موسوعة الفقيه الشيرازي (تبيين الأصول الجزء السابع) المجلد 10

هوية الكتاب

موسوعة الفقيه الشيرازي

(10)

تبيين الأصول

الجزء السابع

تقرير أبحاث:

آية اللّه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

بطاقة تعريف:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان المؤلف واسمه:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مواصفات المظهر:21ج.

شابك:دوره: 8-270-204-964-978

ج21: 3-291-204-964-978

حالة الاستماع:فيپا

لسان:العربية

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

تصنيف الكونجرس:1394 8م5ح/8/159BP

تصنيف ديوي:297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية:4153694

ص: 1

اشارة

سرشناسه:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان و نام پديدآور:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضاالحسيني الشيرازي.

مشخصات نشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مشخصات ظاهری:21ج.

شابك:دوره: 8-270-204-964-978

ج10: 7-280-204-964-978

وضعيت فهرست نويسی:فيپا

يادداشت:عربي

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول،جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع: اصول، فقه شيعه - قرن 14

رده بندی كنگره:1394 8م5ح/8/159BP

رده بندی ديويی:297/312

شماره كتابشناسی ملی:4153694

موسوعة الفقيه الشيرازي

شجرة الطيبة

-------------------

آية اللّه الفقيه السيّد محمّد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبعة: قدس

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1437ه- .ق

-------------------

شابك دوره: 8-270-204-964-978

شابك ج10: 7-280-204-964-978

-------------------

دفتر مركزي: قم خيابان معلم، میدان روح اللّه،

نبش كوچه 19، پلاك 10، تلفن: 9 – 37744298

چاپ: شركت چاپ قدس، تلفن 37731354 فكس 37743443

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاة والسلام على مُحمّدٍ وآله

الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين،

آمين ربَّ العالمين.

ص: 3

ص: 4

فروع في قاعدة التسامح

اشارة

ويبقى الكلام في فروع:

الفرع الأول: شمول قاعدة التسامح لفتوى الفقيه

في شمول قاعدة التسامح في أدلة السنن لفتوى الفقيه، حيث يمكن القول: إنّ بلوغ الثواب أعم من البلوغ بالدلالة المطابقية والالتزامية، وحينما يفتي الفقيه بالاستحباب فإنّ المدلول المطابقي هو ثبوت الاستحباب والمدلول الالتزامي ثبوت الثواب، فالإخبار بالاستحباب إخبار بالثواب، وقد مرّ في ما سبق(1) أنّ الإخبار بالشيء إخبار بتمام اللوازم والملزومات والملازمات فتكون فتوى الفقيه بلحاظ الدلالة الالتزامية مندرجة في عموم من بلغه ثواب على عمل.

وبعبارة مختصرة: إنّ لفتوى الفقيه مدلولين: مطابقي والتزامي، وبلحاظ الثاني تكون فتواه مشمولة لأخبار (من بلغ).

لكن أشكل عليه في النهاية حيث قال: «إنّ البلوغ في زمان صدور هذه الروايات حيث إنه كان بنقل الرواية عن المعصومين (عليهم السلام) ، فإطلاقه منصرف إلى الخبر عن حس لا الخبر عن حدس... نعم، إذا علمنا من مسلك الفقيه أنه لا يفتي إلا عن ورود الرواية في المسألة، ففتواه بالالتزام تكشف عن ورود رواية بالاستحباب، ولكنه مع ذلك يحتاج إلى التسامح

ص: 5


1- باب الإخبار.

في الأدلة؛ إذ غاية ما يقتضيه مسلكه هو الاستناد إليها، وأما استفادة الاستحباب فموكولة إلى نظره »(1).

ويرد عليه إشكالان:

الأول: أصالة الحس العقلائية، فإنها تقتضي أن تكون فتوى الفقيه عن حس لا عن حدس. حيث يحتمل في فتوى الفقيه بالاستحباب احتمالان: الأول: أن يكون حسياً ناشئاً عن رواية المعصوم (عليه السلام) فيكون حجة.

الثاني: أن يكون حدسياً ناشئاً عن الاجتهاد، كاعتماده على القواعد العقلية، كالإفتاء باستحباب مقدمة الواجب اعتماداً على حكم العقل بوجوبها أو رجحانها، وكلُّ ما كان كذلك عقلاً كان راجحاً شرعاً مثلاً، أو لتنقيح المناط أو لاجتهادات ظنية من دون استناد إلى الخبر، ومع وجود الاحتمالين تقضي أصالة الحس العقلائية بالأول.

كما هو الحال في باب الشهادات، فيما لو شهد شاهدان بالهلال، فيحكم بكونه حسياً مع احتمال الحدس، وكما هو الحال في باب التوثيقات الرجالية، حيث إنه لو كانت شهادتهم حدسية لم تكن مشمولة لأدلة حجية الخبر، على تفصيل ذكر في محله.

نعم، لو كثر اعتماد المخبر على القضايا الحدسية في مورد أمكن عدم جريان الأصل المذكور، وأما في المقام فلا مانع من جريانه.

الإشكال الثاني: ما في المنتقى(2) حيث قال: «إنّ ظهورها في الإخبار عن

ص: 6


1- نهاية الدراية 2: 542.
2- من دون أن يتعرض إلى كلام النهاية.

حس لا نرى له وجهاً عرفياً»(1).

فقوله (عليه السلام) (من بلغ) يشمل الحس والحدس.

لكنه محل تأمل للانصراف، كما يسلم به في أدلة حجية قول العادل، فإذا أخبر بعدم تناهي الأبعاد فهل يكون إخباره مشمولاً لآية النبأ، وسائر أدلة صدق العادل؟! يبعد أن يقول فقيه بحجية الإخبارت الحدسية للعادل.

ويرد على ما في النهاية(2) إشكال لفظي، حيث قال: «إنّ البلوغ في زمان صدور هذه الروايات، حيث إنه كان ينقل الرواية عن المعصومين (عليهم السلام) فإطلاقه منصرف إلى الخبر عن حس لا الخبر عن حدس» ولا بد من تقييد العبارة ب- «مما أوجب تحول وجهة لفظ البلوغ إلى البلوغ الحسي» ليصح الانصراف؛ وذلك لأنه لو عُلِّق حكم على عنوان كلي، وكان مصداقه أو محققه فرداً خاصاً في زمن المعصوم (عليه السلام) فلا يكون صرف هذا الانحصار الطبيعي في هذا المصداق أو الفرد موجباً لانصراف الطبيعي إلى خصوصه؛ لأنّ القضايا الشرعية مسوقة على نحو القضايا الحقيقية، فتنطبق حتى على المصاديق المتجددة، كما لوقال المولى: «من أنار مسجداً فله كذا» وقد كان للإنارة في ذلك العهد محقق خاص، فهل هذا في حد ذاته يوجب حصر العنوان الكلي فيه؟ كلا، ويبعد الالتزام بذلك في الفقه، ولذا قالوا في بحث الانصراف: إنّ كثرة الوجود والاستعمال لا يوجبان الانصراف، وإنما الموجب له تحول وجهة اللفظ من الطبيعي إلى الحصة الخاصة.

ص: 7


1- منتقى الأصول 4: 531.
2- نهاية الدراية 2: 542.

وعليه لا يكون فرق بين الرواية والفتوى في شمول أخبار (من بلغ).

نعم لو علم من مسلك الفقيه(1) كثرة الاعتماد على الظنونات والاستحسانات والقياسات والمقدمات العقلية، فيشكل جريان أصالة الحس فيه.

الفرع الثاني: إلحاق الكراهة بالاستحباب في شمول روايات (من بلغ)

قال جمع من الفقهاء(2): إنّ روايات (من بلغ) لا تشمل الأخبار الضعيفة الدالة على المكروهات؛ وذلك لأنّ مفادها بلوغ الثواب على الفعل، وليس الأمر كذلك في الكراهة، فلا يمكن للفقيه الفتوى بها.

إلا أنّ للشمول طرقاً:

الطريق الأول: تنقيح المناط، فلا فرق بين الاستحباب والكراهة، حيث يتحقق في كل منهما حكم إلزامي.

ولكن عهدته على مدعيه، كغالب موارد دعوى تنقيح المناط في الفقه.

الطريق الثاني: دعوى أنّ ترك المكروه مستحب، فالخبرالضعيف المتضمن للكراهة تثبتها بالدلالة المطابقية، وتثبت استحباب الترك بالمدلول الالتزامي، فقد بلغ الثواب على ترك هذا المكروه، فيكون مشمولاً لأدلة (من بلغ).

ولكنه محل إشكال، لما ثبت في مباحث الضد من أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده العام، وأنّ النهي عن الشيء لا يقتضي الأمر بضده

ص: 8


1- كابن الجنيد.
2- عوائد الأيام: 795؛ بحر الفوائد 2: 70؛ هداية المسترشدين 3: 472.

العام. وبعبارة أخرى لا ينحل الحكم الواحد إلى حكمين على طرفي الشيء، فترك الواجب ليس بحرام، وترك المحرم ليس بواجب، وترك المكروه ليس بمستحب، وترك المستحب ليس بمكروه.

الطريق الثالث: مركب من خمسة مقدمات، وهي:

الأولى: إنّ ترك المكروه فيه ثواب، لترتب الآثار في الآيات الكريمة والروايات الشريفة على إطاعة اللّه(1)، ولا فرق في الإطاعة بين كونها إطاعة للأمر الاستحبابي أو للنهي التنزيهي، فإنّ كلاً منهما إطاعة، فإطاعة النهي التنزيهي فيه ثواب قطعاً.

الثانية: الخبر الضعيف الدال على الكراهة يدل بالالتزام على الثواب في تركه.

الثالثة: أخبار (من بلغ) تضمن الثواب المدلول عليه بالدلالة الالتزامية في الخبر الضعيف.

الرابعة: لازم ثبوت الثواب على الترك كراهة الفعل، فإنه لو قيل: إنّ ترك هذا العمل فيه الثواب كان معناه كراهة العمل، وربما مستنده الدلالة العرفية، فلا فرق بين قول المولى: إنّ ترك العمل محبوب، وبين قوله: إنّ العمل مبغوض ومكروه.

الخامسة: تقرير هذا الثواب جعل لملزومه وهو الكراهة، فإنّ ضمان المولى للثواب مساوق لجعل ملزومه وهو الكراهة.

فتكون النتيجة إثبات الكراهة التي دل عليها الخبر الضعيف بأخبار (من

ص: 9


1- كقوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} آل عمران: 132.

بلغ).

لكنه محل إشكال من وجوه:

الأول: لأنّ المنصرف من أخبار (من بلغ) الوجوديات لا العدميات، لا لأنّ (الشيء) خاص بها ولا يشمل الأعدام المضافة، بل لظهور الروايات في ذلك، ففي صحيحتي هشام (فعمله) و(فصنعه)، ورواية صفوان (فعمله)، وروايتي محمد بن مروان (ففعل ذلك) و(فعمل ذلك العمل) ورواية ابن فهد (فعمل به) وكذا رواية الإقبال.

فإنها ظاهرة في الأمور الوجودية، أو منصرفة إليها، أو قدرها المتيقن الذي يقدح في إطلاق المطلق.

وأما القول: إنّ العدم المضاف له حظ من الوجود فغير تام؛ لأنّ العدم لا حظ له من الوجود، سواء كان مطلقاً أم مضافاً، فالعدم عدم ولا يمكنه أن يكون مصداقاً للوجود، والشيئية مساوقة للوجود(1).

الثاني: ما اعتمد عليه في المنتقى(2):

من أنّ الملازمة في المقام عقلية لا عرفية.

ومفاده أنّ المدلول الالتزامي للخبر الضعيف الدال على الكراهة هو ثبوت الثواب على الترك، وهذه الملازمة عقلية لا عرفية، فلا تشمله أخبار (من بلغ).

لكنه غير واضح؛ لعدم الفرق في صدق البلوغ بين كون الملازمة عقلية

ص: 10


1- فعدم الذهاب إلى طهران وإن كان عدماً مضافاً إلا أنه ليس مصداقاً للوجود.
2- منتقى الأصول 4: 536.

أو عرفية، فلو كان لخبر المخبر لازم عقلي وكانت الملازمة ثابتة أمكن القول ببلوغه، فإنّ البلوغ أعم من البلوغ بما هو لازم عرفاً أو عقلاً.

الثالث: المقدمة الرابعة غير واضحة.

الطريق الرابع: ما ذكره في التهذيب(1): حيث استدل بجملة من الأخبار مفادها أنّ الحكمة ضالة المؤمن، فحيثما وجد أحدكم ضالته فليأخذها، قال: «إذ لا ريب أنّ ذلك كله من الحكمة، وقد فسرت بكل ما فيه خير وصلاح».

لكنه محل تأمل: لأنّ ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، وكونه حكمة أول الكلام.

وبعبارة أخرى: إنّ الحكم لا يتكفل موضوعه، فما ثبت أنه خير وحكمة وصلاح فهو ضالة المؤمن، ولم يثبت أنّ هذا المكروه الذي تضمنه الخبر الضعيف كذلك.

الطريق الخامس: إنّ مورد الأخبار وإن كان مختصاً بالأفعال الوجودية، إلا أنّ العرف بحسب المناسبات المركوزة في الذهن يلغي خصوصية الفعل والترك والوجود والعدم، ويفهم أنّ تمام الموضوع بلوغ ما ادعي أنه خير وفيه ثواب.

وقد ذكر عَرَضاً في الكتب الفقهية والأصولية بحث تحت عنوان مناسبات الحكم والموضوع، حيث إنّ لسان الدليل قد يكون ضيقاً، لكن العرف يراه واسعاً، وقد يكون بالعكس.

ص: 11


1- تهذيب الأصول 2: 172.

وليس ذلك من تنقيح المناط، فإنه مبني على أنّ مفاد الدليل أمور وجودية، فينقح المناط بعدم الفرق بين الوجوديات والعدميات، وأما المقام فهو فهم الدليل في محدود أوسع، أي فهم الدليل لا الإلحاق بمفاده.

إن قلت: إنه قياس.

قلت: القياس إلحاق جزئي بجزئي آخر، ففيه أصل وفرع وحكم وجامع مشترك ظني، وأما مناسبة الحكم والموضوع فليس فيه أصل وفرع، بل المفاد الواسع هو الأصل. فمثلاً: لو سئل عن رجل أوصى لابنه أن يحج عنه بعد موته، فأجيب يخرج من الثلث، فهل العرف يرى خصوصية الرجولة في الموصي، أو خصوصية كون الموصى إليه هو الابن، ولو أريد الجمود على المعاني الحرفية واللغوية للألفاظ في الفقه من أوله إلى آخره لزم تأسيس فقه جديد.

الطريق السادس: فهم المشهور، وفي المقام صغرى وكبرى.

أما الصغرى: فقد ذكرها جمع من المعاصرين، قال الشيخ الأعظم: «مضافاً إلى ظاهر إجماع الذكرى، وصريح اتفاق الوسائل، بل جميع معاقد الاجماعات، بناء على أنّ السنة تشمل ترك المكروه، مضافاً إلى ظهور الإجماع المركب»(1) فمن ذهب إلى التسامح لم يفرق بين المستحب والمكروه، وكذا من لم يذهب، فالقول بأحدهما دون الأخر خرق للإجماع المركب.

وقال في التهذيب: «جرت سيرة العلماء على التسامح في أدلة المكروهات، ويمكن أن يكون مدرك التسامح الإجماع على التسامح

ص: 12


1- أوثق الوسائل: 304، نقلاً عن الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) .

فيه»(1).

وقال في موضع من النهاية(2): «قيل: المشهور»، وفي موضع آخر: «فالحق مع المشهور في إلحاق الكراهة بالاستحباب».

والظاهر أنّ من تتبع الكتب الفقهية يقطع بعدم تفريق المشهور بين أدلة المستحبات والمكروهات.

وأما الكبرى: فهي في حجية فهم المشهور وجبره لدلالة الخبر فموكولة إلى ما مرّ من مباحث الشهرة، والمتتبع للكتب الفقهية يرى أنّ معظم الفقهاء في معظم الموارد اعتمدوا على فهم المشهور، نذكر بعض النماذج:

قال الشيخ الأعظم في الطهارة في بحث الاستبراء من الحيض: والإنصاف أنه لولا فتوى الأصحاب بالوجوب كان استفادته(3) من هذه الأخبار مشكلة... فالعمدة فهم الأصحاب»(4).

وقال في الجواهر: «والوهن في الدلالة مجبور بفتوى كثير من الأصحاب»(5) وقال: «بقرينة الشهرة ونحوها تحمل الغلبة على إرادة التغير»(6) (7).

ص: 13


1- تهذيب الأصول 2: 172.
2- نهاية الدراية 4: 189-190.
3- أي وجوب الاستبراء.
4- كتاب الطهارة 3: 337.
5- جواهر الكلام 1: 20.
6- جواهر الكلام 1: 81.
7- أي الغلبة في قوله: «إذا غلب الدم الماء» يعني التغيير والتغير.

وقد استند صاحب الجواهر في موارد كثيرة إلى فهم الفقهاء، منها: كتاب الطهارة ج 1، ص 95 و 116 و 26، ومنها: كتاب الصلاة ج 9، ص 19و 20 و 39، و منها: كتاب الخمس ج 16، ص 71، ومنها: كتاب الصوم ج 17، ص 31 و 36 و 39 و 41 و 82، ومنها: كتاب الحج ج 17، ص 403 و ج 18، ص 251 و 342 و 371 و 389 و 391 و 408 و 423، و ج 19، ص 11 و 41 و 59 و 68 و 240 و 272 و 313، ومنها: كتاب العمرة ج 29، ص 454، ومنها: كتاب الجهاد ج 21، ص 270 ومنها: كتاب النكاح ج 31، ص 207.

قال السيد العم (دام ظله) بعد ذكر هذه المدارك: «ما ذكرناه لعله لا يبلغ عشر ما في الجواهر»(1).

وقد اعتمد المحقق العراقي في شرح التبصرة على فهم الفقهاء، كما في كتاب الصوم الجزء 4 الصفحة 245 و 253، وكتاب الجهاد الجزء 6 الصفحة 539.

والسيد تقي القمي - الذي يرى عدم حجية الإجماع المنقول، بل المحصل القطعي - ربما في عشرات الموارد من الدلائل، اعتمد على فهم الأصحاب، بل جعل في بعض الموارد(2) أحد الأدلة الشهرة في الألسن والكلمات.

والحاصل: إنه لا يمكن تطبيق المبنى على الفقه، فمن كان محيطاً به وإن

ص: 14


1- بيان الفقه 1: 68.
2- الدلائل 1: 517.

طبقه في بعض الموارد، أو بحث عن أدلة أخرى أو لجأ إلى التسالم(1)، إلا أنه يضطر إلى الاعتماد على فهم المشهور، أو عملهم في موارد كثيرة، والتجربة العملية خير دليل عليه، وقد مرت عبارة السيد السبزواري: «أنّ كتابة الفقه بلا اعتماد على الشهرة يستلزم ظهور فقه لا يرتضيه حتى اليهود والنصارى».

فما اشتهر في هذا الزمان من أنّ الشهرة، بل الإجماع ولو كان محصلاً لا قيمة له لا يخلو من تأمل، وتفصيل الكلام في مباحث الحجج والأمارات.

ولا يخفى أنّ الإلحاق وعدمه مبني على القول بالاستحباب أو الحجية، أما على الإرشاد إلى حكم العقل فالملاك هو الاحتمال، ولا فرق في انقداح الاحتمال بين المستحبات والمكروهات، فإنّ الإتيان بالمستحب أو ترك المكروه مع عدم ثبوت الخبر نوع من أنواع الانقياد للمولى، والانقياد مستحب مطلقاً، سواء كان متعلقه الوجوديات أم العدميات.

الفرع الثالث: في التسامح في الآداب والفضائل

هل يمكن القول بالتسامح في أدلة الآداب والفضائل والمواعظ وأشباهها؟ ولا يخفى أهمية هذا البحث.

توجد في المقام صورتان:

الأولى: أن لا يكون العمل المتعلق بالموضوع المخبر به من مقولة القول، كأن يخبر بأن هذا المكان مسجد، أو هذه البقعة من وادي السلام مدفن صالح وهود، فيكون مشمولاً لصلاة تحية المسجد.

ص: 15


1- ربما يكون التسالم عبارة عن فهم المشهور أو عبارة أخرى عن الإجماع أو مرتبة من مراتبه.

والظاهر شمول أدلة التسامح لهذه الصورة؛ لأنه وإن كان إخباراً عن الموضوع الخارجي بالدلالة المطابقية، إلا أنه إخبار بترتب الثواب على العمل بالدلالة الالتزامية، فلو صلّى في المثال المذكور كان الثواب الموعود مضموناً.

إن قلت: فهل يمكن دخول الجنب فيه؟

قلت: نعم، حيث لم يثبت أنه مسجد، والأخبار أنما أثبتت استحباب الصلاة فيه، فإنّ أخبار (من بلغ) تثبت مجرد المدلول الالتزامي للخبر الضعيف، وليست الدلالة الالتزامية متفرعة على ثبوت الدلالة المطابقية، فلو كان للخبر مدلولان ولم يثبت المدلول المطابقي، فلا مانع من شمول أدلة الحجية للمدلول الالتزامي، فإنّ تفرع الثاني على الأول تفرع في الثبوت لا في الإثبات، والتفكيك جارٍ في الفقه في مقام الإثبات من أوله إلى آخره، كما في الحكم بصحة البيع المعاطاتي للبائع دون المشتري على فرض اختلافهما تقليداً في ذلك، مع أنّ العقد الواحد لا يتبعض(1)، وكما في الصلاة تماماً في موضع مشكوك عند الخروج من الوطن، وقصراً عند الرجوع، مع قطع النظر عن المخالفة القطعية العملية للعلم الإجمالي(2)، وكذا الحكم ببقاء نجاسة الثوب المتنجس بعد غسله بالماء المشكوك كريته، مع الحكم بطهارة الماء بعد الغسل(3) وهكذا المقام، فالجنب يمكنه

ص: 16


1- العروة الوثقى 1: 45.
2- العروة الوثقى 3: 417.
3- العروة الوثقى 1: 83.

الدخول في المكان، وأما الصلاة فيه فيترتب عليها ثواب تحية المسجد، وتفصيل الأمر مذكور في الأصول عَرَضاً بعنوان عدم تفرع الدلالة الالتزامية على الدلالة المطابقية في عالم الإثبات.

الصورة الثانية - وهي موضع الإشكال -: فيما لو كان العمل المتعلق بالموضوع المخبر به من مقولة القول، كالإخبار بالفضائل والآداب والمواعظ والمصائب بعنوان الصدور لا الحكاية.

والشبهة المطروحة في المقام هي شبهة الكذب.

ولا بد قبل الخوض في البحث من معرفة ملاك الكذب المذكور في المكاسب المحرمة والمطول.

وفيه قولان(1):

الأول: الكذب عبارة عن الكذب الخبري، وملاكه عدم مطابقة النسبة الكلامية للنسبة الواقعية الخارجية، فإن طابق فهو صدق.

الثاني: الكذب عبارة عن الكذب المخبري، وملاكه مخالفة الخبر للاعتقاد أو عدم المطابقة(2)، بخلاف الصدق والذي ملاكه مطابقة الخبر للاعتقاد.

أما على المبنى الأول: فيمكن التشكيك في انطباق عنوان الكذب على

ص: 17


1- وقد ذكر في المطول احتمالات أخرى (منه (رحمه اللّه) ).
2- والثاني أعم من الأول، فإنه يشمل ما إذا كان مخالفاً للاعتقاد، وما لم يكن مخالفاً ولا مطابقاً له، كما في حالة الشك، فلو أخبر شخص أن زيداً خلف الجدار، ولا يعلم بمطابقة الخبر للواقع، فعلى الأول ليس كذباً؛ لعدم مخالفته للاعتقاد، بل هو شك في مطابقة النسبة الخبرية للنسبة الخارجية، وعلى الثاني كذب؛ لعدم مطابقة الخبر للاعتقاد (منه (رحمه اللّه) ).

الإخبار بالفضائل والآداب والمواعظ والمصائب؛ لعدم علم المتكلم بمطابقة النسبة الكلامية للنسبة الواقعية الخارجية، فلا يعلم أنّ الكلام كذب، كما لا يعلم أنه صدق، وبما أنّ الشبهة موضوعية لا يجب الفحص فيها على المشهور أمكن إجراء البراءة عن حرمة الإسناد في المقام.

لكنه محل تأمل، للعلم الإجمالي بحرمة هذا الإخبار أو بحرمة نقيضه، ولا يخلو الواقع من أحد الطرفين، فلو علم إجمالاً بأنّ الإخبار بمجيء زيد أو عدم مجيئه كذب تنجزت الحرمة الواقعية عليه، فلا يجوز له الإخبار بأحد الطرفين.

إن قلت: أحد الطرفين منجز بالمنجز السابق، وهو أخبار (من بلغ) فلا أثر للعلم الإجمالي.

قلت: إنها لا تخصص أدلة المحرمات والواجبات القطعية كما مرّ، فلو بلغ الثواب على استحباب الكذب على الزوجة مثلاً، فهل يمكن تخصيص عمومات حرمة الكذب؟

وأما على المبنى الثاني: فإنّ النسبة بين الصدق والكذب نسبة التضاد(1)، ولا يرتبط الأمر بالنسبة الخارجية، بل الصدق موافقة الخبر للاعتقاد والكذب مخالفته له، وعليه لا يمكن القول: إنّ هذا الإخبار كذب؛ لأنه لم يتحقق مخالفة الاعتقاد، ولو لعدم وجود الاعتقاد، فيكون سالبة بانتفاء الموضوع، كما أنه ليس صدقاً.

لكن الإشكال في أنه قول بلا علم، وهو محرم فقد قال تعالى: {أَتَقُولُونَ

ص: 18


1- لأن المتضادين أمران وجوديان يتعاقبان على محل واحد.

عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُون}(1)، وقال سبحانه: {وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(2) أي لا تتبع، والاتباع إما قولي أو عملي.

وأما على المبنى الثالث: فإن الصدق عبارة عن مطابقة الخبر للاعتقاد، والكذب عبارة عن عدم مطابقة الخبر للاعتقاد، فهو أمر عدمي، ومع الشك ينطبق على الإخبار عنوان الكذب؛ لأنّ مطابقة الخبر للاعتقاد صدق وجميع الصور الأخرى كذب.

وقد اعتمد على الشبهة المذكورة جمع من الفقهاء، ولذا أفتوا ببطلان الصوم في شهر رمضان مع الإخبار كذلك، فلا بد من الحكاية، قال المحقق النائيني: «لو أخبر بطل صيامه»(3)، واحتاط صاحب العروة وجوباً بعدم الإخبار في كل ما لا يعلم صدقه وكذبه(4).

ولحل هذه الشبهة طرق:

الطريق

الأول: ما بنى عليه الشيخ الأعظم وحصر الدليل فيه: من أنّ «العمل بكل شيء على حسب ذلك الشيء، والعمل بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ هو نقلها واستماعها، وضبطها في القلب، وترتيب الآثار عليها»(5).

توضيحه: المخبر عن فضيلة مخبر عن ترتب الثواب على نقلها ونشرها،

ص: 19


1- الأعراف: 28.
2- الإسراء: 36.
3- اجود التقريرات 1: 513.
4- العروة الوثقى 3: 551.
5- اوثق الوسائل: 304، مع تقديم وتأخير في العبارة.

فيكون مشمولاً لأدلة (من بلغ): وبعبارة أخرى، ربما هي أقرب إلى مقصود الشيخ: إنّ عمل كل شيء بحسبه، فالعمل بخبر المصيبة هو البكاء والإبكاء، والعمل بخبر الفضيلة هو النقل والنشر، فعمومات أدلة (من بلغ) تشمل النقل المذكور.

لكنه محل تأمل؛ لأنّ للإخبار مدلولين: مطابقي والتزامي - وإن كان في عبارة الشيخ غموض في أنه ناظر إلى المدلول المطابقي أو الالتزامي-.

أما المطابقي فليس إخباراً بالثواب على عمل، بل إخبار عن موضوع خارجي. وأما الالتزامي فإنه وإن كان المدلول الالتزامي للخبر بلوغ الثواب على النقل والنشر والضبط، إلا أنّ شمول أخبار (من بلغ) فرع عدم وجود عموم للحرمة، وعمومات الكذب والقول بدون علم مانع عن شمول أخبار (من بلغ) لهذا المدلول الالتزامي.

وبعبارة أخرى: لا بد أن يكون الشيء مباحاً في حد ذاته بغض النظر عن أخبار (من بلغ) فتفيد الأخبار استحبابه، أما لو كان الشيء في حد ذاته حراماً بمقتضى العمومات فلا يمكن تبديله إلى الاستحباب بالأخبار المذكورة(1).

إلا أن يقال: إنّ أخبار (من بلغ) تتصرف في الموضوع، فتجعل القول بلا علم قولاً بالعلم.

ص: 20


1- أقول: وفيه لو كان ذلك شرطاً لم يصح التمسك بأدلة (من بلغ) لاستحباب العبادات الواردة بالخبر الضعيف، كالكثير من الصلوات المسنونة، وذلك لأن عبادية العبادة والإتيان بها من دون دليل عليها - بغض النظر عن أدلة (من بلغ) - تشريع محرم، ولا يمكن لأدلة (من بلغ) أن تجعل المحرم مستحباً حسب الفرض (المقرر).

وحاصل الطريق الأول مع النقض والإبرام: إنّ الإخبار بالمنقبة أو بالمصيبة وإن كان إخباراً عن الموضوع الخارجي إلا أنّ مدلوله الالتزامي ثبوت الثواب على نقلها، فتضمنه أخبار (من بلغ)، وتضمين الثواب - على ما تقدم - ملازم لثبوت استحباب العمل، وثبوت استحباب العمل ملازم عرفاً لعدم كون النقل كذباً أو لكونه صدقاً، فالإخبار بالفضيلة خارج على نحو الخروج الموضوعي عن الكذب والقول بلا علم.

ونظيره نسبة مؤديات الأمارات إلى الشارع، مع عدم العلم بها، فكيف تنسب الحرمة والوجوب إلى الشارع مع أنه قول بلا علم؟ والجواب بعد اعتبار الشارع الأمارة تخرج مؤداها عن كونه قولاً بغير علم على نحو الحكومة أو الورود(1).

الطريق الثاني: ما حكي عن المحقق النراقي(2)، فقد استدل على جواز النقل بكونه مصداقاً للإبكاء، ولا شك أن البكاء والإبكاء على مصائب سيد الشهداء (عليه السلام) راجح، فإنّ «من بكى أو أبكى فله الجنة»(3).

ونظيره انطباق عنوان الإعانة على البر والتقوى، فإنّ النقل إعانة على البكاء، فيكون إعانة على البر والتقوى، فيكون راجحاً.

لكنه محل إشكال نقضاً وحلاً:

ص: 21


1- فلو كان موضوع حرمة نسبة القول بلا علم إلى الشارع هو العلم الوجداني كانت أدلة اعتبار الأمارات حاكمة، ولو كان الموضوع أعم من العلم الوجداني والتعبدي كانت واردة، وبكلمة واحدة الأمارات قائمة مقام العلم (منه (رحمه اللّه) ).
2- مشارق الأحكام: 228.
3- كامل الزيارات: 201.

أما نقضاً: فإنّ لازمه القول بحلية الغناء في المراثي لو انطبق عليها عنوان الإبكاء، فإنّ الغناء مبكٍ ومحرك للعاطفة؟ وكذا لو انطبق على استعمال آلات اللّهو عنوان إجابة دعوة المؤمن، فهل يمكن الحكم برجحان هذا الاستعمال؟ وهل يمكن الالتزام بذلك؟

وأما حلاً: فإنّ رجحان عناوين الإعانة والإبكاء مقيد بالسبب المباح، ويدل عليه أولاً: الإجماع. وثانياً: انصراف أدلة هذه العناوين لغير المورد المحرم. وثالثاً: تزاحم ملاك الحرمة وملاك الاستحباب في المورد، فيتقدم أقواهما، وعليه لا بد من ثبوت الإباحة بالدليل الخارجي حتى يثبت استحباب الفعل.

الطريق الثالث لدفع الشبهة: ما بنى عليه المحقق النائيني(1) وتبعه السيد الوالد (رحمه اللّه) : من كون مفاد أخبار (من بلغ) ثبوت حجية الخبر الضعيف، وعليه تندرج الفضيلة المحكية والمصيبة المنقولة فيما قامت عليه الحجة المعتبرة شرعاً، فتخرج عن عنوان الكذب.

لكنه محل تأمل، فهل مفاد أخبار (من بلغ) إثبات الحجية المطلقة أو المقيدة أي المحيثة - الحجية من حيث الثواب- وقد مرّ أنّ في الإخبار كون الموضع الكذائي مسجداً لا يثبت وجوب تطهيره، وإن كان مفاد الأخبار حجية الخبر الضعيف؛ لأنه حجة في إثبات الثواب لا في جميع الجهات، إلا أن يتمم الطريق بما تمم به الطريق الأول.

الطريق الرابع: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في مقام آخر، وربما ينفع في

ص: 22


1- فوائد الأصول 3: 413.

هذا المقام.

قال صاحب العروة: «فالأحوط لناقل الأخبار في شهر رمضان مع عدم العلم بصدق الخبر أن يسنده إلى الكتاب، أو إلى قول الراوي على سبيل الحكاية»(1).

وعلق عليه السيد الوالد (رحمه اللّه) بقوله: «بل الأولى».

ثم ناقش حتى في الأولوية، حيث قال في الفقه: «بل لو قلنا: إنّ الظاهر من الإخبارات أنها مسندة لعلم السامعين بأنّ المتكلم أنما ينقله عن مصدر، فلا فرق عندهم بين أن يقول قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وبين أن يقول روي أنه قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو يقول في الكتاب الفلاني قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان الاحتياط الأولوي محل نظر أيضاً»(2).

إلا أنه خروج موضوعي عن المقام؛ لأنّ مآله إلى أنه ليس إخباراً بالمؤدّى، بل بقيام الطريق على المؤدّى. فحينما يقول الخطيب: (قال النبي أو عمل كذا) فليس إخباراً عن فعله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، بل إخبار عن قول الرواي، فيكون مفاد ما ذكره (رحمه اللّه) حرمة الإخبار الجزمي.

لكنه ينفع في المقام لإثبات جواز قول القائل: (قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) )، حيث إنّ معناه عرفاً (نقل أنه قال).

الطريق الخامس: الشهرة والإجماع المنقول والسيرة.

قال الشهيد في الدراية: «جوز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في نحو

ص: 23


1- العروة الوثقى 3: 552.
2- الفقه 34: 205.

القصص والمواعظ وفضائل الأعمال لا في صفات اللّه وأحكام الحلال والحرام، وهو حسن، حيث لم يبلغ الضعف حدّ الوضع والاختلاق»(1).

وقال الشيخ الأعظم في عداد الأدلة: «مضافاً إلى إجماع الذكرى»(2).

وقال السيد السبزواري: «قد جرت سيرة العلماء على التسامح في أدلة الفضائل والمعاجز والأخلاقيات، وما ورد لدفع الأوجاع والأمراض، وما ورد لقضاء الحوائج من الصلوات والدعوات، ويمكن أن يكون مدرك التسامح في غير الثواب الإجماع على التسامح فيه»(3).

إلا أن يقال: إنّ السيرة لا لسان لها، لاحتمال استنادهم إلى ظهور (قال) في الحكاية، أي (نقل أنه قال).

لكن ظاهر هذه العبارات ثبوت التسامح.

الفرع الرابع: شمول أدلة السنن لكتب أبناء العامة

هل يعتبر في الأخبار أن تكون مدونة في كتب الخاصة، أم أنّ أدلة التسامح تشمل الروايات الواردة في كتب العامة في المستحبات والمندوبات؟

اختار المحقق المشكيني الشمول(4)، لكنه لم يُقِم عليه دليلاً، وقال الشيخ الأعظم: «الأقوى الشمول لإطلاق الأخبار»(5).

ص: 24


1- الدراية: 29.
2- اوثق الوسائل: 304.
3- تهذيب الأصول 2: 172.
4- كفاية الأصول (المحشی) 4: 126.
5- أوثق الوسائل: 303.

لكنه قابل للتأمل من وجوه تذكر لإثبات عدم الشمول:

الوجه الأول: الروايات والأخبار الواردة في الإعراض عما رواه العامة.

منها: ما في الوسائل: عن علي بن سويد، قال: كتب إليّ أبو الحسن الأول (عليه السلام) وهو في السجن: «وأما ما ذكرت يا علي ممن تأخذ معالم دينك، لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين، الذين خانوا اللّه ورسوله، وخانوا أماناتهم، إنهم ائتمنوا على كتاب اللّه جلّ وعلا فحرفوه وبدلوه، فعليهم لعنة اللّه ولعنة رسوله ولعنة ملائكته ولعنة آبائي الكرام البررة، ولعنتي ولعنة شيعتي إلى يوم القيامة»(1).

ويرد عليه إشكال عام يشمل هذا الخبر وسائر الأخبار، وسيأتي بعد نقل الروايات.

وهناك إشكالان على خصوص هذه الرواية:

أما الإشكال الأول: فضعف السند بمحمد بن إسماعيل الرازي، وعلي بن حبيب المدائني، حيث لم يوثقا.

ويجاب عنه بوجهين:

الأول: إنّ محمد بن إسماعيل الرازي من رجال تفسير علي بن إبراهيم القمي.

لكنه مبني على اعتبار جميع مشايخه في تفسيره، وهو محل نظر؛ لما قرر في محله أنّ ظاهر عبارته توثيق المشايخ المباشرين لا جميع المشايخ، فالإشكال في الرازي ثابت.

ص: 25


1- وسائل الشيعة 27: 150.

وأما المدائني فقد قال في الجامع في الرجال: «روى الكشي عنه حديثاً جيداً يدل على حسن اعتقاده، وظاهر الكشي الاعتماد عليه»(1).

الثاني: إنّ أخبار (من بلغ) تشمل هذا الخبر بناء على ما سبق من أنّ الكراهة ملحقة بالاستحباب.

وسيأتي قول البعض: إنّ الخبر لو دل على الحرمة ولم يكن وافياً لإثباته لضعف السند أمكن الاستدلال به على الكراهة.

أما الإشكال الثاني فهو: إنّ النسبة المنطقية بين هذه الرواية وروايات (من بلغ) هي العموم من وجه، فإنّ هذه الرواية تشمل أخبار الوجوب والتحريم والكراهة والاستحباب، وأخبار (من بلغ) تشمل ما رواه الشيعة وغيرهم، فيتعارضان في مورد الاجتماع، وهو أخبار المستحبات والمكروهات التي رواها غير الشيعة، فإنّ متقضى أخبار (من بلغ) الأخذ بها، ومقتضى هذا الخبر طرحها فيتساقطان.

إلا أن يقال: إنّ مفاد هذا الخبر آب عن التخصيص.

ومنها: ما في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل: «يا كميل، لا تأخذ إلاّ عنا تكن منا»(2).

ومنها: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «أما أنه شر عليكم أن تقولوا بشيء لم تسمعوه منا»(3).

ص: 26


1- الجامع في الرجال 2: 520.
2- وسائل الشيعة 27: 30.
3- الكافي 2: 295.

بتقريب أنّ أخبار البخاري - مثلاً - مما لم نسمعه منهم.

ومنها: عن أبي جعفر (عليه السلام) : «فليذهب الناس حيث شاؤوا، فو اللّه ليس الأمر إلا من ههنا، وأشار إلى بيته»(1) وهي حسنة.

ومنها: صحيحة أبي مريم، قال أبو جعفر (عليه السلام) : «شرقا وغربا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ شيئاً خرج من عندنا أهل البيت»(2).

ومنها: صحيحة أبي بصير: «فليشرق الحكم وليغرب، أما واللّه لا يصيب العلم إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل»(3).

ومنها: عن الصادق (عليه السلام) : «لا تغرنك صلاتهم وصومهم وكلامهم ورواياتهم وعلومهم، فإنهم حمر مستنفرة، ثم قال: إن أردت العلم الصحيح فعندنا أهل البيت»(4).

ومنها: «إن أردت العلم الصحيح فعندنا أهل البيت، فنحن أهل الذكر الذين قال اللّه {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون}(5).

ومنها: «وأتوا البيوت من أبوابها، والبيوت هي بيوت العلم الذي استودعته الأنبياء، وأبوابها أوصياؤهم، فكل عمل من أعمال الخير يجري على غير أيد الأصفياء وعهودهم وشرائعهم وسننهم مردود غير مقبول»(6).

ص: 27


1- مرآة العقول 4: 308.
2- مرآة العقول 4: 309.
3- مرآة العقول 4: 309.
4- وسائل الشيعة 27: 72.
5- وسائل الشيعة 27: 72.
6- وسائل الشيعة 27: 74.

ومنها: «كلُّ ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل»(1).

ومنها: «من دان اللّه بغير سماع من صادق ألزمه اللّه التيه إلى يوم القيامة»(2).

ومنها: «يا علي، أنا مدينة العلم وأنت بابها، فمن أتى من الباب وصل. يا علي، أنت بابي الذي أوتى منه، وأنا باب اللّه، فمن أتاني من سواك لم يصل إليّ، ومن أتى اللّه من سواي لم يصل إلى اللّه»(3).

قال في الوسائل: هذا الحديث متواتر بين العامة والخاصة.

وفي الوسائل روايات كثيرة(4) مفادها متواتر بالتواتر المعنوي أو الإجمالي، وفيها الصحاح والحسان أيضاً.

وأما الإشكال العام الوارد مع لحاظ أخبار (من بلغ) فهو عدم انطباق العناوين المذكورة في هذه الروايات على المقام ك- (الأخذ عنهم) كما في قوله (عليه السلام) : «لا

تأخذ إلا عنا تكن منا»، فلو كان الأخذ من العامة في مورد من الموارد مستنداً إلى أمرهم فهو أخذ عنهم (عليهم السلام) لا من العامة.

وله نظائر في الفقه والأصول، كالأخذ من الأعلم، حيث إنه واجب عقلاً أو شرعاً، على المعروف بين المتأخرين، فلو أفتى الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم فالأخذ منه في الواقع هو أخذ من الأعلم، وإن أشكل صاحب العروة

ص: 28


1- وسائل الشيعة 27: 74-75.
2- وسائل الشيعة 27: 75.
3- وسائل الشيعة 27: 76.
4- وسائل الشيعة 27: 128، كتاب القضاء الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12، 14، 16، 18 و... .

في تقليد غير الأعلم استناداً إليه، إلا أنّ إشكاله غير واضح.

وكذا في البقاء على تقليد الميت استناداً إلى فتوى الحي بجواز البقاء، فهو في الواقع تقليد الحي لا الميت، وإن كان في الظاهر تقليد الميت.

وكذا أخذ روايات أهل البيت (عليهم السلام) من ثقاة العامة، والمشهور بين الفقهاء والأصوليين الجواز، بل الوجوب، فليس أخذاً من العامة، بل من أهل البيت (عليهم السلام) لأمرهم بذلك بمقتضى إطلاق روايات (من بلغ) الشامل لمرويات العامة في كتبهم عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الكراهة أو الاستحباب، أو لما يحتمل أنه من أهل البيت (عليهم السلام) .

وكذلك الأمر في سائر العناوين الواردة في الروايات، كقوله (عليه السلام) : «على غير أيدي الأوصياء»(1) وقوله (عليه السلام) : «بغير سماع من صادق»(2) فإنّ العمل بالاستحباب الوارد عن العامة جارٍ على يد الأوصياء، وهو سماع من صادق بضميمة (من بلغ).

فالوجه الأول محل تأمل.

الوجه الثاني: ما ذكره السيد العم (دام ظله): من ارتكاز المتشرعة.

الوجه الثالث: ما ذكره أيضاً: من أنه يستلزم إضافة مئات من المكروهات والمستحبات إلى الفقه.

فإنّ الاعتماد على مرويات العامة في كتبهم في الآداب والسنن مستنكر عند المتشرعة، فلو قال الخطيب العمل الكذائي مستحب وأسنده إلى

ص: 29


1- وسائل الشيعة 27: 194.
2- وسائل الشيعة 27: 75.

البخاري استنكره الناس، ولو فتح هذا الباب لأضيف إلى الفقه مئات المستحبات والمكروهات.

والإعراض العملي من الفقهاء عن ذلك، وارتكاز المتشرعة كاشف عن انصراف أخبار (من بلغ) وعدم عمومه للمقام.

وعلى كل حال: فالاعتماد على مرويات العامة في الآداب والسنن مشكل(1).

نعم يمكن استثناء رواياتهم المنقولة في الكتب المعروفة للشيعة، كالكتب الأربعة والبحار وما أشبه، فقد لا تجري فيها الأدلة المذكورة، حيث لا ارتكاز على الإنكار، فلا بأس بالاعتماد عليه، واللّه العالم بحقيقة الحال.

الفرع الخامس: دلالة الرواية الضعيفة على وجوب فعل

لو دلت الرواية الضعيفة على وجوب فعل فلا يثبت الوجوب قطعاً لعدم الحجية، لكن هل يمكن الاستناد إليها في الإفتاء باستحباب العمل، وهكذا الإفتاء بالكراهة فيما لو دلت على الحرمة؟

أفتى بذلك بعض الفقهاء(2)، حيث إنه ليس عملاً بمفاد الرواية الضعيفة،

ص: 30


1- قال السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه 76: 73 «ثم إنه قال في المستند: يستحب ربط الدجاجة التي يراد أكلها أيّاماً ثم ذبحها، وإن لم نعلم جللها للمروي في حياة الحيوان، إن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان إذا أراد أن يأكل الدجاجة أمر بها، فربطت أيّاماً ثم يأكلها. وأشكل عليه في الجواهر بأنّه مخالف للسيرة وغير مذكور في كلام الأساطين. أقول: والأقرب ما ذكره، وإلاّ فلو أردانا أن نأخذ بهذه الروايات في أبواب السنن للتسامح أو ما أشبه لزم أن نقول بكثير من المستحبات والمكروهات المذكورة في كتب القوم، وهذا ما لا يقول به حتّى صاحب المستند» (المقرر).
2- رسائل فقهية: 166؛ بحر الفوائد 2: 66؛ هداية المسترشدين 3: 474.

بل بمفاد أخبار (من بلغ) الدالة على الاستحباب.

وبعبارة أخرى: توجد في المقام صغرى وكبرى، أما الصغرى فهي (بلوغ الثواب على العمل) فيؤمنها الخبر الضعيف، ولو بالدلالة الالتزامية(1)، وأما الكبرى فتؤمنها أخبار (من بلغ) فيثبت الاستحباب، وعليه يكون استناد الفقيه في الاستحباب إلى روايات (من بلغ) لا إلى الخبر الضعيف.

ولذا يشاهد في كتب الفقهاء أنّ الخبر الدال على الوجوب ضعيف فيفتي بالاستحباب.

ولو أشكل بأنّ المؤدى لو كان ثابتاً للزم الإفتاء بالوجوب، وإلا فلا يمكن الإفتاء حتى بالاستحباب، كان الجواب أنّ المستند هو روايات (من بلغ)، والخبر الضعيف يؤمن صغراها.

وفي المقام إشكالات:

الأول: ما ذكره في النهاية(2)، ويمكن تقسيم عبارته إلى مقاطع ثلاثة:

المقطع الأول: «إنّ حقيقة الوجوب من المعاني البسيطة» فليس الوجوب مركباً من طلب الفعل مع المنع من الترك، بل الطلب في رتبة معينة وحد خاص «فالبالغ(3) معنى بسيط غير قابل للثبوت بحدها» فإنّ الخبر الضعيف لا يمكنه إثبات المعنى البسيط، أي الطلب الوجوبي لفرض ضعفه، «والقابل

ص: 31


1- فلو دل الخبر الضعيف على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال كان مدلوله الالتزامي ثبوت الثواب فيه، وذلك لثبوت الثواب في كل واجب للملازمة الثابتة بعمومات أدلة الطاعة، فلو أخبر المخبر بالملزوم كان إخباره إخباراً باللازم، وهو ترتب الثواب (منه (رحمه اللّه) ).
2- نهاية الدراية 4: 191.
3- بالخبر الضعيف.

للثبوت بحده لم يبلغه» فإنّ الطلب الندبي لم يبلغ بالخبر الضعيف حتى يثبت، وقد ثبت في محلّه أنّ الحقائق التشكيكية ذات المراتب ليست المرتبة الشديدة مركبة من أصل الوجود وشدة الوجود، بل المرتبة الشديدة بسيطة، هذا في مرحلة المدلول المطابقي.

المقطع الثاني: «وحيث إنّ البالغ هو الوجوب بحده» أي المرتبة الشديدة للطلب، «فالثواب اللازم له هو الثواب اللازم للمحدود بحد خاص، لا مطلق الثواب» فإنه لو كان المدلول المطابقي بسيطاً - وهو الطلب الشديد - لكان المدلول الالتزامي للخبر الضعيف ثبوت الثواب الشديد لا طبيعي الثواب.

المقطع الثالث(1): «والمعنى البسيط البالغ(2) وإن كان قابلاً للتحليل إلى مطلق الطلب الجامع(3) بحده(4)، إلا أنّ ذلك المعنى التحليلي لا يستقل بالجعل حتى يكون الجامع مجعولاً».

فمن الممكن تحليل الحقيقة البسيطة عقلاً إلى أصل الوجود وشدته(5)، إلا أنّ هذا التحليل عقلي لم يجعل من قبل الشارع، والمجعول من قبله الوجوب، وهو مجعول بسيط.

ص: 32


1- والظاهر أنه دفع للإشكال المقدر.
2- بالمدلول المطابقي.
3- أي طبيعي الطلب.
4- شدة الطلب.
5- كتحليل الممكن إلى الوجود والماهية، فليست ماهية الموجود في الخارج مركبة من الوجود والماهية - خلافا للشيخ الأحسائي حيث يرى أن كل موجود مركب من الوجود والماهية - إلا أنه يمكن عقلاً تحليل الوجود البسيط إلى جزءين.

وقد أحال تحقيقه إلى مباحث الاستصحاب، فلا يعلم أنه يلتزم به أم لا؟

وهو محل تأمل لجهتين:

الأولى: حيث لم يؤخذ في أخبار (من بلغ) البلوغ بشرط لا، أي بشرط أن لا يكون وجوبياً لازماً للمرحلة الشديدة من الطلب، بل أخذ البلوغ على نحو اللا بشرط، وذلك بمقتضى الإطلاق، ومع ورود الخبر الضعيف بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال يمكن القول ببلوغ الثواب - أي ثواب كان- فيتحقق موضوع أخبار (من بلغ) بسبب الخبر الضعيف(1).

الجهة الثانية: لا شك في الأولوية - بعد تسليم عدم شمول أخبار (من بلغ) بحسب المدلول اللفظي للمقام - فلو قال المولى: بلوغ المرتبة الضعيفة للثواب موضوع للتحرك، والسعي خلف الثواب المحتمل الضعيف، فكيف إذا كان الثواب المحتمل في مرتبة شديدة؟ ولو كان المولى يحرك العبد إلى النفع الضئيل المحتمل فبطريق أولى يحركه نحو الثواب الكبير المحتمل، فاستفادة الاستحباب في المقام بالأولوية، أو بتنقيح المناط أو بإلغاء الخصوصية.

وتفصيل البحث موكول إلى مباحث الاستصحاب الكلي القسم الأول الكلي والفرد.

ص: 33


1- إن قلت: على ذلك يمكن الحكم باستحباب الواجبات، وكراهة المحرمات لبلوغ الثواب بالخبر الصحيح عليها، فتشمله أخبار(من بلغ)، قلت: إنها منصرفة عن الأخبار التي نهضت الحجة على وجوبها أو تحريمها، وإن كانت مطلقة في لفظها، كما أنه لا إشكال في الحكم بضمان الثواب الذي هو مفاد الحجة، لكن لا يمكن القول باستحبابه للانصراف، وسيأتي مزيد توضيح لذلك (منه (رحمه اللّه) ).

الإشكال الثاني: ما في المنتقى من أنّ «الحق عدم شمول أخبار (من بلغ) لهذا المورد(1)؛ لظهورها(2) في كون الداعي إلى العمل هو تحصيل الثواب، بمعنى أنّ موضوعها ما يتفرع العمل فيه على بلوغ الثواب طبعاً وعادة، بحيث يكون الداعي هو الثواب، والأمر في الواجبات ليس كذلك، إذ الداعي إلى فعل الواجب عادة وطبعاً هو الفرار عن مفسدة تركه وهو العقاب، لا الوقوع في مصلحة فعله وهو الثواب»(3).

لكنه قابل للتأمل من وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: إنّ التفرع والتفريع - على نحو الإجمال - نوعان:

الأول: التفريع على الداعي، ومعناه انبعاث العمل عن الثواب البالغ، فما بعد (الفاء) معلول لما قبلها، أي أنّ الثواب البالغ هو المحرك للعمل.

الثاني: التفريع على موضوع الداعي، بأن يكون ما قبل (الفاء) محققاً لموضوع ما بعدها، لا أنه داع لمدخولها، كقولك (أذنب زيد فضربته) فليس الذنب علة الضرب، بل موضوع وجود الداعي، والداعي هو التأديب أو التشفي، ولذا يلحقه المفعول لأجله وهو الداعي، فتقول: (أذنب فضربته تأديباً).

وكذا قولك: (دخل الوقت فصليت) فليس الدخول علة الصلاة، بل العلة

ص: 34


1- أخبار (من بلغ) لا تشمل الخبر الضعيف المتضمن للوجوب، ولا يحق للفقيه الفتوى بالاستحباب.
2- أخبار من بلغ.
3- منتقى الأصول 4: 533.

الطمع في الجنة، أو الخوف من النار، أو أنه أهل للعبادة، أما دخول الوقت فهو محقق لموضوع الداعي.

وفي المقام، وجود (الفاء) في أخبار (من بلغ) كقوله (عليه السلام) : «من بلغه ثواب على عمل فعمله» لا تدل على أنّ العمل منبعث عن الثواب البالغ.

ويظهر الأثر فيما لو قام بالعمل لا بداعي الثواب البالغ، بل بداعٍ من الدواعي القربية، فإنه مشمول لأخبار (من بلغ).

وبعبارة واضحة: لو بلغنا المستحب فهل لا بد أن تكون العبادة عبادة التجار، فيأتي بالعمل للوصول إليه؟ بناء على ما ذكره لا بد أن يكون الأمر كذلك ليكون مشمولاً للأخبار، حيث إنّ الداعي إلى العمل هو تحصيل الثواب، بمعنى أنّ موضوعها ما يتفرع العمل فيه على بلوغ الثواب، وأما بناء على ما ذكرناه من أنّ البلوغ موضوع الداعي كان مشمولاً للأخبار بأي داع من الدواعي القربية.

والحاصل أنه لا ظهور لكون ما قبل (الفاء) هو الداعي، بل موضوع الداعي.

ومع القول بكونه خلاف الظاهر إلا أنّ المشهور فهموا ما ذكرناه، وأنه لا يلزم أن يكون الباعث هو الثواب البالغ، بل أي داع كان بشرط أن يكون قربياً حتى يضاف العمل إلى المولى بنحو من أنحاء الإضافة، ويكفي فهم المشهور للإطلاق - مع القول بحجية فهمهم - وإن كان خلاف الظاهر.

الوجه الثاني: سلمنا أنّ مفاد الدليل هو باعثية الثواب البالغ، فلا يشمل الواجبات، لما ذكره من أن المحرك الطبعي في الواجبات هو الفرار من

ص: 35

العقاب لا تحصيل الثواب، وقد كان السيد الوالد (رحمه اللّه) يقول: إنما يصلّي غالب الناس صلاة الصبح لأنّ في تركها النار؛ ولذا يتركون صلاة الليل، فإنّ الملاك عندهم الفرار من العقوبة.

إلا أنّ هنالك فرقاً بين الواجب ومحتمل الوجوب، فما ثبت وجوبه بالعلم الوجداني، أو التعبدي كان الداعي لفعله الفرار من مفسدة العقاب، أما في المقام فالمفروض أنّ الخبر الضعيف لا يتكفل إثبات الوجوب لضعفه، فالعقاب مؤمَّن في المقام بأدلة البراءة العقلية والنقلية، فلا يبقى إلا احتمال الثواب، فيكون محرك العبد للدعاء عند رؤية الهلال هو احتمال الثواب؛ لعدم وجود احتمال العقاب، فيكون مشمولاً لأدلة (من بلغ).

إن قلت: إنه مستلزم للتفكيك في مفاد الحجة الواحدة.

قلت: قد يترتب بعض الآثار على الحجة الواحدة دون البعض الآخر حسب الدلالة، والخبر الضعيف فيه بعدان: التحريم والثواب، أما الأول: فلا يمكنه إثباته لفرض ضعفه، وأما الثاني: فيثبت بمعونة روايات (من بلغ).

كما في السرقة، حيث لها أثران: قطع اليد والتغريم، فلو أقر مرتين ثبتا، وأما بالإقرار مرة يثبت التغريم دون القطع، مع أنه لو كان سارقاً لكان اللازم ثبوت الأثرين معاً، ولو لم يكن لكان اللازم عدم ثبوتهما، فقد فكك في مؤدّى الإقرار الواحد.

وفي المقام للخبر الضعيف حيثيتان: إثبات العقاب على ترك العمل، وإثبات الثواب على الفعل للثواب على كل طاعة، لكنه لا يتكفل إثبات الحيثية الأولى، ويتكفل الحيثية الثانية، وبه يتحقق موضوع «من بلغه ثواب

ص: 36

على عمل» فيكون مشمولاً للأدلة.

الوجه الثالث: سلمنا عدم الشمول إلا أنه يمكن التمسك بالأولية في المقام، فلو كان بلوغ مرتبة ضعيفة من الثواب سبب أمر الشارع بتحصيلها، فكيف إذا كان البالغ المرتبة الشديدة منه على ما مضى بيانه.

ويؤيده ما ذكره بعض المعاصرين من قول المشهور(1): إنّ الخبر الضعيف المتضمن للوجوب مسوغ للفتوى بالاستحباب، والخبر الضعيف المتضمن للحرمة مسوغ للفتوى بالكراهة.

وربما لو تتبع شخص في الفقه لرأى أنّ المبنى فيه على ذلك، وقد نسبه الشيخ الأعظم في ضمن كلامه إلى الفقهاء والفحول، فما ذكر في المنتقى يحتاج إلى مزيد من تأمل.

الإشكال الثالث: ما ذكر لجواز الحكم بالاستحباب تام لو كان مفاد أخبار (من بلغ) الاستحباب، وبناء عليه يمكن القول: إنّ الإفتاء بالاستحباب ليس مستنداً إلى الخبر الضعيف المفيد للوجوب، بل مستند إلى أخبار (من بلغ) المفيدة للاستحباب، لكن لو كان المبنى أنّ الأخبار تفيد إثبات حجية الخبر الضعيف - كما هو مبنى الشيخ الأعظم والمحقق النائيني والسيد الوالد رحمهم اللّه - فإما أن يثبت مدلول الخبر الضعيف الحجة، فلا بدّ للفقيه أن يفتي بالوجوب، أو لا يثبت فلا يمكن للفقيه أن يفتي بالاستحباب.

وأجيب عنه بالتبعيض في مدلول الخبر الضعيف.

وتوضيحه إجمالاً: إنّ الخبر الضعيف فيه حيثيتان: حيثية ثبوت الثواب

ص: 37


1- نهاية الأفكار 3: 281.

على الفعل، وحيثية ثبوت العقاب على الترك، وأخبار (من بلغ) تثبت الحجية بلحاظ الحيثية الأولى، لا الحجية من جميع الوجوه والجهات.

وبعبارة أخرى: إنّ مفاد أخبار (من بلغ) هو حجية الخبر الضعيف في إثبات الاستحباب، دون إثبات العقاب على الترك، ومع الشك في ثبوته على تركه - وهو شك في التكليف - كان المجرى البراءة العقلية والشرعية، والتفكيك في مداليل الأصول العملية والأدلة الاجتهادية ممكن وواقع، كما مضى مثاله.

الإشكال الرابع: تولد العلم التفصيلي بعدم شمول أخبار (من بلغ) للخبر الضعيف؛ لأنّ حكايته إما تطابق الواقع أو لا. فلو طابقت حكاية الخبر الضعيف الواقع كان الفعل واجباً فلا تشمله الأدلة؛ لعدم شمولها للواجبات، وإن لم تطابق وكانت الحكاية خطأ فلا تشمله الأدلة أيضاً؛ لعدم شمولها لما علم أنه مجعول أو خطأ.

والحاصل: إنّ الخبر الضعيف الحاكي عن الوجوب في عالم الثبوت إما مطابق أو غير مطابق، وعلى كلا التقديرين لا تشمله أخبار (من بلغ)، فكيف يصح الإفتاء بالاستحباب مستنداً إلى خبر لم تشمله أدلة (من بلغ) بالعلم التفصيلي قطعاً؟

وبعبارة أخرى: يوجد في الخبر الضعيف احتمالان: إما أنه كذب وخطأ، فلا تشمله أخبار (من بلغ) لا بمدلولها المطابقي ولا بمدلولها الالتزامي، وإما صدق ومطابق للواقع فيكون الحكم الواقعي للفعل هو الوجوب، فالفتوى بالاستحباب تبديل لحكم اللّه، فتكون الفتوى بالاستحباب باطلة على كل

ص: 38

تقدير.

إن قلت: إنّ للخبر الضعيف مدلولاً التزامياً، وهو ثبوت طبيعي الثواب على الفعل، وعليه يستند في الفتوى بالاستحباب.

قلت: لو علم قطعاً بكذب المدلول المطابقي أو خطئه، فلا يكون المدلول الالتزامي حجة أيضاً، وهذا غير ما إذا لم يثبت المدلول المطابقي، حيث لا مانع من القول بحجية المدلول الالتزامي المحكي بالخبر.

وتوضيح أصل المبنى في ثبوت المدلول المطابقي والالتزامي: تارة لا يثبت المدلول المطابقي، ولا مانع من إثبات المدلول الالتزامي، كما لو قال: (هذه زوجتي الرابعة) وأنكرت، فلا يثبت المدلول المطابقي بمجرد دعواه، أما المدلول الالتزامي وهو حرمة التزويج بأختها وبالخامسة فيثبت، فالإقرار ليس بحجة في المدلول المطابقي لا بعنوان البطلان القطعي مع كونه حجة في المدلول الالتزامي.

وتارة لا يمكن إثبات المدلول الالتزامي للعلم ببطلان المدلول المطابقي، كما لو قال: (غرق زيد في نهر دجلة) فالمدلول المطابقي هو الغرق، والمدلول الالتزامي هو الموت، فمع القطع ببطلان الغرق يعلم بعدم الموت، حيث إنّ المخبر وإن أخبر بالموت إلا أنه لم يخبر بمطلق الموت، وإنما بالموت الغرقي، وحيث ثبت بطلان الغرق ثبت بطلان الموت أيضاً.

ويمكن سلوك طريق صعب لحل الإشكال وهو القول بشمول أدلة (من بلغ) للواجبات أيضاً.

إن قلت: لا أثر لضمان ثواب الواجبات في روايات (من بلغ)؛ لأنه

ص: 39

مضمون بالحجة وهي أدلة الواجبات، فلا معنى لضمان الثواب المضمون ولا أثر له.

قلت: أولاً: قد يكون الضمان تأكيداً.

ثانياً: قد يحتمل المكلف خطأ الحجة، فإنّ الوثاقة لا تمنع الخطأ، فيحتمل عدم ترتب الثواب إلا أنّ هذا الاحتمال يرتفع بلحاظ ضمان أدلة (من بلغ) لو قلنا: إنها متواترة معنى(1)، أو محفوفة بالقرائن المفيدة للقطع، فيكون الأثر هو تحريك المكلف إلى الطاعة.

إن قلت: لازم شمول أخبار (من بلغ) لأدلة الواجبات اتصافها بالوجوب والاستحباب، فهل يمكن الالتزام بثبوتهما في جميع الواجبات؟

قلت: أولاً: لا مانع من الالتزام بذلك، فيكون الفعل الواحد متصفاً بالوجوب والاستحباب من جهتين، كما قال صاحب العروة: لو اجتمعت الغايات الواجبة والمستحبة، فالتحقيق صحة اتصافه فعلاً بالوجوب والاستحباب من جهتين.

وفي المقام، الوجوب ثابت للفعل بما له من العنوان الذاتي النفسي، والاستحباب ثابت له بما له من العنوان العرضي الطارئ وهو البلوغ، كما لو طلب المؤمن أن يحج المستطيع، فيتصف حجه بالوجوب؛ لأنه حج واجب، والاستحباب؛ لأنه إجابة دعوة المؤمن.

وتفصيل النقض والإبرام موكول إلى محله من مباحث اجتماع الأمر والنهي.

ص: 40


1- كما ذهب إليه الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) .

وثانياً: إنّ أخبار (من بلغ) تفيد أمرين: ضمان الثواب وثبوت الاستحباب، ونلتزم بالمفادين ما لم يمنع منه مانع، وقد تحقق المانع من الالتزام بالمفاد الثاني في الواجبات، أما المفاد الأول فلا مانع منه، وعليه فأخبار (من بلغ) تشمل الواجبات أيضاً.

ولو تم هذا فنعود إلى أصل الإشكال، وهو العلم التفصيلي بعدم شمول أخبار (من بلغ) للخبر الضعيف، الحاكي عن الوجوب المتولد عن العلم الإجمالي بمطابقة الحكاية للواقع أو مخالفتها، فلا يكون مشمولاً لأخبار (من بلغ).

فيكون الجواب عنه: أنه مشمول للأخبار؛ فإنّ الخبر الضعيف محقق لعنوان البلوغ ولو بالدلالة الالتزامية، فإنّ صغرى البلوغ وجدانية وكبراه برهانية، فيمكن للفقيه الفتوى بالاستحباب.

فإن وفى هذا الطريق فبها، وإلا يلزم البحث عن طريق آخر.

الفرع السادس: شمول أخبار (من بلغ) للخبر الضعيف

هل يعتبر في شمول أخبار (من بلغ) للخبر الضعيف حصول الظن بالوفاق، أو يعتبر عدم حصول الظن بالخلاف، أو لا يعتبر لا هذا ولا ذاك؟ والمراد من الظن هو الظن المطلق غير المعتبر.

في المسألة احتمالات، والظاهر هو القول الثالث، فليس حصول الظن بالوفاق شرطاً، ولا يقدح حصول الظن بالخلاف.

ويدل عليه إطلاقات أخبار الباب، ويؤيده أولاً: إطلاقات فتاوى المشهور في هذا الباب، وثانياً: فتوى المشهور بالإطلاق في سائر الأبواب من

ص: 41

الأمارات والأصول العملية المحرزة وغير المحرزة.

مثلاً: في جريان أصالة الطهارة(1) ليس الظن بالخلاف قادحاً، كما لا يشترط الظن بالوفاق، وكذا في جريان (لا تنقض)(2)، بل إنّ مورد صحيحة زرارة: الخفقة والخفقتان، ومعه يمكن حصول الظن بانتقاض الطهارة، إلا أنّ الإمام (عليه السلام) حكم بعدم النقض فيه، وكذا في الخبر الواحد، حيث إنّ تحقق الظن على الخلاف غير ضار في حجيته، والإطلاقات، كقوله (عليه السلام) : «لا عذر لأحد من موالينا»(3) محكمة حتى مع وجود الظن على الخلاف، أو عدم الظن بالوفاق.

وأما القول بالاشتراط فيمكن استناده إلى دليلين:

الأول: انصراف الأدلة، كما استند إليه الشيخ(4)،

حيث شرط عدم حصول الظن بالخلاف لذلك.

ويرد عليه: أن دعوى الانصراف عهدته على مدعيه، والشيخ بنفسه أفتى بالحجية المطلقة في (لا تنقض) فيما لو كان الشك في الرافع حتى مع تحقق الظن بالخلاف، وربما في مباحث الظن لم يقيد الأمارات المعتبرة بصورة حصول الظن بالوفاق، أو عدم حصول الظن بالخلاف، فما هو الفارق بينها وبين المقام؟

ص: 42


1- وهي أصل عملي غير محرز.
2- و هو أصل عملي محرز.
3- وسائل الشيعة 1: 38.
4- أوثق الوسائل: 303.

الثاني: اختصاص السيرة العقلائية بصورة الظن بالوفاق، أو بصورة عدم حصول الظن بالخلاف.

ويرد عليه: أننا لا نسلم اختصاصها بصورة الظن بالوفاق، فلو كان المحتمل - مهما كان الاحتمال - محركاً للعقلاء في الشؤون العقلائية، وإن كان موهوماً، وحتى مع فرض عدم تحريك الاحتمال الموهوم للعقلاء في الشؤون العقلائية، فإنّ السيرة العقلائية لا تصلح لتقييد إطلاق أدلة (من بلغ) كما في سائر المقامات، كقاعدة الفراغ والتجاوز، وحيلولة الوقت وسائر القواعد الشرعية، فإنّ من الممكن إجراء العقلاء للقاعدة في صورة عدم الظن بالخلاف، إلا أنه لا يسوغ تقييد الإطلاقات، كقوله (عليه السلام) : «كلُّ ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو»(1)، حيث إنهما(2) مثبتان، ولا يقيد أحدهما الآخر في مثل المقام، فلا وجه لتقييد السيرة العقلائية للقواعد الفقهية.

فما ذكره الشيخ الأعظم محل تأمل.

الفرع السابع: شمول أدلة (من بلغ) للقطع الوجداني

هل أدلة (من بلغ) تشمل صورة القطع الوجداني بالخلاف، أو بعبارة أدق: صورة القطع بالكذب والوضع والجعل؟

يحتمل في عالم الثبوت أن يكون الخبر المجعول مطابقاً للواقع، إلا أنّ ظاهر أدلة (من بلغ) تقييد الموضوع بكون المخبر به غير مقطوع الكذب.

ص: 43


1- تهذيب الأحكام 2: 344.
2- السيرة وإطلاقات الأدلة اللفظية.

وبعبارة أوضح: (الفاء) في قوله (عليه السلام) : «من بلغه ثواب على عمل فعلمه» للتفريع، وقد مرّ أنه إما تفريع على الداعي، أو تفريع على موضوع الداعي، وفي صورة القطع الوجداني بالكذب أو الوضع لا يكون الخبر داعياً ولا موضوعاً له.

نعم، يبقى احتمال كون الخبر الموضوع مطابقاً للواقع، إلا أنّ الواقع المحتمل لم يبلغ، بل هو مجرد احتمال وموضوع الروايات هو البلوغ، والخبر البالغ مجعول فلا تشمله الأدلة.

وبعبارة أبسط: أدلة (من بلغ) منصرفة عن القطع الوجداني بالكذب أو الجعل.

الفرع الثامن: شمول أدلة (من بلغ) للراوي الكاذب

لو علم كون الراوي كذّاباً وضّاعاً، كالسياري(1)، ولم يقطع بكذب خصوص هذا الخبر، فهل أدلة (من بلغ) تشمله أم لا؟

الجواب: لا نرى مانعاً من الشمول مع احتمال مطابقة الخبر للواقع، ويتضح ذلك من مباحث الفرعين السابقين.

وقد اختار هذا القول السيد الوالد في رسالته في قاعدة التسامح(2)، وقال: فهو كأصل الصحة فيمن علم بفسقه ولا مبالاته، حيث تجري أصالة الصحة مع احتمال صحة خصوص هذا العمل منه.

ص: 44


1- الذي قيل في حقه أنه أكذب أهل البرية أو من أكذبهم، وينتهي إليه الكثير من روايات تحريف القرآن.
2- رسالة في قاعدة التسامح (مطبوع ضمن كتاب الوصائل) 8: 74.

الفرع التاسع: إمكان الفتوى استناداً لأخبار (من بلغ)

وهذا الفرع فرع مهم ومشكل، وهو: في إمكان الفتوى باستحباب الفعل الذي بلغ عليه الثواب بنحو مطلق، كأن يقول المجتهد: يستحب قص الأظفار يوم الخميس، أو يشترط تقييدها بمن بلغه الاستحباب بأن يقول: يستحب لمن بلغته الفتيا أو الثواب أن يقص أظفاره، وذلك لأنّ موضوع الأخبار مقيد، فلا بد أن تكون الفتوى بالاستحباب مقيدة أيضاً.

وللتقريب: لو تضمن الخبر وجوب القصر على المسافر، فلا يمكن للفقيه أن يفتي بالقصر على المكلف؛ لأنّ موضوع الدليل مقيد، فلا بد أن يفتي بالقصر على المسافر، وفي المقام - أيضاً - لابد أن يفتي باستحباب العمل لمن بلغه الثواب ولو بالدلالة الالتزامية.

ولحل الإشكال وجوه:

الوجه الأول: ما ذكره بعض المتقدمين والمعاصرين: وهو عدم ترتب المفسدة العملية على الفتوى بنحو مطلق، ولا يوجب ذلك وقوع المكلف في خلاف الواقع؛ لأنّ المقلد إما أن يطلع على الفتوى أو لا، فإن اطلع كانت الفتوى محققة لموضوع الاستحباب للمقلد؛ لأنه بلغه الثواب ولو بالدلالة الالتزامية، وإن لم يطلع لم يترتب عليها مفسدة عملية، وبهذا يختلف المقام بالفتوى بالقصر بقول مطلق، فهو موجب لوقوع المكلف في خلاف الواقع.

لكنه محل تأمل، فإنّ الفتوى بنفسها مفسدة عملية؛ لأنها فتوى كاذبة وبغير ما أنزل اللّه.

ص: 45

والحاصل: إنّ المحذور القائم في المقام ليس محذور الإغراء بالجهل وإيقاع المكلف في مخالفة الواقع، بل محذور الكذب، فإن أخبار (من بلغ) تحمل الاستحباب على الموضوع المقيد، وهو المكلف الذي بلغه، والمجتهد يفتي للمكلف بنحو مطلق.

الوجه الثاني: قاعدة الاشتراك في التكاليف.

وأصل القاعدة ثابتة، وقد أقيمت عليها أكثر من عشرة أدلة، منها: الإجماع والارتكاز وروايات معتبرة، كقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «فليبلغ الشاهد الغائب»(1) وأدلة أخرى مذكورة في القواعد الفقهية.

وأما الصغرى: فلو ثبت الاستحباب لمن بلغه الثواب فهو ثابت لمن لم يبلغه بقاعدة الاشتراك في التكاليف.

وهو محل تأمل لتمامية القاعدة مع وحدة الموضوع، وأما مع التعدد فلا اشتراك، فلو ثبت حكم للحاضر(2)،

أو للمضطر أو المكره، فهل يمكن تعميمه لسائر المكلفين؟

وهكذا الأمر في الأصول العملية في مدرك الشريعتين، كسلمان المحمدي، حيث ذكر الشيخ الأعظم أنه يمكنه استصحاب أحكام الشرائع السابقة؛ لتحقق اليقين السابق عنده مع الشك اللاحق وأما غيره فلا؛ لعدم انحفاظ الموضوع.

الوجه الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم: من أنّ مفاد أخبار (من بلغ) جعل

ص: 46


1- الكافي 1: 290؛ بحار الأنوار 22: 49.
2- كقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.

الحجية للخبر الضعيف، ومع جعل الحجية يكون وزانه وزان الأخبار الصحيحة، ومفاد الخبر الصحيح ثبوت الاستحباب لجميع المكلفين، وبما أنّ المجتهد يمكنه الإفتاء بالاستحباب المطلق في الخبر الصحيح؛ لقيام الحجة عليه، كذلك الأمر في الخبر الضعيف فيما لو صار حجة، فتكون الفتوى مستندة إلى قيام الحجة على الاستحباب المطلق.

وبعبارة أخرى: وصول الخبر الضعيف إلى المجتهد عثور على مدرك الحكم المطلق لا أنه قيد للحكم.

وبعبارة ثالثة: المجتهد عالم بالاستحباب المطلق تعبداً، ومع فرض العلم التعبدي بالحكم المطلق يترتب عليه ما يترتب على العلم الوجداني، لما ثبت في محله من قيام الأمارة مقام القطع، فلو قطع المجتهد بالاستحباب المطلق أمكنه الفتوى به، فكذلك في العلم التعبدي.

والظاهر عدم الإشكال فيما ذكره، وإنما الإشكال في المبنى، وقد مرّ البحث في أنّ الأدلة قاصرة في مقام الإثبات لإثبات حجية الخبر الضعيف.

الوجه الرابع: ما ذكره بعض المحققين(1)

من المتأخرين: من أنّ المتفاهم عرفاً كون موضوع الأدلة واقع الخبر المبلغ للثواب لا البلوغ.

لكنه محل تأمل؛ لأنّ الأصل موضوعية العناوين المأخوذة في الأدلة لا الطريقية، إلا إذا قامت القرينة على الخلاف، فللبلوغ الموضوعية لثبوت الاستحباب.

الوجه الخامس: إنّ المجتهد وإن أفتى بالاستحباب إلا أنّ معناه في

ص: 47


1- بحوث في علم الأصول 5: 137.

الواقع وجود ما يدل على الاستحباب، فليست فتوى بالاستحباب المطلق، بل إخبار بوجود موضوع يدل عليه.

لكنه خلاف الظاهر؛ لأنّ ظاهر كلمة المستحب الفتوى بالاستحباب المطلق وليس النقل، فإنّ مدلوله المطابقي الإخبار بالاستحباب، وإن كان لازمه العقلي الإخبار بما يدل على الاستحباب أو التحريم، كما لوقال: (الخمر حرام) فهو إفتاء بالحرمة، لا إخبار بوجود ما يدل على الحرمة.

الوجه السادس: تسليم كون موضوع أخبار (من بلغ) مقيدة بالبلوغ، إلا أنّ القيود المأخوذة في موضوعات المسائل على نحوين:

الأول: قيود يكفي اتصاف المجتهد بها، ولا يلزم أن تتحقق في المقلدين.

الثاني: قيود يلزم تحققها في آحاد المكلفين حتى يترتب الحكم، ولا يكفي اتصاف المجتهد بها.

والملاك فيهما هو: أن القيود المأخوذة في المسائل التي تقع وسطاً - بالمعنى الأعم للوسطية - في استنباط الأحكام الإلهية الكلية يكفي اتصاف المجتهد بها، وأما لو لم تقع في الوسط فلا بد من تحقق القيود في كل فرد من الأفراد، حتى يحمل عليهم الحكم.

مثلاً: الملاك في (لا تنقض) الواقع وسطاً لاستنباط الأحكام الكلية، هو يقين المجتهد وشكه، فلو تيقن المجتهد بنجاسة الماء المتغير في حال التغير، وشك في بقاء النجاسة بعد زوال التغير بتصفيق الرياح، أمكنه الإفتاء لجميع المقلدين باستصحاب النجاسة، مع أنه قد ثبت في محلّه أنّ جريان (لا تنقض) متقوم بفعلية اليقين والشك، ولا فعلية لهما في المقلد، إلا أنه

ص: 48

يستصحب لكون الملاك حالة المجتهد.

وأما في باب البراءة، حيث لا تقع وسطاً في استنباط الأحكام الكلية أو الاستصحاب، فيما لم يكن كذلك، فالملاك حالة آحاد المكلفين، وقد جرى على ذلك - عادة - عمل الفقهاء في الفقه.

وفيما نحن فيه، لقاعدة البلوغ الوسطية في استنباط الأحكام الكلية الإلهية، فإنّ المجتهد يفتي باستحباب العمل أو كراهته استناداً إليها، فيكون الملاك حالته النفسية - دون حالة المقلد - وقد تحقق القيد فيه، وكأنه نائب مناب المقلد في ذلك، فلا مانع من فتوى المجتهد بالإطلاق في المقام.

ويمكن القول بجريان هذا المطلب في سائر العلوم والفنون. فمثلاً: في المسائل الكلية الطبية الملاك حالة الطبيب لا المريض، فلو علم الطبيب إجمالاً أنّ أحد الدواءين مضر أو نافع أفتى للمريض بعلمه الإجمالي، ولا يلاحظ حالة المريض الباطنية.

فلو تمت الأجوبة المذكورة فبها، وإلا فيمكن التمسك بالوجه الآتي:

الوجه السابع: وهو فهم الفقهاء وسيرتهم؛ لأنّ مبناهم الإفتاء بنحو مطلق، وإلا فلا بد من التقييد بأن يقول المجتهد: «من بلغه هذا الثواب فهو مستحب في حقه» أو ينقل الرواية أولاً حتى تتحقق صغرى البلوغ، ثم يفتي باستحباب ما تضمنه الخبر.

الفرع العاشر: عدم جريان التسامح في المنام وأمثاله

وقد ذكر السيد الوالد (رحمه اللّه) في الوصائل(1): من عدم جريان التسامح في

ص: 49


1- الوصائل 8: 72.

مثل المنام، وفعل أحد الصلحاء.

أما الشق الأول: فالظاهر انصراف أدلة البلوغ عنه، وإن فتح هذا الباب فربما يلزم منه تأسيس فقه جديد في باب المستحبات والمكروهات.

إن قلت: هنالك بعض الروايات التي تثبت حجية رؤيا المعصومين (عليهم السلام) ، كقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من رآني في منامه فقد رآني»(1) مع أنّ بعضها صحيحة(2).

قلت: لم نعهد عمل فقيه واحد بها، حتى في مورد واحد في باب الواجبات والمحرمات، وهو واضح ولا في باب المستحبات والمكروهات، ولذلك شواهد كثيرة. منها: قضية المحقق الحلي، حيث أمر في عالم الرؤيا بطرد شخص من المسجد ولم يعمل بها، كما قد ناقش فيها صاحب القوانين(3).

وأما الشق الثاني: فلأنّ الفعل لا لسان له، فقد يكون فعل الصالحين لرجاء بلوغ الثواب، وموضوع الأدلة بلوغه لا رجاؤه. نعم، لا مانع من الإتيان به بعنوان الرجاء، أما الإفتاء بالاستحباب كما قال السيد الحكيم لفعل صلحاء النجف، فالظاهر عدم انطباق عنوان البلوغ عليه.

ومن صغريات المقام ما ورد في العروة(4)

من استحباب أن يجعل في فم الميت فص عقيق مكتوب عليه لا إله إلا اللّه.

ص: 50


1- من لا يحضره الفقيه 2: 585.
2- الغدير 8: 47.
3- قوانين الأصول: 496.
4- العروة الوثقى 2: 124.

والمعروف أنّ مستنده كلام ابن طاووس، حيث قال: كان جدي ورام - وهو ممن يقتدى بفعله - قد أوصى أن يجعل في فمه بعد وفاته فص عقيق، عليه أسماء الأئمة (عليهم السلام) ... ثم قال ابن طاووس: وأنا أوصي به ليكون جواب الملكين عند المساءلة في القبر إن شاء اللّه»(1).

فلو علم أنّ مستند فتوى العروة ومن قبله ذخيرة العباد، ومن بعده مرآة الكمال هو كلام ابن طاووس، فالظاهر أنّ هذا المقدار لا يكفي للحكم بالاستحباب؛ لإمكان أن يكون فعل الورام الإتيان به رجاء، فلا يصدق عليه البلوغ.

وظاهر عبارة السيد الوالد في الفقه(2) القطع بكون المستند هو فعل الورام.

وأما لو احتمل وجود رواية تدل على استحباب العمل فيكون فتوى الفقيه محققاً لصغرى البلوغ؛ لأنه بلغ الثواب على العمل بالدلالة الالتزامية لفتوى صاحب العروة.

الفرع الحادي عشر: فتوى الفقيه بالاستحباب مع عدم وجود دليل

ما في الوصائل(3):

من أنه لو أفتى فقيه باستحباب فعل ولم نجد الحكم بالاستحباب في أية رواية أو كتاب فقهي، فلا يبعد شمول دليل التسامح له، لتحقق بلوغ الثواب عليه.

ص: 51


1- فلاح السائل: 75.
2- الفقه 15: 150.
3- الوصائل 7: 70.

