موسوعة الفقيه الشيرازي (تبيين الأصول الجزء الخامس) المجلد 8

هوية الكتاب

موسوعة الفقيه الشيرازي

(8)

تبيين الأصول

الجزء الخامس

تقرير أبحاث:

آية اللّه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

بطاقة تعريف:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان المؤلف واسمه:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مواصفات المظهر:21ج.

شابك:دوره: 8-270-204-964-978

ج21: 3-291-204-964-978

حالة الاستماع:فيپا

لسان:العربية

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

تصنيف الكونجرس:1394 8م5ح/8/159BP

تصنيف ديوي:297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية:4153694

ص: 1

اشارة

سرشناسه:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان و نام پديدآور:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

مشخصات نشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مشخصات ظاهری:21ج.

شابك:

دوره: 8-270-204-964-978

ج8: 4-278-204-964-978

وضعيت فهرست نويسی:فيپا

يادداشت:عربي

مندرجات: ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

رده بندی كنگره:1394 8م5ح/8/159BP

رده بندی ديويی:297/312

شماره كتابشناسی ملی:4153694

الشجرة الطيبة

موسوعة الفقيه الشيرازي

-------------------

آية اللّه الفقيه السيّد محمّد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبعة: قدس

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1437ه- .ق

-------------------

شابك دوره: 8-270-204-964-978

شابك ج8: 4-278-204-964-978

-------------------

دفتر مركزي: قم خيابان معلم، میدان روح اللّه،

نبش كوچه 19، پلاك 10، تلفن: 9 – 37744298

چاپ: شركت چاپ قدس، تلفن 37731354 فكس 37743443

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاة والسلام على مُحمّدٍ وآله

الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين،

آمين ربَّ العالمين.

ص: 3

ص: 4

تنبيهات

اشارة

وهنا تنبغي الإشارة إلى تنبيهات:

التنبيه الأوّل: السيرة العقلائية وأنواع الأخبار

اشارة

إنَّ السيرة العقلائية القائمة على العمل بأخبار الآحاد متكفلة لحجّية أي نوع من أنواع الأخبار الأربعة؟

ذكر في المصباح أنَّ السيرة العقلائية تثبت الحجّية لثلاثة أنواع، وهي الخبر الصحيح والحسن والموثق.

قال: «فإنَّها قائمة على العمل بهذه الأقسام الثلاثة، فإذا بلغ أمر المولى إلى عبده بنقل عادل، أو إمامي ممدوح، أو ثقة غير إمامي، لا يكون العبد معذوراً في مخالفة أمر المولى في نظر العقلاء. نعم، الخبر الضعيف خارج عن موضوع الحجية، لأن العقلاء لا يعملون به يقيناً»(1).

ولكن قد يتأملّ في كلامه في الخبر الحسن؛ لأنَّهُ ما كان في طريقه إمامي ممدوح، ويمكن أنْ يقال - في بادئ النظر - إنَّ ألفاظ المدح على نوعين:

الأوّل: ألفاظ المدح التي تفيد الوثاقة، وحكمها حكم النوع الأوّل، ولا مشاحة في الاصطلاح، حيث يسمى بالخبر الحسن، وهو يفيد الوثاقة بلفظ آخر.

الثاني: ما لم يفد الوثاقة، فدعوى بناء العقلاء على العمل بالخبر الممدوح

ص: 5


1- مصباح الأصول 2: 200.

بمدح لا يدل على الوثاقة محلّ تأملّ.

أمثلة لألفاظ المدح

(إنَّهُ حجّة) والظاهر دلالته على الوثاقة؛ فإن (حجّة) بمعنى: يحتج بحديثه.

(إنَّهُ صحيح الحديث) وهو يفيد الوثاقة ظاهراً، وثاقة خبرية أو مخبرية.

(كان شيخ الطائفة) أو (من أجلاء الطائفة)، ويمكن أنْ يقال: إنَّهُ يفيد الوثاقة أو ما فوق الوثاقة، حيث لا يعبر بهذا التعبير عن الكذاب أو محتمل الكذب فإنَّهُ بعيد.

(إنَّهُ صاحب الإمام (عليه السلام))، قال بعض الرجاليين بإفادته الوثاقة، بل ما فوق الوثاقة فإنَّ المرء على دين خليله وصاحبه، ولكن قد يشكك فيه، فقد يكون ملازماً للإمام (عليه السلام) ولم يكن مستقيماً، كالكثير من أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

(محدث) و(قارئ) وفي إفادتهما الوثاقة تأمّل.

(فلان من أصحاب العياشي) أو (من غلمان العياشي)، قال بعض الرجاليين يدل على أنَّهُ من العلماء الذين تخرجوا على يده، وفي إفادته الوثاقة تأملّ.

(له كتاب يرويه فلان)، قيل إنَّهُ يشعر بالمدح، فهل يكفي لإثبات وثاقته؟

(له كتاب يرويه جماعة)، يفيد الحسن في المروي عنه، فهل هو كاف لإثبات الوثاقة؟

(شيخ إجازة)، وهي مسألة مهمة في علم الرجال، فبعض الأصول وصل إلى الشيخ الطوسي عبر بعض الأفراد الذين لم يوثقوا، بل قيل في حقهم إنَّهُ

ص: 6

مشايخ إجازة، كابن عبدون، فهل يكفي لإثبات الوثاقة مطلقاً، أم هنالك تفصيل في المقام؟

وحول إبراهيم بن هاشم إنَّهُ (أوّل من نشر حديث الكوفيين بقم)(1)، والظاهر أنَّهُ يفيد الوثاقة لما ذكر في محله.

(الترحّم عليه) كما ترحّم الصدوق(2) على بعض مشايخه، وفيه تأمّل.

فالقول بجريان سيرة العقلاء على العمل بأخبار كل ممدوح على النحو الكلي، محلّ تأملّ.

وعليه: تكون الروايات الحسنة على نوعين: ملحقة بالصحيح وملحقة بالضعيف.

التنبيه الثاني: عمل المشهور بالخبر الضعيف

اشارة

هل عمل المشهور جابر لضعف الرواية؟

وقد مرّ سابقاً أنَّ الشهرة على ثلاثة أنواع: الشهرة الفتوائية، والشهرة الروائية، والشهرة العملية، والمقام من الشهرة العملية اصطلاحاً.

وللمسألة آثار كثيرة في الفقه؛ لضعف كثير من الروايات؛ لضعف رواتها أو جهالتهم، أو تعارض الجرح والتعديل فيهم، فلو سلمنا بمبنى الجابرية تكون كلها حجّة.

وقد مثل لذلك المحقق العراقي في مقام آخر عن بعض مشايخه قال: «الحديث النبوي المعروف: على اليد ما أخذت حتى تؤدي، فإنه على ما

ص: 7


1- خلاصة الأقوال: 49.
2- معجم رجال الحديث 7: 43؛ قاموس الرجال 9: 34.

ذكره بعض مشايخنا مما لم يذكره أحد من رواتنا، ولا كان معروفاً من طرقنا، ولا مذكوراً في شيء من جوامعنا، وإنّما روته العامة في كتبهم منتهياً إلى الحسن البصري، عن سمرة بن جندب(1)... ومع ذلك ترى بناء الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) على الأخذ بالحديث المزبور في أبواب الفقه، والاستناد إليه في مقام الفتوى بلحاظ جبره بعمل القدماء»(2).

وفي المقام بحثان كبروي وصغروي:

أدلة حجية الأخبار الضعيفة

أمّا البحث الكبروي فهو في بيان الأدلة الدالة على حجّية الأخبار الضعيفة التي عمل بها الفقهاء:

الدليل الأوّل: ما ذكره المحقق النائيني في آية النبأ حيث قال: «ليس مفاد منطوق آية النبأ طرح خبر الفاسق وإنّما التبين عن خبره، وعمل المشهور نوع من أنواع التبين فإذا تحقق التبين كان حجّة»(3).

وأشكل عليه في المصباح(4)، بعد أنْ سلّم به في دورته السابقة ثم تراجع عنه؛ وذلك لأنَّ التبين بمعنى استيضاح الحال واستكشاف صدق الخبر، وهو نوعان: أحدهما: تعبدي. وثانيهما: علمي.

ص: 8


1- سمرة، ورد في حقه حديث «لا ضرر ولا ضرار» وكان رجلاً جانياً، ولم يرو عنه الحسن البصري حتى حديثاً واحداً، فبينهما واسطة مجهولة.
2- نهاية الأفكار 3: 99.
3- أجود التقريرات 2: 114.
4- مصباح الأصول 2: 201.

فإنْ علمنا بمضمون الخبر فهو تبين علمي، وإنْ قامت حجّة شرعية على مضمون الخبر فهو تبين تعبدي، وليس عمل المشهور في حدّ ذاته حجّة، كما أنَّ الخبر الضعيف ليس حجّة، وضم غير الحجّة إلى غير الحجّة لا ينتج الحجّة، فإنَّ ضم العدم إلى العدم لا ينتج إلا العدم.

وبعبارة مختصرة: التبين لا يكون إلا بما هو حجّة، ولأنَّ عمل المشهور غير حجّة فلا ينفع عملهم بالخبر.

ولكنّه محلّ تأملّ:

أوّلاً: حيث يمكن دعوى كون الشهرة في حدّ ذاتها حجّة من الحجج العقلائية، ولذلك تكون الشهرة الفتوائية حجّة وإنْ لم تستند إلى رواية، فكيف إذا استندت؟ وهذا بحث مبنائي وقد مرّ سابقاً.

ثانياً: يمكن دعوى كون المطلوب التبين، وهو صادق عرفاً فيما لو عمل المشهور بخبر ضعيف.

فمثلاً: لو أخبر مجهول بخبر لأهل الخبرة في السوق، فشاهدنا أنَّ المدققين والمحققين من أهل الفن اعتمدوا ورتبوا عليه الأثر في المسائل المهمة، كالربح والخسارة المليونية، أفلا يمكن القول - بعد التحقيق - إنّنا رأينا عمل مشهور أهل الفن بهذا الخبر فتبينا صدقه؟

الدليل الثاني: عمل المشهور كاشف عن الوثاقة المخبرية، وتوثيق الفقهاء حجّة.

ولكنّه محلّ تأملّ؛ لأنَّ الاعتماد على الخبر يكون تارة لوثاقة رواته، وتارة لاجتماع قرائن تُفيد الوثوق بصدوره، وربما لم تفدنا تلك القرائن

ص: 9

الوثوق بالصدور.

الدليل الثالث: التعليل في مقبولة عمر بن حنظلة: «... ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه»(1)، والمراد من المجمع عليه المشهور بقرينة صدر الرواية، وقد مرّ الكلام فيه في الشهرة الفتوائية.

الدليل الرابع: سيرة العقلاء القائمة على العمل بقول المشهور

الدليل الخامس: إنَّ عمل المشهور برواية يورث الاطمئنان النوعي بصدورها.

قال السيد السبزواري: «المعروف بين الإمامية أنَّ مثل هذه الشهرة جابرة لضعف السند... وقد استقرّت سيرتهم على العمل بما عمل به المشهور وإنْ كان ضعيفاً... قال صاحب الجواهر: لو أراد الإنسان أنْ يلفق فقهاً من غير نظر إلى كلام الأصحاب، بل من محض الأخبار، يظهر له فقه خارج عن ربقة جميع المسلمين، بل سائر المتدينين. أقول: وهو حق كما هو معلوم على أهله»(2).

وقال - أيضاً - في موضع آخر: «إنَّ السيرة العملية الاستنادية توجب الاطمئنان بالواقع والظاهر بناء العقلاء على الاعتماد عليها».(3)

وقال - أيضاً - في موضع آخر: «لا اختصاص لشهرة الاستناد بخصوص

ص: 10


1- الكافي 1: 68.
2- تهذيب الأصول 2: 90.
3- تهذيب الأصول 2: 92.

مسائل الفقه، بل هي ثابتة في جميع العلوم والفنون، بل العرفيات أيضاً، وقد ارتكز في الأذهان متابعة المشهور، وعدم متابعة ما أعرض عنه المشهور، كما لا يخفى على من راجع العلوم والعرفيات»(1).

الدليل السادس: رواية: «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما رواه عنّا ثقاتنا»(2)، فيما إذا قُلنا بعدم الموضوعية للوثاقة المخبرية، بل هي طريق إلى الوثاقة الخبرية، وعمل المشهور يوجب الوثاقة الخبرية.

كيفية إحراز استناد المشهور إلى الخبر

أمّا البحث الصغروي: فهو في كيفية إحراز استناد المشهور بالخبر، فإنَّ كتب القدماء مجردة عن الاستدلال، وأوّل كتاب استدلالي هو كتاب المبسوط كما قيل. نعم، كانت هنالك كتب استدلالية عند القدماء، كالمتمسك بحبل آل الرسول للعماني، لكن لا يوجد عنها عين ولا أثر، فلا يمكن إحراز استناد المشهور إلى خبر من الأخبار.

قال في المصباح: «فإنَّ القدماء لم يتعرضوا للاستدلال في كتبهم ليعلم استنادهم إلى الخبر، بل المذكور في كتبهم مجرّد الفتوى»(3).

ويمكن الجواب عنه بجوابين:

الأوّل: نفس فتوى القدماء - كالشيخ المفيد والشيخ الطوسي والسيد المرتضى والشيخ الصدوق وأبيه والسلار والقاضي (رحمهم اللّه) - دليل على

ص: 11


1- تهذيب الأصول 2: 97.
2- وسائل الشيعة 27: 150.
3- مصباح الأصول 2: 202.

وجود رواية معتبرة عندهم، فقد كان مبنى القدماء - كما يظهر عند التتبع - التقيد طبق المتون الواردة، وكانت فتاواهم متون الروايات، والتفريعات الاجتهادية قليلة جداً عندهم، حتى أنَّ العامة نعتوهم بالمقلدة وعدم الاجتهاد.

فقد كان عندنا ثلاث مراحل: مرحلة التلقي: وهي مرحلة أصحاب المعصومين(عليهم السلام)، ثم مرحلة الضبط وحفظ الأحاديث؛ وهي مرحلة قدماء الأصحاب إلا النادر منهم، ثم مرحلة التفريع والاستنباطات: وهي مرحلة ظاهرة عند الشيخ الطوسي ومن بعده.

وعليه: فكون نفس فتوى قدماء الأصحاب دليلاً على وجود النص المتلقى.

الجواب الثاني: قد يعرف الاستناد عبر القرائن الخارجية، كمطابقة الفتاوى للفظ الخبر المنقول، كقوله: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي»(1)، أو «الميسور لا يسقط بالمعسور»(2)، أو «الإسلام يجب عما قبله»(3)، فلو رأينا في عبارات القدماء نفس هذا اللفظ أو التعليل به فإنَّهُ يدل على استناد القدماء إليه.

قال الشيخ الأعظم(4): وأوّل من تمسك بهذه الأخبار - أي: «فإنَّ اليقين لا

ص: 12


1- مستدرك الوسائل 14: 7.
2- عوالي اللئالي 1: 20.
3- مستدرك الوسائل 7: 447.
4- فرائد الأصول 3: 14.

يدفع بالشك» - والد الشيخ البهائي في الحبل المتين، لكن نفس هذه الألفاظ مذكورة في كتب ابن إدريس، ويشعر ذلك باستناده إلى هذه الروايات.

فقول المصباح: «لم يتعرضوا للاستدلال في كتبهم»(1) محلّ تأملّ؛ لأنَّهم تعرضوا إجمالاً لكن لم تصلنا كتبهم الاستدلالية.

لا يقال: ربما كان لهم رأي آخر أيضاً لكنه لم يصلنا.

لأنّا نقول: لو كان كذلك لنقل عادة؛ حيث إنَّ كتب المتأخرين ناظرة إلى الكتب المتقدمة، ولو كان هنالك رأي آخر مشهور أو أشهر لكان الشيخ الطوسي ينقله في كتبه، أو يشير إلى الخلاف.

لا يقال: ربما كان استنادهم إلى غير هذه الرواية.

لأنا نقول: لا يمكن القول إنَّهم أفتوا بلا دليل وقد كانوا مقيدين بالنصوص، فيعلم استنادهم إلى هذه الرواية.

ومع التنّزل فإمّا استندوا إلى هذه الرواية، أو إلى رواية أُخرى مجهولة عندنا لها نفس المضمون، فالمشهور يجبر تلك الرواية المجهولة الواصلة إلينا بالمعنى عبر الفتوى، وقد ثبت عدم الإشكال في النقل بالمضمون.

فالإشكال الصغروي محلّ تأملّ.

وفي المقام تفصيلان:

الأوّل: أنْ نعلم بكون العمل على وجه الاستناد أو لا، بأنْ كان مستندهم دليلاً عقلياً، وقد ذكره السيد السبزواري(2).

ص: 13


1- مصباح الأصول 2: 202.
2- تهذيب الأصول 2: 93.

الثاني: ما ذكره المحقق النائيني في أحد كتابيه، والمحقق العراقي والسيد السبزواري في أوّل كلامه، وهو التفصيل بين عمل القدماء فيكفي في الجابرية دون عمل المتقدمين، قال المحقق النائيني: «الشهرة جابرة إذا كانت بين قدماء الأصحاب القريبين من عهد الحضور؛ لمعرفتهم بصحة الرواية وضعفها، ولا عبرة بالشهرة بين المتأخرين»(1).

لكنه أطلق الجابرية والكاسرية في أجود التقريرات(2)، ولم يقيده بالشهرة عند المتقدمين.

وقال المحقق العراقي: «المعتبر الشهرة بين قدماء الأصحاب القريبون من عهد الحضور لا من المتأخرين»(3).

وقال السيد السبزواري: «عصر الغيبة الصغرى وأوائل الكبرى»(4).

وأمّا في آخر كلامه فقد قال بحجّية الشهرة مطلقاً إذا حصل منه الوثوق والاطمئنان.

لكن الأدلة المذكورة في البحث الكبروي ربما تكون أعم كقوله تعالى: (فتبينوا)، فالملاك التبين والفحص لانكشاف الحال، وكما أنَّ شهرة القدماء نوع من التبين كذلك شهرة المتأخرين.

وكذا مقبولة عمر بن حنظلة: «ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند

ص: 14


1- فوائد الأصول 3: 153.
2- أجود التقريرات 2: 114.
3- نهاية الأفكار 3: 99.
4- تهذيب الأصول 2: 90 .

أصحابك فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه»(1)، فالتعليل أعم.

والسيرة العقلائية على العمل بقول مشهور المتأخرين(2) في كل علم وفن كالمشهور عند الأطباء بلا فرق بينه وبين شهرة المتقدمين.

كما لا فرق عندهم بين أنْ يعلم استنادها إلى رواية أو لا يعلم، خاصة وأنَّ العلامة ومن تأخّر عنه يمتازون بكثرة الاطلاع، ودقة النظر بما لا توجد عند بعض المتقدمين؛ قال صاحب الجواهر: «إنَّ القدماء إنّما وقع ما وقع منهم في كثير من المقامات من المذاهب الفاسدة؛ لعدم اجتماع تمام الأصول عند كل واحد منهم، وعدم تأليف ما يتعلق بكل باب منها على حدة، فربما خفي على كل واحد منهم كثير من النصوص، فيفتي بما عنده من غير علم بالباقي، كما لا يخفى على الخبير الممارس المتصفح لما تضمن تلك الآثار»(3).

وكلامه جدير بالتأمّل في المباحث الفقهية والعقدية، وربما يكشف عن حلّ بعض الإشكاليات؛ حيث قد نرى تشكيك بعض القدماء في بعض المباحث العقدية، والتي هي من البديهيات عند المتأخرين.

وعلى كل، فإنَّ المتأخرين يمتازون بأمور كما يمتاز القدماء بأمور أُخرى.

والحاصل: إنْ تمت هذه الأدلة الثلاثة فلا يكون هنالك فرق بين شهرة

ص: 15


1- الكافي 1: 67-68.
2- مع عدم معارضته لمشهور المتقدمين، بل في صورة عدم العلم برأيهم.
3- جواهر الكلام 9: 364.

المتقدمين وشهرة المتأخرين.

التنبيه الثالث: إعراض الأصحاب عن الخبر المعتبر

اشارة

هل إنَّ إعراض الأصحاب عن الخبر المعتبر يوجب وهنه؟

تارة يكون الإعراض سندياً، وتارة يكون دلالياً، وله موارد متعددة في الفقه، ومنها: روايات الوفاء بالوعد، وهي كثيرة وبعضها معتبرة، ويمكن دعوى دلالة القرآن الكريم على حرمة خلف الوعد، كقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}(1)، لكن المشهور لم يستظهروا الوجوب، فهل إنَّ إعراضهم سنداً أو دلالة يوجب وهن الخبر؟

في المقام احتمالات:

الأوّل: ما اختاره في المصباح: من عدم وهن الخبر، ولا سقوطه عن الحجّية بالإعراض، وربما نظره إلى الوهن السندي لا الدلالي، قال: «إنَّهُ بعد كون الخبر صحيحاً أو موثقاً مورداً لقيام السيرة، ومشمولاً لإطلاق الأدلة اللفظية... لا وجه لرفع اليد عنه لإعراض المشهور عنه»(2).

فصرف الإعراض لا يوجب رفع اليد عن الخبر المعتبر.

نعم، يمكن أنْ يكون الإعراض إلى حدّ يوجب الاطمئنان بوجود خلل في الصدور أو الجهة، وقد استدل السيد الخوئي كراراً بالتسالم بين الفقهاء، ويفهم منه ومن آخرين أنَّ التسالم فوق الإجماع، فربما يكون تسالمهم على الإعراض موجباً للاطمئنان بوجود خلل في الرواية، لكن البحث في مجرد الإعراض.

ص: 16


1- الصف: 3.
2- مصباح الأصول 2: 203.

الاحتمال الثاني: ما ذهب إليه المشهور - ومنهم السيد الوالد (رحمه اللّه) - من كون الإعراض يوجب الوهن وسقوط الخبر عن الحجية، بل قال البعض(1): كلما ازداد صحة ازداد وهناً بالإعراض.

فلماذا لم يعملوا بالخبر الصحيح الأعلائي؟! فلابد من جود إشكال فيه، وتدل عليه أدلة، فإنْ تمت يسقط دليل القول الأوّل، فإنَّهُ بتماميتها تعتبر وجهاً صالحاً لرفع اليد عن الخبر المعتبر، وهذه الأدلة هي:

الأوّل: التعليل الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة: «فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه»(2)، وقد قُلنا: إنَّ المراد منه المشهور.

فالتعليل يفيد أنَّ الحجّية دائرة مدار وجود الريب، والخبر المعتبر المعرض عنه لا يكون حجّة لوجود الريب فيه.

ولكنّه محلّ تأملّ؛ لأنَّ التعليل يفيد ثبوت الحكم في غير مورده ممّا تحققت فيه العلّة؛ ولا يفيد نفي الحكم عن غير مورده ممّا لم تتحقق فيه العلة. فمعنى قولهم: (العلة تعمم وتخصص)، أوّلاً: نفي الحكم عن مورده إذا لم توجد فيه العلّة، وثانياً: إثبات الحكم في غير مورده إذا وجدت العلّة.

ولا ينفي الحكم عمّا انتفت فيه العلة أو يشك فيه، مثلاً لو قال: لا تشرب الخمر لأنَّها مسكرة، فهل تنفي الحرمة في غير مورده إنْ انتفت علّة الإسكار، فيقال: كلّما ليس بمسكر فليس بمحرم؟ ربما يكون غير مسكر لكنه محرم، كالمال المغصوب أو الشيء المضر أو ما أشبه.

ص: 17


1- درر الفوائد 1: 177؛ نهاية الأفكار 3: 186.
2- الكافي 1: 67-68.

فالعلّة تثبت اطراد الحكم في مورد وجودها، ولا تفيد نفي الحكم عمّا لا توجد فيه.

مثال آخر: إذا قال: لا تأكل الرمان لأنَّهُ حامض، فله دلالتان:

الأولى: لا بأس بأكل الرمان غير الحامض.

الثاني: لا تأكل غير الرمان إذا كان حامضاً.

وأمّا انتفاء التحريم عن غير الرمان إذا لم يكن حامضاً - يعني كل شيء غير حامض حلال - فهذه الدلالة محلّ إشكال.

وفيما نحن فيه، مفاد المقبولة: كل ما لا ريب فيه فهو حجّة، وليس مفادها: كل ما فيه ريب فليس بحجّة، حتى يقال الخبر المعتبر فيه الريب لإعراض المشهور عنه، فلا يكون حجّة.

الدليل الثاني: حصول الاطمئنان من إعراض المشهور بوجود خلل في الخبر، إمّا في صدوره أو ظهوره أو جهته، وإلا فلماذا أعرضوا عنه؟

وفيه: إنَّهُ أخص من المدعى، فكلما حصل الاطمئنان لا يكون حجّة، وإنْ لم يحصل الاطمئنان فهو حجّة، كما لو احتمل كون الإعراض وليد إعمال النظر والاجتهاد، مثل: ما لو أعرضوا عن الرواية لأنَّها معللة، واستفادوا من التعليل الكراهة، وأعرضوا عن ظهور النهي في الحرمة، فاجتهادهم لا يكون حجّة علينا.

الدليل الثالث: السيرة العقلائية، فهي قائمة على عدم الاعتبار بالخبر المعرض عنه من قبل أهل الفن.

ويؤيده ما عن عبد اللّه بن محرز بياع القلانس، قال: «أوصى إلي رجل

ص: 18

وترك خمسمائة درهم أو ستمائة درهم وترك ابنة، وقال : لي عصبة بالشام، فسألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن ذلك؟ فقال: اعط الابنة النصف والعصبة النصف الآخر ، فلما قدمت الكوفة أخبرت أصحابنا بقوله، فقالوا: اتقاك، فأعطيت الابنة النصف الآخر، ثم حججت فلقيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) فأخبرته بما قال أصحابنا، وأخبرته أني دفعت النصف الآخر إلى الابنة، فقال: أحسنت، إنما أفتيتك مخافة العصبة عليك»(1).

وحيث اختلت الجهة عمل بقول الأصحاب وأقرّه الإمام (عليه السلام).

الاحتمال الثالث: التفصيل في المقام: فإنْ كان المستند في حجّية الخبر الواحد السيرة العقلائية فالخبر المعتبر المعرض عنه غير حجّة عند العقلاء، وإلا فهو حجّة.

وقد قال في المصباح: «فتحصّل مما ذكرنا: أنَّ العمدة في دليل حجّية الخبر هي السيرة»(2).

وربما ينافي مختاره؛ حيث إنَّهُ يمكن دعوى عدم عملهم بالخبر المعرض عنه إنْ كانت العمدة في حجّية الخبر السيرة العقلائية.

لكن لو كان مستند الحجّية إطلاقات الأدلة اللفظية كتاباً أو سنة، فهي مطلقة تشمل الخبر المعرض عنه، إلا أنْ يقال بالانصراف؛ لقرينة الارتكازات العقلائية، إلا أنَّ الانصراف عهدته على مدعيه.

ص: 19


1- الكافي 7: 87.
2- مصباح الأصول 2: 196.

شروط مسقطية الإعراض

وقد ذكرت لمسقطية الإعراض شروط:

الأوّل: أن يكون الإعراض ثابتاً لدى قدماء الأصحاب، القريب عهدهم من عهد الغيبة الصغرى، كالكليني والصدوق، ولكن الإعراض عند المتأخرين لا يوجب السقوط.

الثاني: أنْ لا يكون إعراضهم وليد إعمال نظر واجتهاد، أمّا لو كان كلامهم ظاهراً في الاجتهاد فلا يكون حجّة.

الثالث: أنْ تكون الروايات بمرأى منهم ومسمع، أمّا لو احتمل عدم اطلاعهم على الرواية فلا يكون إعراضهم موهناً.

ويضمُّ إلى ما ذكرنا ما ذكره صاحب الجواهر(1)

من عدم اجتماع الروايات عند القدماء.

والمسألة بحاجة إلى تتبع وتأمّل أكثر.

الدليل الرابع: العقل

اشارة

الدليل الرابع(2): العقل

تقريبات الاستدلال بالعقل على حجية الخبر الواحد

اشارة

وقد ذكرت في المقام تقريبات:

التقريب الأول: دليل الانسداد الصغير

اشارة

وهو ما اعتمده الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) ثم عدل عنه، ويمكن أنْ نسميه بدليل الصغير.

ص: 20


1- جواهر الكلام 9: 364.
2- على حجية الخبر الواحد.

الانسداد ومؤداه: إنّا نعلم إجمالاً بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار عن الأئمّة الأطهار(عليهم السلام)، بل قال الشيخ الأعظم(1): جل الأخبار معلومة الصدور بالعلم الإجمالي، ومقتضاه لزوم الاحتياط في جميع الأخبار، لكن بما أنَّ الاحتياط الكلي غير ممكن يتنزل العقل عن الموافقة القطعية إلى الموافقة الظنية بأنْ نعمل بمظنون الصدور، أي لعدم إمكان تحصيل الواقع بالعلم يتنزل العقل بالتحصيل الظني للواقع.

وأورد عليه إشكالات
الإشكال الأوّل

ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (2) وينحل إلى أمرين:

أولاً: وجوب العمل بالأخبار الصادرة معلّل باشتمالها على الأحكام الواقعية الواجبة الامتثال.

ثانياً: ليس العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية خاصاً بالأخبار المروية، بل يشمل الإجماعات والشهرات وسائر الأمارات الظنية، فالامتثال الواجب للعلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية لا يخص الأخبار الواردة، بل يشمل جميع الأمارات الظنية، فيجب الاحتياط إنْ أمكن في جميعها وإنْ لم يمكن الاحتياط والتحصيل القطعي للواقع يتنزل العقل إلى وجوب امتثال ما يظن أنَّهُ حُكم اللّه.

ص: 21


1- فرائد الأصول 2: 87 .
2- فرائد الأصول 2: 87 .

وحاصله: إنَّ مفاد الوجه المذكور ليس حجّية خصوص الأخبار الظنية، بل حجّية جميع الأمارات الظنية.

وأشكل عليه: بانحلال العلم الإجمالي الكبير الذي أطرافه جميع الأمارات الظنية إلى العلم الإجمالي الصغير الذي أطرافه خصوص الأخبار الصادرة، ومع انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى العلم الإجمالي الصغير لا يكون العلم الإجمالي الكبير منجزاً، كما لو علم بوجود الدم في البيت ثم علم بأنَّ في الغرفة دم، فالعلم الإجمالي الكبير ينحل إلى العلم الإجمالي الصغير والشك البدوي في سائر نقاط البيت، فتجري أصالة الطهارة أو البراءة.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم(1) بما مضمونه: العلم الإجمالي الكبير إنَّما ينحل إلى العلم الإجمالي الصغير إذا لم يبق العلم الإجمالي الكبير بعد عزل المقدار المعلوم في دائرة العلم الإجمالي الصغير.

ففي مثال الدم: لو علم أنَّ في البيت خمس قطرات من الدم، ثم علم أنَّ في الغرفة قطرات من الدم ووجدها فيها، إنَّما ينحل العلم الإجمالي الكبير إلى العلم الإجمالي الصغير إذا لم يبق علم إجمالي في ما سوى هذه المحدودة بعد عزل هذه القطرات في أطراف العلم الإجمالي الصغير.

لكن لو بقي العلم الإجمالي الكبير ثابتاً فيما سوى المحدودة، حتى بعد عزل المقدار المعلوم في محدودة العلم الإجمالي الصغير، فلا ينحل العلم الإجمالي الكبير، بل كان عندنا في الواقع علمان إجماليان صغير وكبير.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فعندنا علم إجمالي كبير أطرافه كل الأمارات

ص: 22


1- فرائد الأصول 2: 89 .

الظنية، وعندنا علم إجمالي صغير أطرافه خصوص الأخبار المروية.

فبعد عزل الروايات المظنونة الصدور للعمل بها لا يبقى عندنا علم إجمالي صغير؛ حيث لا نعلم بوجود رواية متضمنة للحكم الإلهي خارج هذه الروايات المظنونة، ففي دائرة العلم الإجمالي الصغير ينحل العلم الإجمالي إلى الأقل المتيقن والأكثر المشكوك.

وبعد هذا العزل والانحلال تبقى عندنا بقية الروايات وسائر الأمارات الظنية، فهل هنالك احتمال أنْ تكون كلها مخالفة للواقع، ولا يحتمل وجود حكم واقعي فيها؟ كلا، فإنَّهُ بعد انحلال العلم الإجمالي الصغير يبقى العلم الإجمالي الكبير موجوداً، فلا بد من الاحتياط في جميع الأمارات الظنية لا خصوص الأخبار المروية.

والحاصل: إنَّ العلم الإجمالي باق بعد الانحلال وهو منجز.

وأورد عليه صاحب الكفاية، قال: «إنَّهُ يعلم إجمالاً بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار من الأئمّة الأطهار(عليهم السلام) بمقدار وافٍ بمعظم الفقه، بحيث لو علم تفصيلاً ذاك المقدار لانحلّ علمنا الإجمالي. فبعد عزل المقدار المعلوم بالإجمال عن الأخبار المأثورة، وضم سائر الأخبار إلى باقي الأمارات الظنية يتحول العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي، والمشكوك بالشك البدوي في دائرة العلم الإجمالي الكبير مجراه البراءة»(1).

وبعبارة مختصرة: العلم الإجمالي الكبير ينحل إلى العلم الإجمالي

ص: 23


1- كفاية الأصول: 304.

الصغير، وبعد الانحلال يشك بالشبهة البدوية في وجود حكم فيما تبقى.

ويرد عليه: بأنَّ الانحلال خلاف الوجدان، حيث لا يحتمل وجداناً أنْ تكون كل مؤديات الأخبار المتبقية، وسائر الأمارات بعد الانحلال مخالفة للواقع، فالعلم الإجمالي ثابت.

ولذا وجّه في النهاية(1) والمنتقى(2) كلام الكفاية، وربما يستفاد ذلك من حاشية الكفاية(3) أيضاً: لا بد أنْ نرى ما هو ملاك عدم انحلال العلم الإجمالي؟ إنْ كان ملاك عدم الانحلال وجود العلم الإجمالي بعد العزل والضم، فما ذكره الشيخ الأعظم تام لبقاء العلم الإجمالي في الدائرة الكبيرة بعد العزل والضم. لكنه ليس ملاكاً، بل الملاك زيادة عدد المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير على المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير، فإنْ كان المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير زائداً على المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير فلا ينحل العلم، وإلا فينحل.

وبتعبير آخر: إذا لم نحتمل أنَّ المعلوم بالإجمال الكبير منطبق على المعلوم بالإجمال الصغير، فالعلم الكبير لا ينحل، وإنْ احتملنا أنَّ المعلوم بالإجمال الكبير منطبق على المعلوم بالإجمال الصغير، فالعلم الإجمالي الكبير منحل.

فليست الضابطة وجود العلم الإجمالي، بل الضابطة الزيادة المذكورة.

ص: 24


1- نهاية الدراية 2: 238.
2- منتقى الأصول 4: 309.
3- كفاية الأصول (المحشى) 3: 343.

وأمّا ما نحن فيه، فبعد عزل المقدار المعلوم بالإجمال في دائرة المعلوم الصغير لا يبقى عندنا علم بوجود تكليف زائد على المعلوم بالإجمال الصغير في باقي الأخبار وسائر الأمارات؛ لاحتمال اتفاق مضمون سائر الأمارات المطابقة للواقع مع الأخبار الصادرة، وأمّا ما ليس متفقاً معها فلا يعلم إجمالاً بوجود ما يطابق الواقع فيه.

وعليه: ينحل العلم الإجمالي، لعدم زيادة المعلوم بالإجمال الكبير على المعلوم بالإجمال الصغير.

قال في المنتقى: «فتطبيق ضابط عدم الانحلال(1) - فيما نحن فيه - ناشئ من الخلط بين العلم بمطابقة بعض الأمارات، وباقي الأخبار للواقع(2)، وبين العلم بثبوت تكليف زائد بينها(3) على المقدار المعلوم بالإجمال بين الأخبار»(4).

فبعد العزل والضم لا يعلم بوجود تكليف جديد بين باقي الأخبار، وسائر الأمارات الظنية زيادة على ما تنجز في ذمة المكلف بالعلم الإجمالي الصغير، وعمل المكلف بمقتضاها، بل هو شك بدوي مجراه البراءة.

إذن، المعلوم بالإجمال الكبير محتمل الانطباق على المعلوم بالإجمال

ص: 25


1- وهو ما صنعه الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) .
2- حيث نعلم بوجود ما يطابق الواقع في بقية الأخبار بعد عزل المقدار المعلوم بالإجمال وسائر الأمارات الظنية وهو وجداني.
3- بين باقي الأخبار وسائر الأمارات.
4- منتقى الأصول 4: 314.

الصغير، فينحل العلم الإجمالي الكبير.

وقال في النهاية: «إنَّ احتمال انطباق مورد العلم الإجمالي الكبير على مورد العلم الإجمالي الصغير يوجب قصور العلم الإجمالي الكبير عن تعلقه بتكاليف فعلية، زيادة على ما في مؤديات الروايات، فهو من قبيل ما لو علم بوجود غنم موطوء في قطيع الغنم، وبوجود غنم مغصوب في ذلك القطيع، مع احتمال أنْ يكون المغصوب هو الموطوء، فلو علم تفصيلاً(1)

ذلك الموطوء لم يبق إلا احتمال المغصوب فيما عداه»(2).

فدعوى صاحب الكفاية - في الكفاية والحاشية - انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى العلم الإجمالي الصغير تامة.

يبقى الكلام في نقطتين: إحداهما بنائية، والأخرى مبنائية:

أمّا البحث المبنائي فهو: هل كبرى انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى العلم الإجمالي الصغير في أمثال المقام تامة؟

أنكر ذلك جمع من المحققين منهم المحقق النائيني، وسيأتي بحثه في مباحث البراءة إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا البحث البنائي فهو: هل عندنا علم إجمالي بأنَّ بعض المتبقي بعد العزلين - أي بعد عزل مقدار المعلوم بالإجمال من دائرة الإجمال الصغير، وعزل ما يطابقها في المحتوى في دائرة العلم الإجمالي الكبير- مطابق للواقع؟

ص: 26


1- أو إجمالاً حيث لا فرق بينهما.
2- نهاية الدراية 2: 239.

وبعبارة واضحة: هل عندنا علم إجمالي بأنَّ بعض الأمارات المتبقية بعد العزلين التي لا توجد رواية في موردها، مطابقة للواقع وفيها تكليف إلزامي؟

فإنْ كان هنالك علم إجمالي فمدعى الشيخ الأعظم - من وجوب الاحتياط في جميع الأمارات الظنية ؛ لعدم انحلال العلم الإجمالي؛ لزيادة المعلوم بالإجمال الكبير على المعلوم بالإجمال الصغير- تام.

لكن الأعلام اختاروا عدم وجود العلم الإجمالي: قال في النهاية: «ولا أظن أنْ يوجب الضم علماً إجمالياً - زائداً على المعلوم بالإجمال الصغير - كما يدعيه الشيخ الأجل»(1).

وقال في المنتقى: «كلام الكفاية يخرج من مجرد الدعوى إلى كلام رصين متين»(2).

وقال في المصباح: «ليس لنا علم إجمالي بمطابقة الأمارات غير المعتبرة للواقع، فيما لم يكن مطابقاً للأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة»(3).

وقال في الدرر: «يمكن منع العلم زائداً على ما حصل لنا في الأخبار الصادرة» (4)، أي أن التكليف المغاير لا يتعلق به علم إجمالي.

وقال في أجود التقريرات(5): «إنَّ هذه الدعوى - وجود علم إجمالي

ص: 27


1- نهاية الدراية 2: 239.
2- منتقى الأصول 4: 313.
3- مصباح الأصول 2: 206.
4- درر الفوائد 2: 396.
5- أجود التقريرات 2: 119.

بمطابقة بعض الأمارات للواقع - لا تخلو من بُعد».

وقال في المحكم: «لا طريق لإحراز وجود التكاليف في موارد بقية الطرق لا تدل عليها الأخبار»(1).

فاتفق الأعلام على القول بعدم وجود العلم الإجمالي.

ولكن المسألة بحاجة إلى تأمّل أكثر، فهل يحتمل أنْ يكون كل ما تبقى من الإجماعات والشهرات وغيرها مخالفاً للواقع، ألا يوجد علم إجمالي بمطابقة بعضها التي لا يوجد بمضمونها الخبر للواقع؟

قال بعض المعاصرين عن السيد البروجردي: إنَّ في الفقه تسعين مسألة مسلمة، تلقاها الأصحاب قديماً وحديثاً بالقبول، ولا دليل على هذه المسائل إلا الشهرة الفتوائية، فلا توجد رواية أصلاً.

وقال: من المؤسف أنَّ السيد البروجردي لم يعين تلك المسائل، واحتمل أنْ يكون الكثير منها متعلقاً بباب الفرائض، وقد مرّ في الشهرة البحث فيه.

إنْ تمّ هذا الكلام أفهل يحتمل أنْ تكون كل هذه المسائل مخالفة للواقع، أو يعلم بموافقة بعضها له؟

فإنْ تمَّ وجود علم إجمالي - وراء العلم الإجمالي الصغير، وما يطابقه من دائرة العلم الإجمالي الكبير- بمطابقة المتبقي للواقع، فكلام الشيخ تام، ولا ينحل العلم الإجمالي، ويجب الاحتياط في دائرة العلم الإجمالي الكبير، كما وجب الاحتياط في دائرة العلم الإجمالي الصغير.

ص: 28


1- المحكم في أصول الفقه 3: 285.
الإشكال الثاني

ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (1)، قال: ليس مقتضى العلم الإجمالي العمل بكل خبر ظن بصدوره، وإنَّما مقتضاه العمل بكل خبر ظن بمطابقة مؤداه للواقع، والنسبة بينهما العموم من وجه.

فيمكن أنْ يكون الخبر مظنون الصدور ولا يكون مظنون المطابقة للواقع، كهذه الرواية: «سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن المسح على الرأس، فقال: كأني انظر إلى عكنة(2) في قفا أبي يمر عليها يده، وسألته عن الوضوء يمسح الرأس مقدمه ومؤخره، قال: كأني انظر إلى عكنة في رقبة أبي يمسح عليها»(3).

فمع أنَّ الخبر مظنون الصدور، إلا أنَّهُ ليس مظنون المطابقة للواقع؛ لاحتمال كونه تقية.

وفي رواية النورة باب التخلي صرح بعض العلماء بأنَّ الخبر صحيح، ولكن مضمونه ينادي بكذبه، فالقرائن الخارجية تدل على عدم مطابقة المضمون للواقع.

ويمكن أنْ يكون الخبر مظنون المطابقة للواقع، ولا يكون مظنون الصدور، كخبر رواه كذاب كسمرة، ولكن عمل المشهور بمضمونه لا بنفسه، أي الشهرة الفتوائية لا العملية، فالخبر مظنون المطابقة للواقع؛ لعمل

ص: 29


1- فرائد الأصول 1: 357.
2- العكنة: ما انطوى وتثنى من لحم، جمعها عكن وأعكان.
3- تهذيب الأحكام 1: 91.

المشهور، ولكن نفس الخبر لا يكون مظنون الصدور.

وعليه: فالنسبة بينهما عموم من وجه.

ولا بد أنْ يكون مقتضى العلم الإجمالي المذكور العمل بكل خبر ظن بمضمونه، لا كل خبر ظن بصدوره.

ووجه كلام الشيخ (رحمه اللّه) : إنًّهُ لا وجوب نفسي للعمل بالأخبار، وإنَّما هو وجوب مقدمي؛ لامتثال الأحكام الإلهية الواقعية، فالملاك العلم بوجود تكاليف إلهية واقعية، فإنْ تمكنا من تحصيل الأحكام الواقعية عن طريق العلم يجب علينا ذلك بمقتضى العلم الإجمالي، وإلا فنتنزل إلى التحصيل الظني للأحكام الواقعية.

وعليه، فالملاك هو العمل بكل خبر ظن بمطابقة مضمونه للواقع.

وأشكل عليه صاحب الكفاية في الحاشية(1): لا وجه للعمل بكل خبر ظن بصدوره أو بمضمونه، فليس الظن بالصدور ملاكاً كما قاله المستدل، ولا الظن بالمضمون كما قاله الشيخ الأعظم، وإنَّما مقتضى العلم الإجمالي العمل بكل خبر، سواء أثبت الخبر تكليفاً أم نفى تكليفاً - على تفصيل ذكره في الخبر النافي - إلا أنْ يصل الأمر إلى حد الضرر والحرج أو نظائرهما، فمقتضى العلم الإجمالي العمل بالخبر حتى لو لم يكن مظنون الصدور؛ للعلم بوجود أحكام إلهية في ضمن هذه المجموعة من الأخبار.

وقال أيضاً(2): ولذا أضرب الشيخ ب- (بل) حيث قال في الرسائل: بل ربما

ص: 30


1- درر الفوائد 1: 125.
2- درر الفوائد 1: 125.

يدعى وجوب العمل بكل خبر منها مع عدم المعارض.

وإشكاله في الحاشية متين، ولكنه يحتاج إلى مكمل، وهو: يجب العمل بكل خبر مع إدراج المظنون.

فلو كان مجموع الأخبار مائة، ومجموع المقدورات تسعين، ومجموع المظنونات ثمانين، فلا بد من درج المظنون في المقدور.

فإنَّ الحالة الأولية هي العمل بجميع أطراف العلم الإجمالي، وحيث لا يمكن فلا بد من العمل بتسعين منها، بأنْ ندرج الثمانين المظنونة بالإضافة إلى العشرة غير المظنونة في المقدورات، لا أنْ نعمل بعشرين موهوماً وسبعين مظنوناً؛ وذلك لقبح ترجيح المرجوح على الراجح؛ لأنَّ في العشرة يدور الأمر بين تحصيل الواقع ظناً أو وهماً.

وعلى أي حال، فكلام الحاشية وإضراب الشيخ لا إطلاق فيه من حيث وجوب العمل بكل خبر، إلا أنْ يوجد محذور خارجي.

الإشكال الثالث: ما ذكره الشيخ أيضاً(1) : المطلوب تأسيس حجّية الخبر الواحد، ومقتضى الوجه الأوّل العمل به من باب الاحتياط ومفهومه مغاير لمفهومها.

بيان ذلك: هنالك فروق بين القول بوجوب العمل بالخبر من باب الحجّية، وبين القول بوجوبه من باب الاحتياط، وهي:

الفرق الأوّل: إذا ورد خبر في قبال الأصول اللفظية، فإنْ كان حجّة أمكنه

ص: 31


1- فرائد الأصول 1: 360.

تخصيص العمومات وتقييد المطلقات، كتقييد قوله تعالى: {حَرَّمَ الرِّبَا}(1) بقوله (عليه السلام): «ليس بين الرجل وولده ربا»(2).

لكن لو عمل بالخبر من باب الاحتياط فلا ينهض أمام الأصول اللفظية للتقييد أو التخصيص.

فقوله(عليه السلام): «ليس بين الرجل وولده ربا» لا يخصص قوله تعالى: (حَرَّمَ الرِّبا)؛ لعدم حجّيته، لأنّه إنّما يعمل به من باب الاحتياط، لكنه مخالف للاحتياط، فلا يمكن أنْ يقال اعملوا بالخبر الذي مفاده مخالف للاحتياط احتياطاً.

ويضاف إلى ذلك أن المفاهيم والعمومات والمطلقات حجّة، وهي في رتبة الأدلة الاجتهادية، والاحتياط في رتبة الأصول العملية، فيكون محكوماً أو موروداً للأدلة الاجتهادية، ولا يصلح للقيام في قبالها.

وهكذا لو كان العموم ترخيصياً، كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيعَ}(3)، ومفاد الخبر بطلان بيع الكالي بالكالي، فلا يمكنه - أيضاً - تخصيص العموم القرآني؛ لأنَّ العمل به من باب الاحتياط، وهو محكوم أو مورود بجميع الأدلة الاجتهادية، والإطلاق والعموم دليل اجتهادي، فلا تدع مجالاً للاحتياط.

لكن السيد الخوئي علل ذلك بالعلم الإجمالي - و لعله يظهر من بعض

ص: 32


1- البقرة: 275.
2- الكافي 5: 147.
3- البقرة: 275.

المعاصرين أيضاً - قال(1):

للعلم الإجمالي بإرادة العموم في بعض العمومات والإطلاقات، وهو يقتضي الاحتياط.

إنْ قُلت: نعلم إجمالاً بصدور بعض الأخبار المخصصة والمقيدة أيضاً.

قُلنا: لا أثر لهذا العلم الإجمالي، لكون متعلقه حكماً غير إلزامي، كما هو المفروض في المقام، كعلمنا بأنَّ أحد الإناءين المشتبهين طاهر.

ولكنه لا يخلو من نظر؛ لإمكان دعوى عدم العلم الإجمالي بوجود عموم يشمل موارد الأخبار المتضمنة للأحكام غير الإلزامية؛ وذلك لاحتمال أنْ تكون جميع الأخبار المخصصة صادرة ومطابقة للواقع، فالعمومات والإطلاقات لا يراد منها ما يشمل موارد تلك الأخبار. وعليه، ففي هذه الموارد التي تضمنتها الأخبار المقيدة والمخصصة لا علم إجمالي بوجود عموم تعلقت به الإرادة الجدية، فلا مجال لهذا الاستدلال.

فالأولى في تقريب التقديم أنْ يقال بما قاله بعض المحققين(2): إن العام أو المطلق حجّة في مدلوله، ولا ترفع اليد عنهما إلا مع قيام حجّة أقوى على الخلاف، وإنّما يؤخذ بأطراف العلم الإجمالي في الأخبار من باب العلم الإجمالي، لا من باب الحجّية حتى تقدم على العمومات من باب تقديم أقوى الحجتين، فيكون المرجع أصالة الإطلاق والعموم.

الإشكال الثالث: تقديم الأصول العملية المثبتة للتكليف على الأخبار

إنَّ الأخبار لا تتمكن من القيام حتى في قبال الأصول العملية المثبتة

ص: 33


1- مصباح الأصول 2: 210.
2- دراسات في علم الأصول 3: 196؛ مصباح الأصول 2: 210.

للتكليف، كما لو كان مقتضى الأصل العملي بقاء نجاسة الماء المتغير بعد زوال التغير، فلو فرض ورود خبر بالطهارة لا يمكن العمل به، لكونه مخالفاً للاحتياط، وقد عمل بالخبر من باب الاحتياط، وتكون النتيجة إلغاء أكثر الأخبار عن دائرة العمل.

وحاصل الإشكال الثالث، إنه توجد هنا دعويان:

الأولى: إنْ كان في قبال الخبر دليل اجتهادي - سواء أكان عموماً أم إطلاقاً أم مفهوماً - فيكون هو المحكم، ولا يعمل بالخبر لحكومة الأدلة الاجتهادية أو ورودها على الاحتياط؛ لأنَّ موضوعه الضرر المحتمل فدفعه واجب، ومع وجود الدليل الاجتهادي لا يحتمل الضرر لوجود المؤمن.

الثانية: إنْ كان هنالك أصل عملي مثبت للتكليف، وكان الخبر نافياً للتكليف، فيلزم العمل بالأصل العملي لا بالخبر النافي؛ لأنَّ العمل بالخبر من باب الاحتياط، ولا احتياط في العمل بالخبر النافي.

مثلاً: لو شك أنَّ وظيفته الإتمام أو القصر، فمقتضى قاعدة الاشتغال الجمع، ومقتضى الخبر عدم وجوب الإتمام.

وحينئذ، يظهر الفرق بين مسلك الحجّية ومسلك الاحتياط، فعلى مسلك الحجّية ينحل العلم الإجمالي، لأنَّ الدليل التعبدي - أي الخبر- قام على نفي أحد طرفي العلم الإجمالي.

وعلى مسلك الاحتياط يكون العمل بالخبر النافي مخالفاً للاحتياط، فلا يحق العمل به، وتكون قاعدة الاشتغال محكمة، فيجب الجمع بين طرفي العلم الإجمالي.

ص: 34

مثال آخر: لو شك في طهارة الماء القليل النجس المتمم كراً بطاهر، فمقتضى الأصل العملي النجاسة، ومقتضى الخبر الطهارة، كقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إذا بلغ الماء كراً لم يحمل خبثاً»(1)، بناء على شموله للدفع والرفع، فالخبر ناف للتكليف، ولا معنى للعمل به احتياطاً، بل هو مخالف للاحتياط، فاستصحاب بقاء النجاسة محكم.

وأُشكل على الدعوى الأولى: بأنَّ المرجع تارة هو العام والمطلق، وتارة هو المخصص والمقيد، وتارة يتخير المكلف فيما بينهما، فإطلاق الدعوى الأولى - أي كون المرجع الأدلة الاجتهادية في قبال الخبر مطلقاً - محلّ نظر.

وبيانه: الأقسام ثلاثة:

الأوّل:أنْ يكون العام حكماً إلزامياً، والخاص حكماً غير إلزامي، كما في قوله تعالى: {حَرَّمَ الرِّبَا} وقوله (عليه السلام): «ليس بين الرجل وولده ربا» فالمرجع عموم العام، لا الخبر الترخيصي ؛ للعلم الإجمالي بإرادة العموم في بعضها، وذلك مقتضٍ للاحتياط، حيث يعلم إجمالا بأنَّ المراد من بعض العمومات الإلزامية العموم، ومقتضاه الاحتياط في جميعها.

إنْ قُلت: يوجد في قبال هذا العلم الإجمالي علم إجمالي آخر، وهو العلم إجمالاً بورود تخصيصات ترخيصية على هذه العمومات.

قُلت: لا أثر للعلم الإجمالي المتعلق بالترخيص، فإنَّ العلم الإجمالي إنّما يكون مؤثراً لو تعلق بالتنجيز.

فلو علم بنجاسة أحد الإناءين فيعلم إجمالاً بطهارة أحدهما، ولا أثر

ص: 35


1- مستدرك الوسائل 1: 198.

للعلم بالطهارة، بل الأثر للعلم بالنجاسة؛ ولذلك يجب الاجتناب عن كليهما.

فالقول بتحقق العلم بورود تخصيصات ترخيصية للعمومات لا أثر له.

الثاني: عكسه بأنْ يكون العام حكماً ترخيصياً، والخاص حكماً إلزامياً، كما في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيعَ}، وقوله: «نهى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن بيع الغرر»(1)، فالمحكم الخبر - خلافاً لما ذهب إليه الشيخ الأعظم من العمل بالدليل الاجتهادي في قبال الخبر- وذلك للعلم الإجمالي بوجود تخصيصات وتقييدات إلزامية للمطلقات والعمومات الاجتهادية، ومقتضاه العمل بجميع الأخبار المقيدة والمخصصة.

الثالث: أنْ يكون مفاد كل من العام والمطلق، وكذلك الخبر في قبالهما الحكم الإلزامي، كما لو ثبت بالتواتر قول المولى: (أكرم العلماء)، وورد في الخبر الواحد: (لا تكرم العالم الفاسق)، فمثل الشلمغاني واقع في طرفي العلم الإجمالي المتضاد، فمن جهة نعلم بوجود عمومات تنجيزية يلزم العمل بتمامها، فيلزم إكرامه، ومن جهة أخرى نعلم إجمالاً بوجود مخصصات ومقيدات تنجيزية، ومقتضاها العمل بتمامها، فيلزم عدم إكرامه، فالشلمغاني طرف للعلمين الإجماليين المتضادين، وحيث لا ترجيح فتصل النوبة إلى التخيير بين العمل بالدليل الاجتهادي، وبين العمل بالخبر الذي في قباله.

وعليه: لا إطلاق لدعوى الشيخ.

وأشكل على الدعوى الثانية بعدم الإطلاق؛ لأنَّ الأصل المثبت للتكليف تارة يكون من الأصول التي لا تحرز الواقع، وتارة يكون من الأصول

ص: 36


1- دعائم الإسلام 2: 21.

المحرزة، فإنْ لم يكن الأصل العملي المثبت محرزاً - كقاعدة الاشتغال - فهو مقدم على الخبر النافي، كما قاله الشيخ.

أمّا لو كان الأصل محرزاً للواقع كالاستصحاب ففيه مبنيان: فعلى مبنى الشيخ والمحقق النائيني عدم جريانه فيما لو كان مثبتاً للتكليف، وتحقق العلم الإجمالي بالخلاف في بعض الأطراف؛ وذلك للزوم التناقض في الصدر والذيل في أدلة الاستصحاب.

مثلاً: لو كان عندنا إناءان نجسان، وعلمنا بنزول المطر على أحدهما، فلا يمكن استصحاب نجاستهما، لتعارض الصدر والذيل في أدلة (لا تنقض)، فاستصحاب نجاسة الإناءين معارض لقوله: (بيقين آخر)، المطلق الشامل لليقين الإجمالي والتفصيلي، وقد علمنا إجمالاً بطهارة أحدهما.

وعلى مبنى صاحب الكفاية لا مانع من جريان كلا الاستصحابين ما لم يؤد إلى المخالفة العملية القطعية للواقع، وأثر استصحاب نجاسة الإناءين التجنب عن كليهما، بخلاف استصحاب طهارة الإناءين؛ فإنَّ استصحابهما يؤدي إلى المخالفة العملية القطعية للواقع.

وعلى المبنى الأوّل لو كان الأصل العملي مثبتاً للتكليف - كاستصحاب نجاسة الماء المتمم كراً - لا بد وأنْ يكون المحكم الخبر لا الأصل المثبت للتكليف، لأنّا نعلم إجمالاً بأنَّ الاستصحابات المثبتة للتكليف في الشبهات الحكمية منقوضة، وهي كثيرة وهي بالمئات، ففي أوّل البعثة لم يحرم الكثير من المحرمات - كأكل الطعام المحترق - فنشك هل طرأ عليها التحريم أم لا؟ فنعلم إجمالاً بنقض بعض هذه الاستصحابات المثبتة قطعاً بالأدلة التي رفعت

ص: 37

الحكم المستصحب، فلا يجري الاستصحاب في جميع أطراف الشبهات الحكمية؛ للزوم التناقض بين الصدر والذيل، فلا بدَّ من العمل بالخبر.

فقول الشيخ المرجع استصحاب المثبت لا الخبر النافي لا إطلاق له.

لكن هذا الإشكال خروج موضوعي عن مفروض الشيخ الأعظم؛ لأنَّ مفروضه: كون المرجع الخبر النافي فيما إذا كان في مقابله أصل مثبت، ومفاد هذا الإشكال عدم وجود الأصل المثبت، فلا تعارض.

الفرق الثاني: ما ذكر بعض المعاصرين وقريب منه ما في المصباح(1): إنَّهُ على مبنى حجّية الأخبار يصح إسناد مؤدياتها إلى المولى بمقتضى قوله(عليه السلام): فما أديا إليك عني فعني يؤديان، وأمّا على مبنى العمل بالأخبار للعلم الإجمالي فلا يصح الإسناد إلى المولى؛ لعدم ثبوت صدور المؤدى عن المولى حتى يسند إليه.

الفرق الثالث: على مبنى حجّية الأخبار بالخصوص يكون لوازم الأخبار ومثبتاتها حجّة؛ لحجّية مثبتات الأدلة الاجتهادية، أو حجّية مثبتات خصوص الأخبار من مجموع الأدلة الاجتهادية على اختلاف المبنيين.

أمّا على مبنى العلم الإجمالي فلا تكون مثبتات الأخبار الواردة ولوازمها العقلية والعرفية والعادية وآثار لوازمها حجّة.

ولكنّه محلّ تأملّ؛ للعلم الإجمالي بثبوت اللوازم، فإنَّ العلم إجمالاً بثبوت الملزومات يستلزم العلم إجمالاً بثبوت اللوازم، فلو كان في اللوازم أو آثارها حكم إلزامي، فيكون معلوماً بالعلم الإجمالي، فيكون منجزاً

ص: 38


1- مصباح الأصول 2: 208.

لجميع الآثار.

هذا تمام الكلام في التقريب الأوّل.

التقريب الثاني: القطع بالمخالفة في العبادات بترك العمل بأخبار الآحاد

ما ذكره الفاضل التوني في الوافية(1)، وهو منحل إلى مطلبين:

الأوّل: إننا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، وخاصة في الأصول الضرورية في العبادات والمعاملات، كالصلاة والبيع.

الثاني: إنَّ معظم شرائط العبادات والمعاملات وأجزائها وموانعها وقواطعها ثابتة بأخبار الآحاد، فلو تركنا أخبار الآحاد نقطع بخروج هذه الأمور عن حقيقتها.

قال: «ومن أنكر ذلك فإنّما ينكره باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان»(2).

ومقتضاهما العمل بجميع الأخبار، للعلم الإجمالي بوجود الأجزاء والشرائط والموانع والقواطع فيها، ونحن مكلفون بالعمل بها.

فمثلاً: لو ذهب إلى الحج من دون الاعتماد على الشرائط والموانع والأجزاء المذكورة في أخبار الآحاد، فلا يكون حجّاً قطعاً، وهكذا الصلاة التي لا تؤخذ من أخبار الآحاد.

فالاقتصار على كتاب اللّه(3)

من دون الرجوع إلى المفسرين والروايات،

ص: 39


1- ومدعاه حجية الأخبار بشرطين: الأول: أن يكون الخبر في الكتب المعتمدة للشيعة، كالكتب الأربعة. الثاني: أن يعمل به جمع من غير رد ظاهر، بأن لا يكون مهجوراً أو معرضاً عنه أو مردوداً.
2- الوافية: 159.
3- كما قال الثاني: حسبنا كتاب اللّه (منه (رحمه اللّه) ).

يستلزم خروج الصلاة عن الصلاة المتعارفة إلى نوع من أنواع الدعاء المجرد.

هذا بالإضافة إلى قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكْرَ لِتُبَينَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِمْ}(1)، وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}(2).

وعليه: يجب العمل بتمام هذه الأخبار.

وأورد عليه الشيخ الأعظم بإيرادين:

الأوّل(3): ليس العلم الإجمالي خاصاً بالأخبار المشروطة بما ذكره من الشرطين، بل هو في جميع الأخبار، ومقتضاه العمل بكل خبر مروي، فإنْ لم يمكن فلابد من العمل بكل خبر ظن بصدوره.

وهذا الكلام من الشيخ مخالف لما سبق منه من كون الملاك الظن بالمضمون لا الظن بالصدور.

وأشكل عليه في الكفاية: بانحلال العلم الإجمالي، فإنَّ العلم الإجمالي الكبير الذي أطرافه جميع الأخبار منحل إلى العلم الإجمالي الصغير، وأطرافه الأخبار الواجدة للشرطين، ومع الانحلال لا يكون العلم الإجمالي الكبير منجزاً.

وأورد عليه بإيرادات ثلاثة(4) وقد أشار هو إلى بعضها:

ص: 40


1- النحل: 44.
2- الحشر: 7.
3- فرائد الأصول 1: 361.
4- كفاية الأصول: 305-306.

الأوّل: الانحلال موقوف على عدم كون المعلوم بالإجمال الكبير أوسع من المعلوم بالإجمال الصغير، وإلا لم ينحل العلم الإجمالي الكبير، كما لو علم بوجود عشر شياه مغصوبة في قطيع الشياه، ثم علم بوجود خمس مغصوبة في خصوص الشياه البيضاء، فالمعلوم بالإجمال الكبير أوسع من المعلوم بالإجمال الصغير، فمع العثور على الخمس في دائرة المعلوم بالإجمال الصغير لا ينحل العلم الإجمالي الكبير.

ويجاب عنه: إنّا لا نعلم وجداناً بأنَّ المعلوم بالإجمال الكبير أوسع من المعلوم بالإجمال الصغير. فهل بعد القطع بالشرائط والموانع في خصوص الكتب المعتبرة نعلم إجمالاً بوجود شرائط وموانع أُخرى في جميع الأخبار؟

وبعبارة أُخرى: لو كانت الشرائط والموانع في الكتب المعتبرة خمسة آلاف مثلاً، فهل العلم الإجمالي الكبير أوسع منه؟ لا يعلم ذلك.

وعليه، فينحل العلم الإجمالي الكبير لاحتمال انطباقه على المعلوم بالإجمال الصغير.

الثاني: سلمنا احتمال الانطباق، ولكن هنالك علم إجمالي صغير آخر بوجود بعض الأخبار المعتبرة في دائرة الأخبار الفاقدة للشرطين.

وبعبارة أُخرى: نعلم إجمالاً بصدور بعض الروايات الواردة في غير الكتب المعتبرة، حيث لا يحتمل أنْ تكون كلها مجعولة.

فتجتمع في المقام ثلاث علوم إجمالية: علم إجمالي كبير وأطرافه جميع الأخبار، وعلم إجمالي صغير دائرته خصوص الأخبار الواجدة للشرطين،

ص: 41

وعلم إجمالي صغير دائرته الكتب الفاقدة للشرطين.

ولا نحتمل - وجداناً - كون جميع الأخبار المعلومة بالعلم الإجمالي الصغير الثاني كاذبة، وهذا العلم الإجمالي منجز لتلك الأخبار، خاصة مع ملاحظة التقريب الأوّل الذي ذكره الشيخ، وقد ذكر (رحمه اللّه) تصفية كل الأخبار الكاذبة أو الكثير منها، واستدل لذلك بأدلة كثيرة.

ويجاب عنه: ليس ملاك التنجيز العلم بالصدور، وإنَّما الملاك العلم باحتوائها على الشروط والأجزاء غير ما احتوته الدائرة الأولى، فهل يعلم إجمالاً بوجود شرط أو مانع أو قاطع زائداً على ما في الدائرة الأولى؟ لا يعلم ذلك بالوجدان.

الثالث: لا يكفي احتمال انطباق المعلوم بالإجمال الكبير على المعلوم بالإجمال الصغير في الانحلال.

ويجاب عنه: إنَّهُ إشكال مبنائي، والمختار أنَّ احتمال الانطباق كاف.

فجميع الإشكالات الثلاثة على الكفاية غير واردة، فما ذهب إليه من الانحلال تامّ، وإيراد الشيخ الأعظم على الفاضل التوني محلّ تأملّ.

الإيراد الثاني: ما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) (1) وحاصله: كون الدليل أخصّ من المدعى؛ لأنَّ المدعى وجوب العمل بجميع الأخبار الواجدة للشرطين المذكورين، مع أنَّ مؤدى التقريب حجّية خصوص الأخبار المثبتة، فلا ينهض بإثبات حجّية الأخبار النافية؛ لأنَّ وجوب العمل بالأخبار نابع عن وجود العلم الإجمالي بوجود الشرائط والموانع فيها، وأطراف هذا العلم

ص: 42


1- فرائد الأصول 1: 363.

الإجمالي خصوص الأخبار المثبتة، أمّا الأخبار النافية - كنفي جزئية القنوت وعدم وجوب الطهارة في صلاة الميت - فليست طرف العلم الإجمالي، فيلزم القول بوجوب العمل بالأخبار المثبتة للشرائط ونحوها لا جميع الأخبار، وخصوصاً إذا كان المبنى الاشتغال فيما إذا شكّ في الشرطية والجزئية في الواجب الارتباطي، فالخبر النافي يريد القيام في قبال الأصل العملي، فما لا دليل على حجّيته يريد تخصيص أو تقييد الأصل العملي، الذي قام الدليل على حجّيته.

وأجاب عنه صاحب الكفاية(1) بعدم الإطلاق، فاللازم تقييد الجواب، قال: فإنَّ مقتضى الدليل المذكور حجّية الأخبار المثبتة التي لا تكون محكومة ولا مورودة بالأدلة الاجتهادية، وأمّا لو كان الخبر المثبت في مقابله إطلاق أو عموم أو مفهوم فلا يصلح الخبر لتقييد ذلك الإطلاق أو تخصيص ذلك العموم.

وسوق الكلام في كلام صاحب الكفاية يعلم ممّا تقدم.

هذا تمام الكلام في التقريب الثاني.

التقريب الثالث: وجوب العمل بالكتاب والسنة ثابت إلى يوم القيامة

ما ذكره الشيخ محمد تقي الإصفهاني في هداية المسترشدين(2)، والكلمات في تقرير مدعاه مختلفة وربما عبارته مبهمة.

لكن الظاهر أنَّ مراده وجوب العمل بالكتاب والسنة إلى يوم القيامة

ص: 43


1- كفاية الأصول: 306.
2- هداية المسترشدين3: 375.

ثابت بالإجماع والضرورة والأخبار المتواترة، كحديث الثقلين(1)، وقد رواه الخاصة والعامة، فيجب العمل بهما قطعاً، فإنْ تمكنا من تعيين مدلول الكتاب والسنة بالعلم والعلمي فبها، وإلا يتعين علينا - عقلاً - التنزل إلى تعيين مدلولهما بالظن المطلق، والأخبار الموجودة تبين لنا مدلول الكتاب والسنة، وتكشف عنه كشفاً ظنياً، فيتعين العمل بهذه الأخبار.

ويرد عليه: أوّلاً: ما ذكره الشيخ الأعظم(2): السنة اصطلاحاً قول المعصوم(عليه السلام) وفعله وتقريره، وعليه فالمراد بالسنة المحكي لا الحاكي، والأخبار في الكتب الأربعة حاكية عن السنة، ولا بدّ منْ أن يجري على المصطلح.

ومفاد كلامه: إنْ تمكنا من إحراز قول المعصوم (عليه السلام) وفعله وتقريره

بالكاشف العلمي أو العلم فيتعين، وإلا يجب علينا إحرازه بالكواشف الظنية، وهي لا تختص بأخبار الآحاد، وإنّما تعم سائر الكواشف الظنية، وعليه تكون الشهرة الفتوائية - مثلاً - حجّة لو كشفت كشفاً ظنياً عن قول المعصوم (عليه السلام).

والحاصل: إنَّ مفاد التقريب الثالث حجّية جميع الكواشف الظنية عن السنة، لا حجّية خصوص الخبر الواحد.

وأٌشكل عليه: بأنَّ مراده الحاكي لا المحكي، وجرى على خلاف

ص: 44


1- بصائر الدرجات: 433؛ المستدرك على الصحيحين 3: 109؛ سنن البيهقي 7: 30؛ معجم الطبراني 3: 66؛ كنز العمال 1: 186؛ مسند أحمد 3: 14.
2- فرائد الأصول 1: 365.

الاصطلاح، أي يجب العمل بالأخبار الحاكية.

وأجاب الشيخ(1): كيف يجب العمل بالأخبار التي لا نعلم بمطابقتها للواقع؟!

ومنشأ الوجوب لا يخلو من أُمور ثلاثة:

الأول: إمّا الإجماع والضرورة والأحاديث المتواترة لكنها لا تصلح للمنشئية؛ لأنّها قائمة على وجوب العمل بالمحكي لا الحاكي، ووجوب العمل بالحاكي محلّ خلاف.

الثاني: وإمّا العلم بصدور كثير من هذه الأخبار، ومقتضى العلم الإجمالي العمل بجميع الأخبار، وهذا مرجعه إلى التقريب الأوّل.

الثالث: وإمّا العلم بوجود أحكام واقعية كلفنا بها، ويجب علينا الخروج عن عهدتها ولا يتم الخروج عن عهدتها إلا بالعمل بهذه الأخبار.

وبعبارة أُخرى: هذه الأخبار تحتوي على الأحكام الواقعية، فيجب العمل بها مقدمة لامتثال الأحكام الواقعية، وهذا مرجعه إلى التقريب الرابع، وهو دليل الانسداد.

فما أتعب عليه نفسه الشريفة وأطال الكلام فيه لا يصلح أنْ يكون تقريباً مستقلاً.

لكن صاحب الكفاية(2) أشكل على إشكال الشيخ قائلاً: يمكن أنْ يكون منشأ الوجوب أمراً آخر غير العلم بالصدور، وغير العلم الإجمالي بالتكاليف

ص: 45


1- فرائد الأصول 1: 365.
2- كفاية الأصول: 307.

الواقعية، وهو العلم بالتكليف بالرجوع إلى هذه الروايات إلى يوم القيامة. فيصلح أنْ يكون دليلاً مستقلا.

ويرد عليه: من أين منشأ هذه الدعوى؟ فمنشأ العلم بوجوب الرجوع إلى هذه الأخبار، إمّا العلم بالصدور فهو الوجه الأوّل، وإمّا العلم بالتكاليف فمآله إلى الوجه الرابع، أو منشؤه الجعل الشرعي وهو أوّل الكلام.

فكلام الكفاية غير واضح ومنشأ دعوى العلم غير معلوم.

ثانياً: ما ذكره صاحب الكفاية(1)، قال: مقتضاه ليس الرجوع إلى الخبر المظنون، بل مقتضاه التدرج في مراحل ثلاث: الأولى: أنْ يؤخذ بما هو متيقن الاعتبار من الأخبار كالصحيح الأعلائي؛ لأنَّ كل إجماع و ضرورة له قدر متيقن يجب الأخذ به، فإنْ كان وافياً وعاملاً في انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف، باحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على الدائرة المتيقنة الاعتبار فبها، وإلا فالمرحلة الثانية، وهي الأخذ بالمتيقن بالإضافة إلى غيره، مثل خبر الثقات المتيقنة بالنسبة إلى الأخبار الضعيفة.

وربما يكون وجهه أنَّ للظنون مراتب، ولا تصل النوبة إلى المرحلة اللاحقة مع وجود المرحلة السابقة، فإنْ كان وافياً فبها، وإلا فالمرحلة الثالثة - وهي الأخذ بجميع الأخبار المثبتة للتكليف - بشرط أنْ لا تكون محكومة أو مورودة بالأدلة الاجتهادية، كالعمومات والإطلاقات.

فما ذكره صاحب الحاشية(2) من لزوم العمل بجميع الأخبار محلّ

ص: 46


1- كفاية الأصول: 307.
2- كفاية الأصول (المحشى) 3: 422.

إشكال، وإنّما يتعين العمل بالأخبار مع التدرج المذكور، والظاهر أنَّ الإشكال وارد.

ص: 47

حجية مطلق الظن

أدلة حجية مطلق الظن

اشارة

لإثباتِ حجية مطلق الظنون أقيمت أدلة:

الدليل الأول: مخالفة الظن مظنة للضرر

اشارة

إن في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي، أو التحريمي مظنة للضرر، وماهية هذا الضرر العقاب، ودفع الضرر المظنون واجب عقلاً. كما لو ظَنَّ بحرمة التتن، ففي شربه مظنة العقاب؛ لأن التكليف يلازم استحقاق العقاب، فالظن بالتكليف يلازم الظن باستحقاق العقاب.

والوقوع في الضرر تفويت للمصلحة الواقعية، ووقوع في المفسدة الواقعية أيضاً، بناءً على المشهور من كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية في متعلقاتها.

البحث في كبرى الدليل الأول
اشارة

وقد أشكل على كبرى الدليل الأول - أي كون دفع الضرر المظنون واجب بحكم العقل - بإشكالات:

الأول: ما ذكره الحاجبي(1): من إنكار الكبرى الكلية لقاعدة وجوب دفع الضرر المظنون، قال: «إن دفع الضرر المظنون - إذا قلنا بالتحسين والتقبيح

ص: 48


1- شرح مختصر الأصول: 163.

العقليين - احتياط مستحسن لا واجب»(1).

ومبنى الأشاعرة - ومنهم الحاجبي - على عدم الحسن والقبح العقليين، حيث لا حسن ولا قبح، ولا حكم بالوجوب، استناداً إلى التحسين العقلي، ولو فرض القول بالتحسين والتقبيح فدفع الضرر المظنون مستحسن لا واجب.

وأورد عليه الشيخ الأعظم بإيرادين:

الإيراد الأول: «إنّ الحكم المذكور حكم إلزامي أطبق العقلاء على الالتزام به في جميع أمورهم، وعلى ذم من يخالفه»(2).

ولذلك استدل به المتكلمون في وجوب شكر المنعم، الذي هو مبنى (وجوب معرفة اللّه تعالى).

فوجوب معرفة اللّه مبني على وجوب شكر المنعم، ووجوب شكر المنعم مبني على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل(3).

وعن الشيخ (رحمه اللّه) (4) أنه يجب النظر في دعوى مدعي النبوة؛ لاحتمال كونه نبياً واقعاً، وفي مخالفته ضرر مظنون أو محتمل.

ولو لم يجب دفع الضرر بحكم العقل لزم إفحام الأنبياء(عليهم السلام)، وعدم في

ص: 49


1- فرائد الأصول 1: 368.
2- فرائد الأصول 1: 368.
3- لكن في كلا شقي كلام الشيخ إشكال، فلا يبتني وجوب معرفة اللّه على وجوب شكر المنعم فقط، بل هنالك مبانٍ أخرى، وكذا وجوب شكر المنعم ليس مبنياً على وجوب دفع الضرر المحتمل، بل هنالك مبانِ أخرى، تفصيلها في علم العقائد (منه (رحمه اللّه) ).
4- فرائد الاصول 2: 416.

دعواهم وما يدعونه من المعجزات. وعليه، فدفع الضرر المظنون واجب عقلاً، لا أنه مستحسن.

بل الأقوى تبعا للشيخ(1) والسيد(2) وجوب دفع الضرر المحتمل لا الضرر المظنون فقط. كما سَلَّم به الكثير من الفقهاء والأصوليين، وله آثار كثيرةٌ في الفقه والأصول.

قال المحقق القمي في الغنائم: «مع أنها معارضة بالعقل القاطع من وجوب دفع الضرر المظنون»(3).

وقال الشيخ: «إنّ الإضرار بالنفس كالإضرار بالغير محرم بالأدلة العقلية والنقلية»(4).

وقال السيد السبزواري: «إنه لا يخفى على عاقل رجع إلى وجدانه»(5).

وقال في المنتقى: «العاقل لا يقدم على مظنون الضرر»(6).

وقال في الكفاية: «أطبق العقلاء عليه»(7).

وقال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «إن الضرر على نحوين: ضرر دنيوي وضرر أخروي، وكلا الضررين مما يحكم العقل بوجوب دفعه، ثم إن احتمال كل

ص: 50


1- العدة في أصول الفقه 2: 741-743.
2- غنية النزوع: 223.
3- غنائم الأيام 1: 328.
4- رسائل فقهية: 116.
5- مهذب الأحكام 23: 176.
6- منتقى الأصول 4: 321.
7- كفاية الأصول: 308.

من الضررين أيضاً مما يحكم العقل بدفعه، ولكن الأضرار الدنيوية قد تبلغ حد الهلاك، فيكون الحكم آكد، وما يرى من عدم إيجاب العقلاء لدفع الضرر اليسير المحتمل فإنما هو لتكافئه مع احتمال النفع الكثير أو المساوي كما لا يخفى»(1).

ولكن في كلية القاعدة تأمل فالضررُ نوعان: حقيرٌ وكبيرٌ، ولا نجد في وجداننا وجوب دفعه عقلاً فيما لو كان حقيراً، حتى لو كان مقطوعاً به، فكيف إذا كان مظنوناً أو محتملاً؟

فلو أقدم عاقلٌ على ضررٍ يسيرٍ من دون مسوغ أو مبرر، يشك في فعله محرماً عقلياً بحيث يذمه العقلاء على فعله ذماً بالغاً أكيداً، ويوجبون عليه عدم ذلك إيجاباً بالغاً أكيداً.

ويؤيده كلام جمع من الأعلام، فلا ننفرد في الشك في كلية هذه الكبرى الكلية.

قال المحقق النراقي: «وأما حكم العقل بوجوب دفع الضرر المظنون على القطع، فمع كونه في حيز المنع جداً...»(2).

وقال الشيخ البهائي: «فإن العقل قاضٍ بوجوب دفع الضرر المظنون الذي لا يسهلُ تحملهُ»(3).

وقال في المصباح: «بل يمكن أن يقال: إنه لا دليل على وجوب دفع

ص: 51


1- الفقه 1: 25.
2- مستند الشيعة 3: 378.
3- الحبل المتين: 83.

الضرر الدنيوي المتيقن، ولا سيما إذا كان فيه غرض عقلائي، فكيف بالضرر المظنون أو المحتمل. نعم، قد دل الدليل على حرمة الإضرار بالنفس في موارد خاصة»(1).

أقول: قد قيّده في المصباح بالضرر الدنيوي ولكن نضيف عليه: حتى الضرر الأخروي اليسير، ككثير من المكروهات وترك المستحبات، ففيها أضرار أخروية، فهل يحكم العقل بوجوب دفعها؟!

وأما قوله: «في موارد خاصة» فهو بحث شرعي لا عقلي، ويقتصر فيه على مورده.

وقال السيد العم (دام ظله): «الضرر إما بالغ كبير أو صغير حقير، وكل منهما دنيوي وأخروي، أما الضرر البالغ الكبير فلا شك أَن دَفعهُ لازم بالفطرة، سواء كان دنيوياً، كضرر القتل وقطع الأطراف وتلف ما يُملك، أم أخروياً، كضرر ارتكاب المحرمات الموجب لاستحقاق العقاب في الدار الآخرة.

