طلب المحال، واستحالة طلبه من الحكيم المُلتفت إلى محاليّته، لا تختصّ بحالٍ دون حالٍ، وإلاّ لصحّ فيما عُلّق على أمرٍ اختياريٍّ في عرضٍ واحدٍ، بلا حاجةٍ في تصحيحه إلى الترتّب، مع أنّه محالٌ بلا ريب ولا إشكال».

في آنٍ واحدٍ) ونظيره - في غير طلب الضدّين من سائر أنواع المحال - أن يقول: (إن طلّقت زوجتك وجب عليك الطيران في السماء).

ثالثاً: ما ذكره المشكيني (قدس سره) من: «أنّ الطلب المتعلّق بالمحال محالٌ في نفسه؛ لأنّه لا تنقدح إرادة الضدّين في النفس مع العلم بالضدّية... فطلب المحال من المستحيلات الذاتيّة مثل اجتماع النقيضين، لا لقبحه حتّى يُقال: بعدمه إذا كان بسوء الاختيار أو من غير الحكيم»(1).

وأمّا التمثيل بمن توسّط الدار المغصوبة ونحوه ففيه بحثٌ طويلٌ، محلّه باب اجتماع الأمر والنهي، فراجع.

هذه بعض الإشكالات التي أوردت على الوجه الأوّل ممّا أفاده صاحب الكفاية (قدس سره) في استحالة الترتّب، وقد انقدح عدم نهوضها بدفع ما أفاده (قدس سره) ، وسيأتي تمامُ الكلام حول ذلك في أدلّة القول بالإمكان إن شاء اللّه تعالى.

الوجه الثاني: تعدّد الاستحقاق

اشارة

الوجه الثاني - ممّا أورد به على الترتّب - : إنّ استحقاق العقوبة على مخالفة الأمر المولويّ لازمٌ عقليٌّ للمخالفة، وهو غير قابل ٍ للوضع بالذات، ولا للرفع كذلك.

أمّا الأوّل: فلأنّه تحصيلٌ للحاصل. وأمّا الثاني: فلأنّه تفكيكٌ بين اللازم وملزومه.

نعم، للشارع وضعُ الاستحقاق بالعرض بوضع منشأ انتزاعه، وله رفعُه

ص: 98


1- كفاية الأصول (المحشّی) 2: 38.

كذلك برفع منشأ انتزاعه، كما في كلّ أمرٍ انتزاعيّ.

وعليه نقول: لو كان هناك أمران فعليّان مولويّان فيما نحن فيه لزم استحقاق المكلّف عقابين لو خالف الأمرين، وهو بمعنى استحقاق العقاب على ترك ما لا يكون داخلاً تحت قدرة المكلّف - أعني أحد الفعلين - مع أنّ مناط حسن العقوبة هو القدرة على الامتثال، بل يلزم منه استحقاق عقوبات غير محصورةٍ للمكلّف التارك لمجموع الأوامر الترتّبية المُتكثّرة، مع عدم القدرة إلاّ على امتثال أحدها. فعدم تعدّد الاستحقاق كاشفٌ إنّيٌ عن عدم تعدّد الأمر.

وقد قرّر هذا الوجه المحقّق النائيني (قدس سره) على نحو مانعة الجمع بقوله: «القائل بالترتّب لا يخلو من أحد أمرين: إمّا الالتزام بتعدّد العقاب على تقدير عصيانهما معاً والاشتغال بفعل ٍ آخر، أو الالتزام بعدم استحقاق العقاب على ترك الواجب المهمّ. أما الأوّل: فلا سبيل له إليه، فإنّه كما لا يُمكن تعلّق التكليف بغير المقدور كذلك لا يُمكن العقاب عليه أيضاً، وبما أنّ المفروض هو استحالة الجمع بين المتعلّقين يستحيل العقاب على تركهما معاً.

وأمّا الثاني فهو يستلزم إنكار الترتّب وانحصار الأمر المولويّ بخطاب الأهمّ، وكون الأمر بالمهمّ إرشاداً محضاً إلى كونه واجداً للملاك حينئذٍ، ضرورة أنّه لا معنى لوجود الأمر المولويّ الإلزاميّ وعدم ترتّب استحقاق العقاب على مخالفته»(1).

ص: 99


1- أجود التقريرات 1: 307-308.
[الإيرادات على الوجه الثاني:]
اشارة

ويرد على هذا الوجه أمور:

[الإيراد الأوّل:] النقض بموارد الواجبات الكفائيّة

الأوّل: ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) من «النقض بموارد الأوامر الكفائيّة، التي لا يُمكن صدور الواجب فيها إلاّ من بعض المكلّفين على البدل، مع أنّ جميع المخاطبين يستحقّون العقاب على مخالفته، فكما أنّ استحالة صدور الواجب عن جميع المخاطبين دفعةً واحدةً - لفرض امتناع الواجب بطبعه عن الاشتراك فيه - وتدريجاً - لفرض سقوط الأمر بامتثال بعض المكلّفين، وعدم بقاء الموضوع لامتثال الباقين - لا تُنافي توجّه الخطاب إلى الجميع وصحّة عقابهم على تقدير العصيان، كذلك الحال في المقام، فلو كان تعدّد العقاب عند تعدّد العصيان مع عدم إمكان أزيد من الإطاعة الواحدة مُستلزماً لأن يكون العقاب على غير المقدور لامتنع تعدّد العقاب في التكاليف الكفائيّة أيضاً»(1).

وقد يُورد عليه:

أوّلاً: بما في (المباحث)(2) من إبراز الفرق بين المقامين، فإنّه تُوجد قُدُرات متعدّدةٌ بعدد المكلّفين في الواجب الكفائيّ؛ إذ القدرة عَرضٌ متقوّمٌ بالمحلّ، فمحلّها إن كان أحد المكلّفين تعييناً فهو ترجيحٌ بلا مرجّح، وإن كان الجامع فلا وجود له بحدّه الجامعيّ في الخارج، ومثله الفرد المردّد، فلا محيص من أن يُقال بقيام القدرة بكلّ واحدٍ منهم، غاية الأمر أنّ إعمال

ص: 100


1- أجود التقريرات 1: 308.
2- بحوث في علم الأصول 2: 361.

كلٍّ منهم لقدرته فرعُ عدم المزاحم الخارجيّ الذي منه سبقُ غيره إلى الامتثال، وهذا بخلاف المقام إذا ادُّعي وجود قدرةٍ واحدةٍ قائمةٍ بالمكلّف الواحد على الجامع بين الضدّين، أي: أحدهما.

وفيه: جريان نظيره - لو سُلّم - في المقام أيضاً؛ إذ المفروض توفّر القدرة لدى المكلّف الموجّه إليه الخطاب الترتّبي، فمصبّ القدرة إن كان واحداً من متعلّقي الخطابين تعييناً فهو ترجيحٌ بلا مرجّح - وهو آيلٌ إلى الترجّح بلا مرجّح المساوق لوجود المعلول بدون وجود علّته - وإن كان الجامع فلا تحقّق له في الأعيان، وإن كان الفرد المردّد فلا وجود له لا خارجاً، لأنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد، فكل شيءٍ هو هو، لا هو أو غيره، ولا ذهناً لأنّ الذهن مرتبةٌ من مراتب الخارج، والتقابل بين الذهن والخارج إنّما يحصل بقياس أحدهما إلى الآخر، وإلاّ فالوجود مساوقٌ للخارجيّة، والموجود في الذهن إنّما هو المردّد بالحمل الأوّلي، لا المردّد بالحمل الشائع، ولذا لا يُوجب صدقه عليه واندراجه فيه؛ لأنّ ملاكهما الشائع لا الأوّلي كما لا يخفى، فلا محيص عن تعلّق القدرة بالاثنين.

وبتقريرٍ آخر: القدرة يُمكن أن تُطلق على معنيين:

أحدهما: صِرف المقتضي، كوجود القوّة العضليّة على العمل، في قبال من أصيب بالشلل مثلاً .

وثانيهما: المقتضي مُنضمّاً إلى عدم المانع.

وعلى كلّ تقدير فلا فرق بين الوجوب الكفائيّ والترتّبي؛ إذ لو أريد المعنى الأوّل فالقدرة متوفّرةٌ في المقامين؛ لوجود القوّة العضلية عند كلّ واحدٍ من المكلّفين في الواجب الكفائيّ، وعند المكلّف على كلّ واحدٍ من

ص: 101

المتعلّقين في الواجب الترتّبي، ولو أريد المعنى الثاني فالقدرة مشروطةٌ في كلا المقامين؛ إذ قدرة كلّ مكلّفٍ على أداء الواجب الكفائيّ الذي لا يتحمّل التكرار مشروطةٌ بعدم سبق غيره إليه، كما أنّ قدرة المكلّف على أحد الضدّين مشروطةٌ بعدم تلبّسه بالضدّ الآخر واشتغاله به.

وكأنّ المُجيب لاحظ القدرة بمعناها الأوّل في الواجب الكفائيّ، وبمعناها الثاني في الواجب الترتّبي، مع أنّ الأمور لا تُقاس بميزانين.

وثانياً: بعدم تسليم تعدّد العقاب في الواجبات الكفائيّة، بتقريب: أنّ التكليف واحدٌ في الواجبات الكفائيّة - لوحدة الملاك أو الغرض، على اختلاف المبنيين - وليس في مخالفة التكليف الواحد إلاّ عقابٌ واحد.

فوحدةُ الملاك - أو الغرض - تستلزم وحدة التكليف، ووحدتُه تستلزم وحدةَ الطاعة أو العصيان، ووحدتُهما تستلزم وحدةَ الثواب أو العقاب.

وعليه: فلم يُعصَ للمولى إلاّ تكليفٌ واحدٌ، ولم يُفوّت عليه إلاّ غرضٌ فاردٌ، فلا يستحقّ المكلّفون إلاّ عقوبةً واحدةً تتوزّع عليهم، بمعنى أنّه لو كان للعاصي الواحد عقوبةٌ معيّنةٌ فإنّها تتوزّع على مجموع العُصاة في الواجب الكفائيّ.

وهذا بخلاف مقام الترتّب؛ إذ تتعدّد فيه الأوامر تبعاً لتعدّد المبادئ، فقياس أحدهما على الآخر قياسٌ مع الفارق.

ويرد عليه:

أوّلاً: عدم تسليم وحدة الملاك في الواجب الكفائيّ؛ إذ يُحتمل - ثبوتاً - كونُ الملاك بسيطاً لا جزء له، وكونُه مركّباً من جزءين - أو أجزاء - على نحو الاستقلال في الباعثيّة - بأن كان كلّ واحدٍ منهما ذا باعثيّة تامّة لو فُرض

ص: 102

منفرداً- أو الانضمام - بأن كان كلّ واحدٍ منهما علّةً ناقصةً - أو الاختلاف.

ثانياً: عدم تسليم وحدة التكليف في الواجب الكفائيّ، ولو مع تسليم وحدة الملاك؛ لإمكان تعدّده فيه، إمّا بأن يُقال بوجود وجوبات عينيّةٍ بعدد المكلّفين، ولكنّها مشروطةٌ بعدم إتيان الآخرين به.

أو يُقال: إنَّ الفعل واجبٌ على جميع المكلّفين، إلاّ أنّ هناك ترخيصاً في الترك لكلٍّ منهم، مشروطاً بفعل الآخر.

أو يُقال: بتحريم ترك الفعل المنضمّ إلى ترك الآخرين، لا مطلق الترك، على كلّ واحدٍ من المكلّفين.

أو يُقال: بوجود وجوبات كثيرةٍ بعدد المكلّفين، ولكنّ الواجب بهذا الوجوب ليس هو صدور الفعل من كلّ واحدٍ منهم، وإنّما هو الجامع بين الفعل الصادر منه أو من غيره، فالواجب هو حصول الفعل خارجاً، بناءً على أنّ الجامعَ بين المقدور وغير المقدور مقدورٌ.

وتفصيل الكلام في ذلك موكولٌ إلى مباحث الوجوب الكفائيّ.

ثالثاً: عدم تسليم المُلازمة بين وحدة التكليف ووحدة العقاب؛ إذ للمولى أن يُعاقب العبد عقاباً واحداً، وله أن يُعاقبه عقوبات متعدّدةٍ - مع اتّحاد سنخ العقوبة أو اختلافه - ما لم يخرج عن دائرة العدل، كما قد يُدّعى ذلك في بعض العقوبات الأخرويّة، وفي بعض عقوبات الموالي العرفيّة، فتأمّل.

[الإيراد الثاني:] النقض بالتكليفين الطوليّين

الثاني: ما في (المباحث)(1): من النقض بتكليفيَن في زمانين يتضادّ

ص: 103


1- بحوث في علم الأصول 2: 361.

متعلّقاهما في القدرة، مع كون المتأخّر منوطاً بعدم امتثال المتقدّم، وذلك أمرٌ سائغٌ حتّى عند القائل باستحالة الترتّب؛ لعدم تعاصر الفعليّتين كي تحصل المطاردة بينهما، فلو فُرض عصيان المكلّف للأمرين لاستحقّ العقابين، مع عدم القدرة على الفعلين.

ويُمكن التمثيل له بالأمر بصوم اليوم الثاني من شهر رمضان مُعلّقاً على عصيان الأمر بصوم اليوم الأوّل، في صورة عجز المكلّف عن صوم اليومين معاً، فإنّه يجب على المكلّف صوم اليوم الأوّل، بناءً على ما قُرّر في باب التزاحم من الأصول(1)، وفي كتاب الصلاة من الفقه(2): من لزوم تقديم ما هو أسبق زماناً، فلا يجب الصوم في اليوم الثاني إلاّ معلّقاً على عصيان الأمر بالصوم في اليوم الأوّل، وكذا فيما لو فُرضت هنالك أهميّةٌ أخرى غير مجرّد السبق الزمانيّ، كما لو دار الأمر بين الدفاع عن بلاد الإسلام ليلاً أو الصوم نهاراً، مثلاً.

ويرد عليه:

أوّلاً: عدم تسليم اشتراط العرضيّة في تحقّق موضوع الترتّب، بل يجري بحث الاستحالة والإمكان وإن كان التكليفان طوليّين، على ما سبق في الشرط العاشر من (شرائط تحقّق الموضوع)، فجواز التعدّد في المثال مبنيٌّ على جوازه في كلّي مسألة الترتّب، فبناؤه عليه مستلزمٌ للدور.

ثانياً: مع تسليم الخروج الموضوعيّ لمورد النقض عن الترتّب، نقول: إنّ

ص: 104


1- الأصول: 585.
2- الفقه 16: 134.

تعدّد الاستحقاق في المقيس عليه غيرُ مسلّم ٍ لدى المستدلّ؛ إذ إنّه يرى مناط الاستحقاق (ترك الفعل المقدور) وليس المقدور من الأمرين إلاّ أحدهما في المقيس عليه - كالمقيس - فليس فيه إلاّ استحقاقٌ واحد.

ثالثاً: عدم تسليم القياس لوجود الفارق بين المقامين، بتقريب: أنّه ليس المطلوب في المقيس عليه كلاهما على نحو الوجوب التعيينيّ؛ لكونه تكليفاً بغير المقدور، ولا كلاهما على نحو الوجوب التخييريّ؛ وإلاّ لكانا عدلين متكافئين يتخيّر المكلّف بينهما، وليس المطلوب المتقدّم وحده بحيث يكون التوقيت رُكناً في المطلوبيّة مطلقاً، وإلاّ لما أمر بالفاقد، فإنّ الأمر به يكون حينئذٍ بلا ملاك، فمن نفس تعلّق الأمر بالفاقد يُستكشف عدم كون الوصف رُكناً في أصل الغرض، فلا يبقى في المقام سوى تعدّد المطلوب، ووجوب طلبين يتعلّق أحدهما بالجامع، ويتعلّق الآخر بإيجاد الجامع في الحصّة المعيّنة، وعليه يكون تعدّد الاستحقاق عند عصيان الأمرين بسبب مقدوريّة المطلوبين، فإنّ الجامع مقدورٌ، والحصّة مقدورةٌ أيضاً، فيكون العقاب على تركهما عقاباً على ترك أمرين مقدورين، بخلاف الأمر في الترتّب.

وفيه: أوّلاً: إنّ هذا إنّما يتمّ بناءً على كون الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدوراً، كما عليه المُجيب، وقد ذهب إليه المحقّق الثاني (رحمه اللّه) وجماعةٌ من الأعلام(1)، وأمّا بناءً على كون الجامع غير مقدورٍ - كما ذهب

ص: 105


1- هداية المسترشدين 2: 364؛ نهاية الأصول 1: 217؛ بحوث في علم الأصول 2: 323.

إليه المحقّق النائيني (قدس سره) وغيره(1) - فلا يتمّ الفرق بين المقامين.

وثانياً: لا ينحصر تفسير الأمرين - ثبوتاً - بتعدّد المطلوب، بل يُمكن أن يكون المتقدّم واجباً ارتباطيّاً واحداً والتوقيت ركنٌ فيه، والمتأخّر واجباً آخر مغايراً للواجب الأوّل في الملاك والهويّة، لكن وجوده مشروطٌ بعدم امتثال الواجب المتقدّم.

وثالثاً: إنّه إمّا أن يُراد بالجامع: الجامع المنصوص أو الجامع المُنتزَع، وعلى كلّ تقديرٍ يُمكن فرض وجوده وعدمه في كلٍّ من المقامين، فلا يتمّ الفرق المذكور بينهما.

وقد تحصّل من هذه الأجوبة إمكانُ أن لا يكون هناك جامعٌ، وعلى فرض وجوده فهو غير مقدورٍ، وعلى فرض كونه مقدوراً فهو مشتركٌ بين المقامين، فالإيراد الثالث لا يخلو من نظر، فتدبّر.

[الإيراد الثالث:] ملاحظة كلّ خطابٍ منفرداً

الثالث: ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) بقوله: «إن العبرة في استحقاق العقاب هو ملاحظة كلّ خطابٍ بالنسبة إلى كلّ مكلّفٍ في حدّ نفسه، بمعنى أنّه يُلاحظ الخطاب وحده مع قطع النظر عن اجتماعه مع خطابٍ آخر، ويُلاحظ كلّ مكلّفٍ وحده مع قطع النظر عن اجتماعه مع مكلّفٍ آخر، فإن كان متعلّق ذلك الخطاب الملحوظ وحدَه مقدوراً بالنسبة إلى ذلك المكلّف الملحوظ وحدَه فعند العصيان يستحقّ العقاب وإلاّ فلا. ومن المعلوم تحقّق القدرة في كلٍّ من متعلّقي الخطابين المترتّبين في حدّ نفسه،

ص: 106


1- أجود التقريرات 1: 332.

وكذا كلّ مكلّفٍ في الواجب الكفائيّ، فعند ترك كلا المتعلّقين يستحقّ عقابين، وعند ترك الكلّ للكفائيّ يستحقّ الجميع للعقاب لتحقّق شرط الاستحقاق»(1) انتهى.

ويرد عليه: أنّه مستلزمٌ لجواز الأمر بالضدّين مطلقاً والعقوبة على تركهما، كأن يأمُره بالسير إلى المشرق والمغرب في زمانٍ واحدٍ بلا ترتّبٍ بينهما، لفرض تعلّق القدرة بكلّ واحدٍ منهما، لو قُطع النظر عن اجتماعه مع الآخر، فلا يقبُح الخطاب بهما، ولا العقوبة عليهما.

اللّهم إلاّ أن يُفرق بينهما بأنّ الأمر بالضدّين مطلقاً محال في نفسه، أو قبيحٌ على الحكيم، فلا يُعقل صدوره ليُبحث في استحقاق العقاب على تركه، بخلاف الأمر الترتّبي، فإنّ الوجدان شاهدٌ على إمكان وقوعه - كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى - والضابط المذكور في كلامه (قدس سره) لاستحقاق العقاب إنّما هو بعد مفروغيّة إمكان التكليف.

لكن هذا الجواب لا يخلو من شائبة الدور؛ إذ محلّ الكلام والنقض والإبرام هو الإمكان، فلو أخِذ فيه دار.

إلاّ أن يُقال: ليس المُراد إثبات الإمكان، بل دفع الإشكال عن التعدّد بعد الفراغ عن الإمكان بحكم الوجدان، ولا برهان على كون القدرة المأخوذة شرطاً في استحقاق العقاب مصححّةً لتوجيه الخطاب، ليُورد بالأمر بالضدّين مطلقاً، فتأمّل.

ص: 107


1- فوائد الأصول 1: 365.

وأمّا ما في (المباحث)(1)، من الإيراد على ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) «باستلزامه لتعدّد العقوبة فيما إذا فُرض أمر المولى بالضدّين مطلقاً، بنحو القضيّة الخارجيّة غفلةً عن التضادّ بينهما مع عصيان العبد لكليهما، لكون كلٍّ منهما مقدوراً في نفسه، مع حكم الوجدان بخلافه» ففيه: أنّ الأمر الناشئ من الغفلة ليس بأمرٍ حقيقةً؛ إذ الأمر بما هو أمرٌ لا موضوعيّة له، بل هو طريقٌ لكشف الملاكات الواقعيّة - أو أغراض المولى - فإذا عُلم بعدم ذي الطريق لم يكن الأمر منجّزاً، ولم يستحقّ العبد العقابَ على مخالفة مثل هذا الأمر، كما يشهد له بناء العقلاء.

كما أنّه في صورة العكس - أي: صورة وجود الملاك المُلزم بلا أمرٍ - يُمكن أن يُقال بوجوب تحصيل ذلك الملاك أو الغرض؛ إذ الأمر طريقٌ، فإذا حصل ما كان الأمرُ طريقاً إليه لم يكن حصول الطريق بمهمٍّ، كما هو الشأن في كلّ طريقٍ وذي الطريق لدى العرف.

ونظير المقام ما ذكره الفقهاء(2) في بحث الغصب من أنّه إذا أذن المالك في التصرّف، ولكن كانت هناك قرائنُ تدلّ على عدم رضاه لم يجُز التصرّف، كما أنّ العكس بالعكس، وقد علّله السيّد الوالد - دام ظلّه - في المسألة السادسة عشرة وفي المسألة الثانية والعشرين من بحث مكان المصلّي من كتاب الصلاة من (الفقه)(3) بنظير ما ذكرناه في المقام، فراجع.

ص: 108


1- بحوث في علم الأصول 2: 362.
2- العروة الوثقى 2: 380.
3- الفقه 18: 384، 408.
[الإيراد الرابع:] العقاب على ترك كلٍّ حالَ ترك الآخر

الرابع: ما ذكره (قدس سره) أيضاً بقوله: «إن العقاب ليس على ترك الجمع - ليكون على غير المقدور - ضرورة أنّ الطلب لم يتعلّق إلاّ بذات كلٍّ من الواجبين، فكيف يُعقل أن يُعاقب على ترك الجمع الذي لم يُطالب المكلّف به أصلاً، بل العقاب إنّما هو على ترك كلٍّ منهما حالَ ترك الآخر، ولا ريب في مقدوريّته، وهكذا الحال في الواجبات الكفائيّة، فإنّ العقاب هناك على عصيان كلّ واحدٍ منهم حالَ عصيان الباقين»(1) انتهى.

ويرد عليه:

أوّلاً: النقض بالأمر بالضدّين مطلقاً، لمقدوريّة ترك كلٍّ منهما حالَ ترك الآخر، وهي شرطُ حسن الخطاب والعقاب.

وسوق الكلام فيه كسوقه في الثالث.

ثانياً: إنّ القيدين المأخوذين في سبب استحقاق العقاب - أعني قوله: (حال ترك المهمّ) و (حال ترك الأهمّ) - وإن اختلفا بلحاظ المفهوم والعنوان إلاّ أنّهما متّحدان بلحاظ المصداق والزمان؛ إذ زمان ترك كلٍّ منهما هو زمان الاشتغال بالثالث، ومن الواضح أنّ ملاك رفع التضادّ ليس هو التعدّد العنوانّي، بل التعدّد الزمانيّ، فتكون العقوبة على ترك كلٍّ من الأهمّ والمهمّ في هذه الحالة مستلزمةٌ لفعليّة الأمر بهما معاً فيها، مع أنّ فعلهما معاً غير مقدورٍ، فيكون ترك أحدهما مضطرّاً إليه، فتكون العقوبة عليه عقوبةً على ما لا يدخل تحت الاختيار.

ص: 109


1- أجود التقريرات 1: 308.

نعم، لو لوحظ كلٌّ من التركين في حدّ نفسه كان مقدوراً، لكّنه يرجع حينئذٍ إلى الجواب الثالث، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ متعلّق العقاب تابعٌ في إطلاقه واشتراطه لمصبّ التكليف، والمفروض أنّ التكليف بالأهمّ مطلقٌ شاملٌ لحالتي فعل المهمّ وتركه، فكون العقاب على (ترك المأمور به حال ترك الآخر) وإن صحّ في المهمّ، لكونه مشروطاً، لكنّه لا يصحّ في الأهمّ، لكونه مطلقاً.

ثمّ لا يخفى أنّ التكليف بالجمع لا يجب أن يكون بعنوانه، لإمكان انتزاعه من تكليف العبد بشيئين متزامنين، ولو بأمرين منفصلين، ويكفي في صدق العنوان الانتزاعيّ صدق منشأ انتزاعه، فإنّه مجعولٌ بجعله، ومطلوب بطلبه، منتهى الأمر أنّ أحدهما مجعولٌ بالذات، والآخر مجعولٌ بالعرض، كما لا يجب أن يكون التكليف بالجمع مطلقاً، بل يُمكن - أيضاً - كونه تكليفاً بالجمع مشروطاً.

وعليه: فلا يُشترط في كون التكليف تكليفاً بالجمع الإطلاقُ، ولا عدم تعلّقه بذات كلٍّ من الواجبين، فالتفكيك بينهما لا يخلو من نظر، فتأمّل.

ويؤيّده ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) في طيّ ما استدلّ به لإمكان الترتّب حيث قال: «والحاصل أنّه لا إشكال في أنّ الموجب لإيجاب الجمع في غير باب الضدّين إنّما هو إطلاقُ الخطابين لحالتي فعل متعلّق الآخر وعدمه، كالصلاة والصوم، فإنّ الموجب لإيجاب الجمع بينهما إنّما هو إطلاقُ خطاب الصلاة وشموله لحالتي فعل الصوم وعدمه، وإطلاقُ خطاب الصوم وشموله لحالتي فعل الصلاة وعدمه. ونتيجة الإطلاقين إيجابُ الجمع بين

ص: 110

الصلاة والصوم على المكلّف...»(1).

[الإيراد الخامس:] العقاب على الجمع في الترك

الخامس: ما في منتهى الدراية من «أنّ مناط استحقاق تعدّد العقوبة ليس مخالفة الأمر بالجمع بين المتعلّقين، ليُورد بعدم القدرة، بل مناطُه الجمع في الترك، وهو أمرٌ مقدورٌ للعبد، فالمؤاخذة على الجمع في الترك حينئذٍ لا قبح فيها عقلاً»(2).

ويرد عليه:

أوّلاً: إنّه ليس للهيئة المجموعيّة وجودٌ متأصلٌ وراء وجود الأفراد، بل هي أمرٌ يُنتزع من فعل هذا وفعل ذاك، أو من ترك هذا وترك ذاك، وإلاّ لزم التسلسل، بتقريب: أنّه لو كان هناك أمران، وكانت الهيئة الاجتماعيّة أمراً ثالثاً متأصّلاً في الأعيان، لكانت الهيئة الاجتماعيّة للثلاثة أمراً عينيّاً أيضاً؛ لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، فتُصبح الثلاثة أربعة، ولهذه الأربعة هيئة اجتماعيّة عينيّة.. وهكذا.. فيلزم التسلسل.

ففي المقام: ليس (الجمع في الترك) إلاّ عنواناً منتزعاً من هذا الترك وذاك الترك، وليس له وجودٌ مستقلٌّ في قبالهما، وحيث إنّ الفعلين معاً غير مقدورين لذا يكون أحدُ التركين هو المقدور، وأمّا الترك الآخر فهو ضروريٌّ، والقدرة لا تُجامع الضرورة، فيكون العنوان المُنتزع منهما غير مقدورٍ؛ لأنّ النتيجة تابعةٌ لأخسّ المقدّمتين، وهذا نظير ما ذكروه في أنّ

ص: 111


1- فوائد الأصول 1: 337.
2- منتهى الدراية 2: 503.

الجامع بين المقدور وغير المقدور غيرُ مقدورٍ(1)، فتأمّل.

ثانياً: لو فُرض أنّ الهيئة المُنتزعة مقدورةٌ لم يُجدِ ذلك فيما رامه من التعدّد، لكونها أمراً واحداً بسيطاً، فلا تستتبع أكثر من استحقاقٍ واحدٍ.

هذا مع ورود بعض ما تقدّم عليه أيضاً.

[الإيراد السادس:] المناط إمكان التخلّص من المخالفة

السادس: ما في (المباحث) من «أنّ الميزان في صحّة العقاب أن يكون التخلّص من المخالفة مقدوراً للمكلّف - لا أن يكون الامتثال مقدوراً - وفي المقام يُمكن التخلّص من مخالفة التكليفين وإن لم يُمكن امتثالهما معاً، فيكون تعدّد العقاب في محلّه.

وهذا بخلاف ما لو أمر المولى بالضدّين مطلقاً - غفلةً - فإنّه لا يستحقّ عقوبتين، ممّا يُبرهن على أنّ ميزان صحّة العقاب إمكان التخلّص، والمكلّف في المثال لا يُمكنه التخلّص إلاّ عن إحدى المعصيتين، فلا يستحقّ إلاّ عقاباً واحداً».(2)

ويرد عليه: أنّه مستلزمٌ لجواز الأمر بجميع المحالات الوقوعيّة، بل الذاتيّة معلّقاً على عصيان تكليفٍ مولويٍّ، أو ارتكاب فعلٍ اختياريٍّ - وإن كان مباحاً - وجواز العقاب على تركها، كقوله: (إن ظاهرتَ زوجتك فطِر في السماء)، أو: (إن دخلتَ دار زيدٍ فاجمَع بين النقيضين) وذلك لوجود الملاك المذكور، وهو إمكان التخلّص من المخالفة فيها بعدم إيجاد مقدّم

ص: 112


1- أجود التقريرات 1: 332.
2- بحوث في علم الأصول 2: 362.

الشرطيّة، فلا يقبح الخطاب بها ولا العقاب عليها، وهو خلاف الوجدان.

وكونُ الامتناع بالاختيار لا يُنافي الاختيار عقاباً - وإن نافاه خطاباً - لا يُنافيه لكون مَجراه المُمكنات بالإمكان الذاتيّ والوقوعيّ، التي طرأ عليها الامتناع الغيريّ بسوء الاختيار، لا المُمتنعات الذاتيّة ولا الوقوعيّة ولا الغيريّة(1)، التي لم يكن لسوء الاختيار دخلٌ في امتناعها؛ لخروج هذه القاعدة على نحو الخروج الموضوعيّ؛ إذ ليس الامتناع فيها ناشئاً من سوء الاختيار، وما نحن فيه من هذا القبيل، فتدبّر.

وأمّا ما ذكره من الأمر بالضدّين غفلةً فقد سبق الكلام فيه في (الثالث)، فراجع.

[الإيراد السابع:] لا قبح في العقاب على غير المقدور

السابع: ما في حقائق الأصول من «أنّ قبح العقاب على ما لا يُقدر عليه لا أصل له ما لم يرجع إلى قبح العقاب على ما لا تكليف به، فلا يكون العقاب عليه عقاباً على المعصية، وقد عرفت سابقاً إمكان التكليف بكلٍّ من الأهمّ والمهمّ»(2) انتهى.

ص: 113


1- الإمكان الذاتيّ: عبارة عن تساوي نسبة الشيء إلى الوجود والعدم بحيث لا يقتضي بذاته أحدهما. والإمكان الوقوعيّ: عبارة عن كون الشيء بحيث لا يستلزم وجوده ولا عدمه محذوراً عقلياً. والامتناع الغيريّ: عبارة عن عدم تحقّق علّة الشيء، فكلّ شيءٍ لم توجَد علته التامة يطلق عليه أنه ممتنع غيري. والامتناع الذاتيّ: عبارة عن كون الشيء بحيث يقتضى بذاته العدم اقتضاءً حتمياً، ويحكم العقل بمجرّد تصوّره أنّه ممتنع الوجود، كاجتماع النقيضين أو ارتفاعهما. والامتناع الوقوعيّ: عبارة عن كون الشيء بحيث يلزم من وقوعه الباطل والمحال، وإن لم يكن بمحالٍ ذاتاً، كذا ذكره بعضهم (منه (رحمه اللّه) ).
2- حقائق الأصول 1: 320.

وهذا الجواب كما ترى مُتفرّعٌ على ثبوت الإمكان، فلا يرد عليه إشكال الدور المتقدّم.

[الإيراد الثامن:] الهتك هو الملاك

الثامن: إنّه يُمكن أن يُتّخذ الهتك ملاكاً للاستحقاق(1)، لا الترك، وعليه يُبنى استحقاق المُتجرّي للعقاب لهتكِه حرمة مولاه، وجرأتِه عليه، وخروجِه عن رسوم العبوديّة، وخلعِه لزيّ الرقّية، ولا شك في تحقّق الانتهاكين في عصيان الأمرين؛ لخروج العبد عن رسوم العبوديّة مرّتين، ومن الواضح قدرةُ العبد على ترك الانتهاكين، فيكون ارتكابه لهما ارتكاباً لما هو داخلٌ في حيّز القدرة، فيستحقّ العقابين.

ويرد عليه: أنّه إن أريد بالهتك العنوان المتّحد مع الترك الخارجيّ فقد مرّ أنّ أحد التركين هو المقدور. وإن أريد به العنوان المنتزع منه ففيه: أنّ العنوان الانتزاعيّ متّحدُ الحكم مع منشأ الانتزاع.

وقد يُناقش فيه: بأنّه إنّما يتمّ لو قيل بكون استحقاق العقاب على نفس الإتيان بالفعل أو الترك المُتجرّى به - كما اختاره في النهاية(2) ومصباح الأصول(3) - وأمّا لو قيل بكونه على قصد العصيان والعزم على الطغيان، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان - كما اختاره في الكفاية(4) - فلا، لتعدّد

ص: 114


1- درر الفوائد 2: 337.
2- نهاية الدراية 2: 45-47.
3- مصباح الأصول 2: 19.
4- كفاية الأصول: 259.

القصد.

وفيه: أنّه لا مناص من أحد القصدين - قصدِ ترك الأهمّ أو المهمّ - لسراية اللابدّية من المقصود إلى القصد، فما دام تركُ أحدهما مضطرّاً إليه - على ما سبق - يكون قصدُ ذلك الترك كذلك، فتأمّل.

[الإيراد التاسع:] تفويت الملاك

التاسع: إنّ تفويت الملاك المولويّ سببٌ لاستحقاق العقوبة(1)، وحيث إنّ العبد في المقام فوّت على المولى ملاكين لذا يستحقّ عقوبتين.

