موسوعة الفقيه الشيرازي (تبيين الأصول الجزء الثامن) المجلد 11

هوية الكتاب

موسوعة الفقيه الشيرازي

(11)

تبيين الأصول

الجزء الثامن

تقرير أبحاث:

آية اللّه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

بطاقة تعريف:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان المؤلف واسمه:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مواصفات المظهر:21ج.

شابك:دوره: 8-270-204-964-978

ج21: 3-291-204-964-978

حالة الاستماع:فيپا

لسان:العربية

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

تصنيف الكونجرس:1394 8م5ح/8/159BP

تصنيف ديوي:297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية:4153694

ص: 1

اشارة

سرشناسه:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان و نام پديدآور:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

مشخصات نشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مشخصات ظاهری:21ج.

شابك:دوره: 8-270-204-964-978

ج11: 4-281-204-964-978

وضعيت فهرست نويسی:فيپا

يادداشت:عربي

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول،جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

رده بندی كنگره:1394 8م5ح/8/159B(

رده بندی ديويی:297/312

شماره كتابشناسی ملی:4153694

موسوعة الفقيه الشيرازي

شجرة الطيبة

------------------

آية اللّه الفقيه السيّد محمّد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبعة:قدس

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1437ه- .ق

------------------

شابك دوره: 8-270-204-964-978

شابك ج11: 4-281-204-964-978

------------------

دفتر مركزي: قم خيابان معلم، میدان روح اللّه،

نبش كوچه 19، پلاك 10، تلفن: 9 – 37744298

چاپ: شركت چاپ قدس، تلفن 37731354 فكس 37743443

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاة والسلام على مُحمّدٍ وآله

الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين،

آمين ربَّ العالمين.

ص: 3

ص: 4

تنبيهات الشبهة غير المحصورة

اشارة

وبعد الفراغ عن أصل عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهات غير المحصورة ينبغي التنبيه إلى أمور:

التنبيه الأول: في جواز المخالفة في الشبهات غير المحصورة وعدمه

هل المخالفة القطعية في الشبهات غير المحصورة جائزة أم لا؟ فلو علم المكلف بنجاسة واحد من ألف إناء، فهل تجوز المخالفة القطعية بارتكاب الجميع تدريجياً، بأن يشربها حتى يعلم بارتكاب الحرام الواقعي، لا دفعة كأن يبيعها مرة في بيع واحد بناء على حرمة بيع النجس.

وفي المقام احتمالات ثلاثة: أولاً: جواز المخالفة القطعية، وثانياً، وجوب إبقاء المقدار الحرام المعلوم بالإجمال، وهنالك احتمال ثالث يتضح خلال المباحث الآتية.

ولتعيين أحد المحتملات لابد من ملاحظة مباني عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهات غير المحصورة.

المبنى الأول: إنَّ المستند لعدم منجزية العلم الإجمالي هو الروايات، وعليه يمكن القول: إنَّ ظاهرها الترخيص في الكل، حيث إنها ظاهرة في وجوب الاجتناب فيما لو حصل العلم بالحرام على نحو التعين والتشخص، والمفروض في المقام عدم حصول العلم كذلك.

نعم، الشيء الحاصل بعد ارتكاب الجميع هو العلم بارتكاب الحرام، ولا

ص: 5

دليل على حرمة تحصيل العلم بارتكاب الحرام، كما لو فكر الإنسان في ماضيه، فعلم بأنه ارتكب الحرام حيث لا حرمة لهذا التفكير.

لكن يمكن دعوى انصراف الأدلة الترخيصية عن المخالفة القطعية، فهي منصرفة عن اقتحام الجميع، وله وجه وجيه.

المبنى الثاني: مبنى الشيخ الأعظم، حيث ذكر في أصل المسألة: أنّ علة عدم تنجز العلم الإجمالي موهومية التكليف في كل واحد من الأطراف بنحو لا يعتني به العقلاء.

قال بعض الأصوليين: بناء على هذا المبنى لابد من القول بجواز ارتكاب جميع الأطراف؛ لأنّ الملاك في الأطراف واحد، فكما أنّ احتمال التكليف موهوم لا يعتني به العقلاء في الطرف الأول، كذلك في الطرف الأخير، وعليه يجوز ارتكاب الجميع.

لكنه محل تأمل؛ لأنّ الملاك على هذا المبنى هو الموهومية، وهي مقيدة عند العقلاء بعدم ارتكاب عدد لا يكون فيه التكليف موهوماً، فالعقلاء من بادئ الأمر يجوزون ارتكاب واحد من الألف؛ لتحقق الملاك، ولا يجوزون ارتكاب المائة - أي نسبة العشر - لأنّ احتمال التكليف فيها غير موهوم بحيث لا يعتنى به.

ونتيجة هذا المبنى هو القول الثالث، وهو جواز الارتكاب بمقدار لا يكون التكليف فيه موهوماً في المجموع، لا في الآحاد.

المبنى الثالث: مبنى صاحب الكفاية، من ملاحظة العناوين الطارئة، كالعسر والحرج، فيحق الاقتحام بمقدارها، وعلى هذا المبنى يتقدر جواز

ص: 6

الارتكاب بقدر العناوين المذكورة، فلا يحق له الاقتحام في الجميع، إلا إذا كان عدم الاقتحام حرجياً أو ضررياً.

لكن هذا البناء على المبنى المذكور محل إشكال؛ لأنه لو جاز الاقتحام في بعض الأطراف للعناوين الطارئة، جرى عليه الملاك الجاري في مباحث الاضطرار إلى بعض الأطراف، وقد مرّت الصور الستة في الاضطرار إلى المعين أو غير المعين، مع كون العلم الإجمالي سابقاً على الاضطرار أو مقارناً أو لاحقاً، وقد اختار صاحب الكفاية سقوط تأثير العلم الإجمالي في كل الأطراف في جميع الصور في الشبهة المحصورة، كما فصل بعض بين الاضطرار إلى المعين وغير المعين، وفصل البعض بنحو آخر.

وأما في المقام، حيث الشبهة غير محصورة والاجتناب عن الجميع حرجي، يرتفع التكليف في الجملة، وينطبق عليه نفس الملاك، حيث إنّ وزان الحرج والعسر وزان الاضطرار، فبناء على مبنى الكفاية يرتفع التكليف عن جميع الأطراف، ويجوز الاقتحام في كلها، هذا بشرط تساوي ما طرأ عليه العنوان الثانوي مع المعلوم بالإجمال، كأن يعلم حرمة عشرة في ألف، ويضطر إلى عشرة أيضاً فيقتحم في العشرة، ويكون التكليف في الباقي مشكوكاً. فتكون الشبهة بدوية، وأما لو كان المقدار الذي طرأ عليه العنوان الثانوي أقل، كأن يضطر إلى تسعة وكان المعلوم بالإجمال عشرة، فيجوز الاقتحام في التسعة، ويبقى الواحد الذي يعلم حرمته في الباقي، فلا يتكفل الدليل جواز الاقتحام في الجميع.

ولمزيد من التوضيح: إنما اختار صاحب الكفاية جواز الاقتحام في

ص: 7

الشبهة المحصورة، لتحول العلم الإجمالي في الواقع إلى الشبهة البدوية تحولاً ماهوياً، مثلاً: لوكان له إناءان: ماء ودواء، واضطر إلى الدواء، وتنجس أحدهما، فيوجد في عالم الثبوت احتمالان: الأول: أن يكون النجس هو الدواء، فيجوز ارتكاب الاثنين: الدواء للاضطرار إليه، والماء لحليته، الثاني: أن يكون النجس هو الماء، فيجوز اقتحام الدواء دون الماء، وعليه يجوز شرب الدواء على كل تقدير، ويبقى الماء مشكوكاً يجوز الاقتحام فيه؛ لكونه شبهة بدوية، ولا فرق في هذا الملاك بين الصور الست.

وفيما نحن فيه: حيث الشبهة غير محصورة لو كان المعلوم بالإجمال عشرة في ألف، وكان مورد الحرج عشرة أيضاً انقلب العلم الإجمالي إلى الشبهة البدوية في بقية الموارد، فيجوز الاقتحام في كل الأطراف، أما لو كان مورد الحرج أقل من المعلوم بالإجمال، فمع ارتكاب الأقل يبقى العلم الإجمالي، فلا يجوز الاقتحام في الباقي؛ لوجود العلم الإجمالي وتقدر الحرج بقدره.

هذا فيما لو اخترنا في مسألة الاضطرار مبنى صاحب الكفاية، ويختلف الأمر باختلاف المباني في الشبهة المحصورة عند طرو الاضطرار، ويختلف باختلاف كون المقدار الحرجي مساوياً للمعلوم بالإجمال أو أقل منه، فلا إطلاق لما قاله بعض الأصوليين من أنه لو كان الملاك الحرج تقدر بقدره.

المبنى الرابع: ما اختاره المحقق النائيني(1) من عدم وجوب الموافقة القطعية؛ لتفرع الوجوب على حرمة المخالفة القطعية، وليست بمحرمة

ص: 8


1- فوائد الأصول 3: 232.

لتعذرها.

وعلى هذا المبنى لا معنى للتساؤل عن حرمة المخالفة القطعية وعدمها - كما ذكره بعض الأصوليين - لأنّ المفروض أنّ ملاك الشبهة غير المحصورة عدم القدرة على المخالفة القطعية، فلا معنى للسؤال عن جواز المخالفة القطعية.

لكنه غير وارد؛ لفرض عدم القدرة العادية عند المحقق النائيني، والمكلف في المقام غير قادر عادة على الاقتحام في الجميع، فلا تكليف بالاجتناب؛ لأنّ المخالفة القطعية غير مقدورة عادة، ولا تكليف بغير المقدور، لكن القدرة العقلية متحققة، فيستطيع على هذا المبنى من المخالفة القطعية، وعليه يمكنه الاقتحام في الجميع، وهل يلتزم بذلك المحقق؟!

المبنى الخامس: الاجماع والسيرة، وربما يقال: هما دليلان لُبّيّان، فيقتصر فيهما على القدر المتيقن وهو عدم وجوب الموافقة القطعية، ولا يعلم ارتفاع حرمة المخالفة القطعية بهما.

التنبيه الثاني: في حكم شبهة الكثير في الكثير

لو كان المعلوم بالإجمال كثيراً في أطراف كثيرة، بنحو تكون نسبة المعلوم بالإجمال إلى أطراف الشبهة غير المحصورة نفس نسبة المعلوم بالإجمال إلى أطراف الشبهة المحصورة، كما لو علم بنجاسة مائة إناء من ألف، حيث نسبة المائة إلى الألف نفس نسبة الواحد إلى العشرة، والمفروض أنها نسبة محصورة، فهل يجب الاجتناب عن تمام الأطراف أم لا؟

الظاهر أنه يختلف الأمر باختلاف المباني في عدم تنجز العلم الإجمالي في الشبهات غير المحصورة.

ص: 9

فعلى مبنى الشيخ الأعظم من كون الملاك موهومية التكليف في كل واحد من الأطراف فالظاهر أنّ العلم الإجمالي منجز؛ لعدم تحقق الملاك، بل احتمال وجود التكليف في كل طرف قوي.

وبعبارة ثانية: ليس الطرف في شبهة الكثير في الكثير الآحاد، وإنما المجموعات، حيث يُعلم بنجاسة المائة الأولى أو الثانية وهكذا، فيعلم بوجوب الاجتناب عن إحدى المآت، والاحتمال قوي وليس موهوماً، فيجب الاجتناب عن جميعها.

وبعبارة أخرى: إذا كان الملاك هو الوهم الذي لا يعتني به العقلاء، فلو كان الاحتمال واحداً في الألف لم يعتنوا به، أما المائة في ألف فيعتنون به، فلا يجري ملاك عدم التنجيز في المقام، فلا يحق الاقتحام.

وعلى مبنى المحقق النائيني لابد من القول بعدم تنجيز العلم الإجمالي؛ لأنّ الملاك عدم قدرة المكلف على المخالفة القطعية فلا تحرم؛ لأنّ القدرة شرط في التكليف، فلا تجب الموافقة القطعية لتفرعها عليها.

وفي المقام لا يتمكن المكلف من المخالفة القطعية(1)، باقتحام (901) إناء في المثال المذكور(2)،

فلا تكون محرمة، وحيث لا تحرم لا تجب الموافقة القطعية. وعليه، يجوز الاقتحام في أطراف شبهة الكثير في الكثير.

وربما لا يلتزم المحقق بهذا اللازم، مما يكشف عن ضعف المبنى في الشبهة غير المحصورة.

ص: 10


1- لأن ملاك الشبهة غير المحصورة هو عدم تمكن المكلف من المخالفة القطعية.
2- فلو اقتحم (900) لم يعلم بحصول المخالفة القطعية.

وعلى مبنى صاحب الكفاية(1)

من طرو العناوين الثانوية لعدم التنجز، يتقدر الأمر بقدرهِ، فيمكن الاقتحام بمقدار يدفع عن نفسه الحرج والضرر، لكن بقاء العلم الإجمالي منجزاً في غير مورد الحرج والضرر مرتبط ببحث الاضطرار، وسقوط العلم الإجمالي بالمرة وعدمه.

وعلى مبنى الإجماع والسيرة: فهما دليلان لبيان، والمتيقن منهما غير ما نحن فيه، أي لا يعلم قيامهما على الاقتحام فيما لو كانت الشبهة من قبيل الكثير في الكثير.

وعلى مبنى الروايات فالظاهر انصرافها عن هذه الصورة.

فتحصل أنه على المبنى الأول والرابع والخامس لا يجوز الاقتحام، وعلى المبنى الثاني الظاهر جواز الاقتحام، وعلى المبنى الثالث يناط جواز الاقتحام المطلق بالمبنى في التنبيه الثاني.

التنبيه الثالث: في سقوط حكم الشك عن بعض الأطراف

على مبنى المشهور والمدعى عليه الإجماع من أن العلم الإجمالي وجوده كالعدم في الشبهة غير المحصورة، فهل أنَّ سقوط حكمه ملازم لسقوط حكم الشك في أطراف الشبهة غير المحصورة، فيكون وجود الشك كعدمه أيضاً؟

ذكر صاحب العروة(2) فرعاً أصبح معترك الآراء، وهو ما لو اشتبه إناء مضاف في مياه مطلقة على نحو الشبهة غير المحصورة، فهل يمكن الوضوء

ص: 11


1- درر الفوائد 1: 391؛ كفاية الأصول: 224.
2- العروة الوثقى 1: 110.

بأحدها، أو يجري عليه حكم الشك في الشبهة البدوية(1)؟

الظاهر اختلاف الأمر باختلاف المباني في المقام.

فعلى مبنى الشيخ الأعظم من كون ملاك عدم التنجيز الموهومية، فالظاهر عدم جريان حكم الشك؛ لضعف احتمال كونه مضافاً بحيث لا يعتني به العقلاء، وعليه يجوز الوضوء به.

وبعبارة ثانية: نسلم أن موضوع قاعدة الاشتغال هو الشك، وهذا الماء مشكوك، لكن المراد من الشك: الشك العقلائي، أما غيره فلا يعتني به العقلاء، ولا يحكم عليه بمفاد القاعدة من أن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية.

وأما المحقق النائيني، فلم يعلق على العروة، مما يكشف عن ارتضائه مبنى صاحب العروة، بل قال في الفوائد: «كان شيخنا الأستاذ - مد ظلّه - يميل إلى سقوط حكم الشبهة أيضاً»(2).

لكن الظاهر أن فتواه في الفقه وميله في الأصول ينافي مبناه، حيث إنَّ المخالفة القطعية غير ممكنة فلا تكون محرمة، فلا تكون الموافقة القطعية واجبة، ومفاده أن العلم كلا علم، لكن لا ملازمة بين نفي حكم العلم ونفي حكم الشك، فإن العلم لا أثر له، أما الشك فهو موجود وجداناً، وحكمه

ص: 12


1- وهو عدم جواز الوضوء للاشتغال، فإن حكم الشك في الإطلاق والإضافة - مع كون الحالة السابقة مجهولة، أو تعاقبت الحالات المتضادة وجهل المتقدم والمتأخر - هو عدم الحكم لا بالإطلاق ولا بالإضافة، فلا يمكن الوضوء به؛ لعدم إحراز الشرط وهو الإطلاق، ولو وقع فيه الدم وكان كراً لم يحكم عليه بالنجاسة؛ لعدم إحراز كونه مضافاً (منه (رحمه اللّه) ).
2- فوائد الأصول 4: 122.

الاشتغال برهاناً، فلو توضأ بالماء المشكوك لم يحرز أنه توضّأ بالماء المطلق، فلا يحرز أنه متطهر.

وأما على مبنى صاحب الكفاية(1)، فإن العناوين الثانوية - كالحرج والعسر - ترفع التكاليف، لكنها لا تثبت الطهارة، ففي المثال المذكور لابد أنْ يكرر الوضوء بمقدار يزيد على المعلوم بالإجمال، حتى يعلم بتحقق الوضوء بالماء المطلق، ولو فرض أن التكرار حرجي لم يجب عليه التكرار، إلا أنه لا يثبت أنه متطهر، فيجب عليه الاحتياط بالجمع بين الوضوء والتيمم ظاهراً.

ولو كان المبنى في عدم التنجيز الروايات، فالظاهر عدم إحراز الشرط بها، فلو توضّأ لم تثبت الطهارة.

هذا تمام الكلام في التنبيه الثالث من تنبيهات الشبهة غير المحصورة.

التنبيه الرابع: في حكم ملاقي بعض الأطراف

اشارة

وهي مسألة يكثر الابتلاء بها. وقبل الخوض في البحث ينبغي تقديم مقدمات:

المقدمة الأولى: إنَّ محل الكلام هو اختصاص الملاقاة ببعض الأطراف، وأما لو لاقى الشيء كلا الطرفين فلا شك في وجوب اجتناب الملاقي؛ لتولد العلم التفصيلي من العلم الإجمالي، وكذا لو لاقى شيئان كلا الطرفين، فيتولد علم إجمالي جديد بنجاسة أحد الملاقيين، فيجب الاجتناب

ص: 13


1- وإن لم يصرّح به.

عنهما(1)، فهاتان الصورتان ليستا من محل الكلام، وإنما البحث في وجوب الاجتناب عن ملاقي أحد طرفي العلم الإجمالي، كما يجب الاجتناب عن الملاقى وطرف الملاقى.

المقدمة الثانية: يختص محل الكلام في الملاقاة لا في التجزئة والتقسيم، فلو قسم أحد الطرفين إلى قسمين وجب الاجتناب عن القسم الثاني قطعاً، كوجوب الاجتناب عن طرفي العلم الإجمالي؛ لتعلق نفس النهي عن طرفي العلم الإجمالي به، فليس هو شيئاً جديداً، وإنما تجزئة لنفس الشيء الوارد عليه النهي العقلي أو الشرعي؛ ولذا لو بقيت رطوبة الملاقى في الملاقي، بأن جعل يده في أحد الإناءين فانتقلت الرطوبة إليها، فلا تجوز له الصلاة؛ لكونها نفس الماء الذي أمر بالاجتناب عنه. نعم، بعد الجفاف يأتى البحث في جواز الصلاة.

وبعبارة أخرى: الحكم بالاجتناب عن طرفي العلم الإجمالي منبسط على جميع الأجزاء، حتى الذرات العالقة باليد، والمفروض أنّ بدن المصلي حامل لها.

المقدمة الثالثة: تنجيز العلم الإجمالي متوقف على تعارض الأصول وتساقطها، أما لو جرى أحد الأصلين في طرف دون الآخر، فيسقط العلم الإجمالي عن التنجيز، ومثاله المعروف: لو كان هنالك إناءان: أحدهما المعين نجس، والآخر طاهر، ثم وقعت قطرة الدم في أحدهما فلا أثر للعلم

ص: 14


1- فالعلم الإجمالي الأول هو نجاسة أحد الملاقيين بالفتح، فلو لاقى شيئان - كل منهما - لأحد الطرفين تولد علم إجمالي جديد يجب الاجتناب عن طرفيه.

الإجمالي؛ لعدم جريان أصالة الطهارة في الإناء المسبوق بالنجاسة، وأما الشك في الإناء الثاني فهو من قبيل الشبهة البدوية، ولا مانع من جريان الأصل في الإناء الثاني .

هذا إذا لم يتولد أثر جديد، وأما مع تولد أثر جديد، كما لو كانت النجاسة الأولى هي الدم والثانية البول، جرت الأصول بلحاظ الأثر الثاني، وتعارضت وتساقطت(1).

المقدمة الرابعة: وهي مهمة جداً: إن تعارض الأصول وتساقطها - والذي هو ملاك التنجز - موقوف على كون المعلوم بالإجمال تمام الموضوع للأثر الشرعي، أما لو لم يكن تمام الموضوع، بل كان جزء الموضوع، فلا مانع من جريان الأصل.

مثال: لو علم بوجود الخمر في أحد الإناءين، فنفس الخمر المعلوم بالإجمال تمام الموضوع للأثر الشرعي؛ لتعلق الحرمة بنفس الخمر، فيتنجز العلم الإجمالي بعد تعارض الأصول وتساقطها، وأما لو شرب أحدهما، ولم يعلم أنه شرب الخمر أو الخل فلا يحد؛ لأن موضوع الحد مركب، فجزؤه الخمرية، وجزؤه الآخر شرب المكلف للخمر، والجزء الأول - وجود الخمر - معلوم بالعلم الإجمالي، أما الجزء الآخر - شرب المكلف للخمر - فليس معلوماً لا بالعلم الإجمالي، ولا بالعلم التفصيلي، وإنما المتحقق العلم بشرب

ص: 15


1- الأثر الجديد في المثال هو وجوب الاجتناب عن الإناء الأول ما لم يغسله مرة ثانية على فرض وقوع البول فيه، ووجوب الاجتناب عن الإناء الثاني ما لم يغسله مرتين على فرض وقوع البول فيه (منه (رحمه اللّه) ).

أحد الإناءين المشتبهين. نعم، الشرب حرام عقلاً أو شرعاً، لكنه لا يحد.

وبعبارة أخرى: إنَّ ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، ولم يثبت الموضوع، فهو شارب المشتبه لا شارب الخمر.

مثال آخر: لو علم بكون أحد اللحمين لحم إنسان، والآخر لحم حيوان مذكى شرعاً واشتبها، فلا يجوز أكل أحدهما للعلم إجمالاً بوجود لحم الإنسان، والذي هو تمام الموضوع لوجوب الاجتناب، لكن لو لمس أحدهما، لم يجب عليه الغسل؛ وذلك لأنّ موضوع وجوب الغسل ليس (ميت الآدمي) فحسب، بل هو جزء الموضوع، وجزؤه الثاني (مس الميت الآدمي) ولم يعلم، والمعلوم لمس المشتبه بالميت الآدمي، فيجري الأصل الموضوعي؛ للشك في لمس ميت الآدمي، أو الأصل الحكمي؛ للشك في توجه الخطاب له بالغسل، والأصل فيهما العدم.

وبعد تمامية هذه المقدمات نقول: إنّ في المقام صوراً ثلاثاً:

الصورة الأولى: قول المشهور بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي

الصورة الأولى: أن تتأخر الملاقاة والعلم بالملاقاة عن العلم الإجمالي، بأن يتحقق العلم الإجمالي أولاً ثم تحصل الملاقاة مع أحد الطرفين، ثم يعلم بذلك.

ففي هذه الصورة لا يجب اجتناب الملاقي على المشهور؛ لما ذكر في المقدمة الرابعة، فإنّ موضوع وجوب الاجتناب هو ملاقاة النجس، ولم يعلم تحققها.

فمثلاً: لو مشى في البيت مع علمه بنجاسة بعض البقاع فيه لم يعلم أنه

ص: 16

لاقى النجس، والمفروض أنّ موضوع الانفعال مركب من الملاقاة والنجاسة، والمعلوم بالإجمال هو وجود النجاسة، وليس وجوب الاجتناب في الملاقي مرتباً على وجود النجاسة، وإنما هو مرتب على ملاقاة النجاسة وهي مشكوكة. وحيث لم يحرز الموضوع المركب فلا مانع من جريان الأصل الموضوعي، أو الحكمي في الملاقي، فيستصحب عدم ملاقاة الرجل للنجاسة بلا معارض، أو تجري أصالة الطهارة في الملاقي، أو يستصحب جواز الدخول في الصلاة بعد الملاقاة.

قال صاحب الجواهر(1): عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي هو المختار، وعليه عملي إن شاء اللّه.

وحاصل دليل المشهور لعدم وجوب الاجتناب عن ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة هو: أنَّ موضوع وجوب الاجتناب هو ملاقاة النجس وهو مشكوك، والمتحقق ملاقاة المشتبه، ولا دليل على وجوب الاجتناب عنه، ومع الشك في الموضوع لا يثبت المحمول؛ لأنه فرع ثبوته، بل الموضوع مجرى أصالة عدم الملاقاة للنجس، أو مجرى أصالة الطهارة، فيحكم بطهارة الملاقي.

وجوب الاجتناب عن ملاقي النجاسة وأدلته

اشارة

واستدل لوجوب الاجتناب عن الملاقي بأدلة(2):

ص: 17


1- جواهر الكلام 1: 303.
2- وبعضها في مقام الإشكال على قول المشهور بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي.
الدليل الأول: كون النجاسة بالسراية الحقيقية

وهو مركب من صغرى وكبرى. أما الصغرى: فإن ظاهر بعض الأخبار كون النجاسة بالسراية الحقيقية لا بالعلية والمعلولية، فإنّ في النجاسة بالملاقاة احتمالين:

الاحتمال الأول: أن لا تسري النجاسة ولا تنبسط من الملاقى إلى الملاقي، أي لا تكون نجاسة الملاقى عين نجاسة الملاقي، بل النجاسة بالعلية والمعلولية، أي بالتأثير، كتطهير المطهرات، فتطهير ماء المطر للثوب النجس بنحو العلية لا الاتحاد والسراية، فطهارة ماء المطر شيء وطهارة الثوب شيء آخر، غاية الأمر أنّ طهارة الثوب مستندة إلى طهارة الماء، ووزان النجاسة وزان الطهارة.

الاحتمال الثاني: النجاسة بمعنى السراية، حيث تسري نفس القذارة في الملاقى إلى الملاقي، كجوهر ذي لون لو ألقي في الماء المطلق فإنّ اللون ينبسط ويتوسط، غاية الأمر أنه كان في دائرة محدودة فصار في دائرة وسيعة، فتكون نجاسة الملاقي عين نجاسة الملاقى ومتحدة معه.

ويدل على الثاني خبر جابر المروي في الوسائل: محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن عيسى اليقطيني، عن النضر بن سويد، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) : «قال أتاه رجل فقال له: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت، فما ترى في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : لا تأكله، فقال له الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها، فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : إنك لم تستخف

ص: 18

بالفأرة، وإنما استخففت بدينك، إنّ اللّه حرم الميتة من كل شيء»(1).

وجه الاستدلال: إنه ليس مراد السائل من قوله: (الفأرة أهون عليّ) أكلها مع الزيت، بل المراد أكل الزيت الملاقي للفأرة، وقد علل الإمام (عليه السلام) وجوب الاجتناب عن الملاقي بأنّ اللّه حرم الميتة من كل شيء، وعليه فحرمة الملاقي نفس حرمة الملاقى، لا حرمة مستقلة، والتعليل دليل الاتحاد بينهما؛ ولذا علل أحدهما بالآخر.

وأما الكبرى: لو كانت النجاسة بالسراية لكان الملاقي نفس الملاقى، واتساع لدائرته، فكما يجب الاجتناب عن الملاقى يجب الاجتناب عن الملاقي، والانبساط كالتقسيم، فلو قسم أحد إناءي العلم الإجمالي إلى قسمين وجب الاجتناب عن الأواني الثلاثة؛ لأنّ الإناء الجديد هو نفس الإناء الأول. نعم، كان مجتمعاً في إناء واحد فانقسم إلى اثنين، كذلك الأمر في الانبساط، أي: يجب الاجتناب عن الثلاثة: الملاقي والملاقى وطرف الملاقى.

لكن يرد عليه أمران:

الأمر الأول: ضعف السند، وذلك لضعف عمرو بن شمر، وإجمال القول فيه: أن النجاشي ضعفه في موردين(2): في ترجمته، وفي ترجمة جابر بن يزيد الجعفي، لكن هنالك خمسة قرائن على وثاقته، فقد ورد في كامل الزيارات، وتفسير القمي وروى عنه الأجلاء، كما روى عنه خمسة من

ص: 19


1- وسائل الشيعة 1: 206.
2- رجال النجاشي: 128، 287.

أصحاب الإجماع، وقد اعتمد عليه الشيخ المفيد(1)، إلاّ أنّ المبنى في كل ذلك محل تأمل، كما فصّل في علم الرجال.

وهنالك قرينة سادسة على توثيقه: وهي إكثار الكليني الرواية عنه، فقد روى عنه حدود الثمانية والثمانين مورداً في الكافي، كما روى عنه الصدوق في الفقيه اثنين وعشرين مورداً، معتمدين على رواياته، معتبرين أنه حجة فيما بينهم وبين اللّه، ويبعد أن تكون القرائن في تمام هذه الموارد خارجية، فيتعين أن تكون داخلية، وهي الوثاقة.

قال بعض: إنَّ هذه الرواية تلوح منها آثار الصدق، ولمضامينها النور الخاص بالمعصومين (عليهم السلام) .

والحاصل: إنه لو رجحت قرائن التوثيق - خاصة الأخيرة - فبها، وإلاّ يتعارض التوثيق والتضعيف، ويكون المصير هو التوقف.

الأمر الثاني: الإشكال الدلالي: حيث لا يظهر من جواب الإمام (عليه السلام) أنه مسوق لبيان نجاسة الملاقي للفأرة، كما هو مبنى الاستدلال، بل لرد قول السائل (الفأرة أهون عليّ) وكأن السائل يرى الفرق بين الميتة الكبيرة كالهرة، والصغيرة كالفأرة، فيجاب بعدم الفرق بينهما، فكما أنّ الميتة الكبيرة منجسة كذلك الصغيرة، فتنسجم العبارة مع العلية، هذا هو ظاهر كلام الإمام (عليه السلام) ، لا أنه في مقام بيان الاتحاد والعينية والانبساط والسراية.

بل يظهر للمتتبع في الفقه أنّ نجاسة الملاقي معلول لنجاسة الملاقى، كما يظهر من مثل الملاقاة مع الإناء الذي ولغ فيه الكلب، حيث لا يلزمه التعفير،

ص: 20


1- المقنعة: 310.

وهكذا في الملاقي للمتنجس بالبول، حيث لا يلزم التعدد في غسله، وهكذا في روايات باب الكر، حيث ورد: «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء»(1) ومفهومها أنه إذا كان أقل من الكر نجسه، فيعلم أن الملاقاة ليست انبساطاً، بل علية.

فالدليل الأول محل تأمل.

الدليل الثاني: العلم الإجمالي علم بتمام الموضوع

إنَّ العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين علم بتمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الملاقي، كما هو علم بتمام الموضوع لحرمة الشرب، وقد مرّ في الكبرى أنّ العلم بتمام الموضوع سبب لتنجيز العلم الإجمالي في جميع الأطراف.

بيان ذلك: حينما يتحقق العلم الإجمالي بخمرية أحد المائعين ففي المقام حكمان شرعيان، الأول: اجتنب شرب الخمر، والثاني: اجتنب ملاقي الخمر.

وبعبارة أخرى: الحكم الشرعي الأول: الخمر اجتنب شربه، والثاني: الخمر اجتنب ملاقيها.

ويتولد من الحكم الشرعي الأول حكمان عقليان من باب المقدمة العلمية لامتثال الأمر الإلهي الواقعي، هما: اجتنب شرب هذا المائع، واجتنب شرب ذاك المائع.

وبنفس هذا البيان يمكننا القول: إنَّ الخمر المعلوم بالإجمال اجتنب ملاقيها، ويتولد عن هذا الحكم الشرعي حكمان عقليان من باب المقدمة

ص: 21


1- الكافي 3: 2.

العلمية للامتثال، هما: اجتنب ملاقي هذا الطرف، واجتنب ملاقي ذاك.

وعليه، يجب الاجتناب عن ملاقي أحد طرفي العلم الإجمالي.

وبعبارة أخرى: لا فرق بين قول المولى: الخمر اجتنب شربها، وبين قوله: الخمر اجتنب ملاقيها، فهما بوزان واحد، أي: الخمر اجتنب شربها وملاقيها.

لكن يمكن دفع الإشكال بأنّ الحكم الشرعي الأول تنجيزي، فمع العلم بوجود الخمر بين الاناءين يتولد حكم شرعي فعلي بوجوب اجتناب شرب الخمر الواقعي، وبفعليته يتولد حكمان عقليان فعليان، وأما الحكم الشرعي الثاني فتعليقي، فلو علم بوجود الخمر بالتفصيل يقول المولى: إن حصلت ملاقاة فاجتنب ملاقيها، فهو حكم مشروط، ولا يكون فعلياً إلا بفعلية موضوعه، وحيث لم تحصل الملاقاة فلا يوجد حكم شرعي فعلي، ولا حكم عقلي.

وأما بعد حصول الملاقاة فلا يعلم بتولد الحكم الشرعي؛ لأنّ فعلية الحكم الشرعي بفعلية موضوعه، وموضوع الحكم الشرعي ملاقاة الخمر، وهو لم يعلم تحققه، بل المتحقق ملاقاة المشتبة، فلا فعلية لا في مرحلة ما قبل الملاقاة؛ لأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه، ولا في مرحلة ما بعد الملاقاة؛ لأنها مشكوكة، والشك في الموضوع مساوق للشك في المحمول.

إلا أن يقال: إنّ الأحكام الشرعية تعليقية، كما هو مبنى الشيخ الأعظم في مطارح الأنظار: من أنّ الحكم - أي الوجوب والحرمة - فعلي، والواجب والحرام استقبالي، فيقول المولى في نفس اللحظة الأولى من تحقق العلم الإجمالي: اجتنب فعلاً عن ملاقيه، فيتولد الحكم العقلي بوجوب الاجتناب عن ملاقي الأول، وملاقي الثاني من باب المقدمة العلمية، لكنه خلاف مبنى صاحب الكفاية من الوجوب المشروط، وإن القيد قيد الهيئة، فلا حكم

ص: 22

شرعي قبل الملاقاة أصلاً.

والمتحصل: أنه لو قلنا بالوجوب المعلق فالوجوب الشرعي فعلي، يتولد منه وجوبان عقليان، أما بناء على القول بالوجوب المشروط، فالحكم قبل الملاقاة مقطوع العدم، وبعده مشكوك مجراه البراءة.

فلم يتم الدليل الثاني أيضاً.

الدليل الثالث: مقتضى العلم الإجمالي وجوب الاجتناب

سلمنا أنه لا أثر للعلم الإجمالي الأول، لكن يوجد في المقام علم إجمالي ثانٍ، وهو العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي، أو نجاسة طرف الملاقى، للعلم بوجود الملازمة الواقعية بين نجاسة الملاقي والملاقى، فإنه لو كان الملاقى نجساً كان الملاقي نجساً، ولو لم يكن الملاقى نجساً كان طرف الملاقى نجساً، فنعلم إجمالا إما بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى، ومقتضى العلم الإجمالي الثاني وجوب الاجتناب عن الملاقي.

ولحل هذا الإشكال طرق

الطريق الأول

ما سلكه الشيخ الأعظم(1)، وهو: إنَّ الشك في نجاسة الملاقي مسبب عن الشك في نجاسة الملاقى، ومع جريان الأصل في الشك السببي لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في الشك المسببي، فإنّ ظرف جريان الأصل في الشك المسببي ظرف سقوط جريان الأصل في الشك السببي. وعليه، ما دام الأصل جارياً في الشك السببي، أي في الملاقى، لا تصل النوبة إلى جريان الأصل

ص: 23


1- فرائد الأصول 2: 242.

في الشك المسببي، أي الملاقي، وجريان هذا الأصل معارض مع جريانه في طرف الملاقى، ويتعارضان ويتساقطان، ومع تساقط الأصل في الشك السببي تصل النوبة في الرتبة الثانية إلى جريان الأصل في الشك المسببي(1)، فتجري أصالة الطهارة في الملاقي بلا معارض، ثم قال: «فافهم واغتنم»(2).

ويرد عليه اشكالات:

الإشكال الأول: مبنائي، وهو أنَّ تقدم الأصل السببي على المسببي حكومة أو وروداً إنما هو فيما إذا كان الأصلان متخالفين في المؤدى، أما إذا كانا متوافقين فيجريان في عرض واحد.

وفي المقام أصل الطهارة في الملاقى والملاقي متوافقان، فيجريان في عرض واحد، ويسقط الجميع(3).

إلا أن مبنى الشيخ عدم الفرق بين كون الأصول الحاكمة متوافقة مع الأصول المحكومة في المؤدّى أو متخالفة.

فالإشكال غير تام على مبنى الشيخ.

الإشكال الثاني: ما عرف بالشبهة الحيدرية(4) وتنتهي إلى نتيجة غريبة،

ص: 24


1- لأنّ المانع من جريان الأصل المسببي حكومة الأصل السببي عليه، ومع سقوط الحاكم يحيا المحكوم، كالأمارات والأصول العملية، فمع وجود الخبر الواحد لا يصل الأمر إلى البراءة، ولو تعارض الخبران وتساقطا يكون المرجع الأصل العملي (منه (رحمه اللّه) ).
2- فرائد الأصول 2: 234.
3- أصل الطهارة في الملاقي والملاقى وطرف الملاقى.
4- لأنّ الذي أورده على الشيخ الأعظم هو السيد حيدر الصدر (منه (رحمه اللّه) ). راجع بحوث في علم الأصول 5: 309؛ مباحث الأصول 4: 269؛ مصباح الأصول 2: 413.

وهي عدم طهارة الملاقي مع الحكم بحليته.

بيانها: كما أنّ أصالة الطهارة في الملاقي في طول أصالة الطهارة في الملاقى، كذلك أصالة الحلّية في الأطراف في طول أصالة الطهارة في الأطراف؛ لأنّ الشك في حلية هذا الماء وعدم حليته مسبب عن الشك في طهارته ونجاسته، فتكون أصالة الحلية في رتبة المسبب، ومع جريان أصالة الطهارة لا تصل النوبة إلى جريان أصالة الحلية، وبما أن أصالة الطهارة سقطت بالمعارضة في الرتبة الأولى فتصل النوبة إلى أصالة الحلّية، وحيث إنّ مرتبة جريان أصالة الحلية نفس مرتبة جريان أصالة الطهارة في الملاقي، يتعارض جريان أصالة الطهارة في الملاقي مع جريان أصالة الحلية في طرف الملاقى، فيتعارضان فيتساقطان. فيسقط ما ذكره الشيخ الأعظم من أصالة الطهارة في الملاقي بالمعارضة مع أصالة الحلية في طرف الملاقى.

ولا يخفى أنّ الشيخ الأعظم بنى جريان الأصول على الرتب، ففي الرتبة الأولى - أي السبب - تتساقط أصالة الطهارة في الملاقى وطرفه، والرتبة الثانية: رتبة أصالة الطهارة في الملاقي وجريان أصالة الحل في الطرفين، وفي هذه الرتبة نعلم إجمالاً بطهارة الملاقي أو بحلية طرف الملاقى، ولا يمكن الجمع بينهما، فلو كان هذا طاهراً كان ذاك حراماً، ولو كان ذاك حلالاً فهذا غير طاهر، فالعلم الإجمالي حاصل إما بنجاسة الملاقي أو بحرمة الملاقى؛ لأنّ الدم لو سقط في الملاقى فالملاقي نجس، ولو سقط في طرف الملاقى فهو حرام، فتجري أصالة الطهارة في الملاقي، وأصالة الحل في طرف الملاقى، فيتعارضان ويتساقطان.

ص: 25

الإشكال الثالث: بعد التسليم بأنّ الأصل الجاري في الملاقي في طول الأصل الجاري في الملاقى، إلاّ أنّ هذين الأصلين في عرض الأصل الجاري في طرف الملاقى، وبعبارة أخرى: للأصل الجاري في طرف الملاقى معارضان عرضيان، هما: الأصل الجاري في الملاقى، والأصل الجاري في الملاقي، فتتساقط الأصول الثلاثة بالمعارضة.

توضيحه: هل المتأخر عن أحد المتساويين متأخر عن الآخر أم لا؟

في المقام تفصيل، وهو أنه لو كان التأخر زمانياً فالمتأخر عن أحد المتساويين متأخر عن الآخر، لتحقق نفس الملاك فيه.

مثلاً: لو كان الابن متأخراً عن الأب بلحاظ الزمان، فلو كان للأب أخ مساو له في الزمان كالتوأم، فيكون الابن المتأخر عن الأب زماناً متاخراً عن أخي الأب المساوي له في الزمان؛ لأنّ ملاك التأخر بلحاظ الأب موجود بلحاظ أخي الأب.

أما لو كان التأخر رتبياً فلا يلزم أن يكون المتأخر عن أحد المتساويين في الرتبة متأخراً عن الآخر، حيث إنّ للتأخر الرتبي ملاكاً، ولو لم يكن الملاك موجوداً بلحاظ الآخر، فلا معنى للقول: إنَّه متأخر عنه.

مثلاً(1): حركة المفتاح متأخرة رتبة عن حركة اليد(2)، فلو كان هنالك شيء في رتبة حركة اليد فلا يمكن القول بتأخر حركة المفتاح عنه؛ لأنّ

ص: 26


1- كشف المراد: 83 .
2- وإن كانت متقارنة زماناً، ويدل على التأخر الرتبي تخلل الفاء في قولنا: تحركت اليد فتحرك المفتاح.

ملاك التقدم والتأخر العلية، والمفروض انتفاء العلية، وصرف المساواة لا يوجب العلية.

والشاهد عليه أنّ وجود المعلول متأخر عن وجود العلة، لكن لا يمكن القول بأن وجود المعلول متأخر عن عدم العلة - مع أنّ عدم العلة في رتبة العلة؛ لأنّ النقيضين في مرتبة واحدة - وذلك لفقدان ملاك التقدم والتأخر الرتبي بين المعلول وعدم العلة؛ لأنّ وجود المعلول لا يستند إلى عدم العلة حتى يقال: إنَّ وجود المعلول متأخر رتبة عن عدم العلة.

بعد وضوح هذه ا لمقدمة نأتي إلى ما نحن فيه، فنقول: إننا نسلم أنّ الأصل في الملاقى وطرف الملاقى في رتبة واحدة، وأن الأصل في الملاقي متأخر رتبة عن الأصل في الملاقى، لكن ذلك لا يثبت أنّ جريان الأصل في الملاقي متأخر رتبة عن جريان الأصل في طرف الملاقى، فإنّ الأصل في الملاقي وإن كان متأخراً رتبة عن جريان الأصل في الملاقى؛ لوجود السببية والمسببية، لكنه ليس متأخراً عن جريان الأصل في طرف الملاقى.

وبناء عليه، فالأصل في طرف الملاقى له معارضان، هما: الأصل في الملاقى، والأصل في الملاقي، فيتعارض معهما ويتساقط الجميع.

فما ذكره الشيخ الأعظم(1) من تعارض الأصلين الأولين وتساقطهما، فتصل النوبة إلى الأصل في الملاقي غير تام، بل الأصول الثلاثة تتعارض في عرض واحد، ويتساقط الجميع.

ص: 27


1- فرائد الأصول 2: 211.

وفي الجواب عنه نقول: توجد عندنا مرحلتان:

الأولى: مرحلة جريان الأصل في الملاقى، وفي هذه المرحلة لا أصل في الملاقي لوجود السببية والمسببية، ويتعارض الأصل في الملاقى مع الأصل في طرفه ويتساقطان.

الثانية: بعد موت الأصل السببي وطرفه يحيا الأصل المسببي من دون معارض؛ لأنّ الأصول الميتة لا تحيا من جديد.

وبعبارة أخرى: لا يعقل تعارض هذه الأصول الثلاثة معاً في مرتبة واحدة؛ لأنّ معنى تعارضها كذلك هو وجود الحاكم والمحكوم في رتبة واحدة، وهو غير معقول على مباني الحكومة أو الورود.

فما ذكره الشيخ تام.

الإشكال الرابع: إنَّ الرتب العقلية مؤثرة في الأحكام العقلية لا في الأحكام الشرعية، فإنها موضوعة لها، كحركة اليد والمفتاح وأنواع السبق، كالسبق بالعلية والسبق بالطبع وما أشبه، ولم توضع للأحكام الشرعية؛ لأنّ المخاطب بها العرف الذي لا يتوجه إلى دقائق الرتب العقلية، لا الفيلسوف، ويرى العرف في المقام جريان الأصول الثلاثة في الأطراف الثلاثة، وتعارضها وتساقطها جميعاً، مثلاً: لو علم المكلف إجمالاً إما ببطلان صلاة الصبح أو صلاة الظهر؛ لعلمه إما ببطلان وضوء صلاة الصبح، أو عدم الإتيان بركوع صلاة الظهر، فمقتضى تنجيز العلم الإجمالي قضاء الاثنتين، بعد سقوط قاعدة الفراغ الجارية في صلاة الصبح ووضوئه وصلاة الظهر؛ لأنّ جريانها في الجميع ينافي العلم الإجمالي، وجريانها في بعضها دون

ص: 28

بعض ترجيح بلا مرجح(1) ولا مؤمن، فيجب إعادة الصلاتين، مع أنّ الشك في صحة صلاة الصبح مسبب عن الشك في صحة الوضوء، فلا بد من القول - بناء على السببية والمسببية - أنه في الرتبة الأولى تجري قاعدة الفراغ في وضوء صلاة الصبح ونفس صلاة الظهر، ويخالف العلم الإجمالي ويتساقط، وبعد سقوط الأصل السببي تصل النوبة في الرتبة الثانية إلى جريان قاعدة الفراغ في صلاة الصبح بلا معارض، فصلاة الصبح صحيحة لا تحتاج إلى إعادة بالعلم التعبدي، ويلزم قضاء الظهر فقط، وهل يمكن الالتزام بذلك؟

وعليه، لا بد من إسقاط بحث السببية والمسببية والرتب العقلية والشبهة الحيدرية، بل الأصول السببية والمسببية تجري في عرض واحد.

وبعبارة ثانية: الأحكام الشرعية مجعولة على نهج القضايا الحقيقية، وفي هذا النوع من الجعل يلاحظ جميع الموضوعات في عرض واحد، تحت عنوان جامع يكون مرآة لجميع الأفراد. وعليه، لا معنى للتقدم الرتبي أو الزماني في هذه المرحلة.

ولا كلام فيما لو لم تحصل منافاة بين الأفراد في شمول القضية الحقيقية لها، أما لو كان شمول القضية الحقيقية للأفراد متنافياً سرى الإشكال إلى نفس الجعل، حيث لا يمكن للجعل أن يشمل الأفراد معاً.

مثال: لو قال المولى: (الخبر الواحد حجة) فقد لاحظ جميع أخبار الأحاد بهذا العنوان الجامع الفاني في أفراده، فيشمل الخبر الأول، فلو جاء

ص: 29


1- وقد ذكر في محله أن الترجيح بلا مرجح بلحاظ الدليل الواحد محال (منه (رحمه اللّه) ).

خبر آخر مناقض للخبر الأول فلا يمكن القول: إنَّ دليل حجية الخبر شمل الخبر الأول، ولا مجال لشموله للخبر الثاني، بل الدليل العام شامل للفردين المتدرجين في عرض واحد، وحيث إنهما متعارضان فلا يعقل شمول الدليل العام لهما معاً، فيتعارضان ويتساقطان.

مثال آخر: لو تعارض خبران عرضيان وتساقطا(1)، ثم قام خبر ثالث موافق لأحد الخبرين المتعارضين، فهل يتم العمل به؟ كلا بل تلاحظ الأخبار الثلاثة في عرض واحد وتتساقط؛ لعدم إمكان شمول دليل الحجية لها.

وهكذا الأمر في البينتين المتعارضتين ثم قيام البينة الثالثة.

والحاصل في كل ذلك أنه لا يلاحظ التقدم والتأخر، وكذا في المقام يجري الأصل في الملاقي المتأخر أيضاً.

ويرد عليه ما ذكره في المنتقى(2): إنّ من المسلمات الأصولية تقديم الأصول السببية على المسببية، فلو غسل يده في الماء المشكوك كريته تعارض في حقه استصحابان: استصحاب كرية الماء واستصحاب نجاسة اليد، لكن بما أنّ الشك في بقاء نجاسة اليد مسبب عن الشك في بقاء الكرية، فمع جريان (لا تنقض) في الكرية لا مجال للشك في نجاسة اليد.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ الشك في نجاسة الملاقي مسبب عن نجاسة الملاقى، فينطبق عليه القانون العام للسببية والمسببية.

وبعبارة أخرى: ما هو الفرق بين ما نحن فيه والشك في نجاسة اليد

ص: 30


1- سواء قلنا بشمول أدلة الحجية لهما أم عدم شمولها لهما من رأس.
2- منتقى الأصول 4: 494، 5: 164.

وكرية الماء؟

نكتة تقديم الشك السببي على الشك المسببي

لكنه محل تأمل؛ لأنّ تقديم الشك السببي على الشك المسببي ليس لمجرد السببية والمسببية، بل لنكتة غير موجودة في المقام. وتلك النكتة هي: أنّ الأصل الجاري في الشك السببي ينقح موضوع الدليل الاجتهادي، فيكون الدليل الاجتهادي - لا ذات الشك السببي - حاكماً على الشك المسببي أو وارداً عليه.

ففي المثال المذكور حين استصحبت كرية الماء نقح موضوع الدليل الاجتهادي القائل: ( الماء الكر يطهر ما لاقاه أو ما غسل فيه) ومعه لا معنى للقول بالشك في نجاسة اليد.

وبعبارة أخرى: توجد عندنا أربعة أدلة: أصلان عمليان، ودليلان اجتهاديان.

الأصل العملي الأول: استصحاب كرية الماء، والدليل الاجتهادي الأول: ما غسل بالكر فهو طاهر.

الأصل العملي الثاني: استصحاب نجاسة اليد، والدليل الاجتهادي الثاني: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}(1).

والثاني أصله محكوم بالدليل الاجتهادي، ولا موضوع لدليله الاجتهادي؛ لأنّ موضوعه الرجز، ومع غسل اليد في الكر التعبدي لا رجز حتى يكون مصداقاً للآية.

ص: 31


1- المدثر: 5.

وفي الواقع لا تعارض بين الشك السببي والمسببي؛ لوجود الدليل الاجتهادي، بل هو تعارض بدوي.

وهذا الملاك غير محقق في المقام، فإنه وإن تحققت السببية والمسببية بين الشك في الملاقي والملاقى، إلا أنّ الشك في نجاسة الملاقى لا يحقق دليلاً اجتهادياً ليكون حاكماً على الشك المسببي.

وبناء عليه تجري الأصول الثلاثة في الملاقي والملاقى وطرفه في عرض واحد، ولا دليل اجتهادي في المقام فتتعارض وتتساقط.

فالإشكال المذكور في المنتقى محل تأمل.

إن قلت: الأصل المسببي أيضاً ينقح موضوع الدليل الاجتهادي الثاني، ومعه لا يبقى مجال للأصل السببي، وهو يعارض الدليل الاجتهادي الأول.

قلت: إنّ وجود الدليل الاجتهادي الثاني فرع ثبوت موضوعه بالأصل المسببي، والدليل الاجتهادي الأول رافع للأصل المسببي، والمرفوع لا يمكنه أن ينقح موضوع الدليل الاجتهاي الثاني.

وعليه، فالدليل الاجتهادي الأول يرفع الأصل المسببي، ومعه لا يبقى موضوع للدليل الاجتهادي الثاني.

إن قلت: ليكن الأمر بالعكس، بأن نقول: الدليل الاجتهادي الثاني يرفع الأصل السببي، ومع رفع الأصل السببي لا يبقى مجال للدليل الاجتهادي الأول.

قلت: لا يمكن للدليل الاجتهادي الثاني أن يرفع الأصل السببي، إلا على مبنى حجية مثبتات الأمارات، وهو محل إشكال ومنع فيما عدا مثبتات الخبر.

ولمزيد من التوضيح: لو غسل يده في الماء المشكوك بقاء كريته، ففي المقام أربعة أدلة، هي: الاستصحاب السببي، أي: كرية الماء، وهو منقح

ص: 32

لموضوع الدليل الاجتهادي الأول (الماء الكر يطهر)، والاستصحاب المسببي، أي: نجاسة اليد، وهو ينقح موضوع الدليل الاجتهادي الثاني {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}.

والمدعى هو أنَّ الأصل السببي ينقح موضوع الدليل الاجتهادي الأول، ومعه لا معنى لجريان الشك المسببي للقطع تعبداً بطهارة اليد، ومعه لا معنى لاستصحاب نجاسة اليد، فلا مجال للدليل الاجتهادي الثاني لعدم ثبوت موضوعه، وثبوت الموضوع فرع ثبوت المحمول.

وأما العكس، بأن تستصحب نجاسة اليد فينقح موضوع الدليل الاجتهادي الثاني، ومعه لا مجال لاستصحاب كرية الماء، فينتفي موضوع الدليل الاجتهادي الأول فهو مثبت؛ لأنه يكشف عن كون الماء قليلاً بسبب نجاسة اليد، وإلا لو كان الماء كراً لحصل القطع بطهارة اليد.

وإنما يكون مثبتاً لكون التلازم بينهما عقلياً لا شرعياً، حيث لم يحكم الشارع (كلما بقيت نجاسة اليد كان الماء قليلاً).

والحاصل: إنَّ الدليل الاجتهادي الثاني لا يمكنه نفي الأصل السببي؛ لأنه مثبت، أما الدليل الاجتهادي الأول فيمكنه نفي الأصل المسببي.

لو تم هذا الملاك في حكومة الأصل السببي والمسببي فبها، وإن لم يتم فنقول: إنَّ ملاك الحكومة النظر، أي: نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم، والنظر يفرض في دليلين كقوله: (وحرم الربا)(1)، وقوله: (لا ربا

ص: 33


1- البقرة: 275.

بين الوالد وولده)(1). وأما في المقام فالدليل واحد، وهو (لا تنقض اليقين بالشك)(2) أو (كل شيء طاهر)(3) وهذا الدليل جارٍ في الملاقى والملاقي، ولا معنى للقول: إنَّ الدليل الجاري في الملاقى ناظر إلى الدليل الجاري في الملاقي.

فما ذكره الشيخ من أنّ الشك في الملاقى سببي، والشك في الملاقي مسببي، فيكون الأصل في الأول حاكماً على الأصل في الثاني غير تام.

وإن لم يتم هذا أيضاً فلا بد من رفع اليد عن الإشكال الرابع.

الإشكال الخامس: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه(4)

من أنّ المانع من جريان الأصل هو العلم الإجمالي لا المعارضة، وهو متحقق في الملاقي والملاقى وهو إشكال مبنائي.

وبيانه: أنّ الشيخ الأعظم يرى أنّ المانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي هو تعارضها في تلك الأطراف، وبما أنه ثبتت الطولية بين الشك في الملاقي، والشك في الملاقى يكون جريان الأصل في الملاقي في طول جريانه في الملاقى، ففي المرحلة الأولى يجري الأصل في الملاقى، ويتعارض مع جريانه في طرف الملاقى فيتساقطان، ثم يجري الأصل في الملاقي بدون معارض، فيحكم بطهارة الملاقي.

لكن المبنى غير مرضي للسيد الوالد (رحمه اللّه) ، فليس ملاك عدم جريان

ص: 34


1- مستدرك الوسائل 13: 339.
2- الكافي 3: 351.
3- خاتمة مستدرك الوسائل 5: 500.
4- الفقه 3: 193.

الأصول تعارضها حتى يقال بعدمه في الملاقي، بل الملاك نفس العلم الإجمالي، فهو مانع عن جريان الأصول، والعلم الإجمالي متحقق في المقام؛ لأننا نعلم إجمالاً بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى، وهذا العلم مانع عن جريان الأصل في الملاقي.

وبعبارة أخرى: العلم الإجمالي بنفسه مانع عن جريان الأصل، سواء أكان هناك تعارض بين الأصول أم لا.

وربما يوجه كلامه بانصراف أدلة الأصول العملية(1) عن شمولها لأطراف العلم الإجمالي، بل هي ظاهرة في الشبهات البدوية، أو أنّ شمولها لها يوجب تناقض الصدر والذيل، كما ذكره الشيخ الأعظم.

وقد تحقق العلم الإجمالي الثاني في المقام وجداناً؛ لعلمنا بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى، ومعه لا يمكن جريان الأصل في الملاقي وإن لم يعارضه أصل آخر.

وهذا الإشكال متين لو قلنا: إنَّ العلم الإجمالي الثاني المتحقق بين الملاقي وطرف الملاقى منجز للتكليف، وأما لو لم يكن واجداً لشرائط المنجزية، فلا مانع من جريان الأصل(2) في الملاقي؛ لأنّ وجوده كالعدم، فلابد من البحث في كون العلم الإجمالي الثاني منجزاً أم لا.

ص: 35


1- كقوله (عليه السلام) : «كل شيء لك حلال» و«لا تنقض اليقين بالشك».
2- والسيد الوالد (رحمه اللّه) يسلم بذلك، فلو كان هنالك إناءان تنجس أحدهما كان العلم الإجمالي منجزاً، فلو وقعت قطرة دم ثانية إما في أحدهما أو في إناء ثالث لم يجب الاجتناب عن الثالث؛ لعدم تنجز العلم الإجمالي بالنسبة إليه، فيجري فيه أصل الطهارة أو استصحابها (منه (رحمه اللّه) ).

الطريق الثاني

لحل إشكال العلم الإجمالي الثاني ما سلكه في النهاية، حيث قال: «العلم الإجمالي بعد تعلقه بالنجس المعلوم بين الإناءين(1) أوجب تنجز التكليف المعلوم، وبعد حدوث الملاقاة وصيرورة أطراف العلم ثلاثة وجداناً لا يعقل تأثير العلم الثاني؛ إذ المنجز لا يتنجز»(2).

وهذا الطريق مركب من صغرى وكبرى.

أما الكبرى فواضحة؛ لأنّ المنجز لا يتنجز، فإنّ معنى التنجز هو تمام الحجة من قبل المولى، وانقطاع العذر من قبل العبد، وبعد تمام الحجة وانقطاع العذر لا معنى لتمام الحجة وانقطاع العذر، وبعبارة أخرى: إنه تحصيل للحاصل.

وأما تطبيقها على ما نحن فيه فنقول: إنه يوجد في عالم الثبوت احتمالان:

الأول: أن يكون الدم ساقطاً في الملاقى، وفي هذه الحالة يجب الاجتناب عن الملاقى وملاقيه.

الثاني: أن يكون الدم ساقطاً في طرف الملاقى، وفي هذه الحالة يجب الاجتناب عنه.

فلو تولد العلم الإجمالي الثاني، لم يكن منجزاً إن كان الدم ساقطاً في طرف الملاقى واقعاً؛ وذلك لأنّ التكليف بالاجتناب عن طرف الملاقى

ص: 36


1- أي العلم الإجمالي الأول بين الملاقى وطرفه.
2- نهاية الدراية 2: 617.

كان منجزاً في ذمة المكلف مع العلم الإجمالي الأول، والمنجز لا يتنجز، وإن كان الدم ساقطاً في الملاقى واقعاً كانت الملاقاة مثبتة للتكليف في ذمة المكلف، فيكون العلم الإجمالي منجزاً للتكليف.

فالعلم الإجمالي ثبوتاً إما منجز للتكليف أو لا، ولو دار أمر العلم الإجمالي بين المنجزية وعدمها لم يكن له أثر؛ لأنّ مآله إلى الشبهة البدوية، حيث يشك أن المولى قال: اجتنب عن الملاقي أم لا، والمجرى البراءة.

وبعبارة أوضح: إنّ شرط منجزية العلم الإجمالي هو حصول العلم بالتكليف على كل تقدير، لا على تقدير دون تقدير.

وفي المقام لو كان الدم ساقطاً في طرف الملاقى فالعلم الإجمالي الثاني ليس علماً بالتكليف المنجز؛ لأنّ التكليف المنجز في طرف الملاقى كان ثابتاً بالعلم الإجمالي الأول، ولو كان الدم ساقطاً في الملاقى فالعلم الإجمالي الثاني منجز للتكليف في الملاقي، فأمر العلم الإجمالي دائر بين المنجزية وعدمها، فهو إما مولد للتكليف وكاشف عنه أو لا، ومعنى التردد هو الشك البدوي، ومجراه البراءة.

مثال للتقريب: لو سقط الدم إما في الإناء الأول أو الثاني وجب الاجتناب عن الاثنين، فلو علم بسقوط دم آخر إما في أحد الإناءين الأولين أو الثالث فلا أثر لهذا العلم؛ لأنّ الدم الثاني لو سقط في أحد الأولين لم يكن له أثر؛ لتولد الحكم بالاجتناب عن الإناءين من قبل، فلا يتولد الحكم من جديد، أما لو سقط في الثالث تولد الحكم في متن الواقع. وعليه، مع العلم الإجمالي الثاني إما أن يتولد الحكم في متن الواقع أم لا، فيكون

ص: 37

المجرى البراءة، وذلك كالشك في وجوب الاجتناب عن التتن.

ويرد عليه إشكالان:

الإشكال الأول: إن العلم الإجمالي السابق لا يكون منجزاً في مرحلة البقاء إلا بلحاظ بقائه لا بلحاظ حدوثه، وحينئذ فتكون نسبة العلمين بقاءً في الطرف المشترك على حد سواء، فيشتركان في التنجيز.

وهو بحاجة إلى توضيح ويتم ذلك ببيان أمرين:

الأمر الأول: للعلم الإجمالي حدوث وبقاء، والأول: منجز للتكليف في مرحلة الحدوث، والثاني: منجز للتكليف في مرحلة البقاء، ولا يصلح حدوث العلم الإجمالي لتنجز التكليف في مرحلة البقاء، وإلا لم يمكن انحلال العلم الإجمالي بالانحلال الحقيقي أو الانحلال الحكمي، فإن انحلال العلم الإجمالي دليل على أنّ صرف الحدوث لا يكفي لتنجيز التكليف في مرحلة البقاء، وهكذا يمكن إبطال أثر العلم الإجمالي بالشك الساري، مع أنه قد تولد وتنجز به التكليف في مرحلة الحدوث، إلا أن الشك الساري ينفي التنجيز في مرحلة البقاء.

والحاصل: لا بد من تحقق العلم الإجمالي في مرحلة البقاء حتى يكون منجزاً فيها، وإلا فإنّ الحدوث آناً ما لا يكفي في تنجيز التكليف في مرحلة البقاء، كالصور الذهنية، فإن التفات النفس علة لخلقها، لكن الالتفات الحدوثي غير كافٍ لوجودها في مرحلة البقاء، بل يحتاج إلى استمرار توجه النفس وخالقيتها.

الأمر الثاني: لا مانع من اشتراك منجزين في التنجيز، كاشتراك علتين في معلول واحد، حيث يستند وجود المعلول إلى كلتا العلتين.

ص: 38

وبعد ثبوت هذين الأمرين نقول: لا مانع من تنجيز العلم الإجمالي الثاني لوجوب الاجتناب عن طرف الملاقى في مرحلة البقاء، على نحو اشتراك العلم الإجمالي الأول والثاني.

وعليه، فكلا العلمين الإجماليين يشتركان في تنجيز التكليف في الطرف المشترك، وهو طرف الملاقى، والعلم الإجمالي الثاني واجد لشرط التنجيز، وهو كونه منجزاً للتكليف على كل تقدير.

ونتيجة المقدمتين: أن طرف الملاقى أنما يجب الاجتناب عنه في مرحلة البقاء لعلتين، الأولى: بقاء العلم الإجمالي الأول؛ لأنه لو انحل حقيقة أو حكماً أو سرى إليه الشك لم يكن له أثر في مرحلة البقاء، فبقاء العلم الإجمالي الأول علة لوجوب الاجتناب عن طرف الملاقى في مرحلة البقاء. والثانية: العلم الإجمالي الثاني فهو أيضاً علة لاجتناب طرف الملاقى، والعلتان تواردتا على معلول واحد، وهو وجوب الاجتناب عن الطرف المشترك، وكلتاهما مشتركتان في العلية، فالعلم الإجمالي الثاني لم ينجز ما هو منجز من قبل.

والحاصل: إن إشكال النهاية بأنّ العلم الإجمالي الثاني لا يمكنه التنجيز لتنجزه من قبل غير تام؛ لأنّ التنجز من قبل هو التنجز في مرحلة الحدوث، أما التنجز في مرحلة البقاء فهو مستند إلى علتين عرضيتين، هما: العلم الإجمالي الأول، والعلم الإجمالي الثاني.

الإشكال الثاني: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه(1)، من وجود الفرق

ص: 39


1- الفقه 3: 194.

بين ما نحن فيه والمثال المذكور(1)، وهو تحقق الشك في تولد تكليف جديد بوجوب الاجتناب عن الإناء الثالث في المثال ومجراه البراءة، بخلاف المقام حيث إنه ليس شكاً في تولد تكليف جديد، بل هو امتداد للشك السابق الذي قد تنجز بمقتضى العلم الإجمالي الأول، فإن الشك في الملاقي امتداد للشك في الملاقى، ولأنّ الملاقى منجز بالعلم الإجمالي الأول فالملاقي أيضاً منجز به؛ لأنه امتداده، وبعبارة أخرى: حيث حكم المولى بوجوب الاجتناب عن الملاقى وجب الاجتناب عن ملاقيه؛ لأنه من شؤون الاجتناب عنه.

ومحصل كلامه: أننا لا نحتاج إلى علم إجمالي ثانٍ، فنفس العلم الإجمالي الأول كافٍ لوجوب الاجتناب عن الملاقي.

ولهذا الكلام عرض عريض يأتي في الدليل الرابع إن شاء اللّه.

هذا تمام الكلام في الدليل الثالث.

الدليل الرابع: الاجتناب عن ملاقي النجس اجتناب عن النجس

فلو لم يجتنب عن الملاقي لم يجتنب عن النجس.

توضيحه: إنَّ طرق الطاعة والمعصية عقلائية، كما أشار إليه صاحب الكفاية(2)، فلو أمر المولى باجتناب النجس فلا بد من مراجعة العرف في كيفية تحقق الاجتناب.

ص: 40


1- مثال الإناءين، حيث سقط في أحدهما الدم ثم سقط دم آخر إما في أحدهما أو في الثالث، حيث لا يجب الاجتناب عن الثالث.
2- كفاية الأصول: 362.

مثلاً: لو قال: المولى: اجتنب الأسد، فإنّ كيفية الاجتناب عنه عرفاً هو أن لا يثيره، ولا يتقرب إليه، ولا يجعل نفسه في معرض الخطر، لكن لا يدخل في مفهومه الاجتناب عن ملاقي الأسد.

وأما لو قال: اجتنب عن القذر، فإنّ الامتثال لا يتحقق إلا بالاجتناب عنه وعما لاقاه، فلو اجتنب عنه ولم يجتنب عن ملاقيه لم يكن ممتثلاً للأمر.

والحاصل: إن المحكم في (اجتنب) نظر العرف، والعرف يرى أنه كما يجب الاجتناب عن الملاقى يجب الاجتناب عن الملاقي؛ لأنه من شؤونه وتبعاته.

وفي المقام إشكالات:

الإشكال الأول: ما في النهاية(1) قال: لا شبهة في وجوب الاجتناب عن الملاقي مع فقد الملاقى، وهذا يكشف عن عدم كونه من شؤونه وتبعاته، وإلا كان تابعاً له حدوثاً وبقاء.

فإنه لو افتقد الملاقى كان الاجتناب عن الملاقي واجباً، وهذا يكشف أن الاجتناب عن الملاقي ليس من شؤون الاجتناب عن الملاقى وتبعاته، وإلا كان تابعاً له حدوثاً وبقاء.

لكنه محل تأمل؛ لأنّ التبعية محققة في الحدوث والبقاء، فلو كان الشيء تابعاً لا بد أن يكون تابعاً حدوثاً وبقاء. كما قال السبزواري:

لا يفرق الحدوث والبقاء***إذ لم يكن للممكن اقتضاء(2)

ص: 41


1- نهاية الدراية 2: 615.
2- شرح المنظومة 2: 254.

فنفس الليسية المحضة في مرحلة الحدوث محققة في مرحلة البقاء، ونفس ملاك الاحتياج في مرحلة الحدوث ملاك للاحتياج في مرحلة البقاء، فلو كان وجوب الاجتناب عن الملاقي شأناً من شؤون وجوب الاجتناب عن الملاقى كان اللازم بقاء الوجوب في الملاقى، حتى يبقى الوجوب في الملاقي، والمفروض أنه لا أمر بالاجتناب عن الملاقى، حيث يفرض انتفاء الموضوع بانتفاء الدم، فيكف يأمر المولى بالاجتناب عن ملاقيه؟

ولا يقال: إنه بأمر جديد، فإن ذلك تغيير لمسار البحث، حيث مبنى الاستدلال على أن الاجتناب عن الملاقي من شؤون وتبعات الاجتناب عن الملاقى، والأمر به متولد عنه، وإنه كامن في الحقيقة في الأمر الأول، ومع انتفاء العلة لأي سبب كان ينتفي المعلول(1).

لكنه غير تام، فإن العلل على نوعين، والتبعية تفرض في بعض أنواع العلل، دون بعضها الآخر، فلو كانت العلة علة في الحدوث والبقاء كان بقاء المعلول رهين بقاء العلة، أما لو كانت العلة علة في الحدوث فقط، لم ينتف المعلول بانتفاء العلة.

ومثاله المعروف: وجوب الاجتناب عن الماء المتغير، والتغير علة في الحدوث فقط، ولذا لو تغير الماء وجب الاجتناب عنه حتى لو زال التغير بتصفيق الرياح؛ وذلك لأن التغير علة الحدوث لا علة الحدوث والبقاء.

ص: 42


1- ومعنى الأمر الجديد أنه لو لم يكن الأمر الثاني لم يكن الأمر الأول كافياً لوجوب الاجتناب، بخلاف التبعية، فنفس الأمر الأول كافٍ للحكم بوجوب الاجتناب عن الملاقي.

وفي المقام: ملاقاة النجس أيضاً علة في حدوث الأمر بوجوب الاجتناب عن الملاقي، ومع انتفاء الأمر بالاجتناب عن الملاقى لا ينتفي الأمر بالاجتناب عن الملاقي.

ويتضح ذلك بملاحظة القذارات العرفية، فلو أمره بالاجتناب عن القذر لزم الاجتناب عن ملاقيه حتى وإن زال القذر بنفسه(1).

ولا يخفى أن صاحب النهاية(2) لم يرتض الإشكال الذي ذكره وأجاب عنه بغير ما ذكرناه، ولكن جوابه محل تأمل.

الإشكال الثاني: ما ارتضاه في النهاية(3) من أنه لو اجتنب المكلف عن النجس ولم يجتنب عن ملاقيه، ففي الواقع اجتنب عن فرد من أفراد النجس، ولم يجتنب عن فرد آخر، لا أنه لم يجتنب أصلاً، ولو كان الاجتناب عن الملاقي من شؤون الاجتناب عن الملاقى كان المفروض عدم تحقق الاجتناب أصلاً.

وذلك يكشف عن كونهما أمرين مستقلين، وإلا لو كان أمراً واحداً كان له امتثال واحد، وعصيان واحد.

وأجيب عنه بأنّ للاجتناب مرتبتين: عليا ودنيا.

ص: 43


1- وفي مثال آخر قوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}. البقرة: 124. فلو فرض زوال الظلم وصار عادلاً بقي الحكم (لا ينال)، مع أنَّ نسبة الموضوع إلى المحمول كنسبة العلة إلى المعلول، وكان الظلم علة وقد زالت، وإنما يكون كذلك لأنه علة الحدوث ويبقى الحكم إلى الأخير.
2- نهاية الدراية 2: 615.
3- نهاية الدراية 2: 615.

وفي المقام: للامتثال مرتبة عليا بالاجتناب عن النجس، وعن كل ما هو من شأنه، ومرتبة دنيا بالاجتناب عنه فقط، فلو اجتنب عن الملاقى ولم يجتنب عن الملاقي فقد اجتنب بالمرتبة الدنيا، وإن لم يجتنب بالمرتبة العليا، وقد امتثل بلحاظ بعض المراتب دون البعض الآخر، فهو ممتثل بمرتبة وغير ممتثل بمرتبة أخرى، كما لو أكرم العالم لكن لم يكرم ابنه، فهو ممتثل لأمر (أكرم العالم) بمرتبته الدنيا، وإن لم يمتثل بمرتبته العليا.

وبتقرير آخر: هنالك نوعان من الانحلال، أفرادي ومراتبي، والانحلال المراتبي نوع من أنوع الانحلال، ولو كان انحلالاً أفرادياً كشف عن كونه أمرين، والمفروض أنه أمر واحد، والثاني تبعي، فليس له عصيان مستقل وطاعة مستقلة. فاندفع الإشكال.

الإشكال الثالث: ما في المنتقى(1) من عدم وجود الدليل أصلاً على لزوم الاجتناب عن النجاسة، حيث لا يوجد في جميع النصوص الشرعية الأمر بذلك، فالبحث مبني على فرض لا وجود له.

وأجاب(2) عن قوله تعالى: (فاجتنبوه) بالنسبة للخمر أنّه ليس بلحاظ النجاسة، وإنما بلحاظ آخر، لذكر الاجتناب عن الخمر في سياق الاجتناب عن القمار والأنصاب والأزلام.

وأجاب(3) عن قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} أنه بمعنى العذاب لا

ص: 44


1- منتقى الأصول 5: 155.
2- منتقى الأصول 5: 155.
3- منتقى الأصول 5: 155.

النجس، والاجتناب عنه باجتناب أسبابه، كقوله تعالى: {وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}.

لكنه محل تأمل من جهتين:

أولاً: لا يقتصر الأمر على كلمة (اجتنب)، فإن مفادها موجود في الروايات، فقد روى محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن عمار الساباطي(1) في حديث طويل قوله (عليه السلام) : «فلا يمس من ذلك الماء شيئاً»(2).

ولا فرق بين قوله: (اجتنب ذلك الماء) أو (لا تمس ذلك الماء) فهما بنفس المعنى.

وعن محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد(3)، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة؟ قال (عليه السلام) : يكفئ الإناء»(4).

وهو بمعنى الاجتناب عنه.

وعن محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن حماد، عن حريز، عن الفضل، قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن فضل الهرة والشاة.. حتى انتهيت إلى الكلب، فقال: رجس نجس لا تتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء»(5).

فما هو الفرق بين اجتنب ذلك الماء، أو اصبب ذلك الماء؟

وفي رواية أخرى: «فقلت: الكلب؟ قال: لا، قلت: أليس هو سبع؟ قال: لا

ص: 45


1- إسناد الشيخ الصدوق إلى عمار الساباطي صحيح، فالرواية موثقة.
2- وسائل الشيعة 1: 142.
3- إسناد الشيخ الطوسي إلى الحسين بن سعيد صحيح، فالرواية صحيحة.
4- وسائل الشيعة 1: 153.
5- وسائل الشيعة 1: 226.

واللّه إنه نجس، واللّه إنه نجس»(1) ومفادها الأمر بالاجتناب.

والظاهر أنه لا فرق عرفاً بين اصبب ولا يمس واغسل واكفئ.

وثانياً: لقد وردت كلمة (اجتنب) في الروايات.

ففي الصحيحة: عن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن سليمان بن خالد، قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : أخبرني عن الفرائض التي افترض اللّه على العباد، ما هي؟ قال: شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، وإقام الصلوات الخمس، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام شهر رمضان، والولاية، فمن أقامهن وسدد وقارب واجتنب كل مسكر دخل الجنة»(2).

وليس الأمر بالاجتناب هنا في سياق حتى يرد عليه ما ورد على الاستدلال بالآية (فاجتنبوه).

نعم، قد يتأمل فيه بما ورد في هامش الوسائل(3) من أنّ العبارة في المصدر المنكر لا المسكر، فيلزم التحقيق أكثر لتعارض النقلين.

إلا أن الجواب الأول كافٍ في الرد على الإشكال المذكور، حيث يستفاد من مجموع الروايات وجوب الاجتناب عن النجس.

الإشكال الرابع: ما ذكره المحقق العراقي (رحمه اللّه) (4)، من أن فعلية الحكم بفعلية موضوعه، فقبل تحقق الملاقاة لا يمكن أن يكون الأمر بالاجتناب

ص: 46


1- وسائل الشيعة 1: 226.
2- وسائل الشيعة 1: 19.
3- وسائل الشيعة 1: 20، وقد وردت لفظة «منكر» في المحاسن 1: 290، وكذلك في من لا يحضره الفقيه 1: 204.
4- تنقيح الأصول: 344؛ نهاية الأفكار 1-2: 281، 300.

فعلياً. وعليه، فالأمر بالاجتناب عن الملاقي تأخر عن الأمر بالاجتناب عن الملاقى، فلا يمكن أن يكون من شؤونه.

وبعبارة أخرى: الأمر بالاجتناب عن الملاقي متوقف على فعلية الملاقاة، ومتأخر عن الأمر بالاجتناب عن الملاقى، والأمر المتأخر لا يمكن أن يكون من شؤون الأمر المتقدم.

لكنه محل تأمل، فإنّ للحكم مرتبتين: مرتبة الجعل ومرتبة المجعول، والمجعول وإن كان متأخراً(1)، إلا أن الجعل متقدم، فلا منافاة بين التأخر وبين كونه شأناً من شؤونه، فمثلاً: لو فرض أن إكرام خادم العالم من شؤون إكرامه، فلو قال المولى: أكرم العالم كان معناه أكرم العالم، وكل مَنْ كان إكرامه من شؤون إكرام العالم، وقد صدر الحكم في مرتبة الجعل، لكن حيث لم يكن للعالم خادم فلا يكون المجعول فعلياً، فلو اتخذ بعد ذلك خادماً صار المجعول فعلياً، وتأخر فعلية المجعول لا ينافي تقدم الجعل؛ ولذا لا منافاة بين هذا التأخر وبين كون إكرام الخادم من شؤون إكرام العالم نفسه.

وكذلك في المقام، حيث معنى (اجتنب الدم) هو لزوم الاجتناب عنه، وعن كل شيء كان الاجتناب عنه من شؤون الاجتناب عن الدم، وبه يتم الجعل حتى لو لم يتحقق موضوع في الخارج(2). وعليه، فالاجتناب عن الملاقي بعنوان الجعل متقدم، وإن كان بعنوان المجعول متأخر ومتوقف

ص: 47


1- لأن فعلية المجعول بفعلية الموضوع.
2- كقوله تعالى: { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}. آل عمران: 97، فالحكم فعلي في مرحلة الجعل، بمعنى أنه من أحكام الشريعة المقدسة، إلا أن فعلية المجعول أي الوجوب متوقف على وجود المستطيع في الخارج.