وأما الضررُ الحقير اليسير فلا تُلزم الفطرة دفع المتيقن منه، فكيف بالمظنون منه أو المحتمل، سواء كان دنيوياً، كضرر نتفِ شعرة خفيفةِ أو قلع جلدة رقيقة، أم أخرويا كضرر سوء الحساب، الذي يخافه المُتقُّون في قوله تعالى: {وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ}(2) المفسر بالمداقة في الحساب؟ نعم، الفطرة والعقل والعقلاء بحسن دفعه»(3).

ص: 52


1- مصباح الأصول 2: 217-218.
2- الرعد: 21.
3- بيان الفقه 1: 10-11.

والحاصل: لو لم يكن للضرر اليسير مبرر عقلائي فإنما يحسن رفعهُ فحسب لا أنه يجب، ولم يظهر لنا حرمة ارتكابه على الاطلاق.

فما ذكره الشيخ الأعظم(1) من لزوم دفع الضرر المحتمل والمظنون على وجه الكلية محل تأمل.

نعم، لا تضرُ المناقشةُ في الكبرى فيما نحن فيه؛ لأن الضرر المحتمل في المقام - في مثال شربِ التتن مع قطع النظر عن الأجوبة القادمة - كبيرٌ؛ لأنه العقوبة الأخروية، وهو ضرر كبير يحكم العقل بوجوب دفعه قطعاً.

الإيراد الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم أيضاً: من عدم ابتناء وجوب أو حسن دفع الضرر المظنون أو المحتمل على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين.

قال: «لأن تحريم تعريض النفس للمهالك والمضار الدنيوية والأخروية مما دل عليه الكتاب والسنة»(2).

والظاهر أن مراده: إنهم وإن لم يسلموا بالتحسين والتقبيح العقليين، ولكنهم يسلمون بالتحسين والتقبيح الشرعيين، وأن القبيح ما قبحه الشارع والحسن ما حسنهُ الشارع. وقد نهى الشارع عن إلقاء النفس في معرض الضرر. كما قال تعالى: {أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(3). وهو يفيد النهي الشرعي عن العمل بخبر الفاسق؛ لاحتمال

ص: 53


1- فرائد الأصول 1: 368.
2- فرائد الأصول 1: 369.
3- الحجرات: 6.

مخالفة الواقع والوقوع في الندم

وقال سبحانه: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1). والمراد من الإلقاء في التهلكة المَعرضيِّة،كمن يلقي بنفسه من شاهق، فيصدق عليه الإلقاء في التهلكة مع احتمال عدم الهلاك.

وقال عز من قائل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(2).

وقد قال البعض(3): إن المراد منهما الدنيويان، وقال البعض الآخر: إنَّ الفتنة دنيوية، والعذاب أخرويٌ. مع أن الإصابة محتملة غير متيقنة.

وقال تبارك وتعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}(4).

وقولنا: اتق الشيء شامل للمعلومِ والمظنونِ والمحتملِ.

وقوله سبحانه: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ}(5). بنفس التقريب المتقدم.

وقال تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ}(6).

فلو أردنا تحصيل الأمن لوجب الاجتناب حتى عن المظنون والمحتمل!

ص: 54


1- البقرة: 195.
2- النور: 63.
3- فرائد الأصول 1: 369.
4- الأنفال: 25.
5- آل عمران: 28.
6- النحل: 45.

ولصاحب الكفاية كلامان:

الأول ذكر في الحاشية(1): أنَّ الآيات الكريمة لا تنهض للدلالة على مدعى الشيخ، لأنها بين ما ظاهرهُ التحذير عن الضرر المعلوم، وما ظاهره الإرشاد.

ولم يعين كونُ أيها لأيها؟ ولكن ربما مرادهُ، أن مثل قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(2) ظاهرهُ التهلكة المعلومة، يعني الانتحار القطعي، أما ما كان محتملاً فليس إلقاءً في التهلكة، وإنما إلقاءٌ للنفس في محتمل التهلكة.

وأما قوله تعالى: {أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(3) فظاهرهُ الإرشاد، فمن اعتمد على خبر الفاسق وقتل مؤمناً محقون الدم فعل حراماً واحداً لا حرامين، فلا يدل على الوجوب الشرعي لدفع الضرر المحتمل، وكذا قوله سبحانه: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ}(4)، فلو لم يحذر ووقع في الحرام الواقعي فهل فعل محرمين؟ كما لو اقتحم أطراف العلم الإجمالي.

فعدم التحذر ليس واجبا مولوياً.

فيمكن القول: إنّ هذه الأوامر ليست مولوية، وإنما إرشاد شرعي لكيلا يقع في مخالفة الأمر المولوي، والظاهر تمامية كلامه، ويكفينا أنها ليست

ص: 55


1- درر الفوائد 1: 128.
2- البقرة: 195.
3- الحجرات: 6.
4- آل عمران: 28.

ظاهرة في إنشاء حكم مولوي جديد.

الكلام الثاني كما في الكفاية(1): العقلُ مستقلٌ بدفع الضرر المظنون، وإن لم نقل بالتحسين والتقبيح؛ لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما، فإن العقل يدرك لزوم الفرار عن الضرر، ولذا أطبق عليه العقلاء مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح.

وربما مرادهُ: أن هنالك مفهومين:

1 - مفهوم الحسن والقبح العقلي، بمعنى ما يذم العقلاء على فعله وتركه، أو يمدحون على فعله وتركه، وهذا ما ينكره الأشاعرة.

2 - مفهوم الملاءمة والمنافرة مع العقل والفطرة، فهنالك أمور تلائمهما والعقلاء يلتزمون بها، وأمور تنافرهما والعقلاء لا يجوزون الإقدام عليها، كالأعمال السفهية، فالانتحار منافر للعقل والفطرة حتى لو لم يكن له قبح. فيحصل عندنا وجوب عقلي أو فطري بالمعنى الثاني.

والحاصل: ليس المدرك الوحيد لوجوب دفع الضرر المحتمل قاعدة الحسن والقبح العقلية، فحتى لو تم إنكارها فلا يمكن إنكار الملاءمة والمنافرة(2).

فما ذكره الحاجبي غير تام، إما للحسن والقبح العقليين، أو الحسن والقبح الشرعيين، أو الحكم بالوجوب العقلي الذي لا يبتني على الحسن

ص: 56


1- كفاية الأصول: 308.
2- أقول: بما أن المقصود إثبات الحكم العقلي بالوجوب والحرمة لإثبات حجية مطلق الظنون فلا يمكن ذلك لمجرد الملاءمة والمنافرة، فهل العقل يحكم بوجوب العمل بشيء لمجرد ملاءمته، أو بحرمة العمل بشيء لمجرد منافرته؟ في كليته تأمل (المقرر).

والقبح العقليين.

وأما الجواب الثاني من الدليل الأول فما ذكره صاحب الكفاية(1)

- وهو جواب صغروي- قال: لا نسلم الصغرى - أي ظنُ الضرر في مخالفة المجتهد لما ظنهُ من الوجوب والتحريم - لأن هذا الضرر لا يخلو من أحد أمرين: إما العقوبة وإما المفسدة.

البحث الأول: في العقوبة الأخروية

أما العقوبة فلعدم الملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة على المخالفة؛ لعدم الملازمة بين التكليف والعقوبة على المخالفة، فإن الملازمة في مرحلة الظن فرع التلازم في مرحلة الذات.

فإن كان بين ذاتي الشيئين ملازمة واقعية، فبين الظن بأحدهما والظن بالآخر ملازمة أيضاً، وهكذا في القطع والشك.

فالملازمة في حالات المكلف فرع التلازم الواقعي، ولا ملازمة بين التكليف وبين العقوبة على المخالفة، فإن التكليف له وجود واقعي وله وجود منجز، فإن كان التكليف واصلاً إلى المرحلة الرابعة - أي مرحلة التنجز - فالملازمة ثابتة بين التكليف المنجز واستحقاق العقوبة، ولذلك فالعلم والظن والشك بأحدهما يلازم العلم والظن والشك بالآخر، لكن لو لم يصل التكليف إلى مرحلة التنجز فلا ملازمة بين التكليف بوجوده الواقعي وبين العقوبة على مخالفته، ولذا لو شَرَبَ الخمرُ جاهلاً بالموضوع، فالتكليف الواقعي موجود ولا عقوبة. وعليه، فالظن بالتكليف ما لم يصل

ص: 57


1- كفاية الأصول: 308.

إلى مرحلة التنجز لا يلازم الظن بالعقوبة.

وفيما نحن فيه، المفروض عدم تحقق العلم والعلمي، فلا تنجز للتكليف، وإنما احتمل التكليف بالظن المطلق الذي لم يثبت اعتبارهُ.

وعليه، فالقول بحصول الظن بالعقوبة لمجرد مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم غير تام؛ لعدم التلازم في مرحلة الواقع، فلا تلازم في مرحة الظن أيضاً.

ولكنه تراجع عن هذا الجواب، فقال ما معناه(1): إلا أن يقال: إن العقل وإن لم يستقل بتنجز التكليف بمجرد الظن، إلا أنه يحتمل العقوبة حينئذ على مخالفة ذلك التكليف المظنون، فيظن بالتنجز، والظن بالتنجز ظن باستحقاق العقوبة، كما أن الشك كذلك، والعقل يحكم بوجوب دفع الضرر المشكوك كالمظنون.

وفيه تأمل؛ لأن موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو البيان الواصل.

فإن انتفى البيان الواصل فحكم العقل بالقبح قطعي، والمفروض أنه لم يصلنا الحكم بطريق معتبر، فيكون العقاب قبيحاً، ولا يصدر من الحكيم قطعاً، فينتفي العقاب قطعاً.

وقد سلم صاحب الكفاية في مباحث البراءة(2) بقاعدة قبح العقاب بلا بيان واصل.

ص: 58


1- كفاية الأصول: 309.
2- كفاية الأصول: 340.

والحاصل: إن كان المراد مظنة العقوبة فالجواب: إننا نقطع بعدم العقوبة وعدم استحقاقها؛ لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

البحث الثاني: في المفسدة

وأما أن يراد بالضررِ المفسدةُ، فما يستفاد من كلام المحقق الخراساني(1) في الكفاية(2) جوابان:

الأول: نمنع لزوم تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، بل قد تكون المصالح والمفاسد في نفس الجعل، فتستوفى تلك الملاكات بمجرد الجعل.

فالقول بمظنة المفسدة على مخالفة المجتهد لما ظنه إنما يتم بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، ولكن إن كانت ملاكات الأحكام في نفس الجعل فلا ضرر، ولا مفسدة دنيوية في المخالفة.

وقد يوجّه كلام الكفاية: بأن المقدار الثابت عندنا أن الأحكام الشرعية لا يمكن أن تكون نابعة عن الإرادة الجزافية، بل لابد من وجود الحكمة، وتتحقق الحكمة بوجود الملاك في الجعل، ولا يتوقف على وجود الملاك في المتعلق.

وقد تكرر هذا الكلام - أي عدم لزوم كون الملاكات في المتعلق، بل يمكن أن تكون في نفس الجعل - في الكفاية(3) في موارد متعددة.

ص: 59


1- تصريحاً أو تلويحاً أو احتمالاً لغموضه.
2- كفاية الأصول: 308-309.
3- كفاية الأصول: 402.

ولكنه قابل للتأمل عقلاً ونقلاً، كتاباً وسنةً.

أما وَجهُ التأمل نقلاً: فيمكن دعوى كون الآيات الكريمة والروايات الشريفة دالة على أن الأحكام تابعة لملاكات في متعلقاتها.

فمن الآيات الكريمة، قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}(1).

فقد أحل الشيء لأنه طيب واقعاً، فالملاك في المتعلق لا أن الملاك في ذات التشريع.

وقوله سبحانه: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}(2).

وقوله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}(3).

فالتحليل والتحريم تابعان للملاك في المتعلق.

وأما الروايات، فهي:

الأولى: عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «... ولكنه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم، فأحله لهم وأباحه تفضلاً منه عليهم به لمصلحتهم، وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرمه عليهم»(4).

الثانية: عن الإمام الرضا(عليه السلام): «إنا وجدنا كل ما أحل اللّه ففيه صلاح العباد وبقاؤهم، ولهم إليه الحاجة، ووجدنا المحرم من الأشياء لا حاجة

ص: 60


1- المائدة: 4.
2- المائدة: 5.
3- الأعراف: 157.
4- وسائل الشيعة 24: 99.

بالعباد إليه، ووجدناه مفسداً....»(1).

ويرد عليه إشكال سندي ودلالي:

أما الإشكال السندي: فقد ورد الحديث الأول بستة طرق مستقلة، حيث رواه الكليني بطريقين في الكافي(2)، والصدوق في الفقيه(3)، والأمالي(4)، والعلل(5)، والبرقي في المحاسن(6)، والعياشي في تفسيره(7)، والشيخ في التهذيب(8).

لكن كل هذه الطرق ضعيفة على المشهور، إلا على تمامية مبنى ضمان الكليني، وضمان الصدوق أو محتمل ضمان الشيخ.

وأما الحديث الثاني: فعن الصدوق(9) بسنده إلى ابن سنان، والكلام في وثاقة محمد بن سنان، فقد اختلفوا في وثاقته، حيث يرى البعض تعارض التوثيق والتضعيف فيه، بينما يرى آخرون وثاقته، ومع ذلك فإن طريق الصدوق إلى محمد بن سنان ضعيف في خصوص هذه الرواية، وإن كان صحيحاً في غيرها.

ص: 61


1- وسائل الشيعة 25: 51.
2- الكافي 1: 58، 3: 508.
3- من لا يحضره الفقيه 2: 309-345.
4- الأمالي: 763.
5- علل الشرائع 2: 369، 484.
6- المحاسن 2: 334.
7- تفسير العياشي 1: 291.
8- تهذيب الأحكام 9: 128.
9- علل الشرائع 2: 592.

وأما الإشكال الدلالي: فلا دلالة في الآيات والروايات على الحصر، حيث تدل الآيات على حلية كل طيب، وحرمة كل خبيث، ولا تدل على عكس الموجبة الكلية على نحو الكلية، فهل كل ما نهي عنه خبيث، وكل ما أمر به طيب؟ إلا أن يقال: بدلالة الآية الأولى(1) على ذلك، فلم يحل إلا الطيب، وظاهره الحصر، وكذا رواية محمد بن سنان صريحة في الحصر.

والحاصل: إن الآية الأولى تشعر بالحصر والرواية الثانية تدل على الحصر أيضاً، لكن يلزم تصحيح سندها.

وقد تتبعت كثيراً فلم أجد غير هاتين الروايتين، ولكن مجموع الروايات الواردة في علل الأحكام ربما تشعر بتبعية الأحكام لمصالح ومفاسد في متعلقاتها، وربما الروايات في ذلك بالمئات. ولكن المسألة بحاجة إلى تتبع وتأمل أكثر.

وأما وجهُ التأمل عقلاً: فلو فرض كون الملاك في الجعل - وليس هو في المتعلق - لكانت المتعلقات متساوية النسبة بالإضافة إلى الجاعل، ولا يكون في أحدها خصوصية معينة، ومآله إلى الترجيح بلا مرجح(2)، وهو محال، فلو أراد المولى امتحان العبد- ولم يكن له غرض في المتعلق أصلاً، كالأوامر الاعتبارية والاعتذارية - حتى يرى أنه مطيع أو لا، وذلك في

ص: 62


1- المائدة: 4.
2- قد يقال بوجود خصوصية في خصوص هذا الجعل، باعتبار المجعول له دون غيره، فمثلاً ينهى المولى العبد عن عمل يرغب فيه دون عمل آخر لا يرغب فيه، ليرى مدى طاعته مع عدم وجود ملاك في المتعلق، بل الملاك في صرف الجعل، إلا أنه باعتبار حالات المجعول له (المقرر).

المولى العرفي، أو أراد إظهار حقيقة العبد، وذلك في المولى الحقيقي، فلماذا قال: جئني بماء، ولم يقل جئني بخبز، والترجيح بلا مرجح محال؟!

إلا أن يقال بمبنى السيد الوالد(1) وكثير من المتكلمين(2) بإمكانه، وإنما المحال الترجح بلا مرجح، كرغيفي الجائع وطريقي الهارب.

أما على مبنى استحالة الترجيح بلا مرجح - لأنه يؤول إلى الترجح بلا مرجح، وواقع الترجيح هو الترجح كما اختاره جملة(3) - فالإشكال وارد، إلا أن يقال لابد من وجود خصوصية، والخصوصية لا تلازم المصلحة والمفسدة.

والحاصل: يوجد لدفع التأمل الثاني طريقان: الأول: عدم الإشكال في الترجيح بلا مرجح، الثاني: مفاد الدليل وجود الخصوصية، وهي لا تلازم المصلحة والمفسدة، فالدليل يفيد الخصوصية في المتعلق لا المصلحة فيه.

إن قلت: فلماذا أمر بهذا دون ذاك؟! قلنا: لوجوده دونه، فتأمل.

الجواب الثاني: سلمنا أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، لكنها لا تلازم الضرر والمفسدة الشخصية؛ وذلك لجهات ثلاث:

الأولى: إذ قد لا يكون هنالك ضرر ومفسدة شخصية في الفعل أصلاً، بل مجرد الحزازة والمنقصة فيه.

الثانية: وقد يكون المتحقق تفويت المصلحة، وهو ليس بضرر.

ص: 63


1- الوصائل 5: 219.
2- أجود التقريرات 1: 185؛ بحوث في علم الأصول 2: 36.
3- بدائع الأفكار: 54؛ درر الفوائد 1: 157؛ كفاية الأصول: 445.

الثالثة: ولو فرض كون المتحقق الضرر فيمكن أن يكون الضرر نوعياً لا شخصياً.

فالصغرى - أيضاً - على القول بالتبعية ممنوعة.

ولكنه محل تأمل بجهاته الثلاثة:

أما الأول: فكما أن العقل يأمر بدفع الضرر يأمر بدفع الحزازة والمنقصة، فلو فرض عدم الضرر في عقوق الوالدين، وعدم الفائدة في برّهما، لكنه خلاف الإنسانية ففيه الحزازة العظمى، وكما يأمر العقل بدفع الضرر الخطير يأمر بدفع الحزازة العظيمة، والشاهد هو الوجدان.

فالعقل يأمر بوجوب شكر المنعم لمن لم يشكرهُ مع فرض عدم تحقق الضرر في حقه أبداً لوعد اللّه إياه؛ لأن عدمه حزازة ومنقصة يُحرِّمهما العقل قطعاً؛ ولذا نرى أن وجوب شكر المنعم لا يبتني على قاعدة دفع الضرر المحتمل حتى وإن أمن مفادهُ احتمال الضرر.

وأما الثاني: فهنالك بحث في قاعدة لا ضرر، مفادهُ هل أن تفويت المصلحة مضرة أم لا؟ خاصةً في المصالح العظيمة. وبغض النظر عنه فإن العقل كما يحكم بدفع الضرر يحكم بقبح تفويت المصلحة العظيمة على الأقل، فلو لم يكن مؤمناً وفرض أنه لا يدخل النار ولا يدخل الجنة أيضاً، ويُحرَمُ من لذاتها، كما يحرم من نعمة القرب لله تبارك وتعالى، ألا يحكم العقل بجلب هذه المصلحة؟!

وأما الثالث: فهنالك أحكام شرعية فيها ضرر شخصي ومصلحة نوعية، كدفع الخمس والزكاة، وأحكام فيها مصلحة شخصية وضرر نوعي، كسرقة

ص: 64

مال الناس، والعقل كما يحكم بوجوب دفع الأضرار الشخصية يحكم بوجوب دفع الأضرار النوعية، فلو أراد رجل تفجير بلد لا يصلني منه ضرر شخصي، ألا يحكم العقل بدفع هذا الضرر؟

فقول المصباح: «ودعوى لزوم جلب المصلحة المظنونة، ولزوم دفع المفسدة النوعية المظنونة ساقطةٌ لا شاهد عليها»(1) محل تأمل.

فهل يحكم العقل أن أكون في أمان وليذهب كل البشر إلى الجحيم؟!

وعليه، لا فرق في الجملة بين دفع الضرر والحزازة، وبين تحقق المضرة أو تفويت المصلحة، وبين الضرر النوعي والشخصي.

ثم إنه أشار صاحب الكفاية إلى إشكال آخر لكنه لم يقبله.

والحاصل: إن احتمال كون الملاك في الجعل دون المتعلق لا يخلو من احتمال عكسه، كما أنّ إمكان كون الضرر نوعياً يدل على إمكان كونه شخصياً، وإمكان كونه تفويتاً للمصلحة معناه إمكان كونه جلب المفسدة، وكذا إمكان كونه حزازة معناه إمكان كونه مضرة، وقد ثبت أن دفع الضرر المظنون، بل المشكوك واجب، وهذا ضرر مشكوك؛ لاحتمال تحقق المفسدة الشخصية في المتعلق، والعجيب التهافت بين قوله: «ولا استقلال للعقل بقبح ما فيه احتمال مفسدة»(2).

وقوله: «ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك قريبة جداً»(3).

ص: 65


1- مصباح الأصول 2: 217.
2- كفاية الأصول: 310.
3- كفاية الأصول: 309.

فالأولى أن يقال في المفسدة: إن التأمين الشرعي - بقاعدة رفع ما لا يعلمون - أو العقلي - بقبح العقاب - يفيد عدم الإشكال في اقتحام المفسدة المحتملة في شرب التتن، إلا أن تكون المفسدة المحتملة عظمية لا تشملها أدلة البراءة العقلية والشرعية.

الدليل الثاني: ترجيح المرجوح على الراجح

إنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح.

فلو شَكَّ بين الثلاث والأربع وكان البناء على الأربع مظنوناً، والثلاث موهوماً، كان الأخذ بالموهوم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح.

ويرد عليه عدة إشكالات:

الأول: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) (1): لا نُسلَّم قبح ترجيح المرجوح على الراجح مطلقاً؛ إذ ليس قبيحاً مطلقاً، بل إنما يقبح لو لم يكن في طرف

الوهم جهة رجحان، ومصلحة تسهيل مهمة جداً.

وحاصله: المناقشة في كلية الكبرى.

ولكنه محل تأمَل؛ لأن مصلحة التسهيل إما أن تكون بحد الإلزام أو لا، فإن كانت بحد الإلزام فيخرج عن الكبرى الكلية خروجاً موضوعياً؛ لعدم ملاحظة الصفات الذاتية في الرجحان فقط، بل تلاحظ العوارضُ المكتَنِفَة أيضاً، فلو أجاز المولى الأكل المرجوح لعبده بمصلحة التسهيل أو غيرها، فالإجازة لا تكون من ترجيح المرجوح على الراجح؛ لإمكان كون المصلحة الطارئة متساوية مع مصلحة طرف الوهم فيتخير، فيكون من

ص: 66


1- الوصائل 4: 96.

ترجيح أحد المتساويين على الآخر، أو من ترجيح الموهوم الراجح بلحاظ العوارض الخارجية على المظنون الراجح لو خلّي وطبعهُ.

الإشكال الثاني: ما ذكره السيد الوالد أيضاً(1): لو سلَّمنا القبح فليس بالحد الملزم، كما لو ظن جودة البضاعة فاشترى الموهوم من محل آخر.

ولكنه محل تأمَل؛ لأن المفروضَ في المقام وجود الغرض اللزومي، أما لو لم يكن غرض لزومي - كما في المثال - فلا يهم ذلك، كما لو كان طريقان للمقصد، أحدهما: مظنون الجودة، والآخر: موهوم الجودة، وحيث لا غرض لزومي فترجيح المرجوح ليس قبيحاً إلى حد الحرمة، لكن لو كان هنالك غرض لزومي، كما في وجود إناءين في أحدهما سم واضطر لشرب أحدهما لخوف الهلاك، فالغرض اللزومي موجود، وترجيح المرجوح على الراجح قبيح.

الإشكال الثالث: ما ذُكر في الدليل إما أن يكون في مقام الإفتاء، أو يكون في مقام العمل. أما مقام الإفتاء فيجب التوقف، وعدم الإفتاء لا بالطرف المرجوح لا بالطرف الراجح، لأن الفتوى بغير العلم والعلمي حرام، قال اللّه سبحانه وتعالى: {أَتَقُولُونَ

عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(2)، حتى وإن ظن الفقيهُ بأن الحكم هو البناء على الأربع، إلا أنه مصداق ل- (لا تعلمون) فلا يحق له الفتوى بالمظنون.

أما مقام العمل، كأن يشك بين الثلاث والأربع ولا يعلم الوظيفة، فتمامية

ص: 67


1- الوصائل 4: 96.
2- الاعراف: 28.

الدليل الثاني موقوف على ضم مقدمات:

الأولى: وجود تكليف تنجيزي معلوم بالعلم الإجمالي، لكن لو لم يكن تكليفاً تنجيزياً فلا قبح في ترجيح المرجوح على الراجح.

الثانية: أن لا تقوم حجة على الطرف المرجوح، وأنْ لا تجري البراءةُ من الطرف الراجح، أما مع وجود الحجة أو قيام البراءة فلا قُبحَ.

الثالثة: أنْ لا يمكن الاحتياط عقلاً، أو لا يجب شرعاً، وأما لو أمكن الاحتياط فيجب الجمع بين المظنون والموهوم، كإناءي السم، حيث يجب الاجتناب عنهما.

ومع ضم المقدمات الثلاث يكونُ مآل هذا الدليل إلى الدليل الرابع، وهو دليل الانسداد، فلا يصلح أن يكون دليلاً في قبالهِ.

الدليل الثالث: وجوب الاحتياط بالمظنونات

ما نقل عن السيد الطباطبائي(1): إنه لا ريب في وجود محرمات وواجبات كثيرة بين المشتبهات، ومقتضى هذا العلم الإجمالي وجوب الاحتياط الكلي بالإتيان حتى بموهوم الوجوب، والاجتناب حتى عن موهوم الحرمة، ولكنه حرجي، فمقتضى الجمع بين قاعدة الاحتياط ونفي الحرج التبعيض، بأن يحتاط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات، لأن التبعيض على غير هذا الوجه - كأن يحتاط بالمشكوكات والموهومات دون المظنونات، أو يدخل بعض المشكوكات ويخرج بعض المظنونات - باطل إجماعاً.

ص: 68


1- كما حكي عن بحر الفوائد للمحقق الآشتياني أن الشيخ الأعظم نقله عن أستاذه شريف العلماء عن أستاذه السيد علي الطباطبائي صاحب الرياض (منه (رحمه اللّه) ).

ولا يبعد أن يكون إجماعاً مستنبطاً أو تقديرياً(1).

لكنه محل إشكال من جهتين:

الأولى: الحرج شخصي لا نوعي، ويتقدر بقدره، فتكون النتيجة وجوب العمل بما أمكنه، ففي الأواني المشتبهة لو كان الاجتناب عن الجميع حرجياً فهل يقتصر على المظنونات أم يعمل بما أمكنه، كأن يجتنب عن المظنونة والمشكوكة، وهو يختلف باختلاف الأشخاص، وقد ثبت أن هذه العناوين شخصية لا نوعية؟

الثانية: إنه لا يتم إلا بضميمة المقدمات الأخرى، منها عدم العلم أو العلمي، وإلاّ انحل العلم الإجمالي، ومنها عدم جواز إجراء البراءة في جميع المظنونات والمشكوكات والموهومات، ولو اُجريت حصل المؤمِّنُ الشرعي، فلا يتم الدليل إلا بضمْ بقية المقدمات، ونتيجتها دليل الانسداد، فلا يكون دليلاً مستقلاً.

الدليل الرابع: دليل الانسداد

اشارة

ويبتني على خمس مقدمات عند صاحب الكفاية(2)،

لو تمت لانتهى العقل - إما على نحو الكشف أو على نحو الحكومة - إلى حجية مطلق الظن، لكن الشيخ الأعظم(3) بناه على أربع مقدمات، وهي:

ص: 69


1- فلو عرضت المسألة على الفقهاء لأفتوا بتقديم الاحتياط في المظنونات على المشكوكات والموهومات.
2- كفاية الأصول: 311.
3- فرائد الاصول 1: 384.
مقدمات دليل الانسداد

الأولى: وجود العلم الإجمالي بثبوت تكاليف فعلية في الشريعة.

الثانية: انسداد باب العلم والعلمي بمعظم الأحكام، فهي ليست معلومة بالعلم الوجداني ولا التعبدي.

الثالثة: عدم جواز إهمال الأحكام وعدم التعرض لامتثالها بالمرة، بأن يقال: حيث لا نعلم الأحكام بالعلم التفصيلي فنهملها ونقتصر على الأحكام المعلومة بالعلم الوجداني أو التعبدي، فإنه يوجب الخروج من الدين.

الرابعة: عدم وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي، بل عدم جواز الاحتياط في الجملة؛ لأنه يوجب اختلال النظام وحدوث الهرج والمرج بين الأنام.

وعدم جواز الرجوع إلى الأصل في كل مسألة مسألة على حدة - بأن ينظر إلى المسائل بالنظرة التفكيكية، وينظر في مقتضى الأصل العملي، فمقتضاه في صلاة الجمعة استصحاب الوجوب، وفي الدعاء عند رؤية الهلال البراءة، وفي الشك في وجوب دفن الكافر أو حرمته التخيير، فكل مسألة تلاحظ بنظرة منفردة وأحادية - لأن الأصول لا تجري في أطراف العلم الإجمالي. وعدم جواز الرجوع إلى فتوى العالم بحكم المسألة - بأن يرجع إلى المجتهد الانفتاحي العالم تعبداً بالحكم - لعدم جواز رجوع المجتهد إلى غيره، وعدم جواز الرجوع إلى القرعة وأمثالها في المقام.

الخامسة: قبح ترجيح المرجوح على الراجح، فالأمر دائر بين الإطاعة الظنَّية والوهميَّة والشكيَّة، ويقبح ترجيح المرجوح على الراجح، والراجح هو الإطاعة الظنية للتكاليف المعلومة بالإجمال.

ص: 70

والنتيجة: التنزل من الامتثال القطعي للأحكام المعلومة بالإجمال إلى الامتثال الظني، فيجب على المجتهد العمل بالظن.

ويمكن بيان المقدمات بصورة القياس الاستثنائي: إما أنْ يكون علم إجمالي بتكاليف فعلية أو لا، وعلى الأول، إما أنْ ينسد باب العلم والعلمي أو لا، وعلى الأول إما أنْ يجب التعرَّض للامتثال أو لا، وعلى الأول فالتعرض إما بالإطاعة الظنية أو بغيرها من الاحتياط، أو الأصول العملية أو التقليد أو الإطاعة الوهمية والشكيّة، والتوالي بأسرها باطلة، فيتعين الاقتصار على الإطاعة الظنية.

لكن الشيخ الأعظم(1) لم يتعرض للمقدمة الأولى واقتصر على المقدمات الأربع الأخيرة.

وأورد عليه في النهاية بما محصله: إن عدم ذِكر المقدمة الأولى، إما معلول لعدم مقدميتها، أو معلول لوضوحها، وكل منهما لا يصلح علة لذلك.

قال: «وأما ما عن شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) من جعلها أربعة(2) بإسقاط المقدمة الأولى، فإن كان لأجل عدم المقدميّة، فمن الواضح أنهُ لولاها لم يكن مجال للمقدمات الأخر إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع»(3) فالمقدمة الأولى بمثابة الموضوع للمقدمات الأخرى، فلولا العلم الإجمالي لما كان للمقدمة الثانية مجال، فلا حكم أصلاً إلا على نحو السالبة بانتفاء

ص: 71


1- فرائد الأصول 1: 386.
2- هكذا في المصدر، والصحيح (أربع).
3- نهاية الدراية 2: 256.

الموضوع، فالطريق إلى الأحكام منسد لعدم الحكم، بل لا معنى له حتى على نحو السالبة بانتفاء الموضوع.

ثم قال: «وإن كان لوضوح هذه المقدمة لدلالة سائر المقدمات عليها، فمن الواضح أن وضوحها لا يوجب عدم مقدميتها، ولا الاستغناء بذكر الباقي عن ذكرها، وإلا كان بعضها الآخر كذلك، بل بعضها أوضح»(1) كالمقدمة الثالثة من عدم وجود حكم للمكلفين، كالصبيان، فالصحيح ما فعله صاحب الكفاية(2).

وفي المنتقى: الخلاف بين الشيخ والكفاية خلاف لفظي، لأن مدخلية العلم الإجمالي في النتيجة المبتغاة لا تنكر، إلا أن الشيخ الأعظم ذكر المقدمة بالالتزام، وصاحب الكفاية بالمطابقة.

قال: «إن هذا الحديث بين الأعلام أشبه باللفظي، فإن دخالة وجود العلم الإجمالي بالأحكام، وتأثيره في تمامية الدليل مما لا ينكر، إنما البحث في ذكره مقدمة بالاستقلال وعدم ذكره كذلك، بل استفادته من طي الكلام، وهذا المعنى ليس بمهم. ونستطيع أن نقول: إن الشيخ أخذ وجود العلم الإجمالي في جملة المقدمات؛ إذ فرض وجود الواقعيات التي لا يجوز إهمال امتثالها، وفرض انسداد باب العلم والعلمي ملازم للعلم الإجمالي، ولولاه لما كان للمقدمات الأخرى موضوع ومجال.

نعم، يختلف الشيخ عن صاحب الكفاية في أن تنبيهه على العلم

ص: 72


1- نهاية الدراية 2: 256.
2- كفاية الأصول: 311.

الإجمالي بالالتزام، بخلاف صاحب الكفاية فإنه نص عليه مطابقةً وصريحاً! والأمر سهل»(1).

لكن كلامهما لا يخلو من نظر؛ لعدم بناء مقدمات دليل الانسداد على قضية العلم الإجمالي ومنجزيته، فحتى لو فرض عدم تحقق العلم الإجمالي أو عدم منجزيته - كما ذهب إليه جمع من الفقهاء(2)، ومنهم بعض المعاصرين(3)

- كانت مقدمات الانسداد تامة لأحد وجهين:

الأول: الإجماع القطعي على عدم جواز إهمال امتثال الأحكام بالمرة.

الثاني: الإهمال يستلزم المخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنه بالخروج عن الدين(4).

إن قلت: إنَّ الشيخ الأعظم جعل العلم الإجمالي وجهاً من وجوه عدم جواز إهمال الأحكام مستدلاً عليه بثلاثة أدلّة، هي: الإجماع، والخروج من الدين بالإجمال، والعلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الواقع.

وتظهر الثمرة، فيمن يرى عدم منجّزية العلم الإجمالي، فيجوز عنده عدم الموافقة القطعية، بل تجوز له المخالفة القطعية للعلم الإجمالي.

فعلى هذا المبنى تتم مقدمات الانسداد حتى مع عدم العلم الإجمالي، ولا تتوقف على القول بوجود العلم الإجمالي المنجّز؛ لأن الوجود التكويني للعلم الإجمالي لا أثر له، بل الأثر وجود العلم الإجمالي المنجِّز للتكليف.

ص: 73


1- منتقى الأصول 4: 325.
2- منهم المحقق الخراساني في الكفاية: 312.
3- بحوث في علم الأصول 4: 409.
4- لا بمعنى الكفر وإنما بمعنى مخالفة المكلف للأغراض والأحكام الشرعية كثيراً (منه (رحمه اللّه) ).

وبعبارة مختصرة: مع حذف المقدمة الأولى، والاقتصار على مقدمات الشيخ الأعظم نصل إلى نفس النتيجة، التي وصل إليها صاحب الكفاية.

قلت: نعم، مع وجود العلم الإجمالي للأحكام - بغض النظر عن التنجيز - يمكن القول بتوقف الدليل عليه من باب تحقيق الموضوع، وإلا لا يبقى هنالك موضوع له. وعلى كل حال، فالأمر في ذلك سهل.

المناقشة في مقدمات دليل الانسداد
اشارة

أما المقدمة الأولى: فهي واضحة ولا تحتاج إلى بيان وبرهان.

المناقشة في المقدمة الأولى

لكن يمكن أن يشكل عليها بوجوه:

الإشكال الأول: إنَّ هذا العلم الإجمالي منحلٌ بالاضطرار إلى بعض الأطراف؛ لعدم إمكان الاحتياط في جميع أطراف العلم الإجمالي الوسيع، أو لكونه حرجياً أو ضَررياً، وإذا إضطَر المكلف إلى بعض أطراف العلم الإجمالي سقط عن التأثير، وتحول إلى علم تفصيلي بالجواز في المضطر إليه، وشبهة بدوية في الباقي، كما في إناءين سقطت قطرة دم في أحدهما واضطر إلى شرب احدهما، فينحل العلم الإجمالي إلى جواز شرب المضطر إليه، وجريان البراءة في الثاني المشكوك بالشبهة البدوية.

وفيه: أولاً: لا نسلم المبنى، فللاضطرار أربع صور، هي: الاضطرار إلى أحدهما المعين، ككون أحدهما المعين دواء والأخر ماء. والاضطرار إلى أحدهما غير المعين و له صور ثلاث. ولا نسلم الانحلال، وتمام البحث في محله.

ص: 74

ثانياً: مع تسليم المبنى والقول بالانحلال بطرو الاضطرار لبعض الأطراف، إلا أنه لا يسبب انحلال العلم الإجمالي في المقام؛ للزوم محذور الخروج من الدين.

فالقول بجواز اقتحام جميع المشتبهات، والاقتصار على عدد معدود من التكاليف المعلومة بالعلم الوجداني أو بالعلمي، يسبب الخروج القطعي من الدين؟!

ثالثاً: يشترط في الانحلال بسبب الاضطرار إلى بعض الأطراف، عدم زيادة مقدار المعلوم بالإجمال عن المقدار المضطر إليه، لكن لو عُلمت الزيادة فلا. فلو كان إناءان مشتبهان واضطر لشرب أحدهما، يمكن القول بالانحلال على المبنى؛ لعدم حرمة أحدهما للاضطرار، والثاني مؤمن عنه بأصالة البراءة. لكن لو علم أن إناءين من ثلاثة نجسة، واضطر لشرب أحدها، فلا ينحل العلم الإجمالي؛ لبقاء العلم بنجاسة أحد الاثنين بعد شرب المضطر إليه. والمقام من قبيل الثاني، فإنه بعد ارتكاب المضطر إليه في العلم الإجمالي الواسع، والذي أطرافهُ جميع الأحكام غير المعلومة بالعلم الوجداني، أو التعبدي يُعلم ببقاء أحكام في الذمة في المتبقي، وهو ينجز جميع الباقي.

الإشكال الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية من انحلال العلم الإجمالي بوجود التكاليف الفعلية إلى علم إجمالي أصغر، قال: «إلا أنه قد عرفت انحلال العلم الإجمالي بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين(عليهم السلام) التي تكون فيما بأيدينا، من الروايات في الكتب المعتبرة، ومعه لا موجب

ص: 75

للاحتياط إلا في خصوص ما في الروايات»(1).

ولا محذور في الاحتياط في العلم الإجمالي الصغير؛ لعدم الحرج والضرر والعسر واختلال النظام، ولا إجماع على عدم وجوبه.

وهنا بحثان:

البحث الأول: توضيح كلامه ببيان آخر، وهو: يمكن تصوير علوم إجمالية ثلاثة:

1 - العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية بين جميع المشتبهات.

2 - العلم الإجمالي بوجود تكاليف بين الأمارات الموجودة، كالإجماعات والأخبار.

3 - العلم الإجمالي بوجود تكاليف فيما بأيدينا من الأخبار والروايات.

والأول ينحل إلى الثاني، والثاني إلى الثالث، فيجب الاحتياط في خصوص الروايات أو المدونة في الكتب المعتبرة فحسب.

وهنا مرحلة رابعة وهي: انحلال الثالث إلى أخبار الثقات، فينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بالتكليف فيما قام عليه أخبار الثقات، وشك بدوي في سائر الأخبار يؤمن عنها بالأصول الترخيصية.

وعليه، لو اقتُصر على المرحلة الثالثة، فمقتضاه الاحتياط في دائرة العلم الإجمالي الصغير، ولو انتقلنا إلى المرحلة الرابعة، فينحل العلم الإجمالي كاملاً، ولا وجه للاحتياط.

وقد مر ملاك الانحلال في الدليل العقلي الأول لحجية الخبر، فراجع.

ص: 76


1- كفاية الأصول: 312.

البحث الثاني: إشكال على كلام الكفاية، وهو: ان الانحلال المذكور لا ينسجم مع إقحام المقدمة الأولى في مقدمات الانسداد، حيث نتساءل ما هو مراد صاحب الكفاية من المقدمة الأولى؟ فهل المراد وجود العلم الإجمالي المنجز، أو وجود العلم الإجمالي التكويني بغض النظر عن تنجزه؟

إن كان مراده وجود العلم الإجمالي المنجز، ففيه: إن دليل الانسداد لا يبتني على هذه المقدمة، حيث يمكن القول بتمامية دليل الانسداد مع عدم القول بتنجيز العلم الإجمالي، وذلك للإجماع أو محذور الخروج من الدين.

وإن كان مرادهُ صرف الوجود التكويني للعلم الإجمالي بالتكاليف الفعلية، فما ذكره من الإشكال ليس وارداً؛ لعدم فرض التنجيز في المقدمة الأولى حتى يقال بانحلال العلم الإجمالي لعدم التنجيز، ولا انحلال للعلم الإجمالي التكويني.

فعلى قول صاحب الكفاية إما أن يحذف المقدمة الأولى إن كان مراده العلم المنجز، أو يحذف إشكاله على المقدمة الأولى!

مثال: لو علم إجمالاً بوجود قطرات من الدم في الدار، ثم علم إجمالاً بوجود قطرات من الدم في خصوص هذه الغرفة، فمع انحلال العلم الإجمالي المنجز إلا أن الوجود التكويني للعلم الإجمالي باق على حاله.

المناقشة في المقدمة الثانية

أما المقدمة الثانية: فهي انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام.

أما الشق الأول: فالظاهر أنه لا يحتاج إلى بيان وتوضيح؛ لأن دائرة العلم خاصة بالضروريات والقطعيات، وهي غالباً مجملات؛ لعدم العلم الوجداني

ص: 77

بالشرائط والموانع والأجزاء، والقواطع والخصوصيات للواجبات كالحج، والصلاة في هذه العهود، بل حتى في عهد المعصومين(عليهم السلام) لمن كان بعيداً، بل حتى المقربين في ظرف شدة التقية.

أما الشق الثاني: وهو انسداد باب العلمي، أي عدم تحقق الظن بالأحكام غالباً. فقد قال الشيخ الأعظم: «وأما بالنسبة إلى انسداد باب الظن الخاص، فهي(1)

مبنية على أن لا يثبت من الأدلة المتقدمة لحجية الخبر الواحد حجية مقدار منه يفي - بضميمة الأدلة العلمية وباقي الظنون الخاصة - بإثبات معظم الأحكام الشرعية، بحيث لا يبقى مانع من الرجوع في المسائل الخالية عن الخبر الواحد وأخواته من الظنون الخاصة(2) إلى ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة»(3).

وكلامه هذا مجمل، حيث لم يتطرق إلى أنه يفي أو لا يفي!

توضيحه: إنّ تمامية الشق الثاني متوقفة على نفي أحد أمور ثلاثة، ونفيه متوقف على اجتماعهاً معاً، وهي:

1 - حجية أخبار الثقات.

2 - وثاقة رواة الأحاديث الموجودة بأيدينا، وهو بحث صغروي.

3 - حجية ظواهر الكلام بالنسبة إلينا.

فمع ثبوت حجية خبر الثقة، وثبوت وثاقة الرواة - ولو في الجملة -

ص: 78


1- أي المقدمة الأولى.
2- كالإجماع المنقول والشهرة.
3- فرائد الأصول 1: 386.

وثبوت حجية ظواهر الكلام لغير المشافهين، تكون الروايات الموجودة بأيدينا كافية لإثبات معظم الأحكام الشرعية تعبداً، وحينئذ لا مانع من الرجوع إلى الأصول العملية في سائر المشكوكات، ولا يستلزم من إعمال الأصل الخروج من الدين.

ومع عدم تمامية إحدى هذه المقدمات تثبت المقدمة الثانية للانسداد، بفقدان العلمي، كما لو كان المبنى حجية الظواهر لخصوص المشافهين.

وكما لو كان المبنى عدم حجية غير الصحيح الأعلائي(1)، وغالب الرواة لم تثبت وثاقتهم كذلك. وكما لو كان المبنى عدم حجية أخبار الثقات، بل حجية الخبر الموثوق به(2)، وحينئذ لا تتم المقدمة الثانية لدليل الانسداد؛ لأن الأخبار الموثوق بها من الوفرة والكثرة بدرجة تحل العلم الإجمالي.

وهذه المقدمة أهم مقدمات دليل الانسداد، وعلى محورها يدور البحث، ولذا اكتفى بعض الأصوليين بذكرها دون غيرها، ومع نفيها ينهدم بنيان دليل الانسداد.

المناقشة في المقدمة الثالثة

أما المقدمة الثالثة: وهي عدم جواز إهمال الأحكام المعلومة بالإجمال، بأن لا يتعرض المكلف بوجه من الوجوه لأمتثال الأحكام المشكوكة. فقد

ص: 79


1- أي الخبر الذي كل واحد من رواته عدل إمامي ضابط، وقام على توثيقهم شاهدان عادلان (منه (رحمه اللّه) ).
2- وبينهما عموم من وجه، فيمكن أن يكون الخبر موثوقاً به لكن لم ينقله الثقة، بل وثق بصدوره عبر القرائن الخارجية كالشهرة، ويمكن أن يكون خبر رواه ثقة لكن لم يكن موثوقاً به، لقوة احتمال اشتباهه عقلائياً، كخبر أبان في قضية قطع أصابع المرأة (منه (رحمه اللّه) ).

قال السيد الوالد (رحمه اللّه) (1): إن هذه المقدمة من الضروريات، ولو كان كذلك لم تحتج إلى برهان.

لكن الشيخ الأعظم(2) استدل لها بأدلة ثلاثة:

الدليل الأول: الإجماع القطعي على أنه على تقدير الانسداد لا يجوز إهمال امتثال الأحكام بالمرة، وصيرورتنا كالأطفال والمجانين.

وفيه إشكالان:

الإشكال الأول: إنه إجماع تقديري؛ لعدم تعنون الانسداد عند القدماء، وإنما ذكره بعض المتأخرين فيكون تقديرياً فلا إجماع!

ويدفع بأجوبة ثلاثة:

الأول: لا يضر التقدير في الإجماع بحجيته إن كان مقطوعاً لا مظنوناً، فلو عرضت المسألة على جميع فقهاء الإسلام لأفتوا بهذا الحكم وهذا يكفي في الحجية.

وقد مثل له السيد الوالد (رحمه اللّه) (3) للتقريب وإن أمكن مناقشة المثال بخصوصه: لو لبست المرأة لباساً يحكي جميع تقاطيع البدن بدون أن يظهر اللون، فإنه غير جائز، واستدل له تارة بارتكاز المتشرعة، وتارة بالإجماع التقديري، فلو عرضت على كافة الفقهاء لم يروه كافياً في الحجاب الشرعي.

كما لو قطعنا بإجماع الأطباء على المنع، فيما لو عرضت عليهم المسألة

ص: 80


1- الوصائل 4: 307-308، 358.
2- فرائد الأصول 1: 388-396.
3- الوصائل 4: 309.

الطبية من الصدر الأول إلى يومنا هذا.

الجواب الثاني: إنّ التقدير في المعلق عليه لا في المعلق، فإن كون الظرف ظرف الانسداد تقديري، لكن المعلق وهو عدم جواز إهمال الأحكام وعدم التعرض لامتثالها بأي نحو من أنحاء التعرض محل إجماع قطعي، والعبرة في الإجماع بفعلية المعلق لا بفعلية المعلق عليه.

الجواب الثالث: قد يُعلم الإجماع من تصريحات الفقهاء في نظائر المقام، فقد لا تتعنون مسألة فلا يتحقق فيها إجماع تحقيقي، ولكن يتحقق في نظائرها، حيث لا فرق بينهما، وهو كافٍ في ثبوت الإجماع، أو ملاك الإجماع.

قال الشيخ الأعظم: «إنهم كثيراً ما يذكرون أن الظن يقوم مقام العلم في الشرعيات عند تعذر العلم(1)، وقد حكي عن السيد في بعض كلماته: الاعتراف بالعمل بالظن عند تعذر العلم»(2).

وفي المختلف(3) ادعى الإجماع على ذلك في باب قضاء الفوائت.

ونقل السيد الوالد عن حاشية الآشتياني(4) أنه قد ادعى غير واحد في باب الفوائت الإجماع على تضيق الوجبات الموسعة بظن الضيق.

وأضاف السيد الوالد: «بل ادعى بعض المحققين الإجماع على حجية

ص: 81


1- وإن لم يذكروه فرضاً في خصوص المقام.
2- فرائد الأصول 1: 388.
3- مختلف الشيعة 3: 26.
4- الوصائل 4: 310.

الظن بالنسبة إلى الأمور المستقبلية لانسداد باب العلم فيها غالباً»(1).

وربما مراده، أنه لو ظن بالوفاة - مثلاً - فيجب عليه قضاء الفوائت ورد الأمانات، وما أشبه على التفصيل المذكور في العروة، فقد قال صاحب العروة: «يجب عند ظهور أمارات الموت أداء حقوق الناس الواجبة»(2).

الإشكال الثاني: إنه محتمل الاستناد، بل مظنونه، وهو ليس بحجة على المعروف، والعجيب أن صاحب الكفاية(3) ذكر الإجماع وجعله أحد المستندين في هذا المقام، مع أنه لا يرى الحجية للإجماع مع احتمال استناده، وقد مضى الكلام في حجيته.

الدليل الثاني: استلزام الإهمال للمخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها بالخروج عن الدين، ولا يراد به الكفر، فإن مخالفة الأحكام المعلومة بالتفصيل لا يوجب الكفر، فكيف بالأحكام المعلومة بالإجمال، وإنما يراد به الخروج عن مذاق الدين، أي الخروج العملي عن الدين، فالمكلف الذي يجعل المشكوكات في أطراف العلم الإجمال بحكم المجهولات خارج عن الدين، وبعبارة أخرى: أنه يوجب المخالفة القطعية الكثيرة للأحكام الواقعية.

وقد قربه الشيخ الأعظم(4): بما لو فرض تحول الانسداد الغالبي إلى الانسداد الكلي، بأنْ انسد باب العلم والعلمي مطلقاً، حتى في الأحكام القليلة المعلومة بالعلم أو العلمي، أو في مثل من كان في بلاد بعيدة وانسد

ص: 82


1- الوصائل 4: 310.
2- العروة الوثقى 2: 13.
3- كفاية الاصول: 322.
4- فرائد الأصول 1: 389.

عليه باب العلم والعلمي بتمام الأحكام، فهل يأذن له فقيه أن يهمل الأحكام بالمرة، ولا يتعرض لامتثالها بأي نحو من الأنحاء؟ إنه خروج عملي عن الدين قطعاً.

ثم أردف كلامه بأنه(1): وقد وقع التصريح بأن ما يوجب تعطيل الدين باطل. وقد أشير إليه في عبارات جمع من الفقهاء تصريحاً أو تلويحاً. منهم الشيخ الصدوق في الفقيه(2)، والسيد المرتضى في رسائله(3)، وقال الشيخ في العدة: «وهذا حد يرغب أهل العلم عنه، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته»(4). والعلامة في نهج المسترشدين(5)، والفاضل المقداد في شرح الباب الحادي عشر(6)، والفاضل التوني في الوافية(7)، والمحدث البحراني في الحدائق(8).

الدليل الثالث: تحقق العلم الإجمالي المنجز بوجود تكاليف واقعية، فلا يجوز الإهمال.

لكن صاحب الكفاية(9) لم يعتبره في عداد الأدلة؛ لعدم منجزية العلم

ص: 83


1- فرائد الأصول 1: 390.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 360.
3- رسائل الشريف المرتضی 3: 312.
4- العدة في أصول الفقه 1: 136.
5- نهج المسترشدين: 63.
6- شرح الباب الحادي عشر: 43.
7- الوافية: 159.
8- الحدائق الناضرة 19: 231.
9- كفاية الأصول: 312.

الإجمالي في المقام، فإن مبناه في مباحث البراءة سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بالمرة، مع الاضطرار لبعض الأطراف، فيما لو وجب أو جاز الاقتحام فيه.

وأشكل على نفسه: بأنه مع سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز يكون العقاب على ما تبقى من الأطراف عقاباً بلا بيان، وهو قبيح؛ لأن العلم الإجمالي بالتكليف هو البيان، ولو سقط عن التنجيز فلا بيان.

ونجيب عنه بجوابين:

الأول(1): حيث لا نُسلِّم أن الاضطرار إلى بعض الأطراف يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز مطلقا أو في الجملة.

الثاني(2): لما سبق من أن العلم الإجمالي لا زال باقياً، لكون المضطر إليه أضيق دائرة من المعلوم بالإجمال، فمع الاقتحام في أطراف المضطر إليه يبقى العلم الإجمالي فيما تبقى.

وقد أجاب هو أيضاً: إن موضوع قاعدة قبح العقاب هو (لا بيان) وإيجاب الاحتياط (بيان) ومع وجود البيان ينتفي موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان. والكاشف عن وجوب الاحتياط في المقام دليلان:

الأول: دليل لمي: وهو شدِّة اهتمام الشارع بأحكامه، ولُزوم مراعاة التكاليف الواقعية، فقد ضحى النبي وأهل بيته(عليهم السلام) بأنفسهم لأحكام اللّه وتكاليفه الواقعية، وهم أشرف مَنْ في الوجود، وخلق لأجلهم الكون،

ص: 84


1- مبنائي.
2- بنائي.

فالاهتمام كاشف لمي عن إيجاب الشارع للاحتياط في المقام. ومع وجوب الاحتياط - المكشوف بدليل اللم - يتحقق البيان، فيرتفع موضوع قبح العقاب.

الثاني: الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذا الحال، وإنه مرغوب عنه شرعاً قطعاً، فلا مجال للإشكال وإن لم نقل بتنجيز العلم الإجمالي في المقام.

والحاصل: إن عدم جواز إهمال الأحكام في ظرف الانسداد، ووجوب الاحتياط لا ينشأ من العلم الإجمالي، فإنه منحل بسبب الاضطرار إلى بعض الأطراف، بل ينشأ من الدليل اللمي والإجماع القائم في المقام.

لكن أشكل عليه في النهاية(1): إنّ المراد أما وجوب الاحتياط التام أو وجوب الاحتياط الناقص، والاحتياط التام ما تجب فيه الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، والاحتياط الناقص ما تحرم فيه المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، وإن لم تجب فيه الموافقة القطعية، فإن كان المراد وجوب الاحتياط التام، ففيه محذور المنافاة مع ما سيذكر في المقدمة الرابعة، فإن صاحب الكفاية(2) يلتزم بأن الاحتياط التام غير واجب، وإن كان المراد وجوب الاحتياط الناقص، فهو مناف لما سلكه من عدم التفكيك بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية. فإذا حرمت المخالفة القطعية وجبت الموافقة القطعية، وإن لم تجب الموافقة القطعية

ص: 85


1- نهاية الدراية 2: 257.
2- كفاية الأصول: 312.

فلا تحرم المخالفة القطعية.

والحاصل أنه يرد على صاحب الكفاية أحد محذورين: محذور المنافاة لما ألتزَم به في المقدمة الرابعة، من عدم وجوب الاحتياط التام، أو محذور المنافاة لما يراه من عدم التفكيك بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية.

وأجاب عنه في المنتقى(1): عدم التفكيك تام بلحاظ العلم الإجمالي، فلا تفكيك إن ثبت وجوب الاحتياط بسبب العلم الإجمالي، لكن لو ثبت وجوب الاحتياط بدليل خارجي فالمتبع دلالته، فيمكن أن يدل على وجوب الموافقة القطعية، ويمكن أن يدل على حرمة المخالفة القطعية وعدم وجوب الموافقة القطعية.

فلو اشتبهت القبلة بين ثلاث جهات، جاز الاكتفاء بالصلاة إلى جهة واحدة حسب بعض الروايات، فتكون المخالفة القطعية - بأن لا يصلي أو يصلى إلى الجهة الرابعة - محرمة، ولا تلزم الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، فتجوز الصلاة إلى إحدى الجهات الثلاث، مع أنها موافقة احتمالية لا قطعية.

وما نحن فيه كذلك، فالإجماع أو الدليل اللمي دال على حرمة المخالفة القطعية - في ظرف الانسداد بأن يهمل الأحكام بالمرة - دون وجوب الموافقة القطعية، وإنما تكفي الموافقة الاحتمالية.

والحاصل: إن الاحتياط في المقام احتياط ناقص، ولا يرد عليه محذور

ص: 86


1- منتقى الأصول 4: 334.

لزوم التفكيك.

ولكنه يحتاج إلى تأمل أكثر: فيمكن أن يتساءل: هل التكاليف الواقعية منجزة في ذمة المكلف أم لا؟ فإن كانت منجزة فكما تحرم المخالفة القطعية تجب الموافقة القطعية، وإن لم تكن منجزة، فكما لا تجب الموافقة القطعية لا تحرم المخالفة القطعية(1).

وبعبارة أخرى: إن التكليف هو ملاك عدم التفكيك في صورة العلم الإجمالي عند صاحب الكفاية(2)، فيكون التكليف علة تامة لوجوب الامتثال، لا أنه مقتض حتى يمنع منه مانع، فيترتب عليه حرمة المخالفة القطيعة ووجوب الموافقة القطعية، وعليه فالتفكيك غير معقول.

ونفس الملاك يأتي فيما نحن فيه، فالتكليف الواقعي المعلوم بالإجمال لو كان علة تامة، لزم منه عدم وجوب الموافقة القطعية بمقتضى المقدمة الرابعة، وعدم حرمة المخالفة القطعية بمقتضى عدم التفكيك.

والحاصل: إنّ إشكال النهاية على الكفاية وارد.

ودفع هذا الإشكال بعدم ارتضاء المبنى (مبنى العلية التامة).

المناقشة في المقدمة الرابعة

وهي عدم وجوب الاحتياط، بل عدم جوازه في الجملة، وعدم جواز إجراء الأصول العملية في كل مسألة مسألة على حدة، وعدم جواز التقليد

ص: 87


1- وفيه: إن التنجز مسألة تشكيكية، فقد يكون كلا الأمرين منجزاً، وقد تكون المخالفة القطعية منجزة دون الموافقة القطعية وذلك حسب الدليل (المقرر).
2- كفاية الأصول: 312.

وعدم جواز الرجوع إلى القرعة ونحوها.

فيجب الكلام في عدة مباحث:

المبحث الأول: عدم وجوب الاحتياط في ظرف الانسداد

يقع الكلام في عدم وجوب الاحتياط في ظرف الانسداد.

وللاحتياط صور ثلاث:

الأولى: أن يكون متعذراً، ولا إشكال في عدم وجوب الاحتياط، لأن القدرة من الشرائط العامة للتكليف.

الثانية: أن يكون مقدوراً لكنه يوجب اختلال النظام، ولا إشكال في عدم وجوب الاحتياط أيضاً(1)؛ للعلم بعدم إرادة الشارع لاختلال النظام.

الثالثة: أن يكون موجباً للضرر أو الحرج أو العسر، فهل الاحتياط واجب أم لا؟

قال الشيخ ما توضيحه(2): لا يجب الاحتياط التام؛ لحكومة قاعدة نفي الحرج وأخواتها على قاعدة الاحتياط؛ لأن معنى نفي الضرر نفي حكم ينشأ منه الضرر أو الحرج أو ما أشبه، وبقاء هذه الأحكام بحيث يوجب الاحتياط سبب للحرج، فارادة الشارع مراعاة التكاليف المجهولة سبب للضرر، فيكون حكماً ضررياً، والمفروض أنه نفى الحكم الذي ينشأ منه الضرر، فالحكم الحرجي أو الضرري مرفوع بمقدارهما.

إن قلت: إن الضرر ناشئ من الحكم العقلي، لأن العقل يأمر بالاحتياط.

ص: 88


1- عدم الوجوب بالمعنى الأعم الشامل لعدم الجواز (منه (رحمه اللّه) ).
2- فرائد الأصول 1: 433.

قلت: الشيء كما ينسب إلى علته القريبة ينسب إلى علته البعيدة. فالعلة القريبة للضرر حكم العقل بالاحتياط، وذلك ناشئ من إرادة الشارع لتكاليفه ولو في الظرف الحرجي، لكن لو رفع الشارع يده عن حكمه لما حكم العقل بالاحتياط، لانتفاء موضوع حكم العقل، وهو وجود تكليف مشتبه، فالحكم الشرعي علة للحكم العقلي، والحكم العقلي علة الضرر والحرج، فيمكن أن نقول: إن هذا الحكم الشرعي ينشأ من قبله الضرر ولو بواسطة الحكم العقلي.

والحاصل: إنّه يرتفع وجوب الاحتياط إن كان ضررياً أو حرجياً.

لكن لم يرتضه صاحب الكفاية(1): وقال بوجوب الاحتياط التام في أطراف العلم الإجمالي، وإن أوجب الضرر أو الحرج أو العسر، لكون المنفي بقاعدة لا ضرر الفعل الضرري، ومتعلق التكليف الشرعي ليس ضررياً، وإنما لزم الضرر من الجمع بين المحتملات بحكم العقل. وعليه، فلا حكومة لقاعدة الضرر وأخواتها على قاعدة الاحتياط؛ لعدم كون متعلق التكليف حرجياً أوضررياً.

والمسألة مبنية على الخلاف المبنائي بين الشيخ(2) وصاحب الكفاية(3) في مفاد قاعدة لا ضرر ولا حرج، ويبنى عليه ثمرات كثيرة، وفروع متعددة في الفقه والأصول في باب الانسداد، وقاعدة لا ضرر وبعض أنواع

ص: 89


1- كفاية الأصول: 313.
2- رسائل فقهية: 116.
3- كفاية الأصول: 381.

الخيارات.

احتمالان في مفاد (لا ضرر)

ففي المنفي بلا ضرر احتمالان:

الأول: ما ذهب إليه الشيخ (رحمه اللّه) (1) من كون المنفي الحكم الضرري، أي لا حكم ضرري، وبعبارة أخرى: الرواية متكفلة لنفي حكم منشأ للضرر، وبعبارة ثالثة: إنه من قبيل نفي السبب بلسان نفي المسبب، فالنفي ظاهراً منصب على المسبب ولكن أريد به نفي السبب.

الاحتمال الثاني: ما ذهب إليه صاحب الكفاية (رحمه اللّه) (2) من أن المنفي المتعلق الضرري، وبعبارة أخرى: الفعل الضرري منفي، ولأن نفي الفعل الضرري مخالف للوجدان الخارجي، لوجوده خارجاً فيراد به نفي الحكم الذي يتعلق بالفعل الضرري، أي أن حكمه منفي، فيكون من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

وله نظائر، كقوله: «لا شك لكثير الشك» فالمنفي هو الموضوع، لكن المراد نفي الحكم، وكقوله: «لا ربا بين الوالد وولده»(3).

وتترتب على الاختلاف في التفسير ثمرات مهمة في مختلف الأبواب، حتى باب المعاملات:

منها: لو لم يكن الفعل ضررياً، لكن من الحكم ينشأ الضرر، فعلى مبنى

ص: 90


1- رسائل فقهية: 116.
2- كفاية الأصول: 381.
3- مستدرك الوسائل 13: 339؛ المقنع: 126؛ فقه الرضا: 34.

الشيخ(1) إن الحكم منفي، لأنه حكم ينشأ منه الضرر، لكن على مبنى الكفاية(2) ليس الحكم منفياً، لأنه وإن نشأ منه الضرر لكن لم يكن متعلقه ضررياً، والمفروض أن مفاد لا ضرر نفي الفعل الضرري لا الحكم الضرري.

مثال يوضح الفرق بين المبنيين: لو قال توضأ بالماء المطلق، فهنا فرضان:

الأول: نفس الوضوء بالماء المطلق ضرري لأنه مريض، فالحكم مرفوع على المبنيين.

الثاني: لو لم يكن الوضوء بالماء المطلق ضررياً، لكن اشتبه المطلق بين مائة من الأواني، والوضوء بجميعها ضرري أو حرجي. فعلى مبنى الشيخ الوجوب مرفوع بلا ضرر، لأن قول الشارع توضأ بالماء المطلق ينشأ منه الضرر على المكلف في هذا الظرف، فهو منفي.

لكن على مبنى صاحب الكفاية ليس الوضوء بالماء المطلق ضررياً، بل الجمع ضرري، فليس حكم الشارع ضررياً، فلا يرفعه لا ضرر، وحكم العقل بالاحتياط لا يرتبط بالشارع، ولا ضرر لا يرفع الأحكام العقلية، فالمكلف عليه أن يتوضأ بكل الأواني وإن مَرضَ.

وأما ما نحن فيه: فعلى مبنى صاحب الكفاية لا ينشأ الضرر والحرج من متعلق التكاليف، ففي ظرف انفتاح باب العلم لم يكن الإتيان بالتكاليف ضررياً، بل الضرر والحرج ناشئ من طرو الجهل، وهو المفروض، وبسبب

ص: 91


1- رسائل فقهية: 116.
2- كفاية الأصول: 381.

الانسداد صار الاحتياط حرجياً، ولا ضرر لا يرفعه، فيجب على المكلف الاحتياط التام.

لكن قد يناقش في كلام الكفاية من وجوه:

الأول: المناقشة المبنائية، فإن المختار في مفاد (لا ضرر) وأخواته ما ذهب إليه الشيخ الأعظم، أو غيره(1) وتنقيحه موكول إلى آخر مباحث البراءة.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني في الفوائد(2): من أن وزان الضرر وزان الاضطرار، فكما أن الاضطرار إلى بعض الأطراف يوجب عدم وجوب الاحتياط التام فكذلك الضرر، فإنه يوجب عدم وجوب الاحتياط التام.

وفيه: وجود الفارق بين المقامين، فعدم الاضطرار قيد عقلي في تنجز التكاليف، وعدم الضرر قيد شرعي، فلو اضطر أحد لشرب أحد الإناءين المعين لأنه دواء، فالعقل يحكم بتناوله ويرفع تنجز التكليف - بحكم العقل للاضطرار - إن كان التكليف الواقعي في هذا الإناء المعين.

ولو اضطَر إلى أحدهما غير المعين، فالعقل يرخص في الجامع بينهما، فلوطبق المكلف الترخيص في هذا الإناء وكان الدم واقعاً فيه، فالتنجيز للتكليف الواقعي مرفوع بحكم العقل، فشرط عدم الاضطرار دخيل في فعلية التكاليف.

أما عدم الضرر والحرج فليس شرطاً في موضوع التكاليف بحكم العقل،

ص: 92


1- حيث يحتمل أن يكون له مفاد آخر غير ما ذكره الشيخ الأعظم (منه (رحمه اللّه) ).
2- فوائد الأصول 3: 257.

وإنما امتَنَّ به الشارع على العباد، والمفروض أن المنفي فعل ضرري ولم يتحقق في المقام، لأنه المفروض في ظرف الانسداد، والعقل لم يأخذه شرطاً، وإنما هو شرط الشرع، لكنه لا ينطبق على المقام، فتنظير مقام نفي الضرر بمقام نفي الاضطرار تنظير بلا جامع.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق النائيني أيضاً: من أن (لا ضرر) يرفع وجوب الاحتياط العقلي.

قال: «يمكن أن تكون أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على نفس الحكم العقلي بالاحتياط(1)، بتقريب: أن حكم العقل بالاحتياط إنما هو لأجل رعاية الأحكام الشرعية(2)، فإذا كان رعايتها في حال انسداد باب العلم والعلمي موجباً(3) للعسر فأدلة نفيهما تقتضي عدم إلزام العقل بالاحتياط بمقدار يلزم منه العسر والحرج، فتكون حكومتها(4) على حكم العقل بالاحتياط من شؤون حكومتها على الأحكام الشرعية»(5) فالعسر والحرج ينتهيان إلى الأحكام الشرعية، ولو لمكان الجهل بها وانتشارها في الوقائع المشتبهة.

لكن كلامه غير واضح فإن للحكم العقلي منشأ، فإما يتم رفع الحكم العقلي بدون رفع منشئه أو برفع المنشأ؟!

فإن تم رفع الحكم العقلي بأدلة لا ضرر بلا رفع المنشأ - الحكم الواقعي -

ص: 93


1- تارة حاكمة على الأحكام الأولية وتارة حاكمة على الاحتياط العقلي.
2- فالعقل إنما حكم بالاحتياط لوجود الحكم الشرعي في متن الواقع.
3- هكذا في المصدر، والصحيح (موجبة).
4- أي: أدلة نفي العسر والحرج.
5- فوائد الأصول 3: 258.

فهو محال، لأن رفع الحكم بلا رفع المنشأ محال، فكأنه يرفع الزوجية بلا رفع موضوعها، فإن وجوب الاحتياط العقلي معلول للأحكام الشرعية المعلومة بالإجمال، فكيف يرفعه (لا ضرر) بلا رفع الأحكام الواقعية والتي يريدها الشارع؟ فهذا تهافت!

وإن تم رفع الحكم العقلي برفع منشئه أو مع رفع منشئه(1) فهو بلا وجه، فإن المنشأ إن كان فعلاً ضررياً لرفع ب- (لا ضرر) والمفروض أن الجمع بين المحتملات ضرري، لا المنشأ الواقعي للأحكام الشرعية، فلماذا يرفعها؟

والحاصل: إن رفع المنشأ وحده محال، ورفع المنشأ أيضاً بلا وجه. فكلام النائيني غير واضح جداً.

والمحقق العراقي(2) لم يطرح هذا الإشكال، بل علق عليه بإمكان ورود جميع الإشكالات في الدنيا على صاحب الكفاية دون هذا الإشكال.

الوجه الرابع: و له شعب ثلاث:

الأولى: في الضرر المنفي.

الثانية: في الحرج المنفي.

الثالثة: في العسر المنفي.

أما الشعبة الأولى فيمكن القول بأنَّ دلالة أدلة لا ضرر على نفي المتعلق الضرري لا تتنافى مع دلالة دليل آخر على نفي الحكم الضرري، فيكون كلاهما منفياً، فالفعل الضرري منفي بأدلة لا ضرر، والحكم الضرري منفي

ص: 94


1- أي: الأحكام الواقعية المشتبهة.
2- نهاية الأفكار 3: 153.

بدليل آخر، فيرتفع حكم الشارع، لكون الاحتياط التام في المقام ضرر ينشأ من بقاء حكمه.

عهد أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر

والدليل الآخر هو عهد أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر، حيث ورد فيه: «وأعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار»(1).

وفي الرواية بحثان: سندي ودلالي.

أما البحث السندي: فيمكن تصحيح هذه الرواية بأحد الطرق الآتية:

الطريق الأول: أن يقال: إن جميع ما في نهج البلاغة صحيح أو معتبر.

قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «قوة مؤلفه الذي أسنده إليه(عليه السلام)، يغني عن الفحص في سنده، فحاله حال الفقيه والكافي في مراسيلهما»(2).

واختار السيد العم حفظه اللّه(3) حجية كل ما في النهج بالظنون الرجالية والقرائن المتراكمة، إلا ما خرج بدليل نظير- أي دليل معتبر سنداً- تبعاً لجمع غفير من القرائن.

وإن نوقش في هذا الطريق، فهنالك طريقان آخران.

الطريق الثاني: خصوص هذا العهد معتبر لقوة مضمونه، حيث يمكن

ص: 95


1- نهج البلاغة 3: 100.
2- الفقه 33: 105.
3- بيان الأصول 5: 57.

إثبات أو نفي انتساب كلمات إلى شخص لو عرف كيفية حديثه وكتاباته وأحواله و روحياته وما أشبه ذلك. وإن نُوقش فيه، فهنالك طريق ثالث.

الطريق الثالث: ذكر الشيخ الطوسي(1) سنداً لخصوص العهد المذكور، وهو مهم لترتب بعض الأحكام الهامة عليه، كتقليد الأعلم المستفاد من قوله(عليه السلام): «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك»(2) وكذا حرمة الإجحاف وغيره.

فقد رواه الشيخ عن ابن أبي جيد، عن محمد بن الحسن، عن الحميري، عن هارون بن مسلم والحسن بن طريف جميعاً، عن الحسين بن علوان الكلبي، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباته، عن أمير المؤمنين(عليه السلام).

وعلي بن أحمد بن محمد بن أبي جيد لم يرد في حقه توثيق، لكنه من مشايخ النجاشي(3)، كما هو من مشايخ الشيخ الطوسي(4)، وبناء على مبنى وثاقة جميع مشايخ النجاشي المباشرين - لأنه لا يروي عن ضعيف إلا بواسطة بينه وبينه - تثبت وثاقته.

توثيق مشايخ النجاشي

وللنجاشي عبارات ثلاث قد تدل على ذلك:

الأولى: قال في ترجمة الجوهري: «رأيت شيوخنا يضعفونه فلم أرو عنه

ص: 96


1- الفهرست: 85.
2- نهج البلاغة 3: 94.
3- رجال النجاشي: 54.
4- تهذيب الاحكام 10: 34.

شيئاً وتجنبته»(1).

الثانية: حول ابن البهلول، قال: «رأيت جل أصحابنا يغمزونه ويضعفونه... رأيت هذا الشيخ وسمعت منه كثيراً، ثم توقفت عن الرواية عنه إلا بواسطة بيني وبينه»(2).

الثالثة: حول جعفر بن محمد بن مالك، قال: «كان ضعيفاً في الحديث، قال أحمد بن الحسين: كان يضع الحديث وضعاً ويروي عن المجاهيل، وسمعت من قال: كان أيضاً فاسد المذهب والرواية، ولا أدري كيف روى عنه شيخنا النبيل الثقة أبو علي بن همام»(3).

قال جمع من الأعلام(4): إن هذه العبارات تدل على أنه لا يروي إلا عن ثقة.

وفي المقام إشكالان:

الأول: أنه لا يروي عن المُضعَّفين، والمُضعَّف غير الضعيف، فنفس التضَعيِف له موضوعية.

الثاني: على فرض أنه لا يروي عن الضَعيف، لكن لا يدل على أنه لايروي عن المجاهيل.

ويتأمل فيهما:

ص: 97


1- رجال النجاشي: 86.
2- رجال النجاشي: 86.
3- رجال النجاشي: 122.
4- خاتمة مستدرك الوسائل 3: 162؛ الفوائد الرجالية 2: 96-97؛ معجم رجال الحديث 1: 50.

أما الأول: فإن التَضعيف طريقي إلى الضعيف، ولا موضوعية فيه، لأن عدم الرواية عن المَضعف ليس لأمر تعبدي، فيكون الضعيف والمُضعَّف في حكم واحد، فلا يروي عنه مع ثبوت ضعفه بلا تَضعِيف من المشايخ(1).

والثاني: مع معاشرة النجاشي للمشايخ لا يُحتمل أن يَظلوا مجهولين، فإما أن تثبت وثاقتهم وهو المطلوب، أو يثبت ضعفهم، فلا يروي عنهم، فالرواية عنهم دليل على أنهم ثقاة عنده.

والحاصل: لقد اختار جمع من الرجاليين أن جميع المشايخ المباشرين للنجاشي ثقاة، منهم بحر العلوم(2) والشيخ البهائي(3) والسيد الخوئي(4).

هذا تمام الكلام في علي بن أحمد بن محمد بن أبي جيد.

وأما محمد بن الحسن فهو: محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، شيخ الشيخ الصدوق بقرينة رواية ابن أبي جيد، وهو ثقة.

وأما عبد اللّه بن جعفر الحميري، فهو ثقة.

وهارون بن مسلم، ثقة وجه.

والحسن بن طريف، ثقة.

ص: 98


1- أقول: قد تدل العبارة الثالثة للنجاشي على عدم روايته عن الضعيف، حيث قال حول جعفر بن محمد بن مالك: كان ضعيفاً، فأخذ موضوعاً لعدم رواية النجاشي عنه، إلا أن يقال: إن المجموع المركب من ضعف الحديث ووضعه و فساد المذهب والرأي هو موضوع عدم روايته (المقرر).
2- الفوائد الرجالية 2: 96-97.
3- مشرق الشمسين: 227.
4- معجم رجال الحديث 1: 50.

ويكفي وثاقة أحدهم.

والحسين بن علوان الكلبي، عامي وثقه النجاشي(1).

وسعد بن طريف، ثقة.

والأصبغ بن نباته، روى في تفسير القمي(2)، وكامل الزيارات(3)، فهو ثقة على المبنى، وذكر في حقه أنه كان من خاصة أمير المؤمنين(عليه السلام)(4) وهو يفيد الحُسنْ، بل يفيد التوثيق.

وعليه: لا إشكال في السند إلا على البحث المبنائي في ابن أبي جيد. واختار السيد الخوئي(5) اعتبار العهد واعتبار الطريق إليه.

أما البحث الدلالي: فقوله(عليه السلام): «ذلك باب مضرة للعامة»(6) تعليل للحكم بالمنع من الاحتكار، وعموم التعليل يفيد رفع كل شيء يكون باب مضرة للعامة، ومنه بقاء الأحكام الشرعية في ظرف الانسداد بحيث يجب عليهم الاحتياط التام.

وعن الشيخ الأعظم(7): أنه لو أراد شخص أن يحتاط احتياطاً تاماً في جميع أطراف الشبهات يوماً وليلة، يرى صدق ما ادعيناه، من أنه من أظهر

ص: 99


1- رجال النجاشي: 52.
2- تفسير القمي 1: 85.
3- كامل الزيارات: 72، 535.
4- منتهى المطلب 4: 108.
5- معجم رجال الحديث 4: 134.
6- نهج البلاغة 3: 100.
7- فرائد الأصول 1: 404.

مصاديق الضرر والحرج والعسر. ومعنى وجوب الاحتياط التام بقاء الأحكام الشرعية، بأن لا يرفع الشارع يده عن أحكامه، فيحكم العقل بالاحتياط التام، وهو باب مضرة للعامة.

فالرواية وإنْ وردت في خصوص الموضوعات الضررية - كالاحتكار - إلا أن العلة تعمم، كروايات (لا تنقض)(1) الواردة في الشبهات الموضوعية، إلا أنهم تعدوا إلى الشبهات الحكمية لعموم التعليل. ومع استفادة عموم التعليل يكون مؤدى الحديث وجوب إغلاق كل باب مضرة للعامة.

وأما الشعبة الثانية: فهي الحرج، وأشكل عليه في المنتقى، قال: «إن ما التزم به في مفاد هذه الأدلة له مجال في مثل: لا ضرر(2) ونحوها مما كان بهذا التركيب، لكن نفي الحرج لم يرد بهذا اللسان أصلا(3)، وإنما ظاهر دليله(4) مثل قوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(5) أن المرفوع نفس الحكم الحرجي، فإن {من حرج} راجعة إلى ما تعلق به الجعل(6)، فقد أخذ وصفاً للمجعول وبياناً له»(7).

ص: 100


1- وسائل الشيعة 2: 356.
2- فلا ضرر لا يرفع وجوب الاحتياط لأن المنفي فعل ضرر لا حكم ضرري.
3- حتى يقال إن وزان لا حرج وزان لا ضرر، أي نفي الفعل الحرجي.
4- كقوله تعالى: {ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} نفي الحكم الحرجي لا الفعل الحرجي.
5- الحج: 78.
6- المجعول هو الحكم لا الموضوع، فقوله {مِنْ حَرَجٍ} وصف للحكم المنفي، يعني ما جعل عليكم حكماً حرجياً.
7- منتقى الأصول 4: 338.

وعليه لو سلمنا مبنى الكفاية(1) في (لا ضرر) فلا نسلمه في (لا حرج) لاختلاف لسان الرفع فيهما، فلا مجال لعطف أحدهما على الآخر.

وعليه، يجب الاحتياط التام حتى لو كان ضررياً، لكن لو كان حرجياً فلا يجب؛ لرفع يد الشارع عن الأحكام الواقعية حتى لا يقع المكلف بسببها في الحرج.

لكن السيد الروحاني(2) يتراجع عما ذكره مشيراً إلى كلام المحقق الإصفهاني(3)، كما سيأتي إن شاء اللّه.

والظاهر أن ما ذكره تام، فقوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(4) يعني رفع الحكم الحرجي!

وهنا نكتة لا تخل بالنتيجة وهي: قوله: (نفي الحرج لم يرد بهذا اللسان أصلاً)(5) محل تأمل؛ لورود (لا حرج) بهذا اللفظ في الشريعة، كما في رواية الكليني حيث قال(عليه السلام): «ولم

يبق شيء مما ينبغي لهم أن يقدموه إلا أخروه، ولا شيء مما ينبغي لهم أن يؤخروه إلا قدموه فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لا حرج لا حرج»(6).

وقد رويت بأسانيد بعضها معتبرة منها ما رواه الكليني، عن علي بن

ص: 101


1- كفاية الأصول:381.
2- منتقى الأصول 4: 338-339.
3- نهاية الدراية 2: 260-261.
4- الحج: 78.
5- منتقى الأصول 4: 338.
6- الكافي 4: 504؛ من لا يحضره الفقيه 2: 506؛ تهذيب الأحكام 5: 236.

إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج. وعن عدة من أصحابنا(1)، عن سهل بن زياد(2)، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر.