وقد يُقرّب هذا الوجه بأنّ الملاك في طرف الأهمّ مركّبٌ من جزءين: أصل ِ الوجود المشترك بين الأهمّ والمهمّ، وشدّةِ الوجود المختصّة بالأهمّ، فيكون في مقدور المكلّف الحصول على كلا الملاكين بفعل الأهمّ، كما يُمكنه تفويت أحدهما بفعل المهمّ، وتفويت كليهما بترك الاثنين.

مثلاً: لو أمر المولى عبده بسقي الزرع بالماء الأجاج(2) معلّقاً على عصيانه الأمرَ بسقيه بالماء العذب، فسقى الزرع بالماء العذب حصّل ملاكين: ملاكَ أصل السقي، وملاكَ السقي بالماء العذب، ولو سقاه بالماء الأجاج فاتته الحصّة وإن لم يفُته الطبيعيّ، ولو ترك الاثنين فاته الملاكان.

ولكنّ هذا المبنى لا يخلو من نظرٍ؛ إذ ليست المرتبة القويّة من الوجود مركّبةً من أصل الوجود وشدّة الوجود، ولا المرتبة الضعيفة تفقِد من حقيقة الوجود شيئاً أو تختلط بالعدم، بل لا تزيد كلّ واحدةٍ من مراتب الوجود

ص: 115


1- بحوث في علم الأصول 2: 362.
2- الأجاج: «الماء المالح المُرّ». العين 6: 198.

المختلفة على حقيقة الوجود المشتركة شيئاً ولا تفقد منها شيئاً، وإنّما هي الوجود في مرتبةٍ خاصّةٍ بسيطةٍ، لم تتألّف من أجزاء ولم تنضمّ إليها ضميمةٌ، وتمتاز عن غيرها بنفس ذاتها التي هي الوجود المشترك، على ما قُرّر في محلّه.

فالملاك القويّ والضعيف حقيقتان بسيطتان، وأحدهما فائتٌ لا محالة؛ لأنّ المكلّف إن فعل الأهمّ فات عليه ملاك المهمّ، لو كان ذا ملاكٍ فعليٍّ في عرض الأهمّ، أمّا لو كانت فعليّة ملاكه مترتّبةً على عصيان الأمر بالأهمّ فالسالبة بانتفاء الموضوع، ولو فعل المهمّ فات عليه ملاك الأهمّ، وعلى هذا فلم يُفوّت المكلّف بعصيانه للأمرين إلاّ أحد الملاكين.

ولو سُلّم التركيب لم يقدح في المرام أيضاً؛ إذ ليست نسبة الطبيعيّ إلى أفراده نسبةَ الأب الواحد إلى الأبناء المتعدّدين، بل نسبة الآباء المتعدّدين إلى الأبناء المتعدّدين، بل وجودُ الطبيعي عينُ وجود أشخاصه، ففَرض عدم مقدوريّة الفردين معاً مساوقٌ لفَرض عدم مقدوريّة الطبيعيّين، فأحد الطبيعيّين فائتٌ على المكلّف لا محالة؛ إذ يدور أمرُه بين تفويت الطبيعيّ الكائن في ضمن الأهمّ أو تفويت الطبيعيّ الكائن في ضمن المهمّ، فيكون العقاب إمّا على تفويت الأهمّ أو المهمّ، لا على تفويت الاثنين.

[رؤية العقل تعدّد الاستحقاق:]
الوقوع

ثمّ إنّه لو فُرض عدم وفاء هذه الأجوبة بحلّ إشكال عدم المقدوريّة لم يقدح ذلك في تعدّد الاستحقاق، بعدَ رؤية العقل ثبوتَ الاستحقاق المتعدّد في الخارج، فإنّ الوقوع أدلّ دليل على الإمكان؛ إذ الشيء ما لم يتقرّر لم

ص: 116

يُمكن، وما لم يُمكن لم يحتج، وما لم يحتج لم يُوجب، وما لم يُوجب لم يجب، وما لم يجب لم يُعط الوجود، وما لم يُعط الوجود لم يُوجد. ومن هنا قالوا: (الشيء قُرّر فأمكن، فاحتاج فأوجب، فأوجد فوجد، فحدث)(1)، فالوجود يقع في مرحلةٍ متأخّرةٍ عن الإمكان، وما لم يمرّ الشيء بمرحلة الإمكان لا يُمكن أن يصل إلى مرحلة الوجود؛ لاستحالة الطفرة في المراتب، كاستحالتها في الزمان والمكان، فالوجود اللاحق كاشفٌ عن الإمكان السابق.

وممّا يؤيّده ما ذكرناه من تعدّد الاستحقاق عقلاً أنّ المولى لو أمر عبده بإنقاذ جمع ٍ من الغرقى على سبيل الترتّب فلم يمتثل، فعاقبه المولى أضعافَ ما يُعاقَب به العبدُ المأمور بإنقاذ غريقٍ واحدٍ، لَما كان عند العقلاء مَلوماً، وكان العبد عندهم به جَديراً.

قلب الاشكال

ثمّ إنّه يُمكن أن يُقلب هذا الإشكال - أي إشكال تعدّد الاستحقاق الذي أورد به على القائل بإمكان الترتّب - على القائل بعدم الإمكان؛ إذ تعدّد الاستحقاق في صورة عصيان الأمرين لا شكّ فيه عند العقلاء، وإلاّ لزم تساوي العاصي للأمر المولويّ الواحد، والعاصي للأمرين المسوقين على نحو الترتّب في العقوبة، وهو خلاف حكم العقل بالتعدّد وخلاف ما جرت عليه سيرة العقلاء، ومن المعلوم أنّ العقوبة على الهيئة لا تصحّ في مخالفة الأمر الإرشاديّ، فيتعيّن كون الأمر بالمهمّ - كالأهمّ - مولويّاً، وهو

ص: 117


1- شرح المنظومة 2: 268.

المطلوب، فتأمّل.

الالتزام بوحدة الاستحقاق

ثمّ إنّه قد يُلتزم بوحدة الاستحقاق في صورة عصيان الأمرين - مع كونهما مولويّين - بتقريب: أنّ ملاك الاستحقاق تفويت الغرض الداعي للأمر، فلو فُرض اشتمال المهمّ على بعض مصلحة الأهمّ فالمكلّف إمّا أن يأتي بالأهمّ فيُدرك تمامها، أو بالمهمّ فيتدارك بعضها، فلا عقوبة إلاّ بقدر البعض الآخر، وإذا تركهما فلا يستحقّ من العقوبة إلاّ بمقدار مصلحة الأهمّ؛ لأنّ مصلحة المهمّ إنّما أمر بتحصيلها لتدارك مصلحة الأهمّ لا لنفسها، فالعقوبة على تقدير ترك كليهما مثلها لو لم يُؤمر بالمهمّ وعصى الأهمّ.

ويرد عليه: أوّلاً: إنّ استحقاق العقوبة لازمٌ لا ينفكّ بالنسبة إلى مخالفة الأمر المولويّ، لا لما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) بقوله: «لا يصحّ الخطاب المولويّ الشرعيّ إلاّ إذا أمكن أن يكون داعياً نحو الفعل وباعثاً إليه، وداعويّة الخطاب بالنسبة إلى غالب نفوس البشر إنّما هي باعتبار ما يستتبعه من الثواب والعقاب؛ إذ قلّ ما يكون نفسُ الخطاب بما هو خطاب داعياً نحو الامتثال إلاّ بالنسبة للأوحديّ، فلابدّ أن يكون كلّ خطابٍ إلزاميٍّ مولويٍّ مستتبعاً لاستحقاق العقاب ليصلح أن يكون داعياً، وإلاّ خرج عن المولويّة إلى الإرشاديّة»(1).

بل لما سبق في تقرير الوجه الثاني ممّا أورد به على الترتّب؛ وذلك لرجوع ما ذكره (قدس سره) إلى لغويّة الأمر المولويّ لو جرى تفكيك الاستحقاق

ص: 118


1- فوائد الأصول 1: 364.

عنه، مع أنّ مجرى صدق اللغويّة متّحدٌ مع مجرى الجعل التأليفيّ، وهو لا يُعقل بين الشيء ونفسه، ولا بينه وبين ذاتيّاته، ولا بينه وبين عوارضه اللازمة؛ وذلك لأنّ مناط الحاجة هو الإمكان، والضرورة ملاك الاستغناء، والنسبة بين الذات ونفسها وذاتيّاتها وأعراضها اللازمة من سنخ النسب الضروريّة، فلا تقبل الوضع ولا الرفع، وقد سبق أنّ النسبة بين الأمر المولويّ والاستحقاق نسبةٌ ضروريّةٌ، فلا مجرى فيها للجعل التأليفيّ، فلا مجال فيها للقول: إنّ تفكيك هذا اللازم عن ملزومه سببٌ للغويّة الملزوم؛ وذلك لكون هذا التفكيك محالاً، ولا معنى لتعليل عدم التسبيب للمحال باللغويّة.

وعليه: كيف يُمكن افتراض كون الأمر بالمهمّ مولويّاً مع عدم استحقاق العقوبة على تركه - في حالة عصيان الأمرين - وفرضُه إرشاديّاً خروجٌ عن موضوع الترتّب، واندكاك العقوبتين مستلزمٌ لتوارد علتين مستقلّتين على معلولٍ واحدٍ - إن أريد به الاندكاك الحقيقيّ - وللخُلف إن أريد به غيره.

ثانياً: ما ذكره المشكيني (رحمه اللّه) من «منع كون الملاك في الاستحقاق هو التفويت، بل هو الهتك»(1) انتهى.

ويرد عليه: أنّ العقل هو الحاكم على الإطلاق في باب الاستحقاق، وهو كما يرى الهتك سبباً كذلك يرى التفويت سبباً.

لا يُقال: إنّه يلزم منه تعدّد الاستحقاق عند اجتماع السببين، وإلاّ لزم توارد العلّتين المستقلّتين على معلولٍ شخصيٍّ واحدٍ، وهو محال؛ للزوم احتياجه إلى كلّ واحدةٍ منهما - لكونهما علّةً له - واستغنائه عن كلّ واحدةٍ

ص: 119


1- كفاية الأصول (المحشّی) 2: 47.

منهما - لاستقلال الأخرى في العلّية - فيكون حالَ حاجته إليهما مستغنياً عنهما، وللزوم تحصيل الحاصل، مع أنّه ليس في المعصية الواحدة إلاّ عقوبةٌ واحدةٌ، فوحدة المسبّب كاشفةٌ - إنّاً - عن وحدة السبب.

لأنّه يُقال: بجريان الكسر والانكسار في تأثير العلّتين إذا اجتمعتا؛ إذ لا يخلو الأمر عند اجتماعهما من: عدم تأثيرهما أصلاً، أو تأثير أحدهما المعيّن، أو المردّد، أو كليهما على نحو الاستقلال في العلّية، أو التشارك غير المتكافئ أو المتكافئ.

والأوّل: خلاف وجدان المعلول خارجاً. والثاني: ترجيحٌ بلا مرجّح. والفرد المردّد لا وجود له، فكيف يكون علة للوجود مع أنّ فاقد الشيء لا يُعطيه؟ والرابع: مستلزمٌ للتوارد. والخامس: كالثاني. فيتعيّن الأخير.

وهذا يجري فيما نحن فيه من تعدّد سبب الاستحقاق.

مع إمكان أن يُقال: إنّه لا استحالة في تعدّد الاستحقاق عند انطباق عناوين مختلفةٍ على الفعل، بل مطلقاً على ما مرّ، فتأمّل.

لا يُقال: ليس تفويت غرض المولى بما هو هو سبباً للاستحقاق، بل لانطباق عنوان الهتك عليه، بدليل الدوران والترديد، فالتفويت بلا هتكٍ - كما في صورة الجهل القصوريّ - ليس سبباً للاستحقاق، والهتك بلا تفويت - كما في صورة التجرّي - سبب لذلك، فينحصر الأمر - بالنتيجة - في سببيّة الهتك.

وهذا نظير ما أورد على استحقاق المتجرّي للعقاب بما حاصله: أنّ المعصية سببٌ للعقاب، فلو كان التجرّي سبباً أيضاً لزم التعدّد أو التداخل

ص: 120

في المعصية الحقيقيّة(1).

وفيه: عدم تسليم كونها سبباً بالدليل المزبور، بل انطباق عنوان الهتك يمنحها السببيّة.

فإنّه يُقال: لا ملازمة بين العنوانين؛ إذ إنّه من الممكن صدق التفويت دون انطباق عنوان الهتك عليه، كما لو سقط ابن المولى في البئر في حال غيبته - مثلاً - فإنّه إن لم يُنقذ الابن استحقّ العقوبة - على ما بيّناه في موضع ٍ آخر - مع عدم انطباق عنوان الهتك عليه، مع أنّه لا مانع في مورد التصادق من استحقاق العبد عقوبتين، كما سبقت الإشارة إليه، فتأمّل.

ثالثاً: مع تسليم كون ملاك الاستحقاق هو تفويت غرض المولى نقول: إنّ المستدلّ إن أراد نفي كلّية الملازمة بين تعدّد الأمر وتعدّد العقوبة لا نفي الملازمة كلّيةً، ففيه أنّ ذلك لا يُجديه؛ لعدم توقّف استدلال نافي الترتّب على كلّية تعدّد العقاب، ليُنقض من قِبَل المُثبت بالسالبة الجزئيّة، وإنّما تكفيه الموجبة الجزئيّة التي لا يُمكن نقضها بالسالبة الجزئيّة، بل لا يتوقّف استدلال النافي على إثبات وجود الموجبة الجزئيّة، وإنّما يكفيه احتمال وجودها؛ لأنّ احتمال استلزام الشيء للازم ٍ باطل كافٍ في إثبات بُطلان الملزوم؛ وذلك لأنّ اللازم المحال أو الباطل مقطوع العدم، فلا يُمكن إحراز وجود شيءٍ إلاّ مع القطع بعدم استلزامه له؛ لأنّ الشيء لا يُحرز وجوده إلاّ مع القطع بسدّ جميع أبواب العدم عليه، ومن هنا قيل في العقليّات: «إذا جاء

ص: 121


1- منتهى الدراية 4: 69.

الاحتمال بطل الاستدلال»(1).

وإن أراد نفي الملازمة كلّيةً ففيه: أنّ الأمر بالمهمّ كاشفٌ عن إنيّة الملاك لا ماهيّته، فلا مُعين لافتراض كون ملاك الأمر بالمهمّ هو التدارك ليُنفی به تعدّد العقاب، وذلك لما ذكره المشكيني (رحمه اللّه) من «أنّه يتجه إذا كانت المصلحة في المهمّ من سنخ مصلحة الأهمّ، وفي غيره لا معنى لتداركها لها، وعلى فرض السنخيّة فإنّما يتمّ لو كان الغرض المترتّب على المهمّ مطلوباً لتدارك الغرض الأهمّ لا في عرضه، كما في إنقاذ العالم والجاهل - مثلاً - ».(2)

الوجه الثالث: [ما نسب إلى المحقّق التقي الشيرازي]

الوجه الثالث - مما أورد به على التّرتب - : ما نسب إلى المحقّق التقي الشيرازي (قدس سره) وهو: «أنّ الترك المحرّم من المهمّ إمّا أن يكون الترك المطلق حتى إلى فعل الأهمّ، أو خصوص الترك المقارن لترك الأهمّ، وهو الترك غير المُوصل إلى فعل الأهمّ. فإن كان الأوّل: فهو منافٍ لفرض الأهمّية، فانّ مقتضاها جواز ترك المهمّ إلى فعل الأهمّ، ومنافٍ لفرض طلب المهم على تقدير ترك الأهمّ، ومعه كيف يُعقل حرمة ترك المهمّ الموصل إلى فعل الأهمّ؟

وإن كان الثاني: فنقيض ترك المهمّ المحرّم حينئذٍ هو ترك الترك غير المُوصل، فهو المعروض للوجوب لا فعل المهمّ. نعم، له لازمان أحدهما: الترك المُوصل إلى فعل الأهمّ والآخر فعل المهمّ، لكنّ الحكم - وهو

ص: 122


1- منتهى الدراية 1: 99.
2- كفاية الأصول (المحشّی) 2: 47.

الوجوب - لا يسري إلى لازم النقيض ليكون المهمّ واجباً. ومع فرض السريان أو فرض مصداقيّة الفعل لترك الترك يكون فعل المهمّ - حيث إنّه له البدل - واجباً تخييريّاً، مع أنّ وجوب المهمّ تعيينيّ - بناءً على ثبوته - »(1) انتهى.

ويرد عليه: أوّلاً: ما في النهاية وهو: «إنّ إيجاب المهمّ ليس من ناحية ترك المهمّ، بل لدليله المقتضي لحرمة نقيضه عرضاً»(2).

ثانياً: سلّمنا لكن نقيض ترك المهمّ هو فعل المهم، لا ترك ترك المهمّ. وقولهم: (نقيض كلّ شيءٍ رفعه)(3) تخصيصٌ بلا مخصّص، ولذا أبدله بعضهم بقوله: (رفع كلّ شيءٍ نقيضه)(4)، وإن لم يصلح معرّفاً، لكونه تعريفاً للرفع لا للنقيض، فلا يدلّ على كونه أعمّ أو أخصّ أو مساوياً.

أو يُراد بالمصدر القدر المشترك بين المبنيّ للفاعل والمبنيّ للمفعول، فيُراد بالرفع في السلب الرافع، وفي الإيجاب المرفوع. أو يُراد بالرفع: الطرد الذاتيّ، حيث إنّ كلّ واحدٍ من المتناقضين يطرد ما يُقابله بذاته.

وأمّا تفسير الرفع بالنفي والسلب فيكون نقيض الإنسان هو اللاإنسان، ونقيض اللاإنسان هو اللا لاإنسان، وأمّا الإنسان فهو لازم النقيض وليس بنقيض، فهو يستلزم عدم تحقّق التناقض بين شيئين أبداً؛ لعدم كون الإيجاب رفعاً للسلب، وإن كان السلب رفعاً للإيجاب، والمناقضة إنّما تكون بين طرفين.

ص: 123


1- نهاية الدراية 1: 473.
2- نهاية الدراية 1: 473.
3- هداية المسترشدين 3: 235؛ الفصول الغروية: 320؛ فوائد الأصول 4: 506.
4- نهاية الأفكار 3: 391؛ مباحث الأصول 3: 146؛ منتهى الدراية 2: 348.

وعلى هذا يكون (فعل المهمّ) هو المعروض للوجوب - بناءً على اقتضاء حرمة الشيء وجوبَ ضدّه - لا (ترك ترك المهمّ) ليرد الإشكال المذكور في كلامه (قدس سره) .

ثالثاً: مع التسليم نقول: لم ترد كلمة النقيض في النصوص الشرعيّة لتكون هي محور الكلام في المقام، بل المحور هو الملاك الذي على أساسه بُنيت دعوى الاقتضاء، والملاك كما يشمل (ترك ترك المهمّ) كذلك يشمل (فعل المهمّ) وإن فُرض عدم كونه نقيضاً للترك في الاصطلاح.

رابعاً: ما في النهاية من: «أنّه لو فُرض قيام الدليل على حرمة ترك المهمّ على تقدير ترك الأهمّ - كما هو معنى الترتّب - فنقيضه الواجب هو ترك الترك على هذا التقدير أيضاً، وليس لترك الترك في هذا التقدير إلاّ لازمٌ واحدٌ، أو مصداقٌ واحدٌ وهو الفعل؛ إذ لا يُعقل فرض الترك المُوصل في تقدير ترك الأهمّ للزوم الخُلف، فليس للفعل حينئذٍ عِدل وبدل حتّى يكون وجوبه تخييريّاً»(1) انتهى.

وهذا الجواب لا يخلو من تأمّل؛ وذلك لأنّ القيد المأخوذ في القضية يجب أن يُؤخذ قيداً للمنفيّ في القضيّة المناقضة لها، لا قيداً للنفي؛ وذلك لاشتراط وحدة موضوع القضيّتين في تحقّق التناقض، ولا تتمّ الوحدة المذكورة إلاّ بذلك كي يتوارد النفي والإثبات على مصبٍّ واحد.

ومن هنا ذكروا جواز ارتفاع النقيضين عن المرتبة الماهويّة(2)؛ لعدم

ص: 124


1- نهاية الدراية 1: 473.
2- نهاية الأصول 1: 241؛ حقائق الأصول 1: 185.

استلزامه ارتفاع النقيضين؛ إذ نقيض الوجود - المطلق أو المقيّد - في المرتبة عدم الوجود في المرتبة على أن يكون الظرف قيداً للمنفيّ لا للنفي، فنقيض وجود الكتابة المرتبيّة هو: عدم الكتابة المرتبيّة لا عدم الكتابة المرتبيّ، فكذب الأولى لا يستلزم صدق الأخيرة؛ لعدم كونها نقيضاً لها، فما هما نقيضان لم يرتفعا - لصدق عدم الكتابة المرتبيّة - وما ارتفعا - وهما الأولى والأخيرة - ليسا بنقيضين.

وعليه: يكون نقيض (ترك المهمّ حال ترك الأهمّ) - المعروض للحرمة - هو ترك (ترك المهمّ حال ترك الأهمّ) - بجعل الظرف قيداً للترك المدخول لا الداخل - فيكون واجباً - بناءً على اقتضاء حرمة الشيء وجوبَ ضدّه - ومن الواضح أنّ (ترك المهمّ حال ترك الأهمّ) مُفاده الجمع بين التركين، فيكون مُفاد ترك (ترك المهمّ حال ترك الأهمّ) ترك الجمع بين التركين، وهو كما يتمّ بفعل المهمّ كذلك يتمّ بفعل الأهمّ، فيكون لترك (ترك المهمّ حال ترك الأهمّ) لازمان، كما ذكره المحقّق التقي (قدس سره) .

والأقرب في ردّ إشكال تخييريّة الوجوب ما سيأتي في الجهة الثالثة، من الفرض الخامس من (ما يُناط به الأمر بالمهمّ) إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّ مصداقيّة الفعل لترك الترك غير تامّةٍ لما ذكره السيّد الوالد (دام ظلّه) في مبحث (ثمرة المقدّمة المُوصلة) من (الأصول)(1) وهو استحالة اتّحاد الحيثيّة الوجوديّة مع الحيثيّة العدميّة، فلا تكون إحداهما فرداً للأخرى.

ص: 125


1- الأصول: 317.

الوجه الرابع: [الأمر بالشيء يقتضي حرمة ضدّه العام]

الوجه الرابع - مما أورد به على الترتّب(1) - : أنّ الأمر بالشيء يقتضي حرمة ضدّه العام، فالأمر بالأهمّ يقتضي حرمة نقيضه، والمهمّ إن لم يكن مصداقاً للنقيض فهو ملازمٌ له - ولو في الجملة - ولا يُعقل اختلاف المتلازمين في الحكم، وإن لم نَقُل بسراية حكم أحدهما إلى الآخر.

والجواب: أمّا عن مسلك المصداقيّة: فبما مرّ من عدم معقوليّة مصداقيّة الوجود للعدم والعدم للوجود؛ لاختلاف مزاج الحيثيّتين، فإنّ الوجود عين منشئيّة الآثار، وحيثيّة ذاته حيثيّة طرد العدم والإباء عن العدم، ومن المعلوم أنّ فرديّة شيءٍ لشيءٍ متوقّفةٌ على الاتّحاد بينهما، فإنّ الفرد هو مصداق الطبيعة بالحمل الشائع، وكلّ طبيعةٍ تُؤخذ - لا محالة - في فردها، فكيف يكون أحدهما فرداً للآخر؟

وأمّا عن مسلك السراية: فبأنّه إمّا أن يُراد السراية في مرحلة الملاك، أو السراية في مرحلة الإرادة، أو السراية في مرحلة الجعل والاعتبار.

أمّا الملاك فهو صفةٌ تكوينيّةٌ في الشيء فلا يسري إلى غيره، وإن كان ملازماً له، فإذا فُرض قيام المصلحة بشرب المريض للدواء - مثلاً - فلا يستلزم ذلك سرايتها إلى الملازمات التكوينيّة للشرب، التي لا تدخل - لكثرتها - تحت العدّ والإحصاء.

ومن هنا يُمكن أن يُقال بتعلّق الملاكات - كالأوامر - بالطبائع لا بالأفراد، حتّى أنّها لو فُرضت مجرّدةً عن الخصوصيّات لكانت واجدةً للملاك،

ص: 126


1- منتقى الأصول 2: 422.

وكفى الإتيان بها كذلك؛ إذ ما دام الملاك قائماً بالطبيعيّ فلا يسري منه إلى الخصوصيّات الفرديّة، وإن لم يُمكن التفكيك بينه وبينها بمقتضى أنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يُوجد.

ونظير ما نحن فيه ما ذكروه من أنّ: «مُصاحب العلّة ليس بعلّة، وكذا مُصاحب المعلول ليس معلولاً»(1)؛ إذ لا تكون العلّية والمعلوليّة إلاّ بملاكٍ يقتضيهما، والمُصاحبة الوجوديّة لا تستلزم المشاركة الملاكيّة.

ومنه ينقدح النظر في السراية في مرحلة الإرادة ومبادئها؛ إذ الإرادة تابعةٌ للملاك، فاختصاصه يستلزم اختصاصها.

وكذا السراية في مرحلة الجعل والاعتبار؛ وذلك لتبعيّة الجعل للإرادة، كما لا يخفى.

اللّهم إلاّ أن يُقال: بكفاية نفس الملازمة، وعدم الحاجة إلى ملاكٍ كامنٍ في ذات الملازم، لكن هذا القدر يُثبت إمكان تعلّق الإرادة ومبادئها بالملازم، ولا يُثبت كلّية الملازمة، فتدبّر.

وقد يُقرّر النظر في السراية في مرحلة الجعل بأنّه إن أريد بها (الاستتباع القهريّ) - المتحقّق بين جعل الحكم على أحد المتلازمين وجعله على الآخر - فهو غير معقول؛ إذ لا يكون الاستتباع إلاّ في الأعمال غير الاختياريّة، أو الاختياريّة غير المباشريّة، أمّا الأفعال الاختياريّة المباشريّة فإنّها لا تكون معلولة لأفعالٍ مباشريّةٍ أخر؛ لتبعيّتها في وجودها لمبادئ الاختيار - من التصوّر والتصديق ونحوهما - وإلاّ لم تكن اختياريّة، والإنشاء

ص: 127


1- كشف المراد: 183.

فعلٌ اختياريٌّ مباشريٌّ للجاعل، فلا يكون إنشاء الحرمة على النقيض مستتبعاً لإنشاء حكم ٍ مماثلٍ على الملازمات.

وإن أريد بها (الداعويّة الاختياريّة) ففيه: أنّ العمل الاختياريّ لا يكون إلاّ لغايةٍ يُراد تحقيقها به، فإنّ وجود الشيء رهينٌ بوجود علَلِه الأربع: المادّية والصوريّة والفاعليّة والغائيّة، فمن دون وجود العلّة الغائيّة لا يُمكن وجود الشيء؛ إذ العلّة الغائيّة علّة فاعليّة العلّة الفاعليّة، وإنشاء الحكم على الشيء إن كان كافياً في التحريك إليه أو الزجر عنه، فلا تبقى حاجةٌ إلى الأمر بالملازمات أو النهي عنها؛ لكونهما لغواً وعبثاً، وإن لم يكن كافياً في التحريك أو الردع فالأمر بالملازمات أو النهي عنها لا يكون مؤثّراً في التحريك أو الردع، فيكون الأمر والنهي بلا غايةٍ يقتضيانها، وهو محال.

وفيه: أنّه يكفي التأكيد في دفع اللغويّة؛ لإمكان توقّف الباعثيّة على تعدّد الأمر، وعدم كفاية الأمر الواحد في ذلك، ونظيره - من بعض الوجوه - ما ذكروه من إمكان كون العمل مستحبّاً وتركه مكروهاً، كصلاة الليل، والسواك والزواج، والرداء للإمام، والتحنّك للمصلّي، وتزيّن المرأة في الصلاة، ونحو ذلك، ونظيره الحكم على الضدين اللذين لا ثالث لهما ونحوهما، كتعدّد الثياب التي ترتديها المرأة في الصلاة، ومُوازاة العنق للظهر في الركوع، وكون الكفن قطعةً واحدةً غير مخيطة، وكبعض الفضائل الأخلاقيّة إلى غير ذلك(1).

ص: 128


1- المقنعة: 120؛ الخلاف 1: 70-71؛ المبسوط 4: 160؛ تلخيص المرام: 21؛ إيضاح الفوائد 1: 86؛ تذكرة الفقهاء 2: 451؛ جواهر الكلام 10: 117؛ السرائر 1: 251.

هذا ولكن لا يخفى أنّ الإمكان أعمّ من الوقوع، فلا يدلّ إمكان تعدّد الحكم في أطراف التلازم على وقوعه، ومع احتمال الجعل وعدمه يكون الأصل العدم.

ثمّ إنّه يرد أيضاً على مسلك السراية استلزامه لانحصار الأحكام في الواجب والحرام وانتفاء الثلاثة الأخر، وهذا نظير ما قُرّر في شبهة الكعبي(1)، فتأمّل.

وأمّا مسلك (عدم اختلاف المتلازمين في الحكم) فقد أجاب عنه المحقّق الإصفهاني في النهاية بقوله: «إنّ الكلام في الضدين اللذين لهما ثالث، وإلاّ فوجود أحدهما ملازمٌ قهراً لعدم الآخر، وبالعكس، فلا معنى للحكم على ملازمه رأساً، وفيما كان لهما ثالث وإن سلّمنا التلازم إلاّ أنّ المانع من اختلاف المتلازمين في الحكم اللزوميّ لزوم التكليف بما لا يُطاق، وهذا المحذور غير جارٍ هنا؛ لأنّ الإتيان بالأهمّ رافعٌ لموضوع امتثال الأمر بالمهمّ، وبعد اختيار عصيان الأمر بالأهمّ وثبوت العصيان ليس الحكم اللزوميّ بالمهمّ إلقاءً له فيما لا يُطاق، فاختلاف المتلازمين إنّما يضرّ فيما إذا لم يكن هناك ترتّب»(2).

ص: 129


1- أجود التقريرات 1: 261، وفيه: «بقي الكلام فيما ذهب إليه الكعبي من القول بانتفاء المباح، وهذا القول مبتنٍ على مقدّمتين: الأولى: توقّف ترك الحرام على فعل ٍ من الأفعال الوجوديّة، بدعوى استحالة خلوّ المكلّف عن فعل ٍ من الأفعال الاختياريّة. الثانية: احتياج الحادث في بقائه إلى المؤثّر، فيترتّب عليهما أنّ ترك الحرام يتوقّف حدوثاً وبقاءاً على إيجاد فعل ٍ من الأفعال الاختياريّة، فيكون واجباً بالوجوب المقدّمي، فلا يُمكن فرض مباح ٍ في الخارج».
2- نهاية الدراية 1: 472-473.

هذا ولكن للقائل بامتناع الترتّب أن يقول: إنّه لا فرق في تحقّق محذور (التكليف بما لا يُطاق) بين كونه مطلقاً، أو على تقديرٍ دون تقديرٍ، وبين تعليقه على ما لا يستطيع المكلّف هدمه وما يستطيع، فإذا كلّف المولى عبدَه بالجمع بين الانتصاب والانتكاس - مثلاً - في حالة عصيان الأمر عُدّ لاغياً، ومُوقعاً للمكلّف فيما لا يُطاق، وإن كان ذلك على تقديرٍ اختياريّ، وقد مضى طرف من الكلام في ذلك في الدليل الأوّل مما استُدلّ به للامتناع، فراجع.

مع أنّ ما ذكر في النهاية وإن فُرض كونه وافياً بدفع هذا الإشكال إلاّ أنّه لا يفي بدفع الإشكال في مرحلة الإرادة؛ إذ لا يُمكن تخالف إرادتين منتهيتين إلى الحكم بالنسبة إلى أمرين متلازمين، بأن يكون أحدهما مراد الوجود والآخر مراد العدم؛ لاستحالة تحقيق مراد المولى في هذه الصورة، وما يستحيل مراده تستحيل إرادته؛ للتلازم بين المراد والإرادة في الاستحالة والإمكان، وسراية حكم أحدهما إلى الآخر - عند الالتفات - فإذا فُرض أنّ استقبال الجنوب كان مراد العدم، ومبغوضاً للمولى في بعض الحالات، بحيث أنشأ الحكم بالحرمة عليه، فلازمه - وهو استدبار الشمال - لا يخلو من أن يكون مبغوضاً له أيضاً، أو لا تتعلّق به إرادة ولا كراهة أبداً، أمّا أن يكون اللازم مراداً للمولى بحيث يحكم عليه بالوجوب فهو غير معقول.

وعليه: فإذا كان (عدم الأهمّ) مبغوضاً للمولى - باعتبار أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن نقيضه - فكيف يكون ملازمه - وهو (وجود المهمّ) - محبوباً لديه ومراداً عنده، وتكون تلك الإرادة مبعثاً لإنشاء الحكم اللزوميّ الوجوبيّ على (وجود المهمّ)؟ فتأمّل.

ص: 130

ونظير ذلك يجري في مرحلة الملاك؛ إذ إنّه وإن أمكن أن تُوجد المصلحةُ في أحد المتلازمين والمفسدةُ في الآخر - كما يُمكن أن تُوجدا في أمرٍ واحدٍ - إلاّ أنّ مآل ذلك إلى إباحة الفعل إن تساوى الملاكان بعد الكسر والانكسار، وإلاّ كان الحكم مع الغالب منهما على نحو الوجوب والتحريم، أو على نحو الاستحباب والكراهة، فلا يُعقل أن يكون أحدهما ذا مفسدةٍ مؤثرةٍ في التحريم الفعليّ، كالنقيض في المقام، والآخر ذا مصلحةٍ مؤثرةٍ في الوجوب الفعليّ، كلازم النقيض فيما نحن فيه.

وسيأتي تمام الكلام في ذلك في طيّ ما استُدلّ به لجواز الترتّب بإذن اللّه تعالى.

ثمّ إنّه يرد على جميع ما تقدّم من المسالك - من المصداقيّة والسراية وعدم اختلاف المتلازمين في الحكم - عدم تسليم المبنى؛ إذ الأمر لا يقتضي النهي عن ضدّه - ولو كان عامّاً - على ما قُرّر في محلّه(1).

الوجه الخامس: [قياس الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة]

الوجه الخامس - ممّا أورد به على الترتّب - : قياس الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة(2)، فكما لا يُمكن وجود إرادتين تكوينيّتين مترتّبتين، كذلك لا يُمكن وجود إرادتين تشريعيّتين مترتّبتين.

وهذا الوجه مبنيٌّ على كون الإرادة التكوينيّة هي الجزء الأخير من العلّة التامّة للفعل، فلا محالة تنتهي إليه؛ لاستحالة تخلف المعلول عن العلّة

ص: 131


1- قوانين الأصول: 108؛ فوائد الأصول 1: 304؛ منتهى الأصول 1: 298.
2- نهاية الدراية 1: 472.