على تحقق الملاقاة، فتأخره لا ينافي كونه من شؤونه.

فما ذكره المحقق العراقي محل تأمل.

الإشكال الخامس: ما ذكره في المنتقى حيث قال: «بان لازمه لزوم الاجتناب عن مشكوك الملاقاة لقاعدة الاشتغال بحكم النجس نفسه»(1)، حيث لا يحرز امتثال أمر (اجتنب عن النجس وعن كل ما يعد الاجتناب عنه من شؤونه) إلا مع الاجتناب عن مشكوك الملاقاة، مع أنّ الاجتناب عنه غير واجب.

لكنه واضح الاندفاع؛ لأن ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، ونفس الشك في الموضوع كافٍ؛ لعدم ثبوت المحمول، ولا حاجة إلى استصحاب عدم الموضوع، فلو قال: الدم نجس، وشك أن هذا الأحمر دم كان نفس الشك كافياً لعدم ثبوت المحمول، ولا حاجة إلى استصحاب عدم كونه دماً، لاستصحاب العدم الأزلي مثلاً.

وعليه، لا يترتب (اجتنب عن الدم وعن ملاقيه) مع الشك في الملاقاة.

الإشكال السادس: ما ذكر من الكبرى الكلية(2) إنما يتم إذا كان ملاك الأمر بالاجتناب هو وجود القذارة العينية السارية في الملاقى عرفاً، ففي هذه الصورة يكون الأمر بالاجتناب عن الملاقى أمراً بالاجتناب عن الملاقي.

أما لو كان الملاك القذارة غير العينية أو العينية غير السارية، أو كان

ص: 48


1- منتقى الأصول 5: 154.
2- والكبرى الكلية هي: أن وجوب الاجتناب عن الملاقي من شؤون الاجتناب عن الملاقى.

هنالك ملاك آخر، فالأمر بالاجتناب عن الشيء ليس أمراً بالاجتناب عن ملاقيه.

مثلاً: لو قال المولى: (اجتنب المال المغصوب) فالأمر ليس باعتبار وجود القذارة العينية السارية في المال المغصوب، فلا يكون ملازماً للأمر بالاجتناب عن ملاقي المغصوب.

وفي المقام: لم يثبت أن القذارات الشرعية بملاك وجود القذارة العينية السارية، بل يمكن أن تكون بملاك آخر، فلو قال المولى: (اجتنب عن الكافر) فهل للكافر قذارة عينية سارية، أم أنه باعتبار القذارة المعنوية، أو لإيجاد الحاجز النفسي بينه وبين المسلم أو بملاك آخر؟ ومعه لا يكون الأمر بالاجتناب عن الكافر أمراً بالاجتناب عن ملاقي الكافر.

وبعبارة أخرى: يوجد عندنا فردان: الأول: (اجتنب القذر العرفي)، والثاني: (اجتنب الغصب)، والأول ملازم لاجتناب ملاقيه، بخلاف الثاني، ولم يثبت ببرهانٍ أنَّ (اجتنب الدم) من قبيل الأول أو الثاني، فأصل مبنى الدليل الرابع محل إشكال.

لكنه قابل للدفع، بأنّ الشارع استخدم كملة القذر والنجس في القذارات الشرعية في روايات متعددة، ومقتضى أصالة عدم النقل أنه لم يستحدث معنى جديداً للفظ، فالقذر الشرعي نفس القذر العرفي(1)، وامتثال الأمر بالاجتناب عن القذر الشرعي موكول إلى العرف، والعرف يرى عدم تحقق

ص: 49


1- كألفاظ المعاملات، فالبيع الشرعي نفس البيع العرفي، إلا فيما ثبت أن الشارع نقل اللفظ عن معناه اللغوي والعرفي إلى معنى جديد، حيث الحقيقة الشرعية (منه (رحمه اللّه) ).

الاجتناب عن القذر العرفي إلا بالاجتناب عن ملاقيه.

وإليك هذه الأمثلة نموذجاً:

فعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد اللّه بن المغيرة، عن سماعة، عن أبي بصير، عنهم (عليهم السلام) : «إذا أدخلت يدك في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس، إلا أن يكون أصابها قذر: بول أو جنابة»(1) فأطلق القذر في هذه الموثقة على البول والجنابة.

وكذا قوله (عليه السلام) : «فإن أدخلت يدك في الماء وفيها شيء من ذلك فأهرق ذلك الماء»(2) وظاهره أنّ فيه شيئاً من المني.

وما رواه محمد بن الحسن بإسناده عن سماعة، عن ابن سنان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن الجنب، يحمل الركوة(3) أو التور(4)

فيدخل إصبعه فيه، قال: إن كانت يده قذرة فأهرقه، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه»(5) وهي معتبرة.

وفي الموثقة، وسئل الصادق (عليه السلام) عن ماء شربت منه دجاجة، فقال: «إن كان في منقارها قذر لم تتوضأ منه ولم تشرب، وإن لم يعلم في منقارها قذر توضأ منه واشرب»(6).

ص: 50


1- وسائل الشيعة 1: 152.
2- الكافي3: 11؛ وسائل الشيعة 1: 152.
3- الركوة: إناء صغير من جلد يُشرب فيه الماء. النهاية 2: 261.
4- التور: إناء من صخر أو حجارة كالإجانة، وقد يتوضأ منه. لسان العرب4: 96، مادة «تور».
5- وسائل الشيعة 1: 154.
6- وسائل الشيعة 1: 153.

وفي الموثقة: «وإياك أن تغتسل من غسالة الحمام، ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت، وهو شرهم، فإن اللّه تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وإن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه»(1).

وهنالك روايات أخرى معتبرة أيضاً(2)، فالشارع أطلق على القذرات الشرعية كلمة القذر والنجس، وربما هنالك مرادفات أخرى.

وهذا دليل على أن معنى القذر الشرعي هو القذر العرفي، فتكون كيفية الاجتناب عنه ككيفية الاجتناب عنه.

والحاصل: هنالك مفهوم معين عند العرف لكلمة (القذر) و (الاجتناب) فلو قال الشارع: (البول قذر فاجتنب عنه) كان معناه - حيث الكلام ملقى إلى العرف - اجتنب عنه كما تجتنب عن القذارات العرفية، وطريقة العرف الاجتناب عن الشيء وعن ملاقيه.

الإشكال السابع: ما في المنتقى من أن المدعى: «هو الملازمة بين لزوم هجر النجس ولزوم هجر ملاقيه، لا الملازمة بين وجوب هجر كل شيء ولزوم هجر ملاقيه»(3).

ويتضح ذلك بملاحظة المال المغصوب، حيث يجب هجره، ولا ملازمة بينه وبين هجر ملاقيه.

ص: 51


1- وسائل الشيعة 1: 220.
2- وسائل الشيعة 1: 220.
3- منتقى الأصول 5: 158.

وفي المقام: الملاقي لم يلاقِ النجس، وإنما لاقى المشتبه، ولا دليل على الملازمة بين وجوب هجر المشبته، ووجوب هجر الملاقي للمشتبه.

لكنه محل تأمل؛ لإمكان دعوى عدم الفرق في ثبوت الملازمة العرفية بين الأمر بالهجر بملاك التقذر، وبين الأمر بالهجر بملاك احتمال التقذر.

فلو ثبتت الملازمة العرفية بين وجوب الاجتناب عن القذر، والاجتناب عن ملاقيه فهي ثابتة أيضاً مع حكم الشرع، أو العقل بوجوب الاجتناب عن الشيء بملاك احتمال التقذر، ففي أطراف العلم الإجمالي يقول المولى أو العقل: اجتنب عن هذا الإناء لاحتمال قذارته، وهذا الأمر ملازم عرفاً للأمر بالاجتناب عن ملاقيه.

وبعبارة أخرى: الملاك في الأمر بالاجتناب هو احتمال التقذر في الملاقى، ونفس الملاك موجود في الملاقي، فكما أمر بالاجتناب عن الملاقى لهذا الاحتمال يؤمر بالاجتناب عن الملاقي؛ لوجود نفس الاحتمال، ولذا لا تفكيك بين الملاقي والملاقى عرفاً، ويمكن اعتبار هذا البيان دليلاً خامساً.

ونختم الكلام بما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه من: «أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - يستلزم وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - فإن الأمر بالاجتناب عن الشيء مستلزم للأمر بالاجتناب عما يلاقيه، بل هو معنى الاجتناب عرفاً(1)، فإن المولى إذا قال: اجتنب عن هذا الماء، كان معناه عرفاً اجتنب تلوثك به، والملاقاة توجب التلوث.

ص: 52


1- لا أن بينهما ملازمة، بل عينية.

وربما يجاب عن هذا بأن الملازمة بين نجاسة الشيء وتنجس ملاقيه وإن كانت ثابتة، كما ذكر في باب النجاسات، إلا أن الملازمة بين وجوب الاجتناب عنه، ووجوب الاجتناب عن ملاقيه ممنوعة.

ويرد عليه: إن منع الملازمة إن إريد به الملازمة الواقعية فللمنع عنها مجال؛ لاحتمال طهارة الملاقى - بالفتح - لكن نحن لا ندعي الملازمة الواقعية، وإن أريد به الملازمة العرفية، بمعنى أن العرف يرى التلازم بين وجوب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - ووجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - فإذا قيل له: اجتنب عن هذا الإناء الملاقى - بالفتح - رأى أن لازم ذلك وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - ففيه: أن منع الملازمة لا وجه له، والشاهد العرف.

وإن قيل: إنه لا خطاب بالنسبة إلى الملاقى - بالفتح - حتى يستفاد منه بالملازمة العرفية حكم الملاقي - بالكسر - بل الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - أنما هو بحكم العقل.

قلنا: يكفي في الخطاب قوله (عليه السلام) : يهريقهما ويتيمم، فإنه يساوق الخطاب بقوله: اجتنب عنهما(1)، وهذا الوجه عندي قريب جداً، ولذا فالاحتياط وجوبي، وإن كان المشهور من الذين تعرضوا لهذا المسألة قالوا بعدم وجوب الاجتناب»(2).

ص: 53


1- ولا يخفى أن المختار في قوله (عليه السلام) : «يهريقهما ويتيمم» أنه إرشاد إلى حكم العقل لا أنه خطاب شرعي، وتفصيله في محله (منه (رحمه اللّه) ).
2- الفقه 3: 189-190.

وعلى كل حال فالمسألة لا تخلو من إعضال.

هذا تمام الكلام في المقام.

تنبيه: جريان الطهارة موقوف على عدم وجود أصل مؤمن

يذكر هذا التنبيه بناء على عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي، وبناء على جريان الأصل المؤمن فيه وهو: إن ما ذكر من جريان أصالة الطهارة موقوف على عدم وجود أصل طولي مؤمن في طرف الملاقى، وأما مع وجوده فيتعارض الأصل المؤمن في الملاقي مع الأصل المؤمن الطولي في طرف الملاقى ويتساقطان، فيجب الاجتناب عن الملاقي في هذه الصورة، وهذه هي الصورة الأولى.

وهذا المثال يوضح المطلب: لو فرضنا العلم بنجاسة الثوب أو الماء(1) ثم لاقت اليد الثوب وجب الاجتناب عنها - كما ذهب إليه في المصباح(2) وتبعه السيد القمي(3)- وذلك لجريان أصل الطهارة في طرفي العلم الإجمالي وتعارضهما وتساقطهما، فتصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي، لكنه لا يجري أيضاً لتعارضه في الرتبة الثانية مع أصالة الحل في طرف الملاقى، حيث نعلم إجمالاً بنجاسة الملاقي، أو حرمة طرف الملاقى فيتساقطان. وهذا بخلاف ما لو كان طرفا العلم الإجمالي الماءين.

لكنه لا يخلو من غموض؛ لأن الأصل الجاري في طرف العلم الإجمالي

ص: 54


1- ولم يكن مفروضنا الإناءين.
2- مصباح الأصول 2: 410.
3- آراؤنا في أصول الفقه 2: 257-258.

بسيط في أحد الطرفين، ومركب في الطرف الثاني، ففي المرحلة الأولى: إما الثوب طاهر أو الماء طاهر وحلال، وتتعارض هذه الأصول الثلاثة وتتساقط، ثم تلاقي اليد الثوب، فتجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض، وقد سلمتم من قبل أن الأصول الميتة لا تحيا من جديد.

نعم، يمكن الجواب بأن الحلية مسببية وطهارة الماء سببية، ففي الرتبة الأولى تتعارض الأصول السببية وتتساقط، ولا معارض لأصالة الحل في الماء؛ لكونه في رتبة ثانية.

لكنه غير تام، لأن السيد الخوئي لا يرتضي الطولية، فقد قال في موضع آخر: «لو علم المكلف إجمالاً ببطلان وضوئه لصلاة الصبح، أو بطلان صلاة الظهر لترك ركن منها مثلاً، يحكم ببطلان الوضوء وبطلان الصبح وبطلان الظهر، فتجب إعادة الصلاتين، مع أن الشك في صلاة الصبح مسبب عن الشك في الوضوء، وكان الأصل الجاري فيها في مرتبة متأخرة عن الأصل الجاري فيه، إلا أنه لا أثر لذلك بعد تساوي نسبة العلم الإجمالي إلى الجميع، فتسقط قاعدة الفراغ في الجميع، ولو كان للتقدم الرتبي أثر لكانت قاعدة الفراغ في صلاة الصبح جارية بلا معارض، لتساقطها في الوضوء وصلاة الظهر للمعارضة، فتجري في صلاة الصبح بلا معارض؛ لكون جريان القاعدة فيها في رتبة متأخرة عن جريانها في الوضوء، فيحكم بصحة صلاة الصبح وبطلان الوضوء وصلاة الظهر، ولا أظن أن يلتزم به فقيه»(1).

ونفس الملاك متحقق في المقام، حيث يعلم المكلف إجمالاً بنجاسة

ص: 55


1- مصباح الأصول 2: 418.

الماء وحرمته(1)، أو بنجاسة الثوب، فتتعارض هذه الأصول في زمان واحد مع الاختلاف الرتبي وتتساقط، ثم تلاقي اليد الثوب ويشك في نجاستها، فيجري الأصل فيها بلا معارض.

والحاصل: أنه لا فرق فيما ذكرناه بين وجود الأصل المؤمن، كأصل الحل في طرف الملاقى، أي الماء، وبين عدمه.

الصورة الثانية

الصورة الثانية: أن تتقدم الملاقاة على العلم الإجمالي، بأن تتحقق الملاقاة والعلم بها في المرحلة الأولى، ثم يحصل العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو طرفه.

ولهذه الصورة فرعان:

الفرع الأول: اتحاد زمان نجاسة الملاقي والملاقى - لو كان الملاقى نجساً في عالم الثبوت - وبعبارة أخرى: اتحاد زمان المعلوم بالإجمال وزمان الملاقاة، فهل يجب الاجتناب عن الملاقي في هذه الصورة؟

مثلاً(2): لو كان ماءان في أحدهما ثوب، وقد تحقق العلم والملاقاة بين الثوب والإناء أولاً، ثم سقط الدم إما في إناء الملاقى أو في إناء ثانٍ هو

ص: 56


1- وإن كانا طوليين؛ لأن حرمة الماء معلول نجاسته.
2- ولا مناقشة في المثال، حتى يورد عليه بكون نجاسة الإناء معلولة لنجاسة الماء، ففي الرتبة الثانية تتعارض نجاسة الثوب والإناء الأول والإناء الثاني فتتساقط الأصول، حيث يمكن فرض مثال آخر بما لا يكون الإناء قابلاً للنجاسة، كالماء في الفم، حيث لا ينجس الفم أو ظاهر الحيوان، وكان الملاقي كالإصبع في الماء المجتمع في الفم، فسقط الدم إما في الفم أو في طرفه (منه (رحمه اللّه) ).

طرف الملاقى، بحيث لو كان الدم ساقطاً في إناء الملاقى ثبوتاً كان آن نجاسة الملاقى نفس آن نجاسة الملاقي؛ لفرض وجود الثوب في إناء الملاقي في آن سقوط الدم في أحد الإناءين، ففي هذه الصورة وجوب الاجتناب عن الإناءين واضح، وإنما الكلام في الاجتناب عن الثوب.

ذهب الشيخ الأعظم(1)، والمحقق النائيني(2) إلى عدم وجوب الاجتناب عنه؛ لأن الشك في نجاسة الثوب مسبب عن الشك في نجاسة الملاقى، وجريان الأصل في الشك السببي مقدم على جريان الأصل في الشك المسببي.

ففي الرتبة الأولى: يجري أصل الطهارة في الملاقى وطرفه، ويتساقطان بالتعارض، وفي الرتبة الثانية: يجري الأصل في الملاقي بلا معارض.

إن قلت: نعلم يقيناً باتحاد حكم الملاقي والملاقى، فكيف يفكك بينهما؟

قلنا: الملازمة واقعية، وما أكثر التفكيك بين المتلازمين الواقعيين في مرحلة الأحكام الظاهرية في الفقه، كما لو كان مذهب البائع صحة البيع المعاطاتي ومذهب المشتري البطلان، فمع أن الصحة لا تتبعض والبيع يتقوم بطرفين، إما صحيح منهما أو باطل، إلا أنّ الحكم بالنسبة إلى البائع الصحة، وبالنسبة إلى المشتري البطلان.

وكما لو سافر من وطنه فوصل إلى مكان لا يعلم أنه وصل إلى حد الترخص أم لا، صلى تماماً للاستصحاب، ثم لو رجع إلى وطنه وفي نفس المكان شك أنه وصل حد الترخص أم لا صلى قصراً للاستصحاب، مع أنه

ص: 57


1- فرائد الأصول 2: 242.
2- أجود التقريرات 2: 262.

لا يعقل التفكيك بينهما ثبوتاً.

وكما لو غسل يده النجسة في الماء المشكوك كونه كراً(1)، فالحكم أن اليد تبقى على نجاستها، والماء المشكوك باقٍ على طهارته، مع أنه لو كان كراً لزم الحكم بطهارتهما، ولو كان قليلاً لزم الحكم بنجاستهما. فلا مانع من التفكيك.

وذهب صاحب الكفاية إلى لزوم الاجتناب، وقد صور الملاقي إلى صور ثلاث، حيث يجب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى في صورة، وأخرى بالعكس، وثالثة يجب الاجتناب عنهما. قال: «وثالثة يجب الاجتناب عنهما فيما لو حصل العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة، ضرورة أنه حينئذٍ نعلم إجمالاً إما بنجاسة الملاقي والملاقى، أو بنجاسة الآخر، كما لا يخفى، فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين، وهو الواحد أو الاثنين»(2).

ومثله مثل العلم بنجاسة إناء كبير أو إناءين صغيرين، حيث يجب الاجتناب عن جميعها، ولا فرق بينه وبين المقام، حيث نعلم بنجاسة الملاقي والملاقى أو طرف الملاقى.

لكنه غير كافٍ لدفع ما ذكره الشيخ الأعظم(3) ؛ لأنه لم يحل مشكلة

ص: 58


1- من دون تحقق حالة سابقة، أو تعاقبت الحالات.
2- كفاية الأصول: 363.
3- مع أن صاحب الكفاية ناظر غالباً إلى كلمات الشيخ الأعظم، إلا أن ما ذكره في المقام من العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي والملاقى أو طرفه غير كافٍ لدفع ما ذهب إليه الشيخ الأعظم، حيث يسلم الشيخ بذلك، لكنه يرى أن الشك في الملاقي مسببي، فيكون جريان الأصل فيه متأخراً بلا معارض (منه (رحمه اللّه) ).

السببية والمسببية، حيث تتحقق في المقام دون مثال الإناءين الصغيرين.

ولقد تم حل مشكلة السببية والمسببية في الصورة الأولى بوجوه أربعة أو أكثر، فإن تمت في المقام كان ما ذهب إليه صاحب الكفاية تاماً.

الفرع الثاني(1): أن يكون زمان نجاسة الملاقي والملاقى - على فرض نجاسة الملاقى - مختلفاً، كأن يسقط الدم في أحد الإناءين يوم الخميس، وتتحقق الملاقاة بين اليد وأحد الإناءين يوم الجمعة ويعلم بها، ويوم السبت يتولد العلم الإجمالي بسقوط الدم في أحدهما يوم الخميس، فهل يجب الاجتناب عن الملاقي (اليد)؟

والحكم فيه(2)

يبتني على تنقيح الملاك في وجوب الاجتناب وترتيب الأثر، فهل الملاك المعلوم والمنكشف أو العلم والكاشف؟

فلو كان الملاك في ترتيب الآثار هو المعلوم، وكان العلم مجرد الطريق لإثبات آثاره، كان الحكم عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي؛ وذلك لأنّ المعلوم بالإجمال هو النجاسة المرددة بين الإناءين في يوم الخميس، فتجري الأصول في الإناءين يوم الخميس وتسقط بالتعارض، وحيث تحققت الملاقاة بعد ذلك كان من الشك في تولد فرد جديد من أفراد النجاسة، فيكون الأصل فيه بلا معارض.

أما لو كان الملاك في ترتيب الآثار هو العلم، وقد تولد يوم السبت وله

ص: 59


1- أن يكون العلم الإجمالي متأخراً عن الملاقاة والعلم بها، بأن تتحقق الملاقاة أوّلاً ثم يحصل العلم بالملاقاة ثم يتحقق العلم الإجمالي. وهذا هو الفرع الثاني من الصورة الثانية.
2- على مباني القوم مع غض النظر عما قلناه في المبحث الأول.

أطراف ثلاثة، حيث حصل العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى والملاقي أو نجاسة الطرف، فتجري الأصول الترخيصية في الأطراف الثلاثة وتتساقط، فيجب الاجتناب عن جميع الأطراف. فما هو الملاك؟ هل هو العلم أو المعلوم؟

والجواب بنحو عام: الملاك يختلف باختلاف الآثار، فالآثار الشرعية تترتب - عادة - على المعلوم لا العلم؛ لأن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية لا المعلومة، كالطهارة والنجاسة الشرعية، فالنجاسة ترتبط بالملاقاة، سواء أعلم بها أم لا، ولو علم بالنجاسة المتقدمة ترتبت الآثار الشرعية من حين المعلوم لا العلم.

وأما الأحكام العقلية فتترتب - عادة - على العلم، فللعلم آثار عقلية تترتب على وجوده.

وفيما نحن فيه: الأثر عقلي، وهو التنجز فلا يرتبط بالمعلوم، فإنّ العقل يقول: العلم منجز للتكاليف الواقعية، وإلا قبل حدوث العلم لا تنجز عقلاً.

وبعد تمامية الكبرى - لا أقل فيما يرتبط بالمقام - نقول: إنَّ زمان المعلوم - أي ظرف سقوط الدم في أحدهما - لا أثر له عقلاً، فإنه وإن تولد الحكم بالاجتناب واقعاً، إلا أنه حيث لا علم بالسقوط فلا أثر عقلاً، وبعد ذلك تحققت الملاقاة لأحد الإناءين وحصل العلم بها، وهذا أيضاً لا أثر له عقلاً، ثم تولد العلم الإجمالي(1) بسقوط الدم في أحدهما في الزمن السابق، فيتولد علم ثلاثي الأطرف، ففي آن واحد يتحقق العلم بنجاسة الملاقى والملاقي

ص: 60


1- بقيام البينة على ذلك مثلاً.

أو نجاسة الطرف، وحيث قلنا: إنّ التنجز منوط بذات العلم لا المعلوم وجب الاجتناب عن الأطراف الثلاثة.

هذا من جهة ومن جهة أخرى: قد ثبت في مباحث الإستصحاب أنّ جريان الأصول الشرعية منوط بفعلية اليقين والشك وأنّ (لا تنقض اليقين بالشك) يعني الشك واليقين الفعليين لا التقديرين(1). والشك في المقام يكون فعلياً في الأطراف الثلاثة عند العلم الإجمالي، فمعه يتولد الشك الثلاثي الأطراف، فيتحقق موضوع جريان الأصول الترخيصية، فتجري الأصول وتتساقط، ولا يبقى مؤمن للاقتحام في أي طرف، فيلزم الاجتناب عن الملاقي.

الصورة الثالثة

الصورة الثالثة: أن يكون العلم الإجمالي متوسطاً بين الملاقاة والعلم بها، بأن تتحقق الملاقاة في المرحلة الأولى، ثم يتولد العلم الإجمالي، ثم يعلم بالملاقاة المتقدمة، كأن يلاقي الثوب أحد الإناءين يوم الخميس، من دون علم المكلف بالملاقاة، ثم يوم الجمعة يعلم بنجاسة أحد الإناءين يوم الخميس، ثم يوم السبت يعلم بملاقاة الثوب لأحد الإناءين يوم الخميس، فهل يجب الاجتناب عن الملاقي؟

ذهب بعض(2): إلى لزوم الاجتناب عن الملاقي؛ لتبدل العلم الإجمالي الصغير إلى العلم الإجمالي الكبير، وفي انقلاب العلم - سواء أكان علماً إجمالياً أم تفصيلياً - الملاك هو المنقلب إليه لا المنقلب.

ص: 61


1- أجود التقريرات 2: 350؛ نهاية الأفكار 4: 13؛ بحوث في علم الأصول 6: 89.
2- مصباح الأصول 2: 420.

أما كبرى الاستدلال فواضحة، فلو تبدل العلم الإجمالي أو التفصيلي إلى علم آخر انتفى التنجز الثابت بالعلم الأول، حيث لا يعقل بقاء المعلول مع انتفاء العلة، فكيف يبقى أثر العلم مع انتفاء العلم بنفسه؟

وأما ترتيب الأثر على العلم الثاني فلفرض كون العلم علة، فلو حصلت حصل المعلول.

مثلاً: لو علمنا إجمالاً بنجاسة الإناء الصغير أو الكبير، وجب الاجتناب عنهما، فلو تبدل هذا العلم الإجمالي الصغير إلى علم إجمالي كبير، بأن تبين(1) اشتباه العلم الأول، وأنّ النجس إما الكبير أو أحد الإناءين الصغيرين، وجب الاجتناب عن كل الأطراف، وهكذا لو تبدل العلم الإجمالي إلى علم إجمالي آخر، بأن علم إجمالاً بنجاسة الإناء الأول أو الثاني، ثم تبدل إلى العلم بنجاسة الإناء الأول أو الثالث، انتفى أثر العلم الأول، وكان الأثر للثاني.

وهكذا الأمر فيما لو تبدل العلم التفصيلي إلى علم تفصيلي ثانٍ، فإنّ الأثر للمنقلِب إليه لا للمنقلَب.

وأما فيما نحن فيه بعنوان البحث الصغروي، فحينما تولد العلم الإجمالي تولد ثنائي الأطراف، حيث تحقق العلم إجمالاً بنجاسة الإناء الأول أو الثاني، مع عدم العلم بالملاقاة المتقدم، وحين علم بالملاقاة تبدل العلم الإجمالي الصغير إلى العلم الإجمالي الكبير بنجاسة الملاقى والملاقي أو طرف الملاقى، فيتبدل العلم الثنائي الأطراف إلى علم ثلاثي الأطراف،

ص: 62


1- بقيام البينة مثلاً.

فيجب الاجتناب عن الجميع.

لكنه محل إشكال، فهنالك مقولتان: الانقلاب والانضمام، وما ذكر تام في صورة الانقلاب بصوره، والمتحقق في المقام انضمام العلم الإجمالي الثاني إلى العلم الإجمالي الأول، لا انقلاب الأول إلى الثاني.

ففي المرحلة الثانية حين علم بسقوط الدم حصل العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما، وفي المرحلة الثالثة حين علم بالملاقاة في المرحلة الأولى، انضم علم إجمالي جديد إلى العلم الإجمالي السابق، وهو العلم بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى، والعلم الإجمالي الثاني، لا ينسخ العلم الإجمالي الأول. وبما أنّ أحد طرفي العلم الإجمالي الثاني كان منجزاً من قبل، فلا يكون له أثر(1)، فتجري أصالة الطهارة في الملاقي من دون معارض، فلا يجب الاجتناب عنه في الصورة الثالثة.

وبهذا ينتهي الكلام في تنبيه الملاقي.

فرعان

اشارة

ويبقى الكلام في فروع:

الفرع الأول: وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى

ذهب صاحب الكفاية(2) إلى وجود فرض ثالث(3)، وهو وجوب

ص: 63


1- وقد مر الكلام في لزوم الاجتناب عن الملاقي في جميع الصور بالبرهان العقلي والعرفي، وهذه التشقيقات إنما هي على مباني القوم (منه (رحمه اللّه) ).
2- كفاية الأصول: 363.
3- بالإضافة إلى وجوب الاجتناب عن الملاقى دون الملاقي ووجوب الاجتناب عن الملاقى والملاقي معاً في بعض الصور.

الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى، وذكر له موردين:

المورد الأول: لو حصلت الملاقاة وعلم بها، ثم في المرحلة الثانية تولد العلم الإجمالي بوقوع الدم قبل الملاقاة في أحد الإناءين، لكن كان الملاقى خارجاً عن محل الابتلاء حين تولد العلم الإجمالي، كما لو كان قد غصبه شخص، ففي هذه الحالة لا يجري الأصل في الملاقى؛ لعدم تعلق الخطاب بالخارج عن محل الابتلاء، ويجري الأصل في الملاقي وطرف الملاقى، حيث نعلم إجمالاً بنجاسة أحدهما ويتساقط الأصلان، فيجب الاجتناب عنهما، ثم يعود الإناء المغصوب إلى محل الابتلاء، فيشك في طهارته ونجاسته، فيجري فيه أصل الطهارة بلا معارض، فيجب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى.

وبعبارة أخرى: نفس الملاك الموجود في الصورة الأولى محقق في المقام.

لكن أشكل عليه المحقق العراقي(1)، وبيانه مع تصرف فيه هو: أن مبنى الاستدلال عدم جريان الأصل المؤمن في الملاقى الخارج عن محل الابتلاء، لكن المبنى محل إشكال؛ وذلك لأنّ امتناع جريان الأصل المؤمن في الخارج عن محل الابتلاء أنما هو فيما لو لم يكن للجريان أثر فعلي، فيما هو داخل في محل الابتلاء، وأما لو كان له أثر فلا مانع من جريان الأصل في الخارج عن محل الابتلاء.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لوجود الأثر لجريان أصل الطهارة في الإناء

ص: 64


1- نهاية الأفكار 3: 320-321.

المغصوب، وهو طهارة ملاقيه الذي هو داخل في محل الابتلاء، فلا مانع من جريان الأصل المؤمن في الإناء المغصوب، فيجري الأصل في الملاقى وطرفه ويتساقط، ومع رجوع الإناء المغصوب إلى محل الابتلاء يلزم الاجتناب عنه؛ لسقوط الأصل، والأصول الميتة لا تحيا من جديد(1).

ومثاله للتقريب: لو طهر ثوبه بماء ثم خرج الماء عن محل الابتلاء، ثم التفت إلى أن الماء كان نجساً وشك في عروض التطهير عليه(2)، فيستصحب نجاسة الماء، مع أنه خارج عن محل الابتلاء؛ لأن لجريان الأصل أثراً فيما هو في محل الابتلاء.

لكن أورد عليه بشبهة، وهي أنّ فعلية المحمول متفرعة على فعلية الموضوع(3)، فلا يمكن أن تكون فعليته سابقة على فعليته؛ لأنّ الموضوع للمحمول كالعلة للمعلول، ولا يمكن تحقق المعلول قبل العلة، فلا يمكن أن يكون المحمول قبل الموضوع.

وبعبارة أخرى: يوجد عندنا ظرفان: ظرف الملاقاة، وظرف الخروج عن محل الابتلاء، ولا يمكن إجراء الأصل المؤمن بلحاظ ظرف الملاقاة حيث لا شك، وموضوع جريان الأصل هو الشك، والشك متأخر، فكيف تجرى الطهارة المحمولة على الشك بلحاظ ظرف الملاقاة، فهو من تقدم المحمول على الموضوع وهو محال؟

ص: 65


1- وأما الاجتناب عن الملاقي فتابع للصور الثلاث، وينقدح حكمه مما تقدم.
2- كان الماء نجساً يوم الخميس، ويوم الجمعة طهّر ثوبه به، ويوم السبت التفت إلى أن الماء كان نجساً يوم الخميس، لكن لا يعلم أنه هل عرضت عليه الطهارة قبل التطهير أم لا؟
3- مجمع الأفكار 3: 349.

ولو أجري أصل الطهارة بلحاظ ظرف الخروج عن محل الابتلاء، فلا أثر له، فالأمر دائر بين أصل مؤمن لا يعقل جريانه؛ لعدم وجود موضوعه، وأصل مؤمن لا يعقل جريانه؛ لأنه لا أثر له.

والحاصل: إن الأصل لا يجري في الخارج عن محل الابتلاء، وإنما يجري في الملاقي وطرف الملاقى، فيتم ما ذكره صاحب الكفاية.

لكنه قابل للدفع بأنّ الحكم الشرعي متأخر لكن المتعلق متقدم، كما هو الحال في الواجب المعلق، حيث الحكم فعلي والمتعلق استقبالي، فانفك زمان الوجوب عن زمان الواجب.

وما نحن فيه على العكس، حيث الحكم فعلي والمتعلق ماضٍ، فيوم الاثنين حيث يتولد العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو طرفه يتولد الحكم الشرعي المعلول، لكن متعلق الحكم الشرعي هو طهارة يوم الجمعة، يعني ظرف الملاقاة، وأثره طهارة الملاقي.

ويمكن التمثيل له بجريان الاستصحاب، فلو كان هنالك ماء نجس يوم الجمعة، وغسل فيه الثوب يوم السبت غفلة، ثم انعدم الماء، ويوم الأحد تولد الشك في عروض التطهير عليه يوم الجمعة، حتى يحكم بطهارة الثوب، لكن الاستصحاب يقضي ببقاء النجاسة، والأثر بقاء نجاسة الثوب.

فلا يتم ما ذكره صاحب الكفاية، فيلزم الاجتناب عن الملاقى أيضاً؛ لسقوط الأصل المؤمن فيه بالتعارض.

المورد الثاني(1): لو حصل العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي بما هو هو، لا

ص: 66


1- كفاية الأصول: 363.

بما أنه ملاقٍ، ونجاسة الطرف بما هو هو، لا بما أنه طرف، ثم حصل علم إجمالي ثانٍ بنجاسة الملاقى أو الطرف، وعلم بملاقاة الملاقي للملاقى، ففي هذه الحالة يلزم الاجتناب عن الملاقي والطرف، ولا يلزم الاجتناب عن الملاقى، مثلاً: يوم السبت علم إجمالاً بنجاسة الثوب أو الإناء الكبير، فيلزم الاجتناب عنهما. ويوم الأحد علم علماً إجمالياً ثانياً بنجاسة الإناء الكبير أو الصغير في يوم الجمعة، وبحصول الملاقاة بين الثوب والإناء الصغير يوم الجمعة، بحيث لو كان الثوب نجساً في الواقع لكانت نجاسته مستندة إلى ملاقاتها للإناء الصغير، ففي هذه الصورة يلزم الاجتناب عن الثوب والإناء الكبير، ولا يلزم الاجتناب عن الإناء الصغير.

والعلة فيه: إنّ العلم الإجمالي الأول بنجاسة الثوب أو الإناء الكبير نجّز وجوب الاجتناب عن الإناء الكبير، أي طرف الملاقى، ولا يمكن للعلم الإجمالي الثاني تنجيز وجوب الاجتناب عن الإناء الكبير؛ لأنه كان منجزاً من قبل بالعلم الإجمالي الأول، فالعلم الإجمالي الثاني بنجاسة الكبير أو الصغير ليس منجزاً للتكليف على كل تقدير، فتجري أصالة الطهارة في الإناء الصغير(الملاقى) بلا معارض، فلا يجب الاجتناب عنه، وإن وجب الاجتناب عن الثوب (الملاقي).

وأشكل عليه المحقق النائيني(1): بأنّ المدار في العلم الإجمالي هو المعلوم لا العلم، وفي هذا المورد وإن كان زمان العلم بنجاسة الملاقي والطرف متقدماً على زمان العلم بنجاسة الملاقى وطرفه، إلا أنّ رتبة

ص: 67


1- فوائد الأصول 4: 85 .

وجوب الاجتناب عن الملاقى والطرف مقدم على رتبة وجوب الاجتناب عن الملاقي والطرف؛ لأنّ التكليف في الملاقي ناشئٌ من التكليف في الملاقى.

وبناء عليه، لابد من ملاحظة المعلوم لا العلم، وحيث إنَّ رتبة الملاقى مقدمة سقط الأصل في الملاقى وطرفه بالتعارض، وتصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي بلا معارض، فلا يجب الاجتناب عنه، وإن وجب الاجتناب عن الملاقى، على العكس مما ذكره صاحب الكفاية.

لكنه محل تأمل، وقد اتضح الإشكال فيه مما تقدم، فإننا نسلم أنّ الأثر للمعلوم، والعلم طريق في الطهارة و النجاسة، فيترتب الأثر على المعلوم المكشوف بمجرد حصول العلم، ولذا يجب ترتيب الآثار من حين المعلوم لا من حين العلم، لكن في الآثار العقلية - كالتنجز - الأثر للعلم لا للمعلوم.

والمفروض في المقام أنّ العلم الإجمالي الثاني متولد بعد العلم الإجمالي الأول، فتنجز وجوب الاجتناب عن الملاقى حاصل بالعلم الإجمالي الثاني، وحيث إنّ الطرف كان منجزاً بالعلم الإجمالي الأول، فلا يكون العلم الإجمالي الثاني منجزاً للتكليف على كل تقدير، فما ذكره صاحب الكفاية تام.

الفرع الثاني: في اختلاط الإناء المطهر بغيره

لو طهر أحد الإناءين النجسين، ثم اختلط المطهر بغيره، فلا شك في وجوب الاجتناب عنهما للعلم الإجمالي، لكن الكلام في نجاسة ملاقي أحدهما مع فرض تقدم العلم الإجمالي على الملاقاة، أي أننا علمنا بنجاسة

ص: 68

أحدهما وتطهيره ثم حصلت الملاقاة.

فقد فرق بعض العلماء بين مورد الاستصحاب وعدمه، فمع عدمه يحكم بطهارة الملاقي؛ لجريان أصالة الطهارة فيه، وأما مع الاستصحاب فلا بد من استصحاب نجاسة الملاقى، ويكون أثره الشرعي نجاسة الملاقي، ولا مجال لجريان أصالة الطهارة؛ لحكومة الاستصحاب عليها.

وذهب صاحب العروة إلى طهارة ملاقي الشبهة المحصورة(1)، لكن علق عليه بعض المحشين(2) بالتفصيل المذكور، وممن ذهب إليه السيد أبو الحسن الإصفهاني والسيد الحكيم(3).

وهو تام إن كان الملاك المخالفة العملية، ولكن لو كان المبنى - كما ذهب إليه جمع(4)، ومنهم السيد الوالد(5) - أنّ العلم الإجمالي ينافي جريان الأصول، وإن لم يؤد إلى المخالفة العملية فلا يتم.

وبعبارة أخرى: نفس وجود العلم الإجمالي مانع عن جريان الأصول، ف- (كل شيء لك طاهر) و (لا تنقض اليقين بالشك) منصرف عن صورة وجود العلم الإجمالي، فمع العلم بطهارة أحدهما كيف تستصحب نجاستهما؟ فلا يجري الاستصحاب في الإناءين. وعليه، يشك في نجاسة الملاقي ويحكم عليه بالطهارة.

ص: 69


1- العروة الوثقى 1: 114.
2- العروة الوثقى 1: 114.
3- العروة الوثقى 1: 114.
4- منتقى الأصول 4: 126.
5- الوصائل 9: 26.

والحاصل: إنه لا فرق بين كون الإناءين مستصحبي النجاسة أو الطهارة، أو بلا حالة سابقة أو تعاقبت الأحوال، ففي كلها يحكم بالملاقي الطهارة.

التنبيه الخامس: تنجيز العلم الإجمالي للواقع في الأمور التدريجية

هل أنَّ العلم الإجمالي ينجز الواقع في الأمور التدريجية، كتنجيزه للأمور الدفعية أم لا؟

ولمعرفة محل الكلام ومورد النقض والابرام لا بد من بيان صور المسألة:

الصورة الأولى: أن تكون أطراف العلم الإجمالي مورداً للاحتياط في نفسها، مع قطع النظر عن العلم الإجمالي، كما لو علم بأنه يبتلى بالمعاملة الربوية في ضمن معاملاته، ولكنه يجهلها لجهله بالأحكام، فقد ورد في الحديث الشريف: «من اتجر بغير علم ارتطم في الربا ثم ارتطم»(1) وهنا لا بد له من الاحتياط في كل واقعة مع قطع النظر عن العلم الإجمالي؛ لوجوب الفحص في الشبهات الحكمية، وعدم جريان الأصول المؤمنة فيها، وإن كانت الشبهة بدوية، فكيف إذا كانت مقرونة بالعلم الإجمالي؟ وهذه الصورة خارجة عن محل الكلام.

الصورة الثانية: أن تكون تدريجية أطراف العلم الإجمالي مستندة إلى اختيار المكلف، مع تمكنه من الجمع بين الأطراف المعلومة بالإجمال، كأن يعلم بغصبية أحد الثوبين وأراد لبسهما متدرجاً في عمود الزمان، ولا شك أن العلم الإجمالي منجز، ويجب الاجتناب عن الجميع؛ لأنه علم بالتكليف ويمكنه المخالفة القطعية والموافقة القطعية، فالاحتياط واجب، وهذه

ص: 70


1- الكافي 5: 154.

الصورة أيضاً خارجة عن محل الكلام.

الصورة الثالثة: أن تكون التدريجية مستندة إلى عدم تمكن المكلف من الجمع بين الأطراف، لكن يمكن ارتكاب كل واحد من الأطراف على سبيل البدل، بأن يرتكب الأول مع ترك الثاني أو بالعكس، كأن يعلم بحرمة أحد الضدين اللذين لهما ثالث، وربما أكثر موارد العلم الإجمالي من هذا القبيل، وهذه الصورة أيضاً خارجة عن محل الكلام؛ لأن العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي محقق، ويسقط الأصل في الأطراف كلها بالمعارضة.

الصورة الرابعة: أن تكون التدريجية مستندة لتقيد أحد الأطراف بالزمان أو الزمان المتأخر، والتكليف فعلي على كل تقدير، أي سواء أكان المعلوم بالإجمال متعلقاً بالمتقدم أم بالمتأخر، فالتكليف موجود بالفعل(1).

كمن نذر أن يقرأ دعاء كميل إما هذه الجمعة أو الجمعة القادمة، وقلنا بتولد الوجوب مع النذر، ولو على نحو الوجوب التعليقي، فالوجوب فعلي وإن كان الواجب استقبالياً. وعليه، يجب امتثال هذا التكليف الفعلي، فيجب عليه الدعاء مرتين، وهذه الصورة خارجة عن محل الكلام أيضاً.

ولا شك أن العلم الإجمالي منجز للتكليف في الصور الأربع، بل في الصورة الأولى الاحتمال منجز للتكليف أيضاً، وإنما الكلام في:

الصورة الخامسة: أن يكون التكليف على أحد التقديرين فعلياً(2)، وعلى التقدير الآخر استقبالياً، كما في المرأة المستمرة الدم، حيث تعلم بأنها حائض

ص: 71


1- في مقابل الاستقبالي.
2- مقابل الاستقبالي.

سبعة أيام في الشهر، لكنها لا تعلم هل تولد الخطاب في اليوم الأول، أو أنه سيتولد في اليوم الثامن؟ وهكذا فالأمر دائر بين التكليف الفعلي على تقدير، دون تقدير، فهل هذا العلم الإجمالي منجز للتكليف أم لا(1)؟

وفي المقام أقوال ثلاثة:

القول الأول: لصاحب الكفاية(2)، حيث ذهب إلى إمكان الرجوع إلى الأصل المؤمن في كل واقعة.

القول الثاني: للمحقق النائيني(3)، حيث ذهب إلى عدم جواز الرجوع إلى الأصل مطلقاً، ووجوب الاجتناب طول الشهر.

القول الثالث: للشيخ الأعظم(4)، حيث ذهب إلى التفصيل، فيجب الاجتناب عن جميع الأطراف فيما لو كان الملاك فعلياً، ولو لم يكن الملاك فعلياً لم يجب الاجتناب عن كل الأطراف.

أدلة منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات

اشارة

وقد أقيمت أدلة على منجزية العلم الإجمالي في المقام، وهي:

الدليل الأول: ما ذكره في النهاية

ما في النهاية حيث قال: «والتحقيق إمكان الفرق بين المقدمات

ص: 72


1- حيث إن شكت في التكليف فلا يكون منجزاً، فيحق الاقتحام في اليوم الأول إلى السابع، ثم يكون الأمر كذلك إلى آخر الشهر، وتكون النتيجة حصول العلم بمخالفة المولى في نهاية الشهر، وهو غير محرم، وإنما المحرم المخالفة بلا مؤمن.
2- كفاية الأصول: 359.
3- أجود التقريرات 2: 248.
4- فرائد الأصول 2: 186.

الوجودية(1) والمقدمة العلمية بعدم وجوب المقدمة الوجودية؛ لترشحه من وجوب ذيها، ولا وجوب لذيها فعلاً، ولزوم المقدمة العلمية عقلاً؛ لأنه أثر العلم بالتكليف لا أثر التكليف بنفسه»(2).

بيانه: هنالك فرق بين المقدمة الوجوبية والمقدمة العلمية، حيث لا تجب الأولى بخلاف الثانية، فإنّ وجوب المقدمة العلمية أثر العلم بالتكليف لا أثر التكليف، والعلم بالتكليف في الأمور التدريجية حاصل، وفيما نحن فيه المقدمة علمية، فإنّ الاجتناب عن المستمرة الدم في كل الشهر مقدمة علمية لاجتناب الحرام الواقعي، فيجب الاجتناب عنها طول الشهر.

إلا أنّ الكلام إلى هذا الحد مبهم، وتوضيحه ضمن مقدمات:

المقدمة الأولى: قال (رحمه اللّه) : «إنّ مقتضى العلم الإجمالي بالتكليف - إما في الحال أو في الاستقبال مع بقائه على شرائط الفعلية والتنجز في ظرفه - هو وصول كل من التكليفين المحتملين وصولاً إجماليا»(3)، فإنّ متعلق العلم الإجمالي بالتكليف إما حالي أو استقبالي، ومع تحقق العلم يكون ذلك

ص: 73


1- كذا في الأصل، لكن الصحيح المقدمة الوجوبية لا الوجودية؛ للزوم المقدمة الوجودية دون الوجوبية، فالمقدمة الوجودية كالطهارة للصلاة، وهي واجبة قطعاً، أما مقدمة الوجوب فلا يجب تحصيلها، كتحصيل النصاب ليتحقق الخطاب بوجوب الزكاة؛ لأنَّ وجوب الزكاة أنما يتولد مع توفر النصاب، فالخطاب متفرع على وجود النصاب وهو معدوم في ظرف عدم ملكية النعم، فكيف يكون الخطاب المعدوم ملزماً لتحصيل النصاب؟ والحاصل أن الوجوب ترشحي ومع عدم وجود المرشح منه لا يعقل أن يترشح الوجوب منه إلى المقدمات (منه (رحمه اللّه) ).
2- نهاية الدراية 2: 593.
3- نهاية الدراية 2: 593.

التكليف الحالي أو الاستقبالي واصلاً إلى المكلف ومنكشفاً له.

المقدمة الثانية: «وهو كافٍ في فعلية الواصل في موطنه»(1)، ففعلية التكليف بوصوله، فإنّ وصول التكليف الواقعي مساوق لفعلية ذاك التكليف في موطنه، حيث إن التكليف ينتقل من مرحلة الاقتضاء والإنشاء إلى مرحلة الفعلية بالوصول، فالتكليف الفعلي هو التكليف الواصل، ومع هذا العلم الإجمالي يكون التكليف واصلاً للمكلف.

المقدمة الثالثة: «فيعلم إجمالاً أنّ مخالفة هذا التكليف الحالي في الحال، أو مخالفة ذلك التكليف الاستقبالي في الاستقبال موجبة لاستحقاق العقاب»(2).

فلو صار التكليف فعلياً بمقتضى المقدمة الثانية كانت مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب، فإنه مع فعلية التكليف يعلم المكلف أن التكليف لو كان حالياً كانت مخالفته في ظرف الحال موجبة لاستحقاق العقاب، ولو كان التكليف استقبالياً كانت مخالفته في ظرف الاستقبال موجبة لاستحقاق العقاب، فلو خالف المكلف في الموطنين قطع بمخالفة التكليف الفعلي، ولو خالف في أحدهما فهي مخالفة احتمالية، ومخالفة التكليف الفعلي - سواء أكانت مخالفة قطعية أم احتمالية - غير جائزة.

المقدمة الرابعة: «كما لا يتوقف لزوم المقدمة العلمية ودفع العقاب المحتمل على أزيد من احتمال العقاب»(3)، فإنّ ملاك لزوم المقدمة العلمية

ص: 74


1- نهاية الدراية 2: 593.
2- نهاية الدراية 2: 593.
3- نهاية الدراية 2: 593.

عند العقل هو احتمال العقاب، مثلاً: لو اشتبهت القبلة بين أطراف أربعة، ففي كل طرف يوجد احتمال التكليف، وترك كل طرف ترك احتمالي للتكليف الفعلي، فيحكم العقل - بغض النظر عن الدليل الخاص - بوجوب الصلاة إلى جميع الأطراف؛ لأنّ ترك تمام الأطراف مخالفة قطعية للتكليف الفعلي، وترك أحدها مخالفة احتمالية له، وهما محرمان، فتجب المقدمة العلمية بالصلاة إلى الجهات الأربعة لامتثال التكليف الواقعي.

وهذه مقدمات أربع ذكرها في النهاية لإثبات منجزية العلم الإجمالي.

وترد في المقام شبهة، وهي أنّ للعلم - سواء كان إجمالياً أم تفصيلياً - مرحلتين: مرحلة الحدوث ومرحلة البقاء، وفعلية التكليف الاستقبالي معلول للعلم بوجوده البقائي لا الحدوثي، بدليل أنه لو تولد العلم ثم زال في موطن التكليف لم يكن منجزاً.

مثلاً: لو علم بصدور الأمر في شوال بالوقوف في عرفات؛ لحصول جميع المقدمات، فهو علم بالتكليف الاستقبالي في موطنه، فذهب إلى عرفات فُصدَّ، لم يكن التكليف منجزاً، فإنّ تنجز التكليف في ظرفه مشروط ببقاء العلم إلى ظرف التكليف، ولا يكفي العلم الحدوثي في ذلك، بمعنى أنه لو زال العلم أو عرض الشك الساري لم يكن التنجيز ثابتاً، وعليه فالفعلية مشروطة ببقاء العلم، وصرف الحدوث ليس كافياً لتنجيز التكليف في موطنه الاستقبالي.

لو تم المطلب فنقول: إنّ التكليف لو كان استقبالياً في الواقع، فمع العلم لا يصير منجزاً من الآن، بل في ظرفه؛ لأنّ منجز التكليف في ظرفه بقاء العلم لا حدوثه، وعليه، فالمكلف الذي يعلم إجمالاً أنّ المرأة تحرم عليه

ص: 75

إما في هذا الأسبوع أو الأسبوع التالي لم يكن علمه بالتكليف منجزاً على كل تقدير، بل على تقدير دون تقدير، وشرط تنجيز العلم الإجمالي هو كونه علماً بالتكليف المنجز على كل تقدير، لا على تقدير دون تقدير.

والحاصل: إنّ المقدمة الثانية غير تامة، حيث لا يكفي العلم الحدوثي في فعلية التكليف، بل بقاؤه موجب للفعلية في موطن التكليف، فما ذكر في النهاية لا يفي بإثبات المدعى.

الدليل الثاني: ما ذكره السيد الخوئي

ما ذكر في المصباح، قال: «من استقلال العقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه بتعجيز النفس قبل مجيء وقته، كاستقلاله بقبح تعجيز النفس عن امتثال التكليف الفعلي، ولا فرق في قبح التفويت بين كونه مستنداً إلى العبد كما تقدم، وبين كونه مستنداً إلى المولى بترخيصه في ارتكاب الطرف المبتلى به فعلاً، وترخيصه في ارتكاب الطرف الآخر في ظرف الابتلاء»(1).

لكنه بحاجة إلى تأمل، ويبدو للنظر أن الكبرى التي ذكرها تامة، لكنها لا تنطبق على صغرى المقام، فإن تفويت الملاك الملزم قبيح، سواء أكان الملاك فعلياً أم استقبالياً.

مثلاً: لو علم العبد أن ابن المولى سيغرق بعد دقائق، فلا يحق له أن يعجّز نفسه عن الإنقاذ بأن يتلف الحبل، فإن تفويت الملاك المستقبلي قبيح، وهكذا لا يحق له النوم قبل طلوع الفجر مع علمه بفوت الصلاة في وقتها.

لكن لا دليل على قبح العلم بتفويت الملاك الملزم، والمفروض في

ص: 76


1- مصباح الأصول 2: 371-372.

المقام الشك في وجود الملاك الملزم، فالمرأة المستمرة الدم تشك في أنّ الأسبوع الأول حيض أو الثاني، ففي الأسبوع الأول تشك هل أنَّ دخول المسجد تفويت للملاك المولوي الملزم أم لا؟ فتجري البراءة، وهكذا في الأسبوع الثاني. نعم، بعد دخول المسجد في الأسبوعين تعلم بتفويت الملاك، ولا دليل على حرمة العلم بتفويت الملاك، كما هو الحال في العلم بارتكاب الحرام.

وقد ناقشه بعض تلامذته(1) بأنّ تفويت الملاك ليس قبيحاً، حيث قال: العبد مكلف بالأوامر والنواهي المولوية، وليس مكلفاً بتحصيل الملاكات الواقعية المولوية.

لكنه محل تأمل، فإنَّ العقل يحكم بقبح تفويت الملاك، سواء أكان فعلياً أم استقبالياً، كما لو غرق ابن المولى وهو نائم لا يمكنه الأمر بالإنقاذ، فالأمر العقلي موجود، ولا يلزم صدور الأمر المولوي، ولا فرق في ذلك بين كون المولى نائماً أو مستيقظاً، قادراً على الأمر أو لا؛ وذلك لوجود الأمر العقلي.

والحاصل: إنّ التأمل فيما ذكره صغروي لا كبروي.

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق العراقي

ما ذكره المحقق العراقي، حيث قال: «مع العلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين يحكم العقل بلزوم الإتيان بالطرف الفعلي، مع حفظ القدرة على الطرف الآخر في موطنه»(2).

ص: 77


1- محاضرات في أصول الفقه 2: 375.
2- نهاية الأفكار 3: 323.

بيانه: إنّ المعضل في العلم الإجمالي في التدريجيات هو وجود الأمر الطولي، فيكمن الحل في إثبات وجود أمرين عرضيين فعليين يعلم إجمالاً بأحدهما، ولا شك في أنه منجز للطرفين، فلو كان المتعلق الفعلي واجباً أمر المولى بالإتيان به، ولو تعلق الوجوب المولوي بالمستقبل فيتولد منه أمر فعلي بوجوب حفظ القدرة لإتيان الواجب في ظرفه، فيكون فعلياً، فالمكلف في الأمور التدريجية يعلم أنّ المولى أمره إما بالإتيان بهذا الفعلي، أو حفظ القدرة للاستقبالي، وهما أمران فعليان، يعلم بأحدهما على نحو الإجمال، فيكون العلم منجزاً للطرفين: الفعلي والاستقبالي.

والحاصل: إنّ مآل العلم الإجمالي بالتدريجيات هو العلم الإجمالي بالدفعيات.

وقد أورد عليه بإشكالين:

الإشكال الأول: إنَّ وجوب حفظ القدرة حكم عقلي(1)، وهذا الحكم العقلي فرع تنجز التكليف الشرعي، فلا بد أن يكون التكليف الشرعي منجزاً في رتبة سابقة، حتى يجب حفظ القدرة له، ولا منجز للمقام إلا العلم الإجمالي التدريجي، فلو كان هذا العلم كافياً لتنجيز الطرفين فلا حاجة لفرض العلم الإجمالي الدفعي، ولو لم يكن هذا العلم الإجمالي التدريجي منجزاً فلا يتولد العلم الإجمالي الدفعي.

لكنه مبنائي، فإنّ المحقق العراقي يرى وجوب حفظ القدرة للتكاليف الاستقبالية، وتفصيل المبنى سلباً أو إيجاباً يرتبط ببحث المقدمات المفوتة

ص: 78


1- بحوث في علم الأصول 5: 269.

من مباحث مقدمة الواجب، وذكر في موارد متعددة من الفقه أيضاً، منها في بحث إراقة الماء قبل الوقت، فمع القول بوجوب حفظ القدرة لم يجز إراقة الماء، وإلا جاز، وقد قال السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه: «لكن المشهور جواز الإراقة، والإبطال قبل الوقت»(1).

الاشكال الثاني: إنّ مقتضى العلم الإجمالي الدفعي تنجز الطرفين الفعليين، بمعنى أنه يجب على المكلف مع تحقق العلم الدفعي الإتيان بالواجب الفعلي، وحفظ القدرة للواجب الاستقبالي، ولا يتكفل هذا العلم الإجمالي الدفعي حرمة تفويت الواجب الاستقبالي في ظرفه.

لكنه محل تأمل؛ لأنّ حفظ القدرة طريقي لا موضوعي، فلو وجب حفظ القدرة وجب الواجب الاستقبالي.

الدليل الرابع: عدم الفرق في منجزية العلم الإجمالي بين الأمور الدفعية والتدريجية

أنه في نظر العقلاء لا فرق في منجزية العلم الإجمالي بين الأمور الدفعية والتدريجية، وقد ذكرنا سابقاً أنّ طرق الطاعة والمعصية عقلائية، كما هو الحال في الأغراض الشخصية، فلو علم أنَّ هناك سماً في أحد الإناءين، أو أن طعام اليوم أو الغد مسموم، حكم العقل والعقلاء بوجوب الاجتناب عنهما.

والحاصل: لا يرى العقلاء فرقاً بين الدفعيات والتدريجيات في عدم جريان الأصول الترخيصية المؤمنة في الأطراف للانصراف؛ ولذا يكون

ص: 79


1- الفقه 16: 68.

العلم الإجمالي في التدريجيات منجزاً للتكليف في الطرفين.

التنبيه السادس: كون الأثر في طرف أكثر من الطرف الآخر

فيما لو كان الأثر في بعض أطراف العلم الإجمالي أكثر من الأثر في الطرف الآخر.

وفي المقام صورتان:

الصورة الأولى: أن لا يكون بين الطرفين قدر مشترك جامع كأن يعلم إجمالاً أنه نذر، إما أن يقرأ زيارة وارث أو زيارة عاشوراء، فيكون الأمر دائراً بين الطويل والقصير، ولا يوجد جامع مشترك - فرضاً - بين المتعلقين، والحكم هو وجوب الإتيان بالطرفين للعلم الإجمالي الدائر بين المتباينين .

لكن لا بد من استثناء صورة واحدة من هذه القاعدة، وهي ما لو كان الدوران في الأمور المالية، كما لو شك أنه نذر أن يعطي عشرة دنانير لزيد أو خمسة لعمرو، فهو علم إجمالي مردد بين الأقل والأكثر(1)، والطويل والقصير ولا جامع بينهما؛ لأنهما من المتباينين، ويكون مقتضى العدل والإنصاف التنصيف، بأن يعطي نصف الخمسة ونصف العشرة.

وقد أشار الفقهاء إلى هذه القاعدة في موارد عديدة، منها: ما ذكره صاحب العروة، حيث قال: «إذا كان حق الغير في ذمته لا في عين ماله فلا محل للخمس، وحينئذ فإن علم جنسه ومقداره ولم يعلم صاحبه أصلاً، أو علم في عدد غير محصور تصدق به عنه بإذن الحاكم، أو يدفعه إليه، وإن

ص: 80


1- بلحاظ المالية لا المال.

كان في عدد محصور ففيه الوجوه المذكورة، والأقوى هنا أيضاً الأخير، وإن علم جنسه ولم يعلم مقداره بأن تردد بين الأقل والأكثر أخذ بالأقل المتيقن، ودفعه إلى مالكه إن كان معلوماً بعينه، وإن كان معلوماً في عدد محصور فحكمه كما ذكر، وإن كان معلوماً في غير المحصور أو لم يكن علم إجمالي أيضاً تصدق به عن المالك بإذن الحاكم أو يدفعه إليه، وإن لم يعلم جنسه وكان قيمياً فحكمه كصورة العلم بالجنس، إذ يرجع إلى القيمة، ويتردد فيها بين الأقل والأكثر، وإن كان مثلياً(1) ففي وجوب الاحتياط وعدمه وجهان»(2).

وعلق عليه السيد الوالد (رحمه اللّه) (3): والأوجه إعمال قاعدة العدل والإنصاف، بأن يعطي النصف من كل واحد منهما.

الصورة الثانية: أن يكون بين طرفي العلم الإجمالي أثر مشتركٌ، وأثرٌ مختص بأحد الطرفين دون الآخر، فهل العلم الإجمالي ينجز تمام الآثار أو خصوص الأثر المشترك؟

وقد مثل له المحقق النائيني(4)، بما لو سقطت قطرة الدم إما في الماء المطلق القليل أو المضاف، فالأثر المشترك بينهما هو حرمة الشرب، والأثر

ص: 81


1- فلم يعلم أنه مديون لزيد بحنطة أو شعير، وإنما قيده بكونه مثلياً؛ لأنه لو كان قيمياً لانحل العلم الإجمالي إلى الأقل والأكثر بلحاظ نفسه، كما لو شك أنه مديون بخمسة أو عشرة، فالعلم الإجمالي منحل بالعلم بالأقل والشك في الأكثر، فتجري البراءة.
2- العروة الوثقى 4: 261-262.
3- الفقه 33: 210.
4- فوائد الأصول 4: 70-71.

المختص بالماء المطلق هو عدم جواز الوضوء فيما لو وقع الدم فيه، وأما المضاف فلم يصح الوضوء به من قبل.

ويرى المحقق النائيني أنّ الأصول تتعارض بلحاظ الأثر المشترك وتتساقط، لكنها تجري بلا معارضة في الأثر المختص، وتكون النتيجة حرمة شرب الماء المطلق وجواز التوضي به.

وفي المقام إشكالات ثلاثة:

الإشكال الأول: ما في المصباح(1)، من أن العلم الإجمالي ينجز جميع الآثار، لا خصوص الأثر المشترك؛ لأنه مع سقوط الأصل في الأثر المشترك يسقط الأثر المختص أيضاً.

توضيحه: لا بد من إحراز شرط الطهارة بالعلم الوجداني أو التعبدي، ولا محرز في المقام؛ لطهارة الماء المطلق بالوجدان، وهو واضح، ولا بالتعبد، حيث إنه سلم بسقوط أصل الطهارة في الماء المطلق بالمعارضة، فكيف يصح التوضؤ به؟!

وهذا الإشكال تام، لكنه إشكال على خصوص هذا المثال، فلا ينفي الكبرى التي ذكرها المحقق، وهي تساقط الأصول في الأثر المشترك، وجريانها في الأثر المختص.

الإشكال الثاني ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في الأصول: «إن الأثر الواحد يعارض الأثرين، كالشهود الأقل في طرف ونحوه»(2).

ص: 82


1- مصباح الأصول 2: 267.
2- الأصول: 766.

بيانه: لو قام شاهدان على النجاسة وأربعة على الطهارة، فيسقط الجميع بالمعارضة، ولا يقال بسقوط الاثنين من الطرفين وبقاء الاثنين بلا معارضة، وكذلك لو ورد خبران على حكم وخبر واحد على خلافه، فإنّ الخبر الواحد يعارض الخبرين فيسقط الجميع.

كذلك في المقام، فإنّ الأثر الواحد - وهو جواز شرب الماء المضاف - معارض لأثرين أو أصلين، هما شرب الماء المطلق، وجواز الوضوء به، فتتساقط الأصول الثلاثة بالمعارضة.

ويمكن تقريره بهذا النحو: في الواقع يوجد عندنا علمان إجماليان: الأول: العلم بحرمة شرب الماء المطلق، أو حرمة شرب الماء المضاف، والثاني: العلم بحرمة شرب الماء المضاف، أو عدم جواز الوضوء بالماء المطلق، ومقتضى العلم الإجمالي الثاني سقوط الأثر المختص. ولا أولوية لملاحظة العلم الإجمالي الأول في الرتبة الأولى، وإسقاط الأصول في الأطراف، ثم الحكم بجواز الوضوء بالماء المطلق؛ لأن العلمين عرضيان، ومقتضاه سقوط الأصول في جميع الآثار.

مثال آخر ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في بعض مباحث الفقه(1): لو علم إجمالاً أنه نذر صوم أول رجب أو اليومين الأولين من شعبان، فلا يمكن القول بأنّ صوم اليوم الأول معلوم، سواء أكان منذوره رجب أم شعبان، واليوم الثاني مشكوك فتجري البراءة؛ وذلك لتحقق علمين إجماليين، الأول: العلم بوجوب صوم اليوم الأول من رجب، أو صوم اليوم الأول من شعبان،

ص: 83


1- الفقه 5: 48.

الثاني: العلم بوجوب صوم اليوم الثاني من شعبان، أو صوم اليوم الأول من رجب، وهذا العلم الإجمالي الثاني وجداني(1)، فيكون منجزاً، فيجب عليه الصوم ثلاثة أيام.

والظاهر أنّ هذا الإشكال تام.

الإشكال الثالث: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) أيضاً، قال: «مضافاً إلى التلازم بين الساقط والباقي فيكون مثله»(2).

لكنه محل تأمل؛ لأنّ هذا التلازم واقعي، والبحث في التفكيك الظاهري، فلا شك في عدم التفكيك - واقعاً - بين جواز الوضوء والشرب، مع الحكم بطهارة الماء، فإنه إن لم يقع الدم فيه جاز شربه والوضوء به، وإن وقع لم يجوزا، لكن لا إشكال في التفكيك في مرحلة الظاهر، كمَنْ اعترف بالسرقة مرة واحدة، حيث يسترد منه المسروق ولا تقطع يده، وكالصلاة تماماً وقصراً في منطقة واحدة، حيث يشك أنها حد الترخص أم لا، فيصلي تماماً حينما يخرج من مدينته، ويصلي قصراً حينما يعود، وكالحكم بصحة النكاح من طرف الزوج، حيث يرى صحة العقد بالفارسية، وبطلانه من طرف الزوجة حيث لا ترى الصحة، مع أنّ العقد متقوم بالطرفين، وكمن يعلم بأنه مدين لزيد بمقدار من الحنطة أو الشعير، حيث يلزم أن يعطي النصف من كل منهما؛ مع أنه لم يؤد التكليف الواقعي قطعاً، وكالحكم بنجاسة اليد التي غسلت بالماء المشكوك كريته، مع الحكم ببقاء طهارة

ص: 84


1- ويدل على كونه علماً إجمالياً كلمة (أو) في الترديد (منه (رحمه اللّه) ).
2- الأصول: 766.

الماء، إلى غيرها من الأمثلة.

ولا يخفى أنّ ما ذكر في الصورة الثانية أنما هو في صورة تعدد الموضوع، كمثال الإناءين، أما لو كان الموضوع واحداً وكان الإجمال في السبب، كأن يعلم أنه مديون لزيد إما بعشرة دنانير اقترضها، أو عشرين ديناراً أتلفها، فالحكم هو جريان البراءة عن الزائد، فإنه وإن كان العلم المتعلق بالسبب علماً بالمتباينين قرضاً أو إتلافاً، إلا أنّ المسبب الداخل في عهدة المكلف يدور أمره بين الأقل والأكثر، فتجري البراءة عن الأكثر، سواء أكانا استقلاليين أم ارتباطيين.

ويستثنى من هذا الكلي صورة واحدة، وهي: فيما لو تحقق أصل موضوعي حاكم على أصل البراءة فلا تجري، وهو واضح.

وقد مثل له بمثال(1)، وهو لو علم إجمالاً بملاقاة الثوب للبول أو الدم، فيشك في وجوب غسل الثوب مرة واحدة أو مرتين، فمقتضى الرفع(2)

عدم وجوب الغسلة الثانية، لكنه محكوم باستصحاب النجاسة بعد غسله مرة، فمقتضى (لا تنقض) بقاء نجاسة الثوب، ومن الواضح حكومة الاستصحاب على البراءة، فيلزم غسله مرة ثانية.

لكن في المثال المذكور إشكالات:

الإشكال الأول: إنَّ وجوب المرة الواحدة معلوم وغيرها مشكوك، فإنّ الأمر في المقام دائر بين مقطوع الارتفاع ومشكوك الحدوث، فلو كان

ص: 85


1- الفقه 5: 47.
2- أي حديث «رفع عن أمتي مالا يعلمون».

أصابه الدم فالنجاسة مقطوعة الارتفاع بعد الغسلة الأولى، ولو كان أصابه البول فالنجاسة باقية، لكن إصابة البول مشكوكة الحدوث، فالركن الأول مختل في أحد الفردين، والركن الثاني مختل في الفرد الثاني.

لكنه واضح الاندفاع؛ لأنّ المقام من قبيل الاستصحاب الكلي من القسم الثاني، وقد ذكروا أنه وإن كان أحد الفردين مقطوع الارتفاع والثاني مشكوك الحدوث، إلا أنّ الاستصحاب جارٍ في الكلي دون الفرد، كما في مثال البق والفيل، حيث يستصحب كلي الحيوان، والأركان تامة، وفي المقام كذلك، فلا تستصحب النجاسة البولية ولا الدمية، بل يستصحب طبيعي النجاسة.

الإشكال الثاني: ما ذكره بعض المتقدمين والمعاصرين(1)، من أنه لا موضوع لأصالة البراءة؛ إذ لا وجوب تكليفي كي يرفع بها.

لكنه محل تأمل؛ لصحة جريان أصالة البراءة في الوجوب الشرطي، فإنه وإن لم يكن لطهارة الثوب وجوبٌ شرعيٌ نفسيٌ، إلا أنه واجب بالوجوب الشرطي، حيث يشترط طهارته فيما يشترط فيه الطهارة، فقد ورد في بعض الروايات: «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه»(2) فيشك هل قال المولى: اغسله مرة ثانية أم لا؟ فلا محذور من جريان الرفع في موارد الوجوب الشرطي.

الإشكال الثالث: ما ذكره بعض المعاصرين(3)

من أنّ استصحاب النجاسة

ص: 86


1- فوائد الأصول 3: 448؛ نهاية الأفكار 4: 76؛ المباحث الأصولية 4: 105.
2- الكافي3: 57.
3- بداية الوصول 8: 163.

بعد الغسلة الأولى معارض باستصحاب عدم جعل الزائد، فجعل النجاسة إلى الغسلة الأولى متيقن، لكن جعلها بعد الثانية مشكوك، فيتعارض جريان الأصل في طرف الجعل مع جريانه في طرف المجعول، فيتعارضان ويتساقطان، فتصل النوبة إلى أصالة الطهارة.

لكنه غير واضح؛ لأنّ مسألة تعارض الجعل والمجعول - على فرض تماميتها - أنما هي في الأحكام الكلية، كما في صلاة الجمعة، فيتعارض الاستصحاب في طرفي الجعل والمجعول، فإنّ استصحاب وجوب صلاة الجمعة في عهد الغيبة معارض باستصحاب عدم جعل الشارع الوجوب أكثر من زمن الحضور.

وأما في الأحكام الجزئية، فلا جعل أصلاً(1)، وإلا حصل التعارض في جميع موارد الاستصحاب، مثلاً: لو شك في تحقق النوم بعد الوضوء فمقتضى استصحاب الطهارة بقاؤها، لكن يشك هل أنَّ الشارع جعل الطهارة لما بعد الخفقة والخفقتين؟ والأصل عدم الجعل الواسع، فيتعارض الجعل والمجعول، فلا يحكم ببقائها، وهكذا في جميع موارد الاستصحاب في الأحكام الجزئية، ولم يلتزم به أحد فيما نعلم.

نعم، لو كان الجزئي مجعولاً بالذات - كما لو تمتع بامرأة وشك أنه كان لشهر أو شهرين - أمكن فرض تعارض الجعل والمجعول بعد انقضاء الشهر الأول، فإن مقتضى استصحاب بقاء علقة الزوجية هو بقاء النكاح، ومقتضى

ص: 87


1- فإن الشارع يجعل الأحكام على العناوين الكلية، وإن كانت بما هي مرآة لأفرادها الخارجية.

أصالة عدم الجعل الزائد عدمه.

والحاصل: إنّ تعارض الجعل والمجعول أنما هو في الشبهة الحكمية لا الموضوعية، التي مَنشؤها اختلاط الأمور الخارجية.

الإشكال الرابع: إنّ أصل عدم ملاقاة الثوب للدم غير جارٍ؛ لعدم الأثر فيه، فإنه لو أريد إثبات وجوب الغسل مرتين فهو مثبت، ولو أريد نفي وجوب الغسل مرة واحدة فهو غير صحيح؛ لأن الغسل مرة واحدة مقطوع، ولا يجري الأصل في الآثار المقطوعة، فإن مورده الشك.

والحاصل: إنّ أصالة عدم ملاقاة الثوب للدم لا يعارض أصالة عدم ملاقاته للبول(1)، أو أصالة عدم بولية الملاقي(2)؛ لأنه لا أثر له، فيبقى في المقام أصل واحد، إما أصل نعتي أو عدم أزلي.

وبعد ذلك نضم العلم الوجداني - المتحقق من العمومات الدالة على حصول الطهارة بالغسل مرة واحدة، إلا في البول(3) - إلى العلم التعبدي المتحقق من الأصل، وهو عدم ملاقاته للبول.

وتكون النتيجة تحقق موضوع العام بضميمة الوجدان إلى الأصل، فيكشف عن كونه ملاقياً للنجاسة غير البول، فيكفي غسله مرة واحدة على خلاف ما أفتى به صاحب العروة(4).

ص: 88


1- وهو استصحاب نعتي.
2- وهو عدم أزلي.
3- هذه العمومات مستفادة وثابتة في الفقه، كموثقة عمار «ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء» فهو مطلق يشمل الغسل مرة.
4- العروة الوثقى 1: 167-168.

وهذا الإشكال بحاجة إلى مزيد من الدقة لتماميته ظاهراً، واللّه العالم بحقيقة الحال.

التنبيه السابع: في شرط تنجيز العلم الإجمالي

لا شك في أن شرط تنجيز العلم الإجمالي هو تحقق الأثر العملي الفعلي لجريان الأصل المؤمن في كل طرف، أما مع عدمه فلا يجري الأصل في الطرف الذي لا أثر له، ويجري في ذي الأثر بلا معارض، فيسقط العلم الإجمالي عن التنجيز.

لكن الكلام في انطباق هذه الكبرى الكلية على صغرى معينة، وهي صورة الامتناع الشرعي، فهل هو كالامتناع العقلي في عدم تحقق الأثر(1)؟

ذهب السيد الخوئي(2) إلى أنّ الامتناع الشرعي كالامتناع العقلي، وأنّ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً، ومثل لذلك بما لو كان هنالك إناءان: أحدهما مغصوب بالعلم التفصيلي، ثم علم إجمالاً بسقوط الدم في أحدهما، فإنّ الإناء المغصوب ممتنع شرعاً، سواء أسقط فيه الدم أم لا، وحيث إنّ وزان الامتناع الشرعي وزان الامتناع العقلي فلا يجري الأصل فيه، ويجري الأصل في الإناء المباح بلا معارض، فيحكم بجواز شربه.

لكن لا دليل على الكبرى التي ذكرها(3)، حيث يبدو للنظر التفصيل في

ص: 89


1- لو كان أحد الطرفين ممتنعاً بالامتناع العقلي فلا يجري الأصل فيه؛ لعدم الأثر، كما لو تولد العلم الإجمالي بعد انعدام أحد الإناءين، حيث لا أثر لجريان الأصل المؤمن فيه، فيجري في الإناء الآخر بلا معارض، ويفقد العلم الإجمالي التنجيز (منه (رحمه اللّه) ).
2- مصباح الأصول 2: 401، 554.
3- وهي حمل جميع آثار الامتناع العقلي على الامتناع الشرعي.

المقام، فلو كان التكليف الثاني المعلوم بالإجمال مسانخاً في الآثار مع التكليف الأول الموجب للامتناع الشرعي تمت الكبرى المذكورة، أما لو لم يكن مسانخاً فلا.

والمثال المذكور لا يخلو من تأمل، فإنّ الآثار غير متسانخة؛ وذلك لأنّ أثر التكليف الأول المولد للمنع الشرعي هو وجوب الاجتناب عن المغصوب، أما أثر التكليف الثاني المعلوم بالإجمال فهو وجوب الاجتناب عن ملاقيه، وهو أثر جديد، فلو سقط الدم في المغصوب قال: المولى اجتنب ملاقيه، وهذا التكليف معقول، سواء أعلق على المقدمة الاختيارية أم غير الاختيارية، كما لو قال: إن اتفق ملاقاتك للماء المغصوب غفلة فاجتنب عن هذا الملاقي، كما يمكن أن يعلق على المقدمة الاختيارية على نحو الترتب، كأن يقول: لا تلمس الماء المغصوب، فإن عصيت ولمسته فاجتنب عن ملاقيه، فوقوع الدم مولد لتكليف غير مسانخ للتكليف الأول، فيكون العلم الإجمالي مولداً للتكليف على كل تقدير، فيمكن جريان أصل الطهارة في الإناء المغصوب بلحاظ هذه الآثار، ويمكن جريانه في المباح بلحاظ أثره، فيجري الأصل في الطرفين ويتعارضان ويتساقطان، فيجب الاجتناب عن كلا الإناءين.

نعم، لو كان التكليف المعلوم بالإجمال مسانخاً في الآثار مع التكليف الأول المولد للامتناع الشرعي، فلا يكون للعلم الإجمالي أثر، كما لو وقع الدم في الإناء الأول فيمتنع شرعاً، ثم علم إجمالاً بملامسة الكافر لأحد الإناءين، فهذا العلم ليس مؤثراً؛ لأن التكليف الجديد مسانخ للأثر مع

ص: 90

التكليف الأول، فلا يجري أصل الطهارة في الإناء الأول؛ لعدم الأثر فيه؛ لأنه واجب الاجتناب، سواء جرى أصل الطهارة فيه أم لم يجرِ، ويجري الأصل في الإناء الثاني بلا معارض، وبعبارة أخرى: العلم الإجمالي ليس منجزاً للتكليف على كل تقدير؛ لأنه لو وقع في الإناء الأول لم يكن له أثر، ولو وقع في الثاني كان مولداً للتكليف، فالعلم الإجمالي إما كاشف عن التكليف أو لا، فليس علماً بالتكليف الفعلي على كل تقدير.