إلا أن يقال: إنه يثبت اللاحرج الجزئي، كما في أعمال الحج، وفي التقديم والتأخير وجميع الموارد الأخرى جزئية، ولا يفيد قاعدة كلية.

وأما الشعبة الثالثة فهي: العسر والضيق، والروايات كثيرة نكتفي بموثقة واحدة ورد فيها: «فإن الدين ليس بمضيق»(3).

فلو أراد الشارع أحكامه الواقعية - بأي نحو حتى في ظرف الانسداد - فهو خلاف هذا التعليل؟

وروايات أخرى في أسنادها تأمل، كما عن الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن علي بن الحكم، عن أبان الأحمر، عن حمزة بن الطيار، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحداً في ضيق... وقال: وما أمروا إلا بدون سعتهم، وكل شيء أمر الناس به فهم يسعون له، وكل شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم»(4).

لكن الإشكال في حمزة بن الطيار، إلاّ على مبنى وثاقة مشايخ أصحاب الإجماع.

ص: 102


1- وقد حقق في محله توثيقهم.
2- لكنه محل كلام وهل أن الأمر فيه سهل؟
3- الوسائل 1: 163.
4- الكافي 1: 164-165.

والحاصل: إن كلام صاحب الكفاية(1) في الشعب الثلاث محل تأمل؛ لدلالة هذه الأدلة على أن المرفوع هو الحكم الضرري والحرجي والعسري.

الوجه الخامس: ما ذكره المحقق المشكيني(2) وورد في المصباح(3) أيضاً، وهو: تكون أطراف الشبهة تدريجية تارة ودفعية أخرى، فلو كانت أطراف الشبهة تدريجية، فالحرج إنما يتحقق في الأفراد الأخيرة، فيعلم بانتفاء التكليف فيها، لأن التكليف في متن الواقع إما متعلق بالأفراد الأولى أو الأخيرة، فإن كان الأول فلا تكليف بالأفراد الأخيرة، وإنْ كان الثاني فالتكليف منفي فيها؛ لكون متعلق التكليف حرجياً، فالتكليف في الأفراد الأخيرة منتف قطعاً. مثلا لو وجب عليه بالنذر أن يصوم يوماً، وكان مردداً بين الخميس والجمعة، وكان الجمع بينهما حرجياً عليه، فمقتضى كلام صاحب الكفاية عدم نفي هذا الحرج فيجب عليه صوم اليومين.

لكن مفاد الوجه الخامس: إن الأمر في عالم الثبوت لا يخلو من أحد اثنين، فالمنذور واقعاً إمّا صوم الخميس، فلا يجب الجمعة؛ لعدم تعلق النذر به، وإما يوم الجمعة فمتعلقه حرجي، وهو منتف حتى على مبنى الكفاية، فيجب عليه صوم الخميس دون الجمعة على كل التقادير.

نعم، لو كانت أفراد الشبهة عَرضِيَّة - كإناءين مشتبهين - حيث يكون الاجتناب عنهما معاً بوصف الاجتماع حرجياً أو ضررياً يمكن القول

ص: 103


1- كفاية الأصول: 381.
2- كفاية الأصول (المحشی) 3: 399.
3- مصباح الأصول 2: 269.

بوجوب الاحتياط التام، وأدلة نفي الضرر لا تنفيه على مبنى الكفاية(1).

وما نحن فيه - ظرف الانسداد وانتشار الأحكام بين المشتبهات - من قبيل الأول لا الثاني؛ لعدم ابتلاء المكلف بجميع الوقائع دفعة واحدة، بل يبتلى بها تدريجا، فعليه الاحتياط إلى أن يلزم منه الحرج أو الضرر فيسقط وجوبه، فكلام الكفاية بوجوب الاحتياط التام وإن أوجب الحرج إنما يصح في العرضيين لا الطوليين.

الوجه السادس ما ذكره المحقق الحائري، وحاصله: عدم الفرق في أدلة نفي الحرج والضرر بين حرج يترتب على الحكم الابتدائي والحكم الإمضائي، قال: «فإن ما يفهم العرف من أدلة الحرج هو عدم تحقق الحرج على المكلف من ناحية الشارع، سواء كان بجعله ابتداء أم كان بجعل الأحكام الواقعية واشتبه على المكلف فَوقَع في الكُلفة بحكم العقل و إمضاء الشارع»(2).

لكنه غير واضح؛ لأنه رجوع إلى مبنى الشيخ الأعظم(3)، حيث نفى الحكم الضرري، فالحكم الذي ينشأ منه الحرج لا فرق فيه بين أن يكون ابتدائياً أو امضائياً، لكن مبنى الكفاية عدم نفي الحكم الحرجي، بل نفي المتعلق الحرجي، والمفروض أن المتعلق في المقام ليس حرجياً.

الوجه السابع: ما ذكره السيد البروجردي من إلغاء الخصوصية، قال: «إن

ص: 104


1- كفاية الأصول: 381.
2- درر الفوائد 2: 404.
3- رسائل فقهية: 116.

العرف إنما يفهمون من ذلك أن تمام الملاك في رفع التكليف هو الوقوع في العسر والحرج من غير خصوصية من طرو ذلك بنفس الحكم، وكونه علة تامة لذلك، أو بذلك مع ضميمة أمر خارج عن نفس الحكم، كجهل المكلف وتردد المكلف به»(1).

وفيه: إن كان مراده عدم الفرق في أن يكون الحكم منشأ منفرداً أو منضماً فهو رجوع إلى مبنى الشيخ.

وإن قصد عدم الفرق في أن يكون المتعلق منشأ أو الحكم منشأ بعد قبول مبنى الكفاية من أنَّ المنفي المتعلق الحرجي، من غير فرق بين أن يكون المتعلق حرجياً أو يكون الحكم حرجياً، فهذا يحتاج إلى القطع بالملاك.

وبعبارة أخرى: حين ينفي الشارع المتعلق الحرجي يقال: إذن ينفي الحكم الحرجي لعدم الفرق بينهما ملاكاً، فهذا عهدته على مدعيه!

الوجه الثامن ما ذكره السيد السبزواري، قال: «إن الامتثال الحرجي خلاف الطريقة العقلائية»(2) فلا حاجة إلى أدلة نفي الحرج كي يبحث في مفادها، وان فُقِدَ الدليل او ارتأينا مبنى الكفاية بل عدم ثبوت الردع عنه كافٍ، فإن الامتثال الحرجي خلاف الطريقة العقلائية، والشارع لم يردع عنه، وعليه الحكم الذي ينشأ منه الحرج لا يجب امتثاله، والمفروض في المقام أن الحرج نشأ من الاحتياط التام في ظرف الانسداد.

ص: 105


1- الحاشية على كفاية الأصول 2: 162.
2- تهذيب الأصول 2: 140.

وفيه تأمل: أولاً: لوجوب الامتثال فيما لو أوقعَ المولى العرفي عبده في الحرج.

وثانياً: هنالك فرق بين المولى العرفي والحقيقي، فحتى لو فرضنا أن الحرج يرفع تكليف المولى العرفي، لكن يحق للمولى الحقيقي، الذي له الأمر كله، أن يوقعهم في الحرج الكامل(1).

فتحصل من جميع ذلك: أنه لا فرق في حكومة هذه الأدلة على قاعدة الاحتياط بين المبنيين، سواء كان المنفي الحكم الحرجي أم المتعلق الحرجي، فلا يجب الاحتياط التام في المقام وذلك لبعض الأجوبة السابقة.

لكن ذكر في النهاية(2): عدم الفرق بين المبنيين في عدم حكومة أدلة رفع الحرج على قاعدة الاحتياط، فيجب الاحتياط التام وإن أوجب الضرر والحرج والعسر، وتبعه في المنتقى أيضاً(3).

وحاصله: تارة يكون امتثال الحكم حرجياً، فيرفع بقاعدة نفي الحرج والضرر، وتارة لا يكون امتثال الحكم حرجياً وإنما تحصيل العلم بامتثال الحكم حرجي، فلا حكومة لأدلة رفع الحرج على قاعدة الاحتياط العقلية، والمقام من قبيل الثاني.

ص: 106


1- كما قال: لك جسمي تعله***فدمي لا تطله قال إن كنت مالكاً***فلي الأمر كله
2- نهاية الدراية 2: 360.
3- منتقى الأصول 4: 338.

قال(1): «التكليف وإن كان مقتضياً لامتثاله(2) إلا أن العسر(3) ليس في امتثاله(4)، بل في تحصيل العلم بامتثاله(5) بالجمع بين محتملاته، وهو(6) ليس من مقتضيات التكليف(7) ولو بواسطة أو وسائط... و ليس هنا(8) إطلاق يفيد الإرادة الأعم من اقتضاء العسر أو الموضوعية لأمر عقلي لازمه العسر(9)، بل الظاهر من قوله(عليه السلام): لا ضرر(10)، أو: ما جعل عليكم في الدين من حرج(11). بناء على إرادة الحكم الموصوف بالضرر أو العسر(12) هو كونه(13) موصوفاً بهما ولو بالواسطة والاقتضاء(14)، لا أن يكون من باب الوصف بحال

ص: 107


1- نهاية الدراية 2: 260-261.
2- فكل تكليف له داعوية ومحركية نحو الإتيان بمتعلقه.
3- في المقام.
4- فإن امتثال التكاليف الواقعية ليس فيه عسر ولا حرج في المقام، أي باب الانسداد.
5- فتحصيل العلم بامتثال التكاليف الواقعية حرجي.
6- العلم بالامتثال.
7- فإن التكليف يقتضي امتثال الإتيان بمتعلقه، ولا يقتضي تحصيل العلم بامتثاله، فقوله (حج) يعني أد الحج، وليس معناه حصل العلم بإتيان الحج.
8- في أدلة نفي الحرج والضرر.
9- فأدلة (لا حرج) تنفي التكليف الذي يقتضي العسر كالصوم الحرجي، ولا تعم حتى تنفي تكليفاً يقتضي العسر، وتكليفاً هو موضوع لأمر عقلي لازمه العسر والحرج.
10- وسائل الشيعة 18: 32.
11- الحج: 78.
12- كما هو مبنى الشيخ.
13- أي الحكم.
14- فإن كان مقتضى الحكم حرجياً لكان منفياً.

المتعلق(1)، وهو(2) لازمه العقلي»(3) انتهى.

وعليه، فحتى على مبنى الشيخ(4) أدلة رفع الضرر لا حكومة لها على قاعدة الاحتياط العقلي.

وفيه تأمل: فلا فرق بنظر العرف في صدق أدلة نفي الضرر والحرج بين أن يكون الحكم الشرعي منشأ للضرر والحرج، أو منشأ لما يكون منشأ لهما، ففي الصورتين يصدق أن الحكم ضرري، وما نحن فيه كذلك.

فمتعلق الحكم الشرعي وإن لم يكن منشأ للحرج، إلا أن الحكم الشرعي منشأ للحكم العقلي، وهو منشأ الضرر والشيء، كما ينسب إلى منشئه ينسب إلى منشأ منشئه، فيمكن أن يقال: إن هذا الحكم حرجي لأنه منشأ لمنشأ الحرج.

وبعبارة أخرى: لو عرض مجموع أدلة نفي الحرج والضرر والعسر على العرف، لم يَرَ فرقاً في شمول الأدلة بين الحكم الشرعي الذي ينشأ منه الحرج، أو الحكم الشرعي الذي ينشأ منه حكم عقلي ينشأ منه الحرج.

مثلا: قوله(عليه السلام): «وذلك باب مضرة للعامة»(5)، فالتكليف الشرعي باب

ص: 108


1- بأن نقول هذا الحكم حرجي؛ لأن الحكم العقلي حرجي، كأن نقول زيد رفيع بيته حيث إنه وصف بحال متعلقه، فأنتم تقولون (هذا الحكم الشرعي حرجي الحكم العقلي)، فلم يكن هذا الحكم الشرعي حرجياً، وإنما صار متعلقه حرجياً، فلا بد وأن يكون الحكم الشرعي حرجياً حتى يرفع بأدلة لا حرج، لا أن يكون وصفاً بحال المتعلق.
2- أي المتعلق.
3- اللازم العقلي أمر عقلي بتحصيل العلم بالامتثال.
4- رسائل فقهية: 116.
5- نهج البلاغة 3: 100.

مضرة، فإن باب الباب باب.

وقول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا حرج، لا حرج»(1). حيث يصدق أن هذا الحكم الشرعي حكم ينشأ منه الحرج.

وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(2). فإن كان المولى يريد تكليفه في ظرف الجهل على كل حال، وإن نشأ العسر من حكم العقل بلزوم تحصيل الامتثال، فإنه يصدق أن المولى يريد بعبيده العسر.

وقوله(عليه السلام) في الموثقة: «فإن الدين ليس بمضيق»(3). فإن الدين الذي يأمر بشيء يتبعه حكم العقل الذي يتبعه الضيق يصدق عليه أنه دين مضيق.

كما أنه من مصاديق الإصر في قوله تعالى: {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا}(4).

ورواية المحاسن(5) عن أبيه(6)، عن صفوان بن يحيى(7)، عن منصور بن حازم(8)، قال: قال: أبو عبد اللّه(عليه السلام): «الناس مأمورون ومنهيون، ومن كان له

ص: 109


1- وسائل الشيعة 14: 156.
2- البقرة: 185.
3- وسائل الشيعة 1: 163.
4- البقرة: 386.
5- لمؤلفه: احمد بن محمد بن خالد البرقي، وهو ثقة.
6- محمد بن خالد البرقي، ثقة وإن كان يعتمد الضعفاء والمراسيل.
7- صفوان بن يحيى، ثقة من أصحاب الإجماع.
8- منصور بن حازم، ثقة.

عذر عذره اللّه»(1). وظاهرها العذر العرفي، أي ما يكون عذراً عرفاً، والمشقة والضيق والحرج عذر، إلا أن يقال: إن المراد العذر الشرعي.

قال السيد الوالد في مقام رد صاحب الكفاية في موضع آخر: «لولا أمر الشارع لم يكونا(2)، فصح الإسناد لولا الرفع»(3)، فإن لم يرفع الشارع حكمه لصح الإسناد إليه أنه أوقعنا في الضرر والحرج، وعليه لو تم هذا الاستظهار لكان كلام النهاية والمنتقى محل تأمل.

هذا تمام الكلام في البحث الكبروي في أن الاحتياط التام لو استلزم الإخلال بالنظام أو الحرج أو الضرر هل هو مرفوع أم لا؟

وأما البحث الصغروي: فلو أراد الفقيه الاحتياط التام في ظرف الانسداد في جميع أطراف الشبهات الحكمية، سواء كان الحكم مظنوناً أم مشكوكاً أم موهوماً، فهل يوجب ذلك الحرج أو العسر أو الضرر أو الإخلال بالنظام؟

قال الشيخ الأعظم: «لزوم العسر الشديد والحرج الأكيد في التزامه، لكثرة ما يحتمل موهوماً وجوبه، خصوصاً في أبواب الطهارة والصلاة، فمراعاته مما يوجب الحرج، والمثال لا يحتاج إليه، فلو بنى العالم الخبير بموارد الاحتياط في ما لم ينعقد عليه إجماع قطعي أو خبر متواتر، على الالتزام بالاحتياط في جميع أموره يوماً وليله لوجد صدق ما أدعيناه. هذا كله بالنسبة إلى نفس العمل بالاحتياط.

ص: 110


1- المحاسن 1: 245.
2- أي: الضرر والعسر.
3- الأصول: 677.

وأما تعليم المجتهد موارد الاحتياط لمقلده، وتعلم المقلد موارد الاحتياط الشخصية، وعلاج تعارض الاحتياطات، وترجيح الاحتياط الناشئ عن الاحتمال القوي على الاحتياط الناشئ عن الاحتمال الضعيف، فهو أمر مستغرق لأوقات المجتهد والمقلد، فيقع الناس من جهة تعليم هذه الموارد وتعلمها في حرج يخل بنظام معاشهم ومعادهم(1) »(2).

توضيح ذلك: أن الاحتياط في مسألة التطهير بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر، ترك التطهير به، لكن قد يعارضه في الموارد الشخصية احتياطات أخر بعضها أقوى منه، وبعضها أضعف وبعضها مساو، فإنه قد يوجد ماء آخر للطهارة، وقد لا يوجد معه إلا التراب، وقد لا يوجد من مطلق الطهور غيره، فإن الاحتياط في الأول(3)، هو الطهارة من ماء آخر لو لم يزاحمه الاحتياط من جهة أخرى، كما إذا كان قد أصابه ما لم ينعقد الإجماع على طهارته(4).

ص: 111


1- فرائد الأصول 1: 404.
2- فالاحتياط التطبيقي يخل بالمعاش والمعاد للزوم تعطيل كل الأعمال، وترك جميع المستحبات لتعلم الاحتياط.
3- وهو صورة وجود ماء طاهر غير مستعمل.
4- كما لو أصابه عرق الجنب من الحرام واحتمل نجاسته، فهل يرفع عرق الجنب النجس احتمالاً ويتوضأ بالماء المستعمل، أو يتوضأ بالماء غير المستعمل ويترك عرق الجنب، أو يرفعه بالماء المستعمل؟ فهذه صورة تعارض الاحتياطين، فمن جهة الاحتياط في رفع عرق الجنب بالماء غير المستعمل، ومن جهة الاحتياط أن يتوضأ بالماء غير المستعمل، فأيهما أقوى احتمالاً أو محتملاً؟

وفي الثاني(1): الأحوط هو الجمع بين الطهارة المائية والترابية إن لم يزاحمه ضيق الوقت(2).

وفي الثالث(3): الأحوط الطهارة من ذلك المستعمل والصلاة إن لم يزاحمه أمر آخر محتمل الوجوب(4).

لكن المحقق الحائري لم يرتض كلام الشيخ حيث قال: «لا يخفى أن العلم الإجمالي إنما يكون في موارد الأمارات المثبتة(5) لا بينها وبين ما لا

ص: 112


1- صورة وجود الماء المستعمل مع التراب.
2- فهل يجمع بين الاثنين حتى وإن وقع بعض الصلاة خارج الوقت، أو يقتصر على أحدهما لتقع الصلاة كاملة في الوقت؟
3- صورة عدم وجود شيء إلا الماء المستعمل.
4- كما لو كان كلب يموت من العطش، فهل الاحتياط أن يتوضأ بالماء المستعمل، أو يسقيه حتى لا يموت؟ مثال ثانٍ: إن الاحتياط أن يكون الكر حوالي 43 شبراً، فلو كان عنده كر 27 شبراً ووقعت فيه نجاسة، فالأحوط ترك التوضؤ به، فلو لم يكن له ماء آخر، فالأحوط أن يتيمم ويصلي ثم يتوضأ ويعيد صلاته، لكنه معارض ببقاء نجاسة البدن للصلاة القادمة، ويحتمل كون الوجوبات تعليقية لا مشروطة، فالوضوء بهذا الماء مع الجمع يسبب نجاسة البدن للصلاة الآتية، فما هو مقتضى الاحتياط، الجمع أو الترك؟ مثال ثالث: هل يشترط في كرية الكر تساوي السطوح أم لا؟ مقتضى الاحتياط ذلك، وعليه يجري على المياه في الأنابيب أحكام القليل. فلو كان الإنسان يعاشر من يعتقد أنها محكومة بالكرية، فماذا يفعل؟ ولأجل ذلك يقع المقلد والمرجع في مخمصة لا بداية ولا نهاية لها، ومن أراد الجمع في الاحتياطات الفقهية لا يستقر عنده حجر على حجر.
5- فإن المجتهد لا يفتي بأي مظنون وموهوم، بل فتواه تكون على طبق خبر أو إجماع أو شهرة، وإلا احتمال وجوب الدعاء يوم الجمعة في الساعة العاشرة مثلا لا يوجب فتواه بالاحتياط، لما قلناه من انحلال العلم الإجمالي في أطراف الأمارات.

يكون عليه أمارة أصلاً، فحينئذ نقول: لا يلزم من الاحتياط في تمام مواردها(1) حرج بحيث يوجب اختلال النظام، بل لا يكون حرجاً لا يتُحمل عادةً بالنسبة إلى كثير من المكلفين، الذين ليس محل ابتلائهم إلا القليل من التكاليف(2)، واتفاق الحرج في بعض الموارد لبعض الأشخاص يوجب دفع الاحتياط عنه(3)... ومما يدل على ما ذكرناه أن بناء سيد مشايخنا الميرزا الشيرازي (قدس اللّه نفسه الزكية) كان على إرجاع مقلديه إلى الاحتياط، وقل ما اتفق منه إظهار الفتوى والمخالفة للاحتياط، وكان مرجع تمام أفراد الشيعة مدة متمادية، ومع ذلك ما اختل نظام العالم بواسطة الرجوع إلى الاحتياط، وما كان تحمل هذا الاحتياط شاقاً على المسلمين بحيث لا يتحمل عادة»(4).

وأجاب السيد الوالد (رحمه اللّه) عن المقطع الأخير من كلامه: «إن احتياطات المجدد كانت قليلة جداً كما يظهر لمن راجع حواشيه على نجاة العباد وآداب تجارة الوحيد، وأين هما مما ذكره»(5).

والذي يبدو في بادئ النظر أن ما ذكره المحقق الحائري هو الأقرب، لأن الحرج إنما يرفع التكليف إذا كان دائمياً، أما لو كان غالبياً أو اتفاقياً، فيجب

ص: 113


1- أي الأمارات.
2- حيث لا تكون التكاليف كلها محل ابتلاء المكلف، بل يحتاط فيما هو محل ابتلائه، وهو لا يوجب الحرج أو إخلال النظام.
3- لأن الحرج شخصي لا نوعي، فلا يجب الاحتياط التام على من كان حرجياً عليه.
4- درر الفوائد 2: 402-403.
5- الأصول: 679.

على عامة المكلفين الاحتياط في جميع الموارد، إلا أن يصادفهم الضرر والحرج، فلا بد من تقييد إطلاق كلام الشيخ(1) بقيدين، قيد أفرادي، وقيد أحوالي، بأن يقال بعدم لزوم الاحتياط على كل فرد كان عليه الاحتياط حرجياً في مورده، وإلا فإن إطلاقه محل تأمل! واللّه العالم بحقيقة الحال.و أو

نتيجة الانسداد

نبه الشيخ(2) في ذيل نفي وجوب الاحتياط التام في أطراف العلم الإجمالي في ظرف الانسداد على مطلب مبتن على الفرق بين حجية الظن، والتبعيض في الاحتياط.

فيمكن أن يقال: إن نتيجة مقدمات الانسداد حجية الظن، كما هو المعروف على الألسن، ويمكن أن يقال: إن نتيجته التبعيض في الاحتياط. ومعنى حجية الظن، كونه طريقاً إلى الواقع ومعياراً للنفي والإثبات في الشريعة، وبعبارة أخرى: معنى الحجية المنجزية والمعذرية، لكن التبعيض في الاحتياط مفاده متابعة العلم الإجمالي في الجملة لا بالجملة.

ثلاث ثمرات

والفرق بينهما يظهر في ثلاث ثمرات:

الثمرة الأولى: ولم يتطرق إليها الشيخ فيما رأيت، وهي: جواز الإسناد إلى الشارع، فلو أدى الظن الانسدادي إلى حكم من الأحكام، فبناء على حجية الظن يمكن الإسناد إلى الشارع؛ لعدم الفرق في جواز الإسناد بين

ص: 114


1- فرائد الأصول 1: 403-404.
2- فرائد الأصول 1: 406.

العلم الوجداني والتعبدي، فللفقيه أن يسند اجتهاده وعلمه التعبدي إلى الشارع؛ لأن وزانه وزان العلم الوجداني، وهذه إحدى ثمرات قيام الأمارات مقام القطع الطريقي.

أما بناء على التبعيض في الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي، حيث لا يمكن الاحتياط الكلي، لا يمكن الإسناد إلى الشارع، بل هو منهي عنه عقلاً.

ويمكن التفصيل بين الكشف والحكومة: فبناء على حجية الظن كشفاً يمكن إسناده إلى الشارع، وكذلك بناء على الحكومة والقبول بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع، ولكن على الحكومة من دون قبول الملازمة، فلا يمكن الإسناد.

وعلى أي حال، بناء على حجية الظن يمكن الإسناد إلى الشارع ولو على التقديرين الأولين، ولكن على التبعيض في الاحتياط لا يمكن الإسناد إليه مطلقاً.

الثمرة الثانية: وقد ذكرها الشيخ(1)، وهي: بناءً على حجية الظن لا يجب الاحتياط في سلسلة المشكوكات والموهومات، لانحلال العلم الإجمالي مع وجود الحجة إلى علم تفصيلي بما قامت عليه الحجة، وشك بدوي في الباقي، كما ينحل مع العلم التفصيلي.

ولكن على التبعيض في الاحتياط حيث يحكم العقل بوجوبه في جميع الدوائر المظنونة والمشكوكة والموهومة إلا بمقدار الحرج، فلو اندفع

ص: 115


1- فرائد الأصول 1: 421-422.

الحرج بترك الاحتياط في الموهومات وجب الاحتياط في الباقي، وكذا لو كان للموهومات مراتب قوية وضعيفة، فلو اندفع الحرج بترك الاحتياط في دائرة الوهم الضعيف، فلا بد من الاحتياط في جميع المراتب الأخرى، وهذا الأخير مما لم يتطرق إليه الشيخ.

الثمرة الثالثة: ما ذكره الشيخ(1) وفيه غموض، قال: صلاحية تقييد المطلقات والعمومات المثبتة للتكليف بالظن النافي بناء على حجيته، وأما على التبعيض في الاحتياط، فالاحتياط النافي لا يمكن أن يقف أمام العمومات والمطلقات، وقد اختار الشيخ مسلك التبعيض في الاحتياط.

وقال(2): إنه يجب الاحتياط بالغاً ما بلغ ما لم يمنع عنه العسر والحرج.

ولكنهما لا يخلوان من نظر: أما الثمرة الثانية(3): فهي مبنية على التوسط في التنجيز، والمبنى محل إشكال، فلو لم يكن العلم الإجمالي منجزاً تاماً، فالتوسط في التنجيز بمعنى - وجوب الاحتياط في الجملة - محل إشكال؛ لذهاب جمع من الأساطين إلى أن العلم الإجمالي إما أن يكون منجزا تاماً أو لا يكون له تنجيز أبداً، فلا توسط للتنجيز.

وأما الثمرة الثالثة(4): فإن الظن المطلق في طول الظن الخاص، ولا يصلح أن يكون في عرضه، وإن كان حجة فإحدى مقدمات الانسداد عدم وجود العلم والعلمي، فإن كان هنالك مطلق أو عام ثبت بالتواتر، فكيف يمكن

ص: 116


1- فرائد الأصول 1: 427-428.
2- فرائد الأصول 1: 428-429.
3- وهي الثمرة الأولى للشيخ (رحمه اللّه) .
4- وهي الثمرة الثانية للشيخ (رحمه اللّه) .

للظن المطلق وإن كان حجة أن يقيده؟

فمثلاً قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}(1) عموم قرآني، وهو ظن خاص، فلو ظن بظن مطلق عدم وجوب الحج على العبد، وإن كان مأذوناً من قبل مولاه، فإن مؤدى كلام الشيخ إمكان تخصيص العموم القرآني به لو قلنا بكون نتيجة مقدمات الانسداد حجية الظن، فلا يجب الحج على العبد المأذون.

وهذا خلاف الطولية بين الظن الخاص والظن المطلق. وعليه، لا فرق بين المبنيين، حيث لا يمكن للظن العام نفي العموم المثبت أيضاً.

وللتنظير - وإن كان بعيداً عنه- نقول: ما يراه بعض الفقهاء في باب القبلة من حجية الظنون طولاً، فلو تحقق العلم فلا تصل النوبة إلى الظن الخاص، ونفس الظنون الخاصة متفاوتة في مراتبها، فمع أن الشارع جعل الظن حجة في باب القبلة إلا أنه يقدم الظن الأقوى على الظن الأضعف.

هذا تمام الكلام في الشق الأول من شقوق المقدمة الرابعة لدليل الانسداد، وهو الاحتياط التام أو الناقص.

المبحث الثاني: الرجوع إلى الأصل بغض النظر عن العلم الإجمالي

وأما الشق الثاني من شقوق المقدمة الرابعة للانسداد، فهو: الرجوع إلى ما يقتضيه كل أصل منفرداً في كل واقعة واقعة من الوقائع بدون لحاظ العلم الإجمالي، فلو كان للشيء حالة سابقة فمجراه الاستصحاب، كوجوب صلاة الجمعة، وإن لم يكن له حالة سابقة وكان الشك في التكليف فمجراهُ

ص: 117


1- آل عمران: 97.

البراءة، كالشك في حرمة التتن، وإن كان الشك في المكلف به وأمكن الاحتياط فمجراهُ قاعدة الاشتغال، كالشك في وجوب القصر أو التمام، وإن لم يمكن الاحتياط فمجراهُ أصالة التخيير، كالشك في وجوب دفن الكافر وحرمته.

فهل يمكن الرجوع إلى هذه الأصول أم لا؟

والأصول الجارية منقسمة إلى نوعين:

الأول: أصول مفادها إثبات التكليف، كقاعدة الاشتغال.

الثاني: أصول مفادها نفي التكليف، كالبراءة.

فيقع الكلام في مقامين:

جريان الأصول المثبتة للتكليف

المقام الأول: في الرجوع إلى الأصول المثبتة للتكليف، وهي نوعان:

النوع الأول: الأصول المثبتة غير المحرزة التي لا تنظر إلى الواقع، بل تشخص الوظيفة العملية للمكلف، ولا محذور للرجوع إليها، لكون المقتضي - وهو حكم العقل أو عموم النقل - موجوداً والمانع مفقوداً.

كما لو شك في أن وظيفة المكلف القصر أو التمام، فمقتضى قاعدة الاشتغال الجمع بينهما.

النوع الثاني: الأصول المثبتة المحرزة الناظرة إلى الواقع كالاستصحاب.

ويمكن أن نتصور فيها حالتين:

الحالة الأولى: أن لا يعلم إجمالاً بانتقاض الأصل في بعض أطراف العلم الإجمالي، كالشك في وجوب صلاة الجمعة، فيستصحب الوجوب، والشك

ص: 118

في بقاء نجاسة الماء المتغير إذا زال تغيره بتصفيق الرياح، فتستصحب النجاسة، والشك في جواز مقاربة الطامث بعد انقطاع الدم وقبل التطهر، فتستصحب حرمتها، والشك في ثبوت خيار الغبن بعد أول أزمنة العلم، فيستصحب بقاء الخيار، ففي مجموع هذه الشبهات الحكمية لو احتمل المجتهد أن جميع هذه الاستصحابات مطابقة للواقع، ولم يحصل العلم الإجمالي بانتقاض بعضها، فالظاهر جريانها لما تقدم في النوع الأول.

الحالة الثانية: أن يعلم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة في بعض موارد جريان هذه الأصول المحرزة، فهل يجري الاستصحاب مع العلم الإجمالي؟

في المقام مبنيان: مبنى صاحب الكفاية، ومبنى الشيخ الأعظم.

أما مبنى الكفاية(1): المانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي منحصر في لزوم المخالفة العملية، والمفروض في المقام عدمه؛ لفرض كونها مثبتة للتكليف، فلا تحصل المخالفة العملية لو صلى الجمعة واجتنب الطامث، واجتنب الماء المتغير، وإنما تحصل المخالفة العملية في إجراء الأصول النافية.

وأما مبنى الشيخ(2) والمحقق النائيني(3) فهو: عدم انحصار المانع في المخالفة العملية، بل نفس المخالفة العلمية أيضاً مانعة. وعليه، لا يمكن جريان الأصل المحرز مع حصول العلم الإجمالي بانتقاض بعض موارده؛

ص: 119


1- كفاية الأصول: 313-314.
2- فرائد الأصول 2: 215.
3- فوائد الأصول 3: 77-78.

لترتب محذور المناقضة بين الصدر والذيل.

فمقتضى الصدر- أي لا تنقض اليقين بالشك - جريان الاستصحاب في جميعها، لتحقق اليقين السابق والشك اللاحق.

ومقتضى الذيل - أي ولكن انقضه بيقين آخر- عدم جريان الاستصحاب؛ لوجوب النقض بيقين آخر، وهو مطلق يشمل اليقين التفصيلي والإجمالي، والمفروض تحقق اليقين الإجمالي بانتقاض الاستصحاب في بعض هذه الموارد.

فمع جريان (لا تنقض) يلزم المناقضة بين الصدر والذيل، فإن مقتضى الصدر حرمة النقض في تمام الأطراف، ومقتضى الذيل وجوب النقض في بعض الأطراف، والموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية.

وعليه، لا يجري (لا تنقض) في أي طرف على مبنى الشيخ والمحقق النائيني.

ولصاحب الكفاية كلام غريب حيث يرى جريان الاستصحاب في كل الأطراف مع تحقق العلم الإجمالي بانتقاض بعضها حتى على مبنى الشيخ والمحقق النائيني.

قال: «لأنه(1) إنما يلزم فيما إذا كان الشك في أطرافه فعلياً، وأما إذا لم يكن كذلك، بل لم يكن الشك فعلاً إلاّ في بعض أطرافه، وكان بعض أطرافه الأخر غير ملتفت إليه فعلاً أصلاً، كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الأحكام، كما لا يخفى، فلا يكاد يلزم ذلك»(2).

ص: 120


1- أي محذور التناقض.
2- كفاية الأصول: 314.

وحاصله: إنّ تدرجية استنباط الأحكام مانعية من فعلية الشك.

وتوضيحه: 1 - إنَّ محذور تناقض الصدر والذيل موقوف على جريان الاستصحاب في جميع الأطراف، لكن لو جرى في بعض دون بعض، فلا يتحقق المحذور.

2 - جريان الاستصحاب في تمام أطراف العلم الإجمالي موقوف على تحقق موضوع (لا تنقض) وهو اليقين السابق والشك اللاحق.

3 - تحقق موضوع الاستصحاب متوقف على فعلية اليقين والشك، لما تقرر في محله من أن الألفاظ ظاهرة في الفعلية(1).

4 - فعلية اليقين والشك متوقفة على الالتفات إلى جميع أطراف العلم الإجمالي.

وهذا الشرط مفقود في المجتهد في مقام استنباطه للأحكام الشرعية، لأن استنباطه تدرجي، وما هو محل استنباطه فعلاً الماء المتغير مثلاً، فعنده يقين فعلي بسبق النجاسة وشك فعلي ببقائها، وحيث إن الموضوع محقق يجري (لا تنقض)، أما في بقية الشبهات الحكمية التي يتدرج المجتهد في استنباطها فلا شك فعلي له، فلم يتحقق موضوع (لا تنقض) فينتفي المحمول.

والنتيجة: لا علم إجمالي بالانتقاض في بعض الأطراف، والمحذور المذكور لا يجري في المقام، لكنه محل تأمل من جهات ثلاث:

ص: 121


1- كما أن هنالك بحث في قواطع الصلاة في أن القهقهة التقديرية - كما لو امتلأ ضحكاً - مبطلة للصلاة أم لا؟ فذهب البعض إلى عدم البطلان؛ لأن الألفاظ ظاهرة في الفعلية، وهذه تقديرية (منه (رحمه اللّه) ).

الأولى: فرض الغفلة عن بعض الأطراف مناف مع المقدمة الأولى التي ذكرها في مقدمات الانسداد، وهي وجود العلم الإجمالي بأحكام فعلية، فالعلم يتنافى مع الغفلة، لكنه غير وارد، ففي المقدمة الأولى فرض تحقق العلم الإجمالي بالأحكام، وفي المقام فرض عدم فعلية الشك اللاحق فلا تناقض، فالمجتهد يعلم بوجود أحكام، ولكن لا شك لاحق فعلاً، ففي مقام استنباط حكم الماء المتغير شك لاحق في خصوصه، أما في بقاء وجوب الجمعة لا شك فعلي، وإنما هو شك تقديري.

الثانية: يمكن فرض تحقق العلم الإجمالي بالانتقاض عند الاستنباط، حيث يمكن للفقيه أن يجعل مجموع الشبهات الحكمية أمامه، فيشك فعلاً في أن الأحكام باقية في جميع هذه الموارد أم لا؟ فالعلم الإجمالي بالانتقاض مانع من جريان الأصل في أي واحد من الأطراف.

الثالثة: العلم الإجمالي بالانتقاض حاصل بعد الفراغ من الاستنباط، حيث يعلم إجمالاً بأن بعض هذه الاستصحابات باطلة، فكيف يعطي رسالته للمقلد؟ وكيف هو يعمل به؟ ولأجل ذلك لم يقبل مشهور الأصوليين كلام صاحب الكفاية.

وقد سلك في النهاية(1) مسلكاً آخر لإثبات جريان استصحاب المثبت في تمام أطراف العلم الإجمالي، ولو مع العلم الإجمالي بالانتقاض في بعض الأطراف، ولو على مبنى الشيخ الأعظم(2).

ص: 122


1- نهاية الدراية 2: 266.
2- رسائل فقهية: 116.

وحاصله: تدريجية فعلية الأحكام.

وبيانه يتم بمقدمتين:

الأولى: علم المجتهد ويقينه وشكه بالأحكام المستنبطة من قبيل العلم بالقضايا الحقيقية.

الثانية: فعلية المحمولات في القضايا الحقيقية منوطة بفعلية الموضوعات.

وهما واضحتان ولا تحتاجان إلى توضيح وبيان. وعليه، لا أثر لعلم المجتهد الإجمالي بالأحكام المسوقة على نحو القضايا الحقيقية، إلا إذا تمت فعلية المحمولات، أما إذا لم تكن المحمولات فعلية؛ لعدم فعلية الموضوعات، فلا أثر للعلم بهذه القضايا الحقيقية.

مثلاً: لو علم بوجوب الحج على المستطيع، فلا أثر له إلا أن يصبح الموضوع فعلياً، فيصبح الحكم فعلياً، ومع قطع النظر عن فعلية الموضوع لا أثر للعلم بالقضية الحقيقية، وهكذا لا أثر ليقين المجتهد بحكم سابقاً وشكه في بقائه؛ لأن بقاء الحكم إنما يكون له أثر إذا كان الموضوع فعلياً، أما لو لم يكن فعلياً فلا أثر لليقين والشك.

وتترتب عليه نتيجتان غريبتان:

الأولى: لا علم للمجتهد بأحكام فعلية على الإجمال، لأن ابتلاءه بالوقائع تدريجي، وعند تحقق موضوع واقعة يتحقق الحكم، فلو كانت مسألة صلاة الجمعة محل ابتلاء المجتهد فقط، فهو يعلم بهذا التكليف فحسب، أما سائر الوقائع المستقبلية فلا تكليف فيها؛ لأن التكليف يعني المحمول، ولأنه لم يبتل بالواقعة فلم يتحقق الموضوع، فلا يمكن القول بتحقق العلم الإجمالي

ص: 123

بالتكاليف.

الثانية: عدم جريان الاستصحاب إلا في الواقعة التي ابتلي بها، وأما في الوقائع التي لم يبتل بها، فلا موضوع حتى يكون هنالك تعبد استصحابي.

والمحصلة النهائية: إنّ الأصول المحرزة المثبتة للتكليف لا مانع من جريانها ولو على مبنى الشيخ الأعظم(1) لسببين:

أولاً: لا علم إجمالي بالتكاليف، فإن المانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي هو العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية وهو منتف، فيستصحب المجتهد وجوب صلاة الجمعة، ولا يمنعه العلم الإجمالي بالانتقاض؛ لعدم تحقق العلم الإجمالي بالتكاليف؛ لان الوقائع البعدية متدرجة الوجود، وكذا أحكامها، فلا يكون مانعاً.

وثانياً: المانع من جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي تمانع الأصلين أو الأصول، وليس في المقام إلا أصل واحد، وهو استصحاب وجوب صلاة الجمعة التي ابتلى بها المجتهد، ولا يجري (لا تنقض) في الوقائع اللاحقة؛ لعدم ابتلاء المجتهد بها، فلم يتحقق موضوعها، فلا تمانع حتى يتساقطان.

وعليه، فتدرجية فعلية الأحكام المستنبطة سبب ارتفاع المانع عن جريان الأصل العملي في خصوص الواقعة المبتلى بها؛ لعدم العلم الإجمالي بالتكليف أولاً، ولعدم التمانع بين الأصلين الجاريين في الوقائع التدريجية ثانياً.

ص: 124


1- رسائل فقهية: 116.

ويرد عليه إشكالان:

الأول: ما ذكر نظيره من إمكان فرض فعلية ابتلائه بتمام الوقائع التي لها حكم، فالابتلاء تارة عملي خارجي، وتارة فتوائي، فلو استنبط المجتهد جميع الأحكام وأراد عرض رسالته العملية والإفتاء بها، فكيف يضمنها ويقول: إنّها مبرئة للذمة، مع العلم الإجمالي بأن بعض الأحكام التي استند فيها إلى الأصول المحرزة المثبتة مخالفة للواقع.

الثاني: ما ذكره بنفسه في النهاية(1)، وهو: تدريجية الفعلية لا تمنع عن ترتيب الأثر فعلاً، وتحقيقه موكول إلى مباحث الاشتغال، أما على نحو التوضيح بالمثال، فهو ما ذكره الشيخ الأعظم(2) ضمن مثالين:

الأول: من يعلم أنه يبتلى بمعاملة ربوية في معاملاته خلال هذا الشهر، فإن هذا العلم الإجمالي منجز للتكليف، ولا يمكنه إجراء أصل البراءة في المعاملة التي ابتلي به الآن، وإن لم تكن الوقائع القادمة محل ابتلائه فعلاً، ومثاله العرفي لو علم بوجود إناء سم في الأواني التي ستأتيه خلال الشهر.

الثاني: المرأة المستمرة الدم، حيث يعلم الزوج أنها خلال الشهر تكون طامثاً، فمع أن الأيام القادمة ليست موضع ابتلائه فعلاً إلاّ أنه يجب عليه الاجتناب، ولا يحق له استصحاب الطهر في اليوم الأول من الشهر، لكن يشترط في هذه الكبرى أن تكون أطراف العلم الإجمالي ملحوظة أولا، إما على نحو التفصيل، أو الإجمال، إما على نحو الجمع، أو الفرق إما على نحو

ص: 125


1- نهاية الدراية 2: 268.
2- فرائد الأصول 2: 248.

الكلية، أو الجزئية، أما لو لم تلاحظ أطراف العلم الإجمالي، بأن لم يلتفت في اليوم الأول إلى استمرار دمها، فمع عدم الأمارة يمكن إجراء الاستصحاب في اليومين، منتهى الأمر أنه سيعلم في اليوم الثاني أنه إما ارتكب الحرام في اليوم الأول أو يرتكب الحرام في اليوم الثاني ولا أثر له.

كما لو علم بنجاسة ماء شربه أمس أو ماء يشربه الآن، فلو لم يكن للطرف الأول أثراً فعلاً، فلا أثر لهذا العلم الإجمالي، فإن العلم بارتكاب الحرام لا أثر له وليس بمحرم، والشرط حاصل في المقام؛ لأن المجتهد يعلم بأنه في الوقائع المستقبلة المتدرجة يخالف بعضها الواقع، فلا يمكنه - على مبنى الشيخ - أن يجري الاستصحاب ولو في خصوص الواقعة الفعلية المبتلى بها الآن.

والنتيجة: تمامية المؤاخذة على مبنى الكفاية(1) في الشق الرابع.

هذا تمام الكلام في الأصول المثبتة للتكليف.

جريان الأصول النافية للتكليف

المقام الثاني: في جريان الأصول النافية للتكليف،كأصالة البراءة؟

ولصاحب الكفاية(2) كلام لإثبات جريان الأصول النافية، يمكن تحليله إلى ثلاثة مقاطع:

الأول: لو فرض أن المقدار المعلوم بالعلم التفصيلي، وما نهض عليه العلمي، وموارد الأصول المثبتة بمقدار المعلوم بالإجمال، فإنه ينحل العلم

ص: 126


1- كفاية الأصول: 381.
2- كفاية الأصول: 314-315.

الإجمالي بالتكليف، ومعه لا مانع من جريان الأصول النافية، لأن المانع منه إما المخالفة العلمية أو العملية، ومع الانحلال لا مخالفة، مثلاً: نعلم إجمالاً بوجود ألف تكليف، وما ثبت بالعلم أو العلمي أو الأصول المثبتة انتهى إلى هذا العدد، فلا يبقى علم بالتكليف في غيره، فلو شك في حلية أكل العظم تجري أصالة البراءة، ولا مانع عقلاً ونقلاً عن جريانها.

الثاني(1): لو فرض عدم انحلال العلم الإجمالي، وعلم بوجود تكاليف خارج دائرة موارد الأصول المثبتة بضميمة العلم والعلمي، فتجري الأصول أيضاً، إذا كانت موارد الأصول المثبتة بمقدار لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط، وإن لم يكن بمقدار المعلوم بالإجمال، فإنه وإن لم ينحل العلم الإجمالي، إلا أنه لا مانع من جريان الأصول النافية بهذا الشرط، أي: إذا كانت بمقدار لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط.

والظاهر أن كلامه مبنى على مبناه من عدم التوسط في التنجيز؛ لأن المفروض أن الاحتياط التام حرجي، أو مخل بالنظام...، ومع الاضطرار إلى الاقتحام في بعض الأطراف يسقط كل العلم الإجمالي، وإلا فمع وجود التكاليف المعلومة بالإجمال كيف يجيز إجراء الأصول النافية؟

الثالث: لو فرض عدم الانحلال، وعلمنا اهتمام الشارع بالموارد المتبقية، لمحذور الخروج عن الدين - وإن كان المبنى عدم التوسط في التنجيز - لكن في خصوص المقام يتوسط في التنجيز، فتكون موارد الأصول النافية

ص: 127


1- وفيه نوع من الإبهام (منه (رحمه اللّه) ).

خاصة محل الاحتياط(1)، ويرفع اليد عن وجوب الاحتياط فيها بمقدار رفع الاختلال(2) أو العسر(3).

ولكنه محل إشكال: أما المقطع الأول: فإن فرض الانحلال غير واقع؛ لأن موارد الأصول المثبتة في الشبهات الحكمية في العبادات والمعاملات(4) نادرة جداً حتى تكون مجرى للأصول المثبتة، فضميمتها إلى العلم والعلمي لا توجب انحلال العلم الإجمالي.

وأما المقطع الثاني: فهو مبني على مبنى عدم التوسط في التنجيز، أما على مبنى التوسط في التنجيز ففيه إشكال.

أما المقطع الثالث: فهوترجيح بلا مرجح، فإن مبنى الشيخ الأعظم(5) عدم جريان الأصول المثبتة والنافية.

ولتحقق العلم الإجمالي بالتكليف يجب الاحتياط في جميع موارد الأصول إلا بمقدار رفع محذور الاختلال، فرفع اليد عن وجوب الاحتياط لا يختص بالدائرة النافية، بل يشمل الدائرة المثبتة أيضاً.

ص: 128


1- ولا يجري الاحتياط في موارد الأصول المثبتة، لفرض إثباتها بها، فتبقى خصوص موارد الأصول النافية محل الاحتياط، وهذا في مقابل كلام الشيخ القائل: بأن كل محتملات التكليف محل الاحتياط (منه (رحمه اللّه) ).
2- على مبناه ظاهراً (منه (رحمه اللّه) ).
3- على مبنى الشيخ ظاهراً (منه (رحمه اللّه) ).
4- كالماء المتغير بعد زوال التغير، وصلاة الجمعة في عهد الغيبة، وجواز الاقتراب بعد الطهر وقبل التطهر (منه (رحمه اللّه) ).
5- فرائد الأصول: 1: 428-429.

وكلام صاحب الكفاية(1)، هو: أنَّ الأصول المثبتة تثبت التكليف في الدائرة المثبتة، والاحتياط يثبت التكليف في الدائرة النافية.

والنتيجة العملية واحدة وإن اختلف الطريق، فالشيخ أثبت التكليف بالاحتياط في الدائرتين، وصاحب الكفاية أثبتهُ في الدائرة المثبتة بالأصول المثبتة، وفي الدائرة النافية بأدلة وجوب الاحتياط، ففي إثبات التكليف لا فرق بين المسلكين.

والفرق أن صاحب الكفاية يرى رفع اليد عن الاحتياط في الدائرة النافية بمقدار رفع الاختلال والعسر، حيث قال: «كان خصوص موارد أصول النافية مطلقاً - ولو من مظنونات عدم التكليف - محلاً للاحتياط فعلاً، ويرفع اليد عنه فيها كلاً أو بعضاً، بمقدار رفع الاختلال»(2).

ولكن نسبة دليل رفع ما يوجب الإخلال إلى دائرة المثبت والنافي على حد واحد، فكيف يقال برفع اليد عن خصوص وجوب الاحتياط في الدائرة المنفية بمقدار الإخلال؟ فهذا ترجيح بلا مرجح، بل نرفع اليد عن الاشتغال في الدائرة المثبتة، فلو كان اندفاع العسر متحقق برفع اليد عن بعض التكاليف، إما في دائرة المثبت أو النافي، فلم الاختصار على الثاني فحسب؟ لم يظهر له وجه.

أما كلام الشيخ فهو عام(3)، حيث يرفع اليد في جميع محتملات التكليف

ص: 129


1- كفاية الأصول: 314.
2- كفاية الأصول: 314.
3- فرائد الاصول 1: 428-429. وإن لم يتطرق الشيخ إلى هذه التفاصيل.

بمقدار الإخلال أو الضرر.

قال(1): في محتملات التكليف يرفع اليد بمقدار رفع الاختلال.

فتحصل من جميع ذلك أن في المقام ثلاثة مبانٍ:

الأول: مبنى الشيخ، وهو: عدم جريان الأصول النافية والمثبتة؛ وذلك للعلم الإجمالي في الأول، وللإخلال والحرج والضرر في الثاني.

الثاني: مبنى الكفاية - ولو في الجملة: جريانهما معاً، إلا في الفرض الثالث في الأصول النافية.

الثالث: ما يبدو في بادئ النظر من عدم المانع من جريان الأصول المثبتة، ولا يلزم منه الحرج لقلة مواردها، وأما الأصول النافية فلا تجري؛ لمخالفتها للعلم الإجمالي بالتكليف، وموارد الأصول المثبتة قليلة بحيث لا يمكنها أن تحل العلم الإجمالي.

هذا تمام الكلام في الطريق الثاني في ظرف الانسداد.

المبحث الثالث: الرجوع إلى العالم بالحكم

وفي المقام بحثان: في الموضوع وفي الحكم.

أما البحث الأول: فللرجوع إلى العالم بالحكم موارد ثلاثة:

الأول: رجوع الفاقد للملكة إلى الواجد لها.

الثاني: رجوع الواجد الذي لم يستنبط بالفعل إلى الواجد المستنبط.

الثالث: رجوع الواجد المستنبط إلى واجد مستنبط مع تخطئته له في استنباطه.

أما البحث الثاني فهو: في الحكم.

ص: 130


1- فرائد الأصول 1: 428.

والبحث في المقام إنما هو في المورد الثالث، فمثلاً: أن يرجع صاحب القوانين المعتقد بالانسداد(1) إلى صاحب الرياض المعتقد بالانفتاح مع تخطئته له.

وقد ذكر الشيخ الأعظم(2) (رحمه اللّه) وجهين لعدم جواز الرجوع:

الأول: الإجماع القطعي، وقد ذكره على نحو البت بلا تردد أو تأمل.

الثاني: قصور أدلة الرجوع إلى العالم عن الشمول لهذا المورد؛ لأن أدلة الرجوع إلى العالم في مورد يختفي على الراجع منشأ اعتقاد المرجع(3)، وهكذا في باب الرجوع إلى الشاهد، فإن أدلة حجية الشهادة تتكفل حجية الشهادة التي تخفى على المشهود عنده منشؤها، وأما لو عرف منشأ الشهادة، وكان المشهود عنده يُخطئ الشاهد في المنشأ، فإن أدلة حجية الشهادة قاصرة عن الشمول لهذا المورد، فكيف يكلف بالرجوع إليه ولم يحكم بالعكس؟ هذا ترجيح بلا مرجح، ولذا أجمعوا على أن المرجع البراءة لو لم يصل المجتهد إلى دليل، لا إلى مجتهد آخر يعتقد بقيام الدليل على الحكم، ولا يفرق في ذلك بين الاعتقاد المضاد أو عدم الاعتقاد.

وقد يقال بالتفصيل في المقام: فإن المجتهد الانفتاحي قد يكون بعيداً عن عهد المعصوم(عليه السلام) فدليل التخطئة وارد في حقه.

وأما لو كان المجتهد الانفتاحي قريب العهد إلى المعصوم(عليه السلام)،

ص: 131


1- قوانين الأصول: 384-385.
2- فرائد الأصول 1: 429.
3- أي من يرجع إليه (منه (رحمه اللّه) ).

والمجتهد الانسدادي يعتقد بانفتاح باب العلم أو العلمي في ذلك العهد، أو يحتمل انفتاحه ففي هذه الصورة فإنّ دليل التخطئة والتغليظ الذي ذكره الشيخ غير وارد؛ لإمكان كون فتاواه في ظرف الانفتاح.

ولكن فيه محذوران:

الأول: تقليد الميت ابتداءً.

الثاني: التقليد لواجد الملكة.

وكلاهما مما ادعي الإجماع على عدم جوازه، إلا أن يقال: إنه دليل لبي، ولا يعلم شموله لهذه الصورة. وذلك كمن لا يعرف الطريق، فهل هنالك محذور لرجوعه إلى من انفتح عليه باب العلم أو العلمي؟ ألا يكون أولى من العمل بالظن المطلق؟

لكن الظاهر التسالم بينهم على أنه لا يحق للمجتهد المستنبط تقليد غيره مطلقاً، ولذا لم ينقل عن أحد من الفقهاء أنه رجع إلى غيره في المسائل التي استنبطها.

المبحث الرابع: القرعة

لأنها لكل أمر مشكل. ويرد عليه إشكالات:

الأول: ما في المنتقى، قال: «إن لوحظت القرعة في حد نفسها وإن لوحظت بالإضافة إلى دليلها، فلا يخفى أن الدليل إنما دل على جريانها في موارد خاصة ليس فيها طريق إلى الوصول إلى الواقع، فلا وجه للتعدي منها إلى سائر الموارد، كما لا يمكن تنقيح المناط»(1).

ص: 132


1- منتقى الأصول 4: 355.

وفيه تأمل؛ لوجود بعض الأدلة العامة في باب القرعة.

منها رواية الصدوق: عن محمد بن حكيم، قال: سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن شيء، فقال: «كل مجهول ففيه القرعة. فقلت: إن القرعة تخطئ وتصيب، قال: كل ما حكم اللّه به فليس بمخطئ»(1).

والعبرة بعموم الجواب لا بخصوص السؤال.

وسند الصدوق إلى محمد بن حكيم صحيح، وإنما الكلام في محمد بن حكيم، حيث لم يرد في حقه توثيق، إلا رواية معتبرة ربما يستفاد منها ذلك.

ففي رجال الكشي بسند معتبر عن حماد، قال: «كان أبو الحسن(عليه السلام) يأمر محمد بن حكيم أن يجالس أهل المدينة في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأن يكلمهم ويخاصمهم حتى كلمهم في صاحب القبر، فكان إذا انصرف إليه قال له: «ما قلت لهم وما قالوا لك؟ ويرضى بذلك منه»(2).

فهل كونه وجهاً للشيعة في قبال الآخرين يدل على التوثيق، أو إنه اعتماد في هذه الجهة فحسب؟ لم يتضح لنا في بادئ النظر، بل فيه نوع من الغموض، فلوكلف مرجع شخصاً للمناظرة مع أعداء الحق فهل يدل على وثاقته؟

نعم، لو استفيد منها الوثاقة المطلقة تكون الرواية صحيحة، ودالة على حجية القرعة بنحو مطلق.

ومنها: صحيحة سيابة وإبراهيم بن عمر جميعاً، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في رجل، قال: «أول مملوك أملكه فهو حر، فورث ثلاثة، قال: يقرع بينهم

ص: 133


1- من لا يحضره الفقيه 3: 92.
2- اختيار معرفة الرجال 2: 746.

فمن أصابه القرعة أعتق، قال: والقرعة سنة»(1).

وهنا لا واقع للموضوع، حيث مات مورثه وانتقل إليه ثلاثة من المماليك، فكان الأول ثلاثة، فهذا دليل على حجية القرعة مطلقاً، فإن السنة بمعنى القاعدة العامة.

ويمكن الإشكال عليه: بكون الجامع مجهولاً، فهل القرعة سنة في كل مجهول؟ أو في كل ما لا طريق إلى تعيينه، لا عقلاً ولا شرعاً؟ فلو كان المراد الثاني فلا ينطبق على المقام؛ لوجود الطريق إلى التعيين عقلاً أو شرعاً وهو الظن، فإنه على الكشف طريق شرعي، وعلى الحكومة طريق عقلي(2).

الإشكال الثاني: ما ذكره بعض المحققين من المتأخرين، حيث قال: «لا مقتضي لحجيتها(3)، إذ دليلها أخبار آحاد»(4) والبحث عدم ثبوت حجية الخبر الواحد.

لكنه محل تأمل، لإمكان دعوى كون روايات القرعة متواترة معنى، لا أقل من التواتر الإجمالي.

فصاحب الوسائل يذكر اثنين وعشرين رواية(5) فيها بأسانيد مختلفة،

ص: 134


1- وسائل الشيعة 27: 257.
2- أقول: ويرد عليه أن حذف المتعلق يفيد العموم، فهو سنة في كل شيء، ثم إنه يمكن للمالك تعيين الأول بالاعتبار في مورد الرواية عقلاً أو شرعاً، وذلك باختياره لمن شاء، فيرجع ذلك إلى اعتباره، ومع ذلك حكم بالقرعة، فالمقام لا يختلف عن مورد الرواية (المقرر).
3- أي القرعة.
4- بحوث في علم الأصول 4: 445.
5- وسائل الشيعة 27: 257-263.

بالإضافة إلى روايات أخرى في أبواب مختلفة.

مثلاً في كتاب العتق(1) روايات تدل على القرعة، وكذا في أبواب الوصايا(2)، وأبواب ميراث الملاعنة(3)، وأبواب ميراث الخنثى(4)، وأبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم(5)، وأبواب ميراث الأبوين(6)، وأبواب نكاح العبيد والإماء(7)، وأبواب كيفية الحكم من كتاب القضاء(8).

والظاهر أن مجموعة هذه الروايات متواترة إجمالاً، فتخرج عن كونها أخبار آحاد.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقق العراقي لا في المقام(9)، وهو: إنَّ القرعة لا تجري في الشبهات الحكمية؛ لظهور عنوان المجهول والمشتبه في كونه وصفاً لذات الشيء، وليس وصفاً لحكمه، وفي الشبهات الحكمية - كأكل العظم - ذات الشيء معلوم وحكمه مجهول.

وفيه تأمل؛ لعموم الأدلة، فقوله: «كل مجهول ففيه القرعة»(10) فالمجهول

ص: 135


1- وسائل الشيعة 23: 60-61.
2- وسائل الشيعة 19: 408-409.
3- وسائل الشيعة 26: 280.
4- وسائل الشيعة 26: 291-295.
5- وسائل الشيعة 26: 311-311.
6- وسائل الشيعة 26: 136-143.
7- وسائل الشيعة 21: 171-172.
8- وسائل الشيعة 27: 251-255.
9- نهاية الأفكار 4: 105.
10- من لا يحضره الفقيه 3: 92.

أعم، وكما يصح أن يقال الموضوع مجهول يصح أن يقال الحكم مجهول.

الإشكال الرابع: ما ذكر في غير المقام(1): من أن قاعدة القرعة موهونة بكثرة التخصيصات، وهو أمر مستهجن كاشف عن كون المراد بالقرعة معنى آخر، ولأنه مجهول فلا يمكن العمل بعموم دليل القرعة، إلا فيما ثبت عمل الفقهاء فيه، ولم يعمل بها الفقهاء في المقام.

وفيه تأمل، فلو قلنا: إنّ موضوع القرعة هو المجهول الذي لا طريق إلى تعيينه لا واقعاً ولا ظاهراً، فإشكال الموهونية بكثرة التخصيصات مندفع، لبقاء موارد محدودة لها لا طريق إلى تعيينها لا واقعاً ولا ظاهراً.

الإشكال الخامس: قيام الضرورة الفقهية على عدم اللجوء إلى القرعة في تعيين الأحكام الكلية، وقد ادعي الإجماع على ذلك، وإنما يرجع إليها في تعيين الشبهات الموضوعية في الجملة.

والظاهر أنه تام، ولذلك لا يمكن للانسدادي تعيين الأحكام بالقرعة، بل ربما يكون ذلك من المنكرات في أذهان المتشرعة، هذا تمام الكلام في المقدمة الرابعة.

المناقشة في المقدمة الخامسة:

وهي: إن الأمر يدور - بعد انسداد باب العلم والعلمي - بين الإطاعة الظنية والشكية والوهمية، وقد قالوا في موضعه: إن للإطاعة مراتب: الإطاعة العلمية التفصيلية، ثم الإطاعة العلمية الإجمالية - على إشكال، بل منع في الترتيب بين المرتبة الأولى والثانية - ثم الإطاعة الظنية ثم الشكية ثم

ص: 136


1- درر الفوائد 1: 55.

الوهمية، وهذه المراتب الخمس أو الأربع مترتبة في نظر العقل، فلا تصل النوبة إلى المرحلة اللاحقة بعد إمكان المرحلة السابقة، وحيث إن الإطاعة العلمية في المقام متعذرة أو غير واجبة، فيدور الأمر بين المراتب الثلاث الأخيرة، فتتعين الإطاعة الظنية؛ لقبح ترجيح المرجوح على الراجح، بل يمكن القول بأن ترجيح المرجوح على الراجح محال في المقام، وإن قلنا بإمكانه في حد ذاته، لأن العبد بصدد إفراغ ذمته من التكاليف الواقعية، ولو قصر النظر على هذا اللحاظ، فلا يوجد هنالك أي مرجح للإطاعة الشكية والوهمية، فيكون ترجيحهما ترجيحاً للمرجوح على الراجح، وهو قبيح أو محال.

ويمكن أن يورد عليه إشكالات:

الإشكال الأول ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) ، حيث قال: «العقلاء عند الجهل يعملون بكل من الثلاثة، وهل يقال إنه فعل قبيحاً إذا ترك الأول إلى الأخيرين في الملبس والمأكل والمسكن وما أشبه»(1).

وفيه تأمل: فإن ترجيح المرجوح على الراجح يفرض تارة في الأغراض الشخصية، وتارة في الأغراض المولوية، وفي الدائرة الشخصية أغراض مهمة وأخرى غير مهمة، ولا مانع من ترجيح المرجوح على الراجح في غير المهم، أما في المهم، كالحياة والموت، أو الغرض المولوي بأن كلف المولى عبده بشيء ودار الأمر بين امتثاله ظناً أو شكاً أو وهماً، فالظاهر إلزام العقلاء المكلف بالإطاعة الظنية، وما ذكر من الأمثلة في المأكل والملبس، فهي

ص: 137


1- الأصول: 683.

أغراض شخصية غير مهمة، ولا مانع فيها من ترجيح المرجوح على الراجح.

الإشكال الثاني: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) أيضا(1): من كون القبح أعم من استحقاق العقاب، فكلما فيه استحقاق العقاب قبيح ولا عكس، وهذه المناقشة بعد تسليم القبح في الإشكال الأول.

وفيه تأمل؛ لأن الحاكم على الإطلاق في باب الاستحقاق العقل والطريقة العقلائية، كما مر تفصيله، والظاهر أن العقلاء يجدون العبد الذي قدم المرجوح على الراجح مستحقاً للعقاب، ولو عاقبه المولى ما كان ملوماً عندهم.

الإشكال الثالث: لو فرض تمامية جميع المقدمات فتكون النتيجة التبعيض في الاحتياط لا حجية الظن، فالعقل يحكم بلزوم الاحتياط بالمقدار الممكن، سواء في دائرة المظنونات أم المشكوكات أم الموهومات، ويرفع اليد عن ذلك بمقدار الضرر والحرج و إخلال النظام.

نعم، لو دار الأمر بين محذورين حيث لا يمكن الاحتياط، فاللازم تقديم الظن على الشك والوهم.

والحاصل: إن مقدمات الانسداد غير تامة، لما ذكرناه من انحلال العلم الإجمالي الأكبر إلى الكبير، والكبير إلى الصغير، وإنحلال الصغير بأخبار الثقات، هذا أولاً:

وثانياً: مع فرض تماميتها، فالنتيجة التبعيض في الاحتياط لا حجية الظن.

ص: 138


1- الأصول: 683.
تنبيهات باب الانسداد
اشارة

وبعد تمامية البحث في مقدمات دليل الانسداد، تعرض القوم لتنبيهات في المقام نذكر بعضها:

التنبيه الأول: في أقسام الظن

الظن المتعلق بالحكم الشرعي - بناء على حجية الظن - ينقسم إلى قسمين: الظن الذي يتعلق بالحكم الشرعي بلا واسطة، والظن الذي يتعلق بالحكم الشرعي مع الواسطة، ولا فرق بينهما، لوحدة الملاك في القسمين.

ويتفرع عليه أمران:

الأول: لو كانت هنالك أمارة تبين متعلق أو موضوع الحكم الشرعي(1)، كقول اللغوي في كون الصعيد مطلق وجه الأرض، فيكون الظن به ملازماً للظن بالحكم الشرعي، فإن الظن بقوله ظن بأن الشارع أباح التيمم بمطلق وجه الأرض، ولا فرق بكون الأمارة تورث الظن بالحكم مباشرة أو بالواسطة، ومقدمات الانسداد تثبت حجية كلا النوعين، والملاك واحد فيهما.

الثاني: لو أورثت الأمارة الظن بالموضوع الخارجي لا الحكم الشرعي ولا متعلقه، كما لو دار الأمر بين كون الراوي زرارة بن أعين الثقة، أو زرارة بن لطيفة المجهول، فلو أخبر الرجالي الخبير أنه الثقة وحصل لنا الظن من قوله، فهو ملازم للظن بالحكم الشرعي أو يستتبعه، والمفروض أنه حجة،

ص: 139


1- دون أن تكون كاشفة عن نفس الحكم، كالشهرة الدالة على الحكم الشرعي فهي حجة لو أورثت الظن بناء على حجيته (منه (رحمه اللّه) ).

وبناء عليه تثبت حجية كل الظنون الرجالية بمبنى الانسداد والوصول إلى حجية مطلق الظن.

نكتة في التنبيه الأول: إن الحجية منوطة بالانسداد الكبير، ودائرة مداره وجوداً وعدماً. ويتفرع عليه أمران:

الأول: لو تحقق الانسداد الكبير دون الانسداد الصغير، وقامت الأمارة الظنية على إثبات متعلق الحكم أو موضوعه أو شيء له مدخلية ما في الحكم فهي حجة، مثلاً: لو فرض انفتاح باب العلم والعلمي في اللغات في جميع الموارد، لكنه انسد في مورد واحد، كلفظ الصعيد، فالانسداد الصغير(1) غير محقق، أما لو فرض تحقق الانسداد الكبير(2) في باب الأحكام الشرعية، وقامت الأمارة الظنية على كون الصعيد مطلق وجه الأرض لا خصوص التراب، فهي حجة، لأن الظن بالمتعلق ظن بالحكم، والمفروض حجية الظن في جميع الأحكام الشرعية بمقدمات الانسداد، فالظن بكون الصعيد مطلق وجه الأرض ملازم للظن بجواز التيمم بالحجر والمدر شرعاً وهو حجة.

الثاني: لو تحقق الانسداد الصغير دون الكبير، فلا تكون الأمارات الظنية في دائرة الانسداد الصغير حجة، لكن قال بعض الرجاليين(3) إن باب العلم والعلمي في علم الرجال منسد، فتكون الظنون كلها حجة في باب الرجال،

ص: 140


1- يعني الانسداد اللغوي.
2- يعني الانسداد الأحكامي.
3- معجم رجال الحديث 1: 20؛ توضيح المقال: 79، 240.

إلا أنه محل إشكال؛ لأن انسداد باب العلم والعلمي في خصوص علم الرجال لا يسبب حجية مطلق الظن؛ لكون مقدمات الانسداد مساقة بلحاظ الانسداد الكبير، ولا تثبت حجية الظنون الرجالية. وعليه، الظن الرجالي في فرض عدم تحقق الانسداد الكبير لا يكون حجة، بل يكون مشمولاً للأدلة الرادعة عن العمل بالظن، فيكون المرجع في كل مشكوك الأصول العملية.

نعم، لو فرض أن الانسداد الصغير يؤدي إلى الانسداد الكبير، فيعود الأمر إلى علية الانسداد الكبير لحجية الظن.

والحاصل: لو تحقق الانسداد الكبير دون الصغير، فالظن بالمتعلق أو الموضوع حجة، وإن تحقق الانسداد الصغير دون الكبير فلا.

نكتة أخرى، وهي: لا ملازمة بين حجية الأمارة الظنية التي لها مدخلية في إثبات الحكم الشرعي، وبين حجية الأمارة الظنية في إثبات الموضوعات الخارجية التي لها آثار شرعية؛ لأن دليل الانسداد محوره انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام لا الموضوعات الخارجية، مثلاً: لو قال اللغوي: الصعيد مطلق وجه الأرض، فيثبت الحكم الكلي الشرعي مع الظن بقوله، ولكنه لا يثبت الموضوع الخارجي ذا الأثر الشرعي، فلو قال المولى العرفي لعبده: ائتني بالصعيد، فلا يحق له أن يأتي بالحجر، لكونه موضوعاً لا يرتبط بالأحكام الشرعية الكلية، ولو أوصى شخص بإعطاء كل الأواني لزيد وحصل الشك في صدق الآنية على المكحلة والإناء المثقوب والخلخال المجوف، فلا يمكن القول بحجية قول اللغوي في إثبات الموضوع الخارجي؛ لكونه حجة في إثبات الأحكام الكلية، حيث لا

ص: 141

ملازمة بينهما.

مثال آخر: لو قال الرجالي: الراوي لهذه الرواية هو زرارة بن أعين العادل، لا زرارة بن لطيفة المجهول، وكان قول الرجالي موجباً للظن، فهو حجة، لكنه لو كان إمام الجماعة، فلا يكون قوله المفيد للظن كاف في جواز الائتمام خلفه؛ لأنه ظن بموضوع يترتب عليه حكم جزئي، وهو جواز الائتمام بخصوص هذا الشخص، ومقدمات الانسداد لا تجري في الأحكام الجزئية. نعم، لو قام دليل على حجية مطلق الظن في الموضوعات، أو قام دليل على حجية قول الرجالي واللغوي مطلقاً، أو تمت مقدمات الانسداد في الموضوعات الخارجية، فلا مانع من القول بحجية الظن الرجالي واللغوي.

تذنيب على التنبيه الأول: ما ذكره صاحب الكفاية حيث قال: «لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرقة إلى مثل السند أو الدلالة أو جهة الصدور، مهما أمكن في الرواية، وعدم الاقتصار على الظن الحاصل منها بلا سد بابه فيه بالحجة من علم أو علمي»(1).

وتوضيحه: يتوقف استكشاف الحكم الشرعي من الخبر على جهات ثلاث: الصدور والظهور والجهة.

وفي المقام صور ثلاث:

الأولى: انسداد باب العلم والعملي في جميع الجهات، ولا إشكال في حجية الظن الانسدادي، بناء على تمامية مقدمات الانسداد.

الثانية: انفتاح باب العلم والعلمي في جميع الجهات، ولا إشكال في عدم

ص: 142


1- كفاية الأصول: 328.

حجية الظن، ولزوم تحصيل العلم والعلمي.

الثالثة: انسداده في بعضها وانفتاحه في بعضها الآخر، كأن يكون باب العلم والعلمي منسد في السند دون الجهة، فهل يجوز الاكتفاء بالظن في الجهة أم يلزم تحصيل العلم والعلمي؟

والنتيجة على كل تقدير واحدة، فإنها تابعة لأخس المقدمات، فلو كان السند مظنوناً بالظن المطلق، وكان الظهور والجهة مظنونين بالظن الخاص، إلا أن النتيجة - وهي الحكم الشرعي - مظنونة بالظن المطلق، ومع ذلك يجب تحصيل العلم أو العلمي بما أمكن فيه من جهات الخبر «وذلك لعدم جواز التنزل في صورة الانسداد إلى الضعيف مع التمكن من القوي(1) أو ما بحكمه(2) عقلاً»(3).

فلو كان جميع جهات الخبر مظنوناً بالظن المطلق فالنتيجة النهائية الظن المطلق بالحكم (ستين بالمائة مثلاً) أما لو كان السند مظنوناً بالظن المطلق، والظهور والجهة معلومان بالعلم الوجداني أو العلم التعبدي، فنسبة الظن إلى الحكم يرتفع إلى (ثمانين بالمائة مثلاً)، ومع إمكان تحصيل الظن القوي بالحكم، لا يجيز العقل التنزل إلى الظن الضعيف بالحكم، فتكون النتيجة وجوب التفكيك بين الجهات(4)، ويقتصر في الظن المطلق على ما لا يمكن معه تحصيل العلم والعلمي في تلك الجهة.

ص: 143


1- كالعلم.
2- كالظن الخاص.
3- كفاية الأصول: 328.
4- أي بين الصدور والظهور والجهة.
التنبيه الثاني: في عدم حجية الظن في مقام الامتثال

بيانه: للعمل بالظن الانسدادي مرحلتان:

الأولى: مرحلة إثبات التكليف.

الثانية: مرحلة إسقاط التكليف.

والظاهر عدم الملازمة بين المرحلتين، فليس الظن الانسدادي حجة في إسقاط التكليف، كما كان حجة في إثبات التكليف؛ لأن مقدمات الانسداد الجارية في باب إثبات التكليف غير جارية في باب الامتثال، فمن المقدمات: انسداد باب العلم والعلمي، لكنه في مرحلة الامتثال غير منسد، ومن المقدمات: عدم جواز الاحتياط، أو عدم وجوبه، ولا مانع من القول بوجوب الاحتياط في مرحلة الامتثال، وإسقاط التكليف، ولا يترتب عليه إخلال أو حرج، فلو ثبت وجوب صلاة الجمعة بالظن فهو حجة، لكن لو شك المكلف بعد مضي مقدار من الوقت أنه أدى الواجب أم لا، فإن الظن بالامتثال ليس بحجة، فإن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، ولا بد من إحراز الامتثال بالعلم أو بالعلمي، كقاعدة الحيلولة، أي الوقت حائل.

والحاصل: إن مقدمات الانسداد تجري في الأحكام الكلية، لا في تطبيق متعلقاتها على الخارج، والظاهر عدم الإشكال في أصل المطلب، لكن خالف المحقق القمي(1) في ذلك على ما حكي عنه(2) بإن الظن حجة حتى في مقام الامتثال، لأن القطع بالإتيان لا يوجب القطع بالامتثال، بل الحاصل هو الظن بالامتثال، قطع أو ظن بالإتيان.

ص: 144


1- قوانين الأصول 1: 398.
2- فرائد الأصول 1: 160.

وبعبارة أخرى: إحراز العلم بالامتثال أو الانطباق لا يجدي، لأن النتيجة هي: الامتثال الظني على كل تقدير، فمن صلى الجمعة إلى الجهة المعلومة ومن صلاها إلى الجهة المظنونة يشتركان في أن الحاصل هو الظن بالامتثال بالتكليف الواقعي لا القطع به.

وفيه تأمل: أولاً: النقض بالظنون الخاصة، فلو فرض تحقق الظن الخاص بشيء، فهل يكفي في إفراغ الذمة الظن بالامتثال والإتيان والانطباق؟

وثانياً: ما مر في تذنيب التنبيه الأول من كون الظنون مراتب، وإنه لا يمكن التنزل إلى الظن الضعيف مع إمكان الظن القوي، فلو قطع المكلف بالإتيان مع الظن في الحكم فهو ظن قوي بالامتثال، ولكن لو كانت الجهتان(1) مظنونتين، فالحاصل من مجموع الظنين ظن أضعف بالامتثال، ويجب بحكم العقل تحصيل الظن الأقوى.

وثالثاً: العقل يحكم بوجوب إفراغ الذمة القطعي مع قيام الأمارة، وقد فرض حجية الظن الانسدادي، بمعنى المنجزية والمعذرية، فتنجز الحكم الكلي وهو وجوب الجمعة، فلو ظن بالإتيان والانطباق يكون الحاصل هو الإفراغ الظني، وهو غير كاف بحكم العقل.

استدراك على التنبيه الثاني

وهو ما ذكره صاحب الكفاية: «ربما يجري نظير مقدمات الانسداد في الأحكام في بعض الموضوعات الخارجية»(2). فإنه وإن كان المقام مقام

ص: 145


1- أي أصل التكليف والإتيان به.
2- كفاية الأصول: 329.

الامتثال وإسقاط التكليف، إلا أن نظير مقدمات الانسداد جارية، وتكون النتيجة: كفاية الظن بالامتثال في هذه الموضوعات الخارجية، مثلا: لو تردد أمره بين الوجوب والحرمة، بحيث لا يعلم حرمة الوضوء بهذا الماء لضرره، أو وجوبه لعدمه، فيجري شبيه مقدمات الانسداد، فيقال باب العلم والعلمي منسد بالضرر، لأن المكلف لا يعلم بالضرر إلا بعد وقوعه، وهو سالبة بانتفاء الموضوع، وإجراء الأصول العملية يوجب وقوع المكلف في مخالفة الواقع كثيراً، مما علم أن الشارع لا يرضى بذلك، فقد يصوم ويعمى مثلاً، والاحتياط يوجب الإخلال والعسر إلى آخر مقدمات الانسداد، فيدور الأمر بين ترجيح المرجوح أو الراجح، فيتعين ترجيح الظن فيعمل به.

وفيه تأمل؛ وقد أشكل عليه الكثيرون، فإنه تام لو كان الموضوع في الأدلة الضرر، فيقال الضرر حقيقة تكوينية، ولا طريق إلى هذه الحقيقة علماً وعلمياً فيعمل بالظن، ولكن الموضوع في لسان الأدلة خوف الضرر، وهو مسألة وجدانية ينسجم مع الظن والشك والوهم العقلائي، فلا نحتاج إلى جريان مقدمات الانسداد، فينتفي الحكم بمجرد خوف المكلف؛ لتحقق موضوع الحكم الشرعي وجداناً، وهكذا في نظائر مقام الضرر كإثبات العدالة، فلا داعي لمقدمات الانسداد لإثباتها، فالشارع جعل طريقاً لإحراز العدالة وهو حسن الظاهر، وهكذا في باب النسب، فلا يحتاج إلى جريان مقدمات الانسداد للعمل بالظن، فإن الشارع جعل الشهرة طريقاً إلى إثباته، فكل من اشتهر بأنه سيد يحكم عليه بالسيادة، وهكذا في باب الرضاع، فلا مانع من جريان الأصول العملية عند الشك في تحقق العنوان، فمتى شك أنها أخته من الرضاعة يعمل بالأصل، وهو عدم كونها أختاً رضاعية، بالعدم

ص: 146

النعتي لا العدم الأزلي، فإنها يوم ولدت لم تكن أختاً رضاعية. نعم، تبقى هنالك كبرى فرضية، وهي لو جرى شبيه مقدمات الانسداد في موضوع فلا مانع من القول بحجية الظن فيه.

التنبيه الثالث: في حجية الظن في الأصول الاعتقادية

وهو بحث مهم، وقبل الخوض في البحث نقدم مقدمة وهي: الأصول الاعتقادية نوعان:

الأول: ما يجب فيه الاعتقاد والتدين، ولا يشترط فيه حصول العلم، فالواجب مطلق لا مشروط، كالألوهية والتوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد.

الثاني: ما يجب فيه الاعتقاد والتدين على فرض حصول العلم، كتفاصيل المعاد وعالم البرزخ، وأن أول ما خلق اللّه هو الماء، أو نور النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1)، وأن المبشر والبشير متحدان مع منكر ونكير أو لا(2)، وهل عندنا رومان فتان القبور(3)؟ وهل الشمس تكون على مقدار رمح أو أكثر؟ وما أشبه ذلك مما يرتبط بتفاصيل الأمور الاعتقادية المرتبطة بالمبدأ والمعاد.

فيجب البحث في مقامين:

ص: 147


1- في بعض الأخبار أن نور النبي والأمير والحسنين (صلّی اللّه عليهم وآلهم) خلق قبل سبعة آلاف سنة. بحار الأنوار 15: 4.
2- المبشر الذي يبشر القوم بأمر خير أو شر، والبشير الجميل. تصحيح اعتقادات الإمامية: 99.
3- وهو اسم لأحد ملائكة القبر، وهو على وزان فعلان من الروم بمعنى الطلب. مستدرك سفينة البحار 4: 255.
الأمور الاعتقادية المشروطة بحصول العلم

المقام الأول: في الأمور الاعتقادية المشروطة بحصول العلم، وفيه بحوث:

الأول: ليس الظن المطلق الانسدادي حجة في إثبات الاعتقاديات المشروطة؛ لعدم جريان مقدمات الانسداد في المقام، ومنها عدم إمكان الاحتياط، فالاحتياط ممكن في المقام، بأن يعتقد بما هو الواقع إجمالاً، والمفروض أن الاعتقاد واجب مشروط بحصول العلم، ولم يحصل العلم، والاحتياط ممكن بأن يعتقد فيما هو مدون في اللوح المحفوظ.