التامّة، ومعه ينتفي شرط تعلّق الإرادة بالمهمّ، فلا تُعقل إرادته على نحو الترتّب، مع أنّ وجودهما معاً يستلزم تلبّس المكلّف بالضدّين في وقتٍ واحدٍ، وهو محال، لكن سيأتي في مبحث (ما يُناط به الأمر بالمهمّ) المناقشة في المبنى إن شاء اللّه تعالى.

ويؤيّده ما نجده من أنفسنا من تعلّق الإرادة بشيءٍ مستقبليٍّ، وبغيره على تقدير عدم تيسّر الوصول إليه، فتأمّل.

وعلى فرض تسليم الحكم في المقيس عليه يرد على هذا الوجه ما ذكره المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في النهاية حيث قال: «إنّه قياس مع الفارق، فإنّ الإرادة التكوينيّة هي الجزء الأخير من العلّة التامّة للفعل، فلا يُعقل إناطة إرادةٍ أخرى بعدم متعلّق الأولى مع ثبوتها، بخلاف الإرادة التشريعيّة فإنّها ليست كذلك، بل الجزء الأخير لعلّة الفعل إرادةُ المكلّف، فهي من قبيل المقتضي، وثبوت المقتضي مع عدم مقتضاه لا مانع منه، وخلوّ الزمان وإن كان شرطاً في تأثير المقتضي أثره إلاّ أنّ خلوّه عن المزاحم في التأثير شرطٌ، لا خلوه عن المقتضي المقرون بعدم التأثير، فإمّا لا اقتضاء لأحدهما، وإمّا لا مزاحمة للمقتضي»(1)، فتأمّل.

ولا يخفى عليك أنّ اختلاف مزاج الإرادتين غير خاصٍّ بالمقام، بل يجري في مواطن أخرى، ممّا يجعل قياس إحداهما بالأخرى قياساً فاقداً للجامع المشترك.

ص: 132


1- نهاية الدراية 1: 472.

الوجه السادس: [اجتماع الوجوب والحرمة في ترك المهمّ]

الوجه السادس - ممّا أورد به على الترتّب - : اجتماع الوجوب والحرمة في ترك المهمّ(1)، أما الوجوب: فلأنّ ترك الضدّ مقدّمةٌ لوجود ضدّه، فيكون ترك المهمّ واجباً، وأمّا الحرمة: فلأنّه نقيض الواجب - أي المهمّ - فيكون حراماً.

والجواب: أوّلاً: عدم تسليم الاقتضاء - كما مرّ - فلا حرمة.

ثانياً: عدم تسليم المقدّمية - على ما قُرّر في مسألة (الضدّ) - فلا وجوب.

ثالثاً: عدم تسليم الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، على ما قُرّر في مبحث (مقدّمة الواجب)، فلا وجوب أيضاً.

وقد يُورد عليه بأنّ عدم التلازم بلحاظ عالم الحكم لا يُجدي بعد الملازمة في عالم الإرادة، وما يسبقها من المبادئ؛ إذ إرادة الشيء تشريعاً كإرادته تكويناً مستلزمةٌ لإرادة مقدّماته، فإذا تعلّقت الإرادة بعدم المهمّ - لمكان مقدّميته - استحال أن تتعلّق الكراهة به، كما هو مقتضى الوجوب والاقتضاء.

لكن قد يُجاب - كما ذكره بعضهم(2) - بأنّ إرادة المقدّمة ليست بمعنى

ص: 133


1- منتقى الأصول 2: 440-441.
2- بحوث في علم الأصول 2: 283، وفيه: «إنّ إرادة المقدّمة ليست بمعنى تعلّق الحبّ والشوق بها، بل بمعنى تحرّك الإنسان وإعمال قدرته باتّجاه فعلها، الذي هو روح الاختيار وجوهره... وذلك لحكم الوجدان بأن لا شوق إلاّ اتّجاه المطلوب النفسيّ فقط، والذي فيه المصلحة الملائمة مع الذات، وأمّا إرادة المقدّمة فليست بأكثر من إعمال القدرة والتحرّك عليها بداعٍ عقلانيّ هو الوصول إلى المطلوب النفسيّ...».

تعلّق الشوق بها، بل بمعنى التحرّك إليها وإعمال القدرة نحوها، لحكم الوجدان بأن لا شوق إلاّ نحو المطلوب النفسيّ فقط، فإنّ الحبّ والبغض ينشآن من ملائمة الشيء مع النفس أو منافرته معها، وحيثيّة المقدّمية وتوقّف المطلوب النفسيّ على المقدّمة حيثيّةٌ عقلائيّةٌ تستوجب إعمال القدرة نحوها، وليست موجبةً لملائمةٍ أخرى مع الذات.

ويُنبّه عليه: إمكان بغض المقدّمة وحبّ ذيها فيما لو توقّف إنقاذ النفس على بَتر عضوٍ من الأعضاء مثلاً، فإنّه لا يخرج - بسبب مقدّميته - عن كونه مبغوضاً. وكذا لو اضطّر الإنسان لارتكاب حرام ٍ يكرهه لتخليص نفسه من الهلكة.

وأيضاً قد يبتهج الإنسان بالأثر المترتّب على قتل وليٍّ من الأولياء - من الهداية والإرشاد ونحوهما - مع حُزنه على ما أصابه، وهكذا.

وعليه: فإعمال القدرة نحو المقدّمة في الإرادة التكوينيّة لمكان الاضطرار إليها غيرُ مستلزم ٍ للشوق إليها في الإرادة التشريعيّة.

ولا يخفى أنّ نظير ما ذكرناه في هذا الجواب - الثالث - يرد في الجواب الأوّل، فتدبّر.

رابعاً: إنّ حرمة ترك المهمّ - باعتبار كونه نقيضاً للواجب - إنّما هي على تقدير ترك الأهمّ لا مطلقاً، وأمّا وجوبه فهو - لكونه مقدّمياً - يتبع الوجوب المتعلّق بالأهمّ إطلاقاً وتقييداً وإهمالاً، وتقييدُ وجوب الأهمّ بتركه وإطلاقُه لتركه محالٌ، فترك المهم من حيث نفسه واجبٌ، ومبنيّاً على تقدير ترك الأهمّ حرامٌ، فليس في مرتبة ترك الأهمّ وعلى هذا التقدير إلاّ الحرمة؛ لاستحالة وجوبه المقدّمي في هذه المرتبة.

ص: 134

وفيه: جواز إطلاق وجوب الأهمّ لحالة تركه، وإلاّ لورد نظيره في كلّ موطنٍ استحال فيه تقييد الحكم بتقديرٍ من التقادير، كما في تقييد الحكم بتقدير العلم به، أو كان التقييد فيه لغواً، كما في تقييد عدم الإبصار في حالة النوم بتقدير كون الإنسان أبيض - مثلاً - ولأنّ المحذور ليس في ثبوت الحكم على المُقيّد كي يثبت المحذور في الإطلاق أيضاً، بل هو في التقييد، فلا يجري في المطلق؛ إذ مركزه نفسُ التقييد، والمفروض عدمُه في المطلق. وسيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى في مناقشة المقدّمة الثانية من مقدّمات المحقّق النائيني (قدس سره) .

مضافاً إلى ما ذكره المحقّق الإصفهاني في النهاية من «أنّه بعدما كانت الذات واحدةً، وهي محفوظةٌ في هذه المرتبة، لا يُعقل أن تكون من حيث نفسها واجبةً، ومن حيث مرتبتها المتأخّرة عن مرتبة الذات محرّمةً، لأنّ مناط رفع التضادّ ليس اختلاف الموضوع بالرُتب، بل بالوجود»(1) انتهى.

وقد سبق البحث في ذلك في الوجه الأوّل مما أورد به على الترتّب.

خامساً: إنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة لا مطلق المقدّمة، فيكون الواجب هو ترك المهمّ المُوصل، ومع الإيصال ينتفي موضوع الأمر بالمهمّ، فلا يكون المهمّ واجباً ليكون تركه حراماً، ومع عدم الإيصال لا وجوب للمقدّمة، فلا يجتمع الوجوب والحرمة على أيّ واحدٍ من التقديرين.

ثمّ إنّه يُمكن تقرير هذا الوجه - السادس - بأنّ ترك المهمّ واجب - لمكان المقدّمية - فلا يُعقل أن يكون فعله أيضاً واجباً ومأموراً به بالأمر

ص: 135


1- نهاية الدراية 1: 475.

الترتّبي.

وبهذا يُستغنى في الدليل عن الاقتضاء.

لكن لا يخفى أنّ المحذور على هذا التقرير ليس هو الاجتماع، بل الحكم على طرفي الإيجاب والسلب لأمرٍ واحدٍ بحكمين لزوميّين متماثلين، وهو محال.

ويرد على هذا التقرير بعض ما تقدّم.

ثمّ إنّه يُمكن جعل مصبّ اجتماع الوجوب والحرمة (فعل المهمّ) بتقريب: أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ، فيكون المهمّ منهيّاً عنه - لكونه ضداً للأهمّ - ومأموراً به، لأنّه المفروض عند القائل بالترتّب.

ويرد عليه: أوّلاً: عدم تسليم الاقتضاء.

ثانياً: عدم تسليم المُنافاة، فإنّ مبغوضيّة (فعل المهمّ) غيريّةٌ، فلا تُنافي تعلّق المحبوبيّة النفسيّة به، فإنّ مبغوضيّة الفعل ليست لملاكٍ فيه يقتضيها بل لمُجرّد المزاحمة للواجب الأهمّ، فيكون الفعل على ما هو عليه من الملاك المقتضي لمحبوبيّته، لكن هذا الجواب لا يخلو من نظر؛ لأنّ الكلام في الأمر لا في المحبوبيّة، فتأمّل.

ثمّ إنّه يُمكن جعل مصبّ الاجتماع - فعل المهمّ - بتقريبٍ آخر وهو: أنّ ترك المهمّ واجب - لمكان مقدّميته لفعل الأهمّ - فيكون نقيضه - وهو فعل الأهمّ - حراماً، فإذا فُرض كون فعل المهمّ مأموراً به بالأمر الترتّبي لزم الاجتماع.

ص: 136

وقد يُجاب عنه - مضافاً إلى ما تقدّم - بأنّ مانعيّة الضدّ لكلّ واحدٍ من أضداده غُير مانعيّته للآخر، فسدّ باب عدم الضدّ من ناحيته غيرُ سدّ باب عدم ضدٍٍّ آخر من ناحيته، ومقدّميته للضدّ الأهمّ تقتضي تفويته من هذه الجهة لا من سائر الجهات، ونقيضُه حفظُه من هذه الجهة لا من سائر الجهات، فهو المبغوض دون حفظه وسدّ باب عدمه من جميع الجهات، فلا مانع من محبوبيّة حفظه وسدّ باب عدمه من سائر الجهات(1).

وأورد عليه: ب- «أنّ وجود المهمّ بوحدته مُضادٌّ لجميع أضداده ومانعٌ عنها، وتركه مقدّمةٌ لكلّ واحدٍ واحدٍ منها، ولا يتعدّد هذا الواحد بإضافته إلى أضداده، وبكثرة اعتباراته، فإنّ مُطابق طرد جميع أعدامه المضافة إلى أضداده شخصُ هذا الوجود»(2).

ص: 137


1- نهاية الدراية 1: 476.
2- نهاية الدراية 1: 476.

ص: 138

الفصل الرابع : أدلّة جواز الترتّب

اشارة

ص: 139

ص: 140

أدّلة جواز الترتّب

اشارة

وقد استُدلّ لجواز الترتّب بأدلّة:

الدليل الأوّل

ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) وهو يتألّف من مقدّمات، والعمدة منها ثلاث:

المقدّمة الأولى: إنّ الواجب المشروط لا يخرج عمّا هو عليه بعد تحقّق شرطه؛ لأنّ شرائط التكليف ترجع إلى قيود الموضوع، والموضوع لا ينسلخ عن الموضوعيّة بعد وجوده خارجاً، والسبب في ذلك أنّ الأحكام الشرعيّة مجعولةٌ على نهج القضايا الحقيقيّة لا الخارجيّة.

ولعلّ القول بالانقلاب نشأ من جهة خلط موضوع الحكم بداعي الجعل، بتوهّم أنّ شرط التكليف خارجٌ عن موضوعه ومن قبيل الداعي لجعل الحكم على موضوعه، فبعد وجوده يتعلّق الحكم بموضوعه ولا يبقى للاشتراط مجال؛ وذلك مُبتنٍ على أن تكون القضايا المتكفّلة لبيان الأحكام الشرعيّة من قبيل الإخبار عن إنشاء تكاليفٍ عديدةٍ يتعلّق كلّ واحدٍ منها بمكلّفٍ خاصٍّ عند تحقّق شرطه، وقد بيّنا بُطلانه.

وهذا الخلط وقع في جملةٍ من المباحث، منها: ما نحن فيه، فإنّه تُوهّم أنّ الأمر بالمهمّ يصير مطلقاً أيضاً بعد عصيان الأمر بالأهمّ، فيقع التزاحم بين

ص: 141

الخطابين(1). انتهى.

هذه المقدّمة أسّست لبيان عدم المطاردة بين الأمر بالمهمّ والأمر بالأهمّ، باعتبار تأخّره عنه في الرتبة، لا قبل تحقّق الشرط فقط، بل بعده أيضاً.

أمّا الأوّل: فلأخذ عصيان الأمر بالأهمّ في موضوع الأمر بالمهمّ، والعصيان متأخّر عن الأمر بالأهمّ، كما أنّ المحمول متأخّر عن الموضوع، فيتأخّر الأمر بالمهمّ في الرتبة عن الأمر بالأهمّ.

وأمّا الثاني: - وهو مصبّ البحث في هذه المقدّمة - فلأنّ شرط الواجب المشروط يرجع للموضوع، وهو لا يتبدّل بتحقّق الشرط في الخارج وعدمه، فيظلّ الأمر بالمهمّ مشروطاً بعصيان الأمر بالأهمّ، فيظلّ التأخّر الرتبيّ بين

ص: 142


1- أجود التقريرات 1: 287، وفيه: «إنّ شرائط التكليف كلّها ترجع إلى قيود الموضوع ولا بدّ من أخذها مفروضة الوجود في مقام الجعل والإنشاء، وإنّ فعليّة التكليف تتوقّف على فعليّتها وتحقّقها في الخارج، فحالها حال الموضوع بعينه؛ إذ كلّ موضوع ٍ شرطٍ وكلّ شرطٍ موضوع، ومن الواضح أنّ الموضوع بعد وجوده خارجاً لا ينسلخ عن الموضوعيّة ويكون الحكم بلا موضوع، فلا وجه لما ذكره بعضهم من: أنّ الواجب المشروط بعد تحقّق شرطه ينقلب مطلقاً؛ إذ هو مساوقٌ للقول بأنّ الموضوع بعد وجوده خارجاً ينسلخ عن موضوعيّته، ولا يبعد أن يكون ذلك من جهة خلط موضوع الحكم بداعي الجعل وعلّة التشريع، بتوهّم أنّ شرط التكليف خارج عن موضوعه بل هو من قبيل الداعي لجعل الحكم على موضوعه، فبعد وجوده يتعلّق الحكم بموضوعه ولا يبقى للاشتراط مجالٌ أصلاً، وقد بيّنا في ذلك المبحث أنّ كون شرط الحكم من قبيل دواعي الجعل يبتني على أن تكون القضايا المتكفّلة لبيان الأحكام الشرعية من قبيل الإخبار عن إنشاء تكاليفٍ عديدةٍ يتعلّق كلّ واحدٍ منهما بمكلّفٍ خاصٍّ عند تحقّق شرطه، وأبطلنا ذلك المبنى في المبحث المزبور، وذكرنا أنّ هذا الخلط وقع في جملةٍ من المباحث، منها: ما نحن فيه، فإنّه تُوهّم فيه أنّه بعد عصيان الأمر بالأهمّ يكون الأمر بالمهمّ أيضاً مطلقاً، فلا محالة يقع التزاحم بين الخطابين في هذه المرتبة».

الأمرين، فتنتفي المطاردة من البين.

وفي هذه المقدّمة مواقع للنظر:

أوّلاً: إنّ حديث الاحتفاظ بالهويّة وعدم الانقلاب لا يختصّ بالموضوع، بل يعمّ كلّ ما يتعلّق بالقضيّة الحكميّة، فالموضوع يبقى على ما هو عليه والحكم لا يتبدل والشرط لا يخرج عن كونه شرطاً ولو فُرض القول بعدم رجوعه إلى الموضوع، إلاّ في حالات طُروّ النسخ ونحوه.

والسبب في ذلك: أنّ القضيّة الحكميّة يتحقّق لها وجود فعليّ بإنشاء المولى الحكم على الموضوع المقدّر الوجود، دون أن تكون لها حالة انتظاريّة أو تبدّل، أمّا الأوّل: فلأنّه يستحيل انفكاك المنشأ عن الإنشاء استحالة انفكاك الانكسار عن الكسر، والوجود عن الإيجاد، وأمّا الثاني: فلأنّه يستحيل انقلاب المعلول عمّا هو عليه بدون تبدّلٍ في ناحية علَلِه الوجوديّة، والمفروض في المقام عدمه.

وبتقريرٍ آخر: الحكمُ المشروطُ له مراحل أربع: الملاك، والإرادة، والجعل، والمجعول.

أمّا المجعول فلا يُوجد إلاّ بوجود موضوعه، وإلاّ لزم انفكاك المعلول عن علّته.

وأمّا الجعل فتبدّله من الاشتراط إلى الإطلاق يحتاج إلى علّةٍ، وليست إلاّ تبدّل الملاك والإرادة، أو الإرادة وحدها - ولا يُتصوّر الفرض الثاني إلاّ في المولى العرفيّ - والمفروض عدم التبدّل فيما نحن فيه، فيبقى الحكم على ما كان عليه؛ لبقاء علّته على ما كانت عليه.

ص: 143

ومنه يظهر عدم الفرق في ذلك بين القضايا الحقيقيّة والقضايا الخارجيّة التي ينشأ الحكم فيها معلّقاً على تحقّق الشرط في الخارج؛ إذ جانب الجعل يُمثّل الثبات في كلتا القضيتين، وجانب المجعول والخارج يُمثّل التغيّر في كلتيهما دون فرق بينهما أصلاً.

وعليه: فلا مُلزم لإرجاع الشرط إلى الموضوع؛ لاشتراك الأمرين في الثبات وعدم الانسلاخ عمّا هما عليه.

ثانياً: إنّ (رجوع شرائط التكليف إلى قيود الموضوع): إن أريد به رجوع شرائط الجعل - أي علَلِه ودواعيه التي يتوخّى الحصول عليها - إليها، ففيه: أنّه يستحيل كون الداعي قيداً للموضوع؛ لأنّه يلزم منه خروج الواجب المطلق عن كونه واجباً مطلقاً، أو تحصيل الحاصل، أو الأمر بالشيء بلا ملاكٍ يقتضيه، كما في قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}(1) فإنّه لو جعل الموضوع المكلّفُ المتذكّر، فقبل أداء الصلاة لا يكون لها وجوب، ضرورة أنّ الحكم لا يدعو إلى موضوعه؛ إذ إنّ وجوده متفرّع على وجود موضوعه، فدعوته إليه تستلزم تقدّم الشيء على نفسه، بل على علّته، وحين أداء الصلاة يكون الأمر بأدائها تحصيلاً للحاصل، وبعد الأداء يكون الأمر بلا ملاك يقتضيه؛ لفرض استيفاء الملاك من قبل.

وإن أريد به رجوع شرائط المجعول إليها، ففيه: ما في (التهذيب) من «أنّ القيود بحسب نفس الأمر على قسمين: قسم يرجع إلى المادّة والمتعلّق،

ص: 144


1- طه: 14.

بحيث لا يُعقل إرجاعه إلى الحكم والإرادة، كما إذا تعلّق بالصلاة في المسجد غرض مطلق، فالوجوب المطلق توجّه إلى الصلاة في المسجد، فيجب على العبد بناء المسجد والصلاة فيه.

وقسم يرجع إلى الوجوب والحكم ولا يُعقل عكسه، كما إذا لم يتعلّق بإكرام الضيف غرضٌ معتدٌ به، إلاّ أنّه إذا ألمّ به ونزل في بيته يتعلّق به الغرض، ويحكم على عبيده بأن يُكرموه إذا نزل، فالقيد حينئذٍ قيد لنفس التكليف، لا يُعقل إرجاعه إلى المادّة؛ لأنّه يستلزم أن يتعلّق بإكرامه إرادة مطلقة، فيجب عليهم تحصيل الضيف وإنزال الضيف في بيته.

فإرجاع جميع الشروط إلى الموضوع يستلزم إلغاء ما هو الدائر بين العقلاء من إنشاء الحكم على قسمين، بل ظهور الإرادة على ضربين، وقد عرفت أنّ اختلاف الواجب المشروط والمطلق لبّي واقعيّ، فلا يجوز الإرجاع بعد كون كلّ واحدٍ معتبراً لدى العرف، بل بينهما اختلاف في الآثار المطلوبة منهما في باب الأحكام»(1) انتهى.

وهذا الإشكال بشقّيه لا يرد على ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) .

أمّا الأوّل: فلانصراف كلامه عن شرائط الجعل.

وأمّا الثاني: فلأنّ المراد بالموضوع في الاصطلاح هو المكلّف - كما صرّح به المحقّق النائيني في مواضع من كلامه، وكما ذكره المورد نفسه - ورجوع شرائط التكليف إلى الموضوع لا يُلغي الواجب المشروط فقولنا:

ص: 145


1- تهذيب الأصول 1: 250-251.

(المكلّف يجب عليه الحجّ إذا استطاع) لو رجع إلى (المكلّف المستطيع يجب عليه الحجّ) لم يضرّ بكون وجوبه مشروطاً لبّاً، وإن اختلف التعبيران لفظاً؛ لعدم داعويّة الحكم إلى إيجاد موضوعه، فيبقى الوجوب مشروطاً ومنوطاً بتحقّق الموضوع، وأمّا قيد المادّة وحدها فليس من شرائط التكليف بل هو من شرائط المتعلّق، فهو أجنبي عن كلامه، فلا يرد عليه: أنّ رجوعه إلى الموضوع يُخرج الواجب المطلق عن كونه كذلك، كما في قولنا: (صلِّ عن طهارة) إذا رجع إلى (المكلّف المتطهّر يجب عليه الصلاة) إذ يكون وجوبها - حينئذٍ - ثابتاً على تقدير اتّفاق التطهّر، وهو خُلف.

ثالثاً: لو رجعت الشرائط إلى القيود في الموضوع أو المتعلّق لم يصحّ الاستصحاب في مثل (الماء نجس إذا تغيّر) فيما لم يُعلم كون المناط التلبسّ بالتغيّر ولو آناً ما ليشمل الحكم حالة انقضاء التلبّس، أو أنّ المناط هو التلبسّ بالفعل؛ وذلك لعدم إحراز وحدة موضوع القضيّتين، وهي شرط جريانه.

وفيه: أنّه ليس المناط في بقاء الموضوع البقاء الحقيقيّ العقليّ ولا بقاء ما أخذ موضوعاً في لسان الدليل، بل البقاء العرفيّ - على ما فُصّل في مباحث الاستصحاب - ولا فرق فيه بين كون الوصف مأخوذاً في الشرط أو الموضوع، فرجوعه إليه ليس بضائر.

رابعاً: إنّ ما ذكره (قدس سره) إنّما يتمّ لو كان الأمر بالمهمّ مشروطاً، وأمّا لو كان معلّقاً فلا، على ما سبق في أدلّة القول بالامتناع.

لا يُقال: لو لم تُقيّد الهيئة كان الوجوب فعليّاً، فيترشّح على المقدّمة من

ص: 146

ذيها - ولو عقلاً - لتبعيّتها له في الإطلاق والاشتراط، وخصوصيّة الشرط في المقام تمنع عن وجوبه، وإلاّ لزم اجتماع الضدّين.

لأنّه يُقال: ينتفي الترشُح في حالات ثلاث:

إحداها: كون المصلحة مقتضيةً لأخذ الشرط بوجوده الاتفاقيّ مناطاً للتنجّز، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ مثلاً.

ثانيتها: وجود المانع العقليّ، كخروج المقدّمة عن حيّز القدرة، مثل شرطيّة الدلوك لوجوب الصلاة.

ثالثتها: وجود المانع الشرعيّ فإنّه كالعقليّ، مثل ما نحن فيه، حيث أخذ الوجوب فيه على نحوٍ لا يترشّح على هذه المقدّمة، حذراً من اجتماع الضدّين؛ ولذا يترشّح على غيرها من المقدّمات - ولو عقلاً - لو فُرض معلّقاً، فتأمّل.

هذا ولا يخفى أنّ ذلك لا يرد على مسلك من أنكر وجود الواجب المعلّق، بل إمكانه، كما هو مسلك المحقّق النائيني (قدس سره) (1).

خامساً: ما في (آراء الأصول) من «أنّ الشرائط غالباً تصرّمية، وبوجودها التصرّمي تكون عِلَلاً لتعلّق الحكم بالموضوع، فكيف ترجع للموضوع؟»(2).

ويرد عليه: أنّه لو فُرض رجوع الشرط إلى الموضوع فإنّما يُؤخذ فيه بنفس مفهومه حين كان شرطاً، فلا يكون هناك فرق بين أخذه في الشرط أو الموضوع من هذه الجهة، وهكذا الأمر بالنسبة إلى المتعلّق، ففي قولنا:

ص: 147


1- أجود التقريرات 1: 115، 141، 148، 375.
2- آراء حول مبحث الألفاظ في علم الأصول 2: 86.

(الماء إذا تغيّر ينجس) إن كان التلبّس بالتغيّر - فعلاً - شرطاً، أخذ في المتعلّق كذلك، فلا محالة ينتفي بانتفاء التلبّس الفعليّ، وإن كان التلبّس آناً ما شرطاً فلا محالة يستمرّ الحكم ولو بعد انتفاء التلبّس، وفي كلتا الحالتين لا فرق بين أخذ التغيّر شرطاً خارجاً عن المتعلّق أو شرطاً داخلاً فيه.

سادساً: إنّ التأخّر الرتّبي لا يُنافي التقارن الزمنيّ، بل قد يجب معه، فإنّ المعلول وإن تأخّر بلحاظ الرتبة عن العلّة إلاّ أنّه يقارنها في الزمان، وإلاّ لزم انفكاك العلّة التامّة عن معلولها، وجواز الانفكاك في كلّ آنٍ؛ لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، وهو مساوق لإنكار العلّية رأساً.

وعليه: فإنّ الأمر بالمهمّ وإن تأخّر عن الأمر بالأهمّ في الرتبة - لأخذ عصيانه في موضوعه - إلاّ أنّهما يتقارنان في الزمان بعد تحقّق شرط الأمر بالمهمّ، فيلزم منه اجتماع الحكمين ويعود المحذور، وقد سبق الكلام في ذلك في أدلّة القول بالامتناع.

سابعاً: إنّه لو فُرض انتفاء التضادّ بين الخطابين بافتراض طوليّتهما إلاّ أنّه سيظلّ التضادّ في الحكم العقليّ بعد تحقّق شرط الأمر بالمهمّ.

وبعبارةٍ أخرى: سيكون هناك تنجيزان عقليّان يتعلّق أحدهما بالأمر بالأهمّ؛ لمكان إطلاقه، والآخر بالأمر بالمهمّ؛ لتحقّق شرطه، فيلزم التهافت في حكم العقل، وهو كافٍ في المحذور.

اللّهم إلاّ أن يُقال: إنّ التنجيز في حالاته فرع الأمر في طواريه، قضاءً لحقّ الظلّية، فلو تكفّلت الطوليّة برفع التضادّ عنه لتكفّلت برفعه عنه أيضاً.

وفيه: أنّه يصحّ في الحكم الكلّي العقليّ الذي يتبع الأمر الشرعيّ، لا في الحكم الجزئيّ المتعلّق بالجري العمليّ، فتأمّل.

ص: 148

المقدّمة الثانية(1): انحفاظ الخطاب في تقدير ما يكون بوجوه:

الأوّل: أن يكون الخطاب مشروطاً بوجوده أو مطلقاً بالنسبة إليه، وهذا إنّما يكون في موارد الانقسامات السابقة على الخطاب، كانحفاظ خطاب الحجّ والصلاة في ظرف الاستطاعة لاشتراطه وإطلاقها، ولابدّ من لحاظ أحدهما عند الالتفات للانقسامات، والإطلاق فيه كالتقييد يكون لحاظيّاً.

الثاني: أن يكون مطلقاً أو مقيّداً بالنسبة إليه بنتيجة الإطلاق أو التقييد، وإنّما يكون في الانقسامات اللاحقة للخطاب، والمُوجب لكلٍّ منهما تقيّد الغرض به أو إطلاقه، والكاشف عنهما متمّم الجعل، كما في مسألة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، واختصاص وجوب الجهر أو الإخفات بالعالم، والإطلاق فيه - كالتقييد - يكون ملاكيّاً لاستحالة اللحاظيّ.

الثالث: أن يكون مقتضياً بنفسه لوضع ذلك التقدير أو رفعه، وهو مختصّ بباب الطاعة والمعصية ويستحيل فيه الإطلاق والتقييد بقسميهما؛ لأنّ وجوب فعل لو كان مشروطاً بوجوده لزم طلب الحاصل، ولو كان مشروطاً بعدمه لزم طلب الجمع بين النقيضين، ومنه يظهر استحالة الإطلاق؛ لأنّه في قوّة التصريح بكلا التقديرين، فيلزم منه كلا المحذورين، مضافاً إلى أنّ تقابل الإطلاق والتقييد إنّما هو تقابل العدم والملكة، فامتناع التقييد يساوق امتناع الإطلاق.

وكون انقسام المكلّف إلى المطيع والعاصي لاحقاً للخطاب فيكون

ص: 149


1- أجود التقريرات 1: 293-297.

انحفاظ الخطاب فيهما بنتيجة الإطلاق، مدفوعٌ بكون محلّ الكلام منشأ انتزاع هذين العنوانين وهو الفعل والترك، ولابدّ من ملاحظتهما حين الخطاب عند الحاكم؛ ليكون خطابه بعثاً إلى أحدهما وزجراً عن الآخر.

فظهر أنّ حال الخطاب بالإضافة إلى تقديرَي الفعل والترك كحال حمل الوجود أو العدم على الماهيّة؛ إذ ليست المُقيّدة بالوجود أو بالعدم أو المطلقة موضوعاً، بل نفس الماهيّة المُعرّاة عن لحاظ الإطلاق والتقييد.

وفرق هذا القسم عن سابقيه هو كون انحفاظ الخطاب من لوازم ذاته فيه؛ لأنّ تعلّق الخطاب بشيءٍ يقتضي وضع تقدير وهدم آخر، بخلافه فيهما، فإنّه من جهة التقييد بذلك التقدير أو الإطلاق، ويترتّب على هذا الفرق أمران:

الأوّل: إنّ نسبة التقدير المحفوظ فيه الخطاب في الأوّلين بالإضافة إليه نسبة العلّة إلى معلولها، أمّا في موارد التقييد فلرجوع الشرائط إلى الموضوع المتقدّم رتبة على الحكم، وأمّا في موارد الإطلاق فلاتّحاد مرتبة الإطلاق والتقييد، وهذا عكس الأخير؛ لأنّ للخطاب نحو علّيةٍ للامتثال، وكذا العصيان؛ لكون مرتبته عين مرتبة الامتثال.

الثاني: إنّ الخطاب في الأوّلين لا يكون متعرّضاً لحال التقدير المحفوظ فيه الخطاب؛ لعدم تعرّض الحكم لموضوعه، فلا يقتضي وجوده ولا عدمه، بخلاف الأخير، فإنّه بنفسه متعرّض لحال ذلك التقدير وضعاً ورفعاً؛ إذ المفروض أنّه المقتضي لوضع أحد التقديرين ورفع الآخر.

ومنه يظهر أنّ انحفاظ خطاب الأهمّ حال العصيان من جهة اقتضائه لرفع

ص: 150

هذا التقدير، بخلاف خطاب المهمّ، فإنّه لا نظر له إلى وضع هذا التقدير ورفعه لأنّه موضوعه، وإنّما يقتضي إيجاد متعلّقه على تقدير العصيان، فلا خطاب المهمّ يرتفع لمرتبة الأهمّ ليقتضي موضوع نفسه، ولا خطاب المهمّ يتنزل ويقتضي شيئاً غير رفع موضوع خطاب المهمّ، فالخطابان في مرتبتين طوليّتين وإن اتّحدا زماناً.

وهذه المقدّمة منظور فيها من وجوه:

الأوّل: إنّ ما ذُكر من خروج الأمرين عن التزاحم، للطوليّة والاختلاف الرتبيّ فيما بينهما، إنّما يتمّ لو كان الأمر بالمهمّ مشروطاً، أمّا لو فُرض كونه معلّقاً فلا.

الثاني: إنّ ملاك التزاحم والتضادّ ليس المعيّة الرتبيّة، بل المعيّة الوجوديّة الزمانيّة، فانتفاء الأولى لا يرفع المزاحمة بعد وجود الثانية.

الثالث: لو كان الاختلاف الرتبيّ مُجدياً في دفع التطارد لأجدى في أخذ العلم بالحكم موضوعاً لحكم ضدّه.

الرابع: النقض بما إذا قُيّد الأمر بالمهمّ بفعليّة الأمر بالأهمّ.

الخامس: النقض بما إذا قُيّد الأمر بالمهمّ بامتثال الأمر بالأهمّ.

السادس: إنّ عدم صعود الأمر بالمهمّ إلى مرتبة الأمر بالأهمّ لا يكفي بعد نزوله إلى مرتبته.

وقد مضى الكلام في هذه الوجوه في أدلّة القول بالامتناع.

السابع: إنّ اتّصاف أحد المتلازمين أو البديلين بالتقدّم الرتبيّ على شيءٍ لا يستلزم اتّصاف ملازمه أو بديله بالتقدّم الرتبيّ عليه، وكذا التأخّر، فإنّ

ص: 151

مُصاحب العلّة ليس بعلّة، ومُصاحب المعلول ليس بمعلول، فلا يكون متقدّماً في الأوّل، ولا متأخّراً في الثاني؛ لعدم توفّر ملاك التأخّر الرتبيّ فيهما.

فحُمرة النار ليست علّةً للإحراق وإن صاحبت العلّة بالبداهة، وإمكان الممكن ليس معلولاً وإن لازم المعلول، وإلاّ لزم الانقلاب - لو فُرض واجباً أو ممتنعاً في حدّ نفسه - أو التسلسل - لو فُرض ممكناً بإمكانٍ آخر - أو تقدّم الشيء على نفسه - لو فُرض ممكناً بنفس الإمكان المعلول - أو خلوّ الشيء عن الموادّ الثلاث - لو فُرض عدم كونه كذلك - والتوالي بأسرها باطلة.

ومنه ينقدح أنّ كون الامتثال والعصيان بديلين لا ينهض دليلاً على تأخّر العصيان عمّا تأخّر عنه الامتثال - لو سُلّم - فلا يُمكن إثبات الطوليّة بذلك.