والخلاصة: لا يمكن القول: إنَّ الامتناع الشرعي كالعقلي يوجب انتفاء منجزية العلم الإجمالي في كل الموارد.

مثال أخر، لكنه بحاجة إلى تأمل: شاتان إحداهما مغصوبة بالعلم التفصيلي ثم علم إجمالاً بوطء الإنسان لإحداهما، فعلى ما ذكره السيد الخوئي تكون الثانية مباحة؛ لجريان أصالة الإباحة أو أصالة عدم وقوع الوطء فيها بلا معارض، أما المغصوب فهو ممتنع شرعاً على كل تقدير، سواء أوقع عليه الوطء أم لا، فلا أثر للعلم الإجمالي، لكنه غير تام على ما ذكرناه، فإنّ مقتضى العلم الإجمالي الاجتناب حتى عن المباح، فإنّ من آثار وقوع الوطء على الشاة وجوب إحراقه، وهو أثر جديد غير أثر الغصب، فلا مانع من جريان الأصول وتعارضها وتساقطها.

التنبيه الثامن: في كون أطراف العلم الإجمالي طولية

لو كانت أطراف العلم الإجمالي طولية، بمعنى أنّ تولد التكليف في أحد الطرفين متفرع على انتفاء التكليف في الطرف الآخر، فهل يكون منجزاً أم لا؟

ص: 91

مثاله: لو علم إجمالاً بنجاسة الماء أو التراب، فإنّ التكليف بالطهارة الترابية مترتب على انتفاء التكليف بالطهارة المائية، فالتكليفان أحدهما في طول الآخر لا في العرض، فهل تجري أصالة الطهارة في الطرفين ويتساقطان، أم يجري في الماء فقط؟ وهل النتيجة وجوب الطرفين أم الوجوب المتقدم أو الوجوب المتأخر؟

توجد احتمالات ثلاثة، والظاهر في بادئ النظر أنه لا توجد قاعدة عامة في المقام، بل الأمر يختلف باختلاف المقامات.

وللتوضيح نذكر أمثلة ثلاثة بعنوان مسائل التمرين على تطبيقات العلم الإجمالي.

المسألة الأولى: لو علم المكلف بنجاسة الماء أو التراب مع انحصار الطهور فيهما، فله صورتان.

الصورة الأولى: أن لا يكون لجريان أصالة الطهارة في التراب أثر شرعيٌ إلا جواز التيمم به، فالحكم هو جريان الأصل في الماء دون التراب، فيجب الوضوء؛ وذلك لعدم تحقق أثر في جريان الأصل في التراب إلا جواز التيمم، والمفروض أنه متوقف على فقدان الماء الطاهر، وهو موجود بضميمة الوجدان إلى الأصل، حيث إنه ماء بالوجدان، وطاهر بالأصل العملي ذي الأثر.

وبعبارة أخرى وبنحو كلي: لوكان عندنا أصل مشروط وأصل مطلق جرى الأصل المطلق دون الأصل المشروط، الذي يتوقف جريانه على عدم جريان الأصل المطلق، وفي المقام كذلك، فإنّ جريان أصالة الطهارة في

ص: 92

الماء مطلق، أما جريان الأصل في التراب فهو متوقف على عدم جريانه في الماء؛ لأنه مع جريانه في الماء وجبت الطهارة المائية على المكلف، سواء أكان التراب نجساً أم طاهراً، فالوظيفة على كل حال الوضوء، فلا أثر لإثبات طهارة التراب إلا في صورة عدم جريان أصالة الطهارة في الماء، والمفروض أنه لا مانع من جريان أصالة الطهارة في الماء، فيجري بلا معارض.

والنتيجة جريان الأصل في المتقدم.

الصورة الثانية: أن يكون لجريان الأصل في التراب أثر عرضيٌ غير الأثر الطولي، كما لو ترتب - مع جريان أصل الطهارة في التراب - جواز السجود عليه. فالأصل يجري في الطرفين، ويكون أثر الأصل في الماء جواز الوضوء به، وأثر الأصل في التراب هو جواز السجود عليه، ولا طولية بين الأثرين، فيتعارضان ويتساقطان، فتكون الوظيفة الجمع بين الوضوء والتيمم؛ وذلك لأنّ المكلف يعلم إجمالاً بوجوب أحدهما، ولا تحصل البراءة اليقينية من التكليف المتولد في الواقع إلا بالجمع.

وهنا إشكالات ثلاثة:

الإشكال الأول: إنَّ الوضوء أو التيمم تشريع وهو حرام.

لكنه واضح الاندفاع؛ لأنّ الاحتياط ضد التشريع، فإن التشريع إدخال ما ليس من الدين في الدين بعنوان أنه من الدين، أما الاحتياط فهو الإتيان بالشيء برجاء أن يكون من الدين فهو ضد التشريع.

الإشكال الثاني: بعد التوضُّؤ يكون ملاقياً لأطراف العلم الإجمالي، فيحتمل نجاسة بدنه.

ص: 93

لكنه مندفع على مباني القوم(1) بجريان أصالة الطهارة في الملاقي، فيجري الاستصحاب بعد الشك في النجاسة.

الإشكال الثالث: تحقق ملاك موثقة سماعة: «يهريقهما ويتيمم»(2) في المقام.

والجواب عنه بالفرق بين المقامين، حيث لا بدل في المقام، بخلاف مورد الموثقة.

تنويه: لا بد من تقديم التيمم على الوضوء، فإنه لو توضّأ علم تفصيلاً ببطلان التيمم اللاحق؛ لأنه لو كان الماء نجساً تنجست أعضاؤه، ويشترط في التيمم طهارة الأعضاء، ولو كان التراب نجساً كان التيمم به باطلاً، فيكون التيمم باطلاً في الصورتين، بخلاف ما إذا تيمم أولاً فلا يتولد العلم التفصيلي، وتحصل البراءة اليقينية من التكليف اليقيني المتولد في الواقع.

المسألة الثانية: لو حصل العلم الإجمالي بغصبية الماء أو التراب مع فرض انحصار الطهور(3)، فما هي الوظيفة؟

قال البعض(4): إنَّ الوظيفة التخيير بين الوضوء والتيمم، ووجهه أنّ للعلم

ص: 94


1- فوائد الأصول 4: 81-82؛ نهاية الأفكار 3: 355، 362؛ منتهى الأصول 2: 273.
2- الاستبصار 1: 21.
3- هذه المسألة من مسائل دوران الأمر بين المحذورين، حيث يحتمل في الماء الوجوب لو كان في الواقع مباحاً، ويحتمل الحرمة لو كان مغصوباً، وهكذا في التراب، ففي استعمال كل واحد منهما يدور الأمر بين الوجوب والحرمة (منه (رحمه اللّه) ).
4- نهاية الأفكار 3: 439؛ مباحث الأصول 3: 196؛ دراسات في علم الأصول 3: 403؛ مصباح الأصول 2: 403.

الإجمالي مرتبتين: الموافقة القطعية، والموافقة الاحتمالية، والأولى لازمة بحكم العقل مع الإمكان، ومع عدمه يتنزل العقل من وجوبها إلى وجوب الثانية.

وفي المقام لا يمكن الموافقة القطعية إلاّ مع المخالفة القطعية؛ لأنه لو جمع بين الطهارتين وافق الأمر بالتطهر قطعاً، وخالف النهي عن الغصب قطعاً، ولو ترك استعمالهما وافق النهي قطعاً وخالف الأمر قطعاً.

وعليه، لا يمكن الموافقة القطعية إلا مع المخالفة القطعية، ولا يمكن المخالفة القطعية إلا مع الموافقة القطعية، فيتنزل العقل من الأمر بالموافقة القطعية إلى الأمر بالموافقة الاحتمالية، بأن يتوضّأ أو يتيمم، ولا يترجح أحدهما على الآخر؛ لأنّ جريان الأصل في رتبة واحدة فيهما، ولا تقديم لأحدهما، فإن نسبة دليل النهي عن الغصب، والأمر بالتطهر إلى الماء والتراب نسبة متساوية، وجريان أصل الإباحة في الماء والتراب على نسق واحد، فتكون النتيجة التخيير.

ويرد عليه إشكالان مبنائي وبنائي:

الإشكال الأول: يلزم تقديم محتمل الأهمية، أو مقطوعها في الدوران بين المحذورين، فيقدم حق الناس على حق اللّه على المشهور، وامتثال الأمر الاحتمالي في الوضوء حق اللّه، وامتثال النهي الاحتمالي حق الناس. وعليه، في الوضوء يحتمل استيفاء حق اللّه مع احتمال تضييع حق الناس، فيجب عليه ترك الوضوء والتيمم، ويكون حكمه حكم فاقد الطهورين.

وقد أفتى بذلك جمع كبير من الفقهاء، منهم: المحقق النائيني والمحقق العراقي والسيد أبو الحسن الإصفهاني، والسيد البروجردي وصاحب العروة

ص: 95

والسيد الحكيم والسيد الوالد وغيرهم(1).

الإشكال الثاني: مع فرض كون المكلف مخيراً بين الوضوء والتيمم، فإنّ التخيير يساوي التعيين؛ لأنه واجد لماء يجوز استعماله.

ولا يخفى أنّ لهذه المسألة فرعين كالمسألة الأولى.

المسألة الثالثة: لو علم المكلف إجمالاً بوجوب الحج أو أداء الدين، فهما تكليفان طوليان، فوجوب الحج متوقف على عدم وجوب أداء الدين، ولو كان أداء الدين واجباً لكان المكلف فاقداً للاستطاعة الشرعية، والظاهر أنّ الحكم - واللّه العالم - هو أصل عدم الدين أو عدم وجوب أداء الدين.

إن قلت: يعارضه أصل عدم وجوب الحج.

قلت: لا تعارض، حيث إنّ وجوب الحج مسببي، ومع وجود الأصل السببي لا تصل النوبة إلى جريان الأصل المسببي، فلماذا يشك في وجوب الحج؟ للشك في وجوب أداء الدين، فيجري أصل عدم وجود الدين، أو عدم وجوب وفائه، فينقح موضوع وجوب الحج، فيجب عليه الحج.

والحاصل: إنّه يختلف الأمر باختلاف الموارد في الطولية بين متعلق العلم الإجمالي، فقد تكون الوظيفة تقديم المتقدم أو الجمع أو التخيير، كما في المصباح(2)، أو تقديم المتأخر.

التنبيه التاسع: في انحلال العلم الإجمالي

اشارة

فيما لو علم بوجود إلزام مردد بين طرفين، ثم علم تفصيلاً بثبوت الإلزام

ص: 96


1- العروة الوثقى 2: 201.
2- مصباح الأصول 2: 3، 418.

في أحدهما المعين، فهل يكون العلم التفصيلي اللاحق سبباً لانحلال العلم الإجمالي السابق أم لا؟

وفي المقام صورتان:

الصورة الأولى: العلم بانطباق المعلوم بالتفصيل على المعلوم بالإجمال، كما لو علم بسقوط الدم في أحد الإناءين، وبعد الفحص وجده في الإناء الأول، فالمعلوم بالتفصيل معلوم الانطباق على المعلوم بالإجمال، وفي هذه الصورة لا شك في انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي اللاحق.

ولا فرق في ذلك بين انكشاف الواقع بالقطع أو بقيام الأمارة؛ لأنّ العلم التعبدي كالعلم الوجداني، فينحل العلم الإجمالي من دون فرق بين كون العلم التفصيلي اللاحق وجدانياً أو تعبدياً، ولا حاجة للبحث في هذه الصورة لوضوحها، وإنما الكلام في الصورة الثانية.

الصورة الثانية: احتمال الانطباق، بأن يحتمل انطباق المعلوم التفصيلي اللاحق على المعلوم بالإجمال السابق، فهل صرف الاحتمال موجب لانحلال العلم الإجمالي؟

ولهذا البحث آثار كثيرة، منها: في إثبات حجية الخبر الواحد، حيث قالوا: هنالك علوم إجمالية ثلاثة(1):

الأول: العلم الإجمالي الكبير، وأطرافه تمام الشبهات، ومنشؤه العلم بأنّ الشارع لم يترك المكلفين سدى، ولم يخلقهم عبثاً.

الثاني: العلم الإجمالي الصغير، حيث نعلم بوجود تكاليف في موارد قيام

ص: 97


1- مصباح الأصول 2: 204.

الأمارات، من الشهرة وإلاجماع المنقول والخبر الواحد وما أشبه، ومنشؤه العلم بمطابقة بعضها للواقع، فلا يعقل أن يكون كلها خطأ.

الثالث: العلم الإجمالي الأصغر، وأطرافه أخبار الآحاد، ومنشؤه العلم بصدور بعضها عن المعصومين (عليهم السلام) .

فالكبير ينحل إلى الصغير؛ لاحتمال انطباقه عليه، والصغير ينحل إلى الأصغر؛ لاحتمال انطباقه عليه، ولذا لا نعلم بوجود أحكام إلزامية خارج الدائرة المذكورة، فإنه مع العلم الإجمالي الثالث يتحول الأمر إلى العلم بوجود أحكام إلزامية في دائرة الأخبار، والشك البدوي في ثبوت إلزام خارجها.

ومثال ما نحن فيه: لو قامت البينة على نجاسة أحد الإناءين، ولم يتبيّن منشأ النجاسة، ثم عثر على الدم في الإناء الأول، حيث يحتمل انطباق المعلوم بالتفصيل على المعلوم بالإجمال، مع احتمال كون منشأ حكم البينة بالنجاسة ملاقاة الكافر لا الدم، فهل العلم التفصيلي بوجود الدم كافٍ في انحلال العلم الإجمالي، والحكم بطهارة الإناء الثاني أم لا؟

أدلة انحلال العلم الإجمالي

اشارة

وقد ذكرت لإثبات انحلال العلم الإجمالي باحتمال انطباق المعلوم التفصيلي اللاحق على العلم الإجمالي السابق عدة أدلة:

الدليل الأول

ما ذكره المحقق النائيني في الفوائد(1) ببيان مقدمات(2):

ص: 98


1- فوائد الأصول 4: 38.
2- بيان المقدمات من السيد الاستاذ (رحمه اللّه) تحليلاً لكلام المحقق النائيني وإن لم يبينه المحقق النائيني بهذا الترتيب.

المقدمة الأولى: إنَّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية في فرض تعارض الأصول النافية، أما لو كان في طرف من أطراف العلم الإجمالي أصلٌ أو أماراة، أو علمٌ مثبتٌ للتكليف، فلا يدع ذلك مجالاً للأصل النافي، فيجري الأصل النافي في الطرف الثاني بلا معارض.

المقدمة الثانية: لو تحقق العلم أو الأمارة أو الأصل المثبت في طرف، فبعد ثبوت التكليف فيه لا يكون للعلم الإجمالي أثر؛ لجريان الأصل النافي في الطرف الثاني بلا معارض، مثلاً: لو علم نجاسة الإناء الأول بالعلم الوجداني أو البينة أو الاستصحاب، ثم تولد العلم الإجمالي بوقوع الدم في أحدهما، فلا أثر لهذا العلم الإجمالي؛ لأنّ التكليف ثابت في الطرف الأول، فلا يجري فيه الأصل النافي، ويجري في الطرف الثاني بلا معارض، فيجوز الاقتحام فيه؛ لأنه شك في التكليف.

المقدمة الثالثة: وزان العلم التفصيلي اللاحق وزان العلم التفصيلي السابق، لوحدة الملاك، فكلاهما يوجبان انحلال العلم الإجمالي؛ لعدم تعارض الأصول.

ويرد عليه إشكالان:

الأول: نقضاً: فيما لو فقد أحد الأطراف بعد تولد العلم الإجمالي، فهل يلتزم المحقق النائيني (رحمه اللّه) بجريان الأصل المؤمن في الثاني بلا معارض؟ ولا فارق بين المقامين.

الثاني: حلاً: فإن الأصل النافي للتكليف لا يجري في الطرف الثاني أيضاً؛ لأنّ المقام من مقامات تردد العلم الإجمالي بين الطويل والقصير في

ص: 99

موضوعين، وفي التردد المذكور لا تجري الأصول النافية.

بيانه إجمالاً: لتردد المعلوم بالإجمال بين الطويل والقصير حالتان:

الأولى: أن يكون التردد في موضوع واحد، فينحل العلم الإجمالي إلى الأقل المتيقن والأكثر المشكوك، كما لو قال المولى: اجلس في هذا المكان، ولم يعلم أنه قال ساعة أو ساعتين، فيؤخذ بالمتيقن وتجري البراءة في الأكثر المشكوك، وهكذا في مثال الشك في القنوت.

الثانية: أن يكون التردد في موضوعين، كما لو علم وجوب صوم اليوم الأول من شهر رجب، أو اليومين من شعبان، حيث يعلم إجمالاً بوجوب القصير أو الطويل؛ فمقتضى العلم الإجمالي وجوب الطرفين، ولا تجري الأصول النافية في أي طرف لتساقطها بالمعارضة.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأننا نعلم إجمالاً بوجوب الاجتناب عن الطرف الأول إلى قبل مرحلة العلم التفصيلي، أو الطرف الثاني إلى آخر الآباد، ومقتضاه تنجيز الطرفين.

وبتقرير آخر: تارة يكون التبدل في ناحية العلم فيصبح العلم الإجمالي فاقد الأثر، كالشك الساري، وتارة يكون في ناحية المعلوم فيبقى العلم الإجمالي على تنجزه، والعثور على الدم في الإناء من قبيل الثاني.

الدليل الثاني

ما ذكره المحقق النائيني في الفوائد.

وحاصله: افتقاد شرط منجزية العلم الإجمالي في المقام، وهو تحقق العلم بحدوث التكليف الفعلي على كل تقدير، ولا فرق في ذلك بين العلم

ص: 100

الإجمالي السابق واللاحق؛ لأن العبرة بالمعلوم لا بالعلم، فالمهم أن يكون المعلوم بالتفصيل سابقاً، أما أن يكون العلم التفصيلي أو الإجمالي سابقاً أو لاحقاً فلا أثر له.

قال: «العلم الإجمالي الحادث مما لا أثر له، لسبق التكليف بوجوب الاجتناب عن بعض أطرافه، ويحتمل أن يكون متعلق الحادث هو الذي كان يجب الاجتناب عنه سابقاً، ومعه لا يعلم بحدوث تكليف فعلي آخر»(1).

ثم قال في بيان عدم وجود الفرق بين العلم الإجمالي السابق واللاحق: «مجرد حدوث العلم الإجمالي بالتكليف في زمان لا يكفي في التأثير في وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف، بل يعتبر أيضاً بقاؤه على صفة حدوثه، وإذا تبدل العلم وانقلب عن كونه علماً بالتكليف؛ لاحتمال سبق التكليف عليه - كما في الأمثلة المتقدمة - فلا محالة ينحل ويسقط عن التأثير قهراً؛ إذ لم يعتبر العلم الإجمالي بما أنه صفة قائمة في نفس العالم؛ لعدم أخذه موضوعاً في أدلة التكليف، بل إنما اعتبر لأجل كونه طريقاً إلى متعلقه وكاشفاً عنه»(2).

وما ذكره واضح جداً في صورة سبق العلم التفصيلي على العلم الإجمالي، بأن سقط الدم في الإناء الأول ثم قامت البينة على نجاسة أحد الإناءين، فيقال: إنّ مشهود البينة لو كان وقوع الدم في الإناء الأول، فلا

ص: 101


1- فوائد الأصول 4: 37-38.
2- فوائد الأصول 4: 40.

يكون العلم الإجمالي علماً بالتكليف الفعلي؛ لأنه كان قائماً من قبل، وإن كانت شهادة بوقوع الدم في الثاني فيتولد التكليف الفعلي، وحيث لا يعلم حقيقة المشهود به، هل هو وقوع الدم في الإناء الأول أو الثاني، فلا يعلم أنّ قيام البينة مولد للتكليف الفعلي أم لا؟ فهو شك في التكليف ومجراه البراءة.

والمثال الأوضح لذلك: ما إذا علم نجاسة الإناء الأول، ثم علم بوقوع الدم إما في الإناء الأول أو الثاني، فإنه لا أثر للعلم الإجمالي؛ لأنه ليس علماً بالتكليف الفعلي على كل تقدير، بل على تقدير دون تقدير.

ولا فرق في ذلك بين العلم التفصيلي السابق أو اللاحق، حيث لم يؤخذ العلم بما هو صفة في موضوعات الأحكام، بل بما هو كاشف عن الواقع فلا ينظر إليه، بل النظر إلى المعلوم فإنه الملاك، وفيما نحن فيه: العلم التفصيلي متأخر عن العلم الإجمالي مع تقدم المعلوم.

وأشكل عليه المحقق العراقي (رحمه اللّه) ، حيث قال: «ولو لم يعلم بحدوث التكليف حينه(1)، بشهادة أنه لو حدث مثل هذا العلم مع احتمال سبق التكليف بلا علم به، فإنه يتنجز بلا شبهة، مع أنه يصدق بعدم العلم بحدوث تكليف جديد، فعنوان العلم بحدوث التكليف لغو في المقام، وتمام المدار على العلم بوجود تكليف حين وجوده»(2).

توضيحه: في المقام عنوانان: الأول: العلم بحدوث التكليف حين

ص: 102


1- حين العلم الإجمالي، فلا يلزم العلم بحدوث التكليف حينه.
2- فوائد الأصول 4: 38 (الهامش).

حدوث العلم الإجمالي، والثاني: العلم بوجوده حين حدوثه، وملاك منجزية العلم الإجمالي هو الثاني، ويدل عليه: أنه لو علم علماً إجمالياً بنجاسة أحد الإناءين، واحتمل نجاسة أحدهما من قبل، فالعلم الإجمالي منجز للتكليف مع عدم العلم بحدوث التكليف؛ لاحتمال وقوع الدم في الإناء الذي كان نجساً من قبل، فلا يعلم بحدوث التكليف حين حدوث العلم الإجمالي، وإنما يعلم بوجوده في متن الواقع حينه، سواء أكان حادثاً أم قديماً، وهذا مما عليه العقلاء، حيث يرون أنَّ الملاك في المنجزية وجود التكليف لا حدوثه، فلا مدخلية للقدم والحدوث في منجزية العلم الإجمالي، فإن الملاك وجود التكليف، وهو محقق في المقام.

لكنه غير تام في بادئ النظر، فإنا نسلم أن الملاك في منجزية العلم الإجمالي هو العلم بوجود التكليف، لكنه غير متحقق في المقام، فإنّ المحقق النائيني يرى أنَّ الملاك في المنجزية المعلوم لا العلم، والمحقق العراقي لم يتطرق لرد ما ذكره، فلا يكون كلامه تاماً.

ويتبين ذلك بملاحظة العلم التفصيلي فيما إذا تقدم على العلم الإجمالي، فلو علم تفصيلاً بنجاسة الإناء الأول، ثم طرأ العلم الإجمالي، فلا يكون ذلك علماً بوجود التكليف؛ لأنّ ملاك العلم الإجمالي هو تشكيل منفصلة مانعة الخلو، بأن يقال: إما هذا الإناء نجس أو ذاك، ومع سبق العلم التفصيلي تتشكل قضيتان حمليتان، إحداهما متيقنة والأخرى مشكوكة، فيقال: هذا الإناء نجس قطعاً، والثاني نجس احتمالاً، ومع تشكيل قضيتين حمليتين لا ينعقد العلم الإجمالي، فإنّ قوامه بالقضية المنفصلة المانعة الخلو. وعليه: لا

ص: 103

يمكن القول بتحقق العلم الإجمالي بوجود التكليف، حيث إنه لا يوجد علم إجمالي لا بحدوث التكليف ولا بوجوده، هذا في صورة سبق العلم التفصيلي، وكذلك الأمر مع لحوقه؛ لبناء البرهان على عدم موضوعية العلم، وإنما هو طريق إلى الواقع، والملاك هو الواقع، فلا فرق بين العلم التفصيلي السابق واللاحق، فإنّ المهم في الانحلال أن يكون المعلوم التفصيلي سابقاً، وإن كان العلم تفصيلي لاحقاً.

والحاصل: إنّ الشرط الذي ذكره المحقق العراقي، وهو العلم بوجود التكليف(1)، ليس محققاً في المقام، فلا ينحل العلم الإجمالي.

فالأولى في الجواب أن يقال: لا نسلم أنّ العلم طريقي، بل موضوعي؛ لما سبق بيانه. وإجماله: إنّ الآثار لو كانت آثار الواقع كان العلم طريقياً، وتترتب الآثار من حين المعلوم لا العلم، كما لو علم بنجاسة الثوب من الجمعة الماضية، فإنّ آثار النجاسة تترتب على المعلوم، وأما الآثار العقلية، كالإطاعة والعصيان والتنجز وما أشبه، فهي آثار العلم، وتترتب من حينه، ولا يعقل ترتبها من حين المعلوم، حيث لا يعقل تقدم الأثر على المؤثر.

وفيما نحن فيه، يحكم العقل بوجوب الاجتناب عن طرفي العلم الإجمالي مهما كان شرط التنجز، حتى لو سلمنا أنّ الشرط هو العلم بالوجود، فلو علم إجمالاً بوجود التكليف بين الإناءين، ثم علم بنجاسة أحدهما تفصيلاً، فكيف ينحل العلم الإجمالي الأول مع أنه واجد للشرط؟ فإنّ البرهان الذي ذكره المحقق النائيني لا يفي للانحلال، مع ملاحظة ما

ص: 104


1- فوائد الأصول 4: 38 (الهامش).

ذكرناه من أنّ العلم طريقي لا موضوعي.

الدليل الثالث

ما ذكره المحقق العراقي(1)، من أنه يشترط في المنجزية أن يكون العلم الإجمالي صالحاً للتنجيز بنحو الاستقلال في كل طرف من أطرافه، ويخرج عن الاستقلالية مع قيام المنجز التفصيلي، سواء أكان علماً وجدانياً أم أمارة معتبرة، أم أصلاً مثبتاً للتكليف، ومع خروجه عن الاستقلال يسقط تنجيزه، وعليه يمكن إجراء الأصل المؤمن في الطرف الثاني.

لكنه غير واضح، حيث لا دليل على شرطية الاستقلال في التنجيز، لا في خصوص العلم الإجمالي، ولا في سائر الأمارات المعتبرة، أما في سائر الأمارات المعتبرة فالأمر واضح، فلو كان هنالك دليلان اجتهاديان على حرمة العصير العنبي المغلي، فلا يكونان مستقلين في المنجزية، بل كل واحد منهما جزء العلة - حسب القانون العام من انقلاب كل علة إلى جزء العلة مع الاجتماع على معلول واحد - فلا يشترط الاستقلال في المؤثرية في تنجيز سائر الأدلة الاجتهادية.

وأما في خصوص العلم الإجمالي، فلو تحقق علمان إجماليان، وكان لهما طرف مشترك، بأن علم إجمالاً بنجاسة الإناء الأول أو الثاني، وعلم إجمالاً بنجاسة الإناء الثاني أو الثالث، ففي الطرف المشترك يكون كل واحد من العلمين الإجماليين جزءاً من العلة لمنجزية وجوب الاجتناب.

ص: 105


1- تنقيح الأصول: 74.
الدليل الرابع

ما يستفاد من ثنايا كلام المحقق النائيني(1)، ولكلامه ثلاثة مقاطع ترتبط بالعلم التفصيلي، ثم الأمارة المعتبرة، ثم الأصل المثبت للتكليف.

المقطع الأول: العلم الإجمالي ينحل تكويناً(2) بواسطة العلم التفصيلي اللاحق، ومع الانحلال التكويني لا يبقى علم إجمالي حتى يكون منجزاً؛ وذلك كالعلم التفصيلي حيث إن تنجيزه منوط ببقائه.

بيانه: لو كان مقوم العلم الإجمالي وحقيقته التعلق بالجامع مع الشك في الطرفين، فهو منتف في المقام للعلم تفصيلاً، بنجاسة الإناء الأول للعثور على الدم فيه، فلا تنطبق الضابطة عليه، حيث لا شك في الطرفين، فيكون العلم الإجمالي منتفياً تكويناً.

ولو كان مقومه العلم بالفرد المردد فلا ترديد بالمقام، للعلم بالخصوصية في الإناء الأول على نحو التعيين.

لكنه محل تأمل، فتارة يلاحظ طبيعي النجاسة، وتارة النجاسة المستندة إلى المعلوم بالإجمال، وفي المقام لم ينحل العلم الإجمالي بالنجاسة المستندة، سواء اختير التعريف الأول للعلم الإجمالي أم الثاني أم غيرهما، فلا زال العلم بالجامع والشك في الطرفين موجوداً بالنسبة إلى النجاسة المعلومة بالإجمال، حتى بعد طروء العلم التفصيلي، حيث لا يعلم بكون النجاسة المستندة هل هي في الإناء الأول أو الثاني؟ فلم ينحل العلم

ص: 106


1- أجود التقريرات 2: 245-249.
2- أي ينعدم.

الإجمالي تكويناً، وكذا لو فسر العلم الإجمالي بالفرد المردد، فإنّ الترديد باق؛ وذلك لأن النجاسة المستندة إلى قطرة الدم المعلوم بالإجمال إما في هذا الإناء أو ذاك، وكذا لو فسر بتفسير ثالث، وهو الترديد عند العالم.

المقطع الثاني: إنّ الأمارة المعتبرة التفصيلية تحل العلم الإجمالي أيضاً، فلو أخبرت البينة بوجود الدم في الإناء الأول انحل العلم الإجمالي السابق؛ وذلك «لأنّ دليل الاعتبار يقتضي تنزيل الأمارة منزلة العلم، فيترتب عليها جميع آثاره ومنها الانحلال»(1).

لكنه محل تأمل، فإنّ للعلم الوجداني ثلاثة أنواع من الأثر، الأول: الآثار الشرعية والجعلية والعملية، الثاني: الآثار العقلية كالمنجزية، الثالث: اللوازم التكوينية، حيث قد تكون هنالك آثار تعبدية، كاطمئنان النفس، كما أنه لو علم سلامة ابنه من الغرق، فهذا الانكشاف للواقع يسبب له الاطمئنان.

ودليل اعتبار الأمارة يقتضي ترتيب النوعين الأولين من آثار العلم على الأمارة دون الثالث؛ لأنها آثار تكوينة منوطة بالعلل التكوينة، فإنّ دليل (صدّق العادل) لا يقتضي اطمئنان النفس، فلو نذر التصدق إن اطمئن باله على حياة ولده لم يجب عليه التصدق مع إخبار الثقة بذلك إذا لم يطمئن باله.

وفيما نحن فيه من آثار العلم التفصيلي التكويني انحلال العلم الإجمالي، ولا يترتب هذا الأثر على الأمارة بدليل اعتبارها.

المقطع الثالث: لو تحقق العلم التفصيلي بالأصل المثبت للتكليف: «فيجري الأصل النافي في الطرف الآخر من العلم الإجمالي الثاني بلا

ص: 107


1- منتقى الأصول 5: 91.

معارض»(1).

لكنه محل تأمل أيضاً، ويظهر وجه التأمل مما ذكر في الدليل الأول والثاني من أدلة الانحلال.

فما ذكره المحقق النائيني محل تأمل، سواء أكان اللاحق علماً وجدانياً أم تبعدياً أم أصلاً مثبتاً.

الدليل الخامس

ما في النهاية(2) من أن الأمارة المتأخرة توجب انحلال العلم الإجمالي المتقدم؛ لأن وجودها الواقعي(3) يوجب تنجز الواقع بها، ولو لم تكن واصلة بعد، فقيام الأمارة يكشف عن وجود المنجز لأحد الأطراف من السابق، فإن الأمارة تتنجز بكونها في معرض الوصول لا بالوصول، أي إمكانها منجز للتكليف لا فعليتها، وإنما الوصول اللاحق كاشف عن تنجز الحكم سابقاً، فالظفر بالأمارة ظفر بالمنجز، لا أنه قوام تنجيزها للحكم الواقعي، ولذا وجب الفحص، ولو توقف تنجز الحكم الواقعي على الوصول لجاز الاقتحام قبل الفحص، مع أنه غير جائز قطعاً. هذه هي الصغرى.

وأما الكبرى: فلا يصلح العلم الإجمالي السابق للتنجيز؛ لتنجز الطرف الذي قامت عليه الأمارة اللاحقة قبل العلم الإجمالي؛ لأنّ الأمارة كانت في معرض الوصول، وبصرف ذلك تحقق التنجز، فلا صلاحية للعلم الإجمالي

ص: 108


1- مصباح الأصول 2: 363.
2- نهاية الدراية 2: 485.
3- أي وجود الأمارة في متن الواقع.

المتقدم أن ينجزه؛ لأنّ المنجز لا ينجز، فيسقط عن التنجيز كلا.

لكن إشكل عليه بخمسة إشكالات:

الإشكال الأول: إنما يتم ما ذكره في الأمارة التفصيلية اللاحقة دون العلم التفصيلي اللاحق؛ لأنّ منجزية العلم التفصيلي من حين العلم لا قبله، وبناءً عليه يتنجز الطرفان مع وجود العلم الإجمالي السابق، ولا أثر للعلم التفصيلي اللاحق على العكس مما ذكره، فالدليل أخص من المطلوب، فإنه متكفل للانحلال في خصوص الأمارة التفصيلية المتأخرة.

الإشكال الثاني: لا يتم ما ذكره(1) فيما لو كان المتأخر أصلاً مثبتاً للتكليف؛ لأنّ جريان الأصل المثبت من حين تمامية أركانه، والمفروض أنّ تمامية الأركان متأخرة عن العلم الإجمالي، فالعلم الإجمالي انعقد منجزاً، مثلاً: لو تنجز وجوب الظهر أو الجمعة بسبب العلم الإجمالي، ثم قام الأصل المثبت على أحد الطرفين، كاستصحاب وجوب الجمعة، فلا يتم ما ذكره؛ لأنّ الأصل المثبت يتنجز من حين تمامية أركانه، أي: حين الالتفات إلى اليقين السابق والشك اللاحق، والمفروض أنّ الالتفات إلى اليقين والشك متأخر عن العلم الإجمالي، وقد ثبت في محله أنّ المراد من اليقين والشك الفعلي منهما، فلا يمكن إجراء (لا تنقض) من قبل، فينعقد العلم الإجمالي منجزاً، وتكون النتيجة عكس ما ذهب إليه، لدعواه عدم انعقاد العلم الإجمالي منجزاً، والحال أنه لم ينعقد الأصل المثبت منجزاً؛ لتنجز موضوعه من قبل بسبب العلم الإجمالي.

ص: 109


1- من أن الأمارة المتأخرة توجب انحلال العلم الإجمالي المتقدم.

الإشكال الثالث: إنما يتم ما ذكره(1) في الشبهات الحكمية لا الموضوعية؛ لأن وجود الأمارة في معرض الوصول ليس كافياً في تنجيز الواقع في الشبهات الموضوعية؛ ولذا لم يجب الفحص فيها على المشهور.

وقد يجاب عن هذه الإشكالات الثلاثة: بأنّ نظر النهاية إلى خصوص الشبهات الحكمية، فيما لو كان المتأخر الأمارة التفصيلية لا العلم التفصيلي والأصل المثبت.

الإشكال الرابع: إنّ الظفر بالأمارة ليس منجزاً للتكليف؛ لأنّ المنجز هو الاحتمال، ولذا وجب الفحص في الشبهات البدوية غير المقرونة بالعلم الإجمالي، وعليه فالمنجز في المقام - حيث إنَّ الشبهة حكمية - هو مجرد الاحتمال، ونسبة هذا الاحتمال إلى الطرفين على حد سواء، فلا أثر للعلم الإجمالي في المنجزية إطلاقاً.

لكنه إشكال فني ولا أثر له في النتيجة العملية.

الإشكال الخامس(2): إشكال كبروي، وهو: إنَّ القول بأنّ المنجز لا ينجز محل إشكال؛ وذلك لما تقدم من أنّ لتنجيز المنجز معنيين، الأول: تحصيل المنجزية، وهو غير ممكن؛ لأنه تحصيل للحاصل، والثاني: الاشتراك في التأثير، بأن يشترك المنجز السابق واللاحق في المنجزية، فيكون كل منهما جزء العلة، ولا مانع منه، حيث يكون المعلول في مرحلة البقاء مستنداً إليهما معاً.

ص: 110


1- من أن الأمارة المتأخرة كاشفة عن التنجيز المتقدم.
2- وهو العمدة في المقام.

وفيما نحن فيه، نسلم الصغرى، بأنّ المنجز السابق؛ هو الأمارة، في معرض الوصول، وإن كان قيامها لاحقاً، فيكون الطرف منجزاً، إلاّ أنّ العلم الإجمالي صالح لتنجيز هذا الطرف أيضاً بعنوان جزء العلة لا العلة التامة، ففي مرحلة البقاء: العلم الإجمالي والأمارة التفصيلية ينجزانه معاً، فلا مانع من اشتراكهما في التنجيز، وحينئذ يكون العلم الإجمالي منجزاً للتكليف على كل تقدير، سواء في الطرف الأول أم الثاني، فيجب الاجتناب عن الطرف الثاني، وقد مر توضيحه سابقاً.

الدليل السادس

ما أفاده بعض المتأخرين(1)

من أنّ صرف احتمال الانطباق لا يوجب انحلال العلم الإجمالي حقيقة وتكويناً، إلاّ أن المكلف يشك في ثبوت التكليف الفعلي الزائد على المعلوم بالتفصيل ومجراه البراءة، ومعها لا مجال لمنجزية العلم الإجمالي في الطرف الآخر؛ لأنّ أساس المنجزية هو العلم بالتكليف الفعلي المردد بين طرفين، وأصالة البراءة تنفي التكليف الزائد على الطرف الأول المعلوم بالتفصيل، فالبراءة مؤمنة من ناحية العلم الإجمالي.

ونفس هذا البيان يجري لو كان اللاحق أمارة تفصيلية، أو أصلاً مثبتاً للتكليف.

لكنه بحاجة إلى تأمل؛ لإمكان دعوى أن استصحاب الاشتغال حاكم أو وارد على البراءة.

ص: 111


1- واعتمد عليه وقال: إنه مما تفرد به حسبما يعلم.

ويمكن التمثيل له تقريباً للذهن(1): بما لو علم بوجوب الظهر أو الجمعة، فبعد أداء صلاة الظهر لم يتحقق العلم بالتكليف، ولا يحق له ترك الجمعة؛ وذلك لتولد التكليف في متن الواقع، ويشك في سقوط التكليف الواقعي، فيكون مقتضى أصالة الاشتغال أو استصحابه بقاء التكليف الواقعي.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فمع العلم الإجمالي السابق تحقق العلم بالتكليف الواقعي النفس الأمري، فبمجرد اجتناب الطرف الأول لم يتحقق امتثال التكليف الواقعي، حيث إنه شك في الامتثال ومجراه الاشتغال، وأما الشك في الاشتغال فمجراه البراءة، والمقام من قبيل الأول، والحاصل: أنه لا مجال للبراءة مع وجود قاعدة الاشتغال أو استصحابه.

الدليل السابع

ما ذكره بعض المتأخرين من تسالم الفقهاء على الانحلال وإرساله إرسال المسلمات، وإنكاره موجب لتأسيس فقه جديد.

لكنه غير واضح، فلم يلزم من ذلك تأسيس فقه جديد عند من لم يلتزم بالانحلال، وإنما التزم بجريان الاحتياط في جميع الشبهات الحكمية التحريمية، كما عليه الأخباريون، وإن كانت المسألة بحاجة إلى تتبع وتأمل.

نعم، يمكن القول: إنَّ إنكار الانحلال قد يوجب مخالفة المشهور.

مثلاً: استدل الأخباريون(2) على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية بالعلم الإجمالي، حيث تحقق العلم بوجود محرمات في الشريعة،

ص: 112


1- وإن كان المثال لا ينطبق تمام الانطباق على ما نحن فيه.
2- أوثق الوسائل: 21؛ كفاية الأصول (المحشى) 4: 320؛ منتهى الأصول 2: 203.

ولا يحصل العلم بالامتثال إلا باجتناب مشكوك التحريم، كالتتن.

وأجاب الأصوليون بالانحلال، حيث تم العثور على المحرمات بتتبع الأخبار وسائر الأمارات المعتبرة، ويحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، فينحل العلم الإجمالي، فلا مانع من جريان البراءة.

مثال آخر: للانسداد الكبير مقدمات، منها: العلم بثبوت أحكام في الشريعة. وأجاب عنه الأصوليون بانحلال العلم الإجمالي الكبير، فلو لم يتم الانحلال وقلنا بالانسداد الكبير لم يوجب ذلك تأسيس فقه جديد، ويتبين ذلك بمراجعة كتاب جامع الشتات للمحقق القمي.

والحاصل: إنه لم يظهر لنا في بادئ النظر أن إنكار الانحلال باحتمال الانطباق موجب لتأسيس فقه جديد.

الدليل الثامن

إنّ عمدة الأدلة على منجزية العلم الإجمالي بلحاظ وجوب الموافقة القطعية هو فهم الفقهاء، المانع من شمول أدلة الأصول الترخيصية لبعض أطراف العلم الإجمالي، وإلا فإنّ ظاهرها(1)

جواز المخالفة الاحتمالية، والمانع المذكور مفقود في المقام(2)، وبارتفاعه يؤثر المقتضي في مقتضاه.

التنبيه العاشر: في اشتراك علمين إجماليين على طرف واحد

فلو تحقق علمان إجماليان واشتركا في طرف واحد فللمسألة صورتان:

الصورة الأولى: أن يكون العلمان متعاصرين، بأن يتولدا في زمان واحد،

ص: 113


1- كقوله (عليه السلام) : «حتى تعرف الحرام منه بعينه».
2- حيث يرى المشهور جريان أصل البراءة في الطرف الثاني.

أي: في آنٍ واحد يشاهد سقوط دمين، الأول: إما في الإناء الأول أو الثاني، والثاني: إما في الإناء الثاني أو الثالث.

ولا شك في وجوب اجتناب الأطراف الثلاثة: المشترك والمختصين، وهو مقتضى منجزية العلمين الإجماليين؛ لوجود المقتضي وعدم المانع، حيث إنهما واجدا لشرائط التنجيز، فينجزان معلومهما.

وبعبارة أخرى: للعلم الإجمالي المتحقق أربعة أطراف، حيث يعلم إما بنجاسة الإناء الثاني(1)، أو بنجاسة الإناء الأول والثاني، أو بنجاسة الأول والثالث، أو بنجاسة الثاني والثالث، ومقتضى هذا العلم الإجمالي - الذي محتملاته أربعة - هو منجزية جميع الأطراف، فيجب الاجتناب عن الجميع.

ولا بد من التوجه إلى الخلاف بين المحقق النائيني والآخرين في كون الملاك في المقام تعاصر العلمين أو المعلومين، حيث يرى المحقق أنّ الملاك زمان المعلوم والعلم طريقي، بينما يرى الآخرون أنّ الملاك زمان العلم لا المعلوم؛ لأنّ العلم موضوع للأحكام العقلية، حيث للخلاف المذكور الأثر في محل البحث، وحيث إنّ المختاركون الملاك العلم لا المعلوم عبر بتعاصر العلمين.

الصورة الثانية: أن يكون العلم الإجمالي الثاني متأخراً عن الأول، كما لو علم بسقوط الدم إما في الإناء الأول أو الثاني، ثم علم بسقوط دم ثانٍ إما في الإناء الثاني أو الثالث، فهل هذا العلم الإجمالي الثاني له أثر في تنجيز الطرف المختص أو لا؟

ص: 114


1- وهو الطرف المشترك.

ولهذه الصورة شقان:

الشق الأول: أن يكون للمعلوم بالإجمال اللاحق أثر مغاير لأثر المعلوم بالإجمال السابق، كما لو كان الأول دماً والثاني بولاً، والظاهر أنه لا شك في منجزية العلم الإجمالي الثاني؛ لتحقق الأثر المغاير، كوجوب الغسلة الثانية إما في الطرف المشترك، أو في الطرف المختص بالعلم الإجمالي الثاني، فيكون مقتضى العلم الإجمالي الجديد تنجيز الطرفين.

الشق الثاني: أن لا يكون له أثر مغاير للمعلوم بالإجمال السابق، كما في الدمين، فهل يلزم الاجتناب عن الإناء الثالث؟

ذهب بعض الأعلام(1) إلى عدم وجوب الاجتناب؛ لعدم منجزية العلم الإجمالي الثاني، وذلك بقريرين:

التقرير الأول: إنّ شرط منجزية العلم الإجمالي تنجيز الواقع على كل تقدير، لا على تقدير دون تقدير، وهو مفقود في المقام؛ لأنّ الدم الثاني إن كان واقعاً في الطرف المختص كان منجزاً للواقع، وإن كان واقعاً في الطرف المشترك لم يؤثر في تنجيز الواقع، فأمره دائر بين المنجز واللا منجز، فلا أثر له، فلم يجب الاجتناب عن الإناء الثالث، كما ذهب إليه المحقق النائيني ومن تبعه على الخلاف المتقدم بين كون الملاك العلم أو المعلوم.

التقرير الثاني: إن الأصل في الطرف المشترك ساقط بالعلم الإجمالي الأول، فيجري الأصل المؤمن في الطرف المختص بالعلم الإجمالي الثاني بلا معارض.

ص: 115


1- أجود التقريرات 2: 55.

ولا يخفى أنّ البرهان بتقريره الأول يبتني على مذاق المحقق العراقي(1)، حيث يرى أنّ شرط منجزية العلم الإجمالي التنجيز على كل تقدير، وبتقريره الثاني يبتني على مذاق المحقق النائيني(2)، حيث يرى أنَّ شرط المنجزية تعارض الأصول في أطراف المعلوم بالإجمال، والنتيجة واحدة.

لكنهما محل تأمل: أما التقرير الأول، فلأنّ منجزية العلم الإجمالي آنية، بمعنى أنّ العلم الإجمالي في الآن الأول منجز للتكليف في الآن الأول، وفي الآن الثاني منجز للتكليف في الآن الثاني، والوجود آناًما للعلم الإجمالي غير كافٍ لمنجزية التكليف إلى أبد الآباد.

وعليه، يكون العلم الإجمالي الأول في الآن الأول منجزاً للطرفين بحدوثه، وأما في الآن الثاني فلا يكون منجزاً، بل بقاء العلم الإجمالي الأول منجز للتكليف في الآن الثاني للطرف المشترك والمختص، وفي نفس هذا الآن الثاني يتولد العلم الإجمالي الثاني، فهل تنجز الطرف المختص مستند لبقاء العلم الإجمالي الأول، أو لحدوث العلم الإجمالي الثاني؟

إنّ إسناد وجوب الاجتناب عن الطرف المشترك لأحدهما ترجيح بلا مرجح، وهو محال(3).

ويتبين من ذلك الإشكال على التقرير الثاني أيضاً؛ لأنّ تساقط الأصول

ص: 116


1- نهاية الأفكار 3: 323، 336.
2- أجود التقريرات 2: 266.
3- لكن قد ينقض عليه بأن نظير هذا الإشكال يرد على العلم التفصيلي أيضاً، إلا أن يلتزم به (المقرر).

في أطراف العلم الإجمالي معلول لمنجزيته، وقد فرضت المنجزية آنية، فيكون التساقط آنياً.

وعليه، يكون العلم الإجمالي الأول بحدوثه منجزاً للتكليف في الآن الأول، فيتساقط الأصل في الطرف المشترك والمختص، وفي الآن الثاني يكون بقاء العلم الإجمالي الأول منجزاً للتكليف، فيكون لجريان الأصل في الطرف المشترك في هذا الآن معارضان، هما: جريان الأصل في الطرف المختص بالعلم الإجمالي الأول، وجريان الأصل في الطرف المختص بالعلم الإجمالي الثاني.

وبعبارة أخرى: للطرف المشترك في الآن الأول معارض واحد، وفي الآن الثاني معارضان، فتتساقط الأصول، فيجب الاجتناب عن الإناء الثالث.

إن تم هذا الإشكال فبها، وإلا لم يجب الاجتناب عن الطرف المختص بالعلم الإجمالي الثاني، وإن كانت المسألة بحاجة إلى مزيد من التأمل.

التنبيه الحادي العاشر: استصحاب الاشتغال بعد الإتيان بأحد طرفي المعلوم بالإجمال

لو علم المكلف إجمالاً بوجود إلزام مردد بين طرفين وأتى بأحدهما - كما لو علم بأنّ وظيفته القصر أو التمام فصلّى قصراً - فهل يجري استصحاب الوجوب السابق أو لا؟

ولا يخفى أنّ في المقام استصحابين:

الأول: استصحاب الفرد المعين، لكنه لا يجري لتردده بين فرد مقطوع الارتفاع، وفرد مشكوك الحدوث، فوجوب القصر مقطوع الارتفاع؛ لأنه إن

ص: 117

كان واجباً فقد أتى به وسقط التكليف بالامتثال، ووجوب الإتمام مشكوك الحدوث، فلا تتم أركان جريان الاستصحاب في الفرد المعين.

الثاني: استصحاب الجامع، أي: كلي الوجوب المتحقق في ضمن أحد الفردين، ولا مانع منه لتحقق الشك اللاحق واليقين السابق، حيث تولد الوجوب في متن الواقع، ولا يعلم سقوطه بالإتيان بأحد الفردين، فيكون مجرى ل- (لا تنقض).

من هنا قد يقال بجريان استصحاب بقاء الوجوب، ومعه لا يبقى مجال لقاعدة الاشتغال؛ لأنّ الاستصحاب حاكم على جميع الأصول العملية، سواء أكانت متوافقة في المؤدى أم متخالفة، وإن كانت النتيجة واحدة.

لكن المحقق النائيني عكس المطلب في الفوائد(1)،

حيث قدم قاعدة الاشتغال، لاستلزام جريان استصحاب بقاء التكليف وشغل الذمة إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد، أو البناء على اعتبار الأصل المثبت(2)؛ وذلك لأنّ استصحاب بقاء وجوب الفرد الثاني بعد الإتيان بالفرد الأول مثبت، ولو استصحب الوجوب لترتيب أثره، وهو لزوم إفراغ الذمة، فهو محرز بالوجدان؛ لأنّ حدوث التكليف والشك في امتثاله تمام الموضوع عقلاً للزوم إفراغ الذمة، فإحرازه بالتعبد أردأ أنواع تحصيل الحاصل، أو أردأ منه.

ويرد عليه: أولاً: إنْ كان المحذور تحصيل الحاصل فهو غير محقق في

ص: 118


1- فوائد الأصول 4: 125.
2- ولا يخفى أنّ منشأ ما ذكره المحقق النائيني هو كلمات الشيخ الأعظم في الرسائل في مواضع متعددة (منه (رحمه اللّه) ).

المقام؛ لأنه أنما يتحقق لو كان المحصل من سنخ الحاصل، أما لو لم يكن كذلك فلا، والمفروض في المقام: الحاصل الاشتغال الوجداني، والمحصل الإحراز التعبدي، فليس تحصيل للحاصل لاختلاف السنخين.

ثانياً: إن كان المحذور أنه أسوأ من تحصيل الحاصل، وربما معناه اللغوية، فيرد عليه: نقضاً: بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، حيث إنها إحراز وجداني لعدم العقاب، فتكون البراءة الشرعية لغواً، لإرادة إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد.

وحلاً: بتحقق فوائد لذلك، منها: تأكيد حكم العقل، ومنها: كونه المرجع عند الشك في حكم العقل، فقد يشك في الحكم العقلي أو ينكر، فيكون التعبد الشرعي هو المرجع، كما أنكر بعض الأصوليين قاعدة قبح العقاب، فتكون البراءة الشرعية هي المرجع، ومنها: كونه المحرك لمن لا يحركه حكم العقل، فمن لا يحركه الاشتغال اليقيني كان محركه استصحاب الاشتغال الشرعي، كما يمكن أن تكون هنالك فوائد أخر، ويكفي ذلك لدفع اللغوية. وعليه: لا مانع من جعل الشارع استصحاب الاشتغال مع تحقق الاشتغال العقلي.

ص: 119

ص: 120

فصل في دوران الأمر بين الأقل والأكثر

اشارة

ص: 121

ص: 122

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

اشارة

بعد الفراغ من مباحث دوران الأمر بين المتباينين يقع الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر، وهما نوعان:

الأول: الاستقلالي، والثاني: الارتباطي.

المقام الأول: دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين والاستقلاليين

اشارة

وملاك الاستقلالي أن يكون للأقل وجوب وغرض وامتثال مغاير لوجوب الأكثر وغرضه وامتثاله، كدوران أمر الفائتة بين الواحدة والاثنتين، فكل واحد له وجوب وغرض وامتثال وعصيان مستقل، بخلاف الارتباطي، حيث إن وجوبه وغرضه وامتثاله وعصيانه واحد.

فيقع الكلام في مبحثين:

الأول: في دوارن الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، كما لو علم أنه مديون بدينار أو دينارين، ولا ينبغي الشك في انحلال العلم الإجمالي إلى الأقل المتيقن والأكثر المشكوك؛ وذلك لأنّ وجوب الدينار الواحد متيقن على كل تقدير، فسواء أكان الأقل واجباً أم الأكثر، فالأقل واجب، فتجري البراءة في الدينار الثاني؛ وذلك مثل الشك في حرمة التتن، حيث تجري البراءة العقلية والنقلية أو خصوص الشرعية.

ص: 123

الثاني: في دوارن الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، كما لو دار أمر الصلاة الواجبة بين تسعة أجزاء أو عشرة، بإضافة القنوت، فهل يمكن إجراء البراءة في الجزء المشكوك أم لا؟

وقد اختلفت كلمات الأعلام(1)، فذهب بعض إلى جريان البراءة العقلية والشرعية معاً، بينما ذهب آخرون إلى عدمهما، واختار بعض جريان البراءة الشرعية دون العقلية، كصاحب الكفاية وتبعه المحقق النائيني.

ويقع الكلام في مبحثين: في جريان البراءة العقلية، وجريان البراءة الشرعية.

المبحث الأول: وجوه جريان البراءة العقلية عند الشك في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين
اشارة

الأول: في بيان وجوه جريان البراءة العقلية في الشك في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وقد ذكرت لإثبات جريان البراءة وجوه:

الوجه الأول: ما يستفاد من كلام الشيخ الأعظم
اشارة

ما يستفاد من كلمات الشيخ الأعظم(2)، من كون وجوب الأقل متيقناً على كل تقدير، إما بالوجوب النفسي أو الغيري، ووجوب الأكثر مشكوك، فينحل العلم الإجمالي إلى الأقل المتيقن والأكثر المشكوك، فتجري البراءة العقلية عن الأكثر؛ لقبح العقاب بلا بيان.

ص: 124


1- فوائد الأصول 4: 151.
2- فرائد الأصول 2: 340.
ويرد عليه إشكالات

الإشكال الأول: ما ذكره بعض الأصوليين(1): من أنّ المتحقق في المقام الوجوب النفسي المردد بين الأقل والأكثر، وما ذكر مبني على تسليم وجوب مقدمة الواجب المعبر عنه بالوجوب الغيري، مع أنّ الشيخ الأعظم بنفسه لم يرتض ذلك.

لكن الظاهر أنه غير تام؛ وذلك لأنّ البحث في مقدمة الواجب في الوجوب الشرعي، أما وجوبها العقلي فمسلم. وعليه، يكون الأقل متيقناً بالوجوب العقلي، حيث إنّ جامع الوجوب متحقق فيه، فيمكن القول: إننا نعلم بوجوب الجامع، أما وجوب الأكثر فمشكوك، فينحل العلم الإجمالي، وبعبارة بسيطة: لو كان الأقل واجباً فهو واجب بالوجوب النفسي، ولو كان الأكثر واجباً فالأقل واجب بالوجوب المقدمي، فعلى كل تقدير: الأقل واجب إما بالوجوب النفسي أو المقدمي، ويشك في وجوب الأكثر، فتجري البراءة.

الإشكال الثاني: ما أورده بعض المتأخرين من عدم انطباق الكبرى(2) على المقام؛ وذلك لأنّ الوجوب الغيري للمقدمة إنّما هو مع فرض الغيرية بين الموقوف والموقوف عليه، كنصب السلم والكون على السطح، فهما وجودان، فيمكن القول بترشح الوجوب على المقدمات، وأما مع فرض العينية فلا معنى لذلك، وفي المقام: الأجزاء عين الكل موجودة معه بوجود

ص: 125


1- تعليقة على معالم الأصول 6: 194.
2- مقدمة الواجب واجبة بالوجوب الغيري.

واحد(1)، فلا معنى للقول بكونها واجبة بالوجوب الغيري. وعليه، لا يمكن القول: إنَّ الأجزاء واجبة إما بالوجوب النفسي أو الغيري.

لكنه غير تام؛ لتحقق نفس ملاك الوجوب العقلي في الكل وأجزائه، وهو اللابدية العقلية، حيث يرى العقل عدم إمكان تحقق ذي المقدمة من دون المقدمة(2)، كذلك الأمر في أداء الكل من دون أداء الأبعاض، فتكون الأجزاء واجبة بالوجوب العقلي الغيري المقدمي.

الإشكال الثالث: ما قد يستفاد من كلمات المحقق العراقي(3): من أن العلم بالجامع(4) لا يوجب الانحلال؛ لأنه يعتبر في الانحلال أن يكون المعلوم بالتفصيل من سنخ المعلوم بالإجمال، والشرط مفقود في المقام؛ لأنّ المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي المتعلق بالأقل أو الأكثر، والمعلوم بالتفصيل هو وجوب الجامع بين الوجوب النفسي والغيري في الأقل، وهما سنخان متغايران؛ لأنّ سنخ الوجوب النفسي مغاير لسنخ وجوب الجامع، فلا ينحل العلم الإجمالي.

لكنه محل تأمل، حيث لا دليل على شرطية وحدة السنخ في الانحلال، بل ملاكه جريان الأصل المؤمن، سواء أكانا من سنخ واحد أم لا، وفي المقام: الأقل متقين الوجوب نفساً أو مقدمة، ويشك في دخول الأكثر في عهدة المكلف، حيث لم يتم عليه البيان، فيقبح العقاب.

ص: 126


1- والفرق بين الكل والأجزاء باللحاظ، وأما في الخارج فلا اثنينية بينهما (منه (رحمه اللّه) ).
2- فلا يمكن تحقق الكون على السطح من دون نصب السلم (منه (رحمه اللّه) ).
3- فوائد الأصول 4: 176 (الهامش).
4- الجامع بين الوجوب النفسي أو الغيري.

الإشكال الرابع: ما أورده صاحب الكفاية، وحاصله: استحالة الانحلال في المقام؛ لكونه موجباً للخلف وعدم ذات نفسه، ولأجله اختار عدم جريان البراءة العقلية، وإنما تجري البراءة النقلية فحسب(1).

قال: «وتوهم انحلاله إلى العلم بوجوب الأقل تفصيلاً والشك في وجوب الأكثر بدواً - ضرورة لزوم الاتيان بالأقل لنفسه شرعاً، أو لغيره كذلك أو عقلاً، ومعه لا يوجب تنجزه لو كان متعلقاً بالأكثر - فاسد قطعاً؛ لاستلزام الانحلال المحال، بداهة توقف لزوم الأقل فعلاً إما لنفسه أو لغيره على تنجزه، إلا إذا كان متعلقاً بالأقل كان خلفاً»(2).

وتوضيحه يبتني على بيان مقدمتين:

المقدمة الأولى: إنَّ وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط، وفي الفعلية والتنجز؛ لأن وجوبها ترشحي، فلو كان وجوب ذيها مطلقاً أو مقيداً أو فعلياً أو منجزاً لكان وجوب المقدمة أيضاً كذلك مطلقاً أو مقيداً أو فعلياً أو منجزاً، ويعبر عن هذه التبعية بالظلية؛ لأن وجوب المقدمة وجوب ظلي.

المقدمة الثانية: شرط انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي أن يكون الوجوب في بعض الأطراف منجزاً على كل تقدير، لا

ص: 127


1- ويرى جمع من الأصوليين أنه إذا لم تجرِ البراءة العقلية فلا تجري النقلية أيضاً، فلا بد من الذهاب إلى الاحتياط في الشك بين الأقل الأكثر الارتباطي، ولذا يكون هذا البحث مهماً (منه (رحمه اللّه) ).
2- كفاية الأصول: 364.

على تقدير دون تقدير.

مثلاً: لو علم أنه مديون بدينار أو دينارين فوجوب الواحد متقين على كل تقدير، سواء أكان الواجب الأقل أم الأكثر، فينحل العلم الإجمالي إلى الأقل المتيقن، والأكثر المشكوك، وتجري البراءة العقلية في الأكثر.

وأما بيان الإشكال فهو: إنه يلزم من فرض وجوب الأقل على كل تقدير عدم وجوبه على كل تقدير، وهو خلاف الفرض؛ لأن وجوبه كذلك يعني سواء أكان وجوب الأقل نفسياً أم غيرياً فإنه منجز، وهذا التنجز على كل تقدير موقوف على تنجز التكليف بالأكثر، مع أنه قد فرض جريان البراءة العقلية في التكليف بالأكثر، فيكون وجوب الأكثر غير منجز، فلا يمكن القول إنّ وجوب الأقل منجز على كل تقدير؛ لأن أحد التقديرين هو وجوب الأقل بالوجوب الغيري، والوجوب الغيري ترشحي، وثبوت الوجوب الترشحي موقوف على وجوب الأكثر وتنجزه، والمفروض أن مقتضى البراءة العقلية عدم تنجز وجوب الأكثر، فتكون النتيجة هي الانتهاء إلى عدم وجوب الأقل على كل تقدير من فرض وجوب الأقل على كل تقدير، وهو خلف.

وبعبارة سهلة: إن كان التكليف بالأكثر منجزاً فهو خلاف المطلوب، وإن كان غير منجز فلا يمكن القول: إنَّ الأقل واجب بالوجوب الغيري، فإن الوجوب الغيري للأقل متفرع على تنجز التكليف بالأكثر، هذا أولاً، وثانياً: «مع أنه يلزم من وجوده(1) عدمه؛ لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كل

ص: 128


1- أي: الانحلال.

حال(1)، المستلزم(2) لعدم لزوم الأقل مطلقاً(3)، المستلزم(4) لعدم الانحلال(5)»(6).

ولا يخفى رجوع جوهر هذا الإشكال الثاني إلى الأول.

وقد عبر البعض عن هذا الإشكال بالعويصة التي تركت الأذهان حيرى، والأفهام صرعى، فاختار كل مهرباً، وسلم به كثير من الأصوليين.

وأجيب عنه بأجوبة:

الجواب الأول: ما ذكره المحقق النائيني، حيث ناقش المبنى الذي بني عليه الإشكال، قال: «إن دعوى توقف وجوب الأقل على تنجز التكليف بالأكثر لا تستقيم ولو فرض كون وجوبه مقدمياً، سواء أريد من وجوب الأقل تعلق التكليف به أم تنجزه، فإنَّ وجوب الأقل على تقدير كونه مقدمة لوجود الأكثر إنما يتوقف على تعلق واقع الطلب بالأكثر، لا على تنجز التكليف به؛ لأنَّ وجوب المقدمة يتبع وجوب ذي المقدمة واقعاً، وإن لم يبلغ مرتبة التنجز، وكذا تنجز التكليف بالأقل لا يتوقف على تنجز التكليف

ص: 129


1- فلو قلنا بالانحلال كان مفاده عدم تنجز التكليف على كل حال؛ لأن التكليف لو كان متعلقاً بالأكثر فلا تنجز لوجوب الأكثر، كما في الدرهمين.
2- هذا العدم، أي عدم تنجز التكليف على كل حال.
3- فلا يمكن القول بلزوم الأقل مطلقاً إما بالوجوب النفسي أو الغيري؛ لأن الغيري متفرع على وجوب الأكثر.
4- عدم لزوم الأقل.
5- لكون الانحلال متوقفاً على لزوم الأقل مطلقاً، وقد انتهى الأمر إلى عدم لزوم الأقل على كل تقدير، فيكون لازم الانحلال عدم الانحلال.
6- كفاية الأصول: 364.

بالأكثر، بل يتوقف على العلم بوجوب نفسه، فإنَّ تنجز كل تكليف إنما يتوقف على العلم بذلك التكليف، ولا دخل لتنجز تكليف آخر في ذلك»(1).

وحاصله: إنّ العلم بالتكليف ينقله من مرحلة الفعلية إلى مرحلة التنجز، سواء نُجز تكليف آخر أم لا، وفي المقام العلم بالأقل منجز له، سواء كان الأكثر منجزاً وواجباً أم لا، ومع تحقق هذا العلم يجب الأقل ويشك في الأكثر فتجري البراءة، فما ذكره صاحب الكفاية من أنّ اشتراط تنجز الأقل هو تنجزه على كل تقدير غير تام، بل شرط تنجزه هو العلم بوجوبه، وهو متحقق حيث لا يمكن إنكاره، فإنّ العلم به وجداني، فالتكليف بالأقل منجز.

لكنه غير واضح، فإنّ وجوب الأقل المعلوم إما نفسي أو غيري أو مردد، والأولان مشكوكان، ومقتضى الثالث وجوب الإتيان بالأكثر، وما ذكره من الكبرى الكلية تام في الواجبات النفسية، فإنّ تنجز الوجوب النفسي للحج لا يتوقف على تنجز وجوب التكليف بالصلاة مثلاً، أما لو كان التكليف مقدمياً فتنجزه متوقف على تنجز تكليف آخر، وهو التكليف بذي المقدمة؛ لأنه معلول له.

وبتقرير آخر: لو تم الانحلال لم تجب الصلاة أصلاً؛ لأنّ الوجوب الغيري للأجزاء التسعة معلول للوجوب النفسي للأجزاء العشرة، مع أنّ الأكثر غير واجب، فلا وجوب غيري للأقل، والوجوب النفسي مشكوك

ص: 130


1- فوائد الأصول 4: 158.

والأصل عدمه، فلازم الانحلال سقوط وجوب الصلاة.

الجواب الثاني: ما ذكره المحقق الشيخ عبد الكريم الحائري (رحمه اللّه) في الدرر، حيث قال: «إنّ الضابط في انحلال العلم الإجمالي ليس العلم التفصيلي بالتكليف، الذي يوجب في مخالفته للعقوبة على كل حال، كيف ولو كان كذلك ما صح القول بالانحلال فيما إذا قام طريق معتبر شرعي مثبت في بعض الأطراف، فإنه لا يصح العقوبة على مخالفة التكليف الطريقي على كل تقدير، بل هو موجب لصحة العقوبة لو كان مصادفاً للواقع، إنما الضابط هو العلم التفصيلي بالتكليف الذي يجب امتثاله عقلاً، وإن كان من جهة صحة العقوبة على بعض التقادير، فنقول فيما نحن فيه: إنّ العلم بالتكليف المتعلق بالأقل لما لم يعلم كونه مقدمياً أو نفسياً يجب عند العقل موافقته؛ لأنه لو كان نفسياً لم يكن له عذر في تركه»(1).

وهو مركب من كبرى وصغرى:

أما الكبرى: ففي ضابطة الانحلال احتمالان:

الاحتمال الأول: إنَّ ملاك الانحلال هو العلم بالتكليف والتنجيز واستحقاق العقوبة على كل تقدير - وهو مبنى كلام صاحب الكفاية(2)

- فلو علم بتنجز الأقل واستحقاق العقوبة على كل تقدير - أي سواء أكان الأقل واجباً أم الأكثر، كمثال الدرهمين - انحل العلم.

لكنه ليس ملاك الانحلال؛ لأنه ينقض عليه بما لو نهض طريق شرعي

ص: 131


1- درر الفوائد 2: 474.
2- كفاية الأصول: 364.

مثبت للتكليف على بعض أطراف العلم الإجمالي، فينحل العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشبهة البدوية - على ما ذهب إليه صاحب الكفاية - كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، وقامت البينة على نجاسة الأول، فتبطل منجزية العلم الإجمالي، فلو اقتحم الإناء الأول لم يعلم باستحقاق العقوبة على كل تقدير؛ لأنّ البينة إن صادفت الواقع استحق العقوبة وإلاّ فلا، فاستحقاق العقوبة لا يكون ثابتاً على كل تقدير، بل على تقدير دون تقدير، ومع ذلك يحكم بحرمة الاقتحام في الأول مع عدم اليقين باستحقاق العقوبة على كل تقدير، بل على تقدير المصادفة للواقع؛ لاحتمال خطأ البينة، فيعلم من ذلك أنّ ملاك الانحلال ليس العلم باستحقاق العقوبة على كل تقدير، بل يكفي العلم باستحقاق العقوبة ولو على بعض التقادير، فالملاك هو ما ورد في الاحتمال التالي.

الاحتمال الثاني: وهو العلم بالتكليف الذي يجب امتثاله عقلاً، وإن كان من جهة صحة العقوبة على بعض التقادير، فملاك الانحلال العلم بالتنجيز واستحقاق العقوبة ولو على بعض التقادير.

وأما الصغرى: فحاصلها تحقق العلم باستحقاق العقاب على ترك الأقل مع فرض وجوبه النفسي، فلو ترك الأقل واتفق وجوبه النفسي استحق العقاب على هذا التقدير، فإنّ الخطاب المتعلق بالأقل يجب موافقته عند العقل فيما إذا لم يعلم كونه مقدمياً أو نفسياً؛ لأنه لو كان نفسياً - ولو احتمالاً - لم يكن له عذر في تركه، بخلاف ترك الأكثر، حيث البراءة العقلية تعذره في ذلك، فيستحق العقاب على ترك الأقل على بعض التقادير، وهذا المقدار كافٍ في انحلال العلم الإجمالي.

ص: 132

وهو محل إشكال، حيث لا يخلو منشأ العلم بالصغرى من أحد أمرين:

الأول: العلم الإجمالي بالوجوب النفسي للأقل أو الأكثر، لكن نسبة هذا العلم إليهما نسبة واحدة، فكيف يكون سبباً لتنجيز الأقل دون الأكثر؟

الثاني: احتمال الوجوب النفسي للأقل، فيعلم باستحقاق العقاب على تركه لو فرض كونه واجباً نفسياً، لكن الاحتمال غير منجز.

وقياس المقام بالتكاليف الطريقية قياس مع الفارق؛ لقيام الدليل على حجيتها، فاحتمال مصادفة الواقع كافٍ في تنجيزها دونه.

الجواب الثالث: ما ذكره بعض المعاصرين(1): من كون ملاك الانحلال جريان الأصل النافي للتكليف في الأكثر للشك فيه، ولا يجري في الأقل للعلم بوجوبه، ومع جريان الأصل في بعض الأطراف ينحل العلم الإجمالي.

لكنه محل تأمل، فلو كانت لمعلول علتان على سبيل البدل، وكانت إحداهما مقطوعة الانتفاء، والثانية مشكوكة الوجود، فلا يمكن القول بتحقق المعلول على نحو الجزم واليقين، كما لو كانت علة حرارة البيت إما طلوع الشمس أو إشعال النار، وكان الطلوع مقطوع الانتفاء، وإشعال النار مشكوكاً، فلا يمكن حصول اليقين بوجود المعلول، وفي المقام: الأقل واجب لإحدى علتين، إما لتعلق الخطاب النفسي به أو بالأكثر، والثاني مقطوع الانتفاء لجريان البراءة، والأول مشكوك، فكيف يقال بوجوب الأقل وعدم جريان الأصل النافي فيه؟

الجواب الرابع: إنما تتأتى المحاذير المذكورة على انحلال العلم

ص: 133


1- بحوث في علم الأصول 4: 417.

الإجمالي فيما لو كان الزمان واحداً، أما لو كان الزمان متعدداً فلا محذور، فلو كان الوجود والعدم، والانحلال وعدمه، وتنجز التكليف على تقدير وعدمه في زمانين فلا محذور.

لكنه محل تأمل؛ لأنه أنما يتم لو لم يتحقق الترتب العلّي والمعلولي بين الشيئين، فيمكن أن يكون محكوماً بحكم في زمان، ولم يحكم به في زمان آخر، أما لو كان هنالك ترتب عِلّي بين الشيئين فلا يعقل ثبوت المعلول مع انتفاء العلة، ولا فرق في هذا الأمر بين الحدوث والبقاء؛ لأن المعلول كما يحتاج إلى العلة في حدوثه كذلك يحتاج إليها في بقائه، فنفس ملاك احتياج المعلول إلى العلة في مرحلة الحدوث هو ملاك احتياج المعلول إليها في مرحلة البقاء.

وبعبارة أخرى: الليسية الذاتية واللااقتضاء الذاتي المتحقق في المعلول هو ملاك احتياجه إلى العلة، وهو موجود في مرحلة الحدوث والبقاء.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ وجوب الأقل مستند إلى وجوب الأكثر على أحد التقديرين، فعلّة وجوبه هو وجوبه، فلا يعقل انتفاء وجوب الأكثر مع بقاء وجوب الأقل على كل تقدير.

الجواب الخامس: لم يستقر بناء العقلاء على إجراء الاحتياط في الأجزاء المشكوكة، فلو أمر المولى عبده بمركب ذي أجزاء، وكان البيان تاماً بلحاظ بعض الأجزاء دون بعض، فبناؤهم على إجراء البراءة في الأجزاء المشكوكة؛ لعدم تمامية البيان بالنسبة إليها.

لكنه محل تأمل، فلا يعقل تحقق بناء العقلاء على ما يضاد حكم العقل،

ص: 134

وقد اعترف المستدل بعدم انحلال العلم الإجمالي ومنجزيته، ومقتضاه وجوب الإتيان بالأكثر، فكيف يعقل جريهم على البراءة والاكتفاء بالأقل ؟ فما ذكره محل تأمل جداً.

الجواب السادس: التبعض في التنجيز(1)، ولتوضيحه يلزم البحث في مقامات ثلاثة: الأول: معنى التبعض في التنجيز، الثاني: دليله، الثالث: كيفية رفعه للمحذور.

المقام الأول: في معنى التبعض في التنجيز، لا يخفى أنّ الجعل المتعلق بالتكليف المركب من الأجزاء جعل واحد، وكذا المجعول، فلا شك في وحدة الجعل والمجعول، وإنما الكلام في تنجز المجعول الواحد، فهل هو قابل للتبعيض في التنجيز أم لا ؟ فقد يقال: إنّ التنجيز واحد بلحاظ مجموع الأجزاء للمركب الواحد، فإما أن تتنجز الأجزاء كلها معاً أو لا تتنجز مطلقاً، وقد يلتزم بالتبعض بلحاظ الأجزاء مع الاعتراف بوحدة الجعل والمجعول، وهو مبنى التبعض في التنجيز، وكما يمكن فرض ذلك في أجزاء المركب الارتباطي كذلك يمكن فرضه في وجوبين مترابطين، كوجوب المعلول والعلة.

وبعبارة واضحة: لو تعلق وجوب الصلاة بعشرة أجزاء واقعاً، وعلم المكلف بوجوب تسعة منها، ولم يعلم بوجوب الجزء العاشر، فوجوب الأكثر منجز بلحاظ الأجزاء المعلومة، وغير منجز بلحاظ الجزء المجهول.

وهذا الفرض ممكن ثبوتاً مع وحدة الجعل والمجعول وعدم تبعضهما؛

ص: 135


1- منتقى الأصول 5: 201.

وذلك لأنّ ملاك الوجوب هو الجعل وهو واحد، والمجعول واحد، وأما ملاك التنجز فهو وصول الوجوب إلى المكلف، والوصول قد يكون متعدداً بتعدد أجزاء المركب، فيصل إلى المكلف تسعة أجزاء، ولم يصل إليه الجزء العاشر .

المقام الثاني: الدليل على التبعض في التنجيز، إنَّ الدليل على التبعض في التنجيز إثباتاً هو الوجدان، فهنالك منبه وجداني، بل برهاني على تحقق التبعض في التنجز، وهو أنه لو قطع المكلف بوجوب الأقل دون الأكثر - بلا تقصير في مقدمات القطع - فتركه عصياناً، ثم انكشف له بعد الموت تعلق الوجوب بالأكثر فلا يخلو حكمه من أحد الاحتمالات الآتية:

الأول: لا يستحق العقاب، لكنه خلاف الضرورة والبداهة.

الثاني: يستحق العقاب على مخالفة الأمر بالأقل، لكنه غير وارد؛ لعدم وجود الأمر به.

الثالث: يستحق العقاب على مخالفة الأمر بالأكثر من حيث إنه أكثر، لكنه غير معقول؛ لقبح العقاب بلا بيان، فوجوب الأمر به غير مبين، والعبد قاطع بعدم وجوبه، والأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص، فمع عدم تمامية بيان الأكثر كيف يعاقبه المولى على تركه من حيث إنه أكثر؟

فلم يبق إلا الاحتمال الرابع، وهو: تنجز الأكثر من حيث أجزاؤه المعلومة لا من حيث جزؤه المجهول، بمعنى أنّ التكليف الواقعي بالأكثر له حيثيتان، حيث يحاسب المولى العبد على تركه الأكثر لا من حيث تمام الأجزاء، بل من حيث الأجزاء المعلومة.

ولا مناص من اختيار هذا الاحتمال، وهو معنى التبعض في التنجيز.

ص: 136

ويدل عليه بناء العقلاء، فلو أمر المولى بمركب وشك العبد في وجوب جزء مجهول أجرى البراءة العقلية فيه، وهكذا في وجوبين، فلو علم بوجوب نصب السلم، وشك أنه واجب نفسي أو مقدمي للكون على السطح، حيث يرى العقلاء وجوب نصب السلم، وجريان البراءة عن الكون على السطح المشكوك وجوبه، مع احتمال كون وجوبه ناشئاً عن وجوبه.

والحاصل: إنّ بناء العقلاء يؤيد التبعض في التنجيز.

المقام الثالث: لو تم البرهان المذكور وبناء العقلاء في التبعض في التنجيز اندفع إشكال صاحب الكفاية، فلا خلف ولا تناقض، فإنّ تنجز الأقل ثابت وإن كان ترشحياً حتى مع نفي تنجز الأكثر؛ وذلك للتبعض في التنجيز، فلو كان الأكثر واجباً واقعاً فهو منجز من حيث أجزائه المعلومة، لا من حيث جزئه المجهول، فالأقل منجز على كل تقدير.

والحاصل: ينحل العلم الإجمالي بهذا البيان؛ لإمكان القول بثبوت تنجز الأقل على كل حال، سواء أكان الأكثر منجزاً أم لا، فإنّ الأقل واجب، وتجري البراءة في الأكثر المشكوك.

والظاهر تمامية هذا الجواب، فلا يرد إشكال صاحب الكفاية على الشيخ الأعظم، وما ذكره الشيخ من العلم بتنجز الأقل على كل تقدير تام حتى مع نفي وجوب الأكثر.