الثاني: في حجية الظن الخاص في الاعتقاديات المشروطة(1)، فهل يجوز الاعتقاد والإخبار فيما لو قام الدليل المعتبر الظني على تفاصيلها؟ أشكل بعض المعاصرين في جواز ذلك حيث قال(2): الاعتماد على خبر الواحد في أصول الفقه، فضلاً عن أصول العقائد، فرع وجود إطلاق في أدلة حجية خبر الواحد، وعمدتها السيرة العقلائية، والقدر المتيقن غير هذا القسم.

قال صاحب الكفاية: «وأما جوازه، ففي كونه من آثار نفس المسألة الأصولية حتى جاز ترتيبه عليها إذا قام عليها طريق معتبر، أو من آثار العلم بها كي لا يترتب بدونه إشكال»(3).

وحاصله: إن كانت الآثار آثار الواقع فتترتب على الظن الخاص الآثار المترتبة على الواقع، وإن كانت آثار العلم بالواقع فلا يكون الظن الخاص

ص: 148


1- وهي مسألة مهمة جداً ومحل ابتلاء العلماء والوعاظ والمؤلفين (منه (رحمه اللّه) ).
2- مباحث الأصول 2: 474.
3- درر الفوائد 1: 169.

حجة، وحيث لا دليل في المقام يكون الإقرار والإخبار من قبيل القول بغير العلم، وبعبارة أخرى: هل الاعتقاد والإخبار من آثار الواقع أو آثار العلم بالواقع؟ فلو كان من آثار الواقع قام الظن الخاص مقامه كما مر، في بحث القطع الطريقي بأن الحجج الظنية تقوم مقامه، فالقطع طريق إلى الواقع والأثر للواقع، والدليل المعتبر يثبت الواقع تعبداً، فيترتب عليه أثره، فالحرمة أثر الخمر، والقطع طريق إلى الخمر، والبينة تثبت الخمرية تعبداً، فيترتب عليه الأثر.

وفي المقام: هل التدين والإذعان والإخبار أثر الواقع، فتقوم الأمارة الظنية بالظن الخاص مقام العلم، أو من آثار العلم بالواقع، يعني القطع الموضوعي؟ والأمارة لا تقوم مقام القطع الموضوعي، كقوله: إن علمت بحياة ولدي فأتصدق، فالأمارة لا تكفي لإثبات الأثر إن لم توجب القطع الوجداني، ويستشكل صاحب الكفاية في ذلك، حيث لا دليل على أن هذه الآثار آثار الواقع، فيكون الإخبار والإقرار من قبيل القول بغير العلم، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(1)، وقال سبحانه: {آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ َعلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ}(2).

ثم قال: «ومن هنا علم عدم جواز الإخبار ببعض تفاصيل الحشر والنشر بمجرد مساعدة ظهور آية أو رواية عليه، كما هو ديدن بعض الواعظين»(3)

ص: 149


1- الإسراء: 36.
2- يونس: 59.
3- درر الفوائد 1: 169.

وحتى لو كان الخبر معتبراً صحيحاً أعلائياً فالإخبار غير جائز.

ولكنه قابل للتأمل؛ لإمكان الاستدلال بدليلين في المقام:

الدليل الأول: إطلاقات الأدلة اللفظية، والتي مر بعضها، وكانت معتبرة، كما سبق، منها قوله(عليه السلام): «العمري ثقتي فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول»(1).

فهي مطلقة تشمل الفروع العملية، وفروع الأصول الاعتقادية، ولو بقرينة عموم التعليل، فلو قيل: إنها مذيلة بقوله: (فاسمع له وأطع) فتكون قرينة على كون السماع في الفروع العملية، إلا أن التعليل(2) يعمم الحكم.

ومنها: «قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): أرأيت من لم يقر يأتكم في ليلة القدر - كما ذكرت - ولم يجحده؟ قال: أما إذا قامت عليه الحجة ممن يثق به في علمنا فلم يثق به فهو كافر، وأما من لم يسمع فهو في عذر حتى يسمع»(3).

وهي صريحة فيما نحن فيه، ولا ترتبط بالفروع العملية.

ومنها قوله(عليه السلام): «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا، قد عرفوا بأنا نفاوضهم سرنا، ونحمله إياه إليهم»(4).

ومنها قوله(عليه السلام): «أما ما رواه زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) فلا يجوز لك أن

ص: 150


1- الكافي 1: 330.
2- أي قوله (عليه السلام): فإنه الثقة المأمون.
3- بصائر الدرجات: 244.
4- وسائل الشيعة 27: 150.

ترده»(1).

ومنها قوله(عليه السلام): «ائت أبان بن تغلب فإنه قد سمع مني حديثاً كثيراً، فما رواه لك فاروه عني»(2).

ويمكن دعوى أن هذه الروايات(3) - وفيها الروايات المعتبرة، وبعضها الصحيح الأعلائي - توجب القطع بالصدور، وقد قال بعض الأصوليين في موضعه نقطع وجدانا بصدورها(4)، ولا يفرق فيها بين كون المخبر به فرع عملي، أو أمر اعتقادي لا يطلب فيه العلم الوجداني.

الدليل الثاني: ما مر من حجية الخبر الواحد بالسيرة العملية، وقد قلنا إنه لو لم يكن خبر الواحد حجة في نظر الشارع لكانت ظاهرة غير مألوفة؛ لجريان طريقة العقلاء على الاعتماد على أخبار الثقاة، فلو أراد الشارع تغيير هذه الطريقة لبان، وكانت ترد عنه روايات كثيرة، كما هو الحال في القياس، والمقام كذلك، فالعقلاء يعتمدون على أخبار الثقاة، ولا يفرق عندهم بين ما يرتبط بالعمل أو لا يرتبط به مباشرة، فلو أراد الشارع الاعتماد على أخبار الثقاة في خصوص الفروع العملية دون الاعتقادية، ولم يكن اعتماد أصحاب الأئمة(عليهم السلام) عليها في الأمور الاعتقادية، كعلم الإمام(عليه السلام) وأحوال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأحوال القيامة والبعث والنشور، لبان ذلك لنا، وحيث

ص: 151


1- وسائل الشيعة 27: 143.
2- وسائل الشيعة 27: 147.
3- راجع الأصول الأصلية: 136-145.
4- الظاهر أنها الرواية الأولى (منه (رحمه اللّه) ).

لم يبن فلم يكن، قال الشيخ الأعظم(1): «لا مانع من وجوبه(2) في مورد خبر الواحد، بناء على أن هذا نوع عمل بالخبر(3)، فإن ما دل على وجوب تصديق العادل لا يأبى الشمول لمثل ذلك. نعم، لو كان العمل بالخبر لا لأجل الدليل الخاص... أو يقال: إن عمدة أدلة حجية أخبار الآحاد - وهي الإجماع العملي - لا تساعد على ذلك»(4).

لكن رجوعه محل تأمل، فإن الأخبار تدل على حجية أخبار الآحاد، هذا أولاً، وثانياً: لو سلمنا أن الإجماع العملي هو الدليل على الحجية، فقد مر أن الإجماع العملي يساعد على الحجية المطلقة، وقال السيد الوالد (رحمه اللّه) (5) في بطلان صوم من يخبر بما لا يعلم عن اللّه، والنبي، والأئمة(عليهم السلام)، إلا أن يكون الراوي ثقة يشمله قوله(عليه السلام): «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا»(6).

والحاصل أن العلم - وما هو بمنزلته من الأدلة المسوغة للإخبار، كلها- يخرج الخبر عن الكذب العمدي، فهو مما أذن به اللّه، وهو قول على اللّه بما يعلم، وقال في المصباح: «فهو حجة، بمعنى أنه لا مانع من الالتزام بمتعلقه(7)

ص: 152


1- ولم يظهر منه رأي قاطع.
2- التدين والاعتقاد.
3- فتصديق كل شيء بحسبه ففي الفروع بالعمل وفي الأصول بالاعتقاد والإخبار والإقرار.
4- فرائد الأصول 1: 557.
5- الفقه 34: 204.
6- وسائل الشيعة 27: 149-150.
7- أي الظن الخاص.

وعقد القلب عليه، لأنه ثابت بالتعبد الشرعي»(1).

وقد رتب عليه الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (2) ثمرة أخرى، وهي: ظهورات الآيات الكريمة والروايات المتواترة في الأمور الاعتقادية، كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}(3)، فهل يمكن الاعتماد على ظاهرها - لو كانت ظاهرة بلا معارض - وهو وجود الميزان المادي والاعتقاد والإخبار به؟ فلو قلنا بحجية الظواهر مطلقاً، سواء فيما يتعلق بالأمور العلمية، أم الاعتقادية من النوع الأول، لأمكن التدين والإذعان والإقرار، وأمكن القول بأن الميزان ميزان مادي.

حجية الظن في الأمور الاعتقادية التي يجب تحصيل العلم بها

المقام الثاني: في حجية الظن في الأمور الاعتقادية التي يجب تحصيل العلم بها، وليست من الواجبات المشروطة.

ويقع الكلام ضمن عدة بحوث:

الأول: في القادر على تحصيل العلم.

الثاني: في الجاهل جهلاً قصوريا.

الثالث: في الجاهل جهلاً تقصيرياً.

البحث الأول

أما البحث الأول: عدم كفاية الظن للقادر على تحصيل العلم، سواء كان

ص: 153


1- مصباح الأصول 2: 238.
2- فرائد الأصول 1: 558.
3- الأنبياء: 47.

الظن انسدادياً أم خاصاً؛ لأن العقل أو النقل أوجب تحصيل العلم أو المعرفة، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}(1) وليست المعرفة الظنية علماً، وقد ذكروا في علم العقائد وجوب معرفة اللّه، والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام(عليه السلام) فإنه المنعم، ولا يتحقق شكره إلا بمعرفته، أو إن المعرفة نوع من أنواع الشكر، والنبي والإمام (عليهما السلام) وسائط الفيوضات الإلهية وأولياء النعم، فالعقل يوجب معرفة اللّه تعالى، والنبي والإمام (عليهما السلام) من باب وجوب شكر المنعم، أو من باب وجوب دفع الضرر المحتمل، فلو وجب تحصيل العلم في مسألة عقلاً أو نقلاً، فلا يكتفى فيها بالظن، لأنه ليس علماً ويقيناً وتفقهاً، ولا يفرق في ذلك بين أسباب حصول العلم، فمثلاً: هل يكفي التقليد في أصول الدين، لو أورث العلم(2)؟ المختار أنه لم يدل دليل على لزوم تحصيل العلم من طريق خاص، فإذا أوجب التقليد العلم كفى، وهذا بحث مفصل يوكل إلى محله.

البحث الثاني

أما البحث الثاني: الجاهل بتحصيل المعارف الضرورية على نحو الجهل القصوري.

وفيه مباحث:

المبحث الأول: في أصل وجود الجاهل القاصر، فهل هنالك جاهل قاصر في المعارف الضرورية - كالألوهية والنبوة والمعاد(3)

ص: 154


1- محمد: 19.
2- كمن يقطع بوجود اللّه من مشاهدته لأخلاق السيد حسين القمي (رحمه اللّه) (منه (رحمه اللّه) ).
3- ويتوقف على تنقيحه جميع المباحث القادمة (منه (رحمه اللّه) ).

فقد شكك في وجود الجاهل القاصر لوجوه:

الوجه الأول: قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(1) وقد فسرت العبادة بالمعرفة، وأوضح منها قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}(2)، وظاهر اللام الغاية، فعلة الخلق أن تعلموا، وقد ثبت في محله: أن ما لا يترتب على شيء لا يعقل أن يكون غاية أو غرضاً له لدى العالم. نعم، لو كان جاهلاً أمكن أن يكون ما لا يترتب غاية، أما العالم بعدم ترتب الشيء، كمن يعلم أنه إذا ذهب إلى السوق لا يترتب عليه الشراء؛ لعدم وجود بائع، فلا يعقل أن يكون ذهابه إلى السوق لغاية الشراء، وعليه الغاية - وهي المعرفة والعلم - تترتب على خلق كل إنسان، فكل إنسان يكون عالماً، فلا وجود للجاهل القاصر.

والجواب عنه: أولاً: نقضاً: بالأطفال والمجانين، فإن ماتوا قبل الشعور والإدراك لم تتحقق فيهم الغاية، فما يجاب به هنا يجاب به في الجاهل القاصر.

لكن يشكل عليه، بأن نفي العلم فرع الإحاطة العلمية، ولا نحيط علماً بمشاعر الأطفال والمجانين، فلا يمكن نفي علمهم بالمعارف الضرورية، وهو رجم بالغيب، إلا أن يجاب بأن قوله تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا}(3) فإن (شَيْئًا) نكرة في سياق النفي، وهي تفيد

ص: 155


1- الذاريات: 56.
2- الطلاق: 12.
3- النحل: 78.

العموم، وعليه فالطفل عند الولادة لا علم له حتى بالبديهيات والأوليات.

ثانياً: إن الغاية غاية للنوع لا لكل واحد واحد.

وفيه تأمل، لأن ظاهر أمثال هذه الغايات الاستغراق الأفرداي، كمن يأتي بجمع من العمال ثم يقول لهم جئت بكم هنا لتبنوا هذا البيت، فظاهر قوله: (لتبنوا) أو (لتعملوا) أو (لتدرسوا) أو ما أشبه ذلك الغاية الاستغراقية، وتشمل جميع الأفراد، فقوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا}(1)، و{لِيَعْبُدُونِ}(2) يعني ليعلم، وليعبد كل واحد واحد منكم، لأن الخطاب بمجموع المكلفين.

وثالثاً: سلمنا عدم وجود القاصر بالنسبة إلى معرفة اللّه تعالى، وكما قال البعض(3) إن الإنسان أول ما يدرك يدرك ذاته، ثم وجود غيره، (كالأم) ثم يدرك وجود الخالق - وإن كان في هذا الترتيب نظر يبحث في محله - فمسألة الإيمان بالخالق مسألة فطرية، إلا أنه لا يثبت أن كل المعارف الضرورية فطرية وإنها هي الغاية، كالإيمان بالمعاد الجسماني. نعم، معرفة اللّه غاية، لكن الآيتين لا تتكفلان بإثبات كون بقية المعارف الضرورية غاية، فالدليل أخص من المدعى، وعليه يمكن القول بإمكان وجود القاصر في ثبوت المعاد، أو مسألة الإمامة أو المعاد الجسماني، ومنه يظهر الكلام في الوجه الآتي.

الوجه الثاني: قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي

ص: 156


1- المائدة: 97؛ يونس: 5؛ الطلاق: 12.
2- الذاريات: 56.
3- من المبدأ إلى المعاد: 63.

فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(1) حيث إنه أمر فطري، لكن الإشكال الثالث المذكور على الوجه الأول يرد على هذا الوجه أيضاً، فلا يعلم أن للآية إطلاقاً لجميع المعارف الضرورية.

الوجه الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (2) لنفي وجود الجاهل القاصر في المعارف الضرورية، وإن تأمل فيه، وهو مركب من ثلاث مقدمات:

الأولى: دلت العمومات(3) على حصر الناس في المؤمن والكافر، وعدم وجود قسم ثالث، كقوله تعالى: {هُو الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ}(4).

الثانية: دلت الآيات على خلود الكافرين في النار، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}(5).

الثالثة: دل الدليل العقلي على قبح عقاب الجاهل القاصر.

النتيجة: جميع الكفار من أهل النار، ولأنه يقبح عقاب الجاهل القاصر، إذن كلهم مقصرون، ولا يوجد هنالك قاصر، وإلا لقبح عقابهم بالإلقاء في جهنم.

وفي المقدمات إشكال: أما الأولى فلما سيأتي، من أن الحصر غير حاصر، لوجود واسطة بين الكافر والمؤمن.

ص: 157


1- الروم: 30.
2- فرائد الأصول 1: 575-576.
3- ولم يمثل الشيخ لها (منه (رحمه اللّه) ).
4- التغابن: 2.
5- البينة: 6.

وأما الثانية: فحتى لو كان هنالك عموم لإثباته، إلا أنه مخصص بالروايات التي تنص على عدم دخولهم وخلودهم في النار(1).

منها(2): ما عن علي بن إبراهيم القمي، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام): «... إذا كان يوم القيامة جمع اللّه عز وجل الأطفال(3)، والذي مات من الناس في الفترة(4)، والشيخ الكبير الذي أدرك النبي وهو لا يعقل، والأصم والأبكم الذي لا يعقل، والمجنون والأبله الذي لا يعقل(5)، وكل واحد منهم يحتج على اللّه عز وجل(6)، فيبعث اللّه إليهم ملكاً من الملائكة فيؤجج لهم ناراً، ثم يبعث اللّه إليهم ملكاً فيقول لهم: إن ربكم يأمركم أن تثبوا فيها، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً وأدخل الجنة، ومن تخلف عنها دخل النار»(7).

ومنها(8): ما عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)(9): «أنه سئل عمن مات في الفترة، وعمن لم يدرك

ص: 158


1- مرآة العقول 14: 230.
2- هذه الرواية صحيحة أو حسنة على الخلاف في إبراهيم (منه (رحمه اللّه) ).
3- أطفال الكفار فإن أطفال المؤمنين يلحقون بهم، كما قال تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الطور: 21 (منه (رحمه اللّه) ).
4- الفترة بين الرسل ظاهراً (منه (رحمه اللّه) ).
5- وجامعه من لم تتم عليه الحجة (منه (رحمه اللّه) ).
6- بأن لم تبلغنا الحجة (منه (رحمه اللّه) ).
7- الكافي 3: 248.
8- مرآة العقول 14: 235.
9- هذه الرواية صحيحة أو حسنة بابراهيم.

الحنث(1) والمعتوه؟

فقال: يحتج اللّه عليهم...»(2).

ومنها: بنفس الإسناد قال(عليه السلام): «ثلاثة يحتج عليهم: الأبكم(3) والطفل ومن مات في الفترة فترفع لهم نار...»(4).

فلو فرضنا تمامية المقدمة الأولى، لكن المقدمة الثانية محل تأمل؛ فإن الكافر قد يدخل النار، وقد لا يدخل، والقاصر منهم يعاد امتحانه يوم القيامة.

وأما المقدمة: فقد أجاب عنها عرضاً بمناسبة، صاحب الكفاية في الحاشية، بعدم القبح في عقاب الجاهل القاصر.

توضيحه: لو فسر العقاب بالمؤاخذة على العصيان، يقبح عقاب القاصر، لكن لو فسر العقاب بالأثر الوضعي المترتب على النقص الذاتي فلا يقبح، قال ما نصه: «ضرورة أن نقصان الإنسان لذلك يوجب بعده عن ساحة جلاله تعالى، وهو يستتبع لا محالة دركة من الدركات، وعليه فلا إشكال فيما هو ظاهر بعض الروايات والآيات، من خلود الكافر مطلقاً ولو كان قاصرا(5)، فقصوره إنما ينفعه في دفع المؤاخذة عنه بما يتبعها من الدركات، لا فيما يستتبعه نقصان ذاته ودنو نفسه وخساسته، فإذا انتهى إلى اقتضاء الذات لذلك فلا مجال للسؤال عنه، ب- لم ذلك؟»(6).

ص: 159


1- يعني الذنب بأن يموت في أيام الطفولة (منه (رحمه اللّه) ).
2- الكافي 2: 249.
3- يلازم الصمم غالباً ولا تتم عليهم الحجة غالباً (منه (رحمه اللّه) ).
4- الكافي 3: 249.
5- وكأنه لم ير الروايات التي ذكرناها أو له إشكالات عليها (منه (رحمه اللّه) ).
6- كفاية الأصول: 331-332.

فهو ذاتي، وذاتيه النقص، فشقاوة الشقي كحمارية الحمار، فكما لا يصح أن نقول: لم جعل الحمار ناهقاً، لا يصح لنا أن نقول: لم جعل الشمر شمراً؟

و له عبارت متعددة في مواقع مختلفة في الحاشية، وفي مباحث الطلب والإرادة وفي مباحث القطع.

وكما قال السبزواري في ارجوزته:

ذاتي شيء لم يكن معللاً***وكان ما يسبقه تعقلا

وكان أيضاً بين الثبوت له***وعرضيه اعرفن مقابله(1)

وفيه: أما مسألة ذاتية الشقاوة والعصيان فهو خلاف الوجدان والقرآن والروايات، وتفصيله في مباحث الطلب والإرادة، وأما مسألة الخلود في جهنم، وإنه أثر وضعي لبعده عن ساحة الحق، فغير واضح، لأن ظاهر الآيات والروايات الكريمة أن الخلود في جهنم نوع من العقاب، ونوع من أنواع الإيلام، والغضب الإلهي، ولا تنسجم هذه المعاني مع القصور، بأن يؤلم اللّه عبده لشيء خارج عن اختياره، كمن ولد في قلب كهف ولم تبلغه مسألة المعاد، فيخلد في نار جهنم ويعاقب بأشد العقوبة، كما قال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا}(2)، وقال سبحانه: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}(3)، أي ظاهرة أسنانهم كالشاة المشوية(4)، وقال عز من قائل:

ص: 160


1- شرح المنظومة 1: 154.
2- فاطر: 37.
3- المؤمنون: 104.
4- مجمع البيان 7: 211.

{كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}(1)، وقال عز وجل: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}(2).

فالظاهر أن القول: إنها أثار وضعية قبيح في نظر العقل، أما القول بعدم دخوله الجنة، لعدم كونه أهلاً فمعقول، لكن العقاب والإيلام والإيذاء لشيء ليس باختياره، فالظاهر أنه نوع من أنواع الظلم، ومرفوض بحكم العقل.

الوجه الرابع: الإجماع المدعى على أن المخطئ في العقائد غير معذور.

ذكره الشيخ في العدة(3)، وكذا صاحب المعالم(4)، وعدم المعذورية يلازم عدم القصور، وإلا فالجاهل القاصر معذور عقلاً.

لكنه محل تأمل، لأنه دليل لبي. وعليه، فالوجوه المذكورة لإثبات عدم وجود الجاهل القاصر محل تأمل.

قال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : «الذي يقتضيه الإنصاف شهادة الوجدان بقصور بعض المكلفين»(5).

وحاصل كلام الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) (6): إن العاجز عن التحصيل بمنزلة البهائم لا تكليف عليه.

ص: 161


1- الحج: 22.
2- المؤمنون: 108.
3- العدة في أصول الفقه 2: 723.
4- معالم الدين: 241.
5- فرائد الأصول 1: 576.
6- العدة في أصول الفقه 2: 731-732.

المبحث الثاني: هل الجاهل القاصر كافر أم لا؟

ظاهر كلمات بعض المتكلمين أن الإيمان والكفر من قبيل العدم والملكة، فلا واسطة بينهما في المحل القابل، ويمكن ارتفاعهما إن لم يكن المحل قابلاً (كالجدار) أما في المحل القابل، فارتفاع أحدهما يساوق وجود الثاني، فكل من ليس مؤمناً فهو كافر، ولكن ظاهر مجموعة من الأخبار ثبوت الواسطة بين الإيمان والكفر، كما تشير إلى ذلك مجموعة من الروايات الشريفة، منها: ما في معاني الأخبار للصدوق بسند معتبر ودلالة ظاهرة، قال: أبي(1)، عن سعد(2)، عن ابن عيسى(3)، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي الصباح(4)، عن أبي جعفر(عليه السلام) أنه قال في المستضعفين الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا قال: «لا يستطيعون حيلة فيدخلوا في الكفر، ولا يهتدون فيدخلوا في الإيمان، فليس هم من الكفر والإيمان في شيء»(5).

ومنها: الصحيحة، عن الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن خلف بن حماد، عن أبي أيوب الخزاز، عن محمد بن مسلم، قال: «كنت عند أبي عبد اللّه(عليه السلام) جالساً عن يساره وزرارة

ص: 162


1- علي بن الحسين بن بابويه، والد الشيخ الصدوق، المدفون بجوار مسجد الإمام زين العابدين(عليه السلام) بقم المقدسة، الذي كان يدرّس فيه السيد الأستاذ (رحمه اللّه) .
2- سعد بن عبد اللّه الأشعري بقرينة الراوي والمروي عنه.
3- أحمد بن محمد بن عيسى.
4- أبو الصباح الكناني.
5- معاني الاخبار: 203؛ بحار الأنوار 69: 162.

عن يمينه، فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبد اللّه، ما تقول فيمن شك في اللّه؟ فقال: كافر يا أبا محمد، قال: فشك في رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ فقال: كافر، قال: ثم التفت إلى زرارة فقال: إنما يكفر إذا جحد»(1).

فلو كان الشك مصاحباً للجحود فهو موجب للكفر، وإلا فلا، وقد ذكر العلامة المجلسي(2) في ذيلها احتمالات، منها: إن الشك في أصول الدين مطلقاً إنما يصير سبباً للكفر بعد البيان، وإقامة الدليل، ومن لم تتم عليه الحجة ليس كذلك، فالمستضعف الذي لا يمكنه التمييز بين الحق والباطل، ولم تتم عليه الحجة ليس بكافر، وقد كان زرارة في إبان شبابه يزعم عدم الواسطة بين الكفر والإيمان، وله مناظرة مع الإمام(عليه السلام) في ذلك، وقد قال له الإمام(عليه السلام): «أما أنك لو بقيت لرجعت عن هذا الكلام، وتحللت عنك عقدك»(3).

ومنها: الصحيحة أو الحسنة، عن الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «المستضعفون الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، قال: لا يستطيعون حيلة إلى الإيمان ولا يكفرون، الصبيان، وأشباه عقول الصبيان من الرجال والنساء»(4).

ومنها(5): عن الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن

ص: 163


1- الكافي 2: 399.
2- بحار الأنوار 69: 168-169.
3- بحار الأنوار 69: 168.
4- الكافي 2: 404.
5- وفي اعتبارها خلاف للخلاف في سهل بن زياد.

محبوب، عن ابن رئاب، عن زرارة، قال: «سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن المستضعف، فقال: هو الذي لا يستطيع حيلة يدفع بها عنه الكفر(1)، ولا يهتدي بها إلى سبيل الإيمان، لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر، قال: والصبيان ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان»(2).

ومنها: الموثقة، عن الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، وعلي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن رجل جميعاً، عن زرارة، قال لي أبو جعفر(عليه السلام): «ما تقول في أصحاب الأعراف؟ فقلت: ما هم إلا مؤمنون أو كافرون، إن دخلوا الجنة فهم مؤمنون، وإن دخلوا النار فهم كافرون، فقال: واللّه ما هم بمؤمنين ولا كافرين، ولو كانوا مؤمنين دخلوا الجنة كما دخلها المؤمنون، ولو كانوا كافرين لدخلوا النار كما دخلها الكافرون»(3).

ومنها(4): ما عن الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن ابن بكير، عن زرارة، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا»(5).

وسيأتي في المبحث الثالث تعليقة على هذه الروايات الشريفة.

المبحث الثالث: لو ثبت أنه ليس بكافر، أو بغض النظر عن ذلك، فهل

ص: 164


1- قال العلامة: أي شبه الكفر أو احتماله فيصير شاكاً.
2- الكافي 2: 404.
3- الكافي 2: 408.
4- وفي اعتبارها خلاف للخلاف في محمد بن سنان.
5- الكافي 2: 388.

الأحكام الوضعية المرتبة على الكافر تترتب على الجاهل القاصر؟ فيه رأيان:

الأول: قال في المصباح: «الصحيح جريان أحكام الكفر على الجاهل بالأصول الاعتقادية، ولو كان جهله عن قصور، لإطلاقات الأدلة الدالة على ترتب تلك الأحكام»(1).

وفيه تأمل؛ لأن الأحكام مرتبة على الكافر، والمفروض أنه ليس بكافر، حسب هذه الروايات، فليس بمشرك حتى يشمله قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}(2).

الثاني: لا بد من ملاحظة العنوان المأخوذ في الأدلة، فإن كان الحكم الوضعي مرتباً على عنوان غير المؤمن، ترتب على الجاهل القاصر؛ لأنه غير مؤمن، مثلا تمسك المحقق الحلي(3) لنجاسة الكافر، بقوله تعالى: {يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}(4) فالنجاسة مرتبة على عنوان غير المؤمن، فينطبق العنوان على الجاهل القاصر، فيكون نجساً، لكن لو رتب الحكم على عنوان الكافر، كما لو ورد: يمنع الكافر من إرث المؤمن، فهو ليس بكافر، ولتشخيص العنوان المرتب عليه الحكم لا بد من مراجعة كتاب الفقه.

لكن يشكل الالتزام به، فربما يمكن دعوى التسالم الفقهي - إن لم ندع

ص: 165


1- مصباح الأصول 2: 237.
2- التوبة: 28.
3- المعتبر 1: 94-95.
4- الأنعام: 125.

الضرورة الفقهية - على أن من لم يقر بالشهادتين فهو كافر، وتترتب عليه جميع أحكام الكفار، ولم يعهد من أحد من الفقهاء التفصيل بين الكافر القاصر والمقصر والجاحد وغيره في ذلك، مع قصور الكثيرين من غير المعتقدين، فلا بد من تأويل هذه الروايات - بقرينة التسالم الفقهي - بأنه ليس كافراً عند اللّه تعالى، وبعبارة أخرى: للكافر نوعان من الحكم: أحكام وضعية دنيوية، وأحكام أخروية ترتبط بالخلود بالنار، والمراد من الروايات أنه لا يعامل في الآخرة معاملة الكافر.

بقي كلام حول ما ذكر في المصباح(1): من جريان أحكام الكفر على الجاهل بالأصول الاعتقادية. ففيه: بأن الملاك ليس الجهل والعلم، وإنما الإظهار والالتزام الظاهري، وقد ذكر السيد الوالد (رحمه اللّه) (2) ما حاصله: أنه يمكن أن يقال لو كان جاهلاً، بل منكراً للأصول الاعتقادية قطعاً لكنه يتظاهر بالإسلام ويلتزم بالأحكام، فمنتهى الأمر أنه منافق محكوم بأحكام الإسلام ظاهراً، وأما من كان عالماً لكنه جاحد فهو كافر، فليس الملاك الجهل، ولا يدور مداره وجوداً وعدماً، بل يدور مدار الإظهار مطلقاً، أو الإظهار مع الالتزام الظاهري.

ويظهر الفرق بينهما في ما لو أراد كافر الزواج من مسلمة، فيتشهد مع العلم بأنه غير معتقد ولا يلتزم، فيشكل الحكم بجواز تزويجه، وكذا من يريد الدخول في حرم سيد الشهداء(عليه السلام) فيتشهد مع العلم بكذبه وعدم

ص: 166


1- مصباح الأصول 2: 237.
2- الفقه 4: 206.

التزامه، بل عوده إلى ما كان عليه، وعلى كل تقدير لا يكون الجهل والعلم ملاكاً، والمسألة بحاجة إلى تتبع وتأمل أكثر، واللّه العالم بحقيقة الحال.

المبحث الرابع: ليس الجاهل القاصر مكلفاً، لقاعدة قبح التكليف بغير المقدور، والمفروض أنه عاجز عن تحصيل المعارف اللازمة، فلا تكليف، ولكن ينبغي التنبيه على أن ارتفاع التكليف لا يساوق ارتفاع الحكم، بل معناه في المقام ارتفاع خصوص مرتبة التنجز، وأما الحكم بمراتبه الأخرى فهو ثابت في حقه، لما ثبت في محله من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل.

المبحث الخامس: هل يستحق الجاهل القاصر العقاب والخلود في النار؟

مضى بعض الكلام حوله في المبحث الأول، وحيث إن المحقق الخراساني ذهب في مواضع متعددة من الكفاية(1) باستحقاقه العقاب(2)، وعدم المانع من تخليده في النار، فلا بد من توضيح الأمر ببيان صغرى وكبرى:

أما الكبرى فهي: إنَّ الإيلام على أمر غير اختياري بلا تعويض قبيح بحكم العقل كأن يعذب شخص أسود بجرم سواده، إيلاماً يحس به بلا تعويض، فإن الظاهر أنه نوع من أنواع الظلم بحكم العقل والعقلاء، وهذا بخلاف ما لو كان الأمر اختيارياً، أو غير اختياري، بلا إيلام، كأن يكون في مرتبة دانية من مراتب الوجود، ولا يحس به، فإنه يمكن التشكيك في قبح

ص: 167


1- كفاية الأصول.
2- بالمعنى الذي ذكره للعقاب (منه (رحمه اللّه) ).

ذلك، أو كان هنالك إيلام مصحوب بالتعويض، كالمعلول الذي يتألم في الدنيا لكنه يعوض عليها حيث يمكن القول بعدم قبحه.

الكلام حول عذاب جهنم والخلود فيها

وأما الصغرى: فقد اختلفت كلمات العرفاء والفلاسفة حول عذاب جهنم والخلود فيها، حتى وصل الأمر إلى التناقض في الرأي عند غير واحد منهم، وفي المقام نظريات:

الأولى: العذاب الأخروي ليس عذاباً.

الثانية: إنه عذاب لكن المعذب لا يشعر به.

الثالثة: إنه عذاب ويشعر به، ولكنه مؤقت وينتهي في يوم ما.

أما النظرية الأولى: فقد قال بعض بأن جهنم مرتبة من مراتب الجنة، وقال ابن العربي يسمى عذاباً من عذوبة لفظه(1).

أما النظرية الثانية: قال ابن العربي: «فهم في نعيم النار دائمون مؤبدون، كنعيم النائم بالرؤيا التي يراها في حال نومه من السرور، وربما يكون في فراشه مريضاً ذا بؤس وفقر، ويرى نفسه في المنام ذا سلطان ونعمة وملك، فإن نظرت إلى النائم من حيث ما يراه في منامه ويلتذ به قلت إنه في نعيم وصدقت، وإن نظرت إليه من حيث ما تراه في فراشه الخشن ومرضه ويأسه وفقره وكلومه قلت إنه في عذاب، هكذا يكون أهل النار، فلا يموت فيها ولا يحيى، أي لا يستيقظ أبداً من نومته»(2).

ص: 168


1- فصوص الحكم 1: 42.
2- الفتوحات المكية 1: 290.

وكأنه أراد الجمع بين ظواهر الآيات، ومسلك نفي العذاب بكونهم في العذاب ولكنهم لا يشعرون.

فهم - بعد انتهاء فترة الشعور بالعذاب والتي هي فترة مؤقته - في العذاب واقعاً، ولكن لا يشعرون، كمريض في أشد حالات الألم البدني، ولكنه نائم يرى نفسه في النعيم، وكفقير في نهاية الفقر ويتصور أو يرى في المنام أنه ملك الملوك، وكالمدمن على المخدرات الذي يتصور أنه يسير في عوالم، وهو في أشد حالات الذل والمهانة، وأهل جهنم كذلك، فبعد تلك الفترة يتحولون إلى هذه الحال.

وقال: «وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم(1) ولكن في النار...، فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل اللّه حين أُلقي في النار»(2).

وقال: «وكل من ألف موطنه كان به مسروراً، وأشد العذاب مفارقة الوطن(3)، فلو فارق النار أهلها لتعذبوا باغترابهم عما أهلوا له»(4).

وقال الكاشي في شرح فصوص الحكم: «ثم إذا تعودوا بالعذاب ألفوه... ولم يتعذبوا بشدته بعد طول مدته، ولم يتألموا به وإن عظم، ثم آل أمرهم إلى أن يتلذذوا به ويستعذبوه، حتى لو هبّ عليهم نسيم من الجنة استكرهوا وتعذبوا به كالجعل وتأذيه برائحة الورد»(5).

ص: 169


1- والظاهر أنه يناقض كلامه السابق (منه (رحمه اللّه) ).
2- فصوص الحكم 1: 169.
3- والظاهر أنه يناقض كلامه السابق (منه (رحمه اللّه) ).
4- الفتوحات المكية 3: 25.
5- شرح فصوص الحكم (الكاشي): 123.

واختاره ملا صدرا بتفصيل كبير في تفسير سورة البقرة وأقام عليه أدلة عقلية كثيرة.

وعليه، لا مانع من تخليد الكافر القاصر في النار، فإنه مرتبة من مراتب الجنة، أو جهنم لا يحس بإيلامها وأذاها، أو إيلام مؤقت ينتهي بنعيم دائم باق ببقاء اللّه، ولكن هذا التصور لا يوافق القرآن الكريم والروايات الشريفة، نقتصر على ذكر بعض الآيات الكريمات:

قال اللّه تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}(1) وظاهر كلمة الأليم أنه مؤلم.

وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}(2).

لكن ابن العربي يقول: «إنهم يألفون ذلك المكان ولو أخرجوا منها لتعذبوا»(3).

وقال سبحانه: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}(4) لكن ابن العربي يقول: ويسيغه.

وقال عز وجل: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ

ص: 170


1- آل عمران: 91.
2- المائدة: 37.
3- الفتوحات المكية 3: 25.
4- إبراهيم: 16-17.

هُمْ يُنظَرُونَ}(1) لكن ابن العربي يقول: يخفف عنهم، بل يرتفع عنهم.

وقال تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا}(2).

وقال عز وجل: {كلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}(3).

وقال سبحانه: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}(4).

وقال سبحانه: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}(5).

وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}(6).

ص: 171


1- النحل: 85.
2- الكهف: 29.
3- الحج: 22.
4- المؤمنون: 104-107.
5- فاطر: 37.
6- غافر: 49.

وقال سبحانه: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ}(1)، وقال عز وجل: {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا}(2).

وقال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}(3).

هذا بغض النظر عن الروايات الكثيرة التي هي فوق حد التواتر.

ومع التصوير المذكور في الآيات والروايات عن العذاب الإلهي، يكون الإيلام به على أمر غير اختياري بلا تعويض، خاصة مع ملاحظة دوام العذاب، نوع من أنواع الظلم وهو قبيح بحكم العقل.

المبحث السادس: هل يجب على الجاهل القاصر تحصيل الظن، ولو حصل الظن فهل هو حجة أم لا؟

قال الشيخ (رحمه اللّه) : «الظاهر فيه عدم وجوب تحصيل الظن؛ لأن المفروض عجزه عن الإيمان والتصديق المأمور به(4)، ولا دليل آخر على عدم جواز التوقف»(5).

ويمكن التفصيل بين الظن الخاص والظن المطلق: أما الظن المطلق، فقد يقال بعدم وجوب تحصيله؛ لعدم الدليل عليه، ولو حصل لا يكون حجة، لعدم الدليل على حجيته، بل ربما يأمر العقل بالتوقف والبقاء في الشك، لأنه

ص: 172


1- الزخرف: 77.
2- النبأ: 30.
3- النساء: 56.
4- وربما مراده أن المأمور به التصديق الجازم وهو عاجز عن ذلك (منه (رحمه اللّه) ).
5- فرائد الأصول 1: 576.

اقتحام فيما لا يعلم، فيكون معذوراً، أما لو اعتقد اعتقاداً ظنياً فربما لا يكون له مؤمن.

وأما الظن الخاص - كرواية معتبرة دالة على كون المعاد جسماني - فالظاهر أنه حجة، لقوله(عليه السلام): «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا»(1).

فتحصل من ذلك أن الأقسام أربعة: أما الظن المطلق فلا يجب تحصيله، وإذا حصل فلا يكون حجة.

وأما الظن الخاص، ففي وجوب تحصيله تأمل، ولكن لو حصل فهو حجة. والمسألة بحاجة إلى تتبع أكثر.

البحث الثالث: في حكم الجاهل المقصر

في الجاهل المقصر العاجز عن تحصيل الأصول الاعتقادية بسوء الاختيار.

وفيه بحثان:

الأول: في سقوط الخطاب.

الثاني: في استحقاق العقاب.

أما البحث الأول: فيسقط الخطاب بالتحصيل لقبح التكليف بغير المقدور، ولا فرق بين أن يكون العجز بسوء اختياره، أو لا يكون، فلو قال المولى: إن اغتبت مؤمناً وجب عليك الجمع بين النقيضين، فإنه وإن كانت علة التكليف سوء اختياره، إلا أن التكليف بالجمع بين النقيضين قبيح عقلياً

ص: 173


1- وسائل الشيعة 27: 150.

وعقلائياً، بل يمكن القول: إنّ التكليف بغير المقدور للمولى الملتفت ليس بقبيح فحسب، بل محال(1).

فما يعلم باستحالة تحققه في الخارج مع فرض الالتفات إلى استحالته يكون المطلوب محالاً، فيسري إلى الطلب فيكون الطلب محالاً، ولذا يستحيل الحكم بحرمة البقاء والخروج من الدار، فيمن دخلها غصباً بسوء اختياره.

وأما البحث الثاني: فإن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وإن نافاه خطاباً.

والحاصل: إن الجاهل المقصر العاجز يسقط عنه التكليف، لكنه يستحق العقاب. وهنالك مباحث أخرى في الجاهل المقصر يعلم الحال فيها مما تقدم.

تكملة: مضى البحث في كون الأصول الاعتقادية على نوعين:

الأول: ما يجب الاعتقاد والتدين به وهو غير مشروط بحصول العلم.

الثاني: ما يجب الاعتقاد به على فرض حصول العلم.

فكيف يمكن التمييز بين القسمين؟

قال الشيخ (رحمه اللّه) : «ثم إن الفرق بين القسمين المذكورين، وتمييز ما يجب تحصيل العلم به عما لا يجب في غاية الإشكال»(2).

ص: 174


1- فإن القبيح يمكن صدوره من المولى غير الحكيم، وأما المحال فلا يمكن صدوره مطلقاً، ولو من غير الحكيم (منه (رحمه اللّه) ).
2- فرائد الأصول 1: 559.

لكن في المقام مرحلتان:

الأولى: ما تقتضيه الأصول العملية.

الثانية: ما تقتضيه الأدلة الاجتهادية.

أما المرحلة الأولى: لو لم ينهض الدليل العقلي أو النقلي على وجوب معرفة شيء من المعارف بالخصوص، فالظاهر أن مقتضى الأصول العملية عدم الوجوب؛ لتحقق موضوع البراءة عقلاً ونقلاً.

وبعبارة أخرى: لا نرى فارقاً بين جريان البراءة في شرب التتن - لو شك في تحريمه - وبين وجوب معرفة بالخصوص - لو شك في وجوبها - فالملاك عقلاً ونقلاً واحد.

وأما المرحلة الثانية: - وهي ما تقتضيه الأدلة الاجتهادية(1) - فالشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (2) يرى أنّ العمومات(3) تدل على عموم وجوب المعرفة، سواء كانت معرفة اللّه تعالى أم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أم الإمام(عليه السلام)، وكذا كل ما جاء به النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فيجب على كل قادر تحصيل المعرفة بعموم الأمور الاعتقادية، سواء كانت من أصول المعارف أم فروعها. نعم، غير القادر معذور، وعليه لا بد من صرف شطر كثير من العمر في تحصيل المعارف.

واستدل لذلك بأربعة أدلة:

الدليل الأول: قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(4).

ص: 175


1- وإنما قدمنا الأول مع أنه متأخر رتبة لقلة مباحثه (منه (رحمه اللّه) ).
2- فرائد الأصول 1: 559-560.
3- والظاهر أن مراده الإطلاق لا العموم؛ لأن الأدلة التي استدل بها مطلقة (منه (رحمه اللّه) ).
4- الذاريات: 56.

وقد نقل اتفاق المفسرين على أن المراد من العبادة، المعرفة، وهي مطلقة ولم تقيد بمعرفة اللّه والنبي والإمام، فيجب تحصيل مطلق المعرفة.

الدليل الثاني: قوله(عليه السلام): «ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة»(1).

فالمعرفة مقدمة رتبة على الصلوات الخمس، والتي هي عمود الدين، وما يكون متقدماً رتبة على الواجب يكون واجباً، قال الشيخ (رحمه اللّه) : «بناء على أن الأفضلية من الواجب خصوصاً مثل الصلاة تستلزم الوجوب»(2).

الدليل الثالث: قوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(3).

وليس الدين خاصاً بالفروع العملية، بقرينة استشهاد الإمام(عليه السلام) بهذه الآية على وجوب النفر لمعرفة الإمام(4).

الدليل الرابع: عمومات أدلة وجوب تحصيل العلم المذكورة في الكافي الشريف وغيره، وقد فرّع عليه الشيخ (رحمه اللّه) بقوله: «إن الاشتغال بعلم المعارف أهم من الاشتغال بعلم المسائل العملية؛ لأن مقتضى هذه الأدلة، أن الاشتغال بتحصيل المعارف واجب عيني، أما تحصيل علم الفروع العملية فواجب كفائي، فإذا قام من فيه الكفاية سقط الوجوب عن

ص: 176


1- الكافي 3: 264.
2- فرائد الأصول 1: 559.
3- التوبة: 122.
4- علل الشرائع 2: 591.

الآخرين، فيقلدون فيها ويشتغلون بتحصيل المعارف»(1).

ثم استشكل عليه، بعدم إمكان تحصيل علم المعارف إلا لمن وجد قوتين:

الأولى: قوة استنباط المطالب من أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، فمن لا قدرة له على الاستنباط لا يمكنه التحقيق في المعارف - كعلم الإمام(عليه السلام) وانه بالفعل أو بالقوة أو انه محيط أو ما أشبه - ففي الروايات عام وخاص، ومطلق ومقيد وناسخ ومنسوخ، ولا بد من التحقيق في أسنادها أو طرق تصحيحها.

الثانية: قوة الإحاطة بالبراهين العقلية، حتى لا يعمل بظاهر الخبر الذي يصادم الدليل العقلي، ففي روايات الرجعة: «فإن اللّه ينزل في جمع من الملائكة»(2) فلا بد من العلم بالبرهان العقلي بأنه تعالى ليس جسماً وليس له عوارض الجسم، حتى يصرف الظاهر عن ظاهره بمقدار ما يحتاج إليه.

والواجد لهاتين القوتين مجتهد يحرم عليه التقليد.

والنتيجة المستفادة من كلام الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : أنهما واجبان متزاحمان، فتحصيل المعارف واجب، وتحصيل العلم التفصيلي بالأحكام الفرعية عن أدلتها التفصيلية واجب آخر، ولا وجه لترجيح الأول على الثاني مع عدم إحراز الأهمية، فيتخير المكلف بينهما.

ثم قال (رحمه اللّه) : «هذا إذا لم يتعين عليه الإفتاء والمرافعة لأجل قلة

ص: 177


1- فرائد الأصول 1: 560.
2- سنن ابن ماجة 1: 444؛ شرح صحيح مسلم 9: 117.

المجتهدين، وأما في مثل زماننا فالأمر أوضح»(1).

أقول: لو قل المجتهدون في مثل زمانه، فماذا يمكن أن نقول في مثل زماننا؟!

لكن الأدلة المذكورة لا تخلو من إشكال:

أما الدليل الأول: وهو الاستدلال بالآية الكريمة فيرد عليها عدة مناقشات:

المناقشة الأولى: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) قال: «لم نجد تفسير العبادة بالمعرفة في رواية. نعم، ذكر ذلك مجموعة من التفاسير ولا حجية فيها»(2).

وقال في النهاية: «وليعلم أن ما اشتهر من تفسير العبادة بالمعرفة مأخوذ من تفاسير العامة، وإلا فما في تفاسير الخاصة من أهل بيت الوحي هو ما نقلناه»(3).

أقول: وقد بحثت بالمقدار المتيسر فلم أجد حتى رواية واحدة تدل على ذلك.

المناقشة الثانية: ما ذكره صاحب الكفاية (رحمه اللّه) قال: «إن المراد من {ليعبدون}(4) هو خصوص عبادة اللّه تعالى ومعرفته»(5).

لكنه لم يذكر لذلك دليلاً، ويمكن تقريره بكون (النون) في قوله تعالى:

ص: 178


1- فرائد الاصول 1: 560.
2- الوصول 4: 220.
3- نهاية الدراية 3: 428.
4- الذاريات: 57.
5- كفاية الأصول: 330.

{لِيَعْبُدُونِ} نون الوقاية لا نون الجمع.

وقد قال ابن مالك: «نون وقاية وليسي قد نظم»(1).

كما ورد في قول الشاعر:

عددت قومي كعديد الطيس *** إذ ذهب القوم الكرام ليسي(2)

فقوله (ليسي) شاذ ونادر، وكان عليه أن يقول (ليسني) حتى لا تكسر السين إثر مجاورة الياء، وفي المقام لا يصح أن يكون (النون) نون الجمع، لأنها مفتوحة، و(النون) في الآية مكسورة، قال ابن مالك:

ونون مجموع وما به التحق***فافتح وقل من بكسره نطق

ونون ما ثني والملحق به***بعكس ذاك استعملوه فانتبه(3)

ثم إن نون الجمع لا تذكر مع دخول اللام عليه، فتكون أصل الكلمة (يعبدون) فأردنا أضافته إلى ياء المتكلم، فجيء بنون الوقاية، لوقاية نون الجمع من الكسر، فصارت (يعبدونني) كما في قوله: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}(4)، وإثر دخول اللام حذفت نون الجمع، لوجود (أن) مقدرة بعد اللام، وبقيت نون الوقاية، ثم حذفت ياء المتكلم، ولعله للتخفيف فصار (ليعبدون) أي ليعبدوا اللّه تعالى، وهو بمعنى ليعرفوا اللّه، فالآية تختص بمعرفة اللّه، فلا تدل على وجوب تحصيل جميع المعارف،

ص: 179


1- شرح ابن عقيل 1: 108.
2- شرح ابن عقيل 1: 109.
3- شرح ابن عقيل 1: 66-67.
4- النور: 55.

قال: «إن المراد من ليعبدون هو خصوص عبادة اللّه ومعرفته»(1) فالدليل أخص من المدعى.

المناقشة الثالثة: ما ذكره المحقق المشكيني(2): من كون التمسك بإطلاق الدليل متفرع على كون المولى في مقام البيان من الجهة التي يراد استفادة الإطلاق منها، وليست الآية في مقام البيان من هذه الجهة؛ لأنها في مقام بيان غائية المعرفة لا في مقام بيان متعلق المعرفة.

وبعبارة أخرى: مفاد الآية كون العبادة أو المعرفة غاية، لا أنها في مقام بيان ما يجب وما لا يجب، حتى يقال حذف المتعلق يفيد العموم، والظاهر تمامية هذا الجواب.

المناقشة الرابعة: ما ذكره الآشتياني(3) بعنوان قد يقال، ومؤداه أنَّ الغاية نوعان: الغاية القهرية الحصولية، وهي عبارة: عن المعرفة الفطرية الذاتية. والغاية الاختيارية التحصيلية، وهي عبارة: عن المعرفة الاكتسابية. والآية ظاهرة في المعنى الأول.

ونضيف عليه: الشك في المراد كاف في سقوط الاستدلال بالآية، فإنه لو كان المراد المعرفة القهرية الحصولية فهي فعل اللّه تعالى، ومرادة بالإرادة التكوينة له، ولا معنى لأن يتعلق بفعله سبحانه وجوب موجه إلى المكلف، فلا ترتبط الآية بالمقام.

ص: 180


1- كفاية الأصول: 330.
2- كفاية الأصول (المحشی) 3: 507.
3- بحر الفوائد: 279.

لكنه محل تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: ما ذكره البعض في مواضع من الأصول، من أن إسناد الفعل إلى الفاعل المختار ظاهر في صدور اختياري للفعل عن الفاعل، فلوقال المولى: (اسجد) فظاهر نسبة السجود إلى المخاطب صدوره عنه بالاختيار، أو بالإرادة، لكن لو قهر على السجود بأن كان ملجأ، فلا يكفي في امتثال الأمر، وكذا لو قال: (من ارتمس في الماء بطل صومه) فظاهر نسبة الارتماس إلى الفاعل المختار صدوره بالإرادة أو الاختيار، ولا يشمله الدليل فيما لو ألقي في الماء.

والظاهر: أن الظهور العرفي يساعد على هذا المعنى، فنسبة المعرفة إلى الجن والأنس ظاهرة في صدور المعرفة عنهم باختيارهم.

الجهة الثانية: سياق الآيات الكريمات يؤيد أو يدل على أن المراد العبادة أو المعرفة التحصيلية لا الحصولية، ويتولد منها الظهور، فيكون حجة، قال تعالى: {فَفِرُّوا

إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُو الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ * فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}(1).

ص: 181


1- الذاريات: 50-60.

فمجموع هذه الآيات في سياق توبيخ الكفار، ومفادها أنكم خلقتم للعبادة والمعرفة فلماذا تنحرفون.

المناقشة الخامسة: كما أنه يكفي في امتثال الأمر بالطبيعية الإتيان بأحد أفرادها، كذلك يكفي في امتثال الأمر بالطبيعة المشككة الإتيان بدرجة من درجاتها ومرتبة من مراتبها، والمعرفة حقيقة تشكيكية ذات مراتب وأفراد، ويكفي الإتيان بمرتبة منها لامتثال غرض المولى، ولا يلزم الاستيعاب، ولا فرق بين قول المولى (جئني بماء) حيث يكفي فيه الإتيان بفرد، وبين قوله: (اعرف ) حيث يكفى أدنى مراتب المعرفة لتتحقق امتثال أمر المولى.

أما الدليل الثاني: من قوله: «ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة»(1).

فهي من جهة سندها صحيحة(2): ذكرت في الكافي الشريف عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام).

وأما دلالتها، فمحل تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: ما مر نظيره في المناقشة الثالثة، للدليل الأول، فالرواية في مقام بيان فضيلة الصلاة، لا في مقام بيان متعلق المعرفة(3)، فلا ينعقد له إطلاق.

ص: 182


1- الكافي 3: 264.
2- ولم يتطرق الشيخ الأعظم إلى سندها. فرائد الأصول 1: 559.
3- أي ما يجب معرفته وما لا يجب.

الجهة الثانية: لا تلازم بين الأفضلية والوجوب، فليس كل ما هو أفضل من الواجب واجباً، وقد يبرهن عليه بالسلام حيث إنه مستحب، وهو أفضل من الرد الواجب.

لكنه محل تأمل؛ فإن الأفضلية لا تدل على الوجوب لو كانت حيثية، فالسلام أفضل بلحاظ الثواب حيث يعطى للمسلِّم تسعة وتسعون حسنة وللمجيب حسنة واحدة، أما لو كانت الأفضلية مطلقة بلا حيث، فيمكن دعوى الظهور العرفي في الوجوب، وما نحن فيه من القبيل الثاني.

أما الدليل الثالث: وهو آية النفر(1)، وفي الاستدلال بها تقريران:

الأول: أن يقال: إن ظاهر التفقه في الدين أعم من الأصول والفروع، فإن الدين لا يختص الفروع.

الثاني: قرينة الروايات التي استشهدت بالآية للتفقه في أصول الدين، فلا يقال إن الآية الكريمة لا ترتبط بما نحن فيه، ولم يتطرق الشيخ إلى ذكر الروايات لكننا نذكر إثنتين منها، وقد رويتا بطريقين صحيحين:

الكليني، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان، عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): «إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس(2)؟ قال: أين قول اللّه عز وجل: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ

ص: 183


1- التوبة: 122.
2- كان ذلك لظروف التقية الشديدة حيث لم تذكر اسماء الأئمة(عليهم السلام) إلا للخواص، وأما غيرهم فكانوا يجهلون اسم الإمام الذي يلي الإمام الحاضر(عليه السلام).

يَحْذَرُونَ}(1) قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم».(2)

والكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن بريد بن معاوية، عن محمد بن مسلم، قال: قلت لإبي عبد اللّه(عليه السلام): «أصلحك اللّه بلغنا شكواك وأشفقنا فلو أعلمتنا أو علّمتنا مَن؟ قال: إنّ عليّاً(عليه السلام)كان عالماً والعلم يتوارث فلا يهلك عالم إلا بقي من بعده من يعلم مثل علمه أو ما شاء اللّه، قلت: أفيسع الناس إذا مات العالم ألا يعرفوا الذي بعده؟، فقال: أمّا أهل هذه البلدة فلا - يعني المدينة - وأمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم؛ إنّ اللّه يقول {وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} قال: قلت: أرأيت من مات في ذلك؟، فقال: هو بمنزلة من خرج من بيته مهاجراً إلی اللّه ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره علی اللّه، قال: قلت: فإذا قدموا بأيّ شيءٍ يعرفون صاحبهم؟، قال: يعطی السّكينة والوقار والهيبة».(3)

فاستدلّ بالآية للتفقه المتعلق بأصول الدين، فلا يقال: إنَّ الآية خاصة بالتفقه في الأحكام الفرعية.

ويرد عليه إشكالان:

ص: 184


1- التوبة: 122.
2- الكافي 1: 378.
3- الكافي 1: 379.

الإشكال الأول: ما ذكره المحقق المشكيني(1): من أن التفقه مقيد بكونه في الدين، ولم يعلم كون المشكوك منه حتى يجب التفقه فيه، فما علم أنه من الدين - كالإمامة - يجب التفقه فيه، أما ما يشك أنه من الدين أو ليس من الدين فلا تشمله الآية؛ لأنه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وفيه تأمل؛ لأن كونه من الدين أعم من النفي والإثبات، فمثلاً: لو شك أن اللّه تعلق علمه بالأشياء قبل تقديرها أو خلقها، أو لم يتعلق من باب السالبة بانتفاء الموضوع،كما ذهب إليه البعض، فلا يعلم كون التعلق من الدين، لكن النتيجة أن التعلق أو عدم التعلق من الدين، فالتفقه فيه سواء أكانت النتيجة مثبتة أم منفية تفقه في الدين.

وكذا الخلود في النار، هل هو ثابت أم لا؟ ومهما كانت النتيجة يكون التفقه فيه من الدين؛ لتحقق الموقف الشرعي من الموضوع نفياً أو إثباتاً، فإن الدليل إما يدل على وجوده، فيكون وجوده من الدين، أو يدل على عدمه، فيكون عدمه من الدين، أو لم يدل دليل عليه من الدين، فيكون نسبته إلى الدين افتراء على الدين، قال تعالى: {أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(2). فلكل واقعة - حتى الفرعية - حكم شرعي متعلق بها، إثباتاً أو نفياً واقعياً أو ظاهرياً.

الإشكال الثاني: ما مضى نظيره من كون الآية ليست مطلقة؛ لأنها في

ص: 185


1- كفاية الاصول (المحشی) 3: 507.
2- الأعراف: 28.

مقام بيان الحث على النفر، أو في مقام بيان كيفية النفر(1)، {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً}(2) فالنفر العام حرجي أو ضرري أو غير ممكن، وليست في مقام بيان ما يجب التفقه فيه ومعرفته، حتى يتمسك بعمومها أو إطلاقها.

وهذا مثل أن يقال: طريق التجارة الذهاب إلى العاصمة، والمشورة مع التجار الكبار ثم العود، فليس بمطلق حتى يشمل جميع أنواع التجارات.

وأما الدليل الرابع: وهو ما دل على وجوب طلب العلم، كقوله: «طلب العلم فريضة»(3) فيرد عليه نظير ما تقدم من أن الآية في صدد الحث على طلب العلم، لا في صدد بيان ما يجب العلم به.

ويدل عليه أنها لو كانت مطلقة أو عامة لزم تخصيص الأكثر، فإن كان المراد شموله حتى للعلوم غير الدينية فهي غير واجبة، إلا بمقدار ما يتوقف عليه نظام الحياة، وإن كان المراد العلوم الدينية فحسب فليس معظمها واجباً أيضاً، كالعلم بالمستحبات والمكروهات، وكذا المحرمات والواجبات التي ليست محل ابتلاء المكلف، فلا يبقى تحت العموم إلا مجموعة محدودة من الواجبات والمحرمات التي هي محل ابتلاء المكلف، وهو تخصيص للأكثر.

فما ذكره الشيخ غير واضح الدلالة على عموم وجوب المعرفة.

ص: 186


1- أي لا يجب النفر على العموم.
2- التوبة: 122.
3- الكافي 1: 30.
حرم التقليد لواجد ملكة الاستنباط

يبقى الكلام فيما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في تفريعه، حيث حرم التقليد في الأحكام الفرعية لواجد ملكة استنباط الأحكام، وبنى عليه وقوع التزاحم بين تحصيل العلم بالأحكام الفرعية، وبين تحصيل العلم بالمعارف الاعتقادية(1).

فإنه محل تأمل، حيث يمكن دعوى جواز التقليد لواجد الملكة إذا لم يستنبط بالفعل.

ولإثبات المدعى يمكن الاستدلال بثلاثة أدلة:

الأول: السيرة العقلائية.

الثاني: إطلاقات الأدلة اللفظية.

الثالث: استصحاب الحالة السابقة.

أما الدليل الأول: فالظاهر - عند العقلاء - أن موضوع رجوع العالم إلى الجاهل هو الجاهل بالفعل، سواء أكان واجداً للملكة أم فاقداً لها، فالطبيب الذي له ملكة استنباط الأحكام الطبية لا يلزم نفسه الاجتهاد في جميع تلك الأحكام، بل يرى نفسه - كما يراه العقلاء - مخيراً بين الاجتهاد والتقليد والاحتياط.

فلو مرض هذا الطبيب فيحق له - عند العقلاء - أن يرجع إلى الغير لو كان له عذر عقلائي أو عقلي في عدم الاجتهاد، بل حتى بلا عذر، فلا مرجح لاجتهاده الذي لم يتحقق على الاجتهاد الذي تحقق من الغير، ولا يلزمه

ص: 187


1- العدة في أصول الفقه 2: 730-731.

العقلاء بالاحتياط إن لم يجتهد بالفعل، بل يرون أن من حقه الرجوع إلى الغير.

وهو الظاهر من بناء أهل الفن على عدم لزوم الاجتهاد في جميع الفروع المبتلى بها، كما يظهر من ملاحظة الواقع الخارجي.

لكن قال في شرح العروة(1): إن دعوى شمول السيرة للمقام مما لا يمكن التفوه به أصلاً؛ إذ كيف يسوغ دعوى أن العقلاء يلزمون صاحب الملكة بالرجوع إلى من يحتمل انكشاف خطئه إذا راجع الأدلة، بل قد يكون قاطعاً بأنه لو راجع الأدلة لأخطأ في كثير من استدلالاته.

وهو محل تأمل من جهتين:

الأولى: ينقض بنفس احتمال انكشاف الخطأ عند العامي المحض، فهو يعلم أنه لو اجتهد وراجع الأدلة لخطأ المجتهد في استنباطاته، ولا فرق في الملاك بين الطويل والقصير، فإن الملاك المذكور - أي احتمال انكشاف الخطأ - مشترك بينهما، كما يمكن أن يكون العامي طالباً فاضلاً من دون حصوله على الملكة، فيظن أن المجتهد أخطأ في اجتهاده.

ثم كيف أرجع الأئمة (عليهم السلام) البعض إلى الرواة، مع احتمال الخطأ وإمكان رجوع الأفراد إلى المعصوم(عليه السلام) مباشرة، والسيرة العقلائية - كما نحتمل أو نرى - عامة.

إن قلت: إنها إرجاع في الرواية لا في الاجتهاد.

قلنا: بل كانوا يجتهدون، فقد قال(عليه السلام) لأبان: «اجلس في مسجد المدينة

ص: 188


1- شرح العروة الوثقى 1: 18.

وأفت الناس»(1)، وكان زرارة يفتي كما في رواية ركب الجارية، حيث قال: «أما هذا نصاً فلا أجده»(2) لكنه طبق الكبرى الكلية على صغرى ركب الجارية.

الجهة الثانية: إن معنى الحجية هو التنجيز والإعذار، وإن تطرق احتمال الخطأ فيها، وإلا فجميع الحجج يحتمل فيها الخطأ، فلو كان دليل التقليد هو السيرة العقلائية، وفرض جريانها على رجوع الجاهل الواجد للعالم، فمعناه أن قول الغير حجة، وأنه منجز ومعذر وإن احتمل الخطأ.

نعم، لو علم إجمالاً بأن بعض استنباطاته خطأ فتكون قواعد العلم الإجمالي حاكمة، ولا فرق في ذلك بين العامي المحض والواجد للملكة.

أما الدليل الثاني - وهو إطلاقات الأدلة اللفظية، كقوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(3) - فالموضوع أو الشرط عدم العلم لا عدم القدرة على العلم.

لكن قال في شرح العروة(4): بانصراف أدلة الجواز عنه، حيث إن ظاهرها يختص بمن لا يتمكن من تحصيل العلم بالأحكام.

وفيه: إن لاحظنا نفس الموضوع أو الشرط فهو عدم العلم لا عدم القدرة على العلم، فإن لاحظتم الانصراف بعد الحكم بإطلاق الدليل وشموله للواجد للملكة فعهدته على مدعيه.

ص: 189


1- شرح أصول الكافي 11: 84 .
2- الكافي 5: 215.
3- النحل: 43.
4- شرح العروة الوثقى 1: 17-18.

وأما الدليل الثالث: من استصحاب الحكم الوضعي أي الحجية، أو استصحاب الحكم التكليفي أي الجواز بان يقال إنه كان مقلداً ثم تحول إلى واجد فيشك في حجية فتاوى المجتهد عليه بقاءً، فيستصحب الحكم التكليفي أو الوضعي، وإن لم يكن مقلداً بالفعل أوكان محتاطاً، فلو قلنا بحجية الاستصحاب التعليقي لأمكن جريانه بأن يقول لو قلدته لكان حجة، فيستصحب القضية الشرطية التعليقية، ومع تحقق المقدم يترتب التالي. أما إن لم نقل به اختص الدليل الثالث بما لو كان قلده بالفعل.

وقد يشكل عليه بأن الموضوع متغير؛ لأن المتيقن هو حكم الفاقد، والمشكوك حكم الواجد.

ويجاب عنه بأن الواجدية والفاقدية من الحالات الطارئة، لا من المقومات في نظر العرف، والملاك في وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة نظر العرف، والموضوع عندهم هو الجاهل وهو مستمر، ولو مع تغير الفاقدية إلى الواجدية.

فإن تم أحد الأدلة الثلاثة فيحق للمجتهد الواجد الذي لم يستنبط بالفعل أن يرجع إلى غيره.

وقد أقيم دليلان لعدم جواز تقليد الواجد، وهما:

الأول: قاعدة الاشتغال، فقد تنجزت الأحكام الواقعية في ذمة المجتهد بالعلم الإجمالي، أو بقيام الأمارات في محلها، فيشك في براءة ذمته بالتقليد، والشك في الحجية موضوع عدم الحجية، والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية.

ص: 190

ويرد عليه: انتفاء الموضوع، فإن الموضوع هو الشك في الحجية، ومع وجود إطلاقات الأدلة اللفظية، أو السيرة العقلائية أو الاستصحاب لا شك تعبداً في الحجية.

والبراءة اليقينية أعم من الوجدانية والتعبدية، والتعبدية حاصلة في المقام مع فرض نهوض الأدلة الثلاثة التي ذكرت.

الدليل الثاني: الاتفاق الذي ذكره الشيخ الأعظم(1).

ويرد عليه: - مضافاً إلى الإيرادات المعروفة - عدم تحقق الصغرى؛ لعدم تعنون المسألة في كثير من كلماتهم، فلم يتحصل لدينا اتفاق، بل الظن قائم على عدم حصوله.

وممن ذهب إلى الجواز صاحب المناهل(2).

وعليه، لو فرض أن تحصيل علم المعارف واجب ليتعين تحصيل علم المعارف للواجد للملكة، لأن أحد مرجحات باب التزاحم ترجيح ما لا بدل له على ما له البدل، والمفروض أن واجد الملكة يمكنه التقليد في الأحكام الفرعية.

تذييل: لو فرض أن الأدلة الأربعة التي أقامها الشيخ الأعظم أثبتت وجوب المعرفة، فهل مفادها وجوب خصوص المعرفة الاجتهادية أو الأعم منها ومن التقليدية؟

الجواب: لا دليل على لزوم كونها معرفة اجتهادية؛ حيث لم يظهر ذلك

ص: 191


1- الاجتهاد والتقليد: 53.
2- المناهل: 669.

من الأدلة التي أقامها الشيخ الأعظم.

وعليه، فلا تزاحم بين تحصيل العلم بالفروع العملية، والمعارف الاجتهادية(1) لإمكان حله بوجهين:

الأول: أن يقلد في الفروع العملية ويجتهد في الأصول الاعتقادية.

الثاني: أن يجتهد في الفروع العملية ويقلد في الأصول الاعتقادية.

تنويه: إنما الكلام فيما سبق في فروع الأصول الاعتقادية لا في أصول الأصول الاعتقادية، بل قال البعض(2) بجواز التقليد في أصول الأصول الاعتقادية إذا أفاد العلم.

عدم اشتراط عموم وجوب المعرفة في تحقق الإسلام والإيمان

ثم إنه لو سلمنا دلالة الأدلة المذكورة على عموم وجوب المعرفة، فلا دليل على مدخلية عموم المعرفة في تحقق الإسلام أو الإيمان، وبعبارة أخرى: عموم وجوب المعرفة ليس شرط إسلام المسلم أو إيمان المؤمن.

و قبل الخوض في البحث لا بأس بالتنبيه إلى أن هنالك مفهومين في المقام: الأول: قادحية الإنكار، الثاني: شرطية المعرفة والإقرار، ولابد من التفكيك بينهما.

والبحث الأول: في قادحية الإنكار أو الشك في المعارف غير الألوهية، والنبوة والمعاد وما أشبه في الإسلام والإيمان موكول إلى محله من الفقه في باب النجاسات، بحث نجاسة الكافر.

ص: 192


1- كما يستفاد ذلك من كلمات الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (منه (رحمه اللّه) ).
2- بيان الفقه 2: 70.

وحاصله في أربع صور، حيث قد يكون الشيء ضروري الدين، وقد يكون ضروري المذهب كالرجعة، وقد لا يكون ضرورياً، لكن علم كونه من الدين بالعلم الوجداني، كما لو قامت عليه أخبار متواترة، وقد لا يكون ضرورياً، ولكن علم كونه من الدين بالعلم التعبدي، كما لو قام عليه الخبر الواحد، ففي هذه الصور يتم البحث في أن الإنكار قادح في الإسلام والإيمان مطلقاً، أو إنه إنما يكون قادحاً إذا رجع إلى إنكار الألوهية والنبوة والمعاد، ومثل الإنكار التشكيك والشك.

وأما البحث الثاني - وهو محل الكلام - في اشتراط تحقق الإسلام أو الإيمان بالاعتقاد بهذه المعارف، بناء على وجوبها، كما ذهب إليه الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) .

والظاهر عدم دلالة الأدلة المتقدمة - على فرض دلالتها على الوجوب - على ذلك، مثلاً: وجوب الاعتقاد بالرجعة - كما هو مذهب الشيخ - وجوب اعتقادي مستقل، ولا يسلب الإسلام أو الإيمان عن المكلف لو جهله، فإن الأدلة المتقدمة لم تدل على الوجوب الشرطي، فقوله تعالى: {إلا ليعبدون} بمعنى ليعرفون(1) تدل على كون المعرفة واجبة، لكنها لا تدل على كونها دخيلة في تحقق الإسلام والإيمان، وهكذا سائر الأدلة.

بل يمكن دعوى قيام الأدلة على عدم الوجوب الشرطي، وهذا ما ورد في بعض الروايات الصحيحة:

فقد روى الكليني: عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس

ص: 193


1- الحاشية على أصول الكافي: 545.

بن عبد الرحمن، عن عجلان أبي صالح، قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): أوقفني على حدود الإيمان؟ فقال: «شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، والإقرار بما جاء به من عند اللّه، وصلاة الخمس وأداء الزكاة وصوم شهر رمضان، وحج البيت وولاية ولينا وعداوة عدونا، والدخول مع الصادقين»(1).

أقول: الإقرار له مرتبتان: تفصيلي وإجمالي، والظاهر صدقه على الإقرار الإجمالي بأن يعتقد الإنسان بأن كل ما جاء به النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو حق، والمراد من قوله(عليه السلام) (فهو مؤمن) الإيمان بالمعنى الخاص، وإن لم يعتقد لجهله ببعض الفروع الاعتقادية، فلا مدخلية لها في تحقق الإيمان.

إلا أن يقال: إنَّ الدخول مع الصادقين يشمل الدخول في كل ما دخلوا فيه. ويجاب عنه بأن الدخول أعم من الإجمالي والتفصيلي، فلو اعتقد بكل ما اعتقده أهل البيت (عليهم السلام) فهو داخل معهم.

ولو قيل بإجمالها لإجمال حدود الكون مع الصادقين فهناك روايات أخرى تدل على المختار بلا إجمال.

فقد روى الكليني بسندين صحيحين، أحدهما عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن صفوان بن يحيى، أبي اليسع، قلت: لأبي عبد اللّه(عليه السلام): «أخبرني

بدعائم الإسلام التي لا يسع أحداً التقصير عن معرفة شيء منها، الذي من قصر عن معرفة شيء منها فسد دينه، ولم يقبل اللّه منه عمله، ومن عرفها وعمل بها صلح له دينه، وقبل منه عمله، ولم يضق به مما هو

ص: 194


1- الكافي 2: 18.

فيه لجهل شيء من الأمور جهله(1)، فقال: شهادة أن لا إله إلا اللّه، والإيمان بأن محمداً رسول اللّه، والإقرار بما جاء به من عند اللّه، وحق في الأموال الزكاة، والولاية التي أمر اللّه عز وجل بها ولاية آل محمد...»(2).

وعن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد بن عثمان، عن عيسى بن السري، قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): حدثني عما بنيت عليه دعائم الإسلام إذا أنا أخذت بها زكى عملي، ولم يضرني جهل ما جهلت بعده، فقال: «شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، والإقرار بما جاء به من عند اللّه، وحق في الأموال من الزكاة، والولاية التي أمر اللّه عز وجل بها، ولاية آل محمد، فإن رسول اللّه قال: من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية، قال اللّه عزوجل: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}(3) فكان عليٌّ ثم صار من بعده حسن، ثم من بعده حسين، ثم من بعده علي بن الحسين، ثم من بعده محمد بن علي، ثم هكذا يكون الأمر، إن الأرض لا تصلح إلا بإمام، ومن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية، وأحوج ما يكون أحدكم إلى معرفته إذا بلغت نفسه هاهنا، وأهوى بيده إلى صدره يقول حينئذ لقد كنت على أمر حسن»(4).

وبسندين صحيحين آخرين، أولهما: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن

ص: 195


1- فلا يضيق عليه مهما جهل، أي أنه في سعة.
2- الكافي 2: 19.
3- النساء: 59.
4- الكافي 2: 21.

صفوان، عن عمرو بن حريث.. فقلت: «جعلت فداك، ألا أقص عليك ديني، فقال: بلى، قلت: أدين اللّه بشهادة أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللّه يبعث من في القبور، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان وحج البيت، والولاية لعلي أمير المؤمنين بعد رسول اللّه، والولاية للحسن والحسين، والولاية لعلي بن الحسين، والولاية لمحمد بن علي، ولك من بعده صلوات اللّه عليهم أجمعين، وإنكم أئمتي، عليه أحيا وعليه أموت، وأدين اللّه به، فقال: يا عمرو، هذا واللّه دين اللّه ودين آبائي الذي أدين اللّه به في السر والعلانية»(1).

والظاهر أنها صريحة وواضحة، وتدل على أنه لا مدخلية لاعتقاد آخر في أصل ماهية الدين والإيمان، وإن كان له المدخلية في كمال الإيمان(2).

وثانيهما: عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن مثنى، عن إسماعيل الجعفي، قال: «سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن الدين الذي لا يسع العباد جهله، فقال: الدين واسع ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم(3)، قلت: جعلت فداك، فأحدثك بديني الذي أنا عليه، فقال:

ص: 196


1- الكافي 2: 23.
2- وللرواية تتمة فيها نصائح أخلاقية وهي: «فاتق اللّه وكف لسانك الا من خير، ولا تقل غني هديت نفسي، بل اللّه هداك (في مقابل مسلك التفويض) فأدّ شكر ما أنعم اللّه عز وجل به عليك، ولا تكن ممن إذا أقبل طعن في عينه، وإذا أدبر طعن في قفاه (ممن يسيء التعامل مع الناس فيطعن في حضوره وغيبته) (منه (رحمه اللّه) ).
3- فإنهم اعتبروا في الإيمان شرائط ليست منه، منها: كون مرتكب الكبيرة كافر (منه (رحمه اللّه) ).

بلى، فقلت: أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند اللّه، وأتولاكم وأبرأ من عدوكم، ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم، فقال: ما جهلت شيئاً، هو واللّه الذي نحن عليه. قلت: فهل سلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ فقال: لا، إلا المستضعفين، قلت: من هم؟ قال: نساؤكم وأولادكم، ثم قال: أرأيت أم أيمن؟ فإني أشهد أنها من أهل الجنة، وما كانت تعرف ما أنتم عليه»(1).

وبغض النظر عن هذه الروايات و غيرها، يمكن دعوى كون عدم شرطية عموم المعارف في تحقق الإسلام والإيمان إحدى الضروريات الفقهية، والظاهر أنه لا يحتاج إلى الاستدلال، فمن عرف الأصول الضرورية للإسلام فهو مسلم بالضرورة الفقهية، ومن عرف الضروريات الإيمانية فهو مؤمن بالضرورة الفقهية، وإن كان جاهلاً بالتفاصيل(2).

ص: 197


1- الكافي 2: 405.
2- هذا في غير مسالة إنكار الضروري، وإنكار ما علم أنه من الدين بالعلم الوجداني والتعبدي على ما أشرنا إليه (منه (رحمه اللّه) ).

ص: 198

المقصد الثاني: في مباحث الأصول العملية

اشارة

ص: 199

ص: 200

مباحث الأصول العملية

اشارة

بعد الفراغ من مباحث القطع والأمارات تصل النوبة إلى مباحث الأصول العملية، وجريانها موقوف على فقدان القطع والأمارات المعتبرة؛ لأن موضوعها الشك وعدم قيام الحجة، فينتفي مع وجودهما، مثلاً: موضوع البراءة الشرعية (ما لا يعلمون) وموضوع البراءة العقلية (عدم البيان) وهما علم وبيان، فتكون الأمارات المعتبرة والقطع واردة على الأصول العملية.

مباحث البراءة

اشارة

وأول الأصول العملية البراءة، والمشهور جريانها في الشبهات الوجوبية والتحريمية في صورة عدم وجود الحجة المعتبرة، وعدم وجود الحالة السابقة المتيقنة.

أدلة البراءة
اشارة

واستدل على البراءة بالأدلة الأربعة:

الدليل الأول: القرآن الكريم
اشارة

أما من الكتاب العزيز، فبآيات كريمة:

الأولى: آية التعذيب

وهي قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(1).

ص: 201


1- الإسراء: 15.

تقريب الاستدلال بها: إنَّه لا خصوصية لبعث الرسول، وإنما هو كناية عن عدم وصول البيان، وإنما عبر عن عدم البيان بعدم بعث الرسول، وعن وصول البيان ببعث الرسول لتحقق البيان عادة ببعث الرسول.

وعليه، فالملاك هو البيان، والعذاب موقوف على وجود البيان، ولا خصوصية لبعث الرسول من قبل اللّه تعالى، وهذا مثل قول القائل: لا أصلي حتى يؤذن المؤذن، حيث لا موضوعية لأذانه، بل هو كناية عن دخول الوقت، وإنما عبر بأذان المؤذن لأن العلم بدخول الوقت متوقف على أذان المؤذن عادة.

ويظهر الفرق بينهما بذكر مثال: في حكم شرب التتن، فإن كان المراد من الآية بعث النبي، فالغاية محققة، ولا يمكن الاستدلال بقوله: {حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} لحلية التتن لتحقق الغاية، أما لو كان المراد من: {حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} الكناية، أي حتى نبين، فيمكن الاستدلال بها لحلية التتن؛ لعدم تحقق الغاية، فلا عذاب على شرب التتن.

قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «إن البعث كناية عن إيصال الحجة، وإلا كان تعبداً صرفاً، وهو خلاف الظاهر»(1).

فلو كانت الغاية في الآية وجود البيان فهي تشير إلى قاعدة عقلائية، وهي: (وما كنا معذبين حتى يتم البيان) وهو تأكيد أو مطابق لحكم العقل بقبح العقاب، وأما لو كان لبعث النبي خصوصية وموضوعية فهو تعبد صرف، وخلاف الظاهر من الآية الكريمة.

ص: 202


1- الأصول: 703.

وقبل ذكر الإيرادات عليها نشير إلى نكتتين:

الأولى: اقتصر مشهور الأصوليين في المقام على ذكر هذه الآية المباركة، ولكن هنالك آيات متعددة في القرآن الكريم بهذا المفاد نفسه أو قريبة منه.

منها: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوعليهمْ آيَاتِنَا}(1). فالإهلاك متوقف على بعث الرسول.

ومنها: قوله سبحانه: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ}(2).

ومنها: قوله عز وجل: {وَلَو أنا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى}(3).

ومنها: قوله تبارك وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(4).