ومثاله ما ذكره ابن الأعسم(1) في منظومته من كراهة عرض الماء، حيث قال:

لا تعرضن بشربة على أحد***وإن يكن يعرض عليك لا يرد

وقال السيد الوالد (رحمه اللّه) : لقد تتبعنا تتبعاً بليغاً ولم نجد في ذلك أية رواية، ولم يذكر في أي موضع من الفقه، وسألنا من أهل الفن فأجابوا أنهم لم يجدوا هذه المسألة في الفقه.

وقد تتبعت أنا أيضاً، وسألت أهل الفن، وبحثت فلم أجد هذه المسألة إلا عن ابن الأعسم.

ولا يبعد شمول أدلة (من بلغ) لذلك، لبلوغ الثواب عليه.

الفرع الثاني عشر: قيام الدليل على عدم الاستحباب

لو تضمنت رواية ضعيفة استحباب فعل، وقام الدليل المعتبر على عدم استحبابه، فهل يمكن الفتوى بالاستحباب طبق الخبر الضعيف؟ كما لو دلّ الخبر الضعيف - فرضاً - على استحباب الغسلة الثانية، وقام الدليل المعتبر على عدم الاستحباب(2).

في المسألة احتمالان، بل قولان:

الأول: لا يمكن الفتوى بالاستحباب؛ لأنّ وزان القطع التعبدي وزان

ص: 52


1- من الفقهاء له منظومة في الفقه مبنية على تضمين الروايات.
2- فقد قال الشيخ الأعظم: إنّ الأحوط ترك الغسلة الثانية لليد اليسرى. وقال المجدد الكبير: إنّ الأحوط تركها لليد اليمنى أيضاً، وقال الشيخ محمد تقي الشيرازي: إنّ الأحوط تركها للوجه أيضاً فيما لو أراد أخذ البلل منه.

القطع الوجداني، فكما أنه لو قطع الفقيه بعدم استحباب فعل لم يحق له الفتوى بالاستحباب طبق رواية ضعيفة، كذلك في المقام، حيث لا فرق بين القطعين، فإنّ كل الآثار المترتبة على القطع الوجداني مترتبة على القطع التعبدي؛ لأنّ الأمارات قائمة مقام القطع.

الثاني: ما ذهب إليه الشيخ الأعظم(1): من إمكان الفتوى باستحباب العمل مع قيام الخبر الصحيح المعتبر على عدمه.

ويمكن تقسيم كلام الشيخ إلى قسمين(2):

القسم الأول: يتضمن الرد على كون وزان القطع التعبدي وزان القطع الوجداني.

وتوضيحه: الآثار المرتبة على الموضوعات على نحوين:

الأول: الآثار المترتبة على متعلق القطع، وهو الواقع المنكشف به.

الثاني: الآثار المترتبة على ذات صفة القطع بما هي صفة من الصفات، في قبال بقية الصفات النفسانية.

وأدلة حجية خبر العادل تنزل الدليل المعتبر منزلة القطع باللحاظ الأول، فالآثار المترتبة على الواقع المقطوع به وجوداً وعدماً تترتب على الخبر المعتبر، وأما الآثار باللحاظ الثاني فلا تترتب على الخبر المعتبر.

مثلاً: لحياة زيد وعدمها آثار، كحرمة زواج زوجته في الأول، ووجوب اعتدادها في الثاني، وهذه الآثار تترتب على القطع وعلى الدليل المعتبر

ص: 53


1- أوثق الوسائل: 305.
2- مع توضيحات وإضافات وتغييرات في كيفية الدخول والخروج من الكلام.

كالبينة، أما الآثار المرتبة على ذات القطع، أو ذات الظن أو الشك أو الوهم أو الاحتمال فلا تترتب. مثلاً: لو نذر (إن قطعت بحياة ولدي أتصدق بدرهم) وقامت البينة على حياته ولم توجب له القطع الوجداني لم يجب عليه التصدق؛ لأنّ الموضوع هو القطع بما أنه صفة من الصفات، ولم يتحقق، وثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع.

والحاصل: وجود الفرق بين آثار القطع الموضوعي والطريقي.

وما نحن فيه عدم إمكان الحكم باستحباب العمل متفرع على القطع، وإمكان الحكم بالاستحباب متفرع على الاحتمال عند بلوغ الخبر، حيث إنّ الاحتمال موضوع للحكم بالاستحباب، وأدلة اعتبار خبر العادل بعدم استحباب العمل لا تلغي احتمال الخلاف؛ لاحتمال الخطأ في حقه وجداناً، ومع قيام الاحتمال المذكور يحتمل الاستحباب حتى مع وجود الخبر المعتبر على عدمه، ونفس هذا الاحتمال موضوع للفتوى بالاستحباب.

القسم الثاني: قيام التعارض بين أخبار (من بلغ) الدالة على الاستحباب، وأدلة اعتبار الخبر النافية له، فيتساقطان، فلا تتم الحجة، إلا أنّ ملاك أدلة (من بلغ) محقق في المقام(1)، وهو البلوغ، حيث إنه وجداني.

لكنه قابل للدفع ببيانين ينتهيان إلى نتيجتين متضادتين:

الأول: لا تعارض أصلاً؛ وذلك لأنّ أدلة اعتبار الخبر تنفي الاستحباب

ص: 54


1- فإن الحكم بالاستحباب في سائر المقامات إنما هو لأن المولى يريد من العبد الإتيان بكل خير يحتمله، وأدلة (من بلغ) وإن لم تشمل هذا البلوغ الخاص - لفرض التعارض المؤدي إلى التساقط - إلا أن الملاك المستفاد من تلك الأدلة محقق في المقام (منه (رحمه اللّه) ).

عن الشيء بما له من العنوان الذاتي الأولي، وأخبار (من بلغ) تثبت الاستحباب له بما له من العنوان الثانوي العرضي، ولا تعارض بين الإثبات والنفي لو حمل أحدهما على العنوان الذاتي، والآخر على العنوان العرضي، فأصل ما بنى عليه الشيخ الأعظم محل تأمل.

مثلاً: لو دل الخبر الصحيح على عدم استحباب شرب الماء ثبت ذلك، ولو دل خبر صحيح آخر على استحبابه فيما لو طلبه المؤمن ثبت ذلك أيضاً، حيث لا تعارض بين العنوانين حتى يؤول إلى المرجحات، فإنّ الأول ينفي عنه الاستحباب بما هو هو، والثاني يثبته بما هو مصداق لطلب المؤمن، والمقام كذلك، فالخبر المعتبر ينفي الاستحباب لكن الخبر الضعيف يثبته بحيثية البلوغ، أي: أنه مستحب بما أنه بلغ الثواب عليه.

مثال ذلك: كأن يقول المولى الكريم في باب الجعالة: لم أجعل الجعل على هذا العمل، لكن أجعله حيث بلغك الجعل عليه، فلا تعارض، فيمكن القول: إنه غير مستحب بالعنوان الأولي، مستحب بالعنوان الثانوي الطارئ.

البيان الثاني: - لدفع التعارض المنتهي إلى عدم الاستحباب - هو انصراف أدلة (من بلغ) عن مورد قيام الخبر المعتبر على عدم الاستحباب، فلوقال زرارة: سمعت الصادق (عليه السلام) يقول بعدم استحباب هذا العمل، ثم قال الرواي المجهول: إنه مستحب، فهل لأخبار (من بلغ) السعة لتشمله؟

يمكن دعوى الانصراف، كما أنها منصرفة عن صورة القطع الوجداني، وإلا فالبلوغ محقق فيه أيضاً، فإنّ القطع الوجداني بالخلاف لا ينافي تحقق موضوع البلوغ.

ص: 55

وعلى كلٍ فالفتوى بالاستحباب في هذه الصورة مشكلة.

الفرع الثالث عشر: في تعيين الثواب في أخبار (من بلغ)

هل يشترط في شمول أخبار (من بلغ) تعيين الثواب في الخبر أم لا؟

اختار في المنتقى التعيين، حيث قال: «ظاهر النصوص بملاحظة تنكير الثواب فيها - هو كون الموضوع بلوغ ثواب خاص من حيث الكمية أو النوعية، أما بلوغ ترتب أصل الثواب فلا أثر له»(1)، ثم قال: «وهذه نكتة دقيقة توجب التوقف في الحكم باستحباب كثير من الأمور التي قام على استحبابها خبر ضعيف؛ إذ الإخبار بالاستحباب إخبار بأصل الثواب لا بخصوصيته»(2).

لكنه محل تأمل من جهات:

الأولى: لم ترد كلمة (الثواب) في جميع أخبار الباب بصيغة النكرة، بل لم ترد أصلاً في بعض الروايات.

ففي رواية المحاسن وردت معرفة: «من بلغه عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيء فيه الثواب»(3).

ولم ترد في رواية إقبال الأعمال لا معرفاً ولا منكراً: «من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له أجر ذلك، وإن كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يقله»(4).

ص: 56


1- منتقى الأصول 4: 532.
2- منتقى الأصول 4: 532.
3- المحاسن 1: 25.
4- إقبال الأعمال 3: 170.

فأدلة (من بلغ) تشمل ما كان فيه الثواب معيناً أو غير معين، وما حكم باستحبابه ولم يذكر فيه الثواب أصلاً، وما أمر به في الرواية، حيث إنّ لازم الأمر هو الثواب، خلافاً لما ذهب إليه من عدم شمولها لجميع هذه الروايات.

إن قلت: تقيد الروايات المطلقة بالأخبار المقيدة المذكور فيها الثواب.

قلت: المثبتان لا يقيد أحدهما الآخر في مثل المقام. نعم، مبنى الفقه في باب المركبات الارتباطية(1)

على التقييد، أما في مثل المقام فلا منافاة بين ضمان الثواب المعين، وبين ضمان مطلق الثواب حتى يقيد أحدهما الآخر.

إن قلت: الروايات المذكورة ضعيفة.

قلت: يمكن القول: إنّ الروايات الضعيفة في الباب مشمولة للأخبار الصحيحة، كرواية هشام بن سالم، فتأمل(2).

الجهة الثانية: هل تنكير اسم الجنس يدل على التعيين؟

إنّ لفظ (ثواب) مركب من اسم الجنس والتنكير، فإنّ اسم الجنس - في اللغة - لا بد أن يكون منوناً أو مصحوباً ب- (أل)، أو مضافاً ولا يخلو منها.

أما ذات اسم الجنس فيدل على الطبيعة، فالثواب يعني هذه الماهية.

وأما التنوين فيدل على الوحدة أو التمكين، كما في شرح السيوطي وابن

ص: 57


1- كما في الحج مثل قوله: «طف» و «طف متطهرا» حيث يقيد الأول بالثاني (منه (رحمه اللّه) ).
2- ربما يكون وجه التأمل أن الروايات الصحيحة تشمل الروايات الضعيفة بشرط تعيين الثواب فيها - على ما ذكره - فلا تشمل الروايات الضعيفة في الباب؛ لعدم تحقق الشرط فيها (المقرر).

عقيل في علامات الاسم:

بالجر والتنوين والندا وأل***ومسند للاسم تمييز حصل(1)

والتنوين إما تنوين التمكين أو العوض أو المقابلة أو الغالي(2).

وعلى أي حال، فهذه الكلمة تدل على فرد من الطبيعة، أو الطبيعة المنتشرة، ولا يدل اسم الجنس المنون على التعيين لا لغة ولا عرفاً، بل قد يدعى أنّ التنكير ضد التعيين.

الجهة الثالثة: يمكن إلغاء خصوصية تعيين الثواب، فإنّ أخبار (من بلغ) ظاهرة عرفاً في الحث على إدراك ما يحتمل كونه خيراً، ولا فرق في هذا المعنى بين كون الثواب البالغ معيناً أو لا.

بل يمكن القول: إنّ الثواب لو لم يكن معيناً كان آكد في انقياد العبد، فلو قال المولى: (اعمل كذا ولك أجر ألف قصر في الجنة ) أوقال: (اعمل ولك أجر ما) من دون تعيين كان الانقياد في صورة الإبهام أكثر.

والحاصل: إنه لا خصوصية لكون الثواب معيناً، بعد إلغاء العرف لها، ومعه يمكن القول بعمومية أدلة (من بلغ).

وهذا ما ورد في الفقه والأصول في مواضع مختلفة بعنوان مناسبة الحكم والموضوع، حيث يكون الموضوع خاصاً لكن العرف يعممه وبالعكس.

الجهة الرابعة: عمل الفقهاء على التعميم فيما لو قلنا بحجية فهمهم، حيث لم يفرقوا - فيما نعلم - بين تحديد الثواب في الخبر البالغ، وبين عدم

ص: 58


1- شرح ابن عقيل 1: 16.
2- شرح ابن عقيل 1: 16.

تحديده، فما ذكر في المنتقى خلاف السيرة العملية للفقهاء.

فما أفاده محل تأمل.

الفرع الرابع عشر: تعارض الروايات في الاستحباب والكراهة

لو وردت رواية على كراهة فعل، ووردت أخرى على استحبابه(1) فما هو الحكم؟

يوجد في المقام مبنيان:

الأول: عدم شمول أدلة (من بلغ) للمكروهات، وعليه يكون وجود الخبر الدال على الكراهة كالعدم؛ لضعفه وعدم شمول أدلة (من بلغ) له، فيفتي الفقيه بالاستحباب.

الثاني: عدم الفرق في شمول أدلة (من بلغ) بين المستحبات والمكروهات، وعلى هذا المبنى هنالك نظريتان متخالفتان:

الأولى: ما في النهاية من: «وقوع التنافي بين الروايتين فلا يعمهما الدليل العام»(2) فلا يمكن الحكم بالكراهة ولا الاستحباب، ونبقى بلا دليل.

الثانية: للسيد الوالد في رسالة التسامح، حيث قال: «لم يبعد صحة العمل بأي منهما من باب التسامح»(3).

والظاهر أنه يمكن القول: إنّ الخلاف مبني على أمرين: أحدهما: يتعلق بعالم الثبوت، والثاني: بعالم الإثبات.

ص: 59


1- كالتمندل - فرضاً - ففي بعض الروايات كراهته بعد الوضوء، ويظهر من بعضها أن المعصوم (عليه السلام) كان يتمندل دائماً، وليس البحث في هذه الصغرى (منه (رحمه اللّه) ).
2- نهاية الدراية 4: 190.
3- الوصائل 8: 72.

أما الأول: في إمكان شمول الأدلة للمتناقضين والمتضادين في عالم الثبوت، أو عدم إمكان جعل الحجية لهما.

وأما الثاني: في كون الحكم هو التساقط أو التخيير، بعد نفي المحذور الثبوتي عن شمول الأدلة للمتناقضين والمتضادين.

قال الشيخ في باب التعادل والتراجيح: «أنّ المشهور وهو الذي عليه جمهور المجتهدين الأول(1)، للأخبار المستفيضة، بل المتواترة الدالة عليه»(2) وقال المحدث الكليني: «ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من التخيير»(3).

وبناء عليه يمكن للفقيه الفتوى بالاستحباب أو الكراهة.

وهكذا الأمر في أدلة الأحكام الاقتضائية في الواجبات والمحرمات، حيث لا يمكن الترجيح ولا الجمع الدلالي، فإنّ الفقيه مخير في الفتوى بالحرمة أو الحلية، ومن المتأخرين الذين يرون هذا المبنى المحقق الخونساري في جامع المدارك(4) في مواضع متعددة، حيث صرح بأنّ للفقيه الفتوى بأي من الجانبين بعد فقدان المرجحات.

وتنقيح المبحثين ثبوتاً وإثباتاً موكول إلى مباحث التعادل والتراجيح.

الفرع الخامس عشر: في جريان التسامح في الدلالة

قال البعض(5) بالجريان فيها كما يجري في السند، مثلاً: لو فرض أنّ

ص: 60


1- أي: التخيير عند التعارض وفقد المرجح.
2- فرائد الأصول 4: 39.
3- الكافي 1: 9، بتصرف.
4- جامع المدارك 2: 18، 3: 312، 5: 6.
5- مجموعة رسائل فقهية وأصولية: 39؛ أوثق الوسائل: 306.

دلالة الخبر ضعيفة، كأن ابتنى على مفهوم اللقب أو مفهوم الوصف، فهل يحق للفقيه الفتوى بالاستحباب بمؤدى تلك الدلالة الضعيفة؟

ولم يرتض الشيخ الأعظم ذلك؛ لأنّ أخبار (من بلغ) مختصة بالبلوغ ولا بلوغ مع ضعف الدلالة، وإنما هو مجرد احتمال، وهو غير كاف في جريان قاعدة التسامح. نعم، صرف الاحتمال كاف في الاحتياط العقلي بعنوان الرجاء، وإن لم يكن هنالك خبر أصلاً.

والظاهر أنّ ما ذكره تام.

نعم، لو فهم المشهور دلالة الخبر، فبناء على الجبر أمكن للفقيه الفتوى بالاستحباب، وإن كانت الدلالة ضعيفة عنده.

مثلاً: في باب التخلي تحت الشجرة المثمرة يمكن دعوى أنّ ظاهر أخبار الباب الإثمار بالفعل، وذلك لورود التعليلات في الباب، أو لظهور المشتق في المتلبس، فلو فرض أنّ مبنى الفقيه ذلك، لكن فهم المشهور من الرواية العموم أمكنه الفتوى بالكراهة المطلقة، هذا إن لم يُخطّئهم في الفهم - بأن لم يفهم الدلالة لا أنه فهم عدمها - وإلا فلا مجال للجبر.

والحاصل: إنّ السند مجبور بأخبار (من بلغ) والدلالة مجبورة بفهم الفقهاء، فيفتي بالكراهة المطلقة.

إن قلت: له ثواب الانقياد.

قلت: نعم، لكنه ليس مصداقاً لبلوغ الثواب، بل هو حكم عقلي، حيث إنّ العقل يرى الثواب في الانقياد، وإن كان لمجرد احتمال استحباب العمل، لكنه لا يكون مشمولا لأخبار (من بلغ) فإنها منصرفة عن حكم

ص: 61

العقل بترتب الثواب على الانقياد، وإلا جرى ذلك في كل المحتملات، ولذا لم يقل فقيه بإمكان الإفتاء بالاستحباب لمجرد الاحتمال، مع أنّ العمل وفق الاحتمال انقياد، وفيه الثواب بحكم العقل.

الفرع السادس عشر: دوران بلوغ الثواب مدار ظهور اللفظ وجوداً وعدماً

وقد شرط المحقق العراقي (رحمه اللّه) (1) لصدق بلوغ الثواب ظهور اللفظ في المعنى المراد، فلو تحقق الظهور صدق البلوغ، وإلا فلا، وفرّع عليه فروعاً ثلاثة:

الأول: لو كان اللفظ مجملاً في حد ذاته، فلا ظهور فيه فلا بلوغ.

الثاني: لو كان الكلام محفوفاً بالقرائن المتصلة التي أوجبت سلب ظهور الكلام، فلا ظهور فلا بلوغ.

الثالث: لو كان الكلام محفوفاً بالقرائن المنفصلة فلا تقدح في ظهور الكلام؛ لانعقاده بمجرد انتهائه، والقرائن المنفصلة لا تثلم الظهور، بل تسلب الحجية عن الظاهر.

كما ذكروا ذلك في الفرق بين القرائن المتصلة والمنفصلة(2)، فإن الأولى تسلب الظهور فلا ينعقد، أما الثانية فلا تثلم، بل تسلب الحجية عن الظاهر.

وبناء عليه يصدق البلوغ مع وجود القرائن المنفصلة على الخلاف.

فلو دل خبر ضعيف على (وجوب إكرام العلماء)، ودل خبر ضعيف آخر على (عدم إكرام النحويين من العلماء)، لم يسقط العام عن عمومه

ص: 62


1- نهاية الأفكار 3: 283.
2- الأصول 2: 576؛ دراسات في علم الأصول 3: 134؛ منتقى الأصول 3: 453.

بالقرينة المنفصلة - وإن سقط عن الحجية فيه - فيكون الثواب بالغاً على إكرام جميع العلماء، فيحق للفقيه الإفتاء باستحباب إكرام جميعهم حتى النحاة، فإنّ الملاك هو الظهور، وقد تحقق.

لكنه محل تأمل: لوجود ثلاث دلالات في الكلام: الدلالة التصورية، والدلالة التصديقية الأولى، والدلالة التصديقية الثانية.

وملاك الدلالة التصورية: وجود العلقة بين اللفظ والمعنى، فهو علة الدلالة التصورية؛ ولذا يتحقق الانتقال وإن كان اللافظ غير شاعر، كما لو تلفظ الحيوان أو الجدار، فإنّ الذهن ينتقل إلى المعنى.

ومعنى الدلالة التصديقية الأولى: إنّ المتكلم يريد إخطار المعنى في الذهن، وهذه الدلالة متحققة في المتكلم الشاعر دون غيره الحيوان والجدار.

ومعنى الدلالة التصديقية الثانية: إنّ المتكلم يقصد الحكاية عن الواقع، أو إنشاء المعنى، وهي مفقودة في الهازل مع تحقق الدلالة التصورية والتصديقية الأولى فيه، حيث إنه يقصد الإخطار، لكنه لا يقصد الإنشاء، أو الحكاية عن الواقع، فلو قال هازلاً: أنتِ طالق، فإنه قصد إخطار المعنى، فتتحقق الدلالة التصديقية الأولى دون الثانية.

وليس الملاك في البلوغ الدلالة التصورية، فإنه لو نطق غير الشاعر بوجود الثواب للعمل الكذائي لم يكن مشمولاً لروايات (من بلغ) مع صدق البلوغ.

وهكذا الأمر لو تحققت الدلالة التصديقية الأولى دون الثانية، كما لوقال:

ص: 63

العمل الكذائي مستحب، ثم قال بعد ساعة: كنت أمزح فيما قلت، حيث لا يمكن القول ببلوغ الثواب؛ لانعقاد الظهور بانتهاء الكلام، فإنّ الملاك في البلوغ أو المنصرف منه هو تطابق الإرادة الجدية مع الإرادة الاستعمالية، فصرف الثانية غير كافٍ، بل لا بد من تطابقها مع الإرادة الجدية.

وحينما يقول المولى: (أكرم العلماء) تنعقد الإرادة الاستعمالية في العموم، ولكن حينما يقول: (لا تكرم النحاة منهم) يعلم أنّ الإرادة الجدية ليست مطابقة للإرادة الاستعمالية.

وبعبارة أخرى: ما هو الفرق بين القرينة المتصلة والمنفصلة، فكما لا يمكن القول باستحباب إكرام جميع العلماء حتى النحاة، فيما لوقال في كلام واحد: (أكرم العلماء إلا النحاة) كذلك الأمر لو كان في كلامين، فإنّ الملاك هو الإرادة الجدية لا الاستعمالية، وهي تنثلم مع وجود الخاص المنفصل.

والحاصل: إنّ المدعى انصراف البلوغ مع قيام القرينة على مخالفة الإرادة الجدية للإرادة الاستعمالية، أو عدم صدقه.

فما ذكره محل تأمل.

الفرع السابع عشر: في شمول أدلة (من بلغ) للفعل المباح

هل الدليل المتكفل لإباحة فعل مشمول لأدلة (من بلغ) أم لا؟

قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «هل الإباحة كذلك؟ لا يبعد؛ لما ورد من أنّ اللّه يحب أن يؤخذ برخصه، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، فإذا أباح خبر ضعيف شيئاً وكان الأصل على إباحته، وعمل المكلف رجاء محبوبيته عند

ص: 64

اللّه أثيب؛ لأنّ ما هو محبوب عند اللّه مثاب عليه»(1).

وفي المقام بحثان:

الأول: في رواية: «إنّ اللّه يحب أن يؤخذ برخصه»(2)، فقد قال السيد الحكيم: «إنّ الخبر مرسل»(3).

لكنه محل تأمل؛ لأنه روي مرسلاً ومسنداً، وقد ذكر السند في خاتمة الوسائل(4)، حيث رواه السيد المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه عن محمد بن إبراهيم بن جعفر النعماني(5) عن أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة(6) قال حدثنا أحمد بن يوسف بن يعقوب الجعفي(7) عن إسماعيل بن مهران(8) عن الحسن بن علي بن أبي حمزة(9) عن أبيه(10) عن إسماعيل بن

ص: 65


1- الوصائل 8: 68.
2- وسائل الشيعة 1: 108، 16: 232.
3- مصباح المنهاج 3: 486.
4- وسائل الشيعة 3: 244.
5- محمد بن إبراهيم بن جعفر النعماني، صاحب التفسير، قال النجاشي في حقه: شيخ من أصحابنا عظيم القدر شريف المنزلة صحيح العقيدة.
6- أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة، أمره في الجلالة والوثاقة أشهر من أن يذكر.
7- أحمد بن يوسف بن يعقوب الجعفي، ثقة.
8- إسماعيل بن مهران، ثقة.
9- الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني الابن، وهو ضعيف أو تعارض فيه التوثيق والتضعيف.
10- علي بن أبي حمزة البطائني المشهور، من أعمدة الوقف، قال ابن فضال في حقه: كذاب متهم، لكن قال الشيخ الطوسي في العدة: عملت الطائفة بأخباره، ولا ينافي ذلك كونه كذاباً متهماً، فربما كان شخص كذاباً لكن عملت الطائفة بأخباره.

جابر الجعفي(1) قال: سمعت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يقول..(2) والظاهر ان الخبر غير معتبر؛ لمكان البطائني الابن، ولكن مع ذلك فهو مشمول لأدلة (من بلغ) فيفيد محبوبية الأخذ بالرخص، وهي تلازم الاستحباب أو ظاهرة عرفاً فيه.

فلو احتمل نجاسة شيء، فبمقتضى «كل شيء لك طاهر» قد رخص اللّه في استعماله، فيكون استعماله مستحباً؛ لقوله (عليه السلام) : «إنّ اللّه أحب أن يؤخذ برخصه» وكذا كل مشتبه رخص فيه شرعاً.

فمن احتاط كان مشمولاً لأدلة الاحتياط، وهو محبوب للمولى ولو في الجملة، ومن لم يحتط بهذا الداعي كان محبوباً للمولى أيضاً.

إن قلت: كيف يمكن أن يكون المتضادان محبوبين؟

قلت: لو كان للطرفين - الفعل والترك - ملاكان مختلفان كانا مصداقاً للتزاحم، فيمكن للمكلف الأخذ بأي منهما، فيحتاط من باب أنه إدراك للواقع الاحتمالي، ويقتحم من باب الترخيص المحبوب.

كما لو طلب المؤمن من الصائم الإفطار، ففي الصوم ملاك؛ لأنه عبادة، وفي الإفطار ملاك؛ لأنه قضاء حاجة المؤمن، وإن كان ملاك الإفطار راجحاً، ففي الرواية: أنه لو أخبر أنه صائم وأفطر يكتب له عشر أضعاف ثواب الصيام، ولو لم يخبر بذلك وأفطر يكتب له ثواب سنة كاملة(3)،

ص: 66


1- إسماعيل بن جابر الجعفي، ثقة.
2- وسائل الشيعة 16: 232.
3- المحاسن 2: 412.

فالملاك متحقق في الطرفين.

وهذا الأمر جار في الكثير من المستحبات المتزاحمة في الطرفين، فيحق للمكلف أن يختار أي واحد من الملاكين.

وينفتح من هذا المطلب - لو تم - أبواب كثيرة(1).

البحث الثاني: خصص السيد الوالد (رحمه اللّه) ذلك بما إذا دل الخبر الضعيف على الإباحة، حيث قال: «إذا أباح خبر ضعيف شيئاً»(2).

لكن لا يلزم ذلك، فإنّ الشيء المباح - ولو بحكم الأصل - مشمول لرواية «من

أحب» سواء كانت معتبرة أم لا.

الفرع الثامن عشر: في إمكان إعمال المقلد لقاعدة التسامح

هل يمكن للمقلد إعمال قاعدة التسامح أم لا؟

قال السيد الوالد في الوصائل: «يجوز للمقلد إذا كان فاضلاً الأخذ بقاعدة التسامح... إذا تيقن عدم الحرمة»(3).

توضيحه: إنّ قاعدة التسامح من المسائل الأصولية، التي تقع واسطة في طريق استنباط الأحكام الإلهية الكلية، وإعمال المقلد في المسائل الأصولية موقوف على القطع باجتماع جميع الشرائط وانتفاء جميع الموانع.

كما يشترط مثل ذلك في إجراء المقلد للاستصحاب في الشبهات

ص: 67


1- أقول: وعليه يمكن الفتوى باستحباب ترك المستحبات، حيث إن اللّه رخص في ترك المستحبات، فيكون تركها أخذاً بالترخيص المحبوب، فيثاب على ترك المستحب، إلا أن يقال بالانصراف عنها (المقرر).
2- الوصائل 8: 69.
3- الوصائل 8: 70.

الحكمية، كأن يحكم بنجاسة الكر المتغير بعد زوال التغير؛ لأنّ المجتهد أفتى بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكلية، حيث اللازم القطع باجتماع جميع الشرائط، كوحدة الموضوع فيهما، وأنّ التغير أخذ في الموضوع بعنوان العلة المحدثة والمبقية، أو بعنوان العلة المحدثة فحسب، وأنّ الموضوع هو الماء المتغير أو الماء إذا تغير، وكذلك انتفاء الموانع، كوجود الأدلة الاجتهادية، كقوله (عليه السلام) : «الماء إذا بلغ قدر كر لم يحمل خبثاً»(1) وأنه يشمل الدفع والرفع أو خاص بالدفع، وأنّ السند تام أم لا؟

وبعد ذلك لا مانع من تطبيق الكبرى على هذه الصغرى الحكمية، لكن في الكثير من الموارد يتوقف القطع بذلك على الاجتهاد، فالعامي غير المجتهد لا يمكنه ذلك.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فالمقلد لا يمكنه إعمال قاعدة التسامح على الصغريات بعد فتوى المجتهد بها؛ وذلك لوجود مباحث كثيرة في شرائط هذه القاعدة وحدودها وموانعها.

مثلاً: هل الفتوى كالرواية أو لا؟ وهل هنالك فرق في البلوغ بين الدلالة المطابقية والالتزامية؟ وهل الكراهة ملحقة بالاستحباب؟ وهل يشترط فيها الظن بالوفاق أو عدم الظن بالخلاف؟ وهل تشمل أخبار الوضاعين؟ وهل السياري وضاع؟ وهل تعيين الثواب شرط في الجريان؟ وهل هنالك معارض للخبر الضعيف المفيد للاستحباب؟ وهل ملاك الظهور هو الدلالة التصورية أو الدلالة التصديقية الأولى أو الثانية؟ ولو وردت رواية على

ص: 68


1- مستدرك الوسائل 1: 198.

الكراهة وكانت سيرة المعصومين (عليهم السلام) على العمل به، فهل يمكن الحكم بالكراهة أم أنّ السيرة لا تدع مجالاً لذلك؟

والمسائل الأصولية في كثرة الشرائط والموانع مختلفة سهولة وصعوبة، ومن الممكن أن لا يلتفت العامي إلى إشكال المسألة أصلاً، كما لو ورد الثواب على قراءة دعاء يتضمن أسماء اللّه، حيث تحتمل حرمته لشبهة التوقيفية، فالفتوى بالاستحباب تحتاج إلى الإحاطة، ولا مانع من حكم العامي به مع قطعه باجتماع جميع شرائط التسامح وانتفاء جميع الموانع، وإن لم يفتِ الفقيه بذلك، وهو حاصل في مجموعة من المستحبات للعامي الفاضل المحيط.

الفرع التاسع عشر: شمول قاعدة التسامح لاستحباب الشهادة الثالثة

الفرع التاسع عشر(1): شمول قاعدة التسامح لاستحباب الشهادة الثالثة

في شمول قاعدة التسامح لما ورد في بعض الأخبار من استحباب الشهادة الثالثة في التشهد على تفصيل.

ففي الفقه الرضوي رواية مفصلة فيها: «فإذا صليت الركعة الرابعة فقل في تشهدك بسم اللّه وباللّه والحمد لله، والأسماء الحسنى كلها لله... اشهد أنك نعم الرب وأنّ محمداً نعم الرسول وأنَّ علياً نعم المولى وأنّ الجنة حق والنار حق والموت حق والبعث حق...» (2).

وفي المستدرك نقلاً عن الفقه الرضوي قوله: «وأنّ علي بن أبي طالب

ص: 69


1- ولم يحضرني كتاب تطرق إليه، وتنقيحه يحتاج إلى بحث كثير، فنطرحه بعنوان البحث الأولي، وعلى نحو الاحتمال (منه (رحمه اللّه) ).
2- فقه الرضا (عليه السلام) : 108.

نعم الولي»(1).

والشبهة المطروحة في المقام أنه من كلام الآدمي، وهو مبطل، فإنّ قول المصلي (أشهد) ليس من القرآن أو الذكر أو الدعاء حتى يستثنى، وعليه لا يمكن العمل بهذه الرواية.

ولدفع الإشكال يمكن ذكر عدة أجوبة - على نحو الاحتمال - :

الأول: إنّ أدلة مبطلية الكلام منصرفة عن الشهادة بالوحدانية.

ونفس هذه الشبهة مطروحة في الشهادة بالولاية فيما لو كررها للاحتياط، حيث أشكل(2) بعض كبار المعاصرين في ذلك؛ لكونه من كلام الآدمي، وقد ثبت جوازه مرة واحدة لا أكثر. والجواب عنه: إنّ كلام الآدمي منصرف عنه.

والنظر إلى الروايات التي تذكر مبطلية كلام الآدمي كفيل بانصرافها عن الشهادة بالألوهية والنبوة والولاية.

ففي صحيحة الحلبي: «في الرجل يصيبه الرعاف قال (عليه السلام) : إن لم يقدر على ماء حتى ينصرف لوجهه أو يتكلم فقد قطع صلاته»(3) وعليه لو كان تحصيل المطهر موقوفاً على استدبار القبلة أو الكلام كان مبطلاً.

وفي صحيحة محمد بن مسلم: «إن تكلم فليعد صلاته»(4).

ص: 70


1- مستدرك الوسائل 5: 6.
2- شفاهاً لا كتباً.
3- وسائل الشيعة 7: 282.
4- وسائل الشيعة 7: 282.

وفي صحيحة الفضيل: «ابن على ما مضى من صلاتك ما لم تنقض الصلاة بالكلام متعمداً»(1).

ونظيره في قراءة القرآن والدعاء والذكر(2)، فقد ذكروا دليلين لاستثنائها الأول: انصراف أدلة التكلم عنها، الثاني: الروايات الخاصة في المقام، فما قالوه من الانصراف نقوله هنا.

الجواب الثاني: وفيه ثلاث مقدمات:

الأولى: الشهادة بالنبوة ذكر للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

الثانية: ذكر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جائز في الصلاة.

الثالثة:كلُّ ما ثبت للنبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو ثابت لأمير المؤمنين (عليه السلام) .

والمقدمة الأولى يثبتها الوجدان، فمن قال: «أشهد أنّ محمداً رسول اللّه» يقال عرفاً أنه ذكر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما يذكر المؤذن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد ورد أنه لما ذكر المؤذن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال الإمام السجاد: «يا يزيد، محمد هذا جدي أم جدك؟...»(3).

ودليل المقدمة الثانية صحيحة الحلبي قال: أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «كلُّ ما ذكرت اللّه عزّ وجلّ به والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو من الصلاة»(4).

ودليل المقدمة الثالثة: آية المباهلة والروايات التي وردت في تفسيرها(5).

ص: 71


1- وسائل الشيعة 7: 282.
2- كتاب الصلاة 2: 5.
3- بحار الأنوار 45: 139.
4- الكافي 3: 338.
5- الخصال: 576؛ شرح الأخبار 3: 94؛ بحار الأنوار 10: 148.

الجواب الثالث: الروايات الكثيرة الدالة بالمطابقة أو الالتزام على محبوبية الاقتران بين الشهادات الثلاث، وقد يدّعى أنها متواترة إجمالاً، بل معنىً وقد نقل بعضها السيد تقي القمي في كتابه الدلائل(1)، نذكرها باختصار:

ففي الاحتجاج(2) رواية مفصلة ذكر فيها الاقتران بين الشهادات الثلاث على العرش، ومجرى الماء، وقوائم الكرسي، واللوح وجبهة اسرافيل، وجناح جبرئيل وأكناف السماوات، وأطباق الأرضين ورؤوس الجبال، والشمس والقمر و.. فإذا قال أحدكم: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه فليقل علي أمير المؤمنين (عليه السلام) .

وفي البحار(3): إنّ الاقتران بين الشهادات الثلاث مكتوب على أوراق الجنة، و فيه أيضاً الكتابة على جناح جبرئيل(4)، والكتابة على أبواب الجنة(5)، والكتابة حول العرش(6)، والكتابة على كل باب سماء، وكل حجاب من حجب النور، وكل ركن من أركان العرش(7).

وفي تفسير الصافي(8)، وتفسير البرهان(9)، في تفسير قوله تعالى: «إليه

ص: 72


1- الدلائل 2: 200.
2- الاحتجاج 1: 365.
3- بحار الأنوار 27: 8.
4- بحار الأنوار 27: 9.
5- بحار الأنوار 27: 11.
6- بحار الأنوار 27: 11-12.
7- بحار الأنوار 27: 12.
8- الصافي 4: 233.
9- البرهان 3: 358.

يصعد الكلم الطيب» إنها الشهادات الثلاث.

وفي البحار(1): إنّ فاطمة عند ولادتها نطقت بالشهادات الثلاث، وفيه أيضاً أنّ ولي الأمر عجل اللّه تعالی فرجه الشريف حين ولادته نطق بالشهادات الثلاث(2)، وأنه كتب على باب الجنة الشهادات الثلاث(3)، وأنّ من أراد أن يستمسك بالعروة الوثقى فليقل: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه على ولي اللّه(4)، وفي دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) : «واحشرنا في زمرة من قال: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه علي ولي اللّه»(5).

مضافاً إلى ذلك أحاديث كثيرة: منها ما في الكافي: «لمّا خلق اللّه السماوات والأرض أمر منادياً ينادي: أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأشهد أنّ محمداً رسول اللّه، وأشهد أنّ علياً أمير المؤمنين حقاً»(6).

وفي البحار(7): مكتوب على قائمة العرش... فاشهدوا بهما وأنّ علياً وصي محمد، وهنالك الكثير من الروايات في هذا المجال(8).

ومع دعوى تواترها إجمالاً أو معنى يقع التعارض بينها، وبين روايات

ص: 73


1- بحار الأنوار 43: 3.
2- بحار الأنوار 51: 13.
3- بحار الأنوار 8: 131.
4- بحار الأنوار 8: 144.
5- بحار الأنوار 102: 300.
6- الكافي 1: 441.
7- بحار الأنوار 27: 5.
8- بحار الأنوار: 27: 6، 36: 310، 324، 331، 348، 27: 2، 11، 68: 76.

إبطال كلام الآدمي بالعموم من وجه؛ لأنّ إبطال كلام الآدمي شامل لهذه الكلمات فرضاً، وغيرها كجئني بالماء، وهذه الأحاديث المتواترة الدالة على محبوبية الاقتران بين الشهادات الثلاث تعم حالة الصلاة وغيرها، وبعد التعارض بالعموم الوجهي يتساقطان، وحيث لا دليل يرجع إلى أصالة البراءة.

ونظيره ما ذكره الشيخ الصدوق في القنوت بالفارسية، حيث قال: «لا دليل على الحرمة، فنرجع إلى كل شيء لك مطلق»(1).

وقد يورد عليه بكونها معارضة على نحو العموم من وجه مع أدلة مبطلية الكلام، فيتقدم الدليل الاقتضائي على اللا اقتضائي عند التعارض.

ويمكن الجواب بأنّ عمومات محبوبية الاقتران آبية عن التخصيص؛ بخلاف عمومات أدلة مبطلية الكلام.

أما الدعوى الأولى: فلأنه لا يمكن - عرفاً - تخصيص هذه المجموعة الهائلة من الأخبار، الدالة بالمطابقة أو الالتزام على محبوبية الاقتران بين الشهادات الثلاث، بأن يقال: إنّ الاقتران محبوب إلا في الصلاة، بل هو مبغوض فيها، بل فيه الحرمة التكليفية والوضعية، فإنّ لسان هذه المجموعة الكبيرة من الأخبار آبية عن التخصيص، فالروايات تدل على المحبوبية على نحو الإطلاق.

وأما الدعوى الثانية: فلأنّ عمومات أدلة مبطلية الكلام ليست آبية عن التخصيص، بل هو واقع بالفعل، كرد التحية في الصلاة، فهو كلام الآدمي،

ص: 74


1- من لا يحضره الفقيه 1: 317.

ومع ذلك لا إشكال فيه، بل هو واجب.

الجواب الرابع: وهو مركب من صغرى وكبرى، وهما: إنّ ذكر أهل البيت (عليهم السلام) ذكر لله تعالى، وذكر اللّه سبحانه جائز في الصلاة.

أما الكبرى: فقد ورد فيها روايات متعددة، وفيها المعتبر، وقد أفتى الفقهاء بعدم الإشكال في ذكر اللّه في الصلاة(1).

وأما الصغرى: فتدل عليها جملة من الروايات، منها: ما في الوسائل: عن الكليني، عن حميد بن زياد(2)، عن الحسن بن محمد بن سماعة(3)، عن وهيب بن حفص(4)، عن أبي بصير(5)، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «ما اجتمع قوم في مجلس لم يذكروا اللّه عزّ وجلّ ولم يذكرونا، إلا كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة ثم قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) إنّ ذكرنا من ذكر اللّه وذكر عدونا من ذكر الشيطان»(6).

وروايات أخرى بنفس هذا المضمون.

ويمكن الإشكال عليه بأنّ مفاد الحديث الحكومة، وهي تنزيل بلحاظ أظهر الآثار، أو الآثار الظاهرة، لا بلحاظ جميع الآثار، كما لو قال المولى: (الطواف بالبيت صلاة) فهو توسعة في موضوع الصلاة، ولا تفيد اشتراك

ص: 75


1- الانتصار: 151؛ الجامع للشرائع: 78؛ الدروس الشرعية 1: 89.
2- حميد بن زياد، واقفي ثقة.
3- الحسن بن محمد بن سماعة، واقفي ثقة.
4- وهيب بن حفص، واقفي ثقة.
5- أبي بصير، ثقة.
6- وسائل الشيعة 7: 153.

الطواف مع الصلاة في جميع الآثار، بل أظهرها أو الآثار الظاهرة كالطهارة، وما نحن فيه كذلك.

ويمكن دفع الإشكال بأنه قد يكون لحن الدليل لحن التنزيل، فالإشكال تام.

وقد يكون اللحن لبيان المصداق الواقعي للموضوع، كما لو قال المولى - في مثال بعيد عن المقام -: «بيع مَنٍّ مِنَ الحنطة بمَنٍّ منها إلى أجل ربا» حيث إنه ليس تنزيلاً، بل بيان للمصداق الواقعي للربا، وإن كان فرداً خفياً له.

ولحن الموثقة وسائر الروايات في المقام لحن بيان الفرد الواقعي، فذكر اللّه تعالى كلي له مصاديق، وذكر أهل البيت (عليهم السلام) فرد من أفراده واقعاً، فكل حكم يترتب على ذكر اللّه عزّ وجلّ يترتب على ذكر أهل البيت (عليهم السلام) فإنّ أهل البيت (عليهم السلام) يدهم يد اللّه، وعينهم عين اللّه، وذكرهم ذكر اللّه.

ومما يدفع الاستيحاش عنه صريح فتوى صاحب الجواهر بذلك، حيث قال: «بل لو قرئ المروي عن فقه الرضا (عليه السلام) على طوله وزياداته على خبر أبي بصير...(1) لم يكن به بأس»(2).

وللسيد الوالد في الفقه عبارة مجملة يحتمل أنها تشمل المقام، حيث قال: «وهنالك عبارات اُخر في الفقيه وفلاح السائل ومصباح الشيخ والمقنع وفقه الرضا (عليه السلام) من أرادها فليرجع إلى كتب الروايات»(3). وقد صرح (رحمه اللّه)

ص: 76


1- فإن لأبي بصير رواية موثقة في التشهد يذكرها صاحب العروة بتفصيل، وما في الفقه الرضوي هو تلك الرواية لكن بإضافات.
2- جواهر الكلام 10: 277.
3- الفقه 22: 75.

في بعض استفتاءاته بالجواز.

وقد حكي أنّ جمعاً من الفقهاء أفتوا بالجواز، منهم: السلار في المراسم(1)، حيث نفى الإشكال عن قول «وأشهد أنّ ربي نعم الرب، وأنّ محمداً نعم الرسول، وأنّ علياً نعم الإمام» في التشهد.

وكذلك المجلسي في فقهه(2).

وهكذا المحقق النراقي في المستند، حيث قال «ويستحب أن يزيد في تشهده ما في رواية عبد الملك، والأكمل منه للتشهد ما في موثقة أبي بصير، أو ما في الفقه الرضوي»(3) ثم ينقل المتن الكامل للرواية عن الفقه الرضوي.

وممن أفتى بالجواز المحدث النوري في المستدرك.

وكذلك علي بن بابويه والد الشيخ الصدوق في الفقه الرضوي(4).

والمسألة بحاجة إلى تأمل أكثر وتحقيق أوسع.

الفرع العشرون: في بيان آثار المستحب الثابت بأخبار (من بلغ)

لو ثبت استحباب شيء بأخبار( من بلغ) فهل يكون مستحباً كسائر المستحبات الواقعية في تمام آثارها أم لا؟

مثلاً: لو ثبت استحباب غسل بالأخبار، فهل يجزي عن الوضوء على مبنى

ص: 77


1- المراسم: 73.
2- الفقه الكامل الفارسي: 31.
3- مستند الشيعة 5: 334-336.
4- الفقه الرضوي: 108.

جمع من الفقهاء في الأغسال المستحبة(1)؟

أشكل في ذلك السيد السبزواري، حيث قال: «وجهان، بل قولان أحوطهما الثاني؛ لعدم ورود الأدلة في مقام البيان من هذه الجهة»(2) فإنّ الأدلة في مقام بيان أصل الاستحباب، لا في مقام بيان ترتب جميع آثار المستحب.

لكنه لا يخلو من تأمل؛ لأنّ وزان المستحبات الثابتة بأخبار (من بلغ) وزان المستحبات الثابتة بالأخبار المعتبرة، فلو قام الدليل المعتبر على استحباب الوضوء التجديدي، كموثقة سماعة بن مهران: «من جدد الوضوء كان كفارة لما مضى من يومه»(3) فيثبت الاستحباب، ويترتب عليه جميع آثار الوضوء المستحب.

ولا فرق في ثبوت الاستحباب بين الخبر المعتبر، والخبر الضعيف المجبور بأخبار (من بلغ) فإنّ الخبر المعتبر يثبت الموضوع(4) للأخبار الدالة على كفاية الغسل المستحب عن الوضوء، وكذلك الحال في الخبر الضعيف، حيث إنها تفيد بضميمة أخبار (من بلغ) استحباب الغسل، فيترتب عليه جميع الآثار ترتب كل محمول على موضوعه.

والحاصل: إنّ الصغرى ثابتة بأخبار (من بلغ)، والكبرى ثابتة بتلك

ص: 78


1- روضة المتقين 1: 232؛ ملاذ الأخيار 1: 502.
2- مهذب الأحكام 2: 171.
3- المحاسن 2: 312؛ الكافي 3: 70.
4- وهو استحباب هذا الغسل.

الأخبار.

الفرع الحادي والعشرون: إثبات أفضلية فعل بأخبار (من بلغ)

لو تضمن الخبر الضعيف أفضلية فعل على فعل، فهل يكون مشمولاً لأدلة (من بلغ) ليفتي الفقيه بالأفضلية أم لا؟

كما لو دلت رواية ضعيفة - فرضاً - على أنّ زيارة الإمام الثامن (عليه السلام) أفضل من الحج المندوب، وذلك بضميمة مفهوم المساواة.

قال الشيخ الأعظم(1): نعم؛ لأنّ مآل الأفضلية استحباب تقديم الفاضل على المفضول عند التعارض(2)، فتشمله الأخبار، فإنّ مفاد الخبر الضعيف بالدلالة المطابقية، أو الالتزامية أنّ زيارته أفضل فيما لو تزاحم مع الحج فيقدم الأفضل؛ لأنه أحبّ عند اللّه، فيكون مشمولاً لأخبار (من بلغ).

وإن لم يتم ما ذكره فيمكن التمسك بوجه آخر، وهو: إلغاء الخصوصية، حيث لا فرق بين أن يكون الخبر متضمناً لأصل المحبوبية أو لدرجة المحبوبية، فحتى لو فرض أنّ أخبار (من بلغ) لا تشمل هذا المورد، وهي ناظرة للأخبار المثبتة لأصل المحبوبية، لا لتفاوت درجاتها، إلا أنّ العرف يلغي الخصوصية.

فلو قال المولى: (لو بلغك ربح مليون في التجارة فادخل فيها، فهو محبوب عندي)، وبلغ العبد تجارتان في إحداهما ربح المليون، وفي

ص: 79


1- أوثق الوسائل: 307.
2- كذا في المصدر، ولابد أن تكون العبارة على القاعدة (عند التزاحم) وذلك لعدم تحقق التعارض في المستحبات بل التزاحم (منه (رحمه اللّه) ).

الأخرى مائة مليون، كان الثاني مشمولاً لأمر المولى، وإن كان الشمول بالملاك، فهل يعقل أن يكون ربح المليون المحتمل محبوباً، وليس ربح التسعة والتسعين مليوناً الزائدة عليه محبوباً؟!

وبه يثبت تقديم الأفضل عند التزاحم.

التنبيه الثالث: في إمكان الاحتياط ومشروعيته

اشارة

ويقع البحث فيه في مقامات، وهي:

المقام الأول

في الاحتياط في الأمور التوصلية، التي يحتمل فيها الوجوب مع قطع المكلف بعدم الحرمة، كالغسلة الثانية في المتنجس بغير البول، فإنها إما واجبة أو لا، وكفري الأوداج الأربعة لو شك في وجوبها، بالإضافة إلى قطع الحلقوم.

ولا إشكال في حسن الاحتياط عقلاً، وأنه مشمول لأوامر الاحتياط الشرعية، سواء أكان المختار أنّ أوامر الاحتياط إرشادية أم مولوية.

والشبهة المطروحة في المقام هي: أنّ الإتيان به تشريع.

لكنها واضحة الاندفاع؛ لأنّ الاحتياط مضاد للتشريع، فإنّ التشريع إدخال ما لم يعلم كونه من الدين في الدين، والاحتياط عبارة عن الإتيان بالفعل برجاء أن يكون من الدين، وأن يكون محبوباً لله تعالى.

المقام الثاني

في الاحتياط في الأمور التعبدية، التي أحرز أصل رجحانها واحتمل فيها الوجوب، كالاحتياط بإتيان القنوت، وحيث إنّ الأمر محرز كان الاحتياط

ص: 80

بإتيانه حسناً، وإن لم يعلم طبيعة الأمر، وأنه متلون بلون الوجوب أو الاستحباب، فإنّ المكلف يقصد امتثال الأمر الواقعي.

نعم، يفتقد فيه نية الوجه، حيث لا يمكن الإتيان به لوجه وجوبه أو ندبه، وقد ذكر في الفقه -كما مرّ في المباحث السابقة- عدم اعتبار نية الوجه، وقال المحقق (رحمه اللّه) (1): نية الوجه كلام شعري، دخل من علم الكلام إلى الفقه، ولا دليل معتبر عليه.

وأما من يرى لزومها فإنما يرى ذلك في صورة الإمكان، وهو متعذر في المقام.

المقام الثالث

اشارة

في الاحتياط في الأمور التعبدية التي يشك في أصل رجحانها، للشك في وجود طبيعي الأمر فيها، مع احتمال الوجوب، فيكون الأمر دائراً بين الوجوب والإباحة، أو الاستحباب والإباحة.

مثلاً: لو شك في أنّ الصوم الضرري غير البالغ(2) هل يرفع أصل التكليف أو يرفع لزومه؟ حيث قال البعض بعدم الوجوب مع الحكم بصحته، وقال آخرون بعدم مشروعيته لا بمعنى الحرمة، بل بمعنى الإباحة، وبما أنّ المكلف يحتمل الاستحباب، فهل يكون الاحتياط بالإتيان به مشروعاً وراجحاً عقلا أم لا؟

وجه الإشكال: إنّ عبادية العبادة متقومة بقصد التقرب إلى المولى، وفي

ص: 81


1- الرسائل التسع: 317.
2- وهكذا الغسل الحرجي.

المقام يشك في أصل وجود الأمر، فلا يعلم أنه مقرّب إليه سبحانه، فكيف ينوي التقرب به؟!

كما لو صلّى من دون توجه والتفات، فأراد الإعادة(1) فلم يحرز أصل وجود الأمر، ولو على نحو الاستحباب مع احتمال محبوبيتها(2).

وكما لو رأى الفقيه أو المقلد فتوى بوجوب الاستعاذة قبل الحمد، ولم يكن يفعل من قبل، فيحتمل محبوبية إعادة الصلوات السابقة مع الاستعاذة، فهل يمكنه مع عدم إحراز وجود الأمر أن يتقرب إلى المولى بالاحتياط؟!

وبعبارة أخرى: كيف يصح جريان الاحتياط في العبادة التي لم يحرز وجود الأمر فيها، لا بنحو الوجوب ولا بنحو الاستحباب؟

والظاهر قوة الإشكال في نظر الشيخ الأعظم، فأفتى بعدم جريان الاحتياط في المقام، حيث قال: «وجهان أقواهما العدم»(3).

لكن الفقيه الهمداني نقل عن سيد مشايخه أنّ عبارة (أقواهما) لم تكن في النسخة المرقومة بخط الشيخ، ثم قال: «فهو بحسب الظاهر من تحريف النساخ»(4).

والحاصل: إنّ الشيخ خرج من المسألة بالعدم على الأقوى، أو بنحو من أنحاء التردد.

ص: 82


1- كما كان البعض يتقيد بالإعادة مكرراً بمجرد عروض أدنى غفلة.
2- نعم، وردت الإعادة في بعض الموارد لكن لم ترد في هذا المورد.
3- فرائد الأصول 2: 151.
4- حاشية فرائد الأصول: 68.

ولحل الشبهة طرق

الطريق الأول

الكشف عن وجود الأمر الشرعي من طريق اللم(1).

وتقريره أنّ العقل يحكم بحسن الاحتياط، وبقانون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع يتم الكشف عن وجود الأمر بالاحتياط، فالاحتياط العقلي يتبعه الاحتياط الشرعي، ووجود الأمر بالاحتياط مصحح لعبادية العبادة، فيقصد المكلف امتثال الأمر المنكشف، ويتقرب به إلى اللّه تعالى.

وإنما سمي (لمّا) لأنّ الحسن علة الأمر الشرعي، فيكون انتقالاً من العلة إلى المعلول.

ويرد عليه إشكالات:

الإشكال الأول: ما ذكره صاحب الكفاية، من أنّ الاستدلال دوري، قال في عبارة مقتضبة: «بداهة توقفه(2) على ثبوته(3) توقف العارض على معروضه، فكيف يعقل أن يكون(4) من مبادئ ثبوته»(5).

ص: 83


1- وهو انتقال من العلة إلى المعلول، كما قال في شرح المنظومة1: 138: برهاننا بالإنِّ واللمِّ قسمْ***علمُ من العلة بالمعلول لمْ وعكسه إنٌَّ ولمُّ أسبقُ***وهو بإعطاء اليقين أوثقُ (منه (رحمه اللّه) ).
2- أي الأمر الشرعي.
3- أي ثبوت كونه احتياطا.
4- أي الأمر الشرعي.
5- كفاية الأصول: 350.

فبهذا الطريق يتم إثبات كون العمل احتياطاً بوجود الأمر الشرعي (احتط) المكشوف بالأمر العقلي، فكيف يمكن أن يكون الأمر الشرعي محققاً لموضوع الاحتياط، وموجباً لكون العمل احتياطاً؟

وبعبارة أخرى: الأمر متأخر عن موضوعه وعارض عليه، فالاحتياط بما أنه موضوع متقدم فالأمر به متأخر عنه، ولو بالتأخر الرتبي(1)، مع أنكم جعلتم كونه احتياطاً معلولاً للأمر، أي أنّ وجود الأمر من مبادئ ثبوت كونه احتياطاً، فيكون الاحتياط في رتبة متقدمة ومتأخرة في آن واحد.

والحاصل: إنّ الأمر متوقف على كونه احتياطاً، وكونه احتياطاً - حسب الطريق المذكور- متوقف على الأمر، وهو دور.

وأجيب عنه بأجوبة:

الجواب الأول: إنّ الموقوف عليه غير الموقوف عليه، فإنّ أحد الطرفين ثبوتي والآخر إثباتي(2).

لكنه محل إشكال؛ لأنّ التوقف ثبوتي في كلا الطرفين، فإنّ الأمر متوقف ثبوتاً على كونه احتياطاً، وكونه احتياطاً متوقف ثبوتاً على الأمر.

الجواب الثاني: ما في النهاية(3)، وهو مطلب سيال يجري في موارد عديدة.

وحاصله: عدم التعدد بين الموضوع والحكم، فهما موجودان بوجود

ص: 84


1- فإن ل- (احتط) مادة و هيئة، أي الاحتياط مأمور به.
2- كتوقف النار على الدخان وهو إثباتي وتوقف الدخان على النار وهو ثبوتي.
3- نهاية الدراية 4: 158.

واحد، فلا يمكن القول: إنّ الموضوع متقدم على الحكم، وبه تندفع غائلة الدور. وقد بين ذلك في ثلاث صفحات نقتصر منها على ما يهمنا. وذكر لإثبات ما رامه مقدمة، وهي أنّ العوارض على نحوين عوارض الوجود وعوارض الماهية.

قال: «والتحقيق أنّ العارض على قسمين، أحدهما عارض الوجود وهو ما يحتاج إلى موضوع موجود» فلا بد أن يتحقق الموضوع في رتبة سابقة ليعرضه المحمول، سواء أكان وجود الموضوع في صقع الخارج أم صقع الذهن، كعروض البياض على الجدار، حيث لا بد من وجود الجدار في رتبة سابقة حتى يعرض عليه البياض، هذا هو النوع الأول.

وأما النوع الثاني فهو عوارض الماهية، حيث قال: «وهو ما لا يحتاج إلى موضوع موجود خارجاً أو ذهنا، بل ثبوت المعروض بثبوت عارضه، والعروض تحليلي» فإنّ العروض هنا بتصوير العقل وتحليله، وإلا ففي الواقع ثبوت المعروض تبع لثبوت العارض، وبعبارة أدق: ثبوت الموضوع بعرض ثبوت العارض لا بتبع ثبوته.

ومثل لذلك بقوله: «كالوجود بالإضافة إلى الماهية، فإنه من قبيل عارض الماهية، وإلا لاحتاج عروض الوجود عليها إلى وجود الماهية، فإما أن يدور أو يتسلسل».

فلو قلت: (الماهية موجودة) وكان المراد (الماهية الموجودة عرض عليها الوجود) فنتساءل عن الوجود الذي أخذ في الموضوع، هل هو نفس الوجود المحمولي أو غيره؟ فإن كان هو لزم الدور أو ملاكه، وإن كان

ص: 85

موجوداً بوجود آخر فننقل الكلام إلى الوجود الآخر، فهل عروضه على الماهية من عوارض الوجود أو عوارض الماهية، فيدور أو يتسلسل إلى وجودات غير متناهية.

ففي الواقع هذا العروض تعمل عقلي، حيث إنّ العقل يأخذ الواقعية الوحدانية الفاردة الموجودة في الخارج(1) ويحللها في مختبره إلى الماهية المعروضة والوجود العارض، وإلا ففي الواقع وجود الماهية بعرض وجود الوجود، يعني أن المتحقق أولاً وبالذات هو الوجود، والمتحقق ثانياً وبالعرض هو الماهية.

والفارق بين عوارض الوجود وعوارض الماهية أنّ الاثنينية بين العارض والمعروض متحققة في الأول بخلاف الثاني، ففي قولنا: (الإنسان موجود) المتحقق هو وجود واحد لا أكثر، حيث لا يمكن القول: إنّ الإنسان متقدم على الوجود واقعاً إلا بالتحليل العقلي، وإلا فلا تقدم، بل هما متحققان بثبوت واحد.

وبعد تمامية المقدمة ننتقل إلى ما نحن فيه فنقول: هل ثبوت الحكم لموضوعه من قبيل عوارض الوجود أو من قبيل عوارض الماهية؟ يختار صاحب النهاية وبإصرار في مواضع متعددة من كتابه أنّ عروض الحكم لموضوعه من قبيل عروض الوجود للماهية، فلا اثنينية بين وجود الحكم ووجود موضوعه.

ثم قال: «البعث الاعتباري - أي الحكم - لا يوجد مطلقاً، فإنّ البعث أمر

ص: 86


1- وتلك الواقعية هي الوجود بناء على أصالة الوجود.

تعلقي فلا يوجد إلا متعلقاً بالمبعوث إليه، وحيث إنّ سنخ البعث اعتباري فلا يعقل أن يكون مقومه إلا ما يكون موجوداً بوجوده في أفق الاعتبار»(1) فإنّ المشخص والمقوم والمتعلق للأمر الاعتباري لا بد أن يكون اعتبارياً.

فلو قال المولى: (الحج واجب) تولد موجود اعتباري في وعاء الاعتبار، وكان متعلقه - أيضاً- موجوداً اعتبارياً، حيث لا يمكن القول باختلاف سنخيهما، كأن يكون متعلق الوجود العيني وجوداً ذهنياً وبالعكس، وعليه لا بد أن يكون متعلق البعث الاعتباري اعتبارياً يوجد بوجود هذا الاعتبار.

وبناء على ذلك يتولد مع التشريع وجوب اعتباري في وعاء الاعتبار، ومن هذا الوجود الاعتباري ينتزع الموضوع، وذلك مثل فعل اللّه تعالى تكويناً حيث يخلق سبحانه وجوداً ما في عالم التكوين، وعلى إثره تنتزع الماهية، وهي بالتحليل العقلي تكون موضوع هذا الوجود، فوجود الموضوع في أفق الاعتبار هو نفسه وجود الحكم في أفق الاعتبار.

فإن تم هذا فلا اثنينية بين الموضوع والحكم، فهما موجودان بوجود واحد في عالم الاعتبار.

وعليه تبطل جميع أنواع الدور المذكورة في الأحكام الشرعية.

فقد كان مبنى الدور في المقام أنّ الاحتياط مأمور به، وهذا الأمر مصحح لوجود الاحتياط، وذلك إنما يكون دوراً إن قلنا: إنّ وجود الاحتياط موضوع متقدم على الحكم، وموجود بوجود مغاير له، ولكن مع القول: إنهما موجودان بوجود واحد فلا اثنينية فلا دور.

ص: 87


1- نهاية الدراية 2: 520، مع اختلاف يسير.

وحاصل كلام النهاية في رد دور الكفاية: إنّ متعلق البعث الاعتباري هو المعنى والماهية، لا الموجود بما هو موجود، وعليه فعارض الموضوع عارض الماهية لا عارض الوجود، وفي عوارض الماهية لا تعدد في الوجود، بل العارض والمعروض موجودان بوجود واحد.

ثم قال: «وفيما ذكرناه هنا كفاية لإثبات أنّ الحكم مطلقاً بالإضافة إلى موضوعه من قبيل عوارض الماهية فلا يتوقف ثبوته على ثبوت موضوعه، بل ثبوت موضوعه بثبوته»(1).

وما ذكره دقيق جداً، ولكنه لا يخلو من تأمل؛ وذلك لأنّ مراده إما أنّ المعروض في أفق الاعتبار مجرد عن ذات الوجود وإما أنه مجرد عن لحاظ الوجود لا عن ذاته.

فإن كان مراده الأول: فيرد عليه أنّ المعروض وإن كان مجرداً عن الوجود الخارجي والذهني، لكنه موجود بنحو ثالث من أنحاء الوجود، وهو الوجود الاعتباري، فكما أنّ الحكم له وجود اعتباري، كذلك معروض الحكم له وجود اعتباري.

وبناء عليه يكون هنالك وجودان في أفق الاعتبار، وهما: وجود المعروض بوجود اعتباري، ووجود العارض - أي الحكم - بوجود اعتباري، فتعدد الوجود ولم يكن وجوداً واحداً، وعليه يكون العارض من عوارض الوجود لا عوارض الماهية.

ص: 88


1- نهاية الدراية 2: 520.

وإن كان مراده الثاني(1): ففيه أنّ عدم لحاظ الوجود وتجريد المعروض عنه أنما يكون مجدياً في اتحاد العارض والمعروض، فيما لو كان لنا أفقان: أفق العروض، وأفق الثبوت، فيصح القول باتحاد الوجود بين الشيئين بلحاظ ظرف الثبوت، وإن تحققت الاثنينية بلحاظ ظرف العروض.

مثلاً: في أفق الذهن يتم تجريد الماهية عن الوجود، لا بعنوان عدم الوجود، بل بعنوان عدم لحاظه، كتصور الإنسان - أي الماهية المعراة من لحاظ الوجود - أولاً، ثم يحمل الوجود على هذه الماهية المعراة، فهنا يوجد أفقان: أفق الذهن، وهو أفق العروض، ويتعدد فيه الوجود لوجود ماهية الإنسان بوجود ذهني أولاً، ثم يحمل عليها الوجود، وعليه مع ملاحظة أفق الذهن يكون هنالك وجودان وجود للماهية، ووجود للوجود، فهما مفهومان لكل واحد منهما صورة ذهنية، وقد حمل إحدى الصورتين على الأخرى، وعليه يكون ظرف العروض ظرف تعدد الوجود.

نعم، هنالك ظرف آخر، وهو ظرف الثبوت في عالم العين، وفيه ثبت الوجود، لا أنه عرض الوجود على الماهية، وبهذا اللحاظ يتحقق الاتحاد.

والحاصل: إنّ الاتحاد في ظرف الثبوت لا ظرف العروض.

وأما فيما نحن فيه، حيث عالم الاعتبار، وقد تم تجريد الماهية عن لحاظ الوجود، ثم حمل عليها الحكم، فهل إنّ عدم لحاظ وجود المعروض

ص: 89


1- أي أن المعروض في أفق الاعتبار مجرد من لحاظ الوجود لا ذاته، فلا يلاحظ الوجود، بل تلاحظ الماهية، بمعنى أن الموضوع في قول المولى (الخمر حرام) وإن كان موجوداً بوجود اعتباري في أفق الاعتبار، لكن المولى لم يلاحظه، وإنما لاحظ المعنى والمفهوم والماهية.

مساوق لعدم وجوده؟

كلا، فالمعروض موجود وإن لم يلاحظ، ففي عالم الاعتبار الموضوع موجود وإن لم يلاحظ، والمحمول - وهو حكمه - أيضاً موجود، فيكون الظرف ظرف العروض والتعدد، وقد أخذ الموضوع والمحمول بما هو مرآة للخارج، لا بما هوهو، والخارج ظرف العروض لا ظرف الثبوت، فأين الاتحاد؟ فهل وحدة وجود العارض والمعروض في أفق الاعتبار، أو في أفق الذهن، أو في أفق العين؟ فكل العوالم موطن العروض، والعروض ملاك التعدد، فلا اتحاد.

ولأهمية المطلب نبينه بتقرير آخر، وهو: توجد في مقام الحكم خمسة احتمالات:

الاحتمال الأول: أن يكون الحكم الاعتباري محمولاً على الموضوع بما له من الوجود الخارجي العيني.

لكن هذا الاحتمال مردود لوجهين:

أولاً: لاختلاف سنخ العارض والمعروض.

ثانياً: قد لا يكون الموضوع موجوداً في عالم العين أصلاً، فكيف يتعلق العارض الموجود بالمعروض المعدوم؟!

الاحتمال الثاني: أن يكون الحكم الاعتباري محمولاً على الموضوع بما له من الوجود الذهني؟

وهو مردود أيضاً لوجهين:

أولاً: اختلاف السنخ فالعارض اعتباري، كما هو المفروض والموضوع

ص: 90

ذهني.

وثانياً: انعدام الموضوع الذهني مع غفلة المولى العرفي، أو نومه أو إغمائه مع بقاء الحكم.

الاحتمال الثالث: أن لا يكون للحكم الاعتباري في وعاء الاعتبار موضوع أصلاً.

وهو مردود أيضاً؛ لأنه خلاف الوجدان، بالإضافة إلى أنه خلاف ما بنى عليه في النهاية(1) من أنّ سنخ البعث الاعتباري سنخ تعلقي، فلا يمكن وجود المحمول من دون وجود الموضوع والمشخص والمتعلق.

الاحتمال الرابع: أن يكون الحكم عبارة عن أمر اعتباري محمول على الماهية المعراة من حيث هي هي.

وهذا مردود أيضاً؛ وذلك لأنّ الماهية من حيث هي هي ليست إلا هي، لا موجودة ولا معدومة ولا مطلوبة ولا لا مطلوبة، فإنّ الماهية لا ملاك لها لتكون متعلق الحكم.

الاحتمال الخامس - وهو قابل للقبول - : أن يكون الحكم محمولاً على الماهية المعراة من جميع أنحاء الوجود بعنوان عدم الاعتبار، لا بعنوان اعتبار العدم، بمعنى أنّ المولى يلاحظ المفهوم والمعنى بلا لحاظ الوجود فيحمل عليه الحكم، كأن يتصور ماهية المستطيع ويحمل عليه الوجوب، لكن لا بما هي هي، بل بما هي مرآة للخارج وفانية فيه، فلا يكون هنالك اتحاد؛ لأنّ أفق الاعتبار أفق العروض، والعروض مساوق للاثنينة، ولو فرض أنّ

ص: 91


1- نهاية الدراية 2: 520.

الموضوع تلبس في أفق الخارج بلباس الوجود فهو ظرف عروض الحكم على الموضوع أيضاً، فهو ظرف التعدد لا ظرف الاتحاد.

وهذه الاحتمالات الخمسة جارية في كل قضية حقيقية، فالموضوع فيها إما الماهية من حيث هي هي، وإما الماهية المتلبسة بلباس الوجود الخارجي، وإما الماهية المتلبسة بلباس الوجود الذهني، وإما لا معروض لها أصلاً، وإما لم يلحظ فيها الوجود وإنما أخذت مرآة للخارج، وفي أي أفق فرض الاحتمال الأخير القابل للقبول كان ذلك الأفق ظرفاً لعروض الحكم على الموضوع، وكما أنّ الحكم موجود، فكذلك المعروض موجود على نحو وجوده.

فما قاله في النهاية من: «أنّ سنخ البعث اعتباري فلا يعقل أن يكون مقومه ومشخصه إلا ما يكون موجوداً بوجوده في أفق الاعتبار»(1) يرد عليه أنه لا مثبت لكونه موجوداً بوجوده، بل هو موجود كوجوده، فيكون هنالك وجودان: وجود الموضوع في أفق الاعتبار، ووجود المحمول في نفس الأفق أيضاً، ونفس ما فرضه من الوجود للعارض نفرضه للمعروض أيضاً.

فتعين أن تكون الماهية والمعنى متعلق البعث، وهي موجودة بوجود اعتباري وإن لم تلحظ، فتعدد العارض والمعروض في أفق الاعتبار.

الإشكال الثاني(2): لزوم كون الشيء في مرتبة متقدمة ومتأخرة في آن

ص: 92


1- نهاية الدراية 2: 520.
2- على طريق اللم بعد التسليم بعدم وجود الدور في المقام؛ لأن عروض الحكم على الموضوع من قبيل عوارض الماهية لا عوارض الوجود فلا دور، إلا أن هنالك محذوراً آخر في المقام.

واحد.

بيانه على نحو الاختصار: نسلّم أنّ الحكم والموضوع متحققان بوجود واحد كالوجود والماهية، فيكون الاحتياط والأمر به موجودين بوجود واحد، إلاّ أنّ نشوء الاحتياط من هذا الأمر موجب لتقدم الشيء على ذاته، لأنّ كون الفعل احتياطاً ناشئ من الأمر، فهو متأخر عن الأمر، والمفروض أنّ الاحتياط والأمر موجودان بوجود واحد.

وعليه، فكون الفعل احتياطاً في رتبة العلة؛ لأنه موجود بوجود العلة، ومع وجود العلة، وفي رتبة المعلول؛ لأنّ كونه احتياطاً ناشئ من وجود الأمر، فيكون الاحتياط في رتبة الأمر، وفي رتبة معلول الأمر، وهو معنى تقدم الشيء على نفسه.

الإشكال الثالث: تارة يكون الحكم العقلي بحسن الشيء في سلسلة العلل، وتارة في سلسلة المعلولات، والملاك في تشخيص هذين النوعين هو أنّ الحكم العقلي بالحسن إن لم يكن مرتباً على حكم الشرع، ومن دون لحاظه كان من قبيل الأول، كحكمه بحسن العدل وقبح الظلم، فإنّ العقل يحكم بذلك بمجرد رؤية موضوع العدل، بغض النظر عن حكم الشرع، وإنما يكون الحسن واقعاً في سلسلة العلل للحكم الشرعي؛ لأنّ الأحكام الشرعية تابعة للملاكات الواقعية، والعقل شخَّص ملاك حكم الشرع، وبتبع حكم العقل بالحسن يحكم الشرع بالرجحان أو بوجوب العدل.

وإن كان مرتباً عليه وبلحاظه، بحيث لولا لحاظ وجود الحكم الشرعي لم يحكم العقل بذلك، كان الحسن في سلسلة معلولات الحكم الشرعي،

ص: 93

كحكمه بحسن طاعة المولى.

وقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع جارية في صورة كون حكم العقل في سلسلة العلل، أما لو كان الحكم العقلي في سلسلة المعلولات لم يتبعه الحكم الشرعي، كما لوقال المولى: (حج)، فيقول العقل، (أطع مولاك)، وهذا الحكم العقلي لا يتبعه حكم شرعي بوجوب الإطاعة على المعروف، وإلا استلزم التسلسل، وذلك لأنّ العقل يحكم بحسن إطاعة هذا الحكم الشرعي، فيستتبع حكماً شرعياً وهكذا، وإن نوقش ذلك في محله.

والحاصل: إنّ من سلّم بقاعدة الملازمة أنما سلّم ها في سلسلة العلل لا المعلولات.

وفيما نحن فيه، حكم العقل بحسن الاحتياط واقع في سلسلة المعلولات؛ لأنّ العقل يحكم بالاحتياط بلحاظ احتمال وجود الأمر الشرعي، فحكم العقل بالحسن مترتب على الأمر الشرعي، فلا يلازمه حكم الشرع، فيبطل طريق اللم.

والحاصل: إنّ مفاد طريق اللم هو أنّ الاحتياط العقلي ملازم للاحتياط الشرعي، والجواب عنه أنه لا ملازمة؛ لكونه في سلسلة المعلولات، بل أصل قاعدة الملازمة مطلقاً محل إشكال، سواء كان حكم العقل في سلسلة العلل أم المعلولات، وقد ثبت في محله بطلان القاعدة.

الإشكال الرابع: المشكوف ب- (احتط) العقلي أمر توصلي، والأمر التوصلي لا يكون مصححاً لعبادية العبادة، وسيتضح بيانه في الطريق الثاني.

فالطريق الأول لتصحيح عبادية العبادة محل إشكال.

ص: 94

الطريق الثاني

ما سلكه الشيخ الأعظم بعنوان: «اللّهم إلا أن يقال..»(1) ولا بد من معرفة مراده في تعريف الاحتياط، حيث إنه وقع محل الإبهام والترديد.

قال: «إنّ المراد بالاحتياط هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة، فمعنى الاحتياط بالصلاة الإتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة، فأوامر الاحتياط تتعلق بهذا الفعل، وحينئذ فيقصد المكلف فيه التقرب بإطاعة هذا الأمر»(2).

بيانه: إنّ الاحتياط في المعاملات بالمعنى الأعم له معنى مغاير لمفهوم الاحتياط في العبادات، فمفهوم الاحتياط في غير العبادات الإتيان بالفعل مع جميع الشرائط المعلومة والمحتملة،كالإتيان باللفظ عربياً ماضياً مع تقدم الإيجاب على القبول. أما في العبادات فمعناه الإتيان بجميع الشرائط والأجزاء باستثناء نية القربة.

والباعث للتفكيك بين المقامين في مفهوم الاحتياط ربما يكون إطلاق أدلة الاحتياط أو عمومها، وإن لم يتطرق الشيخ إلى ذلك، فإنّ أدلة الاحتياط، كقوله (عليه السلام) : «أخوك دينك، فاحتط لدينك بما شئت»(3) تشمل العبادات والمعاملات بالمعنى الأعم، وحيث إنّ المعنى الأول للاحتياط لا يتأتى في العبادات التي لم يحرز وجود الأمر فيها، نضطر إلى تصوير معنى

ص: 95


1- فرائد الأصول 2: 152.
2- فرائد الأصول 2: 153.
3- وسائل الشيعة 27: 67.

آخر للاحتياط، بحيث يجري في العبادات أيضاً، وإلا فالاحتياط بالمعنى الأول غير ممكن، فإنّ التقرب بما لا يعقل كونه مقرباً غير معقول.

ولمّا أشكل عليه بعدم النفع في الفعل من دون التقرب صحح ذلك بأوامر الاحتياط، حيث إنها تتعلق بالفعل باستثناء قصد القربة، وحينئذ يقصد المكلف فيه التقرب بإطاعة هذا الأمر، فإنّ المكلف حين الإتيان بالفعل من دون قربة ينوي التقرب إلى اللّه بامتثال أمر (احتط) وهو قطعي.

ويرد عليه إشكالان:

الإشكال الأول: ما ذكره صاحب الكفاية: «عدم مساعدة دليل حينئذٍ على حسنه بهذا المعنى فيها، بداهة أنه ليس باحتياط حقيقة»(1).

فإنّ الإتيان بالصلاة الفاقدة لقصد القربة ليس احتياطاً، فإنّ معنى الاحتياط الإتيان بالفعل مع جميع ما يقطع أو يحتمل مدخليته فيه، والعبادة متقومة بنية القربة قطعاً.

وبعبارة أخرى ما ذكره من معنى الاحتياط مخترع مجازي، والعام لا يشمل الأفراد المجازية؛ لأنها ليست بأفراده، كأن نجعل للأسد معنيين ليشمل الرجل الشجاع، فقوله: (احتط) يعني أنّ الفرد الحقيقي مطلوب للمولى لا غيره.

وببيان آخر: إنه في الرتبة المتقدمة لا بد أن يكون الفعل جامعاً لجميع الأجزاء والشرائط، لكي يكون احتياطاً، حتى يكون مطلوباً للمولى، فإنّ أوامر الاحتياط لا تتعلق بالموضوع الفاقد، بل لا بد أن يثبت كون الفعل

ص: 96


1- كفاية الأصول: 350.

احتياطاً حتى يتعلق به أوامر الاحتياط، فإنّ الحكم لا يتكفل موضوعه.

وبعبارة أخرى: إنّ الأحكام الشرعية بيان للكبريات ولا تتكفل الصغريات، والبحث أنّ الفاقد احتياط أم لا، فكيف يثبت كونه احتياطاً بأوامر الاحتياط؟

ثم قال صاحب الكفاية في تتمة كلامه: «نعم، لو دل الدليل على الأمر بالاحتياط في خصوص العبادات، ولم يتصور إمكانه بمعناه الحقيقي فيها التزم بهذا المعنى بدلالة الاقتضاء»(1).

وتوضيحه: إنّ هنالك فرقاً بين الأمر العام بالاحتياط، وبين الأمر الخاص به(2)، فالأول يشمل الفرد الحقيقي فحسب، أما الثاني فيدور أمره بين لغوية الكلام وبين حمل الاحتياط على معناه المجازي، فبدلالة الاقتضاء ولصون كلام الحكيم عن اللغوية يحمل الاحتياط على المعنى المجازي، لكن هذه الدلالة في عموم العام غير موجودة، فمع عدم شمول (احتط) للأفراد المجازية يصان كلام الحكيم عن اللغوية.

الإشكال الثاني: سلمنا أنّ للأمر بالاحتياط معنى وسيعاً يشمل الفرد المجازي أيضاً، وقد صحح عبادية العبادة بوجود أمر (احتط) المحقق، لكن الإشكال في عدم إمكان تصحيح عبادية العبادة بالأمر المذكور؛ لأنه أمر توصلي(3)، وملاكه ما يتحقق الغرض منه ولو بدون قصد امتثاله، وبه يسقط

ص: 97


1- كفاية الأصول: 350 ، بتصرف.
2- كأن يقول المولى: (احتط في العبادات التي لا يعلم وجود الأمر فيها).
3- فإن الأصل في كل أمر أن يكون توصلياً.

الأمر(1) فلو أتى بالعبادة المحتملة ولم ينو امتثال أمر (احتط) فلا بد من سقوطه وحصول الغرض، وهل يمكن للشيخ أن يلتزم بذلك؟ مع أنّ المفروض أنّ المحتمل عبادي، وهو متقوم بقصد القربة، لكنه سقط من دون قصدها!!

فيعلم من ذلك أنّ أوامر الاحتياط ليست مصححة لعبادية العبادة.

الطريق الثالث

ما سلكه صاحب الكفاية، وهو مبني على مقدمة، وهي: أنّ منشأ الإشكال في المقام توهم أنّ وزان قصد التقرب وزان بقية الشروط وأجزاء العبادة، والتي أخذت تلك الأجزاء والشرائط في موضوع الأمر العبادي، وهو غير صحيح؛ لأنّ قصد التقرب لم يؤخذ في موضوع الأمر العبادي؛ لاستلزامه الدور، فإنّ ما يأتي من قبل الأمر لا يعقل أن يؤخذ في متعلقه، وإنما قلنا باشتراطها لأنها دخيلة في الغرض، كجميع التقسيمات الثانوية للخطاب، حيث لا يعقل أخذها في موضوع الأمر الأول، وإنما تؤخذ في الغرض بحكم العقل أو بالأمر الثاني.

قال: «قصد القربة كجميع التقسيمات الثانوية في المتعلق لم يؤخذ؛ لأنّ ما يأتي من قبل الأمر لا يعقل أن يؤخذ في متعلقه، نعم، قصد القربة مأخوذ في الغرض»(2) فإنّ غرض المولى لم يتحقق إلا بإتيان العبادة متقرباً إلى اللّه.

وبناء عليه لا مانع من جريان الاحتياط في العبادات المشكوكة؛ لأنّ

ص: 98


1- كمن ترك شرب الماء المشتبه، ومن غسل الثوب النجس بغير البول مرتين، حيث يسقط الأمر بالاحتياط، وإن لم ينو امتثال الأمر بالاحتياط ولم ينبعث عنه.
2- كفاية الأصول: 351، بتصرف.

الاحتياط بمعناه الحقيقي الإتيان بالفعل بكل ما أخذ فيه شرطاً أو جزءاً، منتهى الأمر لا بد من الإتيان بالعبادة برجاء وجود الأمر، أو باحتمال كونها محبوبة لله تعالى، فإن كان الأمر متحققاً في عالم الثبوت وقع المأتي به كذلك امتثالاً لأمره تعالى، وإن لم يكن وقع انقياداً لجنابه سبحانه، فما أتى به إما امتثال وإما انقياد، وعلى التقديرين يستحق المثوبة.

ويرد عليه مبنى وبناء: أما المبنى: فإنه لا محذور في أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، والمحاذير المتصورة في المقام، كالدور أو تقدم الشيء على نفسه أو ما أشبه مندفعة في محله(1) وعليه يكون قصد القربة مأخوذاً في متعلق الأمر، فيعود الإشكال.

وأما بناء: فلا مدخلية لأخذ قصد القربة في المتعلق، أو عدمه في تصحيح عبادية العبادة أصلاً، لا وجوداً ولا عدماً، بل الذي له مدخلية في تصحيح عبادية العبادة اعتبار وجود الأمر المحقق أو عدم اعتباره.