ولا يخفى أنه ليس الكلام في تنجز الأبعاض، فإنها غير منجزة، حيث لا عقوبة على مخالفة الواجب الغيري المقدمي، بل مصب الكلام على تنجز الكل، ومعناه استحقاق المكلف العقاب على ترك الكل.

وبعبارة واضحة: أنّ لترك الكل حالتين: في إحداهما لا يستحق المكلف

ص: 137

العقاب على الترك، وفي الثانية يستحق، فيكون الكل منجزاً في صورة دون أخرى.

الصورة الأولى: أن يكون ترك الكل مستنداً إلى ترك الجزء المجهول، بأن صلى بلا قنوت لجهله بوجوبه، ومن المعلوم أنّ المركب ينتفي بانتفاء جزء واحد، ففي هذه الصورة لا يستحق العقاب على ترك الكل؛ لأنه معذور في تركه لجهله بوجوب الجزء العاشر، ويقبح العقاب بلا بيان، فلم يتنجز الكل في حقه.

الصورة الثانية: أن يكون ترك الكل مستنداً إلى ترك الأجزاء المعلومة، بأن يترك الصلاة رأساً، ولا يخفى أنه يشترك مع المكلف في الصورة الأولى في ترك الكل، حيث إنهما لم يؤديا الصلاة ذات العشرة أجزاء، فيستحق العقاب على ترك الكل، حيث إنه ترك الواجب دون عذر فعصى المولى، وقد تنجز الكل بالإضافة إليه، وإنما يستحق العقاب على ترك الكل لا على ترك الأجزاء المعلومة، فهو عاصٍ بلا مؤمن، وقد أمكنه التخلص من العصيان.

ومن المعلوم أنّ شرط الوجوب إما القدرة على الامتثال، أو القدرة على عدم العصيان بعذر، وبعبارة أخرى: إنّ ملاك التنجز وصحة التكليف ليس القدرة، بل إمكان تخلص المكلف من المعصية، والمكلف في المقام قادر على التخلص من المعصية بإتيان الصلاة ذات الأجزاء التسعة.

إن قلت: إنه مستلزم للدور.

قلت: لا دور في المقام؛ لتقدم اللحاظ لا تقدم إمكان التخلص الخارجي،

ص: 138

فإنّ المولى بلحاظ لحاظه إمكان التخلص من المعصية يصح له الأمر.

وعليه نتساءل: هل أنَّ وجوب الأكثر منجز أم لا؟ وهل لترك الأكثر عقوبة أم لا ؟

الجواب: إنَّه يتحقق التنجز وتتم العقوبة بلحاظ الأجزاء المعلومة، لا بلحاظ الجزء المجهول، وقد ذكرنا أنه ليس البحث حول تنجز الأجزاء المعلومة والمجهولة، بل البحث في تنجز الكل ووجوب المجموع، فإنه منجز بلحاظ دون لحاظ.

قال الشيخ محمد تقي الشيرازي (رحمه اللّه) : «إن المراد بعدم تنجز الأكثر هي المعذورية من قبل تركه إذا استند إلى ترك خصوص الجزء المشكوك، فإنه الذي يكون به الأكثر مقابلاً للأقل، لا إذا استند تركه إلى ترك سائر الأجزاء بالاستقلال، أو بالانضمام إلى الجزء المشكوك، ولا منافاة بين المعذورية وعدم العقاب على ترك الأكثر بناء على الأول، وعدم المعذورية وثبوت العقاب على تركه بناء على الثاني»(1).

هذا مفاد التبعض في التنجيز، وهو وجه قابل للتأمل، بل ربما حري بالقبول.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

الوجه الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم
اشارة

الوجه الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم(2)

اشارة

وهو ما يستفاد من كلمات الشيخ الأعظم: من أنّ الأقل معلوم الوجوب،

ص: 139


1- نهاية الدراية 2: 625، نقلاً عن رسالة أحكام الخلل في الصلاة.
2- فرائد الأصول 2: 328.

إما بالوجوب الاستقلالي أو الوجوب الضمني، فإن كان الأقل هو الواجب في الواقع كان وجوبه استقلالياً، وإن كان الأكثر هو الواجب كان وجوب الأقل ضمنياً، ومعنى الوجوب الضمني هو الوجوب المتعلق بالمركب الذي ينبسط على أجزائه، فكل جزء له وجوب ضمني، وهذا الوجوب الضمني انبساط الوجوب الاستقلالي، والأكثر مشكوك الوجوب، فينحل العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل، والشك البدوي في وجوب الأكثر، فتجري البراءة العقلية في الأكثر المشكوك.

وأورد عليه بإشكالات

الإشكال الأول: ما ذكره المحقق النائيني(1)،

وحاصله: أنّ انحلال العلم الإجمالي متوقف على انقلاب القضية المهملة إلى القضية المطلقة، وهو مفقود في المقام فلا ينحل.

قال(2): إنَّ المقدار المعلوم هو وجوب الأقل الجامع بين كونه لا بشرط بالقياس إلى المشكوك، وكونه بشرط شيء، ومن المعلوم أن الجامع بينهما ليس إلا الطبيعة المهملة، ومن الواضح أن المعلوم بالإجمال لم يكن إلاّ وجوباً دائراً أمره بين تعلقه بالأقل، أي: الماهية اللابشرط، أو الأكثر أي: الماهية بشرط شيء، والمعلوم التفصيلي ليس إلا نفس الماهية المهملة، فلو كان هناك انحلال للزم أن يكون العلم الإجمالي منحلاًّ بنفسه، وهذا غير معقول.

ص: 140


1- أجود التقريرات 2: 289.
2- بتوضيح من السيد الاستاذ (رحمه اللّه) .

والحاصل: إنّ المعلوم بالتفصيل هو العلم بوجوب الأقل، وهو علم بالطبيعة المهملة، أي: العلم بوجوب جامع بين الوجوب بشرط شيء والوجوب اللابشرط، والمعلوم بالإجمال هو العلم بوجوب الأقل أو الأكثر فاتحدا، فإن المعلوم بالإجمال هو العلم بالجامع، أي: الطبيعة المهملة، والمعلوم بالتفصيل هو نفس العلم بالطبيعة المهملة، ففي الواقع هنالك علم إجمالي واحد يعبر عنه بتعبيرين مختلفين، والعلم الإجمالي لا يمكنه أن يحل نفسه، فما ذكره الشيخ الأعظم غير معقول.

لكنه محل تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: إنَّ المتحقق في المقام علمان إجماليان لا علم واحد، الأول: العلم بأصل الوجوب، والثاني: العلم بحد الوجوب، ويمكن للعلم الإجمالي الأول أن يحل الثاني، ولا محذور فيه، حيث لا يلزم أن ينحل بالعلم التفصيلي فحسب، كما لو قامت البينة على وجود نجاسة في البيت، وقامت بينة ثانية على وجود نجاسة في الجانب الشرقي منه، واحتمل انطباق المعلوم بالإجمال الأول على المعلوم بالإجمال الثاني، فينحل العلم الإجمالي الأول؛ لأنّ الجانب الشرقي معلوم النجاسة، وسائر أنحاء البيت مشكوك بالشبهة البدوية تجري فيها أصالة الطهارة، فينحل العلم الإجمالي بعلم إجمالي آخر.

وما نحن فيه كذلك، فإنّ المتحقق علمان إجماليان، متعلق الأول الوجوب النفسي، حيث يعلم بالوجوب النفسي للأقل أو الأكثر، والثاني: العلم بأنّ الأقل واجب إما بالوجوب النفسي الاستقلالي أو الوجوب النفسي

ص: 141

الضمني، فإنه لو كان الأكثر واجباً نفسياً كان الأقل واجباً بالوجوب النفسي الضمني، ولو كان الأقل واجباً بالوجوب النفسي كان الأقل واجباً بالوجوب النفسي الاستقلالي، فالعلم الإجمالي الأول علم بالوجوب النفسي المتعلق بالأقل أو الأكثر، والعلم الإجمالي الثاني العلم بوجوب الأقل، إما بالوجوب النفسي الاستقلالي أو الضمني، فالأقل متيقن الوجوب على كل تقدير، والأكثر مشكوك الوجوب، وهذا المقدار كافٍ في حل العلم الإجمالي الأول.

والظاهر أنّ عليه بناء العقلاء، فلو أمر المولى بمركب، كبناء بيت، وشك في صدور الأمر ببناء السرداب جرت فيه البراءة؛ لكون الأقل متيقناً إما بالوجوب النفسي الاستقلالي، أو بالوجوب النفسي الضمني، والسرداب مشكوك.

الجهة الثانية: ليس الانحلال حقيقياً، بل يمكن القول بالانحلال الحكمي في العلم الإجمالي الواحد، ويتحقق الانحلال الحكمي فيما لو كان أحد أطراف العلم الإجمالي مجرى الأصل المؤمن دون الطرف الأخر؛ وذلك لأنّ ملاك منجزية العلم الإجمالي هو تعارض الأصول في الأطراف، فلو جرى الأصل المؤمن في أحد الطرفين دون الأخر انحل العلم لعدم التنجز.

وما نحن فيه من هذا القبيل، لتحقق العلم إجمالاً بوجوب الأقل، إما على نحو اللابشرط وإما بشرط شيء، فتجري البراءة العقلية عن وجوب الأقل بشرط شيء، أي: وجوب الأجزاء التسعة بشرط الجزء العاشر؛ لعدم تمامية البيان، وأما وجوب الأقل اللابشرط فلا معنى لجريان الأصل المؤمن فيه؛

ص: 142

لأنّ وجوب الأجزاء التسعة على نحو اللابشرط توسعة على المكلف، فاللابشرطية ليس تضييقاً حتى ترفع بالبراءة العقلية، فينحل العلم الإجمالي بجريان الأصل المؤمن في أحد طرفيه دون الطرف الآخر.

الإشكال الثاني: لا نسلم بوجود الأمر الضمني، حتى يقال: نعلم بوجوب الأقل إما بالوجوب الضمني أو الاستقلالي، فإنّ الأمر متعلق بالمجموع المركب، لا الأجزاء، فإنّ المولى يلاحظ الكل بعنوان الوحدة، فيصدر الأمر الواحد متعلقاً بالمجموع.

لكنه محل تأمل، فإننا نسلم عدم وجود الأمر الضمني، إلا أنّ المنفي هو الأمر الشرعي، وأما الأمر العقلي فهو قطعي الوجود، فإنّ العقل يأمر بالإتيان بالأجزاء، فكل جزء مأمور به بالأمر العقلي، وإن لم يكن مأموراً به بالأمر الشرعي.

الإشكال الثالث: ليس المعلوم بالتفصيل مصداقاً للمعلوم بالإجمال، ويشترط في الانحلال ذلك؛ لأنّ المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي الاستقلالي المتعلق إما بالأقل أو الأكثر، وأما المعلوم بالتفصيل فهو الجامع بين الوجوب النفسي الاستقلالي، والوجوب النفسي الضمني، فلا يعلم انطباق المعلوم بالتفصيل المتعلق بالأقل على المعلوم بالإجمال.

ومضى الجواب عنه بعدم اشتراط اتحاد السنخ بين المعلوم بالتفصيل والمعلوم بالإجمال، ويدل عليه بناء العقلاء ظاهراً.

وذكر في النهاية وجهاً آخر لإثبات جريان البراءة العقلية وانحلال العلم الإجمالي، حيث قال: «والتحقيق في تقريب الانحلال: أنا لا نقول بوجوب

ص: 143

الأقل - إما لنفسه أو لغيره - حتى يقال بأن تنجزه على أي تقدير فرع تنجز الأكثر، فيلزم المحاذير المتقدمة، بل الأجزاء - كما حقق في مبحث مقدمة الواجب(1) - وإن كانت مقدمات داخلية لكنها غير واجبة بوجوب غيري مقدمي، لما ذكر من المحذور في محله، بل هناك وجوب نفسي واحد منبعث عن إرادة نفسية واحدة، منبعثة عن غرض واحد قائم بالأجزاء بالأسر التي عين الكل، فوزان الوجوب النفسي الواحد القائم بالأجزاء بالأسر وزان الوجود العلمي المتعلق بمعنى تأليفي تركيبي، كالدار المؤلفة من عدة معانٍ، كالسقف والقباب والجدران وغيرها، وانبساطه على تلك الأجزاء بالأسر ليس كانبساط البياض على الجسم، بحيث يكون لكل قطعة منه حظ من البياض بنفسه، بل كانبساط الوجود الذهني على الماهية التركيبية، فإن المجموع ملحوظ بلحاظ واحد لا كل جزء بلحاظ يخصه»(2).

بيانه: أولاً: إنّ الوجوب واحد متعلق بالمركب، ومنبعث عن الإرادة المولوية الواحدة المنبعثة عن غرض واحد، والغرض قائم بالمجموع المركب، فليس هنالك وجوبات متعددة كالأقل والأكثر الاستقلالي كدراهم البقال، حيث يتعدد الوجوب والإرادة والغرض.

وثانياً: يوجد عندنا نوعان من الوجود الانبساطي، الأول: أن يكون لكل جزء حظ من وجود المنبسط، كانبساط البياض على الجدار، حيث إنّ لكل جزء منه حظاً منه ولذا يمكن القول: إنَّ هذا الجزء أبيض وذاك أبيض، لكن

ص: 144


1- نهاية الدراية 1: 314.
2- نهاية الدراية 2: 627.

ليس انبساط الوجوب على الماهية المركبة من هذا القبيل، بل من قبيل الثاني، وهو: انبساط الوجود الذهني على الماهية التركيبية، كماهية الدار المركبة من الجدار والسقف واللِبن والآجر، والتي لها صورة علمية في الذهن تنبسط عليها، لكن ليس لكل جزء جزء من هذه الماهية التركيبية حظٌّ من هذا الوجود المنبسط، فلذا لا يمكن الإشارة إلى الجدار والقول: إنّه دار، بل المجموع المركب دار، لا كل بعض من الأبعاض.

وبعد تمامية هذا المطلب استدل بما نصه: «فنقول لا ريب في أن هذا الوجوب النفسي الشخصي المعلوم أصله منبسط على تسعة أجزاء بتعلق واحد، وانبساطه بعين ذلك التعلق على الجزء العاشر المشكوك مشكوك، فهذا الوجوب النفسي المشخص المعلوم بمقدار العلم بانبساطه يكون فعلياً منجزاً، وبالمقدار الآخر المجهول لا مقتضي لفعليته وتنجزه»(1)، فثبت المطلوب، وهو أن الأجزاء التسعة منجزة بوجوب نفسي لا وجوب مقدمي، وقد اعتمد عليه كثيراً، وصرح بقوله: «فتدبره فإنه حقيق به»(2).

وأورد عليه بعض المتأخرين(3): أنه لا طاعة ولا تنجز مستقل للأمر الضمني، فالأجزاء التسعة إن كانت واجبة بالوجوب الاستقلالي كان الأمر منجزاً، أما لو كانت واجبة بالوجوب الضمني فلا تنجز ولا طاعة مستقلة له، فلا يمكن القول بتحقق العلم بتنجز وجوب التسعة، والشك في تنجز

ص: 145


1- نهاية الدراية 2: 627-628.
2- نهاية الدراية 2: 629.
3- منتقى الأصول 5: 204.

وجوب الجزء العاشر، فلا ينحل العلم الإجمالي.

لكن الظاهر أنه غير وارد؛ للفرق بين الوجوب الضمني والوجوب الانبساطي، فإن معنى الأول هو تولد الأمر المتعلق بالأجزاء من الأمر الاستقلالي، حيث يتولد من قول المولى: (صلِّ) أمر (كبر) و(اركع) و (اسجد) وليس مبنى الوجه المذكور ذلك، بل ربما لم يرتضِ صاحب النهاية أصل وجود الأمر الضمني، بل مبنى استدلاله على الأمر النفسي الانبساطي، أي: انبساط الأمر الواحد، كانبساط الصورة العلمية الذهنية على الهيئة التركيبية الخارجية.

ومع ذلك لا يخلو الوجه المذكور من غموض، ووجهه هو اشتراط لحاظ الأبعاض على نحو بشرط شيء في انبساط الوجوب النفسي الواحد عليها، وبعبارة أوضح: إنّ انبساط الوجوب مشروط بانضمام هذه الأبعاض إلى بقيتها، وأما لو لوحظت الأبعاض على نحو اللابشرط أو بشرط لا فلا ينبسط الوجوب عليها، مثلاً: من الأمر بالصلاة ينبسط الوجوب النفسي على التكبير بشرط شيء، أي: الملحوق ببقية الأبعاض، أما التكبير بشرط لا أو اللابشرط فلا.

فمع الشك في كون المجموع تمام المتعلق أو بعضه يُشك في انبساط الوجوب النفسي عليه، ومعه لا يتم مبنى الاستدلال، حيث بُني على نفي الريب عن انبساط الوجوب النفسي على الأجزاء التسعة؛ وذلك لأنّ الواجب إن كان هو الأكثر كان انبساط الوجوب على الأقل اللابشرط مشكوكاً، بل مقطوع العدم، وحيث يشك في كون الواجب هو الأقل أو الأكثر يتحقق الشك في أصل انبساط الوجوب النفسي على الأجزاء التسعة، فلا ينحل

ص: 146

العلم الإجمالي بما ذكر.

هذا تمام الكلام في الوجوه التي استدل بها لجريان البراءة العقلية.

وجوه عدم جريان البراءة في موارد الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين:
اشارة

وقد ذكروا وجوهاً لعدم جريان البراءة العقلية في موارد الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين، فيجب الاحتياط، وهي:

الوجه الأول: ما ارتضاه صاحب الكفاية
اشارة

وهو ما ارتضاه المحقق الخراساني، وأشار إليه الشيخ الأعظم لكنه لم يرتضه، قال: «مع أنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلا بالأكثر، بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه، وكون الواجبات الشرعية ألطافاً في الواجبات العقلية، وقد مرّ اعتبار موافقة الغرض في إطاعة الأمر وسقوطه، فلابد من إحرازه في إحرازها»(1).

وينحل الاستدلال إلى مقدمتين:

المقدمة الأولى: إنَّ الأمر كاشف إني عن وجود الغرض في المتعلق؛ لأنّ الأوامر والنواهي الشرعية معلولة لوجود الأغراض في المتعلقات، على المشهور بين العدلية من الشيعة والمعتزلة، بخلاف الأشاعرة القائلين بكون أوامر اللّه لا تعلل بالأغراض، بل للإرادة الجزافية.

ثم إنه ذهب مشهور العدلية(2) إلى أن الغرض ينحصر في المتعلق، بينما

ص: 147


1- كفاية الأصول: 364.
2- فرائد الأصول2: 319-320.

ذهب بعضهم إلى أنه يمكن أن يكون الغرض في نفس الأمر، ومثلوا لذلك بالأوامر الاختبارية والاعتذارية، حيث لا مصلحة للمولى في متعلقها، بل يريد العقاب مثلاً فيبحث عن العذر، فالمصلحة في الأمر نفسه لا في متعلقه.

وعليه لو قلنا: إنّ الأوامر الشرعية تابعة للأغراض في المتعلق تمت المقدمة الأولى.

المقدمة الثانية: يجب عقلاً على العبد تحصيل أغراض المولى، ولا يمكنه الاقتصار على امتثال أوامره فحسب، وقد مثل لذلك السيد الوالد (رحمه اللّه) في الوصول(1): بما لو أمر المولى عبده بإغلاق الباب، وعلم أن غرضه عدم خروج الطفل من الدار لحفظه عن الاختطاف، ثم نام المولى فرأى العبد أنه يريد الخروج من الشباك أو عبر السلم، فهل يمكنه الاقتصار على امتثال أمر المولى وإهمال غرضه حتى يخرج الطفل؟ كلا ولو فعل استحق العقاب.

والمثال المعروف لذلك ما لو غرق ابن المولى في البحر فلم يحرك العبد ساكناً، فإنه يستحق العقوبة لتفويته غرض المولى، وبذلك يثبت وجوب تحصيل غرض المولى.

وبعد بيان المقدمتين نقول: إنّ للمولى غرضاً من الأمر، ويجب تحصيل الغرض المولوي الملزم، ولا يمكن تحققه إلا بالإتيان بالأكثر، فإنه المتيقن، وأما الأقل فهو مشكوك، فيجب الإتيان بالأكثر؛ لتحصيل القطع بتحقق غرض المولى.

ص: 148


1- الوصول 4: 405.
وأورد عليه بإشكالات

الإشكال الأول

ما ذكره الشيخ الأعظم في الفرائد(1) من أن مسألة البراءة والاحتياط لا تبتني على مذهب العدلية القائلين بنشوء الأوامر والنواهي من الملاكات الواقعية النفس الأمرية، بل يتأتى حتى على مذهب الأشاعرة القائلين بنشوء الأوامر والنواهي من الإرادة الجزافية.

وأورد عليه صاحب الكفاية بقوله: «إنّ حكم العقل بالبراءة على مذهب الأشعري لا يجدي مَنْ ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية»(2)،

فلابد وأن يفتي بالاحتياط.

والظاهر أن النزاع لفظي، فمراد الشيخ الأعظم أنّ الاستدلال المذكور لا يلزم الجميع كالأشاعرة، ومراد صاحب الكفاية أنه يلزم العدلية، فالأشعري بناء على هذا الوجه يمكنه الإفتاء بالبراءة، والعدلي يلزمه الإفتاء بالاحتياط، فلا خلاف بينهما.

الإشكال الثاني

ما ذكره الشيخ أيضاً(3)، وهو أن الوجه المذكور مبني على القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات، أما على المبنى الآخر من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في نفس الحكم فلا، حيث لا غرض في المتعلق حتى يقال بلزوم تحصيله، بل الغرض امتحان المكلف مثلاً، وهو

ص: 149


1- فرائد الأصول 2: 319.
2- كفاية الأصول: 365.
3- فرائد الأصول 2: 319.

يتأتى بالأقل والأكثر.

وأجاب عنه صاحب الكفاية مضافاً إلى الجواب السابق بقوله: «لاحتمال أن يكون الداعي إلى الأمر ومصلحته - على هذا المذهب أيضاً - هو ما في الواجبات من المصلحة، وكونها ألطافاً»(1).

فإن المبنى المذكور لا يحصر المصلحة في نفس الحكم، بل كما يحتمل أن تكون المصلحة في نفس الحكم يحتمل أن تكون في المتعلق، ولا يمكن إحراز تحصيلها إلاّ بالإتيان بالأكثر.

لكنه غير وارد؛ لأنّ الثابت ببناء العقلاء وجوب تحصيل الغرض المقطوع فيما لو كانت هنالك مصلحة يقينية، أما مع احتمال وجودها في الفعل فلا يجب، حيث لا دليل على وجوب تحصيل المصلحة المحتملة، فوزان المصلحة وزان التكليف، فلو كان التكليف مشكوكاً لم يجب تحصيله؛ لقبح العقاب بلا بيان، كذلك المصلحة، وكما أن البراءة العقلية مؤمنة عن لزوم تحصيل الأمر المحتمل، كذلك هي مؤمنة عن لزوم تحصيل المصلحة المحتملة.

الإشكال الثالث

ما ذكره الشيخ أيضاً(2): كما أنه لا يعلم تحقق الغرض بالأقل كذلك الأكثر؛ لاحتمال وجوب قصد الوجه، فلو أتى بالأكثر لم يمكنه قصد الوجوب أو الاستحباب بالنسبة إلى الجزء المشكوك للشك فيهما، وعليه لابد من رفع اليد عن الغرض؛ لعدم العلم بتحققه، سواء أتى بالأقل أم

ص: 150


1- كفاية الأصول: 365.
2- فرائد الأصول 2: 320.

الأكثر، فلابد من ملاحظة الأمر، وبعبارة أخرى: نتنزل عن العلة، أي: الغرض إلى المعلول، أي: الأمر وهو انحلالي، فإنّ الأمر بالأقل مسلم، والأمر بالأكثر مشكوك، فتجري البراءة عن الأكثر.

وأورد عليه بإيرادات:

الإيراد الأول: إنه تام في التعبديات دون التوصليات؛ لعدم لزوم قصد الوجه فيها(1)، فيمكن تحصيل الغرض بالإتيان بالأكثر فيها، كما لو شك في أن ذكر المهر مقوم العقد الدائم أم لا، أو شك أنّ التطهير واجب أم لا.

الإيراد الثاني: اعتبار قصد الوجه مختص بصورة إمكانه، وأما مع عدم إمكانه فلا وجوب له، وقصد الوجه غير ممكن في المقام(2)، حيث إن قصده في الجزء المشكوك تشريع محرم، وعليه فشرطية قصد الوجه في الجزء المشكوك ساقطة قطعاً، فيمكن الإتيان بالأكثر وتحصيل الغرض به.

الإيراد الثالث: قصد الوجه واجب في الواجبات الاستقلالية النفسية، لا في الواجبات الضمنية، فإنّ الأدلة الدالة عليه تثبت وجوبه في نفس العمل لا في أبعاضه، ويمكن نية الوجه في الأكثر، بأن ينوي الصلاة لوجوبها مع الشك في وجوب القنوت.

إن قلت: كيف ينوي الأكثر لوجوبه مع الشك في وجوب القنوت؟

قلنا: القنوت إما جزء الماهية أو جزء الفرد، فلو كان واجباً كان جزء الماهية، ولو كان مستحباً كان جزء الفرد، والطبيعي ينطبق على الفرد

ص: 151


1- منتهى الأصول 2: 50.
2- وسيلة الوصول: 654.

بتمامه، فيمكن قصد الوجه في الأكثر مع احتمال استحباب القنوت، فإنه لو كان القنوت مستحباً كان جزء المشخصات الفردية للصلاة، والطبيعي ينطبق على الفرد بما له من المشخصات الفردية.

كما أنّ الإنسان ينطبق على زيد بتمامه وكماله، مع أنه مركب من أجزاء الماهية والمشخصات الفردية، فإنّ احتواءه على المشخصات الفردية غير الداخلة في حقيقة الماهية الإنسانية لا تنافي انطباق الإنسان عليه، كما أن المصلي في المسجد ينوي الوجوب مع أنّ صلاته تحتوي على الأجزاء والشرائط والمقارنات المستحبة، فلا إشكال في الإتيان بالأكثر مع نية الوجه.

الإيراد الرابع: لا دليل على وجوب قصد الوجه أصلاً، وقد قال المحقق(1): إنه كلام شعري ورد من علم الكلام إلى الفقه، بل الدليل على عدمه، وهو الإطلاق المقامي في الروايات البيانية، التي ذكرت جميع الأجزاء والشرائط والموانع والقواطع، كما في صحيحة حماد(2)، ولم يتطرق

ص: 152


1- فوائد الأصول 3: 67؛ أجود التقريرات 2: 42-43.
2- وهي: عن حماد بن عيسى أنه قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) يوماً تحسن أن تصلي يا حماد؟ قال: قلت: يا سيدي، أنا أحفظ كتاب حريز في الصلاة، قال: فقال (عليه السلام) : لا عليك قم صلِّ، قال: فقمت بين يديه متوجها إلى القبلة فاستفتحت الصلاة وركعت وسجدت، فقال (عليه السلام) : يا حماد، لا تحسن أن تصلي، ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة؟! قال حماد: فأصابني في نفسي الذل، فقلت: جعلت فداك فعلمني الصلاة، فقام أبو عبد اللّه (عليه السلام) مستقبل القبلة منتصباً، فأرسل يديه جميعاً على فخذيه قد ضم أصابعه، وقرب بين قدميه حتى كان بينهما ثلاثة أصابع مفرجات، واستقبل بأصابع رجليه جميعاً لم يحرفهما عن القبلة بخشوع واستكانة، فقال: اللّه أكبر، ثم قرأ الحمد بترتيل، وقل هو اللّه أحد ثم صبر هنيئة بقدر ما تنفس وهو قائم، ثم قال: اللّه أكبر وهو قائم ثم ركع وملأ كفيه من ركبتيه مفرجات...» وسائل الشيعة 5: 459.

فيها إلى قصد وجه إطلاقاً، فالإطلاق المقامي ينفي وجوب قصد الوجه. فما ذكره الشيخ غير تام.

الإشكال الرابع

ما ذكره المحقق النائيني(1): ويتضح بعد بيان مقدمة، وهي: إنّ الغرض المترتب على المأمور به على نحوين:

الأول: أن تكون نسبة الغرض إلى المأمور به نسبة المعلول إلى العلة التامة، بحيث لا تتوسط مقدمة بين المأمور به وبين الغرض، وذلك كموارد المسببات التوليدية إذا تعلق الأمر بأسبابها، كما لو أمر بإلقاء الورقة في النار، فإنّ الغرض هو الاحراق، ولا واسطة بينه وبين المأمور به.

الثاني: أن تكون نسبة الغرض إلى المأمور به نسبة المعلول إلى المقدمات الإعدادية، بأن يتوسط بينهما مقدمات غير اختيارية، كالأمر بإلقاء الحنطة في التراب، فإنّ الغرض صيرورة الحبة سنبلاً، وبينهما مقدمات غير اختيارية، كإشراق الشمس وهطول المطر وما أشبه.

أما النحو الأول فيجب تحصيل الغرض فيه؛ لأنّ المقدور بالواسطة مقدور، فالإحراق مقدور بتوسط القدرة على مقدمته، بل يمكن أن يكون الأمر متعلقاً في الواقع بالغرض نفسه، أي: أمر المولى بإحراق الورقة، لكن عبر عنه بالإلقاء للتلازم بينهما.

وعليه، لو كان أمر المأمور به دائراً بين الأقل والأكثر كان الإتيان بالأكثر واجباً؛ لعدم العلم بحصول الغرض بالأقل، وقد قلنا: إنّ المأمور به في الواقع

ص: 153


1- فوائد الأصول 4: 174.

هو الغرض، أو أنّ الغرض هو المقصود من الأمر، فيكون مجرى الاحتياط العقلي بتحصيله.

وأما النحو الثاني فلا يجب تحصيل الغرض، حيث لا يعقل تعلق الأمر به؛ لعدم كونه اختيارياً، بل المكلف مأمور بالمقدمة الإعدادية، وعليه لو كان أمر المقدمات دائراً بين الأقل والأكثر جرت البراءة العقلية عن الأكثر.

وبعد بيان هذه المقدمة نقول: إنّ الأغراض الشرعية المترتبة على الأفعال المأمور بها من قبيل الثاني.

وعلل المحقق النائيني(1) ذلك بتعليلات مختلفة، والظاهر أنه لم يبين دليلاً واضحاً على ما ذكره، فنقتصر على ذكر أحد بياناته، وهو أنه لا يصح الأمر بالسبب مع إرادة المسبب إلا أن يكون وجوده منه من الأمور المرتكزة العرفية، بحيث يكون تعلق الأمر بالسبب مساوقاً للأمر بالمسبب في نظر العرف، كما لو قال: اقطع أوداج الذبيحة، فإنه مساوق عرفاً مع الأمر بإزهاق الروح، فلا فرق بين أن يقول المولى: اقطع الأوداج أو ازهق الروح بقطع الأوداج، كما لا فرق بين أن يقول: الق الورقة في النار أو أحرق الورقة.

أما لو لم يساوق الأمر بالسبب للأمر بالمسبب فإنّ المأمور به هو السبب، وإلا لزم الإغراء بالجهل، حيث إنه يلزم الأمر بالسبب المقيد بكونه مؤدياً إلى تحقق المسبب، أما الأمر المطلق به فهو إغراء بالجهل ونقض للغرض.

وفي الأوامر الشرعية نرى الأمر بالأسباب دون المسببات، كقوله: صلِّ،

ص: 154


1- فوائد الأصول 4: 175.

كبر، اركع، ارم الجمرات - وربما لا يوجد مورد واحد للأمر الشرعي بالمسبب - ولا ينتقل العرف من الأمر بالأسباب إلى الأمر بمسبباتها الواقعية، ولم يقيد المولى أوامره بالأسباب بحيث تؤدي إلى المسببات، فيعلم أن المأمور به نفس الأسباب لا المسببات، وهذه المسببات خارجة عن اختيار المكلف.

وعليه، يكون الأمر بالأسباب الشرعية من قبيل القسم الثاني، حيث إنَّ الغرض خارج عن اختيار المكلف، أو ليس المكلف مأموراً من قبل الشارع بتحصيل تلك الأغراض، فتجري البراءة العقلية عن الأكثر عند الشك بينه وبين الأقل.

لكنه قاصر عن إفادة المدعى؛ لإمكان دعوى أنّ الشارع أمر بالأسباب دون المسببات لعلمه بالتلازم الواقعي النفس الأمري بين الأسباب والمسببات.

فهذا المقدار لا يدل على توسط الأمور غير الاختيارية بين الأسباب والمسببات، فلا تدل على أنّ الأغراض غير واقعة في حيز قدرة المكلف.

والاستدلال المذكور وإن كان غير واضح، إلا أنه يكفي للمحقق النائيني ادعاء الشك، حيث يُشك أن الأغراض الشرعية من قبيل النوع الأول فيلزم تحصيلها، أو من قبيل النوع الثاني فلا يلزم، وحيث لا يعلم أنها لازمة التحصيل أم لا فتجري البراءة العقلية.

والجواب المتوارث بين الأعلام(1) عما ذكره المحقق النائيني هو أنّ للمأمور به في النحو الثاني غرضين، الأول: الغرض الأقصى، والثاني:

ص: 155


1- بحوث في علم الأصول 2: 222.

الغرض الأدنى، والأقصى هو ما تكون نسبة المأمور به إليه نسبة المقدمات الإعدادية إلى المعلول، والأدنى هو ما تكون نسبته إليه نسبة العلة التامة إلى المعلول.

فبعد التسليم بأنّ الغرض الأقصى غير اختياري في النحو الثاني، إلا أنّ الغرض الأدنى اختياري، والمحقق النائيني مسلم بأنه لو كان الغرض اختيارياً كان المجرى الاحتياط لا البراءة، فيما لو شك بين الأقل والأكثر، فلو شك في تحقق الغرض الأدنى بالإتيان بالأقل لزم الاحتياط، فيتم ما ذكره صاحب الكفاية، والظاهر أنه تام.

ففي مثال زرع الحنطة: الغرض الأقصى صيرورة الحبة سنبلاً، وهو غير اختياري، فلا وظيفة تجاه تحصيله، أما الغرض الأدنى فهو أن يقوم المكلف بالإتيان بالمعد حتى يكون الشيء مستعداً لإفاضة اللّه تعالى - عبر المقدمات غير الاختيارية - صورة السنبلية على الحبة فهو اختياري، فلو شك أنّ الهدف الأدنى يتحقق بوضع الحبة في الأرض فقط، أو يلزم ضم السقي إليه، فهو شك بين الأقل والأكثر، وبما أنّ الوظيفة تحصيل الغرض الأدنى؛ لأنه اختياري، وجب الاحتياط عقلاً بالإتيان بالأكثر.

فما ذكره المحقق النائيني غير تام.

الإشكال الخامس

ما ذكره بعض المعاصرين(1): من أنه لا دليل على لزوم تحصيل أغراض المولى، فنحن مكلفون بامتثال أوامر المولى لا تحصيل غرضه.

ص: 156


1- منتقى الأصول1: 462.

وهو غير تام لما تقدم من استحقاق العبد العقاب على تفويته غرض المولى، كما في مثال إنقاذ ابنه من الغرق.

الإشكال السادس

كما أنّ أمر الوجوب مردد بين الأقل والأكثر كذلك أمر الغرض مردد بينهما.

بيانه: يحتمل أن يكون الغرض ذا مراتب يتحقق بعضها بالأقل، ولا يستوفى بعضها إلاّ بالأكثر، مثلاً: لأكل الطعام غرضان، الأول: دفع خطر الموت، وهو يتحقق بالأقل، والثاني: دفع ألم الجوع ولا يتحقق إلا بالأكثر.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فيمكن تحقق بعض مراتب الغرض من الأمر بالصلاة بالأقل، ولكن بعضها لا يتحقق إلا بالأكثر، ودخول المرتبة الدنيا من الغرض في عهدة المكلف متيقن، لكن دخول المرتبة العليا منه وتحققها مشكوك، فتجري البراءة بلحاظ مراتب الغرض.

لكنه محل تأمل، فكما يحتمل أن يكون الغرض مركباً كذلك يحتمل أن يكون بسيطاً ووحدانياً، ولا يتحقق إلاّ بالأكثر، فوجود الغرض مسلم، ولا يعلم سقوطه بالأقل، والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، فالجواب لا يفي بحل الإشكال.

وقد يجاب عنه بنفي وجود الغرض البسيط الوحداني بأصل العدم.

لكنه محل تأمل؛ لأنه معارض بأصالة عدم وجود الغرض المركب، وللأصلين أثر إما في النفي أو في المنفي، ولا يخفى أنه لا يلزم لجريان الأصل تحقق الأثر في النفي، بل لو كان للمنفي أثر كان مورد أصالة العدم،

ص: 157

فلأصل عدم وجود الغرض البسيط أثر، ولأصل عدم وجود الغرض المركب المنفي أثر أيضاً، فيتعارض الأصلان ويتساقطان.

الإشكال السابع

ما ذكر من حرمة تفويت الغرض(1).

ويرد عليه: إنّ تفويت الغرض على نحوين: فقد يكون تفويته مستنداً إلى المكلف، كما لو لم ينقذ ابن المولى من الغرق، فإنه مستند إلى العبد - لنوم المولى أو غفلته - وهو قبيح، وقد يكون التفويت مستنداً إلى المولى، كما لو تصدى لجعل محصل غرضه في عهدة المكلف - ولم يجعل الغرض في عهدته، فإنّ المولى قد يجعل الغرض في عهدة المكلف، كأن يريد منه قتل العدو وإنقاذ الغريق، ففي هذه الحالة لابد للمكلف من الاحتياط فيما لو شك في محصل الغرض، وقد يتصدى المولى لبيان محصل الغرض - ولم يبين بعض الأجزاء، فتفويت الغرض مستند إلى قصور بيانه، حيث أمكنه البيان أو جعل وجوب الاحتياط، بأن يقول لو شككت بين الأقل والأكثر فعليك الأكثر تحصيلاً للغرض.

فمع عدم جعل المولى وجوب القنوت - ولو بإيجاب الاحتياط - وكان هنالك غرض مترتب على الأكثر واقعاً كان فوته مستنداً إلى المولى، ولا يكون تفويته على فرض وجوده قبيحاً.

بل يمكن دعوى القطع بعدم وجود مثل هذا الغرض، فإنه لو لم يستوفِ غرض المولى إلاّ بوجوب الأكثر واقعاً، فلماذا لم يوصل المولى ذلك إلى

ص: 158


1- نهاية الدراية 2: 251؛ منتقى الأصول 2: 191.

العبد ولو بإيجاب الاحتياط ؟

ويدل عليه بناء العقلاء، فإنهم يرون العبد في سعة من ذلك الغرض المحتمل، ويقبح عقابه.

فالوجه الأول الذي ذكره صاحب الكفاية غير تام.

الوجه الثاني: ما نسب الى المحقق الشيخ محمد تقي الإصفهاني
اشارة

فقد حكي عنه عدم انحلال العلم الإجمالي إلى العلم بوجوب الأقل والشك في وجوب الأكثر؛ لأن الشك بينهما شك بين المتباينين، ومجراه الاحتياط لا البراءة.

وذلك لأنّ للماهية اعتبارات ثلاثة: (اللابشرط) و (بشرط شيء) و (بشرط لا) وهي متباينة، ووجوب الأقل يعني لحاظ الماهية على نحو (اللابشرط) ووجوب الأكثر يعني لحاظها على نحو (بشرط شيء)، والشك في المقام دائر بين الوجوب على نحو (لا بشرط) وبين الوجوب على نحو (بشرط شيء) وهما اعتباران متباينان، فيجب الاحتياط، كما هو الشأن في دوران الأمر بين المتباينين.

لكن يرد عليه إشكالات

الإشكال الأول: ما ذكره بعض المتأخرين: لا نسلم أنّ الأقل اللابشرط مباين مع الأقل بشرط شيء تباين القسيم للقسيم؛ لأنّ معنى كون الأقل (لا بشرط) يعني ملاحظة الأقل بنفسه من دون لحاظ انضمام شيء معه، وليس معناه لحاظ عدم لحاظ شيء معه، حتى يكون مبايناً مع الملحوظ بشرط شيء، وبعبارة مختصرة: معنى (اللابشرط) عدم لحاظ انضمامه لا لحاظ

ص: 159

عدم انضمامه، ولذلك فلحاظ الأقل ليس مبايناً مع لحاظ الأكثر.

لكنه محل إشكال جداً؛ فإنه لا يفيد عدم التباين، حيث نقول (اللابشرط) يعني عدم لحاظ شيء معه ملحوظاً، أي: لحاظ عدم لحاظ شيء معه، ولا فرق في (لحاظ شيء معه) بين الوجودي والعدمي، فلا فرق بين أن نقول: (لا بشرط) أمر وجودي أو أمر عدمي، فلو كان وجودياً كان مبايناً مع لحاظ (بشرط شيء) تباين الضدين، ولو كان على نحو (عدم اللحاظ) فهو مباين مع (لحاظ الانضمام) تباين النقيضين.

وبعبارة أخرى: سلمنا أنّ (اللابشرط) ليس أمراً وجودياً، بل أمر عدمي، يعني عدم لحاظ الانضمام، ولكنّه مناقض مع لحاظ الانضمام الذي هو مفاد بشرط شيء، فلم يخرج الأمر عن دائرة التباين.

الإشكال الثاني: سلمنا أنّ لحاظ (لابشرط) ولحاظ (بشرط شيء) متباينان تباين الضدين أو النقيضين، إلا أنّ المتحقق في المقام شيئان (لحاظ) و (ملحوظ)، ويتحقق التباين بين اللحاظين لا بين الملحوظين، وبعبارة أخرى: يتباين لحاظ ماهية (اللابشرط) مع ماهية (بشرط شيء)، لكن الملحوظين ليسا متباينين، ولذا اشتهر على الألسن(1): أن الماهية (لا بشرط) تجتمع مع ألف شرط، وذلك لا يكون إلا باعتبار حال الملحوظ لا اللحاظ، فإنّ اللحاظين متابينان.

والوجوب منصب على ذات الملحوظ لا على اللحاظ، فإنّ متعلق الوجوب المولوي هو الأجزاء، وانبساط الوجوب على الأجزاء التسعة

ص: 160


1- هداية المسترشدين 3: 176.

مسلم، وانبساطه على الجزء العاشر مشكوك، فتجري البراءة، وبعبارة أخرى: أوجب المولى مركباً وعنواناً، وهو عين أجزائه، وللأجزاء التسعة المدخلية في العنوان بخلاف الجزء العاشر، فإنه مشكوك.

الإشكال الثالث: نقضي: فلو دار الأمر بين المتباينين وجب التكرار، كما هو الشأن فيهما، ولم يلتزم به حتى المستدل، فيدل على أنّ الأمر ليس دائراً بينهما، بل بين الأقل والأكثر.

الوجه الثالث: عدم تعلق الأمر بالأقل

إنَّه بالبراءة لا يثبت تعلق الأمر بالأقل؛ لأنّ نفي أحد الضدين بالأصل العملي لا يثبت الضد الآخر، ولو كانا من الضدين الذين لا ثالث لهما.

لكنه محل تأمل، فإنّ في المقام مطلوبين:

الأول: إثبات وجوب الأقل، وهو ثابت بالضرورة، فإن التكبير والركوع والسجود واجبات بالضرورة، أو بالأمر الأول، أي: الأمر بالمركب، كما سيأتي إن شاء اللّه.

الثاني: نفي وجوب الجزء المشكوك، والبراءة العقلية تتكفل هذا المطلوب، فإثابت وجوب الأقل ليس بالبراءة حتى يقال: إنّه مثبت، وإنما هو بدليل آخر.

الوجه الرابع: عدم صلاحية الأمر المتعلق بالأقل للتقرب

وهو خاص بالأوامر التعبدية دون التوصلية، وحاصله: لا يصلح الأمر المتعلق بالأقل للتقرب، فإنّ الأمر دائر بين الوجوب النفسي الصالح للتقرب إلى اللّه تعالى، وبين الأمر الغيري غير الصالح للتقرب، فمن يأتي بالأقل لا

ص: 161

يمكنه الإتيان به متقرباً.

لكنه غير وارد لجهات:

الجهة الأولى: يحتمل وجود الأمر النفسي المتعلق بالأقل - إن كان الأقل واقعاً هو الواجب - وهو كافٍ للتقرب به إلى اللّه تعالى، فلا يشترط في المقربية وجود الأمر القطعي، بل الأمر الاحتمالي كافٍ أيضاً، كما هو الشأن في الاحتياط، فلو كانت هنالك عبادة مشكوكة محتملة كان نفس احتمال وجود الأمر كافياً لنية التقرب به إلى اللّه تعالى، وإلا استلزم سد باب الاحتياط في العبادات.

وبعبارة أخرى: كما أنّ الانبعاث عن البعث القطعي مقرب إلى المولى، كذلك الانبعاث عن البعث الاحتمالي، فلو أتى العبد بعمل يحتمل كونه محبوباً للمولى كان العمل مقرباً إليه .

فإن تمت هذه الجهة وإلا ننتقل إلى:

الجهة الثانية: الأمر النفسي القطعي متحقق في المقام، وهو الأمر بالمركب، وهو ينسبط على الأجزاء التسعة بالبيان الذي مرّ سابقاً، أو بالبيان الذي سيأتي، فيتقرب إلى المولى بامثتال هذا الأمر النفسي القطعي.

وبعبارة أخرى: يوجد عندنا مكلفان، الأول: يأتي بالأجزاء التسعة ويجري البراءة عن الجزء العاشر، والثاني: يأتي بالأجزاء العشرة احتياطاً، ولا يكون محركهما إلاّ الأمر النفسي في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ}(1)، ولا فارق بينهما إلاّ أنّ الأول يرى البراءة عن المشكوك، والآخر يرى الاشتغال

ص: 162


1- الإسراء: 78.

بالمشكوك، وإلا فإنّ الأمر النفسي القطعي محرك للاثنين، والوجدان الخارجي أصدق شاهد على ما نقول.

فإن تمت هذه الجهة وإلاّ ننتقل إلى:

الجهة الثالثة: لا مانع من التقرب بالأمر الضمني أو المقدمي المتحقق في الأقل قطعاً، وبعبارة أدق: الأقل مأمور به على كل تقدير، إما بالأمر النفسي أو الضمني أو المقدمي، لأنّه إن كان الواجب هو الأقل فهو مأمور بالأمر النفسي، وإن كان الواجب هو الأكثر فالأقل مأمور به بالأمر الغيري، وكل ما كان مأموراً به بأي نحو من أنحاء الأمر كان صالحاً للتقرب به إلى المولى؛ لأنّ المهم إضافة العمل إلى المولى، والأقل مضاف بنحو من أنحاء الإضافة إليه قطعاً، كما أنّ مقدمة الواجب وأجزاءه مضافة إلى المولى، فالإضافة حاصلة في المقام، وهي كافية في التقرب.

والحاصل: إنّ مؤدّى الجواب الأول هو احتمال تحقق الأمر النفسي في المقام، ويكفي ذلك للتقرب، ومؤدّى الجواب الثاني هو تحقق الأمر النفسي قطعاً، ومؤدّى الجواب الثالث هو تردد الأمر بين النفسية والضمنية والغيرية، وهذا المقدار من الإضافة كافٍ للتقرب إلى المولى.

الوجه الخامس: كون الشك في سقوط الأمر لا في ثبوته

إن الشك في سقوط الأمر لا في ثبوته، ومجراه الاشتغال.

قال المحقق النائيني في الفوائد: «إنه لا إشكال في أنّ العقل يستقل بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي؛ ضرورة أنّ الامتثال الاحتمالي إنما يقتضيه التكليف الاحتمالي، وأما التكليف القطعي فهو يقتضي الامتثال القطعي؛ لأنّ العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بالفراغ عقلاً، ولا يكفي

ص: 163

احتمال الفراغ، فإنه يتنجز التكليف بالعلم به ولو إجمالاً، ويتم البيان الذي يستقل العقل بتوقف صحة العقاب عليه، فلو صادف التكليف في الطرف الآخر الغير المأتي به(1) لا يكون العقاب على تركه بلا بيان، بل العقل يستقل في استحقاق التارك للامتثال القطعي للعقاب على تقدير مخالفة التكليف، ففيما نحن فيه لا يجوز الاقتصار على الأقل عقلاً؛ لأنه يشك في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين، ولا يحصل العلم بالامتثال إلا بعد ضم الخصوصية الزائدة المشكوكة»(2).

فلو أمر المولى بإقامة الصلاة اشتغلت ذمة المكلف بامتثاله، والإتيان بالأكثر يوجب فراغ الذمة قطعاً، وأما الإتيان بالأقل فيشك في كونه مبرئاً للذمة، والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، فيلزم الإتيان بالأكثر عقلاً.

لكنه محل تأمل، فإنه لو كانت النسبة بين العنوان وبين الأجزاء في المركبات الارتباطية الاعتبارية هي نسبة المحصَّل والمحصِّل كان ما ذكره تاماً، حيث يشك في أنّ محصَّل أمر المولى هل هو الأقل أو الأكثر فلابد من الفراغ اليقيني؟ وأما لو كانت النسبة نسبة الاتحاد والعينية لا الغيرية، فيكفي الإتيان بالأقل عقلاً؛ لأنه شك في ثبوت التكليف في الواقع لا في سقوطه.

فمثلاً: عنوان العشرة ليس عنواناً متحصلاً عن الآحاد ومعلولاً لها، بل هو متحد مع الآحاد، والفرق بينهما أنّ العشرة عنوان إجمالي، والوحدات تفصيل له، بمعنى أنّ هنالك واقعية قد يعبر عنها بالعنوان الإجمالي، وقد يعبر

ص: 164


1- هكذا في المصدر، والصحيح: غير المأتي به.
2- فوائد الأصول4: 159-160.

عنها بالعنوان التفصيلي، فتارة نقول: هذا وهذا وذاك، وتارة نقول: العشرة، والعشرة هي بعينها هذا وهذا وذاك، والفرق بينهما بالإجمال والتفصيل، كما هو الحال في الإنسان والحيوان الناطق، فلو ثبت أنّ النسبة بين العنوان والأجزاء نسبة العينية والاتحاد نقول: (أقم الصلاة) يعني أقم هذه الأجزاء، أي: أقم التكبيرة والركوع والسجود، فلو كان المولى يبين العنوان بنحو التفصيل، وكان المكلف يشك في وجوب القنوت كان الشك في الاشتغال، فما ثبت به التكليف - أي: كبّر واركع واسجد - خرج المكلف عنه عهدته، وما لم يخرج عن عهدته وهو القنوت لم يثبت التكليف به، وهذا حال الأمر التفصيلي كذلك الحال في الأمر الإجمالي، فما علم باشتغال الذمة به خرج المكلف عن عهدته بالإتيان بالأقل، وأما الجزء المشكوك فهو مشكوك الوجوب، وهو شك في ثبوت التكليف لا سقوطه.

ثم قال المحقق النائيني: «والعلم التفصيلي بوجوب الأقل المردد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء، هو عين العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر، ومثل هذا العلم التفصيلي لا يعقل أن يوجب الانحلال؛ لأنه يلزم أن يكون العلم الإجمالي موجبا لانحلال نفسه»(1).

وقد أشرنا إليه في ما مضى.

الوجه السادس: ما حكي عن صاحب الفصول

وحاصله: إن وجوب الأقل معلوم بالضرورة، ومع الإتيان به يشك في سقوط وجوب المعلوم؛ لأنّ الواجب - ثبوتاً - إما هو الأقل أو الأكثر، فإن

ص: 165


1- فوائد الأصول 4: 160.

كان هو الأقل فبالإتيان به يسقط، وأما إن كان الأكثر فمع الإتيان بالأقل لا يسقط وجوب الأقل؛ لأن المفروض أنّ الوجوب ارتباطي، فلإحراز فراغ الذمة من التكليف المعلوم يجب الإتيان بالأكثر.

والفرق بين هذا التقرير وبين ما سبقه أن التقرير السابق اعتمد على الوجوب الموجود مع الشك في سقوطه بالإتيان بالأقل، وأما هذا التقرير فيعتمد على الشك في سقوط التكليف بالأقل، حيث لا يعلم أنّ الإتيان بالأقل هل يسقط التكليف بالأقل؟ فإنّ الفراغ اليقيني عن التكليف بالأقل منحصر في الإتيان بالأكثر.

لكنه محل تأمل أيضاً، فهنالك منشآن لعدم سقوط وجوب الأقل، واستحقاق العقوبة بلحاظ وجوبه: الأول: عدم الإتيان بالأقل، والثاني: وجوب الجزء العاشر وارتباط وجوب الأقل به، والمكلف في أمان من الجهتين، أما بلحاظ الجهة الأولى فلفرض الإتيان بالأقل، فلا يستحق العقاب من جهة تركه، وأما بلحاظ الجهة الثانية فلحكم العقل بالبراءة عن وجوب الجزء العاشر، ولا وجه لعدم كفاية الأقل.

وبعبارة أخرى: يمكن فرض مخالفتين لوجوب الأقل في المقام:

الأولى: ترك الأقل بترك الصلاة، وهو مخالفة يستحق المكلف عليها العقاب قطعاً.

الثانية: مخالفة وجوب الأقل بجهة ترك الجزء العاشر، وهي مخالفة ناشئة عن ترك الجزء العاشر لا ترك الأقل، ويشك في كونها مخالفة.

فهل توجد في المقام مخالفتان أو مخالفة واحدة؟

ص: 166

إنّ أصل وجود المخالفة الثانية مشكوك، وتتكفل البراءة بنفيها ونفي استحقاق العقوبة عليها، فلا وجه لوجوب الاحتياط.

الوجه السابع: ما ذكره صاحب الكفاية

الوجه السابع: ما ذكره صاحب الكفاية(1)

وحاصله: أنّ انحلال العلم الإجمالي يوجب المحال، وقد مرّ الكلام فيه.

الوجه الثامن: ما ذكره المحقق العراقي

وهو خاص بالواجبات التي يحرم قطعها ويجب إتمامها. وحاصله: تحقق العلم الإجمالي بوجوب الإتمام أو الإعادة فيجبان، ومعناه عدم جواز الاكتفاء بالأقل، قال: «قد يقال في الفرض المزبور بوجوب الاحتياط بالجمع بين إتمام هذه الصلاة واعادتها(2)، بدعوى أنه بإيجاد مشكوك المانعية في الصلاة أو ترك مشكوك الشرطية فيها يحصل العلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين عليه، إما إتمام هذا الفرد من الصلاة(3) أو إعادتها بإتيان فرد آخر من الصلاة مباين مع هذا الفرد(4)، وبعد رجوع العلم الاجمالي المزبور إلى المتبائنين لا الأقل والأكثر لابد من الاحتياط بالجمع بين الإتمام والإعادة»(5).

ويبدو للنظر أنه غير تام لعدة أجوبة:

ص: 167


1- كفاية الأصول: 364.
2- فلو صلى من دون قنوت في موارد الشك بين الأقل والأكثر وجب إتمامها وإعادتها مع القنوت، فلدفع المحذور لابد من الصلاة مع القنوت، والنتيجة وجوب الإتيان بالأكثر.
3- لو كان الواجب في الواقع هو الأقل.
4- أي: الصلاة مع القنوت.
5- نهاية الأفكار 3: 418.

الجواب الأول: نقضاً: بالأقل والأكثر الاستقلاليين، فلو شك أنه مديون للبقال بعشرة دراهم أو تسعة، فبعد أداء التسعة يشك في وجوب أداء العاشر، لكن يتحقق هنالك علم إجمالي بوجوب إنفاقه على العيال أو أدائه إلى البقال، فلو كان الأقل واجباً وجب إنفاقه على العيال، ولو كان الأكثر واجباً وجب أداؤه إلى البقال، وكذا لو علم إجمالاً بوجوب إعطائه خمساً أو ديناً حيث يجب عليه كلاهما، أو ينصف حسب قاعدة العدل، فما هو الجواب في الاستقلالي هو الجواب في الارتباطي.

الجواب الثاني: حلاً: فبعد حل منشأ أحد طرفي العلم الإجمالي لا معنى لكونه منشأً له؛ وذلك لأنّ منشأ احتمال وجوب الإتمام هو وجوب الأقل، ومنشأ احتمال وجوب الإعادة هو وجوب الأكثر، ومع نفي وجوب الأكثر بالبراءة العقلية لا معنى للقول بأنّ الواجب إما هو الأقل فيجب إتمام الفرد، أو الأكثر فتجب الإعادة بفرد جديد؛ لانتفاء منشأ العلم الإجمالي بانتفاء منشأ احتمال وجوب الأكثر بالبراءة، فلا يبقى في المقام إلاّ وجوب إتمام هذه الصلاة.

الجواب الثالث: ما ذكره المحقق العراقي قال: «بعد أن كان مقتضى أصالة البراءة عن مشكوك الشرطية والمانعية، هو الترخيص في إيجاد مشكوك المانعية، وترك مشكوك الشرطية في الصلاة، ووجوب إتمام الصلاة الواقع فيها الخلل المشكوك فيه، فلا محالة لا يبقى معه مجال التأثير للعلم الإجمالي الحادث المزبور؛ لقيامه حينئذٍ بما تنجز أحد طرفيه سابقاً بالعلم التفصيلي بوجوب إتمام هذه الصلاة الواقع فيها مشكوك المانعية»(1).

ص: 168


1- نهاية الأفكار 3: 418.

وهذا الجواب مبني على كبرى كلية، وهي: لو كان أحد أطراف العلم الإجمالي منجزاً بمنجز سابق سقط عن المنجزية، وبعبارة ثانية: شرط منجزية العلم الإجمالي أن يكون منجزاً للتكليف على كل تقدير.

وفيما نحن فيه العلم الإجمالي منحل؛ لأنّ مفاد البراءة عن الأكثر هو عدم وجوبه، وصحة الصلاة الفاقدة، فيتنجز وجوب إتمامها وحرمة قطعها، فينحل العلم الإجمالي اللاحق بين المتباينين.

لكنه غير مطرد؛ فإنه تام فيما لو كان الشك في الأجزاء اللاحقة، حيث يمكن القول بتحقق العلم الإجمالي بوجوب الإتمام أو الإعادة ثم انحلاله بالأقل المتيقن والأكثر المشكوك، فيجب الإتمام بالأقل، أما لو كان الشك في الجزء الأول كالتكبير، فلا علم بوجوب الإتمام، فإنّ أصل وجوب الإتمام وحرمة القطع مشكوك للشك في انعقاد الصلاة.

الوجه التاسع: كون العلم الإجمالي مانعاً عن جريان البراءة عن الأكثر

وهو خاص بالمركبات الارتباطية التي تبطل بالزيادة فيها، وحاصله: إنَّ العلم الإجمالي مانع عن جريان البراءة عن الأكثر؛ وذلك لتحقق العلم الإجمالي إما بوجوب الإتيان بالسورة على تقدير الجزئية، أو حرمة الإتيان بها بقصد الجزئية على تقدير عدمها، ففي عالم الثبوت إما السورة جزء وأثرها وجوب الإتيان، أو لا وأثرها حرمة الإتيان بقصد الجزئية؛ لأنه إدخال ما ليس من الدين فيه وهو بدعة.

والأصول المؤمنة لا تجري في أطراف العلم الإجمالي، فلابد من الاحتياط بمقتضى العلم الإجمالي المذكور بالإتيان بالسورة لا بقصد الجزئية، وإنما بقصد رجاء المطلوبية، أو بقصد الأمر الأعم من الوجوب

ص: 169

والاستحباب.

لكنه غير وارد؛ لأنّ حرمة الإتيان بقصد الجزئية ثابت على كلا التقديرين، سواء كانت السورة - ثبوتاً - جزءاً أم لا، لوجود الشك، فإنّ إدخال ما لم يعلم كونه من الدين في الدين تشريع، فعلى كل تقدير - في فرض الشك - لا يمكن الإتيان بها بقصد الجزئية، ومع هذا العلم ينحل العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة إلى العلم التفصيلي بالحرمة على كل تقدير، فإنه لو كان أحد طرفي العلم الإجمالي معلوماً بالعلم التفصيلي انحل العلم الإجمالي؛ لأنه ينحل إلى العلم التفصيلي والشك البدوي.

وفي المقام عندنا علم تفصيلي بحرمة الإتيان بالسورة بقصد الجزئية، وشك بدوي في وجوب الإتيان بالسورة، فتجري فيها البراءة العقلية من دون معارض.

فتحصل من جميع ذلك عدم ورود الإشكالات التسعة على جريان البراءة العقلية.

هذا تمام الكلام في المبحث الأول.

المبحث الثاني: في جريان البراءة الشرعية عند الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين
اشارة

فهل أدلة البراءة الشرعية - كرفع ما لا يعلمون، وما حجب اللّه علمه عن العباد وغيرهما - تشمل القنوت فيما لو شك في وجوبه؟

تقريرات جريان البراءة الشرعية
اشارة

ولجريان البراءة الشرعية تقريران:

ص: 170

التقرير الأول: ما في الكفاية

التقرير الأول: ما في الكفاية(1)

من جريان البراءة بلحاظ الحكم الوضعي، فمع الشك في جزئية القنوت يكون مقتضى حديث الرفع وغيره رفع جزئيته.

وأورد عليه بإشكالات:

الإشكال الأول: ما ذكره بعض المتأخرين ممن عاصرناهم واعتمد عليه: من أن الجزئية غير قابلة للرفع؛ وذلك لأنّ المرفوع في حديث الرفع هو الشيء القابل للوضع، والجزئية غير قابلة لذلك؛ لعدم الأثر في وضعها، فيكون لغواً.

وإنما يكون لا أثر له لأنّ وضع الجزئية إما يكون مع الأمر بالمجموع المركب أو بدونه، فإن كان الأول كان الوضع لغواً، كأن يقول المولى: تجب الصلاة المركبة من عشرة أجزاء، ثم: يقول وضعت الجزئية للقنوت، فهذا الجعل لغو لانتزاع الجزئية من كل جزء جزء مع الأمر بالمجموع المركب، فلا يكون لوضع الجزئية أثر، فيكون لغواً، وإن كان الثاني كان لغواً أيضاً؛ لأنّ لزوم الامتثال من توابع الحكم التكليفي فلا أثر لوضع الجزئية بدون وجود الحكم التكليفي. قال: «لأنّ جعلها مع عدم تعلق الأمر بالمجموع المشتمل على الجزء لا ينفع في لزوم الامثتال؛ لأنه من توابع الحكم التكليفي»(2).

والحاصل أنّ الجزئية ليست قابلة للوضع على كل تقدير فليست قابلة

ص: 171


1- كفاية الأصول: 366.
2- منتقى الأصول 5: 210.

للرفع.

لكنه محل تأمل؛ لأن لزوم الامتثال ليس من توابع الحكم التكليفي فقط، وإنما هو تابع للحكم التكليفي أو الوضعي، كما لو قال المولى: زيد ضامن، فإن أثر هذا الحكم الوضعي هو لزوم إفراغ الذمة، وفي المقام لجعل الجزئية أثر، بأن يقول المولى: الصلاة ذات الأجزاء التسعة واجبة، ثم يقول: القنوت جزء، فيكون أثر الجزئية عدم فراغ الذمة منه إلا بالإتيان بما اعتبره الشارع جزءاً، فلو أمكن الوضع صح الرفع بحديث الرفع.

الإشكال الثاني: الجزئية ليست مجعولة ولا أثر مجعول لها، فلا يمكن رفعها بحديث الرفع، فإنه يتكفل رفع المجعولات الشرعية، أو الموضوعات التي لها آثار شرعية، كرفعه لحرمة التتن عند الشك، أو رفعه للنذر، فإن النذر وإن كان أمراً تكوينياً إلا أن أثره الشرعي هو وجوب الوفاء.

أما لو لم يكن الشيء كذلك فلا يمكن رفعه بحديث الرفع؛ لخروجه عن حيطة التصرف الشرعي فلا تناله يد الجعل والرفع الشرعي.

لكنه محل تأمل، فقد أجاب عنه صاحب الكفاية(1)

- بعد التسليم بعدم كون الجزئية مجعولة و لا أثر مجعول لها - بأن الرفع لا يختص بما هو مجعول بالأصالة.

توضيحه: قد يكون الجعل جعلاً بالأصالة، وقد يكون جعلاً بالتبع، ولا دليل على اختصاص حديث الرفع بما هو مجعول بالأصالة، والجزئية مجعولة تبعاً، فإنه مع الأمر بالمركب تنتزع الجزئية من كل جزء، والمجعول

ص: 172


1- كفاية الأصول: 367.

بالتبع تناله يد الجعل الشرعي بجعل منشأ الانتزاع أو رفعه، كالفوقية والتي هي غير قابلة للجعل والرفع الاستقلالي، لكن يمكن بناء السقف فتجعل الفوقية تبعاً، أو يهدم السقف فترفع الفوقية تبعاً، والجزئية كالفوقية قابلة للجعل والرفع التبعي، وهذا المقدار كافٍ في شمول حديث الرفع لها، فإنّ الشارع يرفع الجزئية برفع الأمر بالمجموع المركب.

الإشكال الثالث: مع رفع الشارع اليد عن منشأ انتزاع الجزئية - أي: الأمر بالواجد - لا دليل على ثبوت الأمر بالفاقد، فإن كان الأكثر واجباً في الواقع، فمع رفع اليد عن وجوبه لابد من القول بسقوط الصلاة.

وأجاب عنه صاحب الكفاية بقوله: «إلا أنّ نسبة حديث الرفع - الناظر إلى الأدلة الدالة على بيان الأجزاء - إليها نسبة الاستثناء»(1)،

فهنالك أدلة تثبت جزئية الأجزاء، كالركوع والسجود، فتضم هذه الأدلة إلى حديث الرفع، ويكون مفاد الجمع تخصيص أدلة الأجزاء، كما لو صرح المولى بأن السورة جزء إلا في حالة الجهل، فإنّ جزئيتها مرفوعة، فلو كان المكلف عالماً كانت السورة جزءاً وإلا فلا، وعليه فجزئية سائر الأجزاء والأمر بالباقي يستفاد من نفس إطلاق الأمر به، فثبت وجود الأمر بالفاقد بالجمع بين دليل الأجزاء ودليل الرفع.

والحاصل: أنّ نسبة أدلة الرفع إلى أدلة الجزئية نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه، ومفاده ثبوت الجزئية إلا في حالة الجهل، وهو ظاهر في وجود الأمر بالفاقد.

ص: 173


1- كفاية الأصول: 367.

إشكال وجواب

إشكال: إن مفاد ما ذكر هو التصويب؛ لأن جزئية القنوت ووجوبه خاص بحال العلم به، أي: اختصاص الحكم بالعالم.

والجواب: إنَّ الرفع ظاهري لا واقعي، فلم يوجب التصويب، أي: أنَّ جزئية القنوت ثابتة في الواقع، لكن المولى يرفعه ظاهراً، فلا مؤاخذة بلحاظه فلا يلزم التصويب.

وأشكل عليه(1)بما توضيحه: لو انصبت أدلة الرفع على خصوص عنوان الجزئية أو الشرطية أو المانعية والقاطعية، فهي ظاهرة عرفاً في ثبوت الأمر بالفاقد، أما لو كان متعلق أدلة الرفع عنواناً عاماً، كعنوان (المجهول) فلا ظهور في ثبوت الأمر بالفاقد.

لكنه غير واضح، فإنه - بلحاظ الظهور العرفي - لا فرق بين كون المتعلق خصوص عنوان (الجزئية) أو (العنوان العام) فلو سلمتم الملازمة العرفية في العنوان الخاص فهي موجودة في العنوان العام.

ويقرب ذلك إلى الذهن ما لو أمر المولى بأمر عام مجمل ك- (صل) ثم أمر ثانياً بما يتكفل أدلة الأجزاء ك- (كبّر واقرأ واركع واسجد) ثم قام دليل ثالث على أنّ السورة جزء إلاّ في ضيق الوقت، فإنّ مفاد الجمع بين هذه الأدلة الثلاثة هو ثبوت الأمر بالفاقد للسورة، فإنه وإن كان المراد من الأمر ب- (صل) هو الصلاة ذات الأجزاء العشرة ومنها السورة، لكن بما أنّ المولى استثنى السورة في ضيق الوقت فلا تكون جزءاً، فيكون مقتضى الجمع بين

ص: 174


1- نهاية الدراية 2: 659.

الأدلة الثلاثة ثبوت الأمر بالفاقد، أي: الصلاة بلا سورة، هذا في العنوان الخاص، والظاهر أنه لا فرق بينه وبين أدلة البراءة في رفع عنوان (المجهول) بنفس التقرير المذكور، فإنّ مؤدّى الجمع بين الأدلة الثلاثة هو الجزئية، إلا إذا كانت مجهولة فلا تكون جزءاً.

فلا فرق بين قول المولى: (رفعت الجزئية المجهولة) والتي هي عنوان خاص، وقد سلم المحقق العراقي بالملازمة بينه وبين الأمر بالفاقد، وبين قوله: (رفعت الأمر المجهول) والذي من مصاديقه جزئية السورة، فالملازمة المذكورة متحققة عرفاً هنا أيضاً، فإنه وإن كان عقلاً يحتمل تحقق رفع جزئية السورة المجهولة برفع أصل الأمر ب- (صل) إلا أنّ الظاهر العرفي من الجمع بين الأدلة الثلاثة هو ثبوت الأمر بالمعلوم، وسقوط الأمر بالمجهول، فما ذكره صاحب الكفاية تام ظاهراً.

ويؤيده ما عن عبد الأعلى مولى آل سام، قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال (عليه السلام) : يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزّ وجل، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )امسح عليه»(1).

فمع احتمال سقوط أصل وجوب المسح؛ لعدم إمكان المباشرة، أو سقوط أصل الأمر بالوضوء، إلا أنّ الظاهر من رفع الآية لعنوان (الحرج) المنطبق على المقام - حيث إنّ نزع المرارة والمسح على الإصبع مباشرة حرجي - هو رفع وجوب مباشرة الماسح للممسوح، حيث إنه يدور الأمر

ص: 175


1- الكافي 3: 33.

عقلاً بين سقوط المباشرة الحرجية مع ثبوت أصل الأمر بالمسح، أي: يمسح على الجبيرة، أو سقوط أصل وجوب المسح، لكن الفهم العرفي قاضٍ بالأول، فيكون المسح الفاقد - أي: بلا مباشرة - ثابت، وخصوص قيد المباشرة منتفٍ، وهو ظاهر كلام الإمام (عليه السلام) .

وما نحن فيه من هذا القبيل، حيث يحكم بسقوط وجوب السورة في حال الجهل لا انتفاء وجوب المركب كله.

وإنما عبرنا عنها بالمؤيدة لجهالة الراوي، حيث قال البعض(1): لم يثبت كونه ثقة ولا ممدوحاً، وإن قال آخرون(2): إنه ممدوح.

والحاصل: إنّ الملازمة العرفية ثابتة، سواء قال المولى: (رفعت الجزئية المجهولة) أم قال (رفع المجهول) وتفكيك المحقق العراقي6 ومن تبعه بينهما غير واضح.

التقرير الثاني: جريان البراءة الشرعية في الحكم التكليفي

حيث إن وجوب الأكثر مشكوك غير معلوم، فيرفع بقوله (رفع ما لا يعلمون).

إن قلت: إنه معارض بعدم وجوب الأقل.

قلت: وجوب الأقل متيقن على كل تقدير، سواء أكان الأكثر واجباً أم الأقل، وعليه فالأصل عدم وجوب الأكثر.

فتحصل من جميع ذلك أنّ البراءة العقلية والبراءة الشرعية بتقريريها

ص: 176


1- منتقى الجمان 1: 13؛ الرسائل الرجالية 1: 245.
2- رجال ابن داود: 127.

تنهض بنفي وجوب الأكثر.

ويبقى الكلام في جريان الاستصحاب في المقام.

الاستدلال بالاستصحاب على وجوب الأكثر

قال البعض: إنَّ مقتضى الاستصحاب وجوب الأكثر؛ وذلك لأنّ المكلف لو أتى بالأقل شك في سقوط الوجوب، فإنه إن كان الوجوب - في عالم الثبوت - متعلقاً بالأقل سقط للإتيان به، وإن كان متعلقاً بالأكثر لم يسقط؛ لعدم تطابق المأتي به مع المأمور به، فالأمر دائر بين ما هو ساقط قطعاً وما هو باقٍ قطعاً، فيستصحب بقاء كلي الوجوب، وهو القسم الثاني من استصحاب الكلي.

إن قلت: استصحاب كلي الوجوب لا يثبت وجوب الأكثر؛ لأنه مثبت.

قلت: لا يراد بالاستصحاب وجوب الأكثر، فإنّ مفاد الاستصحاب بقاء الوجوب بعد الإتيان بالأقل، فيحكم العقل بلزوم إفراغ الذمة منه بالإتيان بالأكثر، فبقاء الوجوب بحكم الاستصحاب، ووجوب الأكثر بحكم العقل لا بحكم الاستصحاب حتى يكون مثبتاً.

وقد أجيب عنه بجوابين: الأول: عدم جريان استصحاب كلي الوجوب، الثاني: استصحاب كلي الوجوب محكوم أو معارض.

تقرير الجواب الأول: إنما يتم استصحاب كلي الوجوب في القسم الثاني إذا كان جريان الأصل في الأفراد متعارضة، فيتساقطان ويستصحب الكلي، كما لو كان المكلف متوضئاً فخرجت منه رطوبة مرددة بين البول والمني، فإنّ أصالة عدم كونه منياً معارضة بأصالة عدم كونه بولاً، فيستصحب كلي بقاء الحدث، فلو توضأ أو اغتسل استصحب كلي الحدث، فلابد من الجمع

ص: 177

بينهما.

أما لو كان الأصل جارياً في أحد الفردين دون الآخر لم يجرِ استصحاب الكلي، كما لو كان محدثاً بالأصغر فخرجت منه رطوبة مشتبهة بين البول والمني، فوظيفته الوضوء فقط؛ لأنّ الأصل عدم كونها منياً، ولا يعارضه أصل عدم كونه بولاً؛ لعدم الأثر، فإنّ الحدث بعد الحدث لا أثر له، وعليه فالمتطهر لو خرجت منه رطوبة مشتبهة عليه أن يجمع بين الوضوء والغسل، أما المحدث فيكفيه الوضوء ولا يجب الغسل لعدم تعارض الأصول.

وما نحن فيه من هذا القبيل، حيث لا مجرى لأصالة عدم وجوب الأقل؛ لكونه معلوماً، فلا يبقى إلا جريان أصل عدم الوجوب في الأكثر، فلا يجري الاستصحاب المذكور.

لكنه محل إشكال وإن اعتمدوا عليه؛ وذلك لأنّ أصالة عدم وجوب الأكثر معارضة لأصالة بقاء الوجوب، فإنّ المكلف لو أتى بالأقل يشك في بقاء طبيعي الوجوب الكلي فيستصحبه.

فلابد من ضم تقرير الجواب الثاني ليكونا معاً جواباً واحداً، وهو:

تقرير الجواب الثاني: وإن تحقق في المقام أصلان إلا أنّ بينهما السببية والمسببية، فإن الشك في بقاء طبيعي الوجوب ناشٍئ عن احتمال وجوب الأكثر، ومع جريان الأصل في الشك السببي لا تصل النوبة إلى جريانه في الشك المسببي، وكذا الكلام فيما لو توضأ المحدث، فإنّ شكه في بقاء طبيعي الحدث ناشئ عن احتمال كون الرطوبة المشتبهة منياً، وأصالة عدم كونه منياً حاكمة، فلا يجري استصحاب اشتغال بقاء التكليف.

ص: 178

الاستدلال بالاستصحاب على عدم وجوب الأكثر

وفي قبال الاستدلال بالاستصحاب لإثبات وجوب الأكثر استدل به لإثبات عدم وجوب الأكثر.

وفي المقام تقريرات:

التقرير الأول: استصحاب عدم جعل الوجوب على الأكثر(1)، فإنّ الجعل أمر حادث ومسبوق بالعدم، ويشك في جعل الشارع الوجوب عليه، والأصل عدمه.

وقد أشكل عليه بعض المتأخرين - مضافاً إلى الإشكال التالي في التقرير الثاني - بأنه معارض بأصل عدم جعل الوجوب على الأقل؛ لأنه حادث أيضاً فيتعارضان ويتساقطان(2).

لكنه غير وارد؛ لأنّ المعارضة فرع جريان الأصل في حد نفسه، وجريان الأصل موقوف على وجود الأثر، ولا أثر لأصالة عدم جعل الوجوب على الأقل؛ لأنه إن كان المقصود إسقاط وجوب الأقل فهو يقيني وتركه معصية قطعية، وإن كان المقصود إثبات وجوب الأكثر فهو مثبت.

التقرير الثاني: استصحاب عدم جعل الوجوب على الجزء المشكوك، أو عدم جعل الوجوب على الأكثر.

وأشكل عليه المحقق النائيني(3) بعدم جريان أصالة عدم الجعل في أي

ص: 179


1- نهاية الأفكار 3: 395.
2- بحوث في علم الأصول 5: 360.
3- فوائد الأصول 4: 184.

مورد؛ لأنّ الآثار الشرعية والعقلية - كوجوب الطاعة وحرمة المعصية - مترتبة على المجعول لا على الجعل، وأما الجعل فلا أثر له لا شرعاً ولا عقلاً.

إن قلت: إن لم يكن جعل فلا مجعول قهراً، فلا تترتب آثار المجعول.

قلت: إن إريد إثبات عدم المجعول باستصحاب عدم الجعل، فهو مثبت.

وأجيب عما ذكره بأجوبة:

الجواب الأول: ما في الدراسات(1):

من أن الجعل والمجعول متحدان بالذات، مختلفان بالاعتبار، كالإيجاد والوجود والكسر والإنكسار، فكما أنه لا فرق ذاتي بينهما، وإنما يعبر عنهما بلحاظين: لحاظ الفاعل والقابل، وإلا فلا يوجد في الخارج حقيقتان، كذلك استصحاب الجعل، فهو في الواقع نفس استصحاب المجعول، واستصحاب عدمه نفس استصحاب عدمه، فلا يكون مثبتاً، حيث لا واسطة بين المجرى والأثر.

لكنه محل إيراد، لاختلاف الجعل والمجعول ذاتاً، فإن الجعل بمعنى الاعتبار على موضوع مقدر الوجود، فيمكن تحقق الجعل مع عدم تحقق المجعول؛ لأنّ المجعول عبارة عن ثبوت الحكم على موضوعه، وثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، ومع عدم ثبوت الموضوع لا يمكن ثبوت المحمول، لكن يمكن ثبوت الجعل قبل ثبوت الموضوع، كما مرّ مثاله سابقاً من تشريع الحج مع عدم وجود المستطيع في الخارج أصلاً، فتحقق الجعل على موضوع كلي مفروض الوجود، فالمجعول - وهو الوجوب - غير محقق، فلا وجود للوجوب؛ لأنّ الوجوب فرع وجود المستطيع، ومع ذلك

ص: 180


1- دراسات في علم الأصول 3: 270، 520.