الثانية: الاستدلال بهذه الآيات الكريمات موقوف على عدم وجود البيان لا بالعنوان الأولي، أي بيان حكم الشيء بما هوهو، ولا بالعنوان الثانوي، أي بيان حكم الشيء بما هو مشكوك، وإلا فلو كان هنالك بيان بالعنوان الأولي أو بالعنوان الثانوي - كأوامر الاحتياط والوقوف عند الشبهات - لكان موضوع الآية الكريمة مرتفعاً؛ لأنَّ موضوعها عدم بعث الرسول وعدم

ص: 203


1- القصص: 59.
2- شعراء: 208.
3- طه: 134.
4- المائدة: 19.

نهوض الحجة، ومع البيان يرتفع الموضوع.

وبعبارة أخرى: لهذا الحكم غاية، وهي بعث الرسول، وتتحقق الغاية مع بيان حكم الشيء سواء بالعنوان الأولي أم العنوان الثانوي، فلا مانع من العذاب.

إشكالات على الاستدلال بآية التعذيب على البراءة

وأورد على الاستدلال بالآية الكريمة بإيرادات:

الإيراد الأول

ما ذكره صاحب الكفاية واقتصر عليه(1) وهو: إنَّ مفاد الآية الكريمة نفي فعلية التعذيب لا نفي استحقاق التعذيب، ولا ملازمة بين انتفاء فعلية التعذيب وانتفاء استحقاقه، وما ينفعنا في المقام نفي الاستحقاق لا نفي الفعلية، فربما نفي وجوب العذاب لطفاً وامتناناً فلم يعذب ولا يعذب.

إن قلت: التعذيب فرع الاستحقاق.

قلنا: فإنه وإن كان كذلك إلا أن نفي التعذيب لا يلازم نفي استحقاق العقاب.

وأجيب عنه بأجوبة:

الجواب الأول: ما ذكره بعض المعاصرين(2):

من أن المطلوب للأصولي تحصيل المؤمن من العذاب، سواء لم تكن عقوبة أو لم يكن استحقاق، والآية تتكفل ذلك؛ لأنها تنفي العقوبة.

ص: 204


1- كفاية الأصول: 339.
2- مصباح الأصول 2: 11.

وهو ظاهر كلام السيد الوالد (رحمه اللّه) ، حيث قال: «إن مهمة المكلف عدمها، سواء كان استحقاق أم لا»(1).

ولكنه يحتاج إلى مزيد التأمل:

أولاً: فقد قالوا في تعريف علم الأصول: إنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية، فغرض الأصولي تمهيد قواعد تنتهي إلى معرفة الحكم الشرعي، وغرضه يَؤول إلى بيان موقف المكلف تجاه الحكم الشرعي، والعقاب وعدمه لا يرتبط بغرض الأصولي والفقيه، بل هما يتكفلان بيان الحلية والحرمة.

ومن الممكن أن يكون هنالك حكم واستحقاق، لكن لا يعاقب لعفوه سبحانه أو لوعده عز وجل، أو لشفاعة النبي وأهل بيته (عليهم السلام)، كما في الظهار المحرم، حيث لا عقوبة عليه لوعده عز وجل العفو {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}(2).

فحينما يسأل الفقيه أو الأصولي عن حكم الظهار يجيبان بالحرمة مع عدم العقاب وإن استحقه، ولكن لا يهمهما إن كان عقاب أو لم يكن، بل المهم عندهما هل هنالك حكم واستحقاق أم لا؟

والحاصل: إن مطلوب الأصولي أن لا يخالف المكلف الحكم الشرعي وأن لا يستحق العقاب.

ثانياً: إن مهمة المكلف أن لا يعصي المولى، كمهمة الابن البار، وليست

ص: 205


1- الأصول: 704.
2- المجادلة: 2.

مهمته أن لا يعاقب.

والحاصل إن مهمة المكلف والفقيه والأصولي أن لا يقحم المكلف نفسه في مخالفة المولى، ولازمه العقلي الذي لا ينفك عنه استحقاق العقوبة، والآية لم تنف ذلك وإنما نفت فعلية العقوبة، فلا تنفع لما نحن فيه.

وعليه، فما ذكر من الجواب على الإيراد الأول غير تام.

الجواب الثاني: نذكره في أربع مراحل:

المرحلة الأولى: ما أجاب به الشيخ الأعظم وحاصله: إنَّ نفي الفعلية ملازم لنفي الاستحقاق، فإن الآية وإن تكفلت نفي الفعلية إلا أنه هنالك ملازمة بينهما.

قال: «إن عدم الفعلية(1) يكفي في هذا المقام؛ لأن الخصم(2) يدعي أن في ارتكاب الشبهة الوقوع في العقاب والهلاك فعلاً، من حيث لا يعلم، كما هو مقتضى رواية التثليث ونحوها.... ويعترف بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية(3)، فيكفي في عدم الاستحقاق نفي الفعلية»(4) فيلازم ذلك نفي استحقاق العقاب(5).

المرحلة الثانية: إشكالان أوردهما صاحب الكفاية على جواب الشيخ الأعظم:

ص: 206


1- أي فعلية التعذيب.
2- أي الأخباريين حيث يرون لزوم الاحتياط.
3- فإن لم تكن فعلية فلا استحقاق.
4- فرائد الأصول 2: 24.
5- لأن الآية الكريمة نفت الفعلية.

الأول: بناء على كلام الشيخ يكون الاستدلال بالآية الكريمة جدلياً، فإن الاستدلال: إما برهاني وهو منتج لليقين والإذعان، وإما جدلي وهو ينتج الإسكات والإفحام، والملازمة المدعاة في كلامه ملازمة عند الأخباري، فلا ينفع الاستدلال بالآية إلا لإفحامه، فلا يكون استدلالاً برهانياً.

الثاني: قال: «مع وضوح منعه(1)، ضرورة أن ما شك في وجوبه وحرمته ليس عنده بأعظم مما علم بحكمه، وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلا كالوعيد به فيه»(2).

فمجهول الحكم ليس بأعظم من معلومه، فمن شرب الخمر عالماً عامداً فلا يمكن القول بالملازمة بين انتفاء الفعلية - لعفو أو شفاعة - وانتفاء الاستحقاق، فيمكن انتفاء فعلية العذاب في حقه بلا انتفاء الاستحقاق، فهل مجهول الحكم - كشرب التتن - أعظم من معلوم الحكم، حتى يقال بالملازمة؟ بل حال الوعيد بارتكاب المشتبهات - كالوقوع في الهلكة - حال الوعيد بارتكاب المحرمات المعلومة، فكما أنه هناك لا ملازمة ففي المقام أيضاً لا ملازمة.

وقال في التعليقة(3) في توجيه انتفاء الملازمة: إن الوعيد بالعقوبات إنما هو من باب الإخبار بالشيء لقيام ما يقتضيه.

فروايات العقوبات سواء في المحرمات المعلومة أم في المشتبهات

ص: 207


1- فحتى الأخباري لا يعترف بالملازمة المذكورة.
2- كفاية الأصول: 339.
3- درر الفوائد 1: 188.

صرف بيان المقتضي، ومن الواضح إمكان وجود مانع يزاحم تأثير المقتضي، فالمانع لا يكون مزاحماً لأصل وجود المقتضي ولا لاقتضائه، بل مزاحم لتأثير المقتضي في المقتضى، كالرطوبة في الورقة ليست مزاحمة لوجود النار ولا لاقتضائها، بل لتأثيرها.

وعليه، يكون المراد من الروايات والآيات التي مفادها ثبوت العقوبات: هو الاقتضاء لا العلية التامة، فتنتفي العقوبة مع وجود المانع من دون انتفاء الاستحقاق، على خلاف ما ذكره الشيخ من ثبوت الملازمة بينهما.

المرحلة الثالثة: إشكال السيد الروحاني(1) على إشكالي الكفاية على إشكال الشيخ الأعظم على الإشكال الأول على الاستدلال بالآية الكريمة.

حاصله: التسليم بعدم الملازمة بين انتفاء الفعلية وانتفاء الاستحقاق بنحو عام، لكن الملازمة ثابتة في خصوص المقام.

بيانه: إن روايات وجوب الاحتياط صريحة أو ظاهرة في ثبوت احتمال الهلكة في الاقتحام في الشبهات، كقوله: «من اقتحم في الشبهات وقع في الهلكات»(2)، أو «وهلك من حيث لا يعلم»(3)، أو «ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه»(4)، وهذا المفاد يتعارض مع مفاد آية نفي التعذيب؛ لأن مفادها انتفاء العذاب قطعاً.

ص: 208


1- منتقى الأصول 4: 375-376.
2- الكافي 1: 68.
3- الكافي 1: 68.
4- بحار الأنوار 67: 84.

وهنا حالتان: إما أن نقول: إنَّ الآية الكريمة أخص مطلقاً من روايات الاحتياط؛ لأنَّ روايات الاحتياط تشمل العلم الإجمالي، والآية لا تشمله، فتكون الآية مخصصة لأدلة وجوب الاحتياط، وأما أن نقول: بينهما عموم من وجه أو تباين كلي، فتطرح الروايات لمخالفتها الكتاب، فيتم الاستدلال بالآية، ومراد الشيخ من الملازمة بين انتفاء الفعلية وانتفاء الاستحقاق خصوص المقام بلحاظ عالم الإثبات لا الملازمة بنحوكلي.

المرحلة الرابعة: التأمل في ما ذكره السيد الروحاني: أما على نحو الكبرى الكلية: فلو كانت هنالك طوائف من الأخبار بألسنة متعددة، وكان بعضها منافياً للكتاب بأي نحو من أنحاء المنافاة، وتم طرحها بأي نحو من أنحاء الطرح، فلا يسري ذلك إلى الطوائف التي لا تنافيه، لكون ملاك طرح تلك الطائفة هو المنافاة، والمفروض في الطوائف الأخرى انتفاء الملاك.

وأما على نحو الصغرى: فإنّ روايات الاحتياط تتنوع إلى طوائف، منها ما ذكره في المنتقى(1)، والتي مفادها ينافي مفاد آية نفي التعذيب، ولكن هنالك طوائف أخرى لا تنافيه:

منها: ما دل على حرمة القول والإفتاء بغير علم، كصحيحة هشام بن سالم(2)، كما في الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): «ما حق اللّه على خلقه؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون، ويكفوا عما لا يعلمون، فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى

ص: 209


1- منتقى الأصول 4: 376.
2- صحيحة على المختار حسنة على بعض المباني.

اللّه تعالى حقه»(1).

وبهذا المضمون روايات كثيرة.

ومنها: ما يدل على وجوب الاحتياط، كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، كما عن الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى، جميعاً عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي الحسن(عليه السلام) «... إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا»(2).

ومنها: ما يدل على التوقف في الشبهة، كما كتبه أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى عثمان بن الحنيف: «فما اشتبه عليك علمه فالفظه»(3).

وعنه(عليه السلام) في مقام الذم: «يعملون في الشبهات»(4).

والروايات في هذا المقام كثيرة.

وهذه الطوائف التي استدل بها على وجوب الاحتياط بناء على دلالتها لا تنافي مفاد آية نفي التعذيب، فإن مفاد الروايات وجوب التوقف والسؤال والاحتياط، ومفاد الآية نفي فعلية التعذيب في شرب التتن مثلاً، فلا تنفع في المقام؛ لأن المهم نفي استحقاق التعذيب لا نفي الفعلية.

نعم، التعارض متحقق في روايات (وقع في الهلكة)لأن مفاد الآية عدم

ص: 210


1- وسائل الشيعة 27: 155.
2- وسائل الشيعة 27: 154.
3- نهج البلاغة 3: 71.
4- نهج البلاغة 1: 156.

الوقوع في الهلكة، وعليه يكون كلام الكفاية(1) تاماً، والإشكال الثاني الذي ذكره الشيخ الأعظم غير تام.

الجواب الثالث: الآية الكريمة متكفلة لبيان انتفاء استحقاق العقاب.

ولبيانه تقريبات:

التقريب الأول: ما ذكره في النهاية(2) وهو مركب من مقدمتين:

الأولى: إن الآيات والروايات التي تتكفل بيان العقوبات أو المثوبات على الأفعال أو التروك ظاهرة في الاقتضاء لا الفعلية.

قال: «كما أن الأمر كذلك في جميع القضايا الواردة في بيان الخواص والآثار»(3).

مثلاً لو قيل: السم قاتل، أو النار محرقة، فهو بيان مجرد اقتضاء السم للقتل والنار للإحراق لا بيان الفعلية.

المقدمة الثانية: الآيات والروايات التي تنفي الترتب المزبور أيضاً ظاهرة في الاقتضاء لا الفعلية، بقرينة المقابلة.

وعليه: لو ورد (كنا معذبين) لدلّ على الاقتضاء، بمعنى أن هذا الأمر يقتضي تعذيبنا، وفي المقابل (ما كنا معذبين) بمعنى لا اقتضاء للتعذيب، فيدل على المطلوب، وهو انتفاء الاستحقاق قبل البيان.

لكنه لم يرتضه؛ لوجود الفرق بين القضايا المثبتة للآثار والقضايا النافية،

ص: 211


1- كون الآية الكريمة تنفي فعلية التعذيب ولم تثبت نفي استحقاق التعذيب.
2- نهاية الدراية 2: 416.
3- نهاية الدراية 2: 416.

وهو: ضرورة رفع اليد عن ظهور القضية في الفعلية في القضايا المثبتة للآثار، وذلك للقرينة الخارجية، وهي قلة ما يكون علة تامة لثبوت شيء خارجاً، حيث توجد الشروط والموانع، فحتى لو كان الفاعل تام الفاعلية يمكن أن لا يكون القابل تام القابلية، فيضطر لرفع اليد عن ظهور القضية في الفعل إلى الاقتضاء.

ولكن في القضايا النافية للآثار يكون العدم فعلياً على كل حال، سواء لم يكن هنالك مقتضٍ أم لم يكن شرط، أم كان مانع.

وقد قالوا في محله: إن الوجود لا يتحقق إلا بسد جميع أبواب العدم عليه(1)، فلو كان هنالك ألف باب يأتي منها عدم المعلول فلا بد من سد جميعها لتحققه، أما في عدم المعلول فيكفي انفتاح باب واحد منها فينعدم المعلول، فالعدم فعلي سواء أكان المتحقق عدم المقتضي أم عدم الشرط أم وجود المانع.

وعليه، فظاهر القضية المنفية الفعلية لا الاقتضاء، عكس القضية المثبتة، فلو قلنا: (السنا مسهل)(2) فبالقرينة الخارجية يحمل على الاقتضاء، أما لو قلنا (الماء ليس بمسهل) فلا وجه للحمل على الاقتضاء.

وكذا في المقام فقوله: (كنا معذبين) يحمل على إثبات الاقتضاء، وأما قوله (ما كنا معذبين) فلا موجب لحمله على الاقتضاء.

فما ذكره صاحب الكفاية من كون الآية تنفي الفعلية لا الاقتضاء، فلا

ص: 212


1- وقاية الأذهان: 307.
2- السنا: نبات له حمل إذا يبس فحركته الريح سمعت له زجلاً. العين 7: 303.

يمكن الاستدلال بها على البراءة تام.

لكن الإشكال بالفرق بين طرف النفي والإثبات محل إشكال صغرى وكبرى.

أما الإشكال الكبروي: فهو ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) حيث قال: «السلب والإيجاب يتوجهان على التبادل على شيء واحد، فكون المتعلق في أحدهما غيره في الآخر انفراط»(1).

توضيحه: الجملة الخبرية مركبة من الموضوع والمحمول والنسبة الحكمية، والحكم والأخير هو مفاد الجملة، فإما أن يحكم بثبوت النسبة بين الموضوع والمحمول، أو بنفي النسبة بين الموضوع والمحمول، ومصب الإثبات هو مصب النفي، وبالعكس، فكيف يكون مصب الإثبات الاقتضاء ومصب النفي الفعلية؟ إلا أن يدعى الظهور فيما ذكره.

أما الإشكال الصغروي فهو: لو تم ما ذكر في النهاية من الفرق بين الإثبات والنفي، فإنما يتم إذا كان المتكلم في مقام بيان الخواص والآثار التي تترتب على الشيء، لكن لو كان المتكلم في مقام بيان سنة تاريخية جرت عادته عليها، فلا فرق بين النفي والإثبات في ظهورهما في الفعلية، فلو ورد (أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يستاك قبل النوم) كان معناه أنه جرت عادته ودأبه على ذلك، فتكون الجملة ظاهرة في الفعلية.

ولو ورد (ما كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينام بين الطلوعين) يعني لم تجر عادته، فتدل على فعلية النفي، فهل الآية الكريمة في مقام بيان الاقتضاء أو في مقام

ص: 213


1- الأصول: 704.

بيان السنة التاريخية الإلهية؟ فلو كان الثاني فلا فرق، فقوله: (كنا معذبين) يعني كانت سنتنا بالفعل على التعذيب، وقوله (ما كنا معذبين) يعني ما كانت سنتنا بالفعل على التعذيب.

فإن قلنا (كان) منسلخة عن الزمان وإفاد الربط فحسب - كما ادعاه صاحب الكفاية في بحث المشتق(1) - كان المعنى لسنا معذبين قبل البيان، بل بعده، وهو بيان واقع خارجي.

وإن لم تكن منسلخة عن الزمان كان المعنى لم نعذب فيما مضى، أي لم تجر عادتنا في الأمم المتقدمة على ذلك، وكلاهما يدلان على الفعلية، ومثله ما لو قال مقتدر: إني معذب أو لست بمعذب، فهو ظاهر في الفعلية، وكذا قولنا: فلان منفق أو ليس بمنفق.

ويؤيده السياق حيث قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً * وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}(2).

وقد ورد في بعض التفاسير(3): لا يكون العقاب الإلهي بقيام الحجة

ص: 214


1- كفاية الأصول: 38.
2- الإسراء: 13-16.
3- مجمع البيان 6: 234.

العقلية فقط، فإن خالفوا فإنّ اللّه لا يعاقبهم، مع أمر العقل ونهيه، بل يتوقف على بعث النبي، فقوله تعالى: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أي بالإطاعة {فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ}.

التقريب الثاني: ما ذكر في المنتقى(1): من كون نفي التعذيب وإن كان أعم من نفي استحقاق التعذيب في حد ذاته، إلا أنه في خصوص المقام ظاهر عرفاً في كون منشأ نفي التعذيب هو انتفاء الاستحقاق.

ولو أشكل في الظهور إلا أنّ سياق الآية ظاهر في انتفاء الاستحقاق، فإنه في مقام بيان الطريقة العادلة في العذاب، وأنه لا يكون إلا طبق الموازين العقلائية، والشارع لم يتخط طريقتهم في الثواب والعقاب.

وعليه، يكون مفاد الآية أنَّ العذاب منتفٍ؛ لأنه على خلاف الموازين العقلائية، وتقييد التعذيب بقيام الحجة بما تقتضيه الموازين العقلائية.

والحاصل: انَّ الآية إشارة إلى الطريقة العقلائية المألوفة في الثواب والعقاب.

لكنه محل تأمل: فإنّ في الآية بحثين: الأول: مفادها بلحاظ ذاتها، الثاني: مفادها بلحاظ سياقها.

أما البحث الأول: فتحتمل الآية في حد ذاتها وجوها ثلاثة:

الأول: إن التعذيب لم يكن دأبنا، وهو يفيد السنة التاريخية الإلهية.

الثاني: إنَّ التعذيب ليس فعلنا، وهو يفيد أننا لسنا معذبين.

الثالث: إنَّ التعذيب ليس شأننا، وهو يفيد أن المقام الربوبي أجل وأرفع

ص: 215


1- منتقى الأصول 4: 373.

من أن يعذب بلا بيان.

فما هو المعين للاحتمال الثالث؟

وأما البحث الثاني: فكما ينسجم السياق مع بيان ما يقتضيه العدل كذلك ينسجم مع بيان ما يقتضيه الفضل، فقوله (ما كنا معذبين) هل لكونه خلاف العدل أو خلاف الفضل؟

ولو شكك فيه فمنتهى الأمر تعارض ظهور السياق السابق مع ظهور السياق اللاحق، ولا وجه لملاحظة السياق السابق وإغفال السياق اللاحق في قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}(1) فقد قال البعض(2) بأنه يفيد الفضل لا العدل، وإن اللّه لا يعاقب بمجرد قيام الحجة العقلية، ومع أن الأمم خالفت الحجة العقلية، إلا أن المولى لا يؤاخذهم ولا يعاقبهم؛ تفضلاً مع عدم كون المؤاخذة منافياً للعدل.

وإنما يكون التعذيب بعد الحجة الشرعية، وهو مقتضى الفضل.

فالسياق السابق يبين مقتضى العدل، والسياق اللاحق يبين مقتضى الفضل. ويمكن دعوى كون ظهور السياق اللاحق أقوى في المقام، وإلا فلا أقل من تعارض ظهوري السياقين، فتكون الآية مجملة، ويكفينا الاحتمال والإجمال.

التقريب الثالث: ما ذكره المحقق العراقي(3) وبعض المعاصرين(4)، كما

ص: 216


1- الإسراء: 16.
2- الميزان 13: 59.
3- نهاية الأفكار 3: 205.
4- بحوث في علم الأصول 5: 33.

ذكره في المصباح(1)، وهو مركب من دعويين(2).

الأولى: قوله تعالى: (ما كنا معذبين) ظاهر في أنّ التعذيب ليس من شأننا قبل البيان، وذلك لكونه مدلولاً مطابقياً للآية الكريمة، وهذا يظهر من استقراء موارد استعمال الكلمة في القرآن الكريم.

فتعبير (ما كان) و (ما كنا) استخدم في القرآن الكريم في هذا المعنى، كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}(3) فإن المقام الربوبي أجل منه.

وقال تعالى: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}(4) فليس شأنه ذلك.

وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}(5).

وقال عز وجل: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}(6).

الدعوى الثانية: المفاد الالتزامي للآية الكريمة هو: لو لم يكن التعذيب قبل البيان مناسباً للشأن الربوبي لكان ملازماً لعدم استحقاقهم للعذاب، وإلا لكان من شأنه أن يعذب أو يعفو.

فلو قلنا: إنَّ التعذيب يجلُّ عنه الشأن الربوبي فهو ملازم لعدم استحقاقهم

ص: 217


1- مصباح الأصول 2: 255.
2- مع إجراء التعديل عليه لتشويش في بعض عباراتهم (منه (رحمه اللّه) ).
3- التوبة: 115.
4- آل عمران: 179.
5- الأنفال: 33.
6- الكهف: 51.

التعذيب، فيثبت المطلوب، فتتكفل الآية نفي الاستحقاق بالدلالة الالتزامية.

ولكنهما محل تأمل. أما الدعوى الأولى: فالاستقراء ناقص، وكما استخدمت (ما كان) بمعنى نفي الشأن كذلك استخدمت بمعنى نفي الفعلية وما أشبه، كما في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ}(1) فالمعنى لا يحق لهم ذلك، لا أنه ليس من شأنهم.

وقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا}(2) فهو نفي الفعلية لا الشأنية.

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه}(3) فهل المعنى أن شأن النفس أجل من الموت إلا بإذن اللّه؟

وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا}(5).

وقال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً}(6).

وقال عزّ من قائل: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللّه شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}(7).

ص: 218


1- البقرة: 114.
2- آل عمران: 67.
3- آل عمران: 145.
4- آل عمران: 179.
5- النساء: 92.
6- الأنفال: 35.
7- التوبة: 17.

وقال سبحانه: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ}(1).

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ}(3).

وقال سبحانه: {مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ}(4).

وقال تبارك وتعالى: {مَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ}(5).

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا}(6).

وقال عزّ من قائل: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ}(7).

وقال تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}(8).

وقال سبحانه: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}(9).

فإنّ الظاهر - واللّه أعلم - أنّ (ما كنا) و (ما كان) تستخدم بمعنى نفي الشأنية، ونفي الفعلية وبمعنى آخر.

ص: 219


1- التوبة: 120.
2- التوبة: 122.
3- يونس: 100.
4- يوسف: 68.
5- إبراهيم: 22.
6- الإسراء: 20.
7- الأعراف: 7.
8- الزخرف: 13.
9- الشعراء: 208-209.

وأما الدعوى الثانية: فلا ملازمة بين عدم كون الفعل من شأن اللّه وعدم استحقاقهم للعذاب، فإنّ لله شانين: شأنه بما أنه عادل، وشأنه بما أنه رحيم كريم ودود عطوف، فليس من شأنه أن يعذب قبل تمام الحجة، إمّا لأنهم لا يستحقون العقاب، وإمّا لأنه مناف لمقام الرحمة والعطوفة الإلهية.

فلو قال أحد: ليس من شأني أن أرد الشتم بالشتم، فليس معناه عدم استحقاق الرد بالمثل، وقد قال تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ}(1) بل لكونه غير مناسب لمقامه، فنفي المناسبة لا يعني عدم الاستحقاق.

وقد استدل في المصباح(2) بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}(3) بأن شأنه تعالى أجل من ذلك، فهل المعنى إنهم لا يستحقون العقاب أو إن الآية ظاهرة في استحقاقهم للعقاب، ولكن الشأن الربوبي أجل من تعذيبهم لوجود رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيهم.

وعليه، فالمدلول المطابقي للمدعى غير واضح، والمدلول الالتزامي غير قابل للقبول، فالجواب الثالث بتقريباته الثلاثة محل تأمل، وما ذكرناه إنما هو على سبيل الاحتمال، واللّه العالم بحقيقة الحال.

الإيراد الثاني

وهو ما ذكره بعض المحققين من المتأخرين(4) من كون مفاد الآية إناطة استحقاق التعذيب بصدور البيان من الشارع، لا بوصول البيان من الشارع،

ص: 220


1- الشورى: 40.
2- مصباح الأصول 2: 256.
3- الأنفال: 33.
4- بحوث في علم الأصول 5: 33-34.

فغاية ما يمكن أن يقال في المقام إن بعث الرسول كناية عن صدور البيان الشرعي. وهذا المفاد لا يتكفل بإثبات ما نحن فيه؛ لأن الغرض في البراءة إثبات عدم العقاب في فرض عدم وصول البيان الشرعي، والآية تنفي العذاب في فرض عدم صدور البيان الشرعي، وبينهما بون بعيد، مثلاً: في حكم أكل الطعام المحترق لم يصلنا من الشارع بيان، فتجري البراءة، ولا يمكن القول بعدم صدور البيان، فربما صدر واختفى علينا بفعل الظالمين، والآية تنفي استحقاق العذاب على فرض عدم صدور البيان الشرعي، لا فرض عدم وصول البيان.

إن قلت: المحرز التعبدي لعدم صدور البيان - وهو الاستصحاب - كافٍ في المقام.

قلت: إنه عدول عن الاستدلال بالآية الكريمة إلى الاستصحاب، وهو دليل مستقل، وسيأتي الكلام عنه.

وفيه تأمل: حيث إن العرف قاضٍ بعدم الموضوعية لبعث الرسول في حد ذاته، بل هو طريقي لإقامة الحجة ووصول البيان.

والشاهد عليه: فيما لو بعث اللّه الرسول ولم يبلغ الأحكام لمانع، فمفاد الآية التعذيب لتحقق الغاية، أو بلغ الرسول لبعض الأقوام دون آخر فالجميع يستحقون العقاب لتحققها، أو بلغ بعض الأحكام دون البعض الآخر فيستحقون العذاب على مخالفة جميع الأحكام ما بلغ منها وما لم يبلغ، أو بلغ جميع الأحكام ثم بعد مرور قرون متمادية ضاعت الشريعة، فتستحق الأمة المتأخرة العقاب وإن لم تصلهم الشريعة، كل ذلك للموضوعية في بعث الرسول.

ص: 221

والالتزام باللوازم الأربعة بعيدة جداً عن مفاد الآية الكريمة عرفاً.

وعليه، فقوله تعالى: (حتى نبعث رسولاً) كناية عن وصول البيان لا صدور البيان، فينهض دليلاً على البراءة.

الإيراد الثالث

وهو إنَّ مفاد الآية نفي العذاب الدنيوي، وما يهمنا في البراءة نفي العذاب الأخروي.

وفيه تأمل من جهتين:

الأولى: لا دليل على التقييد، بل مقتضى الإطلاق كون المنفي أعم من العذاب الأخروي والدنيوي، وحذف المتعلق يفيد العموم، بل يمكن أن يقال: إن السياق يؤيد كونها في صدد نفي العذاب الأخروي.

الثانية: لو كان العذاب الدنيوي - وهو الأقل - منفياً قبل تحقق الغاية، فالعذاب الأخروي الذي لا تقوم له السماوات والأرض أولى بالانتفاء؛ لكونه أعظم وأدوم.

وقد يرد إشكال وهو: إن نفي الأقل لا ينافي ثبوت الأكثر، والدليل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ}(1) فمن صاد وجبت عليه الكفارة، فلو كرر فلا كفارة، فلا ملازمة بين نفي الأقل وانتفاء الأكثر.

ولكنه محل تأمل: فإنه تارة ينفى العذاب القليل؛ لكونه منافياً لمقام العدل، وتارة ينفى لكونه منافياً لمقام الفضل، وتارة ينفى لأنّ المولى في مقام التنكيل.

ص: 222


1- المائدة: 95.

فلو كان مفاد الآية أن التعذيب ينافي مقام العدل لكان الملاك مشتركاً بين العقوبة الدنيوية والأخروية، ولو كان مفادها أنه مناف لمقام الفضل، فنفي العذاب الأخروي الشديد أقرب إلى الفضل. نعم، لو كان المولى في مقام التنكيل فلا ملازمة بين نفي العذاب الدنيوي وانتفاء العذاب الأخروي، والمدعى ظهور الآية في أن المولى لا يعذب، إمّا لأنّ التعذيب مناف لمقام العدل، أو أنه مناف لمقام الفضل، فيصح ما ذكر من اشتراك الملاك على الأول، أو أولويته على الثاني.

ولو تم ما ذكروه من أن ظاهر الآية نفي الشأنية، فالآية الكريمة تنهض بإثبات الانتفاءين.

الإيراد الرابع(1)

إنَّ الآية الكريمة تخبر عن عدم وقوع العذاب على الامم السابقة(2).

ويرد عليه: أولاً: ما ذكره صاحب الكفاية(3): من أن (كان) في كلامه تعالى منسلخ عن معنى الزمان غالباً، لكنه محل تأمل، فليست الغلبة دليلاً، ولا يمكن القول: إنّ الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب على المشهور، بل قد استخدمت في معنى زماني أيضاً.

نعم، لو قال: إنّ ظاهر الآية منسلخ عن معنى الزمان لكان له مجال، أما مجرد الغلبة فلا تجدي فيما نحن فيه، فإن من شرائط إنتاج الشكل الأول

ص: 223


1- وقد دمج الشيخ هذا الإشكال مع سابقه وارتضاه (منه (رحمه اللّه) ).
2- نهاية الأفكار 3: 205.
3- كفاية الأصول (المحشی) 4: 26.

كلية الكبرى.

وثانياً: لو ثبت اللطف في الأمم السابقة فالأمة المرحومة أولى باللطف، مضافاً إلى ورود بعض الأجوبة المتقدمة أيضاً.

الآية الثانية: آية الإيتاء

وهي قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}(1).

قال صاحب الفصول(2): ودلالتها على البراءة واضحة.

ولم يذكر تقريباً للاستدلال.

ويمكن تقريبه: بأنه وإن كان مورد الآية خصوص المال - لأنها في المطلقة المرضعة، فمن طلق زوجته وكانت ترضع ولده {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}، أي إن كان مقتدراً فلينفق من قدرته، وإن ضيق عليه فبمقدار الإمكان ينفق عليها {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} - إلا أن الموصول فيها يشمل التكليف أيضاً؛ لأن مساقه مساق التعليل، والكبرى الكلية للحكم المتقدم، ولا يناسب ذلك تخصيصها بموردها، وعليه فإنَّ الموصول يشمل المال والحكم.

ويكون إيتاء كل شيء بحسبه، فإيتاء المال بإعطائه، وإيتاء الحكم بالإعلام والإيصال.

فمفاد الآية لا يكلف اللّه نفساً إلا حكماً أعلمها أو تكليفاً أبلغه، فيكون

ص: 224


1- الطلاق: 7.
2- الفصول الغروية: 353.

دليلاً على البراءة.

ويشكل عليه: بكون الاحتمالات في الموصول أربعة:

الأول: أن يكون المراد بالموصول (المال) والمراد بالإيتاء (الإعطاء)، أي لا يكلف اللّه نفساً إلا مالاً أعطاها، ويؤيده سياق الآية المباركة أو موردها، وعليه يكون أجنبياً عما نحن فيه من الحكم المجهول.

الثاني: أن يراد بالموصول (الفعل) ويراد بالإيتاء (الإقدار) فمعنى الآية: لا يكلف اللّه نفساً إلا فعلاً أقدرها عليه، وهذه الكبرى الكلية تشمل إنفاق المال وغيره من سائر الأفعال، فتفيد اشتراط التكليف بالقدرة أو بالإقدار، وهو مما لا خلاف فيه بين العدلية، ويؤيده ما ذكروه(1): من عدم تعلق التكليف بالأعيان وإنما بالأفعال، كما في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}(2) فيلزم التقدير أي: حرم عليكم نكاح أمهاتكم لعدم تعلق التحريم بالعين(3).

فليس المراد من الموصول العين الخارجية، كما في المعنى الأول، بل المراد (الفعل)، وعليه يكون مفاد الآية أجنبياً عما نحن فيه؛ لأن البحث في باب البراءة لا يرتبط بالقدرة، وإنما بالشبهة والمجهولية، فالفعل مقدور ولكنه مجهول، فيبحث في جريان البراءة فيه.

الثالث: أن يراد بالموصول (الحكم) فحسب، فيكون معنى الآية: لا

ص: 225


1- معالم الدين: 156؛ قوانين الأصول: 339.
2- النساء: 23.
3- معالم الدين: 156.

يكلف اللّه نفساً إلا حكماً آتاها، وهو منفي؛ لأنه منافٍ للمورد.

الرابع: أن يراد بالموصول الأعم من المال والفعل والحكم، أو الأعم من الفعل والحكم، وإيتاء كل شيء بحسبه، فمفاد الآية لا يكلف اللّه نفساً إلا مالاً أعطاها، وإلا فعلاً أقدرها عليه، وإلا حكما آتاها، وحيث إن شرب التتن - مثلاً - لم يؤت اللّه تحريمه للمكلف، فلا تكليف بالاجتناب عنه، فيتم الاستدلال بالآية على الاحتمال الرابع.

لكن قال الشيخ الأعظم(1) لا يمكن المصير إلى هذا الاحتمال؛ لأن نحو تعلق الفعل بالمفعول به مغاير لنحو تعلق الفعل بالمفعول المطلق، فإن الأول من نحو تعلق المباين إلى المباين، كضرب زيد عمراً ف- (ضرب) له تعلق ب- (عمرو) وهما أمران متباينان مفهوماً وخارجاً.

أما الثاني فهو من نحو تعلق الفعل بنفسه أو بطور من أطواره، فتلعقه من تعلق الشيء بذاته، كضربته ضرباً ف- (ضَرَب) و (ضرباً) لهما معنى واحد، أو ضربته ضرباً شديداً، فنحو التعلق هو تعلق الفعل بطور من أطواره.

وفي المقام: نحو تعلق الفعل ب- (الحكم) مباين لنحو تعلق الفعل ب- (المال) أو ب- (الفعل) فالنسبة على التقدير الأول نسبة الفعل إلى المفعول المطلق، وعلى الثاني نسبة الفعل إلى المفعول به، ولا يمكن إرادة النسبتين في كلام واحد ولا جامع بينهما.

وبعبارة أوضح: نسبة الفعل في الآية الكريمة إلى التكليف نسبة الفعل إلى المفعول المطلق (لا يكلف اللّه نفساً إلا تكليفاً) ونسبته إلى المال أو

ص: 226


1- فرائد الأصول 2: 22.

الفعل نسبة الفعل إلى المفعول به (كلفه مالاً) أو (كلفه فعلاً).

فإن كان المراد من الآية الأعم من الحكم والفعل والمال كان لازمه استعمال اللفظ في معنيين، وهو محال، ولأن إرادة المال قدرٌ متيقن لكونه مورد الآية، فتكون النسبة نسبة المفعول به، ولا يمكن أن تكون نسبة المفعول المطلق أيضاً.

ويرد عليه وجوه:

الأول: لا نسلم بامتناع استعمال اللفظ في معنيين، بل هو ممكن، بل واقع وقد مثل لذلك بقول الشاعر في وصف الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

المرتمي في دجى والمبتلى بعمى***والمشتكي ظمأ والمبتغي دينا

يأتون سدته من كل ناحية***ويستفيدون من نعمائه عينا(1)

منتهى الأمر أن استعمال اللفظ في أكثر من معنى بحاجة إلى قرينة في مقام الإثبات، وليس الكلام فيه، بل في مقام الثبوت؛ لكون الإشكال المذكور امتناع إرادة النسبتين.

الثاني: ما ذكره المحقق العراقي(2) وهو مبتنٍ على افتراض وجود الجامع بين النسبتين.

قال: الإشكال المزبور إنما يرد في فرض إرادة الخصوصيات المذكورة من شخص الموصول.

ومراده تمامية الإشكال لو أريد من (ما آتاها) معنى المال والفعل

ص: 227


1- وقاية الأذهان: 87.
2- مقالات الأصول 1: 168؛ نهاية الأفكار 1-2: 107.

والحكم، لكن لو فرض أن الموصول مستعمل في المعنى العام الكلي، ولم يستعمل في الخصوصيات الخارجية المذكورة، فلا يرد الإشكال لا بلحاظ الموصول ولا بلحاظ لفظ الإيتاء، ولا بلحاظ نسبة الفعل إلى الموصول.

أما بلحاظ شخص الموصول فالموصول لم يستعمل إلا في معناه الكلي العام، وهو الشيء، وأما بلحاظ لفظ الإيتاء فهو مستخدم في معناه اللغوي الذي هو بمعنى الإعطاء، منتهى الأمر أنّ إعطاء كل شيء بحسبه، فإيتاء المال بمعنى التمليك، وإيتاء الفعل بمعنى الإقدار، وإيتاء الحكم بمعنى التبليغ والإعلام، كما قالوا بالمعنى الكلي الجامع في باب القبض، وهو في كل شيء بحسبه، فقبض الدابة مثلاً غير قبض الدار وهكذا.

وأما بلحاظ تعلق الفعل بالموصول فليس إلا نحوٌ واحد، وهو تعلقه أي (يكلف) بالجامع الذي هو المعنى الكلي للموصول، ومجرد التعدد بالتحليل العقلي إلى نحو التعلق بالمفعول المطلق وإلى نحو التعلق بالمفعول به لا يقتضي تعدده بالنسبة إلى الجامع، منتهى الأمر التعدد في المصاديق، فاندفع محذور استخدام اللفظ في معنيين.

لكنه محل تأمل، وبيانه يتوقف على تقديم مقدمة، وهي: النسب الحكمية متقومة بوجود طرفيها، والطرفان لا يتحملان أكثر من نسبة حكمية واحدة، فإذا أريد دلالة الكلام على نسبتين حكميتين فلا بد من إضافة طرف ثالث، مثلاً: لو قلنا: ضرب زيد، فالكلام يدل على نسبة حكمية واحدة هي نسبة الفعل إلى فاعله، فإن أريد إضافة دلالة الكلام على نسبة حكمية ثانية فلا بد من إضافة طرف ثالث، كضرب زيد عمراً، فهنا نسبتان

ص: 228

نسبة الفعل إلى فاعله وإلى مفعوله، فإن أريد إضافة نسبة ثالثة فلا بد من إضافة طرف رابع في الكلام، كضرب زيد عمراً اليوم، وهي نسبة الفعل إلى ظرفه الذي وقع فيه.

فإن قلت(1): يمكن إرادة الجامع بين النسبتين بدون إضافة الطرف الثالث.

قلنا: إن تحقق الجامع موقوف على إلغاء الخصوصيات الفردية، وإبقاء المشتركات فيما بين الفردين(2)، وهو ممكن في المعاني الاسمية دون المعاني الحرفية؛ لأن حقيقتها الربط والارتباط بين الطرفين، وهذه الخصوصية مقومة لحرفية المعنى الحرفي، فلو ألغيت الخصوصية فقد تم إلغاء المعنى الحرفي، ولذا لا يمكن فرض جامع بين معنيين حرفيين، والنسبة الحكمية معنى حرفي(3)، فلا يمكن أن يكون هنالك جامع بين نسبتين حكميتين، هذا على نحو الكبرى الكلية(4).

وبناء عليه - كأصل موضوعي - نأتي إلى ما نحن فيه، ففي الآية الكريمة عدة نسب حكمية:

1 - نسبة الحكم إلى فاعله (لا يكلف اللّه).

ص: 229


1- كما هو لبّ كلام المحقق العراقي.
2- فمثلا لانتزاع الجامع بين زيد وعمرو لابد من إلغاء الخصوصيات الفردية الأينية والكمية والكيفية وما أشبه وملاحظة المشتركات، ثَمَ ينتزع المفهوم الكلي للإنسان الجامع بينهما (منه (رحمه اللّه) ).
3- على ما تقرر في المجلد الأول من الأصول (منه (رحمه اللّه) ).
4- وإثباته على عهدة بحث المعنى الحرفي.

2 - نسبة الحكم إلى مفعوله الأول (لا يكلف اللّه نفساً).

وهما ليستا محل الكلام، وإنما الكلام في النسبة الثالثة، وهي:

3 - نسبة الحكم إلى مفعوله الثاني (لا يكلف اللّه نفسا إلا ما)، فإن أريد كل واحدة من النسبتين، لزم محذور استخدام اللفظ في معنيين، وإن أريد الجامع بين النسبتين فلا جامع بينها؛ لأنها معانٍ حرفية.

وبعبارة أخرى: هنالك نسبة بين (يكلف) و (شيئاً آتاها) فهل هي نسبة الفعل إلى المفعول به أو نسبة الفعل إلى المفعول المطلق؟

فإن كان نسبة الفعل إلى المفعول به، فالمفعول به متقدم على الفعل وعلى النسبة الحكمية(1)، وإن كان نسبة الفعل إلى المفعول المطلق، فالمفعول المطلق عين الفعل أو نحو من أنحائه، فيكون وجوده مقارناً لوجود الفعل.

فهل (ما = شيئا) متقدم أم مقارن؟

فما ذكره المحقق العراقي غير واضح.

الثالث: ما ذكره المحقق العراقي أيضا(2) من وجود معنيين للتكليف: لغوي واصطلاحي، أما المعنى اللغوي فهو الإيقاع في الكلفة والمشقة، وأما المعنى الاصطلاحي فهو الحكم، فإن حملنا لفظ التكليف في الآية على المعنى الاصطلاحي يتعين كون الموصول مفعولاً مطلقاً نوعياً، فيرد الإشكال المذكور.

ص: 230


1- فلا بد من وجود زيد وعمرو حتى يتعلق ضربه به (منه (رحمه اللّه) ).
2- نهاية الأفكار 1-2: 108.

لكن لو حملنا لفظ التكليف على المعنى اللغوي فلا يتعين ذلك، بل يمكن أن يكون الموصول مفعولاً به أو مفعولاً منه، ويكون المعنى على التقدير الأول (لا يوقع اللّه على عباده كلفة حكم أو فعل إلا كلفة حكم أو فعل آتاها) فلا يكون في الكلام إلا نسبة واحدة، نسبة الفعل إلى المفعول به.

وعلى التقدير الثاني يكون الموصول بمعنى المفعول منه، وهو ما يعبر عنه بالمفعول النشوي(1) (لا يوقع اللّه عباده في كلفة ومشقة إلا من قبل حكم أو فعل آتاها).

والفرق بين الوجهين: أنه فرض الجامع بين النسبتين في الوجه السابق، بينما ألغى المفعول المطلق وأثبت النسبة للمفعول به أو المفعول منه في هذا الوجه.

ثم أضاف: لا يمكن أن يكون (ما) مفعولاً مطلقاً و (يكلف) بمعنى الحكم، أي (لا يحكم اللّه على عباده إلا حكماً آتاها)؛ لاستلزامه محذور اختصاص الأحكام بالعالمين بها، فتكون الأحكام الواقعية مقيدة بعلم المكلفين، وقد ثبت في محله استحالة التقييد، فلا بد من حمل التكليف على المعنى اللغوي، وتكون (ما) بمعنى المفعول به أو المفعول منه.

وأشكل عليه في المنتقى(2): بأن التكليف ظاهر في معنى الحكم ولا ظهور له في معناه اللغوي، ولا يستلزم ذلك المحذور العقلي المذكور؛ لإمكان حمل الرفع على الرفع الظاهري كما في نظائره، كحديث الرفع.

ص: 231


1- أي ما ينشأ منه الفعل.
2- منتقى الأصول 4: 380.

لكنه محل تأمل:

أولاً: لا مناسبة بين مادة التكليف والحكم، فالتكليف مأخوذ من مادة الكلفة، وهي مباينة لمادة الحكم، فكيف يفسر التكليف به؟ وإطلاق التكليف على الأمر والنهي ليس باعتبار الحكم، بل باعتبار أنه من مصاديق الإلقاء في المشقة، ويؤيد ما ذكرناه من عدم المرادفة بين التكليف والحكم ما ورد في كتب اللغة: قال الطريحي: التكليف: «الأمر بما يشق عليك»(1) وقال ابن منظور: «كلفه تكليفاً: أي أمره بما يشق عليه»(2). وكذا في بعض المعاجم اللغوية الأخرى.

وثانياً: لا ينفك الأمر من ارتكاب مخالفة الظاهر: فإما أن نقول: إن التكليف بمعنى الحكم، والرفع رفع ظاهري، وهو خلاف الظاهر. أو نقول: التكليف بمعنى الإيقاع في الكلفة، وهو خلاف الظاهر، حسب ما ادعاه في المنتقى(3)، وإن الرفع رفع واقعي، أي أن المولى واقعاً لا يوقع عبادهُ في المشقة بالتكاليف المجهولة، على خلاف القوانين الوضعية التي توقع المكلف في الكلفة، سواء أكان عالماً أم جاهلاً، حتى وإن كان جهلاً قصورياً.

وعليه، إما أن نتصرف في كلمة (التكليف) بما هو خلاف ظاهرها، ويكون المراد منها الإيقاع في المشقة، أو نقول: إن الرفع ظاهري، وهو خلاف الظاهر.

ص: 232


1- مجمع البحرين 5: 115، مادة «كلف».
2- لسان العرب 9: 307.
3- منتقى الأصول 4: 379.

وبعبارة أخرى: مدعى المنتقى أن التكليف يحمل على ظاهره وهو الحكم، والرفع يحمل على غير ظاهره، وهو الرفع الظاهري، والسؤال ما هو المرجح لهذا على عكسه، بأن نحمل الرفع على الرفع الواقعي وهو ظاهر الكلمة، ونحمل التكليف على غير ظاهره، أي الإيقاع في الكلفة؟

والمتحصل من جميع ما ذكرنا: أنه لا محذور في مقام الثبوت من شمول الموصول في الآية الكريمة للحكم، فالإشكال الثبوتي غير وارد، إما لإمكان استعمال اللفظ في معنيين، وإما لإرادة الجامع بين النسبتين، وإما لتوحيد النسبة.

إشكالات على الاستدلال بآية الإيتاء على البراءة

أما بلحاظ الإثبات فهنالك عدة إشكالات:

الأول: ما ذكره المحقق العراقي(1) من أن القدر المتيقن في مقام التخاطب مانع من التمسك بالإطلاق، وهو خصوص المال؛ لأن السياق سياق الحديث عن الماليات.

وفيه تأمل من الناحية الكبروية؛ لما ثبت في محله(2) من أن وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب كوجود القدر الخارجي لا يمنع التمسك بالإطلاق، وهو إشكال مبنائي.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق العراقي أيضاً(3)، من أنَّ غاية ما يستفاد

ص: 233


1- نهاية الأفكار 3: 203.
2- في مباحث المطلق والمقيد.
3- نهاية الأفكار 3: 204.

من الآية الكريمة نفي الكلفة والمشقة من قبل التكاليف المجهولة، التي لم تصل إلى المكلف، لا نفي الكلفة والمشقة مطلقاً ولو من قبل إيجاب الاحتياط، وهذا المقدار لا يضر بمدعى الأخباري؛ لأن مدعاه ثبوت وجوب الاحتياط لأدلة إيجاب الاحتياط لا التكليف الواقعي المجهول.

مثلاً: الشارع لم يوقع المكلف في المشقة بإيجاب الاجتناب، وهو تكليف واقعي في شرب التتن؛ لأنه لم يصل إليه لكن أوقعه في الكلفة بواسطة دليل وجوب الاحتياط.

وبعبارة أخرى: وإن كان دليل (اجتنب التتن) الواقعي مجهولاً إلا أنّ دليل (احتط) معلوم، فمفاد الآية: التكليف الذي لم يؤتك المولى لا كلفة عليك منه، أما تكليف (احتط) فهو مما آتاك المولى.

فحاصل الإشكال: إنّ الآية واردة في دليل الاحتياط لو تم دليله، فلا تنهض دليلاً للأصوليين في مقابل الأخباريين.

وأشكل عليه بعض المحققين(1) بوجود احتمالين في الآية: نفي السببية أو نفي الموردية، وعلى الأول يكون المفاد: بسبب التكليف المجهول لا يوقع اللّه العباد في الكلفة، فلا تنهض في مقابل أدلة الأخباريين؛ إذ ليس الإيقاع في الكلفة بسبب التكليف المجهول، بل بسبب التكليف المعلوم ل- (احتط).

وأما على الثاني فيكون المفاد: في مورد التكليف المجهول لا إيقاع في الكلفة، فيكون منافيا لمفاد أدلة الاحتياط، فإن المكلف بالإضافة إلى شرب

ص: 234


1- دروس في علم الأصول 3: 30-31.

التتن في كلفة.

ثم قال: ظاهر الآية الموردية لا السببية، فتكون الآية مصادمة لدعوى الأخباريين.

ولكنه محل تأمل: فإن موضوع الآية (مجهول الحكم) سواء أفادت السببية أم الموردية، فبسبب الحكم المجهول أو في مورده لا إيقاع في الكلفة، ومدعى الأخباري معلومية حكم التتن، منتهى الأمر أن المعلومية تارة تكون للشيء بما له من العنوان الذاتي، وتارة بما له من العنوان العرضي، فإن قال: كذا حرام فهو من قبيل الأول، وإن قال: مشكوك النجاسة استصحب نجاسته فهو من قبيل الثاني.

ف- (ما جهل حكمه) لا كلفة فيه، سواء أكان بسببه أم في مورده، والموضوع حسب مدعى الأخباري لا ينطبق على شرب التتن؛ لأنه معلوم، فأدلة الاحتياط رافعة لموضوع الآية الكريمة.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقق العراقي أيضاً(1) من أن الإيتاء منسوب إلى اللّه تعالى، فيكون عبارة عن إعلامه سبحانه بالتكليف بالأسباب المتعارفة بين الموالي والعبيد والحكام والرعية، فإن لإعلام الحكم طرقاً متعارفة، فمثلاً: الدولة تعلم الناس عبر وسائل الإعلام لا عبر المناشير، والطريقة المتعارفة الإلهية هو الوحي إلى الأنبياء (عليهم السلام)، وأمرهم بإبلاغه إلى العباد فيمتثلون، أما عدم الإعلام فهو عبارة عن عدم إيحاء اللّه إلى أنبيائه، أو عدم أمرهم بتبليغه إلى العباد.

ص: 235


1- نهاية الأفكار 3: 204.

فمفاد الآية مفاد: «إن اللّه سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً»(1) وهو أجنبي عما نحن بصدده، فإنها ممحضة في نفي الكلفة عن حكم لم يوصل إلى العباد، لمكان سكوت اللّه، لا نفي الكلفة عن الحكم الذي لم يصل إلى العباد لإخفاء الظالمين مثلاً.

والنتيجة المستفادة من كلامه: إن التمسك بالآية الكريمة تمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأن مفادها ما لم يعلمه اللّه للعباد فلا كلفة من قبله، وفي حرمة الطعام المحترق - مثلاً - يحتمل أنه حكم أعلمه اللّه، ولكنه اختفى لإخفاء الظالمين، كإحراق المصاحف وشروحها في عهد الثالث، فلا يمكن التمسك بالآية للمقام.

ولكنه محل تأمل، فإن هنالك ثلاثة مفاهيم: مفهوم الإصدار ومفهوم الإيتاء في الجملة ومفهوم الإيتاء لكل فرد فرد، أما الإصدار فلا يحتاج إلى المفعول الثاني ك: أصدر الحاكم الحكم، وأما الإيتاء فمتقوم بمفعولين ك:أعطى زيد عمراً المال، فإن كان في الجملة فيكفي إبلاغه لبعض المكلفين، وإن لم يبلغ البعض الآخر، لكن ظاهر الآية الإيتاء بالنسبة إلى كل فرد فرد، ف- (نفسا) نكرة في سياق النفي، وهي تفيد العموم، فلو أبلغ النبي الحكم وورد ذلك في مدينة العلم للصدوق مثلاً، لكنه لم يصل إلينا بفعل الظالمين فهو مما لم يؤته اللّه لنا، حيث يمكن للمكلف أن يقول: إنَّ اللّه لم يكلفني أنا بهذا الحكم.

الإشكال الرابع: إنّ حقيقة الإيتاء الإعطاء غير ظاهر في معنى إبلاغ

ص: 236


1- من لا يحضره الفقيه 4: 75.

الحكم، فالآية غير ظاهرة فيما نحن فيه.

ويؤيده أنَّ المراد بالموصول في الآية نفس المراد بالموصول فيما تقدمها، فظاهر الموصولين أنهما بمعنى واحد {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}(1).

وحيث إنّ المراد من الأول المال، فهو المراد من الثاني.

ويؤيده - أيضاً - أنه لو عمت الآية للحكم والمال أو للحكم والفعل كان لازمه استخدام (لا) في الرفع الواقعي والظاهري معاً؛ لأنّ الرفع لعدم القدرة رفع واقعي، ورفع الحكم في صورة الجهل رفع ظاهري؛ لما ثبت في محله من اشتراك الأحكام للعالم والجاهل، ولا ظهور له في ذلك.

والحاصل: الآية غير ظاهرة في الشمول للحكم؛ لمكان كلمة الإيتاء.

ويمكن أن يشكل عليه: بعد التسليم بعدم ظهورها في عموم الموصول في حد ذاتها، بثبوت التعميم بقرينة بعض الروايات، فقد وردت الرواية: «قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): أصلحك اللّه، هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ فقال: لا، قلت: فهل كلفوا المعرفة؟ قال: لا، على اللّه البيان {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}(2)، و{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}»(3).

فقد استدل الإمام بالآية على عدم التكليف قبل البيان وهو المطلوب.

لكن يشكل عليه - بغض النظر عن الإشكال السندي لوجود مجهول فيه -

ص: 237


1- الطلاق: 7.
2- البقرة: 276.
3- مرآة العقول 2: 226.

بوجود احتمالين في عدم تكليف العباد بالمعرفة: الأول: لعدم البيان، وهو مبنى الاستدلال بالرواية، الثاني: لعدم القدرة، فحيث إنّ المعرفة غير مقدورة لم يكلفوا، لا لكونها مجهولة.

والسياق ربّما يؤيد الثاني، فسؤال الراوي من الإمام(عليه السلام): هل جعل للناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال(عليه السلام): لا. يظهر منه أنه لا طريق، فهل كلفوا المعرفة؟ قال(عليه السلام): لا، لأنه ليس بمقدور، بل على اللّه البيان، والبيان يجعل المعرفة مقدورة.

فالرواية إما ظاهرة في توقف التكليف على القدرة، أو لا أقل من الاحتمال، فيبطل الاستدلال.

ويؤيد ذلك وجود روايات أخرى تفيد عدم مقدورية المعرفة.

منها: «قلت للرضا(عليه السلام): للناس في المعرفة صنع؟ قال لا، قلت: لهم عليها ثواب؟ قال: يتطول عليهم بالثواب كما يتطول عليهم بالمعرفة»(1). فإعطاء المعرفة والثواب على المعرفة غير الاختيارية تفضل منه تعالى.

قال العلامة المجلسي: وروى في المحاسن بسند صحيح عن صفوان قال: «قلت للعبد الصالح: هل في الناس استطاعة يتعاطون بها المعرفة؟ قال: لا، إنما هو تطول من اللّه، قلت: أفلهم على المعرفة ثواب إذا كان ليس لهم فيها ما يتعاطونه بمنزلة الركوع والسجود الذي أمروا به ففعلوه؟ قال: لا، إنما هو تطول من اللّه عليهم وتطول بالثواب»(2).

ص: 238


1- مرآة العقول 2: 232.
2- مرآة العقول 2: 232.

فالمعرفة غير اختيارية، فلم يكلف بها العباد لأنها غير مقدورة لا لأنها مجهولة، فلا يستحقون الثواب عليها إلا تطولاً، فيحتمل كون مساق الرواية المذكورة مساق هذه الروايات.

وعليه، فلا نحتاج إلى القول بأن الإيتاء يشمل الإعلام، بل يمكن القول بأن الإيتاء بمعنى الإقدار، لا يكلف اللّه نفساً إلاّ فعلاً أقدرها عليه، وليس البحث فيه، فإن البحث بين الأخباريين والأصوليين في أن شرب التتن - مثلاً - المقدور هل كلفنا به أم لكونه مجهولا لم نكلف به؟

ولا بد من كون المراد من هذه الروايات المعرفة التفصيلية، وأما المعرفة الإجمالية فالظاهر أنها لا تتوقف على البيان.

ولذا قيل: لو تعلق شخص في الفراغ ولم يكن معه أي شي فيحصل له علمان ضروريان: العلم بأنه موجود والعلم بأن له موجداً.

فهذا المقدار لا يتوقف على البيان، وإن توقف على ما ذكر في الروايات من عالم الذر «ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه»(1). أما المعرفة التفصيلية فموقوفة على البيان.

الإشكال الخامس: اختصاص الآية بالشبهات الحكمية ولا تشمل الشبهات الموضوعية، فإن مفاد الآية - بناءً على عموم الموصول - هو: لا يكلف اللّه نفساً إلا حكماً آتاها، وإيتاء اللّه خاص بالشبهات الحكمية، أما الشبهات الموضوعية فلا يؤتى الحكم فيها من قبل الشارع؛ لأن وظيفة الشارع إيتاء الأحكام الكلية، وليس من شأن الشارع إيتاء الحكم في الجزئيات.

ص: 239


1- الكافي 2: 13.

لكنه غير وارد، فإن للشارع حيثيتين: الأولى: أنه شارع، الثانية: أنه خالق ومكون ورازق، والإيتاء في الآية ليس بمعنى الإيتاء التشريعي؛ لأنه ينافي مورد الآية، فموردها المال أو مطلق الفعل، وإيتاء المال أو الإقدار على مطلق الفعل تكويني، فالمراد من الآية إما خصوص الإيتاء التكويني أو أعم منه ومن التشريعي، فيعم الشبهات الموضوعية أيضاً؛ لأن تشخيص الحكم في الشبهات الموضوعية متوقف على الإيتاء التكويني للشارع، ولا يمكن تشخيص الحكم الجزئي إذا لم يعطِ الشارع القدرة التكوينية على التمييز.

هذا تمام الكلام في الإشكالات الواردة على الاستدلال بالآية الثانية، وقد تحصل من جميع ذلك أن العمدة فيها هو الإشكال الرابع.

الآية الثالثة: آية الوجدان

وهي قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ}(1).

تقريب الاستدلال: أنّه علق في الآية إطلاق العنان على عدم الوجدان، فحيث لم أجد يكون الاقتحام مباحاً، وفيما نحن فيه لم نجد حرمة شرب التتن فنكون مطلقي العنان.

إشكالات على الاستدلال بآية الوجدان على البراءة

وأورد عليه بإيرادات ثلاثة:

ص: 240


1- الأنعام: 145.

الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم بتردد وتأمل وارتضاه ظاهرا(1) من اختلاف عدم وجدان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن عدم وجدان غيره، فالأول دليل قطعي على عدم الوجود، فحيث كان المشركون يدعون تحريم أشياء في الأنعام أجابهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ب(لا أجد فيما أوحي إلي تحريم ما ذكرتموه وإنما تحريم الميتة و...).

أما الثاني فلا يدل على عدم الوجود، فلا يمكن القياس.

وقد يتأمل فيه: بأنه في مقام المخاصمة والاحتجاج، وفي مثله يتم الاستدلال بالأصول العقلائية المسلمة.

وفي المقام احتمالان: فإما أن يكون عدم الوجدان المطلق دليل عدم الوجود، وإما أن يكون عدم الوجدان المضاف إلى خصوص المتكلم(2) دليل عدم الوجود.

ومقام الاحتجاج يقتضي أن يكون تمام الموضوع عدم الوجدان؛ لأنه المناسب مع الأصل العقلائي، لا عدم وجدان خصوص المتكلم ؛ لأنه يؤول إلى الاحتجاج بأمر تعبدي، فالقول: إنّ عدم الوجدان دليلٌ على عدم الوجود في مقام الاحتجاج تام، أما القول بعدم وجدان المتكلم بلحاظ خصوصيته الشخصية فهو خلاف ما يقتضيه مقام الاحتجاج.

والحاصل: إنَّ مفاد الآية الكريمة مساوق لمفاد القاعدة العقلائية المعروفة (عدم الوجدان يدل على عدم الوجود)(3).

ص: 241


1- فرائد الأصول 2: 25.
2- أي مع لحاظ شخص المتكلم.
3- أقول: وقد يتأمل فيه بعدم كونه في مقام الاحتجاج على الخصم، بل قد يكون في مقام بيان الموقف، فمع اعتراض أحد على المسلمين بارتكاب المحرمات يكون الجواب: لن نجد في ديننا الحرمة (المقرّر).

الإيراد الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم أيضاً(1)، من أنّ غاية مدلولها أنّ عدم الوجدان فيما صدر عن اللّه تعالى يوجب الحكم بعدم التحريم، وهذا لا يدل على عدم الحكم بالتحريم، لعدم الوجدان فيما تبقى مما صدر من الأحكام.

فالفارق بين المقامين هو: أن النبي لم يجد حكماً بالتحريم في دائرة الوحي، وهو دليل العدم، أما غيره فلم يجد حكماً بالتحريم في دائرة المتبقي من الوحي، حيث يحتمل صدور حرمة الطعام المحترق واقعاً، ولكن لم يصلنا.

الإيراد الثالث: ما ذكره بعض المحققين من المتأخرين وبنى عليه: قال: «إن إطلاق العنان كما قد يكون بلحاظ أصل عملي قد يكون بلحاظ عمومات الحل، التي لا يرفع اليد عنها إلا بمخصص واصل»(2).

فمفاد الآية إطلاق العنان للمكلف والحكم بإباحة ما لم يوجد، فربما يكون إطلاق العنان بلحاظ عمومات الأدلة الاجتهادية التي أثبتت حلية كل مطعوم، فيكون العام باقياً على عمومه إلى أن يثبت المخصص أو المقيد، فالآية تثبت الإباحة ويعود الأمر إلى الأدلة الاجتهادية.

لكن كونه مباحاً لا يلازم أصالة الإباحة، والغرض في المقام إثبات أصالة الإباحة التي هي أصل من الأصول العملية.

وقد يتأمل فيه؛ إذ لو كان كذلك لكان الموضوع - وهو إطلاق العنان -

ص: 242


1- فرائد الأصول 2: 26.
2- دروس في علم الأصول 3: 32.

مركباً من وجود العموم وعدم وجدان المخصص، أي قل: لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً مع وجود العمومات الاجتهادية، وهو خلاف ظاهر الآية، فإن ظاهرها كون الموضوع بسيطاً، وهو صرف عدم الوجدان.

الآية الرابعة: آية التفصيل

وهي قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}(1).

والفرق بينها وبين الآية المتقدمة هو: إنَّ مفاد الآية المتقدمة حرمة ما لم يوجد تحريمه فيما أوحاه اللّه إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومفاد هذه الآية: حرمة الالتزام بترك ما لم يوجد تحريمه فيما فصّل، فنفس الالتزام بالترك حرام أو مورد للتوبيخ الإلهي.

لكنه لا يؤثر فيما نحن بصدده من البراءة؛ لأنها تدل على حرمة الالتزام بترك ما لم يوجد تحريمه فيما فصّل، وشرب التتن - مثلاً - من مصاديقه، والمراد من الآية - واللّه أعلم -: تارة يكون الالتزام بترك شيء ناشئاً من منشأ شخصي، وهذا مما لا إشكال فيه، وتارة يكون ناشئاً من منشأ شرعي، بمعنى تحرج المكلف من ارتكابه شرعاً، فهو حرام أو مورد التوبيخ.

لكن الآية لا تدل على المدّعى؛ لأنّ المكلف تارة يلتزم بالترك مع عدم وجود المتروك فيما فصّل، وتارة يلتزم بالترك مع عدم وجود المتروك فيما تبقّى مما فصّل.

ومورد التوبيخ القسم الأول، فلو كان (ما فصّل) حاضراً عند المكلف - كما

ص: 243


1- الأنعام: 119.

في أول البعثة - ولم يجد فيما فصل تحريم شيء، كأكل الذبيحة التي ذكر اسم اللّه عليها، فعدم الوجدان مساوق للعلم بعدم الحرمة والإباحة الواقعية.

أما عدم وجداننا حرمة شيء فليس كذلك، فالموجود بأيدينا (ما تبقى مما فصّل) فالتزامنا بتركه لا يكون مورداً للتوبيخ.

الآية الخامسة: آية التبيين

وهي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}(1).

ويحتمل في الإضلال معنيان: الأول: أن يكون بمعنى الحكم بالضلالة. الثاني: أن يكون بمعنى العقاب أو نوع من أنواعه، كالطرد من الرحمة الإلهية أو الخذلان أو العقوبة الدنيوية أو الأخروية.

فتدل الآية على البراءة قبل البيان على كل تقدير، فإن البيان في الآية ليس مطلقاً حتى يساوق الصدور، وإنما البيان الواصل، ومعناه إيصال الحكم إليهم وذلك لمكان التعدية باللام إلى المكلفين.

وقد ورد في الحديث الشريف: «حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه»(2). فمفادها وصول البيان لا صدوره.

وفي دلالتها على المدعى مناقشات:

الأولى: للشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (3): إنّ ظاهر الآية الإخبار بعدم الإضلال سابقاً

ص: 244


1- التوبة: 115.
2- الكافي 1: 163.
3- فرائد الأصول 2: 24.

إلاّ بعد البيان، فيختص بالعذاب الدنيوي على الأمم السابقة، وكأنه (رحمه اللّه) استند إلى كلمة (كان) المفيدة لمعنى المضي.

ويرد عليه ما تقدم في الآية السابقة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(1).

مضافاً إلى أنه لو كان مفادها ما ذكر لكان عدم الإضلال سنة إلهية في الأمم المتقدمة، فيضم إليه قوله تعالى {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} فتشمل هذه الأمة أيضاً.

المناقشة الثاني للشيخ الأعظم أيضاً: «حيث إن توقف الخذلان على البيان غير ظاهر الاستلزام للمطلب إلا بالفحوى»(2)، فالآية تثبت توقف الخذلان على البيان، وما نحن فيه توقف العذاب على البيان، ولا ملازمة بين المطلبين إلا بالفحوى، فإنه لو كان الخذلان متوقفاً على البيان فبطريق أولى يكون العقاب متوقفاً عليه، فيستفاد ما نحن فيه بالأولوية.

لكن الأولوية محل تأمل؛ لأنّ الخذلان بمعنى ترك اللّه المكلف وشأنه، ربما يكون مفهوماً أشد من مفهوم العذاب والعقاب، فمثلا: الأب قد يعاقب ابنه بالضرب مثلاً، وقد يتركه ويخذله، والثاني لا يكون إلا بعد انقطاع الرجاء من العبد وانسداد جميع أبوب الأمل.

وعليه، توقف الخذلان على البيان لا يلازم توقف العقاب عليه، فما ذكر من الفحوى غير واضح.

ص: 245


1- الإسراء: 115.
2- فرائد الأصول 2: 25.

المناقشة الثالثة: ما ذكره بعض المحققين من المتأخرين، حيث قال: «لو أريد بما يتقون، ما يتقونه بالعنوان الأولي فهو مختص ببيان الحكم الواقعي»(1) وعليه فلا يشمل شرب التتن؛ لأنه لم يبين حكمه بما هو هو، والذي هو بيان لحكمه الأولي، فيكون مفاد الآية معارضاً لأدلة الاحتياط، ولو أريد ما يتقونه ولو بالعنوان الثانوي شمل الحكم الظاهري بإيجاب الاحتياط.

وعلى الاحتمال الثاني تكون أدلة الاحتياط واردة على الآية؛ لارتفاع موضوعها، للزوم الاجتناب عن المشكوك حكمه الواقعي، فإن البيان أعم من بيان حكم الشيء بما هو هو، أو بيان حكم الشيء بما أنه مشكوك الحكم، فالبيان حاصل، فالمغيى (ما كان اللّه ليضل..) مرتفع.

ثم قال: «ولا يبعد أن يكون ظاهر ما يتقون هو الأول لا الثاني، بقرينة أن الإضلال والعقاب إنما يكون بلحاظ مخالفة الواقع دائماً»(2) فمخالفة الحكم الواقعي يترتب عليها الإضلال والعقاب، أما مخالفة الحكم الطريقي الظاهري فلا يترتب عليها ذلك.

لكنه محل تأمل؛ لأن مخالفة الحكم الظاهري أو الطريقي نوع من أنواع التجري، فلو قلنا بحرمته فهو مخالفة للواقع حتماً، ولو قلنا بعدم الحرمة، لكن فيه احتمال المخالفة للواقع، فيكون العبد مستحقاً للإضلال والعقاب فيما لو صادف الواقع، والجمل المغياة لا تدل على الموجبة الكلية فيما لو تحققت الغاية، بل تكفي الموجبة الجزئية.

ص: 246


1- بحوث في علم الأصول 5: 35.
2- بحوث في علم الأصول 5: 35.

وعليه، فما ذكره من القرينة لا يكون قرينة على تعين المعنى الأول، وبعبارة أخرى: لو كان التجري حراماً فهو مخالفة للواقع بنفسه، ولم لم يكن بذاته حراماً، بل محتمل المخالفة للواقع، فلو تحقق البيان لا يلزم تحقق العقوبة على نحو الموجبة الكلية، بل يكفي تحقق العقوبة على نحو الموجبة الجزئية، وهي محققة في بعض أنواع التجري، وهي كون المخالفة واقعية للحكم الواقعي.

فلو قال الأب: لا أعاقب ولدي حتى يعصي، فمع تحقق الغاية لا يكون مفهوم السالبة الكلية العقاب دائماً، بل يصدق المفهوم حتى لوقال أعاقبه في بعض الأحيان، وعلى كلا التقديرين فالمغيى صحيح.

فقد فرض بعض المحققين لزوم كون المفهوم موجبة كلية في ظرف تحقق الغاية، و لذلك بنى على أن مفاد الآية الكريمة بيان للحكم بما للشيء من العنوان الأولي، مع أنه لا يلزم في مفهوم الغاية أن يكون موجبة كلية.

وبعبارة بسيطة: الغاية في الآية البيان، وهو نوعان: بيان الحكم الواقعي وبيان الحكم الظاهري، فتكون أدلة الاحتياط بياناً، فيستحق العبد الإضلال إمّا مطلقاً أو في صورة المخالفة للواقع.

المناقشة الرابعة: الإضلال معلق على البيان، ومحل البحث تعليق استحقاق العبد للإضلال على البيان، فلا تدل على المدّعى.

وهو نظير الإشكال المذكور في الآية المتقدمة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(1).

ص: 247


1- الإسراء: 115.
الآية السادسة: آية الهلاك

وهي قوله تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ}(1).

تقريب الاستدلال بها: إن المراد بالهلاكة الهلاكة الأخروية، وقد وردت بهذا المعنى في الروايات أيضاً، حيث جاء رجل إليه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: «هلكت، جامعت على غير ماء»(2).

فيكون مفاد الآية: إنّ التهلكة الأخروية متوقفة على البينة، أي إقامة الحجة، وحيث لم تقم بينة على حرمة التتن، فلا يتعقب شربه هلكة.

ولكن قال الشيخ الأعظم: «وفي دلالتها تأمل ظاهر»(3).

وربما يكون مراده: أنه لم يعلم كون الهلاكة بالمعنى المذكور، ويحتمل أن يكون بمعنى القتل وهو الظاهر منها، فقد نزلت الآية في معركة بدر، قال تعالى: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ}.

ولو فرض أنها بمعنى الهلكة الأخروية، إلا أنها لا تفيد توقفها على إتمام الحجة في جميع الموارد، بل في موردها.

والحاصل: لقد أظهر اللّه آياته في بدر لإظهار الحق للجميع ليعيش من

ص: 248


1- الأنفال: 42.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 108.
3- فرائد الأصول 2: 25.

عاش، ويقتل من قتل منهم بعد تمام الحجة عليه على حقانية الإسلام، فتكون الآية مرتبطة بقضية خاصة، إلا أن يقال: إنّ العبرة بعموم التعليل لا بخصوص المورد.

الآية السابعة: آية الحجة البالغة

وهي قوله تعالى: {فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}(1).

فلا تكون للعبد حجة على اللّه، أما لو اقتحم المشكوك - كشرب التتن - فعاقبه اللّه تكون له الحجة.

فقد روى الشيخ في أماليه، قال: حدثنا محمد بن محمد(2)، قال: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد(3)، قال: حدثني محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن زياد، قال: «سمعت جعفر بن محمد(عليه السلام)، وقد سئل عن قوله تعالى: {فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}(4) فقال: إن اللّه تبارك وتعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً، فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت، وإن قال: كنت جاهلاً قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل، فيخصمه فتلك الحجة البالغة»(5).

فلا يتم الاحتجاج إلا مع إمكان التعلم، فلو بحث العبد في مظانه ولم يجد دليلاً على حرمة شرب التتن - لكونه في مدينة العلم للصدوق - فلا

ص: 249


1- الأنعام: 149.
2- الشيخ المفيد (رحمه اللّه) .
3- ابن قولويه (رحمه اللّه) .
4- الأنعام: 149.
5- الأمالي: 9.

يمكن الاحتجاج عليه بقوله (أفلا تعلمت)، فالتوبيخ إنما يكون على أمر مقدور، ولا قدرة على الوصول إلى حرمة شيء لم يصل.

وفي حديث آخر: «سألت مولاي جعفر بن محمد الصادق عن قول اللّه عز وجل: {فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}(1). فقال(عليه السلام): الحجة البالغة التي تبلغ الجاهل من أهل الكتاب فيعلمها... لأن اللّه تعالى أكرم وأعدل من أن يعذب أحداً إلا بحجّة»(2).

فمقوم تمامية الحجة البالغة الإعلام والإيصال.

هذا تمام الكلام في الدليل الأول.

الدليل الثاني: السنة الشريفة

وفيها أحاديث:

الحديث الأول: حديث الرفع
اشارة

وهو: قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «رفع عن أمتي...».

وقد رواه الصدوق في الخصال قال: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار، قال: حدثنا سعد بن عبداللّه(3)، عن يعقوب بن يزيد(4)، عن حماد بن عيسى(5)، عن حريز بن عبد اللّه(6)، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول

ص: 250


1- الأنعام: 149.
2- مدينة المعاجز 2: 267.
3- سعد بن عبد اللّه، ثقة.
4- يعقوب بن يزيد الأنباري السلمي، قال النجاشي: كان ثقة صدوقاً.
5- حماد بن عيسی، من أصحاب الإجماع.
6- حريز بن عبد اللّه السجستاني، ثقة.

اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : رفع عن أمتي تسعة: الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون ومالا يطيقون، وما اضطروا إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة»(1).

وقد صحح السند كل من الشيخ الأعظم(2) والمحقق النائيني(3) والمحقق العراقي(4) والمحقق الحائري(5) و غيرهم(6)، ولم يبحثوا فيه.

لكنه محل إشكال لمكان أحمد بن محمد بن يحيى العطار، وهو شيخ الشيخ الصدوق، حيث لم يرد في حقه توثيق، وقد ضعفّه في معجم رجال الحديث(7) مع حكمه بصحة الرواية في المصباح(8)، ولا إشكال في بقية السند.

طرق توثيق أحمد بن محمد بن يحيى العطار

ولتصحيح الحديث طرق:

الأول: أن يقال: إن العطار وإن لم يوثق في كلمات المتقدمين، إلا أنه من مشايخ الإجازة كابن الوليد، وهم في غنى عن التوثيق، وممن اختار هذا

ص: 251


1- الخصال: 417.
2- فرائد الأصول 2: 27.
3- فوائد الأصول 3: 339.
4- نهاية الأفكار 3: 208.
5- درر الفوائد: 40.
6- مصباح الأصول 2: 298.
7- معجم رجال الحديث 3: 120-122.
8- مصباح الأصول 2: 257.

المبنى المحدث البحراني(1) والفقيه الهمداني(2)، بل هو المبنى المعروف.

لكنه محل تأمل، لما قيل من أن وزان الإجازة وزان النقل عن الثقة، فكما أن النقل عن الثقة لا يدل على التوثيق، وإلا لزم توثيق كل الروايات أو معظمها، كذلك النقل عن شيخ الإجازة والإجازة لا يدلان على التوثيق.

ويمكن التفصيل في المقام مع الاحتياج إلى مزيد من التأمل فنقول: تارة تكون الرواية عن المجيز في غير الأحكام، وتارة في الأحكام ونحوها، كأصول العقائد، وعلى الثاني: تارة تكون بلا اعتماد عليها وأخرى مع الاعتماد، وعلى الثاني: قد يُقلّ المجاز وقد يُكثِر في النقل عن المجيز، وعلى الثاني قد يكون بنقل واحد وقد يكون بنقول كثيرة. فالصور خمس:

الأولى: أن تكون الرواية في غير الأحكام ونحوها فهذا النقلُ لا يدل على الوثاقة، كنقل الروايات الأخلاقية والتاريخية التي لا يترتب عليها حكم شرعي، ولا يترتب عليها أثر اقتضائي؛ للتسامح في أدلة السنن.

الثانية: أن يكون النقل في الأحكام ونحوها، لكن لم يعتمد المجاز على رواية المجيز، أو لم يظهر منه الاعتماد، فصرف الحكاية لا يدل على التوثيق أيضاً.

الثالثة: فيما لو اعتمد عليها المجاز، لكن كان المنقول قليلاً، كعشر روايات، فهذا النقل أيضاً لا يدل على التوثيق؛ لاحتمال عدم وثاقة المجيز عند المجاز، لكن دلت القرائن الخارجية على صدق الرواية المنقولة،

ص: 252


1- الحدائق الناضرة 6: 68.
2- مصباح الفقيه 3: 206.

فيكون دالاً على التوثيق الخبري لا المخبري.

الرابعة: فيما لو اعتمد في الأحكام وأكثر، لكن كان إكثاره بنقل واحد، كأن نقل عنه ألف رواية من كتابه واعتمد عليها، فهذا أيضاً لا يدل على التوثيق المخبري، فلعله وجد قرائن على صدق الكتاب ونسبته.

الخامسة: فيما لو أكثر من نقل الأحكام ولم يكن بنقل واحد، فالظاهر دلالتها على الوثوق المخبري، حيث يبعد أن تتحقق القرائن الخارجية على الصدق في جميعها، فالنقل والاعتماد يدلان على توثيق المجاز للمجيز، كما لو شاهدنا مرجعاً يعتمد على شخص في إخباراته الاقتضائية في وقائع كثيرة بنقول متعددة، حيث يبعد وجود قرائن خارجية على صدق الخبر، فهو يكشف عن الاعتماد على الناقل، فيدل على الوثوق المخبري عند المنقول إليه.

وقد يخطر بالبال سؤال، وهو: لماذا لم يوثقه المتقدمون مع التفصيل المذكور، أو مع كشف الإجازة عن الوثاقة مطلقاً؟

والجواب: أولاً: لعله كان فوق مستوى التوثيق عندهم.

إن قلت: فكيف يوثق مثل زرارة عندهم؟

قلت: لا محذور فيه؛ لحيلولة الفاصل الزمني على عكس توثيق المعاصر أو شبه المعاصر، حيث قد يعتبر إهانة له، كعدم توثيق الشيخ الصدوق في كلمات الرجاليين من المتقدمين، ولذا توقف فيه بعض مشايخ المحدث البحراني حتى قال البعض: من الغريب التوقف في مثل ذلك.

ثانياً: ما نقل عن السيد البروجردي: من أنّ كتب الرجال ثلاثة: النجاشي

ص: 253

والكشي والشيخ.

أما رجال النجاشي فقد كتب لترجمة من له كتاب، وقد صرح بذلك في المقدمة، فلعل ابن الوليد والعطار لم يكن لهما كتبٌ حتى يذكرا فيه.

وأما رجال الكشي فقد كتبه لذكر من ذكرت في حقه رواية، وهما وأمثالهما لم ترد في حقهما رواية، حيث لم يكونوا في عهد المعصومين(عليهم السلام).