بيانه: لو كان المبنى أن مقوم عبادية العبادة وجود الأمر المحقق، فعدم أخذ قصد القربة في متعلق الأمر لا يمكن أن يصحح العبادية؛ لعدم تحقق الشرط، فإنّ شرط العبادية وجود الأمر المحقق وقصده، وليس عدم أخذ قصد القربة في متعلق الأمر محققاً لهذا الشرط، فكيف ينوي المصلي الإتيان بها بنية الأمر المحقق مع كونها مشكوكة؟ فيعلم أنّ عدم أخذ قصد القربة في المتعلق - وهو مبنى صاحب الكفاية(2) - ليس محققاً للشرط

ص: 99


1- ومحل بحثه التوصلي والتعبدي من مباحث الأوامر.
2- كفاية الأًصول: 351.

المذكور.

ولو كان المبنى كفاية وجود الأمر المحتمل لعبادية العبادة، فهو محقق وإن أخذ قصد القربة في متعلق الأمر.

فما ذكره صاحب الكفاية لا يرتبط بالمقام من وجه.

وبعبارة أخرى: قال صاحب الكفاية: «منشأ الإشكال في المقام تخيل أنّ أخذ قصد القربة كأخذ سائر الشرائط في المتعلق، وليس الأمر كذلك»(1) لكنه لا يرتبط بالمقام، فإنّ مبناه إما كون الجزم بالنية شرطاً في العبادية، أو أنّ احتمال وجود الأمر كافٍ لتصحيحها.

فعلى الأول تكون العبادة المشكوكة باطلة - كما هو رأي المشهور، ومنهم صاحب الكفاية - سواء أمكن أخذ قصد القربة في المتعلق أم لم يمكن، فإنّ العبادة فاقدة لشرط الجزم بالنية والانبعاث عن البعث القطعي.

وعلى الثاني - وهو عدم اشتراط الجزم بالنية، بل يكفي الانبعاث عن البعث المحتمل - فسواء أخذ قصد القربة في المتعلق أم لا كانت العبادة المشكوكة صحيحة.

والحاصل: إنه مع القول باشتراط الجزم تكون العبادة باطلة على كلا المبنيين، ومع القول بكفاية الأمر المحتمل فهي صحيحة على كلا المبنيين.

نعم، ما يرتبط بالمقام هوأنه مع القول بأخذ قصد القربة في المتعلق لا يكون العمل احتياطاً، بخلاف مبنى صاحب الكفاية، وهو الفارق بين المبنيين، لكنه لا يكون فارقاً في نتيجة المطلوب، وهو صحة العبادة

ص: 100


1- كفاية الأًصول: 351، بتصرف.

وعدمها.

ويمكن لصاحب الكفاية أن يحل الإشكال بكلمة واحدة، وهي: كفاية احتمال الأمر لتصحيح العبادة، سواء أخذت القربة في المتعلق أم الغرض.

فما سلكه محل تأمل.

الطريق الرابع

ما اعتمد عليه في المصباح، وهو يبتني على كبرى وصغرى:

أما الكبرى: فقد قال: «إنّ الإشكال المذكور مبني على أنّ عبادية الواجب متوقفة على الإتيان به بقصد الأمر الجزمي، وليس كذلك؛ إذ يكفي في عبادية الشيء مجرد إضافته إلى المولى»(1) بأن لا ينشأ العمل من الدواعي النفسانية والشهوانية، كالرياء والسمعة، بل يكفي إضافته إلى المولى بنحو من أنحاء الإضافة، ولا يلزم قصد امتثال الأمر في العبادية، كما صرح بذلك صاحب العروة(2).

وأما الصغرى، فقال: «ومن الواضح أنّ الإتيان بالعمل برجاء المحبوبية، واحتمال أمر المولى من أحسن أنواع الإضافة، والحاكم بذلك هو العقل والعرف»(3) بل هذا النوع من الانبعاث أعلى وأفضل من الانبعاث عن الأمر الجزمي؛ لعدم احتمال العقاب في تركه بخلافه.

لكنه يحتاج إلى تأمل، فإنّ الكبرى محل نظر؛ لعدم كفاية مجرد إضافة

ص: 101


1- مصباح الأًصول 2: 316.
2- العروة الوثقى 2: 437.
3- مصباح الأصول 2: 316.

العمل إلى المولى لتحقق العبادية، بل لا بد من كون العمل صالحاً للمقربية إليه، وأما لو لم يصلح للمقربية فصرف إضافة العمل إلى المولى لا يمكن أن يكون محققاً لعبادية العمل، ويدل عليه أنه لو أتى بفعل الحرام وأضافه إلى المولى، فلا يمكن أن يكون مصداقاً للعبادة؛ لعدم صلاحيته، مع أنّ ما ذكره من الملاك - وهو الإضافة - متحقق.

مثلاً: ورد في سفينة البحار: أنّ أحد أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) طعن خارجياً فسعى الخارجي لقاتله، وهو يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى}(1) فهل عمل الخارجي على فرض كونه جاهلاً معتقداً لكونه مقرباً عبادة؟ وقد قال تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (2) فهل عملهم عبادة؟

ولو قيل: إنّ كلامه يتضمن الشرط الثاني، ولو بالانصراف إليه، قلنا: إنه خلاف الظاهر من مراده، وعلى فرض كونه كذلك فإنّ الكبرى لا تنطبق على الصغرى؛ وذلك لأنّ الفعل المباح كالفعل الحرام لا صلاحية له لذلك أيضاً، إلا أن يضاف إلى عبادة مضافة إلى المولى من باب:

وعلقة حاصلة بتابع***كعلقة بنفس الاسم الواقع(3)

فإنّ المضاف إلى المضاف إلى المولى مضاف إلى المولى، كما لو نام للتقوي على العبادة.

ص: 102


1- طه: 84.
2- الكهف: 104.
3- شرح ابن عقيل 1: 531.

ولو تم ما ذكرناه، فأمر الفعل دائر بين الرجحان والإباحة، حيث إنه المفروض، فلا يعلم أنه صالح للإضافة إلى المولى، فلا يعلم أنه عبادة أم لا؟ فلم تنطبق الكبرى على الصغرى.

والحاصل: إنّ ما ذكره من الضابطة محل إشكال كبرى، وإن أمكن تصحيحها مع إضافة القيد المذكور لا تنطبق على الصغرى.

الطريق الخامس

العبادة نوعان قطعية واحتمالية، والأول: متوقف على ورود الأمر القطعي، أو الإضافة القطعية، أما الثاني: فيكفي فيه الأمر الاحتمالي، أو الإضافة الاحتمالية.

وبعبارة أخرى: العقل يحكم أنّ حقيقة العبادة الإتيان بالفعل بداعي الأمر، أو مضافاً إلى المولى، وهو يستقل بلزوم الإضافة القطعية في صورة العلم، لتكون العبادة قطعية، وكذلك يستقل بكفاية الإضافة الاحتمالية في صورة عدم العلم، فتكون العبادة عبادة احتمالية.

وبتقرير أوضح: الأمر في العبادة المحتملة لا يخلو من حالتين، إما موجود واقعاً أو لا، وعلى الأول: يكون المأتي به عبادة حقيقية، وعلى الثاني: يكون انقياداً، وعلى كلا التقديرين يكون الفعل صالحاً للمقربية إلى اللّه تعالى.

ويرد عليه إشكالان:

الإشكال الأول: كون الأمر إما طاعة حقيقية أو انقياد غير تام؛ لأنّ المعلول الفعلي متوقف على وجود العلة الفعلية، وأما العلة التقديرية - العلة

ص: 103

اللوية (1) - فلا صلاحية لها لتكون علة للمعلول الفعلي، وفي المقام ما يمكن أن يكون علة الفعل العبادي أحد اثنين، إما الأمر الواقعي، وهو تقديري على فرض ثبوته، فلا يمكن أن يكون علة الفعل المأتي به، فلا يبقى إلا الثاني، وهو احتمال الأمر وهو موجود بالفعل، ويكون الفعل المستند إلى احتمال وجود الأمر انقياداً لا طاعة حقيقية.

وبعبارة أخرى: الفعل العبادي الخارجي اختياري، ولا بد من كون الحركة الاختيارية معلولة للوجود الإثباتي، وأما الوجود الثبوتي فلا يمكنه أن يكون منشأ للحركة الاختيارية، فيكون منشأُها احتمال الأمر الذي موطنه النفس، والفعل الناشئ من احتمال وجود الأمر انقياد لا طاعة، فلا يمكن القول: إنّ أمر هذه العبادة الاحتمالية يدور بين العبادة الحقيقية والانقياد، بل لا بد من القول: إنه انقياد.

ويرد عليه جوابان:

الجواب الأول: إنّ وزان الأمر المحتمل وزان الأمر المقطوع، فما يقال في الثاني من أنه إن كان مطابقاً للواقع فهو عبادة، وإلا كان انقياداً، يقال في الأول.

والسرُّ في ذلك أنّ الشيء بوجوده الواقعي لا يمكن أن يكون محركاً، بل المحرك الصورة الذهنية، سواء في الأمر الواقعي أم الأمر المحتمل بدليل الدوران والترديد، فإنّ الوجود الواقعي من دون تحقق الصورة العلمية لا يكون محركاً للعبد، بخلاف العكس.

ص: 104


1- نسبة إلى (لو).

ومع القطع بالأمر الواقعي يكون المحرك هو الصورة الذهنية للأمر، أي الأمر بوجوده الذهني، وهي إما مطابقة للواقع فطاعة، وإلا فانقياد، كذلك الحال في احتمال الأمر، فإن طابق الاحتمال الواقع فالفعل طاعة للأمر، وإلا فانقياد.

وبعبارة أخرى: إنّ صدق عنوان الطاعة على الفعل منوط بأمر غير اختياري، وهو مطابقة الصورة الذهنية للواقع، ولا فرق في ذلك بين القطع والاحتمال، وعليه يمكن القول إنه إما عبادة أو انقياد.

الجواب الثاني: سلمنا أنه انقياد، إلا أنّ الانقياد صالح للمقربية إلى اللّه، فلا يخل الإشكال بالمطلوب.

الإشكال الثاني: الانقياد الذي يستحق عليه المدح أو الثواب صفة الفاعل، فإنّ المنقاد يستحق المدح على نيته دون فعله، حيث يمكن أن يكون الفعل محرماً، وهل يمكن أن يقال: إنّ الفعل الذي هو مبغوض للمولى محبوب له، وإنه يستحق الثواب عليه؟ كمن قتل ابن المولى قاطعاً أنه عدوه، كما في مثال صاحب الكفاية(1).

وعليه لا يمكن القول: إنه إما طاعة أو انقياد، وعلى كلا التقديرين يتقرب به إلى المولى، فإنّ الفعل الذي يحتمل إباحته كيف يكون مقرباً إلى اللّه؟

ويرد عليه: إنّ التقرب متحقق بالفعل أو القصد على نحو العلم الإجمالي - بعد التسليم بكون القصد مقرباً في الانقياد - فلو كان الفعل طاعة كان التقرب به إلى اللّه، وإن كان انقياداً كان التقرب بالنية إليه تعالى.

ص: 105


1- كفاية الأصول: 260.

كما لو طلب المولى من العبد أحد شيئين، وتردد العبد فأتى بهما إليه، فإنّ التقرب حاصل بالمعلوم إجمالاً، كما في الصلاة إلى الجهات الأربع عند الجهل بالقبلة، حيث يكون التقرب بأحدها.

والحاصل في كلمة: إنه لو كان الانقياد صفة الفعل فهو مقرب إلى المولى، إما لأنه انقياد أو طاعة، ولو كان صفة القصد أو الفاعل فالتقرب إلى اللّه حاصل بأحدهما، أي الفعل أو القصد.

الطريق السادس

ما ذكره الشيخ الأعظم(1): وحاصله أنّ المكلف يقصد الأمر الاستحبابي الثابت بأخبار (من بلغ).

فإنّ منشأ احتمال الوجوب إذا كان خبراً ضعيفاً فلا حاجة إلى أخبار الاحتياط؛ لورود بعض الأخبار باستحباب فعل كل ما يحتمل فيه الثواب، والمكلف ينوي امتثالها، ويحصل التقرب بالانبعاث عن الأمر المستفاد من أخبار (من بلغ).

وهو يثبت المدّعى في الجملة؛ لأنه يتأتى فيما كان البلوغ موجوداً، أما الاحتياط الاحتمالي حيث لا بلوغ - كفعل بعض الصلحاء - فلا يشمله الدليل؛ لعدم تحقق صغراه.

ويرد عليه إشكالان:

الأول: ما ذكره الشيخ: من أنّ أخبار (من بلغ) لا تفيد الاستحباب(2)، لكنه

ص: 106


1- فرائد الأصول 2: 153.
2- فرائد الأصول 2: 155.

إشكال مبنائي مرّ التأمل فيه.

الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية: «بأنه عليه يكون مستحباً كسائر المستحبات التي دل الدليل على استحبابها، ولا يكون احتياطاً»(1) فإنّ البحث في تأمين جريان الاحتياط في مشكوك العبادية بالإتيان بالعمل برجاء الأمر، وبما ذكر من وجود الأمر المستفاد من أخبار (من بلغ) تصبح العبادة قطعية، فيكون خارجاً عن محل البحث.

لكنه غير تام في بادئ النظر؛ لأنّ في العمل المأتي به إضافتين:

الأولى: إضافته إلى الأمر القطعي المستفاد من أخبار (من بلغ) وبها يكون العمل عبادة قطعية.

والثانية: إضافته إلى الأمر الواقعي المحتمل المحمول على الفعل، بما له من العنوان الأولي الذاتي، وبهذا اللحاظ يكون احتياطاً.

فما ذكره الشيخ حسن لإثبات جريان الاحتياط في مشكوك العبادية في الجملة.

الطريق السابع

ما سلكه السيد الوالد (رحمه اللّه) وهو يتكفل تصحيح جريان الاحتياط في العبادات في الجملة.

قال: «وجود الدليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة، وهو قوله (عليه السلام) : «إنّ اللّه يختار أحبها»(2).

ص: 107


1- كفاية الأصول: 352، بتصرف.
2- الأصول: 739.

والدليل ما ورد في الوسائل: عن أبي بصير: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : أصلي ثم أدخل المسجد، فتقام الصلاة وقد صليت، فقال (عليه السلام) : صل معهم يختار اللّه أحبهما إليه»(1).

وحاصله: وإن كان مورد الخبر خاصاً، إلا أنّ التعليل عام، فيجري الاحتياط في جميع أنواع العبادات المعادة؛ لعموم تعليل «يختار اللّه أحبهما إليه» كما لو صلّى بلا توجه، أو أقيمت الجماعة فأعاد احتياطاً أو لا عن احتياط.

وفيه إشكالان:

الإشكال الأول: ضعف السند بسهل بن زياد أبي سعيد الآدمي، حيث وقع محل الإشكال، فهنالك أمارات لتضعيفه وتوثيقه.

أما قرائن التضعيف فهي:

الأولى: قال عنه الشيخ الطوسي في موضعين أو أكثر: إنه ضعيف(2).

الثانية: قال النجاشي: «كان ضعيفاً في الحديث غير معتمد عليه فيه»(3).

والعبارة غير صريحة في تضعيف الراوي، بل ضعفه في الحديث، كما في محمد بن خالد البرقي، حيث كان يعتمد الضعفاء ويروي عن المراسيل، فليس حديثه معتبراً بما أنه حديثه، وإن كان ثقة.

بل قال المجلسي الأول(4) (رحمه اللّه) : نراهم يطلقون الضعيف على من يروي عن الضعفاء، ويرسل الأخبار، والغالب في إطلاقاتهم أنه ضعيف في

ص: 108


1- الكافي 3: 379.
2- النهاية ونكتها 2: 177، 292.
3- رجال النجاشي: 185.
4- الفوائد الرجالية: 37.

الحديث، أي يروي عن كل أحد.

الثالثة: قال النجاشي: «وكان أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، يشهد عليه بالغلو والكذب، وأخرجه من قم إلى الري»(1)

ولا يقدح الرمي بالغلو بالوثاقة فيما نحن فيه؛ لما عهد من مبنى أحمد بن محمد بن عيسى في باب الفضائل، فشهادته بالغلو وفق مبانيه، إلا أنّ الشهادة بالكذب تنافي الوثاقة.

وقال البعض في موضع آخر: وأظهر البراءة عنه، ونهى عن السماع والرواية عنه(2).

الرابعة: قال الكشي: «كان الفضل بن شاذان لا يرتضيه ويقول هو الأحمق»(3) والرمي بالحمق لا يقدح بالوثاقة.

الخامسة: قال الشيخ الطوسي: «هو ضعيف جداً عند نقاد الأخبار»(4).

السادسة: استثناء ابن الوليد رواياته عن كتاب نوادر الحكمة، وتبعه على ذلك تلميذه الشيخ الصدوق، وكذلك ابن نوح.

السابعة: قال ابن الغضائري: «كان ضعيفاً جداً فاسد الرواية والمذهب»(5).

وأما قرائن توثيقه:

الأولى: توثيق الشيخ الطوسي له في موضع (6).

ص: 109


1- رجال النجاشي: 185.
2- رجال ابن الغضائري: 67.
3- قاموس الرجال 11: 42.
4- الاستبصار 3: 261.
5- رجال ابن الغضائري: 67.
6- النهاية ونكتها 2: 432-433.

الثانية: كثرة رواية الكليني عنه مع شدة احتياطه.

الثالثة: إنه كثير الرواية، فله أكثر من ألفين وثلاثمائة حديث، وأكثرها مقبولة مفتى بها كما قيل.

الرابعة: ما اعتمد عليه المجلسي في رجاله من أنه من مشايخ الإجازة، وكلهم ثقاة على مبناه.

الخامسة: إنه من مشايخ كامل الزيارات على المبنى من وثاقة جميع مشايخه، ولو غير المباشرين.

السادسة: إنه من مشايخ تفسير القمي على المبنى.

السابعة: ما لأجله وثقه الوحيد البهبهاني، وهو رواية الأجلاء عنه.

والظاهر في بادئ النظر أنّ المقام من مقامات تعارض الجرح والتوثيق، والنتيجة التوقف، والمسألة بحاجة إلى تأمل أكثر.

الإشكال الثاني: ما أورده صاحب الكفاية على الوجه السادس: وهو أنه يخرجها من العبادة الاحتمالية إلى العبادة القطعية.

وقد مرّ الجواب عنه.

وقد استدل في الفقه(1) لذلك بالمناط، لكنه بحاجة إلى تأمل؛ لكونه غير منصوص ولا مقطوع.

الطريق الثامن

ما اعتمد عليه السيد السبزواري، حيث قال: «الحق أن يقال: إنّ كيفية الامتثال موكولة إلى العقلاء، وهي لديهم إما علمية تفصيلية، أو إجمالية، أو

ص: 110


1- الفقه 25: 11.

احتمالية رجائية والامتثال برجاء المطوبية نحو من الامتثال لديهم، ولم يردع عنه الشارع، بل قرره بالترغيب إلى الاحتياط»(1).

وهو تام كبرى، فقد ذكر في محله أنّ طرق الطاعة والامتثال والعصيان عقلائية، كما مرّ في مباحث القطع.

لكنه محل تأمل صغرى؛ لأنّ صدق عنوان الامتثال فرع وجود الأمر، وهو مشكوك في المقام.

فلو كان الأمر قطعياً أمكن القول: إنّ كيفية امتثاله موكولة إلى العرف، كما في أطراف العلم الإجمالي، حيث الأمر أو النهي موجود قطعاً، فتكون كيفية الامتثال بالجمع بين المحتملات عند العقلاء، أما في المقام فأصل وجود الأمر مشكوك، فلم يعلم تحقق موضوع القاعدة، وهو الامتثال.

وبعبارة أخرى للامتثال أنواع ثلاثة: تفصيلي وإجمالي واحتمالي، والمتحقق في المقام احتمال الامتثال، لا أنه فرد من أفراده.

وإن كان مراده أنه احتمال الامتثال فالكبرى لا ترتبط بالصغرى.

التنبيه الرابع: في حسن الاحتياط عقلاً وشرعاً

اشارة

وفيه مباحث:

المبحث الأول: في حسن الاحتياط عقلاً

والظاهر أنه لا إشكال فيه؛ لأنّ الاحتياط إحراز للواقع، وهو يوجب التحرز من المفسدة الواقعية المحتملة، واستيفاء المصلحة الواقعية المحتملة

ص: 111


1- تهذيب الأصول 2: 187.

وهو في الواقع إما امتثال لأمر المولى أو انقياد له.

المبحث الثاني: في حسن الاحتياط شرعاً

فهل وراء الحسن العقلي حسن شرعي؟ ويظهر الأثر في إمكان الإتيان بالعمل بعنوان أنه مستحب شرعاً، فيما لو ثبت الحسن الشرعي، وتترتب عليه آثار الاستحباب.

والإشكال في المقام هو افتقاد الدليل المثبت للحسن الشرعي، ولإثباته طريقان:

الطريق الأول: إنّ مثبت الحسن الشرعي هو قاعدة الملازمة، فكلُّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.

لكنه غير تام؛ لأنّ الحسن العقلي واقع في سلسلة المعلولات، والقاعدة جارية في الحكم العقلي الواقع في سلسلة العلل.

وبعبارة أخرى: لو كان حكم العقل واقعاً في مرحلة جعل الأحكام وملاكات الجعل فهو مستتبع للأمر الشرعي، أما لو كان واقعاً في مرحلة امتثال الأحكام - كحكم العقل بحسن الطاعة - فلا يستتبع الحكم الشرعي.

وحسن الاحتياط العقلي فيما نحن فيه واقع في سلسلة المعلولات، حيث لا بد أن يكون هنالك واقع ولو احتمالاً، فيحكم العقل بالاحتياط لإدراك ذلك الواقع المحتمل، فالحكم العقلي مترتب على الحكم الشرعي، فلا يستلزم أمراً شرعياً.

الطريق الثاني: إنّ أوامر الاحتياط تفيد الاستحباب الشرعي.

ويرد عليه: احتمال كونها أوامر ارشادية، ومعه يبطل الاستدلال.

وعليه لا مثبت لحسن الاحتياط شرعاً.

ص: 112

لكنه محل تأمل لجهتين:

الأولى: إنّ الأصل في أوامر الشارع المولوية، سواء أكان في مورده حكم عقلي أم لا، فإنّ صرف وجوده لا يسوغ حملها على الإرشادية، ومستنده ظهورها فيها، إلا فيما لو كان هناك محذور ثبوتي أو إثباتي للحمل على المولوية، كأوامر (أطيعوا اللّه).

الثانية: ما ذكره المحقق النائيني(1): من أنه يمكن استفادة استحبابه الشرعي من بعض الأخبار الواردة بملاك آخر غير ملاك حكم العقل؛ مثل كون الاحتياط موجباً لقوة ملكة النفس.

فإنّ حكم العقل بالاحتياط إنما هو بملاك الإدراك القطعي للواقع الاحتمالي، وأما حكم الشرع به فلملاك آخر، فيكون الأمر مولوياً كالمثال المذكور؛ لأن الملكات الحميدة وغيرها تنمو وتتقوى بالتمرين، كما قال الشاعر:

إذ خمرت طينتنا بالملكة***وتلك فينا قويت بالحركة(2)

فالحركة الخارجية أو النفسانية توجب حصول الملكات الطيبة أو قوتها.

ويستظهر من بعض الأحاديث أنّ الملاك هو الأتركية أو الأوشكية، لا إدراك الواقع، كما ورد عنهم (عليهم السلام) : «من ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لمن استبان له أترك»(3)، وفي حديث آخر: «فمن رتع حول الحمى أوشك

ص: 113


1- فوائد الأصول 3: 399.
2- تعليقات على الشواهد الربوبية: 753.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 75.

أن يقع فيه»(1).

ولكنه بحاجة إلى التأمل؛ لأنّ العقل كما يحكم بالاحتياط بملاك إدراك الواقع أو الانقياد، كذلك يحكم به بملاك الأتركية، فهو نوع من أنواع التمرين والرياضة، وقد قال علي (عليه السلام) : «إنما هي نفسي أروضها بالتقوى»(2) وللتقوى عرض عريض، منها: ترك الشبهات، كما نشاهد التمارين في الجيش، وكذلك في تمرين الصبي على العبادات، فهو ملاك حكم العقل أيضاً، فالملاك مشترك بينهما، فلا يتم ما ذكره من تغاير الملاك بين الاحتياط الشرعي والعقلي.

فالأولى ما ذكر في الجهة الأولى.

المبحث الثالث: في شروط حسن الاحتياط

ولم يذكر الشيخ الأعظم(3) لذلك شرطاً، وكذلك المحقق النائيني(4).

وربما مرادهما الحسن الذاتي للاحتياط، فهو بذاته وبما له من العنوان الأولي حسن، فلا ينافي اشتراطه بشروط، وذلك مثل أن يقال: الصدق حسن، بمعنى الاقتضاء أو الطبيعة الأولية، فلا ينافي عدم حسنه في مواضع، كما لو كان سبباً لهلاك محقون الدم.

وأما صاحب الكفاية(5)، فقد ذكر شرطاً واحداً وهو: أن لا يخل بالنظام،

ص: 114


1- وسائل الشيعة 27: 67.
2- نهج البلاغة 3: 71.
3- فرائد الأصول 2: 150.
4- فوائد الأصول 3: 398.
5- كفاية الأصول: 354.

فلو أخل به فلا حسن.

وقد ذكر السيد الوالد (رحمه اللّه) خمسة شروط في مواضع متعددة:

ففي موضع من الأصول(1) ذكر شرطين، هما: عدم الوصول إلى حد الوسوسة، وعدم المعارضة للأهم الشرعي أو العقلي، وفي موضع آخر منه(2) أضاف شرطين آخرين، هما: عدم اختلال النظام العام والخاص، وعدم المعارضة للاحتياط، وذكر شرطاً خامساً في الوصول(3)، وهو عدم وصوله إلى مرتبة العسر والحرج، وربما يضاف شرط سادس، كما سيأتي إن شاء اللّه.

أما الشرط الأول والثالث فتامّان، ومآلهما إلى شرط واحد، وهو عدم انطباق عنوان قبيح على الاحتياط يوجب سلب حسنه، كالإخلال بالنظام، فإنه لو انطبق ذلك كان الاحتياط مصداقاً للعنوان القبيح، أو ملازماً له، أو مقدمة له، فلا يأمر به العقل ولا الشرع، لمنافاته غرضه، فلا يصدر من الحكيم، وليس ذلك تخصيصاً لحكم العقل حتى يقال: (أو خصصت عقلية الأحكام) فهو محال وكاشف عن بطلانه، بل هو تخصص، حيث إنّ موضوع حكم العقل مقيد بحسن الاحتياط الذي لا يوجب الإخلال.

أما الشرط الثاني فهو أن لا يكون معارضاً بالأهم العقلي أو الشرعي، كما لو كان الاحتياط معارضاً لإنقاذ نفس محترمة، أو تحصيل العلم الواجب.

ص: 115


1- الأصول: 736.
2- الأصول: 799.
3- الوصول 4: 348.

لكن اشتراطه في حسن الاحتياط لا يخلو من تأمل، فإنّ الظاهر أنّ المقام من صغريات باب التزاحم لا التعارض، فيبقى حسن المهم حتى مع مزاحمة الأهم له، بل يمكن القول بوجود الأمر بالمهم مضافاً إلى الحسن، وذلك على نحو الترتب.

وعليه فالاحتياط المستحب لو عارض الأهم - كما لو سبب فوات الحج الواجب - لكان حسناً ومأموراً به على نحو الترتب.

نعم، لو قلنا: إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، أمكن القول: إنّ الاحتياط المزاحم بالأهم منهي عنه، ومع النهي لا حسن فيه، إلا أن يقال: إنّ النهي غيري وهو لا ينافي الحسن الذاتي.

فتحصل أنّ في المقام مباني ثلاثة:

الأول: أن نقول بوجود الأمر الترتبي، وأنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده، فالاحتياط المزاحم للأهم حسن ومأمور به.

الثاني: إنه لا يقتضي النهي لكن يمتنع الترتب(1)، كما هو مبنى صاحب الكفاية، فالفعل حسن ذاتاً لكن لا أمر به.

الثالث: إنه يقتضي النهي عن ضده الخاص، فيمكن القول بعدم الحسن فيه بالإضافة إلى عدم الأمر به، إلا أن يقال: إنّ النهي غيري، وهو يجامع الحسن الذاتي.

والحاصل: إنّ الشرط الثاني تام لو قلنا: إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، وإنّ النهي الغيري يوجب انسلاب الحسن الذاتي.

ص: 116


1- كفاية الأصول: 134.

وأما الشرط الرابع فهو عدم المعارضة بالاحتياط.

وفي المقام صورتان:

الأولى: أن تكون معارضة الاحتياط لاحتياط آخر موجبة لخروجه عن كونه احتياطاً، فيوجب انقلاب الماهية، كالاحتياط بتكرار التسبيحات الأربع ثلاثاً، ففي ضيق الوقت - حيث الاحتياط يستلزم وقوع بعض الصلاة خارج الوقت - يكون الاحتياط في ترك الاحتياط؛ لما يستفاد من الأدلة تقديم الوقت على جميع الأجزاء والشرائط، فيكون تكرار التسبيحات ضد الاحتياط؛ وذلك لأنّ الاحتياط إدراك الواقع، وهذا نقيض إدراك الواقع، وهذه الصورة خارجة عن محل البحث؛ لتعارض اللا احتياط مع الاحتياط.

الثانية: أن يفرض بقاؤه على الاحتياط حتى في صورة المعارضة، ولا مانع من القول بحسن الاحتياط المعارض، ولو على سبيل الترتب.

مثلاً لو فرض الشك في صحة التيمم بالجص والطين، فالاحتياط في صورة فقدان الماء التيمم بهما، فلو فقد المكلف الطهارة المائية والترابية وكان الوقت ضيقاً، ولم يمكنه تحصيل العلم بالمسألة، ولم يمكنه الجمع بينهما، فيتعارض الاحتياطان مع فرض انحفاظ الموضوع أو يتزاحمان، وكلاهما حسن وإن كان أحدهما أهم.

وأما الشرط الخامس فهو عدم وصول الاحتياط إلى حد العسر والحرج، كما يمكن إضافة الضرر أيضاً، وبما أنّ الاحتياط على نوعين: وجوبي واستحبابي، فينبغي البحث في مقامين:

المقام الأول: الاحتياط الوجوبي: ولا شك أنها ترفع وجوبه؛ وذلك لأنّ

ص: 117

أدلة هذه العناوين ثانوية، وحاكمة على أدلة الأحكام الأولية، وليس البحث في المقام في وجوب الاحتياط، وإنما في حسنه، ويمكن القول: إنّ ارتفاع الحكم لا يلازم ارتفاع الملاك والحسن، وأما دليل رفع الحرج والضرر فيدل على رفع الحكم فهما باقيان.

لكن قد يشكل بأنّ الدليل على ثبوت الملاك هو الحكم؛ لأنّ الأمر كاشف إني عن وجود الملاك، ومع ارتفاع الحكم لا كاشف لبقائه.

والجواب: إنّ سقوط الدلالة المطابقية للحكم على الوجوب لا يلازم سقوط الدلالة الالتزامية على الحسن.

لكن المبنى محل تأمل، والتفكيك بين الدلالة المطابقية والالتزامية يوكل إلى محله.

لكن هنالك طريق آخر سلكه السيد القمي: وهو أنّ أدلة العناوين الثانوية ظاهرة في الامتنان، وهو أنما يصح في ظرف وجود الملاك، وإلا فلا معنى للامتنان، كأن تمتن الدولة على الشعب بعدم قتله، فليس ذلك امتناناً؛ لعدم وجود المقتضي للقتل. نعم، مع وجوده - كما لو كان قاتلاً يستحق القتل - فرفع القصاص عنه امتنان، فكون أدلة الأحكام الثانوية في مقام الامتنان يدل على ثبوت الملاك، وبعبارة أخرى: الملاك ثابت في مورد الحكم الضرري لكن الشارع رفع الحكم امتناناً.

والطريق الثالث: إنَّ لحن الأدلة الثانوية لحن الإشفاق، وهو ظاهر في ارتفاع الوجوب لا الرجحان، فيكون الملاك باقياً (1).

ص: 118


1- كما لو قال الأب: لا أريد أن أشق عليكم.

قال السيد الوالد (رحمه اللّه) في القواعد الفقهية(1): ثم إنّ الثلاثة(2) على قسمين:

الأول: ما منع الشارع عنه، كما إذا كان الصوم يوجب فقدان البصر.

الثاني: ما رفعه امتناناً مما ظاهره الرخصة، فهو مخير بين الفعل والترك.

وقال في الفقه(3): الضرر على نوعين ما كان شديداً لا يجوز إلقاء النفس فيه، وما لا يوجب ذلك، ورفع الصوم امتنان، وهو يلائم التخيير لا الإيجاب فيما لا يضره ضرراً بالغاً.

ولأجله لم يكن يرى عدم المرض جزءاً من شرائط صحة الصوم، بخلاف صاحب العروة(4)، فلو كان الصوم موجباً للمرض كان المكلف مخيراً، إلا إذا كان بالغاً علم أنّ الشارع لا يرضى بوقوع المكلف فيه.

والنتيجة: إنّ ارتفاع وجوب الاحتياط في الاحتياط الوجوبي لا يلازم ارتفاع الرجحان والحسن والملاك.

المقام الثاني: الاحتياط الاستحبابي: فهل عدم الضرر والعسر والحرج شرط في حسن الاحتياط الاستحبابي؟

والجواب: إنه مضافاً إلى ما مرّ من بقاء الملاك في الاحتياط الوجوبي، هنالك بحث في حكومة أدلة الأحكام الثانوية على الأدلة اللااقتضائية، فهل يرفع الحرج استحباب صلاة الليل، أو كراهة أكل الجبن؟

ادعى البعض انصرافها عن أدلة المستحبات والمكروهات؛ ولذا كان

ص: 119


1- القواعد الفقهية: 95.
2- أي العسر والحرج والضرر.
3- الفقه 36: 10.
4- العروة الوثقى 3: 615.

المعصومون (عليهم السلام) يقومون بالعبادات الشاقة الحرجية.

قال الآشتياني(1): ظاهر أدلة الضرر أنّ الشارع لا يلقي المكلف فيه، أي لا يكون الشارع سبباً، أما في المستحبات فالمكلف هو الذي يلقي نفسه في الضرر لا الشارع، فإنّ الإلقاء ينسب إلى المكلف، وهو أقرب العلتين لا الشارع.

والحاصل: إنّ شرطية الشرط الخامس في حسن الاحتياط غير واضحة.

الشرط السادس: ويمكن إضافة شرط سادس لحسن الاحتياط وإن لم أجده فيما حضرني من الكتب، وهو: أن لا يردع عنه الشارع، حيث يمكن دعوى الردع والترغيب عنه في موارد عديدة، فهنالك روايات كثيرة، وربما يستظهر من بعضها أنّ ما سار عليه بعض المتدينين من الاحتياط ليس مرغوباً فيه، لكن لا بد من ملاحظة دلالتها على المدّعى.

ففي الوسائل: عن محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن فضيل وزرارة ومحمد بن مسلم: «أنهم سألوا أبا جعفر (عليه السلام) عن شراء اللحوم من الأسواق ولا يدرى ما صنع القصابون؟ فقال: كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه»(2).

إلا أن يقال: إنه في مقام توهم الحظر، فلا يفيد إلا الإباحة لا الرجحان.

لكن المبنى محل إشكال، حيث يرى البعض أنه يفيد الرجحان، فالسؤال مرجوح والأكل راجح والبحث مبنائي.

ص: 120


1- بحر الفوائد 2: 229.
2- وسائل الشيعة 24: 70.

وعن أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي، عن أبيه(1)، عن ابن أبي عمير، عن عبيد اللّه الحلبي(2)، عن عبد اللّه بن سنان: «سأل رجل أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الجبن(3) فقال (عليه السلام) : إنّ أكله ليعجبني ثم دعا به فأكله»(4).

وعن البرقي، عن أبيه، عن صفوان، عن منصور بن حازم، عن بكر بن حبيب(5): «سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن الجبن، وأنه توضع فيه الأنفحة من الميتة. قال: لا تصلح، ثم أرسل بدرهم فقال: اشترِ من رجل مسلم ولا تسأله عن شيء»(6).

وعن عبد اللّه بن جعفر في قرب الإسناد، عن محمد بن عيسى والحسن بن ظريف وعلي بن إسماعيل كلّهم، عن حماد بن عيسى، قال: «سمعت أبا عبد اللّه يقول: كان أبي يبعث بالدراهم إلى السوق فيشتري بها جبناً ويسمي، ويأكل ولا يسأل عنه»(7).

وبما أنّ الإمام (عليه السلام) أكل كذلك فيتم الاقتداء به، فإنّ الأصل كونه أسوة وقدوة، ولو كان الاحتياط راجحاً لفعل، وإن احتمل أنّ ذلك لخصائص خاصة بهم (عليهم السلام) لجرى ذلك في كل فعل يفعله المعصوم (عليه السلام) ، ولسقط عن

ص: 121


1- لا يوجد (عن أبيه) في المصدر، وسواء كان أم لم يكن فلا يضر؛ لأنه ثقة.
2- عبيد اللّه الحلبي، ثقة.
3- وإنما كثر السؤال عن الجبن لشبهة الأنفحة المأخوذة من الميتة.
4- وسائل الشيعة 25: 88.
5- بكر بن حبيب، فيه بحث، قال في معجم رجال الحديث: إنه مجهول، لكن هنالك طريق لتوثيقه وهو رواية صفوان وابن أبي عمير عنه على مبنى وثاقة كل من روى عنه الثلاثة.
6- وسائل الشيعة 25: 188-189.
7- قرب الإسناد: 19؛ وسائل الشيعة 3: 492.

كونه أسوة، فدل ذلك على عدم رجحان الاحتياط، ومن اطلع على سيرة المعصومين (عليهم السلام) في الأكل والشرب لم يستظهر منه ما عند بعض المقدسين من الالتزام بالاحتياط.

المبحث الرابع: في التبعيض في الاحتياطات

قال في الكفاية: «وإن كان الراجح لمن التفت إلى ذلك(1) من أول الأمر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالاً أو محتملاً»(2).

فإنّ الاحتياط المطلق موجب لاختلال النظام قطعاً، وهو قبيح، فلو أراد المكلف الاحتياط لزم التبعيض فيه.

وفي كيفية التبعيض احتمالات:

الأول: تقديم الأقوى احتمالاً، بأن يقدم المكلف الاحتياط في دائرة المظنونات على الاحتياط في دائرة المشكوكات، ويقدم الاحتياط في دائرة المشكوكات على الاحتياط في دائرة الموهومات.

ولكل دائرة من هذه الدوائر مراتب، ولدى التزاحم يقدم ما هو الأقوى احتمالاً على ما هو الأضعف احتمالاً.

الثاني: تقديم الأهم محتملاً، كما لو دار الأمر بين الاحتياط في حقوق اللّه أو حقوق الناس، حيث يقدم الثاني؛ لأنه أهم في نظر الشارع على ما هو المعروف(3)، ولو دار الأمر بين الاحتياط في الثلاثة الخطيرة، وبين الاحتياط

ص: 122


1- أي التفت إلى أن الاحتياط المطلق يوجب اختلال النظام.
2- كفاية الأصول: 354.
3- وإن كانت كليته محل تأمل وإشكال (منه (رحمه اللّه) ).

في باب الطهارة والنجاسة قدم الأول، حيث إنّ المستفاد من مجموع الأدلة تسامح الشارع فيها كثيراً، بخلاف الأعراض، فيقدم مع التزاحم أو التعارض الأهم محتملاً.

الثالث: التلفيق بين الاحتمالين، بأن يقدم الأقوى احتمالاً والأهم محتملاً على غيره، والظاهر أنه الأقرب.

ولو دار الأمر بين الأقوى احتمالاً والأهم محتملاً، فالظاهر رجحان تقديم الثاني، وإن كان أضعف احتمالاً، كالاحتياط في باب الأعراض، فإنّ المحتمل مهم، وإن كان الاحتمال ضعيفاً، فيقدم على الاحتياط في باب الطهارة، حيث المحتمل غير مهم، وإن كان الاحتمال قوياً، والظاهر أنّ عليه سيرة العقلاء، حيث يقدمون المحتمل الخطير، وإن ضعف احتماله - لكن لا بحيث يجعل الاحتمال غير معتنى به عند العقلاء - على المحتمل الهين وإن قوي احتماله.

التنبيه الخامس: في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية

اشارة

يقع الكلام في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية، سواء أكانت وجوبية أم تحريمية.

وفي المقام إشكال، وهو أنّ اجتناب الفرد المشكوك مقدمة علمية لاجتناب الحرام الواقعي، فيلزم تحصيلها، فلا تجري أدلة البراءة في الشبهات الموضوعية، التي منشأ الشك فيها اختلاط الأمور الخارجية أو غموض الواقع الخارجي.

توضيحه: حينما ينهى المولى عن الخمر، فإنّ موضوع الحرمة هو الخمر

ص: 123

الواقعي لا المعلوم، فلو لم يجتنب عن المائع المشكوك لم يعلم بامتثال النهي الواقعي، وعليه يجب الاجتناب عن الفرد المشكوك من باب المقدمة العلمية لامتثال التكليف الواقعي.

وبعبارة أخرى: إنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، والامتثال اليقيني لا يحصل إلا باجتناب الأفراد المشتبهة.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم(1) بما مفاده: إنه إنما تجب المقدمة العلمية في صورة العلم بالتكليف، كأطراف العلم الإجمالي، وأما في المقام فلا علم بالتكليف حتى يقال بوجوب الاجتناب عن المشكوك.

توضيحه: إنّ القضايا الشرعية موضوعة على نحو القضايا الحقيقية، والحكم فيها محمول على الأفراد المقدرة الوجود أو المفروضة الوجود، فالحكم يتعدد بتعدد موضوعاته، وينحل إلى ملايين التكاليف، فمع العلم بكون الفرد موضوعاً يثبت له الحكم، أما الفرد المشكوك فهو شك في التكليف.

فحين قال المولى: (الخمر حرام) فالحرمة الانحلالية شملت الأفراد الثابتة، وأما الفرد المشكوك فلا يعلم شمول الحكم له، فإنّ الشك في أصل الاشتغال وثبوت التكليف لا الامتثال، ومعه تجري البراءة، وما هو مجرى الاحتياط أنما هو في الشك في الامتثال بعد العلم بالاشتغال.

وأشكل عليه في الكفاية: بعدم تمامية إطلاق عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الموضوعية. قال: «النهي إذا كان بمعنى طلب تركه، بحيث لو وجد ولو دفعة لما امتثل كان اللازم إحراز تركه بالمرة ولو بالأصل، نعم، لو

ص: 124


1- فرائد الأصول 2: 121.

كان بمعنى طلب ترك كل فرد منه على حده لما وجب إلا ترك ما علم أنه فرد»(1).

ومفاده أنّ النهي على نوعين - ويعلم منه الكلام في الأمر -.:

الأول: أن يكون النهي حكماً واحداً متعلقاً بترك الطبيعة رأساً، وبعبارة أخرى: مجموع التروك مطلوب واحد، بحيث لو أتى المكلف بفرد من أفراد الطبيعة لم يمتثل النهي أصلاً، كما لو قال المولى في ساحة الحرب: (لا تتكلم) حيث لو صدر الصوت عرف العدو بمكان المولى، فالمطلوب الواحد هو مجموع التروك، بحيث لو ترك كل الأفراد وأتى بواحد فقط لم يمتثل النهي؛ لنقض الغرض ومعرفة العدو بالمكان، وكما لو أراد المولى النوم بحيث لو صدر صوت واحد لم ينم.

فلو كان كذلك كان الاجتناب عن المشكوك واجباً، وبدون الاجتناب عنه لا يحرز امتثال التكليف الواقعي الوحداني، فمع الشك بأنّ هذه الحركة تصدر صوتاً أم لا، لا يحق الإقدام عليه؛ لعدم العلم بامتثال التكليف الواقعي الوحداني، وهو عدم معرفة العدو بمكان المولى، فإنّ الشك في الامتثال لا في الاشتغال.

الثاني: أن يكون التكليف انحلالياً، بمعنى أنّ كل فرد من الأفراد موضوع مستقل لحرمة مستقلة، فهو شك في الاشتغال لا الامتثال، فيتم ما ذكره الشيخ في هذا النوع.

ص: 125


1- كفاية الأصول: 353. وليس جوابه في مقام الرد على الشيخ الأعظم، بل تحت عنوان التنبيه الرابع (منه (رحمه اللّه) ).

وسلم به في المنتقى وقال: «لابد من الاحتياط بالترك لعدم العلم بدونه بتحقق ترك أول الوجود»(1).

فإنّ المنهي عنه في هذه التكاليف أول الوجود، و مع الإقدام على الفرد المشكوك لم يعلم أنه ترك أول الوجود، فلم يعلم أنه امتثل التكليف أم لا؟

ثم قال: «ولا مجال لإجراء البراءة؛ لأنّ مورد البراءة هو الشك في أصل ثبوت التكليف أو في سعته وضيقه، كما في موارد الأقل والأكثر، ولا شك لدينا كذلك... فيرجع الشك إلى الشك في الامتثال»(2).

لكنه محل تأمل، فمن الممكن أن يقال: إنّ الطبيعة لها سعة بسعة أفرادها، والشك في فردية الفرد شك في سعتها وضيقها، فيعود الشك إلى الشك بين الأقل والأكثر، والمختار جريان البراءة فيه، وإن كان ارتباطياً. نعم، هنالك كلام في جريان البراءة العقلية والشرعية أو الشرعية فقط.

وبعبارة أوضح: لو قال المولى: (لا تأت بأول الكلام لأنه أول الوجود) فالفرد المعلوم مصداق للمنهي عنه فلا بد من إعدامه، وأما الفرد المشكوك فيشك في شمول النهي المتعلق بالطبيعة له؛ للشك في سعة الطبيعة، فتجري البراءة فيه؛ لأنه شك في التكليف.

أقسام تعلق النهي بالطبيعة

اشارة

وفي المقام تفصيل آخر، وهو: أنّ النهي المتعلق بالطبيعة ينقسم إلى أربعة أنواع، تجري البراءة في بعضها دون بعض، وهي:

ص: 126


1- منتقى الأصول 4: 546.
2- منتقى الأصول 4: 546.

النوع الأول

أن يتعلق النهي بالطبيعة على نحو السريان والشمول، بمعنى تعدد التكليف بتعدد أفراد الطبيعة، كما في (لا تشرب الخمر)، فلو شك في فرد أنه خمر أو خل فلا مانع من جريان البراءة؛ لأنه شك في التكليف، ومجراه البراءة العقلية والشرعية، وهو موافق لما ذهب إليه الشيخ(1) وصاحب الكفاية(2).

وأشكل عليه السيد القمي(3) بإشكال فني؛ وهو أنّ المرجع في المقام الاستصحاب لا البراءة، سواء أكانت الشبهة وجوبية أم تحريمية، كقوله: (أكرم العلماء) فمع الشك في أنّ زيداً عالم يستصحب عدم عالميته، وكقوله: (لا تشرب الخمر) فمع الشك في خمرية المائع يستصحب عدمها، ومعه لا مجال للبراءة.

نعم، يمكن التمسك بالبراءة في تعاقب الحالات المضادة، حيث لا يجري الاستصحاب أصلاً، أو يجري ويتعارض ويتساقط، كما لو كان عالماً ثم أصبح جاهلاً ثم صار عالماً، وهكذا تعاقبت عليه الحالات المتضادة، وجهل المتقدم والمتأخر، وكذا في الخمر لو انقلبت خلاً ثم خمراً وهكذا.

لكن يرد عليه تعليقات:

الأولى: إنه لا يختص جريان البراءة بتعاقب الحالات، بل يجري فيما لو لم يكن للشيء حالة سابقة معلومة أيضاً، كقوله: (أكرم كل قرشي) وشك

ص: 127


1- فرائد الأصول 3: 136.
2- كفاية الأصول: 362.
3- آراؤنا في أصول الفقه 2: 209.

في زيد، حيث إنه عند الولادة إما قرشي أم لا، فلا حالة سابقة معلومة ليجري الاستصحاب، فلا مانع من التمسك بالبراءة، إلا على القول بجريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية، حيث لم يكن في الأزل قرشياً ولو على نحو السالبة بانتفاء الموضوع.

الثانية: إنما يتم عدم جريان البراءة مع وجود الاستصحاب للحكومة أو الورود، إن قلنا بتقدم الأصول السببية على المسببية، وإن توافقا في المؤدى، لكن لو كان المبنى - كما ربما يظهر من بعض الروايات تأييده - جريان الأصول المسببية في عرض السببية، إذا كانا متوافقين في النتيجة، فلا مانع من جريان البراءة، وفي المقام النتيجة متحدة؛ لأنّ نتيجة استصحاب عدم عالمية الفرد المشكوك هو عدم وجوب إكرامه، وهو مفاد البراءة، فلا مانع من جريانهما معا.

الثالثة: الظاهر عدم ورود الإشكال؛ لأنّ البحث في أصل جريان البراءة في الشبهات الموضوعية في مقابل النفي المطلق، من دون التعرض إلى شروط جريانها، فما ذكر غير وارد على هذا الإطلاق؛ لأنه ليس في مقام البيان من هذه الجهة، بل هو في مقابل رد القول بعدم الجريان المطلق.

النوع الثاني

أن يكون النهي متعلقاً بالطبيعة لا على نحو السريان، بل على نحو صرف الوجود، بمعنى أنّ النهي متعلق بترك الطبيعة رأساً، بحيث لو وجد فرد واحد من أفراد الطبيعة لم يمتثل النهي أصلاً، فإن المتصف بالحرمة أول الوجود، أما الفرد الثاني والثالث فلا حرمة فيه.

ص: 128

والمختار فيه - خلافاً لما ذهب إليه في الكفاية والمنتقى - البراءة لا لأنّ الشك في هذا الفرض شك في تعلق التكليف الضمني بالفرد المشكوك، ومجرى الشك كذلك البراءة.

فإنّ في هذا التقرير إشكالين:

الأول: ما سبق من السيد القمي، وقد مرّ الجواب عنه.

الثاني: لا دليل على وجود الوجوب الضمني أصلاً، وعلى فرض وجوده فالمقام ليس من صغريات التكليف الضمني المشكوك، بل هو خارج عنه موضوعاً؛ لأنّ التكليف الضمني إنما هو فيما لو كان الأمر والنهي متعلقين بالطبيعة التي لها أجزاء، أما لو تعلقا بطبيعة لها أفراد فهو شك في التكليف الاستقلالي، فللكلام في قول المولى (لا تتكلم) أفراد لا أجزاء، فلو شك أنّ النطق بحرف واحد كلام أو لا؟ كان شكاً في التكليف الاستقلالي، فالاستدلال غير تام.

فالأولى الاستدلال لذلك بأنّ كل فرد من الأفراد منهي عنه على سبيل البدل، ومتعلق النهي هو أن لا يجعله أول الوجود، فيشك في شمول النهي البدلي للفرد المشكوك فتجري البراءة فيه، ولا فرق بين أن نشك في شمول النهي الاستغراقي لفرد، أو شمول النهي البدلي له، فإنّ الأصل عدم توجه النهي البدلي للفرد المشكوك.

النوع الثالث

أن يكون النهي زجراً عن المجموع، بحيث لو ترك فرداً من أفراد الطبيعة امتثل النهي، وإن أتى بجميع الأفراد، ويمكن أن نمثل له بقوله: (لا تشرب

ص: 129

جميع أواني الماء الموجودة في البيت) فشرب المجموع منهي عنه، فلو أبقى واحدة امتثل النهي، وهنا بحثان:

الأول: لا إشكال في ارتكاب الفرد المشكوك مع ترك الفرد المتيقن؛ وذلك لأنه لو ارتكب الفرد المتيقن مع ترك فرد متيقن آخر لم يكن فيه إشكال، فكيف إذا اقتحم الفرد المشكوك؛ لأنه لا عصيان للنهي فيما لو ارتكبه مع إبقاء فرد معلوم.

الثاني: لا إشكال في ارتكاب جميع الأفراد المعلومة وترك الفرد المشكوك؛ لأنّ تعلق التكليف بالأكثر متيقن، والشك في حرمة الأقل، فتجري البراءة؛ وذلك لأنّ ارتكاب جميع الأفراد المتيقنة مع الفرد المشكوك حرام قطعاً؛ لأنه مخالفة للنهي القطعي، ويشك في حرمة ارتكاب تمام الأفراد المتيقنة أيضاً، فتجري البراءة.

وحاصله: إنّ الشك في المقام شك بين الأقل والأكثر، فتجري البراءة في الأكثر.

مثلاً: لو قال المولى: (لا تشرب جميع المياه في البيت) وهناك ثلاثة مياه متيقنة، وأما الرابع فمشكوك أنه ماء، فلو شربها كلها فعل الحرام قطعاً، أما لو شرب الثلاثة المتيقنة فقط فهل هو حرام أيضاً؟ فالمجرى البراءة.

لكنه محل تأمل؛ لأنّ المطلوب واحد، وهو ( طلب ترك شرب المجموع) وهو أمر بسيط، وفي المائع المشكوك احتمالان ثبوتاً، فهو إما ماء أو لا، فإن كان ماءً فمع تركه وشرب المتيقن يحصل المطلوب، وإن لم يكن ماءً فلم يحصل المطلوب، فالشك شك في الامتثال، والاشتغال اليقيني

ص: 130

يقتضي البراءة اليقينية، وهي لا تحصل إلا بترك شرب الفرد الثالث المتيقن، وأما مع ارتكابه وترك المشكوك يشك في حصول مطلوب المولى. والأمر كذلك فيما لو احتمل وجود فرد آخر.

فما أفيد في هذا التفصيل الرباعي ووافقه عليه كل من حضرتني كلماتهم من جريان البراءة في النوع الثالث محل تأمل، والمختار أنه مجرى الاحتياط.

النوع الرابع

أن يكون النهي متعلقاً بجميع الأفراد الخارجية، باعتبار أنّ المطلوب أمر بسيط متحصل من مجموع التروك.

وفي عبارته إبهام، فإنه يحتمل فيها أربعة معانٍ: فهل عندنا في المقام نهي وأمر حتى يتعلق الأول بجميع الأفراد الخارجية، ويتعلق الثاني بالشيء البسيط المتحصل؟

أو عندنا أمر بالشيء الوحداني البسيط، وهو ناشئ من مجموع التروك، كما استظهره السيد القمي، وعلق عليه أنه خروج عن محل البحث؛ لأنه شبهة وجوبية، والبحث في الشبهة التحريمية.

أو أنّ النهي متعلق بجميع الأفراد الخارجية، ولكن غرض المولى هو الشيء الوحداني البسيط؟

وربما المراد معنى رابع- فلا بد من تغيير العبارة لتكون أقرب إلى المقصود- وهو: (أن يكون النهي متعلقاً بالأمر الواحد البسيط المتحصل من مجموع التروك). فمتعلق النهي هو الأمر الواحد البسيط، وامتثاله متوقف

ص: 131

على مجموع التروك من حيث المجموع، لما قد ثبت في محله أنّ إيجاد المعلول متوقف على سدّ جميع أبواب العدم على وجوده، وبذلك تكون الشبهة تحريمية لا وجوبية.

ويمكن التمثيل له بقول المولى: (لا تقتل نفسك) لو قلنا: إنّ القتل بمعنى إزهاق الروح، فالمنهي عنه هو إزهاق الروح، وهو أمر بسيط متحصل من مجموعة من التروك، فلا بد من تحقيق جميعها حتى يحصل المقصود بأن لا يأكل هذا السم، ولا ذاك ولا يغرق نفسه، ولا يرمي بنفسه وهكذا...

فلو شك في فرد خارجي أنه مصداق لإزهاق الروح أم لا، كان المرجع قاعدة الاشتغال؛ لرجوع الشك فيه إلى الشك في المحصل بعد العلم بثبوت التكليف.

والظاهر أنه تام؛ لأنّ المولى لا شأن له بالتروك الخارجية التي هي مقدمة للمنهي عنه الواحد، بل يريد عدم تحقق إزهاق الروح، ولو شك أنّ هذا الفعل - شرب المائع المشكوك كونه سماً - مقدمة لإزهاق الروح فلا يحق اقتحامه؛ لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، ولا يعلم مع اقتحامه امتثال النهي، ومرجعه في الواقع إلى بحث العنوان والمحصل(1)، ومع الشك في محصل العنوان - سواء أكانت الشبهة وجوبية أم تحريمية - فالمرجع الاحتياط.

لكن الظاهر أنّ النوع الرابع خروج موضوعي عن البحث؛ لأنّ الشك

ص: 132


1- أقول: بعد جريان البراءة في الفرد المشكوك والحكم بجواز اقتحامه مع الالتزام بعدم اقتحام المتيقن، يعلم المكلف تعبداً بامتثال النهي، فلا وجه للاحتياط (المقرر).

ليس في نفس المأمور به أو المنهي عنه أو فردهما لتكون الشبهة موضوعية لهما، بل الشك في المقدمات والمحصلات.

وعلى أي حال فالاحتياط فيه لازم.

فتحصل: أنّ الأقسام الثلاثة الأخيرة من التقسيم الرباعي محل إشكال، وإن كان المختار جريان الاحتياط في النوعين الأخيرين.

ص: 133

ص: 134

فصل في دوران الأمر بين المحذورين

اشارة

ص: 135

ص: 136

فصل في دوران الأمر بين المحذورين

اشارة

وقبل الشروع في النقض والإبرام لا بد من تنقيح موضوع البحث، حيث يشترط فيه شرطان:

الأول: أن يدور الأمر بين الوجوب والحرمة دون غيرهما من الأحكام، أما لو كان الأمر دائراً بينهما وبين حكم ثالث كالإباحة، فالمرجع البراءة؛ لأنّ الشك شك في التكليف والإلزام غير معلوم ولا بيان عليه، فيكون مجرى البراءة العقلية والشرعية، بل المقام أولى بجريان البراءة من الشبهة الوجوبية المحضة أو الشبهة التحريمية المحضة، وذلك لإمكان الأمر بالاحتياط فيهما، ومع ذلك حكم الشارع بالإباحة، بخلاف المقام، حيث لا يمكن الاحتياط لدوران الأمر بين الوجوب والحرمة، والإباحة فلا يمكن الموافقة العملية القطعية، فيكون أولى بجريان البراءة.

والحاصل لا بد أن يكون الأمر دائراً مدار الوجوب والتحريم، ولا يوجد احتمال لحكم ثالث كالإباحة.

الثاني: أن لا يكون أحد الحكمين مورد الاستصحاب، وإلا انحل العلم الإجمالي؛ لإحراز أحد الطرفين تعبداً، ومن المعلوم أنه لا فرق بين الإحراز الوجداني والتعبدي، كما لو دار الأمر بين وجوب الجمعة أو حرمتها، حيث مقتضى الاستصحاب بقاء الوجوب، فينحل العلم الإجمالي بإحراز الوجوب تعبداً.

ص: 137

وبعد تنقيح محل الكلام، ينبغي التكلم في مقامين:

الأول: أن يكون الوجوب المحتمل والحرمة المحتملة توصلياً، فلا يشترط في سقوط الأمر والنهي قصد التقرب.

الثاني: أن يكون كلا الطرفين أو أحدهما تعبدياً، يتوقف أمتثاله على قصد التقرب.

أما المقام الأول: فيما لو كان كل من الجانبين توصلياً، كما لو شك في وجوب دفن الكافر أو حرمته - مع فرض كون الدفن توصلياً - ويمكن فرضها في الشبهة الموضوعية أيضاً، كما لو شك أنّ هذا الميت في الصحراء مسلم أو كافر - بعد العلم بوجوب دفن المسلم وحرمة دفن الكافر- فيشك في وجوب دفنه وحرمته، أو شك أنّ حكم القتل للمفطر في شهر رمضان في المرة الثالثة أو الرابعة، فأمر القتل في المرة الثالثة دائر بين الوجوب والحرمة على تأمل في هذا المثال.

المقام الأول: الأقوال في دوران الأمر بين المحذورين التوصليين

اشارة

وفيه احتمالات، بل أقوال:

القول الأول: تقديم جانب الحرمة

فلو نذر أن يفعل أو يترك قدم جانب التحريم؛ وذلك لأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

والمراد منها - طبق القاعدة- الأولوية التعيينية، فإنها قد تستخدم بمعنى الأولوية الترجيحية والتفضيلية، وقد تنسلخ عن ذلك فتستخدم بمعنى الأولوية التعيينية، كقوله سبحانه: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي

ص: 138

كِتَابِ اللّهِ}(1)،

وقوله تعالى {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}(2)

وهو جار في الاستعمالات العرفية أيضاً، كقوله: (علي أفضل من معاوية) مع أنّ الثاني لا فضل له أصلاً، فالمعنى أنّ علياً (عليه السلام) فيه الفضل ولا فضل لمَن في مقابله، والحاصل أنه لا بد أن تكون الأولوية بمعنى التعيينية، حتى تكون مستنداً للقول بوجوب ترجيح احتمال الحرمة على احتمال الوجوب في دوران الأمر بين المحذورين.

ويناقش فيه بمناقشتين:

الأولى: كبروية وهي: عدم تسليم القاعدة؛ لأنّ ملاكات الأحكام مختلفة شدة وضعفاً، وبتبع اختلاف ملاكات الأحكام في الشدة والضعف تختلف الأحكام في الأهمية وعدمها، فمن الممكن أن يكون الواجب أهم من الحرام أو بالعكس.

مثلاً: من الواجب إنقاذ النفس المحترمة، ومن الحرام المرور في الأرض المغصوبة، فلدى التزاحم يرجح جانب الوجوب؛ لأنّ ملاك إنقاذ النفس المحترمة أهم من ملاك الغصب، فلا يكون الغصب حراماً، بل يصبح واجباً بالوجوب المقدمي العقلي، كما يمكن أن يكون ملاك الحرمة أهم، كما لو أمر المولى بالوضوء، وتوقف إخراج الماء على غصب حبل الناس فيتزاحمان، ويقدم حرمة الغصب.

فلا كلية لقاعدة أولوية دفع المفسدة من جلب المنفعة، فإنّ للمنافع

ص: 139


1- الأنفال: 75.
2- القيامة: 34-35.

والمفاسد مراتب، فيختلف الأمر باختلاف تلك المراتب.

وبعبارة أخرى: في صورة القطع بالمصلحة والمفسدة لا يمكن القول برجحان أحد الطرفين على الإطلاق، كذلك في صورة الاحتمال.

والمشهور(1) الذي حضرتني كلماتهم أنكروا هذه القاعدة.

قال السيد الوالد (رحمه اللّه) في الأصول: «العقلاء يرون ترجيح الأهم(2) لزوماً إن كان بحد المنع من النقيض، وندباً إن كان لا بحده، وإلا فالتخيير»(3).

وقال في الوصول: «فلو كانت المفسدة خسارة دينار للمكس، والمنفعة ألف دينار حاصلة من التجارة لرأوا تقديم جلب المنفعة»(4).

لكنّ في المناقشة المذكورة تأملاً، حيث يختلف الأمر بين العلم والاحتمال، ففي دائرة الجهل المطلق بحد المفسدة والمصلحة المحتملتين يظهر تقديم جانب المفسدة المحتملة، فلو احتمل التاجر مصلحة ومفسدة لا يعرف حدودهما فهل يقدم على ذلك؟ أو احتمل المسافر وجود مصلحة مجهولة الكنه في الطريق مع وجود مفسدة كذلك فهل يقدم عليه؟

والذي يبدو في بادئ النظر صحة القاعدة، فدفع المفسدة أولى من جلب المنفعة، والظاهر أنّ الأولوية مسلمة.

لكن لم يثبت كونها بحد الوجوب والمنع من النقيض، و ما نحن فيه من هذا القبيل.

ص: 140


1- قوانين الأصول: 153؛ فرائد الأصول 2: 185؛ كفاية الأصول: 177.
2- فليس الملاك المصالح والمفاسد، بل الأهمية.
3- الأصول: 746.
4- الوصول 4: 362.

فالأولى القول بثبوتها، لكن لم يثبت أنّ الأولوية أولوية تعيينيه بحد المنع من النقيض.

المناقشة الثانية: صغروية: فالكبرى الكلية - بعد تسليمها - لا تنطبق على المقام، فالقاعدة جارية فيما يحرز فيه المصلحة والمفسدة؛ أي فيما كان الأمر دائراً بين المصلحة والمفسدة القطعيتين، لكن لو احتملت المصلحة والمفسدة فلا تجري القاعدة، ولا مجال للأولوية المذكورة.

وسرُّه أنّ الاحتمال مؤمن عنه بأدلة البراءة العقلية والنقلية، فلو احتملت المفسدة مع القطع بعدم وجود المصلحة، كما في شرب التتن، جرت البراءة، فبطريق أولى تجري البراءة فيما لو تعارض احتمال المفسدة مع احتمال المصلحة.

والحاصل: إنه لا دليل على القول بوجوب تقديم جانب احتمال الحرمة.

القول الثاني: الحكم بالتخيير
واستدل له بوجوه ثلاثة
الوجه الأول

الروايات الواردة في الخبرين المتعارضين، كقوله (عليه السلام) : «إذن فتخير أحدهما، فتأخذ به وتدع الأخير»(1)، وقوله (عليه السلام) : «بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك»(2) فهي دالة على التخيير في المقام.

ص: 141


1- مستدرك الوسائل 17: 303.
2- الكافي 1: 66.
ويرد عليه مناقشات أربع

المناقشة الأولى: ما ذكره المحقق النائيني(1)

من المحذور الثبوتي والاستحالة العقلية، فإنّ التخيير على ثلاثة أنواع، إما شرعي واقعي، كخصال الكفارة، وإما شرعي ظاهري مع بقاء الحكم الواقعي على حاله مجهولاً، كتعارض الطرق والأمارات، وإما عقلي كإنقاذ أحد الغريقين، ولا يعقل جريان هذه الأنواع الثلاثة في دوران الأمر بين المحذورين.

أما التخيير الشرعي، سواء أكان واقعياً أم ظاهرياً، فلا يعقل جريانه في المقام؛ لأنه حاصل تكويناً، وما هو حاصل بالتكوين لا يعقل تحصيله بالتعبد الشرعي، حيث إنّ الأمر دائر بين المحذورين، والمكلف تكويناً مقهور على أحد الجانبين، إما أن يدفن الميت الكافر أو لا، فهو تكويناً إما فاعل أو تارك، فلا معنى لتخييره بين الفعل والترك، والوجود والعدم، فالتخيير الشرعي تحصيل للحاصل وهو محال.

وأما التخيير العقلي، فمجراه فيما لو كان في طرفي التخيير ملاك لازم الاستيفاء، لكن تقصر قدرة المكلف عن استيفاء كلا الملاكين، فيحكم العقل بالتخيير بينهما؛ لعدم وفاء قدرة المكلف بتحصيل كلا الملاكين بخلاف المقام، حيث الملاك في أحد الطرفين دون الأخر.

لكن يرد عليه أمران:

الأول: إنّ الحصر غير حاصر؛ لوجود نوع رابع من أنواع التخيير، وهو التخيير في مقام الإفتاء لا العمل، فيتخير المجتهد بين الإفتاء بوجوب الدفن

ص: 142


1- فرائد الأصول 3: 444.

أو حرمته، وهما ضدان لهما ثالث(1)، وهو عدم الإفتاء أو الإفتاء بأمر ثالث، كما هو الحال في الخبرين المتعارضين، حيث يذهب السيد الخونساري في جامع المدارك إلى ذلك (2).

فلا محذور ثبوتي للتخيير في المقام بالمعنى الرابع.

الثاني ما ذكره بعض المعاصرين، قال: إنا نمنع انحصار التخيير العقلي بما إذا كان في كلا الطرفين ملاك، بل هو يحكم بما إذا لم يكن كذلك.

كما لو أراد السفر إلى كربلاء المقدسة فوصل إلى مفترق الطرق، فلو بقي هناك لم يصل، أما لو سلك أحدهما فيحتمل الوصول، فيخيره العقل في سلوك أحدهما مع عدم العلم بوجود الملاك فيه.

وهذا الإشكال في حد ذاته تام، فتعريف المحقق النائيني للتخيير العقلي لا يخلو من إشكال، إلا أنّ التعريف المذكور أيضاً محل إشكال؛ لوجود موارد أخرى، كالتخيير بين أفراد الماهية الواحدة، فالصلاة ماهية لها أفراد طولية وعرضية، كالصلاة في هذه البقعة أو تلك، فالعقل يخير المكلف في تطبيق الطبيعة على هذا الفرد أو ذاك، فهو نوع من أنواع التخيير العقلي غير النوعين المذكورين، والملاك متحقق على سبيل البدل، ولا يلزم تحقيقهما بخلاف الغريقين، حيث لو تمكن منهما وجب.

لكنه لا يجدي؛ لأنّ التخيير في المقام تكويني قهري، وفرق بين التخيير العقلي والتكويني القهري، ففي سلوك أحد الطريقين يخير العقل المكلف

ص: 143


1- أمران وجوديان متعاقبان على محل واحد لا يمكن اجتماعهما ويمكن ارتفاعهما.
2- جامع المدارك 4: 254.

بين أحدهما، ولا قهر تكويني، لإمكان الوقوف على مفترق الطرق، لكن ما نحن فيه لا يرتبط بحكم العقل، بل هو لا بدية تكوينية، فالميت إما يدفن أو لا، حتى المجنون أيضاً لا يخلو منهما، فلا يمكن القول: إنّ التخيير عقلي، فإنّ الدافن لا عقل له، بل هو تخيير تكويني.

فتحصل أنّ المناقشة الأولى غير تامة.

المناقشة الثانية: عدم تسليم التخيير في المقيس عليه، فقد وردت في التخيير حوالي ثماني روايات، لكنها إما ضعيفة سنداً أو دلالة على المعروف، وتحقيق الكلام فيه موكول إلى محله.

المناقشة الثالثة: سلمنا بالتخيير في المقيس عليه، لكن إسراء الحكم إلى المقام قياس.

وبعبارة أخرى: إنّ لدوران الأمر بين المحذورين أربع صور: تعارض النصين، وإجمال النص، وفقدان النص، والشبهة الموضوعية الخارجية، والتخيير المستفاد من الروايات خاص بالصورة الأولى، وإسراؤه إلى سائر الصور قياس لا نقول به.

المناقشة الرابعة: هل التخيير في مبحث الخبرين المتعارضين بمعنى التخيير في المسألة الأصولية(1)، فينفع في المقام، أو التخيير في المسألة الفرعية(2) فلا يجدي؛ لأنّ المكلف تكويناً مخير في تطبيق العمل على أحد الاحتمالين؟ والقائل بالقول الثاني إنما يرى التخيير الأصولي، وإلا فالتخيير

ص: 144


1- بمعنى أن المجتهد مخير بين الإفتاء بالوجوب أو التحريم.
2- بمعنى أن المكلف مخير في تطبيق العمل على أحد الحديثين المتعارضين.

الفرعي العملي مما لا نقاش فيه بين الأعلام، حيث إنه قهري.

والحاصل: إنّ الوجه الأول للقول الثاني غير تام.

الوجه الثاني

بعد تسليم عدم شمول أخبار التخيير للمقام بنفسها، إلا أنه يمكن القول بشمول ملاكها للمقام، فإنّ ملاك حجية الخبرين المتعارضين هو إحداث الاحتمال، كأن مؤدّى الخبر مطابق للواقع، حيث إنّ الخبر طريقي لا موضوعية فيه على المعروف، فهما طريقان إلى الواقع وكاشفان عنه، ونفس هذا الملاك موجود في باب دوران الأمر بين المحذورين، حيث يحتمل وجوب دفن الكافر ويحتمل حرمته.

وبتقرير آخر: إنّ ملاك حجية الخبرين المتعارضين نفي الثالث بالدلالة الالتزامية، وهو متحقق في الدوران بين المحذورين، فالحكم بالتخيير جار في المقام لوحدة الملاك.

ويرد عليه أمور:

الأمر الأول: إنّ الحكم بالتخيير في الخبرين المتعارضين محل كلام وإشكال، فإنّ أدلتها ضعيفة سنداً أو دلالة عند جمع من الفقهاء، فلا بد من الترجيح وإلا فالتساقط.

الأمر الثاني: لو سلم أنّ الحكم هو التخيير، فهل المراد بالتخيير التخيير الأصولي أو التخيير في مسألة فرعية؟ حيث إنه محل كلام، والمدعى في المقام هو التخيير الأصولي، وأما تطبيق العمل فهو حاصل قهراً تكويناً.

إن قلت: إنه شامل للمعنيين، فالخطاب للفقيه وللمكلفين معاً.

ص: 145

قلت: الظاهر أنه لم يقل بذلك أحد فيما نعلم، بالإضافة إلى أنه غير ظاهر فيه.

الأمر الثالث: لو سلم أنّ المراد هو التخيير في الإفتاء، إلا أنّ تعدية الحكم إلى ما نحن فيه بتنقيح المناط محل إشكال؛ لأنه إما قطعي أو ظني، أما الأول فليس حاصلاً، وأما الثاني فليس مجدياً.

وبعبارة أخرى: هنالك فرق بين المقامين، فكل واحد من الخبرين المتعارضين فيه اقتضاء الحجية لوثاقة المخبر، فهو واجد لشرائط الحجية، ولو كان بمفرده لوجب العمل به، إلا أنه مبتلى بالمعارض، ولا يمكن القول بحجيتهما فعلاً؛ لاستحالة حجية المتناقضين أو المتضادين عرضاً، فتكون الحجية بدلية تخييرية، بخلاف المقام، حيث لا اقتضاء للحجية في كل واحد منهما، بل احتمالان كل واحد منهما فاقد للحجية الاقتضائية.

وعليه فلا يخلو الوجه الثاني للقول الثاني من تأمل.

الوجه الثالث

الفحوى، أي الأولوية.

بيانها: لو لم يجز طرح الحكمين في باب الخبرين المتعارضين، ووجب الأخذ بأحدهما مخيراً مع عدم إحراز مطابقة أحدهما للواقع، حيث يحتمل مخالفتهما له، فبطريق أولى طرح الحكم الواقعي في الدوران بين المحذورين غير جائز، مع العلم وجداناً بمطابقة أحد الاحتمالين للواقع ونفي الثالث، وبعبارة مختصرة: لو كان طرح الحجتين غير جائز فطرح الحكم الواقعي كذلك بطريق أولى.

ص: 146

ويرد عليه: إنما تتم الفحوى والأولية فيما لو لم تحتمل الخصوصية، كقوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ}(1) حيث لا تحتمل الخصوصية في حرفي (أف) ولذا يحكم بتحريم سائر الكلمات، بل الضرب بالأولوية، أما في باب الخبرين فنحتمل الخصوصية للحكم بالتخيير، وصرف الاحتمال الوجداني كاف لإبطال دليل الفحوى.

وقد مرّ تمامية الاقتضاء للحجية في الخبرين، لكن وجود المعارض مانع من الفعلية، فيتم التخيير الشرعي بخلاف المقام، حيث لا اقتضاء للحجية في الاحتمال في حد ذاته، ويكفي ذلك فارقاً.

وهذا الجواب(2) إنما يتم بناء على مبنى السببية، أما على الطريقية - حيث لا موضوعية في الخبر - فالملاك هو الكاشفية النوعية عن الواقع، وعليه لو ثبت حكم للكاشف النوعي أمكن القول بثبوته للكاشف الوجداني، وهو القطع بطريق أولى.

مثلاً: لو قال المولى: من أراد الذهاب إلى كربلاء المقدسة ولم يعرف الطريق فليسأل الناس الأعراب(3)، ثم قال: إن تعارضا فتخير، فلو وصل إلى مفترق الطرق وعلم وجداناً أنّ أحدهما هو الطريق فيشمله الحكم بطريق أولى، فإنّ الحكم ثابت للقطع التعبدي، كذلك في القطع الوجداني.

إلا أن يقال بعدم ثبوت جعل الأمارات على نحو الطريقية المحضة،

ص: 147


1- الإسراء: 23.
2- وكذا الجواب عن الوجه الثاني.
3- وقلنا إنه لا موضوعية لسؤالهم.

حيث يحتمل أن يكون جعلها طريقياً مشوباً بنوع من الموضوعية، ولذا ردع الشارع عن الكثير من الكواشف الظنية، فليس الملاك في الأمارات صرف الكاشفية، بل هي مع اعتبارات أخرى، فيكون الأمر بين الطريقية والموضوعية، فلو ثبت حكم للخبرين مع هذا الاعتبار، لم يعلم ثبوته للدوران بين المحذورين.

الوجه الرابع

إنّ الالتزام بالأحكام الشرعية واجب فيما لو كان العنوان الواقعي معلوماً، واما لو كان مجهولاً فالأمر دائر بين المخالفة القطعية بطرح كليهما، كأن يحكم بالإباحة، أو الموافقة الاحتمالية بالالتزام بأحدهما والثاني مقدم.

وأجاب عنه في النهاية: «إنّ أصل الالتزام الجدي بالواقع بعنوانه الخاص المجهول غير معقول، حتى يجب على طبق الواقع، حتى يجب موافقته الاحتمالية، بل مقولة الالتزام الجدي بشيء سنخ مقولة لا تتعلق إلا بما علم»(1).

وهو يتألف من مراحل ثلاث:

الأولى: إنّ الالتزام الجدي بالمجهول محال.

الثانية: لو كان ذلك محالاً، فإنّ التكليف بالالتزام بالمجهول غير المعقول.

الثالثة: لو كان التكليف غير معقول لم تجب الموافقة الاحتمالية؛ لعدم التكليف.

ص: 148


1- نهاية الدراية 2: 561.

فإنّ وجوب الموافقة الاحتمالية فرع وجود التكليف، ولا تكليف بالالتزام؛ لأنه فرع العلم، ولا يعقل مع عدمه، فلا تجب موافقته الاحتمالية.

لكنه محل تأمل في بادئ النظر؛ لأنّ معنى الالتزام عقد القلب، ويمكن ذلك على المجهول والمشكوك ومقطوع العدم، وذلك كالمنافق مثل أبي سفيان، فهو مع علمه بنبوة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلا أنه يعقد القلب على خلافه، وقد قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(1) وقال سبحانه: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ}(2).

وعليه فالالتزام بالمشكوك معقول، بل بمقطوع العدم، ولوكان معقولاً أمكن للمولى الأمر بالالتزام به، فتتقدم الموافقة الاحتمالية على المخالفة القطعية.

والأولى في الجواب أن يقال: أولاً: لا دليل على وجوب الالتزام على المشهور، وإن ناقش فيه السيد الوالد (رحمه اللّه) حيث يرى وجوب الالتزام بأحكام اللّه.

وثانياً: على فرض وجوبه، إلا أنّ القدر المستفاد من الأدلة(3) هو أنّ

ص: 149


1- النمل: 14.
2- البقرة: 146.
3- كقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} النساء: 65، حيث لا يظهر منه تكليف المولى العبد بالالتزام بالواقع المجهول بعنوانه، أي الوجوب مثلاً، وكذلك روايات باب التسليم لو سلم دلالتها على أصل الوجوب، فإن المكلف ملتزم بالحكم الواقعي للدفن، أما لزوم الاعتقاد بوجوب الدفن بعنوانه أو حرمته بعنوانه فلم يظهر من الدليل (منه (رحمه اللّه) ).

الالتزام بالحكم الواقعي واجب على النحو الذي علم، فإن علم الواقع تفصيلاً وجب الالتزام التفصيلي، وإن علم الواقع بالإجمال وجب عقد القلب على الواقع إجمالاً، وذلك متحقق في المقام، بأن يعقد القلب على الالتزام بالحكم المجهول الواقعي.

القول الثالث: الحكم بالإباحة الشرعية
اشارة

وهو ما اختاره في الكفاية(1)، حيث قال: الحكم هو الإباحة الشرعية.

ويدل عليه إطلاقات أدلة الإباحة الشرعية وعموماتها، كقوله (عليه السلام) : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(2)، وقوله (عليه السلام) : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام»(3)، فيكون دفن الكفار محكوماً بالحلية والإباحة.

وأشكل عليه بإشكالات

الإشكال الأول: قال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : «لكن الإنصاف أنّ أدلة أصالة الإباحة منصرفة عن مثل المقام»(4).

وأجاب عنه بعض المعاصرين: بأنه دعوى محضة، ولا مثبت لدعوى الانصراف.

لكن الظاهر أنه غير وارد؛ لأنّ المنصرف عن أدلة الحل أن طرف الحرمة المحتملة احتمال الإباحة، أما لو كان طرفها الوجوب المحتمل فلا

ص: 150


1- كفاية الأصول: 355.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 317.
3- الكافي 5: 313.
4- فرائد الأصول 2: 185، بتصرف.

تشمله أدلة الحل.

مثلاً: موثقة مسعدة: «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب عليك يكون عليك قد اشتريته ولعله سرقة» فإنّ ظاهرها وجود احتمال الحلية والحرمة، فتجرى أصالة الحل، وتنصرف عما لو كان الطرف احتمال الوجوب.

وكذا رواية عبد اللّه بن سنان: «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» فإنّ الطبيعي له قسمان: الحلال والحرام، فيشك في الفرد الخارجي أنه من هذا أو ذاك، فالأمر دائر بين الحرمة والحلية، أما في الميت الذي لا يعلم أنه مسلم فيجب دفنه، أو كافر فيحرم، فالظاهر انصراف العموم عنه.

ولا يخفى أنّ الانصراف لا برهان له، والأمر تابع للاستظهار.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق النائيني، حيث قال: «إنّ دليل أصالة الحل يختص بالشبهات الموضوعية، ولا يعم الشبهات الحكمية»(1).

ومفاده: إنّ الدليل أخص من المدعى؛ لأنّ البحث في المقام شامل للشبهات الحكمية والموضوعية، وقد مرّ أنّ مبناه اختصاص روايات الحل بالشبهات الموضوعية، وهو الظاهر.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقق النائيني أيضاً(2)،

وقد وقع فيه الاضطراب الشديد بين الأعلام.

ص: 151


1- فوائد الأصول 3: 445.
2- فوائد الأصول 3: 445.

وحاصله عدم انحفاظ رتبة الحكم الظاهري في المقام، وهي الشك، وجريان الأصول العملية موقوف على انحفاظ الرتبة، وأما مع العلم فلا موضوع للحكم الظاهري.

ونتيجة كلامه: التفصيل بين التطبيق الواحد والتطبيقين، فلو كان الأصل الجاري مناقضاً للعلم الإجمالي(1)

بتطبيق واحد لم يجر الأصل، وأما لو ناقضه بتطبيقين فلا مانع من جريانه.

قال: «إنّ جعل الإباحة الظاهرية مع العلم بجنس الإلزام(2) لا يمكن، فإنّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمال»(3).

توضيحه: المعلوم بالإجمال هو عدم استواء الطرفين، وأما مفاد أصالة الإباحة، فهو استواء الطرفين، فالفعل والترك في نظر المولى متساويان، وهو معنى الإباحة.

ومع العلم بعدم استواء الطرفين في نظره، كيف يحكم المولى باستوائهما؟! فهو بالدلالة المطابقية مناقض للمعلوم بالإجمال، فلم تحفظ رتبة الحكم الظاهري حيث لا شك في المقام.

ثم قال: «والحاصل: إنّ بين أصالة الإباحة والبراءة والاستصحاب فرقاً واضحاً(4)، فإنّ مورد أصالة البراءة والاستصحاب... خصوص ما تعلق بالفعل

ص: 152


1- العلم الإجمالي بوجوب دفن الكافر أو حرمته.
2- مع عدم العلم بنوع الإلزام؛ لأنه دائر بين الوجوب والتحريم، أما الجنس فمعلوم، حيث إنه في المقام إلزام.
3- فوائد الأصول 3: 445.
4- حيث لا يجري الأول بخلاف الثاني.