تحقق الجعل، وكذلك في تشريع حد السرقة، حيث يتحقق الجعل مع عدم وجود السارق في الخارج فلا مجعول.

وعليه، فالاختلاف بين الجعل والمجعول ماهوي وذاتي، ولذا يمكن الانفكاك بينهما بتحقق الجعل دون المجعول.

الجواب الثاني: ما يخطر في البال في بادئ النظر من ثبوت الأثر للجعل، كما هو ثابت للمجعول، فإنّ للجعل نوعين من الأثر:

الأول: الآثار التعليقية، بمعنى أنه لو وجد الموضوع في الخارج تنجزت الكبرى التي ذكرها المولى، فإنّ نسبة الموضوع إلى المحمول كنسبة العلة إلى المعلول، ولترتب المحمول على الموضوع علتان، هما: وجود الموضوع ووجود الجعل، فإنّ الصغرى والكبرى مؤثرتان في النتيجة.

الثاني: الآثار التنجيزية، كجواز الفتوى وجواز الإخبار، حيث يمكن للمفتي أن يفتي بقطع يد السارق وإن لم يكن هنالك سارق، وهذا الأثر أثر الجعل.

الجواب الثالث: ما ذكره المحقق العراقي(1) من أنّ عدم جعل الوجوب واقعياً كان أو ظاهرياً مستتبع لعدم الوجوب كذلك، ومثله غير مرتبط بالأصول المثبتة، فإنّ عدم الوجوب الظاهري حينئذٍ إنما كان من لوازم عدم الجعل الظاهري الذي هو الاستصحاب، لا من لوازم نفس المستصحب واقعاً.

وهذا الجواب يبتني على كبرى كلية، وهي مسألة سيالة تنفع في مواضع متعددة، وهي: لو لم يكن الترتب بين الشيئين شرعياً فهل المترتب يترتب

ص: 181


1- فوائد الأصول 4: 183 (الهامش).

على استصحاب المترتب عليه أم لا ؟ والمعروف أنه لا يترتب؛ لأنه من الأصل المثبت.

لكن مفاد ما ذكره المحقق العراقي هو التفصيل، وحاصله: لو كان اللازم لازم الوجود الواقعي للمستصحب لم يثبت بالاستصحاب، أما لو كان لازم الوجود المطلق لا الوجود الخاص فإنه يثبت به، ولا يكون من الأصول المثبتة، مثلاً: لو شك في حياة زيد لم يثبت نبات لحيته باستصحاب حياته؛ لأن نبات اللحية لازم للوجود الواقعي له، فيكون الاستصحاب مثبتاً، فلو نذر التصدق إن نبتت لحيته لم يثبت هذا الأثر الشرعي بالاستصحاب، بخلاف ما إذا كان الأثر أثر الوجود المطلق، سواء الواقعي أم الظاهري، فإنه يترتب على الاستصحاب؛ لفرض ثبوت موضوعه، مثلاً: وجوب الطاعة أثر الحكم الشرعي، سواء كان واقعياً أم ظاهرياً، فلو استصحب وجوب الحكم - كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة في عهد الغيبة - فإنّ الطاعة الواجبة عقلاً تترتب على المستصحب؛ لأنّ وجوب الطاعة ليس لازماً للوجود الواقعي لوجوب الجمعة، بل لازم الوجود المطلق له، والمفروض أنه يثبت بالاستصحاب الوجود الظاهري للوجوب، فيترتب عليه وجوب الطاعة، مع أنّ ترتب وجوب الطاعة على وجود الوجوب ليس ترتباً شرعياً.

وأما تطبيق الكبرى الكلية على المقام، فيتضح من خلال ما ذكره المحقق العراقي بقوله: «بان عدم جعل الوجوب واقعياً كان أو ظاهرياً مستتبع لعدم الوجوب كذلك، ومثله غير مرتبط بالأصول المثبتة، فإن عدم الوجوب الظاهري حينئذٍ إنما كان من لوازم عدم الجعل الظاهري، الذي هو

ص: 182

الاستصحاب، لا من لوازم نفس المستصحب واقعاً»(1).

وبعبارة واضحة: عندنا قواعد أربع في المقام:

الأولى: لازم الجعل الواقعي ثبوت المجعول الواقعي.

الثانية: لازم الجعل الظاهري وجود المجعول الظاهري.

الثالثة: لازم عدم الجعل الواقعي عدم المجعول الواقعي.

الرابعة: لازم عدم الجعل الظاهري عدم المجعول الظاهري.

وقد أثبتنا ب- (لا تنقض) عدم الجعل الظاهري للجزء العاشر من الصلاة، حيث إنّ مفاده هو الحكم الظاهري، فيثبت به عدم المجعول الظاهري؛ لأنه أثر الوجود المطلق لا الوجود الخاص.

وعليه نقول: الأصل عدم جعل الوجوب الظاهري للقنوت، فلا مجعول، فلا أثر، وهذا لا يكون من الأصل المثبت.

وإن لم يسلم بما ذكر فينقض عليه بما ذكره: «كيف، ولازم المنع عن جريان أصالة عدم الجعل في المقام لأجل عدم ترتب الأثر عليه، إلا باعتبار ما يستتبعه من عدم تحقق المجعول، هو المنع عن جريانه في الأحكام الكلية التي علم بعدمها قبل تشريع الاحكام، وشك في ثبوتها في الشريعة عند تشريع الأحكام، مع أن ذلك كما ترى»(2).

فلو شك في حرمة النعامة فهل استصحاب عدم جعل الحرمة الثابت أول الشريعة مثبت؟ بأن يقال: الأصل عدم جعل الحرمة، فلا جعل فلا مجعول،

ص: 183


1- نهاية الأفكار 3: 395.
2- نهاية الأفكار 3: 395.

فلا أثر فهو مثبت. هذا مما لا يرتضيه المحقق النائيني، فيستصحب عدم جعل الحرمة ولا يكون مثبتاً.

أقول: ما ذهب إليه المحقق العراقي وإن كان متيناً في حد ذاته، لكنه لا يحل الإشكال في المقام، وذلك لأنّ للمجعول معنيين: الأول: المجعول بالحمل الأولي الذاتي. الثاني: المجعول بالحمل الشايع الصناعي.

والمجعول لا ينفك عن الجعل بالمعنى الأول بخلاف المعنى الثاني، وهذا سرّ ما يشاهد من التناقض ظاهراً في عباراتهم في الحكم بالانفكاك وعدمه بينهما.

توضيحه: أن يكون الجعل بمعنى الإنشاء، ولا يمكن تحقق الإنشاء بلا منشأ؛ لأنهما متضايفان، ولا يعقل الانفكاك بين المتضايفين، فلا معنى للإنشاء بلا منشأ، ولا معنى للإيجاب من دون وجوب، ولا معنى للتحريم من دون حرمة، ويكون المجعول بهذا الجعل والمنشأ بالإنشاء هو المجعول بالحمل الأولي الذاتي، وعليه يتحقق المنشأ بمجرد الإنشاء، لكن المنشأ هو مفهوم الوجوب وعنوانه لا واقع الوجوب، فبقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}(1) يتحقق الوجوب العنواني، أما الوجوب بالحمل الشايع، والذي هو واقع الوجوب، إنما يتحقق فيما إذا وجد المستطيع في الخارج، حيث يتحول الوجوب العنواني بالحمل الأولي الذاتي إلى الوجوب الواقعي بالحمل الشايع الصناعي.

وعليه يكون المراد من عدم انفكاك الجعل عن المجعول هو المجعول

ص: 184


1- آل عمران: 97.

العنواني، والمراد من الانفكاك بينهما هو المجعول الواقعي، حيث يمكن الانفكاك؛ لعدم تحقق موضوعه خارجاً.

إن تم هذا الكلام فلا يكون ما ذكره المحقق العراقي ناهضاً لرد الإشكال، فإن الملازمة إنما هي بالحمل الأولي الذاتي وقد سلم بها، فإن جعل الوجوب الواقعي يستلزم الوجوب الواقعي، وجعل الوجوب الظاهري يستلزم الوجوب الظاهري، وعدم جعل الوجوب الواقعي يستلزم عدم الوجوب الواقعي، وعدم جعل الوجوب الظاهري يستلزم عدم الوجوب الظاهري، ولا تنفع في المقام؛ لأنّ الآثار آثار الوجوب بالحمل الشايع الصناعي، وهو ينفك عن الجعل مطلقاً، فليس المجعول لازماً للجعل حتى مع العلم به، فما ذكره المحقق العراقي من أن المجعول لازم للوجود المطلق للجعل غير تام، حيث لا تلازم بينهما بالحمل الشايع الصناعي، فيكون إثباته به أصلاً مثبتاً، وهذا ما قصده المحقق النائيني، لا المجعول بالحمل الذاتي الأولي، وعليه فنفي الجعل لا يثبت نفي المجعول بالحمل الشايع إلاّ بالأصل المثبت.

فالعمدة في رد ما ذهب إليه المحقق النائيني ما ذكرناه في الجواب الثاني.

التقرير الثالث: استصحاب عدم وجوب الأكثر.

التقرير الرابع: استصحاب عدم وجوب الجزء المشكوك.

وهذان التقريران يرتبطان بالمجعول بخلاف التقريرين السابقين، حيث كانا يرتبطان بالجعل.

ص: 185

التقرير الخامس: استصحاب عدم جعل الجزئية للجزء المشكوك، أو عدم جزئية الجزء المشكوك، وهذا التقرير يرتبط بالحكم الوضعي وبجعل الحكم الوضعي.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

المقام الثاني: في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الشك في الشرطية

اشارة

وله أنواع ثلاثة:

النوع الأول: أن يكون لمحتمل المدخلية في المأمور به وجودٌ مستقلٌ، ومباينٌ للمأمور به، لكن يحتمل تقيد المأمور به به، كالصلاة والستر، حيث يشك في وجوب ستر ما بين السرّة والركبة للرجل، فإنّ الستر موجود مستقل ومغاير لوجود الصلاة، لكن يحتمل تقيدها به، بمعنى كون التقيد جزءاً والقيد خارجياً، ومآل هذا المطلب إلى أنّ المطلوب الحصة لا الطبيعي، فلا يريد طبيعي الصلاة، وإنما الصلاة بهذه الخصوصية.

النوع الثاني: أن يكون محتمل المدخلية متحداً في الوجود مع المأمور به، لكن نسبته إلى المأمور به نسبة العارض إلى المعروض، كالرقبة والمؤمنة، فهما متحدان في الوجود الخارجي، إلا أنّ نسبة الإيمان إلى الرقبة نسبة العارض إلى المعروض، والنعت إلى المنعوت، كما لو شك أنّ مراده عتق طبيعي الرقبة أو الرقبة المؤمنة.

النوع الثالث: أن يكون محتمل المدخلية متحداً مع المأمور به في الوجود الخارجي، ومقوماً له لا عارضاً، كما لو شك أن مراده الإتيان بطبيعي الحيوان أو الحيوان الناطق، حيث إن النطق مقوم للماهية وداخل

ص: 186

فيها، وبعبارة أخرى: نسبته إلى المأمور به نسبة الفصل إلى الجنس.

والظاهر في بادئ النظر أن الحكم في الأنواع الثلاثة عند الشك هو جريان البراءة العقلية أو النقلية؛ لأنّ وجوب الطبيعي متيقن قامت عليه الحجة، ووجود القيد والخصوصية مشكوك لم يقم عليها البيان، فيكون مجرى (رفع ما لا يعلمون) وقبح العقاب بلا بيان.

ففي الأمثلة الثلاثة: الصلاة مطلوبة، إما مشروطة أو مطلقاً، ويشك في شرطية ستر ما بين السرة والركبة، وعتق الرقبة مقطوع ويشك في اشتراط كونها مؤمنة، والإتيان بالحيوان مأمور به، ويشك في اشتراط النطق، فتجري البراءة فيها.

لكن اضطربت كلمات المحققين في المقام، بحيث لا يجمعها جامع في الأقسام الثلاثة.

وقد قرر الإشكال على جريان البراءة بأن ظاهر الأمر في المقام كونه من قبيل الأقل والأكثر، لكنه واقعاً دائر بين المتباينين فيلزم الاحتياط؛ وذلك لأنّ الآتي بالفاقد لم يأتِ بشيء من المأمور به لو كان الواجب في الواقع الواجد، فلو كان المطلوب واقعاً عتق الرقبة المؤمنة فأعتق كافرة لم يأت بشيء من المأمور به، حيث إنهما متباينان في الخارج، وكذا الصلاة مع الستر وبلا ستر، فهما وجودان متباينان، ومع الإتيان بالفاقد يشك في الإتيان بشيء من المأمور به، وعدم الإتيان بشيء منه مطلقاً، حيث يشك في أنّ المطلوب هذا الوجود أو ذاك، وعليه يكون دوران الأمر بين المتباينين، وفي مثله يجب الاحتياط، وهذا بخلاف الشك في الجزئية، فإنّ الآتي بالأقل آتٍ بشيء من المأمور به، فيمكن القول بانحلال العلم الإجمالي بين الأقل

ص: 187

والأكثر، فيكون وجوب الأقل مسلماً، ووجوب الأكثر مشكوكاً، وعلى أساس هذه الشبهة نفى بعض المحققين جريان البراءة في الجملة أو مطلقاً.

لكن الظاهر عدم وروده، فإنّ هنالك مقامين: الأول: مقام التعلق، وهو مقام الطلب والبعث والزجر، والثاني: مقام التحقق، وهو مقام الامتثال، والملاك في انحلال العلم الإجمالي، وجريان البراءة العقلية والعقلائية والشرعية مقام التعلق، أي: مقام الخطاب، ففي مقام الخطاب الأمر دائر بين الأقل والأكثر، فيمكن القول عقلائياً وعقلياً بأن تعلق الأمر بعتق الرقبة يقيني، واشتراط كون هذه الرقبة مؤمنة مشكوك لم تقم عليه الحجة، فيكون مورد حديث الرفع ويقبح العقاب بلا بيان.

وبعبارة مختصرة: الملاك في البراءة الشرعية لدى العرف الملقى إليه الخطاب، والملاك في البراءة العقلية لدى العقل مقام تعلق الأمر ومتعلقه الماهية والطبيعة، فيكون الأمر في هذا المقام دائراً بين الأقل والأكثر. نعم، لو لوحظ الخارج فإنّ الأمر دائر بين المتباينين.

وبتقرير آخر: ملاك الانحلال جريان الأصل في أحد الطرفين دون الآخر، وعدم تعارض الأصول بين الطرفين، ولا يجري الأصل في وجوب عتق الرقبة؛ لأنه المتيقن، وإنما الشك في اشتراط الإيمان، فيجري الأصل المؤمن فيه بلا معارض.

وبتقرير ثالث: الأمر دائر بين الإطلاق والتقييد، والإطلاق توسعة على المكلف، والتقييد تضييق، ولا تجري البراءة في الإطلاق؛ لعدم كونه تضييقاً، فيجري الأصل المؤمن بلا معارض.

ص: 188

وللمحقق النائيني (رحمه اللّه) كلام في المقام، فقد فصل بين الأقسام الثلاثة، وقال بجريان الاحتياط في الثالث والبراءة في الأولين، قال: «فالأولى عطف عنان الكلام إلى بيان حكم ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجنس والنوع، والأقوى أنه يجب فيه الاحتياط، ولا تجري البراءة عن الأكثر، فإن الترديد بين الجنس والنوع وإن كان يرجع بالتحليل العقلي إلى الأقل والأكثر، إلا أنه - خارجاً بنظر العرف - يكون من الترديد بين المتباينين؛ لأنّ الإنسان بما له من المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوان عرفاً»(1).

لكنه محل تأمل، فإن الظاهر أن إشكاله منصب على المثال، فإنّ النسبة بين الإنسان والحيوان - منطقياً - هي نسبة العام والخاص، وأما عرفاً فلا، فلو شك أن المولى أمره بالإتيان بالحيوان أو الانسان كان الأمر من قبيل المتباينين، فإن الإنسان ليس فرداً للحيوان عرفاً، ولذا لو قيل له حيوان لم يرتضه، وليس بحثنا في هذا المثال، ويمكن التمثيل بما لو دار الأمر بين الإتيان بالحيوان أو الفرس، كما لو قال: جئني بحيوان، وشك أنه هل قال: صاهل أم لا؟ فليس الأمر متردداً بين المتباينين، بل الأقل والأكثر.

ثم قال المحقق: «فلو علم إجمالاً بوجوب إطعام الإنسان أو الحيوان فاللازم هو الاحتياط بإطعام خصوص الإنسان؛ لأن نسبة حديث الرفع إلى كل من وجوب إطعام الإنسان والحيوان على حد سواء، وأصالة البراءة في كل منهما تجري وتسقط بالمعارضة مع الأخرى، فيبقى العلم الإجمالي على حاله، ولابد من العلم بالخروج عن عهدة التكليف، ولا يحصل ذلك

ص: 189


1- فوائد الأصول 4: 208.

إلا بإطعام خصوص الإنسان؛ لأنه جمع بين الأمرين، فإنّ إطعام الإنسان يستلزم إطعام الحيوان أيضاً»(1).

لكنه مناقض لما ذهب إليه، فلو كانا متباينين فكيف يحتاط بإطعام خصوص الإنسان؟ فإنّ طريق الاحتياط في المتباينين هو الجمع بين الطرفين، وكان منشأ الاضطراب في كلماته هو الخلط بين النسبة المنطقية والعرفية.

تذنيبان

ويبقى في المقام تذنيبان:

التذنيب الأول: لا فرق بين كون الجامع المشترك مصرحاً به أو انتزاعياً وتحليلياً، مثلاً: لو اختلف بينتان أو راويان في النقل، فروى أحدهما وجوب التيمم على الأرض والآخر على التراب، حيث لا جامع لفظي مشترك بينهما، وإنما الجامع انتزاعي تحليلي عقلي، فينحل التيمم على التراب بالتحليل العقلي إلى الجامع والحصة، أي: تيمم بالأرض الترابية، فيكون وجوب التيمم بالأرض يقينياً، واشتراط كون هذه الأرض ترابية مشكوكاً، فتجري البراءة في القيد المشكوك.

وكذا لو نقل أحدهما عن المولى وجوب التصدق بالحيوان، والآخر وجوب التصدق بالشاة، فالشاة ينحل بالتحليل العقلي إلى الجنس والفصل أو النوع، وعليه، فوجوب التصدق بالحيوان يقيني، وكونه بالشاة مشكوكاً، فتجري البراءة عن القيد المشكوك.

ص: 190


1- فوائد الأصول 4: 208.

التذنيب الثاني: ما ذكر في الشرطية يجري في الشك في المانعية والقاطعية، كما لو شك أنّ الحرف الواحد أو الضحك غير المصحوب بالقهقهة قاطع للصلاة أم لا.

هذا تمام الكلام في المقام الثاني.

المقام الثالث: دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحصلات

بأن يكون المأمور به مبيناً بحدوده وقيوده، ولا يكون مبهماً أصلاً، لكن يدور أمر محصِله بين الأقل والأكثر، فهل تجري البراءة عن وجوب الأكثر في المحصِل أم لا ؟

مثلاً: لو أمر المولى بقتل الكافر، وكان معنى القتل إزهاق الروح، وشك أن الطلقة الواحدة تكفي لتحقق القتل أم لا ؟ هذا في المحصِلات التكوينية، وكذا في المحصلات التشريعية، كما لو أمر بالطهور وقلنا: إنه عبارة عن الحالة المعنوية الخاصة والنورانية الباطنة، ومحصِلها الغسلات والمسحات، وشك في المحصِل بين الأقل والأكثر، كما لو شك أن المسح إلى المفصل أو إلى قبة القدم، فهل تجري البراءة ؟

الجواب: كلا، ولا فرق في ذلك سواء كانت السببية شرعية أم عقلية أم عرفية وعادية؛ وذلك لقاعدة الاشتغال، حيث إنّ اشتغال الذمة بقتل الكافر ثابت، ولا يعلم تحقق الفراغ بالأقل، فلابد من تحصيل البراءة اليقينية.

وفي المقام إشكال، وهو: إمكان جريان البراءة في جانب السبب، حيث يشك في وجوب الأكثر، والأصل عدم وجوب الزائد، فإنّ الشك في حصول المأمور به - وهو المسبب - ناشئ عن الشك في وجوب الأكثر في جانب السبب، ومع وجود الأصل السببي الحاكم لا تصل النوبة إلى الأصل

ص: 191

المسببي.

والحاصل: إنَّ قاعدة الاشتغال محكومة في جانب المسبب بأصالة عدم وجوب الأكثر في جانب السبب.

لكنه غير وارد؛ لأنّ الأصل في جانب السبب مثبت، حيث إنّ القول بأصالة عدم وجوب الأكثر مثبت؛ لكون السبب هو الأقل، فيوجد المسبب عند وجوده، وهو أصل مثبت، والترتبات المذكورة غير شرعية، بل عقلية، فلا تثبت بالأصل، وبعبارة مختصرة: إثبات سببية الأقل بنفي مدخلية الأكثر مثبت، وعليه فلا يجري الأصل في جانب السبب، بل تجري أصالة الاشتغال في جانب المسبب، المتقضي لليقين بفراغ الذمة، الذي لا يحصل إلا بالإتيان بالأكثر.

وقد استدل المحقق النائيني(1) على وجوب الأكثر ببيان آخر، وهو: أنّ المقصود من جريان البراءة العقلية والنقلية لا يخلو من أمور ثلاثة: إما نفي وجوب الطبيعي، لكنه خلاف المتيقن، أو نفي سببية الأكثر، لكنها معلومة، أو نفي سببية الأقل، لكنه تضييق على المكلف، وأدلة البراءة إنما هي للتوسعة.

لكنه محل إشكال لوجهين:

الأول: إننا ننفي وجوب الأكثر، أي: الحكم التكليفي، لا السببية، أي الحكم الوضعي، حيث نشك في وجوب الأكثر، والأصل عدمه.

إن قلت: لا وجوب للأكثر حتى يشك فيه.

ص: 192


1- فوائد الأصول 4: 209-210.

قلت: إنما ننفي وجوبه المقدمي.

الثاني: إننا ننفي سببية الأكثر وليس بمعلوم، فإنّ المعلوم هو حصول المأمور به عند الأكثر، أما سببية الأكثر للمأمور به فمشكوك.

وبعبارة بسيطة: إننا نعلم بحصول المأمور به عند حصول الأكثر، لكن لا علم بكون الأكثر بما هو أكثر علة لحصول المأمور به، وعليه ننفي سببية وجوب الأكثر.

وبعبارة أخرى: يوجد عندنا عندية وسببية، والمأمور به محقق قطعاً عند حصول الأكثر، لكن العندية أعم من السببية، والمعية أعم من العلية، والمتيقن في المقام المعية أو شبه المعية، أما السببية فمشكوك؛ لاحتمال كون السبب هو الأقل، فننفي سببية الأكثر بالأصل المؤمن.

فالعمدة ما ذكر من الوجه، وهو جريان أصالة الاشتغال في جانب المسبب، وعدم جريان أصالة البراءة في جانب السبب.

وقد ذكر المحقق العراقي: أنَّ المحصَّل على نوعين: إما دفعي الوجود أو متدرج الوجود، فلو كان المحصَّل متدرج الوجود ودار أمر المحصِّل بين الأقل والأكثر جرت البراءة، أما لو كان المحصَّل دفعي الوجود فهنا مجرى الاحتياط.

قال: «ولكن التحقيق التفصيل بين أن يكون العنوان البسيط - الذي هو المأمور به - ذا مراتب متفاوتة متدرج الحصول والتحقق من قبل أجزاء علته ومحققه، بأن يكون كل جزء من أجزاء سببه مؤثراً في تحقق مرتبة منه إلى أن يتم المركب، فيتحقق تلك المرتبة الخاصة التي هي منشأ الآثار، نظير مرتبة خاصة من النور الحاصلة من عدة شموع، والظاهر أنّه من هذا القبيل

ص: 193

باب الطهارة(1)، كما يكشف عنه ظاهر بعض النصوص الواردة في باب غسل الجنابة، من نحو قوله (عليه السلام) : تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة، وقوله (عليه السلام) في الصحيح: فما جرى عليه الماء فقط طهر(2)، وقوله (عليه السلام) في الصحيح الآخر: كل شيء أمسسته الماء فقد أنقيته(3).... وبين ما لا يكون كذلك، بأن كان العنوان البسيط غير مختلف المراتب دفعي الحصول والتحقق عند تمامية محققه.

فعلى الأول لا قصور في جريان أدلة البراءة عند الشك في المحقق(4) ودورانه بين الأقل والأكثر، فإنّ مرجع الشك في دخل الزائد في المحقق بعد فرض ازدياد سعة الأمر البسيط بازدياد أجزاء محققه إلى الشك في سعة ذلك الأمر البسيط وضيقه، فينتهي الأمر في مثله إلى الأقل والأكثر في نفس ذلك الأمر البسيط، فتجري فيه البراءة عقليها ونقليها.... وأما على الثاني، وهو فرض كون البسيط دفعي الحصول والتحقق عند تحقق الجزء الآخر من علته، فلا محيص عند الشك في دخل شيء في محققه من الاحتياط»(5).

لكنه لا يخلو من غموض جداً؛ لأن المفروض أنّ المولى لم يأمر بالمراتب المتدرجة الوجود للنور، وإنما المأمور به بسيط، وهو المرتبة التامة من الإنارة - وإلا فهو خروج من الفرض - ويشك في تحقق المرتبة التامة

ص: 194


1- حيث إنّ الأثر المأمور به متدرج الوجود.
2- الكافي 3: 43.
3- تهذيب الأحكام 1: 148.
4- أي: المحصّل.
5- نهاية الأفكار 3: 401-402.

بتسعة شموع حتى وإن علم تحققها في الجملة، إلاّ أن المولى لم يطلب ذلك، بل أمر بالإنارة التامة، فيكون مجرى قاعدة الاشتغال، حيث الاشتغال يقيني فيقتضي البراءة اليقينية، هذا مع ملاحظة أنّ الأمر البسيط لا سعة فيه ولا مراتب له، بل هو أمر واحد منصب على الإنارة التامة، فكيف يقال بانبساط الأمر البسيط، وهو تناقض؟

والحاصل: إنّ رجوع الشك في المحصِّل إلى الشك في المحصَّل بين الأقل والأكثر غير واضح.

المقام الرابع: في دوران الأمر بين التعيين والتخيير

اشارة

يقع الكلام في دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وهل أنّ هذه الموارد محل جريان البراءة أم الاحتياط ؟

وقبل الشروع في البحث ينبغي التنبيه على أمرين:

الأول: إنّ محل الكلام ومورد النقض والإبرام هو صورة عدم وجود الأصل اللفظي الرافع للشك، أما مع وجود أصالة الإطلاق أو العموم فلا دوران؛ لانتفاء الشك وجداناً أو تعبداً، مثلاً: لو شك في تعين تقليد المجتهد الأورع أو التخيير بينه وبين الورع، فمقتضى إطلاق أو عموم قوله تعالى:{فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}(1) التخيير، ولا شك ولو تعبداً في وجوب تقليد الأورع على نحو التعيين.

وهكذا محل الكلام، وهو صورة عدم وجود الاستصحاب الموضوعي، أما مع استصحاب التعيين أو التخيير فلا دوران، فلا مجال للقول بكون

ص: 195


1- النحل: 43.

المقام مقام البراءة أو الاحتياط؛ لحكومة الاستصحاب أو وروده على جميع الأصول العملية، مثلاً: لو كانت الجمعة في عهد الظهور واجبة تعييناً، فشك في وجوبها تعييناً أو تخييراً في عهد الغيبة، فاستصحاب بقاء التعيين لا يُبقي مجالاً للبراءة أو الاحتياط، إلا أن يقال بتعارض الجعل والمجعول؛ لأنّ مقتضى استصحاب بقاء المجعول بقاء الوجوب التعييني، حيث يشك في انقلابه إلى الوجوب التخييري، وهو معارض لأصالة عدم جعل الوجوب التعييني في الدائرة الأكبر، أي: يشك في جعل المولى الوجوب التعييني لما هو أوسع من عهد الظهور، والأصل عدم الجعل الزائد، فيتعارض الأصلان في طرف الجعل والمجعول ويتساقطان، فتصل النوبة إلى البراءة أو الاحتياط.

وأما مع عدم ارتضاء هذا المبنى، فلا مانع من استصحاب المجعول بلا وجود المعارض.

الأمر الثاني: إنَّ محل الكلام هو صورة إحراز طبيعي الوجوب في الجملة، وتحقق الشك في وصفه التعييني أو التخييري، أما لو لم يكن أصل الوجوب ثابتاً، كما لو شك أنّ الإطعام - مثلاً - واجب تعييني أو تخييري أو مستحب، جرت البراءة بلا إشكال.

صور الشك بين التعيين والتخيير
اشارة

وبعد بيان هذين الأمرين نقول: لو شك بين التعيين والتخيير فما هو الأصل؟

في المقام صور:

ص: 196

الصورة الأولى: الشك في الحجج

أي: في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الحجية، فلو كانت حجية حجة يقينية وشك في كونها تعيينية أو تخييرية، - كالشك في حجية فتوى الأعلم تعييناً أو التخيير بينه وبين المفضول للعامي العاجز عن الاحتياط؛ لعدم وجود دليل اجتهادي مثلاً - فإن الظاهر جريان أصالة التعيين لجهتين:

الجهة الأولى: إنّ الشك في الحجية موضوع عدم الحجية، فإنّ نفس الشك في حجية شيء مساوق للقطع بعدم حجيته - وقد مرّ بيانه في أوائل مباحث الحجج والأمارات - ولا تناقض بين الأمرين، فلا يقال: كيف يمكن تحقق الشك في الحجية مع القطع بعدم حجيته؟ وذلك لأنّ الشك أنما هو في الجعل والقطع بالفعلية، فإن الشك في جعل الحجية مساوق للقطع بعدم الحجية الفعلية، فإنّ معنى الحجة هو ما يكون صالحاً لاحتجاج المولى على العبد، والعبد على المولى، وهو موقوف على القطع، ولا معنى لاحتجاجه بالمشكوك، فليس المشكوك قاطعاً للعذر، فلو طلب المولى من العبد أن يكون في المدينة الكذائية يوم الجمعة، وكان هنالك طريقان: أحدهما يوصل إليها قطعاً والآخر مشكوك، فلو سلك العبد الطريق المشكوك لم يكن له حجة على المولى، وكذا لو قلد الأعلم كان له الحجة على المولى إن خالف قوله الواقع، بخلاف ما لو قلد المفضول في فرض الشك.

إن قلت: إن الشك في الحجية ناشئ عن الشك في التعيين، وبعبارة أخرى: الجامع - وهو التقليد - واجب، أما خصوصية الأعلمية فمشكوكة، فتشمله أدلة البراءة فتكون هي الحجة.

ص: 197

قلت: إنّ هذا غير وارد، فإنه تام في الوجوب النفسي دون الطريقي، فلو شك العبد بين التعيين والتخيير في الواجب الطريقي حكم العقل بوجوب اختيار ما أحرز طريقيته، حيث لا شأن للمولى بالطريق، بل بذي الطريق، وقد اشتغلت الذمة بامتثال الأحكام الواقعية، ولا يعلم الفراغ منها بتقليد المفضول، والأصل عدم طريقيته.

الجهة الثانية: استصحاب عدم الحجية لقول المفضول، ويوكل جريانه إلى أوائل الحجج والأمارات.

فتحصل من جميع ذلك أنّ الظاهر في موارد الشك في الحجية بين التعيين والتخيير جريان أصالة التعيين.

الصورة الثانية: الشك بين التعيين والتخيير في موارد التزاحم

فلو دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال من جهة تزاحم الحكمين، وعدم وفاء قدرة المكلف على الجمع، كما لو غرق نفران في البحر، ولم تفِ قدرة المكلف بإنقاذهما معاً، واحتمل تعين إنقاذ أحدهما المعين؛ لكونه ولياً من أولياء اللّه، وفرض تقدم إنقاذه على إنقاذ المؤمن العادي، فإنّ المقام مقام التزاحم؛ لتحقق ملاك الإنقاذ فيهما، حيث إنّه لو تمكن من إنقاذهما معاً وجب، إلا أنّ قدرته قاصرة، فيدور الأمر بين تعيين إنقاذ الأول؛ لاحتمال كونه الولي، أو التخيير بينه وبين الثاني؛ لاحتمال كونهما مؤمنين عاديين.

أدلة لزوم التعيين في موارد التزاحم
اشارة

وقد ذكرت عدة أدلة على لزوم التعيين، وهي:

ص: 198

الدليل الأول: أصالة التعيين

ذهب بعض الأعلام(1) إلى أصالة التعيين، ولزوم تقديم محتمل الأهمية؛ وذلك لقبح تفويت الملاك المولوي الملزم بدون وجود المعجز العقلي أو الشرعي، والاشتغال بإنقاذ الثاني تفويت له بدونه.

وتوضيحه يبتني على بيان أمرين:

الأول: إنَّ التزاحم في مقام الامتثال وإن كان يوجب سقوط فعلية التكليفين؛ لعدم القدرة، وهي شرط الفعلية، لكن لا يوجب سقوط الملاك.

الثاني: تفويت الملاك المولوي الملزم قبيح - كقبح تفويت التكليف الواصل - ويوجب استحقاق العقاب بحكم العقل، ولا يرتفع القبح إلا مع العجز التكويني أو التشريعي للمكلف، ويتحقق العجز التكويني بعدم القدرة، والعجز التشريعي بصرف الشارع قدرة المكلف إلى جهة أخرى، كما لو دار أمره بين الصلاة الاختيارية وإنقاذ الغريق، حيث يأمره المولى بالثاني، فمع قدرته التكوينية على الصلاة التامة إلا أنه عاجز تشريعاً، والحاصل أنَّ تفويت الملاك المولوي قبيح إلا مع وجود المعجز العقلي أو الشرعي.

وبعد تمامية هذين المطلبين نقول في المقام صور:

الصورة الأولى: أن يكون أحد الواجبين المتزاحمين معلوم الأهمية، كإنقاذ الغريق والصلاة الاختيارية، ففي هذه الصورة يتعلق التكليف الفعلي بالأهم، ويستند تفويت الملاك الآخر إلى التعجيز الشرعي، فلا قبح فيه،

ص: 199


1- مصباح الأصول 2: 458.

فيجب على المكلف صرف قدرته إلى الأهم، ولا إشكال في تفويت ملاك المهم.

الصورة الثانية: أن يتساوى ملاك الواجبين المتزاحمين، وفي هذه الصورة لا يمكن أن يتعلق التكليف الفعلي بخصوص أحدهما على نحو التعيين؛ لأنه ترجيح بلا مرجح وهو قبيح، وعليه يكون التكليف بكل منهما مشروطاً بترك الآخر، فيقول المولى مثلاً: أنقذ زيداً إن لم تنقد عمراً، وبالعكس، فهما تكليفان مشروطان، أو يكون التكليف بالجامع (أنقذ احدهما)، فيستوفي المكلف أحد الملاكين، ويفوت الآخر للمعجز العقلي.

الصورة الثالثة: أن يكون أحدهما محتمل الأهمية، والمفروض لزوم تقديم الأهم، فيحتمل كونه واجباً تعييناً. قال ما نصه: «وأما إذا كان أحدهما محتمل الأهمية فلا إشكال في جواز الإتيان به وتفويت الملاك في الآخر؛ لدوران الأمر بين كونه واجباً متعيناً في مقام الامتثال، أو مخيراً بينه وبين الطرف الآخر، وعلى كل تقدير كان الإتيان به خالياً عن المحذور، وأما الإتيان بالطرف الآخر وتفويت الملاك الذي احتمل أهميته فلم يثبت جوازه، فإنه متوقف على عجز المكلف عن تحصيله(1) تكويناً أو تشريعاً، والمفروض قدرته عليه تكويناً - وهو واضح - وتشريعاً؛ لعدم أمر المولى بإتيان خصوص الطرف الآخر ليوجب عجزه عن تحصيل الملاك الذي احتمل أهميته، فلا يجوز تفويته(2)، وإلا لاستحق العقاب عليه بحكم

ص: 200


1- أي: الملاك.
2- أي: الأوّل.

العقل»(1).

وبعبارة سهلة: إذا سأل المولى لماذا فوتت الملاك الملزم في الطرف الأول، فهل يمكن للعبد أن يعتذر بالعجز التكويني أو التشريعي؟ كلا، لإمكانه إنقاذ الأول تكويناً؛ ولعدم تعيين إنقاذ الثاني من قبل المولى، فتكون النتيجة تحقق تفويت الملاك الأول من دون المعجز التكويني والتشريعي، وقد قلنا: إنه قبيح.

لكنه بهذا النحو غير واضح. أما أوّلاً: ففي المثال ونظائره يمكن نفي خصوصية المحتمل بأصالة العدم، فإن الأصل عدم كونه ولياً، إما بالعدم النعتي أو الأزلي، ودوران الأمر بين التعيين والتخيير ناشئ من الشك في ذلك المنفي بالأصل.

وثانياً: فلأن حصر ارتفاع القبح عن تفويت الملاك المولوي بصورة وجود المعجز التكويني أو التشريعي غير حاصر، فإنّ ارتفاع القبح عن تفويت الملاك يحصل في ثلاث صور، الأولى: العجز التكويني، الثانية: العجز التشريعي، الثالثة: وجود المؤمن عن تعين استيفاء الملاك الخاص، وهو متحقق في المقام، فمع الشك في تعيين إنقاذ الأول تجري البراءة، فلا قبح لتفويت الملاك.

الدليل الثاني: التمسك بإطلاق الخطاب

وقد بنى عليه جمع من الأكابر وتوضيحه: إن مرد الوجوب التخييري إلى وجوبين مشروطين، فوجوب كل واحد منهما مشروط بعدم الإتيان بمتعلق

ص: 201


1- مصباح الأصول 2: 458.

الآخر، حيث يقول المولى: يجب عليك إنقاذ الغريق الأول إن لم تنقذ الثاني وبالعكس، وهكذا في خصال الكفارة: أطعم إن لم تعتق وبالعكس.

وفي موراد احتمال أهمية أحد الطرفين يكون الوجوب المتعلق بالطرف الثاني مقيداً قطعاً؛ لأنه إما مهم في مقابل الأهم أو مساوٍ، وعلى التقديرين يكون مقيداً ومشروطاً؛ فإنّ الخطاب ترتبي، وأما الطرف الأول فيشك في كون الخطاب المتعلق به مطلقاً أو مشروطاً، حيث إن كان هو الأهم كان الخطاب به مطلقاً، وإن لم يكن أهمَّ كان مشروطاً، ومقتضى أصالة الإطلاق إطلاق الخطاب، ومعنى إطلاق الخطاب هو التعين، فيكون إنقاذ الأول بلا قيد، وانقاذ الثاني مقيداً بعدم إنقاذ الأول، ومفاده تعيين إنقاذ الأول، كما هو الأمر في كل أهم ومهم.

ويرد عليه: أن المبنى محل إشكال، فإنّ مرد الوجوب التخييري إلى وجوبين مشروطين محل نظر؛ لاحتمال تعلق الوجوب بالجامع، وفي الذهاب إلى الوجوبين المشروطين محذورات لا يمكن الالتزام بها.

ومع غض النظر عن الإشكال في المبنى فإنّ ما ذكر غير تام ظاهراً؛ لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

بيانه: كل خطاب مقيد عقلاً بعدم الاشتغال بالضد الأهم أو المساوي، فإنّه مع الاشتغال بالضد الأهم لا تصل النوبة إلى المهم، ومع الاشتغال بالضد المساوي لا تفي قدرة المكلف بالجمع بينهما.

وفي المقام الخطاب المتعلق بالأول مشروط أيضاً - كما قلتم بذلك بالنسبة إلى الخطاب المتعلق بالثاني - فإن الغريق الأول إما هو ولي من الأولياء، أو مؤمن عادي، فيقول المولى: انقذ الغريق الأول إن لم تشتغل

ص: 202

بضد أهم أو مساوٍ - وهذا القيد وارد في كل التكاليف - ويحتمل وجداناً كون الغريق الثاني ضداً مساوياً؛ لاحتمال كون الأول مؤمناً عادياً، فيكون الخطاب الأول مقيداً.

وبعبارة أخرى: لو كان الطرف الثاني ضداً مساوياً لم يتعين الأول، ولو لم يكن ضداً مساوياً تعين، فالخطاب إما مطلق أو مشروط متعين أو غير متعين، ولا يمكن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وبتقرير آخر: التكليف الأول ليس من موارد الشك في الإطلاق والتقييد، بل مقيد قطعاً، فقول المولى: أنقذ هذا إن لم تشتغل بالمساوي بمعنى الوجوب التعييني، أي: يجب إنقاذ الأول تعييناً إن لم تشتغل بالمساوي، ولا يعلم أنّه مع إنقاذ الثاني هل هو مشتغل بالمساوي أم لا؟ فيكون الخطاب التعييني بإنقاذ الأول مشكوكاً.

إلا أن يقال: إنَّ الخطاب مقيد بالعلم، بمعنى أن كل خطاب مقيد بعدم الاشتغال بضد علم أهميته أو مساواته، ولكنه محل تأمل؛ لأنّ الأحكام منوطة بالموضوعات الواقعية، ولا مدخلية للعلم والجهل فيها.

الدليل الثالث: التمسك بأصالة الاشتغال

مع امتثال الخطاب المحتمل أهميته يسقط التكليف قطعاً، بخلاف غيره، ومقتضى أصالة الاشتغال تحصيل القطع بالامتثال، فإنّ الشك في الامتثال مجراه الاشتغال لا البراءة.

لكنه محل تأمل؛ لامتثال الطبيعي قطعاً، ولا يقين باشتغال الذمة بالحصة، فلو أنقذ الغريق الثاني امتثل أمر (أنقذ) ولا يقين باشتغال الذمة بإنقاذ الغريق الأول معيناً، فما علم اشتغال الذمة به - وهو الطبيعي - حصل فراغ الذمة منه

ص: 203

قطعاً، واشتغال الذمة بالحصة مشكوك، كما لو أمر بتقليد المجتهد ولم يعلم أنه قال (أعلم) حيث تجري البراءة عنه.

ومع قطع النظر عن جميع هذه المناقشات هنالك شبهة حكمية كلية، وهي: أنه هل ألزم الشارع تقديم محتمل الأهمية أم لا ؟ ومجراها البراءة الشرعية والعقلية.

هذا تمام الكلام في الصورة الثانية من المقام الرابع.

الصورة الثالثة: دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام جعل الأحكام الواقعية
اشارة

ولهذه الصورة صور متعددة، والمهم منها واحدة، وهي: ما لو علم بوجوب واجب في الجملة، واحتمل وجود عدل له في الوجوب أو مسقط لوجوبه، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير، فهل المقام مجرى البراءة أو الاشتغال؟

مثاله: لو فرض معلومية وجوب الظهر في يوم الجمعة في الجملة، إما بنحو الوجوب التعييني أو التخييري، واحتمل كون صلاة الجمعة عدلاً أو مسقطاً له.

مثال آخر: لو نذر أن يصوم يوماً، وقطع أن صوم يوم الجمعة متعلق النذر، لكن شك أنه تعييني أو أن نذره مخير بين صوم الجمعة أو السبت.

مثال ثالث: إنّه في مواطن التخيير هل أنّ الملاك في التخيير هو خصوص المسجد المكي والنبوي والكوفة والحائر الحسيني، أو كل البلدان الأربعة؟ فوجوب القصر في خارج المحدودة متيقن، لكن الشك في وجود عدل أو مسقط له، وهو الإتمام.

ص: 204

وفي المقام احتمالان:

الاحتمال الأول: الحكم بالتخيير في جميع هذه الموارد للبراءة.

توضيحه: إنّ التعيين كلفة زائدة على المكلف، ووجودها مشكوك، فترفع بأدلة البراءة، وأما التخيير فليس تضييقاً على المكلف، ولا معنى لجريان البراءة عنه؛ لأنّ (اللاحرجية) إطلاق العنان، وأما التعيين فهو تضييق وكلفة، والأصل عدمه.

إن قلت: إنه مثبت، قلت: لا يراد بذلك إثبات التخيير، وإنما إثبات عدم التعيين.

ويرد على هذا التقرير إشكالات:

الإشكال الأول: ما حكي عن المحقق العراقي(1): من أنّ أصل عدم الوجوب التعييني معارض بأصل عدم الوجوب التخييري.

بيانه: لكل واحد من الوجوب التعييني والتخييري حيثية إلزامية ليست متحققة في الآخر، أما الحيثية الإلزامية للوجوب التعييني فهي ثبوت الوجوب حتى مع فرض العمل بالعدل الآخر، فلو علم بوجوب العتق وشك أنه تعييني، أو أنه مخير بينه وبين الإطعام،كان وجوب العتق ثابتاً حتى في فرض تحقق الإطعام - وهذه الحيثية يفقدها الوجوب التخييري لسقوط وجوب كل عدل مع الإتيان بالعدل الآخر فيه - وهذه الحيثية الإلزامية في الوجوب التعييني مشكوك فيها، أي: أنّ وجوب العتق حتى في فرض تحقق الإطعام مشكوك، فتشمله أدلة البراءة.

ص: 205


1- المحكم في أصول الفقه 4: 442.

بعبارة أوضح: إطلاق الوجوب مشكوك، فإنّ وجوب العتق في فرض عدم تحقق الإطعام يقيني، أما وجوبه في فرض تحقق الإطعام فمشكوك، والأصل عدمه والمفروض أنه لا دليل لفظي حتى يتمسك بإطلاقه.

وأما الحيثية الإلزامية للوجوب التخييري، فهي: حرمة ضم ترك أحدهما إلى ترك الآخر، فلو كان وجوب العتق تخييرياً حرم ضم ترك الإطعام إلى ترك العتق؛ لحصول المخالفة القطعية للوجوب التخييري مع هذا الضم - وهذه الحيثية يفقدها الوجوب التعييني، فإنه لو كان العتق واجباً تعييناً لم يحرم ضم ترك الإطعام إلى ترك العتق؛ لأنه من قبيل ضم ترك المباح إلى ترك الحرام، حيث لا تحرم هذه الضميمة - فلو كان الوجوب تخييراً كان الضم حراماً، ولو كان تعييناً لم يحرم؛ لعدم حرمة ضم المباح إلى الحرام، فيكون أمر الضم دائراً بين الحرمة وعدمها، والأصل العدم.

والحاصل: أنه كما تجري أدلة البراءة للتأمين من الحيثية الإلزامية للوجوب التعييني، كذلك تجري للتأمين من الحيثية الإلزامية للوجوب التخييري، فيتعارض الأصلان المؤمنان.

والظاهر في بادئ النظر أنه غير تام؛ لأن الأصل المعارض في الوجوب التخييري إما فاقد لشرط جريانه، أو مستلزم للمخالفة القطعية، وعلى كلا التقديرين لا يجري الأصل المؤمن المعارض، فإنّ أثر جريان الأصل ورفع الحرمة عن الضم إما علمي فقط أو عملي، فإن كان الأثر عملياً بأن كان ضم ترك الإطعام إلى ترك العتق غير محرم لأدلة البراءة، وأثره جواز ضم الترك إلى الترك كانت النتيجة المخالفة العملية القطعية، فكيف يأذن المولى بذلك؟

ص: 206

وإن كان علمياً فحسب، بأن يعلم بعدم حرمة ترك الضم شرعاً؛ لاحتمال كون الوجوب تعيينياً، فهو غير كافٍ لجريان الأصل العملي؛ لاشتراط ترتب الأثر العملي عليه، وعليه لا يجري أصل البراءة في جانب الوجوب التخييري ليعارض جريانه في جانب الوجوب التعييني، فيكون الأصل المؤمن جارياً في طرف الوجوب التعييني بلا معارض .

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق النائيني في الفوائد، وحاصله أنّ التعيينية أمر عدمي، وحديث الرفع لا يشمل الأمور العدمية، قال: «لابد مع ذلك من أن يكون المشكوك فيه أمراً مجعولاً شرعياً تناله يد الوضع والرفع التشريعي...لأن صفة التعيينية المشكوكة ليست من الأمور الوجودية المجعولة شرعاً ولو بالتبع، بل إنما هي عبارة عن عدم جعل العدل والبدل.... فالتعيينية ليست صفة وجودية للخطاب حتى تجرى فيها البراءة»(1).

بيانه: إنَّ المرفوع بحديث الرفع لابد أن يكون أمراً مجعولاً، والسر في ذلك واضح؛ لأنّ الرفع تشريعي، والأمور التكوينية ليست قابلة للرفع التشريعي، وهذه الكبرى الكلية مسلمة، وأما الصغرى، فهي: عدم ذكر العدل والبدل مساوق للتعيينية، فلو قال المولى: اعتق ولم يجعل له عدلاً فعدم جعل العدل مساوق لتعيينية العتق، وعليه فالتعيينية أمر عدمي، ولا معنى لرفع الأمر العدمي بالرفع التشريعي، فلا يمكن القول برفع صفة التعيينية بأدلة البراءة.

لكنه محل إشكال من جهات:

ص: 207


1- فوائد الأصول 3: 426-428.

الجهة الأولى: - بعد التسليم بعدم جريان أدلة البراءة الشرعية؛ لأنها رفع، والرفع لا يتعلق بالعدميات - أنه لا مانع من جريان البراءة العقلية، فإنّ ملاكه عدم البيان، سواء كان الشيء المجهول ممكن الرفع بالرفع التشريعي أم لا؛ لأنّ إدراك العقل لقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) إدراك للأمر الواقعي، فالحسن والقبح من الأمور الواقيعة التي يدركها العقل، وإدراكه لها ليس متوقفاً على إمكان رفع تلك الواقعية بالرفع التشريعي أو وضعها به.

والحاصل: أنّ خصوصية التعيينية - سواء أكانت وجودية أم عدمية، وسواء أمكن رفعها بالرفع التشريعي أم لم يمكن - أمر مشكوك، ولم يتم عليها البيان، فيقبح العقاب عليها.

الجهة الثانية: إنّ صفة التعيينية والتخييرية ليست من الأمور العدمية، كما ذهب إليه، فإنّ عدم ذكر العدل كاشف عن التعيينية، وذكره كاشف عن التخييرية، وهما صفتان وجوديتان، فلو كان شوق المولى والملاك الواقعي مطلقاً تحقق إطلاق الطلب، أي: إرادة المطلوب على كل تقدير هو معنى التعيينية، فالمولى يريد العتق ولا يرضى بالإطعام، فالمطلوب مطلوب على كل تقدير وبلا قيد، ولو كان الشوق والطلب على تقدير دون تقدير تحقق معنى التخييرية، فالمولى يريد العتق في صورة عدم الإطعام لا مطلقاً، وعليه فالتعيينية صفة وجودية منتزعة أو مساوقة لإطلاق الشوق والملاك والطلب، والتخييرية صفة وجودية منتزعة أو مساوقة لتقييد الملاك والشوق والطلب، وهو الظاهر وجداناً. نعم: الكاشف عن إطلاق الطلب وسعته هو عدم ذكر القيد.

الجهة الثالثة: لا مانع - في بادئ النظر - من تعلق الرفع بالعدميات، كما يتعلق بالأمور الوجودية، فإنّ عدم الحكم فيما يقبل الحكم نوع من أنواع

ص: 208

الحكم.

مثال: ما ذكره صاحب العروة(1) في ملحقاتها: لو لم ينفق على زوجته، حق للحاكم أن يطلق، بدليل (لا ضرر) فإنّ عدم جعل الشارع للحاكم حق الطلاق أمر ضرري، فينتفي ب- (لا ضرر).

مثال آخر: لو نذر قراءة سورة (المؤمنون) في يوم الجمعة فنسي، أو أكره على العدم، فلا كفارة عليه؛ لأنها مرفوعة، لرفع الإكراه والنسيان، مع أنّ عدم التلاوة أمر عدمي، فيكون المرفوع هو العدم، أي: كأن عدم القراءة لم يتحقق.

هذا تمام الكلام في الاحتمال الأول، وسيتضح بعض الإشكالات عليه خلال المباحث الآتية.

الاحتمال الثاني: جريان الاشتغال والاحتياط.

أدلة جريان الاشتغال في الصورة الثالثة

وقد ذهب إليه جملة من المحققين واستدل له بأدلة:

الدليل الأول: ما ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه)

حيث قال: «فظهر أن المرجع عند الشك في التعيين والتخيير قاعدة الاشتغال؛ لرجوع الشك فيهما إلى الشك في سقوط ما علم تعلق التكليف به بفعل ما يحتمل كونه عدلاً له»(2)، وهو شك في الامتثال ومجراه قاعدة الاشتغال، حيث يتولد الخطاب بقول: (اعتق رقبة) ويحتمل المكلف كون

ص: 209


1- العروة الوثقى 6: 106.
2- فوائد الأصول 3: 428.

الإطعام مسقطاً أو عدلاً، إلا أن الاشتغال يقيني وفراغ الذمة بالإطعام مشكوك، فلابد من تحصيل البراءة اليقينية، فمقتضى الاحتياط العتق.

لكنه محل تأمل؛ لإمكان دعوى كون الشك في الاشتغال لا الامتثال؛ لأن ثبوت خطاب (أعتق) على تقدير عدم الإطعام يقيني، أما ثبوته حتى على تقدير الإطعام فمشكوك، فالمكلف بعد الإطعام يشك في توجه تكليف (اعتق) إليه، لا أنه يشك في امتثال التكليف اليقيني.

وبعبارة أخرى: وجوب العتق إما مطلق أو مقيد، فلو كان الوجوب تعييناً فهو مطلق، أي: اعتق على كل تقدير، ولو كان تخييراً كان وجوب العتق ثابتاً على تقدير دون تقدير، ويشك أنّ الخطاب المتولد كان مطلقاً أو لا، ولا يمكن التمسك بأصالة الإطلاق؛ لما ذكرناه في المقدمات، فيشك من أول الأمر في اشتغال ذمة المكلف بالعتق على كل تقدير.

وبعبارة ثالثة: للمكلف حالتان: الإطعام وعدمه، وقد شمل خطاب (اعتق) حالة عدم الإطعام، إما لكونه مطلقاً أو مقيداً، لكن شموله لحالة الإطعام غير معلوم، فهو شك في التكليف ومجراه البراءة.

لكن يرد عليه: أن المباني في حقيقة الوجوب التخييري ثلاثة، فلابد من تقييم ما ذكره المحقق النائيني بناء عليها.

المبنى الأول: إنّ الوجوب التخييري عبارة عن وجوبين مشروطين، والظاهر أنّ كلامه غير تام؛ لأنه على هذا المبنى يكون الشك في سعة الوجوب وضيقه، ومجراه البراءة.

وبعبارة أخرى: إنما يتم الإشكال عليه إن قلنا: إنَّ الوجوب التخييري عبارة عن وجوب كل من العدلين مشروطاً بترك الآخر، فيكون الشك في

ص: 210

الثبوت؛ لأنّ وجوب العتق ثابت من أول الأمر في صورة ترك الإطعام، لكن وجوبه في صورة تحققه غير ثابت من أول الأمر؛ لأنّ وجوب العتق لو كان تعيينياً كان للوجوب سعة يشمل صورة تحقق الإطعام وعدمه، ولو كان تخييرياً فإن الوجوب ثابت في صورة ترك الإطعام، وأما في صورة تحققه فلا وجود للوجوب، وعليه يكون الشك في ثبوت التكليف بالعتق في صورة الإطعام ومجراه البراءة.

المبنى الثاني: إنّ الوجوب التخييري عبارة عن وجوب متعلق بعنوان (أحدهما) الانتزاعي، حيث ينتزع العقل هذا العنوان منهما، وعليه يمكن القول بصحة كلامه، فإنّ الوجوب المتولد إما متعلق بعنوان العتق أو بعنوان أحدهما، ولا يعلم سقوطه بعد الإطعام.

ويمكن دفعه بجوابين:

الجواب الأول: ما ذكره في المصباح، حيث قال: «لأن تعلق التكليف بعنوان أحد الشيئين في الجملة معلوم، وإنما الشك في الإطلاق والتقييد»(1).

توضيحه: إنَّ وجوب أحد الأمرين مقطوع لا يمكن نفيه، لكن يشك في أنه مطلق أو مقيد، فلو كان الوجوب تخييرياً لكان (أحدهما) المطلق واجباً، ولو كان تعيينياً لكان (أحدهما المتخصص بالخصوصية العتقية) واجباً، فيكون الشك في الإطلاق والتقييد، فإنّ وجوب أحدهما مسلم وقد امتثل بالإطعام و (وجوب أحدهما المتخصص) مشكوك من أول الأمر، فيكون الشك في الثبوت لا في السقوط، وتجري البراءة عنه.

ص: 211


1- مصباح الأصول 2: 454.

لكنه غير تام؛ لأن متعلق الوجوب في فرض كونه تعيينياً ليس عنوان (أحدهما)، بل العنوان الخاص هو متعلق الوجوب، فإنه لو كان العتق واجباً تعيينياً واقعاً لم يعلق المولى الوجوب على عنوان (أحدهما المتخصص) بل علقه على هذا العنوان معيناً، وللتنظير حينما يقول المولى: (أقم الصلاة) فهل يجب إقامة أحد الفردين من الصلاة والزكاة ؟!

فقوله: «تعلق التكليف بعنوان أحد الشيئين في الجملة معلوم»(1) غير تام، بل هو طرف العلم الإجمالي؛ لأنّ الوجوب إما يتعلّق بعنوان (أحد الشيئين) أو بعنوان (العتق)، ولا يعلم بسقوط التكليف المتولد مع الإطعام، فيكون مجرى الاشتغال.

الجواب الثاني: إنا نسلم أنه شك في السقوط، فلو تولد تكليف لا نعلم أنه متعلق بعنوان (أحدهما) أو عنوان (العتق) فيشك أن هذا الوجوب يسقط مع (الإطعام) أو لا، لكنه مسبب عن الشك في وجوب العتق، والأصل عدم الوجوب التعييني للعتق، فلا شك.

توضيحه: لو تحقق عنوانان في مورد، ولم يكن لأحدهما انفكاك عن الآخر في مقام التحقق، بأن كانت الملازمة بينهما من طرف واحد لا من الطرفين، وإنما يكون الأمر كذلك فيما لو كان بين العنوانين عموم مطلق من حيث التحقق الخارجي، وعليه يجري الأصل لنفي الأخص مطلقاً، ولا يعارضه جريان الأصل لنفي الأعم مطلقاً؛ لعدم معقوليته.

مثلاً: النسبة بين عنوان (القيام) و (التعظيم) عموم مطلق في مقام التحقق

ص: 212


1- مصباح الأصول 2: 454.

الخارجي، لا مقام المفهومية، وذلك لانتزاع عنوان (التعظيم) من أي قيام فرضاً، لكن التعظيم لا يلازم القيام في الخارج؛ لإمكان تحققه بنحو آخر، كالإيماء، فلو علم أنّ المولى أوجب إما القيام أو التعظيم جرى الأصل المؤمن في طرف الأخص، فالأصل عدم وجوب القيام.

إن قلت: يعارضه جريان الأصل في (التعظيم) فيتساقطان.

قلت: إنه غير معقول؛ لأنّ الأصل المؤمن عن الأعم إما يجري للتأمين عن الأعم في فرض الإتيان بالأخص، وإما يجري في فرض عدم الإتيان بالأخص.

وبعبارة أخرى: مفاد جريان هذا الأصل هو التأمين إما في حال ترك الأعم مع الإتيان بالأخص، وإما في حال ترك الأعم مع ترك الأخص، لكن الأول لا معنى له؛ لأنه مع الإتيان بالأخص لم يترك الأعم حتى يؤمن عنه، بل القول بترك الأعم في حال الإتيان بالأخص قول متهافت، حيث لا معنى لترك الأعم مع الإتيان بالأخص، والثاني مساوق للمخالفة القطعية، ولا يعقل التأمين عنه بحال، فإنه إنما يمكن التأمين في حال المخالفة الاحتمالية، وأما مع المخالفة القطعية فغير معقول.

وعليه، يصح القول بكون الأصل عدم وجوب (القيام) وأن الإتيان بالأخص غير لازم.

ولو تم هذا البرهان نقول فيما نحن فيه: إنّ النسبة بين عنوان (العتق) و(أحدهما) هي العموم المطلق، ويجري الأصل بالنسبة إلى الأول، فالأصل عدم وجوب العتق، ولا يعقل جريانه بالنسبة إلى الثاني، بأن يكون الأصل عدم وجوب العنوان الانتزاعي؛ لأنّ جريان الأصل في (أحدهما) إما هو في

ص: 213

فرض تحقق العتق، وإما في فرض عدم تحققه، والأول جمع بين النقيضين، والثاني مخالفة قطعية، ولا يجري الأصل للتأمين من المخالفة القطعية.

والحاصل: أن كلامه على المبنى الثاني محل تأمل أيضاً.

المبنى الثالث: إنَّه عبارة عن سنخ من أنواع الوجوب متعلق بكل واحد من العدلين، لا بالعنوان الانتزاعي، ولا بوجوبين مشروطين، وهذا النحو من الوجوب مغاير للوجوب التعييني، وتعرف المغايرة بالآثار.

وبعبارة أخرى: الوجوب التخييري مرتبة متوسطة بين الوجوب التعييني والاستحباب؛ لأنّ الوجوب التعييني لا يجوز تركه، والاستحباب يجوز تركه، ولو لا إلى بدل، وأما الوجوب التخييري فهو فعل لا يجوز تركه إلاّ إلى بدل، ولا يجوز ترك عدله إلا إلى بدل، ففي الواقع الوجوب متعلق بكل واحد من العدلين، وهو نحو من أنحاء الوجوب يحرم تركه المطلق، ويجوز تركه إلى بدل.

وعلى هذا المبنى لا يخلو الأمر من إعضال.

لكن ذكر بعض المحققين أنّ المقام مقام جريان البراءة وبنى عليه، حيث قال: «المقدار المعلوم ثبوته هو تأثير الحكم المعلوم بالإجمال في مقام الطاعة عند عدم الإتيان بالمحتمل الآخر، أما على تقدير الإتيان به فلا علم بما له تأثير في مقام العمل من التكليف؛ لاحتمال كون الثابت هو الوجوب التخييري، الذي يكون قاصراً عن التأثير والمحركية على تقدير الإتيان بالعدل الآخر، فالتكليف على هذا التقدير لا يكون منجزاً، فيكون مورداً للبراءة»(1).

ص: 214


1- منتقى الأصول 5: 247.

توضيحه: إن القدر المتيقن من ثبوت التكليف هو صورة عدم الإتيان بالعدل المحتمل، فلو لم يطعم كان التكليف موجوداً قطعاً، واستحق العقوبة، وأما في صورة الإتيان بالعدل المحتمل فلم يعلم بوجود التكليف، فإنه لو كان الوجوب - ثبوتاً - تعييناً فله ثبوت ومحركية، وأما لو كان تخييرياً فمع فرض الإطعام لا وجوب ولا محركية، فهذا العلم الإجمالي بوجوب العتق معيناً أو بوجوبه مخيراً بينه وبين الإطعام منجز للجهة المشتركة بين المعلومين بالإجمال، ولذلك تجري البراءة في المقام أيضاً.

لكنه محل تأمل جداً: أما نقضاً: فلإمكان جريان البيان المذكور في جميع موارد العلم الإجمالي، فلو علم بوجوب الصلاة إلى إحدى الجهات الأربع، فالقدر المتيقن من ثبوت التكليف واستحقاق العقاب هو صورة عدم الصلاة إلى أي جهة من الجهات، أما لو صلى إلى جهة واحدة فلا يعلم بالتكليف؛ لاحتمال كون الصلاة إلى القبلة، ومن صلى إليها لا تكليف له، فلابد من القول بعدم وجوب الإتيان إلا بطرف واحد في جميع موارد العلم الإجمالي.

وأما حلاً: فللعلم الإجمالي مرتبتان عقلاً وعقلائياً ونصاً، وهما:

الأولى: مرتبة حرمة المخالفة القطعية.

الثانية: مرتبة وجوب الموافقة القطعية، ولا تحصل المرتبة الثانية إلا بالإتيان بجميع الأطراف، فلابد من القيام بما يفرغ الذمة قطعاً، ولا يتحقق ذلك في المقام إلا بالعتق.

فما ذكره المحقق النائيني من كون المجرى الاحتياط تام ظاهراً على المبنى الثالث في حقيقة الوجوب التخييري بخلاف المبنيين الأولين.

ص: 215

الدليل الثاني: ما استظهر من كلام صاحب الكفاية

حيث قال: «لا بأس بجريان البراءة النقلية في خصوص دوران الأمر بين المشروط وغيره، دون دوران الأمر بين الخاص وغيره، لدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية ما شك في شرطيته، وليس كذلك خصوصية الخاص، فإنها إنما تكون منتزعة عن نفس الخاص»(1).

وقد استظهر كون مراده هو: أنه لو كان دوران الأمر بين التعيين والتخيير من جهة احتمال شرطية أمر مباين في المأمور به جرت البراءة؛ لأن شرطية المباين أمر قابل للوضع والرفع، فترتفع مدخليتها، فلو شك في اشتراط الطهارة في سجود التلاوة، فإنّ الشرطية المجهولة ترفع بدليل الرفع؛ وذلك لأنّ الطهارة أمر مباين للمأمور به، فتكون النتيجة التخيير بين السجود الواجد والفاقد.

لكن لو كان الدوران بين التعيين والتخيير من جهة احتمال أخذ خصوصية ذاتية في الواجد، فلا يعقل رفع مدخليتها بأدلة البراءة الشرعية؛ لأنّ الخصوصية الذاتية ليست قابلة للوضع والرفع.

لكنه محل تأمل إن كان ناظراً إلى ما استظهر منه؛ وذلك لتحقق أمرين في المقام، الأول: ذات الخصوصية، الثاني: وجوب الخصوصية، وهو قابل لهما.

مثلاً: شرب التتن غير قابل للوضع والرفع في دائرة التشريع؛ لأنه من موجودات عالم التكوين، لكن ليس البحث في الشرب، بل في حرمته،

ص: 216


1- كفاية الأصول: 367.

كذلك الأمر في العتق.

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه)

وهو أن الوجوب التخييري بحاجة إلى مؤنة زائدة في عالم الثبوت والإثبات، والأصل عدمها، أما الأول: فلأنه متوقف على لحاظ العدل، وأما الثاني: فلأنه بحاجة إلى ذكر العدل، وهذه المؤنة الزائدة في عالم الثبوت والإثبات مندفعة بالأصل.

لكنه غير واضح؛ أما بلحاظ عالم الثبوت فلأنّ الوجوب التعييني أيضاً متوقف على مؤنة زائدة؛ لأنه بحاجة إلى لحاظ إطلاق الوجوب وسعته.

توضيحه: إنَّه لا يعقل الإهمال في مقام الثبوت لدى الشارع الملتفت، فحينما يأمر المولى بالعتق فإما أنّه لاحظ الوجوب على نحو الإهمال أو على نحو الإطلاق، أو على نحو الاشتراط، والأول غير معقول، والتعيين متوقف على لحاظ الثاني، بأن يكون مراده في عالم اللحاظ العتق لا سواه، ولا بديل مما يكون مقوماً للوجوب التعييني، وسعة الطلب هذه مؤنة زائدة.

وأما المؤنة الزائدة في عالم الإثبات، فهو خروج عن المبحث؛ لأنّ البحث فيما لم يكن إطلاق لفظي في البين، وأما معه فلا بحث، فإنّ الأصل في الوجوب أن يكون عينياً تعيينياً نفسياً، فيتمسك بإطلاق اللفظ.

الدليل الرابع: التمسك بأصالة عدم وجوب العدل المحتمل

فالأصل عدم وجوب الإطعام.

وهو محل تأمل؛ لأنّ هذا الأصل على المبنى الأول معارض، وعلى المبنى الثاني لا مجرى له، وعلى المبنى الثالث مثبت.

ص: 217

أما الأول: فإنه لو كان المبنى في حقيقة الوجوب التخييري أنه عبارة عن وجوبين مشروطين، فإنّ أصالة عدم وجوب الإطعام معارضة بأصالة عدم وجوب العتق، فإنّ الوجوب ثابت للعتق في فرض عدم الإطعام، ومفروضنا هو الإطعام، فهل للعتق وجوب؟ الأصل عدمه.

أما الثاني: فإنه لو كان المبنى تعلق الوجوب بالجامع، فوجوب العدل المحتمل (الإطعام) مقطوع الانتفاء فلا مجرى للأصل؛ لأنه لو كان الوجوب تعيينياً كان متعلقاً بالعتق، ولو كان تخييرياً كان متعلقاً بالعنوان الانتزاعي - أحدهما - فيحصل القطع بعدم وجوب الإطعام.

وأما الثالث: فإنه لو كان المبنى تعلق الوجوب بكل واحد من العدلين، لكنه سنخ خاص من الوجوب، وهو مرتبة متوسطة بين الوجوب التعييني والاستحباب، فإنّ أصل عدم وجوب الإطعام مثبت لوجوب العتق تعييناً، أما أصل الوجوب فهو مسلم على المبنى الثالث؛ لأنّ وجوب العتق إما تعييني أو تخييري، فالمراد إثبات الوجوب التعييني عبر نفي وجوب الضد، وهو مثبت.

فالمتحصل من جميع ما ذكر أن المرجع على المبنيين الأولين البراءة، وعلى المبنى الثالث الاحتياط.

تنبيه

إنما تتم هذه المباحث فيما لو كان محتمل التعيين ممكناً، وأما مع عدمه - كالعتق - فلا وجوب للعدل المحتمل - الإطعام - لأنه شك في أصل الوجوب، فإنه لو كان الوجوب تخييراً كان الإطعام واجباً، وإن كان تعييناً فلا وجوب، فالأمر دائر بين وجوب الإطعام وعدمه، وهو شك في التكليف ومجراه البراءة، فلا يجب العتق؛ لعدم إمكانه، ولا يجب الإطعام؛ لأنه شك

ص: 218

في الوجوب.

هذا تمام الكلام في مباحث دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

تنبيهات مباحث الأقل والأكثر

اشارة

يقع الكلام في تنبيهات تتعلق بمباحث الأقل والأكثر، وهي:

التنبيه الأول: في نقصان الجزء والشرط
اشارة

وفيه فروع:

الفرع الأول
اشارة

لو ثبتت جزئية شيء للمركب الارتباطي بإطلاق الدليل، فنسي المكلف الإتيان به فما هي وظيفته؟ مثلاً: لو كان شرط صحة الطواف دخول الحجر في المطاف، فنسي المكلف وطاف بين البيت والحجر، فتارة يبحث عن الوظيفة بمقتضى القواعد الأولية، وأخرى بمقتضى القواعد الثانوية.

فعلى الأول: يبطل العمل بلا إشكال؛ لأن المأتي به لم يطابق المأمور به، فيجب تكرار الطواف.

طرق تصحيح العمل الفاقد للجزء أو الشرط

إنما الكلام بمقتضى القواعد الثانوية، فهل هنالك طريق لتصحيح العمل الفاقد للجزء أو الشرط؟

ذكر لذلك طريقان:

الطريق الأول

إنَّ عمل الناسي هو المأمور به في حقه، بمعنى أنّ تكليف الناسي - ولو بالقاعدة الثانوية - الإتيان بالعمل الفاقد، فالمأتي به يكون مطابقاً للمأمور به،

ص: 219

ولتنقيح هذا الطريق لابد من البحث في مقامين: الثبوت، ثم الإثبات.

المقام الأول: في إمكان تكليف الناسي بالناقص

ذهب الشيخ الأعظم في الرسائل(1) إلى أن وجود التكليف بالناقص في حق الناسي محال.

توضيحه: إن الالتفات إلى الموضوع شرط في محركية الخطاب للعمل، فلابد وأن يلتفت المكلف إلى أنه مالك لأربعين شاة حتى يتحرك لإعطاء الزكاة، وأما مع الجهل فلا يمكن للخطاب الواقعي أن يحركه لذلك.

فلو أمر المولى الناسي بالصلاة الفاقدة، والمتذكر بالواجدة فنتساءل: هل المكلف ملتفت إلى موضوع الخطاب أم لا؟ إن لم يلتفت كان الانبعاث عن الخطاب - مع الغفلة عن الموضوع - محالاً، حيث لا باعثية لهذا الخطاب؛ لأنّ محركية التكليف فرع الالتفات إلى الموضوع، وإن التفت كان لازمه الانقلاب، حيث يخاطبه المولى: (أيها الناسي لوجوب السورة لا تجب عليك السورة، وإنما يجب عليك المركب الناقص) فإنه بمجرد الالتفات إلى موضوع الخطاب ينقلب إلى المتذكر، ومعه لا يعقل أن تكون للخطاب باعثية، والحاصل: أنّ توجيه الخطاب إلى الناسي بالعمل الناقص محال؛ لأنّ الالتفات إلى الموضوع شرط في فعلية التكليف أو باعثيته، والنتيجة: إن جعل التكليف المذكور لغو.

لكنه محل تأمل من وجوه:

الوجه الأول: ما يخطر بالبال: من أن ما بني عليه الإشكال - من كون

ص: 220


1- فرائد الأصول 2: 365.

تخصيص الناسي بالخطاب محالاً - محل تأمل، وإن لم يناقش في استحالته أحد، إلا أنّ الظاهر أن أصل المبنى محل إشكال، فلا إشكال في تخصيص الناسي بخطاب يخصه؛ وذلك لأنّ التكليف لا يشترط أن يساق بداعي البعث الفعلي، ولا الانبعاث الفعلي، ولا إمكان الانبعاث الفعلي، فليست هذه شرط التكليف حتى يقال: الانبعاث محال، فالبعث محال، بل التكليف بحاجة إلى مصحح عقلائي، وهو محقق في المقام، فلو كان للمولى تكليفان: للذاكر الصلاة التامة، وللناسي الصلاة الناقصة، صح ذلك وإن لم يمكن البعث عن التكليف الثاني، إلا أن المصحح العقلائي - وهو ثبوت الإجزاء بعد الالتفات إلى انطباق العنوان - كاف، فإن المكلف الناسي ينبعث في مقام العمل عن الخطاب الأول، ولا يتوجه إلى الخطاب الثاني، لكن بعد انكشاف الحال يلتفت إلى أن المأتي به مطابق للمأمور به، فإن تكليفه الواقعي هو الفاقد لا الواجد، وهذا الأثر كافٍ لثبوت التكليف الثاني، وكأن مبنى الشيخ ومن تأخر عنه شرطية إمكان الانبعاث الفعلي لكن لا دليل عليه.

الوجه الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية(1) بعد أن سلم بإشكال الشيخ لكن وجد له مخرجاً، وهو أنه يمكن توجه التكليف إلى الناسي لا بهذا العنوان، وإنما بعنوان آخر يلازم عنوان الناسي واقعاً، وإن كان غافلاً عن ثبوت الملازمة بين العنوانين، فمع التفاته إلى ذلك العنوان والغفلة عن الملازمة لا ينقلب إلى المتذكر، كأن يوجب الصلاة الفاقدة على الرجل

ص: 221


1- كفاية الأصول: 368.

البلغمي المزاج، أو ضعيف الذاكرة، أو بارد الطبع أو ضعيف الأعصاب، أو الشيخ المسن، أو أي عنوان آخر يلازم عنوان الناسي واقعاً.

لكن أشكل(1) على هذا التصوير بأنه مجرد فرض وهمي لا واقع له؛ لاختلاف الأفراد وأسباب النسيان فلا يوجد في الخارج عنوان كلي ملازم لعنوان النسيان، فلا أثر عملي للفرض المذكور.

ويمكن الجواب عنه بأنه تام في القضايا الحقيقية، أما في الخطابات الشخصية فلا، كأن يخاطب الناسي الخارجي ويأمره بالصلاة الفاقدة، فإنه لا يجب إخراج الناسي عن الموضوع.

الوجه الثالث: ما ذكره صاحب الكفاية أيضاً، حيث قال: «كما إذا وجه الخطاب على نحو يعم الذاكر والناسي بالخالي عما شك في دخله مطلقاً، وقد دل دليل آخر على دخله في حق الذاكر»(2).

توضيحه: يمكن في المقام فرض خطابين، الأول: خطاب متعلق بما عدا الجزء المنسي، وهو خطاب عام لجميع المكلفين، الثاني: خطاب متعلق بخصوص الجزء المنسي، أو خطاب يشمله ويشمل الأجزاء الأُخرى، وهو خاص بالمكلف الذاكر، ومع تعدد الخطاب بهذا النحو يرتفع المحذور، فقد كان المحذور تخصيص الناسي بالخطاب، أما تخصيص الذاكر بالخطاب فلا محذور فيه.

والحاصل: إنّه ما عدا الجزء المنسي يجب على عموم المكلفين، ثم

ص: 222


1- دراسات في علم الأصول 3: 448.
2- كفاية الأصول: 368.

يجب على المتذكر الصلاة الواجدة، فيكون الناسي قد أتى بالوظيفة، وهي امتثال الخطاب الأول، ومطابقة المأتي به للمأمور به تقتضي الإجزاء، فيكون عمله صحيحاً.

لكن أشكل عليه بعض المحققين بإشكالين:

الإشكال الأول: إنَّ التكليف المتعلق بالناقص لغو(1)؛ لعدم المحركية والباعثية أو لعدم الإمكان؛ لأنّ الناسي لا يلتفت إلى أنه ناسٍ، بل يتصور انطباق موضوع المتذكر عليه، ويدل عليه أنه لو لم يكن هنالك خطاب بالناقص كان الناسي ينبعث عن الخطاب بالتام؛ لأنّه يتصور نفسه ذاكراً، والحاصل: أنه لا يمكن للخطاب الناقص أن يكون باعثاً ومحركاً، فيكون لغواً.

لكنه محل تأمل، لما سبق في الجواب الأول من أن التكليف لا يشترط فيه إمكان الباعثية، وإنما يحتاج إلى مصحح عقلائي، ويكفي فيه ثبوت الإجزاء بعد ارتفاع النسيان، فيرى أنه امتثل الخطاب الواقعي المتعلق به، ومطابقة المأتي به للمأمور به تقتضي الإجزاء، وهذا كافٍ في اندفاع اللغوية.

الإشكال الثاني: ما ذكره في المنتقى حيث قال: «أن يكون التكليف بما عدا المنسي - ثبوتاً - عاماً للناسي والملتفت، أو يكون مهملاً، أو يكون خاصاً بالناسي، فالأول خلف الفرض؛ لأن الذاكر مكلف بالعمل التام دون الفاقد، والثاني محال لاستحالة الإهمال في مقام الثبوت، فيتعين الثالث،

ص: 223


1- المحكم في أصول الفقه 4: 400.

فيعود المحذور»(1).