نعم، لو لم يرد بالامتثال أو العصيان مجرّد الفعل أو الترك، بل أريد بهما العنوان الانتزاعيّ أمكن إثبات تأخّرهما عن الخطاب - على ما سبق الكلام فيه - لكن كلامه (قدس سره) في منشأ الانتزاع لا في العنوان المُنتزع، كما صرّح هو بذلك.

وكذا الأمر في الإطلاق والتقييد، فإنّ كونهما بديلين لا يستلزم تقدّم الإطلاق على ما تقدّم عليه التقييد.

الثامن: إنّ ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) من استحالة الإطلاق في بابي الطاعة والمعصية، فلا يكون للأمر بالأهمّ إطلاق يعمّ حال عصيانه حتّى يرد الأمران على تقدير واحد ولو بالإطلاق، مستدّلاً عليه بأنّه يلزم منه الجمع بين كلا المحذورين، منظورٌ فيه.

ص: 152

امّا نقضاً: فبورود نظيره في كلّ موطنٍ استحال فيه تقييد الحكم بأحد التقديرين، أو كان التقييد فيه لغواً، فمثلاً: في مسألة اشتراك الأحكام يُقال: بأنّ تخصيصَ الحكم بتقدير العلم يستلزم الدور، وتخصيصَه بتقدير الجهل يستلزم اللغويّة، فاشتراك الأحكام بينهما - ولو بنتيجة الإطلاق - في قوّة التصريح بكلا التقديرين، فيلزم منه كلا المحذورين.

وهكذا فيما لو كان تعيين إحدى الحصّتين مستلزماً للترجيح بلا مرجّح، فإنّ الترجيح كذلك لغوٌ على المعروف، وإن كان محالاً على التحقيق، لأوْله إلى الترجّح بلا مرجّح، وهو مساوق لوجود المعلول بدون وجود علّته.

وامّا حلاً: فبما في (المباحث) من «أن المحذور تارةً يكون في ثبوت الحكم على المقيّد، وأخرى في التقييد، فالنحو الأوّل من المحذور يثبت في الإطلاق أيضاً؛ إذ المحذور قائم في ثبوت الحكم على الحصّة المعيّنة، سواء كان الثبوت بإطلاق أو(1) بتخصيص، وأمّا النحو الثاني من المحذور فهو غير جارٍ في المطلق؛ إذ مركزه نفس التقيّد، والمفروض عدمه في المطلق، ومقامنا من الثاني لا الأوّل؛ إذ لا محذور في ثبوت الحكم في حالتي الامتثال والعصيان، وإنّما المحذور في نفس تقييد الحكم بحالة العصيان أو حالة الامتثال فيرتفع بالإطلاق»(2) انتهى. فتأمّل.

وأمّا ما تمسك به من أنّ امتناع التقييد مساوق لامتناع الإطلاق، فيرد عليه: إنّ الإطلاق يُمكن أن يُطلق على معنيين:

ص: 153


1- هكذا في المصدر، والصحيح أم.
2- بحوث في علم الأصول 2: 357.

أحدهما: عدم التقييد في مورد إمكان التقييد، فيكون العدم فيه عدم ملكة.

وثانيهما: عدم التقييد مطلقاً، بلا لحاظ إمكان التقييد أو عدمه، فيكون العدم فيه سلباً في قبال الإيجاب.

والإطلاق والتقييد بالمعنى الثاني متعاقبان لا يُمكن ارتفاعهما معاً؛ لكونهما نقيضين، ففرضُ ارتفاع أحدهما فرضُ ثبوت الآخر، بخلاف المعنى الأوّل، حيث يُمكن فيه ارتفاعهما؛ وذلك في المحلّ غير القابل.

وحينئذٍ نقول: إنّ الأثر تارةً يكون مرتّباً على الإطلاق بالمعنى الأوّل، وفي هذه الحالة لا يُمكن الإطلاق إذا لم يُمكن التقييد؛ لانتفاء قابليّة المحلّ.

وتارةً يكون مرتّباً على نفس عدم التقييد - أي: الإطلاق بالمعنى الثاني - وفي هذه الحالة يكون الإطلاق ضروريّاً إذا لم يُمكن التقييد.

والأثر فيما نحن فيه مرتّب على الإطلاق بالمعنى الثاني؛ إذ يكفي فيه نفسُ عدم الاختصاص بإحدى الحالتين المُستفاد من عدم معقوليّة التقييد، فمادام اختصاص الحكم بإحدى الحصّتين محالاً يكون عمومه لهما ضروريّاً، وهو المطلوب.

ومنه ينقدح عدم الحاجة إلى متمّم الجعل في مثل مسألة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل؛ لعدم توقّف إثباته على الإطلاق الملكي(1)

ص: 154


1- المقصود: الإطلاق الذي هو من الملكة مقابل عدمها.

الممتنع حسب الفرض؛ بل يكفي فيه نفسُ عدم الاختصاص بالعالم المستفاد من نفس عدم معقوليّة التقييد، فيكون التقابل تقابل السلب والإيجاب - أي: الاختصاص وعدمه - واستحالة أحد النقيضين كافيةٌ في اتّصاف البديل بالوجوب.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّ الانقسامات اللاحقة للخطاب إنّما تكون لاحقة في الوجود العينيّ، ولا مانع من لحاظها موضوعاً في الوجود الذهنيّ.

فمثلاً: في مسألة (قصد امتثال الأمر): المتأخّر عن الأمر وما يأتي من قبله هو القصد الخارجيّ، وأخذ القصد في موضوع الأمر لا يستلزم تقدّم الشيء على نفسه بمرحلتين - إذ كيف يُؤخذ ما يأتي من قبل الأمر في متعلّقه؟ - لأنّ كون فردٍ مصداقاً للطبيعيّ منوطٌ بأمرين:

أحدهما: أخذ الطبيعيّ في حدّ الفرد، كأخذ الهيئة القارّة التي لا تقبل القسمة والنسبة لذاتها في تعريف الكيف.

وثانيهما: ترتّب الآثار المترقّبة من الطبيعيّ على الفرد، كترتّب تفريق نور البصر على البياض.

ومجرّد تحقّق الأمر لا يُجدي في اندراج الفرد تحت الطبيعيّ ما لم ينضمّ إليه الأمر الثاني. نعم، يكون هو هو بالحمل الأوّلي الذاتيّ، لا بالحمل الشائع الصناعيّ.

ومن هنا كان انسلاخ مُعظم المفاهيم عن نفسها في مرحلة الحمل الشائع، وإن احتفظت بالهوهويّة في مرحلة الحمل الأوّلي، فالجزئيّ جزئيٌّ بالحمل الأوّلي لصدق تعريفه عليه، وليس بجزئيّ بالحمل الشائع لإمكان فرض

ص: 155

صدقه على كثيرين، فليست فيه خاصيّة مصاديقه، وهكذا سائر المفاهيم. نعم، يُستثنى من التخالف في الحملين مفهوم الكلّي، فإنّه كلّيٌ بالحمل الأوّلي، وبالشائع معاً؛ لأخذ تعريفه في حدّه؛ ولإمكان فرض صدقه على كثيرين - من المفاهيم الكلّية - ففيه خاصيّة مصاديقه، وكذا مفهوم الموجود والشيء ونحوهما.

ففيما نحن فيه: القصد المتأخّر هو القصد بالحمل الشائع، وأمّا المأخوذ في موضوع الخطاب فهو القصد بالحمل الأوّلي، أي: إنّه مفهوم القصد والصورة الذهنيّة له، وليس مفهوم الشيء فرداً له، ولا هو هو بالحمل الشائع، فالمتقدّم هو المفهوم الذهنيّ، والمتأخّر هو المصداق الخارجيّ، فلا يلزم تقدّم الشيء على نفسه، وعلى هذا فلا استحالة في أخذ مثل ذلك في موضوع الخطاب، بل قد يُقال: إنّه يستحيل عدم أخذه كذلك؛ لعدم قيام غرض المولى بالطبيعيّ، بل بالحصّة، فكيف يكون موضوع الخطاب هو الطبيعيّ؟ فتأمّل.

إلى غير ذلك مما لا نُطيل المقام بذكره.

المقدمة الثالثة(1): إنّ الخطاب الترتّبي لا يقتضي إيجاب الجمع، فلا وجه لاستحالته؛ لأنّ الجمع عبارة عن اجتماع كلٍّ منهما في زمن امتثال الآخر، بحيث يكون امتثال أحد الخطابين مُجامعاً في الزمان لامتثال الآخر، والذي يُوجبه إمّا تقييد كلٍّ من المتعلّقين - أو أحدهما - بحال فعل الآخر، وإمّا

ص: 156


1- فوائد الأصول 1: 359-361.

إطلاق كلٍّ من الخطابين لحال فعل الآخر، والخطاب الترتّبي لا يقتضي إيجاب الجمع بل يقتضي نقيضه، بحيث لا يكون الجمع مطلوباً لو فُرض إمكانه، وإلاّ لزم المحال في كلٍّ من طرفي المطلوب والطلب.

أمّا الأوّل: فلأنّ مطلوبيّة المهمّ إنّما تكون في ظرف عصيان الأهمّ، فلو وقع على صفة المطلوبيّة في حالة امتثال الأهمّ - كما هو لازم إيجاب الجمع - يلزم الجمع بين النقيضين؛ إذ يلزم أن يُعتبر في مطلوبيّة المهمّ وقوعه بعد العصيان، ويُعتبر أيضاً في مطلوبيّته وقوعه في حال عدم العصيان، بحيث يكون كل من حالتي وجود العصيان وعدمه قيداً في المهمّ، وهذا يستلزم الجمع بين النقيضين.

وأمّا الثاني: فلأنّ خطاب الأهمّ يكون من عِلَل عدم خطاب المهمّ، لاقتضائه رفع موضوعه، فلو اجتمعا - كما هو لازم إيجاب الجمع - لكان من اجتماع الشيء مع علّة عدمه، وحينئذٍ إمّا أن نقول بخروج العلّة من كونها علّةً للعدم، أو بخروج العدم عن كونه عدماً، أو باجتماعهما مع بقائهما على ما كانا عليه، والتوالي بأسرها باطلة.

مضافاً إلى أنّ البرهان المنطقيّ يقتضي - أيضاً - عدم إيجاب الجمع، فإنّ الخطاب الترتّبي بمنزلة منفصلةٍ مانعة جمع، صورتها هكذا: (إمّا أن يكون الشخص فاعلاً للأهمّ، وإما أن يجب عليه المهمّ) فهناك تنافٍ بين وجوب المهمّ وفعل الأهمّ، ومع هذا التنافي كيف يُعقل إيجاب الجمع؟ مع أنّ إيجاب الجمع يقتضي عدم التنافي بين كون الشخص فاعلاً للأهمّ وبين وجوب المهمّ عليه. انتهى.

ص: 157

ويرد عليه:

أوّلاً: إنّ المفروض محال - وإن لم يكن الفرض محالاً؛ لأنّ فرض المحال ليس بمحال - إذ يستحيل أن يجمع العاصي للأهمّ بين المهمّ والأهمّ؛ لأنّه يؤول إلى اجتماع النقيضين، حيث يكون المكلّف تاركاً للأهمّ، باعتبار كونه عاصياً له، وفاعلاً له، باعتبار كونه جامعاً بينه وبين ضدّه.

وعلى فرض صدورهما معاً من المكلّف فهما يقعان حينئذٍ معاً على صفة المطلوبيّة؛ إذ الأمر بالمهمّ إنّما رتّب على عصيان الأمر بالأهمّ؛ لعدم قدرة المكلّف على الجمع، ففي ظرف فرض إمكان صدورهما عن المكلّف لا يكون هنالك تعليق، ويخرج الأمران عن كونهما ترتّبيّين إلى أمرين عرضيّين.

وبعبارةٍ أخرى: تقييد خطاب المهمّ - مع إطلاقه في حدّ نفسه - إنّما كان بحكم العقل حذراً من الأمر بما لا يُطاق، فإذا فُرض إمكان صدورهما معاً عن المكلّف ارتفع المحذور، ولم يكن هناك دافع لتقييد المهمّ، وكان الأمران فعليّين معاً.

ويؤيّده ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) بقوله: «إنّ مورد البحث في الأمر الترتّبي إنّما هو فيما إذا كان الملاك لكلٍّ من الأمرين - من المترتّب والمترتّب عليه - ثابتاً متحقّقاً عند التزاحم، بحيث لو منعنا عن الأمر الترتّبي أمكن تصحيح العبادة بالملاك، بناءً على كفاية ذلك في صحّة العبادة...»(1)،

ص: 158


1- فوائد الأصول 1: 367.

وقال أيضاً: «إنّ مسألة الترتّب من فروع باب التزاحم»(1).

وقد يُورد عليه: بأنّ هذا إنّما يتمّ في صورة كون المهمّ واجداً للملاك في عرض الأهمّ، لا في صورة ترتّبه عليه ملاكاً كترتّبه عليه حكماً.

وفيه: أنّ نفس الإطلاق كاشف إنّي عن ثبوت الملاك، والمفروض حصوله؛ لوجود المقتضي وعدم المانع في ظرف هذا الفرض.

ومنه ينقدح النظر فيما رتّبه (قدس سره) من المحذور في طرفي الطلب والمطلوب.

وأمّا ما استدل به في (التهذيب) على وقوع كلٍّ من الأهمّ والمهمّ حينئذٍ على صفة المطلوبيّة بقوله: «إنّ الذي يعصي مع كونه عاصياً في ظرفه يُطلب منه الإتيان بالأهمّ؛ لعدم سقوط أمره بالضرورة ما لم يتحقّق العصيان خارجاً، والفرض أنّ شرط المهمّ حاصل أيضاً فيكون مطلوباً»(2) ففيه: أنّه إن أراد ترتّب (مطلوبيّة المهمّ) على (مقدّم الجمع) على نحو (بشرط شيء) - أي: مع ضميمة ترتّب عدم المطلوبية على المقدّم - أو على نحو (لا بشرط) فهو صحيح إلاّ أنّه لا يُجديه، وإن أراد ترتيبها عليه على نحو (بشرط لا) - أي بشرط عدم ضميمة ترتّب النقيض على المقدّم - فهو غير صحيح؛ وذلك لأنّه لا يصحّ ترتيب كلّ تالٍ على كلّ مقدّم ٍ، بل ما يكون بينهما علاقةٌ ذاتيةٌ، بحيث لو قُدّر وجودهما يكون بينهما تعلّق سببيّ ومسببيّ، أو يكونان

ص: 159


1- فوائد الأصول 1: 335، وفيه: «فالأولى عطف عنان الكلام إلى مسألة الترتّب، التي هي من فروع باب التزاحم».
2- تهذيب الأصول 1: 264.

معلولين لعلّةٍ ثالثةٍ - على التفصيل المُقرّر في محلّه(1) - ومن هنا كانت إنسانيّة الجدار - لو فُرضت - مستلزمةً لناطقيّته، لا لناهقيّته؛ إذ التلازم هو كون الشيئين بحيث لا يُمكن في نظر العقل وقوع الانفكاك فيما بينهما، وهذا إنّما يتحقق في الأوّل لا في الثاني، ولا فرق في ذلك بين كون المقدّم واجباً أو ممكناً أو ممتنعاً.

ففي المقام: لو أخذ في المقدّم اجتماع وجود الأهمّ وعدمه فلا محالة يُؤخذ في التالي اجتماع مطلوبيّة المهمّ وعدمها، أمّا المطلوبيّة فلتحقّق شرطها - وهو انتفاء الأهمّ بمقتضى كون المكلّف عاصياً له - وأمّا عدمها فلانتفاء الشرط بتحقّق الأهمّ - بمقتضى كونه جامعاً بينه وبين ضده - .

وعلى كلٍّ: فالذي ينفع المُجيب هو إثبات المطلوبيّة فقط، وهو غير حاصل في المقام.

ومنه ينقدح عدم استقامة الاستدلال المذكور في المقدّمة الثالثة أيضاً؛ إذ الذي يُجدي هو إثبات عدم المطلوبيّة محضاً، ولا يُمكن إثباته بهذا البرهان.

ثانياً: إنّ ترتيب (بطلان كون الأمر الترتّبي أمراً بالجمع) على ترتّب هذه المحاذير ليس بأولى من ترتيب (بطلان وجود الأمر الترتّبي) عليه، بل هو متعيّن؛ إذ لا يلزم في الأمر بالجمع أن يكون بعنوانه - لكونه معنى انتزاعيّاً منوطاً بوجود منشأ انتزاعه - كما لا يلزم كونه أمراً بالجمع مطلقاً، بل يُمكن كونه أمراً بالجمع مشروطاً؛ وذلك حاصل في المقام عند تحقق مقدّم شرطيّة

ص: 160


1- بحوث في علم الأصول 2: 300-301.

الأمر بالمهمّ.

وعليه يُقال: لو كان هناك أمران ترتّبيان لزم الأمر بالجمع بين المتعلّقين، لكن التالي باطل - لعدم معقوليّة الأمر بالجمع باعتبار فرض ترتّب المحاذير المذكورة في هذه المقدّمة عليه - فالمقدّم مثله، فتأمّل.

ثالثاً: إنّ المحذور المتصوّر في الأمر بالترتّب منوط ب- (معيّة الطلب) لا (طلب المعيّة)؛ وذلك لأداء الطلبين المتزامنين كذلك إلى اجتماع إرادتين فعليّتين في نفس المولى؛ وهو محال بمقتضى سراية التضادّ من المراد إلى الإرادة؛ ولعدم وفاء قدرة المكلّف على الجمع بين الضدّين، فلا ينفع الدفع بارتفاع (طلب المعيّة) بالترتّب.

وسيأتي الكلام في ذلك قريباً إن شاء اللّه تعالى.

الدليل الثاني

اشارة

الدليل الثاني - ممّا استدلّ به لجواز الترتّب - الوقوع، فإنّه أدلّ دليل ٍ على الإمكان.

ولهذا الدليل شقّان:

الشقّ الأوّل: الوقوع في الشرعيّات

وقد ذكر المحقّق النائيني (قدس سره) وغيره أنّ في الفقه فروعاً لا محيص للفقيه عن الالتزام بها مع كونها من الخطاب الترتّبي.

منها: ما لو فُرض حرمة الإقامة على المسافر من أوّل الفجر إلى الزوال، فعصى وأقام، فلا إشكال في وجوب الصوم عليه، فيكون قد توجّه إليه في الآن الأوّل الحقيقيّ من الفجر كلّ من حرمة الإقامة ووجوب الصوم، لكن

ص: 161

مترتّباً، بمعنى أنّ وجوب الصوم يكون مترتّباً على عصيان حرمة الإقامة، ففي حال الإقامة يجب عليه الصوم مع حرمة الإقامة(1).

ومنها: ما لو فُرض وجوب الإقامة على المسافر من أوّل الزوال؛ إذ يكون وجوب القصر عليه مترتّباً على عصيان وجوب الإقامة، وكذا لو فُرض حرمة الإقامة، فإنّ وجوب التمام يكون مترتّباً على عصيان حرمة الإقامة(2).

ومنها: وجوب الخمس المترتّب على عصيان خطاب أداء الدين إذا لم يكن الدين من عام الربح(3).

ولا فرق بين هذه الفروع وما نحن فيه سوى كون التضادّ فيها شرعيّاً، وفيه ذاتيّاً، ولكن إمكان الجمع بحسب ذاته وعدمه لا يُوجب فرقاً فيما هو ملاك الاستحالة.

ويرد عليه: إنّ دلالة الوقوع على الإمكان - باعتبار عدم وقوع المحال في الخارج - متوقّفة على إحراز صغرويّة الواقع للكبرى المطلوبة، ولا يتمّ هذا الإحراز إلاّ بنفي جميع الاحتمالات الأخر؛ إذ مجيء الاحتمال مُبطلٌ للاستدلال في باب الأمور العقليّة، وإن لم يكن مبطلاً له في باب الظواهر اللفظيّة، لابتنائها على الظنون النوعيّة، بخلاف الأولى فإنّها تبتني على القطع، وهو لا يُجامع احتمال الخلاف مطلقاً، وما سيق من الأمثلة في هذا الباب لا يتعيّن كونه من الأمر الترتّبي لاحتمال كونه من غيره، وتوضيح ذلك يتوقّف

ص: 162


1- فوائد الأصول 1: 358.
2- فوائد الأصول 1: 358.
3- فوائد الأصول 1: 358.

على بيان مقدّمات:

الأولى: إنّ الملاك القائم بالشيء لا يزول بحصول التضادّ بينه وبين ضدّه؛ إذ الملاك عبارة عن المصلحة - أو المفسدة - التكوينيّة الحاصلة في الشيء، ولا ينقلب الموصوف بصفةٍ تكوينيّةٍ عمّا هو عليه؛ لعدم قدرة المكلّف على الجمع بينه وبين ضدّه، ولو نوقش في الكلّية المزبورة كَفَت الموجبة الجزئيّة في إثبات المطلوب.

نعم، قد لا يُلحظ الملاك القائم بالشيء في مقام جعل الحكم بحيث يكون مؤثّراً فيه؛ لحصول الكسر والانكسار بين المقتضيات المتزاحمة، وترجيح الأهمّ منها.

لكن عدم لحاظه في مقام التشريع لا يستلزم عدم ثبوته في الخارج، كما في إنقاذ الغريقين، فإنّ التضادّ بينهما - بالنظر لقدرة المكلّف - لا يمنع عن اتّصاف كلٍّ منهما بالمصلحة في حدّ ذاته، وإن فُرض عدم كونها محرّكةً لجعل الحكم على طبق أحدهما لكون الآخر أهمّ.

الثانية: إنّ محبوبيّة الشيء لا تستلزم مبغوضيّة ضدّه الخاصّ؛ لتوقّف مبغوضيّة الشيء على وجود المفسدة فيه، وهي إمّا نفسيّة أو غيريّة، ولا مفسدة نفسيّة في الضدّ على ما هو المفروض كما لا مفسدة غيريّة فيه؛ إذ إنّها إمّا أن تنشأ من المقدميّة بتقريب: إنّ وجود الشيء موقوف على عدم ضدّه باعتبار كون الضدّ مانعاً، مع أنّ عدم المانع من المقدّمات، وإنّ مقدّمة المحبوب محبوبةٌ، وإنّ محبوبيّة عدم الضدّ مستلزمةٌ لمبغوضيّة وجود الضدّ.

أو من التلازم، بتقريب: أنّ وجود كلّ شيءٍ ملازم مع عدم ضدّه، وأنّ المتلازمين في الوجود متلازمان في المحبوبيّة والمبغوضيّة، وأنّ محبوبيّة

ص: 163

عدم الضدّ مستلزمةٌ لمبغوضيّة وجود الضدّ.

وكلتاهما منتفيتان في المقام.

أمّا الأولى: فلعدم حيلولة الضدّ عن وجود المحبوب؛ إذ الحائل هو الصارف أي إرادة الضدّ أو عدم إرادة الشيء، وبعبارةٍ أخرى: وجود المقتضي للضدّ أو عدم وجود المقتضي للشيء، فلو فُرضت ثمّة مبغوضيّة لكانت متعلّقة به لا بالضدّ، مع إمكان المناقشة في مبغوضيّة ما يحول دون وجود المحبوب، على ما قُرّر نظيره في مباحث استلزام إرادة الشيء لإرادة مقدّماته الوجوديّة(1).

وأمّا الثانية: فلدلالة الوجدان على عدم التلازم عند تعلّق الحبّ أو البغض بشيءٍ، حيث يُمكن أن يقفا على نفس المتعلّق دون سرايةٍ إلى ملازماته الوجوديّة أو العدميّة، على ما سبق في أدلّة القول بالامتناع.

ثمّ إنّه لو فُرض اقتضاء محبوبيّة الشيء مبغوضيّةَ ضدّه، إلاّ أنّها مبغوضيّةٌ غيريّةٌ - لمكان الملازمة أو المقدّمية - فلا تقتضي فساد العبادة، بناءً على ما ذكره بعضهم(2): من أنّ الغيريّ لا حكم له في نفسه؛ إذ إنّ مبغوضيّة الضدّ ليست عن ملاكٍ يقتضيها - كما في النهي عن العبادة - بل لمجرّد المزاحمة لواجبٍ أهمّ، فتكون العبادة على ما هي عليه من المحبوبيّة المقتضية لصحّتها، فتأمّل.

وممّا ذكرنا يظهر الكلام في الاستدلال على المُدّعى عن طريق الضدّ

ص: 164


1- بدائع الأفكار: 356؛ نهاية الأفكار 1: 258؛ منتهى الأصول 2: 161.
2- كفاية الأصول (المحشّی) 1: 562.

العامّ، وتفصيل الكلام في مباحث الضدّ فراجع.

الثالثة: إنّ وجود الخطاب الشرعيّ كاشف عن وجود الملاك الواقعيّ - وإن وقع الخلاف في انحصار الكشف عنه به وعدمه، على ما فُصّل في مباحث الضدّ - وكشفه عنه إمّا أن يكون على نحو الدلالة الالتزاميّة، بتقريب: أنّ الخطاب معلولٌ للملاك، فوجوده كاشف - إنّاً - عن وجوده، وإمّا أن يكون على نحو الظهور السياقيّ، بدعوى: أنّ الخطاب يتكفّل الدلالة على مطلبين: أحدهما طلب المادّة، والآخر وجود الملاك، غاية الأمر أنّ الأوّل مدلول لفظيّ لصيغة الأمر، والثاني مدلول سياقيّ للخطاب، فتكون دلالته على الملاك في عرض الدلالة على الحكم، لا مدلولاً التزاميّاً طوليّاً للخطاب على ما نسب إلى المحقّق النائيني (قدس سره) (1).

ولا فرق في ذلك بين كون الأمر مولويّاً أو إرشاديّاً؛ إذ على كلا التقديرين لابدّ من وجود الملاك لكي يصحّ الأمر.

نعم، الفرق بينهما هو أنّه يتعيّن في الأمر الإرشاديّ كون الملاك في

ص: 165


1- بحوث في علم الأصول 2: 325، وفيه: «الطريق الثاني لإثبات الملاك: هو التمسّك بإطلاق المادّة على ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) ، وتوضيحه: هو أنّ الخطاب يكون متكفّلاً للدلالة على مطلبين: أحدهما: طلب المادّة، والآخر وجود الملاك وتعلّقه بها، وكلا هذين المطلبين منصبّان على المادّة، بحيث يُستفاد من خطاب: صلِّ، قضيّتان، إحداهما: إنَّ الصلاة واجبة، والثانية: إنَّ الصلاة فيها ملاك مولويّ، غاية الأمر أنَّ القضيّة الأولى مدلول لفظيّ لصيغة الأمر، في حين أنَّ القضيّة الثانية مدلول سياقيّ للخطاب. وفرق هذا الطريق عن الطريق السابق أنَّ الدلالة على الملاك في هذا التقريب في عرض الدلالة على الحكم، وليس مدلولاً التزاميّاً طوليّاً للخطاب، كي يسقط بسقوطه بناءاً على التبعيّة...».

المتعلّق، أمّا في الأمر المولويّ فكما يُمكن أن يكون فيه كذلك يُمكن أن يكون في نفس الأمر، خلافاً لما في المحاضرات من تعيّن كون ملاكه في المتعلّق.

الرابعة: إنّ الأمر وإن كان ظاهراً في المولويّة - كما يشهد له حكم العقل، وبناء العقلاء بالنسبة إلى أوامر الموالي على ما قُرّر في مبحث دلالة الأمر - إلاّ أنّه يتعيّن صرفه إلى الإرشاد عند قيام المحذور العقليّ من كونه مولويّاً، كما في قوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}(1)، ونحوه من الأوامر المتعلّقة بالطاعة.

وممّا ذُكر يظهر: أنّ وجود الأمر بالمهمّ - فيما سبق من الأمثلة - لا ينهض دليلاً على إمكان الترتّب في قبال القائلين بالاستحالة؛ لجواز كون الأمر بالمهمّ إرشاداً إلى ما في المادّة في الملاك والمحبوبيّة، اللذين لا يزولان بوقوع التضادّ بينه وبين الأهمّ.

ثمّ إنّه قد تقرّر في مباحث (التعبّدي والتوصّلي) عدم تقوّم عباديّة العبادة بقصد الأمر المولويّ، بل يكفي قصد الملاك المضاف إلى المولى سبحانه، وإن لم يكفِ قصد مطلقه(2)، خلافاً لصاحب الجواهر (قدس سره) (3) حيث اشترط قصد امتثال الأمر في العبادة، وجعل سائر الدواعي في طول داعي امتثال الأمر، بحيث لابدّ أن يأتي بالعبادة بداعي امتثال أمرها، ويكون داعيه إلى

ص: 166


1- النساء: 59.
2- فوائد الأصول 1: 151.
3- جواهر الكلام 9: 155-156.

ذلك هو دخول الجنة أو تجنب النار أو كونه سبحانه أهلاً للعبادة. وعلى فرض الاشتراط يُمكن القول بأنّ الأمر الذي يجب قصدُ امتثاله في العبادة يعمّ المولويّ والإرشاديّ، فلا إشكال من هذه الجهة.

هذا كلّه إن كان متعلّق الأمر تعبّدياً. وأمّا إن كان توصّلياً فالأمر فيه أوضح.

ومن هنا قال صاحب الكفاية (قدس سره) - بعد أن أورد على نفسه الإشكال الإنّي: «لا يخلو إمّا أن يكون الأمر بغير الأهمّ بعد التجاوز عن الأمر به وطلبه حقيقةً، وإمّا أن يكون الأمر به إرشاداً إلى محبوبيّته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة وإنّ الإتيان به يُوجب استحقاق المثوبة، لا أنّه أمر مولويٌّ فعليٌّ كالأمر به»(1).

هذا مضافاً إلى المناقشات الفقهيّة فيما سبق من الأمثلة، كما يظهر من مراجعة المطوّلات.

الشقّ الثاني: الوقوع في العرفيّات

والأمثلة عليه كثيرة، وقد مثّل له السيد الحكيم (رحمه اللّه) في (الحقائق) بقول الأب لولده: «اذهب هذا اليوم إلى المعلّم، فإن عصيت فاكتب في الدار ولا تلعب مع الصبيان»(2).

ودعوى كون الأمر بالمهمّ إرشاديّاً يردّها الوجدان؛ إذ لا نجد من أنفسنا حين توجيه الأمر الترتّبي إلاّ ما نجده منها حين توجيه الأمر المولويّ.

ص: 167


1- كفاية الأصول: 135.
2- حقائق الأصول 1: 320.

وبعبارةٍ أخرى: الحاكم هنا هو الشاهد؛ فلا مساغ فيه لاحتمال الإرشاديّة، بخلاف الوقوع في الشرعيّات، فتدبّر.

ويدلّ عليه ما ذكرناه سابقاً من تعدّد الاستحقاق في صورة عصيان الأمرين. وقد مرّ بعض ما يرتبط بالمقام من الكلام في أواخر الوجه الثاني ممّا أورد به على الترتّب، فراجع.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: ما في (المباحث): من «أنّ الإرادة المشروطة مرجعها لبّاً إلى إرادةٍ مطلقةٍ متعلّقة بالجامع بين الجزاء على تقدير الشرط وعدم الشرط، فإرادة الماء على تقدير العطش مرجعها إلى إرادةٍ فعليّةٍ للجامع بين أن لا يعطش، وأن يشرب الماء على تقدير العطش.

وعليه يبتني رفع الاستحالة في المقام؛ لأنّ الأمر بالمهمّ المشروط بترك الأهمّ يرجع إلى إرادة الجامع بين إتيان المهمّ على تقدير عدم الأهمّ أو إتيان الأهمّ، ومن الواضح أنّ الأمر الجامع بين المهمّ والأهمّ ليس مضادّاً أصلاً مع الأمر بالأهمّ، وإنّما التضادّ بين الأهمّ تعييناً والمهمّ تعييناً»(1).

وأورد عليه: بأنّ إرادة الجامع تتولّد منها إرادة تعيينيّة للجزاء على تقدير تحقّق الشرط، فيحصل التضادّ بينها وبين الإرادة التعيينيّة المتعلقّة بالأهمّ(2).

ص: 168


1- بحوث في علم الأصول 2: 360.
2- بحوث في علم الأصول 2: 260 (الهامش)، وفيه: «ولكن قد تقدّم أنّ إرادة الجامع تتولّد منها إرادة تعيينيّة بالجزاء على تقدير عدم الشرط، فيرجع التضادّ بينها وبين إرادة الأهمّ، فلا محيص عن البيان الأوّلي».

هذا مضافاً إلى أنّ إحدى حصّتي الجامع - وهو الإتيان بالجزاء على تقدير تحقّق الشرط - غير مقدورةٍ - لمضادّتها للأهمّ المقتضي لاستنفاد قدرة المكلّف في صرفها نحوه - وقد سبق أنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور غيرُ مقدورٍ، فلا يُعقل أن يكون متعلّقاً للإرادة، فتأمّل.

الدليل الرابع

الدليل الرابع: إنّ المحذور المترتّب على الأمر الترتّبي إمّا أن يُفرض في نفس الحكم، أو في مبدئه أو في منتهاه.

أمّا نفس الحكم: فقد مرّ أن لا تضادّ في نفس الأحكام عند قصر النظر على ذاتها لا بالذات ولا بالتبع، فالتضادّ فيها إنّما يكون بعرض غيرها.

وأمّا المبدأ - أي الإرادة ومقدّماتها - : فتوضيح انتفاء المحذور فيه يتوقّف على بيان أمور:

أحدها: إنّ التكليف كما يُمكن أن يُساق بداعي إيجاد الداعي في المكلّف نحو المطلوب، كذلك يُمكن أن يُساق بداع آخر، كما في الأوامر الاختباريّة والاعتذاريّة ونحوها.

ثانيها: إنّ حقّ الطاعة للمولى على العبد كما يشمل ما يُساق بداعي البعث والتحريك، كذلك يشمل ما يُساق بداع ٍ آخر، ويدلّ عليه بناء العقلاء.

ثالثها: ما يُعلم عدم ترتّبه على الشيء لا يُعقل أن يكون غرضاً منه، وتستوي في ذلك الأمور التكوينيّة والتشريعيّة، فإذا علم الشخص بأنّ هذه النار لا يُمكن أن تُحرق الخشب - لعدم المحاذاة أو لرطوبة الخشب أو غيرهما - فلا يُعقل أن يكون الغرض من إيقادها هو الإحراق، وكذا لو علم

ص: 169

المولى علماً يقينيّاً بعدم انبعاث العبد نحو المطلوب فلا يُعقل أن يكون طلبه منه بغرض تحريكه نحوه.

رابعها: إنّه يستحيل تعلّق إرادتين حقيقيّتين بغرض التحريك بأمرين متضاديّن؛ لعدم إمكان ترتّب أحدهما عليه، وقد سبق أنّ ما لا يُمكن ترتّبه على الشيء لا يُعقل أن يكون غرضاً منه، أمّا لو كانت الإرادتان بداع ٍ آخر، أو كانت إحداهما بداعي التحريك والأخرى بداعٍ آخر - كالاختبار أو التعذير - فلا استحالة.