من الوجوب أو الحرمة... بخلاف أصالة الحل والإباحة»(1).

فتجري أصالة البراءة؛ لعدم معلومية الحرمة والوجوب فيرفعان، ولا مانع من جريانها؛ لأنها تجري بتطبيقين مع انحفاظ رتبة الحكم الظاهري، حيث الحرمة مجهولة، وكذلك الوجوب، فيجري (رفع ما لا يعلمون) بخلاف أصالة الإباحة.

لكن أشكل عليه المحقق العراقي بانحفاظ موضوع الحكم الظاهري، وعدم المانع من جريان أصالة الإباحة من هذه الجهة. نعم، قد يكون فيه محذورات أخرى.

وقد ذكر مقدمة لإثبات مدعاه، وهي: «إنّ قوام العلم وكذا الشك والظن في مقام عروضها بعد أن كان بنفس العناوين والصور الذهنية بما هي مرآة إلى الخارج، بلا سرايتها منها إلى وجود المعنون خارجاً، ولا إلى العنوان المعروض لصفة أخرى، بشهادة اجتماع اليقين والشك في وجود واحد بتوسيط العناوين الإجمالية والتفصيلية»(2).

أي: إنّ معروض اليقين والظن والشك هو الصور الذهنية، ولا يسري العارض من معروضه إلى الوجود العيني الخارجي، وإلى الصور الذهنية الأخرى، ويدل عليه اجتماع اليقين والشك في وجود واحد بواسطة العناوين الإجمالية والتفصيلية.

مثاله: لو علم برجوع زيد أو عمرو من الحج، فتعلق العلم بعنوان

ص: 153


1- فوائد الأصول 3: 445-446.
2- نهاية الأفكار 3: 294.

(أحدهما) الإجمالي، ولا يسري إلى العنوان التفصيلي أي (زيد)، سواء أكان خارجياً أم ذهنياً؛ وذلك لأنه لو سرى إلى زيد الخارجي المعنون أو زيد الذهني، وهو الصورة الثانية، استلزم اجتماع اليقين والشك في وجود واحد، وعليه فالعلم المتعلق بعنوان (أحدهما) يقف عليه ولا يسري، ولذا يقال: إنّ (أحدهما) معلوم المجيء، و (زيد) مشكوك المجيء.

وبعد تمامية هذه المقدمة: « فلا محالة أنّ ما هو معروض العلم الإجمالي عبارة عن عنوان أحد الأمرين، المبائن في عالم العنوانية مع العنوان التفصيلي؛ إذ كل واحد من الفعل والترك بهذا العنوان التفصيلي لهما كان تحت الشك»(1).

أي: إنّ الجامع بين الفعل والترك واجب، فإما فعل الدفن واجب أو تركه، فيعلم بوجوب أحد الأمرين، وهو مباين مع خصوص الفعل أو خصوص الترك، والنتيجة: تحقق موضوع الحكم الظاهري، حيث يشك في حكم فعل دفن الكافر، وكذا في حكم ترك دفن الكافر، فتجري أصالة الإباحة. نعم، أحد الأمرين معلوم الإلزام، لكن هذا بعينه وذاك بعينه، أي: إنّ العنوان التفصيلي مشكوك فيحكم عليه بالإباحة.

والحاصل: إنّ مرتبة الحكم الظاهري في الدوران محفوظة؛ لأنّ معروض العلم الإجمالي هو العنوان الإجمالي، ومعروض الإباحة التعبدية هو العنوان التفصيلي المشكوك، فلا مانع من جريان أصالة الإباحة الشرعية.

لكن يرد عليه إشكالان:

ص: 154


1- نهاية الأفكار 3: 294.

الأول: لا شك في عدم إباحة دفن الكافر، ومع انتفاء الشك لا يعقل جعل الحكم الظاهري، فلم ينحفظ موضوع الحكم الظاهري.

لكنه محل تأمل، فإنّ لانتفاء الشك معنيين:

الأول: انتفاء الشك في مطابقة الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي.

الثاني: انتفاء الشك في الحكم الواقعي.

فإن كان المراد المعنى الأول، حيث يقطع بعدم مطابقة الحكم الظاهري للحكم الواقعي، فإنّ الإباحة قطعاً مخالفة للحكم الواقعي، وهي منفية في صقع الواقع، فالجواب عنه: إنّ أدلة الإباحة لم تقيد باحتمال الحلية(1)، ولا دليل على القيد(2)، فحتى لو كانت الإباحة منفية قطعاً كان للشارع أن يجعلها، ولا مانع منه لا عقلاً ولا نقلاً.

وإن كان المراد المعنى الثاني، فنحن نعلم بالوجدان أنّ الشك في الحكم الواقعي موجود، حيث لا يعلم حكم فعل دفن الكافر، هذا مع أنّ كلمات الأعلام صريحة في المعنى الثاني، وهو موضوع بحث المحقق النائيني، حيث قال: «فإن الحكم الظاهري إنما يكون في مورد الجهل بالحكم الواقعي»(3) فليس محل النقض والإبرام العلم بعدم الإباحة الظاهرية، بل الجهل بالحكم الواقعي، وهو متحقق كما ذكره المحقق العراقي، فالإشكال الأول غير وارد.

ص: 155


1- فقد قال المولى: «كل شيء لك حلال» ولم يقل كل شيء يحتمل حليته فهو حلال.
2- هذا مع غض النظر عن الانصراف الذي ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) .
3- فوائد الأصول 3: 445.

الثاني: سلمنا أنه لا محذور بلحاظ اليقين والشك، لكن يرد المحذور بلحاظ المتيقن والمشكوك؛ لاجتماع الوجوب والحرمة في فعل دفن الكافر على فرض وجوبه ثبوتاً، ولو كان تركه واجباً ثبوتاً لاجتمعت الإباحة والوجوب في تركه، وهو محال، فلا يعقل أن يكون الشيء الواحد مركباً للحكمين المتضادين.

والجواب عنه: بما يلتزم به في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي. وإن أشكل بالنقض عليه باستلزامه القول بجواز ارتكاب الإناءين المعلوم إجمالاً نجاسة أحدهما.

فالجواب عنه بالفرق بين المقامين، وذلك لتنجز الحكم الواقعي فيهما، فلا يمكن الإذن بالاقتحام؛ لاستلزامه التناقض القطعي أو الاحتمالي، ولا يمكن اجتماع حكمين فعليين، لا قطعاً ولا احتمالاً، بخلاف المقام، حيث لم يتنجز الحكم الواقعي حتى مع العلم الإجمالي؛ لأنه ليس قابلاً للموافقة القطعية والمخالفة القطعية، وما كان كذلك لا يتنجز فيبقى في مرحة الاقتضاء أو الإنشاء، ويمكن اجتماع حكم فعلي ظاهري مع حكم اقتضائي أو انشائي.

وعلى أي حال لم يظهر لنا أي إشكال فني على كلام المحقق العراقي، إلا ما ذكره الشيخ الأعظم إثباتاً من انصراف أدلة الإباحة عن الدوران بين المحذورين، ولو نوقش فيه لكان كلامه مطابقاً للقواعد.

ولا يخفى أنّ مآل الخلاف بين المحقق النائيني والمحقق العراقي في المقام يعود إلى تعيين مفاد أصالة الإباحة.

فإنّ ظاهر كلمات الأول هو أنّ مفاد أصالة الإباحة عدم لزوم الفعل

ص: 156

والترك مجتمعاً، وبعبارة أخرى: مساواة كل من الفعل و الترك، وهذا المعنى مناقض للعلم الإجمالي للعلم بلزوم أحدهماً والموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية. وبعبارة أخرى: نعلم إجمالاً بعدم مساواة الفعل والترك، فكيف يمكن للشارع أن يحكم بالمساواة. وعليه لم تحفظ رتبة الحكم الظاهري.

وظاهر كلمات الثاني: هو أنّ مفادها عدم لزوم الفعل والترك منفرداً، فالفعل مباح، أي غير لازم، وكذا الترك، وعليه فالفعل منفرداً مشكوك الحكم وكذا الترك، فتحفظ المرتبة مع العلم الإجمالي.

وقد ذكر المحقق العراقي في مطاوي عباراته ما قد يكون كالبرهان لما اختاره، حيث قال: «مفادها إنما هو عدم لزوم كل منهما منفرداً بعنوان تفصيلي مشكوك، كما في سائر الأصول كالاستصحاب وحديث الرفع»(1).

فالمجرى في (لا تنقض) هو الفعل منفرداً وكذا الترك، لا مجتمعاً، وكذلك في (رفع ما لا يعلمون) فإنّ الفعل المشكوك يجري فيه الرفع وكذا الترك، لا أنّ مجموع الفعل والترك مشكوك، ووزان أصالة الإباحة وزان سائر الأصول الترخيصية، فكما أنّ سائر الأصول تجري في كل من الطرفين منفرداً كذلك أصالة الإباحة.

وفي المقام إشكالات أخر نذكرها في القول الرابع إن شاء اللّه تعالى.

القول الرابع: جريان أصالة البراءة العقلية والنقلية

ويشترك هذا القول مع سابقه بمشتركات، ويمتاز عنه بمميزات.

مثلاً: في جريان أصالة الإباحة يمكن القول بعدم انحفاظ رتبة الحكم

ص: 157


1- نهاية الأفكار 3: 294.

الظاهري على تقرير المحقق النائيني، أما في جريان أصالة البراءة فموضوع الحكم الظاهري محفوظ، حيث يشك في دفن الكافر، فتجري البراءة، وكذا في حرمته.

كما أنه في القول الثالث يمكن دعوى اختصاص أصالة الإباحة بالشبهات الموضوعية، وأما أصالة البراءة فتشمل الشبهات الحكمية أيضاً.

ويدل عليه العمومات والإطلاقات.

نعم، نتيجة إجراء الأصل في الطرفين العلم بمخالفة أحدهما للواقع، وهو مخالفة التزامية لا عملية، ولا إشكال فيها كما في نظائره من الحكم ببقاء نجاسة اليد، وطهارة الماء مع العلم بمخالفة أحد الأصلين للواقع، فلا منافاة بين مفاد أصالة البراءة، وبين العلم الإجمالي، وإن كان نتيجة جريانها المنافاة.

وأشكل عليه بإشكالات يشترك بعضها مع القول الثالث:

الإشكال الأول: ما اعتمد عليه المحقق العراقي، وهو: «إنه لا مجال لجريان أدلة البراءة في المقام لإثبات الترخيص في الفعل والترك؛ لاختصاص جريانها بما إذا لم يكن هناك ما يقتضي الترخيص في الفعل والترك بمناط آخر، من اضطرار ونحوه غير مناط عدم البيان، فمع فرض حصول الترخيص بحكم العقل بمناط الاضطرار والتكوين لا ينتهي الأمر إلى الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان»(1).

وقال في موضع آخر: «فلا يبقى مجال لجريان أدلة البراءة العقلية

ص: 158


1- نهاية الأفكار 3: 293.

والشرعية نظراً إلى حصول الترخيص حينئذ في الرتبة السابقة عن جريانها بحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك»(1).

وحاصله: تحصيل الحاصل، فإنّ الترخيص حاصل تكويناً، وتحصيل الترخيص الحاصل تكويناً بالتعبد الشرعي تحصيل للحاصل، بل يمكن القول بكونه من أردأ أنواعه، حيث يراد تحصيل الشيء الثابت بالوجدان بالتعبد الشرعي.

لكن يرد عليه:

أولاً: بالنقض بأصالة البراءة الجارية بمناط عدم البيان، فإنّ العقل حكم في رتبة سابقة بقبح العقاب، فيكون الترخيص الشرعي تحصيلاً للحاصل فهو لغو!

وثانياً: بالنقض بجميع المباحات كشرب الماء، حيث الاضطرار التكويني واللابدية العقلية، فإنّ المكلف إما شارب أو لا، فيكون حكم الشارع في مورد الترخيص العقلي التكويني تحصيلاً للحاصل، بل أردأ أنواعه.

وبناء على ما ذكره من الإشكال لا بد من محو حكم المباح في الفقه؛ لوجود الترخيص التكويني العقلي في مواردها جميعاً.

وثالثاً: حلا، فلا مانع من المولوية في كل مورد أمكن للمولى إعمال المولوية فيه.

وبتقرير آخر: إنّ الاضطرار التكويني نوعان: نوع: يسلب اختيار المكلف كتحيزه، فهو باعتباره جسماً ذا أبعاد يضطر تكويناً إلى التحيز، فلا يمكن

ص: 159


1- نهاية الأفكار 3: 293.

للشارع أن يعمل المولولية بأي نحو من الأنحاء بأن يقول تحيز أو لا تتحيز.

ونوع: لا يسلب الاختيار، كشرب الماء؛ لإمكان صدور الفعل بالاختيار والترك كذلك، والاضطرار بالجامع لا بخصوصية أحد الطرفين، ومعه يمكن للمولى إعمال المولوية، بأن يحكم بحرمة شرب الماء أو إباحته.

وفي المقام وإن اضطر المكلف إلى الجامع، إلا أنّ خصوص دفن الكافر اختياري وكذا تركه، فيمكن للمولى أن يجعله حراماً أو غير حرام، فلا مانع من جريان البراءة.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق النائيني، وهو: «إنّ رفع الحكم إنما يصح في المورد القابل للوضع، وذلك بجعل الاحتياط، وفيما نحن فيه لا يمكن الوضع؛ لعدم إمكان الاحتياط، فيكون رفعه أيضاً كذلك»(1).

أما الكبرى الكلية فهي: إنّ إمكان الرفع للحكم الواقعي فرع إمكان الوضع أو مقارن له، وكذلك الأمر في الحكم الظاهري، فلو أمكن وضعه أمكن رفعه كالتتن، أما لو لم يمكن وضعه فلا معنى للرفع.

أما الصغرى في المقام، فهي: إن وضع الحكم الظاهري بالاحتياط غير ممكن؛ لاستحالة الموافقة القطعية، حيث لا يتمكن المكلف من الدفن وعدمه معاً، ولو قدر فلا يكون ذلك احتياطاً، وحيث لم يمكن الوضع فالرفع أيضاً غير ممكن.

لكنه محل تأمل، فإنه إنما يتم بلحاظ الجامع المعلوم، وأما بلحاظ الحصة المشكوكة فالوضع ممكن، بأن يرجح الشارع جانب الوجوب في الدوران

ص: 160


1- أجود التقريرات 3: 410.

بين المحذورين كحكم ظاهري، أو جانب الحرمة فيكون الرفع ممكناً أيضاً، فمجرى البراءة هو الحصة المشكوكة لا الجامع المعلوم، وهو جنس الإلزام، حيث لا يراد رفع جنس الإلزام، بل يراد رفع الحكم الواقعي المشكوك برفع ظاهري، ومنه ينقدح الكلام في الإشكال الثالث.

الإشكال الثالث: إنّ الرجوع إلى الأصول النافية مجراه الشك في التكليف، وفي المقام فالشك في المكلف به، لمعلومية جنس الإلزام، ولا يعلم تحققه في فصل الوجوب أو الحرمة، ولا تجري الأصول الترخيصية النافية في الشك فيه.

والجواب عنه: أنه لا أثر لهذا العلم بالتكليف ولا محذور في جريان الأصول الترخيصية النافية في مثله.

وبعبارة أخرى: الأصول الترخيصية النافية لا تجري بلحاظ الجامع، وإنما بلحاظ كل واحد من الطرفين.

إن قلت: فلماذا لا تجري الأصول في مثال الإناءين المشتبهين؟

قلت: ذلك لوجود الأثر في العلم الإجمالي بالجامع، فإنّ جريانها في الطرفين يؤدي إلى مخالفة عملية للمعلوم بالإجمال، أما جريان الأصول النافية في المقام فلا محذور فيه.

الإشكال الرابع: ما اعتمد عليه في المنتقى(1) لنفي جريان البراءة في المقام، وكلامه عند التحليل مركب من مقدمتين:

الأولى: إنّ الحكم بالبراءة إنما هو بلحاظ جهة التأمين من الواقع

ص: 161


1- منتقى الأصول 5: 25.

المحتمل، فلو لم يكن واقع محتمل لم يكن للتأمين والتعذير معنى.

الثانية: في مقام الدوران بين المحذورين لا واقع محتمل، فلا يصح التأمين عنه، بأدلة البراءة الشرعية، والدليل عليه «لأنّ الحكم يتقوم بإمكان الداعوية أو اقتضاء الداعوية، ولا يمكن داعوية كل من الوجوب والحرمة إلى متعلقه مع تساوي احتمالهما، ولا اقتضاء في كل منهما للداعوية؛ فإنّ عدم الداعوية راجع إلى قصور المقتضي لا لوجود المانع، إذ اقتضاء الحكم للداعوية باعتبار العلم أو احتمال ترتب الأثر الحسن عليه، فإذا كان هذا الاحتمال مقروناً بعكسه كان المقتضي قاصراً»(1).

لكنه محل تأمل من جهات ثلاث:

الجهة الأولى: إنه خلاف الأخبار المستفيضة، بل المتواترة الدالة على وجود حكم لله في كل واقعة.

منها: الصحيحة: علي، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة»(2).

ومنها: الموثقة: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة، عن أبي المغرى، عن سماعة، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قلت له: «أكل شيء في كتاب اللّه وسنة نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو تقولون فيه؟ قال: بل كل شيء في كتاب اللّه وسنة نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(3).

ص: 162


1- منتقى الأصول 5: 26، بتصرف.
2- الكافي 1: 59.
3- مرآة العقول 1: 209.

وقد عقد الكليني في الكافي باباً لهذا المعنى ذكر فيه عشر روايات(1).

وذكر في الأصول الأصلية(2) حوالي مائة رواية.

فما صرح به في قوله: «فلا حكم واقعي أصلاً»(3)، مناف لظواهر الأخبار المتواترة.

إلا أن يقول: القاطع لا يدفع بالظاهر، وهذه الروايات ظاهرة، وعندنا برهان قاطع على عدم الحكم.

الجهة الثانية: مآل كلامه إلى أخذ العلم بالحكم في موضوعه، أي أنّ المولى جعل حكم دفن الكافر للعالم به وهم المعصومون (عليهم السلام) ، ومن علم بذلك، والجاهل لا حكم له، وهو يؤدي إلى الدور و الخلف، وما سبق من المحاذير الأخرى.

الجهة الثالثة: إن كان مراده من: «أنّ حقيقة الحكم ما يقتضي الداعوية»(4) بلحاظ فعل المولى فالاقتضاء تام؛ لتمامية الإنشاء والتبليغ، وإنما اختفى الحكم على إثر إخفاء الظالمين مثلاً، فالاقتضاء بلحاظ فعل المولى تام.

وإن كان مراده الاقتضاء بلحاظ فعل العبد، بأن يقتضي بعثه وانبعاثه ودعوته، فينقض بالجاهل الغافل والمركب، فإنّ الحكم الواقعي لا اقتضاء له للداعوية، حيث يستحيل أن يقتضي التحريك فيهما، فلا بد من الالتزام بعدم الحكم بالنسبة إليهما. وكذلك النائم، حيث لا اقتضاء للداعوية في أمره

ص: 163


1- الكافي 1: 59-62.
2- الأصول الأصلية: 273-283.
3- منتقى الأصول 5: 26.
4- منتقى الأصول 5: 26.

بصلاة الصبح مثلاً، فهل يقال بعدم وجود التكليف له؟

إن قلت: اقتضاؤه بلحاظ القضاء.

قلت: فإن مات في نومه ولم يلتفت الورثة إلى وجود التكليف الواقعي، فلا يمكن الداعوية أصلاً، لا للنائم ولا لوليه.

الإشكال الخامس: دعوى انصراف أدلة البراءة عما علم فيه بالجامع، فظاهرها الشبهات البدوية، أما ما يعلم أنه واجب أو حرام فالرفع منصرف عنه.

وعهدة الانصراف على مدعيه.

ولو بطلت الأقوال الأربعة وصل الأمر إلى القول الخامس، وهو: عدم وجود حكم ظاهري أصلاً، وهو مختار المحقق النائيني.

تنبيه:

تختص المباحث السابقة في الدوران بين الوجوب والتحريم، باتحاد الواقعة المشكوكة، كما لو لم يعلم المكلف أنه حلف أن يؤدي الفعل الكذائي في هذه الليلة أو يتركه، ولكن البحث فيما لو دار الأمر بين الوجوب والتحريم في واقعتين أو وقائع متعددة، كما لو نذر الفعل والترك في كل ليلة جمعة، والشك في الأحكام الكلية من هذا القبيل، فلو شك في وجوب صلاة الجمعة أو حرمتها، فأمر كل فرد فرد من صلاة الجمعة دائر بين الوجوب والتحريم، وكذا في دفن الكافر أو القتل في المرة الثانية، فما هو الحكم في دوران الأمر بين المحذورين في الوقائع المتعددة والأفراد الطولية؟

لا إشكال في جريان الوجوه والاحتمالات السابقة بلحاظ الواقعة الأولى، وأما الوقائع اللاحقة فهل التخيير فيها بدوي أو استمراري؟

ص: 164

اختار جمع من المحققين كالأنصاري والنائيني والإصفهاني أنّ التخيير استمراري، فالمكلف مخير بين الفعل والترك في كل واقعة.

ولتوضيح سير البحث نتكلم حول هذا المبنى على مراحل:

المرحلة الأولى: قال الشيخ الأعظم: «التخيير استمراري لحكم العقل في الزمان الثاني كما حكم به في الزمان الأول»(1) فملاك الواقعة الطولية الثانية نفس ملاك الأولى، فيكون الحكم نفس الحكم.

المرحلة الثانية: لكنه محل إشكال؛ لاستلزامه المخالفة القطعية للمعلوم بالإجمال فيما لو كان اختيار المكلف مختلفاً في الواقعتين، فيعلم إجمالاً أنه إما ترك واجباً أو فعل حراماً.

ولا فرق في مخالفة العلم الإجمالي بين أن يكون دفعياً أوتدريجياً، فهو قبيح في نظر العقل، ولو في وقائع متدرجة، وقد قال الشيخ(2) بقبحه في مباحث القطع، ومثل لذلك بالتاجر الذي يعلم أنه يبتلى بمعاملة ربوية خلال الشهر، وكذا المرأة المستمرة الدم التي تعلم أنّ سبعة أيام من الشهر هي أيام الطمث، حيث لا تجوز المخالفة للعلم الإجمالي، ولا فرق بين المقامين.

المرحلة الثالثة: الإشكال على منجزية العلم الإجمالي.

وأشكل عليه في النهاية، حيث قال: «والتحقيق أنّ العلم لا ينجز إلا طرفه(3)، مع القدرة على امتثال طرفه، ومن البين أنّ هناك تكاليف متعددة

ص: 165


1- فرائد الأصول 2: 189.
2- فرائد الأصول 2: 248.
3- أي المعلوم بالإجمال.

في الوقائع المتعددة، فهناك علوم متعددة بتكاليف متعددة في الوقائع المتعددة، لا ينجز كل علم إلا ما هو طرفه في تلك الواقعة، والمفروض عدم قبول طرفه للتنجز(1)...

نعم، انتزاع طبيعي العلم من العلوم المتعددة، وطبيعي التكليف من التكاليف المتعددة... هو الموجب لهذه المغالطة»(2).

فمن المسلم أنّ العلم الإجمالي بالتكليف غير المنجز لا أثر له، بل العلم التفصيلي بالتكليف غير المنجز لا أثر له، فلا بد أن يكون العلم الإجمالي بالتكليف المنجز منجزاً.

مثلاً: في باب الاضطرار، من اضطر إلى أحد طرفي العلم الإجمالي، كاقتحام أحد الإناءين النجسين اضطراراً، فهو يعلم بالتكليف الواقعي إجمالاً، ولكن لا أثر له؛ لأنّ الاضطرار رافع للتكليف.

وحاصل كلام النهاية حسب الانطباع عن عبارته: إنّ العلم الإجمالي في الواقعة الأولى غير منجز؛ و ذلك لعدم إمكان الموافقة القطعية، وكذلك الأمر في الواقعة الثانية، فلا يوجد في المقام إلا مجموعة من العلوم الإجمالية المتدرجة وكلها غير منجزة، فتجمع في عبارة واحدة وهي (دفن الكافر إما واجب أو حرام) فلو اختلف اختيار المكلف في الوقائع المتعددة علم إجمالاً بمخالفة الجامع، وليس الجامع شيئاً سوى أفراده، حيث إنّ الأفراد غير منجزة فالجامع غير منجز، فالمكلف خالف علماً إجمالياً غير منجز.

والحاصل: إنه لا أثر للعلم الإجمالي في المقام، فيكون التخيير استمرارياً.

ص: 166


1- لاستحالة موافقته القطعية وكذا مخالفته.
2- نهاية الدراية 4: 566.

المرحلة الرابعة: الإشكال على ما في النهاية، حيث يرد عليه إشكالان:

الإشكال الأول: نسلم أنه لا أثر للعلم الإجمالي في كل واقعة، وأنّ مجموع العلوم الإجمالية غير المنجزة غير منجز، إلا أنه يوجد في المقام علمان إجماليان آخران، غير العلم الإجمالي بوجوب دفن الكافر أو حرمته، وهما حاصلان من ضم إحدى الواقعتين إلى الأخرى، ويمكن التعبير عنهما بالعلم الإجمالي التلفيقي، وهما:

1- العلم الإجمالي التلفيقي الأول وهو العلم بوجوب دفن الكافر في الواقعة الأولى، أو حرمته في الواقعة الثانية، ففي امتثال التكليف المعلوم بالإجمال مرحلتان: وجوب الموافقة القطعية، وحرمة المخالفة القطعية، والأول غير ممكن بخلاف الثاني، بأن يدفن الكافر في إحدى الواقعتين، ويتركه في الواقعة الثانية، سواء تقدم الفعل أم تأخر، وهذه المخالفة القطعية محرمة، فلا بد أن يكون التخيير ابتدائياً، وإلا فإنّ التخيير الاستمراري يوجب المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال.

2- العلم الإجمالي التلفيقي الثاني وهو العلم بحرمة دفن الكافر في الواقعة الأولى، أو وجوبه في الواقعة الثانية، والكلام فيه كالأول.

والحاصل: إنّ التخيير الاستمراري سبب للمخالفة القطعية لهذين العلمين الإجماليين التلفيقيين.

الإشكال الثاني: لا نسلّم عدم منجزية العلم الإجمالي البسيط، فإنّ عدم المنجزية إما معلول للقصور في المقتضي، أو معلول لوجود المانع، والمقتضي في المقام تام الاقتضاء، حيث يعلم بالتكليف الإلزامي، فيكون

ص: 167

القصور من ناحية المكلف، حيث لا يمكنه الموافقة القطعية والمخالفة القطعية، فيتنزل إلى الموافقة الاحتمالية أو المخالفة الاحتمالية، و مع ارتفاع المانع يتنجز العلم الإجمالي، والمانع من التنجيز في الواقعة الواحدة متحقق؛ لعدم إمكان الموافقة القطعية والمخالفة القطعية، أما في الوقائع المتعددة، وإن لم يمكن الموافقة القطعية، لكن المخالفة القطعية ممكنة فتحرم.

فتحصل أنّ العلم الإجمالي البسيط الأول، أو العلمين الإجماليين التلفيقيين الثاني والثالث، منجزان للتكليف، ومقتضاه التخيير الابتدائي.

المرحلة الخامسة: الإشكال على تنجيز العلم الإجمالي.

ويشكل عليه بأنّ أمر المكلف في المقام دائر بين اثنين، كل واحد منهما لازم بحكم العقل:

الأول: ترك المخالفة القطعية، وهو لازم بحكم العقل قطعاً.

الثاني: تحصيل الموافقة القطعية، وهو لازم كذلك.

ويتضح التفكيك بينهما في الإناءين المشتبهين، حيث إنه لو شرب أحدهما ترك الموافقة القطعية، ولو تركهما حصلت الموافقة القطعية.

والأول يحصل بالتخيير البدوي، والثاني يحصل بالتخيير الاستمراري، وتحصيل كل واحد منهما تفويت للآخر، ولا دليل على رجحان تحصيل أحد الواجبين العقليين على الآخر. فيكون المكلف مخيراً بين التخيير الابتدائي، والتخيير الاستمراري.

وتوضيحه: توجد للمكلف حالات ثلاث:

الأولى والثانية: أن يفعل الاثنين أو يترك الاثنين، وهو معنى التخيير

ص: 168

الابتدائي. وفي هاتين الحالتين تحصل الموافقة الاحتمالية للتكليف الواقعي، وكذا المخالفة الاحتمالية، ومعنى ذلك أنّ المكلف ترك اللازم الثاني، وهو تحصيل الموافقة القطيعة لتكليف المولى، حيث لا يعلم المكلف أنه هل وافق تكليفه أم لا، وتحصيل الموافقة القطعية لازم.

الثالثة: التخالف في الاختيار، بأن يفعل ويترك في واقعتين، و معنى ذلك تحصيل المكلف لللازم الثاني، حيث أحرز الموافقة القطيعة للمولى، وإن كان ذلك مقروناً مع المخالفة القطيعة.

وعليه، لو اختار التخيير الابتدائي، ودفن الكافر، أو لم يدفنه دائماً ترك الواجب الثاني، وهو تحصيل الموافقة القطعية، وإن اختار التخيير الاستمراري ترك الواجب الأول، وهو ترك المخالفة القطعية. فأمر المكلف دائر بين ترك الموافقة القطيعة، وتحصيل الموفقة القطيعة، ولا دليل على رجحان أحدهما على الآخر، بل قال السيد الوالد (رحمه اللّه) (1): يلزم التخالف في الانتخاب، وعلله ب- «تحصيلاً للقطع بالموافقة في الجملة، وإن قطع بالمخالفة كذلك، فإنه مقدم على الاحتمالية(2) عقلاً وشرعاً»، ومراده من قوله: «شرعاً» درهما الودعي.

والحاصل: إنّ مفاد هذه المرحلة إما التخيير؛ لعدم تحصيل الرجحان، أو ترجيح الموافقة القطعية في الجملة على الموافقة الاحتمالية حسب قول السيد الوالد (رحمه اللّه) .

ص: 169


1- الأصول: 751.
2- أي الموافقة الاحتمالية.

المرحلة السادسة: المناقشة في تمامية المرحلة الخامسة.

وفي حكم العقل بوجوب تحصيل الموافقة القطعية، حتى لو كان مقارناً للعلم بالمخالفة القطعية تأمل، فلا يبقى إلا وجوب الطاعة، وفيه مرحلتان: الإطاعة القطعية، وهي غير ممكنة، والإطاعة الاحتمالية وهي ممكنة، وتتحقق بالتخيير الابتدائي.

فلو تم هذا التشكيك، كان التخيير ابتدائياً، وإلا فمقتضى الاستصحاب بقاء التخيير، وإن أشكل فيه فهو مقتضى البراءة أيضاً، حيث يشك في الواقعة الثانية في وجوب اختيار ما اختاره في الواقعة الأولى.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل(1).

المقام الثاني: دوران الأمر بين الحكمين التعبديين

اشارة

وأما المقام الثاني: فهو أن يكون أحد الحكمين المحتملين أو كلاهما تعبدياً، فلا يسقط الأمر به إلا مع قصد التقرب، أو الإضافة إلى المولى، كما لو شك أنّ الصلاة على المسلم غير المؤمن واجب تعبدي، أو تركه واجب توصلي، فالأمر دائر بين وجوب الفعل على نحو الوجوب التعبدي، أو وجوب الترك على نحو الوجوب التوصلي.

وقد يتصور ذلك في الشبهات الموضوعية، كأن يشك أنّ هذا الميت مسلم أو كافر، من دون وجود أمارة على تعيين أحد الطرفين، فيشك في وجوب تغسيله على نحو الوجوب التعبدي، أو وجوب تركه على نحو الوجوب التوصلي.

ص: 170


1- وهو أن يكون كلا الحكمين المحتملين توصلياً.

والحكم في هذا المقام هو حرمة المخالفة القطعية، وعدم وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال؛ وذلك لأنّ للعقل حكمين، وهما: حرمة المخالفة القطعية، ووجوب الموافقة القطعية، وهما موقوفان على إمكان المتعلق، ولا معنى لحكم العقل أو الشرع مع عدمه.

وعليه في إمكان متعلق حكم العقل وعدمه أربع صور، وهي:

الأولى: إمكان الموافقة القطعية والمخالفة القطعية للحكم المعلوم بالإجمال، فيحكم العقل بوجوب الأول وحرمة الثاني، كما في الإناءين المشتبهين، حيث يحكم العقل بحرمة شربهما، فتكون المخالفة القطعية محرمة، كما يحكم بحرمة شرب أحدهما، فتكون الموافقة القطعية واجبة.

الثانية: عدم إمكان الموافقة القطعية والمخالفة القطعية، فلا معنى لحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية؛ لعدم إمكان المتعلق، كما في المقام الأول، حيث يشك في وجوب دفن الكافر وحرمته.

الثالثة: إمكان الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، وعدم إمكان المخالفة القطعية، فيحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية، ولا يحكم بحرمة المخالفة القطعية، حيث لا معنى للحرمة غير المقدورة، كما لو علم إجمالاً بحرمة أحد الضدين اللذين لهما ثالث، كالعلم بحرمة القيام أو الجلوس في وقت محدد، حيث يمكنه الموافقة القطعية بالنوم، و أما المخالفة القطعية فغير ممكنة؛ لاستحالة الجمع بين الضدين.

الرابعة: إمكان المخالفة القطعية، وعدم إمكان الموافقة القطعية، كما لو علم بوجوب أحد الضدين اللذين لهما ثالث، كالعلم بوجوب صبغ الجدار

ص: 171

باللون الأبيض أو الأخضر، فلو صبغه بالأحمر حصلت المخالفة القطعية، وأما الموافقة القطعية فغير ممكنة؛ لاستحالة الجمع بين الضدين.

والحاصل: إنّ حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية موقوف على إمكان المتعلق، فإن كان ممكناً في الطرفين حكم العقل بالوجوب والتحريم، وإن كان ممكناً في أحدهما دون الآخر حكم العقل به دونه.

وفيما نحن فيه فالموافقة القطعية غير ممكنة؛ للعلم بأن تغسيل غير المؤمن إما واجب تعبدي، أو ترك التغسيل واجب توصلي، فلا يمكن للمكلف أن يفعل شيئاً يقطع بالموافقة للتكليف المعلوم بالإجمال، فلا يحكم العقل بلحاظه، ويكون المكلف مخيراً بين التغسيل برجاء المطلوبية أو الترك، أما المخالفة القطعية فممكنة، بأن يغسل الميت من دون إضافته إلى المولى، فهو مخالفة قطعية للتكليف المعلوم بالإجمال؛ لأنه إن كان تغسيل الميت واجباً تعبدياً فلم يأت به بقصد القربة، وإن كان الترك واجباً توصلياً فلم يتركه، فحصلت المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، فيكون الحكم في المقام الثاني هو حرمة المخالفة القطعية، بأن يختار الشق الثالث وعدم وجوب الموافقة القطعية، بل هو مخير بين الفعل والترك.

مثال آخر: لو لم يعلم أنّ الميت مسلم، فتجب الصلاة عليه وجوباً تعبدياً، أو كافر فتحرم الصلاة عليه حرمة توصلية؛ لأنّ ترك الصلاة لا يحتاج إلى قصد القربة، فلو صلى عليه من دون قصد القربة حصلت المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال.

ص: 172

مثال ثالث: لو حلف إما أن يأكل شيئاً مع قصد القربة، أو يترك على نحو الإطلاق، فالأمر دائر بين وجوب الفعل التعبدي، أو وجوب الترك التوصلي، فلو أكل بلا قصد القربة خالف مخالفة قطعية للتكليف المعلوم بالإجمال.

وللمحقق العراقي في المقام كلام حاصله: إنّ الحكم في المقام مبني على المختار في باب منجزية العلم الإجمالي مع الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه، فلو كان منجزاً بعد طروء الاضطرار فلا بد من كونه منجزاً في المقام أيضاً، فتحرم المخالفة القطعية، وأما لو لم يكن منجزاً بعد طروء الاضطرار فلا يكون منجزاً في المقام أيضاً.

ومن ذلك يظهر الإشكال على صاحب الكفاية بالتناقض، حيث فكك بين المقامين، فحكم بمنجزية العلم الإجمالي بلحاظ حرمة المخالفة القطعية في المقام، بخلاف مقام الاضطرار إلى أحد الأطراف بعينه(1).

قال: «بعد التمكن من المخالفة القطعية... يدخل في مسألة الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الإجمالي، لا على التعيين في الشبهة المحصورة، وبناء على المختار في تلك المسألة من لزوم مراعاة العلم الإجمالي بقدر الإمكان

ص: 173


1- فلو سقطت قطرة الدم في أحد الإناءين واضطر المكلف إلى شرب أحدهما لا بعينه، أذن له المولى في الشرب، وبعد ذلك يحق له شرب الثاني أيضاً؛ لسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بالمرة، بخلاف المقام، حيث لا يمكنه أن يختار الشق الثالث؛ لبقاء التنجز على مبنى صاحب الكفاية، والإشكال عليه أن المقام من صغريات الاضطرار؛ لأن المكلف مضطر تكويناً إلى أحد الطرفين لا بعينه؛ لأنه إما أن يأكل بقصد القربة أو أن يترك بلا قصد القربة كما في المثال، فيسقط العلم الإجمالي عن التنجيز، فلا إشكال في المخالفة القطعية (منه (رحمه اللّه) ).

وعن إلغائه رأساً لا بد في المقام، إما من الترك رأساً وإما من الإتيان بها عن قصد قربي، ولا يجوز ترك كلا الأمرين رأساً. نعم، على مختار صاحب الكفاية في مسألة الاضطرار المزبور(1) لا بأس بإلغاء العلم الإجمالي(2)، والاقتحام في مخالفة كلا الأمرين، ولكن من العجب التزامه في المقام بوجوب رعاية العلم الإجمالي بقدر الإمكان وعدم جواز المخالفة القطعية على خلاف مختاره في تلك المسألة»(3).

والحاصل: إنّ حرمة المخالفة القطعية في المقام الثاني من مسألة دوران الأمر بين المحذورين، وعدم الحرمة مبني على لزوم أو عدم لزوم مراعاة العلم الإجمالي في مسألة الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه في الشبهة المحصورة، فلو كان المبنى لزوم مراعاة العلم الإجمالي بالقدر الممكن، فلا بد من القول بحرمة المخالفة القطعية في مقام الدوران، وأما لو كان المبنى عدم لزوم المراعاة فلا، وتبعه السيد الروحاني(4).

لكن الظاهر عدم تمامية الإشكال، ويبدو للنظر أنه لا ربط بين المقامين، حيث يمكن القول بعدم لزوم مراعاة العلم الإجمالي في باب الاضطرار، مع القول بحرمة المخالفة القطعية في باب الدوران، فيتم ما ذكره صاحب الكفاية؛ وذلك لإمكان دعوى وجود الفارق بين المقامين.

ص: 174


1- وهو سقوط العلم الإجمالي من المنجزية بالمرة في صورة الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه.
2- في مقام الدوران بين المحذورين.
3- نهاية الأفكار 3: 297.
4- منتقى الأصول 5: 36.

فإنّ المقام وإن كان من صغريات الاضطرار، إلا أنّ هنالك فرقاً بينهما، والفارق هو أنّ العلم الإجمالي متحقق في المقام، غاية الأمر أنه من جهة دون جهة، وأما في باب الاضطرار فلا علم إجمالي بالتكليف، فهنا دعويان:

الدعوى الأولى: إنّ العلم الإجمالي بالتكليف ثابت، ولو من جهة في المقام، وقد ظهر وجه ذلك من المسائل السابقة، فكل علم إجمالي مستتبع لحكمين عقليين: هما وجوب الموافقة القطعية، وحرمة المخالفة القطعية، والأول متعذر في المقام، أما المخالفة القطعية فممكنة، فتحرم بحكم العقل، كما في المثال المذكور، فإنه لو أكل من دون قصد القربة وقع في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال قطعاً؛ لأنّ أكله إما واجب تعبدي، أو تركه واجب توصلي، فمع الإتيان به بلا قصد القربة خالف يمينه قطعاً.

الدعوى الثانية(1): عدم وجود العلم الإجمالي بالتكليف في مسألة الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه؛ لاحتمال كون الخطاب متعلقاً بالطرف المختار، فلا خطاب في الطرف الآخر، ومع الشك تجري البراءة فيه.

مثلاً: لو كان هنالك إناءان: أبيض وأحمر، واضطر إلى شرب أحدهما لا على التعيين، وحصل العلم الإجمالي بسقوط الدم في أحدهما، وفرضنا أنّ المكلف اختار شرب الإناء الأبيض، فيوجد في الإناء الأحمر احتمالان في عالم الثبوت: أن لا يكون فيه خطاب لسقوط الدم في الأبيض، أو يكون فيه خطاب لسقوط الدم فيه، فيدور الأمر في الإناء الأحمر بين تعلق الخطاب وعدمه، فتجري البراءة؛ لكونه شكاً في التكليف. هذا مع قطع النظر عن

ص: 175


1- على نحو الإمكان لا التبني (منه (رحمه اللّه) ).

العوارض الخارجية.

فيحق لصاحب الكفاية أن يذهب في مقام الاضطرار إلى عدم وجوب مراعاة العلم الإجمالي، فيشرب الإناءين، أما في المقام، حيث يعلم بالتكليف، ولو من جهة دون جهة، فتحرم المخالفة القطعية باختيار الشق الثالث.

فتفرع حكم الاضطرار في المقام على حكم الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه في مسألة دوران الأمر بين المتباينين، كما ذكره المحقق العراقي محل تأمل، لإمكان دعوى وجود الفارق بينهما.

لكن لصاحب الكفاية عبارة في مسألة الدوران بين المتباينين، قد يرد عليها الإشكال المذكور(1)، فيما لو أراد ظاهرها، قال: «لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة مخالفتها، ضرورة أنّ التكليف المعلوم إجمالاً لو كان فعلياً لوجب موافقته قطعاً، وإلا لم يحرم مخالفته كذلك أيضاً»(2).

ويمكن بيانه ضمن أربعة أمور:

الأول: إنّ العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية.

الثاني: إنّ المعلول في مقام الدوران بين المحذورين ساقط؛ لأنّ الموافقة القطعية غير ممكنة.

ص: 176


1- التفكيك بين مسألة الدوران بين المتباينين، والدوران بين المحذورين، كما ذكره المحقق العراقي.
2- كفاية الأصول: 359.

الثالث: إنه يستحيل سقوط المعلول من دون سقوط العلة، فإنّ سقوطه كاشف إني عن سقوطها.

الرابع: مع سقوط العلة لا وجه لحرمة المخالفة القطعية.

فلا يمكن التفكيك بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية؛ لأنّ حرمة المخالفة القطعية معلول لفعلية التكليف، ومعها كما تحرم مخالفته القطعية بشرب الإناءين تجب موافقته القطعية بعدم شرب أي منهما، ولو ثبت عدم وجوب الموافقة القطعية في مورد، فلا يمكن القول بحرمة المخالفة القطعية أيضاً.

والحاصل: إنّ ظاهر عبارة الكفاية(1)

هو التلازم بين الوجوب والحرمة، وحيث إنّ الموافقة القطعية غير لازمة؛ لعدم إمكانها في المقام، فلا تحرم المخالفة القطعية حسب ظاهر كلامه، فيشكل عليه لتفكيكه بين الأمرين في مقام الدوران بين المحذورين مع ذهابه إلى التلازم.

إلا أنّ أصل المبنى محل تأمل؛ لإمكان دعوى تبعض العلية، حيث يمكن أن تكون العلة علة لمعلولين، فيمنع مانع عن تأثيرها في أحد معلوليها دون الثاني(2)، وهنا التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال علة لوجوب الموافقة القطعية، وحرمة المخالفة القطعية، لكن محذور التعذر يمنع من تأثيره في الأول دون الثاني.

ص: 177


1- ليس في مقام البحث، بل في مقام آخر.
2- ويمثل لذلك للتقريب بالنار، فهي علة للإنارة والحرارة، فلو كان هنالك مانع من الإنارة - كما في نار جهنم حيث لا إنارة فيها على المعروف - فيبقى تأثيرها في المعلول الثاني من دون مانع (منه (رحمه اللّه) ).

فالمختار في المقام - ظاهراً - عدم وجوب الموافقة القطعية، وحرمة المخالفة القطعية.

ويبقى الكلام في كون التخيير في هذا المقام استمرارياً أو بدوياً؟ ويعلم الحال فيه مما تقدم في المقام الأول.

وهنا فرعان:

الفرع الأول: دوران الأمر بين المحذورين في الواجبات الضمنية
اشارة

وتوضيحه: توجد في الواجبات الضمنية صورتان:

الأولى: قد يدور الأمر بين الوجوب وغير الحرمة، وهذه الصورة خارجة عن الدوران بين المحذورين، فإنّ الاحتياط ممكن بالتكرار في ضمن العمل الواحد، كما لو شك في ظهر الجمعة بين وجوب الجهر والإخفات، فيأتي المكلف بهما، وينوي امتثال الأمر الواقعي بأحدهما، والقربة المطلقة بالثاني، حيث لا محذور في قراءة القرآن في الصلاة، فأمر الجهر دائر بين الوجوب وغير الحرمة، وكذا الإخفات.

ويبدو في بادئ النظر أنّ هذا النحو من الدوران خارج موضوعاً عن محل البحث.

الثانية: أن يدور الأمر في العبادات الضمنية بين الوجوب والحرمة، أو بين الشرطية والمانعية، أو بين الجزئية والقاطعية.

مثاله: الظن بإتيان الفعل وهو في المحل(1)، كما لو كان واقفاً في الصلاة وظن أنه ركع، فهل حكمه حكم الظن بالركعات، فيبني على الإتيان به، أو

ص: 178


1- العروة الوثقى 3: 251.

له حكم الشك فيلزم الإتيان به، فيدور أمر الركوع بين الوجوب والحرمة.

ذهب الشيخ الأعظم إلى أنّ الحكم في المقام هو التخيير، لكون ما نحن فيه صغرى من صغريات الدوران بين المحذورين، ولا فارق في ذلك بين الوجوب الاستقلالي أو الضمني.

ثم قال: «والتحقيق أنه إن قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشك في الشرطية والجزئية، وعدم حرمة المخالفة القطعية للواقع إذا لم تكن عملية فالأقوى التخيير هنا»(1).

لكنّه محل تأمل؛ لأنّ عدم تنجز التكليف المعلوم بالإجمال موقوف على عدم إمكان الموافقة القطعية، وعدم إمكان المخالفة القطعية، وهذا الملاك متحقق في العلم الإجمالي بالجزئية أو القاطعية، حيث نعلم إجمالاً أنّ هذا الفعل إما مانع أو شرط، وإما جزء أو قاطع، والموافقة القطعية غير ممكنة، وكذلك المخالفة القطعية؛ لأنه إما يركع أو لا، وعلى كل تقدير تكون الموافقة والمخالفة احتمالية.

وكأن الشيخ قصر النظر على هذا العلم الإجمالي، فبلحاظه لا أثر للعلم الإجمالي، لكن هنالك علم إجمالي ثانٍ، وهو العلم بتعلق الإلزام الشرعي الواقعي إما بالواجد وإما بالفاقد، فلو كان الركوع جزءاً تعلق التكليف بالطبيعة الواجدة، ولو كان قاطعاً تعلق بالطبيعة الفاقدة، والدوران بين الواجد والفاقد نوع من أنواع الدوران بين المتباينين؛ لأنّ الطبيعة الواجدة بمعنى كونه بشرط شيء، والطبيعة الفاقدة بمعنى بشرط لا، فيكون أمر المكلف

ص: 179


1- فرائد الأصول 2: 402.

دائراً بين المتباينين، ووظيفة المكلف هو الاحتياط بلحاظ هذا العلم الإجمالي، لإمكان الموافقة القطعية والمخالفة القطعية، فيكون منجزاً.

وللموافقة القطعية في المثال نحوان: أن يرفع اليد عن هذه الصلاة ويعيدها، لكنه مبني على عدم حرمة قطع الفريضة، إما مطلقاً أو في خصوص المقام، وإما مع القول بحرمة قطعها مطلقاً، فيتخير بين إتمام العمل على أحد الوجهين ثم إعادته من جديد، ولذلك أفتى صاحب العروة(1) بإتمام العمل بأحد النحوين ثم إعادة الصلاة من جديد.

تذنيب على الفرع الأول

ما ذكر من وجوب التكرار والإعادة حكم سعة الوقت، أما لو كان الوقت ضيقاً، فلا إشكال في كون المكلف مخيراً بين الإتيان بالواجد أو الفاقد بلحاظ الأداء، لكن هل يجب عليه القضاء، كأن يأتي بالواجد أداءً، ويقضي الفاقد أو بالعكس أم لا؟

والذي يبدو للنظر وجوب القضاء؛ لعلم المكلف إجمالاً بوجوب إحدى الطبيعتين، ومقتضاه الإتيان بإحداهما في الوقت، وبالأخرى خارج الوقت.

مثاله: لو لم يكن يحفظ المصلي إلا سورة العزيمة، فأمر القراءة دائر بين الجزئية أو المانعية والقاطعية، ولا سعة في الوقت لتكرار العمل(2)، فيشك في وجوبها أو حرمتها، فيأتي بإحداهما في الوقت ويقضي الأخرى.

ص: 180


1- العروة الوثقى 3: 253.
2- أما في سعة الوقت فيأتي بصلاتين، وينوي أن تكون إحداهما الصلاة الواقعية، والأخرى مقدمة علمية لامتثال التكليف الواقعي (منه (رحمه اللّه) ).

لكن اختار في المصباح عدم وجوب القضاء، وأنّ العلم الإجمالي إن كان في الوقت وجب الإتيان بالطبيعتين، أما في ضيق الوقت فيجيب الإتيان بإحداهما ولا يجب القضاء.

قال: «إذ القضاء بفرض جديد و تابع لصدق فوت الفريضة في الوقت، ولم يحرز الفوت في المقام؛ لأنّ إحرازه يتوقف على إحراز فعلية التكليف الواقعي في الوقت بالعلم الوجداني، أو الأمارة أو الأصل، وكل ذلك غير موجود في المقام، فإنّ غاية ما في المقام هو العلم الإجمالي بأحد الأمرين من الجزئية أو المانعية، وهو لا يكون منجزاً إلا بالنسبة إلى وجوب الموافقة الاحتمالية، ووجوب الأخذ بأحد المحتملين في الوقت دون المحتمل الآخر؛ لعدم إمكان الموافقة القطعية، فإذا لم يحرز التكليف بالنسبة إلى المحتمل الآخر في الوقت لم يحرز الفوت كي يجب القضاء»(1).

ويبنى ما ذكره على ثلاث مقدمات:

الأولى: إنّ وجوب القضاء تابع لصدق الفوت؛ لأنه بأمر جديد، وموضوعه عنوان الفوت.

الثانية: إنّ إحراز عنوان الفوت موقوف على إحراز فعلية التكليف الواقعي في داخل الوقت، سواء أكان بعلم وجداني أم بأمارة أم بأصل عملي.

الثالثة: عدم إحراز فعلية التكليف الواقعي بإحدى الطرق الثلاثة، فإنّ الموافقة القطعية للعلم الإجمالي بالقاطعية أو الجزئية غير ممكنة، فيأمر الشارع بالموافقة الاحتمالية، وقد تحققت بالإتيان بأحد الفردين، فلم يفت

ص: 181


1- مصباح الأصول 2: 338.

شيء حتى يجب القضاء.

وبعبارة أخرى: لا أمر بالموافقة القطعية لعدم إمكانها، وقد امتثل الأمر بالموافقة الاحتمالية، فلم يفته شيء حتى يجب القضاء.

وظاهره متين، ولكن يمكن أن يورد عليه بوجوه ثلاثة:

الأول: ما ذكره مبني على كون القضاء بأمر جديد، و أما لو كان وجوب القضاء بنفس الأمر الأول فلا؛ و ذلك لتولد التكليف الواقعي في متن الواقع، إما بالطبيعة الواجدة، أو بالطبيعة الفاقدة، والامتثال القطعي مقدور، إما بالأداء أو بالقضاء، فتجب الموافقة القطعية، ولا يغني الإتيان بإحدى الطبيعتين في الوقت؛ لبقاء الشك في امتثال الأمر الواقعي، ومقتضى (لا تنقض) أو قاعدة الاشتغال(1) بقاء التكليف الواقعي، فيجب الإتيان بالفرد الآخر خارج الوقت.

لكنه إشكال مبنائي فلا يصلح للرد.

إن قلت: قاعدة الحيلولة تنفي وجوب القضاء.

قلت: إنما تجري القاعدة فيما لو كان الشك خارج الوقت، والشك في المقام في داخله، وليس ذلك مجرى القاعدة، كما لو صلى إلى أحد الأطراف ولم يعلم أنها القبلة.

الثاني: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في الأصول، حيث قال: «والقول بالعدم(2) لأنه تابع للفوت المشكوك فيه مردود، بأنه لا يعلم بإتيان الواجب

ص: 182


1- أو مقتضاهما معاً (منه (رحمه اللّه) ).
2- أي: عدم وجوب القضاء.

في الوقت»(1) فلا يعلم بامتثال التكليف الواقعي.

والظاهر أنّ مبنى الخلاف بينهما - وإن لم يصرح بهذا المعنى - هو في أنّ فعلية التكليف الواقعي منوط بإمكان الامتثال أم لا؟ فمع القول بعدم ذلك صح ما في الأصول؛ لعدم العلم بامتثال التكليف الواقعي فيجب القضاء، وأما السيد الخوئي فيذهب إلى عدم إمكان الموافقة القطعية، فلا يعقل وجود التكليف.

والظاهر أنّ القدرة على الامتثال ليست شرطاً، بل لا بد من وجود مصحح عقلائي للتكليف وإن لم يكن مقدوراً، كما في النائم بين الطلوعين، فمع أنّ الامتثال محال في حقه إلا أنه يخاطب بالصلاة؛ وذلك لوجود المصحح العقلائي، وهو صدق فوت الفريضة في حقه ليقضيها، وكذا في الجاهل بالتكليف الواقعي قصوراً، فلو قلتم بعدم ثبوت التكليف في حقه لم يجب عليه القضاء، و مع ثبوته فهو غير قادر على الامتثال في كثير من الأحيان.

وعليه فما في المصباح: من عدم إمكان الموافقة القطعية، فتنزل المولى إلى الموافقة الاحتمالية غير تام؛ لأنّ التكليف الواقعي في اللوح المحفوظ، إما متعلق بالطبيعة الواجدة أو بالطبيعة الفاقدة، ولا يتغير بإمكان الامتثال وعدمه، فمع الموافقة الاحتمالية في الوقت لم يحرز المكلف امتثال التكليف، والأصل عدم الإتيان به، وهو معنى الفوت فيجب عليه القضاء.

كما هو الحال فيمن طهرت في آخر الوقت ولا تعلم القبلة، فتصلي إلى أحد الأطراف ثم تقضي إلى سائر الأطراف، حيث تستصحب عدم الإتيان

ص: 183


1- الأصول: 750.

بالتكليف الواقعي، وهو مساوق للفوت.

إلا أن يقال: إنّ الفوت عنوان وجودي، واستصحاب عدم الإتيان بالفريضة في داخل الوقت لا يثبت العنوان الوجودي.

إلا أن يجاب بأنّ الواسطة خفية، فمن لم يأت بالفريضة في الوقت وجداناً أو تعبداً يجب عليه القضاء.

الوجه الثالث: هنالك علم إجمالي إما بوجوب الواجد في داخل الوقت، أو الفاقد خارج الوقت، أو بوجوب الفاقد داخل الوقت، أو الواجد خارج الوقت، ومقتضاه أنه إن أتى بالواجد في دخل الوقت لزم أن يأتي بالفاقد في خارجه، وإن أتى بالفاقد في داخل الوقت يأتي بالفاقد في خارجه.

والظاهر أنّ مآله إلى الجواب الثاني.

الفرع الثاني: كون التخيير العقلي ثابت حال الترجيح
اشارة

هل التخيير العقلي في موارد دوران الأمر بين المحذورين ثابت في صورة احتمال ترجيح أحدهما المعين أم لا؟

وهذا البحث مبني على مسلك التخيير العقلي في مسألة الدوران بين المحذورين.

قد وقع الخلاف بين الأعلام، حيث اختار صاحب الكفاية(1) اختصاص التخيير العقلي بصورة عدم احتمال الرجحان، وأما مع احتمال الأهمية في أحد الطرفين، فإن العقل يحكم بالتعيين، لكن المحقق النائيني(2) ذهب إلى

ص: 184


1- كفاية الأصول: 356.
2- فوائد الأصول 3: 450.

حكم العقل بالتخيير في الصورتين.

وما ذهب إليه صاحب الكفاية مبتن على تنظيرين:

التنظير الأول: تنظير احتمال الأهمية في دوران الأمر بين المحذورين باحتمال الأهمية في باب التزاحم، فلو كان هنالك غريقان لا يقدر على إنقاذهما معاً، وجب عليه ترجيح محتمل الأهمية منهما، كما ذكر في باب التزاحم، كما هو الشأن في ترجيح ما لا بدل له على ما له البدل، وترجيح المقدم زماناً، وترجيح مقطوع الأهمية، كذلك الأمر في مقام الدوران بين المحذورين، فإنّ احتمال أهمية أحد الحكمين مرجح أيضاً.

وفي المقام إشكال وهو عدم تمامية تنظير أحد المقامين بالآخر؛ لأنّ ترجيح محتمل الأهمية في باب التزاحم مبتنٍ على ملاك غير متحقق في مقام دوران الأمر بين المحذورين.

وتوضيحه: إنّ منشأ تزاحم الخطابين في مثال الغريقين هو إطلاق كل واحد من الخطابين لصورة الإتيان بمتعلق الآخر، وفي مقام التزاحم صور ثلاث:

الأولى: أن يكون المتزاحمان متساويين، فلو كان الخطاب مطلقاً وقع التزاحم، لكن لو قيدنا كل خطاب بصورة عدم الإتيان بمتعلق الآخر، بأن يقول المولى: أنقذ هذا الغريق إن لم تنقذ ذاك وبالعكس فلا تزاحم، و أما تقييد أحدهما دون الآخر فهو ترجيح بلا مرجح، فلا بد من القول بكون كل من الخطابين يقيد بعدم الإتيان بمتعلق الخطاب الآخر، فيرتفع التزاحم.

الثانية: أن يكون أحدهما مقطوع الأهمية، فيكون خطاب المهم مقيداً

ص: 185

قطعاً، وخطاب الأهم مطلقاً قطعاً، كما لو غرق شخصان يقطع بأهمية أحدهما، ككونه نبياً، فيقول المولى: أنقذ النبي وإلا فأنقذ المسلم العادي، وهو ترتب من جانب المهم، بخلاف الصورة السابقة، حيث كان الترتب من الجانبين (1).

الثالثة: - وهي محل الكلام - أن يكون أحدهما محتمل الأهمية، كأن يحتمل أنه نبي، وقد قالوا بوجوب إنقاذ محتمل الأهمية، و ذلك للعلم بكون الخطاب الثاني - الذي لا تحتمل أهميته - مقيداً قطعاً؛ لأنه إما مهم في مقابل الأهم، وإما مساوٍ في مقابل المساوي، فهو مقيد على كل تقدير، ويشك في أنّ الخطاب الأول مقيد أو مطلق، حيث إنه إن كان مساوياً كان مقيداً، وإن كان أهمَّ كان مطلقاً(2)، فيدور الأمر بين الإطلاق والتقييد في محتمل الأهمية، فتجري أصالة الإطلاق، فإنها محكمة في كل مورد يشك في تقييده.

ومن هذا التقرير يعلم أنّ توهم جريان أصالة البراءة في محتمل الأهمية للشك في الوجوب التعييني لإنقاذه غير تام؛ لأنّ رتبة أصالة البراءة بعد رتبة الأدلة الاجتهادية، ومع الإطلاق لا يمكن التمسك بها.

وما ذكر من ملاك تقديم محتمل الأهمية - أي الإطلاق - غير جار في المقام؛ لعدم وجود خطابين، بل خطاب واحد يحتمل أهمية أحدهما،

ص: 186


1- وقد مر سابقاً المثال الذي ذكره السيد الحكيم في الحقائق، كما لو قال الأب لابنه: اذهب إلى المكتب وإلا فتعال معي إلى الدكان، ولا تذهب لتلعب في الشارع (منه (رحمه اللّه) ).
2- فإن المفروض أن الخطاب الأهم مطلق ولا قيد فيه.

فالغريق إما عدو خطير للمولى، أوعبده، فإما يجب إنقاذه أو يحرم، فلا معنى للقول بأنّ أحدهما مطلق والآخر مقيد. نعم، لو كان الخطاب تحريماً كانت الحرمة مغلظة.

فما ربما يظهر من كلام صاحب الكفاية من قياس أحدهما على الآخر غير تام، فإنه فاقد للملاك المشترك، فالحكم هو التخيير بناء على التخيير في مقام الدوران بين المحذورين.

لكنه محل تأمل مبنى و بناءً:

أما مبنى، فيوكل إلى محله في مباحث التعادل والتراجيح، وقد بحثه بعض الأصوليين كالمحقق النائيني(1) في ذيل مسألة: هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده أم لا؟

وأما البناء، فقد ذكر المحقق العراقي في حاشية الفوائد ما حاصله تحقق ملاك تقديم محتمل الأهمية في المقام.

قال: «لو قيل بأنّ مناط حكم العقل بالتخيير في المقام عدم الترجيح بين الاحتمالين أمكن دعوى توقفه عند وجود المزية لأحد الطرفين، ويحكم بالأخذ بذي المزية»(2).

فإنّ العقل يحكم في مسألة دفن الكافر بالتخيير؛ لكون ترجيح أحد المحتملين بلا مرجح، واحتمال الأهمية مرجح، فلا يحكم العقل بالتخيير، وعليه لا بد من اختيار محتمل الأهمية.

ص: 187


1- فوائد الأصول 1-2: 304.
2- فوائد الأصول 3: 451.

لكن يرد عليه: إنّ الترجيح نوعان: ما نهضت عليه الحجة، وما لم تنهض عليه الحجة، والعقل يحكم بلزوم التخيير في الصورة الأولى، والمفروض عدم وجود الحجة على الترجيح.

وبعبارة أخرى: كما أنّ البراءة العقلية والنقلية تجري في الشك في أصل التكليف، مع احتمال وجود ملاك ملزم، كذلك الحال في الشك في خصوصية التكليف، وهي احتمال أهمية الملاك، حيث لم تنهض عليها الحجة.

وبعبارة أخرى: لا مانع من جريان البراءة في الأهمية التقديرية المحتملة، فلو شك أنّ الميت مسلم يجب دفنه أو كافر يحرم، ولو كان مسلماً لكان وجوب دفنه أهم من حرمة دفن الكافر فيما لو كان كافراً، فيؤمن عن احتمال الأهمية بالبراءة الشرعية والعقلية.

والمتحصل أنّ تنظير المقام بمقام التزاحم محل إشكال، لو قلنا في مقام التزاحم بلزوم تقديم محتمل الأهمية.

التنظير الثاني: إنّ المستظهر من مطاوي كلمات الكفاية أنّ احتمال الأهمية في المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير، حيث إنّ المحكم أصالة التعيين، وفي المقام الأمر دائر بين التخيير أو تعين جانب الدفن؛ لاحتمال أهمية دفن المسلم لو كان الميت المشتبه مسلماً.

لكنه محل إشكال أيضاً: لعدم جريان الملاك المذكور في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في المقام، فإنّ الملاك هو تولد التكليف في متن الواقع، وحيث يشك في سقوطه تجري قاعدة: (الاشتغال اليقيني يقتضي

ص: 188

البراءة اليقينية).

مثلاً: لوقال المولى: (كن في مكة) وكان هنالك طريقان: أحدهما يوصل إليها قطعاً، والأخر مشكوك، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير، فمع سلوك الطريق الأول يخرج المكلف عن عهدة التكليف القطعي، وأما الطريق الثاني فلا يعلم بامتثاله، فيحكم العقل بلزوم البراءة اليقينية.

مثال آخر ولا مناقشة في الأمثلة: يعلم المكلف باشتغال ذمته بتكاليف واقعية، فلو قلد الأعلم فرغت ذمته قطعاً - هذا فيما لو فرض عدم وجود إطلاق في جواز تقليد المفضول، فإنّ المفروض هو حالة الشك - وأما لو قلد غيره فيشك في فراغ الذمة، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير، فيحكم العقل بالتعيين للاشتغال اليقيني.

وهذا الملاك للتقديم غير جار في المقام، فإنّ العلم الإجمالي بوجود تكليف حول دفن الكافر غير منجز؛ لعدم إمكان موافقته القطعية ولا مخالفته، فوجود العلم والحكم كالعدم، فلا يمكن القول: إنّ الذمة اشتغلت بالتكليف المنجز، ويشك في إفراغ الذمة منه، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير، بل يحكم العقل بالتخيير، فالفارق المذكور مانع من التنظير المذكور.

فتحصل من جميع ذلك أنّ حكم صاحب الكفاية بوجوب ترجيح محتمل الأهمية في باب الدوران بين المحذورين، قياساً على ترجيح محتمل الأهمية في باب التزاحم، أو باب التعيين والتخيير محل تأمل، فلا يجب تقديم محتمل الأهمية في مقام الدوران، وإن فرض وجوب تقديم محتمل الأهمية في مقام التزاحم ودوران الأمر بين التعيين والتخيير

ص: 189

لاختلاف الملاكات.

ويستفاد من مطاوي كلمات المحقق النائيني، وإن لم يصرح به أنه لا استثناء لذلك أصلاً، حيث قال: «إنّ وجود المزية كعدمها، ولو كان المحتمل من أقوى الواجبات الشرعية»(1).

لكنه محل إشكال، فلو كان المحتمل خطيراً بنحو لو كانت الشبهة بدوية لكان الاحتياط لازماً، كالثلاثة الخطيرة، فلا تجري البراءة؛ للعلم باهتمام الشارع بها، حتى إنّ مجرد احتماله منجز للتكليف، فمقتضى القاعدة استثناء هذا المورد، ووجوب ترجيحه.

تذنيبان

الأول: الظاهر جريان المباحث السابقة في صورة العلم بالأهمية، فلا فرق بين احتمال الأهمية أو الأهمية القطعية؛ لأنّ الأهمية القطعية تقديرية، والنتيجة تابعة لأخس المقدمتين.

الثاني: جميع ما ذكرناه جار أيضاً في قوة الاحتمال، فلو كان في أحد الطرفين قوة الاحتمال، فإنّ العقل يحكم بالتخيير أيضاً.

هذا تمام الكلام في مباحث دوران الأمر بين المحذورين.

ص: 190


1- فوائد الأصول 3: 450.

فصل في مباحث الاشتغال

اشارة

ص: 191

ص: 192

فصل في مباحث الاشتغال

اشارة

ومورد الاشتغال هو العلم بالتكليف والشك في المكلف به، وله صورتان:

الأولى: أن يدور الأمر بين المتباينين، كالعلم إجمالاً بوجوب صلاة الظهر أو صلاة الجمعة.

الثانية: أن يدور الأمر بين الأقل والأكثر، كالشك في وجوب القنوت في الصلاة، حيث يدور أمر (صلّ) بين الأقل والأكثر.

ويقع البحث في مقامين:

الأول: في دوران الأمر بين المتباينين، سواء أكان في شبهة حكمية، كوجوب الظهر أو الجمعة، أم في شبهة موضوعية، كالإناءين المشتبهين.

وفي هذا المقام مباحث:

الأول: في اقتضاء العلم الإجمالي للمنجزية بلحاظ حرمة المخالفة القطعية.

الثاني: في اقتضاء العلم الإجمالي للمنجزية بلحاظ وجوب الموافقة القطعية.

الثالث: في إمكان شمول الأصول العلمية لتمام أطراف العلم الإجمالي.

الرابع: في إمكان شمول الأصول العلمية لبعض أطراف العلم الإجمالي.

الخامس: في فعلية شمول الأدلة العلمية لبعض أطراف العلم الإجمالي.

ص: 193

السادس: في فعلية شمول الأدلة العلمية لجميع أطراف العلم الإجمالي.

المبحث الأول: في اقتضاء العلم الإجمالي للمنجزية بلحاظ حرمة المخالفة القطعية

أما المبحث الأول: فهل العلم الإجمالي مقتضٍ لتنجز التكليف بلحاظ حرمة المخالفة القطعية أم لا؟

وبعبارة أخرى: هل أنَّ اقتحام جميع أطراف العلم الإجمالي في الشبهة التحريمية، وترك جميع أطراف العلم الإجمالي في الشبهة الوجوبية جائز بحكم العقل - مع قطع النظر عن الأصول الترخيصية الشرعية - أم لا؟

والشبهة المطروحة لإثبات عدم اقتضاء العلم الإجمالي حرمة المخالفة القطعية، هي: أنّ موضوع حكم العقل بالقبح هو المخالفة المعلومة - لا مطلق المخالفة(1) ولا العلم بها(2)- والذي يعبر عنه بالمعصية. هذا بعنوان الكبرى الكلية التي لا نقاش فيها(3).

ص: 194


1- وذلك لعدم قبح مخالفة المولى بما هي مخالفة، فلا قبح في شرب الجاهل الخمر، أو أكل طعام السوق مع كون الكثير منه مغصوباً، كما في رواية مسعدة «يكون الثوب عليك ولعله سرقة، وامرأة تحتك ولعلها اختك أو رضيعتك»، فمع أنه مخالفة إلا أنه ليس موضوعاً للقبح العقلي (منه (رحمه اللّه) ).
2- فليس العلم بالمخالفة موضوعاً للقبح العقلي، كما لو شرب المكلف ماءً مشكوكاً اعتماداً على أصالة الصحة، ثم يسأل المعصوم (عليه السلام) عن ذلك، فيعلم أنه خالف الواقع، أو حقق عن طريق الرمل والجفر والاسطرلاب فحصل له اليقين بالمخالفات في الماضي (منه (رحمه اللّه) ).
3- أقول : قد يقال بكون موضوع القبح العقلي هو المخالفة بما هي مخالفة، لا المخالفة المعلومة؛ وذلك لاستقلال العقل بقبح شرب الخمر حتى من الجاهل، أو قبح قتل البريء خطأ، وهو مما يعبر عنه بالقبح الفعلي، وإن لم يكن قبحاً فاعلياً (المقرر).

وأما الصغرى: فإن اقتحام الطرف الأول من الإناءين المشتبهين ليس مخالفة معلومة، وكذلك الثاني فلا قبح فيه، وقد ثبت في الكبرى عدم الإشكال في القطع بالمخالفة.

والنتيجة: لا إشكال - عقلاً - في المخالفة القطعية للعلم الإجمالي؛ لعدم اقتضائه الحرمة.

لكنه محل إشكال، فإن للمخالفة المعلومة - التي ثبتت في الكبرى حرمتها - معنيين، فإن كان المراد المخالفة المبيّنة، فإن البيان يتم بوصول الصغرى والكبرى، والملاك في حكم العقل بالقبح مخالفة التكليف المبين بوصوله صغرى وكبرى، والتكليف في المقام واصل كذلك؛ لأن المكلف يعلم بحرمة الخمر كبرى، ويعلم بوجوده في الخارج صغرى، فلو اقتحم الإناءين خالف التكليف الواصل إليه فيستحق العقاب.

ولو كان المراد المخالفة المتميزة فالكبرى ممنوعة، حيث لا فرق في حكم العقل وبناء العقلاء بين قتل ابن المولى المتميز، وقتل عشرة يعلم أن أحدهم ابنه، فيحق للمولى أن يؤاخذ العبد القاتل بذلك.

والحاصل: إنّ القول بقبح المخالفة المعلومة إما ممنوع صغرى أوكبرى؛ لعدم الفرق بين العلم التفصيلي والإجمالي في البيان الواصل، والفرق في التميز، حيث لا تميز في متعلق العلم الإجمالي بخلاف التفصيلي، لكنه ليس بفارق؛ لعدم أخذ التميز في حكم العقل بقبح المخالفة.

وعليه، فلا ينبغي الإشكال في أن العلم الإجمالي بذاته يقتضي حرمة المخالفة القطعية.

وبعبارة أخرى: وإن كان الفرد مجهولاً إلا أنه يقبح مخالفة الجامع

ص: 195

المعلوم.

هذا تمام الكلام في المبحث الأول.

المبحث الثاني: في اقتضاء العلم الإجمالي للمنجزية بلحاظ وجوب الموافقة القطعية

اشارة

وأما المبحث الثاني: فهو في اقتضاء العلم الإجمالي للمنجزية بلحاظ وجوب الموافقة القطعية. فهل تلزم الموافقة القطعية بالاجتناب عن كلا الإناءين عقلاً، أم تكفي الموافقة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالإجمال؟

وقد بنى بعض المحققين مبحث وجوب الموافقة القطعية على حقيقة العلم الإجمالي، فلا بد وأن نحقق المبنى، وباختلاف المباني يختلف اقتضاؤه للمنجزية بلحاظ وجوب الموافقة القطعية.

ماهية العلم الإجمالي
اشارة

فننقل الكلام إلى ماهية العلم الإجمالي، وفيها احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأول

العلم المتعلق بالفرد المردد، وهو ما اختاره صاحب الكفاية في مباحث الوجوب التخييري(1)، من أنه وجوب اعتباري متعلق بالفرد المردد، ولا مانع من ذلك، فإن الوجود الحقيقي يتعلق بالفرد المردد فكيف بالاعتباري؟

فالعلم الإجمالي عبارة عن وجود حقيقي متعلق بالفرد المردد، بخلاف العلم التفصيلي الذي هو علم متعلق بالفرد المعين.

ص: 196


1- كفاية الأصول: 140-141.

وأجيب عنه بعدم وجود الفرد المردد لا خارجاً ولا ذهناً، فكيف يتعلق به وجود حقيقي أو وجوب اعتباري؟

قال في النهاية: «مع بداهة أن العلم المطلق لا يوجد، كما أن وجوده في أفق النفس وتعلقه بالخارج عن أفق النفس غير معقول، بل المقوم لهذه الصفة الجزئية لا بد من أن يكون في أفقها فهو معلوم بالذات، وما في الخارج معلوم بالعرض. وعليه فمتعلق العلم حاضر بنفس هذا الحضور في النفس»(1).

توضيحه: إن أمر العلم الإجمالي دائر بين أمور واحتمالات:

الأول: أن يكون علماً مطلقاً، لكن العلم المطلق غير موجود؛ لأن العلم من الصفات الحقيقية التعلقية، فلا يوجد إلا بوجود متعلقه، فلا معنى للعلم بلا معلوم.

الثاني: أن يوجد في أفق النفس ويتعلق بالخارج، لكنه غير معقول؛ لأن الخارج معلوم بالعرض، فلا يتعلق به العلم، وإنما العلم متعلق بالمعلوم بالذات، وهو الصورة الذهنية الحاضرة في أفق النفس، ولذا يمكن وجود العلم مع عدم وجود المعلوم بالعرض، كما يمكن تحقق الواقع العيني الخارجي مع عدم حصول العلم. نعم، يتفق كثيراً تطابق المعلوم بالذات مع المعلوم بالعرض.

ومع غض النظر عما ذكره، لو فرض أن العلم متعلق بالمعلوم بالعرض فإنه معين لا ترديد فيه، فإن الخارج ليس ظرف التردد، فلا وجود مردد في

ص: 197


1- نهاية الدراية 4: 237.

الخارج، بل كل شيء هو هو، لا أنه إما هو، وإما غيره، كالشبح من بعيد، حيث لا يعلم أنّه إنسان أو حيوان، إلا أنه في صقع الواقع معين لا تردد فيه.

والحاصل: أن العلم لا يتعلق بالمعلوم بالعرض كما ذكره، ولو فرض تعلقه بالمعلوم بالعرض فإن الخارج موطن التعين لا موطن التردد، فلا يوجد فرد مردد في الخارج.

الثالث: أن يكون متعلق العلم هو الموجود النفساني، أي الصورة الذهنية المعبر عنه بالمعلوم بالذات، وعليه مع حضور العلم يحضر متعلقه، فيكون موجوداً، والوجود مساوق للتعين، حيث لا يوجد وجود غير متعين، فيكون متعلق العلم معيناً.

وبعبارة أخرى: الذهن مرتبة من مراتب الخارج، والوجود الذهني وجود خارجي(1)، وعليه يكون الوجود مساوقاً للخارجية، والخارجية مساوقة للتعين، فلا موجود مردد في الخارج.

الاحتمال الثاني

العلم الإجمالي مركب من العلم التفصيلي بالجامع، والشكوك المتعددة بتعدد أطراف العلم.

ويظهر هذا المبنى من كلمات المحقق النائيني وبعض عبارات النهاية، لكنه رجع عنه، قال في النهاية: «ليس المعلوم إلا الجامع بين الخاصين

ص: 198


1- وإنما سمي ذهنياً بالقياس إلى الخارج، وإلا فهو وجود خارجي، كما هو الحال بالنسبة إلى الوجود بالقوة، حيث إنه وجود بالقوة إذا قيس إلى الوجود بالفعل، وإلا فهو وجود بالفعل (منه (رحمه اللّه) ).

المحتملين، فهو مركب من علم واحتمالين»(1)، فهنا علم واحد متعلق بالجامع، أي: عنوان (أحدهما) وشكان متعلقان بالخصوصية الفردية، أي هذا الإناء أو ذاك.

وقال في الفوائد: «العلم الإجمالي عبارة عن خلط علم بجهل»(2)، بخلاف الشبهة البدوية، حيث إنها جهل لا علم معها، والعلم التفصيلي حيث إنه علم لا جهل معه، فتنحل القضية المعلومة بالإجمال إلى قضية معلومة بالتفصيل على سبيل منع الخلو في ضمن جميع الأطراف، كما في العلم الإجمالي بسقوط الدم في أحد الإناءين دون غيرهما، فهو علم تفصيلي يتضمن قضيتين مشكوكتين في كل طرف بالخصوص.

ويمكن أن يبرهن له بأن الأمر لا يخلو من احتمالات أربعة:

الأول: أن لا يكون للعلم الإجمالي متعلق، لكنه واضح الاندفاع؛ لأن العلم صفة حقيقة ذات إضافة، وهي بحاجة إلى متعلق(3).

الثاني: أن يكون العلم الإجمالي متعلقاً بالفرد بحده الشخصي المعين، وبما له من العنوان التفصيلي، لكنه منتفٍ قطعاً؛ لاستلزامه انقلاب العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي.

الثالث: أن يتعلق العلم الإجمالي بالفرد بما له من الحد الشخصي المردد، لكنه باطل أيضاً؛ لعدم وجود الفرد المردد في أي صقع من الأصقاع

ص: 199


1- نهاية الدراية 2: 580.
2- فوائد الأصول 4: 10.
3- والكلام في العلم الإمكاني حيث لا يمكن تحقق العلم من دون معلوم، وليس الحديث في العلم الخارج عن دائرة الإمكان (منه (رحمه اللّه) ).

الحقيقية حتى يتعلق به العلم.

فلا يبقى إلا الاحتمال الرابع، وهو: إن العلم الإجمالي علم متعلق بالجامع، أي مجيء أحد الفردين، أو وقوع الدم في أحد الإناءين.

وهذه النظرية مطابقة للوجدان في النظر البدوي الأولي.

لكن ربما يستفاد من كلمات المحقق العراقي عدم ارتضائها، حيث قال: «إن العنوان القائم في أفق العلم ينطبق على الواقع بتمامه عند كشف الغطاء، فلا يعقل تعلقه بالجامع»(1).

وفي العبارة شيء من الإبهام، وتتضح في ضمن مقدمتين:

الأولى: كل عنوان جامع يستحيل أن ينطبق على الفرد بتمامه؛ وذلك لأن تولد العنوان الجامع إنما يكون بإلغاء الخصوصيات الفردية، وقصر النظر على الحيثيات المشتركة، فلزيد وبكر وخالد خصوصيات فردية يتميزون بها عن الآخرين، ويكون التمايز بين أفراد الحقيقة الواحدة بالغرائب والمنضمات، كالطول والعرض والعمق والمكان والإضافة وما أشبه، فيُقطع النظر عن هذه الحيثيات المفردة، ويُقصر على الخصوصيات المشتركة، وبهذا اللحاظ ينتزع الجامع، وهو الإنسان، ثم يطبق العنوان المنتزع على الخصوصية المشتركة لا الخصوصيات المفردة، فليس تطبيق الإنسان على زيد بلحاظ طوله المعين أو لونه أو أينه، وإنما بلحاظ الحيوانية والناطقية.

والحاصل: أنه في مرحلة العروج يكون الانتزاع متقوماً بإلغاء الخصوصيات الفردية، وفي مرحلة النزول يكون التطبيق بلحاظ الجامع

ص: 200


1- نهاية الأفكار 3: 299.

المشترك لا الخصوصية الفردية.

وعليه، فالمقدمة الأولى تامة، حيث يستحيل أن ينطبق العنوان على الفرد بتمامه؛ لأن الفرد مركب من الجامع المشترك والخصوصيات الفردية، والتطبيق إنما هو بلحاظ الجامع المشترك فحسب.

الثانية: إن العنوان القائم في أفق العلم الإجمالي ينطبق على الواقع بتمامه لو انكشف الغطاء، فلو انكشف أن الدم سقط في هذا الإناء المعين انطبق عليه عنوان (أحدهما) فيقال: هذا الإناء هو أحدهما الذي وقع فيه الدم، وليس ذلك مثل الإنسان، فحينما يقال: (زيد إنسان) فإنه إنسان وإضافة؛ لأن المنضمات خارجة عن حريم الإنسانية، أما عنوان (أحدهما) فهو منطبق على الفرد بتمامه وكماله.

وبعبارة أخرى: العنوان الجامع قد يطبق على الحيثية المشتركة فقط، يعني على نصف الفرد، وقد يطبق على تمام الفرد، وعنوان (الإنسان) من قبيل الأول، حيث يطبق على زيد المركب من الحيوانية والناطقية والطول واللون مثلاً، فتطبيقه عليه بلحاظ الحيوانية والناطقية فقط، وأما طوله ولونه فلا يرتبط بالإنسانية، بل يدخل في مقولة الكم والكيف؛ ولذا لو تغير لونه أو طوله بقيت إنسانيته، فالعوارض لا ترتبط بتطبيق حيثية الجامع على زيد، فيكون عنوان (الإنسان) مشيراً إلى جزء الفرد لا كل الفرد، وانطباقه انطباق جزئي لا شامل، وأما عنوان (أحدهما) فهو من قبيل الثاني، حيث ينطبق على الإناء الأبيض انطباقاً كلياً من دون إضافة فيه.

وبعبارة مختصرة: انطباق (إنسان) على زيد انطباق على جزء الجزئي، لكن انطباق (أحدهما) على هذا الفرد انطباق عنوان على كل الجزئي لا

ص: 201

جزء الجزئي.

وبعد تمامية المقدمتين يثبت ما ذكره المحقق العراقي من: أن العنوان القائم في أفق العلم(1) ينطبق على الواقع بتمامه عند كشف الغطاء، فلا يعقل تعلقه(2) بالجامع(3)، فإنه لوكان العلم الإجمالي متعلقاً بالجامع لم يمكن انطباقه كلياً على الجزئي، فالانطباق الكلي على الجزئي دليل على أن العلم الإجمالي لم يتعلق بالجامع؛ لأن الجامع ينطبق جزئياً على الجزئي؛ ولذا ذهب إلى أن العلم الإجمالي لا يتعلق بالجامع؛ لعدم إمكان انطباق الجامع على الفرد انطباقاً كلياً، أما عنوان (أحدهما) فيمكن تطبيقه تطبيقاً كلياً.