توضيحه: إنَّ الخطاب الأول لا يخلو من وجوه ثلاثة: إما عام، بمعنى وجوب ما عدا المنسي على الذاكر والناسي، وهو خلاف الفرض؛ لأنّ المكلف الذاكر مكلف بالواجد لا الفاقد، وإما مهمل، وهو غير ممكن ثبوتاً، فلابد أن يكون الخطاب الأول خاصاً بالناسي، فيعود محذور الانقلاب.

لكنه محل تأمل أيضاً لاختيارنا الشق الأول، لكنه خطاب على نحو اللابشرط، وهو يجتمع مع ألف شرط كما يقال بمثله في الإطلاق والتقييد، كما في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}(2)، فيجب طبيعي الطواف لا المقيد بالطهارة، لكنه على نحو اللابشرط، فيقيد بألف شرط بدليل خارجي، كذلك الأمر في المقام، حيث تجب الصلاة ذات الأجزاء التسعة على جميع المكلفين على نحو اللابشرط، ثم يشترط على المتذكر الإتيان بالجزء العاشر بدليل ثانٍ.

نعم، لو كان الخطاب الأول بشرط لا فلا يعقل تقييده بدليل منفصل، أما لو كان لا بشرط فيمكن تقييده لكل المكلفين أو لبعضهم، كقول الأب لأبنائه: صلوا، ثم يخاطب أحسنهم: (صلِّ بخشوع) فالتكليف الأول عام للجميع، والثاني خاص بالابن الأكبر، ولا إشكال في تقييد الخطاب العام لبعض المكلفين.

ص: 224


1- منتقى الأصول 5: 261.
2- الحج: 29.

وعليه فالوجه الثالث أيضاً تام كالوجهين السابقين.

الوجه الرابع: ما ذكره في النهاية، قال: «إن ما عدا الأجزاء الأركانية يمكن أن يكون متقيداً بالالتفات إليه، بأن يكون الدخيل في الغرض الجزء الذي التفت إليه المكلف بطبعه، لا الجزء عن التفات، كالصلاة عن طهارة حتى يجب تحصيله بقيده، بل القيد سنخ قيد بوجوده بطبعه ومن باب الاتفاق، أو يكون الجزء بذاته دخيلاً في الغرض، لكنه لا مصلحة في الإلزام به إلا إذا التفت إليه، وعلى أي حال فلا جزئية إلا لذات الجزء الملتفت إليه»(1).

بيانه: هنالك تكليف وحداني يجعل على كل مكلف المقدار الملتفت إليه، بأن يقول المولى: (يجب من العمل المقدار الذي يذكره) فلو التفت إلى جميع الأجزاء وجب عليه جميعها، ولو التفت إلى بعضها وجب عليه البعض لا سواه، وعليه يكون الناسي قد امتثل ما أمر به كالمتذكر.

وبعبارة أخرى: الخطاب مجعول لطبيعي المكلف، لكن لهذا الخطاب الوحداني مراتب وحالات، كما هو الحال في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}(2)، فهو خطاب وحداني باعث لجميع المكلفين نحو الصلاة، لكن لها مراتب، كصلاة الحاضر والمسافر والغريق والموتحل، وكصلاة المطاردة.

ويرد عليه إشكالان:

ص: 225


1- نهاية الدارية 2: 663.
2- الإسراء: 78.

الإشكال الأول: إن لازمه - كما هو الحال في الصور المتقدمة - أخذ العلم في موضوع الحكم، وهو محال؛ لأنه موجب للدور أو ملاك الدور، فمَنْ علم بوجوب السورة وجبت عليه، ومَنْ نسي فلا تجب عليه، والنسيان نوع من أنواع الجهل، والتذكر نوع من أنواع العلم، فيكون الحكم متقدماً على العلم ومتأخراً عنه، أما الأول فلأن العلم كاشف عن المعلوم، وأما الثاني فلأنّ مفروضه وجوب الجزء على المتذكر، والموضوع متقدم على المحمول.

لكنه قابل للدفع، فإنه لو أخذ العلم بالجعل في موضوع الجعل كان دوراً، وكذلك لو أخذ العلم بالمجعول في موضوع المجعول، أما لو أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول فلا دور؛ لأن المتقدم على العلم هو الجعل، والمتأخر عنه هو المجعول، فلم يتوقف الشيء على ما يتوقف عليه، فيقول المولى: مَنْ علم بالجعل - أي الإنشاء - ثبت في ذمته المجعول، وإلا فلا مجعول.

الإشكال الثاني: لزوم التصويب، وقد قام الإجماع على بطلانه.

ويمكن دفعه - بعد فرض أن له معقداً وإطلاقاً حتى لمقام المتذكر والناسي - بأن المقصود رفع مرتبة فعلية الحكم لا مرتبة الإنشاء، فالحكم الإنشائي مشترك بين الجميع، إلاّ أن فعليته ثابته في حق المتذكر مرفوعة عن الناسي، كما ذكر نظيره في الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية: من أنّ الحكم المشترك بين العالم والجاهل هو الحكم الإنشائي بدون مبادئ، وبلا إرادة وكراهة كحرمة التتن، وأما الجاهل فيحل له، ولا منافاة بين الحكمين؛ لأن أحدهما إنشائي بلا مبادئ، والآخر فعلي معها، وقد مر

ص: 226

تفصيله في أوائل الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

ويكفي نفي الفعلية في حق الناسي؛ لأننا لسنا موظفين بالأحكام الإنشائية والاقتضائية، فتأمل.

هذه وجوه أربعة لدفع إشكال الشيخ الأعظم(1).

وهنالك وجوه أخرى: مثل ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في الأصول، قال: «لإمكان كونه من باب الرافع للإعادة والقضاء... أو بعنوان بدون ذكر متعلقه حتى يلزم الانقلاب»(2)، فلا يخاطب الناسي لوجوب السورة بعدم وجوبها، وإنما يخاطب: (أيها الناسي لشيء ما صلِّ الصلاة هكذا) فالناسي ملتفت إلى أنه ناسٍ لكن لا يعلم متعلق نسيانه، فلا يلزم الانقلاب.

المقام الثاني: الدليل على إمكان تكليف الناس بالناقص

بعد الفراغ عن البحث الثبوتي، وإمكان مطابقة عمل الناسي لتكليفه ننتقل إلى البحث الإثباتي في قيام الدليل على ذلك.

وقد قيل بقيام الأدلة العامة والخاصة على ذلك:

أما العامة ك- : «رفع ما لا يعلمون» حيث إنّ جزئية السورة في حالة النسيان مجهولة، وكذا (رفع النسيان) فيكون الوجوب مرفوعاً، وهذه الأدلة العامة تشمل جميع أبواب الفقه.

وأما الأدلة الخاصة فهي ما ذكره السيد الوالد في الأصول(3) من

ص: 227


1- فرائد الأصول 2: 365.
2- الأصول: 789.
3- الأصول: 788.

قوله (عليه السلام) في المعتبرة في باب الحج: «أي رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه»(1) لو قلنا أنه خاص بباب الحج، وإلا فهو ضمن الأدلة العامة، والظاهر أنه عام، وإن ورد في لبس المخيط، وكذا في باب الصلاة: «لا تعاد الصلاة إلا من خمسة...»(2)،

فهو دليل خاص على مطابقة الفعل الناسي للمأمور به.

وفي المقام إشكالات:

الإشكال الأول: وهو خاص ب- (رفع ما لا يعلمون) حيث إنَّ الرفع ظاهري لا واقعي، لأنَّ الشيء موجود واقعاً، لكن لا يعلمه المكلف، ولو لم يكن موجوداً في الواقع لم يصدق عليه (ما لا يعلمون) والمكلف بعد رفع النسيان وانكشاف الواقع يلتفت إلى ما في ذمته من الصلاة التامة، التي لم يأت بها، سواء في الوقع أم خارجه.

لكنه قابل للتأمل، فقد مرّ سابقاً إمكان الالتزام بكون الرفع واقعياً، فلو تم ذلك اندفع الإشكال المذكور، إلا أنّ المشهور خلاف ذلك، بل كاد أن يكون إجماعاً.

الإشكال الثاني: إن مفاد حديث الرفع هو الرفع لا الوضع، فالسورة المنسية مرفوعة، فلا يدل على الأمر بتمام الباقي، حيث يمكن أن يكون رفع الجزء برفع تمام الأمر المركب، كما يمكن أن يكون برفعه فقط، ولا معين لأحدهما، فكيف يتم المقصود من إثبات الأمر بتمام الباقي في حق الناسي ليطابق المأتي به المأمور به ليقتضي الإجزاء؟

ص: 228


1- تهذيب الأحكام 5: 72-73.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 279.

لكنه قابل للدفع: بأنّ المثبت هو دليل الطبيعي لا دليل الرفع.

توضيحه: في الواقع عندنا ثلاثة أدلة:

الأول: دليل الأمر بالطبيعي ك- (أقم الصلاة)، وله عرض عريض، وأنواع متعددة - وإن كان منشأ بإنشاء واحد - كصلاة المطاردة وصلاة الحاضر والمسافر و...

الثاني: الدليل المتكفل لبيان جزئية الأجزاء وشرطية الشرائط، كقوله (عليه السلام) : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»(1) ومقتضى إطلاقه ثبوت الجزئية والشرطية مطلقاً، سواء كان المكلف متذكراً أم ناسياً.

الثالث: دليل (رفع النسيان) ومقتضاه تخصيص إطلاق أو عموم الدليل الثاني بحالة التذكر، فإن مفاد الجمع بين الدليلين هو جزئية السورة في حال التذكر، كما لو كان المولى يصرح بذلك، بأن يقول: (السورة جزء في حالة التذكر) فيكون الحكم كذلك لو ثبت التخصيص أو التقييد بدليلين، والحاصل: أنّ مفاد حديث الرفع تقييد أدلة الجزئية والشرطية، وأما إثبات وجوب الباقي فليس بدليل الرفع، وإنما بدليل الأمر بالطبيعي الشامل لكل المكلفين.

وبعبارة أخرى: المثبت هو الجمع بين الأدلة الثلاثة.

الإشكال الثالث: إن كان المراد من رفع الجزئية بحديث الرفع، رفع مدخلية المنسي في الملاك فليس قابلاً للرفع التشريعي؛ لأنّ المدخلية أمر تكويني، وإن كان المراد رفع فعلية التكليف بالمنسي فهو محال؛ لأنه

ص: 229


1- مستدرك الوسائل 4: 158.

تكليف بغير المقدور، وما لا يقبل الوضع لا يقبل الرفع، فإن وضع التكليف بالمنسي محال، فرفعه محال أيضاً.

لكنه محل تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: إنَّ المحال تنجيز ما لا يطاق، فاستحالة التكليف بغير المقدور يعني وصول التكليف إلى مرحلة المنجزية، أما فعلية ما لا يطاق أو التكليف الفعلي بغير المقدور فاستحالته، بل قبحه غير واضح.

وعليه، فوضع فعلية وجوب السورة ممكن للناسي، مع أنه تكليف بغير المقدور، فيمكن رفعها بحديث الرفع، ويدل عليه أننا نسأل هل على النائم تكليف فعلي؟ إن قلت: لا، فلا يجب عليه القضاء؛ لعدم فوت الفريضة عنه، وإن قلت: نعم، كان تكليف النائم بما هو نائم محالاً؛ لاستحالة الامتثال، وإن كان الامتناع بالغير لا ذاتاً، لكنه بحاجة إلى تأمل.

الجهة الثانية: سلمنا استحالة التكليف الفعلي، لكنه خاص بالحكم التكليفي، أما الحكم الوضعي فوضعه على المكلف العاجز ليس محالاً، كالضمان، فلو أتلف مال الغير فهو ضامن، وإن كان عاجزاً عن أداء المثل أو القيمة، ويظهر الأثر في تولد الخطاب التكليفي عند القدرة، وكما في جنابة الطفل بالدخول على المعروف(1)، حيث إنه حكم وضعي، ويظهر أثره في تولد التكليف بالاغتسال عند البلوغ، وعليه يمكن وضع الجزئية في حال النسيان، ويظهر الأثر بعد ارتفاع النسيان، حيث يجب عليه القضاء؛ لأنه لم يمتثل ما وضعه المولى في عهدته، وحيث إنّ وضع مثل هذا التكليف

ص: 230


1- تذكرة الفقهاء 1: 228.

الوضعي ممكن، فرفعه بحديث الرفع ممكن.

الإشكال الرابع: ما ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه) وقد بنى عليه جملة من المحققين(1): إن وزان النسيان وزان سائر الأعذار، كالإكراه والاضطرار، فلابد أن يكون العذر مستوعباً لجميع الوقت حتى يسقط الأمر، وأما لو حصل العذر في بعض الوقت فلا يكفي في الإجزاء، والسر في ذلك أن المأمور به في المقام كلي على نحو صرف الوجود، لا على نحو الوجود الساري؛ ولذا لا أثر لطرو العناوين الرافعة على الفرد؛ لأنّ ما طرأ عليه العنوان - وهو الفرد - لا حكم له، وما هو المحكوم لم يطرأ عليه عنوان النسيان.

وبعبارة بسيطة: المأمور به هو العمل الطبيعي التام بين الحدين، لا خصوص هذا الفرد، والمفروض أنّ المكلف قادر على الإتيان بالطبيعي التام بين الحدين، ومفاده عدم كفاية المأتي به لو ارتفع العذر في الوقت؛ لعدم الأمر به فتجب الإعادة. نعم، لو كان النسيان مستوعباً للوقت كفى، و لم يجب القضاء.

مثلاً: لو صلى أول الوقت من دون سورة فهذه الصلاة ليست مأموراً به، بل المأمور به هو الصلاة التامة بين الحدين، ولم يطرأ النسيان عليها، وإنما طرأ على هذا الفرد ولا حكم له، والمكلف يمكنه الإتيان بالمأمور به، فيجب عليه، وأما الصلاة الناقصة فليست مصداقاً للطبيعي المأمور به، فلا تكفي.

كما أنّه لو لم يقدر على الطهارة من الخبث في الآن الأول من الوقت، لكن قدر عليها في الآن الثاني، فهل يمكن رفع الشرط بحديث الرفع؟ وكما

ص: 231


1- فوائد الأصول 4: 227؛ منتهى الدراية 6: 328.

لو أراد الإتيان بالصلاة من غير تحقق الشروط في الطائرة مع علمه بالوصول إلى المقصد، وإمكان الإتيان بها مع شروطها، فهل يمكن الالتزام بصحة الصلاة ورفع الجزئية والشرطية؟ وكذا لو صلى ناقصاً في الطائرة لعلمه بعدم الوصول إلى المقصد، لكن هبطت اضطراراً، فيلزم عليه الإعادة؛ لأنّ المولى لم يكلفه بهذا الفرد، فإنّ الأمر ب- (صل) على نحو صرف الوجود لا الوجود الساري، خلافاً للنواهي حيث وجودها سارٍ، وكما لو كان أول الوقت عاجزاً عن الطواف حول الكعبة فهل يرتفع التكليف مطلقاً لارتفاعه في أول الوقت؟ كلا، فإنه لم يأمر المولى بهذا الفرد حتى يرتفع الأمر بارتفاعه، بل أمر بالطبيعي، وهو ممكن في الآن الثاني، ولا فرق بين عدم القدرة على أصل المأمور به، وعدم القدرة على الشرط والجزء.

لكنه قابل للتأمل بأن المأتي به مصداق للمأمور به، ومع مطابقته له يكون الإجزاء حتمياً، وقد امتثل الناسي المأمور به؛ لأنّ المأتي به مصداق للطبيعي، فيقتضي الإجزاء.

توضيحه: هنالك ظرفان: النسيان والتذكر، وفي ظرف النسيان ليس الجزء المنسي مأموراً به قطعاً؛ لارتفاع التكليف إما لاستحالته أو لحديث الرفع، وأما سائر الأجزاء فهي ثابتة في هذا الظرف لإطلاق أدلة الجزئية، حيث تشمل المكلف المتذكر والناسي للجزء الآخر، فالمأمور به في ظرف النسيان هو الطبيعي الفاقد، وأما الطبيعي الواجد فغير مأمور به، وقد أتى المكلف بما هو مصداق للطبيعي الفاقد، وبعد زوال النسيان يشك في كون الطبيعي الواجد مأموراً به فتجري البراءة عنه.

وهذا مطلب مهم جداً؛ لأنه سيال في كل الفقه.

ص: 232

الإشكال الخامس والأخير: ما ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه) (1) من أنّه في التمسك بحديث الرفع لابد أن يكون للمرفوع نحو من أنحاء التقرر والثبوت، أما لو كان معدوماً فلا معنى لرفعه، فلا يشمله الحديث، ومعنى المنسي هو خلو صفحة الوجود عن الإتيان به، فهو أمر عدمي لا يعقل رفعه.

لكنه محل تأمل لجهتين:

الجهة الأولى: إنَّ المنسي أمر وجودي وهو الجزئية، كما لو شرب الخمر ناسياً، فيكون الوجود الذي تعلق به النسيان كالعدم، بمعنى أن شرب الخمر كعدمه، وهو مرفوع، وفي المقام جزئية السورة أمر وجودي، فيقول المولى: رفعت الأمر الوجودي - وهو الجزئية - في حالة النسيان، لا أنّ المرفوع ترك قراءة السورة ليكون عدمياً.

الجهة الثانية: لو كان الأمر العدمي منشأ للأثر الوجودي كان له حظ من الوجود في عالم التشريع، وأثر ترك السورة وجوب الإعادة شرعاً، فيقول المولى: إنّ هذا الأمر العدمي الذي هو منشأ الأثر الوجودي كأنه لم يتحقق خارجاً، فلا يترتب عليه أثره، و لا إشكال في هذا الاعتبار.

إن لم تتم الإشكالات الخمسة كان الطريق الأول طريقاً تاماً، فيمكن إثبات صحة عمل الناسي بوجود الأمر بالطبيعي الفاقد، وأما لو لم يتم هذا الطريق لورود إحدى الإشكالات عليه ننتقل إلى:

الطريق الثاني: إمكان إسقاط عمل الناسي للمأمور به وإن لم يكن مأموراً به

وإسقاط غير المأمور به للمأمور به غير نادر، وقد كان السيد الوالد (رحمه اللّه)

ص: 233


1- فوائد الأصول 4: 227-228.

يمثل لذلك بأمثلة، منها: لو أمر المولى عبده بسقي الأشجار لكن نزل المطر، فحيث تحقق الغرض سقط الأمر، ومنها: لو أمره بإعطاء الدواء للمريض فمات قبله، ومنها: الأمر بإحضار الطعام للضيوف لكنهم ذهبوا، فحيث يفوت الموضوع أو ينتهي الوقت المحدد يسقط الأمر.

مثال آخر: من جهر في موضع الإخفات أو بالعكس نسياناً، فإنه وإن لم يأت بالمأمور به إلا أنه يسقط المأمور به.

وكذا الأمر فيمن صلى تماماً في مكان القصر لجهله بالحكم، فإنه وإن لم يأت بالمأمور به إلا أن هذه الصلاة تسقط المأمور به.

وأما فيما نحن فيه: فإنّ أثر ترك السورة عمداً هو وجوب الإعادة والقضاء، فلو كان الترك نسياناً فهو مرفوع بلحاظ ارتفاع أثاره، فلا تجب الإعادة ولا القضاء.

لكن أشكل الشيخ الأعظم(1) على ذلك: بأن حديث الرفع يتكفل رفع الآثار الشرعية المترتبة على الترك النسياني، أما الآثار العقلية المترتبة عليه، والآثار الشرعية المترتبة على الآثار العقلية المترتبة عليه فلا.

كما يقال بمثل ذلك في الاستصحاب، فإنّ مفاد (لا تنقض اليقين) بقاء الآثار الشرعية للمجرى، لا الآثار العقلية، ولا الآثار الشرعية المترتبة على الآثار العقلية للمجرى.

وفيما نحن فيه، فإنّ وجوب الإعادة أو القضاء من آثار ترك الكل المسبب عن ترك الجزء المنسي - لا أنهما من آثار ترك الجزء المنسي - فلا

ص: 234


1- فرائد الأصول 2: 32.

يرفع هذا الأثر بحديث الرفع.

لكنه محل إيراد: فإنَّ ذلك وارد بالنسبة إلى دليل الأصل العملي، وأما رفع النسيان فهو دليل اجتهادي، فيثبت جميع الآثار الشرعية والعقلية مع الواسطة وبلا واسطة، كسائر الأدلة الثانوية، كلا ضرر ورفع الإكراه والاضطرار، حيث لا فرق فيها بين الآثار المباشرة وغيرها.

وعليه يكون أثر ترك الجزء هو ترك الكل، وأثره وجوب الإعادة والقضاء، وهذا الأثر الشرعي وإن ترتب على المنسي بواسطة عقلية، لكن حيث إنّ الدليل اجتهادي فيثبت أو ينفي ذلك الأثر.

وأشكل عليه: بأن الشيخ الأعظم لم يقصد ذلك، وإنما مراده قصور الدليل الاجتهادي في المقام عن الشمول لمثل المورد.

لكنه غير تام؛ لأنّ الواسطة في المقام خفية، فإننا نسلم بأن وجوب الإعادة والقضاء من آثار ترك الكل بالدقة العقلية، لكن بنظر العرف ذلك من آثار الجزء المنسي.

وبعبارة أخرى: لا نرى - عرفاً - مانعاً من شمول دليل رفع النسيان لمثل المورد.

والحاصل: إنّ الطريق الثاني أيضاً تام على سبيل الترتب على الطريق الأول.

الطريق الثالث: ما نقله السيد الوالد (رحمه اللّه) (1)

عن المحقق الحائري عن أستاذه عن المجدد: أن الناسي لا خطاب له

ص: 235


1- الأصول: 789.

أصلاً، لا بالتام المغفول عنه ولا بالناقص المأتي به، أما الأول فلاستحالة التكليف بغير المقدور، فإنّ الإتيان بالمركب التام مع فرض النسيان في ظرف النسيان محال، وأما الثاني فلإشكال الشيخ، حيث قال باستحالة تخصيص الناسي بالخطاب فلا أمر أصلاً، وحيث يتخيل الناسي نفسه ذاكراً يأتي بالعمل الناقص، وبعد ارتفاع النسيان يشك في تولد الخطاب إليه بإتيان العمل التام، وهو شك في التكليف، ومجراه البراءة العقلية والنقلية.

هذا بناء على فرض تسليم إشكال الشيخ الأعظم بامتناع تكليف الناسي.

لكن هذا الطريق موقوف على عدم إطلاق دليل جزئية الجزء، وأما لو ثبتت الجزئية بالدليل الاجتهادي فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي، كإطلاق قوله (عليه السلام) : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»(1)، بخلاف شرطية الاستقرار، حيث إن دليله الإجماع - على المعروف - فيؤخذ بالقدر المتيقن منه وهو حالة التذكر، وسيأتي توضيحه في التنبيه الآتي.

تذييل: صور إطلاق دليل الجزئية وعدمه

الصور المتصورة في المقام - بلحاظ إطلاق دليل الجزئية وعدمه، وإطلاق دليل المركب وعدمه - أربع:

وفي هذه الصور بحثان: الأول: هل تجري البراءة أم لا؟ الثاني: هل يجري دليل رفع النسيان أم لا؟

الصورة الأولى: أن يكون لكل من الدليلين إطلاق.

وقبل بيان الحكم لابد من تصوير الموضوع ففيه إبهام، فهل يمكن أن

ص: 236


1- مستدرك الوسائل 4: 158.

يكون دليل جزئية الجزء مطلقاً، حيث إن تكليف الناسي تكليف بغير المقدور، وهو محال، ولدفع هذا الإشكال جوابان:

الأول: لا محذور في تكليف الناسي في مرحلة الفعلية لا التنجز، فإن الناسي وإن كان غير قادر إلاّ أن تكليف العاجز بالتكليف الفعلي ممكن، لكنه غير منجز، و قد مرّ سابقاً تقريب لهذا الجواب، لكنه خلاف ظواهر كلمات القوم.

الثاني: إن الكلام في الحكم الوضعي لا التكليفي، فلا خطاب للناسي بالوجوب، بل بكون الجزء دخيلاً في غرضه، فهو جزء في الحالتين، فلو لم يكن مقدوراً للنسيان انتفى الأمر بالماهية المركبة، فإنه مع انتفاء الجزء ينتفي الكل فلا أمر بالماهية.

وعليه، لا إشكال في تصور الموضوع.

وأما حكم هذه الصورة فهو تقدم إطلاق دليل الجزئية على إطلاق دليل المركب؛ لأنّ دليل الجزئية أخص فيتقدم على الأعم، ونتيجة الجمع بين الدليلين عدم كون الماهية الناقصة مطلوبة.

وهنا بحثان، الأول: عدم جريان البراءة؛ لوجود الدليل الاجتهادي الدال على مدخلية الجزء في تحقق المراد على نحو الإطلاق، فلا معنى لنفي المدخلية بدليل الرفع.

الثاني: جريان دليل رفع النسيان على المختار،كما تبين من خلال المباحث السابقة؛ لأنّ لسانه لسان الحكومة، فهو ناظر إلى جميع الأدلة الأولية، كرفع الإكراه والاضطرار، فترفع الجزئية بدليل النسيان.

ص: 237

نعم، في المقام إشكالات مرّ التأمل فيها سابقاً.

الصورة الثانية: أن يكون الدليل الدال على الجزئية مطلقاً دون دليل وجوب المركب، والبحث فيه كالبحث في الصورة الأولى بطريقة أولى.

الصورة الثالثة: أن يكون دليل وجوب المركب مطلقاً دون دليل جزئية الجزء، وحكمه وجوب الإتيان بالباقي في حالة النسيان، ويشك في جزئية الجزء في حالتها، فتجري البراءة، فلا يكون الجزء المنسي جزءاً، والإطلاق يثبت الأمر بالباقي.

الصورة الرابعة: أن لا يكون الدليلان مطلقين، فالمرجع الأصول العملية، والظاهر أنّ المحكم في المقام البراءة؛ وذلك لوجود احتمالين في عالم الثبوت هما: مدخلية الجزء المنسي في الماهية بنحو الإطلاق وثبوت الجزئية حتى في حال النسيان، ومدخليته مقيداً بحال الذكر، فعلى الأول تجب الإعادة أو القضاء؛ لعدم مطابقة المأتي به المأمور به، و على الثاني لا تجب، فيكون مآل الشك في ثبوت الجزئية في حال النسيان، والشك بوجوب الإعادة أو القضاء إلى البراءة.. هذا مع غض النظر عن دليل النسيان.

الفرع الثاني

ما ذكر في الجزئية يأتي في الشك في الشرطية والمانعية والقاطعية لوحدة الملاك.

الفرع الثالث

ما ذكر في النسيان يجري في سائر الأعذار، كالإكراه والاضطرار.

هذا تمام الكلام في التنبيه الأول المتعلق بنقصان الجزء.

ص: 238

التنبيه الثاني: في زيادة الجزء

سواء كان زيادته عمدية أم سهوية، وسواء كانت زيادة جزء مسانخ أم غير مسانخ.

وفي المقام حالتان:

الحالة الأولى: أن يكون الجزء مأخوذاً بشرط لا، أو تكون الماهية مأخوذة بشرط لا، كالصلاة على التفصيل المذكور في الفقه، فمقتضى القاعدة الأولية أن تكون الزيادة موجبة لبطلان العمل؛ لأنّ المأتي به لم يطابق المأمور به.

نعم، يمكن رفع قادحية الزيادة السهوية بأدلة رفع النسيان بالتقرير السابق.

الحالة الثانية: أن لا يكون الجزء مأخوذاً بشرط لا، وكذا الماهية، فالظاهر المرجع في المقام البراءة؛ لأنه شك في التكليف، حيث يشك في جعل المولى المانعية أو القاطعية للزيادة، وكذا يشك في وجوب الإعادة أو القضاء مع الإتيان بهذه الزيادة، فتجري البراءة في تمام هذه المقامات.

إلا أن يوجب عنوان خارجي بطلان عمل، كالتشريع في العبادة، فلو زاد في العبادة بعنوان التشريع بطل لطرو العنوان الثانوي، أما في حدّ ذاته فلا دليل على بطلان العمل.

وعليه، لو شك في الطواف والصلاة في أنّ الزيادة مانع أو قاطع جرت البراءة، مع غض النظر عن الأدلة الخاصة.

ويمكن التمسك بالاستصحاب - مضافاً إلى البراءة - في المقام بتقرير استصحاب عدم المانعية، أو تقرير استصحاب الصحة التأهلية للأجزاء السابقة قبل طرو المانع أو القاطع، فيشك في زوال الصحة التأهلية بعد طرو مشكوك

ص: 239

المانعية أو القاطعية، أو تقريرات أخرى محلها مباحث الاستصحاب.

التنبيه الثالث: في تعذر جزء من أجزاء المركب
اشارة

لو تعذر جزء من أجزاء المركب الارتباطي، فهل يجب الإتيان بالباقي أم لا؟ وذلك للشك في إطلاق جزئية الجزء أو شرطية الشرط لحالة التعذر، فهل هي ثابتة في حال القدرة فقط أم تشمل حال تعذرها أيضاً؟ وهو ما يعرف بقاعدة الميسور يسقط بالمعسور أو لا يسقط،كما لو تعذر تغسيل الميت بالسدر والكافور لعدمهما، فهل يجب تغسيله بالماء المطلق أم لا ؟ وكذا لو تمكن من الطواف لكن لم يتمكن من تحصيل الطهارة، فهل يجب عليه الإتيان بهذا الطواف أم لا ؟

وينبغي البحث في مقامين:

الأول: في مقتضى الأصول العقلية، الثاني: في مقتضى الأدلة الاجتهادية.

المقام الأول: في مقتضى الأصول العقلية
اشارة

أما المقام الأول: فقد يستدل لوجوب الباقي بدليلين:

أدلة وجوب الباقي عند تعذر جزء من أجزاء المركب

الدليل الأول: الاستصحاب

وله تقريبات:

التقريب الأول: استصحاب الوجوب الجامع بين الضمني والاستقلالي، فإنه وإن كان الوجوب الضمني مقطوع الارتفاع، والوجوب الاستقلالي مشكوك الحدوث، إلاّ أن طبيعي الوجوب يقيني الحدوث ومشكوك البقاء، فيجري (لا تنقض اليقين بالشك) في الجامع بين الوجوبين.

ص: 240

ويرد عليه عدة إشكالات:

الإشكال الأول: إنه من الاستصحاب الكلي من القسم الثالث، وهو غير جارٍ؛ لأنّ وجوب متيقن الحدوث وجوب ضمني، فإنّ المركب ذا الأجزاء العشرة كان واجباً في حال القدرة بالوجوب الاستقلالي، وأجزاؤه التسعة كانت واجبة بالوجوب الضمني، ففي فرض تعذر الجزء العاشر يرتفع الجوب الضمني للأجزاء التسعة قطعاً، فلا وجوب ضمني؛ لأنّ الوجوب الضمني إنّما كان في حالة القدرة على الجزء العاشر.

فالوجوب الضمني للأجزاء التسعة معلوم الارتفاع، والوجوب الاستقلالي لها في حال تعذر الجزء العاشر مشكوك الحدوث، فلا يجري الاستصحاب، لا في الوجوب الضمني؛ لأنه معلوم الارتفاع، ولا في الوجوب الاستقالي؛ لأنه مشكوك الحدوث، ولا في الجامع بين الوجوبين؛ لأن الطبيعي المتحقق في ضمن الوجوب الضمني مغاير للطبيعي المتحقق في ضمن الوجوب الاستقلالي، فهنالك طبائع متعددة بعدد الأفراد لا طبيعة واحدة، كما قال السبزواري:

ليس الطبيعي مع الأفراد***كالأب، بل أبا مع الأولاد(1)

ومع انعدام الوجوب الضمني ينعدم طبيعي الوجوب، ووجود الطبيعي في ضمن الوجوب الاستقلالي مشكوك، كالشك في نفس الوجوب الاستقلالي.

والمثال المعروف لذلك: فيما لو دخل زيد إلى الدار ثم خرج، واحتمل دخول عمرو مقارناً لخروجه، فلا يمكن استصحاب بقاء طبيعي الإنسان؛

ص: 241


1- شرح المنظومة 2: 338.

لأنّ الطبيعي في ضمن وجود زيد مقطوع الارتفاع، وفي ضمن وجود عمرو مشكوك الحدوث، وهما متغايران فأين مجرى (لا تنقض)؟

الإشكال الثاني: الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله ليس منجزاً، وفي المقام الوجوب الضمني ليس قابلاً للمنجزية؛ لأنّ المفروض أنّ الإتيان بجميع المركب متعذر، فلا يمكن للمولى أن يقول: نجزت عليك الوجوب الضمني، والوجوب الاستقلالي الباقي قابل للمنجزية، والجامع بينهما لو كان معلوماً بالعلم الوجداني لم يكن له أثر، فكيف إذا كان مستصحباً؟ وعليه لا أثر لهذا الاستصحاب.

الإشكال الثالث: الدليل أخص من المدعى، فإنه إنما يتم في صورة طرو التعذر بعد دخول الوقت، فيمكن القول بوجوب المركب التام في أول الوقت ثم استصحابه، أما لو كان التعذر مقارناً لدخول الوقت، فليس للمستصحب حالة سابقة، فيشك في تولد الخطاب في أول الوقت، والأصل البراءة.

الإشكال الرابع: جريانه(1) مبني على جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية، والمبنى محل إشكال.

الإشكال الخامس: هذا التقرير مبني على الاعتراف بوجود الوجوب الضمني، وقد أنكره الكثير من المحققين.

والإشكالان الأخيران مبنائيان.

وتحصل من جميع ذلك عدم تمامية التقريب الأول.

ص: 242


1- أي: استصحاب الوجوب الجامع بين الضمني والاستقلالي.

التقريب الثاني: استصحاب الوجوب الجامع بين الوجوب الغيري والوجوب النفسي، والكلام فيه هو الكلام فيما تقدمه.

التقريب الثالث: استصحاب الوجوب النفسي الاستقلالي بنحو مفاد كان التامّة، بأن يقال بثبوت وجوب نفسي استقلالي في ذمة المكلف، ويشك في سقوطه مع تعذر الجزء المتعذر، فيستصحب ذلك الوجوب.

لكنه محل إشكال؛ لأن الاستصحاب إما يتم مع قطع النظر عن تعلقه بمتعلقه، أو يتم مع لحاظه، وعلى التقدير الأول يكون مثبتاً، فإن القول - بوجود وجوب ما، والشك في سقوطه، فيجب ما أمكن للمكلف - مثبت لإرادة إثبات مفاد كان الناقصة بكان التامة.

وعلى التقدير الثاني يكون فاقداً لشرائط الحجية؛ لعدم تمامية الأركان؛ لأن وجوب التام يفتقد الشك اللاحق؛ لأن المركب التام متعذر، والوجوب الناقص يفتقد اليقين السابق.

التقريب الرابع: استصحاب الوجوب الشخصي النفسي الاستقلالي بنحو مفاد كان الناقصة، بدعوى الوحدة العرفية المسامحية بين الواجد والفاقد، فإنّ مفاد كان الناقصة وجوب الصلاة ذات الأجزاء العشرة، وقد تعذر الجزء العاشر، إلا أنّ الماهية ذات الأجزاء التسعة متحدة - بالنظرة العرفية - مع الماهية ذات الأجزاء العشرة، وملاك جريان (لا تنقض) اتحاد القضيتين المشكوكة والمتيقنة عرفاً، لا الوحدة العقلية ولا الدلالية، فيمكن الإشارة إلى ماهية الفاقد، والقول: إنّه كان واجباً، ويشك في ارتفاع الوجوب بعد التعذر فيستصحب.

ص: 243

نعم، لو كانت الأجزاء المتعذرة كثيرة، كنصف أجزاء المركب، كانت الماهيتان متغايرتين.

وحاصل هذا التقريب: إنَّ الوحدة العرفية محفوظة بين المركب التام والناقص، ومعه لا مانع من استصحاب الوجوب بعد تعذر بعض أجزائه.

وأجيب عنه بأن الاختلاف بالزيادة أو النقصان إنما لا يقدح في وحدة الموضوع إذا كان من الموضوعات الجزئية الخارجية، بخلاف الموضوعات الكلية، فإن الاختلاف بها قادح في الوحدة العرفية.

والسر في ذلك أن الملاك في الموضوعات الجزئية الخارجية هو الوحدة الشخصية والهاذية والهوهوية، وهو محفوظ مع الاختلاف بالزيادة أو النقصان في كثير من الموارد .

أما الموضوعات الكلية فهي من سنخ المفاهيم، وتتباين مع اختلاف يسير بالزيادة أو النقصان.

وبعبارة أخرى: إنَّ الخارج هو ظرف الوحدة، لكن عالم الذهن عالم الكثرة، فكل مفهوم - في غير المترادفات - يباين المفهوم الآخر، والمفروض أن موضوع الوجوب في المقام الصلاة ذات الأجزاء العشرة، وهو عنوان مباين - عرفاً - للمركب الواجد لتسعة أجزاء، فلا يصح الاستصحاب.

ويمكن أن يرد عليه باستلزامه انسداد باب الاستصحاب في الموضوعات الكلية، فلو قال المولى: الماء المتغير محكوم بالنجاسة لم يمكن استصحابها لما بعد زوال التغير؛ لأن عنوان الماء المتغير مباين للماء الذي زال تغيره.

ص: 244

والجواب: عدم جريان الاستصحاب في العنوان الكلي، فإن إسراء حكم الماء المتغير إلى غير المتغير نوع من القياس، ولا يجري (لا تنقض) في عالم المفاهيم، وإنما جريانه مقتصر على عالم العين، فيشار إلى الماء الجزئي الخارجي بعد زوال التغير - إثر تصفيق الرياح - أنه عين ذلك الماء المتغير، فتكون الوحدة الشخصية محفوظة، ويكون التغير وعدمه من الحالات عرفاً، لا من المقومات، فيجري الاستصحاب فيه.

وفيما نحن فيه ليس كذلك؛ لأن الخارج ظرف السقوط لا الثبوت، فلا يمكن الإشارة إلى الواجب، حيث لا يوجد المشار إليه، فإنه لا صلاة في الخارج حتى يبرهن على وجوبها، فيلزم الرجوع إلى الإشارة إلى العناوين الكلية، وهي مثار التغاير والكثرة، فتختلف بأدنى زيادة ونقيصة.

ومع قطع النظر عن المصطلحات، فإن الصلاة الواجدة غير الفاقدة، فهما حقيقتان عرفاً لا حقيقة واحدة، فلم تحفظ الوحدة العرفية، فلم يتم الركن الثالث من أركان الاستصحاب، وهو وحدة القضيتين، فلا يجري الاستصحاب.

التقريب الخامس: استصحاب الوجوب الشخصي للباقي مع قطع النظر عن كونه نفسياً أو غيرياً، فإن العرف لا يرى فرقاً بينهما، حيث لا يرى الغيرية والنفسية من مقومات الوجوب، بل من حالاته وطوارئه، فهما عنده من سنخ واحد لا مباينة بينهما، فالصلاة الفاقدة كانت واجبة قطعاً، سواء كان وجوبها نفسياً أم غيرياً، وبعد تعذر الجزء العاشر يشك في سقوط الوجوب عن الباقي، فيجري الاستصحاب.

ص: 245

التقريب السادس: استصحاب وجوب الباقي مع قطع النظر عن كونه استقلالياً أو ضمنياً.

ويمكن أن يجاب عنهما(1) بأن المبنى محل إشكال، فليس هنالك وجوب ضمني أو غيري.

فإن تم أحد التقريبات الستة، خصوصاً تقريب الوحدة العرفية بين الناقص والواجد فبها، وإلا نتنزل إلى الدليل الثاني من أدلة المقام الأول.

الدليل الثاني: البراءة

حيث يشك في جزئية الجزء المتعذر حال التعذر، فيشمله دليل الرفع، فإن الجزئية لو كانت مطلقة كان الجزء دخيلاً في الماهية مطلقاً، ولم تكن الماهية الفاقدة مأموراً بها، ولو كانت مختصة بحال القدرة فلا جزئية في حال التعذر، فيجب الإتيان بالباقي؛ لإطلاق دليل بقية الأجزاء بعد إجراء البراءة بالنسبة إلى الجزء المشكوك .

وفي المقام إشكالات

الإشكال الأول: ما ذكره صاحب الكفاية(2): من أن حديث الرفع وارد مورد الامتنان، فيختص جريانه بما استلزم نفي التكليف لا إثباته، وفي المقام إثبات وجوب الباقي خلاف الامتنان، حيث يراد إثبات وجوب الماهية الفاقدة.

لكنه محل إشكال، فإنه لابد من ملاحظة المجرى لا لوازمه وما يترتب

ص: 246


1- أي: التقريبين الخامس والسادس.
2- كفاية الأصول: 369.

عليه، فنفس رفع الوجوب أو الجزئية امتنان حتى وإن ثبت تكليف - بعد الامتنان - بدليل آخر، فإنه لا ينافي امتنانية حديث الرفع .

ويمكن أن نمثل له فيما لو رفع حرمة شرب التتن بحديث الرفع، وكان لازمه ثبوت حكم آخر، حيث قد أقسم على شربه، فتكون نتيجة رفع الحرمة هو وجوب الإتيان بذلك العمل المباح، فهل يكون الرفع خلاف الامتنان لأن لازمه الوضع ؟

ونظيره في باب الإقرار، حيث يلاحظ في حجيته كون المقر به - بنفسه - على المقر، لا لوازمه، سواء كانت على المقر أم له .

الإشكال الثاني: ما في النهاية، قال: «لا مجال له أصلاً؛ إذ الجزئية والشرطية المجعولتان بالأمر بالمركب والمشروط مقطوع الانتفاء؛ لفرض التعذر، والجزئية والشرطية بلحاظ مقام الغرض مشكوك الثبوت، إلا أنهما واقعيتان لا مجعولتان حتى يعقل رفعهما بحديث الرفع»(1).

توضيحه: تارة تلاحظ مدخلية الجزء أو الشرط المتعذر في التكليف، وتارة في غرض المولى، بحيث لا يتحقق غرضه إلا معهما ، فباللحاظ الأول تكون الشرطية والجزئية مرفوعة قطعاً؛ لأن المفروض تعذر الشرط والجزء، ومجرى حديث الرفع الشك لا القطع، وقد قطعنا بعدم التكليف بالمركب التام المشتمل على الجزء المذكور، فلم يأمر المولى به، فإن جزئية الجزء منتزعة من الأمر بالمركب، والأمر مرتفع قطعاً، فجزئية الجزء مرتفعة قطعاً، ومع القطع لا شك في ارتفاع الجزئية حتى يقال برفعه بحديث الرفع.

ص: 247


1- نهاية الدراية 2: 695.

وباللحاظ الثاني فإن عالم الملاكات جزء عالم التكوين، ولا يعقل رفع الأمر التكويني بحديث الرفع التشريعي.

والحاصل: ما هو القابل للرفع مقطوع الارتفاع، وما هو مشكوك الارتفاع ليس قابلاً للرفع، فلا مجال لحديث الرفع أصلاً.

وهو محل تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: التعذر نوعان: عقلي وعرفي، وإنما يتم ما ذكره في الأول، كما لو لم يكن الكافور موجوداً، فمدخليته بلحاظ عالم التشريع مرفوعة قطعاً؛ لأن القدرة شرط التكليف، أما في الثاني، كما لو كان الكافور في مكان بعيد جداً، حيث يمكن تحصيله عقلاً، إلا أنه متعذر عرفاً، فلا يحكم العقل بارتفاع التكليف، لكن يمكن رفع الجزئية بحديث الرفع.

وبعبارة بسيطة: إنَّ رفع «ما لا يطيقون وما اضطروا إليه»(1) يرفع جزئية الجزء في حال التعذر العرفي، لأن الكلام ملقى إلى العرف، وهو يفهم الأعم، فلا يكون مقطوع الانتفاء كما ذكره، بل هو مشكوك الانفتاء، فترفع الجزئية أو الأمر بتمام المركب بحديث الرفع.

الجهة الثانية: المسلّم أن التعذر العقلي يرفع التنجز لا الفعلية، فإنه لا مانع من فعلية غير المقدور والمضطر إليه في بادئ النظر، ويظهر أثرها في وجوب القضاء أو الإعادة أو ما أشبه، فيكون لحديث الرفع مجرى بلحاظ عالم التشريع حيث ترفع الفعلية به.

مثلاً: لو تعذر وضع الجبهة على الأرض عند السجود، فإن كان التعذر

ص: 248


1- الخصال: 417.

عرفياً لم يكن التمسك بحديث الرفع لرفعه محالاً، وإن كان عقلياً فلا مانع من رفع الفعلية. نعم، لا يمكن رفع التنجز.

الإشكال الثالث: ما في النهاية أيضاً، حيث قال: «مضافاً إلى أن دليل الواجب إن كان له إطلاق لكفى في نفي الجزئية والشرطية عند التعذر، وإن لم يكن له إطلاق - كما هو مفروض الكلام - فلا يفيد نفي الجزئية والشرطية بحديث الرفع للتعبد بالباقي؛ إذ ليس شأنه إلا الرفع دون الإثبات»(1).

توضيحه: إن كان دليل المركب مطلقاً - وإن تعذر بعض الأجزاء - فإن الإطلاق كافٍ في ثبوت الوجوب في حالة التعذر، فلا حاجة إلى دليل الرفع؛ لأنه أصل عملي لا تصل النوبة إليه مع وجود الدليل الاجتهادي، وإن لم يكن دليل المركب مطلقاً، بأن كان على نحو القضية المهملة، أو كان دليله الإجماع مثلاً، وهو لبي، فلا يعلم شموله لحالة التعذر، فإن رفع جزئية الجزء المشكوك لا يثبت وجوب الباقي؛ لأن لسان الرفع رفع ونفي لا وضع وإثبات.

ويظهر التأمل فيه من المباحث السابقة، حيث قلنا بوجود أدلة ثلاثة هي: دليل المركب والأجزاء والرفع، ودليل الجزء مطلق يشمل حال تعذره وعدمه، وحال تعذر جزء آخر وعدمه، فيقول المولى (كبر) وإن تعذرت القراءة، فلو لم يمكنه القراءة ارتفعت جزئيتها بحديث الرفع، ويبقى إطلاق وجوب سائر الأجزاء، فثبت وجوب تمام الباقي لإطلاق أدلته، ويرتفع

ص: 249


1- نهاية الدراية 2: 696.

وجوب القراءة بدليل الرفع.

الإشكال الرابع: مع وجود الاستصحاب لا تصل النوبة إلى البراءة ، للحكومة أو الورود.

لكنه محل تأمل فإنه لو توافقت الأصول السببية والمسببية في المؤدى فلا مانع من جريانها في عرض واحد، على ما بين في محله.

تتمة

ذهب المحقق النائيني (رحمه اللّه) (1) في استصحاب وجوب الباقي إلى عدم الفرق بين التعذر الطارئ على وجوب المركب التام، أو التعذر من أول الوقت، فلو تعذر تغسيل الميت بالكافور - بعد أن كان ممكناً - أمكن استصحاب وجوب الباقي، وهو التغسيل بالماء المطلق كما أنه كذلك لو تعذر الكافور من أول الوقت؛ لعدم اشتراط فعلية الموضوع الخارجي في القضية الحقيقية، والحاصل: أنه لا يلزم تحقق القدرة ثم طرو التعذر.

لكنه محل تأمل جداً، فإنه لا إشكال في عدم شرطية فعلية الموضوع في القضية الحقيقية، لكنه يشترط فرض فعليته فرضاً مطابقاً للواقع فيها، فالفقيه في القضية الحقيقية يفرض المرأة الحائض، ويحكم بحرمة مباشرتها، ثم يقول: لو طهرت ولم تغتسل استصحبت الحرمة السابقة، كل ذلك وإن لم يكن هنالك حائض، ولم يحكم بالحرمة في الخارج، لكن الحكم موقوف على فرض فعلية الموضوع فرضاً مطابقاً لنفس الأمر.

وأما في المقام، فلا فعلية للمستصحب، ولا فرضت مطابقة نفس الأمر،

ص: 250


1- أجود التقريرات 2: 313.

فلا كافور ولا وجوب من أول الوقت، والاستصحاب موقوف على فرض تحقق الوجوب وهو فرض باطل؛ لأن العذر حاصل من أول الوقت، فلا وجوب فعلي، ولا هو مفروض فرضاً مطابقاً لنفس الأمر، فكيف للفقيه أن يستصحب؟

نعم، لو كان الكافور موجوداً عند الموت حكم المولى بالغسل بالماء والكافور، فيقال: كان تغسيله بالماء واجباً وتعذر الكافور، فيستصحب وجوب تغسيله بالماء، أما لو لم يكن الكافور موجوداً عند الموت، فلا دليل على وجوب غسله بالماء المطلق، فإن أصل الوجوب مشكوك .

وكذا لو كان قادراً على القراءة في أول الوقت، فيتولد الأمر بوجوب جميع الأجزاء، فمع نسيان القراءة - لعارض - أمكن استصحاب وجوب سائر الأجزاء، أما لو لم يكن قادراً على القراءة من أول الوقت، كما لو أسلم الكافر الأعجمي عند دخول الوقت - فلا يمكن استصحاب وجوب سائر الأجزاء؛ لعدم اليقين السابق بالوجوب، حيث يحتمل عدم وجوبها عليه، فما هو المستصحب المتيقن؟ فهل (أقم الصلاة) شامل للمكلف العاجز عن القراءة ؟

والحاصل: إن ما ذكره المحقق النائيني إنما يتم في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكلية، حيث لا يشترط فعلية الموضوع، لكن يشترط فرض الفعلية فرضاً مطابقاً لنفس الأمر، وأما فيما نحن فيه حيث العذر مقارن لأول الوقت، أو سابق عليه، فلا فعلية ولا فرضها، فلا مجال للاستصحاب.

هذا تمام الكلام في المقام الأول، وهو مقتضى الأصول العقلية.

ص: 251

المقام الثاني: في مقتضى الأدلة الاجتهادية
اشارة

وقد استدل لوجوب الإتيان بالباقي بروايات:

الرواية الأولى

ما في البحار عن مجمع البيان: «وقيل خطب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: إن اللّه كتب عليكم الحج، فقام عكاشة بن محصن، ويروى سراقة بن مالك، فقال: أفي كل عام يا رسول اللّه؟ فأعرض عنه، حتى عاد مرتين أو ثلاثاً، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم، واللّه ولو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم كفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك مَنْ كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»(1).

وفي المقام بحثان: سندي ودلالي.

البحث الأول: بحث سندي

أشكل على الخبر بضعف السند لكونه مرسلاً(2)، ولم يرد في كتب المتقدمين من أصحابنا، ومجاميعنا الروائية والفقهية، كالكافي وغيره، فليس فيها عين أو أثر، خاصة أن راويه أبو هريرة المعروف بالكذب على اللّه وأوليائه والنبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وإنما نقلها المتأخرون عن العوالي(3)، ولا يوثق به وقد قدح فيه حتى مثل المحدث البحراني(4) الذي ليس من دأبه

ص: 252


1- بحار الأنوار 22: 31؛ مجمع البيان 3: 428.
2- تعليقة على معالم الأصول 3: 109؛ أوثق الوسائل: 388.
3- عوالي اللئالي 2: 235.
4- الحدائق الناضرة 4: 337.

القدح والطعن في كتب الأخبار، وعليه لا يمكن الاعتماد عليه.

ويرد عليه جوابان، مع قطع النظر عن احتمال وجود طريق آخر عند الخاصة ينتهي إلى راوٍ غيره، حيث لم يعلم كونه أبا هريرة في كتبنا، وبغض النظر عن ورود الخبر في بعض كتب المتقدمين، وربما لو بحث بحثاً تاماً وجد في موارد متعددة، أما ما عثرنا عليه في هذه العجالة فهو في رسائل السيد المرتضى، وقد ذكره بعنوان: «قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ...»(1)، مع أنه ذكر روايات أخرى في نفس المكان بعنوان روي عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ويرى البعض أنه يفيد الاعتبار، فإن ظاهره النقل الحسي، ولا يخدش فيه الفاصل الزمني، كما هو الحال في مراسيل الصدوق، حيث كانت عند البعض معتبرة إن نسبها إلى المعصوم (عليه السلام) لما ذكروا في محله بأنه لا منافاة بين النقل الحسي والفاصل الزمني؛ لاحتمال كون النقل كابراً عن كابر، كما إذا قلنا بعدالة الشيخ الأنصاري مع أننا لم نره.

الجواب الأول: أنه منجبر بعمل الأصحاب واستنادهم إليه، نذكر بعض الكلمات في ذلك:

قال الشيخ الأعظم في الفرائد: «وضعف أسنادها مجبور باشتهار التمسك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات»(2)، وإن كان تخصيصه بالعبادات محل تأمل، كما لا يخفى على المتتبع.

قال السيد السبزواري في التهذيب: «وقد تسالم الأصحاب - قديماً

ص: 253


1- رسائل الشريف المرتضی 2: 244.
2- فرائد الأصول 2: 390.

وحديثاً - على نقلها والعمل بها، وجرت السيرة على الاستدلال بها»(1).

قال صاحب الحدائق: «وإن تناقلهما(2) الأصحاب في كتب الاستدلال إلا أني لم أقف عليهما في شيء من الأصول»(3).

قال المحقق السبزواري: «مع اشتهارهما على ألسنة الفقهاء»(4).

قال المحقق النائيني: «واشتهار هذه الروايات بين الأصحاب يغني عن التكلم في سندها»(5).

قال المحقق الحائري: «وضعف أسنادها مجبور باشتهار التمسك بها بين العلماء في الكتب الفقهية»(6).

ولو استقصيت كلماتهم في استنادهم إلى قاعدة الميسور، وبخصوص هذه الرواية، فإن لم تكن بالمآت فهي بالعشرات، وقد أفتوا طبقها، نذكر بعض تلك الفتاوى.

ما في التذكرة: «يجب المبادرة إلى التعريف فلو أخره عن الحول الأول مع الإمكان أثم.... ولا يسقط التعريف بتأخيره عن الحول الأول؛ لأنه واجب فلا يسقط بتأخره عن وقته، كالعبادات وسائر الواجبات؛ ولأن المقصود يحصل بالتعريف في الحول الثاني على نعت من القصور، فيجب

ص: 254


1- تهذيب الأصول 2: 226.
2- أي: «الميسور لا يسقط بالمعسور» و «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».
3- الحدائق الناضرة 4: 337.
4- ذخيرة المعاد 1: 103.
5- فوائد الأصول 4: 254.
6- درر الفوائد 2: 500.

الإتيان به لقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إذا امرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»(1)، وحاصل المسألة أنه لابد من تعريف اللقطة خلال السنة، فلو تماهل فالدليل على وجوب التعريف في السنة الثانية بعد عدم الإتيان بالمركب المأمور به هو ميسور الأمر، وهو طبيعي التعريف، والذي هو جزء المركب.

وقال الشهيد الأول: «لو وجد ساتر إحداهما وجب، لعموم فاتوا منه ما استطعتم»(2)، فإن الواجب ستر إحداهما إن لم يقدر على ستر كليهما.

ونقل في الذكرى عن شيخه عميد الدين: «كان شيخنا عميد الدين يقوي جلوسه لأنه أقرب إلى هيئة الساجد، فيدخل تحت فأتوا منه ما استطعتم»(3) وذلك في مَنْ يصلي إيماءً فهل يومئ للسجود قائماً أو يجلس ويومئ؟

قال المحقق الكركي: «وهل يجب في الإيماء للسجود وضع اليدين والركبتين وإبهامي الرجلين على المعهود؟ احتمله في الذكرى وهو قوي، لظاهر قوله فاتوا منه ما استطعتم»(4)، فيما إذا تعذر وضع الجبهة على الأرض دون سائر المساجد، واستشهد بها أيضاً لمسألة أخرى، ومسألة ثالثة في باب الجهاد(5).

قال الشهيد الثاني: «وأما المقدور من الثمانية عشر فيدخل في عموم فاتوا

ص: 255


1- تذكرة الفقهاء (الطبعة الحجرية) 2: 260.
2- ذكرى الشيعة 3: 16.
3- ذكرى الشيعة 3: 23.
4- جامع المقاصد 2: 102.
5- جامع المقاصد 1: 372، 2: 203، 3: 372.

منه ما استطعتم»(1).

وذلك فيما إذا وجب على المكلف أن يصوم ثمانية عشر يوماً كفارة فلم يقدر، فيجب عليه الإتيان بالميسور، وهكذا استدل بها في مسألة أخرى في المسالك(2)، ومسألة ثالثة في روض الجنان(3).

قال المحقق الأردبيلي: «ودليل وجوب ذبحه إن كان مذبوحاً، ونحره إن كان منحوراً هو أنه كان يجب ذبحه بعينه في مكان وزمان معينين، فإذا تعذر لم يسقط الأصل؛ لقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، ولقوله: لا يسقط الميسور بالمعسور، وغير ذلك، فتأمل»(4)، وذلك فيما لو عجز هدي السياق عن الوصول لمحله في حج القران.

قال الفاضل الهندي: «ولا يسقط ستره بالعجز عن ستر الدبر، لعموم: فاتوا منه ما استطعتم»(5).

قال المحقق القمي: «ولو كان مقطوع الكف فإن استؤصلتا من الزندين فيسقط عنه مسحهما، والمسح بهما بالضرورة، ويمسح الوجه للاستصحاب، ولأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، ولقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ما أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(6)، وذلك في كيفية تيمم من قطع كفه فلم يستطع مسح الوجه

ص: 256


1- الروضة البهية 2: 335.
2- مسالك الأفهام 2: 308.
3- روض الجنان 1: 270.
4- مجمع الفائدة والبرهان 7: 304.
5- كشف اللثام 3: 234.
6- غنائم الأيام 1: 338.

بها، فهل يمسح الوجه على الأرض أم يسقط عنه؟

قال صاحب الجواهر في مَنْ تمكن من القيام أثناء الحمد دون السورة: «لو قدر على القيام في بعض الصلاة وجب... لعدم سقوط الميسور بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك كله، وإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم»(1).

هذه شهادات من أعاظم الفقهاء في استناد المشهور بخصوص هذا الخبر وغيره، ونماذج من استنادهم في الكتب الفقهية، وهكذا عشرات الموارد إن لم تكن بالمئات.

وأما كبروياً، فقد مر في مباحث الشهرة الكلام في جبر ضعف السند باستناد المشهور.

الجواب الثاني: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في الأصول، حيث قال: «أما الوثاقة التي هي المعيار في الحجية ... كما تحصل من السند تحصل من قوة المضمون... أو الراوي ... أو الانطباق، ولو لم يكن استناد، كالموافقة للمشهور للكشف الحدسي الكافي عند العقلاء في الإطاعة، كما فيما نحن فيه»(2).

بيانه: إن ملاك اعتبار الخبر الوثاقة، ولتحصيلها طرق، منها: اعتبار السند، ومنها: قوة المضمون، كنهج البلاغة ودعاء كميل، ومنها: قوة الراوي، كنقل الصدوق والكليني مع علمنا بدقتهما في الأخبار، أو أحمد بن محمد بن عيسى حيث علم منه الدقة، ومنها: مطابقة المشهور وهو غير الاستناد، فإن

ص: 257


1- جواهر الكلام 9: 253.
2- الأصول: 793.

في الثاني يعلم اعتماد المشهور على الخبر بأن صرحوا بذلك، بخلاف الأول فهو صرف المطابقة بينهما، وفي المقام فتاواهم مطابقة لقاعدة الميسور.

لكنه قابل للتأمل؛ لأن صرف المطابقة لا يعين استنادهم إلى خصوص هذا الخبر، حيث يحتمل الاعتماد على الاستصحاب، فقد كان الباقي واجباً قبل التعذر فيستصحب الوجوب بعده، أو الاستناد إلى عدم إطلاق الدليل المثبت لجزئية الجزء حال التعذر، أو إلى دليل البراءة، كرفع ما اضطروا إليه، أو إلى القرائن المنفصلة كالإجماع.

ولا يخفى أنه بعد الفراغ عن حجية فتوى المشهور يظهر الفرق بين الاستناد إلى الخبر وغيره، فلو كان المستند الخبر أمكن التمسك بعمومه لحال التعذر الطارئ، والمقارن لأول الوقت، بخلاف الاستناد إلى الاستصحاب، فلا يدل على وجوب الباقي، إلا إذا كان التعذر طارئاً، بأن كان المكلف قادراً أول الوقت فيجب عليه المجموع، وبعد طرو العذر يستصحب الباقي، أما إذا كان التعذر مقارناً لأول الوقت فلا مجال للاستصحاب؛ لعدم تحقق اليقين السابق.

والحاصل: إن صرف التطابق لا يجبر ضعف الخبر بحيث يكون حجة، وهو غير الاستناد، إلا أن يكون نظر السيد الوالد (رحمه اللّه) إلى أن المطابقة في خصوص المقام لا منشأ لها إلا الاستناد إلى هذه الأخبار.

والنتيجة: إن الظاهر أن الخبر منجبر بعمل المشهور قديماً وحديثاً.

البحث الثاني: بحث دلالي

فإن في الرواية خمسة احتمالات:

الاحتمال الأول: أن تكون (بشيء) بمعنى الكل لا الكلي، و(منه)

ص: 258

للتبعيض ومتعلقة بقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (استطعتم) و(ما) موصولة، فيكون المعنى: (إذا أمرتكم بمركب ذي أجزاء كالصلاة فأتوا الذي استطعتم منه).

الاحتمال الثاني: نفس الاحتمال الأول لكن (بشيء) بمعنى الكلي كصلة الرحم، فيكون المعنى (فأتوا الذي استطعتم من أفراد الماهية الكلية) لا من أجزائه.

الاحتمال الثالث: أن تكون (منه) زائدة، كقوله تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)(1)، وقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}(2) على بعض المباني، فلا يخل حذفها بالمعنى، كما هو شأن كل حرف زائد في اللغة العربية، وإنما يؤتى به للتأكيد على ما ذكره بعض الأدباء.

أو تكون (منه) بمعنى الباء، كقوله تعالى: {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ}(3)، على رأي بعض الأدباء، وتكون (ما) مصدرية زمانية، فيكون المعنى (إذا أمرتكم بشيء فأتوه أو فأتوا به حين استطاعتكم أو زمان استطاعتكم) ومفاد هذا الاحتمال اشتراط التكليف بالقدرة، ومع عدمها يسقط التكليف، لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}(4) فيكون إرشاداً إلى حكم العقل باشتراط القدرة في جميع التكاليف، ولو قلنا: إن المراد القدرة العرفية فهو توسعة في الشرطية، فالقدرة العرفية شرط التكليف .

ص: 259


1- النور: 30.
2- فاطر: 3.
3- الشورى: 45.
4- البقرة: 286.

الاحتمال الرابع: نفس الاحتمال الثالث لكن (ما) مصدرية غير زمانية، بمعنى (فأتوا به قدر استطاعتكم) لا (زمان استطاعتكم) فلو أمر المولى بالتصدق فيلزم الامتثال بقدر إمكان التصدق، ومفاد هذا الاحتمال محبوبية تكرار العمل المأمور به بمقدار القدرة، كقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(1) أي: بمقدار القدرة .

الاحتمال الخامس: ما احتمله بعض الأعلام(2): من أن (منه) بيانية، فيكون المعنى (إذا أمرتكم بشيء فاتوا ما استطعتم منه) وهو بيان لما استطعتم .

لكن اعتبره جمع ضعيفاً، حيث يلزم في ذلك تحقق شرطين: الأول: أن يكون مدخوله مبيناً لما قبله، والثاني: أن يكون من جنس ما قبله، ك- (خاتم من حديد) أي: خاتم هو حديد، وهما مفقودان في المقام؛ لأن الضمير بحاجة إلى مبين، فكيف يكون مبيناً لغيره؟ هذا أولاً، وثانياً: إنه ليس من جنس ما قبله، فلا يمكن القول (إذا أمرتكم بشيء فاتوا الذي استطعتم أي هو) حيث يلزم تبديل (منه) إلى (أي هو).

وبعد بيان الاحتمالات يرد على الاستدلال بالخبر إشكالات:

الإشكال الأول: لم يثبت أن (من) للتبعيض، واستفادة قاعدة الميسور من الخبر متوقفة على ذلك، فلا يتم الاستدلال.

لكنه مردود بظهوره في هذا المورد، وفي سائر الموارد في التبعيض، إلا

ص: 260


1- التغابن: 16.
2- بحوث في علم الأصول 5: 386.

ما خرج بدليل، قال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : «إن المناقشة في ظهور الرواية من اعوجاج الطريقة في فهم الخطابات العرفية»(1) فالظهور مسلم .

الإشكال الثاني: سلمنا كون (من) ظاهرة في التبعيض، لكن التبعيض نوعان: تبعيض من الكل، وتبعيض من الكلي، فإن كان المراد الأول كان المعنى (فأتوا من أجزائه ما استطعتم) وإن كان المراد الثاني كان المعنى (إذا أمرتكم بماهية كلية فأتوا بالميسور من أفرادها) والاستدلال بالخبر في المقام متوقف على إرادة المعنى الأول، ولم يثبت.

ويرد عليه أمور:

الأمر الأول: ما قيل: من أنه لا معنى للتبعيض من الكلي؛ لأن الفرد عين الطبيعة ومصداق لها، وليس بعضاً منها، فلا يصح القول: إنَّ زيداً بعض الإنسان، ويصح (اليد بعض زيد) فزيد مصداق الإنسان لا بعضه، وعليه لابد من استخدام (من) التبعيضية في الكل والأبعاض، لا الكلي والأفراد.

لكنه محل تأمل؛ لأن التبعيض يصدق عليهما، وقد استخدمت (من) في الموردين، فإن العرف يرى الطبيعة كالمخزن، يخرج الأفراد منه، وبهذا اللحاظ يكون الفرد بعضاً من ذلك المخزن، قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ}(2)، ويدل عليه قولهم: (خذ من هذا المال ما شئت) مع أن نسبة المال إلى الدراهم الموجودة نسبة الكلي إلى الأفراد، فكل درهم فرد من أفراد المال، فتلاحظ الطبيعة بعنوان الوحدة لذلك، فلو أُخذ شيء من

ص: 261


1- فرائد الأصول 2: 391.
2- الحجر: 21.

الطبيعة فكأنه أُخذ بعضها، وإن كان بالدقة العقلية فرداً، إلا أنه بالنظر العرفي بعض من الطبيعة، وعليه فالتبعيض صادق في مورد الكل والأجزاء، والكلي والأفراد.

الأمر الثاني: ما ذكره السيد الوالد(1) والسيد السبزواري(2) من أن كلمة (شيء) استخدمت في الجامع بين الكل والكلي، ولا وجه للتخصيص بأحدهما، ودعوى الإجمال خلاف الإطلاق.

الأمر الثالث: حمل (من) على التبعيض الأفرادي خلاف مورد الخبر وسياقه، ويظهر ذلك بملاحظتها، حيث لا تنسجم مع الحمل على الكلي والأفراد، فيتيعن حملها على الكل والأبعاض.

الإشكال الثالث: إن مورد الرواية لا يناسب المركب ذا الأجزاء؛ لأن السؤال عن الكلي والأفراد، حيث يسأل السائل عن وجوب الحج كل عام، فالجواب بإتيان أبعاض المركب الارتباطي لا يرتبط بالسؤال.

ويرد عليه أمور:

الأمر الأول: بعنوان الكبرى الكلية: لو ورد لفظ بنحوين، وكان أحدهما مذيلاً بذيل أو مصدراً بصدر، دون الآخر، فهل يتصرف الأول في الثاني، ويتم تقييده به أو يحتمل كونهما خبرين؟

وفي المقام، ورد الخبر من دون صدره، كما رواه الشريف المرتضى(3)

ص: 262


1- الوصائل 10: 123.
2- تهذيب الأصول 2: 226.
3- رسائل الشريف المرتضی 2: 244.

وابن أبي جمهور الأحسائي(1).

نعم، نقله مجمع البيان كاملاً(2)، فالاحتمال المذكور قائم، خاصة وأن الواقعة الكاملة وردت في كتب العامة(3)، والمقطع الأخير في كلمات الفقهاء، فيكون مجبوراً بالعمل دونها.

وهذا الإشكال بحاجة إلى تأمل أكثر؛ لأن المسألة سيالة في الروايات المأثورة.

الأمر الثاني: لا مانع من استخدام الكلمة في الجامع بين الكل والكلي، وإن لم يرتبط الكل بالسؤال، إلا أنه لا إشكال في عموم الجواب.

الأمر الثالث: كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مقام التيسير والردع عن التشديد، ويتحقق ذلك بالإتيان بما أمر مرة، فهو في مقام بيان الحد الأدنى للتكليف في الفرد من جهة، وأضاف تيسيراً آخر، وهو الإتيان بالمقدار المقدور منه، وبعبارة أخرى: النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيّن مطلبين في الجواب: الأول: إنَّ الدين مبني على التيسير، ويكفي في الطبيعة الإتيان مرة، ولا ينبغي السؤال عن التكرار، والثاني: إنه يلزم الإتيان بالمقدار المقدور من المرة لا أكثر.

الإشكال الرابع: إنَّ إرادة التبعيض بلحاظ الوحدة الاعتبارية لا ينسجم مع مورد الرواية، فإن الوحدة نوعان: الأول : النوعية أو الصنفية، والثاني: الاعتبارية، كالصلاة المركبة من مقولات مختلفة، كيفاً ووضعاً وغيرها،

ص: 263


1- عوالي اللئالي 2: 235.
2- مجمع البيان 3: 428.
3- مسند أحمد 2: 508؛ السنن الكبرى 4: 253؛ مجمع الزوائد 1: 158.

والتبعيض في الخبر إما بلحاظ الوحدة النوعية أو الاعتبارية، فلو كان بلحاظ الثاني فلا ينسجم مع المورد؛ إذ لا تبعض في الحج، وقد ادعي الاتفاق على عدم جريان قاعدة الميسور فيه، وخروج المورد قبيح.

قال في المصباح: «لعدم انطباقه على المورد أولاً، فإن الذي يعلم بعدم قدرته على الطواف، أو بعض الأعمال الأُخر من مناسك الحج لا يجب عليه الإتيان بالبقية اتفاقاً»(1).

وقال في آراؤنا: «الإجماع والتسالم قائم على أن المكلف لو لم يمكنه الإتيان بمجموع الحج لا يجب عليه الإتيان بالمقدار الممكن منه»(2).

وعليه لا يكون الخبر ناظراً إلى لحاظ التبعيض الأجزائي؛ لأنه يوجب خروج المورد، بل هو ناظر إلى لحاظ التبعيض الأفرادي .

لكنه محل تأمل؛ حيث لا مانع - ظاهراً - من جريان قاعدة الميسور في الحج، إلا فيما قام الإجماع أو دليل خاص على عدم التبعض، كما لو لم يدرك الموقفين اختياراً واضطراراً، وأما مع عدمه فلا مانع من عموم القاعدة، وفي كلمات الفقهاء موارد متعددة في إجرائها في الحج - كما أن هنالك موراد عديدة في المقدمات كالمشي إليه - مما يدل على عدم الاتفاق، فكيف بالتسالم على عدم جريان قاعدة الميسور في الحج؟

ولنذكر بعض النماذج:

منها: ما مر من الشهيد الثاني، حيث قال: «فإن لم تفِ حصته بأقل هدي

ص: 264


1- مصباح الأصول 2: 479.
2- آراؤنا في أصول الفقه 2: 228.

وجب إخراج جزء من هدي مع الإمكان، لعموم قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فأتوا منه ما استطعتم»(1)، بأن يشترك عشرة أشخاص وكل منهم يخرج جزء من الهدي.

ومنها: ما مر من المحقق الأردبيلي: «ودليل وجوب ذبحه - إن كان مذبوحاً ونحره إن كان منحوراً - هو أنه كان يجب ذبحه بعينه في مكان وزمان معينين، فإذا تعذر لم يسقط الأصل، لقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، ولقوله: لا يسقط الميسور بالمعسور»(2).

ومنها: ما في كتاب الحج: لو لم يتمكن من التلبية على الوجه الصحيح جمع بين الملحون والاستنابة، أما الأول فللميسور(3)،

وقد نقل جريان القاعدة في مقدمات الحج عن المشهور(4) .

ومنها: ما في الجواهر: عن ابن ادريس والعلامة: «لو لم يتمكن من الإحرام في الميقات عمل بالميسور، فينوي ويلبي ولو سراً في الميقات، لكن يؤخر نزع المخيط ولبس ثياب الإحرام إلى ما بعد الميقات ثم قال: ولعله لحديث الميسور لا يسقط بالمعسور»(5).

وفيها: «ولو تعين الهدي فمات من وجب عليه أخرج من أصل تركته... فإن لم تف الحصة بالهدي وجب الجزء، لقاعدة الميسور، وما لا يدرك ،

ص: 265


1- مسالك الأفهام 2: 308.
2- مجمع الفائدة والبرهان 7: 304.
3- مجمع الفائدة والبرهان 6: 227.
4- مجمع الفائدة والبرهان 6: 124.
5- جواهر الكلام 18: 125.

وإذا أمرتكم»(1).

الإشكال الخامس: ما ذكره المحقق الحائري من عدم إمكان العمل بالخبر «لأنه يوجب تخصيص الأكثر»(2).

لكنه غير واضح، فقد ذكر السيد الوالد «أنه جارٍ من أول الفقه إلى أخره، وخروج موارد معدودة لا يجعله مما ذكر»(3)، كالصوم حيث لا تجري القاعدة إذا اضطر لشرب الدواء، والوضوء إذا تمكن من غسل بعض الأعضاء، فلا مانع من تطبيق القاعدة .

الإشكال السادس: نقلت الرواية بنحو آخر لا تفيد قاعدة الميسور، فقد روى المجلسي(4) عن الشهيد في الذكرى (فأتوا به ما استطعتم) لا منه، وظاهر (الباء) الأفراد لا الأبعاض.

لكنه محل تأمل؛ لأن رواية (منه) أشهر، ومع قطع النظر عن هذه الجهة لا مانع من ورود الروايتين معاً.

هذا تمام الكلام في الرواية الأولى.

الرواية الثانية

ما روي عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قوله: «لا يترك الميسور بالمعسور»(5).

وأول مصدر روائي لهذا النقل كتاب العوالي أو الغوالي، نقله عنه (عليه السلام)

ص: 266


1- جواهر الكلام 19: 192.
2- درر الفوائد 2: 501.
3- الأصول: 795.
4- بحار الأنوار 80: 214.
5- عوالي اللئالي 4: 58.

مرسلاً، ويظهر البحث السندي فيها مما تقدم.

وقد أشكل على دلالتها على قاعدة الميسور بإشكالات:

الإشكال الأول: من تعارض ظهور إطلاق (الميسور) المحلى ب- (أل) الشامل للواجب والمستحب، مع ظهور (لا يترك) في الوجوب، ولا وجه لترجيح أحد الظهورين على الآخر.

ففي المقام احتمالان: الأول: الأخذ بظهور (لا يترك) والتصرف في ظهور (الميسور) والمعسور والقول بكون القاعدة خاصة بباب الواجبات.

الثاني: التصرف في ظهور (لا يترك) في الوجوب بقرينة عموم (ال) في (الميسور) للواجبات والمستحبات، فيفيد (لا يترك) الرجحان، والمقصود إثبات الوجوب، فلا تدل الرواية على الوجوب.

ويرد عليه بإيرادين:

الإيراد الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم(1) من أقوائية ظهور (لا يترك) من ظهور (ال) في العموم، وترجيح التصرف في ظهور الثاني بقرينة الأول؛ وذلك لأن (الميسور والمعسور) يشمل المباحات والمكروهات والمحرمات، وبقرينة (لا يترك) تخرج المستحبات أيضاً.

ويمكن تأييده بسبق (لا يترك) حيث يستقر ظهور الكلام به في حرمة الترك، فلا يبقى مجال لظهور (ال) في العموم، وإن كان ذلك محل تأمل؛ لعدم انعقاد الظهور إلا بعد تمامية الكلام، مضافاً إلى عدم تقدم (لا يترك)

ص: 267


1- فرائد الأصول 2: 392.

إلا في نقل الغوالي(1) دون سائر الكتب الفقهية، حيث ورد فيها عادة (الميسور لا يسقط بالمعسور)(2).

الإيراد الثاني: ما ذكره بعض المحققين: من أن (لا يترك) ليست جملة إنشائية حتى تفيد الوجوب أو مطلق الرجحان، وإنما هي خبرية، ومفادها أن الشيء مهما كان حكمه قبل التعذر واجباً أو مستحباً، كان كذلك بعد التعذر، فلا ينافي الوجوب في مورد الوجوب، ونظيره (لا تنقض اليقين بالشك) الجاري في الأحكام الخمسة، ومفاده ثبوت الحكم الثابت في ظرف اليقين في ظرف الشك.

الإشكال الثاني: دلالة الخبر متوقف على كون المراد من (ال) في (الميسور) أجزاء الكل، لكن مع احتمال كون المراد أفراد الكلي يسقط الاستدلال.

ويرد عليه أمران:

الأمر الأول: ما ذكره بعض المتأخرين(3)

: من أن أمر الخبر دائر بين حمله على إرادة أجزاء المركب فيكون مولوياً، وبين حمله على إرادة أفراد الكلي فيكون إرشادياً، فإن العقل يحكم بعدم سقوط بعض أفراد الكلي بسبب تعذر البعض الآخر، وكلما دار الأمر بين المولوية والإرشادية فإن أصالة المولوية محكمة، فلابد من حمل الخبر على الأول.

ص: 268


1- عوالي اللئالي 4: 58.
2- ذكرى الشيعة 2: 133؛ جامع المقاصد 1: 233؛ روض الجنان 1: 270.
3- بحوث في علم الأصول 5: 74.

لكنه محل تأمل: لأن مجرى أصالة المولوية هو صورة العلم بالمتعلق مع الجهل بالمولوية والإرشادية، أما لو كان نفس المتعلق مجهولاً، كما لو تردد الأمر بين لفظين أو معنيين، فلم يثبت حمله على المولوية للأصل المذكور، وذلك لبناء العقلاء، والمقام من قبيل الثاني، حيث لا يعلم المراد الجدي للمولى من (الميسور) أنه الجزء أو الجزئي؟ فلا تكون أصالة المولوية معينة للحمل على المعنى الأول. نعم، لو كان لفظ المولى ومراده معلوماً، وشك بين المولوية والإرشادية فأصالة المولوية تقتضي كون الحكم مولوياً.