وبناءً على ذلك نقول: إنّ الأمر بالأهمّ - بالنسبة إلى من يعلم المولى عصيانه - لم يُسَق بداعي جعل الداعي - بمقتضى الأمر الثالث - لكن هذا لا يُخرجه من دائرة حقّ الطاعة - بمقتضى الأمر الثاني - ولكونه ممتنعاً بالغير لا ممتنعاً ذاتيّاً أو وقوعيّاً، وهو لا يُنافي الإمكان الذاتيّ والوقوعيّ للمتعلّق، وإلاّ لم يكن ممكن أبداً؛ إذ الشيء لا يخلو من الوجوب بالغير أو الامتناع بالغير، فمتى يكون ممكناً؟ كما لا يُنافي إمكان التكليف، وإلاّ لزم انتفاء التكليف في حقّ الكفّار والعصاة.

والأمر بالمهمّ إنما سيق بداعي التحريك - في حقّ من يمتثله - وبداع ٍ آخر - في حقّ من لا يمتثله ويعدل منه إلى الثالث - وقد قُرّر في الأمر الرابع أن لا استحالة في اجتماع مثل هاتين الإرادتين، فتأمّل.

وأمّا المنتهى: فالمحذور إنّما يتولّد في صورة استلزام الأمر المولويّ لتحيّر المكلّف وإن فُرض كونه منقاداً للمولى، كما في الأمر بالضدّين مطلقاً، وأمّا الأمران المسوقان على نحو الترتّب فلا يُوجبان وقوع المكلّف

ص: 170

في الحيرة، فلا يكون هناك محذور في مرحلة الجري العمليّ، فتأمّل.

ثمّ إنّ هنالك أدلّة أخرى على الإمكان تُعلم ممّا قُرّر في أدلّة الامتناع، فراجع.

ص: 171

ص: 172

الفصل الخامس : ما يُناط به الأمر بالمهمّ

اشارة

ص: 173

ص: 174

ما يُناط به الأمر بالمهمّ

اشارة

لقد وقع البحث في ما يُناط به الأمر بالمهمّ، وجعله بعضهم من أدلّة استحالة الترتّب، فلا بأس بعطف عنان الكلام إلى ذلك، فنقول: إنّ ما يُناط به الأمر بالمهمّ لا يخلو من فروض:

[الفرض الأوّل:]

اشارة

الفرض الأوّل: أن يُناط بنفس العصيان على نحو الشكّ المقارن.

[استحالة الفرض الأوّل لأمور:]

وقد قيل باستحالته لأمور:

الأمر الأوّل: [لزوم تقدّم البعث على الانبعاث]

ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من «لزوم تقدّم البعث على الانبعاث، ضرورة أنّ البعث إنّما يكون لإحداث الداعي للمكلّف نحو المكلّف به، بأن يتصوّره بما يترتّب عليه من المثوبة وعلى تركه من العقوبة، ولا يكاد يكون هذا إلاّ بعد البعث بزمان، فلا محالة يكون البعث نحو أمرٍ متأخّرٍ عنه بالزمان»(1).

وعليه: فلو كان العصيان مأخوذاً على نحو الشرط المقارن للأمر بالمهمّ -

ص: 175


1- كفاية الأصول: 103.

والحال أنّ عصيان الأهمّ مقارن لطاعة الأمر بالمهمّ - لزم تقارن البعث والانبعاث، لأنّ المُقارنَ للمُقارن مُقارنٌ.

وتقريبه: أنّ زمان الأمر بالمهمّ مقارن لزمان عصيان الأهمّ، وزمان عصيان الأهمّ مقارن لزمان امتثال المهمّ، فزمان الأمر بالمهمّ مقارن لزمان امتثال المهمّ.

أمّا الصغرى: فلأنّها هي المدعى.

وأمّا الكبرى: فلأنّ زمان امتثال أحد الواجبين المضيّقين هو بعينه زمان عصيان الآخر، ومحلّ الكلام هو وقوع التزاحم بين واجبين مضيّقين، وإلاّ لخرج عن موضوع الترتّب، فتأمّل.

وأمّا بطلان التالي فلما ذُكر من استحالة تقارن البعث والانبعاث.

[وجوه مناقشة صاحب الكفاية القائل بلزوم تقدّم البعث على الانبعاث:]
اشارة

وهذا المبنى يُمكن المناقشة فيه من وجوه:

[الوجه الأول:]

الأوّل: ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) من «أنّ تقدّم البعث على الانبعاث - ولو آناً ما - يستلزم فعليّة الخطاب قبل وجود شرطه، وهو التزام بالواجب المعلّق، وكون الفعل المقيّد بالزمان المتأخّر متعلّقاً للخطاب المتقدّم، وقد قُرّر استحالته في محلّه»(1).

وفيه: أوّلاً: إنّ الالتزام بفعليّة الخطاب قبل وجود الشرط لا يُساوق

ص: 176


1- أجود التقريرات 1: 290.

الالتزام بالواجب المعلّق، بل يُمكن معه الالتزام بكون الوجوب مشروطاً بالوقت المتأخّر على نحو الشرط المتأخّر، وإن أحال (قدس سره) كليهما.

والفرق بينه وبين المعلّق إناطة وجوبه بالشرط، بخلاف المعلق. وعلى هذا الفرق يبتني إمكان القول بإمكانه واستحالة المعلّق، إذا كان وجه الاستحالة (أنّ فعلية وجوب المعلّق تستدعي التحريك نحو المتعلّق، والتحريك نحو المتعلّق مساوق للتحريك نحو قيده، لأنّ التحريك نحو المقيّد تحريك نحو قيده لا محالة، والمفروض كون القيد - وهو الزمان - غير اختياريّ، فيلزم التكليف بالمحال).

أمّا لو فرض كون الزمان قيداً للوجوب ولو على نحو الشرط المتأخّر - كما هو قيد للواجب - لم يلزم المحذور؛ لعدم وجوب تحصيل قيود الوجوب.

ومنه ينقدح النظر في إطلاق كلام المحقّق الإصفهاني (قدس سره) حيث أناط إمكان الواجب المشروط بالوقت المتأخّر على نحو الشرط المتأخّر بإمكان الواجب المعلّق، وقال - في بحث المقدّمات المفوّتة - : «لا يخفى عليك أنّ الكلام في المقدّمات الواجبة قبل زمان ذيها، فوجوب ذيها وإن كان حاليّاً لتحقّق شرطه في ظرفه، لكنّه لا يصحّ هذا النحو من الإيجاب إلاّ بناءً على القول بالمعلّق؛ إذ المفروض تأخّر زمان الواجب عن زمن وجوبه، لما عرفت من أنّ مورد الإشكال لزوم الإتيان بالمقدّمات قبل زمان ذيها، فلو أراد (قدس سره) أنّ اشتراط الوجوب لا يستدعي عدم حاليّة الوجوب فهو كما أفاده (قدس سره) ، وإن أراد الاكتفاء بذلك عن الالتزام بالواجب المعلّق فهو غير

ص: 177

تامّ»(1).

ثانياً: ما في (آراء الأصول)(2) من «أنّ الإشكال مبنيّ بوجود الواجب التعليقيّ بحسب الجعل وبحسب مصحّح الجعل.

أمّا الثاني: فلأنّه مع اتّحاد آن الجعل مع آن الامتثال في المضيّقات المفتقرة لتهيئة المقدّمات لا مصحّح للجعل، وسبقُ العلم بالتكليف لا يُجدي في التنجيز لو لم يكن له معلوم بالفعل، وحكمُ العقل والعقلاء بلزوم الامتثال متفرّع على وجود الحكم، ووجوب المقدّمات المفوّتة بمتمّم الجعل موقوف على كوننا مكلّفين بالملاكات، مع أنّه لا امتثال إلاّ للتكليف.

وأمّا الأوّل: فلوجود الأوامر المعلّقة فوق حدّ الإحصاء في الشرعيّات والعرفيّات».

وفيه: أنّه لا ملزم للتعلّق بالتعليق، بل يُمكن تصحيح الجعل بوجوه اُخر: منها: الالتزام بكون الوجوب مشروطاً بالوقت المتأخّر على نحو الشرط المتأخّر، فيكون الوجوب فعليّاً قبل حلول زمان الواجب، وبفعليّته يكون باعثاً نحو المقدّمات التي لا يُمكن تهيئتها في ظرف حلوله.

ومنها: الالتزام بوجوب حفظ أغراض المولى، وحرمة تفويت الملاكات الواقعيّة الملزمة؛ لحكم العقل باستحقاق العبد العقاب على تفويته أغراض مولاه، ولو لم يكن هنالك تكليف فعليّ، فلو سقط ابن المولى في البئر فلم

ص: 178


1- نهاية الدراية 1: 355.
2- آراء حول مبحث الألفاظ في علم الأصول 2: 88.

يُنقذه العبد مُحتجّاً بعدم الأمر لما قبل العقلاء اعتذاره، ولحكم العقل باستحقاقه للعقاب، وكذا لو أوقع العبد نفسه في العجز قبل أن يُوجد الملاك المولويّ الملزم فراراً من الطاعة والامتثال، فإنّه يستحقّ العقاب أيضاً؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا يُنافي الاختيار عقاباً وإن نافاه خطاباً، والعقل هو الحاكم في باب الاستحقاق دون منازع له على الإطلاق، وهذا الحكم العقليّ يكون سبباً للتحريك نحو المقدّمات المفوّتة، كما لا يخفى.

هذا من حيث الكبرى.

وأمّا الصغرى - أي: كشف وجود الملاك الملازم - فيُمكن أن يكون بإطلاق الخطاب بناءً على عدم تبعيّة الدلالة المطابقيّة للدلالة الالتزاميّة، حيث إنّ الخطاب يدلّ بالمطابقة على الحكم وبالالتزام على الملاك، فعدم شمول الخطاب لحالة العجز لقبح تكليف العاجز بل لعدم إمكان تكليفه، ولو كان عجزه بسوء اختياره لا يستلزم عدم شمول الملاك لتلك الحالة، وهذا الملاك الكائن في ظرفه يكون سبباً لحكم العقل بوجوب تهيئة المقدّمات المفوّتة، كي تُحفظ الأغراض الواقعيّة للمولى حين حصولها، ولا تفوت بالتعجيز.

لكن قد يُناقش فيه بعدم تسليم المبنى - أوّلاً - وبعدم تماميّة مقدّمات الحكمة، فلا يكون ثمّة إطلاق في المقام - ثانياً - فتأمّل.

أو يكون باستلزام سقوط الملاك بالعجز للغويّة الخطاب؛ لتوقّف الواجب على تهيئة المقدّمات دائماً أو غالباً قبل حلول الوقت، فيكون الدليل الدالّ على وجوب المتعلّق داّلاً على وجوب تهيئتها قبله بدلالة

ص: 179

الاقتضاء.

أو يكون بإخبار المولى عن فعليّة الملاك الملزم والإرادة الحتميّة - ولو بطريق الأمر بالمقدّمات المفوّتة - بعد فرض استحالة الخطاب فعلاً، وذلك كافٍ في حكم العقل بوجوب تلك المقدّمات.

ومنها: غير ذلك مما يُطلب تفصيله من بحث المقدّمات المفوّتة.

ثمّ إنّ وجود الأوامر المعلّقة في الشرعيّات والعرفيّات لا يُجدي بعد فرض الاستحالة العقليّة، ودلالة الوقوع على الإمكان خاصّةٌ بموارد كون الواقع غير محتمل للوجوه الأخر، فتأمّل.

ثالثاً: النقض بالقضايا الخارجيّة التي ذهب المحقّق النائيني (قدس سره) إلى عدم انفكاك زمان الجعل فيها عن زمان ثبوت الحكم وفعليّته، حيث قال (قدس سره) : «إنّ القضيّة الخارجيّة لا يتخلّف فيها زمان الجعل والإنشاء عن زمان ثبوت الحكم وفعليّته، بل فعليّته تكون بعين تشريعه وإنشائه، فبمجرّد قوله: أكرم زيداً يتحقّق وجوب الإكرام، فلا يُعقل تخلّف الإنشاء عن فعليّة الحكم زماناً وإن كان متخلّفاً رتبةً نحو تخلّف الانفعال عن الفعل. وأمّا في القضيّة الحقيقيّة فالجعل والإنشاء إنّما يكون أزليّاً، والفعليّة إنّما تكون بتحقّق الموضوع خارجاً، فإنّ إنشاءه إنّما كان على الموضوع المقدّر وجوده، فلا يُعقل تقدّم الحكم على الموضوع؛ لأنّه إنّما أنشأ حكم ذلك الموضوع، وليس للحكم نحو وجود قبل وجود الموضوع...»(1).

ص: 180


1- فوائد الأصول 1: 174-175.

وهذا التزامٌ بسبق الخطاب على زمن الامتثال، وبفعليّة الخطاب قبل وجود شرطه، فإنّ كلّ خطابٍ مشروطٌ بالقدرة، والقدرة على الامتثال - بوصف أنّه امتثال - منوطةٌ بحصول الداعي في نفس المكلّف، وحصوله موقوف على حصول مبادئه - من التصوّر والتصديق ونحوهما - توقّف كلّ معلول على حصول علّته، وهي أمور زمانيّة لابدّ في تحقّقها من الزمان، فيتأخّر بذلك الانبعاث عن البعث، ولا يتفاوت طول الزمان وقصره في ما هو ملاك الاستحالة والإمكان.

نعم، يُمكن الالتزام بانفكاك الجعل عن المجعول في القضايا الخارجيّة، وبأنّ فعليّته فيها تتوقّف على مضيّ زمان ما تتحقّق فيه شروطه، فلا يبقى مجال للنقض المذكور.

رابعاً: ما قُرّر في مباحث (مقدّمة الواجب) من إمكان وجود الواجب المعلّق(1)، فلا يبقى موضوع لما أورده المحقّق النائيني (قدس سره) ، فراجع.

[الوجه الثاني:]

الثاني: ما ذكره (قدس سره) أيضاً(2) وهو: «أنه لو فُرض علم المكلّف قبل الوقت بتوجّه الخطاب إليه في وقته كفى ذلك في إمكان تحقّق الامتثال، فوجوده قبله لغو؛ إذ المحرّك له حينئذٍ هو الخطاب المقارن لصدور متعلّقه، لا الخطاب المفروض وجوده قبله، اذ لايترتّب عليه أثر في تحقّق الامتثال أصلاً، وإن فُرض عدم علمه قبل الوقت فوجود الخطاب في نفس الأمر لا

ص: 181


1- كفاية الأصول (المحشّی) 1: 188.
2- أجود التقريرات 1: 290.

أثر له في تحقّق الامتثال، فيكون وجوده لغواً أيضاً، فالقائل بلزوم تقدّم الخطاب على الامتثال قد التبس عليه لزوم تقدّم العلم على الامتثال بلزوم تقدّم الخطاب عليه».

ويرد عليه:

أوّلاً: النقض بالقضايا الخارجيّة التي يتعاصر فيها الجعل والمجعول، ويسبق زمن المجعول فيها زمنَ الامتثال.

وفيه ما تقدّم.

ثانياً: النقض بالبعث نحو الواجب المنجّز قبل حصول مقدّماته الوجوديّة، فإنّه لو فُرض علم المكلّف بتوجّه الخطاب إليه بعد الإتيان بها كفى ذلك في إمكان تحقّق الامتثال، فوجوده قبله لغو، وإن فُرض عدم علمه بذلك كان الخطاب لغواً أيضاً؛ لعدم استتباعه لتحريك المكلّف نحو المطلوب، ضرورة أنّ المحرّك للمكلّف هو الأمر بوجوده العلميّ لا بوجوده الواقعيّ النفس الأمريّ.

ودفع اللغويّة الأولى باستتباع التنجّز للتحريك نحو المقدّمات الوجوديّة - وان أمكن استتباع غيره له أيضاً كما سبق - دافع لها في المقام أيضاً؛ لاستتباع التنجّز فيه للتحريك نحو المقدّمات المفوّتة على ما سيأتي في الجواب الرابع، فهذا الجواب بمفرده غير وافٍ بالمطلوب.

ثالثاً: النقض بالوجوب المنصبّ على الفعل المركّب من أمور تدريجيّة الوجود، فإنّ الكلّ مبعوث إليه ببعث واحد في أوّل الوقت، مع لغويّة ما يتعلّق بغير الجزء الأوّل من الفعل؛ لعدم صلاحيّته للباعثيّة حينئذٍ، وكفاية وجود كلّ جزء على نحو التدريج في التحريك نحوه.

ص: 182

إلاّ أن يُقال - كما في النهاية - : «الإنشاء بداعي البعث وإن كان واحداً، وهو موجود من أوّل الوقت، لكن بلحاظ تعلّقه بأمر مستمرّ، أو بأمر تدريجيّ الحصول كأنّه منبسط على ذلك المستمرّ أو التدريجيّ، فله اقتضاءات متعاقبة، بكلّ اقتضاء يكون بالحقيقة بعثاً إلى ذلك الجزء من الأمر المستمرّ أو المركّب التدريجيّ، فهو ليس مقتضياً بالفعل لتمام ذلك الأمر المستمرّ أو المركّب بل يقتضي شيئاً فشيئاً»(1).

لكنّه خلاف ما يفهمه العرف من الدليل، من وحدة الأمر وكونه موجوداً اعتباريّاً قارّاً مستجمعاً لجميع أجزائه في الآن الأوّل، وكون الوجوب السيّال غير القارّ وجوباً عقليّاً مستنداً إلى الوجوب الشرعيّ الواحد.

وقد يُناقش فيه بأنّ الظاهر يُدفع بالقاطع، فالظهور العرفيّ لا يُجدي بعد فرض الاستحالة العقليّة، لكنّ الكلام في المبنى المفروض، فتأمّل.

رابعاً: إنّ فعليّة المجعول قبل حلول وقت إمكان الامتثال ليست لغواً؛ إذ يكفي في دفع اللغويّة محرّكيته نحو المقدّمات المفوّتة، التي لا يُمكن إيجادها داخل الوقت - مطلقاً أو في الجملة - وكذا محرّكيته نحو المقدّمات العلميّة، التي يتوقّف عليها العلم بأداء الواجب في ظرفه، والتفكيك بينهما مبنيٌّ على ما ذهب إليه المحقّق النائيني (قدس سره) من عدم رجوعها إلى المقدّمات المفوّتة، كما ذكره في مبحث الواجب المطلق والمشروط، وإن كان يظهر من الشيخ الأعظم (قدس سره) عند تعرّضه لشرائط العمل بالأصول إدراجها فيها.

ص: 183


1- نهاية الدراية 1: 350.

وإمكان التحريك نحو المقدّمات المفوّتة والعلميّة عن غير طريق (سبق زمن فعليّة المجعول على زمان الامتثال) لا يُلغي ما يتّصف به من الطريقيّة - وإن لم تكن منحصرةً - وهي كافية في دفع تلك اللغويّة.

نعم، لو قيل: إنّ الأمر الحقيقيّ هو ما كان بداعي جعل الداعي، لكن لا مطلقاً بل مع تقييده بكونه نحو نفس المتعلّق - لا غيره وإن أنيط به وجود المتعلّق - لم يكن هذا الوجوب السابق على زمن الامتثال حقيقيّاً، بل طريقيّاً.

لكنّ هذا المبنى لا يخلو من إشكال؛ إذ الأمر الاعتباريّ يتقوّم بالاعتبار، وهو خفيف المؤونة، فكما يُمكن للمولى أن يجعل مصبّ إرادته متعلّقاً للتكليف كذلك يُمكن أن يجعل مقدّمته أو لازمه أو ملازمه في عُهدة المكلّف دون نفس الشيء، فيكون حق الطاعة منصبّاً على المقدّمة ابتداءً وإن كان الشوق المولويّ غير متعلّق بها إلاّ تبعاً؛ وذلك لحصول الغرض في الحالتين، وقد حُرّر بعض الكلام في نظير ذلك في مسألة الوجوب النفسيّ والغيريّ، فراجع.

كما يكفي في دفع اللغويّة ترتّب وجوب القضاء في صورة تفويت بعض المقدّمات الوجوديّة ذات البدل الاضطراريّ قبل حلول الوقت، وذلك على بعض الوجوه، كما ذُكر في مسألة من أراق الماء قبل الوقت، واضطرّ إلى الصلاة بالطهارة الترابيّة(1).

خامساً: ما في (أجود التقريرات) - في بحث الواجب المطلق والمشروط-

ص: 184


1- أجود التقريرات 1: 154؛ فوائد الأصول 1: 194-195؛ مباحث الأصول 4: 182.

: من «أنّ في لزوم كون المجعول موجوداً حال وجود الاعتبار وعدمه تفصيلاً، فإنّ القيد المزبور - سواء كان اختياريّاً أم غير اختياريّ - إذا كان دخيلاً في تماميّة مصلحة الواجب ولزوم استيفائها فلا مُوجب لإيجابه قبل حصوله ولو كان متعلّق الإيجاب الفعلُ المقيّد بما هو مقيّد، بناءً على ما هو الصحيح من تبعيّة الأحكام للملاكات الثابتة لمتعلّقاتها... وأمّا إذا كان القيد دخيلاً في حصول المصلحة في الخارج بعد فرض تماميّتها ولزوم استيفائها فلا مناص فيه عن الالتزام بفعليّة الطلب، وإن كان المطلوب أمراً متأخّراً»(1).

وتوضيحه - على ما في (الدروس)(2) - : إنّ للوجوب ثلاث مراحل، وهي: الملاك والإرادة والجعل. فإن كان القيد دخيلاً في اتّصاف الفعل بالمصلحة - كالمرض في اتّصاف شرب الدواء بالمصلحة - سُمّي بشرط الاتصاف.

وإن لم يكن دخيلاً فيه، بل كان دخيلاً في ترتّب تلك المصلحة وشرطاً في استيفائها بعد اتّصاف الفعل بها - كتعقّب شرب الدواء للطعام الدخيل في ترتّب الأثر عليه، فإنّ المصلحة القائمة بالدواء لا تُستوفى إلاّ بحصّةٍ خاصّةٍ من الاستعمال، وهي الاستعمال بعد الطعام وإن لم تكن شرطاً في اتّصاف الفعل بالمصلحة؛ إذ إنّ المريض مصلحته في استعمال الدواء منذ يمرض - سُمّي بشرط الترتّب.

هذا بالنسبة إلى الملاك.

ص: 185


1- أجود التقريرات 1: 139 (الهامش).
2- دروس في علم الأصول 2: 196.

وأمّا بالنسبة إلى الإرادة والجعل فإنّ شروط الاتّصاف شروط للإرادة، خلافاً لشروط الترتّب فإنّها شروط للمراد.

كما أنّ شروط الاتّصاف شروط للمجعول، وأمّا شروط الترتّب فإنّها قيود للمتعلّق.

وعليه: يبتني الجواب عن إشكال اللغويّة؛ وذلك لأنّ فعليّة الوجوب تابعةٌ لفعليّة الملاك - أي: لاتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحةٍ - فمتى اتّصف الفعل بذلك استحقّ الوجوب الفعليّ بالضرورة بمقتضى تبعيّة الأحكام للملاكات، فإذا افترض أنّ القيد من شروط الترتّب لا من شروط الاتّصاف كان الفعل واجداً للملاك قبل تحقّق القيد فيكون الوجوب فعليّاً حينئذٍ بالضرورة وان كان زمان الواجب مرهوناً بتحقّق القيد؛ لأن تحقّقه دخيل في ترتّب المصلحة، ومن المعلوم أنّه لا معنى للغويّة مع فرض الضرورة.

ويرد عليه: أنّ ما استجمع شروط الاتّصاف - ولم يستجمع بعد شروط الترتّب - وإن باين ما لم يستجمع شروط الاتصاف في كون الفعل فيه ذا مصلحةٍ فعليّةٍ، بخلاف الأخير، إلاّ أنّ صِرف تماميّة الملاك لا يُحتّم الأمر الفعليّ؛ إذ المهمّ عدم فوات الغرض المتوخّى، وهو كما يتحقّق بثبوت الوجوب قبل وجود شروط الترتّب، كذلك يتحقّق بثبوته عند وجودها، والتحريك نحو المقدّمات المفوّتة يُمكن عن غير طريق سبق الوجوب أيضاً، فتعيينه دون غيره إلزام بلا ملزم.

وتبعيّة الحكم للملاك يُراد بها عدم نشوئه عن الإرادة الجزافيّة، لا أنّه عند حصوله يجب وجوده وإن لم يحن وقت الامتثال بعد، لما سبق.

ص: 186

مضافاً إلى أنّ في الفرق بين شروط الاتّصاف وشروط الترتّب كلاماً مذكوراً في بحث الواجب المطلق والمشروط، فراجع.

[الوجه الثالث:]

الثالث: ما في النهاية وهو: «أنّ تأخر الانبعاث عن البعث مع أنّهما متضائفان متكافئان في القوّة والفعليّة غير معقول، فإنّ البعث التشريعيّ هو جعل ما يُمكن أن يكون داعياً وباعثاً، فمضائفه الانبعاث إمكاناً، فما لم يُمكن الانبعاث لا يُمكن البعث وبالعكس»(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: النقض بالبعث نحو الواجب المنجّز قبل حصول مقدّماته الوجوديّة، مع عدم إمكان الانبعاث نحو ذي المقدّمة إلاّ بعد وجود مقدّماته، كما سبق.

وقد تفصّى عنه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) بقوله: «حيث إنّ تحصيل المقدّمات ممكن فالبعث والانبعاث إلی ذيها متّصفان بصفة الإمكان، بخلاف البعث إلى الشيء قبل حضور وقته، فإنّ فعل المتقيّد بالزمان المتأخّر في الزمان المتقدّم مستحيل من حيث لزوم الخلف أو الانقلاب، فهو ممتنع بالامتناع الوقوعيّ، بخلاف فعل ما له مقدّمات غير حاصلة، فإنّ الفعل لا يكون بسبب عدم حصول علّته ممتنعاً بالامتناع الوقوعيّ بل ممتنع بالغير، والإمكان الذاتيّ والوقوعيّ محفوظ مع عدم العلّة، وإلاّ لم يكن ممكن أصلاً؛ لأنّ العلّة إن كانت موجودة فالمعلول واجب، وإن كانت معدومة فالمعلول ممتنع، فمتى يكون ممكناً؟ وملاك إمكان البعث وقوعيّاً

ص: 187


1- نهاية الدراية 1: 447.

إمكانُ الانبعاث وقوعيّاً بإمكان علّته، لا بوجود علته، وعدم وجود العلّة لا يُنافي إمكانها وإمكان معلولها فعلاً»(1).

وفيه: أنّه لا فرق بين توقّف الشيء على تصرّم الزمان بالذات، وتوقّفه على تصرّمه بالتبع، بلحاظ الاستحالة والإمكان، فالاستحالة في أحدهما - وقوعاً - تستلزم الاستحالة في الآخر كذلك، والإمكان فيه يستلزم الإمكان فيه.

فمثلاً: الصلاة متوقّفة على الطهور - أو على ما يتوقّف على الطهور - وحيث إنّ الطهور أمر زمانيّ لا يخرج عن حيطة الزمان لذا يتوقّف تحقّقه على تصرّم زمان ما - ولو تناهى في القلّة - فتوقّفها عليه يساوق التوقّف على تصرّم زمانه، بمعنى عدم إمكان وقوع المطلوب - أي: الصلاة قبل تصرّمه، وإلاّ لزم الخُلف - لو انتفى وجوده في الزمان الثاني وتحقّق في الزمان الأوّل فقط، أو الانقلاب - لو كان وجوده في الزمان الثاني عين وجوده في الزمان الأوّل - أو صدق المتقابلان عليه دفعةً - لو كان موجوداً في الزمان المتقدّم في عين وجوده في الزمان المتأخّر - والتوالي بأسرها باطلة.

وعليه: فيستحيل - بالاستحالة الوقوعيّة، وهي: كون الشيء بحيث يلزم من وقوعه الباطل والمحال، وإن لم يستحل بالاستحالة الذاتيّة، وهي: كون الشيء بحيث يقتضي بذاته العدم اقتضاءً حتميّاً، ويحكم العقل بمجرّد تصوّره بأنّه ممتنع الوجود - وقوع المطلوب في الزمان الأوّل، فلا يُمكن الانبعاث عنه، فلا يُمكن البعث نحوه، بحسب مقتضى التضايف المذكور

ص: 188


1- نهاية الدراية 1: 348-349.

بين البعث والانبعاث.

وبالجملة: فظرف المقدّمة سابق على ظريف ذيها، بالسبق الزمانيّ - على اصطلاح الحكيم - فيستحيل - بالاستحالة الوقوعيّة - تحقّقه في ظرفها، وإلاّ لزم طروّ التقدّم على ما ذاتيّه التأخّر - أعني ظرف ذيها- وتعاصر جزءين من أجزاء الممتدّ غير القارّ، وهو محال.

ومنه يظهر أنّ إمكان أداء الواجب في ظرفه وعدم إمكانه قبله مشترك بين الموردين، فلا فرق بينهما من هذه الجهة أصلاً، فكما أنّ المكلّف يُمكنه أن يؤدّي الواجب المُقيّد بالزمان المتأخّر في ظرفه ولا يُمكنه أن يُؤدّيه في الزمان المتقدّم، كذلك المكلّف الفاقد لمقدّمات الواجب المنجّز يُمكنه أن يؤدّيه بعد أداء تلك المقدّمات ولا يمكنه أن يؤدّيه قبلها، وإلاّ لزم التهافت في الزمان أو خروج الشرط عن كونه شرطاً، وهو خُلف.

وكون الممكن بالواسطة ممكناً يُراد به الإمكان في ظرفه لا مطلقاً - على ما تقدّم - أو يكون في مورد ما لا يتوقّف على تقضّي الزمان، ويُمكن أن يتعاصر فيه العلّة والمعلول، كحركة اليد وحركة المفتاح، أو يكون مع قطع النظر عن لحاظ الزمان والخصوصيّات المكتنفة، كما هو كذلك في كلّ حكم بالإمكان، إذ (عروض الإمكان بتحليل وقع)(1)، لكن ذلك بعنوان عدم الاعتبار لا اعتبار العدم، وتفصيل الكلام موكول إلى مباحث الموادّ الثلاث من الحكمة.

ص: 189


1- شرح المنظومة 2: 254، وفيه: عروض الإمكان بتحليل وقع***وهو مع الغيريّ من ذين اجتمع

نعم، الفرق بين الموردين أنّ مقدّمة أحدهما مقدورة بخلاف الآخر، وعلى ذلك يتفرّع استحقاق العقاب وعدمه، لكنّ ذلك لا يكون فارقاً فيما نحن بصدده بعد توقّف كلٍّ منهما على انقضاء الزمان.

وأمّا فرض تحقّق البعث في الزمان الثاني فهو خلاف المفروض أوّلاً، ومستلزم لعدم وجوب تحصيل مقدّماته ثانياً؛ إذ البعث نحوها موقوف على البعث نحوه، فلو تأخّر عنها انقلب مشروطاً، لكن قد مضى ما في الأخير، فراجع.

ثانياً: النقض بالوجوب المتعلّق بالفعل المركّب من أمور تدريجيّة الوجود، وقد سبق البحث فيه.

ثالثاً: النقض بالغافل والجاهل والناسي والنائم ونحوهم، فإنّ التكليف فعليّ في حقهم، مع أنّ انبعاثهم نحو المطلوب - فيما إذا كان من الأمور التعبّدية، بل مطلق الأمور القصديّة ولو لم تكن تعبّدية، بل مطلق الواجبات ولو كانت توصّلية - محال.

ووجه الاستحالة - مع وضوحها في البعض بالنسبة إلى البعض - أنّه ليس المراد بالانبعاث مطلق صدور العمل كي يُقال بإمكان وقوعه منهم، بل صدوره عن البعث، وعلى نحو المطاوعة للتحريك المولويّ؛ لكونه مقوّماً للطاعة التي سبق الأمر الشرعيّ لتحقيقها - على ما قُرّر في موضع آخر - وهو مستحيل في حقّهم؛ وذلك لتوقّف صدور الفعل كذلك على الالتفات للبعث، وهو مفقود في هذه الطوائف.

واستبدال الضدّ بالوصف المانع متوقّف - عادةً - على مقدّمة غير اختياريّة - كالاستيقاظ في النائم، والالتفات في الناسي - فيكون غير اختياريّ؛ لأنّ

ص: 190

الموقوف على أمر غير اختياريّ غير اختياريّ، (وكون الأفعال مستندةً إلى الاختيار غير الاختياريّ يُوكل بحثه إلى محلّه، وعلى فرض تسليمه فلا يقدح فيما نحن فيه لبداهة عدم كونه اختياريّاً، وإن قدح في القاعدة المذكورة) وما هو غير اختياريّ لا يُمكن صدوره بالاختيار عن المكلّف؛ لاستحالة وجود المعلول بدون وجود علّته.

ثمّ إنّه لو بُني على تعميم الانبعاث لمطلق صدور العمل كفت الجزئيّة في الجواب؛ لكونها نقيضاً للكلّية.

وأمّا كون الأمر فعليّاً فيدلّ عليه - ولو في الجملة - إطلاق أدلة الأحكام أوّلاً.

والأخبار المدّعى استفاضتها الدالّة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، بل ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره) تواتر تلك الأخبار(1) في مبحث (إمكان التعبّد بالأمارة غير العلميّة) ثانياً.

وما قُرّر في مبحث أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم من استحالة اختصاص الأحكام بالعالمين بها ثالثاً.

كما يدلّ عليه: ثبوت القضاء بعد زوال الوصف المانع، فيكشف - بطريق الإنّ - عن كون المجعول فعليّاً، وإلا لم يصدق عنوان الفوت المأخوذ في قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من فاتته فريضة»(2) موضوعاً لوجوب القضاء، كما لا يصدق

ص: 191


1- فرائد الأصول 1: 113، وفيه: «وقد تواتر بوجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل الأخبار والآثار».
2- عوالي اللئالي 3: 54، وفيه: وقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «مَنْ فاتته فريضة فليقضها كما فاتته».

في الصبيّ والمجنون ونحوهما، فتأمّل.

ورابعاً: إنّ التضايف وإن تحقّق بين البعث والانبعاث مفهوماً ومصداقاً قوّةً وفعليّةً، إلاّ أنّ ذلك لا مجرى له في الحكم - الذي هو محلّ الكلام في المقام - لأنّه إن أريد وقوع التضايف بين ذات الحكم والانبعاث الإمكانيّ من دون أخذ قيد إمكان الباعثيّة في حدّ الحكم - بمعنى عدم اعتباره فيه - ففيه: عدم وجود بعض ما أخذ في التضايف - من الخصائص - بين ذات الحكم والانبعاث الإمكانيّ، مما يكشف - بطريق الإنّ - عن عدم كونهما متضايفين، مثل أنّ المتضايفين متلازمان تعقّلاً، ولا تلازم بين تصوّر الحكم الفعليّ والانبعاث الإمكانيّ، ومثل أنّ المتضايفين متكافئان في القوّة والفعل، فإذا كان أحدهما بالفعل كان الآخر بالفعل، وإذا كان أحدهما بالقوة كان الآخر بالقوة، ولا تكافؤ في المقام؛ إذ يُمكن أن يكون أحد طرفي التضايف - وهو الحكم - بالفعل، والآخر - وهو الانبعاث - فيمن لم يحرّكه البعث المولويّ بالإمكان، وفعليّة القوّة لا تكفي في تحقّق التضايف؛ إذ هو خلاف ما قُرّر من الاستفصال في قاعدة التكافؤ، وتفصيل الكلام موكل إلى محله.