لكنه محل إشكال؛ لأن الجامع نوعان: جامع ينطبق جزئياً على الجزئي، وجامع ينطبق كلياً على الجزئي، فالأول: مثل انطباق مفهوم الإنسان على زيد، والثاني: مثل انطباق مفهوم الشخص والفرد والمصداق، فإن هذه المفاهيم تنتزع من كل الفرد لا من الحيثية المشتركة، فينطبق عليه انطباقاً كلياً، فإن انطباق عنوان (الفرد) على فرده انطباق الكلي على كل الجزئي لا جزء الجزئي، فهو بكامله فرد.

فلا مانع من تعلق صفة بجامع ينطبق انطباقاً كلياً على جزئيه، فما ذكره المحقق العراقي(4) من أن انطباق هذا العنوان على الفرد انطباقاً كلياً دليل على عدم تعلق العلم الإجمالي بالجامع غير تام، فإن العلم الإجمالي متعلق

ص: 202


1- أي: عنوان أحدهما (منه (رحمه اللّه) ).
2- أي: العلم الإجمالي (منه (رحمه اللّه) ).
3- نهاية الأفكار 3: 299.
4- نهاية الأفكار 3: 299-300.

بالجامع، لكنه جامع يصلح لانطباق الكلي على جزئيه، كما هو الحال في مفهوم الفرد والشخص والمصداق.

فلا إشكال في النظرية الثانية من تعلق العلم الإجمالي بالجامع.

الاحتمال الثالث

ما حكي عن المحقق العراقي(1) وقيل إنه أول من شيد صرح هذا المبنى، من أن العلم الإجمالي عبارة عن العلم المتعلق بالواقع لا بالجامع.

والفرق بينه وبين المبنى الثاني أن الفارق بين العلم الإجمالي والتفصيلي - على المبنى الثاني - من ناحية المعلوم، فالعلم التفصيلي علم بالفرد، والعلم الإجمالي علم بالجامع، فلا فرق بينهما في حد العلم، وأما على المبنى الثالث: فلا فرق بينهما بلحاظ المعلوم، فالمعلوم فيهما متحد وهو الفرد، منتهى الأمر أن حكاية العلم الإجمالي عن الفرد حكاية إجمالية، أو بعبارة أخرى: حكاية ناقصة، بخلاف العلم التفصيلي.

وفي المنتقى ما يصلح أن يكون توضيحاً للمبنى المذكور، حيث قال: «إنه يمكن دعوى تعلق العلم بالفرد المردد - في الجملة - بمعنى أن يكون متعلقه فرداً خارجياً ووجوداً عينياً، بحيث لا يقبل الانطباق على أكثر من واحد، مع تردده بين أمرين أو أكثر.... ويشهد لذلك الوجدان، كما في مورد إخبار المخبر عن مجيء زيد أو عمرو، فإنه إنما يخبر عن مجيء أحدهما الذي لا يشخصه، لا الجامع، وأوضح من ذلك ما إذا رأى شخصاً من بعيد اشتبه أمره بين زيد وأخيه بكر...، فإن الرؤية إنما تعلقت بالوجود

ص: 203


1- بحوث في علم الأصول 5: 263.

الخارجي الشخصي الذي لا يقبل الانطباق على كثيرين»(1).

فمن الواضح أنه حينما يخبر المخبر عن مجيء زيد أو عمرو فهو يخبر عن مجيء الفرد، لأنَّ الجامع غير قابل للمجيء، وكذا في الرؤية، فلو قدم شخص من بعيد، فمن يراه بصورة واضحة بالمنظار مثلاً فإنما يرى الفرد لا الجامع، وهكذا من يراه مشوشاً بغير المنظار، فالمعلوم عنده مجيء الفرد، لكنه غامض لم يتضح لديه جميع مشخصاته، فتنعكس نفس الصورة التي يراها بعينه في ذهنه.

وبعبارة أخرى: في حيطة العلم الإحساسي المشاهد يرى الفرد لا الجامع؛ لأن الإحساس لا يتعلق بمجيء الجامع، فإنه غير قابل للرؤية، بل الرؤية تعلقت بالفرد الغامض، وهذه الصورة الإحساسية تنقلب إلى صورة إدراكية، وهي أيضاً متعلقة بمجيء الفرد، فالصورة في الذهن أيضاً مجيء الفرد لا مجيء الجامع.

لكنه محل تأمل؛ وذلك لأن العلم - حسب ما عرف - حصول الصورة في الذهن(2)، وهو إما تصوري بمعنى الصورة التي لا حكم معها، وإما تصديقي بمعنى الصورة التي معها حكم، أو الحكم على الصورة، يقول السبزواري:

الارتسامي من إدراك الحجى***إما تصور يكون ساذجا

أو هو تصديق هو الحكم فقط***ومن يركبه فيركب الشطط(3)

ص: 204


1- منتقى الأصول 5: 49-50.
2- المنطق: 145.
3- شرح المنظومة 1: 57.

وفي العلم الإجمالي توجد خمس صور علمية:

الأولى: وقوع قطرة الدم، وهذا العلم تفصيلي لا إجمالي.

الثانية: عدم وقوعها خارج الإناءين، وهو كالسابق تفصيلي.

الثالثة: وقوع القطرة في هذا الإناء أو كون الشبح القادم زيداً، وهذه الصورة العلمية تصورية؛ لعدم اقترانها بالحكم، فلا تكون علماً إجمالياً؛ لأن مقوم العلم الإجمالي هو الحكم لا مجرد الصورة الذهنية التصورية.

الرابعة: وقوعها في ذلك الإناء، أو أنَّ القادم هو عمرو، وهو كالسابق.

الخامسة: الصورة العلمية المنتزعة من الصورة التصديقية الثانية، والصورة التصورية الثالثة والرابعة، وهو وقوع الدم في أحد الإناءين، وهذا هو العلم الإجمالي، ومعنى هذا التحليل أن حقيقة العلم الإجمالي هي التعلق بالجامع، وإنما يكون إجمالياً لأنه قابل للانطباق على فردين، ف- (أحد) قابل للانطباق على هذا أو ذاك، فحيث كان الترديد كان العلم إجمالياً.

فما ذكره المحقق العراقي من رؤية الفرد بحده الشخصي ليس مقوماً للعلم الإجمالي، بل مقومه الصورة العلمية الخامسة المتعلقة بالجامع، فيتم ما ذكره المحقق النائيني من اختلاف سنخ العلم الإجمالي والتفصيلي في المتعلق؛ لأن متعلق العلم التفصيلي هو الفرد، ومتعلق العلم الإجمالي هو الجامع.

فالمختار في بادئ النظر ما ذهب إليه المحققان النائيني والإصفهاني، ولعله هو المشهور بين الأصوليين.

وبعد تمامية هذه المقدمة، أقام المحقق الإصفهاني(1) البرهان على أن

ص: 205


1- نهاية الدراية 2: 104، 307.

العلم الإجمالي في حد ذاته يقتضي وجوب الموافقة القطعية، وهو أن اقتحام أحد الطرفين في الشبهة التحريمية، وترك أحد الطرفين في الشبهة الوجوبية مخالفة احتمالية للجامع المعلوم المنجز، والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، وهي لا تحصل إلا بالاجتناب عن كلا الطرفين.

وأشكل عليه بعض المحققين بأن العلم الإجمالي متعلق بالجامع على مبناه، وهو يتحقق بأحد الفردين، وباجتناب أحدهما يتحقق المعلوم بالإجمال، فلا وجه لاجتناب الثاني، وقد شنع بذلك على المحقق الإصفهاني، وعلى مبنى البراءة العقلية، وقال: إن هذه النتيجة من فضائح القول بقبح العقاب بلا بيان(1).

لكنه محل إشكال؛ لأنَّ (أحدهما) يطلق على معنيين بالاشتراك اللفظي:

الأول: (أحدهما) الذي لا تعين له في عالم الثبوت. والثاني: (أحدهما) الذي له تعين في عالم الثبوت، فلو قال المولى: (اجتنب عن إحدى الأختين) ولم يكن معيناً في الواقع، حيث لم يكن مراد المولى من (إحدى) هنداً واقعاً ولا دعداً، فهنا يمكن القول: إنّ الاجتناب عن إحداهما امتثال للطبيعي الجامع، لكن فيما نحن فيه المراد من (اجتنب عن أحد الإناءين) هو الإناء الواقعي المعلوم في علم اللّه، وعلم العالمين بالغيب؛ وذلك لأن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية لا المعلومة، ولم يقل المولى: (اجتنب عن أحدهما) بل قال: (اجتنب عما لاقاه الدم) فيحكم العقل بوجوب الاجتناب عن الاثنين مقدمة لامتثال التكليف الواقعي، فارتكاب أحدهما

ص: 206


1- بحوث في علم الأصول 4: 29.

مخالفة احتمالية للتكليف المنجز، فتلزم الموافقة القطعية؛ لأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية فتم البرهان، وهو كافٍ لإثبات اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية.

المبحث الثالث: في إمكان شمول الأصول العلمية لتمام أطراف العلم الإجمالي

اشارة

وقد ذكرت محاذير لعدم إمكان جريان الأصول:

المحذور الأول

إنَّ جعل الحكم الظاهري في تمام أطراف العلم الإجمالي موجب للترخيص في المعصية، ومخالفة التكليف الواصل إلى المكلف صغرى وكبرى، وهو قبيح، سواء أكانت المعصية متميزة، كما في موارد العلم التفصيلي، أم لم تكن متميزة، كما في موارد العلم الإجمالي.

ولا فرق في القبح بين كون الحكم الظاهري ثابتاً بالأمارة، كما لو قامت البينة على طهارة المشتبهين، أو بالأصول التنزيلية، كاستصحاب طهارتهما، أو بالأصول غير التنزيلية، كجريان أصالة الطهارة فيهما، ففي جميع هذه الصور يكون جعل الحكم الظاهري في تمام الأطراف مستلزماً للترخيص في معصية المولى، وهو قبيح.

ويرد عليه إشكالات:

الإشكال الأول: إنَّ الدليل أخص من المدعى، فهو تام فيما لو كانت الأصول الجارية نافية للتكليف، أما لو كانت الأصول الجارية مثبتة للتكليف فلا محذور، كما في استصحاب نجاسة الإناءين الذي علم بتطهير أحدهما،

ص: 207

فإن مقتضى «لا تنقض» بقاء نجاستهما من دون محذور.

الإشكال الثاني: إنَّ مآل جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي إلى تقييد أدلة الأحكام الواقعية بصورة العلم التفصيلي، ومع هذا التقييد تخرج المعصية عن كونها معصية، فلا يكون ترخيصاً فيها.

توضيحه: لو قال المولى: (الخمر حرام)، ثم قال: (كل ما لم تعلم بحرمته تفصيلاً فهو حلال) فمآله إلى تقييد حرمة الخمر بكونها معلومة تفصيلاً، ومع هذا التقييد لا يكون الاقتحام في أطراف العلم الإجمالي اقتحاماً في المعصية، وذلك كقوله في الدليل الواحد: (الخمر المعلومة تفصيلاً محرمة)، فإن الحكم كذلك فيما لو ذكر المولى نفس هذا المفاد في ضمن دليلين، حيث يكون مفاده تقييد موضوع الدليل الأول بصورة العلم التفصيلي، فالإذن في الاقتحام في كل الأطراف لا يكون إذناً في معصية المولى، والحاصل: أنه لا فرق في ذلك بين الدليل الواحد والدليلين.

إن قلت: لو كان هذا الكلام تاماً - وليس بتام - فهو صحيح في الشبهات الموضوعية، وأما في الشبهات الحكمية فإن أخذ العلم التفصيلي في موضوع الدليل يوجب المحذور العقلي، كالدور أو ملاكه، أو الخلف أو ما أشبه ذلك.

قلت: إنما يستحيل تقييد الحكم بالعلم مع اتحاد الرتبة، أما مع الاختلاف في الرتبة فلا؛ وذلك لأن الحكم بمرتبته الاقتضائية والإنشائية مشترك بين الجميع، سواء أكان الوجوب معلوماً بالعلم التفصيلي أم الإجمالي، أم مجهولاً أم مغفولاً عنه أم مشكوكاً، فلا محذور في التقييد بالعلم مع

ص: 208

اختلاف الرتب، كأن يقول المولى: (من علم بالحكم الإنشائي ثبت عليه الحكم الفعلي، مثلاً: الجمعة المعلوم وجوبها الإنشائي بالعلم التفصيلي تجب فعلاً) فيتم تقييد الفعلية في المقام بالعلم التفصيلي، فإن المعلوم المتقدم وجوب إنشائي، ومعلول العلم المتقدم هو الوجوب الفعلي، فمن لم يعلم بالجمعة تفصيلاً فلا تجب عليه الجمعة بالفعل، وإنما هو وجوب إنشائي، ولا يجب امتثاله، فيمكنه أن يترك الظهر والجمعة، فلو تركهما لم يترك حكماً فعلياً حتى يكون معصية، وإنما ترك حكماً إنشائياً، وهو لا يساوي العصيان.

وبعبارة أوضح: يكتب المولى في اللوح المحفوظ (الجمعة واجبة)، والوجوب له مراحل أربع: الاقتضاء والإنشاء والفعلية والتنجز، ثم يقول المولى: (كلما لم تعلم وجوبه بعينه فليس واجباً عليك) ويستحيل أن يكون ذلك نفياً للوجوب الاقتضائي والإنشائي؛ لاستلزامه الدور، وأما نفي الوجوب الفعلي فلا محذور فيه، ومآله إلى قوله: (من علم بالوجوب الإنشائي للجمعة بالعلم التفصيلي وجبت عليه الجمعة فعلاً بالوجوب الفعلي) فالمتقدم وجوب إنشائي، والمتأخر وجوب فعلي.

ويصطلح عليه بأخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول، حيث لا إشكال فيه؛ لاختلاف المتقدم والمتأخر، وأما أخذ العلم بالجعل في موضوع الجعل، أو أخذ العلم بالمجعول في موضوع المجعول فهو محال.

والحاصل: إن تقييد أدلة الأحكام الواقعية في مرحلة الاقتضاء بالعلم التفصيلي محال؛ لأنه موجب لأخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم وهو

ص: 209

محال، أما تقييد مرحلة فعلية الحكم بالعلم التفصيلي فلا محذور فيه، واختلاف الرتب كافٍ لحل المحذور في الشبهات الموضوعية والحكمية، والنتيجة: أن الاقتحام في تمام الأطراف ليس اقتحاماً في المعصية، بل مخالفة للحكم الإنشائي الواقعي.

لكن يرد عليه إيرادات ثلاثة:

الإيراد الأول: إنَّ هذا المعنى خلاف ما قام عليه الإجماع من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، أو بين جميع المكلفين.

لكنه يدفع بأن الإجماع دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو الاشتراك في الأحكام الإنشائية، أما اشتراك الأحكام الفعلية بين الجميع فلم يثبت، وهذا مطلب مهم، وإثباته ينفعُ كثيراً في مباحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي، وبه يمكن دفع الكثير من الإشكالات.

الإيراد الثاني: لوكان الحكم في المقام إنشائياً محضاً، فإن تعلق العلم بالحكم الإنشائي المحض، أو قيام الأمارة عليه لا يوجب كونه فعلياً، فهو يبقى كذلك وإن علم به المكلف تفصيلاً.

لكنه قابل للدفع بأن هذا الحكم الإنشائي جعل على نحو لو علم به المكلف تفصيلاً لأصبح فعلياً، حيث يمكن للمولى أن يقول: لو تعلق العلم التفصيلي بهذا الحكم الإنشائي انقلب فعلياً، ومثل هذا المعنى لا محذور ثبوتي فيه.

الإيراد الثالث: إنَّ التصوير المذكور خروج موضوعي عن محل البحث، فإن الكلام في العلم الإجمالي بالتكليف، وهو مساوق للفعلية، وإلا

ص: 210

فالتكليف الإنشائي ليس تكليفاً، فالعلم به ليس علماً بالتكليف.

وهذا الإيراد في حد نفسه تام، إلا أن البحث الأصولي مقدمة للتطبيق الفقهي، والبحث الفقهي في المقام هو أنه لو قال المولى: (اجتنب عن الخمر) فهو مطلق يشمل المعلوم بالتفصيل والإجمال والمجهول، فهل يستحيل بعد ذلك أن يأذن المولى في اقتحام المعلوم بالإجمال؟

ولتوضيح ذلك نذكر مثالاً عرفياً، وهو: لو قال شخص: (لا تُدخل بكراً داري) لكونه عدواً له، فهل يمكن أن يقول بعد ذلك: (لو اشتبه بكر بين شخصين فلا إشكال في إدخالهما في الدار)؟

وبعد ذلك لا مشاحة في القول: إننا نكتشف - بقرينة الترخيص - أن الحكم إنشائي لا فعلي، فإن جعل البحث في المراد من التكليف يجعل النزاع لفظياً، فإن مَنْ يلتزم بالاستحالة يراه تكليفاً فعلياً، ومَنْ يلتزم بالإمكان يراه إنشائياً، فينقلب النزاع في إمكان الترخيص في الاقتحام في جميع الأطراف، ومخالفة التكليف المعلوم بالعلم الإجمالي إلى نزاع لفظي في تفسير التكليف، فإن كان المراد منه التكليف الفعلي لم يمكن الترخيص لكونه تناقضاً، وإن كان المراد التكليف الإنشائي أمكن ذلك؛ لعدم كون مخالفته معصية، ولا يكون الترخيص فيه ترخيصاً في المعصية.

ولكن النتيجة أنه يمكن الحكم بجواز الاقتحام في الأطراف، وذلك بتحويل الحكم الأول في صورة العلم الإجمالي إلى حكم إنشائي يشمل الجميع، فإن تعلق به العلم التفصيلي صار فعلياً.

هذا تمام الكلام في الإشكال الثاني على الوجه الأول.

ص: 211

الإشكال الثالث: ما اقتصر عليه السيد القمي، حيث قال: «فمجرد الترخيص في العصيان وترك الواجب، وفعل المحرم إذا كان ناشئاً عن مصلحة لا يكون ممتنعاً؛ إذ لا تنافي بين الأحكام بما هي»(1).

و المراد من قوله (بما هي) يعني مع قطع النظر عن المنتهى، أي مرحلة الامتثال والجري العملي، فإن الترخيص في الاقتحام في المنتهى موجب لحيرة المكلف، أما مع قطع النظر عن هذه المرحلة فلا تضاد بين الأحكام، فلا مانع من أن يكون الشيء حراماً وحلالاً.

لكنه محل تأمل؛ لأن المصلحة الكامنة وراء الترخيص في العصيان إما غالبة على مصلحة الحظر والتحريم، وإما مغلوبة وإما مساوية، فلو كانت مصلحة الترخيص غالبة فلا حظر، وإن كانت مغلوبة فلا ترخيص، وإن كانا متساويين فلا ترخيص ولا حظر، بل هو ترخيص في المباح، فالقول: إنه عصيان رخصه المولى لمصلحة، غير تام.

المحذور الثاني

محذور مناقضة الحكمين، فإن الترخيص في تمام الأطراف يناقض الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال، حيث يحكم الشارع بالمآل على موضوع واحد بالحرمة والإباحة، فالخمر الواقعي المعلوم بالإجمال بين الإناءين المشتبهين حرام، لأنه خمر، ومباح لأن الشارع أباح الاقتحام في الطرفين.

وأجيب عنه بعدة أجوبة:

ص: 212


1- آراؤنا في أصول الفقه 2: 222.

الجواب الأول: ما ذكره صاحب الكفاية، وحاصله النقض بالشبهات البدوية حيث قال: «وليس محذور مناقضته(1) مع المقطوع إجمالاً، إلا محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي في الشبهة غير المحصورة، بل الشبهة البدوية»(2).

بيانه: أنه لوكانت هنالك مناقضة بين الترخيص وبين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال، فكيف رخص الشارع الاقتحام في الشبهة البدوية؟ كحكمه بطهارة المشكوك، فيعلم أن الترخيص لا ينافي الحكم الواقعي، سواء أكان في الشبهة البدوية أم في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، وكما أنه لا مناقضة بين الحكمين في الشبهة البدوية كذلك لا مناقضة بينهما في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

وأشكل(3) عليه بأن الفرق واضح بين المقامين؛ لأن مناقضة الحكمين في الشبهة البدوية مناقضة احتمالية، وأما في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي فالمناقضة قطعية، فلا تقاس إحداهما بالأخرى.

لكنه غير وارد، حيث لا فرق بين المناقضة القطعية والاحتمالية؛ لأنها مقطوعة العدم، فكما لا يمكن القطع باجتماع النقيضين لا يمكن احتمال اجتماعهما.

وبعبارة أخرى: المناقضة مقطوعة الانتفاء، ولو أمكنت المناقضة

ص: 213


1- أي: الترخيص.
2- كفاية الأصول: 272.
3- نهاية الدراية 2: 282.

الاحتمالية أمكنت المناقضة القطعية؛ لأن إمكانها كاشف عن كون المناقضة المتوهمة ليست مناقضة.

والحاصل: إن التفكيك بين المناقضتين القطعيتين غير معقول، وحيث سلمتم بإمكان المناقضة الاحتمالية في الشبهة البدوية فلا بد وأن تسلموا بإمكان المناقضة القطعية في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، والنتيجة: أن الشارع يحكم بحرمة الخمر الموجودة بين الإناءين، ويحكم بحلية هذا وذاك ولا تناقض أصلاً.

وأشكل السيد الخوئي(1) على ما ذكره صاحب الكفاية بوجود الفرق الفارق بين المقامين، فلا يقاس أحدهما بالآخر.

بيانه: أنه يمكن فرض محذور المناقضة بين الحكمين في نفس الحكم ومبدئه ومنتهاه.

أما في الشبهة البدوية، كما لو حكم المولى بطهارة المشكوك مع إمكان نجاسته في الواقع، فإن البحث في موطن التناقض يقع في ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: المناقضة في ذات الحكمين، لكنه لا تناقض بلحاظ نفس الحكم؛ لأن الأحكام أمور اعتبارية(2)، ولا تناقض بين الأمور الاعتبارية، كما أنه لا تناقض في إظهار هذا الاعتبار باللفظ، فلا تناقض بين الأحكام الخمسة أصلاً.

المرحلة الثانية: المناقضة في مبدأ الحكم، أي الملاك والمصالح

ص: 214


1- مصباح الأصول 2: 78-79.
2- اعتبار شيء في ذمة المكلف (منه (رحمه اللّه) ).

والمفاسد والإرادة والكراهة، ولا مناقضة في هذه المرحلة أيضاً؛ لأن الملاك في الحكم الواقعي في المتعلق، فشرب الماء فيه مفسدة ، أما في الحكم الظاهري فالملاك في نفس الحكم، فلم تجتمع المصلحة والمفسدة في شيء واحد، فلا تناقض بين الحكمين: الظاهري والواقعي في الشبهة البدوية.

كما لو أراد الابن أن يقوم بعمل فيه مفسدة، ولكن يرى الأب المحذور في ردعه فيأذن له، فلا تناقض في الملاك، ولم تجتمع المصلحة والمفسدة في شيء واحد.

المرحلة الثالثة: المناقضة في المنتهى، أي الامتثال والجري العملي، ولا مناقضة بين الحكمين في هذه المرحلة أيضاً؛ لأن حكم العقل بلزوم الامتثال فرع وصول التكليف، ولا يعقل وصول الحكم الواقعي والظاهري معاً إلى المكلف؛ لأن موضوع الحكم الظاهري الشك في الحكم الواقعي، ومع وصول الحكم الواقعي ينتفي الحكم الظاهري لانتفاء موضوعه، فلا يحكم العقل إلا بلزوم امتثال الحكم الواقعي الواصل، ولو لم يصل الحكم الواقعي فلا يحكم العقل إلا بلزوم امتثال الحكم الظاهري.

والحاصل: أنّه في مرحلة المنتهى إن وصل الحكم الواقعي جرى المكلف على طبقه، ولا حكم ظاهري حتى يستلزم جريين متضادين، وإن لم يصل جرى على طبق الحكم الظاهري، فأين التناقض بين الحكم الظاهري والواقعي؟

هذا كله في الشبهة البدوية، لكنه غير جارٍ في المعلوم بالإجمال؛ وذلك

ص: 215

لوصول الحكم الواقعي إلى المكلف، فإن المكلف يعلم بأن أحد الإناءين خمر واقعاً، ويجب الاجتناب عنه، فإن الدليل مطلق شامل للخمر المعلوم تفصيلاً وإجمالاً، ولا فرق في حكم العقل بين المعلوم بالتفصيل والإجمال، فيحكم المولى بعدم الاقتحام، ومن جانب آخر يجوز الاقتحام، فيحصل التهافت في مرحلة المنتهى.

والفرق بين الشبهة البدوية والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي هو عدم وصول الحكمين في عرض واحد في الشبهة البدوية، فلا يحصل التناقض في مرحلة المنتهى، بخلاف الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، فإن الحكمين واصلان في عرض واحد، فيحصل التهافت.

فتنظير الكفاية الشبهة المقرونة بالشبهة البدوية تنظير بلا جامع.

لكن أصل صحة كلام المصباح موكول إلى مباحث التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي في الشبهات البدوية، وبغض النظر عن هذه المناقشة نتساءل هل المولى يرفع اليد عن الواقع أم لا؟(1)

فإن كان الجواب أنه لم يرفع اليد عن الواقع فلا يعقل الترخيص في الاقتحام، لا في الشبهة المحصورة ولا في البدوية، وإن رفع يده عن الواقع فالترخيص في الاقتحام ممكن في الشبهتين بلا فرق بينهما، فما ذكره صاحب الكفاية تام.

ص: 216


1- بأي معنى فرض رفع اليد، وأنه هل هو رفع لكل مراتب الواقع، حيث يرد عليه بأنه موجب لأخذ العلم بالحكم في موضوعه، وهو موجب للمحاذير المذكورة في محلها، أو رفع لبعض مراتب الواقع كالفعلية، وإن كان الحكم الإنشائي مشتركاً؟ (منه (رحمه اللّه) ).

وبعبارة أوضح: أنَّه في الشبهة البدوية لو لم يرفع المولى يده عن الواقع وأراد من المكلف الإتيان بالحكم الواقعي، بأن وصل الحكم من مرحلة الاقتضاء إلى الإنشاء ثم إلى الفعلية، فلا يمكن له أن يرخص في اقتحامها، فإنه يريد الواقع على كل تقدير، بل عليه إيجاب الاحتياط كما هو الحال في الأمور الخطيرة كالدماء، فإن إرادة المولى عدم وقوع القتل حتمية، فيكون الحكم فعلياً، فلا يمكن إجراء البراءة عند الشك.

وحيث علم بأن المولى رخص في الاقتحام في النجس المشكوك بالشبهة البدوية، علم أنه رفع اليد عن الحكم الواقعي، فيرجع الحكم من الفعلية إلى الإنشاء، ولا يحصل التناقض مع اقتحامه، حيث إنه لو كان نجساً واقعاً فقد خالف المكلف الحكم الإنشائي.

ونفس هذا الكلام يجري في الشبهة المحصورة، فإن الخمر حرام بالفعل لو كان معلوماً بالتفصيل، وأما لو كان معلوماً بالإجمال فهو حرام إنشاءً، فالترخيص في اقتحامه لا يستلزم المناقضة؛ لعدم تحقق المناقضة بين الحكم الفعلي والإنشائي، بل المناقضة حاصلة بين الحكمين الفعليين أو الإنشائيين.

وبعبارة مختصرة: إنَّه بنفس الملاك الذي يمكن للشارع الترخيص في الاقتحام في الشبهة البدوية، يمكنه الترخيص في الاقتحام في الشبهة المحصورة بلا فرق بينهما.

ويأتي هنا ما ذكر سابقاً من أن البحث في العلم الإجمالي ليس صرف البحث النظري، وإنما هو مقدمة للتطبيق على الصغريات الفقهية، فوجوب اجتناب الخمر عام يشمل العالم بالعلم التفصيلي والإجمالي والشاك

ص: 217

والجاهل؛ وذلك بدليل الاشتراك في التكليف، لكن المولى يمكنه أن يرفع اليد عن الحكم فيما لو اشتبه بين إناءين فيقول: «حتى تعرف الحرام بعينه»(1) وتكون النتيجة صيرورة الحكم إنشائياً عند العالم بالعلم الإجمالي.

فلو أشكل أحد بأن (بعينه) مناقض ل- (لا تشرب الخمر) في مورد العلم الإجمالي، فالجواب: بعدم المناقضة؛ لأن مفاد الجمع بينهما هو رفع المولى اليد عن الحرمة الفعلية في مورد العلم الإجمالي، كما هو الأمر في الشبهة البدوية.

نعم، يمكن أن يجيب السيد الخوئي بما ذكرناه في المباحث السابقة بأن التصوير المذكور هو صورة العلم بالحكم لا العلم بالتكليف، فيكون خروجاً عن الموضوع، فيعود البحث في المقام لفظياً، ويرتفع الخلاف من البين، ويتم الصلح بين الطرفين.

وبغض النظر عن المصطلحات الأصولية نرى - وجداناً وعرفاً - أن المولى لو حرم شيئاً أمكنه الترخيص في الاقتحام في الأطراف المشتبهة.

والحاصل - مع ملاحظة ما ذكرناه من أن البحث مقدمة للتطبيق الفقهي - أنه لا مانع من الترخيص في أطراف العلم الإجمالي، فما ذكره صاحب الكفاية تام.

الجواب الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية أيضاً(2) من النقض بالشبهة غير المحصورة، حيث تحقق الإذن في اقتحام بعض أطرافها، فتتحقق المخالفة

ص: 218


1- الكافي 6: 329.
2- كفاية الأصول: 272.

الاحتمالية، وقد مرّ أنه لا فرق بين المخالفة الاحتمالية والقطعية، كما لا فرق بين المناقضة الاحتمالية والقطعية، فلو أمكنت الاحتمالية أمكنت القطعية.

ولو قلنا بجواز الاقتحام في تمام أطراف الشبهة غير المحصورة - كما هو مبنى بعض الأصوليين(1) - تحقق التناقض القطعي بينه وبين الحكم الواقعي، وعلى هذا المبنى كما يمكن المناقضة القطعية بين الحكمين في الشبهة غير المحصورة يمكن المناقضة القطعية بين الحكمين في الشبهة المحصورة.

لكنه محل تأمل، فإنه إنما يتم ما ذكره فيما لو قلنا بموضوعية عنوان الشبهة غير المحصورة للحكم بعدم وجوب الاجتناب، لكن لا موضوعية له بما هو هو، حيث لم يرد في آية أو رواية، وإنما الموضوعية لما يلازم هذا العنوان أو يقارنه من العناوين الأخرى، التي هي غالباً ملازمة للشبهة غير المحصورة، وتلك العناوين رافعة للحكم الواقعي.

مثلاً: أحد العناوين المقارنة أو الملازمة - عادة - عنوان الضرر أو الحرج أو العسر، فإن الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة غير المحصورة ضرري أو حرجي، وعنوان الضرر ونحوه من العناوين الطارئة الرافعة للأحكام الأولية، فلا حكم ولا إلزام في الشبهة غير المحصورة.

وذلك مثل العلم بالحكم التفصيلي، فإن الحكم المعلوم بالتفصيل لو كان ضررياً فهو مرتفع، فلا مناقضة، فإن المولى يرفع يده عن الحكم حين يرخص في الاقتحام، وهذا بخلاف العلم الإجمالي حيث لا تتحقق - عادة - هذه العناوين، فالحكم بالترخيص مناقضة قطعية.

ص: 219


1- مقالات الأصول 2: 151؛ فرائد الأصول 2: 257؛ درر الفوائد 1: 247.

ومن العناوين المقارنة للشبهة غير المحصورة خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء عادة، وهو شك في التكليف لا في المكلف به، فإن التكليف في غير محل الابتلاء قبيح، فيكون التكليف إما ثابتاً لو كان في محل الابتلاء، أو غير ثابت لو كان في غيره، فحيث إنه شك في التكليف كان مجرى البراءة لا الاشتغال، ويحكم بجواز الاقتحام في الشبهة غير المحصورة بما أنها شك في التكليف، أما في الشبهة المحصورة فإن الشك في المكلف به، ويدل عليه أنه لو كان أحد الطرفين في الشبهة المحصورة خارجاً عن محل الابتلاء لم يجب الاجتناب.

والحاصل: إن ما ذكره صاحب الكفاية(1)

- من جواز الاقتحام في الشبهة غير المحصورة من دون لزوم محذور المناقضة، فلا بد من الجواز في الشبهة غير المحصورة - غير تام، فإن الجواز في الأول ليس لموضوعية العنوان المذكور، بل لعناوين أخرى مفقودة في المقام.

الجواب الثالث: ما ذكره صاحب الكفاية، وهو جواب حلي، حيث قال: «إن التكليف حيث لم ينكشف به(2) تمام الانكشاف(3) وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة، جاز الإذن من الشارع بمخالفته احتمالاً، بل قطعاً»(4).

ص: 220


1- كفاية الأصول: 272-273.
2- أي بالعلم الإجمالي.
3- حيث لم ينكشف الحكم تمام الانكشاف لأن التكليف - بلحاظ المتعلق - مجمل.
4- كفاية الأصول: 272.

وهذه هي الصغرى، وأما الكبرى - ولم يتطرق إليها - فلا مناقضة بين الحكم الظاهري والواقعي.

وحاصل كلامه على إجماله وإبهامه: أن العلم الإجمالي ليس علماً محضاً، بل علم مشوب بالإبهام؛ وذلك لإجمال المتعلق، وبلحاظ هذا الإجمال تكون مرتبة الحكم الظاهري محفوظة، ولذا أمكن للمولى أن يأذن في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال.

وأورد عليه في النهاية(1) بأن المراد من انحفاظ(2) مرتبة الحكم الظاهري

احتمالات:

الاحتمال الأول: «إن انحفاظ المرتبة إن كان بلحاظ تعليقية حكم العقل بالاستحقاق على عدم المؤمن من الشارع... ففيه: أن مخالفة التكليف المعلوم، بل عدم المبالاة به بالانبعاث عنه والانزجار به ظلم عليه(3)، وهو قبيح بالذات، وتخلف الذاتي عن ذي الذاتي محال»(4).

بيانه: إن حكم العقل باستحقاق العقاب على معصية المولى تعليقي لا تنجيزي، حيث إنه معلق على عدم وصول المؤمن من الشارع، فإن الطاعة حق للمولى يمكنه رفع اليد عنه، بأن يقول: لا تجب عليك طاعتي، ولذا جاز الاقتحام في العلم الإجمالي مع ثبوت التكليف المعلوم بالإجمال بين

ص: 221


1- نهاية الدراية 2: 98-99.
2- إن صحت كلمة الانحفاظ وهي بمعنى المحفوظية.
3- والأولى التعبير عن ذلك بالهتك والتمرد لا الظلم على المولى لعدم وروده، بل ورد خلافه حيث قال تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. البقرة: 57.
4- نهاية الدراية 2: 98-99.

الطرفين، والمؤمن في المقام موجود بأدلة الرفع، فإن الإناء الأول غير معلوم الحرمة، فيشمله دليل الرفع، وكذا الإناء الثاني، وقد عول عليه بعض المعاصرين.

فإن أريد الاحتمال فيرد عليه: إن مخالفة التكليف المعلوم ظلم على المولى وهو قبيح بالذات، وتخلف الذاتي عن ذي الذاتي محال، وقد أشار إلى تفصيله في بعض المباحث السابقة.

وأما على نحو الإجمال: فإن القبح في العناوين المحكومة به نوعان: قبح ذاتي وقبح عرضي، والثاني ينتهي إلى الأول؛ لانتهاء كلما بالعرض إلى ما بالذات، هذا على نحو الكبرى الكلية، وهي تامة على ما قرر في محله.

وأما الصغرى فإن الظلم قبيح بذاته، فلو تحقق هذا العنوان كان الشيء قبيحاً قطعاً، ولا يمكن أن ينفك الحكم العقلي بالقبح عن عنوان الظلم، وهذا بخلاف الكذب مثلاً، فهو وإن اقتضى القبح لكنه بلحاظ انطباق عنوان الظلم عليه، ولذا لو لم يكن ظلماً لم يكن قبيحاً، كالكذب للإصلاح، بل يمكن القول: إنّه حسن.

وفيما نحن فيه، لا يكون عنوان (مخالفة المولى) بما هي مخالفة للمولى قبيحاً بذاته، ولا يقتضي القبح(1)، وإنما يكون كذلك فيما لو انطبق عليه عنوان ظلم المولى، والتمرد عليه وهتك حرمته، ويتحقق فيما إذا قامت الحجة على التكليف، فتكون المخالفة هتكاً وظلماً وتمرداً، ومع انطباق

ص: 222


1- فإن أكل الميتة الواقعية مخالف لنهي المولى، ولكن لا قبح فيه مع وجود المؤمن الشرعي.

عنوان الظلم على المخالفة بسبب قيام الحجة على التكليف يستحيل انفكاك عنوان الظلم عن هذه المخالفة، لما سبق من أن ثبوت عنوان القبح للظلم ذاتي، والذاتي يستحيل أن ينفك عن ذي الذاتي، وعليه يستحيل أن يأذن المولى في المخالفة؛ لأنها قبيحة.

فنسأل القائل بالتعليقية: هل يمكن للمولى أن يأذن بالمخالفة في العلم التفصيلي بالتكليف بأن يحرم الخمر ثم يجيز شربه؟ والجواب: كلا؛ لأن شرب الخمر هتك لحرمته وظلم له، فيكون قبيحاً، ويبعد أن يناقش أحد في ذلك، وعليه لا يمكنه الإذن بالمخالفة في العلم الإجمالي؛ لقيام الحجة على التكليف الواقعي، وهي العلم الإجمالي، فلا حكم من العقل هنا بنحو الاقتضاء والتعليق، بل بنحو العلية والتنجيز، فالاحتمال الأول - ويبعد أن يكون مراد صاحب الكفاية حيث إنه ليس ناظراً إلى تعليقية قبح المعصية - مردود، وما ذكر في النهاية تام ظاهراً.

الاحتمال الثاني: وهو «وإن كان(1)

انحفاظ المرتبة بلحاظ إناطة الإنشاء الواقعي بوصوله تفصيلاً في صيرورته بعثاً وزجراً شرعاً»(2).

ومرجعه في الواقع إلى اشتراط العلم التفصيلي لبلوغ الإنشاء الواقعي إلى مرحلة الفعلية، فيكون العلم التفصيلي شرطاً، أو الجهل التفصيلي مانعاً عن بلوغ مرحلة الحكم الإنشائي إلى مرحلة الحكم الحقيقي، أي الفعلية.

والحاصل: إن مفاد هذا الاحتمال عدم فعلية الحكم في العلم الإجمالي.

ص: 223


1- انحفاظ المرتبة الذي ذكره في الكفاية.
2- نهاية الدراية 2: 99.

ويرد على هذا الاحتمال أن الكلام في العلم الطريقي المحض لا في العلم المأخوذ في الموضوع، وإلا لو جعل العلم موضوعياً أمكن للمولى أن يجعل السبب الخاص مأخوذاً في الموضوع، حتى في العلم التفصيلي، وقد عرفت أن الكلام هنا متمحض في الفرق بين العلم التفصيلي والإجمالي فيما لو كان العلم طريقياً، وحيث إنه لا فارق بينهما - كما في النهاية(1) - فلا يمكن للمولى الترخيص، فلو حرم الخمر كان الخمر المعلوم بالتفصيل حراماً، كما أن الخمر المردد بين الإناءين والمعلوم إجمالاً حرام، فيستحيل بعد الحكم بحرمة الخمر المعلوم بالإجمال الإذن في الاقتحام في الطرفين.

وبعبارة مختصرة: القول بأخذ القطع التفصيلي في الفعلية خروج إلى القطع الموضوعي، والكلام في القطع الطريقي المحض، كأن يقول المولى: الخمر حرام، فتكون الحرمة محمولة على ذات الخمر، فيقع البحث في الفرق بين الخمر المنكشفة بالقطع التفصيلي والقطع الإجمالي، ولا فارق بينهما.

وما ذكره في النهاية تام فنياً، لكن مر سابقاً أن البحث الأصولي مقدمة للتطبيق على صغريات الفقه، والبحث في الفقه هو حرمة الدم مثلاً، فيمكن للمولى أن يحكم بجواز الاقتحام في كل الأطراف بعد عدم العلم به تفصيلاً، بتخريج الاشتراك في الإنشاء الواقعي، إلا أن شرط فعلية هذا الإنشاء الواقعي هو العلم التفصيلي، فيمكن الترخيص في اقتحام كلا الطرفين بهذا التخريج.

ولأجل ذلك قلنا في المباحث السابقة كأن البحث بين الأعلام لفظي،

ص: 224


1- نهاية الدراية 2: 99.

فبغض النظر عن الألفاظ، فإن وصول الإنشاء الواقعي إلى مرحلة الفعلية منوط بالعلم التفصيلي، أو يكون الجهل مانعاً عن وصول هذا الإنشاء الواقعي إلى مرحلة الفعلية.(1)

المبحث الرابع: جريان الأصول العملية الترخيصية في بعض أطراف العلم الإجمالي

اشارة

المبحث الرابع: في إمكان جريان الأصول العملية الترخيصية في بعض أطراف العلم الإجمالي بحسب مقام الثبوت.

قال المحقق العراقي بامتناع الجريان(2)، وحاصل كلامه أن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، ولا تحصل إلا بالاجتناب عن كلا الإناءين في الشبهة التحريمية بحكم العقل، ولا يمكن للشارع التصرف في حكم العقل والإذن في اقتحام بعض الأطراف؛ لأنه ترخيص في المعصية الاحتمالية، وهو قبيح، كالترخيص في المعصية القطعية.

ويرد عليه إشكالات

الإشكال الأول: ما في المصباح(3) وتبعه السيد القمي(4) من النقض عليه بما لو كان الأصل الجاري في بعض الأطراف نافياً دون البعض الآخر، كما لو وقعت قطرة الدم في أحد الإناءين، وكان الأول مستصحب النجاسة، فمع

ص: 225


1- ذكر السيد الأستاذ (رحمه اللّه) تتمّة المحاذير لكنها لم تقرّر (المقرّر).
2- نهاية الأفكار 3 : 156.
3- مصباح الأصول 2: 349.
4- آراؤنا في أصول الفقه 2: 140.

العلم بالتكليف إجمالاً اكتفى الشارع بالامتثال الاحتمالي باجتناب الأول فحسب، فلو كان الامتثال الاحتمالي كافياً ففيما نحن فيه كافٍ أيضاً.

لكنه محل تأمل؛ لتحقق علمين إجماليين في مورد النقض:

الأول: العلم بوقوع قطرة الدم ولا أثر لهذا العلم؛ لأن شرط تنجيز العلم الإجمالي كونه مولداً للتكليف على كل تقدير، وهو مفقود في المقام، كما أوضحناه سابقاً.

الثاني: ما اعتمدا عليه: من تحقق التكليف بالاجتناب حين وقوع الدم في متن الواقع، مع قطع النظر عن نعت القدم والحدوث، وقد أمر الشارع بامتثاله بالاجتناب عن الإناء المستصحب النجاسة، ولا يجب الاجتناب عن الإناء الآخر، فإنه اجتناب وامتثال احتمالي.

لكن هذا العلم الإجمالي لا أثر له أيضاً، حيث إنه ليس في الواقع علماً إجمالياً، بل هو دوران بين الأقل والأكثر، فإن الأمر بالاجتناب عن الأول موجود قطعاً، ويشك في تولد الأمر بالاجتناب عن الثاني فتجري البراءة.

وبعبارة أخرى: لقد تم امتثال الأمر بالاجتناب، وذلك بالاجتناب عن الإناء الأول، والأمر بالاجتناب الثاني مشكوك.

والحاصل: إن العلم الإجمالي الأول فاقد لشرط التنجيز بعد تحقق كونه علماً إجمالياً، والعلم الإجمالي الثاني ليس علماً إجمالياً، بل هو دوران بين الأقل والأكثر، فلا يصح قياسهما بالمقام، حيث إنَّ العلم الإجمالي متحقق وهو جامع لشرائط التنجيز، كما لو وقع الدم في أحد الإناءين الطاهرين، فيتولد التكليف على كل تقدير، فالنقض على المحقق العراقي غير وارد.

ص: 226

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق النائيني في طي كلماته من النقض بالموارد التي اكتفى الشارع فيها بالامتثال الاحتمالي في العلم التفصيلي «كموارد قاعدة الفراغ والتجاوز وغير ذلك من الأصول المجعولة في وادي الفراغ »(1)، مع أنه مساوق للمعصية الاحتمالية، فبطريق أولى يمكنه الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في موارد العلم الإجمالي.

مثلاً: لو شك في الطهارة من الحدث بعد الفراغ من صلاة الظهر، فقد حكم الشارع بصحتها واكتفى بالامتثال الاحتمالي مع العلم التفصيلي بالتكليف، وفي المقام يمكن للشارع أن يقنع بالامتثال الاحتمالي بالاجتناب عن أحد الإناءين بطريق أولى.

لكن المستفاد من كلام المحقق العراقي عدم ارتضائه للنقض المذكور، حيث قال: «لما لم يكن حكم العقل في مقام تفريغ الذمة مخصوصاً بالمفرغ الوجداني الحقيقي، بل يعم المفرغ الجعلي التعبدي، كان للشارع التصرف في هذه المرحلة بجعل بعض الأطراف بدلاً ظاهرياً عن الواقع... وهذا بخلاف الترخيص في بعض الأطراف بلا جعل بدل»(2).

وحاصله: يوجد عندنا مقامان: الأول: الاكتفاء بالبراءة اليقينية التعبدية، والثاني: تسويغ الاكتفاء بالبراءة الاحتمالية، ومورد النقض من قبيل الأول، حيث اكتفى الشارع بالبراءة اليقينية التعبدية، فإن اليقين نوعان: وجداني وتعبدي، ولا يحكم العقل بلزوم تحصيل البراءة اليقينية الوجدانية، بل حكمه

ص: 227


1- فوائد الأصول 4: 34.
2- نهاية الأفكار 3: 309.

أعم من البراءة اليقينية الوجدانية والبراءة اليقينية التعبدية، وفي جريان قاعدة الفراغ حكم الشارع بصحة الصلاة، فحصل اليقين التعبدي بالبراءة اليقينية، وذلك كحكم البينة بالطهارة، حيث إنه كافٍ حتى مع الشك الوجداني واحتمال خطئها، وكذلك الحال في الطهارة من الخبث، حيث يحرز وجداناً أو بأصالة الطهارة، فيكون المصلي واجداً للشرط تعبداً، ولا فرق بين الوجدان الوجداني، والوجدان التعبدي، فيحكم الشارع بحصول الشرط تعبداً، فهو براءة يقينية من التكليف، منتهى الأمر أنها براءة يقينية تعبدية.

لكن مورد الكلام في إمكان تسويغ اكتفاء المكلف بالبراءة الاحتمالية المساوقة للمعصية الاحتمالية، وهو غير ممكن، حيث لا يمكن للشارع تسويغ المعصية الاحتمالية.

والحاصل: إن الفرق بين مورد النقض ومورد الكلام أن مورد النقض هو كون البراءة يقينية، منتهى الأمر أنها تعبدية، ومورد الكلام هو كون البراءة احتمالية وهي غير كافية.

وبعبارة أوضح: إنَّ تحقق الحكومة في الأدلة الأولية هو على نحو التوسعة في باب الفراغ والتجاوز، بخلاف المقام.

ففي الحديث: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : «أشك وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا، فقال (عليه السلام) : قد ركعت امضه»(1) فالصلاة تعبداً واجدة للركوع، فهو امتثال يقيني للتكليف المعلوم، لا أنه امتثال مشكوك، وذلك كشهادة البينة بالركوع.

ص: 228


1- تهذيب الأحكام 2: 151.

وفي رواية أخرى: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : «استتم قائماً فلا أدري ركعت أم لا؟ قال (عليه السلام) : بلى قد ركعت فامض في صلاتك، فإنما ذلك من الشيطان»(1) فهو راكع تعبداً لا وجداناً.

وفي رواية ثالثة: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : «رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال: قد ركع»(2).

وفيما أورده المحقق العراقي تفصيل، حيث إن هنا لحاظين:

الأول: لحاظ البحث الأصولي بما هو هو، والظاهر أن الفرق بين المقامين بهذا اللحاظ تام، فإن التكليف اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، سواء أكانت وجدانية أم تعبدية، فالمفرغ اليقيني التعبدي عن التكليف المعلوم حاصل في مورد النقض، وأما في المقام فإن البراءة احتمالية، وهي ليست كذلك.

الثاني: لحاظ البحث الأصولي مقدمة للتطبيق الفقهي - كما ذكرنا سابقاً - والكلام في المقام الرابع في إمكان الإذن في الاقتحام مع العلم بالتكليف إجمالاً، والمحذور في ذلك هو الإذن في المعصية الاحتمالية، لكنه يندفع بدلالة الترخيص بدلالة الاقتضاء(3)

على جعل الشارع الإناء الثاني بدلاً عن

ص: 229


1- الاستبصار 1: 357.
2- تهذيب الأحكام 2: 151.
3- دلالة الاقتضاء: عبارة عما يتوقف صدق الكلام أو صحته عقلاً أو شرعاً أو عرفاً أو عادة عليه، ومن الأمثلة لذلك - وهو محل الشاهد - فيما لو قال: (اعتق عبدك عني بألف) فإن صحته شرعاً موقوفة على طلب تمليك العبد في رتبة سابقة قبل طلب العتق، حيث إنه (لا عتق إلا في ملك) أي (ملكه لي بألف ثم أعتقه عني)، وقد أفتى الفقهاء في موارد بالتمليك أو الملك الآنامائي (منه (رحمه اللّه) ).

الواقع.

وبعبارة أخرى: إن محذور الترخيص في المعصية الاحتمالية مانع عن الإذن في الاقتحام، لكن صحة الكلام - عقلاً - موقوفة - بدلالة الاقتضاء - على جعل الشارع الإناء الآخر بدلاً عن الواقع، فنقول: هذا الترخيص بدلالة الاقتضاء مسبوق بجعل البدلية، بأن يقول المولى: الإناء الآخر هو الخمر، فالترخيص لا ينافي الحكم بلزوم الاجتناب، ومع جعل البدلية يرتفع المحذور حتى عند المحقق النائيني. وهو كما لو علم إجمالاً بكون الإناء الأول خمراً، وقامت البينة على أنّه الثاني، حيث لا مانع من شرب الأول؛ لأنه امتثال تعبدي قطعي للأمر بالاجتناب.

ولا فرق بين إذن الشارع بالاقتحام بالتخصيص أو بالتعميم، كقوله: «كل شيء لك حلال»(1) أو «رفع ما لا يعلمون»(2)، حيث لا مانع من شموله لأحد الإناءين في حال عدم شموله للإناء الآخر.

ويدل عليه الإطلاق في مقام الإثبات(3)،

فإن الإطلاق موقوف على رفع المحذور، وهو موقوف على تنزيل الإناء الآخر منزلة الواقع.

والحاصل: إن الترخيص بالعموم أو بالخصوص لأحدهما كاشف عن رفع الشارع للمحذور في الرتبة المتقدمة بدلالة الاقتضاء، ورفع المحذور متوقف على جعل البدلية عن الواقع في الرتبة السابقة.

ص: 230


1- الكافي 6: 339.
2- وسائل الشيعة 4: 373.
3- وإن كان البحث في مقام الثبوت.

الإشكال الثالث: ما في المصباح، حيث قال: «بأن موضوع الأصول إنما الشك في التكليف، وهو موجود في كل واحد من الأطراف بخصوصه»(1).

فإن موضوع البراءة الشك في التكليف، والشك اللاحق موضوع الاستصحاب، فالإناء الأول حيث لا علم بوجوب الاجتناب عنه كان شكاً في التكليف، ولا مانع من جريان الأصل فيه لتحقق موضوعه.

لكنه محل تأمل؛ فإن الكبرى الكلية مسلمة، لكن الشك في التكليف نوعان: الشك الساذج في التكليف، أي البسيط، فهذا مجرى الأصل العملي، أما الشك في التكليف المقرون بالعلم الإجمالي فلا، لأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، ولا تحصل إلا بالاجتناب عن كلا الطرفين، فلا يمكن الترخيص في المعصية الاحتمالية، حيث إنه خلاف القاعدة العقلية.

وبعبارة أخرى: الشك في التكليف لو لم يكن مقروناً بالعلم الإجمالي لكان مجرى البراءة، أما مع العلم الإجمالي فهو مجرى قاعدة الاشتغال.

الإشكال الرابع: ما مر سابقاً من إمكان الترخيص في الاقتحام في الطرفين معاً ثبوتاً؛ لأن مآله إلى تقييد فعلية(2) الأحكام الواقعية بالعلم التفصيلي، فكيف بالطرف الواحد ؟

فتحصل من جميع ذلك أن الشارع يمكنه الترخيص في اقتحام أحد الطرفين، بل كليهما ولا محذور في ذلك ثبوتاً.

ويبقى الكلام في وقوع الترخيص في أحد الطرفين أو كليهما.

ص: 231


1- مصباح الأصول 2: 350.
2- لا تقييد مرحلة الاقتضاء والإنشاء.

المبحث الخامس: وقوع الترخيص الشرعي في أطراف العلم الإجمالي

اشارة

المبحث

الخامس: في وقوع الترخيص الشرعي بحسب مقام الإثبات في جميع أطراف العلم الإجمالي.

وهذا البحث متفرع على اختيار إمكان الترخيص في المباحث السابقة، وأما لو كان المبنى امتناع الترخيص في مقام الثبوت فلا تصل النوبة إلى البحث في مقام الإثبات.

وفي هذا المبحث مطالب
المطلب الأول

في جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي، كما في استصحاب طهارة الإناءين مع العلم الإجمالي بسقوط قطرة الدم في أحدهما.

وقد ذكرت وجوه، أو يمكن أن تذكر، لعدم جريان الاستصحاب في جميع أطراف العلم الإجمالي، وهي:

الوجه الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم(1) من أن جريان الاستصحاب في جميع أطراف العلم الإجمالي مستلزم لحصول المناقضة بين صدر الدليل وذيله.

توضيحه: إن لرواية الاستصحاب مقطعين: الأول: الصدر، ويحتوي على كلمة (الشك) وله إطلاق أو عموم(2)، فيشمل الشبهة البدوية والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، حيث إن كل واحد من الطرفين مشكوك فيه؛

ص: 232


1- فرائد الأصول 3: 410.
2- وهذا مبني على الخلاف في أن المفرد المحلى بالألف واللام هل يفيد الإطلاق أو العموم (منه (رحمه اللّه) ).

لعدم العلم بوقوع الدم فيه بعينه.

الثاني: الذيل، ويحتوي على كلمة (اليقين) وله إطلاق أو عموم فيشمل اليقين التفصيلي والإجمالي، حيث نعلم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين.

فمقتضى الصدر إبقاء طهارة كل واحد منهما، ومقتضى الذيل عدم إبقاء طهارة الإناء المعلوم بالإجمال الذي سقط فيه الدم، وبما أن الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية فمقتضى الصدر السلب الكلي، ومفاد الذيل الموجبة الجزئية، فيكون شمول الرواية لجميع أطراف العلم الإجمالي موجباً للتناقض بين الصدر والذيل، فتكون الرواية خاصة بالشبهات البدوية، أو شاملة لأحد الطرفين لا كليهما.

والنتيجة: أن روايات الاستصحاب لا تشمل جميع أطراف العلم الإجمالي؛ لمحذور التناقض بين الصدر والذيل.

ويرد عليه إشكالات:

الإشكال الأول: ما ذكره المحقق الخراساني في الكفاية(1) والحاشية(2)، قال: عدم الشمول لمكان التناقض لا يوجب عدم شمول الأخبار الخالية عن الذيل، وتبعه المحقق النائيني(3).

توضيحه: إن روايات الاستصحاب على نوعين: الأول: الروايات المغياة، وهي التي تطرق إليها الشيخ لبيان إجمالها، وعدم إمكان شمولها لموارد

ص: 233


1- كفاية الأصول: 432.
2- درر الفوائد 1: 418.
3- فوائد الأصول 4: 22.

العلم الإجمالي، الثاني: الروايات غير المغياة، وقد اعترف أنها تشمل جميع أطراف العلم الإجمالي، فإذا كانت الروايات المغياة مجملة - للتناقض بين الصدر والذيل - فلا إجمال في غيرها، وإجمال دليل لا يسري إلى غيره، والحاصل أن إجمال المغيّا لا يسري إلى غير المغيّا.

لكن يرد عليه أمران:

الأمر الأول: ما ذكره بعض المعاصرين، قال: يقدم المشتمل على الزيادة على غير المشتمل عليها(1).

إلا أن هذه الكبرى الكلية - مع تماميتها - ليست كبرى لصغرى ما نحن فيه، فلو دار الأمر بين الزيادة والنقيصة فأصالة عدم الزيادة مقدمة على أصالة عدم النقيصة مع فرض وحدة الخبر، وهي أصل عقلائي، وجرت عليه سيرة الفقهاء في الفقه، أما مع تعدد الروايات فلا مجال لهذه القاعدة.

مثلاً: صحيحة زرارة الأولى حول نقض الوضوء بالخفقة والخفقتين، قال (عليه السلام) : «ولا تنقض اليقين أبداً بالشك، وإنما تنقضه بيقين آخر»(2)

وهي مذيلة.

وصحيحته الأخرى: فيمن أصاب ثوبه دم رعاف، فقال (عليه السلام) : «لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً»(3).

ص: 234


1- المحصول 3: 475.
2- وسائل الشيعة 1: 245.
3- الاستبصار 1: 183.

وفي مقطع آخر منها: «فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك»(1) ولا ترتبط بالخفقة، فلا وجه لجريان أصالة عدم الزيادة وترجيحها على أصالة عدم النقص.

وكذا موثقة عمار، حيث قال (عليه السلام) : «إذا شككت فابن على اليقين، قلت: هذا أصل، قال: نعم»(2) وهي غير مذيلة ولا إجمال فيها، فتشمل جميع أطراف العلم الإجمالي، ولا ترتبط بصحيحة زرارة الأولى المذيلة المجملة.

الأمر الثاني: يمكن دعوى تقييد جميع الروايات مع وجود قيد منفصل في إحدى الروايات، كما هي القاعدة الكلية في الإطلاق والتقييد، حيث يحمل المطلق على المقيد، فإن نسبة التقييد في المغيّا وغيرها نسبة واحدة، والغاية تقيد تمام الأخبار، سواء أكانت مغياة أم لا.

ومفاد صحيحة زرارة المقيدة هو عدم نقض اليقين بالشك بشرط عدم وجود يقين آخر، وإنما ينقض بيقين آخر، وهذا الشرط كما يقيد الرواية المذيلة يقيد جميع روايات الباب، ومعه تكون كل الروايات مجملة، فلا تشمل جميع أطراف العلم الإجمالي.

والمثال العرفي لذلك ما إذا قال المولى: (أكرم عمراً لأن العالم يجب إكرامه) وقيده في مورد آخر بقوله: (أكرم خالداً لأن العالم يجب إكرامه بشرط كونه عادلاً)، فالظاهر أن التقييد يسري من الثاني إلى الأول، وروايات الاستصحاب من هذا القبيل.

ص: 235


1- تهذيب الأحكام 1: 421.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 351.

ولو تم هذا الأمر كان إشكال الشيخ الأعظم وارداً، وما ذكره صاحب الكفاية غير تام؛ لا لما ذكره بعض المعاصرين في الأمر الأول، بل لما ذكرناه في الأمر الثاني.

الإشكال الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية في الحاشية، حيث قال: «ظهور النهي في العموم لليقين والشك في طرفي الشبهة أقوى من ظهور قوله: ولكن تنقضه، في العموم لليقين بانتقاض الحالة السابقة إجمالاً في أحدهما، كما لا يخفى وجهه من وقوع الجنس في سياق النهي الواقع في مقام الكبرى فيه بخلافه، بل يمكن دعوى عدم ظهوره في العموم رأساً؛ لعدم الوضع له وهو واضح، وعدم سوق القضية في مقام البيان من هذه الجهة، ولو سلم في المقام، فشمول الصدر لليقين والشك في الطرفين يصلح قرينة على عدم إرادة اليقين بالانتقاض»(1).

لكنه محل تأمل، فبعد قبول الكبرى الكلية المطوية في كلامه - وهي تقديم أقوى الظهورين عند تعارضهما، ومن هنا يقدم الخاص على العام والمقيد على المطلق - إلا أن الأقوائية عرفية ولا تثبت بالتدقيقات العقلية، فما ذكره في الحاشية تدقيقات عقلية ولغوية فلا تصنع الظهور، فبالوجدان العرفي لا نرى أن ظهور الصدر في الشمول أقوى من ظهور الذيل، هذا بعنوان الجواب الإجمالي.

وأما قوله: «من وقوع الجنس في سياق النهي الواقع في مقام الكبرى فيه،

ص: 236


1- درر الفوائد 1: 419.

بخلافه» فهو تام في حد ذاته، فإن اليقين والشك في الصدر(1) جنس محلى ب- (ال) وهو يفيد العموم، بخلاف يقين في الذيل(2) حيث إنه نكرة في سياق الإثبات، فلا تفيد العموم.

لكنه مشروط بعدم كونه في مقام إعطاء الضابطة الكلية، ومجموع الصدر والذيل في مقام إعطاء الضابطة الكلية لما ينقض وما لا ينقض، وعليه فإن الذيل يفيد العموم كما هو الحال في الصدر، بمعنى أن الناقض هو اليقين المخالف فقط، لا أنها قضية مجملة مهملة، بمعنى إنما تنقضه ببعض أفراد اليقين.

وأما قوله: «عدم سوق القضية في مقام البيان من هذه الجهة» أي ليس في مقام بيان إفادة العموم، ففيه: أنه مع كون الذيل في مقام بيان الضابطة الكلية تكون القضية مسوقة للبيان من هذه الجهة، مضافاً إلى أن الأصل لدى الشك كون المولى في مقام البيان من جميع الجهات.

وقد قبل هذا الأصل جمع، منهم: السيد الوالد (رحمه اللّه) ، فلا يلزم إحراز كون المولى في مقام البيان بالوجدان، بل يكفي إحرازه ولو بالأصل العقلائي، وإلا فيشكل على كثير من المطلقات والعمومات، كقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا}(3) فهل يشمل الربا التجاري، حيث لا يعلم كون المولى في مقام البيان؟ وكقوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}(4) فهل يشمل ما

ص: 237


1- أي: قوله (عليه السلام) : «لا تنقض اليقين بالشك».
2- أي: قوله (عليه السلام) : «وإنما تنقضه بيقين آخر».
3- البقرة: 275.
4- النور: 31.

إذا لم تكن هنالك مظنة الإثارة، حيث يمكن القول بعدم الإطلاق؟ وهكذا في جميع المطلقات، فلا يستقر حجر على حجر.

وأما قوله: «فشمول الصدر لليقين والشك في الطرفين يصلح قرينة على عدم إرادة اليقين بالانتفاض» بمعنى أن عموم الصدر وشموله لأطراف العلم الإجمالي قرينة على أن المراد من الذيل خصوص اليقين التفصيلي، لا الأعم منه ومن الإجمالي، ففيه: أنه لا دليل على كون الصدر قرينة على الذيل، كما لا دليل على العكس، ففي قوله: (رأيت أسداً يرمي) فالذيل قرينة على الصدر، وفي عكسه (الرامي أسد) الصدر قرينة على الذيل.

فدعوى كون الصدر شاملاً للشبهة البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي، فعمومه قرينة على كون المراد من الذيل خصوص اليقين التفصيلي، يقابل بدعوى شمول الذيل لليقين التفصيلي والإجمالي، فيكون قرينة على التصرف في الصدر، وإن المراد منه خصوص اليقين والشك في الشبهة البدوية، لا الأعم منه ومن المقرونة بالعلم الإجمالي.

فالإشكال الثاني على كلام الشيخ غير تام كالإشكال الأول.

الإشكال الثالث: ما ارتضاه جمع من الأصوليين، ومنهم بعض المعاصرين(1): من عدم وجود أية مناقضة بين الصدر والذيل؛ وذلك لأن اليقين المأخوذ في الذيل ظاهر عرفاً في اليقين الناقض لليقين المتقدم الرافع له، وهذا المعنى لا يتحقق إلا أن يكون متعلق اليقين والشك المتقدم عين متعلق اليقين الناقض، وأما لو كان المتعلق مختلفاً فاليقين اللاحق لا يكون

ص: 238


1- أجود التقريرات 2: 242؛ نهاية الدراية 2: 282؛ بداية الوصول 5 : 114.

ناقضاً لليقين السابق.

وفي أطراف العلم الإجمالي يكون متعلق اليقين والشك هو الإناء الأول بعينه، وكذلك الإناء الثاني، فالمتعلق هو العنوان التفصيلي، أما متعلق اليقين الناقض فهو العنوان الإجمالي، أي عنوان (أحدهما)، حيث نقول: وقع الدم في أحدهما، فمتعلق اليقين الناقض مغاير لمتعلق اليقين المنقوض، فلا يصلح أن يكون ناقضاً له، فإن الإناء الأول متيقن الطهارة سابقاً مشكوكها لاحقاً، فلا ينقض هذا اليقين بالشك، وكذلك الإناء الثاني، وأما العلم بنجاسة أحدهما فلا ينقض اليقين السابق، فيكون مستقراً مستحكماً، وعليه تكون أطراف العلم الإجمالي مشمولة للصدر لا الذيل، فلا تعارض بينهما.

ويتضح ذلك بما لو طرأ اليقين التفصيلي على اليقين التفصيلي فإنه هادم له، وأما فيما نحن فيه، فإن اليقين التفصيلي موجود مع وجود اليقين الإجمالي، فإن ركني الاستصحاب تامان في الإناء الأول، فلا تنقض اليقين بالشك، وهذا اليقين لا ناقض له لوجوده في القلب، حيث تقولون: هذا الإناء متيقن الطهارة سابقاً مشكوكها لاحقاً، فالركنان في الإناء الأول متحققان، وهكذا الأمر في الإناء الثاني. ففي ظرف اليقين الإجمالي، يكون اليقين بالطهارة السابقة والشك اللاحق متحققين في الإناءين، فيعلم أن اليقين الإجمالي ليس ناقضاً لليقين التفصيلي.

نعم، اليقين الإجمالي ناقض لليقين الإجمالي، فيعلم أن متعلق اليقين والشك غير متعلق اليقين الناقض، فلا يصلح أن يكون ناقضاً، كالعلم ببياض هذا الجدار وسواد الجدار الثاني.

ص: 239

وقد ذكر المحقق العراقي(1) في غير هذا المقام أنَّ العنوان الإجمالي والتفصيلي متغايران، بشهادة اجتماع الحالات المتضادة في العناوين التفصيلية والإجمالية، مثلاً: زيد مشكوك المجيء، وعمر مشكوك المجيء بعنوانهما التفصيلي، لكن أحدهما معلوم المجيء فيعلم أن أحدهما - وهو عنوان إجمالي - غير العنوان التفصيلي؛ ولذلك تعلق الشك بالعنوان التفصيلي، وتعلق اليقين بالعنوان الإجمالي، ولا ينقض أحدهما الآخر، بل يجتمعان معاً، ولأن متعلق اليقين والشك مختلفان، أحدهما هو العنوان التفصيلي والآخر هو الإجمالي اجتمعا معاً في نفس العالم الشاك، ولا ينقض أحدهما الآخر، وكذلك في المقام.

وعليه، فصدق النقض متوقف على وحدة سنخ الناقض والمنقوض، أما لو كان المنقوض هو اليقين والشك التفصيلي، والناقض هو اليقين الإجمالي، فلا يصلح الناقض للناقضية.

وخلاصة هذا الإشكال: أنه لا بد وأن يكون متعلق اليقين الناقض والمنقوض والشك متحداً، والاتحاد في العلم الإجمالي مفقود؛ لأن اليقين الناقض متعلق بعنوان أحد الإناءين، واليقين المنقوض والشك اللاحق متعلق بهذا الإناء بعينه، وذلك الإناء بعينه.

وبعبارة مختصرة: إنَّ متعلق اليقين الناقض عنوان (أحد الإناءين) الإجمالي، ومتعلق اليقين المنقوض والشك اللاحق هو العنوان التفصيلي، أي هذا الإناء بعينه وذاك بعينه، ومع الاختلاف في المتعلق لا يصدق

ص: 240


1- نهاية الأفكار 3: 294، 299.

النقض، فلا يكون مشمولاً لقوله: «انقضه بيقين آخر».

وبعبارة بسيطة وبغض النظر عن المصطلحات: ظاهر الرواية وحدة سنخ اليقين في الصدر والذيل، فالمراد من اليقين في الصدر هو اليقين التفصيلي، فيكون المراد من اليقين في الذيل اليقين التفصيلي أيضاً.

وأجاب عنه السيد العم(دام ظله) في بيان الأصول بقوله: «بأنَّ أحدهما عنوان للطاهر الخارجي(1)، وإنما الطاهر الخارجي إما هذا المعين أو ذاك المعين»(2).

وكلامه (دام ظله) في إمكان استصحاب نجاسة الإناءين مع العلم بطرو الطهارة على أحدهما، لكن بحثنا أعم من ذلك(3)، حيث لا فرق في المقام بين الموردين؛ لأن الكلام متمحض في لزوم الناقض بين الصدر والذيل مع شمول أدلة الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي، ولا فرق في هذا المحذور بين استصحاب الطهارة أو النجاسة.

نعم، في لزوم المخالفة العملية الفرق متحقق بينهما؛ لعدم ترتب الأثر على استصحاب نجاسة الإناءين، لإمكان تركهما والتوضؤ بالإناء الثالث مثلاً، فلا تترتب المخالفة العملية على اجتنابهما(4) بخلاف استصحاب

ص: 241


1- في بيان الأصول (لا الطاهر الخارجي) وهو خطأ مطبعي، ولعل الصحيح ما ذكرناه (منه (رحمه اللّه) ).
2- بيان الأصول 8 :40.
3- سواء أكان الإناءان مستصحبي النجاسة أم مستصحبي الطهارة.
4- أقول : الظاهر عدم الفرق بين المقامين، فكما تفرض المخالفة العملية في صورة استصحاب طهارتهما مع شربهما يمكن فرضها في صورة استصحاب نجاستهما، كما لو أدى اجتنابهما إلى التيمم لعدم وجود ثالث، أو أدى اجتنابهما إلى الإسراف المحرم شرعاً، كما يمكن فرض عدم المخالفة العملية مع الحكم بطهارتهما بأن يتركهما معاً، فلا مخالفة عملية (المقرر).

طهارة الإناءين، فهو موجب للمخالفة العملية، فمع الحكم بطهارتهما يجوز شربهما مع العلم بسقوط الدم في أحدهما، إلا أن البحث لا يرتبط بالمخالفة العملية.

وتوضيح الجواب: أننا نسلم أن العلم الإجمالي الطارئ متعلق بعنوان (أحدهما) لكنه مشير إلى المعنون الخارجي، حيث لا يراد بقول (أحدهما) عنوان (أحد) بل بما هو مشير إلى المعنون الخارجي المجهول عندنا المتعين في صقع الواقع، فهل الدم سقط في العنوان؟ كلا حيث لا معنى لذلك، بل سقط في المعنون، الذي هو أحد الفردين المعلوم عند اللّه المجهول عندنا.

وعليه، فإن الفرد الواقعي المتعين متيقن النجاسة في الإناءين المستصحبي الطهارة، فالقول: إنَّ (الإناء الواقعي المتعين صار نجساً) من نقض اليقين باليقين لا بالشك، فلا يمكن استصحاب طهارة الإناءين؛ لأن أحدهما المصداقي متيقن النجاسة، فإن الإناء الواقعي مشمول للذيل، والمفروض أنه مشمول للصدر، فيحصل التناقض في أطراف الدليل، ومثاله العرفي لو قال المولى: (زيد جاهل) و(عمرو جاهل)، ثم قال: (أحدهما الواقعي عالم) فهذا تناقض.

وبغض النظر عن هذه المباحث وإن العلم الإجمالي متعلق بالجامع أو بالواقع، فإن من شرائط الاستصحاب اتحاد القضيتين، وملاكه العرف لا الدقة العقلية، ولا لسان الدليل، والقول بنجاسة أحد الإناءين من قبيل نقض اليقين باليقين عرفاً، فالإشكال على محذور المناقضة غير وارد، وما ذكره الشيخ الأعظم تام.

ص: 242

الإشكال الرابع: ما ذكره صاحب الكفاية في الحاشية، حيث قال: «الظاهر أن قوله: ولكن تنقضه، ليس بحكم تعبدي آخر، بل هو حكم عقلي ذكر تقريباً لما أفاده (عليه السلام) من النهي عن نقض اليقين بالشك، وتأييداً وتأكيداً له»(1).

وحاصله: إن الذيل ليس تأسيساً لحكم جديد حتى يتحقق التناقض بين الصدر والذيل، بل تأكيد لحكم الصدر، فيكون مفاد الذيل نفس مفاد الصدر، ووجوده كعدمه، فالصدر شامل لجميع أطراف العلم الإجمالي.

لكنه محل تأمل؛ لأن التأكيد إنما هو في صورة توافق مدلول المؤكِّد والمؤكَّد، سواء أكان التأكيد لفظياً أم معنوياً.

فالأول كقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً}(2).

يقول ابن مالك:

وما من التوكيد لفظي يجي***مكررا كقولك ادرجي ادرجي(3)

فالثاني تأكيد لفظي للأول، والمفاد هو المفاد.

والثاني كقول ابن مالك:

بالنفس أو بالعين الاسم أكدا***مع ضمير طابق المؤكدا(4)

كقوله: (جاء زيد عينه أو نفسه) حيث إنه تأكيد معنوي له، لا لابنه أو

ص: 243


1- درر الفوائد 1: 419.
2- الفجر: 21.
3- شرح ابن عقيل 2: 213.
4- شرح ابن عقيل 2: 206.

غلامه.

وفيما نحن فيه، لا يتطابق مدلول الصدر والذيل حتى يكون تأكيداً؛ وذلك لأن مدلول الصدر عدم نقض اليقين بالشك، وينحل في واقعه إلى ثلاثة أحكام، هي: عدم نقض اليقين بالوهم وبالشك(1) وبالظن، ولم يتطرق فيه إلى نقض اليقين باليقين لا سلباً ولا إثباتاً، فإنه لا مفهوم للقب، فيكون للذيل مفاد جديد، وهو انحصار ناقض اليقين في اليقين، فيكون تأسيساً، لا أنه حكم متمحض في التأكيد، فمفاده مقابل لمفاد الصدر، فهما مفادان ومفهومان متناقضان في أطراف العلم الإجمالي، فيعود محذور المناقضة.

الإشكال الخامس: ما ذكره في المنتقى قال: «إن أساس دعوى التهافت على استظهار كون الذيل... في مقام بيان حكم شرعي تأسيسي، وهو غير مسلم، بل ممنوع، لأنه خلاف الظاهر بعد كون النقض باليقين أمراً مرتكزاً، فيوجب انصراف الأمر إلى الإرشادي»(2).

وحاصله: إن المناقضة مبنية على أن الذيل حكم مولوي، أما لوكان إرشادياً فلا مناقضة، فكأن صحيحة زرارة غير مذيلة، وبما أن الصدر شامل لأطراف العلم الإجمالي، والذيل إرشاد إلى حكم العقل فلابد من ملاحظة حكم العقل في إمكان جريان الأصول العملية وعدمه، ليعلم أن الصدر هل يناقض حكم العقل أم لا ؟

ص: 244


1- الشك في مصطلح الروايات على ما قرر في محله أعم من الشك المنطقي بمعنى تساوي الطرفين (منه (رحمه اللّه) ).
2- منتقى الأصول 5: 65-66.

لكنه غير واضح؛ فإن ظاهر الأوامر كونها مولوية، ولا يرفع اليد عنها إلا مع وجود محذور ثبوتي أو إثباتي، وأما صرف وجود الأمر العقلي في مورد الأمر الشرعي فلا يوجب حمل الثاني على الإرشاد.

مثلاً: العقل يحكم بلزوم إرجاع الوديعة، والشارع يأمر بذلك، كقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}(1) كما يحكم العقل بعدم الظلم وينهى الشارع عن ذلك، كقوله تعالى: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}(2) كما أن العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان، والشارع ب- (رفع ما لا يعلمون) فهل يحمل ما أمر به الشارع ونهى عنه على الإرشادية لصرف كونه في مورد الحكم العقلي؟

ويظهر الأثر في أن مخالفة الهيئة لا يوجب استحقاق العقاب في الأمر الإرشادي، بخلاف الأمر المولوي، وهو الفارق بينهما، وهل يمكن الالتزام بذلك في الأمثلة المذكورة، كما هو الحال في مخالفة أمر الطبيب؟

وعليه، فنقض اليقين باليقين وإن كان أمراً مرتكزاً عقلائياً إلا أن صرف وجود الإرتكاز العقلائي لا يصرف قوله: «وإنما تنقضه بيقين آخر»(3) عن ظهوره في المولوية إلى الإرشادية.

وقد ورد في النهاية ما ذكره في المنتقى بنحو آخر، قال: «إذ مع اليقين بالحكم لا يعقل جعل الحكم على وفقه، ولا على خلافه، فلا مجال له عقلاً

ص: 245


1- النساء: 58.
2- البقرة: 279.
3- وسائل الشيعة 1: 245.

حتى ينفى بالظهور في خلافه»(1).

وحاصله: أنّه لا شك في أن صدر روايات الاستصحاب متضمن للحكم المولوي، فلو لم يصرح الشارع بذلك لم يكن للعقل حكم في المقام؛ لعدم وجود اليقين في الظرف اللاحق حتى يأمر العقل بالعمل به، فالصدر مولوي قطعاً، أما الذيل فهو متضمن لحكم إرشادي، فإن نقض اليقين المتقدم باليقين اللاحق حكم عقلي، ولا يمكن للشارع في هذا المورد أن يجعل حكماً مولوياً موافقاً للمتيقن؛ لأنه تحصيل للحاصل(2)، ولا حكماً مخالفاً له لأنه اجتماع الضدين.

ومما يدل على ذلك وحدة العقوبة، فإنه لو لم يجرِ على طبق اليقين السابق فهل له عقوبتان: ليقينه بالحكم ول- (لا تنقض)؟ وذلك كاشف عن كون الذيل إرشادياً، ولا يعقل أن يكون مولوياً. وظاهره متين جداً.

ولكنه قابل للتأمل؛ وذلك لأن الحكم الإرشادي إنما يتصور في ظرف ثبوت الحكم العقلي، أما لو لم يثبت فالحكم الشرعي مولوي قطعاً، والحكم العقلي بنقض اليقين باليقين ثابت في موردين: العلم التفصيلي والعلم الاجمالي بالانتقاض فيما لو كان الترخيص مستلزماً للمخالفة العملية القطعية، وأما لو لم يكن الحكم الشرعي في تمام الأطراف مستلزماً للمخالفة العملية القطعية، ففي ثبوت الحكم العقلي بوجوب نقض اليقين باليقين تأمل.

ص: 246


1- نهاية الدراية 3: 305.
2- ولو كان فهو تأكيد الوجوب، أي تأكيد المجعول لا جعل الوجوب (منه (رحمه اللّه) ).

ويدل عليه أو يؤيده قول كثير من الأعلام بعدم المنع من الحكم ببقاء الحالة السابقة في الطرفين شرعاً، وحيث لا ثبوت للحكم العقلي بوجوب نقض اليقين باليقين فمن الممكن أن يكون الأمر الشرعي بذلك مولوياً.

وبعبارة سهلة: لو اكتفى المولى بصدر الرواية ولم يتطرق إلى الذيل، ففيه ثلاث صور:

الأولى: تحقق العلم التفصيلي باليقين المناقض، كما لو علم بكون الجمعة واجبة ثم قطع بحرمتها، فيحكم العقل بنقض اليقين السابق باليقين اللاحق.

الثانية: تحقق العلم الإجمالي فيما لو كان إبقاء اليقين المتقدم في كلا الطرفين موجباً للمخالفة العملية القطعية، كالحكم بطهارة الإناءين مع العلم بوقوع الدم في أحدهما، وهنا يحكم العقل بنقض اليقين باليقين.

الثالثة: تحقق العلم الإجمالي فيما لم يكن إبقاء اليقين المتقدم في كلا الطرفين موجباً للمخالفة العملية القطعية، كما في الحكم ببقاء نجاسة الإناءين مع العلم بتطهير أحدهما، وهنا لا دليل على حكم العقل بوجوب نقض اليقين باليقين، ويظهر ذلك من القول بجواز المخالفة الالتزامية بإجراء الأصول الظاهرية، والحكم بعدم وجوب وحرمة دفن الكافر مع العلم بأحدهما، كما ذهب إليه المشهور ومنهم الشيخ الأعظم، فهو دليل على أن الحكم العقلي غير واضح في المقام، فيأتي الذيل لبيان نقض اليقين باليقين، وهو مطلق شامل لليقين الإجمالي، فلا يمكن استصحاب نجاستهما.

ويظهر أثر هذا الجعل الشرعي في الملاقي لأحدهما، حيث لا يلزم

ص: 247

اجتنابه مع صدور الذيل عن الشارع، وبما أنه لم يحكم بنجاسة الإناءين فيكون أحدهما طاهراً، ولا يجب اجتناب ملاقي الشبهة المحصورة، فهذا حكم مولوي له أثار شرعية لا يحكم بها العقل بمجرده، وأما لو لم يصدر الذيل فيجب اجتنابه لملاقاته النجس الظاهري.

فتحصل من جيمع ذلك أن الوجه الأول الذي ذكره الشيخ الأعظم تام، والإشكالات الخمسة عليه غير واردة.

الوجه الثاني(1): ظهور الأدلة في الشك المحض الساذج، وعدم ظهورها في الشك المقرون بالعلم.

وبعبارة أخرى: إنَّ دليل (لا تنقض) منصرف عن أطراف العلم الإجمالي، ويؤيده فهم الفقهاء، حيث لم يفهموا شموله لتمام أطراف العلم الإجمالي، خاصة فيما لو كان الشمول موجباً للترخيص في المخالفة العملية القطعية، والظاهر أن أحداً من الفقهاء لم يقل بشموله للطرفين.

هذا تمام الكلام في المطلب الأول.

المطلب الثاني: جريان البراءة العقلية في أطراف العلم الإجمالي

والظاهر عدم جريانها لتحقق الغاية وهي البيان، وهو متقوم بأمرين: وصول الصغرى والكبرى، والمفروض أنهما واصلان(2)، منتهى الأمر أنه لا تميز للصغرى، ولا يشترط التميز في حكم العقل بتحقق الغاية، فموضوع حكم العقل بقبح العقاب - اللابيان - مرتفع، والغاية - أي البيان - متحققة، فلا

ص: 248


1- لعدم جريان الاستصحاب في جميع الأطراف العلم الإجمالي.
2- أي حكم شرب الخمر ووجود الخمر في البين.

يمكن إجراء البراءة العقلية في كلا طرفي العلم الإجمالي استناداً إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان. هذا في الشبهات الموضوعية.

وأما في الشبهات الحكمية، ف- (اللابيان) منقلب إلى البيان، فلا يمكن للعقل أن يحكم بقبح العقاب، فلو علم بحرمة تجديد القبر أو تجديثه على نحو الشبهة الحكمية للشك في قول المولى: «من جدد قبراً»(1) أو «من جدث قبراً»(2) فلا يمكن ارتكاب الاثنين استنادا إلى القاعدة؛ وذلك لتحقق البيان.

هذا تمام الكلام في المطلب الثاني.