الأمر الثاني: دعوى إطلاق كلمة (الميسور) فتشمل الكل والكلي، مثل (البيع) الشامل لجميع أنواعه، أو دعوى أنها ظاهرة في الأجزاء لا الجزئيات، لأنها محل توهم السقوط، حيث لا يتوهم أحد - عادة - السقوط في الجزئيات، كما لو قال (أكرم العلماء) فتعذر إكرام أحدهم، فهل يتوهم سقوط إكرام جميعهم لذلك؟ أو قال (صم كل يوم من شهر رمضان) فتعذر صوم يوم واحد، أو قال (لا تشرب الخمر) وتعذر عدم شرب خمر للاضطرار إلى شرب هذا الخمر، فهل يتوهم سقوط النهي عن تمام الأفراد؟ و لو احتمل ذلك كان نادراً شاذاً .

والحاصل: أنه لو كان الواجب كلياً ذا أفراد فلا مجال لتوهم سقوط الحكم عن بقية الأفراد.

وعليه، فالخبر إما مستخدم في الجامع فيشمل الكلي والكل، أو ظاهر في خصوص أجزاء المركب لا أفراد الكلي.

ص: 269

الإشكال الثالث: ما في المصباح(1) : من أن السقوط فرع الثبوت، فيكون الخبر خاصاً بأفراد الكلي؛ لأن الحكم ثابت لجميعهم عند التشريع، ومع تعذر بعض الأفراد يحكم بثبوته للباقي، وعدم سقوطه عنهم، أما في أبعاض المركب فإن الوجوب الثابت وجوب ضمني، وقد سقط قطعاً، ويشك في تولد وجوب استقلالي جديد، فليس الشك في بقاء الوجوب الأول، بل في تولد وجوب جديد متعلق بالبعض، فلا يستخدم في مورده (يسقط) أو (لا يسقط).

ويرد عليه، مع غض النظر عن أن الموجود في كتب الأخبار (لا يترك) وإن ورد في الكتب الفقهية (لا يسقط) وربما هما خبران، أولاً: لقد أسند السقوط وعدمه إلى المتعلق لا الحكم، حيث لم يقل المولى: لا يسقط حكم الميسور حتى يتم الإشكال، وإنما قال: لا يسقط ذات الميسور، وهو ثابت في عهدة المكلف، كما يصح أن يقال (الدين ثابت في عهدته)، ولازمه وجوب الأداء كما يقال (صلاة الصبح في الذمة) ولازمه وجوب إفراغ الذمة، ويصح أيضاً القول بثبوت وجوب أداء الدين في العهدة، فكلا الأمرين صحيحان، وكذلك ثبوت الضمان والخمس، وفي المقام، الميسور بإضافة الجزء العاشر ثابت في ظرف القدرة، ومع تولد الوجوب الجديد لم يتغير المتعلق، فالوجوب الأول المتعلق بالأجزاء التسعة وجوب ضمني، والوجوب الجديد استقلالي، لكن المتعلق نفسه ولم يختلف، فهو بنفسه التكبير والركوع والسجود، وقد كان ثابتاً سابقاً بالوجوب الضمني، وهو

ص: 270


1- مصباح الأصول 2: 484.

بعينه ثابت بوجوب استقلالي، وبهذا اللحاظ يصح إسناد عدم السقوط إلى الميسور، وبقاؤه في ذمة المكلف وإن سقط حكمه.

إن قلت : كيف يمكن جعل الموضوع الخارجي في الذمة؟

قلت: الذمة وعاء اعتباري، ولا إشكال في فرض وعاء بعنوان العهدة، وجعل الصاع من الصبرة فيه، وكذلك الدين والميسور، وكما يبين المولى الأحكام التكليفية كذلك يبين الأحكام الوضعية كالضمان، ومعناه إثبات شيء في الذمة.

وثانياً: إن ما ذكر من الإشكال - مع عدم تسليم الجواب الأول - مبني على الدقة العقلية، والعرف لا يرى النفسية والغيرية والاستقلالية والضمنية إلا من حالات المتعلق لا من مقومات الوجوب، ولذلك يصح - عرفاً - إطلاق بقاء الوجوب، فإنه وإن ثبت وجوب جديد بالدقة العقلية، إلا أن العرف يرى عدم سقوط وجوب الصلاة مع تعذر الجزء العاشر.

وبعبارة أخرى: النتيجة واحدة في نظر العرف، ولا فرق بين كون الوجوب الباقي ضمنياً أو استقلالياً، فالوجوب الباقي هو نفسه الوجوب الثابت، فيصح استخدام كلمة (لا يسقط).

فالإشكال الثالث محل تأمل أيضاً.

الرواية الثالثة

ما روي في غوالي اللئالي: عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ما لا يدرك كله لا يترك كله»(1).

ص: 271


1- عوالي اللئالي 4: 58.

وقد بحث الأصوليون عن معنى (الكل) فإما أن يراد منه في المقامين العموم الاستغراقي أو المجموعي، أو يكون المراد من الأول الأول، ومن الثاني الثاني أو بالعكس، فتكون الصور أربعة:

الأولى: ما لا يدرك كل فرد فرد منه فلا يترك كل فرد فرد منه.

الثاني: ما لا يدرك مجموعه فلا يترك مجموعه.

الثالثة: ما لا يدرك كل فرد فرد منه لا يترك مجموعه.

الرابعة: ما لا يدرك مجموعه لا يترك كل فرد فرد منه.

وأن أي الصور ممكنة؟ وأيها مستحيلة؟

والظاهر: إن هذا البحث مستغنى عنه عرفاً، فإن الدلالة واضحة على كل تقدير.

ويظهر البحث في هذا الخبر سنداً ودلالة مما تقدم، والإشكالات والأجوبة نفسها تقريباً.

قال الشيخ الأعظم: «مقتضى الإنصاف تمامية الاستدلال بهذه الروايات؛ ولذا شاع بين العلماء - بل بين جميع الناس - الاستدلال بها في المطالب حتى أنه يعرفه العوام، بل النسوان»(1).

أدلة اجتهادية أخرى تدل على قاعدة الميسور

وفي المقام أدلة اجتهادية أخرى تدل على القاعدة:

منها: الاستقراء، وقد نقل الاستدلال به عن كتاب (العناوين).

لكنه محل تأمل؛ لأن الاستقراء التام غير حاصل، والناقص ليس حجة؛

ص: 272


1- فرائد الأصول 2: 394.

لأنه لا يفيد إلا الظن.

ومنها: أدلة اليسر، كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(1)، وفي الحديث الشريف: «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق»(2).

وهو محل تأمل، فإنه كما يمكن أن يكون مقتضى اليسر وجوب الباقي، كذلك يمكن أن يكون رفع الوجوب بالمرة.

إلا أن يقال: إن الظاهر العرفي منه رفع خصوص الشيء المعسور، أي الجمع عرفاً بين دليل (أقم الصلاة) ودليل (اليسر) هو رفع خصوص الجزء المعسور لا تمام الباقي؛ لأن بقية الأجزاء ليست معسورة، أو يقال - كما سبق - من وجود أدلة ثلاثة في المقام.

ويؤيده رواية عبد الأعلى مولى آل سام، قال: عثرت فانقطع ظفري فجعلت على اصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟، فقال (عليه السلام) : «يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه، قال اللّه تعالى: {ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} امسح عليه»(3).

فمقتضى رفع الحرج رفع خصوص الأمر الحرجي، ويبقى الباقي من الوضوء والمسح، لا أن مقتضاه رفع كل الأمر بالمركب.

ولا فرق فيما ذكر بين {ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(4) و بين

ص: 273


1- البقرة: 185.
2- الكافي 2: 87.
3- الكافي 3: 33.
4- الحج: 33.

{لا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(1) وبين {لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ}(2).

إلا أنه محل تأمل للاختلاف في عبد الأعلى، فقد قال بوثاقته بعض، وقال آخرون بأنه ممدوح فروايته حسنة، ولم تثبت وثاقته ولا حسنه عند بعض(3).

ومنها: الإجماع قولاً وعملاً على جريان القاعدة .

لكنه محل تأمل؛ لان المقدار المسلم الشهرة، وأما الإجماع فلم يثبت، بل ثبت خلافه.

ومنها: بناء العقلاء .

قال السيد السبزواري: «هي من القواعد الارتكازية في الجملة، ولم يردع عنها الشرع، بل قررها في الجملة»(4)، هذا إن كان مراده الارتكازالعقلائي .

لكنه محل تأمل؛ لأن بناء العقلاء ثابت في ما كان للمطلوب مراتب، وتعذر بعضها، فيكتفي العقلاء بما تيسر منها، أما لو كان الغرض مجهولاً، ولم يعلم أنه بسيط أو ذو مراتب فبناء العقلاء محل إشكال، كما لو أمر الطبيب بتناول معجون مركب وتعذر بعض أجزائه.

فإنه إنما يكون بناء العقلاء حجة فيما إذا استقر على شيء في الأمور الخارجية، وكان بحيث يمكن امتداده إلى حيز التشريع، فلو لم يردع عنه

ص: 274


1- البقرة: 185.
2- البقرة: 286.
3- خلاصة الأقوال: 222؛ رجال ابن داود: 127؛ نقد الرجال: 3.
4- تهذيب الأحكام 2: 226.

الشارع كان كاشفاً عن التقرير، كبنائهم على حجية خبر الثقة، وفي المقام، بناؤهم ثابت فيما لو أحرز الغرض، وأحرز أنه حقيقة تشكيكية ذات مراتب، وأحرز أن الميسور واجد لبعض تلك المراتب، أما غير ذلك فلم يعلم بناؤهم عليه في الأحكام التشريعية، بل حتى في الأمور التكوينية.

هذا تمام الكلام في قاعدة الميسور.

تنبيهات قاعدة الميسور
اشارة

ويبقى الكلام في تنبيهات تتعلق بقاعدة الميسور.

التنبيه الأول: شرط جريان قاعدة الميسور

قال بعض الفقهاء: يشترط في جريان قاعدة الميسور صدق عنوان الطبيعة على المقدور، أما لو لم يصدق على الميسور - لكون المعسور ركناً، أو لكونه معظم الأجزاء بحيث لا يصدق العنوان على الباقي - فلا تجري القاعدة؛ لأن الميسور عنوان عرفي، ولا يصدق إلا لو كان العنوان منطبقاً على الباقي، وإلا لم يطلق عليه أنه ميسور الطبيعة.

لكن أشكل السيد الوالد (رحمه اللّه) عليه بقوله: «ولا يخفى الفرق بين الميسور وبين مفاد الحديثين الآخرين، حيث إنهما يشملان حتى غيره، ويؤيده مثل: ولو بشق تمرة، وكمفحص قطاة، وضغثاً، فاللازم القول به»(1) فإطلاق (منه) و(كله) شامل حتى لغير العنوان.

وظاهره تسليم الإشكال بلحاظ حديث الميسور.

ويمكن التأمل فيه: حيث يشترط في الإطلاق المذكور الإضافة، ولا

ص: 275


1- الأصول: 797.

يصدق عرفاً إضافة الشيء إلى الطبيعة إلا إذا بقيت منه أجزاء معتد بها، وإلا فإن إضافته إلى الطبيعة ليس أولى من إضافته إلى غيرها، مثلاً: لو قال المولى: أحضر ماء اللحم، فلم يمكن للعبد إلا أن يحضر الماء القراح، فلا يقال: إنه جزء من الماهية المطلوبة، فإن الإضافة غير صحيحة، بل هو موجود مستقل، وإن تحققت الإضافة فيمكن دعوى انصراف الدليل عنه.

قال في الجواهر: «وأما قوله (عليه السلام) : لا يسقط الميسور ونحوه، فهو وإن سلم الاستدلال به في نحو الأجزاء، لكنه موقوف على الانجبار بفهم الأصحاب، وإلا لو أخذ بظاهره في سائر التكاليف لأثبت فقهاً جديداً لا يقول به أحد من أصحابنا»(1).

وأما شق التمرة فالتكليف انحلالي، فإن للصدقة المطلوبة مراتب، فمن لا يتمكن من التصدق ولو بالمرتبة العليا فليتصدق بالدنيا، وقد ذهب المحقق الشيخ عبد الكريم الحائري (رحمه اللّه) (2) إلى أن مفاد روايات الميسور هو عدم ترك المرتبة الدنيا إن تعذرت المرتبة العليا، وفي الرواية: «لا تستح من إعطاء القليل، فإن الحرمان أقل منه»(3).

والمسألة بحاجة إلى مزيد من التأمل.

التنبيه الثاني: حكم الشك في صدق قاعدة الميسور

بناء على اشتراط صدق الميسور أو الطبيعة على الباقي إن شك في

ص: 276


1- جواهر الكلام 2: 303.
2- درر الفوائد 2: 414.
3- نهج البلاغة 4: 15؛ بحار الأنوار 93: 172.

صدقها فلا مجال للقاعدة؛ لأن ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، ومع عدم إحرازه لا يترتب المحمول.

التنبيه الثالث: في اشتراط كون الميسور من جنس المعسور وعدمه

قال السيد الوالد: «ربما يقال بشمول ملاكه حتى لما لم يكن من جنس المعسور، كما إذا توقف ردع المعتدي على غير ما قرر في الشريعة»(1).

توضيحه: إن ملاك القاعدة هو التنزل إلى تحصيل المرتبة الدنيا من الغرض إن لم تتيسر المرتبة العليا، مثلاً: لو كان للشارع مطلوبان في تغسيل الميت، الأول: التنظيف، الثاني: كونه بالكافور، فلو تعذر المطلوب الثاني اقتصر المكلف على تحصيل الأول، ونفس الملاك متحقق مع تعدد جنس الميسور والمعسور، مثلاً: حكم الشاب المتعرض للأعراض التعزير، فلو لم يتيسر وتوقف ردعه على إخبار الحكومة الظالمة التي تحبسه، فملاك القاعدة جارٍ في المقام؛ لأن غرض الشارع من التعزير الردع، وهو المطلوب الأول، والثاني الردع بالكيفية المخصوصة، فلو لم يمكن المطلوب الثاني يستوفى المطلوب الأول.

ونظيره ما ذكره كاشف الغطاء(2) فيما لو كانت وظيفة المكلف الإيماء بالرأس أو العين للسجود وتعذر، فينتقل إلى الإيماء باليد مع تغايرهما سنخاً، وكأنه استنبط أن ملاك السجود هو التعظيم، فإذا تعذر أومأ برأسه أو بعينه تعظيماً، فلو تعذرت هذه الكيفية من التعظيم أومأ باليد، وهو مرتبة من

ص: 277


1- الأصول: 797.
2- كشف الغطاء 3: 204.

مراتب التعظيم، كما يظهر ذلك بالتحية العرفية.

لكنه قابل للتأمل، فإنه إنما يتم إذا كانت الملاكات معلومة، أما لو كان الملاك مجهولاً فلا يمكن التعدي إلى عمل آخر، والملاكات الشرعية مجهولة لنا.

وربما لهذا الإشكال قال: «إلا أن يقال: إنه من باب الأهم والمهم لا من بابه»(1)، فإن الردع بالطريقة غير الشرعية ليس من باب الميسور، وإنما من باب قاعدة الأهم والمهم، أو دفع الأفسد بالفاسد.

التنبيه الرابع: جريان قاعدة الميسور في الصلاة

لا شك ولا إشكال في جريان قاعدة الميسور في باب الصلاة - حتى عند من لم يسلم بالقاعدة، أو سلم لكن لم يصدق الميسور موضوعاً بناء على اشتراط صدق عنوان الطبيعة في جريانها - لا من باب القاعدة، وإنما للرواية الواردة في باب المستحاضة(2)، ومفادها أن الصلاة لا تترك بحال، وأنه يجب الإتيان بالباقي وإن تعذر أي شرط أو جزء، أو للإجماع .

التنبيه الخامس: في حدود العمل بقاعدة الميسور

قال في المصباح: «لم يعلم من الأصحاب العمل بقاعدة الميسور إلا في الصلاة»(3).

وفيه تأمل، ففي أبواب كثيرة من أول الفقه إلى آخره أجرى الفقهاء

ص: 278


1- الأصول: 797.
2- الكافي 3: 79.
3- مصباح الأصول 2: 478.

القاعدة، وقد تطرقنا إلى ذكر بعضها، ونضيف ما في الجواهر: «لو دار الأمر بين إصابة الماء بلا غسل أو الجبيرة يمكن أن يقال يقدم الأول؛ لأن مباشرة الماء واجبة والغسل واجب آخر، وتعذر الثاني لا يسقط الأول؛ إذ لا يترك الميسور بالمعسور»(1).

وفيه أيضاً: «إذا نذر الحج ماشياً يجب أن يقوم في مواضع العبور؛ لأن المشي يتضمن القيام والحركة، ولا يسقط الميسور بالمعسور»(2).

وفي المسالك(3): لو أصدقها ظرفاً على أنه خل فبان خمراً، كان لها مثل الخل؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، فالمهر المعين في واقعه مهران: الأول: الطبيعي في ضمن الحصة المعينة، وقد تعذرت، فيقتصر على الطبيعي فتعطى خلا آخر، لا أنه ينتقل إلى مهر المثل.

وفي الجواهر: مَنْ وجب عليه بدنة في نذر ولم يجد لزمه بقرة، فإن لم يجد فسبع شياه، ولو لم يجد إلا الأقل من سبع فالأحوط وجوبه، لقاعدة الميسور، وإذا أمرتكم بشي فأتوا منه ما استطعتم(4).

وفي شرح العروة: لو لم يتمكن من المباشرة في الوضوء وجب أن يستنيب... لقاعدة الميسور(5) وإن لم يرتضِ الدليل المذكور.

ص: 279


1- جواهر الكلام 2: 293.
2- جواهر الكلام 17: 351.
3- مسالك الأفهام 8: 183-184.
4- جواهر الكلام 19: 191.
5- شرح العروة الوثقی 4: 433-434.

والحاصل: إن لم نقل المآت فلا أقل من عشرات الموارد التي تمسك الفقهاء بقاعدة الميسور في كتاب الصلاة والطهارة، واللقطة والجهاد والحج والوصية والنكاح والنذر، وكتب أخرى، ولو سنحت الفرصة لأحد وتتبع حتى في كتب الفقهاء المتقدمين أمكن العثور على فتاواهم طبقها، وإن لم ينصوا على ذلك، وقد مر ما قاله الشيخ الأعظم والمحقق النراقي وكذلك السيد السبزواري الذي شهد بعمل الفقهاء قديماً وحديثاً، وتكفينا شهادته لإثبات ذلك، كما يكفينا عمل المتأخرين.

التنبيه السادس: في جريان قاعدة الميسور في المستحبات

فهل يمكن التمسك بقاعدة الميسور لإثبات الاستحباب، كما لو أمكنه زيارة عاشوراء من دون تكرار اللعن والسلام؟

قال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : «ثم إنَّ الأولى والثالثة وإن كانتا ظاهرتين في الواجبات، إلا أنه يعلم بجريانهما في المستحبات بتنقيح المناط العرفي، مع كفاية الرواية الثانية»(1).

ويرد عليه:

أولاً: إن تنقيح المناط غير معلوم؛ لاهتمام الشارع بالواجبات أكثر من اهتمامه بالمستحبات، وملاكات الأحكام اللزومية غير ملاكات الأحكام الاستحبابية، ولذا ربما حكم الشارع بالميسور في الأول، لقوة ملاكه، دون الثاني حيث يمكن رفع اليد عنه.

ثانياً: الظاهر شمول الروايات الثلاثة للمستحبات، فليس معنى (لا يترك)

ص: 280


1- فرائد الأصول 2: 394.

الحرام أو (فأتوا) الواجب، بل المعنى أن الحكم الثابت للمتعلق في ظرف القدرة ثابت في ظرف العجز، كما لو أصدر المولى لعبده أحكاماً واجبة ومستحبة، ثم يقول له: (لا تترك ما قلته لك في حال السفر أو المرض أو العجز) فمع أن الصيغة نهي لكنها كناية عن بقاء نفس الحكم السابق.

التنبيه السابع: في جريان القاعدة في الشرائط كجريانها في الأجزاء وعدمه

وقد ذكر في المقام إشكال، وهو قصور روايات الميسور عن شمول الشرائط؛ وذلك لأن (من) تبعيضية في الرواية الأولى: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(1)، والتبعيض إنّما يكون بلحاظ الأجزاء ولمكان (كل) في الرواية الثانية، والكل والبعض بلحاظ الأجزاء لا الشرائط، وأمّا الخبر الثالث: «الميسور لا يسقط بالمعسور»(2)، فإن السقوط وعدمه إنما يستخدم إذا كان هنالك مقتضٍ للثبوت، ولا مقتضي للثبوت في فاقد الشرط، فلو قال المولى: (اعتق رقبة مؤمنة) وتعذر قيد الإيمان، فلا مقتضي لثبوت الحكم في الرقبة الكافرة حتى يقال: (الميسور لا يسقط) فيحكم بعتق الكافرة.

لكنه محل تأمل، فإن متعلق الأمر هو المأمور به المركب من الأجزاء والشرائط، فيصح استخدام كلمة (كل) و (منه) عرفاً مع ملاحظة مجموع المأمور به، فيكون المعنى: إذا أمرتكم بماهية صلاتية مركبة من هذه الأجزاء والشرائط فأتوا منه ما استطعتم، فلو تعذر الاستقلال واضطر

ص: 281


1- بحار الأنوار 22: 31.
2- عوالي اللئالي 1: 20؛ بحار الأنوار 102: 168.

المكلف للاعتماد على الجدار صدق القول: إن المولى أمر بالصلاة مع الاستقلال فأتِ منه ما استطعت، فصلِّ بلا استقلال، فإن ما لا يدرك كله لا يترك كله.

وأما ما ذكره من عدم المتقضي فغير تام أيضاً، فإن الفعلية متحققة فكيف بالاقتضاء؟ فإن المجموع كان مأموراً به قبل التعذر بالفعل، ومع تعذر الشرط هل يسقط الأمر الفعلي؟ يمكن أن يقال: لا يسقط الميسور بالمعسور.

والحاصل: إنه لا مانع في بادئ النظر من شمول جميع روايات الباب لحالة تعذر الشرط، ولا فرق بين تعذر الجزء وتعذر الشرط.

نعم، لو كان الواجد والفاقد حقيقتين متباينتين في نظر العرف - كالمثال المعروف الذي ذكره الشيخ الأعظم في المكاسب: «لو باعه عبداً حبشياً فبان حماراً وحشياً»(1) - لم يمكن القول: إن الحمار الوحشي ميسور العبد الحبشي حتى مع تحقق الجامع بينهما، وهو الحيوانية، كما لو قال: «جئني بحيوان ناطق» فلو تعذر الإتيان بحيوان ناطق لم يكن الحيوان الناهق ميسوره عرفاً؛ لأنهما حقيقتان، أما لو صدق الميسور عرفاً فلا مانع.

وعلى كل حال، فالتفكيك بين الشرط والجزء تفكيك عقلي، وقولهم: «تقيد جزء وقيد خارجي» دقة عقلية، والعرف يرى أن المأمور به مجموع مركب، فإذ تعذر شيء منه - سواء أكان جزءاً أم شرطاً - أتى بالباقي.

ص: 282


1- كتاب المكاسب 5: 254.
التنبيه الثامن: في دوران الأمر بين ترك الجزء وترك الشرط

لو دار الأمر بين ترك الجزء وترك الشرط، مثلاً: اتحاد المجلس شرط في زيارة عاشوراء على بعض الأقوال أو الاحتمالات، فلو لم يسعه الوقت ودار أمره بين ترك الشرط بأن يزور الزيارة كاملة مع تكرار اللعن والسلام (100مرة) ولكن في مجلسين، وبين أن يترك الجزء فيزور في مجلس واحد مع عدم التكرار فأيهما المقدم؟ هل يقدم ترك الجزء أو ترك الشرط؟

قال الشيخ الأعظم: «فالظاهر تقديم ترك الشرط، فيأتي بالأجزاء تامة في غير المجلس؛ لأن فوات الوصف أولى من فوات الموصوف»(1). فإن الأمر دائر بين فوات الموصوف - أي: أجزاء الماهية - وفوات الوصف - أي: وحدة المجلس - وفوت الوصف أولى من فوات الموصوف.

ثم قال: «ويحتمل التخيير»(2).

لكن السيد الوالد (رحمه اللّه) لم يرتضِ ما ذكره الشيخ، ففصّل في الوصائل(3) بما أنه لو أحرزت الأهمية إلى حد المنع من النقيض فالأهم مقدم، سواء أكان جزءاً أم شرطاً - ونضيف عليه احتمال الأهمية لو قلنا: إن احتمال الأهمية من مرجحات باب التزاحم - ولو لم تحرز الأهمية فالمكلف مخير.

مثلاً: لو دار الأمر في الصلاة بين ترك سورة الحمد وترك الطهارةالحدثية، فلا إشكال أن ترك الجزء مقدم، فيترك الحمد - يعني الموصوف -

ص: 283


1- فرائد الأصول 2: 398.
2- فرائد الأصول 2: 398.
3- الوصائل 10: 153.

ويأتي بالوصف، أي: الطهارة الحدثية.

ثم أضاف: «نعم، ربما يقال: إنّ اللازم مراعاة المقدم زماناً وإن تساويا»(1)، فحتى لو كان ترك الجزء وترك الشرط متساويين لكان المتقدم زماناً مقدماً.

ومرجعه في الواقع إلى مرجحات باب التزاحم وإحراز الأهمية، فمثلاً: لو دار أمر المكلف بين ترك صوم النصف الأول من شهر رمضان، أو النصف الثاني، فإن أحد مرجحات باب التزاحم تقديم المقدم زماناً، حيث لا عذر للمكلف في الترك.

والحاصل: الضابطة الكلية تامة، وهي إن اُحرزت الأهمية بمرجحات باب التزاحم المتعددة - ومنها ترجيح المقدم زماناً على بعض الأقوال - فالأهم مقدم، وإلا فهو مخير؛ لأنه لا دليل على التقديم، وشمول قاعدة الميسور لفاقد الجزء وفاقد الشرط على نسق واحد، فيتخير المكلف.

التنبيه التاسع: في تقديم البدل على المبدل الناقص وعدمه

لو جعل الشارع للكل بدلاً اضطرارياً، فهل البدل مقدم أو المبدل الناقص مقدم؟

قال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : «ففيه وجهان: الأول: إن مقتضى البدلية كونه بدلاً عن التام، فيقدم على الناقص كالمبدل»(2) .

فإن معنى البدل هو القيام مقام الشيء، فكما أن المبدل منه - وهو الوضوء

ص: 284


1- الوصائل 10: 154.
2- فرائد الأصول 2: 398.

التام - مقدم على الوضوء الناقص الجبيري، كذلك يكون التيمم مقدماً عليه.

ثم قال: «ومن أن الناقص حال الاضطرار تام»(1) فإن الوضوء الجبيري وضوء تام لكن في حال الاضطرار.

ثم قال (رحمه اللّه) : «لانتفاء جزئية المفقود»(2) ففي حالة التعذر لا تكون المباشرة جزءاً أو شرطاً.

وأضاف: «فيقدم على البدل كالتام»(3) فكما أنّ المبدل منه التام مقدم على البدل كذلك المبدل منه الناقص، فإنه بمثابة المبدل منه التام بمعنى أن الوضوء الناقص نفس المبدل منه، فيقدم على التيمم.

لكن ذهب المحقق العراقي في نهاية الأفكار إلى أنه ليس مفاد الأخبار تنزيل الباقي منزلة الكل، وإنما مفادها عدم سقوط ما ثبت في العهدة من التكليف المتعلق بالأجزاء الباقية(4).

فليس مفاد روايات الميسور أن الوضوء الناقص منزل منزلة الوضوء التام حتى يقال بثبوت كل أحكامه عليه، وإنما مفادها بقاء الوجوب، فيجب الإتيان بالوضوء الناقص، فإن دليل البدل يحكم بوجوب الإتيان بالتيمم، فما هو الوجه في تقديم ذلك الوجوب على هذا الوجوب؟ فلو لم يكن هنالك دليل خارجي كان المكلف مخيراً بين الوضوء الجبيري والتيمم؛ لأنهما

ص: 285


1- فرائد الأصول 2: 398.
2- فرائد الأصول 2: 398.
3- فرائد الأصول 2: 398.
4- نهاية الأفكار 3: 461.

وجوبان متعارضان، وقد علم أنه لا يجب الجمع بينهما، فيتخير المكلف.

لكنه محل تأمل، فإن ظاهر أدلة الميسور - عرفاً - ليس بقاء الوجوب، بل ظاهرها بقاء نفس ذلك الوجوب السابق، بمعنى أن المولى أمر بالتوضؤ، وماهية الوضوء عبارة عن مجموع الأجزاء والشرائط، فلو تعذرت المباشرة - لوجود مانع على بدن المصلي - كان معنى دليل الميسور - عرفاً - بقاء نفس الوجوب، ومع بقاء نفس الوجوب لا تصل النوبة إلى البدل.

وبعبارة أخرى: دليل الميسور حاكم على أدلة المبدل منه، فهو يوسع دائرة أدلة الوضوء، فالمولى يأمر بالوضوء ثم يدخل فرداً جديداً في دائرة الوضوء، فلو كان نفس الأمر بالوضوء باقياً لا تصل النوبة إلى التيمم. وذلك مثل صلاة الحاضر والمسافر، وإن اختلفت الأشكال، أو صلاة القائم والقاعد.

ويؤيده رواية عبد الأعلى مولى آل سام: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إني عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عز وجل: {مَا

جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} امسح عليه»(1).

فلا يحتاج الأمر إلى سؤال.

وفي الأمثلة العرفية لو قال المولى: (اطبخ ماء اللحم)، ثم قال: (الميسور من ماء الحم لا يسقط بالمعسور)، ثم قال: (لو تعذر ماء اللحم فبدله الخبز والجبن)، وأمكن للعبد أن يطبخ ماء اللحم من دون الحمص والكركم،

ص: 286


1- الكافي 3: 33.

فهل ينتقل إلى البدل، أم يطبخ الموجود؟

التنبيه العاشر: في جريان قاعدة الميسور في المحرمات

الظاهر جريان القاعدة في المحرمات كجريانها في الواجبات، لمكان الإطلاق، فإن (الميسور) و(المعسور) يشمل الفعل والترك، فالترك الميسور لا يسقط بالترك المعسور، كما أن الفعل الميسور لا يسقط بالفعل المعسور.

كما لو أكره المحرم أو اضطر إلى حلق بعض رأسه، فلا تسقط حرمة حلق الباقي؛ لأنه الميسور من الترك، ولابد للمكلف أن يترك الحلق، والترك الجزئي ميسور الترك الكلي.

التنبيه الحادي عشر: في جريان قاعدة الميسور في الأحكام الوضعية

الظاهر جريان قاعدة الميسور في الأحكام الوضعية كجريانها في الأحكام التكليفية بلا فرق بينهما، وذلك للإطلاق.

مثلاً: ميتة ما تحله الحياة مما يؤكل لحمه مانع، فلو اضطر المكلف إلى لبسه ارتفعت المانعية، وبقي الأمر بالمركب، مع أن الصلاة عبارة عن مجموعة من الأجزاء والشرائط، وعدم الموانع والقواطع، فالميسور من الصلاة مع وجود المانع لا يسقط.

وهكذا لو كانت للمانع الواحد مراتب، فلا يسقط الميسور منها بالمعسور، وقد ذكر صاحب العروة لذلك فروعاً:

منها: «إذا تنجس موضعان من بدنه أو لباسه ولم يمكن إزالتهما، فلا يسقط الوجوب ويتخير، إلا مع الدوران بين الأقل والأكثر، أو بين الأخف والأشد أو بين متحد العنوان ومتعدده، فيتعين الثاني في الجميع، بل إذا كان

ص: 287

موضع النجس واحداً وأمكن تطهير بعضه لا يسقط الميسور، بل إذا لم يمكن التطهير لكن أمكن إزالة العين وجبت، بل إذا كانت محتاجة إلى تعدد الغسل وتمكن من غسلة واحدة، فالأحوط عدم تركها؛ لأنها توجب خفة النجاسة، إلا أن يستلزم خلاف الاحتياط من جهة أخرى بأن استلزم وصول الغسالة إلى المحل الطاهر»(1).

وعليه، فأصل المانعية ومراتبها والسببية مشمولة لقاعدة الميسور .

ومثال السببية التذكية التي هي سبب الحلية، وهي مركبة من مجموعة من الأجزاء والشرائط، فلو تعذر بعضها - كالاستقبال - لم يسقط الميسور من بقية الأجزاء.

التنبيه الثاني عشر: في تعذر الجزء وشمول الباقي لقاعدة الميسور وعدمه

لو تعذر الجزء وكان دليله مطلقاً يقتضي ثبوته حتى لحالة التعذر، كقوله (عليه السلام) : Sلا صلاة إلا بطهورR(2)، فهل الباقي مشمول لقاعدة الميسور أم لا؟

ومنشأ الإشكال تحقق التنافي بين قاعدة الميسور ودليل المطلق، فإن مقتضى قاعدة الميسور بقاء الأمر بالباقي، ومقتضى دليل المطلق سقوطه؛ لأن مقوم الصلاة الطهور، فلو تعذر الطهور فلا أمر بالماهية حيث لا وجود لها؛ ولأجل ذلك ذهب بعض المحققين(3) إلى ثبوت التعارض بينهما، فيكون مشمولاً لأحكامه.

ص: 288


1- العروة الوثقى 1: 206.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 58.
3- منتقى الأصول 5: 306.

لكنه محل تأمل، لإمكان القول بحكومة قاعدة الميسور على دليل الجزئية، فتتقدم عليه .

وأجاب عنه بأن كليهما حاكمان على دليل المركب(1)؛ لأن قاعدة الميسور ناظرة إلى دليل (أقم الصلاة) فيكون مفادها عدم سقوط الأمر بالصلاة حتى مع تعذر بعض الأجزاء، كذلك الحال بالنسبة إلى دليل الجزئية، فيكون مفاده تقيد المركب بالجزء، لكن دليل الميسور ليس حاكماً على دليل الجزئية؛ لعدم تفرعه عليه، وملاك الحكومة التفرع والنظر، فيكون الدليلان بلحاظ المدلول الالتزامي أو المطابقي متعارضين .

ولكنه محل تأمل؛ لأن دليل الجزئية المطلقة تفسير وتبيين لدليل المركب، فهما يشكلان دليلاً واحداً، أحدهما مجمل والآخر مفصل، وقاعدة الميسور حاكمة على ذلك الدليل، فتكون حاكمة على المبين والمبين، والمفسر والمفسر.

ولا فرق بين أن يقول المولى: (كبر) أو «لا صلاة إلا بطهور» فكلاهما مطلقان يشملان حال التعذر والقدرة، وكما أن دليل الميسور حاكم على إطلاق الأول كذلك على الثاني، فيخصصهما بحال القدرة.

التنبيه الثالث عشر: قاعدة الميسور من العمومات القابلة للتخصيص

قاعدة الميسور من العمومات القابلة للتخصيص، فقد يتحقق الميسور عرفاً لكن لا أمر به، كفاقد الطهورين على بعض الأقوال، فالصلاة بلا طهور وإن كانت ميسور الصلاة التامة لكن لم يردها الشارع لأدلة خاصة، وأراد

ص: 289


1- منتقى الأصول 5: 307.

قضاءها خارج الوقت.

لكن السؤال هل هذا الدليل تصرف في عقد الوضع أو عقد الحمل؟

ذهب صاحب الكفاية(1) إلى أنه تصرف في عقد الوضع، بمعنى أن ما تخيله العرف ميسوراً ليس بميسور في نظر الشارع، فهو تخطئة للعرف ، ولا فرق في ذلك بين كونه إدراجاً إو إخراجاً، كصلاة الغريق وفاقد الطهورين .

أو يقال: إنه تصرف في عقد الحمل إخراجاً أو إدراجاً، فهو تخصيص في القاعدة.

وهذا المطلب وإن لم يكن له أثر في المقام على المبنيين، لكن له آثار مهمة تظهر في المستقبل، وسيأتي تفصيله إن شاء اللّه .

التنبيه الرابع عشر: في شمول قاعدة الميسور للتعذر الناشئ من سور الاختيار

لو كان التعذر بسوء اختيار المكلف فهل تشمله قاعدة الميسور؟ مثلاً: لو فاته الوقوف الاختياري في عرفات عمداً، فهل يكون الوقوف الاضطراري مشمولاً للقاعدة مع غض النظر عن الأدلة الخاصة؟

ذهب بعض المتأخرين إلى العدم، وقال: «فإن عدم الإدراك ظاهر في الفوت القهري»(2) فإن معنى (ما لا يدرك) (ما لا يدرك قهراً) لا اختياراً.

لكنه محل تأمل؛ لأن الأدلة مطلقة، سواء أكانت معسورية المعسور اختيارية أم اضطرارية.

ويؤيده - في مقابل دعوى الانصراف - الاشباه والنظائر ، ففي العروة:

ص: 290


1- كفاية الأصول: 372.
2- منتهى الدراية 6: 366.

«كل صلاة أدرك من وقتها في آخره مقدار ركعة فهو أداء، ويجب الإتيان به... لكن لا يجوز التعمد في التأخير إلى ذلك»(1).

فمن أخر صلاته عمداً بحيث لا يدرك إلا ركعة فعل حراماً، لكنه مشمول لمن أدرك ركعة من الوقت، ومبنى كلامه إطلاق الدليل، سواء أكان إدراك الركعة بسوء اختياره أم لا .

ولم يعلق عليه أحد من أصحاب الحواشي الخمس والخمسة عشر، فالدليل ليس منصرفاً لحالة سوء الاختيار.

وفيها: «ومن البقاء على الجنابة عمداً الإجناب قبل الفجر متعمداً في زمان لا يسع الغسل ولا التيمم، وأما لو وسع التيمم خاصة فتيمم صح صومه، وإن كان عاصياً في الإجناب»(2) ومفاده شمول أدلة التيمم للمقام مع أنه بسوء اختياره.

ووافقه على ذلك جمع من الأعاظم كالمحقق النائيني والمحقق الحائري والسيد أبو الحسن الإصفهاني والسيد البروجردي والسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد الحكيم والسيد الوالد رحمهم اللّه جميعاً(3).

وفيها: «إذا ترك الطلب حتى ضاق الوقت عصى، لكن الأقوى صحة صلاته حينئذٍ، وإن علم أنه لو طلب لعثر»(4) فمع وجود الماء وعلمه بالعثور عليه إذا طلبه، فإن وظيفته التيمم عند ضيق الوقت؛ وذلك لتولد خطاب

ص: 291


1- العروة الوثقى 2: 262.
2- العروة الوثقى 3: 564.
3- العروة الوثقى 3: 564.
4- العروة الوثقى 2: 166.

(فتيمموا) وإن كان تحقيق الموضوع بسوء اختياره .

ولم يعلق عليه أحد، وكذلك الأمر في نظائر المقام، حيث فهم الفقهاء أن المهم تحقق الموضوع، سواء أكان على وجهه القهر أم العصيان، فيترتب عليه المحمول قهراً.

والحاصل: إن الأمر في الأمثلة المذكورة ونظائرها دائر بين فهم الإطلاق، أو الإنصراف إلى تحقق الموضوع قهراً، والظاهر في جميع هذه المواقع الإطلاق.

هذا تمام الكلام في قاعدة الميسور.

التنبيه الرابع: في دوران الأمر بين الشرطية والجزئية

لو دار الأمر بين الشرطية أو الجزئية، وبين المانعية أو القاطعية، كالجهر في صلاة الظهر في يوم الجمعة، حيث ذهب البعض إلى وجوبه، وذهب آخرون إلى وجوب الإخفات، فالجهر إما شرط أو قاطع، فهل الدوران المذكور من مصاديق الدوران بين المحذورين، فيتخير المكلف، أو المتباينين فلابد من الاحتياط بتكرار الصلاة؟ وستأتي أمثلة أخرى لذلك.

ذهب الشيخ الأعظم إلى أن المقام من مقامات دوران الأمر بين المحذورين، قال: «فلأن المانع من إجراء البراءة عن اللزوم الغيري في كل من الفعل والترك ليس إلا لزوم المخالفة القطعية، وهي غير قادحة؛ لأنها لا تتعلق بالعمل»(1).

وحاصله: إنَّ المحذور من جريان الأصول هو المخالفة العملية القطعية،

ص: 292


1- فرائد الأصول 2: 401.

وهي غير ممكنة في المقام؛ لأن المكلف لا يخلو من الجهر أو الإخفات، ولا توجد حالة ثالثة، فلو أخفت كانت مخالفة احتمالية، وكذلك لو جهر، فيحكم بعدم وجوبهما، فتتحقق المخالفة الالتزامية، ولا محذور فيها، فلا مانع من جريان الأصول، فيكون مخيراً بينهما.

لكن لم يرتضه صاحب الكفاية، فقال: «لا يخفى أنه إذا دار الأمر بين جزئية شيء أو شرطيته، وبين مانعيته أو قاطعيته، لكان من قبيل المتباينين، ولا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين، لإمكان الاحتياط بإتيان العمل مرتين، مع ذاك الشيء مرة وبدونه أخرى، كما هو أوضح من أن يخفى»(1).

والظاهر تمامية ما ذكره لتحقق علمين إجماليين في المقام، وقد نظر الشيخ إلى العلم الإجمالي الأول، وهو وجوب الجهر أو الإخفات، فيكون ما ذكره تاماً بلحاظ هذا العلم الإجمالي، حيث لا يمكن تحقق المخالفة القطعية، فتجري الأصول العملية .

وأما بلحاظ العلم الإجمالي الثاني، وهو العلم بأمر المولى إما بالطبيعة الواجدة أو بالطبيعة الفاقدة، فالأمر دائر بين متباينين، ويمكن تحقق المخالفة القطعية بأن لا يأتي لا بهذه الماهية، ولا بتلك الماهية، فيكون محل الكلام كالصلاة إلى الجهات الأربع، فيجب الإتيان بجميع المحتملات.

وبغض النظر عن الكلام الفني فإن كلام الشيخ محل تأمل؛ لأن المكلف الذي يعلم بوجوب الطبيعة الواجدة أو الفاقدة يجب عليه الجمع بينهما.

ص: 293


1- كفاية الأصول: 373.

وقد نقض السيد الوالد (رحمه اللّه) على الشيخ بأنه: «التزم (رحمه اللّه) به في الدوران بين القصر والتمام»(1).

فإنه لو دار الأمر بين القصر والتمام فقد التزم بوجوب الجمع بين الاثنين، مع أنه مصداق كبرى المقام؛ للعلم بكون السلام في الركعة الثانية إما جزء أو قاطع، كما أنه لو ضاق الوقت ودار الأمر بين الجزئية والمانعية مثلاً، فإن المكلف يتخير، كجميع موارد العلم الإجمالي، لكن يلزم عليه القضاء خارج الوقت، للعلم الإجمالي حيث إنه يعلم إما أنَّ وظيفته القصر في الوقت والتمام خارج الوقت أو العكس، فيجب عليه الأداء والقضاء معاً، فلو أدى تماماً قضى قصراً، وإن أدى قصراً قضى تماماً.

ولا يخفى أن التخيير بدوي كما مر لا استمراري؛ لأنه يؤدي إلى المخالفة العملية القطعية التدريجية للواقع، ولا فرق في قبحها بين أن تكون دفعية أو تدريجية .

ص: 294


1- الأصول: 798.

خاتمة في شرائط جريان الأصول العملية

اشارة

ص: 295

ص: 296

خاتمة: في شرائط جريان الأصول العملية

اشارة

وينبغي البحث في مقامات:

المقام الأول: في شرائط جريان أصالة الاحتياط

لا شك أن الاحتياط حسن في حد ذاته؛ لأنه وصول إلى الواقع، وإحراز له، وهو حسن عقلاً وشرعاً، ففي الحديث الشريف: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(1)، ولا فرق في حسنه بين قيام أمارة على الخلاف، كيد المسلم وسوقه، أو وجود الأمارة على الطهارة والملكية وعدمه، فالاحتياط حسن في حد ذاته.

وقد ذكر لحسنه شرطان(2):

الشرط الأول: أن لا يكون الاحتياط مستلزماً لاختلال النظام؛ لأن حفظه واجب، فلو أوجب الاحتياط اختلال النظام فليس بحسن، سواء أخل بالنظام العام للمجتمع أم الخاص للفرد، كأن ينقطع عن المجتمع، ويذهب إلى الجبال لإدارة شؤونه، ليكون طاهراً واقعياً ويأكل حلالاً، كما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) (3).

ولا يخفى أن اختلال النظام عنوان خاص، والأولى أن يكون الشرط

ص: 297


1- وسائل الشيعة 27: 167.
2- مصباح الأصول 1: 326.
3- الأصول: 799.

عدم انطباق عنوان قبيح على الاحتياط، أو لا يكون الاحتياط ملازماً لعنوان قبيح يوجب سقوط حسن الاحتياط، كالأداء إلى الوسوسة.

الشرط الثاني: أن لا يعارض باحتياط آخر، فلو كان الاحتياط بإتيان التسبيحات الأربع ثلاثاً لكن أوجب خروج بعض الصلاة خارج الوقت، فالاحتياط في ترك الاحتياط، فيقتصر على تسبيحة واحدة.

وقد مر تفصيل الكلام في أواخر مباحث الاحتياط.

المقام الثاني: في شرائط جريان البراءة العقلية في الشبهات الحكمية

اشارة

إنَّ شرط جريان البراءة العقلية في الشبهات الحكمية هو الفحص، فيمكن للمكلف إعمال قاعدة قبح العقاب بلا بيان بعد الفحص واليأس، وقد ذكروا لهذا الشرط أدلة:

الدليل الأول

عدم تحقق موضوع القاعدة العقلية إلا بعد الفحص، فإن موضوعها (اللابيان) وفي (البيان) احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأول: أن يكو المراد البيان الواقعي النفس الأمري، لكنه غير تام؛ لأن البيان بوجوده الواقعي لا يسوغ العقوبة عند العقل والعقلاء.

الاحتمال الثاني: أن يكون المراد البيان الواصل إلى الملكف بوصول اتفاقي قهري، بمعنى قبح العقاب إن اتفق وصول البيان إلى الملكف، وإلا فلا قبح.

الاحتمال الثالث: أن يكون المراد البيان في معرض الوصول، وعليه بناء العقلاء في باب استحقاق العقوبة وعدمه، فإن الوجود الواقعي النفس

ص: 298

الأمري ليس مسوغاً للعقاب، وأما الوصول القهري الاتفاقي بأن يتصدى المولى بإيصال البيان لكل واحد واحد من آحاد المكلفين، فليس ملاك استحقاق العقاب عند العقلاء، بل وظيفة المولى أن يجعل ما يريده في معرض الوصول، فلو اقتحم المكلف مع الالتفات إلى احتمال وجود الحكم في مظان الوصول، والتمكن من الاستعلام، واتفق مخالفته للواقع حق للمولى الحقيقي والعرفي أن يؤاخذه؛ لتحقق البيان في معرض الوصول.

وعليه فلا تجري القاعدة في الشبهات الحكمية قبل الفحص؛ لعدم إحراز الموضوع؛ لأن موضوعها عقلاً وعقلائياً وسيرة بين المولى والعبيد هو عدم البيان في معرض الوصول، ولم يحرز لاحتمال تحققه، ومع الاحتمال يشك في الموضوع، فلا يترتب المحمول، وبعبارة واضحة: ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، فلا يمكن القول بقبح العقاب.

لكن أشكل عليه في النهاية بأن: «الحكم ما لم يصل حقيقة بوجوده العلمي في أفق النفس غير قابل للباعثية أو الزاجرية بنفسه على أي تقدير، بداهة أن وجوده الواقعي لا يعقل أن يكون موجباً لانقداح الداعي في النفس، بل بوجوده الحاضر في أفق النفس؛ لعدم السنخية والمناسبة، إلا بين وجوده النفساني وانقداح الداعي في النفس، ومن الواضح أن الأمر بدعوته بوجوده العنواني - لفنائه في معنونه وهو الأمر بوجوده الخارجي - يوجب اتصاف الأمر الخارجي بالدعوة بالعرض... وعليه فلا يعقل فعلية الأمر الواقعي الذي عليه طريق واقعي بنحو الباعثية والمحركية إلا بعد وصوله حقيقة، وإذا لم يكن فعليا وباعثاً حقيقياً، فكيف يعقل أن يكون منجزاً حتى

ص: 299

يكون احتماله احتمال المنجز، ليمنع من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان»(1).

وحاصل دليله في كلمتين: الأولى: إن الحكم الواقعي إنما يتصف بالمنجزية إذا اتصف بالباعثية، والثانية: إنه لا يتصف بالباعثية بوجوده الواقعي، بل بوجوده العلمي، وحيث إن الوجود العلمي منتفٍ فلا باعثية، فلا منجزية، فلا احتمال للمنجزية، فتجري قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) من دون اشتراط الفحص.

وبعبارة مختصرة: إن اتصاف الحكم الواقعي بالمنجزية موقوف على باعثيته، وهي موقوفة على الوجود العلمي، وهو منتفٍ، فلا باعثية فلا منجزية.

ويظهر التأمل فيه ببيان أمرين:

الأمر الأول: إنَّ الباعثية إنما هي للمعلوم بالذات لا المعلوم بالعرض، ولو نسبت إلى الثاني فهو بالعرض لا بالذات، ويدل عليه الدوران والترديد ، فلو تحقق المعلوم بالذات انبعث المكلف، وإن لم يتحقق فلا ينبعث، والعكس بالعكس، فالباعثية والزاجرية والمحركية كلها متفرعة على وجود المعلوم بالذات، وعليه لا باعثية ولا زاجرية أصلاً للحكم المعلوم بالعرض، أي: حكم الواقعة النفس الأمرية، بل الباعثية والزاجرية للحكم المعلوم بالذات؛ أي: الصورة العلمية للحكم، وهذا الأمر مما لا إشكال فيه وقد سلم به أيضاً في كلامه.

ص: 300


1- نهاية الدراية 2: 717-718.

الأمر الثاني: لا تختص باعثية المعلوم بالذات بالمعلوم بالعلم التصديقي، بل يشمل المعلوم بالعلم التصوري أيضاً بشهادة الوجدان، فلا فرق في المعلوم بالذات بين كونه معلوماً بالعلم التصديقي أو التصوري، ولذا لو احتمل وجود كنز فإن صرف الاحتمال يحركه للبحث عنه في باطن الأرض، فالمعلوم التصوري محرك، سواء أكان مطابقاً للواقع أم لا.

وبعد تمامية الأمر الثاني نقول: إن كان المراد من أن: «الحكم لم يصل حقيقة بوجوده العلمي» (1) خصوص العلم التصديقي، فإن الباعثية لا تختص بالعلم التصديقي، وإن كان المراد الأعم منه ومن التصوري فإن العلم التصوري متحقق في المقام؛ لأن المفروض أن المكلف ملتفت.

وبعبارة ثانية: لا دليل على اشتراط الباعثية في حكم المولى كما ادعاه في النهاية، وإنما قام الدليل على كون حكم المولى لابد وأن يكون فعلياً ومنجزاً، وتوقفهما على الباعثية ليس بيناً ولا مبيناً.

فما ذكره غير واضح، وربما تفرد به حيث لم نجد له موافقاً.

الدليل الثاني

إن الاقتحام في المشتبه بلا فحص - مع أن أمر المولى ونهيه لا يعلم عادة إلا بالفحص عنه - خروج عن زي الرقية ورسم العبودية، وهو ظلم في حق المولى.

وبتقرير آخر: إن ترك الفحص خلع لزي الرقية فيستحق به العقوبة.

وهذا الدليل ينحل إلى كبرى وصغرى: أما الكبرى فهي: كل من خلع

ص: 301


1- نهاية الدراية 2: 717.

زي الرقية استحق العقوبة، والظاهر أنه لا إشكال فيها، وقد مر تفصيله في مباحث التجري، وإنما الكلام في الصغرى، فهل ترك الفحص عن أحكام المولى خروج عن رسوم العبودية أم لا ؟ فنتساءل: هل يتم البرهان في فرض فعلية الحكم الواقعي، وتنجزه بالاحتمال أو فرض عدمهما؟

فإن كان الأول، فالعقوبة على الاقتحام أو على ترك الواقع لا على ترك الفحص، فإن الواقع تنجز بالاحتمال، وقد تورط المكلف في مخالفة الواقع، فيستحق العقوبة على مخالفته.

وإن كان الثاني، فإن ترك ترك الفحص عن الواقع الذي ليس فعلياً، ولم يتنجز ليس خروجاً عن زي الرقية ورسوم العبودية.

الدليل الثالث

الاستدلال بالعلم الإجمالي، بتقرير أننا نعلم بوجود أحكام في الشريعة لا يرضى المولى بتركها، ومعه لا تجري البراءة؛ لأن مجراها الشك في التكليف، ومع فرض وجود العلم الإجمالي يكون الشك في المكلف به.

وأجيب عنه بجوابين:

الجواب الأول: ما في الكفاية تبعاً للشيخ الأعظم(1)،

من انحلال العلم الإجمالي حيث يفحص الفقيه في الأبواب الفقهية المختلفة، فيعثر على مقدار من الواجبات والمحرمات، ويحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، ومع احتمال الانطباق ينحل العلم الإجمالي، ثم يشك في حرمة الغراب الأبقع مثلاً، فيشمله قبح العقاب بلا بيان.

ص: 302


1- كفاية الأصول: 346.

فيكون الدليل المذكور أخص من المدعى، فإنه إنما يتم قبل العثور على جملة من الأحكام المحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليها، وأما بعده فينحل، فلا يتم الدليل.

لكن ذهب المحقق النائيني إلى عدم الانحلال، حيث قال: «متعلق العلم تارة يتردد من أول الأمر بين الأقل والأكثر، كما لو علم بأن في هذا القطيع من الغنم موطوء، وتردد بين كونه عشرة أو عشرين، وأخرى يكون المتعلق عنواناً ليس بنفسه مردداً بين الأقل والأكثر من أول الأمر، بل المعلوم بالإجمال هو العنوان بما له في الواقع من الأفراد.... لأن العلم الإجمالي يوجب تنجيز متعلقه بما له من العنوان»(1).

بيانه: هنالك صورتان: الأولى: أن يكون عنوان المعلوم بالإجمال مردداً بين الأقل والأكثر من أول الأمر، فبعد الفحص وحصول العلم بموطوئية عشرة من القطيع يشك في ما زاد عليها، فينحل العلم الإجمالي إلى الأقل المتيقن، والأكثر المشكوك.

الثانية: أن يكون متعلق العلم الإجمالي عنواناً مضبوطاً، كما لو علم - لشهادة البينة مثلاً - بموطوئية البِيض من هذا القطيع، فيحكم المولى بوجوب اجتنابها، فلو ترددت البِيض بين العشرة والعشرين؛ لظلمة المكان مثلاً، فلا يمكن إجراء البراءة عن الزائد عن العشرة؛ لعدم انحلال العلم الإجمالي، بل لابد من الفحص التام، وملاحظة كل شاة شاة أنها بيضاء أم لا، حيث لا يحصل امتثال الأمر بالاجتناب عن البِيض إلا بالفحص الكامل.

ص: 303


1- فوائد الأصول 4: 279.

والمقام من قبيل الثاني، حيث إن الفقيه يعلم بوجود أحكام في الكتب المعتبرة، فيكون ذلك منجزاً، ومع العثور على مقدار من الأحكام، واحتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليها لا ينحل العلم الإجمالي، فلابد من الفحص التام.

وبتقرير ثان ٍ- توضيحاً لما ذهب إليه - تارة يكون متعلق العلم الإجمالي غير مُعلّم بعلامة، كالنهي عن الموطوء، فينحل العلم الإجمالي، وتارة يكون المتعلق مُعلّماً، كالنهي عن الموطوء الأبيض، فلا ينحل العلم الإجمالي، وإن احتمل الانطباق.

لكن يرد عليه: إننا نسلم عدم الانحلال فيما إذا لم يكن العنوان المعلوم انحلاليا، أو لم يعلم كون الفرد المعلوم بالتفصيل مصداقاً للعنوان المعلوم بالإجمال، لكنه ينحل إذا كان العنوان انحلالياً، وعلم أن الفرد المعلوم بالتفصيل مصداق للعنوان المعلوم بالإجمال.

وبعبارة أخرى: في المقام صور ثلاثة:

الأولى: أن لا يكون العنوان المعلوم بالإجمال انحلالياً، بأن يكون من قبيل العنوان والمحصل، بأن يريد المولى تحصيل العنوان، فمع الاجتناب عن الأفراد المعلومة لا يعلم تحصيل العنوان، فلا يعلم بامتثال التكليف، فلا ينحل العلم الإجمالي، كما هو الشان في كل محصل ومحصل .

الثانية: لو كان العنوان انحلالياً، لكن لم يعلم كون الفرد المعلوم بالتفصيل مصداقاً للعنوان المعلوم بالإجمال، فيمكن القول بعدم انحلال العلم الإجمالي على إشكال فيه.

الثالثة: لو كان العنوان انحلالياً، وعلمت مصداقية الأفراد المعلومة

ص: 304

بالتفصيل للعنوان الانحلالي، فلا مانع من الانحلال، كما لو قال المولى: اجتنب عن البِيض من الغنم، وهو عنوان انحلالي، وعلم أن عشرة منها مصداق للعنوان قطعاً، فيكون مآله إلى وجوب الاجتناب عن كل ما ثبت عليه العنوان، فلا يلزم الاجتناب عما وراء العشرة؛ لعدم العلم بانطباق العنوان عليها، وثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، فلا يشمله الحكم .

وبعبارة واضحة: لم يظهر الفرق بين قول المولى اجتنب الموطوء أو اجتنب البيض، فكلاهما انحلالي، وعليه ينحل العلم الإجمالي فيما نحن فيه، حيث يريد المولى الالتزام بأحكامه المذكورة في الكتب المعتبرة، فيبحث الفقيه ويعثر على ألف حكم، فالمعلوم بالتفصيل مصداق للمعلوم بالإجمال الانحلالي، فيشك في وجود حكم آخر فيجري البراءة فيه .

وحاصل الجواب: العنوان انحلالي والقدر المعلوم بالتفصيل معلوم المصداقية له، فينحل العلم الإجمالي .

الجواب الثاني: ما في الفرائد(1) من تعميم المدعى.

بيانه: أن عندنا علوم إجمالية ثلاثة:

الأول: العلم بثبوت أحكام في الشريعة المطهرة، وهو علم إجمالي كبير.

الثاني: العلم بمطابقة جملة من الأمارات للواقع، وهو علم إجمالي صغير.

الثالث: العلم بصدور كثير من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة عن المعصومين (عليهم السلام) ، وتضمنها للأحكام الواقعية، وهو العلم الإجمالي الأصغر.

والعلم الإجمالي الكبير ينحل إلى الصغير، والصغير إلى الأصغر، لاحتمال

ص: 305


1- فرائد الأصول 2: 414-415.

انطباق الأول على الثاني، والثاني على الثالث، ومع احتمال الانطباق ينحل العلم الإجمالي، فاللازم هو البحث في خصوص الكتب المعتبرة.

الدليل الرابع: ما ذكره المحقق النائيني، حيث قال: «وجوب الفحص عن الأحكام من صغريات وجوب الفحص عن معجزة مَنْ يدعي النبوة، بعد التفاته إلى المبدأ الأعلى، ولا إشكال في استقلال العقل بذلك، وإلا لزم إفحام الأنبياء»(1).

فبنفس الملاك الدال على وجوب الفحص عن صدق مدعي النبوة يجب الفحص عن الأحكام، وإلا لزم إفحام الأنبياء، حيث لا ينظر المكلف إلى معاجزهم بحجة إجراء قاعدة قبح العقاب.

لكنه محل تأمل، للفارق بين المقامين، ففي دعوى النبوة المحتمل خطير مهم، فإن مدعي النبوة لو كان صادقاً واقعاً ولم يقبل منه المكلف ترتبت عليه الخسارة الأبدية، وكذلك إذا كان المحتمل مهماً في الشبهات الحكمية، بل حتى الموضوعية حيث يجب الفحص، أما في مسألة حرمة العنب المغلي أو عدمها مثلاً فليس الأمر بتلك الخطورة، فلا يقاس أحدهما بالآخر.

المقام الثالث: في جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية قبل الفحص

ظاهر بعض كلمات الفوائد(2) جريانها، فإن الحجة متقومة بوصول التكليف صغرى وكبرى، ومع عدم وصول الصغرى لم تتم الحجة، فيقبح العقاب على ذلك.

ص: 306


1- فوائد الأصول 4: 278.
2- فوائد الأصول 4: 301.

لكنه محل تأمل؛ لأنه تمسك في العام في الشبهة المصداقية.

بيانه: المفروض وصول الكبرى إلى المكلف كقول المولى (الخمر حرام) فيضم إليه اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل لمكان الإطلاق، فلو شك أن هذا المائع الخارجي خمر أم لا احتمل أنه مبين الحرمة، فلا يحرز موضوع قاعدة قبح العقاب، وهو (عدم البيان).

وبعبارة أخرى: وظيفة المولى جعل الحكم الكلي في معرض الوصول لا بيان الموضوعات الخارجية، فمع فرض جعل الحرمة وكون الحكم مشتركاً بين العالم والجاهل قد عمل المولى بوظيفته، فيحتمل أن المائع المشكوك خمر قد حكم المولى بحرمته؛ لأن الموضوع هو (الخمر) لا (الخمر المعلومة) ومع احتماله لا يمكن القول ب- (عدم البيان) والذي هو موضوع القاعدة، فإنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وعليه لا تجري البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية.

ويدل عليه أو يؤيده سيرة الموالي والعبيد، فإنه لو قال: (لا تدخل عدوي داري) فشك العبد أن فلاناً عدو للمولى أم لا، لم يحق له إدخاله تمسكاً بالقاعدة.

والحاصل: أن الظاهر كون التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهات الموضوعية قبل الفحص غير مقبول عند العقلاء.

المقام الرابع: في اشتراط جريان البراءة النقلية في الشبهات الحكمية بالفحص

اشارة

لا يخفى أن ظاهر الأدلة النقلية ك- (رفع ما لا يعلمون) الإطلاق، فيشمل

ص: 307

الشبهات الحكمية ولو قبل الفحص، لكن ذكرت أدلة لوجوب الفحص، فتكون مخصصة أو مقيدة لها .

الدليل الأول

ما ذكره الشيخ(1) واعتمد عليه من الإجماع القطعي على وجوب الفحص في الشبهات الحكمية. وأشكل عليه في الكفاية(2) بأنه محتمل الاستناد، فلا يكون حجة.

لكنه محل تأمل حيث لا فرق في بناء العقلاء ظاهراً بين الإجماع المحتمل الاستناد وغيره، كما لو أجمع الأطباء على شيء، وإن احتمل استناده إلى دليل لا ينهض عندنا، فإن صرف الاحتمال لا يسقط الإجماع عن الحجية؛ وذلك لأن طرق الطاعة والمعصية عقلائية كما ذكره صاحب الكفاية(3)

، والحاصل أنه لو قام إجماع على وظيفة العبد - وإن كان محتمل الاستناد - فخالفه حق للمولى أن يعاقبه.

الدليل الثاني

تحقق العلم الإجمالي، فيكون الشك في المكلف به لا التكليف، فلا تجري البراءة.

وقد مرت المناقشة فيه بأنه أخص من المدعى، وأعم منه.

ص: 308


1- فرائد الأصول 2: 441.
2- كفاية الأصول: 375.
3- كفاية الأصول: 268.
الدليل الثالث

ما ذكره بعض المتأخرين(1)

من أن للعقل حكمين: الأول: يجب على المولى بيان أغراضه وأحكامه، الثاني: يجب على العبد البحث عن أحكام المولى، وكما يكشف العقل وظيفة المولى كذلك يعين وظيفة العبد؛ وذلك دفعاً للضرر المحتمل، وعليه يجب الفحص بحكم العقل.

لكنه محل تأمل فإنه إنما يتم في البراءة العقلية، والمقام في البراءة الشرعية، فإنه لو وسع المولى على عبيده بعدم وجوب الفحص لم يلزم ذلك، كما صنع في الشبهات الموضوعية مطلقاً أو في الجملة، ولا فرق بين أن ينص المولى على ذلك أو يبينه بالعموم والإطلاق، كقوله (رفع ما لا يعلمون).

وبعبارة واضحة: يحكم العقل بوجوب الفحص إن لم يصل بيان من المولى برفع اليد، أما لو رفع المولى يده فلا مانع من جريان البراءة النقلية قبل الفحص.

الدليل الرابع

ما اعتمد عليه بعض المحققين(2)،

وجعله الدليل الوحيد لوجوب الفحص في المقام، وهو نقض الغرض، فإن الغرض من إنشاء التكليف جعل ما يمكن أن يكون داعياً ومحركاً للمكلف، فالغرض من التكليف جعل الداعي بالقوة، فلو كان للعبد طريقاً متعارفاً للوصول إلى أحكام المولى

ص: 309


1- محاضرات في أصول الفقه 5: 248.
2- بحوث في علم الأصول 2: 103.

كالفحص صح ذلك، وإلا كان جعل التكليف مستهجناً عرفاً، بل يشبه التناقض؛ وذلك لأن المولى في صدد الباعثية والمحركية، وقد سد طريق الوصول إلى أحكامه، ومع سد الطريق لا يمكن جعل الحكم بداعي المحركية والباعثية.

لكنه محل تأمل؛ لأن أغراض المولى مختلفة في الأهمية، فقد يكون خطيراً جداً؛ لذا يجعل الاحتمال منجزاً، كالثلاثة الخطيرة: الدماء والأعراض والأموال، وقد يكون متوسطاً، كشرب التتن فيوجب الفحص، فإن لم يصل أجرى البراءة، ولا يكون صرف الاحتمال منجزاً، وقد لا يكون مهماً أصلاً، فيريد الحكم إن اتفق وصوله إليه، وإلا فلا، كما هو الحال في باب الطهارة والنجاسة، فلا مانع من جعل الحكم أيضاً كذلك.

وليس هذا من اختصاص الحكم بالعالمين، فالحكم للجميع لكن لا يجب الفحص على الجاهل، بل إن اتفق انكشاف الواقع نجز عليه الحكم، وإلا فلا تنجيز، مضافاً إلى أنه من أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول، لا أخذ العلم بالجعل في موضوع الجعل، فليس من الدور.

الدليل الخامس

ما اعتمد عليه بعض المتأخرين: من أن جريان البراءة في الشبهات الحكمية قبل الفحص يؤدي إلى تضييع الأحكام الشرعية والملاكات الواقعية.

لكنه محل تأمل لجهتين:

الأولى نقضاً: فإن جريان البراءة في الشبهات الموضوعية كذلك، فما هو الجواب هو الجواب في المقام.

ص: 310

الثانية: حلاً: من إمكان ترجيح الشارع ملاك التسهيل ونحوه على المصالح الواقعية النفس الأمرية عند التزاحم بينهما .

الدليل السادس

إنَّ أدلة البراءة منصرفة عن القادر على الاستعلام.

لكن عهدته على مدعيه.

الدليل السابع

ما ذكره الشيخ الأعظم(1) من الاستدلال بالآيات الآمرة بالتعلم، فمَنْ لا يعلم مأمور بالسؤال ممَنْ يعلم، كقوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(2) وهي تخصص أدلة البراءة، وكذلك قوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ}(3).

وقد يشكل على دلالة الآيتين: أما الاولى فلأنها واردة في أصول الدين، ويمكن أن تكون لها أهمية توجب الفحص عند عدم العلم.

وقد يجاب عنه بأن خصوص المورد لا يخصص الوارد.

وأما الثانية فأنها تفيد الوجوب الكفائي لا العيني.

وهو قابل للدفع بأن المستفاد من الآية وجوب تعلم الجميع الأحكام الشرعية إما بالنفر وإما بالإنذار.

ص: 311


1- فرائد الأصول 1: 28، 2: 66.
2- النحل: 43.
3- التوبة: 122.
الدليل الثامن

الأخبار الواردة في المقام، وتنقسم إلى طوائف ثلاث:

الطائفة الأولى: الأخبار التي تفيد وجوب التوقف، كقوله (عليه السلام) : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»(1) وما روي عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد إلى اللّه ورسوله»(2) ونحوه من المضامين التي مرت في مباحث الاحتياط.

لكن يمكن القول: إنَّ النسبة بين روايات التوقف وأخبار البراءة التباين، فهما متعارضان، لأن الأولى تدل على التوقف قبل الفحص وبعده، والثانية تدل على إطلاق العنان قبل الفحص وبعده .

وأجيب عنه بانقلاب النسبة، فإن في أخبار التوقف أخبار تختص بما قبل الفحص، كقوله (عليه السلام) : «فأرجه حتى تلقى إمامك»(3). فتخصص أخبار البراءة المطلقة، فتنقلب النسبة بين أخبار البراءة وأخبار التوقف المطلق؛ وذلك لأن أخبار التوقف عامة لما قبل الفحص وما بعده، فيكون مفاد أخبار البراءة - بعد تخصيصها بأخبار التوقف المقيدة بما قبل الفحص - جريان البراءة بعد الفحص لا قبله.

وبعبارة مختصرة: البراءة بعد الفحص أخص من روايات التوقف

ص: 312


1- الكافي 1: 50.
2- الكافي 1: 68؛ تهذيب الأحكام 6: 302.
3- الكافي 1: 68؛ تهذيب الأحكام 6: 303.

المطلق، فروايات التوقف تفيد التوقف قبل الفحص وبعده، وروايات البراءة بعد التقييد تفيد عدم جريان البراءة قبل الفحص.

والحاصل: تنقلب النسبة بين الطائفتين المطلقتين من التباين الكلي إلى العموم المطلق، فتخصص أخبار البراءة بما بعد الفحص .

وللتقريب: لو قامت أدلة ثلاثة مفادها (أكرم النحويين)، (لا تكرم النحويين)، (أكرم العدول من النحويين) ، فإن الثالث يخصص الثاني، وبعده تنقلب النسبة بين الأولين من التباين إلى العموم المطلق.

لكن فيه إشكالان:

الأول: إنه مبني على صحة انقلاب النسبة، وهو محل تأمل، وتفصيله في مباحث التعادل والتراجيح.

الثاني: إنه موقوف على دلالة أخبار التوقف على وجوب التوقف، وقد شكك في دلالتها على ذلك، لما سبق في مباحث الاحتياط من أنها أوامر إرشادية لا مولوية على التفصيل المتقدم.

الطائفة الثانية والثالثة: الأخبار الدالة على وجوب التفقه والتعلم، والأخبار الدالة على استحقاق الجاهل العقوبة إن لم يتعلم الأحكام الشرعية، وتورط في مخالفة الواقع، فيحكم العقل بلزوم الفحص أو التعلم دفعاً للضرر المحتمل.

وقد ذكر السيد عبد اللّه شبّر في الأصول الأصلية(1) روايات كثيرة في وجوب التفقه، وعدم معذورية الجاهل، فإنه وإن كان بعضها مراسيل

ص: 313


1- الأصول الأصلية: 241-246.

وبعضها مجاهيل، وبعضها مختلف فيه، إلا أنها حوالي أربعين رواية يمكن القول بأنها متواترة تواتراً معنوياً، فضلاً عن التواتر الإجمالي، بالإضافة إلى اعتبار بعضها .

ومنها: المعتبرة المروية في الكافي: عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا»(1).

والظاهر العرفي لهذه الرواية وجوب التفقه.

ومنها: ما فيه أيضاً: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن ابي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن مجدور أصابته جنابه فغسلوه فمات، قال (عليه السلام) : قتلوه ألا سألوا، فإن دواء العي السؤال»(2).

وظاهر الذم على ترك السؤال.

ومنها: ما فيه أيضاً بسند معتبر عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة ومحمد بن مسلم وبريد العجلي، قالوا: «قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) لحمران بن أعين في شيء سأله: إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون»(3).

فلو جرت البراءة لم يكن حاجة إلى السؤال، ولم تكن هلكة، لجواز

ص: 314


1- الكافي 1: 31.
2- الكافي 1: 40.
3- الكافي 1: 40.

تمسك الناس بأصالة البراءة.

ومنها: المعتبرة المروية في الكافي أيضاً عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي جعفر الأحول، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لا يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا ويعرفوا إمامهم، ويسعهم أن يأخذوا بما يقول وإن كان تقية»(1).

وقد روى في تفسير البرهان: في تفسير قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ} عن الشيخ في أماليه، قال: حدثنا محمد بن محمد، قال: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، قال: حدثني محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن زياد، قال: «سمعت جعفر بن محمد (عليهما السلام) وقد سئل عن قوله تعالى {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ} فقال: إن اللّه تبارك وتعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت، وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل، فيخصمه فتلك الحجة البالغة»(2).

وقال في التهذيب: أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن جميل بن صالح، عن أبي عبيدة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن امرأة تزوجت رجلاً ولها زوج، قال: فقال: إن كان زوجها الأول مقيماً معها في المصر التي هي فيه تصل إليه أو يصل إليها، فإنَّ عليها ما على الزاني المحصن الرجم، وإن كان زوجها الأول غائباً عنها، أو كان مقيماً معها في

ص: 315


1- الكافي 1: 40.
2- البرهان 2: 492.

المصر لا يصل إليها ولا تصل إليه، فإنّ عليها ما على الزانية غير المحصنة ولا لعان بينهما، قلت: مَنْ يرجمها ويضربها الحد وزوجها لا يقدمها إلى الإمام ولا يريد ذلك منها؟ فقال: إنّ الحد لا يزال لله في بدنها حتى يقوم به من قام وتلقى اللّه وهو عليها، قلت: فإن كانت جاهلة بما صنعت؟ قال: فقال: أليس هي في دار الهجرة؟ قلت: بلى، قال: فما من امرأة اليوم من نساء المسلمين إلا وهي تعلم أن المرأة المسلمة لا يحل لها أن تتزوج زوجين، قال: ولو أنّ المرأة إذا فجرت قالت لم أدر، أو جهلت أن الذي فعلت حرام ولم يقم عليها الحد إذا لتعطلت الحدود»(1).

وعلى كل حال فالروايات التي لحنها ترتب الأحكام الوضعية، أو ثبوت العقوبة على الجاهل، أو مفادها وجوب التعلم متواترة، وفيها روايات صحيحة، فهي تقيد إطلاق أدلة البراءة .

وأشكل المحقق العراقي بعدة إشكالات على دلالة الآيات المباركة والروايات الشريفة.

الإشكال الأول: قال: «مضافاً إلى إمكان دعوى اختصاصها بصورة العلم الإجمالي بالحكم، فتكون ظاهرة - أيضاً - في الإرشاد إلى حكم العقل بوجوب الفحص»(2).

لكنه محل تأمل لوجهين:

الأول: إمكان دعوى أن ظاهر الأخبار هو أن منشأ تنجز الواقع عدم

ص: 316


1- تهذيب الأحكام 10: 20.
2- نهاية الأفكار 3: 474.

العلم، لا العلم الإجمالي بالتكليف، وبعبارة أخرى: ظاهر الآيات والروايات أن عدم العلم يستدعي الفحص، لا العلم الإجمالي بالواقع .

الثاني: لو سلمنا عدم الظهور، فإن إطلاقها شامل للشبهة البدوية والعلم الإجمالي، وصرف الإمكان الذي ادعاه لا يكون دليلاً، حيث لا يمكن للإمكان القيام في مقابل الإطلاق.

فمثلاً: ظاهر قوله تعالى: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون}(1) صورة عدم العلم لا العلم الإجمالي، ولا أقل من الإطلاق.

وكذلك معتبرة مسعدة بن زياد: «إن قال كنت جاهلاً قال له أفلا تعلمت حتى تعمل»(2) فإن منشأ المؤاخذة الجهل وعدم التعلم، وهو ظاهر في الشبهة البدوية.

وكذا معتبرة ابن ابي عمير في المجدور: «قتلوه ألا سألوا»(3) حيث لم يؤخذ في فرض الرواية العلم الإجمالي بالتكليف، بل مفروضها الشبهة البدوية، ولا أقل من الإطلاق.

وكذلك صحيح زرارة ومحمد بن مسلم وبريد: «إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون»(4) وهكذا صحيح الأحول: «لا يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا»(5) حيث إنهما مطلقان يشملان صورة الشبهة البدوية.

ص: 317


1- النحل: 43.
2- الأمالي: 227.
3- الكافي 1: 40.
4- الكافي 1: 40 .
5- الكافي 1: 40.

الإشكال الثاني: قال: «لظهورها في الإرشاد إلى حكم العقل بلزوم الفحص لأجل استقرار الجهل الموجب لعذره، فعموم أدلة البراءة حينئذٍ واردة عليها؛ لأنه بقيام الترخيص الشرعي على جواز الارتكاب قبل الفحص يرتفع حكم العقل بوجوب الفحص»(1).

توضيحه: إن الآيات والأخبار إرشاد إلى حكم العقل، حيث يحكم على العبد بلزوم تحصيله الحجة، وهي أعم من الدليل الاجتهادي والأصل العملي، وأدلة البراءة الشرعية رافعة لموضوع الحكم العقلي على نحو الورود؛ لانتفاء موضوع (اللاحجة) معها تكويناً.

لكنه محل تأمل؛ لأن الأصل العقلائي في الآيات والأخبار هو التعبد لا الإرشاد، فالأصل المولوية، مضافاً إلى أن ظاهر هذه الروايات عدم جواز إهمال الواقع المشكوك، لا عدم جواز إهمال الوظيفة العملية ، وإلا فلو كان مراد المولى الاستناد إلى البراءة الشرعية في مقام الوظيفة العملية في جميع الوقائع المشكوكة لم يكن الأمر بحاجة إلى حث وتحريض، ولم يلزم التأكيد على ذكر أدلة التفقه في الدين وأمثاله، فهل جميع هذه الأدلة تريد إفادة البراءة ؟!

الإشكال الثالث: قال: «وثانياً بقصورها عن إفادة تمام المطلوب؛ لأنها ظاهرة في الاختصاص بصورة يكون الفحص فيها مؤدياً إلى العلم بالواقع، والمطلوب يعم ذلك وما لم يكن الفحص مؤدياً إلى العلم بالواقع»(2).

ص: 318


1- نهاية الأفكار 3: 474.
2- نهاية الأفكار 3: 475.

وفي مراده احتمالان:

الاحتمال الأول: إن الأدلة المذكورة خاصة بصورة إمكان حصول العلم، كما في زمن المعصومين (عليهم السلام) ، ولا تشمل ظرف الغيبة حيث لا يمكن حصول العلم.

لكن يرد عليه:

أولا: لا فرق بين العلم الوجداني والتعبدي، ويمكن حصول العلم التعبدي في زمان غيبة المعصوم (عليه السلام) .

ثانياً: لم يعلم إمكان حصول العلم الوجداني دائماً في زمان المعصوم (عليه السلام) ، لأن حصوله مبتنٍ على إحراز أصول ثلاثة، هي: الظهور والصدور والجهة، فإن الحجية متقومة بها.

وفي كثير من الموارد يكون الصدور بالعلم التعبدي لا الوجداني؛ لأخذ الأصحاب الرواية عن زرارة وأمثاله، حيث لم يمكنهم الوصول إلى المعصوم (عليه السلام) ، فلا قطع بالواقع لاحتمال الاشتباه في نقل الحكم .