وإن أريد وقوع التضايف بين الحكم والانبعاث الإمكانيّ بعد أخذ قيد إمكان الباعثيّة في قوام الحكم - كما هو الظاهر من كلامه (قدس سره) - بأن يُقال: إنّ الحكم الحقيقيّ هو ما أمكنت فيه الباعثيّة وليس غيره حكماً، ففيه: إنّ الحكم اعتبار معيّن مجعول في عهدة المكلّف ينشأ من ملاكٍ خاصٍّ أو إرادةٍ خاصّةٍ، ولا يُؤخذ في صحّته لدى العقلاء إمكان الانبعاث، كما بالنسبة إلى الجاهل والنائم ونحوهما إذا استمرّ العذر طيلة الوقت المحدّد. نعم، لابدّ من أن يكون هناك أثر مصحّح للجعل، دفعاً للغويّة.

ص: 192

ولو فُرض أخذ الإمكان قيداً فإنّما هو الإمكان في قطعةٍ ما من امتداد عمود الزمان ولو كانت مستقبليّة، لا الإمكان بالفعل.

ولو فُرض أخذ الإمكان بالفعل قيداً أمكن القول بكونه أعمّ من إمكان الانبعاث نحوه أو نحو طريقه، فيكون نظير الحكم المتعلّق بالأفعال التوليديّة، فإنّه حكم عليها حقيقةً مع عدم إمكان الانبعاث نحو المتعلّق على نحو المباشرة، وما يمكن الانبعاث نحوه فعلاً هو المقدّمات، وأما متعلّق الأمر فهو يحصل بعد وجود مقدّماته قهراً، ولا فرق في ذلك بين القول بالتوليد أو الإعداد أو التوافي(1)، فإنّ الجامع بين المباني الثلاثة هو عدم كون مصبّ الأمر فعل نفس المكلّف، بل فعل غيره.

وأمّا صرف الأمر عن التعلّق بذي المقدّمة بصبّه عليها، وجعلها واسطة في عروض الطلب عليه مع انصبابه لُبّاً عليها فهو خلاف متعارف الموالي، وخلاف التلقّي العرفيّ للأوامر المولويّة، وأيضاً: المصلحة المقصورة قائمة بذي المقدّمة، والأمر به - كالأمر بها - محقّق لتلك المصلحة، فلا مانع من الأمر به، كما لا مانع من الأمر بها.

وعلى كلٍّ فكما يصحّ لدى العقلاء التكليف الذي يتّحد فيه زمان الوجوب والواجب، كذلك يصحّ عندهم ما ينفك فيه أحدهما عن الآخر، سواء كان على نحو الواجب المعلّق، أم الواجب المشروط بالوقت المتأخّر

ص: 193


1- الحكمة المتعالية 4: 219، وفيه: «القول بالتوليد: أي كلّ حركةٍ تولّد حركةً أخرى، وإن كانت باقية، فهو الذي يُقال: إنّ القاسر أفاد الجسم قوّةً بها يتحرّك»؛ شرح المنظومة 5: 105، وفيه: «الإعداد: قوّة تهيّئ العضو لقبول الحياة».

على نحو الشرط المتأخّر.

وقد سبق شطر من الكلام حول ذلك، فراجع.

[الوجه الرابع:]

الرابع: إنّ وزان الإرادة التشريعيّة وزان الإرادة التكوينيّة، فكما لا يُمكن انفكاك الإرادة عن المراد في الإرادة التكوينيّة كذلك لا يُمكن انفكاكها عنه في الإرادة التشريعيّة، بل يجب فيها تقارن البعث والانبعاث بلحاظ الزمان.

قال المشكيني (رحمه اللّه) : «إنّه لا فرق بين الإرادة التشريعيّة والإرادة التكوينيّة إلاّ في كون الأولى متعلّقةً بفعل الغير، والثانية بفعل نفس المريد، وإلاّ فهما - فيما تتوقّفان عليه من العلم والتصديق بالفائدة والميل - مشتركتان، وكذا فيما يترتّب عليهما من تحريك العضلات وحصول الفعل بعده، فكما لا ينفكّ المراد التكوينيّ عن زمان التحريك غير المنفكّ عن زمان الإرادة، فكذلك المراد التشريعيّ لا ينفكّ عن زمان الأمر غير المنفكّ عن زمان الإرادة التشريعيّة»(1)، انتهى.

وفيه: أوّلاً: عدم تسليم الحكم في المقيس عليه، فإنّه يُمكن انفكاك الإرادة التكوينيّة عن المراد؛ إذ كما يُمكن تعلّق الإرادة بأمر حاليّ، كذلك يُمكن أن تكون الإرادة حاليّةً والمراد استقباليّاً.

نعم، الصورة العلميّة للمراد لابدّ من حصولها حين وجود الإرادة؛ لكونها من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة، لكنّ الكلام في المراد بوجوده

ص: 194


1- كفاية الأصول (المحشّی) 1: 511-512.

الخارجيّ لا بوجوده العلميّ، كما هو واضح.

ويشهد لما ذكرنا - من إمكان الانفكاك - أنّ ما نجده في أنفسنا من الإجماع والتصميم والعزم، حال تعلّق الإرادة بمراد حاليّ نجده أيضاً حين تعلّقها بمراد مستقبليّ، بل كثيراً ما تكون الإرادة في الثاني أقوى منها في الأوّل.

وأمّا ما قيل: من أنّ ما يتعلّق بالأمر المستقبليّ هو الشوق دون الإرادة ففيه: عدم الاستفصال في حكم الوجدان بين الحالتين، فتخصيص إحداهما باسم الإرادة ترجيحٌ بلا مرجّح، وحملٌ لمحمولين متخالفين على موضوعين متماثلين، مع أنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

ويؤيّده ما في (التهذيب) من: «أنّ الشوق يشبه أن يكون من مقولة الانفعال؛ إذ النفس بعد الجزم بالفائدة تجد في ذاتها ميلاً وحُبّاً إليه، فلا محالة تنفعل عنه، ولكنّ الإرادة التي هي عبارة عن إجماع النفس وتصميم الجزم من صفاتها الفعّالة»(1)، انتهى.

بضميمة أنّ ما يُوجد في النفس حين إرادة الأمر المستقبليّ يشبه أن يكون من أفعال النفس، مع عدم معقوليّة الاتّحاد في المقام.

مع أنّه قد تتعلّق الإرادة بشيء دون حصول الشوق إليه، فإنّ المريض قد يُريد شرب الدواء ولا يشتاق إليه، كما أنّ العكس حاصل أيضاً، فإنّ من مُنع عن طعام ٍ ما - لمرض - ربما يشتاق إليه ولا يُريده، والمتّقي قد يشتهي العلو لكن لا يريده، كما قال اللّه سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ

ص: 195


1- تهذيب الأصول 1: 182.

لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(1).

وعلى هذا، فما يتعلّق بالأمر المستقبليّ غير المرغوب فيه لا يُعقل أن يكون هو الشوق، بل هو الإرادة. اللّهم إلاّ أنّ يُقال بتعميم الشوق للرغبة في الشيء الحاصلة بعد الكسر والانكسار عمومها(2) للرغبة الملائمة للطبيعة الأوّلية.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية (قدس سره) استشهد على إمكان الانفكاك بقوله: «إنّ الإرادة تتعلّق بأمر متأخّر استقباليّ، كما تتعلّق بأمر حاليّ، ضرورة أنّ تحمّل المشاقّ في تحصيل المقدّمات - فيما إذا كان المقصود بعيد المسافة وكثير المؤونة - ليس إلاّ لأجل تعلّق إرادته به وكونه مريداً له قاصداً إياه، لا يكاد يحمله على التحمّل إلاّ ذلك»(3).

وهو لا يخلو من تأمّل، إذ المعلول إنّما يكشف عن إنّية العلّة لا ماهيّتها، فوجود إرادة المقدّمات يدلّ على وجود ما تترشّح منه هذه الإرادة، ولا يُعيّنه في إرادة ذيها؛ إذ يُمكن أن يكون المترشّح منه هو الشوق إلى ذي المقدّمة، لا الإرادة المتعلّقة به، ودعوى أن الشوق لا يُمكن أن يستتبع ذلك مصادرة؛ إذ للخصم أن يدّعي إمكان ذلك، فما ذكره (قدس سره) يشبه الاستدلال بالأعمّ على الأخصّ، كالاستدلال بوجود الطَرْق على وجود الطارق المُعيّن.

وعليه، فالأولى الاستدلال بما ذكرناه أوّلاً.

ص: 196


1- القصص: 83 .
2- الظاهر أنّ في العبارة سقطاً، ولعلّ الصحيح (وعمومها).
3- كفاية الأصول: 102.

ثمّ إنّ المحقّق الإصفهاني (قدس سره) أورد على انفكاك الإرادة عن المراد: «بأنّه إن كان مردُّ ذلك إلى حصول الإرادة، التي هي علّةٌ تامّةٌ لحركة العضلات، أو الجزء الأخير من العلّة التامّة في الظرف السابق، إلاّ أنّ معلولها حصول الحركة في ظرف لاحق، ورد عليه: أنّه من انفكاك المعلول عن علّته التامّة، أو الجزء الأخير من العلّة التامّة، وهو محال.

أو إلى جعله بما هو متأخّر معلولاً كي لا يكون له تأخّر، ففيه: أنّه مستلزم لصيرورة تأخّره عن علّته كالذاتيّ له، فهو كاعتبار أمرٍ محال في مرتبة ذات الشيء، فيكون أولى بالاستحالة.

أو إلى أنّ حضور الوقت شرط في بلوغ الشوق حدّ النصاب وخروجه من النقص إلى الكمال، أشكل عليه بأنه عين ما رامه الخصم من أنّ حقيقة الإرادة لا تُوجد إلاّ حين إمكان انبعاث القوّة المحرّكة للعضلات نحو المطلوب.

أو إلى أنّ حضور الوقت مصحّح لفاعليّة الفاعل - وهو الإرادة - كما أنّ المماسّة مصحّحة لفاعليّة النار للإحراق مثلاً، رُدّ: بأنّ دخول الوقت خارجاً ليس من خصوصيّات الإرادة النفسانيّة حتّى يُقال: هذه الإرادة فاعلة دون غيرها، وكذا وجوده العلميّ، فلا معنى لأن يكون دخول الوقت مصحّحاً لفاعليّة الإرادة».(1)

وفيه: إنّ الحصر غير حاصر، بل يُمكن أن يكون مردّ ذلك إلى أمور:

منها: أن يكون دخول الوقت مُتمّماً لقابليّة الفعل، بحيث يكون قيداً في

ص: 197


1- نهاية الدراية 1: 345.

المراد لا في الإرادة، فكما أنّ الخصوصيّات الأينيّة والكيفيّة والكميّة ونحوها مؤثّرة في تعلّق الإرادة بالشيء، كذلك الخصوصيّات الزمانيّة.

ومنها: أن يكون حضور الوقت مُتمّماً لقابلية الفاعل - وهي العضلات التي تتحرّك بما فيها من القوّة نحو المطلوب - فإنّ العضلات تستجيب - بالحركة نحو المطلوب - للإرادة عند خروجها من حدّ النقصان إلى حدّ الكمال، فربّما لم تكن العضلات في مستوى الاستجابة الحاليّة للإرادة النفسانيّة؛ لانعدام قوّة التحرّك نحو المطلوب أو ضعفها، فتتعلّق الإرادة الفعليّة بالتحريك المستقبليّ مع تماميّتها فعلاً.

ومنها: أن يكون دخول الوقت مقارناً لارتفاع العوائق الخارجيّة المانعة من تحصيل المراد.

ومنها: غير ذلك.

وبناءً على ما سبق تكون الإرادة جزء العلّة في التحرّك نحو المطلوب لا تمام العلّة، ولا الجزء الأخير منها.

ومن جميع ما سبق انقدح النظر في دعوى استلزام الإرادة لتحريك العضلات في قولهم: (الإرادة هي الشوق المؤكّد المستتبع لتحريك العضلات)(1) إلاّ أن يكون المراد شأنيّة التحريك - بمعنى كونه مقتضياً له - لا فعليّته، أو يكون المراد التحريك حسب نوعيّة تعلّق الإرادة وبلحاظ ظرف تعلّقها.

ص: 198


1- كفاية الأصول: 65؛ منتهى الأصول 1: 218؛ حقائق الأصول 1: 147.

ثمّ إنّ هذا كلّه مبنيّ على مغايرة الإرادة للعلم في الإنسان(1) - كما هو المختار - وأمّا بناءً على اتّحادهما - كما ذهب إليه بعض(2) - فإمكان انفكاكها عن المراد يكون أوضح؛ لإمكان تعلّق العلم فعلاً بأمر استقباليّ.

والتضايف إنّما هو بين العلم والمعلوم بالذات - لا بينه وبين المعلوم بالعرض - فلا إشكال من ناحية التضايف.

ثمّ إنّه يُمكن النقض - مضافاً إلى الإرادة الإنسانيّة المتعلّقة بالمراد المستقبليّ - بالإرادة الذاتيّة في اللّه سبحانه؛ إذ إرجاعها إلى غيرها - مع كونه خلاف ظواهر الآيات والروايات - مستلزمٌ لسلب صفةٍ من صفات الكمال عنه تعالى، وحدوثُها مستلزم لطروّ التغيّر على ذاته سبحانه، فيتعيّن قدمها فيه تعالى، مع حدوث ما تعلّقت به إرادته بالحدوث الزمانيّ، وتفصيل الكلام والنقض والإبرام يحتاج إلى بسطٍ لا يسعه المقام.

ثانياً: لو فُرض تسليم الحكم في المقيس عليه - الأصل - إلاّ أنّه لا يُسلّم في المقيس - الفرع - وذلك لأنّ الأمور العينيّة تختلف عن الأمور الاعتباريّة في كون الأولى حقائق متأصّلة في عالم التكوين غير منوطة باعتبار المعتبر، أو فرض الفارض - إلاّ فيما ندر، كالعلم بالعناية المستتبع لتحقّق المعلوم، كتوهّم المرض الذي يتعقّبه المرض - بخلاف الثانية فإنّها منوطة بالاعتبار، ولا واقع لها وراء اعتبار المعتبر وجعل الجاعل؛ ولذا لا تسري عليها أحكام الأمور التكوينيّة على ما قُرّر في موضوع تضادّ الأحكام الخمسة في مباحث

ص: 199


1- حقائق الأصول 1: 156.
2- كفاية الأصول: 69.

اجتماع الأمر والنهي وغيره.

وعليه: فإذا اعتبر مَنْ بيده الاعتبار وجود المجعول في ظرفٍ سابق على زمن امتثاله فكيف يتخلّف عن ظرف اعتباره؟

لكنّ هذا الجواب لا يخلو من نظر؛ لأنّه وإن دفع الإيراد بلحاظ نفس الحكم، إلاّ أنّه لا يدفعه بلحاظ مبادئه؛ إذ يرد بهذا اللحاظ إشكال انفكاك الإرادة التكوينيّة عن المراد - فإنّ الإرادة التشريعيّة كالتكوينيّة من حيث المبادئ، وإنّما الاختلاف بينهما في المتعلّق - فلا يتمّ هذا الجواب منفرداً ما لم يُضمّ إليه ما سبق في الجواب الأوّل.

ثمّ إنّه يُمكن تقرير هذا الجواب بنحوٍ آخر، وهو: بداهة انفكاك الإرادة التشريعيّة عن المراد في العاصي والناسي ونحوهما؛ إذ تكون الإرادة فعليّةً مع عدم تحقّق المراد خارجاً.

نعم، يُمكن أن يُقال: إنّه ليس المراد فعليّة الانبعاث، بل إمكان الانبعاث - بما يترتّب عليه من الآثار، كصحّة المؤاخذة ولزوم القضاء ونحوهما - إذ لا يكاد يكون الغرض إلاّ ما يترتّب عليه من فائدته وأثره، ولا يترتّب عليه إلاّ ذلك، لكن قد سبق أنّ الانفكاك حاصل ولو أريد الإمكان، فراجع.

[الوجه الخامس:]

الخامس: إنّ الالتزام بلزوم تقدّم البعث على الانبعاث إن كان لأجل أنّ الأمر إنّما ينشأ بداعي جعل الداعي في نفس المكلّف نحو الامتثال، وهو موقوف على حصول مبادئه من التصوّر والتصديق ونحوهما، وهي أمور زمانيّة لابدّ في تحقّقها من تصرّم الزمان، فلابدّ من تأخّر الانبعاث عن تحقّق الداعي المتأخّر عن وجود الأمر، ففيه: أنّ من الممكن حصول هذه المبادئ

ص: 200

قبل زمان تحقّق المجعول - أي: الحكم المنجّز الموضوع في عهدة المكلّف - وذلك بسبب العلم بالجعل - أي: تشريع القانون وإنشاء الحكم - من قبل، وما ذُكر في الاستدلال إنّما يصحّ لو لم تحصل مبادئ الاختيار قبل زمان تحقّق المجعول، أمّا إذا حصلت قبله فيُمكن تقارن البعث والانبعاث، فإنّ حصول مبادئ الاختيار غير موقوف على فعليّة الأمر، بل يُمكن أن يُقال: إنّ حصول هذه المبادئ غير موقوف على وجود أصل الأمر؛ إذ يُمكن العزم على الطاعة أو المعصية في ظرفهما قبل وجود الأمر أو النهي، ففي الاستدلال خلط بين لزوم تقدّم الأمر على الامتثال وتقدّم العلم بالأمر عليه.

وأمّا مقولة عدم الانفكاك بين الإيجاد والوجود، التي قد يُستشكل بها على انفكاك الجعل عن المجعول، فهي إنّما تصحّ في القضايا التكوينيّة الخارجيّة، دون القضايا الاعتباريّة. أمّا الأوّل: فلأنّ الأمر المطاوعيّ التكوينيّ ليس زمامه بيد المُوجد كي يشاء تارةً وجوده فعلاً وأخرى مستقبلاً، بل هو انفعال طبيعيّ عن الإيجاد، بل الوجود والإيجاد متّحدان بالذات مختلفان بالاعتبار على ما قُرّر في محلّه(1)، وهذا بخلاف الثاني: فإنّ زمان الاعتبار بيد المعتبر، ووجود الأمر الاعتباريّ تابع لكيفيّة الاعتبار، فإن اعتبر مَنْ بيده الاعتبار وجوده حالاً كان موجوداً حالاً، وإلاّ كان موجوداً حسب كيفيّة اعتباره.

نعم، المنشأ لا ينفكّ عن الإنشاء والجعل، لكنّ الكلام في المجعول بمعنى الحكم المنجّز الموضوع في عهدة المكلّف، كما لا يخفى.

ص: 201


1- أجود التقريرات 1: 129؛ نهاية الدراية 1: 89 .

وإن كان لأجل أنّ مقارنة الخطاب للامتثال تستلزم تحصيل الحاصل - إن فُرض تلبّس المكلّف بالمطلوب حين توجّه الخطاب - أو طلب الجمع بين النقيضين - إن فُرض العدم - ففيه: ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) : «نقضاً: بأنّه لو صحّ ذلك لصحّ في العلّة والمعلول التكوينيّين، بتقريب: أنّ المعلول لو كان موجوداً حين وجود علّته لزم علّيتها للحاصل، وإلاّ لزم علّيتها للمستحيل، فالقول بلزوم تقدّم الخطاب على الامتثال زماناً يستلزم القول بلزوم تقدّم العلّة التكوينيّة على معلولها زماناً وهو باطل.

وحّلاً: بأنّ المعلول - أو الامتثال - إذا كان مفروض الوجود في نفسه حين وجود العلّة - أو الخطاب - لزم ما ذكر من المحذور، وأمّا إذا كان فرض وجوده لا مع قطع النظر عنهما، بل لفرض وجود علّته أو لتحريك الخطاب إليه فلا يلزم من المقارنة الزمانيّة محذور أصلاً»(1).

مضافاً إلى ما في (المباحث) من: «أن المحذور يرد على تقدير القول بتقدّم الأمر على الامتثال زماناً - أيضاً - إذ لو بقي الطلب إلى الزمن الثاني - الذي هو زمن الامتثال - كان بقاؤه تحصيلاً للحاصل، وإن ارتفع لم يلزم امتثال أصلاً، فيكون كما إذا بدا للمولى فرفع الوجوب»(2).

وإن كان لأجل كون الطلب علّةً لوقوع الامتثال، فلابدّ أن يكون متقدّماً عليه، ففيه: أنّ الطلب إن كان علّةً تامّةً لوقوع الامتثال فتقدّم العلّة على المعلول رتبيّ لا زمانيّ؛ لاستحالة الزمانيّ، مع عدم تماميّة المبنى في نفسه؛

ص: 202


1- أجود التقريرات 1: 289-290.
2- بحوث في علم الأصول 2: 344 .

وذلك لعدم كفاية الخطاب منفرداً للتحريك نحو المطلوب ما لم تنضمّ إليه مشاركات أخر، من الخوف والرجاء ونحوهما، وإلاّ لزم استحالة تحقّق العصيان في الخارج، ولكان التكليف جبراً وإلجاءً لا أمراً وطلباً.

وإن كان علّةً ناقصةً فتقدّمها بالطبع وإن كان محرزاً، إلاّ أنّ التقدّم الزمانيّ ليس شرطاً فيه، كما في كلّ المركّبات التي تُوجد دفعةً، فإنّ أجزاءها وإن تقدّمت عليها بالطبع، إلاّ أنّها تقارنها بلحاظ الزمان.

وإن كان لأجل غير ما ذكر فقد سبق الجواب عنه.

[الوجه السادس:]

السادس: إنّ الوجدان أصدق شاهد على إمكان تقارن البعث والانبعاث وعدم استحالته، لا بالاستحالة الذاتيّة ولا بالاستحالة الوقوعيّة، فإنّ فرض تعاصر فعليّة وجوب الصوم وبدء امتثاله وتقارنهما عند الفجر ليس محالاً، ولا يلزم منه محال لدى العقل.

كما أنّ الوقوع - في الأوامر العرفيّة ولو في الجملة - أدلّ دليل على الإمكان، وإن احتملت الأوامر الشرعيّة كلاًّ من التقارن، وذلك بكون الخطاب مشروطاً بالوقت المعيّن على نحو الشرط المقارن والتقدّم؛ وذلك بكون الخطاب معلّقاً، أو مشروطاً بالوقت المتأخّر على نحو الشرط المتأخّر.

مضافاً لما سبق من أنّ الأمور الاعتباريّة - بالمعنى الأخصّ للاعتبار - منوطة باعتبار المعتبر، بخلاف الأمور التكوينيّة والأمور الانتزاعيّة المنوط وجودها بوجود منشأ انتزاعها، دون توقّفها على اعتبار المعتبر أو فرض الفارض، فإذا فرض كون زمن الامتثال أوّل الدلوك، واعتبر المعتبر

ص: 203

الوجوب أوّل الدلوك فكيف يتقدّم ما اعتبر على زمن اعتباره، مع تبعيّة المعتبر لنحو اعتباره؟ فتخلّفه عنه محال، فراجع وتأمّل.

[الأمر الثاني:]

الأمر الثاني - ممّا يرد على إناطة الأمر بالمهمّ بعصيان الأمر بالأهمّ على نحو الشرط المقارن - ما في التهذيب من: «أنّه قبل وجود الشرط لا يُمكن تحقّق المشروط، فلابدّ من تحقّقه في زمانه حتى يتحقّق مشروطه، والعصيان عبارة عن ترك المأمور به في مقدار من الوقت يتعذّر عليه الإتيان به بعد، ولا محالة يكون ذلك في زمان، ففوت الأهمّ المحقّق لشرط المهمّ لا يتحقّق إلاّ بمضيّ زمان لا يتمكّن المكلّف من إطاعة أمره، ومضيّ هذا الزمان كما أنّه محقّق فوت الأهمّ محقّق فوت المهمّ أيضاً، ولا يُعقل تعلّق الأمر بالمهمّ في ظرف فوته، ولو فرض الإتيان به قبل العصيان يكون بلا أمر، هذا في المضيّقين ومنه ينقدح حال المختلفين أيضاً، فظهر أنّ سقوط أمر الأهمّ وثبوت أمر المهمّ في آنٍ واحد فأين اجتماعهما؟

وإن شئت قلت: إنّ اجتماعهما مستلزم لتقدّم المشروط على شرطه، أو بقاء فعليّة الأمر بعد عصيانه ومضي وقته»(1).

ويرد عليه: أنّ ما يتوقّف على انقضاء أمد ما هو انتزاع العصيان، لا نفس العصيان، فلو قال المولى: (صم من الفجر إلى المغرب) لم يُمكن انتزاع العصيان في الآن الأوّل - أي: آن شروق الفجر الحقيقيّ - أمّا لو انقضى ذلك الآن ولم يتلبّس المكلّف بالصوم، فإنّه يُمكن انتزاع العصيان، لكنّ العصيان

ص: 204


1- تهذيب الأصول 1: 254.

كان متحقّقاً في نفس آن الأمر حقيقةً؛ لأنّ العصيان عبارة عن عدم الإتيان بالمأمور به - في المحلّ القابل، وهو غير مثل الغافل - وهو ثابت منذ ذلك الآن.

والحاصل: أنّ تحقّق العصيان منوط بانقضاء الأجل إثباتاً لا ثبوتاً.

مع أنّ تعليق حصول العصيان بمضيّ زمان إمكان الامتثال مستلزم للخُلف؛ إذ الأمر المتحقّق بالفعل يُمكن امتثاله وعصيانه، وأمّا الأمر الذي انقضى وقته ولزم أجله فلا باعثيّة له، بل لا وجود له، فلا يُتصوّر بالنسبة إليه امتثال ولا عصيان، ففرض انقضاء أمد الأمر في آنٍ مساوق لعدم تحقّق العصيان في ذلك الآن.

مضافاً إلى أنّ انتفاء النقيض - أي: عدم العصيان - في الآن الأوّل مستلزم لثبوت البديل - وهو العصيان - فيه؛ إذ لا يخلو من النقيضين شيء.

ثمّ إنّه يُمكن اجتماع الأمرين، ولو فرض كون العصيان متوقّفاً على مضيّ الزمان، إذا أخذ العصيان على نحو الشرط المتأخّر للأمر بالمهمّ، إلاّ أن يُقال: إنّ كلام التهذيب مسوق طبق مبنى المحقّق النائيني (قدس سره) القائل باستحالة الشرط المتأخّر(1)، لكنّه لا يُجدي في إثبات استحالة الترتّب على نحو مطلق.

إلاّ أنّ هذا الفرض - هو أخذ العصيان على نحو الشرط المقارن - خروج عن موضوع البحث كما لا يخفى.

ص: 205


1- أجود التقريرات 1: 291.
[الأمر الثالث:]

الأمر الثالث - ممّا يرد على إناطة الأمر بالمهمّ بالعصيان على نحو الشرط المقارن - هو أنّ عصيان الأمر بالأهمّ علّةٌ لسقوطه، فلا ثبوت له في ظرف العصيان(1) - لتعاصر العلّة والمعلول زماناً - فيلزم من ثبوته فيه اجتماع ثبوته وسقوطه، فلا يجتمع مع الأمر بالمهمّ في ذلك الآن، وذلك مُخرج له عن موضوع الترتّب المتقوّم بتعاصر الأمرين الفعليّين في زمان واحد.

ويرد عليه: عدم تسليم كون العصيان علّةً لسقوط التكليف.

أمّا أوّلاً: فلأنّ العصيان إمّا أن يكون حيثيّة عدميّة - كما في عصيان الأمر بالصلاة - وإمّا أن يكون حيثيّة وجوديّة - كما في عصيان النهي عن الغيبة - فإن كان حيثيّة عدميّة فليس دخيلاً في سقوط الأمر؛ إذ ليس في الأعدام من علّية - ولو لعدم في عدم - وإن بها فاهوا فتقريبيّة(2).

مع أنّ سقوط الأمر عبارة عن انعدامه، والأعدام لا تتأثّر - كما أنّها لا تُؤثّر - لتبعيّة تحقّق مُفاد كان الناقصة لمُفاد كان التامّة؛ إذ ثبوت شيءٍ لشيءٍ فرع ثبوت المثبت له، ولا ذات للعدم كي يطرأ عليها التأثير أو التأثّر.

ومنه ينقدح الجواب عمّا إذا كان العصيان حيثيّة وجوديّة.

مضافاً إلى لزوم تحقّق السنخيّة - ولو في الجملة - بين العلّة والمعلول، ولا سنخيّة بين الحيثيّة الوجوديّة والسقوط العدميّ.

ص: 206


1- نهاية الدراية 1: 448؛ محاضرات في أصول الفقه 3: 153.
2- شرح المنظومة 2: 191، وفيه: كذاك في الأعدام لا علّية***وإن بها فاهوا فتقريبيّة

ثمّ إنّه لو قيل بكون العصيان حيثيّة عدميّة دائماً، لكونه عبارة عن عدم موافقة المأمور به، تمحّض الجواب في الشقّ الأوّل.

وأمّا ثانياً: فلأنّ وجود الشيء مرهون بوجود علّته، وعدمه بعدم علّته، لا بمعنى علّية العدم للعدم وثبوت العلقة العلّية بين العدمين، لما سبق من أنّ العدم لا يكون مؤثّراً ولا متأثّراً، بل بمعنى انتفاء العلقة العلّية بين الوجودين؛ ولذا كان ما اشتهر بينهم من أنّ: «عدم العلّة علّة لعدم المعلول»(1) مقولاً على ضرب من التقريب والعناية، وعليه: يكون انتفاء علّة ثبوت الأمر علّة لسقوطه.

ومن الواضح: أنّ وجود الموضوع - بالمعنى الأعمّ للموضوع المتقوّم بمجموع الملابسات المكتنفة بالمأمور والمتعلّق والشرائط والخصوصيّات ونحوها - هو علّة وجود الأمر، فيكون انتفاؤه علّة لسقوطه، (سواء كان انتفاء الموضوع معلولاً لانعدام جميع مقوّمات وجوده أم بعضها؛ وذلك لارتهان وجود الشيء بانسداد جميع أبواب العدم عليه، وكفاية انفتاح بابٍ واحدٍ منها في عدم وجوده؛ بل في امتناع وجوده، لأنّ الشيء ما لم يمتنع لم يُعدم).

وعلى هذا، يكون دخل العصيان في سقوط الأمر مستلزماً للخُلف، أو تحصيل الحاصل، أو توارد علّتين مستقلّتين على معلولٍ واحدٍ، بتقريب: أنّ إسقاطه له إن كان قبل فوات الموضوع لزم الأوّل؛ لعدم تحقّق العصيان بعد، وإن كان بعد فواته لزم الثاني؛ لسقوط الأمر بانعدام موضوعه، فلا يُمكن

ص: 207


1- نهاية الدراية 1: 502؛ الحكمة المتعالية 2: 170.

سقوطه مرّةً أخرى، وإن كان معه لزم الثالث، لعلّية الفوات للسقوط - بالمعنى الذي تقدّم لذلك - فلا يُعقل علّية غيره له أيضاً.

هذا كلّه مضافاً إلى بعض ما تقدّم في الأمر الثاني، فراجع.

[الفرض الثاني:]

الفرض الثاني: أن يناط الأمر بالمهمّ بالعصيان على نحو الشرط المتقدّم. وهو مستحيل بناءً على استحالة إناطة الشيء مطلقاً بما يتقدّم عليه، كاستحالة إناطته بما يتأخّر عنه؛ للزوم تأثير المعدوم في الموجود - كما ذهب إليه صاحب الكفاية (قدس سره) (1) - وذلك لاندراج المقام في الكلّي المذكور.

وأما بناءً على الإمكان فهو وإن لم يكن مستحيلاً في حدّ ذاته؛ لجواز طلب أحد الضدّين - كالطهارة الترابيّة - بعد سقوط طلب الضدّ الآخر - كالطهارة المائيّة - وذلك لعدم جريان المحاذير المذكورة في المقام فيه، إلاّ أنّه خروج عن موضوع الترتّب، لاشتراط تعاصر الأمرين الفعليّين فيه - أو ما بحكم التعاصر على ما سيأتي - ومع تحقّق العصيان وانتهاء أمده ينتهي أمد الأمر بالأهمّ، فلا تتعاصر فيه الفعليّتان، ولا تترتّب عليه المحذورات المتصورّة للترتّب.

[و] تقريره: أنّ امتداد العصيان مطابق لامتداد الأمر، فإذا كان الأمر بالمهمّ متعقّباً لعصيان الأمر بالأهمّ كان الأمر بالمهمّ في طول الأمر بالأهمّ بلحاظ الزمان، ففي ظرف العصيان لا وجود للأمر بالمهمّ المتعقّب له؛ إذ يلزم من

ص: 208


1- كفاية الأصول: 134.

وجوده فيه مقارنة المشروط لشرطه السابق عليه، وهو خُلف، لفرض تأخّره عنه، وكذا في الظرف الذي يسبق العصيان؛ إذ يلزم من وجوده فيه سبق المشروط على شرطه السابق عليه، وفي الظرف الذي يلي العصيان لا وجود للأمر بالأهمّ، إذ فيه: إن تحقّق موضوع الأمر بالأهمّ لزم عدم كون العصيان عصياناً؛ إذ مع بقاء الموضوع لا عصيان، وإن انتفى الموضوع فبقاء الأمر بالأهمّ مساوق لبقاء المعلول بعد انتفاء علّته، مع احتياج المعلول إلى علّته في البقاء كاحتياجه إليها في الحدوث، تبعاً للاقتضاء والليسيّة الذاتيّة اللازمين لماهيّة الممكن، والتوالي بأسرها باطلة، فالمقدّم مثلها.

وممّا تقدّم يظهر أنّه لابدّ في هذا الفرض من انفكاك زمان الواجبين، بأن يكون زمان الأهمّ سابقاً على زمان المهمّ، وأمّا تقارن الزمانين فهو مستلزم للخُلف؛ وذلك لاتّحاد زمان الأمرين وامتثالهما وعصيانهما، فلا يكون ثمّة سبق للعصيان على الأمر بالمهمّ ليكون شرطاً متقدّماً بالنسبة إليه، وعلى مبنى سبق الأمر على امتثاله وعصيانه يكون عصيان الأهمّ لاحقاً للأمر بالمهمّ - لفرض وحدة زمان الأمرين - فيكون شرطاً متأخّراً بالنسبة إليه لا متقدّماً، كما هو المفروض.

هذا ولكن سبق في الشرط العاشر من شرائط تحقّق الموضوع التنظّر في ذلك، فراجع.