المطلب الثالث: جريان البراءة الشرعية في أطراف العلم الإجمالي
اشارة

المطلب الثالث: في جريان البراءة الشرعية في تمام أطراف العلم الإجمالي

ويمكن تقسم الآيات والروايات الواردة في البراءة الشرعية إلى ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى

ما لا يشمل عمومه أطراف العلم الإجمالي، كقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(3) والبعث كناية عن البيان وإقامة الحجة، ولا يمكن التمسك بالآية لإباحة أحد الطرفين؛ وذلك لتحقق الغاية في موارد

ص: 249


1- من لا يحضره الفقيه 1: 189.
2- تهذيب الأحكام 1: 459.
3- الإسراء: 15.

العلم الإجمالي بقيام الحجة على حرمة أحدهما.

وكقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا}(1)، ولا تشمل الطرفين لإتيان حرمة أحدهما.

وهكذا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}(2) لتمامية البيان.

ومن الأحاديث: حديث السعة، حيث قال (عليه السلام) : «الناس في سعة ما لم يعلموا»(3) فلا يمكن القول بشمول الحديث للطرفين؛ لعدم السعة بالنسبة إلى الخمر المعلومة الموجودة بين الإناءين، والا أوجب التناقض في مدلول الدليل.

الطائفة الثانية

ما يشمل أطراف العلم الإجمالي بالعموم، والتي تدل على جواز الاقتحام في تمام أطراف العلم الإجمالي.

وفيها روايات:

الرواية الأولى: رواية مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه»(4) وهي صريحة بعدم المنع من الاقتحام في تمام أطراف العلم الإجمالي، حيث لا يعلم حرمة الإناء

ص: 250


1- الطلاق: 7.
2- التوبة: 115.
3- على القراءتين: بالتنوين أو الإضافة... راجع: مستدرك الوسائل 18: 20.
4- الكافي 5: 313.

الأول بعينه وكذا الثاني.

لكن في الاستدلال بها إشكالات:

الإشكال الأول: سندي: حيث اختلفت المباني في كونها موثقة أو صحيحة أو ضعيفة، فقد عبر عنها في المصباح(1)

بالموثقة، ولم يبحث في سندها، لكن حسب مبانيه في المعجم لابد وأن تكون صحيحة، إلا أنها ضعيفة على كلام المجلسي(2).

ولإثبات وثاقة مسعدة طريقان:

الأول: إنه من مشايخ كامل الزيارات.

الثاني: إنه من مشايخ تفسير علي بن إبراهيم القمي.

إلا أن المبنى محل تأمل؛ حيث لا تدل عبارة ابن قولويه وعلي بن إبراهيم على وثاقة جميع المشايخ حتى غير المباشرين منهم.

وعليه، يكون مسعدة مجهولاً، وتسقط الرواية عن الاعتبار، وقد قال المجلسي في رجاله: إنه ضعيف(3).

لكن قال الوحيد البهبهاني في تعليقته: «عملت الطائفة بما رواه... بل لو تتبعت وجدت أن أخباره أسند وأمتن من أخبار مثل جميل بن دراج، وحريز بن عبد اللّه»(4) ولو ثبت ما ذكره كفى ذلك لإثبات وثاقته.

ص: 251


1- مصباح الأصول 2: 272.
2- مرآة العقول 19: 432.
3- الفوائد الرجالية 3: 337.
4- تعليقة على منهج المقال: 333.

الإشكال الثاني: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) من أن (بعينه) تأكيد.

توضيحه: هل أنّ كلمة (بعينه) قيد للفعل (تعلم)، أي (حتى تعلم بعينه أنه حرام) أو قيد للضمير المنصوب، أي (حتى تعلم أنه بعينه حرام)؟ فلو كانت قيداً للضمير المنصوب أفاد المدعى؛ لعدم تحقق القيد في الإناءين المشتبهين، فيشمل الصدر - أي كل شيء لك حلال - أطراف العلم الإجمالي.

أما لو كانت قيد العلم، فهي مؤكد ومفسر للفعل، وذلك كالتأكيد اللفظي، ويكون المعنى عدم كفاية الظن والشك، بل لا بد من حصول العلم، أي حتى تعلم بعين العلم لا بشيء آخر، فلا يشمل الصدر الأطراف لتحقق القيد.

لكنه خلاف الظاهر العرفي، فإن الظاهر أن (بعينه) قيد للضمير المنصوب، وما عداه غير مألوف.

الإشكال الثالث: ما ذكره بعض المعاصرين: من أن كل الأمثلة المذكورة في الحديث من قبيل الشبهة البدوية، وهي توجب عدم شموله لموارد العلم الإجمالي، وإليك نص الحديث: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) سمعته يقول: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة»(1).

ولكنه غير تام؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المثال، وخاصة أن

ص: 252


1- الكافي 5: 313.

الرواية مذيلة بقوله (والأشياء كلها على هذا).

ونظيره في روايات الاستصحاب، وهي واردة في موارد الشبهات الموضوعية عادة، ك- (الخفقة والخفقتان)(1)، و (أصاب ثوبي دم)(2) إلا أن خصوص المورد غير مخل بعموم (لا تنقض).

الإشكال الرابع: ما ذكره بعض المعاصرين(3): من عدم انطباق الكبرى الكلية في رواية مسعدة على الجزئيات المذكورة فيها أصلاً، فتكون مجملة لا يعلم معناها فلا يمكن التمسك بتلك الكبرى فيما نحن فيه.

فالحلية في قوله: (مثل الثوب... والمملوك) مستندة إلى قاعدة اليد لا أصالة الحل، والحلية في قوله: (امرأة تحتك) مستندة إلى استصحاب العدم النعتي في الرضيعة، فحينما ولدت لم تكن أختاً من الرضاعة، فعند الشك يستصحب عدمها، وفي الأخت يستصحب العدم الأزلي على القول به، وإلاّ فكما ذهب إليه الفقيه الهمداني من وجود الأصل العقلائي بعدم الانتساب إلى قبيلة وما أشبه، فيما إذا شك أنها قرشية أو نبطية مثلاً، فإن الأصل العقلائي قاضٍ أنها ليست كذلك، وكذا في المقام، فإن الأصل المذكور يقضي بعدم كونها أختاً، فإن الأصل عدم الانتساب إلى شخص ولدهما معا.

لكنه غير تام لوجهين:

الأول: يمكن القول بجريان الأمارات والأُصول في عرض واحد فيما لو

ص: 253


1- الكافي 3: 37.
2- الاستبصار 1: 183.
3- بحوث في علم الأصول 6: 49-50.

توافقا في المؤدى، فلا مانع من جريان الحاكم والمحكوم كذلك.

الثاني: ليس المراد أصالة الحل المصطلح عليها عند الفقهاء، بل ربما يكون مراد الإمام (عليه السلام) إطلاق العنان، وهو مفهوم انتزاعي كلي من الأمارات والأُصول المحرزة وغيرها، وأما سبب إطلاق العنان فقد يكون قاعدة اليد، وقد يكون استصحاب العدم النعتي أو العدم الأزلي، كما في الأمثلة المذكورة، وقد يكون أصل البراءة، كما في التتن مثلاً، فلا إجمال في الرواية، والكبرى الكلي منطبقة على تمام الصغريات، أي: لا حرج على المكلف في هذه الموارد وأمثالها.

الإشكال الخامس: إن الشمول يوجب الترخيص في المخالفة القطعية للمولى، وتفويت الأغراض اللزومية.

توضيحه: إنه وإن لم يكن الترخيص في الاقتحام في تمام الأطراف ترخيصاً في المعصية بحسب الدقة العقلية؛ لأن مآله إلى أخذ العلم التفصيلي في موضوع الأدلة الأولية بالحرمة، فمقتضى الجمع بين الأدلة الأولية وموثقة مسعدة هو تقييدها بصورة العلم التفصيلي، إلا أن العرف يرى أن المولى رخص في المعصية القطعية، وأوقع المكلف في المفاسد الواقعية وفوت الأغراض اللزومية، وهو قبيح.

وعليه، فمقتضى الفهم العرفي عدم شمول الموثقة لجميع أطراف العلم الإجمالي، وإنما موردها الشبهة البدوية، أو العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة، وإلا لزم إمكان التوصل إلى فعل جميع المحرمات، واستنكار المتشرعة التوصل إلى ارتكاب المحرمات عبر العلم الإجمالي قرينة على تقييد إطلاق الموثقة.

ص: 254

الإشكال السادس: الإعراض الدلالي، وفي الباب قواعد أربعة، هي: إن الإعراض عن الدلالة كاسر، والفهم الدلالي جابر، والعمل جابر للسند الضعيف، وعدم العمل كاسر للسند الصحيح.

وحتى الذي لم يرتضِ هذه القواعد اضطر إلى العمل طبق فهم المشهور وعملهم في موارد عديدة، منهم السيد الخوئي.

الرواية الثانية: محمد بن علي بن الحسين بإسناده(1) عن الحسن بن محبوب(2)، عن عبد اللّه بن سنان(3)، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) :«كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(4).

وهذه الصحيحة تشمل أطراف العلم الإجمالي، فيكون العلم التفصيلي شرطاً لحرمة المحرمات الواقعية.

ويجاب عنه بأجوبة:

الجواب الأول: أن (أبداً) ظاهر في الشبهة غير المحصورة، حيث إنه ظرف زمان، ومعناه الدوام والخلود، وهذا المعنى يتلاءم مع الشبهة غير المحصورة، فطبيعة الجبن - مثلاً- منقسمة إلى نوعين: حلال وحرام، لما فيه من المحرمات، فالحكم فيه هو الحلية أبداً وإلى آخر العمر، حتى يعلم الحرام منه بعينه، بأن يعلم أن فيه شحم الخنزير مثلاً، ولا تستخدم كلمة

ص: 255


1- إسناد الصدوق إلى الحسن بن محبوب صحيح.
2- الحسن بن محبوب، من أصحاب الإجماع.
3- عبد اللّه بن سنان، ثقة .
4- الكافي 5: 313.

(أبداً) مع الشبهة المحصورة، حيث لا تنسجم معها؛ وذلك قرينة على أن الرواية ناظرة إلى الشبهة غير المحصورة.

لكنه محل تأمل؛ وذلك لعدم المنع من شمول الصحيحة للشبهة المحصورة بالعموم، وإن منعت من شمول كلمة (أبداً) لموارد العلم الإجمالي المحصور بالخصوص، فمفاد المغيّا في الصحيحة هو الحلية الأبدية لكل طبيعة فيها حلال وحرام، وهو شامل بإطلاقه للشبهات البدوية والمحصورة، ولا تشمل الغاية الشبهات المحصورة كالشبهات البدوية؛ لعدم العلم بالحرام من الكلي بعينه.

الجواب الثاني: ما أفاده بعض المتأخرين(1) من أن الظاهر اتحاد الصحيحة مع رواية أخرى بنفس المضمون(2)،

فيرد عليها ما يرد عليها فتسقط عن الاعتبار.

الرواية الثانية(3): ففي الوسائل: محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى(4)، عن أحمد بن محمد بن عيسى(5)، عن أبي أيوب(6)، عن عبد اللّه بن سنان، عن عبد اللّه بن سليمان(7)، قال: «سألت أباجعفر (عليه السلام) عن الجبن،

ص: 256


1- أصول الاستنباط: 217.
2- والفارق بين الروايتين هو أن الراوي نقل نفس المضمون لكن في إحداهما حذف الخصوصيات.
3- من الطائفة الثانية، أي: ما يشمل أطراف العلم الإجمالي بالعموم.
4- محمد بن يحيى الأشعري العطار، ثقة جليل.
5- أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي، ثقة.
6- في المصدر: عن ابن محبوب.
7- عبد اللّه بن سليمان ، مشترك بين مجاهيل.

فقال: لقد سألتني عن طعام يعجبني، ثم أعطى الغلام درهماً فقال: يا غلام، ابتع لنا جبناً، ثم دعا لنا بالغداء فتغدينا معه، فأتي بالجبن فأكل(1) وأكلنا، قال: فلما فرغنا من الغداء قلت: ما تقول في الجبن؟ قال: أو لم ترني آكله. قلت: بلى، ولكني أحب أن أسمعه منك، فقال: سأخبرك عن الجبن وغيره، كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه»(2).

وفيها إشكالان:

الأول: ضعف السند بعبد اللّه بن سليمان.

الثاني: إنها صدرت تقية، لأن المراد من الحرام في الجبن الأنفحة(3)، وهي بضرورة الفقه محللة وطاهرة، فلا تنطبق الكبرى المذكورة على الصغرى، حيث لا ترتبط بها، فيكشف ذلك عن كونها مسوقة مساق التقية، وبما أن الظاهر اتحادها مع الصحيحة فتسقط الصحيحة عن الاعتبار أيضاً.

لكنه محل تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: إنَّ تطبيق الكبرى على الصغرى وإن كان تقية إلاّ أن ذلك لا يوجب كون الكبرى تقية.

ص: 257


1- وهو إثبات عملي للحلية.
2- الكافي 6: 339؛ وسائل الشيعة 25 :117.
3- لكن قد يقال بعدم انحصار الشبهة في الأنفحة ، بل ربما كانوا يضعون في الجبن شيئاً محرماً كشحم الخنزير ، إلا أن يقال بانحصار الشبهة في الأنفحة بملاحظة روايات الباب، كما يمكن أن يقال : إنّ الإمام (عليه السلام) أراد بيان الضابطة الكلية لكل مشتبه لأي سبب كان، سواء انطبقت الكبرى على الصغرى أم لا (المقرر).

ومن أمثلته: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) (1) في جواب الإمام (عليه السلام) للمنصور حينما سأله عن صوم اليوم الأخير من شهر رمضان، فقال (عليه السلام) : «ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا»(2) فإن التطبيق تقية لكن لا يوجب ذلك حمل الكبرى على التقية أيضاً؛ ولذا أمكن التمسك بعمومها لإثبات كون أمر الهلال منوطاً بالحاكم الشرعي.

وكذا في صحيحة البزنطي(3): فيمن حلف على الطلاق والعتاق، فاستدل الإمام (عليه السلام) برفع الإكراه مع أن الحلف باطل، فتطبيق الكبرى المسوقة لبيان حكم الرفع على الحلف على الطلاق والعتاق تقية، إلاَّ أن نفس الكبرى ليست تقية.

الجهة الثانية: إن ظاهر نقل الثقة هو النقل المباشر، حتى لو نقل رواية واحدة بنقلين: إحداهما بواسطة والأُخرى بلا واسطة، كان ظاهر الثانية النقل المباشر، فلا يمكن القول باتحادهما بحيث لو ضعف سند أحدهما استلزم ضعف الأخرى، وإلاّ لو شكك في ذلك أشكل على الروايات الصحيحة باحتمال كون النقل غير مباشر.

وفي المقام، ظاهر صحيحة عبد اللّه بن سنان هو النقل المباشر عن الإمام (عليه السلام) ، وأما الأخرى فقد نقلها عن عبد اللّه بن سليمان، عن الإمام (عليه السلام) فلا موجب للقول باتحادهما، خاصة مع تعدد المروي عنه (عليه السلام) .

ص: 258


1- الفقه 35: 10.
2- الكافي 4: 82.
3- وسائل الشيعة 23: 226.

الجواب الثالث: ما ذكره بعض المعاصرين: من أن الأخذ بإطلاقها مستلزم لتأسيس فقه جديد.

الجواب الرابع: إن الشمول يوجب الترخيص في المعصية القطعية، وقد مر بيانه.

الجواب الخامس: فهم الفقهاء.

هذا تمام الكلام في الطائفة الثانية.

الطائفة الثالثة: ما ورد في أطراف الشبهة المحصورة بالخصوص

منها: ما ورد في اختلاط المذكى بالميتة، ففي الوسائل عن الحلبي؛ قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إذا اختلط الذكي بالميت باعه ممن يستحل الميتة وأكل ثمنه»(1).

وفيه: أنه وارد في مورد خاص فلا يمكن التعدي عنه، بل الرواية على خلاف المطلوب أدل، فلو لم يكن العلم الإجمالي منجزاً جاز بيعه ممن لم يستحل أيضاً؛ لكون العلم الإجمالي كالعدم، فالتخصيص دال على تنجز العلم الإجمالي، إلا أنه جاز البيع ممن يستحل لجهات أخرى.

ومنها: ما رواه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) ، قال: «سألته عن الدقيق يقع فيه خرء الفأر هل يصلح أكله إذا عجن مع الدقيق؟ قال: إذا لم تعرفه فلا بأس، وإن عرفته فلتطرحه»(2).

وفيه: أولاً: إنه أخص من المدعى، فلا يتعدى إلى بقية الموارد.

ص: 259


1- وسائل الشيعة 24: 187.
2- وسائل الشيعة 24: 236.

ثانياً: جهالة عبد اللّه بن الحسن، فالسند ضعيف.

ثالثاً: يحتمل - وإن كان بعيداً - كون مرجع الضمير في قوله (عليه السلام) : «إذا لم تعرفه» هو الخرء، فيكون طاهراً لأصالة الطهارة.

رابعاً: ربما كانت الشبهة غير محصورة لوقوعه في مقدار كثير، والإطلاق قابل للتخصيص بقرينة فهم الفقهاء والارتكاز وما أشبه، فلا يمكن القول: إنّها واردة في خصوص الشبهة المحصورة.

وخامساً: ما ذكره بعض بأنه من باب الاستهلاك، لكنه محل تأمل؛ لأن الاستهلاك انعدام الحقيقة، والمتحقق في المقام تفرق الماهية.

ولو فرض صحة الرواية ووضوح دلالتها وورودها في خصوص الشبهة المحصورة، فالظاهر أن هذا المعنى معرض عنه، فالرواية ساقطة على جميع التقادير.

ومنها(1): ما عن محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم(2)، عن أبيه(3)، عن ابن أبي عمير(4)، عن حماد(5)، عن الحلبي(6)، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «أتى رجل أبي (عليه السلام) فقال: إني ورثت مالاً وقد علمت أن صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي، وقد أعرف أن فيه ربا واستيقن ذلك، وليس يطيب

ص: 260


1- وهي صحيحة على المختار حسنة على بعض المباني.
2- علي بن إبراهيم، ثقة.
3- إبراهيم بن هاشم، حسن أو ثقة والمختار أنه ثقة.
4- ابن أبي عمير، ثقة من أصحاب الإجماع الطبقة الثالثة.
5- حماد، ثقة.
6- الحلبي، ثقة.

لي حلاله لحال علمي فيه، وقد سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا: لا يحل أكله، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : إن كنت تعلم بأن فيه مالاً معروفاً ربا(1) وتعرف أهله فخذ رأس مالك ورد ما سوى ذلك(2)، وإن كان مختلطا(3) فكله هنيئاً فإن المال مالك..»(4).

ولا مانع من هذا المعنى في حد ذاته، حيث يحق لمالك الملوك أن يأذن كيف شاء، كما أُذن في حق المارة مع شرائطه، وهكذا الأكل من بيت من تضمنته الآية الكريمة(5)، ومآل ذلك إلى أن العلم التفصيلي شرط في الحرمة، فلا حرام في البين.

لكن يرد على الاستدلال بها:

أولاً: إنَّ الدليل أخص من المدعى، فإن المراد إثبات جواز الاقتحام في جميع موارد العلم الإجمالي، وربما يكون لهذا المورد خصوصية في نظر الشارع، فلا يمكن التعميم لسائر الموارد.

وثانياً: تحقق شبهة الإعراض فيها، قال في الجواهر: «إلا أن الأصحاب

ص: 261


1- أي: تعلم علماً تفصيلياً بأن هذا المال بعينه مال ربوي.
2- ارجع الحرام إلى أصحابه.
3- الحلال مختلط بالحرام ، أي العلم إجمالي.
4- الكافي 5: 145؛ وسائل الشيعة 18: 129.
5- حيث قال تعالى: {... وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} النور: 61.

هنا لم يفرقوا بين الموضوعين، فأطلقوا وجوب رد الزيادة(1)... بل نفى بعضهم الخلاف فيه، بل عن المقداد والكركي الإجماع عليه وهو الحجة(2)..

ولكن لم يعمل بها إلا نادر من الطائفة»(3).

وقال المجلسي في نظير الخبر: «اعلم أنه عمل بظاهر الخبر ابن الجنيد من بين الأصحاب»(4).

ويظهر من العبارة أنه العامل الوحيد بالخبر، أو أنه لم يعثر على عامل آخر، ثم وجه العلامة المجلسي كلام ابن الجنيد وحمله على معنى آخر(5).

هذا تمام الكلام في المبحث الخامس، والمتحصل أنه لا دليل على جواز الاقتحام في تمام أطراف العلم الإجمالي.

المبحث السادس: وقوع الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي بحسب مقام الإثبات

اشارة

المبحث السادس(6): في وقوع الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة بحسب مقام الإثبات

فهل هنالك دليل على جواز الاقتحام في بعض الأطراف إثباتاً، بأن

ص: 262


1- أي: إرجاع المقدار الربوي إلى أصحابه إن عرفهم، وإلا تعامل معه معاملة المجهول المالك.
2- ثم ذكر بعض الروايات، ثم قال: ...
3- جواهر الكلام 23: 297.
4- مرآة العقول 19: 122.
5- مرآة العقول 19: 122.
6- وهو بحث مهم جداً.

يتناول أحد الإناءين ويترك الآخر، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: في جريان البراءة في بعض الأطراف

والظاهر عدم الجريان؛ لأن موضوع قاعدة قبح العقاب هو (اللا بيان) والبيان حاصل، أما بلحاظ الإناء الواقعي النجس المجهول فلتحققه كبرى وصغرى؛ للعلم بوجود النجس بين الإناءين، وأما بلحاظ الإناء الثاني فالبيان تام أيضاً؛ لقاعدة الاشتغال، فالاجتناب عن الثاني مقدمة علمية للاجتناب عن الحرام الواقعي.

وبعبارة أخرى: الاجتناب عن الاناءين واجب عقلاً من باب المقدمة العلمية لاجتناب الحرام الواقعي، فلا مجال لجريان البراءة العقلية.

المطلب الثاني: في جريان الأصول الشرعية في بعض أطراف العلم الإجمالي

وفيه أربعة فروض:

الفرض الأول: جريانها في أحدهما المعين، لكنه غير قابل للقبول؛ لأنه ترجيح بلا مرجح بلحاظ الدليل(1).

الفرض الثاني: جريانها في الفرد المردد، وهو غير قابل للقبول؛ لعدم وجوده لا ذهناً ولا خارجاً.

الفرض الثالث: جريانها في أحدهما غير المعين، وفيه صورتان:

الصورة الأولى: أن نعلم بإباحة البعض غير المعين.

وفيه: أنه لا موضوع لجريان الأصول الشرعية، فإنّه مع القطع الوجداني

ص: 263


1- فحتى لو قبلنا إمكان الترجيح بلا مرجح لكن بلحاظ الدليل لا دليل على ترجيح أحدهما المعين.

بإباحة أحدهما غير المعين لا معنى للتمسك بالأصول العملية لإثبات حليته أو طهارته، بل هو أردأ أنواع تحصيل الحاصل؛ لإرادة تحصيل الحاصل بالوجدان بالتعبد.

الصورة الثانية: أن لا نعلم بإباحة البعض غير المعين، بأن علم ملاقاة أحد الإناءين للنجس قطعاً، وأما الأخر فلا يعلم فيه ذلك، فيجرى الأصل العملي في أحدهما غير المعين لإثبات الطهارة مثلاً.

وفيه: أن إجراء الأصل لغو؛ لعدم الأثر فيه؛ وذلك لحكم العقل بوجوب الاجتناب عن الاثنين، فيما لو قطع وجدانا بطهارة أحدهما المعين لقاعدة الاشتغال، فكيف بما إذا أحرز ذلك بالتعبد الشرعي؟ حيث إنه لا يزيد عن القطع الوجداني، فالقول بطهارة أحدهما غير المعين للأصل العملي لا أثر له؛ لكونه مجرى قاعدة الاشتغال، فيلزم الاجتناب عن الاثنين.

الفرض الرابع، وهو عمدة الكلام ومحل بحث شديد بين الفقهاء: وهو جريان الأصول العملية الترخيصية في تمام أطراف العلم الإجمالي على نحو التخيير. وبعبارة أخرى: إجراء الأصل في كل طرف مشروط بعدم إجرائه في الطرف الآخر، فهل هنالك مانع من جريان الأصل الترخيصي في أحد الطرفين مشروطاً بترك الطرف الآخر أم لا؟

وهل أدلة الترخيص الشرعي تشمل جميع أطراف العلم الإجمالي على نحو التخيير، بأن يشمل قوله (عليه السلام) : «كل شيء هو لك حلال»(1) الإناء الأول والثاني على نحو التخيير، مع العلم بكون أحدهما خمراً، كما هو الحال في

ص: 264


1- الكافي 5: 313.

باب التزاحم.

ونتيجة الجريان الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية في امتثال التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال.

والتخريج الفني لذلك هو أن الدليل العام له عموم أفرادي لجميع الأفراد المندرجة تحت الطبيعة، وله إطلاق أحوالي للحالات المختلفة(1)، و«كل شيء هو لك حلال» يشمل بعمومه الأفرادي جميع الأفراد المشتبهة، ويشمل بإطلاقه الأحوالي الفرد الأول، سواء ارتكب المكلف الفرد الثاني أم لا.

لكن الإطلاق الأحوالي في المقام محال، فإنه ترخيص في المخالفة القطعية، فيدور الأمر بين سقوط الدليل وبين تقييد الإطلاق الأحوالي، بأن يقال: حلية الإناء الأول مقيدة بعدم ارتكاب الثاني، وكذلك الأمر في الإناء الثاني.

ولا شك أن التقييد أولى من السقوط؛ لأن الضرورات تقدر بقدرها، ولا مسوغ لإسقاط الدليل بالمرة.

الإشكالات على جريان الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي
اشارة

ويرد على هذا التقرير إشكالات:

الإشكال الأول: التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة

الإشكال الأول: ما ذكره المحقق النائيني(2):

من أن التقابل بين الإطلاق والتقييد من قبيل تقابل العدم والملكة، وامتناع أحدهما يساوي امتناع

ص: 265


1- فلو قال المولى: (أكرم العلماء) شمل بعمومه الأفرادي زيداً وخالداً وبكراً، وشمل بإطلاقه الأحوالي زيداً في حضره وسفره، ليلاً ونهاراً صحيحاً ومريضاً (منه (رحمه اللّه) ).
2- أجود التقريرات 1: 241.

الآخر، وحيث إن الإطلاق في المقام محال؛ لكونه موجباً للترخيص في المعصية القطعية، يكون التقييد محالاً أيضاً(1)، وقد اعتمد على ذلك في موارد عديدة(2).

قال: «إن التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة، فاستحالة الإطلاق تستدعي استحالة التقييد وبالعكس، وحيث إن الإطلاق في محل الكلام ممتنع ثبوتاً فامتنع التقييد كذلك»(3).

ويرد عليه أمور:

الأول: لا نسلم أن التقابل بينهما من قبيل تقابل الملكة والعدم، بل هو تقابل التضاد، فإن الإطلاق الثبوتي هو لحاظ سريان الماهية، والتقييد لحاظ ضيقها(4)،

فاللحاظان(5) ضدان، والضدان أمران وجوديان متعاقبان على محل واحد، لا يجتمعان ولا يرتفعان، وامتناع أحد الضدين لا يستلزم امتناع الضد الأخر أو وجوبه، فلو كان أحد الضدين محالاً أمكن أن يكون حكم الضد الثاني مسكوتاً عنه، فإنه لو لم يكن لهما ثالث كان الضد الثاني لازماً، ولو كان لهما ثالث فلا لزوم فيه.

ص: 266


1- وما ذكره سارٍ في تمام موارد العدم والملكة، فالعقل محال على الجدار، فلا يطلق عليه الجنون، والبصر محال له فلا يمكن القول: إنّه أعمى (منه (رحمه اللّه) ).
2- أجود التقريرات 1: 520، 2: 289؛ فوائد الأصول 1: 146، 155.
3- أجود التقريرات 1: 295.
4- فإذا لاحظ المولى السريان والسعة فهذا اللحاظ هو الإطلاق الثبوتي، كما في قوله: (أعتق رقبة) فإن المراد مع لحاظه السريان هو عتق أية رقبة، سواء أكانت عالمة أم جاهلة، بيضاء أم سوداء، وإذا لاحظ ضيق الطبيعة وحصة منها فهو التقييد (منه (رحمه اللّه) ).
5- أي: لحاظ السريان والضيق.

والثالث هو الإهمال، كما يتصور في الموالي العرفيين، فلا يمكن القول بإطلاق كون الإطلاق والتقييد متقابلين بتقابل الملكة والعدم.

الثاني: لا نسلم استحالة الإطلاق، بل هو ممكن فالتقييد ممكن، وقد مر بحثه.

الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم(1) وتبعه السيد الخوئي(2): من أنه إذا استحال التقييد وجب الاطلاق، وبالعكس في المقام، فلو كان أحد الطرفين محالاً صار الطرف الثاني ضرورياً.

ولذلك أمثلة: منها: علم الممكن بالواجب محال، فعدمه ضروري، أي جهل الممكن بالواجب ضروري، مع أن العلم والجهل من قبيل العدم والملكة(3).

ومنها: جهل الواجب تعالى بالممكن محال، فعلمه به ضروري.

ومنها: غنى الممكن محال فاحتياجه وفقره ضروري، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}(4).

ص: 267


1- مطارح الأنظار: 49.
2- مصباح الأصول 2: 354.
3- إن قلت: لا قابلية للممكن لمعرفة الواجب، فليس هو من قبيل العدم والملكة. قلت: قالوا في علم الكلام: إن القابلية قد تكون بلحاظ الشخص، وقد تكون بلحاظ الصنف والنوع والجنس، مثلاً: هنالك دودة لا عين لها فبلحاظ الصنف لا قابلية لها، ولكن بلحاظ جنس الحيوان القابل للبصر يطلق عليها الأعمى، فالممكن قابل للعلم والجهل إجمالاً، ولأجل ذلك يصح إطلاق الجهل بالواجب على الممكن (منه (رحمه اللّه) ).
4- فاطر: 15.

ومنها: احتياج الواجب محال فغناه ضروري.

فقوله: لو كان الإطلاق محالاً كان التقييد محالاً محل نظر، بل هو ضروري.

الإشكال الثاني: ما ذكره السيد الخوئي

الإشكال الثاني: ما اعتمد عليه في المصباح(1)،

وهو مركب من صغرى وكبرى، أما الكبرى: فهي أنه يعتبر في الحكم الظاهري احتمال مطابقته للواقع، وأما لو حصل القطع بعدم المطابقة فلا يجري الحكم الظاهري.

وأما الصغرى فهي: لو قطع بخمرية أحد الإناءين المشتبهين وخلّية الآخر فالحرمة الواقعية للخمر مطلقة، وليست مشروطة بترك شرب إناء الخل، فالخمر حرام، سواء أشرب المكلف الخل أم لا، والحلية الواقعية للخل مطلقة، وليست مشروطة بترك شرب إناء الخمر، فالخل حلال، سواء أشرب المكلف الخمر أم لا.

وعليه، تكون الإباحة المشروطة بترك الآخر في كل من الطرفين مخالفة للحكم الواقعي المطلق قطعاً، وينتفي بذلك شرط جريان الأصل العملي.

ويرد عليه أمور:

الأول: إنَّ ما ذكره مناقض لما اختاره في دوران الأمر بين المحذورين، من جريان البراءة الشرعية والعقلية، حيث قال: والصحيح جريان البراءة الشرعية والعقلية عند دوران الأمر بين المحذورين(2).

ص: 268


1- مصباح الأصول 2: 415.
2- مصباح الأصول 2: 328.

فيحكم بعدم الوجوب والحرمة مع العلم بفقدان الشرط، حيث لا يحتمل موافقة أحد الأصلين للواقع، فكيف يجري الأصلان في الدوران بين المحذورين؟

الثاني: ينقض بجريان أصالة الحل في الشبهات البدوية، مع أنه لا يحتمل مطابقته للحكم الواقعي؛ وذلك لأن موضوع الحكم الواقعي مطلق، وموضوع الحكم الظاهري مقيد بالشك، فلا يحتمل التطابق.

إن قلت: لا منافاة بين المطلق والمقيد، فإن المطلق يجتمع مع المقيد لاجتماع اللا بشرط مع ألف شرط.

قلت: المقام كذلك، حيث يحكم بالحلية المشروطة، ولا منافاة بينها وبين كون الحكم الواقعي مطلقاً.

الثالث: ينقض بالحكم الظاهري الثابت بالاستصحاب، حيث إنه مقيد بوجود اليقين السابق، مع أن الحكم الواقعي مطلق لا قيد فيه.

مثلاً: لو شك في وجوب الجمعة في عهد الغيبة استصحب الوجوب، فالحكم مقيد بحصول اليقين السابق، ولذا لو لم يحصل له يقين سابق لم تجب عليه الجمعة، كما ذكره الشيخ الأعظم في مستصحب الشرائع السابقة(1)، فالحكم الاستصحابي مقيد باليقين السابق، وهو مناقض للواقع قطعاً؛ لأن الجمعة لو لم تكن واجبة فعدم وجوبها مطلق، ولو كانت واجبة فوجوبها مطلق بلا قيد، فالحكم الواقعي مطلق، والحكم الظاهري مقيد فلم يتطابقا.

مثال آخر: لو علم بنجاسة الشيء سابقاً وشك في طهارته استصحب

ص: 269


1- فرائد الأصول 3: 225.

النجاسة، هذا فيمن علم بها سابقاً، وأما غير العالم فلا، فجريان الأصل مقيد باليقين السابق، مع أن الحكم الواقعي إما النجاسة للجميع، أو الطهارة للجميع من دون قيد.

فلا يصح - بناء على ما ذكره - جريان الاستصحاب لا حكماً ولا موضوعاً.

الرابع: عدم التسليم بما ذكره من الشرط في الكبرى، ففي الحكم الظاهري شرطان: الشك في الواقع، وصلاحية الحكم الظاهري للمنجزية والمعذرية، وهما محققان في المقام.

الإشكال الثالث: ثبوت الترخيص في كلا الطرفين عند تركهما

الإشكال الثالث: ما في الدراسات، قال: إن مقتضى ذلك هو ثبوت الترخيص في كلا الطرفين عند ترك كليهما(1).

فلو ترك المكلف الإناء الأول حلت الثانية، ولو ترك الثانية حلت الأولى، فعند ترك الاثنين يحل الاثنان؛ لتحقق شرط الاثنين، وذلك ترخيص في المعصية القطعية وهو قبيح.

والحاصل: أن الجريان المذكور موجب لفعلية الحكمين عند ترك الاثنين، ومفاد فعلية الترخيصين هو الترخيص في المعصية القطعية، وهو قبيح.

لكن يرد عليه أمور:

الأول: النقض بالأوامر الترتبية(2)، ففي باب الترتب الأمر بالأهم مطلق،

ص: 270


1- دراسات في علم الأصول 3: 359.
2- هذا مع العلم بصحة الأمر الترتبي عند صاحب الدراسات، حيث يرى أن صرف إمكان الأمر الترتبي كافٍ لوقوعه، وبالطريقة التي يدفع بها المحذور في الأمر الترتبي يدفع قبح الترخيص في المعصية في المقام (منه (رحمه اللّه) ).

والأمر بالمهم مشروط بترك الأهم، حيث يقول المولى: (أنقذ الغريق، فإن لم تنقذ الغريق فصل) ففي صورة ترك الأهم يجتمع طلبان فعليان، هما: الأمر بالأهم لفرض إطلاقه، والأمر بالمهم لفرض تحقق شرطه، والحاصل: تحقق الأمر بالضدين في صورة عدم إنقاذ الغريق، وهو قبيح.

الثاني: النقض بالترتب من الجانبين في الضدين المتساويين في الأهمية، كإنقاذ الغريقين، حيث يقول المولى: (أنقذ هذا إن لم تنقذ ذاك وبالعكس) فلو لم ينقذ الغريقين معاً فقد تحقق شرط فعلية الأمرين، فيتحقق الأمر بالضدين في آنٍ واحد، وهو محال.

فما به التخلص في الترتب به التخلص في المقام.

الثالث: وهو يتكفل دفع الإشكال في الموارد الثلاثة(1)، وهو مبتنٍ على ما ذكره المحقق النائيني في الفوائد(2)، حيث قال: إن الواجب المشروط لا يخرج عما هو عليه بعد تحقق شرطه؛ لأن شرائط التكليف هي قيود الموضوع، والموضوع لا ينسلخ عن الموضوعية بعد وجوده خارجاً.

توضيحه إجمالاً: للأحكام الشرعية مقامان: مقام الجعل ومقام المجعول، ويتحقق الجعل بمجرد إنشاء المولى الحكم على الموضوع المفروض الوجود على نحو القضية الحقيقية، فبمجرد حصول الإنشاء في وعاء الاعتبار تتولد قضية حكمية حقيقية، لا يكون لها حالة انتظار أو تبدل إلا في صورة النسخ، حيث يتطرق إليه التبديل، أما مع عدمه فعالم الجعل عالم

ص: 271


1- الأوامر الترتبية والترتب من الجانبين والترخيص في المعصية في المقام.
2- فوائد الأصول 1-2 : 340.

الثبات، ويستحيل أن ينفك هذا الإنشاء عن المنشأ - أي القضية الحكمية - فهما(1) كالكسر والانكسار(2).

هذا في مرحلة الجعل.

وأما مرحلة المجعول - أي وجوب الحج وفعليته مثلاً - فالأمر مرتهن بفعلية الموضوع في الخارج، ويكون التبدل والتحول في عالم المجعول لا الجعل، فلو لم يكن المكلف مستطيعاً فلا وجوب عليه، ولو استطاع تعلق بذمته الوجوب، ومع فقد الاستطاعة يرتفع الوجوب.

وبناء عليه، فالواجب المشروط لا يخرج عن كونه واجباً مشروطاً بعد تحقق شرطه، فهو في عالم الجعل مشروط دائماً حتى مع تحقق شرطه في الخارج، فلا ينقلب إلى الواجب المطلق؛ لأن وعاء الجعل وعاء الثبات لا التبدل والتحول.

وعليه، يندفع ما ذكر من الإشكال، حيث بُني أساسه على أن الواجب المشروط، أو الترخيص المشروط يصبح مطلقاً بعد تحقق شرطه.

وحاصل الجواب: أن الواجب المشروط يبقى على حاله، فلا يكون هنالك أمر بالضدين.

ففي المثال الأول: لو ترك المكلف الأهم لم يصبح المهم مطلقاً، بل يبقى مشروطاً، فيكون خطاب المولى كما كان، وهو (أنقذ الغريق والاّ فصلِّ) فلم يجتمع أمران مطلقان، بل اجتمع أمر مطلق وأمر مشروط، والمفروض أنه لا تناقض بين المطلق والمشروط.

ص: 272


1- الإنشاء والمنشأ.
2- فكما يستحيل انفكاك الكسر عن الانكسار يستحيل انفكاك الإنشاء عن المنشأ وبالعكس.

وبعيداً عن المصطلحات، لا تناقض بالوجدان بين (أنقذ هذا الغريق إن لم تنقذ ذاك)، و (أنقذ ذاك إن لم تنقذ هذا).

الرابع: ما ذكره السيد القمي(1) وحاصله بتوضيح منا: إننا لا نسلم قبح الترخيص في المعصية بما هو هو، فإن القبح إنما هو فيما إذا أوجب محذوراً في نفس الجعل، أو في مبدئه أو منتهاه، وإلا فلا دليل عليه، ولا محذور في الترخيص في المعصية في المقام.

أما في نفس الجعل فلأن الأحكام الشرعية أمور اعتبارية، ولا تضاد في الأمور الاعتبارية.

وأما في مَبدأ الجعل فلأن ملاك الحكم الواقعي إنما هو في المتعلق، وملاك الحكم الظاهري في ذات الجعل، فلا محذور فيه أيضاً.

وأما في مرحلة المنتهى فلأن المكلف في صورة ترك الطرفين لم يصدر منه عصيان، وفي صورة ارتكاب أحد الطرفين يحرم عليه الطرف الآخر، فأين المحذور؟!

والظاهر تمامية هذا الجواب(2).

ص: 273


1- آراؤنا في أصول الفقه 2: 229.
2- إلا أن يقال: إنَّه لا معنى لمثل هذا التكليف، حيث إنه تكليف بغير المتحقق، فالترخيص موقوف على الترك، وذلك مثل تعلق التكليف بالإناء الذي هو خارج عن محل الابتلاء، حيث لا معنى لتوجيه التكليف إليه، فالالتزام بأن الحلية موقوفة على الترك غير عقلائي، وبعبارة أخرى: إن التكليف المذكور لغو (المقرر). لكنه إنما يكون تاماً فيما كان التكليف خاصاً، وأما التكليف العام ذو الأثر فليس بلغو، وإن لم يكن له أثر في مورد من الموارد، والأثر في المقام هو حلية أحدهما، وأما حلية كليهما فهو لازم التكليف، ولا إشكال فيما لا أثر للازمه (منه (رحمه اللّه) ).

الخامس: ما ذكره بعض المعاصرين(1)

حيث قال: يمكن دفع المحذور باشتراط الترخيصين المشروطين بإرادة ارتكاب الجامع، بأن يقول المولى (إن أردت ارتكاب الجامع وتركت الثاني كان الأول حلالاً، وإن أردت ارتكاب الجامع وتركت الأول كان الثاني حلالاً) فلو لم يرد ارتكاب الجامع وترك الاثنين كان شرط الترخيص منتفياً، فلا ترخيص.

ومعه يندفع المحذور بالترخيص في المعصية القطعية.

لكنه محل إشكال؛ لأن إرادة ارتكاب الجامع فرع الترخيص الشرعي، والمفروض في كلامه: أن الترخيص فرع إرادة ارتكاب الجامع، فيكون دورياً.

السادس: إن مفاد كون الترخيص في كل منهما مشروطاً بترك الآخر هو الترخيص في أحدهما، فإنه وإن رخص المولى في كل منهما بشرط ترك الآخر، لكن مؤدى الترخيص المذكور هو الترخيص في أحدهما، وهو ترخيص في المخالفة الاحتمالية لا القطعية، فاندفع المحذور(2).

هذا تمام الكلام في الإشكال الثالث.

الإشكال الرابع: دلالة الروايات على وجوب الموافقة القطعية

الإشكال الرابع: دلالة الروايات في موارد متعددة على وجوب الموافقة القطعية، وحرمة المخالفة الاحتمالية للعلم الإجمالي، وهي على طوائف:

ص: 274


1- بحوث في علم الأصول 5: 188.
2- ويمكن أن يجاب أيضاً بجواب سابع، وهو إن مفاد الترخيص في أحدهما بشرط ترك الآخر منصرف عن الترخيص في كليهما (المقرر).

الطائفة الأولى: ما دل على لزوم غسل جميع الثوب الذي أصابته نجاسة معلومة بالإجمال، كصحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) : «في المني يصيب الثوب، قال: فإن عرفت مكانه فاغسله، وإن خفي عليك فاغسله كله»(1).

فمع إمكان جريان أصالة الطهارة في بعض أطراف العلم الإجمالي(2) أمر الإمام (عليه السلام) بغسله كله، فلم يرخص في المخالفة الاحتمالية، وإنما أوجب الموافقة القطعية.

ونظيرها صحيحة زرارة: «أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره»(3).

لكن أورد بعض المعاصرين(4) على هذه الطائفة أن وجوب غسل الثوب إنما هو لأجل الصلاة، ومن المعلوم أن تمام الثوب موضوع واحد بالنسبة للصلاة، له حالة سابقة متيقنة هي النجاسة، ومعها لا تجوز الصلاة، إلا أن يعلم طهارته، والعلم بالطهارة موقوف على غسل الثوب كله.

لكنه محل تأمل؛ لأن شك المكلف في الثوب مسبب عن الشك في الأبعاض، حيث يقسم الثوب إلى قسمين، وتجري أصالة الطهارة في القسم الأول، فتحرز الطهارة بالعلم التعبدي، ويغسل القسم الثاني، فتحرز الطهارة بالعلم الوجداني. ومع جريان الأصل في السبب لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في المسبب، كما لو كان هنالك ثوب نصفه معلوم النجاسة ونصفه

ص: 275


1- تهذيب الأحكام 1: 267.
2- بأن يغسل نصفه فقط ويجري الأصل في النصف الآخر.
3- تهذيب الأحكام 1: 421.
4- بحوث في علم الأصول 6: 40-41.

مشكوك النجاسة، فمع غسل النصف المعلوم وإجراء الأصل في النصف الآخر تصح الصلاة فيه؛ للعلم بالطهارة بضم الوجدان إلى الأصل.

وفي المقام كذلك، حيث يمكن تنصيف الثوب وإجراء الأصل في نصفه، وغسل النصف الآخر، ومع ذلك أمر الإمام (عليه السلام) بغسل كله، فيدل ذلك على عدم جريان أصالة الطهارة في بعض أطراف العلم الإجمالي(1).

الطائفة الثانية: ما دل على إهراق الإناءين المعلوم نجاسة أحدهما، مع إمكان جريان أصالة الطهارة في أحدهما أو استصحابها.

كما في موثقة سماعة، قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل معه إناءان فيهما ماء، وقع في أحدهما قذر لا يدري أيهما هو، وليس يقدر على ماء غيرهما؟ قال (عليه السلام) : يهريقهما جميعاً ويتيمم»(2).

وبنفس المضمون موثقة عمار(3).

الطائفة الثالثة: الروايات الواردة في القرعة لتعيين الغنم الموطوءة(4) مع

ص: 276


1- إن قلت: إن الإمام (عليه السلام) بين طريقاً للتطهير، وهذا لا ينافي وجود طريق آخر. قلت: ظاهر الأمر هو الوجوب العيني التعييني النفسي، كما ذكره صاحب الكفاية. إن قلت: إن الإمام (عليه السلام) بين الطريقة السهلة لذلك، حيث لم يكن السائل يستوعب هذه التخريجات الأصولية. قلت: الراوي زرارة وهو من أفاضل الأصحاب، وقد ناقش الإمام (عليه السلام) في هذه الرواية مكرراً، فللرواية مقاطع سبعة يكر ويفر فيها زرارة (من نقاش بعض الطلبة أثناء البحث وجواب السيد (رحمه اللّه) ).
2- الكافي 3: 10.
3- وسائل الشيعة 1: 155.
4- تهذيب الأحكام 9: 43؛ وسائل الشيعة 24: 169.

إمكان الاستصحاب في بعض الأطراف موضوعاً أو حكماً، إلا أن مفاد كلام الإمام (عليه السلام) عدم جريان الأصل ولو في بعض الأطراف، وإنما يجب اللجوء إلى القرعة.

وفي المقام طائفة رابعة لكن لا يصح الاستدلال بها، وهي الروايات الواردة في اختلاط المذكى بالميتة، كموثقة الحلبي، قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إذا اختلط الذكي بالميت باعه ممن يستحل الميتة وأكل ثمنه»(1).

وإنما لا يصح الاستدلال بها للمقام؛ لأن البحث في إمكان جريان الأصول الترخيصية النافية للتكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي كأصالة الحل، وهذه الطائفة تثبت التكليف لاستصحاب عدم التذكية، ونتيجتها وجوب الاجتناب(2).

هذا تمام الكلام في الإشكال الرابع.

ويرد على الإشكال الرابع إيرادان:

الإيراد الأول: إنه لا يفيد العموم لجميع الشبهات، فالحكم بعدم جريان الأصول الترخيصية خاص بهذه الموارد الثلاثة(3).

وبعبارة أخرى: إطلاق أدلة جريان الأصول شامل لتمام موارد العلم الإجمالي في بعض الأطراف، خرج منه موارد ثلاثة هي: الثوب والإناءان

ص: 277


1- وسائل الشيعة 24: 187.
2- أقول: استصحاب عدم التذكية أصل مسببي يتقدمه استصحاب صحة التذكية، ومع جريانه لا مجال للأصل المسببي، وبه يكون الأصل ترخيصياً ، إلا أن يقال: إنّه مثبت (المقرر).
3- أي : الثوب والإنائين والغنم الموطوءة.

والغنم الموطوءة.

لكنه قابل للدفع عن طريقين:

الأول: إلغاء الخصوصية، فلا خصوصية لهذه الموارد الثلاثة، بل يمكن التمسك بالأولوية، فإن أمر الطهارة والنجاسة سهل في نظر الشارع، حيث يجري الأصل حتى مع الظن بالخلاف، ومع ذلك أمر الإمام (عليه السلام) بغسل كل الثوب، وإهراق الإناءين، وهكذا تسامح الشارع في حلية الأكل والشرب، فلو لم تجرِ الأصول الترخيصية في هذه الموارد في بعض الأطراف فبطريق أولى لا تجري فيما هو أهم منها .

والحاصل: إما أن نلغي الخصوصية عرفاً، وإما أن نتمسك بالأولوية.

الثاني: عموم التعليل الظاهر من ملاحظة صحيحة زرارة: «قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني، إلى أن قال: فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال (عليه السلام) : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك»(1).

فالحكم بوجوب الغسل إنما هو لحصول اليقين بالطهارة، فالاشتغال اليقيني ولو على نحو الإجمال يحتاج إلى الطهارة اليقينية، والعلم بفراغ الذمة، ولا يمكن إجراء الأصول الترخيصية في بعض الأطراف، ومعه يمكن التعدي إلى جميع موارد العلم الإجمالي.

الإيراد الثاني: إن الحكم بوجوب الموافقة القطعية في العلم الإجمالي معارض بموارد أخرى، اكتفى الشارع فيها بالموافقة الاحتمالية، فلا يمكن

ص: 278


1- تهذيب الأحكام 1: 421.

استنباط قاعدة كلية، كصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) : «يجزي المتحير أبداً أينما توجه إذا لم يعلم أين وجه القبلة»(1).

وبنفس المضمون صحيحة معاوية بن عمار(2).

وهو جيد لولا شبهة الإعراض، فالمشهور شهرة عظيمة وجوب الصلاة إلى أربع جهات، بل عن المعتبر(3) نسبته إلى علمائنا، بل عن الغنية(4) دعوى الإجماع عليه.

لكن خالف في ذلك الشيخ المفيد(5) والشيخ الطوسي(6) والمحقق الأردبيلي(7) والسيد الوالد(8) والسيد الخوئي(9) فيما أعلم حيث حكموا بصحة الصلاة إلى جهة واحدة.

ومع حل شبهة الإعراض تكون الرواية معارضة لتلك الروايات، وتدل على كفاية الموافقة الاحتمالية، فالشارع في الموارد الجزئية حكم بحكمين: كفاية الموافقة الاحتمالية تارة، وعدم كفايتها تارة أخرى.

هذا تمام الكلام في الإشكال الرابع.

ص: 279


1- من لا يحضره الفقيه 1: 276.
2- وسائل الشيعة 4: 311.
3- المعتبر 2: 70.
4- غنية النزوع: 69.
5- المقنعة: 96.
6- الاقتصاد : 257.
7- مجمع الفائدة والبرهان 2: 67.
8- الفقه 1: 64.
9- شرح العروة الوثقى 11: 472-473.
الإشكال الخامس: عدم إمكان التقييد في المقام

الإشكال الخامس: ما ورد في كلمات بعض الأعلام قال: «إن لزوم رفع اليد عن إطلاق الحكم لا عن أصله فيما إذا دار الأمر بينهما وإن كان صحيحاً، إلا أنه لا ينطبق على المقام؛ لأن ذلك إنما هو فيما إذا أمكن التقييد، كما في الأمثلة المذكورة، بخلاف المقام، فإن التقييد فيه غير معقول في نفسه، فلا محالة يكون المانع عن الإطلاق مانعاً عن أصل الحكم؛ إذ المفروض وصول الحكم الواقعي إلى المكلف، وإن كان متعلقه مردداً بين أمرين أو أمور، فكيف يعقل الترخيص في مخالفته ولو مقيداً بترك الطرف الآخر»(1).

وحاصله: عدم إمكان التقييد في المقام؛ لأن المانع من الإطلاق مانع عن التقييد.

بيانه: إنه يستحيل شمول دليل الرفع للإناءين على نحو الإطلاق؛ وذلك لوصول الحكم الواقعي إلى المكلف، فلا يمكن للمولى أن يأذن بشرب الإناء الأول وهكذا الثاني؛ لأنه مناقض للحكم الواقعي، وهذا المانع نفسه، مانع من التقييد، فلا يمكن القول: اشرب الأول بشرط أن لا تشرب الثاني وبالعكس.

لكنه محل تأمل؛ لإمكان التقييد في المقام بخلاف الإطلاق، لوجهين على سبيل منع الخلو:

الوجه الأول: إنَّ التقييد كاشف عن جعل البدلية، فالمولى يجعل الإناء

ص: 280


1- مصباح الأصول 2: 355.

الثاني بدل الواقع، ويعتبره الحرام الواقعي، كما هو الحال في باب قاعدة الفراغ والتجاوز وأمثالهما، حيث جعل الشارع البدلية عن الواقع، فلو لم يعلم أنه ركع أم لا اعتبره راكعاً: «بلى قد ركعت»(1). فللمولى أن يجعل البدلية مع العلم التفصيلي، فكيف بالعلم الإجمالي(2) ؟

ولكن لا معنى لجعل البدلية مع الإطلاق، فلو كان الرفع شاملاً للإناءين فأين البدل عن الواقع؟ فالترخيص غير ممكن مع الإطلاق، لكنه ممكن مع التقييد بجعل البدلية، فالفرق بينهما متحقق، فلا يمكن القول بكون التقييد كالإطلاق والمانع عنه مانع عن التقييد.

الوجه الثاني: إنَّ التقييد كاشف عن كون الغرض بنحو تكفي فيه الموافقة الاحتمالية، ولا معنى لذلك مع الاطلاق؛ لأنه يستلزم المخالفة القطعية.

بيانه: إنَّ الغرض على ثلاثة أنواع:

الأول: الغرض الشديد، فيما لو كان المولى يريد الواقع على كل تقدير، بحيث يمنع المكلف من مخالفته على كل حال، ولو بإيجاب الاحتياط، ولذا لا يرخص في الاقتحام حتى في الشبهات البدوية، كالثلاثة الخطيرة.

الثاني: الغرض المتوسط، وتجب فيه الموافقة القطعية بشرط وصول التكليف اتفاقاً إلى المكلف، وفي هذا النحو يأذن الشارع في الاقتحام في

ص: 281


1- كما لو أمر بالصلاة إلى القبلة، وحيث اشتبهت يكتفي بالصلاة إلى جهة واحدة، ويعتبرها هي القبلة الواقعية (منه (رحمه اللّه) ).
2- فلو علم أن أحد الإناءين خمر فعينته البينة وجب تصديقها، فيعتبر الشارع كلام البينة بمثابة الواقع (منه (رحمه اللّه) ).

الشبهات البدوية؛ لعدم اتفاق وصول التكليف، لكن لو حصل العلم فلا إذن في الاقتحام، سواء أكان الوصول إجمالياً أم تفصيلياً، كالحلية والحرمة والطهارة والنجاسة.

الثالث: الغرض الضعيف، وتكفي فيه الموافقة الاحتمالية مع اتفاق الوصول، كالاكتفاء بالصلاة إلى الجهة الواحدة فيما لو اشتبهت القبلة.

وفي المقام، شمول دليل الترخيص لأحد الطرفين مقيداً بترك الآخر كاشف عن كون غرض المولى ضعيفاً بنحو تكفي فيه الموافقة الاحتمالية، وهذا المعنى لا يتأتى في الإطلاق؛ لاستلزامه المخالفة القطعية، فتحقق الفرق بين الإطلاق والتقييد، فالمانع في الإطلاق هو لزوم المخالفة القطعية بخلاف التقييد، فإن المخالفة والموافقة احتمالية ولا مانع منه.

هذا تمام الكلام في الإشكال الخامس.

الإشكال السادس: تقييد الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين

الإشكال السادس: ما أورده بعض المتأخرين(1): من أن لدليل الأصل العملي في تمام أطراف العلم الإجمالي إطلاق أحوالي وأفرادي، لكن للإطلاق المذكور محذور يرفع بأحد طريقين: الأول: ما ذكر من تقييد الإطلاق الأحوالي في الطرفين، فتكون النتيجة جواز اقتحام أحدهما بشرط ترك الآخر وبالعكس.

لكن رفع المحذور ليس منحصراً بهذا الطريق، بل هنالك طريق آخر، وهو تقييد الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين دون الآخر،

ص: 282


1- بحوث في علم الأصول 4: 171.

فيرتفع محذور الترخيص في المخالفة القطعية.

لكنه محل تأمل:

أولاً: لأن محذور الترخيص في المخالفة القطعية لم ينشأ من الإطلاق الأفرادي؛ وذلك لعدم ترتب المحذور على شمول دليل الرفع للفردين، كما لا محذور لشمول أنقذ الغريق للنفرين، وإنما المحذور ناشئ من الإطلاق الأحوالي، بأن يقول المولى: أنقذ الأول سواء انقذت الثاني أم لا وبالعكس، فلابد من رفع اليد عما نشأ منه المحذور، فيقيد الإطلاق الأحوالي في الطرفين.

وثانياً: إن تقييد الإطلاق الأحوالي والأفرادي في أحد الفردين دون الآخر غير عرفي، بخلاف تقييد الإطلاق الأحوالي، فيرجح عليه.

فتحصل أنه لا محذور من جريان الأصل في كلا الطرفين على نحو التخيير، وما ذكر من الإشكالات الستة غير وارد.

الإشكال السابع: توقف التخيير على الدليل الخاص

الإشكال السابع: ما ذكره المحقق النائيني في الفوائد، قال: «إن الموارد التي نقول فيها بالتخيير مع عدم قيام دليل عليه بالخصوص(1) لا تخلو عن أحد أمرين: أحدهما: اقتضاء الكاشف التخيير، والدليل الدال على الحكم التخيير في العمل. ثانيهما: اقتضاء المنكشف والمدلول ذلك»(2).

ص: 283


1- فالطريق الأول هو قيام الدليل الخاص على التخيير، كباب الخبرين المتعارضين، وهذا مفقود في المقام؛ لعدم وجود الدليل على التخيير بين الإناءين (منه (رحمه اللّه) ).
2- فوائد الأصول 4: 28.

وحاصله: إن التخيير متوقف إما على دلالة الدليل الخاص، أو اقتضاء الكاشف، أو اقتضاء المنكشف، والثلاثة مفقودة في المقام، فلا منشأ للحكم بالتخيير بين الإناءين.

أما بالنسبة إلى الطريق الأول(1)، وهو اقتضاء الكاشف، فلوكان هنالك عام - كأكرم العلماء - وعلم بخروج زيد وعمر عن العام، ولكن لم يعلم أن خروجهما على نحو الإطلاق أو على نحو التقييد، فيحكم بالتخيير بين الفردين؛ لأن أكرم العلماء له عموم أفرادي يشمل زيداً وعمراً، وله إطلاق أحوالي يشمل زيداً في حالة إكرام عمر وعدمه، ويشمل عمراً كذلك، فيشك في حد المقدار الخارج من العام، فهل الإطلاق الأحوالي خارج عن العام فقط، أو العموم الأفرادي والإطلاق الأحوالي معاً؟ فيتقصر على القدر المتيقن، وهو خروج الإطلاق الأحوالي عن العموم، فنقول: لا يجب إكرام زيد عند إكرام عمر وبالعكس، وتكون النتيجة الحكم بالتخيير، هذا ما ذكره.

وربما الأوضح من ذلك قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}(2) ولما علم عدم شمول العام لصلاة الظهر والجمعة معاً، دار الأمر بين خروج فردين عن عموم العام فلا تجب الجمعة ولا الظهر، فلا يكون (أقم الصلاة) عاماً بالعموم الأفرادي، ولا مطلقاً بالإطلاق الأحوالي، وبين الحفاظ على عمومه الأفرادي مع انخرام الإطلاق الأحوالي، فتجب الجمعة إن لم يؤد

ص: 284


1- الذي ورد في عبارة المحقق النائيني المتقدمة.
2- الإسراء: 78.

الظهر وبالعكس.

وحيث إن انخرام الإطلاق الأحوالي مسلم على كل تقدير، والشك في انخرام العموم الأفرادي لزم الاقتصار على القدر المتيقن في التخصيص والتقييد، فتكون أصالة العموم وأصالة عدم التخصيص مقتضية لشمول العام للفردين، منتهى الأمر بدون الإطلاق الأحوالي، والنتيجة التخيير بين الظهر والجمعة.

فنفس الدليل الكاشف عن الحكم يقتضي التخيير، وهو ناشئ عن جمع الأدلة الثلاثة، أي: دليل العام ودليل المخصص، وحكم العقل بالاقتصار في التخصيص والتقييد على القدر المتيقن.

وأما الطريق الثاني(1): أن يكون التخيير باقتضاء المنكشف، وفي مراده من العبارة نوع من الإبهام؛ ولذا أشكل عليه البعض(2) بعدم الفرق بين النوعين.

ولعل ما يظهر من مجموع عباراته أن التخيير باقتضاء المنكشف مرتبط بباب التزاحم، حيث يعلم أن كلا الفردين واجد للملاك؛ ولذا يجب الجمع بينهما مع التمكن، وحيث إن قدرة المكلف لا تفي بالجمع يتخير، فنفس المنكشف - لا الدليل - يقتضي التخيير.

قال المحقق النائيني (رحمه اللّه) : «ما إذا تزاحم الواجبان في مقام الامتثال لعدم القدرة على الجمع بينهما، فإن التخيير في باب التزاحم إنما هو لأجل أن المجعول في باب التكاليف معنى يقتضي التخيير في امتثال أحد

ص: 285


1- الذي ورد في عبارة المحقق النائيني المتقدمة.
2- تهذيب الأصول 2: 326.

المتزاحمين»(1) فالعقل يحكم بالتخيير(2).

وهذان الطريقان(3) لا يفيان لإثبات التخيير في المقام، أما التخيير باقتضاء الكاشف فهو مما لا يكاد يخفى، فإن دليل اعتبار كل أصل إنما يتقضي جريانه عيناً، وليس في الأدلة ما يوجب التخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين.

ف-«كل شيء هو لك حلال»(4) يفيد التعيين لا التخيير، فمن أين يأتي التخيير بين الإناءين؟

لكنه محل تأمل؛ ولذلك أشكل عليه المحقق العراقي في الحاشية بقوله: «يكفي دليلاً ملاحظة الجمع بين إطلاق دليل الحلية لكل واحد من الفردين على أي حال، وبين حكم العقل بعدم إمكان الجمع بين الشكين في هذا الحكم»(5) فنفس الطريق الذي سلكه لإثبات التخيير في (أكرم العلماء) نسلكه لإثبات التخيير في (كل شيء هو لك حلال).

فأولاً: كلاهما عام.

ثانياً: إنَّ المخصص اللفظي المجمل(6) مانع من عموم أو إطلاق(أكرم

ص: 286


1- فوائد الأصول 4: 30.
2- بخلاف الطريق الأول، فليس الطرفان واجدي الملاك، ولذا لو تمكن من إكرام زيد وعمر لم يجب عليه إكرامهما معاً، وفي عرض الآخر (منه (رحمه اللّه) ).
3- وهما ما ذكرهما المحقق النائيني في فوائد الأصول 4: 28.
4- الكافي 5: 313.
5- فوائد الأصول 4: 31 (الهامش).
6- لا تكرم زيداً وعمراً.

العلماء) كذلك المخصص العقلي مانع من شمول (كل شيء هو لك حلال) للفردين.

ثالثاً: الأمر فيهما دائر بين تخصيص العموم الأفرادي أو تقييد الإطلاق الأحوالي، والتقييد أولى، فنرفع اليد عن الإطلاق الأحوالي، ونبقي العموم الأفرادي، وهو معنى التخيير بين الإناءين، فما هو الفرق بينهما؟ وعليه يثبت التخيير من طريق الكاشف.

ولذا قال المحقق العراقي: «فعليك حينئذ بإبداء الفرق بين المقامين إلى يوم القيامة»(1).

وأما التخيير من طريق المنكشف فإجماله: أن ملاك باب التزاحم غير متحقق في الإناءين.

ثم قال المحقق النائيني: «وبعد البيان المتقدم لا أظن بقاء الشبهة(2)

في الأذهان»(3).

وعلّق المحقق العراقي علی كلامه بقوله: «ولكن لا كل ما يتمنى المرء يدركه»(4) حيث لم ترتفع الشبهة بهذا البيان.

هذا تمام الكلام في الإشكال السابع.

الإشكال الثامن: عدم شمول البراءة لأطراف العلم الإجمالي

الإشكال الثامن: عدم شمول أدلة البراءة لأطراف العلم الإجمالي، فإنها

ص: 287


1- فوائد الأصول 4: 28 (الهامش).
2- شبهة التخيير.
3- فوائد الأصول 4: 32.
4- فوائد الأصول 4: 32 (الهامش).

على نوعين:

النوع الأول: ما لا يشمل أطراف العلم الإجمالي على نحو التخصص موضوعاً، كقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(1)، وقوله عز وجل:{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}(2)، وكحديث الحجب والرفع، حيث لا يراد من الأخير مثلاً العلم الوجداني، بل الحجة، وهي أعم من الحجة الشرعية والعقلية، فما لا حجة على إثبات التكليف فيه حكمه مرفوع، والحجة قائمة في العلم الإجمالي، أما في الإناء الأول فهو الخمر واقعاً وهو حرام، وأما في الإناء الثاني فلقيام الحجة العقلية على لزوم الاجتناب عنه؛ لأنه مقدمة علمية لاجتناب الحرام الواقعي. وبعبارة أخرى: يحكم العقل بأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، وعليه يلزم الاجتناب عنهما.

وهكذا في آية البيان(3)،

فإن البيان قائم على طرفي العلم الإجمالي، وهكذا حديث الحجب حيث يُعلم شرعاً أو عقلاً بلزوم الاجتناب عن كلا الطرفين.

النوع الثاني: ما يشمل أطراف العلم الإجمالي موضوعاً، لكنه منصرف عنها، وعمدته روايتان:

ص: 288


1- الإسراء: 15.
2- التوبة: 115.
3- أي: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}. التوبة: 115.

الأولى: رواية موثقة مسعدة بن صدقة: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعله سرقة، أو امرأة تحتك ولعلها أختك أو رضعيتك أو عبد..»(1)، فهذه الأمثلة وإن لم تخصص القاعدة الكلية إلا أن فرض العلم الإجمالي فرد خفي لا يخطر منها إلى الذهن، بل الرواية منصرفة إلى الشبهة البدوية.

الثانية: صحيحة عبد اللّه بن سنان: «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(2)،

فكل ماهية فيها حلال وحرام - كالجبن - فهو حلال حتى تعرف أنه حرام، والمنصرف عنه الشبهة البدوية، أو غير المحصورة التي كل طرف منها شبهة بدوية.

ويؤيده أن عبد اللّه بن سنان رواها في نقله الثاني عن عبد اللّه بن سليمان، وصدرها حول الجبن(3)، وهي مذيلة بالقاعدة الكلية.

وعليه، لا دليل يدل على شمول أدلة البراءة لأطراف العلم الإجمالي ولو على نحو التخيير.

الإشكال التاسع: إعراض المشهور عن عموم الروايات

فقد ادعى الشيخ الأعظم في الفرائد الشهرة على وجوب الموافقة القطعية(4)، وصرح السيد العاملي في المدارك بأنه مقطوع به في كلام

ص: 289


1- الكافي 5: 313.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 341.
3- الكافي 6: 339.
4- فرائد الأصول 2: 210.

الأصحاب(1)، ونسبه المحقق البهبهاني في الفوائد الحائرية إلى الأصحاب(2)، وحكي عن مخطوطة المحقق الكاظمي دعوى الإجماع عليه صريحاً.

ولم ينقل الخلاف إلا عن جماعة قليلة، حيث قالوا بجواز الاقتحام في أحد أطراف العلم الإجمالي، منهم: المقدس الأردبيلي على المحكي عنه، والمحقق السبزواري في الذخيرة(3)، والمحقق القمي في القوانين(4)، والسيد القمي في آراؤنا(5)، وقد أشار إلى المبنى كراراً في كتبه الفقهية كالدلائل(6) وشرحه على المنهاج(7).

وعلى ما ببالي قديماً أن السيد العم (حفظه اللّه) تتبع فلم يعثر إلا على ثمانية عشر فقيهاً يرى جواز الاقتحام.

الإشكال العاشر: جريان الأصول الترخيصية منكر في أذهان المتشرعة

خاصة إذا صادف الحرام الواقعي، وخاصة إذا تعمد الخلط للحصول على الحرام، كخلط الخل بالخمر وشربه برجاء الوصول إلى الحرام الواقعي، فلو علم إجمالاً أن إحداهما أخته(8) فهل يجوز النظر إليها؟!

ص: 290


1- مدارك الأحكام 1: 197.
2- الفوائد الحائرية : 247.
3- ذخيرة المعاد: 138.
4- قوانين الأصول 2: 25.
5- آراؤنا في الأصول الفقه 2: 230.
6- الدلائل 1: 95، 179، 313، 434.
7- مباني منهاج الصالحين 1: 159، 235، 3: 371.
8- وإنما مثل بالأخت لا بالزوجة لإمكان جريان استصحاب عدم الزوجية فيها بخلاف الأخت، إلا بناء على جريان استصحاب العدم الأزلي (منه (رحمه اللّه) ).

تنبيهات العلم الإجمالي

اشارة

يبقى الكلام في تنبيهات:

التنبيه الأول: في الاضطرار لبعض أطراف العلم الإجمالي
اشارة

يقع الكلام في هذا التنبيه في الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي، ونحوه الإكراه، ونحوهما تلف بعض الأطراف أو خروجها عن محل الابتلاء.

ولا إشكال في حلية الطرف المضطر إليه، فإن الاضطرار رافع للتكليف، إنما البحث في وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر، وحيث إن الاضطرار على نحوين: الاضطرار إلى أحد الطرفين بعينه، والاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه، يقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: في صور الاضطرار إلى أحد الطرفين بعينه
اشارة

كما لو اضطر إلى شرب إناء الدواء، وكان الإناء الثاني ماءً، وفي هذا المقام صور:

الصورة الأولى: طروء الاضطرار قبل التكليف وقبل العلم به

كما لو كان المكلف مضطراً إلى إناء الدواء، ثم تنجس أحدهما فتولد التكليف، ثم علم المكلف بتولد التكليف(1). وبعبارة أدق: ثم علم بتنجس أحدهما، فالاضطرار متقدم، والمعلوم بالإجمال والعلم به لاحق.

والمعروف بين الأصوليين(2) عدم وجوب الاجتناب عن أي واحد

ص: 291


1- عبارة التكليف فيها تسامح، حيث لا يعلم تولد التكليف (منه (رحمه اللّه) ).
2- فرائد الأصول 2: 245؛ أوثق الوسائل: 282؛ فوائد الأصول 3: 253.

منهما، أما الدواء فللاضطرار الرافع للتكليف، وأما الماء فلأن شرط منجزية العلم الإجمالي هو العلم بالتكليف على كل تقدير، وأما لو كان العلم بالتكليف على تقدير دون تقدير فلا يكون منجزاً.

وفي عالم الثبوت يوجد احتمالان: إما تنجس الدواء، ولا أثر له لعدم كونه مولداً للتكليف؛ لأن عدم الاضطرار جزء موضوع التكاليف الشرعية، وحتى لو علم تفصيلياً بنجاسة الدواء كان حلالاً.

وإما تنجس الماء، وهو مولد للتكليف بالاجتناب، فيشك في تولد التكليف في متن الواقع ومجراه البراءة، فيجوز الاقتحام في كلا الطرفين.

لكنه بحاجة إلى التقييد، وهو عدم وجود أثر لتنجس المضطر إليه إلا الاجتناب، وأما مع فرض وجود أثر آخر يتولد العلم الإجمالي إما بوجوب ترتيب ذلك الأثر على إناء الدواء، أو وجوب الاجتناب عن الماء فيكون منجزاً.

ففي المثال المذكور: يعلم المكلف إجمالاً بقول المولى: اجتنب عن إناء الماء، أو اغسل فمك من إناء الدواء، فهذا العلم الإجمالي منجز، ومقتضاه ترتيب كلا الأثرين على العلم.

نعم، لو لم يكن له أي أثر، كما لو كانا جامدين واضطرا إلى أحدهما بعينه فيمكن أكلهما؛ لعدم تحقق العلم الإجمالي بالتكليف.

وقد أفتى صاحب العروة(1) بعدم الضمان فيما لو شرب أحد الإناءين مع علمه إجمالاً بكون أحدهما مغصوباً؛ وذلك لعدم العلم بإتلاف مال الغير،

ص: 292


1- العروة الوثقى 1: 118.

بل يحتمل اتلاف مال نفسه، وإن أشكل عليه بعض الشراح بتحقق العلم الإجمالي إما بالضمان أو وجوب الاجتناب عن الآخر، ومقتضى العلم الإجمالي ترتيب الأثرين، وإن كان هذا التقرير محل نقاش.

الصورة الثانية: كون الاضطرار متأخراً عن التكليف

أن يكون الاضطرار متأخراً عن التكليف، ومتقدماً على العلم به، وبعبارة أخرى: الاضطرار متوسط بين التكليف، وبين العلم به، بأن يكون التكليف في الرتبة الأولى والاضطرار في الرتبة الثانية، والعلم بالتكليف في الرتبة الثالثة، كما لو سقط الدم في أحد الإناءين، ثم اضطر إلى شرب إناء الدواء، ثم علم إجمالاً بوقوع الدم أولاً في أحدهما.

هذا مع توفر الشرط المتقدم، وهو عدم وجود أثر آخر غير وجوب الاجتناب، والكلام في جواز اقتحام غير المضطر إليه أيضاً.

وقد ذهب المحقق النائيني في بعض دوراته السابقة إلى عدم الجواز، حيث علل عدم حلية إناء الماء بقوله: «إن العلم بالتكليف - كما مرّ - إنما يكون مؤثراً في التنجيز من جهة طريقيته وكاشفيته لا بما أنه صفة خاصة، وحيث إن المفروض في المقام تعلق العلم بثبوت التكليف قبل حصول الاضطرار، فلو كان في الطرف المضطر إليه فلا محالة يسقط بحدوث الاضطرار لكونه رافعاً له، ولو كان في الطرف الآخر فهو باقٍ على حاله»(1).

ففي التكليف المتولد قبل الاضطرار المكشوف بالعلم اللاحق احتمالان: إما أن يكون الدم ساقطاً في الدواء، فالتكليف مرتفع بالاضطرار إليه، وإما

ص: 293


1- أجود التقريرات 2: 265.

ساقطاً في الماء فالتكليف باقٍ، ومع العلم بالتكليف والشك في سقوطه تجري قاعدة الاشتغال؛ لأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية.

لكنه عدل عما ذكره في دوراته اللاحقة، لكونه محل إشكال من وجوه:

الأول: نقضاً: بما لو خرج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أو انعدم قبل حصول العلم الإجمالي بأن تنجس أحدهما ثم انعدم، ثم علم بالتنجس في الساعة الأولى، فهل يلزم الاجتناب عن الإناء المتبقي؟

الثاني: حلاً: فمع العلم بالتكليف المنجز والشك في سقوطه تجري قاعدة الاشتغال، وأما مع الشك في أصل وجود التكليف المنجز فتجري البراءة.

أما بالنسبة إلى إناء الدواء ففيه مرحلتان: قبل العلم وبعده، أما قبل العلم فمع فرض وقوع الدم فيه يكون التكليف غير منجز؛ لأن التكليف إنما يتنجز مع العلم أو العلمي، فإن التنجيز قبل العلم لغو، وأما بعد العلم فلا تنجز أيضاً لتقدم الاضطرار، فمع فرض وقوع الدم في إناء الدواء واقعاً لم يتولد تكليف منجز أصلاً.

وأما بالنسبة إلى إناء الماء فيحتمل وقوع الدم فيه وتنجز التكليف به، لكنه شك بدوي مؤمن عنه بالبراءة.

وبتقرير آخر: تنجيز العلم الإجمالي مبتنٍ على جريان الأصول في تمام الأطراف، وسقوط الأصول بالتعارض، والأصل المؤمن لا يجري في إناء الدواء؛ للعلم بالتأمين الشرعي الوجداني، فلا حاجة إلى الأصل، فإن موضوع الأصول هو الشك، وعندنا قطع بالحلية، وأما في الماء فإن الأصل جارٍ فيه بلا معارض.

ص: 294

وعليه، يجوز للمكلف أن يشرب الدواء أولاً، ثم الماء أو العكس أو معاً، ولا محذور فيه لوجود المؤمن الوجداني في الدواء، والمؤمن التعبدي في الماء.

وحاصل هذا الوجه في عدم لزوم الاجتناب عن الماء: أن التكليف في إناء الدواء منفي بالوجدان؛ لأن أمره دائر بين عدم التكليف من الأول، أو رفعه بالاضطرار، والتكليف في إناء الماء منفي بالأصل.

شبهة وجوابها

وترد في المقام شبهة وهي أن ما نحن فيه من قبيل الكلي في قسمه الثاني(1)،

فمع العلم بوجود التكليف والشك في كونه قصيراً أو طويلاً يستصحب بقاؤه، كما لو علم بدخول حيوان لا يعلم أنه فيل أو بق، فمع فرض كونه بقاً لم يبق شك في بقائه، ومع فرض كونه فيلاً فهو باقٍ قطعاً، إلا أنه لا يقين سابق له، لكن الركنين متحققان بالنسبة إلى الجامع، فيمكن استصحاب بقاء الحيوان، فإنه وإن لم يثبت الفرد الطويل بما هو هو؛ لكونه مثبتاً، إلا أنه يثبت الأثر المترتب على الجامع، فيما لو كان له أثر.

ومثاله في الفقه: لو علم المتوضئ إجمالاً بصدور الحدث منه، وتردد بين الحدث الأكبر والأصغر، فلو توضأ لم يحكم بارتفاع الحدث؛ وذلك لأنه وإن كان الحدث الأصغر لا شك لاحق له؛ لارتفاعه بالوضوء فيما لو كان، والحدث الأكبر لا يقين سابق له، إلا أن كلي الحدث مما تم فيه الركنان

ص: 295


1- فالأقسام هي: 1- الكلي والفرد . 2- الكلي المردد بين القصير والطويل. 3- الكلي المردد بين الأصلي والبديل (منه (رحمه اللّه) ).

فيستصحب، فلا يحق له الدخول في الصلاة إلا أن يغتسل(1).

وما نحن فيه من هذا القبيل، لصدور التكليف المردد بين القصير والطويل من قبل المولى في المرحلة الأولى، فإن الدم لو كان واقعاً في الدواء كان التكليف قصيراً؛ لارتفاعه مع طرو الاضطرار، ولو كان واقعاً في الماء كان طويلاً، ولا مثبت لأحدهما، لكن الجامع - أي كلي (اجتنب) - متحقق في المرحلة الأولى، فيحصل الشك في سقوط الجامع مع طرو الاضطرار إلى أحدهما المعين فيستصحب، ولا يمكن تحصيل اليقين القطعي بامتثال التكليف بالجامع إلا بالاجتناب عن الطويل.

وأجيب عن هذه الشبهة بثلاثة أجوبة:

الجواب الأول: نقضاً: بجريانها فيما لو دار الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، فمع العلم بالتكليف بالصلاة المردد بين تسعة أجزاء وعشرة، يشك في سقوط التكليف فيما لو أتى بالقصير، فيستصحب بقاء التكليف، فما به الجواب به الجواب في المقام.

الجواب الثاني: حلاً: بأن استصحاب بقاء الكلي مع تردد الفرد بين القصير والطويل إنما يتم فيما لو كان الأصل المؤمن جارياً في الطرفين، كما في مثال الشك في الحدث الأصغر والأكبر، حيث يتعارض الأصلان النافيان ويتساقطان، فتصل النوبة إلى استصحاب الكلي.

وأما لو جرى في أحد الطرفين دون الآخر فلا مجال لاستصحاب الكلي؛

ص: 296


1- هذا مع فرض كونه متوضئاً، أي المتوضئ صدر منه الحدث المردد بين الأكبر والأصغر، لكن لو كان محدثاً كفاه الوضوء على تفصيل مذكور في محله (منه (رحمه اللّه) ).

وذلك لأن الشك في الكلي مسبب عن الشك في الفرد الطويل، وهو منفي بالأصل العملي، ولا يعارضه أصل عدم الفرد القصير؛ لأنه واجب على كل حال، فلا يجري فيه الأصل النافي، كما في مثال الصلاة، فإن الشك في بقاء الأمر بالصلاة بعد الإتيان بالفرد القصير - أي الأجزاء التسعة - إنما هو لاحتمال وجوب الفرد الطويل، والأصل عدم وجوبه، وأما الفرد القصير فهو واجب على كل حال.

وحيث إن الأصل نفى وجوب الفرد الطويل فلا شك في بقاء وجوب الجامع وعدمه، فإن الشك في بقاء جامع التكليف إنما هو لأجل الشك في وجوب الفرد الطويل، ومع جريان الأصل النافي لوجوبه لا يبقى شك في رتبة السبب، فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب في المسبب.

ونفس الكلام جارٍ فيما نحن فيه، فإن الشك في بقاء جامع التكليف بعد طرو الاضطرار إنما هو لأجل الشك في تعلق التكليف بالفرد الطويل، أي إناء الماء، فيجري فيه الأصل النافي بلا معارض؛ وذلك لعدم جريان الأصل في إناء الدواء لكونه حلالاً قطعاً، وموضوع الأصل هو الشك.

ومع حلية الدواء لا يبقى شك في وجوب الجامع، بل يقطع بعدمه، فلا يجري استصحاب الجامع بين الطويل والقصير .

لكنه محل تأمل؛ لكون الأصل مثبتاً، فلا يمكن نفي وجوب الجامع لعدم وجوب الفرد الطويل؛ لأنه ترتب عقلي لا شرعي، فيبقى الجامع بقاعدة الاشتغال، ولا يحصل الفراغ اليقيني إلا باجتناب الفرد الطويل.

الجواب الثالث: وهو مركب من كبرى وصغرى: أما الكبرى فهي: إن

ص: 297

الجامع بين التكليف المنجز وغير المنجز ليس بمنجز.

مثلاً: لو علم أن المولى كلف عبيده برفع الحجر، لا يعلم أن متعلق التكليف رفع الحجر الكبير، وهو غير المقدور له، أو الصغير المقدر له، فالعلم غير منجز للتكليف، حيث إن أمر التكليف دائر مدار الوجود والعدم، فتجري البراءة.

وأما الصغرى فهي: في المقام احتمالان ثبوتاً، فلو كان الدم واقعاً في الماء فالتكليف بالاجتناب عنه منجز، وأما لو كان واقعاً في الدواء فالتكليف غير منجز؛ وذلك لأن هنالك مرحلتين، هما: ما قبل العلم وما بعده.

أما مرحلة ما قبل العلم: فالتكليف بالاجتناب غير منجز؛ لأن منجز التكاليف العلم أو العلمي، ولا تنجيز للتكليف بوجوده الواقعي، وأما مرحلة ما بعد العلم: فكذلك للاضطرار الرافع للتنجز، بل للتكليف، فلو كان الدم في إناء الماء كان منجزاً للتكليف، ولو كان في إناء الدواء لم يكن منجزاً، فيكون أمر التكليف مردداً بين المنجز وغيره، ومثل هذا التكليف لو تعلق به العلم التفصيلي لا أثر له، فكيف إذا تعلق به العلم الإجمالي؟

وبعبارة أدق: لو كان العلم بالجامع وجدانياً لم يكن له أثر، فكيف لو كان مستصحباً؟ فالشبهة المذكورة غير تامة.

هذا تمام الكلام في الصورة الثانية.

الصورة الثالثة: لحوق الاضطرار بعد تنجز العلم الإجمالي

كما لو سقط الدم ثم علم إجمالاً، بحيث تنجز التكليف في الطرفين ووجب الاجتناب عنهما، ثم طرأ الاضطرار إلى شرب إناء الدواء.

ص: 298

وقد اضطربت بشدة كلمات الأصوليين في وجوب الاجتناب عن إناء الماء، حتى أن صاحب الكفاية اختار فيها غير ما اختار في حاشيتها.