وأما الظهور فإن الاعتماد على أصالة الظهور العقلائية فيما لو كان الخطاب بالمشافهة، فيمكن أن يكون المراد شيئاً آخر.

ومع فرض القطع بالصدور والإرادة الجدية لكن يحتمل كون الحكم صدر تقية، ولم يسق لبيان حكم اللّه الواقعي.

والحاصل: إنه لم يعلم وصول المكلفين إلى القطع بالحكم الواقعي في عهد الظهور في تمام الموارد، بل في كثير من الأحيان كان الوصول إلى الحكم التعبدي بأصالة الصدور، والظهور والوجهة.

الاحتمال الثاني: إن الأدلة المذكورة واردة فيما لو كان الفحص مؤدياً

ص: 319

إلى انكشاف الواقع ولو تعبداً، أما لو علم أنه لا يؤدي إليه ولو تعبداً فالأخبار لا تأمر بالفحص. فلو شك أن الفحص عن حكم التتن مثلاً هل يوصل إلى الواقع ولو تعبدا أم لا، كان من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؟

وبعبارة بسيطة: للمكلف حالات ثلاثة: إما يعلم أن فحصه يوصله إلى الواقع الوجداني أو التعبدي، فالأدلة تأمر به، كقوله تعالى: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} وذلك لتعلموا، وكقوله (عليه السلام) : «فارجه حتى تلقى أمامك»(1) ليبين لك الواقع الوجداني أو التعبدي.

وإما يعلم أن فحصه لا يؤدي إلى الواقع، فالفحص لغو، وليس مأموراً به في هذه الأخبار .

وإما يشك في أن الفحص هل يوصل إلى الواقع الوجداني أو التعبدي أم لا؟ فإن التمسك بأدلة وجوب الفحص تمسك بالعام في الشبهة المصداقية .

لكن يرد عليه مضافاً إلى إطلاق الآيات والروايات، كصحيحة الأحول وزرارة، هنالك روايات خاصة تنص على أن وظيفة العبد السؤال وإن احتمل عدم الوصول إلى المطلوب، أي: سواء وصل إلى الواقع أم لم يعلم الوصول إليه .

فقد روى الكليني: بسند معتبر عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل، عن منصور بن يونس، عن أبي بكر الحضرمي، قال: «كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) ودخل عليه الورد أخو الكميت،

ص: 320


1- الكافي 1: 67.

فقال: جعلني اللّه فداك اخترت لك سبعين مسألة ما تحضرني منها مسألة واحدة، قال: ولا واحدة يا ورد؟ قال: بلى قد حضرني منها واحدة، قال: وما هي؟ قال: قول اللّه تبارك وتعالى: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون} مَنْ هم؟ قال: نحن، قال: قلت: علينا أن نسألكم ؟ قال: نعم، قلت: عليكم أن تجيبونا، قال: ذاك إلينا»(1).

وبسند صحيح عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: قال علي بن الحسين (عليه السلام) : على الأئمة من الفرض ما ليس على شيعتهم، وعلى شيعتنا ما ليس علينا، أمرهم اللّه عز وجل أن يسألونا، قال: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون} فأمرهم أن يسألونا وليس علينا الجواب، إن شئنا أجبنا وإن شئنا أمسكنا»(2).

فتدل على أن الوظيفة السؤال وإن احتمل أنه لا يؤدي إلى انكشاف الواقع، لا بالعلم التعبدي ولا الوجداني.

وفي رواية أخرى: «ذاك إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل، أما تسمع قول اللّه تبارك وتعالى: هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغيرحساب»(3) وإن كان في سندها إشكال.

فإشكالات المحقق العراقي الثلاثة محل إشكال.

ص: 321


1- الكافي 1: 211.
2- الكافي 1: 212.
3- الكافي 1: 210.
الدليل التاسع

ارتكاز المتشرعة على وجوب الفحص، وهو مانع عن انعقاد الإطلاق في أدلة البراءة النقلية.

الدليل العاشر

دعوى الضرورة الفقهية، بل يمكن دعوى ضرورة المذهب والدين على وجوب الفحص في الشبهات الحكمية.

هذا تمام الكلام في المقام الرابع.

المقام الخامس: جريان البراءة النقلية في الشبهات الموضوعية مشروط بالفحص أم لا

هل جريان البراءة النقلية في الشبهات الموضوعية مشروط بالفحص أم لا؟

المعروف عدم وجوب الفحص، لكن السيد الوالد (رحمه اللّه) والسيد العم حفظه اللّه يريان الوجوب.

وهذا بحث مهم حيث يطرح من أول الفقه إلى آخره، مثلاً: لو شك في البلوغ وأمكنه الفحص بمراجعة تاريخ ولادته، فهل يصح إجراء البراءة من دون الفحص؟ وكذا لو شكت في وصولها إلى سن اليأس فهل يصح استصحاب عدم بلوغ سن اليأس؟ وفي باب الصوم: لو شك في طلوع الفجر وأمكنه رؤية الطلوع فهل يجوز الأكل تعويلاً على البراءة؟ وكذا لو شك في دخول شهر الصيام فيعتمد على البراءة ولا يفحص عن الهلال، وفي النكاح لو شك أنها ذات بعل أم لا فهل يمكنه إجراء الأصول العملية بلا

ص: 322

فحص؟ إلى غيرها من مآت أو ألوف الأمثلة.

الأقوال في جريان البراءة النقلية في الشبهات الموضوعية

اشارة

وفي المسألة أقوال.

القول الأول: وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية
اشارة

وقد استدل أو يمكن أن يستدل له بأمور:

الدليل الأول

بناء العقلاء على وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية، وطريقة العقلاء هي الملاك في باب الإطاعة والعصيان واستحقاق العقوبة وعدمها، مثلاً: لو قال المولى: لا تدخل عدوي داري وشك المكلف أن فلاناً عدو للمولى لم يحق له أن يدخله الدار بلا فحص، ولو فعل ذلك وتبين أنه عدو له حق للمولى معاقبته.

لكنه محل تأمل فإنه يحق للشارع التوسعة والتضييق في موارد بناء العقلاء، وأدلة الرفع مطلقة، كما لو نص المولى على عدم وجوب الفحص، ولا فرق في إفادته لذلك بالعموم أو الخصوص.

إن قلت: إن بناء العقلاء مخصص لإطلاقات الأدلة اللفظية.

قلت: إن إطلاق كلام المولى حجة وإن كان أوسع من البناء العقلائي، فللشارع - وهو سيد العقلاء - أن يتصرف بالتوسعة أو التضييق في بالبناءات العقلائية، كما صرح الفقهاء بذلك في موارد متعددة، ومنها في «لا تنقض اليقين بالشك» حيث يبنى العقلاء على إبقاء ما كان على ما كان في موارد الظن بالوفاق، أو عدم الظن بالخلاف فقط، ومع ذلك يبقى النص مطلقاً، ولا

ص: 323

يقيد إطلاقه ببناء العقلاء.

الدليل الثاني

ما ذكره المحقق القمي، حيث قال: «إن الواجبات المشروطة بوجود شيء إنما يتوقف وجوبها على وجود الشرط، لا على العلم بوجودها، فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط».

لكنه محل تأمل، فهنالك مقامان: ثبوت وإثبات، وإنما يتم ما ذكره في المقام الأول، فالالفاظ موضوعة للمعاني الواقعية لا بما أنها معلومة، بل بما هي هي، فحينما يقول الشارع: (الخمر حرام) لم يأخذ العلم في الموضوع ثبوتاً، أما في مقام الإثبات فيمكن للشارع رفع الحكم ظاهراً، فمثلاً: الدم الواقعي نجس لا الدم المعلوم، لكن المشكوك كونه دماً أو لوناً فهو لك طاهر، وليس ذلك من التناقض، ففي الواقع نجس وفي الظاهر طاهر.

ثم مثل المحقق القمي بمثال وقال: «مثلاً: من شك في كون ماله بمقدار استطاعة الحج، لعدم علمه بمقدار المال، لا يمكن أن يقول: إني لا أعلم أني مستطيع، ولا يجب علي شيء، بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنه واجد للاستطاعة أو فاقد لها»(1).

لكن كيف لا يمكنه ذلك مع وجود الأصل الموضوعي، وهو استصحاب عدم الاستطاعة، وعدم بلوغ المال بالمقدار الكافي، وكذا الأصل الحكمي، وهو (رفع ما لا يعلمون).

ثم قال: «نعم، لو شك بعد المحاسبة في أن هذا المال هل يكفيه في

ص: 324


1- الكافي 1: 210.

الاستطاعة أم لا فالأصل عدم الوجوب حينئذٍ»(1).

لكن السؤال في الفارق بين المقامين، فمن علم بكفاية الألف دينار للحج، ولم يعلم أنه يملكه وجب عليه الفحص؛ لاحتمال الاستطاعة، وأما من علم بتملكه الألف ولم يعلم بكفايته للاستطاعة جرت في حقه أصالة عدم الوجوب، فلو كانت الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية احتمل انطباق عنوان (المستطيع) الواقعي على المكلف في الصورتين.

والحاصل: إن كان احتمال الانطباق مانعاً عن جريان الأصل فهو مانع في الصورتين، وإن لم يكن مانعاً لم يكن في الصورتين مانعاً، فلا وجه للتفريق بينهما.

الدليل الثالث

ما في الكافي: عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عبد اللّه بن هلال، عن العلاء بن رزين، عن زيد الصائغ، قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) إني كنت في قرية من قرى خراسان يقال لها بخارى، فرأيت فيها دراهم تعمل ثلث فضة وثلث مس وثلث رصاص، وكانت تجوز عندهم، وكنت أعملها وأنفقها، قال: فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : لا بأس بذلك إذا كان تجوز عندهم، فقلت: أرأيت إن حال عليها الحول وهي عندي وفيها ما يجب علي فيه الزكاة أزكيها ؟ قال: نعم إنما هو مالك، قلت: فإن أخرجتها إلى بلدة لا ينفق فيها مثلها، فبقيت عندي حتى حال عليها الحول أزكيها ؟ قال: إن كنت تعرف أن فيها من الفضة الخالصة ما يجب عليك فيه الزكاة

ص: 325


1- قوانين الأصول 1: 460.

فزك ما كان لك فيها من الفضة الخالصة، ودع ما سوى ذلك من الخبيث، قلت: وإن كنت لا أعلم ما فيها من الفضة الخالصة إلا أني أعلم أن فيها ما تجب فيه الزكاة، قال: فأسكبها حتى تخلص الفضة ويحترق الخبيث، ثم تزكي ما خلص من الفضة لسنة واحدة»(1).

لكن يرد عليه - مع قطع النظر عن الإشكال السندي، لكون محمد بن عبد اللّه بن هلال محل كلام(2)،

حيث اختلفت الأقوال فيه، وزيد الصائغ مجهول، فتكون الرواية ضعيفة، لكن يمكن الإجابة عنه بأنها منجبرة بعمل الأصحاب، فقد ادعى جمع من الفقهاء ذلك، منهم صاحب الجواهر(3)، وقال المحقق الأردبيلي(4): إنها مؤيدة بالشهرة، بل عدم الخلاف ظاهراً، وكذا السيد الحكيم(5)، والسيد الوالد رحمهم اللّه - :

أولاً: إن ظاهر الرواية التفصيل بين الشك في أصل الوجوب فلا يجب الفحص، وبين العلم بأصل الوجوب والشك في مقدار الواجب فيجب الفحص، فهي لا تثبت وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية مطلقاً، وإنما في بعضها، ويظهر ذلك بملاحظة الشرط الدال على الانتفاء عند الانتفاء، حيث يقول (عليه السلام) : «إن كنت تعرف أن فيها من الفضة الخالصة ما يجب عليك فيه الزكاة فزك ما كان لك فيها» ومفهومه إن لم تكن ذلك

ص: 326


1- الكافي 3: 517.
2- تعليقة على منهج المقال: 316؛ نهاية المقال: 330.
3- جواهر الكلام 15: 195.
4- مجمع الفائدة والبرهان 4: 99.
5- مستمسك العروة الوثقى 9: 128.

تعلم فلا يجب، وأما لو دار الأمر بين الأقل والأكثر وجب السبك.

وثانياً: وردت الرواية في مورد خاص، وهو الدراهم المغشوشة من النقدين في الزكاة، فالتعدية إلى تمام الشبهات الموضوعية قياس مع الفارق.

الدليل الرابع

تحقق العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية.

لكنه محل تأمل؛ لأنه إن كان المراد العلم الإجمالي المتعلق بشخص المكلف فوجوده ممنوع، فقد لا يعلم المكلف بأن جريان البراءة في الشبهات الموضوعية يوقعه في مخالفة الواقع، ولو فرض تحققه بالنسبة إليه فإن منجزيته دائرة مدار وجوده، فإذا انحل، بأن اجتنب المكلف عن جملة من موارد الشبهات بمقدار المتيقن، فلا يكون هنالك مانع عن جريان البراءة.

وإن كان المراد العلم الإجمالي الدائر بينه وبين غيره، فلا منجزية له، كما ذكروا ذلك في مسألة واجدي المني في الثوب المشترك.

والحاصل: الدليل أخص من المدعى، فإن المدعى وجوب الفحص في جميع الشبهات الموضوعية حتى لو لم يكن هنالك علم إجمالي.

الدليل الخامس

عدم إيجاب الشارع للفحص تضييع للأحكام الشرعية، ونقض للأغراض المولوية، لتضييع كثير من الأحكام مع إجراء البراءة.

لكنه محل تأمل، حيث لا محذور في ذلك إن كان لمزاحم أهم، كما ذكر مثل ذلك في جواب شبهة ابن قبة، حيث أشكل على تشريع الأمارات

ص: 327

بأنها تؤدي إلى تحليل الحرام وتحريم الحرام، وأجيب عنه بعدم الإشكال؛ لملاك أهم كملاك التسهيل على المكلفين، كما هو الحال في إجراء أصالة الطهارة مع العلم بتفويت الكثير من الملاكات الواقعية، إلا أنه لملاك أهم كالتوسعة على المكلفين مثلاً.

الدليل السادس

الدليل السادس(1)

فتاوى كثير من الفقهاء بوجوب الفحص في الشبهات الموضوعية في أبواب مختلفة من الفقة، ككتاب الخمس والزكاة والحج وغيرها، و قد ذكر صاحب العروة فروعاً كثيرة لذلك.

لكنه محل تأمل لوجود ملاكات تخص تلك الأبواب، فلا تشمل جميع الشبهات الموضوعية، وسنشير إليها في المستقبل إن شاء اللّه.

الدليل السابع

أخبار التوقف، كقوله (عليه السلام) : «الوقوف عند الشبهة خير من اقتحام الهلكة»(2)، وقوله (عليه السلام) : «وإنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى اللّه وإلى رسوله»(3).

لكنه محل تأمل، فإنه لا شبهة مع المؤمّن الشرعي، وذلك مثل جريان أصالة الطهارة المجمع عليها، حيث لا تبقى شبهة مع جريانها للقطع بالترخيص الشرعي، ولو في مرحلة الظاهر، كذلك المقام فإنه مع جريان

ص: 328


1- أو يعتبر مؤيّداً.
2- الكافي 1: 50.
3- الكافي 3: 517.

أصالة الحل لا تكون هنالك شبهة ليكون الوقوف عندها خيراً، وكذلك لا هلكة، ولا يكون الأمر مشكلاً، بل يدخل في القسم الأول وهو: «أمر بين رشده فيتبع».

الدليل الثامن

تحقق الضرر المحتمل في الاقتحام، ودفع الضرر المحتمل واجب.

لكنه محل تأمل؛ لأن الضرر إما دنيوي أو أخروي، أما الأول: فالإقدام على المقطوع منه - إن لم يكن خطيراً - جائز، فكيف إن كان محتملاً، وأما الثاني: فهو مقطوع العدم ببركة أحاديث البراءة.

الدليل التاسع

ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) (1) من أن: الأدلة مشتركة بين الشبهة الموضوعية والحكمية؛ إذ ليس دليل وجوب الفحص في الشبهة الحكمية إلا الأدلة الدالة على وجوب تحصيل العلم، مثل: آيتي النفر وسؤال أهل الذكر، والأخبار الدالة على وجوب تحصيل العلم، وتحصيل التفقه، والذم على ترك السؤال، وما دل على مؤاخذة الجهال بفعل المعاصي، وجميعها جار في المقامين؛ إذ العلم بالحكم كالعلم بالموضوع في كون كليهما علماً وتفقهاً، ويجب سؤال أهل الذكر عن كليهما، والسر أن التعلم والتفقه ليس إلا طريقياً للتحفظ على الواقعيات، وذلك كما يكون بالنسبة إلى الأحكام يكون بالنسبة إلى الموضوعات.

والحاصل أن قوله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} يشمل التفقه في

ص: 329


1- الأصول: 804-805 .

الكبريات والصغريات، وكذا بقية الآيات والروايات، كقوله تعالى: {فاسألوا} فهو أعم من السؤال عن الحكم والموضوع.

وهو تام في الموضوعات الكلية دون الجزئية، فإن الظاهر أن التفقه في الموضوعات الكلية نوع من أنواع التفقه في الدين، فمَنْ لم يكن عربياً وتعلم الأحكام الكلية - كنجاسة الكلب - لكن لم يتفقه في (ما هو الكلب) وكان الموضوع الكلي مجهولاً عنده، فلا يعلم أنه نبت أو حيوان أو جماد، وهل هو خارج محل الابتلاء أو داخل فيه أمكن القول بأنه لم يتفقه في الدين، وكان تفقهه ناقصاً.

كما لو قيل له: (تفقه في الطب) فتفقه في العين، وعرف أمراضها وأعراضها وعلاماتها وعلاجاتها، لكنه لا يعلم ما هي العين فهل يصدق عليه الطبيب؟ وهل امتثل الأمر المذكور؟ إن التفقه في الطب يعني التفقه في المحمولات والموضوعات الكلية، أما انطباقها على الموضوعات الجزئية فمحل تأمل، فإن الجهل بالجزئيات الخارجية - كتشخيص أن هذا الأحمر دم أو لون - لا يقدح في صدق التفقه .

ولو فرض إطلاق الأدلة وشمولها للأحكام والموضوعات فسيأتي الكلام عن وجود المقيد، وهو أخبار النهي عن الفحص، كقوله (عليه السلام) : «لم سألت»(1) فهل تفيد عدم وجوب الفحص في مطلق الشبهات الموضوعية؟

ص: 330


1- الكافي 5: 569، محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عمر بن حنظلة، قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إني تزوجت امرأة فسألت عنها فقيل فيها، فقال: وأنت لم سألت أيضاً، ليس عليكم التفتيش».
الدليل العاشر

ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) (1) من أنه لا إطلاق لأدلة الرفع؛ لأنّ المفهوم عرفاً الجاهل المعذور؛ لأنه المنساق منها، ألا ترى أن المفهوم عرفاً من رفع الاضطرار والنسيان ونحوهما ذلك، فلو اضطر نفسه لأكل الميتة بأن ذهب في فلاة قفرة مع علمه بالاضطرار لأكل الميتة أو نحوها من سائر المحرمات لم يشمله عموم الاضطرار، وكذلك الغاصب غير المبالي، كما لو غصب دار زيد عالماً عامداً، ثم نسي في وقت لا يشمله عموم النسيان، بل يفتون في الموردين بالحرمة والعقاب معللين بعدم كون هذا القسم من النسيان والاضطرار عذراً؛ وذلك لأنه ليس إلا أن المفهوم من أدلة الرفع ونحوها النسيان والاضطرار وعدم العلم العذري لا مطلقاً، وكيف كان، فالمدعى أنه لا إطلاق لهذه الأدلة؛ لأنها واردة مورد العذر لفهم العرف ذلك منها، ولا عذر مع إمكان الفحص.

وحاصل كلامه أن ظاهر: (رفع ما لا يعلمون) هو الجهل العذري، أي: الذي لا طريق إلى إزالته لا مطلق الجهل، وبعبارة ثانية: رفع الجهل الذي لا يكون اختيارياً، أما لو كان اختياريا بأن كان هنالك طريق لإزالته فلا يكون مشمولاً للرفع، وذلك مثل أدلة رفع الاضطرار، حيث لا تشمل الاضطرار الاختياري، كمن أوقع نفسه في الاضطرار بالاختيار، فإن معنى رفع ما اضطروا اليه هو الاضطرار الاضطراري لا الاضطرار الاختياري، وإلا جاز لكل من أراد أن يرتكب حراماً أن يوقع نفسه في الاضطرار، فكما أن

ص: 331


1- الأصول: 801-802 .

الفقهاء يفتون بأن رفع الاضطرار منصرف إلى الاضطرار العذري، أي: الذي لا طريق إلى رفعه، ولم يكن بسوء الاختيار، وهكذا في رفع النسيان، فكذلك لابد من القول به في (رفع ما لا يعلمون) أي: رفع الجهل الذي لا طريق إلى رفعه، أما الجاهل بالموضوع الذي يمكنه رفع جهله بالفحص فلا يكون مشمولاً لحديث الرفع.

وبعبارة مختصرة: إن أدلة البراءة منصرفة إلى صورة الجهل العذري.

وربماهذا الدليل عمدة الادلة التي يمكن أن تذكر في المقام .

لكنه قابل للتأمل من وجهين:

الوجه الأول: إن مشهور المتأخرين فهموا الإطلاق.

الوجه الثاني: الدليل لا ينحصر في أدلة الرفع وأمثالها حتى يدعى الانصراف، بل هنالك أدلة أخرى يمكن دعوى دلالتها على عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية .

هذا تمام الكلام في القول الأول بأدلته العشرة.

القول الثاني: عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية

المشهور بين المتأخرين عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية، فلا يتوقف جريان البراءة وسائر الأصول العملية على الفحص.

وقد استدل أو يمكن أن يستدل لهذا القول بأدلة:

الدليل الأول: الإطلاقات(1) التي لم تقيد بالفحص، كقوله (عليه السلام) : (رفع ما لا يعلمون) و (كل شيء لك طاهر) و (كل شيء لك حلال).

ص: 332


1- منتهى الدراية 6: 386.

لكن يمكن الإشكال عليها بانصرافها إلى الجهل العذري لا مطلقاً.

ولا يخفى أن عهدة دعوى الانصراف أو الإطلاق على مدعيه.

الدليل الثاني: عدم الخلاف أو الإجماع، قال في المصباح: «وبالجملة عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية مما لا اشكال فيه ولا خلاف»(1)، وقال الشيخ الأعظم: «أما إجراء الأصل في الشبهة الموضوعية: فإن كانت الشبهة في التحريم ، فلا إشكال ولا خلاف ظاهراً في عدم وجوب الفحص»(2)، وفي شرح العروة: «فقد يقال بالوجوب بالرغم من كون الشبهة موضوعيّة، اتّفق الأُصوليّون والأخباريّون على عدم وجوب الفحص فيها»(3).

لكنه محل تأمل، فقد قال السيد الوالد (رحمه اللّه) في الأصول: «إذ الأول(4) مقطوع العدم»(5)، وقال في الفقه: «لا إجماع قطعاً فإن هذه المسألة من المسائل التي ليس منها في كلمات القدماء عين ولا أثر، مضافاً إلى أن مَنْ ذكرها من المتأخرين يعللها بما عرفت من الإطلاقات أو نحوها، والإجماع القطعي إذا كان محتمل الاستناد ساقط عن الحجية، فكيف بما نحن فيه من محتمل الإجماع المقطوع الاستناد؟»(6) بل الإجماع مقطوع العدم ومقطوع

ص: 333


1- مصباح الأصول 2: 510 .
2- فرائد الأصول 2: 441.
3- شرح العروة الوثقى 23: 293.
4- أي: الإجماع.
5- الأصول: 801 .
6- الفقه 3: 305.

الاستناد.

وبين السيد العم حفظه اللّه ذهاب جمع من الفقهاء إلى وجوب الفحص في جميع الشبهات الموضوعية، إلا ما خرج بالدليل، قال في بيان الفقه: «وقد ذهب إليه جمهرة، منهم: اصحاب المعالم والقوانين - على ما يظهر من البشرى - والضوابط والمفاتيح، والمحقق الهمداني وآخرون... ومنهم صاحب الجواهر والشيخ الأنصاري والمحقق الهمداني في صلاة المسافر، وغيرهم ممن قيدوا وجوب الفحص بعدم الحرج أو العسر مما هو قيد شرعي لجميع الأحكام»(1).

ومع ذلك كيف يمكن دعوى الإجماع؟ نعم، المقطوع به تحقق الشهرة العظيمة من الشيخ فنازلاً.

الدليل الثالث: ما ورد في آراؤنا(2)، حيث ادعى السيرة القطعية الجارية بين المتشرعة، فإنه لا إشكال في جواز شرب مائع يشك في نجاسته، كما أنه لا إشكال في عدم وجوب رد السلام فيما لو شك أن ما تكلم به الغير كان تحية أو غيرها.

لكن يرد عليه أن عمومها لجميع موارد الشبهات الموضوعية غير معلوم، وإن كانت متحققة في بعض الموارد كالطهارة والنجاسة .

الدليل الرابع: الروايات الواردة في موارد خاصة، الدالة على عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية، ويتم الاستدلال بها بأحد أنحاء

ص: 334


1- بيان الفقه 2: 120.
2- آراؤنا في اصول الفقه 2: 296.

أربعة: إما بعموم اللفظ، أو العلة أو الأولوية، أو بدعوى أن المنساق من مجموعها عدم وجوب الفحص في جميع الشبهات الموضوعية.

منها: ما في الكافي: عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عمر بن حنظلة، قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) إني تزوجت امرأة فسألت عنها فقيل فيها، فقال: وأنت لِمَ سألت أيضا ً ليس عليكم التفتيش»(1).

فإذا لم يلزم السؤال في باب النكاح الذي هو أحرى وأحرى أن يحتاط فيه، فكيف في بقية الأبواب؟

ومنها: معتبرة ميسرة، قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) ألقى المرأة بالفلاة التي ليس فيها أحد، فأقول لها: ألك زوج؟ فتقول: لا فأتزوجها، قال: نعم، هي المصدقة على نفسها»(2).

ومنها: الصحيحة : عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «العدة والحيض للنساء إذا ادعت صدقت»(3).

وفي كتاب النكاح من الوسائل روايات كثيرة بعضها معتبرة فتكون دليلاً وبعضها مؤيّدة كهذه الرواية: قال: «قلت: إني تزوجت امرأة متعة فوقع في نفسي أن لها زوجاً، ففتشت عن ذلك فوجدت لها زوجاً، قال: ولم

ص: 335


1- الكافي 5: 569.
2- الكافي 5: 392.
3- الكافي 6: 101.

فتشت»(1).

وأخرى: «قيل له: إن فلاناً تزوج امرأة متعة فقيل له: إن لها زوجاً فسألها، فقال: أبو عبد اللّه (عليه السلام) ولم سألها»(2).

ومنها: صحيحة زرارة: «قلت: فهل علي إن شككت في أنه أصابه شيء أن أنظر فيه، قال: لا، ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك»(3).

ومنها: صحيحة البزنطي، قال: «سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ فقال: نعم، ليس عليكم المسألة، إن أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم إن الدين أوسع من ذلك»(4).

ومنها: ما في الصحيحة: «سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخف لا يدري أذكي هو أم لا ما تقول في الصلاة فيه، وهو لا يدري أيصلى فيه؟ قال: نعم، أنا أشتري الخف من السوق ويصنع لي وأصلي فيه، وليس عليكم المسألة»(5).

ومنها: عن حماد بن عيسى قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «كان أبي يبعث بالدراهم إلى السوق فيشتري بها جبناً فيسمي ويأكل ولا يسأل

ص: 336


1- تهذيب الأحكام 7: 253؛ وسائل الشيعة 21: 31.
2- تهذيب الأحكام 7: 253.
3- الاستبصار 1: 183.
4- تهذيب الأحكام 2: 368.
5- تهذيب الأحكام 2: 371.

عنه»(1).

ومنها: موثقة مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعله حر قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين غير ذلك، أو تقوم به البينة»(2).

وظاهر (تعلم) العلم الاتفاقي، أي: إن اتفق لك العلم، فيشمل جميع موارد الأمارات والأصول العملية، كما أن ظاهر (يستبين) الاستبانة الاتفاقية لا التبين، كذلك (أو تقوم به البينة) لا أنه يلزم الفحص عنها .

ومنها: ما في الصحيحة: «أنهم سألوا أبا جعفر (عليه السلام) عن شراء اللحوم من الأسواق ولا يدرى ما صنع القصابون؟ فقال: كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه»(3).

ومنها: صحيحة عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً، حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(4)

.

فتشمل جميع الشبهات الموضوعية قبل الفحص، وغايتها حتى تعرف، وظاهرها المعرفة الاتفاقية.

ص: 337


1- وسائل الشيعة 24: 70.
2- تهذيب الأحكام 7: 226.
3- وسائل الشيعة 24: 70.
4- الكافي 5: 313.

ألا تفيد مجموع هذه الروايات - بالإطلاق والعموم أو بعموم التعليل أو بالأولوية، أو للمنساق لدى العرف من جميعها - أن الشارع لم يوجب الفحص في الشبهات الموضوعية؟ فإن تم طريق واحد من هذه الطرق الأربعة كان دليلاً على عدم وجوب الفحص، ويؤيده الشهرة العظيمة بين المتأخرين، والقائل بوجوب الفحص بينهم نادر.

وبعد تمام الكلام في القولين يقع الكلام في أقوال مفصِّلة ذكرت في المقام.

القول الثالث:

التفصيل الذي نقله السيد العم حفظه اللّه عن بعض في بيان الفقه(1)

وهو وجوب الفحص فيما علم اهتمام المولى به، وما لم يكن كذلك فلا، فتجري البراءة من دون فحص.

لكن الظاهر أنه خروج عن محل البحث، فليست الأمور الخطيرة مجرى الأصول العملية لا قبل الفحص ولا بعده، فلو تبين شبح من بعيد وشك أنه إنسان أو حيوان ففحص ولم يصل إلى نتيجة، فلا يمكن إجراء البراءة .

والظاهر أنه حتى النافين لوجوب الفحص لم ينظروا إلى الموضوعات الخطيرة، فهي ليست محل الكلام والنقض والإبرام.

نعم، النتيجة مسلمة، وهي أنه قبل الفحص لا يجوز إجراء الأصول المؤمنة.

ص: 338


1- بيان الفقه 2: 121.
القول الرابع:

التفصيل الذي ذكره السيد الحكيم(1): من أن وجوب الفحص إما أن يكون مولوياً شرعياً، وإما أن يكون عقلياً إرشادياً، فإن كان مولوياً وشك في الوجوب فالبراءة تتكفل نفي الوجوب الشرعي، أما إن كان عقلياً وإرشاداً إلى وجود الخطر بدون الفحص فلا تجري البراءة الشرعية.

لكنه محل تأمل؛ لأن حكم العقل بوجوب الفحص حكم تعليقي، فهو معلق على عدم وجود المؤمّن الشرعي، أما مع المؤمّن - كأدلة البراءة - فموضوع حكم العقل منتف.

مثلاً: يقول العقل: الفحص عن أحكام المولى واجب في الشبهات الحكمية، لكنه وجوب تعليقي، إلا إذا رخص الشارع في العدم، كأن يقول: لا يجب الفحص عن أحكامي، فإن هذا المؤمّن الشرعي رافع لموضوع حكم العقل.

وعليه فلا فرق في وجوب الفحص بين كونه شرعياً أو عقلياً، فكلاهما يرتفعان بالبراءة الشرعية.

نعم، لا يجري الأصل المؤمّن في خصوص المورد الذي ذكره السيد الحكيم، وهو مسألة تقليد الأعلم، فلو علم وجود الاختلاف بين المجتهدين وشك في أعلمية أحدهما، فلا تنهض أدلة البراءة الشرعية للقول بعدم وجوب الفحص؛ لأنها مثبتة، فإن أصل عدم وجوب الفحص عن الأعلم لا يثبت حجية قول هذا أو ذاك، فإن الحجية لا تثبت بالأصل العملي، ففي

ص: 339


1- حقائق الأصول 2: 359.

باب الحجج لو دار الأمر بين التعيين والتخيير فإن الأصل التعيين أو الفحص، ولا يمكن للمكلف في الطرق والحجج أن يتمسك بالبراءة؛ لأنها لا تثبت الحجية والطريقية، والحاصل: عدم جريان البراءة في المقام لأنها مثبتة، لا لأن وجوب الفحص عقلي، وعليه فلابد من الفحص عن الأعلم بناء على وجوب تقليده.

القول الخامس:

ما نقله السيد العم حفظه اللّه(1) عن جمهرة من المتأخرين، منهم: المحققين النائيني والعراقي والإصفهاني وغيرهم، وهو أنه لو كان ترك الفحص موجباً للوقوع في مخالفة الواقع كثيراً وجب، وإلا فلا، ومثل لذلك بباب الزكاة والخمس، فلو لم يفحص عن النصاب والأرباح الزائدة عن المؤنة وقع في مخالفة الواقع كثيراً.

لكنه غير واضح، فإنه إن كان المراد وقوع شخص المكلف في مخالفة الواقع فلا فرق بين القليل والكثير، فمع العلم الإجمالي بأن عدم الفحص يؤدي بشخصه إلى مخالفة الواقع كان التكليف منجزاً، سواء أوجب ذلك

ص: 340


1- بيان الفقه 2: 120، وفيه: «التفصيل بين ما يوجب ترك الفحص فيه الوقوع في مخالفة الواقع كثيراً وبين غيره ، بالوجوب في الأول دون الثاني. صرّح به جمهرة من المتأخرين: كالشيخ الأنصاري (رحمه اللّه) والعديد من تلاميذه، وتلاميذهم كالمحقّقين: النائيني والعراقي والأصفهاني وغيرهم، كل ذلك في كتبهم الفقهية في مسائل: 1- الشكّ في تعلق الزكاة أو مقدارها. 2- الشكّ في تعلّق الخمس أو في مقداره. 3- الشكّ في حصول الاستطاعة للحجّ. 4- الشكّ في المسافة: أصلها أو بلوغها، أو حد الترخّص: أصله أو بلوغه. 5- الشكّ في دم الاستحاضة أنّه قليل أو متوسط أو كثير وغير ذلك».

قليلاً أم كثيراً، وسواء كان دفعياً أم تدريجياً، فقيد (كثيراً) غير واضح.

وإن كان المراد وقوع نوع المكلف في مخالفة الواقع كثيراً فيرد عليه إشكالان:

الأول: نقضاً: حيث يعلم بوقوع المكلفين في مخالفة الواقع كثيراً بسبب جريان أصالة الطهارة في الشبهات الموضوعية، وكذلك أصالة الحل وقاعدة اليد، وأصالة الصحة إلى آخر الأصول والآمارات، فلو كان العلم بوقوع نوع المكلف في مخالفة الواقع مانعاً عن جريان الأصل العملي لزم القول بوجوب الفحص في جميع هذه الموارد، مع أن عدمه من المسلمات الفقهية.

الثاني: حلاً إن العلم بوقوع نوع المكلف في مخالفة الواقع لا يولد مشكلاً لا في طرف المكلف ولا في طرف الشارع، أما الأول: فلانه لا أثر للعلم الإجمالي، لأنه ليس علماً بالتكليف لشخص المكلف، كواجدي المني في الثوب المشترك، وأما الثاني: فلأنه يمكن للشارع أن يوقع المكلفين في مخالفة الواقع لملاك أهم.

القول السادس: ما ذكره المحقق النائيني

حيث قال: «إن عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية إنما هو فيما إذا لم تكن مقدمات العلم حاصلة، بحيث لا يحتاج حصول العلم بالموضوع إلى أزيد من النظر في تلك المقدمات، فإن في مثل هذا يجب النظر، ولا يجوز الاقتحام في الشبهة - وجوبية كانت أو تحريمية - إلا بعد النظر في المقدمات الحاصلة؛ لعدم صدق الفحص على مجرد النظر فيها»(1).

ص: 341


1- فوائد الأصول 4: 302.

وعلق عليه المحقق العراقي في الهامش: «ولقد أجاد فيما أفاد»(1).

إذ الفحص إنما يكون بتمهيد مقدمات العلم التي هي غير حاصلة.

والظاهر أن مراده أنه لو لم يكن للعلم مؤنة فلا يصح إجراء الأصول العلمية؛ لأن مقدمات العلم متوفرة، وتحصيلها لا يحتاج إلا إلى مجرد النظر أو السؤال، كمَنْ هو فوق السطح في شهر رمضان بحيث لو نظر إلى الأفق علم بطلوع الفجر أو عدمه، فلا يحق له استصحاب بقاء الليل، أو إجراء أدلة البراءة، وبتعبير المحقق الحائري: «العلم في كمه» أما لو كان المكلف في سرداب، وكان النظر إلى الأفق بحاجة إلى صعود مائة درج مثلاً حق له الأكل اعتماداً على الأصول المؤمنة.

لكنه غير واضح لجهتين:

الجهة الأولى: للفحص مراتب، فقد يحتاج إلى مقدمات كثيرة، وقد لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة، فما ذكره من الدليل (لعدم صدق الفحص على مجرد النظر في المقدمات الحاصلة) محل نظر .

لكنه غير وارد؛ لعدم صدق الفحص مع قلة المقدمات وسهولتها، فإن الفحص يعني البحث، وكأنه أخذ في معناه المؤنة وتحمل المشاق .

الجهة الثانية وهي المعتمدة: لم ترد كلمة (الفحص) في الأدلة الشرعية حتى يبحث عن صدقها وعدمها، بل المأخوذ فيها الجهل والشك، فالأمر لا يخلو من النقيضين: إما أن يعلم وهو منتفي، فلابد أن لا يعلم، ولذا لو سئل هل تعلم بطلوع الفجر أجاب بالنفي؟

ص: 342


1- فوائد الأصول 4: 302 (الهامش).

ولو قيل بالانصراف فعهدته على مدعيه.

نعم استثنى المحقق النائيني مورداً واحداً حيث قال: «لا يبعد القول بعدم وجوب ذلك أيضاً في خصوص باب الطهارة والنجاسة لما علم من التوسعة فيها»(1)، فحتى لو كان «العلم في كمه» فلا يلزم الفحص، ويمكن إضافة باب الحلية والحرمة في المطاعم والمشارب ونحوهما، حيث علم من مذاق الشارع التوسعة، فمع إمكان السؤال والنظر لا يلزم كشف الواقع.

القول السابع:

ما ذكره بعض المحققين(2): من أن الموضوع لو كان في وعائه المناسب بيناً وواضحاً، وجوداً أو عدماً بحيث يظهر ذلك للعموم إن طلب في وعائه المناسب له، لم تجرِ البراءة وإلا جرت.

والفرق بين هذا التفصيل وما سبقه أن السابق كان مبتنياً على تحقق المؤونة في الفحص وعدمه، وهذا مبتن على وضوح الموضوع في ظرفه المناسب له وعدمه، مثلاً: لو لم تكن السماء غائمة، ولم يكن حائل عن الرؤية كان وجود الهلال وعدمه في ظرفه بيناً وواضحاً، فلا يمكن إجراء البراءة عن وجوب الصوم بلا فحص، بل يجب الفحص، سواء كان للفحص مؤونة أم لا، كأن يكون فوق الجبل أو تحت السرداب، ففي الصورتين يجب، وإلا يكن كذلك لم يجب الفصح.

ووجه هذا التفصيل أن الشيء لو كان في وعائه بيناً صدق عليه أنه

ص: 343


1- فوائد الأصول 4: 302.
2- منتقى الأصول 5: 339.

معلوم، فالغاية المأخوذة في أدلة البراءة محققة، فإن العلم عرفي لا دقي عقلي.

والحاصل: إن قوله (عليه السلام) : «حتى تعلم» منصرف إلى العلم العرفي، ومع احتمال وجود العلم العرفي وتحقق الغاية لا يصح التمسك بدليل البراءة، فإنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

ولا يبعد أن يكون نظر المحقق النائيني إلى ذلك لا إلى ما كان فيه مؤونة، وما لم يكن فيه مؤونة.

لكنه محل تأمل؛ لأن ظاهر الأخبار العلم الشخصي وهو غير حاصل، فإن المعلومية في أفقه غير العلم الشخصي للمكلف، وما ذكر إنما يكون تاماً لو ورد (كل شيء لك حلال حتى يكون معلوماً) حيث يمكن القول: إنّ المعلوم يعني المعلوم في أفقه وفي وعائه المناسب له، فإن الهلال معلوم وكذلك مقدار الدين معلوم في أفقه، أي: السجل المكتوب فيه الديون، لكن في الرواية (حتى تعلم) والعلم منتفٍ.

القول الثامن:

التفصيل الذي ربما يستظهر من كلمات الشيخ الأعظم في مطارح الأنظار، قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : قال في التقريرات: وأما الشبهات الوجوبية فالظاهر عدم وجوب الفحص فيها أيضاً، إلا إذا توقف امتثال التكليف غالباً على الفحص، كما إذا كان موضوع التكليف من الموضوعات التي لا يحصل العلم بها إلا بالفحص عنه ... ومن البعيد تشريع الحكم على هذا الوجه، فيمكن دعوى الملازمة العرفية بين تشريع مثل هذا الحكم وبين

ص: 344

إيجاب الفحص عن موضوعه، فإطلاق القول بعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية لا يستقيم، بل الأقوى وجوب الفحص عن الموضوعات التي يتوقف العلم بها غالباً على الفحص.

والحاصل: أنه لو كانت ماهية الموضوع تقتضي الفحص، بأن كان الموضوع بحيث لا يعلم عادة إلا بالفحص، وجب الفحص، كالعلم بالزائد عن مؤونة السنة، فإنه موقوف على الفحص، فلو لم يفحص لم يعلم مقدار الزائد، فالعلم بموضوع التكليف وامتثاله عادة موقوف على الفحص، فلو لم يفعل لم يمتثل التكليف غالباً، فلو كان الموضوع هكذا فهنالك ملازمة عرفية بين تشريع هذا الحكم ووجوب الفحص عنه، وهذه الملازمة العرفية دليل اجتهادي حاكم على إطلاقات الأصول العملية.

ثم قال السيد الوالد (رحمه اللّه) بعد نقل كلام التقريرات: والملازمة العرفية هي المطابقة لأذهان العرف.

والظاهر أن كبرى التفصيل تامة، وإنما البحث في الصغريات، فهل الفحص عن الاستطاعة في باب الحج ومقدار النصاب في الزكاة من هذا القبيل أم لا؟

هذا تمام الكلام في المقام الخامس.

ومما تقدم يظهر الكلام في الأصلين الآخرين، وهما أصالة التخيير وأصالة الاستصحاب في أن جريانهما موقوف على الفحص في الشبهات الحكمية والموضوعية أم لا؟

ويبقى الكلام في مقدار الفحص.

وفي المقام مطلبان: كبروي وصغروي.

ص: 345

أما المطلب الكبروي: في مقدار الفحص احتمالات ثلاثة:

الأول: وجوب الفحص إلى حد العلم بعدم الدليل .

الثاني: كفاية الظن بعدم الدليل.

الثالث: كفاية الاطمئنان بعدم الدليل.

أما الأول: فقد قيل إنه لا دليل على وجوب تحصيل العلم بعدم الدليل.

وأشكل عليه بأن أوامر التفقه، كقوله تعالى (ليتفقهوا) دليل، وكذلك: «طلب العلم فريضة».

لكنه غير وارد؛ لأن العلم يشمل الاطمئنان عرفاً، وإن احتمل الخلاف عقلاً.

أما الثاني: فالظن لا يغني من الحق شيئاً.

فيكفي الثالث وهو الاطئمنان، فيفحص الفقيه حتى يطمئن بعدم وجود الدليل الاجتهادي مثلاً ثم يتمسك بأصالة البراءة .

وهنالك احتمال رابع وهو: الفحص إلى حد الاطمئنان بعدم الظفر بالدليل لا بعدم وجوده، فلو رأى الفقيه أنه مع الاستمرار في الفحص لا يعثر على الدليل الاجتهادي، أي: كان العثور ميؤوساً منه لم يلزم، وكأن بناء العقلاء على كفاية اليأس عن الحصول على الدليل، ولعل سيرة الفقهاء على ذلك، وإلا فإن الاطمئنان بعدم وجود الدليل في كثير من المسائل صعب، وربما يظهر ذلك من كلمات الشيخ الأعظم.

وأما المطلب الصغروي فهو: أن حصول الاطمئنان بعدم الدليل في هذه الأعصار سهل، وذلك لما قدمه المحدثون الأقدمون بعد جهودهم الطويلة،

ص: 346

التي طالت عشرات السنوات، كما صنعه المحدث الكليني في تأليف الكافي الشريف، والحر العاملي في كتاب الوسائل، ولو لم توجد تلك الجهود كان المفروض أن يراجع الفقيه - لتحقيق مسألة واحدة - جميع الأخبار من أولها إلى آخرها، أما مع هذا التبويب فإن الاطمئنان بعدم الدليل سهل، حيث يراجع الفقيه الباب المعين من هذه الكتب، فيطمئن بعدمه.

لكنها محل تأمل، لأن الدليل لا يختص بالسنة الشريفة، فربما في الكتاب دليل على الحكم الفقهي لم يوجد في السنة، كعدم جواز التيمم مع وجود الماء المضاف، كما قال البعض بأن عمدة الدليل على ذلك هو قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا}، فلابد من مراجعة الكتاب أيضاً، واستفادة الكثير من الأحكام من إطلاقاته وعموماته، بما لا يستفاد ذلك من السنة الموجودة، كما لابد من مراجعة كلمات الفقهاء في كتبهم كالجواهر، لا خصوص الاكتفاء بكتب الروايات، فربما هنالك إجماع معتبر في المقام يحول دون التمسك بالبراءة، وربما وصلت نكتة معينة إلى أذهانهم ، كما لابد من التأمل في دليل العقل.

فالظاهر أن ما ذكره البعض من كفاية الرجوع إلى الأخبار غير كافٍ.

هذا آخرما أفاده السيد الأستاذ في بحثه الخارج بتاريخ22 جمادى الأولی 1429 في مسجد الإمام زين العابدين (عليه السلام) بقم المشرفة، حيث انتقل بعدها إلى الرفيق الأعلى في ظروف غامضة، وهو في أوج عطائه العلمي الفكري مقتدياً في حياته برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي قال تعالی عنه {وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيم} ومجسّداً للقيم النبيلة والأخلاقيات السامية التي قل ما

ص: 347

شاهدنا مثلها في أيامنا هذه، فرحمه اللّه وأرضاه، وحشره مع سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وقد تمت مراجعة التقريرات في يوم الجمعة 25 جمادى الثانية 1433 في الحوزة العلمية بكربلاء المقدسة.

بقلم أحد تلامذته

ص: 348

مصادر التحقيق

* القرآن الكريم.

* نهج البلاغة.

1. أجود التقريرات، تقريرات الشيخ محمد حسين النائيني، منشورات المصطفوي.

2. الاحتجاج، الشيخ أحمد بن علي الطبرسي، مطبعة النعمان.

3. الاختصاص، الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان البغدادي، مؤسسة النشر الإسلامي.

4. اختيار معرفة الرجال المعروف ب- (رجال الكشي)، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

5. آراؤنا في أصول الفقه، السيد تقي الطباطبائي القمي، منشورات المحلاتي.

6. الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، دار الكتب الإسلامية.

7. استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار، الشيخ محمد بن الحسن العاملي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

8. الأصفى في تفسير القرآن، الشيخ محمد محسن الفيض الكاشاني، مكتب الإعلام الإسلامي.

ص: 349

9. أصول الاستنباط، السيد علي نقي الحيدري، لجنة إدارة الحوزة العلمية.

10. الأصول الأصلية والقواعد الشرعية، السيد عبد اللّه شبّر، مكتبة المفيد.

11. الأصول، السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار المهدي والقرآن الحكيم.

12. الاعتقادات، الشيخ الصدوق محمد بن علي القمي، دار المفيد.

13. إقبال الأعمال، السيد علي بن موسی بن جعفر بن طاووس الحلي، مكتب الإعلام الإسلامي.

14. الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، منشورات مكتبة جامع چهلستون.

15. الأمالي، الشيخ الصدوق محمد بن علي القمي، مؤسسة البعثة.

16. الأمالي، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، مؤسسة البعثة.

17. الانتصار، السيد المرتضى علي بن الحسين الموسوي، مؤسسة النشر الإسلامي.

18. أوثق الوسائل في شرح الرسائل، الشيخ موسى التبريزي، الطبعة الحجرية.

19. أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، عبد اللّه بن يوسف بن أحمد بن عبد اللّه بن هشام الأنصاري.

20. الإيضاح في علوم البلاغة، محمد بن عبد الرحمن القزويني، دار الكتاب الإسلامي.

21. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، الشيخ محمد باقر

ص: 350

المجلسي، مؤسسة الوفاء.

22. بحر الفوائد في شرح الفرائد، الشيخ محمد حسن الآشتياني، الطبعة الحجرية.

23. بحوث في علم الأصول، تقريرات السيد محمد باقر الصدر، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي.

24. بداية الوصول في شرح كفاية الأصول، الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي.

25. بدائع الأفكار، الشيخ حبيب اللّه الرشتي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

26. البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم الحسيني البحراني، مؤسسة البعثة.

27. بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، الشيخ محمد بن الحسن الصفار، منشورات الأعلمي.

28. بيان الأصول، السيد صادق الحسيني الشيرازي، دار الأنصار.

29. بيان الفقه في شرح العروة الوثقى، السيد صادق الحسيني الشيرازي، دار الأنصار.

30. تاج العروس، محمد بن محمد الزبيدي، دار الفكر.

31. التبيان في تفسير القرآن، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، مكتب الإعلام الإسلامي.

32. تسديد القواعد في حاشية الفرائد، الشيخ محمد الإمامي الخوانساري.

ص: 351

33. التعليقات على الشواهد الربوبية، الحكيم الشيخ هادي السبزواري، المركز الجامعي للنشر.

34. تعليقة على معالم الأصول، السيد علي الموسوي القزويني، مؤسسة النشر الإسلامي.

35. تعليقة على منهج المقال، الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني.

36. تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، المكتبة العلمية الإسلامية.

37. تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، مؤسسة دار الكتاب.

38. تنقيح الأصول، تقريرات الشيخ ضياء الدين العراقي، المطبعة الحيدرية.

39. تهذيب الأحكام، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، دار الكتب الإسلامية.

40. التوحيد، الشيخ الصدوق محمد بن علي القمي، مؤسسة النشر الإسلامي.

41. توضيح المقال في علم الرجال، الشيخ علي الكني، دار الحديث.

42. جامع أحاديث الشيعة، السيد حسين الطباطبائي البروجردي، المطبعة العلمية.

جامع المدارك في شرح المختصر النافع، السيد أحمد الموسوي الخوانساري، مكتبة الصدوق.

44. جامع المقاصد في شرح القواعد، الشيخ علي بن الحسين الكركي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

45. الجامع للشرائع، الشيخ يحيى بن سعيد الحلي، مؤسسة سيد

ص: 352

الشهداء (عليه السلام) .

46. جوابات أهل الموصل في العدد والرؤية، الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان البغدادي، دار المفيد.

47. جوامع الجامع، الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي، مؤسسة النشر الإسلامي.

48. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمد حسن النجفي، دار الكتب الإسلامية.

49. حاشية الكفاية، السيد محمد حسين الطباطبائي، بنياد علمي وفكري علامة طباطبائي.

50. حاشية المكاسب، الشيخ محمد كاظم الخراساني، وزارة الإرشاد الإسلامي.

51. الحاشية على أصول الكافي، السيّد بدر الدين بن أحمد الحسيني العاملي، دار الحديث.

52. الحاشية على كتاب من لا يحضره الفقيه، الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسين العاملي، مكتبة السيد المرعشي.

53. الحاشية على كفاية الأصول، تقريرات السيد حسين الطباطبائي البروجردي، مؤسسة أنصاريان.

54. حاشية فرائد الأصول، تقريرات السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، دار الهدى.

55. الحبل المتين، الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسين العاملي، منشورات

ص: 353

البصيرتي.

56. الحجة معانيها ومصاديقها، السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، دار العلوم.

57. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، الشيخ يوسف البحراني، مؤسسة النشر الإسلامي.

58. خاتمة مستدرك الوسائل، الشيخ حسين النوري الطبرسي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

59. خزانة الأدب وغاية الأرب، أبوبكر بن علي الحموي، دار القاموس الحديث.

60. الخصال، الشيخ الصدوق محمد بن علي القمي، مؤسسة النشر الإسلامي.

61. خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، العلامة الشيخ الحسن بن يوسف الحلي، مؤسسة الفقاهة.

62. الدر المنثور في التفسير بالمأثور، عبدالرحمن بن الكمال السيوطي، دار المعرفة.

63. دراسات في علم الأصول، تقريرات السيد ابوالقاسم الموسوي الخوئي، مركز الغدير.

64. درر الفوائد في الحاشية على الفرائد، الشيخ محمد كاظم الخراساني، وزارة الإرشاد الإسلامي.

65. الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهيد الشيخ محمد بن جمال الدين

ص: 354

العاملي، مؤسسة النشر الإسلامي.

66. دروس في علم الأصول، السيد محمد باقر الصدر، دار الكتاب اللبناني.

67. دروس في مسائل علم الأصول، الشيخ جواد التبريزي، دار الصديقة الشهيدة (عليها السلام) .

68. دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام، النعمان بن محمد التميمي المغربي، دار المعارف.

69. الدلائل في شرح منتخب المسائل، السيد تقي الطباطبائي القمي، منشورات المحلاتي.

70. ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد، الشيخ محمد باقر السبزواري، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

71. الذريعة إلى تصانيف الشيعة، الشيخ محمد محسن الطهراني، دار الأضواء.

72. ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، الشهيد الشيخ محمد بن جمال الدين العاملي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

73. الرجال، أحمد بن الحسين الغضائري، دار الحديث.

74. الرجال، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، مؤسسة النشر الإسلامي.

75. الرسائل التسع، المحقق الشيخ جعفر بن الحسن الحلي، مكتبة السيد المرعشي.

76. الرسائل العشر، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، مؤسسة النشر الإسلامي.

ص: 355

77. رسائل فقهية، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي.

78. الرسائل، السيد المرتضى علي بن الحسين الموسوي، دار القرآن الكريم.

79. الرعاية في علم الدراية، الشهيد الشيخ زين الدين بن علي العاملي، مكتبة السيد المرعشي.

80. الرواشح السماوية، السيد محمد باقر الحسيني الأسترابادي، دار الحديث.

81. روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، الشهيد الشيخ زين الدين بن علي العاملي، مكتب الإعلام الإسلامي.

82. روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه، الشيخ محمد تقي المجلسي.

83. روضة الواعظين، الشيخ محمد بن الفتال النيسابوري، منشورات الرضي.

84. رياض المسائل، السيد علي الطباطبائي، مؤسسة النشر الإسلامي.

85. زبدة الأصول، السيد محمد صادق الحسيني الروحاني، مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) .

86. السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، الشيخ محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي.

87. السنن الكبرى، أحمد بن الحسين البيهقي، دار الفكر.

88. السنن، محمد بن يزيد القزويني (ابن ماجة)، دار الفكر.

ص: 356

89. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، المحقق الشيخ جعفر بن الحسن الحلي، منشورات استقلال.

90. شرح أصول الكافي، الشيخ محمد صالح المازندراني، دار إحياء التراث العربي.

91. شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار، النعمان بن محمد التميمي المغربي، مؤسسة النشر الإسلامي.

92. شرح العروة الوثقى، تقريرات السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، مؤسسة الخوئي الإسلامية.

93. شرح ألفية ابن مالك، عبد اللّه بن عقيل المصري، منشورات ناصر خسرو.

94. شرح المكاسب، تقريرات السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، مؤسسة الخوئي الإسلامية.

95. شرح المنظومة، الحكيم الشيخ هادي السبزواري، نشر ناب.

96. شرح تبصرة المتعلمين، الشيخ ضياء الدين العراقي، مؤسسة النشر الإسلامي.

97. شرح كافية ابن الحاجب، الشيخ محمد بن الحسن الرضي الأسترابادي، مؤسسة الصادق.

98. الصافي في تفسير القرآن، الشيخ محمد محسن الفيض الكاشاني، مكتبة الصدر.

99. الصحاح، إسماعيل بن حمّاد الجوهري، دار العلم للملايين.

ص: 357

100. صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، علي بن بلبان الفارسي.

101. الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم، الشيخ علي بن يونس العاملي، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

102. العدة في أصول الفقه، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي.

103. العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، مؤسسة النشر الإسلامي.

104. العقد الحسيني، الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي.

105. علل الشرائع، الشيخ الصدوق محمد بن علي القمي، المكتبة الحيدرية.

106. عمدة القاري، محمود بن أحمد العيني، دار إحياء التراث العربي.

107. عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، الشيخ محمد بن علي الاحسائي.

108. عوائد الأيام، الشيخ أحمد بن محمد مهدي النراقي، مكتب الإعلام الإسلامي.

109. الغدير في الكتاب والسنة والأدب، الشيخ عبد الحسين الأميني النجفي، دار الكتاب العربي.

110. غريب الحديث، القاسم بن سلام الهروي، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية.

111. غنائم الأيام في مسائل الحلال والحرام، الشيخ أبو القاسم القمي، مكتب الإعلام الإسلامي.

ص: 358

112. غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع، السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي.

113. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، دار إحياء التراث العربي.

114. فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي.

115. الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الإصفهاني، الطبعة الحجرية.

116. الفصول المهمة في أصول الأئمة، الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، مؤسسة معارف إسلامي إمام رضا (عليه السلام) .

117. الفقه (موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي)، السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم.

118. الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام) ، المؤتمر العالمي للإمام الرضا (عليه السلام) .

119. فلاح السائل، السيد علي بن موسی بن جعفر بن طاووس الحلّي، مكتب الإعلام الإسلامي.

120. الفهرست، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، مؤسسة الفقاهة.

121. الفهرست، الشيخ منتجب الدين بن بابويه، مكتبة السيد المرعشي.

122. فوائد الأصول، تقريرات الشيخ محمد حسين النائيني، مؤسسة النشر الإسلامي.

123. الفوائد الحائرية، الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني، مجمع الفكر

ص: 359

الإسلامي.

124. الفوائد الرجالية، السيد محمد مهدي بحر العلوم، مكتبة الصادق.

125. الفوائد المدنية والشواهد المكية، الشيخ محمد أمين الأسترابادي، مؤسسة النشر الإسلامي.

126. في ظلال نهج البلاغة، الشيخ محمد جواد مغنية، منشورات كلمة الحق.

127. قاموس الرجال، الشيخ محمد تقي التستري، مؤسسة النشر الإسلامي.

128. قرب الإسناد، الشيخ عبد اللّه بن جعفر الحميري، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

129. القواعد الفقهية، السيد حسن الموسوي البجنوردي، نشر الهادي.

130. قوانين الأصول، الشيخ أبو القاسم القمي، المكتبة العلمية الإسلامية.

131. الكافي، ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلامية.

132. كامل الزيارات، الشيخ جعفر بن محمد بن قولويه القمي.

133. كتاب الصلاة، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي.

134. كتاب الصلاة، تقريرات الشيخ محمد حسين النائيني، مؤسسة النشر الإسلامي.

135. كتاب الطهارة، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي.

136. كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، دار الهجرة.

137. كتاب المكاسب، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي.

ص: 360

138. كشف الرموز في شرح المختصر النافع، الشيخ الحسن بن أبي طالب الآبي، مؤسسة النشر الإسلامي.

139. كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، الشيخ جعفر كاشف الغطاء، مكتب الإعلام الإسلامي.

140. كشف اللثام عن قواعد الأحكام، الشيخ محمد بن الحسن الأصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي.

141. كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلامة الشيخ الحسن بن يوسف الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي.

142. كفاية الأصول المحشى، حواشي الشيخ أبو الحسن المشكيني، دار الحكمة.

143. كفاية الأصول، الشيخ محمد كاظم الخراساني، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

144. كفاية الفقه المشتهر ب- (كفاية الأحكام)، الشيخ محمد باقر السبزواري، مؤسسة النشر الإسلامي.

145. كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، علي بن حسام الدين الهندي، مؤسسة الرسالة.

146. الكنى والألقاب، الشيخ عباس القمي، مكتبة الصدر.

147. لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي، أدب الحوزة.

148. مباحث الأصول، تقريرات السيد محمد باقر الصدر، دار البشير.

149. المباحث الأُصولية، الشيخ محمد إسحاق الفياض.

ص: 361

150. مباني منهاج الصالحين، السيد تقي الطباطبائي القمي، منشورات المحلاتي.

151. مثير الأحزان، الشيخ محمد بن جعفر الحلي، المطبعة الحيدرية.

152. مجمع الأفكار ومطرح الأنظار، تقريرات الشيخ هاشم الآملي، المطبعة العلمية.

153. مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين بن محمد علي الطريحي، مكتبة المرتضوي.

154. مجمع البيان في تفسير القرآن، الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي، مؤسسة الأعلمي.

155. مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، الشيخ أحمد بن محمد الأردبيلي، مؤسسة النشر الإسلامي.

156. المحاسن، الشيخ أحمد بن محمد البرقي، دار الكتب الإسلامية.

157. محاضرات في أصول الفقه، تقريرات السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، مؤسسة النشر الإسلامي.

158. المحكم في أصول الفقه، السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، مؤسسة المنار.

159. مختصر المعاني، مسعود بن عمر التفتازاني، دار الفكر.

160. مختلف الشيعة، العلامة الشيخ الحسن بن يوسف الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي.

161. مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، السيد محمد بن علي

ص: 362

الموسوي العاملي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

162. مدينة معاجز الأئمة الاثني عشر ودلائل الحجج على البشر، السيد هاشم الحسيني البحراني، مؤسسة المعارف الإسلامية.

163. مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، الشيخ محمد باقر المجلسي، دار الكتب الإسلامية.

164. المراسم العلوية في الأحكام النبوية، الشيخ حمزة بن عبد العزيز الديلمي، المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) .

165. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع إسلام، الشهيد الشيخ زين الدين بن علي العاملي، مؤسسة المعارف الإسلامية.

166. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الشيخ حسين النوري الطبرسي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

167. مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي الشاهرودي، مؤسسة النشر الإسلامي.

168. المستدرك على الصحيحين، محمد بن عبد اللّه النيسابوري، دار المعرفة.

169. مستدركات علم رجال الحديث، الشيخ علي النمازي الشاهرودي.

170. مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، مطبعة الآداب.

171. مستند الشيعة في أحكام الشريعة، الشيخ أحمد بن محمد مهدي النراقي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

ص: 363

172. مسند أحمد، أحمد بن حنبل الشيباني، دار صادر.

173. مشارق الأحكام، الشيخ محمد بن أحمد النراقي، مؤتمر النراقيين.

174. مشرق الشمسين وإكسير السعادتين، الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسين العاملي، منشورات البصيرتي.

175. مصباح الأصول، تقريرات السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، مكتبة الداوري.

176. مصباح الفقاهة، تقريرات السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، مكتبة الداوري.

177. مصباح الفقيه، الشيخ رضا بن محمد هادي الهمداني، المؤسسة الجعفرية لإحياء التراث.

178. مصباح المنهاج، السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، مؤسسة الحكمة.

179. مطارح الأنظار، تقريرات الشيخ مرتضى الأنصاري، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

180. معارج الأصول، المحقق الشيخ جعفر بن الحسن الحلي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) للطباعة والنشر.

181. معالم الدين وملاذ المجتهدين، الشيخ حسن بن زين الدين العاملي، مؤسسة النشر الإسلامي.

182. معاني الأخبار، الشيخ الصدوق محمّد بن علي القمّي، مؤسسة النشر الإسلامي.

ص: 364

183. المعتبر في شرح المختصر، المحقق الشيخ جعفر بن الحسن الحلي، مؤسسة سيد الشهداء (عليه السلام) .

184. المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد الطبراني، دار الحرمين.

185. معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، دار الزهراء (عليها السلام) .

186. مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، عبد اللّه بن يوسف بن أحمد بن عبد اللّه بن هشام الأنصاري، مكتبة السيد المرعشي.

187. مفاتيح الأصول، السيد محمد بن علي الطباطبائي المجاهد، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

188. مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة، السيد محمد جواد الحسيني العاملي، مؤسسة النشر الإسلامي.

189. المفردات في غريب القرآن، الحسين بن محمد الراغب الإصفهاني، مكتب نشر الكتاب.

190. مقالات الأصول، الشيخ ضياء الدين العراقي، مجمع الفكر الإسلامي.

191. المقنع، الشيخ الصدوق محمّد بن علي القمي، مؤسسة الإمام الهادي (عليه السلام) .

192. المقنعة، الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان البغدادي، مؤسسة النشر الإسلامي.

193. ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، الشيخ محمد باقر المجلسي،

ص: 365

مكتبة السيد المرعشي.

194. من المبدأ إلى المعاد، الشيخ حسين علي المنتظري، دار الفكر.

195. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق محمد بن علي القمي، مؤسسة النشر الإسلامي.

196. مناهج الأخيار في شرح الاستبصار، السيد أحمد بن زين العابدين العلوي العاملي، مكتبة إسماعيليان.

197. المناهل، السيد محمد بن علي الطباطبائي المجاهد، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

198. منتقى الأصول، تقريرات السيد محمد الحسيني الروحاني.

199. منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان، الشيخ الحسن بن زين الدين العاملي، مؤسسة النشر الإسلامي.

200. منتهى الأصول، السيد حسن الموسوي البجنوردي، مؤسسة العروج.

201. منتهى الدراية في توضيح الكفاية، السيد محمد جعفر الجزائري المروج، مؤسسة دار الكتاب.

202.منتهى المطلب في تحقيق المذهب، العلامة الشيخ الحسن بن يوسف الحلي، مجمع البحوث الإسلامية.

203. منتهى المقال في أحوال الرجال، الشيخ محمد بن إسماعيل المازندراني، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

204. المنطق، الشيخ محمد رضا المظفر، مؤسسة النشر الإسلامي.

205. منظومة ابن الأعسم، الشيخ محمد علي بن الحسين النجفي، مجمع

ص: 366

البحوث الإسلامية.

206. منهاج الأصول، تقريرات الشيخ ضياء الدين العراقي، دار البلاغة.

207. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، الشيخ حبيب اللّه الهاشمي الخوئي، دار الهجرة.

208. منهاج الصالحين، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، دار التعارف.

209. مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري، مؤسسة المنار.

210. المواقف، عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، دار الجيل.

211. الميزان في تفسير القرآن، السيد محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة النشر الإسلامي.

212. نقد الرجال، السيد مصطفى بن الحسين الحسيني التفرشي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

213. نهاية الأرب في فنون الأدب، أحمد بن عبد الوهاب النويري، المؤسسة المصرية العامة.

214. نهاية الأفكار، تقريرات الشيخ ضياء الدين العراقي، مؤسسة النشر الإسلامي.

215. نهاية الحكمة، السيد محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة النشر الإسلامي.

216. نهاية الدراية في شرح الكفاية، الشيخ محمد حسين الاصفهاني، منشورات سيد الشهداء (عليه السلام) .

ص: 367

217. نهاية المرام في علم الكلام، العلامة الشيخ الحسن بن يوسف الحلّي، مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام) .

218. نهاية النهاية في شرح الكفاية، الشيخ علي الإيرواني، مكتب الإعلام الإسلامي.

219. النهاية ونكتها، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، مؤسسة النشر الإسلامي.

220. نور الثقلين، الشيخ عبد علي بن جمعة الحويزي، مؤسسة إسماعيليان.

221. هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الاصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي.

222. الهداية في الأصول، تقريرات السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، مؤسسة صاحب الأمر عجل اللّه تعالی فرجه الشريف.

223. الوافية في أصول الفقه، الشيخ عبد اللّه بن محمد التوني ، مجمع الفكر الإسلامي.

224. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

225. الوصائل إلى الرسائل، السيد محمد الحسيني الشيرازي، مؤسسة عاشوراء.

226. الوصول إلى كفاية الأصول، السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار الحكمة.

ص: 368

227. وقاية الأذهان، الشيخ محمد رضا الاصفهاني، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

228. ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام، السيد علي الموسوي القزويني، مؤسسة النشر الإسلامي.

ص: 369

ص: 370

فهرس المحتويات

تنبيهات الشبهة غير المحصورة... 5

التنبيه الأول: في جواز المخالفة في الشبهات غير المحصورة وعدمه... 5

التنبيه الثاني: في حكم شبهة الكثير في الكثير... 9

التنبيه الثالث: في سقوط حكم الشك عن بعض الأطراف... 11

التنبيه الرابع: في حكم ملاقي بعض الأطراف... 13

الصورة الأولى: قول المشهور بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي... 16

وجوب الاجتناب عن ملاقي النجاسة وأدلته... 17

الدليل الأول: كون النجاسة بالسراية الحقيقية... 18

الدليل الثاني: العلم الإجمالي علم بتمام الموضوع... 21

الدليل الثالث: مقتضى العلم الإجمالي وجوب الاجتناب... 23

ولحل هذا الإشكال طرق... 23

الطريق الأول... 23

نكتة تقديم الشك السببي على الشك المسببي... 31

الطريق الثاني... 36

الدليل الرابع: الاجتناب عن ملاقي النجس اجتناب عن النجس... 40

تنبيه: جريان الطهارة موقوف على عدم وجود أصل مؤمن... 54

الصورة الثانية... 56

الصورة الثالثة... 61

فرعان... 63

الفرع الأول: وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى... 63

الفرع الثاني: في اختلاط الإناء المطهر بغيره... 68

ص: 371

التنبيه الخامس: تنجيز العلم الإجمالي للواقع في الأمور التدريجية... 70

أدلة منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات... 72

الدليل الأول: ما ذكره في النهاية... 72

الدليل الثاني: ما ذكره السيد الخوئي... 76

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق العراقي... 77

الدليل الرابع: عدم الفرق في منجزية العلم الإجمالي بين الأمور الدفعية والتدريجية 79

التنبيه السادس: كون الأثر في طرف أكثر من الطرف الآخر... 80

التنبيه السابع: في شرط تنجيز العلم الإجمالي... 89

التنبيه الثامن: في كون أطراف العلم الإجمالي طولية... 91

التنبيه التاسع: في انحلال العلم الإجمالي... 96

أدلة انحلال العلم الإجمالي... 98

الدليل الأول... 98

الدليل الثاني... 100

الدليل الثالث... 105

الدليل الرابع... 106

الدليل الخامس... 108

الدليل السادس... 111

الدليل السابع... 112

الدليل الثامن... 113

التنبيه العاشر: في اشتراك علمين إجماليين على طرف واحد... 113

التنبيه الحادي العاشر: استصحاب الاشتغال بعد الإتيان بأحد طرفي المعلوم بالإجمال 117

فصل في دوران الأمر بين الأقل والأكثر

دوران الأمر بين الأقل والأكثر... 123

ص: 372

المقام الأول: دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين والاستقلاليين... 123

المبحث الأول: وجوه جريان البراءة العقلية عند الشك في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين 124

الوجه الأول: ما يستفاد من كلام الشيخ الأعظم... 124

ويرد عليه إشكالات... 125

الوجه الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم... 139

وأورد عليه بإشكالات... 140

وجوه عدم جريان البراءة في موارد الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين:... 147

الوجه الأول: ما ارتضاه صاحب الكفاية... 147

وأورد عليه بإشكالات... 149

الإشكال الأول... 149

الإشكال الثاني... 149

الإشكال الثالث... 150

الإشكال الرابع... 153

الإشكال الخامس... 156

الإشكال السادس... 157

الإشكال السابع... 158

الوجه الثاني: ما نسب إلى المحقق الشيخ محمد تقي الإصفهاني... 159

لكن يرد عليه إشكالات... 159

الوجه الثالث: عدم تعلق الأمر بالأقل... 161

الوجه الرابع: عدم صلاحية الأمر المتعلق بالأقل للتقرب... 161

الوجه الخامس: كون الشك في سقوط الأمر لا في ثبوته... 163

الوجه السادس: ما حكي عن صاحب الفصول... 165

الوجه السابع: ما ذكره صاحب الكفاية... 167

الوجه الثامن: ما ذكره المحقق العراقي... 167

ص: 373

الوجه التاسع: كون العلم الإجمالي مانعاً عن جريان البراءة عن الأكثر... 169

المبحث الثاني: في جريان البراءة الشرعية عند الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين... 170

تقريرات جريان البراءة الشرعية... 170

التقرير الأول: ما في الكفاية... 171

إشكال وجواب... 174

التقرير الثاني: جريان البراءة الشرعية في الحكم التكليفي... 176

الاستدلال بالاستصحاب على وجوب الأكثر... 177

الاستدلال بالاستصحاب على عدم وجوب الأكثر... 179

المقام الثاني: في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الشك في الشرطية... 186

تذنيبان... 190

المقام الثالث: دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحصلات... 191

المقام الرابع: في دوران الأمر بين التعيين والتخيير... 195

صور الشك بين التعيين والتخيير... 196

الصورة الأولى: الشك في الحجج... 197

الصورة الثانية: الشك بين التعيين والتخيير في موارد التزاحم... 198

أدلة لزوم التعيين في موارد التزاحم... 198

الدليل الأول: أصالة التعيين... 199

الدليل الثاني: التمسك بإطلاق الخطاب... 201

الدليل الثالث: التمسك بأصالة الاشتغال... 203

الصورة الثالثة: دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام جعل الأحكام الواقعية... 204

أدلة جريان الاشتغال في الصورة الثالثة... 209

الدليل الأول: ما ذكره المحقق النائيني... 209

الدليل الثاني: ما استظهر من كلام صاحب الكفاية... 216

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق النائيني... 217

الدليل الرابع: التمسك بأصالة عدم وجوب العدل المحتمل... 217

ص: 374

تنبيه... 218

تنبيهات مباحث الأقل والأكثر... 219

التنبيه الأول: في نقصان الجزء والشرط... 219

الفرع الأول... 219

طرق تصحيح العمل الفاقد للجزء أو الشرط... 219

الطريق الأول... 219

المقام الأول: في إمكان تكليف الناسي بالناقص... 220

المقام الثاني: الدليل على إمكان تكليف الناس بالناقص... 227

الطريق الثاني: إمكان إسقاط عمل الناسي للمأمور به وإن لم يكن مأموراً به 233

الطريق الثالث: ما نقله السيد الوالد... 235

تذييل: صور إطلاق دليل الجزئية وعدمه... 236

الفرع الثاني... 238

الفرع الثالث... 238

التنبيه الثاني: في زيادة الجزء... 239

التنبيه الثالث: في تعذر جزء من أجزاء المركب... 240

المقام الأول: في مقتضى الأصول العقلية... 240

أدلة وجوب الباقي عند تعذر جزء من أجزاء المركب... 240

الدليل الأول: الاستصحاب... 240

الدليل الثاني: البراءة... 246

تتمة... 250

المقام الثاني: في مقتضى الأدلة الاجتهادية... 252

الرواية الأولى... 252

البحث الأول: بحث سندي... 252

البحث الثاني: بحث دلالي... 258

ص: 375

الرواية الثانية... 266

الرواية الثالثة... 271

أدلة اجتهادية أخرى تدل على قاعدة الميسور... 272

تنبيهات قاعدة الميسور... 275

التنبيه الأول: شرط جريان قاعدة الميسور... 275

التنبيه الثاني: حكم الشك في صدق قاعدة الميسور... 276

التنبيه الثالث: في اشتراط كون الميسور من جنس المعسور وعدمه... 277

التنبيه الرابع: جريان قاعدة الميسور في الصلاة... 278

التنبيه الخامس: في حدود العمل بقاعدة الميسور... 278

التنبيه السادس: في جريان قاعدة الميسور في المستحبات... 280

التنبيه السابع: في جريان القاعدة في الشرائط كجريانها في الأجزاء وعدمه... 281

التنبيه الثامن: في دوران الأمر بين ترك الجزء وترك الشرط... 283

التنبيه التاسع: في تقديم البدل على المبدل الناقص وعدمه... 284

التنبيه العاشر: في جريان قاعدة الميسور في المحرمات... 287

التنبيه الحادي عشر: في جريان قاعدة الميسور في الأحكام الوضعية... 287

التنبيه الثاني عشر: في تعذر الجزء وشمول الباقي لقاعدة الميسور وعدمه... 288

التنبيه الثالث عشر: قاعدة الميسور من العمومات القابلة للتخصيص... 289

التنبيه الرابع عشر: في شمول قاعدة الميسور للتعذر الناشئ من سور الاختيار... 290

التنبيه الرابع: في دوران الأمر بين الشرطية والجزئية... 292

خاتمة في شرائط جريان الأصول العملية

المقام الأول: في شرائط جريان أصالة الاحتياط... 297

المقام الثاني: في شرائط جريان البراءة العقلية في الشبهات الحكمية... 298

الدليل الأول... 298

الدليل الثاني... 301

الدليل الثالث... 302

ص: 376

المقام الثالث: في جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية قبل الفحص... 306

المقام الرابع: في اشتراط جريان البراءة النقلية في الشبهات الحكمية بالفحص... 307

الدليل الأول... 308

الدليل الثاني... 308

الدليل الثالث... 309

الدليل الرابع... 309

الدليل الخامس... 310

الدليل السادس... 311

الدليل السابع... 311

الدليل الثامن... 312

الدليل التاسع... 322

الدليل العاشر... 322

المقام الخامس: جريان البراءة النقلية في الشبهات الموضوعية مشروط بالفحص أم لا... 322

الأقوال في جريان البراءة النقلية في الشبهات الموضوعية... 323

القول الأول: وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية... 323

الدليل الأول... 323

الدليل الثاني... 324

الدليل الثالث... 325

الدليل الرابع... 327

الدليل الخامس... 327

الدليل السادس أو يعتبر مؤيداً... 328

الدليل السابع... 328

الدليل الثامن... 329

الدليل التاسع... 329

الدليل العاشر... 331

ص: 377

القول الثاني: عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية... 332

القول الثالث: التفصيل الذي نقله السيد العم... 338

القول الرابع: التفصيل الذي ذكره السيد الحكيم... 339

القول الخامس: ما نقله السيد العم... 340

القول السادس: ما ذكره المحقق النائيني... 341

القول السابع: ما ذكره بعض المتأخرين... 343

القول الثامن: التفصيل الذي ربما يستظهر من كلمات الشيخ الأعظم... 344

فهرس المصادر... 349

فهرس المحتويات... 371

ص: 378

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.