[الفرض الثالث:]

الفرض الثالث: أن يُناط الأمر بالمهمّ بالعصيان على نحو الشرط المتأخّر، قال المحقّق النائيني (قدس سره) - بصدد نقل كلام بعضهم - : «إنّ عصيان الأمر

ص: 209

بالأهمّ متّحد مع زمان امتثال خطاب المهمّ، فلابدّ من فرض تقدّم خطاب المهمّ على زمان امتثاله، وهو يستلزم الالتزام بالشرط المتأخّر والواجب المعلّق، وكلاهما باطل»(1).

وفي (المباحث): «وأمّا أخذ العصيان بنحو الشرط المتأخّر فلأنّه يستلزم القول بإمكان الشرط المتأخّر والواجب المعلّق؛ إذ يستلزم أن يكون الأمر بالمهمّ متقدّماً زماناً على زمان عصيان الأهمّ - الذي هو زمان امتثال المهمّ أيضاً - فيكون كلٌّ من الشرط والواجب في الأمر بالمهمّ متأخّراً عنه، وهو مستحيل»(2).

أقول: محذور الشرط المتأخّر يرد بلحاظ إناطة الوجوب بالعصيان المتأخّر، ومحذور الواجب المعلّق يرد بلحاظ سبق زمان وجوب المهمّ على زمان امتثال المهمّ، بتقريب: أنّ عصيان الأهمّ متأخّر عن وجوب المهمّ - لفرض كونه شرطاً متأخّراً - فيكون زمان امتثال الأهمّ متأخّراً - إذ لا يُعقل انفكاك زمان الامتثال عن زمان العصيان - وإذا كان زمان امتثال الأهمّ متأخّراً كان زمان امتثال المهمّ متأخّراً أيضاً؛ للزوم تعاصر الزمانين في الترتّب، فيلزم كلٌّ من الشرط المتأخّر، لتأخّر زمان عصيان الأهمّ عن زمان وجوب المهمّ المشروط به، والواجب المعلّق؛ لتقدّم زمان وجوب المهمّ على زمان امتثاله.

ولكن يرد عليه:

ص: 210


1- أجود التقريرات 1: 291.
2- بحوث في علم الأصول 2: 343.

أوّلاً: ما قُرّر في محلّه من معقوليّة كلٍّ من الشرط المتأخّر والواجب المعلّق(1).

ثانياً: عدم كلّية ما ذكروه من لزوم التعليق في إناطة الأمر بالمهمّ بالشرط المتأخّر؛ إذ يُمكن فرض وقوع التزاحم بين واجبين - أحدهما مهمّ والآخر أهمّ - في زمانين بحيث لا تفي قدرة المكلّف بالجمع بينهما، مع سبق زمان المهمّ على زمان الأهمّ، ومقارنة زمان امتثال المهمّ لزمان وجوبه، فيأمر المولى بإتيان الأهمّ في الزمان اللاحق، معلّقاً الأمر بالمهمّ في الزمان السابق على عصيان الأمر بالأهمّ في الزمان اللاحق، فلا يكون ثمّة تعليق في الواجب لتقارن زمني الوجوب والواجب.

لكن لا يخفى أنّ تحقّق العصيان خارجاً في هذا الفرض يتوقّف على مضيّ الزمان؛ إذ لا عصيان قبل زمان الامتثال وإن كان تحقّقه فيما بعد منكشفاً من حين فعل المهمّ، لما فرضناه من عدم وفاء القدرة بالجمع، فلا قدرة على فعل الأهمّ في حينه لاستنفاد المهمّ قدرة المكلّف من قبل، لكن عدم القدرة هنا غير منافٍ لكون الترك عصياناً؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا يُنافي الاختيار.

وأما ما ذكره المحقّق الإصفهاني (قدس سره) من «إناطة إمكان المشروط بالشرط المتأخّر بإمكان المعلّق لاتّحاد ملاك الاستحالة والإمكان فيهما، فيتوقّف تصحيح جريانه في الفرض المذكور على إمكان المعلّق»(2) فقد

ص: 211


1- بدائع الأفكار: 391؛ أجود التقريرات 1: 227.
2- نهاية الدراية 1: 446-447.

سبق التأمّل في إطلاقه، وإنّه لا يتمّ إلاّ بناءً على بعض الوجوه في تقرير استحالة المعلّق، أمّا على بعض الوجوه الأخر فيُمكن القول باستحالة المعلّق مع الذهاب إلى إمكان المشروط بالشرط المتأخّر، وعليه يُمكن تصحيح جريان الترتّب في الصورة المفروضة دون حاجةٍ إلى القول بإمكان المعلّق، مع أنّ الكلام في فعليّة التعليق لا في إمكانه.

ثمّ إنّه قد انقدح ممّا ذُكر عدم لزوم التعاصر بين الأمرين في تحقّق موضوع الترتّب، بل يكفي كونهما بحكم المتعاصرين وإن لم يتعاصرا إطلاقاً، كما في الفرض المذكور في صورة تأخّر وجوب الأهمّ - كنفس الأهمّ - عن زمان المهمّ وعدم تقارنهما، فتأمّل.

[الفرض الرابع:]

الفرض الرابع: أن يُناط الأمر بالمهمّ بالعزم على العصيان، أو عدم العزم على الامتثال. وقد أورد على هذا الفرض بأمرين:

الأوّل: ما ذكره المحقّق الإصفهاني (قدس سره) من: «أنّه مبنيّ على معقوليّة الواجب المعلّق وجواز انفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب، ويزيد شرطيّتهما بنحو الشرط المتقدّم على الإشكال المتقدّم بلزوم تعقّل الشرط المتقدّم أيضاً إذا كان شرطاً لوجوب المهمّ بعد العزم وقبل زمان الفعل، وإلاّ فأحد المحذورين لازم على كلّ حال»(1).

وتوضيحه: أنّ أخذ العزم على العصيان شرطاً لفعليّة الأمر بالمهمّ يؤدّي إلى محذور الواجب المعلّق أو الشرط المتقدّم أو كليهما معاً؛ وذلك لما في

ص: 212


1- نهاية الدراية 1: 451.

(المباحث) من: «أنّ الأمر بالمهمّ إن كان في زمن العزم على العصيان - المتقدّم على زمان العصيان - كان فيه محذور الواجب المعلّق؛ لأنّ زمان الواجب المهمّ إنّما هو زمان العصيان المتأخر - بحسب الفرض - عن زمان العزم على العصيان، فإذا كان زمان العزم هو زمان الأمر بالمهمّ كان من الواجب المعلّق لا محالة، وإن فُرض أنّ زمانه زمان العصيان المتأخّر عن زمان العزم كان فيه محذور الشرط المتقدّم؛ لأن العزم متقدّم زماناً على الوجوب المشروط، وإن فُرض أنّ زمان الوجوب متخلّل بين زمان العزم وزمان العصيان لزم المحذوران معاً»(1).

أقول: ما ذكره (قدس سره) مبنيّ على حصرٍ غير حاصر في محتملات أخذ العزم على العصيان شرطاً، مع أنّ للمسألة صوراً متعدّدة؛ إذ يُمكن أخذ العزم شرطاً متقدّماً دون تعليق الواجب، كما في صورة أخذ العزم السابق على زمن وجوب المهمّ شرطاً مع مقارنة زمن وجوب المهمّ لزمن الواجب، أي: المهمّ.

وأخذه شرطاً متقدّماً مع تعليق الواجب كما في الصورة السابقة، مع تخلّل وجوب المهمّ بين زمن الشرط وزمن الواجب.

وأخذه شرطاً مقارناً دون تعليق الواجب، كما في صورة أخذ العزم المقارن لزمن وجوب المهمّ شرطاً مع مقارنة زمن وجوب المهمّ لزمن الواجب، وبعبارةٍ أخرى: تقارن أزمان الثلاثة: الشرط، والوجوب، والواجب.

وأخذه شرطاً مقارناً مع تعليق الواجب كما في الصورة السابقة، مع تأخّر

ص: 213


1- بحوث في علم الأصول 2: 347.

زمن الواجب عن زمني الشرط والوجوب.

وأخذه شرطاً متأخّراً دون تعليق الواجب، كما في صورة انفكاك زمان الواجبين، وسبق زمان المهمّ على زمان الأهمّ، وإناطة وجوب المهمّ بالعزم المتأخّر، مع مقارنة وجوب المهمّ لنفس المهمّ.

وأخذه شرطاً متأخّراً مع تعليق الواجب، كما في الصورة السابقة مع سبق زمن وجوب المهمّ على نفس المهمّ.

ثمّ إنّه يُمكن فرض كون العزم شرطاً متأخّراً مع تعاصر زمن الواجبين، كما في قول المولى: (إن عزمت فيما بعد على عصيان الأمر بالأهمّ - المقارن لزمن المهمّ - وجب عليك المهمّ من الآن) وأثر تقدّم الوجوب يظهر في المقدّمات المفوّتة ونحوها، فلا يرد فيه إشكال اللغويّة.

ولا يخفى أنّ للمسألة صوراً كثيرةً، إلاّ أنّ كلّياتها هي ما ذكرناه، وقد أضربنا عن ذكر تلك الصور روماً للاختصار.

الثاني: ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) وهو: «أنّ خطابي الأهمّ والمهمّ وإن كانا فعليّين حال العصيان معاً، إلاّ أنّ اختلافهما في الرتبة أوجب عدم لزوم طلب الجمع من فعليّتهما، لما عرفت من أنّ الأمر بالأهمّ إنّما يقتضي هدم موضوع الأمر بالمهمّ، وأمّا هو فلا يقتضي وضع موضوعه، وإنّما يقتضي شيئاً آخر على تقدير وجوده، وما لم يكن هناك اتّحاد في الرتبة يستحيل أن تقتضي فعليّة الخطابين طلب الجمع بين متعلّقيهما. ومن هنا يظهر أن ما أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس سره) من أنّ الأمر بالمهمّ مشروط بالعزم على عصيان الأمر بالأهمّ غير صحيح، فإنّه عليه لا يكون الأمر بالأهمّ رافعاً

ص: 214

لموضوع الأمر بالمهمّ وهادماً له تشريعاً، فإنّ الأمر بالأهمّ إنّما يقتضي عدم عصيانه، لا عدم العزم على عصيانه»(1).

ومحصّله - كما في (المباحث) - أنّ النكتة التي بها تعقلّنا إمكان الترتّب تقتضي أن يكون المترتّب عليه الأمر بالمهمّ هو العصيان لا العزم عليه، فإنّ تلك النكتة هي أن يكون ما يترتّب عليه الأمر بالمهمّ مما يقتضي الأمر بالأهمّ هدمه أوّلاً وبالذات، فإنّه عليه سوف ترتفع غائلة المطاردة بين الأمرين، ومن الواضح أنّ الأمر بالأهمّ يقتضي بذاته هدم عصيان الأهمّ لا هدم العزم على عصيانه»(2).

ويرد عليه - مع ما سبق من المناقشة مبنی، بعدم إجداء تعدّد الرتبة في دفع محذور طلب الضدّين - : أوّلاً: ما في (المباحث) وهو: «أنّ ما يقتضي الأمر بالأهمّ هدمه أوّلاً وبالذات ليس هو العصيان وترك الأهمّ، وإنّما هو العزم عليه وعدم العزم على الامتثال؛ لأنّ التكليف إنّما يُجعل من أجل أن يكون داعياً في نفس العبد، فمقتضاه الأوّلي إيجاد الداعي والعزم في نفس العبد على الامتثال، فهو يهدم عدم العزم على الامتثال والعزم على العصيان أوّلاً وبالذات»(3).

وفيه: أنّ هنالك فرقاً بين مصبّ الإرادة وشرط المصب، بتقريب: أنّ ما يُجعل لأجله التكليف لا يخلو من أن يكون العزم مطلقاً، أو العزم المُوصل

ص: 215


1- أجود التقريرات 1: 306.
2- بحوث في علم الأصول 2: 348.
3- بحوث في علم الأصول 2: 348.

إلى الفعل أو الفعل الصادر من المكلّف مطلقاً ولو لم يكن صدوره عن اختيار، أو كلٌّ من الفعل والعزم بحيث يكون كلٌّ منهما جزءاً من المطلوب، أو الفعل لكن بشرط العزم على نحوٍ يكون التقيّد داخلاً والقيد خارجاً.

والأربعة الأُوَل خلاف التلقّي العرفيّ للأوامر المولويّة وخلاف ما نجده في أنفسنا - عادةً - عند تكليف مَنْ يتلونا في الرتبة، مع ما يرد على الأوّل من استلزامه تحقّق مراد المولى، وسقوط القضاء بمجرّد حصول العزم على الفعل ولو لم ينته إلى الفعل، وعلى الثالث ممّا سيأتي، فلا يبقى سوى أن يكون المراد هو الفعل الصادر عن عزم واختيار، ومرجعه إلى إرادة الحصّة من الفعل لا طبيعيّ الفعل.

ومن هنا قالوا في تحديد الأمر أنّه (طلب الفعل من العالي على سبيل الاستعلاء)(1) لا طلب العزم على الفعل، وقال المحقّق الإصفهاني (قدس سره) - في مبحث المقدّمة - : «الإرادة التشريعيّة هي إرادة فعل الغير منه اختياراً، وحيث إنّ المشتاق إليه فعل الغير الصادر باختياره فلا محالة ليس بنفسه تحت اختياره، بل بالتسبّب إليه بجعل الداعي إليه وهو البعث نحوه، فلا محالة ينبعث من الشوق إلى فعل الغير اختيار الشوق إلى البعث نحوه، فيتحرّك القوّة العاملة نحو تحريك العضلات بالبعث إليه، فالشوق المتعلّق بفعل الغير إذا بلغ مبلغاً ينبعث منه الشوق نحو البعث الفعلي كان إرادة تشريعية»(2).

نعم، في الوجود الخارجيّ يتعلّق الهدم بالعزم أوّلاً وبالفعل ثانياً، إلاّ أنّ

ص: 216


1- الوافية في أصول الفقه: 68؛ مفاتيح الأصول: 108، 114.
2- نهاية الدراية 1: 348.

الكلام ليس فيه بل في مقتضى الأمر، فتأمّل.

مع أنّ دخل العزم - ولو بنحو الشرطيّة - غير مطّرد، فإنّ غير القصدي من التوصّليات - كالتطهير الخبثيّ - غير منوط بالقصد، بل يتعلّق الغرض بصرف وقوع الفعل في الخارج، ولو عن غير قصد.

نعم، يُمكن أن يُدّعى الفرق بين كون الشيء محققاً لغرض المولى وكونه محقّقاً للغرض من الأمر، فحصول الطهارة من الخبث لا يُعقل أن يكون غرضاً من الأمر بالطهارة، وإن تحقّق به غرض المولى؛ لعدم ترتّبه على الأمر وعدم استناده إليه، وما لا يترتّب على شيءٍ لا يعقل أن يكون غرضاً من ذلك الشيء؛ إذ الغرض المتوخّى من الشيء ما يكون حاصلاً بسببه لا مطلقاً، وإلاّ لم يكن غرضاً له، وأمّا سقوط الأمر بالتطهير بعد حصول الطهارة فلانتفاء الموضوع المستتبع لانتفاء الأمر - لاستحالة بقاء المعلول بعد ارتفاع علّته - لا لتحقّق غرض الأمر.

اللّهم إلاّ أن يُقال - كما في هوامش أجود التقريرات - : «التكليف ليس إلاّ عبارةً عن اعتبار كون الفعل على ذمّة المكلّف، والإنشاء لا شأن له إلاّ أنّه إبراز لذلك الاعتبار القائم بالنفس، فلا مقتضي لاختصاص متعلّق الحكم بالصحّة الإراديّة والاختياريّة، بل الفعل على إطلاقه متعلّق الحكم»(1).

لكنّه لا يخلو من نظر، وتفصيل الكلام في مباحث التوصّلي والتعبّدي والضدّ.

مضافاً إلى أنّه لو صحّح التعليق على العزم لم يصحّح التعليق على

ص: 217


1- أجود التقريرات 1: 264 (الهامش).

العصيان؛ لعدم جريان النكتة المذكورة فيه، فما في المباحث تبديل لمركز الإشكال لا حلٌّ له.

ثانياً: إنّ النكتة التي يبتني عليها إمكان الترتّب - لدى المحقّق النائيني (قدس سره) - مشتركة بين أخذ العصيان شرطاً، وأخذ العزم على العصيان أو عدم العزم على الامتثال شرطاً، بتقريب: أنّ اقتضاء شيءٍ لشيءٍ مساوق لاقتضائه علّته، وطردَه له مساوق لطرده علّته، فإرادة إيجاد المعلول المبرزة بصيغة الأمر - على ما هو مبنى صاحب الكفاية (قدس سره) - أو الشوق إلى إيجاده - على ما هو مبنى المحقّق الإصفهاني (قدس سره) - تقتضي إيجاد علّته، وإرادة رفعه - بعد وجوده - تقتضي رفع علّته، كما أنّ إرادة دفعه - قبل تحقّقه - والحيلولة دون وجوده مقتضية للحيلولة دون وجود علّته.

وما نحن فيه من قبيل الأخير، فإنّ الأمر بالأهمّ يقتضي دفع العصيان - على ما هو مبنى المحقّق النائيني (قدس سره) (1) - وهو لذلك يقتضي - ولو عقلاً - دفع العزم على العصيان لكونه علّةً للعصيان، منتهى الأمر أنّ اقتضاء دفع أحدهما بالذات واقتضاء دفع الآخر بالتبع، لكنّ ذلك لا يُنافي اتّصاف الشيء بالوصف حقيقة.

وكما أنّ الأمر المنوط بالعصيان مقيّد بعدم الإتيان بمتعلّق الآخر، ويستحيل وقوعه على صفة المطلوبيّة في عرض الإتيان بمتعلّق الآخر - على مبناه (قدس سره) - كذلك الأمر المنوط بالعزم على العصيان، فإنّه مقيّد بوجود علّة العصيان - وهو العزم على العصيان - فيستحيل وقوعه على صفة المطلوبيّة مع

ص: 218


1- أجود التقريرات 1: 327؛ فوائد الأصول 1: 392.

الإتيان بمتعلّق الأهمّ المستلزم لانتفاء شرطه، وانحفاظ الخطابين في ظرف العصيان لا يُوجب طلب الجمع لأنّهما ليسا في مرتبةٍ واحدةٍ؛ وذلك لاقتضاء الأمر بالأهمّ هدم العزم على عصيانه - ولو بالتبع - مع عدم اقتضاء الأمر بالمهمّ وضع هذا التقدير؛ لعدم محرّكية الشيء نحو مقدّماته الوجوبيّة.

ونظير ذلك يُقال في شرطيّة عدم العزم على الامتثال، فإنّ الأمر بالأهمّ يقتضي الامتثال، وما يقتضي المعلول يقتضي - ولو بالتبع - وجود علّته - وهي هنا العزم على الامتثال - ووجود علّته مقتضٍ لطرد نقيض نفسه - وهو عدم العزم على الامتثال - ؛ لاستحالة اجتماع النقيضين، فيكون الأمر بالأهمّ مقتضياً - ولو عقلاً - لطرد عدم العزم على الامتثال، بمقتضى أنّ (مقتضى المقتضى مقتضى).

ثالثاً: ما عن (المحاضرات) من: «عدم تماميّة ذلك - لو تمّ في حدّ نفسه - في الواجبات العباديّة، التي يكون الداعي والعزم فيها مأخوذاً في الواجب، بل حتّى في الواجبات التوصّلية أيضاً، فيما إذا قلنا بأنّ التكليف يقتضي تخصيص متعلّقه بالحصّة الاختياريّة كما هو مسلك المحقّق النائيني (قدس سره) »(1). انتهى.

وهو - مع عدم اختصاصه بالواجبات العباديّة، لشموله لمطلق الأمور القصديّة وإن لم تكن عباديّة كالعقود والإيقاعات، لكون العزم مأخوذاً فيها أيضاً حتّى على مسلك مَنْ لا يرى أنّ التكليف يقتضي التخصيص - آيل إلى الثاني؛ لعدم كون هدم الأهمّ للعزم بالذات وعلى نحو المباشرة، بل

ص: 219


1- بحوث في علم الأصول 2: 348؛ محاضرات في أصول الفقه 3: 150.

بالتبع وعلى نحو التسبيب؛ وذلك لعدم كون العزم جزءاً من العبادات بل هو خارج عن حريمها، وإن كان التقيّد داخلاً فيؤول إلى أنّه لا فرق بين كون الهدم مباشريّاً أو تسبيبيّاً، فلا ينهض جواباً في عرض الثاني، فلو تمّ الإشكال في حدّ نفسه لم يكن هذا الجواب وارداً. نعم، لو فُرض أخذ العزم جزءاً أمكن انتهاضه في عرضه.

رابعاً: ما سبق من أنّ نكتة إمكان الترتّب هي غير ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) ، وهي مشتركة بين أخذ العصيان والعزم شرطاً، فراجع.

بقي شيءٌ وهو أنّه ذكر في (المباحث): «أنّ العزم على العصيان لو أخذ شرطاً فلابدّ وأن يُؤخذ العزم الثابت حين العصيان شرطاً للأمر بالمهمّ لا مطلق العزم؛ إذ لولا ذلك لما أمكن الأمر بالمهمّ، فإنّ البداء أمر ممكن في حقّ المكلّفين، فلو كان مطلق العزم على عصيان الأهمّ شرطاً كان التكليف بالمهمّ فعليّاً حتى مع البداء وتبدّل العزم، فيلزم المطاردة بين الأمرين بالضدّين»(1).

ويرد عليه: - مع ما ظهر ممّا تقدّم - أنّه يُمكن سبق زمن العزم على زمن العصيان دون ثبوته في ظرف العصيان، لا باستبدال المكلّف العزم على ضدّه به، بل بانقطاع امتداده ولزوم أجله، مع ترتّب عصيان الخطاب بالأهمّ في حينه عليه، بأن يكون العزم على العصيان السابق على زمان العصيان علّةً لتفويت إطاعة الأهمّ في ظرفه، كما في صورة تأديته لتفويت بعض المقدّمات الوجوديّة أو العلميّة التي يتوقّف عليها وجود الأهمّ، فإنّه فيهما لا

ص: 220


1- بحوث في علم الأصول 2: 347.

يُمكن حصول العزم على العصيان في حينه، لاضطرار المكلّف إليه.

ولا يكون العزم عزماً إلاّ مع تعلّق القدرة بطرفي النقيض على حدٍّ سواء، وعدم مقدوريّة التخلّص من المخالفة في ظرف الأهمّ لا يخرج الترك عن كونه عصياناً، إذا كان وجوب الأهمّ فعليّاً قبل زمان الواجب المستلزم لوجوب تحصيل مقدّماته الوجوديّة والعلميّة - ولو عقلاً - أو كان الأهمّ من الأهمّية بحيث علم من الشارع إرادة عدم وقوع خلافه في الخارج مطلقاً - كما في الدماء والفروج والأموال على تفصيل مذكور في الفقه - أو كان تحصيل أغراض المولى مطلقاً حتّى ما لم يحضر أجلها لازماً في نظرنا، كما سبقت الإشارة إليه.

ففي جميع هذه الصور لا يُنافي عدم المقدوريّة تحقّق العصيان واستحقاق العقاب على الترك؛ وذلك لأنّ الامتناع بالاختيار لا يُنافي الاختيار.

والخطاب بالأهمّ وإن أصبح ساقطاً حين العجز، لأنّ مجرى قاعدة (ما بالاختيار لا يُنافيه) - الشاملة لكلٍّ من الوجوب والامتناع - هو العقاب، لا الخطاب، إلاّ أنّ اجتماع الخطابين قبل ظرف العجز - لو فُرض سبق الوجوب على الواجب - كافٍ في تحقّق موضوع الترتّب.

وعليه ليس المناط العزم الثابت بل العزم المفوّت، وإن لم يكن ثابتاً حين العصيان.

ثمّ إنّه لو فُرض لزوم أخذ العزم الثابت شرطاً لم يجب كون الشرط هو المجموع، بل يُمكن كونه الجزء المتقدّم منه فقط، لكن بشرط ثباته إلى

ص: 221

حينه؛ وذلك لأنّ دخل شيءٍ في شيءٍ - على نحو الشرطيّة - تابعٌ للملاكات والمصالح الواقعيّة، فربّما كان الدخل للجزء المتقدّم من العزم لا للمقارن، وحينئذٍ يكون الشرط هو العزم الذي يتعقّبه العصيان بجعل عنوان التعقّب شرطاً مقارناً للشرط، وهو يرجع إلى عدم كون الشرط طبيعيّ العزم، بل خصوص الحصّة التي يعقبها العصيان. وتفصيل الكلام موكول إلى مباحث (الشرط المتأخّر).

[الفرض الخامس:]

الفرض الخامس: أن يُناط الأمر بالمهمّ بكون المكلّف ممّن يصدر عنه العصيان في المستقبل، أو كونه ملحوقاً بالعصيان، وحيث إنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة - لا المتصوّرة - فالعلم بصدور العصيان في المستقبل أو عدم صدوره لا يُؤثّر في وجود الأمر بالمهمّ وعدمه إلاّ مع مطابقته للواقع، كما لا يخفى.

والإشكال في هذا الفرض من جهات:

الأولى: من جهة التضايف، حيث إنّ اللاحق والملحوق متضايفان، وهما متكافئان قوّةً وفعلاً، فكيف يكون الملحوق - وهو المكلّف الذي سيعصي - بالفعل، واللاحق - وهو نفس العصيان - بالقوّة؟

وفيه: أنّ ما ليسا بمتكافئين غير متضايفين، وما هما متضايفان متكافئان، بتقريب: أنّ ذات الملحوق واللاحق ليسا بمتضايفين، ولذا يُمكن تصوّر أحدهما منفكّاً عن تصوّر الآخر، مع تلازم المتضايفين تحقّقاً وتعقّلاً، كما أنّ ذات العلّة والمعلول ليسا بمتضايفين، ولذا يُمكن تصوّر ذات أحدهما

ص: 222

بدون تصوّر الآخر.

نعم، اللاحق والملحوق - بما هما كذلك - متضايفان لكنّهما متكافئان في الوجود الذهنيّ؛ لاستحالة تصوّر أحدهما بدون تصوّر الآخر، والأمر هنا كذلك؛ لتلازم تصوّر كون المكلّف ملحوقاً بالوصف مع تصوّر اللاحق.

الثانية: من جهة إناطة الوجوب بالشرط المتأخّر، قال المحقّق الإصفهاني (قدس سره) : «إن كون المكلّف ممّن يعصي ليس من أكوان المكلّف المنتزعة عنه بلحاظ العصيان المتأخّر، بل إخبار بتحقّق العصيان منه في المستقبل، فلا كون ثبوتيّ بالفعل ليكون شرطاً مقارناً للوجوب»(1)، انتهى.

وفيه: أنّه لا يُشترط في صدق العنوان الانتزاعيّ على المنتزع منه واتّصافه به حقيقةً وجود صفةٍ عينيّةٍ فيه، بل يكفي في الصدق كونه لو عُقل عُقل معه ذلك العنوان، سواء كان ذاتيّاً له بذاتيّ كتاب الكلّيات، كما في الأجناس والفصول المنتزعة من الوجود الخاصّ - بناءً على أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة - أم ذاتيّاً له بذاتيّ كتاب البرهان، بأن لم يكن مقوّماً للذات ولكن كان لحاظه بنفسه كافياً في انتزاع ذلك العنوان دون توقّف ذلك على لحاظ الغرائب والمنضمّات، كما في انتزاع الزوجيّة من الأربعة، أو لم يكن كذلك، بأن توقّف انتزاعه على لحاظ أمر خارج عنه، كما في انتزاع عنوان الأب والابن والمتقدّم والمتأخّر، والمتيامن والمتياسر ونحوها، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ تصوّر الذات مع لحاظ وصف تلبّسها بالمبدأ في المستقبل كافٍ في انتزاع عنوان الملحوق بالعصيان وصدقه

ص: 223


1- نهاية الدراية 1: 450.

عليها حقيقة الآن، فيكون الشرط مقارناً لا متأخّراً، كما في نظائره مما سبق التمثيل به.

مع إمكان فرض وجود كونٍ ثبوتيٍّ عينيٍّ في المكلّف بالفعل؛ وذلك فيما إذا أخذت مبادئ العصيان موضوعاً، فإنّ العصيان المستقبليّ مقتضى لمقدّمات ومقتضيات موجودة بالفعل في نفس العاصي، فُيؤخذ مَنْ توجد فيه هذه المقتضيات المنتهية لذلك المقتضى موضوعاً لوجوب الضدّ المهمّ، لكنّه خروج عن مورد البحث، كما لا يخفى.

الثالثة: من جهة الخُلف، حيث إنّ المكلّف مع هذا الكون - أي: كونه ممّن يعصي - يجوز له ترك المهمّ إلى فعل الأهمّ؛ لفرض الأهميّة وإطلاق وجوبه، ولا شيء من الواجب التعييني بحيث يجوز تركه إلى فعل غيره، والمفروض وجوب كلٍّ من الأهمّ والمهمّ تعييناً لا تخييراً، وهذا بخلاف ما إذا كان العصيان بنفسه شرطاً مقارناً، فإنّه لا مجال لتركه إلى فعل الأهمّ في فرض ترك الأهمّ.

ويرد عليه: أوّلاً: عدم ظهور الفرق بين أخذ العصيان شرطاً وأخذ كون المكلّف ممّن يعصي شرطاً، فإنّ المحمولات غير الضروريّة وإن لم تكن حتميّة الثبوت للموضوع لو لوحظ الموضوع بذاته وبما هو هو إلاّ أنّها تصبح ضروريّة الثبوت لو أخذ بشرط المحمول، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين، وكذا لو أخذ الموضوع بشرط وجود العلّة، وإلاّ لزم تخلّف المعلول عن علّته، وعليه: فكما لا يُمكن للمكلّف العاصي - بقيد أنّه عاص ٍ - ترك العصيان إلى نقيضه، كذلك لا يُمكن للمكلّف الذي يعصي - بقيد أنّه يعصي - استبدال النقيض بالعصيان، وإلاّ لزم أن ينقلب المكلّف الذي سوف

ص: 224

يصدر منه العصيان إلى المكلّف الذي سوف لا يصدر عنه العصيان، وهو جمع بين المتناقضين، فإن لم تكن الضرورة الأولى مخلّةً بكون وجوب المهمّ تعيينيّاً فلتكن الثانية كذلك، وإن كانت مخلّةً فلتكن الأولى مثلها.

وعلى كلٍّ: فلا فرق بين الماضي والحاضر والمستقبل في ضروريّة ثبوت المحمول للموضوع وعدمها، بلحاظ ذات الموضوع مجرّداً أو بشرط المحمول أو بشرط العلّة، كما قُرّر في مبحث (الإمكان الاستقباليّ) في محلّه.

ثانياً: إنّ انحفاظ الموضوع شرطٌ في تحقّق التخيير في الوجوب، فجواز ترك الواجب إلى غيره بهدم موضوعه ليس من التخيير في شيء، فالحاضر - مثلاً - يجوز له ترك الإتمام إلى القصر بالسفر، ولا يُنافي ذلك كون وجوب كلٍّ منهما تعيينيّاً، والأمر في المقام كذلك، حيث إنّ ترك المهمّ إلى فعل الأهمّ إنّما يكون بتبديل الموضوع بل هو مستبطن فيه، فلا يُنافي وجوبه التعيينيّ.

ومنه ينقدح النظر في ما قد يُجاب به عن الإشكال من: أنّه لا مانع من الالتزام بجواز ترك المهمّ إلى الأهمّ، بأن يكون وجوب المهمّ سنخاً آخر من الوجوب لا يماثله غيره، والحصر في التعيينيّ والتخييريّ - المتقوّم بجواز ترك كلٍّ من الطرفين إلى الآخر - ليس عقليّاً، فلا مانع من وجود قسم آخر. نعم، لا يجوز العدول من المهمّ إلى ثالث، بمعنى استحقاق العقاب عليه، مضافاً إلى استحقاق العقاب على ترك الأهمّ.

ثمّ لا يخفى أنّ الامتناع بالغير لا يكون سبباً لانقلاب الحكم عمّا هو

ص: 225

عليه، وإلاّ لزم عدم ثبوت الأحكام في شأن العصاة؛ لامتناع الطاعة في حقّهم، فإنّ الشيء ما لم يمتنع لم يُعدم؛ إذ لا يخلو الشيء من وجود علّته التامّة أو عدم الوجود، والأوّل ينفيه الشيء في الخارج، والثاني مستلزم لامتناع الوجود لامتناع وجود المعلول بدون وجود علّته التامّة، ففي المقام: وإن امتنع ترك المهمّ إلى فعل الأهمّ لو لوحظ كون المكلّف ممّن يعصي بما هو كذلك إلاّ أنّه امتناع بالغير، فلا يُقلب جواز الترك عمّا هو عليه، بمعنى الترخيص في ذلك وعدم العقاب عليه.

هذه بعض الفروض التي يُمكن أن يناط بها الأمر بالمهمّ، وهنالك فروض أخر قد يظهر حكمها مما سبق.

سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمدلله ربّ العالمين، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ص: 226

خاتمة

خاتمة : في بعض الفروع الفقهيّة

اشارة

ص: 227

ص: 228

خاتمة

يذكر فيها بعض الفروع الفقهيّة التي ادُّعي - أو يمكن أن يُدّعى - ابتناؤها على مسألة الترتّب، على نحو الاختصار والإيجاز.

الفرع الأوّل

قال في (العروة): «إذا رأى نجاسة في المسجد وقد دخل وقت الصلاة يجب المبادرة إلى إزالتها مقدّماً على الصلاة مع سعة وقتها، ومع الضيق قدّمها، ولو ترك الإزالة مع السعة واشتغل بالصلاة عصى لترك الإزالة، لكن في بطلان صلاته إشكال، والأقوى الصحّة»(1).

وعلّله في (الفقه) ب- «أنّ الأمرين بالضدّين على نحو الترتّب لا مانع منه، فالأمر بالإزالة لا يقتضي عدم الأمر بالصلاة، بل يُمكن أن يكون قد أمر بالإزالة وإنّه لو عصى لكان مأموراً بالصلاة، فإنّ الأمر بالمهمّ لا يطارد الأمر بالأهمّ؛ لأنّهما ليسا في عرض واحد، بل أحدهما في طول الآخر، فتأمّل»(2).

وفي (التنقيح): «قالوا: إنّ الوجه في صحّتها منحصر بالترتّب...»(3) إلى آخر كلامه.

وفي (المهذّب): «وأمّا صحّة الصلاة فلما استقّر عليه المذهب في هذه

ص: 229


1- العروة الوثقى 1: 179.
2- الفقه 5: 115.
3- شرح العروة الوثقى 3: 262.

الأعصار وما قاربها، من أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه... فيكون المقتضي لصحّة الصلاة موجوداً، وهو فعليّة الأمر بها - بناءً على الترتّب الذي أثبتنا إمكانه ووقوعه في العرفيّات - والمانع عنها مفقوداً، فتصحّ لا محالة»(1).