وأما كتاب الشيخ فالظاهر أنه كان بمثابة المسودة، وقد كتبه حتى يرجع إليه ويكمله، ويؤيده أنه قد يذكر اسم الراوي واسم أبيه دون التطرق إلى شيء من حالاته، وقد ذكر فيه بعض الرجال مكرراً، فيدل على أنه كان ناقصاً يريد إكماله. فعدم التوثيق لا يدل على عدم ثبوت الوثاقة عنده.

لكن في انطباق هذا التفصيل الخماسي على ما نحن فيه غموض؛ لعدم العلم باعتماد الصدوق مثلاً على روايات العطار بالشروط الآنفة.

والحاصل إثبات وثاقة العطار باعتبار كونه من مشايخ الإجازة محل تأمل.

الطريق الثاني: روى الشيخ الصدوق (رحمه اللّه) حديث الرفع في الفقيه: «قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : وضع عن أمتي...»(1)، والفرق بينه وبين ما روي في الخصال في استخدام كلمة (الوضع) بدل (الرفع).

وقد ضمن صحة جميع ما أودعه في كتابه حيث قال: «ولم أقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به

ص: 254


1- من لا يحضره الفقيه 1: 59.

وأحكم بصحته، وأعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره»(1).

ومن هنا يرى كثير من الفقهاء صحة جميع روايات الفقيه.

لكنه محل تأمل أيضاً: لما ثبت في علم الدراية(2) من الفرق في مصطلح الصحة بين المتقدمين والمتأخرين، فالصحيح عند المتأخرين ما رواه العدل الإمامي الضابط عن مثله في جميع الطبقات، والمعروف أن التقسيم الرباعي للأخبار نشأ من العلامة الحلي (رحمه اللّه) ، أما الصحيح عند المتقدمين فهو عبارة عن كل خبر يجب العمل به، ولو لاحتفافه ببعض القرائن المفيدة للقطع أو الاطمئنان بالصدور، فالصحة في اصطلاح القدماء أعم مطلقاً مما هو عند المتأخرين، أو بينهما عموم من وجه.

والحاصل: يُحتمل أن الصدوق اطمأنّ بصحة الخبر وأفتى به في الفقيه اعتماداً على قرائن اجتهادية، لا لوثاقة الرواة حتى يقال بحجية توثيقه، واطمئنان فقيه لا يكون حجة على فقيه آخر، إلا أن يقال: إنَّ اجتهاد مجتهد حجة على مجتهد آخر إن لم يؤدِّ اجتهاده إلى الخلاف، لكنه خلاف مبنى المشهور.

الطريق الثالث: رواه الشيخ الصدوق (رحمه اللّه) مرسلاً في الفقيه، وقد صرح في أوله: «وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع»(3).

ص: 255


1- من لا يحضره الفقيه 1: 2-3.
2- استقصاء الاعتبار 3: 272؛ مناهج الأخيار 2: 196؛ مفاتيح الأصول: 374.
3- من لا يحضره الفقيه 1: 3.

وهذه الشهادة مطلقة تشمل الروايات المبدوءة بصاحب الكتاب، والروايات التي تنقل مباشرة عن المعصوم(عليه السلام).

وعليه، يكون حديث الرفع أو الوضع معتبراً؛ لأن الشيخ الصدوق وجدها في كتاب معتبر.

ولكنه محل تأمل أيضاً، ويكفي في التأمل أنَّ العبارة تنسجم مع الاعتماد الكلي كما تنسجم مع الاعتماد في الجملة، في مقابل الكتب التي لا يعتمد عليها إطلاقاً. فلا ظهور له في الاعتماد على كل أخباره، كما لو قلنا: كتاب (الهفت الشريف)(1) لا يعوّل عليه، ولكن (الكافي) يعوّل ويرجع إليه، بمعنى أن الفقهاء يرجعون إلى الثاني دون الأول.

هذا مضافاً إلى مناقشات أخرى لا حاجة إلى ذكرها.

الطريق الرابع: وهو مركب من ثلاث مقدمات:

الأولى: الظاهر وحدة الرواية المروية في الفقيه والخصال، حيث يبعد تعدد رواية الرفع المروية في الخصال، ورواية الوضع المروية في الفقيه مع

ص: 256


1- الذريعة إلى تصانيف الشيعة 25: 237، وفيه: «الهفت والأظلة، المنسوبة إلى المفضل الجعفي صاحب التوحيد، والهفت هذا في 67 باباً وجدت بين الطائفة المفضلية في سوريا فطبعها عارف تأمر ببيروت 1960، ثم عثر مصطفى غالب بنسخة أخرى منها اسمها الهفت الشريف، وهي أيضا في 67 بابا لكنها أكبر من نسخة عارف تأمر، فطبعها دار الأندلس في سورية». وراجع: أصول الحديث: 161، وفيه: «الهفت والأظلة: من الكتب المقدسة عند الطائفة المفضلية وهم من فرق الغلاة الخطابية، أتباع المفضل بن عمر الجعفي الصيرفي، والكتاب منسوب إليه، يرويه - كما يدعون - عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام). نشر بتحقيق عارف تأمر سنة 1960 م، وفي سنة 1964 بتحقيق مصطفى غالب، بعنوان (الهفت الشريف).

اتحاد المفاد والعدد والألفاظ غالباً، غاية الأمر أن الصدوق لم يؤلف الفقيه لكي يكون مرجعاً روائياً، بل مرجعاً عملياً، كالرسائل العملية اليوم، ولذلك حذف الأسناد، فرواية الفقيه هي نفس رواية الخصال بحذف السند.

الثانية: جميع ما في الفقيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع.

الثالثة: ليس للعطار كتاب، لكن لسائر الرواة المذكورين في حديث الرفع في الخصال كتاب بل كتب، وللصدوق طرق معتبرة إلى جميعها، كما هي مذكورة في مشيخة الفقيه.

وبعد تمامية هذه المقدمات يمكن تطبيق نظرية التعويض، وهي أنَّ: الصدوق في الفقيه وجد رواية الوضع في كتاب معتبر ليس للعطار؛ لأنه لا كتاب له، فهي إما في كتاب سعد بن عبد اللّه أو بقية من وقعوا في السند، وحيث إن له طريقاً معتبراً إلى كتبهم حذف العطار من سند رواية الفقيه، ويعوض بالسند الصحيح المذكور في كتاب المشيخة.

وبعبارة أوضح: للصدوق طريقان: الأول: ما ذكر في الخصال، وفيه إشكال عدم توثيق العطار، الثاني: ما ذكر في الفقيه، وقد وجده إما في كتاب سعد بن عبد اللّه أو من تقدمه، وله طريق صحيح إليهم، فيكون الطريق إلى رواية الوضع في الفقيه صحيحاً، وإن لم يكن طريقه إلى رواية الرفع في الخصال صحيحاً.

وهذه الطريقة - طريقة تعويض الأسناد - استخدمت في موارد متعددة لتصحيح الروايات الضعيفة.

ص: 257

ولكنه محل تأمل: فإنّ هذه الطريقة وإن كانت صحيحة في الجملة ولها بركات كثيرة، لكن انطباقها على المقام لا يخلو من خفاء، وإن اعتمد عليها البعض، ويكفي في التأمل عدم ثبوت المقدمة الأولى، حيث لم يثبت اتحاد طريق رواية الخصال المسندة مع رواية الفقيه المرسلة، منتهى الأمر حصول الظن بذلك، وهو ليس بحجة، فربما يكون الشيخ الصدوق قد نقل حديث الوضع في الفقيه من كتاب آخر ليس لأحدهم.

الطريق الخامس: ما ذكره المحقق النائيني حيث قال: «واشتهار الحديث المبارك بين الأصحاب واعتمادهم عليه يغني عن التكلم في سنده»(1).

لكنه لا ينسجم مع مبانيه؛ لأنّ الشهرة التي ذكرها في المقام إما شهرة روائية أو عملية، ولا يريد الشهرة الفتوائية.

أما الشهرة الروائية فقد قال في تعريفها إنه: «عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة وأرباب الحديث بكثرة نقلها، وتكررها في الأصول والكتب قبل الجوامع الأربع»(2).

ولا تنطبق الضابطة التي ذكرها على المقام، ففي تكرر حديث الرفع في الأصول الأربعمائة خفاء.

أما الشهرة العملية - أي الاستنادية - فقد قال في تعريفها: «فهي عبارة عن اشتهار العمل بالرواية والاستناد إليها في مقام الفتوى، وهذه الشهرة هي التي تكون جابرة لضعف الرواية وكاسرة لصحتها إذا كانت الشهرة من قدماء

ص: 258


1- فوائد الأصول 3: 336.
2- فوائد الأصول 3: 153.

الأصحاب القريبين من عهد الحضور... ولا عبرة بالشهرة العملية إذا كانت بين المتأخرين»(1).

ولم نجد حسب الاستقراء الناقص اشتهار العمل بها بين المتقدمين.

والحاصل: بناء على مبانيه لم تتحقق الشهرة الروائية ولا الشهرة العلمية؛ لافتقاد شرط الحجية.

نعم، لو قال أحد بحجية الشهرة مطلقاً وإنها جابرة وإن كانت بين المتأخرين، فالظاهر تحققها بينهم استناداً.

الطريق السادس: ما ذكره السيد السبزواري(2) من أنَّ متنه يشهد بصحته، فلا حاجة إلى البحث في سنده، وهو طريق جيد جداً لمن يحصل له القطع أو الاطمئنان، وربما لا يبعد حصول الاطمئنان بصدوره من ملاحظة متنه، فمن البعيد جداً أن يكون حديث الرفع موضوعاً بوضع واضع.

الطريق السابع: روى الكليني حديث الرفع مرفوعاً عن الحسين بن محمد عن النهدي، عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام).

وقد ضمن جميع أحاديث كتابه، حيث قال: «قلت: إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف، يجمع فيه من جميع فنون علم الدين، ما يكتفي به المتعلم، ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين، والعمل بالآثار الصحيحة عن الصادقين(عليهم السلام)، وقد يسر اللّه - وله الحمد - تأليف ما سألت»(3).

ص: 259


1- فوائد الأصول 3: 156.
2- تهذيب الأصول 2: 165.
3- الكافي1: 24، مع اختلاف يسير.

ويرد عليه ما ورد على الطريق الثاني.

الطريق الثامن: رواها الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) من خصال الصدوق بنفس السند.

ولا يرد عليه الإشكال الوارد على رواية الصدوق من جهة عدم توثيق أحمد بن محمد بن يحيى العطار، وذلك باستخدام طريقة التعويض حيث إن للشيخ الطوسي (رحمه اللّه) في الفهرست طريقاً صحيحاً إلى جميع كتب وروايات سعد بن عبد اللّه الأشعري القمي، فنعوض عن وجود العطار في رواية الخصال بطريق الشيخ الطوسي إلى سعد بن عبد اللّه الأشعري، وهو شيخ العطار، فمع صحة طريق الشيخ الطوسي إلى كتب وروايات سعد نستغني عن العطار في السند.

لكنه محل إشكال، فإن الحكم بصحة طريق الشيخ في الفهرست إلى روايات سعد موقوف على إحراز كونها رواياته، ولم يثبت كون رواية الخصال روايته، فإن ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، فلو فرضنا أن الرواية موضوعة ثبوتاً؛ لعدم وثاقة أحمد بن محمد بن يحيى العطار، فلا تكون رواية سعد، والطريق الصحيح للشيخ إنما هو لما ثبت أنه رواية سعد، لا أقل من إجمال عبارة الشيخ الطوسي، حيث لا يمكن القول: إنَّ له طريقاً صحيحاً إلى كل رواية جاء فيها سعد بن عبد اللّه؛ لاحتمال الجعل فيمن تقدم على سعد، والمفروض أن وثاقة العطار غير ثابتة.

الطريق التاسع: ما ذكره السيد السبزواري(1)، من أنّ الحديث مستفيض،

ص: 260


1- تهذيب الأصول 2: 165.

واستفاضة نقله تغني عن البحث في سنده.

لكنْ في المقام بحثان:

الأول: كبروي: فليست كل رواية مستفيضة معتبرة، فإن المستفيض بمعنى ما رواه أكثر من ثلاثة على قول، أو أكثر من اثنين على قول آخر(1)، ولا ملازمة بين صرف الاستفاضة في حد ذاتها بغض النظر عن القرائن الخارجية والداخلية وبين تصحيحها واعتبارها.

الثاني: صغروي: لو فرض أن كل مستفيض حجة، إلاّ أنّ شرط الاستفاضة تحقق الوصف في كل المراتب، وفي انطباق هذا الضابط على حديث الرفع غموض(2).

الطريق العاشر: إنَّ الرواية رويت بسند آخر غير سند الصدوق في الخصال، ومرسلة الفقيه ومرفوعة الكافي، وهو: ما ذكره الحر العاملي في الوسائل(3): «عن أحمد بن محمد بن عيسى(4)

في نوادره، عن إسماعيل الجعفي، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)...». وهو طريق معتبر.

وقد أورد عليه إشكالات:

الأول: إسماعيل الجعفي مشترك بين إسماعيل بن جابر الجعفي،

ص: 261


1- مفاتيح الأصول: 327.
2- أقول: يكفي للحكم بالاعتبار في المقام الاستفاضة في طبقة أحمد بن محمد بن يحيى العطار، فلو ثبتت الاستفاضة في طبقته وقلنا بحجية الاستفاضة كبرى، كفى في اعتبار الرواية؛ لثبوت وثاقة سائر الرواة، فلا يلزم الاستفاضة في طبقتهم (المقرر).
3- وسائل الشيعة 23: 237.
4- الأشعري القمي.

وإسماعيل بن عبد الرحمن الجعفي، والثاني لم يوثق، فالاشتراك يسقط الرواية عن الحجية.

ولدفع الإشكال طرق:

الطريق الأول: ما ذكر في المعجم(1) من أن إسماعيل الجعفي منصرف إلى ابن جابر، فيكون ثقة، وربما يكون وجه الانصراف كثرة روايات ابن جابر وندرة روايات ابن عبد الرحمن.

الطريق الثاني: قال النجاشي في ترجمة إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفي: «إنه كان وجهاً في أصحابنا»(2). وهو يدل على الوثاقة، فلا يضر الاشتراك.

لكنه يحتاج إلى تأمل أكثر، فهل الوجاهة في الأصحاب تلازم الوثاقة؟ ألا يمكن أن يكون شخص وجيهاً لكنه غير ثقة؟! فإن الوجاهة ترتبط بالموقعية والمقام الاجتماعي، والوثاقة ترتبط بصدق اللّهجة.

الطريق الثالث: ما في المعجم، قال:«إن لم يدل على وثاقته، فلا أقل من دلالته على حسنه»(3).

لكنه يحتاج إلى تأمل: فليس كل ما دل على الحسن مورثاً لاعتبار الرواية، فملاك الحسن أن يكون الراوي ممدوحاً، وللمدح ألفاظ متعددة ومختلفة لا يلازم جميعها الاعتبار.

ص: 262


1- معجم رجال الحديث 4: 31-35، 114.
2- معجم رجال الحديث 4: 64.
3- معجم رجال الحديث 4: 64.

الطريق الرابع: ذكر الشيخ الصدوق في مشيخته طريقاً إلى إسماعيل بن عبد الرحمن يمر بصفوان، ويتم التوثيق بناء على وثاقة مشايخ الثقات.

ويشكل عليه بأن ّطريق الصدوق إلى صفوان يمر بمحمد بن سنان، وفيه بحث؛ لتعارض التوثيق والتضعيف فيه، فقد قال فضل بن شاذان في حقه: «إنه كان من الكذابين المشهورين»(1)، وقال الشيخ المفيد: كان من خاصة الإمام الكاظم(عليه السلام)، وقد وثقه الطوسي وضعفه، فمن اختار وثاقته فطريق الصدوق إلى صفوان بابن عبد الرحمن يكون معتبراً.

والحاصل لو تمت وثاقة محمد بن سنان، وكبرى وثاقة مشايخ الثلاثة، فهذا طريق جيد لتوثيق إسماعيل بن عبد الرحمن.

الطريق الخامس: لقد شهد النجاشي في رواية الأذان بأن إسماعيل الجعفي هو إسماعيل بن جابر الجعفي. فنفس الوجه الذي تمسك به النجاشي هناك جارٍ في المقام.

الإشكال الثاني: لو سلم أن المراد إسماعيل بن جابر الجعفي أو إنه مشترك مع ثبوت وثاقة إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفي، إلاّ أنّ إسماعيل بن جابر الجعفي لم يوثق، فقد ترجم في الرجال تحت عناوين ثلاثة:

الأول: ما ذكره النجاشي تحت عنوان إسماعيل بن جابر الجعفي، ولم يوثقه، إلا أنه قال إن له كتاباً(2).

الثاني: ما ذكره الشيخ الطوسي في الفهرست تحت عنوان: إسماعيل بن

ص: 263


1- خلاصة الأقوال: 394.
2- رجال النجاشي: 32.

جابر من دون ذكر لقب له، و ذكر أن له كتاباً ولم يوثقه(1).

الثالث: ما ذكره الشيخ الطوسي في رجاله(2) تحت عنوان: إسماعيل بن جابر الخثعمي الكوفي ووثقه.

والوارد في سند رواية النوادر مردد بين هؤلاء الثلاثة، ولم يوثق الأولان وإنما وثق الخثعمي.

ويدفع الإشكال بطريقين:

الأول: أن يقال باتحادهم، وقد أقام بعض المحققين قرائن على أن العناوين الثلاثة تتمثل في شخص واحد، فيكون الراوي موثقاً.

الثاني: هنالك طريق لإثبات وثاقة الأولين، فقد ذكر النجاشي في عنوان إسماعيل بن جابر الجعفي أنّ له كتاباً، وله طريق صحيح يمر بصفوان بن يحيى، وهو أحد الثلاثة الذين يختار في حقهم أن جميع مشايخهم ثقات.

وكذا الشيخ الطوسي في الفهرست ذكر في عنوان إسماعيل بن جابر أن له كتاباً، وله طريق صحيح يمر عبر صفوان.

فعلى فرض التعدد يكونان من مشايخ صفوان بن يحيى، فهما ثقتان على المختار، وأما الخثعمي فقد وثقه الشيخ الطوسي(3) صريحاً.

الإشكال الثالث: ما ذكره بعض المحققين(4)

في رد رواية النوادر واعتمد

ص: 264


1- الفهرست: 53.
2- رجال الطوسي: 124.
3- رجال الطوسي: 124.
4- بحوث في علم الأصول 5: 61.

عليه من أن إسماعيل بن جابر عد من أصحاب الإمام الباقر(عليه السلام) تارة، ومن أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) تارة أخرى، والفاصلة بينه وبين صاحب النوادر أكثر من مائة سنة فكيف ينقلها عنه(1)؟ فيدل على وجود واسطة محذوفة في المقام، أو إن إسماعيل الجعفي غير إسماعيل بن جابر الجعفي.

ومما يؤيد ذلك أيضاً ما نقله عن صاحب النوادر عن الحلبي، عن الصادق(عليه السلام)(2)، وقد توفي الحلبي في زمن الصادق(عليه السلام)، فكيف يروي عنه أحمد بن محمد بن عيسى؟

ويرد عليه: إنَّ الحصر غير حاصر؛ لوجود شق ثالث، وهو إن إسماعيل بن جابر الجعفي كان له كتاب، كما ذكره النجاشي والشيخ، وقد نقل صاحب النوادر الرواية من كتابه.

ويمكن الإشكال عليه بجهالة الواسطة بين صاحب النوادر وكتاب إسماعيل بن جابر الجعفي.

إن قلت: ربما كان الكتاب مشهوراً، ومعه لا حاجة إلى الطريق بين صاحب النوادر والكتاب المذكور.

قلت: إنه صرف احتمال.

ويمكن دفع احتمال عدم وجود طريق صحيح بينهما بالحكم بقطع صاحب النوادر بكونه كتاب إسماعيل بن جابر، ويدور أمر قطعه بين احتمالين: فإما أن يكون قطعاً حسياً أو حدسياً، أمّا الحدس فليس بحجة

ص: 265


1- راجع سند الرواية في وسائل الشيعة 23: 237.
2- وسائل الشيعة 23: 237.

علينا، وأما الحس فهو حجة، وكلما دار الأمر بين الحس والحدس تحكم أصالة الحس العقلائية، كما قالوا بذلك في توثيقات الرجاليين المتقدمين، حيث إنها إما حسية كتوثيقنا للشيخ الأنصاري، وإما اجتهادية، وأصالة الحس محكمة، ولو لم يسلم بهذا الأصل العقلائي لسقطت توثيقاتهم لغير المعاصرين.

والحاصل: إن صاحب النوادر ينقل عن كتاب إسماعيل بن جابر، وثبوت أنه كتابه حجة؛ لمكان أصالة الحس العقلائية.

الإشكال الرابع: ما ذكره بعض المعاصرين(1)، قال: لم يثبت طريق إلى كون النوادر الموجود هو نوادر أحمد بن محمد بن عيسى، وما ذكر في آخر الوسائل من الطرق إلى الكتب فهي ليست طرقاً إليها بمعنى وصول الكتب إليه يداً بيد بهذه الطرق، بل إنها طرق إلى كتب مؤلفيها، وصاحب الوسائل تيقن أنّ هذه الكتب الموجودة هي كتب أولئك المؤلفين، وهذا لا ينفع لمن لا يتقين ذلك.

توضيحه: ما نقله صاحب الوسائل عن النوادر مركب من طريقين واقعاً: الأول: طريق الحر العاملي إلى الشيخ الطوسي، والثاني: طريق الطوسي إلى صاحب النوادر؛ لأن طريق الحر العاملي في رواياته عن الكتب المتقدمة هو طريق الشيخ الطوسي إلى أرباب تلك الكتب، وقد ذكر صاحب الوسائل في آخر الوسائل طريقه إلى الشيخ الطوسي، كما ذكر الشيخ طريقه إلى صاحب النوادر، وهما طريقان صحيحان.

ص: 266


1- منهاج الأصول 2: 22.

فيتلخص من هذا أنَّ للحر العاملي طريقاً صحيحاً إلى النوادر عبر الطوسي.

والإشكال هو أن الحر العاملي له طريق إلى الكلي، وهو كتاب النوادر، ولا دليل على أن النسخة التي وصلت بيده هي النسخة الأصلية، حيث لم يصل إليه الكتاب يداً بيد وعبر المشايخ، وإنما تيقن أنه هو، و ليس يقينه حجة علينا.

لكنه قابل للتأمل؛ لما ذكر في الإشكال المتقدم من دوران الأمر بين الحس والحدس، وترجيح الأول لأصالة الحس العقلائية.

الإشكال الخامس والأخير: ما ذكره أيضاً بعض المعاصرين، قال: «إنّ الظاهر من كلام الشيخ في الفهرست: (وروى المبوّبة ابن الوليد) أن يكون متفرعاً على سابقه، وهو رواية أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد عن أبيه، ولم يرد فيه توثيق ولا مدح»(1) فقد قال في أحوال صاحب النوادر(2): «أحمد بن محمد بن عيسى بن عبد اللّه بن سعد بن مالك الأشعري شيخ قم ووجهها وفقيهها غير مدافع، وكان الرئيس الذي يلقى السلطان وصنف كتباً، منها كتاب التوحيد، كتاب فضل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كتاب المتعة، كتاب النوادر وكان غير مبوب فبوبه داود بن كورة، كتاب الناسخ والمنسوخ».

فيكون النوادر من جملة كتب أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، وللشيخ إليه طرقٌ منها ما ذكره بقوله: «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته: عدة من

ص: 267


1- منهاج الأصول 2: 23.
2- الفهرست: 68.

أصحابنا، منهم الحسين بن عبيد اللّه وابن أبي جيد، عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار، عن أبيه وسعد بن عبد اللّه عنه»(1).

وهذا الطريق ضعيف - على كلام - لمكان أحمد بن محمد بن يحيى العطار.

ومنها ما ذكره بقوله: «وأخبرنا عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد، عن أبيه، عن محمد بن الحسن الصفار وسعد جميعاً، عن أحمد بن محمد بن عيسى».

وهو ضعيف أيضاً؛ لعدم ورود توثيق لأحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد، بناءً على جهالة من لم يرد في حقه توثيق، إلا أن يقال بوثاقة شيوخ الإجازة كلهم، فإنه شيخ الشيخ المفيد.

ومنها - وهو العمدة ومحل إشكال المنهاج - ما ذكره بقوله: «وروى ابن الوليد»، فإن كان المراد به ابن الوليد الأب فهو ثقة، وإن كان المراد الابن فهو مجهول. ولأن هذا الطريق الثالث مذكور بعد الطريق الثاني، والراوي في الطريق الثاني هو ابن الوليد الابن فيحتمل أن يكون الابن هو المقصود في الطريق الثالث، فيسقط الطريق الثالث عن الاعتبار.

لكنه قابل للتأمل: حيث إن إطلاق ابن الوليد ينصرف إلى محمد بن الحسن بن الوليد؛ لكثرة إطلاقه عليه، وكذا في كلمات الشيخ الطوسي المألوف إطلاقه على الأب لا الابن.

كما قالوا بمثل ذلك في زرارة المشترك بين كونه ابن أعين أو ابن لطيفة،

ص: 268


1- الفهرست: 68.

لكن إطلاقه ينصرف إلى الأول وهو الأشهر، وكما في أبي بصير وغيره.

ومما يؤيد ذلك أن ابن الوليد هذا يروي عن محمد بن يحيى فاعتبر بعضهم ذلك قرينة على أنه محمد لا أحمد، ومع التشكيك في ذلك نقول: إنه سيأتي عدم البعد عن وثاقة الابن أيضاً.

الطريق الحادي عشر لإثبات حديث الرفع: إنّ الرواية مما استفاض نقلها بين الفريقين، وربما يكون هو مراد السيد السبزواري، فإنه لو كان مراده الاستفاضة في طرق الشيعة فقد مضى أنها لم تثبت بالمعنى المذكور، لكن لو ضم إليه طرق الآخرين فيمكن دعوى الاستفاضة.

ويرد عليه نفس الإشكال الكبروي الذي ورد على طريق الاستفاضة من طرق الشيعة، وإن لم يرد عليه الإشكال الصغروي المتقدم.

الطريق الثاني عشر: قد وثق بعض المتأخرين أحمد بن محمد بن يحيى العطار، فتكون رواية الخصال صحيحة، فمن الذين وثقوه العلامة الحلي(1)، فإنه وإن لم يصرح بذلك لكنه حكم بصحة روايات متعددة في طريقها العطار، وتصحيح العلامة للرواية بمعنى كون الراوي عدلاً إمامياً ضابطاً - كما هو مصطلح المتأخرين - ملازم لتوثيق العطار.

ومنهم: الشهيد الثاني، حيث قال: «العطار ثقة»(2)، وهو متثبت في الرجال والفقه.

ومنهم: المقدس الأردبيلي(3) اعتمادا على تصحيح العلامة.

ص: 269


1- خلاصة الأقوال: 430.
2- الرعاية في علم الدراية: 370-371.
3- مجمع الفائدة والبرهان 1: 189.

ومنهم: الشيخ البهائي في مشرق الشمسين، حيث قال: «وقد عددت حديثهم في الحبل المتين وفي هذا الكتاب في الصحيح جرياً على منوال مشايخنا المتأخرين، ونرجوا من اللّه سبحانه أن يكون اعتقادنا فيه مطابقاً للواقع»(1).

وهو يفيد الإجماع أو الشهرة.

وقال السماهيجي(2): «وكان ثقة عيناً»، وقال المحقق الداماد:(3) «والحديث من جهتهم صحيح معتمد عليه»، ثم ذكر جماعة منهم العطار، واستبعد الجهالة والضعف فيه صاحب المعالم على دقته(4)، وقال المجلسي(5): وحكم الأصحاب بصحة حديثه، وهو يفيد الشهرة أو الإجماع بين المتأخرين، ووثقه المامقاني أيضاً(6).

ويرد عليه: عدم الاعتماد على توثيقات المتأخرين، كما هو رأي البعض في الرجال، لكن المبنى محل إشكال.

والحاصل: أن هنالك اثني عشر طريقاً لتصحيح حديث الرفع، ولو شكك في كل واحد واحد منها إلاّ أنّ الظاهر كفاية المجموع لذلك، كما قال بمثل ذلك الشيخ الأعظم في روايات الاستصحاب: «عدم ظهور الصحيح

ص: 270


1- مشرق الشمسين: 277.
2- في إجازته الكبيرة: 229.
3- الرواشح السماوية: 105.
4- منتقى الجمان 1: 35.
5- رجال المجلسي: 154؛ مستدركات علم رجال الحديث 1: 483.
6- تنقيح المقال 8: 118.

منها، وعدم صحة الظاهر منها، فلعل الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد»(1).

هذا تمام الكلام في البحث السندي.

فقه حديث الرفع وفيه بحوث
1) الفرق بين الرفع والدفع

البحث الأول: إن المذكور في الحديث الشريف لفظة الرفع (رفع عن أمتي) وهنالك فرق بين مفهوم الرفع ومفهوم الدفع، فإن الرفع عبارة عن إزالة الشيء الثابت، والدفع عبارة عن الحيلولة دون وجود الشيء، مثلاً: لو قلنا: (رفع المرض عن فلان) كان معناه وجود المرض ثم زواله عنه، ولو قلنا: (دفع عنه المرض) كان المعنى حال المانع من وجود المرض، وفي حديث الرفع المتحقق هو الدفع لا الرفع، وذلك لعدم وجود الحكم في موارد (ما اضطروا إليه) و (ما لا يعلمون) و (ما لا يطيقون) حتى يزال بحديث الرفع، وعليه الثابت في المورد هو الدفع، فكيف استعملت لفظة الرفع في الحديث الشريف؟!

وأجيب عنه بأجوبة:

الأول:ما ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه) (2)، وحاصله: اتحاد الرفع والدفع في الحقيقة.

والكلمات المنقولة عنه لا تخلو من الاضطراب، فهل مراده مساوقة

ص: 271


1- فرائد الأصول 3: 71.
2- أجود التقريرات 3: 297؛ فوائد الأصول 3: 336.

مفهوم الرفع لمفهوم الدفع، فتكون النسبة بينهما التساوي؟ أو مراده أن النسبة بينهما العموم المطلق، بمعنى أن كل رفع دفع وليس كل دفع رفعاً؟

والذي يهمنا في المقام إثبات أن كل رفع دفع في الواقع.

وبناه المحقق النائيني على مقدمة، وهي: احتياج الممكن إلى العلة في البقاء كاحتياجه إليها في الحدوث(1)

؛ لأن ملاك الاحتياج إلى العلة هو الإمكان، والإمكان الذاتي ثابت للممكن حتى بعد الوجود، فإنه لا ينقلب إلى الواجب بعد وجوده.

لا يفرق الحدوث والبقاء***إذ لم يكن للممكن اقتضاء(2)

وبعبارة أخرى: الليسية الذاتية ثابتة للممكن قبل الوجود وبعد الوجود، فيحتاج الممكن إلى العلة في حدوثه كما يحتاج إليها في بقائه.

وبناء على هذه المقدمة الثابتة في محلها: يتضح وحدة حقيقة الرفع والدفع، وأن الرفع في حقيقته دفع؛ لأن عمل الرافع منع تأثير المقتضي في الزمان اللاحق؛ لأن الشيء يحتاج إلى وجود العلة آناً فآنا(3)، فإذا جاء الرافع فإنه يمنع تأثير العلة في البقاء فهو دافع، فمثلاً: النار تقتضي الحرارة، لكن الرافع يدفع تأثيرها في مرحلة البقاء، ففي الحقيقة الرافع دافع، والدافع دافع أيضاً، إلا أنه في مرحلة الحدوث.

فماهية الرافع والدافع واحدة، وهي منع تأثير المقتضي في المقتضى، فأما

ص: 272


1- نهاية الحكمة: 83.
2- شرح المنظومة 2: 245.
3- كما في الصور الذهنية التي تحتاج إلى التوجه والالتفات آناً فآنا (منه (رحمه اللّه) ).

الدافع فيمنع تأثير المقتضي في مرحلة الحدوث، وأما الرافع فيمنع تأثير المقتضي في مرحلة البقاء، ولذلك يصح استعمال كل منهما في مكان الآخر.

لكنه لا يخلو من نظر، ولذا لم يرتضه معاصروه ومن لحقه غالباً.

أولاً(1): مع فرض اتحاد ماهية الرافع والدافع، إلا أن هذا الاتحاد أنما هو بالنظرة العقلية الفلسفية، أما باللحاظ العرفي واللغوي فما يمنع المقتضي عن التأثير في مرحلة الحدوث يعبر عنه بالدفع والدافع، وما يمنع المقتضي عن التأثير في مرحلة البقاء يعبر عنه بالرفع والرافع، فكون حقيقتهما واحدة أنما هو بالنظر العقلي، والكلام بالوضع اللغوي والظهور العرفي.

ثانياً: يمكن أن يقال(2): إنّ المقدمة المذكورة تثبت أنَّ كل رفع دفع، وأنه لو كان رفع أمكن إطلاق الدفع عليه، ولا تثبت أن كل دفع رفع، فمحصلها أن الرافع يمنع تأثير المقتضي في الأكوان المتجددة، فيكون كل رفع دفعاً، بمعنى دفع تأثير العلة في الزمان الثاني، ومحل البحث أنّ المتحقق في مورد الحديث الشريف الدفع بمعنى الحيلولة دون وجود الشيء، فكيف أطلق عليه الرفع؟ فالمقدمة تنفع في عكس المقام.

فما ذكره المحقق النائيني لا يخلو من تأمل.

الجواب الثاني: لا يختص مفهوم الرفع بإزالة الموجود، بل يصدق على صورة تحقق المقتضي لوجود الشيء مع تحقق مانع من تأثيره في مقتضاه، حيث يصدق الرفع على نحو الحقيقة، مثلاً: لو عفا ولي الدم عن القاتل وهو

ص: 273


1- ما ذكره الأعلام في المقام غالباً (منه (رحمه اللّه) ).
2- وإن لم يذكره أحد الأعلام (منه (رحمه اللّه) ).

تحت حد السيف للقصاص، ففي هذه الحالة يصح أن نقول رفع أو ارتفع عنه القتل.

أو كان شخص في لحظات الاحتضار وكان موته قطعياً، ثم دفع عن الموت إثر كرامة، فيصح أن يقال ارتفع عنه الموت.

وقد قال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في خصوص المقام: «إن المراد برفع التكليف عدم توجيهه إلى المكلف مع قيام المقتضي له... نعم، لو قبح عقلاً المؤاخذة... على الترك لم يكن في حقه رفع أصلاً؛ إذ ليس من شأنه أن يوجه إليه التكليف»(1)، وذلك كتكليف العاجز، فحيث لا شأنية ولا مقتضي فلا يمكن القول بارتفاع التكليف عنه، أما مع وجود المقتضي فلا مانع من استخدام كلمة الرفع.

لكن في المقام بحثان:

الأول: لم يتعرض الشيخ (رحمه اللّه) إلى الدليل على وجود المقتضي للتكليف في هذه الموارد، لكن يمكن الاستدلال له بأن ظاهر الحديث ذلك، فإنه ظاهر في الامتنان ولا يصح إلا مع وجوده، ولو لم يكن مقتض فلا معنى للمنة.

الثاني: هل إطلاق الرفع في مورد وجود المقتضي مع وجود المزاحم له إطلاق حقيقي أم مجازي؟

قال السيد الوالد: «أو كان له المقتضي صح عناية»(2)، فهو مجاز.

ص: 274


1- فرائد الأصول 2: 33.
2- الأصول: 709.

لكن المحقق العراقي (رحمه اللّه) يرى أنه إطلاق حقيقي، قال: «لا يعتبر في صدق الرفع وصحة استعماله حقيقة وجود المرفوع حقيقة، بل يكفي في العناية المصححة لذلك وجوده عناية وادعاء، ولو باعتبار وجود مقتضيه»(1).

وحاصل كلامه: الإطلاق الحقيقي للفظ متوقف على الوجود الادعائي للمقتضي، فالادعاء إنما هو في جانب وجود المقتضي لا في جانب إطلاق اللفظ، فلو تحقق المقتضي فإنّ العقلاء يعتبرون المقتضي موجوداً ويرتبون على وجوده الادعائي أحكاماً كثيرة، مثلاً: في بحث الخيارات يحكم العقلاء بسقوط الخيار مع اشتراط سقوطه في متن العقد، إلاّ أنّه حين العقد لم يكن هنالك خيار للحيوان حتى يشترط سقوطه في متن العقد، لكن وجود المقتضي للخيار - وهو نفس العقد - يسبب وجوداً ادعائياً للخيار عند العقلاء فيسقط مع شرط السقوط، وما نحن فيه كذلك، فمع وجود المقتضي يعتبر العقلاء وجوداً ادعائياً للمقتضي، وباعتباره تصدق كلمة الرفع على نحو الحقيقة.

أقول: سواء أكان هذا التخريج صحيحاً عند العرف واللغة أم كان من صنع الخيال، إلاّ أنّ الظاهر أنّ الإطلاق في موارد وجود المقتضي إطلاق حقيقي، كما هو واضح في مثال رفع القتل، لصحة الحمل وعدم صحة السلب، وهما علامتا الحقيقة في الإطلاق.

الجواب الثالث: إطلاق كلمة الرفع في الحديث الشريف بلحاظ عالم الإثبات لا الثبوت.

ص: 275


1- نهاية الأفكار 3: 209.

بيانه: هنالك عمومات ومطلقات، كقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ}(1) وهي تشمل العالم والجاهل والمتذكر والناسي والمضطر وغيره، لكنه بلحاظ الإرادة الاستعمالية لا بلحاظ الإرادة الجدية، والملاك في صدق عنوان الرفع الأول لا الثاني.

وبعبارة واضحة: اللفظ شامل للعالم والجاهل بلحاظ عالم الإثبات والإرادة الاستعمالية، فيكون الحكم ثابتاً في ذمة الجاهل والناسي والمخطئ، ويرتفع بحديث الرفع، فيصدق عليه عنوان الرفع حقيقة.

الجواب الرابع: إطلاق الرفع بلحاظ ثبوت الحكم في الشرائع الإلهية المتقدمة ولو في الجملة، ويدل عليه قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا}(2)، بل حديث الرفع ظاهر في ثبوت الأحكام، ولو في الجملة، فبهذا اللحاظ يطلق الرفع على ذلك.

إن قلت: إنّ هذه الأحكام كانت ثابتة للأمم المتقدمة في حالة الخطأ والنسيان و... ولم تكن ثابتة لهذه الأمة حتى يكون دفعها رفعاً.

قلت: إنها لم توقت عند صدورها في الشرائع المتقدمة لوقت خاص، وظاهرها الإطلاق الأزماني، فيعم الحكم جميع الازمنة والأفراد، فيشمل الأمة المرحومة بلحاظ الإرادة الاستعمالية، ويرفع عنها بحديث الرفع.

الجواب الخامس: إطلاق الرفع إنما هو بلحاظ ثبوت الأحكام في هذه

ص: 276


1- النحل: 115.
2- البقرة: 286.

الموارد التسعة في بداية الشريعة، فالأحكام في أول الشريعة كانت شاملة للعالم والجاهل، فيصدق الرفع حقيقة بهذا اللحاظ.

الجواب السادس: ما أجاب به السيد السبزواري حيث قال: «والمنساق من الرفع عرفاً ولغة خلاف الوضع»(1) فعندنا مفهومان: الوضع والرفع، والرفع يعني عدم الوضع، أي أنّ اللّه وضع الحكم على المتذكر ولم يضع الحكم على الناسي.

والظاهر أنه تام في نظر العرف، فوضع يعني كتب، ورفع يعني لم يضع ولم يكتب التكليف.

ويؤيده قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم»(2) فقد سجل التكليف على البالغ، وأما الصبي فلم يجر عليه القلم.

وفي الحديث الشريف: «من رفع عن الناس يداً واحدة رفعت عنه أيدٍ كثيرة»(3).

وقد تمثل سيد الشهداء(عليه السلام) بهذا البيت:

إذا ما الموت رفع عن أناس***كلاكله أناخ بآخرينا(4)

وعليه، فانَّ الرفع يعني عدم الوضع، ويصح أن يقال: لم يوضع القلم على هذه الطوائف التسع.

ص: 277


1- تهذيب الأصول 2: 165.
2- الخصال: 175.
3- شرح أصول الكافي 1: 243.
4- مثير الأحزان: 40، والكلاكل: جمع كلكل وهو الصدر.

ومع تمامية هذا الجواب نستغني عن الأجوبة السابقة.

الجواب السابع: حمل الرفع في الحديث على العناية والمجاز.

2) في حقيقة المرفوع

البحث الثاني: إن كان متعلق الرفع في حديث الرفع نفس العناوين التسعة، كالخطأ والنسيان فهو إسناد حقيقي، وإن كان متعلقه مقدراً محذوفاً فهو إسناد مجازي.

وفي المقام بحثان:

الأول: في إمكان تعلق الرفع حقيقة بالعناوين المذكورة.

الثاني: في ماهية المقدر المحذوف مع فرض عدم إمكان تعلق الرفع بالعناوين المذكورة.

أما البحث الأول: فقد ذهب البعض(1) إلى عدم إمكان تعلق الرفع بالعناوين المذكورة ؛ لوجود هذه الأمور في الخارج بالعيان، فلا يمكن أن يتعلق الرفع بها حقيقة، فلا بد من تقدير محذوف مقدر، وهو ما يسمى بمجاز الحذف، كقوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}(2).

وقد فصل بعض الأعلام(3) في المقام بين (ما لا يعلمون) حيث يمكن تعلق الرفع به حقيقة؛ وذلك لإمكان رفع الحكم واقعاً، وبين سائر العناوين المأخوذة في الحديث الشريف.

ص: 278


1- كفاية الأصول (المحشى) 4: 330؛ فوائد الأصول 4: 225.
2- يوسف: 82.
3- مصباح الأصول 2: 261-263.

لكن التفصيل غير واضح:

أولاً: إنّ (ما لا يعلمون) يشمل الحكم والموضوع، فإنه وإن كان الحكم قابلاً للرفع إلاّ أنّ الموضوع الخارجي المجهول غير قابل للرفع، كالخمر المجهول بعنوان الشبهة الموضوعية.

ثانياً: على فرض كون (ما لا يعلمون) خاصاً بالشبهات الحكمية، كشرب التتن، إلاّ أنّ الحكم الواقعي المجهول غير قابل للرفع؛ لما ثبت في بداية مباحث القطع من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، فلو كان التتن واقعاً حراماً فهو غير قابل للرفع.

منتهى الأمر أنّ عدم قابلية سائر العناوين للرفع إنما هو بالعيان، حيث نشاهد رأي العين وجود الإكراه والخطأ في الخارج، وأما عدم قابلية الحكم الواقعي المجهول للرفع فإنما يكون بالبرهان، سواء أكان برهاناً شرعياً أم برهاناً عقلياً كالدور أو الخلف أو ما أشبه.

وعليه: تكون العناوين التسعة غير قابلة لورود الرفع عليها، فلا بد من تقدير محذوف، كأن نقول: رفعت المؤاخذة على ما لا يطيقون.

لكن المحقق النائيني(1) ذهب إلى معقولية تعلق الرفع حقيقة بالعناوين التسعة، فالمرفوع واقعاً هو الخطأ والنسيان والإكراه والحكم والموضوع الذي لا يعلمون.

والعبارات الواردة في تقرير كلامه لا تخلو من اضطراب، مما سبب بعض الإشكالات عليه، وهي وإن وردت على العبارات المذكورة، إلاّ أنّ

ص: 279


1- فوائد الأصول 3: 342.

مراده سيتضح بما نذكره مع بعض التغيير تلافياً لورود تلك الإشكالات.

وحاصله: إنّ الرفع نوعان: رفع تكويني ورفع تشريعي، وإنما يلزم تقدير محذوف فيما لو كان الرفع تكوينياً دون ما لو كان تشريعياً، وما ورد في الخبر أنما يكون في مقام التشريع لا في مقام التكوين، ولذلك يتعلق به الرفع التشريعي حقيقة، وهو مطلب مهم تترتب عليه آثار كثيرة كما سيأتي.

توضيح كلامه: هنالك لحاظان في هذه العناوين:

الأول: أن نلاحظها بما هي موضوعات خارجية تكوينية.

الثاني: أن نلاحظها بما هي موضوعات للأحكام الشرعية.

أما باللحاظ الأول فهي موضوعات حقيقية تكوينة خارجية لا تنالها يد التشريع لا وضعاً ولا رفعاً.

لكن الشارع لا يلاحظ الموضوع بما له من الوجود التكويني الخارجي، وإنما يلاحظه بما هو موضوع للحكم الشرعي، فمعنى وجود الخطأ في عالم التشريع أنه قد رُتّب عليه أثر شرعي، ومعنى عدم وجود موضوع الخطأ في إطار عالم التشريع أنه لم يُرتَّب عليه أثر شرعي.

فلو لم يكن للخطأ في إطار عالم التشريع حكم ولا أثر، فلا وجود له في عالم التشريع؛ لأنه لم يقع موضوعاً لحكم شرعي، فالشارع لا يلحظ الأشياء بما هي هي في مقام التشريع، وإنما يلاحظها بما هي موضوعات لأحكامه، ولو كان للخطأ حكم لكان الموضوع ثابتاً بثبوت محموله، لذا يمكنه أن يقول: رفع الخطأ، لكن لو لم يكن محمول فالموضوع قهراً مرتفع.

وبعبارة بعض الأعلام: نفرض وجود دفتر للتشريع فيه موضوعات رتب

ص: 280

عليها محمولات، فلو محيت أحكام موضوع فهو يساوي محو الموضوع في دفتر التشريع.

فلو لم يكن للخطأ في الشريعة حكم فلا يكون له وجود في سجل التشريع، ومع انتفاء المحمولات ينتفي الموضوع من دائرة التشريع، وعليه يتم رفع الخطأ حقيقة، لكنه رفع في إطار التشريع لا في إطار عالم التكوين، كما في قولنا: (لا ربا بين الوالد وولده) و (لا شك لكثير الشك) فإنّ الربا والشك منتفيان تشريعاً لا تكويناً.

ولو استعرنا عبارة الكفاية في قاعدة لا ضرر لقلنا إنه نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، فلا ضرر إنما هو نفي الحكم لباً، وأما لفظاً فلسانه لسان نفي الموضوع، لكنه في عالم التشريع لا التكوين، فلا أثر شرعي للحكم المجهول، ومع ارتفاع المحمولات في إطار عالم التشريع لا يعقل وجود موضوع بلا محمول، فيكون الموضوع مرتفعاً في إطار عالم التشريع.

وحاصل مفاد كلماته: أن وزان الرفع وزان النفي في (لا شك لكثير الشك) فما يقال هناك يقال به هنا.

ولا محذور فيما ذكره المحقق النائيني بلحاظ عالم الثبوت، فالتصوير المذكور يثبت إمكان التعلق في عالم الثبوت، إنما الكلام في عالم الإثبات، وهل أنَّ حديث الرفع ظاهر في الرفع التشريعي؟

فلو كان الحديث يتضمن الرفع مجرداً لأمكن القول به في سجل التشريع، لكنه قد تعلق ب- (عن أمتي) وفي ظهوره في الرفع التشريعي مجال للتأمل.

ص: 281

ويمكن الإجابة عن ذلك بإمكان تصوير التقريب بأحد نحوين:

الأول: الخطأ - مثلاً - في عالم التشريع مرفوع تكويناً.

الثاني: الخطأ في عالم التكوين مرفوع تشريعاً.

والإشكال الإثباتي وارد على التصوير الأول لا الثاني.

وبين التصويرين فرق كبير: أما التصوير الأول فإنّ له فيه نحواً من أنحاء الثبوت، حيث يقع موضوعاً للحكم والأثر الشرعي، ويتحقق الرفع التكويني للخطأ في عالم التشريع بسلب موضوعيته.

وبعبارة واضحة: يقوم المولى بمحو الخطأ الذي هو موضوع الأثر الشرعي من سجل التشريع، فهو مرفوع حقيقة وتكويناً في عالم التشريع لسقوطه عن الموضوعية، وهذا المعنى لا يساعد عليه الظهور في مقام الإثبات.

وأما التصوير الثاني من أنّ الخطأ في عالم التكوين - بمعنى الخطأ الخارجي أي قتل زيد خطأ - مرفوع تشريعاً أي ادعاءً.

وهذا المعنى يقتضيه نفس ظهور حال الشارع، فقول المولى (رفع) بمعنى أنه لم يعتبر ما هو مصداق تكويني مصداقاً تشريعاً، فبما أنه شارع - لا بما أنه مكون للكائنات - يرفع هذه العناوين من حيثية الشارعية، فيكون الرفع رفعاً تشريعياً ادعائياً اعتبارياً.

ويؤيده كثرة الأشباه والنظائر، كقوله: (لا شك لكثير الشك)، فقد نفي الشك التكويني نفياً اعتبارياً، وقوله: (لا شك في النافلة) و (لا ربا بين الوالد وولده) و (لا ضرر ولا ضرار) و (لا حرج).

ص: 282

فوزان الرفع الإدعائي وزان النفي الإدعائي، وكما أنّ النفي الإدعائي ظاهر عرفاً فكذلك الرفع الادعائي.

ومع تمامية هذا التصوير يتم الاستغناء عن ضرورة تقدير المحذوف، ويكون ظاهراً في نفي جميع الآثار، ومع عدمه لابد من التقدير صوناً لكلام الحكيم، وهو ما يعبر عنه بدلالة الاقتضاء، وقد يلزم الأخذ بالقدر المتيقن منه، كما هو الشأن فيما لو دار الأمر في تقدير المحذوف بين الأقل والأكثر.

وأما البحث الثاني: ففي بيان المقدر المحذوف وتعيين ماهية المرفوع، بناء على عدم إمكان تعلق الرفع على الوجه الحقيقي بالعناوين المذكورة.

وفيه احتمالات:

الاحتمال الأول: أن يكون المقدر: المؤاخذة، أي رفع عن أمتي المؤاخذة عن هذه العناوين، ولم ترفع الآثار التكليفية والوضعية والموضوعات التي رتبت على هذه العناوين.

ويرد عليه عدة إشكالات:

الإشكال الأول: إنه خلاف تمسك الإمام(عليه السلام) بحديث الرفع لنفي الآثار الوضعية، كما في الصحيحة(1) الواردة في الوسائل: «أحمد بن أبي عبد اللّه(2)

ص: 283


1- فإن طريق الحر العاملي في الوسائل إلى الشيخ الطوسي معتبر، كما في خاتمة الوسائل، وطريق الشيخ الطوسي إلى المحاسن معتبر أيضاً، وقد ذكره في الفهرست في أحوال أحمد بن محمد بن خالد البرقي (منه (رحمه اللّه) ).
2- أحمد بن أبي عبد اللّه، البرقي الابن وهو ثقة.

في المحاسن عن أبيه(1)، عن صفوان بن يحيى(2) وأحمد بن محمد بن أبي نصر(3) جميعاً، عن أبي الحسن(عليه السلام): «في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك؟ فقال: لا، قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا»(4).

والشاهد أنّ الإمام نفى ترتب الحكم الوضعي، وهو نفوذ الطلاق وصحته بسبب الإكراه، فليس المرفوع صرف المؤاخذة، بل الحكم الوضعي أيضاً مرفوع.

وفي المقام إشكالان:

الأول: إنّ الحلف واليمين باطل حتى في حال الاختيار، فلو حلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك اختياراً فهو باطل، لعدم صحة التعليق فيه، بل هو طلاق العامة، وعليه يكون الاستدلال إقناعياً لا برهانياً.

ويمكن دفعه: بما أجاب به السيد الجد (رحمه اللّه) - كما نقله السيد الوالد (رحمه اللّه) - عن الإشكال الوارد على الرواية: «ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا»(5) المذكورة في كتاب الصوم في مبحث نفوذ حكم

ص: 284


1- محمد بن خالد البرقي، هو الذي أخرج من قم ولم يكن لعدم وثاقته بل لروايته عن الضعفاء واعتماده المراسيل.
2- صفوان بن يحيى، من أصحاب الإجماع من الطبقة الثالثة.
3- أحمد بن محمد بن أبي نصر، من أصحاب الإجماع من الطبقة الثالثة.
4- وسائل الشيعة 23: 227.
5- وسائل الشيعة 10: 132.

الحاكم في باب الهلال، حيث أشكل بأن الحكم صدر للتقية، فلا يصلح لإثبات نفوذ حكم الحاكم.

فأجاب السيد الجد (رحمه اللّه) : إنّ التقية في الصغرى لا في الكبرى، فإنّ الكبرى في المقام: هي أنّ أمر الهلال بيد الإمام، والصغرى هي أنّ الأمر بيدك.

ولا يرد عليه بعدم الدليل، فإنّ الضرورات تقدر بقدرها، وفي المقام الضرورة والتقية واختلال الجهة في التطبيق، وهو القدر المتيقن، ولا ضرورة لحمل الكبرى (ذاك إلى الإمام) على التقية.

وبعبارة أخرى: أصالة الجهة قاضية بأنّ ما صدر عن الإمام إنما هو لبيان الحكم الواقعي صغرى وكبرى، يخرج عنها الصغرى، فتبقى الكبرى محكومة بأصالة الجهة.

ويمكن تطبيق ذلك على المقام أيضاً، فإن حديث الرفع يحتوي على كبرى، هي رفع الأحكام الوضعية، وقد طبق الإمام الكاظم(عليه السلام) الكبرى على الصغرى (الحلف بالطلاق و..)، وحيث يعلم من الخارج أن التطبيق إقناعي تبقى الكبرى، والأصل فيها أن تكون برهانية لا جدلية.

الثاني: ما أشار إليه الشيخ الأعظم: هذا في حديث الوضع الثلاثي لا في حديث الرفع للعناوين التسعة، ثم قال فتأمل(1).

وربما يكون إشارة إلى أنّ مساق حديث الرفع والوضع متحد، فلو كان حديث الوضع ظاهراً في رفع الأحكام الوضعية، فحديث الرفع أيضاً ظاهر في رفع الأحكام الوضعية.

ص: 285


1- فرائد الأصول 2: 30.

الإشكال الثاني: ما نسب إلى السيد البروجردي (رحمه اللّه) في مجلس بحثه وقد ارتضاه.

وتوضيحه: للمولى الحقيقي حيثيتان: الأولى: حيثية كونه مكوناً، والثانية: حيثية كونه مشرعاً في عالم التشريع، وظاهر الوضع والرفع في كلمات الشارع الوضع والرفع بلحاظ الحيثية الثانية لا الأولى، ومع تمامية هذه الكبرى الكلية يتم الإشكال؛ لكون المؤاخذة فعل المولى بما هو مكون لا بما هو مشرع.

وبعبارة أخرى: الظاهر أنّ المولى في حديث الرفع في مقام التشريع لا التكوين، والمؤاخذة من الأمور التكوينية لا من الآثار الشرعية للفعل، واستحقاق المؤاخذة على الفعل أو الترك من الآثار العقلية، وأحكامه التي لا تقبل الوضع ولا الرفع لا تكويناً ولا تشريعاً، فمن خالف المولى استحق العقاب عقلاً، ولا يمكن رفع الاستحقاق لا تكويناً ولا تشريعاً.

والحاصل: نفس المؤاخذة تقبل الوضع والرفع تكويناً لا تشريعاً، واستحقاق المؤاخذة لا يقبل الرفع ولا الوضع لا تكويناً ولا تشريعاً، فلا يمكن القول: إنّ المرفوع هو المؤاخذة أو استحقاقها.

ويرد عليه أمران:

الأول: نقضاً، بورود نظيره في القرآن الكريم، فقد قال تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْو في أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}(1). فهو صريح في رفع المؤاخذة ووضعها، فوزانه وزانها.

ص: 286


1- البقرة: 225.

الثاني: حلاً، حيث نسلم أنّ المؤاخذة من الأمور التكوينية، لكنه مترتب على التكليف، وهو أمر اعتباري قابل للوضع والرفع شرعاً، فيكون ذلك الأمر التكويني المترتب عليه قابلاً للوضع والرفع شرعاً أيضاً، غاية الأمر أنّ الوضع والرفع في الأمر الاعتباري يتم بلا واسطة، في الأمر التكويني مع الواسطة.

وعليه: ليس رفع المؤاخذة أجنبياً عن الشارع بما هو شارع حتى يقال: إنّ الرفع لا يناسب مقام التشريع.

وفي النهاية ما يفيد هذا المعنى، حيث قال: «إنّ رفع المؤاخذة ليس بعنوان التعبد برفعها حتى لا يعقل التعبد بها نفياً أو إثباتاً، بل بعنوان تحقيق موضوعها»(1).

فمآل رفع المؤاخذة إلى رفع موضوعها وهو التكليف.

ونظيره جار في استحقاق العقوبة، فإنّ استحقاقها لا يقبل الرفع والوضع لا تكويناً ولا تشريعاً، كزوجية الأربعة، إلاّ أنّها قابلة للرفع والوضع عبر منشئها وهو التكليف.

الإشكال الثالث: وهو خاص ب- (ما لا يعلمون)

وبيانه: سلمنا أنّ المؤاخذة من توابع التكليف، لكنها ليست من توابع مطلق التكليف، بل من توابع التكليف الواصل إلى مرحلة التنجّز، والواقع المجهول لم يبلغ مرحلة التنجّز. وعليه، فليست المؤاخذة من آثار الواقع المجهول حتى ترفع برفعه.

ص: 287


1- نهاية الدراية 2: 429.

وبعبارة أخرى: قول المولى: رفعت المؤاخذة التي هي أثر التكليف الواقعي المجهول برفع التكليف أجنبي عن المقام، فإن التكليف الواقعي المجهول ليس له هذا الأثر حتى يرفع برفع موضوعه ومنشئه.

والجواب: إنّ التكليف الواقعي المجهول على نوعين:

الأول: التكليف الواقعي المجهول الذي لم يصل إلى المكلف لا بنفسه ولا بطريقه، وهو مما لا أثر له ولا تترتب عليه المؤاخذة حتى ترفع برفعه.

الثاني: التكليف الواقعي المجهول الذي وصل بطريقه وإن لم يصل بنفسه، كما في الثلاثة الخطيرة الدماء والأعراض والأموال.

فلو رأى المكلف شبحاً من بعيد شك أنه إنسان محقون الدم أو حيوان مهدور الدم، فالحرمة الواقعية - فيما لو كان إنساناً - لم تصل بنفسها، ولكن وصلت بطريقها، وهو إيجاب الاحتياط في النفوس، لذلك لو خالف حَقَّ للمولى أن يعاقبه؛ لأن المؤاخذة من آثار التكليف الواقعي المجهول الواصل بأمر (احتط)، ومن الممكن أن يأمر المولى بالاحتياط في جميع التكاليف المجهولة في الشبهات الموضوعية والحكمية، فعدم إيجاب الاحتياط رفع لهذا الأثر، وهو المؤاخذة. وعليه، يمكن القول برفع المؤاخذة على التكليف المجهول برفع الحكم الواقعي ظاهراً، أو برفع وجوب الاحتياط واقعاً.

وبعبارة أخرى: المؤاخذة أثر وجوب الاحتياط، فإذا رفع الشارع وجوب الاحتياط، أو رفع التكليف الواقعي في مرحلة الظاهر فأثر هذا الرفع الاعتباري رفع الأمر التكويني وهو المؤاخذة.

ص: 288

الإشكال الرابع: إنَّ تقدير خصوص المؤاخذة خلاف إطلاق حديث الرفع، حيث إنّ مقتضى إطلاقه رفع جميع آثار العناوين التسعة لا خصوص المؤاخذة.

الإشكال الخامس: ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (1) أنه لو كان المقدر خصوص المؤاخذة يشكل الأمر في مجموعة من العناوين المذكورة، وذلك لاستقلال العقل بقبح المؤاخذة عليها، فإن المستقلات العقلية في التحسين والتقبيح وحكم العقل بالمؤاخذة عليها لا تختص بأمة ولا بظرف، وهو ينافي ظاهر حديث الرفع من اختصاصه بهذه الأمة، فلا بد من القول بكون المقدر جميع الآثار، ولا قبح في اختصاص رفع تمام الآثار بهذه الأمة.

وقد ذكر صاحب الكفاية(2) وجهاً آخر للإشكال، قال: استقلال العقل بالقبح كما ينافي الاختصاص بهذه الأمة ينافي الامتنان أيضاً، فظاهر الحديث أنه مسوق للامتنان، ولا معنى للامتنان برفع ما يستقل العقل بقبحه، كأن يقول المولى: أمتن عليك بعدم إيجاب جمع النقيضين، بل هو قبيح.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم(3) بجوابين:

الأول، نقضاً: إنّ الإشكال المذكور يرد في الكتاب العزيز أيضاً، وقد صرح فيه برفع المؤاخذة، قال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا

ص: 289


1- فرائد الأصول 2: 30.
2- درر الفوائد 1: 192-193.
3- فرائد الأصول 2: 30.

رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا}(1).

فإنّ المحال والقبيح العقلي لا معنى لاستيهابه من اللّه تعالى، ولا معنى لهبته منه.

الثاني، حلاً: - وهو يحسم مادة الإشكال في المقام- من منع قبح المؤاخذة على هذه الأمور بقول مطلق.

لكن فيه: أنه يلزمه ما لا يعلم التزامه به وهو: أنه قد ذكر الفقهاء(2) في مباحث الوضوء ومكان ولباس المصلي بحثاً في حكم صلاة من نسي، أو جهل الغصبية وتوضأ به أو صلّى فيه، فقد أفتى البعض بالصحة بقول مطلق، بينما فصّل آخرون بين كون الجهل والنسيان عذرياً فتصح، وبين عدمه كمن نسي أو جهل بتقصير منه في المقدمات كالغاصب الذي لا يبالي، فنسي بمرور الزمن وصلّى فيه، فقد أشكل البعض في صحة صلاته، كالسيد الحكيم والسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد البروجردي والسيد الوالد رحمهم اللّه، وذكر في شرح العروة (3) أنّ حديث الرفع لا يشمل الخطأ والنسيان مع التقصير في المقدمات.

وعليه، نتساءل من الشيخ الأعظم، هل المرفوع الخطأ والجهل والنسيان العذري أو مطلقاً؟

فإن قلتم: إنه العذري، فنقول: لا اختصاص له بهذه الأمة؛ لأنّ الخطأ

ص: 290


1- البقرة: 286.
2- العروة الوثقى 2: 332.
3- شرح العروة الوثقی 15: 206.

العذري تقبح المؤاخذة عليه عقلاً، فلا اختصاص للرفع بهذه الأمة، ولا منةّ فيه أيضاً.

وإن قلتم: إنّ المراد رفع المؤاخذة على الخطأ مطلقاً، إن كان عن تقصير، وإن كان الناسي هو الغاصب غير المبالي، فهو خلاف المبنى الفقهي عند جمع من الفقهاء، فهل الشيخ يلتزم بهذا اللازم، لقوله: «لا نسلم قبح المؤاخذة على الخطأ بقول مطلق ونسلم الاختصاص»(1)؟ فتأمل.

الاحتمال الثاني: أن يكون المتعلق المقدر المحذوف هو الأثر الظاهر، مثلاً: الأثر الظاهر للوسوسة في الخلق هو الحكم بالكفر، لكنه مرفوع.

والأثر الظاهر للطيرة هو الحكم بعدم المضي(2) وهو مرفوع، فلا حكم شرعي تأسيسي أو إمضائي بعدم المضي، والأثر الظاهر للطلاق تحقق البينونة، فهو مرفوع مع كونه إكراهياً، والأثر الظاهر لشرب الخمر وجوب الحد، فيرتفع مع الاضطرار، والأثر الظاهر لارتكاب المحرم الحرمة، ومع الجهل ترتفع.

فنلاحظ في كل واحد من العناوين التسعة أثره الظاهر، وهو يرتفع بحديث الرفع.

ويرد عليه عدة إشكالات:

الإشكال الأول: ما ذكره بعض المعاصرين(3) وهو: إنَّ الرفع في حديث

ص: 291


1- فرائد الأصول 2: 30.
2- كما كان متداولاً عند العرب بالرجوع عن السفر فيما لو رأوا الغراب، وهذ الحكم من أظهر آثار الطيرة (منه (رحمه اللّه) ).
3- مباحث الأصول 3: 187.

الرفع متعلق بذات العناوين التسعة، سواء أكان التعلق على وجه الحقيقة أم المجاز، فلو رتب أثر على هذه العناوين دون أثر آخر لم يصح القول بعدم وجود العنوان.

وبعبارة أخرى: نفي الذات سواء أكان نفياً حقيقياً أم نفياً ادعائياً أنما يتم لو كانت جميع الآثار مرفوعة، لكن لو كان بعض الآثار مرفوعاً دون البعض الآخر لم يصح نسبة الرفع إلى الذات، فمآله في الواقع إلى التناقض ؛ لعدم ثبوت الذات لرفع الأثر الأول، وثبوت الذات لثبوت الأثر الثاني.

وعليه، فالمناسب لنفي الذات نفي تمام الآثار، وإلاّ لزم التناقض في نفي الذات.

لكنه محل إشكال: فليس الملاك في تعيين المعنى المجازي مع تعذر المعنى الحقيقي الأقربية الاعتبارية، وإنما الملاك الظهور العرفي.

فلو استعرنا كلمة الأسد للرجل الشجاع في قولنا: (عندي أسد شاك السلاح) ورد نفس الإشكال، فهل يصح أن يقال: إن إطلاق عنوان الأسد على الرجل الشجاع أنما هو بلاحظ جميع الآثار؛ لأنّ ثبوت الذات يلازم ثبوت جميعها، والقول بكونه بلحاظ الشجاعة يؤول إلى التناقض، حيث إنه إثبات للذات بلحاظ بعض آثار الأسد، ونفي للذات بلحاظ بعض الآثار؟!

نعم، ثبوت جميع الآثار أقرب إلى ثبوت العنوان، لكنها أقربية اعتبارية، وفي باب الظهورات لا عبرة بالأقربية الاعتبارية.

وكذلك في باب التشبيه (زيد كالأسد) و (عمرو كالبحر) حيث يحمل على الأثر الظاهر، وهو الشجاعة والسعة، فما يقال في باب الإثبات في التشبيه

ص: 292

والاستعارة نقوله في باب النفي والرفع، فإنه وإن كان رفع جميع الآثار أقرب إلى رفع الذات ادعاءً، لكنه لا يعيّن أنّ المقصود رفع تمام الآثار.

الإشكال الثاني: ما ذكره بعض المعاصرين(1)

من أنه خلاف الامتنان.

لكنه غير واضح، فإنه وإن كان رفع جميع الآثار أقرب إلى الامتنان، لكن في تحقق الامتنان يكفي أن يكون في الجملة، ولا يلزم أن يكون بالجملة، فللمولى أن يقول: إني أرفع الأثر الظاهر امتناناً.

الإشكال الثالث: إنه خلاف صحيحة البزنطي.

لكنه غير واضح أيضاً، لأنّ الرفع فيها رفع للأثر الظاهر، وهو البينونة في الحلف بالطلاق، ولم يرفع فيها تمام الآثار.

الإشكال الرابع: تخصيص الرفع بالأثر الظاهر خلاف الظاهر والإطلاق.

الاحتمال الثالث: المرفوع تمام الآثار الوضعية والتكليفية.

هذا تمام الكلام في البحث الثاني.

3) الأحكام المترتبة على حديث الرفع

البحث الثالث: في الأحكام والآثار المترتبة على الموضوعات بلحاظ العناوين التسعة الواردة في حديث الرفع على ثلاثة أنوع:

الأول: الآثار المترتبة على هذه العناوين بما هي هي، كأن يقول المولى: من قتل مؤمناً خطأً فعليه الدية، فوجوب الدية مترتب على نفس عنوان الخطأ، أي ما لوحظت فيه بشرط شيء.

أو يقول: من نسي التشهد فعليه سجدتا السهو، فوجوب السجدتين

ص: 293


1- مباحث الأصول 3: 208.

مترتب على نفس عنوان النسيان.

الثاني: ما يترتب على عدم العناوين التسعة، كأن يقول: من تعمد الإفطار فعليه الكفارة، فوجوب الكفارة مترتب على نقيض الخطأ وضده، أي ما لوحظت فيه بشرط لا.

الثالث: الآثار المترتبة على الأشياء لا بشرط الخطأ ولا بشرط العمد، كمن شرب الخمر يجلد ثمانين جلدة.

ولا إشكال في أن حديث الرفع لا يشمل النوع الثاني؛ لأن الأثر مرفوع بذاته، فقوله: (من تعمد الإفطار فعليه الكفارة) ومن أفطر خطأ، فالأثر مرتفع بارتفاع موضوعه، ولا حاجة إلى رفع حديث الرفع له.

ولا إشكال في النوع الثالث، فلو رتب أثر على ذات شيء بما هوهو بعنوان اللابشرط، فإنّ ظاهر الترتب الترتبُ على نحو الإطلاق، فحديث الرفع يرفع الأثر في حالة الجهل والخطأ، فمن شرب الخمر يجلد، فلو كان مضطراً رفع حديث الرفع هذا الأثر.

ولكن وقع البحث والنقض والإبرام بين الأعلام في بيان السبب في عدم رفع حديث الرفع للآثار المرتبة على العناوين التسعة في النوع الأول، كما لو قال المولى: (من قتل خطأ محضاً فالدية على عاقلته) أو قال: (من نسي التشهد فعليه القضاء).

وفي المقام يمكن أن تذكر تقريرات:

التقرير الأول: ما أفاده الشيخ الأعظم(1)، وهو: ليس المراد رفع الآثار

ص: 294


1- فرائد الأصول 2: 32.

المترتبة على هذه العنوانات من حيث هي؛ إذ لا يعقل رفع الآثار الشرعية المترتبة على الخطأ والسهو.

وحاصله عدم المعقولية، لكنه لم يذكر وجهاً لكلامه.

ويمكن أن يورد على ما ذكره بأنّ هنالك فرقاً بين عدم المعقولية في نفس الأمر وعدم الوقوع في الخارج، فإنّ مرجع عدم المعقولية وجود المحذور الثبوتي في نفس الأمر، ولم يظهر لنا ذلك في رفع آثار الخطأ والنسيان بحديث الرفع.

وبتقرير آخر: هل المراد بالرفع إزالة الأمر الثابت أو الحيلولة دون تأثير المقتضي في مقتضاه؟

فإن كان المراد الأول فما هو المانع من رفع المولى الأثر الثابت لموضوع للامتنان على الأمة، كما في آية النجوى(1).

وإن كان المراد الثاني - ومآله إلى الدفع - فبعد تحقق المقتضي لا يدع المولى مجالاً لتأثيره في مقتضاه لاقتضاء مانع أقوى، كما في قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»(2) فإنّ المقتضي للوجوب موجود، لكن دفع الحكم لوجود مانع أقوى.

التقرير الثاني ما ذكره في الكفاية(3)، من أنَّ المرفوع فيما اضطر إليه وغيره مما أخذ بعنوانه الثانوي إنما هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الأولي،

ص: 295


1- المجادلة: 12.
2- الكافي 3: 22.
3- كفاية الأصول: 341.

ضرورة أنّ الظاهر أنّ هذه العناوين صارت موجبة للرفع، والموضوع للأثر مستدع لوضعه، فكيف يكون موجباً لرفعه؟

وورد في التهذيب(1) والمصباح(2) بنفس التقرير.

بيانه: التسعة المرفوعة على نوعين:

الأول: ما أخذ في حديث الرفع بعنوانه الأولي، ك- (الطيرة) و (الحسد) و(التفكر في الوسوسة في الخلق).

الثاني: ما أخذ في حديث الرفع بما له من العنوان الثانوي، ك- (ما اضطروا إليه) و (ما لا يعلمون) و (الخطأ).

فالعنوان الأولي الذاتي لفعل شرب التتن خارجاً هو شرب التتن، والعنوان الثانوي الطارئ له أنه شرب لما لم يعلم أو شرب لما اضطر إليه، والفرق بينهما عند صاحب الكفاية هو أنّ المرفوع في النوع الأول هو آثار نفس الفعل، أي ارتفاع الآثار الثابتة للحسد في الشريعة بحديث الرفع.

لكن ما أخذ في حديث الرفع بعنوانه الثانوي لا يمكن أن يرفع ما ترتب على الشيء بما له من العنوان الثانوي، بل يرفع الآثار المترتبة على الشيء بما له من العنوان الأولي، فللإفطار في شهر رمضان أثر، لكن لو وقع خطأً رفع الأثر بحديث الرفع، أما الأثر المرتب على العنوان الثانوي الطارئ، كتحمل العاقلة للخطأ في القتل فحديث الرفع لا يمكنه أن يرفع هذه الآثار؛ لأن العناوين الطارئة مقتضية لثبوت هذه الآثار، فكيف تكون مقتضية لرفع

ص: 296


1- تهذيب الأصول 2: 150.
2- مصباح الأصول 2: 312.

هذه الآثار؟

ويرد عليه ما تقدم:

أولاً: من الممكن أن يكون الموضوع مقتضياً للأثر، ولكن يرفع الأثر للامتنان.

ثانياً: ما هو وجه القول: إنّ ما يقتضي أثراً لا يعقل أن يقتضي رفعه؟ فمن الممكن أن نقول: ما يقتضي رفع أثر كيف يكون مقتضياً لوضعه؟ فقوله: (رفع الخطأ) يعني كونه خطأ يقتضي رفعه، فكيف يكون الخطأ مقتضياً لوضعه؟

ويتعارض الدليلان، فإنّ أحد الدليلين يقتضي إثبات الوضع، والدليل الآخر يقتضي الرفع.

التقرير الثالث: أن يقال بالتخصيص، فإنّ النسبة فيما بين الدليلين نسبة العموم والخصوص المطلق، فحديث الرفع يشمل الإفطار الخطئي - الذي لم يؤخذ الخطأ في موضوع حكمه - والقتل الخطئي - الذي أُخذ الخطأ في موضوع حكمه - أي يشمل ما كان الموضوع فيه لا بشرط، وما كان الموضوع فيه مأخوذاً بشرط شيء، ودليل الخطأ أخص من حديث الرفع، فيكون مقيداً لإطلاقه أو مخصصاً لعمومه.

التقرير الرابع: أحد مرجحات تقديم أحد المتعارضين على الآخر هو: أنه لو قدم أحدهما بقي للآخر مورد، ولو قدم الآخر لم يبق مورد للأول، كما في تعارض الاستصحاب مع قاعدة الفراغ(1)، فتتقدم الثانية على الأول حتى لو قلنا: إنها أصل عملي وكان الأول أمارة، فإنّ الأصل مقدم على الأمارة؛

ص: 297


1- على ما ذكره الشيخ في أواخر الفرائد.

لأننا لو قدمنا دليل الاستصحاب لم يبق مورد لقاعدة التجاوز أو الفراغ.

والكلام كذلك في المقام، فلو ألغينا آثار الخطأ والنسيان بحديث الرفع لكانت جميع الأدلة المتكلفة لهذه الآثار لغواً، وأما العكس فلا يكون حديث الرفع لغواً؛ لبقاء موارد له، وهي الآثار التي رتبت على الفعل لا بشرط، كمن أفطر في شهر رمضان فعليه القضاء.

الإشكال على التقريرين الأخيرين:

لكن ذكر في النهاية كلاماً يمكن أن يكون إشكالاً على التقريرين الأخيرين من دون التعرض إليهما.

قال: «إنّ ظاهر أخذ عنوان في الموضوع كونه عنواناً ومقتضياً له حقيقة، فمعنى رفع حكم الخطأ رفع حكمه بما هو خطأ، لا رفع حكم ذات ما أخطأ عنه، فيكون معارضاً للدليل المتكفل لحكم الخطأ بما هو»(1).

ومفاد كلامه: في حديث الرفع الخطأ موضوع، ومفاد الحديث: رفع حكم الخطأ. وظاهر أخذ عنوان في موضوع دليل هو أنّ هذا العنوان بما أنه عنوان دخيل في الموضوع، وأنّه بما هو هو مقتض لذلك الأثر.

وعليه، فمعنى قوله: (الخطأ حكمه مرفوع) هو: رفع الحكم المترتب على نفس عنوان الخطأ، وليس معناه رفع أثر الفعل الذي أخطأ فيه، وبناء عليه يكون حديث الرفع مبايناً للأدلة المتضمنة لأحكام الخطأ، فحديث الرفع يقول: (حكم الخطأ مرفوع) ودليل القتل يقول: (حكم الخطأ في القتل وجوب تكفل العاقلة للدية) فالدليلان متعارضان.

ص: 298


1- نهاية الدراية 2: 441.

ولو تم كلامه لكان الجواب الثالث والرابع محل إشكال ؛ لأنّ النسبة هي التباين الكلي لا العموم والخصوص المطلق، ولأن إعمال كل واحد من الدليلين موجب لإلغاء الآخر.

رد الإشكال المذكور:

لكنه محل تأمل: فما ذكره تام بالدقة العقلية، لكن النظرة العرفية قاضية بشمول رفع الخطأ للآثار المترتبة على ذات الخطأ، والآثار المترتبة على الفعل الذي أخطأ فيه.

وبعبارة أخرى: قد يلاحظ (الخطأ) أو (النسيان) باللحاظ الموضوعي، فيكون المنظور إليه ذات النسيان، كالحكم المترتب على نسيان التشهد، وقد يلاحظ الخطأ عنواناً للفعل الخارجي، كما لو أشرت إلى فعل الإفطار الموضوع للأثر وقلت: إنني أخطأت، فهذا الخطأ ليس موضوعاً للأثر، بل هو عنوان منتزع عن موضوع الأثر، فقول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «رفع عن أمتي ... الخطأ» هو - واللّه أعلم - إنّ وجود الخطأ كالعدم، وهذا المعنى شامل للخطأ الذي لوحظ موضوعاً، والخطأ الذي لوحظ عنواناً للفعل الخارجي.

وعليه، فحديث رفع الخطأ عام للفردين، والأدلة التي رتبت آثاراً على عنوان الخطأ تشمل أحد الفردين، فتكون مخصصة له.

التقرير الخامس: ما ذكر في المنتقى، وهو: «إننا نقطع بصدور الأحكام الثابتة لهذه العناوين بما هي، كما نقطع بثبوت ما هو مفاد حديث الرفع من رفع الاضطرار ونحوه، ومقتضى ذلك هو حمل الحديث على كون نظره إلى الأحكام الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية؛ لأنّ حمله على رفع الأحكام

ص: 299

الثابتة للأشياء بهذه العناوين يستلزم إما رفع اليد عنه(1) أو عن أدلة تلك الأحكام، للتنافي بينهما، وهو مما لا يمكن الالتزام به»(2).

ويرد عليه: أنه إن كان مرجعه إلى ما ذكر في التقرير الثالث أو الرابع فنعم الوفاق، فإن التخصيص معقول عرفاً، حيث يرى العرف أنّ الخاص قرينة على العام، ولا يحتاج الأمر إلى ما ذكره من المقدمات.

وإن كان المراد غيره، فهو أشبه بالجمع التبرعي، ويسري في كل المتعارضات.

فنقول في قوله(عليه السلام): «ثمن العذرة من السحت»(3) و«لا

بأس ببيع العذرة»(4) مع فرض اعتبارهما: إننا نقطع باعتبار الحديثين، فلو أبقينا (العذرة) على ظاهرها أوجب رفع اليد إما عن هذا وإما عن هذا، فنضطر إلى القول: إنّ المراد من الأول عذرة الإنسان، والمراد من الثاني عذرة الحيوان، وذلك لعدم إسقاط أحد الحديثين، وهو الجمع التبرعي الذي ذكره في المقام(5)، ومع فتح هذا الباب يتم توجيه كل جمع تبرعي من أول الفقه إلى آخره، وهذا مما لم يرتضه الفقهاء.

التقرير السادس: الخطأ والنسيان ونحوهما من العناوين قد يؤخذ مشيراً إلى العنوان الأولي للفعل، فحينما يقال: (الخطأ) يعني (الإفطار) فكلمة

ص: 300


1- أي: عن حديث الرفع.
2- منتقى الأصول 4: 410.
3- الاستبصار 3: 56.
4- الكافي 5: 226.
5- كتاب المكاسب 1: 23-24.

الخطأ تشير إلى الفعل الخارجي، وقد يؤخذ بما له من الموضوعية فيقال: (الخطأ حكمه كذا).

وفي حديث الرفع وإن أخذ الخطأ موضوعاً، لكنه لم يؤخذ بعنوان الموضوعية، وإنما أُخذ بعنوان المشير إلى الفعل الخارجي الصادر في حال الخطأ.

وعليه، فمفاد حديث الرفع مختص بالقسم الأول، أي الفعل - الإفطار - الذي صدر في حال الخطأ رفع حكمه، أي رفع حكم الإفطار، وهكذا في قوله تعالى: {النفس بالنفس}(1) يعني القتل بالقتل، فحينما نقول الخطأ فهو عنوان مشير إلى قتل له آثار منها القصاص، فإن كان هذا القتل صادراً في حالة الخطأ فحكمه مرفوع.