وفي المقام احتمالات:

الاحتمال الأول

ما احتمله صاحب الكفاية في المتن، من عدم التنجيز في مرحلة البقاء، فالعلم الإجمالي منجز في مرحلة الحدوث، وعلى المكلف الاجتناب عن إناء الماء، وأما في مرحلة البقاء - أي بعد طرو الاضطرار - فلا يلزم الاجتناب، لا عن الدواء للاضطرار ولا عن الماء لسقوط العلم الإجمالي.

قال صاحب الكفاية: «لأنَّ التكليف المعلوم بينهما من أول الأمر كان محدداً بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقه، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوماً؛ لاحتمال أن يكون هو المضطر إليه»(1).

فقبل طرو الاضطرار تكون جميع التكاليف الشرعية مقيدة بعدمه.

ففي المرحلة الثانية(2) يتحقق العلم بوجوب الاجتناب محدداً بعدم الاضطرار، بمعنى أن غاية الوجوب المذكور هو الاضطرار، ولا يعلم بوجود الحكم المذكور بعد طرو الاضطرار، فإنه لو كان الدم ساقطاً في إناء الدواء فلا وجوب، وأما لو كان ساقطاً في إناء الماء فهو من الشبهة البدوية، حيث يشك في أصل وجود التكليف، فالمجرى البراءة.

هذا في مرحلة الثبوت، ومرحلة الإثبات متفرعة عليه.

ص: 299


1- كفاية الأصول: 360.
2- أي: تحقق العلم الإجمالي بوقوع الدم في أحد الإناءين.

والحاصل: إنَّ تنجيز العلم - سواء أكان تفصيلياً أم إجمالياً - منوط بوجود المنجز حدوثاً وبقاءً، وفي المقام لا وجود للعلم الإجمالي في مرحلة ما بعد الاضطرار، بل المحقق هو الشبهة البدوية ومجراها البراءة، كما لا يؤثر العلم التفصيلي بعد تحقق الشك الساري.

ولا يخفى أن صاحب الكفاية لا يدعي ارتفاع التكليف، بل تحديد التكليف من أول الأمر.

ويجاب عنه بأجوبة:

الجواب الأول: النقض بتلف بعض الأفراد، أو خروجه عن محل الابتلاء بعد العلم الإجمالي بالتكليف، فهل يمكن الالتزام بجواز الاقتحام في الفرد الباقي؟ فما هو الفارق بينه وبين طرو الاضطرار إلى أحدهما المعين؟ وحيث يلتزم ببقاء العلم الإجمالي على صفة المنجزية بلحاظ الفرد الباقي، كذلك في مقام الاضطرار لابد من الالتزام بمنجزية العلم الإجمالي بالنسبة إلى غير المضطر إليه.

لكن أجاب عنه في الكفاية بالفرق بين المقامين، ولأجله يحكم بوجوب الاجتناب عن الفرد الباقي بخلاف الفرد المضطر إليه. قال: «فإنه يقال: حيث إن فقد المكلف به(1) ليس من حدود التكليف به وقيوده كان التكليف المتعلق به مطلقاً، فإذا اشتغلت الذمة به كان قضية الاشتغال به يقيناً الفراغ عنه كذلك، وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه، فإنه(2) من حدود التكليف

ص: 300


1- أي: باحدهما.
2- أي: الاضطرار.

به وقيوده، ولا يكون الاشتغال به من الأول إلا مقيداً بعدم عروضه(1)، فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به إلا إلى هذا الحد، فلا يجب رعايته فيما بعده، ولا يكون إلاّ من باب الاحتياط في الشبهة البدوية، فافهم وتأمل فإنه دقيق جداً»(2).

بيانه: إن التكليف مطلق في صورة فقد أحد الطرفين، حيث لم يقل المولى: اجتنب عنه ما دام باقياً، وبما أن التكليف بالاجتناب مطلق كان مجرى قاعدة الاشتغال، ولا تحصل البراءة اليقينية إلا بالاجتناب عن المتبقي بعد التلف، بخلاف صورة الاضطرار إلى أحدهما المعين، فإن التكليف ليس مطلقاً، بل مقيد بعدم الاضطرار، فحد التكليف المتيقن الاضطرار، وأما بعد الاضطرار فالشبهة بدوية، ولا يلزم رعاية التكليف فيها إلا من باب الاحتياط في الشبهات البدوية.

والحاصل: إن التكليف فيما نحن فيه مقيد، والتكليف في فقد أحد الطرفين مطلق.

وأشكل عليه بإشكالات:

أولاً: ما ذكره المحقق المشكيني، حيث قال: «إن ما هو عنوان للمكلف به(3) - كالخمر وغيرها من الموضوعات - دخيل في التكليف الشرعي؛ ولذا يجري الاستصحاب فيها، مع كون اللازم فيه أن يكون مجعولاً أو له أثر

ص: 301


1- أي: الاضطرار.
2- كفاية الأصول: 361.
3- يعني المتعلق، أي الخمر مثلاً.

مجعول، فلا فرق بينه وبين الاضطرار أصلاً»(1).

بيانه: إن التكليف في الموردين مقيد، فمن الثابت أن الموضوع مؤثر في المحمول، والمحمول مرتهن به وجوداً وبقاء، والشاهد عليه جريان الاستصحاب في الموضوعات(2)، مع ضرورة أن يكون المجرى إما مجعولاً شرعياً، أو أثراً لمجعول شرعي، فيعلم من ذلك أن الموضوع دخيل في الحكم. وكما أن للاضطرار مدخلية في تحديد الحكم الشرعي كذلك لوجود المتعلق، فيكون التكليف في الموردين مقيداً بلا فرق بينهما.

لكنه محل إشكال؛ لأن الأحكام الشرعية مجعولة على نهج القضايا الحقيقية، ولا مدخلية للموضوع فيها وجوداً وعدماً، فالتكليف في القضية الحقيقية مطلق، ولا يرتهن بوجود الموضوع، وهذا بخلاف الاضطرار، فإن الشارع قيد التكليف المطلق بعدم الاضطرار، فعدم الاضطرار دخيل في الموضوع.

وثانياً: ما ذكره أيضاً(3): سلمنا أن الموضوع لا مدخلية له في الحكم الشرعي شرعاً إلا أن له المدخلية فيه عقلاً، وكما أن عدم الاضطرار دخيل في الموضوع شرعاً كذلك عدم تلف الموضوع ووجوده دخيل في الحكم عقلاً، ولا فرق بين المدخلية الشرعية والعقلية.

ويجاب عنه بعدم أخذ الموضوع وجوداً وعدماً في القضايا الحقيقية، لا

ص: 302


1- كفاية الأصول (المحشی) 4: 190.
2- كاستصحاب الخمرية فيما لو شك في انقلابها خلاً.
3- كفاية الأصول (المحشی) 4: 191.

عقلاً ولا شرعاً.

وثالثاً(1): في الحكم الشرعي مرحلتان: مرحلة الجعل ومرحلة المجعول.

أما في مرحلة الجعل فلا مدخلية لوجود الموضوع، وعدم وجوده في الحكم بمعنى الجعل، فيصدر سواء أكان هنالك موضوع أم لا.

وأما في مرحلة المجعول بمعنى الحكم المنجز الثابت في ذمة المكلف، فهو منوط بوجود الموضوع قطعاً، فإن فعلية الحكم بفعلية موضوعه، وتنتفي الفعلية في ثلاث حالات وهي: فقدان الموضوع أو الشرائط الشرعية كطرو الاضطرار، أو فقدان الشرائط العقلية كالقدرة، ومآلها جميعاً إلى فقدان الموضوع، فإن انتفاء القيد يعني انتفاء الموضوع.

وكأن صاحب الكفاية نظر إلى مرحلة الجعل ففرق بينهما، لكن البحث في المقام في المجعول لا الجعل الكلي. وعليه، لا فرق بين فقدان بعض الأطراف أو طرو الاضطرار إليه، فكلاهما يسقط الحكم عن الفعلية والتنجز.

فالجواب النقضي الأول على كلام الكفاية تام وتخلصه غير مجد.

الجواب الثاني: ما ذكره في النهاية، حيث قال: «إن الأمر يدور بين تكليف محدود في هذا الطرف، وتكليف مطلق في ذلك الطرف، فيكون احتمال التكليف المطلق من أول الأمر مقروناً باحتمال التكليف المحدود، فله الأثر من أول الأمر».(2)

توضيحه إجمالاً: في مرحلة ما قبل الاضطرار نعلم إجمالا بوجود

ص: 303


1- وربما هذا الجواب هو الذي رامه المحقق المشكيني (منه (رحمه اللّه) ).
2- نهاية الدراية 2: 598.

تكليف مطلق في إناء الماء، وتكليف محدود في إناء الدواء. وبعبارة واضحة: يوجد عندنا علم إجمالي بتكليف مردد بين القصير والطويل، فينجز كلا طرفيه، فيجب امتثال التكليف فيهما، فبعد طرو الاضطرار يلزم الاجتناب عن إناء الماء.

وأما توضيحه تفصيلاً فنقول: في تردد العلم الإجمالي بين المطلق والمحدود عندنا صورتان:

الأولى: الشك في الإطلاق، وبعبارة أخرى: الشك في موضوع واحد.

الثانية: الشك في الانطباق، وبعبارة أخرى: الشك في موضوعين.

فلو كان الشك في موضوع واحد، ودار الأمر بين التحديد والإطلاق، وبين القصير والطويل أمكن القول: إنّ القصير متيقن والطويل مشكوك، فيؤخذ بالقدر المتيقن، وتجري البراءة في الزائد، فينحل العلم الإجمالي إلى الأقل المتيقن والأكثر المشكوك.

مثلاً: لو قال المولى: (اجلس في المسجد) وشك المكلف أنه قال: (إلى الدلوك) أو (إلى الغروب)، فالأول متيقن على كل حال، والشك في الزائد مجراه البراءة.

أما لو كان الشك في موضوعين، فمن أول الأمر يتحقق العلم الإجمالي بوجوب الفرد القصير في الطرف الأول، أو الطويل في الطرف الثاني، ومقتضاه تنجيز الطرفين.

مثلاً: لو علم بأن المولى إما قال: (اجلس في الحرم ساعة) أو قال: (اجلس في الصحن ساعتين) فالشك في الانطباق، حيث لا يعلم أن

ص: 304

التكليف المردد بين القصير والطويل منطبق على الحرم أو الصحن، فلا يمكن القول: إنَّ جلوس ساعة متيقن، والأكثر مشكوك لينحل العلم الإجمالي؛ وذلك لأن الأمر مردد بين موضوعين: قصير وطويل، ولا متيقن خارجي. نعم، المتحقق جامع انتزاعي، لكن لا يمكن القول: إنَّ هذا الفرد معلوم الوجوب والزائد عليه مشكوك، وعليه لا بد وأن يجمع المكلف بينهما.

وبعبارة أوضح: في المقام ثلاثة علوم إجمالية:

الأول: العلم بلزوم الجلوس في الحرم ساعة أو في الصحن ساعتين.

الثاني: العلم بلزوم الجلوس ساعة على كل تقدير، إما في الحرم أو في الصحن، وهو موهم لانحلال العلم الإجمالي.

الثالث: العلم بلزوم الجلوس في الحرم في الساعة الأولى، أو الجلوس في الصحن في الساعة الثانية.

فلا بد من ترتيب الأثر على الطرفين، ولا يمكن دعوى انحلال العلم الإجمالي والاكتفاء بالجلوس ساعة في الحرم وساعة في الصحن؛ لأنه في موضوعين بخلاف ما إذا كان في موضوع واحد.

مثال آخر: لو علم إجمالاً إما بوجوب استضافة زيد يوماً أو عمرو يومين، فلا يمكن الاكتفاء باستضافتهما يوماً واحداً؛ وذلك لتحقق العلم الإجمالي الثالث إما بوجوب استضافة زيد في اليوم الأول، أو استضافة عمرو في اليوم الثاني.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فليس الشك في التحديد والإطلاق في

ص: 305

موضوع واحد، وإنما الشك في الانطباق في موضوعين، بمعنى انطباق التكليف على هذا الفرد مطلقاً أو ذاك مقيداً، فقوله: (اجتنب عن الملاقي) إن انطبق على الدواء كان مقيداً، وإن انطبق على الماء كان مطلقاً، فيدور الأمر بين مطلق ومحدد في موضوعين فينجزهما.

وبعبارة واضحة جداً: الشك بين القصير والطويل إن كان في موضوع واحد انحل العلم الإجمالي، وإن كان في موضوعين تنجزا.

وما نحن فيه من قبيل الموضوعين، فيجب الاجتناب عن الماء، ولو مع فرض الاضطرار إلى الدواء.

ويرد عليه إشكال مهم انتهى ببعض الأعلام إلى التحير وهو: هل أنَّ حكم المولى بوجوب الاجتناب عن الملاقي، أو طهارة المشكوك تكليف وحداني أو متعدد بتعدد الأزمان والآنات لتعدد موضوعه؟

اختار بعض المتأخرين تعدد الحكم، واستدل لذلك بتعدده فيما لو كان الموضوع متعدداً، فلو شك في طهارة شيء في الآن الأول تحقق موضوع الحكم بالطهارة، فيحكم المولى بها، وفي الآن الثاني يتحقق فرد جديد من أفراد الموضوع مماثل للفرد السابق، فيحكم المولى بحكم جديد، وإن كان مشابهاً للحكم السابق.

وعلى هذا المبنى يكون الجواب الثاني محل إشكال.

وبعبارة واضحة: إن الجواب تام لو كان التكليف بالاجتناب واحداً مستمراً، أما لو كان كل ترك من التروك مطلوباً مستقلاً بملاحظة الآنات المتعاقبة المتعددة فالعلم الإجمالي لا ينجز الطويل؛ وذلك لأنّه في الآن

ص: 306

الأول احتمال مطلوبية ترك شرب الإناء الأول مقرون باحتمال مطلوبية ترك شرب الإناء الثاني، وهكذا في الآنات المتعاقبة حتى الوصول إلى مرحلة ما بعد طرو الاضطرار، وفيها لا يكون لترك شرب إناء الماء طرفاً، لا طرفاً فعلياً؛ لجواز شرب إناء الدواء قطعاً، ولا طرفاً قبلياً؛ لأن كل طرف قبلي كان مقروناً بطرف، فلا يتحقق العلم الإجمالي بوجود تكليف متعلق بترك شرب هذا الإناء أو ذاك، فتكون الشبهة في إناء الماء بعد طرو الاضطرار شبهة بدوية يؤمن عنها بالبراءة.

هذا ما يرتبط بالعلم الإجمالي بالتكليف.

وأما الأصل المؤمن، ففي الآن الأول يتعارض أصل طهارة الماء مع أصل طهارة الدواء فيتساقطان، وهكذا إلى أن نصل إلى مرحلة الاضطرار، حيث يجري الأصل في الماء بلا معارض؛ لعدم جريانه في الدواء.

وأجيب عنها بجوابين:

الجواب الأول: إنَّ الانحلال إلى تكاليف متعددة إنما يكون تاماً فيما لو كان لكل ترك ملاك مستقل، أما لو كانت التروك المتعاقبة ناشئة من ملاك واحد فلا يتحقق إلا زجر واحد مستمر، حيث لا يقتضي الملاك تعدداً في الزجر بعدد الآنات المتعاقبة.

وبتقرير آخر: تعدد التكليف في الآنات المتعاقبة ليس عقلائياً مع إمكان وجود تكليف واحد مستمر.

وبعبارة أخرى: الدليل ليس ظاهراً في وجود التكاليف المتعددة المتعاقبة، بل ظاهر في وجود التكليف الواحد المستمر. كما هو الحال في

ص: 307

نظائر المقام، ففي قوله: «من حاز ملك»(1)، هل هنالك جعل لملكية متعددة في الآنات المتعاقبة فيما لو تحققت الحيازة؟ ففي الآن الأول يصدق عليه أنه حاز فتجعل الملكية، وفي الآن الثاني أيضاً يصدق عليه العنوان، فهل تجعل له ملكية ثانية؟ لا يمكن الالتزام به، بل هي ملكية واحدة مستمرة.

وكذلك في المقام، فحرمة الملاقي حرمة واحدة مستمرة، لا أنه حرام بحرمة في الآن الأول، وحرمة جديدة في الآن الثاني وهكذا.

وعليه، فالمتحقق تكليف واحد مستمر، إما قصير لو كان متعلقاً بالدواء، أو طويل لو كان متعلقاً بالماء، فيتنجز العلم الإجمالي المردد بين القصير والطويل في موضوعين، فيلزم الاجتناب عن الطويل طويلاً، وعن القصير قصيراً.

الجواب الثاني: سلمنا تعدد الأصول النافية، وهكذا الحكم بالاجتناب عن الملاقي في الموضوع الواحد بعدد الآنات المتعاقبة، إلا أن مطلوبية الترك في كل آنٍ ملازمة لمطلوبية الترك في الآنات اللاحقة، فلو قال المولى في الآن الأول: اجتنب عن الماء، فمطلوبية هذا الترك ملازمة لمطلوبية الترك في الآن الثاني؛ لاتحاد العلة فيهما، فإن علة الإنشاء في الآن الأول هي الملاقاة، وهي متحققة بنفسها في الآن الثاني والثالث.

وعليه نقول: من الآن الأول نعلم بثبوت تكاليف متعددة قصيرة في الدواء، أو بثبوت تكاليف متعددة طويلة في الماء، وهذا العلم ينجز الطرفين.

ص: 308


1- مستدرك سفينة البحار 9: 445.

ومن جهة ثانية نعلم بتعدد جريان أصالة الحل قصيراً في الدواء وهي متلازمة، وطويلاً في الماء وهي متلازمة أيضاً؛ لأنها معلولة لعلة واحدة، وهذه الأصول المتعدددة في الطويل تعارض الأصول المتعددة في القصير فيتساقطان.

إن قلت: هل العلم الإجمالي بوجوب الاجتناب ينجز الطرفين في الآن الأول فقط أو ينجز الجميع؟

قلت: ينجز جميع هذه التكاليف وذلك:

أولاً: أن يكون المبنى تحقق التعليق في التكليف، كما ذكره في مطارح الأنظار(1)، فالحكم بوجوب الاجتناب متعدداً قصيراً في الدواء، وطويلاً في الماء إنما هو فعلي في الآن الأول، فيجب امتثالها جميعاً.

ثانياً: أن يكون المبنى ما ذهب إليه في الكفاية(2) من التكليف المشروط على نحو الشرط المتأخر، والنتيجة هي نفس نتيجة التعليق؛ لأنه تكليف فعلي أيضاً.

ثالثاً: أن يكون المبنى الوجوب المشروط والشرط مقارن، فالعلم بتكليف مشروط بشرط مقارن في زمان لاحق له الأثر من حين العلم لا من حينه.

فعلى هذه المباني الثلاثة تكون جميع التكاليف المتعددة المتعاقبة فعلية، وإن لم يحن وقتها الآن، وحيث تحقق العلم الإجمالي بهذه الفعليات الطويلة والقصيرة تنجز جميعها، فيجب الاجتناب عن القصير قصيراً، وعن

ص: 309


1- مطارح الأنظار: 141.
2- كفاية الأصول: 103.

الطويل طويلاً.

نعم، مَنْ لا يسلم بهذه المباني وذهب إلى تولد التكليف في كل مرحلة، وإن التكليف اللاحق لا أثر له في الآن المتقدم، تعارضت عنده الأصول إلى ظرف الاضطرار، وأما بعد الاضطرار فلا علم إجمالي بالتكليف، فتكون الشبهة بدوية يجري الأصل المؤمن فيها بلا معارض.

وسيتضح المطلب في الاحتمال الثاني.

الاحتمال الثاني

لا أثر للعلم الإجمالي، فيحق للمكلف اقتحام الطرفين بعد طرو الاضطرار، وقد اختاره السيد القمي، وهو مطلب مهم وله آثار كثيرة في الفقه. قال: «الحق أنه لا أثر للعلم الإجمالي بقاءً، فإن تنجز العلم متقوم بتعارض الأصول، والمفروض أنه لا تعارض بقاءً، وما قيل من أن الأصل سقط ومات بالمعارضة، والميت لا يصير حياً بعد مماته كلام شعري ولا أساس له»(1).

بيانه: إن العلم الإجمالي ذو أثر حدوثاً لا بقاءً؛ وذلك لأن تنجزه متقوم بتعارض الأصول، ولا تعارض في مرحلة البقاء؛ وذلك لأن إناء الدواء مضطر إليه، فيكون حلالاً قطعاً، ولا يجري فيه الأصل المؤمن، فيبقى إناء الماء ويجري فيه الأصل بلا معارض.

وما ذهب إليه المحقق النائيني من أن الأصول الميتة لا تحيا من جديد لا دليل عليه من الكتاب والسنة، فيمكن رجوعها بعد ارتفاع المانع، وهو

ص: 310


1- آراؤنا في أصول الفقه 2: 251.

المعارضة، فإن الضروروات تقدر بقدرها، وحيث ارتفعت الضرورة يعود الأصل المؤمن.

مثال: لو قال: أكرم العلماء، فمنع مانع من إكرام أحدهم يوم الجمعة، وارتفع يوم السبت فهل يقال سقط وجوب الإكرام ولا يحيا من جديد؟

ويرد عليه: أولاً: نقضاً: بتحقق ذلك في كل علم إجمالي بإخراج أحد الأطراف عن محل الابتلاء، كإفنائه في البحر أو بامتثاله، كما لو صلى الظهر فيما لو علم إجمالاً بوجوبها أو وجوب الجمعة، فهل يجري الأصل في الباقي لعدم وجود المانع؟

وهذا النقض إنما يتم على مبنى المشهور دون مبناه، حيث يرى انحلال العلم الإجمالي بامتثال أحد الطرفين أو إفنائه أو خروجه عن محل الابتلاء، لكنه خلاف المشهور .

ثانياً: نقضاً أيضاً: بما سبق من أنه لو علم إجمالاً بوجوب جلوس ساعة في الحرم، أو ساعتين في الصحن فيجلس ساعة فيهما، ويجري البراءة عن وجوب الساعة الثانية بلا معارض له؛ لأن الأصل عدم وجوب جلوس ساعة ثانية في الصحن، وكما لو علم إجمالاً إما بوجوب عتق رقبة أو صيام ستين يوماً، فيعتق رقبة ويصوم يوماً، فينحل العلم الإجمالي؛ لأن اليوم الثاني مجرى الأصل المؤمن بلا معارض، وهل يلتزم بهذا اللازم؟ ولم يلتزم به المشهور.

ثالثاً: حلاً: إن العلم الإجمالي متحقق من اللحظة الأولى بالتكليف المردد بين القصير والطويل، والأصل المؤمن يجري في القصير على قصره، ويعارضه الأصل المؤمن في الطويل على طوله ويتساقطان، فيكون الأصل في الطويل ساقطاً إلى الأخير، فإن الأصل لا يجري في موضوع واحد مرتين.

ص: 311

كما لو قامت البينة الأولى على أنه استأجر المكان يوماً، والبينة الثانية أنه استأجره شهراً، أو قامت بينة على أنه تمتع بها، وأخرى أنه عقدها دواماً، فتتعارض البينتان حيث تنفي إحداهما الأخرى بالمدلول الالتزامي، فإحداهما على نحو بشرط لا، فيكون قصيراً، والأخرى على نحو بشرط شيء فيكون طويلاً، وهما متناقضان، حيث إنهما يحكيان عن واقعة واحدة لا واقعتين.

فما ذهب إليه المحقق النائيني كلام برهاني لا شعري.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

المقام الثاني: اضطرار المكلف إلى بعض الإطراف لا بعينه
اشارة

لو اضطر المكلف إلى أحد الطرفين لا بعينه - كشرب أحد الإناءين لدفع الهلكة عن نفسه - فهل يسقط العلم الإجمالي عن المنجزية؟

ولا إشكال في عدم وجوب الموافقة القطعية للعلم الإجمالي؛ وذلك لترخيص المولى اقتحام أحدهما، والترخيص الاختياري منافٍ لوجوب الموافقة القطعية، إنما الكلام والإشكال في حرمة المخالفة القطعية بشرب الأول للاضطرار، ثم شرب الثاني، ولا فرق في هذا المقام بين أن يكون الاضطرار سابقاً أو متوسطاً أو لاحقاً.

وهنا توجد عدة مبانٍ:

المبنى الأول: فقد ذهب صاحب الكفاية إلى أن العلم الإجمالي لا أثر له، حيث قال: «ضرورة أنه(1) مطلقاً موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف أو

ص: 312


1- أي: الاضطرار.

تركه، تعييناً أو تخييراً، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلاً»(1).

وذلك لتحقق التنافي بين الترخيص التخييري والحرمة التعيينية، فلا يمكن الجمع بينهما، وحيث إن الترخيص التخييري أهم ترتفع الحرمة التعيينة، فلو علم أن أحد الإناءين نجس وشرب أحدهما للاضطرار جاز له شرب الثاني أيضاً؛ وذلك لتحقق الترخيص التخييري، فلا يمكن للشارع أن يحكم بالحرمة لتعيينه، بأن يقول: النجس الواقعي حرام تعييناً ورخصت لك شرب أحدهما.

وبتقرير أوضح: لو طبق المكلف الترخيص التخييري على الإناء الملاقي ارتفعت الحرمة الواقعية، ولو طبقه على غيره كان التكليف الواقعي باقياً، فالمكلف لا يعلم بالتكليف على كل تقدير، ومن شروط تنجز العلم الإجمالي هو العلم بالتكليف على كل تقدير.

وحاصل ما ذهب إليه صاحب الكفاية في جميع الصور الستة سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز لعدم الأثر، سواء اضطر إلى المعين أم غير المعين، وسواء كان الاضطرار متقدماً أم متوسطاً أم لاحقاً.

المبنى الثاني: وقد ذهب جمع منهم المحقق النائيني (رحمه اللّه) (2) إلى تنجيز العلم الإجمالي في الصور الثلاث، سواء كان الاضطرار متقدماً أم متوسطاً أم لاحقاً، فحيث اضطر جاز شرب أحدهما دون الآخر.

ص: 313


1- كفاية الأصول: 360.
2- أجود التقريرات 2: 53.

وقد وضح هذا المبنى ضمن مقدمات عمدتها ثلاثة:

المقدمة الأولى: الحرام الواقعي المعلوم بالإجمال باق على الحرمة ولو بعد طرو الاضطرار، لوجود الفرق بين الاضطرار إلى المعين وبين الاضطرار إلى غير المعين، فلو كان الاضطرار إلى المعين - كالدواء - ارتفعت الحرمة، فما من شيء حرمه اللّه إلا وقد أحله لمن اضطر إليه، بخلاف ما لو كان الاضطرار إلى غير المعين، فحرمة الحرام الواقعي باقية؛ لأن الاضطرار متعلق بالجامع لا بالفرد، فما هو مضطر إليه - أي الجامع - ليس بمحرم، وما هو محرم - أي الملاقي - ليس مضطراً إليه، فلا يمكن للاضطرار رفع الحرمة الواقعية(1).

المقدمة الثانية: لا يمكن الترخيص في الاقتحام في جميع الأطراف؛ لأنه ترخيص في مخالفة التكليف الواصل، وهو مساوق للترخيص في المعصية القطعية، فلا يمكن للمولى أن يجيز ارتكابهما مع كون التكليف الواقعي بالاجتناب عن الملاقي باقياً.

المقدمة الثالثة: لابد من رفع اليد عن وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال؛ لأن رفع الاضطرار متوقف على ارتكاب بعض الأطراف.

والنتيجة: ثبوت التكليف الواقعي، لكن لا تجب موافقته القطعية، وتحرم

ص: 314


1- إن قلت: يمكن للمكلف تطبيق الجامع على الفرد ، فيكون الفرد مضطراً إليه؟ قلت: لا يصح ويظهر ذلك في العلم التفصيلي، فلو اضطر إلى الجامع وعلم علماً تفصيلياً بحرمة أحدهما فهل يمكنه القول بتحقق الاضطرار إلى هذا الفرد الحرام المعلوم حرمته بالتفصيل، ومن المعلوم أنه لا فرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي؟ (منه (رحمه اللّه) ).

مخالفته القطعية؛ لأنها معصية، ولا يمكن للمولى الترخيص في المعصية القطعية مع ثبوت التكيلف.

التوسط في التنجيز

ومفاد هذا التقرير التوسط في التنجيز، وبيان ذلك: للتكليف الواقعي ثلاث حالات:

الأولى: أن لا يكون منجزاً على نحو الإطلاق كالشبهة البدوية، فلو كان الإناء المشكوك نجساً واقعاً لم يكن للتكليف بالاجتناب تنجز أصلاً.

الثانية: أن يكون منجزاً على كل تقدير، كأطراف العلم الإجمالي مع عدم طرو الاضطرار، فالتكليف الواقعي منجز بسبب العلم الإجمالي.

الثالثة: أن يكون منجزاً على تقدير دون تقدير، كما في المقام، فلو كان الإناء المختار نجساً، لم يكن التكليف بالاجتناب منجزاً لمكان الاضطرار والجهل، وأما لو طبق الجامع على غير الملاقي كان التكليف الواقعي منجزاً.

وبعبارة مختصرة: إنَّ التكليف الواقعي منجز في صورة عدم مصادفة اختيار المكلف للحرام الواقعي، وغير منجز في صورة مصادفة اختياره للحرام الواقعي، فالتكليف منجز على تقدير دون تقدير.

التوسط في التكليف

لكن المحقق النائيني في الفوائد(1)

اختار التوسط في التكليف لا التوسط في التنجيز، كما يظهر ذلك من بعض عباراته وإن كانت مضطربة.

ومفاد كلامه ثبوت التكليف فيما لو لم يكن ما اختاره المكلف مصادفاً

ص: 315


1- فوائد الأصول 4: 104.

للحرام الواقعي، وسقوطه فيما لو صادف الحرام الواقعي، أي لو طبق المكلف الاضطرار إلى الجامع على الإناء الملاقي سقط الحكم بالاجتناب ثبوتاً؛ وذلك لكون المختار مصداقاً للمضطر إليه، فإن الاضطرار يسري من الجامع إلى الفرد المختار، بحيث لو سئل عن سبب اقتحامه الحرام أجاب بالاضطرار.

ويمكن أن يمثل له بالواجب التخييري، حيث إنه مع اختياره العتق أتى بالواجب، ومع أداء صلاة الظهر أتى بالفريضة، مع أن التكليف تعلق بالجامع الذي له عرض عريض، وله أفراد طويلة وعرضية، فمع تطبيق الكلي على الفرد الخاص في الزمان المعين، والمكان المعين صدق الإتيان بالواجب(1).

ومفاد كلام المحقق النائيني عدم سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، فإن رافع التكليف بعد تحقق العلم الإجمالي يقتصر على رفعه في مورده، فيبقى الطرف الثاني منجزاً، كما هو الحال في خروج أحد الأطراف عن محل الابتلاء.

ويرد عليه إشكالان:

الإشكال الأول: إنَّ اختيار المكلف الحرام الواقعي لا يوجب ارتفاع الحرمة؛ لعدم طرو عنوان على الفرد المعين موجب لارتفاعها، فالتكيف الواقعي ثابت، والاضطرار متعلق بالجامع لا الفرد، واختيار المكلف لا ينقل موضوع الاضطرار من الجامع إلى الفرد، وما استشهد به من العرف إنما هو

ص: 316


1- بخلاف ما ذهب إليه السيد القمي حيث يرى عدم الإتيان بالواجب بذلك؛ لأن الوجوب متعلق بالكلي، والمكلف يأتي بالفرد (منه (رحمه اللّه) ).

تسامح عرفي، وواقع الأمر الاضطرار إلى أحدهما.

الإشكال الثاني: لو كانت الحرمة مغياة بالاختيار والارتكاب لكان التكليف لغواً؛ فإن تشريع التحريم إنما يكون لردع المكلف عن الارتكاب، فلو ارتفعت الحرمة بالارتكاب، بأن طبق المكلف الجامع على الملاقي فصار حلالاً، لكان التشريع لغواً، فلا حرمة. وعليه، يعلم المكلف بالحرمة أو اللاحرمة، وهذا العلم ليس منجزاً، فكيف يجب الاجتناب عن الثاني؟

فعلى المحقق النائيني أن يقول: مع سبق الاضطرار لا يجب الاجتناب عن أي واحد منهما؛ لأن التكليف بالاجتناب عن الملاقي مع فرض وقوع الاختيار عليه لغو.

تذنيبان

الأول: إنَّ ما ذكرناه في الاضطرار إلى بعض الأفراد في الشبهة التحريمية سارٍ في الشبهة الوجوبية مع الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف؛ لوحدة الملاك فيهما.

الثاني: ما ذكر في الاضطرار سارٍ في بقية روافع التكليف كالأكراه.

وبهذا ينتهي الكلام في التنبيه الأول.

التنبيه الثاني: خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محل الابتلاء

فلو خرج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محل الابتلاء فهل يبقى على منجزيته أم لا؟

وقبل الخوض في البحث لا بد من ذكر مقدمة، هي: إنَّ القدرة إحدى الشرائط العامة للتكاليف، فلابد وأن يكون متعلق الأمر مقدوراً فعلاً، ومتعلق

ص: 317

النهي مقدوراً تركاً، أما لو انتفت القدرة العقلية فلا يكون التكليف صحيحاً، قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}(1)، وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا}(2).

ويترتب عليه اشتراط كون أطراف العلم الإجمالي مقدورة بالقدرة العقلية حتى يكون منجزاً للتكليف، فلو لم يكن بعض الأطراف مقدوراً لم يكن العلم الإجمالي منجزاً.

مثال: لو علم العبد بوجوب حمل أحد الحجرين، وهو قادر على أحدهما وعاجز عن الآخر، فلا أثر لهذا العلم؛ لأن الخطاب لو كان متعلقاً بالأول كان التكليف ثابتاً في ذمته، ولو كان متعلقاً بالثاني لم يكن هنالك تكليف، فيدور الأمر بين ثبوت التكليف وعدمه، وتجري البراءة، فلا أثر لهذا العلم الإجمالي أصلاً.

وفي المقام طرحت شبهة وهي: أن انتفاء القدرة العقلية مساوق لانتفاء التكليف، لكن لا يساوق انتفاء مبادئ التكليف فهي ثابتة، سواء أكان المكلف قادراً أم لا، كالحب، حيث قد يتعلق بالمحال، كقوله: ألا ليت الشباب يعود يوماً. وهكذا البغض والمصلحة والمفسدة، بل قد تتعلق بالمحال الذاتي فضلاً عن المحال الوقوعي، فلا تناط هذه المبادئ بقدرة المكلف.

والحاصل: إن عدم القدرة على المتعلق وإن كان لازم انتفاء التكليف

ص: 318


1- البقرة: 285.
2- الطلاق: 7.

لكنه لا يلازم انتفاء مبادئه، وعليه يعلم المكلف إجمالاً بثبوت مبادئ التكليف إما في هذا المتعلق أو في ذاك.

ومن المعلوم أنه لا ينحصر الأمر في التكليف، بل مبادئ التكليف أيضاً داخلة في عهدة المكلف، كالمثال المعروف فيما إذا غرق ابن المولى وهو نائم، فإنه وإن لم يصدر التكليف إلا أن مبادئه متحققة، فيجب على العبد إنقاذه.

والحاصل: إن العلم الإجمالي بالتكليف غير متحقق، فتكون الشبهة بدوية، لكن العلم الإجمالي بثبوت مبادئ التكليف متحقق، وهو منجز للتكليف، وحيث إن الموافقة القطعية غير ممكنة؛ لامتناع أحد الطرفين، يتنزل العقل إلى وجوب الموافقة الاحتمالية.

لكنها محل تأمل:

أولاً: لأنَّ مبادئ التكليف المتعلق بغير المقدور ليست داخلة في عهدة المكلف، فلو علم العبد أن المولى يحب غير المقدور لم يكن لعلمه أثر.

نعم، للمبادئ المتعلقة بالمقدور أثر، فالمكلف يعلم إجمالاً بوجود مبادئ داخلة في عهدته أو ليست داخلة في عهدته، فتكون المبادئ دائرة بين ما لا أثر له وما له الأثر، فلا يترتب عليه شيء.

وثانياً: لو سلمنا ذلك، إلا أن البراءة جارية في الطرف المقدور، فإن منجزية العلم الإجمالي مبتنية على جريان الأصول في جميع الأطراف وسقوطها بالتعارض، والأصل المؤمن في الطرف المقدور جارٍ بدون أن يجري في الطرف الآخر؛ لكون التأمين عن غير المقدور لغواً، فلا يبقى إلا

ص: 319

الطرف المقدور، ويشك في تعلق الخطاب المولوي به.

هذا تمام الكلام في المقدمة.

وأما أصل البحث، فهو: في اشتراط القدرة العادية في متعلق التكليف بالإضافة إلى القدرة العقلية، فقد أضاف الشيخ الأعظم(1) في باب النواهي شرطاً خامساً إلى الشرائط العامة للتكليف، وهو عدم خروج المتعلق عن محل الابتلاء، وأما لو كان المتعلق خارجاً فالتكليف قبيح، فإنه لو كان متعلق النهي غير مقدور عادة كان النهي عنه قبيحاً، ويظهر أثر هذا الاشتراط في منجزية العلم الإجمالي وعدمه.

وعليه، لو علم إجمالاً بوقوع قطرة الدم في إنائه أو إناء ملك الهند مثلاً، فثبوتاً يوجد احتمالان: الأول: أن يكون الدم ساقطاً في إناء ملك الهند فلا تكليف، الثاني: أن يكون ساقطاً في إنائه فيجب اجتنابه، فتجري البراءة.

مثال آخر: إما أن تكون هند أخته من الرضاعة، أو دعد في أقاصي بلاد الصين، حيث لا يقدر الوصول إليها عادة، فيمكنه الزواج من الأولى؛ لعدم توجه التكليف بالاجتناب عن الثانية؛ لافتقاد القدرة العادية.

والحاصل: أنه لو كان أحد الطرفين خارجاً عن محل الابتلاء فلا تأثير للعلم الإجمالي.

أدلة اشتراط القدرة العادية في متعلق التكليف
اشارة

وقد ذكرت أدلة على هذا الشرط أو يمكن أن تذكر، وهي:

ص: 320


1- فرائد الأصول 2: 234.
الدليل الأول: غاية النهي جعل الداعي للانتهاء

إن الغاية من النهي جعل الداعي للانتهاء، والمفروض أن المكلف منتهٍ بنفسه، فطلب الانتهاء من المنتهي تحصيل الحاصل أو شبهه.

قال الشيخ: «ولعل السر في ذلك أن غير المبتلي تارك للمنهي عنه بنفس عدم ابتلائه، فلا حاجة إلى نهيه»(1).

إن قلت: إنه تأكيد.

قلت: أجاب عنه السيد الوالد (رحمه اللّه) بقوله: إن كان تأكيداً فليس حكماً، فيدور الأمر بين الحكم واللاحكم.

لكن أجيب عن هذا الدليل بعدة أجوبة:

الجواب الأول: إن مقتضاه عدم جعل التكليف فيما هو محل ابتلاء المكلف إذا لم يكن له داع إلى الفعل.

ومثاله: لا داعي للأم إلى قتل أولادها، فهل يمكن الالتزام بعدم شمول: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم}(2) لها؟!

ولا داعي للمكلف إلى أكل القاذورات، فهل يمكن الحكم بعدم الحرمة لمن لا يوجد عنده الداعي ؟

ولا داعي للمكلف إلى شرب الدم، فهل هو غير مشمول لخطاب: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ}(3)، كما هو الحال في جعفر بن أبي طالب (عليهما السلام) ؛

ص: 321


1- فرائد الأصول 2: 234.
2- الأنعام: 151.
3- البقرة: 173.

حيث لم يشرب الخمر في عهد الجاهلية إطلاقاً؟

ولقد كان للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) داع نفساني للتقوى، فهل الخطاب إليه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}(1) لغو، أو الخطاب إليه بقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}(2) مع أنه لم يكن له داع نفساني إلى الشرك قطعاً؟

ولا يمكن الالتزام بأن جميع الخطابات موجهة إلى من لا داعي له إلى الانتهاء، ولم يلتزم به أحد فيما نعلم، فالقول: إنَّ التكليف لإيجاد الداعي وهو متحقق فيمن عنده الداعي، فيكون تحصيلاً للحاصل غير تام.

الجواب الثاني: ما أفاده بعض الأعلام(3)، من أن المقصود في الأوامر العرفية صرف تحقق الفعل أو الترك في الخارج، ولذا لو كان الشيء حاصلاً فعلاً أو تركاً كان توجه الأمر أو النهي إليه تحصيلاً للحاصل، بخلاف الأوامر والنواهي الشرعية، فليس الغرض منها مجرد تحقق الفعل أو الترك في الخارج، بل الغرض صدوره عن المكلف مستنداً إلى بعث المولى أو زجره؛ وذلك لتحصيل الكمال النفساني، وتحقيق مقامات القرب إلى اللّه تعالى.

ولا فرق في هذا المعنى بين التوصليات والتعبديات. نعم، يفرق بينهما في أن العبد لو لم ينبعث عن البعث، ولم ينزجر عن الزجر سقط الأمر في التوصليات؛ لتحقق الغرض منه، وهو حصول الملاك الواقعي المطلوب في الخارج، وإن لم يحصل الغرض من الأمر.

ص: 322


1- الأحزاب: 1.
2- الزمر: 65.
3- نهاية النهاية 2: 47؛ مباحث الأصول 4: 252؛ مصباح الأصول 2: 395.

وقد كان السيد الوالد (رحمه اللّه) يمثل(1) لسقوط الأمر مع عدم تحقق الغرض منه بما لو أمر المولى عبده بسقي الأشجار فأمطرت السماء، حيث يسقط الأمر لحصول الغرض الواقعي التكويني، وإن لم يحصل الغرض من الأمر، وهو تحرك العبد بتحريك المولى.

وبعبارة أدق: لو تحقق غرض الغرض من الأمر سقط الأمر، فغرض الأمر هو التحرك التكويني للعبد بالتحريك التشريعي من المولى، ولهذا الغرض غرض وملاك لو تحقق سقط الأمر.

وعليه، فالشيء الحاصل هو الانبعاث أو الانزجار، أي الفعل أو الانتهاء، والغرض من الأمر هو حصولهما مستنداً إلى المولى، وهذا المعنى لم يكن حاصلاً، فلم يلزم من الأمر تحصيل الحاصل.

ويدل على كون الغرض هو الانبعاث والانزجار مع الاستناد إليهما، قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(2).

لكن أشكل عليه بعض المعاصرين(3): بأنه لم يثبت كون الغرض في الواجبات والمحرمات التوصلية حصول الكمال النفساني للمكلف، بل يحتمل أن يكون الغرض صرف تحقق المطلوب في الخارج، ولا دليل على أن المقصود من جميع الأوامر والنواهي - حتى التوصلية منها - حصول الفعل والترك المستند إليهما.

ص: 323


1- في بحثه الخارج على ما أتذكر منه قديماً (منه (رحمه اللّه) ).
2- البينة : 5.
3- مصباح الأصول 2: 395.

ويضاف إلى ما ذكره أن الآية لا تدل على المطلوب، فمعناها - ظاهراً - حصر العبادة في عبادة اللّه تعالى لا حصر التكاليف في العبادية، ويظهر ذلك مع ملاحظة سياق الآيات: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}(1).

فإنه وإن لم يكن السياق حجة إلا أنه يسبب الظهور فيكون حجة، وإلا لزم تخصيص الأكثر، حيث إن أكثر المحرمات - إن لم يكن كلها - توصلية، إلا في مثل تروك الصوم، وأغلب الواجبات - أيضاً - توصلية، فلو كان المراد من الآية (وما أمروا إلا بأمر عبادي) لزم خروج معظم الأوامر والنواهي عنها.

وعليه، لا دليل على كون الغرض من جميع الأوامر والنواهي الشرعية هو حصول الفعل عن بعث المولى، والترك عن زجره.

والظاهر عدم ورود الإشكال؛ للبرهان العقلي على أن الغرض من جميع الأوامر والنواهي الشرعية، بل حتى العرفية(2) هو الانبعاث والانزجار المستند إليهما، وذلك للقاعدة العقلية الدالة على أن (ما لا يترتب على الشيء لا يعقل أن يكون غرضاً منه)(3) فلو لم يترتب شيء على شيء لم يمكن أن

ص: 324


1- البينة: 1-5.
2- حيث لا فارق بينهما، وإن فرق بعض الأعلام بينهما (منه (رحمه اللّه) ).
3- منتقى الأصول 4: 453.

يكون غرضاً منه، مثلاً: لو لم يترتب تحرك الحجر أو الجدار على تحريكه، فلا يعقل أن يكون الغرض(1) من التحريك هو التحرك؟ ولو علم الأب أن ابنه لا يرتدع قطعاً فلا يعقل أن يكون غرضه من الردع الارتداع؟

وبعد تمامية القاعدة نأتي إلى ما نحن فيه فنقول: حيث قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}(2)، فإن لتطهير الثياب حصتين في الخارج: تطهير مستند إلى (فطهر) وتطهير غير مستند إليه، بل ما كان بداعي النظافة النفسانية أو الشهوانية، وبما أن حصول النظافة الشهوانية غير مترتب على (فطهر) لم يعقل أن يكون الغرض منه؛ لأنه لا يترتب على الأمر، فالغرض من جميع الأوامر - حتى التوصلية - هو الانبعاث المستند، ومن النواهي الانزجار المستند. نعم، لو انبعث بلا استناد سقط الأمر، كما في سقوط الأمر بإمطار السماء.

وبعبارة أخرى: الغرض من الأمر هو انبعاث ينشأ عن البعث، وإن لم يكن مستنداً إلى البعث، فالمهم هو أن ينشأ من البعث .

إلا أن يشكك في أصل المبنى، أي: أن الأوامر والنواهي ليست للبعث والزجر، وإنما هي لعلل منها البعث والزجر.

الجواب الثالث(3): يكفي في دفع اللغوية إمكان التقرب به، فالمكلف

ص: 325


1- غرض الملتفت إلى ذلك لا الجاهل.
2- المدثر: 4.
3- وهو يقارب الجواب الثاني (مفاد الأمر هو التقرب فإن الأمر مساوق للتقرب والانبعاث المستند) وأما مفاد الجواب الثالث فهو: (كفاية إمكان التقرب لدفع اللغوية) (منه (رحمه اللّه) ).

التارك لشرب الدم لم يمكنه التقرب بالترك إلى المولى، لكن حيث قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ}(1) أمكنه التقرب، وهذا هو فائدة الأمر، وهو كافٍ لدفع اللغوية، فليس تحصيلاً للحاصل. وعليه، فالدليل الأول محل تأمل.

الدليل الثاني: اللغوية أو الإستهجان

الدليل الثاني: لغوية التكليف أو الاستهجان العرفي للتكليف، أو الاستهجان الناشئ عن اللغوية.

قال الشيخ (رحمه اللّه) : «إنَّ النواهي المطلوب فيها حمل المكلف على الترك مختصة - بحكم العقل والعرف - بمَنْ يعد مبتلى بالواقعة المنهي عنها؛ ولذا يعد خطاب غيره بالترك مستهجناً إلا على وجه التقييد بصورة الابتلاء»(2).

وقد قال البعض(3):

قد يكون الخطاب مستهجناً حتى مع التقييد بصورة الابتلاء، فلو كانت للمتعلق مقدمات قريبة لم يكن الخطاب مع التقييد بالابتلاء قبيحاً، أما لو كانت المقدمات بعيدة فيمكن أن يكون الخطاب قبيحاً حتى مع القيد المذكور، كما لو خاطب المولى عجوزاً جاهلاً على فراش الموت أن يسهل في الفتاوى لو صار مرجعاً للناس فهو قبيح؛ لعدم كونه في معرض الابتلاء.

وعلى كل، فالخطاب بما ليس محلاً للابتلاء لغو ومستهجن عرفاً.

ص: 326


1- البقرة: 173.
2- فرائد الأصول 2: 234.
3- مجمع الأفكار 3: 458.

لكن أورد عليه في النهاية بأنه: «لا معنى للاستهجان العرفي؛ لعدم ارتباط حقيقة التكليف بالعرف بما هم أهل العرف، وليس الكلام في الخطاب بما هو خطاب حتى يتوهم ارتباطه بنظر العرف»(1).

إلا أن عبارته مجملة، وفسرها البعض(2)

بأن العرف مرجع في مفهوم الخطاب، أما الاستهجان في حقيقة التكليف فلا يرتبط بالعرف، وبعبارة أخرى: الاستهجان العرفي لا قيمة له.

وأشكل عليه بأن العرف يدرك محذور اللغوية(3)،

كما هو الحال في طلب ترك المحال العقلي، كأن ينهى المكلف عن اجتماع النقيضين، فإن الخطاب محال لكونه لغواً يدركه العرف، كذلك لو كان المحال محالاً عادياً، فكما يمتنع الأول يمتنع الثاني، فما ذكره صاحب النهاية غير تام.

والظاهر أنه لو كان غرض المولى صرف التحريك كان التكليف لغواً، أما لو لم ينحصر الغرض في صرف التحريك، بل كان أحد الأغراض، فالظاهر عدم لغويته واستهجانه، كما في النهي عما تنفر منه الطبائع، كأكل الميتة المنتنة التي لا يخطر ببال أحد أكلها، فيمكن أن يكون الزجر جزء أغراض المولى، كما في النهي عن شرب الدم بالنسبة إلى العرب في الجاهلية، وأما غيرهم ممن لا داعي له فيمكن أن يكون الغرض من النهي عدم انقداح الداعي حتى لا يفكر في ذلك مستقبلاً، ويمكن أن يكون

ص: 327


1- نهاية الدراية 2: 603.
2- منتقى الأصول 5: 129-130.
3- منتهى الدراية 6: 91، 94.

الغرض التقرب إلى اللّه، كأن ينوي عدم شرب أي خمر في الدنيا، فيكون نفس الداعي مقرباً، وإن لم يكن محل الابتلاء، كما في قولك: (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً) مع استحالته؛ لاستحالة رجوع الزمان والكون في الظرف السابق، وربما يشير إليه قوله (عليه السلام) في دعاء كميل: «لا أجد مفراً مما كان مني»(1) فلا مفر مما وقع أو لم يقع، فيستحيل وقوعه أو عدمه، فنفس النية محبوبة، سواء أكان في محل الابتلاء أم عدمه، كما لو نوى أن لا يظلم بأي نحو، وإن لم يكن بعض أنواعه محل الابتلاء.

والحاصل: أن الغرض من تكليف المولى لا ينحصر في التحريك العملي حتى يقال إنه لغو، بل هنالك أغراض، ومعه يندفع اللغوية والاستهجان العرفي.

ويمكن أن يكون لما ذكره في النهاية معنى آخر غير ما فهمه بعض الأعلام، وهو أن البحث في التكليف لا الخطاب، فقد يكون الخطاب قبيحاً دون التكليف، كما في نهي شخص عظيم عن شرب الخمر، فمع كونه مكلفاً به إلا أن خطابه بهذا النحو قبيح، حيث تلاحظ الجهات العرفية في الخطاب، فلابد من تغيير كيفية الخطاب، كأن يقول: يحرم على كل مكلف شرب الخمر.

والحاصل: أنه ليس البحث في كيفية الخطاب حتى يكون قبيحاً، وإنما البحث في التكليف، ولا قبح فيه، لما مر من عدم انحصار الغرض في البعث والزجر، بل هنالك أغراض أخرى في خطابات المولى.

ص: 328


1- مفاتيح الجنان: 128.

فما ذكر من الاستهجان العرفي واللغوية محل تأمل.

الدليل الثالث: الروايات الدالة على اشتراط القدرة

الدليل الثالث: صحيحة علي بن جعفر، وهي: محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن العمركي، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: «سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قطعاً صغاراً، فأصاب إناءه هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال: إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس، وإن كان شيئاً بيناً فلا يتوضأ منه»(1).

وقد استدل بها أو جعلت مؤيداً على اشتراط دخول جميع الأطراف في محل الابتلاء لمنجزية العلم الإجمالي.

ووجه الاستدلال كما أفاده الشيخ الأعظم(2)

هو: أن المكلف يعلم إجمالاً أن الرعاف إما أصاب ماء الإناء أو ظهره، والأول محل الابتلاء بخلاف الثاني، فمؤدى كلام الإمام (عليه السلام) عدم تنجز العلم الإجمالي لخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

وقد أشكل على الشيخ بأن الإناء تحت يده، فكيف يكون خارجاً عن محل ابتلائه؟

فأجاب(3) على إجمال: بأن الإناء ليس ملبوساً أو مأكولاً حتى يبتلى به في أكله وشربه. نعم، يبقى اللمس ولا أثر للمسه؛ لعدم وجوب الاجتناب

ص: 329


1- الكافي 3: 74؛ وسائل الشيعة 1: 15.
2- فرائد الأصول 2: 236.
3- فرائد الأصول 2: 236-237.

عن ملاقي أطراف الشبهة المحصورة، اللّهم إلا أن يلمس جميع أطرافه، وهو فرض نادر.

ويرد عليه أمران:

أولاً: إن ظهر الإناء محل ابتلاء أيضاً؛ لإدخاله في حب الماء القليل، فكيف لا يكون منجزاً؟

ثانياً: ربما تكون الرواية ناظرة إلى الشبهة البدوية دون المحصورة، كما حملها صاحب الوسائل حيث قال: «الذي يفهم من أول الحديث إصابة الدم الإناء والشك في إصابة الماء، كما يظهر من السؤال والجواب، فلا إشكال فيه»(1).

فالإناء يعني الكأس لا الماء. نعم، يصح إطلاقه عليه لكن مجازاً بعلاقة الحال والمحل، فيكون سؤال الرواي عن مشاهدته إصابة الدم الإناء، وهو علم تفصيلي، لكنه يشك أنه أصاب الماء أيضاً أم لا، وهو شك بدوي مجراه البراءة، كما حكم به الإمام (عليه السلام) إن لم يستبن شيء في الماء، فلا ترتبط الرواية بالعلم الإجمالي، ولا أقل من الإجمال في أن الرواية ناظرة إلى الشبهة البدوية أو العلم الإجمالي، فتسقط عن الدلالة.

وفسرها الشيخ الطوسي بعدم الانفعال فيما لو كان الدم لا يدرك بالطرف، حتى مع العلم التفصيلي بإصابته الماء، لكنه فتوى نادرة لم يقبلها المشهور.

والحاصل: أنه لابد من حملها على الشبهة البدوية، أو يقال بسقوطها للإعراض أو إجمالها، فلا تصلح للاستدلال.

ص: 330


1- وسائل الشيعة 1: 151.

فالدليل الثالث محل تأمل أيضاً.

الدليل الرابع: ما ذكره السيد السبزواري (رحمه اللّه)

ما ذكره السيد السبزواري (رحمه اللّه) (1)، وربما تفرد به: وحاصله: لا شك أن القدرة شرط في متعلق التكاليف، لكن فيها احتمالات ثلاثة:

الأول: أنها بمعنى القدرة الدقية العقلية، لكن هذا الاحتمال منفي؛ لأن اعتبارها في متعلق التكاليف موجب للحرج والضرر والعسر، وهي منتفية في الشريعة.

الثاني: أنها بمعنى القدرة الشرعية، لكنه منفي أيضاً؛ لأنها بحاجة إلى دليل خاص، كما في باب الحج، حيث إن القدرة المأخوذة في الوجوب قدرة شرعية خاصة، ومثل هذا الدليل لم يذكر في بقية التكاليف، فلم يبقَ إلا الاحتمال الثالث، وهو: أن المراد من القدرة، القدرة العرفية، فهي مأخوذة في جميع التكاليف، وهي متقومة بالابتلاء، أما الشيء الخارج من محل الابتلاء فلا تتعلق به القدرة العرفية.

وبعبارة أخرى: إنَّ دليل شرطية الدخول في محل الابتلاء نفس دليل شرطية القدرة، فلم يضف الشيخ الأعظم شرطاً خامساً إلى الشرائط العامة للتكليف، ودليل سقوط التكليف فيما هو خارج عن محل الابتلاء نفس دليل سقوط التكليف عند فقدان القدرة.

ولا يخفى أن في المقام بحثين: الأول: هل الدخول في محل الابتلاء - بغض النظر عن العلم الإجمالي - شرط التكليف أم لا؟ وهذا البحث محل

ص: 331


1- تهذيب الأصول 2: 50.

الخلاف بين الأعلام.

الثاني: لو ثبت أن الدخول في محل الابتلاء شرط ترتب عليه عدم منجزية العلم الإجمالي؛ لكون الشك شكاً في التكليف، فيكون مجراه البراءة.

لكنه محل تأمل؛ لإمكان دعوى أن ظاهر الأدلة النظر إلى صورة وحدة مصب التكليف والقدرة، أما لو كان مصب التكليف والقدرة متعدداً فالأدلة غير ناظرة لهذه الصورة.

توضيحه: توجد عندنا ثلاث حالات:

الأولى: أن يُكلف العبد بفعل لا يقدر عليه، وهو منفي بأدلة: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}(1).

الثانية: أن يُكلف العبد بترك غير مقدور، وهو منفي أيضاً بأدلة اشتراط القدرة.

الثالثة: أن يكلف العبد بترك فعل غير مقدور، كشرب خمر ملك الهند، حيث إن فعله غير مقدور، فلا يكلف بالفعل وإنما يكلف بالترك.

ولا يعلم أن الأدلة اللفظية الدالة على شرطية القدرة ناظرة إلى هذه الصورة، وما نحن فيه من قبيل الصورة الثالثة، حيث لا قدرة عرفية على الفعل، لكن يكلفه المولى على الترك.

نعم، يبقى الدليل العقلي وهو ما ذكر في شرح التجريد(2)، من أن القدرة

ص: 332


1- البقرة: 286.
2- كشف المراد: 354.

متعلقة بالطرفين، فلا يمكن تعلقه بعدم شيء ما لم يكن فعله مقدوراً، فلا يصح أن يقول المكلف: أنا قادر على عدم الطيران في الهواء مع عدم قدرته على الطيران، والحاصل: أنه لو لم يكن الفعل مقدوراً كان الترك غير مقدور، فيكون النهي عن الترك نهياً عن غير المقدور أيضاً.

ومع إضافة هذا المطلب العقلي إلى كلام السيد السبزواري يمكن الجواب عنه: بأنه ليس البحث حول الترك وإنما عن صفة الترك، وصفة الترك مقدورة، فإن المكلف يترك إما بداعي قربي أو لا، وهذان الطرفان مقدوران للمكلف، وقد مر أن الغرض من التكاليف الإتيان بها بداعي التقرب إلى المولى.

وبعبارة أخرى: إسناد الترك إلى المولى مقدور، ويثاب عليه كأن يقول: لا ارتكب أي ظلم قربة إلى اللّه، فإن لهذا التقرب ثواباً، وهو محبوب للمولى.

مثال: إنَّ التحيز المطلق غير مقدور، لكن التحيز في المسجد - أي التحيز المنعوت - مقدور، أي قد يكون الطبيعي غير مقدور لكن الحصة مقدورة، فمجموع النعت والمنعوت مقدور، وهذا وجداني.

وفي المقام، المدعى أن المكلف مضطر إلى ترك شرب الخمر الخارج عن محل ابتلائه، لكن هذا الترك إما ترك مستند أو غير مستند، وحيث يمكنه تحقيق الترك الكلي في هذه الحصة أو تلك الحصة، فتكون كل واحدة من الحصتين مقدورة .

فتحصل من جيمع ذلك أنه لم ينهض دليل واضح على ما ذكره الشيخ الأعظم، والأدلة الأربعة لاشتراط دخول محل الابتلاء في التكاليف محل تأمل؛ ولذا لم يرتضه السيد الوالد وكذا المحقق الإصفهاني والسيد الخوئي

ص: 333

وجمع من الأعلام.

لكنه مستلزم لتالٍ فاسد، وهو القول بتنجز العلم الإجمالي في هذه الموارد، فلو علم بوقوع الدم في إنائه أو إناء ملك الهند فهو عالم بالتكليف على كل تقدير، فلابد من الاجتناب عما هو محل الابتلاء.

ولدفعه طريق واحد إن تم أمكن القول بعدم التنجز، وهو: عدم جريان الأصول الترخيصية إلا فيما هو محل الابتلاء؛ لأنها وردت لبيان الموقف العملي للمكلف، كما هو ظاهر قوله (عليه السلام) : «كل شيء طاهر»(1) أي: في مقام العمل اعتبره طاهراً، وما هو خارج عن محل الابتلاء لا يرتبط بكيفية الجري العملي.

وعليه، يجري الأصل العملي المؤمن في محل الابتلاء فقط، ويبقى العلم الإجمالي بلا أثر؛ لأن منجزيته مرهونة بجريان الأصول المؤمنة في تمام الأطراف وتساقطها. وبعبارة مختصرة: إنَّ أدلة الأصول العملية منصرفة عن الجريان فيما هو خارج عن محل الابتلاء.

فإنَّ تم هذا الطريق انحل العلم الإجمالي، أما لو لم يتم فلابد من القول: إنَّ العلم الإجمالي منجز وإن كان أحد الطرفين خارجاً عن محل الابتلاء.

تذييلات
التذييل الأول: حصر شرطية محل الابتلاء في التكاليف التحريمية

التذييل الأول: حصر الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) شرطية محل الابتلاء في التكاليف التحريمية والنواهي(2)، لكن صاحب الكفاية عممها للشبهة

ص: 334


1- مستدرك الوسائل 2: 583.
2- فرائد الأصول 2: 234.

الوجوبية أيضاً، حيث قال: «كما أنه إذا كان فعل الشيء الذي كان متعلقاً لغرض المولى مما لا يكاد عادة أن يتركه العبد، وأن لا يكون له داعٍ إليه، لم يكن للأمر به والبعث إليه موقع أصلاً»(1).

وحاصله: أن الملاك في الشبهة التحريمية والشبهة الوجوبية واحد، فلو لم يكن الفعل محل الابتلاء كان النهي مستهجناً، وكذلك لو لم يكن الترك محل الابتلاء كان الأمر مستهجناً، كالإنفاق على العيال، فللمكلف داعٍ طبعي للإنفاق، فتركه ليس محل ابتلائه، فالأمر بالإنفاق عليهم مع وجود الداعي الطبعي مستهجن، فلا فرق بين التكاليف الوجوبية والتحريمية.

لكن المحقق النائيني فرق بين النواهي والأوامر قال: «وأما مع القدرة عليه عقلاً، فالفعل مطلقاً إذا لم يكن صادراً عن الغفلة ونحوها فلا محالة يصدر بالاختيار والإرادة، ولو مع عدم القدرة على الترك عادة، ومعه يحسن التكليف به وجعل الداعي إليه، وأين ذلك من التكليف التحريمي المطلوب فيه استمرار العدم؟»(2).

وكأن مراده - وإن كانت عبارته غير واضحة - أن هنالك فرقاً بين الأوامر والنواهي، فمتعلق الأمر وجودي، والأمر الوجودي بحاجة إلى علة وجودية، وهي إرادة المكلف، وهو وإن لم يقدر على تركه عادة إلا أن التكليف به ليس قبيحاً، كأن يقول المولى للمكلف: انفق على زوجتك، فإن الإنفاق أمر وجودي ومعلول لعلة وجودية هي إرادة المكلف، ولا قبح في

ص: 335


1- كفاية الأصول: 361 (الهامش).
2- أجود التقريرات 2: 251.

التكليف في الأوامر الوجودية، أما في النواهي فالمطلوب أمر عدمي، والأمر العدمي ليس بحاجة إلى علة وجودية، بل بحاجة إلى علة عدمية، بل لا يحتاج إلى أي علة. كما قال السبزواري:

كذاك في الأعدام لا علية***وإن بها فاهوا فتقريبية(1)

ففي عالم الأعدام لا علية أصلاً ولو لعدم في عدم، وإن أُسند العدم المعلول إلى عدم العلة فهذا الإسناد مجازي، فإن العدم حاصل بنفسه، والمكلف تارك لشرب الخمر الموجود في الصين، فيكون التكليف بعدم شربه قبيحاً، والحاصل: أن هنالك فرقاً بين الأوامر والنواهي، فالثاني قبيح بخلاف الأول.

لكن تفصيله غير واضح؛ لأن المحذور لو كان تحصيل الحاصل فهو في الأوامر والنواهي متحقق بالسوية، فلا موقع لنهي تارك شرب الخمر عن شربها، كما لا موقع لأمر المتنفس بالتنفس، فإنه تحصيل للحاصل؛ لأن العلة الوجودية للأمر الوجودي حاصلة، فلا فرق بين التكاليف الوجودية والعدمية، وتخصيص الشيخ الأعظم شرطية الدخول في محل الابتلاء بالنواهي محل تأمل.

التذييل الثاني: وجود الداعي النفساني ينافي تحقق الامتثال أم لا

هل وجود الداعي النفساني - كالداعي الغضبي والشهوي والوهمي - ينافي تحقق الامتثال أم لا؟

في المقام صور أربعة:

ص: 336


1- شرح المنظومة 2: 191.

الصورة الأولى: أن يكون الداعي الإلهي أصلياً ومستقلاً، والداعي النفساني تبعياً مندكاً، كأن يتوضأ امتثالاً لأمر اللّه تعالى فيتبرد ضمناً، حيث لا يكون تبرده جزء العلة، وهذا لا ينافي تحقق الامتثال، كما لو صام امتثالاً فيصح بدنه لقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «صوموا تصحوا»(1) من دون أن يكون ذلك جزء الباعث.

الصورة الثانية: عكس الصورة الأولى، فالداعي النفساني أصل والداعي الإلهي تبعي، ولا إشكال في عدم تحقق الامتثال وإن كان توصلياً، حيث إنه مع حصول الغرض لا يعد ممتثلاً ليترتب عليه الثواب وما أشبه.

الصورة الثالثة: أن يكون كلاهما داعياً ومؤثراً، بحيث لو كان أحدهما فقط لم يكن مؤثراً ومحركاً، فاجتمعا وولدا العلة التامة، وفي هذه الصورة لم يتحقق الامتثال؛ لأن الباعث للعمل ليس أمر المولى، فلا يصدق أنه امتثل أمر المولى.

ولا إشكال في هذه الصور الثلاث.

الصورة الرابعة: - وهي محل خلاف بين الفقهاء - : فيما لو كان كل من الداعي الإلهي والنفساني علة تامة في عالم الاقتضاء، بحيث لو تحقق أحدهما بوحده كان كافياً في الباعثية، فاجتمعا، حيث يحصل الكسر والانكسار، ويصبح كل واحد من العلة التامة علة ناقصة؛ لاجتماع علتين على معلول واحد، كما ذكره في شرح التجريد(2) وغيره. ففي هذه الصورة

ص: 337


1- عوالي اللئالي 1: 268.
2- كشف المراد: 84.

هل يحصل الامتثال؟

قال جمع من الفقهاء بذلك، منهم صاحب العروة والكثير ممن علق عليه في الشرط الثالث عشر من شرائط الوضوء(1)، واستدلوا لذلك بصحة استناد العمل إلى أمر المولى بعد كونه سبباً تاماً في التأثير، بحيث يمكنه القول: توضأت امتثالاً لأمر المولى.

لكن التعليل ليس بواضح؛ فإن نسبته إلى أحد الباعثين ليست أولى من نسبته إلى الآخر، وظاهر الآيات والروايات الكريمة اشتراط تمحض الداعي في الداعي الإلهي، قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ}(2) والدين كما في التفاسير يعني الطريقة في العقيدة والعمل(3)، ومن الواضح أن العمل في الصورة الرابعة ليس مخلصاً. نعم، لو لم يكن هنالك باعث نفساني كان مخلصاً، أما بالفعل فهو مشترك بين الداعي الإلهي والنفساني.

وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ}(4).

وقال تعالى: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(5).

وفي الوسائل بسند صحيح: أحمد بن محمد بن خالد البرقي(6) في

ص: 338


1- العروة الوثقى 1: 432.
2- الزمر: 2.
3- التبيان 9: 5؛ مجمع البيان 8: 383.
4- الزمر: 11.
5- الأعراف: 29.
6- أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ثقة.

المحاسن، عن أبيه(1)، عن ابن أبي عمير(2)، عن هشام بن سالم(3)، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «يقول اللّه عز وجل: أنا خير شريك، فمن عمل لي ولغيري فهو لمن عمله غيري»(4) و(غيري) بدل عن (من)، ويصدق على الصورة الرابعة أنه عمل لله ولغيره؛ ولذلك فالفقهاء القائلون بعدم الإشكال في الضميمة أشكلوا فيما إذا كان الرياء جزء الباعث فافتوا بالبطلان(5).

فالتفريق بين الرياء وسائر الضمائم - كالتبرد وصحة البدن - غير واضح.

فمقتضى القاعدة في بادئ النظر البطلان وعدم تحقق الامتثال، وإن احتاج الأمر إلى تأمل أكثر.

التذييل الثالث: عدم سقوط العلم الإجمالي بخروج أحد الأطراف

لو خرج أحد الأطراف عن محل الابتلاء بعد العلم الإجمالي، فلا يسقط العلم الإجمالي عن التأثير، لما مضى في بحث الاضطرار من أن خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أو الاضطرار إلى بعضها بعد تنجز العلم الإجمالي لا يسقطه عن التأثير فيما هو محل الابتلاء؛ وذلك لدوران العلم الإجمالي بين الطويل والقصير، فينجز الطويل. وعليه، يجب الاجتناب عن الباقي في محل الابتلاء.

ص: 339


1- محمد بن خالد البرقي، ثقة.
2- ابن أبي عمير، من أصحاب الإجماع.
3- هشام بن سالم، ثقة.
4- وسائل الشيعة 1: 72؛ المحاسن 1: 252.
5- مصباح الفقيه 2: 227؛ العروة الوثقى 1: 432؛ كتاب الصلاة (النائيني) 2: 38؛ شرح تبصرة المتعلمين 1: 157.
التذييل الرابع: في خروج بعض الأطراف بنحو الشبهة المفهومية

لو شك في خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محل الابتلاء، فقد يكون على نحو الشبهة المصداقية، وقد يكون على نحو الشبهة المفهومية، والكلام هنا في النحو الثاني، حيث يكمن الغموض والإبهام في تعيين حدود مفهوم الدخول والخروج عن محل الابتلاء، مثل أغلب المفاهيم، كالماء الذي هو من أوضح المفاهيم العرفية، فيشك - مفهوماً - في بعض المصاديق، فهل بحدوده صادق على المياه الزاجية والكبريتية؟ وكذا الشك في صدق الآنية على الملعقة، والشك في صدق الوطن على الوطن الاتخاذي لو لم ينوِ التأبيد، وهكذا محل البحث، فما هي حدود الدخول في محل الابتلاء، والذي هو شرط في صحة التكليف على مبنى الشيخ ومن تبعه؟ وما هو المرجع عند الشك؟ فهل المرجع إطلاقات الأدلة الأولية، فيجب الاجتناب عما هو محل الابتلاء للعلم بالتكليف الفعلي، أو المرجع البراءة فيما هو محل الابتلاء؟

خالف في ذلك صاحب الكفاية(1) الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) .

وقد طرحت شبهة - قبل الدخول في أصل البحث - في مطاوي كلمات بعض المحققين(2)، ومفادها: إن فرض الشك والشبهة في المقام غير معقول، فلا موضوع لهذا البحث أصلاً.

بيانه: قد يكون المخصص دليلاً لفظياً يدور أمره بين الأقل والأكثر،

ص: 340


1- درر الفوائد 1: 93.
2- بحوث في علم الأصول 5: 283.

كالنهي عن إكرام فساق العلماء، فيدور أمر الفاسق بين مرتكب مطلق الذنب أو خصوص الكبائر، وقد يكون المخصص حكماً عقلياً، كحكمه بقبح تكليف العاجز، المخصص لجميع أدلة التكاليف الأولية، فإن كان المخصص من قبيل الأول كان التردد معقولاً، فيمكن تحقق الشك في دخول مرتكب الصغيرة تحت عموم العام، أو تخصيص المخصص.

وإن كان المخصص عقلياً فالتردد غير معقول؛ لأن العقل لا يتردد في موضوع حكمه، فحكمه محمول على الموضوع البين دائماً، ولا يحكم على المجهول أصلاً، وهذا مما أشار إليه الشيخ الأعظم(1) في استصحاب الأحكام العقلية، حيث لا معنى لاستصحابها، فإن موضوع حكم العقل مبين، فهو إما عام يشمل الآن الثاني، أو خاص فينتفي في الآن الثاني قطعاً.

وبعبارة بسيطة: يمكن التحقق في حدود حكم الشارع، أما في حدود موضوع حكم العقل فلا.

وعليه - كما يستفاد من كلام بعض المحققين - فهذا البحث لا موضوع له.

لكنها محل تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: ليس الكلام في تردد العقل في موضوع حكمه، وإنما الكلام في تردده في موضوع القبح الواقعي، فللقبح واقعية كسائر الأمور الواقعية، يدركه العقل تارة ولا يدركه أخرى، فيشك في المقام في قبح هذه المرتبة من الخروج من محل الابتلاء، حتى يقبح فيها التكليف أم لا، فإن الخروج من محل الابتلاء حقيقة تشكيكية ذات مراتب، فيحكم العقل

ص: 341


1- فرائد الأصول 3: 37.

بقبح التكليف بالاجتناب في المرتبة البعيدة قطعاً، كإناء ملك الهند، دون المرتبة القريبة، أما المرتبة المتوسطة، كإناء الجار الذي لا تراوده أصلاً، فهل الحكم بالاجتناب عنه قبيح أم لا؟ قد يشك العقل في قبحه الواقعي فيشك في توجه الخطاب.

مثال: العقل يحكم بقبح الكذب الضار، وحسن الكذب النافع المترتب عليه نجاة مؤمن، لكنه يتردد في قبح الكذب غير النافع وغير الضار، فمع كون الموضوع مجهولاً لا يحكم العقل بشيء، وربما هو التردد بعنوان الشبهة المفهومية له موارد كثيرة.

الجهة الثانية: ليست الأدلة خاصة بالأدلة العقلية، بل هنالك أدلة لفظية، كصحيحة علي بن جعفر: «فيمن رعف»(1)، وما أقامه السيد السبزواري من أن أدلة شرطية القدرة بمعنى القدرة العرفية(2)، وقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً}(3) فيكون الشك في حدود المخصص اللفظي.

وعليه يصح طرح أصل هذا البحث.

بعد بيان هذه المقدمة نقول: لو شك في خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محل الابتلاء من جهة الشبهة المفهومية، فالمرجع عند الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (4) هو إطلاقات الأدلة الأولية، فيلزم الاجتناب عما هو محل

ص: 342


1- مع القول بتمامية دلالته وشموله للعلم الإجمالي دون ما إذا كانت شبهة بدوية كما مضى (منه (رحمه اللّه) ).
2- تهذيب الأصول 2: 50.
3- البقرة: 286.
4- فرائد الأصول 2: 233-234.

الابتلاء، ولا يجري فيه الأصل المؤمن؛ وذلك لكون المقام من قبيل دوران أمر المخصص بين الأقل والأكثر، فيكون المرجع في مورد الشك عموم العام وإطلاق المطلق. كما لو أمر المولى بإكرام العلماء ثم بعدم إكرام فساقهم، فدار أمر الفاسق بين الأقل، وهو مرتكب الكبائر، والأكثر، فالأول خارج عن عموم العام قطعاً، ويقتصر عليه لأصالة عدم تخصيص الأكثر.

وفي المقام، نهى المولى عن شرب المتنجس، فيخرج منه ما هو خارج عن محل الابتلاء، كالمتنجس في أقاصي الصين، حيث لا يشمله النهي، أما ما في بيت الجار فلا يعلم أنه خرج عن العموم، فأصالة عدم التخصيص الزائد تحكم ببقاء العموم وعدم انثلامه، فالعام يحكم بعدم اقتحام المتنجس، سواء أكان في محل ابتلائك، أم كان في بيت الجار المشكوك كونه محل الابتلاء، فيكون العلم الإجمالي منجزاً، ويلزم الاجتناب عن الطرف الواقع في محل الابتلاء، ولا يجري فيه الأصل المؤمن.

ويرد عليه إشكالات:

الإشكال الأول: ما ذكره صاحب الكفاية من أنه: «لا مجال للتشبث به(1) إلا فيما إذا كان شك في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحة الإطلاق بدونه، لا فيما إذا شك في اعتباره(2) في صحته(3)»(4).

ص: 343


1- أي: بالإطلاق.
2- أي: اعتبار القيد.
3- أي: صحة الاطلاق.
4- كفاية الأصول: 361.

وحاصله: أن الإطلاق في مقام الاثبات متفرع على إمكان الإطلاق في مقام الثبوت، حيث إن الإثبات متفرع دائماً على الثبوت، فإن (الشيء قرر فأمكن، فاحتاج فأوجب، فوجب، فأوجد فوجد فحدث)(1) فالوجود في المرحلة السابعة، والإمكان في المرحلة الثانية، والمفروض في المقام الشك في إمكان الخطاب واستحالته في مقام الثبوت، فلو كان الإناء خارجاً عن محل الابتلاء كان الخطاب محالاً، ولو كان داخلاً كان ممكناً، فالشك في إمكان التكليف وعدمه، ومع وجود الشك في مقام الثبوت لا يمكن الانتقال إلى مقام الإثبات، والتمسك بإطلاق الخطاب.

لكنه محل إيراد من جهتين:

الجهة الأولى: نقضاً، فإنه لو تم ما ذكره لانسد باب التمسك بالإطلاق في جميع المطلقات أو معظمها، فلو أمر المولى بإكرام العلماء وشك في شمول العموم للفساق وعدمه، فمع احتمال عدم وجود ملاك وجوب الإكرام في العالم الفاسق يكون صدور الحكم محالاً؛ لأن الأحكام تابعة للملاكات لا الإرادة الجزافية للمولى، فيشك هل أنَّ شمول وجوب الإكرام للعلماء الفساق ممكن ثبوتاً أم لا؟ ومع الشك في مقام الثبوت لا يمكن التمسك بالإطلاق في مقام الإثبات.

الجهة الثانية: حلاً، بأنّه في الثبوت مقام الإثبات متفرع على مقام الثبوت، أما في الإثبات فمقام الثبوت متفرع على مقام الإثبات.

مثلاً: في الثبوت: الدخان متفرع على النار، أما في الإثبات فالنار متفرعة

ص: 344


1- شرح المنظومة 2: 268.

على الدخان.

والإطلاق في مقام الإثبات كاشف عن الإمكان في مقام الثبوت، فالإطلاق الإثباتي ل- (أكرم العلماء) شامل للعالم الفاسق، وهذا الإطلاق كاشف عن الإمكان الثبوتي، وإلا لاستلزم فرار العبد من كل تكليف؛ لاحتمال محاليته؛ لامتناعه من جهة من الجهات ثبوتاً، فيشك في شمول الخطاب له، فلا يمتثل، وليس ذلك مما يعذره العقلاء.

وعليه، فالنهي عن شرب الخمر يشمل كل خمر حتى المشكوك دخوله في محل الابتلاء، وهذا الإطلاق الإثباتي كاشف عن الإطلاق الثبوتي، فيتم ما ذكره الشيخ، ولذا لم يرتضِ - فيما رأيت - ما ذهب إليه الآخوند أحد من بعده.

الإشكال الثاني: إن الاقتصار على القدر المتيقن إنما يصح فيما لو كان المخصص منفصلاً مجملاً، ودار أمره بين الأقل والأكثر، أما لو كان المخصص متصلاً فإجمال المخصص يسري إلى العام، فيصبح مجملاً أيضاً، ومع إجماله لا يمكن التمسك بعمومه.

ونظيره في الاستثناء المتعقب للجمل(1)، كقوله: (أكرم العلماء واحترم الشعراء وأضف الأدباء إلا فساقهم) فعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة متيقن، وتخصيصه للجمل المتقدمة مشكوك؛ إلا أنه يوجب إجمالها فتسقط عن العموم.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأن المخصص لبي وهو متصل بالكلام، فلا

ص: 345


1- معالم الدين : 121؛ قوانين الأصول: 283.

ينعقد للعام عموم، كالنهي عن شرب الخمر.

ويجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: ما ذكره المحققان النائيني والعراقي(1)، من لزوم دخول متعلق التكليف في محل الابتلاء من الأحكام النظرية للعقل، التي تحتاج إلى إعمال فكر ونظر، إذ لا يدركها كل أحد؛ إذ لا يلتفت العرف إلى هذا القيد، ولو التفت أمكن التشكيك في كونه قيداً في تكاليف المولى الحقيقي مع الجهل بملاكاته، ولو كان حكم العقل نظرياً كان كالقرينة المنفصلة لا المتصلة، فلا يثلم عموم العام وإطلاق المطلق.

الجواب الثاني: إنما يتم ما ذكر لو كان المستند في الشرطية حكم العقل، أما لو كان المستند صحيحة علي بن جعفر، أو الدليل الرابع للسيد السبزواري فالقرينة قرينة منفصلة(2).

الإشكال الثالث: أنه لا يمكن التمسك بالإطلاق ليشمل المشكوك؛ لأنّ إحدى مقدمات الحكمة كون المولى في مقام البيان من الجهة المشكوكة، وليس المولى في مقام البيان من هذه الجهة أصلاً، حيث لم يشر إلى ذلك

ص: 346


1- فوائد الأصول 4: 59؛ مقالات الأصول 1: 146.
2- أقول: إنما يتم هذا الجواب لو حصر الدليل في الصحيحة وكون القدرة عرفية، لكي تكون القرينة منفصلة، أما مع ضم هذين الدليلين إلى دليل العقل المذكور فتجتمع قرينتان: منفصلة ومتصلة، ولا ينافي وجود المنفصلة انثلام العام بالمتصلة، فينثلم العام، ويتم الإشكال المذكور، هذا أولاً، وثانياً: ما أقامه السيد السبزواري من اشتراط القدرة العرفية إنما هو قرينة متصلة، وثالثاً: صحيحة علي بن جعفر لا تشمل المقام بالشبهة البدوية كما مر، وعليه فالجواب الثاني غير تام (المقرر).

في أي آية أو رواية، فيعلم أنه أهملها، أو كان في مقام الإجمال.

لكنه قابل للدفع، حيث لا يلزم الإحراز الوجداني لكون المولى في مقام البيان، بل يكفي ذلك ولو بالأصل العقلائي، وهو أن المولى في مقام البيان من جميع الجهات إلا من جهة ثبت خروجها بالدليل، كما اختاره السيد الوالد (رحمه اللّه) ، وإلا لم يستقر حجر على حجر.

فمثلاً: هل يشمل {وَحَرَّمَ الرِّبَا} الربا التجاري فيما لو كان القرض تجارياً؟ والظاهر أن مبنى الفقه على ثبوت الإطلاق إلى أن ينهض دليل على كون المولى ليس في مقام البيان من جهة من الجهات.

والنتيجة: إنَّ الإشكالات على الشيخ الأعظم محل تأمل، فيمكن التمسك بالإطلاق لشمول الفرد المشكوك، وأثر الشمول هو عدم جواز إجراء الأصل المؤمن فيما هو محل الابتلاء.

التذييل الخامس: في خروج بعض الأطراف بنحو الشبهة المصداقية

لو شك في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء من جهة الشبهة المصداقية، فهل العلم الإجمالي منجز أم لا؟

كما لو شك أن هنداً أو دعداً أخته من الرضاعة، وكانت دعد في قم المقدسة، والتي في محل ابتلائه، وشك أن هنداً في قم فتكون محل ابتلائه أيضاً أو في الهند، حيث لا تكون محل ابتلائه، فهل يتنجز العلم الإجمالي؟

وفي المقام بحثان:

الأول: في عدم شمول الأدلة الاجتهادية المتضمنة لتحريم المحرمات - ك- (لا تتزوج أختك من الرضاعة، ولا تشرب الخمر) - للطرف المشكوك؛

ص: 347

وذلك لأنّ اعتبار قيد الدخول في محل الابتلاء يوجب تركب موضوع الأدلة الاجتهادية، أي: الأخت الرضاعية التي محل ابتلائك، وإحراز أحد جزئي الموضوع ليس بكافٍ في ثبوت المحمول ومقام الاحتجاج.