ونحو ذلك ما في (المستمسك)(2) و(المصباح)(3).

ثمّ إنّ صاحب العروة (قدس سره) عمّم المسألة لكلّ مزاحم مضيّق فقال: «وأيضاً يجب التأخير - أي تأخير الصلاة - إذا زاحمها واجب آخر مضيّق كإزالة النجاسة عن المسجد، أو أداء الدين المطالب به مع القدرة على أدائه، أو حفظ النفس المحترمة، أو نحو ذلك، وإذا خالف واشتغل بالصلاة عصى في ترك ذلك الواجب، لكن صلاته صحيحة على الأقوى»(4).

وعللّه في (الفقه) - في ذيل المسألة - : «بما حقّق في الأصول من أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه. ثمّ لو قلنا بالترتّب فالأمر واضح، وإن لم نقل به كفى في صحّة المهمّ الملاك»(5).

وفي (المستمسك): «بعدم الدليل على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، ولا على بطلان الترتّب»(6).

ص: 230


1- مهذّب الأحكام 1: 466.
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 496.
3- مصباح الهدى 2: 26-27.
4- العروة الوثقى 2: 272.
5- الفقه 17: 262.
6- مستمسك العروة الوثقى 5: 131.

وبنى المحقّق النائيني (قدس سره) صحّة الضدّ العباديّ في المسألة على الأمر الترتّبي(1).

الفرع الثاني

قال صاحب العروة (قدس سره) : «إذا عارض استعمال الماء في الوضوء أو الغسل واجب أهمّ، كما إذا كان بدنه أو ثوبه نجساً، ولم يكن عنده من الماء إلاّ بقدر أحد الأمرين من رفع الحدث أو الخبث، ففي هذه الصورة يجب استعماله في رفع الخبث ويتيمّم؛ لأنّ الوضوء له بدل وهو التيمّم، بخلاف رفع الخبث... وإذا توضّأ أو اغتسل حينئذٍ بطل؛ لأنّه مأمور بالتيمّم ولا أمر بالوضوء أو الغسل»(2).

وذهب أيضاً إلى البطلان السيّد الوالد (دام ظلّه) في (الفقه)(3) وصاحب المصباح(4).

لكن ذكر السيد الحكيم (رحمه اللّه) : «أنّ المقام من صغريات مسألة الضدّ، فيُمكن الالتزام فيه بالأمر بالوضوء على نحو الترتّب»(5).

ونحوه ما في (المهذب)(6).

وأيضاً قال صاحب العروة (قدس سره) في عداد شرائط الوضوء: «أن لا يكون

ص: 231


1- فوائد الأصول 1: 373؛ أجود التقريرات 1: 314.
2- العروة الوثقى 2: 178-179.
3- الفقه 16: 142-143.
4- مصباح الهدى 7: 200.
5- مستمسك العروة الوثقی 4 : 352.
6- مهذب الأحكام 4: 364.

مانع من استعمال الماء من مرض، أو خوف عطش أو نحو ذلك، وإلا فهو مأمور بالتيمّم، ولو توضّأ والحال هذه بطل»(1).

ولكن ذكر في (التنقيح) - في ضمن كلام له - : «... وقد يُستند الحكم بجواز التيمُم إلى حكم العقل به، كما في موارد المزاحمة بين وجوب الوضوء وواجب آخر أهمّ كإنقاذ الغريق ونحوه.. ففي هذه الموارد إذا عصى المكلّف الأمر بالتيمّم فصرفه في الوضوء أمكننا الحكم بصحّة وضوئه بالترتّب، وحيث إنّ المخصّص للأمر بالوضوء عقليّ وليس دليلاً شرعيّاً كي يتمسك بإطلاقه حتّى في صورة عصيان الأمر بالأهمّ، فلا مناص من الاكتفاء فيه بمقدار الضرورة، كما هو الحال في موارد التخصيصات العقليّة...».(2)

الفرع الثالث

من كانت وظيفته التيمّم من جهة ضيق الوقت عن استعمال الماء إذا خالف وتوضّأ أو اغتسل بطل؛ لأنّه ليس مأموراً بالوضوء لأجل تلك الصلاة، هذا إذا قصد الوضوء لأجل تلك الصلاة، وأمّا إذا توضّأ بقصد غاية أخرى من غاياته، أو بقصد الكون على الطهارة، صحّ(3).

وفي (الفقه): «إنّ عدم الأمر بهذا الوضوء من باب التزاحم، وتقدّم ملاك غيره عليه، مع وجود ملاك هذا الوضوء في نفسه، ومثله يكفي في الصحّة...

ص: 232


1- العروة الوثقى 1: 420.
2- شرح العروة الوثقى 5: 408.
3- العروة الوثقى 2: 186.

بل يُمكن القول بالأمر على نحو الترتّب لمن يرى صحّة الترتّب»(1).

وفي (المصباح): «لو أتى بالطهارة المائيّة في ضيق الوقت بقصد غاية أخرى من غاياتها، أو بقصد الكون على الطهارة ففي صحتها وبطلانها وجهان مبنيّان على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاص وعدمه، فعلى القول بالاقتضاء تبطل؛ لكونها منهيّاً عنها بالنهي الناشئ عن الأمر بضدّها، وعلى القول بعدم الاقتضاء فالأقوى الصحّة؛ وذلك إمّا لرجحانها الذي هو ملاك الأمر بها، وإن لم تكن مأموراً بها بواسطة تعلّق الأمر بضدّها مع استحالة الأمر بالضدّين، بناءً على كفاية الإتيان بملاك الأمر في صحّة العبادة، وإمّا بالالتزام بكونها مأموراً بها بالأمر الترتّبي المشروط بعصيان الأمر المتعلّق بضدّها، بناءً على صحة الأمر الترتّبي»(2).

ونظير هذه المسألة ما لو توضّأ باعتقاد سعة الوقت فبان ضيقه(3).

الفرع الرابع

قال صاحب العروة (قدس سره) : «إذا نهى الزوج زوجته عن الوضوء في سعة

ص: 233


1- الفقه 16: 166.
2- مصباح الهدى 7 : 211.
3- العروة الوثقى 2: 189، وفيه: «إذا توضّأ باعتقاد سعة الوقت فبان ضيقه، فقد مرّ أنّه إن كان وضوؤه بقصد الأمر المتوجّه إليه من قبل تلك الصلاة بطل؛ لعدم الأمر به، وإذا أتى به بقصد غاية أخرى، أو الكون على الطهارة صحّ، وكذا إذا قصد المجموع من الغايات التي يكون مأموراً بالوضوء فعلاً لأجلها، وأمّا لو تيمّم باعتقاد الضيق فبان سعته بعد الصلاة فالظاهر وجوب إعادتها، وإن تبيّن قبل الشروع فيها وكان الوقت واسعاً توضّأ وجوباً، وإن لم يكن واسعاً فعلاً بعد ما كان واسعاً أوّلاً وجب إعادة التيمّم».

الوقت وكان مفوّتاً لحقّه يُشكل الحكم بالصحّة»(1).

هذا ولكن قال في (التنقيح): «الصحيح الحكم بالصحّة؛ لأنّ المحرّم على الزوجة حينئذٍ تفويت حقّ زوجها، وأمّا عملها فهو مملوك لها، ولا يحرم من جهة استلزامه التفويت؛ لأنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه، بل هذه العبادة ضدٌّ عباديّ محكوم بالصحّة بالترتّب»(2).

ونحوه الأجير الخاصّ إذا كان وضوؤه مفوّتاً لحقّ المستأجر، بل كلّ وضوءٍ كان مفوّتاً لحقّ الغير، على ما ذكره بعضهم(3).

الفرع الخامس

إذا جهر في موضع الإخفات، أو أخفت في موضع الجهر ناسياً أو جاهلاً - ولو بالحكم - صحّت الصلاة، سواء كان الجاهل بالحكم متنبّهاً للسؤال ولم يسأل أم لا ، لكنّ الشرط حصول قصد القربة منه(4).

وقد أورد عليه: بأنّ أصل الحكم بالصحّة في هذه الموارد ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف نصّاً وفتوى، إنّما الإشكال في الجمع بين الحكم بالصحّة واستحقاق العقاب في الجاهل المقصّر، فإنّه كيف يُعقل الحكم بصحّة المأتيّ

ص: 234


1- العروة الوثقى 1: 445، وفيه: «إذا نهى المولى عبده عن الوضوء في سعة الوقت إذا كان مفوّتاً لحقّه فتوضّأ يُشكل الحكم بصحّته، وكذا الزوجة إذا كان وضوؤها مفوّتاً لحقّ الزوج، والأجير مع منع المستأجر وأمثال ذلك».
2- شرح العروة الوثقی 5: 65.
3- العروة الوثقى 1: 445.
4- العروة الوثقى 2: 508، وراجع أيضاً: فصل في الركعة الثالثة، مسألة (5).

به والحكم باستحقاق العقاب على ترك الواجب، ولا سيّما مع بقاء الوقت(1).

وأجاب عنه كاشف الغطاء (قدس سره) بتصحيح الأمر بالضدّ على نحو الترتّب، حيث قال (قدس سره) : إنّ انحصار المقدّمة بالحرام بعد شغل الذمّة لا ينافي الصحّة وإن استلزم المعصية، وأيّ مانع من أن يقول الآمر المطاع لمأموره: إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا فافعل كذا، كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والإخفات، والقصر والإتمام(2).

وتقريبه: أنّ الواجب على المكلّف ابتداءً هو صلاة القصر مثلاً، وعلى تقدير تركه واستحقاق العقاب على تركه فالواجب هو التمام، فلا مُنافاة بين الحكم بصحّة المأتيّ به واستحقاق العقاب على ترك الواجب الأول(3).

الفرع السادس

في موارد وجوب قطع الصلاة - كما في صورة توقّف حفظ نفس محترمة أو حفظ مال يجب حفظه عليه، وكذا لو توقّف أداء الدين المطالب به على قطعها في سعة الوقت - إذا تركه واشتغل بالصلاة فالظاهر الصحّة، وإن كان آثماً في ترك الواجب(4).

ويُمكن ابتناء الحكم في ذلك على عدم استلزام الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه مع وجود الأمر بالصلاة على نحو الترتّب، فالمقتضي موجود والمانع

ص: 235


1- مصباح الأصول 2: 506.
2- كشف الغطاء 1: 171.
3- مصباح الأصول 2: 507.
4- العروة الوثقى 3: 42.

مفقود، فتصحّ الصلاة لا محالة.

الفرع السابع

يجب ردّ سلام التحيّة في أثناء الصلاة، ولو عصى ولم يرد الجواب واشتغل بالصلاة قبل فوات وقت الردّ لم تبطل على الأقوى(1).

والحكم بالصحّة هو المشهور بين المتأخّرين(2).

واختاره في الذكرى(3)، وذكر بعض محشّي العروة: إنّ هذا مبنيّ على قاعدة الترتّب(4).

الفرع الثامن

لو شرع في اليوميّة ثم ظهر له ضيق وقت صلاة الآيات وجب عليه قطعها مع سعة وقتها، واشتغل بصلاة الآيات(5).

قال السيّد الوالد (دام ظلّه): «ولو لم يقطع الفريضة لم تبطل»(6).

ويُحتمل ابتناء الحكم في ذلك على مسألة الترتّب.

الفرع التاسع

لو صلّى النافلة في وقت تضيّق الفريضة فالظاهر الصحّة، وإن كان آثماً

ص: 236


1- العروة الوثقى 3: 17.
2- الفقه 22: 312.
3- ذكرى الشيعة 4: 25.
4- العروة الوثقى (طبعة المكتبة العلميّة الاسلاميّة) 1: 711.
5- العروة الوثقى 3: 52 .
6- الفقه 23: 73.

بتفويت الفريضة(1).

ويُمكن بناء الحكم فيه على الترتّب.

ونظير ذلك ما لو صلّى النافلة وعليه قضاء فائتة - بناءً على المضايقة في القضاء - فإنّ الأمر به لا يمنع الأمر بها على نحو الترتّب.

قال في (التنقيح): «لو التزمنا بالضيق في الفوائت وقلنا بالضيق التحقيقيّ العقليّ المنافي للاشتغال بالنافلة ونحوها لم يترتّب على ذلك عدم مشروعيّة النافلة أبداً، فليكن المقام من باب التزاحم، فإذا عصى الأمر بالفوريّة في القضاء جاز له التنفّل، ويُحكم بصحّته بالترتّب، وإن كان قد عصى بتأخير القضاء»(2).

الفرع العاشر

لو صلّى المسافر بعد تحقّق شرائط القصر تماماً جاهلاً بأنّ حكم المسافر القصر لم يجب عليه القضاء ولا الإعادة(3).

وهذا الحكم هو المشهور، بل عن بعض دعوى الإجماع عليه(4)، وقد وردت به بعض النصوص الصحيحة(5)، وحكم الصوم فيما ذكر حكم

ص: 237


1- الفقه 17: 267.
2- شرح العروة الوثقى 6: 496-497.
3- العروة الوثقى 3: 510، وفيه: «لو صلى المسافر بعد تحقق شرائط القصر تماماً، فإما أن يكون عالماً بالحكم والموضوع، أو جاهلاً بهما أو بأحدهما أو ناسياً... وإن كان جاهلاً بأصل الحكم، وأن حكم المسافر التقصير لم يجب عليه الإعادة فضلاً عن القضاء».
4- الفقه 28: 347، وفيه: «كما هو المشهور، بل عن الانتصار والغنية والتذكرة والدروس وشرح المفاتيح وظاهر المنتهى والنجيبيّة والذخيرة الإجماع عليه».
5- وسائل الشيعة 8 : 505، وفيه: «... عن منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «إذا أتيت بلدة فأزمعت المقام عشرة أيام فأتمّ الصلاة، فإن تركه رجل جاهلاً فليس عليه إعادة». وغيره.

الصلاة(1)، وبه نصوص صحيحة(2).

وقد أورد عليه بنظير ما أورد على مسألة الجهر والإخفات.

وأجاب عنه كاشف الغطاء (قدس سره) بتصحيحه بالخطاب الترتّبي(3).

الفرع الحادي عشر

لو توقّف على ترك الصوم حفظ عرض أو مال محترم يجب حفظه، أو توقّف حفظ نفسه أو نفس غيره عليه، ونحو ذلك مما كانت مراعاته أهمّ في نظر الشارع من الصوم فصام، فقد ذهب صاحب العروة (قدس سره) إلى بطلان الصوم حينئذ(4).

لكن في (مستند العروة): «.. وأمّا بناءً على المختار من صحّة الترتّب وإمكانه، بل لزومه ووقوعه وأنّ تصوّره مساوق لتصديقه... فلا مناص من الحكم بالصحّة بمقتضى القاعدة؛ إذ المزاحمة في الحقيقة إنّما هي بين الإطلاقين لا بين ذاتي الخطابين، فلا مانع من تعلّق الأمر بأحدهما مطلقاً، وبالآخر على تقدير عصيان الأوّل ومترتّباً عليه، فالساقط إنّما هو إطلاق الأمر بالمهمّ وهو الصوم، وأمّا أصله فهو باقٍ على حاله؛ إذ المعجز ليس

ص: 238


1- العروة الوثقى 3: 511، وفيه: «حكم الصوم فيما ذكر حكم الصلاة، فيبطل مع العلم والعمد، ويصحّ مع الجهل بأصل الحكم دون الجهل بالخصوصيّات، ودون الجهل بالموضوع».
2- وسائل الشيعة 10: 179، وفيه: «عن صفوان بن يحيى، عن عيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «مَنْ صام في السفر بجهالة لم يقضه». وغيره.
3- كشف الغطاء: 27.
4- العروة الوثقى 3: 615.

نفس الأمر بالأهمّ، بل امتثاله»(1).

وفي (المصباح): «وكذا يسقط الصوم عند التزاحم مع واجب آخر يكون أهمّ منه في نظر الشارع، كحفظ مال ونحوه، ممّا أحرز أهمّيته عنده، فيجب عليه تركه والإتيان بما هو أهم، لكن لو خالف وأتى بالصوم يصحّ صومه، إمّا بالخطاب الترتّبي، وإمّا بالملاك(2).

الفرع الثاني عشر

يُشترط في صحّة الاعتكاف إذن المستأجر بالنسبة إلى أجيره الخاصّ، كما ذهب إليه صاحب العروة (قدس سره) (3).

قال في (المستند): - ضمن كلام له - : «... من كان أجيراً لعمل معيّن، كالسفر في وقت خاصّ، فخالف واشتغل بالاعتكاف فالظاهر هو الصحّة، وإن كان آثماً في المخالفة؛ لوضوح أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه، فيُمكن تصحيح العبادة بالخطاب الترتُبي، بأن يُؤمر أوّلاً بالوفاء بعقد الإيجار، ثمّ على تقدير العصيان يُؤمر بالاعتكاف»(4).

وأيضاً يُشترط إذن الزوج بالنسبة إلى زوجته إذا كان مُنافياً لحقّه(5).

لكن ذكر السيّد الوالد (دام ظله): «أنّ ذلك وحده - ما لم ينضمّ إليه

ص: 239


1- مستند العروة الوثقى 1: 463.
2- مصباح الهدى 8 :306.
3- العروة الوثقی 3: 672، وفيه: «وكذا يُعتبر إذن المستأجر بالنسبة إلى أجيره الخاصّ».
4- مستند العروة الوثقى 2: 359.
5- العروة الوثقی 3: 673، وفيه: «وإذن الزوج بالنسبة إلى الزوجة إذا كان مُنافياً لحقّه».

محذور خارجيّ - لا يكفي في بطلان الاعتكاف؛ لأنّه من باب الضدّ»(1).

ويُمكن بناء المسألة على الترتّب أو الملاك.

الفرع الثالث عشر

لو نذر ضدّاً على الإطلاق، وضدّاً آخر على تقدير تركه انعقد النذران على تقدير خلوّه عن فعل الأوّل واقعاً، على ما ذهب إليه بعضهم معلّلين ذلك بالترتّب(2).

الفرع الرابع عشر

لو فُرض حرمة الإقامة على المسافر من أوّل الفجر إلى الزوال، فعصى هذا الخطاب وأقام، فلا إشكال في أنّه يجب عليه الصوم ويكون مخاطباً به، فيكون في الآن الأوّل الحقيقيّ من الفجر قد توجّه إليه كلٌّ من حرمة الإقامة ووجوب الصوم ولكن مترتّباً، يعني أنّ وجوب الصوم يكون مترتّباً على عصيان حرمة الإقامة، ففي حال الإقامة يجب عليه الصوم مع حرمة الإقامة أيضاً؛ لأنّ المفروض حرمة الإقامة عليه إلى الزوال، فيكون الخطاب الترتّبي محفوظاً من الفجر إلى الزوال(3).

ونحوه: ما لو وجب السفر في شهر رمضان بإيجاب أهمّ من صوم شهر رمضان، كسفر حج ونحوه، فلا إشكال في توجّه الأمر السفريّ على الإطلاق، وتوجّه الأمر الصوميّ على تقدير تركه، بحيث لو أفطر وجب

ص: 240


1- الفقه 37: 154.
2- كفاية الأصول (المحشّی) 2: 40.
3- فوائد الأصول 1: 357؛ أجود التقريرات 1: 302.

عليه الكفّارة، فلو لم يكن واجباً لما وجبت عليه(1).

وحكم الصلاة في ذلك حكم الصوم(2).

الفرع الخامس عشر

لو فُرض وجوب الإقامة على المسافر من أوّل الزوال فعصى، كان وجوب القصر عليه مترتّباً على عصيان وجوب الإقامة، حيث إنّه لو عصى ولم يقصد الإقامة توجّه عليه خطاب القصر، وكذا لو فُرض حرمة الإقامة، فإنّ وجوب التمام يكون مترتّباً على عصيان حرمة الإقامة(3).

ونظيره ما لو نذر أن يتمّ الصلاة في يوم معيّن فسافر، فإنّه يجب عليه القصر(4).

الفرع السادس عشر

لو عصى خطاب أداء الدين وجب عليه الخمس مترتّباً على العصيان، هذا إذا لم يكن الدين من عام الربح، وأمّا إذا كان من عام الربح فيكون خطاب أداء الدين بنفس وجوده رافعاً لخطاب الخمس لا بامتثاله(5).

الفرع السابع عشر

لو انحصر ماء الوضوء فيما يكون في الآنية المغصوبة على نحو يحرم

ص: 241


1- كفاية الأصول (المحشّی) 2: 40.
2- كفاية الاصول (المحشّی) 2: 41.
3- فوائد الأصول 1: 358.
4- الفقه 38 : 145.
5- فوائد الأصول 1: 358.

عليه الاغتراف منها للوضوء؛ وذلك فيما إذا لم يكن بقصد التخليص، فإن اغترف منها ما يكفيه للوضوء دفعةً واحدةً، فهذا ممّا لا إشكال في وجوب الوضوء عليه بعد اغترافه وإن عصى في أصل الاغتراف، إلاّ أنّه بعد العصيان والاغتراف يكون واجداً للماء فيجب عليه الوضوء، وأمّا إذا لم يغترف ما يكفيه للوضوء دفعةً واحدةً، بل كان بناؤه على الاغتراف تدريجاً فاغترف ما يكفيه لغسل الوجه فقط، فالمحكيّ عن صاحب الفصول: أنّه لا مانع من صحّة وضوئه حينئذٍ بالأمر الترتّبي، فإنّه يكون واجداً للماء بعد ما كان يعصي في الغرفة الثانية والثالثة التي تتمّ بها الغسلات الثلاث للوضوء، فيكون أمره بالوضوء نظير أمره بالصلاة إذا كان ممّا يستمّر عصيانه للإزالة إلى آخر الصلاة، فإنّ المصحّح للأمر بالصلاة إنّما كان من جهة حصول القدرة على كلّ جزء منها حال وجوده؛ لمكان عصيان الأمر بالإزالة في ذلك الحال وتعقّبه بالعصيان بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة، وفي الوضوء يأتي هذا البيان أيضاً، فإنّ القدرة على كلّ غسلة من غسلات الوضوء تكون حاصلة عند حصول الغسلة؛ لمكان العصيان بالتصرّف في الآنية المغصوبة، والعصيان في الغرفة الأولى لغسل الوجه يتعقّبه العصيان في الغرفة الثانية والثالثة لغسل اليدين، فيجري في الوضوء الأمر الترتّبي كجريانه في الصلاة(1).

وفي (التنقيح): «.. إذا لم نقل باعتبار القدرة الفعليّة على مجموع العمل

ص: 242


1- فوائد الأصول 1: 378.

قبل الشروع فيه واكتفينا بالقدرة التدريجيّة في الأمر بالواجب المركّب، ولو على نحو الشرط المتأخّر بأن تكون القدرة على الأجزاء التالية شرطاً في وجوب الأجزاء السابقة... فلا بأس بالتوضّؤ من الأواني المغصوبة لإمكان تصحيحه بالترتّب..»(1).

ونظير هذه المسألة: الاغتراف من آنية الذهب أو الفضة.

قال في (التنقيح): «صحّة الغسل أو الوضوء في صورة الاغتراف مبتنية على القول بالترتّب، ولا نرى أيّ مانع من الالتزام به في المقام؛ لأنّ المعتبر في الواجبات المركّبة إنّما هي القدرة التدريجيّة، ولا تعتبر القدرة الفعليّة على جميع أجزائها من الابتداء»(2).

وقد نسب القول بالصحّة في صورة الاغتراف إلى المشهور(3).

... هذه بعض الفروع الفقهيّة التي ادُّعي ابتناؤها على الترتّب.

ولا يخفى أنّه كما يُمكن بناؤها عليه يُمكن بناؤها على غيره كالملاك ونحوه.

ثمّ إنّه كما يُمكن بناء هذه الفروع على الترتّب يُمكن بناء الترتّب عليها، كما صنعه المحقّق النائيني (قدس سره) لكن مرّ في أدلة القول بالإمكان التأمّل في ذلك، فراجع.

ثمّ إنّ هنالك مناقشات مفصّلة في هذه الفروع مذكورة في محلّها، وقد

ص: 243


1- شرح العروة الوثقى 4: 299.
2- شرح العروة الوثقی 4: 337.
3- الفقه 16: 250.

تركنا التعرّض لها خوفاً من الإطالة.

سبحان ربّك ربّ العزّة عما يصفون، وسلام على المرسلين،

والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين.

ص: 244

مصادر التحقيق

*

القرآن الكريم.

1. أجود التقريرات، تقريرات الشيخ محمد حسين النائيني، منشورات المصطفوي.

2. آراء حول مبحث الألفاظ في علم الأصول، السيد علي الفاني الإصفهاني.

3. أصول الفقه، الشيخ محمّد رضا المظفر، مؤسسة النشر الإسلامي.

4. الأصول، السيد محمّد الحسيني الشيرازي، دار المهدي والقرآن الحكيم.

5. إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، فخر المحققين الشيخ محمد بن الحسن الحلّي.

6. بحوث في الأصول، الشيخ محمّد حسين الإصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي.

7. بحوث في علم الأصول، تقريرات السيد محمّد باقر الصدر، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي.

8. بداية الوصول في شرح كفاية الأصول، الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ

ص: 245

راضي.

9. بدائع الأفكار، الشيخ حبيب اللّه الرشتي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

10. تذكرة الفقهاء، العلامة الشيخ الحسن بن يوسف الحلي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

11. تلخيص المرام في معرفة الأحكام، العلامة الشيخ الحسن بن يوسف الحلي، مكتب الاعلام الإسلامي.

12. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمّد حسن النجفي، دار الكتب الإسلامية.

13. حقائق الأصول، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، منشورات البصيرتي.

14. الحكمة المتعالية، صدر الدين الشيخ محمد بن ابراهيم الشيرازي، دار إحياء التراث العربي.

15. الخلاف، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، مؤسسة النشر الإسلامي.

16. درر الفوائد في الحاشية على الفرائد، الشيخ محمد كاظم الخراساني، وزارة الإرشاد الإسلامي.

17. دروس في علم الأصول، السيد محمّد باقر الصدر، دار الكتاب اللبناني.

18. السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، الشيخ محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي.

19. شرح العروة الوثقى، تقريرات السيّد أبوالقاسم الموسوي الخوئي،

ص: 246

مؤسسة الخوئي الإسلاميّة.

20. شرح المنظومة، الحكيم الشيخ هادي السبزواري، نشر ناب.

21. العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، مؤسسة النشر الإسلامي.

22. عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، الشيخ محمد بن علي الاحسائي.

23. فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي.

24. الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمّد حسين الإصفهاني، دار إحياء العلوم الإسلامية.

25. الفقه (موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي)، السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم.

26. فوائد الأصول، تقريرات الشيخ محمد حسين النائيني، مؤسسة النشر الإسلامي.

27. قوانين الأصول، الشيخ أبو القاسم القمي، المكتبة العلمية الإسلامية.

28. الكافي، ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلامية.

29. كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، دار الهجرة.

30. كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، الشيخ جعفر كاشف الغطاء، مكتب الإعلام الإسلامي.

ص: 247

31. كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلامة الشيخ الحسن بن يوسف الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي.

32. كفاية الأصول المحشى، حواشي الشيخ أبو الحسن المشكيني، دار الحكمة.

33. كفاية الأصول، الشيخ محمد كاظم الخراساني، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

34. مباحث الأصول، تقريرات السيد محمد باقر الصدر، دار البشير.

35. المبسوط في فقه الإمامية، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، المكتبة المرتضوية.

36. مجمع الأفكار ومطرح الأنظار، تقريرات الشيخ هاشم الآملي، المطبعة العلمية.

37. محاضرات في أصول الفقه، تقريرات السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، مؤسسة النشر الإسلامي.

38. محجة العلماء، الشيخ هادي بن محمد أمين الطهراني، الطبعة الحجرية.

39. مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، مطبعة الآداب.

40. مستند العروة الوثقى، تقريرات السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، المطبعة العلمية.

41. مصباح الأصول، تقريرات السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، مكتبة

ص: 248

الداوري.

42. مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى، الشيخ محمد تقي الآملي.

43. مفاتيح الأصول، السيد محمد بن علي الطباطبائي المجاهد، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

44. مقالات الأصول، الشيخ ضياء الدين العراقي، مجمع الفكر الإسلامي.

45. المقالات الغرية في تحقيق المباحث الأصولية، الشيخ محمد صادق التبريزي.

46. المقنعة، الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان البغدادي، مؤسسة النشر الإسلامي.

47. المكاسب، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي.

48. منتقى الأصول، تقريرات السيد محمد الحسيني الروحاني.

49. منتهى الأصول، السيد حسن الموسوي البجنوردي، مؤسسة العروج.

50. منتهى الدراية في توضيح الكفاية، السيد محمّد جعفر الجزائري المروّج، مؤسسة دار الكتاب.

51. مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري، مؤسسة المنار.

52. نهاية الأصول، تقريرات السيد حسين الطباطبائي البروجردي، مطبعة الحكمة.

53. نهاية الأفكار، تقريرات الشيخ ضياء الدين العراقي، مؤسسة النشر

ص: 249

الاسلامي.

54. نهاية الحكمة، السيد محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة النشر الإسلامي.

55. نهاية الدراية في شرح الكفاية، الشيخ محمد حسين الاصفهاني، منشورات سيد الشهداء (عليه السلام) .

56. هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الاصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي.

57. الوافية في أصول الفقه، الشيخ عبد اللّه بن محمد التوني، مجمع الفكر الإسلامي.

58. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

59. الوصائل إلى الرسائل، السيد محمد الحسيني الشيرازي، مؤسسة عاشوراء.

60. الوصول إلى كفاية الأصول، السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار الحكمة.

ص: 250

فهرس المحتويات

الفصل الأول: موضوع مسألة الترتب

[موضوع مسألة الترتّب:]... 7

هل المسألة أصوليّة؟... 7

الفصل الثانيّ: شرائط تحقّق موضوع الترتّب

شرائط تحقّق الموضوع... 21

[الشرط الأوّل:] وجود التضادّ بين الأمرين... 21

[الشرط الثانيّ:] كون التكليفين إلزاميّين... 26

[الشرط الثالث: كون المتعلّقين عباديّين أو] كون المهمّ عباديّاً... 28

[الشرط الرابع:] أن لا يكون المهمّ مشروطاً بالقدرة الشرعيّة... 32

[الشرط الخامس:] أن يكون التضادّ بين المتعلّقين اتفاقياً... 37

[الشرط السادس:] أن لا يكون المهمّ ضروريّ الوجود عند العصيان... 41

[الشرط السابع:] تنجّز خطاب الأهمّ على المكلّف... 44

[الشرط الثامن:] وصول التكليف بنفسه... 47

[الشرط التاسع:] عدم أخذ الجهل في موضوع الأمر الترتّبي... 48

[الشرط العاشر:] كون المتزاحمين عرضيّين... 49

الفصل الثالث: الإيرادات على الترتّب

ما أورد به على الترتب... 57

الوجه الأوّل: تطارد الطلبين... 57

ص: 251

[الإيرادات على الوجه الأوّل:]... 59

الإيراد الأوّل... 59

[الإشكالات على ما ذكره المحقّق الاصفهاني:]... 61

النقيضان في مرتبة واحدة... 61

تزاحم الاقتضاءين في فرض التعليق... 72

ملاك التزاحم المعيّة الوجوديّة... 73

النقض بأخذ العلم بالحُكم موضوعاً لحُكم ضدّه... 76

النقض بتقييد الأمر بالمهمّ بفعليّة الأمر بالأهمّ... 78

النقض بتقييد الأمر بالمهمّ بامتثال الأمر بالأهمّ... 79

نزول الأمر بالأهمّ إلى مرتبة الأمر بالمهمّ... 80

الإيراد الثاني... 82

الإيراد الثالث... 84

الإيراد الرابع... 88

الإيراد الخامس... 95

الوجه الثاني: تعدّد الاستحقاق... 98

[الإيرادات على الوجه الثاني:]... 100

[الإيراد الأوّل:] النقض بموارد الواجبات الكفائيّة... 100

[الإيراد الثاني:] النقض بالتكليفين الطوليّين... 103

[الإيراد الثالث:] ملاحظة كلّ خطابٍ منفرداً... 106

[الإيراد الرابع:] العقاب على ترك كلٍّ حالَ ترك الآخر... 109

[الإيراد الخامس:] العقاب على الجمع في الترك... 111

[الإيراد السادس:] المناط إمكان التخلّص من المخالفة... 112

[الإيراد السابع:] لا قبح في العقاب على غير المقدور... 113

ص: 252

[الإيراد الثامن:] الهتك هو الملاك... 114

[الإيراد التاسع:] تفويت الملاك... 115

[رؤية العقل تعدّد الاستحقاق:]... 116

قلب الاشكال... 117

الالتزام بوحدة الاستحقاق... 118

الوجه الثالث: [ما نسب إلى المحقّق التقي الشيرازي]... 122

الوجه الرابع: [الأمر بالشيء يقتضي حرمة ضدّه العام]... 126

الوجه الخامس: [قياس الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة]... 131

الوجه السادس: [اجتماع الوجوب والحرمة في ترك المهمّ]... 133

الفصل الرابع: أدّلة جواز الترتّب

أدّلة جواز الترتّب... 141

الدليل الأوّل... 141

الدليل الثاني... 161

الشقّ الأوّل: الوقوع في الشرعيّات... 161

الشقّ الثاني: الوقوع في العرفيّات... 167

الدليل الثالث... 168

الدليل الرابع... 169

الفصل الخامس: ما يُناط به الأمر بالمهمّ

ما يُناط به الأمر بالمهمّ... 175

[الفرض الأوّل:]... 175

[استحالة الفرض الأوّل لأمور:]... 175

الأمر الأوّل: [لزوم تقدّم البعث على الانبعاث]... 175

[وجوه مناقشة صاحب الكفاية القائل بلزوم تقدّم البعث على الانبعاث:]... 176

ص: 253

[الوجه الأول:]... 176

[الوجه الثاني:]... 181

[الوجه الثالث:]... 187

[الوجه الرابع:]... 194

[الوجه الخامس:]... 200

[الوجه السادس:]... 203

[الأمر الثاني:]... 204

[الأمر الثالث:]... 206

[الفرض الثاني:]... 208

[الفرض الثالث:]... 209

[الفرض الرابع:]... 212

[الفرض الخامس:]... 222

خاتمة: في بعض الفروع الفقهيّة

خاتمة... 229

الفرع الأوّل... 229

الفرع الثاني... 231

الفرع الثالث... 232

الفرع الرابع... 233

الفرع الخامس... 234

الفرع السادس... 235

الفرع السابع... 236

الفرع الثامن... 236

الفرع التاسع... 236

ص: 254

الفرع العاشر... 237

الفرع الحادي عشر... 238

الفرع الثاني عشر... 239

الفرع الثالث عشر... 240

الفرع الرابع عشر... 240

الفرع الخامس عشر... 241

الفرع السادس عشر... 241

الفرع السابع عشر... 241

فهرس المصادر... 245

فهرس المحتويات... 251

ص: 255

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.