وعليه، لا تعارض بين دليل رفع الخطأ، والدليل الذي يثبت أثراً للخطأ؛ لأنّ الدليل الذي أثبت الأثر للخطأ أثبته بعنوان أنه منظور فيه، وحديث الرفع رفع حكم الخطأ بعنوان أنه منظور به.

وبعبارة أخرى: الخطأ في حديث الرفع حيثية تعليلية لا حيثية تقييدية، فالموضوع (القتل) والمحمول رفع أثر(القتل) لكونه خطأ، فالخطأ منظور إليه بالعنوان الآلي، لكن الدليل الذي يحكم بالدية - فإنّ القتل منظور فيه- ملحوظ بالعنوان الاستقلالي فلا تعارض.

والإنصاف أنه جواب جميل جداً لو ساعد عليه العرف.

لكن لو قلنا: إنَّ العرف يرى من كلمة (الخطأ) الأعم من المنظور فيه

ص: 301


1- المائدة: 45.

والمنظور به، و قلنا: إنّ الجمع بين اللحاظين ممكن فهو غير تام للإطلاق، فالمولى يقول: الخطأ وجوده كالعدم، سواء أكان الخطأ حيثية تعليلية أم تقييدية.

أما لو قلنا: لا يمكن الجمع، والحديث منصرف إلى رفع آثار المعنون لا العنوان(1)، لكان رفع الخطأ ظاهراً في رفع آثار المعنون لا آثار العنوان، فهو جمع لطيف يرفع المنافاة بين حديث الرفع وتلك الأدلة.

4) اشتراط الامتنان في الرفع

البحث الرابع: يشترط في شمول حديث الرفع للمورد أن يكون رفع الحكم فيه امتناناً على الأمة، والدليل على ذلك الجار أولاً، والمجرور ثانياً.

أما أولاً: فإنّ (رفع عن) يفيد وجود الثقل، وكأنه كان على عاتق الأمة ثقل فرفع عنهم.

وأما ثانياً: فإنّ (أمتي) تفيد التلطف والتحبب، كما قاله بعض المفسرين(2)

في قوله تعالى: {يا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي}(3)، وقوله تعالى: {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي}(4)، وكما يقول الأخ لأخيه: يا أخي، فيكون قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (رفع عن أمتي) في مقام الامتنان.

وعليه، لو كان رفع حكم خلاف الامتنان لم يرفع بحديث الرفع.

ص: 302


1- فالخطأ عنوان لمعنون.
2- الصافي 3: 317.
3- طه: 94.
4- الصف: 5.
ثمرات الامتنان

ويترتب عليه ثمرات كثيرة:

الثمرة الأولى: صحة بيع المضطر وبطلان بيع المكره، فإن الثاني ليس خلاف الامتنان، ولكن إذا حكم ببطلان بيع المضطر لمعالجة ابنه مثلاً لكان خلاف الامتنان، حيث لا يشتري أحد من المضطر شيئاً إلاّ الجاهل المغرور، فرفع الاضطرار في بيع المضطر خلاف الامتنان، فبيعه صحيح، وكذا في كل المعاملات.

الثمرة الثانية: لو أتلف مال الغير اضطراراً أو نسياناً أو جهلاً أو إكراهاً، فلا يمكن القول برفع أثر الإتلاف وهو الضمان، لأنّ رفع الضمان وإن كان امتناناً على المتلف، لكنه خلاف الامتنان على المالك، ومقتضى الامتنان على الأمة أن لا يكون الامتنان على فرد خلاف الامتنان على فرد آخر، كما لو قال حاكم: (دم المقتول هدر امتناناً على الشعب) فإنه ليس امتناناً عليهم، بل امتنان على القاتلين. نعم، يصح الامتنان على القاتلين بإسقاط الدية عنهم، لكنه ليس امتناناً على الشعب.

وكذا لو قتل شخصاً مضطراً، فرفع الدية خلاف الامتنان على المقتول.

الثمرة الثالثة: لو أكره القاضي المديون المماطل على بيع ملك من أملاكه، فلا ترفع صحة البيع بحديث الإكراه؛ لأنه خلاف الامتنان على الأمة في هذا المورد، ونظيره فيما لو أكره الحاكم المحتكر في عام المجاعة على بيع الطعام، فالقول ببطلان البيع لكونه مرفوعاً بالإكراه خلاف الامتنان.

الثمرة الرابعة: لو أكرهه على ضرب شخص، وإلا ضربه أو قتله، فالقول

ص: 303

برفع الحرمة للإكراه خلاف الامتنان فلا يرفع.

الثمرة الخامسة: ما ذكره المحقق العراقي(1) من أنَّ الحديث الشريف لا يشمل موارد الاضطرار والإكراه والجهل بسوء الاختيار، مثلاً: لو علم أنه إن ذهب إلى بيت عمرو لأكرهه على الإفطار، فالإكراه الناشئ عن سوء الاختيار لا يرفع وجوب القضاء والكفارة، وكذا في الإلجاء.

وكذا لو علم بأنه يضطر إلى شرب الماء لو ذهب إلى الصحراء، فلو فعل لم يسقط عنه وجوب الكفارة.

وقال في مقام بيان العلة: إذ عدم رفع الحكم في حق من يلقي بنفسه في الاضطرار ليس على خلاف الامتنان(2).

لكن التعليل غير واضح: ففي المقام قضيتان: الأولى: عدم رفع الحكم ليس على خلاف الامتنان، لكنها ليست ملاك الرفع في حديث الرفع، فلا يصح التعليل بها، بل الملاك حسب ظاهر حديث الرفع القضية الثانية، وهي: أن يكون رفع الحكم امتناناً.

وفي المقام رفع وجوب الكفارة عمّن ألقى بنفسه في الاضطرار امتنان - كما أن رفع العقوبة عن العاصي امتنان وإن استحق العقاب، بل تبدل سيئاته إلى حسنات: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}(3) - مع أن عدم الرفع ليس على خلاف الامتنان، فلو لم يرفع المولى الكفارة عنه لكان مستحقاً،

ص: 304


1- نهاية الأفكار 3: 218.
2- نهاية الأفكار 1-2: 319.
3- الفرقان: 70.

ولم يكن ذلك خلاف الامتنان.

فالتعليل المذكور لا يخلو من تأمل، فإنه وإن لم يكن خلاف الامتنان لكن رفع الحكم في حقه امتنان، والثاني هو ملاك حديث الرفع لا الأول.

وهنالك ثلاثة طرق لعدم شمول حديث الرفع لمن ألقى بنفسه في الاضطرار:

الأول: ما سلكه بعض المتأخرين واعتمد عليه قال(1): المؤاخذة بحسب الحقيقة على الإيقاع في الاضطرار؛ إذ التكليف يسقط من حينه، والحديث يرفع المؤاخذة على ما ينطبق عنوان الاضطرار عليه، فالإفطار اضطراري، لكن الإلقاء في الاضطرار اختياري، فيكون الأخذ والمؤاخذة على الثاني لا على الأول.

لكنه محل تأمل؛ لما ثبت في محله من عدم حرمة مقدمة الحرام، سواء كانت علة تامة للوقوع فيه، أم لم تكن.

وبعبارة أخرى: من ألقى بنفسه من شاهق فمات، ففي المؤاخذة احتمالات ثلاثة: الأول: أن تكون في المقام مؤاخذتان على الإلقاء والقتل، الثاني: المؤاخذة على الإلقاء لا القتل، الثالث: المؤاخذة على القتل لا الإلقاء.

وظاهر الدليل أن الحرام قتل النفس لا المقدمة.

إن قلت: قتل النفس غير اختياري ولا عقاب إلاّ مع الاختيار.

قلت: الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار كما أنّ الامتناع بالاختيار لا

ص: 305


1- بحوث في علم الأصول 5: 53.

ينافي الاختيار، وجامعهما ما بالاختيار لا ينافيه، فقتل النفس وإن لم يكن بالاختيار مباشرة، لكن في اختيارية الفعل يكفي اختيارية مقدماته، فمثلاً: لو أمر المولى بالنظر فهل يمكن القول بعدم مطلوبيته؛ لأنه غير اختياري؟ كلا فإنه مطلوب؛ لأن مقدمته وهي فتح العين اختيارية، فيكون النظر اختيارياً.

ولو قال المولى: أضئ الغرفة فهو غير اختياري، لكن مقدمته اختيارية فيكون اختيارياً.

وكذا الأمر في (أحرق الورقة) فالإحراق غير اختياري ؛ لأنه فعل النار، ولكن حيث إنّ المقدمة اختيارية يكون نفس الإحراق اختيارياً.

وعليه، فقتل النفس اختياري، فتصح المؤاخذة عليه.

إن قلت: الخطاب ساقط عند الإلقاء.

قلت: هوكذلك، فحينما ألقى بنفسه من شاهق سقط الخطاب، لكونه لغواً ولا باعثية فيه، لكن يكفي الخطاب المتقدم على الإقدام، فيقول المولى: لقد عصيت ذلك الخطاب، فقبل الإلقاء نهى المولى عن قتل النفس، وحين الإلقاء يسكت المولى و يعاقبه على مخالفة الخطاب المتقدم.

فما سلكه(1) من العقاب على الإلقاء الاختياري لا القتل الاضطراري غير تام، فإن الإلقاء الاختياري ليس محرماً حتى يعاقب عليه.

الطريق الثاني: أن يقال بخروج مورد الاضطرار بسوء الاختيار عن مفاد حديث الرفع تخصصاً؛ لأنّ الاضطرار المرفوع هو الاضطرار إلى المحظور في تمام أزمنة التكليف، لا الاضطرار في زمان الأداء والإتيان، وهو ليس

ص: 306


1- بحوث في علم الأصول 5: 53.

بصادق في موارد الاضطرار بسوء الاختيار، فقبل أن يذهب إلى الصحراء لم يكن مضطراً للإفطار، وملاك رفع الاضطرار هو الاضطرار المستوعب لكل الوقت.

وبعبارة أخرى: مفاد حديث الرفع رفع الاضطرار المستوعب لتمام زمان التكليف، وهو لا ينطبق على المقام.

الطريق الثالث: أن يقال: إنّ حديث الرفع منصرف عرفاً عن موارد الاضطرار بسوء الاختيار، وكأن الارتكاز عند العرف أن مثله لا يستحق الامتنان، فهو مقيد لبي متصل لإطلاق حديث الرفع.

وبعبارة بسيطة: نحن نشك في شمول إطلاق حديث الرفع، أو نقول بالانصراف عنها.

والحاصل: إنَّ حديث الرفع لا يشمل موارد الاضطرار بسوء الاختيار؛ لأحد البيانات المتقدمة.

الثمرة السادسة: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) (1)، وهو: إنّ الرفع قد لا يكون منة على الفاعل، كما لو أخطأ المريض وصام، فإن جعل صومه الخطئي كلا صوم في عدم ترتب الأثر عليه خلاف الامتنان، ولذا أفتى الفقهاء بترتب الأثر على مثل هذا الصوم، وكذا بالنسبة إلى الوضوء والغسل الضررين.

والمقدمة تامة، فلو قال المولى: إنني أرفع الأثر عن الصوم امتناناً عليك، فهذا خلاف الامتنان، فمن صام شهراً كاملاً ثم انكشف أنه كان ضررياً

ص: 307


1- الوصول 4: 263.

فيمتن عليه المولى بالبطلان ووجوب القضاء، فهو خلاف الامتنان.

لكن النتيجة المرتبة عليها بقوله: (ولذا أفتى...) تحتاج إلى تأمل، فلو فرض أنّ الضرر كان مبغوضاً للمولى، كما لو أصيب بالعمى، فهل يعقل أن يكون عبادة مقربة إليه؟!

ولا نقول برفع الوجوب لحديث الرفع، بل لفقدان الشرط، فالصوم الضرري المبغوض لا يعقل أن يكون مقرباً ومحبوباً فيكون باطلاً.

والمسألة بحاجة إلى تأمل أكثر.

ولهذه الثمرة تكملة تطلب من مباحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، ومباحث الصلاة في الدار المغصوبة جهلاً بالموضوع.

5) اشتراط ترتب الأثر على فعل المكلف

البحث الخامس: يشترط في شمول حديث الرفع ترتب الأثر على فعل المكلف بما هو فعل المكلف، ففي الفقه موارد لا يشملها حديث الرفع مع انطباق أحد العناوين عليها، فما هو وجه خروجها عن هذا العموم؟

كما لو تحققت ملاقاة النجاسة إكراهاً أو نسياناً أو اضطراراً، فلا ترفع نجاسة الملاقي بحديث الرفع، وهكذا لو حصل الإدخال بالإكراه حيث لا ترفع الجنابة التي هي أثره.

الخروج التخصصي

حاول بعض الفقهاء(1) إثبات الخروج التخصصي لهذه الموارد من مفاد الحديث.

ص: 308


1- فوائد الأصول 3: 351-352.

بيانه: الحديث الشريف ناظر إلى الآثار المترتبة على فعل المكلف بما هو فعل للمكلف، فيرتفع ذلك الأثر المترتب على فعل المكلف مع طرو أحد العناوين التسعة، ولكن لو لم يكن الأثر مترتباً على فعل المكلف، بل كان مترتباً على تحقق الشيء في الخارج كيفما اتفق، فلا يشمله حديث الرفع، كنجاسة الملاقي، فهي ليست مترتبة على فعل المكلف، بل على تحقق الملاقاة في الخارج بأي وجه تحققت ولو بإطارة الريح مثلاً.

وعليه: لشرب الخمر أثران: الحرمة والنجاسة، فمن شرب الخمر إكراها ترتفع عنه الحرمة المترتبة على شرب الخمر الذي هو فعل المكلف، بما أنه فعل المكلف، لكن نجاسة ظاهر الفم، والتي لم تترتب على فعل المكلف، بل على تحقق الملاقاة في الخارج غير مرتفعة.

قال بعض المحققين(1): ولا بأس بهذا التخريج.

النقض على الخروج التخصصي

لكن هذا التخريج لا يقطع مادة الإشكال؛ لوجود موارد في الفقه رتب الأثر على فعل المكلف، بما هو فعل المكلف، ومع ذلك لا يرفع حديث الرفع آثارها، مثل حكم مس الميت، ففي صحيحة محمد بن مسلم: «فإن مسسته بعد ما برد فعليك الغسل»(2) فوجوب الغسل مرتب على فعل المكلف، ومع ذلك لو حصل المس بلا اختيار وجب على الماس غسل الميت.

والذي يمكن أن يقال في المقام ويقع به الصلح بين الطرفين، أنَّ عندنا

ص: 309


1- بحوث في علم الأصول 5: 55.
2- مستدرك الوسائل 2: 491.

مقامين: مقام الثبوت والواقع، والملاك كما ذكر، فلو كان الأثر مرتباً ثبوتاً على فعل المكلف ارتفع بحديث الرفع، لكن لو كان مرتباً على وقوع الشيء في الخارج كيفما اتفق لم يرتفع، وأما في مقام الإثبات فيمكن ترتب الحكم على فعل المكلف في ظاهر اللفظ، لكن لا موضوعية له بالنسبة إلى الأثر، وإنما جعل موضوعاً في الدليل؛ لأنه طريق إلى تحقق الموضوع الواقعي، فلو كان كذلك لم يرتفع بحديث الرفع.

إن قلت: ما هو الدليل على عدم كونه موضوعاً في الواقع وإنما هو طريق إلى الموضوع؟

قلت: الدليل ارتكاز المتشرعة أو العرف أو الأدلة الخارجية، ففي بحث الدخول علقت الأدلة وجوب الغسل على الإيلاج، لكن ارتكاز المتشرعة على أنه ليس موضوعاً للحكم، وإنما أخذ موضوعاً باعتباره طريقاً إلى الموضوع الواقعي وهو الولوج، وبعبارة أخرى: ليس المصدر موضوعاً، وإنما اسم المصدر، فلو تحقق بلا اختيار ترتب عليه الأثر.

ويستفاد من أدلة مس الميت - بالقرائن الداخلية والخارجية - أنّ المس بالاسم المصدري هو الموضوع لا المصدري، فلم يرتب الحكم واقعاً على فعل المكلف، بل على تحقق الشيء في الخارج.

التأمل في كلمات القوم

ومما ذكرنا يظهر التأمل في بعض الكلمات في المقام.

قال في العروة(1): الثاني مما يتحقق به الجنابة الدخول ولا فرق في ذلك

ص: 310


1- العروة الوثقى 1: 498-499.

بين الاختيار والاضطرار.

وقال في شرح العروة(1): كل ذلك للإطلاق.

لكنه محل تأمل؛ لارتفاع الإطلاق بالاضطرار، فجميع الأدلة الأولية المطلقة ترفع بالاضطرار، فلماذا لا يرفع في هذا المورد؟

وقال في المستمسك(2): يقتضيه إطلاق الأدلة، وحديث رفع الاضطرار لا يقيده ؛ لظهوره في رفع قلم المؤاخذة، فلا يقتضي رفع عامة الأحكام.

وفيه تأمل لما سبق من أنّ متعلق حديث الرفع عامة الأحكام، كما يرفع الإكراه الصحة في البيع الإكراهي لحديث الرفع وغيره من الأدلة.

وقال السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه(3): وذلك لإطلاق الأدلة، واحتمال عدم الوجوب على المضطر لأدلة نفي الاضطرار مردود بأنَّ المنفي بالاضطرار التكليف لا الوضع.

وفيه: أنّ الإطلاق مرفوع بحديث الرفع كسائر الإطلاقات.

ويمكن القول: إنَّ حديث الرفع عام يشمل المؤاخذة والأحكام التكليفية والوضعية، ويدل عليه ما ذكرناه من حديث البزنطي، حيث رفع أثر الطلاق للإكراه.

فلابد من توجيه المطلب بهذا البيان: فإنه وإن رتب الأثر في لسان الدليل على فعل المكلف؛ لأن اللفظ في الأدلة الإيلاج، لكن يستفاد من ارتكاز

ص: 311


1- شرح العروة الوثقى 6: 265.
2- مستمسك العروة الوثقى 3: 21.
3- الفقه 9: 414.

المتشرعة أنّه لا موضوعية له، وإنما هو طريق غالبي لتحقق الموضوع الواقعي وهو الولوج، فإذا تحقق الموضوع الواقعي يتحقق الأثر، وعهدة تشخيص كون الموضوع اللفظي طريقاً إلى الموضوع الواقعي على الفقه.

الشك في الموضوع الواقعي

قد يقع الشك في بعض الموارد لاختلاف الاستظهار في أنّ ما أخذ في الدليل اللفظي هل هو الموضوع الواقعي أو أنه طريق إليه؟ كما في مسألة حرمة أم المفعول وبنته وأخته على الفاعل، حيث قال صاحب العروة: «من لاط بغلام فأوقب ولو بعض الحشفة حرمت عليه أمه أبداً وإن علت، وبنته وإن نزلت، وأخته... والظاهر عدم الفرق بين أن يكون عن علم وعمد واختيار أو مع الاشتباه، كما إذا تخيله امرأته أوكان مكرهاً»(1).

قال في المستمسك: «للإطلاق المعتضد بإطلاق الفتاوى»(2).

لكنّ السيد الوالد (رحمه اللّه) يرى أنّ: «النص منصرف إلى العلم والعمد، كما في كل فعل ينسب إلى الفاعل بدون قرينة على إرادة العموم، كما في قوله تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ}(3)، وقوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}(4)، وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}(5) هذا بالإضافة إلى حديث الرفع. نعم، لا

ص: 312


1- العروة الوثقى 5: 527.
2- مستمسك العروة الوثقى 14: 165.
3- المائدة: 32.
4- النور: 2.
5- المائدة: 38.

شك أنّ الاحتياط الاجتناب»(1).

أقول: لو خلينا وأنفسنا فظاهر أخذ عنوان في موضوع أنه هو الموضوع، لا أنه طريق إليه.

ففي المقام يمكن أن يقال: إنه لا دليل على كونه طريقاً إلى الموضوع، بل هو الموضوع واقعاً، وعليه يرتفع الأثر بالخطأ والنسيان، بخلاف الجنابة، فالثابت أنّه لا فرق فيها بين الاختيار والاضطرار، فمن أجنب في النوم تترتب عليه الجنابة قطعاً، ووردت به النصوص، فيكون قرينة على أنّ الأثر أثر الخروج.

ولم لم نقبل بهذا التخريج وقلنا: إنّ الحديث مطلق يرفع تمام الآثار، سواء أكانت آثار فعل المكلف أم آثار وقوع الشيء في الخارج للزم القول بخروج هذه الموارد تخصيصاً في حديث الرفع لا تخصصاً، فحديث الرفع يرفع تمام الآثار لكن خرجت منه النجاسة عند الملاقاة الإكراهية بالإجماع، كما هو رأي المحقق النائيني وتبعه السيد الوالد، ولولا الدليل الخارجي لقلنا بعدم النجاسة في الملاقاة، وعدم الجنابة في الإدخال، وعدم وجوب الغسل بمس الميت، كل ذلك إذا كان إكراهاً، فالأمر يدور بين التخصيص والتخصص.

6) شمول حديث الرفع للأمور العدمية وعدمه

البحث السادس: في شمول حديث الرفع للأمور العدمية وعدمه.

وتنقيح محل البحث: إنّ عناوين الإكراه والاضطرار والنسيان تارة تتعلق

ص: 313


1- الفقه 63: 117.

بالأمور الوجودية، كتعلق الإكراه بالطلاق، والاضطرار بالإفطار في شهر رمضان، ولا شك أنّ حديث الرفع يشمل هذه الموارد ويرفع الأثر، وتارة تتعلق بالأمور العدمية، فهل أنّ حديث الرفع يتكفل رفع آثارها أم لا؟

ثمرة البحث

وتظهر الثمرة في مقامين:

الأول: في باب الحنث في اليمين والنذر والعهد، فلو نذر أن يصلّي صلاة الليل فنسي، أو أن يشرب ماء الفرات فأكره على تركه، فأثر الترك في حد ذاته وجوب الكفارة، فهل يشمله حديث الرفع للنسيان فيرتفع عنه الأثر؟

الثاني: وفيه ثمرة مهمة: فيما لو ترك جزءاً أو شرطاً مما يشترط في العبادة - نسياناً - فلو شمل الحديث الأمور العدمية فالأثر مرفوع والصلاة صحيحة، وإلا فلا بلحاظ حديث الرفع، ولا بد من البحث عن طرق أخرى لتصحيح العبادة الفاقدة.

نظرية المحقق النائيني (رحمه اللّه)

ذهب المحقق النائيني (رحمه اللّه) (1) إلى أنّ حديث الرفع لا يشمل الأمور العدمية، فتجب الكفارة وتبطل العبادة بلحاظ حديث الرفع بغض النظر عن الأدلة الأخرى.

ووجهه: إنَّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود، فالطلاق الإكراهي الواقع نزل منزلة المعدوم، لا أن عدم شرب الماء الفرات نزل منزلة الموجود، وبعبارة أخرى: حديث الرفع

ص: 314


1- فوائد الأصول 2: 352.

متكفل للرفع لا للوضع.

إشكالات على نظرية المحقق النائيني (رحمه اللّه)

وأورد عليه بإيرادات:

1- العدم المضاف له حظ من الوجود في عالم التكوين

الإيراد الأول: هنالك نوعان من العدم: العدم المطلق والعدم المضاف، أما العدم المطلق فهو محض البطلان والهلاك واللاشيئية المحضة، وأما العدم المضاف، أي العدم الذي أضيف إلى الوجود، فله حظ من الوجود، والدليل عليه أنَّ الأعدام المضافة تتميز بعضها عن بعض، فعدم زيد يتميز عن عدم عمرو، والإنسان يفرح لعدم المرض ويحزن لعدم المال، فعدم المال يختلف عن عدم المرض، هذا على نحو الكبرى الكلية.

وأما الصغرى في خصوص المقام: فلا معنى لإكراه المكره على العدم المحض، بل الإكراه على العدم المضاف، كعدم شرب ماء الفرات، فالمكره عليه أو المنسي له حظ من الوجود، ويكون المرفوع بحديث الرفع أمراً وجودياً لا عدمياً.

والحاصل: التسليم بالمبنى وأنَّ الرفع لا يتعلق بالأمور العدمية، لكن هذه الأعدام المضافة موجودة، فتعلق الرفع بأمر موجود.

لا فرق بين العدم المطلق والعدم المضاف

لكنه لا يخلو من تأمل؛ لما ثبت في محله من مباحث الوجود والعدم من عدم الفرق بين العدم المحض والعدم المضاف في أنه لا حظ لهما من الوجود، فالعدم عدم ولا شيئية وبطلان، وإنما الذي له حظ من الوجود هو

ص: 315

المضاف إليه، فالعين لها حظ من الوجود، أما عدم العين فلا حظ له؛ لأنه عدم، وإلا فلا بد من القول بوجود مليارات من الوجود في كل مكان؛ لوجود عدم زيد وعدم عمرو، وعدم مليارات الأشياء الأخرى، بل إلى ما لا نهاية له.

ووجداناً العدم عدم، وهو لا شيء فكيف يكون شيئاً، فاعلاً أو منفعلاً أو مؤثراً أو متأثراً أو علة أو معلولاً؟

ما ليس موجوداً يكون ليسا***قد ساوق الشيء لدينا الأيسا(1)

لا ميز في الأعدام من حيث العدم***وهو لها إذاً بوهم ترتسم

كذاك في الأعدام لا علية***وإن بها فاهوا فتقريبية(2)

فلا يعقل أن يولد العدم - الذي هو لا شيء محض - معلولاً، ولا يعقل أن يولد البطلان بطلاناً.

2- العدم المضاف له حظ من الوجود في عالم التشريع

الإيراد الثاني: ما أفاده بعض المعاصرين(3) قال: نسلم أنَّ العدم المضاف لا وجود له، لكن ذلك في عالم التكوين، وأما في عالم التشريع فله وجود.

ولذا يكون موضوعاً للآثار في حالة العمد، كوجوب الكفارة فيمن ترك شرب ماء الفرات عمداً، وقد نذر أن يشربه، فهذا الأثر أثر العدم، وله وجود في عالم التشريع، وكيفية وجوده أنه موضوع لأحكام شرعية، وكذلك الأمر

ص: 316


1- شرح المنظومة 2: 182.
2- شرح المنظومة 2: 191.
3- محاضرات في أصول الفقه 46: 8.

في صورة النسيان.

والظاهر أنّ هذا الجواب يطابق - في بادئ النظر - ما ذكره المحقق العراقي، وإن كان في عباراته شيء من الاضطراب صدراً وذيلاً.

قال: «فرق واضح بين قلب الوجود بعدم ذاته وتنزيله منزلته وبالعكس، وبين قلب أخذه موضوعاً للحكم بعدم أخذه في مرحلة تشريع الحكم وخلو خطاباته عنه، والإشكال المزبور إنما يرد على الأول دون الثاني، وما يقتضيه بحديث الرفع إنما هو الرفع الثاني دون الأول»(1) فليس مفاد حديث الرفع قلب الوجود إلى العدم أو قلب العدم إلى الوجود، أو تنزيل الوجود منزلة العدم، بل مفاده أنّ ما أخذ موضوعاً في الحكم لا يؤخذ موضوعا له بحديث الرفع، أي يسلب موضوعية الموضوع، وهذا لا يفرق فيه بين كون الموضوع أمراً وجودياً أو عدمياً.

وقال في ضمن بعض عباراته: «إنّ مرجع رفعه إلى رفع الأثر المترتب على هذا العدم، الراجع إلى عدم أخذه موضوعاً للحكم»(2).

لكنه لا يخلو من تأمل: لإمكان دعوى كون متعلق الرفع في الحديث ذات هذه الموضوعات لا موضوعية هذه الموضوعات، فذات الموضوع - أي الموضوع بما هو هو - غير موضوعية الموضوع، أي الموضوع بما هو موضوع(3).

ص: 317


1- نهاية الأفكار 3: 219.
2- نهاية الأفكار 3: 219.
3- كما أن العالم بما هو هو يعني زيد، والعالم بما هو عالم يعني العالم.

والرفع للفعل الخارجي والترك الخارجي - كالطلاق إكراهاً وترك شرب ماء الفرات نسياناً - ظاهر في رفع الذات، أي الطلاق، لا أنه محو لموضوعيته من سجل عالم التشريع، كما هو الحال في لا ضرر.

والفرق بينهما أن الرفع يكون حقيقياً فيما لو رفع موضوعية الموضوع، وأما لو رفع ذات الموضوع لا بما هو موضوع فهو رفع ادعائي، مثل: (لا ربا بين الوالد وولده)، ومفاده اعتبار الربا الخارجي كلا ربا، وأنه غير واقع، فهو رفع ونفي ادعائي.

وليس مفاد حديث الرفع الرفع الحقيقي المتقوم برفع موضوعية الموضوع عن سجل التشريع؛ لأنه لم يجعله موضوعاً لأثر، ومع رفع المحمول يرفع الموضوع تكويناً من سجل التشريع، بل الرفع ادعائي، فالطلاق الواقع خارجاً مرفوع ادعاء، وهو كالعدم، كما استظهرناه فيما مضى.

فالجوب الثاني غير تام؛ لأنَّ مآله إلى الرفع الحقيقي، ومحو موضوع الحكم من سجل التشريع، وهو خلاف الظاهر.

3- الرفع إدعائي لا تنزيلي

الإيراد الثالث: ليس مفاد حديث الرفع التنزيل، بل مفاده الرفع الادعائي لما هو متقرر في الخارج.

فوزانه وزان النفي، ك- (لا ضرر) و (لا شك لكثير الشك) فالشارع يرفع ادعاء ما هو ثابت في الخارج، ولا فرق في المرفوع بالرفع الادعائي بين أن يكون أمراً وجودياً أو عدمياً.

ص: 318

وكما يصح تعلق الرفع بأمر وجودي، بأن يقول: الطلاق الإكراهي الواقع خارجاً اعتبره ك- (لا طلاق)، ومعناه أن الأثر المترتب على الطلاق لا يترتب على الطلاق الإكراهي، كذلك الأمر لو كان المكره عليه أمراً عدمياً، كترك شرب ماء الفرات، وقد تحقق العدم في الخارج، ولهذا العدم آثار، كوجوب الكفارة، فالشارع يعتبر العدم كأنه لم يتحقق في الخارج، وأثر هذا الرفع الادعائي رفع أثر الترك وهو وجوب الكفارة.

وعليه، لا مانع من تعلق الرفع بالأمر العدمي، ولا يكون وضعاً، بل رفع الترك بلحاظ رفع أثر الترك.

4- تعلق الرفع بالعناوين الوجودية

الإيراد الرابع: الرفع متعلق بالعناوين التسعة لا بالمعنون بها، ولكن تعلق الرفع بها لا بلحاظ ذاتها، وإنما باعتبار أن هذه العناوين مرآة للمعنونات الخارجية وطريق إليها. وهذه العناوين التسعة أمور وجودية.

نعم، يمكن أن يكون المرئي بها أمراً وجودياً، كالطلاق الإكراهي، أو أمراً عدمياً، كترك شرب ماء الفرات فيمن نذر، وعليه، ما تعلق به الرفع حقيقة نفس العنوان الوجودي، فالخطأ مرفوع وله مصداقان، أحدهما: وجودي، والآخر عدمي(1).

هذا تمام الكلام في البحث السادس.

ص: 319


1- إن قلت: الجهل أمر عدمي فلا يتم الجواب، قلت: الجهل في نظر العرف له حظ من الوجود، لا أنه أمر عدمي، ولذا لا يقال: الجدار جاهل، أي عدم الملكة، فهو في نظر العرف له حظ من الوجود لا عدم محض، وإن تم الإشكال فيما لا يعلمون فالجواب تام في غيره.
7) شمول حديث الرفع للتكاليف الضمنية

البحث السابع: إنّ التكليف يمكن أن يكون استقلالياً كوجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر، ولا إشكال في تعلق حديث الرفع بالتكاليف الاستقلالية، ولكن هل أنَّ حديث الرفع يشمل التكاليف الضمنية أم لا؟

الظاهر الشمول، للإطلاق أو العموم.

الأمر بالمركب بعد رفع التكليف الضمني

فلو أكره المكلف على ترك السورة في الصلاة، فرفع (ما استكرهوا) عليه يرفع الوجوب الضمني، ولكن هل يبقى الأمر بالباقي من المركب، مع قطع النظر عن الدليل الخارجي، كما في عدم تبعض الصيام وعدم ترك الصلاة، حيث لا تترك بحال كما هو المستفاد من أحاديث متفرقة(1).

نظرية عدم بقاء الأمر بالمركب

يرى السيد الخوئي عدم بقاء الأمر بالمركب، فلا يجب عليه الإتيان بالباقي. قال: «ولكن التحقيق عدم الوجوب إلا بدليل خارج؛ لأنَّ الأمر الضمني تابع حدوثاً وبقاء لأصل التكليف المتعلق بالمجموع... فإذا ارتفع التكليف بالمجموع للاضطرار كان التكليف ببقية الأجزاء محتاجاً إلى دليل آخر»(2).

مفاده: يفترض في المقام أمران:

الأول: الأمر بالمركب الواجد، الثاني: الأمر بالمركب الفاقد.

ص: 320


1- نهاية الأفكار 3: 454.
2- مصباح الأصول 2: 267.

أما الأول: فالأمر بالصلاة مع القراءة مرفوع قطعاً بحديث الرفع؛ لأنّ المفروض أنه مكره على ترك القراءة، فيكون الأمر بالمركب الواجد للجزء المضطر إليه غير موجود، لرفع الاضطرار إياه.

وأما الثاني: فلا دليل على الأمر بالمركب الفاقد.

وعليه، الأمر بالمركب ساقط لطرو الاضطرار أو النسيان على بعض الأجزاء أو الشرائط.

مناقشة النظرية المذكورة

ولكنه يحتاج إلى تأمل، ففي المقام دليلان:

الأول: الدليل المتضمن لوجوب المركب، كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}(1)، وقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}(2).

الثاني: الدليل المتكفل بجزئية الجزء وشرطية الشرط، كقوله(عليه السلام): «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»(3) وهو مطلق يشمل حالة الجهل والعلم والنسيان والتذكر والإكراه وعدمه، وحديث الرفع ينظر إلى الدليل الثاني ويخصصه أو يقيده؛ لأن المضطر إليه جزء، فتكون فاتحة الكتاب مرفوعة بحديث الرفع.

ووزانه وزان التخصيص المتصل لدليل الجزئية، فلو قال المولى: (صلَّ) ثم قال: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب في حال الاختيار) لكان مفاد الدليل

ص: 321


1- الإسراء: 78.
2- آل عمران: 97.
3- مستدرك الوسائل 4: 158.

الثاني الجزئية في حالة الاختيار، فلا جزئية في الاضطرار، فوزان الرفع المنفصل وزان الاستثناء المتصل.

فكما أن الاستثناء المتصل يخصص الجزئية بحالة الاختيار، كذلك حديث الرفع، غاية الأمر أنَّ هذا استثناء متصل وذاك استثناء منفصل، فلم يجعل حكم جزئية السورة في حالة الاضطرار، ويتكفل الدليل الأول المتضمن للأمر بالمركب وافياً بالباقي، فلا نحتاج إلى الاستدلال لإثبات المدعى بالتمسك بالميسور، حتى يقال: إنّه لم يثبت، أو بأنّ الصلاة لا تترك بحال، حتى يقال: إنّه خاص بها.

والأمر بحاجة إلى تأمل أكثر.

مباحث في (ما لا يعلمون)
اشارة

وهنالك مباحث متعددة في خصوص (ما لا يعلمون) من حديث الرفع.

المبحث الأول: عموم الرفع للشبهات الحكمية والموضوعية

في عموم الرفع للشبهات الحكمية والموضوعية، وفي المقام احتمالات ثلاثة:

الأول: إنَّ (ما) الموصول خاص بالفعل الخارجي، بمعنى رفع فعل أو موضوع لا يعلمونه،كما لو لم يعلم أن المائع الخارجي خمر أو خل، فالرفع متعلق بالموضوع الخارجي المجهول، فيكون الحديث خاصاً بالشبهات الموضوعية، التي يكون المنشأ فيها اختلاط الأمور، وإبهام الواقع الخارجي.

الثاني: المراد بالموصول خصوص الحكم، بمعنى (حكم لا يعلمونه) فالحرمة المجهولة لشرب التتن مرفوعة، فيكون الحديث خاصاً بالشبهات الحكمية.

ص: 322

الثالث: أن يكون الموصول عاماً للشبهات الحكمية والموضوعية.

1) أدلة اختصاص حديث الرفع بالشبهات الموضوعية

أما الاحتمال الأول: فقد استدل عليه بأدلة:

الدليل الأول: وحدة السياق

فقد تكرر الموصول في الحديث الشريف أربع مرات.

فالمراد من (رفع ما اضطروا إليه) الفعل الخارجي، يعني شرب الخمر، ولا معنى للاضطرار إلى الحكم، بأن يقال: إنه مضطر إلى الوجوب أو التحريم، وكذلك (رفع ما أكرهوا عليه) فمتعلق الإكراه الفعل الخارجي، ولا معنى للإكراه على الحكم، وكذلك (رفع ما لا يطيقون) أي: فعل لا يطيقونه، فالسياق يدل على أن المراد بالموصول في (ما لا يعلمون) الفعل الذي لا يعلمونه، أي الفعل المبهم والمجهول الحال لا الحكم المبهم.

فالموضوع الخارجي - ما لا يعلم أنه خل أو خمر - مرفوع بلحاظ رفع حكمه.

وأجيب عنه بوجوه:

الوجه الأول: التفكيك في المراد من اللفظة الواحدة المتكرّرة ضار بوحدة السياق إذا كان في مرحلة الإرادة الاستعمالية، والتفكيك في المقام في مرحلة الإرادة الجدية.

توضيحه: في الكلام إرادتان: الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية، والتفكيك بين فقرات الكلام الواحد مخل بالظهور السياقي إذا كان في مرحلة الإرادة الاستعمالية،

ص: 323

فإن أُريد بأحد الدالين شيء بالإرادة الاستعمالية، وأريد بالدال الآخر شيء آخر فهو خلاف الظاهر، ولكن لو كان التفكيك بلحاظ الإرادة الجدية للمتكلم فهو ليس خلاف الظهور السياقي للكلام.

وما نحن فيه من قبيل الثاني؛ لأن الإرادة الاستعمالية متحدة في جميع الفقرات، فالموصول وضع لمعنى مبهم يرادف الشيء، فالمراد من (رفع ما) يعني رفع شيء أكرهوا عليه أو اضطروا إليه أو لا يطيقونه. نعم، بلحاظ مرحلة الإرادة الجدية فإنّ مراد المولى من بقية الفقرات هو الموضوع، ومن خصوص (ما لا يعلمون) الأعمّ من الحكم والموضوع.

فلا تفكيك في مرحلة الإرادة الاستعمالية، وإنما استعمل اللفظ فيما وضع له لغة، والاختلاف والتفكيك في مرحة الارادة الجدية، وهو لا يضر بالظهور السياقي للكلام.

والحاصل: لو كان التفكيك في مرحلة الإرادة الاستعمالية فهو مخل بالظهور السياقي، أما لو كان في مرحلة الإرادة الجدية فلا، والمقام من قبيل الثاني.

وأورد عليه في المنتقى(1) بإيرادين:

الأول: عدم وضوح المدعى، فإن التفكيك بين التفكيكين غير واضح، ولم يقم عليه برهان.

الثاني: سلمنا التفكيك بين التفكيكين، لكن التفكيك في حديث الرفع أنما هو في الإرادة الإستعمالية لا الجدية، فإنّ القرينة المنفصلة لا تؤثر في مرحلة الإرادة الاستعمالية بخلاف القرينة المتصلة، وفيما لا يطيقون وما

ص: 324


1- منتقى الأصول 4: 392.

اضطروا إليه وما أكرهوا عليه وإن كان الموصول من ألفاظ العموم، ويرادف الشيء(1)، إلا أن الصلة لو كانت خاصة لأخلت بالعموم، فلا يمكن تحقق (الإكراه) على الحكم، بل متعلقه الموضوع الخارجي، فهذه الصلة تتصرف في عموم الموصول، وتفيد أن المراد في مرحلة الإرادة الاستعمالية من الموصول خصوص الموضوع لا الأعم.

وبعبارة مختصرة: حيث إنَّ القرينة متصلة فهي تتصرف في الإرادة الاستعمالية أيضاً. وعليه، يكون المراد بالإرادة الاستعمالية في الثلاثة الموضوع، والقول: إنَّ المراد من الموصول في (ما لا يعملون) الأعم يستلزم التفكيك والإخلال بالظهور السياقي، فلا بد من القول: إنّ (ما لا يعلمون) خاص بالموضوع حفاظاً على الظهور السياقي.

الوجه الثاني: التفكيك في المراد من الموصول في المقام ليس في مرحلة الإرادة الجدية أو الاستعمالية، بل التفكيك في المصاديق الخارجية، وهذا المقدار لا يخل بوحدة السياق.

وهذا الوجه كما يرد على أصل الإشكال يتضمن التأمل في جوابي المنتقى.

توضيحه: إنَّ التفكيك في السياق واختلاف الدالين يمكن أن يفترض على ثلاثة أنواع:

النوع الأول أن يفترض اختلاف الدالين في المدلول الاستعمالي، كما في باب الالتفات والذي يعتبر من المحسنات البلاغية:

ص: 325


1- ولا أعم من مفهوم الشيء كما يقول الفلاسفة.

وللغزالة(1) شيء من تلفته***ونورها من ضيا خديه مكتسب(2)

فقد اختل الظهور السياقي؛ لأنَّ الغزالة استخدمت في المصرع الأول بمعنى الحيوان المعروف، وفي الثاني بمعنى الشمس، فهذا التفكيك يرتبط بمرحلة الإرادة الاستعمالية؛ لأنَّ المتكلم استعمل اللفظ بمعنيين، وهو خلاف الظهور السياقي؟

النوع الثاني: التفكيك في مرحلة المدلول الجدي، كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}(3) فاختلف السياق؛ لأنَّ المراد الجدي من (المطلقات) العموم، والمراد الجدي ببعولتهن خصوص المطلقات الرجعيات، فحصل التفكيك في المراد من المطلقات في السياق الواحد، فإنّ إرادة الخاص من العام لا يرتبط بمرحلة الإرادة الاستعمالية، كما هو ثابت في محله، بل المراد الاستعمالي هو هو، ولذا لا يستلزم المجازية من التخصيص، لكن يعرف من القرائن الخارجية أنَّ الإرادة الجدية للمولى مختلفة عن الإرادة الاستعمالية، فالإرادة الجدية الخصوص، والإرادة الاستعمالية العموم.

النوع الثالث: عدم تحقق الاختلاف في مرحلة الإرادة الاستعمالية والجدية، بل الاختلاف والتفكيك في المصاديق، ولا شبهة في عدم

ص: 326


1- حيث يصف الممدوح بأنَّ التفاتة الغزالة بعينها عند النظر لاتقاس بالتفاتة عينه ونور الغزالة - بمعنى الشمس - مكتسبٌ من نور خديه.
2- خزانة الأدب: 54.
3- البقرة: 228.

الإخلال بالظهور أصلاً، ومعه ينتفي أصل الإشكال وجوابا المنتقى، حيث إنّه فرض التفكيك في مرحلة الإرادة الجدية أو الاستعمالية.

مثال لتوضيح المطلب: لو قال المولى: (احتط فيما تأكل وفيما تشرب) فهنا أربع مراحل: الوضع والإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية والمصداق الخارجي.

فالواضع وضع كلمة (ما) للشيء، وقد استخدمت في الموضوع له في مرحلة الإرادة الاستعمالية، ف- (ما تأكل) يعني الشيء الذي تأكله، فالإرادة الاستعمالية مطابقة للوضع اللغوي، والمراد في مرحلة الإرادة الجدية نفس المراد بالإرادة الاستعمالية(1). فلا تفكيك في هذه المراحل، بل التفكيك يتحقق في مرحلة المصداق، فمصداق (احتط فيما تأكل) الخبز، و (فيما تشرب) الماء، فالاختلاف في المصداق لا في معنى (ما).

مثال آخر: كما ورد في المصباح: «ما ترك زيد فهو لوارثه، وما ترك عمرو فهو لوارثه، وما ترك خالد فهو لوارثه»(2)، والمصداق الخارجي في الأول المال، وفي الثاني الأرض، وفي الثالث الشجر.

ولم يختل السياق فإن (ما) بمعنى (كل شيء تركه) منتهى الأمر الاختلاف في المنطبق عليه والمصداق الخارجي، ولا يلزم الوحدة فيه، وهو لا يرتبط بالوضع والإرادتين.

ص: 327


1- التفكيك بين المرحلتين يظهر فيما لو استخدمت كلمة عامة ك- (العلماء) وأريد به خصوص العلماء العدول، فالمراد بالإرادة الاستعمالية العموم وبالإرادة الجدية الخصوص.
2- مصباح الأصول 2: 260.

وفي المقام (ما اضطروا إليه) بمعنى كل شيء اضطروا إليه لغة، وإرادة استعمالية وإرادة جدية، وكذا الأمر في (ما اكرهوا عليه) و (ما لا يطيقون)، غاية الأمر أنّ مصداقها الأفعال لا الأحكام، وأما (ما لا يعلمون) فمصداقه الحكم والموضوع، والجامع بينها المجهولية.

وعليه، يرتفع إشكال اختلال السياق؛ لكون التفكيك في مرحلة المصداق لا في مرحلة المدلول الاستعمالي أو الجدي.

الوجه الثالث: ما ذكره بعض المعاصرين(1) تبعاً للمحقق العراقي(2) من أنه لا صلاحية لبعض أفراد التسعة أن يكون المرفوع فيها الحكم، كما في رفع الطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق والحسد، فإنّ المرفوع فيها الحكم لا الموضوع، وأما في الخطأ والنسيان فيمكن أن يكون المرفوع الحكم، كما يمكن أن يكون الموضوع.

فلا سياق واحد لحديث الرفع، فمتعلق الرفع في بعضها الموضوع كالاضطرار، وفي بعضها الحكم كالطيرة، وفي بعضها يحتمل الأمران كالخطأ والنسيان، فلا اضطرار لحمل (ما لا يعلمون) على رفع الموضوع المجهول للسياق.

لكنه محل تأمل: حيث لا مانع من تعلق الرفع في الطيرة والحسد والتفكر في الوسوسة في الخلق بالموضوع الخارجي؛ لما سبق من أنّ الرفع عنائي وتشريعي.

ص: 328


1- بحوث في علم الأصول 5: 40.
2- مقالات الأصول 2: 168.

نعم، لو كان الرفع تكوينياً لم يعقل تعلقه بالموضوع الخارجي، أما في المقام حيث الرفع عنائي ادعائي تشريعي فلا مانع منه، كقوله: (لا ربا بين الوالد وولده).

الوجه الرابع: ما ذكره المحقق العراقي(1) من أنّ حمل الموصول في (ما لا يعلمون) على الشبهات الموضوعية لوحدة السياق موجب لمخالفة السياق من جهة أخرى.

وحاصله: حصول التعارض بين السياقين: سياق يقتضيه نفس الموصول، ومقتضاه اختصاص رفع (ما لا يعلمون) بالشبهات الموضوعية، وسياق يقتضيه الوصف العارض، ومقتضاه اختصاص رفع (ما لا يعلمون) بالشبهات الحكمية؛ لأنّ المراد من الموصول في بقية الفقرات ما كان بنفسه معروض الوصف المأخوذ في الصلة، فالاضطرار والإكراه طارئ على نفس الفعل، أي شرب الخمر والطلاق، فالوصف المنتزع من الصلة وصف للفعل الخارجي بحاله لا بحال متعلقه، فنفس الطلاق موصوف بأنّه طلاق إكراهي، وشرب الخمر موصوف بأنه شرب مضطر إليه.

وأما لو حمل الموصول في (ما لا يعلمون) على الفعل الخارجي لكان مخالفاً للظهور السياقي؛ لأنه يكون وصفاً بحال المتعلق لا بحال نفسه، فالجهل لم يعرض على الفعل الخارجي، وهو شرب المائع المردد، وإنما عرض على عنوانه، أي شرب المائع الخارجي المجهول عنوانه، حيث لا يعلم أنَّ عنوانه شرب الخل أو الخمر، فليس الفعل مجهولاً، بل عنوانه

ص: 329


1- نهاية الأفكار 3: 215-216.

مجهول، أي رفع فعل لا يعلمون عنوانه، فاختل السياق؛ لأنَّ رفع (ما اكرهوا عليه) يعني رفع فعل أكرهوا على ذاته، أما في (ما لا يعلمون) فرفع فعل لا يعلمون عنوانه.

ومع حمل الموصول على الحكم يكون الوصف وصفاً بحال نفسه لا بحال متعلقه، حيث ترفع حرمة شرب التتن المجهولة بنفسها، أي رفع حكم لا يعلمونه، فالسياق محفوظ.

وبعبارة أخرى: الإكراه والرفع يتواردان على شيء واحد، وهو الطلاق، وكذا الاضطرار والرفع في شرب الخمر، فلو كان المرفوع في (ما لا يعلمون) هو الحكم لكان السياق محفوظاً، فمتعلق (ما لا يعلمون) هو الحكم، والمرفوع هو الحكم أيضاً، لكن مع اختصاصه بالشبهات الموضوعية لا يتوارد الرفع والجهل على شيء واحد، ويختل السياق؛ لكون الجهل متعلقاً بعنوان شرب الخمر في شرب المائع المردد كونه خمراً أو خلاً، والمرفوع نفس شرب الخمر.

والحاصل: لابد من اختلال السياق من إحدى الجهتين، حيث يتعارضان، والترجيح عرفاً مع ما ذكرناه من كون الوصف المنتزع من الصلة وصفاً بحال نفسه لا بحال متعلقه، لا أقل من الإجمال على أثر تعارض السياقين، فيكون المراد من الموصول مجملاً لا يعلم أنه الموضوع أو الحكم، ومعه لا يمكن الاستدلال بوحدة السياق لاختصاص رفع (ما لا يعلمون) بالشبهات الموضوعية.

ويظهر الجواب عنه من مطاوي كلمات النهاية، حيث قال: «إذا كان

ص: 330

المراد من الموصول هو الفعل فلا محالة ليس إلا موضوع الحكم، فإنه الذي يكون يرفع الحكم برفعه دون الفعل الذي ليس موضوعاً للحكم»(1).

توضيحه: في المقام عنوانان: شرب المائع وشرب الخمر، أما الأول: فليس موضوعاً للحكم حتى يرفع حكمه برفع الموضوع، والثاني: هو موضوع الحكم فيرفع الحكم برفع موضوعه.

وبعبارة واضحة: لا يقول المولى: شرب المائع المجهول عنوانه مرفوع، وإنما شرب الخمر المجهول كونه شرب خمر مرفوع. فما ذكره المحقق العراقي غير تام.

وبعبارة ثالثة: لو قال المولى: شرب المائع المجهول عنوانه مرفوع، لكان الرفع متعلقاً بالشرب والجهل بالعنوان، فلم يتوارد الرفع والجهل على شيء واحد، وهو خلاف سياق الحديث؛ لأنَّ ظاهره كون المرفوع عين ما طرأ عليه الوصف، لكن لو كان مفاد الحديث شرب الخمر المجهول - أي المجهول كونه شرب خمر - مرفوع توارد الرفع والجهل على شيء واحد، ولم يختل السياق.

فعندنا ثلاثة عناوين: شرب المائع المجهول عنوانه، وشرب الخمر، وشرب الخل.

وشرب المائع المردد إما أن ينطبق عليه شرب الخل فهو حلال، وإما أن ينطبق عليه شرب الخمر فشرب الخمر المجهول حلال أيضاً.

فتكون المنفصلة الحقيقة هكذا: إنَّ هذا المائع إما خل أو خمر، وعلى

ص: 331


1- نهاية الدراية 2: 437.

كل تقدير شرب هذا المائع المجهول الحال حلال.

أقول: يمكن قبول نتيجة ما ذكره المحقق الإصفهاني، لكن يرد على بيانه أنه لو كان مراده من الحكم، الحكم المحقق أمكن القول: إنَّ شرب المائع ليس موضوعاً للحكم، لكن لو قلنا: إنَّ الحكم أعمّ من الحكم المحقق والمقدر، فشرب المائع الخارجي المجهول العنوان محل الحكم المقدر، والشارع بحديث الرفع يرفع الحكم المقدر، ولا يلزم في الرفع أن يكون المرفوع محققاً بالفعل، بل للشارع أن يرفع الحكم الاقتضائي، كما في رفع القلم عن الصبي(1).

وعليه، فيمكن للمولى أن يرفع شرب المائع الخارجي المجهول العنوان - خلافاً لما ذهب إليه في النهاية من عدم الإمكان؛ لعدم كونه موضوعاً لحكم حتى يرفع - لما تقرر من أنَّ إطلاق الرفع أنما هو باعتبار وجود المقتضي للحكم، كما في رفع (ما لا يطيقون) حيث لا حكم محقق للفعل الذي لا يطيقونه حتى يرفعه الشارع، بل أمكن للشارع أن يحكم على (ما لا يطيقون) فلم يحكم، فعبر عنه بما لا يطيقون.

لكن نقرر البيان بما يلي: يقول الشارع شرب الخمر المجهول مرفوع، ونطبقه بنحو المنفصلة الحقيقية على شرب المائع الخارجي المجهول العنوان، فلا يلزم اختلال السياق، ويمكن مع انحفاظ وحدة السياق بلحاظ الوصف العارض أن نطبق رفع (ما لا يعلمون) على الشبهات الموضوعية،

ص: 332


1- فليس هذا حكم محقق، بل الرفع لوجود المقتضي أو سائر الوجوه التي مرت سابقاً، وهو في واقعه دفع على ما مضى من النقض والإبرام (منه (رحمه اللّه) ).

فما ذكره المحقق العراقي(1) - من عدم إمكان تطبيق حديث الرفع على الشبهات الموضوعية مع لحاظ انحفاظ وحدة السياق بلحاظ الوصف العارض - غير تام مع التخريج المذكور.

حجية السياق وعدمها

الوجه الخامس: ما أفاده في المنهاج(2) من عدم حجية السياق، بل يلاحظ إطلاق كل فقرة.

لكنه محل تأمل ؛ لوجود ثلاث حالات في السياق:

الأولى: أن يكون للسياق مدخلية في تكوين الظهور السياقي، ولا إشكال في حجيته ولا فرق في المنشأ، فلو كان السياق منشأ للظهور فهو حجة باعتبار حجية منشئه.

ونظيره ما ورد في حاشية المعالم(3)، حيث ذكر للأمر خمسة عشر معنى، ويستظهر كل مورد من السياق، فمع لحاظه تكون صيغة الأمر ظاهرة في الإباحة، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ}(4)، أو في التهديد، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}(5)، أو في التعجيز، كقوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ}(6)، أو التمني، كقول الشاعر:

ص: 333


1- نهاية الأفكار 3: 215.
2- منهاج الأصول 2: 28.
3- معالم الدين: 46.
4- المائدة: 2.
5- فصلت: 40.
6- البقرة: 23.

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي***بصبح وما الإصباح منك بأمثل(1)

وقد نقل عن السيد البروجردي في معنى (الجار ثم الدار) ضرورة ملاحظة السياق، فلو كان السياق حول الدعاء، كما في قضية السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) المروية عن الإمام المجتبى(عليه السلام) لكان له معنى، ولو كان السياق حول شراء الدار، لكان له معنى متفاوت، فالكلمة واحدة لكن السياق يسبب تعدد الظهور.

الثانية: أن يكون للسياق مدخلية في الإجمال السياقي، فيسقط الظهور ويصبح الكلام مجملاً، حيث للكلام ظهور في حد ذاته،لكن مع الاحتفاف بالسياق ينقلب الظهور إلى الإجمال،كما في الاستثناء المتعقب للجمل المتعددة، كقوله: (أكرم العلماء وأضف الخطباء واحترم التجار إلاّ الفساق) فعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة متيقن، وإلى ما قبلها مشكوك، ولذا قال جمع(2) بالعموم في ما قبل الأخير، بينما قال آخرون بالإجمال للاستثناء المتصل الصالح للقرينية.

الثالثة: غيرهما، ولا أثر للسياق فيها.

وعليه: لا يمكن القول: إنَّ السياق حجة مطلقاً أو غير حجة مطلقاً، وإنما السياق قد يكون مؤثراً في الظهور، وقد يكون مؤثراً في الإجمال، وقد لا يكون مؤثراً مطلقاً.

ولو كان مراده ما ذكرناه فنعم الوفاق.

ص: 334


1- غريب الحديث 1: 120؛ لسان العرب 11: 361.
2- معالم الدين: 121.

الدليل الثاني: كون متعلق الرفع أمراً ثقيلاً

يقتضي مفهوم الرفع أن يكون متعلقه أمراً ثقيلاً، هذا بعنوان الكبرى الكلية. وأما الصغرى: ففي مقام التكليف هنالك أمران: حكم المولى وفعل المكلف. والإنشاء الصادر عن المولى لا ثقل فيه على المكلف، بل الثقل في فعل المكلف، فيكون المرفوع هو الشيء الثقيل ، فيختص رفع (ما لا يعلمون) بالشبهات الموضوعية دون الحكمية.

ويمكن الجواب عنه بأجوبة:

الجواب الأول: ما في المصباح(1) قال: بما أنَّ الحكم سبب الثقل صح الإسناد إلى السبب، فالذي أوقع المكلف في الفعل الثقيل هو حكم المولى، فيمكن أن يقال: إنَّ حكم المولى ثقيل باعتبار أنه سبب للثقل، وبهذا الاعتبار يصح إسناد الفعل إلى الحكم.

وفيه: إنَّ تمامية الجواب مبتنية على القول بكون الإسناد إلى السبب إسناد حقيقي، ولا يمكن التسليم به على نحو الكبرى الكلية، فهل كل فعل نسب إلى فاعل حقيقة ينسب إلى سببه كذلك أم يكون الإسناد مجازياً؟ فمثلاً: يصح إطلاق (القاتل) على المباشر للقتل، لكن لا يصح ذلك فيما لو كان سبباً إلاّ على نحو المجاز والمسامحة.

الجواب الثاني: جواب نقضي ذكره بعض المعاصرين(2)، ما حاصله: لو كان ما ذكر تاماً لم يصح إسناد الثقل إلى الحكم مطلقاً، مع ورود ذلك في

ص: 335


1- مصباح الأصول 2: 261.
2- الهداية في الأصول 3: 270.

الذكر الحكيم، كما في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(1) فأسند الحرج إلى نفس الحكم مع كون الإطلاق حقيقياً، هذا في الرفع، وأما في الوضع، فقوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}(2)، فليس القول ثقيلاً، وإنما الثقل في متعلقه، ولا مجاز في الأمر.

وفيه: لو لم تتم الكبرى الكلية في الجواب الأول - وهي كل فعل يسند إلى الشيء، أو يوصف به الشيء على نحو الحقيقة يسند إلى سببه، أو يوصف به سببه على نحو الحقيقة - أمكن الالتزام بالنقض والقول بالمجازية؛ لعدم ثقل في القول والحكم الحرجي، بل الحرج في متعلقهما.

الجواب الثالث: بعد التسليم بأنّ الموصوف بالثقل المرفوع في الحديث هو الفعل لا الحكم، إلا أنه لا يلازم اختصاص الرفع بالشبهات الموضوعية؛ لوجود فعلين أو تركين في الخارج: ترك فعل اشتبه حكمه الجزئي، كترك شرب مائع لا يعلم أنه خمر أو خل، وترك فعل اشتبه حكمه الكلي، كشرب التتن، فالمولى بحديث الرفع يقول: إنني رفعت الفعل أو الترك الثقيل، سواء أكان حكمه الجزئي مشتبهاً أم الكلي، فالحديث يعم الشبهات الموضوعية والحكمية.

الجواب الرابع: لا دليل على ما ذكر في الكبرى الكلية من لزوم تعلق الرفع بالشيء الثقيل، فالإباحة ليست حكماً، ولو كانت حكماً فليست حكماً ثقيلاً، وللمولى أن يقول على نحو الحقيقة إنني رفعتها.

ص: 336


1- الحج: 78.
2- المزمل: 5.

لكنها مناقشة لا تخل بالنتيجة، فالإشكال وارد على الكبرى الكلية، لكن يمكن أن يقال في خصوص حديث الرفع: إنَّ المرفوع يلزم أن يكون أمراً ثقيلاً.

الدليل الثالث: الوضع مقابل الرفع

الوضع مقابل الرفع، وكما أنَّ متعلق الوضع الفعل - حيث يمكن أن يوضع الفعل على عهدة المكلف، ويمكن أن لا يوضع - فلا بد إن يكون متعلق الرفع أيضاً كذلك، فيكون المرفوع الفعل لا الحكم.

وأيده بعض المعاصرين(1) من استخدام (الوضع) في الآيات الكريمات فيما كان متعلقه فعلاً لا حكماً، كقوله تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(2)، فالموضوع وهو الرزق بالمعنى المصدري فعل الأب، وقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}(3)، مع أنَّ الصيام فعل المكلف، وقوله عز وجل: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}(4) والحج فعله، وقوله تبارك وتعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}(5).

وكذلك في الروايات الشريفة، كقوله(عليه السلام): «عليك القضاء»(6)، و «عليك الحج من قابل»(7).

ص: 337


1- بحوث في علم الأصول 5: 44.
2- البقرة: 233.
3- البقرة: 183.
4- آل عمران: 97.
5- البقرة: 184.
6- الكافي 3: 465؛ تهذيب الأحكام 3: 299.
7- الكافي 4: 379.

وكذلك الأمر في جميع موارد الوضع وما يرادفه ك- (كتب) و (اللام) في (و لله).

والجواب عنه: بأن الاستقراء غير تام، فقد استخدمت كلمة الرفع والوضع في فعل المولى أيضاً، كقوله: (رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم) فالمرفوع فعل المولى، وهو رفع الحكم والكتابة والعبارة حقيقية، وكذلك في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(1)، وقوله عز وجل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}(2).

الدليل الرابع: الإسناد المجازي يعين الاختصاص

إسناد الرفع إلى الحكم إسناد إلى ما وضع له، فيكون إسناداً حقيقياً؛ لأنَّ الحكم مما تتطرق إليه يد الجعل وضعاً ورفعاً، لكن إسناد الرفع إلى الموضوع إسناد لغير ما وضع له؛ لأنَّ الرفع والوضع للفعل الخارجي ليس بيد الشارع بما هو شارع. وفي سائر الفقرات المرفوع الفعل، فيكون إسناد الرفع إليها إسناداً مجازياً، ولو كان المرفوع في (رفع ما لا يعلمون) الحكم صار الإسناد حقيقياً، فيجتمع في الكلام الواحد الإسناد الحقيقي والمجازي.

وفي إمكان اجتماع الإسناد الحقيقي والمجازي في الكلام الواحد حالتان:

الأولى: أن تكون هنالك إضافتان لشيء واحد، ولا مانع من اجتماع الإسناد الحقيقي والمجازي، كما في قوله: (جرى الماء والميزاب) فللفعل

ص: 338


1- الحج: 78.
2- المزمل: 5.

الماضي إسنادان: إسناد إلى الماء وهو حقيقي، وإسناد آخر يدل عليه حرف العطف وهو مجازي، وكما في قوله: (اغتسل للجمعة والجنابة) فلو قلنا: إنَّ استعمال صيغة الأمر في الندب مجاز كان إسناد اغتسل للجمعة إسناداً مجازياً، وإسناده إلى الجنابة إسناداً حقيقياً.

الثانية: أن تكون هنالك إضافة واحدة، ولا يمكن أن يكون الإسناد حقيقياً ومجازياً، لأنَّ الإسناد الحقيقي إسناد لما وضع له، والإسناد المجازي إسناد لغير ما وضع له، واجتماعهما اجتماع الضدين.

والمقام من قبيل الثاني لا الأول؛ لأنَّ الرفع أسند إلى عنوان (التسعة) وما بعده مبين لإجماله ومفصل له، فنفس كلمة الرفع أُسند بإسناد كلامي واحد إلى عنوان التسعة، ولا يمكن أن يكون الإسناد الواحد إلى الشيء الواحد حقيقياً ومجازياً.

وعليه، لا بد من القول: إنَّ المراد من الموصول هو الفعل حتى يكون الإسناد مجازياً فقط.

ويجاب عنه تارة بأنّ الإسناد مجازي فقط، واخرى بانّ الإسناد حقيقي فقط، وثالثة بأن: الإسناد حقيقي ومجازي. ولا محذور في المقام.

الإسناد مجازي فقط

أما الجواب الأول: فيمكن أن يقرب بوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: رفع الحكم رفع مجازي، فإنَّ الرفع الحقيقي هو رفع الشيء حقيقة، أما رفع الشيء ظاهراً مع وجوده حقيقة فهو رفع مجازي. فلو كان شرب التتن حراماً واقعاً فرفعه الشارع فليس ذلك رفعاً حقيقياً، بل فرض الرفع، أي أن يفرضه الشارع غير موجود، وهو ما يعبر عنه بالرفع الظاهري،

ص: 339

فيكون الرفع مجازياً وإسناد الرفع إلى الحكم مجازي.

فإسناد الرفع إلى التسعة في الحديث متمحض في الإسناد المجازي على كل تقدير، سواء أكان المراد من (رفع ما لا يعلمون) الفعل أم الحكم، فلم تجتمع الحقيقة والمجاز في إسناد واحد.

الوجه الثاني: الإسناد إلى ما وضع له حقيقي، ولغير ما وضع له مجازي، وإلى المجموع المركب مما وضع له ومما لم يوضع له مجازي.

كما في (أنبت الربيع البقل) مجاز في الإسناد(1)، و (أنبت اللّه البقل) إسناد حقيقي، فلو قلنا (أنبت المجموع المركب من اللّه والربيع) البقل فهو إسناد مجازي؛ لأنَّ (أنبت) لم توضع للمجموع المركب، وإنما وضعت للإسناد إلى اللّه. وفي العبارات العرفية: لولا اللّه والطبيب لمات فلان.

وفي المعالم في بحث عموم المجاز، لو قال: «لا أضع قدمي في دار فلان»(2) فله معنى حقيقي ومجازي، فلو استخدم في المعنى الجامع بين المعنيين فهو عموم المجاز، أي لا أدخل الدار وإن لم يكن بوضع القدم، كما لو كان راكباً على الدابة.

وفيما نحن فيه ل(التسعة) مصداقان، فإسناد الرفع إلى الفعل في (ما اضطروا إليه) إسناد مجازي، وأما إسناد الرفع إلى (ما لا يعلمون) بمعنى الحكم إسناد حقيقي.

وقد أسند الرفع إلى عنوان (التسعة) وهو جامع لمصداقين، الإسناد إلى

ص: 340


1- لا في الكلمة.
2- معالم الدين: 43.

أحدهما حقيقي، وإلى الآخر مجازي، فيكون الإسناد مجازياً؛ لأنَّ الإسناد إلى جامع من هو له ومن ليس له إسناد إلى ما ليس له.

الوجه الثالث: المراد من (ما لا يعلمون) الموضوع، لكنه أعم من شرب الماء المردد عنوانه، وشرب التتن المجهول حكمه، فالمولى يرفع (الفعل) وهو يشمل الشبهات الموضوعية والحكمية معاً، فالإسناد إلى الجميع إسناد إلى الفعل لا إلى الحكم، فيكون متمحضاً في الإسناد المجازي.

الإسناد حقيقي فقط

الجواب الثاني ما ذكره في المصباح(1) من أنَّ الإسناد حقيقي فقط، حتى وإن أريد مما لا يعلمون الحكم. أما الإسناد إلى الحكم فهو واضح، وأما الإسناد إلى الفعل فلأنه لو كان المراد الرفع التكويني لكان مجازاً، لكن لو كان المراد الرفع التشريعي فهو حقيقة، ومآل الرفع التشريعي إلى عدم كون المصداق التكويني مصداقاً اعتبارياً، كما في (لا ربا بين الوالد وولده).

وفيه تأمل؛ لأنَّ الرفع التشريعي رفع ادعائي، فيكون مجازاً لا حقيقة، وبعبارة أخرى: ظاهر كلمة (الرفع) الرفع التكويني، كما أنَّ ظاهر النفي، النفي التكويني، فلو قال: زيد ليس بعالم - ادعاء - وهو عالم واقعاً، لكان مجازاً، وخلاف الظاهر.

الإسناد حقيقي ومجازي معاً

الجواب الثالث: ما ذكره بعض المتأخرين(2) من أنَّ الرفع حقيقي

ص: 341


1- مصباح الأصول 2: 260.
2- مباحث الأصول 3: 191.

ومجازي معاً، حيث لا يراد ب- (التسعة) العنوان، وإنما المعنون وقد أخذ (التسعة) مرآة وعنواناً مشيراً، فهنالك إسنادات متعددة، ومع تعدد الإسنادات والإضافات لا مانع من كون أحدها حقيقة والآخر مجازاً.

لكنه محل تأمل ؛ لأنَّ الملاك في وحدة الإسناد وتعدده - الإسناد الكلامي اللفظي لا التحليلي العقلي- ف(جاء القوم) إسناد واحد مع أنَّ القوم مئة ألف، فالتعدد تحليلي أو انحلالي، وفي الحديث أسند الرفع إلى التسعة، وهو إسناد واحد وإن كان عنواناً مشيراً، مثل: جاء الناس، المشير إلى زيد وبكر خالد، وكذا جاء الرجلان فهنا إسناد واحد.

فالمعتمد هو الجواب الأول، وإنَّ الإسناد مجازي بأحد تقريراته الثلاثة.

2) اختصاص (رفع مالا يعلمون) بالشبهات الحكمية

الاحتمال الثاني: إنَّ رفع (ما لا يعلمون) خاص بالشبهات الحكمية، ولا تشمل الموضوعية.

وقد اتضح الحال في هذا الاحتمال من كلمات المحقق العراقي(1) في تعارض السياقين، وسيتضح أيضاً في بيان الاحتمال الثالث، وهو عموم الرفع للشبهتين.

3) عموم الرفع للشبهات الموضوعية والحكمية

الاحتمال الثالث: إنّ الرفع عام للشبهات الموضوعية والحكمية.

ص: 342


1- نهاية الأفكار 3: 215-216.

ولتقريبه تقريرات

التقرير الأول

أن يراد من (ما) الموصولة خصوص التكليف المجهول مطلقاً، والمراد من (خصوص التكليف) خصوص الحكم، لا الأعم من الحكم والفعل.

والمراد من (مطلقاً) أن يكون منشأ الجهل بالحكم فقدان النص، أو إجماله أو تعارض النصين، أو اختلاط الأمور الخارجية، وغموض الواقع الخارجي.

وعليه، يكون مفاد (رفع ما لا يعلمون) رفع حكم لا يعلمونه، سواء أكان في الشبهة الموضوعية أم الحكمية.

ويمكن أن يرد عليه: إنَّ الأحكام تثبت للماهيات الكلية، فلا معنى للقول برفع الحكم عن الموضوعات الخارجية الجزئية؛ لأنَّ الحكم لم يثبت لها حتى يرفع بحديث الرفع.

ولكنه واضح الاندفاع؛ لأنَّ للحكم ثبوتين: الأول: ثبوته في الشريعة، ويصطلح عليه بالجعل، وهو متقوم بإنشاء الحكم على الماهيات الكلية، والثاني: ثبوته في ذمة المكلف، ويصطلح عليه بالمجعول، وهو متقوم بفعلية الموضوع، ومع فعلية الموضوع تتحقق فعلية الحكم حقيقة، مثلاً: حكم وجوب الحج ثابت في الشريعة المطهرة بقوله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}(1) وإن لم يكن الحكم المنشأ فعلياً في الخارج؛ لعدم وجود المستطيع فرضاً، فلو وجد المستطيع ثبت الحكم الكلي في ذمة المكلف،

ص: 343


1- آل عمران: 97.

وهو الثبوت الثاني للحكم.

وبحديث الرفع يرفع الحكم الثابت - إذا كان مجهولاً - سواء بالمعنى الأول أم الثاني، فيشمل الشبهات الحكمية والموضوعية، فلو لم يعلم حرمة التتن - وهو شك في الثبوت بالمعنى الأول - ولو لم يعلم أنَّ المائع الخارجي خمر أم لا - وهو شك في الثبوت بالمعنى الثاني - لكان الحكم مرفوعاً.

وبعبارة بسيطة: معنى (رفع ما لا يعلمون) هو رفع حكم لا يعلمونه، سواء أكان حكماً كلياً أم جزئياً.

فما ذكر من الإشكال غير وارد.

التقرير الثاني

أنَّ يكون المراد من (ما) الموصولة الفعل لا الحكم، لكن الفعل بما أنه واجب أو حرام لا الفعل بما هو هو، أي أنَّ الفعل المعروض للوجوب أو الحرمة بهذا اللحاظ مرفوع.

والقرينة على ذلك: إمكان عدم الثقل في الفعل بما هو هو، وإنما الثقل بلحاظ تعلق الوجوب أو التحريم، أو بلحاظ ترتب المؤاخذة على الفعل بما أنه واجب أو حرام، فيكون ثقيلاً بلحاظ الأثر أو بلحاظ تعلق الحكم، فيرفع المولى الفعل لثقله بما أنه واجب أو حرام، وهذا المعنى يتلاءم مع الشبهة الحكمية والموضوعية.

وبعبارة بسيطة: الفعل الحرام المجهول مرفوع، وهو يشمل الشبهتين.

وأشكل عليه في النهاية بما ينحل إلى مقاطع ثلاثة:

الأول: «إن المشتقات غير موجودة بالذات، ولذا لا تدخل تحت

ص: 344

المقولات، بل الموجود بالذات نفس ذات الموضوع ومبدأ المحمول»(1).

فوجود المشتقات وجود بالعرض، وهو وجود كاذب، والوجود الحقيقي هو الوجود بالذات، ك(جرى الماء) أما (جرى الميزاب) فهو جريان بالعرض، أي مجاز.

وفي قولنا: (الجدار أبيض) الموجود في الخارج: ذات الموضوع (الجدار)، ومبدأ المحمول (البياض) وهما موجودان، ولا وجود ثالث وراء هذين الوجودين، وعليه لا وجود للأبيض.

وما نحن فيه (شرب الخمر حرام) فالموضوع (شرب الخمر) ومبدأ المحمول (الحرمة) موجودان، لكن لا وجود للحرام وراءهما.

الثاني: «وإذا لم يكن العنوان الاشتقاقي موجوداً بالذات، بل كان موجوداً بالعرض لم يتعلق الجهل به بالذات، وأما الجهل بالفعل المعنون بعنوان الحرام فليس أمراً ما وراء أحد النحوين من الجهل بالذات»(2).

فمتعلق الجهل بالذات - أي ما لا يعلم حقيقة - هو الموجود الحقيقي بالذات، فيكون المجهول بالذات أحد اثنين، إما نفس ذات الموضوع (الخمرية) حيث يجهل المكلف أنَّ المائع خمر، وإما مبدأ المحمول (الحرمة) حيث لا يعلم أنَّ الغراب حلال أو حرام، ولا وجود للجهل الثالث، وهو الجهل بالفعل المعنون بعنوان الحرام، أي الجهل بالحرام، فلو قلنا: إننا نجهل الحرام كان الجهل بالموضوع أو الجهل بمبدأ المحمول واسطة في

ص: 345


1- نهاية الدراية 2: 436.
2- هذا المقطع مركب ممّا في المنتقی (4: 396) والنهاية (2: 436).

عروض الجهل لهذا العنوان، كما أنَّ وجود الموضوع ووجود مبدأ المحمول واسطة لعروض الوجود لعنوان المشتق لا واسطة في الثبوت.

الثالث: مراد المولى من (لا يعلمون) عدم العلم حقيقة لا عرضاً(1).

فالتقريب الثاني غير تام؛ لعدم وجود الحرام خارجاً، فلا يطرأ عليه الجهل، وقد رفع المولى الفعل الذي طرأ عليه الجهل حقيقة.

وحاصل كلماته: 1 - لا وجود بالذات للمشتقات. 2 - ما هوكذلك لا يصبح متعلقاً للمجهولية بالذات. 3 - (رفع ما لا يعلمون) ناظر إلى المجهول بالذات لا بالعرض.

ويرد عليه عدة إيرادات:

الإيراد الأول: التأمل في عدم وجود المشتقات بالذات(2). فعندنا ثلاثة وجودات لا وجودان وهي: وجود الذات (الجدار)، ووجود (البياض) وهو اللون، ومع التفكيك بينهما لا تصح النسبة، بأن نقول: (الجدار أبيض) بل لا بد من وجود ثالث وهو - مع التسامح في التعبير- حصة من وجود الجدار، وهو الجدار المنتسب إليه البياض، وبهذا الوجود الثالث يوجد عنوان (الأبيض)، وإلا فقبل الوجود الانتسابي لم يكن عنوان (الأبيض) متحققاً خارجاً.

كما أنَّ زيداً والعلم موجودان، مع ذلك لا يمكن تحقق (العالم) لو لم

ص: 346


1- نهاية الدراية 2: 436.
2- وهو منع للمقدمة الأولى كما يبدو في بادئ النظر، وإن كان بحاجة إلى مزيد من التأمل (منه (رحمه اللّه) ).

يكن انتساب بين الذات والمبدأ.

وكما أنَّ وجود الحيوان وجود بالذات، وهو وجود جوهري، فلو انتسب الحيوان إلى الناطق تحقق الإنسان، وهو حصة من الطبيعي ووجوده عرضي.

والجدار الخارجي وإن لم يمكن أن يقال: إنه طبيعي؛ لعدم كونه كلياً، لكنه بلحاظ حالاته المختلفة له نحو من أنحاء الكلية، حيث لا تعين له بلحاظ الأبيض والأحمر، وعند التعين يحصل له وجود خاص، وهو الوجود المنتسب إليه البياض، فيتحقق الأبيض في الخارج، فيقال: هذا أبيض، وهذا عالم حقيقة، خلافاً لما يراه في النهاية من عدم وجود الأبيض والعالم.

فالقول بعدم وجود العالم خارجاً خلاف الوجدان، كأن يقال بعدم وجود الإنسان في الخارج؛ لوجود الحيوان والناطق، فلا وجود ثالث اسمه الإنسان، لكنه غير تام؛ لوجود الإنسان بعد انتساب الحيوان إلى الناطق، فما يقال في الذاتيات يقال في العرضيات، والفارق بينهما أنَّ أحدهما وصف ذاتي والآخر عرضي، لكنه لا يخلّ بالوجود.

وعليه، فما ذهب إليه من أنَّ المشتقات غير موجودة بالذات غير تام، بل هي موجودة وداخلة تحت المقولات، ف(الأبيض) داخل تحت مقولة الجوهر، كما أن الإنسان - وهو الحيوان منتسباً إلى الناطق - داخل تحت مقولة الجوهر. فالمشتق وجود ثالث.

الإيراد الثاني: ما في المنتقى(1)، قال: «إنَّ كون العنوان الاشتقاقي مما لا

ص: 347


1- والظاهر أنه ناظر إلى منع المقدمة الثانية، مع عدم انسجام عباراته، فمفاد صدرها غير مفاد ذيلها (منه (رحمه اللّه) ).

يوجد إلا بالعرض، ولا يوجد بالذات ولا يكون من المقولات لا ينافي تعلق الجهل به بالذات وحقيقة، بل الجهل حقيقة يتعلق به بما له من الوجود ولو بواسطة الجهل بما هو الموجود بالذات»(1).

وظاهره تسليم المقدمة الأولى، وأنَّ المشتقات موجودة بالعرض لا بالذات، لكن لا مانع من أن يصبح الشيء الذي لا وجود له بالذات متعلق الجهل بالذات.

ويرد عليه: انَّ الظاهر أنه لا مجال لإنكار المقدمة الثانية بعد تسليم المقدمة الأولى؛ لأنَّ ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، ومفاد (كان) الناقصة متفرع على مفاد (كان) التامة، فلو كان الشيء موجوداً بالعرض فكيف يمكن أن يقع متعلق الجهل بالذات؟ فإنَّ الموجود بالعرض غير موجود، ولم يتحقق فيه مفاد (كان) التامة، فكيف يمكن أن يكون الوجود الكاذب متعلقاً للعلم أو الجهل حتى يقال هذا الشيء معلوم أو مجهول(2)؟

وعلی قولِه: «كون العنوان الاشتقاقي مما لا يوجد إلاَّ بالعرض... لا ينافي تعلق الجهل به بالذات وحقيقة»(3) أنه هل يعقل أن يكون غير الموجود مجهولاً بالذات؟

وقولِه: «بل الجهل يتعلق به بما له من الوجود»(4) أنّه لاوجود له حتى يتعلق به الجهل.

ص: 348


1- منتقى الأصول 4: 396.
2- بمعنى الجهل المقابل للعلم.
3- منتقى الأصول 4: 396.
4- منتقى الأصول 4: 396.

وقولِه: «ولو بواسطة الجهل بما هو الموجود بالذات»(1) أنَّ الجهل بالموجود بالذات واسطة في العروض لا واسطة في الثبوت.