ولا فرق(1) في هذا القيد الموجب لتركب موضوع الدليل بين كونه متصلاً أو منفصلاً؛ وذلك لأن القيود المتصلة توجب تركب موضوع الدليل في مرحلة الإرادة الاستعمالية، والقيود المنفصلة توجب تركب موضوع الدليل بلحاظ مرحلة الإرادة الجدية.

مثلاً: لو قال المولى: (أكرم العلماء إلا فساقهم) فالموضوع في مرحلة الإرادة الاستعمالية هو العالم غير الفاسق، أي لا ينعقد للدليل ظهور إلا في الموضوع المقيد، فلو شك أن هذا العالم عادل أم فاسق لم يشمله وجوب الإكرام؟ حيث لا يجوز التمسك في العام في الشبهة المصداقية.

ولو كانت القرينة منفصلة فإنه وإن انعقد الظهور في العموم بلحاظ المرحلة الاستعمالية، إلا أن وجود القرينة المنفصلة يكشف عن أن الإرادة الجدية للمولى متعلقة بالموضوع المقيد، لا الموضوع المطلق، فبلحاظ الإرادة الجدية - التي هي الحجة - يتبين أن الموضوع مركب.

وفيما نحن فيه، سواء أكان قيد في محل الابتلاء، من قبيل القرائن المتصلة أم المنفصلة، يكون الموضوع مقيداً، إما بلحاظ الإرادة الجدية أو الاستعمالية، أي (لا تتزوج الأخت الرضاعية التي في محل ابتلائك) ومع

ص: 348


1- فهنالك بحث في أن قيد الدخول في محل الابتلاء من قبيل القيود المتصلة أو من قبيل المنفصلة، فعلى كلا التقديرين لا فرق في المقام (منه (رحمه اللّه) ).

هذا التعنون يشك في انطباق الموضوع العام على هند المشكوك كونها في قم أو الهند، ولا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فالدليل(1) لا يشمل هند المشكوكة.

الثاني: في عدم شمول أدلة البراءة للمشكوك خروجه عن محل الابتلاء(2)، لكونه شبهة مصداقية، ولا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فلو كانت هند في قم كان مجرى البراءة، ولو كانت في الهند لم يكن مجرى البراءة، فتكون شبهة مصداقية لأدلة البراءة.

فتحصل أن هند المشكوكة كما هي شبهة مصداقية لأدلة العمومات هي شبهة مصداقية لأدلة البراءة، فلا يجري الدليلان بحقها، فتكون الشبهة فيما هو محل الابتلاء بدوية تشملها أدلة البراءة بلا معارض.

الشك في القدرة مجرى الاشتغال

هذا وقد تطرق بعض الأعلام كالمحقق النائيني(3) إلى مطلب يتراءى منه في بادئ النظر أنه إقحام، ولا يرتبط بالمقام، حيث قالوا: إن الشك في القدرة مجرى الاشتغال لا البراءة.

وفي المقام بحثان كبروي وصغروي:

أما البحث الكبروي فهو: أن الشك في القدرة مجرى الاشتغال؛ لعدم

ص: 349


1- أي لا تتزوج أختك من الرضاعة.
2- فقد مر سابقاً عدم جريان أدلة البراءة فيما هو خارج عن محل الابتلاء؛ لأنها لبيان الموقف العملي، ولا معنى لذلك فيما هو خارج عن محل الابتلاء.
3- فوائد الأصول 4: 220-221.

جريان البراءة في المقيد مع الشك في قيد الخطاب، وإنما يجب عليه التصدي ليتبين الأمر، وقد مثل لذلك السيد الوالد في الأصول(1) بأمثلة:

1- لو شك في وجود الماء فيشك في القدرة على امتثال {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ}(2) ومع ذلك يجب عليه التصدي للبحث، ولا تجري البراءة، هذا مع غض النظر عن الأدلة الخاصة، كغلوة سهم أو سهمين.

2 - لو شك في صلابة الأرض أو رخاوتها لدفن الميت، فيشك في القدرة على حفر الأرض ليكون التكليف ساقطاً، لكن يجب عليه الفحص قبل ذلك.

3 - لو شك في وجود الماء والكافور لتغسيل الميت، فلا يسقط الغسل للشك في القدرة، بل يجب عليه البحث، مع أنه مجرى البراءة في بادئ النظر؛ لكونه شكاً في التكليف.

4 - لو شك في تخلية السرب للحج، فيشك في تولد الخطاب للشك في القدرة.

5 - مَنْ احتمل أن يُقتل في الحرب، يشك في قدرته على امتثال أمر الصلاة، فإنه لو قتل أثناء الصلاة لم يكن قادراً على إتيان المركب الارتباطي، ولا أمر بالإتيان ببعضه، ومع ذلك يجب عليه الإقدام حتى يتبين الحال.

والمحكّم في كل ذلك قاعدة الاشتغال ولا مجال للبراءة؛ وذلك لبناء العقلاء على أنّ العبد لو أحرز ملاك المولى، بأن كان الملاك تام الاقتضاء

ص: 350


1- الأصول: 776.
2- المائدة: 6.

من جهته، لكن شك في قدرته على الامتثال وجب عليه التصدي لتشخيص القدرة من عدمها.

وفي المقام كيف يمكن جريان البراءة مع الشك في القدرة؟ فإنه لو كان في محل الابتلاء كان قادراً، ولو كان خارجاً عن محل الابتلاء لم يكن قادراً، فلا بدّ من القول بالاشتغال.

لكن ما ذكروه لا يرتبط بالمقام في بادئ النظر. فهنالك شكان: شك في الامتثال ومجراه القاعدة المزبورة، وشك في القدرة على العصيان.

وفي المقام لا يشك المكلف في القدرة على الامتثال، حيث يمكنه الامتثال قطعاً، بأن لا يتزوج هنداً وإنما يشك في القدرة على عصيان التكليف، فلو كانت هند في محل ابتلائه أمكنه العصيان، وإن كانت خارجة عن محل ابتلائه لم يمكنه العصيان.

وعليه، لا مانع - ظاهراً - من جريان البراءة فيما هو محل الابتلاء.

هذا تمام الكلام في التنبيه الثاني.

التنبيه الثالث: في عدم تنجّز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة
اشارة

فلوكانت الشبهة مترامية الأطراف فلا أثر للعلم الإجمالي، وهنا بحثان:

الأول: في تحديد الموضوع، والثاني: في بيان الحكم.

أما الأول: فما هي ضابطة الشبهة غير المحصورة؟ وما هو ملاك عدم الانحصار؟

البحث الأول: في ضوابط الشبهة غير المحصورة
اشارة

ذكرت لذلك عدة ضوابط، وهي:

ص: 351

الضابطة الأولى: كون احتمال التكليف موهوماً

ما نسبه المحقق النائيني(1)

إلى الشيخ الأعظم: من أنّ الشبهة غير المحصورة هي ما كان احتمال التكليف في كل واحد من الأطراف موهوماً لكثرة الأطراف، فملاك عدم الانحصار موهومية التكليف لتكثر الأطراف.

ولكن في النسبة إشكال ظاهراً، فما رأيته في الفرائد هو: «إن غير المحصور ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها»(2)،

فالملاك هو موهومية احتمال التكليف في كل واحد من الأطراف بنحو لا يعتني العقلاء به، لا الموهومية بنحو مطلق.

ثم صرّح في آخر كلامه أنه ليس في الضوابط المذكورة - بما فيها ما ذكره - ما تطمئن إليه النفس(3).

وأشكل عليه بإشكالات:

الإشكال الأول: ما ذكره المحقق النائيني(4)

من أن التحديد إحالة إلى أمر مجهول؛ لأنّ للوهم مراتب كثيرة، فأي مرتبة منها هي ضابطة عدم الانحصار؟

لكنه غير وارد؛ لأنه بيّن الضابطة، فلا بد أن يكون الوهم بدرجة لا يعتني بها العقلاء، فليس الوهم بمعنى مطلق المرجوحية، ولا بعض مراتب

ص: 352


1- أجود التقريرات 2: 276.
2- فرائد الأصول 2: 271.
3- فرائد الأصول 2: 272.
4- أجود التقريرات 2: 275.

المرجوحية المبهمة، بل بعض المراتب المعينة، كما هو الحال في حوادث السياقة، وكذا الاضطرابات في البلد، مما يسبب قتل جمع في تلك الحوادث، إلاّ أنها موهومة بنظر العقلاء، فلا يرتبون عليها الأثر، وإلاّ لو اعتنى العقلاء بالوهم لم يركب أحد الطائرة؛ لاحتمال سقوطها الموهوم.

وقال السيد الوالد في الأصول: «إذ الإحالة إليهم(1) تكفي في التعيين»(2).

الإشكال الثاني: ما في المصباح(3) من أنّ موهومية احتمال التكليف لا تمنع التنجيز، كما في الشبهة المحصورة، فإنه لو كان احتمال التكليف في أحد الطرفين موهوماً لم يمنع التنجيز، والسرّ في ذلك أن مجرد احتمال التكليف مساوق لاحتمال العقاب، وهذا الاحتمال هو ملاك تنجّز التكليف ما لم يحصل المؤمن.

وأجاب عنه السيد الوالد (رحمه اللّه) في الأصول: «ولا نسلّم لزوم الاجتناب عنه لذلك»(4).

وربما يكون مراده: أنّ احتمال التكليف في أحد الطرفين لو كان موهوماً بحدٍّ لا يعتني به العقلاء فلا نسلّم لزوم الاجتناب عن الطرف الموهوم، حتى في الشبهة المحصورة.

ويحتمل أن يكون السرّ في ذلك أنّ طرق الطاعة والمعصية عقلائية -

ص: 353


1- أي: العقلاء.
2- الأصول: 770.
3- مصباح الأصول 2: 373.
4- الأصول: 770.

كما صرح بذلك الفقهاء والأصوليون في موارد عديدة - لأنّ الشارع لم يحدد طريقاً معيناً لذلك، فيرجع في كون العمل طاعة أو معصية إلى العقلاء، والاقتحام في الأطراف الموهومة الموهونة بحدٍّ لا يعتني به العقلاء لا يعد معصية.

وقد مثل لذلك في الهامش(1) بأمثلة:

1 - إنّ السفر بالسيارة مع احتمال انطباق العلم الإجمالي وجداناً عليه فيهلك ليس مصداقاً ل- {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(2) حتى لو اصطدمت؛ لأنه موهوم موهون لا يعتني به العقلاء فلا يكون عصياناً.

2 - مع العلم بكون بعض الأجبان في الدنيا مسموماً، إلاّ أنه لا يلزم الاجتناب عما بيده لكون احتمال الانطباق موهوماً.

3 - مع كثرة خطأ الأطباء، إلاّ أنه حيث احتمال الانطباق موهون لم يعتن به العقلاء.

4 - يحتمل موت الطيار وقد ينام أو يخطئ لكن هذه الاحتمالات ضئيلة، ولو اعتنى بها العقلاء لاختل نظام الحياة.

فما ذكر من أنّ احتمال التكليف لا يمنع من التنجّز غير تام، فإنه لو كانت الموهومية إلى هذا الحد بحيث لا يعتني بها العقلاء كان مانعاً من التنجيز، ولم يكن الاقتحام عصياناً عندهم.

وبعبارة أخرى: لو قلنا: إنّ موهومية التكليف تلازم الاطمئنان بعدم

ص: 354


1- الأصول: 770.
2- البقرة: 195.

التكليف، فالاطمئنان - وهو العلم العادي - حجة، فيكون الإقدام مع المؤمّن، ولو أنكرنا الملازمة وقلنا: إنّ موهومية التكليف إلى هذا الحد لا تلازم الاطمئنان بعدمه، فيكفي بناء العقلاء على عدم كون الإقدام معصية، فالإشكال الثاني محل نظر.

الإشكال الثالث: بناء على ما ذكر في الضابطة أنه لو علم المكلف بنجاسة حبة حنطة في ألف حبة لم يلزم عليه الاجتناب؛ لكون الاحتمال موهوماً.

وأجيب عنه: بأنّ تناول الألف يتحقق بعشر لقمات، فالمكلف يعلم بوجود الحرام في إحدى العَشر. نعم، لو كانت في ألف واقعة مستقلة، كما لو جيء له كل يوم بحبة يأكلها إلى ألف يوم، كان احتمال التكليف موهوناً.

فتحصل: أنّ الضابطة الأولى - وإن لم يرتضِ بها الأعلام حتى مَن طرحها ولم يذكرها اصلاً - تامّة تبعاً للسيد الوالد (رحمه اللّه) .

الضابطة الثانية: ما يعسر موافقتها القطعية

واُشكل عليها بإشكالين:

الإشكال الأول: العسر مانع عن تنجّز التكليف، سواء أكانت أطراف الشبهة محصورة أم غير محصورة، فلا يمكنه أن يكون ضابطاً للشبهة غير المحصورة.

و بتعبير السيد الوالد (رحمه اللّه) (1): إن بين العنوانين عموماً من وجه، فغير المحصور قد يكون عسر الاجتناب أولاً، وعسر الاجتناب قد يكون غير محصور ثانياً، ولا يصلح أحد العامين من وجه ضابطاً للآخر.

ص: 355


1- الأصول: 771، حيث قال: «إنّ بينها - التعاريف المذكورة - وبينه من وجه».

لكنه غير وارد، حيث يمكن تصحيحها بإضافة قيد، وهو (ما يعسر موافقته القطعية لكثرة الأطراف) فلا يشمل الشبهة المحصورة.

الإشكال الثاني: يتقدر العسر بقدره، فلا يلزم الاجتناب بمقداره، فليس العسر مانعاً من تنجز العلم الإجمالي على الإطلاق.

لكنه مبنائي، يرتبط ببحث الاضطرار، فلو اضطر إلى بعض أطراف العلم الإجمالي فهل يسقط عن التنجيز في الجملة أو بالجملة؟ فما كان هو المختار هناك يكون هو المختار هنا، فبعد طرو العسر في الاجتناب عن جميع الأطراف هل يسقط العلم الإجمالي بالمرة، أو يتقدر بقدره لنفس الملاك، حيث لا فرق بينهما، فكلاهما من العناوين الرافعة للتكليف؟ وكما أنّ الاضطرار حد التكليف وقد أخذ عدمه في موضوعات جميع التكاليف كذلك العسر، وقد مرت صوره الست في التنبيه الثاني من بحث الاضطرار.

فتحصل أنّ الظاهر تمامية هذه الضابطة أيضاً.

والحاصل: إنّ ضابطة الشبهة المحصورة هي أن يكون احتمال التكليف إمّا موهوماً موهوناً، أو تكون الموافقة القطعية عسرةً فلا تجب.

الضابطة الثالثة: الصدق العرفي

وهو يختلف باختلاف الموارد.

لكنه محل تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: إنّ عبارة (الشبهة المحصورة) لم ترد في موضوع آية أو رواية، حتى يوكل تحديدها إلى العرف، بل هي من المصطلحات المستحدثة، فلا معنى لارجاعها إلى العرف، فإنّ العرف هو المرجع لتحديد

ص: 356

مفهوم الكلمات الواردة في الآيات والروايات.

الجهة الثانية: لا ضابطة للعرف لتمييز المحصور عن غيره، والسر في ذلك أنه ليس من المعاني المتأصلة، بل هو من المعاني الإضافية، وهو يختلف باختلاف الأفراد والموارد والأمكنة ونحوها.

الضابطة الرابعة: بلوغ الأطراف حدّاً يمنع من جمعها في الاستعمال

ما ذكره المحقق النائيني، حيث قال: «إنَّ ضابط الشبهة غير المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشبهة حدّاً لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال»(1).

وحاصلها: عدم القدرة العادية على المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، الناشئ من كثرة أطراف العلم الإجمالي، فتسقط حرمة المخالفة القطعية؛ لعدم إمكانها، وبتبعها يسقط وجوب الموافقة القطعية لتفرعه عليها.

ولهذه الضابطة ركنان: الأول: كثرة العدد، الثاني: أن لا يمكن جمع الأطراف في الاستعمال.

فلو كان المكلف يعلم إجمالاً بحرمة الجلوس في إحدى الغرفتين في الساعة المعينة، فليس هذا من الشبهة غير المحصورة؛ لأنّ الأطراف محدودة، وإن توفر الركن الثاني حيث لا يمكن جمعها في الاستعمال.

ولو علمنا أنّ حبة من كيلو حنطة محرمة، فإنّه ولو كانت أطراف الشبهة كثيرة لكن جمع تمام الأطراف في الاستعمال ممكن، بأن يطحنه ويأكله، فلا يكون من الشبهة غير المحصورة أيضاً.

وهنا بحثان:

ص: 357


1- فوائد الأصول 4: 117.

الأول: هل تحرم المخالفة القطعية للعلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة أم لا؟

الثاني: هل تجب الموافقة القطعية أم لا؟

ذهب المحقق النائيني(1) إلى عدم حرمة المخالفة القطعية، وعدم وجوب الموافقة القطعية.

أما عدم حرمة المخالفة القطعية، فلأنّ المفروض أنها غير ممكنة عادة، فلو علم أنّ بعض الأجبان في البلد حرام، لم يمكنه المخالفة القطعية للعلم الإجمالي، فلا تكون محرمة؛ لاشتراط القدرة في التكليف، ولا فرق بين القدرة العادية والقدرة العقلية في ذلك، ولذا لا ينهى المولى عن أكل جميع أجبان البلد؛ لكونه لغواً، أو تحصيلاً للحاصل أو مستهجناً.

أما عدم وجوب الموافقة القطعية - باجتناب جميع الأطراف - فلعدم تحقق نكتة الوجوب؛ وذلك لأنّ وجوب الموافقة القطعية متفرع على تعارض الأصول في أطراف العلم الإجمالي، وهو متفرع على حرمة المخالفة القطعية، وحيث لا تحرم المخالفة القطعية في المقام، فلا تتعارض الأصول في أطراف العلم الإجمالي، ومع انتفاء تعارض الأصول ينتفي وجوب الموافقة القطعية للعلم الإجمالي أيضاً.

ولتوضيح كلامه في الإناءين المشتبهين إنما تجب الموافقة القطعية باجتنابهما؛ لأنّ الوجوب متفرع على تعارض الأصول، وهو متفرع على حرمة المخالفة القطعية، فالمولى ينهى عن شرب الحرام في الإناءين، فلو

ص: 358


1- فوائد الأصول 3: 77.

أراد المكلف إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي كان جريانه متعارضاً، فتتساقط الأصول، ومع سقوطها لا مؤمّن للاقتحام، فتجب الموافقة القطعية بترك كليهما.

وفي المقام حيث لا مانع من جريان الأصول في الأطراف؛ لعدم حرمة المخالفة القطعية، لم تجب الموافقة القطعية، وعليه يجوز الاقتحام .

تنبيه: اختصاص الحكم بالشبهات التحريمية

من البيان المذكور يتضح أنّ هذا الحكم خاص بالشبهات التحريمية، أما في الشبهات الوجوبية، فإنّ المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال ممكنة بترك جميع الأطراف، كما لو نذر وتردد نذره بين أمور كثيرة، فمع ترك جميعها تتحقق المخالفة القطعية، فإنّ الترك خفيف المؤنة بخلاف الفعل.

وحيث أمكنت المخالفة القطعية حرمت، وحيث حرمت تعارضت الأصول الترخيصية وتساقطت.

ونتيجة كلامه: أنّ في الشبهة التحريمية غير المحصورة لا تجب الموافقة القطعية، ولا تحرم المخالفة القطعية، وفي الشبهة الوجوبية غير المحصورة المخالفة القطعية محرمة، وربما يستظهر من كلامه عدم وجوب الموافقة القطعية أيضاً.

وأورد عليه بإشكالات:

الإشكال الأول: ما في المصباح، حيث قال: «إن عدم التمكن من ارتكاب جميع الأطراف لا يلازم كون الشبهة غير محصورة»(1).

ص: 359


1- مصباح الأصول 2: 374.

فقد لا يقدر المكلف عقلاً أو عادة على ارتكاب جميع الأطراف، ومع ذلك لا تكون الشبهة غير محصورة، كما لو علم بحرمة أحد الضدين في وقت واحد.

لكنه محل تأمل؛ لاشتراط الضابطة المذكورة بكون عدم التمكن ناشئاً من كثرة الأطراف وانتشارها، وبعبارة أخرى: للضابطة ركنان، عدم القدرة وكثرة الأطراف.

الإشكال الثاني: ما فيه أيضاً، من: «أنّ عدم القدرة على المخالفة القطعية أمر غير منضبط في نفسه»(1)، والتحديد المذكور تحديد بأمر مبهم؛ لاختلاف عدم القدرة باختلاف متعلق العلم الإجمالي، واختلاف الأشخاص وسائر الخصوصيات المكتنفة، فكيف يكون ضابطاً للشبهة غير المحصورة؟

لكنه محل تأمل أيضاً؛ لأنّ عدم القدرة له مفهوم ومصاديق. أما المفهوم فهو واضح، كمفهوم عدم القدرة العقلية، فكما أنّ مفهوم الممتنع العقلي واضح كذلك مفهوم الممتنع العادي.

وأما المصاديق فهي تختلف باختلاف الأفراد والحالات والمتعلقات والمكتنفات، ومثل هذا الاختلاف لا يوجب الإجمال، لا في المفهوم ولا في المصداق، أمّا في المفهوم فلما سبق ، وأمّا في المصداق فلأنه يلاحظ كل مصداق بحسبه، وذلك مثل مفهوم (القبض) في الفقه، حيث إنّ قبض كل شيء بحسبه، فقبض الحنطة بوضع اليد عليها، وقبض البيت بأخذ

ص: 360


1- مصباح الأصول 2: 374.

المفتاح مثلاً، فهل مثل هذا الاختلاف في المصاديق يوجب غموض مفهوم القبض أو مصداقه؟

كذلك عدم القدرة العادية، فقد يقدر شخص ولا يقدر آخر، فاستعمال جميع أجبان البلد والتصرف فيها ليس مقدوراً لشخص، لكنه مقدور لشركة كبرى، حيث يمكنها بيعها و شراؤها، فلا إبهام.

الإشكال الثالث: النقض بشبهة الكثير في الكثير، فإنها من أفراد الشبهة المحصورة، ومع ذلك ينطبق عليها التقرير المذكور؛ لأنّ المخالفة القطعية غير ممكنة والأطراف كثيرة. فلو علم بحرمة ألف شاة من عشرة آلاف، فهي شبهة محصورة؛ لعدم الفرق بينه وبين واحد في عشرة، فإنّ النسبة العشر. ذكره المحقق العراقي(1).

الإشكال الرابع: ما ذكره المحقق العراقي أيضاً(2) من أنه لو كانت الشبهة محصورة، ولم يمكن للمكلف الجمع في الاستعمال في آنٍ واحد، كما لو علم بحرمة إحدى المرأتين عليه، لكنه لا يمكن الجمع بينهما في الاستعمال؛ لكون إحداهما في غرفة والأخرى في الأخرى، مع فرض القضية آنية لا امتداد لها. فينطبق عليه نفس التقرير؛ لعدم حرمة المخالفة القطعية؛ لعدم التمكن من الجمع في الاستعمال، وحيث لم تحرم، فلا تتعارض الأصول في أطراف العلم الإجمالي، وحيث لا تتعارض لم تجب الموافقة القطعية للمعلوم بالإجمال، فيحق للمكلف التصرف في أي طرف

ص: 361


1- نهاية الأفكار 3: 330.
2- فوائد الأصول 4: 118 (الهامش).

شاء، وهل يمكن الالتزام بذلك؟

الإشكال الخامس: ما في النهاية، وحاصله: أنّ غير المقدور هو العلم بالمخالفة لا نفس المخالفة.

قال: «ويندفع - بعد تسليم الضابط - أنَّ المخالفة القطعية لو كانت موضوعاً للحرمة شرعاً لكان الأمر كما قيل: من عدم حرمة ما لا يقدر عليه، وأما إذا لم يكن حرمة شرعية، وكان الحرمة الفعلية متعلقة بما يقدر عليه بذاته... فلا محالة يكون العلم بالحرمة المتعلقة بالأمر المقدور موجباً لاستحقاق العقوبة على مخالفتها»(1).

بيانه: لو قال المولى: (تحرم المخالفة القطعية) لكان كلام المحقق النائيني تاماً، حيث يمكنه القول: إنَّ المخالفة القطعية غير مقدورة؛ لعدم إمكان اقتحام جميع أجبان البلد في المثال، فلا تكون محرمة، إلاّ أنه لا دليل شرعي على حرمة المخالفة القطعية، وإنما قام الدليل على حرمة أكل الجبن المتخذ من شحم غير المذكّى، والاجتناب عنه مقدور؛ وذلك لأنّ البحث في الشبهة المحصورة فيما لو كان جميع الأطراف في محل الابتلاء، وأما لو كان بعض أطراف العلم الإجمالي خارجاً عن محل الابتلاء فهو عنوان مستقل أجنبي عما نحن فيه.

ففي مثال الجبن، لا بد من فرض كون جميع الأطراف داخلة في محل الابتلاء، وصرف عدم كونه محصوراً لا يمنع من تنجّز العلم الإجمالي، فإنّ المولى نهى عن أكل الجبن الحرام، فلو كان الفرد الأول هو الحرام لكان

ص: 362


1- نهاية الدراية 2: 610.

الاجتناب عنه مقدوراً، ولو كان الثاني لكان كذلك، وهكذا سائر الأفراد، فيتضح أنّ القدرة العادية متحققة. نعم، تنتفي القدرة العادية عند العلم بالمخالفة.

وبعبارة بسيطة: مَنْ يأكل الجبن لا يعلم أنه تورّط في مخالفة المولى، أمّا نفس المخالفة، أي أكل الجبن الحرام، فهو ممكن مقدور، ومع العلم بوجود (اجتنب عن الحرام الواقعي) وكون متعلق التكليف مقدوراً تكون المخالفة موجبة لاستحقاق العقاب.

والمخالفة نوعان: الأول: المخالفة القطعية، كما لو اقتحم جميع الأطراف، وهي محرمة قطعاً.

الثاني: المخالفة الاحتمالية، كما لو اقتحم بعض الأطراف، وهي محرمة أيضاً بحكم العقل، حيث يحكم بلزوم إحراز طاعة المولى، ومع المخالفة الاحتمالية لم تحرز الطاعة.

وعليه، لا يمكن للمكلف الاقتحام في جميع الأطراف ولا في بعضها.

وبعبارة أخرى: كل تكليف يستتبعه حكمان عقليان: حرمة المخالفة القطعية وحرمة المخالفة الاحتمالية؛ للزوم إحراز إطاعة الأمر، فإن كانت المخالفة القطعية غير ممكنة، إلا أن المخالفة الاحتمالية ممكنة فتحرم عقلاً.

وبهذا ينهدم بنيان ما ذكره المحقق النائيني، حيث إنه بنى كلامه على كون المخالفة غير مقدورة، فالجواب عنه أنَّ العلم بالمخالفة غير مقدور، أمّا نفس المخالفة فمقدورة، فيكون شرط التكليف متحققاً، فيلزم الاجتناب عن تمام الأطراف، أي كل طرف طرف.

ص: 363

لكنه محل تأمل، ووجه التأمل ينقدح ببيان ثلاث مقدمات:

المقدمة الأولى: إنَّ ظرف التكليف ظرف القدرة العادية، وهذا مسلّم ولو بعنوان الأصل الموضوعي، فلو لم تتحقق القدرة العادية فلا تكليف.

المقدمة الثانية: القدرة العادية على اقتحام طرف مشروطة بترك سائر الأطراف لا مطلقاً، فلو أراد المكلف الاقتحام في الإناء الأول وفرضنا أنه هو الحرام الواقعي كان قادراً بشرط ترك سائر الأواني، وأمّا لو اقتحم في سائر الأواني فلا يمكنه اقتحام الإناء الأول، وإلاّ لزم الاقتحام في الجميع، والمفروض أنه ممتنع عرفاً، فالتكليف باجتناب الحرام الواقعي مشروط بترك سائر الأطراف؛ لأنّ التكليف متفرع على القدرة.

المقدمة الثالثة: وحيث إنّ المعلق عليه ليس معلوم الوجود، فالمعلق - وهو التكليف - ليس معلوم الحصول.

فإنّ ترك سائر الأواني مجهول، بمعنى أنّ المكلف لا يعلم أنه ترك سائر الأواني التي ليست بالحرام الواقعي، فلا يعلم بتولد التكليف في عالم الثبوت، فتجري البراءة.

فقد ثبت في المقدمة الثانية أنّ القدرة على اجتناب الحرام الواقعي متوقفة على ترك سائر الأواني، فالتكليف بالاجتناب عنه متوقف على اجتناب سائر الأواني، وحيث لا يعلم تحقق الشرط لا يحرز تحقق المشروط، وهو التكليف .

ومع تمامية هذه المقدمات ينهدم ما بنى عليه في النهاية، وهو معلومية المخالفة والتكليف، ويتم ما ذكره المحقق النائيني مع التقرير المذكور، أي

ص: 364

الشك في تولد التكليف في متن الواقع في الشبهة غير المحصورة.

الإشكال السادس: ما ذكر مبني على اشتراط القدرة العادية في التكليف، لكنه محل تأمل، حيث يمكن دعوى عدم كون القدرة العادية، بل العقلية شرطاً في التكليف نقضاً وحلاً.

أما نقضاً، فبمبطلات الصوم، كالأكل والارتماس، فهل يمكن القول بعدم توجيه الخطاب إلى مَنْ لم يقدر على الإتيان بالمفطر لكونه مسجوناً، فلا يكون حراماً له؟

إنْ كان الخطاب موجهٌ إليه فليست القدرة شرطاً لتوجه التكليف، فإن قلت: إنه قادر على عدم الارتماس، وإن لم يكن قادراً عليه قلت: القدرة متقومة بالطرفين، ولا يعقل تقومها بطرف واحد، كما بين ذلك في التجريد وشرحه(1).

وإن لم يكن الخطاب موجهاً إليه فلا يمكن القول بكون المفطرات عشرة، بل يختلف الأمر حسب اختلاف المكلفين.

وأما حلاً، فإنه لو كان التكليف بداعي البعث والزجر كان الكلام تاماً، أما لو كان بدواعٍ مختلفة فلا، فقد يكون التكليف للبعض بداعي البعث والزجر الفعلي، وللبعض لعدم انقداح الداعي بالفعل أو الترك، وللبعض لإمكان استناد انبعاثه وانزجاره إلى المولى، ولو على نحو القضية التعليقية، فيقال للعاجز: لا ترتمس في الماء لينوِ أنه لو كان قادراً لكف نفسه لزجر المولى. حيث إنه لابد للتكليف من مصحح عقلائي، ولا ينحصر في إمكان

ص: 365


1- كشف المراد: 354.

الانبعاث والانزجار، بل يكفي كل مصحح عقلائي، فلا فرق بين تكليف القادر وغيره؛ ولذا يصح خطاب النائم. نعم، المولى لا يؤاخذ على غير المقدور. وعليه، يصح تكليف العبد وإن لم تتحقق القدرة العادية.

وبتقرير آخر: إننا نسلّم أنه لو كان الهدف من التكليف البعث والزجر، فلم يقدر المكلف على الانبعاث، فإنّ المولى لا يؤاخذه؛ لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً}(1) فالمولى لا يكلف بالانبعاث والانزجار مع عدم القدرة عليهما، فإنّ التكليف بمعنى البعث والزجر بداعي الانبعاث والانزجار مشروط بالقدرة، لكن ليس الحكم الشرعي مساوياً للتكليف، بل هو أعم منه.

فهنا مقولتان: التكليف بمعنى البعث للانبعاث، والزجر للانزجار، وهو مشروط بالقدرة، وربما هو مفاد الآية الكريمة: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً}.

أمّا الحكم أو الخطاب، فالمدعّى أنه أعم من التكليف، ولا يلزم أن يكون الخطاب بداعي البعث والزجر، كما هو الحال في الصارف النفساني، فالعاقل يستحيل أن يقدم على أكل العذرة، والأم الرؤوف يستحيل أن تقتل ابنها مع حفظ الصفة، وكما يصح عدم الداعي أن يقول المولى: (لا تفعل) فكذلك الأمر في الصارف الخارجي، كبعد المسافة وكثرة الأطراف، فإنّ الخطاب أعم من أن يكون بداعي البعث والزجر.

هذا تمام الكلام في بيان ضابط الشبهة غير المحصورة.

والمختار أنّ ضابط الشبهة غير المحصورة هو موهومية التكليف، أو الملازمة للعناوين الثانوية الرافعة للتكليف.

ص: 366


1- البقرة: 286.
البحث الثاني: في حكم الشبهة غير المحصورة
اشارة

والمعروف عدم تنجز العلم الإجمالي في الشبهات غير المحصورة:

أدلة عدم تنجز العلم الإجمالي في الشبهات غير المحصورة
اشارة

وقد ذكرت عدة أدلة لعدم التنجيز في المقام، وهي:

الدليل الأول: ما ذكره المحقق النائيني

حيث بين الضابطة والحكم معاً، وقد مضى الكلام في ذلك.

الدليل الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم

الدليل الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم(1)

من عدم اعتناء العقلاء باحتمال التكليف إذا كان موهوماً، وقد مرّ الكلام فيه في أول التنبيه الثالث.

الدليل الثالث: وجود المؤمن عند الاقتحام في أطراف الشبهة غير المحصورة

الدليل الثالث(2): وجود المؤمن عند الاقتحام في أطراف الشبهة غير المحصورة

وجود المؤمّن عند الاقتحام في أي طرف من أطراف الشبهة غير المحصورة، وهو الاطمئنان بعدم ثبوت التكليف في الطرف المقتحم.

وينشأ هذا الاطمئنان من تقسيم اليقين حسب تعدد الأطراف، فلو كان للعلم الإجمالي طرفان، كان احتمال وجود الحرام في كل طرف خمسين في المائة، ولو كان له عشرة أطراف كان احتمال وجود المعلوم بالإجمال في الطرف الأول العشر، وهكذا، ولو كان له عشرة آلاف طرف كان احتمال وجود التكليف في الطرف الأول بنسبة واحد إلى عشرة آلاف،

ص: 367


1- فرائد الأصول 2: 271.
2- وربما مآله إلى الدليل الثاني.

وهو يساوي الاطمئنان بعدم التكليف فيه، والاطمئنان حجة عند العقلاء، فهو مرتبة من مراتب العلم عرفاً، ولم يردع عنه الشارع فيجوز الاقتحام؛ لعدم وجود الحرام في المقتحم.

ويرد عليه إشكالان:

الإشكال الأول: ما يرتبط بالموضوع، وهو: استحالة حصول مثل هذا الاطمئنان؛ لأنّ أطراف الشبهة غير المحصورة متساوية لاستحقاق هذا الاطمئنان، ولو كان الاطمئنان متعلقاً ببعض الأطراف دون بعض فهو ترجيح بلا مرجح، ولو كان متعلقاً بتمام الأفراد فمآله إلى التناقض؛ لأنّ السالبة الكلية نقيض الموجبة الجزئية. فكيف ينسجم العلم بوجود الحرام مع الاطمئنان بعدم حرمة الإناء الأول، وهكذا الثاني وإلى تمام الأواني.

ويجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: نقضاً، إذ لو صح نفي الاطمئنان عن الفرد الأول، فلا يمكن نفي الاحتمال عنه، وهكذا بالنسبة إلى الفرد الثاني، وهكذا إلى تمام الأفراد، فكيف ينسجم العلم بالموجبة الجزئية مع سلب الاحتمالي الكلي؟ فمع احتمال عدم نجاسة الآحاد يحتمل عدم وجود النجس في المجموع مع العلم بوجوده في ضمنها، فكيف ينسجم احتمال العدم في المجموع مع العلم بالوجود في المجموع؟

ووزان احتمال العدم وزان الاطمئنان بالعدم، فلو سلمتم أنّ احتمال العدم في المجموع لا ينافي العلم في المجموع، فالاطمئنان بالعدم في المجموع أيضاً لا ينافي العلم بالوجود في المجموع.

ص: 368

وبعبارة أخرى: الفرد الأول مشكوك النجاسة، وهكذا سائر الأفراد، فيكون المجموع مشكوكاً، فكيف ينسجم ذلك مع العلم في المجموع؟ فما به الجواب به الجواب عن الا طمئنان.

الجواب الثاني: حلاً، يشترط وحدة الموضوع في التناقض، ولا تناقض في المقام؛ لأنّ الموجبة الجزئية متعلقة بالجامع، والسالبة الكلية متعلقة بالفرد، فالإناء الأول ليس نجساً، وهكذا سائر الأواني، فيكون السلب متعلقاً بالأفراد، وأما الإيجاب فهو متعلق بالجامع، ولا تناقض بين العلم بالجامع والشك في الفرد أو الاطمئنان بالعدم فيه.

وعليه، بلحاظ الحالة النفسية، فالفرد بما هو فرد معين ليس نجساً، أما الفرد المبهم فهو نجس.

وبعبارة ثانية: هذا الفرد ليس خمراً لكن الجامع خمر.

وبعبارة ثالثة: هذا الفرد ليس خمراً لكن أحد الأفراد خمر.

ولا تنافي بين ذلك في الحالات النفسانية.

ولو لم يتم هذا الجواب علمياً فنعود إلى جواب صاحب القوانين: من أن «الشبهة المشهورة لا يعتنى بها في مقابل البديهة»(1).

فالوجدان قاضٍ بالاطمئنان بعدم كونه نجساً.

الإشكال الثاني: ما يرتبط بالمحمول، وحاصله: أنّ ضعف الاحتمال يسوغ الاقتحام عند العقلاء لو كان المحتمل حقيراً، أما لو كان خطيراً فلا يجيزون الاقتحام، وإن كان الاحتمال ضعيفاً.

ص: 369


1- قوانين الأصول: 106.

لكنه محل تأمل من جهتين:

الأولى: حيث لا فرق عندهم بين الخطير والحقير لو حصل الاطمئنان بالعدم، فمع احتمال سقوط الطائرة - حيث المحتمل خطير، بل هو أخطر كل شيء وهو وجود الإنسان - يقتحمون فيه لضعف الاحتمال، وهكذا يقتحمون مع احتمال الموت أثناء العملية الجراحية لو كان الاحتمال ضعيفاً، مع أن المحتمل خطير.

الثانية: المدعى هو اطمئنان العقلاء بعدم التكليف، ومعه يقطع بعدم استحقاق العقاب، فالخطير - وهو العقوبة الأُخروية - مقطوع العدم، والاطمئنان منجز ومعذر عند العقلاء، ومع المعذر يقطع وجداناً بعدم العقاب الأخروي.

الدليل الرابع: الإجماع والتسالم على عدم وجوب الاجتناب

وكأنّ التسالم مرتبة فوق الإجماع، بمعنى أن القضية مفروغ عنها، وكأنه دعوى الضرورة الفقهية أو الفقهائية.

فممن ادعى ظهور الإجماع الشيخ الأعظم في الفرائد(1)، وحكي عن روض الجنان(2) وجامع المقاصد (3)، وادعى الإجماع صريحاً المحقق البهبهاني في الفوائد الحائرية، حيث قال: «مع أن عدم وجوب الاجتناب عن غير المحصور مجمع عليه بين الكل، ولا ريب فيه، ومدار المسلمين في

ص: 370


1- فرائد الأصول 2: 257.
2- روض الجنان : 224.
3- جامع المقاصد 2: 166.

الأعصار والأمصار كان على ذلك»(1).

وادعاه صاحب الرياض(2)، وهكذا السيد العاملي في مفتاح الكرامة(3)، وقال الشيخ الأعظم: «فنقل الإجماع مستفيض، وهو كافٍ في المسألة»(4).

لكن في المقام إشكالات:

الإشكال الأول: ما طرحه في المصباح، حيث قال: «إنّ هذه المسألة من المسائل المستحدثة، التي لم يتعرض لها القدماء، فكيف يمكن فيها دعوى الإجماع»(5).

لكنه محل تأمل، فقد يستكشف الإجماع عن طريق الإن(6)، وبيانه: أنه لا شك في تحقق سيرة المسلمين جديداً وقديماً على عدم الاجتناب عن تمام أطراف الشبهة غير المحصورة، مع العلم بوجود الحرام فيها، وهذه السيرة إن كانت ناشئة عن فتاوى الفقهاء فهو كاشف إنّي عن الإجماع القولي، ولو لم يكن منشؤها الفتاوى فهي بمرأى الفقهاء ومنظرهم ولم يردعوا عنها؛ لأنهم لو ردعوا لما كانت السيرة جارية على ذلك، وبالنتيجة هذه السيرة كاشفة إمّا عن الإجماع القولي للفقهاء، أو الإجماع التقريري لهم.

ص: 371


1- الفوائد الحائرية: 247.
2- رياض المسائل 2: 297.
3- مفتاح الكرامة 2: 253.
4- فرائد الأصول 2: 257.
5- مصباح الأصول 2: 376.
6- أي: الانتقال من المعلول إلى العلة.

الإشكال الثاني ما في المصباح أيضاً(1): ولو فرض تحقق الإجماع، إلاّ أنه ليس تعبدياً؛ لاحتمال استناد المجمعين إلى بعض الوجوه المذكورة في المقام، وإلاجماع إنما يكون حجة ما لم يكن محتمل الاستناد.

وأجاب عنه السيد الوالد (رحمه اللّه) في الأصول(2): اللّهم إلا أن يقال: إنّ احتمال الاستناد لا يضر؛ لآية اتباع غير السبيل، وللتعليل في قوله: فإن المجمع عليه لا ريب فيه.

وما أجمع عليه الفقهاء هو سبيل المؤمنين حتى وإن كان محتمل الاستناد، كما أنّ المراد من المجمع عليه هو الشهرة، ويستفاد منه حكم الإجماع بطريق أولى، والتعليل شامل للمقام؛ فإنه لا ريب فيه حتى وإن كان محتمل الاستناد.

وكذلك الأمر في سيرة العقلاء في باب التنجيز والإعذار، فلو أجمع الأطباء على شيء فهو عند العقلاء منجز للتكليف، ومعذر عن مخالفة الواقع، حتى لو احتملنا استناده إلى شيء .

وهذا بحث مبنائي موكول إلى محله.

الإشكال الثالث: أنَّ المسألة أصولية ولا حجية للإجماع فيها.

ولكنه محل تأمل لجهتين:

الجهة الأولى: لا نرى فرقاً بين المسألة الأصولية والفقهية في ذلك، فلحجية الإجماع ملاك، وهو الكشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) ، أو الكشف

ص: 372


1- مصباح الأصول 2: 376.
2- الأصول: 771.

عن الدليل المعتبر، أو أي ملاك آخر، ولا فرق في هذا الملاك بين كون المسألة فقهية أو أصولية.

الجهة الثانية: المسألة فقهية لا أصولية كبقية المسائل الفقهية، فهل الاجتناب لازم في الشبهات الموضوعية غير المحصورة أم لا؟

وضابط المسألة الأصولية معروف(1).

الإشكال الرابع(2): السيرة عمل، فلا لسان لها، فالمشاهد هو السيرة على عدم وجوب الاجتناب في الشبهات غير المحصورة، لكن لم يتضح وجهها، فربما يكون عدم وجوب الاجتناب لخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، كما هو الغالب في الجبن وما أشبهه، أو للزوم العسر والحرج في الاجتناب عن جميع الأطراف، أو للاضطرار إلى بعض الأطراف أو لعناوين أخرى.

فهل السيرة جارية على الاجتناب عن غير المحصور، فيما إذا لم يكن هنالك ضرر أو عسر أو حرج أو اضطرار، ولم يكن بعض الأطراف خارجاً عن محل الابتلاء؟ وهل يمكن إثبات جريان سيرة المسلمين على عدم الاجتناب في غير المحصور بما أنه غير محصور؟، هذا مما لم يثبت.

الدليل الخامس: سيرة المتشرعة على عدم الاجتناب

فسيرة المتشرعة أو المسلمين على عدم الاجتناب عن الشبهات غير

ص: 373


1- وهو ما يقع في طريق استنباط الأحكام الكلية، أو غيره من الضوابط المذكورة.
2- ربما يكون مقصود السيد الأستاذ (رحمه اللّه) هو السيرة الكاشفة عن الإجماع القولي أو التقريري، فبما أنه لم يظهر وجه السيرة فلم يظهر وجه الإجماع المنكشف بها إنّاً (المقرر).

المحصورة.

ويتأمل فيه بما مرّ في الإشكال الرابع.

الدليل السادس: التلازم بين الشبهات غير المحصورة والعناوين الثانوية

إنّ الشبهات غير المحصورة تلازم - عادة - العناوين الثانوية التي ترفع التكليف، كعنوان الضرر والحرج والعسر وما أشبه، فلا يجب الاجتناب عنها.

لكنه محل تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: ما ذكره صاحب الكفاية(1) في موارد متعددة من أنه لم ينشأ الحرج والضرر والعسر من الحكم الشرعي، وإنما نشأ من الجهل بالحكم الشرعي.

بيانه: تارة يكون الحكم الشرعي منشأً للحرج أو الضرر، كالمريض الذي يضره الوضوء، فيرتفع الحكم أو الوجوب بأدلة الحرج والضرر.

وتارة لا يكون الحكم الشرعي منشأً، وإنما الجهل يوقع المكلف في الضرر، كما لو كان للمكلف مائة إناء، أحدها ماء مطلق وجهله المكلف، فحكم الشارع بوجوب الوضوء بالماء المطلق ليس حرجياً(2)، إلا أنَّ الحرج ينشأ من حكم العقل بوجوب تحصيل الموافقة القطعية. والأدلة ترفع الحكم الشرعي الحرجي والضرري، ولا ترفع الحكم العقلي الحرجي والضرري.

ص: 374


1- كفاية الأصول: 437.
2- فإنّ المفروض ان الوضوء الواحد ليس حرجياً.

لكنه محل تأمل؛ لأنّ الحكم العقلي معلول للحكم الشرعي، فالشارع أوقع المكلف في الضرر، حيث لم يرفع يده عن حكمه، وأراد منه الوضوء بالماء المطلق على كل حال، فنفس هذا الحكم، أو عدم رفع اليد عنه إيقاع للمكلف في الحرج، فينطبق عليه قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(1).

والحاصل: إنه لا فرق في الحكم الحرجي المرفوع بين كونه حرجياً بذاته، أو حرجياً في ظرف الجهل، ففي كلا الصورتين يسند الإيقاع في الحرج إلى الشارع إن لم يرفع يده عن حكمه.

الجهة الثانية: إنَّ عنوان الضرر والحرج كسائر العناوين التي أخذت في موضوعات الأحكام الشرعية، حيث ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، وما أخذ في الموضوعات على نحوين:

الأول: الموضوعات المتأصلة والمطلقة، التي لا تختلف باختلاف الإضافات والنسب، فثبوت الموضوع في حق شخص يساوي ثبوته في حق الجميع.

الثاني: الموضوعات الإضافية التي تختلف باختلاف المكلفين.

والحرج من قبيل الثاني، فيكون الحكم حرجياً لمكلف دون آخر.

وعليه، فكل مكلف كان الاجتناب عن الشبهة غير المحصورة حرجياً بالنسبة إليه ارتفع في حقه وجوب الاجتناب، أما لو لم يكن الاجتناب لمكلف حرجياً فلا.

وبعبارة ثانية: الدليل أخص من المدّعى، فالضرر شخصي يتقدر بقدره.

ص: 375


1- الحج: 78.

فالدليل السادس محل إشكال للجهة الثانية.

الدليل السابع: الروايات الواردة في عدم حرمة أكل الجبن
الرواية الأولى

ما في الوسائل: محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى(1)، عن أحمد بن محمد بن عيسى(2)، عن أبي أيوب(3)، عن عبد اللّه بن سنان، عن عبد اللّه بن سليمان، قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن، فقال (عليه السلام) : لقد سألتني عن طعام يعجبني، ثم أعطى الغلام درهماً، فقال: يا غلام، ابتع لنا جبناً، ثم دعا بالغداء فتغدينا معه، فأتي بالجبن فأكل(4)، وأكلنا، فلما فرغنا من الغداء، قلت: ما تقول في الجبن؟ قال: أو لم ترني آكله؟ قلت: بلى، ولكن أحب أن أسمعه منك(5)، فقال: سأخبرك عن الجبن وغيره، كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال، حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه»(6).

ورواه البرقي في المحاسن عن ابن محبوب، عن عبد اللّه بن سنان، عن عبد اللّه بن سليمان(7).

ص: 376


1- محمد بن يحيى الأشعري العطار، ثقة جليل.
2- أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي، ثقة.
3- كما في الوسائل، لكن في هامشه: في المصدر عن ابن محبوب، ويؤيد كونه عن ابن محبوب لا أبي أيوب أن البرقي في المحاسن نقلها عنه.
4- جواب عملي وهو أقوى من الجواب القولي.
5- ربما باعتبار أن العمل أو حدوده مجمل، فأراد أن تتبين الحدود.
6- وسائل الشيعة 25: 117.
7- المحاسن 2: 495.

وجه الاستدلال بالخبر: ما مرّ من أنّ الخبر ظاهر في الانقسام الفعلي، لا في الترديد الوهمي المنطبق على الشبهة البدوية، فليس معنى الخبر كل شيء يحتمل أن يكون حلالاً وحراماً، بل المراد هو: أي طبيعة كلية فيها أفراد محللة وأفراد محرمة - كاللحم، حيث لهذه الطبيعة نوعان من الأفراد - فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه، وفي الشبهة غير المحصورة لا نعرف الحرام منه بعينه، والحديث مطلق يشمل الشبهات المحصورة وغير المحصورة، خرجت الأولى بالأدلة الخارجية التي مرت، وبقيت الثانية تحت العموم. وعليه، لا بأس بالاقتحام في أطراف الشبهات غير المحصورة.

لكن فيها إشكالان:

الإشكال الأول: سنداً، لوجود عبد اللّه بن سليمان، حيث إنه مجهول لم يذكر في حقه توثيق أو مدح، فتسقط الرواية عن الاعتبار.

ويمكن توثيقه بطريقين:

الطريق الأول: إنه من مشايخ ابن أبي عمير وصفوان، وقد ذكر في محله أنّ مشايخ الثقات(1) ثقات، لأنهم لا يروون إلاّ عن ثقة، أو لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة على اختلاف المبنيين.

قال الشيخ الصدوق في الفقيه: «وما كان فيه عن عبد اللّه بن سليمان(2) فقد رويته عن محمد بن الحسن الصفار، عن يعقوب بن يزيد، عن صفوان

ص: 377


1- وهم ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي.
2- فقد روى عنه في موارد عديدة.

بن يحيى ومحمد بن أبي عمير جميعاً، عن عبد اللّه بن سليمان»(1).

والسند إليهما صحيح، فيثبت بهذا الطريق المعتبر أنه من مشايخهما، فيكون ثقة.

الطريق الثاني: إكثار الكليني الرواية عنه في الكافي(2)،

فقد روى عنه حوالي خمس وعشرين مرة، ويبعد أن تكون القرينة خارجية في تمام هذه الموارد، فيتعين أن تكون داخلية، وهي عبارة عن الوثاقة.

ولا يخفى أنه ليس المقصود الإكثار بالنسبة إلى جميع روايات الكافي، بل الإكثار في حد ذاته، فإنّ الاعتماد على شخص أكثر من عشر مرات إكثار في الاعتماد.

نعم، لو ورد في حقه التضعيف تعارض الجرح والتوثيق، لكن لم يرد ذلك فيه، بل هو مجهول.

ولو تم هذان الطريقان كانت الرواية صحيحة.

ولا إشكال من جهة أبي أيوب لاشتراكه؛ وذلك لأنه روي عن ابنمحبوب في الكافي(3) لا أبي أيوب، وعلى فرض تمامية الإشكال في طريق الكليني إلا أنه لا إشكال في طريق البرقي، حيث رواه عن ابن محبوب وهو الظاهر.

ص: 378


1- من لا يحضره الفقيه 4: 463.
2- فقد نقل عنه حوالي خمس وعشرين مرة، وتفصيله كما يلي: في الجزء 1: ثلاث مرات، وفي الجزء 2: مرتين، وفي الجزء 3: مرتين، وفي الجزء 4: مرة، وفي الجزء 5: مرتين، وفي الجزء 6: إحدى عشرة مرة، وفي الجزء 7: مرتين، وفي الجزء 8: مرتين (منه (رحمه اللّه) ).
3- الكافي 6: 339.

الإشكال الثاني: دلالةً، فإنّ المورد مورد وجود الأمارة وهي السوق، ومعها يخرج عن محل الكلام.

لكنه محل تأمل أيضاً، لجهتين:

الجهة الأولى: إنَّ وجود الأمارة لا يجدي بعد العلم الإجمالي، فوزان الأمارات وزان الأصول، فكما تتعارض الأصول في أطراف العلم الإجمالي وتتساقط كذلك تتعارض الأمارات في أطراف العلم الإجمالي وتتساقط، وفي المقام اليد والسوق متحقق لكل بائع بائع، فتتعارض الأمارات وتتناقض مع العلم الإجمالي.

الجهة الثانية: ظاهر الرواية التعليل بالاختلاط لا السوق، ومفادها أنّ الاختلاط هو العلة في الحلية، فحيث إنّ لهذه الماهية فردين: حلال وحرام واختلطا حلّت، لا لوجود الأمارة الخارجية، ولذا لو لم تكن أمارة كانت مشمولة للرواية، كما لو كان الجبن في صحراء من دون سوق أو يد.

والحاصل: بعد عدم تمامية الإشكالين لعل الرواية تامة سنداً ودلالة، لكن الأصوليين لم يستدلوا بها في المقام، وإنما ذكروا الرواية الثانية.

الرواية الثانية

وهي ما في الوسائل: أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي في المحاسن، عن أبيه(1)، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود، قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن فقلت له: أخبرني مَنْ رأى أنه يجعل فيه الميتة، فقال: أمِنْ أجل

ص: 379


1- محمد بن خالد البرقي.

مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل، واللّه إني لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن، واللّه ما أظن كلهم يسمون، هذه البربر وهذه السودان»(1).

والمفروض في السؤال العلم بوجود الميتة، ومفاد الجواب أن العلم الإجمالي لا أثر له، ومع وجوده يجوز الأكل، وهي إما ظاهرة في العلم الإجمالي، أو عامة له وللشبهة البدوية.

لكن فيه إشكالان:

الإشكال الأول: سنداً، وذلك من جهتين:

الجهة الأولى: وجود محمد بن سنان، وإجمال الكلام في حقه أنه تعارض فيه الجرح والتوثيق، وربما تعارض فيه من شخص واحد كالمفيد والشيخ، حيث ضعفاه في مكان و وثقاه في مكان آخر، ومع التعارض لا يبقى دليل على الاعتبار.

ومن أمارات توثيقه كثرة اعتماد الكليني عليه، فقد روى عنه في الكافي حدود ثلاثمئة وست وخمسين رواية.

ومنها: نص الإمام (عليه السلام) في الصحيحة: «جزى اللّه محمد بن سنان فقد وفى لي»(2).

ص: 380


1- وسائل الشيعة 25: 119.
2- بحار الأنوار 49: 276؛ الفوائد الرجالية 3: 254؛ منتهى المقال 6: 72؛ الكنى والألقاب 2: 287.

لكن ضعفه الشيخ(1) وابن عقده وابن الغضائري(2) وابن شاذان والنجاشي(3).

فلو ادعى أحد أن أمارات الوثاقة أقوى من أمارات التضعيف، أو أنَّ التضعيف راجع إلى الرواية لا الراوي فبها، وإلا فللتوقف فيه مجال.

الجهة الثانية: وجود أبي الجارود، وقد ضعفه الكشي(4).

لكنا ذكرنا في بعض مباحثنا أنه يمكن القول بوثاقته؛ لوجود المقتضي وعدم المانع.

أما الأول: فلأمور - وإن كان بعضها محل إشكال - منها: شهادة المفيد بوثاقته في كتابه: بأنه من فقهاء أبي جعفر وأبي عبد اللّه (عليهما السلام) ومن الأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام، الذين لا يطعن عليهم، ولا طريق إلى ذم واحد منهم(5).

ومنها: قول ابن الغضائري: «وأصحابنا يكرهون ما رواه محمد بن سنان عنه، ويعتمدون ما رواه محمد بن بكر الأرجني»(6).

ومؤداه أنه لا إشكال في روايته، وإنما الإشكال في محمد بن سنان الرواي عنه؛ ولذا لوكان الطريق عن الأرجني إلى أبي الجارود اعتمدوا

ص: 381


1- اختيار معرفة الرجال 2: 687، 795.
2- رجال ابن الغضائري: 61، 92.
3- رجال النجاشي: 328.
4- اختيار معرفة الرجال 2: 495.
5- منتهى المقال 3: 283.
6- رجال ابن الغضائري: 61.

عليه.

وأما انتفاء المانع، فلأنّ المانع المتصور أمور كلها منتفية، منها: تسمية الإمام الباقر (عليه السلام) إياه ب- (سرحوب) وهو اسم شيطان(1)، ويجاب عنه بضعف الرواية وعدم منافاته للوثاقة.

ومنها: ورود روايات في ذمه لكنها ضعيفة.

ومنها: تضعيف الكشي إياه، لكنا لم نجد ذلك منه، والذي وجدناه أنه قال: «وكان أبو الجارود مكفوفاً أعمى، أعمى القلب»(2)

أي: أنه كان أعمى ظاهراً وباطناً بمعنى الانحراف، وهو لا يدل على التضعيف.

ومنها: تضعيف المجلسي في رجاله، وهو التضعيف الوحيد فيما رأينا.

ويمكن القول: إنَّ توثيق المفيد وابن الغضائري من المتقدمين أقوى منه.

والحاصل: أنه لا إشكال في الخبر إلا من جهة محمد بن سنان المتعارض فيه الجرح والتعديل.

الإشكال الثاني: دلالة، حيث يوجد في الرواية احتمالان على ما ذكره الشيخ الأعظم(3):

الأول: أنها متضمنة لصورة العلم الإجمالي بوجود أنفحة الميتة في غير المحصور، وهذا الاحتمال دليل على المدعى.

الثاني: أنها ناظرة إلى الشبهة البدوية، بمعنى أنه لو علمنا علماً تفصيلياً

ص: 382


1- اختيار معرفة الرجال 2: 495.
2- اختيار معرفة الرجال 2: 495.
3- فرائد الأصول 2: 262.

بحرمة نوع من الجبن، أو بحرمة ما يؤخذ من مكان خاص، فلا جرم أنه ينقدح في النفس شبهة حرمة سائر الأجبان، فإنه لو علم بوجود الحرام في صنف بالعلم التفصيلي احتمل وجوده في بقية الأصناف، فتكون الشبهة بدوية.

فتسقط الرواية عن الاستدلال للاحتمال الثاني.

لكنه محل تأمل؛ لإمكان دعوى إطلاقها لكلا القسمين، سواء أكانت الشبهة بدوية أم مقرونة بالعلم الإجمالي، حيث ينسجم السؤال معهما، فإن الراوي قد يخبر بجعل الميتة في الجبن في مكان خاص، فيحصل الشك قهراً في سائر الأجبان، وقد يخبر بجعل الميتة في بعض أنواع الجبن ولا يعلمه، فتنتشر الشبهة في جميع الأنواع، ويحتمل أنّ الجبن الذي يشتريه يكون من ذلك المكان.

وبعبارة أخرى: لو كان المكان الذي جعل الحرام في الجبن معلوماً للمنقول إليه كانت الشبهة في بقية الأجبان بدوية، ولو كان مجهولاً كانت الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي، فأجابه الإمام (عليه السلام) بجواب عام من أجل مكان واحد، سواء أكان مجهولاً أم معلوماً، وعلى فرض كونه معلوماً إما أن تُباع أجبانه في ذاك المكان المعلوم فقط، أو تُباع في أماكن متعددة، ثم بين الإمام (عليه السلام) الضابطة الكلية للحكم، ولا يخفى أنه لا وجه لحمل القضية على كونها خارجية، بل هي حقيقية.

الإشكال الثالث: الحلية في المقام يمكن أن تكون لخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، لا لكون الشبهة غير محصورة.

ص: 383

لكنه قابل للتأمل؛ للإطلاق، فسواء أكانت جميع الأطراف محل الابتلاء، كما في قرية صغيرة، أم لا، كما في المدينة، فإنّ الإطلاق يشملهما.

الإشكال الرابع: الحل مستند إلى الأمارة وهي السوق، وقد مر الجواب عنه.

الإشكال الخامس: المستفاد من الرواية نجاسة أنفحة الميتة، مع أنه من المستثيات فقهياً، فلابد من حملها على التقية(1).

لكنه غير وارد؛ لأنّ التقية في الصغرى لا تسري إلى الكبرى، فقد تكون الصغرى تقية، والكبرى لبيان الحكم الواقعي.

وببيان واضح: للإمام (عليه السلام) جوابان، الأول: عدم نجاسة الأنفحة أصلاً، لكنه لا يذكره تقية، فيجيب بالجواب الثاني، وهو أنه على فرض كونه نجساً، إلا أن الشبهة غير محصورة، فلا يجب الاجتناب.

وقد مرّ توضيحه سابقاً مع بيان أمثلته، ومنها: «ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا، وإن أفطرت أفطرنا»(2) ومنها: «الحلف بالطلاق والعتاق».

والحاصل أنّ جميع الإشكلات غير واردة ظاهراً، إلا الإشكال السندي.

الرواية الثالثة

عن أحمد بن محمد الكوفي(3)، عن محمد بن أحمد النهدي(4)، عن

ص: 384


1- لأن رأي العامة - على المنقول - نجاستها (منه (رحمه اللّه) ).
2- الكافي 4: 82-83.
3- أحمد بن محمد الكوفي، ثقة.
4- محمد بن أحمد النهدي، ثقة.

محمد بن الوليد(1)، عن أبان بن عبد الرحمان(2)، عن عبد اللّه بن سليمان(3)، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في الجبن قال: «كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة»(4).

ولا يعتمد على الرواية سنداً، وأما دلالة فهي ظاهرة في الشبهة البدوية لا المقرونة بالعلم الإجمالي؛ لكنه قابل للتأمل بالإطلاق.

الرواية الرابعة

أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي، عن أبيه(5)،

عن صفوان(6)، عن منصور بن حازم(7)، عن بكر بن حبيب(8) قال: «سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن الجبن وأنه توضع فيه الأنفحة من الميتة، قال: لا تصلح(9)، ثم أرسل بدرهم فقال: اشتر من رجل مسلم ولا تسأله عن شيء»(10).

وعلى المختار فالرواية معتبرة، وإطلاقها يشمل صورة العلم الإجمالي

ص: 385


1- محمد بن الوليد، مشترك بين الثقة وغيره.
2- أبان بن عبد الرحمان، مجهول.
3- عبد اللّه بن سليمان، مرّ البحث فيه في الرواية الأولى.
4- وسائل الشيعة 25: 118.
5- محمد بن خالد البرقي، ثقة.
6- صفوان ، ثقة.
7- منصور بن حازم، ثقة.
8- بكر بن حبيب، مجهول لكنه من مشايخ صفوان وابن أبي عمير، فيوثق بناء على أنهم لا يروون إلا عن ثقة.
9- هذه الكلمة ظاهرة في الحرمة.
10- وسائل الشيعة 25: 118.

أيضاً، والأمارية مدفوعة بما تقدم من أنّ الأمارة في أطراف العلم الإجمالي معارضة فتتساقط. وعليه، حتى مع العلم بوجود الجبن الحرام في السوق يمكن الأكل ولا يلزم السؤال.

الرواية الخامسة

عبد اللّه بن جعفر في قرب الإسناد، عن محمد بن عيسى والحسن بن ظريف وعلي بن إسماعيل كلهم، عن حماد بن عيسى، قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: كان أبي يبعث بالدراهم إلى السوق فيشري بها جبناً ويسمي ويأكل، ولا يسأل عنه»(1).

والسند معتبر.

هذا تمام الكلام في الدليل السابع.

الدليل الثامن: الروايات الدالة على جواز شراء الطعام من الظالم

وعلى جواز أخذ جوائزه مع العلم الإجمالي بحرمة أموالهم.

منها: ما في الوسائل: محمد بن الحسن(2) بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى(3)، عن علي بن النعمان(4)، عن معاوية بن وهب(5)، قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : أشتري من العامل الشيء وأنا أعلم أنه يظلم؟ فقال: اشتر

ص: 386


1- وسائل الشيعة 3: 492.
2- الشيخ الطوسي.
3- أحمد بن محمد بن عيسى، ثقة، والطريق إليه صحيح.
4- علي بن النعمان، ثقة.
5- معاوية بن وهب، ثقة.

منه»(1).

فمع العلم الإجمالي بحرمة بعض أموال هذا الظالم جاز الشراء منه، وهي صحيحة.

ومنها: ما في الوسائل: محمد بن يعقوب، عن عدة من أصحابنا(2)، عن سهل بن زياد وأحمد بن محمد جميعاً، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «سألته عن الرجل منا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة، وهو يعلم أنهم يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم(3)، فقال: ما الإبل إلا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك، لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه»(4). وهي صحيحة.

ومنها: ما في الوسائل: محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبي المغرا، قال: «سأل رجل أبا عبد اللّه (عليه السلام) وأنا عنده فقال: أصلحك اللّه، أمر بالعامل فيجيزني بالدراهم آخذها؟ قال: نعم، قلت: أحج بها، قال: نعم»(5).

وهي صحيحة أيضاً، وهنالك روايات كثيرة في هذا الباب والباب الثاني والخمسين.

لكن فيها إشكالان:

ص: 387


1- وسائل الشيعة 17: 219.
2- مرّ بحث العدة ، وقلنا: إنَّ في كل عدة واحداً من الثقات على الأقل (منه (رحمه اللّه) ).
3- أي أنه يظلمهم.
4- وسائل الشيعة 17: 219.
5- وسائل الشيعة 17: 213.

الإشكال الأول: إنّ الشبهة في أموال الظالمين وعمالهم ليست من قبيل الشبهة غير المحصورة، بل من قبيل الشبهة المحصورة، حيث يعلم - عادة - إما أن كل أموالهم حرام، لكونها من الخراج والزكاة وما أشبه، أو بعضها، فهي شبهة الكثير في الكثير، وعليه تخرج موضوعاً عن محل البحث.

إن قلت: فلماذا جوز الإمام (عليه السلام) الشراء منهم مع كونها محصورة؟

قلت: الترخيص في الشبهة المحصورة لوجه من الوجوه، ولعله لخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، وذلك كالتعامل مع السارق، فإنّ قاعدة اليد تحكم بحلية ما يؤخذ منه، ولا تجري القاعدة في بقية أمواله؛ لخروجها عن محل الابتلاء، ولعله لكون هذه الأموال ترتبط بالإمام (عليه السلام) وقد أجاز، وهو ولي الأمر، فيكون من باب إذن المالك الحقيقي .

لكنه محل تأمل للإطلاق، حيث يمكن فرض الشبهة من قبيل الشبهة غير المحصورة، ومع كون كل الأطراف محل الابتلاء، كمَنْ له ثروة كبيرة وأصبح وكيلاً مفوضاً للظالم، بحيث كانت نسبة أمواله المحرمة إلى المحللة نسبة الواحد إلى الألف.

لا يقال: إنه فرض نادر؛ لأنه يقال: الندرة لا تضر بشمول المطلق، فإن المطلق لا ينصرف إلى الأفراد النادرة حتى يكون خاصاً بها، ولكن لا مانع من شموله للأفراد النادرة أيضاً.

الإشكال الثاني: ورود الروايات في مورد خاص، وهو الشبهة في أموال الظالم، فلا يمكن التعدية إلى تمام الشبهات غير المحصورة.

وربما العلة في ذلك الحرج في الاجتناب عن أموال الظالمين -

ص: 388

كالكسبة والتجار المبتلين بالظالمين، ولذا حل الأخذ لعنوان الحرج والضرر في هذا المورد الخاص، إلا أن يعرف الحرام بعينه - فالدليل أخص من المدعى.

هذا تمام الكلام في الدليل الثامن.

الدليل التاسع: الروايات التي تجيز التصرف في المال المختلط بالربا

منها: ما في الوسائل بسند صحيح: محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن أبي المغرا(1): «لو أن رجلاً ورث من أبيه مالاً وقد عرف أن في ذلك المال ربا، ولكن قد اختلط في التجارة بغيره كان حلالاً طيباً فليأكله، وإن عرف منه شيئاً أنه رباً فليأخذ رأس ماله وليرد الربا»(2).

ويتم الاستدلال بها على نحوين:

الأول: ظهور الخبر في الشبهة المحصورة، كأن يعلم الوارث أنّ نصف أموال المورث عن طريق الربا، ويستفاد منه حكم غير المحصورة بطريق أولى.

الثاني: عموم الخبر للشبهة المحصورة وغيرها، لكن خرجت المحصورة بالأدلة العامة العقلية والنقلية، ويبقى غير المحصور في العموم.

والطريق الثاني أولى؛ لما مرّ في مباحث العلم الإجمالي من شبهة الإعراض في الشبهة المحصورة.

ص: 389


1- في هامش الوسائل: «في المصدر: عن أبي المغرا، عن الحلبي».
2- وسائل الشيعة 18: 128.

ويرد عليه ما ورد على سابقه من أنّ الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً، فالحكم وارد في مورد خاص، ولا دليل على التعميم.

الدليل العاشر: الأخبار الدالة على حلية كل ما لم يعلم حرمته بعينه

كصحيحة عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه»(1).

والإطلاق يشمل الشبهة المحصورة وغير المحصورة، خرجت الأولى بالأدلة وبقيت الثانية.

ولا مانع من شمول الخبر وأمثاله للشبهة غير المحصورة، إلا ما يتصور من أنه ينافي العلم بوجود الحرام في البين، كما أشار إليه السيد السبزواري في التهذيب(2).

فمع العلم بحرمة الخمر ووجوده في أطراف الشبهة، وعدم رفع الشارع يده عن الحكم، كيف يأذن بالاقتحام في الأطراف؟ فإنّ الترخيص في الاقتحام في كل الأطراف مناقضة قطعية، والترخيص في الاقتحام في بعض الأطراف مناقضة احتمالية، وهي كالمناقضة القطعية.

ولكنه قابل للدفع بطريقين:

الأول: تقييد الأحكام الأولية الواقعية بعدم كون الشبهة غير محصورة؛ لوجود كلمة (بعينه) فالحكم بحرمة النجس خاص بالنجس المعلوم بالتفصيل، أو المعلوم بالإجمال في الشبهة المحصورة، أما لو كان معلوماً

ص: 390


1- من لا يحضره الفقيه 3: 341؛ تهذيب الأحكام 9: 72، 79.
2- تهذيب الأصول 2: 173.

بالإجمال غير المحصور فلا حرمة له.

لكنه طريق مشكل، فإنّ موضوع الحكم الواقعي هو الشيء بعنوانه الأولي الذاتي، وموضوع الحكم الظاهري هو الشيء بما أنه مشكوك، والحكم الظاهري لا يقيد الحكم الواقعي، والقول: إنَّ النجس نوعان: حلال وحرام مشكل جداً.

الثاني: بعد التسليم بإطلاق الأدلة، إلا أنّ الشارع اكتفى بالموافقة الاحتمالية للتكاليف القطعية، ورفع اليد عن وجوب الموافقة القطعية؛ وذلك لملاك يقتضيه، كملاك التسهيل مثلاً لو اشتبهت القبلة بين أطراف أربعة، فتكفي الصلاة إلى إحدى الجهات، كما دل عليه حديث معتبر(1)، وأفتى به جمع من الفقهاء(2)، وهنا لم يرفع الشارع يده عن وجوب التوجه إلى القبلة، وإنما اكتفى بالموافقة الاحتمالية.

وبعبارة أخرى: الشارع جعل المأتي به بدلاً عن الواقع، أي فرض أنها القبلة الواقعية، واكتفى بالصلاة إليها.

وفي المقام: الشارع لم يرفع يده عن الحرام الموجود في أطراف الشبهة غير المحصورة، لذا لا تجوز المخالفة القطعية باقتحام جميعها، إلا أنه يرخص في المخالفة الاحتمالية باقتحام البعض الملازم للموافقة الاحتمالية.

ولا تناقض في البين، فإن الترخيص في المخالفة الاحتمالية أنما يكون

ص: 391


1- وهو قوله (عليه السلام) : «يجزي المتحير أبداً أينما توجه إذا لم يعلم وجه القبلة». من لا يحضره الفقيه 1: 276.
2- العروة الوثقى 2: 298؛ مسالك الأفهام 1: 158.

محالاً إذا كانا في مرتبة واحدة، وأما في مرتبتين فلا، كما هو الحال في الشبهة البدوية، فإن اختلاف الرتبة يمنع المناقضة، أو يلتزم بسائر الأجوبة التي ذكرت في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، فما به يدفع المحذور هناك يدفع به هنا.

الدليل الحادي عشر: سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز

ما ذكره الشيخ: من أنّ الغالب في موراد الشبهات غير المحصورة خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، فيسقط العلم الإجمالي عن التنجيز في الشبهة المحصورة، فكيف إذا كانت غير محصورة؟

والجواب: إنّ عنوان الشبهة غير المحصورة عنوان في عرض عنوان الخروج عن محل الابتلاء(1)، فالبحث عنه بما أنه غير محصور مع قطع النظر عن طرو العناوين الأخرى.

ص: 392


1- لأن البحث في المستثنيات عن تنجيز العلم الإجمالي، فمن المستثنيات الاضطرار إلى بعض الأطراف، ومنها: الحرج والضرر، ومنها: الخروج عن محل الابتلاء، والبحث في أن الشبهة غير المحصورة بهذا العنوان هل هي أيضاً من المستثنيات أم لا؟

فهرس المحتويات

فروع في قاعدة التسامح... 5

الفرع الأول: شمول قاعدة التسامح لفتوى الفقيه... 5

الفرع الثاني: إلحاق الكراهة بالاستحباب في شمول روايات (من بلغ)... 8

الفرع الثالث: في التسامح في الآداب والفضائل... 15

الفرع الرابع: شمول أدلة السنن لكتب أبناء العامة... 24

الفرع الخامس: دلالة الرواية الضعيفة على وجوب فعل... 30

الفرع السادس: شمول أخبار (من بلغ) للخبر الضعيف... 41

الفرع السابع: شمول أدلة (من بلغ) للقطع الوجداني... 43

الفرع الثامن: شمول أدلة (من بلغ) للراوي الكاذب... 44

الفرع التاسع: إمكان الفتوى استناداً لأخبار (من بلغ)... 45

الفرع العاشر: عدم جريان التسامح في المنام وأمثاله... 49

الفرع الحادي عشر: فتوى الفقيه بالاستحباب مع عدم وجود دليل... 51

الفرع الثاني عشر: قيام الدليل على عدم الاستحباب... 52

الفرع الثالث عشر: في تعيين الثواب في أخبار (من بلغ)... 56

الفرع الرابع عشر: تعارض الروايات في الاستحباب والكراهة... 59

الفرع الخامس عشر: في جريان التسامح في الدلالة... 60

الفرع السادس عشر: دوران بلوغ الثواب مدار ظهور اللفظ وجوداً وعدماً... 62

الفرع السابع عشر: في شمول أدلة (من بلغ) للفعل المباح... 64

الفرع الثامن عشر: في إمكان إعمال المقلد لقاعدة التسامح... 67

ص: 393

الفرع التاسع عشر: شمول قاعدة التسامح لاستحباب الشهادة الثالثة... 69

الفرع العشرون: في بيان آثار المستحب الثابت بأخبار (من بلغ)... 77

الفرع الحادي والعشرون: إثبات أفضلية فعل بأخبار (من بلغ)... 79

التنبيه الثالث: في إمكان الاحتياط ومشروعيته... 80

المقام الأول... 80

المقام الثاني... 80

المقام الثالث... 81

لحل الشبهة طرق... 83

الطريق الأول... 83

الطريق الثاني... 95

الطريق الثالث... 98

الطريق الرابع... 101

الطريق الخامس... 103

الطريق السادس... 106

الطريق السابع... 107

الطريق الثامن... 110

التنبيه الرابع: في حسن الاحتياط عقلاً وشرعاً... 111

المبحث الأول: في حسن الاحتياط عقلاً... 111

المبحث الثاني: في حسن الاحتياط شرعاً... 112

المبحث الثالث: في شروط حسن الاحتياط... 114

المبحث الرابع: في التبعيض في الاحتياطات... 122

التنبيه الخامس: في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية... 123

أقسام تعلق النهي بالطبيعة... 126

النوع الأول... 127

النوع الثاني... 128

ص: 394

النوع الثالث... 129

النوع الرابع... 131

فصل في دوران الأمر بين المحذورين

فصل في دوران الأمر بين المحذورين... 137

المقام

الأول: الأقوال في دوران

الأمر بين المحذورين التوصليين... 138

القول الأول: تقديم جانب الحرمة... 138

القول الثاني: الحكم بالتخيير... 141

واستدل له بوجوه ثلاثة... 141

الوجه الأول... 141

ويرد عليه مناقشات أربع... 142

الوجه الثاني... 145

الوجه الثالث... 146

الوجه الرابع... 148

القول الثالث: الحكم بالإباحة الشرعية... 150

وأشكل عليه بإشكالات... 150

القول الرابع: جريان أصالة البراءة العقلية والنقلية... 157

تنبيه:... 164

المقام الثاني: دوران الأمر بين الحكمين التعبديين... 170

الفرع الأول: دوران الأمر بين المحذورين في الواجبات الضمنية... 178

تذنيب على الفرع الأول... 180

الفرع الثاني: كون التخيير العقلي ثابت حال الترجيح... 184

تذنيبان... 190

فصل في مباحث الاشتغال

فصل في مباحث الاشتغال... 193

ص: 395

المبحث الأول: في اقتضاء العلم الإجمالي للمنجزية بلحاظ حرمة المخالفة القطعية... 194

المبحث الثاني: في اقتضاء العلم الإجمالي للمنجزية بلحاظ وجوب الموافقة القطعية... 196

ماهية العلم الإجمالي... 196

الاحتمال الأول... 196

الاحتمال الثاني... 198

الاحتمال الثالث... 203

المبحث

الثالث: في إمكان شمول الأصول العلمية لتمام أطراف العلم الإجمالي... 207

المحذور الأول... 207

المحذور الثاني... 212

المبحث الرابع: جريان الأصول العملية الترخيصية في بعض أطراف العلم الإجمالي... 225

ويرد عليه إشكالات... 225

المبحث

الخامس: وقوع الترخيص الشرعي في أطراف العلم الإجمالي... 232

وفي هذا المبحث مطالب... 232

المطلب الأول... 232

المطلب الثاني: جريان البراءة العقلية في أطراف العلم الإجمالي... 248

المطلب الثالث: جريان البراءة الشرعية في أطراف العلم الإجمالي... 249

الطائفة الأولى... 249

الطائفة الثانية... 250

الطائفة الثالثة: ما ورد في أطراف الشبهة المحصورة بالخصوص... 259

المبحث السادس: وقوع الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي بحسب مقام الإثبات 262

المطلب الأول: في جريان البراءة في بعض الأطراف... 263

المطلب الثاني: في جريان الأصول الشرعية في بعض أطراف العلم الإجمالي... 263

الإشكالات على جريان الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي... 265

الإشكال الأول: التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة... 265

ص: 396

الإشكال الثاني: ما ذكره السيد الخوئي... 268

الإشكال الثالث: ثبوت الترخيص في كلا الطرفين عند تركهما... 270

الإشكال الرابع: دلالة الروايات على وجوب الموافقة القطعية... 274

الإشكال الخامس: عدم إمكان التقييد في المقام... 280

الإشكال السادس: تقييد الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين... 282

الإشكال السابع: توقف التخيير على الدليل الخاص... 283

الإشكال الثامن: عدم شمول البراءة لأطراف العلم الإجمالي... 287

الإشكال التاسع: إعراض المشهور عن عموم الروايات... 289

الإشكال العاشر: جريان الأصول الترخيصية منكر في أذهان المتشرعة... 290

تنبيهات

العلم الإجمالي... 291

التنبيه الأول: في الاضطرار لبعض أطراف العلم الإجمالي... 291

المقام الأول: في صور الاضطرار إلى أحد الطرفين بعينه... 291

الصورة الأولى: طروء الاضطرار قبل التكليف وقبل العلم به... 291

الصورة الثانية: كون الاضطرار متأخراً عن التكليف... 293

شبهة وجوابها... 295

الصورة الثالثة: لحوق الاضطرار بعد تنجز العلم الإجمالي... 298

الاحتمال الأول... 299

الاحتمال الثاني... 310

المقام الثاني: اضطرار المكلف إلى بعض الإطراف لا بعينه... 312

التوسط في التنجيز... 315

التوسط في التكليف... 315

تذنيبان... 317

التنبيه الثاني: خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محل الابتلاء... 317

أدلة اشتراط القدرة العادية في متعلق التكليف... 320

الدليل الأول: غاية النهي جعل الداعي للانتهاء... 321

ص: 397

الدليل الثاني: لغوية التكليف والاستهجان العرفي... 326

الدليل الثالث: الروايات الدالة على اشتراط القدرة... 329

الدليل الرابع: ما ذكره السيد السبزواري... 331

تذييلات... 334

التذييل الأول: حصر شرطية محل الابتلاء في التكاليف التحريمية... 334

التذييل الثاني: وجود الداعي النفساني ينافي تحقق الامتثال أم لا... 336

التذييل الثالث: عدم سقوط العلم الإجمالي بخروج أحد الأطراف... 339

التذييل الرابع: في خروج بعض الأطراف بنحو الشبهة المفهومية... 340

التذييل الخامس: في خروج بعض الأطراف بنحو الشبهة المصداقية... 347

الشك في القدرة مجرى الاشتغال... 349

التنبيه الثالث: في عدم تنجّز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة... 351

البحث الأول: في ضوابط الشبهة غير المحصورة... 351

الضابطة الأولى: كون احتمال التكليف موهوماً... 352

الضابطة الثانية: ما يعسر موافقتها القطعية... 355

الضابطة الثالثة: الصدق العرفي... 356

الضابطة الرابعة: بلوغ الأطراف حدّاً يمنع من جمعها في الاستعمال... 357

تنبيه: اختصاص الحكم بالشبهات التحريمية... 359

البحث الثاني: في حكم الشبهة غير المحصورة... 367

أدلة

عدم تنجز العلم الإجمالي في الشبهات غير المحصورة... 367

الدليل الأول: ما ذكره المحقق النائيني... 367

الدليل الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم... 367

الدليل الثالث: وجود المؤمن عند الاقتحام في أطراف الشبهة غير المحصورة... 367

الدليل الرابع: الإجماع والتسالم على عدم وجوب الاجتناب... 370

الدليل الخامس: سيرة المتشرعة على عدم الاجتناب... 373

الدليل السادس: التلازم بين الشبهات غير المحصورة والعناوين الثانوية... 374

ص: 398

الدليل السابع: الروايات الواردة في عدم حرمة أكل الجبن... 376

الرواية الأولى... 376

الرواية الثانية... 379

الرواية الثالثة... 384

الرواية الرابعة... 385

الرواية الخامسة... 386

الدليل الثامن: الروايات الدالة على جواز شراء الطعام من الظالم... 386

الدليل التاسع: الروايات التي تجيز التصرف في المال المختلط بالربا... 389

الدليل العاشر: الأخبار الدالة على حلية كل ما لم يعلم حرمته بعينه... 390

الدليل الحادي عشر: سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز... 392

فهرس المحتويات... 393

ص: 399

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.