وقولِه: «فإن الأمور الانتزاعية قابلة لتعلق الجهل والعلم بها حقيقة»(2) أنَّ الأمور الانتزاعية غير الموجود بالعرض، وكأنه فرض أنَّ الموجود بالعرض نفس الموجود الانتزاعي، مع أنَّ الموجود الانتزاعي له وجود حقيقي لكنه تبعي.

وقولِه: «كيف وهي تقبل النفي والإثبات حقيقة»(3) أنَّ المفروض أنَّ العنوان الاشتقاقي موجود بالعرض، فكيف يقبل النفي والإثبات حقيقة؟ فلا يعقل تعلق النفي والإثبات لجريان الميزاب حقيقة؛ لعدم وجود جريان أصلاً.

وقولِه: «بل قد يحاول إقامة البرهان على ثبوتها أو نفيها، كإثبات إمكان العالم، فإنَّ الإمكان من الأمور الانتزاعية، مع أنه يتعلق للنفي والإثبات ويبرهن عليه في محله وإذا أمكن تعلق النفي والإثبات وتواردهما على الأمر الانتزاعي أمكن تعلق العلم والجهل به»(4) أنَّ إمكان الممكن قابل للنفي والإثبات، وإقامة البرهان على وجوده وعدمه؛ لأنَّ الإمكان أمر انتزاعي، فمن تساوي نسبة الممكن إلى الوجود والعدم ننتزع مفهوم الإمكان، ونقيم البرهان على وجود الإمكان بالوجود التبعي الانتزاعي، أما الوجود بالعرض فليس قابلاً لأي محمول.

ص: 349


1- منتقى الأصول 4: 396.
2- منتقى الأصول 4: 396.
3- منتقى الأصول 4: 396.
4- منتقى الأصول 4: 396.

وواقع الأمر أنَّ لنا وجودات ثلاثة: الوجود بالذات، والوجود بالتبع، والوجود بالعرض.

فالوجود بالذات: هو أن يكون الشيء موجوداً بنفسه. والوجود بالتبع: هو أن يكون الشيء موجوداً بوجود منشئه.

والوجود بالعرض: وجود فرضي.

والمشتقات إما موجودة بالذات كما تقدم، أو موجودة بالتبع، أي بتبع منشأ انتزاعها، أما الوجود بالعرض فلا وجود له، فالكتب الأربعة موجودة بالذات، وزوجيتها موجودة بالتبع، كالفوقية الموجودة بالتبع بوجود السقف، وأما جريان الميزاب فهو موجود بالعرض.

فالعالم - وهو عنوان اشتقاقي - إما موجود بالذات، لأنه يمثل الحصة من الطبيعي، وإما موجود بالتبع، ومنشأ انتزاعه الموضوع، ومبدأ المحمول والانتساب بينهما، فمن المجموع ينتزع مفهوم العالم.

الإيراد الثالث: لو فرض أنَّ العنوان الاشتقاقي لا موجود بالذات ولا بالتبع، إلا أنَّ ملاك الأدلة الشرعية ليس الدقة العقلية وإنما النظر العرفي، فإنَّ العرف يرى أنَّ العنوان الاشتقاقي له نحو من أنحاء الوجود، فيرفعه المولى.

وتحصّل مما تقدم عدم الإشكال الثبوتي في التقريب الثاني، بأن يقول المولى: الفعل المحرم حيث طرأ عليه الجهل فهو مرفوع، وهو عام للشبهات الموضوعية والحكمية، وإنما الإشكال في مقام الإثبات، فإن المراد من الموصول في سائر فقرات الحديث الفعل بما هوهو، ف- (رفع ما أكرهوا عليه) يعني فعل أكرهوا عليه، أي ذات الفعل الذي أكرهوا عليه، لا الإكراه على الفعل بما هو محرم، وكذلك في (ما اضطروا إليه) فلا يلزم في شمول

ص: 350

حديث الرفع طروء الإكراه على الفعل بما هو محرم، بل يكفي طروء الإكراه على الفعل بما هو هو، فمع كون المراد من الموصول ذات الفعل في سائر الفقرات، فهل يمكن أن يكون المراد منه في (ما لا يعلمون) الفعل بما طرأ عليه الحرام، فيكون مرفوعاً لكونه مجهولاً؟ الإشكال في الظهور، وإلا فلا إشكال في تصويره في مرحلة الإثبات.

فتحصل مما مضى عدم الإشكال في التقريب الأول، بأن يرفع الحكم الكلي أو الجزئي الذي لا يعلم، وعدم الإشكال الثبوتي في التقريب الثاني - رفع الفعل بما هو محرم لا بما هوهو - بل قد يتأمل في مرحلة الإثبات.

التقرير الثالث: تعميم متعلق (مالا يعلمون) للنفس والوصف

أن يراد بالموصول الفعل بما هوهو، فالفعل المجهول مرفوع مع تعميم الجهل إلى الجهل بالنفس والجهل بالوصف.

ويصدق الجهل بالنفس في الشبهات الموضوعية، فإنَّ ماهية الفعل الخارجي مجهولة، حيث لا يعلم أنه شُرْبُ خل أو خمر، وقد يكون وصفه مجهولاً وإن كانت نفسه معلومة، كشرب التتن، حيث إنَّ حكمه مجهول مع معلومية ماهيته، والجامع المشترك بينهما جهالة الفعل، إلا أنَّ متعلق الجهل قد يكون النفس وقد يكون الحكم.

وأشكل عليه في النهاية(1) بأنَّ ظاهر الوصف - وعموم الأوصاف- وصف الشيء بلحاظ نفسه لا بلحاظ وصفه، فإنَّ الوصف بلحاظ نفسه وصف بحاله، أما الوصف بلحاظ وصفه فهو وصف له بحال متعلقه، وهو

ص: 351


1- نهاية الدراية 2: 435.

خلاف الظاهر، فظاهر (رفع ما لا يعلمون) ما كان بنفسه مجهولاً، وهو لا يتحقق إلاَّ في الشبهات الموضوعية لجهالة الذات فيها، حيث لا يعلم حقيقة هذا الشرب هل هو شرب خل أو خمر؟ أما في شرب التتن فهو معلوم الفعل مجهول الحكم. وعليه، لا يمكن تعميم الحديث الشريف للشبهات الحكمية، بل يختص بالموضوعية.

ويرد عليه: العلم والجهل تارة يراد بهما العلم والجهل التصوريان، فيمكن أن يتعلقا بالمفردات، أما التصديقي منهما فلا يتعلق إلاّ بالمركبات، أي مفاد الهليات المركبة و(كان) الناقصة، وبعبارة أخرى: العلم والجهل التصديقي متعلقهما ثبوت شيء لشيء لا ثبوت الشيء، والمراد من حديث الرفع - كما هو واضح - الجهل التصديقي لا الجهل التصوري، فليس معنى (لا يعلمون) عدم إتيان الصورة الذهنية للشيء كمفرد، بل المراد الجهل التصديقي.

وعليه، نفس الفعل ليس متعلقاً للجهل التصديقي، بل متعلقه ثبوت الوصف للفعل، فلو كان المراد بالمجهول في قولكم: (رفع الفعل المجهول) الجهل التصديقي، أي أنَّ المجهول ثبوت الوصف له - لا المجهول ذاته، فإنَّ الثاني مفاد الهليات البسيطة لا المركبة - فيكون معنى (رفع ما لا يعلمون) رفع فعل يجهلون ثبوت وصف وعنوان له، وهو يشمل الشبهتين؛ لأنَّ شرب التتن مجهول الحكم، والمائع المردد مجهول العنوان، فتعلق الجهل بالعنوان لا الذات، غاية الأمر أنَّ أحد العنوانين ذاتي والآخر عرضي، ففي شرب التتن جهل بثبوت الحرمة له، فالحرمة وصف عرضي لشرب

ص: 352

التتن، وفي شرب مائع مردد مجهول ثبوت الخمرية والخلية له، فخمريته وخليته وصف ذاتي.

والخلاصة: في كلا الشبهتين أن الوصف يكون بحال المتعلق، أي شرب التتن مجهول حكمه، وشرب مائع مردد مجهول عنوانه، وليس أحدهما وصفاً بحال نفسه والآخر وصفاً بحال متعلقه.

وأجاب عنه في النهاية بقوله: «إذا كان المراد من الموصول هو الفعل، فلا محالة ليس إلا موضوع الحكم - فإنه الذي يكون رفع الحكم برفعه - دون الفعل الذي ليس موضوعاً للحكم»(1)، وقد مر توضيحه سابقاً.

وبيانه إجمالاً: أنَّ شرب المائع لم يكن موضوع الحكم، بل شرب الخمر هو موضوع الحكم، فلا يمكن القول برفع شرب المائع، بل رفع شرب الخمر، فلو صار الموضوع شرب الخمر اختلف الوصفان، فهو وصف بحال متعلقه في شرب التتن لا يعلم حكمه، ووصف بحال نفسه في شرب الخمر لا يعلمونه(2).

فيدور الأمر بين فعلين، أحدهما: الوصف له بحال ذاته، وهو شرب الخمر المجهول، والثاني: وصف له بحال متعلقه، وهو شرب التتن المجهول حكمه.

فشرب الخمر مجهول بالذات، وشرب التتن مجهول الحكم، وظاهر

ص: 353


1- نهاية الدراية 2: 437.
2- فشرب الخمر نوعان: شرب خمر يعلم أنه خمر فهو حرام، وشرب خمر لا يعلم أنه خمر فحلال ومرفوع (منه (رحمه اللّه) ).

الوصف أن يكون بحال الذات لا بحال المتعلق.

وعليه، فالحديث لا يشمل الشبهات الحكمية؛ لأنه وصف بحال المتعلق.

وقد مضى التنظر فيه، وإجماله: أنَّ شرب المائع وإن لم يكن موضوعاً للحكم الفعلي، لكنه موضوع للحكم الشأني - أي الحكم المترقب وإن لم يكن متحققاً - فيدور الأمر بين وصفين بحال المتعلق.

فقوله: «فلا محالة ليس إلا موضوع الحكم»(1)

محل نظر، حيث لا يلزم أن يكون موضوع الحكم، بل موضوع الحكم المترقب قابل للرفع.

إلاَّ أن يجاب بعدم الإشكال فيه ثبوتاً، بأن يقول المولى: رفع شرب مائع لا يعلمون عنوانه، أو رفع شرب خمر لا يعلمون ذاته، لكن حيث إن الأول وصف بحال المتعلق، والثاني وصف بحال نفسه يكون الثاني أولى، فيعود إشكال النهاية على التقريب الثالث من جديد.

ولو قلتم: إنَّ المراد رفع فعل لا يعلمون ذاته، يعني رفع شرب خمر لا يعلمون ذاته، لا مائع لا يعلمون عنوانه، فإن كان هذا مراداً لظهور الوصف، فإنَّ شمول الحديث للشبهات الحكمية يستلزم أن يكون الوصف فيها وصفاً بحال المتعلق، وهو خلاف الظاهر.

والمتحصل: إنَّ التقرير الثالث لا يمكن المساعدة عليه في مقام الإثبات.

التقرير الرابع: الموصول أعم من الموضوع والحكم

المراد من الموصول: الموضوع والحكم معاً. فإنَّ (ما) الموصولة من ألفاظ العموم في أمثال المقام، بمعنى الشيء المبهم، أي رفع شيء لا

ص: 354


1- نهاية الدراية 2: 437.

يعلمونه، وعنوان (الشيء) ينطبق على الموضوع والحكم، فيعم الحديث الشبهتين.

وأشكل عليه صاحب الكفاية في حاشيته(1): إسناد الرفع إلى الموضوع إسناد لغير ما وضع له، وإسناد الرفع إلى الحكم إسناد لما وضع له ؛ لأنَّ الحكم بذاته قابل للرفع والوضع، والجمع بين الإسنادين في كلام واحد غير ممكن ؛ لأنه يوجب اجتماع الضدين. وقد مر نظيره سابقاً.

وأجيب عنه بأجوبة ثلاثة حيث مَرَّت إنه إسناد لغير ما هو له أولاً، وأنه إسناد لما هو له ثانياً، وإسناد للاثنين ولا محذور ثالثاً.

ولا يخفى الفرق بين هذا الإشكال وما سبقه، حيث كان يرتبط بجميع الفقرات، وهذا خاص بخصوص ما لا يعلمون.

التقرير الخامس: رفع الموضوع في أفق الاعتبار

ما ذكره في النهاية وارتضاه(2).

وحاصله: المراد بالموصول الموضوع الذي يتقوم به الحكم في أفق الاعتبار، وهو مرفوع.

توضيحه: لا يمكن وجود الحكم من دون متعلق، ولا يكون المتعلق الموضوع الجزئي الخارجي، حيث يمكن وجود الحكم من دون وجوده، كما لو فرض نزول الآية الكريمة {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}(3) مع عدم وجود

ص: 355


1- درر الفوائد 1: 190.
2- نهاية الدراية 2: 438.
3- المائدة: 38.

سارق خارجاً، وكيف يمكن أن يكون الحكم الذي هو من الأمور التعلقية موجوداً مع عدم تحقق موضوعه(1)؟ فيعلم من ذلك أنَّ الموضوع الخارجي ليس متعلقاً للحكم الثابت، بل المتعلق هو الموضوع الذي يتولد في أفق الاعتبار مع وجود الحكم، فالحكم الاعتباري محمول في عالم الاعتبار، وله موضوع اعتباري في عالم الاعتبار، ويكون وجود الموضوع الاعتباري بوجود الحكم، ورفعه برفع الحكم، فلو رفع الحكم رفع الموضوع، ولو رفع الموضوع رفع الحكم أيضاً، فارتفاع أحدهما مساوق لارتفاع الآخر، وثبوت أحدهما مساوق لثبوت الآخر.

فمعنى (رفع ما لا يعلمون) أنَّ الموضوع المتولد في أفق الاعتبار إن كان مجهولاً فهو مرفوع، والمجهول تارة مجهول نفساً، كشرب التتن، أو أكل العظم فيما لو شك في حليته وحرمته، فموضوعية الموضوع للحرمة مجهولة. وتارة يكون مجهولاً انطباقاً، وهو في الشبهات الموضوعية، فيعم حديث الرفع الشبهات الحكمية والموضوعية.

وأشكل عليه في المنتقى(2) بما مؤداه: إنَّ هنالك موضوعين:

الأول: الموضوع الخارجي، وهو الخمر الذي صنعته المعامل، وفعلية كل حكم منوطة بفعلية موضوعه، فمتى ما صار الموضوع فعلياً صارت الحرمة فعلية.

ص: 356


1- وقد ذكر تفصيل هذا البحث في المجلد الأول من المباحث الأصولية في مبحث تعلق الأوامر بالطبائع أو الأفراد.
2- منتقى الأصول 4: 399.

الثاني: موضوع الحكم - وهو موضوع في أفق الاعتبار - يناط به أصل الحكم المنشأ بقوله تعالى (فاجتنبوه)، والشك في الشبهة الموضوعية شك في وجود الموضوع الجزئي الخارجي للحكم الفعلي الجزئي، وهو لا يرتبط بالشك في موضوع الحكم الكلي، فعندما يشك في كون المائع خمراً أو خلاً فلا شك في موضوع (إنما الخمر) فإنَّ الحكم ثابت ولا شك فيه، والعنوان الكلي ليس مدار ثبوت الحكم الجزئي، وإنما الشك في المقام نابع من الشك في الموضوع الخارجي.

وبناءً عليه، ليس ذلك الحكم والموضوع الكليين مدار ثبوت هذا الحكم الفعلي والموضوع الجزئي، لا إثباتاً ولا نفياً.

فلا يشمل حديث الرفع الشبهات الموضوعية مع التصوير المذكور، فإن ثبوت الموضوع أو رفعه يرتبط بمرحلة الجعل لا مرحلة المجعول، فلو قال المولى: (إنما الخمر) فقد وضع الحكم الكلي ووجد الموضوع الكلي، ولا يكون ارتفاعهما إلاّ بالنسخ، فوضع الموضوع ورفعه لا يرتبط بالحكم الجزئي الخارجي، ولا يتحقق ذلك إلا في الشبهات الحكمية، حيث يرفعه المولى واقعاً، وهو النسخ، أو ظاهراً وهو البراءة، فلا يشمل الحديث الشبهات الموضوعية.

قال: «إذ ليس العنوان الكلي مداراً لثبوت الحكم خارجاً(1)، بل المدار على وجود الموضوع خارجاً»(2)، فلو كان المائع واقعاً خمراً لكان حراماً

ص: 357


1- حتى يقال: مع رفع العنوان الكلي يرفع الحكم الخارجي.
2- منتقى الأصول 4: 399.

وإلاّ فلا.

والخلاصة: إنَّ ما ذكر في توجيه حديث الرفع يرتبط بمرحلة الجعل، فيكون خاصاً بالشبهات الحكمية، ولا يرتبط بمرحلة المجعول، فلا يشمل الشبهات الموضوعية.

لكن الإشكال المذكور محل تأمل في بادئ النظر، فإنَّ الحكم الجزئي الخارجي مرتبط بفعلية الموضوع، ولا يرتبط بالجعل الكلي، إلا أنه متحد مع الحكم الكلي لا أنه مغاير له، فنفس الحرام الذي أنشأه المولى متحقق في الخارج، كما في زيد المتحد مع الإنسان، لا أنه مغاير له فهو هو، وإلا لم يوجد إنسان في الخارج، وقد قال في شرح المنظومة(1):

كلي الطبيعي هي المهيّة***وجوده وجودها شخصيّة

إذ ليس بالكليّةِ مرهونا***بكل الأطوار بدا مقرونا

فلاتحاده بشخصه يحق***وجوده ليس كوصف ما اعتلق

وفي المقام الحرمة نفسها لا غيرها، فحينما يقال: هذا الخمر حرام فهو نفس الحرمة المنشأة بقوله تعالى: (فاجتنبوه) لا غيرها.

ويمكن للمولى أن يرفع الحرمة بتعبيرين:

الأول: أن يقول - فيما لو احتمل كون المائع خمراً: رفعت (فاجتنبوه) حتى لو كان خمراً.

الثاني: أن يقول: رفعت الموضوع في هذا المورد؛ لأنَّ رفع الموضوع

ص: 358


1- شرح المنظومة 1: 120.

بمعنى رفع الحكم، كقوله: (لا ربا) الذي هو رفع للموضوع، ومآله إلى رفع الحكم، فيعم الشبهة الموضوعية، ولو تم هذا الكلام فالإشكال المذكور غير وارد.

غاية الكلام أنَّ ما ذكر في النهاية وإن لم يرد عليه الإشكال الثبوتي إلا أنه مما لا يفهم عرفاً، فهل مراد المولى من الموصول الموضوع الذي تولد في أفق الاعتبار، أم أنه نوع من التعمل العقلي؟

المبحث الثاني: الرفع واقعي أو ظاهري

هل أن رفع التكليف المجهول رفع واقعي أو ظاهري؟

وقبل الشروع في أصل البحث نشير إلى ثلاث مقدمات:

1- معنى الرفع الواقعي والظاهري

المقدمة الأولى: في مفهوم الرفع الواقعي والرفع الظاهري: ومعنى الرفع الواقعي: هو أن دليل الرفع مقيد أو مخصص لإطلاقات وعمومات الأدلة الواقعية، فلو قال المولى: (يحرم من الحيوانات البحرية ما لا فلس له) فالحكم عام أو مطلق لجميع المكلفين، سواء أكانوا عالمين أم جاهلين، لكن دليل (ما لا يعلمون) يقيده، فيخرج الجاهل عن الحكم، وكأنَّ المولى حكم بحرمة ما لا فلس له على العالمين فقط، كما في قضية المسيحي مع الثاني وأمير المؤمنين(عليه السلام)، حيث لم يكن عالماً بحرمة الخمر فدرئ عنه الحد(1)، وكأن المولى قال: (إنما الخمر فاجتنبوه أيها العالمين بالحرمة) أما الجاهل فلم يشرع في حقه الحكم أصلاً.

ص: 359


1- الكافي 7: 249.

وأما الرفع الظاهري فله تصويران:

التصوير الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم(1): وهو أنَّ معنى (رفع ما لا يعلمون) رفع وجوب الاحتياط، فالحكم الواقعي المجهول ثابت، ومع ذلك يحكم المولى بعدم وجوب الاحتياط تجاهه، إلا إذا كان التكليف المجهول مهماً بأهمية بالغة، كما لو شاهد شبحاً لا يعلم أنه مهدور الدم أو محقون الدم، حيث يجب الاحتياط، لكن لو لم يكن التكليف حائزاً تلك الأهمية فإنَّ المولى يرفع وجوب الاحتياط، مع احتمال كون المائع خمراً مثلاً.

التصوير الثاني: هو أنَّ الحكم الواقعي مرفوع في مرحلة الظاهر، بأن ينفي النجاسة ظاهراً لا واقعاً، حيث يمكن أن تكون النجاسة واقعاً موجودة، لكن يحكم بعدم وجودها ظاهراً، فمعنى (رفع ما لا يعملون) أنَّ التكليف الواقعي لو كان ثابتاً في مرحلة الواقع فهو مرفوع ظاهراً.

ولازم التصوير الثاني رفع وجوب الاحتياط، فإنَّ مفاد الرفع الظاهري الترخيص، بمعنى جواز الاقتحام، وهو لا يجتمع مع وجوب الاحتياط، بأن يجيز المولى الاقتحام ويوجب الاحتياط في آن واحد.

وجامع التصويرين: أنّ الرفع ليس واقعياً.

2- ثمرة كون الرفع واقعياً أو ظاهرياً

المقدمة الثانية: في ثمرة تعيين ماهية الرفع، وهي ثمرة مهمة جداً، وهي أنه لو انكشف فيما بعد أنَّ التكليف المجهول كان ثابتاً واقعاً، بأن قامت الأمارة على حرمة الشيء أو شرطيته أو جزئيته، فلو كان الرفع واقعياً لم

ص: 360


1- فرائد الأصول 2: 34.

تجب الإعادة والقضاء، فإن الجزئية والشرطية مرفوعة واقعاً، كمن ارتمس جاهلاً وهو صائم، فإنَّ الارتماس لم يكن جزءاً لتروك هي مقومة لماهية الصيام، فلم يكن مفطراً في حقه، وقد أتى بالصوم الكامل فلا يجب عليه القضاء.

لكن لو كان الرفع ظاهرياً، وكان التكليف ثابتاً في حقه واقعاً، فإنه لم يأتِ بالمركب الذي أمر به المولى، فعليه الإعادة والقضاء مطلقاً، إلا في مورد دل الدليل على عدمه، كما في «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة...»(1) حيث أسقط المولى القضاء مع أنَّ المكلف لم يأتِ بالمأمور به الواقعي.

وبعبارة مختصرة: مطابقة المأتي به للمأمور به يقتضي الإجزاء، وبعد انكشاف الواقع يتبين أنَّ المأتي به لم يطابق المأمور به، فيثبت عليه القضاء، سواء بالأمر الأول حيث لم يمتثله، أم بالأمر الجديد فهو موجود؛ لقوله: «ما فاتتك من فريضة فاقضها»(2).

3- الرفع واقعي في جميع فقرات الحديث

المقدمة الثالثة: لا إشكال في أنَّ الرفع في سائر فقرات الحديث رفع واقعي، حسب ما ذهب إليه البعض(3)،

والقدر المتيقن منه بعض الفقرات، كرفع الاضطرار، فحرمة لمس الأجنبية مرفوع في حق المضطر وكذلك المكره، فإنَّ جميع الأحكام الأولية مقيدة بعدم الإكراه والاضطرار.

ص: 361


1- من لا يحضره الفقيه 1: 279.
2- وسائل الشيعة 4: 275.
3- فوائد الأصول 3: 359؛ مباحث الأصول 3: 142.

نعم، يمكن البحث في كون الرفع في النسيان واقعياً أوظاهرياً، وقد اختار جمع(1) أنه واقعي في تمام الفقرات، وإنما الإشكال في خصوص (ما لا يعلمون).

أدلة كون الرفع غير واقعي في (ما لا يعلمون)

وبعد هذه المقدمات نقول: لقد استدل على أنَّ الرفع غير واقعي بأدلة ثمانية، وهي:

الدليل الأول: وجود القرينة الداخلية، وهي: إنَّ تعبير (ما لا يعلمون) قرينة على وجود شيء لم ينكشف بالانكشاف العلمي، فهنالك فرق بين (العلم بالعدم) فلا وجود للمعلوم، وبين (ما لا يعلمون) أي الحكم الذي لا يعلمونه، فنفس هذا التعبير دال على وجود الحكم في الواقع، فلا يكون الرفع واقعياً.

الدليل الثاني: الآيات والروايات الكثيرة الدالة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، وقد ادعى الشيخ الأعظم في مباحث الأمارة غير العلمية أنها متواترة(2).

الدليل الثالث: قيام ضرورة المذهب على الاشتراك في التكاليف.

الدليل الرابع: لا شك في حسن الاحتياط بالنسبة إلى التكاليف المشكوكة، كمن لا يعلم بحرمة العظم مثلاً، ولو لم يكن هنالك تكليف، وكان الرفع واقعياً فلا معنى للاحتياط؛ لعدم وجود شيء واقعاً حتى يحتاط

ص: 362


1- أجود التقريرات 2: 171.
2- فرائد الأصول 1: 113.

لأجل إدراكه.

الدليل الخامس: قيام الإجماع على بطلان التصويب، فليس حكم اللّه تابعاً لأحكام المجتهدين وعلمهم، فلو علموا كانت الحرمة وإلاّ فلا، والرفع الواقعي يستلزم التصويب.

الدليل السادس: لزوم المحذور العقلي من كون الرفع واقعياً، فإنه يوجب تقيد الأحكام بالعلم بها، فمن علم بحرمة الخمر حرمت عليه الخمر، وهو موجب للدور أو ملاك الدور، أو محاذير أخرى ذكرناها في أول مباحث القطع.

الدليل السابع: ما ذكره المحقق العراقي(1): لا يشمل الحديث الحكم الواقعي؛ لعدم كونه بوجوده الواقعي مما فيه الضيق على المكلف حتى يقتضي الامتنان رفعه، فإنَّ حديث الرفع سيق للامتنان، ومقتضى الامتنان رفع ما يأتي منه الضيق، وليس الحكم بوجوده الواقعي النفس الأمري مما يأتي منه الضيق على المكلف، فلا يرفع بحديث الرفع، وإنما الذي يوجب الضيق عليه الأمر بالاحتياط في مورد التكليف المشكوك، فرفع التكليف المجهول ليس منة، وإنما رفع الأمر بالاحتياط منّة.

الدليل الثامن: ما ذكره المحقق العراقي أيضاً(2): إنه خلاف مقتضى ظهور سياق الحديث في سائر الفقرات، فإنَّ رفع الخطأ ادعائي لوجود الخطأ خارجاً، وكذلك في جميع الفقرات، فلو كان الرفع في (ما لا

ص: 363


1- نهاية الأفكار 3: 214.
2- نهاية الأفكار 3: 214.

يعلمون) حقيقياً لزم مخالفة الظهور السياقي، فحفظاً للسياق لا بد أن يكون الرفع في (ما لا يعلمون) ادعائياً، بأن يفرض رفع حرمة الغراب رفعاً فرضياً تنزيلياً ادعائياً، وبذلك يحفظ الظهور السياقي في تمام الفقرات.

مناقشة بعض الأدلة المذكورة

لكن بعض الأدلة الثمانية قابلة للمناقشة والتأمل.

مناقشة الدليل الثاني

فقد أجاب في المنتقى عن الروايات الكثيرة الدالة على اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل بأنه «ليس له في الأخبار عين ولا أثر»(1).

وقال في المحاضرات: «فلم ترد رواية واحدة تدل على أنَّ الأحكام الواقعية مشتركة بين العالمين بها والجاهلين»(2).

ومن جانب آخر صرح في المصباح بوجود «الروايات الكثيرة الدالة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل»(3).

وقال الشيخ الأعظم: «الأخبار متواترة»(4)

فكيف يمكن التوفيق بين هذه الكلمات؟

يمكن أن يقال: المراد عدم العثور على الدليل الدال بالدلالة المطابقية على الاشتراك، وأما الأدلة المفيدة للاشتراك بالدلالة الالتزامية أو الظهور -

ص: 364


1- منتقى الأصول 4: 386.
2- محاضرات في أصول الفقه 2: 274.
3- مصباح الأصول 2: 299.
4- فرائد الأصول 1: 113.

لا النص - فهي موجودة، ويمكن أن يكون مجموعها متواتراً، ويمكن تصنيفها إلى ثلاث مجموعات:

الأولى: الإطلاقات الأولية الشاملة لجميع أدلة الأحكام أو معظمها؛ لأنَّ مفاد الإطلاق أو العموم اشتراك الأحكام، كما أنها تشمل الرجل والمرأة والأبيض والأسود.

لكنها محل تأمل؛ لإمكان القول بتقييدها - مع غض النظر عن الأدلة العقلية - بدليل الرفع، كما هو الشأن في المضطر وغيره، حيث إنَّ الأدلة الأولية مطلقة تشمل المضطر والمكره و غيرهما، ولكن قيدت بعدم الإكراه والاضطرار وكذلك الجهل، فحديث الرفع يخرج الجاهلين من إطلاقات الأدلة الأولية.

الثانية: روايات الاحتياط، فأدلة الاحتياط تدل على وجود الواقع المجهول، مع أنَّ المحتاط جاهل بالحكم الواقعي، وإلا لم يكن معنى للاحتياط، سواء أكان وجوبياً أم ندبياً.

الثالثة: الروايات الكثيرة التي يمكن دعوى تواترها من حيث المجموع، كما أنَّ بعضها معتبرة، ومفادها السؤال عن العالم، وهو ظاهر عرفاً في ثبوت الحكم للجاهل.

ففي الصحيحة: عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة ومحمد بن مسلم وبريد العجلي قالوا: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون»(1).

ص: 365


1- الكافي 1: 40.

فهو دليل على وجود واقع، فمن عرفه وعمل به نجا، ومن جهل يقع في الهلكة، كما لو قال الطبيب: الناس يمرضون ؛ لأنهم لا يطالعون الكتب الطبية.

نعم، يحتمل احتمالاً عقلياً أن يكون السؤال واجباً نفسياً، والهلكة ناشئة من عدم العمل به، ولكنه خلاف الظاهر.

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «إنَّ هذا العلم عليه قفل ومفتاحه المسألة»(1).

فالسؤال هو مفتاح الحقيقة القائمة الموجودة واقعاً، وإن جهل به الجاهل، لا أنها موجدة للحقيقة، كالعلم العنائي الذي يولد المعلوم.

وفي الرواية: «سألته عن مجدور أصابته جنابة فغسلوه فمات، قال(عليه السلام): قتلوه، ألا سألوا فإن دواء العي السؤال»(2).

وفي موضع آخر: «قاتلهم اللّه»(3). فلو لم يكن هنالك حكم في الواقع لما كان مجال لقوله(عليه السلام): «قاتلهم اللّه».

وهنالك روايات أخرى متعددة بنفس المضمون أو قريب منه(4).

هذا ما عثرنا عليه من الأدلة الدالة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل.

ولو لم يسلم بهذه الطوائف أحد، فيمكنه القول بعدم وجود دليل على

ص: 366


1- الكافي 1: 40.
2- الكافي 1: 40.
3- الكافي 1: 198-201.
4- في نفس الباب وكذلك في الباب الأول، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه.

اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، كما في المحاضرات والمنتقى(1).

مناقشة الدليل السابع

وأما ما ذكره المحقق العراقي فيمكن المناقشة فيه بما حاصله: إنَّ الامتنان وإن لم يتوقف على نفي الواقع، إلا أنه قد يكون بنفي الواقع، وظاهر الحديث - لو خلينا وطبعنا بغض النظر عن الأدلة الخارجية - نفي الواقع.

فلو حمل شخص بضاعة ثقيلة فتم رفعها عنه كان امتناناً، مع أنَّ سبب الثقل لم يكن أصل حمل البضاعة، وإنما ثقلها الزائد، حيث كانت قدرته على حمل نصفها، فكما أنَّ الامتنان حاصل برفع نصفها، كأن يشترك معه في حملها، كذلك الامتنان حاصل برفع أصلها.

فالمولى يمكنه أن يمتن على الجاهل بالواقع برفع وجوب الاحتياط، كما يمكنه أن يمتن عليه برفع الواقع المجهول، وأثر رفع الواقع المجهول رفع وجوب الاحتياط، وحيث إنَّ رفع الشيء ظاهر في رفعه بتمام مراتبه نحمله على رفع الواقع.

مناقشة الدليل الثامن

وأما السياق المدعى، فيظهر الحال فيه مما تقدم في بحث السياق.

والحاصل: إنَّ مجموع الأدلة الثمانية كافية لإثبات أنَّ الرفع ظاهري لا واقعي، وإن نوقش في بعضها.

لكن ذهب بعض الأعلام إلى أنَّ الرفع واقعي، منهم: السيد الوالد والسيد الروحاني وبعض المعاصرين، وذلك مع تحقق الإجماع على بطلان

ص: 367


1- محاضرات في أصول الفقه 2: 87؛ منتقى الأصول 4: 386.

التصويب، وضرورة الاشتراك في التكليف، فلا بد من ملاحظة مرادهم وإنهم هل يلتزمون باختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها أم يقصدون شيئا آخر؟

قال في المنتقى: «يمكن الالتزام بانَّ الرفع - فيما لا يعلمون - رفع واقعي كالرفع في سائر الفقرات المذكورة في الحديث بمعنى أنَّ الحديث يكون متكفلاً لبيان ارتفاع الحكم الفعلي عند عدم العلم، فلا يكون من أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه كي يكون محالاً، كما لا يكون من إناطة الواقع بقيام الأمارة كي يكون تصويباً مجمعاً على بطلانه»(1).

وقوله: «كالرفع في سائر الفقرات» إشارة إلى أنَّ مقتضى وحدة السياق في رفع الاضطرار والإكراه يمكن أن يعتبر دليلاً على ذلك.

مراحل الحكم الأربع

وأما كلمة (الفعلي) فتحتاج إلى توضيح، فإنَّ للحكم مراحل أربع: الاقتضاء والإنشاء والفعلية والتنجز، أما مرحلة الاقتضاء، فلا ترتبط بالعلم والجهل؛ لأنها عبارة عن المصالح والمفاسد الواقعية النفس الأمرية، والملاكات الواقعية أمور تكوينية ولا مدخلية للعلم والجهل فيها.

وأما مرحلة الإنشاء، فالأدلة العقلية والنقلية دلت على عدم مدخلية العلم والجهل فيها، فالحكم الإنشائي ثابت للجميع، وقد مر تفصيله في مباحث القطع.

وأما مرحلة التنجز، فلا شك في إناطتها بالعلم، فإنَّ الجاهل لا يتنجز عليه التكليف ولا يعاقب، وإنما الكلام في مرحلة الفعلية، حيث يرى السيد

ص: 368


1- منتقى الأصول 4: 386.

الروحاني(1) عدم المانع من تكفل حديث الرفع لرفع مرتبة الفعلية، فلا فعلية له للحكم المجهول.

ولا يلزم منه محذور الدور أو الخلف أو ملاك الدور؛ لعدم تعليق أصل الحكم على العلم، بل فعليته، كما أنَّ الحكم الواقعي لم يكن منوطاً بقيام الأمارة حتى يستلزم التصويب المجمع على بطلانه، فلا محذور عقلي أو شرعي فيما ذكر، وقد أشار إلى ذلك في المنتقى في مواضع متعددة، وستأتي لكلامه تتمة إن شاء اللّه.

الإشكال على كون الرفع واقعياً

ولكنه محل تأمل من وجوه:

الوجه الأول: إنَّ متعلق الرفع والجهل متحدان في ظاهر حديث الرفع؛ فلو أراد القول: إنَّ العلم بالفعلية له مدخلية في فعلية الحكم فهو مستلزم للدور أو ملاك الدور، حيث يكون مفاد الحديث إنْ علمت بفعلية الحكم ثبت عليك الحكم، وإلا فالحكم مرفوع، أي (المجهول) و (ما لا يعلمون) و(الفعلية) مرفوعة، وهو دور ومآله إلى تقييد الفعلية بالعلم بالفعلية ولا يمكن الالتزام بذلك، حيث لا يمكن للمولى أن يقول: إنْ علمت بالفعلية ثبتت الفعلية، فإنَّ المعلوم متقدم رتبة على العلم، فكيف يصبح متأخراً عنه ويكون معلولاً له، كما لو قال: إن علمت بوجود الجدار وجد الجدار، فإنه محال.

ولدفع هذا المحذور لابدّ أن يكون المراد: إن علمت بالحكم الإنشائي ثبتت عليك الفعلية، فيكون متعلق العلم الحكم الإنشائي، ومعلول العلم

ص: 369


1- منتقى الأصول 4: 386.

الحكم الفعلي، ولا محذور فيه؛ لأنَّ المتقدم والمتأخر شيئان، ويكون الحكم الإنشائي ثابتاً، سواء أعلم المكلف به أم لم يعلم، فيقول المولى: لو علم المكلف بالحكم الإنشائي ثبتت الفعلية، وإنْ لم يعلم فالفعلية مرفوعة.

وعليه، يتعدد المتعلق في المجهول والمرفوع، فمتعلق المجهول هو الحكم الإنشائي، ومتعلق المرفوع هو الحكم الفعلي(1)، وهو خلاف ظاهر الحديث؛ لأن ظاهره أنَّ المرفوع هو المجهول لا غيره.

فكلامه دائر مدار المحذور الثبوتي أو الإثباتي(2).

الوجه الثاني: لو كانت الأحكام الإنشائية مشتركة، وكانت الفعلية منوطة بالعلم، كان مآله إلى أنَّ العلم لا يوجب الفعلية، فالمكلف الجاهل إذا علم بالحكم صار ذلك الحكم الإنشائي متعلقاً للعلم، ومعه يبقى المعلوم إنشائياً؛ لأنَّ العلم لا يقلب الواقع عما هو عليه، بل يكشف عن الواقع، وقد مرّ في مباحث القطع - كما أشير إليه في الكفاية(3) - أنه لا أثر للعلم بحرمة الخمر إنشاءً في أول البعثة، وهو كالعلم بالحكم الاقتضائي، فكما أنَّ العلم بالحكم الاقتضائي لا يجعله إنشائياً، كذلك العلم بالحكم الإنشائي لا يجعله فعلياً.

وعليه، فقبل العلم لم يكن الحكم فعلياً؛ لأنه المفروض، وبعد العلم أيضاً لا يكون فعلياً؛ لأن العلم ليس مغيراً للواقع، فلا تكون الأحكام فعلية أبداً، ولا يجب امتثالها أبداً.

ص: 370


1- بأن يقول المولى: إن جهلت بالحكم الإنشائي رفع عنك الحكم الفعلي.
2- فلو قال: إن جهل الحكم الفعلي رفع عنه الحكم الفعلي ففيه المحذور الثبوتي، وإن قال: إن جهل الحكم الإنشائي رفع عنه الحكم الفعلي ففيه المحذور الإثباتي.
3- كفاية الأصول: 169.

إلاّ أن يجاب بأنّ هذا الحكم الإنشائي أُنشئ بحيث ينقلب بالعلم فعلياً، وقد مرَّ تفصيل الكلام والنقض والإبرام في أوائل مباحث القطع.

الوجه الثالث: ما ذكر في المنهاج(1) من أنَّ الرفع الواقعي مستلزم لتوالي فاسدة لا يمكن الالتزام بها، فلو تزوج أخته جاهلاً لم يفعل حراماً فعلاً، وتجب عليه نفقات أخته؛ لأنه تزوجها وهي محللة عليه بالحلية الفعلية، ولو لم ينفق عليها تلك الفترة وجب عليه أداء نفقتها، ولو علم بعد فترة انقلب الحكم الإنشائي فعلياً، وهكذا يجب عليه أن يدفع المهر المسمى؛ لأنه تزوج امرأة محللة له.

ولا يمكن الالتزام بهذه التوالي وأمثالها، فإن العلم يكشف بطلان النكاح، وقد كانت الحرمة فعلية، فلا نفقة ولا مهر مسمى.

ثم قال في المنتقى: «نعم، الذي يوقعنا عن الجزم بهذا الأمر أنَّ المتيقن من الحديث هو إرادة الشبهة الموضوعية وقد عرفت أن النصوص كثيرة على بقاء الحكم الواقعي وثبوته فيها»(2).

ومؤداه: أنه لو كان حديث الرفع شاملاً للشبهات الحكمية لقلنا: إنّ الرفع فيها واقعي، لكن القدر المتيقن من حديث الرفع الشبهات الموضوعية، ولا شك في اشتراك الحكم الفعلي بين العالم والجاهل فيها، ولذلك لا يمكن القول: إنّ الرفع واقعي.

ولكنه صرح بخلاف ذلك في موضع آخر، حيث قال: «والتحقيق أن

ص: 371


1- منهاج الأصول 2: 27.
2- منتقى الأصول 4: 387.

يقال: إنَّ المراد بالموصول هو الحكم، أعم من الحكم الكلي أو الجزئي»(1).

فاختار شمول الحديث للشبهات الحكمية والموضوعية، وبناء عليه لا مانع من الالتزام بكون الرفع واقعياً بلحاظ الشبهات الحكمية.

المبحث الثالث: الرفع في المستحبات والمكروهات المجهولة

هل إنَّ الرفع في (رفع ما لا يعلمون) خاص بموارد الشك في التكاليف الإلزامية أم إنه عام للتكاليف غير الإلزامية؟ فلو شك في استحباب شيء - كاستحباب غسل المسترسل من اللحية في الوضوء - أو شك في كراهة شيء - ككراهة أكل الدجاج - فهل يمكن رفع الاستحباب والكراهة بحديث الرفع؟

وحيث إنَّ في كون الرفع واقعياً أو ظاهرياً مبنيين، فلا بد من البحث في مقامين:

المقام الأول: فيما لو كان الرفع واقعياً، فقد ذكر السيد الوالد (رحمه اللّه) في الأصول(2) أدلة ثلاثة لشمول الحديث للمستحبات والمكروهات المشكوكة، فيرفعان واقعاً كالوجوب والتحريم.

الدليل الأول: وحدة الملاك فيهما إثباتاً ونفياً، وربما أراد من (فيهما): الأحكام الإلزامية والأحكام غير الإلزامية، فالكراهة كالتحريم، والاستحباب كالوجوب، فلو رفع حديث الرفع الوجوب فلا مانع من رفعه للاستحباب،

ص: 372


1- منتقى الأصول 4: 400.
2- الأصول: 712.

وكذلك في التحريم والكراهة، فالملاك في الأحكام الأربعة واحد.

الدليل الثاني: إنّ حذف المتعلق يفيد العموم، فلم يقيد الحديث بالأحكام الإلزامية المشكوكة، فيكون المراد من الموصول العموم.

الدليل الثالث: وحدة السياق مع رفع الثلاثة.

وربما كان مراده أنَّ وزان (رفع ما لا يعلمون) وزان حديث رفع القلم، «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ»(1)، فكما أنّ جميع الأحكام مرفوعة عن الصبي كذلك المقام.

وعليه، يحكم بعدم الاستحباب واقعاً في كل مستحب مشكوك، وكذلك الحكم في المكروه.

ويرى السيد الروحاني(2) الشمول وعدم الشمول دائراً مدار أخذ الثقل في مفهوم الوضع والرفع، فلو لم يؤخذ الثقل في مفهومهما فلا مانع من شمول عموم الموصول للمستحبات والمكروهات، لكن مع أخذ الثقل فيهما فلا؛ لعدم وجود ثقل في المستحب والمكروه حتى يرفع بحديث الرفع، فإن الثقل مرتبط بالوجوب والتحريم، وأما الاستحباب والكراهة فلا ثقل فيهما على المكلف.

ثم قال: «لا طريق برهاني لإثبات أخذ الثقل في مفهوم الرفع، فالمحكم هو الوجدان، فراجعه تعرف صحة الدعوى من سقمها»(3).

ص: 373


1- الخصال: 93-94.
2- منتقى الأصول 4: 403.
3- منتقى الأصول 4: 404.

وفيه مناقشتان: كبروية وصغروية:

أما المناقشة الكبروية: فلم يظهر لنا أخذ الثقل في مفهوم الوضع والرفع، فلو وضع على كتف إنسان ريش طائر صح أن يقال: وضعت الريشة على كتفه، ولو رفعت صح أن يقال: رفعت الريشة من كتفه.

وأما المناقشة الصغروية: فإنَّ في الاستحباب والكراهة ثقلاً على المكلف، فالمتدين لو أكل الجبن صباحاً من دون ضميمة مع علمه بالكراهة يحس بتأنيب الضمير والوجدان، وإنه يقوم بمخالفة أمر اللّه، ولو بنحو ضعيف من أنحاء المخالفة، لكن لو رفعت الكراهة والاستحباب فلا يحس بذلك، كما لو علم الابن أنَّ أباه لا يحب العمل الكذائي، لا بحد التحريم، ففعله الابن، فنفس كونه مكروهاً نوع من الثقل، بخلاف ما لو كان مباحاً حيث يحس بالخفة، فالمولى بحديث الرفع يرفع الاستحباب والكراهة في موارد الشك امتناناً.

فتحصل من جميع ذلك أنه بناء على أنَّ الرفع واقعي فلا مانع من شمول حديث الرفع للمستحبات والمكروهات المشكوكة.

المقام الثاني: فيما لو كان الرفع ظاهرياً، فقد ذكر في المصباح(1) بعنوان التحقيق تفصيلاً بين موارد الشك في التكاليف الاستقلالية فلا يجري الرفع، وموارد الشك في التكاليف الضمنية فيجري، فلو شك في كراهة أكل الجبن في الليل فلا يجري الرفع، وأما لو شك في شرطية السور المخصوصة في صلاة جعفر (صلوات اللّه عليه) فلا مانع من القول برفع التكليف الضمني

ص: 374


1- مصباح الأصول 2: 270.

ظاهراً بحديث الرفع.

ففي المقام بحثان:

1- عدم جريان الرفع في التكاليف الاستقلالية

البحث الأول: في موارد الشك في التكاليف الاستقلالية، فلو شك في استحباب صلاة يوم الغدير أو الدعاء عند رؤية الهلال، فهذه الموارد غير مشمولة ل- (رفع ما لا يعلمون).

قال(1): «والمراد بالرفع هو الرفع في مرحلة الظاهر، ومن لوازم ذلك عدم وجوب الاحتياط(2)، وهذا المعنى غير متحقق في موارد الشك في التكاليف الاستقلالية، إذ لا إشكال في استحباب الاحتياط، فانكشف أنّ التكليف المحتمل غير مرفوع في مرحلة الظاهر، فلا يكون مشمولاً لحديث الرفع».

وحاصله: إنَّ الرفع الظاهري مستلزم لعدم جعل الاحتياط، مع أنَّ الاحتياط في المقام مجعول قطعاً، فلا إشكال في حسن الاحتياط مع الشك في استحباب صلاة يوم الغدير، وكراهة أكل الجبن(3).

ص: 375


1- مصباح الأصول 2: 258.
2- لو كانت العبارة (ومن لوازم ذلك عدم جعل الاحتياط) لكان أقرب إلى المقام (منه (رحمه اللّه) ).
3- وهذا بخلاف رفع الحرمة في مشكوك الحرمة، فإن رفع حرمة التتن ظاهراً يستلزم جواز الاقتحام، وعدم وجوب الاحتياط، وإلا لغا الرفع الظاهري، فإن معنى رفع الحرمة ظاهراً عدم وجوب الاحتياط، فلا يعقل إيجاب الاحتياط على المكلف للمنافاة بينهما، وأما فيما نحن فيه فمعنى شمول حديث الرفع للمقام عدم استحباب الشيء ظاهراً؛ لأنه مجهول الاستحباب، ومعناه عدم جعل الاحتياط مع أن الاحتياط مجعول قطعاً، ولا يمكن الجمع بين حكمين متضادين، سواء أكانا واقعيين أم ظاهريين، فرفع الاستحباب ظاهراً منافٍ لجعل الاحتياط تنافي الحكمين الظاهريين (منه (رحمه اللّه) ).

ولكنه محل تأمل: فإن استحباب الشيء يفرض على نحوين:

الأول: استحبابه بما له من العنوان النفسي.

الثاني: استحبابه بما له من العنوان العرضي، أي بما أنه احتياط.

وأدلة الاحتياط(1) ناظرة إلى ثبوت الاستحباب الاحتياطي، وحديث الرفع - بناء على شموله للمقام - ناظر إلى نفي الاستحباب النفسي، ولا منافاة بينهما.

وحاصل الجمع بين الدليلين: أنَّ الاستحباب النفسي مرفوع ظاهراً؛ للشك في استحبابه بدليل الرفع، والاستحباب الاحتياطي ثابت بأدلة الاحتياط.

ثمرات رفع الاستحباب

و لرفع الاستحباب النفسي - ظاهراً - ثمرات، فلا يكون لغواً:

الثمرة الأولى: لو دل خبر ضعيف على استحباب غسل المسترسل من اللحية - ولم نقل بقاعدة التسامح في أدلة السنن - فلا شك أنَّ الاحتياط الاستحبابي يقتضي غسله(2)، وأما حديث الرفع فيحكم بعدم استحبابه للشك فيه، فلا يعتبر من أعمال الوضوء المستحبة للحكم برفعه ظاهراً، فالاستحباب النفسي مرفوع، والاستحباب الاحتياطي ثابت.

ويظهر الأثر فيما لو يبست رطوبة اليد، فلا يجوز أخذ الرطوبة من المسترسل للمسح، لأنه ليس جزءاً مستحباً من الوضوء بحديث الرفع(3).

ص: 376


1- كقوله(عليه السلام): «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت».
2- فإن الاحتياط حسن - حتى عند من لم يقل بقاعدة التسامح - في جميع الموارد المشكوكة بعنوان الاحتياط، لا أنه يفيد الاستحباب النفسي (منه (رحمه اللّه) ).
3- فيثبت عدم الجواز بالاستناد إلى حديث الرفع، وأما على ما ذكره المصباح من عدم شمول حديث الرفع للمقام، فلا بد من إقامة دليل آخر على ذلك، فيمكن أن تكون النتيجة واحدة والمستند متعدد (منه (رحمه اللّه) ).

الثمرة الثانية: لو دلَّ خبر ضعيف على استحباب الوضوء لغاية النوم، وقلنا: إنَّ رافعية الوضوء للحدث موقوفة على قصد غاية من الغايات الواجبة أو المستحبة كما قال به جمع - فإنَّ الاحتياط بالإتيان بهذا الوضوء لهذه الغاية مستحب؛ لأدلة الاحتياط، ومن بلغه ثواب على عمل حتى عند من لم يلتزم بقاعدة التسامح.

ومع القول برفع المستحبات المشكوكة بحديث الرفع لا يكون هذا الوضوء رافعاً للحدث؛ لعدم استحبابه في مرحلة الظاهر بحديث الرفع، وعليه يكون الوضوء للنوم مستحباً احتياطاً، لكنه غير رافع للحدث؛ لعدم استحبابه.

الثمرة الثالثة: ويظهر الأثر في النية، حيث لا تجوز نية الاستحباب لحديث الرفع.

والفرق - مع اشتراك الرأيين في عدم جواز نية الاستحباب، وأنه تشريع - أن مع شمول الرفع للمقام يتم الدليل على عدم الاستحباب، ومع عدم الشمول لا دليل عليه.

2- جريان الرفع في التكاليف الضمنية

البحث الثاني: في موارد الشك في التكاليف الضمنية، كما لو شك في استحباب السور المخصوصة في صلاة جعفر (صلوات اللّه عليه).

قال في المصباح: «وأما التكاليف الضمنية فالأمر بالاحتياط عند الشك فيها وإن كان ثابتاً، فيستحب الاحتياط بإتيان ما يحتمل كونه جزءاً لمستحب، إلا أنَّ اشتراط هذا المستحب به مجهول، فلا مانع من الحكم

ص: 377

بعدم الاشتراط في مقام الظاهر»(1).

ومفاده وجود شكين في التكاليف الضمنية:

الأول: الشك في نفس الجزء المشكوك، فهل تستحب سورة العاديات في الركعة الثانية؟ ولا يجري الرفع لعدم الإشكال في ثبوت الأمر بالاحتياط، فيؤتى بها من باب الاحتياط ورجاء إدراك الواقع، ولا مجال للشك في استحباب الاحتياط بالإتيان.

الثاني: الشك في اشتراط المستحب بهذا الجزء المشكوك، فهل صلاة جعفر (صلوات اللّه عليه) مشروطة بإتيان السور المخصوصة، بحيث تنتفي الماهية بانتفاء الجزء المشكوك؟ فنقول: إنّ الوجوب الشرطي مشكوك فيرفع بدليل الرفع.

وأثره: إمكان الإتيان بالفاقد بداعي الأمر الإلهي، لرفع الشرطية في الماهية، كما لو شك في الصلاة الواجبة في شرطية القنوت فيأتي بالفاقد بنية امتثال الأمر الإلهي، بعد رفع الوجوب بدليل الرفع.

وقد يرد عليه: إنَّ الشك في الوجوب الشرطي مسبب عن الشك في الاستحباب الضمني، فإنه إنما يشك في الوجوب الشرطي للسور المخصوصة للشك في استحبابها الضمني، فلو ثبت استحبابها ثبت الوجوب الشرطي، فلا تتحقق الماهية إلا بها - على المعروف - وإن لم يثبت الاستحباب ضمناً فلا وجوب شرطي، ومع وجود أصل يعالج الشك في مرحلة السبب لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في مرحلة المسبب.

ص: 378


1- مصباح الأصول 2: 270.

ولكنه قابل للدفع بأن السببية عقلية لا شرعية. فلو كانت السببية شرعية - كسببية طهارة الماء لطهارة الثوب المغسول - فجريان الأصل في السبب مانع عن جريانه في المسبب؛ لأنَّ الأصل السببي ينفي موضوع الأصل المسببي، بخلاف الأصل المسببي، حيث لا ينفي موضوع الأصل السببي؛ لأن طهارة الماء ليست من الآثار الشرعية لطهارة الثوب، لكن طهارة الثوب من الآثار الشرعية لطهارة الماء، وأما لو كانت السببية عقلية - كترتب وجود الحرارة على وجود النار - فلا مانع من جريان الأصل في الاثنين، فيستصحب بقاء الحرارة وبقاء النار، ولا وجه لتقدم أحدهما على الآخر.

وما نحن فيه من قبيل الثاني؛ لأن الشك في الوجوب الشرطي ناشئ عن الشك في الاستحباب الضمني، لكن هذه السببية عقلية؛ لأن الوجوب الشرطي ليس من الآثار الشرعية للاستحباب الضمني، فلم يقل المولى: لو كان الشيء مستحباً ضمناً كان المجموع المركب مشروطاً به، بل العقل يحكم بذلك، فلا مانع من جريان أصالة الاحتياط في الاستحباب الضمني، وجريان الرفع في الوجوب الشرطي.

لكن يرد على التفصيل المذكور ما تقدم في المقام الأول: من عدم وجود مانع من جريان حديث الرفع لنفي الاستحباب الضمني، فالاستحباب الضمني والوجوب الشرطي كلاهما مرفوعان ب- (رفع ما لا يعلمون).

تفصيل في المشترك بين الواجب والمستحب

وقد ذَكَر في المنهاج تفصيلاً آخر وهو: إن كان المشكوك مما يعتبر في طبيعة الصلاة المشتركة بين الواجبة وغيرها جرى الرفع؛ إذ لا فرق بين

ص: 379

النافلة والفريضة، أما لو شك في اعتبار شيء خاص بالنافلة فلا يجري الرفع؛ لأنه تابع لواقعه، فلو شك في اعتبار شيء، كوجوب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام في طبيعة الصلاة أعم من الواجب والمندوب(1)، فلا إشكال في جريان حديث الرفع في الواجب منه، وذلك للشك بين الأقل والأكثر، فإنه وإن كانا ارتباطيين إلاّ أنه تجري البراءة الشرعية والعقلية عند المشهور(2)، والبراءة الشرعية فحسب عند صاحب الكفاية(3).

وأما في المستحب فطبيعة الصلاة مشتركة لا تتبعض، فكل ما هو شرط في الواجب شرط في المستحب، وكلُّ ما لا يشترط في الواجب لا يشترط في المستحب إلا ما خرج بالدليل، وقد أشار إليه تفصيلاً الفقيه الهمداني في مصباح الفقيه(4) فلا يكون رفع اليدين في الصلاة المستحبة شرطاً.

لكن لو كان الشك في اعتبار شيء في خصوص النافلة، كاشتراط قراءة السور المخصوصة في صلاة جعفر (صلوات اللّه عليه)، فلا يجري حديث الرفع؛ لأنه تابع لواقعه.

لكنه غير واضح في شقيه: أما الشق الأول فوجه التأمل فيه، هو: أنَّ وحدة الطبيعة إنما تكون في مرحلة الواقع، وأما في الظاهر فلا مانع من التفكيك، كما هو الشأن في جميع التفكيكات في الفقه من أوله إلى آخره.

ص: 380


1- وكذلك في سائر الواجبات كالصوم والحج (منه (رحمه اللّه) ).
2- نهاية النهاية 1: 273؛ أجود التقريرات 1: 400.
3- كفاية الأصول: 358.
4- مصباح الفقيه 11: 486.

كما في نقطة الشك في أنه حد الترخص خروجاً من الوطن ودخولاً إليه، حيث يتمّ في الأول ويقصّر في الثاني عندها، وكما لو اعتقد البائع صحة العقد والمشتري بطلانه، فيحكم بصحته للأول وبطلانه للثاني، وكما في الماء المشكوك كريته مع جهل حالته السابقة، أو تعاقبت عليه الحالات وجهل المتقدم والمتأخر، ثم غسل الثوب المتنجس فيه، فيحكم بطهارة الماء ونجاسة الثوب، مع أنه لو كان كراً لكانا طاهرين، ولو كان قليلاً لكانا نجسين.

كل ذلك تفكيك في مرحلة الظاهر بمقتضى الأدلة الظاهرية، فجريان حديث الرفع في الواجب لا يستلزم ثبوت الحكم في المستحب، فلا مانع من القول بعدم وجوب رفع اليدين في الصلاة الواجبة لحديث الرفع، وأما في الصلاة غير الواجبة فهو واجب شرطي؛ لعدم شمول حديث الرفع، إلا أن يقال بجريان حديث الرفع بنفسه في الواجب والمستحب، وهو مما لا يلتزم به، وإنما أثبت الحكم على وحدة الطبيعة الواحدة.

وأما وجه التأمل في الشق الثاني: فالبحث تارة حول تحصيل غرض المكلف، وأخرى حول امتثال أمر المولى، فلو كان غرض المكلف تحصيل الآثار الواقعية للماهية، فكل شيء تابع لواقعه، سواء أكان واجباً أم مستحباً، ولا فرق بينهما، فالآثار الوضعية الواقعية للصلاة الواجبة لا تترتب على المأتي به مع أصالة الطهارة والبراءة وما أشبه، فإنَّ تلك الآثار مترتبة على الصلاة الواقعية، كما أنَّ الآثار الواقعية لصلاة جعفر (صلوات اللّه عليه) تترتب على واقع تلك الصلاة، ولو كان البحث في امتثال أمر المولى فقد تحقق الامتثال في المقامين، فمع حديث الرفع يرفع الجزئية للواجب

ص: 381

والمستحب وينوي امتثال الأمر فيهما.

إن قلت: كيف وقد نذر الإتيان بصلاة جعفر (صلوات اللّه عليه)؟

قلنا: الواجب بالعرض لا يقلب الماهية، فنفس الأحكام تثبت على ذمة المكلف بلا إضافة، وهو كافٍ لامتثال أمر المولى ولقصد المكلف، حيث يأتي بالصلاة الفاقدة بداعي امتثال الأمر ولا إشكال فيه؛ لأنه معذور ظاهراً بالأدلة الترخيصية، كما أنَّ اللباس الذي يصلى فيه بالبراءة طاهر ظاهراً، ويؤدى به الواجب وإن كان باطلاً في اللوح المحفوظ.

نعم، لو تعلق غرض المكلف بتحصيل الواقع في الصلاة الواجبة أو المستحبة فلا بد أن يراعي جميع الشروط المحتملة، لكن ذلك غير واجب، فما أفاده في المقامين يحتاج إلى تأمل أكثر.

المبحث الرابع: شمول (رفع ما لا يعلمون) للجاهل المقصر وعدمه

هل أنّ (رفع ما لا يعلمون) يشمل الجاهل المقصر أم لا؟

عدم شمول حديث الرفع للجاهل المقصر

ذكر في المنهاج(1) أنه يمكن القول بعدم شمول الحديث للجاهل المقصر.

ولإثبات المدعى ذكر وجهين:

الأول: إمكان القول بالانصراف؛ لأنَّ المطلوب من المسلمين تعلم الدين وأحكامه بالضرورة.

الثاني: التمسك بالإطلاق - بعد منع الانصراف - فإنَّ إطلاق (رفع ما لا

ص: 382


1- منهاج الأصول 2: 24.

يعلمون) مقيد بإطلاقات الأدلة الدالة على عدم معذورية الجاهل المقصر، ولزوم الفحص عن الأحكام الشرعية.

ويقرب من مضمونه ما في الفقه(1): «لا إشكال في بطلان أعمال الجاهل المقصر، إلاّ على قول ضعيف عمم حديث الرفع حتى لما نحن فيه، فيضعف التمسك بالتعميم في حق الجاهل المقصر لو انكشف أنّ أعماله مخالفة للواقع والأمارة».

ثم قال: «إن العموم لو سلم كان مخصصاً بما دل على إبلاس المجرم»(2).

مبنيان في حديث الرفع

في حديث الرفع مبنيان:

الأول: إنَّ متعلق الرفع خصوص المؤاخذة، ولا شبهة في أنَّ الحديث لا يشمل الجاهل المقصر؛ لأنه مستحق للمؤاخذة قطعاً، واستحقاق المؤاخذة غير مرفوع قطعاً.

الثاني: إنَّ المرفوع جميع الآثار أو أظهر الآثار، فهل يمكن القول: إنَّ جميعها أو أظهرها - غير المؤاخذة - مرفوعة عن الجاهل المقصر؟ يمكن دعوى إطلاق الحديث، فكلمة الجاهل مطلقة تشمل القاصر والمقصر احتمالاً، ولا وجه للانصراف، وأما ما دل على إبلاس المجرم وانقطاع حجته فهو يرتبط بخصوص المؤاخذة لا جميع الآثار. ولهذه المسألة فروع كثيرة في الفقه.

ص: 383


1- الفقه 1: 159.
2- الفقه 1: 159.

مؤيدات لشمول حديث الرفع للجاهل المقصر

ويؤيد ما ذكرناه من الإطلاق - على نحو الاحتمال - الفروع التي ذكرها الفقهاء وأفتى بعضهم بارتفاع الآثار عن الجاهل المقصر، وإن كانت خلافية، وإنما أوردناها دفعاً لتوهم الانفراد، نذكر بعضها:

الأول: أفتى صاحب العروة بعدم البطلان فيما لو كان ماء الوضوء ومكان المتوضئ، ومصب ماء الوضوء مغصوباً إن كان المكلف جاهلاً بالموضوع، قال: «بل وكذا مع الجهل بالحكم أيضاً إذا كان قاصراً، بل ومقصراً أيضاً، إذا حصل منه قصد القربة»(1) فلو لم يكن يعلم اشتراط الإباحة في مكان المتوضئ وكان جاهلاً مقصراً صح وضوؤه.

الثاني: قال صاحب العروة في شرائط لباس المصلي: «الثاني الإباحة.. بل الأحوط البطلان مع الجهل بالحرمة أيضاً، وإن كان الحكم بالصحة لا يخلو عن قوة»(2).

الثالث: قال صاحب العروة في شرائط مكان المصلي: «أحدها إباحته... وأما إذا كان غافلاً أو جاهلاً أو ناسياً فلا تبطل»(3) وقد صرح في موضع آخر: بأن الجاهل بالحكم الشرعي تصح صلاته وإن كان جاهلاً مقصراً(4).

وقد نقل السيد الوالد (رحمه اللّه) (5) في بعض الفروع المتقدمة الصحة مطلقاً، بلا

ص: 384


1- العروة الوثقى1: 404.
2- العروة الوثقى 2: 327.
3- العروة الوثقى 2: 363.
4- العروة الوثقى 2: 370.
5- الفقه 18: 113.

فرق بين القاصر والمقصر عن جامع المقاصد وإرشاد الجعفرية والروض، والمقاصد العلية ومجمع البرهان والمدارك، واختاره هو أيضاً.

الرابع: قال في العروة: «كل إخلال في الصلاة في غير الأركان لو كان عن جهل بالحكم فالأقوى عدم البطلان».(1) ووافقه على ذلك السيد الحكيم والسيد الخونساري.

الخامس: قال في العروة في الصوم(2): «الأقوى عدم وجوب الكفارة على الجاهل، خصوصاً القاصر والمقصر غير الملتفت حين الإفطار، ومفاده أنه لو كان الجاهل ملتفتاً فارتمس فلا كفارة عليه».

ووافقه على ذلك السيد أبو الحسن الإصفهاني والسيد الخونساري والسيد الخوئي، وأما السيد الحكيم فقد علق عليه بقوله: إذا رأى ذلك حلالاً، ومفاده أنه لو لم يكن ملتفتاً، بل كان جاهلاً مركباً حين الإتيان بالعمل.

والعجيب أن بعض الفقهاء أفتى بعدم القضاء على الجاهل بالحكم، ونقل في الجواهر عن الشيخ الطوسي وابن إدريس أن الصائم لو جامع جاهلاً بالتحريم لم يجب عليه شيء، ثم قال صاحب الجواهر: «وظاهرهما سقوطهما معاً كما عن المنتهى احتماله، لسقوط القلم عنه»(3).

السادس: ما ذكره المحقق النراقي(4) من عدم الكفارة في محرمات

ص: 385


1- العروة الوثقی 3: 208.
2- العروة الوثقی 3: 591.
3- جواهر الكلام 16: 255.
4- مستند الشيعة 13: 304.

الإحرام مع الجهل إلا في الصيد؛ للنص الخاص، وأقام له دليلين: الأول أنه إجماع محقق، الثاني: النصوص المستفيضة، كصحيحة زرارة «من نتف إبطه... ففعل ذلك ناسياً أو جاهلاً فليس عليه شيء»(1).

وصحيحة ابن عمار: «اعلم أنه ليس عليك فداء شيء أتيته وأنت جاهل به وأنت محرم في حجك، ولا في عمرتك إلا الصيد»(2).

والشاهد أنَّ الجاهل هنا عام يشمل المقصر، فما هو الفارق بينه وبين حديث الرفع؟

واستدل في شرح العروة(3) لعدم الكفارة في كل تروك الإحرام فيما لو كان جاهلاً بصحيحة ابن عمار و غيرها.

وصرح في الفقه(4) بأنه لا فرق بين الجاهل بالحكم والموضوع قصورياً أو تقصيرياً، كل ذلك للإطلاق.

ويؤيد ذلك مؤيدان:

الأول: ما ذكروه في قاعدة الجب من أنه مطلق، سواء أكان الكافر جاهلاً قاصراً أم مقصراً أم عامداً.

الثاني: ما ذكروه في قاعدة (الإيمان يجب ما قبله) سواء أكان حين الخلاف جاهلاً قاصراً أم مقصراً أم عامداً متردداً أم جاهلاً مركباً، فكل

ص: 386


1- تهذيب الأحكام 5: 369.
2- الكافي 4: 382.
3- شرح العروة الوثقی 28: 341.
4- الفقه 44: 41.

أعماله صحيحة إلا الزكاة.

لكن المشهور أو المعروف بين الفقهاء أنَّ الجاهل المقصر كالعامد في جميع الأحكام الفقهية، فأعماله باطلة إلا في مسألتين الجهر والإخفات والقصر والإتمام، والمسألة بحاجة إلى تأمل أكثر.

المبحث الخامس: في شمول الرفع لموارد العلم الإجمالي

هل أنَّ (رفع ما لا يعلمون) يشمل موارد العلم الإجمالي أم لا؟

يتحقق العلم الإجمالي في المتباينين تارة، كما لو علم بوقوع الدم في أحد الإناءين، وأخرى في موارد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين، كما لو شك في وجوب القنوت في الصلاة، والمشهور على انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بالأقل والشك في الأكثر، ولكن يرى صاحب الكفاية في مباحث العلم الإجمالي(1) عدم الانحلال، فلا تجري البراءة العقلية، فيكون الموردان كالمتباينين، فيجب فيهما الاحتياط عقلاً.

أثر شمول الرفع لموارد العلم الإجمالي

وأثر شمول الرفع لموارد العلم الجمالي تنافي حديث الرفع مع دليل الاحتياط العقلي، ففي مثال الإناءين يأمر العقل بلزوم الاحتياط، بينما يأمر الشرع بالرفع، لكون كل واحد منهما مشكوك الحرمة، فلا بد من حل مشكلة التعارض بينهما، والحل مطروح في مباحث العلم الإجمالي.

والبحث في المرحلة المتقدمة على الحل المذكور، وهي أصل شمول الرفع لهذه الموارد، فلو لم تشمل فلا تعارض أصلاً.

ص: 387


1- كفاية الأصول: 363-364.

والحاصل أنَّ هنا مراحل ثلاث:

الأولى: أن يقال بعدم شمول حديث الرفع لموارد العلم الإجمالي.

الثانية: أن يقال بالشمول، لكنه لا ينافي الاحتياط العقلي.

الثالثة: أن يقال بالشمول والمعارضة، فيلزم البحث عن المخرج.

اختصاص الرفع بالشبهات البدوية

ذكر في المنتقى(1) أنَّ حديث الرفع خاص بالشبهات البدوية، ولا يشمل موارد العلم الإجمالي فيما لو كان معناه رفع وجوب الاحتياط الشرعي، و ذكر لذلك وجهين:

الوجه الأول: إنه منصرف إلى صورة انحصار التضييق بالشارع، فلو كان لزوم الاحتياط ناشئاً من الشارع، كالشبهات البدوية - حيث يحكم العقل بالبراءة لقبح العقاب بلا بيان لا الاحتياط - فإنه يرفع التضييق بحديث الرفع. أما لو لم ينحصر ذلك به، كما في موارد العلم الإجمالي - حيث يحكم العقل بالتضييق على المكلف بالاحتياط وإن سكت الشارع - فحديث الرفع منصرف عنه.

الوجه الثاني: لو لم يسلم الانصراف، وقلنا بشمول حديث الرفع للصورتين، إلاّ أنه يرفع الاحتياط الشرعي، فلم يجعل الشارع الاحتياط الشرعي في موارد العلم الإجمالي، وذلك لا ينافي وجوب الاحتياط بحكم العقل في تلك الموارد.

ص: 388


1- منتقى الأصول 4: 402.

ثم ذكر تفصيلاً في المقام(1)، حاصله أنه لو كان الرفع بمعنى الوضع(2) فإشكال التعارض قائم، فإنَّ (رفع ما لا يعلمون) كناية عن وضع الشارع للحلية الظاهرية، فينافي الرفع - بهذا المعنى - الاحتياط العقلي؛ لأنَّ العقل يحكم بوجوب الاحتياط، والشارع قد جعل الحلية الظاهرية، فيتعارضان.

ولكن التفصيل يحتاج إلى تأمل أكثر، فإنَّ واقع التعارض بالذات هو بين حديث الرفع وأدلة الواجبات والمحرمات الواقعية، لا بين حديث الرفع والأمر العقلي بالاحتياط، فإنه تعارض بالتبع، فالعقل إنما يحكم بلزوم الاحتياط بين الإناءين المشتبهين باعتبار أمره تعالى: (إنما الخمر.. فاجتنبوه) و إلا لم يحكم بذلك.

ومع كون التعارض بالذات قائماً بينهما فلا فرق بين أن يكون مفاد حديث الرفع الرفع أو الوضع، فمن جهة يحكم المولى بحرمة الخمر الواقعي بين الإناءين، ومن جهة ثانية لا يلزم العبد بالاحتياط، بل يجيز له الاقتحام، وهما متنافيان؛ لأنَّ لازم عدم وجوب الاحتياط - عرفاً - رفع اليد عن الحكم الواقعي، فكيف يمكن أن لا يرفع يده عن حرمة الخمر، ومع ذلك يرفع الأمر بالاحتياط؟ وهكذا الأمر فيما لو جعل الحلية الظاهرية للإناءين.

والحاصل: إما نقول بالانصراف على كلا المبنيين رفعاً ووضعاً، أو نقول

ص: 389


1- منتقى الأصول 4: 402.
2- والتعبير عن الوضع بالرفع متداول في العرف كثيراً، كما لو قال: لا أعلم هل سقط الدم في الإناء فهل أشربه؟ فيكون الجواب: لا إشكال فيه، بمعنى أنه حلال (منه (رحمه اللّه) ).

بالشمول على كلا المبنيين، ونبحث في مباحث العلم الإجمالي عن حل مشكلة التعارض.

هذا تمام الكلام في المقام الثاني بمباحثه الخمسة.

ص: 390

فهرس المحتويات

تنبيهات... 5

التنبيه الأوّل: السيرة العقلائية وأنواع الأخبار... 5

أمثلة لألفاظ المدح... 6

التنبيه الثاني: عمل المشهور بالخبر الضعيف... 7

أدلة حجية الأخبار الضعيفة... 8

كيفية إحراز استناد المشهور إلى الخبر... 11

التنبيه الثالث: إعراض الأصحاب عن الخبر المعتبر... 16

شروط مسقطية الإعراض... 20

الدليل الرابع: العقل... 20

تقريبات الاستدلال بالعقل على حجية الخبر الواحد... 20

التقريب الأول: دليل الانسداد الصغير... 20

وأورد عليه إشكالات... 21

الإشكال الأوّل... 21

الإشكال الثاني... 29

الإشكال الثالث: تقديم الأصول العملية المثبتة للتكليف على الأخبار... 33

التقريب الثاني: القطع بالمخالفة في العبادات بترك العمل بأخبار الآحاد... 39

التقريب الثالث: وجوب العمل بالكتاب والسنة ثابت إلى يوم القيامة... 43

حجية مطلق الظن

أدلة حجية مطلق الظن... 48

الدليل الأول: مخالفة الظن مظنة للضرر... 48

البحث في كبرى الدليل الأول... 48

البحث الأول: في العقوبة الأخروية... 57

البحث الثاني: في المفسدة... 59

ص: 391

الدليل الثاني: ترجيح المرجوح على الراجح... 66

الدليل الثالث: وجوب الاحتياط بالمظنونات... 68

الدليل الرابع: دليل الانسداد... 69

مقدمات دليل الانسداد... 70

المناقشة في مقدمات دليل الانسداد... 74

المناقشة في المقدمة الأولى... 74

المناقشة في المقدمة الثانية... 77

المناقشة في المقدمة الثالثة... 79

المناقشة في المقدمة الرابعة... 87

المبحث الأول: عدم وجوب الاحتياط في ظرف الانسداد... 88

احتمالان في مفاد (لا ضرر)... 90

عهد أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر... 95

توثيق مشايخ النجاشي... 96

نتيجة الانسداد... 114

ثلاث ثمرات... 114

المبحث الثاني: الرجوع إلى الأصل بغض النظر عن العلم الإجمالي... 117

جريان الأصول المثبتة للتكليف... 118

جريان الأصول النافية للتكليف... 126

المبحث الثالث: الرجوع إلى العالم بالحكم... 130

المبحث الرابع: القرعة... 132

المناقشة في المقدمة الخامسة:... 136

تنبيهات باب الانسداد... 139

التنبيه الأول: في أقسام الظن... 139

التنبيه الثاني: في عدم حجية الظن في مقام الامتثال... 144

استدراك على التنبيه الثاني... 145

التنبيه الثالث: في حجية الظن في الأصول الاعتقادية... 147

الأمور الاعتقادية المشروطة بحصول العلم... 148

ص: 392

حجية الظن في الأمور الاعتقادية التي يجب تحصيل العلم بها... 153

البحث الأول... 153

البحث الثاني... 154

الكلام حول عذاب جهنم والخلود فيها... 168

البحث الثالث: في حكم الجاهل المقصر... 173

حرم التقليد لواجد ملكة الاستنباط... 187

عدم اشتراط عموم وجوب المعرفة في تحقق الإسلام والإيمان... 192

المقصد الثاني: في مباحث الأصول العملية

مباحث الأصول العملية... 201

مباحث البراءة... 201

أدلة البراءة... 201

الدليل الأول: القرآن الكريم... 201

الأولى: آية التعذيب... 201

إشكالات على الاستدلال بآية التعذيب على البراءة... 204

الإيراد الأول... 204

الإيراد الثاني... 220

الإيراد الثالث... 222

الإيراد الرابع... 223

الآية الثانية: آية الإيتاء... 224

إشكالات على الاستدلال بآية الإيتاء على البراءة... 233

الآية الثالثة: آية الوجدان... 240

إشكالات على الاستدلال بآية الوجدان على البراءة... 240

الآية الرابعة: آية التفصيل... 243

الآية الخامسة: آية التبيين... 244

الآية السادسة: آية الهلاك... 248

الآية السابعة: آية الحجة البالغة... 249

الدليل الثاني: السنة الشريفة... 250

ص: 393

الحديث الأول: حديث الرفع... 250

طرق توثيق أحمد بن محمد بن يحيى العطار... 251

فقه حديث الرفع وفيه بحوث... 271

1) الفرق بين الرفع والدفع... 271

2) في حقيقة المرفوع... 278

3) الأحكام المترتبة على حديث الرفع... 293

4) اشتراط الامتنان في الرفع... 302

ثمرات الامتنان... 303

5) اشتراط ترتب الأثر على فعل المكلف... 308

الخروج التخصصي... 308

النقض على الخروج التخصصي... 309

التأمل في كلمات القوم... 310

الشك في الموضوع الواقعي... 312

6) شمول حديث الرفع للأمور العدمية وعدمه... 313

ثمرة البحث... 314

نظرية المحقق النائيني (رحمه اللّه) ... 314

إشكالات على نظرية المحقق النائيني (رحمه اللّه) ... 315

1- العدم المضاف له حظ من الوجود في عالم التكوين... 315

لا فرق بين العدم المطلق والعدم المضاف... 315

2- العدم المضاف له حظ من الوجود في عالم التشريع... 316

3- الرفع إدعائي لا تنزيلي... 318

4- تعلق الرفع بالعناوين الوجودية... 319

7) شمول حديث الرفع للتكاليف الضمنية... 320

الأمر بالمركب بعد رفع التكليف الضمني... 320

نظرية عدم بقاء الأمر بالمركب... 320

مناقشة النظرية المذكورة... 321

مباحث في (ما لا يعلمون)... 322

ص: 394

المبحث الأول: عموم الرفع للشبهات الحكمية والموضوعية... 322

1) أدلة اختصاص حديث الرفع بالشبهات الموضوعية... 323

الدليل الأول: وحدة السياق... 323

حجية السياق وعدمها... 333

الدليل الثاني: كون متعلق الرفع أمراً ثقيلاً... 335

الدليل الثالث: الوضع مقابل الرفع... 337

الدليل الرابع: الإسناد المجازي يعين الاختصاص... 338

الإسناد مجازي فقط... 339

الإسناد حقيقي فقط... 341

الإسناد حقيقي ومجازي معاً... 341

2) اختصاص (رفع مالا يعلمون) بالشبهات الحكمية... 342

3) عموم الرفع للشبهات الموضوعية والحكمية... 342

ولتقريبه تقريرات... 343

التقرير الأول... 343

التقرير الثاني... 344

التقرير الثالث: تعميم متعلق (مالا يعلمون) للنفس والوصف... 351

التقرير الرابع: الموصول أعم من الموضوع والحكم... 354

التقرير الخامس: رفع الموضوع في أفق الاعتبار... 355

المبحث الثاني: الرفع واقعي أو ظاهري... 359

1- معنى الرفع الواقعي والظاهري... 359

2- ثمرة كون الرفع واقعياً أو ظاهرياً... 360

3- الرفع واقعي في جميع فقرات الحديث... 361

أدلة كون الرفع غير واقعي في (ما لا يعلمون)... 362

مناقشة بعض الأدلة المذكورة... 364

مناقشة الدليل الثاني... 364

مناقشة الدليل السابع... 367

مناقشة الدليل الثامن... 367

ص: 395

مراحل الحكم الأربع... 368

الإشكال على كون الرفع واقعياً... 369

المبحث الثالث: الرفع في المستحبات والمكروهات المجهولة... 372

1- عدم جريان الرفع في التكاليف الاستقلالية... 375

ثمرات رفع الاستحباب... 376

2- جريان الرفع في التكاليف الضمنية... 377

تفصيل في المشترك بين الواجب والمستحب... 379

المبحث الرابع: شمول (رفع ما لا يعلمون) للجاهل المقصر وعدمه... 382

عدم شمول حديث الرفع للجاهل المقصر... 382

مبنيان في حديث الرفع... 383

مؤيدات لشمول حديث الرفع للجاهل المقصر... 384

المبحث الخامس: في شمول الرفع لموارد العلم الإجمالي... 387

أثر شمول الرفع لموارد العلم الإجمالي... 387

اختصاص الرفع بالشبهات البدوية... 388

فهرس المحتويات... 391

ص: 396

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.